
كتاب
المتاجر
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ
العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى
يوم الدين.
كتاب
التجارة
واعلم أنّ «التجارة»
كالكتابة مصدر ثانٍ يقال : تجر يتجر بالضمّ تجراً وتجارة ، قيل كما عن ابن فارس في
مجمل اللغة «إنّه لم يوجد في كلام العرب لفظ اجتمع فيه التاء الأصلي مع الجيم مقدّماً
عليه إلّا هذه المادّة ، وأمّا التاء الغير الأصلي فاجتماعه مع الجيم كثير ، ومنه
تجربة وتجري وتجعل وما أشبه ذلك».
واعترض عليه
كما عن المصباح المنير بمنع الانحصار ، لورود رتج ونتج أيضاً : يقال رتج الباب
أي سدّه ، ونتجت الناقة أي ولدت.
والتجارة ورد
في استعمال العرب ملكة وهي الصناعة المعروفة الّتي يقال لصاحبها : «التاجر» وهو
معروف ، وحالاً وهو فعل البائع أو المشتري في مقام البيع والشرى ، يقال : فلان
يتجر في المال الفلاني أو في مال الطفل.
وقيل : إنّها
مشتركة بينهما ، وليس ببعيد ، لتبادر أحد المعنيين عند الإطلاق ، واستقراء
استعمالات العرف ، وظاهر كلام أئمّة اللغة حيث إنّهم بين من فسّرها بالصناعة ومن
فسّرها بالفعل.
ومحلّ البحث هو
الثاني ، وهو بهذا المعنى لغة ـ على ما يظهر من كلمات أهل اللغة
__________________
وعبارات أصحابنا الفقهاء في هذا المقام وفي باب زكاة مال التجارة وصرّح
به السيّد قدسسره في الرياض ـ «الكسب» وهو التحصيل لا مطلقاً لينتقض في طرده بتحصيل
العلم ونحوه الّذي يطلق عليه الكسب دون التجارة ، بل تحصيل المال لا مطلقاً لينتقض
أيضاً بنحو الاحتطاب والاحتشاش لعدم وقوع التجارة عليه بل تحصيله ببيع واشتراء من
صاحب الصناعة المعروفة أو غيره ممّن شأنه البيع والاشتراء كأهل السوق الّذين
يشتغلون أنواع المكاسب على اختلاف أصنافهم. وفي صدقها على فعل من يبيع أو يشتري
أحياناً من دون أن يكون شغله ذلك تأمّل بل منع ، لعدم مساعدة العرف عليه.
ولكنّ المراد
بها هنا ما يعمّه أيضاً ، فلا يعتبر في موضوع البحث هنا حصولها من صاحب ملكة
الصناعة ولا ممّن يكون شغله البيع والشرى ، ولا يعتبر أيضاً حصولها بقصد الاسترباح
وهو طلب الزيادة في أصل المال ، بخلاف ما هو موضوع كلامهم في زكاة مال التجارة ،
بل ينبغي القطع بعدم كون موضوع الكلام مقصوراً على ما لو حصل الاكتساب بعقد البيع
بل أعمّ منه وما لو حصل بعقد الصلح وعقد الإجارة ، ولذا يذكرون في مباحث الباب
حرمة عمل الصور المجسّمة ، وإجارة المسكن لعمل الخمر ، والسفينة أو الدابّة لحمل
الخمر ، والتكسّب بالواجبات وأخذ الاجرة عليها ، فمورد التجارة بالمعنى المبحوث
عنه أعمّ من العين والمنفعة.
ومن أغلاط
المقام ما في مجمع البحرين في تفسير التجارة من «أنّها بالكسر انتقال شيء مملوك
من شخص إلى آخر بعوض مقدّر على جهة التراضي» لقضائه بكونها صفة لمورد التجارة لا فعلاً للتاجر ،
فيخالف كلام أهل اللغة وكلام الفقهاء المفيدين لكونها فعلاً للتاجر ، ولذا قال في
القاموس : «التاجر الّذي يبيع ويشتري» .
ثمّ التجارة
بالمعنى المذكور يرادفها متجر بناءً على كونه مصدراً ميميّاً كما احتمله في جامع
المقاصد ويجوز كونه اسم مكان وهو محلّ التجارة من الأعيان
والمنافع ،
__________________
وجمعه متاجر ، وفي معناها مكاسب ، وكونهما في عنوان قولهم كتاب المتاجر أو
المكاسب عبارتين عن الفعل وجمعه حينئذٍ لكثرة مورده ومتعلّقه من الأعيان والمنافع
، أو عن نفس المورد والمتعلّق من الأعيان والمنافع المكتسب بهما وجهان ، ولعلّه
يختلف باختلاف مشاربهم في جعل عقد البيع وغيره من عقود المعاوضة من مباحث هذا
الباب كما صنعه في الشرائع . وعدمه كما في غيره .
ثمّ في قواعد
العلّامة كما عن جماعة تقسيم التجارة إلى محرّمة ومكروهة ومباحة وواجبة
ومستحبّة ، وهذا التقسيم حيث أخذت التجارة مورد القسمة على القاعدة ، ولا يتوجّه
إليه مناقشة ، لأنّ الأحكام الخمس المذكورة من عوارض فعل المكلّف والتجارة منه
فتقبل الانقسام إلى الخمسة.
ومن المحرّم :
التكسّب بالأعيان النجسة كالخمر والميتة ، ومن المكروه : بيع الأكفان والتكسّب بها
، ومن المباح : بيع الأملاك والأموال المملوكة إذا فرض تساوي طرفيه وخلوّهما عن
الرجحان والمرجوحيّة ، ومن الواجب : بيع ما يضطرّ الإنسان إلى بيعه من أملاكه
لمئونة نفسه ومئونة عياله وفي أداء حقّ واجب عليه من دَين آدمي أو غيره ، ومن
المستحبّ : بيعه للتوسعة على عياله أو للصرف في جهات الخير.
ولكن في
الشرائع ٥ بعد ما أخذ مورد القسمة ما يكتسب به من العين والمنفعة قسّمه إلى
المحرّم والمكروه والمباح ، وأهمل ذكر الواجب والمستحبّ. ونحوه صنع في اللمعة إلّا أنّه
عبّر عن المقسم بموضوع التجارة مهملاً للواجب والمستحبّ. واعتذر له في الروضة بأنّ الوجوب
والندب من عوارض فعل المكلّف الّذي منه التجارة فلا يعرضان موردها من العين
والمنفعة.
ويمكن الاعتراض
عليه بعدم صحّة الفرق بين الثلاثة والاثنين في اللحوق بالعين والمنفعة على تقدير ،
وعدم اللحوق بهما على تقدير آخر ، لأنّه إن اريد من عدم
__________________
عروض الوجوب والمنفعة أنّهما لكونهما تكليفين من عوارض فعل المكلّف فلا
يلحقان العين والمنفعة أوّلاً وبالذات وعلى وجه الحقيقة فكذلك الثلاثة لاشتراكها
لهما في صفة التكليف وكونها من عوارض الفعل.
وإن اريد من
لحوق الثلاثة لهما أنّها يلحقانهما بواسطة ما يضاف إليهما من فعل المكلّف
كالاكتساب فيما نحن فيه ، والمعروض الواقعي لها هو ذلك الفعل ، فمعنى حرمة ما
يكتسب به من العين والمنفعة أو كراهته أو إباحته حرمة الاكتساب بهما أو كراهته أو
إباحته فكذلك الوجوب والندب فيجوز لحوقهما للعين والمنفعة باعتبار ما يضاف إليهما
من الاكتساب ، فهو المعروض الواقعي. ومعنى وجوب ما يكتسب به من العين والمنفعة أو
ندبه حينئذٍ وجوب الاكتساب بهما أو ندبه ، فالفرق تحكّم والمنع من لحوقهما لهما مع
تسليم لحوق الثلاثة مكابرة.
ولكنّ الإنصاف
أنّ الصحيح بعد جعل مورد القسمة ما يكتسب به من الأعيان والمنافع هو ما صنعه
المحقّق والشهيد من الاقتصار في التقسيم على الثلاثة وإسقاط الواجب
والمستحبّ ، فإنّ المراد من المقسم حينئذٍ الأعيان والمنافع الّتي يلحقها
لعناوينها الكلّيّة المنضبطة الأحكام التكليفيّة ولو مجازاً من باب الإسناد
المجازي ، وهي بهذا المعنى منحصرة في الثلاثة غير قابلة للانقسام إلى الواجب
والمندوب أيضاً. وما قد يرى في بعض الأحيان من وجوب بيع بعض الأعيان أو ندبه كذلك
فهو من عوارض الشخص لا من لواحق العنوان كما هو واضح ، نعم على طريقة من جعل
التجارة مورداً للقسمة فالتقسيم إلى الخمسة في محلّه ، ولذا استحسن في المسالك كلا
التقسيمين.
ثمّ إنّه قد
عرفت أنّ محلّ التجارة المحرّمة بل المكروهة أيضاً يعمّ الأعيان والمنافع ، وهل
يعمّ الحقوق القابلة للتعويض بعقد الصلح كحقّ الشفعة وحقّ الخيار ونحوه بأن يقول :
«صالحتك عن هذا الخمر أو عن هذا الخنزير بحقّ شفعتك أو بحقّ خيارك» أو يقول : «صالحتك
عن حقّ شفعتي أو عن حقّ خياري برطل من الخمر أو
__________________
بهذا الخنزير» فيندرج نحو هذا أيضاً في التجارة المحرّمة أم لا؟ لم نقف في
كلامهم على تصريح في ذلك ، إلّا أنّ المستفاد من فحاوي عباراتهم ومساق استدلالاتهم
على المنع بل عموم بعض الأدلّة المقامة عليه هو العموم.
ثمّ من الظاهر
أنّ مورد التجارة إذا كان من الأعيان المحرّمة أو المكروهة لا يتفاوت الحال في
الحرمة أو الكراهة بين ما لو اعتبرت العين المحرّمة أو المكروهة أحد العوضين أو
كليهما لوحدة المناط وعموم الأدلّة.
ثمّ إنّه قد
يقال : إنّ المراد من حرمة الاكتساب حرمة النقل والانتقال بقصد ترتّب الأثر. ولم
أتحقّق معناه ، فإن اريد به أنّ العقد في محلّ التحريم يفيد نقلاً وانتقالاً في
العين أو المنفعة والتحريم إنّما هو في ذلك النقل والانتقال وهو الأثر المترتّب
على العقد على معنى أنّ المحرّم هو الأثر ، ففيه : أنّه خلاف ما اتّفقت عليه
كلمتهم صراحةً وظهوراً من فساد العقد في محلّ التحريم ، وفي إجماعاتهم المنقولة ما
هو صريح في ذلك أيضاً ، كما في كلام العلّامة في التذكرة في شرائط البيع حيث قال :
«يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصليّة ، فلو باع نجس العين كالخمر والميتة
والخنزير لم يصحّ إجماعاً» فلا يترتّب على العقد في محلّ التحريم أثر النقل
والانتقال حتّى يكون هو المحرّم. فمعنى حرمة التجارة أو الاكتساب هاهنا حرمة أصل
العقد على الأعيان المحرّمة أو حرمة المعاوضة والمبادلة الواقعة بين المتعاقدين
بذلك العقد.
ويمكن إرجاع
كلام القائل إلى هذا المعنى بأن يراد من النقل والانتقال الصوري منهما أعني
المعاوضة بذاك العقد المستتبعة لدفع كلّ من المتعاقدين لما بيده إلى صاحبه ، لا النقل
والانتقال المعنويّ الّذي هو أثر للعقد ، ومعناهما إخراج المالك ما في يده من ملكه
وإدخاله في ملك صاحبه وخروج كلّ من العوضين عن ملك مالكه ودخوله في ملك غيره ،
ويحتمل أن يكون النقل والانتقال في كلامه كناية عن العقد الّذي يفيدهما بنوعه وإن
لم يفد في خصوص المورد تسمية للمؤثّر باسم الأثر.
ثمّ القدر
المتيقّن من معقد التجارة المحرّمة إنّما هو عقود المعاوضة بحسب الأصل
__________________
كالبيع والإجارة والصلح في وجه. وفي عموم الحرمة للعقود الملحقة بعقود
المعاوضة وإن لم يكن مبنى مشروعيّتها بحسب الأصل على التعويض ـ كالهبة المعوّضة ،
والنكاح المشتمل على المهر عوضاً عن البضع ، والخلع المتضمّن لما تبذله الزوجة
عوضاً عن الطلاق ، والمكاتبة المطلقة أو المشروطة ، والوكالة المشترط فيها الجعل
للوكيل ـ وجهان : من ظهور التجارة والاكتساب في عقود المعاوضة ، ومن قوّة احتمال
كون المراد بهما جعل هذه الأشياء أعواضاً ولو فيما يشتمل على العوض الجعلي. وفي
عمومه لعقود الغير المعاوضة الصرفة ـ كعقد الرهانة وعقد الوديعة وعقد العارية وعقد
الضمان والوكالة والعارية والوصيّة وما أشبه ذلك ـ احتمال ، مبنيّ على أن يكون ذكر
التجارة والاكتساب في عناوين الباب ومطاويّ مباحثه مثالاً ، وإلّا فالمناط هو أن
يتعامل مع هذه الأشياء معاملة الأملاك والأموال المملوكة المباحة ، سواء كان ذلك
بجعلها أعواضاً في المعاوضات الأصليّة أو الجعليّة ، أو بجعلها موارد في العقود
المتعارفة ولو من غير جهة التعويض ، وتحقيق هذه المراتب يطلب من مطاويّ مباحث
الباب.
وعلى أيّ حال
فينبغي القطع بعدم كون معقد كلامهم الّذي هو موضوع الحكم ومورد الأدلّة أمراً
لفظيّاً ـ وهو مجرّد إجراء العقد اللفظي ولو بغير العربي لينتقض بما لم يكن هناك
عقد لفظي أصلاً ـ بل أمر معنوي وهو المعاوضة والتعويض بهذه الأشياء أو مطلق
المعاملة عليها كالمعاملة على الأموال المملوكة المباحة وإن لم يشتمل على عقد لفظي
، فيعمّ البحث لمعاطاة كلّ معاملة ويجري الحكم فيه جزماً لعموم الأدلّة. ثمّ
الأشياء المبحوث عنها في التجارة المحرّمة من الأعيان والمنافع أنواع تذكر في
أبواب
الباب
الأوّل
في
الأعيان النجسة
ويراد بها هنا
ما يعمّ النجاسة الذاتيّة الّتي هي تابعة للذات ، ولا تزول عنها بغير الاستحالة
والاستهلاك ، والعرضيّة الحاصلة بالملاقاة مع عدم قبول التطهير بغير الاستحالة
والاستهلاك ، كالمايعات المتنجّسة من الدبس أو العصير أو اللبن أو الزيت أو الدهن
أو غير ذلك ممّا كان طاهر الأصل ولذا عبّر عنها في الشرائع بالأعيان
النجسة «كالخمر والأنبذة والفقّاع وكلّ مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح تحت
السماء والميتة والدم وأرواث وأبوال ما لا يؤكل لحمه والخنزير وجميع أجزائه وجلد
الكلب وما يكون منه» وصرّح بالتعميم في القواعد وغيره قائلاً : «الأوّل
، كلّ نجس لا يقبل التطهير سواء كانت نجاسته ذاتيّة كالخمر والنبيذ والفقّاع
والميتة والدم وأبوال ما لا يؤكل لحمه وأرواثها والكلب والخنزير وأجزائهما ، أو
عرضيّة كالمايعات النجسة الّتي لا تقبل التطهير إلّا الدهن النجس لفائدة الاستصباح
به تحت السماء خاصّة» .
وقال المحقّق
الثاني في شرح العبارة : «وأراد بالنجس ما كان عين نجاسة أو متنجّساً بإحدى
الأعيان النجسة ، ولذا قسّمه إلى ما نجاسته ذاتيّة ونجاسته عرضيّة وغاية ما فيه أن
يريد باللفظ حقيقته ومجازه معاً الخ» .
وفيه ما لا
يخفى لابتناء نسبة إرادة الحقيقة والمجاز معاً على حدّ الاستعمال في المعنيين على
مقدّمتين : كون لفظ «النجس» لغةً لخصوص ما نجاسته ذاتيّة ، وكون
__________________
إرادتهما من اللفظ على البدل بالمعنى المقرّر في الاصول ، وكلّ موضع منع ،
أمّا الاولى : فلظهور كون لفظ النجس بحسب العرف الكاشف عن صدر اللغة لما يعمّ
الذاتيّة والعرضيّة ولذا جعله في القاموس مع مرادفاته «كالنَّجس بالفتح فالسكون
والنجسْ بالكسر فالسكون والنجَس بفتحتين والنجس بالفتح والضمّ ضدّ الطاهر» والظاهر أنّ
الطاهر هو الذات المتّصفة بالطهارة ، فالنجس هو الذات المتّصفة بالنجاسة وهذا معنى
عامّ. وأمّا الثانية : فلجواز كون المراد هذا المعنى العامّ الجامع بين المعنيين
من باب عموم المجاز ، وعلى أيّ حال كان فجهات الكلام في الأعيان النجسة كثيرة ،
فيتكلّم تارةً في جواز التكسّب بها بجعلها أعواضاً في عقود المعاوضة وغير [ها]
ممّا يلحق بها وعدمه ، واخرى في جواز المعاملة عليها بغير التعويض وعدمه ، وثالثة
في جواز الانتفاع بها وعدمه ، ورابعة في تملّك المسلم لها على معنى دخولها في ملكه
بشيء من الأسباب المملّكة وعدمه ، وحيث بنينا على المنع في جميع الجهات كان ذلك
المنع على وجه القاعدة الكلّيّة ، وهي قابلة للتخصيص فنتبعها بالتعرّض لبيان ورود
تخصيص على القاعدة في الأحكام المذكورة وعدمه ، وبيان ما خرج بالتخصيص وتعيين
القدر المخرج على تقدير ثبوت التخصيص.
أمّا الجهة
الاولى : فالمعروف المشهور بين الأصحاب شهرة محكيّة ومحقّقة عظيمة قريبة من
الإجماع عدم جواز التكسّب بها مطلقاً ، على معنى تحريم المعاوضة بل مطلق المعاملة
عليها بحيث يستحقّ العقوبة عليها وإن فرض لها نفع محلّل مقصود للعقلاء ، كما هو
قضيّة إطلاقهم المنع بل هو المصرّح به في كلام السيّد رحمهالله في المصابيح مع دعوى الإجماع عليه. ولم نقف من الأصحاب على قائل
بالجواز بقول مطلق ولا على نقله. نعم عن المحدّث الكاشاني القول بالجواز
إن اشتملت على منفعة محلّلة ، وعن المقدّس الأردبيلي والفاضل
الخراساني في الكفاية الميل إليه ، وزيّفه السيّد المتقدّم بأنّه
شاذّ ضعيف ، ووجهه سبق إجماع الأصحاب على ظهور هذا الخلاف.
__________________
وقد تظافرت
الإجماعات المنقولة على المنع بقول مطلق ، ففي التذكرة «الكلب إن كان عقوراً حرم
بيعه عند علمائنا» وفي موضع آخر منه «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعاً
منّا» .
وعن المنتهى «إجماع
المسلمين كافّة على تحريم الخمر والميتة والخنزير».
وعن موضع آخر
منه «إجماع علمائنا على تحريم بيع الكلاب عدا الأربعة» .
وعن النهاية «الإجماع
على تحريم بيع الخمر والعذرة والدم» .
وعن الخلاف «إجماع
الفرقة على تحريم بيع الخمر والسرجين النجس والكلب عدا كلب الصيد» .
وعن المبسوط «الإجماع
على تحريم بيع الخنزير وإجارته واقتنائه والانتفاع به» .
وعن الحلّي في
السرائر «بيع الخمر للمسلم حرام وثمنه حرام وجميع أنواع التصرّفات فيه حرام على
المسلمين بغير خلاف بينهم» وقال أيضاً : «حكم الفقّاع حكم الخمر لا يجوز التجارة
به ولا التكسّب به بغير خلاف بين فقهاء أهل البيت» .
وعن الانتصار «إجماع
الفرقة على تحريم الفقّاع وتحريم ابتياعه» وجعل القول به ممّا انفردت به الإماميّة.
وهذه الإجماعات
وإن نقلت على موارد خاصّة لا على الأعيان النجسة بعنوانها الكلّي إلّا أنّه يمكن
التعميم بجعل الاقتصار في معاقدها على البعض وحدانيّاً أو ثنائيّاً أو ثلاثيّاً
مثالاً ، أو أنّه يستفاد منها على كثرتها واختلاف معاقدها عيناً وعدداً وقوع
الإجماع المشترك بينها على الجميع ، أو أنّه إذا ثبت الحكم بها في الموارد الخاصّة
يتمّ في غيرها بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، فهي مع الضميمة تفيد عموم
المنع على وجه يحصل بها خصوصاً مع اعتضادها بالشهرة العظيمة بقسميها الظنّ
الاطمئناني بالمنع وهو الحجّة مضافاً إلى النصوص الآتية.
__________________
وقد يستدلّ
بعدّة من الآيات :
منها : قوله
تعالى و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» بتقريب أنّ
التحريم المتعلّق بالأعيان يعمّ جميع أنواع التصرّف والانتفاع ومنها التجارة
والتكسّب بها.
وفيه : أنّه في
كلّ عين ـ على ما حقّق في الاصول ـ ينصرف إلى الجهة المقصودة منها في الغالب ،
كالأكل في المأكول كما في الأمثلة المذكورة ، والشرب في المشروب كالخمر ، والوطء
في الموطوء كما في «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» الآية.
ومنها : قوله
تعالى أيضاً في الخمر : «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» بتقريب أنّه
تعالى أوجب الاجتناب عن الخمر لكونه رجساً ، وهو لا يتحقّق مع التصرّف فيه
بالتجارة فيجب اجتنابها.
وفيه : أنّه لا
يتمّ إلّا على تقدير حمل الرجس على إرادة النجاسة الشرعيّة ، وهو موضع منع.
ودعوى : أنّ
الرجس لغة القذر والمراد به النجاسة الشرعيّة ، ويؤيّده ما عن الشيخ في التهذيب من
«أنّ الرجس هو النجس بلا خلاف» وكلامه يحتمل وجهين : أحدهما : دعوى عدم الخلاف بين
علماء اللغة في كون القذر في معنى الرجس هو النجس لغةً. والآخر : دعوى عدم الخلاف
بين علماء التفسير أو الفقهاء في أنّ المراد من الرجس في الآية هو النجس وإن لم
يكن القذر في معناه هو النجس لغةً ، وأيّاً ما كان فالاستدلال ناهض على المطلوب ،
ثمّ يتمّ في غير الخمر بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.
يدفعها أوّلاً
: أنّ القذر في معنى الرجس بحسب اللغة أعمّ من النجاسة الشرعيّة والخباثة
المعنويّة الّتي ملاكها استنفار الطبع السليم واستقباحه ، فالخبيث ما يستنفره
الطبع السليم ويستقبحه فلِمَ لا يجوز أن يكون المراد به الخباثة المعنويّة ، ويصدق
على الخمر باعتبار كونه ممّا يستقبحه الشرع أو يستقبح شربه ، وأيّ طبع سليم يكون
أسلم
__________________
من الشرع ، وربّما يشهد له ما عن مجمع البيان من «أنّ الرجس القذر» وقد يعبّر عن
الحرام والفعل القبيح. ومعنى كونه من عمل الشيطان أنّ اختراع الخمر كان من الشيطان
أو أنّ شربه ينشأ من وسوسته وتسويله.
وثانياً : أنّ
في الآية قرينة تصرفه عن النجاسة الشرعيّة ، وهو عطف الميسر والأنصاب والأزلام على
الخمر ، فإنّ الميسر عبارة عن آلة القمار كالنرد والشطرنج وغيرهما ، وفي حديث عن
الباقر عليهالسلام «أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل : يا رسول الله ما الميسر؟ فقال : كلّ ما
قومر عليه حتّى الكعاب والجوز ، قيل : فما الأنصاب؟ قال : ما ذبحوا لآلهتهم ، قيل
: فما الأزلام؟ قال : قداحهم الّتي يستقسمون بها» .
وقيل في تفسير
الأنصاب : «إنّها الأصنام كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدّون ذلك قربة» .
والأزلام «جمع
زلم بالفتح أو الضمّ كجُمل وصُرد وهي قداح لا ريش لها ولا نصل» والقداح
العشرة كانت معروفة في الجاهليّة ، وكانت نوعاً من آلة القمار ثمّة ، وقصّته
معروفة مذكورة في كتب التفسير وورد بها رواية وظاهر أنّ النجاسة الشرعيّة لا تلائم شيئاً من ذلك ،
فلا بدّ وأن يحمل على معنى يلائم الجميع وهو الخباثة المعنويّة ولو مجازاً.
وأمّا ما تقدّم
نقله عن الشيخ في التهذيب «من كون الرجس هو النجس بلا خلاف» فلم أتحقّق معناه مع
القرينة المذكورة ، فإن أراد به أنّ الرجس في الآية من حيث حمل على الخمر اريد منه
النجس وإن كان من حيث حمل على البواقي اريد منه الخبيث ، فيبطله الاستعمال في
معنيين وهو غير سائغ.
وإن أراد أنّه
بحمله في الآية على كلّ من الخمر وتوابعه وهو متضمّن للإسناد ،
__________________
والرجس في الجميع اريد منه النجس إلّا أنّه حيث اسند إلى الخمر كان الإسناد
حقيقيّاً ، وحيث اسند إلى توابعه كان الإسناد مجازيّاً لضرب من التشبيه في استقباح
المتعلّق أو وجوب اجتنابه. ففيه : أنّ الإسناد الواحد لا يتحمّل وصفي الحقيقة
والمجاز ، واعتبار التعدّد في الإسناد يؤدّي إلى الاستعمال في معنيين.
وإن أراد أنّ
تعدّد المبتدأ ممّا يستدعي تعدّد الخبر فيقدّر لما عدا الخمر خبراً ، فالرجس
المذكور من حيث إنّه خبر للخمر اريد منه النجس ، وهذا لا ينافي أن يراد من الرجس
المقدّر بالقياس إلى غيرها معنى آخر كالخباثة المعنويّة.
ففيه : أنّ
التقدير خلاف الأصل ، وتعدّد المبتدأ مع صلاحية الخبر للعود إلى الجميع لا يقضي
بلزومه ، ولو سلّم التقدير وجب اتّحاد المذكور والمقدّر في أصل المعنى.
وبالجملة دعوى
عدم الخلاف في كون الرجس في الآية بمعنى النجس مع أنّه ليس له معنى محصّل ـ بملاحظة
ما ذكرناه من وجود قرينة الخلاف ـ غير مسموعة.
ومنها : قوله
سبحانه أيضاً : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» قال في
القاموس : «الرجز القذر وعبادة الأوثان والشرك والعذاب» وإطلاق الرجس
على الشرك وعبادة الأوثان مجاز يتوقّف على القرينة ، والحمل على العذاب في هذه
الآية بعيد جدّاً ، فينبغي حمله على المعنى الأوّل وهو المناسب لقوله : «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» وفي تفسير
عليّ بن إبراهيم «الرجز الخبيث» والمحكوم بنجاسته شرعاً خبيث قذر فيجب هجره بمقتضى
الأمر الّذي هو من التكاليف المشتركة دون الخواصّ ، والتصرّف بالتجارة والبيع
والشراء خلاف الهجر المأمور به فيكون محرّماً ، هكذا قرّره في المصابيح .
ويرد عليه
أوّلاً ـ بعد تسليم تعيّن الحمل على المعنى الأوّل ومجازيّة ما سواه غير العذاب ـ ما
تقدّم من أنّ القذر أعمّ من النجاسة الشرعيّة والخباثة المعنويّة فلم يتعيّن كون
المأمور بهجرانه في الآية هو النجس ، ولا يشهد له قوله : «وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ» لما روي عن الصادق عليهالسلام «أنّ معناه وثيابك فقصّر» ارشاداً له إلى التنزّه عن ملابس أهل الكبر
__________________
حيث كانوا في الجاهليّة يطيلونها حتّى تخطّ على الأرض وكان ذلك آية كبرهم ،
إلّا أن يقال : بأنّه لا حاجة إلى الاستشهاد به ولا إلى جعل الرجز بمعنى النجس. بل
يكفي اندراج النجس في الرجز بمعنى الخبيث كما تقدّم الحمل عليه عن عليّ بن إبراهيم
، فإنّ الأعيان النجسة أيضاً ممّا يستقبحه الطبع ولو بحسب طبع الشرع في بعضها.
وثانياً : أنّ
هجران الرجز بمعنى النجس لعلّه معتبر في الصلاة أو في مطلق مشروط بالطهارة من
المأكول والمشروب وغيرهما ، كما أنّ تطهير الثوب عن النجاسات معتبر في الصلاة وليس
واجباً في غير حالها بضرورة من الدين ، وفي رواية عن الصادق عليهالسلام عن أمير المؤمنين عليهالسلام «اغسل الثياب يذهب الهمّ والغمّ ، وهو طهور للصلاة» فلم يحصل
الدلالة من الآية على تحريم التجارة.
وربّما استدلّ
أيضاً بعدّة روايات عامّيّة :
منها : قوله عليهالسلام في حديث ابن عبّاس : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم
ثمنه» استدلّ بها السيّد في المصابيح على وجه الاعتماد ، ويظهر الاعتماد عليها عن جماعة من مشايخنا
قدّس الله أرواحهم ، ولعلّه لما استفادوه من كونها متلقّاة بالقبول عند جميع
الأصحاب أو معظمهم أو جماعة من معتبريهم فإنّ كلّاً ممّا ذكر جابر لضعف السند
لإفادته ظنّ الصدور والوثوق به ، وإن كان الأوّل كثيراً ما يوجب القطع به إلّا
أنّه في خصوص المقام غير معلوم ، كما أنّ الثاني أيضاً كذلك ، وأظهر الاحتمالات هو
الثالث لأنّهم نسبوا إيراد الرواية والاستناد إليها إلى جماعة من معتبري أصحابنا
كالشيخ وابن إدريس والعلّامة وابن فهد وابن [أبي] جمهور في الخلاف والمبسوط والسرائر والتذكرة والمهذّب والغوالي وربّما اضيف
إليهم أيضاً السيّد ابن زهرة في الغنية
__________________
والمقداد في التنقيح .
وأمّا الدلالة
فقوله : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً» ظاهر في تحريم العين لذاته لعنوانه الخاصّ بقول
مطلق من غير تقييد له بجهة من الجهات العرضيّة ، كما لو قال : الخمر حرام أو
الميتة حرام أو لحم الخنزير حرام وغير ذلك. والجملة تفيد الملازمة الكلّيّة بين
تحريم الشيء على هذا الوجه وتحريم ثمنه في البيع والشراء ، بل قضيّة الشرطيّة
سببيّة الأوّل للثاني وتحريم الثمن بإطلاقه ظاهر في تحريم جميع التصرّفات فيه ،
ولا يكون ذلك إلّا لانتفاء الملكيّة بسبب عدم إفادة العقد دخوله في ملك البائع
وعدم تأثيره في النقل والانتقال فكان فاسداً ، ولا جهة للفساد إلّا تحريم التجارة
بما حرّمه الله تعالى بقول مطلق. ويندرج فيه الأعيان النجسة لأنّها أشياء حرّمها
الله تعالى بقول مطلق فثبت حرمة التجارة بها.
والمناقشة فيها
بمنع الملازمة بين حرمة التصرّف وانتفاء الملكيّة ، فكم من ملك يحرم لمالكه
التصرّف فيه كالمفلّس المحجور عليه ، وتركة المديون مع استغراق الدين ـ على القول
بانتقالها إلى الوارث ـ مع ممنوعيّته من التصرّف فيها حتّى يؤدّي الدين من ماله أو
يضمن للدَيّان ، والعين إذا حلف الداخل من المتداعيين فيها بعد عجزهما عن البيّنة
فإنّها قد تكون في الواقع للخارج مع عدم جواز التصرّف له ، والرهن بالنسبة إلى
الراهن ، والخمر ولحم الخنزير للكفّار فإنّهم يملكونهما مع حرمة الشرب والأكل لهم
بمقتضى كونهم مكلّفين بفروع هذه الشريعة إلى غير ذلك من الموارد.
يدفعها : أنّ
انتفاء الملازمة بين حرمة التصرّف في مطلق الشيء وانتفاء الملكيّة وإن كان
مسلّماً إلّا أنّ مبنى الاستدلال ليس على دعوى هذه الملازمة ، بل على الملازمة بين
حرمة التصرّف في ثمن الشيء المحرّم من حيث هو ثمن وانتفاء ملكيّة ذلك الثمن ، ولا
ريب في ثبوتها بمقتضى الانفهام العرفي من لفظ الرواية وما أشبهه ، فقوله عليهالسلام : «ثمن الخمر سحت» أو «ثمن الكلب سحت» ونحوه ما لو قيل : «ثمن الخمر أو
__________________
ثمن الميتة حرام» ينساق منه في متفاهم العرف كون الحكم معلّقاً على الثمن
من حيث هو ثمن وكونه ملازماً لانتفاء ملكيّته للبائع مع إمكان إثبات هذه الملازمة
بالإجماع على أنّ حرمة التصرّف في الثمن إنّما هو لانتفاء الملكيّة ، كما ادّعى
نظير الإجماع في قوله عليهالسلام : «اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يؤكل لحمه» على أنّ وجوب
غسل الثوب عن الأبوال إنّما هو باعتبار النجاسة لا غير.
وقد يتوهّم
ثبوتها بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» فإنّ ثمن الأعيان النجسة لو كان مالاً للبائع لتسلّط
على التصرّف فيه. ولكنّه ضعيف لأنّ أقصى ما يثبت بذلك العموم إنّما هو الملازمة
بين الملكيّة وتسلّط المالك على التصرّف ولا كلام فيها ، بل في الملازمة بين حرمة
التصرّف وانتفاء الملكيّة وليست مستفادة من العموم ، فالوجه في إثباتها ما ذكرناه.
لا يقال : إنّ
تحريم الثمن إنّما يلازم انتفاء الملكيّة إذا توجّه إلى جميع أنواع التصرّفات لا
مطلقاً ، وهذا محلّ منع سنده ما تقدّم من انصراف إطلاق التحريم المضاف إلى العين
إلى الجهة الغالبة المقصودة منها ، ومرجعه فيما نحن فيه إلى تحريم بعض التصرّفات
في الثمن وهو لا يلازم انتفاء الملكيّة وإلّا انتفى الملك رأساً ، إذ ما من شيء
في سلسلة الأموال إلّا وبعض التصرّفات فيه محرّم.
لأنّا نقول :
إنّ القاعدة المذكورة إنّما تتمّ فيما كان له جهة غالبة مقصودة للعقلاء ، وأمّا ما
تساوت جهات التصرّف فيه فالتحريم المتعلّق به يعمّ الجميع لشهادة العرف وقضاء دليل
الحكمة بذلك ، والثمن بعنوان الثمنيّة خصوصاً إذا كان من أحد النقدين كما هو
المتبادر منه ليس له جهة غالبة ينصرف إليه إطلاق التحريم فيعمّ جميع التصرّفات
اللاحقة به. نعم إنّما المعضل إثبات الملازمة بين فساد المعاملة وتحريمها الّذي هو
__________________
المقصود بالبحث وهي ممنوعة ، وأقصى ما دلّت عليه الرواية بالبيان المتقدّم
إنّما هو الفساد ، والمقصود إثبات التحريم ، والفساد لا يلازمه ، كما قيل عكسه في
الاصول في منع دلالة النهي في المعاملات على الفساد بتقريب أنّ تحريم المعاملة لا
ينافي الصحّة فلا يلازم الفساد وهاهنا أيضاً نقول : إنّ الفساد لا يلازم التحريم.
إلّا أن يقال
بأنّ المراد به في محلّ البحث ما يعمّ الحرمة التشريعيّة ، فإنّ إجراء العقد
الفاسد وإعمال المعاملة الفاسدة وترتيب الآثار عليها مع فرض الفساد تشريع فيكون
محرّماً.
ويدفعه : ظهور
كلماتهم بل صراحة جملة منها في إرادة الحرمة الشرعيّة ، وأقوى ما يشهد بذلك
اقتصارهم في الحكم بالحرمة على أشياء مخصوصة كالأعيان النجسة وغيرها ممّا يذكر في
هذا الباب ، فلو أنّ الحرمة المبحوث عنها أعمّ من الحرمة التشريعيّة لوجب طرد الحكم
بجميع ما يفسد من المعاملات ولو في الأملاك والأموال المملوكة إذا كان فسادها
للإخلال ببعض شروط الصحّة ممّا يرجع إلى الصيغة أو إلى أحد المتعاقدين أو أحد
العوضين.
ويمكن التخلّص
عن الإشكال بإثبات الملازمة بأحد الوجوه :
الأوّل : أن
يقال : إنّ ثمن العين المحرّمة من لوازم بيع تلك العين ، وتحريمه في الرواية كناية
عن تحريم ملزومه وهو البيع على معنى أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم في قوله : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» إنّما
ذكر تحريم ثمن ما حرّمه الله تعالى لينتقل منه السامع إلى تحريم البيع الواقع
عليه.
الثاني : أن
يقال : إنّ سوق الرواية ظاهر في أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قصد ببيان تحريم ثمن الأعيان المحرّمة على الوجه الكلّي
نصب قرينة عامّة على أنّ المراد من تحريم كلّ واحد من الأعيان المحرّمة ما يعمّ
بيعها والتكسّب بها ، إمّا باعتبار أنّ تحريم العين راجع إلى جميع منافعها الّتي
منها البيع والتكسّب ، أو باعتبار أنّه راجع إلى منافعها المقصودة الّتي منها
البيع والتكسّب ، وأيّاً ما كان فالبيع والتكسّب بالأعيان النجسة داخل في التحريم
، والمقصود من الرواية بيان هذا المطلب ، ومرجعه إلى إعطاء ضابطة كلّيّة في
الأعيان
المحرّمة الّتي منها الأعيان النجسة وهي حرمة بيعها والتكسّب بها.
الثالث : أن
يقال : إنّ تحريم المال المأخوذ بالعقد الفاسد يتصوّر من وجهين :
أحدهما : حرمة
التصرّف فيه باعتبار أنّه مال الغير وهو حرام.
وثانيهما :
حرمته باعتبار كونه ثمناً للعين المحرّمة وعوضاً عنه ، وكونه ثمناً وعوضاً عنها
وجه ، واعتبار وجهة مفسدة في نظر الشارع تعرض المال وأوجبت فيه الحرمة الشرعيّة ،
ولا ريب أنّ الحرمة من هذه الجهة غير الحرمة من الجهة الاولى. ويظهر فائدة الفرق
بينهما فيما لو أذن المالك بعد المعاملة الفاسدة للبائع في التصرّف في الثمن وأباح
له جميع التصرّفات ، ارتفعت الحرمة من الجهة الاولى وبقيت الجهة الثانية إذ لا
مدخليّة لإذن المالك في رفعها باعتبار كونها حرمة تعبّديّة صرفة ، ولا يدور ثبوتها
مدار إذن المالك ورضاه وعدمهما ، وله نظائر كثيرة :
منها : الرشوة
المحرّمة ، وهي المال المأخوذ رشاءً ، فإنّ الرشائيّة جهة مفسدة إذا عرضت المال
صار محرّماً وإن بذله صاحبه بطيب نفسه ورضاه.
ومنها : المال
المأخوذ قماراً ، فإنّ القماريّة جهة مفسدة في نظر الشارع ، إذا عرضت المال أوجبت
تحريم الشارع إيّاه على الآخذ وإن أعطاه صاحبه برضاه وطيب نفسه.
ومنها : المال
الّذي يأخذه الإنسان عند الترافع إلى الجبت والطاغوت وحاكم الجور بل كلّ من لا
يصلح للحكومة الشرعيّة استناداً إلى حكمه ، فإنّه عند الشارع جهة مفسدة في أخذ
المال توجب تحريمه تعبّداً من الشارع وإن كان حقّه ثابتاً دَيناً كان أو عيناً. وقد
ذكر عليهالسلام في مقبولة عمر بن حنظلة «أنّه يأكل سحتاً» وإن كان حقّه
ثابتاً.
والمال المأخوذ
ثمناً وعوضاً عمّا حرّمه الله تعالى من حيث عروض جهة الثمنيّة والعوضيّة عنه لذلك
المال من قبيل هذه النظائر.
والرواية لمكان
قوله عليهالسلام : «حرّم ثمنه» باعتبار إضافة الثمن إلى ما حرّمه الله
ظاهرة في التحريم من هذه الجهة لا من الجهة الاولى ، نظراً إلى انفهام حيث
الثمنيّة ، فيكون تقدير الرواية في حاصل المعنى «أنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم
ثمنه من حيث إنّه ثمنه»
وهذه الحيثيّة كما ترى لا مدخليّة لها في التحريم من الجهة الاولى ، ومرجع تحريمهما
حينئذٍ إلى مبغوضيّة كلّ من المعوّض والعوض للشارع ، أمّا مبغوضيّة المعوّض
فلمفسدة في ذاته ، وأمّا مبغوضيّة العوض فلمفسدة العوضيّة عن ذي المفسدة الذاتيّة
، ومن المعلوم أنّ مبغوضيّة العوضين تقضي بمبغوضيّة التعويض والمعاوضة ، فيكون أصل
المعاملة الواقعة على الأعيان المحرّمة الّتي منها الأعيان النجسة محرّماً بمقتضى
الملازمة المستفادة من الرواية.
ومن الروايات
النبويّة قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حديث جابر بن عبد الله : «إنّ الله ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم حرّما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ، قيل يا
رسول الله : أرأيت شحوم الميتة أنّها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها
الناس؟ فقال : لا ، هو حرام ، ثمّ قال : قاتل الله اليهود إنّ الله لمّا حرّم
عليهم شحومها جملوها ثمّ باعوها فأكلوا ثمنه» . وفي المصابيح
أوردها في الخلاف والمنتهى .
وفي الإيضاح والغوالي أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم «قال : لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها».
وهذه إمّا
رواية اخرى أو نسخة اخرى من الرواية الاولى مكان قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «قاتل اليهود» الخ. وقوله «أرأيت شحوم الميتة» أي بيع شحوم الميتة للمنافع
الثلاث المذكورة بقرينة انسياق وتذكير الضمير في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «هو حرام» أي بيع شحوم الميتة للمنافع المذكورة ،
وظاهر الرواية أنّه ليس للميتة وشحومها جهة محلّلة بل جميع منافعهما محرّمة وإلّا
لم يكونوا جملوها للبيع بل كانوا يمسكونها للانتفاع بها في الجهات المحلّلة.
وكيف كان ففي
الرواية مواضع ثلاث من الدلالة كما يظهر بأدنى تأمّل. ثمّ لو انجبر ضعفها سنداً
باعتماد الشيخ والعلّامة في الخلاف والمنتهى ، أو هو مع اعتماد الإيضاح
__________________
والغوالي بحيث يحصل الظنّ والوثوق بصدورها ، كانت دليلاً على المطلب في
الجملة لاختصاص موردها ببعض الأعيان النجسة وإلّا كانت مؤيّدة للدليل.
والعمدة في
دليل المسألة الأخبار الإماميّة المأثورة من طرق أصحابنا الإماميّة ، والعمدة منها
قوله عليهالسلام : «وأمّا وجوه الحرام من البيع والشراء ، فكلّ أمر يكون
فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو
إمساكه أو هبته أو عاريته ، أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد ، نظير البيع
بالربا أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش
أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شيء من وجوه النجس ، فهذا كلّه حرام ومحرّم ،
لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه فجميع تقلّبه
في ذلك حرام» الخ. وهذا بعض من الرواية الطويلة رواها حسن بن علي بن
شعبة في كتاب تحف العقول بحذف سندها لاشتهارها بين الأصحاب ومعروفيّة سندها عن
الصادق عليهالسلام.
ولكن عن السيّد
رحمهالله أنّه أوردها في رسالة المحكم والمتشابه نقلاً عن
تفسير محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني بإسناده عن أمير المؤمنين عليهالسلام.
وينبغي التكلّم
في شرح متن الرواية وبيان تركيبها وإعرابها ليتميّز ما تضمّنه من أنواع البيع
الحرام ، فإنّها متضمّنة لأنواع ثلاث يضبطها : أنّ البيع الحرام إمّا أن يكون بحيث
نهى عنه لما فيه من وجه فساد ليس معه وجه صلاح ، أو يكون بحيث نهى عنه لوجه فساد
فيه معه وجه صلاح أيضاً على معنى اشتماله على وجه فساد ووجه صلاح باعتبار اشتمال
متعلّقه وهو المبيع على منفعة محرّمة ومنفعة محلّلة ، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون
بحيث نهى عنه أصالة من دون نهي في متعلّقه مع قطع النظر عنه ، أو يكون بحيث نهى
عنه تبعاً للنهي عن متعلّقه.
وإذا عرفت ذلك
فنقول : إنّ قوله : «وأمّا وجوه الحرام» أي عنوانات الحرام من البيع والشراء ،
وكلمة «من» للتبيين متعلّقة بالحرام ، وحاصل معنى العبارة عنوانات البيع
__________________
والشراء المحرّم.
قوله : «فكلّ
أمر» أي بيع كلّ أمر بتقدير المضاف.
وقوله : «يكون
فيه الفساد» أي كلّ أمر مشتمل على وجه فساد.
وقوله : «ممّا
هو منهيّ عنه» أي ممّا يكون وجه فساده باعتبار كونه منهيّاً عنه على معنى اشتماله
على منفعة محرّمة.
وقوله : «من جهة
أكله» أي كون منفعته المحرّمة المنهيّ عنها أكله لا سائر منافعه كالطين الّذي أكله
حرام فبيعه وشراؤه أيضاً لجهة أكله حرام.
وقوله : «أو
شربه» أي كون منفعته المحرّمة شربه لا سائر منافعه كالعصير العنبي بعد الغليان إن
قلنا بطهارته ، فإنّ شربه حرام ، فبيعه وشراؤه أيضاً لجهة شربه حرام.
وقوله : «أو
كسبه» أي كون الجهة المحرّمة فيه كسبه أي التكسّب به وتحصيل المال بواسطته
كالجارية المغنّية إذا اتّخذها الإنسان للتكسّب بتغنّيها ، فبيعها وشراؤها لأجل
هذه المنفعة حرام.
وقوله : «أو
نكاحه» أي كون الجهة المحرّمة فيه نكاحه بمعنى وطئه كالجارية الّتي تكون من محارمه
فبيعها واشتراؤها لجهة الوطء حرام ونحوها موطوءة الابن أو موطوءة الأب للأب أو
الابن.
وقوله : «أو
ملكه» أي كون الجهة المحرّمة فيه الملك بمعنى ترتيب آثار الملك كالحرّ أو المملوك
إذا كان أحد العمودين ، فإنّ ترتيب آثار الملكيّة عليه حرام فبيعه واشتراؤه أيضاً
لهذه الجهة حرام ، وإنّما فسّرنا الملك بذلك لأنّه بالمعنى المصدري إمّا صفة في
المالك إن اعتبرناه بالبناء للفاعل أعني المالكيّة ، أو صفة في المملوك إن أخذناه
بالبناء للمفعول أعني المملوكيّة ، وأيّاً ما كان فهو لا يصلح متعلّقاً للنهي ،
لأنّه يتعلّق بما هو من مقولة الأفعال لا ما هو من مقولة الصفات ، فوجب تأويله إلى
إرادة ترتيب آثار الملكيّة.
وقوله : «أو
إمساكه» أي كون الجهة المحرّمة فيه الإمساك كالطعام في المجاعة مع احتياج الناس
إليه ، فإنّ إمساكه حينئذٍ حرام ، فبيعه واشتراؤه لأجل الإمساك أيضاً حرام.
قوله : «أو
هبته أو عاريته» أي كون الجهة المحرّمة فيه أحد الأمرين كهبته القرآن أو عاريته من
الكافر ، أو هبته السلاح أو عاريته من المشركين ، أو هبة كتب الضلال أو عاريتها
لغير الأهل ، فالبيع والشراء في الجميع لجهة الهبة أو العارية حرام.
فقوله : «ممّا
نهى عنه» مع ما ذكر معه من الأمثلة إشارة إلى أحد الأنواع الثلاثة المشار إليها ،
وهو البيع الحرام الّذي نهى عنه لوجه فساد فيه معه وجه صلاح أيضاً باعتبار اشتمال
مورده ـ وهو المبيع ـ على جهة محرّمة وجهة محلّلة.
وقوله : «أو شيء
يكون فيه وجه من وجوه الفساد» إشارة إلى النوعين الآخرين أعني البيع الحرام الّذي
نهى عنه لوجه فساد فيه ليس معه وجه صلاح مع تعلّق النهي به أصالةً كالبيع بالربا ،
فإنّ الربويّة وجه فساد فيه أي علّة باعثة على فساده وليس معه وجه صلاح ، ضرورة
حرمة البيع الربوي بجميع أفراده.
وعدم حلّية شيء
منها إلّا ما خرج بالدليل ، مع عدم كون مورده وهو المبيع مع قطع النظر عن هذا
البيع منهيّاً عنه ، أو تبعاً للنهي في مورده ومتعلّقه كبيع الميتة وبيع الدم وبيع
لحم الخنزير وغيره من الأمثلة المذكورة فإنّ الجميع من وادٍ واحد وهو كون حرمة
البيع لوجه فساد فيه ليس معه وجه صلاح باعتبار كون جميع جهات مورده وجميع منافع
متعلّقه محرّمة على معنى عدم اشتماله على منفعة محلّلة أصلاً ، وهذا هو على مقتضى
ظاهر الرواية ، ولو ثبت بالدليل في بعض الأمثلة جواز الانتفاع فيه ببعض الجهات فهو
مخرج بالدليل من باب التخصيص.
فقوله : «أو شيء
يكون فيه وجه من وجوه الفساد» عطف على المضاف المقدّر في قوله : «فكلّ أمر» بقرينة
التمثيل له بالبيع بالربا والبيع للميتة فيكون مرفوعاً ، ومعناه شيء من البيع
يكون فيه وجه من الفساد على حسبما بيّنّاه.
وقوله فيما بعد
الأمثلة المذكورة : «أو شيء من وجوه النجس» عطف على سابقه أي بيع شيء من وجوه
النجس أي العنوانات النجسة الّتي نجاستها تابعة لأصل العنوان ، كالبول والعذرة
وأرواث ما لا يؤكل لحمه والمني والكلب وما أشبه ذلك. ومن هنا يعلم أنّ حكم الرواية
لا يعمّ المتنجّسات الغير القابلة للتطهير من غير استحالة ، لكون
نجاستها عرضيّة غير تابعة للعنوان.
وقوله : «فهذا
كلّه حرام ومحرّم» بقرينة التعليل إشارة إلى ما بعد البيع بالربا ولا يعمّه وما
قبله. وعطف المحرّم على الحرام لعلّه للمغايرة بينهما في كون المراد بالمعطوف عليه
ما كان حرمته عقليّة ـ وهو كون الشيء بحيث يستحقّ فاعله الذمّ ـ وبالمعطوف ما
حرّم بالتحريم الشرعي ، والتعليل حينئذٍ راجع إليه. وجعل المنهيّ عنه في الأشياء
المذكورة وفي وجوه النجس أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه تصريح
بكونها بجميع منافعها محرّمة وأنّه ليس فيها منفعة محلّلة.
فيستفاد من
الرواية بالنسبة إلى الأعيان النجسة ما عدا المتنجّسات اصول ثلاث على سبيل القاعدة
الكلّيّة :
الأوّل : أنّ
الأصل فيها حرمة البيع والتكسّب بها.
والثاني : أنّ
الأصل فيها حرمة الانتفاع بها بجميع جهات النفع ، بل حرمة جميع التصرّفات فيها
وتقلّباتها ، ويندرج في ذلك عدم جواز أخذها موارد في سائر عقود المعاوضة وغيرها ،
لمكان قوله عليهالسلام : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام».
الثالث : عدم
تعلّق صفة الملك بها وعدم دخولها في ملك المسلم ، لمكان قوله عليهالسلام : «وملكه» أي منهيّ عن ملكه ، فإنّ النهي عن ترتيب آثار
الملك عليها يكشف عن انتفاء الملكيّة فيها ، فلو ثبت في بعضها مطلقاً أو في بعض
موارد بعضها أنّه يقبل البيع أو مطلق التكسّب أو الانتفاع ببعض الجهات أو الملكيّة
فهو مخرج عن القاعدة بالدليل ، هذا كلّه في متن الرواية وكيفيّة دلالتها ومقدار
دلالتها.
وأمّا سند
الرواية : فهو على ما حكي عن رسالة المحكم والمتشابه نقلاً عن تفسير النعماني ،
أنّ محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني روى في تفسيره عن أحمد بن محمّد بن سعيد
ابن عقدة عن أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي عن إسماعيل بن مهران عن الحسن بن عليّ
بن أبي حمزة عن أبيه عن إسماعيل بن جابر قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمّد
الصادق عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام عن أمير المؤمنين عليهالسلام.
أمّا النعماني
فحاله في كونه شيخاً من أصحابنا عظيم القدر شريف المنزلة صحيح
العقيدة كثير الحديث واضح ذكره في الخلاصة .
وأمّا ابن عقدة
فهو وإن كان زيديّاً جاروديّاً إلّا أنّ الشيخ وثّقه بقوله : «إنّ أمره في الثقة
والجلالة وعظم الحفظ أشهر من أن يذكر. قال : وإنّما ذكرناه في جملة أصحابنا لكثرة
روايته عنهم وخلطته بهم وتصنيفه لهم» .
وأمّا الجعفي
فعن التعليقة «أنّه روى عن محمّد بن إسماعيل الزعفراني وفيه إشعار بوثاقته» ووجه الإشعار
ما عدّوه من أمارات التوثيق رواية محمّد بن إسماعيل بن ميمون أو جعفر بن بشير عنه
أو روايته عن أحدهما وأحمد بن يوسف يروي عن محمّد ابن إسماعيل بن ميمون الزعفراني.
وأمّا ابن
مِهْران بكسر الميم وسكون الهاء فقد شهد الشيخ والنجاشي له بالثقة وتبعهما العلّامة في الخلاصة ورميه بالغلوّ
غير جيّد ، بل عن محمّد بن مسعود «أنّه يكذّبون عليه كان تقيّاً ثقة خيراً فاضلاً»
فالسند إليه لا ضير فيه غايته اندراجه في الموثّق.
وإنّما الكلام
في الحسن بن عليّ بن أبي حمزة وأبيه ، فقد ذكر في الرجال في كلّ
منهما قدح عظيم وطعن كثير مع كونهما واقفيّين ، فالسند من جهتهما يدخل في الضعيف
فلا بدّ في التعويل على الرواية من جابر لضعف السند.
وقد يقال :
إنّه منجبر بامور :
منها : قول
الشيخ في العدّة في عليّ بن أبي حمزة «أنّه عملت الطائفة بأخباره» فإنّه في معنى
دعوى الإجماع على العمل.
ومنها : عمل
المعظم بمضمون الرواية.
ومنها : إيراد
عليّ بن حسن بن شعبة إيّاها في تحف العقول بحذف السند ، فإنّه
__________________
يومئ إلى أنّه لأجل اشتهارها بين الطائفة والاعتماد عليها عندهم.
ومنها : فتوى
الشيخ في النهاية بمضمونها بألفاظ قريبة من عباراتها.
ومنها : عمل
السيّد بمضمونها مع أنّه لا يرى العمل بأخبار الآحاد الغير
المقطوع بصدورها. وهذه الأمارات قرائن تفيد ولو بتراكم بعضها ببعض القطع أو الظنّ
بالصدور.
ومن الأخبار ما
عن دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري عن الصادق عليهالسلام «إنّ الحلال من البيوع كلّما كان حلالاً من المأكول والمشروب وغير ذلك ممّا
هو قوام للناس ويباح لهم الانتفاع ، وما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه
ولا شراؤه» .
وما عنه أيضاً
عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهالسلام «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن بيع الأجراب وعن بيع الميتة والدم ولحم الخنزير
والأصنام ، وعن عسيب الفحل ، وعن ثمن الخمر ، وعن بيع العذرة. وقال : هي ميتة» .
وما عن الفقه
الرضوي «اعلم رحمك الله أنّ كلّ مأمور به على العباد وقوام لهم في امورهم من وجوه
الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون
ويستعملون ، فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته ، وكلّ أمر يكون فيه الفساد
ممّا قد نهى عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وإمساكه بوجه الفساد مثل الميتة والدم
ولحم الخنزير والربى وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك فحرام ضارّ
للجسم» وهذا إن لم ينهض حجّة فلا أقلّ من صلوحه مؤيّداً أو
جابراً لضعف سند ما تقدّم ، ونحوه الكلام في سابقيه لعدم وضوح سنديهما.
ولقد أكثر
السيّد في المصابيح في ذكر الأخبار المصرّحة بسحتيّة الثمن في جملة كثيرة
من الأعيان النجسة بل في أكثرها بما يشرف الفقيه على دعوى القطع بأنّ مبنى الشريعة
فيها على حرمة التكسّب بها ، ولعلّنا نورد نبذة منها في تضاعيف الباب.
وليس للقول
بجواز التكسّب بها إن فرض لها منفعة غالبة مقصودة للعقلاء
__________________
ـ كما تقدّم عن الفاضل الكاشاني والمقدّس الأردبيلي والفاضل
الخراساني في الكفاية ـ إلّا أنّ الأصل والعمومات أجناساً وأنواعاً وأصنافاً كقوله
تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وقوله : «إِلّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» وقوله : «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» وقوله عليهالسلام : «كلّ صلح جائز بين المسلمين إلّا ما أحلّ حراماً أو
حرّم حلالاً» وقوله عليهالسلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» إلى غير ذلك ،
فإنّها شاملة لمحلّ البحث كما أنّ الأصل جارٍ فيه.
وليس هاهنا ما
يتوهّم كونه مخرجاً عنهما إلّا النجاسة وهي غير صالحة عقلاً ولا شرعاً لعدم نهوض
ما يقضي من الشرع بإناطة الحكم تكليفاً ووضعاً بالنجاسة ، وأنّه لو لا الجواز لما
وقع في الشرع والتالي باطل لورود الإذن في بعض الأعيان وليس إلّا للانتفاع المحلّل
، كما في كلب الصيد بل الكلاب الأربع وفي بيع الكافر ، وفي بيع العذرة وبيع الميتة
في بعض أحوالهما ، وبيع شعر الخنزير ليتّخذ حبلاً يستقى به.
والجواب عن
الأصل : أنّه إن اريد به ما يفيد الجواز التكليفي قبالاً للحرمة وهو أصل الإباحة ،
فيدفعه : أنّ ما تقدّم من الإجماعات والروايات ناقلة عنها ، بتقريب أنّ موضوع
الأصل المذكور الأشياء المشتملة على المنفعة الخالية عن أمارة المفسدة أو مطلق ما
لم يعلم حكمه بالخصوص لشبهة حكميّة تحريميّة ، وما ذكر من الإجماعات والروايات
أمارة مفسدة تفيد خروج محلّ البحث عن موضوع الأصل بكلا تقريريه.
وإن اريد به ما
يفيد الجواز الوضعي أعني الصحّة بمعنى ترتّب الأثر وهو أصالة الصحّة في العقود أو
مطلق المعاملات ، فإن اريد به ما يعبّر عنه بالأصل الأوّلي ، فهو خلاف ما حقّق في
محلّه ، من أنّ الأصل الأوّلي في المعاملات هو الفساد ، لأنّ الأصل عدم ترتّب
الأثر وهو أمر حادث يشكّ في حدوثه. وإن اريد به ما يعبّر عنه بالأصل الثانوي وهو
القاعدة المستفادة من عمومات الصحّة فمرجعه إلى عموم تلك العمومات ،
__________________
وجوابه التخصيص بما ذكر من الإجماعات والروايات فإنّها كما تنهض ناقلة عن
الأصل كذلك تنهض مخصّصة للعمومات. وهذا كافٍ في التزام إناطة الحكم تكليفاً ووضعاً
بالنجاسة وكونها مانعة من الجواز مطلقاً إلّا ما خرج بالدليل.
ومن هنا يظهر
الجواب عن العلاوة ، فإنّ الجواز في الموارد المذكورة ليس إجماعيّاً وحيث قلنا به
فيها أو في بعضها كان مخرجاً عن القاعدة بالدليل ، فلا ينافيها ثبوته فيها لأنّها
على ما بيّناه سابقاً قابلة للتخصيص.
ثمّ ينبغي
التكلّم في كلّ واحد من الأعيان النجسة على وجه التفصيل طلباً لمعرفة أحكام كلّ مفصّلة
، وتمييزاً لمحل الاستثناء منها عن غيره ، ويتمّ ذلك في مباحث :
المبحث
الأوّل
فيما
يتعلّق بالخمر موضوعاً وحكماً
أمّا الموضوع ، فالمعروف المشهور بين الفقهاء أنّها المسكر المتّخذ من
العنب ، وهو المعهود في العرف الكاشف عن اللغة بل المشهور بين أئمّة اللغة ، وهو
المستفاد من تضاعيف الأخبار المتكاثرة المأثورة عن أهل بيت العصمة ، وما يوجد في
بعض الأخبار من إطلاقها على سائر الأنبذة والمسكرات أو الفقّاع فهو مبنيّ على
الاستعارة ، والتشبيه لمشاركتها الخمر في الأحكام.
ومن هذا الباب
ما ورد في عدّة أخبار من قوله عليهالسلام : «قال رسول الله : الخمر من خمسة ، العصير من الكرم ،
والنقيع من الزبيب ، والبِتع من العسل ، والمزر من الشعير ، والنبيذ من التمر» وكذا ما في
قول أبي الحسن الماضي عليهالسلام بسند صحيح : «من أنّ الله لم يحرّم الخمر لاسمها ، ولكن
حرّمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» بل هذا على ما
ذكرناه من اختصاص اسم الخمر بالمتّخذ من العنب أدلّ لمكان قوله : «لم يحرّم الخمر
لاسمها ولكن حرّمها لعاقبتها» فإنّ هذا البيان يقال لتعميم الحكم إلى ما لم
يتناوله الاسم حقيقة وإن فرض دخوله في المراد مجازاً حين إنشاء الحكم.
__________________
فالقول بأنّها
كلّ شراب مسكر سواء كان متّخذاً من العنب أو الزبيب أو التمر أو الشعير أو الذرّة
أو العسل أو غيره ، ضعيف وإن رجّحه صاحب القاموس قائلاً : «الخمر ما أسكر من عصير
العنب أو عامّ. ثمّ قال : والعموم أصحّ لأنّها حرّمت ، وما بالمدينة خمر عنب وما
كان شرابهم إلّا البُسر والتمر» .
وهذا التعليل
أضعف من القول المذكور لأنّ التحريم حكم مشترك بين أهل المدينة وأهالي سائر البلاد
، وعدم وجود شراب العنب في المدينة يوم حرّمت الخمر لا يقضي بأنّ المراد بالخمر ما
عداه من المسكرات أو ما يعمّه وغيره ، ولو سلّم فلا يثبت به الاستعمال غير دالّ
على الحقيقة.
وأمّا الحكم ، فنقول : إنّه يتعلّق بالخمر كثيرة تذكر في مسائل :
المسألة الاولى : يحرم بيع الخمر
وشراؤها بل مطلق التكسّب بها إجماعاً محصّلاً ومنقولاً مستفيضاً كما تقدّم الإشارة إلى جملة منها ،
مضافاً إلى عموم النبويّ المتقدّم ، وخصوص رواية تحف العقول ، والروايات المصرّحة
بسحتيّة ثمن الخمر ، وما رواه في الخصال عن الباقر عليهالسلام «لعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الخمر عشرة ، غارسها وحارسها وعاصرها وشاربها
وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها» وفي معناه
المرويّ في كتب المشايخ الثلاث بطرق عديدة.
وفي مقابلها
عدّة من الأخبار ربّما توهم الجواز مثل خبر محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام «في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمراً أو خنازير وهو ينظر فقضاه ، فقال
: لا بأس به أمّا للمقتضي فحلال ، وأمّا للبائع فحرام» .
وخبر زرارة عن
أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمراً أو خنزيراً ثمّ يقضي منها
، قال : لا بأس ، أو قال : خذها» .
وخبر محمّد بن
يحيى الخثعمي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون لنا
__________________
عليه الدين فيبيع الخمر والخنازير فيقضينا ، فقال : لا بأس به ليس عليك من
ذلك شيء» .
ورواية أبي
بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمراً
وخنازير يأخذ ثمنه؟ قال : لا بأس» .
فإنّها تدلّ
على إباحة ثمن الخمر للمقتضي وهو فرع على جوازه وصحّته ، غير أنّها ـ مع عدم عامل
بإطلاقها من الأصحاب فلا تقاوم لمعارضة أدلّة المنع ـ حملت على ما لو كان البائع
ذمّياً فإنّه يملكها ويجوز له بيعها.
وربّما يشهد له
رواية منصور قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : لي على رجل ذمّي دراهم ، فيبيع الخمر والخنزير وأنا
حاضر فيحلّ لي أخذها؟ فقال : إنّما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك» .
وفي رواية جميل
قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمراً؟ قال :
خذها ثمّ أفسدها. قال عليّ ـ وفي نسخة قال ابن أبي عمير ـ : يعني اجعلها خلّاً» وهذه تدلّ على
جواز إعطاء الخمر وأخذها وفاءً عن الدين وهو نوع من التكسّب ، ولكنّها أيضاً ـ مع
عدم عامل بها أيضاً وعدم مقاومتها واحتمالها كون القاضي ذمّياً ـ حملت على كون
المراد أخذها مجّاناً ثمّ تخليلها لنفسه أو أخذها وتخليلها لصاحبها ثمّ أخذ الخلّ
وفاءً عن الدين.
وهل يجوز بيع
الخمر وشراؤها للتخليل؟ الوجه لا بلا خلاف أجده ، لإطلاق أدلّة المنع ، مع سلامتها
عن المعارض ، سوى ما يتوهّم معارضته لها من رواية عبيد بن زرارة ، قال : «سألت أبا
عبد الله عليهالسلام عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلّاً؟ قال : لا بأس» ويدفعه عدم
قضائها بأنّ المراد أخذها بعنوان البيع والشراء ، ولو فرض فقد الدلالة على
__________________
التحريم هنا استرابة لإطلاق أدلّة المنع ، فلا أقلّ من التزام فساد البيع
لكون المبيع ممّا لا يملكه المسلم ولا يدخل في ملكه على ما ستعرفه.
الثانية : يحرم شرب الخمر اختياراً
بالإجماع الضروري بل بضرورة من دين الإسلام ، ولأجل ذا يكون مستحلّه من أهل الإسلام كافراً ، والآيات
الكتابيّة المتقدّم ذكرها أيضاً ناطقة بذلك ، والأخبار القاضية به صراحةً وظهوراً
متواترة لفظاً ومعنى بل بالغة فوق حدّ التواتر بمراتب شتّى. ويمكن الاستدلال عليه
أيضاً من طريق العقل ، فإنّ تناول ما يزيل العقل بل الإيمان أيضاً على ما نطق به
بعض الأخبار قبيح عقلاً وفاعله مستحقّ لذمّ العقلاء المعتدلين.
وإذا اضطرّ إلى
شربها لإزالة العطش المفرط المؤدّي إلى التلف أو المرض أو المشقّة الّتي لا تتحمّل
عادةً ، فعن الشيخ في المبسوط «أنّه لا يجوز شربها ودفع الضرورة بها» للاحتياط وعموم الأدلّة الدالّة على
تحريم الخمر وخصوص قول الصادق في خبر أبي بصير المضطرّ : «لا يشرب الخمر فإنّها لا
تزيده إلّا شرّاً ، ولأنّه إن شربها قتلته فلا يشرب منها قطرة» وعن الصدوق «وروي
لا تزيده عطشاً» .
خلافاً لجماعة
منهم ابنا سعيد وإدريس من المتقدّمين ، والفاضلان في الشرائع والقواعد من المتأخّرين
، ثمّ بعدهما كاشف اللثام وثاني الشهيدين في المسالك وغيرهما وهو مختار
الشيخ في النهاية وفي المسالك ١٢ «مذهب الأكثر» لأنّ حفظ النفس في نظر
الشارع أهمّ من ترك المحرّمات ، ومفسدة هلاك النفس أقوى من مفاسد ارتكاب المحرّمات
، وقاعدة وجوب دفع الضرر الّذي هو حكم عقلي ، وقاعدة كلّما غلب الله عليه فهو أولى
بالعذر ، وقاعدة نفي الضرر والضرار الّتي مفادها
__________________
نفي مجعوليّة الحكم الضرري ، وقاعدة نفي العسر والحرج الّتي مفادها نفي
مجعوليّة الحكم الحرجي وحرمة شرب الخمر مع الاضطرار حكم ضرريّ حرجيّ فلا تكون
مجعولة. والآيات مع الروايات المعلّقة للرخصة في تناول المحرّمات على الاضطرار.
ومن الاولى
قوله عزّ من قائل : «وَما لَكُمْ أَلّا تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ» .
ومن الثانية
قوله عليهالسلام في خبر المفضّل الطويل : «إنّه تعالى علم ما تقوم به
أبدانهم وما يصلحهم فأحلّه لهم وأباحه تفضّلاً منه عليهم به لمصلحتهم ، وعلم ما
يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم. ثمّ أباحه للمضطرّ فأحلّه في الوقت الّذي لا يقوم
بدنه إلّا به ، فأمر أن ينال منه بقدر البُلغَة لا غير» .
ونحوه بعينه قوله
عليهالسلام في خبري محمّد بن عبد الله ومحمّد بن عذافر .
ومرسل الدعائم
عن عليّ عليهالسلام «المضطرّ يأكل الميتة ، وكلّ محرّم إذا اضطرّ إليه»
وعن التفسير
المنسوب إلى العسكري عليهالسلام قال الله سبحانه : فمن اضطرّ إلى شيء من هذه المحرّمات
فإنّ الله غفور رحيم ، ستّار لعيوبكم أيّها المؤمنون ، رحيم بكم حتّى أباح لكم في
الضرورة ما حظره في الرخاء» .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «وما اضطرّوا إليه» في حديث رفع عن امّتي تسعة.
وخصوص قول
الصادق عليهالسلام في خبري حمّاد بن عيسى وعمّار بن موسى في الرجل أصابه
عطش حتّى خاف على نفسه فأصاب خمراً قال : «يشرب منه قوته» .
مضافاً إلى
فحوى ما دلّ على إباحة ما هو أفحش منها للمضطرّ كالميتة والخنزير والدم ، ومن ذلك
مرسل الصدوق المرويّ عن نوادر الحكمة «من اضطرّ إلى الميتة والدم
__________________
ولحم الخنزير فلم يأكل شيئاً من ذلك حتّى يموت فهو كافر» .
وهذه الأدلّة
واضح الدلالة على إناطة الرخصة في شرب الخمر بل مطلق المسكر بل تناول مطلق المحرّمات
بالاضطرار ، فالمضطرّ إلى شرب الخمر يحلّ له الشرب.
ولكنّ الكلام
في تحقيق معنى المضطرّ وتشخيص مصاديقه :
فنقول : إنّه
على ما حكي عن النهاية الّذي يخاف التلف على نفسه لو لم يتناول وكأنّه استظهار من
قوله المحكيّ عنها : «لا يجوز أن يأكل الميتة إلّا إذا خاف تلف النفس» ونسبه في
المسالك إلى تلميذه القاضي وابن إدريس والعلّامة في المختلف وفسّره في
الشرائع والقواعد «بالّذي يخاف التلف لو لم يتناول ، وكذا لو
خاف المرض بالترك ، وكذا لو خشي الضعف المؤدّي إلى التخلّف عن الرفقة مع ظهور
أمارة العطب أو إلى ضعف الركوب المؤدّي إلى خوف التلف» .
وفي المسالك «هو
المشهور بين الأصحاب لتحقّق معنى الإكراه [الاضطرار] على جميع هذه
الأحوال ، ثمّ قال : وفي معنى ما ذكر من يخاف طول المرض أو عسر برئه لأنّ ذلك كلّه
إضرار» .
وفي كشف اللثام
وغيره أضاف إلى الخوف على نفسه الخوف على نفس محترمة غيره
كالحامل تخاف على الجنين ، والمرضعة تخاف على الرضيع ، وفيه وفي غيره أيضاً جعل
الخوف أعمّ ممّا ينشأ من نفس عدم التناول أو من إكراه الغير على التناول بحيث يخاف
معه على نفسه أو على نفس محترمة غيره أو على مال محترم له أو لغيره أو على عرضه أو
من التقية الموجبة للخوف على أحد الامور المذكورة.
وهذا أصحّ ،
لأنّ الاضطرار ليس من الموضوعات الشرعيّة ولم يرد له من الشارع
__________________
تحديد بل هو من الموضوعات المستنبطة العرفيّة.
فالمرجع في
استعلام مفهومه وتشخيص مصاديقه العرف ، وهو في متفاهم العرف يصدق على الجميع بل
على ما لو أدّى الامتناع عن التناول إلى مشقّة شديدة لا تتحمّل عادةً ، فيصدق عليه
في الجميع أنّه مضطرّ إلى التناول ، ويصحّ له أن يقول : في الجميع «اضطررت إلى
تناوله» ولا يصحّ سلب الاسم عنه ولا تكذيبه في شيء من الصور.
والضابط الكلّي
خوف الضرر سواء كان الضرر المخوف تلف النفس أو تلف المال أو هتك العرض أو حدوث
المرض أو بطء علاجه أو غيره من الأحوال المذكورة فالاقتصار فيه على خوف تلف نفسه
كما عرفته عن النهاية غير جيّد.
والظاهر عدم
الفرق فيه بين كون الضرر المخوف مقطوعاً أو مظنوناً أو محتملاً بالاحتمال العقلائي
الّذي ملاكه الخوف وكونه بحيث يعتني بشأنه العقلاء ، فلا يكفي الوهم وهو مطلق
الاحتمال المرجوح الغير المعتنى به عند العقلاء ، ويعتبر في نفس الضرر المخوف كونه
ضرراً معتدّاً به وهو ما يعتني بشأنه العقلاء ويتحرّزون منها ولا يتسامحون فيه ،
فالضرر اليسير المتسامح فيه عند العقلاء من صداع غير شديد وما أشبه ذلك لا عبرة به
كما تنبّه عليه كاشف اللثام بقوله : «ولا يدخل فيه صداع غير متناه في الشدّة ونحوه»
.
وبجميع ما عرفت
ظهر ضعف قول الشيخ وضعف دليله ، لأنّ الاحتياط مع فرض الاضطرار لا حكم له حتّى من
الرجحان ، وعموم أدلّة المنع يخرج منه بالتخصيص أو الحكومة ، والخبر الخاصّ ضعيف
بالإرسال ، ومع ذلك يمكن حمله على الغالب ولو بحسب الأمزجة ، فيعتبر في محلّ
الرخصة العلم أو الظنّ الغالب بترتّب الفائدة على شربها لعدم صدق الاضطرار بدون
ذلك.
الثالثة : يحرم سقي الصبيان الخمر بلا
خلاف يظهر ، وفي المستند هو المعروف في
كلامهم ، لعموم قوله : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام».
__________________
وخصوص روايتي
عجلان بن أبي صالح في إحداهما «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : المولود يولد فنسقيه الخمر؟ فقال : لا ، من سقى
مولوداً مسكراً سقاه الله من الحميم وإن غفر له» .
وفي الاخرى «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : يقول الله عزوجل : من شرب مسكراً أو سقى صبيّاً لا يعقل سقاه الله من
ماء الحميم مغفوراً له أو معذّباً ... الخ» .
ورواية أبي
الربيع الشامي قال : «سئل أبو عبد الله عن الخمر؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أن قال : اقسم ربّي لا يشرب عبد لي خمراً في الدنيا إلّا سقاه الله ما
يشرب منها من الحميم معذّباً أو مغفوراً له ، ولا يسقيها عبد لي صبيّاً صغيراً أو
مملوكاً إلّا سقاه مثل ما سقاه من الحميم يوم القيامة معذّباً أو مغفوراً له» ويستفاد من
ذلك حرمة سقيها المملوك أيضاً صغيراً كان أو كبيراً.
وفي حرمة سقيها
الدوابّ كما عن القاضي ابن البرّاج وجوازه على كراهية كما عليه العلّامة في القواعد وعن الشهيد في
الدروس وفي المستند «أنّه الأشهر» قولان : والعموم المتقدّم يساعد على الأوّل ، وربّما يتناوله
قوله عليهالسلام : «وساقيها» في خبر الخصال المتقدّم كما جزم به
بعض مشايخنا .
وللقول الآخر ـ
بعد الأصل والعمومات ـ رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليهالسلام «إنّ أمير المؤمنين عليهالسلام كره أن تسقى الدوابّ الخمر» .
ورواية أبي
بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن البهيمة البقرة وغيرها تسقى أو تطعم ما
لا يحلّ للمسلم أكله أو شربه أيكره ذلك؟ قال : نعم يكره ذلك»
__________________
والروايتان
لقصور سنديهما بل ضعف سند الثانية بالحسن بن عليّ بن أبي حمزة وأبيه ، وقصور
دلالتيهما نظراً إلى ظهور الكراهة في أخبار أهل بيت العصمة في الحرمة باعتبار
كونها بمعنى المبغوضيّة لا تنهضان لتخصيص دليل المنع إلّا لجابر ينجبر به القصور
والضعف سنداً ودلالة ، ولا يكون في نظائر المقام إلّا الشهرة المحقّقة الاستناديّة
، وتحقّقها فيما نحن فيه غير واضح ، فالمسألة موضع تأمّل وإن كان المنع لا يخلو عن
قوّة.
الرابعة : يجوز الاكتحال بكحل متّخذ من
الخمر للتداوي عند الضرورة لا للزينة ولا للتداوي من غير ضرورة ، كما عليه الشيخ وجماعة كما في
كاشف اللثام ونسبه في المسالك إلى الأكثر ، لعموم قاعدة الاضطرار الّذي مداره على
العلم بانحصار العلاج فيه ، وخصوص ما رواه هارون ابن حمزة الغنوي في الحسن عن أبي
عبد الله عليهالسلام «في رجل اشتكى عينيه ، فنعت له كحل يعجن بالخمر ، فقال : هو خبيث بمنزلة
الميتة ، فإن كان مضطرّاً فليكتحل به» .
خلافاً لابن
إدريس فمنعه مطلقاً ، لإطلاق النصّ والإجماع بتحريمه الشامل لما نحن فيه ،
ولقوله عليهالسلام «ما جعل الله في محرّم شفاء» وخبر مروك بن عبيد عن رجل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من اكتحل بميل من مسكر كحّله الله بميل من نار» .
ويقيّد الجميع
بحال الضرورة ، لما عرفت مع ضعف سند الأخير بالإرسال فلا يقاوم لمعارضة الحسن ،
ومعنى «ما جعل الله في محرّم شفاء» أنّه لم يأذن في الاستشفاء به إخراجاً له عن
وصمة الكذب ، وقاعدة الاضطرار حاكمة عليه لأنّها بمضمونها متعرّضة لبيان مقدار
موضوع المنع من الاستشفاء وهو غير المضطرّ.
الخامسة : اختلف الأصحاب في جواز
التداوي بالخمر شرباً أو أكلاً أو طلياً
__________________
وعدمه ، فعن الأكثر كما في كشف اللثام المنع مطلقاً ولو مع الانحصار ، وفي المسالك «هو المشهور بين الأصحاب» وعن الخلاف وظاهر المبسوط
الإجماع عليه. وعن القاضي والعلّامة في المختلف وجماعة من المتأخّرين
ومتأخّريهم الجواز مع الانحصار.
مستند المشهور
الأخبار الآتية المستفيضة القريبة من التواتر إن لم نقل بكونها متواترة وفيها
الصحاح وغيرها من المعتبرة القاضية بمنع التداوي بالخمر أو مطلق المسكر وبالدواء
المتّخذ منهما بقول مطلق.
ومستند الآخرين
قاعدة الاضطرار المتقدّمة الّتي يمكن نهوضها حاكمة على الأخبار المشار إليها كما
كانت حاكمة على أدلّة تحريم المحرّمات وغيرها ممّا تقدّم كرواية تحف العقول ،
ولأجل ذا ربّما يترجّح في النظر القاصر هذا القول.
غاية الأمر أن
يعتبر فيه إحراز الصدق الاضطرار العلم بانحصار العلاج فيه ، فلا يكفي فيه عدم
العلم بعدم الانحصار ، ولكن الإفتاء به وبناء العمل عليه مشكل بل في غاية الإشكال
لمخالفته الشهرة العظيمة القريبة من الإجماع المعتضدة بالإجماع المنقول ، مع أنّ
أدلّة القاعدة المزبورة من الآيات والروايات بمرأى من المعظم ومسمع ، والقاعدة
المستنبطة منها مقبولة لديهم معمولة عندهم في غير محلّ البحث ، كالاضطرار إلى أكل
الميتة أو إلى لحم الخنزير وإلى أكل مال الغير من دون إذنه ونحو ذلك ، ولم يلتفتوا
هنا إليها أصلاً وأعرضوا عن أدلّتها رأساً وأخذوا بمفاد الأخبار المشار إليها ،
مضافاً إلى خلوّها على كثرتها عمّا يدلّ على الرخصة في التداوي بالخمر أو مطلق
المسكر مطلقاً أو مقيّداً بالانحصار الّذي هو ملاك الاضطرار ، مضافاً إلى اشتمالها
على أنواع التأكيدات في إنكار التداوي بالخمر والمنع من الاستشفاء بالمحرّم الّذي
منه المسكر القاضية بشدّة الإنكار والمنع.
ففي صحيح
الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن دواء عجن بالخمر؟ فقال : لا ،
__________________
والله ما احبّ أن أنظر إليه فكيف أتداوى به؟ أنّه بمنزلة شحم الخنزير أو
لحم الخنزير وترون اناساً يتداوون به» .
وخبره الآخر
قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن دواء عجن بخمر؟ فقال : ما احبّ أن أنظر إليه ولا
أشمّه ، فكيف أتداوى به؟» .
وصحيحه الآخر
قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن دواء يعجن بالخمر لا يجوز أن يعجن به إنّما هو
اضطرار فقال : لا ، والله لا يحلّ للمسلم أن ينظر إليه ، فكيف يتداوى به؟ وإنّما
هو بمنزلة شحم الخنزير الّذي يقع في كذا وكذا لا يكمل إلّا به ، فلا شفى الله
أحداً شفاه خمر أو لحم خنزير» .
وحسن عمر بن
اذينة بل صحيحه قال : «كتبت إلى أبي عبد الله عليهالسلام أسأله عن الرجل ينعت له الدواء من ريح البواسير فيشربه
بقدر اسكرجة من نبيذ ليس يريد به اللذّة إنّما يريد به الدواء؟ فقال : لا ، ولا
جرعة. ثمّ قال : إنّ الله عزوجل لم يجعل في شيء ممّا حرّم دواء ولا شفاء» .
وخبر عمر بن
يزيد قال : «حضرت أبا عبد الله عليهالسلام وقد سأله رجل به البواسير الشديد وقد وصف له دواء
اسكرّجة من نبيذ صلب لا يريد به اللذّة بل يريد به الدواء؟ فقال : لا ، ولا جرعة.
قلت : ولِمَ؟ قال : لأنّه حرام ، وأنّ الله لم يجعل في شيء ممّا حرّمه دواء ولا
شفاء» .
والمرويّ عن
الصادق عليهالسلام «لا يتداوى بالخمر ولا بالمسكر ، ولا تمتشط به النساء ، فقد أخبرني أبي عن
جدّي أنّ عليّاً عليهالسلام قال : إنّ الله عزوجل لم يجعل في رجس حرّمه شفاء» .
وخبر أبي بصير
قال : «دخلت امّ خالد العبدية على أبي عبد الله عليهالسلام وأنا عنده ، فقالت : إنّه يعتريني قراقر في بطني وقد
وصف لي أطبّاء العراق النبيذ بالسويق ، فقال :
__________________
ما يمنعك من شربه؟ فقالت : قد قلّدتك ديني ، فقال : فلا تذوقي منه قطرة ،
لا والله لا آذن لك في قطرة منه ، فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك إلى هاهنا ، وأومأ
بيده إلى حنجرته ـ يقولها ثلاثةً ـ أفهمت؟ فقالت : نعم ...» الخ.
وخبر عليّ بن
أسباط عن أبيه قال : «كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام فقال له رجل : إنّ بي أرواح البواسير وليس يوافقني إلّا
شرب النبيذ. قال : فقال : ما لك ولما حرّم الله ورسوله؟ ـ يقول ذلك ثلاثاً ـ عليك
بهذا المريس الّذي تمرسه بالليل ، وتشربه بالغداة ، وتمرسه بالغداة وتشربه بالعشيّ
، فقال : هذا ينفخ البطن ، فقال : أدلّك على ما هو أنفع من هذا؟ عليك بالدعاء
فإنّه شفاء من كلّ داء ، قال : فقلنا له : فقليله وكثيره حرام؟ قال : قليله وكثيره
حرام» .
وخبر ابن أبي
يعفور قال : «كان إذا أصابته هذه الأوجاع فإذا اشتدّت به شرب الحسو من النبيذ
فتسكن عنه فدخل على أبي عبد الله عليهالسلام ... إلى أن قال : فأخبره بوجعه وشربه النبيذ فقال له :
يا ابن أبي يعفور لا تشربه فإنّه حرام ، إنّما هذا شيطان موكّل بك فلو قد يئس منك
ذهب ، فلمّا رجع إلى الكوفة هاج به وجع أشدّ ممّا كان فأقبل أهله عليه فقال : لا
والله لا أذوقنّ منه قطرة ، فيئسوا منه واشتدّ به الوجع أيّاماً ثمّ أذهب الله عنه
فما عاد إليه حتّى مات» .
وخبر سيف بن
عميرة عن شيخ من أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «كنّا عنده فسأله شيخ فقال : إنّ بي وجعاً وأنا
أشرب له النبيذ ووصفه له الشيخ ، فقال له : ما يمنعك من الماء الّذي جعل الله منه
كلّ شيء حيّ؟ قال : لا يوافقني ، قال : فما يمنعك من العسل؟ قال الله : «فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ» قال : لا أجده ، قال : فما يمنعك من اللبن الّذي نبت منه
لحمك واشتدّ عظمك؟ قال لا يوافقني؟ قال : أبو عبد الله عليهالسلام : تريد أن آمرك بشرب الخمر ، لا والله لا آمرك» .
__________________
وخبر إسماعيل
بن محمّد قال : «قال جعفر بن محمّد عليهماالسلام : نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الدواء الخبيث أن يتداوى به» .
وخبر فضل بن
شاذان عن الرضا عليهالسلام في كتابه إلى المأمون قال : «والمضطرّ لا يشرب الخمر
لأنّها تقتله» .
وخبر أبي بصير
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «المضطرّ لا يشرب الخمر فإنّها لا تزيده إلّا
شرّاً ، ولأنّه إن شربها قتلته فلا يشرب منها قطرة» .
وخبر قائد بن
طلحة «أنّه سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن النبيذ يجعل في الدواء؟ قال : لا ينبغي لأحد أن
يستشفى بالحرام» .
والسرّ فيما
صنعه المعظم من الأخذ بمؤدّى هذه الأخبار دون قاعدة الاضطرار لا يخلو عن أحد
الوجوه :
الأوّل : أنّ
أدلّة القاعدة وإن كانت حاكمة على أدلّة تحريم المحرّمات وغيرها إلّا أنّها لا
تحكم على الأخبار المانعة من التداوي بالخمر ومطلق المسكر ، بل هذه الأخبار تنهض
مخصّصة لها مخرجة للاضطرار إلى التداوي من القاعدة لكونها أخصّ مورداً وأقلّ
أفراداً ، فإنّ أدلّة القاعدة عامّة في مطلق المحرّمات وهذه الأخبار خاصّة في
الخمر أو مطلق المسكر ، فيرجّح الأخبار على أدلّة القاعدة وتخصّص تلك الأدلّة بها
وإن كانت بين أكثرها وتلك الأدلّة عموماً من وجه ، مع كون جملة منها لاختصاصها
صراحة وظهوراً بصورة الاضطرار أخصّ منها مطلقاً ، فيكون مفادها بعد إرجاع التخصيص
إليها أنّ كلّ مضطرّ ابيح له تناول المحرّمات بقدر ما يدفع الضرورة إلّا من اضطرّ
إلى التداوي بالمسكر خمراً كان أو غيرها فإنّه لا يحلّ له التداوي به مطلقاً.
وعلى هذا
فالجعل المنفيّ في قوله عليهالسلام : «إنّ الله لم يجعل في شيء ممّا حرّمه دواء ولا شفاء»
يراد به الجعل التكليفي لا الجعل التكويني ، ومعناه أنّه لم يأذن في التداوي
__________________
ولا الاستشفاء به ، ويؤيّده إطلاق قوله تعالى : «قُلْ فِيهِما إِثْمٌ
كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» بناءً على أن
يكون المراد من منافع الخمر ما يعمّ منفعة التداوي من البرء والشفاء ، فقوله : «إِثْمُهُما أَكْبَرُ
مِنْ نَفْعِهِما» يعني به أنّ التداوي بالخمر مع حصول النفع به إثم وهو
لشدّة عقوباته الاخرويّة أو لعظم مفاسده الدنيويّة أكبر من النفع الحاصل به.
الثاني : أن
تكون الأخبار المذكورة مسوقة لبيان أنّ الفائدة المطلوبة من التداوي لا تحصل به
أبداً ، وما يرى في بعض الأحيان من مصادفة التداوي به لحصول البرء والشفاء فإنّما
هو لضرب من المقارنة الاتّفاقيّة من غير مدخليّة وتأثير له فيه ، فيكون فعله اثماً
صرفاً خالياً عن الفائدة المطلوبة ، وربّما يشير إليه قوله عليهالسلام في قصّة امّ خالد : «فإنّما تندمين ...» الخ ، وفي نسبة
القتل في عدّة من الأخبار إلى الخمر أيضاً إشارة إلى ذلك. وعلى هذا فيكون الجعل
المنفيّ فيما تقدّم عبارة عن الجعل التكويني على معنى خلوّه عن الدواء والشفاء
بالمرّة.
الثالث : أن
تكون الأخبار مسوقة لبيان عدم حصول الاضطرار للمسلم إلى التداوي به قطّ ، لعدم
انحصار طريق العلاج فيه بل له طريق آخر ولو نحو التوسّل بالدعاء فإنّه شفاء من كلّ
داء ، كما يشير إليه خبر عليّ بن أسباط أو التربة الحسينيّة عليهالسلام كما يظهر من أخبار الاستشفاء بها ، أو زوال المرض بنفسه
بتفضّل من الله فيمن تحرّز عن التداوي به خالصاً لوجهه ، ففيما تخيّل الإنسان
اضطراره إليه بمظنّة انحصار الطريق فيه فهو وهم من الشيطان ، فإذا يئس ذهب فحصل
البرء تفضّلاً من الله ، كما يشير إليه خبر ابن أبي يعفور. وفي خبر سيف بن عميرة
أيضاً إشارة إلى عدم اتّفاق الاضطرار بعدم اتّفاق الانحصار قطعاً ، فيكون الجعل
المنفيّ في التعليل المتقدّم الجعل التكليفي أيضاً. والوجوه الثلاث وإن كانت
مشتركة في منع التداوي وتحريمه إلّا أنّ الأوجه منها الوجه الأخير ، فالقول بجواز
التداوي وإن كان قويّاً ولكنّ الأقوى هو المنع مطلقاً.
لا يقال :
قضيّة ذلك عدم جواز الاكتحال به أيضاً فكيف يذهب الأكثر إلى الجواز وقد رجّحته
أيضاً ، لأنّا نعالجه بتخصيص القاعدة المستنبطة من أخبار الباب في منع
__________________
التداوي بالخمر بل مطلق المسكر بما كان التداوي بطريق الشرب أو الأكل ،
ويؤيّده أنّ في الأكل والشرب مفاسد ليست في غيرهما من التصرّفات والانتفاعات فيكون
الاكتحال مخرجاً عنها بدليل جوازه المتقدّم.
وفي جواز
التداوي بالطلي وعدمه وجهان : من ملاحظة تخصيص قاعدة المنع بالشرب والأكل ، ومن
أنّ القدر المتيقّن ممّا خرج بالتخصيص هو الاكتحال وبقى غيره ومنه الطلي ، وهذا
أوجه إن لم يتوجّه إليه أنّ القدر المتيقّن ممّا خرج بالتخصيص من قاعدة الاضطرار
هو التداوي بالمسكر بطريق الشرب أو الأكل وبقى غيره ومنه الاكتحال والطلي. ويؤيّده
أنّ العمدة من دليل جواز الاكتحال كما تقدّم هو قاعدة الاضطرار ، فالأقوى هو
الجواز فيهما عند الضرورة الّتي ملاكها العلم أو الظنّ الغالب بانحصار العلاج.
فانقدح من
تضاعيف كلماتنا من أوّل المبحث إلى هنا حرمة الانتفاع بالخمر بجميع وجوه
الانتفاعات إلّا في أربعة مواضع :
الأوّل : شربها
عند الضرورة للعطش.
الثاني :
الاكتحال بها للضرورة.
الثالث : الطلي
بها للتداوي عند الضرورة.
الرابع :
اتّخاذها وإمساكها للتخليل.
السادسة : الخمر لا يملكها المسلم
مطلقاً بلا خلاف بين الأصحاب
وظهور الإجماع ، وعن الشيخ في الخلاف الإجماع عليه ، ويدلّ عليه قوله عليهالسلام في رواية تحف العقول : «منهيّ عن ملكه» على معنى ترتيب
آثار الملك عليها ولا يكون ذلك إلّا لانتفاء الملكيّة ، مضافاً إلى الروايات الواردة في
عقد النصراني والنصرانيّة على الخمر والخنازير إذا أسلما قبل الأداء الدالّة على
أنّه لا يؤدّي المهر من الخمر بل من غيرها ، وفي بعضها الدلالة على أنّها تقوّم
عند مستحلّيها ويؤدّي القيمة ، وإذا كان الإسلام رافعاً للملكيّة
__________________
فلئن يكون دافعاً لها طريق الأولويّة لأنّ الدفع أهون من الرفع. نعم يملكها
الذمّي بلا خلاف فتوى ونصّاً كما هو مقتضى الأخبار المشار إليها مفهوماً بل
منطوقاً ، ولذا يضمنها الغاصب عيناً إذا كان ذمّياً أو قيمة إذا كان مسلماً.
وفي تملّك
المسلم لها إذا اتّخذها وأمسكها للتخليل قول نسب إلى جماعة .
ويظهر من
المسالك في كتاب الغصب في مسألة ضمان الخمر إذا كان المغصوب منه مسلماً وقد
اتّخذها للتخليل قائلاً : «ويضمنها الغاصب فإن كان المغصوب منه مسلماً وجب ردّها
عليه مع بقاء عينها ، ولو تخلّلت ردّها خلّاً لأنّها مملوكة على هذا الوجه فلا
يزول ملكيتها بانتقالها إلى الصفة المحلّلة بل يتأكّد» إلى آخر ما
ذكره.
وفيه : أنّه
ينافي إطلاق الإجماع المنقول وإطلاق قوله : «منهيّ عن ملكه» مضافاً إلى الاعتبار
من أولويّة الدفع من الرفع ، فإنّ العصير ملك للمسلم وإذا انقلب خمراً يزول ملكه
فالخمريّة رافعة لملك المسلم ، فلئن يكون دافعة طريق الأولويّة. نعم له حقّ اختصاص
ما دام في يده للتخليل فيحرم مزاحمته فيها وأخذها منه قهراً أو إراقتها. وقول
الجماعة بملكه لها ممّا لا دليل عليه ولا دلالة للأخبار الدالّة على جواز أخذها
للتخليل عليه.
__________________
المبحث الثاني
فيما يتعلّق بالأنبذة
والفقاع موضوعاً وحكماً
فالأنبذة جمع
النبيذ وهو بحسب الأصل الشراب المعمول من التمر بالخصوص وغلّب على باقي المسكرات
المعمولة من الارز والذرّة وغيرهما وإن اختصّ كلّ واحد أيضاً باسم ، وضابطه كلّ
مسكر مائع بالأصالة كما في المسالك وجمعه في كلام الفقهاء لاختلاف أنواعه لا لتعدّد أفراد
نوع واحد ، لأنّ المقصود به تعميم الحكم بالقياس إلى الأنواع المختلفة لا بالقياس
إلى أفراد النوع ، لأنّه بعد ما ثبت الحكم للنوع يسري إلى أفراده ولا حاجة له إلى
التعميم. وما ذكرناه من الاختصاص هو المصرّح به في كلام أئمّة اللغة وكلمة الفقهاء
وهو المستفاد من أخبار أهل العصمة عليهمالسلام.
والفقّاع بحسب
الأصل وفي زمان صدور الحكم على ما يستفاد من الأخبار هو الشراب المتّخذ من الشعير
خاصّة ، وإطلاقه على المتّخذ من الزبيب أو الذرّة أو القمح أو الشعير والقمح كما
قيل مجاز أو محدث حدث بعد أزمنة صدور الحكم.
وتحريمه ـ على
التحقيق المتقدّم في باب النجاسات من كتاب الطهارة ـ من حيث تحريم الخمر أعني
الإسكار وإن كان سكره خفيّاً ، ولعلّه إلى ذلك يشير تصغير خميرة في قوله عليهالسلام : «الفقّاع خميرة يستصغرها الناس» وقد حقّقنا في
الباب المذكور أنّه مع سائر الأنبذة من الأعيان النجسة فيشمل الجميع عموم قوله عليهالسلام : «أو شيء من وجوه النجس» في رواية تحف العقول.
__________________
فعموم قوله عليهالسلام : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» يقتضي حرمة البيع والشراء
بل مطلق التكسّب في الجميع ، بل قضيّة هذا العموم حرمة جميع الانتفاعات ، إلّا ما
يضطرّ إليه الإنسان فيحلّ الانتفاع عند الضرورة ، إلّا ما يضطرّ إليه شرباً أو
أكلاً للتداوي فإنّه حرام مطلقاً.
والدليل على
الاستثناء الأوّل قاعدة الاضطرار ، والدليل على الاستثناء الثاني عموم المنع
المستفاد من الأخبار المانعة من التداوي ، ويكفي فيه عموم التعليل الوارد فيها
بقوله عليهالسلام : «إنّ الله عزوجل لم يجعل في شيء ممّا حرّم دواءً ولا شفاءً» مضافاً إلى
أنّ مورد أكثرها هو النبيذ ، ولو جعلناه بحسب الاسم عامّاً تثبت عموم المنع مع ما
في بعضها النهي عن التداوي بالخبيث وهو بعموم مفهومه يعمّ الجميع مع إمكان دعوى
الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.
وأمّا المسكرات
الجامدة بالأصالة كالحشيشة الّتي منها ورق القنب على ما قيل وغيرها فهي وإن لم تكن
من سنخ الأعيان النجسة إلّا أنّها لمشاركتها المسكرات المائعة في صفة الإسكار
وتحريمها لأجله ربّما تذكر في المقام استتباعاً.
ففي المسالك
بعد ما ذكر أنّ ضابط التحريم في الأنبذة كلّ مسكر مائع بالأصالة قال : «وكذا
الجامدات إن لم يفرض لها نفع آخر وقصد من بيعها المنفعة المحلّلة» .
ويستفاد من
كلامه أنّ ما كان له من الجامدات منفعة محلّلة وقصد من بيعه المنفعة المحلّلة جاز
التكسّب به ، بتقريب أنّ قوله : «وقصد بيعها ...» الخ لا يجوز كونه عطفاً على
الشرط في القضيّة المنطوقيّة وإلّا لتهافت المعطوف والمعطوف عليه ، بل هو عطف على
الشرط في القضيّة المفهوميّة وهو جواز بيعها إن كان لها منفعة محلّلة قصداً إلى
إخراجه من الإطلاق إلى تقييده بالقصد المذكور. فيفيد أنّ الجواز مشروط بأمرين
أحدهما : أن يكون فيه منفعة ، وثانيهما : أن يقصد ببيعه المنفعة المحلّلة ، فما لا
منفعة فيه أو لم يقصد ببيعه تلك المنفعة حرم بيعه ، فالأقسام ثلاثة يجوز البيع في
واحد منها دون غيره.
وفي الرياض بعد
ما أشار إلى القول بهذا التفصيل تنظّر فيه بقوله : «فيه نظر لعموم
__________________
أدلّة المنع» وكان نظره في دعوى العموم إلى عموم قوله في رواية تحف
العقول : «أمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو
منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو
عاريته» مضافاً إلى عموم الملازمة المستفادة من النبويّ المتقدّم : «إنّ الله إذا
حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فإنّه في الدلالة على التكسّب بما حرّمه الله تعالى يتناول
المسكرات الجامدة أيضاً لأنّها أشياء حرّمها الله تعالى.
وقد يحتمل كونه
عموم التشبيه في نحو قوله عليهالسلام في الأخبار المستفيضة : «إنّ الله لم يحرّم الخمر
لاسمها بل لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر» بناءً على
أنّه يقتضي المشاركة في جميع الأحكام الّتي منها حرمة التكسّب.
ونوقش بأنّ
التحقيق أنّه يقتضي المشاركة في الأحكام الظاهرة ، والظاهر من أحكام الخمر حرمة
شربها. فالتمسّك بالعموم من جهة التشبيه غير جميل ، إلّا أن يدّعى كون حرمة
التكسّب في الخمر من أحكامها الظاهرة. وفيه تأمّل ، فإنّ أقصى ما يسلّم فيها كون التكسّب
بها من منافعها الغالبة ، وهو لا يقتضي كون حرمته من الأحكام الظاهرة.
وكيف كان
فقضيّة نظر السيّد رحمهالله استناداً إلى العموم عدم الفرق في منع التكسّب
بالجامدات بين صورها الثلاث ، فهو حرام وإن قصد به الجهة المحلّلة ، وهو مستظهر
لأنّ التفصيل بالجواز من حيث الجهة المحلّلة وعدمه من حيث الجهة المحرّمة تخصيص في
أدلّة المنع المفروض عمومها لمحلّ البحث فيحتاج إلى دليل. وعلى المفصّل إقامة
الدليل عليه ، ويمكن أن يستدلّ له بوجوه :
الأوّل :
التعليل الواقع في رواية تحف العقول بقوله عليهالسلام : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه
وإمساكه والتقلّب فيه ...» الخ فإنّه يفيد أنّ العلّة في تحريم بيع الأشياء
المذكورة قبل ذلك تحريم منافعها ، فيفيد دوران تحريم البيع مع تحريم المنافع
وجوداً وعدماً وبمقتضى حجّية العلّة المنصوصة يتعدّى من الأشياء المذكورة في
__________________
الرواية إلى غيرها ممّا وجد فيه العلّة فيعمّ تحريم البيع ودورانه مع
العلّة المذكورة للمسكرات الجامدة أيضاً.
لا يقال : ظاهر
العطف بواو الجمع كون العلّة تحريم جميع المنافع فلا تعمّ ما كان بعض منافعه
محلّلاً كما هو محلّ البحث ، لأنّ الدوران في الوجود والعدم يفيد انتفاء تحريم
البيع عند انتفاء تحريم جميع المنافع ، وهذا بضابطة رفع الإيجاب الكلّي يصدق مع
عدم تحريم شيء من المنافع ومع عدم تحريم بعض المنافع ، غاية الأمر أنّه يثبت
تحريم البيع بالنسبة إلى الثاني في المنفعة المحرّمة بدليل آخر ، ويكفي فيه عموم
قوله : «فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه»
الخ فإنّه يعطي كفاية تحريم بعض المنافع في تحريم البيع ، والقدر المتيقّن من ذلك
تحريم البيع في المنفعة المحرّمة إن لم ندّع الظهور فيه بحسب العرف ، فيبقى جواز
البيع في المنفعة المحلّلة وصحّته مستفاداً من عمومات الصحّة مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» ونحو ذلك.
الثاني : قوله عليهالسلام في رواية دعائم الإسلام : «إنّ الحلال من البيوع كلّما
كان حلالاً من المأكول والمشروب وغير ذلك ممّا هو قوام للناس ويباح لهم الانتفاع ،
وما كان حراماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه» وهذا يدلّ على
إناطة حلّ البيع وتحريمه بحلّ المنفعة وتحريمها أكلاً في المأكول ، وشرباً في
المشروب ، ولبساً في الملبوس ، وسائر وجوه الانتفاع في غيرها ، وينساق منه أنّ
البيع في المنفعة المحلّلة حلال ، وفي المنفعة المحرّمة حرام ، ويجري هذا التفصيل
فيما اشتمل على المنفعتين. ولو سلّم عدم جريانه فيه فلا ينساق من قوله : «وما كان
حراماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه» أزيد من تحريم بيعه في المنفعة المحرّمة ،
فيبقى حلّيّة بيعه في المنفعة المحلّلة مستفادة من العمومات.
الثالث : قوله
: «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فإنّه بملاحظة ما قرّرناه من الوجوه لإثبات
الملازمة بين فساد البيع وتحريمه في معنى قوله : «إذا حرّم شيئاً حرّم بيعه»
__________________
فيدلّ بظاهره على تحريم بيع الشيء فيما حرّم الله من منافعه سواء كان جميع
المنافع أو منافعه المقصودة ، فيبقى حلّيّة بيع ما اشتمل على المنفعة المحلّلة
مستفادة من العمومات.
الرابع : صحيحة
عمر بن اذينة قال : «كتبت إلى أبي عبد الله عليهالسلام أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممّن يعلم أنّه
يجعله خمراً أو سكراً؟ فقال : إنّما باعه حلالاً في الإبّان الّذي يحلّ شربه أو
أكله فلا بأس ببيعه» فإنّ قوله : «إنّما باعه حلالاً» بمنزلة العلّة لقوله :
«فلا بأس ببيعه» فيفيد تعليل عدم البأس ببيعه حال حلّيّة أكله أو شربه ، وهو أيضاً
يفيد دوران حلّيّة البيع وجوداً وعدماً مع حلّيّة المنفعة أكلاً وشرباً.
فنتيجة الوجوه
المذكورة فيما اشتمل على المنفعتين تحريم بيعه في المنفعة المحرّمة ، وحلّ بيعه في
المنفعة المحلّلة ، وهذا التفصيل حينئذٍ قاعدة اخرى مستفادة من الأدلّة تنهض
لتخصيص عموم أدلّة المنع حسبما تمسّك به السيّد .
فإن قلت : هذا
التفصيل إن صحّ لجرى في الخمر وغيرها من المسكرات المائعة أيضاً ، لاشتمالها بملاحظة
ما سبق من جواز الانتفاع بها في المواضع الأربع المتقدّمة على منفعتين محرّمة ـ وهي
شربها اختياراً ـ ومحلّلة ، كما في المواضع الأربع فوجب أن يحلّ بيعها في هذه
المواضع ، فما معنى إطلاق المنع من بيعها حتّى في المواضع الأربع حتّى في صورة
اتّخاذ الخمر للتخليل كما تقدّم.
قلت : فرق بين
حلّ الانتفاع بالشيء وحلّ منفعة الشيء ، والمسوّغ للبيع هو الثاني ، والموجود في
المواضع الأربع هو الأوّل ، والفرق بينهما أنّ المنفعة عبارة عن الفائدة المقصودة
من الشيء بنوعه ، بأن يكون ذلك الشيء بنوعه معدّاً لاستفادة هذه الفائدة ، وهي
غير الفائدة المطلقة المترتّبة على الشيء في بعض الأحيان من دون أن يكون بنوعه
معدّاً لاستفادة تلك الفائدة ، وضابط الفرق بينهما أنّ المنفعة من قبيل لوازم
الماهيّة ، ومطلق الفائدة من قبيل عوارض الشخص ، وعلى ما بيّنّاه ينطبق جميع
تعبيرات الفقهاء ، فتارةً بالمنفعة الغالبة والمنفعة النادرة ، واخرى بالمنفعة
المقصودة
__________________
للعقلاء والمنفعة الغير المقصودة لهم ، وسيأتي زيادة بيان لهذا المقام.
ولا ريب أنّ الخمر
بنوعها معدّة لشربها اختياراً طلباً للإسكار ، لا لشربها عند الضرورة لرفع العطش ،
ولا للاكتحال بها عند الضرورة ، ولا للطلي بها عند الضرورة للتداوي ، ولا
لاتّخاذها للتخليل ، فليس لها في المواضع الأربع منفعة محلّلة بالمعنى المذكور
حتّى تكون مسوّغة لبيعها ، ولو سلّم إطلاق المنفعة على مطلق الفائدة المحلّلة فهي
منفعة نادرة ، والمسوّغ للبيع هي المنفعة الغالبة مع كونها محلّلة لا غير ، مع
أنّه لا عبرة بما أحلّت في مقام الاضطرار بل المعتبر حلّ المنفعة حال الاختيار.
ثمّ إنّه بعد
البناء فيما اشتمل على المنفعتين المحرّمة والمحلّلة ، فهل قصد المنفعة المحلّلة
عند البيع شرط لجوازه أو أنّ قصد المنفعة المحرّمة مانع؟ ويظهر فائدة الفرق بين
الاعتبارين فيما لو بيع لا بقصد إحدى المنفعتين فإنّه على الأوّل حرام لانتفاء شرط
الحلّ ، وعلى الثاني حلال لانتفاء المانع ، والأظهر هو الثاني لظهور إطلاق قوله عليهالسلام في صحيحة عمر بن اذينة : «لا بأس ببيعه» تعليلاً بأنّه «باعه
حلالاً في الأبان الّذي يحلّ شربه أو أكله».
مضافاً إلى ما
ظهر من تقرير الاستدلال بالوجوه الأربعة لاستفادة التفصيل المذكور من أنّ أدلّة
المنع من بيع المسكرات أو مطلق المحرّمات لا تدلّ على أزيد من تحريم البيع في
المنافع المحرّمة ، ويبقى حلّ البيع في المنافع المحلّلة مستفادة من عمومات صحّة
البيع وحلّه ، فإنّ المستفاد منها جواز البيع وصحّته بقول مطلق ، خرج منها ما قصد
ببيعه المنفعة المحرّمة ، وبقى غيره ومنه ما لم يقصد ببيعه إحدى المنفعتين.
وبقى الكلام في
أنّ المسكرات الجامدة هل هي مشتملة على المنفعة المحلّلة وأنّها أيّ شيء؟ وتحقيق
ذلك ليس من وظيفة الفقه ، واستعلامه موكول إلى العرف ونظر أهل الخبرة.
المبحث الثالث
فيما يتعلّق بالميتة موضوعاً
وحكماً
ففي القاموس «مات
يموت ويمات ويميت فهو ميّت ، وميّت ضدّ حيي ... إلى أن قال : وهي مَيّتة ومَيْتَةٌ
وَمَيت والميتة ما لم تلحقه الزكاة» انتهى.
وقضيّة صدر
كلامه كون الميّتة مؤنّثة الميّت لمعنى عامّ ، لأنّ ضدّ الحيّ يعمّ الميّت
الإنساني وغيره ممّا ذهبت عنه الحياة بإزهاق الروح أو بالذكاة ذبحاً أو نحراً أو
رمياً ، وقضيّة ذيله كونها لمعنى خاصّ.
ومن ثمّ ربّما
يتوهّم منه كونها بحسب العرف القديم مقولاً بالاشتراك بين العامّ والخاصّ ، وهو
بعيد. وليس بذلك البعيد أن لو قلنا بأنّ هذه المادّة بجميع تصاريفها كانت في أصل
اللغة للمعنى العامّ ، إلّا أنّ المشدّد من تصاريفها غلّب في العرف على الميّت
الإنساني ، والمخفّف منها خصوصاً مع التاء غلّب على ما تلحقه الزكاة من سائر أنواع
الحيوان ، ويشهد له التبادر وصحّة السلب خصوصاً سلب الميّتة عن المذكّى ، وعلى هذا
فالتاء في هذه اللفظة للنقل لا غير ، ولا يبعد كون هذا النقل بحسب الوضع الشرعي ،
فتكون هذه اللفظة من الحقائق الشرعيّة.
ويؤيّده أنّها
في نحو قوله تعالى : و
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» وقوله أيضاً :
«إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً» بل في جميع
خطابات الشرع كتاباً وسنّة وفي عرف المتشرّعة مصروفة إلى هذا المعنى لا غير ، ولم
يعلم من غير أهل هذا الدين أنّهم يخصّونها به. وكيف كان فموضوع البحث هو الميتة
بهذا المعنى ، ولها أنواع ثلاث لأنّها
__________________
إمّا أن تكون من نجس العين كالكلب والخنزير ، أو من طاهر العين ، وعلى
الثاني إمّا أن تكون من ذات النفس السائلة كالحمير والبغال والبرازين وغيرها ، أو
من غير ذات النفس السائلة كالسمك والجرادة وغيرها.
أمّا النوع
الأوّل : فلا إشكال بل لا خلاف في حرمة المعاوضة بل مطلق المعاملة عليها ، ولا في
عدم جواز الانتفاع بها مطلقاً ، ولا في عدم جريان ملك المسلم عليها ابتداءً
واستدامةً فيما كانت من الكلاب الأربع ، من غير فرق في هذه الأحكام بين الميتة
بجملتها أو بأبعاضها ممّا تحلّه الحياة من أجزائها وغيرها ، فإنّ الكلّ من وجوه
النجس ، والدليل على الكلّ في الكلّ ـ بعد ظهور الإجماع بل الإجماعات المنقولة على
ما قيل ـ عموم رواية تحف العقول الّتي دلالتها على تحريم البيع للجملة في مواضع
منها.
وهل يستثنى من
أجزاء ميتة الخنزير شعرها للانتفاع به باتّخاذ حبل يستقى به أو لا؟ أقوال ، ثالثها
الفرق بين ما لا دسومة فيه فيجوز وما فيه دسومة فلا يجوز ، وعلى الاستثناء ففي
كونه من حلّ الانتفاع أو من حلّ المنفعة ليحلّ بيعه في تلك المنفعة وجهان ، وتحقيق
القول في هذين الفرعين يأتي عند الكلام في الخنزير ، فإنّ الاختلاف في الانتفاع
بشعر الخنزير على الوجه المذكور واقع ثمّة ، وظاهر إطلاقهم عدم الفرق بين ما لو
اخذ الشعر من الحيّ أو من الميتة.
وأمّا النوع
الثاني : وهو ميتة طاهر العين ممّا له نفس سائلة ، فالمعروف بين الأصحاب من غير
خلاف يظهر حرمة المعاوضة عليها ، بل في المنتهى دعوى إجماع
المسلمين كافّة على تحريم بيع الميتة. ويدلّ عليه من الروايات كلّما دلّ على
سحتيّة ثمن الميتة ورواية تحف العقول في مواضع عديدة منها ، وعلى تحريم مطلق
المعاوضة بل المعاملة عليها عموم قوله : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام». كما يدلّ على
حرمة الانتفاع بها بجميع وجوهه حتّى إطعام السباع والطيور والبزازين.
ويدلّ على عدم
جريان ملك المسلم عليها ابتداءً واستدامةً عموم قوله عليهالسلام : «ومنهيّ
__________________
عن ملكه» بالتقريب المتقدّم ، وعلى حرمة الانتفاع بها مطلقاً بالخصوص ـ مضافاً
إلى الإجماع المنقول عن التنقيح والإيضاح على حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة بقول مطلق ، وإلى
الكتاب العزيز في الآيات المتكرّرة المتقدّم إلى بعضها الإشارة ولو في الجملة إن
قلنا بانصراف إطلاقها في خصوص الأكل ـ عدّة روايات مصرّحة بأنّ
الميتة لا ينتفع بها وفي بعضها لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب ، وهذا مضافاً
إلى ما ذكر يعمّ الجملة والأبعاض.
نعم يستثنى من
أبعاضها في جميع الأحكام المذكورة على وجه القاعدة القابلة للتخصيص ما لا تحلّه
الحياة من أجزائها كالشعر والصوف والوبر والريش والقرن والعظم وغيره ، لما تحقّق
في كتاب الطهارة من طهارة هذه الأجزاء ، فيجري عليها ملك المسلم استدامةً
للاستصحاب وابتداءً للعمومات ، فيحلّ الانتفاع بها بجميع الانتفاعات التابعة للملك
، ويجوز بيعها وشراؤها بل يجري عليها عقود المعاوضة مطلقاً وغيرها ، كلّ ذلك
للعمومات الشاملة لها أجناساً وأنواعاً وأصنافاً.
وربّما يستشكل
في تحريم التكسّب بجلد الميتة وتحريم الانتفاع به مطلقاً ، كما عن الكفاية والحدائق نظراً منهما
إلى رواية الصيقل رواها الشيخ بإسناده عن محمّد ابن الحسن الصفّار عن محمّد بن
عيسى بن عبيد عن أبي القاسم الصيقل وولده قال : «كتبوا إلى الرجل : جعلنا الله
فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها ، ونحن مضطرّون إليها ،
وإنّما علاجنا جلود الميتة من البغال والحمير الأهليّة لا يجوز في أعمالنا غيرها ،
فيحلّ لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسّها بأيدينا وثيابنا؟ ونحن نصلّي في ثيابنا ،
ونحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا؟ فكتب : اجعل ثوباً
للصلاة ...» الخ بتوهّم أنّه يدلّ على الجواز في جميع ما سئل عنه.
والجواب أوّلاً
: أنّ الرواية معارضة بما هو أقوى منها من المعتبرة المصرّحة بعدم
__________________
جواز الانتفاع من الميتة بشيء ، وقد تقدّم الإشارة إلى
بعضها المصرّح بأنّه لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب.
وثانياً :
القدح في سندها لجهالة الراوي ، فإنّ أبا القاسم الصيقل غير مذكور في الرجال بمدح
ولا قدح ، ويتأكّد ضعفها بإعراض الأصحاب عن العمل بها في تجويز التكسّب والانتفاع
بقول مطلق.
وثالثاً :
أنّها محتملة للتقيّة لموافقتها مذهب العامّة القائلة بطهارة جلد الميتة بالدبغ ،
وربّما يشعر بها الإضراب في الجواب عمّا سئل عنه فأجاب بما لا يوافق السؤال ، مع
أنّ المكاتبة يحتمل فيها من التقيّة ما لا يحتمل في غيرها ، والتقرير مع كونه
دلالة ضعيفة إنّما يكشف عن الرضا حيث لم يكن لعدم الردع جهة إلّا الرضا ، ولا يكون
إلّا حيث ينتفي احتمال التقيّة.
ورابعاً : منع
الدلالة ، فإنّ الجواب لا ظهور له في الجواز إلّا من حيث التقرير الغير الظاهر في
الرضا مع قيام احتمال التقيّة.
وقد يقال في
منع الدلالة بالقياس إلى البيع والتكسّب : إنّ مورد السؤال عمل السيوف وبيعها
وشراؤها ، لا خصوص الغلاف مستقلّاً ولا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في
مقابل عين الجلد ، فغاية ما يدلّ عليه جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غمداً للسيف
وهو لا ينافي عدم جواز معاوضته بالمال.
وفيه : أنّه
تفكيك غير سائغ بين فقرات السؤال فإنّ مورده عمل جلود الميتة وبيعها وشراؤها
ومسّها فإن دلّ الجواب على الجواز في الأوّل دلّ عليه في البواقي ، وإن لم يدلّ
عليه في البواقي لم يدلّ عليه في الأوّل والتفكيك غير معقول. والإنصاف أنّ في عدم
تعرّضه عليهالسلام لتجويز هذه الامور صراحة والاقتصار في الجواب على بيان
العلاج للصلاة دلالة على مبغوضيّة هذه الامور في نظره عليهالسلام وعدم رضاه بشيء منها ، وإنّما لم يصرّح به لمانع وهو
خوف الإشاعة المنافية للتقيّة.
ولكثير ممّا
ذكرناه من الوجوه يظهر الجواب عن رواية قاسم الصيقل قال : «كتبت
__________________
إلى الرضا عليهالسلام إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب
ثيابي فاصلّي فيها؟ كتب إليّ اتّخذ ثوباً لصلاتك ، فكتبت إلى أبي جعفر الثاني عليهالسلام إنّي كتبت إلى أبيك عليهالسلام بكذا وكذا فصعّب عليّ ذلك ، فصرت أعملها من جلود الحمر
الوحشيّة الذكيّة ، فكتب إليّ كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله فإن كان ما يعمل
وحشيّاً ذكيّاً فلا بأس» .
بل هذا باعتبار
المفهوم ربّما يدلّ على المنع من عمل جلود الميتة.
كما يظهر
الجواب أيضاً عن خبر حسين بن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام «في جلد شاة ميتة يدبغ فيصيب فيه اللبن أو الماء فأشرب منه وأتوضّأ؟ قال :
نعم ، وقال : يدبغ فينتفع به ولا يصلّي فيه» بل هذا لمخالفته عدّة قواعد محكّمة من المذهب ـ من عدم
طهر جلد الميتة بالدبغ ، وحرمة شرب الماء المتنجّس ، وحرمة التوضّي وعدم صحّته
بالماء المتنجّس ـ مطروح أو محمول على التقيّة ، كما هو المصرّح به في كلام جماعة
منهم صاحب الوسائل .
واختلف الأصحاب
في الاستقاء بجلد الميتة في غير مشروط بالطهارة ـ من المأكول والمشروب والوضوء
والصلاة ـ كسقي الدوابّ والمزارع والبساتين وما أشبه ذلك ، فالمشهور المنع ، وذهب
جماعة كالشيخ في النهاية والفاضلين في الشرائع والنافع والإرشاد إلى الجواز ،
ولقد أفرط الصدوق في المقنع فجوّز الاستقاء بجلد الخنزير ، وهو يعطي جوازه في غيره
من جلود الميتة بطريق أولى.
والأقوى
المشهور ، لعموم أدلّة المنع من الانتفاع بالميتة المتناول لجلدها أيضاً ، وشذوذ
القول بالجواز مع عدم مستند له ، سوى ما أشار إليه الشهيد الثاني في المسالك «من
الأصل وكون النجاسة غير مانعة من أصل الاستعمال» ويدفعه : أنّ
الأصل يخرج منه بدليل المنع ، وأنّ النجاسة العينيّة مانعة من مطلق الاستعمال كما
أنّها مانعة من المعاوضة بالمال. ويكفي في دليله عموم قوله عليهالسلام : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» بعد
__________________
قوله عليهالسلام : «أو شيء من وجوه النجس» المتناول لمثل جلد الميتة
أيضاً.
ولئن سلّمنا
عدم كون النجاسة مانعة من الاستعمال فالميتيّة الّتي هي جهة اخرى كافية في المنع.
ويكفي في دليله
العموم المذكور أيضاً بعد ذكر الميتة في عداد الامور المذكورة قبله ، مضافاً إلى
خصوص عدّة روايات مصرّحة بمنع استعمال الجلد أيضاً بقول مطلق على ما تقدّم الإشارة
إليها مثل خبر الفتح بن يزيد عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة الّتي يؤكل
لحمها ذكيّاً؟ فكتب عليهالسلام : لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب» .
وصحيح عليّ بن
أبي المغيرة قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال : لا ، قلت : بلغنا
أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مرّ بشاة ميتة ، فقال : ما كان على أهل هذه الشاة إذا
لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ فقال : تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج
النبيّ صلىاللهعليهوآله وكانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتّى ماتت ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا
بإهابها أي تذكّى» .
وخبر يونس بن
يعقوب عن أبي مريم قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : السخلة الّتي مرّ بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهي ميتة؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها ، قال : فقال أبو
عبد الله عليهالسلام : لم تكن ميتة يا أبا مريم ، ولكنّها كانت مهزولة
فذبحها أهلها فرموا بها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها»
وهذا كسابقه في
الدلالة على ردع الراوي عمّا اعتقده من ترخيص رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الانتفاع بجلد الميتة ، فيدلّان على المنع من
الانتفاع بقول مطلق ، مضافاً إلى قوله عليهالسلام : «لا» في سابقه المتناول لوجوه الانتفاع حتّى بجلدها
بدليل فهم الراوي ولذا نقضه بحديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حسبما اعتقده على خلاف الواقع.
وموثّقة سماعة
قال : «سألته عن جلود السباع أينتفع بها؟ فقال : إذا رميت وسمّيت
__________________
فانتفع بجلده ، وأمّا الميتة فلا» إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.
وبهذا كلّه
يظهر ضعف ما سمعت عن الصدوق من تجويز الاستقاء بجلد الخنزير مع شذوذه وضعف مستنده
، وهو الأصل على ما أشار إليه في المسالك حيث قال : «إنّ النهي في الآية مورده
الميتة مطلقاً الشامل للانتفاع بجلدها بخلاف الخنزير فإنّ مورده اللحم فلا يتعدّى
إلى غيره للأصل» .
وفيه : أنّ
التعدّي إلى غيره يثبت بالأخبار فإنّها إمّا شاملة بمنطوقها من جهة الإطلاق لجلد
الخنزير لأنّه نوع من جلد الميتة ، أو توجب التعدّي إليه بمفهومها الموافقة نظراً
إلى الأولويّة ، وبه يتعيّن الخروج عن الأصل.
النوع الثالث :
وهو ميتة ما ليس له نفس سائلة كميتة السمك ونحوه ، وهذه تشارك ميتة ذي النفس في
الحرمة الذاتيّة وتمتاز عنها في الطهارة ، فلا يلحقها البحث من جهة النجاسة بل من
حيث الحرمة. وهذا البحث يلحقها تارةً في حرمة التكسّب بها ، واخرى في جواز
الانتفاع بشيء منها من غير جهة الأكل ، كالانتفاع بدهنه للإسراج وتدهين الأجرب
وطلي السفن ونحو ذلك.
أمّا الجهة
الاولى : فالظاهر عدم الخلاف في حرمة التكسّب بها والمعاوضة عليها في الجملة ، وهو
المعتمد لعموم قوله في رواية التحف : «أمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر
يكون فيه الفساد ممّا نهى عنه من جهته أكله ...» الخ ، وعموم الملازمة المستفادة
من النبوي «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه».
وأمّا الجهة
الثانية : فالظاهر جواز الانتفاع بدهنها فيما ذكر كما عليه جماعة وفي كلام بعض
مشايخنا «الظاهر أنّه لا خلاف فيه» للأصل وفقد ما يوجب الإضراب عنه من النصوص
وغيرها حتّى عموم قوله : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» لاختصاصه
__________________
بوجوه النجس وخصوص النصوص المانعة من الانتفاع بالميتة مطلقاً لاختصاصها
بميتة ذي النفس بحكم الانصراف. ثمّ إنّ ما ذكر من فائدة الإسراج أو التدهين أو
الطلي فوائد مقصودة للعقلاء من هذا الدهن ، فتكون من قبيل المنفعة المحلّلة ،
وبيعه في تلك المنفعة جائز وصحيح ، وفي فائدة الأكل حرام وفاسد على ما تقدّم من
قاعدة التفصيل فيما اشتمل على المنفعتين فليتدبّر.
فرع : إذا
اختلط المذكّى والميتة من ذي النفس المأكول مع تعذّر التميّز ، فإن كان اختلاط مزج
يجب اختيار الجميع قولاً واحد فيحرم بيعه وأكله وسائر الانتفاعات به ، ويؤيّده أو
يدلّ عليه قوله عليهالسلام : «ما اجتمع الحلال والحرام إلّا غلب الحرام الحلال» وإن كان
اختلاط اشتباه مع كما في الشبهة المحصورة ، فالأصحّ وفاقاً للأكثر وجوب اجتناب
الجميع عملاً بقاعدة الشبهة المحصورة ـ على ما تقرّر في الاصول ـ خلافاً للمحقّق
الأردبيلي وصاحب الكفاية والنراقي في المستند فجوّزوا
الارتكاب ولو بالأكل إلى أن يعلم بقاء مقدار الحرام ، للأصل ، وقوله عليهالسلام : في صحيح ضريس الكناسي «سأل أبا جعفر عليهالسلام عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم فآكله؟
فقال : أمّا ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكله ، وأمّا ما لم تعلم فكله حتّى
تعلم أنّه حرام» .
والأصل مدفوع
بالقاعدة المأخوذ في موضوعها العلم الإجمالي المنجّز للتكليف ، والخبران مدفوعان
باختصاصهما بمحتمل الحرمة الّذي لم يكن معه علم إجمالي فلا يتناولان المقام.
وهل يجوز بيع
الجميع باعتبار كون أحدهما مذكّى؟ فله صورتان ، إحداهما : بيعه من المسلم ،
والظاهر أنّه ممّا لا خلاف في عدم جوازه بل هو من فروع القاعدة المذكورة المقتضية
لوجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ، ولا يتمّ إلّا بالامتناع
__________________
عن بيع الجميع ، كما لا يتمّ إلّا بالامتناع عن أكل الجميع وعن سائر
الانتفاعات بالجميع.
واخراهما :
بيعه من المستحلّ للميتة ، وفيه اختلاف ، فعن الشيخ في النهاية وابن حمزة في
الوسيلة ويحيى بن سعيد في الجامع جوازه ، ومال
إليه في الشرائع إن قصد به بيع المذكّى ، حيث قال : «وربّما كان حسناً إن قصد بيع
الذكي حسب» ونسب اختياره إلى العلّامة في المختلف أيضاً ،
ومستندهم صحيح الحلبي قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إذا اختلط الذكيّ والميتة باعه ممّن يستحلّ
الميتة وأكل ثمنه» وحسنه بل صحيحه على الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنّه سئل عن رجل كان له غنم وبقر وكان يدرك الذكيّ منها فيعزله ويعزل
الميتة : ثمّ إنّ الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع به؟ قال : يبيعه ممّن يستحلّ
الميتة ويأكل ثمنه فإنّه لا بأس» قيل ونحوهما خبر عليّ بن جعفر.
وعن الحلّي
أنّه منع عن بيعه والانتفاع به مطلقاً ، لمخالفة الرواية لُاصول المذهب في جواز
بيع الميتة ، ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» .
والمحقّق بما
سمعت منه في الشرائع وجّه الرواية ـ كما فهمه في المسالك ـ بما إذا قصد به بيع
المذكّى حسب ، فلا يكون منافياً لُاصول المذهب.
واستشكله في
المسالك «بأنّ مع عدم إمكان التميز يكون المبيع مجهولاً فلا يمكن إقباضه فلا يصحّ
بيعه منفرداً» .
ونقل الجواب
عنه عن المختلف «بأنّه ليس بيعاً حقيقيّاً بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه
فيكون سائغاً ، وإنّما اطلق عليه اسم البيع لمشابهته له في الصورة من حيث إنّه بذل
مال في مقابلة عوض» .
واستشكله أيضاً
بأنّ مستحلّ الميتة أعمّ ممّن يباح ماله إذ لو كان ذمّيّاً كان ماله
__________________
محترماً فلا يصحّ إطلاق القول ببيعه كذلك على مستحلّ الميتة ، والأولى إمّا
العمل بمضمون الرواية لصحّتها أو إطراحها لمخالفتها الأصل. ومال الشهيد في الدروس إلى عرضه على
النار ، واختباره بالانبساط والانقباض كما يأتي في اللحم المطروح المشتبه. ويضعّف
مع تسليم الأصل ببطلان القياس مع وجود الفارق ، وهو أنّ اللحم المطروح يحتمل كونه
بأجمعه مذكّى وكونه غير مذكّى فكونه ميتة غير معلومة ، بخلاف المتنازع فإنّه مشتمل
على الميتة قطعاً فلا يلزم من الحكم في المشتبه تحريمه كونه كذلك في المعلوم
التحريم .
أقول : مبنى
هذه التجشّمات والتكلّفات والنقوض والإبرامات كلّها على توهّم كون المراد من البيع
في الروايتين بيع المذكّى والميتة معاً ، وليس كما توهّم بل المراد بيع المذكّى
منهما وحده حال الاشتباه بأن يتوارد إيجاب البائع وقبول المشتري على المذكّى لا
غير ، ولعلّه مراد المحقّق من قصد المذكّى بالبيع لا مجرّد قصد البائع كون المبيع
هو المذكّى مع إجراء العقد على الجميع.
والدليل على ما
ذكرنا من نفس الروايتين إفراد الضمير في قوله عليهالسلام : «باعه ويبيعه» فإنّه ليس إلّا من جهة عوده إلى
المذكّى ، فلو كان المراد بيعهما جميعاً كان المناسب تثنية الضمير بأن يقول «باعهما
ويبيعهما» كما أنّ الراوي في الرواية الثانية ثنّى الضمير بقوله : «الميّت
والمذكّى اختلطا» ولو فرضنا عود الضمير فيهما إلى المشتبه أو المختلط فالمراد به
أيضاً هو المذكّى من حيث طرأه الاشتباه والاختلاط ، فما ذكرناه قرينة واضحة على
أنّ الإمام عليهالسلام أراد بقوله : «باعه أو يبيعه» بيع المذكّى وحده. وهذا
ليس من تجويز البيع للميتة ليكون مخالفاً لُاصول المذهب ، وصورته أن يقول البائع
لمستحلّ الميتة : هذان أحدهما مذكّى والآخر ميتة وقد اختلطا بحيث لا يمكن لي
التميّز وأنا أبيعك المذكّى منهما بكذا ، وإذا رضي المستحلّ بالاشتراء بقول البائع
«بعتك المذكّى منهما بكذا» ويقول المشتري : قبلته أو ابتعته أو اشتريته بكذا ،
وهذا هو معنى بيعه ممّن يستحلّ الميتة.
__________________
فاندفع بما
بيّنّاه شبهة الحلّي حيث أورد على الرواية بكونها مخالفة لُاصول المذهب ، كما
يندفع إشكال الشهيد الثاني باعتبار جهالة المبيع ، فإنّ التميّز إنّما يعتبر
مقدّمة للإقباض الّذي إمكانه شرط في صحّة البيع ، وإقباض المبيع هنا يحصل بإقباض
الجميع ، وعدم إمكان التميّز للمشتري غير قادح لأنّه لاستحلاله الميتة لا حاجة له
إلى التميّز بينها وبين المذكّى لأنّهما عنده بحسب اعتقاده الفاسد في حلّية الأكل
والانتفاع على حدّ سواء.
ولا يلزم من
عدم التميّز في حقّه الإخلال بشرط الصحّة لحصول الإقباض بإقباض الجميع ، ويكون ذلك
كشيئين أحدهما ملك لزيد والآخر ملك لعمرو واشتبها بحيث تعذّر عليهما التميّز وكانا
في يد زيد مثلاً وحينئذٍ إذا باع زيد شقصه منهما على عمرو ثمّ أقبضه بإقباضهما
معاً لم يكن مانع من الصحّة ، نعم إنّما يحتاج إلى التميّز إذا كان المشتري مسلماً
غير مستحلّ للميتة ، وحيث تعذّر ذلك تعذّر إقباض المبيع فتعذّر قبضه فبطل معه البيع.
ومن هنا ظهر
أنّه لا حاجة إلى ما تكلّفه العلّامة في المختلف من صرف ذلك عن حقيقة البيع إلى
صورته للاستنقاذ ، ليرد عليه ما تقدّم من أنّه لا يتمّ فيمن لا يباح مال كما لو
كان ذمّيّاً.
ولا إلى ما
سمعت عن الشهيد في الدروس من العرض على النار والاختبار بالانقباض والانبساط
ليتوجّه إليه ما عرفت عن المسالك.
ولا إلى ما
تكلّفه بعض مشايخنا من حمل الروايتين على صورة قصد البائع المسلم أجزاءها الّتي لا
تحلّها الحياة من الصوف والعظم والشعر نحوها ، قال : «وتخصيص المشتري بالمستحلّ
لأنّ الداعي له على الاشتراء اللحم أيضاً ولا يوجب ذلك فساد البيع ما لم يقع العقد
عليه» ليتوجّه إليه البعد وكمال مخالفة الظاهر وعدم كونه حينئذٍ من بيع المذكّى
ولا الميتة ، مع أنّ المشتري لا يشتري إلّا المجموع الّذي غرضه الأصلي منه اللحم
وهو من المبيع في نظره فلم يتوارد الإيجاب والقبول على شيء واحد ،
__________________
ولم يوافق قصداهما.
ويندفع بما
بيّنّاه أيضاً جميع الإيرادات الّتي أوردها السيّد في المصابيح ونقلها شيخنا
في الجواهر ـ مضافة إلى ما عرفته عن المسالك من كون المبيع مجهولاً لا يمكن إقباضه
ـ من أنّه «قد يأخذ أكثر من ثمن المذكّى إذا باع الاثنين ظاهراً فيكون أخذ الزائد
أكلاً للمال بالباطل ، وأنّه يقصد الواحد والمشترى الاثنين فلم يوافق قصداهما ولم
يتوارد الإيجاب والقبول على أمر واحد ، وأنّه مع قصد المذكّى لو صحّ البيع من
المستحلّ لصحّ من غير المستحلّ أيضاً والفرق تحكّم ، وأنّ المستحلّ يشارك غيره في
الحكم الّذي هو عدم جواز الانتفاع المقتضي لعدم صحّة البيع من غير المستحلّ بناءً
على الأصحّ من مخاطبة الكافر بفروع هذه الشريعة» انتهى.
فإنّ العقد إذا
وقع على المذكّى بالخصوص مع قصدهما إيّاه لا غير لم يبذل ولم يؤخذ أكثر من ثمن
المذكّى ولتوارد الإيجاب والقبول على الواحد وهو المذكّى لا غير ، وأنّ الفارق بين
المستحلّ وغير المستحلّ أنّ عدم إمكان التميّز قادح في الثاني لعدم إمكان الإقباض
معه فيه وغير قادح في الأوّل لحصول إقباض المبيع بإقباض الجميع مع عدم الحاجة له
إلى التميّز لاستحلاله الجميع.
فإن قلت :
الفرق بين المستحلّ وغير المستحلّ في كفاية إقباض المبيع في ضمن الجميع وعدم قدح
عدم إمكان التميّز في الأوّل دون الثاني تحكّم ، بل هما مشاركان في الحكم نفياً
وإثباتاً ، والسرّ فيه أنّ الإقباض من حيث إنّه إقباض ليس معتبراً في صحّة البيع ،
فإنّ البيع ليس كالوقف والهبة ليكون الإقباض والقبض معتبراً في صحّته بل الشرط في
الحقيقة هو سلامة المبيع عن موانع التصرّف فيه والانتفاع به ، فلو باع شيئاً مع ما
يمنع المشتري عقلاً أو شرعاً من التصرّف والانتفاع وجب عليه رفع المانع إن قدر
عليه ، ولو لم يقدر عليه كبيع العبد الآبق أو الطير في الهواء أو السمك في البحر
كان البيع باطلاً لكونه حينئذٍ معاملة سفهيّة وهي باطلة غير مندرجة في عمومات
الصحّة.
__________________
ولا ريب أنّ
حرمة الانتفاع بالميتة واشتباه المذكّى بها على وجه لا يتميّز ووجوب الاجتناب عن
المذكّى أيضاً من باب المقدّمة موانع من التصرّف فيه والانتفاع به ، وهي كما يمنع
البائع عنهما كذلك يمنع المشتري أيضاً سواء كان مستحلّاً أو غير مستحلّ ، أمّا
الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلمخاطبة الكافر بفروع الشريعة فيكون البيع والاشتراء
معاملة سفهيّة مطلقاً لعدم سلامة المبيع عن موانع التصرّف والانتفاع مع عدم قدرة
البائع على رفعها حتّى في حقّ المستحلّ.
قلت : حرمة
الانتفاع بالميتة ووجوب الاجتناب عن المذكّى في صورة الاشتباه إنّما هو بحسب
اعتقادنا لا في اعتقاد الكافر ، فإنّه لا يعتقد في حقّه حرمة ووجوباً فالبيع
والاشتراء في حقّه ليس معاملة سفهيّة بحسب اعتقاده لعدم صدقها عليه عرفاً بل صدق
المعاملة الغير السفهيّة ، وهذا هو معنى عدم قدح عدم إمكان التميّز هنا ، بخلاف ما
لو كان المشتري غير مستحلّ فإنّه في حقّه معاملة سفهيّة قطعاً لعدم تمكّنه من
التصرّف والانتفاع بالمبيع ، وإن حصل قبضه في ضمن قبض الجميع.
لا يقال :
البائع لكونه مسلماً بمقتضى قاعدة الشبهة المحصورة ممنوع من هذا البيع لوجوب
الاجتناب عليه عن جميع أطراف الشبهة ، وتجويز بيع المذكّى المشتبه ولو من المستحلّ
ينافيه لأنّ وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة حكم ظاهري يثبت بقاعدة الاشتغال
الجارية في الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشك في التكليف ، فيخرج عنه
بالدليل وهو النصّ الصحيح الصريح في الجواز.
لا يقال :
قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب الاجتناب عن المذكّى الواقعي قاعدة عقليّة فوجوب
الاجتناب حكم عقلي والتخصيص في الأحكام العقليّة غير سائغ ، لأنّ هذا الحكم وإن
كان عقليّاً إلّا أنّه حكم تعليقي معلّق على عدم ورود الدليل على جواز الارتكاب ،
نظير الحظر العقلي والإباحة العقليّة في المنافع قبل ورود الشرع ، والمفروض وجود
الدليل على جواز بيع المذكّى المشتبه بالميتة ممّن يستحلّها بالخصوص ، وهذا في
الحقيقة ليس تخصيصاً بل هو إخراج للمورد عن موضوع حكم العقل.
فتقرّر أنّ
الأقوى في المسألة هو الجواز على الوجه الّذي قرّرناه عملاً بالصحيحة والحسنة.
وتوهّم
مخالفتهما الشهرة الموهنة لهما ، يدفعه أوّلاً : أنّ هذه الشهرة على تقدير تسليمها
لابتنائها على الاشتباه في فهم معنى الصحيحة حسبما عرفت لا تأثير لها هنا ،
وثانياً : منع تحقّق شهرة الخلاف إن لم ندّع الشهرة في الجواز ، بل عن مجمع
البرهان حكاية الشهرة على العمل بالروايتين ، وأنّ ابن إدريس طرحهما على
أصله.
__________________
المبحث الرابع
فيما يتعلّق بالدم
وله من حيث
النجاسة والطهارة ، ومن حيث كونه من مأكول وغيره أنواع :
النوع الأوّل : الدم النجس بنوعه وهو دم ذي النفس المعبّر عنه في الآية والفتوى بالدم
المسفوح ، ولا ينبغي التأمّل في حرمة التكسّب به ، للإجماع محصّلاً ومنقولاً في
حدّ الاستفاضة ، ورواية تحف العقول في غير موضع ، وعموم الملازمة المستنبطة من
النبوي. كما لا ينبغي التأمّل في حرمة الانتفاع به من غير جهة الأكل مطلقاً ،
لعموم «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» وقوله تعالى : «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ» في وجه ، وهو
تناول إطلاق التحريم لجميع جهاته.
نعم ينبغي أن
يستثنى منه استعماله في الزروع والكروم واصول الأشجار ، لنفي الخلاف في المبسوط
الّذي هو في معنى نقل الإجماع ، حيث قال : «وأمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه وعذرة
الإنسان وخرء الكلاب والدم ، فإنّه لا يجوز بيعه ويجوز الانتفاع به في الزروع
والكروم واصول الشجر بلا خلاف» بناءً على رجوعه إلى الحكمين كما هو الظاهر.
فإنّه مع عدم
العثور على ما ينافيه من النصوص والفتاوي ربّما يورث الظنّ القويّ بالجواز في
المواضع الثلاث ويخرج به من القاعدة المستفادة من العموم ، ولو سلّم عدم إيراثه
الظنّ بالجواز فلا أقلّ من توهينه العموم بحيث يتناول المواضع المذكورة فيرجع
__________________
فيها إلى الأصل وهو كافٍ في التزام الجواز ، ولكنّ على كلّ تقدير وجب
الاقتصار في الخروج عن القاعدة على هذه المواضع ولا يتعدّى إلى غيرها حتّى التداوي
به للعين وغيرها والصبغ وغيره ، وإن كان ربّما يستشمّ من بعض العبائر جواز الصبغ
لعدم وضوح دليل على شيء ممّا ذكر سوى الأصل الغير الجاري في موضع الدليل.
نعم إذا عصى
باستعماله في الصبغ مثلاً ينبغي القطع بجواز الانتفاع بالمصبوغ بعد التطهير ، لأنّ
المحرّم إنّما هو الصبغ بالدم لا الانتفاع بالصفة الحادثة منه. ولا يخفى عليك أنّ
جواز الانتفاع في الوجوه المذكورة لا يسوّغ البيع لأجلها ، لأنّه فيها من حلّ
الانتفاع لا من حلّ المنفعة. وبجميع ما ذكر يظهر أنّه لا يجري على هذا الدم ملك
المسلم ، لعموم «منهيّ عن ملكه» على ما تقدّم.
النوع الثاني : الدم الطاهر بنوعه ، وهو دم غير ذي النفس المعبّر عنه بغير المسفوح ، مع كونه
من غير المأكول كدم الضفادع والقُراد والبراغيث والقماميل وما أشبه ذلك ، وحرمة
المعاوضة عليها مبنيّة على كون هذا الدم محرّماً فإنّه قد حكي عن بعضهم القول
بحلّيّته استرابة في استخباثه. ويستفاد من صاحب الكفاية التردّد فيه قائلاً : «والكلام
في حلّه وحرمته مبنيّ على استخباثه وعدمه» وهذا لا يخلو عن غرابة وإن كان وافقه غير واحد في
التشكيك المذكور ، إذ لا ينبغي لأحد أن يرتاب في خباثة دماء هذه الحيوانات سيّما
في أكثر أنواعها ، فإنّ الخبيث ما يتنفّر منه طباع أوساط الناس وهم المعتدلون منهم
، وهذا موجود في تلك الدماء ، فينبغي القطع بأنّ الحكم فيها هو حرمة الأكل لا غير
، لعموم قوله عليهالسلام : «وحرّم عليكم الخبائث» .
وقد يدّعى فيه
الإجماع والسيرة القطعيّة بل الضرورة ، ويدلّ عليه قوله عليهالسلام في رواية تحف العقول : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله
وشربه» في تعليل تحريم بيع الامور المذكورة قبله الّتي منها الدم ، بناءً على
تناوله لمحلّ البحث من الدماء المذكورة كما هو الأظهر لمكان جنسيّة اللام ، فتفيد
تعليق الحكم على الماهيّة من حيث هي السارية في جميع مصاديقها الخارجيّة الّتي
منها محلّ البحث. وبهذا التقريب يمكن الاستدلال أيضاً
__________________
بقوله تعالى : و
«حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ» المتكرّر في
سورتين إن لم يعارضه مفهوم الدم المسفوح في الآية الاخرى كما هو الأظهر على ما
سنقرّره ، فإذا ثبت الحرمة الذاتيّة في هذا الدم يثبت حرمة المعاوضة عليه بقول
مطلق ، لعين ما مرّ في تحريم المعاوضة على الدم النجس ولا حاجة إلى الإعادة.
وهل يحلّ
الانتفاع بهذا الدم من غير جهة الأكل كالصبغ والتداوي في غير محلّ الضرورة وغير
ذلك أو لا؟ مبنيّ على كون الأصل فيه حلّ الانتفاع بقول مطلق إلّا ما أخرجه الدليل
، أو أنّ الأصل فيه حرمة الانتفاع إلّا ما خرج بالدليل.
يمكن القول
بالأوّل استناداً إلى الأصل بمعنى أصالة الإباحة الجارية في الأشياء النافعة
الخالية عن أمارة المفسدة ، وأصالة البراءة الجارية في الشبهات التحريميّة
المستفادة من العمومات ، مضافاً إلى عموم قوله تعالى : و «خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً» أي لأجل
انتفاعكم.
كما يمكن القول
بالثاني استناداً إلى عموم قوله عليهالسلام : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» بعد فرض شمول قوله : «أو
الدم» لمحلّ البحث كما نبّهنا عليه ويعضده طريقة الاحتياط. وهذا هو الوجه والمختار
، لأنّ الحكم المستفاد من العموم على وجه القاعدة أصل اجتهادي ، وبه يخرج عن
الأصلين وروداً ، وعن العامّ المتقدّم تخصيصاً. ويستثنى منه استعماله في الوجوه
المتقدّمة في الدم النجس إمّا لإطلاق معقد نفي الخلاف المتقدّم عن الشيخ في
المبسوط ، أو للأولويّة بالنظر إلى جواز ذلك في الدم النجس المعتضدة بالأصل ، أو
هو المستند في وجه على ما تقدّم ، ولكن لا يجوز بيعه وشراؤه في هذه الوجوه على ما
بيّنّاه ، والكلام في عدم جريان الملك عليه كما تقدّم أيضاً.
النوع الثالث : الدم الطاهر الغير
المسفوح من مأكول اللحم كدم السمك ، وهل يحرم المعاوضة عليه أو لا؟ وجهان مبنيّان على كونه محرّم الأكل أو محلّله ، إذ على
الأوّل يلزم حرمة المعاوضة عليه لعين ما مرّ في النوعين الأوّلين ، وعلى الثاني
يلزم جوازها وصحّتها للعمومات أجناساً وأنواعاً وأصنافاً ، فينبغي لاستعلام الحلّ
والحرمة في
__________________
المعاوضة من صرف النظر في مسألة حلّ أكل هذا الدم وحرمته.
فنقول : قد
اختلف فيه الأصحاب ، فعن ظاهر المعتبر والغنية والسرائر والمختلف والمنتهى ونهاية الإحكام القول بحلّيّته ، وربّما يعزى إلى ظاهر الأوّل دعوى
الإجماع عليه.
ونسب في
الكفاية إلى ظاهر كثير من عبائرهم المصير إلى الحرمة قائلاً : «وظاهر كثير من
عبائرهم تخصيص التحليل بالدم المتخلّف في الذبيحة وتعميم التحريم في غيره من
الدماء قال : وعن بعضهم التصريح به والتنصيص على دم السمك» انتهى.
ومن المعلوم
أنّ محلّ النزاع ما تميّز عن اللحم وانفصل منه حيّاً أو ميّتاً إن فرض له دم بعد
الموت يمكن انفصاله منه ، دون ما اختلط باللحم بعد ذكاته بالصيد ممّا لا يمكن
تخليصه منه ، فإنّه في حكم الدم المتخلّف في الذبيحة من المأكول المختلط باللحم
بحيث يتعذّر تخليصه منه وإن غسل بالماء مرّة بعد اولى وكرّةً بعد اخرى ، فإنّه
معفوّ مباح تبعاً للّحم ، للإجماع والسيرة القطعيّة بل ضرورة الدين ، مضافاً إلى
العسر والحرج المنفيّين في الدين.
ومستند المبيحين
على ما يستفاد من عباراتهم وتضاعيف كلماتهم وجوه :
الأوّل : الأصل
المحتمل لإرادة أصالة الإباحة المقرّرة في الأشياء النافعة الخالية عن أمارة
المضرّة ، أو أصالة البراءة المقرّرة في الشبهات التحريميّة.
الثاني : قوله
عزّ من قائل : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» فإنّه تعالى
قيّد الدم بالمسفوح وخصّ التحريم بذلك المقيّد ، والمسفوح على ما ذكره الأصحاب
تبعاً لأهل اللغة من السفح بمعنى الصبّ أي المصبوب ، وفسّروه بدم ذي
النفس المحكوم عليه بالنجاسة. ولذا قال في المسالك في شرح عبارة الشرائع عند ذكر
الدم المسفوح وغير المسفوح : «إنّ الأوّل
__________________
الدم الّذي يخرج بقوّة عند قطع عرق الحيوان أو ذبحه ، والثاني هو الدم يخرج
بتثاقل كدم السمك» .
وتخصيص التحريم
بالدم المسفوح يقتضي حلّيّة غير المسفوح إمّا بحكم الأصل أو المفهوم أو الحصر
المستفاد من النفي والاستثناء ، ولا يعارضه قوله تعالى : و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» لأنّ الدم في
هذه الآية مطلق وفي الآية الاولى مقيّد ، ومن الواجب حمل المطلق على المقيّد كما
زعمه في المسالك تعليلاً باتّحاد الموجب ، فالمراد في الآية الثانية أيضاً هو الدم
المسفوح لا غير.
الثالث :
السيرة القطعيّة بين المسلمين المستقرّة على عدم التحرّز عن دم السمك.
الرابع : العسر
والحرج المنفيّين في تحريم دم السمك.
وضعف الكلّ
واضح ، إذ الأصل يخرج منه بدليل الحرمة وسيظهر ، وتحريم الدم المسفوح لا ينافيه
تحريم مطلق الدم لأنّ المسفوح أيضاً من جمله أفراد الماهيّة ، فالآيتان من قبيل
العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر فيعمل بهما من غير محذور.
ودعوى : أنّ
المطلق يحمل على المقيّد لاتّحاد الموجب ، يدفعها أوّلاً : أنّ المقام ليس من
موارد قاعدة حمل المطلق على المقيّد لكون حكميهما تحريميّين وقد اتّفقوا على عدم
الحمل فيهما ، ولذا لا حمل في مثل : لا تعتق مكاتباً ولا تعتق مكاتباً كافراً ،
بخلاف مثل : أعتق رقبة وأعتق رقبة مؤمنة أو لا تعتق رقبة كافرة.
وثانياً : أنّ
الحمل في باب المطلق والمقيّد فرع على التنافي بين مقتضاهما ، والتنافي المتوهّم
هنا إن كان بين منطوقي الآيتين ففيه منع التنافي لتوافق المنطوقين ، وإن كان بين
منطوق المطلق ومفهوم المقيّد فهو فرع على ثبوت المفهوم هنا ، وهو محلّ منع لكونه من
مفهوم الوصف الّذي ـ هو على المشهور وهو الأصحّ ـ ليس بحجّة في نفسه ، فتعليق
تحريم الدم على وصف المسفوح لا يفيد نفي الحكم عن غير المسفوح ، والنكتة في ذكر
الوصف حينئذٍ إمّا شدّة الاهتمام في المنع والتحريم بشأن المسفوح فإنّه لنجاسته
أشدّ حرمة من غير المسفوح ، أو لأنّ الّذي اوحي إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم وبيّن له إلى زمان
__________________
صدور الآية إنّما هو تحريم المسفوح فقط ، وهذا لا ينافي كون غير المسفوح
ممّا بين تحريمه فيما بعد نزول الآية ، ويؤيّده امور :
منها : التعبير
عن نفي تحريم ما عدا الثلاثة بعدم وجدان محرّم غيرها وتقييده بما اوحي إليه ، وهذا
يشعر بأنّ في علم الله سبحانه محرّمات اخر لم يوح تحريمها إليه صلىاللهعليهوآله بعمد ، ويجوز كون غير المسفوح من جملتها.
ومنها : عدم
انحصار محرّمات الأكل في الثلاثة المذكورة في الآية بحكم الضرورة بل هي غير محصورة
، ومن جملتها لحوم السباع والمسوخ والوحوش وأكثر الطيور وغيرها ، ولا محالة قد
اوحي إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم تحريمها ، وقضيّة حصر ما اوحي إليه في الثلاثة كون
غيرها إنّما اوحي إليه بعد نزول الآية بالتدريج ، ويجوز كون غير المسفوح من
جملتها.
ومنها : أنّ
هذه الآية مذكورة في سورة الأنعام ، وآية إطلاق التحريم متكرّرة في سور ثلاث
البقرة والمائدة والنحل ، وقد قيل كما في المستند في سورة
الأنعام وسورتي البقرة والمائدة : إنّ الاولى مكّيّة وهاتان مدنيّتان ، وذكر
الطبرسي في تفسيره أنّ هذه السورة ـ يعني الأنعام ـ مكّيّة
والمائدة مدنيّة ، فيجوز أن يكون غير ما في الآية من المحرّمات إنّما حرّم فيما
بعد ويجوز أن يكون غير المسفوح منها.
والسيرة
القطعيّة المدّعاة إنّما تسلّم في المختلط باللحم الّذي يتعذّر تخليصه منه ، لا في
المتميّز المنفصل منه ، ولا في ما يمكن انفصاله من غير عسر.
وقاعدة نفي
العسر والحرج أيضاً تسلّم في المختلط لا في غيره.
وعلى هذا
فالعمل بإطلاق التحريم متّجه ، لسلامة الآية المتضمّنة له عن المعارض ، وتكرّرها
في السور الثلاث يوجب قوّة اخرى في دلالتها ، ومقتضى إطلاق التحريم ثبوته في جميع
الأنواع الثلاث من الدم خصوصاً المسفوح منها لنجاسته ، بل قضيّة اندراجه في
الإطلاق تحريم جميع أفراده في جميع أحوالها حتّى ما كان منها من الذبيحة من
المأكول فضلاً عن غير المأكول ، فيحرم ما في القلب والكبد والطحال وإن طهرت مع
إشكال في طهارة ما في الطحال.
__________________
نعم يستثنى
منها الدم المختلط باللحم المنبثّ فيه بحيث تعذّر أو تعسّر التحرّز منه فإنّه
معفوّ مباح تبعاً للّحم إجماعاً ضروريّاً بل للسيرة القطعيّة مضافاً إلى الأدلّة
النافية للعسر والحرج ، ويترتّب على التحريم في الجميع حرمة التكسّب والمعاوضة
وعدم كونه متموّلاً ولا جارياً عليه الملك مطلقاً ، وعدم جواز الانتفاع من غير جهة
الأكل مطلقاً حتّى في دم السمك ، عدا ما استثنى من استعماله في الزروع والكروم
واصول الشجر عملاً بإطلاق معقد إجماع الشيخ أو للأولويّة.
المبحث الخامس
فيما يتعلّق بأبوال وأرواث
ما لا يؤكل لحمه
وقد تحقّق في
باب النجاسات من كتاب الطهارة كونهما من الأعيان النجسة ، إذ ليس المراد ممّا لا
يؤكل لحمه هنا ما لم يجر العادة بأكله كلحوم الفرس والبغال والحمير بل ما يحرم أكل
لحمه ، وحيث إنّ هذه الأبوال والأرواث من الأعيان النجسة فتدرجان في عموم أحكامها
المتقدّمة على وجه القاعدة وفيه الكفاية ، إلّا أنّه نزيد هنا. ونقول : إنّ
المعاوضة على الأبوال النجسة محرّمة قولاً واحداً ، وشربها أيضاً محرّم قولاً
واحداً ، بل سائر الانتفاعات بها مطلقاً محرّم قولاً واحداً ، وهذا ينحلّ إلى أنّه
ليس للأبوال النجسة منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء ، ولا يحلّ الانتفاع بها أيضاً
وإن لم يكن من قبيل المنفعة ، ولا تكون متموّلة قولاً واحداً ، ولا يجري عليها
الملك قولاً واحداً ، مضافاً في الجميع إلى عمومات رواية تحف العقول وغيرها ،
وعموم آية الخبائث بالنسبة إلى الشرب ونحوه.
وأمّا الأرواث
أعني الفضلات النجسة الّتي كثيراً ما يعبّر عنها بالسرجين النجس ، فالمشهور فيها
حرمة التكسّب والمعاوضة بقول مطلق ، بل عن الخلاف «إجماع الفرقة على تحريم بيع
السرجين النجس» وفي التذكرة «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعاً منّا» وعن النهاية «بيع
العذرة وشراؤها حرام إجماعاً» وعن المنتهى «الإجماع على تحريم بيع العذرة» .
__________________
ويدلّ عليه
عمومات رواية تحف العقول والخبر النبويّ وفيه الكفاية إلّا أنّه استدلّ عليه أيضاً
بخبر يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «ثمن العذرة من السحت» وعن الدعائم
مرسلاً عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهمالسلام عن عليّ عليهالسلام «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله نهى عن بيع العذرة» ولكن يعارضه خبر محمّد بن مضارب عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا بأس ببيع العذرة» .
وعن السبزواري «احتمال
حمل رواية المنع على الكراهة جمعاً» .
ولا خفاء في
بعده لعدم تحمّل لفظ «السحت» هذا الحمل ولفظ «النهي» أيضاً ظاهر كالنصّ في
التحريم.
وأبعد منه ما
عن المجلسي في الجمع بينهما باحتمال «حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع فيها
بالعذرة ، وحديث الجواز على بلاد ينتفع بها» فإنّ اختلاف البلدان في جريان العادة بالانتفاع
بها وعدمه لا يوجب اختلافاً بينها في الحكم لأصالة الاشتراك في التكليف ، فحكم بيع
العذرة واحد بالقياس إلى الجميع.
وربّما : حمل
خبر المنع على التقيّة ، لكونه مذهب أكثر العامّة. وهذا أيضاً ضعيف لأنّ هذا الحمل
ترجيح سندي باعتبار مخالفة العامّة يقتضي طرح الخبر الموافق ، والمرجّحات السنديّة
إنّما يرجع إليها بعد العجز عن الجمع والترجيح باعتبار الدلالة.
وقد قيل كما عن
الشيخ «بأنّ الجمع بينهما بحسب الدلالة ممكن ، وهو حمل رواية المنع على عذرة
الإنسان ورواية الجواز على عذرة الدوابّ المأكول لحومها ، وعنه في الاستبصار
حملهما عليه ، ووجّه بأنّ الأوّل نصّ في عذرة الإنسان ظاهر في غيرها والثاني
بالعكس ، فيطرح ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر» .
__________________
وبذلك إن تمّ
يندفع أيضاً ما يقال : من أنّ العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه التباين
الكلّي هو الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ثمّ التخيير أو التوقّف لا إلغاء ظهور
كلّ منهما ، فإنّ الجمع على الوجه المذكور حيثما ساعد عليه شاهدان متعيّن ولا يعدل
مع إمكانه إلى الترجيح السندي.
نعم يرد على
الشيخ أنّه إن أراد بما ذكره التبرّع في الجمع محافظة على الرواية المأثورة عن أهل
بيت العصمة عن الطرح من دون جعله مستنداً للحكم الشرعي كما هو دأبه في كتابي
الحديث ، فلا حجر منه. وإن أراد به الالتزام به على وجه يكون مدركاً للحكم الشرعي
، ففيه : أنّه لا مورد له في المقام لأنّه من أحكام التعارض وهو فرع على المقاومة
بل الحجّيّة الذاتيّة. والروايتان ضعيفتان للجهالة ، أمّا الاولى فلوجود عليّ بن
مسكين أو ابن سكن ـ على اختلاف النسخة ـ في سندها ، وهو مجهول غير مذكور في الرجال
بمدح ولا قدح. وأمّا الثانية فلوجود الحجّال في سندها وهو أيضاً مجهول ، مع ما في
الراوي أيضاً من الجهالة كما لا يخفى على الخبير البصير.
وتوهّم انجبار
ضعف الاولى بالشهرة والإجماعات المنقولة إن سلّمنا الانجبار لا يجدي نفعاً في
انجبار الثانية ، مع تطرّق المنع إلى صلاحية ما ذكر للجبر ، فإنّ جابر الرواية
الضعيفة ليس إلّا عمل الأصحاب كلّهم أو معظمهم أو جماعة من معتبريهم وهو غير واضح
، والشهرة فتوائيّة وكونها استناديّة غير واضح ، والإجماع المنقول أقصاه إفادة
الظنّ بالحكم الشرعي من غير تعرّض فيه للرواية ليكشف عن كون معقده عن الاستناد
إليها.
ومع الغضّ عن
ذلك فيتوجّه إلى الجمع المذكور أنّه في المتباينين يحتاج إلى شاهدين في كلّ من
المتعارضين أوجب طرح ظاهره وهو مفقود فيهما.
وما تقدّم من
التوجيه واضح الدفع بأنّ النصوصيّة في كلّ منهما ـ مع كون مورديهما العذرة وهي
حقيقة في عذرة الإنسان لا غير ـ غير معقولة ، واختلاف التركيب الكلامي لا يوجب في
نحو المقام اختلافاً في معنى اللفظ ، إلّا أن يقال : بأنّ الشاهد المعتبر وجوده في
كلّ منهما قد يكون خارجيّاً ، ويمكن إثبات وجوده هنا بموثّقة سماعة بن مهران قال :
«سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام وأنا حاضر فقال : إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول؟
قال : حرام بيعها وثمنها ، وقال : لا بأس ببيع العذرة» . فإنّ التناقض
في كلام واحد من متكلّم واحد محال خصوصاً إذا كان المتكلّم معصوماً. وهذا ينهض
قرينة على أنّه عليهالسلام أراد من الأوّل تحريم بيع عذرة الإنسان ومن الثاني
تجويز بيع غيره من الأرواث الطاهرة ، وكأنّه عليهالسلام علم من حال السائل أنّه يبيع كلا النوعين فأجابه بحكم
كلّ منهما. وينهض ذلك بعد استظهار هذا المعنى منه شاهداً بالتأويل المذكور في
الروايتين.
وعلى أيّ حال
كان فالدليل على تحريم بيع العذرات النجسة من غير جهة الرواية المتعارضة واضح لا
حاجة معه إلى تجشّم علاج التعارض فيها ، كوضوح الدليل على تحريم أكلها مع كونها من
الخبائث وتحريم مطلق وجوه الانتفاع عدا الاستعمال في الزروع والكروم واصول الشجر
لما تقدّم في مبحث الدم من نفي الخلاف عن مبسوط الشيخ مع السيرة
القديمة في الجملة ، وعلى عدم كونها متموّلة ولا مملوكة أصلاً.
ثمّ ينبغي
إتباع المبحث بالكلام في الأبوال والأرواث الطاهرة كأبوال وأرواث البهائم والأنعام
من الإبل والبقر والغنم والفرس والحمار والبغل والجاموس ، وهذه لطهارتها وإن كانت
خارجة عن عنوان الأعيان النجسة إلّا أنّ الفقهاء لمّا تكلّموا في أحكامها فنحن
نقتفي أثرهم ونتكلّم فيها استتباعاً ، والكلام فيها يقع في مقامين :
المقام الأوّل في الأرواث الطاهرة ، فنقول : المعروف المشهور جواز التكسّب بها مطلقاً. وعن
الشيخ في الخلاف «نفي الخلاف» وعن السيّد «الإجماع عليه» وإن ناقش فيه
بعضهم. ولم يظهر خلاف فيه عدا ما عن مختلف العلّامة من نسبة الخلاف إلى المفيد والسلّار حيث منعا
عن بيع الأبوال والأرواث عدا بول الإبل ، ولكن عبارتهما المنقولة عن المقنعة
والمراسم لا تساعد عليه.
فعن الأوّل «بيع
العذرة والأبوال كلّها حرام إلّا أبوال الإبل خاصّة ، فإنّه لا بأس ببيعها
والانتفاع بها واستعمالها لضرب من الأمراض» .
__________________
وعن الثاني «التصرّف
في الميتة ولحم الخنزير وشحمه والدم والعذرة والأبوال ببيع وغيره حرام إلّا بول
الإبل خاصّة» .
وليس في
العبارتين إلّا لفظ «العذرة» وهي حقيقة في عذرة الآدميّين ولا تشمل غيرها من أنواع
السرجين النجس فضلاً عن الأرواث الطاهرة ، ويؤيّده إفراد العذرة وجمع الأبوال ،
ولو سلّم عموم فيها ولو في إرادة القائل فغايته العموم بالنسبة إلى أنواع النجس ،
فليس في عبارتيهما دلالة صريحة ولا ظاهرة على النسبة المذكورة. ولذا ناقش فيها في
المصابيح بقوله : «وهو غير واضح» وقال في موضع آخر : «بل الظاهر أنّ جواز بيع
الأرواث محلّ وفاق بين الأصحاب ، ونسبة المنع منه إلى الشيخين وسلّار غير ثابتة» انتهى.
وكيف كان لنا
على المختار ـ بعد ما أشرنا إليه من نفي الخلاف ومنقول الإجماع إن صحّ ـ السيرة
القطعيّة المستمرّة بين المسلمين في جميع الأعصار والأمصار على بيعها وشرائها وأخذ
الأعواض والأثمان في مقابلتها من غير نكير ولا منع من أحد ، مضافاً إلى عمومات
عقود المعاوضة من البيع والصلح والهبة المعوّضة وغيرها أجناساً وأنواعاً وأصنافاً
كقوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» و «إِلّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» «والصلح جائز بين المسلمين» وما أشبه ذلك
، ويؤيّدها الأخبار النافية للبأس عن بيع العذرة بناءً على حملها على إرادة
الأرواث الطاهرة كما صنعوه.
وليس للقول
بالمنع إن ثبت إلّا ما قد يحتمل من الاستناد إلى وجهين :
أحدهما : عموم
تحريم الخبائث في الآية بناءً على تناول إطلاقه للبيع والشراء ، والأرواث من
الخبائث جزماً فيحرم بيعها وشراؤها.
وثانيهما :
عموم النبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» وهذه منه.
ويضعّفهما أنّ
المراد بالأوّل بقرينة المقابلة تحريم خصوص الأكل والشرب لأنّهما متعلّق التحليل
في آية تحليل الطيّبات ، وظاهر الثاني إمّا تحريم جميع المنافع أو تحريم
__________________
المنافع المقصودة ، وأيّاً ما كان فالمحرّم في الأرواث إنّما هو أكلها وهو
ليس منفعة مقصودة منه ، والمنفعة المقصودة منه إنّما هو الإيقاد وجريها مجرى الحطب
والتسميد وما أشبه [ذلك] ، وهذه ليست محرّمة ، فالأرواث لا تندرج في عموم النبويّ
، فعمومات الجواز والصحّة حينئذٍ سليمة عمّا يزاحمها.
لا يقال :
البيع مشروط بالملك ولا يصحّ بيع ما لا يملك ، وجريان الملك في الأرواث محلّ منع ،
وإلّا لوجب ضمانها بالإتلاف وغيره من أسباب الضمان ولتحقّق فيها الغصب ولتحقّق
فيها السرقة ، واللوازم بأسرها باطلة وكذا الملزوم ، كما قيل نظيره في الأبوال
استناداً إلى الوجوه المذكورة على ما ستعرفه.
لأنّ الصحيح
المقطوع به جريان الملك في الأرواث الطاهرة ، للسيرة القطعيّة في جميع الأعصار
والأمصار المستقرّة على تملّك المسلمين لها وترتيب آثار الملك عليها من غير نكير ،
مضافاً [إلى] أنّها تملك بالحيازة بلا خلاف لعموم «على اليد ما أخذت» وبقاعدة
النمائيّة القاضية بتبعيّة النماء للعين في الملك كما في اللبن والشعر والصوف
والوبر وما أشبه ذلك ، ولا ريب أنّ الأرواث نماءات لهذه الحيوانات فتكون مملوكة
لصاحبها تبعاً.
والوجوه
المستدلّ بها على نفي الملكيّة مدخولة ، لوضوح منع بطلان اللوازم فإنّها تضمن
بالإتلاف ، لعموم «من أتلف مال الغير فهو ضامن» وبالغصب ، لعموم «على اليد ما أخذت»
ويتحقّق فيها الغصب سواء فسّرناه بالاستيلاء على مال الغير عدواناً أو بأخذه
ظلماً. ويتحقّق فيها السرقة إن فسّرناه بمفهومه اللغوي أعني أخذ الشيء خفية ، وإن
فسّر بلازمه الشرعي وهو ما يوجب القطع فلعلّ عدم تحقّقه حينئذٍ لعدم تحقّق شرائط
القطع فيها ـ من بلوغ المسروق ربع دينار وكونه أخذ من المحرز ـ ولو فرض تحقّق
الشرائط يتوجّه المنع إلى عدم صدق ما يوجب القطع ، وغاية ما هنالك أنّ القطع غير
واقع. ولعلّه من جهة المسامحات العرفيّة لخساسة هذه الأشياء. وعلى هذا فلا يجوز
إتلافها عدواناً ويحرم غصبها ، فلو غصبها وجب ردّها إن كانت العين باقية ، وإلّا
وجب
__________________
ردّ عوضها مثلاً إن كانت من المثليّات وإلّا وجب ردّ قيمتها.
المقام الثاني في الأبوال الطاهرة ـ أعني
أبوال الأنعام والحمولة ـ وفيها مسائل :
الاولى : جواز الانتفاع فيما عدا الأكل
والشرب اختياراً ، كالصبغ وعجن الجصّ والزروع والكروم واصول الشجر وما أشبه ذلك.
والظاهر جوازه
بلا خلاف يظهر ، ولم يعرف من الأصحاب من أنكره وإن كان ربّما ينسب إلى مراسم سلّار
المنع منه استظهاراً له من عبارته المتقدّمة بقرينة استثناء بول الإبل ،
فإنّه كون المراد من الأبوال ما يعمّ الأبوال الطاهرة لم يتمّ هذا الاستثناء الّذي
الأصل فيه الاتّصال. أقول : لو صحّ هذا الاستظهار لجرى في عبارة نهاية الشيخ لأنّه
ـ على ما حكي ـ قال فيها : «جميع النجاسات يحرم التصرّف فيها والتكسّب بها على
اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة والأبوال وغيرهما إلّا أبوال الإبل خاصّة
فإنّه لا بأس بشربه والاستشفاء به عند الضرورة» وكيف كان
فيزيّف الاستظهار المذكور ظهور الأبوال بقرينة السياق وذكرها في قرن النجاسات
وعدادها في إرادة الأبوال النجسة. وأمّا الاستثناء فالتزم السيّد في مصابيحه بجعله
للانقطاع. ويرد عليه أنّ الالتزام بذلك لكونه مجازاً غير لازم ، لإمكان الاتّصال
بحمل أبوال الإبل على النجسة منها ، وهي أبوال الإبل الجلّالة والموطوءة.
ولنا على
الجواز ـ بعد عدم ظهور الخلاف بل ظهور الإجماع ـ الأصل السليم عمّا يزاحمه ويخرج
عنه. والقول بالمنع ـ مع شذوذه وعدم ظهور قائل به ـ لا مستند له عدا ما قد يحتمل
من الاستناد إلى آية تحريم الخبائث ، بناءً على شموله جميع المنافع والانتفاعات.
ويزيّفه ما أشرنا إليه سابقاً من قضاء قرينة المقابلة لتحليل الطيّبات بكون متعلّق
التحريم خصوص الأكل والشرب لا سائر الانتفاعات.
المسألة الثانية : جواز الانتفاع بها
وعدمه في الأكل والشرب بأن يطبخ به المطبوخات من اللحم والخبز وغيرهما ويشرب بانفراده أو في سائر
المشروبات ، فقد اختلف فيه الأصحاب على أقوال :
__________________
ثالثها : المنع فيما عدا بول الإبل والجواز فيه.
والقول بالمنع
مطلقاً للشيخ وابن حمزة على ما حكي عنهما ، والمحقّق في الشرائع والعلّامة في
عدّة من كتبه والشهيدين في اللمعة والروضة والسيّدين في
المصابيح والرياض .
والقول بالجواز
عن السيّد في الانتصار وقبله ابن جنيد وعن السيّد الإجماع عليه ، وتبعهما على ما حكي الحلّي
في السرائر وجماعة من المتأخّرين منهم المحقّق الأردبيلي والسبزواري والحرّ
العاملي .
والقول بالفرق
ربّما عزي إلى المفيد وسلّار استظهاراً من عبارتيهما المتقدّم إليهما الإشارة بناءً
على إرادة ما يعمّ النجسة والطاهرة من الأبوال المستثنى منها ، وقد عرفت منعه.
والأصحّ الأقوى
المنع مطلقاً ، لعموم تحريم الخبائث الوارد في سورة الأعراف في قوله تعالى : «الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي
كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا
النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» فإنّ الطيّب
على ما يتبادر منه عند الإطلاق ونصّ عليه الطبرسي في تفسيره والطريحي في
مجمعه وفهمه محقّقو أصحابنا «ما تستلذّه النفوس وتميل إليه الطباع».
ولا يصادمه
المعاني الاخر الّتي ورد إطلاقه عليها كـ «المحلّل» ومنه قوله تعالى :
__________________
«كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ
ما رَزَقْناكُمْ» و «الطاهر»
ومنه قوله تعالى : «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» و «الخالي عن
الأذى في النفس والبدن» كما في زمان طيّب أي خالٍ عمّا يؤذي النفس والبدن من حرّ
وبرد ونحوهما ، لأنّها مجازات لا يصار إليها إلّا بقرينة وهي منتفية ، أو أنّها
بأسرها لوازم للمعنى الحقيقي كما يظهر بأدنى تأمّل. ويقابل الطيّبات بالمعنى
المذكور ، وهي ما تستكرهه النفوس وتتنفّر عنها الطباع ، ولا ريب أنّ الأبوال سيّما
أبوال الفرس والبغل والحمار منها فيعمّها التحريم.
واستدلّ على
المختار أيضاً بوجوه اخر غير مستقيمة :
منها : ما أشار
إليه في الرياض «من احتمال الخباثة فيها الموجب للتنزّه عنها ولو من باب المقدّمة»
وملخّصه أنّ هذه الأبوال يحتمل خباثتها والاحتمال يوجب الاجتناب عنها ولو
بحكم المقدّمة.
وهذا في غاية
الضعف لأنّ الاكتفاء في إيجاب التنزّه في الشبهة التحريميّة بمجرّد الاحتمال من
اصول الأخباريّة ، فيدفعه ما تحقّق في الاصول وفاقاً لأصحابنا المجتهدين من عدم
الفرق في البناء على أصل البراءة بينها وبين الشبهة الوجوبيّة ، فاحتمال الخباثة
لا يوجب الاجتناب جزماً.
وأمّا الاستناد
في ذلك إلى قاعدة المقدّمة فلم نتحقّق هنا معناه ، لأنّ مقدّميّة الاجتناب عمّا
يحتمل الخباثة بدون ذي المقدّمة ممّا لا يتعقّل فكيف له الوجوب المقدّمي؟ وهو فرع
على وجوب ذي المقدّمة.
ولو وجّه بأنّ
الخبائث الواقعيّة يجب الاجتناب عنها وهو لا يتمّ إلّا بالاجتناب عمّا يحتمل
الخباثة ، فيردّه أنّ الخبائث الواقعيّة إن اريد بها الأشياء الخبيثة في الواقع
الّتي لم نعلم خباثتها فوجوب الاجتناب عنها أوّل المسألة ، بل هي من جزئيّات محلّ
البحث لأنّ ما يحتمل الخباثة أعمّ ممّا هو خبيث في الواقع ولكن لم يعلم خباثته وما
هو غير خبيث في الواقع ، فالاستدلال بوجوب الاجتناب عنها على وجوب الاجتناب عمّا
يحتمل الخباثة مصادرة ، بل المقدّمة على هذا التقدير عين ذي المقدّمة.
وإن اريد بها
الخبائث الّتي علم خباثتها فالاجتناب لامتيازها عن محتملات
__________________
الخباثة ليس متوقّفاً على الاجتناب عنها ، فالمقدّميّة فيه منتفية جزماً.
ولو قيل : إنّ
الاشتغال اليقيني في الاجتناب عن معلومات الخباثة يستدعي اليقين بالبراءة ولا يتمّ
ذلك إلّا بالاجتناب عمّا يحتمل الخباثة فيكون ذلك مقدّمة علميّة لا وجوديّة ،
لردّه ضرورة عدم توقّف اليقين المذكور على هذا الاجتناب أيضاً لمكان الامتياز فيما
بينهما ، فلا يبقى بالنسبة إلى ما يحتمل الخباثة إلّا احتمال الحرمة وهو شكّ في
التكليف الّذي لا يجري فيه أصل الشغل.
وبالتأمّل في
بعض ما ذكر يندفع أيضاً ما في ذيل كلامه في توجيه المقدّميّة من «أنّ التكليف
باجتنابه ليس مشروطاً بالعلم بخباثته بل هو مطلق ومن شأنه توقّف الامتثال فيه
بالتنزّه عن محتملاته» فإنّ التكليف بالاجتناب وإن لم يكن مشروطاً بالعلم
بالخباثة إلّا أنّ العلم طريق إلى إحراز الموضوع وحيث لا علم بالخباثة تفصيلاً ولا
إجمالاً فالموضوع غير محرز فلا يبقى إلّا احتمال وجوب الاجتناب والأصل براءة
الذمّة عنه وعن العقاب المحتمل ترتّبه على الارتكاب.
وفرض القاعدة
في صورة اشتباه ما علم خباثته في الواقع بما يحتمل خباثته خروج عن محلّ البحث ، إذ
ليس مبنى الكلام على ذلك ، والمقام ليس من قبيل ما احتمل كونه سمّاً لأنّ احتمال
الضرر الدنيوي ـ وهو الهلاك ـ واجب الدفع ولا يتمّ إلّا بالاجتناب عن المحتمل ،
واحتمال الضرر الاخروي وهو العقاب مرتفع بالأصل.
ومنها :
الأولويّة المستفادة من الأدلّة الدالّة على حرمة الفرث والمثانة هي مجمع البول
بناءً على بعدهما بالإضافة إلى البول عن القطع بالخباثة ، فتحريمهما مع ذلك يستلزم
تحريم البول القريب من القطع بالاستخباث بالإضافة إليهما بطريق أولى ذكره في
الرياض أيضاً.
وهذا أيضاً
كسابقه في الضعف ، لأنّ تحريم الفرث ـ وهو السرجين في الكرش الّذي يقال له
بالفارسيّة : «شكنبه» ـ والمثانة ليس لأجل الخباثة بل لنصوص خاصّة دلّت عليه فيهما
في جملة محرّمات الذبيحة ، وليس في النصوص دلالة ولا إشعار على كونه من جهة
الخباثة ، ومن الجائز كونه لمفسدة في ذاتهما ليست موجودة في الأبوال. فالأولويّة
ممنوعة ، وبدونها يكون التعدّي قياساً ، مع تطرّق المنع في الفرث إلى بعده من
__________________
الخباثة ، بل هو أقرب إليها بالإضافة إلى البول.
ومنها : ما روي
بطرق عديدة من «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يكره الكليتين لقربهما من البول» فنفس البول
حينئذٍ أولى بالكراهة والمنع ، والكليتان على ما عن الأزهري «لحمتان حمراوان
لازقتان بعظم الصلب من عند الخاصرتين» .
وفيه أيضاً :
منع الحكم أعني التحريم في الأصل ، فإنّ الكراهة هنا يراد بها الكراهة المصطلحة ،
لما ورد في عدّة من الروايات من «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان لا يأكل الكليتين ولا يحرّمهما لغيره» فالعمدة من
دليل المسألة آية تحريم الخبائث ، وغيرها من الوجوه مدخول جدّاً.
حجّة القول
بالجواز : أصالة الإباحة في الأشياء. والإجماع الّذي ادّعاه السيّد في الانتصار . وقوله عزّ من
قائل : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» وقوله أيضاً :
«إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» فإنّ عموم
الحصر في الآيتين يدلّ على عدم تحريم الأبوال. مضافاً إلى خصوص عدّة روايات :
منها : ما رواه
الحميري في قرب الإسناد بسنده عن جعفر عن أبيه عليهالسلام «أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا بأس ببول ما اكل لحمه» .
ومنها : موثّقة
عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «كلّما اكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه» .
ومنها :
موثّقته أيضاً عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سئل عن بول البقر يشربه الرجل؟قال : إن كان
محتاجاً إليه يتداوى به يشربه ، وكذلك أبوال الإبل والغنم» .
__________________
ومنها : موثّقة
سماعة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر والغنم ينعت له من
الوجع هل يجوز له أن يشرب؟ قال : نعم لا بأس به» .
والجواب عن
الأصل : أنّه يخرج عنه بدليل المنع.
وعن الإجماع
المنقول بكونه موهوناً بعدم كون ناقله وهو السيّد رحمهالله جازماً فيه حيث ذكره في الانتصار احتمالاً متردّداً فيه
، وهذه عبارته «ممّا يظنّ قبل التأمّل انفراد الإماميّة به القول بتحليل أبوال
الإبل وما يؤكل لحمه من البهائم إمّا للتداوي أو غيره ، ثمّ ذكر خلاف العامّة هنا
وأقوالهم. ثمّ قال : والّذي يدلّ على صحّة مذهبنا إليه بعد الإجماع المتردّد أنّ
الأصل فيما يؤكل أو يشرب في العقل الإباحة ...» إلى آخر كلامه
، مضافاً إلى شهرة القول بالتحريم وذهاب جماعة من معتبري الطائفة وأساطينهم ، بل
في مصابيح السيّد «أنّ المشهور بين الأصحاب هو التحريم» ولم يذهب إلى
إباحة الأبوال قبل السيّد فيما أعلم سوى ابن الجنيد.
وعن الآيتين
أنّ الحصر المستفاد منهما ليس على ظاهره ، وعموم النفي غير مراد منهما خصوصاً
الآية الاولى لمكان تقييد نفي وجدان المحرّم ممّا عدا الثلاثة المذكورة فيها بما
اوحي إليها ، ولو سلّم فيجب تخصيصهما بآية تحريم الخبائث ، كما أنّهما تخصّصان
بأدلّة سائر محرّمات الشرع ممّا لا يحصى كثرة.
وعن الأخبار
بأنّ الظاهر من نفي البأس في الخبرين الأوّلين إنّما هو نفي النجاسة ، ولذا تداول
من الأصحاب في كتاب الطهارة ذكرهما في عداد الأخبار الدالّة على طهارة أبوال وأرواث
ما اكل لحمه ، والاستدلال بهما على الطهارة ، ولعلّ السرّ فيه أنّه لمّا كان
المعهود في أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه هو النجاسة فيوجب ذلك بقرينة المقابلة
انصراف إطلاق نفي البأس في أبوال ما اكل لحمه إلى نفي النجاسة الملازم للطهارة ،
ويؤيّده أنّ إضافة «لا بأس» إلى الأعيان فيه إشعار ما بنفي النجاسة أيضاً.
وتوهّم : أنّه
بضابطة النكرة المنفيّة عامّ فينفي جميع جهات المنع الّتي منها النجاسة ، وقضيّة
ذلك إباحة شرب الأبوال الطاهرة بل مطلق الانتفاع بها.
__________________
يدفعه : بعد
تسليم العموم أنّ تخصيص آية تحريم الخبائث ليس بأولى من تخصيص الخبرين ، بل هذا
أولى لكون عموم الآية وضعيّاً وهذا عقليّ ، لأنّ نفي الماهيّة كما هو قضيّة لا
النافية للجنس يستلزم نفي أفرادها ، والعموم الوضعي أقوى ، ومرجعه إلى تقديم
الأظهر على الظاهر فيخصّص نفي البأس بنفي النجاسة.
وأنّ مفهوم
الشرط في الخبر الثالث يقتضي حرمة الشرب في غير مقام الحاجة إليه للتداوي ، فقصارى
ما ثبت بالخبر هو الجواز في مقام الحاجة للتداوي. ولا يهمّنا تخصيص الجواز بصورة
الضرورة الّتي ملاكها انحصار العلاج فيه حتّى يدفع بأنّ الحاجة أعمّ من الضرورة ،
لأنّها تصدق مع عدم الانحصار بخلاف الضرورة ، لأنّا نلتزم الجواز في مطلق الحاجة
المقيّدة بالتداوي في خصوص الأبوال الثلاثة بول الإبل والبقر والغنم لأنّها مورد الرخصة
المستفادة من الخبرين لا غير فيخرج ما عداها وفي الثلاثة صورتا عدم الحاجة أصلاً
والحاجة لغير التداوي.
وبما ذكر ظهر
الجواب عن الخبر الرابع ، فإنّ غاية ما يستفاد منه إنّما هو الجواز للاستشفاء ،
لمكان قول السائل : «ينعت له من الوجع» فيبقى ما عدا ذلك تحت عموم آية تحريم
الخبائث. فصار المحصّل أنّ الانتفاع بالأبوال الطاهرة في الأكل والشرب حرام مطلقاً
إلّا للاستشفاء والتداوي في خصوص أبوال الإبل والبقر والغنم.
وهل يستثنى منه
بول الإبل ليثبت به القول بالفرق ـ على ما تقدّم حكايته ـ أو لا؟ ويستفاد من كلام
الشهيد في المسالك أنّ فيه أقوالاً ثلاث : المنع مطلقاً ، والحلّ مطلقاً ، وجواز
الاستشفاء لا غير ، والثالث هو الأصحّ على ما بيّنّاه عملاً بالخبرين ، مضافاً إلى
ما نقله في المسالك مرسلاً من «أنّ النبيّ أمر أقواماً اعتلّوا بالمدينة أن يشربوا
أبوال الإبل فشفوا» .
وأمّا القول
بالحلّ فيه مطلقاً فلم نقف له على مستند إلّا خبر الجعفري قال : «سمعت أبا الحسن
موسى عليهالسلام يقول : أبوال الإبل خير من ألبانها ، ويجعل الله الشفاء
في ألبانها» .
ويرد عليه
الطعن في السند لوجود بكر بن صالح فيه وقد ضعّفه العلّامة في
__________________
الخلاصة والنجاشي وفي الأوّل «إنّه كثير التفرّد بالغرائب» .
هذا مضافاً إلى
اشتمال متنه على أمارة الوضع ، فإنّ قوله : «ويجعل الله الشفاء في ألبانها» بعد
قوله : «أبوال الإبل خير من ألبانها» يشبه بكونه اعتراضاً من الإمام عليهالسلام على الله سبحانه ، حيث إنّه جعل الشفاء في ألبان الإبل
، مع أنّ مقتضى خيريّة أبوالها أن يجعل الشفاء فيها ، فهذا الكلام بهذا الاعتبار
لا يشبه بكلام أهل بيت العصمة والطهارة.
مع أنّه يقتضي
أنّه لم يجعل في أبوالها شفاء ، وهذا كذب وهو جهة اخرى في اختلال متن الرواية ، مع
عدم وضوح دلالتها على الجواز ، إذ لا يدرى أنّه أراد أيّ شيء من الخيريّة ،
ولعلّه أراد أنّه من حيث الاستشفاء خير ، بناءً على كون المراد من جعل الشفاء في
الألبان الجعل التكليفي وهو الترخيص في الاستشفاء ، وحينئذٍ ينقلب الدلالة ويصير
دليلاً على المنع في الأبوال مطلقاً حتّى الاستشفاء فليتدبّر.
المسألة الثالثة : جواز التكسّب
بالأبوال الطاهرة وعدمه ، وفيه ـ بعد البناء على حرمة الانتفاع بها في الأكل والشرب اختياراً ـ قولان
، والأصحّ الأقوى القول بالمنع عملاً بروايتي تحف العقول ورواية دعائم الإسلام
وخبر النبويّ ، فإنّها تدلّ على أنّ ضابط المنع من البيع والشرى تحريم الشيء
اختياراً ، لظهور قوله عليهالسلام : «ممّا هو منهيّ من جهة أكله أو شربه» في كون أكله
اختياراً أو شربه كذلك منهيّاً عنه ، وكذلك قوله : «ما كان محرّماً أصله منهيّاً
عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه» أي محرّماً ومنهيّاً عنه أكله وشربه اختياراً ، وكذلك
قوله : «إنّ الله [إذا] حرّم شيئاً حرّم ثمنه» أي إذا حرّم أكله أو شربه اختياراً
أو جميع منافعه الاختياريّة أو منافعه المقصودة المنوطة بالاختيار.
كما أنّ
المستفاد من الأدلّة خصوصاً رواية دعائم الإسلام أنّ ضابطة حلّ بيع الشيء حلّ
منافعه المقصودة أو منفعته الغالبة المقصودة ـ كما تقدّم بيان ذلك في ذيل بحث
المسكرات الجامدة ـ فتحليل أكل الشيء أو شربه للضرورة أو عند الحاجة للتداوي في المرض
لا يسوّغ بيعه مطلقاً ، ولا في الجهة المحلّلة الّتي هي من حلّ
__________________
الانتفاع لا من حلّ المنفعة.
وقد ثبت في
المسألة السابقة تحريم شرب الأبوال اختياراً للاستخباث فيحرم بيعها مطلقاً ، وتحليل
شربها عند الضرورة أو الحاجة للتداوي لا يسوّغ بيعها مطلقاً ، ولا ينتقض ذلك
بالأرواث الطاهرة بتقريب أنّ أكلها اختياراً محرّم وجاز بيعها بلا خلاف يظهر ـ كما
تقدّم ـ لأنّ أكل الأرواث اختياراً وإن كان محرّماً إلّا أنّه ليس منفعة مقصودة
منها ، وسائر منافعها المقصودة من الإيقاد وطبخ المطعومات وغيرهما كلّها محلّلة
فيجوز بيعها وشراؤها في تلك المنافع.
ومن هنا يعلم
عدم الانتقاض بالطين الّذي مع كون أكله محرّماً جاز بيعه وشراؤها ، لأنّ أكل الطين
منفعة غير مقصودة منه وقد حرّمت وسائر منافعه المقصودة الغير المحصورة كلّها
محلّلة فيحلّ بيعه وشراؤه في تلك المنافع.
ولا ينتقض
أيضاً بالأدوية والعقاقير الّتي جاز تناولها أكلاً أو شرباً أو غيرهما في المرض
للتداوي ، وجاز بيعها وشراؤها أيضاً أيضاً بلا خلاف ، مع أنّه حرّم تناولها في غير
المرض لمنع كلّيّة تحريم تناولها في غير المرض فإنّها أقسام :
منها : ما يكون
نافعاً في المرض وينتفع بها في الصحّة أيضاً أكلاً وشرباً وغيرهما ، لكونها منافع
محلّلة.
ومنها : ما
يكون نافعاً في المرض ولا ينتفع بها أكلاً وشرباً في الصحّة ، لعدم لذّة في أكلها
وشربها ولا فائدة معتدّ بها ، ولكن لا يحرم ذلك لعدم دليل على التحريم ، والأصل هو
الحلّ.
ومنها : ما
يكون نافعاً في المرض ومضرّاً في الصحّة كبعض السمومات وبعض المسهلات ، وهذا هو
الّذي يحرم تناولها في غير المرض للإضرار بحيث لولاه لم يكن محرّماً للأصل ، ونحو
هذا التحريم لا يوجب تحريم البيع مطلقاً حتّى في تناولها في المرض للتداوي ، مع
كون ذلك منفعة مقصودة محلّلة لأنّها إنّما خلقت واتّخذت لأجل هذه المنفعة لا غير ،
وهذه في الحقيقة في موضوع المريض منفعة غالبة مقصودة للعقلاء وهي محلّلة ، فيحلّ
بيعها وشراؤها في هذه المنفعة جزماً.
المبحث السادس
في المنيّ والكافر والخنزير
والكلب
ويتكلّم هنا في مقامات أربع :
المقام الأوّل : في التكسّب بالمنيّ
بالبيع والشراء ونحوه ، فنقول : إنّ للمنيّ حالات ثلاث :
الاولى : ما
دام كونه في أصلاب الفحول.
الثانية : إذا
انتقل من الصلب ووقع في الرحم.
الثالثة : إذا
خرج من الصلب ووقع في خارج.
وينبغي القطع
بتحريم بيعه في الحالة الأخيرة ، لعموم قوله عليهالسلام : «أو شيء من وجوه النجس» إلى قوله : «فجميع تقلّبه في
ذلك حرام» مضافاً إلى أنّه ليس له منفعة محلّلة أصلاً فيحرم بيعه للنبويّ ، ويمكن
كونه من المعاملة السفهيّة فيحرم ولا يصحّ.
وأمّا الحالة
الاولى : فحرمة بيعه في تلك الحالة للنجاسة أيضاً مبنيّة على نجاسة ما في الباطن
ما دام في الباطن وعدمه ، فعلى الأوّل يتناوله عموم قوله : «أو شيء من وجوه النجس»
وعلى الثاني كما هو الحقّ فيمنع بيعه أيضاً ، ولكن للجهالة وعدم القدرة على
التسليم الّذي مرجعه إلى المعاملة السفهيّة وهي قبيحة ، وقد نسب إلى الغنية تعليل بطلان
ما في أصلاب الفحول بالجهالة وعدم القدرة على التسليم.
وأمّا الحالة
الثانية : فعدم الجواز فيها أيضاً للنجاسة مبنيّ على نجاسة ما يستقرّ في الرحم ،
وعن بعضهم منع ذلك لأنّه دخل من الباطن إلى الباطن ، وعليه فيمكن أن يكون
__________________
وجه عدم الجواز الجهالة إمّا جهالة مقدار المبيع أو جهالة وجوده في الرحم ،
بملاحظة أنّها قد تلقح وقد لا تلقح. والأولى تعليله بعدم القدرة على التسليم إذا
كان المشتري غير مالك الدابّة ، وإلّا فالوجه أنّه إمّا مالك لما استقرّ في الرحم
أو سيصير مالكاً للولد بقاعدة التبعيّة للُامّ الثابتة بالشرع في الحيوان الغير
الآدمي. وعن العلّامة أنّه ذكر من المحرّمات بيع عسيب الفحل وهو ماؤه قبل
الاستقرار في الرحم ، كما أنّ الملاقيح هو ماؤه بعد الاستقرار. وفي تفسير الملاقيح
بما ذكر نظر ، ولعلّ الوجه في تفسير العسيب بماء الفحل قبل الاستقرار في الرحم
ليعمّ الحكم كلتا الحالتين الاولى والأخيرة.
المقام الثاني : في التكسّب ببيع وغيره
في الكافر الأصلي أو الارتدادي الحربي أو الذمّي المملوك لمسلم أو كافر حربي أو
ذمّي ، وهو جائز بلا خلاف بل
بإجماع المسلمين كما في جواهر الكلام ولا يبعد دعوى الضرورة فيه في الجملة ، والنصوص الناطقة به مع
ذلك مستفيضة ، فهو حينئذٍ مع كونه من الأعيان النجسة مخرج عن القاعدة ، والنجاسة
هاهنا غير مانعة من التكسّب وإن كانت ذاتيّة. وهل هذا خروج موضوعي أو أنّه خارج عن
الحكم بالدليل من باب التخصيص؟ فقد يستشمّ الأوّل من جملة من العبارات لبنائهم
جواز بيع الكافر وصحّته على قبوله الطهر بالإسلام ، وبناء بعضهم جواز بيع المرتدّ
الفطري على قبول توبته.
وعن مفتاح
الكرامة المبالغة في منع ذلك بقوله : «أمّا المرتدّ عن فطرة فالقول بجواز بيعه
ضعيف جدّاً ، لعدم قبول توبته فلا يقبل التطهير» ومبنى هذا
البناء على كون موضوع القاعدة الأعيان النجسة الغير القابلة للتطهير من غير
استحالة ، فيكون المملوك الكافر لقبوله التطهير بالإسلام خارجاً عن هذا العنوان.
ويرد عليه
أوّلاً : أنّه لا دليل على تقييد العنوان بما ذكر.
وثانياً : أنّه
لو سلّم فإنّما يعتبر فيما لا ينتفع به منفعة معتدّاً بها إلّا مع الطهارة ، على
__________________
معنى توقّف الانتفاع على الطهارة ، فلإحراز هذا الشرط يعتبر في محلّ المنع
من البيع عدم قابليّة التطهير من غير استحالة احترازاً عمّا له قابليّة التطهير ،
والظاهر أنّ الانتفاع في محلّ البحث بالاستخدام وغيره لا يتوقّف على الطهارة ،
وعلى هذا فالمتّجه كون خروجه عن القاعدة بالدليل من باب التخصيص.
ويتفرّع على
ذلك حينئذٍ عدم الفرق في جواز بيع المرتدّ بين كون ارتداده عن ملّة أو عن فطرة ،
فالقول بالجواز في الثاني قويّ وإن قلنا بعدم قبول توبته ، لأنّه مملوك ومال وقابل
للانتفاع بالاستخدام الغير المشروط بالطهارة فيتناوله العمومات أجناساً وأنواعاً
وأصنافاً ، كيف وأنّ الأقوى عندنا قبول توبته في زوال النجاسة لتبدّل موضوعها وهو
الكافر بموضوع الطهارة وهو المسلم.
نعم ربّما
يستشكل في جواز بيعه من جهة اخرى جارية على القولين في قبول توبته وعدمه ، وهي
وجوب إتلافه باعتبار تعيّن قتله وكونه في معرض التلف. ويندفع بأنّ هذا لا يصلح
مانعاً عن بيعه ، حيث لا دليل على المانعيّة بعد ما فرض عدم زوال الملك والماليّة
وصلاحية الانتفاع بالاستخدام بسبب الارتداد.
وتوهّم سفهيّة
المعاملة مع كونه في معرض التلف ، يدفعه أنّه ربّما لا يقتل أبداً والمشتري عالم
به ، مع أنّه قد يكون غرضه من الاشتراء ممّن لا يمكّن من قتله تعريضه للقتل إقامة
لحدود الله عزوجل ، كما أنّه قد يشتري المملوك المسلم مثلاً لغرض العتق
وغيره.
المقام الثالث : في الخنزير وحرمة
التكسّب به وبأجزائه لنجاستها حتّى ما لا تحلّها الحياة منها على الأصحّ ، خلافاً للمرتضى كما تقدّم وكذلك عدم
جريان ملك المسلم عليه وعلى أجزائه مطلقاً ابتداءً واستدامة كما تقدّم لعموم قوله عليهالسلام : «كلّ ذلك منهيّ عن ملكه» وخصوص الأخبار الواردة في
نكاح النصراني والنصرانيّة على مهر الخمر والخنازير مع إسلام الزوجة قبل قبض المهر
الآمرة بأنّها يأخذ القيمة عند مستحلّيهما ، وكذلك حرمة الانتفاع به وبما عدا
الشعر من أجزائه مطلقاً حتّى جلده في الاستقاء
__________________
على ما تقدّم في جلد الميتة ، وقد عرفت أنّ قول الصدوق في المقنع لجوازه شاذّ
ضعيف محجوج عليه بعموم المنع نصّاً وفتوى ، لاندراجه في إطلاق معقد إجماع الشيخ في
المبسوط على حرمة بيع الخنزير وإجارته واقتنائه والانتفاع به.
وأمّا شعره
فاختلف الأصحاب في جواز استعماله والانتفاع به وعدمه ، إلّا أنّه قد يجعل الخلاف
في أقوال ثلاث : الجواز مطلقاً ، والمنع كذلك ، والتفصيل بين ذي الدسم فالمنع
وغيره فالجواز ، ولكنّ التتبّع لا يساعد عليه ، بل الظاهر كون الخلاف في الجواز
مطلقاً من غير استثناء عزي إلى جماعة منهم العلّامة في المختلف والمنع إلّا
فيما لا دسم فيه إن اضطرّ إليه فاستعمله وغسل يده ، فلا يجوز استعمال ما فيه دسم
اختياراً واضطراراً ولا ما لا دسم فيه اختياراً ، وقد جعله في المسالك مشهوراً ، ووصفه
في الرياض بالشهرة العظيمة.
وبالجملة الّذي
يظهر من عبارة الشرائع والنافع والمسالك والرياض وغيرها كون الخلاف في قولين : الجواز مطلقاً ، والجواز فيما لا
دسم فيه بشرط الاضطرار والمنع في غيره ، ولذا ذكر في الرياض «أنّ القول بالمنع في
صورة الدسم خاصّة والجواز في غيرها مطلقاً ولو اختياراً لم يوجد به قائل أصلاً» .
ومن مشايخنا من
ناقش في تقييد الجواز فيما لا دسم فيه بالاضطرار بعد التعبير عنه بالضرورة ، بأنّه
«إن اريد بها ما يسوّغ معها تناول المحرّم فهو مع خلوّ النصوص قطعاً عنها ينبغي
عدم الفرق معها بين ذي الدسم وغيره ولا بين شعر الخنزير وغيره ، وإن اريد بها مطلق
الحاجة فهي إنّما توافق القول بالجواز مطلقاً ، ضرورة عدم صلاحية ذلك عنواناً
للحرمة لعدم انضباطه» .
ويمكن دفعها :
بإثبات الواسطة وهو أن يراد بالاضطرار توقّف تماميّة شغل الصانع
__________________
كالخرّاز وهو خيّاط الخفّ إذا توقّف خرزه على أن يخيط بشعر الخنزير ،
وبالجملة توقّف تماميّة خرز الخفّ على شعره وهذا أخصّ من الحاجة وأعمّ من الضرورة
المسوّغة لتناول المحرّم مطلقاً ، ودليل التقييد به من النصوص قول الراوي في بعض
الأخبار الآتية قلت له : «إنّي رجل خرّاز لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز
به» فإنّ معنى قوله : «لا يستقيم عملنا إلّا به» أنّه لا يتمّ عملنا إلّا به ،
ولذا قال في المسالك بعد ذكر الخبر المشار إليه : وبهذا تمسّك القائل بالجواز مع
الضرورة إذا زال دسمه بما ذكر ، وقرينة الضرورة قوله : «لا يستقيم عملنا إلّا به».
وكيف كان
فالأخبار الواردة في الباب : خبر الحسن بن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام قلت : «شعر الخنزير يجعل حبلاً يستقي به من البئر الّتي
يشرب منها أو يتوضّأ؟ فقال : لا بأس به» .
وخبر سليمان
الإسكاف قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن شعر الخنزير يخرز به؟ قال : لا بأس به ، ولكن يغسل
يده إذا أراد أن يصلّي» .
وخبر بُرد
الإسكاف قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن شعر الخنزير يعمل به؟ قال : خذ منه فاغسله بالماء
حتّى يذهب ثلث الماء ويبقى ثلثاه ، ثمّ اجعله في فخّارة جديدة ليلة باردة فإن جمد
فلا تعمل به ، وإن لم يجمد فليس له دسم فاعمل به ، واغسل يدك إذا مسسته عند كلّ
صلاة ، قلت : ووضوء ، قال : لا ، اغسل يدك كما تمسّ الكلب» .
وخبر بُرد
أيضاً قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك إنّا نعمل بشعر الخنزير فربّما نسي الرجل
فصلّى وفي يده منه شيء؟ فقال : لا ينبغي أن يصلّي وفي يده منه شيء ، فقال : خذوه
فاغسلوه ، فما كان له دسم فلا تعملوا به ، وما لم يكن له دسم فاعملوا به واغسلوا
أيديكم منه» .
__________________
وخبر برد
الإسكاف أيضاً قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إنّي رجل خرّاز ولا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير
نخرز به؟ قال : خذ منه وبره فاجعلها في فخّارة ، ثمّ أوقد تحتها حتّى يذهب دسمها ،
ثمّ اعمل به» .
ولعلّ مستند
القول بالجواز مطلقاً الخبران أو ثانيهما ، مضافاً في نفي اعتبار تقييده بحال
الضرورة إلى ما عدا الأخير ، كما أشار إليه في المسالك.
ويشكل بأنّ
التفصيل المستفاد من الثلاثة بين ذي الدسم وغيره قاطع لإطلاق ثاني الخبرين بضابطة
حمل المطلق على المقيّد ، إلّا أن تتحمّل في دفعه بمنع كون النهي عن العمل بذي
الدسم للتحريم ، بل هو إرشادي للتحفّظ والتوقّي عن النجاسة المانعة من الصلاة
وغيرها من مشروط بالطهارة ـ كما صنعه بعض مشايخنا ـ فلا تنافي
حينئذٍ بين المطلق والمقيّد.
وكيف كان يرد
على التمسّك بالخبر الأوّل ـ مع قصور سنده في الجملة بالحسن بن زرارة لعدم توثيق
فيه ـ منع الدلالة فإنّها لا تتمّ إلّا على تقدير كون عنوان السؤال المشتبه حكمه
للسائل الاستقاء بالحبل المتّخذ من شعر الخنزير من البئر لشبهة في جواز استعمال
شعر الخنزير كما هو موضوع الكلام ومحلّ البحث ، وهذا غير واضح ، بل الظاهر كون
عنوان السؤال الاستقاء من البئر الّتي يشرب منها أو يتوضّأ منها بالحبل المتّخذ من
الشعر النجس لشبهة في فساد الماء المانع من شربه والتوضّي به بملاقاة النجس وعدمه.
والقرينة عليه وصف البئر بكونها يشرب منها أو يتوضّأ منها ، فإنّ عنوان السؤال لو
كان هو الاستقاء بشعر الخنزير واستعماله من حيث إنّه يجوز أو لا يجوز لم يكن في
ذكر الوصف فائدة أصلاً ، وإطلاق الجواب ينصرف إلى عنوان السؤال ، فقوله عليهالسلام : «لا بأس به» لا ينساق منه إلّا نفي فساد ماء البئر بملاقاة
هذه النجاسة.
وتوهّم : أنّ
الخبر إن لم يدلّ على حكم استعمال شعر الخنزير بالنطق لدلّ عليه بالتقرير ، لأنّه
لو لا جوازه لوجب على الإمام عليهالسلام الردع منه ، وعدمه يكشف عن الجواز.
__________________
يدفعه : منع
كشف عدم الردع هنا عن الجواز ، لأنّ الراوي لم يقل في سؤاله إنّا نفعل هذا الفعل ،
بل حكى عمل الحبل والاستقاء به بصيغة المجهول ، ويحتمل كون العاملين هم المخالفين
أو أهل الكفر من النصارى المستحلّين لاستعمال شعر الخنزير ، وهذا الاحتمال مانع عن
الكشف جزماً ، فالإنصاف أنّ خبر حسن بن زرارة لا دلالة له بوجه على جواز استعمال
شعر الخنزير.
وأمّا الروايات
الاخر فهي وإن كانت مندرجة في نوع الضعاف لجهالة الإسكافيّين ، غير أنّه ينجبر
بالشهرة العظيمة وعمل المعظم بل الإجماع على العمل ، نظراً إلى أنّها مستند
المطلقين بالجواز والمفصّلين فيه ، والاختلاف إنّما نشأ عن الدلالة باعتبار
الاختلاف في النظر.
ويمكن تشييد
نظر المجوّزين وتقوية قولهم بمنع اشتراط جواز استعمال هذا الشعر بالشرطين :
وسنده في
الأوّل ظهور سياق الروايات المفصّلة في كون النهي إرشاداً للسائل إلى طريق التحفّظ
عن النجاسة المانعة من الصلاة لسهولة تطهير اليد وغسلها عن النجاسة فيما لا دسم
فيه ، ويصعب ذلك في ذي الدسم لتوقّفه على إزالة الدسومة الحاصلة في اليد وهي
متعسّرة كما تقدّم ، ويعضده الاعتبار بتقريب أنّ الدسومة وانتفاءها لا مدخليّة
لهما في استعمال شعر الخنزير ، من حيث إنّه نجس العين ليختلف بسببهما الجواز وعدمه
، بل إنّما يكون لهما مدخليّة في الصلاة من حيث توقّف طهارة اليد بالغسل المشترط
بها الصلاة على زوال الدسومة وانتفائها رأساً.
وسنده في
الثاني أنّ فرض الاضطرار المفهوم من قوله : «ولا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير»
إنّما وقع في السؤال ، والاعتبار في إطلاق الحكم وتقييده بما يستفاد من الجواب وهو
خالٍ عن القيد ، وفرض الاضطرار في السؤال لا يقضي بتقييد الجواب.
ويندفع ذلك
بأنّ هذا إنّما يستقيم لو قصد من الاشتراط ما يرجع إلى تقييد الجواب وليس بمراد
هنا ، بل فرض الاضطرار حيثيّة أخذها السائل في عنوان السؤال ، فكأنّه قال : أنا
رجل خرّاز أعمل الخرز ، وهذا العمل صفته أنّه لا يستقيم إلّا بشعر الخنزير ،
وهذا يقضي بكون هذه الحيثيّة مأخوذة في أسئلة الروايات الثلاث الاخر لمكان
قوله : «ولا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير» أي لا يستقيم عملنا طائفة الخرّازين
، ومن المعلوم أنّ الجواب ينزّل على عنوان السؤال ، فالجواز المستفاد من قوله : «فاعمل
به» إنّما ورد على العنوان المقيّد ، ولا يعقل فيه حينئذٍ إطلاق يتناول صور عدم
الاضطرار.
كما يندفع الأوّل
: أنّ قضيّة إرشاديّة النهي كون الجواب بالنسبة إلى ذي الدسم ساكتاً غير دالّ على
المنع من استعماله ولا على الرخصة فيه ، فلا بدّ لاستعلام حكمه من الرجوع إلى مرجع
آخر ، وهو إمّا الأصل الأوّلي الّذي يعبّر عنه بأصالة الإباحة ، أو الأصل الثانوي
وهو قاعدة المنع المستفادة من عموم قوله عليهالسلام : «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» وإطلاق معقد إجماع الشيخ
في المبسوط والأوّل باطل إذ لا مجرى للأصل العملي مع وجود الأصل
الاجتهادي ، فتعيّن الرجوع إلى قاعدة المنع ، ومقتضاها حرمة استعمال شعر الخنزير
مطلقاً إلّا ما ثبت جواز بالدليل ، والقدر الثابت جوازه بالروايات المذكور هو
استعمال غير ذي الدسم حيثما حصل الاضطرار إليه ، فانقدح أنّ المتّجه في المسألة هو
القول المشهور لأنّه المنصور ، والله العالم بحقائق أحكامه.
المقام الرابع : في الكلب ، ومقتضى الأصل بمعنى القاعدة المتقدّمة في الأعيان تحريم
التكسّب به لأنّه نجس العين مسلوب المنفعة في أكثر أفراده ، فيحرم التكسّب به
لعموم «شيء من وجوه النجس» و «أنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» مضافاً إلى
عموم النبويّ الآخر ـ الّذي وصفه السيّد في المصابيح بالمتّفق عليه
بين الفريقين ـ «أنّه نهى عن ثمن الكلب» وإلى المستفيض من الأخبار الخاصّة المصرّحة بأنّ «ثمن
الكلب سحت» أو «من السحت» .
واولى الكلاب
وأحقّها بذلك الحكم كلب الهراش المعبّر عنه بالكلب العقور من العقر بمعنى الجرح
لأنّه يعقر كالسبع مثل الأسد والفهد والنمر ، والمراد به ما عدا
__________________
الكلاب الأربع المشهورة ـ أعني كلب الصيد ، وكلب الماشية ، وكلب الزرع ،
وكلب الحائط ـ ووجه الأولويّة أنّه أظهر أفراد موضوع القاعدة وأخصّها ، أو لعدم
الخلاف بين أصحابنا في تحريمه فيه ، وعليه أكثر العامّة كما صرّح بهما في المصابيح
بل صرّح فيما بعد ذلك بإجماع أصحابنا عليه ، وحكاه أيضاً عن جماعة كالشيخ والعلّامة والشهيدين وغيرهم أو لخصوص ما
في غير واحد من النصوص من قوله عليهالسلام : «ثمن الكلب الّذي لا يصيد أو لا يصطاد سحت» وفي بعضها «لا
يحلّ ثمنه» فإنّ المراد بالموصوف إمّا الهراش أو أنّه مندرج فيه
أيضاً.
وهل استثني من الحكم شيء أم لا؟ الكلام
فيه يقع في موضعين.
الموضع الأوّل : في استثناء كلب الصيد ،
وهو الكلب المعلّم
الّذي يصيد ، فنقول : إنّ المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة قريبة من الإجماع أنّ
التكسّب بكلب الصيد جائز ، بل عن جماعة من أساطين الطائفة نقل الإجماع عليه كالشيخ
في الخلاف وابن زهرة في الغنية والعلّامة في
المنتهى ١٠ والتذكرة وفخر المحقّقين في الإيضاح والشهيدين في
الدروس والمسالك والمحقّق الثاني في شرح القواعد .
وعن الشيخين في
المقنعة والنهاية تخصيص الجواز بالسلوقي ، منسوب إلى السلوق وهو قرية في
اليمن وأكثر كلابها معلّمة.
وعن ظاهر كلام
ابن الجنيد استثناء الأسود البهيم منه وهو الأسود الخالص لا يخالط لونه لون آخر ،
يعني أنّ التكسّب بكلب الصيد جائز إلّا الأسود البهيم منه ، لأنّ
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بقتله .
وعن العلّامة
في النهاية التوقّف في جواز بيع كلب الصيد.
وعن ابن أبي
عقيل العمّاني في ظاهر كلامه المنع منه مطلقاً.
وهذه الأقوال
كلّها شاذّة ضعيفة ، والمشهور هو المنصور ، للمستفيض من الإجماعات المنقولة
المعتضدة بالشهرة العظيمة ، ومفهوم الصفة في النصوص المتقدّم إليها الإشارة إن لم
نقل بحجّيّته وإلّا فهو حجّة مستقلّة. مضافاً إلى النصوص المستفيضة المصرّحة
بالجواز فيه بعبارات مختلفة ، وفيها الصحيح وغيره من المعتبرة ، ففي خبرين منها عن
ثمن الكلب الّذي لا يصيد ، فقال : «سحت ، وأمّا الصيود فلا بأس» وفي ثالث عن
ثمن كلب الصيد قال : «لا بأس بثمنه ، والآخر لا يحلّ ثمنه» وفي رابع صحيح
عن الكلب الصيود يباع قال : «نعم ، ويؤكل ثمنه» وفي خامس
مرويّ عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليهالسلام «أنّه قال : لا بأس بثمن كلب الصيد» .
وليس للعمّاني
المانع عن بيعه على ما حكي إلّا عموم النهي عن ثمن الكلب ، وأنّه حيوان نجس العين
فلا يجوز بيعه ، وأنّ النبيّ أمر بقتل الكلاب.
والأوّل :
مدفوع بتعيّن الخروج عن العموم بالمستفيض من منقول الإجماع والنصوص الخاصّة ،
والثاني مدفوع بمنع كلّيّة الكبرى بعد مساعدة الأدلّة على الجواز في خصوص محلّ
البحث ، كما أنّ الثالث أيضاً مدفوع تارةً بالتزام نسخ الأمر بقتل الكلاب في خصوص
المقام ، واخرى بالتزام تخصيصه بما عدا محلّ البحث تحكيماً للخاصّ على العامّ.
ومنشأ توقّف
العلّامة في النهاية على ما حكي أنّ جواز اقتناء كلب الصيد وهبته والوصيّة به
وتقدير الشارع له دية وهي أربعون درهماً يقتضي جواز بيعه ، وعموم النهي
__________________
عن ثمن الكلب يقتضي المنع من ذلك.
وقد ظهر الجواب
عن العموم ، بل الوجوه الثلاث المذكورة للجواز تنهض لتخصيص العموم فلا تعارض حتّى
يلزم منه الإلجاء إلى الوقف.
وأمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بقتل الأسود البهيم على تقدير ثبوته على ما تقدّم في
تعليل ابن الجنيد لمختاره محتمل للنسخ ، وإلّا يتعيّن إطراحه لعدم مقاومته عمومات
كلب الصيد ومطلقاته لشذوذ العامل به ، وإعراض المعظم عنه فيخرج عن صلاحية المقاومة
فضلاً عن التقديم.
وليس للشيخين
إلّا تبادر السلوقي من إطلاقات كلب الصيد لانصرافها إليه ، وهو محلّ منع خصوصاً مع
مقابلة الصيود أو كلب الصيد للّذي لا يصيد ، فإنّ الوصف الوارد في الأخبار يفيد
أنّ مقابله ما يصيد لا ما يكون سلوقيّاً بالخصوص.
وتوهّم : كون
الوصف وارداً مورد الغالب ، يدفعه منع غلبة السلوقي ، ولو سلّم الغلبة ففي كون
مجرّد غلبة الوجود من دون غلبة الإطلاق موجبة للانصراف كلام ، ولعلّ أقربه المنع.
وكون فتوى
الشيخ في النهاية يجري مجرى الرواية المرسلة لأنّه يفتي فيها بمتون
الروايات ، يدفعه : أنّ هذه الرواية ـ مع احتمالها لإرادة مطلق الصيود من السلوقي
تغليباً ، وضعفها بالإرسال ـ ضعيفة بالشذوذ وإعراض المعظم عنها ، فلا يعبأ بها
قبالاً للمعتبرة العامّة في مطلق الصيود والإجماعات المنقولة المستفيضة الّتي منها
إجماع الخلاف فيتوهّن به فتواه في النهاية.
الموضع الثاني : في كلب الماشية والزرع
والحائط ،وعبارات
الأصحاب في هذه الكلاب مضطربة جدّاً وكلماتهم فيها مختلفة غاية الاختلاف ،
والمحصّل منها أنّهم مختلفون في المنع عن بيعها وجوازه على قولين كما في الرياض أو أقوال أربع.
ثالثها :
الجواز في كلب الماشية والزرع دون كلب الحائط ، وهو قول سلّار
__________________
وظاهر ابن الجنيد وأحد قولي الشيخ وابن البرّاج .
ورابعها : جواز
بيع كلب الماشية والحائط دون كلب الزرع ، ونسب القول به إلى سلّار وصاحب الوسائل
كما في المصابيح جاعلاً للقول بالمنع أشهر وناسباً للقول بالجواز إلى
جماعة وخالفه شيخنا في الجواهر فجعل الأشهر بل المشهور القول بالجواز بضروب من التأويل
في عباراتهم وإرجاع بعضها إلى بعض.
وظاهر أنّ
القول بالمنع مطلقاً لا يحتاج إلى حجّة اخرى سوى القاعدة المتقدّمة فالمانع لا
يطالب بالدليل وإنّما يطالب به المجوّز مطلقاً أو في اثنين ، لكون القول به
تخصيصاً في القاعدة بدعوى استثناء الثلاثة أو الاثنين منها ولا بدّ له من دليل.
ومن هنا ينقدح
أنّ الاحتجاج لهذا القول بالأصل تارةً وبعمومات البيع كـ «أحلّ
الله البيع» ونحوه خرج
منهما كلب الهراش وبقى غيره اخرى ـ كما أشار إليهما السيّدان السندان في الرياض والمصابيح ـ غير جيّد ،
لأنّ الأصل مع القاعدة المقتضية للخلاف لا مجرى أو لا حكم له والعمومات مخصّص بتلك
القاعدة فيقال : إنّه خرج منها الكلاب الثلاث أيضاً.
نعم الّذي يمكن
أن يحتجّ به للقول بالجواز مطلقاً أمران :
أحدهما :
الإجماع المنقول الّذي ربّما استظهر من عبارة الشيخ في إجارة الخلاف والعلّامة في
التذكرة والشهيد في الحواشي ، فعن الأوّل «أنّ أحداً لم يفرّق بين بيع هذه الكلاب
وإجارتها بعد ملاحظة الاتّفاق على جواز إجارتها» وعن الثاني «يجوز
بيع هذه الكلاب عندنا» وعن الثالث «أنّ أحداً لم يفرّق بين الكلاب الأربعة» .
ويزيّفه ـ مع
عدم صراحة شيء ممّا ذكر في دعوى الإجماع على جواز بيع
__________________
الكلاب الثلاثة ـ أنّه معارض بظاهر عبارة الشيخ في مكاسب الخلاف وكذلك عبارة
الغنية من دعوى الإجماع على تحريم بيع ما عدا كلب الصيد ،
مضافاً إلى أنّه موهون باشتهار القول بالمنع بين القدماء والمتأخّرين إن لم نقل
بكونه أشهر ، فلا يمكن التعويل عليه مع اشتهار ذلك القول كما هو واضح.
وثانيهما :
أنّه لو جاز بيع كلب الصيد جاز بيع هذه الكلاب لكنّ المقدّم ثابت بالنصّ والإجماع
فكذا التالي ، وبيان الملازمة أنّ المقتضي للجواز في كلب الصيد وهو الملك وجواز
الاقتناء ووجود المنفعة المحلّلة وجواز الإجارة وجواز الوصيّة وجواز الهبة وتقدير
الشارع للدية موجود في هذه الكلاب أيضاً ، فإنّها مملوكة ويجوز اقتناؤها ولها
منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء وهي الحفظ والحراسة ويجوز إجارتها والوصيّة بها
وهبتها وقدّر لها دية وهي عشرون درهماً على ما ورد به النصّ.
ويزيّفه أنّ
الحكم كما اعترف به المستدلّ إنّما ثبت في الأصل بالنصّ والإجماع لا بالأحكام
المذكورة ، والمفروض أنّه فيهما غير معلّل بتلك الأحكام ليندرج المقام في العلّة
المنصوصة المسوّغة للتعدّي من كلب الصيد إلى الكلاب الثلاثة فيرجع إثبات العلّة
إلى إعمال شيء من طرق الاستنباط والاستدلال معه يرجع إلى القياس المستنبط العلّة
وهو باطل عندنا بالضرورة ، مضافاً إلى عدم اطّراد جواز البيع مع الأحكام ، ومرجعه
إلى تخلّف الحكم عن العلّة كما في امّ الولد والوقف والحرّ ، فإنّ الاولى ملك
ويجوز اقتناؤه وله منفعة محلّلة ويجوز إجارتها مع عدم جواز بيعها ، والوقف يجوز
إجارته ولا يجوز بيعه ، والحرّ يجوز إجارته ولا يجوز بيعه ، مع أنّ تقدير الدية من
الشارع ربّما استظهر منه عدم جواز البيع لأنّه يكشف عن عدم كون الكلاب مالاً يقابل
بالمال ويعاوض بالأثمان ، وإلّا فقضيّة ماليّة المال أن يضمن بالقيمة إذا كان
قيميّاً فوجب كون ديتها القيمة كائنة ما كانت.
فإن قلت : إنّ
ما ذكرت من عدم الاطّراد وإثبات التخلّف إنّما يقدح في الدليل إذا اريد الملازمة
العقليّة فإنّ اللازم العقلي يستحيل تخلّفه عن ملزومه وليس بلازم ،
__________________
ويكفي الملازمة الشرعيّة وهي بين الأحكام المذكورة وجواز البيع ثابتة
بالدليل من النصّ والإجماع ، ومرجع الملازمة الشرعيّة إلى لزوم جواز البيع للأحكام
المذكورة على سبيل القاعدة الكلّيّة وهي قابلة للتخصيص ، والموارد المذكورة
للتخلّف مخرجة عنها بالدليل وما عداها باقٍ تحتها ومنه الكلاب الثلاثة.
قلت : تحريم
بيع الكلب أيضاً قاعدة ثابتة بالدليل ، وهي مع القاعدة المذكورة متعارضتان وبينهما
عموم من وجه لافتراقهما في كلب الصيد وامّ الولد والوقف والحرّ واجتماعهما في
الكلاب الثلاثة ، فلا بدّ من الترجيح بمرجّح داخلي أو خارجي ، ومن المرجّح الداخلي
في العامّين من وجه كون أحدهما أقلّ أفراداً من الآخر ، ولا ريب أنّ قاعدة التحريم
أخصّ مورداً بمراتب شتّى من قاعدة الملازمة فيؤخذ بها ويخصّص قاعدة الملازمة
بإخراج مورد التعارض عنها.
ولم نقف للقول
بجواز بيع كلب الماشية وكلب الزرع على حجّة سوى ما حكاه في المصابيح من عدّة
روايات غير دالّة عليه أصلاً ، مثل ما عن الكافي في الصحيح عن محمّد بن قيس عن أبي
جعفر عليهالسلام عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «لا خير في الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب ماشية» .
وما في التذكرة
وعن المنتهى من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من اتّخذ كلباً إلّا كلب ماشية أو زرع أو صيد نقص من
أجره كلّ يوم قيراط» .
والمرويّ عن
غوالي اللآلئ في حديث «إنّ جبرئيل نزل إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فوقف بالباب واستأذن ، فأذن له فلم يدخل ، فخرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : ما لك؟ فقال : إنّا معاشر الملائكة لا ندخل
بيتاً فيه كلب ولا صورة فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا أدع كلباً إلّا قتلته ، فهربت الكلاب حتّى بلغت
العوالي فقيل : يا رسول الله كيف الصيد بها وقد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فجاء الوحي باقتناء الكلاب
__________________
الّتي ينتفع بها ، فاستثنى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كلاب الصيد وكلاب الماشية وكلاب الحرث ، وأذن في
اتّخاذها» .
وفي الجميع ـ بعد
الغضّ عن سند ما عدا الصحيح منها وعن أخصّيّة الصحيح من المدّعى ـ منع الدلالة ،
إذ الخيريّة لا تفيد أزيد من وجود المنفعة المحلّلة ولا كلام فيه ، والإذن في
الاتّخاذ وجوازه لا يفيد أزيد من جواز اقتناء هذين الكلبين ، وهذا أيضاً على ما
ستعرفه ليس بمحلّ كلام. وبالجملة محلّ النزاع غير ثابت بهذه الروايات ، والثابت
بها ليس بمحلّ نزاع ، فيبقى قاعدة التحريم فيما عدا كلب الصيد سليمة عمّا يوجب
التخصيص.
وليس للقول
بجواز بيع كلب الماشية وكلب الحائط إلّا رواية مرسلة أرسلها الشيخ في المبسوط
قائلاً : «يجوز بيع كلب الصيد ، وروي أنّ كلب الماشية والزرع مثل ذلك أي مثل كلب
الصيد في جواز البيع» ويظهر التعويل عليها من صاحب الوسائل .
ويرد عليها
الضعف بالإرسال ، مضافاً إلى أنّ الشيخ المرسِل لها لم يعمل بها لعدم تصريحه بجواز
البيع في الكلبين كما أفتى به صريحاً في كلب الصيد بل نسبه فيهما إلى الرواية.
ثمّ إنّ
المعروف في كلب الحائط أنّه كلب البستان ، وقد يعمّم بالنسبة إليه وإلى كلب البيوت
والدور والخيام ، ومنهم من ألحق ما عدا كلب البستان به في الحكم ، ولا يهمّنا
تحقيق ذلك بعد البناء على المنع من البيع فيما عدا كلب الصيد ، فإنّ الأقسام
المذكورة مثل كلب الماشية وكلب الزرع مندرجة في عموم المنع سواء سمّينا الجميع
بهذا الاسم أو لا.
ثمّ إنّ هاهنا فروعاً ينبغي التعرّض لها
:
الأوّل : يجوز اقتناء ما ينتفع به من
الكلاب في حراسة ونحوها سواء فيه الكلاب الأربع وغيرها بإجماع علمائنا كما في المصابيح .
وفي المحكيّ عن
مبسوط الشيخ «ويجوز اقتناء الكلب للصيد وحفظ الماشية وحفظ الزرع بلا خلاف وكذلك
يجوز اقتناؤها لحفظ البيوت» .
__________________
وظاهره وقوع
الخلاف في غير الثلاثة ، ولذا قد يدّعى اتّفاق الأصحاب في اتّخاذه للمزارع
والماشية والصيد مع نقل اختلافهم في جواز اتّخاذه لحفظ الدرب والدور على وجهين كما
حكاه في البحار .
وفي المصابيح
علّل إطلاق القول بالجواز ـ بعد الإجماع ـ بالأصل والأخبار.
وجريان الأصل
هنا مع ملاحظة ما في رواية تحف العقول من قوله عليهالسلام : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه
وإمساكه» الخ محلّ منع ، ولم نقف من الأخبار إلّا على ما دلّ على جواز اتّخاذ
الثلاثة المذكورة ، كرواية غوالي اللآلي المتقدّمة.
وفي رواية عن
أبي عبد الله عليهالسلام «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رخّص لأهل القاصية في الكلب يتّخذونه» وهذا أخصّ عن
المدّعى لأنّ القاصية البعيدة عن المعمورة.
ويمكن استنباط
الجواز من الروايات الدالّة أو المحمولة على الكراهة ، فإنّ اقتناء الكلاب المنتفع
بها واتّخاذها للانتفاع وإن كان جائزاً إلّا أنّه على كراهية كما نصّ عليه في
المصابيح ، لنجاستها وعسر التحرّز عنها ، ولقول أبي عبد الله عليهالسلام في صحيح الحلبي : «يكره أن يكون في دار الرجل المسلم
الكلب» وقوله عليهالسلام في موثّقة زرارة : «ما من أحد يتّخذ كلباً إلّا نقص في
كلّ يوم من عمل صاحبه قيراط» ونحوه المرسلة المتقدّمة عن التذكرة قيل وفي رواية
قيراطان ، وفي موثّقة سماعة قال : «سألته عن الكلب يمسك في الدار؟ قال : لا» وهذا محمول
على الكراهة وعلى تقدير حمله على التحريم فيحتمل كونه في الكلب الهراش ، وللروايات
الدالّة على أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب : منها : ما تقدّم عن الغوالي
اللآلئ.
ومنها :
المرويّ عن الشيخ عن محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله : إنّ جبرئيل أتاني فقال : إنّا
معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا تماثيل
__________________
جسد ، ولا إناء فيه يبال» .
والمرويّ عن
الفقيه عن الصادق عليهالسلام «لا تصلّ في دار فيها كلب إلّا أن يكون كلب الصيد واغلقت دونه باباً فلا
بأس ، فإنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ، ولا بيتاً فيه تماثيل ، ولا بيتاً
فيه بول مجموع في آنية» .
ويستفاد من هذه
الرواية ارتفاع الكراهة في كلب الصيد بشرط أن يكون في بيت اغلق عليه الباب كما
أفتى به في المصابيح ويدلّ عليه أيضاً خبر جرّاح المدائني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا تمسك كلب الصيد في الدار إلّا أن يكون بينك
وبينه باب» وخبر سماعة قال : «سألته عن كلب الصيد يمسك في الدار؟
قال : إذا كان يغلق دونه الباب فلا بأس» .
وأمّا تفسير
القيراط الوارد في أخبار نقص أجر العمل ، ففي المجمع «والقيراط نصف دانق ... إلى
أن قال : وأمّا القيراط الّذي جاء في الحديث جزء من أجزاء الدينار ... إلى أن قال
: وفي النهاية القيراط جزء من أجزاء الدينار وهو نصف عشر في أكثر
البلاد ، وأهل الشام يجعلونه جزء من أربعة وعشرين» ولعلّه لمكان
الاختلاف واشتباه حقيقته. قيل : والمراد بالقيراط مقدار معلوم عند الله تعالى ينقص
من أجر عمله.
وقيل أيضاً :
اختلفوا في المراد بما نقص منه فقيل ممّا مضى من عمله ، وقيل : من مستقبله ، وقيل
: قيراط من عمل الليل وقيراط من عمل النهار ، وقيل : قيراط من عمل الفرض وقيراط من
عمل النفل. وكأنّ هذين القولين قصد بهما بيان معنى رواية قيراطين كما تقدّم قصداً
إلى الجمع بينها وبين رواية القيراط ، وقد يجمع أيضاً بحملها على اختلاف أنواع
الكلاب في كون بعضها أشدّ أذىً من البعض الآخر ، أو على اختلاف
__________________
المواضع فيكون القيراطان في المدن ونحوها والقيراط في البوادي.
الثاني : قال
في المصابيح
: «كلّما يجوز اقتناؤه
من الكلاب يصحّ تملّكه كغيره من الحيوانات المنتفع بها ويحرم إتلافه والجناية عليه
من غير المالك بإجماع الأصحاب حكاه العلّامة في التذكرة وابن فهد في المهذّب» .
ومراده ممّا
نسبه إلى العلّامة ما ذكره في التذكرة «يحرم قتل ما يباح اقتناؤه من الكلاب
إجماعاً وعليه الضمان» .
وقال بعض
مشايخنا ـ في جملة كلام له في الكلاب الأربعة ـ : «لا خلاف في أنّها مملوكة
ولإتلافها غرامات ، ويجوز إجارتها وهبتها ورهنها والوصيّة بها وأن تكون مهراً
للنكاح وعوضاً للخلع ، بل يجوز أن تكون ثمناً في الإجارة وغيرها» .
وقال العلّامة
في غصب التذكرة : «لو غصب كلب صيد أو زرع أو حائط أو ماشية وجب عليه ردّه إلى
مالكه ، لأنّ له قيمة في نظر الشرع ، ويجوز اقتناؤه والانتفاع به فأشبه غيره من
الأموال. ولو أتلفه ضمن القيمة الّتي قدّرها الشرع ، ولو حبسه عن مالكه مدّة لزمه
اجرته عندنا لأنّه يصحّ استيجاره عندنا» وقال في موضع آخر : «قد بيّنّا أنّ منافع
الكلب الّذي يجوز اقتناؤه وله قيمة في نظر الشارع مضمونة على الغاصب» .
قال السيّد ـ بعد
العبارة المتقدّمة عن مصابيحه ـ : «ولا ينافي ذلك تحريم بيع ما عدا كلب الصيد ،
لأنّ جواز البيع ليس من لوازم الملك ، إذ من المملوك ما لا يجوز بيعه كالوقف
والمكاتب وامّ الولد والقليل الغير المتموّل ، فلا يلزم من تحريم البيع انتفاء
الملك ولا جواز الإتلاف والجناية ، وقد ورد في أكثر هذه الكلاب دية مقدّرة» .
أقول : تحريم
البيع هنا لعلّه لانتفاء الماليّة الّتي لا ملازمة بينها وبين الملكيّة ، بناءً
على أنّ النسبة بين الملك والمال عموم من وجه لافتراق الملك عن المال في الحبّة
المملوكة من الحنطة ونحوها ، وافتراق [المال] عن الملك ثلث الميّت بناءً على خروجه
عن ملك الميّت ، والمبيع يتبع الماليّة ، كما يظهر ذلك من العلّامة في وصيّة
التذكرة حيث
__________________
أناط الماليّة وانتفاءها في الكلاب بجواز بيعها والعدم قائلاً : «لو أوصى
بكلب الهراش لم تصحّ الوصيّة لأنّه ليس بمال ، ولا يجوز اقتناؤه ولا بيعه ولا هبته
، أمّا لو كان الكلب ممّا يحلّ اقتناؤه مثل كلب الصيد والماشية والزرع والحائط
صحّت الوصيّة به إجماعاً لأنّ فيه نفعاً مباحاً وتقرّ اليد عليه ، والوصيّة تبرّع
تصحّ في المال وغير المال من الحقوق ولأنّه تصحّ هبته فتصحّ الوصيّة به كالمال.
ولو قال : أعطوه كلباً من كلابي ، فإن لم يكن له كلب مباح اقتناؤه بل كلّ كلابه
كلاب الهراش بطلت الوصيّة ، ولو كان له كلاب يباح الانتفاع بها صحّت الوصيّة واعطي
واحداً منها. وكذا لو قال : أعطوه كلباً من مالي ، فإن قلنا الكلب المباح اقتناؤه
يصحّ بيعه وشراؤه كان مالاً وصحّت الوصيّة به ، وإن قلنا إنّه لا يصحّ بيعه فإنّه
تصحّ الوصيّة به أيضاً وبه قال الشافعي وإن لم يكن الكلب مالاً لأنّ المنتفع به من
الكلاب يصحّ اقتناؤه واعتبار أيدي المتداولة عليه كالأموال ويستعار له اسم المال
بهذا الاعتبار ، بخلاف كلب الهراش فإنّ الوصيّة به باطلة سواء قال : أعطوه كلباً
من كلابي ، أو من مالي ، لأنّه لا يصحّ ابتياع الكلب المذكور لأنّه لا قيمة له ولا
يباح اقتناؤه ، فلا يعدّ مالاً حقيقة ولا مجازاً إلى آخر ما ذكره» .
ولو لا الإجماع
على مملوكيّة رقبة هذه الكلاب المستفاد من تضاعيف كلماتهم خصوصاً تصريحهم بصحّة
هبة هذه الكلاب الّتي يشترط في متعلّقها كونه عيناً مملوكة أمكن منع ابتناء حرمة
الإتلاف والجناية وضمان الدية المقدّرة بل سائر الأحكام المذكورة عدا صحّة الهبة
على ملك الرقبة لكفاية ملك المنافع المحلّلة في ذلك كلّه كما هو واضح. وربّما أمكن
منع ابتناء الضمان وتحريم الإتلاف على ملك المنافع أيضاً ، لكفاية تعلّق حقّ
الاختصاص ، فتأمّل.
الثالث : ظاهر كلمة الأصحاب جواز إجارة
الكلاب الأربعة خصوصاً كلب الصيد ، وهو المعروف من مذهب الأصحاب في كلب الصيد كما في المصابيح بل ظاهر عبارة
التذكرة إجماعهم عليه في الأربعة حيث لم ينسب الخلاف إلّا إلى
بعض الشافعيّة ، والشيخ في الخلاف على ما حكي نسب الخلاف إلى بعض العامّة ولكنّه
__________________
لم يذكر إلّا كلب الصيد والماشية والزرع.
واستدلّوا عليه
بأنّه حيوان مملوك ينتفع به نفعاً محلّلاً مقصوداً مع بقاء عينه ، وزاد عليه في
المصابيح في كلب الصيد «أنّه قد ثبت بالنصّ والإجماع جواز إعارته» .
وهذا يقتضي
جواز إجارته أيضاً بضابطة أن كلّما صحّ إعارته مع بقاء عينه صحّ إجارته كذلك.
والمحقّق مع
أنّه في الشرائع منع عن بيع ما عدا كلب الصيد أجاز إجارة الجميع ، وعن
الشهيد الثاني في المسالك «نفى الإشكال عنه» وعن ابن الفهد في المهذّب «نفي الخلاف عنه» .
وفي المصابيح «قد
يقال بالمنع إن لم يثبت الإجماع على الجواز لكون الإجارة نوعاً من التكسّب فتكون
محرّمة لتحريم التكسّب بالأعيان النجسة» .
ويدفعه : أنّ
الدليل العامّ على تحريم التكسّب بالأعيان النجسة يقول مطلق ، إمّا قوله في رواية
تحف العقول : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب
فيه فجميع تقلّبه في ذلك حرام» أو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» وأيّاً ما كان
فهو لا يتناول الكلاب الأربعة أصلاً فضلاً عن إجارتها.
أمّا الأوّل
فلظهوره في تحريم جميع المنافع والتقلّبات ، وأمّا الثاني فلظهوره فيه أو في تحريم
المنافع المقصودة ، فلا يندرج فيهما الكلاب الأربعة لحلّيّة منافعها المقصودة ،
حتّى أنّه لو لا النصوص المصرّحة بتحريم ثمن الكلب الّذي لا يصيد لم يمكن إثبات تحريم
بيع ما عدا كلب الصيد بقاعدة تحريم التكسّب بالأعيان لعدم العموم في دليلها بحيث
يشمل الكلاب الثلاثة ، والمفروض عدم إمكان إثبات تحريم إجارتها بتلك النصوص لمكان
الثمن الّذي لا يطلق على عوض المنفعة في الإجارة لاختصاصه عرفاً بل لغة بعوض
الأعيان ، وأمّا عوض المنافع فيقال له : الاجرة ومال الإجارة ووجه الإجارة.
وهل يصدق الثمن
على عوض العين في الصلح المعوّض والهبة المعوّضة ليتّجه
__________________
من جهته التمسّك بالنصوص المشار إليها لتحريم هذين النوعين من الصلح والهبة
أولا؟ وجهان مبنيّان على كون الثمن عبارة عن العوض المبذول للعين في البيع أو
مطلقاً ، كلمة أئمّة اللغة فيه مختلفة.
فعن الجوهري في
الصحاح «والثمن ثمن المبيع» وظاهره يفيد الاختصاص وإن حمل على إرادة التشبيه.
وفي الغريبين
للهروي «الثمن قيمة الشيء» ونحوه ما في المجمع إلّا أنّ الأوّل قال ـ عقيب ما عرفت ـ : «وجعل الثمن
مشتري كسائر السلع لأنّ الثمن والمثمن كلاهما مبيع ولذا اجيز شريت بمعنى بعت».
وهذا الكلام
يعطي أنّ المراد قيمة المبيع خاصّة فيوافق الأوّل ، ولا ينافيهما ما عن الأساس «أثمنت
الرجل بمتاعه وأثمنت له أعطيت ثمنه ، وثمّن هذا المتاع بيّن ثمنه كما تقول قوّمه» .
نعم عن المصباح
المنير «الثمن العوض» وهذا ظاهر في العموم ، ويوافقه ما في القاموس «وثمن
الشيء محرّكة ما استحقّ به ذلك الشيء ... إلى أن قال : وأثمنه سلعته وأثمن له
أعطاه ثمنها» .
ويمكن إرجاعهما
إلى الأوّل ، فالجميع يريدون عوض المبيع خاصّة ، ويشهد له العرف فإنّ المتبادر من
الثمن في متفاهم العرف هو ذلك لا مطلق العوض ، وإليه ينصرف إطلاقات الأخبار. ولو
سلّم أنّه بحسب اللغة لمطلق العوض فلا ينصرف الإطلاق في الأخبار إلّا إلى الخاصّ
فإنّه الغالب المعهود بحسب الاستعمال. وعلى هذا فلا يندرج المعوّض من الصلح والهبة
في عموم قوله عليهالسلام : «ثمن الكلب الّذي لا يصيد سحت» كما لا يندرج فيه
الغير المعوّض منهما.
وقضيّة عمومات الصحّة
في العقدين جوازهما في الكلاب الأربعة مطلقاً ، وكذلك يجوز إصداقها والوصيّة بها
لأجل العمومات السليمة عمّا يوجب الخروج منها جزماً
__________________
كما نصّ عليه السيّد وغيره .
بل ظاهر عبارة
التذكرة بل صريحها جريان الوقف فيها حيث إنّه بعد ما ذكر أنّه يشترط في العين
الموقوفة امور خمسة «أن يكون عيناً معيّنة مملوكة ينتفع بها انتفاعاً محلّلاً مع
بقائها ويصحّ إقباضها قال ـ في بيان فائدة القيد الثالث ـ : «وكذا لا يصحّ وقف ما
ليس بمملوك من الأعيان كالخمر والأنبذة وكلب الهراش والخنزير والسرجين وغير ذلك
ممّا تقدّم من الأعيان الّتي لا يقع عليها الملك ... إلى أن قال : ويصحّ وقف الكلب
المعلّم وكلب الحائط والماشية والسنّور ، لجواز الانتفاع بها وصحّة بيعها على
الأقوى. وللشافعيّة في وقف الكلب المعلّم وجهان ...» إلى آخر ما
ذكره. وربّما يومئ ذلك إلى عدم خلاف بين الأصحاب في الكلب المعلّم.
__________________
المبحث السابع
في المائعات النجسة
وهي على قسمين
:
أحدهما : ما
كان نجاسته ذاتيّة كالخمر والفقّاع وسائر الأنبذة والبول ممّا لا يؤكل لحمه ، وقد
تقدّم ما يتعلّق بأنواع هذا القسم من الأحكام مشروحاً ، وهي في الحقيقة داخلة في
الأعيان النجسة ، وما فرض فيها من الميعان غير مؤثّر في شيء.
وثانيهما : ما
كان نجاسته عرضيّة كالماء والمضاف المتنجّسين بالملاقاة ، والأدهان المتنجّسة كذلك
من الزيت والسمن والشحم حال ذوبانه ، ومنه العصير العنبي بعد الغليان على المشهور
المنصور ، بناءً على أنّ المراد من النجاسة العرضيّة النجاسة الطارئة لطاهر العين
بسبب خارجي من غليان أو ملاقاة أو غيرهما من دون أن تستند إلى ذاته وحقيقته ،
قبالاً للنجاسة الذاتيّة وهي التابعة لذات الشيء المعلولة لحقيقته.
نعم لو فسّرت
الذاتيّة بما لم يكن مكتسبة من غيره بالملاقاة كانت العرضيّة حينئذٍ عبارة عن
المكتسبة عن غيره بالملاقاة فيدخل العصير في الذاتيّة ، إلّا أنّ الأظهر هو الأوّل
، ولذا كانت نجاسة موطوءة الإنسان والجلّالة من العرضيّة.
وكيف كان
فالغرض من عقد هذا المبحث التعرّض لأحكام المائعات المتنجّسة بالعرض ، وتمام
البحث في أنواعها يقع في مقاصد :
المقصد الأوّل : في العصير العنبي إذا
غلى قبل ذهاب ثلثيه الّذي هو في تلك الحال جس ومحرّم ، ولا إشكال في بقاء ماليّته
وملكيّته وعدم زوالهما بالنجاسة العارضة له
ولو بحكم الاستصحاب ، غاية الأمر أنّه مال معيوب عيبه قابل للزوال بالنقص
الحاصل بإذهاب ثلثيه مع بقاء موضوعه. وبالجملة النجاسة القابلة للزوال مع بقاء
الموضوع ليست رافعة لملكيّة الشيء ولا مخرجة له عن الماليّة ، بل الرافع للملكيّة
المخرج عن الماليّة شرعاً وعرفاً هو النجاسة الغير القابلة للزوال مع بقاء الموضوع
فيما يتوقّف منافعه المحلّلة على الطهارة ، فالعصير حال نجاسته مال عرفاً وشرعاً
وملك لصاحبه ، والخمر ليس مالاً ولا ملكاً ، ولذا لو غصب العصير غاصب فأغلاه وجب
عليه ردّ عينه ، وعليه ضمان مئونة إذهاب ثلثيه ، بل ضمان التالف منه بالغليان عنده
بمثله في قول قويّ ، بخلاف ما لو غصبه عصيراً فصار خمراً عنده فإنّه يضمن بمثل
العصير.
كما صرّح بما
ذكرناه من الفرق بينهما العلّامة في غصب التذكرة معلّلاً لضمان اجرة العمل حتّى
يذهب ثلثاه بعد ما ردّه إلى المالك «بأنّه ردّه معيباً ويحتاج زوال العيب إلى
خسارة والعيب من فعله فكانت الخسارة عليه» .
واندفع بما ذكر
ما ناقشه في جامع المقاصد «بعدم وضوح الفرق بين المقامين» فإنّ الفرق
بينهما واضح ، ضرورة أنّ صيرورة العصير خمراً عند الغاصب لخروجها عن الماليّة
والملكيّة بمنزلة التلف فوجب ضمانه بمثل العصير ، والخمر لا يزول نجاستها إلّا
بزوال موضوعها والعصير مال وملك مع النجاسة ولا يزول موضوعها بزوالها ، ثمّ لا
ينبغي التأمّل في جواز الانتفاع به في الأكل والشرب بعد الطهارة الحاصلة بالنقص. وعلى
هذا فهو عين مملوكة قابلة للانتفاع منفعة محلّلة مقصودة ، وقضيّة ذلك أن يجوز بيعه
بل مطلق التكسّب به عملاً بالعمومات من نحو قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وما أشبه ذلك
وفاقاً لغير واحد ، وهو على ما قيل لازم كلّ من قيّد تحريم البيع في الأعيان
النجسة بعدم قابليّتها للتطهير بغير استحالة.
نعم يظهر من
المحقّق في الشرائع حيث اقتصر في الاستثناء عن كلّ مائع نجس على الأدهان
لفائدة الاستصباح المصير إلى المنع ، ونسب القول به صريحاً إلى مفتاح
__________________
الكرامة ورجّحه بعض مشايخنا عند قراءتنا عليه. وليس بشيء ، والعمومات المشار إليها
حجّة على كلّ من قال هنا بالمنع ، ولا يزاحمها قاعدة تحريم التكسّب بالأعيان
النجسة على ما أقعدناه سابقاً ، لعدم شمول ما هو دليلها العامّ من رواية تحف
العقول والخبر النبويّ لما نحن فيه.
أمّا الأوّل :
فلوجهين ، الأوّل أنّ قوله عليهالسلام : «أو شيء من وجوه النجس» على ما بيّنّاه سابقاً ظاهر
في العنوانات النجسة الّتي نجاستها تابعة لأصل العنوان ، والمقام ليس منها. والثاني
أنّ قوله عليهالسلام : «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ...» الخ يفيد
إناطة المنع من البيع والشراء بتحريم جميع المنافع والتقلّبات ، وهذا ليس منها
لقبوله الانتفاع بالأكل والشرب بعد الطهارة وهما منفعتان محلّلتان.
وأمّا الثاني :
فلما ذكرناه مراراً من أنّ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً» يفيد إناطة تحريم الثمن
بتحريم جميع المنافع أو تحريم المنافع المقصودة والعمدة من منافع المقام الأكل
والشرب بعد الطهارة وهما محلّلان ، نعم إنّما أكله وشربه حال النجاسة ، ولا كلام
في حرمة بيعه وشرائه لأجل هذه الجهة ، وهذا خارج عن معقد البحث.
نعم يبقى ممّا
توهّم منه عموم المنع من التكسّب هنا أمران :
أحدهما :
الإجماع المنقول في تذكرة العلّامة حيث قال : «يشترط في المعقود عليه الطهارة
الأصليّة فلو باع نجس العين كالخمر والميتة والخنزير لم يصحّ إجماعاً» .
ويدفعه : منع
اندراج المقام في معقد هذا الإجماع ، لظهور نجس العين في النجاسة العينيّة التابعة
لذات الشيء وماهيّته ، ويؤكّده التمثيل بالثلاثة الّتي نجاستها ذاتيّة ، فيراد من
الطهارة الأصليّة المشترط بها الطهارة الذاتيّة الّتي لا ينافيها النجاسة العرضيّة
خصوصاً مع قبولها الزوال كما هو مفروض المقام.
وثانيهما :
الإجماع المنقول في كلام ابن زهرة في الغنية حيث إنّه بعد ما ذكر «إنّ شرائط صحّة
البيع ثبوت الولاية في المعقود عليه ، وأن يكون معلوماً مقدوراً على تسليمه ،
منتفعاً به منفعة مباحة ... الخ قال ـ في بيان تفصيل الشروط المذكورة ـ : وقيّدنا
__________________
بكونها أي المنفعة مباحة تحفّظاً من المنافع المحرّمة ويدخل في ذلك كلّ نجس
لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد والزيت النجس
للاستصباح به تحت السماء وهو إجماع الطائفة» .
وهذا أيضاً
واضح الدفع ، لأنّ معقد هذا الإجماع على تقدير كونه إجماعاً على المستثنى منه
أيضاً لا على الاستثناء فقط ما لا يقبل التطهير وكلامنا فيما يقبله ، فكلّ ما يوجد
في فتاوي الأصحاب أو وجد في معاقد إجماعاتهم من إطلاق المنع من بيع النجس فهو إمّا
في النجاسات الذاتيّة أو فيما لا يقبل التطهير من النجاسات ولو عرضيّة.
وعن مفتاح
الكرامة الاستناد للمنع إلى ظاهر العمومات المتقدّمة ، وخصوص
بعض الأخبار :
مثل رواية أبي
كهمس قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام عن العصير فقال : لي كرم وأنا أعصره كلّ سنة وأجعله في
الدنان وأبيعه قبل أن يغلي ، قال : لا بأس ، وإن غلى فلا يحلّ
بيعه ، ثمّ قال : هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً» .
ورواية أبي
بصير «قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام : عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو
يجعله خمراً؟ قال : إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس» .
ورواية محمّد
بن هيثم عن رجل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته
أيشربه صاحبه؟ فقال : إذا تغيّر عن حاله وغلى فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه ويبقى
ثلثه» .
وقد ظهر الجواب
عن العمومات ، وأمّا الروايات ـ فمع الغضّ عمّا في أسانيدها من الضعف والقصور ـ يتطرّق
المنع إلى دلالة الأخير منها إلّا على تقدير أن يراد من قوله : «لا خير فيه» ما
يعمّ البيع ، وهو واضح المنع ، فلا يفيد أزيد من التحريم أو هو مع
__________________
النجاسة ، كما ربّما يومئ إليه الغاية المعهود منها كونها غاية للطهارة
والحلّية.
ويرد على
الأوّل منها : ظهوره في البيع لمن يشربه وهو نجس أو حرام ـ أعني قبل إذهاب ثلثيه ـ
ولا كلام في تحريمه حينئذٍ ، ولذا قال عليهالسلام ـ فيما بعد تجويزه البيع قبل الغليان ومنعه منه بعده ـ :
«هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً».
وعلى الأوسط
منها : أنّ مفهوم قوله عليهالسلام : «إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس» ثبوت
البأس في بيعه بعد أن يكون خمراً لا ثبوته في بيعه بعد الغليان ، إلّا أن نقول
بالملازمة بين الغليان والخمريّة ، وهي غير واضحة من الرواية لعدم تعليق نفي البأس
على عدم الغليان بالنار فتأمّل. ولو سلّم فضعف هذه الرواية بعليّ بن أبي حمزة يمنع
من التعويل عليها في الحكم المخالف للأصل والعمومات ، مع إمكان حملها على من
يشتريه لشربه خمراً لا للتطهير بإذهاب ثلثيه.
المقصد الثاني : في المضاف المتنجّس
بالملاقاة بجميع أنواعه من الجلاب والخلّ والعصير والدبس وغيره ممّا لا يقبل التطهير بالماء مع بقاء موضوعه وصدق عنوانه
عليه ، ولا ينبغي الإشكال في بقاء ملكيّته وعدم انسلاخ الملك عنه بطروء النجاسة
ولو بحكم الأصل واستصحاب الحالة السابقة الّذي هو من الاستصحاب مع الشكّ في
رافعيّة العارض ، كما لا ينبغي الإشكال في حرمة استعماله في الأكل أو الشرب أو
غيرهما من مشروط بالطهارة ، ولا في حرمة بيعه وشرائه في هذه الجهة المحرّمة.
وإنّما الكلام في مقامين آخرين :
أحدهما : جواز
الانتفاع به في غير الأكل والشرب من الانتفاعات الاخر الغير المشترطة بالطهارة ،
كسقي الدوابّ والتداوي بالطلي وغيره ممّا عدا الأكل والشرب.
وثانيهما :
جواز بيعه بل مطلق التكسّب به في الانتفاعات الاخر المباحة.
أمّا المقام الأوّل : فتحقيقه مبنيّ على النظر في أنّ الأصل في المتنجّس الغير
القابل للتطهير بالماء هل هو جواز الانتفاع به إلّا ما أخرجه الدليل ـ كالأكل
والشرب والاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال كما نسب إلى أكثر المتأخّرين واختاره
__________________
بعض مشايخنا وهو الأقوى ، لأصالة الإباحة في المنافع ، وأصالة براءة
الذمّة عن العقاب المحتمل ترتّبه على الفعل ، واستصحاب الحالة السابقة على طروء
النجاسة ، وعموم الانتفاع بما خلق في الأرض المستفاد من قوله تعالى : «وخلق لكم ما
في الأرض»
ولا وارد على هذه
الاصول من الأدلّة ـ أو الأصل هو عدم الجواز إلّا ما أخرجه الدليل؟ كالاستصباح
بالدهن تحت السماء كما نسب إلى ظاهر جماعة من القدماء وإلى صاحب
مفتاح الكرامة واختاره شيخنا في الجواهر وسيأتي تفصيل
الكلام في تحقيق هذا المقام في مسألة الأدهان المتنجّسة إن شاء الله تعالى.
وأمّا المقام الثاني : فقد اختلف فيه الأصحاب ففي المصابيح «المشهور فيه عدم
الجواز ، لعدم قبوله التطهير».
وعن العلّامة
في بعض أقواله «الجواز لقبوله التطهير» .
وعن المحقّق
الثاني جوازه فيما لا يتوقّف الانتفاع به على طهارته كالمايعات
المقصود منها الصبغ بخلاف غيره من المائعات المقصود منها الأكل والشرب ونحوهما من
الانتفاعات المشروطة بالطهارة. وعنه أيضاً القول بالجواز إن قصد مزجه بالماء
المطلق إلى أن يصير ماء لطهارة المضاف باستهلاكه في الكثير المطلق.
والأصحّ هو
القول الثالث. وربّما احتمل تنزيل القول المشهور عليه ، لقوّة احتمال كون مرادهم
المنع عن بيعه في الأكل والشرب وغيره من الانتفاعات المحرّمة. كما ربّما يومئ إليه
تعليله بعدم قبوله التطهير فإنّ التطهير وقبوله علاج يقصد به التوصّل إلى الأكل
والشرب وغيرهما من منافعه المقصودة ، ولعلّ العلّامة أيضاً أراد من قبوله التطهير
قبوله بمزجه في الكثير المطلق حتّى يصير مطلقاً فيكون مراده ممّا جوّزه تجويز بيعه
للأكل والشرب بعد التطهير بهذا الطريق. وعلى هذا فلا مخالفة بين العلّامة والمشهور
إلّا في مجرّد اللفظ أو في الموضوع. وقضيّة ما وجّهناه رجوع قول العلّامة إلى
القول الرابع ،
__________________
وهما راجعان إلى القول المشهور.
فصار المحصّل
أنّه لا خلاف لأحد في عدم جواز بيعه وشرائه في الأكل والشرب المحرّمين حال
النجاسة.
وأمّا بيعه
وشراؤه في الانتفاعات الاخر المباحة أو في الأكل والشرب المقصودين بعد التطهير ولو
بالطريق المذكور فلم يتبيّن إنكار جوازه من أحد ، والمعتمد على ما بيّنّاه هو
الجواز ، للأصل بمعنى استصحاب الحالة السابقة ، وعموم أدلّة الصحّة في جميع عقود
المعاوضة من نحو قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وما أشبه ذلك.
وليس للقول
بالمنع مطلقاً إن كان إلّا ما أشار إليه السيّد في الرياض من العمومات المتقدّمة
المانعة عن بيع النجس المعربة عن تحريم ثمن ما حرّم أصله مضافاً إلى
الإجماعات المنقولة الّتي حكاها عن الغنية والمنتهى والمسالك وغيرها. ولم يتقدّم في كلامه صريحاً من العمومات ممّا
يمكن التمسّك بعمومه للمقام إلّا أمران :
أحدهما : ما
نقله من الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا عليهالسلام من قوله : «اعلم رحمك الله أنّ كلّ مأمور به على العباد
وقوام لهم في امورهم من وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ـ ممّا يأكلون ويشربون
ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون ـ فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته ،
وكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وإمساكه
بوجه الفساد مثل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع
والخمر وما أشبه ذلك فحرام ضارّ للجسم» .
وثانيهما :
قوله في رواية تحف العقول : «أو شيء من وجوه النجس» مع التعليل بأنّ ذلك كلّه
منهيّ عن أكله وشربه ... الخ.
ويمكن أن يضاف
إليهما عمومات اخر وإن لم يذكرها في صريح العبارة :
أحدها : ما في
رواية تحف العقول قبل الفقرة المذكورة من قوله : «وأمّا وجوه الحرام من البيع
والشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو لبسه
... الخ».
__________________
وثانيها : ما
في خبر دعائم الإسلام من قوله عليهالسلام : «وما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه ولا
شراؤه» .
وثالثها :
الخبر النبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» .
وأنت خبير بأنّ
ليس شيء منها بشيء ، أمّا الرضوي فالقدح في سنده لكون الكتاب المذكور غير ثابت
الحجّيّة لعدم ثبوت كونه من الإمام عليهالسلام أوّلاً ومنع دلالته ثانياً. وسند المنع وجوه :
الأوّل : أنّ
قوله : «فحرام ضارّ للجسم» لا يفيد تحريم بيع الأشياء المذكورة لظهوره في تحريمها
باعتبار كونه خبراً لكلّ أمر يكون فيه الفساد ، فالحرام حينئذٍ أكل ما نهي عنه من
جهة أكله ، وشرب ما نهى عنه من جهة شربه ، ولبس ما نهي عنه من جهة لبسه وهكذا ،
وجعله متعلّقاً بالبيع والشراء يحتاج إلى إضمار وتقدير ينفيه الأصل ، وظهور السياق
بقرينة الفقرة الاولى الّتي متعلّق الحلّية فيها البيع والشراء وإن كان يقرب
احتمال الإضمار والتقدير إلّا أنّه يبعّده امور :
منها : وصف
ضارّ للجسم فإنّه بظاهر العبارة صفة لقوله : «حرام» ولا يتصوّر كون الضارّ للجسم
بيع الأشياء المذكورة بل الضارّ أكلها وشربها ولبسها ونكاحها ، إلّا أن يرجع الوصف
إلى كلّ أمر يكون فيه الفساد على طريقة الخبر بعد الخبر بإسقاط العاطف ، وهو خلاف
ظاهر سقوط العاطف.
ومنها : قوله
فيما سبق : «نكاحه» فإنّ المنهيّ عنه من جهة نكاحه إنّما هو المحارم ونحوه ذات
البعل وذات العدّة ، والحرام إنّما هو نكاحهنّ ولا يعقل لحرمة بيع نكاحهنّ معنى.
ومنها : قوله :
«والربا» فإنّ الربا هو بيع الجنس بمثله مع زيادة ، ولا معنى لحرمة بيع الجنس
بمثله مع زيادة إلّا أن يجرّد الربا عن معنى البيع واكتفى فيه بالزيادة ، وهو
تكلّف آخر.
ومنها : قوله :
«جميع الفواحش» فإنّ الفواحش بظاهرها من القمار والزنا واللواط والغناء وغيرها من
القبائح ، لا معنى لحرمة بيعها.
الثاني : ظهور
الرواية بملاحظة الأمثلة المذكورة ـ على تقدير تسليم تعلّق الحرمة
__________________
فيها بالبيع ـ في بيع المحرّمات النفسيّة والنجاسات العينيّة الذاتيّة ،
والحرمة والنجاسة في المضاف المتنجّس عرضيّتان فلا يتناوله الرواية.
الثالث : أنّها
لا تفيد أزيد من تحريم بيع الأشياء المذكورة في جهاتها المحرّمة المنهي عنها من
الأكل والشرب واللبس وغير ذلك ، والتحريم من هذه الجهة في المضاف المتنجّس مسلّم ،
ويبقى بيعه من الجهات الاخر المباحة مندرجاً تحت الأصل والعمومات.
وأمّا قوله : «أو
شيء من وجوه النجس» فلعدم شمول وجوه النجس للمضاف المتنجّس لعدم كون شيء من
أنواعه بعنوانه الخاصّ عنواناً للنجاسة ، وأمّا البواقي فلأنّه لا ينساق منها أزيد
من تحريم بيع المحرّمات المنهيّ عنها في جهاتها المحرّمة ، مضافاً إلى ما في رواية
دعائم الإسلام من قوله عليهالسلام : «وما كان محرّماً أصله» وهذا لا يتناول محلّ البحث ،
لعدم كون شيء من أنواع المضاف المتنجّس أصله محرّماً ، بل إنّما حرّم أكله أو
شربه أو غيرهما ممّا يتوقّف على الطهارة لعارض النجاسة ، وإلّا فأصله لو لا هذا
العارض محلّل مباح ، ولقد سبق منّا في ذيل البحث عن المسكرات الجامدة ما ينفعك هنا
، فراجع وتأمّل.
وأمّا
الإجماعات الّتي أشار إليها السيّد فإجماع الغنية هو الّذي نقلناه في بحث العصير
وقد سمعت الجواب عنه ثمّة ولا حاجة إلى الإعادة ، وإجماع المنتهى لم نقف عليه حتّى
ننظر في مفاده ، وإجماع المسالك أيضاً غير واضح ، ولعلّه استفاده من كلامه في شرح
عبارة الشرائع حيث إنّه بعد ما عدّ كلّ مائع نجس ممّا يحرم التكسّب به عدا الأدهان
لفائدة الاستصباح تحت السماء بناه الشهيد في الشرح على عدم قبول التطهير ، ثمّ ذكر
«ولو قلنا بقبولها الطهارة جاز بيعها مع الإعلام بحالها ، قال : ولا فرق في عدم
جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه وعدمه
، ولا بين الإعلام بحالها وعدمه على ما نصّ عليه الأصحاب وغيرهم» .
وهذا كما ترى
ليس نصّاً ولا ظاهراً في دعوى الإجماع ، ولو سلّم الظهور فهو إجماع على عدم الفرق
بناءً على القول بعدم جواز البيع لعدم قبول الطهارة ، لا أنّه
__________________
إجماع على عدم جواز البيع ، ونحن ننكر أصل الإجماع عليه ، ولقد عرفت إمكان
تنزيل المشهور على المنع في الجهة المحرّمة ، ولا ينافيه استثناء الأدهان كما في
عبارة الشرائع وغيره ، بل ربّما يكون شاهداً عليه لأنّ الوجه في استثناء الأدهان
كون فائدة الاستصباح تحت السماء فائدة محلّلة مأذوناً فيها فيجوز بيعها في تلك
الفائدة. فلو كان الأكل والشرب فيها وفي غيرها من أنواع المتنجّسات محلّلين أيضاً
كفائدة الاستصباح في الأدهان لجاز البيع فيهما أيضاً بلا خلاف. ولعلّ عدم تعرّضهم
لاستثناء سائر المائعات المتنجّسة الّتي منها المضاف لندرة فوائدها المباحة وعدم
الاعتداد بشأنها في العرف والعادة. فما نقله الشهيد من نصّ الأصحاب بعدم الفرق إن
أراد به إجماعهم عليه فغير مسلّم ، وإن أراد به نصّ بعضهم أو جماعة منهم فغير ضائر
فيما ذكرنا.
تذنيبان :
أحدهما : يظهر ممّا بيّنّاه حكم الماء
المتنجّس من بقاء ملكيّته السابقة وعدم انسلاخها بعروض النجاسة وجواز استعماله في الجهات الغير المتوقّفة على الطهارة
من سقي الدوابّ والأشجار وعجن الحناء والأصباغ وما أشبه ذلك وجواز التكسّب به
مطلقاً ، كلّ ذلك للأصل واستصحاب الحالة السابقة والعمومات في الأخير ، بل هذا
أولى بالجواز لقبوله التطهير مع بقائه على صفة المائيّة بواسطة إلقاء الكرّ وغيره
من مطهّرات الماء المتنجّس ، ولا أعرف خلافاً في شيء ممّا ذكر.
وثانيهما : أنّ من الأشياء ما يكون
جامداً بالطبع ويعتريه الميعان كالذهب والفضّة والصفر والرصاص والشمع والقير وما أشبه ذلك ، وهي إذا
تنجّست حال ميعانها ثمّ جمدت أو حال جمودها ثمّ ماعت ثمّ جمدت مثل المائع بالطبع
إذا تنجّس كالمضاف في الأحكام المذكورة حتّى البيع والتكسّب بل هي أولى بالجواز
لقبول ظاهرها التطهير ، ونحوها الصابون المتّخذ من المتنجّس إذا يبست ، بل هو أولى
بالجواز من الأشياء المذكورة لقبول ظاهره وباطنه التطهير بعد التجفيف بوضعه في
الكثير حتّى يرسب فيه الماء ويصل إلى أعماقه. ومنه يعلم الحال في العجين المتنجّس
إذا جفّف أو خبّز وجفّف لقبوله التطهير بعد الجفاف بالطريق المذكور. وقد يدّعي
السيرة في بيع
الأشياء المذكورة واستعمالها في الانتفاعات الغير المتوقّفة على الطهارة ،
والأصل في الجواز في الجميع الأصل بمعنى استصحاب الحالة السابقة وعموم «خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً» وعمومات
العقود مع عدم المخرج عنها من الأدلّة المانعة من التكسّب والاستعمال.
المقصد الثالث : في الأدهان المتنجّسة
من السمن والشحم والزيت والبذر والشيرج وما أشبه ذلك.
والكلام فيها أيضاً يقع في جهات :
الجهة الاولى : أنّ الأدهان المملوكة لا
يزول ملكها بعروض النجاسة استصحاباً بالحالة السابقة كما هو الحال في سائر المتنجّسات ، ولا نظنّ قائلاً
بخلاف ذلك من الأصحاب ، من غير فرق فيه بين ما قابل التطهير بالماء مع بقاء موضوعه
وغيره ولا بين ما ينتفع به بعد النجاسة نفعاً محلّلاً مقصوداً للعقلاء وغيره.
وتوهّم : الفرق
بينهما بأنّ الثاني يدخل في عنوان ما لا نفع فيه مقصود للعقلاء وكما أنّ ذلك لا يعدّ
مالاً فكذلك هذا ، يدفعه : الخلط بين المال والملك ، ولا ملازمة بين انتفاء
الماليّة وانتفاء الملكيّة ، فإنّ المال ما يكون له قيمة في العرف والعادة ويبذل
له العوض ، بخلاف الملك. والنسبة بينهما عموم من وجه ، لافتراق المال في الحبّة من
الحنطة ، وافتراق الملك في المال الموصى به بعد موت الموصي وقبل قبول الموصى له ،
وكذلك تركة المديون مع استيعاب الدين على القول بأنّه لا يملكها الورثة ،
فالمتنجّس في الصورة المفروضة ملك وإن لم يكن مالاً.
الجهة الثانية : في جواز الانتفاع بها
في غير مشروط بالطهارة بأن يعمل صابوناً أو يطلي به الأجرب أو السفن وما أشبه ذلك وعدمه. وينبغي
هنا تأسيس أصل كلّي يعمّ فائدته لغير المقام من أنواع المتنجّس ممّا قدّمنا ذكره
وغيره ، وهو أنّه هل الأصل في المتنجّس كائناً ما كان جواز الانتفاع إلّا ما خرج
بالدليل كالأكل والشرب وغيرهما من الاستعمالات المشروطة بالطهارة ، أو أنّ الأصل
عدم جواز الانتفاع أو الاستعمال إلّا
__________________
ما ثبت جوازه بالدليل كالاستصباح بالدهن تحت السماء؟ قولان.
نسب ثانيهما
إلى جماعة من القدماء كالشيخين في المقنعة والمبسوط والنهاية والخلاف والسيّدين في الانتصار والغنية والحلّي في
السرائر ونسب اختياره من الأواخر إلى مفتاح الكرامة ويظهر اختياره
من شيخنا في الجواهر .
وربّما توهّم
من عبارة الانتصار والخلاف والغنية دعوى الإجماع عليه ، ففي الأوّل «وممّا انفردت
به الإماميّة أنّ كلّ طعام عالجه أهل الكتاب ومن ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز
أكله ولا الانتفاع به ، واختلف باقي الفقهاء في ذلك وقد دللنا على ذلك في كتاب
الطهارة حيث دللنا على أنّ سؤر الكفّار نجس» . وعن الثاني «في حكم السمن والبذر والشيرج والزيت إذا
وقعت فيه فارة أنّه جاز الاستصباح به ولا يجوز أكله ولا الانتفاع به بغير
الاستصباح ولا غيره بل يراق كالخمر ، وقال أبو حنيفة : يستصبح به ويباع لذلك ، وقال ابن داود : إن كان المائع
سمناً لم ينتفع به ، وإن كان غيره من الأدهان لم ينجّس بموت الفارة فيه ويحلّ أكله
وشربه ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» . وفي الثالث عبارته المتقدّمة في مبحث المضاف المتنجّس .
والقول الثاني منسوب إلى
أكثر المتأخّرين واختاره بعض مشايخنا قدسسره ونعني من الأصل ما يتردّد بين الاصول العمليّة والقاعدة
المستنبطة عن الأدلّة. والأقوى هو القول الثاني ١٦ استصحاباً للحالة السابقة
ولأصالة الحلّ والجواز ، وقاعدة عموم الانتفاع بما خلق في الأرض ، ولا وارد على
الأوّلين كما لا حاكم على القاعدة من
__________________
الأدلّة ، إذ ليس لأصحاب القول الأوّل إلّا عدّة من الآيات وجملة من الروايات العامّة وغيرها
مع ضميمة الإجماعات المنقولة ، وكلّها مدخولة.
أمّا الآيات
فمنها قوله عزّ من قائل : «إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
فَاجْتَنِبُوهُ» فإنّ تفريع
الأمر باجتناب الامور المذكورة على الرجس يدلّ على وجوب اجتناب كلّ رجس ،
والمتنجّس رجس فيجب اجتنابه.
وفيه : منع
الدلالة ، فإنّ الرجس لغة وإن كان هو القذر ولكن اطلق على الحرام وعلى الفعل
القبيح أيضاً ، كما نصّ عليه الطبرسي في مجمع البيان وقد تقدّم نقل
عبارته في مفتتح باب حرمة التكسّب بالأعيان النجسة. ومن الجائز أن يكون المراد منه
هنا الحرام أو الفعل القبيح بل هو المتعيّن بقرينة عطف الميسر وما بعده ، لعدم
تعقّل القذر بمعنى النجس الشرعي فيها. وعلى تقدير كون المراد من الرجس القذر
المعنوي فهو بقرينة العطف المذكور لا يتمّ بالنسبة إلى الميسر وما بعده ، إلّا إذا
اريد به ما ينطبق على الحرام أو الفعل القبيح.
وحاصل معنى
الآية حينئذٍ أنّ شرب الخمر واللعب بالميسر وعمل الأنصاب والأزلام حرام أو قبيح من
عمل الشيطان فيجب اجتنابه ، ومعنى كونه من عمل الشيطان أنّه يحصل من إغوائه
وتسويله. والمحرّم والقبيح من المتنجّسات إنّما هو الأكل أو الشرب ووجوب اجتنابهما
مسلّم ولا كلام فيه ، وأمّا سائر الاستعمالات فوجوب اجتنابهما أيضاً فرع على كونها
محرّمة أو قبيحة وهو أوّل المسألة ، ولا بدّ أن يثبت بدليل من الخارج ولا يمكن
إثباته بالآية كما هو واضح.
وقد يجاب أيضاً
: بأنّ الرجس ظاهر فيما يكون رجساً في ذاته فيختصّ بالأعيان النجسة ، وهي النجاسات
العشرة فلا يندرج فيه لكون نجاستها عرضيّة هذا ، مضافاً إلى أنّه لو عمّم الرجس
بالقياس إلى المتنجّس أيضاً لزم تخصيص الأكثر ، ضرورة أنّ أكثر المتنجّسات لا يجب
اجتنابها في غير مشروط بالطهارة ، فلئلّا يلزم ذلك وجب تقييد
__________________
الرجس بما هو كذلك في ذاته ، أو تخصيص الأمر بالاجتناب بالاستعمالات
المشروطة بالطهارة كالأكل والشرب وغيرهما.
مع أنّ الآية
إنّما تدلّ على وجوب اجتناب ما كان رجساً من عمل الشيطان ، ومعنى كونه من عمل
الشيطان أنّه من مبتدعاته ومخترعاته كالخمر والميسر والأنصاب والأزلام ، فلا
يتناول المتنجّسات لأنّها ليست من عمل الشيطان ومخترعاته كما هو واضح. وإن اريد من
عمل الشيطان كون عمل المكلّف حاصلاً في الخارج بإغوائه ليكون المراد بالمذكورات
استعمالها على النحو الخاصّ ، فالمعنى أنّ الانتفاع بها رجس من عمل الشيطان ، كما
يقال في سائر المعاصي أنّها من عمل الشيطان لحصول الجميع بإغوائه ، فلا تدلّ الآية
على وجوب اجتناب الاستعمالات إلّا إذا ثبت حرمتها بدليل ، وهو في المتنجّس أوّل
الكلام.
ومنها : قوله
تعالى : «وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» فإنّ الرجز هو
القذر ، وإن اطلق على معانٍ اخر في الكتاب العزيز مثل عبادة الأوثان والشرك
والعذاب ، والقذر هو النجس أو أعمّ منه ومن القذر المعنوي ، فيعمّ المتنجّس فيجب
هجرانه.
وفيه : أنّه
ظاهر فيما يكون رجزاً في نفسه فلا يتناول ما يعرضه الرجزيّة ، مع أنّه لو عمّم
بالقياس إلى المتنجّس بجميع أنواعه وأفراده لزم تخصيص الأكثر حسبما بيّنّاه في
أجوبة الآية السابقة ، فوجب تقييده بما يكون كذلك في ذاته أو تخصيص الأمر بالهجران
بخصوص الأكل والشرب وغيرهما من الاستعمالات المشروطة بالطهارة ، مع احتمال أن يراد
هجرانه في خصوص الصلاة إن اريد به النجس الشرعي بقرينة أنّ تطهير الثياب معتبر
للصلاة.
ومنها : قوله
تعالى : «وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ» بناءً على أنّ
كلّ متنجّس خبيث فيفيد تحريم مطلق الاستعمال.
وفيه : أوّلاً
منع كلّيّة المقدّمة الاولى كما هو واضح ، ثانياً منع المقدّميّة ، بل الظاهر أنّ
المراد هنا حرمة الأكل خاصّة بقرينة مقابلته لحلّيّة الطيّبات الّتي اريد منها
خصوص الأكل.
__________________
وأمّا الروايات
فعامّها خبر تحف العقول حيث قال : «أو شيء من وجوه» وبعقيبه بقوله : «فجميع
تقلّبه في ذلك حرام» وهذا عامّ في جميع الاستعمالات ، وقد ظهر ضعفه مراراً فإنّ
الدهن المتنجّس وغيره ليس عنواناً للنجاسة بحيث يكون النجاسة تابعة للذات وهو
الظاهر من قوله : «أو شيء من وجوه النجس» والملاقي للنجس وإن كان عنواناً عامّاً
والنجاسة فيه لكونها عرضيّة ليست تابعة للذات. وخاصّها الأخبار الجزئيّة الواردة
في الموارد الخاصّة الآمرة جملة منها بإهراق المرق المتنجّس ونحوه ، وجملة منها
بإلقاء النجاسة وما حولها وما تحتها وأكل الباقي من الدهن المتنجّس إذا كان جامداً
، وقد أوردنا نبذة من هذه الروايات في أبواب النجاسات من كتاب الطهارة.
والجواب عن
الجميع : أنّ الأمر بالإهراق أو الإلقاء كناية عن عدم صلاحية المتنجّس للأكل ،
وانتفاء فائدة الأكل فيه الّتي هي الفائدة المقصودة من المرق والسمن بقرينة مقابلة
الأمر بأكل اللحم المطبوخ بعد غسله وأكل الباقي من السمن ، وهذه الكناية في نظائر
المقام شائعة في استعمالات العرف. وممّا يشهد بذلك أنّ استعمال الدهن المتنجّس في
الإسراج جائز بالنصّ والإجماع ، خصوصاً نفس الأخبار الآمرة بالإلقاء في الجامد
المتضمّنة للأمر بالإسراج أو الاستصباح في الذائب. ولا يعقل كون الفرق بينهما
بالجمود والذوبان مؤثّراً في الحكم ، مضافاً إلى الإجماع على عدم الفرق وإطلاق
النصوص الاخر الآمرة بالاستصباح تحت السماء أو مطلقاً على ما ستعرفها.
وأمّا
الإجماعات فيرد عليها : أنّ إجماع الانتصار ليس منقولاً على حرمة الانتفاع بقول
مطلق ، وذلك لأنّ عبارة الانتصار في دعوى إجماع الإماميّة مسوقة لبيان ما هو محلّ
الوفاق عند الإماميّة ومحلّ الخلاف بين العامّة ، وهو بدليل قوله حيث استدللنا على
أنّ سؤر الكفّار نجس نجاسة ما باشره أهل الكتاب وعدمها واختلاف باقي الفقهاء يعني
فقهاء العامّة إنّما هو في ذلك باعتبار الاختلاف في نجاسة أهل الكتاب ، فيكون محلّ
الوفاق عند الإماميّة هو النجاسة لا غير ، وهي الّتي استدلّ عليها في كتاب الطهارة
، وادّعى عليها ثمّة إجماع الشيعة حيث قال : «وممّا انفردت به الإماميّة القول
بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني وكلّ كافر ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ... إلى أن
قال : فالإماميّة منفردة بهذا المذهب ، ويدلّ على صحّة ذلك ـ مضافاً إلى
إجماع الشيعة ـ قوله تعالى : «إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» إلى آخر ما
ذكره» ولا ريب أنّ دعوى الإجماع على النجاسة لا تستلزم دعوى الإجماع على الأحكام
المتفرّعة عليها.
وإجماع الخلاف أيضاً بهذه
المثابة ، فإنّ العبارة المتقدّمة منه مسوقة لبيان محلّ الوفاق والخلاف بين
الخاصّة والعامّة ، وحيث نقل عن ابن داود قولاً بعدم نجاسة ما عدا السمن من
الأدهان بموت الفارة فيه ، دلّ ذلك على أنّ المسألة المختلف فيها بين الخاصّة
والعامّة هو نجاسة كلّ دهن بموت الفارة أو وقوع مطلق النجاسة فيه وعدمها ، وقد
أفتى الشيخ بالنجاسة مطلقاً ببيان الأحكام المتفرّعة عليها ، وحكي الموافقة له في
أصل النجاسة عن أبي حنيفة والمخالفة فيها عن ابن داود ، وقوله : «دليلنا إجماع
الفرقة» دعوى للإجماع على النجاسة مطلقاً لا على الأحكام المتفرّعة عليها الّتي
منها منع الانتفاع بالمتنجّس مطلقاً كما هو.
وإجماع الغنية
: كما بيّنّاه سابقاً إجماع على الاستثناء من جواز بيع الكلب المعلّم وبيع الزيت
المتنجّس للصيد والاستصباح تحت السماء لا على حكم المستثنى منه. ولو سلّم فحكم
المستثنى منه إنّما هو عدم جواز بيع النجس لا حرمة سائر الاستعمالات والانتفاعات.
وبالجملة
العبارات المتقدّمة المتضمّنة لدعوى الإجماع ليس بظاهرة في دعواه على حرمة مطلق
الانتفاع بالمتنجّس إلّا ما ثبت جوازه بالدليل ، وإن قلنا بأنّ مختار صاحب العبارة
هو ذلك. ولو سلّم ظهور العبارات أيضاً في دعواه على ذلك فهي موهونة بمصير أكثر
المتأخّرين بالخلاف خصوصاً أساطينهم كالمحقّق في المعتبر والعلّامة في
بعض كتبه والشهيدين في القواعد والذكرى والمسالك والمحقّق الثاني في حاشية الإرشاد وكاشف اللثام وغيره ، فإنّ
كلماتهم بين صريحة وظاهرة
__________________
في اختيار جواز الاستعمال في الانتفاعات الغير المشروطة بالطهارة.
وربّما يحتمل
في إطلاقات القدماء بالمنع إرجاعها إلى الاستعمالات المشروطة بها أيضاً من الأكل
والشرب وإطعام الغير والبيع في الأكل والشرب ، ولو لم يمكن إرجاعها إليها لكفى في
وهن مختارهم مخالفة أكثر المتأخّرين ، مع عدم مساعدة دليل واضح عليه يكون وارداً
على الاصول حاكماً على القاعدة ، فعليها المعوّل حتّى يثبت الصارف عنها.
الجهة الثالثة : في بيع الأدهان
المتنجّسة ، وقد اختلف فيه
الأصحاب إطلاقاً وتقييداً تعميماً وتخصيصاً بعد اتّفاقهم على الجواز في الجملة ،
وأقوالهم في محلّ الخلاف محصّلة ومنقولة أربعة :
الأوّل : جواز بيع الدهن المتنجّس
مطلقاً لفائدة الاستصباح تحت السماء ، وهو المشهور على ما في كلام جماعة من دعوى الشهرة فيه ، وقد ينسب إلى محكيّ
الخلاف والغنية وإيضاح النافع دعوى الإجماع عليه. ولم نقف على عبارة
الخلاف وإيضاح النافع لننظر في مفادها ، ولكن نسبة دعواه في مطلق الدهن إلى الغنية
وهم ، لأنّ معقد إجماع الغنية على ما سمعت من صريح عبارته المتقدّمة هو بيع الزيت
النجس خاصّة.
الثاني : جواز بيعه لفائدة الاستصباح
مطلقاً ولو تحت الأظلّة والسقوف ، وهو على ما حكي للشيخ والعلّامة في المبسوط والمختلف . وحكي عن موضع
من الخلاف أيضاً ، واختاره الشهيد الثاني في المسالك وعزي إلى
الأردبيلي والخراساني وعن فخر المحقّقين في الإيضاح أنّه قوّاه ،
وفي الرياض عليه كثير من المتأخّرين.
الثالث : تخصيص الجواز بالزيت النجس
لفائدة الاستصباح تحت السماء كما نسب إلى ظاهر كلام الشيخ وهو خيرة الغنية على ما هو ظاهر عبارته المتقدّمة.
الرابع : جوازه في مطلق الدهن لمطلق
الفوائد المحلّلة ممّا عدا الاستصباح من
__________________
تدهين الأجرب وطلي السفن وغيره ، كما يظهر اختياره من كاشف اللثام وعزي إلى
جماعة منهم الشهيد والمحقّق الثانيين وقبلهما الشهيد الأوّل في بعض
الحواشي المنسوبة إليه على ما ستعرفه إن شاء الله تعالى ، وهو لازم خيرة أكثر
المتأخّرين في الجهة المتقدّمة من جواز استعمال المتنجّس في الانتفاعات المباحة ،
إلّا أن يدفع بمنع الملازمة بين جلّ الفوائد المباحة وحلّ البيع في تلك المنافع.
ومستند الحكم
في المسألة ـ بعد الإجماعات المنقولة ـ النصوص المستفيضة مثل صحيح معاوية بن وهب
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قلت : جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل ، فقال :
أمّا السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله والزيت يستصبح به. [وأمّا الزيت فيستصبح
به خ ل] قال في بيع ذلك الزيت : تبيعه وتبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» .
وصحيح زرارة عن
أبي جعفر عليهالسلام «قال : إذا وقعت الفارة في السمن فماتت فيه فإن كان جامداً فألقها وما
يليها وكل ما بقي ، وإن كان ذائباً فلا تأكله ، واستصبح به والزيت مثل ذلك» .
وموثّق معاوية
بن وهب وغيره عن أبي عبد الله عليهالسلام «في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال : بعه وتبيّنه لمن اشتراه
ليستصبح به» .
والقويّ القريب
من الموثّق بالحسن بن رباط عن أبي بصير «قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الفارة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه؟ فقال :
إن كان جامداً فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي ، وإن كان ذائباً فاسرج به وأعلمهم
إذا بعته» .
وخبر إسماعيل
بن عبد الخالق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سأله سعيد الأعرج
__________________
السمّان وأنا حاضر عن الزيت والسمن والعسل تقع فيه الفارة فتموت كيف يصنع
به؟ قال : أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج ، وأمّا الأكل فلا
، وأمّا السمن فإن كان ذائباً فهو كذلك ، وإن كان جامداً والفارة في أعلاه فيؤخذ
ما تحتها وما حولها ثمّ لا بأس به ، والعسل كذلك إن كان جامداً» .
وحيث إنّ هذه
الروايات تضمّن أكثرها السمن مع الزيت ظهر بذلك ضعف القول باختصاص الجواز بالزيت ،
ولا ينافيه إجماع الغنية ، لأنّه لا ينفي الجواز عن غير الزيت إلّا على القول
بمفهوم اللقب وهو باطل. وأمّا تعميم الحكم بالقياس إلى سائر الأدهان مع أنّ نصوص
الباب مقصورة على السمن والزيت فلعلّ وجهه الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.
وحيث إنّ
النصوص الآمرة بالاستصباح أو البيع له مطلقة وليس فيها لتقييد الاستصباح بكونه تحت
السماء أثر ، فقضيّة إطلاقها إطلاق الجواز حتّى تحت الظلال ، وهو الأصحّ وفاقاً
لمن تقدّم من الجماعة وكثير من المتأخّرين ، مضافاً إلى أصالة الجواز واستصحاب
الحالة السابقة والقاعدة المستنبطة من عمومات الصحّة ، خصوصاً مع ملاحظة أنّ
الاستصباح تحت الظلال على ما تقدّم تحقيقه منفعة مقصودة للعقلاء دلّ الدليل على إباحتها
، فمطلق الاستصباح منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء فيجوز البيع فيها للأصل والعموم.
وأمّا التقييد
بكونه تحت السماء وإن كان مشهوراً على ما صرّح به في المسالك والرياض بل عن الحلّي
نفي الخلاف عن محظوريّة الاستصباح تحت الظلال قائلاً : «إنّ الاستصباح به تحت
الظلال محظور بغير خلاف» غير أنّ الشهرة ونفي الخلاف لا ينهضان للصرف عن الاصول
ولا تخصيص العموم ولا تقييد النصوص المطلقة ، لكون نفي الخلاف موهوناً بمخالفة
الجماعة وكثير من المتأخّرين. واحتمال ابتناء الشهرة على الأخذ بالقدر المقطوع به
من النصّ والإجماع بتوهّم نحو إجمال فيهما أو
__________________
استنادها إلى مقدّمتين فاسدتين من نجاسة دخان الدهن المتنجّس وحرمة تنجيس
السقف وهي مع هذين الاحتمالين ـ مضافاً إلى مخالفة الجماعة من الأساطين ـ لا تكشف
ولو ظنّاً عن وجود مدرك معتبر لها لو ظفرنا به لعملنا به. وليس في النصوص المعتبرة
فيما علمنا كما صرّح به جماعة من المهرة المتتبّعين أيضاً ما يشهد لهم في التقييد
المذكور.
نعم في مبسوط
الشيخ بعد ما اختار جواز الاستصباح بقول مطلق ونسبه إلى جماعة «أنّه رووا أصحابنا
أنّه يستصبح به تحت السماء دون السقف ، ثمّ قال : وهذا يدلّ على أنّ دخانه نجس ثمّ
صرّح بأنّه عندي يعني الاستصباح تحت السقف مكروه ، وبعدم نجاسة دخان المتنجّس ونجس
العين» وزعم جماعة أنّ هذا رواية مرسلة منجبر ضعفها من جهة
الإرسال بالشهرة.
وفي الجميع نظر
، أمّا ما أرسله الشيخ ، فلقوّة احتمال كون مراده من رواية الأصحاب فتواهم لا
الرواية المصطلحة ، ولو لزعم كون مستند الفتوى الرواية المصطلحة بشهادة كون كتب
الحديث والاستدلال خلوّاً عن ذكر نحو هذه الرواية. ولو سلّم كونها رواية مصطلحة لا
جابر لها ، وشهرة الفتوى ما لم تكن استناديّة لا تصلح جابرة ، واستنادها إلى تلك
الرواية بعد قيام أحد الاحتمالين المتقدّمين غير واضح ، مع أنّه لو كان فيها أمارة
اعتبار كان الشيخ المرسل لها أولى بالاعتماد عليها ، بل مصيره إلى خلاف مقتضاها
ربّما يوجب ضعفاً آخر فيها ، أو يكشف عن خلوّها عن أمارة الاعتماد.
وهل يقتصر في
محلّ الرخصة على فائدة الاستصباح خاصّة أو لا ، بل يجوز البيع لسائر الفوائد
المحلّلة ممّا تقدّم إليها الإشارة؟ قولان ، أوّلهما المشهور ، وثانيهما الأقوى
وفاقاً لشيخنا في متاجره تبعاً لكاشف اللثام والشهيد
والمحقّق الثانيين في المسالك وحاشية الإرشاد وقبلهما الشهيد الأوّل على ما هو صريح عبارته المنسوبة
إليه في حواشيه ، قال المحقّق في حاشية الإرشاد عند شرح عبارة مصنّفه
__________________
لفائدة الاستصباح به تحت السماء : «في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا
الشهيد ما حاصله : أنّ الفائدة لا تنحصر في ذلك ، إذ مع فرض فائدة اخرى للدهن لا
تتوقّف على طهارته يمكن بيعه لها كاتّخاذ الصابون منه ، قال : وهو مرويّ ومثله طلي
الدابّة.
أقول : لا بأس
بالمصير إلى ما نبّه عليه سيّما وقد ذكر أنّ به رواية» انتهى. قال
شيخنا قدسسره : الرواية إشارة إلى ما عن الراوندي في كتاب النوادر
بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام وفيه «سئل عليهالسلام عن الشحم يقع فيه شيء له دم فيموت ، قال : تبيعه لمن
يعمله صابوناً ...» الخبر.
أقول : لنا ـ بعد
أصالة الجواز واستصحاب الحالة السابقة جوازاً وصحّة ـ عمومات العقود ، مضافاً إلى
ما في رواية دعائم الإسلام المتقدّمة من قوله عليهالسلام «ويباح لهم الانتفاع» وإلى قوله عليهالسلام : في رواية تحف العقول : «وكلّ شيء يكون لهم فيه
الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه وشراؤه» ويعضدها رواية الراوندي
المتقدّمة على ما أشار إليه الشهيد رحمهالله. ولم نقف للقول بالمنع على دليل عموماً ولا خصوصاً ،
والإجماع الّذي ادّعاه العلّامة في التذكرة في مسألة اشتراط الطهارة الأصليّة في المعقود عليه
إنّما ادّعاه على عدم صحّة بيع نجس العين كالخمر والميتة والخنزير ، فلا يتناول
المقام كما نبّهنا عليه سابقاً ، وليس في سائر أدلّة حرمة التكسّب بالأعيان النجسة
أيضاً ما يتناول المقام.
فروع :
الأوّل : على القول بالاقتصار في فائدة
الاستصباح على ما تحت السماء فهل هذا الحكم تعبّد محض ، أو لنجاسة الدخان المتصاعد
من هذا الدهن وتنجيسه السقف؟ قولان ، قيل بالأوّل ولعلّه المشهور ، وقيل بالثاني. ولوضوح ضعف هذا القول
بظاهره ومخالفته المشهور بل الإجماع الظاهر على عدم نجاسة الدخان عدل عنه العلّامة
__________________
ووجّهه بأنّه يتصاعد من الدهن بسبب شدّة السخونة الحاصلة من النار مع
الدخان أجزاء صغار لطيفة غير مستحيلة وتتّصل بالسقف وتنجّسه. وحكي عنه أنّه في
موضع آخر فصّل بين العلم بتصاعد تلك الأجزاء فمنع من الاستصباح تحت السماء وعدم
العلم به فجوّزه.
والأصحّ أنّ
الحكم على تقدير صحّته تعبّد محض ، والقول الآخر في غاية الضعف لمنع صغراه وكبراه
معاً فإنّ دخان النجس والمتنجّس كبخارهما على ما حقّق في محلّه ليس بنجس للأصل ،
بعد ملاحظة أنّ الأحكام تدور مدار الأسماء ، ودخان شيء من الأعيان النجسة كبخاره
لا يسمّى باسم ذلك النجس وهذا واضح.
ودعوى : تصاعد
الأجزاء اللطيفة الغير المستحيلة ، غير مسموعة حيث لم يقم عليها برهان ، ومجرّد
الاحتمال غير كافٍ. ولو سلّم فاتّصالها بالسقف غير مطّرد ، لأنّه لا يتمّ في
السقوف العالية المرتفعة. ولو سلّم فحرمة تنجيس السقف محلّ منع ، إذ لا دليل على
منع المالك عن تنجيس ملكه ، والأصل يقتضي عدمه.
الثاني : هل يشترط في صحّة بيع الدهن
المتنجّس أن يشرط البائع على المشتري فائدة الاستصباح بأن يقول : بعتك هذا الدهن بشرط أن تستصبح به ، أو يشترط
قصدهما في العقد هذه الفائدة ، أو لا يشترط شيء منهما؟ وجوه ، بل أقوال ، عزي
أوّلها إلى ظاهر الحلّي حيث إنّه ـ بعد ما ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجّسة
ـ قال : «ويجوز بيعه بهذا الشرط عندنا» .
وثانيها إلى
ظاهر الشيخ في الخلاف والمبسوط حيث قال في الأوّل : «جاز بيعه لمن يستصبح به تحت
السماء ، ودليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» ونحوه مجرّداً عن دعوى الإجماع عبارة الثاني إلّا أنّه
زاد قوله : «لا يجوز بيعه إلّا لذلك» وظاهره كما قيل كفاية القصد ، وهذا ظاهر غيره أيضاً
ممّن عبّر بقوله «جاز بيعه للاستصباح» وما يقرب منه كالمحقّق والعلّامة في الشرائع
والنافع والقواعد وغيرهما في
__________________
غيرها. وربّما احتمل في هذه العبارات رجوع التعليل إلى الجواز لا إلى البيع
، ومفاده حينئذٍ يجوز لأجل تحقّق فائدة الاستصباح في هذه الأدهان بيعها.
وبالجملة فائدة
الاستصباح علّة مجوّزة لبيع الأدهان المتنجّسة ، لا أنّها غاية مقصودة من بيعها.
ويمكن منع ظهور اشتراط القصد من العبارة على تقدير كونها غاية للبيع ، فإنّ كون شيء
غاية مقصودة من فعل بنوعه لا يقضي باشتراط قصده حال مباشرة ذلك الفعل.
وثالثها إلى
صريح جماعة وهو الموافق للأصل والقاعدة ، فإنّ الأصل في كلّما يشكّ
في كونه شرطاً في عبادة أو معاملة عدم الشرطيّة ، وقد حقّقنا سابقاً في مسألة بيع
ما لو اشتمل على منفعتين محلّلة ومحرّمة ، أنّ قصد المنفعة المحرّمة مانع من صحّة
البيع ، لا أنّ قصد المنفعة المحلّلة شرط في الصحّة. وهذه القاعدة فيما نحن فيه
تساعد على عدم اشتراط الصحّة بقصدهما ، ومدركها عمومات صحّة البيع أجناساً
وأنواعاً ، فإنّها يقتضي الصحّة في جميع الصور من قصد المنفعة المحرّمة وقصد
المنفعة المحلّلة وعدم قصد شيء منهما ، إلّا انّه خرج منها الصورة الاولى وبقى
الباقي ومنه الصورة الثالثة.
وينبغي الرجوع
إلى الأخبار المتقدّمة لينظر أنّه هل يستفاد منها ما يوجب الخروج عن الأصل
والقاعدة أولا؟ وقد عرفت أنّ في خبر منها قوله عليهالسلام : «تبيعه وتبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» وفي آخر «بعه
وبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» وفي ثالث «وأعلمهم إذا بعته» وفي رابع «لا تبعه
إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج».
والأوّلان لا
يدلّان إلّا على وجوب إعلام النجاسة وعلى كون فائدة الاستصباح غاية مقصودة من
الإعلام ، وإطلاق الأمر بالإعلام يتناول ما لو كان الإعلام قبل البيع أو بعده أو
حينه ، فلا دلالة فيهما على اعتبار اشتراط الاستصباح في ضمن العقد ولا قصدهما
إيّاه.
والثالث لا
يدلّ إلّا على وجوب الإعلام وقت صدور البيع ، وهذا أيضاً بإطلاقه يتناول أثناء
البيع وما بعده بل ما قبله أيضاً في تقدير ، ولا دلالة فيه على اعتبار فائدة
الاستصباح فضلاً عن جعلها شرطاً في ضمن العقد صريحاً أو قصدهما لها حينه.
__________________
وأمّا الرابع
فهو وإن كان في بادئ النظر يوهم اشتراط القصد لمكان قوله : «فيبتاع للسراج» إلّا أنّ دقيق
النظر يساعد على خلافه ، لأنّه يفيد كون الابتياع للسراج متفرّعاً على التبيين
والإعلام فيكون غاية مقصودة من الإعلام ، ولا يلزم من ذلك شرط الإسراج ولا قصده في
ضمن العقد ، مع قوّة احتمال كون مدخول اللام علّة للجواز المستفاد من جملة «يبتاع»
يعني فيجوز له لأجل السراج أن يبتاعه ، مع أنّ الكلام في اعتبار قصد البائع
والمشتري معاً لا قصد المشتري ، مع أنّ كونه غاية للابتياع يفيد كونه الباعث عليه
الداعي إليه ، ولا يفيد اعتبار حصول القصد منه حال وقوع الابتياع كما هو واضح.
لا يقال : إنّ
ما تقدّم من الخلاف من إجماع الفرقة يدلّ على اعتبار القصد ، لأنّه ظاهر في دعوى
الإجماع على أصل جواز البيع لا على اشتراط قصد الاستصباح ، هذا مع ما عرفت من احتمال
بل ظهور رجوع العلّة إلى الجواز فيكون علّة مجوّزة للبيع من دون دلالة فيه على كون
قصده شرطاً في صحّته.
الثالث : هل يجب على البائع إعلام
المشتري لنجاسة الدهن إن كان جاهلاً أو لا؟ وعلى الأوّل فهل هو واجب نفسي من باب وجوب إرشاد الجاهل
وتنبيه الغافل ولو في موضوع الحكم الشرعي ، أو واجب شرطي على معنى كون الإعلام
نفسه شرطاً لجواز البيع وإباحته كما يقال يجب الوضوء لمسّ كتابة القرآن ، أو على
معنى كونه مقدّمة لإحراز علم المشتري وهو شرط لصحّة البيع ، أو مقدّمة لإحراز شرط
البائع على المشتري فائدة الاستصباح ، أو مقدّمة لإحراز قصدهما لتلك الفائدة وهو
شرط؟ وجوه واحتمالات :
أوجهها وأجودها
الوجوب النفسي وفاقاً لجماعة منهم المحقّق الأردبيلي مدّعياً لظهور
اتّفاق الفقهاء على الوجوب النفسي فيصحّ البيع بدون الإعلام ، غاية الأمر أن يثبت
للمشتري خيار بعد علمه بالنجاسة لكتمان النجاسة الّتي هي عيب في المبيع على ما هو
القاعدة المقرّرة في كتمان العيب. وقد يقال بكون الإعلام نفسه شرطاً في جواز البيع
تكليفاً ووضعاً.
__________________
لنا ـ بعد
الأصل النافي لاحتمال شرطيّة الامور المذكورة ولا سيّما الأخيرين على ما تقدّم
الكلام في نفي اشتراط الصحّة بهما ، وأصالة النفسيّة في الأمر كقوله عليهالسلام : «أو أعلمهم إذا بعته» فإنّ الأمر كما أنّه ظاهر في
الوجوب كذلك ظاهر في كونه نفسيّاً ، وإن اختلف الظهوران في كون الأوّل وضعيّاً
والثاني إطلاقيّاً لرجوع الاشتراط إلى تقييد الموضوع قضاءً ـ نفس الأخبار الواردة
في الباب الآمرة بالإعلام ، فإنّ التعليل بقوله عليهالسلام : «ليستصبح به» في خبرين منها يقضي بأنّ الغرض من إعلام
نجاسة الدهن أن يستعمله المشتري في الاستصباح لا في الأكل وغيره من مشروط بالطهارة
لئلّا يقع في الحرام الواقعي ، وهذا يأبى كون الغرض منه إحراز صحّة البيع أو إحراز
شرط صحّته ، وكذلك قوله عليهالسلام : «فيبتاع للسراج» فإنّه أيضاً يقضي بأنّ الغرض من
التبيين استعماله في السراج لا في غيره من الأكل ونحوه ، ويأبى ذلك أيضاً الوجوب
الشرطي بجميع محتملاته ، وقضيّة إطلاق الأمر عدم الفرق بين الإعلام قبل البيع أو
بعده أو حينه أي في ضمن العقد ، والمفروض أنّ الغرض حاصل في الجميع. وما بيّنّاه
من الاستدلال أولى ممّا حكي من موافقينا من التمسّك بالعمومات جنسيّة ونوعيّة من
قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» ونحو ذلك المعتضدة بالشهرة ، مضافاً إلى دعوى ظهور
اتّفاق الفقهاء على ذلك في كلام الأردبيلي ، ويؤيّد الجميع أنّ كتمان العيب ممّا
يوجب خياراً للمشتري لا فساد البيع رأساً.
ثمّ إنّ هاهنا مسائل تتعلّق بالإعلام :
الاولى : إذا كان المشتري عالماً بنجاسة
الدهن من غير جهة إعلام البائع ، فالظاهر سقوط وجوبه ، لأنّ الغرض وهو علم المشتري ليستعمله في السراج حاصل
بدون الإعلام فيلغو.
الثانية : أنّ الدهن في جملة من أنواعه
لا يتأتّى منه بحسب متعارف الناس إلّا فائدة الاستصباح ولا يستعمل في الأكل عادةً ففي وجوب الإعلام في بيعه
وجهان : من إطلاق الأمر ، ومن أنّ الغرض المستفاد من التعليل حاصل بدون علم
المشتري بالنجاسة. وهذا أوجه ، فوجوبه لأجل هذا الغرض ساقط ، وأمّا التوقّي عن
نجاسته
تحفّظاً على الثوب والبدن والأواني وغيرها فوجوب الإعلام لأجله مبنيّ على
وجوب إعلام كلّ إنسان لنجاسة ما في يده إذا كان جاهلاً ، وسيأتي الكلام في تحقيقه.
الثالثة : إذا علم البائع من حال
المشتري أنّه يشتري الدهن المتنجّس لغرض الإسراج لا غير ففي سقوط وجوب الإعلام وعدمه الوجهان السابقان ، والأوجه
هو السقوط لحصول الغرض بدونه ، ولا يبعد التفصيل بين ما لو علم البائع بأنّ
المشتري لا يبدو له فيما بعد إرادة الاستعمال في الأكل فلا يجب الإعلام ، وما لو
علم أنّه يبدو له ذلك فيما بعد أو شكّ فيه والعدم فيجب لإطلاق الأمر وعموم
التعليل. وهذا أجود.
الرابعة : لو باع الدهن المتنجّس لمن
يعلم من حاله أنّ قوله في الإخبار بالنجاسة لا يؤثّر ، كما لو كان المشتري ممّن لا يجتنب عن النجاسات حتّى في
الأكل لقلّة مبالاته في الدين ، ففي سقوط وجوب الإعلام وجه ، من جهة خلوّه عن
الفائدة ، إلّا أنّ الأوجه هو الوجوب لإطلاق الأمر وعموم التعليل.
الخامسة : لو باعه والمشتري لا يشتريه
لنفسه بل لغيره كما لو كان
وكيلاً في اشتراء الدهن أو وليّاً أو فضوليّاً ، فالوجه وجوب الإعلام أيضاً عملاً
بإطلاق قوله عليهالسلام : «أعلمهم إذا بعته» مضافاً إلى عموم التعليل.
السادسة : لو باع الوكيل فالظاهر وجوب
الإعلام عليه أيضاً ، لأنّ الوكيل قائم مقام الموكّل ، فيجب عليه ما وجب على موكّله في الفعل
الموكّل فيه ، ويجري عليه الأحكام الجارية على الموكّل إلّا ما خرج بالدليل.
السابعة : لو باع الفضولي ولحقه إجازة
المالك ، ففي وجوب
الإعلام عليه أو على المالك وعدمه عليهما ، أمّا على البائع فلعدم كونه مالكاً
والأخبار الآمرة به ظاهر فيما لو كان البائع مالكاً ، وأمّا على المالك فلأنّ
الأمر متعلّق بما لو كان المالك بائعاً إلّا أن يقال : إنّ الإجازة اللاحقة من
المالك توجب كونه هو البائع في الحقيقة وإن كان العقد صادراً من الفضولي ، ولعلّ
هذا أوجه.
الباب الثاني
في الأعيان الّتي منافعها
المقصودة محرّمة
وعبّر عنها في
الشرائع وغيره «بما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثل العود والزمر ، وهياكل
العبادة المبتدعة كالصليب والصنم ، وآلات القمار كالنرد والشطرنج» انتهى.
وآلات اللهو
والقمار عبارة عن الآلات الّتي بها يستعان على فعل اللهو أو القمار ، والعبادة
المبتدعة هي العبادة الغير المشروعة لعدم استحقاق المعبود بها لها كالصنم وهو
معلوم ، والصليب وهو على ما عن المغرب «شيء مثلّث كالتماثيل تعبده النصارى» والهيكل على ما عن الجوهري وغيره «بيت
الصنم» وغلب على نفس الصنم تسمية للحالّ باسم المحلّ ، ثمّ
اطلق على ما يعمّ الصليب مجازاً ، وحاصل معناها التماثيل والأشكال الّتي يعبدها
أهل الضلال ، والعود شيء يضرب به يقال له في الفارسيّة «ساز» والزمر والمزمار
بمعنى وهو قصبة يزمر بها.
وحيث إنّ
المقصود بالذات من عقد الباب هو التكلّم في حرمة التكسّب بالأشياء المذكورة وغيرها
فلنقدّم ذلك ثمّ نشر في مطاوي البحث إلى جهات اخر متعلّقة بهذه الأشياء من عملها
واستعمالها والانتفاع بها وملكها هيئة ومادّة أو مادّة فقط أو لا هيئة ولا مادّة
وإن كانت المادّة بحسب الأصل ملكاً إلّا أنّه انسلخ عنها الملكيّة لعروض الهيئة
كالخمر وإبقائها وإعدامها ونذكر أحكامها.
__________________
فنقول : أخصّ
صور هذه الأشياء ما كان منها بحيث لا يمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم ولم
يكن لمكسورتها قيمة ، فالمعروف من مذهب الأصحاب تحريم التكسّب بها بلا خلاف نعرف
بل الإجماع بقسميه على ما في كلام بعض مشايخنا لأنّه القدر المتيقّن من معاقد
فتاوي الأصحاب وإجماعاتهم المنقولة ، وفي الرياض «بإجماعنا المستفيض النقل في كلام جماعة من أصحابنا» وإن كان قد
يناقش في دعواه الاستفاضة.
وكيف كان فالعمدة من دليل المسألة
العمومات مثل ما في
رواية تحف العقول من قوله عليهالسلام : «أمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون
فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله وشربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو
إمساكه أو هبته أو عاريته ...» الخ بناءً على أنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص
المثال ، ولا ريب في تناول كلّ أمر يكون فيه الفساد للأشياء المذكورة وخصوص المثال
لا يخصّصه فلا يقدح عدم ذكر اللهو والعبادة المبتدعة والمقامرة في عداد الأمثلة
المذكورة. وقوله أيضاً : «أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد ...» الخ والكلام
فيه أيضاً كسابقه. وقوله عليهالسلام أيضاً : «وكذلك كلّ مبيع ملهوّ به وكلّ منهيّ عنه ممّا
يتقرّب به لغير الله عزوجل» وهذا كالنصّ في محلّ البحث. وقوله عليهالسلام : «وذلك إنّما حرّم الله الصناعة الّتي هي حرام كلّها
ممّا يجيء منها الفساد محضاً ، نظير البرابط والمزامير والشطرنج وكلّ ملهوّ به
والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة المحرّمة ، وما يكون منه وفيه
الفساد محضاً ، ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح ، فحرام تعليمه وتعلّمه
والعمل به وأخذ الاجرة عليه وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات ...» الخ ،
لوضوح اندراج التكسّب بها بجميع أنواعه في عموم جميع التقلّب وجميع وجوه الحركات.
وما في رواية
دعائم الإسلام من قوله عليهالسلام : «وما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه ولا
شراؤه».
__________________
وخبر أبي بصير
المرويّ عن مستطرفات السرائر عن جامع أبي نصر البزنطي عن الصادق عليهالسلام في خصوص الشطرنج «بيع الشطرنج حرام ، وأكل ثمنه سحت ،
واتّخاذها كفر ، واللعب بها شرك ، والسلام على اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة ،
والخائض يده فيها كالخائض يده في لحم الخنزير» وخوض اليد فيهما كناية عن وضع يد التصرّف والتقليب
والاستعمال وكيف شاء وحيث أراد ، وحاصل معناه أنّ جميع تقلّبه في ذلك حرام ، وهذا
تعميم بعد التخصيص ثمّ يتمّ في غيره بعدم القول بالفصل.
ونحوه
الاستدلال بما في المرسل من قوله عليهالسلام في الشطرنج أيضاً : «والمقلّب لها كالمقلّب لحم الخنزير»
ومعناه بملاحظة عموم التشبيه تحريم جميع التصرّفات الّتي منها البيع
والشراء وغيرهما.
والظاهر أنّه
لا فرق في التحريم والبطلان بين ما لو عقد البيع وغيره على الأعيان الخارجيّة من
هذه الأشياء أو على الكلّيّات منها في الذمّة لعموم بعض ما ذكر.
مسألتان :
المسألة الاولى : في أنّه لو كان في تلك
الأشياء ما يمكن الانتفاع به في غير الوجه المحرّم لاشتماله على جهة محلّلة ، فلا يخلو ذلك إمّا أن يكون الجهة المحلّلة فيه غالبة على
الجهة المحرّمة كالجارية المغنّية حيث إنّ التغنّي بها جهة محرّمة وفي مقابلها
الجهة المحلّلة الغالبة عليها من الاستخدام والاستمتاع وغيره ، أو مساوية لها ، أو
أقلّ منها ولكن لم تبلغ حدّ الندرة بحيث لم تكن مقصودة للعقلاء ، أو نادرة غير
مقصودة للعقلاء ، فهذه صور أربع.
وضابط الصور
الثلاث الاولى كون الهيئة المخصوصة بحسب وضعها عند واضعها مشتركة بين المنفعة
المحرّمة والمنفعة المحلّلة ، وملاكه كون كلّ منهما مقصوداً للعقلاء من وضع الشيء
بتلك الهيئة المخصوصة. وتحريم البيع والتكسّب في هذه الصور الثلاث مقصور على البيع
والشراء في الجهة المحرّمة. وأمّا في الجهة المحلّلة فلا يبعد
__________________
جوازه وصحّته للقاعدة المتقدّمة في بحث المسكرات الجامدة فيما اشتمل منها
على منفعة محرّمة ومنفعة محلّلة المستفادة من أدلّة منع التكسّب وتحريمه من إناطة
تحريم البيع وحلّه بحرمة المنفعة المقصودة وحلّها ، ولكن هذا الفرض في آلات اللهو
والقمار وهياكل العبادة المبتدعة نادر ، على معنى ندرة ما اشتمل منها على
المنفعتين بحيث كان الهيئة المخصوصة مشتركة بينهما ، كما اعترف به ثاني الشهيدين
في المسالك حيث قال : «وإن أمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم على تلك الحالة
منفعة مقصودة فاشتراها لتلك المنفعة لم يبعد جواز بيعها إلّا أنّ هذا الفرض نادر
فإنّ الظاهر أنّ ذلك الوضع المخصوص لا ينتفع به إلّا في المحرّم غالباً والنادر لا
يقدح ومن ثمّ أطلقوا المنع من بيعها» انتهى بناءً على أنّ ندرة الفرض في كلامه صفة لوجود
المنفعة المحلّلة المقصودة في هذه الأشياء لا لنفس المنفعة المحلّلة مع اطّراد
وجودها بقرينة قوله : «منفعة مقصودة» فإنّ المنفعة مع الندرة لا تكون مقصودة
للعقلاء.
وأمّا الصورة
الرابعة ـ وهي ما كانت الجهة المحلّلة نادرة غير مقصودة ـ فالوجه فيها تحريم البيع
والشراء مطلقاً ولو في الجهة المحلّلة ، لعموم أدلّة المنع المعتضد بإطلاق فتاوي
الأصحاب وإطلاق معاقد الإجماعات المنقولة. ولا يجري هنا القاعدة المشار إليها لأنّ
الموجود هنا حلّ الانتفاع لأجل المنفعة والمسوّغ للبيع هو الثاني لا الأوّل ، كما
بيّنّاه في بحث المسكرات الجامدة أيضاً.
لا يقال : لا
يستفاد من العمومات المذكورة أزيد من تحريم بيع هذه الأشياء في الجهة الغالبة
الّتي هي المنفعة المقصودة للعقلاء ، وأمّا بيعها في الجهة النادرة الّتي هي من
قبيل مطلق الفائدة المترتّبة عليها وإن لم تكن مقصودة من وضعها واختراعها فيبقى
جوازه مستفاداً من عمومات العقود أجناساً وأنواعاً ، وقضيّة ذلك أن يكون حلّ
الانتفاع أيضاً مسوّغاً للبيع ونحوه كحلّ المنفعة.
لإمكان إثبات
عموم المنع لمثل ذلك بقوله عليهالسلام : «وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات» وقوله
أيضاً : «وكذلك كلّ مبيع ملهوّ به وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به
__________________
لغير الله عزوجل» إلى قوله : «فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه
وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه ، إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك» فإنّ
جميع التقلّب فيه البيع لاستفادة الفائدة النادرة الّذي هو فرد نادر من بيع هذه
الأشياء خصوصاً بملاحظة استثناء حال الضرورة ، فإنّه يقضي بكون ما عدا حال الضرورة
داخل في المستثنى منه ، وليس النظر فيما نحن فيه إلى كون البيع للفائدة النادرة ما
يقضي الضرورة إليه.
وكذلك يدلّ
عليه قوله عليهالسلام في خبر أبي بصير : «والخائض يده فيه كالخائض يده في لحم
الخنزير» بالتقريب المتقدّم بملاحظة شمول المنع في المشبّه به للفروض النادرة
أيضاً الّتي منها البيع لاستفادة الفائدة النادرة ، فتأمّل هذا.
ولكنّ الانصاف
أنّ مثله يرد على البيع في المنفعة المحلّلة لوضوح أنّ عموم جميع التقلّب يتناوله
، واستثناء حال الضرورة يؤكّده بل يساعد عليه لقضائه بدخول ما عدا المستثنى في
المستثنى منه ، وقضيّة ذلك أن لا يكون حلّ المنفعة أيضاً مجدياً في الجواز.
لا يقال : إنّ
جواز البيع في المنفعة المحلّلة إنّما هو من مقتضى اشتراك الهيئة المخصوصة بينها
وبين المنفعة المحرّمة بملاحظة القاعدة المشار إليها ، ولو فرض قصور القاعدة عن
إخراج محلّ الفرض عن العموم المذكور لقلنا بالجواز هنا بملاحظة قوله عليهالسلام في رواية التحف : «وأمّا تفسير التجارات في جميع البيوع
ووجوه الحلال من وجه التجارات الّتي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز ، وكذلك
المشتري الّذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز ، فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد
وقوامهم به في امورهم في وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون ويشربون
ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون من جميع المنافع الّتي لا يقيمهم غيرها ، وكلّ
شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وإمساكه
واستعماله وهبته وعاريته ، وأمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون فيه
الفساد» إلى آخر ما تقدّم ذكره. فإنّ قوله : «وكلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من
جهة من الجهات ...» الخ يتناول بعمومه للهيئة المشتركة في هذه الأشياء من حيث قصد
بوضعها الصلاح وهو النفع المحلّل المقصود منها.
لأنّا [نقول] :
إنّ هذا يعارضه قوله عليهالسلام : «وكلّ مبيع ملهوّ به وكلّ منهيّ عنه ...» الخ فإنّه
أيضاً يتناولها من حيث قصد بوضعها اللهو أو العبادة لغير الله عزوجل للنهي عنهما المقصودين من وضعها ، وبينهما عموم من وجه
فيتعارضان في الهيئة المشتركة ، لقضاء الأوّل جواز البيع والشراء وغيرها من سائر
التصرّفات ، والثاني تحريمهما وتحريم غيرهما من سائر التقلّبات حتّى الإمساك من
غير استعمال في اللهو والعبادة ، ويقدّم الثاني لأظهريّة دلالته خصوصاً بملاحظة
الاستثناء القاضي بدخول جميع ما عدا المستثنى في المستثنى [منه] ويؤكّده التصريح
بتحريم الإمساك المنافي لتجويز البيع في الجهة المحلّلة بل ... تجويز الاستعمال في
تلك الجهة لاستلزامهما الإمساك المحرّم ، وبذلك يمكن أن يستدلّ على وجوب هدم
الهيئة مطلقاً وكونه فوريّاً. وبهذا كلّه يمكن أن يستدلّ على أنّ هذه الآلات
بأسرها ليس فيها منفعة محلّلة يجوز بيعها أو استعمالها في تلك المنفعة.
فالحقّ أنّ هذه
الفقرة من الرواية كالفقرة الاخرى المتضمّنة لقوله عليهالسلام : «وما يكون منه وفيه الفساد محضاً ، ولا يكون منه ولا
فيه شيء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الاجرة عليه وجميع
التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات ...» الخ ظاهرة كالصريحة في تحريم جميع المنافع
المقصودة من هذه الآلات والأدوات والفوائد الغير المقصودة من دون استثناء شيء
إلّا ما دعا إليه الضرورة.
ويدلّ عليه
التشبيه بالميتة في خبر أبي بصير والمرسل المتقدّمين لأنّ هذا هو حكم المشبّه به ،
ويؤيّده الوجه الاعتباري الّذي سنذكره في بعض فروع ما كان لمكسورته قيمة ، ولعلّه
لذا أطلق الأصحاب المنع من بيعها ، وظاهر عبارة المسالك إجماعهم عليه حيث قال : «ومن
ثمّ أطلقوا المنع من بيعها» حتّى أنّه نفى البعد عن الجواز فيما أمكن الانتفاع بها
في غير الوجه الحرام من غير جزم به ، ولعلّه للتشكيك في تحقّق هذا المفروض فيما
بينها فليتدبّر.
المسألة الثانية : فيما لو كان لمكسورها
قيمة كما لو كانت متّخذة من ذهب أو فضّة
__________________
أو صفر أو رصاص أو نحوه ، ففي جواز بيعها حينئذٍ والعدم قولان ، بل أقوال
ثلاث : المنع مطلقاً نسبه في المسالك إلى الأكثر ، والجواز وهو خيرة السيّد في الرياض وقبله صاحب
الحدائق وقبلهما صاحب الكفاية على ما حكي
عنهما ، والجواز بشرط زوال الصفة قوّاه في التذكرة حكاه في
المسالك واستحسنه قال : «ولو كان لمكسورها قيمة وباعها صحيحة ليكسر وكان المشتري
ممّن يوثق بديانته ، ففي جواز بيعها حينئذٍ وجهان ، وقوّى في التذكرة جوازه مع
زوال الصفة ، وهو حسن ، والأكثر أطلقوا المنع» . انتهى.
وظاهر العبارة
وفاقهم على المنع فيما لم يشرط البائع على المشتري كسرها ولا قصده والمشتري إيّاه
حين العقد ، وهل المعتبر في محلّ الخلاف قصد الكسر منهما وان لم يصرّحا بالشرط
والاشتراط ، أو شرط الكسر على المشتري ولا يكفي مجرّد القصد في الجواز؟ يحتملهما
العبارة كعبارة غيره ، وإنّما اعتبروا كون المشتري موثوقاً بديانته لأنّ المسوّغ
للبيع عند قائليه أو محتمليه ليس مطلق قصد الكسر أو شرطه بل ما يستتبع منهما حصول
الكسر في الخارج ، والمشتري إذا كان موثوقاً بديانته فبمقتضى ديانته يكسرها لا
محالة.
والمراد بالصفة
في كلام العلّامة الشارط لزوالها في الجواز ليس هو الهيئة كما قد يتوهّم فيورد
عليه بأنّ زوال الهيئة لا يتأتّى إلّا بالكسر والجواز معه واضح وخارج عن محلّ
النزاع ، بل أمر معنوي يدور عليه ما يقصد من الهيئة من اللهو والمقامرة ، وكأنّ
نظره في اعتبار هذا الشرط إلى أنّ قصد الكسر وشرطه مع بقاء الصفة لا يجوّز البيع
وإن كان المشتري موثوقاً به ، بل المجوّز له هو زوال الصفة إذ معه لا يتمشّى منه
الفعل المحرّم والمفسدة الّتي تعلّق غرض الشارع بحسم مادّتها ، وإنّما اعتبر في
محلّ الجواز عند قائليه وجود القيمة لمكسورتها تخلّصاً عن لزوم كون البيع والشراء
من المعاملة السفهيّة.
ثمّ السيّد في
الرياض تمسّك للجواز «بالأصل وعدم دليل على المنع يشمل محلّ
__________________
الفرض ، لندوره فلا يشمله العموم المتقدّم كإطلاق الأكثر» .
والظاهر أنّه
أراد بالأصل الأصل الثانوي المستفاد من عمومات الجواز والصحّة الواردة في أبواب
العقود أجناساً وأنواعاً. وأمّا ندور محلّ الفرض فليس بواضح بل موضع منع ، سواء
أراد به ندرة المبيع وهو ما كان من هذه الآلات لمكسورته قيمة ، أو ندرة البيع وهو
ما قصد فيه أو شرط في ضمنه الكسر ، أمّا الأوّل فلوضوح غلبة وجود القيمة لمكسورة
هذه الآلات ، وأمّا الثاني فلوضوح الفرق بين ندرة الفرد وندرة الحالة العارضة له
من باب العرض المفارق ، والموجود في محلّ الفرض من قبيل الثاني فلعدم كون هذه
الحالة أعني القصد والشرط المذكورين من مشخّصات الفرد لا يوجب ندرتها ندرة في
الفرد مانعة عن تناول العموم والإطلاق ، ولذا لو قطع النظر عنهما أو فرض عدم
طروّهما لهذا الفرد من البيع لشمله العموم والإطلاق بلا شبهة ، فقد اختلط الأمر
عليه قدسسره.
مع أنّ تأثير
الندرة لو سلّمناها في منع تناول العموم الوضعي كما في أكثر عمومات المسألة محلّ
منع ، فالأقوى ما عليه الأكثر من إطلاق المنع عملاً بالعموم المخرج عن الأصل
المذكور ، ولا يجدي في منع شموله ولا ثبوت الجواز قصد الكسر ولا شرطه سواء كان
المشتري موثوقاً بديانته أو لا. هذا كلّه فيما لو كان مورد العقد هو المادّة
المتهيّئة بهذه الهيئة المخصوصة مع وجود الصفة المطلوبة منها بحيث كانت الهيئة
جزءاً من المبيع وكان الثمن مبذولاً في مقابل المجموع كما هو معقد كلام الأكثر.
وأمّا غير هذه الصورة فيندرج فيه امور ينبغي التعرّض لذكرها من باب التفريع :
الأوّل : ما لو
باع المادّة فقط حال وجود الهيئة من دون اعتبار الكسر ولا اعتبار الهيئة جزءاً
للمبيع ، بأن يكون المال مبذولاً ومأخوذاً في مقابل المادّة كأن يقول : بعتك رصاص
هذا الصنم أو ذهبه أو خشبه ، ففي جواز البيع حينئذ وجهان : من عدم تناول شيء من
عمومات المسألة لعدم كون المبيع أمراً يكون فيه الفساد ، ولا شيئاً فيه وجه من
وجوه الفساد ، ولا أنّه ملهوّ به ولا منهيّ عنه ، ولا أنّه الشطرنج وغيره من
__________________
الأسماء ، ولا أنّه ممّا حرّمه الله ، ولا أنّه محرّم أصله ومنهيّ عنه. ومن
أنّ تجويزه حينئذٍ ينافي الحكمة الباعثة على تشريع حرمة البيع وسائر التقلّبات وهو
الامتناع عنه لحسم مادّة الفساد ، وإذا عرف الناس جواز بيع المادّة لتوصّلوا إلى
تناول الهيئة واستعمالها في اللهو بهذه الحيلة. ولا يبعد الجواز مع كون المشتري
موثوقاً بديانته لأنّه بموجب ديانته لا يستعملها في اللهو ، وغاية ما يلزم من
البيع حينئذٍ هو ترك واجب وهو هدم الهيئة وهذا لا يؤثّر في تحريم البيع ولا
بطلانه.
الثاني : ما لو
باعها مع زوال الصفة وهي صفة الفساد ولو مع وجود الهيئة ، وقد عرفت أنّ العلّامة
في التذكرة قوّى جوازه واستحسنه ثاني الشهيدين في المسالك ، فما قوّاه الأوّل
واستحسنه الثاني حسن لأنّ الهيئة إنّما صارت محرّمة منهيّاً عن بيعها وشرائها لما
يترتّب عليها من فساد اللهو والمفروض زوالها ، فلا يجري عمومات المنع ولا يكون أكل
المال المبذول بازاء المجموع أكلاً للمال بالباطل.
الثالث : قال
في جامع المقاصد على ما حكي : «لو باع رضاضها الباقي بعد كسرها قبل أن يكسرها وكان
المشتري موثوقاً به وأنّه يكسرها أمكن القول بصحّة البيع ، ومثله باقي الامور
المحرّمة كأواني النقدين والصنم» انتهى. والجواز والصحّة هنا مع الشرط المذكور أيضاً غير
بعيد ، وجهه عدم كون الرضاض المبذول له المال قبل الكسر أمراً يكون فيه الفساد ،
ولا شيئاً فيه وجه من وجوه الفساد ، ولا أنّه مبيع ملهوّ به ولا منهيّ عنه يتقرّب
به لغير الله ، ولا أنّه الشطرنج فلا يتناوله شيء من عمومات المسألة.
الرابع : ما لو
باع مقداراً معيّناً من الجنس المتّخذ منه هذه الآلات على نحو الكلّي في الذمّة ـ كمنّ
من رصاص أو صفر أو ذهب أو فضّة أو صاع من خشب ـ ثمّ سلّم إليه في مقام الردّ
المعبّر عنه بالمعاملة الوفائيّة ما ينطبق على المبيع من هذه الآلات ، فالظاهر بل
المقطوع جوازه وصحّته لأنّه ليس من بيع الآلات فلا يندرج في أدلّة المنع أصلاً ،
ومثله ما لو باع صاعاً معيّناً من حطب مثلاً ، وقال : بعتكه بكذا ، فظهر فيه صنم
أو صليب أو نحوه ممّا اتّخذ من الخشب. ومن مشايخنا من قال : بأنّ الحكم ببطلان
البيع
__________________
هنا مشكل ، لمنع شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد ، لأنّ المتيقّن من الأدلّة
المتقدّمة حرمة المعاوضة على هذه الامور.
الخامس : ما لو
باع من هذه الآلات شيئاً مع الضميمة ممّا يجوز بيعه منفرداً فهل الضميمة يسوّغه
كما تسوّغ بيع العبد الآبق وبيع الثمرة على الشجرة بعد الظهور وقبل البلوغ؟ فالوجه
فيه المنع ، للعموم المعتضد بإطلاق فتاوي الأصحاب وإطلاق معاقد الإجماع خصوصاً
عموم «وجميع التقلّب فيه».
السادس : في
بقايا أحكام هذه الآلات من تحريم عملها على معنى صنعها ، وتحريم الانتفاع بها في
اللهو والقمار والعبادة المبتدعة ، وتحريم إبقائها المستلزم لوجوب هدم هيئاتها
المخصوصة المحرّمة بالكسر ونحوه ، وعدم ملكها ولو باعتبار عدم مملوكيّة الهيئة
المتقوّمة بالمادّة.
ويدلّ على
الأوّل ـ بعد ظهور عدم الخلاف فيه والإجماعات المنقولة المحكيّة عن جماعة كالمفيد وابن زهرة والعلّامة على حرمة أخذ
الاجرة عليها الظاهرة في أخذها على صنعتها والأولويّة بالإضافة إلى تحريم التكسّب
بها ، وعموم تحريم المعاونة على الإثم ـ عموم قوله عليهالسلام في رواية تحف العقول : «فأمّا وجوه الحرام من وجوه
الإجارة نظير أن يؤاجر نفسه على جمل ما يحرم أكله أو شربه أو يؤاجر نفسه في صنعة
ذلك الشيء أو حفظه ، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضراراً ، أو قتل النفس بغير
حقّ ، أو عمل التصاوير والأصنام والمزامير والبرابط والخمر والخنازير والميتة
والدم ، أو شيء من وجوه الفساد الّذي كان محرّماً عليه من غير جهة الإجارة فيه
وكلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات ، فتحرم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو
شيء منه أو له» الخ. وكذلك قوله عليهالسلام فيما بعد ذلك وذلك «إنّما حرّم الله الصناعة الّتي هي
حرام كلّها الّتي يجيء منها الفساد محضاً ، نظير البرابط والمزامير والشطرنج وكلّ
ملهوّ به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة المحرّمة وما يكون منه
وفيه الفساد محضاً ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح ، فحرام تعليمه
وتعلّمه
__________________
والعمل به وأخذ الاجرة عليه وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات» الخ.
ويدلّ على
الثاني : أدلّة تحريم هذه المحرّمات والنواهي الواردة فيها ، والعقل المستقلّ بقبح
الشرك بالله وتشريك غيره له في العبادة ، وعموم «جميع التقلّب فيه».
وعلى الثالث :
قوله عليهالسلام : «وإمساكه».
وعلى الرابع :
قوله : «وملكه» بناءً على أنّ المراد به ترتيب آثار الملك ، والقدر المتيقّن من
مورده المجموع من المادّة والهيئة ولو باعتبار عدم ملكيّة الهيئة المتقوّمة
بالمادّة يقع الشك في أنّ عروضها المادّة يزيل ملكيّتها السابقة فيحكم بالبقاء
استصحاباً للحالة السابقة ، فالقول بملك المادّة دون الهيئة أصحّ الأقوال ، وقيل
بالملك فيهما ، وقيل بعدمه فيهما ، وهما ضعيفان.
وعلى المختار
من كون المادّة ملكاً فلو أتلفها متلف وجب عليه ضمانها إن كان لهدم الهيئة
وإعدامها طريق آخر غير إتلاف المادّة ، فلو توقّف إعدامها على إتلافها فلا ضمان
لترخيص الشارع في إتلافها حينئذ باعتبار عموم إيجابه هدم الهيئة وإعدامها.
ثمّ إنّه قد يلحق بتلك الآلات في تحريم
البيع والشراء والتكسّب بها والمعاوضة عليها أمران :
أحدهما : أواني
الذهب والفضّة.
وثانيهما :
الدراهم والدنانير المغشوشة أو المسكوكة بسكّة الخارج.
فهاهنا مسألتان
:
المسألة الاولى : في الأواني قال في المسالك : «وهل الحكم في أواني الذهب والفضّة
كذلك؟ يحتمله بناءً على تحريم عملها والانتفاع بها في الأكل والشرب ، وعدمه لجواز
اقتنائها للادّخار وتزيين المجلس والانتفاع بها في غير الأكل والشرب وهي منافع
مقصودة ، وفي تحريم عملها مطلقاً نظر» انتهى.
يظهر منه أنّ
تحريم التكسّب بها مطلقاً بالبيع والشراء وغيرهما مبنيّ على تحريم جميع منافعها
واستعمالاتها حتّى في غير الأكل والشرب بل اقتنائها للادّخار وتزيين
__________________
المجالس ، ولذا اختار جماعة من مشايخنا قدّس الله أرواحهم التحريم هنا أيضاً
لبنائهم على تحريم جميع الاستعمالات حتّى الاقتناء ، كما هو الأقوى وفاقاً للمشهور
بل عن كشف الرموز نفي الخلاف فيه وعن التذكرة وغيره الإجماع
عليه ، خلافاً لجماعة منهم المسالك كما عرفت فخصّوا تحريم الاستعمال بالأكل والشرب.
ومن مشايخنا من
بنى تحريم المعاوضة عليها على أحد الأمرين : من تحريم اقتنائها ، أو قصد المعاوضة
على مجموع الهيئة والمادّة لا المادّة فقط .
ويظهر منه أنّه
لو قصدها مع عدم تحريم الاقتناء على المادّة فقط لم تكن محرّمة ، وحيث إنّ المختار
تحريم جميع الاستعمالات حتّى الاقتناء اتّجه تحريم المعاوضة عليها مطلقاً ، لعدّة
من العمومات الواردة في رواية التحف ، وعموم قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في النبويّ : «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» بناءً
على تعليقه تحريم الثمن الملازم لتحريم المبايعة على تحريم جميع منافع الشيء أو
منافعه الغالبة ، ونحوه قوله عليهالسلام في رواية الدعائم : «وما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه
لم يجز بيعه ولا شراؤه» وقضيّة حرمة جميع الاستعمالات حتّى الاقتناء وجوب كسرها
وإخراجها عن هيئة الإنائيّة فوراً.
المسألة الثانية : في الدراهم والدنانير
المغشوشة ، ولها حالتان :
إحداهما :
كونها معلومة الصرف ، وهو على ما فسّرها في المسالك وغيره «كونها متداولة بين
الناس مع علمهم بحالها» على معنى كونها رائجة في معاملاتهم ومعاوضاتهم مع وضوح
كونها مغشوشة لديهم ، وهذا ممّا لا إشكال في جواز إخراجها وإنفاقها والمعاوضة
عليها سواء جعلت أعواضاً أو معوّضات بل لا خلاف فيه أجده.
وفي كلام بعض
مشايخنا بل يمكن تحصيل الإجماع عليه فضلاً عن محكيّه ، بل هو معلوم بالسيرة
القطعيّة ، ومدلول عليه بالأخبار المستفيضة الّتي يقف عليها من يراجع مظانّها.
واخراهما :
كونها مجهولة الصرف بالمعنى المذكور ، وهذا ممّا صرّحوا بعدم جواز
__________________
إنفاقها إلّا بعد إبانة حالها ، وفي كلام بعض المشايخ «بلا خلاف بل يمكن
تحصيل الإجماع عليه فضلاً عن محكيّه» والنصوص الدالّة عليه أيضاً كثيرة ، وفي بعضها كرواية
الجعفي الأمر بكسرها تعليلاً بأنّه «لا يحلّ بيعه ولا إنفاقه» وفي
رواية موسى ابن بكير «قطعه نصفين ، ثمّ قال : ألقه في البالوعة حتّى لا يباع بما
فيه من الغشّ» وخبر فضل أبي العبّاس قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الدراهم المحمول عليها؟ فقال : إذا أنفقت ما يجوز
بين أهل البلد فلا بأس ، وإن أنفقت ما لا يجوز بين أهل البلد فلا» والمستفاد من
بعض الروايات جواز بيعها إذا بيّن حالها ، وهو المصرّح به في كلام جماعة ، كما أنّ
المصرّح به في كلامهم أنّ المعتبر في محلّ المنع كون الغشّ كثيراً لا يتسامح فيه
بحيث لو علم من صار إليه لم يقبله ، فلو كان قليلاً متسامحاً فيه لا بأس بإخراجه
وإنفاقه.
ثمّ بقي امور :
الأوّل : هل يجب كسرها؟ وجهان : من الأصل المعتضد بعدم الوقوف على مصرّح من
الأصحاب بوجوبه ، ومن الأمر به في رواية الجعفي وبتقطيعه نصفين وإلقائه في
البالوعة في رواية ابن بكير. والأوجه الأوّل ، لعدم ظهور عامل بالخبرين ، مع خلوّ
باقي النصوص عنه ، بل ينساق من ملاحظة مجموعها ولا سيّما ما دلّ منها على جواز
الإنفاق في البيع مع إعلام الحال عدم وجوبه ، مع أنّ الأمر بالكسر في خبر الجعفي
بمقتضى ظاهر التعليل غيري والغرض الأصلي منه التجنّب عن بيعها وإنفاقها في
المعاملات. فمن قصد باقتنائها غرضاً آخر غير البيع وإنفاقها فيه كالزينة ونحوها لم
يشمله الأمر بالكسر ، منها مفهوم صحيح محمّد بن مسلم قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يعمل الدراهم يحمل عليها النحاس أو غيره ثمّ
يبيعها ، قال : إذا بيّن ذلك فلا بأس» .
__________________
الثاني : هل يجوز دفعها إلى العشّار
وغيره ممّن يأخذ الأموال بغير حقّ من الظلمة وحكّام الجور؟ أقربه ذلك ، وأحوطه الترك.
الثالث : أنّ محلّ الحرمة على ما عرفت
ما لو وقعت المعاوضة عليه من غير أن يبيّن الحال لمن صار إليه ، ولكن مع علم البائع أو المنفق له بالحال ، فأمّا لو جهلا
فلا حرمة جزماً لقبح تكليف الغافل ، وهل تقع فاسدة مع الحرمة ومع انتفائها؟ وجهان
: من ظاهر النهي الكاشف عن عدم صلاحية هذه الدراهم بحسب الشرع للعوضيّة
والمعوّضيّة ، ومن ظاهر بعض النصوص في كون الحرمة تكليفاً صرفاً غير مؤثّر في
الفساد ، كخبر جعفر بن عيسى قال : «كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام ما تقول جعلت فداك في الدراهم الّتي أعلم أنّها لا تجوز
بين المسلمين إلّا بوضيعة تصير إليّ من بعضهم بغير وضيعة بجهلي به ، وإنّما آخذه
على أنّه جيّد أيجوز لي أن آخذه واخرجه من يدي على حدّ ما صار إليّ من قبلهم؟ فكتب
: لا يحلّ ذلك ...» الخ ، فإنّه لو فسدت المعاملة لأمره عليهالسلام بردّ الدراهم الصائرة إليه على صاحبه ، فتأمّل.
وقد يفصّل
بأنّه إن وقع المعاوضة عليه بعنوان الدرهم المفروض انصراف إطلاقه إلى الصحيح
المسكوك سكّة السلطان بطل البيع ، وإن وقعت المعاوضة على شخصه من دون عنوان
فالظاهر صحّة البيع مع خيار العيب إن كانت المادّة مغشوشة ، وإن كان مجرّد تفاوت
السكّة فهو خيار التدليس انتهى.
ولعلّ وجهه
استظهار الفساد من النهي مع جعل مورده بمقتضى انسياق إطلاق نصوصه ما لو أخذت هذه الدراهم
في المعاملة عوضاً أو معوّضاً بعنوان الدراهم المعمولة في المعاملات لا من حيث
الخصوصيّة على حدّ ما يؤخذ فيها من سائر الأموال الغير المندرجة في عنوان الدراهم
، والأقوى عدم الفرق مع الصحّة منعاً لاقتضاء النهي هنا الفساد لعدم كشفه عن عدم
صلاحيته العوضيّة والمعوّضيّة وإلّا لم يفرّق بين صورتي الجهل والعلم ولا بين
حالتي بيان الحال وعدمه ، كما في الأعيان النجسة وآلات اللهو والقمار وهياكل
العبادة المبتدعة.
__________________
ثمّ اعلم أنّ ما يحرم المعاوضة عليه
لتحريم ما قصد به ينقسم إلى ما قصد بوضعه واختراعه على النحو الخاصّ الحرام كآلات اللهو وهياكل العبادة وآلات القمار وما أشبه ذلك ،
وما قصد المتعاقدان بالمعاوضة عليه المنفعة المحرّمة كبيع العنب أو الخشب ليعمل
خمراً أو صنماً أو آلة لهو أو قمار ونحوه.
وقد يذكر قسم
ثالث وهو ما من شأنه أن يقصد به الحرام واندراجه في العنوان مبنيّ على تعميم ما
قصد به بالنسبة إلى الفعل والشأن ليكون تقدير العبارة ما قصد به فعلاً أو شأناً.
وعبّر في
الشرائع عن القسمين بما أفضى إلى المساعدة على محرّم كبيع
السلاح لأعداء الدين وإجارة المساكن والسفن للمحرّمات وبيع العنب ليعمل خمراً وبيع
الخشب ليعمل صنماً ، بناءً على كونه عطفاً على سابقه من آلات اللهو وهياكل العبادة
المبتدعة وآلات القمار ليكون قسماً من عنوان ما يحرم لتحريم ما قصد به ، لا على
أصل العنوان ليكون قسيماً له كما هو الظاهر ، وإلّا لوجب إفراده بعنوان آخر. فذكره
في عداد أقسام العنوان المذكور لا إفراده بعنوان آخر قرينة واضحة على أنّه من
الأقسام. والمساعدة المأخوذة في هذا القسم عبارة عن المعاونة ، والإفضاء إليه هو
الانتهاء إليه ، وقيل : الإفضاء إلى الشيء الوصول إليه ، وهما متقابلان.
وقد يدخل في
الوهم أنّ اعتبار الإفضاء وتوسيطه بين المعاوضة والمعاونة لا يجدي فائدة فيكون
لغواً ، فإنّ بيع العنب ليعمل خمراً مثلاً والمعاوضة بقصد المنفعة المحرّمة بنفسه
مساعدة على المحرّم فلا فائدة لتوسيط الإفضاء.
ويمكن دفعه
بأنّ المعاونة على الشيء عنوان يصدق على إيجاد مقدّمة حرام الغير بشرط أن يقصد به
توصّل الغير إلى الحرام ، مع ترتّب التوصّل إليه في الخارج عليه ، وبدون الشرطين
معاً أو بدون الشرط الثاني لا يصدق عليه المعاونة ، وأوّل الشرطين حيث يتحقّق وإن
قارن تحقّقه لإيجاد المقدّمة إلّا أنّ ثانيهما حيث يتحقّق فإنّما يتحقّق متراخياً
عن زمان إيجادها فيكون صدق عنوان المعاونة حينئذٍ من حين إيجادها مراعى لتحقّقه.
__________________
وقضيّة ذلك أن
لا يكون البيع في نفسه معاونة بل مفضياً ومنتهياً إليه فتأمّل ، لتطرّق المنع إلى
اعتبار الشرط الثاني بل يكفي قصد الإعانة بإيجاد المقدّمة أو قصد التوصّل به مع
العلم ولو من جهة العادة ، أو كون الغير في شرف التشاغل بها بأنّه يتوصّل إليه فلا
بدّ من أن يراد من الإفضاء إليها تحقيقها على معنى كون البيع محقّقاً لعنوان
المساعدة ، وكيف كان ففي صدق ما يفضي إلى المساعدة
على محرّم للقسم الأخير من الأقسام الثلاث المذكورة منع واضح.
وقد يقال : إنّ
في المقام موضوعات للحكم بالتحريم :
منها : بيع ما
من شأنه أن يفضي إلى المساعدة على المحرّم سواء أفضى فعلاً أو لا ، وسواء قصد ذلك
أو لا.
ومنها : ما علم
أنّه يفضي فعلاً وقصد ببيعه ذلك ، وهذا أظهر أفراد العنوان.
ومنها : ما قصد
ببيعه الإفضاء إلى المساعدة من دون علم بأنّه يفضي فعلاً ، سواء ظنّ به أو شكّ فيه
أو علم بالعدم.
ومنها : ما علم
بكونه يفضي ولكن لم يقصد ببيعه ذلك. والأولى في ضبط الأقسام هو ما ذكرنا ، وأمّا
أحكام هذه الأقسام فقد تقدّم الكلام في حكم القسم الأوّل منها مشروحاً.
وأمّا القسم الثاني فقد ذكروا له أمثلة
يذكر أحكامها في طيّ مسائل المسألة الاولى : في بيع الخشب ليعمل صنماً وبيع العنب
ليعمل خمراً ، وهذا يتضمّن
صوراً خمس :
الاولى : أن
يباع العنب أو الخشب على أن يخمّره المشتري أو يتّخذه صنماً ، بأن يشرطه البائع
على المشتري ، وبعبارة اخرى بناء العقد على التخمير واتّخاذ الصنم.
الثانية : أن
يتواطآ ويتوافقا عليه قبل إجراء العقد ثمّ يباع من غير تصريح بالشرط في ضمن العقد
، ويعبّر عنه بالشرط المضمر.
الثالثة : أن
يقصده البائع والمشتري حين العقد من غير شرط في ضمنه ولا توافق قبله.
الرابعة : أن
يقصده البائع خاصّة.
الخامسة : أن
يقصده المشتري كذلك.
ويمكن تحريمه
في جميع الصور كما ربّما يستشمّ من إطلاق بعض فتاوي الأصحاب وإن كان دعوى انصرافه
إلى بعض الصور أو ما عدا الصورة الأخيرة غير بعيدة ، وهو في الجملة ممّا لم يوجد
فيه خلاف ، وعن مجمع البرهان نسبته إلى ظاهر الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع ، بل صرّح
به السيّد في الرياض حاكياً له عن المنتهى .
ويدلّ عليه في
الجملة عموماً قوله عليهالسلام في رواية التحف : «أو شيء فيه وجه من وجوه الفساد»
بناءً على أنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المثال ، وأنّ المراد تحريم بيعه في وجه
الفساد كما هو المتبادر ، أو أنّه معلوم بدليل من الخارج.
مضافاً إلى
قاعدة حرمة الإعانة على الإثم ، لوضوح صدق الإعانة على البيع فيما عدا الصورة
الأخيرة. والسرّ فيه أنّ الإعانة على الإثم عبارة عن إيجاد مقدّمة معصية إعانته
عليها أو أن يتوصّل إليها مع تعقّبه بحصول التوصّل في الخارج ومعناه حصول المعصية
المعان عليها ، ويندرج فيه البيع في جميع الصور الأربع على تقدير حصول عمل الخمر
والصنم من المشتري ، وأمّا شمول النهي للبائع وتعلّق الحرمة به فمنوط بعلمه حين
البيع بتعقّبه للعمل المذكور.
وإلى قاعدة
وجوب النهي عن المنكر ، بتقريب أنّه عبارة عن الردع عن المعصية وهو جهة جامعة بين
رفعها في المتشاغل بها ودفعها في العازم على التشاغل ، والبيع المذكور في الصور
المذكورة حتّى الأخيرة منها لو علم البائع بأنّ المشتري يعمل الحرام في المبيع وإن
لم يقصده ترك للردع عن المعصية بمعنى دفعها فيكون محرّماً.
وإلى قاعدة
تحريم الأمر بالمنكر كالنهي عن المعروف على ما يستفاد من أدلّة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، بتقريب أنّ الأمر بالمنكر عبارة عن الحمل على المعصية ، والبيع
المذكور حتّى في الصورة الأخيرة مع علم البائع بصدور العمل المحرّم من المشتري حمل
له على المعصية فيكون محرّماً.
وإلى قاعدة
وجوب اللطف بمعنى تقريب العبد إلى الطاعة وتبعيده عن المعصية ،
__________________
بتقريب أنّ من أقسامه ما يجب على العباد غير النبيّ والوصيّ ، ومنه الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون التقريب إلى المعصية أو ترك التبعيد عنها قبيحاً
وكلّ قبيح محرّم ، والبيع المذكور حتّى في الصورة الأخيرة تقريب إليها أو ترك
للتبعيد عنها فيكون محرّماً.
وإلى القاعدة
المستفادة من الأخبار الواردة في ذمّ أعوان بني اميّة ، فإنّ المستفاد منها ذمّهم
على أفعال وأعمال لو تركوها لم يتحقّق معصية غصب حقّ أهل بيت العصمة من بني اميّة
، فتدلّ على أنّ المناط في الذمّ فعل مقدّماً تكون من أجزاء علّة وقوع المعصية من
صاحبها سواء كان تركه علّة تامّة لعدم وقوعها منه أو لا.
ويدلّ عليه
خصوصاً حسنة عمر بن اذينة بإبراهيم بن هاشم على المشهور بل صحيحه على الأصحّ قال :
«كتبت إلى أبي عبد الله عليهالسلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال :
لا بأس به ، وعن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً ، قال : لا» .
وخبر عمرو بن
حريث قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن التوت أبيعه ممّن يصنع الصليب والصنم؟ قال : لا» .
إطلاق الجواب
فيهما بانضمام ترك الاستفصال يعمّ الصور الخمس بأجمعها. وضعف سند الثاني بجهالة
أبان بن عيسى القمّي منجبر بعمل الأصحاب ، مضافاً إلى وجود الحسن بن محبوب المجمع
على تصحيح ما يصحّ منه في السند.
نعم قد يناقش
في دلالة الاولى على التحريم بمنع كون كلمة «لا» نهياً نظراً إلى ظهور «باعه» في
السؤال في المضيّ فيكون سؤالاً عن الواقعة بعد وقوعها لا عنها على تقدير الوقوع ،
والنهي عن البيع الواقع في الخارج بعد وقوعه غير معقول فتكون نفياً ، ولا يمكن
توجيهه إلى الماهيّة لفرض وقوع البيع فلا بدّ وأن يوجّه إلى الصحّة ، فأقصاه
حينئذٍ فساد البيع وهو لا يلازم التحريم ، وإن كان ولا بدّ من حملها على النهي ،
فيجب إرجاعها إلى ما يمكن النهي عنه مثل التصرّف في الثمن ونحوه.
__________________
وتندفع بشيوع
التعبير في أخبار أهل بيت العصمة ولا سيّما في أسئلتها عن الحال أو المستقبل بصيغة
المضيّ ، وبوجود القرينة في خصوص المقام على إرادة السؤال عن الواقعة على فرض
وقوعها ، وهو قوله : «ممّن يتّخذه» فإنّه أظهر في المستقبل من قوله : «فباعه» في
المضيّ ، ومن ثمّ لم يتأمّل أحد فيها من هذه الجهة.
ولا يقدح في
التمسّك بها تدافع ما بين موضع الدلالة وسابقه من حيث إنّ الأصحاب لا يفرّقون في
المنع والتحريم في بيع الخشب بين بيعه ممّن يتّخذه برابط وبيعه ممّن يتّخذه
صلباناً.
وقد صرّح بعدم
البأس فيه مع إمكان التوفيق بينهما بأحد وجوه ، أجودها حمل نفي البأس على التقيّة
، نظراً إلى أنّها وردت في عهد خلفاء الجور المستحلّين للملاهي بالبرابط والعودان
والمزامير وغيرها من آلات اللهو المنهمكين عليها ، فكان المنع من اتّخاذ الخشب
لعملها وعن بيعه ممّن يتّخذه لعملها موضع خوف وتقيّة ، خصوصاً مع كون الرواية
مكاتبة يسرع إليها الإشاعة ، بخلاف المنع من اتّخاذه للصليب والصنم والبيع لعمله
فإنّه لم يكن بتلك المثابة.
وقد يحتمل
للتوفيق عود ضمير «يتّخذه» إلى جنس الخشب على طريقة الاستخدام لا شخص المبيع أو
كون البائع علم بكون المشتري إنّما اتّخذه لهذا العمل بعد البيع ، ووحدة السياق
يبعّدهما جزماً.
ثمّ إنّ
الخبرين كما ترى مختصّان ببيع الخشب ، والتعدّي عنه إلى بيع العنب بحيث يخرج عن
القياس المحرّم مشكل.
وتوهّم : تنقيح
المناط بدعوى أنّه يظهر من النصّ أنّ العلّة في منع البيع صرف المبيع في المنفعة
المحرّمة الساقطة عن نظر الشارع ، ونقطع أنّ الفارق وهو خصوصيّة الخشبيّة ملغى في
نظر الشارع ولا تأثير له في الحكم.
يدفعه : أنّ
هذا المناط ممّا لا منقّح له ، والقطع بكون الفارق ملغى ممّا لا موجب له ، خصوصاً
مع ملاحظة أنّ الغاية المطلوبة من اتّخاذ الصنم والصليب إنّما هو العبادة لغير الله
، وهو أشدّ قبحاً وأعظم مفسدة من الغاية المطلوبة من اتّخاذ الخمر وهو شربها
ولعلّه
الفارق بين الأصل والفرع ، فدعوى تنقيح المناط في غاية البعد.
نعم لو استند
للتعدّي إلى الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل نظراً إلى ظاهر عبارات جماعة حيث
نراهم يذكرون المسألتين بعنوان واحد ويتمسّكون لهما بالخبرين ، لم يكن بذلك البعيد
، إلّا أنّ الإجماع على عدم الفرق ليس بمقطوع به ، وغايته الظنّ خصوصاً مع
الالتفات إلى ما قد يحتمل في وجه الجمع بين الخبرين وغيرهما من الأخبار المصرّحة
بجواز بيع العنب أو العصير ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً من العمل بهما في بيع الخشب
بالأخبار المجوّزة في بيع العنب.
ثمّ إنّه قد
يمنع دلالة الخبرين على المنع والتحريم فيما عدا الصورة الأخيرة بل مطلقاً ، فإنّ
حملها على صورة الاشتراط أو هو مع المواطاة أو هما مع القصد منهما أو من البائع
فقط بعيد. بل في غاية البعد ، إذ لا غرض للمسلم في بيع ماله على هذا الوجه أصلاً
خصوصاً إذا كان عدلاً أو ثقة فكيف يجوز على مسلم عدل أنّه أراد البيع على هذا
الوجه ثمّ يجيء إلى إمامه ليسأله عن حكمه جوازاً وتحريماً. ولو قيل بأنّ الخبرين
يحملان حينئذٍ على الصورة الأخيرة ثمّ يستدلّ بهما على حكم ما عداها أيضاً باعتبار
الفحوى.
وردّ عليه أنّه
إنّما يستقيم لو سلّم دلالتهما على المنع والتحريم بالنسبة إلى هذه الصورة لأنّهما
معارضان بما هو أقوى وأصرح دلالة منهما من الأخبار المجوّزة لبيع العنب أو العصير
ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو مسكراً ، وحملهما على الكراهة كما هو المشهور في
حكم البيع ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً وهو الأقوى على ما ستعرف ففي نهوض الخبرين
حينئذٍ بحكم مسألتنا غاية الإشكال ، إلّا أن يقال بأنّ المناقشة المذكورة مع أنّ
مبناها على الاستبعاد مختصّة بمعتبرة عمرو بن حريث ولا تجري في صحيحة عمر بن اذينة
كما لا يخفى ، وهذا كافٍ في إنهاض الدليل على حكم المسألة بالخصوص فتأمّل.
ثمّ إنّ حكم
المسألة يجري في بيع كلّ ذي منفعة محلّلة على أن يصرف في المنفعة المحرّمة بإحدى
الصور الأربع المذكورة ، لعموم القواعد المشار إليها ، مضافاً إلى القاعدة
الّتي أقعدناها في ذيل مسألة المسكرات الجامدة ، بل هذه القاعدة أيضاً تنهض
مدركاً آخر للحكم في مسألتنا هذه أيضاً.
ثمّ إنّ البيع
بالنسبة إلى الصور المذكورة حيث يحرم يفسد على معنى أنّ تحريمه يلازم الفساد
لتعلّق النهي به باعتبار المعوّض الّذي هو من أركان عقد المعاوضة ، ومن المقرّر
أنّه ممّا يقتضي الفساد حتّى أنّه لو قلنا في الصورة الأخيرة بالتحريم أيضاً لزمه
الفساد ، كما أنّه كذلك في الصورة الرابعة أيضاً وإن اختصّ التحريم بالبائع لأنّ
الفساد من جانب واحد يستلزمه من الجانب الآخر ، لأنّ تبعّض العقد في الصحّة والفساد
بالنسبة إلى الجانبين غير معقول.
وممّا يمكن أن
يحتجّ به على الفساد الإجماع حيث ثبت على التحريم لظهور عباراتهم بل صريح جملة
منها في الملازمة بينهما ، فالإجماع على التحريم إجماع على الفساد ، ولعلّه لأجل
قاعدة اقتضاء النهي حسبما بيّنّاه ، مضافاً إلى قوله : «أو شيء يكون فيه وجه من
وجوه الفساد» بناءً على عمومه لما نحن فيه كما سبق لدلالته على الحكم تكليفاً
ووضعاً ، مضافاً إلى قوله عزّ من قائل : «لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» بتقريب أنّ
أخذ الثمن المبذول بإزاء المبيع المحصور في البيع في المنفعة المحرّمة المبغوضة
للشارع الساقطة في نظره والتصرّف فيه ، أكل للمال بسبب الباطل ، ولا يكون إلّا من
جهة عدم انتقاله بالعقد إلى البائع.
وتوهّم : أنّه
داخل في المستثنى لكونه من التجارة عن تراضٍ فلا يتناول حكم المستثنى منه للثمن ،
يدفعه : أنّ التراضي الموجب للصحّة في التجارة هو الّذي أمضاه الشارع لا مطلق
التراضي ، ولذا لا يصحّ البيع الربوي وبيع الخمر والميتة وغيرها من الأعيان النجسة
وغيرها ممّا يحرم التكسّب ، فهو فيما نحن فيه غير مجدٍ في الصحّة ، فيكون الثمن
الصائر إلى البائع مندرجاً في حكم المستثنى منه.
ويؤيّد الجميع
النصوص الواردة في بيع الجارية المغنّية وشرائها الدالّة على فساده باعتبار ما في
بعضها من «أنّ ثمن المغنّية حرام» وفي البعض الآخر «ثمن الكلب
__________________
والمغنّية سحت» وفي البعض الآخر أيضاً «ثمن المغنّية ثمن الكلب وثمن
الكلب سحت والسحت في النار» نظراً إلى أنّ ما نحن فيه مع بيع المغنّية لأجل التغنّي
بها من وادٍ واحد ، وإنّما لم نعتبره دليلاً خروجاً عن شبهة القياس.
تذنيب : فيما لو باع العنب أو الخشب
ممّن يعملهما خمراً أو صنماً أو بربطاً أو عوداً أو نحو ذلك من دون شرط ولا توافق
ولا قصد من البائع ، فله صور أربع
أو خمس :
الاولى : أن
يعلم البائع أنّ المشتري يعملهما.
الثانية : أن
يظنّ به.
الثالثة : أن
يشكّ فيه.
الرابعة : أن
يظنّ عدمه.
الخامسة : أن
يقطع بالعدم.
وفي جوازه
مطلقاً ، أو عدمه كذلك ، أو جوازه فيما عدا صورة العلم والمنع فيها ، أو جوازه
فيما عدا صورتي العلم والظنّ والمنع فيهما ، احتمالات ، وبحسبها أقوال للأصحاب ،
إلّا الاحتمال الثاني لعدم الوقوف على قائله حتّى أنّ التتبّع في كلماتهم يعطي
إجماعهم على الجواز والصحّة فيما عدا الصورتين الاوليين سيّما صورة القطع بالعدم.
نعم ذكر في
الروضة أنّه قيل : يحرم ممّن يعمله مطلقاً ، والظاهر بل
المقطوع به أنّه إن كان قولاً فالمراد به ما عدا صورة القطع. فالمحقّق من أقوالهم
ثلاثة : الجواز مطلقاً ، وهو المشهور المحكيّ فيه الشهرة في كلام جماعة. والمنع في
صورة العلم والجواز في غيرها ، وهو خيرة العلّامة في المختلف ولعلّ له
موافقاً أيضاً كما نسب ذلك إلى ظاهر التهذيب وصريح النهاية . والمنع في صورتي العلم والظنّ والجواز في البواقي كما
اختاره ثاني الشهيدين في المسالك والروضة .
وعن ابن المتوج
القول بالحرمة مع الصحّة ، ولعلّ مراده صورة العلم.
__________________
ويظهر من
السيّد في الرياض الوقف حيث قال : «فالمسألة لذلك محلّ إعضال ، فالاحتياط فيها لا
يترك على حال» .
ومنشأ الاختلاف
لعلّه اختلاف النصوص الواردة في الباب وتعارضها ، واختلاف الأنظار في علاج التعارض
ووجه الجمع بينها.
فمن الدالّ
منها على الجواز مطلقاً ما تقدّم نقله من صحيحة عمر بن اذينة ومعتبرة عمرو بن
حريث.
ومن الدالّ
منها على الجواز مطلقاً المستفيضة الواردة في بيع العصير أو العنب وغيرهما ، وفيها
الصحاح وغيرها :
مثل صحيح
الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام «إنّه سئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمراً؟ فقال : بعه ممّن يطبخه ويصنعه
خلاً أحبّ إليّ ولا أرى بالأوّل بأساً» .
وما تقدّم في
صحيح ابن اذينة «عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط ، فقال : لا بأس به» .
وخبر أحمد بن
محمّد بن أبي نصر قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن بيع العصير فيصير خمراً قبل أن يقبض الثمن؟ فقال :
لو باع ثمرته ممّن يعلم أنّه يجعله حراماً ـ وفي رواية اخرى ممّن يعلم أنّه يجعله
خمراً حراماً ـ لم يكن بذلك بأس ، فأمّا إذا كان عصيراً فلا يباع إلّا بالنقد» .
وصحيح محمّد
الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن بيع عصير العنب ممّن يجعله حراماً؟ فقال : لا بأس به
، تبيعه حلالاً ويجعله حراماً فأبعده الله وأسحقه» أسحقه : أي
أبعده عطف تفسير.
وصحيح ابن
اذينة قال : «كتبت إلى أبي عبد الله عليهالسلام أسأله عن رجل له كرم أيبيع
__________________
العنب والتمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو سكراً؟ فقال : إنّما باعه
حلالاً في الإبّان الّذي يحلّ شربه وأكله فلا بأس ببيعه» .
وخبر أبي بصير
قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله
خمراً؟ قال : إذا بعته قبل أن يكون خمراً وهو حلال فلا بأس» .
وخبر أبي كهمش
قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام عن العصير ، فقال : لي كرم وأنا أعصره كلّ سنة وأجعله
في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي؟ قال : لا بأس وإن غلى فلا يحلّ بيعه ، ثمّ قال : هو
ذا نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً» .
وخبر رفاعة بن
موسى قال : «سئل أبو عبد الله وأنا حاضر عن بيع العصير ممّن يخمّره؟ قال : حلال ،
ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شراباً خبيثاً» .
وخبر يزيد بن
خليفة قال : «كره أبو عبد الله عليهالسلام بيع العصير بتأخير» .
وخبره الآخر
أيضاً عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سأله رجل وأنا حاضر ، قال : إنّ لي الكرم ، قال
: تبيعه عنباً؟ قال : فإنّه يشتريه من يجعله خمراً ، قال : فبعه إذاً عصيراً ، قال
: فإنّه يشتريه منّي عصيراً فيجعله خمراً في قربتي ، قال : بعته حلالاً فجعله
حراماً فأبعده الله ، ثمّ سكت هنيئة ، ثمّ قال : لا تذرنّ ثمنه عليه حتّى يصير
خمراً فتكون تأخذ ثمن الخمر» .
والجمع بينها
وبين الخبرين الدالّين على المنع في الخشب يتصوّر من وجوه :
أحدها : حمل
النهي فيهما على الكراهة ، كما هو المشهور.
والآخر العمل
بكلّ من المتعارضين في مورده فيقال بالمنع في بيع الخشب والجواز في بيع العنب
والعصير والتمر ، كما احتمله بعض مشايخنا قدسسرهم وقال : «إنّه قول فصل إن لم يكن قولاً بالفصل» .
__________________
والثالث :
حملهما على صورة العلم وحملها على البواقي ، وعليه مبنى قول العلّامة وإن لم يصرّح
به في المختلف.
والرابع :
حملهما على صورتي العلم والظنّ وحملها على ما عداهما ، كما عليه مبنى خيرة المسالك
والروضة.
والأقوى الأوّل
وفاقاً للمشهور ، لاعتضاده بعمل المعظم ، مع أنّ له شاهداً في روايات الباب وهو
صحيح الحلبي المتقدّم لمكان قوله عليهالسلام : «بعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلّاً أحبّ إليّ ولا أرى
بالأوّل بأساً» ويضعّف البواقي بذلك ، مضافاً إلى عدم شاهد عليها ، مع
أنّ الأوّل ممّا لا قائل به حتّى أنّ من ذكره فإنّما ذكره احتمالاً مع ما فيه من
شبهة خرق الإجماع المركّب ، وأنّ الأخيرين يأباهما عدّة من النصوص المجوّزة
لاختصاصها بصورة العلم المصرّح به فيها سؤالاً أو جواباً.
ولا مخالفة لما
اخترناه من الجواز المطلق لعموم رواية تحف العقول ، لما بيّنّاه سابقاً من ظهورها
بحكم التبادر أو غيره من الأدلّة الخارجيّة في بيع الشيء في وجه الفساد ، ولا
يكون إلّا مع قصد الغاية المحرّمة ومفروض المسألة انتفاؤه. وتوهّم : أنّ علم
البائع بحصولها من المشتري لا ينفكّ عن قصدها ، يندفع بمنع الملازمة لأنّ العلم
المذكور يجامع قصد غاية اخرى كنقد المال ونحوه.
ولا لقاعدة
حرمة الإعانة على الإثم ، لانتفاء القصد أيضاً الّذي لا يصدق معه الإعانة على
إيجاد مقدّمة معصية الغير كما ذكرناه مراراً.
ولا لقاعدة
وجوب النهي عن المنكر ، لمنع وجوبه فيما نحن فيه.
أمّا فيما عدا
صورة العلم بأنّه يعمل العنب والخشب خمراً وصنماً وما أشبهه فلكون أدلّة وجوبه
مخصوصة بصورة العلم بالتشاغل بالمنكر أو العزم والتهيّؤ له ، فلا يجب النهي مع
الظنّ به ولا مع الشكّ فيه ولا الظنّ بالعدم ولا القطع به إجماعاً بل ضرورة من
الدين.
وأمّا في صورة
العلم فلأنّ من شروط وجوبه احتمال التأثير في الارتداع ، وهذا
__________________
الشرط منتف هنا ، فإنّ هذا البائع إذا ترك بيع متاعه لتوصّل إليه المشتري
من غيره فلا يكون تركه علّة لتركه وإنّما يكون كذلك إذا انحصر المبيع فيه ، أو علم
البائع أو احتمل بعدم قيام غيره ممّن عندهم جنس هذا المبيع بترك البيع ، وكلّ من
هذين إنّما يتحقّق في فرض نادر لا يصلح مناطاً للحكم.
مع أنّه لو
حرّم البيع في نحو هذه الصورة من باب النهي عن المنكر لزم سدّ [باب] المعاملات
بأسرها مع سلاطين الجور وحكّام الجور والظلمة وأعوانهم والفسقة من الرجال والنسوان
لمكان العلم التفصيلي أو الإجمالي بأنّهم يصرفون المبيع ـ من مأكول أو مشروب أو
ملبوس أو نحو ذلك ـ في الملاهي والمعاصي والفسوق والقبائح ووجوه الظلم ، وهو خلاف
الضرورة من الدين ، ويصادم السيرة من المسلمين الكاشفة عن التقرير ورضا المعصوم.
فلو كان في
أدلّة وجوب النهي عن المنكر عموم بحيث يتناول المقام وجب تخصيصها بغيره. ومن هنا
يعلم وجه الخروج عن قاعدة حرمة الأمر بالمنكر على معنى الحمل على المعصية لو فرض
في أدلّة حرمته عموم يتناول المقام لقبولها التخصيص.
مضافاً إلى منع
صدق الحمل على المعصية على البيع الحاصل لا بقصد الغاية المحرّمة من البائع ، فإنّ
المصداق المشترك بين عنوانين قبيح وحسن محرّم ومباح لا يصرف إلى أحدهما إلّا إذا
حصل بقصده ، ولذا لا يصدق عنوان الظلم على ضرب اليتيم المقصود به التأديب مثلاً.
ومن ذلك أيضاً
يتطرّق المنع إلى مخالفته لقاعدة اللطف ، فإنّ البيع الغير المقصود به توصّل
المشتري إلى المعصية لا يصدق عليه التقريب إلى المعصية ولا ترك التبعيد عن المعصية
، مضافاً إلى أنّ التقريب إلى المعصية كالحمل عليها من الأفعال المسندة إلى ذوي
الاختيار بالتسبيب لا بالمباشرة ولا يصحّ إسنادها عرفاً إلى مع صدق عنوان السبب
على البائع عرفاً وهو منوط بقصد الغاية المحرّمة ، هذا.
ثمّ إنّ
الكراهة في هذا البيع مقصورة على صورة علم البائع ولا يثبت لغيرها خصوصاً صورة
القطع بالعدم ، ودونه صورة الظنّ به ، ودونه صورة الشكّ ، وهو ظاهر
كلام المعظم القائلين بالجواز على كراهية ، ولذا يعبّرون عن عنوان المسألة
ببيع العنب والخشب ممّن يعلم أنّه يعملهما خمراً أو صنماً مثلاً اقتصاراً في الحكم
المخالف للأصل على مقدار دلالة النصّ.
ولا ريب أنّ
ظاهر الخبرين حيث ذكر فيهما «باعه ممّن يتّخذه صلباناً» أو «أبيعه ممّن يصنع
الصليب أو الصنم» إنّما هو علم البائع بأنّه يتّخذ أو يصنع ، مع أنّ الموجود في
نبذة من الأخبار المتقدّمة إنّما هو العلم بأنّه يفعله فالجواز بالمعنى الأعمّ
المحمول عليه هذه الأخبار مقيّد به.
ثمّ إنّ البيع
ممّن يصنعه خمراً إذا كان عصيراً فالمستفاد من جمله من النصوص المتقدّمة كراهة
تأخير قبض ثمنه إلى ما بعد صيرورته خمراً ، وفي الأخير منها تعليله بأن لا يكون مع
التأخير آخذ ثمن الخمر ، وهذا تشبيه لأدنى ملابسة ، وإلّا فالثمن ثمن عصير حقيقة
وقد انتقل إلى ملك البائع بالعقد ، غاية الأمر أنّه تأخّر قبضه.
ثمّ إنّه بقي
من أطراف المسألة دقيقة أشرنا إليه سابقاً عند منع منافاة الجواز هنا لوجوب النهي
عن المنكر ، وتوضيحها أنّ بيع العنب أو الخشب أو غيرهما ممّن يعلم أنّه يصرفه في
المحرّم ويعمله خمراً أو صنماً أو غيرهما بالقياس إلى تركه له صور : فقد يكون ترك هذا
البائع للبيع سبباً وعلّة تامّة لترك المشتري وارتداعه عن المعصية ، وقد يكون
السبب لتركه وارتداعه المجموع من تركه وترك الآخرين ممّن عندهم العنب أو الخشب أو
غيره البيع وضابط الوجهين انحصار جنس هذا المبيع فيما عند هذا البائع وعدم انحصاره
فيه ، وعلى التقدير الثاني فقد يعلم هذا البائع بقيام الآخرين بترك البيع من هذا
المشتري ، وقد يحتمله احتمالاً راجحاً كما لو ظنّ ذلك ، أو مساوياً كما لو شكّ فيه
، أو مرجوحاً كما لو ظنّ العدم ، وقد يعلم عدم قيامهم بترك البيع. وهذه صور ستّ لا
يتمّ الجواز إلّا في الصورة الأخيرة ، والمتّجه في غيرها المنع والحرمة لعموم وجوب
الردع عن المعصية ، مع العلم بتأثير ترك هذا البيع على أنّه علّة تامّة لارتداع
المشتري أو أنّه جزء للعلّة أو احتماله ولو مرجوحاً.
وتوهّم : عموم
الجواز لجميع الصور المذكورة من إطلاق النصوص المجوّزة مع
انضمام ترك الاستفصال المفيد للعموم المعتضد بإطلاق فتوى المعظم ، يدفعه :
منع الإطلاق بندرة فرض الانحصار ، وندرة العلم بالتأثير ، أو احتماله على تقدير
عدم الانحصار ، نظراً إلى أنّ الغالب عدم انحصار جنس المبيع فيما عند البائع ،
والغالب من هذا الغالب أيضاً علم البائع بعدم قيام غيره ممّن عندهم العنب أو الخشب
أو غيرهما بترك البيع ، والمطلق ينصرف إلى الغالب الشائع من فروض المسألة ، وترك
الاستفصال ممّا لا مجرى لعمومه في نحو المقام لأنّ من شروطه أن لا يكون للمورد فرض
شائع ينصرف إليه الإطلاق سؤالاً وجواباً ، وإطلاق فتوى المعظم أيضاً لعلّه منزّل
على الغالب بحكم الانصراف ، فالوجه حينئذٍ في غير مورد الغالب حرمة البيع لوجوب
النهي عن المنكر والردع عن المعصية بلا معارض يوجب الخروج عنه.
المسألة الثانية : في المعاوضة على
الجارية المغنّية وكلّ عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام كالعبد الماهر في شغل السرقة أو المقامرة أو الملاهي أو
غير ذلك ، وله صور لأنّه قد تباع الجارية على أن يتغنّى بها أي يشترط ذلك في متن
العقد ، وقد يتوافق البائع والمشتري على ذلك قبل إجراء العقد من دون تصريح بذكره
في ضمنه ، وقد يقصدان من دون شرط ولا توافق على معنى أن يكون الغاية المقصودة لهما
ذلك ، وقد يقصده البائع دون المشتري ، وقد يقصده المشتري دون البائع بأن يكون
الغاية الباعثة على اشترائها التغنّي بها ، وقد لا يقصدان ولكن كان لوجود هذه
الصفة للمبيع في نظرهما مدخليّة في زيادة الثمن المبذول له على وجه يقع منه في ظرف
التحليل بإزاء الموصوف ومنه بإزاء الصفة ، وقد يكون مع عدم القصد بحيث لا مدخليّة
للصفة في زيادة الثمن وكان وجودها في نظرهما بمنزلة العدم ومرجعه إلى كون الثمن
المبذول لها كالثمن المبذول للجارية الفاقدة لتلك الصفة.
وأكثر هذه
الصور كالأُولى والثانية والثالثة والرابعة يبعد تحقّقها من البائع المسلم ، إذ لا
غرض له في اعتبار الشرط المذكور ، ولا التوافق مع المشتري ولا القصد إلى الغاية
المحرّمة بأن يكون داعيه إلى البيع هذه الغاية لا غير. ولكن حيث تحقّق البيع بأحد
هذه الوجوه فلا ينبغي التأمّل في حرمته وفساده ، لحرمة الإعانة على الإثم ، ووجوب
النهي
عن المنكر ، والردع عن المعصية ، وحرمة الأمر بالمنكر والحمل على المعصية
والتقريب إليها عقلاً ونقلاً ، مضافاً إلى أنّ أخذ الثمن وبذله بإزاء المبيع لأجل
الغاية المحرّمة أكل للمال بالباطل.
وأمّا الصور
الثلاث الباقية فلا إشكال في جواز الأخيرة منها ، للأصل الثانوي المستفاد من
عمومات العقود أجناساً وأنواعاً وأصنافاً ، مع عدم مخرج منه من الأدلّة الخاصّة
ولا القواعد العامّة ، مع ورود نصّ خاصّ دالّ على الجواز والصحّة فيه ، مثل ما
رواه عبد الله بن الحسن الدينوري عن أبي الحسن عليهالسلام في حديث قال : «قلت : فأشتري المغنّية أو الجارية تحسن
أن تغنّي اريد منها الرزق لا سوى ذلك؟ قال : اشتر وبع» .
وأمّا الصورتان
الاخريان فالظاهر حرمة اولاهما ، وهي ما لو كان الغاية المقصودة للمشتري التغنّي
بها لا غير ، كما يدلّ عليه الخبر المذكور حيث قال : «اريد بها الرزق لا سوى ذلك»
لقضائه بأنّ عدم الجواز مع إرادة الغاية المحرّمة معتقد السائل مفروغ عنه عنده وقد
قرّره الإمام عليهالسلام على معتقده ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة الصريحة في
المنع والفساد المنصرفة إلى هذه الصورة لأنّها الغالب في المعاوضة على الجواري
المغنّية ، ففي بعضها «ثمن المغنّية حرام» وفي بعضها «ثمن الكلب والمغنّية سحت» وفي ثالث عن
شراء المغنّية قال : «قد تكون للرجل الجارية تلهيه وما ثمنها إلّا ثمن كلب ، وثمن
الكلب سحت والسحت في النار» وفي رابع عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات؟ فقال :
شراؤهنّ حرام ، وبيعهنّ حرام ، وتعليمهنّ كفر واستماعهنّ نفاق» .
وفي خامس عن
إبراهيم بن أبي البلاد قال : «أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنّيات أن تبيعهنّ
ويحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن عليهالسلام قال إبراهيم : فبعت الجواري
__________________
بثلاثمائة ألف درهم وحملت الثمن إليه فقلت له : إنّ مولى لك يقال له إسحاق
بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنّيات وحمل الثمن إليك وقد بعتهنّ وهذا الثمن
ثلاثمائة ألف درهم ، فقال : لا حاجة لي فيه إنّ هذا سحت ، وتعليمهنّ كفر ،
والاستماع منهنّ نفاق ، وثمنهنّ سحت» إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.
وهذه النصوص
كما قيل مبنيّة على الغالب وهو صورة قصد المشتري للغاية المحرّمة ، أو هي مع
الصورة الاخرى وهي ما لو كان لوجود الصفة مدخليّة في نظرهما ، أو في المعاملة
مدخليّة لزيادة الثمن ، وقصور أسانيدها ينجبر باستفاضتها ، مضافاً إلى أنّ أخذ نحو
هذا الثمن وبذله أكل للمال بالباطل.
وتوهّم : أنّ
شيئاً من الثمن مبذول بإزاء الصفة وهذا يقضي ببطلان العقد بالنسبة إلى الصفة لا
الموصوف ، يدفعه : أنّ البيع لا وجود له إلّا وجود القيد ، وهذا الوجود الخاصّ
ممّا لم يمضه الشارع ولا وجود للبيع في الموصوف سواه ، فالصحّة في الموصوف بدونها
في الصفة غير صحيح ، هذا ولكن في كون مدخليّة الصفة في زيادة القيمة بحسب المعاملة
وفي عادة النوع لا في نظرهما وجعلهما مقتضية للمنع والفساد نظر خصوصاً لو لم يكن
للمشتري غرض في اشترائها إلّا الاستخدام وغيرها من المنافع المباحة ، بل منع ،
فالأقرب حينئذٍ الجواز والصحّة.
المسألة الثالثة : في إجارة المسكن أو
السفينة أو الحمولة للمحرّمات كعمل الخمر أو بيعه أو اقتنائه أو حمله وحمل الخنازير وما أشبه ذلك ،
والظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في تحريم نحو هذه الإجارة وفسادها ، بل عن الشيخ
وابن زهرة في الخلاف والغنية الإجماع على عدم صحّة إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر
وإجارة الدكّان ليباع فيه.
والمراد
بالإجارة هنا على ما ينساق من كلماتهم أن يعتبر المنفعة المحرّمة بالخصوص عنواناً
في الإجارة ومورداً للعقد سواء على وجه الركنيّة ـ كأن يقول :
__________________
آجرتك داري على أن تعمل فيها الخمر ، أو دكّاني على أن تبيع فيه الخمر أو
لحم الخنزير ، أو دابّتي على أن تحمل عليها الخمر ـ أو على وجه الشرطيّة ، أو على
وجه التواطي والتوافق عليها قبل إجراء العقد ، أو بقصدها من المؤجر والمستأجر ، أو
من المؤجر فقط. وإطلاق كلماتهم مع إطلاق معقد الإجماعين يعمّ الجميع.
ومدرك الحكم ـ بعد
الإجماعين المعتضدين بظهور عدم الخلاف ، مضافاً إلى حرمة الإعانة على الإثم ووجوب
النهي عن المنكر والردع عن المعصية وأنّ أخذ المال بإزاء المنفعة المحرّمة الساقطة
في نظر الشارع والتصرّف فيه أكل للمال بالباطل ـ خبر جابر بالسند الجاري مجرى
الصحيح بوقوع عبد الله بن مسكان مع انتهائه إليه صحيحاً قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ فقال : حرام
اجرته» وفي نسخة اخرى «حرام أجره».
وربّما توهّم
معارضة صحيحة عمر بن اذينة قال : «كتبت إلى أبي عبد الله عليهالسلام أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته أو دابّته ممّن يحمل فيها
أو عليها الخمر والخنازير؟ قال : لا بأس له» .
ولأجل ذا جمع
الشيخ بينهما على ما حكي عنه بحمل الأوّل على من يعلم أنّه يباع فيه الخمر ،
والثاني على من لا يعلم أنّه ما يحمل عليها.
ولعلّه أراد به
الجمع التبرّعي دفعاً للمناقضة الظاهرة كما هو دأبه في التهذيبين لا الجمع
الالتزامي على وجه يكون مناطاً للإفتاء والعمل ، وإلّا يرد عليه أنّه ممّا لا شاهد
عليه مع افتقار نحو هذا الجمع إلى شاهدين.
وربّما وجّه
بأنّ الأوّل نصّ فيمن يعلم وظاهر في غيره والثاني بعكس ذلك ، فيطرح ظاهر كلّ بنصّ
الآخر. وفيه من التحكّم ما لا يخفى ، لمنع النصوصيّة في المقامين.
والوجه عندي
أنّ الخبر الأوّل دليل تامّ على المسألة بجميع صورها ، لظهوره
__________________
فيما جعل بيع الخمر عنواناً في الإجارة ومورداً للعقد لمكان الفاء في قوله
: «فيباع فيه الخمر» فإنّه لا يلائم شيء من معانيها مورد السؤال إلّا كونها عاطفة
من عطف مفصّل على مجمل على حدّ ما في قوله : «فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ» فإنّ المعطوف
عليه أعني قوله «يؤاجر بيته» كأن يتضمّن جعل بيع الخمر عنواناً ولو في إرادة
السائل وكان يدلّ عليه إجمالاً ، فذكر ما يفصّله بطريق العطف بالفاء واستظهر
الإمام عليهالسلام هذا الاعتبار من السؤال بواسطة كلمة الفاء في المعطوف
فذكر في الجواب «حرام اجرته» وإطلاقه من جهة ترك الاستفصال يعمّ جميع الصور
المذكورة.
نعم يعارضه
الصحيحة بظاهرها لاحتمالها إرادة إجارة السفينة أو الدابّة ممّن يحمل فيها أو
عليها الخمر والخنازير على وجه جعل حمل الخمر والخنازير عنواناً فيها مورداً للعقد
على وجه الركنيّة ، أو يشترط في ضمن العقد ، أو توافق قبل إجرائه ، أو في قصد
المؤجر والمستأجر ، أو في قصد المؤجر فقط ، أو المستأجر كذلك. أو لم يجعل عنواناً ولكن
كان الخمر أو الخنازير من جملة ما قصد حمله من الأمتعة على وجه علم به المؤجر ، أو
قصد مطلق الحمل ، أو حمل ما يحلّ حمله من الأمتعة ولكن كان حمل الخمر أو الخنازير
مقصوداً له من باب الغاية الداعية إلى الاستيجار من دون أن يكون مورداً للعقد ولا
بعضاً منه وعلم به المؤجر ، أو كان في قصده ذلك وعلم به المؤجر بعد الإجارة لا
حينه ، أو أنّه بدا له بعد الإجارة أن يحمل الخمر أو الخنازير من دون كونه مقصوداً
له حين العقد.
ولكنّه ينهض
مخصّصاً لها بحملها على الصور الأربع الأخيرة لكونه باعتبار أقلّيّة الصور
المندرجة فيه أخصّ منها فيكون أظهر منها في العموم ، ومن الواجب تقديم الأظهر على
الظاهر ، مضافاً إلى أنّه حاظر وهي مبيحة والحاظر مقدّم على المبيح ، وإلى اعتضاده
بفهم الأصحاب وعملهم ، وبموافقة مضمونه الكتاب لآية «لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» وبموافقته
للقواعد العامّة المحكّمة حسبما تقدّم الإشارة إليها.
هذا ، ويدلّ
عليه أيضاً ما في رواية تحف العقول من قوله عليهالسلام : «فأمّا وجوه الحرام
__________________
من وجوه الإجارة ، نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله أو شربه ، أو
يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء أو حفظه ، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضراراً ،
أو قتل النفس بغير حقّ ، أو عمل التصاوير والأصنام والمزامر والبرابط والخمر
والخنازير والميتة والدم ، أو شيء من وجوه الفساد الّذي كان محرّماً عليه من غير
جهة الإجارة فيه ، وكلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة
نفسه فيه أو له أو شيء منه أو له ، إلّا لمنفعة من استأجره كالّذي يستأجر له
الأجير ليحمل الميتة ينحّيها عن أذاه أو أذى غيره وما أشبه ذلك» .
فإنّ مورده وإن
كان إجارة الإنسان نفسه ولم يذكر فيه نحو المسكن والسفينة والحمولة ، غير أنّه
يستفاد منه كون المناط في التحريم والفساد جعل المنفعة المحرّمة عنواناً ومورداً
للعقد ، مع أنّ إجارة الإنسان نفسه فيها أيضاً من أفراد المسألة.
ثمّ اعلم أنّه
ليس إجارة شيء ممّا ذكر ممّن يعلم المؤجر أنّه قصد المنفعة المحرّمة بالخصوص من
عمل الخمر أو اقتنائه أو بيعه أو حمله أو نحو ذلك كبيع العنب أو الخشب ممّن يعلم
أنّه يجعله خمراً أو صنماً في الجواز على ما قدّمناه من جواز ذلك على كراهية
وفاقاً للمشهور ، فإنّه غير صحيح جزماً.
ووجه الفرق أنّ
وُضِع عقد الإجارة لنقل المنافع وانتقالها وتمليكها وتملّكها ، وهو مركّب كسائر
العقود من الإيجاب والقبول ، فالسبب هو المجموع منهما وكلّ منهما جزء للسبب فوجب
تواردهما على محلّ واحد ، ولا يتأتّى ذلك إلّا بتوارد قصد المؤجر والمستأجر على
محلّ واحد ، فلا بدّ أن تفسد الإجارة ممّن يعلم أنّه قصد المنفعة المحرّمة لا غير.
وقصد المؤجر
لمطلق المنفعة أو خصوص المحلّلة منها لا يجدي نفعاً في تصحيحه ، لأنّ ما قصده
المؤجر لم يقصده المستأجر ، وما قصده المستأجر لم يمضه الشارع ، مضافاً إلى عدم
قصد المؤجر إيّاه أيضاً ، فصار وجود القبول بمنزلة عدمه لوروده على المنفعة
المحرّمة.
__________________
والإيجاب
المتعلّق بمطلق المنفعة أو خصوص المنفعة المحلّلة بانفراده غير مؤثّر لعدم كونه
سبباً تامّاً ، بخلاف بيع العنب أو الخشب ، فإنّ وضع عقد البيع لنقل الأعيان
وتمليكها وتملّكها وقد قصده البائع والمشتري ، فتوارد الإيجاب والقبول على عين
يصحّ نقلها وانتقالها وتمليكها وتملّكها ، غاية الأمر أنّ المشتري قصد من تملّكها
غاية محرّمة ، وقصد الغاية ليس من أركان العقد ولا من شروط صحّته فيلغو ، فالعقد
بمجموع جزئيه ورد محلّه فيؤثّر أثره.
والكراهة إنّما
هو للنصّ ، فما يستفاد من تضاعيف عبارات شيخنا قدسسره في الجواهر من جعلهما من وادٍ واحد على وجه يظهر منه الجواز فيهما
ليس على ما ينبغي ، وما حكاه من ظاهر التهذيب والمختلف وحواشي الشهيد والمسالك والروضة ونهاية الشيخ من حرمة الإجارة مع العلم في خصوص المساكن
والحمولات في غاية المتانة.
ثمّ إنّه لو
آجر نفسه أو دابّته لحمل الميتة ونحوها ممّا يحرم أكله أو شربه لمصلحة مأذون فيها
كدفع أذاها عن الناس ، فيؤاجر لتبعيدها عنهم وطرحها في الصحراء أو المزبلة أو
نحوها ينبغي القطع بجوازه ، لأنّه في الحقيقة إجارة في منفعة محلّلة ولرواية التحف
كما قدّمنا نقله.
ولو جعل مورد
الإجارة كلّ منفعة أو مطلق المنفعة لا بشرط بحيث دخل المحرّمة في جملته من جهة
العموم أو الإطلاق ، لا ينبغي الإشكال في الجواز والصحّة فيه بالنسبة إلى المنافع
المحلّلة المندرجة في العموم أو الإطلاق ، ولا يقدح فيهما عدم تأثيره في خصوص
المنفعة المحرّمة ، وبالجملة يصرف الإجارة إلى خصوص المنافع المحلّلة ويصحّ للأصل
والعمومات ، ولخصوص رواية ابن اذينة.
القسم الثالث :
من الأقسام الثلاث المندرجة فيما يحرم التكسّب به لتحريم
__________________
ما يقصد به ما من شأنه أن يقصد به الحرام وإن لم يكن مقصوداً بالفعل حين
عقد المعاوضة عليه ، وهذا بهذا العنوان الكلّي غير مذكور في كلام الأصحاب ، ولم
يساعد على تحريمه على الوجه الكلّي أيضاً دليل ، بل الدليل في غالب موارده في عدم
المنع والتحريم إذ ما من شيء من المبيعات إلّا ومن شأنه أن يقصد منه غاية محرّمة
، فلو كان ذلك مناطاً للمنع وتحريم المعاوضة لانسدّ باب أكثر عقود المعاوضة في
غالب مواردها وأنّه باطل بالضرورة ، بل المذكور في كلامهم نوع خاصّ منه وهو بيع
السلاح لأعداء الدين ، ولذا ذكر بعض مشايخنا رحمهمالله بعد ما أخذ العنوان على الوجه الّذي ذكرناه : وتحريم
هذا القسم مقصور على النصّ ، إذ لا يدخل ذلك تحت الإعانة خصوصاً مع عدم العلم بصرف
الغير إيّاه في الحرام.
وكيف كان
فكلمات الأصحاب في تحريم بيع السلاح لأعداء الدين من حيث الإطلاق والتقييد بأحد
الوجوه الآتية مختلفة ، وأقوالهم فيه مضطربة متشتّتة :
فمنهم من أطلق
القول بتحريمه كما في الشرائع وعزي إلى جماعة من القدماء كالشيخين في المقنعة والنهاية وسلّار والحلبي وغيرهم بل عن حواشي
الشهيد أنّ المنقول أنّ بيع السلاح حرام مطلقاً في حال الحرب
والصلح والهدنة ، لأنّ فيه تقوية الكافر على المسلم فلا يجوز على كلّ حال.
ومنهم من قيّده
بأحد امور ثلاث : قصد الإعانة ، أو قيام الحرب ، أو التهيّؤ له كما في عبارة
المسالك .
وقد يقيّد بأحد
القيدين الأوّلين على معنى كون التحريم إمّا في صورة الإعانة أو في حال الحرب.
وربّما اكتفى في التقييد بقصد الإعانة فقط. وربّما اقتصر على قيام الحرب فقط.
وربّما اعتبر
الأمران معاً على معنى الجمود في التحريم على صورة قيام الحرب مع
__________________
قصد الإعانة.
وما أبعد بينه
وبين ما نسب إلى الشيخ النجفي في شرحه للقواعد من التعدّي من السلاح إلى كلّ ما يتقوّى به الكفر من
الأطعمة والأشربة والألبسة وغيرها ، فقال بتحريم بيع الكلّ من أعداء الدين من
الكفّار والمشركين.
وقيل : لعلّ
وجهه الإعانة على إثم الحرب مع المسلمين. فردّ بأنّ المعتبر في صدق الإعانة قصدها
وحصول المعان عليه والشرط غير متحقّق هنا.
ويقوّى في
النظر كون مستنده توهّم العموم من رواية تحف العقول حيث ذكر فيه «وكذلك كلّ مبيع
ملهوّ به ، وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله عزوجل أو يقوى به الكفر والشرك أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام
محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه» فإنّ قوله : «باب
يوهن به الحقّ» يعمّ ما ذكر.
ولكن يزيّفه أنّ
هذا العموم ممّا لا عامل به من الأصحاب بل يشبه بكونه خلاف السيرة المستمرّة من
عهد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكلّ واحد من الأئمّة عليهمالسلام لاستقرارها على حمل المسلمين إلى الكفّار والمشركين
وسائر أعداء الدين ما يعيشون به من الأطعمة والأشربة والألبسة وغيرها من غير نكير
ولا ردع من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام مضافاً إلى أنّ في صحيح عليّ بن جعفر الآتي ما هو نصّ
في الجواز.
وكيف كان
فينبغي لاستعلام ما هو الحقّ من أقوال المسألة النظر في نصوصها ، وهي من المطلق
والمقيّد منها عدّة روايات : مثل صحيح عليّ بن جعفر المرويّ عن كتاب مسائله وعن
قرب الإسناد عن أخيه موسى عليهالسلام قال : «سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة؟
قال : إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس» وما رواه الصدوق بإسناده عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهمالسلام في وصيّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليّ عليهالسلام قال : «يا عليّ كفر بالله العظيم من هذه الامّة عشرة
أصناف ... إلى أن قال : وبائع السلاح من أهل الحرب» وهذا كمفهوم
الأوّل من جهة الإطلاق يعمّ حال الحرب وغيرها من حال
__________________
الهدنة والمباينة ، بناءً على إرادة ما يقابل أهل الذمّة من أهل الحرب وهم
الّذين لا يلتزمون شرائط الجزية وإن كانوا لا يتعرّضون المسلمين بالقتال
والمحاربة.
وفي مقابلهما
رواية أبي بكر الحضرمي قال : «دخلنا على أبي عبد الله عليهالسلام فقال له حكم السرّاج : ما تقول فيمن يحمل إلى الشام
السروج وأداتها؟ فقال : لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّكم في هدنة ، فإذا كانت المبائنة حرم عليكم أن
يحملوا إليهم السروج والسلاح» ورواية هند السرّاج قال : «قلت لأبي جعفر عليهالسلام : أصلحك الله أنّي كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام
فأبيعه منهم ، فلمّا عرّفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت : لا أحمل إلى أعداء
الله ، فقال لي : احمل إليهم وبعهم ، فإنّ الله يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم ـ يعني
الروم ـ فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا ، فمن حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون
به علينا فهو مشرك» وصريحه كالأوّل اختصاص الحكم بصورة المبائنة المقابلة
للهدنة وهو صلح المسلمين مع أهل الحرب على ترك الحرب إلى مدّة معيّنة ، فتكون
بمعنى ارتفاع الصلح أو انقضاء زمانه ، ولا يكون إلّا بعزم أهل الحرب على قتال
المسلمين وتهيّؤهم له وإن لم يتحرّكوا عن مقرّهم وأوطانهم بعد. فوجب الخروج من
إطلاق الأوّلين بحملهما عليهما من باب حمل المطلق على المقيّد دفعاً للمعارضة
الظاهرة.
فالمحصّل من
المجموع بعد إعمال الجمع بين المطلقات والمقيّدات هو حرمة بيع السلاح لأهل الحرب
من أعداء الدين في حال المبائنة وارتفاع الهدنة والصلح الّذي يتحقّق بالعزم على
قتال المسلمين والتهيّؤ له وإن لم يتشاغلوا به بعد ، بل ولم يخرجوا عن منازلهم
وأوطانهم كما يرشد إليه الخبران الأوّلان لتضمّنهما النهي عن حمل السلاح إلى الشام
عند صيرورة المبائنة والحرب. فما تقدّم من الجماعة : من إطلاق القول بالتحريم حتّى
في صورة الهدنة والصلح ولا سيّما الشهيد في حواشيه لصراحة كلامه فيه
، غير صحيح ، لكونه طرحاً للمقيّدات من روايات المسألة.
__________________
وأمّا التقييد
بحال الحرب أو قيامه في كلامه الآخرين ، فإن أرادوا بحال الحرب أو قيامه ما يرجع
إلى ما استظهرناه من الخبرين فمرحباً بالوفاق ، وإن أرادوا به خصوص حال التشاغل به
أعني وقوع المعركة أو ما يقرب منه كتلاقي الفئتين وتقابلهما للمعركة فهو خروج من
إطلاق نصوص المسألة بلا شاهد عليه ، لما عرفت من أنّها بعد إرجاع مطلقاتها إلى
مقيّداتها تفيد المنع والتحريم في أزيد من ذلك.
وأمّا من اعتبر
القصد إلى الإعانة في محلّ التحريم فإن اعتبره مع قيام الحرب بالمعنى المذكور كما
عرفت القول به فهو أيضاً تقييد بلا دليل فينفيه الإطلاق ، وإن أراد به الاكتفاء به
في محلّ التحريم ولو مع عدم قيام الحرب ففيه : أنّ قصد الإعانة من دون ترتّب
المعان عليه ممّا لا تأثير له في الحكم ، ومع ذلك فهو طرح لما دلّ على الاختصاص
بصورة قيام الحرب والمباينة من الخبرين.
فروع :
الأوّل : لا فرق في محلّ التحريم بين
كون أعداء الدين من فرق الكفر كالمشركين وغيرهم ، أو من المسلمين كالخوارج الّذين يخرجون على إمام العصر
ويستحلّون قتاله ـ كخوارج صفّين والنهروان وأصحاب الجمل الموسومين بالقاسطين
والمارقين والناكثين ـ كما نصّ عليه في المسالك . والدليل على
ذلك أوّلاً : عموم أهل الحرب في وصيّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليّ عليهالسلام بناءً على كون المراد من الحرب معناه اللغوي المقيّد
بصورة المبائنة لا خصوص من لا يلتزم بشرائط الذمّة من الكفّار. وثانياً : روايتا
السرّاجين لاختصاص موردهما بأهل الشام وهم في زمان الصدور كانوا يعدّون من المسلمين.
الثاني : هل يلحق بأعداء الدين قطّاع
الطريق؟ كما صرّح به في
المسالك ٢ أيضاً وجهان : من الاقتصار على مورد النصّ حذراً عن القياس ، ومن عموم
تحريم الإعانة على الإثم. وهذا أوجه ، ولكن وجب تقييده حينئذٍ بقصد الإعانة
وتعقّبه بحصول المعان عليه وهو إثم قطع الطريق ، لما ذكرناه مراراً من عدم صدق
عنوان الإعانة على الإثم إلّا بتحقّق الشرطين ، أمّا الأوّل فلأنّ المصداق المشترك
بين عنوانين لا يتعيّن لأحدهما إلّا
__________________
بقصد التعيين وهو قصد العنوان ، وأمّا الثاني فلانتفاء الأمر النسبي
بانتفاء أحد المنتسبات ، ولذا لا يقال على من قصد الإعانة على الإثم ولكن لم
يترتّب عليه حصول الإثم أنّه أعانه على الإثم ، فهذا ليس بإعانة بل قصد إعانة ،
ومن المعلوم عدم لحوق قصد الشيء به في الحكم.
الثالث : يلحق السروج بالسلاح في الحكم
، لصراحة رواية حكم السرّاج فيه. وفي لحوق ما يتوقّى العدوّ نفسه من القتل من الجثّة والخود والدرع ونحوهما
وجهان : من الجمود على موضع النصّ وهذا غير مذكور فيه فيكون التعدّي قياساً ، ومن
الأولويّة بالقياس إلى السرج لأنّه أدخل في استقرار الحرب والإقدام عليه من السرج.
وهذا أوجه لا لمجرّد الأولويّة لكونها ظنّيّة بما لا يبلغ حدّ الاطمئنان ، بل
للتعليل المستفاد ممّا في ذيل رواية هند السرّاج من قوله عليهالسلام : «فمن حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو
مشرك» نظراً إلى أنّ توصيف موضوع الحكم بالوصف المناسب للحكم يفيد علّيّة الوصف
، فهو كمنصوص العلّة. فحاصل ما يستفاد من الوصف كون المناط ما به يتقوّى العدوّ
على المسلم فيندرج فيه ما نحن فيه. ومن ذلك ظهر لحوق الفرس أيضاً بل هو أولى
بالحكم من السرج جزماً ، وأمّا لباس الفرس كالتمتام بكسر التاء ونحوه فلحوقه مشكل
بل الظاهر عدمه حذراً عن القياس ، مع انتفاء الأولويّة والمناط المذكور فيه كما لا
يخفى.
الرابع : هل البيع من أعداء الدين حيث
يحرم فاسد أيضاً أو لا؟ قولان ، حكاهما في المسالك واختار أوّلهما تمسّكاً بالنهي لتعلّقه بالمعوّض. وفيه
: أنّ كبرى هذه القاعدة ممّا لا كلام فيه على معنى أنّ اقتضاء النهي عن المعاملة
باعتبار أحد العوضين الفساد مسلّم لكشفه عن عدم صلاحية المورد للتمليك والتملّك ،
والكلام إنّما هو في الصغرى وهو كون ما نحن فيه من النهي المتعلّق بالمعاملة
باعتبار أحد العوضين لذاته ، لأنّ الظاهر المنساق من نصوص المسألة ولا سيّما ما في
رواية هند من وصف السلاح بكونه ما يستعان به أي يتقوّى به العدوّ ، وهذا كما ترى
أمر خارج ، فالنهي إنّما تعلّق ببيع
__________________
السلاح وغيره باعتبار هذا الأمر الخارج ، ومثله لا يقتضي الفساد.
نعم يمكن إثبات
الفساد ممّا في رواية التحف من قوله عليهالسلام : «وملكه» بالتقريب الّذي قدّمناه مراراً من كون المراد
تحريم ترتيب جميع آثار الملكيّة ، ولا يكون إلّا من جهة انتفاء الملكيّة. هذا ،
ولكن في النفس بعد شيء لظهوره في انتفاء الملكيّة عن الشيء في نفسه ، وما نحن
فيه ليس من هذا القبيل ، والمقصود إثبات الفساد في المبيع بهذا البيع لا مطلقاً ،
وإلّا فلا إشكال في أنّه مع قطع النظر عن هذا البيع ملك ويملك في غير هذه الصورة
من البيوع.
الباب
الثالث
فيما
لا ينتفع به من الأشياء
كالحشرات
وفضلات الإنسان وما يلحق بهما من المسوخ والسباع ، والتعبير عن العنوان بما سمعت
كما وقع في كلام جماعة بل الأكثر ، كالمبسوط والغنية والوسيلة والشرائع والنافع والتذكرة والقواعد والسرائر والإرشاد والكفاية وغيرها . وفي الدروس التعبير عنه بما لا نفع مقصوداً منه للعقلاء كالحشار
وفضلات الإنسان ، وفي معناه ما في المستند من التعبير «ممّا لا يكون فيه نفع معتدّ
به عند العقلاء» وفي اللمعة التعبير «بما لا نفع فيه غالباً كالحشرات
وفضلات الإنسان» والمعنى عند الكلّ واحد.
وما يتراءى من
العبارات المذكورة اختلاف في التعبير لا في المعنى لرجوع عبارة المطلقين إلى
المقيّد المصرّح به في كلام الآخرين أعني ما لا يكون فيه نفع مقصود للعقلاء سواء
لم يكن فيه نفع أصلاً أو كان ولم يكن مقصوداً للعقلاء. وإليه يرجع أيضاً النفع
الغالب قبالاً للنفع النادر ، إذ ليس المراد بغلبة النفع وندرته غلبة أو ندرة
وجوده ولا غلبة أو ندرة اتّفاق الحاجة إليه ، بل غلبة أو ندرة قصده وطلبه ، فإنّ
المنفعة عبارة
__________________
عن الفائدة المطلوبة أي المقصودة من الشيء ولا بدّ له من طالب وقاصد وهو
قد يكون الغالب من العقلاء وقد يكون البعض النادر منهم.
وبعبارة اخرى
أنّ الفائدة الموجودة في الشيء إن كان ممّا يعتدّ به ويعتني إليه غالب العقلاء
فهو النفع الغالب ، وإن كان بحيث لا يعتدّ ولا يعتني به إلّا البعض النادر منهم
فهو النفع النادر ، والّذي يشهد بذلك كلّه أنّ الجميع على اختلاف عبائرهم مثّلوا
للعنوان بالحشرات ، ومنهم من أضاف إليها فضلات الإنسان ، ومنهم من أضاف إليها جملة
من المسوخ والسباع كلّها أو بعضها. ولذا ترى ما في كلام جماعة من منع جواز بيع
القردة لفائدة حفظ المتاع تعليلاً بأنّه منفعة نادرة أي ندرة من يطلب هذه المنفعة
من العقلاء ، ونحوه من منعه في دود القزّ لفائدة صيد السمك تعليلاً بالندرة. ومن
ثمّ أيضاً قال العلّامة في التذكرة ـ بعد ما ذكر لما لا ينتفع به أمثلة من الحشرات
ـ : «ولا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها ، فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً» فإنّ مراده
أنّ هذه الخواصّ في الأشياء المذكورة منافع لا يقصدها العقلاء أي لا يعتني بها
غالبهم بدليل أنّهم لا يعدّون هذه الأشياء مع هذه الخواصّ أموالاً حيث لا يعتبرون
لها قيمة بل لا قيمة لها عندهم ولا يقابلون لها بالمال إلّا نادراً.
ولا ينافي ما
ذكرناه ما قد يوجد في كلامهم من التمثيل لما لا ينتفع به بغير الحشرات كما في
الشرائع حيث مثّل بالمسوخ برّيّة كانت أو بحرّية وبالسباع ،
لأنّ هذا منه مبنيّ على كلام صغروي تتعرّض له فيما بعد ذلك إن شاء الله ، وهو أنّ
المسوخ والسباع أيضاً كالحشرات ليس فيها منفعة غالبة مقصودة للعقلاء أوّلاً ، فما
سمعت بناءً منه فيها على العدم.
وبالجملة محلّ
المنع في هذا الباب الأشياء الّتي ليس فيها منفعة غالبة مقصودة للعقلاء وإن فرض في
بعضها منفعة نادرة غير مقصودة لهم كالفضلات والحشرات من الحيوانات كالفار والعقارب
والحيّات والخنافس والجعلان وبنات وردان والديدان
__________________
والقنافذ واليرابيع والنمل والزنبور والبعوضة والبق والقمّل والبرغوث وما
يلحق بها كالخفّاش الّذي يطير بالليل.
ويرجع الحكم
عليها بعدم جواز التكسّب بها وعدم صحّة المعاملة عليها إلى بيان أنّ من شروط صحّة
البيع وغيره من عقود المعاوضة اشتمال المورد على منفعة معتدّ بها عند العقلاء وهو
النفع الغالب المقصود لهم.
وإذا تمهّد هذا فينبغي التكلّم في
مقامين :
المقام الأوّل : في الحكم الكبروي
للأشياء الغير المنتفع بها جزماً فنقول : المعروف من مذهب الأصحاب فيما لا ينتفع به من الأشياء ـ كالمذكورات
ـ هو عدم جواز التكسّب بها وعدم صحّة المعاملة عليها مطلقاً بلا خلاف يظهر ، بل
الظاهر المظنون القويّ المتاخم للعلم إن لم ندّع القطع أنّه إجماعي كما صرّح به في
الرياض ونصّ عليه بقسميه في الجواهر .
وصرّح الشيخ في
موضع من المبسوط بعدم الخلاف فيه حيث إنّه في حكم ما يصحّ بيعه وما لا يصحّ قال : «الأشياء
على ضربين حيوان أو غير حيوان ، والحيوان على ضربين آدمي وبهيمة ... إلى أن قال :
وما ليس بآدمي من البهيمة فعلى ضربين نجس وطاهر ... إلى أن قال : وأمّا الطاهر
فعلى ضربين ضرب ينتفع والآخر لا ينتفع به ... إلى أن قال : وإن كان ممّا لا ينتفع
به فلا يجوز بيعه بلا خلاف مثل الأسد والذئب وسائر الحشرات من الحيّات والعقارب
والفار والخنافس والجعلان والحدأة والنسر والرخمة وبغاث الطير وكذلك الغربان سواء
كان أبقع أو أسود ... إلى آخر ما ذكر. وفي موضع آخر بعيد ذلك بأسطر صرّح بالإجماع
قائلاً : «كلّما ينفصل من آدمي من شعر ومخاط ولعاب وظفر وغيره لا يجوز بيعه إجماعاً
، لأنّه لا ثمن له ولا منفعة فيه» الخ.
لا يقال : هذا
مخصوص بفضلات الإنسان ولا يتعدّاها إلى غيره. لإمكان تعدية الحكم أوّلاً بالإجماع
المركّب ، وثانياً بتنقيح المناط لوضوح أنّ مناط الحكم كما يظهر من تعليله انتفاء
الثمن على معنى عدم قيمة لهذه الأشياء في العرف والعادة وعدم
__________________
المنفعة ، وكلّ منهما موجود في الحشرات وما يلحق بها من السباع والمسوخ ،
وثالثاً ظهور كون الإجماع المذكور إجماعاً على الحكم والعلّة معاً على معنى كونه
نقلاً للكاشف عن قول المعصوم في كليهما فتكون نوعاً من العلّة المنصوصة وهي حجّة.
ويظهر دعوى
الإجماع أيضاً من تذكرة العلّامة ومن التنقيح ، أمّا الأوّل فلأنّه قال : «لا يجوز
بيع ما لا ينتفع به من الحيوانات كالخفّاش والعقارب والحيّات وبنات وردان والجعلان
والقنافذ واليرابيع ، لخسّتها وعدم التفات نظر الشارع إلى مثلها في التقويم ولا
يثبت الملكيّة لأحد عليها ولا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها فإنّها مع
ذلك لا تعدّ مالاً وكذا عند الشافعي» الخ فإنّ قوله «وكذا عند الشافعي» يفيد كون لفظ «عندنا»
مطويّاً قبل ذلك في العبارة بل ربّما يفيد كون الاتّفاق عند الأصحاب على الحكم في
الوضوح بحيث لا يحتاج إلى التصريح به في الكلام.
وأمّا الثاني
فلأنّه عند بيان حكم ما يصحّ بيعه من الأشياء وما لا يصحّ فإنّه بعد ما قسّم
الأشياء إلى ما لا منفعة فيه أصلاً وإلى ما فيه منفعة وقسّم الثاني إلى ما يكون
جميع منافعه محلّلة وما يكون جميع منافعه محرّمة وما بعض منافعه محرّمة وبعضها
محرّمة على ما حكي ذكر «أنّ الأوّل من هذه الأقسام يجوز بيعه والثاني يجوز بيعه
إجماعاً والثالث لا يجوز إجماعاً» فهو ملحوق بمعدوم المنفعة فإنّ ذلك يدلّ على كون معدوم
المنفعة أيضاً إجماعيّاً. وهذا ربّما يعطي دعوى الإجماع في معدوم المنفعة على وجه
أبلغ من التصريح به لأنّ اللحوق يقتضي كون الملحوق به أصلاً والملحوق فرعاً ،
فيكون الإجماع على الفرع من جهة الإجماع على الأصل ، أو أنّ الأصل أولى بالإجماع.
وهذه الإجماعات
إن لم نقل بحجّيّة كلّ واحد من حيث إنّه إجماع فلا أقلّ من أنّه يحصل من ملاحظة
مجموعها مع اعتضادها بما ذكرناه من ظهور عدم الخلاف ، بل ظهور الإجماع الظنّ
القويّ البالغ حدّ الاطمئنان بالحكم ، وعليه مدار الاستنباط عندنا غالباً هذا.
__________________
ويدلّ عليه
أيضاً وجوه اخر :
منها : أنّ هذه
الأشياء لا يثبت عليها الملكيّة لأحد كما نصّ عليه فيما سمعت من التذكرة ، فلا
يجري عليها البيع وغيره من عقود المعاوضة لاشتراط الملكيّة في صحّتها ، أمّا
الصغرى فيكفي في إحرازها الأصل لأنّ الملكيّة في الأملاك صفة حادثة ، والأصل عدم
حدوثها في هذه الأشياء بشيء من أسبابها حتّى الحيازة.
لا يقال : إنّ
الأصل بالنسبة إلى الحيازة منقطع بعموم قوله عليهالسلام : «لليد ما أخذت». لأنّ عامّ في مورده والمقام ليس من
مورده لاعتبار قابليّة التملّك في مورده فهو عامّ في الأشياء القابلة لأن يحدث
فيها الملكيّة ، ونحن نشكّ في عروض صفة الملكيّة لهذه الأشياء باعتبار الشكّ في
قابليّتها للتملّك. فالأصل المذكور ممّا لا وارد عليه من جهة هذه الرواية إذ
القابليّة لا تحرز بها ، على أنّه يمكن إثبات عدم القابليّة فيها بملاحظة العرف
والعادة ـ أعني عادةً الناس وعامّة العقلاء ـ لجريانها بأنّهم لا يتملّكون هذه
الأشياء لخسّتها وعدم منفعة فيها تكون مقصودة للعقلاء ولا يرتّبون عليها آثار
الملكيّة أصلاً ، فتكون سيرة بينهم وليست بحادثة بل قديمة ثابتة من عهد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وما قبله وما بعده من أعصار الأئمّة عليهمالسلام وغيرها إلى يومنا ، فتكون كاشفة عن تقرير المعصومين عليهمالسلام الناس على معتقدهم وعملهم.
ومنها : أنّ
هذه الأشياء لا تعدّ أموالاً في العرف والعادة ولا يعتبر لها قيمة عند العقلاء ،
وما قد يتّفق نادراً من التقويم وأخذ القيمة أو بذلها فهو لا يوجب الماليّة لعدم
اعتناء الشارع بها بل هو في الحقيقة ليس تقويماً بل قد يقصد به رفع اليد فلا تصلح
للتعويض فلا تجري عليها عقود المعاوضة ولا غيرها ممّا ينوط انعقاده بماليّة المورد
، كما أشار إلى هذا الوجه في عبارة التذكرة كقوله : «ولا اعتبار بما يورد في
الخواصّ من منافعها تعليلاً بأنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً» .
ومنها : أنّ
التكسّب بهذه الأشياء معاملة سفهيّة ، وهي خارجة من مقاصد العقلاء فلا يشملها
عمومات الصحّة لاختصاصها بحكم التبادر بما يتداوله العقلاء.
__________________
وقد استدلّ في
الرياض بعد الاستناد إلى الإجماع بوجهين آخرين :
أحدهما : عموم
أدلّة منع المعاملة مع السفيه.
ولا خفاء في
ضعفه ، أمّا أوّلاً : فلأنّ المستفاد من الأدلّة المشار إليها فساد المعاملة مع
السفيه ، نظراً إلى عدم نفوذ تصرّفاته الماليّة فتقع المعاملة من طرفه فاسدة ،
فتفسد من الطرف الآخر لا منعها إن أراد به الحرمة.
وأمّا ثانياً :
فلأنّ مورد هذه الأدلّة إنّما هو السفيه الملكي ، وهو أن تكون السفاهة حالة
نفسانيّة له ولم يعتبر في موضوع المسألة كون طرف المعاملة سفيهاً بهذا المعنى ، غاية
ما هنالك كون فعله من البيع أو الشراء أو بذل الماء بإزاء هذه الأشياء لخسّتها
فعلاً سفهيّاً ، والأفعال السفهيّة لا يلزمها التحريم بل غاية ما فيها كونها من
منافيات المروّة ، ولم يؤخذ فيها كونها من المعاصي الصغيرة وإن كانت قد تكون منها
كالتطفيف بحبّة مثلاً وسرقة الحبّة كذلك ، ولا دليل على كون هذا الفعل السفهي
الخاصّ معصية صغيرة إلّا حيث يندرج في عنوان التبذير.
وأضعف من هذا
الوجه ثانيهما وهو ما محصّله «أنّ تصرّفات السفيه محرّمة فالمعاملة معه إعانة على
الإثم فتحرم» .
وفيه : منع كلّ
من الصغرى والكبرى ، أمّا الأوّل :
فأوّلاً : لمنع
التحريم في تصرّفات السفيه ، بل أقصاها عدم نفوذها إذا كانت ماليّة.
وثانياً : ما
مرّ من عدم كون البحث في السفيه الملكي بل في البالغ الكامل إذا صدر منه المعاملة
على ما لا ينتفع به من الأشياء ، ولا يلزم من صدور الفعل السفهي من الكامل كونه
سفيهاً ملكيّاً فلا يشمله ما دلّ على حرمة تصرّفات السفيه.
وأمّا الثاني :
فلمنع صدق الإعانة على الإثم مع انتفاء قصدها.
وقد يستدلّ
أيضاً بكون أكل المال المأخوذ في مقابل هذه الأشياء أكلاً للمال بالباطل فيحرم
بنصّ الآية ، كما حكي عن القطيفي في إيضاح النافع .
ويشكل ذلك :
بإمكان المنع لأنّ كونه أكلاً للمال بالسبب الباطل نظير القمار
__________________
والسرقة والغصب والظلم والعقد الفاسد أوّل المسألة ، فيندرج المقام في
مستثنى الآية لا في المستثنى منه.
ودعوى : أنّ
اندراجه في المستثنى موقوف على كون التراضي المتحقّق فيه ممّا أمضاه الشارع ، وهو
موضع منع ، فيندرج في عموم المستثنى منه كما في البيع الربوي والبيع للميتة وبيع
الخمر وما أشبه ذلك.
يدفعها : بأنّا
إنّما التزمنا عدم إمضاء الشارع للتراضي في الأمثلة المذكورة ونظائرها لأدلّتها
الدالّة على منع الشارع لها من النصّ والإجماع ، وليس في المقام دليل على المنع
والتحريم بالخصوص من نصّ ولا غيره ، فيندرج في إطلاق المستثنى وهذا كافٍ في
الدلالة على الإمضاء ، إلّا أن يتشبّث في إحراز صغرى الأكل بالباطل بالإجماع المتقدّم
محصّلاً ومنقولاً ويقال : إنّه لدلالته على فساد المعاملة يستلزم كون المال
المأخوذ بسببها أكلاً للمال بالباطل ، أو يتمسّك بانتفاء الماليّة في نظر العقلاء
فيكون أخذها عوضاً في عقود المعاوضة أكلاً للمال بالباطل.
وبالتأمّل في
ذلك يندفع أيضاً ما قد يستشكل فيما ذكره العلّامة من «أنّه لا اعتبار بما يورد في
الخواصّ من منافعها فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً» بأنّه إذا
اطّلع العرف على خاصيّة في إحدى الحشرات معلومة بالتجربة أو غيرها ، فأيّ فرق بينه
وبين نبات من الأدوية علم فيه تلك الخاصيّة ، وحينئذٍ فعدم جواز بيعه وأخذ المال
في مقابله بملاحظة تلك الخاصيّة يحتاج إلى دليل لأنّه حينئذٍ ليس أكلاً للمال
بالباطل ، ويؤيّد ذلك ما في رواية التحف من «أنّ كلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من
جهة من الجهات ، فذلك حلال بيعه وشراؤه» الخ.
ووجه الاندفاع
وضوح الفرق بين المقامين والفارق كون الخاصيّة في النباتات مقصودة للعقلاء على
معنى اعتنائهم بها ، بدليل أنّهم يتملّكونها لأجلها بالحيازة ونحوها ويجرون عليها
أحكام الملك من الحفظ والضبط والقنية والتقويم وكونها عندهم تعدّ مالاً بخلافها في
الحشرات ، وهذا هو معنى التعليل بما في عبارة التذكرة. وقضيّة انتفاء
__________________
الماليّة كون أخذ الثمن أكلاً للمال بالباطل ، ولا ينافيه ما قد يبذل
العقلاء مالاً لتحصيل ذي الخاصيّة من الحشرات بصورة الاشتراء ونحوه لأنّه لرفع يد
المتصرّف عنه وإسقاط حقّه. وأمّا التأييد بالرواية ففيه المنع ، لظهور الصلاح لهم
في المصلحة المقصودة للعباد بدليل ضمير الجمع الظاهر في جميعهم.
كما يندفع
أيضاً ما قد ينقض تعليل المنع في ذوات المنافع النادرة من الحشرات وغيرها بندرة
منافعها بالعقاقير وغيرها من الأدوية للاشتراك في الندرة ، لما بيّنّاه سابقاً من
ضابط غلبة النفع وندرته ، فالخاصيّة وإن كانت متّحدة بحسب النوع فيهما إلّا أنّها
في العقاقير مقصودة للعقلاء وفي الحشرات غير مقصودة لهم.
تذنيبات :
أحدها : انّ عدم الانتفاع بالشيء فيما
لا ينتفع به قد يكون لعدم وجود منفعة مقصودة للعقلاء في نوع ذلك الشيء لخسّته كالحشرات
على ما تقدّم ، وقد يكون لعدم
حصول المنفعة المقصودة من النوع فيه لقلّته كالحبّة من الحنطة والعودة من الحطب
وما يقرب منهما ، وهما سيّان في منع التكسّب كما صرّح به جماعة وهو ظاهر
آخرين ، إمّا لإطلاق ما لا ينتفع به في معاقد فتاويهم وإجماعاتهم ، أو تعليلاتهم
للحكم بعدم القيمة وانتفاء الماليّة ، ومن ذلك ما سمعت من التذكرة من تعليل الحكم «بعدم
التفات نظر الشارع إلى مثلها في التقويم» نظراً إلى أنّ المراد به عدم قيمة لها
التفت إليها الشارع كما يكشف عن إرادة ذلك ما في ذيل العبارة من قوله : «فإنّها مع
ذلك لا تعدّ مالاً» ونحوه ما تقدّم في عبارة المبسوط من تعليل عدم جواز بيع ما
ينفصل من الإنسان من الفضلات المدّعى عليه الإجماع «بأن لا ثمن له أي لا قيمة له» في العرف
والعادة. وهذه التعليلات كما ترى تجري في نحو الحبّة والعودة.
فإن قلت :
جريان التعليلات هنا محلّ منع ، لوضوح الفرق بين ما لا ينتفع به لقلّته والحشرات ،
فإنّ الأوّل له قيمة في الواقع وإن لم يكن لقيمته مصداق في الخارج وذلك
__________________
لأنّ الحبّة والعودة بعض من الكلّ وهو عبارة عن الهيئة الحاصلة من انضمام
الأبعاض بعضها إلى بعض وله قيمة متقوّمة بتلك الهيئة ، فيكون لكلّ من أبعاضه قيمة
بنسبة قيمة الكلّ ، غاية الأمر أنّه قد يبلغ البعض في القلّة إلى ما لا وجود
لقيمته ، وعلى هذا فلكلّ من الحبّة والعودة قيمة بخلاف الحشرات الّتي لا قيمة لأصل
نوعها حتّى في ضمن الكثير.
قلت : المقصود
من التعليلات التنبيه على انتفاء الماليّة وعليها مدار الصحّة ، ولا ريب أنّ
الحبّة والعودة لا تعدّ مالاً في نظر العقلاء ولا تقابل بالمال وإن فرض لها قيمة
بحسب الواقع.
لا يقال : إنّ
من العقود الصحيحة بالنصّ والإجماع بيع المحاباة وصلح المحاباة ، ومن المعلوم أنّ
المحاباة كما تجري في جانب البائع وهو أن يبيع عينه بأقلّ من ثمن المثل ، فكذلك
تجري من جانب المشتري وهو أن يشتري العين بأزيد من ثمن المثل ، ومن الجائز أن يبذل
المشتري في الحبّة والعودة في مقابلها من الثمن ما يمكن عنه ويوجد في
الخارج ، غاية الأمر كونه أزيد من قيمة المثل ولا ضير فيه لكونه حينئذٍ من بيع
المحاباة أو صلح المحاباة من طرف المشتري أو المتصالح وهو صحيح.
لأنّا نقول :
إنّ العقد في محلّ المحاباة بيعاً أو صلحاً إنّما يصحّ لكون العين ممّا يحصل فيه
المنفعة المقصودة من النوع ، وضابطه عدم كون المعاملة سفهيّة بعدم كون بذل المال
بإزائها فعلاً سفهيّاً ، ومفروض المقام عدم حصول المنفعة المقصودة من النوع في
الشخص فيكون بذل المال في مقابل العين حينئذٍ سفهاً.
ثانيها : قد يلحق بما لا قيمة له لخسّته
أو لقلّته ما ليس له قيمة لكثرته كالقربة من الماء في شاطئ النهر أو ساحل البحر ، والمنّ من الحطب مثلاً في الغابات ، وباقة من الحشيش في
صحراء ذات حشيش ، وباقة قصب في الآجام ، فإنّ هذه الأشياء أيضاً لا تقابل بالمال
لكثرة أمثالها ، فينبغي أن لا يصحّ فيها البيع ولا غيره من أنواع التكسّب.
وفيه : نظر ،
لمنع إطلاق الحكم واطّراده ، فإنّ الجهة المقتضية للمنع في المقام إمّا الإجماع
محصّلاً ومنقولاً ، أو انتفاء المقصودة للعقلاء ، أو عدم الملكيّة ، أو عدم
الماليّة ،
__________________
أو سفهيّة المعاملة. والأوّل لا يتمشّى في المقام لأنّ معقد الإجماع بقسميه
إنّما هو ما لا ينتفع به ، وهذا ممّا ينتفع به لأنّ المنفعة المقصودة من النوع
حاصلة بعينها في الشخص. ومن ذلك علم عدم تمشّي الثاني أيضاً. والثالث أيضاً لا
يتمشّى لضرورة أنّه يتملّك بالحيازة. وكذلك الرابع فإنّه مال عند العقلاء وله قيمة
، غاية ما هنالك عدم بذلهم المال في الغالب لتحصيله لتيسّر بالحيازة والأخذ من
النهر أو البحر أو الآجام أو حشاش الأرض أو نحو ذلك ، لا أنّه في نفسه ليس.
والخامس يتفاوت بحسب اختلاف الأشخاص وحالات شخص واحد بحسب الأزمنة والأوقات ،
فالحكم منعاً وجوازاً يدور على سفهيّة بذل المال في مقابله وجوداً وعدماً ، فإطلاق
المنع غير جيّد جدّاً.
وثالثها : قال في التذكرة : «أمّا العلق
ففي بيعه لمنفعة امتصاص الدم إشكال ، وأظهر وجهي الشافعي وأحمد الجواز وكذا ديدان القزّ تُترك في الشصّ فيصاد بها السمك ، والأقرب عندي المنع وهو أحد الوجهين
لهما ، لندور الانتفاع فأشبه ما لا منفعة فيه ، إذ كلّ شيء فله نفع ما» .
أقول : استقراب
المنع في العلق غير جيّد ، لأنّ مصّ الدم لاستعلاج جملة من الأمراض الدمويّة الصعبة
منفعة يقصدها العقلاء ويعتنون بها ويقابلونه لأجلها بالمال بل يعدّونه مالاً
ويتملّكونه بالأخذ من الماء من غير نكير ولا تسفيه لفاعله ، ومن أقوى الشاهد عدم
كون المعاملة لأجلها وبذل المال في مقابله سفهيّة ، فيندرج في عمومات الجواز
والصحّة.
المقام الثاني : فيما يرجع الكلام فيه
إلى الصغرى أعني الأشياء المختلف في كونها ممّا لا ينتفع به كالمسوخ والسباع ، وفيه مقصدان :
المقصد الأوّل في المسوخ : فاعلم أنّ هذا اللفظ بضمّ أوّله على زنة فعول جمع المسخ
بفتح أوّله ، نظير درس ودروس ، وحرب وحروب ، ودرب ودروب ، وبحر وبحور ، وما أشبه
ذلك. والمسخ ورد مصدراً واسماً.
__________________
والمصدر منه
لغة تحويل الشيء من صورة إلى ما هو أقبح منها ، يقال : مسخه الله قرداً. ومحلّ
البحث منه تحويله من الصورة الإنسانيّة إلى غيرها من صور الحيوانات.
والمراد
بالأقبح الأقبحيّة الإضافيّة أعني كون الصورة المحوّل إليها أقبح من الصورة
المحوّل منها وإن كانت بالقياس إلى سائر أنواع الصور المحوّل إليها أحسنها.
فلا يرد النقض
بالطاوس الّذي هو من أحسن صور الطيور وهو من المسوخ كما ورد به رواية ، كالمرويّ
عن الكافي بإسناده عن سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : «الطاوس مسخ ، كان رجلاً جميلاً فكابر امرأة رجل
مؤمن تحبّه فوقع بها ثمّ راسلته بعد ، فمسخهما الله طاوسين انثى وذكراً ، فلا يؤكل
لحمه ولا بيضه» فإنّ الصورة الطاووسيّة أقبح من الصورة الإنسانيّة وإن
كانت فيما بين صور الطيور بل سائر المسوخ أيضاً لا قبح فيها بل كانت أحسنها.
والاسم منه
يطلق على المسوخات ولعلّه من باب النقل من المصدريّة إلى معنى اسم المفعول. ويقال
: إنّ المسوخ جميعها لم تبق أكثر من ثلاثة أيّام ثمّ ماتت ولم تتوالد ، وهذه
الحيوانات على صورها سمّيت مسوخاً على الاستعارة.
وأمّا مصاديق
المسوخ المتحقّقة في الخارج فهي كثيرة جدّاً ، بل على ما في بعض الروايات أكثر من
أن تحصى ولا يعرف أكثرها إلّا الله ومن أوقفه الله من أوليائه ، ففي حديث «إنّ الله تبارك وتعالى مسخ سبعمائة امّة عصوا الأوصياء
بعد الرسول فأخذ أربعمائة امّة منهم برّاً وثلاثمائة بحراً ، ثمّ تلا هذه الآية «فَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ» الخ.
والمحقّق
المجلسي في جلد سماء العالم من البحار ـ بعد ما أورد روايات كثيرة واردة في ضبط
المسوخ وبيان علل مسخها ـ قال : «اعلم أنّ أنواع المسوخ غير مضبوطة في كلام أكثر
الأصحاب بل أحالوها على هذه الروايات وإن كان في أكثرها ضعف على مصطلحهم ، فالّذي
يحصل من جميعها ثلاثون صنفاً : الفيل والدبّ والأرنب
__________________
والعقرب والضبّ والوزغ والعظاية والعنكبوت والدعموص والجرّي والوطواط
والقرد والخنزير والكلب والزهرة وسهيل والطاووس والزنبور والبعوض والخفّاش [والفأر]
والقمّلة والعنقاء والقنفذ والحيّة والخنفساء والزمير والمارماهي والوبر والورل
لكن يرجع بعضها إلى بعض» انتهى.
وذكر في المجمع
أنواعاً اخر غيرها «كالذئب والثعلب واليربوع والسرطان والسلحفاة والنقعاء بالنون
والقاف والعين المهملة» .
وفي الشرائع والتذكرة وغيرهما ذكر
أشياء اخر كالضفادع والطافي والتمساح والدباء وهو نوع من الجراد إلّا أنّه من
الممسوخ.
وقد رأينا
التكلّم في هذه الأصناف والتعرّض لذكر الروايات المتعلّقة بها وبيان صفاتها
وخواصّها هنا قليل الجدوى تطويلاً بلا طائل ، مع خروجه من وظيفة الفقه ، والمقصود
الأصلي بيان ما يتعلّق بها من الأحكام المعلّقة على ما ينتفع به وما لا ينتفع به.
فنقول : إنّ
جميع المسوخ قسمان :
أحدهما : غير
ذوات اللحوم كالعقرب والزنبور والخنفساء والعنكبوت والبعوض والقمّلة ، وهذه ملحقة
بما تقدّم من الحشرات في عدم نفع فيها أصلاً ، وما قد يحصل منه النفع كالخنفساء
لما قيل من أنّ شحمها يجعل في دواء يتداوى به العين فهو نفع نادر لا يعتني به
العقلاء ، فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز التكسّب بها ولا عدم إجراء ساير العقود
عليها.
وثانيهما :
ذوات اللحوم وهذه أيضاً قسمان:
أحدهما : ما ليس لها جلود ولا عظام ولا شحوم يمكن الانتفاع بها
كالحيّة والخفّاش والضبّ والوزغ والعظاية والوبر والورل والطاووس ، وهذه أيضاً
ملحقة بالحشرات لانتفاء النفع ، إذ ليس فيها إلّا اللحم وهو محرّم الأكل. وإطعامه
الكلاب المعلّمة وجوارح الطيور من الصقور والبازي والشاهين والعقاب وإن أمكن وكان
محلّلاً إلّا أنّه
__________________
غير مقصود للعقلاء كما هو واضح. فمحلّ البحث البواقي إلّا الكلب والخنزير
لكونهما من الأعيان النجسة المتقدّم أحكامها مشروحة ، فهما أيضاً خارجان عن محلّ
البحث.
ومن هنا علم
أنّه لو قلنا بنجاسة ما عداهما من المسوخ كما نسب إلى الشيخ والديلمي وابن حمزة كانت مندرجة
في الأعيان النجسة ولا حاجة معه إلى التكلّم فيها بالخصوص لاتّضاح أحكامها فيما
تقدّم ، إلّا أنّ هذا القول مهجور قد استقرّ إجماع من تأخّر بخلافه. وربّما قيل :
أنّه يخالف ضروريّ المذهب بل الدين من طهارة المسوخ.
فنحن إنّما
نتكلّم على طهارتها. ولقد عدّها في الشرائع ممّا لا ينتفع به بل لم يذكر فيه وفي النافع له أمثلة إلّا
المسوخ والسباع ، ووافقه أكثر المتأخّرين على ما قيل حيث بنوا في المسوخ على منع التكسّب بها.
خلافاً لأكثر المتقدّمين لمصيرهم فيها إلى الجواز ، وربّما عزي ذلك إلى أكثر
أصحابنا تعليلاً بالانتفاع بها ، وهو ظاهر عبارة التذكرة .
ويحتمل في كلام
من جعلها ممّا لا ينتفع به وجوه : عدم نفع فيها أصلاً ، كون جميع منافعها ساقطة في
نظر العقلاء غير معتنى بها ولا ملتفت إليها لديهم ، وكون منافعها بأجمعها ساقطة في
نظر الشارع على معنى كونها محرّمة وكون منافعها الغالبة محرّمة ساقطة في نظر
الشارع.
ويتطرّق المنع
إلى كلّيّة جميع هذه الوجوه ، فإنّها غير مسلّمة في شيء منها.
وتوضيح المقام
أنّ المنافع الملحوظة في هذه الحيوانات ولو بعضها ، منها ما هي ملحوظة فيها حيّاً
، ومنها ما هي ملحوظة ميّتاً.
والاولى أنواع
، منها : ما هو محرّم كاللعب بالقرد أو الدبّ يعلّمان ويلعب بهما.
ومنها : ما هو
محلّل ، ولكنّه نادر غير ملتفت إليه عند غالب العقلاء ، كحفظ المتاع الّذي يتأتّى
من القردة المعلّمة أو الخياطة أو الصياغة ونحوها على ما حكي في صفتها
__________________
من أنّها ذكيّة سريعة الفهم ، وقد أهدى ملك النوبة إلى المتوكّل قرداً
خيّاطاً وآخر صائغاً ، وأهل اليمن يعلّمون القردة القيام بحوائجهم حتّى أنّ
البقّال والقصّاب يعلّم حفظ الدكّان حتّى يعود صاحبه ويعلّم السرقة فيسرق.
ومنها : ما هو
محلّل أيضاً ، ولكنّه مشتبه حاله من حيث كونه نادراً أو غالباً مقصوداً للعقلاء ،
كالحمل في الفيل إذ لا يدرى غلبة تداوله بين أهالي بلاد الفيلة أو أنّه يتّفق
نادراً.
والثانية أيضاً
أنواع ، منها : ما يلاحظ في لحومها ، وهذا منه ما هو محرّم كأكل الآدمي ، ومنه ما
هو نادر غير مقصود للعقلاء كإطعام الكلاب المعلّمة وجوارح المعلّمة وجوارح الطيور.
ومنها : ما
يلاحظ في شحومها ولا سيّما من السموك منها كالجري والزمّير والمارماهي لإمكان
الانتفاع بها بالإسراج وطلي السفن وما أشبه ذلك ، وهذا أيضاً ربّما يشتبه حاله من
حيث الندرة والغلبة. وأنّ دعوى الغلبة في أدهان السموكة غير بعيدة.
ومنها : ما
يلاحظ في جلودها يتّخذ منها الفرّاء أو الدلاء وما أشبه ذلك ، ولا يبعد كونه من
بعض هذه الحيوانات كالثعلب نفعاً غالباً.
ومنها : ما
يلاحظ في عظامها ، وهذا مخصوص بالفيل ، ويسمّى عظمه بالعاج ويتّخذ منه الأمشاط
ونحوها. وقد ورد بجواز التمشّط بعظمه روايات ، ويستفاد من صراحتها أنّ الأئمّة عليهمالسلام كانوا يتمشّطون بها. وفي المجمع «أنّ العاج عظم أنياب
الفيل ، وعن بعض أهل اللغة لا يسمّى غير الناب عاجاً» وهذا لا ينافي
كون مطلق عظمه ما ينتفع به في المشط وغيره.
وإذا أحطت خبراً
بما شرحنا عرفت سند المنع من كلّيّة الوجوه المحتملة في معنى ما لا ينتفع به
بالقياس إلى المسوخ ، لمكان الانتفاع بها ولو في الجملة حيّاً أو ميّتاً منفعة
محلّلة غالبة أو نادرة أو مردّدة بينهما ، فكيف يقال : إنّه لا نفع فيها أصلاً ،
أو أنّ جميع منافعها ساقطة في نظر العقلاء ، أو أنّ جميعها أو منافعها الغالبة
ساقطة في نظر الشارع لكونها محرّمة.
__________________
وعلى هذا فيجوز
التكسّب بالفيل منها بالخصوص توصّلاً إلى منفعة الحمل المقصودة منه حيّاً إن كان
ممّا يتداوله نوع العقلاء في نوعه من دون توقّف له على قبول التذكية أو إلى منافع
عظمها المقصودة للعقلاء المحلّلة شرعاً المطلوبة منه ميّتاً من دون توقّف له أيضاً
على قبوله التذكية ، وبغيره أيضاً توصّلاً إلى منافع شحومها أو جلودها المطلوبة
منها ميّتاً المتوقّفة على قبولها التذكية.
ولعلّ ما في
كلام جماعة من المتأخّرين تبعاً لثاني الشهيدين في المسالك من بناء
الجواز على قبولها التذكية ناظر إلى ذلك أعني التكسّب بها تبعاً لمنافع جلودها أو
شحومها ، لا مطلقاً حتّى ما لو كان المقصود منفعة حملها على تقدير كونه منفعة
غالبة عقلائيّة أو تبعاً لمنافع عظمها إذ لا مدخليّة للتذكية في حلّ الانتفاع بتلك
المنافع.
ولنا على
الجواز عمومات الصحّة السليمة عمّا يوجب الخروج منها نظراً إلى عدم صدق الأكل
بالباطل على أكل المال المأخوذ في مقابلها لأجل المنافع المذكورة وعدم منافاته
للنبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» لظهور قوله : «إذا حرّم شيئاً» على
ما بيّنّاه مراراً في باب الأعيان النجسة في تحريم جميع منافع الشيء أو منافعه
الغالبة المقصودة للعقلاء ، وضابطه ما لو قال بقول مطلق : الشيء الفلاني حرام ،
كما قال : الخمر حرام ، وحرّمت عليكم الميتة مثلاً. وهذا كما ترى غير متحقّق في
الحيوانات المذكورة.
ويؤيّدها إن لم
نقل بالدلالة على المطلب ما في رواية التحف من قوله عليهالسلام : «وكلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات
فذلك كلّه حلال بيعه وشراؤه» الخ.
مضافاً إلى ما
تقدّم الإشارة إليه من نصوص جواز الانتفاع بعظم الفيل وبيعه وشرائه ، مثل خبر موسى
بن بكر قال : «رأيت أبا الحسنعليهالسلاميتمشّط بمشط عاج ، واشتريته له» .
وخبر عبد
الحميد بن سعد قال : «سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن عظام الفيل يحلّ بيعه أو شرائه الّذي يجعل منه
الأمشاط؟ فقال : لا بأس ، قد كان لأبي عليهالسلام منه مشطا وأمشاط» .
وخبر الحسن بن
عاصم عن أبيه قال : «دخلت على أبي إبراهيم عليهالسلام وفي يده مشط
__________________
عاج يتمشّط به ، فقلت : له جعلت فداك إنّ عندنا بالعراق من يزعم أنّه لا
يحلّ التمشّط بالعاج ، قال : ولِمَ فقد كان لأبي منها مشط أو مشطان ، ثمّ قال :
تمشّطوا بالعاج فإنّ العاج يذهب بالوباء» .
وخبر عبد الله
بن سليمان قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن العاج؟ فقال : لا بأس به وإنّ لي مشطاً منه» .
لا يقال : غاية
ما ينساق من هذه النصوص جواز الانتفاع بعظم الفيل وجواز بيعه وشرائه ، والكلام في
بيع الفيل بجملته والتعدّي من عنوان عظم الفيل إلى الفيل بجملته لعلّه قياس ،
ونحوه يرد فيما لو ورد نصّ بجواز بيع جلود المسوخ مثلاً. لأنّه ينتقل من جواز بيع
عظم الحيوان أو جلده في متفاهم العرف إلى جواز بيع ذلك الحيوان تبعاً لمنافع عظمه
أو جلده ، ومرجعه إلى دلالة النصوص الواردة في العظم والجلد عليه بالالتزام
العرفي. ثمّ يبقى الكلام في مسألتين :
المسألة الاولى : فيما لو اتّفق من
المسوخ أو غيرها ما اشتبه حاله من حيث اشتماله على منفعة عقلائيّة وعدمه ، أو من حيث كون المنفعة الموجودة فيه منفعة غالبة مقصودة
للعقلاء أو منفعة نادرة غير مقصودة لهم ، كحمل الفيل مثلاً على ما أشرنا من الشكّ
في كونه متعارفاً بين النوع في النوع ، ففي مثل ذلك لا بدّ لاستعلام الحال والخروج
عن الشبهة من مراجعة العرف وأهالي الخبرة من العقلاء ثمّ العمل بما يتبيّن من أحد
طرفي الشبهة من تجويز التكسّب به ومنعه ، وإن لم يتبيّن شيء من طرفي الشبهة يعرض
المعاملة عليه على العقلاء هل تعدّ عندهم من المعاملة السفهيّة فيحكم بالمنع أو لا
فيبني على الجواز. وإن لم يتبيّن شيء من ذلك أيضاً ففي جواز التكسّب به وصحّته
والعدم وجهان : من عموم عمومات الصحّة أجناساً وأنواعاً ، ومن الأصل الأوّلي في
المعاملات وهو الفساد. وهذا أوجه ، لما ظهر من كلمات الأصحاب ومعاقد إجماعاتهم
وغيرها من الأدلّة من كون وجود المنفعة العقلائيّة من شروط صحّة البيع
__________________
وغيرها من عقود المعاوضة بل غيرها أيضاً.
بل يستفاد من
إجماع الشيخ في المبسوط على عدم جواز بيع ما ينفصل من الإنسان من فضلاته تعليلاً
بعدم المنفعة فيه كون شرطيّة وجودها للجواز والصحّة إجماعيّة ، بناءً على ما تقدّم
الإشارة إليه من كون الإجماع المذكور إجماعاً على الحكم والعلّة ، فموضوع عمومات
الصحّة حينئذٍ ما وجد فيه المنفعة العقلائيّة ولا بدّ لإجرائها من إحرازه وهو في
محلّ الفرض غير محرز ، فلا معنى للتمسّك بالعموم حينئذٍ ، إن شئت قلت : إنّ الشكّ
في الشرط يفضي إلى الشكّ في المشروط فيرجع إلى الأصل المقتضي للفساد.
المسألة الثانية : في أنّ المسوخ هل يقع
عليها الذكاة ـ وهو الذبح
بمعنى قطع الأوداج بشرائطه المقرّرة في محلّه على وجه أثّرت في طهارة ما يتوقّف
الانتفاع به على طهارته كالجلود والشحوم ليتفرّع عليها جواز بيعها تبعاً لمنافع
جلودها أو شحومها ـ أو لا؟ خلاف على قولين ، فقيل لا وهو
المشهور على ما قيل ، وقيل : نعم ونسب إلى السيّد والشهيد وعن غاية
المراد نسبته إلى ظاهر الأكثر ، وعن كاشف اللثام نسبته إلى
المشهور.
مستند الأوّلين
الأصل ، وقرّر بأنّ من صفة الحيوان أنّه إذا زهق روحه يصير ميتة ويترتّب عليه
أحكامها ، والشكّ في قبول التذكية راجع إلى الشكّ في قدح العارض وهو أنّ الذكاة
الواقعة على هذا الحيوان هل ترفع هذه الصفة الّتي مرجعها إلى كون الحيوان منهيّاً
ومستعدّاً لصيرورته ميتة أو لا؟ والاستصحاب مع الشكّ في قدح العارض كالاستصحاب مع
الشكّ في عروض القادح حجّة ، فهو يقتضي بقاء التهيّؤ والاستعداد وعدم ارتفاعه
فيحكم به إلى أن يعلم ارتفاعه بالدليل كما في الحيوانات المأكول لحومها.
ومستند الآخرين
أيضاً الأصل ، وقرّر تارةً باستصحاب الطهارة الأصليّة الثابتة في
__________________
هذا الحيوان قبل الذبح بشرائطه المقرّرة. وتوهّم : عدم بقاء الموضوع لأنّ
الطهارة كانت ثابتة للحيّ وقد صار الآن ميّتاً. يدفعه : منع كون الحياة وصفاً
مقوّماً لموضوع الحكم ولا جزءاً فيه بل الحكم ثابت لهذا الجسم المشتمل على الجلد
واللحم والشحم في حال الحياة ، نظير نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة. وتوضيح ذلك :
أنّ التزكية فيما يقبلها كالحيوان المأكول لحمه من حكمها طهارة المذكّى وحلّيّة
أكل لحمه ونحو ذلك ، وهي بالنسبة إلى الطهارة علّة مبقية لا أنّها علّة محدثة بأن
يزول الطهارة الاولى بالموت ويحدث بها طهارة اخرى فإنّه ممّا لا معنى له ،
وبالنسبة إلى حلّيّة اللحم يمكن كونها علّة محدثة إن قلنا بحرمة أكل لحم الحيوان
حيّاً وكونها علّة مبقية لها أيضاً إن لم نقل بالحرمة ، لعدم الدليل عليه ، غاية
الأمر لا يؤكل حيّاً بل لا يمكن أكله كذلك وهذا لا يلازم الحرمة.
واخرى بأصالة
الطهارة في الأشياء على معنى قاعدتها المستفادة من قوله عليهالسلام : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» .
ويمكن المناقشة
في مستند الأوّلين بالتقرير المذكور بمنع رجوع الشكّ في قبول التذكية إلى الشكّ في
قدح العارض ، بل هو من الشكّ في عروض القادح.
وتوضيحه : أنّ
المذكّى والميتة متقابلان ، وفي كون تقابلهما بالتضادّ بأن يقال : إنّ الحيوان
بطبعه متهيّئ ومستعدّ لأن يصير مذكّى إذا استند زهوق روحه إلى التذكية بشرائطه
المقرّرة ، ولأن يصير ميتة إذا استند زهوق روحه إلى ما عدا التذكية بشرائطها.
أو عدم الملكة
إمّا بأن يقال : إنّ الميتة عبارة عن عدم المذكّى ممّا من شأنه أن يكون مذكّى ، بدعوى
أنّه بطبعه متهيّئ ومستعدّ لأن يصير مذكّى إذا استند موته إلى التذكية بشرائطها
إلّا ما خرج بالدليل كالآدمي. أو بأن يقال : إنّ المذكّى عبارة عن عدم الميتة ممّا
من شأنه أن يكون ميتة ، بدعوى أنّه بطبعه متهيّئ ومستعدّ لأن يصير ميتة بزهوق روحه
بأيّ طريق اتّفق إلّا ما خرج بالدليل كالحيوان المأكول لحمه.
ورجوع الشكّ في
قبول التذكية في المسوخ إلى الشكّ في قدح العارض إنّما
__________________
يستقيم على هذا التقدير.
وهذا محلّ منع
، لجواز كلّ من الوجهين الأوّلين لرجوع الشكّ إلى أنّه تعالى هل جعل هذا الاستعداد
والتهيّؤ للمسوخ؟ والأصل عدمه ، فالشكّ في الجعل وهو أمر حادث يشكّ في حدوثه ،
وليس المراد به الجعل التشريعي على معنى كون التهيّؤ والاستعداد المذكورين من قبيل
الأحكام الوضعيّة ، وقد جعله الشارع في المسوخ حتّى يرد علينا عدم كون الأحكام
الوضعيّة مجعولة ، بل هي مفاهيم انتزاعيّة تتبع الأحكام التكليفيّة. بل المراد به
الجعل التكويني الراجع إلى لحاظ خلق الحيوان وإيجاده ، على معنى أنّه تعالى في هذا
اللحاظ له ذلك التهيّؤ والاستعداد ، وهذا الجعل أمر حادث يشكّ في حدوثه والأصل
عدمه. وهذا الأصل لكونه موضوعيّاً وارد على الأصل الّذي هو مستند الأخيرين بكلا
تقريريه ، وعليه فالأصل إن اريد به ما هو من الاصول العمليّة عدم وقوع الذكاة على
المسوخ هذا.
ولكنّ الإنصاف
أنّ هاهنا أصلاً ثانويّاً وارداً على الأصل المذكور مستفاداً من صحيحة عبد الله بن
بكير قال : «سأل زرارة أبا عبد الله عليهالسلام عن الصلاة في الثعالب والفنك وغيره من الوبر؟ فأخرج
كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في
وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسد ، لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي
في غيره ممّا أحلّ الله أكله ، ثمّ قال : يا زرارة هذا عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاحفظ ذلك يا زرارة ، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة
في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ قد
ذكّاه الذابح ، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في
كلّ شيء منه فاسد ، ذكّاه الذابح أو لم يذكّه» وفي نسخة مكان
«الذابح» في الموضعين «الذبح» مصدراً.
ووجه الدلالة
أنّ قوله : «ممّا قد نهيت» في تفسير غير ذلك عامّ في جميع ما نهي عن أكله ، وقوله
: «ذكّاه الذابح» يعني به أنّ تذكية الذابح لكلّ ما نهي عنه لا تجدي نفعاً في صحّة
الصلاة فيه ، وإنّما ذكر ذلك رفعاً لتوهّم السائل أنّها تبيح الصلاة ، وهذا
التوهّم
__________________
منه مبنيّ على اعتقاده وقوع الذكاة على كلّ ما نهي عن أكله ، والإمام عليهالسلام قرّره على معتقده ورفع توهّمه لإباحة الصلاة بالتذكية ،
ولو لا المقصود به رفع التوهّم يلغو ذكره.
أو يقال : إنّه
عليهالسلام قصد بذلك تعميم الحكم ـ أعني فساد الصلاة ـ في كلّ ما
نهي عن أكله بحسب ما تحقّق منه في الخارج بالقياس إلى قسميه ممّا هو مذكّى وما ليس
بمذكّى ، ومحصّله أنّ كلّ ما نهي عن أكله بحسب الخارج منه ما هو مذكّى ومنه ما ليس
بمذكّى ، ولا فرق بينهما في فساد الصلاة فيه. وهذا يدلّ بأوضح دلالة على وقوع
الذكاة على كلّ ما نهي عن أكله ، وهذا كما ترى يعمّ المسوخ أيضاً.
لا يقال : إنّ
الصحيحة يعارضها رواية عليّ بن أبي حمزة قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام وأبا الحسن عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال : لا
تصلّ فيها إلّا ما كان منه ذكيّاً ، قال : أوَليس الذكيّ ما ذكّي بالحديد؟ قال :
نعم إذا كان ممّا يؤكل لحمه ، قلت : وما لا يؤكل لحمه من غير الغنم؟ فقال : لا بأس
بالسنجاب فإنّه دابّة لا يؤكل اللحم وليس هو ممّا نهى عنه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ نهى عن كلّ ذي ناب ومخلب» وجه المعارضة
أنّ قوله عليهالسلام : «إذا كان ممّا يؤكل لحمه» عقيب قوله «نعم» في جواب
السائل «أليس الذكيّ ما ذكّي بالحديد» من باب تخصيص العامّ بالشرط فيفيد خروج ما
ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه من الذكيّ بمعنى المذكّى ، فتكون مفاده في حاصل
المعنى أنّ كلّ ما ذكّي بالحديد فهو مذكّى إلّا أن يكون ممّا لا يؤكل لحمه فإنّه
ليس بمذكّى ، فإذا لم يكن مذكّى كان ميتة إذ لا واسطة بينهما.
لأنّا نقول :
هذا الرواية لا تقاوم لمعارضة الصحيحة :
أمّا أوّلاً :
فلضعف السند بعليّ بن أبي حمزة الّذي حاله معلوم حيث ضعّفه علماء الرجال قولاً
واحداً ، ولعنوه ، وكان من عمد الواقفة.
وثانياً : أنّ
ما ادّعي استفادته من الشرط من كلّيّة «أنّ كلّما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه
ليس بمذكّى» منقوض بالسباع على ما سنقرّره من قبولها التذكية بقول مطلق.
وأمّا ثالثاً :
فلمنع الدلالة ، بل هي على مختارنا أدلّ ، لمنع كون ما ذكر مخرجاً من
__________________
اسم المذكّى ، بل مخرج من حكمه الّذي علم من قوله عليهالسلام : «لا تصلّ فيها إلّا ما كان منه ذكيّاً» وهو كون
المذكّى الّذي هو عبارة عمّا ذكّي بالحديد ما يجوز الصلاة فيه ، فيفيد أنّ ما ذكّي
بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه ليس من المذكّى الّذي يجوز الصلاة فيه ـ يعني لا يجوز
الصلاة فيه ـ لا أنّه ليس بمذكّى ، كيف ولو لا إرادة ذلك لزم خلاف وضع التخصيص
الّذي هو عبارة عن قصر العامّ على بعض ما يتناوله ، فإنّ إخراجه من الاسم يقضي
بخروجه عن موضوع المذكّى من أصله ، لا أنّه داخل في الموضوع ويخرج منه بالتخصيص ،
فيكون الشرط المذكور حينئذٍ أشبه شيء بالاستثناء المنقطع ، وهو خلاف الظاهر.
وممّا يرشد إلى
ما ذكرناه أيضاً قوله : «لا بأس بالسنجاب» أي لا بأس بالصلاة فيه بعد قول السائل :
«وما لا يؤكل لحمه» فإنّه يدلّ على أنّ السائل إنّما سأل بذلك عن كلّيّة نفي جواز
الصلاة فيما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه ، على معنى عدم جواز الصلاة في شيء
من أفراد ما لا يؤكل لحمه إذا ذكّي بالحديد ، فأجاب عليهالسلام بالإيجاب الجزئي أعني جواز الصلاة في السنجاب.
ويرشد إليه
أيضاً التعليل بأنّه دابّة لا يؤكل اللحم وليس ممّا نهى عنه رسول الله إذ نهى عن
كلّ ذي ناب ومخلب ، أي ليس ممّا نهى عن الصلاة فيه إذ نهى عن الصلاة في كلّ ذي ناب
ومخلب ، فإنّ هذا كلّه يقضي بأنّ النظر في أسئلة الرواية وأجوبته إلى حيث الصلاة
فيما ذكّي بالحديد الّذي هو المذكّى جوازاً ومنعاً ، فالرواية حينئذٍ دليل لنا لا
علينا.
المقام الثاني
: في السباع وحوشها
كالأسد والذئب والنمر والفهد ، وطيورها كالبازي والصقر والعقاب والشاهين ، وهي جمع
السبع بالضمّ أو الفتح أو السكون ، هو كلّ حيوان ذي ناب أو مخلب يفترس الحيوان
للأكل والافتراس الاصطياد ، وقد يحتمل إرادة كلّ ذي ناب ومخلب سواء كان ممّا يفترس
للأكل أو ممّا يتغذّى باللحم.
وقد اختلف
الأصحاب في جواز التكسّب بها وعدمه لاختلافهم في كونها ممّا ينتفع به وعدمه ، كما
يستفاد من كلماتهم الّتي منها عبارة الشيخ في الخلاف على ما حكي من
أنّه يحرم التكسّب بما لا نفع فيه كالأسد والنمر والفهد بلا خلاف ، فقيل
__________________
كما عن العمّاني وسلّار إنّها لا يجوز بيعها بقول مطلق ، وقيل كما عن ابن البرّاج
وابن إدريس إنّه يجوز بيع السباع كلّها تبعاً لجلدها وريشها ،
وبينهما أقوال متوسطة كالقول بجواز بيع سباع الطير والفهود والهرّ ، وقيل بجوازه
في سباع الطير والفهود خاصّة ، وقيل بالجواز في الفهود وقيل بالجواز
في الفهود فقط ، وقيل في الهرّة إلّا أنّه يظهر من كلماتهم عدم الخلاف في الهرّة ،
بل نسب الجواز فيها إلى علمائنا مؤذناً بدعوى الإجماع عليه.
والأقوى هو
القول الثاني ـ أعني جواز التكسّب بها ـ ففي جملة منها تبعاً لمنفعة الاصطياد بها
كالفهد من الوحوش وجوارح الطيور ، وفي اخرى تبعاً للانتفاع بجلدها وريشها ،
للعمومات السالمة عن معارضة المعاملة السفهيّة وأكل المال بالباطل المعتضدة بما
عرفت من الإجماع في الهرّة ، والصحيح فيها أيضاً «لا بأس بثمن الهرّة» والصحيحين «عن
الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال : نعم» .
مضافاً إلى
أنّها تقبل التذكية بقول مطلق وفاقاً للمشهور على ما حكي ، بل عن غاية المراد لا نعلم
مخالفاً ، وعن بعض دعوى الاتّفاق عليه ، وعن الحلّي في السرائر
الإجماع عليه ، ولم يسند الخلاف إلّا إلى المفيد وسلّار وابن حمزة للصحيحة
المتقدّمة في المسوخ المتأيّدة برواية عليّ بن أبي حمزة .
مضافاً إلى
المرويّ عن قرب الإسناد «عن جلود السباع وبيعها وركوبها أيصلح ذلك ، قال : لا بأس
ما لم يسجد عليها» وموثّقي سماعة ففي أحدهما «سألته عن
__________________
جلود السباع ينتفع بها؟ قال : إذا رميت وسمّيت فانتفع بجلده» وفي الآخر «سألته
عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال : أمّا لحوم السباع والسباع من الطير فإنّا نكرهه ،
وأمّا الجلود فاركبوا عليها ، ولا تلبسوا شيئاً منها تصلّون فيه» .
والأوّل صريح
في قبول التذكية بالاصطياد ، ويتمّ في غيره بالإجماع على عدم الفصل ، والثاني يدلّ
عليه بالالتزام إذ لولاه لم يجز الانتفاع بها في الركوب واللبس في غير الصلاة
لحرمة جميع الانتفاعات بالميتة في غير الضرورة.
وقد يستدلّ
بالسيرة المستمرّة في جميع الأعصار والأمصار على استعمال جلودها ، وبما ورد من
النصوص في جواز استعمال جلد السنّور والثعالب ، والمرويّ عن قرب الإسناد مع دلالته
على قبول التذكية بالالتزام يدلّ على جواز البيع بالمطابقة ، وقصورها بالإضمار
وغيره منجبر بما عرفت من الشهرة ومنقول الإجماع ، مع ما قيل من كون الموثّق الثاني
في محكيّ الفقيه مسنداً وهو حجّة في نفسه.
__________________
الباب الرابع
في التكسّب بما يحرم في نفسه
أعني ما يلحقه
التحريم في حدّ ذاته ، لا باعتبار ما يتعلّق به كالأعمال المحرّمة سواء كانت ممّا
قوبل بالمال أو لا ، فخرج به الأعيان المحرّمة الّتي لحوق التحريم بها باعتبار ما
يتعلّق بها من الأفعال المقصودة منها من أكل كالميتة أو شرب كالخمر ، أو لعب
ومقامرة كآلات اللهو والقمار ، أو عبادة لغير الله كالأصنام والصلبان ، لأنّ
التحريم وغيره من الأحكام التكليفيّة لا يضاف إلى غير فعل المكلّف على وجه الحقيقة
، فما خرج بالقيد المذكور بالتوجيه المزبور الأعيان النجسة والأعيان المحرّمة
لتحريم ما قصد منها وغيرها من عناوين الأبواب الثلاث المتقدّمة.
فما في كلام
بعض مشايخنا تبعاً للشيخ النجفي في شرحه للقواعد من جعله لإخراج ما
هو محرّم لنجاسته أو لغايته أو للعبث ، ليس بسديد ، وإن كان مفاده أيضاً إخراج ما
ذكر من عناوين الأبواب المتقدّمة.
وأضعف من ذلك
حمل القيد على إرادة الحرمة النفسيّة احترازاً عن المحرّمات الغيريّة كمقدّمات
المحرّمات النفسيّة ، فإنّ من يحرّم التكسّب بالمحرّمات يحرّمه بمقدّماتها أيضاً.
وكيف كان فبعد ما عرفت أنّ موضوع هذا الباب هو الأعمال المحرّمة يظهر أنّ التكسّب
بها لا يتأتّى بنحو عقد البيع وغيره ممّا يختصّ بالأعيان ، بل إنّما
__________________
يتأتّى بعقد الإجارة والجعالة والصلح ، لاشتراكه بين الأعيان والمنافع
والأمهار في عقد النكاح بناءً على صحّة إمهار الأفعال والمنافع كالكتابة والخياطة
وتعليم القرآن.
ثمّ إنّ
الأعمال المحرّمة في الشريعة كثيرة بل في غاية الكثرة إلّا أنّ الأصحاب في هذا
الباب اقتصروا منها على أنواع مخصوصة ، ونحن أيضاً نقتفي أثرهم فنقتصر على الأنواع
المذكورة ونتكلّم فيها :
النوع الأوّل : في عمل الصور المجسّمة ،
أي تصوير الصورة ،
وكونها مجسّمة ، معناه كونها ذات ظلّ كنفس المصوّر أعني ذي الصورة. وكيف كان
فالصورة إمّا مجسّمة ، أو غير مجسّمة كالمنقوشة على الجدار أو الوسادة أو البساط
أو الورق أو غيره ، وعلى التقديرين إمّا من ذوات الأرواح الّتي قد يعبّر عنها
بالحيوانيّة كصورة الإنسان والفرس والأسد والفيل والطاووس وغيرها من البهائم
والسباع والمسوخ والحشرات والطيور وغيرها ، أو من غير ذوات الأرواح كالشجر والنخل
والرياحين وغيرها ، فالأقسام أربع. وفي إطلاق موضوع الحكم بكلا الاعتبار أو تقييده
بكليهما أو إطلاقه بالاعتبار الأوّل وتقييده بالاعتبار الثاني أو العكس احتمالات ،
بحسبها اختلفت كلمات الأصحاب على وجه استظهر منها لهم أقوال أربع :
أحدها : تحريم
عمل الصور مجسّمة أو غيرها من ذوات الأرواح وغيرها ، نسبه في المسالك إلى جماعة.
وثانيها :
تحريم عمل الصور المجسّمة من ذوات الأرواح ، نسبه أيضاً إلى جماعة.
وثالثها :
تحريم عمل الصور المجسّمة ، وهو أيضاً لجماعة منهم المحقّق في الشرائع والنافع .
ورابعها :
تحريم عمل الصور من ذوات الروح ، اختاره في المسالك والروض والروضة والرياض ونسب إلى
حاشية الإرشاد للكركي وحاشية الشرائع للميسي والشيخ إبراهيم القطيفي في إيضاح
النافع ونسبه في الرياض إلى الأكثر بل عامّة من تأخّر.
__________________
وربّما نزّل
إطلاق من أطلق بالنسبة إلى غير ذي روح وغيره على المقيّدة بذي الروح استناداً إلى
التبادر.
وربّما نسب إلى
جماعة دعوى اختصاص الصورة بذي الروح خلافاً للمجلسي على ما حكي
لتعميمه لها بالنسبة إلى القسمين ناسباً له إلى ظاهر الأصحاب.
ولا ينبغي أن
يرجع هذا الاختلاف إلى وضع الصورة بحسب العرف أو اللغة ، إذ الظاهر من كلام أئمّة
اللغة كونها لغة للأعمّ ، ولذا فسّرها في القاموس بـ «الشكل»
وفسّر الشكل : «بالشبه والمثل ، ثمّ قال : وواحد الأشكال للُامور المختلفة المشكلة
وصورة الشيء المحسوسة والمتوهّمة» .
وقال الطريحي
في المجمع «والصورة : عامّة في كلّ ما يصوّر مشبهاً بخلق الله من ذوات الروح
وغيرها ، قاله في المغرب» .
ولا يصحّ سلبها
عرفاً عن صور الشجر وغيرها من الصور الغير الحيوانيّة ، نعم لا نضايق غلبة إطلاقها
على الصور الحيوانيّة والتبادر المدّعى فيه نشأ من ذلك ، فلا ينافي الوضع للأعمّ.
فلا بدّ وأن
يرجع إلى تشخيص موضوع الحكم إطلاقاً وتقييداً ، ولعلّ من يدّعي الاختصاص فهم ذلك
من أدلّة الحكم ، أو أخذ بموجب التبادر الإطلاقي.
وعلى أيّ حال
كان فنحن نتكلّم أوّلاً في حكم أخصّ الصور ـ وهو عمل الصورة المجسّمة من ذوات
الروح ـ فنقول : لا إشكال في تحريمه بلا خلاف يظهر فتوى ونصّاً ، وقيل الإجماع
بقسميه بل المنقول منه مستفيض ، للروايات المستفيضة.
كقوله في رواية
تحف العقول : «وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني ... إلى أن قال :
فحلال فعله وتعليمه والعمل به لنفسه أو لغيره» دلّ بمفهوم القيد على عدم الحلّ في
عمل ما كان مثال الروحاني.
__________________
والموثّق
كالصحيح بأبان بن عثمان المجمع على تصحيح ما يصحّ منه عن أبي العبّاس عن أبي عبد
الله عليهالسلام في قول الله عزوجل : «يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ» فقال : «والله
ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنّها الشجر وشبهه» يدلّ إنكاره عليهالسلام المؤكّد بالقسم على المنع من عمل تماثيل الرجال والنساء
بل على عدم اختصاصه بشرع هذه الامّة.
وصحيح محمّد بن
مسلم قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال : لا بأس ما لم
يكن شيئاً من الحيوان» يدلّ على ثبوت البأس الظاهر في المنع ، خصوصاً مع
ملاحظة وروده في مقام توهّم الحظر في تمثال الحيوان.
وقوله عليهالسلام في حديث المناهي المرويّ عن الفقيه : «نهى رسول الله عن
التصاوير ، وقال : من صوّر صورة كلّفه الله يوم القيامة أن ينفخ فيها ، وليس بنافخ
...» الخ.
والموثّق
كالصحيح أيضاً بعبد الله بن مسكان المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه عن محمّد بن مروان
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته يقول : ثلاثة يعذّبون يوم القيامة من صوّر
صورة من الحيوان يعذّب حتّى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها» الخ.
والخبر المرويّ
عن الخصال باسناده عن ابن عبّاس قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من صوّر صورة عذّب وكلّف أن ينفخ فيها وليس بفاعل ...»
الخ.
وقد يستشكل
فيما تضمّنته هذه الثلاث الأخيرة من تكيف المصوّر في دار الآخرة بنفخ الروح فإنّه
من التكليف بغير المقدور. والاعتذار له بأنّه إنّما يقبح في دار التكليف لا مطلقاً
، يدفعه عدم قبول الأحكام العقليّة للتخصيص. ويمكن دفعه ـ مع أنّ العقوبات
الاخرويّة كلّها خارجة عن حدّ الوسع والطاقة ولا يتحمّلها النفوس الضعيفة ـ بأنّ
__________________
التكليف المذكور ليس تكليفاً حقيقيّاً بل هو نحو من التكليف الابتلائي ،
ويقصد به توجيه العذاب والعقاب إلى المصوّر على ترك النفخ ومخالفته ، ولو كان لعدم
القدرة على الفعل والإطاعة والعرض الأصلي منه تشديد العذاب وتغليظ العقاب حيث علّق
رفعه على أمر غير مقدور فيدوم دوام عدم القدرة عليه ، وكلّ ذلك من آثار العصيان
الاختياري الصادر منه في دار الدنيا فيكون من آثار الاختيار فلا قبح فيه.
وقد يدفع
الإشكال بأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
وردّ بأنّ مورد
هذه القضيّة هو الممتنع بالامتناع العرضي الّذي كان عروض الامتناع مسبّباً عن
اختيار المكلّف كالوضوء ممّن قطع مواضع وضوئه ، وهو فيما نحن فيه ليس كذلك ، لأنّ
امتناع نفخ الروح ذاتي.
ويدفعه منع
اختصاص هذه القاعدة عند قائلها بالممتنع العرضي بل يجرونها في غيره ، ومرادهم بها
أنّ التكليف بالممتنع الّذي تسبّب ذلك التكليف من اختيار المكلّف لا قبح فيه ، من
غير فرق فيه بين الممتنع العرضي الّذي عروض الامتناع كان من اختيار المكلّف وغيره.
ولذا تراهم يجرونها فيمن توسّط دار قوم غصباً وعدواناً فقالوا : إنّه مأمور
بالخروج ومنهيّ عنه ، مع أنّ الجمع بين الخروج وعدمه جمع بين المتناقضين وهو ممتنع
ذاتاً ، واعتذروا له بأنّ المكلّف صار نفسه سبباً للتكليف بالممتنع حيث دخل الدار
عصياناً باختياره.
والّذي يسهل
الخطب في دفع الكلام المذكور هو أنّ التكليف بالنفخ ليس على حقيقة التكليف ، بل هو
كناية عن تشديد العذاب وتغليظ العقاب حسبما بيّنّاه ، ولذا ذكر في رواية ابن مروان
«يعذّب حتّى ينفخ فيها» وفي رواية الخصال «عذّب وكلّف أن ينفخ فيها» ولو تحقّق معه
صورة تكليف فهو نحو من التكليف الابتلاء في الّذي لا يقصد منه إلّا تشديد العذاب
وتغليظ العقاب.
وهل الحكم
يتعدّى إلى صور غير ذات الروح ـ كالشجر والنخلة والرياحين والشمس والقمر وغيرها ـ أو
لا؟ قولان ، نسب ثانيهما في الرياض إلى جماعة
__________________
كالشيخين والمتأخّرين كافّة. وهو الأقوى ، للأصل ، وعدم دليل على المنع في
غير ذات الروح خصوصاً ولا عموماً ، بل الدليل على الجواز من جهة الأخبار موجود
كصريح ما عرفت عن تحف العقول ، ويقرب منه في الصراحة ما في الموثّق كالصحيح
المتقدّم في قوله تعالى : «يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ» إلى آخره
وصريح صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة ، مضافاً إلى الصحيح أيضاً عن زرارة عن أبي
جعفر عليهالسلام قال : «لا بأس بتماثيل الشجر» وإلى أخبار
التكليف بنفخ الروح ، لأنّه من خصائص الحيوان فلا يتمشّى في الصور الغير
الحيوانيّة.
وهل يتعدّى
الحكم إلى المنقوشة من الصور الحيوانيّة أو لا؟ قولان ، أقواهما الأوّل وإن كان قد
يستظهر من الأمر بنفخ الروح اختصاصه بالمجسّمة ، لأنّ نفخ الروح لا يكون إلّا في
الجسم.
وردّ بأنّ
النفخ يمكن تصوّره في النقش بملاحظة محلّه أو بملاحظة اللون الّذي هو في الحقيقة
أجزاء لطيفة من الصبغ ، أو بدون اعتبار الجسميّة كما في أمر الإمام عليهالسلام الصورة الأسديّة المنقوشة على البساط بأخذ الساحر في
مجلس الخليفة ، ويمكن أن يقال بملاحظة ما ذكرناه في توجيه التكليف بنفخ الروح مع
كونه ممتنعاً فإنّه لا ينوط بالمقدوريّة ، وإذا كان نوعاً من التكليف الابتلائي
يقصد به تشديد العذاب وتغليظ العقاب فلا ريب أنّه في غير المجسّمة أبلغ وآكد.
وبالجملة الأمر
بنفخ الروح لا ينهض قرينة على الاختصاص ، ولو سلّم فغاية ما قضت به القرينة هو
اختصاص التكليف بنفخ الروح بالمجسّمة ، وهذا لا ينافي كون المنقوشة أيضاً يعاقب
على عملها ولا لتحريم عملها إذا قضت به نصوص المنع عموماً من جهة الإطلاق. ولا
يجري هنا قاعدة حمل المطلق على المقيّد ، لعدم جريانها في المنفيّين من جهة عدم
التنافي فيعمل بهما معاً.
__________________
فلنا على عموم
المنع ما في رواية التحف من قوله عليهالسلام : «ما لم يكن مثال الروحاني» فإنّه مطلق في المجسّمة
والمنقوشة معاً ، ونحوه قوله عليهالسلام : «والله ما هي تماثيل الرجال والنساء» فإنّه أيضاً
يعمّ المنقوشة ، مضافاً إلى ما في صحيح محمّد بن مسلم «سألت أبا عبد الله عن
تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال : لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان» فإنّه يعمّ
المنقوش أيضاً.
بل قد يقال :
إنّ ذكر الشمس والقمر هنا قرينة على أنّ مورد الرواية سؤالاً وجواباً التماثيل
المنقوشة هذا ، مضافاً إلى ما في حديث المناهي من قوله : «ونهى أن ينقش شيء من
الحيوان على الخاتم» ويتمّ في غير الخاتم بعدم القول بالفصل.
وليس للقول
بعدم المنع في المنقوش إلّا الأصل ، ويدفعه : ما عرفت من وجود الدليل على المنع
عموماً وخصوصاً. والنصوص الدالّة فعلاً وقولاً على جواز الجلوس والوطء على البساط
أو الوسادة عليه التماثيل ، ويدفعه ـ مع قصور بعضها سنداً ومعارضتها بالموثّق
كالصحيح الظاهر في المنع ـ من منع الدلالة إذ لا صراحة لها في تماثيل الحيوان
فيحمل على غيرها جمعاً. ولو سلّم الصراحة في الحيوان أو الحمل على إرادة العموم
فالرخصة في الجلوس على الصورة المنقوشة لا تلازم الرخصة في تصويرها ، ولا تنافي
تحريمه كما هو واضح. والإجماع على عدم الفصل غير ثابت.
ثمّ إنّ المرجع
في الصورة الّتي يحرم تصويرها وفي معرفة مصاديقها العرف كما هو الأصل في موضوعات
الأحكام ، فهاهنا فروع :
الأوّل : لا فرق في تحريم عمل الصورة
بين هيئاتها كهيئة القائم
والجالس والمضطجع والراكب وغيرها ، لعموم الأدلّة وصدق الصورة في الجميع.
الثاني : نقص
الصورة ببعض أجزائها لا ينفع في رفع تحريم عملها كما لو كانت بلا عين أو بدون اليد
أو مقطوعة الرأس أو نحو ذلك ، لصدق الاسم عرفاً على الناقصة ، بل مورد الأدلّة ليس
إلّا الناقصة لاستحالة تصوير التامّة بحيث يشتمل على جميع الأعضاء والجوارح
المخلوقة في الممثّل. وما ورد في رجحان تغييرها بقلع عينها أو
__________________
كسر رأسها فهو حكم آخر لا يلازم جواز تصوير الناقصة.
الثالث : لا يحرم عمل بعض أجزاء الحيوان
كيد أو رجل بل رأس
لعدم صدق الصورة والمثال ، بل ولو شكّ في الصدق لكفى في نفي التحريم للأصل.
الرابع : لو صوّر نصفاً من الحيوان بأن يصوّر من رأسه إلى وسطه فإن قدّر نصفه الآخر كما لو
قصده جالساً فقد اتّضح حكمه في الفرع الأوّل ، وإن قصد ابتداءً تصوير الناقص إلى
النصف ففي لحوقه بالتامّ إشكال : من صدق المثال الروحاني والصورة عليه ، وعدمه.
وعلى تقدير الاشتباه بحسب العرف فالأصل يقتضي الجواز ، ولكنّ الاحتياط واضح. وأولى
منه بعدم المنع النصف الآخر من الوسط إلى أصابع الرجلين.
الخامس : لو شرع بالتصوير بقصد التمام فإذا بلغ النصف أو أقلّ بدا له في عدم الإتمام ، فحرمة
ما فعله بناءً في الفرع السابق على عدم تحريم تصوير النصف وأقلّ مبتنية على مسألة
التجرّي وكونه موجباً لقبح الفعل المتجرّى به ، والأقوى على ما حقّقناه في محلّه
خلافه ، وعلى هذا فلا حرمة على البناء المذكور.
السادس : لو بدأ بالتصوير قاصداً
للناقصة وإذا بلغ منتهى
ما قصده فبدا له الإتمام ، فالوجه تعلّق الحرمة لصدق تصوير الصورة حينئذٍ ، وهل
قصده الإتمام علّة كاشفة عن سبق التحريم من أوّل الأمر أو علّة محدثة له من حينه؟
الأقرب الثاني للأصل ، وحينئذ فلو شهد حال الاشتغال قبل ما بدا له الإتمام قبل
شهادته لتأخّر وقوع القادح في العدالة المانع من قبول الشهادة عن أدائها.
السابع : الظاهر لحوق تصوير صورة الملك
والجنّ بتصوير صورة الحيوان في التحريم ، لعموم مثال الروحاني و «من صوّر صورة كلّفه الله تعالى
... الخ» ويؤيّده ما قيل من أنّ الحكمة المقتضية لتحريم عمل الصور مبغوضيّة
التشبّه بالخالق في اختراع ما أبدعه بصنعه اللطيف.
الثامن : لو صوّر صورة تخيّلها صورة
حيوانيّة ولا مماثل لها فيما بين أنواع الحيوانات ، ففي لحوقها بصور الحيوانات الموجودة احتمال غير بعيد إن
لم نقل بكونه قويّاً ، لقوّة احتمال العموم في مثل «من صوّر صورة» وأقوى منه قوله
: «نهى النبيّ عن التصاوير».
التاسع : لو اشترك اثنان في تصوير
الصورة ، فإن اشتغلا من
البداية إلى الإكمال
شملهما التحريم لعموم الأدلّة ، وإن كان بحيث صوّر أحدهما إلى النصف مثلاً
ثمّ أكمله الآخر ففي شمول التحريم لهما ، أو اختصاصه بالأوّل لأنّه المبدع ، أو
بالثاني لأنّه الموجد للصورة بإتمامها ، وعدم تحريم بالنسبة إليهما لعدم صدق تصوير
صورة في حقّ واحد منهما؟ احتمالات ، ثالثها لا يخلو عن قوّة ، والاحتياط منهما إذا
كان الأوّل حين شروعه قاصداً إلى تصوير صورة تامّة ولو باشتراك غيره لا يترك ، بل
التحريم بالنسبة إليه حينئذ قويّ.
تذنيب : يجوز اقتناء الصورة بعد ما
صوّرت واستعمالها وبيعها وشراؤها والتزيين بها في البيت ، ومرجعه إلى أنّه لا يحرم إبقاؤها ولا يجب إعدامها بكسر
المجسّمة منها ومحو المنقوشة ، فلا تكون كآلات اللهو وأواني الذهب والفضّة اللتين
تقدّم حرمة إبقائهما ووجوب كسرهما ، وفاقاً لغير واحد من مشايخنا العظام قدّس الله
تعالى أرواحهم بل عن المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد أنّه المستفاد
من الأخبار الصحيحة وأقوال الأصحاب ، بل في كلام بعض مشايخنا إمكان دعوى الإجماع
عليه ، للأصل المعتضد بما عرفت مع عدم دليل معتبر صارف عنه ، مضافاً إلى النصوص
المعتبرة الدالّة على الجواز ، سيّما المستفيضة القريبة من التواتر الواردة في
لباس المصلّي فيه التماثيل والصور وفي بيته الّذي فيه التماثيل والصور الدالّة على
كراهة الصلاة ، مع دلالة جملة منها على علاج الكراهة في الصلاة بقلع عينها أو كسر
رأسها أو سترها ، وقد تقدّمت في كتاب الصلاة مشروحة.
خلافاً للشيخين
والحلّي لما يظهر من عبائرهم المحكيّة عن المقنعة والنهاية
والسرائر من المنع. وربّما استدلّ لهم بروايات أكثرها ضعاف الأسانيد غير واضحة
الدلالات ، مع معارضتها بما هو أقوى منها من جهات شتّى ، مع احتمالها الكراهة
فليحمل عليها جمعاً.
ولقد تصدّى
لذكرها والجواب عنها مشروحة شيخنا قدسسره في متاجره.
__________________
النوع الثاني
الغناء
وينبغي أولاً التعرّض لمعناه لتشخيص
موضوع الحكم فنقول : قد
اختلفت كلمات الفقهاء وأهل اللغة في تفسيره ، فعن المصباح المنير «أنّه الصوت» وعن الحلّي في
السرائر والشيخ القطيفي في إيضاح النافع «أنّه الصوت المطرب» .
وفي معناه ما
عن القاموس من «أنّ الغناء : ككساء من الصوت ما طُرِّب به» وعن بعضهم «أنّه
الصوت المشتمل على الترجيع» .
وفي المجمع
وشرح النافع الصغير للسيّد «أنّه الصوت المشتمل على الترجيع المطرب» وعن الغزالي «أنّه
الصوت الموزون المفهم المحرّك للقلب» وعن الشافعي «أنّه تحسين الصوت وترقيقه» وعن نهاية ابن
الأثير «أنّ كلّ من رفع صوتاً ووالاه فصوته عند العرب غناء» وعن بعض «أنّه
مدّ الصوت» وعن آخر «أنّه ترجيع الصوت» وعن ثالث «أنّه
إطراب الصوت» وعن بعض كتب اللغة كما عن
__________________
شهادات القواعد «أنّه ترجيع الصوت ومدّه» وعن بعض «أنّه
ترجيع الصوت وتطريبه» وفي كلام جماعة من الأصحاب المنسوب إلى المشهور «أنّه
مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب» .
وينبغي القطع
بأنّه ليس مطلق الصوت ، وما سمعته عن المصباح المنير لعلّه قصد به بيان أنّه من
جنس الصوت على حدّ ما في قولهم «السعدانة نبت» ولا مدخليّة للحسن في كون الصوت
غناء لإجماعهم ظاهراً على عدم كون الصوت الحسن من الغناء ، ولا يكفي في تحقّقه
مجرّد مدّ الصوت ورفعه ولا موالاته كما يستفاد من النهاية ، بل يعتبر فيه مع المدّ
والرفع شيء آخر من الترجيع أو الإطراب أو كليهما.
وهل هو صوت
مكيّفة بكيفيّة مخصوصة أو كيفيّة مخصوصة في الصوت ، ومرجعه إلى أنّ ما اعتبر فيه
من الصفات هل هي فصول الغناء أو أجناسه؟ احتمالان ، ولا يبعد كونهما قولين كما
يومئ إليه اختلاف عباراتهم المذكورة.
ويمكن الجمع
بين العبارات المذكورة بدعوى أنّه لا خلاف لأحد في كون الغناء بحسب أصل اللغة
عبارة عن الصوت المخصوص ، ولا ينافيه إضافة التحسين أو المدّ أو الترجيع أو
الإطراب أو غير ذلك إليه كما في كلام جماعة ، لأنّ مقصودهم بذلك بيان الموضوع على
الوجه الّذي يصحّ أن يتعلّق به الحكم الشرعي وهو التحريم ، فإنّ الصوت في معنى
الغناء في أصله عرض من مقولة الكيف لأنّه عبارة عن الكيفيّة القائمة بالهواء المعتمد
على مقطع الفم ، وهو بهذا الاعتبار لا يصلح متعلّقاً للتحريم الّذي لا يتعلّق إلّا
بفعل المكلّف فلا بدّ وأن يضاف إليه في تعلّق التحريم ما يكون من مقولة الفعل
كالرفع أو التحسين أو الترجيع أو الإطراب أو الردّ فأضاف من هذه الأفعال كلّ من
ترجّح في نظره شيء منها فلا نزاع في معنى الغناء وأنّه عبارة عن صوت مخصوص.
ويمكن على
تقدير النزاع في معناه حسبما بيّنّاه ترجيح قول من جعله عبارة عن كيفيّة مخصوصة في
الصوت ، بتقريب أنّ الغناء بحسب أصل وضع اللغة وإن احتمل
__________________
كونه اسماً مطلقاً موضوعاً للصوت الّذي هو عرض من مقولة الكيف أو اسم مصدر
بمعنى التغنّي كالوضوء للتوضّؤ والغسل للاغتسال والسلام للتسليم والكلام للتكليم ،
أو مصدراً وإن لم يأت من جنسه فعل بل الفعل من هذه المادّة إنّما أتى من باب
التفعّل ومن باب التفعيل كما ضبطه صاحب القاموس ، إلّا أنّ أرجح الاحتمالات هو
الأخير نظراً إلى قاعدة الاشتقاق فإنّ بابي التفعّل أو التفعيل من هذه المادّة لا
بدّ وأن يؤخذ من مصدر مجرّد ، ولا بدّ وأن يكون لهما مبدأ حدثي يكون من المصادر
المجرّدة ولا يصلح له إلّا لفظ الغناء فيكون مصدراً ، فلا بدّ وأن يكون قد اخذ في
معناه معنى حدثي يكون من مقولة الفعل ، وهو لا يخلو عن أحد الامور المذكورة.
ويؤيّد كونه
مصدراً أيضاً صحّة تعلّق التحريم وغيره من الأحكام التكليفيّة ، فإنّها وإن احتمل
كونها منوطة بتقدير فعل إلّا أنّ الأصل عدم التقدير.
ويؤيّده أيضاً
أنّه عبّر عنه في عدّة آيات من الكتاب العزيز بما هو ظاهر في الفعل كقول الزور في
قوله : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» و لَهْوَ الْحَدِيثِ في قوله تعالى : «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» الآية ،
واللغو في قوله تعالى : «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ
اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» لما ورد في
الروايات من تفسير هذه الألفاظ بالغناء ، وهي ظاهرة المعاني الحدثيّة المصدريّة
فيكون الغناء أيضاً مصدراً فتأمّل.
وكيف كان ففي
كلام جماعة من الأصحاب إحالة معرفة حقيقة الغناء واستعلام ما اخذ في مفهومه من
الخصوصيّات كرفع الصوت ومدّه وحسنه وترجيعه والتطريب به إلى العرف ، لمكان قولهم «أو
ما يسمّى في العرف غناء» كما في المسالك والروضة والرياض وغيرها .
وهذا في خصوص
هذا اللفظ لا يخلو في بادئ النظر عن إشكال ، لعدم إمكان التوصّل إلى عرف العرب
القحّ وهم الممحضون في العربيّة ولم يخالطهم العجميّة ، وعدم
__________________
الاعتداد بعرف السواد من العرب كأهل العراق ومن ضارعهم لشوب العجميّة فيهم
مع اضطراب عرفهم في هذا اللفظ بالخصوص ، وعدم وجود مرادف من لغة الفرس وغيرها من
لغات الاعجام لهذا اللفظ حتّى يستعلم حقيقته بمعرفة حقيقة مرادفه بالرجوع إلى عرف
الفرس وغيره.
وما في المستند
من «أنّ بعض أهل اللغة فسّره بما يقال له بالفارسيّة سرود» وعن الصحاح «أنّه
ما يسمّيه العجم بدو بيتي» لا يجدي نفعاً في المقام ، لعدم كون هذين اللفظين
معمولين في أعصارنا هذه ، فلو فرضنا كونهما معمولين في الفرس القديم فهما مهجوران
في عرف أعصارنا فلا نستفيد منهما ، نعم كثيراً ما يستعملون في مظانّ الغناء لفظ «آوازه
خواني وخوانندگي» وهذا أيضاً لا يخلو عن إجمال.
بل ربّما يطلق
مع حسن الصوت الّذي نقطع بعدم كونه غناءً ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ أهل العرف
يطلقون الغناء على ما يعدّ من ألحان أهل الطرب فإنّ الطرب على ما عن الصحاح وغيره «خفّة
تعتري الإنسان لشدّة حزن وعلامته أن يحسّ الإنسان من نفسه الميل إلى البكاء ، أو
شدّة سرور وعلامته أن يحسّ من نفسه الميل إلى الرقص ، وهذه الحالة قد تحدث من آلات
اللهو كالعود والمزمار والناي وغير ذلك ، وقد تحدث من الصوت الحسن المشتمل على
الترجيع البالغ حدّ الإطراب وهو إيجاد الطرب وإحداثه ، ويندرج فيه مدّ الصوت
المشتمل على الترجيع المطرب فإنّ ألحان أهل الطرب نغمة وتصانيف أهل الفسوق وترقيق
الصوت مع تحسينه المسمّى في العجميّة بزمزمة ولفظ الغناء إمّا يساوقها فيعمّ
الأنواع الثلاث ، أو أنّه أخصّ منها فلا يعمّ التصانيف والزمزمة ، والاحتمال
الأوّل وإن كان يبعّده عنوان «آوازه خواني وخوانندگي» في الفارسيّة لظهورهما في
النوع الأوّل ، وعدم ظهور إطلاقهما على النوعين الآخرين ، ولكن يقربه التغنّي
لصحّة أن يقال على المتشاغل بالتصنيف أو الزمزمة إنّه يتغنّى إلّا أنّه ليس بحيث
يقطع لعدم الاطّلاع على عرف العرب .
وعلى كلا
التقديرين فالغناء ما وصفه الله تعالى في كتابه العزيز تارةً باللهو كما في
__________________
آية «وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ» واخرى بالباطل
كما في آيات «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ» «وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ» بناءً على
إرادة الباطل من اللغو والزور.
وقد ورد في
أخبار مستفيضة تفسير «لهو الحديث» في الآية الاولى بالغناء كالأخبار المستفيضة
أيضاً في تفسير كلّ من «اللغو» و «قول الزور ، والزور» بالغناء. وقضيّة وصفه باللهو
ـ وهو ما يلهيك عن ذكر الله ـ كون الغناء من جملة الملاهي وأن يكون تحريمه لعنوان
اللهو الصادق عليه وعلى غيره ، كما أنّ قضيّة وصفه بالباطل أن يكون تحريمه لأجل
هذا العنوان الّذي هو أعمّ من اللهو كما أنّ اللهو أعمّ من الغناء.
وفي حديث أيضاً
«إنّ رجلاً أتى أبا جعفر عليهالسلام فسأله عن الغناء ، فقال له : إذا ميّز الله بين الحقّ
والباطل فأين يكون الغناء؟ قال : مع الباطل ، قال : قد حكمت» .
والمراد
بالباطل إمّا ما يقابل الحقّ وهو الشيء الثابت المرخّص فيه فالباطل الغير الثابت
باعتبار منع الشرع ، أو الشيء الخالي عن الفائدة العقلائيّة ، ومنه الغناء لأنّ
طالبيه والراغبين إليه ليسوا إلّا السفهاء من الناس وهم أهل الفسوق.
فتحريم الغناء
حينئذٍ إمّا لعنوانه الخاصّ إن استفدناه من الأدلّة الخاصّة به ، أو لعنوان اللهو
إن استفدناه من آية لهو الحديث ، أو لعنوان الباطل إن استفدناه من الآيات الاخر.
فصحّ أن يقال :
إنّ كلّ صوت لهويّ يعدّ من ألحان أهل الطرب وترجيعاتهم المطربة محرّم سواء صدق
عليه بجميع أنواعه الغناء أو لا ، بأن لم يصدق إلّا على أحد أنواعه ، وقد وقع في
بعض الروايات أيضاً إشارة إلى الضابط المذكور كقوله : «اقرءوا القرآن بألحان العرب
وإيّاكم ولحون أهل الفسوق والكبائر ...» الخ ، فإنّ لحون أهل الفسوق والكبائر هي ألحان أهل
الطرب المرتكبين لفسوق التطريبات بالآلات والأصوات الّتي هي من المعاصي الكبائر.
وهل يعتبر
قيامه باللفظ وتقوّمه بالكلام نثراً أو نظماً أو لا؟ بمعنى أنّه لا مدخليّة
__________________
للكلام فيه بل هو تابع لجوهر الصوت تحقّق معه كلام نثراً أو نظماً أو لم
يتحقّق وجهان : من إمكان دعوى ظهور آيتي لهو الحديث وقول الزور لأنّ الحديث بحسب
العرف هو الكلام فيكون المراد باعتبار كون إضافة اللهو من إضافة الصفة على الموصوف
الكلام الملهوّ به والقول واضح ، ومن ظهور الآيتين الاخريين اللّتين عبّر عنه
فيهما باللغو والزور الصادقين على الجوهر المعتضدتين بصدق لحن أهل الطرب على ما لم
تكن معه لفظ ولا كلام. وإذا لم يكن له مدخليّة في صدق اسم الغناء ولا الصوت
اللهويّ وجوداً وعدماً فخصوصيّة كلام دون كلام فيما اشتمل عليه لا تؤثّر في خروجه
من الاسم.
وعلى هذا فمن
يدّعي استثناء المراثي أو قراءة القرآن لا يمكنه دعوى الخروج عن الاسم من باب
التخصّص ، بل لا بدّ وأن يدّعي الخروج من الحكم من باب التخصيص ، وحينئذٍ فنطالب
بدليله.
وكيف كان فالكلام في المقام تارةً في
أصل حكم الغناء قبالاً لمن
سبقه شبهة إنكار تحريمه في نفسه ، واخرى في مقداره تعميماً وتخصيصاً قبالاً لمن
سبقه شبهة استثنائه في المراثي وفي تلاوة القرآن.
أمّا الأوّل : فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف معتدّ به تحريم
الغناء بقول مطلق بل عليه إجماعهم محصّلاً ومنقولاً ، وقيل بكون الإجماعات
المنقولة عليه مستفيضة ، وربّما ادّعى فيه ضرورة المذهب ، بل ولعلّه المشهور عند
العامّة حيث لم يخالف فيه إلّا الغزالي ومتصوّفوهم ، وقد يظهر عمّن نقل فيه إجماع
العلماء كونه إجماعاً من العامّة أيضاً. خلافاً للمحدّث الكاشاني فنفى تحريمه في
نفسه وخصّه بما اشتمل منه على المحرّمات الخارجة من اللعب بآلات اللهو والكلام
بالباطل ودخول الرجال حيث قال ـ في الوافي بعد ذكر جملة من الأخبار المتعلّقة
بالباب على ما حكي ـ : «الّذي يظهر من مجموع الأخبار
الواردة اختصاص حرمة الغناء وما يتعلّق به من الأجر والتعليم والاستمتاع والبيع
والشراء كلّها بما كان على النحو المتعارف في زمن الخلفاء من دخول الرجال عليهنّ
وتكلّمهنّ بالباطل ولعبهنّ بالملاهي من العيدان والقصب وغيرهما دون ما سوى ذلك من
أنواعه كما يشعر به قوله : ليست بالّتي تدخل عليها
الرجال ... إلى أن قال : وعلى هذا فلا بأس بالتغنّي بالأشعار المتضمّنة
لذكر الجنّة والنار والتشويق إلى دار القرار ، ووصف نعم الملك الجبّار ، وذكر
العبادات والرغبات في الخيرات والزهد في الفانيات ... إلى أن قال : وبالجملة فلا
يخفى على أهل الحجج بعد سماع هذه الأخبار تميّز حقّ الغناء عن باطله ، وأنّ أكثر
ما يتغنّى به الصوفيّة في محافلهم من قبيل الباطل» انتهى.
وقيل : إنّ هذا
القول تبع منه للغزالي. وربّما يظهر الموافقة له من صاحب الكفاية في أحد
الوجهين اللذين ذكرهما في وجه الجمع بين الأخبار الّتي توهّم بينها التعارض وستعرف
عبارته.
وأورد عليه بعض
مشايخنا بأنّ الغناء على ما استفدناه من الأخبار بل فتاوي الأصحاب ، وقول أهل
اللغة هو من الملاهي ، نظير ضرب الأوتار والنفخ في القصب والمزمار ، وقد تقدّم
التصريح بذلك في رواية الأعمش الواردة في الكبائر ، وهي قوله عليهالسلام : «والملاهي الّتي تصدّ عن ذكر الله كالغناء وضرب
الأوتار» فلا يحتاج في حرمته إلى أن يقترن بالمحرّمات الاخر .
أقول : ويرد
عليه مضافاً إلى ذلك أنّه لو لم يكن الغناء في نفسه محرّماً فاقترانه بالمحرّمات
أيضاً لا يوجب تحريمه إذ لا ملازمة أصلاً ، وربّما يحتمل كون بناء كلامهما على
تفسير الغناء بالصوت الحسن كما يظهر القول به من الشافعي حيث فسّره بتحسين الصوت
وترقيقه ، وربّما يومئ إليه أيضاً ما عن الصحاح في تفسير التطريب من أنّ التطريب
في الصوت تحسينه ومدّه.
ويزيّفه أيضاً
ما أشرنا إليه سابقاً ، من أنّ مطلق الصوت الحسن لا يسمّى غناءً ، وأنّ مجرّد
الحسن لا يكفي في تحقّقه ، وأنّه لا قائل بحرمة مطلق الصوت الحسن كيف وهو في الشرع
من صفات المدح ، والأخبار في مدحه ومدح صاحبه وأنّه من أجمل الجمال
__________________
متكاثرة ، بل ورد النصوص باستحبابه في الأذان وفي قراءة القرآن والدعاء ،
وأنّه من صفات الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام هذا. مضافاً إلى منع استلزام المحرّمات المتحقّقة معه
حرمته.
فهذا القول
أحرى بالإعراض عنه إلى ما هو مقصود المقام ، فنقول
: يدلّ على حرمة الغناء الإجماع بقسميه والكتاب والسنّة.
أمّا الكتاب فقوله تعالى : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ» وقوله تعالى :
«وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ
الْحَدِيثِ ...» الآية مع
انضمام الأخبار المفسّرة لهما بالغناء ، فمن الأوّل :
صحيحة زيد
الشحّام قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قوله عزوجل «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ» قال : قول الزور الغناء» .
ومرسلة ابن أبي
عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليهالسلام «في قول الله عزوجل : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ» قال : قول الزور الغناء» .
وموثّقة أبي
بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الغناء»
.
ورواية عبد
الأعلى قال : «سألت جعفر بن محمّد عليهالسلام عن قول الله عزوجل «فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الأوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء ،
قلت : قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» قال : منه الغناء» .
وصحيحة هشام عن
أبي عبد الله عليهالسلام «في قوله تعالى «فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الأوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء» .
ومن الثاني :
مضافاً إلى ما في ذيل رواية عبد الأعلى المتقدّمة :
صحيحة محمّد بن
مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سمعته يقول : الغناء ممّا وعد الله
__________________
عليه النار ، وتلا هذه الآية «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» .
ورواية مهران
بن محمّد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته يقول الغناء ممّا قال الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» .
ورواية الوشاء
قال : «سمعت أبا الحسن الرضا عليهالسلام يقول : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن الغناء ، فقال : هو قول الله عزوجل «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» .
ورواية الحسن
بن هارون قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله ، وهو ممّا
قال الله عزوجل : «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ» .
وقد يستدلّ
بآيتي «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» «وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ» بانضمام
الأخبار المفسّرة لهما بالغناء. وفي دلالتهما على التحريم نظر ، إذ غاية ما فيهما
الدلالة على مدح المجتنب عن الغناء وحسن اجتنابه ، وهذا لا يلازم المنع من فعله أو
استماعه لاحتمال الكراهة.
وقد يناقش في
آية لهو الحديث بأنّ مفادها حرمة الغناء الّذي يشتري ليضلّ عن سبيل الله ويتّخذها
هزواً وهو ممّا لا شكّ فيه ، ولا يدلّ على حرمة غير ذلك ممّا يتّخذ لترقيق القلب
ويذكر الجنّة ويهيج الشوق إلى العالم الأعلى ويؤثّر القرآن والدعاء في القلوب ، بل
في قوله «لَهْوَ الْحَدِيثِ» إشعار بذلك أيضاً. هكذا ذكر في المستند .
وفيه : أنّ
الاشتراء هنا إمّا بمعنى الاختيار أو صرف المال لعقد مجلس الغناء واللام في «ليضلّ»
للعاقبة ، ومعناها أنّ الغناء من خواصّه أنّه يضلّ عن سبيل أي يخرج صاحبه عن حدود
الله تعالى ويميله إلى الفسوق والفجور الاخر ، كما يدلّ عليه ما في
__________________
بعض الروايات من قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الغناء رقية الزنا» كما في كتاب
جامع الأخبار أي يجرّه إليه ويوقعه فيه كما يرشد إليه المشاهدة.
وأمّا السنّة : فقيل : إنّها متواترة ، إلّا أنّ العمدة منها سنداً
ودلالة صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة المصرّحة بأنّ «الغناء ممّا وعد الله عليه النار»
فإنّها مع دلالتها على حرمته تدلّ على كونها من الكبائر.
ومثلها دلالة
رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإيّاكم ولحون
أهل الفسوق وأهل الكبائر ، فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع
الغناء ...» الخ.
فإنّ قرينة
المقابلة تقضي بكون المراد من ألحان العرب وأصواتها تحسين الصوت وتحزينه أو النغمة
الحسنة الغير البالغة حدّ ترجيع الغناء ، وبلحون أهل الفسق والكبائر الترجيعات
المطرحة على حدّ ما يعمله أهل الطرب الّذين هم أهل الفسق والكبائر ، ويرشد إليه
التعليل أيضاً ، لمكان قوله : «يرجّعون القرآن ترجيع الغناء» فلو لم يكن ترجيع
الغناء وهو الترجيعات المطربة محرّماً لما صحّ تعليل «وإيّاكم» المفيد للتحريم بما
ذكر.
ودلالة هذه
الرواية في موضعين أحدهما قوله : «إيّاكم» والآخر الذمّ المستفاد من التعليل.
واختصاص المورد غير ضائر لمكان قوله : «ترجيع الغناء» فإنّه يدلّ على أنّ ترجيع
الغناء بنوعه وطبيعته مذموم ومحرّم ، مع أنّ العبرة في قوله : «وإيّاكم ...» الخ
بعموم اللفظ لا خصوص المورد.
وفي جامع
الأخبار مرسلاً قال : «رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يحشر صاحب الطنبور يوم القيامة وهو أسود الوجه وبيده
طنبور من نار وفوق رأسه سبعون الف ملك بيد كلّ ملك مقمعة يضربون رأسه ووجهه ،
ويحشر صاحب الغناء من قبره أعمى وأخرس وأبكم ... إلى أن قال : وقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : الغناء رقيه الزنا» .
__________________
وعن المقنع
مرسلاً قال الصادق عليهالسلام : «شرّ الأصوات الغناء» .
وعن إرشاد
الحسن بن محمّد الديلمي قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : يظهر في امّته الخسف والقذف ، قالوا متى ذلك؟ قال :
إذا ظهرت المعازف والقينات وشربت الخمور والله ليبيتنّ اناس من امّتي على أشر وبطر
ولعب فيصبحون قردة وخنازير لاستحلالهم الحرام واتّخاذهم القينات ... إلى أن قال :
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا عملت امّتي خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء ... إلى
أن قال : واتّخذوا القينات والمعازف وشربوا الخمور وكثر الزنا ، فارتقبوا عند ذلك
ريحاً حمراء وخسفاً ومسخاً ، وظهور العدوّ عليكم ثمّ لا تنصرون» والقينات جمع
القين وهي الأمة المغنّية ، والمعازف آلات اللهو ، وقيل جمع المعزف وهو نوع من
الطنابير.
وفي المرسل عن
أبي عبد الله قال : «سئل عن الغناء وأنا حاضر؟ فقال : لا تدخلوا بيوتاً الله معرض
عن أهلها» .
وفي حديث قال
راويه : «دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام فقال : الغناء اجتنبوا الغناء ، اجتنبوا قول الزور ،
فما زال يقول : اجتنبوا الغناء اجتنبوا ، فضاق بي المجلس وعلمت أنّه يعنيني» .
وفي رواية
الأعمش الواردة في تعداد الكبائر قال : «والملاهي الّتي تصدّ عن ذكر الله كالغناء
وضرب الأوتار» .
والمستفيضة
الدالّة على «حرمة ثمن الجارية المغنية وأنّه سحت وأنّه كثمن الكلب» .
ورواية يونس
قال : «سألت الخراساني عن الغناء ، وقلت : إنّ العبّاسي زعم أنّك ترخّص في الغناء
، فقال : كذب الزنديق ما هكذا قلت له ، سألني عن الغناء قلت له : إنّ
__________________
رجلاً أتى أبا جعفر عليهالسلام فسأله عن الغناء فقال له : إذا ميّز الله بين الحقّ
والباطل فأين يكون الغناء؟ قال : مع الباطل ، قال : قد حكمت» إلى غير ذلك
ممّا يقف عليه المتتبّع.
ولم نقف في
النصوص على ما ينافي روايات التحريم إلّا عدّة روايات ربّما توهّم موافقتها لمذهب
المحدّث الكاشاني ومن وافقه ، مثل ما رواه في الوسائل من خبر عليّ ابن جعفر عن
أخيه عليهماالسلام قال : «سألته عن الغناء في الفطر والأضحى والفرح؟ قال :
لا بأس ما لم يعص به» وفي نسخة اخرى «ما لم يزمر به» قال في الكفاية : «والمراد
به ظاهراً ما لم يصر الغناء سبباً للمعصية ولا مقدّمة للمعاصي المقارنة له ، وقال
في تفسير النسخة الاخرى : والظاهر أنّ المراد بقوله «ما لم يزمر به * أي لم يلعب
معه بالمزمار أو ما لم يكن الغناء بالمزمار ونحوه من آلات الأغاني» .
ورواية أبي
بصير عن كسب المغنّيات «فقال : الّتي يدخل عليهنّ الرجال حرام والّتي تدعى إلى
الأعراس ليس به بأس وهو قول الله عزوجل : «وَمِنَ النّاسِ مَنْ
يَشْتَرِي» الآية وروايته
الاخرى عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أجر المغنّية الّتي تزفّ العرائس ليس به بأس
ليست بالّتي تدخل عليها الرجال» .
والجواب : عدم
مقاومة هذه لمعارضة ما مرّ من جهات عديدة ، مع عدم وضوح دلالتها ، فيراد بالغناء
في خبر عليّ بن جعفر قراءة الأشعار المفرّحة المناسبة ليومي العيدين بالصوت الحسن
المرجع فيه الغير البالغ حدّ الترجيع المطرب ، وهو المراد من قوله «ما لم يعص به»
وكذلك قوله «ما لم يزمر به» في نسخة اخرى أي ما لم يبلغ حدّ صوت المزمار وهو الصوت
اللهويّ المشتمل على الترجيع المطرب.
وغاية ما في
روايتي أبي بصير بعد الإغماض عمّا في سنديهما الدلالة على جواز التغنّي الخالي عن
دخول الرجال واستماعهم في الأعراس ، ولعلّنا نقول به فيكون ذلك مستثنى كما عليه
جماعة وسيأتي الكلام في استثنائه.
__________________
وأمّا ما رواه
في الفقيه مرسلاً قال : «سأل رجل عليّ بن الحسين عليهالسلام عن شراء جارية لها صوت؟ فقال : ما عليك لو اشتريتها
فذكّرتك الجنّة يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل الّتي ليست بغناء ، فأمّا
الغناء فمحظور» . فعدم منافاته واضح لا يحتاج إلى البيان ، فإنّ مطلق
الصوت لا يلازم الغناء ، ولذا ذكر الصدوق أو الراوي في تفسيره ما ذكر بناءً على
كونه من أحدهما كما هو الظاهر.
وأمّا الثاني : فقد استثني من تحريم
الغناء امور:
منها : الغناء في قراءة القرآن ، استثناه في الكفاية حيث جعله أحد وجهي الجمع بين ما دلّ
من الروايات على التحريم بقول مطلق وما توهّم دلالته منها على جوازه بل استحبابه
في القرآن ، فذكر الروايات الدالّة على مدح الصوت الحسن واستحبابه في القرآن حيث
قال
وصرّح المحقّق وجماعة ممّن تأخّر
عنه بتحريم الغناء ولو كان في القرآن ، لكن غير واحد من الأخبار يدلّ على جوازه بل
استحبابه في القرآن بناءً على دلالة الروايات على حسن الصوت والتحزين والترجيع في
القرآن بل استحبابه ، والظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد
من كلام أهل اللغة وغيرهم وفصّلناه في بعض رسائلنا. ففي مرسلة ابن أبي عمير عن
الصادق عليهالسلام «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن» وعن عبد الله
بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إنّ الله أوحى إلى موسى بن عمران إذا وقفت بين
يدي فقف موقف الذليل الفقير ، وإذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين» وعن حفص قال :
«ما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر ، ولا أرجى للناس منه ، وكانت
قراءته حزناً ، فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنساناً» . وفي رواية
عبد الله بن سنان «اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها» وفي
__________________
رواية النوفلي عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «ذكرت الصوت عنده فقال : إنّ عليّ بن الحسين عليهماالسلام كان يقرأ القرآن فربّما يمرّ به المارّ فصعق من صوته
أنّ الإمام أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه» الخ. وفي رواية
عبد الله بن سنان عن رسول الله «لم يعط امّتي أقلّ من ثلث الجمال والصوت الحسن
والحفظ» . وفي رواية أبي بصير عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إنّ من أجمل الجمال الشعر الحسن ونغمة الصوت الحسن» وفي رواية عبد
الله بن سنان عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم «لكلّ شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن» وفي رواية
اخرى عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال : كان عليّ بن الحسين عليهماالسلام أحسن الناس صوتاً بالقرآن وكان السقّاءون يمرّون
يستمعون قراءته» . وفي رواية اخرى عن أبي جعفر عليهالسلام «ترجّع بالقرآن صوتك فإنّ الله عزوجل يحسب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعاً» وروى معاوية
في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل لا يرى أنّه صنع شيئاً في الدعاء وفي القرآن
حتّى يرفع صوته ، فقال : لا بأس إنّ عليّ بن الحسين عليهماالسلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن فكان يرفع صوته حتّى
يسمعه أهل الدار ، وأنّ أبا جعفر عليهالسلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، فقال : إذا قام الليل
وقرأ رفع صوته فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين وغيرهم فيقيمون فيستمعون إلى
قراءته» . إلى أن قال : وارتكاب التأويل في هذه الأخبار بحيث
يجتمع مع القول بتحريم الغناء في القرآن يحتاج إلى تكلّف بيّن ... إلى أن قال :
وحينئذٍ نقول : يمكن الجمع بين هذه الأخبار والأخبار الكثيرة الدالّة على تحريم
الغناء بوجهين ، أحدهما : تخصيص تلك الأخبار ما عدا القرآن ، وحمل ما يدلّ على ذمّ
التغنّي بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو كما يصنعه الفسّاق في غنائهم.
وثانيهما : أن يقال
__________________
المذكور في تلك الأخبار الغناء والمفرد المعرّف باللام لا يدلّ على العموم
لغةً ، وعمومه إنّما يستنبط من حيث إنّه لا قرينة على إرادة الخاصّ ، وإرادة بعض
الأفراد من غير تعيين ينافي غرض الإفادة وسياق البيان والحكمة فلا بدّ من حمله على
الاستغراق والعموم ، وهاهنا ليس كذلك لأنّ الشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل
اللهو من الجواري المغنّيات وغيرهنّ في مجالس الفجور والخمور وغيرها. فحمل المفرد
على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد. وفي عدّة من تلك الأخبار إشعار
بكونه لهواً باطلاً ، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات
الطيّبة المذكّرة للآخرة والمهيّجة للأشواق إلى عالم القدس محلّ تأمّل. فإن ثبت
إجماع في غير الغناء على سبيل اللهو كان متّبعاً وإلّا كان حكمه على أصل الإباحة ،
وطريق الاحتياط واضح انتهى.
ويندفع ما ذكره
في الوجه الثاني بأنّ المفرد المعرّف باللام حقيقة في تعريف الجنس ، والشيوع
الموجب لانصرافه إلى ما ادّعى شيوعه غير معلوم ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ،
وتعليق التحريم إلى الطبيعة يقتضي حرمة جميع أفرادها إلّا ما خرج منها بالدليل ،
فدعوى بقاء غير الغناء على سبيل اللهو تحت أصل الإباحة غير سديد.
على أنّا نقول
ـ بناءً على ما تقدّم تحقيقه عند البحث في موضوع الغناء ـ إنّ الغناء ليس إلّا من
جنس الصوت اللهويّ الّذي يرغب إليه أهل الفسق والطرب ، ومقتضى الأدلّة خصوصاً قوله
في صحيحة محمّد بن مسلم «الغناء ما وعد الله عليه النار» كون الصوت اللهويّ
بطبيعته مبغوضة للشارع ، وعلى هذا فمادّة القراءة بالغناء مبغوضة محرّمة ،
وخصوصيّة الهيئة القرآنية الطارئة لها لا يخرجها عن المبغوضيّة والتحريم وإن لم
يصدق على القراءة باعتبار عنوان القرآنيّة عنوان اللهويّة ، إذ من الواضح أنّه
يصحّ القول بأنّ القرآن يقرأ بصوت لهويّ ، كما يقال : إنّه يقرأ بالغناء وإن لم
يكن نفس القراءة لهواً.
وأمّا الوجه
الأوّل : فيندفع أيضاً بمنع معارضة أخبار استحباب حسن الصوت وتحسينه في القرآن
لأخبار تحريم الغناء وسائر أدلّته بوجه ، إذ لا دلالة فيها صراحة
__________________
ولا ظهوراً ولا خصوصاً ولا عموماً على شيء من جواز الغناء ولا استحبابه في
القرآن. ودعوى عدم انفكاك تحسين الصوت أو ترجيعه عن الغناء غير مسموعة ، بل ضرورة
العيان والوجدان تشهد ببطلانها حيث لا يلازم شيء منهما البلوغ حدّ الصوت اللهوي
ولا التطريب اللذين أحدهما ضابط الغناء.
فإن قلت :
الصوت الحسن على ما ذكرت بمفهومه أعمّ ممّا يتحقّق فيه الغناء وما لا يتحقّق فله
فردان ، وعموم الجواز والاستحباب المستفاد من الأخبار المذكورة يشملهما ، غاية ما
هنالك كون النسبة بين هذه الأخبار وأخبار تحريم الغناء عموم من وجه ، فتخصّص أخبار
التحريم بغير القرآن لأصالة الإباحة فيه.
قلت : مع أنّ
أصل الإباحة في تعارض العامّين من وجه لا يصلح شاهداً لإرجاع التخصيص إلى ما
يخالفه وأنّ شواهد إرجاعه إلى أخبار الجواز والاستحباب من الأكثريّة وأظهريّة
الدلالة والشهرة وموافقة الإجماع محصّلاً ومنقولاً وموافقة الكتاب وغير ذلك
متكاثرة أصل التعارض مع فرض العموم على الوجه المذكور ممنوع.
وسند المنع أنّ
أدلّة استحباب المستحبّات ـ كغسل الجمعة ، وإدخال السرور في قلب المؤمن ، وإجابة
المؤمن ، وقضاء حاجته ، ونحو ذلك ـ وأدلّة إباحة المباحة كلحم الغنم وشرب الماء ،
وأدلّة كراهة المكروهات كالطهارة بالماء المشمّس ونحو ذلك إنّما أفادت هذه الأحكام
في مواردها من حيث خلوّها عن الجهات الملزمة للفعل أو الترك ، فما طرأه جهة ملزمة
لفعله أو جهة ملزمة لتركه فهو خارج من هذه الموارد خروجاً موضوعيّاً ، فلا ينافي
الوجوب أو الحرمة المستفاد من أدلّة هذه الجهات للأحكام الثلاث المذكورة التابعة
لخلوّ مواردها عن تلك الجهات ، وهذا هو معنى عدم المعارضة بين أدلّة هذه الأحكام
وأدلّة الوجوب أو الحرمة التابعين للجهات الطارئة لموارد هذه الأحكام ، ولذا قد
يجب غسل الجمعة لأجل النذر ، وقد يحرم إذا تضمّن ضرراً أو مع مظنّة الضرر ، أو
لمغصوبيّة الماء أو نجاسته مع الانحصار ، وقد يحرم إدخال السرور وإجابة المؤمن
لجهة اللواط أو الزنا ، ويحرم أكل لحم الغنم وشرب الماء للضرر أو المغصوبيّة أو
النجاسة ، وكذلك الطهارة بالماء المشمّس.
ومن هذا القبيل
حسن الصوت في القراءة بل ونفس القراءة فإنّ استحبابهما إنّما هو من حيث خلوّهما عن
الجهات الملزمة لتركهما لأنّه الظاهر من أدلّة استحبابهما وطروّ جهة الغنائيّة أو
اللهويّة يعطيهما الحرمة بلا إشكال لانتفاء التعارض. وبالتأمّل فيما ذكرنا يظهر
الجواب عن الاستدلال بعمومات القراءة فإنّها لا تقاوم أدلّة حرمة الغناء ، فإنّ
المستحبّ هو القراءة من حيث خلوّهما عمّا يوجب لزوم أحد طرفي الفعل أو الترك فلا
ينافيه التحريم من جهة لحوق عنوان الغناء.
ومنها : الغناء في المراثي ، وعن جامع المقاصد «أنّه حكي استثناؤه قولاً» ولم يسمّ قائله ، ودليله على ما قيل عمومات
أدلّة الإبكاء والرثاء. وعن المحقّق الأردبيلي أنّه ـ بعد ما وجّه استثناءه في
المراثي بأنّه لم يثبت الإجماع إلّا في غيرها والأخبار ليست بصحيحة صريحة في
التحريم مطلقاً ـ أيّده بأنّ البكاء والتفجّع أمر مطلوب مرغوب وفيه ثواب عظيم
والغناء معين على ذلك وأنّه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى
زماننا هذا من غير نكير ، ثمّ أيّده أيضاً بجواز النياحة وأخذ الاجرة عليها ،
والظاهر أنّها لا تكون إلّا معه وبأنّ تحريم الغناء للطرب على الظاهر وليس في
المراثي طرب بل ليس إلّا الحزن انتهى.
والجواب : عن
العمومات قد ظهر ممّا مرّ من أنّها لا تقاوم لمعارضة أدلّة تحريم الغناء حتّى ما
تحقّق منه في المراثي ، ومرجعه إلى منع قضاء عمومها بجواز جهة الغناء المتحقّقة
فيها ولا استحبابها ، وإطلاق الإجماعات المنقولة يعمّها أيضاً إن لم نقل بسبق
الإجماع المحصّل على حدوث الخلاف ، وفي الأخبار ما هو صحيح صريح في التحريم مطلقاً
كصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة ، وكون الغناء معيناً على البكاء والتفجّع أضعف شيء
ذكر في المقام ، ولا يثبت به استحباب الغناء ، لمنع الصغرى تارةً ومنع الكبرى
اخرى.
أمّا الأوّل :
فلأنّ الغناء إن اريد به الصوت اللهوي فهو حيثما تخلّل في أثناء القراءة يختلّ به
حالة البكاء والتفجّع عن المستمع فهو ممّا يزيل تلك الحالة لا أنّه يعين عليها ،
__________________
وإن اريد به الترجيع المطرب فالطرب الّذي يحصل به إن كان سروراً فهو لا
يناسب البكاء والتفجّع ، وإن كان حزناً فهو كالحزن الحاصل منه في غير مجلس الرثاء
فيكون حزناً على الآلام المركوزة في النفوس من عدم نيل المقاصد والآمال وفقد
المشتهيات النفسانيّة ، لا على ما أصاب أئمّتنا وساداتنا من المصائب.
وأمّا الثاني :
فلأنّ استحباب الغناء لكونه معيناً على المستحبّ ، إمّا من جهة المقدّمية بدعوى
أنّه مقدّمة للبكاء الّذي هو مستحبّ فيستحبّ بضابطة أنّ مقدّمة المستحبّ مستحبّة ،
أو من جهة الإعانة على البرّ المستفاد حسنه من قوله تعالى : «تَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى» نظراً إلى أنّ
البكاء من البرّ فيندرج الإعانة عليه في عموم الآية. ولا سبيل إلى شيء منهما :
أمّا الأوّل
فلوجهين :
أحدهما : أنّ
المقدّمة إنّما تكتسب الحكم وجوباً أو استحباباً من ذي المقدّمة إذا كانت فعلاً
لفاعل ذي المقدّمة ، على معنى كون اتّحاد فاعليهما شرطاً لوجوب مقدّمة الواجب
واستحباب مقدّمة المستحبّ ، ولذا لا يجب على إنسان إحضار الماء لمن وجب عليه غسل
الجنابة أو الوضوء للصلاة ، ولا يستحبّ إحضاره أيضاً لمن يستحبّ له غسل الجمعة أو
الوضوء لتلاوة القرآن.
وثانيهما : أنّ
مقدّمة الواجب أو المستحبّ إذا كانت محرّمة فتحريمها يؤثّر إمّا في تخصيص الوجوب
أو الاستحباب المقدّمي بأفرادها المباحة إن كانت ، أو في رفع الحكم وجوباً أو
استحباباً عن ذي المقدّمة مع الانحصار لئلّا يلزم التكليف بما لا يطاق ، ولذا
انتقل تكليف من انحصر ماء وضوئه في المغصوب إلى التيمّم إلى أنّ وجوب ذي المقدّمة
أو استحبابه يؤثّر في رفع الحرمة عن المقدّمة لتصير واجبة أو مندوبة من باب
المقدّمة ، فالغناء مع قطع النظر عن مقدّميّته إن كان محرّماً فكيف يمكن أن يصير
مستحبّاً لأجل كونه مقدّمة للمستحبّ.
وأمّا الثاني
فلوجوه ثلاث :
__________________
الأوّل : أنّ
مفاد الآية وجوب المعاونة على البرّ والتقوى وتحريم المعونة على الإثم والعدوان لا
استحبابه ، فيراد من البرّ ما كان وجوبيّاً كفعل الواجبات وترك المحرّمات فلا
يندرج فيها ما نحن فيه.
الثاني : أنّ
الغناء فيما نحن فيه من الإعانة على الإثم والعدوان المنهيّ عنه في الآية ، نظراً
إلى أنّه كما يحرّم فعله فكذلك يحرم استماعه.
الثالث : أنّ
الإعانة على البرّ من حيث خلوّها عن الجهة الملزمة للترك مستحبّة ، ومع طروّ تلك
الجهة تصير محرّمة ، ولا ينافي تحريمها حينئذٍ دليل استحبابها كما عرفت مراراً.
وأضعف من الوجه
دعوى كونه متعارفاً في بلاد المسلمين فإنّه إن اريد به كونه متعارفاً في مجالس
الجهّال والعوام المتسامحين في الدين ، فلا اعتبار بهذا التعارف ، لأنّه ليس إلّا
كتعارف سائر الفسوق والمعاصي ومنها الغناء في غير مجالس الرثاء.
وإن اريد به
تعارفه في مجالس العلماء والمتورّعين من العوام ، فأصل التعارف ممنوع أوّلاً بل
نرى أنّ القارين والراثين عند حضور العلماء يتحفّظون عنه ، وعدم النكير ممنوع
ثانياً حيث يقع أحياناً بل شاهدنا منع العلماء والمتورّعين وإنكارهم ، وربّما
خرجوا من المجلس إنكاراً ، ومن لم ينكر فلعلّه لمصيره إلى هذا القول الضعيف أو
لعلمه بعدم التأثير.
ومع الغضّ عن
جميع ما ذكر فالتعارف المذكور إن اريد به ما دون السيرة فلا عبرة به ، وإن اريد به
السيرة الكاشفة عن تقرير المعصومين عليهمالسلام ولا تكون كاشفة إلّا إذا كانت قديمة ثابتة في أعصارهم عليهمالسلام ، وهذا غير معلوم بل خلافه معلوم ، حيث لم يكن إقامة
مجلس العزاء في أعصارهم شائعة بل كانت في كمال الندرة ، وهذا النادر لشدّة التقيّة
كان يقع في الخلوات ، ومن أين يعلم وقوع الغناء في مجالسهم وهم لم ينكروا على
الفاعل؟ وعلى تقدير الوقوع من أين علم عدم إنكارهم؟ فهذه السيرة حادثة لا تكشف عن
التقرير.
وأمّا جواز
النياحة وجواز أخذ الاجرة عليها فلا تأييد فيهما ، لأنّها لا تلازم الغناء أصلاً.
فقوله «والظاهر أنّها لا تكون إلّا معه» واضح المنع فلا يبقى إلّا إطلاق دليل ،
وينصرف إلى ما لم يطرأه جهة منع والغناء منها. وقوله «وليس في المراثي طرب» فلعلّه
مبنيّ على توهّم انحصار الطرب في السرور كما حكاه صاحب القاموس قولاً
وزيّفه. وفيه : أوّلاً منع الانحصار وإن غلب إطلاقه في هذه الأعصار وغيرها في
السرور ، وثانياً ما عرفت من أنّ الحزن الحاصل من الغناء ليس هو الحزن المطلوب في
الرثاء.
ومنها : غناء المغنّية في الأعراس إذا
لم يكن معه اللعب بآلات اللهو والتكلّم بالأباطيل ودخول الرجال ، وقيل : المشهور استثناؤه. وعن صريح الحلّي والعلّامة في
التذكرة وظاهر المفيد والحلبي والديلمي المنع منه.
ومستند المشهور
ما تقدّم من روايتي أبي بصير الدالّتين على «إباحة أجر المغنّية الّتي تزفّ
العرائس وليست بالّتي يدخل عليها الرجال» نظراً إلى الملازمة بين إباحة الأجر
وإباحة الفعل. ومنع الملازمة غير سديد ، كما أنّ دعوى كون الأجر لمجرّد الزفّ لا
للغناء غير سديد. وهذا القول جيّد لقوّة دليله.
وتوهّم القصور
في سند الروايتين من جهة أبي بصير لاشتراكه بين الثقة وغير الثقة ـ مع أنّ إطلاقه
كما حقّق في محلّه ينصرف إلى الثقة ، مضافاً إلى منع دخول غير الثقة في هذا الاسم
كما عن بعضهم تعليلاً بأنّ أبا بصير مشترك بين ثلاثة وكلّهم أجلّاء ثقات ولا رابع
لهم ـ يندفع بانجباره بالشهرة لو كانت مستندة إلى الروايتين. ومع هذا فطريق
الاحتياط واضح.
وعلى الجواز
فشرطه ـ كما صرّح به في الروايتين ـ عدم دخول الرجال عليهنّ لاستماع الغناء منهنّ
، وأمّا الشرطان الآخران فلم يصرّح بهما في الروايتين فاعتبارهما يحتاج إلى دليل ،
وحرمة اللعب بالملاهي لا تستلزم حرمة ما اقترن بها ، وكذلك التكلّم بالباطل إن
سلّمنا حرمته مطلقاً. إلّا أن يقال : إنّ العذر المقطوع بخروجه من عمومات تحريم
الغناء ومطلقاته ما اشتمل على الشروط الثلاث ، والباقي باقٍ تحت العموم والإطلاق ،
هذا مضافاً إلى طريقة الاحتياط.
ومنها : الحُداء بالضمّ كدعاء ، وهو صوت
ترجّع فيه للسير بالإبل ، وفي المسالك
__________________
والرياض أنّه سوق الإبل بالغناء. وفي الكفاية المشهور
استثناؤه ، وعن الدروس وشهادات الشرائع والقواعد التصريح بذلك.
وفي الرياض ينبغي القطع
بعدم استثنائه ، ومنعه أيضاً بعض مشايخنا قدسسره استضعافاً لدليله ، إذ ليس إلّا رواية نبويّة
متضمّنة لتقرير النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لعبد الله بن رواحه حيث حدى للإبل وكان حسن الصوت. وهو
في محلّه ، لضعف الرواية وعدم ثبوت الشهرة الجابرة له ، بل قيل : لعلّ المحقّق
خلافها ، مع تطرّق المنع من كون الحداء على صفة الغناء ، ولعلّه كيفيّة مخصوصة غير
مندرجة فيه ، بل في كلام بعض مشايخنا «أنّه قسيم للغناء بشهادة العرف ، وحينئذٍ فهو خارج من الموضوع لا الحكم».
__________________
النوع الثالث
في معونة الظلمة
وعن الأكثر
تقييده بكونه في الظلم وعن جماعة تقييده بكونه في المحرّم ، ولعلّه يوافق الأوّل بإرادة
هذا النوع من المحرّم لا مطلقه لأنّ الإعانة عليه داخل في المعونة على الإثم
المنصوص على حرمتها في الآية ، وهذا لا يختصّ بالمظلمة والأصحاب أفردوه بالذكر
لخصوصيّة ، ولعلّه تبع منهم للنصوص المأخوذ فيها ذلك عنواناً. وعن نهاية الشيخ إطلاق
العنوان من دون تقييد له بأحد القيدين ، ولعلّ المراد به المقيّد ، وربّما ادّعي
الانصراف إليه ولعلّه لتعليق الحكم على الوصف ، ويحتمل كونه بناءً منه على إطلاق
المنع من معونة الظلمة في ظلمهم والعمل لهم في المباحات والطاعات أيضاً.
وكيف كان فالعمل للظلمة على أقسام ثلاث
:
الأوّل :
معونتهم في ظلمهم.
الثاني : العمل
لهم بحيث يعدّ العامل من أعوان الظلمة ورجالهم المنسوبين إليهم ـ بأن يقال : فلان
كاتب السلطان أو خيّاطه أو معماره أو ناظره ـ وإن لم يكن أصل
__________________
العمل محرّماً.
الثالث : العمل
لهم من غير أن يعدّ من أعوانهم كخياطة ثيابهم والبناء لهم والكتابة لهم ونحو ذلك
بأُجرة أو تبرّعاً.
أمّا القسم الأوّل : فحكمه التحريم بلا خلاف ، بالأدلّة الأربع من الإجماع
بقسميه.
والعقل
المستقلّ فإنّه كما يستقلّ بإدراك قبح الظلم فكذلك يستقلّ بإدراك قبح المعونة
للظالم في ظلمه ، بل لك أن تقول : إنّه من الظلم نفسه ، كما حكي «أنّه قيل لبعض :
إنّي رجل أخيط للسلطان ثيابه فهل تراني بذلك داخلاً في أعوان الظلمة؟ قال : المعين
من يبيعك الإبر والخيوط ، وأمّا أنت من الظلمة أنفسهم» .
والكتاب لعموم
قوله عزّ من قائل : «وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» ونحو قوله
تعالى : «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النّارُ» فإنّ محبّتهم
أو الميل إليهم أو محبّة بقائهم إذا حرم فمعونتهم على الظلم أولى بالتحريم.
والسنّة
كالمستفيضة الدالّة على ذمّ أعوان الظلمة ، مضافة إلى خصوص الصحيح عن أبي حمزة
الثمالي عن عليّ بن الحسين عليهماالسلام في حديث قال : «إيّاكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين» . ورواية طلحة
بن زيد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «العالم بالظلم ، والمعين له ، والراضي به ،
شركاء ثلاثتهم» . والمرويّ عن كتاب عقاب الأعمال بإسناده عن السكوني عن
جعفر بن محمّد عن آبائه عليهمالسلام عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حديث قال : «من تولّى خصومة ظالم أو أعانه عليها نزل
به ملك الموت بالبشرى بلعنه ونار جهنّم ، وبئس المصير» .
والمرويّ عن
كتاب ورّام بن أبي فراس قال : «قال عليهالسلام : من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج
من الإسلام ، قال : وقال عليهالسلام : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظلمة ، أين
أعوان الظلمة ، أين أشباه الظلمة ، حتّى من برى لهم قلماً ، ولاق لهم
__________________
دواة ، قال : فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم» . وفي الحديث
المتقدّم عن كتاب عقاب الأعمال «ومن علّق سوطاً بين يدي سلطان جائر ، جعلها الله
حيّة طولها سبعون ألف ذراع ، فيسلّطه عليه في نار جهنّم خالداً فيها مخلّداً»
وأمّا القسم الثاني : فالظاهر أنّه أيضاً حرام وفاقاً لبعض مشايخنا ولم نقف على
قول بخلاف الحرمة.
ويحتمل قويّاً
أن يكون المراد من معونة الظلمة في عنواناتهم ما يعمّ ذلك أيضاً ، للنصوص الدالّة
على ذمّ أعوان الظلمة :
مثل خبر محمّد
بن عذافر عن أبيه قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام : يا عذافر نبّئت أنّك تعامل أبا أيّوب والربيع فما
حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة؟ قال : ففزع أبي ، فقال له أبو عبد الله عليهالسلام لمّا رأى ما أصابه : أي عذافر إنّما خوّفتك بما خوّفني
الله عزوجل به ، فقال محمّد : فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً
حتّى مات» .
وخبر ابن أبي
يعفور قال : «كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا ، فقال له : جعلت فداك أنّه
ربّما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدّة فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو
المسنّاة يصلحها ، فما تقول في ذلك؟ فقال أبو عبد الله عليهالسلام : ما احبّ أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاءً وأنّ لي ما بين لابتيها لا
ولا مدّة بقلم ، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم الله بين
العباد» .
والشاهد في
التعليل وإن كان السؤال في مطلق العمل لهم صدر الجواب ظاهراً في الكراهة ، وتعليله
بما ذكر تنبيه على أنّ وجه الكراهة أنّ العمل لهم مطلقاً ربّما يفضي إلى أنّ دخل
المعامل في أعوان الظلمة ويعدّ من رجالهم وخواصّهم.
وخبر ابن بنت
الوليد ابن صبيح الكاهلي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره الله يوم
القيامة خنزيراً» سابع مقلوب عبّاس كما أنّ رمع
__________________
مقلوب عمر ، ومنه ما روي «أنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك رمع» .
وخبر السكوني
عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهمالسلام قال : «قال رسول الله : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ
أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دواة ، أو ربط كيساً ، أو مدّ لهم مدّة قلم فاحشروهم
معهم» .
وخبره الآخر
قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما اقترب عبد من سلطان جائر إلّا تباعد من الله» .
وخبره الآخر
قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إيّاكم وأبواب السلطان وحواشيها فإنّ أقربكم من أبواب
السلطان وحواشيها أبعدكم من الله عزوجل» .
وتقدّم في
الحديث المنقول عن كتاب ورّام بن أبي فراس قوله عليهالسلام : «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظلمة ، وأعوان
الظلمة ، وأشباه الظلمة حتّى من برى لهم قلماً ، ولاق لهم دواة ، قال : فيجتمعون
في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم» .
وأمّا القسم الثالث : فالمصرّح به في كلام جماعة عدم التحريم ،
وفي كلام غير واحد نفي الخلاف ، وربّما يدّعى الإجماع عليه.
نعم في عدّة من
الروايات ما يستظهر منه المنع أيضاً ، مثل خبر أبي بصير قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن أعمالهم؟ فقال لي : يا أبا محمّد لا ولا مدّة قلم ،
إنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلّا أصابوا من دينه مثله ، أو حتّى يصيبوا من
دينه مثله» .
وخبر ابن أبي
يعفور المتقدّم ، وخبر يونس بن يعقوب قال : «قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : لا تعنهم على بناء مسجد» .
__________________
وخبر صفوان بن
مهران الجمّال قال : «دخلت على أبي الحسن الأوّل عليهالسلام فقال لي : يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً
واحداً ، قلت : جعلت فداك أيّ شيء؟ قال : إكراؤك جمالك من هذا الرجل ـ يعني هارون
الرشيد ـ قلت : والله ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو ولكنّي أكريته
لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولّاه بنفسي ، ولكن أبعث معه غلماني ، فقال
لي : يا صفوان أيقع كراؤك عليهم؟ قلت : نعم جعلت فداك ، قال : فقال لي : أتحبّ
بقاءهم حتّى يخرج كراءك؟ قلت : نعم ، قال : من أحبّ بقاءهم فهو منهم ، ومن كان
منهم كان ورد النار ، قال صفوان : فذهبت فبعت جمالي عن آخرها فبلغ ذلك إلى هارون
فدعاني ، فقال : يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك ، قلت : نعم ، قال : ولِمَ؟ قلت :
أنا شيخ كبير ، وأنّ الغلمان لا يقومون بالأعمال ، فقال : هيهات هيهات إنّي لأعلم
من أشار عليك بهذا ، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر ، قلت : ما لي ولموسى بن جعفر؟
فقال : دع هذا عنك فو الله لو لا حسن صحبتك لقتلتك» .
وهذه الأخبار
لعدم عامل بها وقصور أسانيدها مطروحة ، أو مؤوّلة فتارةً بالحمل على ما تضمّن من
العمل المباح بالذات محرّماً من غصب أو استعمال آلة مغصوبة ونحو ذلك ، واخرى
بالحمل على الكراهة كما يشهد له قوله عليهالسلام : «ما احبّ» في خبر ابن أبي يعفور المتقدّم ، هذا مع
تطرّق المنع إلى دلالة بعضها كخبر الجمّال لقضائه بأنّ المرجوح بل المذموم بل
الممنوع هو محبّة بقائهم لا نفس العمل لهم ، إلّا أن يكون العمل مقدّمة للمحبّة
فليتدبّر.
__________________
النوع
الرابع
النوح
بالباطل
وأصل النوح ذكر
الميّت بأوصاف ومدائح على وجه الندبة والتفجّع ، فإن لم يكن فيه هذه الأوصاف
والمدائح كان نوحاً بالباطل ، ولذا فسّر الباطل هنا بالكذب ، وإن كانتا فيه كان
نوحاً بالحقّ ، وموضوع المسألة هو الأوّل ، وهو محرّم في نفسه عند الأكثر ، وإنّما
قيّدناه بالأكثر لأنّ من الأصحاب كالشيخ في ظاهر المبسوط وابن حمزة في
الوسيلة من منع من النوح على الميّت مطلقاً عملاً بظاهر روايات
دالّة عليه بإطلاقها وعن الأوّل دعوى الإجماع عليه ، خلافاً للأكثر ففصّلوا بينهما
بالمنع في الأوّل وعن المنتهى الإجماع عليه والجواز في الثاني ، وعن المنتهى الإجماع
عليه أيضاً جمعاً بين الأخبار المختلفة بالمنع والتجوّز. والظاهر أنّ النياحة على
أهل بيت العصمة من النبيّ والصدّيقة والأئمّة عليهمالسلام لأنّ الجواز بل الاستحباب فيه معلوم بالضرورة من المذهب
وعلى هذا فالاستدلال للجواز بالموثّق عن أبي عبد الله قال : «قال لي أبي :
يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى» ليس على ما
ينبغي لأنّ الجواز في مورد الموثّقة ليس من محلّ البحث.
وكيف كان فمن
الأخبار المانعة ما في حديث المناهي «إنّه نهى عن النياحة
__________________
والاستماع إليها» وفي المرويّ عن الخصال «إنّ النائحة إذا لم تتب قبل
موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من حرب» وفي حديث «من
اصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفّرها» وعن المرويّ
في معاني الأخبار في وصيّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لفاطمة عليهاالسلام «إذا أنا متّ فلا تقيمنّ عليّ النياحة» .
ومن المجوّزة
الصحيح المتضمّن لترخيص النبيّ وتقريره نياحة امّ السلمة على أخيها الوليد والصحيح الآخر
«لا بأس بأجر النائحة الّتي تنوح على الميّت» والمرسل «وسئل الصادق عليهالسلام عن أجر النائحة؟ فقال : لا بأس به قد نيح على رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم» والآخر «لا بأس بكسب النائحة إذا قالت : صدقاً» .
والأكثر حملوا
الأوّلة على النوح بالباطل ، والاخرى على النوح بالحقّ ، ولعلّ الشاهد إجماع
المنتهى أو المرسلة الأخيرة ، أو أنّ الأوّلة نصّ في الباطل وظاهر في الحقّ
والاخرى نصّ في الحقّ وظاهر في الباطل ، فطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر. وإجماع الشيخ
موهون بمصير الأكثر إلى خلافه مع معارضته بأقوى منها وهو إجماع المنتهى.
وربّما حملت
الأخبار المانعة على التقيّة ، أو على الكراهة ، وقد يستشهد له بالمرويّ عن كتاب
عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن النوح على الميّت أيصلح؟ قال : يكره» والمرويّ عن
قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن النوح؟ فكرهه» وفيه نظر.
__________________
نعم ربّما
يستشمّ الكراهة من حديث «من اصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفّرها» ومن الخبر «من
أقام النياحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه» ولكنّهما لا يقاومان أخبار المنع
المصروفة إلى النوح بالباطل. نعم الكراهة في النوح بالحقّ عملاً بهما غير بعيدة ،
وربّما يؤيّده نهي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فاطمة عليهاالسلام «إذا أنا متّ فلا تقيمنّ عليّ نياحة» ضرورة أنّ النياحة الّتي تقيمها فاطمة
عليهاالسلام لا تكون بالباطل ، فيكون النهي مصروفاً إلى الكراهة
جمعاً بينه وبين ما هو أقوى منه سنداً ودلالة.
__________________
النوع الخامس
حفظ كتب الضلال
فإنّه حرام كما
هو المصرّح به في كلام جماعة ، وعن منتهى العلّامة نفي الخلاف عنه ، كما هو المصرّح به أيضاً في
التذكرة . والمراد به على ما يستفاد من كلماتهم ما يعمّ صيانة
نفس الكتاب عن التلف والاندراس ونسخه ، وحفظ المكتوب على ظهر القلب وتعليمه
وتعلّمه.
ودليله من
الروايات ما في رواية تحف العقول من قوله عليهالسلام : «وكلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير الله عزوجل ، أو يقوّى به الكفر والشرك في جميع وجوه المعاصي ، أو
باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع
التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك».
وما أرسله في
المستند من رواية الحذّاء «من علّم باب ضلال كان عليه مثل وزر من عمل به» .
وجه الاستدلال
بالرواية الاولى على ما قيل : إنّ المراد بـ «ما يتقرّب به لغير الله» إنّما هو
الأصنام ونحوه ، وب «ما يقوّى به الكفر والشرك» إنّما هو بيع السلاح لأعداء الدين
، وب «باب يوهن به الحقّ» كتب الضلال ونحوه ممّا يوجب الإضلال وحصول الضلال.
والضلال قد
يطلق على ما يرادف البطلان ، ومنه قوله تعالى : «وأضلّ أعمالهم»
__________________
فالمراد من كتبه حينئذٍ الكتب المشتملة على المطالب الباطلة.
وقد يطلق على
ما يقابل الهداية وهذا شائع ، فالمراد من كتبه حينئذٍ ما قصد بوضعه الإضلال وحصول
الضلالة ، أو ما يوجب الضلالة سواء قصد بوضعه ذلك أو لا؟ وسواء ترتّب الضلال على
اسلوبه وتأليفه كما فيما ابتدعه الفرقة الضالّة المضلّة ، أو على مطالبه المندرجة
فيه المنافية لدين الإسلام أو مذهب الفرقة المحقّة الناجية.
والظاهر أنّ
موضوع المسألة هو هذا المعنى لا المعنى الأوّل ، لأنّه القدر المتيقّن من معقد نفي
الخلاف وعليه ينطبق الرواية. وأمّا المعنى الأوّل فما كان من المطالب الباطلة
مرتبطاً بالعقائد الّتي عليها مدار الهداية والضلالة فهو داخل في المعنى الثاني ،
وما كان منها من قبيل الأباطيل والأكاذيب والإغراقات كما في بعض كتب السير
والتواريخ. أو الغزليّات والهزليّات كجملة من كتب الشعراء فلا دليل على حرمة حفظها
بشيء من معنييه.
ويندرج في
المعنى الثاني الّذي هو المبحوث عنه من كتب العامّة ما اشتمل على إثبات خلافة
الثلاثة وتفضيلهم وإثبات الفضائل لهم ، وما اشتمل على إثبات الجبر أو التفويض أو
التجسيم أو الرؤية ، وما اشتمل على أحاديثهم المجعولة في هذه المطالب المنكرة من
كتب أحاديثهم. وأمّا كتب أحاديثهم المتعلّقة بالفروع فلا يندرج فيه ، وكذلك كتبهم
في الفقه واصول الفقه والتفسير والنحو والصرف واللغة ، وغيرها من العلوم العربيّة
، لعدم الإضلال في شيء من ذلك.
ويندرج فيه من
الكتب الشيخيّة ما اشتمل على إثبات العلل الأربعة في شأن الأئمّة عليهمالسلام أو خصوص التفويض لأمر الخلق والرزق والإحياء والإماتة
إليهم ، وعلى إنكار المعاد والمعراج الجسمانيّين ، ومن كتب العرفاء والمتصوّفة
ورسائلهم ما اشتمل على مطالب منكرة ولو بمقتضى ظواهر ألفاظها القابلة للتأويل
قريباً أو بعيداً من إثبات الجبر ووحدة الوجود ودعوى الالوهيّة أو الولاية ، ومن
كتب الفلاسفة ما اشتمل على وحدة الوجود أو غيرها من المنكرات.
ثمّ إنّ مرجع
حرمة الحفظ إلى وجوب الإعدام والإتلاف ولو بمحو موضع الضلال
أو حكّه أو قطع الصفحة أو الورقة الّتي هو فيها. فما كان من كتب الضلال ما
يترتّب الضلال على مجرّد اسلوبه وتأليفه كبيان هؤلاء الفرقة الضالّة المضلّة ، أو
كان جميع مطالبه المندرجة فيه ضلالاً فطريق إعدامه إزالة خطوطه بالماء ، أو دفنه
في التراب حتّى يبلو ، أو رضّ كواغذه وإلقاء رضاضها في الماء أو الصحراء أو غير
ذلك.
وما كان منها
مع اشتماله على المطالب الضالّة مشتملاً على مطالب حقّة أيضاً فإن أمكن إفراد موضع
الضلال بالإعدام بمحو أو قطع ورق أو نحو ذلك يقتصر عليه ولا يجب إعدام غيره بل لا
يجوز لو كان له ماليّة أو كان مال الغير لكونه محترماً ، وإن لم يمكن إفراده
بالإعدام بل يتوقّف على إعدام الجميع وإتلافه وجب ذلك حسماً لمادّة الفساد ، ولأنّ
الشارع أسقط احترامه حينئذٍ ، ولو كان لجلده أو وعائه ماليّة اخذ صوناً للمال
المحترم عن التلف والضياع ، ولو كان لغيره فلإتلافه تبعاً لإتلاف الكتاب يوجب
الضمان.
ولا يندرج
الكتب السماويّة الغير المحرّفة في الكتب الضالّة وإن كانت منسوخة فلا يلحقها
حكّها ، وأمّا المحرّفة منها كالموجود في يد اليهود والنصارى اليوم المسمّى عندهم
بالتوراة والإنجيل ففي اندراجها ولحوق الحكم بها وعدمه وجهان : من أنّها لا توجب
للمسلمين بعد بداهة نسخها ضلالة ، ومن أنّها توجبها لليهود والنصارى ، والأقرب
الأوّل للأصل.
ثمّ يدخل في
الحفظ المحرّم ، كلّ ما له دخل في بقاء المطالب المضلّة والوقوع في الضلالة من
النسخ والحفظ على ظهر القلب والمذاكرة والمطالعة والمراجعة وغيرها.
واستثني عنه
صور ، منها : الحفظ لنقض دليل أهلها من كلامهم ليكون المجادلة بالّتي هي أحسن ، أو
الاحتجاج عليهم ، أو إلزامهم على الحقّ ، وقد يقال في ضبط هذه الثلاث : إنّ الأوّل
إبطال لدليل الخصم بما هو من مذهبه ، والثاني إبطال لمذهبه بما هو من مذهبه ،
والثالث إثبات حقّيّة مذهبك بما هو من مذهبه. والاطّلاع على مطالبهم ليحصل به
التقيّة أو لمجرّد الاطّلاع على الآراء والمذاهب إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة ،
ولذا قال في جامع المقاصد ـ على ما حكي ـ : «إنّ فوائده كثيرة» .
__________________
والدليل على
الاستثناء بعد ظهور عدم الخلاف فيه قوله عليهالسلام في الرواية المتقدّمة : «إلّا في حال تدعو الضرورة فيه
إلى ذلك».
ويعتبر في
مواضع الاستثناء الأهليّة لمن استثني في حقّه ، وضابطها أن يطمئنّ على نفسه من
الضلالة بالإذعان والقبول للمطلب المضلّ ، فإنّ النفس سارقة «وَما أُبَرِّئُ
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ
رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
__________________
النوع السادس
هجاء المؤمنين
وهو حرام
بالأدلّة الأربع ، أمّا الإجماع فبقسميه كما في كلام بعض مشايخنا وممّن ادّعى
الإجماع عليه ـ كما حكي ـ كاشف اللثام تبعاً للعلّامة في المنتهى وعنه في
التذكرة نفي الخلاف فيه.
وأمّا العقل فلاستقلاله بقبح الهجاء.
وأمّا الكتاب فآيات ، منها : قوله تعالى : «وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» وهما على ما
قيل بمعنى واحد وهو من يعيبك ، وقيل : الأوّل من يعيبك بوجهك والثاني من يعيبك
بغيبك.
ومنها : قوله
تعالى : «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» فإن جعلنا
الهجاء نوعاً من الغيبة غاية الأمر كونها أخصّ أفراده وأظهرها يشمله النهي الصريح
في صدر الآية ، وإن لم نجعله منها يدلّ على حرمته قوله «أيحبّ أحدكم أن يأكل ...»
الخ الّذي هو بمنزلة التعليل ، فإنّه مبنيّ على الاستعارة والتشبيه كما قيل ، حيث
شبّه المؤمن بالأخ النسبي وعرضه بلحم الأخ ، والتعرّض لعرضه بالهجاء أو الغيبة
بأكل لحمه وغيبته بموته ، والمقصود من هذه التشبيهات بيان مشاركة هجاء المؤمن
واغتيابه لأكل لحم الأخ النسبي بعد موته في شدّة القبح والعقوبة ، فكما أنّ
المشبّه به ممّا يكرهه النفوس وينكره العقول فكذلك المشبّه.
__________________
ومنها : قوله
تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ولا ريب أنّ
الهجاء إشاعة للفاحشة ، وإذا كانت محبّته محرّمة فنفسه أولى بالتحريم.
وأمّا السنّة
فكلّما دلّ ـ من النصوص المتكاثرة القريبة من المتواترة ـ على تحريم الغيبة وتوعيد
العذاب عليه يدلّ على تحريم هجاء المؤمنين أيضاً إمّا بالنطق إن جعلناه نوعاً منها
، أو بالفحوى إن جعلناه خارجاً عنها ، وحيث إنّ الأظهر في النظر القاصر كونه منها
في الجملة كما ستعرفه في شرح الغيبة وبيان النسبة بينها وبين الهجاء ، فلا نطيل
الكلام بإيراد الأخبار هنا مستوفاة لعدم رجوعه إلى طائل بعد لحوق ذكرها في عنوان
الغيبة ، فنقتصر هنا في تقرير الأدلّة على ما ذكرناه ثمّ نردفه بالتعرّض لذكر
موضوع الهجاء.
فنقول : فسّره
جماعة منهم الشهيد الثاني في المسالك والمحقّق الثاني في جامع المقاصد والسيّد في
الرياض بذكر معائبهم بالشعر ، ولعلّهم أخذوه من شيوع إطلاقه في
العرف على هذا المعنى ، أو من القاموس حيث ذكر «هجاه هجواً وهِجاءً شتمه بالشعر» ونسب نحوه إلى
النهاية الأثيريّة والمصباح المنير وفي القاموس فسّر الشتم
بالسبّ والسبّ بالشمّ فهما والهجاء ألفاظ مترادفة ، وذكر في المجمع «إنّ الشتم
السبّ بأن تصف الشيء بما هو ازراء ونقص» والإزراء الغيب ، فحاصل معنى الشتم والسبّ وصف الشيء
بعيوبه فيرجع إلى ذكر المعايب بالشعر. فكلام هؤلاء يقتضي عدم تحقّق الهجاء في
النثر.
لكنّ المحكيّ
عن الصحاح كما في المجمع تفسير الهجاء بخلاف المدح. والظاهر أنّ خلاف المدح هو
الذمّ ، فيكون الهجاء عبارة عن الذمّ. وفي المجمع «ذمّه عابه» يرجع إلى ذكر
المعايب. وإطلاقهما يقتضي كونه أعمّ من ذكرها بالشعر أو بالنثر ، وعموم الأدلّة
__________________
أيضاً يساعد على إرادة الأعمّ بل هو أعمّ من كونه في الحضور أو في الغياب
بالنطق أو بالكتب ، إلّا أنّ الأظهر ما عليه الأكثر من اختصاصه بالشعر لشهادة
العرف بذلك.
والمراد
بالمؤمنين أهل الإيمان وهو الشيعي الاثنى عشري عدلاً كان أو فاسقاً ذكراً كان أو
انثى بل الخنثى ، نعم يخرج الكافر والمخالف والإمامي الغير الاثنى عشري فلا يحرم
هجاؤهم للأصل ، وعدم شمول أدلّة التحريم.
وربّما استثني
عن موضع الحرمة هجاء المتجاهر بالفسق ولكن يجب الاقتصار على عيبه المتجاهر به
طلباً لردعه ، وهجاء الخائض في معصية الله ولو متستّراً إذا أراد به الردع مع
انحصار طريقه في هجائه ، وكذلك هجاء المبدع في الدين المدّعي لنفسه ما ليس فيه من
نبوّة أو ولاية أو بابيّة أو ركنيّة فتهجوه وتذكر معائبه ليتنفّر عنه الناس ولا
يحصل له الاتّباع ، كما روي في الصحيح عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة
منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في
الإسلام ويحذّرهم الناس ولا يتعلّمون من بدعهم يكتب الله لكم الحسنات ويرفع لكم به
الدرجات» .
ثمّ إنّ من
مشايخنا تبعاً لجامع المقاصد من ذكر سبّ المؤمنين أيضاً مع ذكره
هجاءهم ، ونقل عن جامع المقاصد تفسيره «بأن يسند إليه ما يقتضي نقصه مثل الوضيع
والناقص» وقد تقدّم عن المجمع تفسير الشتم «بالسبّ بأن تصف الشخص
بما هو إزراء ونقص» قال شيخنا : «ويدخل في النقص كلّما يوجب الأذى كالقذف والحقير
والوضيع والكلب والكافر والمرتدّ والتعيير بشيء من بلاء الله تعالى كالأجذم
والأبرص» ٤ وهذا على ما قدّمناه من معنى الهجاء داخل فيه ، وكأنّ إفراده بالذكر
لزعم أنّه لا يكون إلّا في النثر والهجاء مختصّ بالشعر كما ذكره جماعة.
وكيف كان فهو
كالهجاء يعتبر فيه قصد الإهانة ، قال شيخنا قدسسره : وهو حرام في
__________________
الجملة بالأدلّة الأربعة لأنّه ظلم وإيذاء وإذلال ، ففي رواية أبي بصير عن
أبي جعفر عليهالسلام قال : «قال رسول الله : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر
، وأكل لحمه معصية ، وحرمة ماله كحرمة دمه» وفي رواية السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة» وفي رواية أبي
بصير عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «جاء رجل من تميم إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : أوصني ، فكان فيما أوصاه لا تسبّوا فتكسبوا
العداوة» وفي رواية ابن الحجّاج عن أبي الحسن عليهالسلام في الرجلين يتسابّان قال : «البادئ منهما أظلم ووزره
على صاحبه ما لم يعتذر إلى المظلوم» قال : وفي مرجع الضمائر اغتشاش ويمكن الخطأ من الراوي.
والمراد والله أعلم أنّ مثل وزر صاحبه عليه لإيقاعه إيّاه في السبّ من غير أن
يخفّف عن صاحبه شيء ، فإذا اعتذر إلى المظلوم عن سبّه وإيقاعه إيّاه في السبّ برء
من الوزرين. ثمّ قال : يستثنى من المؤمن المظاهر بالفسق لما سيجيء في الغيبة من
أنّه لا حرمة له ، وهل يعتبر في جواز سبّه كونه من باب النهي عن المنكر فيشترط
بشروطه أم لا؟ ظاهر النصوص والفتاوى كما في الروضة الثاني ، والأوّل
أحوط. ويستثنى منه المبتدع أيضاً لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا رأيتم أهل البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم
وأكثروا من سبّهم والوقيعة فيهم» . ويمكن أن يستثنى من ذلك ما إذا لم يتأثّر المسبوب
عرفاً بأن لا يوجب قول هذا القائل في حقّه مذلّة ولا نقصاً ، كقول الوالد لولده أو
السيّد لعبده عند مشاهدة ما يكره «يا حمار» وعند غيظه «يا خبيث» ونحوه .
__________________
النوع السادس
الغيبة
وينبغي التكلّم أوّلاً في تحقيق موضوعها
بالنظر تارةً في كلمات أئمّة اللغة ، واخرى في تفاسير الفقهاء ، وثالثة في الأخبار
المتعرّضة لبيان معناها.
أمّا الأوّل :ففي القاموس «غابه عابه وذكره بما فيه من السوء كاغتابه
، والغيبة فعلة منه تكون حسنة وقبيحة» انتهى ، والظاهر بمقتضى السياق أنّ عطف «وذكره» للتفسير
والمراد بالحسنة والقبيحة الغيبة المرخّص فيها شرعاً كالمستثنيات الآتية والنهي
عنها وهي الباقية من الأفراد بعد إخراج المستثنيات. وعن الصحاح «وهو أن يتكلّم خلف
إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه» وفي المجمع اغتابه اغتياباً وقع فيه والاسم الغيبة
بالكسر ، وهو أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه ، فإن كان صدقاً سمّي
غيبة ، وإن كان كذباً سمّي بهتاناً» قوله : «وقع فيه» أي عابه يقال وقعت فيه أي عبته. وعن
المصباح المنير «اغتابه إذا ذكره بما يكرهه من العيوب وهو حقّ ، والاسم الغيبة» وعن النهاية «أن
يذكر الإنسان في غيبته بسوء ممّا يكون فيه» .
وأمّا الثاني :فعن جامع المقاصد «أنّ حدّ الغيبة على ما في الأخبار أن
يقول في أخيه ما يكرهه لو سمعه ممّا فيه» وفي الروضة «وهو القول وما في حكمه في المؤمن بما يسوؤه
لو سمعه مع اتّصافه به ، وفي حكم القول الإشارة باليد وغيرها من
__________________
الجوارح والتحاكي بقول أو فعل» وعنه في كشف الغمّة الّتي هي رسالة منفردة في الغيبة أنّ لها تعريفين : «أحدهما
: مشهور وهو ذكر الإنسان في غيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يعدّ نقضاً في العرف
بقصد الانتقاص والذمّ ، والثاني : التنبيه بما يكره نسبته إليه» وفي المستند «وهي
أن يذكر إنسان من خلفه بما هو فيه من السوء» ولم نقف من الفقهاء على أزيد من ذلك.
وأمّا الثالث : ففي النبويّ المرسل عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا : الله ورسوله
أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : إن
كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» ونحوه ما في
حديث في وصاياه صلىاللهعليهوآلهوسلم لأبي ذرّ ففيه على ما حكي «إنّها ذكرك أخاك بما يكرهه»
ونحوهما المرويّ عن مكارم الأخلاق قلت : «يا رسول الله وما الغيبة؟ قال : ذكرك
أخاك بما يكره ، قلت : فإن كان فيه ذلك الّذي تذكر به ، قال : أعلم أنّك إذا ذكرته
بما هو فيه فقد اغتبته» إلى آخر ما ذكره. ونحوه المرسل «أنّه ذكر عنده رجل
فقالوا ما أعجزه؟ فقال : اغتبتم صاحبكم ، قالوا : يا رسول الله قلنا ما فيه ، قال
: إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتّموه» وما حكي روايته عن مجمع البيان «إذا ذكرت الرجل بما فيه
يكرهه الله فقد اغتبته» وحسنة عبد الرحمن بن سيّابة عن الصادق عليهالسلام «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه ، وأمّا الأمر الظاهر فيه مثل
الحدة والعجلة فلا ، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه» . وعن مصباح
الشريعة قال الصادق عليهالسلام : «صفة الغيبة أن يذكر أحد بما ليس هو عند الله عيب ،
ويذمّ ما يحمده أهل العلم فيه ، وأمّا الخوض في ذكر غائب بما هو عند الله مذموم
وصاحبه فيه ملوم فليس بغيبة وإن كره صاحبه إذا سمع به وكنت
__________________
أنت معافياً عنه خالياً منه ، وتكون مبيّناً للحقّ من الباطل ببيان الله
ورسوله ، ولكن على شرط أن لا يكون للقائل بذلك مراد غير بيان الحقّ والباطل في دين
الله ، وأمّا إذا أراد به نقص المذكور بغير ذلك المعنى فهو مأخوذ بفساد مراده وإن
كان صواباً» . وعن الكاظم عليهالسلام قال : «من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه
الناس لم يغتبه ، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه ، ومن
ذكره بما ليس فيه فقد بهته» وصحيحة داود بن سرحان عن الغيبة قال : «هو أن تقول
لأخيك في دينه ما لم يفعل ، وتبثّ عليه أمراً قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حدّ .
وينبغي التنبيه على امور تذكر فيها ما
يعتبر في حقيقة الغيبة وما لا يعتبر :
الأوّل : قضيّة صريح عبارتي الصحاح
والمجمع حيث اخذ فيهما
التكلّم وصريح تعريفي المحقّق والشهيد الثانيين حيث أخذ فيهما القول كصريح حسنة
عبد الرحمن وصحيحة داود بن سرحان ، كذلك كظاهر الآخرين من أهل اللغة وسائر
الروايات المتقدّمة حيث عبّر في الجميع بالذكر ، وهو ظاهر في الذكر اللساني
المرادف للقول مضافاً إلى ما في النبويّ المتقدّم من تفسير الذكر بالقول في قول
القائل «أرأيت إن كان في أخي ما أقول» مع تقريره صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله : «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته» أن يكون حقيقة
الغيبة من مقولة القول والكلام ، وما تقدّم من الشهيد في الرسالة يقتضي كونه
المعروف بين الأصحاب ، مع كون غيره من جعلها أعمّ منه ومن الإشارة والكتابة
والتحاكي وغيره من الأفعال غير معروف لشذوذه وندرة القائل به فيكون ضعيفاً ، لعدم
شاهد عليه يقاوم لمعارضة ما سمعت من النصّ على القول لغةً وفتوى ورواية ، وإن اختاره
غير واحد من مشايخنا ونسبه في المستند إلى جماعة منهم والده في
جامع
__________________
السعادات فقالوا : «إنّ الغيبة لا تنحصر باللسان ، بل كلّما يفهم
نقصان الغير ويعرّف ما يكرهه فهو غيبة سواء كان بالقول أو الفعل أو التصريح أو
التعريض أو الإشارة أو الإيماء أو الغمز أو الرمز أو الكتابة أو الحركة» .
أقول : إن
أرادوا في الحكم باعتبار كونه إشاعة لسرّ المؤمن أو تعرّضاً لعرضه وعورته أو
إيذاءً له عملاً بعموم قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» وصحيحة ابن
سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام «عورة المؤمن على المؤمن حرام قال : نعم ، قلت : تعني سفلتيه؟ قال : ليس
حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه» والمرويّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «من آذى مؤمناً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله فهو ملعون في التوراة
والإنجيل والزبور والفرقان» فلا نزاع معهم.
وإن أرادوا في
الاسم أيضاً فهو لمخالفته لما عرفت مردود عليهم ، مع عدم ما يشهد لهم ممّا يمكن
التعويل ويصحّح التأويل في النصوص الكثيرة المعتبرة ، ويجوز طرح جملة من كلام أهل
اللغة. واحتمال كون المراد من الذكر ما يوجب التذكّر أو مطلق الإفهام والإعلام
والتنبيه ـ مع عدم جريانه فيما عبّر فيه بالتكلّم أو القول ومخالفته للتفسير
المتقدّم في الرواية ـ بعيد لا يصار إليه بدون صارف معتبر. والاستدلال عليه بصدق
الاسم عرفاً والاستعمالات الدائرة في العرف ضعيف ، لتطرّق المنع إلى صغراه وكبراه
من حيث إنّ الاستعمال لو سلّمناه أعمّ من الحقيقة.
وأضعف منه
الاستدلال بما روى من «أنّه دخلت امرأة قصيرة على عائشة ، فلمّا ولّت أومأت بيدها
ـ أي هي قصيرة ـ فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : قد اغتبتها» للقدح في سندها أوّلاً ، ومنع دلالتها ثانياً ، إذ ليس
فيها إلّا استعمال محتمل للتشبيه والاستعارة ، فيكون أعمّ بل يتعيّن الحمل عليه
جمعاً.
وأضعف منه
أيضاً الاستدلال بأنّ الذكر باللسان غيبة محرّمة ليفهمه الغير نقصان
__________________
أخيك لا لكون المفهم لساناً فإنّه علّة مستنبطة لا عبرة بها ، ولو سلّم
الاعتبار فأقصاه الإلحاق في الحكم لا في الاسم.
وأضعف من
الجميع الاستدلال بأنّ القلم أحد اللسانين ، فإنّ هذه القضيّة ممّا لم يعلم لها
أصل في النصوص فلا عبرة بها ، ولو سلّم فمعناه أنّ القلم لسان حكمي فالتثنية من
باب التغليب على حدّ القمرين.
الأمر الثاني : يعتبر في الغيبة غياب
المغتاب وعدم حضوره بحيث يسمع ما
ذكر فيه ويفهمه كما يقتضيه مادّة هذا اللفظ ، وفاقاً لما في المستند من «أنّها أن
يذكر إنسان من خلفه بما هو فيه من السوء ، فلو لم يكن من خلفه لم يكن غيبة كما هو
مقتضى مادّة اللفظ» وقبله المحقّق والشهيد الثانيين ، وقضيّة كلام الثاني
في كشف الريبة كونه مشهوراً» وهو موافق لصريح النهاية الأثيريّة والصحاح والمجمع بل ظاهر
الآخرين لشهادة ذكرهم هذه اللفظة في مادّة الغيب ، ومن الواجب سريان ما يعتبر في
المبدأ في المشتقّ. هذا كلّه مع شهادة العرف وعدم صدق الاسم عرفاً مع الحضور ، فإن
ذكره بعيوبه في حضوره شتم وسبّ. فلا ينافي عدم كونه غيبة كونه محرّماً بل أغلظ
تحريماً كما نصّ عليه المحقّق المتقدّم ذكره ، فإنّه على ما حكي بعد ما عرفت من
تعريفه بعد جملة كلام له قال : «لو ذكره في حضوره بما يكرهه فهو أغلظ تحريماً ،
وإن لم يكن غيبة» .
ولكن الظاهر
أنّ الغياب أعمّ من الحقيقي لعدم حضوره في مجلس الغيبة والحكمي كالحاضر الغير
السامع لصمم أو نوم أو وقوعها بطريق النجوى والسامع الغير الفاهم كالعربي القحّ
الّذي لا يفهم اللغة العجميّة أصلاً والعجمي القحّ الّذي لا يفهم اللغة العربيّة
كذلك إذا وقعت الغيبة بغير لغته ، لصدق اسم الغيبة وعدم صحّة سلبه.
الأمر الثالث
: يعتبر فيها أن يكون
ما يذكر في غيابه سوءاً وذمّاً ، فلو ذكر بما فيه من المدح ـ ككونه متهجّداً أو
زاهداً أو ورعاً أو غير ذلك من المحامد والمحاسن ـ
__________________
لم يكن غيبة وإن كرهه صاحبه لغرض من الأغراض الصحيحة ، مثل أن لا يعتريه
عجب أو رياء أو سمعة أو سرور أو شهرة أو غير ذلك. والظاهر عدم حرمته أيضاً ، لعدم
مدخليّة رضاه في إباحته إلّا إذا بلغ حدّ الإيذاء فيحرم لذلك.
الأمر الرابع : يعتبر فيها كون العيب
ثابتاً للمغتاب ، فلو ذكره بما
ليس فيه فهو بهتان لا أنّه غيبة لصحّة سلب الاسم ، وهو ظاهر عبارة الدروس وصريح عبارات
النهاية والصحاح والمصباح والمجمع وعبارتي المحقّق والشهيد الثانيين ، كصريح جملة من الروايات المتقدّمة ، ويحمل
عليها مطلقاتها أيضاً. واحتمال أن يراد بالبهتان غيبة غيبة بهتان أي غيبة عرضها
البهتانيّة فالغيبة غيبتان غيبة محضة وغيبة بهتان ـ كما سبق إلى بعض الأوهام ـ خلاف
ظاهر لا يصار إليه. والاستشهاد له بما في كلام المصباح المنير بعد ما ذكر التعريف
المتقدّم من قوله : «إن لم يكن حقّاً فهو غيبة في بهت» مدفوع بعدم
حجّيّة الشاهد لتفرّده ومخالفته الأكثر من أهل اللغة والنصوص المستفيضة وظهور
إجماع الطائفة.
الأمر الخامس : هل يعتبر فيها مستوريّة
العيب الثابت في المغتاب ، فذكر من شاع وظهر عيبه بحيث يعرفه الناس بذلك العيب وهو كاره له ليس بغيبة
أو لا؟ بل الغيبة ذكر الرجل بعيب يكرهه سواء كان مستوراً فيه أو ظاهراً بيّناً ،
ويظهر الفائدة في المتجاهر بالفسق الّذي يأتي كونه مخرجاً من الحرمة إذا ذكر بما
تجاهر فيه وهو يكره ذكره ، فعلى الأوّل يكون خروجه موضوعيّاً ، وعلى الثاني
حكميّاً وجهان :
من التقييد في عبارتي
الصحاح والمجمع وجملة من النصوص المتقدّمة بل التفصيل الموجود في بعضها.
ومن إطلاق ما
عداهما من تفاسير أهل اللغة وتفاسير الروايات المطلقة المعتضدتين بتفاسير الفقهاء
، وإطلاق فتاويهم الّتي هي معاقد الإجماعات كما يكشف عنه عدّهم غيبة المتجاهر من
المستثنيات. وهو الأقوى ، لصدق الاسم عرفاً على ذكر
__________________
غير المستور وعدم صحّة سلبه عنه المعتضدين بأكثريّة المطلقين من أهل اللغة
، وأكثريّة النصوص المطلقة فيحمل المقيّدة منها على إرادة الغيبة المحرّمة. وقد
تجمع بين كلمات أهل اللغة أيضاً بالأخذ بالمطلق منها لسلامته في مادّة افتراقه عن
العارض فلا يلزم تكذيب غيره لرجوع كلامه إلى لا أدري ، وفيه تأمّل.
الأمر السادس : يعتبر فيها كون ذكر
الرجل بعيبه لسامع يفهمه ، فلو ذكره عند نفسه أو عند من لا يفهمه لم يكن غيبة ، لأنّه المتبادر من
تعاريف أهل اللغة وتفاسير الأخبار وفتاوى الأصحاب وتعاريفهم أيضاً ، ولم نقف على
مخالف فيه.
الأمر السابع : يعتبر فيه كراهة المغتاب
، فذكر الرجل بما لا
يكرهه ليس بغيبة ، كما هو قضيّة النصّ اللغوي وغيره خصوصاً ما تقدّم من المستفيضة.
ولكنّ الكلام في تحقيق مرجع ضمير «يكرهه ويغمّه ويسوؤه» على ما اخذ في التعاريف
المتقدّمة ، ومرجعه إلى تحقيق ما يكرهه المغتاب أهو العيب ـ كما هو ظاهر عبارتي
القاموس والمصباح ، ومعناه كون المكروه وجود العيب المذكور فيه ، ومقتضاه أن لا
يكون ذكر الرجل بخوضه في القبائح وارتكابه المحرّمات أو تركه الواجبات غيبة ،
لأنّها عيوب لا يكره وجودها بل تصدر عنه بميله النفساني. وربّما يستشمّ الشهادة له
من المرويّ المتقدّم عن مصباح الشريعة ـ أو هو الكلام المذكور فيه ، أو ذكر عيبه
من حيث هو كذلك ، أو ذكره أيضاً ولكن من حيث إنّه إظهار لعيبه وربّما يستشمّ
الشهادة به من حسنة عبد الرحمن وصحيحة داود بن سرحان والمرسلة عن الكاظم عليهالسلام ، أو ذكره من حيث إنّه يشعر بذمّه وإن لم يكن الذمّ مقصوداً كذكره بالألقاب
المشعرة بالذمّ ، أو ذكره من حيث قصد به ذمّه وتعييره على ما فيه من العيب المذكور
فيه ، أو ذكره من حيث قصد به نقصه وانتقاصه أي سقوطه عن أعين الناس ، أو ذكره من
حيث قصد به إهانته لغرض كونه مهاناً عند الخلق؟ احتمالات.
منشأها صلاحية
الموصول للجميع على معنى احتمال كونه كناية عن كلّ واحد. ولكنّ الأربع الأخيرة
تندفع بأنّ الحيثيّات المأخوذة تقييدات في معنى الغيبة لا شاهد عليها ، وينفيها
إطلاق كلمات أهل اللغة والنصوص المفسّرة للغيبة ، بل في جملة منها
إشارات إلى نفيها ، مثل ما تقدّم عن عائشة في امرأة قصيرة فإنّها تقضي بأنّ
عائشة لم تصدر منها إلّا التنبيه على قصر الامرأة وقد قال لها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «قد اغتبتها»
ومثل المرسل
المتقدّم في قول أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «ما أعجزه» مع قولهم «قلنا ما فيه» لقضائه بأنّه لم يتحقّق منهم سوى قول «ما
أعجزه» من دون إشعار بذمّه ولا قصد له ولا لنقصه وانتقاصه ولا إهانته ، وقد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اغتبتم صاحبكم».
ومثل قوله عليهالسلام في حسنة عبد الرحمن : «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره
الله عليه» لقضائه بأنّه لم يعتبر فيها حيثيّة سوى كون المقول في الأخ ما ستره
الله عليه.
ومثل المرويّ
عن الكاظم عليهالسلام من قوله : «من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه ممّا لا
يعرفه الناس اغتابه» لقضائه أيضاً بأنّه لم يؤخذ فيها حيثيّة سوى كون ما ذكر في
الرجل عيباً ثابتاً فيه لم يعرفه الناس.
ومثل المرويّ
عن مكارم الأخلاق فإنّ قوله : «فإن كان فيه ذلك الّذي يذكر» يشير إلى أنّه لم
يتحقّق فيما حكم عليه بكونه غيبة سوى أنّه ذكر فيه ما هو فيه من السوء.
فما في تعريف
الشهيد المتقدّم من اعتبار قصد الانتقاص والذمّ غير مسموع ، ونسبته إلى المشهور
غير مسلّمة ، ولو سلّمت الشهرة فهي هنا ممّا لا أصل له.
والرابع من
الاحتمالات الباقية يندفع بابتنائه على اعتبار مستوريّة العيب في محلّ الغيبة وقد
منعناه ، فحيثيّة الإظهار أيضاً غير معتبرة في معنى الغيبة.
والأوّل منها
أيضاً يندفع بأنّ تخصيص الغيبة بغير العيوب الشرعيّة يقضي بعدم تحقّقها فيمن ذكر
بعيب شرعي ـ مثل كونه تارك الصلاة أو مانع الزكاة أو شارب الخمر أو لاطياً أو نحو
ذلك ـ وضرورة العرف والشرع تنفيه ، وعليه مبنيّ استثناء غيبة المتجاهر واستثناؤها
في موضع الجرح وفي محلّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك ممّا ستعرفه.
وبقى منها
الاحتمال الثاني والثالث ، وكلاهما صحيحان وإن كان أظهرهما إرادة ذكر العيب. فصار
المحصّل أنّ الغيبة عبارة عن ذكر عيب للمؤمن يكرهه من حيث إنّه
__________________
ذكر لعيبه سواء كره وجود العيب أو لا ، وظهوره أو لا ، وكان ذكره على وجه
الإظهار أو لا ، تضمّن قصد الذمّ أو الانتقاص أو الإهانة أو لا ، أشعر بالذمّ أو
لا ، فإنّ الجميع من الغيبة المحرّمة عدا ما استثني ، نعم لا نضايق كون عروض إحدى
الحيثيّات المذكورة موجباً لشدّة قبحها وغلظة حكمها.
الأمر الثامن : ممّا يعتبر في مفهوم
الغيبة تعيين المغتاب على معنى كونه شخصاً معيّناً بحيث يصدق في حقّه أنّه ذكر بما يكرهه أو يغمّه أو أنّه
ذكر بعيب أو صفة ذمّ لو سمعه يكرهه أو يغمّه لو سمعه ، لأنّه الظاهر المتبادر من
جميع ما تقدّم من تعريفاته وتفاسيره.
ولعلّ وجهه كون
التعيين من ضروريّات صدق الإسناد في جملة «سمعه ويكرهه ويغمّه ويسوؤه» وإن شئت قلت
: إنّه ظهور من الهيئة التركيبيّة لكلّ تعريف.
فلو ذكر عيباً
لمبهم أو وصفه بما هو نقص فإن كان ذلك المبهم من المجهول المطلق كما لو قال :
سأُنبّئك أو سأُخبر لك عن رجل فاسق أو بخيل أو لئيم أو شحيح أو سارق أو زانٍ أو
نحو ذلك من غير قصد إلى معيّن ولا معرفة تعيين ، فلا ينبغي الاسترابة في عدم
اندراجه في الغيبة إذ لا أحد هنا يكره ذلك لو سمعه.
وإن كان من
قبيل مطلق المجهول بأن يكون الجهالة عند السامع فقط مع كونه معلوم العين للقائل ،
كأن رأيت رجلاً فاسقاً أو بخيلاً جاءني رجل فاسق أو بخيل أو نحو ذلك ، وهو معيّن
عنده بقرينة المضيّ ، فالظاهر اندراجه فيها لوضوح أنّه لو سمع أنّه ذكره بعيبه على
هذا الوجه لكرهه ، ولصدق قوله عليهالسلام : «ذكرك أخاك بما يكرهه».
ومن ذلك ينقدح
أنّ التعيين المعتبر في مفهوم الغيبة أعمّ منه عند القائل والسامع وعند القائل فقط
، ولو قال : أحد هذين الرجلين أو واحد منهما أو أحد هؤلاء الجماعة أو أهل هذه
القبيلة أو أهل هذه القرية أو هذا البلد فاسق أو دنيّ أو شرور أو ديّوث أو نحو ذلك
، فربّما يشكّك في كونه غيبة.
والتحقيق هو
التفصيل بين إرادة مصداق الأحد أو الواحد الّذي هو معيّن خارجي عنده سواء عرف
السامع أيضاً تعيينه أو لا ، وبين إرادة المفهوم الّذي يقال له الفرد المنتشر
والفرد الشائع لصدقه على كلّ واحد على البدل ، فعلى الأوّل يندرج فيها ظاهراً لأنّ
ذلك المصداق المعيّن لو سمع أنّ القائل ذكره بعيبه على هذا الوجه أي قاصداً
لتعيينه
بهذه العبارة لكرهه ولصدق أنّه ذكر أخاه بما يكرهه ، وأمّا الثاني فالوجه
فيه عدم الاندراج لأنّ كلّاً منهما أو منهم إذا سمع هذه العبارة على الوجه الّذي
صدر من قائلها أي وقف على أنّه لم يقصد تعيينه يردّها عن نفسه بأنّه ما قصدني
بالخصوص فلا يكرهها.
ويمكن تفصيل
آخر بين انحصار المتّصف بهذه الصفة الذميمة في واحد فيندرج فيها حينئذٍ لأنّه يكره
هذا الذكر إذا سمعه مع علمه بانحصار المفهوم فيه ولا سبيل له إلى ردّه عن نفسه
لأنّ إرادة المفهوم المنحصر في مصداق واحد كإرادة نفس المصداق ، وبين عدم انحصاره
فيه فلا يندرج لمكان ردّ كلّ عن نفسه بأنّه ما قصدني فلا يكرهه بهذا الاعتبار.
الأمر التاسع : قيل يعتبر الحصر في
الغيبة ، حكاه في جامع
المقاصد قائلاً : «ويوجد في كلام بعض الفضلاء أنّ من شرط الغيبة أن يكون متعلّقها
محصوراً ، وإلّا فلا تعدّ غيبة ، فلو قال عن أهل بلدة غير محصورة ما لو قال عن شخص
واحد كان غيبة لم يحتسب غيبة» .
واعترض عليه
بعض مشايخنا قدسسرهم «بأنّه إن أراد أنّ ذمّ جمع غير محصور لا تعدّ غيبة وإن قصد انتقاص كلّ
منهم كما لو قال : أهل هذه القرية أو هذه البلدة كلّهم كذا وكذا ، فلا إشكال في
كونها غيبة محرّمة ، ولا وجه لإخراجه عن موضوعها أو حكمها. وإن أراد أنّ ذمّ
المتردّد بين غير المحصور لا تعدّ غيبة فلا بأس به» .
أقول : كأنّه
أراد بالمتردّد بين غير المحصور ما لو قال : «بعض أهل هذه البلدة أو جماعة أو
جمعاً أو واحداً منهم كذا وكذا» وأراد به بعضاً مبهماً أو جماعة مبهمة أو واحداً
مبهماً على سبيل الإشاعة فما ذكره قدسسره حينئذٍ في محلّه إلّا أنّه من فروع اعتبار التعيين لا
من فروع اعتبار الحصر. وأمّا لو اريد به شخصاً معيّناً أو واحداً معيّناً أو جماعة
معيّنة فإخراجه عن الغيبة موضوعاً أو حكماً غير سديد كما ذكرناه.
ولو قال : أهل
هذه البلدة لئام أو فسّاق ، وأراد به الغالب منهم من دون قصد تعيين آحاد الغالب لا
تعدّ غيبة لانتفاء الكراهة حينئذٍ.
__________________
ولو قال : أهل
هذه البلدة كلّهم كذا وكذا إلّا بعضاً منهم أو إلّا جماعة منهم ، فكونه غيبة وعدمه
مبنيّ على إرادة البعض المعيّن أو الجماعة المعيّنة أو البعض المبهم أو الجماعة
المبهمة من المستثنى ، والسرّ فيه أنّ إجمال المستثنى على الثاني يسري إلى
المستثنى منه بخلافه على الأوّل فيكون اغتياباً لكلّ واحد من آحاد الباقي من
المستثنى منه.
الأمر العاشر : لا فرق في الغيبة
موضوعاً وحكماً بين ما لو كان ما يذكر فيه من العيب عيباً في بدنه أو نسبه أو شأنه
وشغله أو خلقه أو فعله
أو قوله أو لقبه أو ثوبه أو داره أو دابّته أو غير ذلك ممّا يضاف إليه كما هو
المصرّح به في كلام جماعة فالأوّل : يقول فلان أعمى أو أعور أو أعرج أو أقرع أو
قصير أو طويل أو أسود أو أصفر ، والثاني : ككونه كرديّاً أو خالديّاً أو نحو ذلك ،
والثالث : ككونه كنّاساً أو حمّالاً أو نحو ذلك ، والرابع : ككونه سيّئ الخُلُق أو
لئيماً أو متكبّراً أو مرائياً أو جباناً وما أشبه ذلك ، والخامس : ككونه سارقاً
أو خمّاراً أو لاطياً أو ظالماً أو فاسقاً أو متهاوناً في دينه ، والسادس : ككونه
كذوباً أو كثير الكلام أو سيّئ الكلام أو فحّاشاً أو مغتاباً ، والسابع : الألقاب
المشعرة بالذمّ ، والثامن : ككونه وسخ الثياب أو طويل الأذيال أو غير ذلك ،
والتاسع والعاشر : واضحان. هذا كلّه في موضوع الغيبة.
وأمّا حكمها فهي الحرمة بل هي من المعاصي الكبيرة بالإجماع والكتاب
والسنّة ، بل قيل كما عن الشيخ النجفي في شرحه للقواعد ووافقه بعض
مشايخنا بالأدلّة الأربعة. ولكن تتميمه من حيث العقل بأن يكون
العقل مستقلّاً في إدراك قبحه مشكل ، إلّا حيث يندرج في عنوان الظلم أو الإيذاء أو
الإهانة ، والأولى الاقتصار على ما ذكرنا.
فمن الإجماع ،
المحصّل منه ضروري ، ومنقوله متواتر ، ولا يبعد دعوى كونه من ضروريّات الدين.
ومن الكتاب
قوله تعالى : «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً
__________________
فَكَرِهْتُمُوهُ» وقوله : «وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» وقوله تعالى :
«إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ
الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» وقوله تعالى :
«لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلّا مَنْ ظُلِمَ» .
ومن السنّة
فالروايات الواردة فيه أكثر من أن تحصى مذكورة في مظانّها.
ولا فرق في
التحريم بين الرجال والنساء ، لعموم الأدلّة ، ولا ينافيه التذكير في ضمير الجمع
في الآية لابتنائه على التغليب كما في أكثر الخطابات الشفاهيّة ، وكذلك تذكير
الموصول في الآية الاخرى ، ويدخل الخناثى لعدم خروجها من أحد الفريقين.
وفي عمومه
للصبيّ المميّز الّذي يتألّم بذكر عيبه ويكرهه وجه قويّ ، من جهة عموم بعض الأدلّة
كقوله «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ». ويحتمل التغليب في الآيتين الاخريين أيضاً بملاحظة كون
أطفال المسلمين ملحقين بهم في الأحكام ، ومن جملتها تحريم اغتيابهم. وأمّا غير
المميّز فهو كالمجنون ولو أدواريّاً حال جنونه لانتفاء الكراهة فيهما ، ولأجل هذا
ربّما أمكن الخروج الموضوعي فيهما. ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّ دخولهما في إطلاق
الأدلّة مستراب فيه ، فالأصل عدم الحرمة.
ثمّ المستفاد
من كلمات الأصحاب صراحة وظهوراً من غير خلاف بل بالإجماع المدّعى في كلام بعض
مشايخنا اختصاص تحريم الغيبة بغير الكافر ، فيحلّ استغابة
الكافر بجميع فرقه وأصنافه مقصّراً وقاصراً من أهل الذمّة وغيرهم ، كما يجوز سبّهم
والطعن عليهم ولعنهم ويجب معاداتهم والتبرّي عنهم ، للأصل وعدم الدليل على التحريم
، إذ المستفاد من مجموع أدلّة تحريمه وفحاويها والإشارات الواقعة فيها والتشبيهات
والاستعارات الموجودة فيها أنّ تحريم الغيبة إنّما هو من جهة حقّ الاخوّة الّتي
بين المؤمنين بنصّ قوله تعالى : «إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» وبحكم
الروايات الواردة فيه ، وأنّه لمراعاة احترام الأخ الديني الإيماني ، فلا يعمّ
الكفّار والمشركين ، إذ لا مؤاخاة بيننا وبينهم ولا حرمة لهم عند الله ، ولذا رخّص
في لعنهم وأوجب معاداتهم والتبرّي
__________________
عنهم فلأن يجوز استغابتهم طريق الأولويّة.
وفي اختصاصه
بالمؤمن أو عمومه للمخالف أيضاً خلاف ، إذ المصرّح به في كلام جماعة جواز استغابة
المخالف ، ولعلّه مذهب الأكثر ، إذ لم ينقل المخالفة إلّا عن المحقّق الأردبيلي فمنع من
استغابة المخالف أيضاً.
ونعني بالمؤمن
الإمامي الاثنى عشري ، وهو من يعتقد الوحدانيّة وصفاته الكماليّة من الثبوتيّة
والسلبيّة ونبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويتديّن بدينه ويعتقد المعاد وعدله تعالى ويعرف
الأئمّة الاثني عشر ويعتقد إمامتهم ويواليهم.
والمراد
بالمخالف من لا يعتقد إمامة الاثنى عشر ولا يواليهم وهم فريقان : فريق حكم بكفرهم
واقعاً وظاهراً كالنواصب والخوارج ، وهذا الفريق خارج عن محلّ النزاع ، لدخوله في
الكفّار الّذين جاز استغابتهم قولاً واحد. والفريق الآخر من حكم بكفرهم واقعاً
وإسلامهم ظاهراً لجريان بعض أحكام الإسلام عليهم كطهارتهم وعدم انفعال ما يلاقيهم
برطوبة وحرمة قتلهم وأخذ أموالهم وحرمة مناكحهم ، وهذا هو محلّ الخلاف.
والأقوى الأظهر
فيه ما عليه الأكثر من جواز استغابتهم والوقيعة فيهم كما يجوز سبّهم ولعنهم والطعن
ومعاداتهم والتبرّي عنهم بل الأئمّة عليهمالسلام كانوا يفعلون جميع ذلك ويأمرون أصحابهم بمعاداتهم
والتبرّي عنهم بل ورد فيهم أنّهم أشرّ من اليهود والنصارى وأنّهم أنجس
من الكلاب فلا اخوّة بيننا وبينهم ولا احترام لهم عند الله.
فأدلّة تحريم
الغيبة لا يتناولهم خصوصاً ما علّق فيها الاسم أو الحكم بالأخ أو المؤمن ، كقوله
في عدّة روايات : «ذكرك أخاك بما يكرهه» وقوله : «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله تعالى
عليه» وقوله أيضاً : «أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل وتبثّ أمراً قد ستره
الله تعالى عليه لم يقم عليه فيه حدّ» وفي المرسل «من قال في
__________________
مؤمن ما رأته عيناه وسمعته اذناه فهو من الّذين قال الله عزوجل : و
«الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ
فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ، فإنّ ما عدا
بمفهوم الحدّ نظراً إلى ظهور قيوده في الاحتراز يدلّ على خروج المخالف من اسم
الغيبة أو من حكمه ، والثاني بمفهوم الوصف يدلّ على خروجه من حكم الغيبة.
وليس للأردبيلي
إلّا ما حكي «من أنّ الظاهر عموم أدلّة تحريم الغيبة من الكتاب والسنّة للمؤمنين
وغيرهم ، لأنّ قوله تعالى : «وَلا يَغْتَبْ ...» الخ خطاب للمكلّفين أو للمسلمين لجواز غيبة الكافر ،
وألسنة أكثرها بلفظ «الناس» و «المسلم» وهما معاً شاملان للجميع ، ولا استبعاد في
ذلك ، إذ كما لا يجوز أخذ مال المخالف وقتله لا يجوز تناول عرضه. وظنّي أنّ الشهيد
في قواعده جوّز غيبة المخالف من جهة مذهبه ودينه لا غير» .
وفيه : ما لا
يخفى ، لمنع ظهور الأدلّة في عموم التحريم ، والآية بملاحظة صدرها وذيلها تأبى
عموم حكمها للمخالف فإنّها مصدّرة بقوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ، وَلا
تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» ومذيّلة بقوله : «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» فالخطاب
للمؤمنين والتحريم لحقّ الاخوّة لا غير ، والناس يقيّد بالمؤمن والمسلم ظاهر فيه
أو يقيّد به ، ومع أنّ إطلاقه على المسلم توسّع شرعي لمراعاة جريان بعض أحكام
الإسلام عليهم وإلّا فهو ليس على حقيقة الإسلام كما يدلّ عليه روايات مستفيضة
قريبة من التواتر بل متواترة جدّاً ناطقة بأنّه «بني الإسلام على خمس الصلاة
والزكاة والحجّ والصيام والولاية» وهم تركوا الولاية.
وبالجملة لا
إشكال في جواز غيبة المخالفين ، للأصل وعدم دليل على المنع ، حتّى أنّ أدلّة
تحريمها غير شاملة لهم بل أكثرها ظاهرة كالصريحة في غيرهم ، وفي بعض النصوص ما
يدلّ صراحةً على جواز اغتيابهم ، بل استحبابه إن لم نقل بظهوره في الوجوب.
كالمرويّ في
الصحيح عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة
منهم وأكثروا من سبّهم والقول فيهم والوقيعة ، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في
الإسلام ، ويحذّرهم الناس ولا يتعلّمون من بدعهم يكتب الله لهم الحسنات ويرفع الله
لكم به الدرجات» .
ولا ريب أنّ
المخالفين أهل الريب والبدع فيشملهم الرواية ، وهذه تدلّ على جواز بهتهم واستحبابه
أيضاً وهي أشدّ من الغيبة ، والقول فيهم عبارة عن اغتيابهم ، والوقيعة فيهم ذكر
معائبهم.
ويلحق
بالمخالفين سائر فرق الشيعة ـ من الزيديّة والكيسانيّة والناووسيّة والإسماعيليّة
والفطحيّة والواقفيّة وغيرهم ـ فيحلّ استغابتهم أيضاً ، للأصل ، وعدم الدليل على
المنع والتحريم ، لانتفاء الاخوّة وعدم احترام لهم عند الله سبحانه ، مضافاً إلى
صحيحة ابن سرحان في أهل الريب والبدع ، ويندرج هؤلاء المذكورون جزماً.
وهل يعتبر في
محلّ التحريم ـ وهو المؤمن ـ أن يكون عدلاً فلا يحرم اغتياب الفاسق وإن لم يكن
متجاهراً أو لا؟ ظاهر إطلاق الأصحاب عدم الاشتراط ، فيحرم اغتياب الفاسق أيضاً إذا
لم يكن متجاهراً ، لإطلاق أدلّة المنع والتحريم بل وعموم بعضها وضعاً. خلافاً لما
يظهر من صاحب المجمع قائلاً ـ بعد كلام له ـ : «وبما ذكرناه يظهر أنّ المنع من
غيبة الفاسق ـ كما يميل إليه كلام بعض من تأخّر ـ ليس بالوجه ، لأنّ دلالة الأدلّة
على اختصاص الحكم بغيره أظهر من أن يبيّن» إلى آخر ما ذكره.
وفيه : منع
دليل يكون ظاهر الدلالة على الجواز في الفاسق ، كيف ولم يأت من هذه الأدلّة في
تضاعيف كلامه ، إلّا ما رواه في الكافي في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدّثهم فلم يكذبهم
، ووعدهم فلم يخلفهم ، كان ممّن حرمت غيبته ، وكملت مروّته ، وظهرت عدالته ، ووجبت
اخوّته» : وما أشار إليه من صحيحة عبد الله بن أبي يعفور
الواردة في العدالة فإنّ في جملتها قوله عليهالسلام «والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه ، حتّى يحرم على
__________________
المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك» .
وفيهما : المنع
من الدلالة على جواز غيبة الفاسق.
أمّا الأوّل
فلأنّه ـ مع أنّ العدالة لا تتحقّق بمجرّد الصفات المذكورة ـ فيه لا ينفي حرمة
غيبة من عدا الموصوف بها ، بل في قوله : «كان ممّن حرمت غيبته» دلالة على أنّ في
غيره أيضاً من يحرم غيبته فيدخل فيه الفاسق في الجملة هذا. ولكنّ العمدة في منع
الدلالة أنّ اجتماع هذه الصفات الثلاث لا ينافي الفسق بل يجامعه ، لأنّ أسباب
الفسق لا تنحصر في الظلم في المعاملات مع الناس والكذب في الحديث وخلف الوعدة ، مع
إمكان أن يقال بدخول من انتفى عنه الصفات الثلاث على وجه الدوام في المتجاهر فهو
موضوع المفهوم لا غير.
وأمّا الثاني
فلأنّه غير متعرّض لحكم الغيبة أصلاً ، لأنّ المراد من حرمة ما وراء ذلك من عثراته
وعيوبه حرمة التفحّص والتجسّس عن بواطن من كان ساتراً لجميع عيوبه والتفتيش
لخفاياه لظهور العطف في التفسير ، وهذا كما ترى حرام آخر لا مدخل للغيبة فيه وهو
الّذي نصّت الآية بتحريمه حيث قال تعالى : «وَلا تَجَسَّسُوا» وإن كانت
الغيبة أيضاً محرّمة. وبالجملة الصحيحة ليست بصدد بيان حكم للغيبة لا بإثبات تحريم
ولا بنفيه لا منطوقاً ولا مفهوماً ، ولو سلّم فهي بالمفهوم لا تدلّ إلّا على جواز
غيبة المتجاهر لأنّ من لا يكون ساتراً لجميع عيوبه لا يكون إلّا متجاهراً ولو في
بعض عيوبه.
واستثني من الغيبة المحرّمة امور :
الأوّل : المتجاهر بالفسق الّذي نسب استثناؤه إلى جماعة ولعلّه ممّا
لا خلاف فيه حيث لم نقف على نقل مخالف فيه ، وإنّما يحتاج إلى استثنائه إذ لم نقل
بخروجه الموضوعي بعدم أخذ الستر في مفهومها كما هو الأقوى على ما تقدّم ، وإلّا
فعلى أخذه في مفهومها كما هو المستفاد من عبارة الصحاح والمجمع ومن حسنة ابن سنان
فذكره بعيوبه الغير المستورة ليس غيبة حتّى ينظر في تحريمه وعدم تحريمه ، والمراد
به المتظاهر بفسقه من «جهر» بمعنى ظهر ، وهو الّذي يرتكب القبيح جهاراً ولا يبالي
__________________
بظهوره بين الناس ، واللازم من ذلك أن لا يكون كارهاً لذكره بذلك الفسق
المتجاهر فيه ، وربّما يخرج من موضوع الغيبة أيضاً بهذا الاعتبار لما عرفت من
اعتبار الكراهة في مفهومها.
والدليل على
انتفاء الحرمة في غيبته عدّة من الروايات الّتي منها الصحيحة والموثّقة
المتقدّمتان ، بناءً على دلالتهما بالمفهوم على نفي تحريم الغيبة لعدم كونه إلّا
في المتجاهر.
ورواية هارون
الجهم المرويّة عن مجالس الصدوق الموصوفة في المستند [بالصحيحة] «إذا جاهر الفاسق
بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة» .
ورواية أبي
البختري «ثلاثة ليس لهم حرمة صاحبة هوى مبتدع ، والإمام الجائر ، والفاسق المعلن
بفسقه» .
والمرويّ عن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «إنّه قال : من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له» أي لا حرمة
لغيبته ، ويمكن كونه لنفي الحقيقة بناءً على ما تقدّم من أحد الوجهين. والجلباب
الثوب الواسع الساتر لمعظم البدن ، وإضافته إلى الحياء للبيان ، واستعير عن الحياء
بالثوب الواسع لأنّه يستر معائب الإنسان كما يستر الثوب البدن ، فيكون إلقاء
الحياء عن الوجه كناية عن الإجهار في الفسوق والإعلان في ارتكاب القبائح.
واستدلّ أيضاً
بما روي عن المحاسن عن صالح بن علقمة عن أبيه عن الصادق عليهالسلام في حديث «فمن لم تره بعينيك يرتكب ذنباً ولم يشهد عليه
شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنباً ، ومن
اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله تعالى داخل في ولاية الشيطان ...» الخ دلّ على
ترتّب حرمة الاغتياب وقبول الشهادة على كونه من أهل الستر وكونه من أهل العدالة
على طريق اللفّ والنشر ، أو على اشتراط الكلّ بكون الرجل غير مرئيّ منه الذنب ولا
مشهوداً عليه به ، ومقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرط خرج منه غير
المتجاهر. وكون قوله :
__________________
«ومن اغتابه» الخ جملة مستأنفة غير معطوفة على الجزاء خلاف الظاهر.
وقضيّة ظاهر
إطلاق الروايات المذكورة عدم اشتراط جواز غيبة المتجاهر بكونه لقصد غرض صحيح كما
اعترف به بعض مشايخنا قال : «ولم أجد من قال باعتبار قصد الغرض الصحيح ، وهو ارتداعه
عن المنكر ، نعم عن الشهيد الثاني احتمال اعتبار قصد النهي عن المنكر في جواز سبّ
المتجاهر ، مع اعترافه بأنّ ظاهر النصّ والفتوى عدمه» انتهى.
وفي جواز
اغتياب المتجاهر بالفسق في غير ما تجاهر به أيضاً ـ كما جزم به بعض مشايخنا
استناداً إلى الأصل وعموم الروايات ونسب إلى بعض الأساطين وعن الحدائق استظهاره من
جملة من الأعيان ـ وعدمه كما عن الشهيدين قولان.
والحقّ بناء
المسألة على أنّ مناط اغتياب المتجاهر هل هو أنّه لا يكره ذكر عيبه أو أنّ الشارع
أسقط احترامه فلا حرمة له عنده حتّى يحرم اغتيابه؟ فالمتّجه على الأوّل وجوب
الاقتصار على الفسق المتجاهر فيه لأنّ قضيّة كونه متستّراً في غيره أن يكون كارهاً
لذكره بخلاف ما تجاهر فيه فإنّ من لا يبالي بظهور عيبه لا يكره ذكره ، وعلى الثاني
جواز التعدّي إلى غيره ، وظاهر أكثر الروايات المتقدّمة هو الثاني ، فالأقوى
الأظهر القول الثاني وإن كان الأحوط هو الأوّل.
وعلى هذا القول
فقد يقال : ينبغي إلحاق ما يتستّر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح ، فمن
تجاهر باللواط جاز اغتيابه بالتعرّض للنساء الأجانب ، ومن تجاهر بقطع الطرق جاز
اغتيابه بالسرقة ، ومن تجاهر بكونه جلّاد السلطان يقتل الناس وينكّلهم جاز اغتيابه
بشرب الخمر ، ومن تجاهر بالقبائح المعروفة جاز اغتيابه بكلّ قبيح دونها ، ولعلّ
هذا هو المراد بـ «من ألقى جلباب الحياء» لا من تجاهر بمعصية خاصّة وعُدّ مستوراً
بالنسبة إلى غيرها كبعض عمّال الظلمة .
أقول : وجه
الإلحاق غير واضح ، ولعلّه الأولويّة بالقياس إلى كراهة المغتاب فمن
__________________
لا يكره ذكره بفسق شديد قبحه فلا يكره ذكره بما دون ذلك ، وفيه ما لا يخفى
لمنع الملازمة فإنّ المتستّر قد يتستّر في فسقه لأنّه يكره ظهوره وإظهاره للناس
وإن كان أضعف قبحاً ممّا تجاهر فيه ، نعم قد يكون تستّره لمحض الاتّفاق من غير
كراهة له لظهوره في الناس وإظهاره لهم وإن كان أشدّ قبحاً ممّا تجاهر فيه ، فينبغي
التفصيل في الإلحاق وعدمه.
ثمّ المتجاهر
بفسق قد يكون متجاهراً في محلّة دون اخرى ، أو في بلد دون بلاد اخر على معنى كونه
مستوراً فيها ، فمقتضى البناء المتقدّم جواز اغتيابه عند من كان مستوراً إذ لا
احترام له. وتوهّم أنّ القدر الساقط من احترامه إنّما هو عند من هو متجاهر به ،
يدفعه عدم معقوليّة تبعّض الاحترام وتجزيته.
ولو تجاهر بما
ظاهره كونه فسقاً واعتذر له بما لو صحّ شرعاً أخرجه عن عنوان الفسق فإن لم يظهر
كذبه وكان عذره بحسب الشرع مقبولاً لم يجز اغتيابه حينئذٍ ، لأنّه لا يعدّ
متجاهراً بالفسق ، بخلاف ما لو ظهر كذبه كما لو كان من أعوان الظلمة وعمّال سلاطين
الجور واعتذر في فعله بكونه مجبوراً أو أنّه دخل فيه بداعي رفع الظلم عن المظلومين
أو بداعي منع السلطان عن الظلم أو بداعي صيانة نفسه أو عقاراته وأملاكه عن أيادي
الغاصبين وتعدّيات الظالمين وما أشبه وعلمنا كذبه من خارج ، أو كان عذره غير مقبول
شرعاً وإن كان صادقاً في اعتذاره كالجلّاد الّذي يقتل محترم الدم بأمر السلطان إذا
اعتذر لفعله المجبوريّة والإكراه الناشئ من تهديد السلطان على قتله فإنّ هذا العذر
بمقتضى أنّه لا تقيّة في الدماء غير مقبول شرعاً ، أو أنّ شارب الخمر جهاراً علّله
بكونه للتداوي وأنّ الطبيب الحاذق أمره بذلك فإنّ هذا العذر ـ بناءً على عدم
الرخصة في تناوله وشربه حتّى للتداوي وإن أمره الحاذق به كما هو الأقوى على ما
تقدّم تحقيقه ـ غير مسموع شرعاً ، فإنّه لا يخرج بذلك في الصورتين عن كونه
متجاهراً بالفسق ولا يحرم اغتيابه.
الثاني : تظلّم المظلوم ، وهو أن يذكر المظلوم مظلمة ظالمه عند غيره ، أو أن يذكر
ظالمه بسوء وظلم أوقعه عليه عند غيره.
وفي تقييد من
يذكر عنده بكونه ممّن يرجو إزالة مظلمته ورفع ظلمه وعدمه
قولان : أوّلهما منسوب إلى كاشف الريبة وجمع ممّن تأخّر عنه.
وثانيهما خيرة
غير واحد من مشايخنا وعزي إلى بعض الأساطين ، ولعلّه الشيخ النجفي قدسسره في شرحه للقواعد .
وربّما حكي
القول بالتعدّي إلى مطلق سوء الظالم غير ما فعله في حقّ المظلوم على ما سمعناه عن
بعض مشايخنا قدسسرهم فقال في التظلّم أقوال : أخصّها جواز التظلّم عن الظالم
فيما ظلمه عند من يرجى رفع ظلمه فلا يجوز ذكر ظلمه عند من لا يرجى رفعه ولا ذكر
سائر عيوبه ولو عند من يرجى رفع مظلمته ، والقول الآخر جواز التظلّم عنه وذكره
بظلمه عند من يرجى إزالة مظلمته وعند من لا يرجى ذلك ، وثالث الأقوال جواز ذكره
بظلمه وغيره من عيوبه عند من يرجى منه رفع المظلمة ومن لا يرجى منه ذلك. ولكنّا لم
نحقّقه ولم نجده في كلام من يعتبر نقله ولم نقف على قائله أيضاً ، مضافاً إلى أنّه
يأباه مادّة التظلّم ومفهومه فإنّ ذكر الظالم بما فيه من السوء غير ظلمه الّذي
أوقعه على هذا المظلوم ممّا لا مدخل له في عنوان التظلّم أصلاً.
ولو فرض كون
هذا الظالم متجاهراً في ظلمه بأن أوقعه عليه جهاراً وعلى رءوس الأشهاد فيجوز
حينئذٍ ذكر عيوبه الاخر أيضاً على ما تقدّم في حكم المتجاهر لورد عليه أنّه يرجع
حينئذٍ إلى غيبة المتجاهر فيخرج عن عنوان التظلّم إذ ليس الكلام في ذكر مظلمة
الظالم من حيث إنّه متجاهر فيها ولذا يعمّ الحكم المتستّر بها أيضاً كما لو ضربه
ليلاً أو شتمه أو أخذ ماله سرّاً كما نصّ عليه بعض مشايخنا .
وكيف كان فدليل
استثناء التظلّم قوله عزّ من قائل : «لا يُحِبُّ اللهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً
عَلِيماً» .
وبيان الدلالة
المتوقّفة على النظر في التركيب النحوي أنّ الجهر مصدر بمعنى الظهور ، وكلمة الباء
فيما بعده للتعدية على حدّ ذهب به فتصير الجهر بمعنى الإجهار المرادف للإظهار ،
فيكون التقدير وحاصل المعنى إنّ الله لا يحبّ أن يظهر السوء ، ومن
__________________
القول بيان أي لا يحبّ من جنس القول إظهار السوء ، وفاعل المصدر محذوف
وجوباً بدليل النفي والاستثناء وهو الأحد المنكر ، وتقديره لا يحب أن يظهر أحد
السوء ، والمستثنى مفرّغ لوقوعه في كلام منفيّ حذف فيه المستثنى منه ، فيعرب بحسب
اقتضاء العامل المتقدّم وهو الرفع على الفاعليّة للمصدر.
وحيث إنّ
الاستثناء من النفي إثبات فيفيد أنّ الله يحبّ أن يجهر من ظلم بسوء ظالمه أي يظهر
من حيث كونه مظلوماً سوء ظالمه ، والمنساق من الحيثيّة المنساقة في متفاهم العرف
كون المراد من السوء سوء الظلم الّذي وقع من الظالم على المظلوم لا مطلق السوء ،
وحيث إنّ الموصول باعتبار صلته ظاهر في المعنى الجنسي فيكون المستثنى عامّاً في
كلّ مظلوم ، فالاستثناء حينئذٍ يفيد عموم الرخصة لكلّ مظلوم في ذكر مظلمة ظالمه
عند غيره ، وإطلاقه يشمل من لا يرجى إزالة المظلمة ورفع الظلم.
وقد يتوهّم
دلالة الآية على محبوبيّة ذلك لله تعالى فيفيد رجحان التظلّم الّذي أقلّ مراتبه
الاستحباب. وهذا سهو ، لأنّ قوله : «لا يحبّ الله» ظاهر فيما يرادف الكراهة
الظاهرة في المبغوضيّة ، فحاصل معنى نفي المحبوبيّة هو المبغوضيّة والاستثناء يفيد
إثبات المحبوبيّة المرادفة لعدم المبغوضيّة وأقصاه الرخصة في الفعل بمعناها الأعمّ
، فالدلالة على الرجحان محلّ منع.
وكما أنّ توهّم
هذه الدلالة سهو فكذلك ما في صريح عبارة مجمع البيان من جعل الاستثناء منقطعاً
فيكون «إلّا» بمعنى لكن لرفع التوهّم أيضاً سهو ، ولعلّ منشأه زعم عدم كون
المستثنى وهو قوله : «من ظلم» من جنس المستثنى منه وهو الجهر بالسوء ، ويدفعه أنّ
المستثنى إذا كان مفرّغاً معرباً بحسب اقتضاء العامل الّذي هو المصدر كان عامله في
الحقيقة هو جهر المظلوم بسوء ظالمه ، وهذا نوع من مطلق الجهر بالسوء الواقع في
حيّز النفي فهو المستثنى في الحقيقة لا ما هو معرب بإعراب المستثنى منه المحذوف.
ومع الغضّ عن ذلك نقول : بأنّ الموصول مندرج في «أحد» المنكّر المحذوف الّذي هو
المستثنى منه في الحقيقة ، فانقطاع الاستثناء هنا ممّا لا معنى له أصلاً.
وقد يستدلّ
أيضاً بقوله تعالى : «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ
ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا
السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» وكأنّه لزعم
أنّ المراد بالانتصار طلب النصرة ولا يكون إلّا من المظلوم في مقام التظلّم عند من
يرجو إزالة مظلمته.
وفيه نظر ،
لأنّ الانتصار كما فسّره المفسّرون وذكره بعض أهل اللغة ويدلّ عليه سياق الآية
والقرائن الموجودة معها سبقاً ولحوقاً خصوصاً ما سبق عليها من قوله تعالى : «وَالَّذِينَ إِذا
أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ» اريد به في
الآية ما يقابل العفو وهو الانتقام ، وقوله : «ما عليهم من سبيل» يعني به سبيل
المؤاخذة والمعاقبة في دار الآخرة فيفيد الرخصة في انتقام المظلوم عن ظالمه وهو أن
يصنع عليه مثل ما صنعه عليه كما أشار إليه بقوله : «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها» فتكون الآية مساوقة لقوله : «فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» وفي معناه
قوله : «فَلا عُدْوانَ إِلّا عَلَى الظّالِمِينَ» فلا تعلّق لها
بما نحن فيه.
وتوهّم : أنّ
الحكمة في انتقام المظلوم إنّما هو لما فيه من شفاء الصدر وتشفّي القلب ، وهذا
موجود في التظلّم أيضاً ، لأنّ المظلوم يتشفّى قلبه بمذاكرة مظلمة ظالمه في
المجالس والمحافل. يدفعه : أنّه يرجع إلى استنباط العلّة من غير دلالة النصّ عليها
، فالتعدّي عن مورده إلى غيره قياس لا نقول به.
ويمكن كون مبنى
الاستدلال على الفحوى والأولويّة ، بتقريب أنّ تظلّم المظلوم عن ظالمه أهون من
انتقامه منه ، فلو كان مبناهما في الشريعة على التحريم كان الانتقام أغلظ حكماً وأشدّ
مفسدة من التظلّم ، وإذا صحّ الترخيص في الأوّل بنصّ الآية كان الثاني أولى
بالترخيص فيه. وفيه أيضاً منع ، لقصور العقول عن إدراك الحكم الخفيّة ، مع إمكان
دعوى كون الأولويّة في العكس لأنّ التظلّم إشاعة سوء وهتك عرض يوجب فيه الفضيحة
العظمى.
واستدلّ أيضاً [بنصوص]
منها : ما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام بسند قويّ
__________________
على ما وصفه شيخنا «لا زلت مظلوماً منذ ولدتني امّي حتّى أنّ عقيلاً كان
يرمد فيريدون أن يذرّوه ، فقال : لا تذرّوني حتّى تذرّوا عليّاً فيذرّوني وما كان
بي رمد ...»
الحديث. وجه الدلالة
أنّه عليهالسلام تظلّم عن عقيل أو عن أبويه بما كانوا يصنعون فيه من
الّذي بدون رمد الّذي لا يستريب أحد في كونه ظلماً ، ولم يكن في موضع رجاء الإزالة
لأنّ الظلم قد وقع وانصرم زمانه ولم يكن عقيل وأبواه حين إذ تظلّم موجودين فلم
يمكن تدارك ظلمه ، وفعل المعصوم حجّة ، فلولا التظلّم خصوصاً في موضع عدم رجاء
إزالة المظلمة [جائزاً] لما أقدم عليه.
ومنها : ما روي
عن زوجة أبي سفيان حيث شكت عنه إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقالت : إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما
يكفيني ، آخذ من ماله ما يكفيني وولدي؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف» وهذا تظلّم
وذكر للعيب ويدلّ على جواز تقريره صلىاللهعليهوآلهوسلم. وردّ بخروجه عن محلّ الغيبة ، لأنّ أبا سفيان لم يكن
في الواقع مسلماً ، ويؤيّده ذكرها عيبه الآخر الخارج عن ظلمه.
ومنها :
النبويّ «مطل الواجد ظلم» ويزيّفه أنّه ينهض دليلاً على إحراز الصغرى في موضع عدم
الحاجة إليها فإنّ كون المطل من الواجد ظلماً مع وضوحه ليس من محلّ البحث الّذي هو
عبارة عن ذكر الظلم الواقع في الخارج على المظلوم عند الغير ، نعم يتمّ الاستدلال
بانضمام ما روي أيضاً من «أنّ مطل الواجد يحلّ عقوبته وعرضه» كما نقله
الشهيد رحمهالله والمعروف مكان «المطل» ليّ الواجد .
ومنها : ما
تقدّم في مسألة المتجاهر في رواية أبي البختري من قوله : «والإمام الجائر» فإنّ
إسقاط حرمته المجوّزة للغيبة ليس لكونه متجاهراً وإلّا بطل مقابلته للفاسق المعلن
بفسقه بل من حيث جوره وهو الظلم ، وإسقاط حرمته كناية عن ذكره بظلمه ، وربّما ايّد
الحكم بأنّ في منع المظلوم من هذا الّذي هو نوع من التشفّي حرجاً
__________________
عظيماً ، وبأنّ في تشريع الجواز مظنّة ردع للظالم وهي مصلحة خالية عن مفسدة
فيثبت الجواز لأنّ الأحكام تابعة للمصالح هذا ، ولكن العمدة من أدلّة المسألة هو
الآية.
الثالث : الاستفتاء ، وفسّر بأن يقول للمفتي : ظلمني فلان حقّي ، فكيف طريقي
في الخلاص؟ كما في كلام بعض مشايخنا أو فما حيلتي؟ أو ما تقول في حكمي؟ أو ما تحكم بيني
وبينه؟ كما ذكره بعض آخر.
ويشكل بأنّه
غير خارج عن التظلّم المتقدّم حكمه ودليله وهو الآية ، فإنّه لا فرق في إطلاقها
بين كونه للتشفّي أو طلباً لطريق التخلّص عن ظلم الظالم أو رفعه وإزالته فيندرج
فيه المعنى المذكور للاستفتاء فلا وجه لعدّه نوعاً آخر قسيماً له.
ولو فسّر بذكر
معصية الخائض فيها طلباً لطريق حسم مادّة الفساد والردع عن محارم الله تعالى ـ كأن
يقول : فلان أو جاري أو أخي يشرب الخمر أو يزني أو يسرق أو يقامر أو نحو ذلك فما
أصنع فيه ، أو كيف نمنعه؟ أو غير ذلك ممّا يؤدّي مؤدّى طلب الفتوى على معنى حكم
المفتي وبيانه لطريق المنع ـ كان أسدّ كما هو شائع الوقوع.
وحينئذٍ
فالظاهر جواز ما تضمّنه من الغيبة وإشاعة السوء ، ودليله صحيحة عبد الله بن سنان
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : إنّ امّي لا تدفع يد لامس ، فقال : احبسها ،
فقال : قد فعلت ، فقال : فامنع من يدخل عليها ، قال : قد فعلت ، قال عليهالسلام : فقيّدها ، فإنّك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها
عن محارم الله عزوجل» والمناقشة بظهورها في كون المورد من المتجاهر ، يدفعها
عموم التعليل المفيد لكون مصلحة المنع عن محارمه تعالى أقوى من مصلحة برّ الوالدين
المأمور به عقلاً ونقلاً كتاباً وسنّة ، بل يدلّ على أنّه أفضل أفراد البرّ ، ويستفاد
منه أيضاً أنّ المدار في الترجيح على الأفضليّة ، ويدلّ الرواية باعتبار التقرير
على جواز الاستفتاء بالمعنى المذكور المتضمّن للغيبة وذكر المؤمن بسوئه ، ولكن
ينبغي تقييده بصورة ما لو لم يحصل الغرض من الاستفتاء إلّا بتعيين المغتاب
والتصريح باسمه. فلو حصل الغرض بذكره مبهماً
__________________
ـ كأن يقول : إنّ لي جاراً أو صديقاً أو قريباً يفعل كذا وكذا ، أو يقول :
رجل يفعل كذا ـ فالظاهر وجوب الاقتصار عليه وعدم جواز التعدّي من الإبهام إلى
التصريح عملاً بعموم تحريم الغيبة وعدم ظهور مخرج للفرض عن أدلّته ، فإنّ التقرير
المستفاد من الرواية دليل لبّي ويقتصر فيه على القدر المقطوع به من مورده.
الرابع : التحذير ، وهو تخويف المؤمن عن الوقوع في ضرر ديني أو دنيوي بما
يتضمّن الوقيعة في الضارّ ، ويندرج فيه أنواع :
الأوّل : منع
طلبة العلوم عن الاشتغال عند من طريقته باطلة كالطريقة الأخباريّة مثلاً أو عقيدته
فاسدة بذكر بطلان طريقته أو فساد عقيدته ليحذروه ، ومنه منع الناس عن مخالطة من
يضلّهم في دينهم أو مذهبهم الحقّ. وهذا ممّا لا إشكال في جوازه بل وجوبه وإن تضمّن
الوقيعة في الرجل وإشاعة سرّه ، لقوله تعالى : «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ» وهذا دعاء إلى
الخير ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في صحيح داود بن سرحان المتقدّم : «إذا رأيتم أهل الريب
والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا في سبّهم والقول فيهم والوقيعة
وباهتوهم لكيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام ويحذرهم الناس ...» الخ. ولكن في
كونه من الغيبة حتّى يحتاج إلى دليل الجواز تأمّل بل منع في غير من طريقته باطلة
لانتفاء الإيمان والمؤاخاة المأخوذ في الغيبة.
الثاني : منع
الناس عن الرجوع إلى عالم غير قابل للقضاء والإفتاء بذكر عدم قابليّته وعدم كونه
أهلاً لهما ليحذروه ولا يفسد أعمالهم وأموالهم ، والظاهر جوازه بل وجوبه ، للآية
المذكورة ، مع كون مصلحة الهداية وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل أعظم وأقوى من مفسدة
الغيبة ومصلحة حرمة المؤمن ، وعليها مدار إرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأوصياء
، ولكن ينبغي مراعاة عدم ترتّب مفسدة على الفعل كتوهين النوع ، أو انفتاح باب وقوع
الناس في الغيبة أو الفساد من جهته ، أو اتّهام نفسه بكونه مغرضاً.
الثالث : منع
المؤمن عن معاشرة من يضرّه في دنياه نفساً أو عرضاً أو مالاً ، كالمنع
__________________
عن الرجوع إلى طبيب ناقص بذكر نقصانه ، أو عن إدخال من يخون في أهله ولو
بالنظر إليها في داره ، أو عن المعاملة لمن ينكر حقّه قرضاً أو قراضاً أو يعسر في
أدائه ، أو عن تزويج امرأة بذكر قبائحها الّتي توجب وقوع المريد لتزويجها في فساد
أو تلف مال أو اتّهام أو انهتاك عرض أو نحو ذلك ، ومنه بيان خلل في بكارتها وهو
يريدها باعتقاد البكارة.
وهذا فيما كان
الضرر هلاكة نفس محترمة ممّا لا إشكال في جوازه بل وجوبه أيضاً ترجيحاً لأعظم
المصلحتين وهي مصلحة حفظ النفس ، وفي غيره محلّ إشكال خصوصاً فيما كان الضرر
ماليّاً سيّما اليسير منه ، إذ لم نقف على دليل مخرج عن أدلّة تحريم الغيبة وإشاعة
السرّ.
ومن مشايخنا من
نفى الريب في مثال تزويج المرأة عن أولويّة التنبيه على بعض قبائحها من ترك نصح
المؤمن مع ظهور عدّة من الأخبار في وجوبه .
والتمسّك بظهور
الأخبار المشار إليها وإن كان غير بعيد في هذا المثال ونحوه وفيما كان الضرر
المخوف من جهة المغتاب هتكاً للعرض أو نقصاً في الشأن وفيما كان الضرر المالي
كثيراً يعتدّ به العقلاء ، وفي غيره مشكل غاية الإشكال ، والأولى إناطة الحكم
بالأهمّ من مصلحة فعل النصيحة ومصلحة احترام المؤمن أو الأعظم من مفسدة اغتياب
المؤمن وإذاعة سرّه وإشاعة عيبه ومفسدة ترك نصيحة مؤمن آخر ، ويختلف ذلك بحسب
الأشخاص وبحسب أنواع الضرر وبحسب مراتب الضرر المالي.
الخامس : نصح المستشير وهو النصيحة المسبوقة بالاستشارة ، وهو من المشورة بمعنى
طلب الرأي في الأمر ، وحاصل معناه رجوع الإنسان إلى غيره ممّن كمل عقله ليرى رأيه
في أمره المتردّد فيه على معنى رأيه في صلاحه وفساده ، فالمستشير هو الّذي يرجع
إليه ويطلب رأيه في مصلحته أو مفسدته في أمره ، والمعهود من معنى النصح في متفاهم
العرف ما يعبّر عنه في الفارسيّة «بخير خواهى كردن» ويرادفه «نيك خواهى كردن» كما
فسّره به في الكنز وهو المتبادر من قوله تعالى : «وَلا يَنْفَعُكُمْ
__________________
نُصْحِي
إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» وبمعناه
النصيحة ، ولا يخالفه ما في المجمع من «أنّ أصل النصيحة الخلوص يقال : نصحته ونصحت»
ونحوه ما في الأساس والغريبين ، وعن الصحاح أيضاً ، والمراد به هنا أن يخلص المؤمن رأيه في مصلحة
أخيه المؤمن عن شوب الخيانة على معنى أن يريه ما يراه مصلحة أو مفسدة في أمره من
غير خيانة لأنّه في حاصل المعنى يرجع إلى المعنى المذكور بل هو عينه.
ويدلّ على جواز
الغيبة في مقام نصح المستشير بالخصوص الصحيح المرويّ عن محاسن البرقي عن ابن محبوب
عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «أتى رجل أمير المؤمنين عليهالسلام فقال له : جئتك مستشيراً أنّ الحسن عليهالسلام والحسين عليهالسلام وعبد الله ابن جعفر خطبوا إليّ ، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : المستشار مؤتمن أمّا الحسن فإنّه مطلاق للنساء ، ولكن
زوّجها الحسين فإنّه خير لابنتك» وقوله عليهالسلام : «المستشار مؤتمن» يعطي ضابطة كلّيّة تجري في جميع
موارد الاستشارة وهي كون المستشار أميناً يجب عليه ردّ الأمانة من غير خيانة ، على
معنى بيان ما يراه مصلحة المستشير ومفسدته ولا يخون في رأيه ، وفعل الإمام عليهالسلام حجّة فيدلّ على جواز النصح وإن تضمّن ذكر سوء مؤمن آخر
على قدر ما يتوقّف عليه النصح.
ونحوه في
الدلالة عليه باعتبار فعل المعصوم النبويّ المرويّ مرسلاً «من قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لفاطمة بنت قيس لمّا شاورته في خطابها معاوية صعلوك لا
مال له ، وأبو الجهم لا يضع العصى عن عاتقه» .
وإطلاق صحيح
حسين بن عمر بن يزيد عن أبيه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من استشار أخاه فلم ينصحه محض الرأي سلبه الله عزوجل رأيه» وفي سند آخر عن الكليني فيه إرسال عنه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «من استشار أخاه فلم يمحضه محض
__________________
الرأي سلبه الله عزوجل رأيه» .
وخبر عمّار بن
مروان قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام في وصيّته له : اعلم أنّ ضارب عليّ عليهالسلام بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثمّ قبلت
ذلك منه لأدّيت إليه الأمانة» .
وخبر إسماعيل
بن عبد الله القرشي في حديث «إنّ رجلاً قال لأبي عبد الله عليهالسلام : الناصب يحلّ لي اغتياله؟ قال : أدّ الأمانة إلى من
ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو إلى قاتل الحسين عليهالسلام» .
ويدلّ عليه
أيضاً إطلاق الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر فيها الصحاح والموثّقات وغيرهما
الدالّة صراحةً وظهوراً على وجوب النصيحة ، وهذه الأخبار مع أخبار تحريم الغيبة
وإن كان بينهما عموم من وجه لقضائها لجواز النصيحة بل وجوبها وإن تضمّنت غيبة مؤمن
آخر وقضاء أخبار الغيبة بتحريمها وإن كانت في ضمن نصيحة مؤمن آخر سبقها استشارة أم
لا فتتعارضان في نصح مستشير تضمّن غيبة مؤمن آخر ، والظاهر تعيّن إرجاع التخصيص
إلى أخبار الغيبة ، لأظهريّة دلالات أخبار النصيحة على العموم وقلّة ورود التخصيص
عليها واعتضادها بأخبار نصح المستشير المتضمّن لفعل المعصوم ولسيرة المسلمين
قديماً وحديثاً حتّى الفقهاء المتورّعين وبفهم جماعة من الأساطين ولعلّهم الأكثرون.
السادس : جرح الشاهد عند الحاكم ، وجرح
الراوي بذكر ما يوجب الفسق المانع من القبول.
أمّا الأوّل :
فجوازه معلوم بالإجماع منقولاً ومحصّلاً فتوى وعملاً ، كما يعلم الأوّل بملاحظة
فتاويهم في أحكام الشهادات والبيّنات حتّى أنّهم عقدوا لتعارض الجرح والتعديل باباً
واختلفوا في تقديم أيّهما على الآخر ، والثاني بملاحظة السيرة المستمرّة بين
المسلمين في جميع الأمصار والأعصار من لدن عصر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأعصار
__________________
الأئمّة عليهمالسلام إلى أعصارنا هذه ، فتكشف عن رضاهم وتقريرهم بل أمر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحكومات بإحضار من يعرف الشهود بتزكية أو جرح ،
مضافاً إلى عمومات الأمر بإقامة الشهادات والنهي عن كتمانها كتاباً وسنّة ، وإلى
ما قيل من أنّ مصلحة عدم الحكم بشهادة الفاسق أولى من مصلحة الستر على الشاهد.
ولكن يعتبر في محلّ الجواز امور : الأوّل كون الجرح عند الحاكم لا غير. الثاني
استدعاؤه وطلبه ، ومرجعه إلى عدم التبرّع بالشهادة. الثالث الاقتصار في إظهار
الفسق على ما يحصل به الغرض من الجرح وعدم التعدّي إلى ما زاد ، ومرجعه إلى عدم
إحصاء عيوب الشاهد وفسوقه ، فإنّ القدر المقطوع بخروجه من عمومات تحريم الغيبة
وإشاعة الفاحشة في «الّذين آمنوا» هو ما اجتمع فيه الشروط الثلاث دون غيره ممّا
انتفى فيه الشروط وحدانيّاً أو ثنائيّاً أو ثلاثيّاً.
وأمّا الثاني :
فجوازه أيضاً معلوم بالإجماع منقولاً ومحصّلاً كما يظهر للمتتبّع في سيرة العلماء
وعملهم قديماً وحديثاً خلفاً عن سلف من لدن أعصار الأئمّة عليهمالسلام حيث كانوا يتعرّضون لأحوال رواة الحديث بذكر مناقبهم
وعيوبهم ومدائحهم وذمائمهم وتعديلهم وجرحهم وتفسيقهم ورميهم بالتخليط وفساد المذهب
وعدم الاستقامة وفساد العقيدة من غير نكير حتّى في أعصار الأئمّة عليهمالسلام مع اطّلاعهم عليهمالسلام وتقريرهم حتّى أنّ المتصدّين لهذا الشأن وضعوا لذلك
فهارست ورسائل وكتباً كما يعلم ذلك بملاحظة كتب الرجال الموضوعة في هذه الصناعة ،
وكونها مرجعاً لأهل الحلّ والعقد في مقام الاستنباط وتشخيص المقبول من الروايات عن
مردودها وتمييز ما يترجّح منها في مقام التعارض على غيره ، أو لإحراز التعادل بين
المتعادلين ، فهذا كلّه يكشف كشفاً ضروريّاً عن كون هذه الطريقة ممّا رضي به
الأئمّة عليهمالسلام عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الله عزوجل ، فهذا الإجماع العملي ضروريّ من أهل الحلّ والعقد من
أهل الحقّ والباطل ، فهو من ضروريّات العلماء وإن لم يبلغ حدّ الضرورة عند كافّة
الناس.
مضافاً إلى ما
قيل : من أنّ مفسدة العمل برواية الفاسق أعظم من مفسدة الشهادة بفسقه وإشاعة عيبه
ونقصانه ، ويجوز فيه التبرّع بها أيضاً بل قيل : يستحبّ ذلك ، فيجوز الجرح للراوي
على الإطلاق.
السابع : الشهادة عند الحاكم بالقتل أو شرب
الخمر أو الزنا أو اللواط أو السرقة أو
غيرها من الفسوق الكبائر لإقامة الحدود وحفظ الدماء المعصومة والأموال
المحترمة لئلّا يتضيّع الحقوق ولا يغلب الباطل على الحقّ ، كذا نسب إلى الشيخ في
شرحه للقواعد ، ولا يخفى أنّ ذكر الحدّ في هذا العنوان إمّا مثال ، أو يراد به
ما يعمّ القصاص والتعزيرات المنوطة برأي الحاكم.
والدليل على
جواز هذه الشهادة ـ مع كونها من الغيبة الّذي هو دليل على الاستثناء ـ أوّلاً :
إجماع علماء الإسلام على ما يظهر منهم في أبواب الدعاوي والشهادات والحدود والديات
الّتي يندرج فيها الشهادة بالغاصبيّة أو السرقة ، وفيها حفظ الأموال المحترمة
والشهادة بالقتل أو الجناية ، وفيها حفظ الدماء المعصومة من أن تهدر والشهادة بشرب
الخمر والزنى واللواط والسحق وغيرها من أنواع الفسوق ، وفيها حفظ حقوق الله من أن
تتضيّع.
وثانياً :
السيرة القطعيّة المستمرّة بين المسلمين في جميع الأمصار والأعصار من لدن بناء
الشرع إلى يومنا هذا الكاشفة عن رضا المعصوم من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأوصيائه المعصومين عليهمالسلام.
وثالثاً :
تقرير أهل العصمة من النبيّ وأهل العصمة حيث إنّ أصحابهم كانوا يشهدون في حضرتهم
الشريفة بنحو الامور المذكورة ، وهم يستمعون شهاداتهم من غير نكير ولا ردع ومنع
تعليلاً بأنّها من الغيبة المحرّمة.
ورابعاً :
الأخبار المتكاثرة المتواترة معنىً بل البالغة فوق حدّ التواتر بمراتب شتّى
الواردة في أبواب الدعاوي والشهادات والحدود الدالّة على جواز نحو هذه الشهادات بل
وجوبها في الجملة.
وخامساً :
الأمر بإقامة الشهادة والنهي عن كتمانها الواردين في الكتاب العزيز كقوله تعالى : «وَأَقِيمُوا
الشَّهادَةَ لِلّهِ» وقوله أيضاً :
«وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» وقوله أيضاً :
«مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً» فإنّ إطلاقها
يعمّ الشهادة بأنواع الفسوق الكبائر ، وخصوص قوله تعالى : «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
__________________
شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً» الآية يدلّ
بالالتزام دلالة صريحة على جواز الشهادة بالزنى ونحوه قوله تعالى «لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ
اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» .
وهل يعتبر في
محلّ الاستثناء استدعاء الشهادة من الشاهد فلا يجوز التبرّع بها لكونها غيبة لم
يثبت خروجها عن عموم التحريم أو لا؟ فالشهادة التبرّعيّة أيضاً جائزة ، ولم نقف
على كلام لهم صريح في أحد الوجهين ، غير أنّه يمكن استظهار الإجماع على عدم اشتراط
الاستدعاء وجواز التبرّع بها من كلماتهم في مواضع اخر ، مثل ما في الشهادات في
مسألة أنّ التبرّع بالشهادة في حقوق الله تعالى هل يمنع القبول كما عن الشيخ في
النهاية أو لا؟ كما هو المشهور شهرة عظيمة.
ومستند القول
بالمنع تطرّق التهمة المانعة من القبول كما في حقوق الآدميّين ، وعن الصيمري دفعه «بأنّ
العدالة تدفع التهمة» وردّه السيّد في الرياض بمنع دفع العدالة التهمة مستنداً إلى
«أنّه قد أطبق هو وسائر الأصحاب على اجتماعها معها ، ولذا عدّوا التهمة من موانع
قبول الشهادة زيادة على الفسق المقابل للعدالة ، فلو أوجبت التهمة فسقاً لما كان
لعدّهم إيّاها من الموانع في مقابلة الفسق وجه» انتهى.
فإنّ مصير
المعظم إلى عدم منع التبرّع القبول ، وكلام الصيمري في منع تطرّق التهمة تعليلاً
بأنّ «العدالة المعتبرة في الشاهد تدفعها» وما عرفت من ردّه من عدم كون التهمة قادحة
في العدالة وما نسب إليه وسائر الأصحاب من الإطباق على اجتماع العدالة معها يعطي
إجماعهم على عدم كون أصل التبرّع بالشهادة على شرب الخمر وغيره من الفسوق الكبائر
من غير جهة التهمة لا يوجب الفسق ولا يقدح في العدالة وإلّا لوجب ردّها من هذه
الجهة لا من جهة التهمة ، ولا يتمّ ذلك إلّا على تقدير كون الشهادة التبرّعيّة مع
كونها من الغيبة وإشاعة الفاحشة جائزة مخرجة من عموم أدلّة تحريمها هذا ، مضافاً
إلى قضاء السيرة بذلك أيضاً.
__________________
وهل يعتبر سبق
الدعوى عند الحاكم من مدّعي مخصوص ليشهد الشاهد على طبقها ولو تبرّعاً؟ الظاهر
العدم ، لظهور الإجماع من كلامهم في المسألة المشار إليها ، حيث علّلوا المشهور في
قبول الشهادة التبرّعيّة بأنّها في حقوق الله والمصالح العامّة لا مدّعي لها ، فلو
لم تقبل فيها شهادة المتبرّع لأدّى ذلك إلى سقوطها.
واجيب بما يرجع
حاصله إلى منع بطلان التالي ، وهذا يدلّ على أنّ جواز هذه الشهادة من دون سبق
الدعوى مفروغ عنه عندهم متسالم فيه لديهم ، ولو علم بأنّ شهادته لا تقبل لفسقه أو
عدم عدل آخر يستكمل به البيّنة أو تطرّق التهمة إليه أو جهة اخرى لم يجز له
الشهادة حينئذٍ عملاً بعموم حرمة الغيبة وإشاعة الفاحشة من دليل مخرج مع عدم ترتّب
الفائدة المقصودة من الشهادة.
وهل العلم
بالقبول شرط أو العلم بعدمه مانع ويظهر الفائدة في صورة احتمال القبول لاحتمال
حصول العلم للحاكم بشهادته مع فسقه أو بانفراده من جهة القرائن أو حصول ما يتمّ به
البيّنة فيما بعد؟ وجهان : من الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا خرج من أدلّة الحرمة ،
ومن الإجماع والسيرة في أداء الشهادة مع الاحتمال مساوياً أو راجحاً أو مرجوحاً.
وهو الوجه ، ولكنّه فيما لم يجامع عنوان الغيبة حيثيّة اخرى كالقذف في الزنى مثلاً
، وإلّا وجب الاقتصار على صورة العلم بالقبول المتوقّف على استكمال عدد الأربع
بشروطها المقرّرة في محلّه الّتي منها تواردهم دفعة واحدة ووحدة زمان المشهود به
ومكانه وعدم نكول بعضهم ، فلو نقص العدد أو اختلّ بعض الشروط لم يجز الشهادة لكونه
من القذف المحرّم ، ولذا يحدّ الشاهد حينئذٍ نظراً إلى أنّ الحدّ عقوبة وهي فرع
على تحقّق المعصية.
ثمّ إنّه يلحق
بالشهادة لإقامة الحدود الشهادة بشرب الخمر وغيره من الفسوق الكبائر لإقامة الأمر
بالمعروف أو النهي عن المنكر ممّن لا يتمكّن من القيام بهما بنفسه ، أو يخاف على
نفسه الضرر ، أو يقطع بأنّ قوله لا يؤثّر في الارتداع والانتهاء ، فيظهر الواقعة
لمن يتمكّن من ذلك ـ من حكّام الشرع أو حكّام الجور أو غيرهم من المقتدرين وأرباب
الاستيلاء ـ للسيرة القطعيّة وعموم أدلّة وجوبهما ، نظراً إلى أنّه من
جملة مراتبهما المختلفة على ما ستعرفه.
الثامن : ما يدخل في الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر إذا تحقّق شرائطه ، من الأمن عن الضرر ووقوع الفتنة واحتمال التأثير وتوقّف انتهائه عمّا عليه من ترك الواجب
أو ارتكاب المحرّم على اغتيابه وذكره بمعصيته في المجالس والمحافل على قدر ما يحصل
به الغرض مع انحصار طريقه فيه ، فإنّه جائز بل واجب لوجوب الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ، على معنى حمل تارك الواجب على فعله وردع فاعل الحرام عن فعله ، لا
المعنى المعروف المصطلح الاصولي نظراً أنّ مصلحة ذلك أعظم من مصلحة احترام المؤمن
، وأنّ مفسدة اغتيابه بذكر منكره أهون من مفسدة بقائه على منكره.
كما أنّه قد
يجوز بل يجب في موضع توقّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الانحصار بعض
المحرّمات ، من إيذاء المؤمن بالقول الخشن أو ضربه أو جراحه أو قتله على القول
بجواز كلّ منهما ، أو أوّلهما لحسم مادّة العصيان مع مراعاة الترتيب على وجه
الأيسر فالأيسر ، نظراً إلى أنّها تتدرّج على حسب ما يحصل به الغرض ، ويعتبر في
محلّ الاستثناء أن لا يكون قاطعاً بعدم التأثير ، سواء كان قاطعاً بالتأثير أو
محتملاً له احتمالاً مساوياً أو راجحاً أو مرجوحاً.
التاسع : التفضيل ذكره الشيخ في شرحه
للقواعد والمراد به تفضيل بعض العلماء والمجتهدين على بعض ،
نقول : إنّ فلاناً أعلم من فلان أو أفقه منه أو أفضل منه ، فإنّه يتضمّن ذكر
المفضّل عليه بصفة المفضوليّة الّتي هي نوع عيب ومنقصة فيه ، ربّما يكره ذكره بهذا
العيب وتلك المنقصة فيكون اغتياباً له ، فاندراج التفضيل في الغيبة باعتبار ما
تضمّنه لا في نفسه.
والعمدة بيان
الوجه في استثنائه وتفصيل القول فيه : أنّ التفضيل إمّا أن يكون في موضع الحاجة
إليه ـ لتوقّف حقّ ديني أو دنيوي عليه ، ككونه لمن يريد التقليد ولا يعرف الأعلم
من المجتهدين عن غيره ، بناءً منه على وجوب تقليد الأعلم أو على العمل بالاحتياط
أخذاً بالقدر المتيقّن ممّا يوجب البراءة ، أو لمن يريد معرفة الموقوف
__________________
عليه أو المتولّي على الوقف أو الموصى له فيما وقف على المجتهدين الأعلم
منهم فالأعلم ، أو جعل التولية لأعلم العلماء أو اوصي لهم ـ أو لا يكون في موضع
الحاجة.
والأوّل : ممّا
لا إشكال في جوازه بل قد يجب ممّن سئل عن الفاضل وهو من أهل الخبرة ، للسيرة ،
ولأنّ مصلحة التفضيل في مقام الحاجة أعظم من مصلحة احترام المؤمن.
وأمّا الثاني :
فلا دليل على جوازه فضلاً عن وجوبه إلّا إذا فرض بحيث خرج عن موضوع الغيبة ، ككون
المفضول مشتهراً بين الناس بالمفضوليّة وهو أيضاً يعتقد المفضوليّة في حقّه ، ولا
يبالي ذكره بصفة المفضوليّة ولا يكرهه ، فجوازه حينئذٍ لأجل عدم كونه اغتياباً.
وكذا الكلام في التفضيل فيما لو كان المتفاضلان من غير أهل العلم من أرباب سائر
الحرف والصنائع ، كتفضيل أحد الصائغين أو المعمارين أو النجّارين على الآخر.
العاشر : ذمّ المؤمن وذكر معائبه لحفظ
دمه أو عرضه أو ماله إذا كان أحد هذه في معرض التلف ، وعن الشيخ في شرح القواعد إطلاق القول بخروجه من حكم الغيبة.
وهذا في مقام
حفظ الدم كذلك ترجيحاً لمصلحة حفظ النفس المحترمة على مصلحة احترام المؤمن وستر
عيوبه ، وكذلك في صورة حفظ العرض خصوصاً إذا كان من الفروج ، ضرورة أنّ مصلحة حفظ
الفروج أقوى من مصلحة ستر العيوب. وأمّا في صورة حفظ المال فإطلاق الحكم محلّ منع
، خصوصاً إذا كان المال المتوقّف حفظه على ذكر معائب صاحبه يسيراً. ولا يبعد
التفصيل بين من لا يبالي ذهاب مال له ولو كثيراً ويبالي التعرّض لعيوبه فلا يجوز
لكونه من الغيبة الّتي لا مخرج لها ، وبين من لا يبالي التعرّض لعيوبه ويبالي ذهاب
مال له ولو قليلاً فيجوز. ودعوى أنّ مصلحة حفظ أموال الناس أعظم من مصلحة ستر
معائبهم بقول مطلق ، ممّا لم نقف على دليل عامّ ، قضى بوجوب حفظ أموال الناس بحيث
أوجب استباحة اغتيابهم والكشف عن معائبهم مع كون الأموال بأيدي أربابها.
الحادي عشر : نفي النسب عمّن يدّعي
نسباً ليس له ، ذكره جماعة في
المستثنيات. والكلام هنا تارةً في الموضوع ببيان وجه اندراج هذا العنوان في الغيبة
، واخرى في
__________________
الحكم ببيان مدركه.
أمّا الأوّل
فكونه غيبة إمّا باعتبار ما تضمّنه من إثبات نسب آخر له غير المنفيّ لكونه نسباً
وضيعاً إثباته له وقيعة فيه وكشف لمنقصته فلا يرضى به ويسوؤه ، أو باعتبار نفسه
نظراً إلى أنّ نفي ما ادّعاه لنفسه على خلاف الواقع تكذيب له وإظهار لكذبه فيكون
وقيعة فيه ، بناءً على أنّ الكذب هو الخبر الغير المطابق للواقع خالف الاعتقاد أو
لا كما هو المشهور ، وأمّا على مذهب النظام والجاحظ فلا يكون كذباً إلّا إذا خالف
الاعتقاد ، فنفيه فيمن ادّعاه وهو معتقد ثبوته له على خلاف الواقع ليس تكذيباً له
نعم هو تخطئة له ، والخطأ في الاعتقاد أيضاً نوع نقص وعيب لا يرضى الإنسان إظهاره
والكشف عنه لغيره فيكون غيبة. وقد يجتمع الاعتباران فيكون النفي غيبة باعتبار نفسه
وباعتبار ما تضمّنه. والأوّل غير مطّرد لأنّ المدّعي للنسب قد يدّعي لنفسه نسباً
شريفاً وأنت تنفيه وتثبت له نسباً وضيعاً أو متوسّطاً ، وقد يدّعي نسباً متوسّطاً
وأنت تنفيه وتثبت له نسباً شريفاً أو وضيعاً ، وقد يدّعي نسباً وضيعاً وأنت تنفيه
وتثبت له نسباً شريفاً أو متوسّطاً ، وقد يدّعي نسباً وأنت تنفيه وتثبت له ما
يساويه ، ولا يكون باعتبار ما تضمّنه غيبة إلّا في بعض هذه الصور كما لا يخفى.
بخلاف الثاني فإنّه مطّرد ، ولعلّ نظر الجماعة في إطلاق القول بكون نفي النسب غيبة
إلى هذا الاعتبار وإن كان قد يجتمع معه الاعتبار الأوّل أيضاً.
وأمّا الثاني
فاستدلّ على الجواز بالسيرة ، وبأنّ مراعاة مصلحة حفظ الأنساب أولى من مراعاة
مصلحة الستر على المؤمن.
ويشكل الأوّل
بأنّ السيرة مجملة وكونها بحيث تكشف عن رضا المعصوم باستغابة المؤمن وإشاعة سرّه
للناس غير معلوم. والثاني بمنع الأولويّة إذ لم يثبت بدليل عامّ وجوب حفظ الأنساب
على المكلّفين على وجه يكون مفسدة تركه بقول مطلق في نظر الشارع أقوى من مفسدة
الوقيعة في المؤمن وإشاعة سرّه.
ولو استند في
ذلك إلى كون صيانة الأنساب من المقاصد الخمس الباعثة على جعل الأحكام وتأسيس
الشرائع من أنواع العبادات والمعاملات والحدود والديات وهي صيانة الأموال والنفوس
والعقول والأديان والأنساب.
لدفعه أنّ
المقاصد الخمس ملحوظة على وجه الحكمة وهي عبارة عن علّة التشريع ولا يعتبر فيها
الاطّراد فلا بدّ لإثبات وجوب حفظ الأنساب على المكلّفين على وجه يستباح به
المحرّمات الّتي منها الغيبة من دليل وهو غير واضح ، فالأولويّة غير ثابتة ،
وحينئذٍ فلا محيص لاستباحة الغيبة بنفي النسب من إدراجه في إحدى العناوين الاخر
المستثناة كالتحذير أو نصح المستشير أو الجرح أو الشهادة لإقامة الحدود وحفظ
الأموال أو النهي عن المنكر ، فلا يكون عنواناً مستقلّاً في باب المستثنيات.
الثاني عشر : ذمّ أولاده وعياله وأتباعه
وغيرهم من الملتحقين به ببعض الأوصاف تأديباً لهم كما ذكره الشيخ في شرح القواعد ، وعلّله أوّلاً : «بأنّ
المذكورين لهم حكم آخر في التأديب ، وثانياً : بقضاء الحكمة بذلك ، وثالثاً :
بقضاء السيرة به ، ورابعاً : بخوف الوقوع فيما هو أعظم من ذلك» .
والكلّ منظور
فيه ، أمّا الأوّل : فلأنّ ثبوت الولاية للإنسان في تأديب أولاده وأتباعه في
الجملة ممّا لا كلام فيه كما في أولاده الأصاغر ومماليكه ولذا يجوز ضربهم تأديباً
أيضاً ، وأمّا ولايته على التأديب بقول مطلق ـ حتّى في أولاده الكبار وزوجاته
وسائر من يدخل في عيلولته وأتباعه من الخدم والأقارب المخصوصين به بحيث يستباح به
المحرّمات الّتي منها اغتيابهم والكشف عن عيوبهم وأوصافهم الذميمة وأعمالهم
الشنيئة ـ يحتاج إلى دليل.
وأمّا الثاني :
فلأنّ كون التأديب من مصالح الأولاد والأهل والأتباع مسلّم لا كلام فيه ، بل
الكلام في وجوبه وأقوائيّة مصلحته بحيث تزاحم مفسدة الغيبة وإشاعة الفاحشة ، وهو
أوّل المسألة إذ لم نقف على دليل عامّ من العقل أو الشرع عليه ، وكون حسن التأديب
ممّا يستقلّ بإدراكه العقل لا يسلّم في مقابلة استباحة الغيبة الّتي هي من الكبائر
وورد فيها أنّها أشدّ من الزنى ، وغير ذلك من التوعيدات والتهديدات.
وبالجملة لا
يسلّم في العقل إدراك حسن للغيبة الّتي ورد في قبحها من الشرع ما ورد لأجل كونها
تأديباً أو للتوصّل بها إلى التأديب ، وغاية ما يسلّم من حسنه
__________________
ما يحصل بالموعظة والنصيحة ونحوهما من الحكم العمليّة المباحة.
وأمّا الثالث :
فلأنّ السيرة وإن كانت مسلّمة ، ولكن كونها صحيحة بحيث تكشف عن رضا المعصوم ممنوع
، وإلّا تنتقض بسيرة الناس في أصل الغيبة ، ولو سلّم فهي مجهولة الجهة ، ومن
الجائز أن يكون جريان السيرة في ذمّ الأولاد أو الأتباع وإشاعة عيوبهم لجهة النهي
عن المنكر أو غيره لا التأديب من حيث إنّه تأديب ، فيجب فيه مراعاة انحصار الطريق.
وأمّا الرابع :
فلأنّه إن اريد به خوف الوقوع عليهم فيما هو أعظم من مفسدتهم الموجودة ، فيتطرّق
المنع إلى تأثير هذه المفسدة المخوفة على تقدير وقوعها في استباحة الغيبة ، فإنّه
في المفسدة الموجودة محلّ منع فكيف المفسدة المحتملة؟ وإن اريد به الخوف على نفسه
من الوقوع فيما هو أعظم من اغتيابهم والكشف عن عيوبهم من ضربهم أو جرحهم أو قتلهم
أو غير ذلك من المحرّمات ، فيجوز الذمّ والاغتياب حينئذٍ لكونه من باب ارتكاب أقلّ
القبيحين أولى. ففيه منع الأولويّة ، بل منع الجواز في الأعظم أيضاً ، فإنّ سند
المنع من تأثير القصد إلى التأديب في استباحة المحرّم واحد جارٍ في الأحقر والأعظم
، مع أنّ ارتكاب أقلّ القبيحين إنّما يسلّم في مقام الدوران ، كما لو دعت الضرورة
إلى ارتكاب قبيح دائر بين الأقلّ والأعظم ، كما لو دار الأمر في المجاعة مثلاً
لضرورة عدم الوقوع في التهلكة بين أكل المال المغصوب أو تناول الميتة مثلاً ، ولا
ضرورة في المقام دعت إلى ارتكاب أحد القبيحين ليرجّح في ذلك أقلّهما ، فإنّ الكلام
في تأثير جهة التأديب في استباحة المحرّم وهو في الجميع محلّ منع. كالمنع من دعوى
أنّ المنساق من أدلّة التحريم هو غير ذلك فإثبات الإباحة لا يحتاج إلى إثبات دليل
عليه لكفاية الأصل في ذلك حيث لا دليل على التحريم هنا ، فإنّها دعوى مردودة على
مدّعيها. فالإنصاف أنّ الدليل في عنوان التأديب وتأثيره في استباحة الغيبة غير
تامّ ، فلا بدّ فيه من مراعاة اندراجه في عنوان النهي عن المنكر وغيره من
المستثنيات المتقدّمة.
الثالث عشر : ذكره باسمه المعروف المشعر
بالذمّ أو الصفة المعروفة كذلك ، كالأعور والأعرج والأعمش والأشتر ونحوها لضرورة التعريف ، كما جرت به عادة
العلماء في
ذكر الرواة والمحدّثين وقد ورد في كثير من الأخبار ، فالسيرة والإجماع
والأخبار شاهدة بذلك كما نقل عن شرح القواعد .
والكلّ منظور
فيه ، فإطلاق الجواز محلّ منع ، بناءً على ما تقدّم من عدم اعتبار المستوريّة في
موضوع الغيبة ، ولو سلّم فغايته خروج ذكره باللقب أو الصفة المعروفين المشعرين
بالذمّ عن كونه غيبة ، وهذا بمجرّده لا يلازم الجواز ، لأنّ الشيء قد يحرّم لكونه
إيذاءً للمؤمن ، وقد يحرّم لكونه بهتاناً ، كما قد يحرّم لكونه غيبة. والتفصيل بين
صورتي العلم برضا صاحبه فيجوز وعدمه فلا ، غير واضح أيضاً ، لأنّ كون رضا صاحب
الغيبة مبيحاً لغيبته على ما ستعرفه أوّل الكلام.
فعن ثاني
الشهيدين في رسالته في الغيبة من التفصيل بين الأموات فيجوز ذكرهم بنحو الصفة
المذكورة لضرورة التعريف والأحياء فلا يجوز والفارق هو أنّ عادة العلماء جارية في
الأوّل لذكرهم الرواة والمحدّثين بالأوصاف المذكورة دون الثاني فلا بدّ فيه من رضا
المغتاب ، أيضاً غير واضح.
نعم لو كانت
الضرورة المفروضة في التعريف بنحو ما ذكر ما لو توقّف واجب شرعي على التعريف وكان
في نظر الشارع من أهمّ الواجبات بحيث يكون مصلحته راجحة على مصلحة احترام المؤمن
مع انحصار طريقه فيه لم يكن حجر في جوازه حينئذٍ ، كما أنّه لا حجر في الجواز
أيضاً في ذكره بالاسم أو اللقب المذموم بحسب الأصل الّذي زال منه الإشعار بالذمّ
بسبب الاشتهار وكثرة التداول ، أو بأن يكون الصفة المذمومة ثابتة لسوابقه من آبائه
أو أجداده لا لنفسه ، والمناط صيرورته بحيث لا يكره ذكره بهذا الاسم واللقب
المعروف أو الصفة المعروفة.
وقد يذكر في
المستثنيات أشياء اخر دليل استثنائها غير تامّ.
وينبغي ختم باب الغيبة بإيراد امور
مهمّة :
أوّلها : في أنّ رضا المغتاب باغتيابه
هل يكون مبيحاً للاغتياب أو لا؟ ولم نقف في كلام الأكثر على نصّ في ذلك بل أطلقوا الحكم بالتحريم ، غير
أنّه نسب إلى الشيخ في
__________________
شرح القواعد المصير إلى أنّه لا يبيحها ، وعن ثاني الشهيدين في رسالته في
الغيبة أيضاً التصريح بالعدم ، حتّى أنّه نقل عن الفقهاء أنّهم في باب القذف
صرّحوا بأنّ رضا المقذوف بقذفه لا يبيحه للقاذف ، وإن كان قد ينكر ذلك عليه بأنّه
لم يذكره إلّا العلّامة ، وربّما اعترض عليه بتهافت بين كلامه هنا وكلامه في موضع
آخر عند ذكر المستثنيات ، حيث إنّه في مسألة ذكر الرجل بصفته المعروفة المشعرة
بالذمّ فصّل بين الأموات والأحياء فمنع في الثاني إلّا مع رضاهم.
وأمّا إطلاق
الأكثر بالمنع فيمكن كونه منزّلاً على هذا القول ، نظراً منهم إلى أنّ الغيبة في
تحريمها كسائر المحرّمات مثل اللواط والزنا حيث لا يباحان برضا الملوط والمزنيّ
بها ، فلا تحلّ الغيبة أيضاً برضا المغتاب لاشتمالها على مفسدة ذاتيّة ومبغوضيّة
عند الشارع الحكيم ، فلا ترتفعان بالرضا.
وتوهّم :
التفرقة بينها وبينهما في كونهما من حقوق الله المحضة فلا مدخليّة لرضا العبد
فيهما والغيبة متشبّثة بحقوق الناس أيضاً ، ولذا ورد في عدّة من الروايات «أنّ
صاحب الغيبة لا يغفر له إلّا بأن يغفر صاحبه» يدفعه : بأنّ غاية ذلك أنّ الرضا يوجب سقوط حقّ المغتاب
ولا ملازمة بينه وبين سقوط حقّ الله أيضاً ، فإنّه حينئذٍ نظير مال مشترك بين
شريكين إذا رضي أحدهما بتصرّف أحد في المال دون الآخر حيث لا يفيد ذلك إباحة
التصرّف له.
ويحتمل كون
إطلاقهم منزّلاً على ما لم يقارنه رضا المغتاب بدعوى خروجه عن موضوع الغيبة أو
لانصراف أدلّة التحريم إلى ما عداه.
وتحقيق المقام
: أنّه لو قلنا بمنافاة الرضا للكراهة المأخوذة في ماهيّة الغيبة فلا حاجة حينئذٍ
إلى التكلّم في كون الرضا مبيحاً لأنّه حينئذٍ رافع لموضوع الغيبة ، لأنّ معناه
عدم الكراهة فيخرج من أدلّة التحريم خروجاً موضوعيّاً.
وقد تقدّم في
البحث فيما يعتبر في مفهوم الغيبة وما لا يعتبر أنّ الكراهة معتبرة فيه
__________________
وإن قلنا بعدم المنافاة بينهما ، وأنّ الرضا بالشيء يجامع كراهته كما يظهر
الجزم به من بعض أهل المعرفة وهو الأظهر ، نظراً إلى أنّ الكراهة وإن كانت من صفات
النفس وهي عبارة عن انقباض النفس عن وقوع المكروه والرضا أيضاً صفة اخرى تجامعها ،
وهي عبارة عن إرخاء عنان المنع في النفس فلو أظهره يقال له الإذن ، فقد ترى أنّ
الوالد والوالدة يكره إيذاء ولده بالفصد أو الحجامة أو غيرهما من أنواع الإيلامات
ومع ذلك يرضى به لمصلحة الاستعلاج ولذا لا يسخط ولا يغضب على الفصّاد والحجّام ،
وكذلك ربّ الدار لشدّة حاجته إليها أو شدّة علاقته بها يكره بيعها ومع ذلك قد يرضى
به بل يأذن فيه لمصلحة أداء الدين.
ولعلّ المكروهات
الشرعيّة في نظر الشارع تعالى أيضاً من هذا القبيل فيكره وقوعها من العبد لما فيها
من المفسدة والمنقصة الّتي هي إمّا مضرّة دنيويّة أو اخرويّة ومع هذا فهو راضٍ
بفعلها وآذن فيه.
فعلى هذا
التقدير ينبغي أن يتكلّم في حكم المسألة وقد يقال : بأنّ الرضا يبيحها استناداً
إلى أصلي الإباحة والبراءة لعدم شمول أدلّة التحريم لما يقارنه الرضا ، لأنّ
المنساق منها أنّ الغيبة إنّما حرّمت من حيث كونها إيذاءً للمؤمن والراضي لا
يتأذّى ، أو على أنّها هتك لاحترام المؤمن والراضي بنفسه هتك احترام نفسه. ويؤيّده
النبويّ المرويّ عن الكافي «قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : أيعجز أحدكم أن يكون كابن [ضمضم] زمزم ، أنّه
كان إذا خرج من بيته يقول : اللهمّ إنّي تصدّقت بعرضي على المسلمين» والنبويّ
الآخر «كان عليّ بن
الحسين عليهماالسلام يتصدّق صبيحة كلّ يوم عرضه» فإنّ المقصود
من صدقة العرض أن لا يتأثّم المسلمون المتعرّضون له ، والعرض هو الغيبة بالخصوص ،
أو يندرج فيه الغيبة أيضاً.
ويمكن
الاستدلال بما دلّ من المستفيضة على «أنّ صاحب الغيبة لا يغفر له إلّا أن
__________________
يغفر صاحبه» بتقريب أنّ العفو إذا كان رافعاً لاستحقاق العقوبة على
الغيبة بعد وقوعها جاز أن يكون الرضا قبل وقوعها دافعاً له ولا يكون إلّا إذا لم
يحرم بل بطريق أولى لأنّ الدفع أهون من الرفع.
وفي الكلّ نظر
، وبعد اللتيّا والّتي فغاية ما يسلم أنّ رضا المغتاب يوجب سقوط حقّه ، فالوجه
أنّه لا يوجب إباحتها لعدم دليل عليها.
وثانيها : المعروف من مذهب الأصحاب حرمة
استماع الغيبة ، والظاهر أنّه
إجماعي بل في كلام غير [واحد] من مشايخنا بلا خلاف ، واستدلّ عليه بالمرسل عن النبيّ صلىاللهعليهوآله «المستمع أحد المغتابين» والآخر عن عليّ عليهالسلام «السامع للغيبة أحد المغتابين» وفي كتاب جامع الأخبار قال عليهالسلام : «ما عمّر مجلس بالغيبة إلّا خرّب من الدين ، فنزّهوا
أسماعكم من استماعها ، فإنّ القائل والمستمع لها شريكان في الإثم» وفي حديث
المناهي المرويّ في الفقيه «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن الغيبة والاستماع إليها» .
وقد يقال :
الأخبار في حرمة استماع الغيبة كثيرة ، والأخبار المذكورة كما ترى ضعيفة الأسانيد
بالإرسال فيتطرّق الإشكال إلى صحّة الاستدلال بها ، إلّا أن يقال : بانجبارها
بالكثرة المدّعاة أو بما عرفت من ظهور الإجماع ونفي الخلاف ، بدعوى أنّ مدركهم في
الإفتاء بحرمة الاستماع هذه الأخبار فينجبر ضعفها بالعمل.
ثمّ يتطرّق
الإشكال إلى دلالة ما عدا الأخيرين منها فإنّ دلالة قوله عليهالسلام : «المستمع أحد المغتابين» على تحريم الاستماع غير
واضحة ، لقيام احتمال قراءة المغتابين تثنية ، واعتبار كون المستمع أحد هذه
الاثنين.
بتقريب انّ
الاغتياب لا يتحقّق إلّا بين اثنين أحدهما القائل وهو المغتاب بالمعنى الفاعلي ،
والآخر المقول له وهو السامع فهو المغتاب بالمعنى المفعولي أعني المغتاب له فهو
أحد المغتابين ، المغتاب بمعنى المغتيِب بالكسر والمغتاب بمعنى المغتيَب له بالفتح
،
__________________
فعلى إرادة هذا المعنى لا دلالة فيه على حرمة الاستماع أصلاً إلّا أن يدفع
بكمال بعده من لفظ الرواية ، مع تطرّق المنع إلى صحّته لغة واعتباراً ، فإنّ هيئة
المغتاب الحاصلة بالإعلال مشتركة بين اسم الفاعل واسم المفعول فلا يجوز وقوعها في
استعمال واحد موقعهما.
ويكون معنى
الرواية على الاحتمال المذكور أنّه أحد المسمّيين بلفظ المغتاب ، وهذا مع أنّه غير
مفيد فلا يناسب شأن المعصوم يوجب كون الهيئة المذكورة في المغتابين واقعة موقع
اسمي الفاعل والمفعول ، ونحوه غير معهود في الاستعمال فوجب توجيه متن الرواية بوجه
صحيح.
وهو إمّا بأن
يقال : بدخول المستمع لغيبة كالقائل لتلك الغيبة في الحكم فإن كان القائل آثماً
باعتبار كون غيبته في محلّ الحرمة فكذلك المستمع لها ، وإن كان القائل غير آثم
باعتبار كونها في محلّ الرخصة ككونها من أحد المستثنيات فكذلك المستمع لها ،
وقضيّة ذلك حرمة استماعها حيث حرمت على القائل لها.
أو بأن يعتبر
المستمع خارجاً من العدد المراد من لفظ المغتابين سواء اعتبر تثنية أو جمعاً بأن
يكون هناك اثنان أو جماعة يتذاكرون أحداً بالسوء وهو حاضر عندهم يستمع ذكرهم لا
غير وكونه أحدهما أو أحدهم يعني به مشاركته لهما أو لهم في الإثم والحرمة إمّا
باعتبار رضاه بعملهم الموجب لدخوله في عموم الأخبار الدالّة على أنّ الراضي بعمل
قوم كالداخل معهم ، أو باعتبار كونه تشبيهاً بحذف أداته وهو يفيد المشاركة في
الأحكام مطلقاً ، أو الأحكام الظاهرة والحرمة منها وبه يثبت كون الاستماع كنفس
الغيبة من الكبائر.
ثمّ إنّ
المستمع قد يعلم أنّ الغيبة الصادرة من قائلها محرّمة عليه لعلمه بعدم كونها من
إحدى المستثنيات ، وقد يعلم أنّها محلّلة عليه لعلمه بكونها من إحدى المستثنيات
كغيبة المتجاهر مع علمه بالتجاهر ، وقد يعلم بعدم كونها محرّمة عليه لاعتقاده
بتجاهر صاحبها وهو يعتقد عدم كونه متجاهراً ، وقد يعلم بعدم كونها محرّمة عليه
أيضاً لاعتقاده بتجاهر صاحبها وهو يشكّ في كونه متجاهراً وعدمه ، وقد يشكّ في
كونها محرّمة عليه أو محلّلة على معنى كونها صادرة منه على وجه العصيان أو لا على
وجه
العصيان لشكّه في استحقاق صاحبها لتلك الغيبة ككونه متجاهراً وعدمه لعدم
كونه متجاهراً ، وهذه صور خمس تختلف أحكامها بالقياس إلى المستمع.
أمّا الصورة
الاولى : فلا يجوز له استماعها جزماً ، وهو القدر المتيقّن من معقد أدلّة حرمة
الاستماع.
وأمّا الصورة
الثانية : فيجوز له الاستماع للأصل ، ولعدم كونها من المنكر ، ولاستحقاق المغتاب
لها ، ولأنّ استماع الغيبة تبع لنفس الغيبة في الحكم ، ومرجعه إلى الملازمة بينهما
في الحكم لأنّه المستفاد من أدلّة تحريمه. وبعبارة اخرى موضوع حكم الاستماع الغيبة
المحرّمة وهذه ليست منها ، ولقوله عليهالسلام : «المستمع أحد المغتابين» بناءً على احتمال أن يكون
معناه أنّه كالمتكلّم بها فإن كان آثماً فكذا المستمع وإلّا فلا ، وإن كان بعيداً
من حاقّ هذا اللفظ مع ابتنائه على كون مبنى التثنية على التغليب كما في قمرين ،
ولا قرينة عليه.
وأمّا الصورة
الثالثة : ففي جواز استماعها له والعدم وجهان ، من ثبوت الملازمة بين المستمع
والقائل في الحكم فحيث لا تحرم على القائل لم يحرم استماعها عليه ، ومن أنّ هذه
الملازمة على تقدير ثبوتها إنّما تسلّم بينهما في الحكم الواقعي واعتقاد القائل لا
يغيّر الواقع ولا يحدث به الإباحة الواقعيّة ، غايته أنّه لا حرمة عليه ولا يخاطب
على تركها لقبح تكليف الغافل ، فهي في نظر المستمع غيبة محرّمة في الواقع لعدم
كونها مخرجة من أدلّة التحريم فيحرم عليه استماعها ونظير استماع الغناء ممّن
يحرّمه مطلقاً حتّى في قراءة القرآن إذا صدر في القراءة ممّن يجوّزه فيها ، فأقوى
الوجهين ثانيهما.
وأمّا الصورة
الرابعة : ففي جواز استماعها والعدم وجهان ، من أنّ الشكّ المفروض من الشبهة
الموضوعيّة لرجوعه إلى الشكّ في منكريّة هذه الغيبة ـ كالشكّ في خمريّة مائع معيّن
ـ فيرجع فيه إلى أصل البراءة ، ومن أنّ الأصل عدم خروجها من عموم أدلّة التحريم
فيحرم استماعها.
ويزيّفه أنّ
هذا الأصل لا معنى له إلّا من باب أصالة عدم التخصيص ، وهذا إنّما يتّجه الاستناد
إليه فيما لو بنى على خروجه من العموم لزم زيادة تخصيص في العامّ ، والمقام ليس
منه لأنّ غيبة المتجاهر بعنوانها الكلّي وبجميع أفرادها من عمومات
التحريم بتخصيص واحد ، ولو بنى فيما نحن فيه على خروجه عن العموم لزم
اندراجه في عنوان غيبة المتجاهر ولا يلزم به تخصيص آخر غير ما ورد بالنسبة إلى ذلك
العنوان ، فلا مجرى لأصالة عدم التخصيص حينئذٍ ، فلا يبقى بالنسبة إلى هذا الفرد
إلّا الشكّ في التكليف والأصل براءة الذمّة ، فأقوى الوجهين أوّلهما.
وأمّا الصورة
الخامسة : فالكلام فيها تارةً في تكليف المستمع ، باعتبار ما يرجع إلى القائل من
البناء على حرمة هذه الغيبة الصادرة ، فيرتّب عليه جميع آثار الحرمة من طروّ الفسق
وزوال العدالة أو يحكم بعدم الحرمة.
واخرى في
تكليفه باعتبار ما يرجع إلى نفسه من حيث حرمة استماعها عليه والعدم.
وثالثة في
تكليفه باعتبار ما يرجع إلى نفسه أيضاً ، ولكن من حيث وجوب ردّ هذه الغيبة وعدمه.
أمّا الجهة
الاولى فالوجه فيها البناء على عدم الحرمة عملاً بأصالة الصحّة في فعل المسلم.
وتوهّم : أصالة عدم الخروج من عموم التحريم ، يدفعه ـ مضافاً إلى ما عرفت من عدم
كون ذلك الأصل في مجراه ـ أنّ الرجوع إلى أدلّة الواقع أو سائر الاصول في الفعل
الصادر من المسلم إنّما يتّجه في الشبهات الحكميّة لا الموضوعيّة الّتي يعمل فيها
على أصالة الصحّة لا غير.
نعم لو فرض
مورد الشكّ من الشبهة الحكميّة اتّجه الرجوع إلى أدلّة الواقع ، كما لو اغتاب أحد
عن فاسق غير متجاهر والمستمع يشكّ في صحّته وفساده باعتبار الشكّ في جواز غيبة
الفاسق الغير المتجاهر كما يظهر القول به من بعض الأصحاب ، فكلّ غيبة يسمعها مسلم
من مسلم ويشكّ في صدورها على وجه العصيان أو لا على وجه العصيان لشبهة موضوعيّة
وجب الحكم عليها بكونها صادرة لا على وجه العصيان ، حملاً لفعل المسلم على الصحّة
فلا يحكم بمجرّدها بفسقه وزوال عدالته.
ومنه ما لو صدر
منه غيبة الفاسق الغير المتجاهر وهو يعتقد باجتهاده أو تقليده لمجتهد حرمتها ولكن
يشكّ في كون صدورها من المتكلّم على وجه العصيان أو لا على وجه العصيان لاحتمال
كونه باجتهاد أو تقليد لمجتهد معتقد لجوازها.
ومنه يعلم
الحكم في الموارد الخلافيّة بين المتكلّم والمستمع كغيبة الفاسق الغير المتجاهر
إذا كان القائل معتقداً لجوازها لاجتهاد أو تقليد والمستمع يعتقد عدم جوازها كذلك
، فإنّها في حقّ القائل تحمل على الصحّة الغير المنافية لعدالته لوجوب إنفاذ
اجتهاد المجتهد وتقليد مقلّده الثابت بالإجماع والضرورة من الدين ، نعم يحرم عليه
استماعها لاعتقاده فيها بالحرمة الواقعيّة.
وأمّا الجهة
الثانية فالوجه فيها جواز استماع الغيبة المفروضة عملاً بأصالة البراءة في الشبهة
الموضوعيّة.
وأمّا الجهة
الثالثة ففي وجوب الردّ وعدمه وجهان ، مبنيّان على أنّ وجوب ردّ الغيبة هل هو من
باب وجوب النهي عن المنكر فالمتّجه عدم الوجوب لعدم كون المنكريّة محرز ، أو من
باب وجوب رعاية حقّ المؤمن المتوقّفة على ردّ غيبته لرجوع الشكّ إلى استحقاق
المغتاب لتلك الغيبة ومعناه الشكّ في أنّ الشارع أسقط في تلك الواقعة حقّه الواجب
رعايته على المستمع أو لا؟ والأصل العدم فالمتّجه حينئذٍ وجوب الردّ.
وهذا وإن كان
يقوى في ظاهر النظر ، لأنّ المستفاد من أدلّة وجوب ردّ الغيبة والأخبار الواردة
فيه كونه لأجل أنّه من حقوق المؤاخاة الحاصلة بين المسلمين ، ولكن يضعّف بأنّ الأصل
المذكور معارض بمثله لأنّ المتكلّم أيضاً ممّن يجب رعاية حقّه ، ولا ريب أنّ ردّ
الغيبة عليه وردعه عنها هتك لاحترامه وكسر لقلبه وتخفيف له لو كان بمشهد من الناس
ويشكّ في استحقاقه لهذه الحزازات ، ومعناه الشكّ في أنّ الشارع أسقط حقّه لأجل هذه
الغيبة أو لا؟ والأصل عدمه ، فيتعارض الأصلان ، ويبقى أصل البراءة سليماً عمّا
يوجب الانصراف عنه. ويؤيّده أنّ المستفاد من أدلّة حرمة الاستماع وأدلّة وجوب
الردّ أنّ بينهما ملازمة في الوجود والعدم ، فحيث حرم الاستماع وجب الردّ أيضاً
وإلّا فلا.
ثمّ اعلم أنّ
ما ذكرناه في حكم الصورة الثانية من الصور الخمس من جواز استماع الغيبة ليس على
إطلاقه بحيث يكون جارياً في جميع المستثنيات بل هو مقصور على بعضها ، فإنّ في جرح
الشاهد لا يجوز الاستماع لغير الحاكم ، وفي نصح المستشير لغير المستشير ، وفي
التظلّم لغير من يرجى إزالة المظلمة إن قيّدناه بكونه عند من يرجو إزالة
المظلمة ، وفي الاستفتاء لا يجوز الاستماع لغير المفتي ، فإنّ الواجب في
هذه الموارد الاقتصار في ذكر العيب على استماعه لمن يحصل به أو منه الغرض فلا يجوز
لغيره الاستماع.
وربّما يمكن
الاستدلال عليه بقوله عليهالسلام : «المستمع أحد المغتابين» إن استظهرنا منه أنّ معناه
أنّ المستمع لغيبة كأنّه متكلّم بها فإذا لم يجز له التكلّم بها لم يجز استماعها ،
إلّا أنّه محلّ منع. لا يقال : إنّ هذه غيبة محلّلة فيجوز استماعها لكلّ مستمع
بحكم الملازمة المتقدّمة ، لمنع الحلّية لو ذكرها بحيث يسمعها غير من يحصل به أو
منه الغرض ، حتّى أنّ الجارح للشاهد لو ذكر فسق الشاهد بحيث يسمعه غير الحاكم كان
جرحاً له.
ثمّ إنّ
المحرّم في هذا الباب هو الاستماع وهو السماع القصدي لا السماع من غير قصد ، وإن
عبّر في بعض الروايات المتقدّمة بالسامع لوجوب حمله على المستمع ، لأنّ السماع من
غير قصد الحاصل لضرب من الاتّفاق داخل في الأفعال الغير الاختياريّة فلا يصلح
متعلّقه للتكليف.
ثالثها : في ردّ الغيبة ، واستحلالها ،
والاستغفار لصاحبها.
أمّا الأوّل :
فلا إشكال في وجوبه على من يقدر عليه بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه ، للنصوص
المستفيضة القريبة من التواتر إن لم ندّع تواترها ، منها ما في حديث المناهي «ومن
تطوّل على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردّها عنه ردّ الله عنه ألف باب من
الشرّ في الدنيا والآخرة ، فإن هو لم يردّها وهو قادر على ردّها كان عليه كوزر من
اغتابه سبعين مرّة» .
وما في حديث
وصيّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليّ عليهالسلام «يا علي من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله الله في
الدنيا والآخرة» وقضيّة الرواية الاولى زيادة عقاب تارك ردّ الغيبة على
عقاب فاعلها سبعين مرّة. قيل : ولعلّ وجهه أنّه إذا لم يردّه يجرأ المغتاب على
الغيبة فيصرّ على هذه الغيبة وغيرها.
__________________
أقول : يمكن أن
يكون وجهه أنّ ترك الردّ الغيبة والسكوت على فاعلها يتضمّن الإخلال بواجبات عديدة
والدخول في محرّمات كثيرة متصادقة عليه لجهات مجتمعة فيه ، فإنّ الردّ واجب وتركه
معصية وهو يوجب تحقّق الاستماع لا للردّ وهو معصية اخرى ، ويتضمّن الإخلال بالنهي
عن المنكر وهو معصية ثالثة ، ويكون من الحمل على المنكر على معنى تقرير فاعل
المنكر على منكره وهو معصية رابعة ، ويندرج في الإعانة على الإثم باعتبار أدائه
إلى جرأة الفاعل وإصراره على الإثم وهو معصية خامسة ، وقد يتضمّن محبّة شيوع فاحشة
المغتاب فيندرج في قوله تعالى : و
«الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ
فِي الَّذِينَ آمَنُوا» وهو معصية
سادسة ، وقد يتحقّق معه الركون إلى الظالم على معنى الميل إليه ، وفاعل الغيبة
ظالم فيندرج في قوله تعالى : «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا» وهو معصية
سابعة ، وربّما يتحقّق في نفسه الرضا بعمل الفاعل فيندرج في الأخبار الدالّة على «أنّ
الراضي بعمل قوم كالداخل معهم» وهو معصية ثامنة ، ومع هذا كلّه فالعلم عند الله فإنّ
الحكم الخفيّة لا يعلمها إلّا الله.
ثمّ إنّ وجوب
ردّ الغيبة ليس لأمر يرجع إلى المتكلّم وهو النهي عن المنكر بقول «لا تغتب» بل
لأمر يرجع إلى المغتاب وهو الانتصار له ودفع الغيبة عنه ، ولذا عبّر في الأخبار
الواردة فيه تارة بالردّ ، واخرى بالنصر ، وثالثة بالدفع ، ورابعة بالذبّ عنه ،
وكيفيّته فيما لو كان الاغتياب بذكر عيب دنيوي في بدن المغتاب أو خلقه أو غير ذلك
أن يقول : العيب ما عابه الله سبحانه وليس إلّا المعاصي وذكرك إيّاه أكبرها ،
وفيما لو كان عيباً دينيّاً كالمعصية فإن كان قابلاً للتوجيه بإرجاعه إلى إحدى
المحامل الصحيحة بحيث يخرج عن المعصية يبادر إليه ، وإلّا فيقول في ردّه : إنّ
الإنسان ليس بمعصوم وقد يستولي عليه الشيطان ، ويغلب عليه النفس الأمّارة ، كما هو
شأنك في اغتيابك هذا ، ولعلّه أعظم من معصيته ، ومن حقوقه أن تستغفر له لا أن
تعيّره وتعيّبه ، ويلزم منه عيب فيك أعظم من معصيته.
__________________
وأمّا الثاني
والثالث : فلا إشكال في استحباب كلّ منهما ، وأمّا الوجوب فلم نقف على قائل صريح
به من معتبري أصحابنا ، نعم ربّما يستظهر القول به من صاحب الوسائل حيث قال ـ في
عنوان باب الاستحلال والاستغفار ـ : «باب وجوب تكفير الاغتياب باستحلال صاحبه أو
الاستغفار له» ثمّ أورد خبراً واحداً عن الكافي بإسناده عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سئل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ما كفّارة الاغتياب ، قال : تستغفر الله لمن اغتبته
كلّما ذكرته» ولم ينقل هنا ما يدلّ على حكم الاستحلال. نعم في كتاب
الحقائق في حديث مرسلاً عن الصادق عليهالسلام قال : «وإن اغتبته فبلغ المغتاب فاستحلّ منه ، فإن لم
يبلغه فاستغفر الله» وهما غير صالحين لإثبات الوجوب. والاستحباب لا كلام فيه
خصوصاً على التسامح فيحملان عليه ، إلّا أنّ الأحوط في الاستحلال مع بلوغ الخبر
عدم الترك.
__________________
النوع السابع
السحر وتعلّمه وتعليمه
أمّا السحر فالبحث فيه تارةً في موضوعه ، واخرى في حكمه وسائر ما
يتعلّق به ، فالكلام في مقامين :
المقام الأوّل : في معرفة موضوعه
وحقيقته ، ولا بدّ فيه من مراجعة أهل اللغة تارةً ، والرجوع إلى العرف اخرى ، وإلى
بيانات الفقهاء وتفاسيرهم ثالثة.
أمّا الجهة الاولى :
فقيل كما عن
القاموس : «إنّه ما لطف مأخذه ودقّ» يعني ما خفي سببه كما في كلام جماعة.
وقيل كما عن
أحمد بن فارس في مجمل اللغة : «إنّه إخراج الباطل بصورة الحقّ»
وقيل : «إنّه
الخديعة» وهو فعل ما يوجب المكروه في إنسان حيث لا يعلم به ،
ولذا قد يعبّر عنه بهذا المعنى بالتمويه وهو التلبيس ، وقد ذكر هذا المعنى أيضاً
في القاموس أيضاً بعد ما ذكر المعنى الأوّل ، وحكي نقله أيضاً عن مجمل اللغة.
وقيل : «إنّه
صرف الشيء عن وجهه» .
وأمّا الجهة الثانية : فعن شرح القواعد للشيخ «أنّه لا يرجع فيه إلّا إلى العرف
العامّ قال : ومحصوله أنّه عبارة عن إيجاد شيء تترتّب عليه آثار غريبة وأحوال
عجيبة
__________________
بالنسبة إلى العادة بحيث تشبه الكرامات ، وتُوهِم أنّها من المعجزات
الثابتة للنبوّات من غير استناد إلى الشرعيّات بحروز أو دعوات أو نحوها من
المأثورات ، وأمّا ما اخذ من الشرع كالعوذ والهياكل وبعض الطلسمات فليست منه بل هي
بعيدة عنه ، وكأنّ غرض الشارع المنع من التدليس والتلبيس في الأسباب على نحو منعه
في المسبّبات وأنّ حدوث الأفعال من غير سبب يَبِين مخصوص بربّ العالمين» انتهى.
ومن مشايخنا من
أنكر عليه بما محصّله «أنّ السحر علم دقيق وبحر عميق له شعب كثيرة لا يبلغ كنهه
إلّا الماهرون والأوحدي ، فكيف يعرفه عامّة الناس حتّى يرجع لمعرفته أهل العرف
العامّ» .
أقول : ويؤيّده
أنّه معنى معرفته يتوقّف على التعليم والتعلّم فلا يعرفه إلّا أهله المخصوصون به ،
حتّى أنّ العامّة لو سئلوا عن حقيقته وأنّه أيّ شيء لعجزوا عن تفسيره ولو إجمالاً
وأظهروا الجهل به ، وإن كان ربّما يمكن أن يستشمّ من ملاحظة بعض موارد استعمالاتهم
إرادة ما يرجع إلى ما عرفته عن القاموس حيث إنّهم إذا شاهدوا من أحد أمراً عجيباً
وطوراً غريباً وصنيعاً لطيفاً وتعجّبوا يقولون في مدحه : إنّه قد سحر ، أي صدر منه
أمر لطيف مأخذه وخفيّ سببه.
وعن فخر الدين
الرازي في تفسيره عند الكلام في شرح قوله تعالى في سورة البقرة «وَاتَّبَعُوا ما
تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ
الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ...» الآية ، ما
يظهر منه دعوى ثبوت الوضع الشرعي للفظ «السحر» على خلاف اللغة ، حيث قال : «ذكر
أهل اللغة أنّه في الأصل عبارة عمّا لطف وخفي سببه ... إلى أن قال : اعلم أنّ لفظ
السحر في عرف الشرع مختصّ بكلّ أمر مخفيّ سببه ، ويتخيّل على غير حقيقته ويجري
مجرى التمويه والخداع» .
وهذا في غاية
البعد بل ينبغي القطع بانتفائه ، ولم نقف على من وافقه من أصحابنا
__________________
ولا غيرهم ، وقوله : «ويتخيّل على غير حقيقته» قد يقال : إنّ معناه يتخيّل
أنّه لا أصل ولا حقيقة له ، وهذا سهو بل معناه بقرينة قوله : «ويجري مجرى التمويه
والخداع» كلّ أمر مخفيّ سببه ممّا لا أصل ولا حقيقة له يتخيّل أنّ له أصلاً وحقيقة
كما هو الحال في صنع سحرة فرعون في حبالهم وعصيّهم ، ولذا قال تعالى في وصفهم : «سحروا
أعين الناس واسترهبوهم»
وقال في وصفها في سورة
طه : «يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى» .
ويشهد أيضاً
أنّه ذكر فيما بعد العبارة المذكورة أنّ لفظ السحر إنّما يكون عند إخفاء الظاهر ،
وذكر أيضاً في وجه تسمية بعض البيان سحراً في قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم «إنّ من البيان لسحراً» مع أنّ القائل إنّما قصد إظهار الخفيّ لا إخفاء الظاهر
، فقال : إنّ المقتدر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً وتقبيح ما
يكون حسناً ، فبذلك يشبه السحر.
وأمّا الجهة الثالثة : فلجماعة من فقهاء أصحابنا عبارات مختلفة في تعريفه بحيث
لا يكاد يمكن الجمع بينها فمنها : ما في المسالك من «أنّه كلام أو كتابة أو رقية
أو أقسام أو عزائم ونحوها يحدث بسببها ضرر على الغير. ومنه عقد الرجل عن زوجته
بحيث لا يقدر على وطئها وإلقاء البغضاء بينهما ، ومنه استخدام الملائكة والجنّ
واستنزال الشياطين في كشف الغائبات وعلاج المصاب واستحضارهم وتلبّسهم ببدن صبيّ أو
امرأة وكشف الغائب على لسانه ، فتعلّم ذلك وأشباهه وعمله وتعليمه كلّه حرام» .
ومنها : ما في
الدروس «وتحرم الكهانة والسحر بالكلام والكتابة والرقية والدخنة بعقاقير الكواكب ،
وتصفية النفس والتصوير والعقد والنفث والإقسام والعزائم بما لا يفهم معناه ويضرّ
بالغير فعله ، ومن السحر الاستخدام للملائكة والجنّ ، والاستنزال للشياطين في كشف
الغائب وعلاج المصاب ، ومنه الاستحضار بتلبّس الروح ببدن منفعل كالصبيّ والمرأة
وكشف الغائب عن لسانه ، ومنه النيرنجيّات وهي إظهار غرائب خواصّ الامتزاجات وأسرار
النيّرين ، ويلحق بذلك الطلسمات وهي تمزيج القوى العالية الفاعلة بالقوى السافلة
المنفعلة لتحدث عنها فعل غريب ، فعمل هذا كلّه والتكسّب به حرام» .
__________________
ومنها : ما عن
إيضاح فخر المحقّقين «أنّه استحداث الخوارق إمّا بمجرّد التأثيرات النفسانيّة وهو السحر
، أو بالاستعانة بالفلكيّات فقط وهو دعوات الكواكب ، أو بتمزيج القوى السماويّة
بالقوى الأرضيّة وهو الطلسمات ، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة وهو
العزائم ويدخل فيه النيرنجات ، والكلّ حرام في شريعة الإسلام ومستحلّه كافر. أمّا
ما كان على سبيل الاستعانة بخواصّ الأجسام السفليّة فهو علم الخواصّ ، أو
الاستعانة بالنِسب الرياضيّة فهو علم الحيل وجرّ الأثقال ، وهذان ليسا من السحر» انتهى. قيل :
وقد أدخلهما غيره في السحر ، وقضيّة كلامه بالقياس إلى الأنواع الأربعة الّتي
جعلها من السحر أنّ السحر اسم عامّ يطلق على الجميع ، وأنّ لكلّ واحد ممّا عدا
النوع الأوّل أيضاً اسماً خاصّاً به كدعوات الكواكب والطلسمات والعزائم الّتي يدخل
فيها النيرنجات.
ومنها : ما عن
القواعد والتحرير للعلّامة «أنّه كلام يتكلّم به أو يكتبه أو رُقْيَة أو
يعمل شيئاً يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة» قيل ونحوه ما في
المنتهى ولكن بزيادة «أو عقد».
ومن جهات
اختلاف هذه العبارات أنّ في عبارة المسالك اعتبار الضرر على الغير وهو المسحور
وغيره خالٍ عن هذا القيد فيكون إلّا أن يحمل التأثير في عبارة القواعد والتحرير على خصوص
الإضرار فيوافق المسالك من هذه الجهة.
وربّما يكون ما
في الدروس أخصّ من غيره حيث ذكر «ويحرم الكهانة والسحر بالكلام ...» الخ لظهوره في
بيان موضوع التحريم لا مفهوم اللفظ من حيث هو ، خصوصاً مع أنّ الأصل في القيود
الاحتراز ، وقد قيّد السحر المحرّم بكونه بالكلام إلى آخره فيدلّ على أنّ هنا
سحراً بغير الكلام إلّا أنّه ليس بمحرّم.
ويشكل الجميع
بعدم التعرّض فيها لبيان أصل مفهوم لفظ «السحر» بل هي بيانات لأنواعه وموارد إطلاق
لفظه ، نعم ما في عبارة الإيضاح من أنّه استحداث الخوارق يفيد المفهوم في الجملة ،
إلّا أنّه يرد عليه عدم الفرق حينئذٍ بين السحر والمعجزة وهو بديهيّ
__________________
البطلان وإلّا بطلت النبوّات فينتقض الطرد.
وعن التنقيح
للفاضل المقداد «أنّه عمل يستفاد منه ملكة نفسانيّة يقتدر بها على أفعال غريبة
وأسرار عجيبة» ويرد عليه حزازة أنّ العمل ممّا ينشأ من الملكة
النفسانيّة لا أنّه يستفاد منه الملكة إلّا أن يتكرّر مرّات عديدة ، فيخرج ما لا
يستفاد منه وجود الملكة ، ولعلّه لذا كلّه تصدّى في شرح القواعد بجعله عبارة عن
إيجاد شيء يترتّب عليه آثار غريبة ... إلى آخر ما ذكره ، وقد تقدّم نقله في الجهة الثانية.
وقد يفرّق بين
الطلسم والسحر والكيميا ، فيقال : الطلسم علم موضوعه تأثير الروح في الروح ،
والسحر علم موضوعه تأثير الروح في الجسد ، والكيميا علم موضوعه تأثير الجسد في
الجسد كما يصنع الصفر فضّة والرصاص ذهباً.
هذا أيضاً ليس
بسديد ، لأنّ السحر من قبيل العمل وإن كان منشؤه العلم بمعنى الملكة النفساني إلّا
أن يقال : هذا إطلاق آخر للفظ السحر وكأنّه مأخوذ من الساحر على معنى صاحب ملكة
هذا الفنّ.
وكيف كان فلنقتصر على ذكر الأنواع الّتي
ذكر الإمام الرازي في كلامه الّذي نقله المجلسي رحمهالله في البحار بطوله عن تفسيره ، فإنّها ثمانية أنواع نقلها
هنا ملخّصة.
النوع الأوّل : سحر الكذّابين الّذين كانوا في قديم الدهر ، وهم قوم يقولون بإلهيّة
الأفلاك والكواكب ويعبدونها ، ويزعمون أنّها المدبّرة للعالم ومنها تصدر الخيرات
والشرور والسعادة والنحوسة ، وهم الّذين بعث الله تعالى إبراهيم عليهالسلام لإبطال مقالتهم والردّ لمذاهبهم ، فإنّها ثلاثة على حسب
فرقهم المختلفة :
منها : مذهب
فريق يقولون بكون الأفلاك والكواكب واجبة الوجود لذواتها ، فهي المدبّرة لعالم
الكون والفساد.
ومنها : مذهب
فريق يقولون بعدم كونها واجبة الوجود بل هي ممكنة الوجود بالذات لافتقارها إلى
العلّة والمؤثّر ، إلّا أنّها قديمة لقدم العلّة المؤثّرة فيها.
ومنها : مذهب
فريق قالوا بكونها ممكنة حادثة مسبوقة بالعدم ، إلّا أنّه أعطاها
__________________
خالقها قوّة عالية نافذة في هذا العالم ، وفوّض إليها تدبير هذا العالم فهي
الخالقة لها المدبّرة فيها بتفويض منه تعالى ، فالساحر عند هؤلاء الأقوام من يعرف
تلك القوى العالية الفعّالة بسائطها ومركّباتها ، ويعرف ما يليق بالعالم السفلى ،
ويعرف معدّاتها ليعدّها وعوائقها ليرفعها بحسب الطاقة البشريّة ، فيكون متمكّناً
من استحداث الخوارق للعادة.
النوع الثاني : سحر أصحاب الأوهام
والنفوس القويّة وهي النفوس
الناطقة ، فإذا صارت صافية عن الكدورات البدنيّة صارت قابلة للأنوار الفائضة من
الأرواح السماويّة والنفوس الفلكيّة ، فتتقوّى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح
فتقوّي على امور غريبة خارقة للعادة.
النوع الثالث : الاستعانة بالأرواح
الأرضيّة الّتي هي الأجنّة ، والقول بالجنّ وإن كان أنكره بعض متأخّري الفلاسفة والمعتزلة إلّا أنّ
أكابرهم أثبتوه وسمّوها بالأرواح الأرضيّة ، قالوا : وهي في أنفسها مختلفة منها
خيّرة ومنها شريرة ، فالخيّرة منهم مؤمنو الجنّ ، والشريرة هم كفّار الجنّ
وشياطينهم ، ويجوز الاتّصال بهذه الأرواح الأرضيّة بواسطة أعمال سهلة قليلة من
قراءة الرقي والدخون والبخورات والتجريد ، فيستعان بها في علاج المصاب وكشف
الغائبات والأخبار بالمغيبات وهو السحر.
النوع الرابع : التخيّلات والأخذ
بالعيون ، والأصل في ذلك
أنّ القوّة الباصرة كثيراً ما تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه ، وبذلك كثرت
أغلاطها ، ومن ذلك السفينة إذا نظر إلى الشطّ رأى السفينة واقفة والشطّ متحرّكاً ،
وهذا يدلّ على أنّ الساكن يرى متحرّكاً والمتحرّك يرى ساكناً. والقطرة نازلة ترى
خطّاً مستقيماً ، والزبالة الّتي تدار بسرعة ترى دائرة إلى غير ذلك.
وأنّها إنّما
تقف على المحسوس وقوفاً تامّاً إذا أدركته في زمان معتدّ به ، فأمّا إذا أدركته في
زمان صغير جدّاً ثمّ أدركت بعده محسوساً آخر كذلك وهكذا ، فإنّه يختلط البعض
بالبعض ولا يتميّز بعض المحسوسات عن بعض ، وأنّ النفس إذا كانت بشيء فربّما حضر
عند الحسّ شيء آخر فلا يشعر به الحسّ البتّة.
ومن هذه
المقدّمات يعلم السرّ في أنّ المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به
ويأخذون عيونهم إليه متعجّبين منه متحيّرين فيه متفكّرين في
مأخذه وسببه ، فبينما هم كذلك عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة يصرفهم عن
الأوّل إليه فيشغلون به على الوجه المذكور فيبقى العمل خفيّاً سببه ، وهكذا يظهر
ثالثاً على الوجه المذكور وهكذا حتّى إذا فرغ عن جميع أعماله يرى الإنسان قد
اجتمعت على نظره أشياء غربية مخفيّة الأسباب فيتخيّلها أنّ لها حقيقة ، وهذا هو
المراد من قولهم : إنّ المشعبذ يأخذ بالعيون ، لأنّه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير
الجهة الّتي تخال.
النوع الخامس : الأعمال العجيبة الّتي
تظهر من تركيب الآلات المركّبة على النسب الهندسيّة تارةً وعلى ضرورة الخلاء اخرى ، مثل رقّاص يرقص وفارسان
يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر ، وكفارس على فرس في يده بوق كلّما مضت ساعة من النهار
ضرب البوق من غير أن يمسّه أحد ، ومنها الصور الّتي يصوّرها الروم وأهل الهند حتّى
لا يفرّق الناظر بينها وبين الإنسان حتّى يصوّرونها ضاحكة وباكية وحتّى يفرّق فيها
بين ضحك السرور وضحك الخجل وضحك الشامت ، وهذه الوجوه من لطيف امور التخائيل ،
وكان سحر سحرة فرعون من هذه الضرب ، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ، وربّما
قيل بأنّه يندرج فيه علم جرّ الأثقال وهو أن يجرّ ثقيلاً عظيماً بآلة خفيفة.
النوع السادس : الاستعانة بخواصّ
الأدوية ، مثل أن يجعل في
طعامه بعض الأدوية المبلّدة أو المزيلة للعقل أو الدخن المسكرة تجعل نحو دماغه
فإذا تناول يبلّد أو يزول عقله أو قلّت فطنته ، وأثر المغناطيس شاهد بذلك.
النوع السابع : تعليق القلب وهو أن يدّعي الساحر قد علم الكيميا ، أو عرف الاسم
الأعظم ، أو أنّ الجنّ يطيعونه وينقادون له في أكثر الامور ، وبذلك يجذب قلب
السامع إلى نفسه ، وذلك لأنّ السامع قد يكون ضعيف العقل قليل التميّز فيعتقد أنّ
دعواه حقّ ، وتعلّق قلبه بذلك في نفسه نوع من الرغب والخوف وحصل ضعف في قواه
الحسّاسة ، وكلّما قويت مخافته ازدادت حواسّه ضعفاً ، وعند ذلك يتمكّن الساحر من
أن يعمل فيه ما شاء ، ومن جرّب الامور وعرف أحوال أهل العالم يعلم أنّ لتعليق
القلوب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار.
النوع الثامن : السعي بالنميمة والتضريب
من وجوه خفيّة لطيفة ، وهذا شائع في الناس .
__________________
وقد يصرف به
قلب الحبيب عن محبوبه فيزول محبّته ويعتريه العداوة والبغضاء حتّى يبلغ به إلى
تعريض نفسه لقتله وإهلاكه ، ومنه السعاية عن الضعفاء عند الأقوياء وعن الرعيّة عند
السلاطين والامراء. وفي هذا يلخّص الأنواع الّتي ذكرها الرازي. وفي رواية الاحتجاج
الآتية دلالة على كون النميمة من السحر بل من أكبر السحر.
ثمّ يبقى الكلام ممّا يتعلّق بموضوع
السحر جهتان :
إحداهما : أنّ السحر هل هو أمر ممكن على
معنى إمكان تأثيره في الآثار المذكورة له بأنواعه أو لا؟ قيل بالإمكان ، ولعلّه مذهب الأكثر إذ القول بالامتناع
لم ينقل إلّا عن الشيخ في الخلاف والظاهر أنّ النزاع هنا في القول بالإمكان على وجه
الإيجاب الجزئي والقول بالامتناع على وجه السلب الكلّي ، إذ بعض أنواعه المتقدّمة
عن الرازي ممّا لا يمكن لأخذ الاسترابة في امتناعه لابتنائه على القول بإلهيّة
الأفلاك والكواكب ، أو أدائه إلى الشرك بالله بالنسبة إلى النفس الناطقة لتضمّنه
القول بالفعّاليّة والخلّاقيّة لها ، ولو بواسطة الأنوار الفائضة إليها من الأرواح
السماويّة والنفوس الفلكيّة كما في النوع الأوّل والنوع الثاني ، وأيّاً ما كان
فهو باطل محال.
وكيف كان
فاستدلّ القائل بالإمكان بالأصل المعروف المعبّر عنه بأصالة الإمكان فيما دار بينه
وبين الامتناع ، واستشهد لذلك بما عن الشيخ الرئيس الشيخ أبي علي من قوله : «كلّما
قرع سمعك شيء ولم يقم على امتناعه برهان فذره في بقعة الإمكان» وغاية ما يمكن أن
يقال في توجيهه : إنّ المراد بالإمكان هنا الإمكان العامّ المقيّد بلا ضرورة جانب
العدم ، والامتناع هو ضرورة العدم ، ودوران الأمر بينهما معناه أنّه لا يدري أنّه
من المعدوم الّذي لم يصر العدم ضروريّاً له ، أو من المعدوم الّذي صار العدم
ضروريّاً له ، وضرورة العدم قيد زائد ، والمدّعي للإمكان ينفي هذه الزيادة فهو في
فسحة عن مطالبة الدليل ، والقائل بالامتناع يدّعي الزيادة فعليه بإقامة الدليل ،
فإذا لم يكن دليل على الزيادة يحكم بعدمها ومعناه الحكم بالإمكان.
وفيه نظر ، إذ
غاية ما يلزم من عدم الدليل على القيد الزائد هو الوقف لا الحكم
__________________
بالإمكان ، فإنّ عدم الدليل على الزيادة لا ينفي احتمالها.
وتوهّم :
الاستناد للحكم بعدمها إلى القاعدة الاصوليّة المعبّر عنها بأنّ عدم الدليل على
الوجود دليل على العدم ، يدفعه : أنّ هذه القاعدة على تقدير تماميّتها مختصّة
بالشرعيّات ولا تجري في العقليّات.
كما أنّ توهّم
الاستناد إلى الأصل بمعنى استصحاب عدم الزيادة ، يدفعه : أنّ الاستصحاب يقتضي حالة
سابقة تكون هي المستصحب ، وإنّما يتمّ فيما كان في أصله ممكناً وشكّ في طروء
الضرورة لعدمه فيقال : بأنّ الأصل عدم طروء الزيادة ، ومحلّ البحث ليس من هذا
القبيل ، لأنّ الشكّ في ضرورة عدم الشيء المعدوم الّذي لو كانت صفته هذه كانت
ثابتة له من الأزل.
وتوهّم :
الاستناد إلى الغلبة بدعوى أنّ الممكنات أغلب من الممتنعات أيضاً ، مدفوع بأنّ هذه
الغلبة ممّا لا طريق إلى إحرازه ، لأنّه إنّما يتمّ فيما لو تصفّح سلسلة المعدومات
ووجد أغلبها بصفة عدم ضرورة عدمها وهذا غير ممكن جزماً.
فالتحقيق أنّ
أصالة الإمكان ممّا لا مدرك له ، نعم يمكن في خصوص محلّ البحث إثبات الإمكان
بملاحظة الوقوع الّذي هو أخصّ ، وستعرف في الجهة الثانية أنّ له أصل وحقيقة في
الجملة ، والظاهر أنّ الوقوع في الجملة دليل على الإمكان في الجملة.
وعن الشيخ الاحتجاج على
الامتناع ، بأنّه لولاه لزم إبطال معاجز الأنبياء فيبطل به النبوّات ، إذ كلّ نبيّ
أتى بمعجزة يحتمل كونه ساحراً متنبّئاً أتى بسحره لإثبات دعواه الكاذبة ، ولو
امتنع السحر لم يحتمل ذلك.
واجيب : بمنع
الملازمة لجواز الحيلولة بأن يحول سبحانه بين الساحر المتنبّئ ، وبين سحره ويمنعه
من التأثير ، كما حال في قصّة إبراهيم عليهالسلام بينه وبين النار ومنع من تأثيرها حتّى صارت بالقياس
إليه برداً وسلاماً.
وفيه : أنّه لا
يجدي نفعاً إلّا إذا كانت قضيّة قولنا «كلّ ساحر متنبّئ فالله عزوجل يحول بينه وبين سحره» معلومة لكلّ واحد من آحاد
المكلّفين مركوزة في أذهانهم
__________________
ليظهر لهم صدق الآتي بخارق العادة في دعواه النبوّة والمفروض خلافه.
والتحقيق في
جوابه منع الملازمة :
أمّا أوّلاً :
فلأنّ الوقوع الّذي ستعرف ثبوته في الجملة يدلّ على إمكانه ، فيكشف عن كون دعوى
الملازمة واردة على سبيل المغالطة وإن لم يعرف أنّ جهة المغالطة أيّ شيء.
وأمّا ثانياً :
فلأنّ إبطال المعاجز والإفحام للأنبياء يترتّب على وقوع السحر في الخارج لا على
إمكانه ، والإمكان أعمّ من الوقوع ، فعلى القول بأنّه ممكن ولكنّه ليس بواقع لا
يلزم الإبطال والإفحام ، لأنّ كلّ ما وقع من المتنبّئ من خوارق العادات لا يحتمل
كونه سحراً على هذا القول.
ولو قيل : لا
كلام على هذا القول في أنّ السحر يقع على وجه التخييل وتلبيس الأمر على الوهم ،
فمن أين يميّز الناظر فيما أتى به المتنبّئ من خارق العادة ويعرف أنّه أمر واقعي
وليس ممّا لا واقعيّة له بل هو مجرّد تخييل وتلبيس ، فإنّ كلّ خارق للعادة أتى به
المتنبّئ يحتمل كونه من هذا القبيل.
قلنا : طريق
معرفة ذلك هو الرجوع إلى العقل وإعماله وإزالة غطاء الشبهات عنه فإنّه الحجّة البالغة
الّتي أعطاها الله سبحانه المكلّف ، وهو لمن يراجعه ويستعمله كما هو حقّه يميّز
بين الحقّ والباطل ويرشد صاحبه إلى الحقّ ، كما يدلّ عليه رواية ابن السكّيت
المرويّة عن العيون والعلل قال لأبي الحسن الرضا عليهالسلام : لما ذا بعث الله موسى بن عمران عليهالسلام بيد البيضاء والعصا وآلة السحر ، وبعث عيسى عليهالسلام بالطبّ ، وبعث محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم بالكلام والخطب؟ فقال له أبو الحسن عليهالسلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى عليهالسلام كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله عزوجل بما لم يمكن في وسع القوم مثله وبما أبطل به سحرهم
وأثبت الحجّة عليهم ، وأنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى عليهالسلام في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتياج الناس إلى الطبّ
فأتاهم من عند الله عزوجل بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيا لهم الموتى وإبراء
الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجّة عليهم ، وأنّ الله تبارك وتعالى بعث
محمّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنّه
قال : والشعر ـ فأتاهم من كتاب الله عزوجل ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت الحجّة عليهم.
فقال ابن السكّيت :
تالله ما رأيت مثل اليوم قطّ ، فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال عليهالسلام : العقل تعرف به الصادق على الله فتصدقه والكاذب على
الله فتكذبه ، فقال ابن السكّيت : هذا والله الجواب» .
وأمّا ثالثاً :
فلأنّ الفرق بين السحر والمعجزة واضح بما اخذ فيها ممّا يميّزها عن السحر ، فإنّها
عبارة عن كلّ فعل عجز البشر عن الإتيان به وكان خارقاً للعادة ومطابقاً ـ مثل شقّ
القمر وقلب العصا حيّة وإحياء الموتى وردّ الشمس واستنطاق الحصى والبهائم ، وجعل
الماء المسائل ساكناً ، وجعل الحجر أو الشجر الساكن متحرّكاً ماشياً وما أشبه ـ والقيد
الأوّل لإخراج السحر والشعبذة لأنّهما من مقدورات البشر ، ويقبل كلّ منهما
المعارضة بالمثل ولذا اعتبر فيها عدم المعارضة من لم يعتبر عجز البشر عن الإتيان
بمثله.
وفي الرواية
المتقدّمة أيضاً إشارة إلى اعتبار العجز عن الإتيان به وبمثله وعدم قبول المعارضة
، ومن ثمّ آمن سحرة فرعون وهم اثنا عشر الف رجل بموسى عليهالسلام لأنّهم عرفوا بسبب عجزهم عن المعارضة والإتيان بمثل ما
أتى به موسى عليهالسلام من قلب العصا حيّة أنّه من فعل الله عزوجل فعرفوا بذلك صدقه في دعوى النبوّة. وكذا الحال في
القرآن المجيد فإنّ فصحاء عصره صلىاللهعليهوآلهوسلم من الخطب والشعراء وغيرهم بعد ما عجزوا عن الإتيان بمثل
سورة منه بل عن مثل آية منه عرفوا أنّه كلام الله سبحانه ومن عنده ، لخروجه من
الطاقة البشريّة. ولعلّ من حكمة الخفيّة في بعث كلّ نبيّ من جنس البشر لا غير هو
أن يظهر لقومه أنّ ما أتى به من خوارق العادات ليس من مقدورات البشر ليصدّقوه في
دعوى النبوّة.
ثانيتهما : أنّ السحر هل هو واقع؟ على معنى أنّ ما ادّعي كونه سحراً هل له أصل وحقيقة في
الواقع وتأثير في نفس الأمر أو لا بل هو مجرّد تخييل وتلبيس للأمر على الوهم؟ فقد
اختلف فيه أصحابنا ، فقيل بأنّ له أصلاً حقيقة في الواقع وتأثيراً في نفس الأمر
مطلقاً. وقيل بأنّ لا حقيقة له أصلاً ، ونسبه الشهيدان في الدروس والمسالك إلى الأكثر ،
وفي الروضة إلى كثير منهم ، وربّما نقل عن بعضهم دعوى الإجماع
عليه.
__________________
وقيل بأنّه لا تأثير له إلّا في التفريق بين المرء وزوجه وإلقاء البغضاء
بينهما ، وهذا نقله في المجمع عن بعضهم. وقيل بأنّه لا يؤثّر إلّا في استخدام الجانّ
واستحضارهم. وقد يستظهر من فخر المحقّقين الفرق بين دعوى الكواكب فلا أصل له وغيره
حيث قال : «اختلف علماؤنا فيما عدا دعوة الكواكب» وفيه نظر ،
وقضيّة كلامه عدم كون القول الأوّل على وجه الإطلاق المنحلّ إلى الإيجاب الكلّي.
والمختار
وفاقاً لبعض مشايخنا أنّ له حقيقة في الجملة على وجه الإيجاب الجزئي ،
ودليله شهادة الوجدان والمشاهدة والحسّ والعيان بتأثير جملة من أنواعه فيما قصد
منه من الآثار وتأثّر المسحور منه وظهور آثاره فيه ، كما في المصاب يستحضر
لاستعلاجه الجانّ ، وفي عقد اللسان وعقد الرجل على امرأته ، والتفريق فيما بين
المرء وزوجه ، أو التحبيب فيما بينهما ، وإلقاء العداوة والبغضاء بين المتحاببين
المتصافيين ، وصرف القلوب المؤتلفة بعضها عن بعض ، وجذب القلوب المتنافرة بعضها
إلى بعض ونحو ذلك. وإلى جميع ما ذكر أشار ثاني الشهيدين في المسالك بدعوى «وجدان
أثره في كثير من الناس على الحقيقة ... إلى أن قال : وإحضار الجانّ وشبه ذلك فإنّه
أمر معلوم لا يتوجّه دفعه».
وتوهّم : أنّ
هذا كلّه تأثير من الوهم فإنّه قد يكون مؤثّراً في النفوس كالمشي على جذع ملقى
طرفاه على رأسي جدارين عاليين وعلى جذع آخر ملقى على وجه الأرض ، فإنّ الوهم في
الأوّل يؤثّر اضطراب القلب ومخافة السقوط ، وربّما يسقط إلى الأرض بخلاف الثاني ،
وكذلك من كان في ليلة مظلمة عند ميّت مع علمه بأنّه جماد لا ينشأ منه شيء ، ومع
ذلك يطرؤه الخوف والخشية حتّى ربّما يأخذه الغشوة بل ربّما يبلغه خوفه بالهلاك ،
وليس ذلك كلّه إلّا من تأثيرات الوهم ، وهكذا يقال في الآثار الغريبة الظاهرة من
فنون السحر المعهودة عند أهله.
يدفعه : ما
أشار إليه في المسالك من «أنّ هذا إنّما يتمّ لو سبق للقابل علم بوقوعه ، ونحن نجد
أثره فيمن لا يشعر به أصلاً حتّى يضرّ به» هذا مع أنّ الأمر في تأثير
__________________
النميمة الّتي هي من أكبر السحر وترتّب آثار فنون الفساد واضح لا يمكن
إنكاره إلّا من مكابر متعسّف.
ويدلّ على ذلك
الرواية المرويّة عن الاحتجاج في حديث الزنديق الّذي سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن مسائل كثيرة ، منها ما ذكره بقوله : «أخبرني عن
السحر ما أصله؟ وكيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه وما يفعل؟ قال أبو عبد
الله عليهالسلام : إنّ السحر على وجوه شتّى :
منها بمنزلة
الطبّ كما أنّ الأطبّاء وضعوا لكلّ داء دواءً ، فكذلك علم السحر احتالوا لكلّ صحّة
آفة ولكلّ عافية عاهة ولكلّ معنى حيلة ، ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة ،
ونوع منه ما يأخذه أولياء الشياطين منهم ، قال : فمن أين علم الشياطين السحر؟ قال
: من حيث علم الأطبّاء الطبّ بعضه بتجربة وبعضه بعلاج ، قال : فما تقول في الملكين
هاروت وماروت وما يقول الناس إنّهما يعلّمان السحر؟ قال : إنّما هما موضع ابتلاء
وموقف فتنة ، تسبيحهما اليوم لو فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا ، ولو تعالج بكذا
وكذا لصار كذا ، فيتعلّمون منهما ما يخرج عنهما فيقولان لهم إنّما نحن فتنة فلا
تأخذوا عنّا ما يضرّكم ولا ينفعكم قال : أفيقدر الساحر على أن يجعل الإنسان بسحره
في صورة كلب أو حمار أو غير ذلك؟ قال : هو أعجز من ذلك ، وأضعف من أن يغيّر خلق
الله ، إنّ من أبطل ما ركّبه الله تعالى وصوّر غيره فهو شريك الله في خلقه ، تعالى
الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهَرَم
والآفة والأمراض ، ولنفى البياض عن رأسه والفقر عن ساحته ، وأنّ من أكبر السحر
النميمة يفرّق به بين المتحابّين ، ويجلب العداوة على المتصافّين ، ويسفك به
الدماء ، ويهدم بها الدور ، ويكشف بها الستور ، والنمّام شرّ من وطأ الأرض بقدمه ،
فأقرب أقاويل السحر من الصواب أنّه بمنزلة الطبّ ، أنّ الساحر عالج الرجل فامتنع
من مجامعة النساء فجاءه الطبيب فعالجه بغير ذلك فأبرأه ...» الحديث.
المقام الثاني : في حكم السحر الّذي يتكلّم فيه تارةً من حيث علمه ، واخرى من
__________________
حيث تعلّمه وتعليمه ، وثالثة من حيث التكسّب به ، ورابعة من حيث كفر
مستحلّه ، وخامسة من حيث وجوب قتل عامله ، إلّا أنّ هذه الجهة الخامسة ليس هنا
موضع ذكرها ، بل محلّه باب الحدود لأنّ الأصحاب ذكروا قتل الساحر في ذلك الباب.
فالعمدة في المقام هو التكلّم في الجهات
الأربع :
الجهة الاولى : في حرمة عمل السحر ، والظاهر أنّه لا يتفاوت فيه الحال بين ما لو كان السحر
أمراً واقعيّاً أو أمراً تخيّليّاً أو بعضه واقعيّاً وبعضه تخيّليّاً ، لأنّ
الحرمة في الشريعة ثبت لعنوان السحر كائناً ما كان ، فتثبت لكلّ ما يصدق عليه
عنوان السحر على وجه الحقيقة إلّا ما خرج بالدليل.
وأمّا ما اطلق
عليه السحر مجازاً للمشابهة والمشاركة في الصورة كالاستعانة بخواصّ الأجسام
السفليّة أو بالنسب الرياضيّة الّتي تسمّى علم الحيل وجرّ الأثقال على مذهب فخر
المحقّقين المصرّح فيما تقدّم بعدم كونهما من السحر ، وقضيّة كلامه أن يكون إطلاق
السحر عليه حيثما وقع مجازيّاً فلا بدّ في إلحاقه بالسحر في الحرمة من دليل آخر
يدلّ على اللحوق ، ولا يكفي فيه أدلّة حرمة السحر كما هو واضح ، وحيث لم يساعد
عليه دليل يحكم فيه بعدم الحرمة عملاً بالأصل ، كما أنّه كذلك كلّما اشتبه كونه
سحراً من الأعمال الغريبة والأفعال العجيبة ، لاختلاف العلماء فيه كالاختلاف الّذي
يستظهر فيما بين الشهيد الثاني في المسالك حيث اعتبر فيه كونه بحيث يحدث بسببه ضرر
على الغير وبين غيره ممّن لم يعتبر ذلك ، فيشتبه ما لم يحدث بسببه ضرر على الغير
بين كونه سحراً وعدمه.
وكذلك على ما
تقدّم عن العلّامة حيث اعتبر فيه كونه مؤثّراً في بدن المسحور أو قلبه أو
عقله ، وغيره لم يعتبر ذلك فيشتبه ما ليس بمؤثّر ، ففي نحو ذلك يجب لرفع الاشتباه
واستعلام حقيقة الحال الرجوع إلى اللغة ثمّ إلى العرف ثمّ إلى الروايات المأثورة
عن أهل بيت العصمة ، فإن لم يتبيّن شيء يحكم فيه بعدم الحرمة أيضاً للأصل ، وكيف
كان فالمعروف من مذهب الأصحاب حرمة السحر.
__________________
وعن المختلف بلا خلاف وفي
الرياض عن جماعة الإجماع عليه ، ويظهر من فخر المحقّقين في
الأنواع الأربع المتقدّمة منه حيث قال : «والكلّ حرام في شريعة الإسلام» كونه إجماع
المسلمين ، وربّما نسب إليه دعوى كونه من ضروريّات الدين ، وكأنّه استظهار من قوله
: «ومستحلّه كافر» بتقريب أنّ المستحلّ منكر لحرمته لا محالة ولا يكون كافراً إلّا
باعتبار كون إنكاره إنكاراً لضروريّ الدين ، وقد يستظهر ذلك أيضاً من الشهيدين في
الدروس والمسالك حيث قالا : «ويقتل مستحلّه» نظراً إلى أنّ قتل المستحلّ
لا يكون إلّا لارتداده ولا معنى للارتداد إلّا باعتبار كونه إنكاراً لضروريّ
الدين.
ويشكل دعوى
الضرورة بمعناها المعروف لعدم وضوح حرمته عند كافّة آحاد المسلمين حتّى الدهاقين
والرساتيق ، اللهمّ إلّا أن يراد بالضرورة هنا العلم الضروريّ الحاصل من تظافر
حرمته وتسامعها بين العلماء ومخالطيهم وغيرهم ممّن يحذو حذوهم من العارفين
المطّلعين على اصول الدين وفروعه المتلقّاة من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنّه يعلم بذلك ضرورة كون حرمته ممّا أتى به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وعلى أيّ حال
كان فالأصل في حرمته في الجملة أوّلاً : الضرورة بالمعنى المذكور المعتضدة بدعواها
من الفخر والشهيدين ونفي الخلاف والإجماعات المنقولة.
وثانياً :
الروايات ، ففي رواية عن السكوني عن جعفر بن محمّد عليهماالسلام عن أبيه قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ساحر المسلمين يقتل ، وساحر الكفّار لا يقتل ، قيل :
يا رسول الله لِمَ لا يقتل ساحر الكفّار؟ قال : لأنّ الشرك أعظم من السحر ، لأنّ
السحر والشرك مقرونان» وفي رواية اخرى عن السكوني أيضاً عن أبي عبد الله عليهالسلام مثله لكن مع اختلاف يسير لا يوجب اختلافاً في المعنى ،
ومن هذا الاختلاف أنّه ذكر «ولأنّ السحر والشرك مقرونان» بواو العطف.
__________________
وفي رواية زيد
الشحّام عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه» وفي اخرى «على
امّ رأسه» وفي رواية مرسلة على ما في الرياض والمستند «حلّ دمه».
وفي رواية
أيضاً عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث عن آبائه عن عليّ عليهمالسلام «نحن أهل بيت عصمنا الله من أن نكون فتّانين أو كذّابين أو ساحرين أو
زنّائين ، فمن كان فيه شيء من هذه الخصال فليس منّا ولا نحن منه» .
وفي رواية
نبويّة «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ثلاثة لا يدخلون الجنّة ، مدمن خمر ، ومدمن سحر ،
وقاطع رحم» .
وفي رواية
مرسلة قال : «دخل عيسى بن سقفي على أبي عبد الله عليهالسلام وكان ساحراً يأتيه الناس ويأخذ على ذلك الأجر ، فقال له
: جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السحر وكنت آخذ عليه الأجر وكان معاشي ، وقد حججت
منه ومنّ الله عليّ بلقائك ، وقد تبت إلى الله عزوجل ، فهل لي في شيء من ذلك مخرج؟ فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : حلّ ولا تعقد» وروي ذلك بطرق متعدّدة وفيه موضعان من الدلالة : أحدهما
باعتبار التقرير ، والآخر باعتبار النهي.
ويدلّ عليه
أيضاً الروايات الدالّة على تحريم تعلّمه وتعليمه بالفحوى أو بالاستلزام العرفي ،
بدعوى أنّ المنساق منها عرفاً كون تحريم التعلّم غيريّاً لحقه لأجل كون عمله
محرّماً.
وفي رواية
مرويّة عن الفقيه عن السكوني عن جعفر عليهالسلام عن أبيه عن آبائه عليهمالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لامرأة سألته أنّ لي زوجاً وبه غلظة عليّ وأنّي نّي
صنعت شيئاً لُاعطفه عليّ ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : افّ لك كدّرت البحار ، وكدّرت الطين ، ولعنتك
__________________
الملائكة الأخيار وملائكة السماء والأرض ، قال : فصامت المرأة نهارها وقامت
ليلها وحلقت رأسها ولبست المسوخ فبلغ ذلك النبيّ ، فقال : إنّ ذلك لا يقبل منها» بناءً على أنّ
المراد من الشيء الّذي صنعتها شيء من السحر كما فهمه الصدوق ، وهذه الروايات وإن
كانت بحسب أسانيدها ضعافاً غير أنّ كثرتها وانجبارها بالعمل واعتضادها بالضرورة
والإجماعات المنقولة يغني عن التأمّل في قبولها.
وحيث إنّ
الحرمة فيها معلّقة على ماهيّة السحر السارية في جميع أنواعه وأشخاصه ، وهل استثني
منه شيء أم لا؟ ظاهر من أطلق تحريم السحر كالإيضاح وغيره وقيل الأكثر
عدم الاستثناء ، وقيل كما عليه جماعة بالاستثناء واختلف في المستثنى ، فممّا قيل
باستثنائه حلّ عقد السحر أي رفع ضرر السحر بالسحر ، واختاره غير واحد من مشايخنا .
ومنعه جماعة
كالعلّامة في جملة من كتبه والشهيد في الدروس والفاضل الميسي والشهيد الثاني . وينبغي تخصيص مورد الاستثناء بصورة انحصار طريق الدفع
في السحر ، وعليه ينزل إطلاق من أطلق اقتصاراً في الحكم المخالف للعمومات على موضع
اليقين.
وكيف كان فقد
يستدلّ عليه بقاعدة أنّ الضرورات تبيح المحظورات ، ويشكل بأنّ المسلّم منها ما لو
كان ضرر السحر بحيث خيف بسببه تلف النفس أو زوال العقل ، لأنّ مصلحة حفظ النفس عن
التلف والعقل عن الزوال أعظم من مفسدة السحر ، وأمّا مطلق الضرر وإن لم يبلغ حدّ
تلف النفس ولا زوال العقل فلا يسلّم كون التخلّص عنه من الضرورة المبيحة للمحظور ،
لعدم دليل معتبر على كون مصلحة دفع مطلق الضرر أعظم من مفسدة السحر ، والعبارة
المذكورة لبيان القاعدة ليست بلفظ الحديث حتّى يؤخذ بعمومها أو إطلاقها.
واستدلّ عليه
أيضاً بما تقدّم في حديث عيسى بن سقفي من قوله عليهالسلام : «حلّ
__________________
ولا تعقد» فإنّ الأمر هنا يفيد الإذن والرخصة في حلّ عقد السحر. وفي دلالته
عليه بقول مطلق إشكال بل منع ، لا لما عن بعضهم من حمله على الحلّ بغير السحر
كالاستعانة بالآيات القرآنيّة أو الأدعية والتعويذات المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهمالسلام كما في حلّ عقد الرجل عن حليلته كما حكاه في الوسائل واستحسنه ،
فإنّه بعيد في الغاية عن لفظ الرواية ، خصوصاً مع مقابلته للعقد بالسحر فيكون
ظاهراً في الحلّ بالسحر ، بل لقوّة احتمال كون المراد به حلّ الساحر ما عقده بسحره
ورفع آثار سحره عن مسحوريه ، بقرينة قول السائل : «هل لي في شيء من ذلك مخرج؟»
بعد قوله : «وقد تبت إلى الله» فإنّه طلب للمخرج عن إثم أعماله السالفة وعقوبة
أفعاله القبيحة من فنون السحر بعد التوبة ، فكأنّه سأله عليهالسلام عن قبول توبته فقوله عليهالسلام : «حلّ ولا تعقد» معناه أنّ توبتك بعد الندامة على ما
مضى أن تحلّ ما عقدته بسحرك ولا تعود إلى العقد بالسحر في المستقبل.
وهذا نظير ما
ورد فيمن عليه مظلمة الناس من أنّ توبته تفريغ ذمّته عن المظلمة وردّها إلى أهلها
، ونحوه في التوبة عن الغيبة على القول بوجوب استحلال المغتاب ، ويؤيّده فهم
الصدوق في الفقيه حيث قال : «وروي أنّ توبة الساحر أن يحلّ ولا يعقد» فإنّ ظاهره
أنّه فهمه من رواية ابن سقفي لا أنّه ورد رواية اخرى بتلك العبارة ، على أنّه لو
كانت رواية اخرى خرجت شاهدة بما احتملناه في رواية ابن سقفي.
واستدلّ أيضاً
بعدّة روايات وردت في قصّة هاروت وماروت ، وأنّهما ملكان وأنّهما كانا يعلّمان
السحر الدالّة بمجموعها على أنّهما كانا يعلمانه لأن يحلّ به لا لأن يعقد به.
فمنها : ما عن
عيون الأخبار بسند ضعّفه الغضائري وقوّاه غيره استناداً إلى اعتماد الصدوق على
محمّد بن القسم الّذي ضعّفه الغضائري ، وإكثاره من الرواية عنه وكونه من مشايخه
وذكره حيثما يذكره بقوله رضى الله عنه عن الإمام الهمام الحسن بن عليّ العسكري عليهماالسلام عن آبائه في حديث قال في قوله عزوجل : «وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ» قال : «كان
بعد نوح عليهالسلام قد كثرت السحرة المموّهون ، فبعث الله عزوجل
__________________
ملكين إلى نبيّ ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة ، وذكر ما يبطل به سحرهم
ويردّ به كيدهم ، فتلقّاه النبيّ عن الملكين وأدّاه إلى عباد الله بأمر الله عزوجل وأمرهم أن يقفوا به على السحر ، وأن يبطلوه ونهاهم أن
يسحروا به الناس» وهذا كما يقال إنّ السمّ ما هو؟ وأنّ ما يدفع به غائلة السمّ ما
هو؟ ثمّ يقال : للمتعلّم هذا السمّ من رأيته بسمّ فادفع غائلته بهذا ولا تقتل
بالسمّ ... إلى أن قال : «وما يعلّمان من أحد ذلك السحر وإبطاله حتّى يقولا
للمتعلّم إنّما نحن فتنة وامتحان للعباد ليطيعوا الله فيما يتعلّمون من هذا
ويبطلوا به كيد السحرة ولا تسحروهم ، فلا تكفروا باستعمال هذا السحر وطلب الإضرار
، ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنّك تحيي وتميت وتفعل ما لا يقدر عليه إلّا الله
فإنّ ذلك كفر ... إلى أن قال : فيتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم لأنّهم إذا تعلّموا
ذلك السحر ليسحروا به ويضرّوا به فقد تعلّموا ما يضرّ بدينهم ولا ينفعهم» .
ومنها : رواية
عليّ بن الجهم عن مولانا الرضا عليهالسلام في حديث قال : «وأمّا هاروت وماروت فكانا ملكين علّما
الناس السحر ليحترزوا به سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم ، وما علّما أحداً من ذلك
شيئاً حتّى قالا إنّما نحن فتنة فلا تكفر ، فكفر قوم باستعمالهم لمّا امروا
بالاحتراز منه ، وجعلوا يفرّقون بما تعملوه بين المرء وزوجه قال الله تعالى : «وَما هُمْ بِضارِّينَ
بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللهِ» .
ومنها : ما
تقدّم في رواية الاحتجاج في جواب مسائل الزنديق من قوله عليهالسلام حيث سأله عن الملكين هاروت وماروت وما يقول الناس
إنّهما يعلّمان السحر : «إنّما هما موضع ابتلاء وموقف فتنة ، تسبيحهما اليوم لو
فعل الإنسان كذا وكذا لكان كذا ، ولو تعالج بكذا وكذا لصار كذا ، فيتعلّمون منهما
يخرج عنهما فيقولان لهم إنّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما يضرّكم ولا ينفعكم ...»
الحديث.
ودلالات هذه
الروايات وإن كانت واضحة ولا يتوجّه أنّ أقصى ما يثبت بها كون
__________________
إبطال السحر في الشرائع السالفة ولا يلزم منه جوازه في هذا الشرع أيضاً
لكفاية الاستصحاب في إثبات بقائه إلى هذا الشرع لعدم ثبوت نسخه ، ولكن قصور
أسانيدها مانع من الوثوق بصدقها والتعويل عليها في قبول الحكم المخالف للعمومات ،
ولم يثبت لها جابر من عمل الأصحاب أو أكثرهم أو جمع من أساطينهم ، ولذا صار
الجماعة المتقدّم ذكرهم إلى المنع ، وبالجملة لم يعلم جابر لها أوجب الوثوق بصدقها
والاطمئنان بصدورها كما هو مناط حجّيّة أخبار الآحاد. فالأقوى هو المنع من حلّ
السحر بالسحر ما لم يبلغ ضرر السحر حدّ تلف النفس أو زوال العقل.
وممّا استثني
أيضاً التوقّي ودفع المتنبّئ بالسحر كما اختاره الشهيدان في المسالك والدروس والفاضل
الميسي والكاشاني على ما حكي ، خلافاً للعلّامة في أكثر كتبه فمنع عنهما ،
وعليه صاحب الوسائل في دفع المتنبّئ حتّى أنّه قال : في حاشية منه : «إنّ أصل
الحكم بالجواز من العامّة لأنّه موجود في كتبهم بناءً منهم على أصلهم الفاسد من
عدم وجوب وجود الإمام في كلّ زمان فأوجبوا دفع المتنبّئ على الرعيّة ، وأمّا على
اصول الشيعة فدفعه من وظائف الإمام لا الرعيّة ، مع أنّه ورد النصّ بأنّ من ادّعى
النبوّة بعد محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وجب قتله فالشارع تعالى أمر الرعيّة بقتل المتنبّئ ولم
يأمرهم بتعلّم السحر» وإلّا ورد فيه أيضاً نصّ.
ولقائل أن يقول
: إنّ كلام المجوّزين ليس على عنوان التوقّي ودفع المتنبّئ بل على عنوان تعلّم
السحر ، فإنّه عندهم مخرج عن عموم ما دلّ على حرمة التعلّم كما هو ظاهر عبائرهم
الّتي منها عبارة المسالك القائلة بأنّه لو تعلّمه ليتوقّى به أو يدفع المتنبّئ
بالسحر فالظاهر جوازه وتعلّمه لإحدى الغايتين لا يستلزم عمله :
أمّا الأوّل :
فلجواز أن يراد بالتوقّي تحفّظ نفسه عن الوقوع في عمل السحر في محلّ الاشتباه بين
السحر وغيره ، فإنّه إذا عرف السحر وميّز بينه وبين غيره لا يرتكب السحر فيما
ابتلي به ممّا احتمل كونه سحراً.
__________________
وأمّا الثاني :
فلأنّه يتعلّم السحر ويعرف أسبابه الخفيّة فيلزم المتنبّئ الآتي بالسحر لإثبات
دعواه الكاذبة على كذبه بواسطة إلزامه بأنّ ما أتى به من خارق العادة من السحر ،
ببيان أنّ سببه الخفيّ كذا وكذا.
فهؤلاء حينئذٍ
متّفقون مع المانعين في تحريم أصل عمل السحر حتّى في مقام التوقّي ودفع المتنبّئ.
ولكنّا نتكلّم
معهم في منع جواز تعلّمه أيضاً على كلّ تقدير أي سواء استلزم عمله في المقامين
أولا؟.
أمّا في مقام
التوقّي فنقول : إنّ التوقّي إمّا أن يراد به تحفّظ نفسه من الوقوع في عمل السحر
فيما اشتبه بينه وبين غيره ، أو تحفّظ نفسه من سحر غيره على وجه الرفع وهو أن يرفع
ضرر سحر الغير الواقع عليه بطريق السحر الّذي تعلّمه ، أو على وجه الدفع وهو أن
يستعمل في حقّ نفسه سحراً لا يؤثّر معه ما يتوقّع وقوعه عليه من سحر الغير في
المستقبل ، سواء قطع بوقوعه عليه فيما بعد أو ظنّه أو احتمله ، وأيّاً ما كان
فالأقوى فيه المنع وعدم الجواز.
أمّا الأوّل :
فلأنّ الاشتباه المفروض فيما اشتبه بين السحر وغيره إن لم تكن مجامعاً للعلم
الإجمالي في محلّ الابتلاء بأن يتّفق أنّه بعمل احتمل كونه سحراً على وجه الشبهة
الموضوعيّة التحريميّة ، وحينئذٍ فإذا تعلّم السحر وميّز بينه وبين غيره لا يقع في
نحو ذلك في عمل السحر المحرّم عليه في الواقع ، فنقول في منع جواز التعلّم في نحو
هذه الصورة أنّ الشارع قرّر له في نظائرها طريقين :
أحدهما : ما
يتوصّل به إلى الفعل والارتكاب وهو أصالة البراءة. والآخر : ما يتوصّل به إلى
الترك والاجتناب وهو طريقة الاحتياط ، بضابطة أنّ الاحتياط حسن على كلّ حال ، فإنّ
أقلّ مراتبه الرجحان ، فمن اشتبه عليه الأمر في الموضوع الخارجي له أن يختار الفعل
تعويلاً على الأصل وأن يختار الترك عملاً بالاحتياط فأيّ شيء يبقى له من الاصول
أو القواعد أو الأدلّة يسوّغ له تعلّم السحر الّذي دلّ الدليل على تحريمه لفائدة
التوقّي وإن كان مجامعاً للعلم الإجمالي في محلّ الابتلاء بأن يكون هناك أعمال
متعدّدة يعلم أنّ بعضها ما هو سحر في الواقع وبعضها ما ليس بسحر في الواقع ،
واشتبها
عليه فيتعلّم السحر ليميّزه عن غيره فلا يقع في السحر المحرّم الواقعي.
فنقول في منع
التعلّم حينئذٍ : إنّ العلم الإجمالي المفروض إن كان في غير محصور بحيث كان المورد
من مسألة الشبهة الغير المحصورة قصد له الشارع طريقاً في نظائره وهو جواز الارتكاب
تعويلاً على الأصل ، مع جواز الاجتناب أيضاً. عملاً بطريقة الاحتياط فلا مسوّغ
لتعلّم السحر الّذي دلّ الدليل على تحريمه لفائدة التوقّي أيضاً ، وإن كان في
محصور بحيث اندرج المورد في الشبهة المحصورة فيتعلّم السحر حينئذٍ لئلّا يقع في
المحرّم الواقعي المعلوم بالإجمال ، فنقول في منع جوازه : إنّ الواجب عليه إنّما
هو الاجتناب عن الجميع لئلّا يقع في المحرّم الواقعي على ما هو قاعدة الشبهة
المحصورة المقرّرة في الاصول ، وهذا هو الطريق الّذي قرّر له الشارع حينئذٍ فلا
مسوّغ لتعلّم السحر أيضاً الّذي دلّ الدليل على تحريمه.
وتوهّم : أنّ
المسوّغ هو أنّ المكلّف المبتلى بشبهة محصورة إذا كان له طريق إلى رفع الاشتباه
ومعرفة الحرام الواقعي من الحلال جاز له سلوك هذا الطريق للتمييز حتّى يرتكب
الحلال ويجتنب عن الحرام ، يدفعه : أنّ هذا إنّما يسلّم في الطريق المشروع له بحسب
الشرع والمقام ليس منه.
وأمّا الثاني :
فلأنّ التوقّي عن سحر الغير على وجه الرفع راجع إلى مسألة حلّ عقد السحر بالسحر ،
وقد تقدّم تفصيل القول فيه وقوّينا فيه المنع ما لم يبلغ ضرر السحر حدّ التلف ولا
زوال العقل.
وأما الثالث :
فلأنّه بعد ما ثبت عدم جواز التوقّي بمعنى الرفع بقول مطلق ، فالتوقّي بمعنى الدفع
أولى بعدم الجواز لأنّ الدفع أهون من الرفع ، ومرجع المنعين إلى منع وجود دليل
يسوّغ السحر في مقام التوقّي بكلّ من معنييه الرفع والدفع والتوقّي بنفسه لا يصلح
دليلاً عليه.
لا يقال : يكفي
في دليل ذلك قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل أو المظنون أو المقطوع ، فإنّ هذه
القاعدة كما يستباح بها إفطار صوم نهار رمضان لمن يضرّه الصوم بحدوث ضرر منه أو
اشتداده أو عسر علاجه أو بطؤه فكذلك يستباح بها السحر للتوقّي بكلّ من معنييه.
لأنّا نقول :
إنّ هذا اشتباه ، وإعمال القاعدة المذكورة في مسألة الإفطار خلط ،
وتوضيحه : أنّ وجوب دفع الضرر في محلّ الاحتمال أو الظنّ أو القطع قاعدة
عقليّة ، لأنّ الحاكم بوجوب الدفع هو العقل المستقلّ لاستقلاله بإدراك أنّ دفع
الضرر بأحد الوجوه الثلاث بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، وهذا وجوب عقلي
يلازم الوجوب الشرعي بحكم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وإذ ثبت وجوب الدفع
بحكم العقل يثبت وجوب مقدّمته وهو ما يدفع به الضرر من ترك شيء أو فعله ، بحكم
أنّ وجوب الشيء يستلزم وجوب مقدّماته ، وهذا هو تحرير قاعدة وجوب دفع الضرر ولا
تجري إلّا فيما كانت مقدّمة الدفع محلّلة ، بأن لا يكون ما يدفع به الضرر ترك واجب
شرعي أو فعل محرّم شرعي إذ لو كان كذلك لا يسلّم وجوبه من باب مقدّمة الدفع لا
بمعنى أنّ الدفع واجب ولا يجب مقدّمته في صورة ما لو كان ترك واجب أو فعل حرام بل
لعدم وجوب ذي المقدّمة حينئذٍ.
فالسرّ في ذلك
أنّ العقل بملاحظة وجوب الواجب الّذي تركه مقدّمة للدفع ، وبملاحظة حرمة الحرام
الّذي فعله مقدّمة للدفع بوجوب الدفع ، بل ومع احتمال الوجوب أو الحرمة أيضاً لا
يحكم بوجوب الدفع ، بل نجده متحيّراً ومتوقّفاً في الحكم به ، وهذا هو السرّ في
عدم جريان القاعدة في إفطار نهار رمضان لمن يضرّه الصوم لكون العقل متوقّفاً في
الحكم بوجوب دفعه بالإفطار التفاتاً منه إلى احتمال وجوب صومه بملاحظة عموم ما دلّ
على وجوب صيام شهر رمضان.
وهكذا نقول في
منع جريانها في مسألة التوقّي بالسحر عن ضرر سحر الغير مطلقاً في كلّ من معنييه ،
فإنّ السحر الّذي يريد المسحور استعماله للدفع أو الرفع ما لم يثبت جوازه بدليل من
الخارج لا يحكم معه العقل بوجوب دفع ضرر سحر الغير باستعماله ، ولا ينافي ما
ذكرناه بالقياس إلى مسألة إفطار نهار رمضان من عدم جريان القاعدة فيه كون فتوى
الفقهاء من غير خلاف جواز الإفطار بل وجوبه وحرمة الصوم ، لأنّ ذلك ليس من القاعدة
المذكورة بل من قاعدة نفي الضرر الّتي هي قاعدة شرعيّة مستفادة من عموم قوله : «لا
ضرر ولا ضرار في الإسلام» فإنّ أصحّ معانيها على ما حقّقناه في
__________________
رسالة منفردة لنا في تأسيس هذه القاعدة نفي الحكم الضرري أعني مجعوليّة حكم
أدّى إلى ضرر المكلّف بحيث استند الضرر إلى الشارع باعتبار جعل ذلك الحكم وهذا
كصوم نهار رمضان فيمن يضرّه الصوم فإنّه لو كان واجباً لأدّى وجوبه إلى ضرر
المكلّف والقاعدة تنفيه.
لا يقال : لِمَ
لا يجوز أن يكون مستند الجواز فيما نحن فيه أيضاً هذه القاعدة؟ لمنع جريانها أيضاً
فيما نحن فيه ، فإنّ ضرر السحر الّذي وقع على المسحور في مسألة الرفع أو الّذي
يتوقّع وقوعه عليه في مسألة الدفع يستند إلى فاعل السحر سواء حرم على المسحور
إعمال السحر لرفعه أو دفعه أو لا ، فلا يكون حرمته المجعولة من الحكم الضرري
بالمعنى الّذي ينفيه القاعدة.
فإن قلت : لا
إشكال في أنّ استعمال السحر من المسحور في مسألة الدفع مانع من حدوث ضرر سحر الغير
، وعدمه مستند إلى منع الشارع منه ، وحدوث الضرر يستند إلى عدمه ، فيستند إلى منع
الشارع وهو في مسألة الرفع رافع لضرر السحر الواقع عليه ، وبقاؤه يستند إلى عدمه
المستند إلى منع الشارع أيضاً فيستند إليه البقاء ، فيكون المنع حكماً ضرريّاً
فينفى بموجب القاعدة لئلّا يتضرّر المسحور بالحدوث أو البقاء.
قلت : لا كلام
في أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة التامّة للحدوث ، ولا في أنّ عدم الرافع من
أجزاء العلّة التامّة للبقاء ، وقضيّة كونهما من أجزاء العلّة التامّة أن يكون
لهما مدخليّة ما في حدوث الضرر أو بقائه ، ولكن مجرّد هذه المدخليّة لا تكفي في
استناد الضرر حدوثاً أو بقاءً إلى الشارع في نظر العرف الّذي هو مناط جريان قاعدة
نفي الضرر ، لأنّ الشيء في نظر العرف يستند إمّا إلى العلّة التامّة أو الجزء
الأخير منها أو ما هو العمدة من أجزاء العلّة ، ولا ريب أنّ العمدة من أجزاء علّة
الحدوث أو البقاء هنا إنّما هو فعل الساحر لا عدم المانع ولا عدم الرافع ، فيستند
إليه الضرر في نظر العرف حدوثاً وبقاءً لا إلى الشارع حيث جعل الحرمة لاستعمال
السحر على المسحور في مقام التوقّي هذا.
مضافاً إلى
أنّه يكفي في نفي الشارع لاستناد الضرر حدوثاً أو بقاءً إليه أنّه حرّم السحر على
الساحر فإذا عصى الساحر بفعله السحر المحرّم عليه لم يوجب ذلك صحّة استناد ضرر
سحره عرفاً إلى الشارع باعتبار أنّه حرّم استعمال السحر على المسحور
أيضاً فليتدبّر.
وممّا حقّقناه
يظهر حقيقة الحال في باطل السحر المتداول في الألسنة يريدون به ما يبطل السحر ،
فإن كان بطريق مشروع كالاستعانة بالقرآن أو الدعاء والتعويذ فلا إشكال في جوازه ،
وإن كان بطريق السحر فالوجه عدم الجواز عملاً بعموم قاعدة تحريم السحر مع عدم
المخرج.
وأمّا في مقام
دفع المتنبّئ فالحق فيه أيضاً مع المانعين ، سواءً رجع قول المجوّزين إلى تجويز
مجرّد تعلّم السحر لكفايته في الدفع أو إليه مع علمه أيضاً ، وذلك لأنّ المتنبّئ
إمّا أن يظهر في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو فيما بعده ، وعلى الثاني فإمّا أن يكون ظهوره في زمن
حضور إمام العصر أو في غيبته.
أمّا الصورة
الاولى : مع أنّ استعلام حكم أهل عصر النبيّ لا يثمر في حقّنا ، فدفع المتنبّئ من
وظائف النبيّ لا الرعيّة وهو أقدر على دفعه بغير السحر من الرعيّة في دفعهم بطريق
السحر ، ومع ذلك فأيّ حاجة للرعيّة إلى تعلّمه أو عمله.
وأمّا الصورة
الثانية : فمع أنّ التكلّم في حكم أهل زمن الحضور غير مفيد ، يظهر حكمها ممّا مرّ
، فإنّ دفع المتنبّئ من وظائفه وهو أقدر على دفعه بغير طريق السحر من الرعيّة في
دفعهم بطريق السحر.
وأمّا الصورة
الثالثة : فلعدم الحاجة في إظهار كذبه وإظهار كون ما أتى به من خارق العادة سحراً
إلى تعلّم السحر ولا إلى عمله ، لكون كلّ من الأمرين معلوماً بالضرورة من دين
الإسلام ، على أنّه لا نبيّ بعد نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى قيام الساعة مع شهادة الكتاب العزيز والسنّة
القطعيّة بذلك.
مع أنّ الّذي
أوجبه الله سبحانه على الرعيّة في دفعه إنّما هو تكذيبه بلا توقّف بل قتله بلا
مهلة ، ومع ذلك فأيّ دليل من العقل والنقل دلّ على جواز تعلّم السحر لدفعه فضلاً
عن وجوبه وعن جواز عمله أو وجوبه.
ولو خيف على
ضعفاء العقول المتردّدين إليه المستمعين لكلامه الناظرين في سحره من الضلال ،
فطريق حفظهم الّذي أوجبه الله تعالى على العلماء إنّما هو منعهم عن التردّد إليه
وردعهم عن الاستماع لكلامه والنظر في سحره من باب النهي عن المنكر
والردع عن الباطل ، وإن لم يرجعوا إلى العلماء أو لم يستمعوا قولهم أو لم
يرتدعوا حتّى ضلّوا فهم مقصّرون في ضلالتهم ولا جرح على غيرهم.
ولو فرض أنّ
المتنبّئ حصل له أتباع واجتمع عليه اناس فهجم إلى بلاد المسلمين لهدم بيضة الإسلام
فالواجب على المسلمين الدفاع ، ولو فرض أنّهم لم يجتمعوا لدفاعهم لعصيانهم أو عدم
تمكّنهم ولو لعدم إعانة سلطان المسلمين لهم ، وأمكن دفعه بتعلّم السحر أو عمله
وانحصر الطريق فيه أمكن القول بجوازه بل وجوبه حينئذٍ ترجيحاً لمصلحة حفظ بيضة
الإسلام فإنّها أعظم بمراتب شتّى من مفسدة السحر وتعلّمه ، ولكن هذا عند وقوع
الواقعة ، وكلام المجوّزين ليس على هذا الفرض البعيد الّذي لم يتّفق في الخارج بعد
، بل ظاهرهم تعلّم السحر من غير وقوع الواقعة لمجرّد احتمال أنّه لو وقعت في وقت
من الأوقات على الوجه المفروض لقام المتعلّم إلى دفعه ، وهذا ممّا لا يساعد دليل
على جوازه فضلاً عن وجوبه كفاية بحيث ينهض ذلك الدليل مخرجاً عن عموم تحريم السحر
وتعلّمه.
الجهة الثانية : وما بعدها في تعلّم
السحر وتعليمه والتكسّب به وكفر مستحلّه.
أمّا تعلّمه فالمعروف من مذهب الأصحاب تحريمه ، والظاهر أنّه ممّا لا
خلاف ، وعن الأردبيلي في شرح الإرشاد احتمال كونه إجماعيّاً أو استظهاره. ويدلّ عليه
من النصوص عموماً ما في رواية تحف العقول من قوله عليهالسلام : «وما يكون منه أو فيه الفساد محضاً ولا يكون منه
أولاً فيه وجه من وجوه الصلاح حرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الاجرة عليه» وخصوصاً رواية
إسحاق عن الصادق عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام «إنّ عليّاً عليهالسلام قال : من تعلّم من السحر شيئاً كان آخر عهده بربّه ،
وحدّه القتل إلّا أن يتوب» ورواية أبي البختري المرويّة عن قرب الإسناد عن أبي عبد
الله عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام «إنّ عليّاً قال : من تعلّم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر ،
وكان آخر عهده بربّه ، وحدّه أن يقتل إلّا أن يتوب» وفي كلام صاحب
الوسائل في الحاشية ما يعطي كون هذه الرواية
__________________
متواترة لأنّه عند تزييف القول لجواز التعلّم لدفع المتنبّي قال : «وتخصيص
النصّ المتواتر المشتمل على نهاية التأكيد والتهديد والوعيد من غير مخصّص غير جائز»
وعلى هذا فقصور سندي الخبرين إن كان منجبر بذلك مضافاً إلى العمل.
وقضيّة إطلاق
النصّ والفتوى عدم الفرق في التحريم بين ما لو كان تعلّمه لغرض العمل به أو لغرض
آخر غير العمل من الأغراض الصحيحة ولعلّه لقاعدة حماية الحمى المنصوص عليها في
الروايات ، خلافاً لمن جوّزه لدفع المتنبّي بالسحر كما عرفت من الشهيدين ومن
تبعهما وقد عرفت ضعفه لكونه من القول بلا دليل والتخصيص بلا مخصّص ، ولمن جوّزه
أيضاً لغرض تحصيل الفضيلة والكمال والارتفاع عن حضيض الجهل تعليلاً بأنّ علم كلّ
شيء خير من جهله كما عن الشيخ في شرحه للقواعد ، والتعليل عليل لمنع الخيريّة مع الحرمة
الذاتيّة.
وأمّا تعليمه : فالظاهر أنّه أيضاً ممّا لا خلاف في تحريمه ، ويدلّ عليه
صريحاً ما سمعت من رواية تحف العقول ، مضافاً إلى عموم تحريم المعاونة على الإثم ،
فإنّ تعلّمه إذا كان حراماً فتعليمه معاونة على الإثم.
وأمّا التكسّب به وأخذ الاجرة عليه فهو أيضاً ممّا لا خلاف في تحريمه بل الظاهر أنّه إجماعي
ويدلّ عليه صريحاً ما سمعت من رواية التحف. ويمكن أن يستدلّ عليه أيضاً
بالنبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» بناءً على أنّ المراد بالثمن مطلق
العوض لا خصوص ما يقابل به العين ، فيكون المراد من قوله : «إذا حرّم شيئاً» ما
يعمّ الأعيان المحرّمة والأعمال المحرّمة.
وأمّا كفر مستحلّه : فيعلم الكلام فيه بالتأمّل فيما ذكرناه على دعوى ضرور
الدين في عمل السحر ، ومحصّله أنّ المستحلّ المنكر لتحريم عمل السحر إنّما يكفر
بإنكاره إذا علم ضرورة كون تحريمه ممّا جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنكاره تكذيب للنبيّ وهو الكفر.
ويلحق بباب السحر الشعبذة والكهانة
والقيافة ، والكلام في هذه
الموضوعات الثلاث يقع في مقامات :
__________________
المقام الأوّل : في الشعبذة.
وكونها ملحقة
بالسحر مبنيّ على عدم كونه من أنواعه وحينئذٍ تمسّ الحاجة إلى تجشّم الاستدلال على
حكمه ، وإلّا فعلى القول بكونه منه ـ كما تقدّم عن الرازي حيث جعل التخييلات
والأخذ بالعيون من أنواعه ، فإنّه بظاهر العنوان مع ملاحظة الأمثلة المذكورة له
منطبق على الشعبذة ، فإنّ الأخذ بالعين ما يعبّر عنه بالفارسيّة بـ «چشمبندى».
وحاصل معناه أن يسترق إنسان بسرعة يده ونحوها بالحركة عين إنسان آخر فيرى الشيء
الصادر عنها على غير حقيقته وعلى خلاف ما عليه أصله ، فيتخيّل أنّ له أصلاً وحقيقة
، ونظيره النار المتحرّكة على الاستدارة بسرعة حيث ترى على هيئة الدائرة فيتخيّل
الحركات الشعاعيّة متّصلة بعضها ببعض ، مع أنّه ليس كذلك في الواقع ونحوها القطرة
المتساقطة فترى على هيئة الخطّ المستقيم المستطيل ويرى ساكن السفينة الشطّ وساحله
متحرّكاً والسفينة واقفة إلى غير ذلك من النظائر. ويظهر كونها من السحر من عبارة
القاموس حيث عرّفه «بما لطف مأخذه ودقّ» أي خفي سببه ، ومن عبارة مجمل اللغة «إخراج الباطل
بصورة الحقّ» ويدلّ عليه رواية الاحتجاج المتقدّمة في حديث الزنديق
حيث قال عليهالسلام : «ونوع آخر خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة» ـ فلا حاجة
إلى تجشّم الاستدلال بإقامة دليل آخر على تحريمها بل يكفي فيه الأدلّة المقامة على
تحريم السحر لأنّها منه حقيقة ، بل لا حاجة حينئذٍ إلى إفرادها بالبحث.
وأمّا على
تقدير عدم كونها منه ـ كما عليه مبنيّ إفرادها بالبحث ـ فتمسّ الحاجة إلى بيان
حكمها بعد معرفة موضوعها فنقول : قد ذكر في القاموس «المشعبذ المشعوذ وقد شعبذ
يشعبذ». وظاهره كون الشعبذة والشعوذة بمعنى وذكر في مادّة شعوذة ـ أنّها خفّة في
اليد وأخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأى العين وهو مشعوذ ومشعوذ» وعرّفها
الشهيد في الدروس «بأنّها أفعال عجيبة تترتّب على سرعة اليد بالحركة فتلتبس على
الحسّ ...» الخ. والأظهر عدم كونها من خواصّ اليد ولذا
__________________
فسّرها في المجمع «بالحركة الخفيفة» والعلّامة في القواعد «بأنّها الحركات السريعة بحيث يخفى
على الحسّ الفرق بين الشيء وشبهه لسرعة الانتقال من الشيء إلى شبهه» وفي المسالك «عرّفوها
بأنّها الحركات السريعة الّتي يترتّب عليها الأفعال العجيبة بحيث يلتبس على الحسّ
الفرق بين الشيء وشبهه لسرعة الانتقال منه إلى شبهه» هذا هو الكلام
في الموضوع.
وأمّا الحكم فالمعروف من مذهب الأصحاب كونها محرّمة والظاهر أنّه
إجماعي وفي كلام جماعة نفي الخلاف كما عن الشهيد في الدروس بل عن المنتهى
الإجماع عليه. والحجّة عليه بعد ما ذكر ـ مضافاً إلى عموم تحريم السحر إن
جعلناه منه ـ أمران :
أحدهما : أنّه
من الباطل وهو خلاف الحقّ ، وحاصل معناه الإتيان بخلاف الحقّ ، فيحرم ، لعموم
تحريم الباطل الثابت بالعقل لكون قبحه ممّا يستقلّ بإدراكه العقل ، وبالنقل ومنه
رواية يونس المتقدّمة في الغناء قال : «سألت الخراساني عن الغناء قلت له : إنّ
العبّاسي زعم أنّك العبّاسي زعم ترخّص في الغناء ، فقال : كذب الزنديق ما هكذا قلت
له ، سألني عن الغناء قلت له : إنّ رجلاً أتى أبا جعفر عليهالسلام فسأله عن الغناء ، فقال له : إذا ميّز الله بين الحقّ
والباطل فأين يكون الغناء؟ قال : مع الباطل ، قال : قد حكمت» فإنّ قوله عليهالسلام : «قد حكمت» كناية عن تحريم الباطل. ويدلّ عليه على وجه الكبرى الكلّيّة
الّتي يندرج فيها الغناء ، فينتظم من ذلك مع ما تقدّم في جواب العبّاسي من قوله : «مع
الباطل» قياس بطريق الشكل الأوّل هكذا : الغناء باطل ، وكلّ باطل حرام ، فيندرج
فيه الشعبذة لأنّها من أظهر مصاديق الباطل ، خصوصاً على تفسير مجمل اللغة كما
عرفت.
وثانيهما :
أنّها من اللهو فيشملها عموم ما دلّ على تحريم اللهو وهو ما يلهي عن ذكر الله ،
ومنه ما في رواية الأعمش المتكفّلة لتعداد الكبائر من قوله عليهالسلام : «والملاهي الّتي تصدّ عن ذكر الله كالغناء وضرب
الأوتار» وفي الحسن بل الصحيح الوارد في
__________________
تعداد الكبائر أيضاً عن الفضل عن الرضا عليهالسلام قال عليهالسلام ـ في جملة ذلك ـ : «والاشتغال بالملاهي» والجمع
المعرّف عامّ والشعبذة من أعظم الملاهي.
ويمكن
الاستدلال عليه أيضاً بما في رواية تحف العقول من قوله عليهالسلام : «وكلّ مبيع ملهوّ به ... إلى أن قال : حرام محرّم
بيعه وشراؤه وإمساكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه ...» الخ فإنّ مورده وإن كان
هو الأعيان المعدودة من الملاهي كآلات اللهو والقمار غير أنّ الحكم معلّق على
الوصف ، فيفيد أنّ تحريم تلك الآلات لكونها ملهوّاً بها فيفيد ذلك أيضاً تحريم كلّ
ملهوّ به على وجه كبرى كلّيّة ، فيندرج فيها الشعبذة لأنّها من أعظم الملهوّ به.
لا يقال : إنّ
غاية ما في التعليق على الوصف إنّما هو الإشعار بعلّيّة الوصف وهو دون الدلالة فلا
يثبت به الكلّيّة المذكورة لأنّ المعتبر في استنباط الحكم الشرعي هو الدلالة لا
الإشعار ، لأنّ هذا إنّما هو حكم التعليق على الوصف إذا لوحظ من حيث هو ولكن قد
ينضمّ إليه بعض القرائن الخارجة المفيدة للعلّية ومنها كون الخطاب وارداً مورد
تأسيس قاعدة كلّيّة وإعطاء ضابطة مطّردة والمقام منه بملاحظة سياق رواية التحف.
هذا كلّه في تحريم عمل الشعبذة.
وأمّا تعلّمها فإن جعلناها من السحر فلا إشكال في تحريمه لعموم ما دلّ
على تحريم تعلّم السحر ، وإلّا فإثبات تحريمه إذا لم يكن لغرض العمل في غاية
الإشكال ، إذ لم نقف على دليل عليه ، والأصل يقتضي الإباحة. ويمكن الاستناد إلى
عموم قاعدة حماية الحمى إن كانت في سياق التحريم لا التزهيد والكراهة ، وهو مشكل.
فالإنصاف أنّ تعلّم الشعبذة ممّا لا دليل على تحريمه ، وتحريم عمل الشيء لا يقضي
بتحريم تعلّمه لا لأجل العمل.
وأمّا التكسّب بها وأخذ الاجرة عليها فالظاهر أنّه ممّا لا خلاف في تحريمه بل الظاهر كونه
إجماعيّاً ، ويمكن استفادته أيضاً من النبويّ «إنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»
بالتقريب المتقدّم من كون المراد بالثمن مطلق العوض لا خصوص ما يقابل به العين.
__________________
المقام الثاني : في الكهانة.
وهي على ما
يظهر من كلام القاموس بالفتح مصدر وبالكسر اسم قال : «كهن له كمنع ونصر وكرم كهانة
بالفتح ، وتكهّن تكهّناً قضى له بالغيب فهو كاهن ، جمع كهنة وكُهّان وحرفته
الكِهانة بالكسر» انتهى. ويقرب منه المحكيّ عن المصباح المنير إلّا أنّه
في كسره قال : «الكهانة بالكسر صنعة» .
وعلى هذا
فالكاهن الّذي هو اسم الفاعل من هذه المادّة يحتمل كون مبدئه حالاً أو ملكة أو
حرفة وصنعة.
ويظهر ثمرة هذه
الوجوه فيما لو علّق حكم في النصّ على اسم الفاعل كما في المحكيّ عن الاحتجاج ونهج
البلاغة ، من قوله عليهالسلام : «المنجّم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر
كالكافر ، والكافر في النار» فعلى الأوّل يراد بالكاهن الّذي حكمه أنّه في النار
الآتي بعمل الكهانة ، وعلى الثاني من له ملكة هذا العمل وإن لم يأت به ، وعلى
الثالث من حرفته ذلك أي من اتّخذه وسيلة لكسب المال ، فعلى الأوّل يحرم عليه أصل
العمل فيجب ترك الإتيان به ، وعلى الثاني يحرم عليه إبقاء ملكته فيجب إزالتها
بإنساء ونحوها ، وعلى الثالث يحرم اتّخاذه وسيلة لتحصيل المال فيجب ترك الاتّخاذ.
ومن فروع هذه
الوجوه أنّ الرواية إن صحّ الاعتماد عليها في إثبات حكم شرعي لا يثبت بها على أوّل
الاحتمالات حرمة تعلّم الكهانة ولا حرمة التكسّب بها ، وعلى ثانيها يثبت حرمة
تعلّمها أيضاً دون حرمة التكسّب بها ، وعلى ثالثها يثبت حرمة التكسّب دون التعلّم.
وكيف كان فمعنى
الكهانة على ما نصّ عليه في القاموس «القضاء بالغيب» وحاصله الإخبار بالمغيبات ،
ويوافقه المحكيّ عن النهاية الأثيريّة من «أنّها تعاطي الأخبار عن الكائنات في
مستقبل الزمان» وهذا باعتبار قيد «مستقبل الزمان» أخصّ ممّا ذكره في القاموس. ثمّ
عنه أيضاً «أنّ الكهانة في العرب وقد كان في العرب كهنة ،
__________________
فمنهم من كان يزعم أنّ له تابعاً من الجنّ يلقى إليه الأخبار ، ومنهم من
كان يزعم أنّه يعرف الامور بمقدّمات أسباب يستدلّ بها على مواقعها من كلام من
يسأله أو فعله أو حاله ، وهذا يختصّ باسم العرّاف كالّذي يدّعي معرفة الشيء
المسروق ومكان الضالّة» انتهى.
وهذا يقتضي
وقوع الاختلاف في مأخذ الإخبار بالمغيب الّذي يصير الكاهن به كاهناً على قولين ،
أوّلهما أنّه يأخذ الخبر من تابع له من الجنّ يقال له «الشيطان» وهو اختيار جماعة
من الأصحاب ، وعن التنقيح «أنّه المشهور» وفي كلام بعض مشايخنا والمحكيّ عن
الأكثر في تعريف الكاهن ما في القواعد من «أنّه من كان له رأي من الجنّ يأتيه الأخبار»
والرأيّ على ما عن النهاية «يقال للتابع من الجنّ رأي بوزن كميّ» ونسب هذا
القول في المحكي عن المغرب إلى الرواية قائلاً : «الكاهن أحد الكهّان وأنّ الكهانة
في العرب قبل المبعث يروى أنّ الشياطين كانت تسترق السمع فتلقيه إلى الكهنة وتقبله
الكفّار منهم ، فلمّا بعث صلىاللهعليهوآلهوسلم وحرست السماء بطلت الكهانة» وربّما يشهد
له عدّة روايات كالمرويّ عن الأمالي عن الصادق عليهالسلام في حديث متكفّل لذكر عجائب وقعت ليلة ولادة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنّ فيه «ولم تبق كاهنة في العرب إلّا حجبت عن صاحبها»
وعن ابن عبّاس في تفسير قوله : «إلّا من استرق السمع» «كان في الجاهليّة كهنة ومع كلّ واحد شيطان ، وكان يقعد
من السماء مقاعد للسمع ، فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض ، فينزل ويخبر به
الكاهن ، فيفشيه الكاهن إلى الناس» .
ورواية
الاحتجاج المتقدّمة الّتي سأل الزنديق أبا عبد الله عليهالسلام عن أسئلة منها ما تقدّم في السحر ، ومنها : ما قال : «فمن
أين أصل الكهانة؟ ومن أين يخبر الناس بما يحدّث؟ قال عليهالسلام : إنّ الكهانة كانت في الجاهليّة في كلّ حين فترة من
الرسل كان
__________________
الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الامور بينهم ،
فيخبرهم بأشياء تحدّثه وذلك في وجوه شتّى ، فراسة العين ، وذكاء القلب ، ووسوسة
النفس ، وفطنة الروح مع قذف في قلبه ، لأنّ ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة
فذلك يعلم الشيطان ويؤدّيه إلى الكاهن ، ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف.
وأمّا أخبار السماء فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذلك وهي لا
تحجب ولا ترجم بالنجوم ، وإنّما منعت من استراق السمع لئلّا يقع في الأرض سبب
يشاكل الوحي من خبر السماء ، ويلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله تعالى لإثبات
الحجّة ونفي الشبهة ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر ما يحدث الله في
خلقه ، فيختطفها ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن ، فإذا قد زاد كلمات
من عنده فيخلط الحقّ بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر يخبر به هو ما أدّاه إليه
شيطانه ممّا سمعه ، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمنذ منعت الشياطين عن
استراق السمع انقطعت الكهانة ، واليوم إنّما يؤدّي الشياطين إلى كهّانها أخباراً
للناس ممّا يتحدّثون به ، والشياطين يؤدّي إلى الشياطين ما تتحدّث في البعد من
الحوادث من سارق سرق ، وقاتل قتل ، وغائب غاب ، وهم أيضاً بمنزلة الناس صدوق وكذوب»
الخبر.
بناءً على رجوع
قيد مع قذف في قلبه إلى جميع الوجوه الأربع المذكورة ، أو على كون المراد من قوله
: «انقطعت الكهانة» انقطاع ماهيّة الكهانة على تقدير رجوع القيد إلى الأخير كما هو
الأظهر ، نظراً إلى الأصل المقرّر في الاصول ، ولكنّ الإنصاف أنّه ظاهر في انقطاع
الفرد الكامل منه ، وهو ما كان مدرك المخبر بالغائبات في أخبار الأخذ من الجنّ ،
مع كون مدرك الجنّ في قذفه الخبر في قلب الكاهن استراق السمع من الملائكة ، بقرينة
ما في صدر الرواية من قوله : «كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه» إلى قوله : «فيخبرهم
بأشياء تحدّثه وذلك في وجوه شتّى» فإنّه بظاهره يفيد أنّه من حيث كونه كاهناً كان
حاكماً يحتكمون إليه ، وكان يخبرهم من هذه الحيثيّة بجميع الوجوه الأربع المذكورة
الّتي لا مدخليّة للشيطان في الثلاث الاولى منها ، فإنّ
__________________
هذا كلّه يفيد أنّ الكهانة بحسب المأخذ أعمّ من الجميع ، وهذا ينهض قرينة
أنّ المنقطع بعد ممنوعيّة الشياطين عن استراق السمع هو الفرد الكامل منها لا
الماهيّة ، مضافاً إلى أنّ قوله : «واليوم إنّما يؤدّي الشياطين إلى كهّانها» يدلّ
على عدم انتفاء الماهيّة بعد انقطاع الكهانة المستندة إلى استراق السمع من السماء.
ويؤيّد الرواية
في اقتضاء ما ذكر بل يدلّ عليه أيضاً ما في المرويّ عن الاحتجاج ونهج البلاغة من
قول مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام : «أيّها الناس إيّاكم وتعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به
في برّ أو بحر فإنّها تدعو إلى الكهانة ، المنجّم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر
كالكافر ، والكافر في النار» فإنّ الكهانة الّتي يدعو إليها النجوم هي الإخبار
بالغائبات الّذي مستنده النجوم ، وهذا يقتضي كون ذلك أيضاً من الكهانة ، ولا
ينافيه ما بعده من قوله : «المنجّم كالكاهن» لأنّه تشبيه له به في الحكم فلا ينافي
دخوله من حيث إخباره في الاسم.
نعم ربّما
يعارض الروايتين بعض الأخبار الاخر مثل خبر نضر بن قابوس قال : «سمعت أبا عبد الله
عليهالسلام يقول : المنجّم ملعون ، والكاهن ملعون ، والساحر ملعون
، والمغنّية ملعونة ، ومن آواها وأكل كسبها ملعون ، وقال عليهالسلام : المنجّم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر
، والكافر في النار» ومثل الخبر الصحيح المرويّ عن مستطرفات السرائر نقلاً
عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن الهيثم قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إنّ عندنا بالجزيرة رجلاً ربّما أخبر من يأتيه ،
يسأله عن الشيء يسرق ، أو شبه ذلك فيسأله ، فقال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول
فقد كفر بما أنزل الله من كتاب» فإنّ قرينة المقابلة تقضي بكون المنجّم قسيماً للكاهن.
ويمكن الجمع
أمّا في الخبر الأوّل ، فأوّلاً لجواز كون المنجّم من حيث إنّه يعتقد
__________________
التأثير في النجوم وقع قسيماً للكاهن ، وهذا هو الجهة الباعثة على لعنه ،
وهذا لا ينافي إخباره بالغائبات استناداً إلى النجوم من الكهانة. وثانياً أنّ
الخبر عن الغائبات إذا كان له في إخباره طرق متعدّدة وسمّي في الجميع كاهناً ، فهو
لا ينافي كونه باعتبار خصوص استناده إلى النجوم أيضاً يسمّى بالمنجّم ، وباعتبار
استناده أيضاً إلى قواعد السحر يسمّى ساحراً أيضاً ، وهكذا نقول في الخبر الثاني
أيضاً.
وهذا وإن كان
ضرباً من التأويل إلّا أنّ الواجب إرجاع التأويل إليهما ، لأنّ الروايتين المتقدّمتين
أظهر دلالة منهما على كون ما يستند فيه إلى النجوم أو غيرها أيضاً من الكهانة ،
وأمّا الروايتان الاخريان المتقدّم نقلهما عن الأمالي وابن عبّاس فهما أيضاً لا
تنافيانهما كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.
وممّا يرشد إلى
صحّة ما قلناه ـ من عدم كون الأخذ من الشيطان معتبراً في مفهوم الكهانة وماهيّتها
ـ أنّ الروايات الناهية عن الكهانة إماميّة والمفروض انقطاع استراق السمع في أزمنة
صدورها ، فلو كان ذلك معتبراً في مفهومها لزم خروج هذه الروايات والنهي الوارد
فيها بلا مورد واللازم باطل جزماً. والرواية المذكورة كما تدلّ على عدم اعتبار هذه
الخصوصيّة في الكهانة فكذلك تدلّ على عدم اعتبار خصوصيّات اخر أيضاً فيها ، مثل
كون الخبر المتلقّي من الشيطان مثلاً من أخبار السماء ، ومثل كونه إخباراً عمّا
يقع في المستقبل لا عمّا وقع في الماضي ومثل كونه على بتّ وجزم ، كما يظهر جميع
ذلك بالتأمّل في رواية الاحتجاج ونهج البلاغة. وعلى هذا فما نسب إلى المشهور أو
الأكثر أو إلى جماعة من أصحابنا من اعتبار الأخذ من الشيطان فيها ليس على ما
ينبغي.
ومن أغرب ما
ذكر في المقام تعريف الكهانة بعمل يوجب طاعة بعض الجانّ له واتّباعه له ويأتيه
بالأخبار الغائبة كما في المسالك والروضة فإنّ العمل الموجب لطاعة بعض الجانّ لا يوافق لغة معنى
الكهانة مصدراً واسماً ، إذ الأوّل على ما سمعت من القاموس «قضاء بالغيب» والثاني «صنعة
وحرفة» مع أنّه ليس مورداً لأدلّة التحريم كقوله عليهالسلام : «من تكهّن أو تكهّن له فقد برأ من دين محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم» كما لا يخفى.
__________________
وكيف كان
فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يعرف هو حرمة عمل الكهانة ، وفي كلام غير
واحد نفي الخلاف فيه ، وفي المستند دعوى ثبوت الإجماع عليه ناقلاً «للتصريح به في كلام
جماعة» فهو الحجّة ، مضافاً إلى النصوص ، منها : ما دلّ على أنّ أجر الكاهن من
السحت.
ومنها : خبر
أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال : من تكهّن أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم» .
ومنها : خبر
الهيثم المتقدّم الناطق بأنّ «من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه فقد كفر
بما أنزل الله من كتاب» .
ومنها : ما في
حديث المناهي المرويّ في الفقيه من «أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن إتيان العرّاف ، وقال : من أتاه وصدّقه فقد برئ
ممّا أنزل الله على محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم» والعرّاف على ما عرفت من النهاية الأثيريّة «هو الكاهن»
وفي البحار أيضاً قال الطيبي ـ في شرح المشكاة ـ : هو قسم من
الكهّان يستدلّ على معرفة المسروق والضالّة بكلام أو فعل أو حالة.
والسرّ في
البراءة على ما دلّ عليه هذه الروايات الثلاث أنّ تصديق الكاهن فيما أخبر به من
الغيب تكذيب لله عزوجل فيما أنزله الله في كتابه على نبيّه من اختصاص علم
الغيب به ، قال عزّ من قائل : «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلّا هُوَ ...» الآية ، وقال
أيضاً : و «عِنْدَهُ عِلْمُ
السّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي
نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ
اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .
ومنها : ما
سمعت أيضاً من قول مولانا امير المؤمنين عليهالسلام : «إيّاكم وتعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في برّ أو
بحر فإنّها تدعو إلى الكهانة ، المنجّم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر
كالكافر ، والكافر في النار».
__________________
ومنها : ما
سمعت أيضاً من خبر نضر بن قابوس قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : المنجّم ملعون ، والكاهن ملعون ، والساحر ملعون
، والمغنّية ملعونة ، ومن أرادها وأكل كسبها ملعون ، وقال عليهالسلام : المنجّم كالكاهن والكاهن كالساحر والساحر كالكافر
والكافر في النار».
ثمّ إنّ ظاهر
نصوص الباب وفتاوى الأصحاب أن يكون الإخبار على سبيل الحكم البتّي ، على معنى كونه
بصورة الجزم سواء كان المخبر جازماً بما أخبر به أو ظانّاً به أو محتملاً له عملاً
بالإطلاق ، وأمّا لو ذكر شيئاً على سبيل الاحتمال أو الظنّ بأن يقول : يحتمل أن يكون
كذا ، أو أظنّ أنّه كذا ، أو أرجو أن يكون كذا ، وما أشبه ذلك ممّا لا يكون على
سبيل الحكم بالمطلوب ، فلا يندرج فيهما فلا يشمله الحرمة فالأصل يقتضي جوازه ،
ولعلّه إلى ذلك ينظر ما فصّله صاحب المفاتيح على ما حكي بقوله : «من المعاصي
المنصوص عليها الإخبار عن الغائبات على البتّ لغير نبيّ أو وصيّ نبيّ سواء كان
بالتنجيم أو الكهانة أو القيافة أو غير ذلك إلى أن قال : وإن كان الإخبار على سبيل
التفؤّل من دون جزم فالظاهر جوازه لأنّ أصل هذه العلوم حقّ ولكنّ الإحاطة بها لا
يتيسّر لكلّ أحد ، والحكم بها لا يوافق المصلحة» انتهى ، وإن
كان تعليله عليلاً مع نوع تشويش في العبارة ، لأنّ حقّيّة العلوم لا تنافي حرمة
ترتيب الآثار عليها الّتي منها الإخبار بالغائبات.
ويؤيّدها علّة
منع الشياطين من استراق السمع المتقدّمة في خبر الاحتجاج ، فإنّها تقتضي مبغوضيّة
كلّ ما يشاكل الوحي ، ويوجب التباس ما جاء من الله تعالى لإثبات الحجّة ونفي
الشبهة على الخلق والمبغوضيّة تلازم الحرمة. ثمّ الظاهر حرمة تعلّم الكهانة أيضاً
للنهي المتقدّم عن تعلّم النجوم لأنّها تدعو إلى الكهانة ، وحرمة التكسّب بها وأخذ
الاجرة عليها لما تقدّم الإشارة إليه من النصوص الدالّة على كون أجر الكاهن من
السحت ، مع إمكان الاستدلال عليه بالنبويّ بالتقريب المتقدّم.
__________________
المقام الثالث : في القيافة.
قال في المجمع
في الحديث : «لا آخذ بقول قائف ، هو الّذي يعرف الآثار ويلحق الولد بالوالد والأخ
بأخيه ، والجمع قافة من قولهم قَفْتُ أثره إذا تبعته مثل قَفَوْتُ أثره ، وقاف
الرجل يقوف قوفاً من باب قال تبعه» ويقرب منه ما في القاموس قائلاً : «والقائف من يعرف
الآثار ، جمع قافة ، وقاف أثره تبعه كقفاه واقتفاه ...» إلى آخر ما
ذكره.
وظاهرهما عدم بناء
هذه المادّة على القيافة مصدراً ولا اسماً وإلّا لم يتركا ذكرها في تصاريف هذه
المادّة ، فيكون القيافة حينئذٍ اسماً للصناعة المعهودة من الألفاظ المبتدئة
المخترعة. وربّما يحتمل كون بنائها على الأجوف لضرب من النقل أي نقل العين مكان
اللام واللام مكان العين بفرض كونه بحسب الأصل من الناقص ، كقفى يقفو واقتفى.
وكيف كان
فالقيافة ـ على ما في المسالك والروضة وغيرهما ـ الاستناد إلى علامات ومقادير يترتّب عليها نسب شخص
إلى شخص وإلحاقه به ، كالولد بوالده والأخ بأخيه.
وأمّا حكمها
فالمعروف بينهم كونها حراماً ، وعن الحدائق نسبته إلى الأصحاب مؤذناً بالإجماع عليه ، وعن الكفاية «لا
أعرف خلافاً فيه» وعن المنتهى والتنقيح والمفاتيح الإجماع عليه.
وخلاصة القول
فيها : أنّها صناعة من الصناعات ، والتكلّم في حكمها إن كان من حيث تعلّمها وتحصيل
ملكتها فالوجه فيه الجواز ، إذ لا دليل على تحريمه فيبنى فيه على الأصل ، وإذا جاز
تعلّمها لم يحرم إبقاؤها بعد التعلّم ولا يجب إزالتها بالتناسي ونحوه ، للأصل
أيضاً. وربّما يستشمّ كونها في نفسها ممدوحة ممّا في رواية أبي بصير بعد قول
السائل عن القافة ما يقولون شيئاً إلّا يقرب ممّا يقولون من قوله عليهالسلام : «القيافة
__________________
فضلة من النبوّة ذهبت في الناس حين بعث النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم» .
وإن كان من حيث
استنباط القائف بالتفرّس والتحدّس نسب شخص إلى آخر قصد إلى معرفة نفسه جزماً أو
ظنّاً من دون أن يبرزه في الخارج ويلحقه به ، فهذا أيضاً ممّا لا دليل على تحريمه
ولم نقف على مفت أفتى به صريحاً بل ربّما كان الغرض من تقييدهم الآتي إخراج ذلك عن
التحريم. وتوهّم : الدلالة عليه من قوله عليهالسلام في رواية أبي بصير : «ما احبّ أن تأتيهم» في جواب
السائل عن القيافة أو القافة على اختلاف النسخة. يدفعه : منع الدلالة لظهور هذه
اللفظة في الكراهة ، ولو سلّم عدم ظهورها فيها فلا يسلّم ظهورها في التحريم أيضاً
فتكون محتملة لهما ، ولو سلّم ظهورها فيه فأقصاه الدلالة على تحريم إتيان القائف
استعلاماً لنسب أو طلباً لإلحاق ولا يلزم منه تحريم استنباط نسب لا للإلحاق.
وإن كان من حيث
استنباطه النسب للإلحاق ، فالظاهر أنّه موضوع المسألة ومعقد فتاوي الأصحاب
بالتحريم ، ونحن نطالبهم بدليل ذلك ولم نقف لهم على دليل واضح يعتمد عليه ، فيشكل
الإذعان به إلّا أن يكون إجماعاً كما يقتضيه الإجماعات المنقولة في كلام الجماعة ،
ولكن ثبوته على تحريمها من حيث هي هي ليثبت به الحرمة النفسيّة غير معلوم ، ولذا
قيّده جماعة كالشهيدين في الدروس والمسالك وجامع المقاصد والتنقيح بما إذا ترتّب عليه محرّم.
بل في كلام بعض
مشايخنا «والظاهر أنّه مراد الكلّ وإلّا فمجرّد حصول الاعتقاد العلمي أو الظنّي
بنسب شخص لا دليل على تحريمه» انتهى. وكأنّه قدسسره حمل المحرّم المترتّب على القيافة على نفس الإلحاق ،
ولعلّ السرّ في تحريمه إمّا أنّه اتّباع لما لا يعلم من حيث إنّ العلامات
والأمارات المستند إليها لا تفيد غالباً إلّا الظنّ فيندرج في عموم قوله تعالى : «لا تَقْفُ ما لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ» أو أنّه إثبات
للنسب بغير طريقة
__________________
الشرعي من العلم العادي أو الفراش أو الإقرار أو البيّنة ، فيكون من الحكم
بغير ما أنزل الله المحكوم عليه في الكتاب بكونه فسقاً.
ويحتمل كون
مراد الجماعة من المحرّم المحرّمات الاخر المترتّبة على الإلحاق لا نفسه ، على
معنى أنّه وإن لم يكن محرّماً في نفسه إلّا أنّه كثيراً ما يترتّب عليه محرّم
خارجي كإيذاء المؤمن فيما لو كان الإلحاق بحيث يتأذّى به الملحق أو الملحق به
ويكرهه باعتبار كون صاحبه شخصاً رذلاً دَنيّاً وهو من أهل الشأن والشرف والنجابة ،
أو القذف للملحق به وإشاعة فاحشته وإذاعة عيب الملحق بتقريب أنّ حصوله على تقدير
الإلحاق كثيراً ما يكون من زنى ، أو التوارث فيما بينهما المفضي إلى استيلاء إنسان
على مال آخر من غير استحقاق شرعي وهو إثم فيكون الإلحاق من المعاونة على الإثم ،
أو استباحة نظر أجنبيّ إلى محارم أجنبيّ آخر من بنته أو امّه أو اخته أو حليلته من
دون مجوّز ومبيح شرعي ، وهذا أيضاً إثم والإلحاق معونة عليه. وبالجملة فالقيافة
محرّمة لتحريم ما يترتّب عليها لا في نفسها. وأمّا التكسّب بها وأخذ الاجرة عليها
فالظاهر أنّ تحريمه إجماعيّ وهو الحجّة.
النوع الثامن
التنجيم وتعلّم النجوم
أمّا التنجيم
فقد عرّفه المحقّق الشيخ عليّ في جامع المقاصد «بأنّه الإخبار عن أحكام النجوم
باعتبار الحركات الفلكيّة والاتّصالات الكوكبيّة الّتي مرجعها إلى القياس والتخمين»
.
وقد حرّمه بعض
الأصحاب لدلالة الأخبار على تحريمه من حيث هو ، وظاهر جماعة كالسيّد والعلّامة والبهائي وغيرهم تحريمه
من حيث فساد مذهب المنجّمين لاعتقادهم تأثير الكواكب وأوضاعها بالاستقلال اختياراً
أو إيجاباً أو الاشتراك ، وعن بعض هؤلاء تحريمه أيضاً مع اعتقاد كونها معدّة
لتأثير الله سبحانه لكونه علماً بما لا يعلم وكأنّه أراد بالمعدّية ما يرجع إلى
القابل لا إلى الفاعل وإلّا كان كفراً ولا يناسبه التعليل بكونه علماً بما لا يعلم
، وعن بعض المتأخّرين «أنّه يحرم من حيث ابتنائه على الظنّ والتخمين وكونه قولاً
بما لا يعلم» قيل : ويمكن أن يكون التحريم لأجل الإخبار بما لم يقع
فيشبه الكهانة.
وعن كثير من
الأصحاب التصريح بجوازه إذا لم يعتقد منافياً للشرع ، وفي المستند «بل هو الظاهر
من الأكثر حيث قيّدوا التحريم بما إذا اعتقد التأثير» ونسب ذلك
أيضاً
__________________
إلى السيّد ابن طاوس فقال : «بأنّ علم النجوم من العلوم المباحات» وجوّز تعليمه
وتعلّمه والنظر فيه والعلم به إذا لم يعتقد أنّها مؤثّرة حاملاً لأخبار النهي
والذمّ على ما إذا اعتقد ذلك ، ثمّ ذكر تأييداً لصحّة هذا العلم أسماء جماعة من
الشيعة كانوا عارفين به.
والقول بإطلاق
التحريم الّذي عرفت نسبته إلى بعض الأصحاب يظهر من السيّد الأجلّ المرتضى أيضاً
جاعلاً لأدلّ الدليل على بطلانه كونه موجباً لاختلال الأمر في معجزات الأنبياء قال
ـ في جملة كلام له محكيّ عن كتاب الغرر والدرر ـ : «ومن أدلّ الدليل على بطلان
أحكام النجوم أنّا قد علمنا أنّ من جملة معجزات الأنبياء الإخبار عن الغيوب وعدّ
ذلك خارقاً للعادات ، كإحياء الميّت وإبراء الأكمه والأبرص ، ولو كان العلم بما
يحدث طريقاً نجوميّاً لم يكن ما ذكرناه معجزاً ولا خارقاً للعادة ، وكيف يشتبه على
مسلم بطلان أحكام النجوم وقد أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تكذيب المنجّمين
والشهادة بفساد مذاهبهم وبطلان أحكامهم ، ومعلوم من دين الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ضرورة التكذيب بما يدّعيه المنجّمون والإزراء عليهم
والتعجيز بهم ، وفي الروايات عنهم عليهمالسلام من ذلك ما لا يحصى كثرة ، وكذا عن علماء أهل بيته وخيار
أصحابه ، فما زالوا يبرءون من مذاهب المنجّمين ويعدّونها ضلالاً ومحالاً ، وما اشتهر
هذه الشهرة في دين الإسلام كيف يغترّ بخلافه منتسب إلى الملّة ومصلّ إلى القبلة» انتهى.
وتحقيق المسألة يستدعي التكلّم في
مقامات :
المقام الأوّل : فيما يتعلّق بالأجرام
الفلكيّة والكواكب من حيث القدم والحدوث والحياة وعدمها والاختيار والعلوم والإدراكات والإرادات وأضدادها لما عزي
إلى المنجّمين خصوصاً أوائلهم من المذاهب المختلفة في ذلك ، فنقول : إنّ الفلكيّات
والكواكب غير خالية عن كونها قديمة أو حادثة ، والمراد بحدوثها كونها مسبوقة
بالعدم وبالقدم خلافه.
وعلى الأوّل :
فإمّا أن يراد بالقدم قدمها لذواتها على معنى عدم كونها معلولة عن
__________________
علّة قديمة لذاتها كذات الباري تعالى ، أو قدمها باعتبار الزمان على معنى
أنّها وإن كانت معلولة غير أنّها قديمة زماناً لقدم علّتها ، والاعتقاد بالقدم
بكلّ من معنييه كفر ومعتقده كافر ، لكونه مخالف لما علم ضرورة من دين الإسلام بل
جميع الأديان من حدوث العالم ، وإنكاراً لما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على ما دلّت عليه الآيات المتكاثرة والروايات المتظافرة
المتواترة من كون الفلكيّات والأرضين والسموات مخلوقة لله عزوجل وقد خلقها في ستّة أيّام ، مضافاً إلى كونه من كفر
التشريك مع الله عزوجل المنافي للتوحيد الّذي من مراتبه التوحيد في الصفات
الذاتيّة الّتي منها القدم ذاتاً وزماناً.
وعلى الثاني :
فإمّا تكون في حدوثها متّصفة بصفة الحياة والعلوم والإدراكات والإرادات ، أو
متّصفة بالعلوم والإدراكات والإرادات من دون حياة ، أو تكون كسائر الجمادات من دون
أن يكون لها حياة ولا علوم وإدراكات وإرادات ، وهذه وجوه ثلاث صحيحها الموافق لدين
الإسلام بل جميع الأديان ثالثها ، بل في كلام المجلسي في البحار والسيّد علي ما عن
الغرر والدرر دعوى الضرورة وإجماع المسلمين على بطلان ما عداه ـ قال المجلسي في
تأويل الرواية الدالّة على أنّ الله عزوجل بعث المشتري إلى الأرض في صورة رجل فأخذ رجلاً من العجم
فعلّمه النجوم ... الحديث : «لعلّ المراد ـ على تقدير صحّة الخبر ـ أنّ الله تعالى
جعله في هذا الوقت ذا روح وحياة وعلّم وبعثه إلى الأرض لئلّا ينافي ما سيأتي من
إجماع المسلمين على عدم حياة الأجسام الفلكيّة وشعورها ...» إلى آخر ما
ذكره. وقال السيّد في جملة كلام له في إبطال علم النجوم : «وأقوى من ذلك في نفي
كون الفلك وما فيه من شمس وقمر وكوكب أحياء السمع والإجماع ، وأنّه لا خلاف بين
المسلمين في ارتفاع الحياة عن الفلك وما يشتمل عليه من الكواكب ، وأنّها مسخّرة
مدبّرة مصرّفة ، وذلك معلوم من دين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ضرورة» وإذا قطعنا على نفي الحياة والقدرة فكيف تكون
فاعلة فينا؟ ...» إلى آخر ما ذكره ـ مع ما في ثانيها من بطلانه في نفسه
لامتناع العلم والإدراك والإرادة من دون حياة ، لكون هذه الصفات من لوازم الحياة
أو ما به الحياة وهو الروح المتعلّق بالبدن.
__________________
وبذلك يندفع ما عساه يقال في منع الملازمة : من تنظير المقام بالروح بعد
مفارقة البدن من حيث إنّه يعلم ويدرك ولا حياة له ، إذ لا يقال إنّه حيّ كما لا
يخفى.
المقام الثاني : فيما يتعلّق بالأجرام
العلويّة وحركاتها واتّصالاتها من حيث التأثير وعدمها في الحوادث السفليّة ، فإنّ المنجّمين لهم في ذلك أقوال مختلفة :
فإمّا أن يقال
: بأنّها المدبّرة للعالم المؤثّرة في الكائنات والحوادث بالاستقلال على وجه يرجع
إلى نفي وجود الصانع تعالى ، أو على وجه يرجع إلى تعطيله عن التدبير والتأثير مع
كونها قديمة لذواتها أو باعتبار الزمان أو حادثة ، ومعنى الأخيرين أنّ الصانع
تعالى لمّا خلقها قديمة زماناً أو حادثة فوّض أمر التدبير والتأثير إليها ،
وحينئذٍ فإمّا أن يكون بحيث خرج الأمر عن تحت قدرته فلا يقدر على منعها عن التدبير
والتأثير ، أو لا بل يقدر على المنع ولكنّه لا يمنع. وعلى جميع هذه التقادير
الأربع فإمّا أن تكون مجبولة على التدبير والتأثير على معنى كونها فاعلة بالإيجاب
كالنار في فعل الإحراق ، أو تكون مختارة فيهما على معنى كونها فاعلة بالاختيار.
أو يقال :
بأنّها مؤثّرة لا بالاستقلال إمّا بأن يكون التأثير قائماً بها بشرط إرادته تعالى
أو قائماً به تعالى بشرط توسّطها فتكون كالآلة والمعدّ ، إمّا لأمر راجع إلى
الفاعل بأن لا يقدر على التأثر إلّا بهذه الآلة ، أو لأمر يرجع إلى القابل بأن لا
يقبل الأثر إلّا بهذه الواسطة.
أو يقال : بعدم
مدخليّة لها أصلاً بل المدبّر للعالم والمؤثّر في الكائنات والحوادث بالاستقلال هو
الصانع تعالى إلّا أنّه جرى عادته بأن لا يفعل إلّا عند حركات الأفلاك واتّصالات
الكواكب وأوضاعها المخصوصة بحيث لم يتغيّر عادته تعالى أصلاً ، فتكون هذه الحركات
والأوضاع المخصوصة علامات دائميّة للآثار الحادثة من تأثيره تعالى ، أو بحيث جاز
تغيّرها بالصدقة أو الدعاء أو غيرهما ، أو لا على وجه جرى عادته بذلك على الوجه
الكلّي ، فيمكن أن يكون فيما يفعله تعالى من خلق أو تدبير أو تأثير ما لا يرتبط
بحركات الأجرام العلويّة وأوضاع الكواكب المخصوصة أصلاً وإن كان في تلك الحركات
والأوضاع المخصوصة أيضاً ما قد يرتبط به فعله تعالى وتأثير ارتباط ذي العلامة
بالعلامة وارتباط المكشوف عنه بالكاشف.
وهذه ستّة عشر
وجهاً صحيحها الموافق لشرع الإسلام هو الأخير منها ، لبطلان ما عداه ، إمّا لكونه
موجباً للكفر لما يتضمّنه من إنكار وجود الصانع ، أو لما يتضمّنه من التشريك معه
في صفة القدم ، أو لما يتضمّنه من نفي صانعيّة الصانع وإنكار خالقيّته ، أو لما
يتضمّنه من نفي القدرة عنه وإثبات العجز عليه ، أو لما يتضمّنه من تكذيبه تعالى
فيما قاله في الكتاب : «يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» أو لكون
الاعتقاد به من القول بما لا يعلم فيكون آثماً لدخوله في قوله عزّ من قائل : «لا تَقْفُ ما لَيْسَ
لَكَ بِهِ عِلْمٌ» «وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .
المقام الثالث : في نقل الأخبار المتعلّقة
بالمسألة ، وهي على
أنحاء ، منها : ما يدلّ على المنع من التنجيم أو علم النجوم بقول مطلق :
مثل خبر القاسم
بن عبد الرحمن الأنصاري عن محمّد بن عليّ عن أبيه عن الحسين بن عليّ عليهالسلام قال : «نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن خصال ... إلى أن قال : وعن النظر في النجوم» .
وخبر نصر بن
قابوس قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : المنجّم معلون ، والكاهن ملعون ، والساحر ملعون
، والمغنّية ملعونة ومن آواها وأكل كسبها ملعون ، وقال عليهالسلام : المنجّم كالكاهن ، والكاهن كالساحر ، والساحر كالكافر
، والكافر في النار» .
والمرويّ عن
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قال : «عزم عليّ عليهالسلام على الخروج عن الكوفة إلى الحروريّة وكان في أصحابه
منجّم ، فقال له : يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر على ثلاث ساعات مضين
من النهار ، فإنّك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصحابك أذى وضرّ شديد ، وإن سرت في
الساعة الّتي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال له عليّ عليهالسلام : أتدري ما في بطن فرسي هذا أذكر أم انثى؟ قال : إن
حسبت علمت ، فقال عليهالسلام : فمن صدّقك بهذا فقد كذّب بالقرآن ، قال الله
__________________
تعالى : «إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ...» الآية ، ثمّ
قال عليهالسلام : إنّ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ما كان يدّعي علم ما ادّعيت علمه ، أتزعم إنّك تهدي إلى
الساعة الّتي يصيب النفع من سار فيها ، وتصرف عن الساعة الّتي يحيق السوء من سار
فيها ، فمن صدّقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة بالله جلّ وعزّ في صرف المكروه عنه
، وينبغي للموقن بأمرك أن يولّيك الحمد دون الله جلّ جلاله ، لأنّك بزعمك هديته
إلى الساعة الّتي يصيب النفع من سار فيها وصرفته عن الساعة الّتي يحيق السوء بمن
سار فيها ، فمن آمن بك في هذا لم آمن عليه أن يكون كمن اتّخذ من دون الله ضدّاً وندّاً
، اللهمّ لا طير إلّا طيرك ، ولا ضير إلّا ضيرك ، ولا إله غيرك ، ثمّ قال : بل
نخالف ونسير في الساعة الّتي نهيتنا ، ثمّ أقبل على الناس ، فقال : أيّها الناس
إيّاكم والتعلّم للنجوم إلّا ما يهتدى به في ظلمات البرّ والبحر ، إنّما المنجّم
كالكاهن ، والكاهن كالكافر ، والكافر في النار ، أما والله إن بلغني أنّك تعمل
بالنجوم لأخلدنّك السجن أبداً ما بقيت ، ولأحرمنّك العطاء ما كان لي سلطان ، ثمّ
سار في الساعة الّتي نهاه عنه المنجّم فظهر بأهل النهر وظهر عليهم ، ثمّ قال : لو
سرنا في الساعة الّتي أمرنا بها المنجّم لقال الناس : سار في الساعة الّتي أمر بها
المنجّم وظفر وظهر ، أما أنّه ما كان لمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم منجّم ولا لنا من بعده حتّى فتح الله علينا بلاد كسرى
وقيصر ، أيّها الناس توكّلوا على الله وثقوا به فإنّه يكفي ممّن سواه» .
وخبر عبد الملك
بن أعين ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : «إنّي قد ابتليت بهذا العلم فاريد الحاجة فإذا نظرت
إلى الطالع ورأيت الطالع الشرّ جلست ولم أذهب فيها ، وإذا رأيت الطالع الخير ذهبت
في الحاجة ، فقال لي : تقضي ، قلت : نعم ، قال : احرق كتبك» قال المجلسي رحمهالله : «وهذا خبر معتبر يدلّ على أظهر الوجوه على أنّ
الإخبار بأحكام النجوم والاعتناء بسعادة النجوم والطوالع محرّم يجب الاحتراز عنه» .
أقول : يعني
بأظهر الوجوه أظهر الوجوه المحتملة في قوله عليهالسلام : «تقضي» وهو أن
__________________
يكون المراد به الحكم بالحوادث والإخبار بالامور الآتية أو الغائبة ، وأمّا
اعتبار الخبر فلعلّ الوجه فيه كونه ممّا أورده الصدوق في الفقيه بملاحظة ما ضمنه
من إيراد ما أفتى به وحكم بصحّته واعتقد فيه أنّه حجّة فيما بينه وبين ربّه ،
وإلّا ففي سنده على ما ضبطه في المشيخة أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه وهما مجهولان
وهو من موجبات الضعف.
ومنها : ما هو
كالشارح للأخبار المذكورة بعد الإغماض عمّا في أسانيدها من الضعف والقصور ، وهو
المرويّ عن احتجاج الطبرسي عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث «إنّ زنديقاً قال له : ما تقول في علم النجوم؟
قال : هو علم قلّت منافعه وكثرت مضارّه» وفي نسخة اخرى «مضرّاته» وقوله عليهالسلام هذا صغرى لكبرى مطويّة ، تقديرها كلّما قلّت منافعه
وكثرت مضارّه وجب التحرّز عنه وكون الحكم وجوب التحرّز دون رجحانه الّذي أقلّ
مراتبه الاستحباب ، لاستقلال العقل بوجوب التحرّز عمّا كثرت مضارّه.
فهذا يدلّ على
أنّ المنع من علم النجوم لكثرة مضارّه ، وهذه المضارّ الكثيرة لا تخلو عن امور :
منها : ما
تعرّض لذكره في هذا الخبر بعد قوله : «وكثرت مضارّه» بقوله : «لا يدفع به المقدور
، ولا يتّقى به المحذور ، إن خبّر المنجّم بالبلاء لم ينجه التحرّز من القضاء ،
وإن خبّر هو بخير لم يستطع تعجيله ، وإن حدث به سوء لم يمكنه صرفه ، والمنجّم
يضادّ الله في عمله بزعمه أنّه يردّ قضاء الله عن خلقه» .
ومنها : أنّه
قد يؤدّي إلى الطيرة المنهيّ عن ترتيب الأثر عليها والاعتناء بها ، كما يشير إليه
قوله عليهالسلام : «تقضي» في خبر عبد الملك بن أعين على أحد احتماليه ،
وهو إرادة العمل على مقتضى تطيّره ، وهو جلوسه عن الحاجة وعدم ذهابه فيها ، وأصرح
من ذلك دعاؤه المتقدّم في مرسلة ابن أبي الحديد بقوله عليهالسلام : «اللهمّ لا طير إلّا طيرك ...» الخ ونحوه ما في
المرويّ عن مجالس الصدوق رحمهالله.
__________________
ومنها : أنّه
يدعو إلى الكهانة وهو الإخبار بالغائبات الغير الواقعة ، كما يشهد به قوله مولانا
أمير المؤمنين عليهالسلام في خبر الاحتجاج المتقدّم ذكره في باب الكهانة : «أيّها
الناس إيّاكم وتعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في ظلمات البرّ والبحر لأنّها تدعو
إلى الكهانة».
ومنها : أنّه
ربّما يفضي إلى تكذيبه تعالى في قوله تعالى : «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلّا هُوَ» وقوله أيضاً :
و «عِنْدَهُ عِلْمُ
السّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي
نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ» فيما إذا
ادّعى المنجّم العلم بالامور الغائبة الّتي منها ما في الأرحام ونزول الأمطار
وآجال الناس وأفعالهم في مستقبل الزمان وما أشبه ذلك ، كما يشير إليه ما في مرسلة
ابن أبي الحديد المتقدّمة ، ونحوه ما في المرويّ عن مجالس الصدوق من قوله عليهالسلام : «من صدّقك بهذا فقد كذّب بالقرآن» مضافاً إلى أنّه قد
يوجب الكذب في إخباراته لاستحالة الكذب في قوله تعالى.
ومنها : أنّه
يوجب إضلال من يعتمد على قول المنجّم ويصدّقه فيما يدّعيه ويخبر به لتكذيبه القرآن
واتّخاذه إيّاه ضدّاً وندّاً لله سبحانه ، كما دلّ عليه ما في المرويّ عن المجالس
، ونحو مرسلة ابن أبي الحديد من قوله عليهالسلام : «من آمن لك بهذا فقد اتّخذك من دون الله ندّاً وضدّاً».
ومنها : أنّه
يوجب انسلاخ صفة التوكّل عنه أو عن غيره ممّن يقفو أحكامه ، فيجلس عن الحاجة تارةً
ويذهب فيها اخرى.
ومنها : أنّه
قد يفضي إلى تكذيبه تعالى في قدره وقضائه وفي محوه وإثباته.
ومنها : أنّه
قد يستتبع الكفر وفساد المذهب إذا اعتقد التأثير بالاستقلال أو المدخليّة في
الكواكب وحركاتها ، وقد أشار إليه وإلى سابقه المرويّ عن الخصال بسنده عن أبي
الحصين قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : سئل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الساعة؟ فقال : عند إيمان بالنجوم وتكذيب بالقدر» والمرويّ عنه
أيضاً بسنده عن عبد الله بن الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين عليهالسلام عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن
__________________
عليّ عليهالسلام قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أربعة لا تزال في امّتي إلى يوم القيامة ، الفخر
بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة وأنّ النائحة إذا
لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران وذرع من جرب» . قال المجلسي
ـ في شرح الحديث ـ : «الاستسقاء بالنجوم اعتقاد أنّ للنجوم تأثيراً في نزول المطر»
.
أقول : وعلى
هذا فتحريم علم النجوم وتعلّمه إمّا لنفسه ومن حيث هو ، أو لتحريم لوازمه وغاياته
، ولا كلام في الثاني ، والأوّل محلّ إشكال لعدم وضوح دليله ، وإطلاق المنع في
الأخبار المتقدّمة حسن لإثبات ذلك لو استقامت أسانيدها ، وقد عرفت الحال فيها ، مع
أنّ لها معارضات من الروايات المصرّحة بأنّ أصل هذا العلم حقّ وأنّه من علوم
الأنبياء وأنّه ما يعلمه الأئمّة المعصومون عليهمالسلام.
وفيها ما يدلّ
على مدحه كالمرويّ في البحار عن كتاب نزهة الكرام تأليف محمّد بن الحسين بن الحسن
الرازي ، قال المجلسي : وهذا الكتاب خطّه بالعجميّة تكلّفنا من نقله إلى العربيّة
فذكر في أواخر المجلّد الثاني منه ما هذا لفظ من أعربه «وروى أنّ هارون الرشيد بعث
إلى موسى بن جعفر عليهالسلام فأحضره ، فلمّا حضر عنده قال : إنّ الناس ينسبونكم يا
بني فاطمة إلى علم النجوم ، وأنّ معرفتكم بها معرفة جيّدة ، وفقهاء العامّة يقولون
: إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : إذا ذكروا في أصحابي فاسكتوا ، وإذا ذكروا القدر
فاسكتوا ، وإذا ذكروا النجوم فاسكتوا ، وأمير المؤمنين كان أعلم الخلائق بعلم
النجوم وأولاده وذرّيته الّذين تقول الشيعة بإمامتهم كانوا عارفين بها. فقال له
الكاظم عليهالسلام : هذا حديث ضعيف وإسناده مطعون فيه ، والله تبارك
وتعالى قد مدح النجوم ، ولو لا أنّ النجوم صحيحة ما مدحها الله عزوجل ، والأنبياء كانوا عالمين بها ، وقد قال الله تعالى في
حقّ إبراهيم خليل الرحمن عليهالسلام : «وَكَذلِكَ نُرِي
إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» وقال في موضع
آخر : «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ
إِنِّي سَقِيمٌ»
__________________
فلو لم يكن عالماً بعلم النجوم ما نظر فيها وما قال «إِنِّي سَقِيمٌ» وإدريس عليهالسلام كان أعلم أهل زمانه بالنجوم ، والله تعالى قد أقسم
بمواقع النجوم «وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» وقال في موضع
آخر : «وَالنّازِعاتِ غَرْقاً إلى قوله فَالْمُدَبِّراتِ
أَمْراً» ويعني بذلك
اثنى عشر برجاً ، وسبعة سيّارات والّذي يظهر بالليل والنهار بأمر الله عزوجل ، وبعد علم القرآن ما يكون أشرف من علم النجوم ، وهو
علم الأنبياء والأوصياء وورثة الأنبياء الّذين قال الله عزوجل : «وَعَلاماتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» ونحن نعرف هذا
العلم وما نذكره. فقال له هارون : بالله عليك يا موسى هذا العلم لا تظهروه عند
الجهّال وعوامّ الناس حتّى لا يشنّعوا عليك ونفس العوام به وغطّ ، وارجع إلى حرم
جدّك. ثمّ قال له هارون : وقد بقي مسألة اخرى بالله عليك أخبرني بها ، فقال : سل ،
فقال له : بحقّ القبر والمنبر وبحقّ قرابتك من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبرني أنت تموت قبلي أو أنا أموت قبلك لأنّك تعرف هذا
من علم النجوم؟ فقال له موسى عليهالسلام : آمني حتّى اخبرك ، فقال : لك الأمان ، فقال : أنا
أموت قبلك وما كذّبت ولا أكذب ووفاتي قريب» .
بل في بعض
الأخبار ما هو صريح في عدم المنع منه ، غايته أنّه لا ينتفع به ، ففي المرويّ عن
الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن ابن فضّال عن الحسن بن
أسباط عن عبد الرحمن بن سيّابة قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك إنّ الناس يقولون : إنّ النجوم لا يحلّ
النظر فيها ، وهي تعجبني ، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شيء يضرّ بديني ،
وإن كان لا يضرّ بديني فو الله أنّي لأشتهيها وأشتهي النظر فيها ، فقال : ليس كما
يقولون لا تضرّ بدينك ، ثمّ قال : إنّكم تنظرون في شيء منها كثيره لا يدرك وقليله
لا ينتفع به» .
فإنّ ذلك
ونظائره لا بدّ وأن ينزّل على أنّ الإمام عليهالسلام علم من حال السائل أنّ علمه بالنجوم لا يفضيه إلى فساد
عقيدة ، ولا إلى الوقوع في حيثيّة من الحيثيّات القبيحة
__________________
المحرّمة. وقوله عليهالسلام : «وقليله لا ينتفع به» معناه أنّ من لم يدرك كثيره
كالمنجّم فعلمه القليل باعتبار عدم إحاطته بجميع النجوم وحركاتها ومقادير حركاتها
ومعارضاتها ناقص والعلم الناقص ما لا يترتّب عليه الفائدة المقصودة منه ،
كالمقدّمات الناقصة الّتي علامة نقصانها عدم إنتاجها النتيجة المطلوبة منها ،
وقضيّة ذلك غلبة عدم إصابة الواقع في أحكام المنجّمين وإخباراتهم ، ولذا اشتهر بل
نسب إلى الرواية «أنّ كلّ منجّم كذّاب» ولا ينافيه ما قد يتّفق في أحكامهم من
الإصابة لأنّه لضرب من الاتّفاق لا من مقتضى أصل العلم ، وفي ذلك تعريض على عدم
جواز التعويل على أحكامهم بل عدم جواز الحكم والإخبار لهم بصورة الجزم لعدم خلوصه
عن وصيمة الكذب بل الظنّ الغالب فيه الكذب.
فانقدح بجميع كلماتنا المتقدّمة من
البداية إلى تلك النهاية مسائل :
الاولى : الاعتقاد في الأفلاك والكواكب
والنجوم بالقدم الذاتي أو الزماني ، ولا إشكال في كونه حراماً محرّماً لكونه كفراً.
الثانية : الاعتقاد فيها بالحياة والعلم
والإرادة والاختيار ، وهذا أيضاً حرام لكونه مخالفة لإجماع المسلمين ، بل قد يكون من كفر إنكار
ضروريّ الدين على ما ادّعاه غير واحد.
الثالثة : الاعتقاد فيها وفي حركاتها
المخصوصة وأوضاعها المعيّنة بتدبير العالم والتأثير في الحوادث السفليّة بالاستقلال أو المدخليّة
فيها بالاشتراك ، ولا إشكال في تحريمه أيضاً لكونه كفراً.
الرابعة : تعلّم علوم النجوم فإن كان لمجرّد شرافته أو لكون علم الشيء خيراً من جهله
أو لمعرفة الهيئة وأوضاع الأفلاك والكواكب وحركاتها ومقادير حركاتها قصداً إلى
معرفة قدرة الله الكاملة وحكمته البالغة وعجائب مخلوقاته وغرائب مصنوعاته مع
الاطمئنان على نفسه من الأمن عن فساد العقيدة والوقوع في إحدى الجهات المحرّمة
فالظاهر جوازه ، للأصل ، وعدم الدليل على المنع والتحريم ، مع دلالة بعض النصوص
المتقدّم إليها الإشارة عليه. ومع الخوف على نفسه من فساد العقيدة أو الوقوع في
الجهة المحرّمة يحرم كما أنّه يحرم لو قصد به العمل لنفسه أو الحكم والإخبار
لغيره.
الخامسة : النظر في النجوم بعد تعلّم
علمه فإن كان ذلك لمعرفة
أوقات الصلوات
وسائر العبادات وتعيين جهة القبلة حيث يكتفي فيهما بالأمارة الظنّيّة أو
لمعرفة الطرق في البرّ أو البحر فالظاهر جوازه أيضاً ، للأصل المعتضد بالنصّ
والاعتبار بل الإجماع عليه ، وإن كان لاستنباط أحكام من الامور الخفيّة والأشياء
الغيبيّة فإن قصد به مجرّد الاطّلاع الظنّي لا العمل وترتيب الأثر ولا الحكم
والإخبار لغيره فالظاهر جوازه أيضاً ، وإن قصد به عمل نفسه على وجه الإذعان
والقبول ليكون من الطيرة المأمور بالمضيّ فيها وعدم الاعتناء بها وإيكال الأمر
إليه تعالى يحرم ، وإن قصد به الحكم والإخبار لغيره فإن كان حكمه بصورة الجزم مع
دعوى العلم فالظاهر تحريمه ، لكونه كهانة محرّمة وتكذيباً لله سبحانه ومضادّة له
وإضلالاً لضعفاء العقول من الناس الّذين يعتمدون على أحكامهم ويصدّقونهم في دعواهم
وحكمهم. وإن كان على وجه الاحتمال كأن يقول : يحتمل نزول المطر في وقت كذا ، أو
حدوث المرض أو وقوع الرخص في الأسعار أو موت فلان في وقت كذا ـ مثلاً ـ ففي جوازه
والعدم وجهان : من الأصل ، ومن إطلاق النهي. وهو موهون ، والأصل قويّ ، والأحوط
تجنّبه.
السادسة : الرجوع إلى المنجّم استخبار
لتعيين المنحوسة من الساعات وتمييزها عن المسعودة ، فإن كان ذلك على وجه التعويل والإذعان والتصديق الموجب
للخروج عن التوكّل فهو حرام جزماً ، وإن كان لمراعاة الاحتياط والأخذ بالأوثق مع
عدم الخروج عن صفة التوكّل فالأقرب جوازه ، للأصل والاعتبار ، وعدم دليل واضح على
المنع.
النوع التاسع
في المحرّمات النفسيّة
القمار
وليعلم أنّ
القمار على ما يستفاد من كلام القاموس والمحكيّ عن مجمل اللغة يأتي لغة كالقتال مصدراً من باب المفاعلة يقال : «قامر
يقامر مقامرة وقماراً» ومقتضاه أن يقع من اثنين كما هو الأصل في باب المفاعلة فهو
اللعب بالآلات المعدّة له أو مطلقاً إذا وقع من اثنين ، وكالذهاب مصدراً مجرّداً
من باب نصر ينصر كما في القاموس أو ضرب يضرب كما في الصحاح وظاهر عبارة
القاموس أنّه على هذا الاعتبار أيضاً يقع بين اثنين ، وربّما يحتمل وقوعه حينئذٍ
من واحد ولازمه أن لا يكون فيه رهن وعوض لأنّه غير متصوّر من الواحد.
وأمّا على
الاعتبار الأوّل ففي لزومه الرهن والعوض وعدمه قولان ، فعن بعض أهل اللغة أنّه
الرهن على اللعب بشيء من الآلات المعروفة ، وقضيّة ذلك دخول الرهن في ماهيّة
القمار ، ويقتضيه كلام القاموس أيضاً حيث فسّر قامره براهنه فغلبه ، وعن جماعة
كالصحاح والمصباح المنير والتكملة أنّه قد يطلق على اللعب بها مطلقاً أي مع الرهن وبدونه
، وعن بعض أنّ أصل المقامرة المغالبة ، وهذا يقتضي كون القمار بحسب الأصل للأعمّ
ممّا يأتي بهذه الآلات ، لأنّ المغالبة قد يأتي بدونها بل بدون آلة ، كالمغالبة
بالركض والأقدام والمصارعة والمشاعرة والمشابكة وهو المغالبة بتشبيك الأصابع
وبالمشقّ وبالكبش وبالديك والريش وهو الطير كالحمام ونحوه ، والمغالبة في
__________________
هذه الأقسام يكون مع الرهن وبدونه.
فللبحث في الحكم أعني التحريم وعدمه
جهات عديدة ، يقع التكلّم لتحقيقها في مسائل :
الاولى : اللعب بآلات القمار من الاثنين
مع الرهن والعوض ، وفسّر بأجر جعل
للغالب ، ولا إشكال بل لا خلاف في تحريمه. والأصل فيه الإجماع بقسميه ، ولا يبعد
دعوى ضرورة الدين فيه في الجملة.
والكتاب قال
عزّ من قائل : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» وليس المراد
بالأكل المنهيّ عنه هنا معناه المعهود المشتمل على المضغ والازدراد بل إعطاء المال
وأخذه والمعاملة عليه بالباطل وهو القمار ، أو أنّه داخل فيه بشهادة الأخبار
المستفيضة المفسّرة له بالقمار ، وفي غير واحد منها بعد السؤال عن الآية «أنّ
قريشاً كانوا يقامر الرجل منهم بأهله وماله فنهاهم الله عزوجل عن ذلك» وقال أيضاً : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» وقال أيضاً : «إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» بضميمة
الأخبار المستفيضة أيضاً المفسّرة للميسر بالقمار ، وفي بعضها أنّه «كلّما تقومر
به حتّى الكعاب والجوز» وفي بعض آخر «كلّما قومر عليه فهو ميسر» .
والسنّة
لاستفاضة الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة في تحريمه ، بل قيل بكونها متواترة
، وفي بعضها الدلالة على كون اللعب بالبيض أيضاً من القمار كخبر عبد الحميد بن
سعيد قال : «بعث أبو الحسن عليهالسلام غلاماً يشتري له بيضاً ، فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين
فقامر بها فلمّا أتى به أكله ، فقال له مولى له : إنّ فيه من القمار ، قال : فدعا
بطشت فتقيّأ فقاءه» .
__________________
وربّما يطعن
عليه من حيث اشتماله على إقدام المعصوم على تناول المحرّم الواقعي جهلاً ، وهو
مشكل ، لأنّ ما دلّ على عدم جواز الغفلة عليه في ترك الواجب وفعل الحرام دلّ على
عدم جواز الجهل عليه في ذلك.
والخطب في دفعه
سهل ، لما حقّق ودلّ عليه المستفيض من الروايات من كون علمه في الموضوعات إراديّاً
، على معنى أنّه إذا أراد علم شيء منها يعلّمه الله عزوجل من حينه ، وإذا لم يرد لا يعلم إلّا بالأسباب العادية ،
فجهله هنا إنّما هو لأنّه عليهالسلام لم يرد العلم فلا ينافي العصمة ومنصب الإمامة ، وعدم
جواز الجهل عليه كالغفلة عليه في ترك الواجب وفعل الحرام إنّما يسلّم في الأحكام
الكلّيّة الإلهيّة.
ثمّ إنّ
المعاملة القماريّة كما أنّها محرّمة كذلك فاسدة قولاً واحداً ، فيحرم الأعواض
المأخوذة من جهتها بلا خلاف ، قيل : وأجمعوا عليه محصّلاً ومنقولاً حدّ الاستفاضة
، هذا مضافاً إلى آية «لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» ورواية إسحاق
بن عمّار قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون ، فقال : لا
تأكل منه فإنّه حرام» ورواية السكوني عن أبي عبد الله قال : «كان ينهى عن
الجوز يجيء به الصبيان من القمار أن يؤكل ، وقال : هو سحت» .
وحينئذٍ فالمال
المأخوذ في ضمان آخذه ويجب عليه ردّه عيناً إن كانت باقية أو مثلاً أو قيمة إن
كانت تالفة إلى صاحبه إن كان بالغاً وإلّا يردّه إلى وليّه ، وإن كان الآخذ صبيّاً
يردّه وليّه ، وإن كان المالك مجهولاً مطلقاً أو في عدد غير محصور يتصدّق به عنه ،
وعلى القول بكون ولاية المال المجهول المالك مع الحاكم يدفعه إليه أو يتصدّق بإذنه
، وإن كان مجهولاً في عدد محصور يجب محاللتهم ولو بالصلح.
وقد يقال : هنا
بالصلح القهري ، نظير ما ذكروه في التداعي فيما لو كان المال بين اثنين فصاعداً
وأقام كلّ منهما بيّنة على التساوي من جميع الجهات أو حلفا معاً أو نكلا فالمال
بينهما نصفين أو أثلاثاً أو أرباعاً ، والأولى في ذلك الصلح وهو أن يصالح كلّ من
__________________
المتعدّدين تمام ما ادّعاه ، أو ما احتمل كونه له ببعضه وهو الّذي
يأخذه على نسبة القسمة المذكورة.
ولو أكله
حراماً أو نسياناً فتذكّر فهل يجب استفراغه ما دام في المعدة؟ قيل : نعم ،
استناداً إلى رواية عبد الحميد بن سعيد المتقدّمة في فعل أبي الحسن عليهالسلام. والأقوى العدم ، للأصل استضعافاً للرواية سنداً بسهل
بن زياد ودلالة إذ ليس فيها إلّا فعل المعصوم وجهته مجهولة ، ولعلّه للتنزّه أو
لئلّا يصير الحرام جزءاً لبدنه الشريف ، ووجوب التأسّي في مثله غير ثابت ، وأقصاه
الرجحان وبلوغه حدّ الوجوب غير واضح ، مع أنّ الاستفراغ إن كان لردّه إلى صاحبه
ففيه أنّه خرج عن الماليّة وكان في حكم التلف فرجع الردّ إلى البدل مثلاً أو قيمة
، وإن كان لحرمة استبقائه في المعدة أو لحرمة جعله جزءاً للبدن فلا دليل على شيء
منهما.
وهل يحرم
الحضور في مجلس القمار والنظر إليه؟ لم نقف على قائل صريح بالتحريم ، نعم يقتضيه
إطلاق الشهيد في الدروس حيث عدّ من أمثلة ما حرم لعينه «الحضور في مجالس المنكر
لغير الإنكار أو الضرورة» ويظهر من السيّد في الرياض كونه قولاً محقّقاً بل
اشتهاره وكان متردّداً في بلوغه الإجماع حيث إنّه بعد ما ذكر أنّه يستفاد ممّا
استفاض من الأخبار حرمة الحضور في المجالس الّتي يلعب فيها بها والنظر إليها وذكر
هذه الأخبار قال : «إلّا أنّ في إثبات التحريم بذلك إشكالاً إلّا أن يكون إجماعاً»
وأمّا الأخبار المشار إليها الّتي يستفاد منها التحريم :
فكالمرويّ عن
مستطرفات السرائر نقلاً من كتاب جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «بيع الشطرنج حرام ، وأكل ثمنه سحت ، واتّخاذها
كفر ، واللعب بها شرك ، والسلام على اللاهي بها معصية وكبيرة موبقة ، والخائض يده
كالخائض يده في لحم الخنزير ، ولا صلاة له حتّى يغسل يده كما يغسلها من مسّ لحم
الخنزير ، والناظر إليها كالناظر في فرج امّه ، واللاهي بها والناظر إليها في حال
ما يلهى بها والسلام على اللاهي بها في حالته تلك في الإثم سواء ، ومن جلس على
اللعب بها فقد تبوّأ مقعده من
__________________
النار ، وكان عيشه ذلك حسرة عليه في يوم القيامة ، وإيّاك ومجالسة اللاهي
والمغرور بلعبها فإنّها من المجالس الّتي باد أهلها بسخط من الله يتوقّعونه في كلّ
ساعة فيعمّك معهم» .
وصحيح حمّاد بن
عيسى قال : «دخل رجل من البصريّين على أبي الحسن الأوّل عليهالسلام فقال له : جعلت فداك إنّي أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج
ولست ألعب بها ، ولكنّي أنظر ، فقال : ما لك! ولمجلس لا ينظر الله إلى أهله» .
وخبر سليمان
الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : «المطّلع في الشطرنج كالمطّلع في النار» .
وهذه الأخبار
كما ترى واضح الدلالة على حرمة كلّ من الحضور والنظر ولا صارف لها من إجماع على
الخلاف وغيره ، نعم هي مخصوصة بالشطرنج ولعلّ التعدّي إلى غيرها يتمّ بالإجماع على
عدم الفصل إن ثبت.
ومن مشايخنا
وفاقاً لما سمعت من الشهيد من قال : «لا يبعد القول بحرمة الجلوس في مجالس المنكر
ما لم يكن للردّ أو للضرورة بل كان للتنزّه ونحوه ممّا يندرج به في اسم اللاهين
واللاعبين خصوصاً في مثل حضور مجلس الطبل والرقص ونحوهما من الأفعال الّتي لا يشكّ
أهل الشرع والعرف في تبعيّة حاضريها في الإثم لأهلها ، بل هم أهلها في الحقيقة ،
ضرورة أنّ الناس لو تركوا حضور أمثال هذه المجالس لم يكن اللاهي واللاعب يفعلها
لنفسه كما هو واضح» .
أقول : يمكن
استفادة هذا الحكم العامّ من ذيل صحيح حمّاد حيث قال عليهالسلام : «ما لك ولمجلس لا ينظر الله إلى أهله» بتقريب أنّ
الله سبحانه لا ينظر إلى أهالي مجالس المعصية عموماً ، فإنكاره عليهالسلام للحضور فيها يعمّ الجميع.
الثانية : اللعب بتلك الآلات من غير رهن
، وفي تحريمه والعدم
وجهان بل قولان ، ومستند القول بعدم الوجوب الأصل واختصاص أدلّة تحريم القمار بما
كان فيه رهن ،
__________________
إمّا لدخوله في مفهومه أو لانصراف مطلقاته إلى ما فيه لأنّه الغالب. ودعوى
أنّ هذا غلبة وجود والمعتبر في الصرف غلبة الإطلاق ، يدفعها ثبوت الغلبة في
المشتمل على الرهن بحسب الإطلاق أيضاً.
وتوهّم :
الاستناد للتحريم حينئذٍ إلى كونه لهواً وهو حرام ، يدفعه منع قيام الدليل على
تحريم اللهو بقول مطلق.
والأقوى هو
التحريم من جهة الروايات الدالّة عليه عموماً وخصوصاً.
أمّا الأوّل :
فما في رواية تحف العقول من قوله عليهالسلام : «وكذلك كلّ مبيع ملهوّ به ... إلى أن قال : فهو حرام
محرّم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه إلّا في حال
تدعو الضرورة فيه إلى ذلك» وكذلك قوله الآخر : «وما يكون منه وفيه الفساد محضاً ،
ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه وتعلّمه ، والعمل به وأخذ
الاجرة عليه ، وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات».
والخبر المرويّ
عن كتاب المجالس للشيخ الحسن بن محمّد الطوسي رحمهالله بسنده عن عليّ بن موسى الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين
عليهمالسلام قال : «كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر» ولا ريب أنّ
اللعب بتلك الآلات مطلقاً ممّا يلهى عن ذكر الله ، ومقتضى كونه كذلك عموم التحريم
في أدلّة تحريم الميسر كما هو واضح.
ورواية عبد
الله بن المغيرة الّذي قيل فيه إنّه من أصحاب الإجماع رفعه قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حديث : كلّ لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث : في
تأديبه الفرس ، ورميه عن قوسه ، وملاعبته امرأته فإنهنّ حقّ» .
وأمّا الثاني :
فأخبار مستفيضة ، مثل الخبر المتقدّم في المسألة الاولى عن جامع البزنطي ، وفيه
مواضع عديدة من الدلالة.
وخبر أبي
الربيع الشامي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سئل عن الشطرنج والنرد؟ فقال : لا تقربوهما ...»
الحديث. وهذا كما ترى نهي عن جميع أفراد قربهما الّذي منه اللعب
__________________
بهما ولو بغير رهن.
وخبر أبي
الجارود المرويّ عن تفسير عليّ بن إبراهيم عن أبي جعفر عليهالسلام في قول الله تعالى «إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» قال : أمّا
الخمر فكلّ مسكر من الشراب ... إلى أن قال : وأمّا الميسر فالنرد والشطرنج وكلّ
قمار ميسر ... إلى أن قال : كلّ هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشيء من هذا حرام من
الله محرّم ...» الخ. والمراد من القمار آلاته لا معناه المصدري وهو
المقامرة بقرينة قوله عليهالسلام : «وأمّا الميسر فالنرد والشطرنج» وكذلك البيع والشراء لعدم
تعلّقهما بالفعل ، وتحريم الانتفاع به يعمّ ما نحن فيه أيضاً. وتوهّم : أنّه يوجب
ظهور كون المراد صورة الرهن لأنّه الّذي ينتفع به لا الخالي من الرهن ، يدفعه :
أنّ في الخالي أيضاً انتفاعاً كالتلذّذ أو الاشتغال عن هموم الدنيا وازدياد القوّة
الفكريّة والغلبة على الحريف وما أشبه ذلك ، فإطلاق الانتفاع المحرّم يعمّ جميع
أفراده الّتي منها ما نحن فيه.
وخبر يعقوب بن
يزيد عن بعض أصحابنا قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن اللعب بالشطرنج؟ فقال : الشطرنج من الباطل» يدلّ على أنّ
اللعب بالشطرنج يحرم باعتبار كونه باطلاً فيعمّ الخالي من الرهن لأنّه أيضاً من
الباطل.
ونحوه في
الدلالة خبر الفضيل قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن هذه الأشياء الّتي يلعب بها الناس النرد والشطرنج
حتّى انتهيت إلى السدر؟ فقال : إذا ميّز الله الحقّ من الباطل مع أيّهما يكون؟ قال
: مع الباطل ، قال : فما لك وللباطل» .
ونحوه موثّق
زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنّه سئل عن الشطرنج وعن لعبة شبيب الّتي يقال لها : لعبة الأمير ، وعن
لعبة الثلث؟ فقال : أرأيت إذا ميّز الله الحقّ والباطل مع أيّهما تكون؟ قال : مع
الباطل ، قال : فلا خير فيه» .
قيل في وجه
الدلالة في هذه الثلاث ونظائرها : إنّ مقتضى إناطة الحكم بالباطل
__________________
واللعب عدم اعتبار الرهن في اللعب بهذه الأشياء ، ولا يجري دعوى الانصراف
هنا.
الثالثة : في اللعب بغير الآلات
المعمولة في القمار الّذي يقال له
المغالبة والمراهنة أيضاً إذا كان مع الرهان ، كالمصارعة والمسابقة بالركض
والمغالبة بتشبيك الأصابع أو بالخطّ أو بالمشاعرة أو بالكبش أو الديك أو الأسد أو
الجاموس أو العوامل وما أشبه ذلك ، ولا خلاف لأحد في فساد هذه المعاملة بجميع
أنواعها إذا كانت مع الرهان ، فلا يخرج عن ملك صاحبه فيكون أخذه والتصرّف فيه
أكلاً للمال بالباطل. فيحرم بنصّ الآية ، فالفساد ممّا لا بحث فيه هنا. بل الكلام
في حكمها التكليفي وهو الحرمة وعدمها ، فإن كانت مع الرهان فعن العلّامة
الطباطبائي في مصابيحه التصريح بعدم الخلاف في الحرمة والفساد ، وقضيّة
الإجماعات المنقولة في حرمة ما لا رهان فيه كما ستعرفه أن يكون الحرمة هنا أيضاً
إجماعيّة بل بطريق أولى.
وقيل : إنّه
ظاهر كلّ من نفى الخلاف في تحريم المسابقة فيما عدا المنصوص مع العوض وجعل محلّ
الخلاف فيها بدون العوض ، فإنّه بظاهره يعطي أنّ محلّ الخلاف هنا هو محلّ الوفاق
هناك ، بل عن تذكرة العلّامة في خصوص المصارعة «أنّه لا تجوز المسابقة على
المصارعة بعوض ولا بغير عوض عند علمائنا أجمع لعموم النهي إلّا في الثلاثة الخفّ
والحافر والنصل» ومع هذا كلّه فبعض مشايخنا صار هنا أيضاً
إلى الجواز كما صار إليها فيما لا رهان فيه الّذي نسب السيّد في الرياض التحريم فيه
إلى الأكثر ، وعن المسالك أنّه وصفه بالأشهريّة ، وحكى السيّد عن جماعة نقل
الإجماع عليه كالمهذّب البارع وجامع المقاصد والفاضل وقد سمعت إجماعه في التذكرة وعن صاحب
الكفاية عن الشيخ في المبسوط الإجماع عليه
أيضاً ، والسيّد مع ما عرفت منه خالف الأكثر فصار إلى الجواز ، ووافقه
شيخنا في الجواهر .
فقد ظهر بما
حرّرناه اختلاف أقوال الأصحاب في حكم المغالبة تكليفاً وهي
__________________
الحرمة مع الرهان وبدونه ، والجواز فيهما ، والحرمة مع الرهان والجواز
بدونه. والأقوى القول الأوّل ، لنا عموم المرويّ عن المجالس من قول مولانا أمير
المؤمنين : «كلّ ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر» وعموم ما في
رواية ابن المغيرة المتقدّمة من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «كلّ
لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث» ولا ريب في كون اللعب بالمراهنة بل مطلق المغالبة
والمسابقة لهواً وملهياً عن ذكر الله فيحرم.
والظاهر أنّ
موضوع اللهو الّذي اخذ منه الإلهاء موكول إلى العرف فلا ينتقض بفعل المباحات
الأصليّة ، أو يقال : إنّ ملاكه التلذّذ النفساني الغير المعتدّ به عند العقلاء أو
ما لم يتعلّق به غرض عقلائي هذا ، مضافاً فيما فيه رهان إلى قول الصادق عليهالسلام : «أنّ الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ما خلا
الحافر والخفّ والنصل» وإلى خبر العلاء بن سيّارة عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث قال : «إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخفّ
والحافر والريش وما سوى ذلك فهو قمار حرام» ولو تعلّق بشيء من هذه الأفعال غرض عقلائي يخرجه عن
اللهو كالمصارعة لإصلاح المزاج والركض لتقوية الطبيعة وما أشبه ذلك فلا ينبغي
التأمّل في الجواز.
وقد يستدلّ على
الحرمة بعموم قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا سبق إلّا في ثلاثة الخفّ والحافر والنصل» فإنّه يدلّ
على حصر الجواز في الثلاثة فيحرم ما عداها وهو عامّ. وردّ بأنّه إنّما يسلّم على
احتمال السكون في لفظ «سبق» لأنّه حينئذٍ معنى مصدري بمعنى المسابقة ، وأمّا على
قراءة الفتح وهو حينئذٍ بمعنى المال المبذول للسابق فغايته الدلالة على حرمة المال
وهي لا تلازم حرمة الفعل. واحتمال السكون معارض باحتمال الفتح ولا مرجّح ، فحصل
الإجمال المانع من الاستدلال.
أقول : يمكن
منع الدلالة على احتمال السكون أيضاً ، لأنّ كلمة «لا» النافية للجنس بعد تعذّر
حقيقتها ظاهرة في نفي الصحّة لأنّها أقرب إلى الحقيقة عرفاً واعتباراً
__________________
فلا تصرف منه إلى نفي الجواز لأنّه مجاز بعيد لهذه اللفظة ، فغايتها
الدلالة حينئذٍ على فساد المعاملة الرهانيّة في غير الثلاثة وهي لا تلازم الحرمة.
وتمسّك بعض
مشايخنا لما صار إليه من الجواز بالأصل ، وانصراف أدلّة القمار
إلى غير ما نحن فيه ، والسيرة القطعيّة من الأعوام والعلماء في المغالبة بالأبدان
وغيرها ، وقد روي مصارعة الحسن والحسين بمحضر من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وفي الجميع ما
لا يخفى ، إذ الأصل يخرج عنه بما سمعت ، ولا انصراف فيه ، والسيرة المدّعاة على
وجه تكشف عن التقرير والرضا ممنوعة ، وتحقّقها على وجه القطع فيما بين المعتبرين
من العلماء من الخلف والسلف غير معلوم وعمل البعض لا حجّية فيه ، وتحقّقها فيما
بين الجهّال من العوام ممّا لا ينبغي الاعتداد به ، ومصارعة الحسنين رواية لم يعلم
العمل بها من الأصحاب ، ولو سلّم فلعلّ الجواز في حقّهما لكونهما بحسب الظاهر في
سنّ الطفوليّة فكيف يستدلّ به على الجواز في حقّ المكلّفين البالغين ، ومع هذا
كلّه فهي قضيّة في واقعة ولا مقتضي للتعدّي إلى غيرها إلّا القياس المحرّم ، مع
احتمال تطرّق النسخ كما يساعد عليه عمومات المنع وغيرها حسبما عرفت.
__________________
النوع
العاشر
الغشّ
بما يخفى
وليعلم أوّلاً
أنّه قال صاحب القاموس في مادّة الغشّ : غشّه لم يمحضه النصح أو أظهر له خلاف ما
أضمر كغشَّشه ، والغشّ بالكسر الاسم منه ... إلى أن قال : والمغشوش الغير الخالص ،
والغشّ محرّكة الكدر المشوب ...» إلى آخر ما ذكره.
ويستفاد من
كلامه مجيء الغشّ لمعان : عدم إمحاض النصح ، وأن يظهر له خلاف ما أضمر ، وأن يفعل
في الشيء ما يخرجه عن كونه خالصاً وهو أن يشوبه بغير جنسه كشوب اللبن بالماء ومزج
الحنّاء بقشر الرمّان وخلط الطحين بدقيق الشعير أو الدخن وما أشبه ذلك ، فالشيء
المشوب فيه يقال له : المغشوش ، أي الغير الخالص.
وأوّل هذه
المعاني خارج عن محلّ البحث وإن كان هو أيضاً محرّماً لأنّه عبارة عن أن يشوب
الناصح في نصيحته الواجبة عليه خصوصاً في حقّ المستشير خلاف النصيحة بصورتها بحيث
لا يلتفت إليه صاحبه ، ولا ريب في حرمته ولكنّه لا دخل له بموضوع المسألة.
وكذلك المعنى
الثاني وإن كان هو أيضاً محرّماً ، لأنّه عبارة من أن يضمر إنسان في حقّ المؤمن
خيانة فيظهره له بصورة النصيحة ، ويقال له : المكر أيضاً المنصوص على حرمته فتوى
ونصّاً كتاباً وسنّة ، وإن كان ربّما أمكن توجيهه بحيث يعمّ بعض أفراد موضوع
المسألة بجعل الإضمار أعمّ من إضمار الخيانة وإخفاء عيب المال ، إلّا أنّه
__________________
خلاف الظاهر لظهور الإضمار في أمر قلبي.
وأمّا المعنى
الثالث فهو من موضوع المسألة إلّا أنّ معقد فتاوي الأصحاب ومورد الأدلّة من
الإجماعات والروايات أعمّ منه لجهات ، فإنّ الغشّ قد يكون بإدخال غير الجنس في
الجنس كمزج اللبن بالماء والحنّاء بقشر الرمّان والطحين بدقيق الشعير أو الدخن
والحنطة بالتراب أو بالشعير.
وقد يكون
بإدخال الرديء من الجنس بجيّده كخلط الحنطة الجيّدة بالرديئة والسمن الجيّد
بالرديء منه.
وقد يكون
بإظهار الشيء بغير جنسه بنحو من التمويه كطلي الصفر بماء الفضّة وإظهاره فضّة
وطلي الرصاص بماء الذهب وإظهاره ذهباً ويقال له المموّه ومنه إظهار لبن البقر باسم
لبن الضأن أو المعز وإظهار لحم البقر أو البعير باسم لحم الغنم وإظهار دبس التمر
باسم دبس العنب.
وقد يكون
بإظهار صفة جيّدة للشيء مفقودة فيه واقعاً.
وقد يكون
بإخفاء عيب الشيء وهذا أعمّ من الحقيقي والحكمي ، ومنه بيع المتاع المعيوب أو
الرديء في الظلال على ما ورد في رواية هشام بن الحكم قال : «كنت أبيع السابري في الضلال ،
فمرّ بي أبو الحسن عليهالسلام فقال : يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ والغشّ لا يحلّ»
.
وقد يكون
بإحداث صفة في الشيء كرشّ التنباكو بماء البقم ونحوه ليعتريه اللون الجيّد ، ومنه
وضع الإبريسم في مكان رطب أو بارد ليكتسب ثقلاً.
ثمّ إنّ الخلط
والمزج قد يكون بما لا يخفى على المشتري كخلط الحنطة بالتراب أو بالشعير والأبيض
منها بالأحمر وما أشبه ذلك ، وهذا ممّا لا حرمة فيه قولاً واحداً ، بل قد يقال
بخروجه عن موضوع الغشّ لما يعتبر فيه كون المزج بما لا يظهر ، وكذلك غير المزج من
الأنواع المذكورة فيعتبر في الجميع كونه بما يخفى.
__________________
وينبغي أن
يقيّد بكون الخفاء وعدم الظهور لذاته لا لمسامحة المشتري في التحرّي ، فإنّه لو
كان على هذا الوجه لا حرمة فيه ولا أظنّ قائلاً بحرمته.
ثمّ الغشّ بما
يخفى في جميع أنواعه قد يكون لغرض آخر غير البيع وهذا أيضاً ليس بمحرّم بالضرورة.
وما كان منه للبيع قد يكون البائع يعلم المشتري بغشّه ، وهذا أيضاً لا حرمة فيه
قولاً واحداً. فموضوع المسألة هو الغشّ بما لا يعرفه المشتري إلّا بإعلام البائع
وهو لا يعلمه ، وحينئذٍ فغشّ المسلم على ما ورد في الأخبار إنّما يكون ببيعه
المغشوش من المسلم ، وإطلاق الغشّ على البيع حينئذٍ كما في قوله عليهالسلام : «ليس من المسلمين من غشّهم» وقوله أيضاً :
«من غشّ الناس فليس بمسلم» وقوله أيضاً : «ليس منّا من غشّ مسلماً أو ماكره» مجازي من باب
وصف الشيء بصفة متعلّقه ، فإنّ الوصف حاصل في المبيع لا في نفس البيع.
ويمكن كون
القدر الجامع بين الأنواع المذكورة هو الخيانة وهي المرادة من الغشّ كما يقتضيه
كلام بعض أهل اللغة ويقتضيه المقابلة بينه وبين النصح ، ويساعد عليه بعض الروايات
الآتية فيكون إطلاق الغشّ على البيع حينئذٍ لأجل كونه مصداقاً له ، على معنى أنّ
البيع في جميع الأنواع المذكورة خيانة.
ثمّ إنّ الغشّ
بمعنى بيع المغشوش قد يتكلّم فيه من حيث حكمه التكليفي وهو الحرمة وعدمها ، وقد
يتكلّم فيه من حيث حكمه الوضعي على تقدير وهو الفساد وعدمه ، فالبحث يقع في مقامين
:
المقام الأوّل
: فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يظهر كما في كلام جماعة حرمة الغشّ ، وعن
المنتهى التصريح بذلك ، والنصوص به مع ذلك متظافرة بل قيل
متواترة ، ففي صحيح هشام بن سالم على الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لرجل يبيع التمر : يا فلان ، أما علمت أنّه ليس من
المسلمين من غشّهم» .
وصحيح هشام بن
الحكم قال : «كنت أبيع السابريّ في الظلال ، فمرّ بي أبو الحسن الأوّل موسى عليهالسلام فقال :يا هشام،إنّ البيع في الظلال غشّ ، والغشّ لا يحلّ»
.
وفي حديث
المناهي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّه قال : «ومن غشّ مسلماً في شراء وبيع فليس منّا ،
ويحشر يوم القيامة مع اليهود لأنّهم أغشّ الخلق للمسلمين» .
وعن عقاب
الأعمال بسنده عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال ـ في حديث ـ : «ومن غشّ مسلماً في شراء أو بيع فليس
منّا ويحشر مع اليهود يوم القيامة ، لأنّه من غشّ الناس فليس بمسلم ... إلى أن قال
: ثمّ قال رسول الله : ألا ومن غشّنا فليس منّا قالها ثلاث مرّات ، ومن غشّ أخاه
المسلم نزع الله بركة رزقه وأفسد عليه معيشته ووكله إلى نفسه» .
وعن عيون
الأخبار بأسانيده عن الرضا عليهالسلام عن آبائه قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره» .
وعن السكوني عن
أبي عبد الله عليهالسلام «قال : نهى النبيّ صلىاللهعليهوآله أن يشاب اللبن بالماء للبيع».
وعن موسى بن
بكر قال : «كنّا عند أبي الحسن عليهالسلام وإذا دنانير مصبوبة بين يديه ، فنظر إلى دينار فأخذه
بيده ثمّ قطعه بنصفين ، ثمّ قال لي : ألقه في البالوعة حتّى لا يباع بشيء فيه غشّ»
.
وعن الحسين بن
زيد الهاشمي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «جاءت زينب العطّارة الحولاء إلى نساء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وبناته ، وكانت تبيع منهنّ العطر ، فجاء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهي عندهنّ ، فقال : إذا أتيتنا طابت بيوتنا ، فقالت :
بيوتك بريحك أطيب يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : إذا بعت فأحسني ولا تغشّي فإنّه أتقى وأبقى للمال»
.
__________________
وفي رواية سعد
الإسكاف عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «مرّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في سوق المدينة بطعام ، فقال لصاحبه : ما أرى طعامك
إلّا طيّباً ، وسأله عن سعره ، فأوحى الله عزوجل إليه أن يدسّ يده في الطعام ، ففعل فأخرج طعاماً رديئاً
، فقال لصاحبه : ما أراك إلّا وقد جمعت خيانة وغشّاً للمسلمين» .
وفي مرسلة عبيس
بن هشام عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «دخل عليه رجل يبيع الدقيق ، فقال : إيّاك والغشّ
فإنّه من غَشّ غُشّ في ماله ، فإن لم يكن له مال غُشّ في أهله» .
وفي رواية
الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يشتري طعاماً فيكون أحسن له وأنفق أن يبلّه من
غير أن يلتمس زيادة؟ فقال : ان كان بيعاً لا يصلحه إلّا ذلك ولا ينفعه غيره ، من
غير أن يلتمس فيه زيادة فلا بأس ، وإن كان إنّما يغشّ به المسلمين فلا يصلح» .
وروايته الاخرى
قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون عنده لونان من الطعام سعرهما بشيء ،
وأحدهما أجود من الآخر فيخلطهما جميعاً ثمّ يبيعهما بسعر واحد؟ قال : لا يصلح له
أن يغشّ المسلمين حتّى يبيّنه» .
وصحيحة محمّد
بن مسلم عن أحدهما عليهماالسلام أنّه سئل عن الطعام يخلط بعضه ببعض ، وبعضه أجود من
بعضه؟ قال : إذا رُئيا جميعاً فلا بأس ما لم يغطّ الجيّد الرديء» .
ورواية داود بن
سرحان قال : «كان معي جربان من مسك أحدهما رطب والآخر يابس ، فبدأت بالرطب فبعته ،
ثمّ أخذت اليابس أبيعه ، قال : أنا لا اعطي باليابس الثمن الّذي يسوى ولا يزيدوني
على ثمن الرطب ، فسألت أبا عبد الله عليهالسلام عن ذلك أيصلح لي أن أنديه؟ قال : لا ، إلّا أن تعلّمهم
، قال : فنديته ثمّ أعلمتهم ، قال : لا بأس» .
__________________
وهذه الروايات
كما ترى في الدلالة على المنع تعمّ الأنواع المتقدّمة بأجمعها خصوصاً إذا اعتبرنا
الغشّ بمعنى الخيانة ، كيف وأنزل المراتب بيع الشيء في الظلال وقد نصّت رواية
هشام بن الحكم بكونه غشّاً وأنّه لا يحلّ ، وفي جملة منها الدلالة على اعتبار
الخفاء وعدم الظهور على المشتري في الغشّ المحرّم ، كدلالة جملة منها على خروجه عن
الحكم أو الموضوع بإعلام البائع وبيانه.
المقام الثاني
: في حكم الغشّ من حيث فساد المعاملة وعدمه ،لمصير جماعة منهم ثاني الشهيدين
وتبعه محقّقو مشايخنا إلى العدم ولعلّه مذهب الأكثر ، خلافاً للمحكيّ عن
المحقّق الأردبيلي لمصيره إلى الفساد استناداً إلى ورود النهي فيكون
المغشوش منهيّاً عن بيعه. ويظهر من المحكيّ عن المحقّق الثاني في جامع المقاصد
التردّد ، حيث إنّه بعد ما ذكر الغشّ بما يخفى ومثّل له بمزج اللبن بالماء ذكر في
صحّة المعاملة وفسادها وجهين : «من حيث إنّ المحرّم هو الغشّ والمبيع عين مملوكة
ينتفع بها ، ومن أنّ المقصود بالبيع هو اللبن والجاري عليه العقد هو المشوب» .
وحاصل وجه
الصحّة أنّ النهي تعلّق بالغشّ وهو أمر خارج عن المعاملة ، والمقصود من العقد بيع
هذا اللبن المشوب وهو عين مملوكة ينتفع بها فيصحّ ، لأنّه عقد وقع من أهله في
محلّه. وحاصل وجه الفساد أنّ مقصود المتعاقدين في البيع هو اللبن والعقد وقع على
المشوب ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد فيفسد ، لأنّ العقود يتبع القصود. ولذا
يظهر من ذيل عبارته بناء الوجهين على الإشكال في مسألة تعارض الإشارة والاسم وأنّه
يبني فيها على تغليب الإشارة أو على تغليب الاسم ، كما لو باع هذا الفرس فبان
حماراً ، ومعنى تغليب الإشارة في مورد هذا المثال استظهار أنّ المقصود بالذات هو
البيع للحمار ، واسم الفرس وقع عليه خطأ ، وعليه مبنيّ احتمال الصحّة لوقوع العقد
على ما قصد ، ومعنى تغليب الاسم استظهار أنّ المقصود بالذات هو البيع للفرس
والإشارة وإجراء العقد على المشار إليه وقع خطأ ، وعليه مبنيّ احتمال
__________________
الفساد لعدم وقوع ما قصد.
ومنشأ الإشكال
اشتباه الدلالة اللفظيّة لهذه العبارة ونظائرها ، وتحقيق المقام مبنيّ على النظر
في تشخيص المنهيّ عنه ومتعلّق الحرمة هل هو الغشّ للبيع كما هو صريح قوله : «نهى
النبيّ أن يشاب اللبن بالماء للبيع» وهو أيضاً ظاهر حديثي المناهي وعقاب الأعمال بل ظاهر
حديث زينب العطّارة ، أو هو البيع لكونه غشّاً كما هو مقتضى حديث هشام بن الحكم في
بيع السابري في الظلال ، أو هو بيع المغشوش كما عليه مبنيّ قول الأردبيلي؟
ودلالة النهي
على فساد المعاملة إنّما يسلّم على هذا التقدير ، لكون البيع حينئذٍ من المنهيّ
عنه لنفسه فيفيد النهي إمّا شرطيّة الخلوص أو مانعيّة الخلط ، وأيّاً ما كان فهو
يفيد الفساد باعتبار انتفاء شرط الصحّة أو وجود مانع الصحّة على قياس ما هو الحال
في النهي عن بيع الأعيان النجسة المقتضي لشرطيّة الطهارة الأصليّة في المبيع أو
مانعيّة النجاسة الذاتيّة فيه عن الصحّة ، وكذلك النهي عن بيع المغصوب المقتضي
لشرطيّة المملوكيّة أو مانعيّة المغصوبيّة.
وأمّا على
الوجهين الأوّلين : فلا يقتضي النهي المفروض فيهما فساد المعاملة ، أمّا على الوجه
الأوّل فلأنّ النهي متعلّق بالغشّ للبيع وهو لا يستلزم حرمة البيع فضلاً عن فساده
، نظير النهي عن الكذب للبيع.
وأمّا على
الوجه الثاني : فلأنّ النهي متعلّق بالبيع لأمر خارج أعمّ منه من وجه متّحد معه في
الوجود ، نظير المكالمة مع الأجنبيّة المنهيّ عنها المتّحدة مع البيع بالصيغة معها
، ومثل هذا النهي لا يوجب فساد البيع لعدم كونه من المنهيّ لنفسه ولا لجزئه ولا
لشرطه ولا لوصفه اللازم ، ولقد عرفت أنّ قضيّة طائفة من أخبار الباب تعلّق النهي
بالغشّ على الوجه الأوّل أو على الوجه الثاني ، فيحمل على أحدهما مطلقات الأخبار
كقوله : «ليس من المسلمين من غشّهم» و «من غشّ الناس فليس منّا» وما أشبه ذلك.
__________________
وأمّا تعلّقه
على الوجه الثالث : فممّا لا شاهد عليه في الروايات فلا يلتفت إلى احتماله.
وتوهّم : وروده
على هذا الوجه من حديث الدنانير المصبوبة حيث قال عليهالسلام : ـ فيه بعد كسر الدينار المغشوش ـ «القه في البالوعة
حتّى لا يباع بشيء فيه غشّ» لعود ضمير «لا يباع» إلى ذلك الدينار المغشوش.
يدفعه أوّلاً :
عدم كون هذه الرواية بظاهرها معمولاً بها ، لعدم وجوب الكسر ولا الإلقاء في
البالوعة. ولو سلّم فأقصى ما فيها من الدلالة إنّما هو الأمر بالإلقاء في البالوعة
لا النهي عن البيع ولا ملازمة بينهما ، ولو سلّم النهي أيضاً فقصارى ما فيه حرمة
البيع ، وأمّا أنّه لكونه غشّاً أو لكونه بيعاً للمغشوش فلا دلالة فيها على أحدهما
صراحةً ولا ظهوراً ، فيكون بالقياس إلى الوجه الثاني مجملة. على أنّه بعد الكسر قد
ظهر ما خفي فيه من الغشّ ، وقد عرفت عدم الحرمة حينئذٍ.
وأمّا كلام
المحقّق الثاني وبناؤه الفساد على مسألة تغليب الاسم ففيه : أنّ الأقوى والأصحّ في
مسألة تعارض الاسم والإشارة نوعاً وإن كان تغليب الاسم أخذاً بما هو الظاهر
المنساق من العبارة في متفاهم العرف ـ من كون قصد المتعاقدين إلى العنوان الواقع
اسمه على الشخص الخارجي وهو المشار إليه الحاضر كالحمار في المثال المتقدّم فيكون
وقوع الإشارة وجريان العقد عليه على الخطأ والاشتباه ، فالمقصود بالذات في نحو
المثال إنّما هو بيع الفرس وشراؤه ـ إلّا أنّ اسمه لم يصادف مصداقه بل صادف مصداق
غيره ممّا ليس مقصوداً بالذات ، فيفسد العقد لأنّ ما قصد لم يقع العقد عليه وما
وقع العقد عليه لم يقصد.
وأمّا إدراج ما
نحن فيه من الغشّ بإجراء العقد على المغشوش كاللبن المشوب ونحوه في عنوان هذه
المسألة فليس على ما ينبغي ، إذ لا تعارض فيه بين الاسم والإشارة بل هما متطابقان
، ضرورة أنّ مقصود البائع والمشتري بالبيع إنّما هو اللبن وله بحسب الخارج مصداقان
صحيح وهو الخالص ، ومعيب وهو المشوب ، والاسم صادق عليهما حقيقة ، إذ المفروض عدم
كون الخلط والشوب بحيث أخرجه عن اللبنيّة وإلّا
__________________
خرج عن موضع مسألة الغشّ وكان بيعه فاسداً ، فلو قال : بعتك هذا اللبن
مشيراً إلى المشوب ، فقد باع ما هو من مصاديق العنوان المقصود بالبيع ، فقد صادف
الاسم والإشارة محلّهما ، والعقد جرى على ما هو من مصاديق المقصود فيكون صحيحاً ،
غاية الأمر كون المبيع معيوباً فيثبت للمشتري خيار العيب ، وكذا الحكم من حيث ثبوت
الخيار في سائر أنواع الغشّ بالبيع.
ويلحق بباب
الغشّ أمران :
أحدهما : النجش
بفتح النون وسكون الجيم ، وهو عبارة عن أن يزيد الرجل في قيمة سلعة رجل وهو لا
يريد شراءها ليرغب فيه غيره فيزيد لزيادته ، وهو سواء كان مع المواطاة مع البائع
أو لا معها حرام شرعاً بلا خلاف ظاهراً ، بل عن جامع المقاصد نقل الإجماع
عليه ، وفي النبويّ «لعن الناجش والمنجوش له» وفي آخر «لا تناجشوا» وربّما اجبرا
بالإجماع المنقول ، بل قيل : قبيح عقلاً لأنّه غشّ وتلبيس وإضرار ، وعلى تقدير
كونه من الغشّ المنهيّ عنه يكفي في إثبات تحريمه كلّ ما دلّ على تحريم الغشّ من
المطلقات.
وقد يفسّر
النجش كما في القاموس والمجمع «بأن يمدح السلعة في البيع ليروّجها ويقع غيره
فيها» مع المواطاة للصاحب أو لا معها قيل : وحرمته بهذا التفسير خصوصاً لا مع المواطاة يحتاج
إلى دليل ، وحكي الكراهة عن بعض.
أقول : كأنّه
نزّله على كون المدح بما يستحقّها السلعة لاتّصافها بالصفة الممدوحة ، وإلّا فلا
ينبغي التأمّل في القبح والحرمة لكونه كذباً وإغراء وتغريراً وإضراراً ، بل ربّما
يندرج في غشّ البائع إذا كان مع المواطاة كما لا يخفى.
وأمّا الكراهة
في صورة الاستحقاق فهي أيضاً محتاجة إلى الدليل ، وعلى القول
__________________
بكفاية فتوى الفقيه في تسامح أدلّة السنن لا يبعد التزامها.
ثانيهما :
تدليس الماشطة الّتي يراد تزويجها أو الجارية الّتي يراد بيعها ، والمراد به في
كلام الأصحاب أعمّ من كتمان عيوبها أو إظهار محاسن لها ليست فيها ليرغب فيها
الخاطبون والراغبون ، كتحمير وجهها وتسويم حواجبها لترى طويلة أو متقوّسة ، وهو
على المعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يظهر حرام ، وفي الرياض بلا خلاف ،
وعن الأردبيلي الإجماع عليه ، وهو مع ذلك إغرار وإغرار وإضرار فيقبح
عقلاً بل غشّ بمعنى الخيانة أو عدم إمحاض فيعمّه دليل تحريمه.
ويدلّ عليه في
الجملة الخبر المرويّ عن معاني الأخبار بسنده عن جعفر بن محمّد عليهالسلام عن آبائه قال : «لعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم النامصة والمنتمصة والواشرة والموتشرة ، والواصلة
والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة» .
قال الصدوق في
شرح هذه الامور الأربع ـ ناقلاً عن عليّ بن غراب راوي الحديث ـ : «النامصة الّتي
تنتف الشعر ، والمنتمصة الّتي يفعل ذلك بها ، والواشرة الّتي تشر أسنان المرأة
وتفلجها وتحدّدها ، والموتشرة الّتي يفعل ذلك بها ، والواصلة الّتي تصل شعر المرأة
بشعر امرأة غيرها ، والمستوصلة الّتي يفعل ذلك بها ، والواشمة الّتي تشم وشماً في
يد المرأة أو في شيء من بدنها ، وهو أن تغرر بدنها أو ظهر كفّها أو شيئاً من
بدنها بإبرة حتّى تؤثّر فيه ثمّ تحشوه بالكحل أو بالنورة فتخضر» انتهى. واللعن
ظاهر في التحريم ، وإطلاقه يعمّ صورة التدليس من فعل هذه الامور بل هو القدر
المتيقّن من الإطلاق.
وأمّا لو كان
كتمان العيب أو إظهار الحسن لا للتدليس بل للزينة للزوج فالظاهر جوازه بلا خلاف
يظهر ، للأصل ، مضافاً إلى النصوص ـ الدالّة على الرخصة في الزينة بل استحبابها
للزوج ـ الّتي منها : رواية سعد الإسكاف قال : «سئل أبو جعفر عليهالسلام عن القرامل الّتي تضعها النساء في رءوسهنّ يصلنه
بشعورهنّ؟ فقال : لا بأس على المرأة
__________________
بما تزيّنت به لزوجها ، قال : فقلت : بلغنا أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لعن الواصلة والموصولة ، فقال : ليس هنالك إنّما لعن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الواصلة الّتي تزني في شبابها فلمّا كبرت قادت النساء
إلى الرجال فتلك الواصلة والموصلة» .
فهذه الرواية
كما ترى بإطلاقها بل عمومها يعمّ الامور الأربع المتقدّمة في حديث اللعن ، فتدلّ
على جوازها للزينة ، فيتعارض مع هذا الحديث تعارض العامّين من وجه ، وتخصيص حديث
اللعن بصورة التدليس طريق جمع بينهما.
والعكس أيضاً
بتخصيص رواية الزينة بما عدا الامور الأربع وإن كان محتملاً في بادئ النظر غير
أنّه مزيّف باستلزامه تخصيص العامّ بالمورد وهو إخراج المورد عن تحته ، فإنّ من
الامور الأربع وصل شعر المرأة وهو مورد السؤال في الرواية.
إلّا أن يذبّ
عن ذلك بأنّ أحد الامور الأربع وصل شعر المرأة بشعر امرأة اخرى ومورد الرواية هو
القرامل ، ولعلّ المراد به وصل شعرها بصوف أو شعر معز كما ورد في عدّة أخبار ، فلا
يلزم المحذور المذكور بتخصيص الرواية بما عدا الامور الأربع.
ولكن يرد عليه
أوّلاً : أنّ في بعض الأخبار ما يظهر كون القرامل للأعمّ ، كخبر عبد الله بن الحسن
قال : «سألته عن القرامل؟ قال : وما القرامل؟ قلت : صوف تجعله النساء في رءوسهنّ ،
قال : إذا كان صوفاً فلا بأس ، وإن كان شعراً فلا خير فيه من الواصلة والموصولة» فإنّ القرامل
لو لا كونه أعمّ كان تفصيل الإمام عليهالسلام لغواً.
وثانياً : أنّ
تحريم وصل الشعر بالشعر مطلقاً خلاف النصّ والإجماع.
أمّا الأوّل :
فلظهور «لا خير» في الخبر المتقدّم في الكراهة ، ويفصح عنها بل يدلّ على الجواز ما
تقدّم في خبر سعد الإسكاف من إنكاره عليهالسلام لعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الواصلة والموصولة بمعنى واصلة الشعر ، وصرفه اللفظين
في قضيّة لعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى معنى الزانية والقائدة.
وأمّا الثاني :
فلما عن الخلاف والمنتهى من الإجماع على أنّه يكره وصل
__________________
شعرها بشعر غيرها رجلاً كان أو امرأة. وعلى هذا فتخصيص حديث اللعن بصورة
التدليس متعيّن كتعيّن الجواز على كراهية في وصل الشعر بالشعر للزينة ، وعليها
يحمل النهي عنه في خبرين آخرين :
أحدهما : مرسلة
ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «دخلت ماشطة على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال لها : هل تركت عملك أو أقمت عليه؟ فقالت : يا رسول
الله أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فأنتهي عنه. فقال : افعلي فإذا مشطت فلا تجلي
الوجه بالخرق ، فإنّه يذهب بماء الوجه ، ولا تصلي الشعر بالشعر» .
والآخر : خبر
القسم بن محمّد عن عليّ قال : «سألته عن امرأة مسلمة تمشّط العرائس ليس لها معيشة
غير ذلك وقد دخلها ضيق؟ قال : لا بأس ، ولكن لا تصل الشعر بالشعر» وأمّا ما عدا
الوصل من الامور المذكورة في حديث اللعن بعد التخصيص المذكور فلا دليل على كراهته
، ورواية سعد بعمومه يفيد الرخصة ، والأصل عدم الكراهة.
نعم على طريقة
من يحمل اللعن على شدّة الكراهة جمعاً بينه وبين رواية الرخصة عموماً يتّجه القول
بها في الجميع ، غير أنّه في غاية الضعف إذ لا شبهة في حرمة هذه الأربع وغيرها في
مقام التدليس فلا بدّ مع الحمل المذكور ، فلا محيص من تخصيص مع الحمل المذكور
بإخراج صورة التدليس ، وهذان تأويلان في الحديث بلا موجب لأحدهما فوجب الاقتصار
على أحدهما ، وهو التخصّص بإخراج صورة الزينة لحصول الجمع بذلك من دون مسيس الحاجة
إلى الحمل على الكراهة. ثمّ بعد ما ثبت كون تدليس الماشطة محرّماً حرم التكسّب به
وأخذ الاجرة عليه. ونحو تدليس الماشطة تدليس المرأة بنفسها في الحرمة.
__________________
النوع
الحادي عشر
تزيين
الرجل بما يحرم عليه
وهو على أنواع
:
منها : تزيينه
بالذهب وإن قلّ ، وبالحرير المحض عدا ما استثني ، فإنّه حرام بالادلّة المتقدّمة
في باب لباس المصلّي من الصلاة مشروحة فلا حاجة إلى الإعادة.
ومنها : تزيينه
بالزينة المختصّة بها من حليها ، كلبسه السواد والخلخال.
ومنها : لبسه
الثياب المختصّة بها ، ويختلف ذلك باختلاف الأزمان والأصقاع.
والحرمة فيهما
وإن وصفها في الرياض بكونه على الأظهر الأشهر ، غير أنّ دليلها غير واضح عدا خبرين
:
أحدهما : ما عن
الكافي من قول أبي جعفر عليهالسلام في حديث : «لعن الله المحلّل والمحلّل له ... إلى أن
قال : والمتشبّهين من الرجال بالنساء ، والمتشبّهات من النساء بالرجال» .
والآخر : ما عن
العلل عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ عليهمالسلام «أنّه رأى رجلاً به تأنيث في مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : اخرج من مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يا لعنة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمّ قال عليّ عليهالسلام : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : لعن الله المتشبّهين من الرجال بالنساء ،
والمتشبّهات من النساء بالرجال» قال الصدوق : وفي حديث آخر
__________________
«أخرجوهم من بيوتكم فإنّهم أقذر شيء» .
ورمي بقصور
الدلالة لأنّ الظاهر من التشبّه تأنث الذكر وتذكّر الانثى لا مجرّد لبس أحدهما
لباس الآخر مع عدم قصد التشبّه ، وايّد بالخبر الثاني لمكان قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رأى رجلاً به تأنيث» وبرواية يعقوب بن جعفر الواردة
في المساحقة «إنّ فيهنّ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لعن الله المتشبّهات بالرجال من النساء ...» الخ ، ورواية
أبي خديجة عن أبي عبد الله عليهالسلام «لعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم المتشبّهين من الرجال بالنساء ، والمتشبّهات من النساء
بالرجال ، وهم المخنّثون واللائي ينكحهن بعضهنّ بعضاً» .
ويمكن منع
القصور بأنّ التشبّه من الجهة المذكورة لا ينافي التشبّه من جهة اللباس أيضاً
واللفظ عامّ ، ويؤيّده رواية سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام «عن الرجل يجرّ ثيابه ، قال : إنّي لأكره أن يتشبّه بالنساء» وعنه عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام «كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء ، وينهى المرأة أن تتشبّه
بالرجال في لباسها» غير أنّ فيهما ظهور في إرادة الكراهة خصوصاً أوّلهما
بقرينة الموردة. فالمسألة لا تخلو عن إشكال وإن كان القول بالحرمة مطلقاً لا يخلو
عن قوّة. وعلى حرمة التشبّه مطلقاً على الرجال يحرم على النساء أيضاً فيحرم عليهنّ
لبس الثياب المختصّة بالرجال.
وأمّا الخنثى
المتردّدة بين الذكر والانثى فيجب عليها تجنّب كلتا الزينتين المختصّتين بالرجال
والنساء للعلم الإجمالي بتوجّه الخطاب باجتناب إحداهما المعيّنة في الواقع ،
فتكونان من قبيل المشتبهين المعلوم حرمة أحدهما فتجتنب عنهما مقدّمة. وقد يستشكل
على تقدير كون مدرك الحكم حرمة التشبّه بأنّ الظاهر من التشبّه صورة علم المتشبّه
، فليتدبّر.
__________________
الباب
الرابع
في
التكسّب بما يجب عليه فعله عيناً أو كفاية
وليعلم أنّ
عبارات المحقّق والشهيد في النافع والشرائع واللمعة والدروس في عنوان هذه المسألة
مختلفة ، ففي النافع «أخذ الاجرة على القدر الواجب من تغسيل الأموات وتكفينهم
وحملهم ودفنهم والرشاء في الحكم ...» الخ ونحوه ما في اللمعة وفي الشرائع «ما
يجب على الإنسان فعله كتغسيل الموتى وتكفينهم وتدفينهم» ونحوه في
الدروس قائلاً : «ما يجب على المكلّف فعله إمّا عيناً كالصلاة اليوميّة ، أو كفاية
كتغسيل الميّت وتكفينه والصلاة عليه» والمرفوع في الجميع خبر السادس أو الخامس من التكسّب
المحرّم أو المحرّم من التكسّب ، وقد خصّاه في النافع واللمعة بأخذ الاجرة وأطلقاه
في الشرائع والدروس.
ومن ثمّ قد
يقال في الفرق بينهما : بأنّ الأوّل يختصّ بعقد الإجارة نظراً إلى أنّ الاجرة
عبارة عن المال المبذول في عقد الإجارة بإزاء المنفعة فلا يجري في سائر العقود ولو
سلّم العموم فغايته الشمول كعقد الجعالة دون غيره ، بخلاف الثاني فإنّه يعمّهما
وعقد الإجارة المجعول فيه فعل الواجب اجرة مبذولة بإزاء منفعة اخرى ، كما لو قال :
آجرتك هذه الدابّة على أن تغسل ذلك الميّت مثلاً ، وعقد البيع المجعول فيه فعل
الواجب ثمناً بناءً على أنّه أعمّ من الأعيان والمنافع وأنّ ما اشتهر من اختصاص
البيع
__________________
بالأعيان معناه اختصاص المثمن فيه بها كما هو الأقوى خلافاً لمن يخصّه
بالأعيان مثمناً وثمناً ، وعقد الصلح المجعول فيه ما صولح عنه أو مال المصالحة فعل
الواجب ، وعقد النكاح المجعول فيه فعل الواجب مهراً ، والخلع والمباراة المجعول
فيهما فعل الواجب فدية.
أقول : يمكن
إرجاع كلّ من التعبيرين إلى مؤدّى الآخر ، أمّا إرجاع الأوّل فنحمله على إرادة
المثال لعموم مناط المنع وهو كون الوجوب مانعاً كالحرمة ، وأمّا إرجاع الثاني فبأن
يحمل التكسّب المحرّم فيما يجب فعله على الإنسان على إرادة التكسّب الخاصّ وهو أخذ
الاجرة في عقد الإجارة أو ما يعمّه والجعالة أيضاً.
وكيف كان فموضوع
المسألة ما يجب فعله على آخذ المال عوضاً على وجه يعود ذلك الفعل أو أثره وفائدته
إلى باذل المال ، كفعل الواجب الكفائي الّذي فائدته سقوط الفرض عن الباذل والقضاء
الّذي يعود نفعه وهو ثبوت الحقّ للمدّعي الباذل للأجر عليه المعبّر عنه بالرشاء ،
فيعتبر فيه قيدان وجوب الفعل على آخذ المال عوضاً ، لأنّ مرجع البحث في هذا الباب
إلى أنّ الوجوب فيما يكتسب به هل هو مانع من التكسّب به وضعاً ، كما أنّ الحرمة
فيه كانت مانعة منه تكليفاً أو وضعاً أو لا؟ وكون الفعل الواجب بحيث يعود فائدته
إلى باذل المال عوضاً منه لأنّ المعتبر في عقد الإجارة عود المنفعة إلى المستأجر ،
كما أنّ المعتبر في عقود المعاوضة وقوع كلّ من العوضين لباذل العوض الآخر حذراً عن
المعاملة السفهيّة ، ولئلّا يقع كلّ من العوض والمعوّض لشخص واحد ، فعدم جواز
التكسّب في نحو ذلك وضعاً وعدم جواز أخذ الاجرة على نحوه لأجل ذلك ، لا لمانعيّة
الوجوب.
فما في الدروس
: من التمثيل لما يجب على المكلّف عيناً بالصلاة اليوميّة ، ليس بسديد ، إذ لو
اريد بالصلاة اليوميّة ما يجب على آخذ المال فهي وفائدتها من كمال النفس وارتفاع
الدرجة واستحقاق المثوبة لا تعودان إلى باذله ، ولو اريد بها ما وجب على باذل
المال فهي ليست ممّا يجب على آخذه فلا وجوب حتّى يكون مانعاً ، مع أنّها غير قابلة
للنيابة بعدم جواز أخذ الاجرة عليها لأجل ذلك لا للوجوب.
وبالتأمّل في
ذلك ينقدح أنّ الاستيجار على الحجّ واجباً أو مندوباً عن الغير حيّاً أو ميّتاً
وعلى زيارات قبور المعصومين عليهمالسلام عن الغير حيّاً أو ميّتاً وعلى تلاوة كلام الله عن
الغير كذلك وعلى قضاء الفوائت عن الميّت وما أشبه ذلك خارج عن موضوع مسألة أخذ
الاجرة على الواجبات. والإشكال الموجود في المسألة من جهة مانعيّة صفة الوجوب
وعدمها عن أخذ الاجرة غير جار في هذه الموارد لانتفاء الوجوب في حقّ المستأجر.
نعم فيها إشكال
آخر معروف ، وهو منافاة أخذ الاجرة للقربة المعتبرة فيها لأجل كونها من العبادات ،
ولكنّه هيّن وواضح دفعه.
وتوضيحه : أنّ
الأعمال المستحبّة وهي العناوين الّتي حكم الشرع باستحبابها وكذلك بعض الواجبات على
أنواع :
منها : ما
يعتبر في صحّتها المباشرة النفسيّة ، ولا تقع صحيحة في حقّ مكلّف لو وقعت من غير
مباشرته ، كغسل الجمعة ، وفعل النوافل ، وعيادة المريض ، وما أشبه ذلك.
ومنها : ما لا
يعتبر فيها المباشرة لما استفيد من أدلّتها من قبولها التسبيب كبناء المسجد أو
المدرسة أو القنطرة أو الرباط وما أشبه ، حيث استفيد من أدلّة استحباب بناء المسجد
أنّه عنوان يتأتّى تارةً بمباشرة المكلّف نفسه ، واخرى بتسبيبه وهو أن يأمر
بالبنّاء ببنائه له ، فالمستحبّ في هذا النوع هو القدر المشترك بين ما يحصل
بالمباشرة وما يحصل بالتسبيب.
ومنها : ما لا
يعتبر فيها المباشرة أيضاً لما استفيد من دليل استحبابها قبولها النيابة كالأمثلة
المذكورة للاستيجار.
أمّا النوع
الأوّل : فحكمه أنّه لا يقع عليه عقد الإجارة ولا يجوز أخذ الاجرة عليه أصلاً ،
وذلك لأنّ الاجرة في غسل الجمعة مثلاً إمّا أن يؤخذ عليه من حيث إنّه مستحبّ على
المؤجر ، أو يؤخذ عليه من حيث إنّه مستحبّ على المستأجر ، ولا سبيل إلى شيء منهما
، أمّا الأوّل فلعدم وقوع العمل للمستأجر وعدم عود فوائده من كمال النفس وارتفاع
الدرجة واستحقاق المثوبة على تقدير حصولها إليه فيكون المعاملة سفهيّة مع
لزوم خلاف وضع عقود المعاوضة من وقوع العوضين معاً لشخص واحد هو أحد
المتعاقدين ، وأمّا الثاني فلفرض اعتبار المباشرة فيه ، ومعناه عدم قبوله التسبيب
ولا النيابة ، فيكون أخذ الاجرة على التقديرين أكلاً للمال بالباطل فيحرم.
وأمّا النوع
الثاني : فحكمه أنّه يقع مورد لعقد الإجارة ويحلّ أخذ الاجرة عليه ، ولا يعتبر فيه
قصد النيابة ولا النيّة ، وقصد القربة من العامل وهو البنّاء في بناء المسجد مثلاً
لكون النيّة في نحوه وظيفة الباني فإنّه ببنائه على وجه التسبيب ينوي القربة.
والسرّ فيه أنّ
فعل البناء من عامله وهو البنّاء إذا لم يقترنه النيّة وقصد القربة منه كان من
أفعاله المباحة ، وهذا الفعل المباح يقع للباني ويعود نفعه وفوائده والثواب المعدّ
له إليه ، ولأجل ذلك يصلح مورداً لعقد الإجارة ويملك الاجرة المجعولة بإزائه ، ومن
هذا القبيل عمل الراثين والذاكرين والقارين لمصائب مولانا الشهيد عليه وعلى أصحابه
الشهداء آلاف تحيّة وثناء في أخذهم الاجرة من البانين ، فإنّ إقامة العزاء لهم عليهمالسلام على ما استفيد من أدلّة استحبابها أعمّ ممّا يحصل
بمباشرة المكلّف وما يحصل بتسبيبه ، والقاري الراثي إذا لم ينو بفعله القربة كان
من أفعاله المباحة ويعود نفعه وفوائده إلى الباني الآمر له بالقراءة ، حيث استفيد
من أدلّة استحباب إقامة العزاء كونها أعمّ ممّا يحصل بطريق التسبيب.
وأمّا النوع
الثالث : فحكمه أنّه أيضاً يقبل الإجارة ويؤخذ فيه الاجرة ، كما في الاستيجار على
الحجّ وفوائت الميّت وغيرهما من الأمثلة المتقدّمة ، ولكنّه يعتبر فيه من العامل
قصد النيابة وقصد القربة معاً.
والسرّ في
الجميع أنّه قد ذكرنا أنّ عقد الإجارة لا يجري إلّا في عمل يصحّ عوضاً للُاجرة ،
بأن يكون بحيث يعود نفسه أو منفعته إلى المستأجر ، ومن منافع عمل الإنسان في نوع
ما يقبل النيابة قيامه مقام عمل غيره فله حينئذٍ أن يقيم عمله مقام عمل ذلك الغير
تبرّعاً أو بأُجرة ، فعقد الإجارة يقع على ذلك وفائدته قيام عمله مقام عمل ذلك
الغير لأنّه بعد إقامة عمله مقام عمل الغير صار هو بمنزلة ذلك الغير ، فيصير عمله
الواقع منه في الخارج عمله ويكون تقرّبه وقصده للتقرّب تقرّبه وقصده ، ويكون جميع
الفوائد
المترتّبة عليه من الكمال وارتفاع الدرجة واستحقاق المثوبات الاخرويّة
حاصلة له.
وحيث إنّ إقامة
العمل مقام عمل الغير اعتبار منوط بالقصد والنيّة فلا يتحقّق هذا الاعتبار إلّا
بقصده لإقامة عمله مقام عمل الغير فيعتبر منه ذلك القصد حين الإتيان بالعمل ، وهذا
هو قصد النيابة الّتي اعتبروه في هذا المقام ، فإنّ قصد النيابة عن فلان عند
الإتيان بالعمل معناه أنّه يقصد إقامة عمله هذا مقام عمل فلان ، فيكون هو بذلك
القصد نائباً والفلان منوباً عنه ، فالاجرة إنّما تستحقّ وتؤخذ بسبب عقد الإجارة
بإزاء النيابة بمعنى إقامة العمل مقام عمل الغير الّذي هو المنوب عنه ، وأصل العمل
بعد قيامه بهذا الاعتبار مقام عمل المنوب عنه بل صيرورته عمله يؤتى به بداعي
التقرّب وامتثال الأمر لا بداعي الاجرة واستحقاقها فإنّها تدعوه إلى أن يجعل نفسه
نائباً ويقيم عمله مقام عمل المنوب عنه ، لا إلى الإتيان بأصل العمل بعد تحقّق
النيابة بمعنى إقامة عمله مقام عمل المنوب عنه.
وبالجملة
الأجير إنّما يجعل نفسه بداعي أخذ الاجرة أو استحقاقها نائباً عن الغير وعمله
قائماً مقام عمل ذلك الغير ، فالعمل المأتيّ به بعد تحقّق هذا الاعتبار يقع
مقروناً بقصد القربة ومتقرّباً به إلى الله سبحانه ، فلا منافاة حينئذٍ بين أخذ
الاجرة وقصد القربة ، لتغاير موجب استحقاق الأوّل ومورد الثاني.
فهاهنا داعيان
وآمران مدعوّ إليهما ، الأوّل : من الداعيين قصد استحقاق أخذ الاجرة فإنّه يدعو
الأجير إلى جعل نفسه نائباً وإقامة عمله مقام عمل المنوب عنه.
وثانيهما : قصد
القربة وامتثال الأمر إيجاباً أو ندباً ، فإنّه يدعو إلى الإتيان بالعمل الّذي صار
بسبب تحقّق النيابة والإقامة على الوجه المذكور بالقصد والنيّة عمل المنوب عنه.
نعم ربّما يشكل
الحال فيما يتداوله الناس في صلاة ليلة الدفن من أخذ المال لأجل هذه الصلاة فإنّها
على ظاهر النظر لا تندرج في شيء ممّا يقبل النيابة ولا التسبيب ، أمّا الأوّل
فلانّ من شرط ما يقبل النيابة كونه بحيث لو كان المنوب عنه بنفسه قائماً به
مخاطباً به أي مكلّفاً به إيجاباً أو ندباً كما هو الحال في قضاء فوائت الميّت
وغيره ممّا تقدّم ، فإنّ الميّت في فوائته لو كان حيّاً وأراد القيام بقضاء فواته
كان
مخاطباً به ولو ندباً من جهة الاحتياط ، وهذه الصلاة ليست بتلك المكانة ،
لأنّ الميّت لو كان حيّاً لم يكن له فعلها لعدم كونه مخاطباً به لا إيجاباً ولا
ندباً ولذا لا يصحّ لغيره فيها قصد النيابة.
وأمّا الثاني
فلأنّ ظاهر النصّ الوارد في تشريع هذه الصلاة اعتبار المباشرة فيها ، وهو الحديث
المرويّ عن مصباح الكفعمي ، وموجز ابن فهد قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يأتي على الميّت أشدّ من أوّل ليلة ، فارحموا
موتاكم بالصدقة ، فإن لم تجدوا فليصلّ أحدكم يقرأ في الاولى الحمد وآية الكرسي ،
وفي الثانية الحمد والقدر عشراً ، فإذا سلّم قال : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد
وابعث ثوابها إلى قبر فلان ، فإنّه تعالى يبعث من ساعته الف ملك إلى قبره مع كلّ
ملك ثوب وحلّة» فإنّ قوله : «فليصلّ أحدكم» ظاهر في المباشرة ، وحينئذٍ
فالآتي بهذه الصلاة إن أتى بها بداعي الاجرة لم تقع صحيحة فلم تستحقّ الاجرة ، وإن
أتى بها بداعي القربة لم تستحقّ الاجرة رأساً ، وعلى التقديرين أخذها يكون أكلاً
للمال بالباطل فلا يحلّ أخذها.
لا يقال : لِمَ
لا يجوز أخذها في مقابل الثواب المعدّ لهذه الصلاة فيجري عليها عقد الإجارة ليعود
ذلك الثواب إلى الميّت فيبدله له الأجير بعد الفراغ منها كما يرشد إليه الأمر به
في النصّ المذكور ، لأنّا نقول : إنّ الأمر به في هذا المورد تعبّد من الشارع ،
وهو بمجرّده لا يصحّح عقد الإجارة على هذه الصلاة ، ولا يجوز أخذ الاجرة بإزاء
الثواب المعدّ لها ، لأنّ حصول الثواب من فعله سبحانه ولا يطمئنّ بحصوله منه تعالى
، نظراً إلى أنّ إفاضة فيض الثواب من المبدأ الفيّاض على أعمال العباد في دار
الآخرة قد يحصل وقد لا يحصل ولو لحزازة في العمل فحصوله غير معلوم ولا مظنون.
ومجرّد احتمال حصوله غير كاف في صحّة وقوعه عوضاً في عقد المعاوضة ، مضافاً إلى
أنّه غير مقدور على تسليمه ولا على تسلّمه ، فإنّ الموجر والمستأجر لا يقدران على
استخراجه منه تعالى ، والمنفعة في باب الإجارة لا بدّ وأن تكون مقدوراً على
تسليمها أو على تسلّمها. ولذا ترى أنّ العلّامة قدسسره في التذكرة منع من إجارة الديك للصياح في
__________________
أوقات الصلاة ، قائلاً : «لا يجوز استيجار الديك ليوقظه وقت الصلاة ، لأنّ
ذلك يقف على فعل الديك ولا يمكن استخراج ذلك منه بضرب ولا غيره وقد يصيح وقد لا
يصيح وربّما صاح قبل الوقت أو بعده» انتهى.
نعم لو قصد
باذل المال ببذله الصدقة وأخذه بصلاته التبرّع لرجاء أن يحصل للميّت نفع الصدقة
ونفع الصلاة أو أحد النفعين ، فالظاهر عدم المنع منه نظراً إلى ورود الأمر في
الحديث المذكور أوّلاً بالصدقة ، وكون العدول عنها إلى الصلاة على تقدير تعذّرها
وإن كان الجمع بينهما من جهة شبهة مشروعيّة الصلاة مع إمكان الصدقة لظهور النصّ في
الترتّب لا يخلو عن إشكال.
وبما نبّهنا
عليه بالقياس إلى أخذ العوض في مقابلة الثواب ظهر الحال في مطلق الثواب المعدّ
لسائر الأعمال الحسنة كغسل الجمعة والزيارة وتلاوة كلام الله والنوافل وغيرها وعدم
صلاحيته عوضاً في عقد الإجارة وعقد الصلح وغيره من عقود المعاوضة على وجه القاعدة
الكلّيّة لكون الجميع على خلاف قواعد الإجارة وعقود المعاوضة ، وكذا الحال في جعل
الصلوات بصيغة «اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد» مورداً لعقد الصلح.
ثمّ إذ قد عرفت
أنّ مرجع البحث عن التكسّب وأخذ الاجرة على الواجبات إلى منع الوجوب من التكسّب
وأخذ الاجرة وعدمه فينبغي التعرّض أوّلاً لبيان أقوال المسألة ، فنقول : إنّ القول
بالمنع منه مطلقاً على ما في المسالك «هو المشهور بين الأصحاب» قال بعده : «وعليه
الفتوى» .
وفي الرياض «بلا
خلاف» ثمّ قال : «بل عليه الإجماع في كلام جماعة» .
وربّما يضعّف
بعدم التصريح بالإجماع على إطلاق المنع في كلام أحد على وجه القطع به فضلاً عن
جماعة.
ولعلّه قدسسره استظهره من عبائر جماعة توهمه كالمحقّق الأردبيلي
والشهيد الثاني
__________________
والمحقّق الثاني ، حيث إنّ الأوّل في ذكر مستند الحكم قال : «وكأنّ دليله
الإجماع» والثاني بعد نسبته إلى المشهور قال : «وعليه الفتوى» لشيوع ورود
هذا اللفظ في كلامهم لبيان فتوى الأصحاب ، والثالث بعد ما نقل التفصيل الآتي عن
فخر المحقّقين في الإيضاح أورد عليه «بأنّه مخالف لنصّ الأصحاب» .
لكن يشكل ذلك
بظهور الأوّل في الشكّ فغايته أنّه ذكر لاحتمال الإجماع ، ومنافاة الثاني لو كان
إجماعاً لسبق دعوى الشهرة الظاهرة في وجود القول بالخلاف فليحمل على إرادة فتواه
لا فتوى الأصحاب ، وهذا أيضاً شائع وإن كان يمكن الجمع على تقدير إرادة فتوى
الأصحاب بتأويل دعوى الشهرة بكون مراده من المشهور ما يقابل قول السيّد المرتضى
الخارج عن موضوع المسألة ، كما يقتضيه ما حكاه عنه الشهيد في الدروس حيث إنّه بعد
ما ذكر في مثال ما يجب على الإنسان كفايةً الّذي يحرم التكسّب به تغسيل الميّت
وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، قال : «وفي فتاوي السيّد أن ذلك واجب على الوليّ فلو
استأجر غيره جاز» .
والظاهر أنّ كون
القول بالمنع مشهوراً بالمعنى المقابل لقول السيّد ، هذا لا ينافي كونه إجماعاً
أيضاً. ولكن عليه حينئذٍ بعض ما يرد على الثالث فقد اورد عليه :
أوّلاً : أنّ
فخر المحقّقين أسبق من المحقّق الثاني فهو أعرف بمذهب الأصحاب ، فلو كان إطلاق
المنع إجماعاً عندهم كيف يختار لنفسه التفصيل المخالف له.
وثانياً : كيف
يدّعي نصّ الأصحاب على معنى إجماعهم ، مع أنّ جلّ قدمائهم لم يتعرّضوا لأصل
المسألة كالصدوقين والقديمين وسلّار وابن البرّاج وغيرهما من أتباع الشيخ عدا ابن
إدريس ، فلا يعلم مذهبهم في المسألة بنفي ولا بإثبات.
وثالثاً : أنّ
جماعة من معتبري المتأخّرين ذهبوا إلى خلاف إطلاق المنع كالفخر في تفصيله المتقدّم
إليه الإشارة ، وهذا على ما حكي عبارته «الحقّ عندي أنّ كلّ واجب على شخص معيّن لا
يجوز للمكلّف أخذ الاجرة عليه ، والّذي وجب كفاية فإن كان ممّا
__________________
لو أوقعه بغير نيّة لم يصحّ ولم يزل الوجوب ، فلا يجوز أخذ الاجرة عليه
لأنّه عبادة محضة ، وقال الله تعالى : «وَما أُمِرُوا إِلّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» حصر غرض الآمر
في انحصار غاية الفعل في الإخلاص ، وما يفعل بالعوض لا يكون كذلك ، وغير ذلك يجوز
أخذ الاجرة عليه إلّا ما نصّ الشارع على تحريمه كالدفن» وعن العلّامة
في المختلف أنّه نصّ بجواز أخذ الاجرة على القضاء إذا لم يتعيّن ،
ونحوه عن المحقّق في الشرائع إلّا أنّه قيّد صورة عدم التعيين بصورة احتياج القاضي ،
ومع هذا كلّه فإنّ الوثوق بإجماع لم يصرّح به أحد على إطلاق المنع.
وأمّا القول
بالجواز مطلقاً فلم نقف على مصرّح به ولا على نقل له ، نعم ربّما يستظهر من الفاضل
التوني في شرح الإرشاد فإنّه على ما حكي في ردّ قول العلّامة بالمنع
مطلقاً مستدلّاً بوجهين آتيين قال : «بأنّه لا دليل على عدم الجواز ولا نصّ في
الكتب الأربعة» فيقال : بأنّ قضيّة ذلك أن يكون قائلاً بالجواز مطلقاً ، ولكن
يخدشه منع الظهور في اختيار القول بالجواز لقوّة احتمال التوقّف في المسألة من جهة
الشهرة ونحوها.
نعم حكي عن فخر
المحقّقين ولد العلّامة في الإيضاح تفصيلاً بين ما كان الواجب عينيّاً أو كفائيّاً
تعبّديّاً أو كفائيّاً توصّليّاً فمنع أخذ الاجرة في الأوّلين وجوّزه في الأخير
إلّا ما نصّ الشارع بتحريمه أيضاً ، وعبارته المحكيّة لهذا التفصيل ما لفظه : «الحقّ
عندي أنّ كلّ واجب على شخص لا يجوز للمكلّف أخذ الاجرة عليه ، والّذي وجب كفاية
فإن كان ممّا لو أوقعه بغير نيّة لم يصحّ ولم يزل الوجوب فلا يجوز أخذ الاجرة عليه
لأنّه عبادة محضة ، وقال الله تعالى «وَما أُمِرُوا إِلّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» حصر غرض الآمر
في انحصار غاية الفعل في الإخلاص وما يفعل بالعوض ليس كذلك ، وغير ذلك يجوز أخذ
الاجرة عليه إلّا ما نصّ الشارع على تحريمه كالدفن» انتهى وعن السيّد
الطباطبائي في المصابيح اختيار هذا التفصيل ، وقد
__________________
عرفت عن الفاضلين في المختلف والشرائع القول بجواز أخذ الاجرة على القضاء
إذا لم يتعيّن ، وإن كان قيّده في الشرائع مع عدم التعيين بصورة احتياج القاضي.
وربّما نقل في
المسألة قول آخر بالتفصيل بين الواجبات النظاميّة فيجوز أخذ الاجرة عليها وغيرها
فلا يجوز ، والمراد بالاولى ما يتوقّف عليه نظام العالم وانتظام عيش بني آدم
كالطبابة والحياكة والنجارة والصياغة وغيرها من الصناعات الواجبة كفاية. ولعلّه
إلى ذلك يرجع ما عن الشيخ في شرحه للقواعد من التفصيل بين الواجبات المشروطة بالتعويض
وغيرها ، فجوّزه في الأوّل ومنعه في الثاني لأجل الملك والحقّ ، نظراً إلى أنّ
المملوك لا يملك ثانياً ، والمستحقّ لا يستحقّ ثانياً.
ثمّ إنّ القول
بالمنع مطلقاً لا ينتقض بعمل الوصيّ الواجب عليه بعينه مع جواز أخذ الاجرة عليه من
مال الصغير ولو بعد إيقاعه على حسب ما هو رأيه اجتهاداً أو تقليداً في قدرها من
اجرة مثل العمل أو قدر الكفاية أو أقلّ الأمرين من اجرة المثل والكفاية على الخلاف
في المسألة ، وكذلك الوصيّ على ثلث الميّت عند من ألحقه بالوصيّ على الصغير ، لأنّ
ذلك ليس من باب المعاوضة المبنيّة على عقد الإجارة بل هو حكم شرعي ، أو أنّه
استحقاق شرعي جعله الشارع للوصيّ إرفاقاً فلا ينافي وجوب العمل ، كما أنّه كذلك لو
عيّن له الموصي شيئاً فإنّه يستحقّه من باب الوصيّة لا من باب المعاوضة.
ثمّ استدلّ على
القول بالمنع مطلقاً أو في الجملة بوجوه :
منها : الإجماع
المنقول في كلام جماعة اعتمد عليه السيّد في الرياض .
وقد عرفت ما
فيه ، والحقّ أنّ المنع في الجملة إجماعيّ ، والإجماع على إطلاقه غير ثابت بل
المعلوم خلافه.
ومنها : منافاة
أخذ الاجرة للإخلاص المعتبر في العمل.
وردّ بانتقاض
عكسه بالواجبات التوصّليّة وطرده بالمندوبات القابلة للُاجرة.
ومنها : أنّ
المنافاة بين أخذ الاجرة وصفة الوجوب ذاتيّة لأنّ المملوك لا يملك ثانياً
والمستحقّ لا يستحقّ ثانياً.
__________________
ونقض بالواجبات
النظاميّة والصناعات الواجبة كفاية. وقد يورد عليه بكونه مصادرة ، لأنّ دعوى
المنافاة الذاتيّة أوّل المسألة ، وتعليلها بما ذكر عليل لمنع المملوكيّة
والاستحقاق بالمعنى المعتبر في المعاوضات الماليّة.
ومنها : أنّ
الإجارة لو تعلّقت به كان للمستأجر سلطان عليه في الإيجاد والعدم على نحو سلطان
الملّاك وكان له الإبراء والإقالة والتأجيل ، وكان للأجير قدرة على التسليم ، وفي
الواجب ممتنع ذلك وهو في العيني بالأصل أو العارض واضح ، وأمّا الكفائي فلأنّه
بفعله يتعيّن له فلا يدخل في ملك آخر ، ذكره الشيخ في شرح القواعد.
واجيب بأنّه إن
أراد بالسلطنة الثابتة له بعقد الإجارة سلطنة بالنسبة إلى حقّه من حيث إنّه حقّ له
فلا مانع من ثبوتها فله الإيجاد والعدم من هذه الحيثيّة ، غير أنّه لا ينافيها
قيام المانع من عدم الإيجاد من حيثيّة اخرى جامعة لتلك الحيثيّة ، وكذلك مسألة
الإبراء والإقالة والتأجيل فإنّ الكل جائز من الحيثيّة الاولى والحيثيّة الاخرى
مانعة ولا منافاة ، ألا ترى أنّه لو استأجر المرضعة لإرضاع الطفل في محلّ التوقّف
وجب وليس له حينئذٍ الإبراء ولا للطفل ولا الإقالة ولا التأجيل لإفضاء الجميع إلى
هلاك الطفل وهذه حيثيّة مانعة من الامور المذكورة ، وكذلك لو استأجر أحداً لحفظ
نفسه أو ماله في محلّ الخوف فليس له الإبراء ولا الإقالة ولا التأجيل لحرمة تضييع
المال وإلقاء النفس في التهلكة.
ومنها : ما
ذكره الشيخ أيضاً «من عدم نفع المستأجر فيما يملكه ويستحقّه غيره» انتهى.
وكأنّه رحمهالله فرضه ممّا لا منفعة فيه تعود إلى المستأجر ، وقد عرفت
سابقاً وستعرف أيضاً أنّه ليس بمحلّ كلام.
ومنها : أنّ
أخذ الاجرة على الشيء إنّما يجوز إذا كان ذلك الشيء ممّا يختصّ بالمستأجر لئلّا
يلزم أكل المال بالباطل ، والواجب لا اختصاص له.
واجيب : بأنّه
يتمّ في الواجب الكفائي لتعلّق وجوبه بالجميع وأمّا العيني فلا. وظنّي
__________________
أنّه سهو من عدم فهم حقيقة مراد المستدلّ ، فإنّ الظاهر أنّه أراد بعدم
الاختصاص به تعلّق حقّ الغير به من جهة إيجاب الشارع له عليه ليعود نفعه إلى الغير
من المستأجر أو غيره ، وعليه يرجع مفاده إلى ما تقدّم من أنّ المستحقّ لا يستحقّ
ثانياً.
وتحقيق المقام
على وجه يعلم منه ما هو الحقّ في المسألة وينكشف به صحّة الأدلّة وسقمها يستدعي
تأسيس قاعدة ، وهي أنّه لا إشكال في أنّ عمل الإنسان محترم فلا يخرج منه مجّاناً
وبلا عوض إلّا بما يسقط به احترامه ، وحينئذٍ فكلّ عمل للإنسان لا يخلو إمّا أن لا
يشتمل على منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء عائدة إلى غيره ، أو يشتمل على نحو هذه
المنفعة ، والأوّل لا يصلح مورداً لعقد الإجارة ولا يجوز أخذ الاجرة فلو أخذها كان
آكلاً للمال بالباطل ، لأنّ عقد الإجارة إنّما شرّع لنقل المنافع المحلّلة
المقصودة للعقلاء ، ولا يختصّ ذلك بما إذا كان العمل المذكور واجباً ، بل يجري في
المندوبات بل المباحات الأصليّة أيضاً إذا لم يكن لها المنفعة المذكورة.
وعلى الثاني
فإمّا أن يجوز له الامتناع من الإتيان بذلك العمل وبذله لغيره ممّن يعود إليه نفعه
، ولو امتنع فليس لأحد استخراجه منه مجّاناً ولو بإجبار وإكراه بل جواز استخراجه
منه كذلك يتوقّف على رضاه وطيب نفسه ، أو لا يجوز له الامتناع ولو امتنع جاز
استخراجه منه مجّاناً ولو بقهر عليه وإجبار له عليه من غير توقّف على رضاه وطيب
نفسه. والأوّل ممّا لا ينبغي التأمّل في جواز أخذ الاجرة عليه ، لأنّه يصلح مورداً
لعقد الإجارة ، والعقد يقع مؤثّراً في نقل العمل ومنفعته إلى المستأجر ونقل الاجرة
إلى الأجير. والثاني كالعمل المستأجر عليه من كتابة أو خياطة ثوب أو نحو ذلك حيث
ليس له أن يمتنع من بذله والإتيان به ، ولو امتنع كان للمستأجر استخراجه منه قهراً
وإجباره على الإتيان به من غير توقّف على رضاه وطيب نفسه ، وهذا ممّا لا يقع عليه
عقد الإجارة ثانياً ولا يستحقّ عليه اجرة اخرى من المستأجر الأوّل أو من غيره ،
ولو وقع لم يكن صحيحاً ومؤثّراً في تملّك الاجرة واستحقاقها ، لأنّ قضيّة عقد
المعاوضة أن لا يؤثّر في تملّك أحد العوضين إلّا حيث أثّر في تملّك العوض الآخر ،
وهذا العقد لا يؤثّر في تملّك المستأجر للعمل ومنفعته ولا في استحقاقه ، لأنّه
ملّكه
واستحقّه من غير جهة هذا العقد ، ولا يعقل تملّكه له واستحقاقه له ثانياً
من جهته فإذا لم يؤثّر في تملّك المعوّض واستحقاقه لم يؤثّر في تملّك العوض أعني
الاجرة واستحقاقه ، فيكون أخذها أكلاً للمال بالباطل.
وهل الأعمال
الواجبة بالشرع على الإنسان من قبيل أعماله الّتي له الامتناع من الإتيان بها ،
ولو امتنع لا يجوز استخراجها منه مجّاناً إلّا برضاه وطيب نفسه ، أو من قبيل
أعماله الّتي ليس له الامتناع عن الإتيان بها ، ولو امتنع جاز إجباره عليه
واستخراجها منه قهراً ، من غير توقّف على رضاه وطيب نفسه؟
والحقّ أنّ فيه
تفصيلاً وذلك لأنّ العمل الواجب على المكلّف إمّا عيني تعييني أو تخييري أو كفائي
، فإن كان عينيّاً تعيينيّاً فهو ممّا لا يجوز له الامتناع من الإتيان به ، ولو
امتنع جاز استخراجه منه مجّاناً من غير رضاه وطيب نفسه ، بل يجب ذلك مع الامتناع
من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيجب على الآمرين بالمعروف حمله على
الإتيان به ولو بإجبار وإكراه ، وهذا ممّا لا يقع عليه عقد الإجارة ولا يؤخذ عليه
الاجرة ، لما تقدّم من أنّ عقد المعاوضة لا يؤثّر في تملّك العوض واستحقاقه إلّا
حيث أثّر في تملّك المعوّض واستحقاقه ، والمفروض أنّ العمل المذكور ما ملّكه باذل
الاجرة أو استحقّه من جهة إيجاب الشارع له عليه عيناً على وجه التعيين ويجب عليه
الإتيان به وبذله لمالكه ومستحقّه مجّاناً.
ولا يتفاوت
الحال في ذلك بين كونه تعبّديّاً متوقّفاً على الإخلاص وقصد القربة كقضاء فوائت
الميّت على وليّه ـ أعني أكبر أولاده ـ فلا يجوز له أخذ الاجرة على أصل هذا العمل
الواجب عليه من الوصيّ من ثلثه أو من وارث آخر أو غيرهما من متبرّع ونحوه ، أو
توصّليّاً لم يعتبر فيه إخلاص ولا نيّة قربة كإنقاذ الغريق في موضع انحصار من يغوص
في الماء لإنقاذه فيه فإنّه ليس له الامتناع من إنقاذه حينئذٍ ولا يستحقّ الاجرة
لو بذلت له ، لأنّ الإنقاذ قد ملكه الغريق واستحقّه بإيجاب من الشارع ، وعقد
الإجارة لا يؤثّر فيه ملكاً آخر له ولا استحقاقاً آخر غير الاستحقاق الأوّل من غير
فرق في ذلك بين كون باذل الاجرة هو الغريق نفسه أو وليّه كما لو كان
أباه أو غيره من متبرّع ونحوه.
ولا ينتقض
الأوّل بالمال الموصى به للولد الأكبر برعاية تحمّله مشقّة قضاء فوائته حيث
يستحقّه ويملكه ، ويجوز له أخذه لأنّه إنّما ملّكه واستحقّه بسبب الوصيّة لا
بالإجارة على وجه المعاوضة ، كما أنّ الثاني لا ينتقض بما لو بذل له مال إحساناً
بعد بذله حيث يجوز له أخذه ، لأنّه لا يستحقّه على وجه العوضيّة ، فلا يأخذه اجرة
على عمله الواجب عليه بل مال أباح له باذله إحساناً فيباح له أخذه أو وهبه له مجّاناً
وبلا عوض فيجوز له قبوله.
وإن كان
تخييريّاً كالتخيير في العمل الواجب عليه عيناً بين فردين أو أفراد ، فأخذ الاجرة
على فرد خاصّ معيّن مبنيّ على اشتماله باعتبار الخصوصيّة على منفعة زائدة على
منفعة أصل العمل الواجب المشتركة بين جميع الأفراد كالحفر لدفن الميّت الواجب على
إنسان عيناً المتعدّد أفراده من حيث مواضعه الّتي منها الأرض الصلبة ومنها قرب
مشهد معصوم أو أحد من ولده أو غيره من العلماء أو الصلحاء ، وكان الحفر في هذه
المواضع متضمّناً لكلفة زائدة عليه في غيرها.
وظاهر أنّ
صلابة الأرض منفعة زائدة على منفعة أصل الحفر ، كما أنّ قرب المشهد منفعة زائدة
على منفعة أصل الحفر وهي المواراة ، وله الامتناع من هذه المنفعة الزائدة وليس
لأحد من وليّ الميّت أو وصيّه أو غيره إجباره على بذلها مجّاناً بإلزامه على هذا
الفرد الخاصّ من الحفر ، فهو من هذه الجهة يصلح مورداً لعقد الإجارة ، ويجوز أخذ
الاجرة عوضاً عن المنفعة الزائدة على منفعة أصل الحفر ، لأنّها منفعة لم يتعيّن
عليه بذلها ، وله الامتناع من خصوصيّة هذا الفرد المشتملة على تلك المنفعة
الزائدة.
والظاهر عدم
الفرق بين التوصّلي كالمثال المذكور ، والتعبّدي كقضاء فوائت الميّت الواجبة على
وليّه المخيّر فيها بين إيقاعها في البيت أو إيقاعها في المسجد ، فإنّ فضيلة
المسجد منفعة في خصوص أحد الفردين زائدة على منفعة فعل القضاء المشتركة بين
الفردين ، فليس للوصيّ أو وارث آخر إلزام الوليّ على الفرد الخاصّ ، وهو إيقاع
القضاء في المسجد ليعود إليه منفعة فضيلة المسجد أيضاً ، وللوليّ الامتناع منه
بالخصوص إلّا
بالاجرة ، ولا ينافي أخذها للإخلاص وقصد القربة لأنّهما معتبران في أصل
القضاء لا في إيقاعه في المسجد ، والاجرة يستحقّها على إيقاعه في المسجد لا على
أصل القضاء ، فداعيه عند الإتيان به هو امتثال الأمر بالقضاء خالصاً لوجه الله
الكريم ، وليس أخذ الاجرة داعياً إلى فعل القضاء بل إلى إيقاعه في المسجد فلا
منافاة أصلاً.
وإن كان
كفائيّاً فقد يفصّل ويقال : بأنّه إن كان توصّليّاً أمكن أخذ الاجرة على إتيانه
لأجل باذل الاجرة فهو العامل في الحقيقة ، وإن كان تعبّديّاً لم يجز الامتثال به
وأخذ الاجرة عليه.
وكلّ من شقّي
هذا التفصيل منظور فيه يظهر وجهه بما نفصّله :
وهو أن نقول :
إنّ الواجب الكفائي على ما حقّق في الاصول لمّا كان من حيث الخطاب يجب على الكلّ ،
ومن حيث السقوط يسقط عن الباقين بفعل البعض ، فهو بالنسبة إلى كلّ من وجب عليه
يتضمّن حيثيّتين : إحداهما وجوبه عليه باعتبار كونه مخاطباً به ، واخراهما كونه
مسقطاً للفرض عن غيره ، فهو من الحيثيّة الاولى لا يقابل بالعوض لأنّ المكلّف من
هذه الحيثيّة مقهور عليه وليس من حيث وجوبه عليه محترماً ليقابل بالعوض. ولذا لا يتوقّف
خروجه منه على رضاه وطيب نفسه.
وأمّا من
الحيثيّة الثانية فإسقاطه الفرض عن غيره منفعة قائمة به عائدة إلى الغير ، ففي
قبوله أخذ الاجرة من هذه الحيثيّة ليكون الاجرة عوضاً عن المنفعة المبذولة للغير
والعدم وجهان :
من أنّ له أن
يمتنع عن بذل منفعة الإسقاط. ولذا لو قال له أحد : أقدم على الفعل ليسقط الفرض
عنّي ، كان له أن يعارضه بالمثل. فإذا جاز له الامتناع من بذل هذه المنفعة وليس
لأحد إلزامه على بذلها جاز له أخذ الاجرة بإزائها.
ومن أنّ هذه
الحيثيّة غير منفكّة من الحيثيّة الاولى فالامتناع عنها امتناع عن الحيثيّة الاولى
، وليس له ذلك لما عرفت من كونه مقهوراً عليها فلا يجوز له أخذ الاجرة مطلقاً.
والتحقيق أن
يفصّل بين صورتي علمه بأنّه لو امتنع ولم يقدم على العمل لأقدم
عليه غيره ، وعلمه بأنّه لو لم يقدم وامتنع لم يقدم غيره أيضاً ، فيفوت
الفرض ويأثم الكلّ بتركه.
فعلى الأوّل
جاز له الامتناع ويأخذ الاجرة على منفعة الإسقاط وإن كان الواجب تعبّديّاً ، لعدم
منافاته الإخلاص والنيّة لأنّ الاجرة إنّما يستحقّها على حيثيّة الإسقاط ،
والإخلاص والقربة في الحيثيّة الاولى فيأتي بالعمل الواجب عليه بداعي وجوبه
وامتثال الأمر به ، لا بداعي الاجرة.
وعلى الثاني لا
يجوز له الامتناع لأنّه يفضي إلى الامتناع عن الواجب من حيث وجوبه عليه فيأثم وهو
ليس بسائغ فلا يستحقّ به الاجرة ، وإن كان توصّلياً ولو ظنّ قيام غيره به أو
احتمله لو امتنع ولم يقدم عليه فالوجه أيضاً عدم جواز أخذ الاجرة ، لما حقّقناه في
الاصول من عدم جواز أن يتقاعد عن الفعل في صورتي الظنّ والاحتمال.
ويمكن تفصيل
آخر في أخذ الاجرة على الواجبات الكفائيّة ، وهو أنّها إذا كانت توصّليّة ـ كإزالة
النجاسة عن المسجد مثلاً ـ فمقتضى كونها توصّليّة أن يكون المقصود بالأصالة من
إيجابها حاصلاً بالمباشرة وبالاستنابة ـ نظير غسل الثوب الّذي هو واجب عيني على
المكلّف ـ والمقصود من إيجابه وهو طهارة الثوب وزوال النجاسة عنه يحصل بأن يباشره
المكلّف بنفسه ، وبأن يستنيب غيره بالتماس أو بذل اجرة فهو مخيّر بينهما ، فإذا
جاز لمن وجب عليه إزالة النجاسة عن المسجد كفاية أن يستأجر غيره جاز لغيره أيضاً
أن يباشرها عن نفسه ويوجر نفسه لغيره ويأخذ عليها الاجرة ، فيكون نائباً عن الغير
ويكون العمل حينئذٍ للمنوب عنه ، وكذلك دفن الميّت الّذي قصد من إيجابه كفاية حفظ
جثّة الميّت عن ضرر السباع ودفع الأذى عن الناس ، وهذا يحصل بالمباشرة والاستنابة
معاً ، فلا مانع من التزام التخيير بينهما لكلّ مكلّف ، واللازم منه أن يجوز لكلّ
واحد أن يباشره عن نفسه وعن غيره فيكون نائباً عنه ويقع العمل للمنوب عنه.
وإذا كانت
تعبّديّة لتغسيل الميّت والصلاة عليه فالجواز وعدمه مبنيّ على قبوله النيابة وعدمه
، كالجهاد الّذي هو أيضاً واجب كفائي ويقبل النيابة ، ولأجل ذا كان المكلّف
مخيّراً بين أن يباشره بنفسه أو يستأجر غيره ، فجاز لغيره أيضاً ممّن وجب
عليه كفاية أن يجاهد عن نفسه فيكون أحد أفراد من قام به الكفاية وأن يجاهد
عن غيره ويأخذ عليه الاجرة فيكون نائباً والفعل يقع للمنوب عنه فهو حينئذٍ أحد
أفراد من قام به الكفاية.
ويمكن الخدشة
في الحكم المذكور بخروجه عن موضوع المسألة ، لعدم وجوب النيابة ، فالاجرة المأخوذة
لأجل النيابة ليست اجرة على الواجب ، نعم لا بأس به في استباحة أخذها لمن يتداول
أخذها في مثل إزالة النجاسة عن المسجد ودفن الأموات وغيره ، فإنّ ما ذكر طريق
استباحة لأخذها لا أنّه من أخذ الاجرة على الواجب فليتدبّر.
فقد ظهر بما
قرّرناه أنّ صفة الوجوب مانعة من أخذ الاجرة على فعل الواجب من حيث وجوبه ، وما
جوّزناه أخذه في بعض صور الواجب التخييري وبعض تقادير الواجب الكفائي فهو في
الحقيقة إخراج له عن كونه أخذاً للُاجرة على الواجب من حيث وجوبه.
ثمّ إنّ في
المقام إشكالاً مشهوراً ربّما يصعب دفعه ، وهو أنّ الصناعات الّتي يتوقّف عليها
النظام ممّا يجب على المكلّفين كفاية ، بل قد يتعيّن بعضها على بعض المكلّفين إذا
انحصر من يعرفه فيه ، مع أنّه لا كلام عندهم في جواز أخذ الاجرة عليها فكيف
التوفيق؟ وقد ذكر في التفصّي عنه وجوه :
أحدها :
الالتزام بخروجها الموضوعي عن حرمة أخذ الاجرة على الواجبات ، فإنّ الواجب إنّما
هو وجود من يعرف الصناعات لا عملها ، وبعبارة اخرى يلاحظ في الصناعات علم وعمل
والّذي يجب على المكلّفين تحصيل علمها لا عملها ، والاجرة تؤخذ على العمل وهو غير
واجب.
ويزيّفه أنّ
الصناعات إنّما وجبت لإقامة النظام وهي لا تتمّ بمجرّد العلم بل تتوقّف على العمل
أيضاً ، فالعلم يجب مقدّمة للعمل ، والعمل يجب مقدّمة لإقامة النظام.
ثانيها :
الالتزام بخروجها عن الحكم بالإجماع والسيرة القطعيّتين ، فإنّ حرمة أخذ الاجرة
على الواجبات ثابتة على وجه القاعدة القابلة للتخصيص.
ويزيّفه أنّه
إنّما يستقيم لو كان مدرك القاعدة هو النصّ أو الإجماع في وجه ،
وكلاهما ممنوعان ، لفقد النصّ في المسألة وعدم ثبوت الإجماع على إطلاق
المنع بل الثابت خلافه على ما عرفت ، بل العمدة من مدرك القاعدة هو المنافاة
الذاتيّة بين أخذ الاجرة وصفة الوجوب ، فالمنع عقلي ، والتخصيص في القواعد
العقليّة محال.
ثالثها :
الالتزام بجواز أخذ الاجرة على الواجبات إذا لم تكن تعبّديّة كالصناعات.
ويزيّفه أوّلاً
: انتقاض عكسه بمثل دفن الميّت وإزالة النجاسة عن المسجد وما أشبه ذلك.
وثانياً : أنّه
إنّما إذا كان مستند المنع منافاة أخذ الاجرة للإخلاص ، وقد عرفت أنّ العمدة من
مستنده منافاته لصفة الوجوب ، فلا يتفاوت الحال بين التعبّدي والتوصّلي.
رابعها :
اختصاص جواز أخذ الاجرة بصورة قيام من به الكفاية ، فلا يكون حينئذٍ واجباً.
ويزيّفه الفتوى
والعمل ، أمّا الأوّل فلأنّ فتوى الأصحاب مطلقة في صورتي قيام من به الكفاية وعدم
قيامه ، بل ظاهر كلامهم جوازه مع بقاء الوجوب بل مع تعيّنه أيضاً كما عرفت.
وأمّا الثاني
فلأنّ المعلوم من عمل المسلمين بذل الاجرة وأخذها مطلقاً ، بل الغالب فيها ما
يأخذه من قام به الكفاية حال قيامه بالعمل ، كالطبيب والفصّاد والحجّام وغيرهم
تراهم يأخذونها حال القيام ، مع أنّه لا يعقل له مورد غالباً بعد قيام من به
الكفاية.
خامسها :
اختصاص المنع والحرمة بالواجبات الكفاية المقصودة لذواتها كواجبات الميّت وتعليم
وما أشبه ذلك ، لا ما يجب لغيره كالصناعات فإنّها وجبت لإقامة النظام.
ويزيّفه أوّلاً
: أنّه لا فرق في دليل المنع من المنافاة الذاتيّة ، فالدليل عقلي وهو لا يقبل
التخصيص.
وثانياً : أنّ
الصنائع إذا وجبت لإقامة [النظام] فأخذ الاجرة عليها راجع بالأخرة إلى أخذها على
إقامة النظام ، وهي واجبة لذاتها.
سادسها : أنّه
كما وجبت الصنائع لإقامة النظام كذلك يجوز أخذ الاجرة عليها لإقامة النظام أيضاً ،
وبعبارة اخرى أنّ مصلحة إقامة النظام كما تدعو إلى إيجاب هذه الواجبات كذلك تدعو
إلى تسويغ أخذ الاجرة عليها ، إذ لو لا جوازه لاختلّ النظام بوقوع أكثر الناس في
المعصية بتركها أو ترك الشاقّ أو الدقيق منها طلباً للأسهل ، فإنّهم
يرغبون في الصناعات الشاقّة أو الدقيقة طمعاً في الاجرة بل زيادتها على ما
اعتيد أخذه في غيرها ، فتسويغ أخذ الاجرة عليها لطف في التكليف بإقامة النظام.
ويزيّفه أوّلاً
: انتقاض طرده بالواجبات العينيّة التعبّديّة الّتي يكثر المعصية بتركها ، فينبغي
أن يسوّغ فيها الاجرة أيضاً لكونه لطفاً في التكليف بها.
وثانياً :
انتقاض عكسه ، بأنّ المشاهد في الناس أنّ تحمّلهم الصنائع الشاقّة من الكفائيات لا
يكون لداعي زيادة الاجرة فيها بل لدواعي اخر ، مثل عدم الميل إلى ما عدا ما
اختاروه ، أو عدم قابليّتهم لغير المختار ، وحسبك شاهداً بذلك أنّ أغلب الصنائع
الشاقّة كالعمالة والفلاحة والحرث والحصاد وما أشبه ذلك لا يزيد اجرتها على ما
عداها من الأعمال السهلة الغير الشاقّة.
سابعها : أنّ
الوجوب في هذه الامور مشروط بالتعويض والواجب المشروط قبل حصول شرط وجوبه ليس
بواجب ، فعقد الإجارة الّتي يشترط فيها العوض يقع على العمل قبل وجوبه ، والاجرة
يستحقّها الأجير بسببه فيجب العمل حينئذٍ.
ويزيّفه أوّلاً
: ما أنّ هذه الأعمال لا تجب لذواتها بل لتوقّف إقامة النظام عليها ، ولا ريب أنّ
إقامة النظام واجب مطلق ، وليس وجوبها مشروطاً بالتعويض فكيف يتصوّر كون ما يجب
لأجلها واجباً مشروطاً بالتعويض؟!.
وثانياً : أنّ
قضيّة البيان المذكور استناد وجوب هذه الامور إلى عقد الإجارة وأخذ الاجرة فلا
يكون بأصل الشرع كسائر ما يلتزمه الإنسان بعقد الإجارة ، مع أنّ الضرورة قاضية
بأنّها من الواجبات بأصل الشرع ، غاية الأمر كونها واجبات غيريّة.
ثامنها : أنّ
وجوب الصناعات المذكورة لم يثبت من حيث ذاتها بل إنّما وجب من حيث الأمر بإقامة
النظام ، وإقامة النظام غير متوقّفة على العمل تبرّعاً بل يحصل به وبالعمل بالاجرة
، فالّذي يجب على الطبيب لأجل إحياء النفس وإقامة النظام هو بذل نفسه للعمل لا
بشرط به بل له أن يتبرّع به وأن يطلب الاجرة ، وحينئذٍ فإن بذل المريض الاجرة وجب
عليه العلاج ، وإن لم يبذل الاجرة والمفروض إفضاء ترك العلاج إلى الهلاك أجبره
الحاكم حسبة على بذل الاجرة للطبيب ، وإن كان المريض مغمى عليه
دفع عنه وليّه ، وإلّا جاز للطبيب العمل بقصد الاجرة فيستحقّ الاجرة في
ماله ، وإن لم يكن له مال ففي ذمّته فيؤدّي في حياته أو بعد مماته من الزكاة أو
غيرها.
ويزيّفه : أنّ
قصد التبرّع بالعمل وقصد أخذ الاجرة عليه من قبيل الدواعي فيكونان من الحيثيّات
التعليليّة ، فلا يتعدّد بهما العمل بل العمل واحد ، وهو إذا كان واجباً بأصل
الشرع فالمكلّف مقهور على التبرّع به ، ولا قدرة له في الامتناع عنه فلا يقع عليه
عقد الإجارة ، فلو وقع يكون لغواً غير مؤثّر لا في إيجاب العمل ثانياً ولا في
استحقاق الاجرة بإزائه.
والتحقيق في
التفصّي أن يقال : إنّ الصناعات وإن كانت تنتظم بها المعاش ويتوقّف عليها إقامة
النظام لكن لا في حدّ ذاتها ، بل بواسطة التكسّب المتوقّف عليها.
وتوضيحه : أنّ
العمدة ممّا يتوقّف عليه إقامة النظام الأموال المتوقّف حصولها على التكسّب ، فإنّ
كلّ إنسان في نظم معاشه وانتظام اموره في دينه ودنياه حتّى أرباب الصنائع يحتاج
لمأكله ومشربه وملبسه ومنكحه ودفع المضارّ عن نفسه وحفظ نفسه عن الهلاك وعلاج مرضه
وغير ذلك ممّا لا يحصى إلى امور كثيرة غير محصورة ، لا يمكن التوصّل إليها في
الغالب إلّا ببذل الأعواض وصرف الأموال ، فله بحسب جهات احتياجه جهات خرج كثيرة
غير محصورة.
ولا ريب أنّ
جهات الخرج تستدعي جهة دخل ، والغالب في آحاد نوع الإنسان كون دخله في جهة واحدة
فالتاجر في تجارته ، والزارع في زراعته ، والفلاح في فلاحته ، والحارث في حرثه ،
والحاصد في حصاده ، والفصّاد في فصده ، والحجّام في حجامته ، وكذلك كلّ صانع في
صنعته بأن يتّخذها وسيلة لتحصيل المال ليكفيه في جهات خرجه ، حتّى أنّ الطبيب في
طبابته.
وكما أنّ التاجر
لو منع من التكسّب وتحصيل المال بتجارته ، والزارع لو منع من تحصيل المال بزراعته
لاختلّ نظام اموره في دينه ودنياه ، فكذلك كلّ صانع لو منع من تحصيل المال بصنعته
بأن يكون اتّخاذه لها وسيلة لكسب المال محرّماً عليه لاختلّ نظام اموره في دينه
ودنياه ، فإقامة نظام النوع متوقّفة على انتظام امور كلّ شخص في
دينه ودنياه ، وهو متوقّف على التكسّب ، وهو متوقّف على الصناعات علماً
وعملاً ، فوجوب الصناعات حينئذٍ إنّما هو من حيث وجوب التكسّب المتوقّف عليها ،
ضرورة أنّه لا يتأتّى إلّا باتّخاذ كلّ صانع صنعته وسيلة لكسب المال بإجراء عقود
المعاوضة من عقد بيع أو صلح أو إجارة أو جعالة أو غيرها عليها ، واللازم منه جواز
أخذ الاجرة عليها بل وجوبه ولو في الجملة ، ومع هذا كيف يتصوّر كونه محرّماً؟.
وبالجملة
الواجب من كلّ صنعة اتّخاذها وسيلة لكسب المال ، ولا يكون ذلك إلّا بأخذ الاجرة
على عملها ، فمعنى وجوب الصناعات كفاية هو هذا ، بل الغالب في كلّ صانع وجوب صنعة
عليه على التعيين ، نعم القدر الواجب منه ما يكتفي به في جهات الخرج ويرتفع به
الحاجة بجميع جهاتها ، وأمّا الزائد عليه فإن كان للتوسعة على الأهل والعيالات أو
للمواظبة على القربات والخيرات ـ من الضيافات والزيارات والصدقات الجاريات وبناء
بقاع الخير وإنفاق الفقراء وصلة الأرحام وما أشبه ذلك ـ كان مستحبّاً ، وإن كان
لمجرّد إكثار المال وجمعه كان مباحاً.
فملخّص ما
حقّقناه أنّ أخذ الاجرة على الصناعات ليس من أخذ الاجرة على الواجبات في شيء من
مراتبه الثلاث ، لأنّ معنى وجوبها هو وجوب التكسّب به وأخذ الاجرة عليها لا غير ،
فليتدبّر فيه فإنّه دقيق وحقيق بالإذعان والقبول.
وينبغي ختم
المقام بإيراد مسائل متعلّقة بالباب :
الاولى :
مقدّمات الواجب كنفس الواجب في حرمة أخذ الاجرة عليها ، كالحضور عند الجنازة
للصلاة على الميّت أو تغسيله ، واغتراف الماء أو صبّه في التغسيل وإزالة ولي
الميّت في قضاء فوائته للنجاسة عن لباسه أو بدنه وطلبه الماء للطهارة الحدثيّة
والخبثيّة وما أشبه ذلك ، لتعيّن فعلها على المكلّف بفعل الواجب فهو مقهور عليه
وليس له أن يمتنع عنه ، وقضيّة ذلك تعيّن فعلها مجّاناً ، فأخذ الاجرة عليها أكل
للمال بالباطل. ولا يتفاوت الحال في ذلك بين القول بوجوب المقدّمة والقول بعدم
وجوبها ، لمكان تعيّن الفعل من جهة اللابدّيّة الّتي هو معنى الوجوب العقلي ، بل
الوجوب العقلي جهة جامعة بين القولين فليس له الامتناع ، ولك أن تقول : إنّه على
القولين مقهور على فعل
المقدّمات ، فتعيّن عليه فعلها مجّاناً ، فيحرم أخذ الاجرة لكونه أكلاً
للمال بالباطل.
الثانية : يجوز
أخذ الاجرة على إرضاع اللباء ، وهو أوّل ما تحلب الامّ ولدها مطلقاً أو إلى ثلاثة
، كما هو المصرّح به في كلام جماعة ، ولعلّه المشهور إن لم نقل بكونه إجماعاً ،
ويؤيّد الجواز بل يدلّ عليه إطلاق قوله تعالى : «فَإِنْ أَرْضَعْنَ
لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» .
وقد يستشكل :
بكونه أخذاً للُاجرة على الواجب ، لوجوب إرضاع اللباء على الامّ ، لتوقّف حياة
المولود عليه لأنّه لا يعيش بدونه.
ودفع أوّلاً :
بمنع أصل الوجوب ، إذ لا دليل على أنّ الامّ يجب عليها إرضاع اللباء.
ودعوى أنّه ما
يتوقّف عليه الحياة مردودة على مدّعيها ، لشهادة الوجدان بل الحسّ بخلافها.
وثانياً : منع
تعيّنه على الامّ ، لأنّه قد يتأتّى من امرأة اخرى غير الامّ ، إذا اتّفق ولادة
اخرى مقارنة لولادة هذا المولود.
وثالثاً : منع
كونه اجرة على فعل الواجب بل هو أخذ عوض عن العين ، نظير أخذ العوض عن المال
المبذول فيمن وجب عليه بذله للمضطرّ ، وقد تقدّم أنّه عوض عن المبذول لا عن أصل
البذل هو الواجب عليه ، والواجب على الامّ أيضاً أصل الإرضاع وهو بذل اللباء الّذي
هو عين له قيمة لا التبرّع بالمبذول. ويمكن أن يقال إنّه : ليس على وجه المعاوضة
بل هو حقّ شرعي قرّره للُامّ في مطلق إرضاعها الولد في مال الوليّ أو في ذمّته
بحكم قوله تعالى : «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» فلا يكون
عوضاً ولا اجرة وإن عبّر عنه بالاجرة.
الثالثة : لا
يجوز أخذ الاجرة على تحمّل الشهادة ولا على أدائها على القول بوجوب التحمّل لمن
دعاه إليه كما هو المشهور استناداً إلى قوله تعالى : «وَلا يَأْبَ
الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» بضميمة
الأخبار المستفيضة المفسّرة له بتحمّل الشهادة والدعاء إليه ، فتكون قرينة على
التجوّز في المشتقّ بعلاقة ما يؤول ، خلافاً للحلّي القائل باستحبابه استضعافاً
للروايات لكونها من أخبار الآحاد ، فتحمل الآية على الأداء عملاً بحقيقة المشتقّ.
__________________
فوجه المنع فيه
وفي الأداء ما تقدّم من أنّ قضيّة الوجوب فيهما عيناً أو كفاية تعيّن بذله مجّاناً
فلا يقابل بالعوض ، فيكون أخذ الاجرة عليه أكلاً للمال بالباطل.
وقد يستدلّ
عليه بأنّ المستفاد من أدلّة الشهادة كون التحمّل والأداء حقّاً للمشهود له على الشاهد
، فالموجود في الخارج من الشاهد حقّ للمشهود له فلا يقابل بعوض ، ضرورة استحالة
مقابلة حقّ شخص بشيء من ماله ، فيرجع أخذ المال في مقابله إلى أكل المال بالباطل.
فروع
:
الأوّل : لو
توقّف الحمل أو الأداء على قطع مسافة بعيدة وجب مقدّمة فيحرم أخذ الاجرة عليه
أيضاً ، لما تقدّم من أنّ الواجب إذا حرم أخذ الاجرة عليه حرم أخذها على مقدّماته
أيضاً ، نعم لو افتقر إلى بذل مال كالافتقار إلى زاد أو راحلة لم يجب بذله على
الشاهد من ماله ، لأنّ المستفاد من أدلّتهما وجوب أصل التحمّل أو الأداء لا وجوب
بذل المال للتحمّل أو الأداء ، فيكون كلّ منهما بالإضافة إلى بذل المال أعني الزاد
والراحلة واجباً مشروطاً وإن كان بالإضافة إلى أصل قطع المسافة من الواجب المطلق ،
فإذا بذلهما الداعي أو صاحب الواقعة وجب القطع.
الثاني : لو
أمكن إحضار الواقعة عنده لتحمّل الشهادة ، قيل : إنّ له أن يمتنع من الحضور ويطلب
الإحضار ، وقضيّة ذلك أن يجوز له أخذ الاجرة على حضوره. وفيه نظر ، لأنّ تحمّل
الشهادة في نحو هذه الصورة إذا كان واجباً مطلقاً فمقدّمته أيضاً واجب مطلقاً ،
غاية الأمر أنّ حصول إحضار الواقعة من صاحب الواقعة مسقط عن المقدّمة الواجبة عليه
، وإمكانه لا ينافي إطلاق وجوبها نظير غسل الثوب على المكلّف بالصلاة مقدّمة لها
مع إمكان سقوطها بفعل الغير. وبالجملة حضور الشاهد عند الواقعة لتحمّل الشهادة
مقدّمة للواجب المطلق فيكون واجباً ، فكيف يقال : بجواز الامتناع منه؟ وإذا لم يجز
الامتناع منه فكيف يقال بجواز أخذ الاجرة عليه؟!.
نعم إنّما
يتّجه ما ذكر لو كان التحمّل في نحو هذه الصورة واجباً مشروطاً بإحضار الواقعة ،
فله حينئذٍ أن يمتنع من الحضور لعدم وجوبه ويطلب الإحضار ولكنّه خلاف
مقتضى إطلاق الآية ، والتقييد الموجب لاشتراط الوجوب يحتاج إلى دليل ولا
دليل.
الثالث : ما
تقدّم من منع أخذ الاجرة على التحمّل أو الأداء إنّما هو إذا أخذها من المشهود له
، وأمّا لو أخذها ممّن يشاركه في الفرض في صورة الوجوب كفاية لفائدة إسقاط الفرض
عنه فقيل بعدم جوازه أيضاً ، ولعلّ وجهه أنّ فائدة الإسقاط في الكفائي ليست منفعة
تقابل بالعوض في نظر الشارع ، لأنّها على تقدير القيام بفعل الكفائي ضروري الحصول
، وعلى تقدير عدمه ممتنع الحصول ، فلا تكون من المنافع المقدور على تسليمها ، فلا
تصلح مورداً لعقد الإجارة ولا مطلق المعاوضة ، مع أنّ هذه الفائدة مشتركة بين فاعل
الكفائي ومن يشاركه في الفرض ، فيصير أخذ الاجرة عليها مع عودها إلى نفسها كالجمع
بين العوض والمعوّض.
مع إمكان أن
يقال : كما أنّ تحمّل الشهادة وأدائها حقّ للمشهود له فلا يقابل بشيء من ماله ،
كذلك فائدة إسقاط الفرض عن الباقين بفعل البعض كالحقّ لهم فلا يقابل بشيء من
مالهم ، مع أنّ فاعل الكفائي على تقدير قيامه بالفعل مقهور على بذلها يمتنع عليه
الإمساك عنها ، فتكون نظير مقدّمة الواجب على القول بعدم وجوبها ، فالمنع جيّد.
الرابعة : الاجرة
على القضاء الواجب على الحاكم الشرعي عيناً أو كفاية بالمعنى المتناول للجعل ،
والمشهور ظاهراً المنع من أخذها مطلقاً ولو من بيت المال ، وعن جامع المقاصد دعوى النصّ
والإجماع عليه ، وعن الخلاف صريحاً والمبسوط ظاهراً دعوى الإجماع على تحريم الجعل الّذي هو أعمّ من
الاجرة. خلافاً للمقنعة والنهاية والقاضي على ما حكي عنهم فجوّزوا أخذه من بيت المال ، ولمختلف العلّامة على
ما تقدّم منه من جواز أخذها عليه مع عدم التعيين ، ويظهر الميل إليه من عبارة
المحقّق في الشرائع مع الحاجة إلّا أنّه جعل المنع أولى.
والأصحّ المنع
مطلقاً ، لأنّ القضاء الّذي يؤخذ الاجرة أو الجعل عليه ، إن اريد به
__________________
مجموع يتصدّاه القاضي عند الترافع إليه ، من سماع دعوى المدّعي وإحضار
المدّعى عليه وطلب الجواب منه ، وطلب البيّنة من المدّعي على تقدير إنكار المدّعى
عليه ، ثمّ طلب تزكية الشهود أو جرحهم ، وإحلاف المنكر على تقدير عدم بيّنة
للمدّعي إلى غير ذلك ممّا يستعمله القاضي في مجلس الترافع إلى أن يبلغ حدّ الحكم
الإنشائي فهو حقّ للمترافعين ، والقاضي مقهور عليه فلا يقابل بعوض منهما ولا من
أحدهما ولا من غيرهما. وإن اريد به خصوص الحكم الإنشائي فهو حقّ للمحكوم له فلا
يقابل بعوض منه أو من غيره ، لكونه من أكل المال بالباطل.
ويدلّ عليه
أيضاً ـ بعد الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة ـ صحيح عمّار بن مروان المرويّ عن
الخصال قال : «كلّ شيء غلّ من الإمام فهو سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها : ما
اصيب من أعمال الولاة الظلمة ، ومنها : اجور القضاة واجور الفواحش ، وثمن الخمر
والنبيذ المسكر ، والربى بعد البيّنة» الخ.
مضافاً إلى
صحيح ابن سنان المرويّ عن المحمّدين الثلاث قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن قاض بين فريقين يأخذ على القضاء من السلطان الرزق؟
فقال : ذلك السحت» . بناءً على كون المراد من الرزق المأخوذ من السلطان ما
يأخذه القاضي على وجه الاجرة لا ما يرتزقه من بيت المال فإنّه حلال بلا إشكال ،
لكون بيت المال معدّاً لمصالح المسلمين والقاضي وقضاؤه من أهمّ مصالحهم. إلّا أنّه
نوقش في هذه الصحيحة من وجوه أسدّها أنّ هذا القاضي بقرينة السلطان منصوب من قبل
الجائر ، ولا ريب أنّه مثل هذا الشخص غير قابل للقضاوة فيحرم عليه ما يأخذه ولو
بعنوان الارتزاق من بيت المال.
وقد يستدلّ
أيضاً ببعض أخبار الرشوة ، بناءً على أنّها في بعض الأخبار اطلقت على مطلق العوض.
وحيث انجرّ
الكلام إلى ذكر الرشوة فينبغي صرف عنان البحث إليها حكماً وموضوعاً ، ببيان أنّ
رشوة القاضي مع الاجرة على القضاء هل هما متّحدان أو
__________________
متغايران؟ وعلى الثاني تغايرهما هل هو على وجه التباين الكلّي أو الجزئي أو
العموم والخصوص؟ فنقول :
أمّا الحكم فتحريم
الرشوة على الحاكم إجماعي ، وفي المسالك كما عن جامع المقاصد «أنّ عليه إجماع المسلمين» ويمكن دعوى الضرورة
فيه في الجملة.
ويدلّ عليه
مضافاً إلى ذلك النصوص المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة في الحقيقة ،
ففي بعضها : «لعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الراشي والمرتشي» وفي رواية يوسف بن جابر : «لعن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه في
امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة» .
وفي بعضها كون
أخذها شركاً كما في رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : «أيّما وال احتجب من حوائج الناس احتجب الله عنه
يوم القيامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هديّة كان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك» .
وفي جملة كثيرة
منها جعلها سحتاً أو عدّها من السحت ، ومن ذلك رواية يزيد بن فرقد عن أبي عبد الله
عليهالسلام قال : «سألته عن السحت؟ فقال : الرشا في الحكم» ورواية
السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «السحت ثمن الميتة ، وثمن الكلب ، وثمن الخمر ،
ومهر البغيّ ، والرشوة في الحكم ، وأجر الكاهن» .
وفي جملة كثيرة
أيضاً : فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم ، ومن ذلك ما في مرسلة
الفقيه قال : «قال عليهالسلام : أجر الزانية سحت ، وثمن الكلب الّذي ليس بكلب الصيد
سحت ، وثمن الخمر سحت ، وأجر الكاهن سحت ، وثمن الميتة سحت ، فأمّا الرشا في الحكم
فهو الكفر بالله العظيم» . والصحيح المرويّ عن الخصال عن أبيه عن
__________________
سعد عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن أبي أيّوب عن عمّار بن مروان قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام : كلّ شيء غُلّ من الإمام فهو سحت ، والسحت أنواع كثيرة
، منها : ما اصيب من أعمال الولاة الظلمة ، ومنها : اجور القضاة ، واجور الفواجر ،
وثمن الخمر والنبيذ المسكر ، والربى بعد البيّنة ، فأمّا الرشاء ـ يا عمّار ـ في
الأحكام فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله» .
وقد يستدلّ
عليه بالكتاب ، وكأنّ النظر فيه إلى قوله تعالى : «وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكّامِ
لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» بناءً على بعض
التفاسير في «وَتُدْلُوا» عطفاً على المنهيّ ، والإدلاء هو الإلقاء وإعطاء الأموال
إلى الحكّام رشوةً لأجل أحكامهم المتوسّل بها إلى أكل طائفة من أموال الناس مأخوذة
بسبب هذه الأحكام بغير حقّ.
قيل : الآية
تدلّ على النهي عن شيئين :
أحدهما : عن
أكل الأموال بسبب باطل غير مشروع ، كالقمار والسرقة والخيانة والغصب والعقود الفاسدة.
والآخر : عن
إدلاء الأموال إلى الحكّام أي لا تعطوا الحكّام أموالكم ليحكموا لكم ، وهذا مستعار
من قول العرب : «وأدلى دلوه أي أرسله» وهو إرسال الرشوة إلى الحكّام للتوصّل إلى
حكمهم ، كمن أرسل دلوه إلى البئر للتوصّل إلى الماء.
وأمّا الموضوع
: فنقول : قد ظهر ممّا سبق في أخذ الاجرة على الواجبات أنّ عنوان الاجرة على
القضاء هو الاجرة على الواجب ، وتحريم أخذها عليه إنّما هو من حيث وجوبه على
القاضي ، فإن اريد به خصوص الحكم الإنشائي إذا تعيّن لأحد المتخاصمين بعد إعمال
موازين القضاء فهو حقّ فيكون واجباً ، وقضيّة ذلك كون الحكم للآخر باطلاً فيكون
محرّماً. فالقاضي إن أخذ مالاً على الحقّ وهو الحكم لمن له الحكم فهو أخذ للُاجرة
على القضاء الواجب ، وإن أخذ مالاً على الباطل أي ليحكم للطرف
__________________
الآخر فهو الرشوة ، وعلى هذا فيحصل الفرق بينهما بالتباين الكلّي وكلاهما
محرّمان إلّا أنّ الأوّل لكونه أخذاً للُاجرة على الواجب ، والثاني لكونه أخذاً
للُاجرة على المحرّم. ويؤيّده أو يساعد ما في المجمع كما عن النهاية من أنّ الرشوة
قلّما تستعمل إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل.
وإن اريد به
التوجّه إلى أمر المترافعين من أوّل أعمال القاضي إلى أن ينتهي إلى الحكم الإنشائي
أعني مجموع هذه الأعمال فهو أيضاً واجب وأخذ الاجرة عليه أيضاً حرام ، فأخذ الاجرة
على القضاء حينئذٍ يصدق على أخذها على المجموع وعلى أخذها على خصوص الحكم الإنشائي
، وفسّر الحكم بما يعطيه أحد المتحاكمين الحاكم ليحكم له حقّاً كان أو باطلاً كان
الفرق بينهما بالتباين الجزئي ، لافتراق الأوّل فيما يؤخذ على القضاء بمعنى
التوجّه إلى أمر المترافعين من دون نظر إلى خصوص الحكم فإنّه لا يسمّى رشوة.
وافتراق الثاني فيما إعطاء المبطل منهما لأن يحكم له بالباطل ، فإنّه رشوة لا
تسمّى اجرة على القضاء الواجب ، واجتماعهما فيما يعطيه المحقّ لأن يحكم له فإنّه
رشوة من هذه الحيثيّة ، واجرة على القضاء من حيث وجوب ذلك الحكم.
وأرجح الوجهين
ثانيهما وفاقاً للشيخ الشارح للقواعد على ما حكي من قوله : «إنّها ليست مطلق الجعل
كما في القاموس بل بينها وبين الأجر والجعل عموم من وجه ، ولا البذل
على خصوص الباطل كما في النهاية والمجمع ولا مطلق البذل ولو على خصوص الحقّ ، بل هو البذل على
الباطل أو على الحكم له حقّاً أو باطلاً مع التسمية وبدونها» وستعرف معنى
تتمّة كلامه.
بل ظاهر
المحكيّ عن مفتاح الكرامة كون العموم في جانب الرشوة محلّ وفاق بين الأصحاب لقوله
: «إنّها عند الأصحاب ما يعطي للحكم حقّاً وباطلاً» ويعطيه ظاهر
كلام جامع المقاصد قائلاً : «بأنّ الجعل من المتحاكمين للحاكم رشوة» كما حكي. وفي
معناه عبارة المسالك من «أنّها أخذ الحاكم مالاً لأجل الحكم» وهو
__________________
ظاهر ما عن الحلّي بل صريحه في مسألة تحريم أخذ الرشوة مطلقاً وإعطائها «إلّا
إذا كان على إجراء حكم صحيح فلا يحرم على المعطي» .
وتبعه على ذلك
جماعة حيث حرّموا الرشوة على الحكم الباطل من الآخذ والمعطي ، وعلى الحكم الحقّ من
الآخذ دون المعطي لو توقّف توصّله إلى حقّه على إعطائها. ويؤيّده بل يساعد عليه
المحكيّ عن المصباح المنير من «أنّها ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له أو
يحمله على ما يريد» ونحوه ما في المجمع.
وعليه فلا
ينافيه ما تقدّم من عبارته كما عن النهاية أيضاً إذ لا مانع في كونها غالب
الاستعمال فيما يتوصّل إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل ، وقليل الاستعمال فيما يتوصّل
به إلى الحقّ مع صدق الاسم عليهما حقيقة كما يشهد به العرف أيضاً.
لأنّا نرى
صدقها على كلّ ممّا يبذل للحكم حقّاً أو باطلاً ، وتستعمل في كلّ منهما من دون
صحّة سلب الاسم. بل يدلّ عليه النصوص المصرّحة بكون الرشوة في الحكم سحتاً ، أو
كون الرشاء في الأحكام كفر بالله العظيم ، لعموم الحكم والأحكام كلّاً من الحقّ
والباطل ، ولا ينافيه الرشاء في الأحكام لُاجور القضاة في صحيح عمّار لكفاية
التباين الجزئي في صحّة المقابلة ، هذا كلّه في الفرق بينهما بحسب المورد.
وبينهما فرق
آخر بحسب العنوان ، بتقريب أنّ الاجرة على القضاء ما يؤخذ بعنوان الإجارة أو
الجعالة ، نظراً إلى أنّ الاجرة قد يطلق على ما تعمّ الجعل ، كما أنّ الجعل يطلق
على ما يعمّ الاجرة ، والرشوة على الحكم قد تكون بعنوان الإعطاء والبذل المطلق ،
وقد تكون بعنوان الإجارة ، وقد تكون بعنوان الجعالة ، وقد تكون بعنوان المحاباة
كالصلح أو البيع من الحاكم بأقلّ من ثمن المثل لغرض أن يحكم له ، وقد تكون بعنوان
الهبة المجّانيّة ، وقد تكون بعنوان الهديّة ، وقد تكون بعنوان العاريّة ، وقد
تكون بعنوان الوقف على الحاكم ، وقد يكون بصيغة ردّ المظالم أو الزكاة أو الخمس أو
خصوص سهم الإمام ، أو غيره من وجوه البرّ والصدقات الواجبة والمندوبة ، وكلّ ذلك
__________________
كما ترى يصدق عليه الرشوة عرفاً ولغة ، ويندرج في تراجم أهل اللغة وتفاسير
الفقهاء فيتناولها أدلّة التحريم.
وقضيّة حرمة
أخذه على الحاكم فساد العقود والصيغ المفروضة ، وعدم تأثيره في النقل والانتقال
ولا براءة ذمّة المعطي ولا تملّك الآخذ وملكه ، والسرّ فيه أنّ جهة الرشائيّة صفة
مبغوضة في نظر الشارع إذا طرأت المال كانت مانعة عن صحّة العقود أو الصيغ الجارية
عليه ، أو أنّ النكتة فيه فساد القصد والنيّة بحسب الواقع واعتبار إحدى العناوين المذكورة
، والتسمية باسمه لباس ظاهري لا ينوط به الصحّة والتأثير ، حتّى أنّ النيّة في
أداء الوجوه الواجبة أو المندوبة المنوط صحّته بالإخلاص وقصد القربة مشوبة غير
خالصة ، لأنّ أصل الداعي إليه في نفس الأمر هو التوصّل إلى استخراج الحكم حقّاً أو
باطلاً.
وربّما يشكل
الحال فيما لو كان للحاكم دين على أحد المترافعين ، أو عين مغصوبة في يده وكان
منكراً أو ممتنعاً من أداء الدين ، أو ردّ العين غصباً وهو من أهل الاستيلاء ، ففي
هذا المقام الّذي هو موضع حاجته يردّ الدين أو العين لغرض أن يحكم له ، فهل هو
رشوة؟ فيحرم كلّ من الإعطاء والأخذ ، أوْ لا فلا يحرم شيء منهما ، أو يفصّل بين
الدين فيحرم والعين فلا يحرم. ووجه الفرق أنّ الردّ في الأوّل إيجاد للمقتضي فلا
يؤثّر في تعيّن المال للحاكم لطروّ جهة الرشائيّة ، والثاني رفع للمانع وهو يده
الغاصبة عن العين المملوكة للحاكم فيجوز له أخذها والتصرّف فيها للأصل و «عموم
الناس مسلّطون على أموالهم». وهذا جيّد.
ولكنّ الأجود
هو أوسط الوجوه ، لتطرّق المنع من صدق الرشوة على مثل ذلك عرفاً ولغة ، لظهور
تراجم أهل اللغة وتفاسير الفقهاء في كون المال المبذول من مال باذله الّذي أعطاه
الحاكم لمجرّد أن يحكم له ، وهذا دَيناً وعيناً مال الحاكم فلا يشمله أدلّة
التحريم.
ثمّ الظاهر بل
المقطوع به اختصاص الرشوة موضوعاً وحكماً بالأموال ، وعدم جريانهما في الأعمال كأن
يخدمه أو يعمل له عملاً ليحكم له ، ولا الأقوال بأن يمدحه ويمجّده ويبجّله ويثني
عليه في الحضور والغياب ويفرط في تعظيمه لإلقاء حبّه ومودّته في قلبه ليدعوه إلى
الحكم له ، لصحّة سلب الاسم فلا يشملهما أدلّة التحريم.
وهل تختصّ في
الأموال بالأعيان أو تعمّ المنافع أيضاً؟ بأن يوجره داره أو غيرها من أملاكه بأقلّ
من ثمن المثل ، أو أباح له منافع عقار من عقاراته مدّة ليحكم له ، الظاهر هو
الثاني لصدق الاسم عرفاً ولغة.
ثمّ المال
المبذول للحكم قد يكون مبذولاً ليحكم له في خصومة وقعت في الحال ، وقد يكون
مبذولاً له في خصومة يقصدها في الاستقبال ، وقد يكون مبذولاً لأجله في خصومة على
تقدير وقوعها في المال ، وفي اختصاص الرشوة بالأوّل أوْ عمومها لغيره قولان ،
أحدهما التعميم الّذي صرّح به الفاضل النراقي في المستند ونقل القول به
أيضاً إلى كتب غير واحد من الأصحاب ، وأنكره السيّد في الرياض فخصّها
بالأوّل. والأصحّ هو الأوّل ، لصدق الرشوة عرفاً على الجميع ، وتناول نصّ أهل اللغة
والفقهاء للجميع ، مع عموم الروايات لكون الجميع رشوة في الحكم ورشاء في الأحكام.
وربّما استدلّ عليه بما دلّ من الأخبار على أنّ هدايا العمّال غلول ، وفي بعضها
أنّها سحت. وليس ببعيد على تقدير سلامة الإسناد.
ثمّ قد عرفت
ممّا سبق أنّ من جملة وجوه الرشوة إعطاء وأخذ الهديّة ، وهي مال يرسله إنسان إلى
آخر لأغراض ، وهذا الغرض فيما كان المرسول إليه هو الحاكم قد يكون نفس الحكم ، وقد
يكون إيراث المحبّة والمودّة الباعثة له على الحكم ، والظاهر أنّ كليهما من الرشوة
المحرّمة لصدق الاسم عرفاً ولغة وعموم أدلّة الحرمة. ويستفاد من عبارات جماعة
اختصاص الهديّة بما كان لإيراث المحبّة المحرّكة إلى الحكم ، وليس بشيء لكثرة ما
يقصد التحريك إلى الحكم من نفس الهديّة. وقد يستدلّ على الحرمة في ما يقصد به
إيراث المحبّة المحرّكة إلى الحكم أو مطلق الهديّة على تقدير عدم صدق الاسم بما
ورد من «أنّ هدايا العمّال سحت» أو «أنّها غلول» مضافاً إلى ما تقدّم في رواية الأصبغ بن نباتة من قوله عليهالسلام «وإن أخذ هديّة كان غلولاً» وإلى تنقيح المناط.
__________________
ثمّ إنّ العبرة
في كون المال المبذول للحكم رشوة بقصد المعطي لا الآخذ ، فإن أعطاه لغرض أن يحكم
له وأخذه الحاكم لا بهذا القصد كان من الرشوة المحرّمة ، حتّى أنّه لو اطمأنّ على
نفسه بأنّه لا يزلّ في مقام الحكم ولا يميل نفسه إلى باذل المال كان رشوة محرّمة
أيضاً ، لصدق الاسم وإطلاق كلام أهل اللغة والفقهاء في تفسيرها. نعم حرمة أخذه
مقصورة على ما لو علم الآخذ بقصد المعطي ، فلو جهل ولو بكونه ظانّاً أو شاكّاً لا
ضير في أخذه ، لعموم أصل البراءة في الشبهات الموضوعيّة وإن كان التحلّي بحلية
التقوى وسلوك طريق الاحتياط يقتضي أولويّة تجنّبه.
ثمّ إنّه قد
ظهر من تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ الرشوة كما يحرم أخذها على الحاكم وهو
المرتشي ، فكذا يحرم إعطاؤها على الراشي ، كما هو المصرّح به في كلام الأصحاب بل
عليه الإجماع ظاهراً ، ويدلّ عليه من النصوص ما تقدّم من لعن الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم «الراشي والمرتشي» وفي كلام جماعة تعليلها في الراشي بكونه إعانة على الإثم ، وإن كان في
أصله أو اطّراده موضع نظر. ويستثنى الإعطاء من الحرمة فيما لو كان المعطي محقّاً
وتوقّف الوصول إلى حقّه بإعطاء الرشوة ، فيجوز إعطاؤها حينئذٍ للراشي وإن حرم
أخذها على المرتشي ، كما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم الحلّي فيما تقدّم من
عبارته ، وإطلاقها بالقياس إلى صورة عدم توقّف الوصول إلى الحقّ منزّل على صورة
التوقّف. ودليل الاستثناء حينئذٍ قاعدة نفي الضرر الحاكمة على سائر الأدلّة
الخاصّة الّتي منها ما نحن فيه.
ثمّ إنّ
المصرّح به في كلام جماعة جريان الرشوة في غير الحكم من الغايات الاخر الّتي
يتوصّل إليها ببذل مال حقّاً كانت الغاية المقصودة أو باطلاً ، وهذا صريح ما تقدّم
من كلام المصباح المنير كما في المجمع أيضاً ، وربّما نسب إلى النهاية الأثيريّة
أيضاً.
وخصّه في شرح
القواعد بما لو كانت الغاية باطلة ، وقد سمعت تمام عبارته وموضع البحث منه قوله : «بل
هو البذل على الباطل أو على الحكم حقّاً أو باطلاً» .
وهذا جيّد ،
لمنع إطلاق الرشوة على ما كان لتمشية حقّ وهو الغاية المباحة ، كما
__________________
لو بذل مالاً لمن يصلح أمره عند الأمير أو غيره ، أو لحاكم الجور لرفع ظلم
ظالم عنه ، أو لرفع يد غاصبة عن عينه المغصوبة ، أو لاسترجاع حقّه أو استيفاء دينه
وما أشبه. ولو اطلق الرشوة على نحو ذلك في بعض الأحيان كان مجازاً لصحّة سلب
الاسم.
ولو سلّم دخوله
في الاسم فلا ينبغي التأمّل في خروجه من الحكم أخذاً وإعطاءً فلا يحرم ، إمّا لعدم
عموم في أدلّة تحريمها حيث يشمل المقام والإطلاق في مطلقات تلك الأدلّة منصرف إلى
غير ما نحن فيه ، أو لورود التخصيص عليها من جهة الإجماع فتوى وعملاً ، وممّا ينهض
للتخصيص ما في الصحيح «عن الرجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله ليسكنه ، قال :
لا بأس» بناءً على كون المراد من المنزل ما يكون من الأوقاف
كالمدرسة والخان والرباط وما أشبه ذلك ، كما فهمه صاحب الوسائل وتبعه غير واحد من
مشايخنا . نعم لو كانت الغاية المقصودة من البذل محرّمة ـ كما لو
أعطى حاكم الجور ليعينه على ظلمه ، أو يقرّه عليه أو على غصبه أو على خوضه في
معصية أو لأن يضرب أحداً ظلماً أو يأخذ منه مالاً بغير حقّ ـ فالظاهر كونه من
الرشوة المحرّمة ، لصدق الاسم عليه عرفاً. ولو سلّم صحّة سلبه فالظاهر كونه حراماً
أيضاً ، لكونه من أكل المال بالباطل ، فيختصّ الحرمة حينئذٍ بالآخذ ، إلّا إذا صدق
على فعل المعطي الإعانة على الإثم فيحرم عليه أيضاً ، ولكنّه غير مطّرد.
ثمّ إنّ قضيّة
كون الرشوة في موضع تحريمها سحتاً عدم خروجها عن ملك المعطي بل بقاؤها في ملكه ، فيجب
على الآخذ ردّها إليه إن كانت عينها باقية إجماعاً كما في المستند ولو تلفت في
يده ولو من غير تفريط ففي الضمان كلام ، فمن مشايخنا من استشكله مع
علم الدافع لأنّه سلّطه على إتلاف ماله فلا يستحقّ عليه عوضاً ، وفي المستند «يجب
عليه ردّ عوضها مع تلفها وإن لم يكن التلف بتفريطه وجوباً فوريّاً على المصرّح به
في كلام الأصحاب». وهذا منه يؤذن بالإجماع على ضمان العوض مثلاً أو قيمة ، ثمّ قال
: «وهو فيما إذا كان بذلها من غير رضى الباذل وطيب نفسه ظاهر ، وأمّا لو بذلها
بطيب نفسه سيّما إذا حكم له بالحقّ فإن ثبت الإجماع على ثبوت غرامتها
__________________
عليه وضمانه إيّاها مطلقاً وإلّا فللتأمّل فيه للأصل مجال واسع» .
ومن مشايخنا من
فصّل بين ما لو كان مبنى بذله على المعاوضة ، كما لو بذلها على وجه الاجرة أو
الجعالة أو البيع أو الصلح المحابي على معنى اعتبار كون الحكم عوضاً عنه يجب عليه
الضمان ، وما لم يكن كذلك كالبذل على وجه الإعطاء المطلق أو هبة مجّانيّة أو هديّة
فالوجه عدم الضمان ، لعموم القاعدة كلّما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده المختصّة بعقود
المعاوضة وعكسها كلّما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده المختصّة بغير عقود المعاوضة»
.
أقول : هذا
التفصيل جيّد إلّا أن يكون إطلاق الضمان إجماعاً وليس بثابت ، وكونها من السحت لا
يلازم الضمان ، وعموم على اليد مخصوص بما لم يكن مترتّباً على التسليط المجّاني
ولذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام.
خاتمة : في أخذ
الاجرة على المندوبات ، واختلف في جوازه والعدم ، فقيل بالجواز كما عن الأكثر للأصل وانتفاء
المانع ، وعن بعض الأصحاب ولعلّه ابن جنيد عدم الجواز في مستحبّات تجهيز الميّت
لإطلاق النهي ، وكأنّه عثر على نصّ فيه نهى عن أخذها في تجهيز الميّت متناول
إطلاقه لمستحبّاته فيكون ذلك بمثابة رواية مرسلة. وقد يفصّل «بين ما كان استحبابه
ذاتيّاً فلا يجوز لمنافاة الإجارة للرجحان والقربة وما كان استحبابه توصّليّاً
وكان له نفع للمستأجر فيجوز للأصل» وهذا هو القول الفصل.
وتفصيل القول
فيه أنّ المندوب إمّا أن يكون مستحبّاً على المستأجر ، فجواز أخذ الاجرة عليه
مبنيّ على أحد الأمرين : من قبوله النيابة كالحجّ المندوب ونحوه ، أو قبوله
التسبيب كبناء المسجد ونحوه. وقد سبق بيان الفرق فيما بينهما مشروحاً وهذا بكلا
قسميه خارج عن محلّ البحث ، لأنّ الكلام في أخذ الاجرة على ما يستحبّ على الإنسان
نفسه لا على ما يستحبّ على غيره ، كالكلام المتقدّم في أخذ الاجرة على
__________________
الواجب أعنى ما يجب على الإنسان نفسه لا على غيره. فما قد يوجد في بعض
العبارات من التمثيل لما يؤخذ عليه الاجرة من المندوبات بالاجرة على الحجّ ونظائره
والاجرة على بناء المسجد وما أشبهه أو نقض القول بالمنع بنحو الامور المذكورة ،
فليس على ما ينبغي.
أو يكون
مستحبّاً على الأجير ، وهذا هو محلّ الكلام إذا اشتمل على فائدة ومنفعة تعود إلى
المستأجر ، لأنّ ما لم يشتمل على نحو هذه الفائدة والمنفعة فهو ممّا لا يقع عليه
عقد الإجارة من أصله وإن كان مباحاً لأنّ من شروط عقد الإجارة كون العمل المستأجر
عليه مشتملاً على منفعة يصحّ عودها إلى المستأجر ، فيكون ما لا منفعة فيه تعود
إليه خارجاً عن موضوع المسألة.
وتوهّم : أنّ
هذا الفرض ممّا لا تحقّق له في المندوبات ، لأنّ أقلّ مراتب فائدة العمل المندوب
الثواب المعدّ له المترتّب عليه ، وهذه الفائدة يمكن عودها إلى غير العامل ، بأن
يبذل له الثواب ويأخذ بإزائه العوض.
يدفعه : أنّ
الثواب ممّا لا يقابل بالعوض لما بيّنّاه سابقاً. ثمّ ما اشتمل من المستحبّات على
منفعة يمكن عودها إلى غير عاملها لا يخلو إمّا أن يكون المنفعة المفروضة فيه
مرتبطة بالإخلاص وقصد القربة بحيث يلزم من انتفائهما انتفاؤها كإعادة الفريضة لمن
صلّاها فرادى لفائدة اقتداء الغير به فيها وإدراكه فضيلة الجماعة ، أو لم تكن
مرتبطة بهما فلا يلزم من انتفائهما انتفاؤها ، كالسعي في قضاء حاجة المؤمن.
والأوّل : ما
لا يجوز أخذ الاجرة عليه ، لأنّه يوجب انتفاء قصد القربة والإخلاص الموجب لانتفاء
فائدة الاقتداء وفضيلة الجماعة الموجب لعدم جواز أخذ الاجرة عليه ، فيكون أخذ
الاجرة ممّا يلزم من وجوده عدمه وهو محال ، ولا كلام في كبرى هذه القاعدة ، وأمّا
صغراها فلأنّ قضيّة عقد الإجارة الوارد على عمل أن يكون الداعي المحرّك إلى
الإتيان بالعمل المستأجر عليه هو استحقاق المستأجر له ، لا على معنى أنّه من شروط
الصحّة بل بمعنى أنّه قهريّ الحصول في كلّ عمل مستأجر عليه ، وأنّه المركوز في
الأذهان كما يشاهد في الخيّاط في خياطته والعامل في عمله ، حتّى أنّه لو سئل عن
الجهة الباعثة عليه لعلّله باستحقاق المستأجر له ، ولا ريب أنّه ينافي قصد
القربة بمعنى كون الداعي إليه امتثال الأمر الاستحبابي أو الإخلاص إن تحقّق
معه داعي امتثال الأمر أيضاً ، وأيّاً ما كان فهو موجب لبطلان العمل ، وهو موجب
لعدم حصول الفائدة المطلوبة منه ، وهذا هو معنى الاستدلال على المنع بمنافاة أخذ
الاجرة لقصد القربة والإخلاص.
فما أورد عليه
من منع المنافاة لأنّ أخذ الاجرة يؤكّد القربة والإخلاص لأنّ عقد الإجارة يقضي
بوجوب العمل والوجوب زيادة على الاستحباب مؤكّدة للقربة والإخلاص لا أنّها
تنافيهما ، واضح الدفع بأنّ حصول هذه الزيادة المؤكّدة فرع على صحّة العقد ، وهي
مع تحقّق داعي استحقاق المستأجر في المستحبّ غير معقولة ، وهذا هو معنى ما ذكرناه
من أخذ الاجرة يلزم من وجوده عدمه.
والثاني : ما
يجوز أخذ الاجرة عليه ، لأنّ غاية ما يلزم من داعي استحقاق المستأجر للعمل
المستأجر عليه خروج العمل الموجود في الخارج من كونه مستحبّاً ، لا انتفاء الفائدة
المقصودة منه ، لفرض عدم ارتباطها بالقربة والإخلاص ، كقضاء الحاجة الغير المرتبط
حصوله بحصول السعي على صفة الاستحباب.
ومن فروع هذا
القسم جواز أخذ الاجرة على مستحبّات تجهيز الميّت ، كما أنّ من فروع القسم الأوّل
عدم جواز أخذ الاجرة على الإمامة وهو الصلاة بالناس جماعة ، كما هو المصرّح به في
كلام جماعة وربّما نفي الخلاف فيه. ويدلّ عليه خبر محمّد بن مسلم المرويّ في باب
شهادات الفقيه عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «لا تصلّ خلف من يبغي على الأذان والصلاة بين
الناس أجراً ، ولا تقبل شهادته» وهو نصّ في الحرمة بل كونه من الكبائر القادحة في
العدالة ، ولذا لا يصلّى خلفه ولا يقبل شهادته ، نظراً إلى إطلاق الرواية الشامل
لأخذها مرّة واحدة.
ويعضدها القاعدة
الّتي ضابطها ما بيّنّاه ، وملخّصه أنّ ما كان انتفاع الغير به موقوفاً على وقوعه
على وجه القربة والإخلاص ، وهذا لا يجامع ما يقع لأجل استحقاق الغير
__________________
له فيفسد به صلاة الإمام فيتعذّر انتفاع الغير بها في الايتمام ، لأنّ من
شرط صحّة صلاة المأموم صحّة صلاة الإمام.
ومن فروع القسم
الأوّل أيضاً عدم جواز أخذ الاجرة على الأذان للصلاة في الجماعة الّذي ينتفع به
غير المؤذّن من الإمام وغيره من المأمومين في الاجتزاء به ، كما هو المصرّح به في
كلام جماعة ونسبه في الذكرى إلى أكثر الأصحاب ، وعن المختلف أنّه المشهور
، وعنه أيضاً كما عن جامع المقاصد أنّه مذهب الأصحاب إلّا من شذّ ، وعن الشيخ في الخلاف الإجماع عليه
، خلافاً للسيّد على ما حكي لمصيره إلى الجواز على كراهية تسوية بين
الاجرة وبين الرزق ، واستوجهه في الذكرى ، وتبعهما جماعة من متأخّري المتأخّرين
كما في المدارك وعن مجمع البرهان والبحار .
والصحيح هو
المشهور ، للقاعدة ، وخبر محمّد المتقدّم الصريح في دلالته المعتبر في سنده بل المصحّح سنده في
المستند مضافاً إلى خبر السكوني المرويّ عن الشيخ مسنداً ، وعن
الفقيه مرسلاً عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليهالسلام قال : «آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي أن قال يا عليّ :
إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك ولا تتّخذن مؤذّناً يأخذ على أذانه أجراً» .
ورواية زيد بن
عليّ عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهمالسلام «أنّه أتاه رجل فقال له : والله إنّي احبّك لله ، فقال له : لكنّي أبغضك
لله ، قال : ولِمَ؟ قال : لأنّك تبغي في الأذان أجراً ، وتأخذ على تعليم القرآن
أجراً» ونحوه في الفقيه مرسلاً إلّا أنّه ذكر في الفقرة الاولى
في موضع أجراً «كسباً».
__________________
وقوله عليهالسلام في رواية حمران الواردة في فساد الدنيا واضمحلال الدين «ورأيت
الأذان بالاجرة والصلاة بالأجر» .
وأسانيد هذه الروايات
ما عدا خبر محمّد ضعيفة جدّاً ، ودلالتها على التحريم قاصرة قطعاً ، ولعلّه لذا
صار الجماعة إلى الكراهة تسامحاً في أدلّتها ، والمرتضى لا يعتبر أخبار الآحاد.
وربّما يؤيّدها
الاعتبار من حيث إنّ أخذ الاجرة على الأذان يوجب خروج الأذان الموجود في الخارج عن
الاستحباب لا صيرورتها بسبب انتفاء القربة والإخلاص محرّماً ، فلا يفسد الإجارة مع
فرض اشتماله على المنفعة العائدة إلى غير المؤذّن.
ولكن يدفعه :
أنّ المنفعة المفروضة في هذا الأذان إن كان اجتزاء الغير به لصلاته ، ففيه منع
انفكاك هذه المنفعة عن الإخلاص والقربة ، فإنّ الأذان الّذي يقوله المكلّف لصلاته
فرادى أو جماعة عبادة صرفة فيفسد بانتفاء الإخلاص والقربة ، ولذا لا يجتزأ به هو
لنفسه فكيف بغيره.
وإن كان
الإعلام بدخول الوقت ، ففيه : أنّه لا يتمّ مطّرداً إلّا في الأذان الإعلامي لقوّة
احتمال كونه من القسم الثاني أعني المستحبّ التوصّلي ، فغاية ما يترتّب على انتفاء
الإخلاص والقربة عدم ترتّب الثواب لا عدم حصول فائدة الإعلام ، ومحلّ البحث هو
أذان الصلاة في الجماعة ، إلّا أن يدفع ذلك ويقال : إنّ محلّ بحث الأصحاب هو
الأذان الإعلامي كما جزم به صاحب الحدائق وهو ظاهر كلام شيخنا قدسسره أيضاً ، غير أنّه خلاف الإنصاف لظهور كلمات الأصحاب
خصوصاً كلام المعتبر والذكرى وغيرهما في أذان الصلاة في الجماعة ، وممّا يشهد بذلك
ما في المدارك وغيره من ذكر الاجرة على الإقامة أيضاً هنا ناقلاً عن العلّامة في
نهاية الإحكام منع الاستيجار عليها قائلاً : «والظاهر أنّ الإقامة كالأذان وحكم
العلّامة في النهاية بعدم جواز الاستيجار عليها وإن قلنا بجواز الاستيجار على
الأذان فارقاً بينهما بأنّ الإقامة لا كلفة فيها
__________________
بخلاف الأذان فإنّ فيه كلفة بمراعاة الوقت ، وهو غير جيّد إذ لا يعتبر في
العمل المستأجر عليه اشتماله على الكلفة» .
وأمّا ضعف
الروايات ، فيمكن انجباره بالشهرة كإمكان انجبار قصور دلالتها بفهم المعظم ، مع ما
عرفت من صراحة دلالة خبر محمّد بن مسلم وقوّة سنده إن لم نقل بصحّته ، فالقول
بالمنع والتحريم متعيّن.
ويمكن طرد
المنع إلى الأذان الإعلامي أيضاً عملاً بإطلاق النصّ ، ولا يبعد دعوى إطلاق فتوى
الأكثر أيضاً ، وإن كان كلمات جماعة منهم كما عرفت أظهر في أذان الصلاة في
الجماعة. ويمكن تطبيقه على الاعتبار أيضاً ، بدعوى ظهور إطلاق النصّ في كون مطلق
الأذان حتّى الإعلامي عبادة محضة فلا يقع عليه عقد الإجارة إلّا بوصف كونه عبادة
راجحة ، وهذا لا يجامع أخذ الاجرة المخرج له عن الرجحان بسبب انتفاء القربة أو
الإخلاص.
ثمّ إنّ
المصرّح به في كلام جماعة من أساطين الطائفة جواز ارتزاق المؤذّن من بيت المال ، مصرّحين
بعدم كونه من باب الاجرة لأنّ الاجرة إذا كانت حراماً فلا يتفاوت فيه الحال بين
كونها من بيت المال أو من غيره ، بل هو استحقاق شرعي حصل للمؤذّن باعتبار كونه
كأذانه من مصالح المسلمين وبيت المال معدّ لمصالحهم ، ونحوه إمام الجماعة والقاضي
لجواز الارتزاق للجميع ، فلا يكون الارتزاق على وجه المعاوضة ، ولذا لا يراعى في
مورده عقد إجارة ولا جعالة ، ولا يعتبر فيه تعيين الاجرة ولا ضبطها جنساً ووصفاً
وقدراً ، بل ينوط بنظر الحاكم فقد يساوي اجرة مثل العمل وقد ينقص منه وقد يزيد
عليه ، ويعتبر فيه الحاجة عند جماعة بل الأكثر بخلاف الاجرة ، ونحو استحقاقه الرزق
من بيت المال استحقاقه من غلّة الوقف كاستحقاق إمام الجماعة والقاضي أيضاً من ذلك
فيما وقف على المؤذّنين أو أئمّة الجماعة أو القضاة ، فإنّه في
__________________
جميع ذلك استحقاق من الواقف حيث وقف على هؤلاء.
تذنيب : صرّح جماعة
بجواز الاجرة على
إجراء عقد النكاح وحرمتها على تعليمه ، وهو كذلك ، ووجه الفرق أنّ إجراء العقد من
الأعمال المباحة المحترمة وهو قابل للوكالة فيجري عليه عقد الإجارة وعقد الجعالة
ويقابل بالمال اجرة وجعلاً ، وتعليمه عبارة عن تعليم صيغة النكاح وكيفيّتها حسبما
وردت في الشرع ، فتكون من قبيل المسائل الشرعيّة الواجب على العالم بها عيناً أو
كفاية تعليمها الجاهل بها فلا يقابل بالعوض لتعيّن بذله مجّاناً هذا.
وينبغي ختم باب
المكاسب المحرّمة بإيراد مسائل مهمّة :
المسألة الاولى
: صرّح جماعة كالعلّامة في جملة من كتبه والشهيد في الدروس والمحقّق
الثاني في جامع المقاصد بحرمة بيع المصحف ، وظاهر المحكيّ عن نهاية الإحكام
اشتهاره بين الصحابة حيث تمسّك على الحرمة بمنع الصحابة. ومرادهم حرمة بيع الخطّ
لا آلات من الورق والجلد وغيره كما هو صريح المحكيّ عن الدروس قائلاً : «ويحرم بيع
خطّ المصحف دون الآلة».
خلافاً للسيّد
الطباطبائي في المصابيح لمصيره إلى كراهة بيعه وشرائه ، ووافقه شيخنا في
الجواهر .
مستند الأوّلين
ظواهر روايات مستفيضة كخبر عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته يقول : إنّ المصاحف لن تشترى ، فإذا
اشتريت فقل : أشتري منك الورق وما فيه من الأديم وحليته وما فيه من عمل يدك بكذا
وكذا» .
وخبر سماعة عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن بيع المصاحف وشرائها؟ فقال : لا تشتر
كتاب الله ولكن اشتر الحديد والورق والدفّتين وقل : أشتري منك هذا بكذا
__________________
وكذا» .
ورواية عثمان
بن عيسى قال : «سألته عن بيع المصاحف وشرائها؟ فقال : لا تشتر كلام الله ولكن اشتر
الحديد والجلود والدفتر ، وقل : أشتري هذا منك بكذا وكذا» .
ورواية عبد
الله بن سليمان قال : «سألته عن شراء المصاحف؟ فقال : إذا أردت أن تشتري فقل :
أشتري منك ورقه وأديمه وعمل يدك بكذا وكذا» .
ورواية جرّاح
المدائني عن أبي عبد الله عليهالسلام في بيع المصاحف قال : «لا تبع الكتاب ولا تشتره ، وبع
الورق والأديم والحديد» .
ورواية سماعة
بن مهران قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا تبيعوا المصاحف ، فإنّ بيعها حرام ، قلت :
فما تقول في شرائها؟ قال : اشتر منه الدفّتين والحديد والغلاف ، وإيّاك أن تشتري
منه الورق وفيه القرآن مكتوب ، فيكون عليك حراماً وعلى من باعه حراماً» .
وفي مقابلها
خبران دالّان على الجواز مثل رواية روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته عن شراء المصاحف وبيعها؟ فقال : إنّما كان
يوضع الورق عند المنبر ، وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمرّ الشاة أو رجل
منحرف ، قال : فكان الرجل يأتي فيكتب من ذلك ، ثمّ إنّهم اشتروا بعد ، قلت : فما
ترى في ذلك؟ فقال لي : أشتري أحبّ إليّ من أن أبيعه ، قلت : فما ترى أن اعطي على
كتابته أجراً؟ قال : لا بأس ، ولكن هكذا كانوا يصنعون» .
ورواية أبي
بصير قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن بيع المصاحف وشرائها؟ فقال : إنّما كان يوضع عند
القامة والمنبر ، قال : كان بين الحائط والمنبر قدر ممرّ شاة أو رجل وهو منحرف ،
فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة ، ويجيء آخر فيكتب السورة كذلك كانوا ،
__________________
ثمّ إنّهم اشتروا بعد ذلك ، فقلت : فما ترى في ذلك؟ فقال : أشتريه أحبّ
إليّ من أن أبيعه» .
ومعارضتهما
للروايات المذكورة واضحة ، وهما مع وضوح دلالتهما على الجواز جامعان سنداً لشرائط
الحجّيّة ، لكون الأوّل من الموثّق والثاني من الصحيح ، فلا يسوّغ طرحهما رأساً ،
ولا يقبلان تأويلاً قريباً يساعد عليه فهم العرف ، بخلاف الروايات المانعة لقبولها
الكراهة فتحمل عليها جمعاً. وفي قوله عليهالسلام : «أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه» أيضاً دلالة عليها.
وكون الاشتراء
أحبّ إليه عليهالسلام إمّا من جهة انتفاء الكراهة من الاشتراء واختصاصها
بالبيع ، أو من جهة كون الكراهة في الاشتراء أخفّ ، والسرّ فيه أنّ تعريض المصحف
بخطّه للبيع ومقابلته بحطام الدنيا وأخذ المال بإزائه ولو باعتبار كونه جزءاً من
المبيع مع كونه كلام الله العزيز وكتابه المجيد المستحقّ لحسن الأدب معه والتعظيم
له بل الّذي لا قيمة له في الحقيقة لعظم شأنه وعلوّ قدره ، ابتذال له وإساءة للأدب
معه ، وهذا شيء يجيء من قبل البائع أو أنّه فيه أكثر وأظهر.
وفي الخبر
الأوّل حيث قال : «ولكن هكذا كانوا يصنعون» دلالة على كون اشتراء المصحف بعد كثرة
نسخه وشيوعها واقعاً على وجه الشيوع والاستمرار في زمان الوحي أيضاً ، فيستكشف من
ذلك تقرير النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم. ومن ذلك يظهر بطلان دعوى اشتهار الحرمة بين الصحابة
وبطلان التمسّك والاستناد إلى منعهم.
ولكن قد يمنع
دلالة الخبرين على جواز اشتراء خطّ المصحف بل يدلّان على أنّ تحصيل المصحف في
الصدر الأوّل كان بمباشرة كتابته. ثمّ قصرت الهمم فلم يباشروها بأنفسهم وحصّلوا
المصاحف بأموالهم شراءً واستيجاراً ، ولا دلالة فيهما على كيفيّة الشراء وأنّ الشراء
والمعاوضة كانا واقعين على ما يعمّ الخطّ أو على ما عداه من الأوراق والجلود
وغيرها ، والروايات المانعة تنهض بياناً.
ويدفعه : أنّ
البيع والشراء المضافين إلى المصحف ظاهران في التعلّق بالمجموع من حيث كون المصحف
حقيقة في المجموع فيعمّان الخطّ أيضاً ، ولا إجمال فيهما جزماً
__________________
كما لو اضيفا إلى الكتب ، بل المقصود بالأصالة من أجزاء هذا المبيع على ما
هو المتعارف إنّما هو الخطّ لا غير ، وتداول مباشرة الكتابة في الصدر الأوّل إنّما
هو لقلّة النسخ بل انحصارها في أوّل نزول الآية أو السورة في واحدة ، فكان حدوث
بناء الاشتراء فيما بعد ذلك لأجل شيوع النسخ ووفورها المغني عن كلفة مباشرة
الكتابة. وعلى هذا يحمل خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إنّ امّ عبد الله بن الحرث أرادت أن تكتب مصحفاً
واشترت ورقاً من عندها ، ودعت رجلاً فكتب لها على غير شرط ، فأعطته حين فرغ خمسين
ديناراً وأنّه لم تبع المصاحف إلّا حديثاً» .
ويدلّ على
الجواز أيضاً رواية عنبسة الورّاق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام فقلت : أنا رجل أبيع المصاحف فإن نهيتني لم أبعها ،
فقال : ألست تشتري ورقاً وتكتب فيه؟ قلت : بلى واعالجها ، قال : لا بأس بها» فإنّه عليهالسلام لم يردع السائل حيث قال : «أنا رجل أبيع المصاحف» ومع
هذا قال له بأس بها أي بالمصاحف باعتبار أنّه يبيعها.
وما يقال : في
الإيراد عليها أيضاً من أنّها وإن كانت ظاهرة في الجواز إلّا أنّ ظهورها من حيث
السكوت عن كيفيّة البيع في مقام الحاجة إلى البيان ، فلا تعارض ما تقدّم من
الأخبار المتضمّنة للبيان.
ففيه : أنّ
المصاحف مجاز في مجرّد الأوراق والجلود فظهورها فيما يعمّ الخطوط وضعي لا غير ،
كما أنّ النهي فيما تقدّم من الأخبار مجاز في الكراهة ، فكون ما تقدّم بياناً
للمجاز الأوّل ليس بأولى من كون هذه الرواية مع الخبرين الآخرين بياناً للمجاز
الثاني ، بل الثاني أولى لشيوع استعمال النهي في الكراهة ، وندرة استعمال المصحف
في مجرّد الجلد والورق ، ويعضده الأصل والإطلاق وظهور كلامهم في مسألة المنع من
بيع المصحف من الكافر ووجوب إجباره على البيع من المسلم في جواز بيعه من المسلم
ولا ريب في دخول الخطّ هنا هذا ، مع تحقّق سيرة المسلمين بإجراء عقود المعاوضة على
ما يعمّ الخطّ ، مع أنّه لا كلام لأحد في جواز البيع والشراء في كتب التفاسير
والفقه
__________________
والأحاديث وغيرها ، مع اشتمالها على الآيات والسور القرآنيّة ولم يقل أحد
بخروج الخطّ هنا عن المبيع.
ثمّ على
المختار لو أراد البائع والمشتري اجتناب ذلك المكروه بإجراء العقد على الآلات من
الأوراق والجلد والمداد ففي بقاء الخطّ وهو النقوش والعبارات على ملك البائع ، أو
دخوله في المبيع تبعاً بخروجه عن ملك البائع ودخوله في ملك المشتري لمجرّد
التبعيّة وإن لم يجر عليه العقد ولم يعتبر بإزائه جزء من الثمن كغيره من توابع
المبيع في غير المقام ـ كالنواة في التمر ، والقشر في الجوز ، والحبّ في البطيخ ،
وما أشبه ذلك ـ أو تحقّق الهبة المجّانيّة للخطّ في ضمن المبايعة الواقعة على
الآلات وجوه :
أجودها الأخير
، لبطلان الأوّل بمعلوميّة انتفاء الشركة من حال المتشرّعة ، وضرورة كون المقصود
بالأصالة في المعاملة هو الخطّ الّذي بجودته ورداءته يختلف القيمة ، ولعلّه لذا
تداول بينهم التعبير عن هذه المعاملة بالخصوص بالهديّة بناءً على شيوع إطلاق
الهديّة على مطلق العطيّة والهبة المجّانيّة وتحقّقها بالمعاطاة.
وعلى القول
بالمنع والتحريم في بيع ما يعمّ الخطّ وشراءه فالقدر المسلّم الثابت بما تقدّم من
الأخبار الناهية إنّما هو حرمة المعاملة لا فسادها ، لعدم اقتضاء النهي المفروض
فيها ـ خصوصاً قوله عليهالسلام : «لا تشتر كتاب الله» وقوله أيضاً : «لا تشتر كلام
الله» ـ فساد أصل المعاملة ، لأنّ الضابط في اقتضائه الفساد في المعاملات على ما
حقّقناه في الاصول كون النهي بمضمونه في متفاهم العرف متعرّضاً لمضمون مقتضى
السببيّة ، ودليل الصحّة بتقييد أو تخصيص مفيد لخروج المورد عن عموم المقتضي
للسببيّة ودليل الصحّة.
وبعبارة اخرى
كون النهي ناشئاً عن الجهة الراجعة إلى أصل المعاملة أو الصيغة المعتبرة فيها ، أو
أحد أركانها من المتعاقدين أو العوضين.
وبعبارة ثالثة
دلالة النهي على كون المعاملة من حيث إنّها معاملة مقصود منها أثر خاصّ معصية لله عزوجل ، والنهي الوارد فيما تقدّم ليس من هذا القبيل ، لقوّة
احتمال كون تعلّقه ببيع المصحف وشرائه المختصّ بالخطّ ، باعتبار مصادفته لعنوان
آخر خارج عن حقيقة البيع هو معصية لله عزوجل ، لا أصل البيع من حيث إنّه بيع ، وهو ابتذال كلام
الله وسوء الأدب معه وترك تعظيمه ، فيكون النهي ناشئاً عن الجهة الراجعة
إلى الأمر الخارج عن أصل المعاملة ، فلا يكون في متفاهم العرف متعرّضاً لمضمون
دليل الصحّة ومقتضى السببيّة ، فيبقى على عمومه في اقتضاء الصحّة.
وعلى هذا فلو
أراد المتبايعان إجراء العقد على ما يعمّ الخطّ حصل المعصية مع حصول النقل
والانتقال في الخطّ أيضاً بخروجه عن ملك البائع ودخوله في ملك المشتري.
ولو اريد تخصيص
العقد بما عدا الخطّ من الآلات عملاً بمقتضى النهي ، ففي بقاء الخطّ في ملك البائع
فيحصل الشركة ، أو دخوله في المبيع تبعاً ، أو دخوله في ملك المشتري بالهبة
المجّانيّة الضمنيّة الوجوه المتقدّمة على القول بالكراهة والأجود الأخير ، وربّما
يحتمل ضعيفاً خروجه عن ملك البائع بالإعراض وتجدّد الملك للمشتري بالقصد على حدّ
ما يتملّكه في اللقطة بمجرّد القصد ، فليتدبّر فإنّ المقام لا يخلو عن إشكال ودقّة.
المسألة
الثانية : في جوائز السلطان الجائر وعمّاله الظلمة ، والمراد بها عطاياه
المجّانيّة ، وتخصيصها بالذكر لعلّه اتّباع للنصوص الواردة في الباب ، وإلّا
فينبغي تعميم المبحث بالقياس إلى عطاياه العوضيّة ، كالأثمان المأخوذة في البيع
والشراء ، والاجور المأخوذة في عقد الإجارة ونحوه ، لكون الجميع من وادٍ واحد
بالنظر إلى الأصل والإجماع وإن لم يجر النصوص في الجميع ، كما أنّ تخصيص السلطان
وعمّاله في عنوان الأصحاب بالذكر اتّباع لنصوص الباب ، وإلّا فينبغي تعميم المبحث
بالقياس إلى كلّ من لا يتورّع الأموال المحرّمة ، كالسارق وقاطع الطريق ومن يعامل
الظلمة ، ومن لا يبالي الربا أو أخذ الأموال بالعقود الفاسدة ، ومانع الزكاة أو
الخمس ونحوه ، فإنّ الجميع من باب واحد ، والجامع بين الكلّ كلّ مال يحصل في يد
الإنسان ممّن لا يتورّع الأموال المحرّمة ، وهو على أنواع :
منها : ما لا يعلم
بوجود محرّم في جملة أمواله ، سواء علم بوجود حلال في جملة أمواله أيضاً أو لا.
ومنها : ما
يعلم بوجود محرّم في جملة أمواله ، ولكن لا يعلم بوجود شيء من ذلك
المحرّم فيما حصل بيده سواء علم بوجود حلال فيه أو لا.
ومنها : ما
يعلم بوجود محرّم في جملة أمواله ، مع العلم بحصول شيء منه فيما حصل في يده
إجمالاً.
ومنها : الصورة
بحالها مع العلم التفصيلي بالجزء المحرّم فيما حصل في يده ، على معنى العلم به
بعينه.
أمّا النوع
الأوّل : فلا إشكال بل لا خلاف في جواز أخذه والتصرّف فيه ، للأصل والإجماع
محصّلاً ومنقولاً ، والسيرة عملاً ، والنصوص المستفيضة الّتي فيها الصحيح وغيره من
المعتبر ، ففي صحيح أبي ولّاد قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان ، ليس له مكسب إلّا
من أعمالهم ، وأنا أمرّ به فأنزل عليه فيضيفني ويحسن إليّ ، وربّما أمر لي
بالدراهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي : كل وخذ منه ، فلك المهنّا وعليه
الوزر» .
وصحيح أبي
المعزّا قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام وأنا عنده ، فقال : أصلحك الله أمرّ بالعامل فيجيزني
بالدراهم آخذها؟ قال : نعم ، قلت : وأحجّ بها؟ قال : نعم» .
وخبر محمّد بن
هشام أو غيره قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أمرّ بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال : نعم ، قلت
: وأحجّ منها؟ قال : نعم وحجّ منها» .
وصحيح محمّد بن
مسلم وزرارة قالا : «سمعناه يقول : جوائز العمّال ليس بها بأس» .
وخبر أحمد بن
محمّد بن عيسى في نوادره عن أبيه عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «لا بأس بجوائز السلطان» . وإطلاق هذه
الروايات يعمّ صورة عدم العلم بوجود محلّل في جملة أموال المجيز.
ولكن في بعض
النصوص ما يدلّ على اشتراط العلم به في إباحة الأخذ والتصرّف ،
__________________
كالمرويّ عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري «أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليهالسلام يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف مستحلّاً لما في يده ولا
يتورّع عن أخذ ماله ، ربّما نزلت في قريته وهو فيها ، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه
فيدعوني إليه ، فإن لم آكل من طعامه عاداني عليه ، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه ،
وأتصدّق بصدقة ، وكم مقدار الصدقة؟ وإن أهدى هذا الوكيل هديّة إلى رجل آخر فيدعوني
إلى أن أنال منها وأنا أعلم أنّ الوكيل لا يتورّع عن أخذ ما في يده ، فهل عليّ فيه
شيء إن أنا نلت منه؟. الجواب : إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل
طعامه واقبل برّه وإلّا فلا» .
ويمكن حمله على
الكراهة ليكون العلم به شرطاً لرفع الكراهة لا الحرمة جمعاً ، لاعتضاد إطلاق ما
تقدّم أو عمومه بنفي الخلاف والإجماع المنقول ، فلا يقاومه المقيّد والخاصّ.
ويمكن منع
المنافاة بظهور قوله عليهالسلام : «وإلّا فلا» في صورة العلم بعدم الوجود كظهور قوله : «إن
كان لهذا الرجل مال أو معاش» في صورة العلم بالوجود فيكون صور انتفاء العلمين
مسكوتاً عنها في هذه الرواية ، فتبقى مندرجة في إطلاق ما تقدّم ، ولا يقدح فيه كون
العلم بعدم وجود مال له غير ملازم لحرمة الجائزة ، لجواز حصولها للمجيز الفاقد
للمال بنوع من تمليك الغير أو إباحته ، لجواز أن يكون عليهالسلام إنّما اعتبر العلم بوجود مال أو معاش له إحرازاً للشبهة
بالنسبة إلى الجائزة فيمن انحصر الشبهة في جوائزه في هذه الصورة ، فيكون العلم
بعدم وجوده ملازماً لانتفاء الشبهة ، لمكان العلم بكون جميع ما في يده محرّماً
فتكون جائزته أيضاً محرّمة.
وأمّا النوع
الثاني : فله صور ثلاث :
الاولى : أن
تكون الشبهة فيما بين الجائزة وغيرها من أموال المجيز الّتي علم بوجود محرّم فيها
غير محصورة ، كأن يكون له أموال كثيرة غير محصورة علم بوجود مال مغصوب فيها ، ووقع
منها شيء بيد المجاز بعنوان الإجازة وما بحكمها بحيث احتمل في نظره كونه ذلك
المغصوب أو غيره من أمواله المملوكة.
__________________
الثانية : أن
تكون الشبهة محصورة بين محلّ ابتلاء هذا المكلّف وبين غيره ممّا لا يبتلى به أصلاً
، كأن يكون المغصوب المعلوم وجوده في أموال الظالم المجيز مردّداً بين الجائزة
وبين الجارية المعدودة من خواصّ نساء الظالم مثلاً.
ففي هاتين
الصورتين يجوز أخذ الجائزة والتصرّف فيها مطلقاً ، للأصل ، وإطلاق معقد الإجماع ،
والنصوص المتقدّمة ، مضافاً إلى الإجماع على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير
المحصورة.
ولا يقدح في
الثانية كون الشبهة محصورة ، لأنّ من شرط وجوب الاجتناب من الشبهة المحصورة تنجّز
التكليف بوجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي المشتبه ليجب الاجتناب عن جميع أطراف
الشبهة مقدّمة ، ومن شرط وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي كونه مردّداً بين أمرين
كلّ منهما محلّ ابتلاء للمكلّف ، إذ بدونه يحتمل كون المحرّم الواقعي غير محلّ
الابتلاء فلا يكون هذا المكلّف مخاطباً بالاجتناب عنه ، حتّى أنّه لو كان معلوماً
بالتفصيل لم يكن مخاطباً بالاجتناب فكيف به إذا كان مشتبهاً؟!.
نعم ذكر جماعة أنّ الأفضل في
الصورتين التورّع عنها ومعناه كراهة أخذها ، وفي الرياض بلا خلاف ، لشبهة
الحرمة المقتضية لحسن الاحتياط عقلاً ، مضافاً إلى عمومات الاحتياط كقوله عليهالسلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» وقوله : «دع
ما يريبك إلى ما لا يريبك» وقولهم عليهمالسلام : «من ترك الشبهات نجى من المحرّمات» مضافاً إلى
أنّ أخذ المال منهم يوجب محبّتهم فإنّ القلوب مجبولة على حبّ من أحسن إليها ،
ويترتّب عليه من المفاسد ما لا يخفى ، وفي الصحيح «أنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم
شيئاً إلّا أصابوا من دينه مثله» هذا مع إمكان اندراجه في عموم قوله تعالى : «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا» .
__________________
فالكراهة ممّا
لا إشكال فيه إنّما الإشكال فيما ، ذكروه أيضاً من ارتفاع الكراهة بإخبار المجيز
بحلّيّة جائزته كأن يقول هذه من تجارتي أو من زراعتي أو نحو ذلك ، وبإخراج الخمس
منه ، وفي الرياض نفي الخلاف عنه في الأوّل بل فيهما معاً ، ونسب نفي
الخلاف إلى ظاهر الحدائق وعن المناهل الخدشة في الأوّل بأنّه لم يجد له مستنداً. ولذا قد
يستشكل فيه تعليلاً «بعدم خروجه عن الشبهة إذا احتمل كذبه ، ووجوب حمل قول المسلم
على الصدق ، إن كفى في رفع الشبهة لكفى حمل فعله على الصحّة في رفعها بمجرّد
الإعطاء أيضاً ، فلا يكون مكروهاً مطلقاً» .
وقد يقرّر ذلك
أيضاً بأنّه لا فرق بين يد الظالم وتصرّفه ، وبين خبره في كون كلّ منهما مفيداً
للملكيّة الظاهريّة غير منافٍ للحرمة الواقعيّة المقتضية للاحتياط ، فلا وجه لوجود
الكراهة الناشئة عن حسن الاحتياط مع اليد وارتفاعها مع الإخبار.
وقد يوجّه
المستند لدفع الإشكال بإمكان كونه ما دلّ على قبول قول ذي اليد فيعمل بقوله ، كما
لو قامت البيّنة على تملّكه ، وشبهة الحرمة وإن لم ترتفع بذلك إلّا أنّ الموجب
للكراهة ليس مجرّد الاحتمال وإلّا لعمّت الكراهة أخذ المال من كلّ أحد ، بل الموجب
له كون الظالم مظنّة الظلم والغصب وغير متورّع عن المحارم ، نظير كراهة سؤر من لا
يتوقّى النجاسة ، وهذا المعنى ترتفع بإخباره إلّا إذا كان خبره كيده مظنّة للكذب
لكونه ظالماً غاصباً ، فيكون خبره كيده وتصرّفه غير مفيد إلّا الإباحة الظاهريّة
الغير المنافية للكراهة ، فيختصّ الحكم برفع الكراهة بما إذا كان مأموناً في خبره
، وقد صرّح الأردبيلي بهذا القيد في إخبار وكيله.
أقول : إن كان
إجماعاً وإلّا فهذه التجشّمات لا تنهض لإخراج الاحتياط عن الحسن ولا لتخصيص
العمومات ، مع أنّ الكراهة في كلام القائلين بها ليست مقيّدة بمظنّة الحرمة في
الجائزة ، مع أنّ الأظهر في دليل قبول قول ذي اليد كونه معتبراً على وجه التعبّد
لا من باب المرآتيّة.
__________________
وأمّا ارتفاعها
بإخراج الخمس فقد يعلّل بأنّ إخراج الخمس مطهّر للمال المختلط بالحرام في صورة
العلم به فلأن يكون مطهّراً للمختلط به ظنّاً أو احتمالاً طريق الأولويّة.
واستدلّ أيضاً
بالموثّق عن أبي عبد الله عليهالسلام «سئل عن أعمال السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال : لا إلّا أن لا يقدر على شيء
يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة ، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه إلى أهل
البيت» فإنّ موردها وإن كان ما يقع في يده بإزاء العمل إلّا
أنّ الظاهر عدم الفرق بينه وبين ما يقع في اليد على وجه الجائزة.
ومن مشايخنا من
ناقش في الوجه الأوّل بقوله : «ويمكن الخدشة في أصل الاستدلال ، بأنّ الخمس إنّما
يطهّر المختلط بالحرام حيث إنّ بعضه حرام وبعضه حلال ، فكأنّ الشارع جعل الخمس بدل
ما فيه من الحرام ، فمعنى تطهيره تخليصه بإخراج الخمس ممّا فيه من الحرام ، فكان
المقدار الحلال طاهراً في نفسه إلّا أنّه قد تلوّث بسبب الاختلاط مع الحرام بحكم
الحرام وهو وجوب الاجتناب ، فإخراج الخمس مطهّر له عن هذه القذارة العَرَضيّة ،
وأمّا المال المحتمل لكونه بنفسه حراماً وقذراً ذاتيّاً فلا معنى لتطهّره بإخراج
خمسه» انتهى.
أقول : بل لا
معنى له على تقدير كونه حلالاً لعدم القذارة فيه لا ذاتاً ولا عرضاً ، ومرجع ما
ذكره منع الأوّليّة بمنع تحقّق العلّة الموجودة في الأصل في الفرع ، فيكون التعدّي
إليه قياساً ومع الفارق مع انتفاء الاختلاط ، والاحتمال ليس من الاختلاط في شيء
ولذا لم يؤثّر في وجوب الاجتناب الّذي هو في المختلط قذارة ذاتيّة في البعض الحرام
منه وقذارة عرضيّة في البعض الحلال منه.
ويمكن الذبّ
بأنّ معنى كونه مطهّراً في المختلط كونه رافعاً للحرمة ووجوب الاجتناب ، فكونه في
المحتمل رافعاً للكراهة واستحباب الاجتناب طريق الأولويّة ، لأنّ الكراهة
والاستحباب أهون من الحرمة والوجوب. وفيه : أنّ الكراهة واستحباب الاجتناب فيه
إنّما ثبت لحسن الاحتياط وعمومات رجحانه ، وهما لا يرتفعان
__________________
ما لم يرتفع موضوع الاحتياط ، والأولويّة المدّعاة لا تصلح رافعة له ،
ومرجعه إلى أنّها لا تنهض لتخصيص العقل المستقلّ بحسن الاحتياط ولا عمومات رجحانه
فتأمّل.
واعترض الفاضل
النراقي على الاستدلال بالرواية «بأن لا دلالة فيها على أنّه صار في يده شيء من
المشتبه بالحرام ، لجواز أن يكون من ارتفاع أراضي الخراجيّة الّتي هو مباح وخمسه
للإمام ، مع أنّه يكون هذا كسباً وما صار بيده ربحاً ، فإخراج خمسه من حيث هو واجب
ولا يدلّ على أنّه تطهّره» .
وفيه ما لا
يخفى لاختصاص هذا الخمس بفاضل مئونة السنة من أرباح المكاسب المحلّلة ، والرواية
غير واضحة في اعتبار الفضل بل ظاهرة في خلافه ، مع أنّ كون مورد الرواية من المكسب
المحلّل غير واضح والرواية غير دالّة عليه ، لجواز كون أعمال السلطان في موردها من
الأعمال المحرّمة الّتي يحرم أخذ الاجرة عليها. والأولى في منع دلالة الرواية أن
يقال بإمكان كون ما صار إليه من السلطان من المال المختلط وقد علم به الإمام عليهالسلام فأمره بإخراج خمسه فيخرج عنه ما نحن فيه ، وربّما يومئ
إليه تعليقه الرخصة على الاضطرار الّذي هو المناط في تناول الأموال المحرّمة ،
إلّا أن يعارض باحتمال كون إناطة الرخصة بالاضطرار باعتبار كون عمل السلطان الّذي
أخذ الاجرة عليه من الأعمال المحرّمة فيكون ما صار إليه حراماً محضاً ، ولكن منع
دلالة الرواية في محلّه.
وأمّا الصورة
الثالثة : فقضيّة قاعدة الشبهة المحصورة على ما حقّقناه في الاصول وجوب الاجتناب
عن الجائزة في هذه الصورة ، وعدم جواز أخذها ولا التصرّف فيها ، غير أنّه قد يقابل
هذه القاعدة بالأخبار المتقدّمة الدالّة على حلّيّة الجائزة وجواز أخذها بقول مطلق
، فلا بدّ في العلاج إمّا من التزام حكومة الأخبار على القاعدة ، أو الالتزام
بحكومة القاعدة عليها.
ولكنّ الّذي
يساعد عليه التحقيق والنظر الدقيق أنّ حكومة الأخبار على القاعدة ممّا لا سبيل
إليه ، لأنّ مبنى القاعدة على كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف بالواقع
__________________
وهو حكم عقلي ، وأخبار الحلّ ليست متعرّضة بمضمونها لمضمون حكم العقل ببيان
مقدار موضوعه ، بأن يكون مضمونها أنّ العلم الإجمالي إنّما يكفي في تنجّز التكليف
فيما عدا جوائز السلطان أو عامله ، لكونها في متفاهم العرف مسوقة لبيان أنّ جهة
كون المال الواقع في يد الإنسان من السلطان أو عامله جائزة من حيث هي هذه الجهة
ليست مؤثّرة في الحرمة وعدم الجواز ، وهذا لا ينافي اجتماع هذه الجهة لجهة اخرى
مانعة من أخذها ، كالعلم الإجمالي فيما نحن فيه المقتضي لوجوب الاجتناب عن الحرام
الواقعي المعلوم بالإجمال ، ومرجعه إلى أنّ الأخبار الدالّة على الحلّ وإن كانت
مطلقة إلّا أنّها واردة مورد بيان حكم آخر فلا تعارض الدليل العقلي المقتضي لوجوب
الاجتناب عنها باعتبار كونها من الشبهة المحصورة.
وذلك يظهر ما
لو كان المال الواقع في يد الإنسان بعنوان الجائزة من السلطان أو عامله خمراً أو
لحم خنزير أو شيء ممّا لا يؤكل لحمه كالأرنب وما أشبه ذلك. ولا يمكن التمسّك
لإثبات الجواز هنا بعموم قوله عليهالسلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف
الحرام منه بعينه» ولا بقوله عليهالسلام : «كلّ شيء لك حلال» الخ ، لما
ذكرناه في محلّه من اختصاصهما بالشبهات الموضوعيّة من الشكّ في التكليف.
النوع الثالث :
ما علم إجمالاً وجود الحرام في الجائزة على وجه تعذّر التمييز بسبب الاشتباه ، وهذا
إذا كان الاشتباه موجباً للإشاعة الموجبة للشركة ملحق موضوعاً وحكماً بالمال
الحلال المختلط بالحرام المعنون في كتاب الخمس ، فإن كان القدر والمالك مجهولين وجب
إخراج خمسه فيطهر الباقي مطلقاً ، وإن كانا معلومين وجب التخلّص بالقسمة معه ، وإن
كان القدر معلوماً دون المالك لحقه حكم مجهول المالك وستعرفه ، وإن كان المالك
معلوماً دون القدر وجب ترضيته للتخلّص بصلح ونحوه. وإن لم يكن الاشتباه موجباً
للإشاعة والشركة بل أوجب الانتشار والبدليّة فقيل : يتعيّن بالقرعة ، أو يباع
ليحصل الاشتراك في الثمن ثمّ يقسّم مع المالك إن تعيّن ، وإلّا يلحقه
__________________
حكم مجهول المالك.
النوع الرابع :
ما علم الحرام تفصيلاً سواء كان بجملته حراماً أو كان بعضه حراماً وهو معلوم بعينه
، ولا إشكال في حرمة أخذه وحرمة التصرّف فيه على كلّ حال ، ويجب ردّه إلى مالكه
إجماعاً ونصّاً خصوصاً وعموماً ، كقوله عليهالسلام : «على اليد ما أخذت» فلو أكله أو أتلفه ضمن بدله مثلاً
أو قيمة ولا يجوز إعادته إلى الظالم اختياراً فلو أعاده كذلك ضمن ، ولو أخذ منه
قهراً سقط الحرمة ، وهل يضمن؟ خلاف ، فقيل بالضمان مطلقاً لعموم «على اليد ما أخذت
حتّى تؤدّي» نقله جماعة منهم الشهيد الثاني في المسالك ثمّ اختار
قولاً بالتفصيل بقوله : «والأقوى التفصيل ، وهو أنّه إن كان قد قبضها من الظالم
عالماً بكونها مغصوبة ضمن واستمرّ الضمان وإن أخذت منه قهراً ، وإن لم يعلم حالها
حتّى قبضها ثمّ تبيّن كونها مغصوبة ولم يقصّر في إيصالها إلى مالكها ولا في حفظها
لم يضمن ، والفرق بين الحالتين واضح ، فإنّ يده في الأوّل عادية فيستصحب حكم
الضمان كما لو تلفت بغير تفريط ، وفي الثاني يد أمانة فيستصحب كما لو تلفت بغير
تفريط والفرض كون الأخذ قهريّاً» انتهى.
وفي إطلاق
الأمانة على الثاني منع واضح ، وعموم «على اليد ما أخذت» محكّم ، والاستصحاب فرع
على وجود الحالة السابقة ، هذا مع ما اورد عليه بأنّ المعروف من المسالك وغيره في
مسألة ترتّب الأيدي على مال الغير ضمان كلّ منهم ولو مع الجهل ، غاية الأمر رجوع
الجاهل على العالم إذا لم يقدم على أخذه مضموناً ، ولا إشكال عندهم ظاهراً في أنّه
لو استمرّ جهل القابض المتّهب إلى أن تلف في يده كان للمالك الرجوع عليه ، ولا
رافع لهذا المعنى مع حصول العلم بكونه مال الغير فيستصحب الضمان لا عدمه. وذكر في
المسالك «فيمن استودعه الغاصب مالاً مغصوباً أنّه لا يردّه إليه مع الإمكان ولو
أخذه منه قهراً ففي الضمان نظر والّذي يقتضيه قواعد الغصب أنّ للمالك الرجوع على
أيّهما شاء وإن كان قرار الضمان على الغاصب» انتهى.
__________________
والظاهر أنّ
مورد كلامه ما إذا أخذ الودعي المال من الغاصب جهلاً بغصبه ثمّ تبيّن له ، وهو
الّذي حكم هنا بعدم الضمان لو استردّه الظالم المجيز أو تلف بغير تفريط. أقول : محصّل
الإيراد أنّ المسألتين من وادٍ واحد ، فالفرق بينهما تحكّم ، إذ الجهل في القبض إن
صلح رافعاً للضمان وجب كونه رافعاً في المقامين ، وإلّا لم يزل الضمان فيهما معاً.
واختار العلّامة
في التذكرة تفصيلاً آخر حيث قال : «ولا يجوز له إعادتها إلى الظالم ، فإن أعادها
ضمن إلّا أن يقهره الظالم على أخذها فيزول التحريم ، أمّا الضمان فإن كان قد قبضها
اختياراً لم يزل عنه بأخذ الظالم لها كرهاً ، وإن كان قد قبضها مكرهاً زال الضمان
أيضاً» انتهى.
ولعلّ مستنده رحمهالله قوله عليهالسلام : «وما استكرهوا عليه» في حديث «رفع عن امّتي تسعة»
بناءً على حمله على إرادة رفع جميع الأحكام الّتي منها الضمان. وفيه منع ، لكون
المرفوع في التسعة بعد صرفه عن أعيانها هو المؤاخذة خاصّة.
ومن مشايخنا من
فصّل بما محصّله «أنّه إن أخذها بنيّة الردّ إلى مالكها لا ضمان عليه بالاسترداد
القهري لكونه محسناً ، فيعمّه نفي السبيل على المحسنين ، وهذا حاكم على عموم على
اليد. وإن أخذها لا بنيّة الردّ ضمن ، سواء كان حين القبض عالماً بغصبيّته أو
جاهلاً مختاراً في قبضه أو مكرهاً كالتقيّة ، لعموم على اليد» .
لا يقال : إنّ
الضمان بالقبض يتبع تحريمه ولا تحريم مع الإكراه والتقيّة فلا ضمان ، لوضوح منع
الملازمة فإنّ الأحكام الوضعيّة لا تناط بشرائط الأحكام التكليفيّة ولا بموانعها
وروافعها إلّا على تقدير حمل حديث رفع التسعة على رفع جميع الأحكام ، وقد عرفت
منعه ، ولا عموم في أدلّة التقيّة بحيث يجدي في المقام ، لأنّ وظيفة التقيّة
تتأدّى بالأخذ بقصد الردّ فيكون الأخذ لا بهذا القصد محرّماً وموجباً للضمان. ومن
ذلك يظهر أنّه لو سلّمنا الملازمة المذكورة نمنع ارتفاع التحريم في مطلق القبض إذ
لا إكراه في القصد. وهذا التفصيل جيّد ، لأنّه أوفق بالأدلّة والقواعد فهو
المختار.
وهل يجب أخذها
من الظالم بنيّة الردّ إلى المالك؟ الوجه لا ، لعدم العثور على دليل
__________________
الوجوب والأصل البراءة ، وغاية ما يعطيه نيّة الردّ هو جواز الأخذ لا وجوبه
، وفتوى الأصحاب بحرمته منزّلة على ما لو أخذها للأكل والتصرّف لا للردّ ، فالوجوب
يحتاج إلى الدليل.
وتوهّمه من أنّ
مال المسلم محترم فيجب حفظه وطريقه هنا الأخذ من الظالم الغاصب للإيصال إلى صاحبه
، يندفع بعدم العثور على دليل عامّ يقضي بوجوب الحفظ على هذا الوجه ، ولذا لا تجد
في كلامهم الإفتاء به ، بل الموجود في كلام جماعة إطلاق الإفتاء بحرمة الأخذ وعموم
نفي السبيل عن المحسن ، أقصاه الجواز أو هو مع الرجحان لا الوجوب ، ثمّ إن أخذها
يجب عليه ردّها على المالك فوراً ويسقط الفوريّة بإعلامه به.
وهل يعتبر في
الردّ الإقباض؟ قيل : ظاهر أدلّة وجوب ردّ الأمانة وجوب الإقباض إلّا أنّه ذكر غير
واحد ـ كما عن التذكرة والمسالك وجامع المقاصد ـ أنّ المراد بردّ الأمانة رفع يده عنها
والتخلية بينه وبينها. وهو الوجه ، لصدق الردّ بذلك عرفاً ، ولأنّ الردّ إنّما وجب
من جهة حرمة حبسها عن مالكها ويرتفع ذلك بالتخلية ورفع اليد ، ولكن يعتبر كونهما
على وجه وفي موضع يتمكّن المالك من القبض ، وحينئذٍ خرج آخذها عن ضمانها ، فإذا
تلف فيما بينهما وقبض المالك بعد تمكّنه من القبض لا شيء عليه ، هذا كلّه إذا عرف
المالك.
وأمّا إن جهله
فالفاضلان في الشرائع والتذكرة ٦ وجماعة ممّن تبعهما أطلقوا الحكم بأنّه
تصدّق بها ، ولعلّه منزّل على صورة اليأس عن معرفة المالك حصل ابتداءً أو بالفحص ،
لأنّه حكم مجهول المالك كما ذكروه فيه في مواضع كثيرة من غير خلاف يظهر ، مع كونه
في عدد غير محصور ولذا قيّد الشهيد في المسالك عبارة الشرائع باليأس من معرفته ، وأفرد عنه ما لو
اشتبه المالك في قوم محصورين ، وتبعه بعض مشايخنا .
وعلى هذا
فينبغي التكلّم في مقامين:
__________________
المقام الأوّل
: فيما لو اشتبه المالك بين جماعة محصورين ، وقد حكم فيه في المسالك بأنّه يتعيّن
عليه التخلّص من مال الغير ولو بالصلح معهم ، ونحوه ما في كلام شيخنا قدسسره وكان إطلاقه منزّل على ما لم يدعه واحد منهم ، وحينئذٍ
يجب التخلّص بإباحة أو هبة أو صلح حطيط أو صلح عوض أو توزيع بينهم برضا كلّ واحد ،
مع إسقاط كلّ حقّه الاحتمالي عن الباقين أو نحو ذلك.
وأمّا لو
ادّعاه بعضهم مع عدم معارض له ففي سماع قوله مطلقاً ، أو هو مع الوصف المورّث لظنّ
الصدق ، أو مع البيّنة؟ وجوه : من إلحاقه بمال وجد بين جماعة فادّعاه واحد منهم ،
حيث حكموا من غير خلاف بأنّه يقضى له عملاً بصحيح منصور بن حازم الوارد في «كيس
يكون بين عشرة كانوا جلوساً فسألوا ألكم الكيس؟ فقالوا : كلّهم : لا ، وقال واحد
منهم : هو لي ، [فلمن هو؟] فقال عليهالسلام : هو للّذي ادّعاه» .
ومن إلحاقه
بلقطة وصفها المدّعي بصفات خفيّة لا يطّلع عليها إلّا المالك ، بحيث أوجب ظنّ صدقه
الّتي صار المشهور فيها إلى جواز دفعها إلى المدّعي ، على معنى أنّه لو تبرّع
بالتسليم اعتماداً على الوصف لم يمنع ، ولو امتنع لم تجبر.
ومن عموم «البيّنة
على المدّعي» وحجّيتها عموماً وكونها علماً شرعيّاً.
غير أنّ أرجح
الوجوه أخيرها بل هو المتعيّن ، لبطلان الأوّلين بكون كلّ منهما قياساً ، فإنّ ما
نحن فيه ليس من اللقطة موضوعاً ، لدخول الضياع في مفهومها فيحرم التعدّي إلى غيرها
، والصحيح المذكور في كيس يكون بين عشرة ، غاية ما في الباب أنّ الأصحاب تعدّوا
منه إلى مطلق مال وجد بين جماعة لا يد لأحد عليه ، لا إلى غيره من مجهول المالك
الّذي حصل في يد إنسان وإن لم تكن يد مالكيّة.
ومن ذلك ظهر
أنّ القياس هنا مع الفارق ، لأنّ المفروض حصول الجائزة في يد المجاز ، ووجه الفرق
أنّه لا معارض لدعوى المدّعي في الأصل أصلاً ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ من حصل
بيده مخاطب بإيصاله إلى مالكه ، والشغل اليقيني يستدعي يقين البراءة ، ويقوم مقامه
العلم الشرعي والبيّنة علم شرعي. وكون قول المدّعي بمجرّده
__________________
علماً شرعيّاً بقول مطلق أوّل المسألة ، لعدم نهوض دليل عامّ عليه.
نعم يبقى
الإشكال فيما لم يكن للمدّعي بيّنة على ما ادّعاه ، وما لم يكن في الجماعة من
ادّعاه ، غير أنّهم امتنعوا عن الصلح وغيره ، وأبى كلّ واحد منهم إلّا عن أنّه إن
كان له المال يدفع إليه بتمامه ، وإلّا لا حقّ له حتّى يصطلحه أو يقبل بعضه ، فهل
يلحقه حينئذٍ حكم مجهول المالك وهو وجوب الصدقة ، أو يسلّمه إلى الحاكم حتّى يعمل
فيه بموجب تكليفه الّذي يعرفه ، أو أنّه أجبرهم على الصلح ولو امتنعوا اصطلح عنهم
قهراً عليهم لأنّه وليّ الممتنع؟ احتمالات ، أسلمها أوسطها ، وكلام الأصحاب غير
محرّر هنا حتّى أنّ الشهيد وغيره ممّن تعرّض للمسألة لم يتعرّضوا للصورة المفروضة.
المقام الثاني
: فيما لو جهل المالك في عدد غير محصور ، وحينئذٍ دخل المال في عنوان «مجهول
المالك» كما هو المصرّح به في كلام جماعة فيلحقه أحكامه الّتي نتكلّم فيها هنا بالبحث في جهات :
الجهة الاولى :
في أنّه هل يجب الفحص عن المالك وطلبه حيثما احتمل الوصول إليه بالفحص أو لا؟عبارات
الأصحاب كروايات الباب هنا مختلفة ، ففي كلام الفاضلين في الشرائع والتذكرة ومن تبعهما
الحكم بالتصدّق من غير ذكر فحص عنه.
غير أنّ
المعروف في مطلق مجهول المالك المصرّح به في كلامهم في مواضع كثيرة من غير خلاف
يظهر هو وجوب الفحص حيث احتمل معرفته والوصول إليه ، وبه عدّة روايات وإن اختصّ
بعضها بالدين وبعضها بالعين وبعضها محتمل الأمرين ، إلّا أنّ ظاهرهم عدم الفرق في
وجوب الفحص والطلب بين دين مجهول مالكه أو عين مجهول مالكها.
وفي مقابلها
عدّة روايات آمرة بالتصدّق أو غيره من غير ذكر الفحص والطلب ، ومن
ذلك :
__________________
خبر عليّ بن
أبي حمزة قال : «كان لي صديق من كتّاب بني اميّة ، فقال : استأذن لي على أبي عبد
الله عليهالسلام فاستأذنت له عليه ، فأذن له ، فلمّا أن دخل سلّم وجلس
ثمّ قال : جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً
، وأغمضت في مطالبه ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : لو لا أنّ بني اميّة وجدوا لهم من يكتب ويجيء لهم
الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا ، ولو تركهم الناس وما في
أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم ، قال : فقال الفتى : جعلت فداك فهل
لي مخرج منه؟ قال : إن قلت لك تفعل؟ قال : أفعل ، قال له : فأخرج ممّا كسبت في
ديوانهم من عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدّقت به ، وأنا أضمن لك على
الله عزوجل الجنّة ، فأطرق الفتى طويلاً ثمّ قال له : لقد فعلت
جعلت فداك. قال ابن أبي حمزة : فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه
الأرض إلّا خرج منه حتّى ثيابه الّتي كانت على بدنه. قال : فقسّمت له قسمة
واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة ، قال : فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتّى
مرض فكنّا نعوده ، قال : فدخلت يوماً وهو في السوق ، قال : ففتح عينيه ، ثمّ قال
لي : يا عليّ وفى لي والله صاحبك ، قال : ثمّ مات فتولّينا أمره فخرجت حتّى دخلت
على أبي عبد الله عليهالسلام فلمّا نظر إليّ قال لي : يا عليّ وفينا والله لصاحبك ،
قال : فقلت : صدقت جعلت فداك ، والله هكذا قال والله لي عند موته» .
إلّا أنّ غاية
ذلك كغيره الإطلاق فيحمل هذه الأخبار المطلقة على الروايات الأوّلة المقيّدة ،
باعتبار كونها آمرة بالفحص والطلب ، ولذا قيّد في المسالك عبارة الشرائع
باليأس عن المالك ، وإطلاقه يتناول اليأس الابتدائي والحاصل بعد الفحص ، وظاهره
يقتضي أنّ حدّ الفحص هو اليأس كما هو المصرّح به في كلام جماعة ، بل قيل هو
الأصل في مجهول المالك الموافق للقاعدة ، لأنّ المال محترم وقضيّة الاحترام أن لا
يتصرّف فيه إلّا بالإيصال إلى مالكه ، فإذا جهل المالك واحتمل الوصول إليه وجب
الفحص إلى اليأس ، فعليه يحمل إطلاق الأخبار المطلقة ، وفي بعضها أيضاً ما يشير
إليه
__________________
إن لم نقل بظهوره فيه كمفهوم قوله عليهالسلام : «إذا كان كذا فبعه وتصدّق بثمنه» في خبر يونس ابن عبد
الرحمن الآتي.
نعم ورد فيما
أودعه اللصّ ما يقضي بتجديده بالحول ، كخبر حفص بن غياث عن الصادق عليهالسلام «سأله رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً واللصّ مسلم هل
يردّه عليه؟ قال : لا يردّه فإن أمكنه أن يردّه على صاحبه فعل ، وإلّا كان في يده
بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرّفها حولاً ، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه وإلّا تصدّق
بها ، فإن جاء صاحبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم ، فإن اختار الأجر فله ، وإن
اختار الغرم غرم له وكان الأجر له» وقد نسب إلى المشهور العمل بمضمونها.
ولكن يدفعه أنّ
إجراء حكم ما أودعه اللصّ أو مطلق الوديعة المجهول مالكها في مطلق مجهول المالك
يحتاج إلى دليل ، والرواية قاصرة عن إفادته ولم يظهر عامل بها فيما نحن فيه ،
والمنزلة الموجودة فيها لا يتناول ما نحن فيه ، ولذا قيل : إنّ الأصحاب تعدّوا من
اللصّ إلى مطلق الغاصب ولم يتعدّوا من الوديعة المجهول مالكها إلى مطلق ما يعطيه
الغاصب ولو بعنوان غير الوديعة كما فيما نحن فيه ، حتّى أنّه يظهر من عبارة
المسالك في اللقطة أنّه ليس من حكم مجهول المالك ، ولذا حمله على زيادة الاستظهار
قائلاً : «إنّ مضمونه موافق للُاصول الشرعيّة فإنّه بعد التعريف يصير مالاً مجهول
المالك ، وقد تقدّم أنّه يجوز الصدقة به عن مالكه ، ولا يقدح زيادة التعريف هنا
لأنّه زيادة في الاستظهار والتفحّص من المالك» فإنّ ظاهره أنّ الفحص عن المالك يتمّ بأقلّ من تعريف
السنة لأنّ حدّه اليأس وهو يحصل بأقلّ منها ، فاعتبار الزيادة في مورد الرواية
زيادة في الاستظهار ، وقضيّة ذلك أنّهم لم يعملوا بالرواية في مطلق مجهول المالك ،
وإن كان قد يورد على ما ذكره بمنع كون مبناها على زيادة الاستظهار لأنّ حدّ الفحص
هنا إذا كان اليأس فهو قد يحصل بأقلّ من سنة وقد يحصل إلّا بأكثر منها كما أنّه قد
لا يحصل إلّا بالسنة ، وعلى هذا فيمكن حملها على هذه الصورة ، على معنى أنّ
__________________
الإمام عليهالسلام علم في موردها أنّ اليأس لا يحصل إلّا بالسنة لئلّا
يخالف القاعدة في مجهول المالك.
ثمّ إنّه لو
احتاج الفحص إلى بذل مال كأُجرة دلّال يصيح عليها هل يجب عليه بذلها من ماله؟
إشكال : من أصالة البراءة ، ومن توقّف الواجب عليه. ولذا عن جماعة في اللقطة أنّ
اجرة التعريف على الواجد ، وعن التذكرة أنّه إن قصد الحفظ دائماً يرجع أمره إلى الحاكم ليبذل
اجرته من بيت المال ، أو يستقرض على المالك ، أو يبيع بعضها إن رآه أصلح. وعن جامع
المقاصد أنّه استوجهه ولا يبعد القول به هنا أيضاً.
الجهة الثانية
: في أنّ هذا المال بعد اليأس عن مالكه هل يصير مال الإمام عليهالسلام فيجب دفعه إليه لأنّه مالكه ، أو أنّه باقٍ على ملك
مالكه المجهول ولكن ولايته إلى الحاكم لأنّه وليّ الغائب فيجب تسليمه إليه ليصنع
فيه ما يراه ، أو يجب إبقائه أمانة في يده والوصيّة به عند موته ، أو أنّه يتصدّق
به؟ وجوه ، أوجهها الأخير.
إلّا أنّه قد
يتخيّل الأوّل استظهاراً له من خبر داود بن أبي يزيد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال رجل : إنّي قد أصبت مالاً ، وإنّي قد خفت
فيه على نفسي ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه قال : فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : والله إن لو أصبته كنت تدفعه إليه؟ قال : اي والله ،
قال : فأنا والله ما له صاحب غيري ، قال : فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره ، قال :
فحلف ، فقال : فاذهب فاقسمه في إخوانك فلك الأمن ممّا خفت منه ، قال : فقسّمته بين
إخواني» .
وفيه منع الظهور
، لجواز كونه ممّا لا مالك له لموت مالكه ولا وارث له وقد علم به الإمام ، ولا ريب
أنّ نحوه من الأنفال للإمام عليهالسلام ولذا قال عليهالسلام : «ما له صاحب غيري» وعلى هذا يمكن دعوى ظهوره في غير
ما نحن فيه.
وقد يحتمل
الثاني لما سمعت من أنّه وليّ الغائب ، فالدفع إليه أقرب طرق الإيصال ، لأنّ
الإيصال إليه إيصال إلى المالك.
__________________
وردّ بأنّه حسن
لو لا إطلاق الأمر بالتصدّق في النصوص ، فهي حاكمة على عمومات ولاية الحاكم على
مال الغائب في مجهول المالك.
وتوهّم : أنّ
الأمر بالتصدّق من باب إذن الإمام في أمر يرجع ولايته إليه فيكون من التصرّف بطريق
الأمانة ، يدفعه : ظهور الأمر في كونه على وجه الفتوى ، فيكون حكم الله العامّ في
واقعة مجهول المالك هو وجوب التصدّق على كلّ من هو بيده ، مع أنّ الأصل في تصرّفات
المعصوم الدائرة بين الفتوى والإمامة ـ على ما حقّق في الاصول ـ كونها على وجه
الفتوى ، لأنّها الغالب على المعصومين ، ولأنّه منصوب لتبليغ الأحكام.
نعم قد يقال :
يجوز الدفع إليه من حيث ولايته على مستحقّي الصدقة ولأنّه أعرف بمواقعها ، ولكنّه
لا يوجب التعيين بل أقصاه الجواز أو هو مع الرجحان.
وربّما قيل
بالثالث كما عن الحلّي ناسباً للقول بالتصدّق إلى رواية أصحابنا ، ولعلّه بناءً
منه على طريقته في أخبار الآحاد من عدم الحجّية ، فلا مناص من حفظ مال الغير بإبقائه
أمانة والوصيّة به لئلّا يتلف ، والتصدّق تصرّف غير مأذون فيه. فيتّضح ضعفه حينئذٍ
بما حقّق في الاصول ، من الحجّية عند اجتماع شرائطها خصوصاً مع انجبارها بالشهرة
كما فيما نحن فيه ، فالرواية الّتي أرسلها وإن كانت مرسلة إلّا أنّها مجبورة
بالشهرة فتصلح مستندة ، وضعّف أيضاً بأنّ إبقاء المال أمانة تعريض لها للتلف ولا
يرضى به المالك البتّة.
وعلى هذا
فتعيّن المصير إلى الرابع ، وهو المشهور ، للروايات المستفيضة الآمرة بالتصدّق
الواردة في موارد مختلفة وإن اختصّ بعضها بمورد إلّا أنّه يظهر من ملاحظة المجموع
أنّ هذا هو حكم مجهول المالك بعنوانه الكلّي :
منها : ما
تقدّم من رواية عليّ بن أبي حمزة في رجل من كتّاب بني اميّة.
وخبر إسحاق بن
عمّار قال : «سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة فوجد فيه نحواً من سبعين
درهماً مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال : يسأل عنها
أهل المنزل لعلّهم يعرفونها قلت : فإن لم يعرفوها قال : يتصدّق بها» .
__________________
وخبر يونس بن
عبد الرحمن قال : «سئل أبو الحسن الرضا عليهالسلام وأنا حاضر ... إلى أن قال : فقال : رفيق كان لنا بمكّة
فرحل منها إلى منزله ورحلنا إلى منازلنا فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه
معنا فأيّ شيء نصنع به؟ قال : تحملونه حتّى تحملوه إلى الكوفة ، قال : لسنا نعرفه
ولا نعرف بلده كيف نصنع؟ قال : إذا كان كذا فبعه وتصدّق بثمنه ، قال له : على من
جعلت فداك؟ قال : على أهل الولاية» .
وخبر زرارة قال
: «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن اللقطة فأراني خاتماً في يده من فضّة؟ قال : إنّ هذا
ممّا جاء به السيل وأنا اريد أن أتصدّق به» .
وأيّدت بما ورد
في تراب الصياغة من الأخبار الآمرة بالصدقة ، منها خبر عليّ بن ميمون الصائغ قال :
«سألت أبا عبد الله عليهالسلام عمّا يكنس من التراب فأبيعه فما أصنع به؟ قال : تصدّق
به فإمّا لك وإمّا لأهله ، قلت : فإنّ فيه ذهباً وفضّة وحديداً فبأيّ شيء أبيعه؟ قال
: بعه بطعام. قلت : فإن كان لي قرابة محتاج اعطيه منه؟ قال : نعم» .
وبما ورد من
الأمر بالتصدّق بغلّة الوقف المجهول أربابه ، وما ورد من الأمر بالصدقة بما يبقى
في ذمّة الشخص الأجير استأجره ، وبأنّ التصدّق أقرب طرق الإيصال ، وبأنه إحسان على
المالك ، وأنّ الإذن منه حاصل بشهادة الحال للقطع برضاه بانتفاعه بماله في الآخرة
على تقدير عدم انتفاعه به في الدنيا.
وإن كان قد
يزيّف هذه الثلاث بمنع كون الصدقة أقرب طرق الإيصال بل الأقرب دفعه إلى الحاكم
الّذي هو وليّ الغائب ، ومنع جواز كلّ إحسان في مال الغائب ، وشهادة الحال غير
مطّردة إذ بعض الناس لا يرضى بالتصدّق لعدم يأسه عن وصوله إليه ، خصوصاً إذا كان
المالك مخالفاً أو ذمّيّاً لا يرضى بالتلف ولا يرضى بالتصدّق على الشيعة. فالعمدة
في المقام النصّ ، ولا يمكن الإضراب عنه.
وحينئذٍ فهل
التصدّق واجب على من هو في يده على التعيين أو على التخيير بينه وبين الدفع إلى
الحاكم؟.
__________________
قد يقال : إنّ
مقتضى الجمع بين النصّ بالتصدّق وبين دليل ولاية الحاكم هو التخيير بينه وبين
الدفع إلى الحاكم فلكلّ منهما الولاية على هذا المال ، وهذا في غاية الإشكال ،
لظهور الأمر في تعيين التصدّق خصوصاً وأنّ الأصل فيه التعيين ـ كما حقّق في محلّه
ـ إلّا أن يدفع إليه الصرف في التصدّق كسائر الوجوه الّتي له ولاية الصرف في
مستحقّيها.
ومن هنا قد
يقال : بأنّه يجوز الدفع إليه من حيث ولايته على مستحقّي الصدقة وكونه أعرف
بمواقعها ، بل قيل بأنّه لو أراد السلامة عن الضمان على تقدير عدم إجازة المالك
يسلّمه إلى الحاكم ، إذ الإيصال إليه بمنزلة الوصول إلى المالك.
وكيف كان
فالظاهر أنّ ذلك هو الأفضل ، خصوصاً بملاحظة ما ذكر من أنّه أعرف بمواقع صرفها ،
بل قد يقال : بأنّ الأحوط خصوصاً بملاحظة ما دلّ على أنّ مجهول المالك مال الإمام عليهالسلام هو مراجعة الحاكم بالدفع إليه أو استيذانه ، أقول :
ويتأكّد ذلك فيما لو احتمل اندراجه في عنوان ما لا مالك له لقيام احتمال موت
المالك وعدم وارث له. وقد يقال : يتأكّد أيضاً في الدين المجهول مالكه ، نظراً إلى
أنّ الكلّي لا يتشخّص للغريم إلّا بقبض الحاكم الّذي هو وليّه ، وإن كان ظاهر
الأخبار الواردة فيه ثبوت الولاية للمديون.
ثمّ لو كان
المالك معلوماً بالتفصيل ولكن تعذّر الوصول وإيصال المال إليه ، فالمصرّح به في
كلام جماعة تبعاً للمحقّق في الشرائع ، كونه كصورة اليأس من معرفته فيتصدّق به
مستقلاًّ ، أو بإذنه وهو أحوط. وربّما يستشمّ من بعض أخبار تراب الصياغة كون ما لو
خاف من هو بيده عن الاتّهام أيضاً كذلك ، كخبر عليّ الصائغ قال : «سألته عن تراب
الصواغين وإنّا نبيعه؟ قال : أما تستطيع أن تستحلّه من صاحبه؟ قال : قلت : لا ،
إذا أخبرته اتّهمني ، قال : بعه ، قلت : بأيّ شيء نبيعه؟ قال : بطعام ، قلت :
فأيّ شيء أصنع به؟ قال : تصدّق به ، إمّا لك وإمّا لأهله ، قلت : إن كان ذا قربة
محتاجاً أصله؟ قال : نعم» .
ثمّ إنّ مستحقّ
هذه الصدقة الفقراء من أهل المعرفة بلا خلاف فتوى ونصّاً. وفي جواز إعطائها
الهاشمي وعدمه قولان : من أنّها صدقة مندوبة على المالك وإن وجبت
__________________
على من هي بيده لأنّه نائب كالوصيّ والوكيل ، ومن أنّه مال تعيّن صرفه بحكم
الشارع لا بأمر المالك حتّى تكون مندوبة ، مع أنّ كونها من المالك غير معلوم فلعلّها
ممّن تجب عليه. والأقوى الأوّل ، ويندفع وجه الثاني بأنّ غاية ما يلزم من التعيّن
بحكم الشارع كونها صدقة واجبة. ويتطرّق المنع إلى منع الهاشمي من مطلق الصدقة
الواجبة ، بل غاية ما يسلّم ممنوعيّته هي الزكوات من الصدقات لا غير ، لظهور
النصوص المانعة فيها ولو بحكم الانصراف العرفي ، فيجوز للمعطي إعطاء ما عداها
الهاشمي وإن كره أخذه للآخذ إلّا أن يكون مضطرّاً إليه.
الجهة الثالثة
: في أنّه هل يضمن المتصدّق للمالك إذا ظهر ولم يجز الصدقة مطلقاً ، أو لا يضمن
مطلقاً ، أو يفصّل بين ما لو كان يده في الأخذ يد ضمان ـ كما لو أخذها بقصد
المالكيّة جاهلاً فعلم أو بقصد الأكل عالماً ثمّ بدا له أن لا يأكل بل يتصدّق ـ أو
يد أمانة كما لو أخذها حسبة للإيصال إلى مالكه؟ وجوه :
من أنّ الأصل
براءة ذمّة المتصدّق عن العوض مثلاً أو قيمة ، مع خلوّ أخبار الباب عن الأمر
بالضمان وأصالة اللزوم الصدقة بمعنى عدم انقلابها عن الوجه الّذي وقعت عليه.
ومن عموم ضمان
من أتلف ، ولا ينافيه إذن الشارع في التصدّق ، لأنّه أذن فيه على وجه الضمان على
تقدير عدم إجازة المالك ، كما في اللقطة المتصدّق بها مع الضمان بلا خلاف ، وكما
في وديعة اللصّ أو مطلق الغاصب.
وفيه : منع صدق
الإتلاف على التصدّق ، خصوصاً مع وجود العين في يد المستحقّ المجمع على عدم الرجوع
عليه بل هو إحسان عليه وإيصال للنفع إليه. وإن شئت قلت : إنّ ظاهر دليل الإتلاف هو
الإتلاف على المالك وهذا إتلاف له وإحسان إليه ، ولو سلّم يتطرّق المنع إلى الكبرى
لأنّ مقتضى الرواية هو الضمان المستقرّ بالإتلاف ، وهو فيما نحن فيه مراعى بعدم
إجازة المالك ، وهو خارج عن مؤدّى الرواية ، فلا دليل عليه إلّا أن يقال : بأنّه
هنا مستقرّ أيضاً والإجازة رافعة له ، ولعلّه موضع منع كما ستعرفه. فأصالة البراءة
محكّمة مطلقاً إلّا أن يتشبّث بالاستصحاب فيما لو أخذه للتملّك والتصرّف لا حسبة
فإنّه لا إشكال في الضمان حين الأخذ لعموم على اليد ، فيستصحب بعد التصدّق المشكوك
في كونه رافعاً له وأصالة البراءة لا تعارضه ، فيتّجه التفصيل حينئذٍ ،
ويتأكّد أصالة البراءة في صورة الأخذ حسبة باستصحاب عدم الضمان إلى ما بعد
التصدّق المشكوك كونه موجباً للضمان.
وربّما استوجه
الضمان مطلقاً استناداً إلى عدم القول بالفصل ، أو لاستفادته من خبر وديعة اللصّ
بدعوى أنّه يستفاد منه أنّ الصدقة بهذا الوجه حكم. وهو مشكل ، لعدم ثبوت الإجماع
على عدم الفصل ، ولو سلّم فهو يفيد الملازمة بين شطري الإجماع المركّب في الحكم
الواقعي لا الحكم الظاهري ، مع تطرّق المنع إلى استفادة الحكم المذكور من خبر
الوديعة بعد البناء فيه على الاقتصار على المورد هذا. ولكنّ الأحوط هو الضمان
مطلقاً.
وفي كون الضمان
حينئذٍ ثابتاً بمجرّد التصدّق إن كان مدركه دليل الإتلاف غاية الأمر كون الإجازة
على تقدير لحوقها رافعة ، أو يثبت بالردّ من حينه أو من حين التصدّق على معنى كونه
كاشفاً لأصالة البراءة قبل الردّ ولرواية الوديعة الظاهرة في كون كلّ من الغرم
والأجر من حين التصدّق متزلزلاً؟ إشكال ، وإن كان استصحاب الضمان السابق في صورة
يد الضمان يقتضي الوجه الأوّل ، بل يقتضيه ممّا قبل التصدّق.
ولو مات المالك
ففي قيام وارثه مقامه في الإجازة والردّ وعدمه وجهان ، أقواهما الأوّل لأنّ ذلك من
قبيل الحقوق المتعلّقة بالأموال فيورث كغيره من الحقوق ، ووجه العدم لزوم التصدّق
بالنسبة إلى العين فليس لأحد فيها حقّ والمتيقّن من جواز الرجوع إلى القيمة هو
المالك.
ولو مات
المتصدّق فردّ المالك ، فقيل : الظاهر خروج الغرامة من تركته ، لأنّه من الحقوق
الماليّة اللازمة عليه بسبب فعله.
فأمّا لو دفعه
إلى الحاكم فتصدّق به الحاكم ، فالظاهر عدم الضمان عليه ولا على الحاكم ، لبراءة
ذمّة الأوّل بالدفع إلى وليّ الغائب وتصرّف الوليّ كتصرّف المولّى عليه ، نعم لو
كان الدفع إلى الحاكم من حيث ولايته على المستحقّ وكونه أعرف بمواقع الصرف ففي
ضمان الدافع احتمال غير بعيد ، لأنّ الحاكم حينئذٍ كالوكيل ، والغرامة تلزم على
الموكّل ، إذ المال إذا وقع في يد الدافع كان هو المكلّف بالفحص ثمّ بالتصدّق ثمّ
بالغرامة فتأمّل.
تذنيب : يجوز
أن يؤخذ مجّاناً أو معاوضة في عقد بيع أو صلح أو هبة من السلطان الجائر ما كان قد
أخذه من الغلّات باسم المقاسمة وهي حصّة من حاصل الأرض تؤخذ عوضاً عن زراعتها ، أو
من الأموال باسم الخراج وهو مقدار من المال يضرب على الأرض أو الشجر حسبما يراه
الحاكم ، أو من الأنعام أو الغلّات أو الأموال باسم الزكاة ، وإن كان السلطان
ظالماً في أخذه غاصباً في تصرّفه غير مستحقّ للأخذ والتصرّف.
ولعلّ النكتة
في الجواز على ما ذكره الفاضل المقداد في التنقيح كما حكي أنّ
أخذ هذه الأموال وإن كان حقّاً للأئمّة عليهمالسلام وقد غصبه الجائر إلّا أنّهم عليهمالسلام أذنوا لشيعتهم في أخذها وشرائها ، فيكون تصرّف الجائر
كتصرّف الفضولي إذا لحقه إجازة المالك ، وقيل : الأولى أن يقول إجازة متولّي
الملك.
ودليل الجواز
بعد الإجماع المستفيض نقله في كلام جماعة من أساطين الطائفة ـ كما في المسالك وعن التنقيح وجامع المقاصد
وقاطعة اللجاج في حلّ الخراج وهي رسالة للمحقّق الكركي ، والمصابيح وتعليق
الإرشاد وأنّه لولاه لزم العسر العظيم بل اختلال النظم ـ الأخبار
المدّعى كونها متواترة كما عن جامع المقاصد .
منها :
الروايات المتقدّمة في مسألة أخذ الجوائز من السلطان الغير الخالية عادةً عن هذه
الأموال ، وقيل : خصوصاً الجوائز العظام الّتي لا تحتمل عادةً كونها من غير
الخراج.
ومنها : صحيحة
أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل
الصدقة وغنمها وهو يعلم أنّهم يأخذون أكثر من الحقّ الّذي يجب عليهم ، فقال : ما
الإبل والغنم إلّا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه
، قيل له : فما ترى في مصدّق يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا ، فنقول : بعناها
فيبيعناها فما تقول في شرائها منه؟ فقال : إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس. قيل له
: فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظّنا ويأخذ حظّه فيعزله
بكيل فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال : إن كان قبضه بكيل
__________________
وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل» .
وهذه الرواية
واضحة الدلالة على المدّعى فتدلّ عليه في كلّ من الأسئلة الثلاث باعتبار التقرير
والقول معاً ، لظهورها في عدم شبهة للسائل في جواز أصل الشراء وكون جوازه معتقداً
له مفروغاً عنه عنده ، بل كانت اشتباهه لحيثيّات اخر طارئة للمورد مثل العلم بأنّ
سلاطين الجور كانوا يأخذون أكثر من الحقّ الّذي كان يجب على المالك في مورد السؤال
الأوّل فأجاب الإمام عليهالسلام بما يقضي بجواز شراء ما لم يعلم حرمته بعينه ، باعتبار
عدم العلم بكون المأخوذ صدقة من الزيادة على الحقّ الواجب ، ويكشف عن تقريره عليهالسلام السائل على معتقده. ومثل كون المبيع الّذي يشتريه
المالك من العامل عين ماله الّذي دفعه بعنوان الصدقة ، فأجاب الإمام عليهالسلام بما يقضي بجواز شرائه بعد العزل والأخذ لأنّه حينئذٍ
خرج عن ملكه فلا حجر في شرائه حينئذٍ ، ويكشف عن تقريره السائل على معتقده. ومثل
الاكتفاء في شرائه بالكيل الأوّل من غير اعتبار كيل آخر للاشتراء ، فأجاب الإمام عليهالسلام بما يقضي بجوازه بشرط حضور المشتري حين الكيل ، ويكشف
عن تقريره على معتقده.
ونوقش في
دلالتها على الإباحة بوجوه :
فأوّلاً : قوله
«لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه» فلم يتّضح دلالته على الإباحة لمعلوميّة
حرمتها إجماعاً ، فيحتمل كونه كناية عن الحرمة ، وكان منشأ الإجمال التقيّة.
وثانياً :
أنّها مختصّة بالشراء فلا تتناول غيره حتّى الأخذ مجّاناً أو هبة فليقتصر في
مخالفة القواعد عليه.
وثالثاً :
احتمال الشراء فيها استنقاذ الحقّ لا المعاملة الحقيقيّة ، بناءً على كون موردها
صدقات المشتري خاصّة.
ورابعاً :
احتمال كون المصدّق من قبل العدل لا الجائر.
وخامساً : عدم
دلالتها على جواز شراء الخراج والمقاسمة ، بل غايتها الدلالة على الجواز في الزكاة.
__________________
وسادساً :
احتمال كون القاسم زارع الأرض أو وكيله لا عامل الجائر.
وفي الجميع من
الضعف ما لا يخفى :
أمّا الأوّل :
فلعدم وضوح معنى الإجمال ، مع كون قوله عليهالسلام : «لا بأس به» واضح الدلالة على إباحة شراء ما لم يعلم
كونه من الزيادة المحرّمة ، وكون قوله عليهالسلام : «حتّى يعرف الحرام بعينه» واضح الدلالة على حرمة
الزيادة ، إلّا أن يوجّه بإرادة الإجمال في المركّب الطارئ له بملاحظة دعوى
معلوميّة حرمتها إجماعاً ، بتقريب أنّ قوله : «لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه»
يقتضي انقسام المال المأخوذ صدقة إلى ما علم حرمته بعينه وما لم يعلم حرمته بعينه
، وهو بملاحظة معلوميّة حرمته إجماعاً لا يصلح مقسماً في هذا التقسيم ، فيتطرّق
الإجمال حينئذٍ إلى المعنى المراد من قوله «لا بأس به» وقوله «حتّى يعرف الحرام
بعينه» المقتضيين للانقسام. ويمكن أن يحمل قوله «لا بأس» على إرادة عدم الإباحة
وإن كان غير واضح الدلالة عليه ، وهو أيضاً من الإجمال غير أنّه لا ضير فيه إذا
كان منشؤه التقيّة.
ويزيّفه أنّ
منشأ الإجمال المتوهّم في الحقيقة هو الّذي ادّعاه من معلوميّة حرمة الصدقة الّتي
أخذها الجائر بالإجماع ، ويدفعه أنّه إن اريد من الحرمة حرمتها على الجائر فهي
مسلّمة والإجماع عليه أيضاً مسلّم ، إلّا أنّ حرمتها عليه لا يلازم حرمتها على
الشيعة بعد ورود الرخصة والإذن من الأئمّة عليهمالسلام في شرائها الّتي مرجعها إلى إمضاء أخذ الجائر لها في
حقّ الشيعة ، والكلام إنّما هو على هذا التقدير والرواية منزّلة على هذا المعنى
فصحّ التقسيم حينئذٍ ، ويصلح الصدقة المأخوذة مقسماً فيه بالقياس إلى ما علم كونه
من القدر الزائد على القدر الواجب وما لم يعلم كونه منه ، فالأوّل حرام على الجائر
وعلى غيره أيضاً فلا يجوز شراؤه ، والثاني حلال على غيره وإن حرم عليه فيحلّ شراؤه
، ومعنى حلّيّته عدم المنع للشيعة من قبول هبته وقبول بيعه وغيره من المعاوضة
عليه.
وإن اريد منها
حرمتها على غير الجائر أيضاً حتّى الشيعة حتّى بعد إمضاء الأئمّة عليهمالسلام أخذ الجائر في حقّهم فدعوى معلوميّتها مردودة على
مدّعيها. ودعوى
الإجماع على الحرمة على هذا الوجه كذب وفرية ، كيف وقد سمعت استفاضة نقل
الإجماع على عدمها.
وأمّا الثاني :
فلأنّ هذه الأموال إذا كانت حلالاً من قبل الأئمّة على شيعتهم على معنى جواز التصرّفات
المعامليّة لهم فيها ، فلا يتفاوت فيها الحال بين الاشتراء الّذي هو قبول البيع
وقبول الهبة الّتي هو الأخذ مجّاناً ، ونحوه قبول الهديّة. وربّما يستشمّ من
تضاعيف عبارات الرياض عدم الخلاف في عدم الفرق ، بل الإجماع على عدم الفصل ،
ونحوه نقل عن المحقّق الكركي .
وأمّا الثالث :
فلظهور القاسم في آخذ المقاسمة للاشتراك في المبدأ ، مضافاً إلى التفكيك بين مورد
السؤال الأخير وسابقه بالتعبير بالمصدّق وهو آخذ الصدقة ثمّة والقاسم هنا ، فلو
كان مورده حنطة الصدقة وشعيرها كما أنّ المورد في السابق أغنام الصدقة ولذا عبّر
بالمصدّق لناسب التعبير بالمصدّق أيضاً ، مع أنّ حكم الحنطة والشعير من الصدقة قد
ظهر في الجملة من جواب السؤال الأوّل ، حيث قال عليهالسلام : «ما الإبل والغنم إلّا مثل الحنطة والشعير» وغير ذلك
بل دلّ ذلك على كونه معلوماً لدى السائل أيضاً ، وإذا ثبت الجواز في الحنطة
والشعير من المقاسمة بالرواية يتمّ في الباقي حتّى الخراج بعدم القول بالفصل.
وأمّا الرابع :
فلبعد احتمال كون المصدّق من قبل العدل ، بل ظاهر سياق الرواية كونه من قبل الجائر
، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الأئمّة عليهمالسلام في تلك الأعصار لم يكونوا متصرّفين لمغصوبيّة حقوقهم
وكونهم في شدّة التقيّة. واحتمال كون المنصوب من قبل الجائر لتصحيح أعماله استأذن
في الخفاء من العدل أيضاً في غاية البعد ، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ سلاطين الجور
وولاتهم كانوا لا يستعملون غالباً إلّا أتباعهم من المخالفين والناصبين للأئمّة عليهمالسلام ومبغضيهم.
وأمّا الخامس :
فلأنّ صرف البيع والشراء المتكرّر في الرواية عن المعاملة الحقيقيّة وحملها على
الاستنقاذ أبعد شيء ذكر في المقام ، كيف واستنقاذ الحقّ من يد الغاصب
__________________
لكلّ من تمكّن منه لم يحتج جوازه إلى السؤال ثمّ التكرار فيه ، والجواب
بجواز أيضاً لا يقتضي التعرّض لبيان شروط المعاملة الحقيقيّة كما هو واضح.
وأمّا السادس :
فلبعد احتمال إرادة الزارع أو وكيله من لفظ القاسم.
ومنها : حسنة
أبي بكر الحضرمي قال : «دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام وعنده ابنه إسماعيل ، فقال : ما يمنع ابن أبي سمّاك أن
يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ، ويعطيهم ما يعطي الناس ، ثمّ قال :
لِمَ تركت عطاءك؟ قلت : مخافة على ديني ، قال : ما منع ابن أبي سمّاك أن يبعث إليك
بعطائك ، أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً» .
وفيها موضعان
من الدلالة :
أحدهما : قوله
ـ بالقياس إلى شباب الشيعة ـ : «ويعطيهم ما يعطي الناس» فإنّه يدلّ على حلّيّة ما
يعطي من بيت المال اجرة ونحوها ، والغالب فيه ما يجتمع من أموال الخراج والمقاسمة.
والمناقشة فيه باحتمال كون ما يعطي الشيعة لعلّه من الأموال المنذورة أو الموصى
بها للشيعة أو غلّة الأملاك الموقوفة عليهم وما أشبه ذلك ، يدفعها بعد ذلك خصوصاً
مع ندرة اتّفاق نحو هذه الأموال ثمّ إحرازها في بيت المال.
وثانيهما :
قوله ـ بالنسبة إلى الراوي ـ : «لِمَ تركت عطاءك» ثمّ قوله : «أن يبعث إليك بعطائك»
ثمّ قوله : «أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً» والتقريب ما عرفت.
وتوهّم
والمناقشة فيه أيضاً باحتمال كون ما يعطي السائل ونصيبه من بيت المال من الزكوات
المجتمعة ، وهذا أيضاً ضعيف خصوصاً مع قلّة الزكوات وندرة إحرازها فيه ، لأنّ لها
أهلاً يعطون فلا تحرز في بيت المال ، مع أنّ الغالب دفع المالك إيّاه من دون
إرجاعه إلى سلطان الجائر أو منصوبه.
وتوهّم أنّ قول
الراوي : «مخافة على ديني» ربّما يدلّ على حرمته إذ لا جهة للمخافة على الدين
بدونها ، يدفعه قوّة احتمال كون المخافة على الدين لأجل استلزام مطالبة النصيب والعطاء
الركون إلى الظالم أو الحضور في مجالسه الّذي يوجب أن لا يصيبوا من دنياهم شيئاً
حتّى أصابوا من دينه مثله.
__________________
ومنها : موثّقة
إسحاق بن عمّار قال : «سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم؟ قال : يشتري منه
ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً» .
وصحيحة معاوية
بن وهب قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أشتري من العامل الشيء وأنّا أعلم أنّه يظلم؟ فقال :
اشتر منه» .
ومرسلة محمّد
بن أبي حمزة عن رجل قال : «قلت لأبي عبد الله : أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم
ويقول : ظلمني ، فقال : اشتره» .
ورواية عبد
الرحمن ابن أبي عبد الله قال : «سألته عن الرجل أيشتري من العامل وهو يظلم؟ فقال :
يشتري منه» .
وظاهر الاشتراء
من العامل الاشتراء ممّا هو عامل فيه ، ولا يكون في الغالب إلّا من طعام المقاسمة
أو الصدقة ، وظاهر كونه يظلم مع أنّ أصل عمله ظلم باعتبار كونه من قبل ظلمه يأخذ
الزيادة على الحقّ ، فأسئلة هذه الروايات موافق لصدر صحيحة الحذّاء ، كما أنّ جواب
الإمام عليهالسلام في الموثّق يوافق جوابه في الصحيحة ، فيحمل عليه الجواب
فيما عداه حملاً للمطلق على المقيّد فهي واضحة الدلالة على الحلّ ، وان كان
المرسلة لا ظهور فيها في كون عنوان السؤال هو الاشتراء من العامل.
وربّما نوقش في
الموثّقة باحتمال كون مراد السائل الشراء من أملاك العامل منه مع علمه بكونه
ظالماً غاصباً فيكون سؤالاً عن معاملة ، ويدفعها كون الاحتمال خلاف الظاهر ،
ويبعده أنّه لو كان منظوره السؤال عن معاملة الظلمة لناسب جعل عنوان السؤال هو
الظالم.
ومنها :
الروايات الدالّة على جواز قبالة الخراج والجزية من السلطان الّتي يستفاد من
مجموعها مسلّم الجواز عندهم ، مثل صحيحة إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد الله قال : «سألته
عن رجل يتقبّل بخراج الرجال وجزية رءوسهم وخراج النخل والشجر
__________________
والآجام والمصائد والسمك والطير ، وهو لا يدري لعلّ هذا لا يكون أبداً أو
يكون أيشتريه وفي أيّ زمان يشتريه ويتقبّل؟ فقال : إذا علمت أنّ من ذلك شيئاً
واحداً قد أدرك فاشتره وتقبّل» .
وموثّقه أيضاً
عن أبي عبد الله : «في الرجل يتقبّل بجزية رءوس الجبال أو بخراج النخل والآجام
والطير ، وهو لا يدري ولعلّه لا يكون ...» إلى آخر ما تقدّم في صحيحه بأدنى تفاوت. قيل : «وظاهرهما
أنّ غرض السائل متعلّق بالسؤال من حيث إنّه لا يدري يكون من ذلك شيء أم لا ،
ولذلك لم يذكر خراج الأرض ، فكان أصل الجواز من حيث كون ذلك خراجاً أمر مسلّم
عندهم» .
وصحيح الحلبي
عن أبي عبد الله عليهالسلام في جملة حديث قال : «لا بأس بأن يتقبّل الرجل الأرض
وأهلها من السلطان ، وعن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث ، قال : نعم لا
بأس به ، وقد قبّل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خيبر أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالخُبر والخُبْر هو
النصف» . قيل : «وهذا كالصريح في أنّ حكم تصرّف الجائر في هذه
الأراضي حكم تصرّف الإمام العادل» .
وصحيح إسماعيل
بن الفضل أيضاً عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال : «سألته عن رجل استأجر من السلطان أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام
مسمّى ، ثمّ آجرها وشرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر فله
ذلك؟ قال : نعم إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك. قال :
وسألته عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم فيؤجرها
قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشيء معلوم ، فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان
ولا ينقص منه شيئاً ، أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً قطعاً على أن يعطيهم البذر والنفقة
فيكون له في ذلك فضل على إجارته وله تربية الأرض أو ليست له؟ فقال : إذا استأجرت
أرضاً فأنفقت شيئاً أو
__________________
زرعت فلا بأس بما ذكرت» .
وخبر العيص [الفيض]
بن المختار قال لأبي عبد الله عليهالسلام : «جعلت فداك ما تقول في الأرض أتقبّلها من السلطان ثمّ
أُؤاجرها اكرتي على أنّ ما أخرجه الله تعالى منها من كلّ شيء لي من ذلك النصف أو
الثلث بعد حقّ السلطان؟ قال : لا بأس به كذلك اعامل اكرتي» .
ومنها :
الأخبار المستفيضة المتقدّمة في حلّ جوائز السلطان الجائر وعمّاله ، بناءً على أنّ
الغالب فيما في أيديهم من الأموال ما أخذوه باسم الخراج والمقاسمة ، أو بناءً على
أنّه يغلب فيما وقع بأيديهم من الأموال ما يكون من قبيل الخراج والمقاسمة ، مع
ملاحظة إطلاق الأجوبة فيها بالحلّ المفيد للعموم من جهة ترك الاستفصال ، وهي إن لم
تتمّ دليلاً مستقلاًّ فلا تخلو عن تأييد ، بل تنهض مؤيّدة للأخبار السابقة ، وإلّا
فهي على التقرير الأوّل لوجه الاستدلال دليل مستقلّ.
ثمّ إنّ في
المقام مسائل كثيرة مهمّة تذكر من باب التفريع :
المسألة الاولى
: في اشتراط قبض السلطان أو عامله في جواز القبول منه مجّاناً أو بعقد من عقود
المعاوضة وعدمه ، حتّى أنّه لو أحاله على مستعمل الأرض أو وكّله في أخذه منه جاز
الأخذ قولان ، عزي أوّلهما إلى صريح السيّد العميدي في شرحه للنافع حيث قال : «إنّما
يحلّ ذلك بعد قبض السلطان أو نائبه ، ولذا قال المصنّف يأخذه» انتهى. وربّما
استظهر ذلك من عبارات الأكثر لمكان عبارة «يأخذه» في كلامهم. خلافاً لصريح جماعة
منهم ثاني الشهيدين في المسالك ومن تبعه فلم يشترطوا ذلك قال في المسالك. «لو
أحاله به أو وكّله في قبضه أو باعه وهو في يد المالك أو ذمّته حيث يصحّ البيع كفى
ووجب على المالك الدفع وكذا القول فيما يأخذه باسم الزكاة» انتهى.
وفي الرياض نفي الخلاف في
عدم الفرق بين مقبوض السلطان وغيره ، وعن
__________________
المحقّق الثاني في الرسالة الإجماع على عدم الفرق ، ولا ينافيه ما في
عبارة الأكثر من التعبير بـ «ما يأخذه» ، لقوّة احتمال إرادة المعنى الاستقبالي أي
ما من شأنه أن يأخذه السلطان سواء أخذه فعلاً أو لم يأخذه بعد. وكان استظهار
الخلاف منها بناءً على حملها على إرادة المعنى الحالي ، وهو محلّ منع ، ولو سلّم
الظهور فهو لا يفيد الاعتبار ، لجواز كون بنائه على الغالب من كون أموال الخراج
والمقاسمة مقبوضة للسلطان أو نائبه. وربّما يحمل على كون ذكره بعد جوائز السلطان
كالمستثنى من جوائزهم الّتي حرم أخذها وبعد الأخذ وجب ردّها إلى مالكها إذا علمت
كونها بعينها محرّمة كما تقدّم.
وعلى أيّ حال
كان فالمعتمد هو عدم الاشتراط ، لما تقدّم من أخبار قبالة أرض الخراج وجزية الرءوس
وخراج الشجر والنخل والآجام المعتضدة بفهم الجماعة بل الأكثر ، ونفي الخلاف ومنقول
الإجماع لاختصاص مواردها بغير المقبوض.
المسألة
الثانية : الرخصة الحاصلة من الأئمّة عليهمالسلام في أخذ هذه الأموال من الجائر وقبولها مجّاناً أو بأحد
عقود المعاوضة مختصّة بالآخذ المتقبّل المنتقل إليه في أخذه وقبوله غير متناولة
للجائر في إعطائه ، فالأخذ منه من حيث إنّه فعل للآخذ جائز لا إعطاؤه من حيث إنّه
فعل للجائر ، فإنّه كسائر تصرّفاته في هذه الأموال حرام ، حتّى أنّ أخذه إيّاها من
مستعملي الأراضي حرام لكونه غاصباً غير مستحقّ له ، وأنت إذا تتبّعت عباراتهم
لوجدتها مشحونة على التصريح بكونه غاصباً ، أو عدم استحقاقه له ، أو كونه منه
حراماً ، وما يؤدّي مؤدّى ذلك على اختلاف العبارات.
ولذا قال
الفاضل في التنقيح على ما حكي : «إنّ الدليل على جواز شراء الثلاثة من الجائر وإن
لم يكن مستحقّاً له النصّ الوارد عنهم عليهمالسلام والإجماع وإن لم يعلم مستنده ، ويمكن أن يكون مستنده
أنّ ذلك حقّ للأئمّة عليهمالسلام وقد أذنوا لشيعتهم في شراء ذلك فيكون تصرّف الجائر
كتصرّف الفضولي إذا انضمّ إليه إذن المالك» .
وقال أوّل
الشهيدين في الدروس : «يجوز شراء ما يأخذه الجائر باسم الخراج والزكاة والمقاسمة
وإن لم يكن مستحقّاً له» .
__________________
وقال ثانيهما
في المسالك : «إلّا أنّ ما يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمّتنا عليهمالسلام في تناوله منه ، وأطبق عليه علماؤنا لا نعلم فيه
مخالفاً وإن كان ظالماً في أخذه» .
قال العلّامة
في التحرير : «ما يأخذه الظالم بشبهة الزكاة من الإبل والبقر والغنم ، وما يأخذه
عن حقّ الأرض بشبهة الخراج ، وما يأخذه من الغلّات باسم المقاسمة حلال وإن لم
يستحقّ أخذ ذلك» .
قال في النافع
: «يجوز أن يشترى من السلطان ما يأخذه باسم المقاسمة واسم الزكاة من ثمرة وحبوب
ونعم وإن لم يكن مستحقّاً له» .
وعن شرح
القواعد للشيخ الغروي «ويقوى حرمة سرقة الحصّة وخيانتها والامتناع من تسليم ثمنها
بعد شرائها إلى الجائر وإن حرمت عليه» ودخل تسليمها في الإعانة على الإثم في البداية أو
الغاية ، وظاهر تحريم الحصّة عليه تحريمها بجميع تصرّفاته الّتي منها الأخذ
والإعطاء وإلّا لم يكن تسليم ثمنها إليه إعانة على الإثم.
ويظهر من
تضاعيف كلمات صاحب الحدائق مع صاحب الكفاية انتصاراً للمحقّق الأردبيلي رحمهالله عليه كون الحرمة في تصرّفاته حتّى أخذه وإعطائه من
المسلّمات عند الأصحاب الّتي يمكن دعوى الاتّفاق فيها . نعم يظهر من
صاحب الكفاية في تضاعيف كلماته مع الأردبيلي ميله إلى منع الحرمة حيث قال ـ في
جملة كلام له ردّاً عليه في إيراداته على صحيحة أبي عبيدة الحذّاء المتقدّمة ـ : «إنّا
لو سلّمنا أنّ أخذ السلطان وجمعه حتّى الخراج من الأرضين حرام مطلقاً ، حتّى لو
كان مقصوده جمع حقوق المسلمين وصرفه في المصارف الشرعيّة بقدر طاقته كان حراماً
أيضاً ، لكن لا نسلّم أنّ إعطاءه لأحد في صورة الهبة أو غير ذلك يكون حراماً إذا
كان الآخذ مستحقّاً لمثله كالفقراء ، أو كونه من مصالح المسلمين كالغازي والقاضي
والّذي له مدخل في امور الدين وإن كان الأخذ حراماً أوّلاً ، إذ لا أجد بحسب نظري
دليلاً على ذلك ولا الأصل يقتضيه. ثمّ يظهر من الحديث أنّ تصرّف العامل بالبيع
جائز إذ لو كان
__________________
حراماً كان الظاهر أن يكون الاشتراء منه حراماً أيضاً لكونه إعانة على
الفعل المحرّم ، وحيث ثبت أنّ التصرّف بنحو البيع والشراء جائز ظهر أنّ أصل
التصرّف فيه ليس بحرام. وإذا قيل : إنّ بعض أنحاء التصرّفات كالإعطاء من غير عوض
لمستحقّ له حرام كان محتاجاً إلى دليل لأنّ الأصل خلافه ، وإذا كان ذلك حراماً
فإمّا أن يكون الواجب ضبطه وحفظه في الخزائن وهو بعيد جدّاً ، وإمّا أن يكون
الواجب الردّ إلى من اخذ منه ، وذلك يقتضي تحريم بيعه والاشتراء لأنّ الواجب ردّ
العين مع التمكّن لا القيمة مع أنّ الظاهر عدم القائل بالفرق بين الاشتراء وغيره» انتهى.
وربّما استظهر
ذلك من عبارة المسالك في باب الأرضين قائلاً : «وذكر الأصحاب بأنّه لا يجوز لأحد
جحدها ولا منعها ولا التصرّف فيها بغير إذنه ، بل ادّعى بعضهم الاتّفاق عليه» .
وقد يتوهّم
أيضاً من عبارة المحقّق الكركي عن رسالته قائلاً : «ما زلنا نسمع من كثير ممّن
عاصرناهم لا سيّما شيخنا الأعظم الشيخ عليّ بن هلال رحمهالله أنّه لا يجوز لمن عليه الخراج سرقته ولا جحوده ولا منعه
ولا شيء منه لأنّ ذلك حقّ واجب عليه» .
وتوهّم أيضاً
من عبارة الدروس «ولا فرق بين قبض الجائر إيّاها أو وكيله وعدم القبض ، فلو أحاله
بها وقبل الثلاثة أو وكّله في قبضها أو باعها وهي في يد البائع أو في ذمّته جاز
التناول ويحرم على المالك المنع ... إلى أن قال : ولا يحلّ تناولها بغير ذلك» .
وفيه : أنّ
كلام المسالك مفروض في صورة استيلاء الجائر على تلك الأراضي وعدم تمكّن السلطان
العادل من التصرّف فيها وأخذ ما على مستعمليها من الخراج والمقاسمة ، فإنّ هذه
الأراضي ملك للمسلمين فلا بدّ لها من اجرة على مستعمليها تصرف في مصالحهم ، ولا
تسقط من مستعمليها في أزمنة الغيبة ولا غيرها من أزمنة استيلاء الجائر عليها ، فلا
يحلّ لأحد الاستقلال بالتصرّف فيها من دون إذن العادل أو الجائر ، ولا تناولها من
دون إذن أحدهما بل يجب على مريد التناول الاستئذان فيه إمّا
__________________
من العادل أو نائبه الخاصّ إن أمكن ، ومع عدم الإمكان لاستيلاء الجائر فمن
الجائر لا غير ، فيكون تقدير قوله : «ولا التصرّف فيها بغير إذنه» ولا التصرّف في
أموال الخراج والمقاسمة بغير إذن الجائر المفروض استيلاؤه على تلك الأراضي وعلى
مستعمليها ، وعليه يحمل عبارة المحقّق في الرسالة وعبارة الدروس فإنّ قوله : «على
المالك المنع» عطف على «جاز التناول» أي جاز للمشتري مثلاً تناول ما باعه السلطان
المفروض استيلاؤه ، ويحرم على المالك منع المشتري عن المبيع بأن لا يدعه إليه
مثلاً ، وقوله : «ولا يحلّ تناولها بغير ذلك» يعني تناول أحد هذا المال بغير إذن
السلطان المفروض استيلاؤه وإعطاؤه بأحد الوجوه المذكورة من الإحالة والتوكيل
والبيع ، ومرجعه إلى الاستقلال بالتصرّف فيها وتناولها بدون الاستئذان من الجائر.
وممّا يكشف عن
كون عبارة المسالك منزّلة على هذا المعنى قوله ـ بعد العبارة المتقدّمة بلا فصل ـ :
«وهل يتوقّف التصرّف في هذا القسم على إذن الحاكم الشرعي إذا كان متمكّناً من
صرفها على وجهها بناءً على كونه نائباً عن المستحقّ ومفوّضاً إليه ما هو أعظم من
ذلك؟ الظاهر ذلك وحينئذٍ فيجب عليه صرف حاصلها في مصالح المسلمين ، ومع عدم
التمكّن أمرها إلى الجائر. وأمّا جواز التصرّف فيها كيف اتّفق لكلّ واحد من
المسلمين فبعيد جدّاً ، بل لم أقف على قائل به ، لأنّ المسلمين بين قائل بأولويّة
الجائر وتوقّف التصرّف على إذنه وبين مفوّض الأمر إلى الإمام عليهالسلام فمع غيبته يرجع الأمر إلى نائبه ، فالتصرّف بدونهما لا
دليل عليه» انتهى.
فظهر من جميع
ما عرفت من فتاوي الأصحاب أنّ الّذي أمضاه الشارع إنّما هو إعطاء الجائر وإذنه
بالقياس إلى من يتناول أو يقبل شيئاً من الخراج أو المقاسمة أو أرضاً من الأراضي
الخراجيّة لا بالقياس إلى الجائر ، فالإمضاء بالقياس إليه أيضاً ليكون إعطاؤه أو
إذنه تصرّفاً مأذوناً فيه من الشارع الّذي مرجعه إلى كون سلطنته واستيلائه ممّا
أمضاه الشارع أيضاً يحتاج إلى دليل ، وبدونه يحرم لكونه غصباً وتصرّفاً غير مأذون
فيه.
__________________
وتوهّم الدلالة
عليه من صحيحة الحلبي المتقدّمة في أخبار القبالة ولذا ذكر غير واحد أنّها
كالصريحة في أنّ حكم تصرّف الجائر في هذه الأراضي حكم تصرّف الإمام العادل ، يدفعه
بعد تسليم الدلالة أنّ أقصاها أنّه في حكمه في إفادة الجواز بالقياس إلى المتقبّل
لا في جواز التقبيل بالقياس إلى السلطان.
وأمّا ما تقدّم
في كلام صاحب الكفاية من استظهار جواز تصرّف العامل بالبيع من صحيح الحذّاء بقوله
: «ثمّ يظهر من الحديث أنّ تصرّف العامل بالبيع جائز ...» إلى آخر ما
ذكره.
ففيه : منع صدق
الإعانة على الإثم مع انتفاء قصدها إذا كان مقصود المشتري التوصّل إلى غرض نفسه في
اشتراء الحنطة والشعير وغيرهما ، لا لأن يتوصّل البائع إلى إثم البيع مع أنّ
الإعانة على الإثم على ما بيّنّاه في باب بيع العنب والخشب ممّن يعملهما خمراً
وصنماً عبارة عن إيجاد مقدّمة معصية الغير ، ومقدّمة معصية الغير عبارة عمّاله أو
لبدله تأثير في وجود المعصية بحيث لو لا وجودهما لم توجد المعصية ، ومفروض المقام
ليس من هذا القبيل لأنّ كلّ تصرّف الجائر في هذا المال حرام أعمّ من البيع وضدّه
الوجودي ، ولا اختصاص للحرمة ببيعه ، بل لو ترك البيع كان ضدّه وضدّ ضدّه حتّى
إمساكه أيضاً حراماً ، فالإثم واقع منه على كلا تقديري اشتراء المشتري وتركه فلا
مدخليّة لوقوع الاشتراء في وجود الإثم بحيث لولاه لم يقع نوعه المتحقّق تارةً ببيعه
من غير هذا المشتري واخرى في ضمن ضدّه الوجودي أو ضدّ ضدّه وهكذا ، هذا مع العلم
العادي بوقوع شخص الإثم وهو البيع منه للقطع بأنّه كان بائعاً لهذا المال إمّا من
هذا المشتري أو من مشتري ، فلا تأثير لترك هذا المشتري اشتراءه في عدم وقوع هذا
الشخص من الإثم منه ، ولعلّه إلى هذا يشير قول أبي عبد الله عليهالسلام في صحيح جميل بن صالح قال : «أرادوا بيع تمر عين أبي
زياد وأردت أن أشتريه فقلت : لا حتّى استأمر أبا عبد الله عليهالسلام فسألت معاذاً أن يستأمره ، فقال : قل له : يشتره فإنّه
إن لم يشتره اشتراه غيره» .
__________________
وبما بيّنّاه
سقط ما ذكره صاحب الكفاية أخيراً إلزاماً للقائل بالحرمة بقوله : «وإذا كان ذلك
حراماً فإمّا أن يكون الواجب ضبطه وحفظه ...» إلى آخر ما ذكره ، فإنّا نقول بأنّ
ذلك حرام وضبطه وحفظه أيضاً من حيث إنّه من جملة تصرّفاته باعتبار كونه غاصباً في
سلطنته أيضاً حرام ، ولا نقول بأنّه يجب عليه ردّه إلى من أخذه منه ، بل نقول
بأنّه يجب عليه ردّه إلى المغصوب منه حقّه وهو الإمام العادل أو نائبه الخاصّ أو
العامّ.
ولا ينافي جواز
الأخذ والقبول حرمة الإيجاب والإعطاء بعد ما فرض كون الأوّل تصرّفاً مأذوناً فيه
من الشارع ومن له ولاية هذه التصرّفات ، والثاني تصرّفاً غير مأذون فيه بل منهيّاً
عنه بالخصوص. ولا ينافيه ما قيل : من أنّ النصوص والفتاوي دلّت على كفاية إذن
الجائر في حلّ الخراج وكون تصرّفه بالإعطاء والمعاوضة والإسقاط وغير ذلك نافذاً ،
إذ المراد من النفوذ هو النفوذ الوضعي على معنى ترتّب الآثار الشرعيّة بالقياس إلى
المتقبّل المنتقل إليه ، فلا ينافي الحرمة من جهة الغصبيّة وعدم الاستحقاق بالنسبة
إلى الجائر ، كما أنّ الحرمة المذكورة لا تنافي الصحّة والنفوذ في البيع وسائر
المعاوضات ، لعدم كون الحرمة باعتبار كون بيع هذا المال من حيث البيعة معصية
ومبغوضة للشارع ، بل باعتبار كون أصل تصرّف الجائر بجميع وجوهه الّذي هو خارج عن
ماهيّة البيع مبغوضاً له ، نظير بيع الغاصب مع لحوق إجازة المالك ، فالنهي متعلّق
بالمعاملة لأمر خارج لا لنفسها ولا لجزئها ولا لشرطها ولا لوصفها اللازم ، ونحو
هذا النهي لا يقتضي الفساد ، مع أنّ في النصوص ما هو كالصريح في حرمة تصرّفاته
حتّى أخذه ولو بضميمة عدم القول بالفصل.
ففي صحيحة
العيص في الزكاة فقال : «ما أخذ منكم بنو اميّة فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئاً ما
استطعتم» وصحيحة الشحّام «أنّ هؤلاء المصدّقين يأتوننا فيأخذون
منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها يجزئ عنّا؟ فقال : لا ، إنّما هؤلاء قوم غصبوكم
أموالكم وإنّما الصدقة لأهلها» قال في المستند : «أنّ ما ذكر وإن كان في الزكاة إلّا
أنّه
__________________
يثبت الحكم في الخراج والمقاسمة أيضاً بعدم القول بالفصل» .
أقول : يمكن
إثبات الحكم في الرواية الاولى بقوله عليهالسلام : «شيئاً» بضابطة أنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا خصوص
المورد ، وفي الرواية الثانية بالتعليل بقوله : «إنّ هؤلاء وإنّما الصدقة» فيكون
من منصوص العلّة المفيد للعموم.
المسألة
الثالثة : هل يشترط جواز الأخذ والقبول من الجائر في أزمنة الغيبة بإذن الحاكم
الشرعي حيث أمكن استئذانه لعموم ولايته على المستحقّين وعلى نحو هذه الأموال
والأراضي ، لأنّه نائب عن الإمام الوليّ العامّ؟ وجهان بل قولان ، أوّلهما خيرة
ثاني الشهيدين في عبارته المتقدّمة عن المسالك ومن مشايخنا من جزم بالثاني تعليلاً «بأنّ المستفاد من
الأخبار الإذن العامّ من الأئمّة عليهمالسلام بحيث لا يحتاج بعد ذلك إلى الإذن الخاصّ في الموارد
الخاصّة منهم عليهمالسلام ولا من نوّابهم» .
أقول : هذا هو
الأجود ، لأنّ ما صدر من الأئمّة من الإذن في الأخذ والقبول إنّما صدر على وجه
الإفتاء والإذن العامّ فلا يختصّ بزمانهم ، والمفروض أنّهم عليهمالسلام لم يعتبروا استئذانهم في الموارد الخاصّة في أزمنة
حضورهم فكيف يعتبر حينئذٍ استئذان نوّابهم في أزمنة الغيبة ، فإنّ الفرع لا يزيد
على الأصل.
وتوهّم : أنّ
عدم اعتبارهم عليهمالسلام استئذانهم في أزمنة حضورهم لعلّه لأنّ الغالب عليهم
وعلى الشيعة في تلك الأزمنة إنّما هو التقيّة الناشئة عن استيلاء السلاطين
الاموييّن والعبّاسييّن ، ولذا لم يعتبروا الرجوع إليهم واستئذانهم لمنافاته
التقيّة الواجبة عليهم وعلى أصحابهم.
يدفعه : أنّ
التقيّة إنّما تمنع الرجوع إليهم في العلانية لا في السرّ ، وقد كان أصحابهم
يرجعون إليهم سواء فيما هو أعظم من ذلك مع إمكان بيان الحكم ولو لبعض الخواصّ ، مع
أنّ الأحكام المبتنية على التقيّة مخصوصة بمواردها ولا تعمّ موارد انتفائها وهو
نادرة.
نعم لو قيل بأنّ
الإذن الصادر منهم عليهمالسلام في الأخذ والقبول من الجائر في موارد النصوص المتقدّمة
كانت على وجه الإمامة اتّجه القول بالرجوع إليهم أو إلى نوّابهم في
__________________
الموارد الخاصّة ، غير أنّك قد عرفت سابقاً أنّ النصوص الواردة فيه ظاهرة
في الفتوى ، مع أنّ الأصل في تصرّفات المعصوم كونها على وجه الفتوى والحكم العامّ.
نعم إنّما
يتّجه الاشتراط حيث وجب على مستعملي الأراضي دفع الخراج والمقاسمة إلى الحاكم
الشرعي لتمكينه من أخذهما والتصرّف فيهما وصرفهما إلى وجوههما ، وحرم دفعهما إلى
الجائر لتمكّنهم من عدم الدفع إن قلنا به ، فإنّ هذه المسألة أيضاً خلافيّة ولهم
فيها قولان :
أحدهما : وجوب
دفعهما إلى الجائر مطلقاً ولو مع التمكّن من منعهما عنه ، ودفعهما إلى الحاكم
الشرعي حيث تمكّن من الأخذ والتصرّف والصرف في وجوههما نسب ذلك إلى جماعة أطلقوا الحكم
الشرعي بحرمة سرقتهما وجحدهما ومنعهما منه والتصرّف فيهما بدون إذنه ، ومنهم كثير
من معاصري المحقّق الكركي على ما تقدّم ، وعن الكفاية «عن بعض الأصحاب الاتّفاق
عليه» .
وثانيهما :
حرمة الدفع إليه مع التمكّن من عدم الدفع ، كما عن جماعة من أصحابنا لقولهم بعدم
براءة الذمّة بالدفع اختياراً ، ومقتضاه عدم جوازه مع التمكّن ، وعن الفاضل
القطيفي التصريح بذلك. وفي المستند «بل ظاهره دعوى الضرورة
الدينيّة على العدم. ثمّ قال : ولا يخفى أنّ ذلك مقتضى الأصل لأنّهما كالزكاة حقّ
لجماعة خاصّة ليس الجائر منهم ولا قيّماً عليهم ، فالأصل عدم جواز دفع حصّتهم
إليهم ـ سيّما مع ما هم عليه من الفسق الواضح ـ ما دام يتمكّن من عدم الدفع ...
إلى أن قال : فوجوب منعها عن الجائر مع التمكّن أظهر» انتهى.
وجزم به شيخنا
في الجواهر . وهو الصحيح والمعتمد ، لأصالة عدم جواز دفع الحقّ إلى
غير مستحقّه ولا إلى من لا ولاية على مستحقّه اختياراً ، ولصحيحي العيص والشحّام
المتقدّمين بعد حمل مطلقهما على مقيّدهما ، فعدم الإجزاء في الثاني محمول
__________________
على الدفع اختياراً. ومن ذلك ظهر أنّ الدفع إلى الجائر مع التمكّن من عدمه
كما أنّه يحرم كذلك لا يجزئ ولا يوجب براءة الذمّة ، وإذا حرم دفعهما إلى الجائر
مع التمكّن وجب دفعهما إلى من له الولاية الشرعيّة على المستحقّين وهو الفقيه
الجامع للشرائط ، إذ لا ولاية لغيره عليهم في أزمنة الغيبة ، كيف وأنّ الأصل فيهما
في أزمنة الحضور وجوب دفعهما إلى السلطان العادل مع الإمكان ، فتعيّن في أزمنة
الغيبة دفعهما إلى نوّابه لعموم ولايتهم من مقتضى النيابة. ولذا ذكر المحقّق
الكركي في الرسالة على ما حكي :
«فإن قلت : فهل
يجوز أن يتولّى من له النيابة حال الغيبة ذلك أعني الفقيه الجامع للشرائط؟.
قلنا : لا نعرف
للأصحاب في ذلك تصريحاً لكن من جوّز للفقهاء حال الغيبة تولّي استيفاء الحدود وغير
ذلك من توابع منصب الإمامة ينبغي له تجويز ذلك بطريق أولى ، لا سيّما والمستحقّون
لذلك موجودون في كلّ عصر ، ومن تأمّل في أقوال كبراء علمائنا الماضين ـ مثل علم
الهدى ، وعلم المحقّقين نصير الملّة والدين ، وبحر العلوم جمال الدين العلّامة رحمهمالله وغيرهم ـ نظر متأمّل منصف لم يشكّ في أنّهم يسلكون هذا
المسلك ، وما كانوا يودعون في كتبهم إلّا ما يعتقدون صحّته» انتهى. هذا في
الخراج والمقاسمة.
وأمّا الزكوات
فالظاهر مع إمكان منعها عن الجائر عدم وجوب دفعها إلى الفقيه بل غايته كونه أفضل ،
كما قرّر في باب الزكاة لجواز دفعها للمالك إلى المستحقّين ، ولعلّه إلى ذلك أو ما
يقرب منه ينظر ما روي من أنّ عليّ بن يقطين قال له الإمام عليهالسلام : «إن كنت ولا بدّ فاعلاً فاتّق أموال الشيعة ، وأنّه
كان يجبيها من الشيعة علانية ويردّها عليهم سرّاً» بناءً على أنّ
المراد من أموال الشيعة المأمور باتّقائها زكاتهم ، فيكون المراد من ردّها عليهم
سرّاً ردّها على مالكيها ليدفعوها بأنفسهم إلى مستحقّيها ، ويحتمل بعيداً أن يكون
المراد من الردّ عليهم دفعها إلى مستحقّي الشيعة ، كأن يباشره ابن يقطين بإذن
الإمام نيابةً عن المالكين المأخوذ منهم ظلماً. وأمّا احتمال أن يراد منها مع
الزكوات
__________________
وجوه الخراج والمقاسمات فبعيد جدّاً ، لأنّ الخراج والمقاسمة لا يردّان
ثانياً إلى مالكيهما ، إذ لا ولاية لهم في الصرف إلّا أن يكون ممّا اخذ منهم بهذين
الاسمين ظلماً لا على وجه الاجرة على الأراضي الخراجيّة كما لو اخذ على الأملاك
الخاصّة عن مالكها فليتدبّر.
المسألة
الرابعة : فيما يعتبر وما لا يعتبر في الجائر وهي امور :
الأوّل : يعتبر
فيه لنفوذ إذنه وتصرّفاته وتأثيرهما في حلّ ما يؤخذ منه أو من عمّاله الاستقلال ، على
معنى كونه سلطاناً مستقلّاً مذكوراً في عداد السلاطين المعروفين ، فمن تغلّب
وتسلّط على قرية أو بلدة خروجاً على سلطان الوقت فأخذ من أهلها حقوق المسلمين لا
ينفذ إذنه وتصرّفه في حلّ ما يؤخذ منه أو يقبل ، بل يجب في نحو ذلك استئذان من له
الولاية الشرعيّة لأصالة المنع وعدم نفوذ التصرّفات إلّا ما خرج بالدليل واقتصاراً
في الحكم المخالف للأصل على موضع اليقين من النصّ والفتوى ، ونحن نقطع بعدم اندراج
نحو هذا المتغلّب في مورد نصوص الباب ولا في معقد الإجماعات وفتاوى الأصحاب فيبقى
تحت الأصل.
الثاني : عموم
الرئاسة والسلطنة بأن يكون سلطاناً على إقليم أو مملكة واسعة ، فلا ينفذ إذن من
اختصّ سلطنته ببلدة واحدة وتوابعها ، كما في بلاد الأفاغنة وحدود التركمانيّة لو
وجد فيها أرض خراجيّة يضرب عليها الخراج والمقاسمة ، لما ذكر من الاقتصار فيما
خالف الأصل والقاعدة على موضع اليقين من النصّ والإجماع ، فلا بدّ في نحو ذلك من
الرجوع إلى من له الولاية الشرعيّة.
الثالث :
استيلاؤه وشمول سلطنته ، فلو فرضت أرض خراجيّة خارجة عن تحت يده لقصور يده عنها
لبعدها عن مملكته ، أو لوقوعها على الحدّ بينه وبين سلطان آخر وأهلها لا يطيعونهما
، أو لخروج أهلها عن طاعته بعد ما كانوا من قسم رعيّته ، فلا يجري فيها حكم نفوذ
إذنه ومضيّ أمره ، لعدم جريان حكمه في سلطانه عليها ، بل يعتبر استئذان الحاكم الشرعي
، لما عرفت من الاقتصار خصوصاً مع ملاحظة ما تقدّم من إناطة الحكم في فتاوي
الأصحاب باستيلاء الجائر.
الرابع : لا
يعتبر في نفوذ إذنه وتصرّفه كونه معتقداً في نفسه الاستحقاق لأخذ
الخراج والمقاسمة والتصرّف في الأراضي الخراجيّة ، بل لو اعتقد في نفسه
الغاصبيّة وعدم الاستحقاق كفى إذنه وأخذه في حلّ ما يؤخذ منه مجّاناً أو معاوضة ،
عملاً بإطلاق النصّ والفتوى. فما يتراءى في بعض العبارات كعبارة المسالك وتبعه شيخنا قدسسره من إناطة الحكم باعتقاده الاستحقاق وكونه مستحلّاً ،
فلم نقف له على وجه يعتمد عليه ، خصوصاً وأنّ مورد الأخبار المتكفّلة لبيان نفوذ
إذن الجائر ومضيّ تصرّفه أخذاً وإعطاءً المسئول عنه للأئمّة عليهمالسلام إنّما هو سلاطين الاموييّن والعبّاسييّن ، وهم وإن
كانوا في الظاهر يدّعون الخلافة وإمرة المسلمين. ويسمّون أنفسهم بأمير المؤمنين
غير أنّ كلّهم أو جلّهم كانوا مذعنين في الباطن ببطلان دعواهم وعدم استحقاقهم
وغاصبيّتهم ، وكون منصب الخلافة والإمامة لأهل بيت العصمة على ما علم من تتبّع
السير والأخبار ، ولقد أجاد الشيخ الحائري في تعميمه عند تفسيره الجائر لكونه
مستحلّاً وعدمه على ما حكي كما تسمع.
الخامس : الإسلام
، والظاهر اعتباره في نفوذ إذنه وتصرّفاته أخذاً وإعطاءً ، فلو اتّفق أرض خراجيّة
تحت يد سلطان كافر من سلاطين الكفر كالروس والافرنج يعتبر في حلّ ما يؤخذ منه من
الخراج والمقاسمة ويتقبّل من عين الأرض استئذان الحاكم الشرعي.
وتوهّم العموم
من قوله عليهالسلام : «إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أموالكم» يدفعه أنّه عامّ في
مورده ، وهو براءة ذمّة من عليه الحقّ لو أعطاه الجائر مجبوراً ومقهوراً عليه لا
اختياراً ، وعدم براءته لو أعطاه اختياراً ، وكلامنا في مورد الإذن الحاصل من
الأئمّة عليهمالسلام وإمضاء الشارع لإذن الجائر ونفوذها في حلّ ما يؤخذ
وينقل منه ، ولو فرض في بعض نصوص ذلك إطلاق فهو منصرف قطعاً إلى ما هو الغالب في
مواردها من كون السلطان من المسلمين لا غير.
السادس :
المخالفة أعني كونه من المخالفين قبالاً للسلطان المؤمن الإمامي ، ففي اعتباره
والعدم على معنى اختصاص نفوذ إذن الجائر وسقوط اعتبار إذن الحاكم الشرعي بالمخالف
للحقّ ، أو عمومه للموافق أيضاً كسلطان الشيعة ، خلاف على قولين :
__________________
أوّلهما :
للمسالك وإيضاح النافع والرياض والمستند وشيخنا في مكاسبه ، حتّى أنّ المحكيّ عن إيضاح النافع تفسير
الجائر بمن تقدّم على أمير المؤمنين واقتفى أثر الثلاثة وإن كان لا يخلو عن اختلال
لعدم التقدّم على أمير المؤمنين عليهالسلام في جميع المخالفين ، وإن ادّعى كلّهم إمرة المؤمنين
واقتفوا أثر الثلاثة ، بل المدّعي للتقدّم عليه إنّما هم الثلاثة ومعاوية وبعض
الامويّة أو كلّهم لا العبّاسيّة ، فيلزم التفسير بالأخصّ إلّا أنّ الواو في عطف
اقتفاء الثلاثة بمعنى أو.
وثانيهما : ما
اختاره شيخنا الآخر في جواهره تبعاً لُاستاذه في شرح القواعد
حاكياً لعبارته في تفسير الجائر بالمتغلّب بجنوده وأتباعه ذا طبل أو جمعة أو عيد
أو لا ، فرعاً أو أصيلاً مؤمناً أو مخالفاً مستحلّاً أو لا.
مستند القول
الأوّل الأصل المتقدّم ذكره الّذي قرّره في المسالك بأصالة المنع إلّا ما أخرجه
الدليل ، قال : «وتناوله للمخالف متحقّق ، والمسئول عنه للأئمّة إنّما كان مخالفاً
فيبقى الباقي وإن وجد مطلق ، فالقرائن دالّة على إرادة المخالف منه التفاتاً إلى
الواقع أو الغالب» .
ومستند الآخرين
على ما أشار إليه في المسالك إطلاق النصّ والفتوى ، وعن شرح القواعد الاحتجاج
بالعموم في الروايات وأكثر العبارات وبعض منقول الإجماعات. ويزيّفه أنّه لم نقف في
روايات المسألة ما يوهم الإطلاق إلّا صحيحة الحلبي المتقدّمة «لا بأس بأن يتقبّل
الرجل الأرض وأهلها من السلطان» وصحيحة محمّد بن مسلم «كلّ أرض دفعها إليك سلطان فعليك
فيما أخرجه منها الّذي قاطعك عليه» .
ويدفعه :
الانصراف إلى المعهود في أزمنة الصدور وليس إلّا المخالفين ، مع إمكان دعوى الورود
مورد بيان حكم آخر كجواز إدخال أهل الأرض الخراجيّة معها في تقبّل
__________________
الأرض في الصحيحة الاولى ، دفعاً لتوهّم حرمة ذلك واشتغال الذمّة بما قاطعه
عليه السلطان دفعاً لتوهّم عدم إفادة دفع الجائر له ، فلا يلزم بإرادة المقيّد من
المطلق منافاة حكمة ولا إغراء بجهل من جهة السكوت عن بيان القيد لعدم كون الخطاب
مسوقاً لبيان أصل جواز التقبيل من السلطان.
وممّا بيّنّاه
ظهر ما في دعوى العموم في الروايات لمنع الظهور في العموم إن اريد به العموم
الإطلاقي في نحو ما ذكر ، ومنع وجود لفظ عامّ إن اريد به غير ما ذكر.
نعم قد تقدّم
في صحيحة الشحّام قوله عليهالسلام : «إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أموالكم ، وإنّما الزكاة
لأهلها» وهذا يفيد إناطة بوصف الغاصبيّة ، والوصف عامّ لسلاطين الشيعة أيضاً فيعمّ
الحكم على حدّ عموم العلّة المنصوصة ، ولكن يخدشه أنّه عامّ في مورده وهو الإجزاء
وعدم الإجزاء فيما يدفع اختياراً أو إجباره إلى الجائر وعمّاله من الزكاة ،
وكلامنا في مسألة حلّ ما يؤخذ من الجائر من مال الخراج والمقاسمة وحلّ التصرّف
فيما يقبله من الأرض الخراجيّة ، ولذا لم يتمسّك أحد في هذه المسألة بهذه الرواية
، مع أنّ سلطان الشيعة لا يدخل في موردها من جهة ، لأنّ أخذ صدقات الناس وزكواتهم
قهراً عليهم من رسوم المخالفين لا سلاطين الشيعة. وبملاحظة جميع ما ذكر في تزييف دعوى
الإطلاق أو العموم في الروايات يتوهّن إطلاق الفتاوى ومعاقد الإجماعات.
لا يقال :
قضيّة لزوم الحرج العظيم والعسر الشديد من عدم حلّ الأخذ ممّا يأخذه الجائر باسم
الخراج والمقاسمة كما تمسّك به جماعة في أصل المسألة عدم الفرق بين المخالف
والمؤالف ، لاختلال كبرى هذه القاعدة ، ومنع صغراها :
أمّا الأوّل :
فلعدم انحصار ما في يد السلطان الموافق وعمّاله على ما نشاهده فيما يأخذونه من
الخراج والمقاسمة على الأراضي الخراجيّة لو فرض عندهم أرض خراجيّة ، بل لا يميّزون
بينها وبين سائر الأراضي ، فيضربون الخراج والمقاسمة على الأملاك الخاصّة الّتي في
يد مالكيها ، وعلى الأملاك المغصوبة الّتي في أيديهم مع معلوميّة مالكيها تفصيلاً
أو إجمالاً ، وعلى الأملاك الموقوفة ، وعلى الأملاك المجهولة المالك المعدودة من
الأنفال. ولا ريب أنّ الأراضي الخراجيّة في جنبها مستهلكة ، وهم مع هذه الأموال
يأخذون العشور من الناس ويأخذون منهم سائر الأموال ظلماً ، وهم
يعاملون الناس بجميع هذه الأموال عطيّة أو معاوضة ، فوجب استباحة الجميع
دفعاً للحرج ولم يقل به أحد ، مع وضوح بطلانه بحكم الأدلّة القطعيّة والقواعد
المحكّمة المتقنة بل الضرورة الدينيّة.
وأمّا الثاني :
فلمنع لزوم الحرج في التجنّب عمّا يأخذونه في الأراضي الخراجيّة باسم الخراج
والمقاسمة ، ولو اضطرّ أحد إلى أخذ شيء من ذلك أمكن التوصّل إلى حلّه باستئذان
الحاكم الشرعي ، فقاعدة نفي الحرج غير وافية بالمدّعى أصلاً ، حتّى أنّه فيما يؤخذ
من الجائر المخالف لو لا النصوص الخاصّة والإجماعات المنقولة لم يمكن إثبات الحكم
المخالف للأصل والقاعدة بهذه القاعدة المدخولة هنا في كلّ من صغراها وكبراها.
وقد تقدّم في
فروع جوائز الظلمة ما يبيّن أحكام ما عدا الخراج والمقاسمة المأخوذين على الأراضي
الخراجيّة من الأموال الواقعة في أيدي سلاطين الشيعة وعمّالهم من الوجوه المذكورة
وغيرها ، ثمّ يقع منها في يد إنسان آخر جائزة وعطيّة أو غيرها فإنّه لا يخلو عن
أحد الأقسام المتقدّمة في باب الجوائز ، وقد عرفت أحكام الجميع فلا بدّ من إجراء
هذه الأحكام هنا.
المسألة
الخامسة : لا يعتبر في حلّ الخراج والمقاسمة المأخوذين من الجائر أن يكون المأخوذ
منه الّذي أخذ منه الجائر أو عمّاله ممّن يعتقد في الجائر استحقاقه للأخذ منه ، ككونه
مخالفاً يعتقد في سلطانهم ولاية الأمر ، بل لو كان مؤمناً شيعيّاً أو كافراً لا
يعتقد ذلك في سلاطين الإسلام ، لإطلاق الفتاوى ومعاقد الإجماعات وإطلاق جملة من
النصوص المتقدّمة ، وخصوص صحيحة الحذّاء الظاهرة في كون موردها المؤمن الغير
المعتقد للاستحقاق في سلاطين المخالفين ، وظهور مورد صحيحة إسماعيل بن الفضل
المتقدّمة في أخبار القبالة في الاختصاص بالكافر الذمّي حيث سئل فيه عن الرجل
يتقبّل بخراج الرجال وجزية رءوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصائد والسمك
والطير فلا يختصّ حلّ الأخذ بكون المأخوذ منه كالآخذ من المخالفين وفاقاً لشيخنا قدسسره قائلاً : «والأقوى أنّ المسألة أعمّ من ذلك وأنّ الممضى
فيما نحن فيه تصرّف الجائر في تلك الأراضي مطلقاً» .
__________________
المسألة
السادسة : هل يعتبر في حلّ أخذ شيء من الخراج أو المقاسمة أو الزكاة من الجائر
مجّاناً كون الآخذ من أهل استحقاق ما يأخذه من المال ، بأن يكون ممّن له مدخليّة
في مصالح المسلمين الّتي يصرف فيها بيت المال الّذي منه الخراج والمقاسمة ، أو
يكون في الزكاة من أصناف مستحقّيها ككونه فقيراً أو مسكيناً أو غارماً ونحوه أو لا
يعتبر ذلك؟ خلاف. وإنّما قيّدنا عنوان المسألة بالأخذ المجّاني احترازاً عن
الاشتراء وغيره ممّا يدخل في المعاوضة حتّى تقبيل الأرض الخراجيّة في مقابلة
إقطاعها ، إذ لا يعتبر في المشتري وغيره ممّن يدفع العوض وجود صفة الاستحقاق قولاً
واحداً ، ووجهه واضح من حيث وقوع العوض المدفوع إلى الجائر للمستحقّين فلم يكن
أخذه المال أخذ الحقّ الغير من غير استحقاق.
وعبارات
المتعرّضين للمسألة في محلّ الخلاف مختلفة ، فمنهم من يظهر منه المصير إلى
الاشتراط كثاني الشهيدين في المسالك قائلاً ـ في بيان شروط جواز أخذ الزكاة من
الجائر ـ : «وأن يكون صرفه لها على وجهها المعتبر عندهم بحيث لا يعدّ عندهم غاصباً
، إذ يمتنع الأخذ منه عندهم أيضاً. ويحتمل الجواز مطلقاً نظراً إلى إطلاق النصّ
والفتوى ، ويجيء مثله في المقاسمة والخراج لأنّ مصرفهما بيت المال وله أرباب
مخصوصون عندهم أيضاً» انتهى.
ومن مشايخنا من
جزم بعدم الاشتراط قائلاً في ردّ الكركي في توقّفه : «لا مجال للتوقّف بعد ما عرفت
من إطلاق النصّ والفتوى بالإذن الموافق لسهولة الملّة ورفع الحرج عن الشيعة الّذين
لهم المهنأ وعليه الوزر» انتهى.
ويظهر من
الكركي في عبارته المحكيّة عن الرسالة الميل إلى التوقّف حيث قال : «هل يكون الأخذ
حلالاً مطلقاً حتّى لمن لم يكن مستحقّاً للزكاة ولا ذا نصيب في بيت المال حين وجود
الإمام ، أو إنّما يكون حلالاً بشرط الاستحقاق حتّى أنّ غير المستحقّ يجب عليه صرف
ذلك إلى مستحقّه؟ إطلاق الأخبار وكلام الأصحاب يقتضي الأوّل ، وتعليلهم بأنّ للآخذ
نصيباً في بيت المال وأنّ هذا حقّ الله مشعر بالثاني وللتوقّف فيه
__________________
مجال» انتهى.
ومن مشايخنا من
استشكل في المسألة من غير أن يرجّح شيئاً في الخراج والمقاسمة ، ثمّ قال : «أشكل
من ذلك تحليل الزكاة المأخوذة منه لكلّ أحد كما هو ظاهر إطلاقهم القول بحلّ اتّهاب
ما يؤخذ باسم الزكاة» انتهى.
وقد ظهر أنّ
مستند المطلقين إطلاق النصّ والفتوى كما أشار إليه في المسالك والرسالة. ويشكل
بعدم الوقوف في روايات المسألة بنصّ وارد في خصوص الأخذ المجّاني وكان مطلقاً حتّى
يتمسّك بإطلاقه. والأخبار المتقدّمة منها ما كان مختصّاً باشتراء الإبل والغنم من
الصدقة من السلطان أو من عامله ، ومنها ما كان مختصّاً بالاشتراء من العامل ،
ومنها ما كان مختصّاً بتقبّل الأرض الخراجيّة وجزية رءوس أهلها.
نعم ربّما
يتوهّم الإطلاق من رواية أبي بكر الحضرمي في قضيّة ابن أبي سمّاك بالنسبة إلى شباب
الشيعة لأنّهم أعمّ من كونهم ذوي حصص من بيت الله. ويشكل بقوّة احتمال كونهم ذوي
حصص ويقوّيه ما في ذيله بالنسبة إلى الراوي من قوله عليهالسلام : «أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً» مع إمكان
المراد من الإخراج في الصدر إخراجهم إلى عمل يرجع إلى مصالح المسلمين ويوجب
الاستحقاق من بيت المال كحفظ الثغور والحدود ومقاتلة أهل الحرب ودفع قطّاع الطرق
وعمالة تعمير المساجد والربط وما أشبه ذلك ، فلا يبقى إطلاق يعتمد عليه ، فالرواية
لا دلالة فيها من حيث الإطلاق على عدم الاشتراط ، كما أنّه لا دلالة فيها على
الاشتراط.
فتوهّم الدلالة
عليه من الذيل كما عرفته من عبارة الكركي ، واضح الدفع بأنّ غاية ما دلّ عليه
الذيل هو أنّ كلّ من له نصيب في بيت المال جاز له الأخذ من الجائر ، لا أنّ كلّ من
لا نصيب له لا يجوز له الأخذ. وربّما ينزّل إطلاق الأخبار على الأخبار المتقدّمة
في جوائز السلطان وعمّاله ، نظراً إلى أنّ الغالب من الأموال الواقعة في أيديهم
إنّما هو من الخراج والمقاسمة وليس إطلاقها بحيث يطمئنّ به النفس ويحصل به الظنّ
__________________
الاطمئناني بعدم الاشتراط ، خصوصاً مع ملاحظة أنّه يتوهّن بأنّ الشهيد لم
يلتفت إليه وكذلك المحقّق الكركي ، ومع ملاحظة ما قيل من أنّ تلك الأخبار واردة
أيضاً في أشخاص يحتمل كونهم ذوي حصص من بيت المال. فالمسألة قويّة الإشكال جدّاً
خصوصاً في الزكوات فكيف يستبيحها غير المستحقّ ، وهي بحسب أصل الشرع محرّمة عليه ،
فالاحتياط فيها بعدم الأخذ من الجائر أو ردّه إلى مستحقّه على تقدير الأخذ أو
استحلاله منه لا يترك.
المسألة
السابعة : يشترط في جواز تناول المقاسمة أو الخراج من الجائر أو عمّاله كونهما
مأخوذين على الأراضي الخراجيّة ، فلو اخذا على الأملاك الخاصّة للناس أو للإمام عليهالسلام من غير جهة الإمامة أو على الأراضي الّتي أسلم أهلها
طوعاً لا إشكال في عدم حلّ تناوله ، فلو اتّفق أنّه أخذه اختياراً أو اضطراراً كما
في صورة التقيّة وجب ردّه إلى مالكه.
وفيما يأخذه
على الأرض المجهول المالك باعتقاد استحقاقه لها فقال شيخنا : فيه وجهان .
وأمّا ما يؤخذ
على الأرض الخراجيّة فهل يعتبر في حلّ تناوله كون الأرض خراجيّة بحسب الواقع ، أو
يكفي فيه اعتقاد الجائر بكونها خراجيّة كما لو كانت من الأنفال؟ عندنا إشكال وإن
عزي إلى المحقّق الكركي أنّه استظهر في رسالته الإطلاق من كلمات الأصحاب وإطلاق
الأخبار. ولعلّ نظره في كلمات الأصحاب إلى عباراتهم لعنوان المسألة بلفظ «ما يأخذه
الجائر باسم المقاسمة أو باسم الخراج أو باسم الزكاة» فإنّها مطلقة ويتأكّد
إطلاقها بالتعبير باسم المقاسمة واسم الخراج واسم الزكاة ، وما في جملة من كتب
العلّامة من التعبير بـ «ما يأخذه الجائر لشبهة المقاسمة أو لشبهة الخراج» فإنّ
الشبهة إنّما يكون عند اعتقاد الخلاف.
ولكنّها معارضة
بجملة كثيرة من عبائرهم في تضاعف المسألة كما تقدّم عن الشهيدين ومعاصري الكركي
وغيرهم من التصريح بمنع سرقته وخيانته وجحوده ومنعه ، مع التعليل بأنّه حقّ واجب
لله عليه ، وفي بعضها التصريح بكون الأراضي الخراجيّة
__________________
ملكاً للمسلمين ولا بدّ لها من اجرة تصرف في مصالحهم ، فإنّها يقتضي
الاختصاص إذ لا اجرة ولا حقّ لغير الأراضي الخراجيّة حتّى ما يكون من الأنفال ،
لأنّ الأئمّة عليهمالسلام أباحوها للشيعة ، نعم لو كان مستعملوها من غير الشيعة
أمكن تعلّق اجرة بها للشيعة.
وبالجملة
عبارات الأصحاب مختلفة مضطربة. وأمّا إطلاق الأخبار فهو في بعضها غير بعيد ، إلّا
أنّ المسألة مع هذا محلّ إشكال ، وللتوقّف فيها مجال وطريق الاحتياط واضح.
المسألة
الثامنة : يشترط في كون الأرض خراجيّة بحيث يترتّب على ما يؤخذ من الجائر فيها ما
تقدّم من أحكام الخراج وما يأتي منها امور :
الأوّل : كونها
مفتوحة عنوة أو صلحاً على أن يكون الأرض للمسلمين ، وتوضيح المقام أنّ الأراضي على
ما ذكره الأصحاب في كتاب الجهاد أربعة أقسام يختلف أحكامها ، وهي ـ على ما لخّصه
في مفتاح الكرامة ـ «أرض أسلم عليها أهلها طوعاً ، وأرض صولح عليها أهلها ، وأرض
الأنفال ، وأرض فتحت عنوة ، قال كما في المقنعة والنهاية والمبسوط والمراسم والوسيلة والغنية والسرائر والشرائع والنافع والتذكرة والتحرير وغيرها ذكروا الضروب
الأربعة وذكروا أحكامها ، وكثير منهم عيّن أشخاصها ونحن نجري على هذا المنوال على
سبيل الإجمال فنقول :
الضرب الأوّل :
أرض أسلم عليها أهلها طوعاً ، فهذه ملك لأهلها يصحّ لهم التصرّف فيها بسائر أنواع
التصرّفات إذا عمّروها وقاموا بعمارتها ، وهي أرض المدينة والطائف واليمن وبعض
الديلم كما نصّ عليه جماعة والديلم قوم من مشركي العجم ، والظاهر أنّ بلادهم
طبرستان كما نقل تعيين ذلك عن الاستاد ... إلى أن قال :
الضرب الثاني :
الأرض الّتي صولح عليها أهلها ، وهذا على ضربين : أحدهما : أن يكونوا صولحوا على
أنّ الأرض لهم وعليهم طسقها وهي تسمّى أرض الجزية يلزمهم
__________________
ما يصالحهم الإمام عليها ويصحّ بيعها والتصرّف فيها بجميع أنواعها ، فإذا
أسلموا كان حكمهم حكم من أسلم عليها أهلها طوعاً. والثاني : أن يكونوا صولحوا على
أنّ الأرض للمسلمين ولهم السكنى وعلى رقابهم الجزية ، وهذه حكمها حكم الأرض
المفتوحة عنوةً ، وهذه كبعض أرض خيبر.
الضرب الثالث :
أرض الأنفال ، وهي أقسام الأرض الّتي انجلى أهلها عنها ، أو كانت مواتاً فأُحييت ،
أو كانت آجاماً وغيرها ممّا لا يزرع فاستحدثت مزارع ، وكلّ أرض لم يوجف بخيل ولا
ركاب ورءوس الجبال وبطون الأودية ، فهذه كلّها للإمام خاصّة ليس لأحد معه فيها
نصيب ، ويجوز للشيعة حال الغيبة التصرّف فيها ، وليوطّن المتصرّف نفسه أنّه فيها
يؤدّي طسقها إذا طلبه الإمام منه.
الضرب الرابع :
الأرض الّتي فتحت عنوةً أي بالقهر والغلبة والسيف ، وهذه للمسلمين قاطبة بإجماع
علمائنا قاطبة ، وقد نقل الإجماع على ذلك في الخلاف والتذكرة والمنتهى كسواد العراق وبلاد
خراسان والشام ومكّة المشرّفة على ما عدّه المؤرّخون كما في المسالك » انتهى .
ثمّ إنّه يثبت
كون الأرض مفتوحة عنوةً بالعلم العقلي وبالعلم الشرعي القائم مقامه ، ومن العلم
العقلي الشياع القطعي ونقل المعتبرين من المؤرّخين حيث أفاد العلم لاتّفاقهم عليه
أو لاحتفافه بقرائن الصدق ، ومن العلم الشرعي شهادة عدلين من الأحياء كانا أو من
الأموات ، وإقرار ذي اليد ، وخبر الواحد المأثور عن المعصوم عليهالسلام مع اعتضاده بما يوجب الوثوق والظنّ الاطمئناني بالصدق
والصدور ، بناءً على المختار في حجّيّة أخبار الآحاد من إناطتها بالوثوق بالصدور ،
وفي خبر العدل الواحد إشكال بل منع وإن أفاد الظنّ ، لعدم قيام دليل على كفايته في
الموضوع وأصالة عدم حجّية الظنون المطلقة في الموضوعات الخارجيّة إلّا ما أثبته
الدليل.
ومنه يعلم عدم
ثبوته بالظنّ المطلق من أيّ سبب حصل كالشهرة والشياع الظنّي
__________________
ونقل المؤرّخين الغير البالغ حدّ العلم وغير ذلك من الأمارات ، لأنّ كفايته
في إثبات ذلك يحتاج إلى دليل عامّ كدليل الانسداد كما استدلّ به هنا بعضهم ، أو
دليل خاصّ ولا سبيل إلى شيء منهما.
أمّا الأوّل :
فلعدم جريانه في الموضوعات خصوصاً ما نحن فيه ، لعدم الانسداد الأغلبي في الأراضي
بل الغالب منها معلومة الحال باعتبار العلم بكون أكثرها ملكاً لأربابها ولو بحكم
اليد السليمة عن المعارض ، والعلم بكون كثير منها من الأنفال ، والعلم في جملة
بكونها مجهولة المالك ، والعلم في بعضها بكونه من المفتوحة عنوةً ، فلا يبقى ما
يكون مشتبه الحال إلّا بعض قليل ، مع عدم حكومة للعقل في الأراضي المشتبهة بين المفتوحة
عنوةً وبين غيرها وإن فرضناها غالبة ، التفاتاً منه إلى احتمال مرجعيّة الأصل
الجاري في المورد ممّا سنشير إليه من غير أن يلزم من الرجوع إليه محذور من
المحاذير الّتي كانت تلزم من العمل بالأصل في الأحكام الشرعيّة المظنونة بالظنون
المطلقة ، من الخروج عن الدين والهرج والمرج فيه والمخالفة القطعيّة للعلم
الإجمالي ، فلا يحكم بتعيّن العمل بالظنّ ولا جوازه.
وأمّا الثاني :
فلفقد ما يدلّ عليه من الأدلّة الخاصّة ، ولم نقف على من ذكر هنا دليلاً خاصّاً
سوى ما يوهمه عبارة مفتاح الكرامة من دعوى الإجماع عليه ، فإنّه في تضاعيف كلامه
في حجّيّة الظنّ الحاصل من التواريخ أو جماعة من مشاهير المؤرّخين أو نقل بعض
أصحابنا بنى على الحجّيّة وكفايته في إثبات هذا الموضوع ، وعلّله «بأنّه ظنّ في
الموضوعات الّتي يكتفي فيها بالظنون الضعيفة كما هو مسلّم عند الكلّ» انتهى.
وفيه : أنّ
الصفة المذكورة في العبارة إن كانت توضيحيّة ليرجع الكلام إلى دعوى الإجماع على
حجّيّة مطلق الظنّ في عموم الموضوعات فهو واضح المنع ، كيف ونزاعهم في مسألة تعارض
الأصل والظاهر معروف ، ولعلّ المشهور تقديم الأصل. وإن كانت احترازيّة لإخراج
الموضوعات الّتي لا يكتفى فيها بالظنّ ، ففيه أنّ الإجماع على كفاية الظنّ في هذا
الموضوع غير معلوم الثبوت خصوصاً بالقياس إلى الظنون الضعيفة.
__________________
وقد يستدلّ
لإثبات كون الأرض في محلّ الاشتباه خراجيّة باستقرار سيرة السلاطين على ضرب الخراج
على هذه الأراضي وأخذ المقاسمة على ارتفاعها.
وهذا أيضاً
ضعيف ، إذ لو اريد بذلك أنّ السيرة المذكورة تكشف عن ثبوت ذلك في تلك الأراضي من
الصدر الأوّل من غير نكير وإلّا لنقله أرباب التواريخ لكثرة اعتنائهم بنقل هذه
الامور ، ففيه منع الكشف عن ذلك ، لعدم قضاء العادة بحصول نكير في مثل ذلك ، ولا
بنقل المؤرّخين له على تقدير حصوله. أمّا الأوّل : فلجواز كون عدم النكير على
السلاطين فيما أحدثوه من ضرب الخراج والمقاسمة على الأرض الغير الخراجيّة لضرب من
الخوف والتقيّة. وأمّا الثاني : فلجواز عدم اطّلاع أهل التواريخ على ما أحدثوه ظلماً
خصوصاً مع تأخّر زمانهم ، أو بناء عدم تعرّضهم على تقدير الاطّلاع على ضرب من
الخوف أيضاً سيّما مع أنّ كثيراً منهم ألّفوا كتبهم لسلاطينهم.
ولو اريد به
توسيط أصالة الصحّة في فعل المسلم لكون السلاطين من زمرة المسلمين ، فيحمل فعلهم
في ضرب الخراج والمقاسمة على هذه الأراضي على الصحّة المقتضية لكونها خراجيّة ،
ففيه ـ مع أنّ أصالة الصحّة على تقدير جريانها لا يثبت بها الموضوع ، وأنّها لا
تجري في أفعال المخالفين والغالب من السلاطين من أهل الخلاف ـ : أنّه [إن] اريد
بالصحّة المطلوبة من هذا الأصل الصحّة التكليفيّة أعني الجواز والإباحة قبالاً
للحرمة ، ففيه أنّ حرمة تصرّفات الجائر حتّى في أخذ الخراج والمقاسمة فيما تحقّق
كونه خراجيّاً مفروغ عنها ، فكيف بالمشتبه المحتمل كونه ملكاً لأربابه لعدم
استحقاقه وكونه غاصباً في سلطنته.
وإن اريد بها
الصحّة الوضعيّة أعني نفوذ هذه التصرّفات بالقياس إلى غيرهم إذا كان من الشيعة
الّذي من آثاره بالنسبة إلى مستعملي الأرض براءة ذمّته عمّا دفعه إلى الجائر من
الخراج والمقاسمة ، وبالنسبة إلى من يأخذ شيئاً منهما من الجائر مجّاناً أو معاوضة
حلّ الأخذ وجوازه. ففيه منع جريانه لوجهين :
الأوّل : أنّ
السلطان الضارب للخراج والمقاسمة الآخذ لهما على الأراضي المشتبهة إن كان من
المخالفين فلا يجري في أفعاله أصالة الصحّة بالذات لما حقّق في مباحث ذلك الأصل من
عدم جريانه في أفعال أهل الخلاف ، وإن كان من المؤمنين فالصحّة الوضعيّة
في فعله هذا مفروض الانتفاء في الأرض الخراجيّة المحقّقة فكيف بالمشتبه ،
لما تقدّم من عدم ثبوت إمضاء الأئمّة عليهمالسلام لتصرّفات سلاطين الشيعة الّذي عليه مدار نفوذها.
الثاني : أنّ
من شروط جريان هذا الأصل عدم رجوع الشكّ في صحّة الفعل الصادر من المسلم وفساده
إلى الموضوع والشكّ هنا باعتبار اشتباه الموضوع ، ونفوذ تصرّفات الجائر إنّما ثبت
بإمضاء الأئمّة وهو مقصور على الأرض الخراجيّة ، وهذه الأراضي غير معلوم كونها
منها فلا يعلم شمول إمضاء الأئمّة عليهمالسلام لها وعدمه فتأمّل ، فلا بدّ في الموارد المشتبهة من
الرجوع إلى الأصل.
وقد يقرّر ذلك
الأصل بأصالة عدم الفتح عنوةً.
ويمكن الخدشة
فيه بمعارضة تأخّر إسلام الأهل عن الصدر الأوّل إلى زمان تيقّن تحقّقه فيه ، إلّا
أن يدفع بعدم لزوم الفتح عنوة لتأخّر إسلام الأهل وعدم منافاته لحدوث الإسلام في
زمن الفتح. والأولى أن يقرّر الأصل بأصالة بقاء ملك أهل الأرض وعدم خروجها عن
ملكهم وعدم دخولها في ملك المسلمين وعدم تملّكهم لها ، ولا يخدشه كونه من الاصول
المثبتة لعدم القصد به إلى إثبات كونها أرضاً أسلم عليها أهلها طوعاً أو أرضاً
صولح عليها أهلها على أن تكون لهم أو من أرض الأنفال بل إلى نفي كونها فتحت عنوةً
، ويكفي فيه نفي اللازم بالأصل ، ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ، لأنّ من لوازم
الأرض المفتوحة عنوةً وأحكامها الشرعيّة كونها ملكاً للمسلمين من حين الفتح. نعم
ربّما يتعارض ذلك الأصل بأصالة عدم تملّك الإمام عليهالسلام فيما كان الطرف المقابل كون الأرض ممّا انجلى أهلها.
فلو قيل : بعد
تعارض الأصلين الموضوعين وتساقطهما ـ وهما أصالة عدم الفتح عنوة وأصالة عدم انجلاء
الأهل ـ لا محلّ لجريان الأصل لأصالة عدم التملّك في الجانبين لأنّ التملّك لازم
للفتح عنوة ولانجلاء الأهل ونفي الملزوم بالأصل يستلزم انتفاء اللازم فيهما ،
فالأصلان يتساقطان بالقياس إلى كلّ من الملزوم واللازم ، فيبقى استصحاب بقاء ما
كان على ما كان وهو ملك الأهل سليماً.
قلنا : هذا
الاستصحاب أيضاً في مسألة اشتباه الأرض بين المفتوحة عنوة والمنجلي عنها الأهل غير
جارٍ ، لتيقّن انتقاض الحالة السابقة على التقديرين ، والشبهة
إنّما هو في تملّك المسلمين أو تملّك الإمام عليهالسلام.
لا يقال :
قضيّة بقاء الاشتباه وقوع الشكّ في الحكم من حيث الحلّ والحرمة فيما يؤخذ من
الجائر من مال الخراج والمقاسمة المأخوذين على هذه الأرض المشتبهة الحال وأصل
الإباحة وأصالة البراءة عن وجوب الاجتناب يقتضيان الحلّ وجواز الأخذ والأكل ، لأنّ
الحلّ على ما تقدّم منوط بإذن الأئمّة وإمضائهم عليهمالسلام والأصل عدم صدوره منهم عليهمالسلام بالقياس إلى محلّ الاشتباه ، وهذا بالقياس إلى الأصلين
أصل موضوعي وارد عليهما ، فعدم ثبوت كون محلّ الاشتباه من المفتوحة عنوةً أو من
مطلق الأرض الخراجيّة ولو لعدم جريان أصل من الاصول فيه كافٍ في عدم حلّ الأخذ من
الجائر مجّاناً أو معاوضة كما هو قضيّة الاشتراط بالشرط الأوّل.
وقد سبق إلى
الوهم أنّ التكلّم في تأسيس الأصل في محلّ الاشتباه قليل الجدوى ، لأنّه إن كان
تحت يد المسلمين وهم يتصرّفون فيه تصرّف المالكيّة فأصالة الصحّة في تصرّفاتهم مع
قاعدة اليد ترفعان الاشتباه ، وإن لم يكن تحت يدهم بأن كان الأرض مواتاً بالموت
الطارئ على حال كونها محياة نظراً إلى أنّها لو كانت في تلك الحال ملكاً للمسلمين
لم تخرج عن ملكهم بالموت ، فهذا مع ندرته خارج عن محلّ البحث لانتفاء الخراج
والمقاسمة في نحو ذلك ، فلا يبقى محلّ للتكلّم في إحراز شرط ترتّب الأحكام
المتقدّمة للأرض الخراجيّة. نعم ربّما يتكلّم في نحو ذلك في إفادة الإحياء الملك
لمن يريد إحياءها فتأمّل.
الشرط الثاني :
أن يكون الفتح فيما ثبت كونها فتحت عنوةً بإذن الإمام عليهالسلام
لأنّه لو لا بإذن
الإمام عليهالسلام كان المفتوح من الأنفال المختصّة بالإمام على المشهور
بين الأصحاب المصرّح به في كلامهم بلا نقل خلاف فيه ، وعن المجمع أنّه كاد يكون
إجماعاً ، وعن المبسوط نسبته إلى رواية أصحابنا وكأنّه أراد بالرواية مرسلة
العبّاس الورّاق عن رجل سمّاه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت
الغنيمة كلّها للإمام ، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس» وعن
__________________
المبسوط و «على هذه الرواية يكون جميع ما فتحت بعد النبيّ إلّا ما فتحت في
زمان الوصيّ من مال الإمام عليهالسلام وعلى هذا فلو شكّ في أرض فتحت عنوة في كون فتحها بإذن
الإمام وعدمه فالأصل يقتضي العدم مضافاً إلى أصالة عدم تملّك المسلمين إيّاها.
الشرط الثالث :
كون المفتوحة عنوة بإذن الإمام عامرة أي محياة في وقت الفتح ليدخل في ملك المسلمين
بعد إخراج خمسه لكونها حينئذٍ من الغنائم ، فإنّها إن كانت غامرة أي مواتاً حال
الفتح كانت للإمام لكونها من الأنفال على المشهور المصرّح به في كلامهم من غير
خلاف يظهر ، وقيل بل المتّفق عليه المصرّح به كما عن الكفاية ومحكيّ
التذكرة ، وعلى هذا فلو شكّ في حياتها حال الفتح كان أصالة عدم
ملك المسلمين مقتضياً للعدم ، مضافاً إلى أصالة تأخّر الحادث فإنّ الحياة أمر حادث
يشكّ في بدو زمان حدوثها هل هو قبل الفتح أو بعده.
فقد ظهر بجميع
ما قرّرناه في ذكر الشروط الثلاث أنّ الاشتباه في كون الأرض خراجيّة ليترتّب عليها
الأحكام المتقدّمة قد يحصل للشكّ في كونها فتحت عنوة أو صلحاً ، وقد يحصل بعد ثبوت
الفتح عنوة للشكّ في كون فتحها بإذن الإمام أو لا ، وقد يحصل بعد ثبوت الأمرين
للشكّ في كونها حال الفتح معمورة أو خربة ، وقد عرفت أنّ الأصل في جميع هذه
المراتب يقتضي العدم والبناء على عدم كونها خراجيّة ، ولا يخرج عن الأصل فيها إلّا
بما يوجب علماً عقليّاً أو شرعيّاً ، ومن العلم الشرعي جملة من الروايات المأثورة
عن أهل بيت العصمة في بعض مصاديق هذا العنوان الّتي منها مكّة المعظّمة ، ففي خبر
صفوان بن يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر قال عليهالسلام : «إنّ أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف
العشر ، وأنّ مكّة دخلها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عنوة ، وكانوا اسراء في يده فأعتقهم ، وقال : اذهبوا
فأنتم طلقاء» .
والرواية وإن
ضعف سندها بجهالة بعض رجاله ، غير أنّ الظاهر عدم الإشكال لأحد في هذا الموضوع ،
ولذا ذكر في مفتاح الكرامة «أنّ كون مكّة مفتوحة عنوة هو الظاهر من المذهب كما
قاله الشيخ في المبسوط وجماعة وفي
__________________
الخلاف الإجماع عليه» .
ومنها : سواد
العراق ، ففي صحيح محمّد الحلبي قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن السواد ما منزلته؟ قال : هو لجميع المسلمين لمن هو
اليوم ، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ، ولمن لم يخلق بعد ، فقلت : الشراء من
الدهاقين؟ قال : لا يصلح إلّا أن يشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين فإذا شاء
وليّ الأمر أن يأخذها أخذها ، قلت : فإن أخذها منه ، قال : يردّ عليه رأس ماله وله
ما أكل من غلّتها بما عمل» .
ورواية أبي
الربيع الشامي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا تشتر من أرض السواد شيئاً إلّا من كانت له
ذمّة فإنّما هو فيء للمسلمين» .
وصحيح عبد
الرحمن بن الحجّاج قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عمّا اختلف فيه ابن أبي ليلى وابن شبرمة في السواد
وأرضه؟ فقلت : إنّ ابن أبي ليلى قال : إنّهم إذا أسلموا فهم أحرار وما في أيديهم
من أرضهم لهم ، وأمّا ابن شبرمة فزعم أنّهم عبيد ، وأنّ أرضهم الّتي بأيديهم ليست
لهم ، فقال : في الأرض ما قال ابن شبرمة ، وقال : في الرجال ما قال ابن أبي ليلى
إنّهم إذا أسلموا فهم أحرار» الخ.
وأمّا الموضوع
وتحديده فقال في مفتاح الكرامة : «وسواد العراق كما ذكره الأصحاب وغيرهم من
العامّة في أبواب شتّى كباب الزكاة والجهاد والخمس والبيع
والرهن هو ما بين عبّادان والموصل طولاً إلى ساحل البحر وقيّده بعضهم بكونه من
شرقي دجلة قال : وأمّا الغربي الّذي يليه البصرة فإنّه إسلامي مثل شطّ عثمان بن
أبي العاص فإنّ أرضه كانت مواتاً فأحياها عثمان بن أبي العاص ، وما بين طريق القادسيّة
المتّصل بعذيب من أرض العرب ومنقطع جبال حلوان عرضاً ، وسمّيت سواداً
__________________
لأنّ الجيش لمّا خرجوا من البادية رأوا هذه الأرض والتفاف أشجارها فسمّوها
سواداً لذلك» انتهى.
وظاهر الأخبار
المتقدّمة كما ترى تملّك المسلمين لجميع أرض العراق المسمّى بأرض السواد من غير
تقييد بالعامر قيل : وينزّل ذلك على أنّ كلّها كانت عامرة حال الفتح ، ويؤيّده
أنّهم ضبطوا أرض الخراج كما في المنتهى وغيره بعد المساحة بستّة أو اثنين وثلاثين ألف ألف جريب.
أقول : ويؤيّده
أيضاً ما قيل من أنّ هذه الأرض لمّا فتحت أرسل إليها عمر بن الخطّاب ثلاثة أنفس ،
عمّار بن ياسر على صلاتهم أميراً ، وابن مسعود قاضياً ووالياً على بيت المال ،
وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض ، وفرض لهم كلّ يوم شاة شطرها مع السواقط لعمّار
وشطرها للآخرين ، وقال ما أرى قرية يؤخذ منها كلّ يوم شاة إلّا سريع خرابها ، ومسح
عثمان بن حنيف أرض الخراج فقيل : اثنان وثلاثون ألف ألف جريب ، وقيل : ستّة
وثلاثون ألف ألف جريب ، ثمّ ضرب على كلّ جريب نخل عشرة دراهم ، وعلى الكرم ثمانية
دراهم ، وعلى جريب الشجر والرطبة ستّة دراهم ، وعلى الحنطة أربعة دراهم ، وعلى
الشعير درهمين ، ثمّ كتب بذلك إلى عمر فأمضاه.
وروي أنّ
ارتفاعها كان في عهد عمر مائة وستّين ألف ألف درهم ... إلى آخر ما ذكر. نعم ما
تقدّم من التقييد بشرقي دجلة كون الغربي منه مواتاً حال الفتح بل هو المصرّح به في
كلام البعض الّذي هو العلّامة في كتبه ظاهراً لما حكي عنه من قوله : «من شرقي دجلة
فأمّا الغربي الّذي يليه البصرة فإنّما هو إسلامي مثل شطّ عثمان بن أبي العاص وما
والاها كانت مواتاً فأحياها عثمان».
وأمّا توهّم
الموت في غير ما ذكر من البلاد المحدث بالعراق مثل البغداد والكوفة والحلّة
والمشاهد المشرّفة تعليلاً بكونها إسلاميّة بناها المسلمون ولم تفتح عنوة ولم يثبت
أنّ أرضها يملكها المسلمون بالاستغنام والّتي فتحت عنوة واخذت من الكفّار قهراً قد
انهدمت ، فيدفعه ما قيل من أنّ المفتوحة عنوة لا تختصّ بالأبنية حتّى يقال إنّها
__________________
انهدمت ، فإذا كانت البلاد المذكورة وما يتبعها من قراها غير مفتوحة عنوة
فأين أرض العراق المفتوحة عنوة المقدّر بستّة وثلاثين ألف ألف جريب ، وأيضاً من
البعيد عادةً أن يكون بلد المدائن على طرف العراق بحيث يكون الخارج ممّا يليه
البلاد المذكورة مواتاً غير معمورة وقت الفتح.
هذا كلّه فيما
يتعلّق بتحقّق الشرط الثالث في سواد العراق المفروض كونها فتحت عنوة. وأمّا يتعلّق
بتحقّق الشرط الثاني أعني كون الفتح بإذن الإمام فقيل كما في الكفاية «الظاهر أنّ
الفتوح الّتي وقعت في زمن عمر كان بإذن أمير المؤمنين عليهالسلام لأنّ عمر كان يشاور الصحابة خصوصاً أمير المؤمنين عليهالسلام في تدبير الحروب وغيرها ، وكان لا يصدر إلّا عن رأيه عليهالسلام والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبر بالفتوح وغلبة المسلمين على أهل الفرس والروم ،
وقبول سلمان تولية المدائن وعمّار أمارة العساكر مع ما روي فيهما قرينة على ما
ذكرنا» انتهى.
وقيل أيضاً :
والظاهر أنّ أرض العراق مفتوحة بالإذن كما يكشف عن ذلك ما دلّ على أنّها للمسلمين وأمّا غيرها
ممّا فتحت في زمان خلافة الثاني وهي أغلب ما فتحت فظاهر بعض الأخبار كون ذلك أيضاً
بإذن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام وأمره كالمرويّ عن الخصال بسنده عن جابر الجعفي عن أبي
جعفر عليهالسلام «أنّه أتى يهودي أمير المؤمنين عليهالسلام في منصرفه عن وقعة نهروان فسأله عن المواطن الّتي يمتحن
الله أوصياء الأنبياء حيث روي أنّه تعالى يمتحنهم في حياة الأنبياء في سبعة مواطن
، وبعد وفاتهم في سبعة مواطن ، فإنّ فيه قوله عليهالسلام وأمّا الرابعة يعني من المواطن الممتحن بها بعد النبيّ
فإنّ القائم بعد صاحبه يعني عمر بعد أبي بكر كان يشاورني في موارد الامور فيصدرها
عن أمري ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي لا أعلمه أحداً ولا يعلمه أصحابي ولا
يناظرني غيره» الخبر.
__________________
ولا ريب أنّ
الخروج إلى الكفّار ودعاءهم إلى الإسلام يدخل في عموم «الامور» بل هو من أعظمها ،
هذا مع ما اشتهر من حضور أبي محمّد الحسن المجتبى عليهالسلام في بعض الغزوات ودخول بعض خواصّ أمير المؤمنين عليهالسلام من الصحابة كعمّار في أمرهم مع إمكان
استفادة العلم من جهة شاهد الحال برضا أمير المؤمنين عليهالسلام بل سائر الأئمّة عليهمالسلام بالفتوحات الإسلاميّة الموجبة لتأيّد هذا الدين ، مع ما
ورد من «أنّ الله تعالى يؤيّد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم منه» .
وقد يقال : إنّ
ظاهر صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن سيرة الإمام عليهالسلام في الأرض الّتي فتحت بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فقال : إنّ أمير المؤمنين عليهالسلام قد سار في أهل العراق بسيرة فهي إمام لسائر الأرضين ...»
الخ إنّ سائر الأرضين المفتوحة بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حكمها حكم أرض العراق.
ثمّ إنّك قد
سمعت سابقاً عند الإشارة إلى أقسام الأرضين حسبما ذكره مفتاح الكرامة أنّهم مثّلوا
للأراضي المفتوحة عنوة بسواد العراق وبلاد خراسان والشام ومكّة المشرّفة ، وقد
سمعت أيضاً ما يتعلّق بمكّة وما يتعلّق بسواد العراق من النصوص ، ولم نقف في الشام
وبلاد خراسان على نصّ يدلّ على الفتح عنوة فيهما ولا على تحديد لهما ، بل في مفتاح
الكرامة أنّه لم يذكر تحديد للشام ، نعم قال قبيل ذلك : «وأمّا خراسان فمن أقصاها
إلى كرمان وخوزستان وهمدان وقزوين» انتهى. وإن كان ذلك لا يخلو عن مناقشة لقضائه بأن يدخل
في خراسان من البلاد ما ليس بداخل فيها قطعاً كأرض قم وساوة والري لدخولها في
التحديد ، ويمكن التوجيه بأنّه تحديد لبلاد خراسان لا من حيث الاسم بل من حيث صفة
المفتوحيّة عنوة ، فيعمّ ما ذكر إذا لم يعلم بطلان الفتح عنوة في البلاد المذكورة
بل نقل ذلك في خصوص الري أيضاً بل في
__________________
مفتاح الكرامة «أنّه قيل إنّ أكثر بلاد الإسلام فتحت عنوة» وعلى التوجيه
المذكور فالتحديد المذكور ربّما يوهم كون كرمان وخوزستان وهمدان وقزوين أيضاً من
المفتوحة عنوة بناءً على إرادة دخول الغاية في المغيّا.
تتمّة : في
كلام غير واحد أنّه ليس للخراج الّذي يتعلّق بالأراضي الخراجيّة قدر معيّن ، بل
المعيار فيه ما وقع عليه التراضي من السلطان ومستعمل الأرض ، بل نسب ذلك إلى ظاهر
الأصحاب ، وعلّل بأنّ الخراج هي اجرة أرض المسلمين فينوط برضى الموجر والمستأجر ،
ويدلّ عليه المرويّ من قول أبي الحسن عليهالسلام في مرسلة حمّاد بن عيسى «والأرض الّتي اخذت عنوة بخيل
وركاب فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها ويحييها على صلح ما يصالحهم الوالي على
قدر طاقتهم من الخراج النصف أو الثلث أو الثلثان ، وعلى قدر ما يكون لهم صالحاً
ولا يضرّ بهم ...» الحديث. وحكي عن بعض «أنّه يشترط فيه أن لا يزيد على ما
كان يأخذه المتولّي له وهو الإمام العادل إلّا برضاه أي مستعمل الأرض» .
وقد يفصل بأنّ
مستعمل الأرض بالزرع والغرس إن كان مختاراً في استعمالها فمقاطعة الخراج والمقاسمة
باختياره واختيار الجائر فإذا تراضيا على شيء فهو الحقّ قليلاً كان أو كثيراً ،
وإن كان لا بدّ له من استعمالها لأنّها كانت مزرعة له من مدّة سنين ويتضرّر
بالارتحال عن تلك القرية إلى غيرها ، فالمناط ما ذكره الإمام عليهالسلام في المرسلة من عدم كون المضروب عليهم مضرّاً بأن لا
يبقى لهم بعد أداء الخراج ما يكون بإزاء ما أنفقوا على الزرع من المال وبذلوا له
من أبدانهم الأعمال ، وعلى كلّ تقدير فلو اتّفق أنّ أحداً استعمل الأرض قبل مقاطعة
الخراج تعيّن عليه اجرة المثل وهي مضبوطة عند أهل الخبرة. ثمّ إنّ المراد من
الخراج هنا ما يعمّ المقاسمة وهي الحصّة المقاطع عليها من حاصلها كما يظهر ذلك عن
المرسلة ، هذا.
__________________
كتاب
البيع
كتاب
البيع
وليعلم أنّ
البيع في الأصل على ما عن المصباح المنير «مبادلة مال بمال» وظاهره اعتبار
كون كلّ من العوضين عيناً لظهور المال في العين شخصيّة كانت أو كلّيّة في الذمّة
أو في الخارج كصاع من الصبرة الموجودة مثلاً ، كما يقتضيه ما في المجمع من «أنّ
المال في الأصل الملك من الذهب والفضّة ، ثمّ اطلق على كلّ ما يقتنى ويملك من
الأعيان ، وأكثر ما يطلق عند العرب على الإبل لأنّها كانت أكثر أموالهم» .
ولا إشكال بل
لا خلاف فيه بالقياس إلى المبيع المعبّر عنه بالمثمن وهو ما يضاف من المال إلى
البائع ، وعليه جرى اصطلاح الفقهاء حتّى قالوا من غير خلاف «أنّ البيع لنقل
الأعيان قبالاً للإجارة الّتي هي لنقل المنافع». وأمّا ما في كلام بعضهم «من بيع
خدمة العبد» كما عن الشيخ في المبسوط وما في بعض الأخبار «من بيع سكنى الدار» كما في رواية إسحاق بن عمّار ، فهو لضرب من المجاز لا
على الحقيقة.
وأمّا الثمن
وهو ما يضاف من العوضين إلى المشتري ، وهو من يصدر منه القبول قبالاً للبائع الّذي
هو من يصدر منه الإيجاب. وقد يفرّق بينهما بكون سلعة المشتري في الصيغة المشتملة
على الإيجاب والقبول مقرونة بالباء ، كما ذكر ذلك في بيع الحيوان الموجب لخيار
ثلاثة أيّام للمشتري على المشهور ، فرقاً بينه وبين البائع الّذي لا خيار له
مطلقاً حتّى في مسألة ما لو وقعت المبايعة بين حيوانين.
__________________
وأمّا ما قد
يورد عليه من أنّه غير مطّرد لانتقاضه ببيع السلف كأن يقول أسلفتك المبلغ الفلاني
في الحنطة الموصوفة مؤجّلة إلى شهر تؤدّيها عند رأس الأجل ، فيدفعه بابتناء ما ذكر
على الغالب فلا إشكال بل لا خلاف أيضاً في جواز كونه عيناً بل هو الغالب وقوعه في
الخارج.
وأمّا المنافع
فجواز وقوعها ثمناً في البيع هو المصرّح به في التذكرة والقواعد وجامع المقاصد
وعليه جماعة من مشايخنا قدّس الله أرواحهم ، وقبلهم الشيخ في شرحه للقواعد وفي كلام بعض
مشايخنا «أنّه لا يبعد عدم الخلاف فيه» ويظهر ذلك أيضاً من كلّ من عبّر من الفقهاء
عن الثمن بالعوض خصوصاً في أكثر حدود البيع لتناول العوض بعموم مفهومه المنافع
أيضاً ، وهو ظاهر من فسّره بمطلق المقابل أيضاً كما عن المصابيح . وهو الأقوى
عملاً بصدق اسم البيع مع عوضيّة المنفعة وإطلاق الأدلّة والفتاوي.
خلافاً لما عن
بعض المتأخّرين من اعتبار العينيّة في العوضين معاً وهو ظاهر المستند أيضاً حيث جعل
من شرائط العوضين «كونهما عينين» ولعلّ مستنده ما سمعت عن المصباح المنير مع ما في
كلام الأصحاب من أنّ البيع لنقل الأعيان ، والأوّل ممّا لا يمكن الوثوق عليه
لتفرّده وإعراض الأكثر من أهل اللغة عنه ، والثاني منزّل على المبيع كما يكشف عنه
وقوع العين اجرة في الإجارة بل هو الغالب فيها ، مع أنّهم قالوا فيها أنّها لنقل
المنافع ، وهذا أقوى شاهد بكون نظرهم في المقامين إلى المعوّض لا ما يعمّه والعوض.
وأمّا الحقوق
ففي وقوعها ثمناً خلاف ، فعن شرح القواعد اعتبار عدم كونه ثمناً ، ومن مشايخنا من منع
اعتبار ذلك تعليلاً «بإطلاق الأدلّة والفتاوى المقتضي لكون البيع كالصلح الّذي لا
إشكال في وقوعه على الحقوق ، فلا يبعد صحّة وقوعها ثمناً في البيع
__________________
وغيره ، من غير فرق بين اقتضاء ذلك سقوطها كبيع العين بحقّ الخيار أو
الشفعة على معنى سقوطهما ، وبين اقتضائه نقلها كحقّ التحجير ونحوه» .
بل جزم به بعض
معاصريه من مشايخنا أيضاً فقال ـ عند قراءتنا عليه ـ : «إنّ العوض في البيع بعد
ثبوت اعتبار كونه دنيويّاً لا فرق فيه بين أن يكون عيناً أو منفعة أو حقّاً ، ولا
في الحقّ بين كونه نقليّاً كقوله بعتك هذا بحقّ تحجيرك فينتقل حقّ التحجير إلى
البائع ، أو إسقاطيّاً كقولك بعت هذا بحقّ شفعتك في هذه الدار فيسقط الشفعة لصدق
البيع مع الجميع وإن فسّرناه بمبادلة مال بمال لصدق المال على المنفعة والحقّ
أيضاً ، فإنّه عبارة عمّا يبذل في مقابله المال ، والمنفعة والحقّ أيضاً يبذل في
مقابلهما المال».
ومن مشايخنا
أيضاً من فصّل بين ما لا يقبل النقل إلى الغير كحقّ الرجوع في الطلاق وحقّي الخيار
والشفعة فلا إشكال في عدم الصحّة لأنّ البيع تمليك والإسقاط ليس تمليكاً ، وما
يقبله «كحقّ التحجير ونحوه ففي جواز وقوعه عوضاً للبيع إشكال من أخذ المال في عوضي
المبايعة لغة وعرفاً مع ظهور كلمات الفقهاء ـ عند التعرّض لشروط العوضين ولما يصحّ
أن يكون اجرة في الإجارة ـ في حصر الثمن في المال» .
أقول : هذا
ينتقض بالمنفعة الّتي نفى الإشكال عن جواز وقوعها ثمناً ، ولو بنى ذلك على تفسير
الثمن بالعوض أو مطلق المقابل أو ما يستحقّ به المال أو ما يبذل بإزائه المال لجرى
الجميع في الحقّ المقابل للنقل.
ونقض الأوّل
أيضاً ببيع الدين على من هو عليه بعين معلومة ، لاقتضائه الإسقاط ولو باعتبار أنّ
الإنسان لا يملك على نفسه ما يملكه غيره عليه ، وهذا بعينه يجري في حقّ الخيار
والشفعة. ودفع بأنّه لا مانع من كون بيع الدين على من هو عليه تمليكاً فيسقط ،
ولذا جعل الشهيد في قواعده «الإبراء» مردّداً بين الإسقاط والتمليك. وحاصل الدفع : أنّه ممّا يعقل أن
يكون الإنسان مالكاً لما في ذمّته فيؤثّر تمليكه السقوط ، ولا يعقل أن يتسلّط على
نفسه ، والسرّ في الفرق أنّ الحقّ سلطنة فعليّة لا يعقل قيام طرفيها لشخص واحد ،
بخلاف الملك فإنّه نسبة بين المالك والمملوك ولا يحتاج
__________________
إلى من يملك عليه حتّى يستحيل اتّحاد المالك والمملوك عليه.
وتحقيق المقام
: أنّ معيار المسألة صدق البيع بمعناه العرفي الّذي سنذكره مع مقابلة الحقّ للعين
مطلقاً أو في الجملة وعدمه ، والظاهر صدقه عرفاً على ما لو قال : بعتك هذا بحقّ
تحجيرك أو بحقّ رجوعك أو حقّ خيارك أو حقّ شفعتك أو نحوه ، ولذا لا يصحّ تكذيبه
بأن يقال : ما بعته ، ولا سلب البيع عن تمليكه في مقابل ما ذكر من الحقوق لمكان
كلمة الباء المفيدة للمقابلة المقتضية للعوضيّة الصادقة على الحقّ وإن كان أثرها
السقوط في البعض والانتقال إلى البائع في البعض.
ودعوى كون
البيع تمليكاً إن اريد بالقياس إلى المبيع فهو حاصل في المقام ، وإن اريد بالقياس
إلى كلّ من العوضين فهو في جميع فروض العوض محلّ منع ، كالمنع من دعوى أخذ المال
في عوضي المبايعة عرفاً ولغة ، أمّا في الأوّل فلما عرفت من عدم صحّة التكذيب وسلب
الاسم عرفاً ، وأمّا في الثاني فلعدم شاهد عليه من كلام أهل اللغة عدا ما تقدّم عن
المصباح المنير ، ولقد عرفت ما فيه مع قوّة احتمال بنائه على الغالب في العوضين من
كونها مالين.
ثمّ إنّ البيع
يطلق على معان :
أحدها :
المعاملة المتقوّمة بالمتبايعين المنحلّة إلى فعل البائع وفعل المشتري المعبّر
عنهما في الفارسيّة بـ «فروختن وخريدن».
وقد يقال : إنّ
هذا عرف خاصّ واصطلاح مخصوص للفقهاء يذكرونه في سلك سائر العقود ويعدّونه في عدادها
، ومن موارد إطلاقه عليه قولهم باب البيع أو كتاب البيع كما يقولون باب الإجارة
وباب الصلح ونحوه ، ولم يوجد الإطلاق عليه في خطابات الشرع كتاباً وسنّة.
ويمكن الخدشة
فيه بمنع الإنكار المذكور ، لجواز كون ما في قوله تعالى : «فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» وما في قوله
تعالى أيضاً : «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ
عَنْ ذِكْرِ اللهِ» من هذا الباب.
__________________
أمّا الأوّل
فلوضوح عدم اختصاص النهي عن البيع وقت النداء بالبائع فقط بل يعمّه والمشتري أيضاً
، فوجب أن يكون المراد بالبيع هنا المعاملة المذكورة المنحلّة إلى فعليهما فينحلّ
النهي عنه أيضاً إلى نهي كلّ منهما عن فعله.
وأمّا الثاني
فلوضوح أنّ مدح عدم الإلهاء عن ذكر الله حال التشاغل بالبيع أو الاشتراء لا يختصّ
بالبائع بل يعمّ المشتري أيضاً ، حيث كان اشتراؤه لا يلهيه عن ذكر الله ، وذكر
البيع عقيب التجارة من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ من حيث إنّ التجارة اريد بها
المعاملة الاكتسابيّة ، سواء كانت على وجه البيع والشراء أو على وجوه اخر. ولا
يذهب عليك أنّ الإطلاق المذكور في الآيتين إنّما هو لضرب من المجاز من باب
الاستعمال في القدر المشترك بين فعل البائع وفعل المشتري ، والظاهر كونه من باب
الاستعمال في عموم المجاز بناءً على كون البيع حيثما استعمل في فعل المشتري مجازاً
، وظاهر عبارة القاموس كونه من باب الاستعمال في عموم الاشتراك لظهور كلامه في كون
البيع من الألفاظ المشتركة بين الضدّين ، لأنّه قال : «باعه يبيعه بيعاً ومبيعاً
والقياس مباعاً إذا باعه ، وإذا اشتراه ضدّ وهو مبيع ومبيوع» إلى آخر ما
ذكره.
وثانيها : فعل
البائع من حيث تعقّبه بفعل المشتري الّذي يراد ذلك من لفظ «بعت» خبراً وإنشاءً ،
وإنّما اعتبرنا الحيثيّة لأنّ فعل البائع إن كان نقل ملك العين فلا يصدق بدون
الانتقال إلى المشتري المنوط بقبوله لنقل البائع ، وإن كان تمليك العين فلا يصدق
بدون تملّك المشتري المنوط بقبوله التمليك ، كالكسر لا يصدق بدون الانكسار ،
والإحراق لا يصدق بدون الاحتراق ، والإيجاد لا يصدق بدون الوجود ، وهكذا الإيجاب
والوجوب بل كلّ تأثير وأثره المترتّب عليه ، وهذا المعنى هو المعنى العرفي العامّ
الكاشف عن اللغة ولا يختصّ بعرف الفقهاء ولا عرف المتشرّعة ولا عرف زمان الشارع بل
يعمّ غير المتديّنين بشرع الإسلام وأهل زمان الجاهليّة بل الامم السالفة ، فهو من
المعنى القديم الّذي أمضاه الشارع غاية الأمر أنّه أضاف إليه في هذا الشرع شروطاً
وزوائد اخر ، وهو الّذي ورد على طبقه قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» وأخذ عنواناً
في
__________________
أخبار أهل بيت العصمة عليهمالسلام وهذا هو حقيقة البيع عرفاً ولغة للتبادر واستقراء موارد
الاستعمال وغيره.
وثالثها : فعل
المشتري من حيث وقوعه عقيب فعل البائع ، وعليه ينطبق ما في قوله عليهالسلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» فإنّ البيع
أصله البائع وقد اطلق بحكم التثنية على ما يعمّ المشتري فيكون المراد من المادّة
فيما اطلق عليه فعله الّذي يتأتّى منه. وقضيّة ظاهر كلام القاموس كونه فيه أيضاً
حقيقة فيكون البيّعان كالعينين ، وعلى ما بيّناه يكون مجازاً فيكون البيّعان
كالقمرين. وينبغي القطع بعدم كون هذا المعنى مراداً في محلّ البحث لوضوح عدم كون
تعريف البيع باعتبار انتسابه إلى المشتري وإن قلنا بكونه حقيقة فيه أيضاً ، كما
أنّه ليس المقصود تعريفه بالمعنى الأوّل لما عرفت من عدم كونه مسمّى البيع على وجه
الحقيقة. والمقصود في المقام تعريفه باعتبار مسمّاه الحقيقي عرفاً ولغة ولا يكون
إلّا المعنى الثاني ، فإنّ المتبادر من لفظ البيع في جميع تصاريفه الّتي منها
مادّة «بعت» خبراً وإنشاءً تمليك العين ، وهو إدخال البائع لها في ملك المشتري ،
ويتبادر مع ذلك كونه على وجه التعويض وهو تبديلها ببدل يعطيه المشتري ، فيتبادر
منه المجموع من التمليك وكونه على وجه التعويض تبادراً أوّليّاً ، ثمّ ينتقل الذهن
من هذا المعنى المتبادر إلى تملّك المشتري لها وانتقالها إليه ، التفاتاً منه إلى
أنّ التمليك لا ينفكّ في الوجود عن التملّك ، كما أنّ النقل المرادف له لا ينفكّ
عن الانتقال فيكون ذلك أيضاً ممّا يتبادر من اللفظ ولكن تبادراً ثانويّاً على حدّ
تبادر سائر المداليل الالتزاميّة.
فالبيع في جميع
تصاريفه يدلّ مطابقة على تمليك العين على وجه التعويض فهو معناه الموضوع له بحسب
العرف وكذلك اللغة لأصالة عدم النقل ، والتزاماً على التملّك المرادف للانتقال ،
والمعنى المطابقي المذكور فعل للبائع من حيث تعقّبه بفعل المشتري على ما بيّنّاه
سابقاً ، وهذا الفعل من البائع فعل توليدي يتولّد من فعل علاجي يقال له الفعل
المباشري وهو التلفّظ بصيغة «بعت» ونحوها المقرونة بصيغة القبول من المشتري ،
__________________
أو الإعطاء والأخذ الواقع بين شخصين في العوضين بقصد إنشاء التمليك من
أحدهما وقبوله من الآخر كما في المعاطاة على القول بكونها بيعاً وفي حكمها إشارة
الأخرس.
فلا يصحّ
تعريفه بالإيجاب والقبول كما في النافع حيث عرّفه بالإيجاب والقبول اللّذان ينتقل بهما العين
المملوكة من مالك إلى غيره بعوض مقدّر ، والدروس حيث عرّفه
بالإيجاب والقبول من الكاملين الدالّان على نقل العين بعوض مقدّر مع التراضي ،
لأنّ تعريف البيع بالإيجاب والقبول تسمية للسبب باسم المسبّب لا أنّه تعريف
للمسبّب ، والمقصود تعريف المسبّب لا السبب لأنّ البيع اسم للمسبّب لا للسبب.
ولا تعريفه
بأنّه عقد يدلّ على انتقال عين أو ما في حكمها من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على جهة
التراضي كما عن الوسيلة لأنّ العقد عندهم عبارة عن مجموع الإيجاب والقبول ، وقد
عرفت ما في التعريف بهما مضافاً إلى انتقاض العكس في الجميع بالمعاطاة على القول
بكونها بيعاً.
ولا بانتقال
عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي كما عن المبسوط والحلّي في
السرائر والعلّامة في جملة من كتبه من غير اختلاف
بينها في ألفاظ التعريف إلّا يسيراً ، لأنّ الانتقال على ما بيّنّاه لازم معنى
البيع والمقصود تعريف الملزوم لا اللازم. ولا يجدي تكلّف توجيهه بأنّ ذلك تعريف
البيع بالمعنى المأخوذ بالبناء للمفعول وهو المبيعيّة ، لأنّ المصدر حقيقة في
المعنى الحدثي المأخوذ بالبناء للفاعل وإطلاقه على غيره مجاز ، مع أنّ المقصود
تعريفه بالمعنى المأخوذ بالبناء للفاعل لأنّه فعل البائع المأخوذ في وضعه. وحمل
الانتقال على إرادة معنى النقل نظراً إلى مجيء الانتقال في اللغة متعدّياً أيضاً
، وإن كان يدفع المحذور ولكنّه خلاف ظاهر لا يليق بمقام التعريف.
ولا بنقل الملك
من مالك بصيغة مخصوصة كما عن المحقّق الثاني لا لاختلال
__________________
في جنسه لأنّ النقل مرادف للتمليك ، بل لخلل في القيد الأخير من جهة
الإجمال ، إذ لا يدرى أنّ المراد بقوله : «مخصوصة» هل هي الخصوصيّات المعتبرة في
صيغة البيع أو خصوص صيغة البيع الممتازة عن صيغ سائر العقود مع جهالة الخصوصيّات
المعتبرة على الاحتمال الأوّل وجهالة أصل الصيغة على الثاني ، ففيه إجمال من جهات
عديدة ، والمقصود في التعريف إيضاح المعرّف فينافيه الإجمال.
ولا بأنّه
إنشاء تمليك العين من مالك إلى غيره بعوض معلوم على جهة التراضي كما عن المصابيح لأنّ الإنشاء
مدلول صيغة «بعت» وما بمعناها ، والمقصود من التعريف معرفة مدلول المادّة لا مدلول
الصيغة فلا يصحّ أخذه في تعريف مدلول المادّة فليتدبّر.
وممّا ذكر ظهر
ما في تعريفه بأنّه إنشاء تمليك عين بمال كما اختاره شيخنا قدسسره وجعل تعريفه بذلك أولى ، ونحوه تعريفه بإنشاء مقتضى
تمليك العين بعوض.
فالصحيح في
تعريفه بالنظر إلى ما بيّنّاه سابقاً أن يقال : إنّه تمليك العين على وجه التعويض
إن أردنا تعريف الصحيح منه ، أو إنّه إبدال عين بعوض إن أردنا تعريف الأعمّ منه ،
ولا حاجة إلى الإطناب بذكر قيود اخر من كونه من مالك إلى غيره أو من شخص إلى آخر
وبعوض مقدّر أو معلوم وعلى جهة التراضي وما أشبه ذلك ، لكونه تطويلاً بلا طائل ،
مع كون الامور المذكورة شروطاً لصحّة البيع أثبتها الشرع وليست بداخلة في مسمّاه ،
بل الداخل في مسمّاه هو التمليك المقيّد بالقيدين.
ولكلّ من
الأجزاء الثلاث ظهور يخرج به شيء ، وللهيئة التركيبيّة أيضاً ظهور في دخل كلّ من
القيدين في ماهيّة المسمّى وحقيقة الموضوع له المأخوذة في لحاظ الوضع.
فيخرج بالتمليك
ما لا تمليك فيه كالصلح عمّا في الذمّة الّذي مفاده الإبراء وهو إسقاط لا أنّه
تمليك. وما كان تمليكه تمليك المنفعة كالإجارة ، وما كان تمليك العين فيه بلا عوض
كالهبة ، وما ليس تمليك العين فيه على وجه التعويض داخلاً في الماهيّة وحقيقة
المسمّى كالصلح عن العين بعوض فإنّ الصلح تسالم محض وهو تمام حقيقته ولم يعتبر فيه
تمليك ولا كونه مع العوض ، ولذا قد يكون مفاده الإبراء وقد يكون مفاده
__________________
مفاد العارية.
وما ذكرناه في
وجه إخراج ما ذكر أولى ممّا قد يوجّه بأنّ التعويض في الصلح المذكور ضمني لأنّ
التسالم باعتبار المورد يتضمّنه كما صنعه بعضهم ، إذ لم يؤخذ في التعريف ما يخرج
التمليك الضمني.
ويخرج أيضاً ما
لا يكون التعويض فيه داخلاً في حقيقة مسمّاه المأخوذة في لحاظ الوضع كالهبة
المعوّضة فإنّ تمام حقيقته تمليك العين مطلقاً ولذا يغلب فيه عدم اشتماله على
العوض. فما ذكرناه تعريف تامّ لمسمّى البيع جامع ومانع غير محتاج في جمعه ولا منعه
إلى تكلّف.
وبالتأمّل فيما
ذكر يظهر حال التعريف الثاني ، والسرّ في كونه للأعمّ أنّ إبدال العين بالعوض لا
يقتضي كونه على وجه ترتّب عليه الأثر من حصول الملك والتملّك والنقل والانتقال ،
ومن ذلك يظهر الوجه في كون التعريف الأوّل للصحيح فإنّ التمليك على ما بيّنّاه
سابقاً لا يصدق إلّا حيث يستتبع التملّك فيكون فرعاً على تحقّق جميع الشروط
المعتبرة في الصحّة في نفس الأمر وإن لم يصرّح بشيء منها في التعريف ، فلا ينقسم
إلى الصحيح والفاسد إذ لا تمليك في الفاسد ، وقد يجعل التمليك أعمّ من الواقعي
والصوري ولو بحسب الاعتقاد أو القصد المحض كبيع الغاصب لنفسه مع العلم بالغصبيّة
والفساد ، فيكون التعريف الأوّل أيضاً للأعمّ ولا يخلو عن تكلّف ، وهو عند
القائلين بكون المعاطاة بيعاً ينقسم إليه بالصيغة المخصوصة وهي قول «بعت واشتريت»
وما بمعناهما في الإيجاب والقبول وإليه بغير الصيغة المخصوصة ويقال له «المعاطاة»
وهو الإعطاء والأخذ للعين والعوض على وجه التمليك والتملّك.
ثمّ إنّ في باب
البيع مقاصد كثيرة :
المقصد
الأوّل : في صيغة البيع
وما يتعلّق بها وما يعتبر فيها من الخصوصيّات ، وفيه مباحث :
المبحث
الأوّل
اختلف الأصحاب
في أنّ للصيغة المخصوصة تأثيراً خاصّاً وأثراً مخصوصاً باعتبار كونها معتبرة في
اللزوم أو في الصحّة أو في صدق الاسم أو لا؟ ومنه نشأ النزاع في المعاطاة بين قائل
بكونها بيعاً صحيحاً لازماً ، وقائل بكونها بيعاً صحيحاً غير لازم ، وقائل بكونها
بيعاً غير صحيح فلا يؤثّر ملكاً ولا إباحة ، وقائل بعدم كونها بيعاً أصلاً ،
وحينئذ فإمّا أن تكون إباحة لوجوه التصرّفات ، أو معاملة مستقلّة موجبة لنقل
الأعيان أو المنافع وليست بيعاً ولا إجارة ولا صلحاً ولا هبة ولا عارية ، أقوال
خمس.
أوّلها : منسوب
إلى ظاهر المفيد قائلاً ـ على ما حكي عنه في المقنعة ـ : «ينعقد البيع على تراض
بين الاثنين فيما يملكان المتبايع له إذا عرفاه جميعاً وتراضيا بالبيع وتقابضا
وافترقا بالأبدان» واستظهار الصحّة واللزوم من هذه العبارة لعلّه بملاحظة
عدم تعرّضه فيها لذكر الصيغة مع تعرّضه لجملة من شرائط الصحّة ، فبالإطلاق تدلّ
على انعقاد البيع مع الصحّة بدون الصيغة ، واعتباره الافتراق بالأبدان وهو شرط
اللزوم لا الصحّة ، فيكون مفاد العبارة أنّه ينعقد البيع الصحيح اللازم بالامور
المذكورة الّتي منها ما هو شروط للصحّة ، ومنها ما هو شرط للزوم. وعزي الموافقة له
إلى الأردبيلي والكاشاني ونسبه في الحدائق أيضاً إلى صاحب الكفاية وإلى والده
وإلى الشيخ عبد الله بن صالح البحراني وقال : «إنّهما نقلاه أيضاً عن شيخهما
العلّامة الشيخ سليمان البحراني»
ويظهر الميل إليه من
عبارة المسالك لو لا الإجماع على خلافه ، لمكان
__________________
قوله بعد ما نقله ما أحسنه وأمتن دليله : إن لم ينعقد الإجماع على خلافه.
والظاهر أنّ مراده انعقاد الإجماع على خلافه في دعوى اللزوم لا في القول بانعقاد البيع
وصحّته بدون الصيغة المخصوصة. وعن شرح القواعد للشيخ أيضاً حكاية الإجماع محصّلاً
ومنقولاً على عدم كفاية المعاطاة في اللزوم ، وقضيّة ذلك أيضاً كون مخالفة قول
المفيد للإجماع في دعوى اللزوم فقط ، بل قد يدّعى الضرورة على أنّ للصيغة المخصوصة
تأثيراً خاصّاً وأثراً مخصوصاً ، ولا يكون ذلك الأثر إلّا اللزوم إذ لا ضرورة بل
لا إجماع على اعتبارها في صدق الاسم ولا في الصحّة.
وثانيها : خيرة
المحقّق الثاني في شرح القواعد وتعليق الإرشاد ووصفه في عبارته المحكيّة عن شرح القواعد بالمعروفيّة
بين الأصحاب قائلاً : «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم يكن كالعقد في
اللزوم خلافاً لظاهر عبارة المفيد ، ولا يقول أحد بأنّها بيع فاسد سوى المصنّف في
النهاية وقد رجع عنه في كتبه المتأخّرة
عنها ، وقول الله تعالى : «وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» يتناولها
لأنّها بيع بالاتّفاق حتّى من القائلين بفسادها لأنّهم يقولون إنّها بيع فاسد.
وقوله تعالى : «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» عامّ إلّا ما
أخرجه الدليل ...» إلى آخر ما ذكره. وستسمع تتمّة عبارته ، واختاره أكثر
من تأخّر عنه إن لم نقل عامّتهم.
واحتمله في المسالك
، وجعل عبارة العلّامة في التحرير كالصريحة في إفادة ذلك ، قائلاً : «هل المراد
بالإباحة الحاصلة بالمعاطاة قبل ذهاب العين إفادة ملك متزلزل كالمبيع في زمن
الخيار وبالتصرّف يتحقّق لزومه ، أم الإباحة المحضة الّتي هي بمعنى الإذن في
التصرّف وبتحقّقه يحصل الملك له وللعين الاخرى؟ يحتمل الأوّل ... إلى أن قال :
وعبارة العلّامة في التحرير كالصريحة في إفادة هذا المعنى لأنّه قال : الأقوى عندي
أنّ المعاطاة غير لازمة بل لكلّ منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية ومقتضى تجويز
الفسخ ثبوت الملك في الجملة ، وكذا تسميتها معاوضة والحكم باللزوم
__________________
بعد الذهاب» انتهى.
وقد يستظهر
القول بانعقادها بيعاً مع الصحّة ممّن عدا الشيخ في المبسوط والخلاف وأتباعه
كالحلّي في السرائر والحلبي في الكافي وابن الزهرة في الغنية عن جماعة من
القدماء كالقديمين ـ ابني أبي عقيل والجنيد ـ وابني بابويه والبرّاج والمرتضى
والجعفي وابن سعيد في الجامع والنزهة التفاتاً إلى عدم ذكرهم الصيغة المخصوصة ولا
غيرها من الألفاظ في عداد الشرائط المعتبرة في انعقاده وصحّته ، ولا ينافيه تعريفه
بالعقد في كلام غير واحد منهم ، وإن فسّرنا العقد بالإيجاب والقبول لأنّه أعمّ من
القوليّين والفعليّين والملفّقين ، خصوصاً مع ملاحظة أنّه بحسب العرف واللغة عبارة
عن الربط والشدّ الصادقين مع الأفعال الغير المتوقّفين على الألفاظ سيّما الصيغة
المخصوصة. بل قد يحتمل لأجل ما ذكر موافقة هؤلاء المفيد في دعوى اللزوم زيادة على
الانعقاد والصحّة.
وثالثها : ما
اشتهر نسبته إلى العلّامة في نهاية الإحكام كما سمعت نسبته إليه في عبارة جامع
المقاصد فقال : «بأنّها بيع فاسد لا يؤثّر في ملك ولا في إباحة للتصرّفات»
وقد يقال ،
بأنّ له موافقاً وهو المحقّق في الشرائع لمكان قوله : «ولا يكفي التقابض من غير
لفظ وإن حصل من الأمارات ما يدلّ على إرادة البيع سواء كان في الحقير أو الخطير»
مع قوله فيما بعد ذلك : «ولو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان
مضموناً عليه» فإنّ العبارة الاولى ظاهرة في نفي الآثار المترتّبة على البيع من
الملك وإباحة التصرّفات مع تسليم كونها بيعاً بقرينة قوله في العبارة الثانية : «ولو
قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد الخ. كما أنّ قوله : «لم يملكه» في هذه
العبارة صريح في نفي الملكيّة ، وقوله : «كان مضموناً عليه» صريح في نفي الإباحة
إذ الحكم بالضمان إنّما هو على تقدير عدم إفادتها الإباحة أيضاً. فمفاد العبارتين
أنّ المعاطاة المعبّر عنها بالتقابض من غير لفظ ليست من البيع الصحيح المفيد للملك
ولا الإباحة من غير ملك ،
__________________
وهذا عين ما صار إليه العلّامة في النهاية.
وفيه نظر :
لأنّ العبارة الثانية في كلام المحقّق مسوقة لإعطاء قاعدة كلّيّة في كلّ مبيع
مقبوض بالعقد الفاسد الّذي يكون فساده لاختلال شرط من شروط الصحّة وإن صدق معه
العقد وانعقد أصل البيع من غير أن يكون ذلك من فروع الحكم السابق ، والعبارة
الاولى مسوقة لبيان عدم كفاية التقابض من غير لفظ في انعقاد العقد الّذي عرّفه
أوّلاً باللفظ الدالّ على نقل الملك من مالك إلى آخر بعوض معلوم. وهذا لا ينافي
انعقاد البيع ولا صحّته من غير لفظ ، لجواز التفكيك بينه وبين العقد موضوعاً.
بناءً على دعوى
اختصاص العقد بالإيجاب والقبول اللفظيين وعدم دخله في حقيقة مسمّى البيع ، كما
عليه مبنيّ بعض طرق القول بصحّة المعاطاة وانعقادها بيعاً ، ومنه : ما عن أبي
حنيفة من العامّة وبعض كتب الحنفيّة على ما نقل حكايته عنه عن الشيخ في الخلاف حيث
قال : «إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب فقال : أعطني بها بقلاً أو ماءً ،
فأعطاه فإنّه لا يكون بيعاً وكذلك سائر المحقّرات ، وإنّما يكون إباحة له فيتصرّف
كلّ منهما فيما أخذه تصرّفاً مباحاً من دون أن يكون ملكه ، وفائدة ذلك أنّ البقلي
إذا أراد أن يسترجع البقل أو أراد صاحب القطعة أن يسترجع قطعته كان لهما ذلك لأنّ
الملك لم يحصل لهما ، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يكون بيعاً صحيحاً وإن لم يحصل الإيجاب والقبول ،
وقال ذلك في المحقّرات دون غيرها ...»
إلى آخر ما ذكره. وعن
بعض كتب الحنفيّة أنّه بعد ما فسّر البيع بمبادلة مال بمال قال : «وينعقد بالإيجاب
والقبول وبالتعاطي» .
فلم يظهر من
عبارة الشرائع أنّه قائل بفساد البيع مع انتفاء الإيجاب والقبول اللفظيّين ، كما
لا يظهر منها أيضاً كونه قائلاً بانعقاد موضوع البيع بدونه. فكلامه يحتمل وجوهاً :
انعقاد المعاطاة بيعاً صحيحاً مفيداً لملك متزلزل كما عليه الكركي ، وانعقادها
__________________
بيعاً فاسداً غير مفيد للملك والإباحة كما عليه العلّامة في النهاية ،
وانعقادها إباحة مجرّدة عن الملك لا بيعاً كما عليه الشيخ وأتباعه ، وربّما يحتمل
موافقته للمفيد أيضاً بناءً على كون البيع في مورد انفكاكه عن العقد على القول به
مثله في اللزوم إلّا ما خرج بالدليل.
ورابعها : مذهب
الشيخ وأتباعه فقالوا بأنّها تفيد إباحة وجوه التصرّفات بعد نفي تسميتها بيعاً ،
وقد سمعت عبارة الشيخ في الخلاف وعلى منوالها عبارة السرائر ويقرب منهما
عبارة الغنية وغيرها.
وقد يجعل ذلك
قولين :
أحدهما :
إفادتها لإباحة مطلق التصرّفات حتّى ما يتوقّف منها على الملك ، كالوقف ووطء
الجارية والهبة والبيع ، وعزي إلى ظاهر عبائر كثير منهم بل في المسالك «أنّ كلّ من
قال بالإباحة يسوّغ جميع وجوه التصرّفات» .
وثانيهما :
إباحة ما لا يتوقّف من التصرّفات على الملك كالأكل والشرب واللبس والركوب وما أشبه
ذلك ، وعزي إلى ظاهر كلام الشهيد في حواشيه على القواعد وفي المسالك
جعل القول بالإباحة مشهوراً ، لكن المحقّق الكركي نزّله في جامع المقاصد على إرادة
الملك المتزلزل ليوافق مختاره من انعقادها بيعاً جائزاً حيث قال ـ عقيب عبارته
المتقدّمة في تحرير القول الثاني ـ : «وما يوجد في عبارة جمع من متأخّري الأصحاب
من أنّها تفيد الإباحة وتلزم بذهاب إحدى العينين يريدون به عدم اللزوم في أوّل
الأمر وبالذهاب يتحقّق اللزوم ، لامتناع إرادة الإباحة المجرّدة من أصل الملك ، إذ
المقصود للمتعاطيين الملك فإذا لم يحصل كان بيعاً فاسداً ولم يجز التصرّف وكافّة الأصحاب
على خلافه ، وأيضاً فإنّ الإباحة المحضة لا يقتضي الملك أصلاً ورأساً فكيف يتحقّق
ملك شخص بذهاب مال آخر في يده؟ وإنّما الأفعال لمّا لم يكن دلالتها على المراد
بالصراحة كالقول لأنّها تدلّ بالقرائن منعوا من لزوم العقد بها ، فيجوز الترادّ
__________________
ما دام ممكناً ، ومع تلف إحدى العينين يمتنع الترادّ فيتحقّق اللزوم ،
ويكفي تلف بعض إحدى العينين لامتناع الترادّ في الباقي إذ هو موجب لتبعّض الصفقة
والضرر» انتهى.
ويشكل مع عدم
اختصاص هذا القول بالمتأخّرين بل العمدة من أهله الشيخ وأتباعه عدم إمكان هذا
التنزيل بالنظر إلى ما في كلام كثير منهم من نفي البيعيّة صريحاً ، مع في كلام غير
واحد أيضاً كالشيخ والحلّي من نفي الملك صريحاً. وحمله على إرادة نفي استقرار
الملك الغير المنافي لحصوله متزلزلاً ـ مع كمال بعده ـ لا يجدي نفعاً بعد التصريح
بنفي البيعيّة.
وخامسها : ما
يظهر من الشهيد فيما حكي عنه في موضع من شرحه للقواعد من قوله : «إنّ المعاطاة
معاوضة مستقلّة جائزة أو لازمة» انتهى ، وتبعه الشيخ في شرح القواعد فإنّه بعد ما اختار
في المعاطاة مطلقاً إفادتها الملك قال فيما حكي عنه : «وهل هي داخلة في اسم
المعاملة الّتي جاءت في مقامها فتجري فيها شرائطها وأحكامها؟ ظاهر جماعة من
الأصحاب اختيار ذلك ، فتجري فيها قائمة مقام البيع أحكام الشفعة والخيار والصرف
والسلم وبيع الحيوان والثمار وجميع شرائطه سوى الصيغة ، ولم يقم على ذلك شاهد
معتبر من كتاب أو سنّة أو إجماع ، والأقوى أنّها قسم آخر بمنزلة الصلح والعقود
الجائزة ، ويلزم فيها ما يلزم فيها ، فتصحّ المعاطاة على المشاهد من مكيل أو موزون
من غير اعتبار مكيال أو ميزان ، وبنحو ذلك جرت عادة المسلمين. نعم لو أرادوا
المداقّة بنوا على إيقاع الصيغة والمحافظة على الشروط ، فالظاهر أنّه متى جاء
بالفعل مستقلّاً أو مع ألفاظ لا يستجمع الشرائط مقصوداً بهما المسامحة جاء حكم
المعاطاة ، وعلى الأوّل فإن صرّح فيها بإلحاق بيع أو غيره بنى عليه وإلّا فالبيع أصل
في المعاوضة على الأعيان مقدّم على الصلح والهبة المعوّضة والإجارة أصل في نقل
المنافع مقدّمة على الصلح والجعالة» انتهى.
وهاهنا قولان
آخران :
أحدهما :
التفصيل بين ما يقع بالفعل المحض من غير لفظ يدلّ على الرضا فلا يفيد
__________________
إلّا جواز التصرّف وما يقع باللفظ الدالّ عليه كائناً ما كان وإن لم يجامع
الشروط المعتبرة في الصيغة المخصوصة ، فينعقد بيعاً صحيحاً بل لازماً كما أشار إلى
حكايته في المسالك عن بعض مشايخه ، قائلاً ـ بعد نقل قول المفيد ـ : «وقد كان بعض
مشايخنا المعاصرين يذهب إلى ذلك أيضاً لكن يشترط في الدالّ كونه لفظاً
وإطلاق كلام المفيد أعمّ منه» ووافقه صاحب الحدائق بل يظهر من
مفتاح الكرامة أنّ له موافقاً آخر من أهل البحرين غيره حيث نقل هذا القول عن
السيّد المذكور «ومن وافقه من أهل البحرين» بصيغة الجمع.
وثانيهما :
التفصيل بين أن يكون في قصدهما إيقاع البيع اللازم وعدمه ، فيفسد على الأوّل
مطلقاً ويصحّ على الثاني بيعاً ولكن مع الجواز لا اللزوم ، وهو الّذي رآه بعض
مشايخنا حقّاً وزعم كونه موافقاً لقواعد الشريعة جامعاً بين
الأدلّة الشرعية المتعارضة.
ثمّ إنّ الظاهر
أنّ محلّ النزاع ومورد الكلام الّذي يتوارد عليه هذه الأقوال هو أن يقصد
المتعاطيان بفعلهما تمليك العين وتملّكها بعوض مأخوذ في المجلس أو مضمون في الذمّة
ولو قصداً إجماليّاً وهو كون المركوز في نفسهما المحرّك لهما إلى هذا الفعل هو
الملك في العوضين وإن لم يلتفتا إليه حين الفعل لاشتغال الذهن إلى شاغل آخر ، وإن
شئت تطبيق ذلك على معنى البيع المتقدّم المشترك بين الصحيح والفاسد فعبّر عنه
بمبادلة عين بعوض بقصد التمليك والتملّك فيهما من دون إعمال صيغة مخصوصة منهما ولا
من أحدهما سواء وقع بينهما حين الفعل لفظ آخر غيرها يدلّ على التراضي وقصد الملك
المعاوضي أو لم يقع.
وكون ذلك هو
المحلّ للنزاع ومورد الأقوال هو المنساق من مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم
المصرّح به في كلام جماعة ولا سيّما غير واحد من مشايخنا قدّس الله أرواحهم ، وهو
الّذي يساعد عليه الاعتبار لوجوب توارد أقوال المسألة
__________________
المختلف فيها على أمر واحد مشترك بين الجميع.
ومن أغرب ما
سبق إلى بعض الأوهام في هذا المقام جعل محلّ النزاع المعاطاة المقصود بها مجرّد
الإباحة الخالية عن قصد الملك رأساً ، كما نسبه شيخنا المعظّم إلى بعض معاصريه ،
وقال : «إنّه رجّح بقاء الإباحة في كلامهم على ظاهرها المقابل للملك ونزّل مورد
حكم قدماء الأصحاب بالإباحة على هذا الوجه» وطعن على من جعل محلّ النزاع في
المعاطاة بقصد التمليك قائلاً : «بأنّ القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد
الملك ممّا لا ينسب إلى أصاغر الطلبة فضلاً عن أعاظم الأصحاب وكبرائهم» انتهى.
وفيه : أنّ ما
لا يقصد فيه الملك أصلاً ولو إجمالاً ـ مع كونه خلاف ما هو بأيدي الناس في جميع
الأعصار والأمصار من المعاطاة في أغلب معاملاتهم خصوصاً المحقّرات ـ كيف يتحمّل
القول بالبيعيّة مع الصحّة واللزوم والقول بالبيعيّة المفيدة لملك متزلزل والقول
بالبيعيّة الفاسدة والقول بالمعاوضة المستقلّة المفيدة لملك الأعيان والمنافع ،
بخلاف المعاطاة المقصود بها الملك فإنّها تتحمّل جميع هذه الأقوال ، ولا ينافيها
القول بإفادتها الإباحة المحضة فإنّ قصد التمليك يتضمّن الإذن في عموم التصرّفات
الّتي يقال لها الإباحة المالكيّة ، غايتها أنّها حيث حصل الملك ملغاة في نظر
الشارع لأنّ العين بعد ما خرج عن ملك صاحبها ودخل في ملك آخر لا عبرة في جواز
التصرّفات له بإذن المالك الأوّل ، إلّا أنّه من الجائز في محلّ النزاع كون قصد
التمليك ممّا لم يمضه الشارع مع إمضائه لما يتضمّنه من الإذن في التصرّفات ، وهذا
هو معنى انعقاد المعاطاة إباحة وعدم انعقادها بيعاً.
ودعوى : أنّ
مقصود المتعاطيين إذا كان هو الملك والمفروض عدم حصوله فكيف يتصوّر معه جواز
التصرّف ، استبعاد محض لا يصغى إليه ، مع أنّ جواز التصرّف يتبع الإباحة المالكيّة
الّتي أمضاها الشارع على ما هو مفروض القول بالإباحة ، فإنّ ذلك ليس بأبعد من حصول
البيعيّة أو هي مع الملك أو هما مع اللزوم فيما فرض عدم قصد شيء من ذلك ، بل هذا
أبعد بمراتب شتّى من حصول جواز التصرّف مجرّداً عن الملك
__________________
فيما قصد به الملك.
فما تقدّم من
أنّ القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد الملك ممّا لا ينسب إلى أصاغر الطلبة
... الخ.
يدفعه : أنّ
القول بالبيع أو هو مع الملك أو هما مع اللزوم من دون قصد شيء من ذلك ممّا لا
ينبغي نسبته إلى أصاغر الطلبة.
ثمّ إنّ النزاع
في المعاطاة من الجهات المذكورة إنّما هو باعتبار خلوّها عن الصيغة المخصوصة لا
لاختلال شيء من الشرائط المعتبرة في انعقاد البيع وصحّته ، ولذا صرّح جماعة بأنّه
يعتبر تحقّق جميع الشرائط المعتبرة في صحّة البيوع بحيث لم يفارق البيع بالصيغة
المحكوم عليها بالصحّة واللزوم إلّا في خلوّها عن الصيغة الخاصّة الّذي نشأ منه
النزاع واختلفت بسببه الأنظار.
ونحن لتحقيق
المقام وتبيين ما هو المختار في محلّ الكلام نتكلّم في جهات ثلاث :
الجهة الاولى :
في مدخليّة الصيغة المخصوصة في صدق الاسم وتحقّق عنوان البيعيّة وعدمها ، فإنّ فيه
خلافاً ظهر ممّا تقدّم ، إذ كلّ من قال بأنّ المعاطاة تفيد إباحة التصرّف يلزمه
القول بأنّها ليست بيعاً كما هو صريح الشيخ في عبارته المتقدّمة من الخلاف وكذلك
من يتبعه ، وعن الحاشية الميسيّة «أنّ المشهور بين الأصحاب أنّها ليست بيعاً محضاً
ولكنّها تفيد فائدته في إباحة التصرّف» وعن الغنية الإجماع عليه حيث إنّه بعد ذكر الإيجاب
والقبول في عداد شروط الصحّة وانعقاد البيع قال : «واعتبرنا حصول الإيجاب والقبول
تحرّزاً عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري والإيجاب من البائع بأن يقول
بعنيه بألف فيقول بعتك بألف فإنّه لا ينعقد بذلك بل لا بدّ أن يقول المشتري بعد
ذلك اشتريت أو قبلت حتّى ينعقد ، واحترازاً أيضاً عن القول بانعقاده بالمعاطاة نحو
أن يدفع إلى البقلي قطعة ويقول أعطني بقلاً فيعطيه فإنّ ذلك ليس ببيع وإنّما هو
إباحة للتصرّف ، ويدلّ على ما قلناه الإجماع المشار إليه» انتهى.
ويظهر دعواه
أيضاً من عبارة المسالك حيث إنّه بعد ما ذكر ملزمات المعاطاة قال :
__________________
الثامن على تقدير لزومها بأحد الوجوه المذكورة فهل يصير بيعاً أو معاوضة
برأسها يحتاج إلى دليل ، ويحتمل الثاني لإطباقهم على أنّها ليست بيعاً حال وقوعها
فكيف يصير بيعاً بعد التلف» انتهى.
وفي مقابله
القول بكونها بيعاً ولو مع الفساد أو الصحّة وعدم اللزوم كما عليه المفيد
والعلّامة في النهاية والكركي ومن تبعه من أكثر المتأخّرين إن لم نقل
كلّهم ، وقد تقدّم في عبارة الكركي في جامع المقاصد قوله : «المعروف بين الأصحاب
أنّ المعاطاة بيع وإن لم تكن كالعقد في اللزوم» بل ربّما نسب
إليه دعوى الاتّفاق عليه.
وهذا هو الأقوى
بل الّذي يقتضيه الإنصاف ومجانبة الاعتساف لوجوه :
منها : إطلاق
البيع والشراء والابتياع والاشتراء في محاورات أهل العرف العامّ من المتشرّعة
وغيرهم قديماً وحديثاً في جميع الأعصار والأمصار على المعاطاة بجميع صورها الّتي
سيأتي إليها الإشارة المتداولة بين الناس من أهالي الأسواق وغيرهم من المدنيّين
والبدوييّن من المسلمين وغيرهم من ملل الكفر بجميع أصنافهم ، فإنّ كلّ من عامل في
سلعته كائنة ما كانت مع أحد بطريق المعاطاة وبادلها بعوض يقصد التمليك والتملّك من
غير صيغته يقول في مقام الخبر : بعته ويقال له : باع ، كما يقول صاحبه : ابتعت أو
اشتريت ، ويقال له : ابتاع أو اشترى ، إطلاقاً شائعاً لا يشوبه شكّ وريبة ، بل هو
من أوضح الواضحات الّتي لا حاجة لها إلى الاستدلال.
والمناقشة فيه
بأنّه استعمال وهو أعمّ من الحقيقة ، يدفعها أنّ قاعدة أعمّية الاستعمال وإن كانت
في موردها مسلّمة غير أنّ المقام ليست من مجاريها ، فإنّ الاستعمال حسبما يقع
ويتحقّق في محاورات العرف على أنواع ، فقد يجهل حاله من حيث إنّه يلاحظ معه علاقة
بين المستعمل فيه ومعنى آخر أو لم يلاحظ ، وقد يعلم بأنّه يلاحظ معه العلاقة ، وقد
يعلم بأنّه لا يلاحظ معه علاقة أصلاً ، والأوّل ما يقال فيه أنّ
__________________
الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمقام من قبيل الأخير ، وهو كالتبادر من خواصّ
الحقيقة ولوازم الوضع ، كما أنّ ما قبله من خواصّ المجاز وعلائمه.
وما ذكرناه في
دفع المناقشة أسدّ وأتمّ ممّا قيل : من أنّ أعمّيّة الاستعمال إنّما هو مع تعدّد
المستعمل فيه وهو هنا غير ثابت واستعماله فيما كان مع الصيغة بدون التقابض لا
يثبته لجواز كون المستعمل فيه هو القدر المشترك ، إذ لا فرق في عدم دلالة
الاستعمال من حيث هو على شيء من الحقيقة والمجاز بين صورتي اتّحاد المستعمل فيه
وتعدّده كما حقّقناه في الاصول. ثمّ إنّ الإطلاق المذكور بعد ما ثبت كونه على وجه
الحقيقة فلا ينافي كون اللازم من المختار كون البيع مقولاً بالتواطؤ على المعاطاة
وعلى البيع بالصيغة ، لكونه وضعاً للقدر الجامع بينهما وهو مبادلة عين بعوض بقصد
الملك لكونه حينئذٍ من باب إطلاق الكلّي على الفرد.
ومنها :
التبادر فإنّ قول القائل : «بعت داري أو ثوبي أو فرسي أو حطبي أو بقلي» وغير ذلك
من استعمالات هذا اللفظ عند الإطلاق يتبادر منه في العرف القدر المشترك بينها وبين
ما وقع بالصيغة ، أعني المعاملة الصالحة لوقوعها على وجه المعاطاة أو بالصيغة دون
خصوص ما يقع منها بالصيغة.
ومنها : عدم
صحّة سلب اسم البيع عنها بجميع صورها الآتية ، فإنّ من قال لمن باع سلعته كائنة ما
كانت بطريق المعاطاة : ما باع أو ما بعته أو أنّه ليس ببيع ، كان مستهجناً في نظر
أهل العرف مستنكراً لديهم.
ومنها : أنّه
لو قال قائل : «بعت متاعي ولكن ما أجريت الصيغة» لم يتناقض أي لا يفهم التناقض بين
قوليه ، وصحّة الاستفهام ممّن قال : «بعت متاعي» بعبارة هل بعت بالصيغة أو بغير
صيغة؟. وهذه الوجوه كلّها من خواصّ الحقيقة ، وبها يثبت كون البيع حقيقة في
المعاطاة وعدم دخول الصيغة المخصوصة في معناه بحسب الوضع العرفي ، ثمّ يتمّ كونه
كذلك بحسب اللغة والعرف القديم وعرف زمان الشارع أيضاً بأصالة عدم النقل.
وتوهّم : أنّ
خروج الصيغة عن مسمّى البيع بحسب الوضع اللغوي لا ينافي دخوله فيه بحسب الشرعي ،
يدفعه : عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ولا المتشرعيّة في لفظ البيع وغيره من
المعاملات كما حقّقناه في الاصول ، ويكشف عنه عدم اصطلاح للمتشرّعة
فيه سوى اصطلاح العرف العامّ ، مع أنّا نقطع بثبوت البيع من قديم الأيّام
حتّى أزمنة الجاهليّة بل الامم الماضية ولم يتصرّف فيه الشارع بنقل ولا تجوّز سوى
أنّه اعتبر في صحّته شروطاً.
وبجميع ما
بيّنّاه خصوصاً ما حقّقناه من الإطلاق يندفع ما قيل في منع تسميتها بيعاً عرفاً
على وجه الحقيقة ، من أنّ غاية العرف استعماله فيها ، ولا ريب في أنّه من مسامحاته
«وإلّا فأهل العرف مطبقون على عدم المسامحة في البيوع الخطيرة» كما في مفتاح الكرامة ، فإنّ المسامحة في إعمال الصيغة
في الامور الحقيرة لا تقضي بالمسامحة في استعمال البيع في البيوع الخالية عن
الصيغة وهذا واضح.
احتجّوا أوّلاً
: بإجماع الغنية.
وثانياً :
بأنّها لو كانت بيعاً لكان لازماً والتالي باطل وكذا المقدّم ، أمّا الملازمة
فبالإجماع على أنّ كلّ بيع لازم.
وثالثاً :
بالاستقراء المقرّر بأنّا وجدنا كلّ عقد من العقود وكلّ إيقاع من الإيقاعات أنّها
لا تنعقد إلّا بألفاظ مخصوصة على أنّها أسباب لانعقادها فكذا البيع لأنّ الظنّ
يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، ويؤيّده أنّ البيع أمر نفساني لا يظهر إلّا من دلالة
صريحة ، ولا دلالة صريحة إلّا الألفاظ إذ الأفعال لا دلالة فيها ، ولو سلّم
فدلالتها ليست صريحة.
والجواب عن
الأوّل : بأنّه منقول فليس بمقبول سيّما في المسألة اللغويّة الّتي لا دخل للكشف
فيها عن رأي المعصوم عليهالسلام والمفروض عدم كون البيع من مصطلحات الفقهاء ليرجع في
معرفته إلى اتّفاقهم بل هو كالماء والأرض والسماء والكلاء من الموضوعات العرفيّة
العامّة الّتي يرجع فيها إلى العرف العامّ الكاشف عن اللغة ، ولو سلّم كون منقوله
مفيداً للظنّ فلا عبرة به في اللغة.
وقد يجاب أيضاً
بمعارضته لاتّفاق جامع المقاصد الّتي اختلف النقل عنه فتارةً قوله : «إنّ المعاطاة
بيع بالاتّفاق» كما في المستند واخرى أنّ المعاطاة بيع عند كافّة الأصحاب .
__________________
وقد يزاد أنّ هذا
أقوى وأسدّ لكون ناقله أثبت وأبصر وأخبر ، مع أنّ إجماعات الغنية في نفسها مستراب
فيها لعدم اعتدادهم بها ويتوهّن منقوله ، هذا بالخصوص بمخالفته لما تقدّم من أدلّة
القول المختار وبالإجماع العملي من المسلمين كافّة على إجراء المعاطاة مجرى البيع
اسماً وحكماً ، حتّى أنّهم يستنكرون نفي البيع عنها.
وقد يؤوّل
جمعاً بينه وبين أدلّة كونها بيعاً ، فيقال : بأنّ دعوى الإجماع في كلام بعضهم على
عدم كون المعاطاة بيعاً كابن زهرة في الغنية فمرادهم بالبيع المعاملة اللازمة
الّتي هي إحدى العقود ، ولذا صرّح في الغنية «بكون الإيجاب والقبول من شرائط صحّة
البيع» .
والجواب عن
الثاني : بمنع دخول اللزوم في مسمّى البيع بل هو كالجواز المقابل له من أحكام
العقد ، والأصل الثابت من عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وغيره في كلّ
عقد هو اللزوم إلّا ما خرج بدليل قضى بالجواز ، ومنه المعاطاة على ما ستعرفه.
والجواب عن
الثالث : منع الاستقراء المذكور بناءً على جريان المعاطاة في سائر العقود ، مع أنّ
قاعدة الإلحاق بعد ما تقدّم من الأدلّة ممّا لا حكم لها.
وأمّا التأييد
ففيه ـ مع أنّه لو تمّ لقضى باعتبار مطلق اللفظ لا الألفاظ المخصوصة كبعت وشريت وابتعت
واشتريت ـ منع انحصار صراحة الدلالة في الألفاظ ، فإنّ الفعل أيضاً بمعونة قرائن
الأحوال أيضاً يصير صريح الدلالة على المقصود كما في المعاطاة المبحوث عنها ، إذ
الكلام فيما علم كون قصد المتعاطيين ملك العوضين ولو إجمالاً ، وعلامته أنّ كلاًّ
منهما بعد الإعطاء والأخذ يخصّص ما وصل إليه بنفسه يقول إنّ هذا لي أو أنّه مالي
حتّى أنّه يحلف عليه ويعارض من أنكر كونه له ، فلا فرق في تحقّق البيع وصدق الاسم
بين كون الدالّ على قصد الملك هو الفعل أو القول أو الملفّق منهما ، كما لا فرق في
القول الدالّ عليه بين الألفاظ المخصوصة أو مطلق اللفظ.
وبالتأمّل في
ذلك يظهر أنّ المعاملة البيعيّة لها صور كثيرة ترتقي إلى خمس وعشرين صورة ، وذلك
لأنّها إمّا فعليّة أو قوليّة بالصيغة المخصوصة أو بغيرها من اللفظ
__________________
المطلق ، أو فعليّة وقوليّة بالصيغة المخصوصة أو بغيرها ، وكلّ واحدة من
هذه الخمس إمّا في جانب الإيجاب أو في جانب القبول ، ومرتفع الخمس في الخمس خمس
وعشرون ، أربع منهما بيع بالصيغة وإذا القي عنها هذه الأربع بقيت إحدى وعشرون صورة
كلّها مندرجة في المعاطاة ، لما قيل من أنّ هذه اللفظة في لسان الفقهاء صارت
اصطلاحاً في كلّ معاملة وقعت بغير لفظ أو بغير صيغة مخصوصة ، أو مع اختلال إحدى
الشروط المعتبرة في الصيغة من العربيّة والماضويّة والصراحة وغيرها.
ولا ريب على
المختار في تحقّق ماهيّة البيع في الجميع إذا حصلت بقصد الملك على وجه التعويض
وصدق اسم البيع على الجميع لتبادر القدر المشترك من لفظه عند الإطلاق واستعمال
البيع في كلّ واحدة من غير ملاحظة علاقة وعدم صحّة سلب الاسم عنها. وتوهّم أنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة قد ظهر ما فيه ، كما أنّ توهّم ابتنائه على المسامحة
العرفيّة قد ظهر ما فيه لعدم صحّة سلب الاسم.
ودعوى : أنّه
يطلق عليها البيع مجازاً ولذا يقيّد بالمعاطاة ويقال بيع المعاطاة كما في ماء
البحر ، يدفعها عدم منافاة ذلك الحقيقة لوضوح الفرق بين التقييد والتزامه كما في
ماء البحر ، ولذا يصحّ إطلاق البيع بدون القيد أيضاً ، فالإضافة من إضافة العامّ إلى
الخاصّ والقيد توضيحي فلا يكون علامة للمجاز.
وهل يعتبر
الصيغة المخصوصة أو مطلق اللفظ في مسمّى العقد فالمعاطاة بجميع صورها أو في كثير
منها لا تكون عقد وإن صدق عليها البيع ، أو لا فالمعاطاة عقد كما أنّها بيع؟ قولان
، أوّلهما لازم كلّ من عرّف البيع بالعقد أو الإيجاب والقبول أو اللفظ الدالّ على
نقل الملك ثمّ قال بأنّ المعاطاة ليست بيعاً بل تفيد إباحة التصرّفات أو أنّها
معاوضة مستقلّة.
وقد يقال : إنّ
اللفظ على تقدير اعتباره في مسمّى العقد فإنّما يعتبر في الإيجاب لا في القبول ،
فكلّما تحقّق إيجابه باللفظ فهو عقد سواء تحقّق قبوله أيضاً باللفظ أو بالفعل.
والأقوى عدم اعتباره لا في الإيجاب ولا في القبول ، لا في العقود اللازمة ولا في
العقود الجائزة.
ودعوى : أنّ
الأصحاب أجمعوا على اعتبار اللفظ في مسمّى العقد في الجملة إمّا
إيجاباً فقط أو إيجاباً وقبولاً ، مردودة على مدّعيها.
وبالجملة
فالمعاطاة المبحوث عنها كما يصدق عليها اسم البيع فكذلك يصدق عليها اسم العقد لما
قرّرناه في رسالة منفردة في أصالة الصحّة واللزوم في العقود ، وخلاصته : أنّ العقد
بحسب العرف واللغة عبارة عن الربط والشدّ ، ويصدق على الربط المعنوي المتحقّق بين شخصين
فيما يتعلّق بالأموال أو ما بحكمها ، وهو في محلّ البيع أن يربط البائع سلعته
بالمشتري بجعله بالقصد والنيّة ملكاً له ليصير ما عند المشتري من الثمن في عوضه
ملكاً له والمشتري بقبوله وهو إنشاء الرضا بما صنعه البائع يمضي ربط البائع وجعله
، ولا ريب أنّه أعمّ ممّا يتحقّق بالألفاظ المخصوصة أو بمطلق الألفاظ أو بالأفعال
حيث قارنها القصد والرضا ، فالبائع هو الرابط ، والصيغة المخصوصة في الإيجاب أو
مطلق اللفظ أو الفعل الكاشف عن القصد والرضا ما به الربط ، فالعقد بمعنى الربط
صادق على المعاطاة المبحوث عنها بجميع صورها المتقدّمة وإن قلنا بأنّ وضع العقد
لغة إنّما هو للربط الحسّي كما في ربط أحد طرفي الحبل بطرفه الآخر وربط حبل بحبل
آخر ، وربط خرقة بخرقة ونحوها ، وأنّ إطلاقها على الربط المعنوي مبنيّ على
الاستعارة إذ المقصود عدم اعتبار اللفظ في صدق العقد بمعنى الربط المعنوي وإن قلنا
بكون إطلاقه عليه على وجه الاستعارة.
فالمعاطاة
المقصود بها ملك العوضين عقد بمعنى الربط المعنوي حقيقة ، ولا ينوط صدقه وصحّة
إطلاقه ولو باعتبار المعنى المجازي المستعار له بكون ما به الربط هو اللفظ المخصوص
أو مطلق اللفظ ، نظير الأسد المستعار للرجل الشجاع الصادق باعتبار هذا المعنى على
الأبيض والأسود النافي لاحتمال دخول البياض في معناه المستعار له. وبالجملة لفظ
العقد باعتبار معنى الشدّ والربط كما يصدق على العقود المنعقدة بالألفاظ المخصوصة
أو بمطلق اللفظ ، كذلك يصدق على المعاطاة بجميع صورها سواء فرضناه من المعنى
الحقيقي أو معنى مجازيّاً له ، فالمعاطاة المقصود بها التمليك والتملّك ممّا
يتحقّق به الربط بين المتعاطيين ويصدق عليه اسم العقد صدقاً حقيقيّاً إن كان صدقه
على سائر العقود على وجه الحقيقة أو مجازيّاً إن كان في سائر [العقود] على هذا
الوجه.
وأمّا دفع ما
ذكرناه تارةً بدعوى القطع بعدم كونها ممّا يسمّى عقداً واخرى بأنّ العقد كالبيع من
الموضوعات العرفيّة فلا بدّ في معرفتها من مراجعة العرف وقد فهم فقهاؤها باعتبار
العرف أنّ المعاطاة ليست عقداً ، واضح الدفع بأنّا نقطع بتسميتها عقداً بالوجه
الّذي يسمّى سائر العقود من جهته عقداً كما عرفت ، وأنّ فهم الفقهاء إن اريد به
فهم كلّهم فغير مسلّم ، وإن اريد به فهم بعضهم أو أكثرهم فغير قادح بعد ما ساعد
اللفظ باعتبار الوضع أو العلاقة المصحّحة للاستعمال على تحقّق المعنى المتحقّق في
العقود اللفظيّة ، وهو الربط المعنوي في المعاطاة أيضاً.
الجهة الثانية
: في مدخليّة الصيغة المخصوصة في الصحّة وعدمها ، ويرجع الكلام في ذلك إلى أنّ
المعاطاة المقصود بها التمليك والتملّك ـ بعد ما بنينا على كونها بيعاً ـ هل تقع
صحيحة على معنى كونها بحيث يترتّب عليها أثر حصول الملك وانتقال كلّ من العوضين إلى
مالك الآخر بناءً على عدم كون الصيغة المخصوصة معتبرة في صحّة البيع ، أو أنّها
فاسدة بناءً على اعتبار الصيغة المخصوصة في الصحّة؟ قولان ، ثانيهما للعلّامة في
النهاية كما تقدّم.
وأوّلهما
للمحقّق الثاني ومن تبعه من المتأخّرين ولعلّه أكثر
المتأخّرين إن لم نقل كلّهم ، فالمشهور بين المتأخّرين هو هذا القول.
وقد يتوهّم أنّ
الشهرة القدمائيّة في جانب القول بالفساد نظراً إلى ما تقدّم عن الشيخ وأتباعه من
إنكار إفادتها الملك ، بل عليه كلّ من قال بأنّها تفيد إباحة التصرّفات.
ويدفعه أوّلاً
: أنّ هذا الإنكار بناءً منهم على إنكار كونها بيعاً ، وأمّا على تقدير كونها
بيعاً كما أنّ كلامنا على هذا التقدير فلم يظهر منهم إنكار إفادتها الملك.
وثانياً : أنّه
لم يعلم موافقة الشيخ على هذا القول من أكثر القدماء كابن بابويه والقديمين
والمرتضى وابني حمزة وسعيد وأضرابهما ممّن لم يتعرّض للصيغة المخصوصة في شرائط
الصحّة كما تقدّم.
__________________
وكيف كان
فالأقوى ما هو المشهور بين المتأخّرين من صحّة المعاطاة وإفادتها الملك لوجوه :
أوّلها
: سيرة المسلمين
قديماً وحديثاً في جميع الأعصار والأمصار على أنّهم يعاملون في الأموال المأخوذة
بالمعاطاة معاملة الأملاك في تصرّفاتهم فيها ، من البيع والهبة والوقف والعتق ووطء
الجارية والوصيّة والتوريث واستطاعة الحجّ وإخراج الخمس والزكاة وجعل المهر في
النكاح دواماً وانقطاعاً وما أشبه ذلك ، فتكشف عن رضا صاحب الشريعة وصادعها صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وتوهّم بنائها
على المسامحة وقلّة المبالاة في الدين كما في ارتكابهم لكثير من الامور الغير
المشروعة ، يدفعه عدم كونها حادثة بل قديمة من زمن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأعصار الأئمّة الطاهرين عليهمالسلام ودخول الفقهاء والعلماء والصلحاء والمتّقين والمتورّعين
، مضافاً إلى أنّ من آثار الملكيّة الّتي يرتّبونها على الأموال المذكورة ما لا
مسرح لاحتمال المسامحة فيه ، كالحلف أو الإحلاف عليه في مقام التداعي أو الدعوى
والإنكار وإقامة البيّنة على الملكيّة والقضاء بها ، وعدم تكذيب المدّعي للملكيّة
وكون التكذيب من مكذّبه مستنكراً إلّا إذا استند تكذيبه إلى اختلال شرط من شروط
الصحّة.
وبهذا كلّه
تندفع المناقشة فيها بأنّ أقصاها الكشف عن إباحة التصرّفات ، فإنّ التصرّفات
المبتنية على الملك خصوصاً الحلف والإحلاف وإقامة البيّنة على الملكيّة والقضاء
بها لا تتمّ بدون الملك.
وبهذا كلّه
مضافاً إلى القطع باستقرار السيرة على استناد تصرّفاتهم بأسرها على الملكيّة
واعتقاد حصول الملك من أوّل الأمر وكشفها عن تقرير المعصوم على أصل الملكيّة
واعتقاد حصولها بنفس المعاطاة ابتداءً ومن أوّل الأمر ، يعلم أنّه لا مجال لأحد أن
يقول بمنع اعتبار الملك في التصرّفات المتوقّفة عليه في جميع أحوالها ـ التفاتاً
إلى عدم كون التوقّف عقليّاً حتّى يستحيل الانفكاك بل شرعي ثبت بالإجماع أو غيره
من الأدلّة فيجوز اختصاص موردها بغير المأخوذ بالمعاطاة ، فإنّ نحو هذا الاحتمال
ليس بمستبعد ، كيف وعليه مبنيّ القول بالإباحة ممّن يسوغ جميع وجوه التصرّفات حتّى
المتوقّفة منها على الملك ، مع أنّ نحو هذه التصرّفات من غير ملك مع توقّف نوعها على
الملك بعادم النظير في الشريعة ، كما في بيع ثلث الميّت أو وقفه الموصى
بهما على القول بعدم كونه ملكاً للميّت والمفروض عدم كونه ملكاً للوصي ولا للوارث
، وبيع الوقف العامّ عند قيام ما يسوغه على القول في الوقف بكونه فكّ الملك أو
انتقال ملكه إلى الله عزوجل ، وشراء المملوك من تركة من لا وارث له سواه ليعتق حتّى ينتقل إليه بقيّة
التركة وما أشبه ذلك ـ ولا أن يقول بعد تسليم التوقّف الدائمي على الملك بمنع
اقتضاء السيرة الجارية بنحو هذه التصرّفات سبق الملك وحصوله من أوّل الأمر ،
لكفاية حصوله آناً ما في صحّة التصرّف ، فيجوز حينئذٍ التزام إباحة جميع التصرّفات
مع التزام حصول الملك عند التصرّف المتوقّف على الملك لا من أوّل الأمر.
ثانيها : قوله
تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» فإنّه يدلّ
على الصحّة فيما سمّي بيعاً على معنى كونه بحيث يترتّب عليه أثر حصول الملك ، كما استدلّ
به الفقهاء قديماً وحديثاً على الصحّة في جميع أبواب البيوع. وهذا ممّا لا إشكال
فيه ، بل الإشكال في بيان وجه دلالة الآية على الصحّة فإنّه لا يخلو عن غموض ، غير
أنّ الظاهر أنّها تدلّ عليها بالالتزام ، نظراً إلى أنّ مدلولها المطابقي هو الحكم
التكليفي ، وهو ترخيصه تعالى في المعاملة البيعيّة المتداولة بين الناس المقصود
بها التمليك والتملّك ، إذ الإحلال إفعال من الحلّ عبارة عن جعل الحلّيّة كما أنّ
التحريم من الحرمة عبارة عن جعل الحرمة ، فحاصل معناه أنّه تعالى جعل الحلّيّة
للبيع ورخّص فيه ، ويستلزم ذلك عرفاً كون البيع بحيث يترتّب عليه أثر حصول الملك.
ويؤيّده قرينة
المقابلة بينه وبين قوله : «وَحَرَّمَ الرِّبا» فإنّ تحريمه الربا معناه منعه تعالى من المعاملة
الربويّة وطلب تركها حتماً ، وهذا يكشف عن مبغوضيّة هذه المعاملة في نظره تعالى ،
فيستلزم عرفاً أو عقلاً عدم كونها بحيث يترتّب عليها أثر الملك أو كونها بحيث لا
يترتّب عليها الأثر ، فقوله : «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» بقرينة المقابلة معناه رخّص الله في البيع ، فيكشف عن
عدم مبغوضيّة البيع في نظره تعالى بل كونه بحيث رضي به تعالى ، فيستلزم عرفاً أو
عقلاً كونه بحيث يترتّب عليه الأثر.
__________________
وقد يقال كما
حكي : إنّ الآية تدلّ عرفاً بالمطابقة على صحّة البيع لا على مجرّد الحكم
التكليفي. ولم نتحقّق معناه ، إذ لو اريد به أنّ الإحلال من الحلّ وهو مرادف
للصحّة بمعنى كونه بحيث يترتّب عليه الأثر ، فيكون معنى «أحلّ الله البيع» صحّح
الله البيع ، ففيه منع واضح ، إذ الحلّ بمعنى الحلّيّة باعتبار وضعه العرفي أو
الشرعي كما هو المصرّح به في كلامهم نقيض للحرمة ، وكونه مرادفاً للصحّة يقتضي
وضعه ثانياً بالنقل أو بالاشتراك لمعنى الصحّة ، والأصل ينفيهما ، وعلى هذا فالآية
دالّة بالمطابقة على الحكم التكليفي لا الوضعي.
وأمّا ما يقال
في وجه الاستدلال بالآية : من أنّ المتبادر عرفاً من حلّ البيع صحّته شرعاً ، فإن
اريد به التبادر الأوّلي من حاقّ اللفظ على حدّ التبادرات الوضعيّة الكاشفة عن
الوضع ، فمرجعه إلى دعوى الدلالة بالمطابقة على الصحّة ، وقد عرفت ما فيه.
وإن اريد به
التبادر المستند إلى القرينة الخارجيّة على حدّ تبادرات المعاني المجازيّة
المستندة إلى قرائنها ، فيكون المتبادر على هذا الوجه من أحلّ البيع صحّح الله
البيع ، فأصل الدعوى ممّا لا حزازة فيه إلّا أنّ الإذعان بها يحتاج إلى وجود قرينة
التجوّز في الآية ولم نقف عليها ، فوقوع التجوّز بإرادة الصحّة من الحلّ غير واضح.
وإن اريد به
التبادر الثانوي على حدّ تبادر المداليل الالتزاميّة الحاصل عقيب تبادر المدلول
المطابقي فلعلّه يرجع حينئذ إلى ما قرّرناه فلا حجر فيه حينئذٍ.
وقد يقرّر وجه
الاستدلال بالآية بأنّه يدلّ على حلّيّة جميع التصرّفات المترتّبة على البيع ، ولا
يخلو عن قصور إلّا أن يوجّه بأنّ حلّيّة التصرّفات المترتّبة على البيع تكشف عن
صحّة نظر أهل العرف ومطابقة معتقدهم للواقع ، حيث إنّهم يستعملون البيع في
معاملاتهم باعتقاد التأثير في حصول الملك خصوصاً إذا حمل البيع على تمليك العين
على وجه التعويض كما تقدّم في تعريفه ، بتقريب أنّ التمليك لا يتحقّق ولا يصدق
إلّا حيث حصل الملك ، فالمراد من البيع التمليك المستتبع لحصول الملك ولكن في نظر
أهل العرف وعلى حسب معتقدهم.
والشكّ في الصحّة
والفساد حيث يستدلّ لإثبات الصحّة بالآية يرجع إلى الشكّ في صحّة نظر العرف
ومطابقة معتقدهم للواقع ، وحلّ التصرّفات المترتّبة على البيع بهذا
المعنى يكشف عن صحّة نظرهم ومطابقة معتقدهم للواقع ، على معنى حصول الملك
في الواقع الّذي يستتبعه التمليك المقصود حين المعاملة في نظر العرف وعلى حسب
معتقدهم.
وكيف كان فاورد
على الاستدلال بالآية لإثبات الصحّة مطلقاً أو في خصوص المعاطاة بوجوه :
منها : أنّ
الآية لا تعلّق لها بهذا الدين بل مفادها حكم متعلّق باليهود والنصارى ، لكونها
حكاية عنهم كما يشهد به ظاهر صدر الآية. وفيه من الوهن ما لا يخفى إذ لا شهادة في
صدر الآية بما ذكر بل ظاهر سياقها وما قبلها وما بعدها من الآيات خصوصاً قوله : «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» مع قوله : «فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ
وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» كون الخطاب مع
المسلمين فيكون حلّيّة البيع وحرمة الربا من أحكام الإسلام ، ولو سلّم كون قول «إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا» من مقالة أهل الكتاب فلا ينافي كون الخطاب معهم حال
دخولهم في الإسلام ، نظراً إلى أنّهم لمّا تمسّكوا بعد الإسلام بمقالتهم السابقة
على الإسلام فنزلت الآية لردّهم.
ومنها : عدم
تناول الآية للمعاطاة لعدم كونها بيعاً ، كما عليه مبنيّ قول العلّامة في النهاية.
ويدفعه ما سبق من تحقيقه في الجهة الاولى ، فالاستدلال بالآية إنّما هو [بعد]
الفراغ عن إحراز كونها بيعاً.
ومنها : أنّ من
شروط حجّيّة إطلاق المطلق عدم وروده مورد بيان حكم آخر ، وهذا الشرط غير موجود هنا
، لكون الآية مسوقة لبيان حلّيّة البيع في الجملة على طريقة القضيّة المهملة في
مقابلة تحريم الربا على وجه السلب الكلّي ، من غير نظر إلى التعميم والتخصيص
بالقياس إلى المعاطاة والبيع بالصيغة ، وذلك كما يقال : فلان يلبس الفرو ، فإنّ
معناه ليس أنّه يلبس أيّ فرو أو كلّ فرو حتّى يستدلّ به على الحكم في مطلق حتّى ما
يتّخذ من جلد غير المأكول كالثعلب والأرنب أو من جلد نجس العين كالكلب والخنزير ،
فكأنّه تعالى في الآية قال : «ما أحلّ الله إلّا البيع» من باب قصر الأفراد ردّاً
__________________
على من شرّك في الحلّيّة بين البيع والربى ، كما يفصح عنه قوله : «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» ولا ريب في عدم إطلاق في المستثنى بحيث يعمّ حكمه
المعاطاة.
ويدفعه : أنّ
قوله : «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» ظاهر في كونه
ردّاً وتصديقاً لهم في قولهم «إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبا» الظاهر في اعتقادهم بحلّيّة كلّ بيع وحلّيّة كلّ ربا ،
فردّهم في الثاني ببيان تحريم كلّ ربى مع تصديقهم في الأوّل فيكون في معنى
التعميم.
ومنها : أنّ من
شرط حجّيّة إطلاق المطلق كونه متواطئاً في أفراده ، والتواطئ هنا منتف لانصراف
البيع إلى البيع بالصيغة.
ويدفعه : أنّ
الانصراف لا بدّ له من موجب ، وهو إمّا كمال الفرد فالمحقّقون من الاصوليّين إلى
عدم صلاحيته موجباً له ، وإمّا غلبة وجود أو غلبة إطلاق فهما في جانب المعاطاة ،
لما تقدّم في الجهة الاولى من أنّها غالب الوقوع في معاملاتهم الناس من أهل
الأسواق وغيرهم ولا سيّما في المحقّرات ، ولو سلّم عدم كونهما في جانب المعاطاة
فلا نسلّم كونهما في جانب البيع بالصيغة ، فالتواطؤ الّذي هو من شروط الحجّيّة
حاصل في المقام.
ومنها : أنّ من
شروط الحجّيّة أيضاً عدم كون المطلق مقيّداً بالمجمل ، وهو هنا مقيّد به ، لأنّ من
البيوع ما هو صحيح ومنها ما هو فاسد ومنها ما هو مشكوك الحال ، فما علمناه صحيحاً
نحكم بصحّته ، وما علمنا فاسداً نحكم بفساده ، وأمّا الفرد المشكوك فيه كالمعاطاة
فلا نحكم عليه بالصحّة ولا بالفساد لاحتمال كونه من النوع الصحيح أو من النوع
الفاسد ، وهذا ما يسمّى بالإجمال المصداقي لعدم وضوح دلالة المطلق بالقياس إلى
الفرد المشتبه.
ويدفعه : منع
كون ما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ تقييد المطلق بالمجمل مع كون الإجمال
مصداقيّاً إنّما هو فيما لو كان للماهيّة نوعان ودلّ دليل من الخارج على تقييد
المطلق بأحدهما المعيّن ، على معنى كون المراد منه للماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن
ذلك النوع القاضي بخروج النوع الآخر عن المراد ، ثمّ اتّفق مصداق خارجي يشكّ كونه
__________________
من أفراد النوع المراد أو من أفراد النوع الخارج عن المراد ، وحينئذٍ لا
يمكن التمسّك بإطلاق المطلق لإجراء حكمه على ذلك المفرد لطروء الإجمال له ، بمعنى
عدم اتّضاح دلالته على اندراج هذا المصداق في جملة أفراد النوع المراد ، فيرجع في
حكم ذلك الفرد المشكوك فيه إلى الاصول العمليّة ، وذلك كما في قوله «أعتق رقبة» مع
قيام دليل على تقييد الرقبة بالمؤمنة والشكّ في رقبة خارجيّة في إيمانها وكفرها ،
بخلاف البيع في الآية فإنّ الصحّة ليست من القيود المنوّعة للماهيّة بل هي حكم
شرعي عارض لها مستفاد من الآية ، ومن المحقّق أنّ الحكم المستفاد من الدليل لا
يدخل في موضوعه. فالمراد من البيع الماهيّة القابلة للصحّة والفساد والآية دالّة
بالمطابقة أو بالالتزام على صحّتها ، وينحلّ مفادها إلى أنّ كلّ بيع صحيح ،
والأفراد المعلوم فسادها خرجت عن هذا العموم بالأدلّة المثبتة لشروط الصحّة. وكون
الصيغة وغيرها من الألفاظ من شروط الصحّة أيضاً ليخرج به المعاطاة أيضاً من عموم
الآية ممّا لا دليل عليه ، فيبقى المعاطاة مندرجة في العموم ، للإطلاق ، وأصالة
عدم التقييد فيما فرض عدم دليل على الشرطيّة المستلزمة للتقييد.
وثالثها
: قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» وجه الاستدلال
أنّ الآية مشتملة على النفي والاستثناء ، فبالنفي تدلّ على حرمة أكل المأخوذ
بالطريق الباطل ، وبالاستثناء تدلّ على حلّيّة المال المأخوذ بطريق التجارة عن
تراض ، فيندرج فيه المال المأخوذ بطريق المعاطاة والآية تدلّ على حلّيّة أكله وهو
المطلوب.
والمناقشة فيه
بأنّ المستفاد من الآية حكمان كلّيّان كبرويّان ، أحدهما : أنّ أكل كلّ مال مأخوذ
بالطريق [الباطل] حرام ، والآخر : أنّ أكل كلّ مال مأخوذ بطريق التجارة عن تراضٍ
حلال ، ولا كلام فيهما بل الكلام في الصغرى ، وهي كون أكل مال المعاطاة أكلاً
للمال المأخوذ بالتجارة عن تراض لا بالباطل ، والآية لا تنهض بإثباتها فلا يتمّ
الاستدلال.
__________________
يدفعها : أنّ
الصغرى محرزة بالفرض باعتبار كون المعاطاة المبحوث عنها من التجارة عن تراض ، فإنّ
التجارة بحسب العرف واللغة هو الاكتساب وهو عبارة عن تحصيل المال على وجه الملك
والتملّك ، والظاهر أنّ كلاًّ من المتعاطيين يقصد بدفع ماله وأخذ مال صاحبه عوضاً
عنه تحصيل المال على الوجه المذكور ، فيكون أكله من أكل المال المأخوذ بطريق
التجارة عن تراض إذ المفروض تراضيهما بما يقصدان بالأخذ والإعطاء.
لا يقال : إنّ
قصارى ما يدلّ عليه الآية إنّما هو حلّيّة أكل هذا المال ، والحلّيّة حكم تكليفي
لا يلازم الحكم الوضعي وهو الصحّة ، والكلام إنّما هو في الحكم الوضعي لا التكليفي
فقط ، فالآية تنهض دليلاً للقائلين بالإباحة فلا يثبت بها الصحّة والملكيّة بل لو
قدّرت كلمة «إلّا» وصفيّة على حدّ ما في قوله تعالى «لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا» كما احتمله
بعضهم لم تفد الآية للمستثنى حكماً لا تكليفاً ولا وضعاً ، بل كان في حكم المسكوت
عنه كما هو واضح.
لأنّا نقول ـ مع
أنّ احتمال الوصفيّة ضعيف لا ينبغي الالتفات إليه لانتفاء ما هو من شروط الاستثناء
الوصفي وهو نكارة المستثنى منه كما في الآية المشار إليها : إنّ الصحّة تستفاد من
الآية باعتبار نفي البطلان أو رفع توهّمه بالاستثناء عن التجارة عن تراضٍ.
وتوضيح المقام
: أنّه قد اختلفت القراءة في إعراب «تجارة» من حيث الرفع والنصب ، ومنه اختلف
القول في اعتبار «تكون» ناقصة أو تامّة ، وهاهنا اختلاف آخر في انقطاع الاستثناء ـ
كما هو ظاهر الأكثر ـ واتّصاله ، قال الشيخ الطبرسي في تفسيره مجمع البيان : «قرأ
أهل الكوفة تجارة نصباً والباقون الرفع ... إلى أن قال : من رفع فتقديره إلّا أن
تقع تجارة عن تراض فالاستثناء منقطع لأنّ التجارة عن تراضٍ ليس من أكل المال
بالباطل ، ومن نصب تجارة احتمل ضربين ، أحدهما : إلّا أن تكون التجارة تجارة عن
تراض ، والآخر : إلّا أن تكون الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقام المضاف
إليه مقامه ، فالاستثناء على هذا الوجه أيضاً منقطع» انتهى.
أقول : جعل «تكون»
تامّة بمعنى تقع على قراءة الرفع لعلّه ارتكاب خلاف ظاهر
__________________
لا حاجة إليه ، لصحّة كونها ناقصة بجعل خبرها الظرف المقدّر قدّر بقرينة
الظرف المتقدّم في قوله : «لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ» أي لا يأكل بعضكم مال بعض آخر بواسطة الاكتساب الباطل ،
حالكونه حاصلاً بينكم ، وفسّر في الخبر المرويّ عن الباقر عليهالسلام «بالقمار والربى والنجش بالميزان والظلم» وكأنّه عليهالسلام أراد المثال فيقدّر مثل هذا الظرف في جانب المستثنى ،
فيكون التقدير إلّا أن تكون بينكم تجارة عن تراضٍ ، والظرف باعتبار عامله المقدّر
نصب على الخبريّة قدّم على الاسم للنكارة ، كما أنّه في جانب المستثنى منه نصب على
الحاليّة قدّم على ذي الحال.
ولكن الأوجه هو
قراءة النصب بأحد الوجهين اللّذين نقلهما المفسّر ، والاسم على الوجهين الضمير
العائد إلى الباطل بمعنى الاكتساب والتجارة ، وتأنيثها على ثاني الوجهين واضح ،
وأمّا على أوّلهما فلأنّ الباطل بمعنى الاكتساب يقدّر فيه باعتبار معنى التجارة
تأنيث ، أو لأنّ الضمير المتوسّط بين مرجع مذكّر وخبر مؤنّث ممّا جاز فيه الأمران
من حيث التأنيث والتذكير ، فالأوّل لمطابقة الخبر والثاني لمطابقة المرجع ، واختير
في الآية الأوّل.
والظاهر أنّ
الاستثناء على الوجهين منقطع قصد به رفع توهّم كون التجارة عن تراضٍ من الاكتساب
الباطل ، فيحرم أكل المال المأخوذ بواسطتها على أوّل الوجهين ، أو رفع توهّم كون
الأموال المأخوذة بواسطة التجارة عن تراضٍ من الأموال المأخوذة بواسطة الاكتساب
الباطل فيحرم أكلها أيضاً ، وأيّاً ما كان فيفيد عدم بطلان التجارة عن تراضٍ
بالمعنى المرادف للصحّة ، بناءً على كون الباطل من البطلان بهذا المعنى كما في
قوله تعالى : «لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» أي لا تفسدوها
بالعجب والرياء وغيرهما من أسباب الفساد الّتي منها قطع العمل على ما فهمه العلماء
، كما يكشف عنه استدلالهم بتلك الآية على حرمة قطع العمل في الفرائض وغيرها ، ولو
قدّرنا الباطل بمعنى خلاف الحقّ ليكون معنى قوله «بِالْباطِلِ» أي بغير حقّ واستحقاق شرعي دلّ الاستثناء بمعنى رفع
التوهّم على كون التجارة عن تراضٍ مفيدة للملكيّة ، إذ لا معنى لكون أكل أموال
__________________
التجارة بحقّ واستحقاق شرعي إلّا من جهة إفادتها ملكيّة هذه الأموال.
ولو قدّرنا
خلاف الحقّ في معنى الباطل باعتبار مجرّد الحرمة ، بتقدير أن يكون المراد منه
المعاملات المحرّمة الّتي منع عنها الشارع ـ كالأمثلة المتقدّمة الواردة في
الرواية ـ لكفى عدم كون التجارة عن تراض من الباطل بهذا المعنى في إثبات الدلالة
على الصحّة من جهة الاستثناء ، لأنّ التجارة عن تراضٍ بمفهومها العرفي عبارة عن
الاكتساب على وجه التمليك والتملّك ، ورفع توهّم المنع عنها على هذا الوجه بحسب
متفاهم العرف في معنى إمضاء الشارع لها وترخيصه فيها على هذا الوجه ، فلولا كونها
مفيدة للملك لم يصدق الإمضاء والترخيص على هذا الوجه. هذا كلّه على تقدير
الاستثناء منقطعاً.
وأمّا تقديره
متّصلاً فلا وجه يصحّحه إلّا جعل الباطل كناية عن مطلق الجهات أو المعاملات معرّاة
عن وصف البطلان ، بتجريد المشتقّ عن معنى المبدأ واتّصاف الذات به ليدخل التجارة
عن تراضٍ في جملة آحادها ، كما قد يتكلّف ويقال : إنّما اوتي بتلك العبارة رعاية
لكمال البلاغة مع أداء المقصود بإعطاء حكمي التكليفي والوضعي من حرمة الأكل وبطلان
ما سوى التجارة عن تراض بأخصر العبارات ، فكأنّه أتى بكلامين استثنائيّين مثل أن
يقال : لا تأكلوا أموالكم بجهة من الجهات إلّا أن تكون الجهة تجارة عن تراضٍ ،
لأنّ كلّ جهة باطلة إلّا التجارة عن تراضٍ ، وكان ذلك إعطاء للحكم ببيّنة وبرهان.
ونظير ذلك في
كلام البلغاء كثير ألا ترى أنّه يقال في العرف : «لا تكرم الفسّاق إلّا عالم البلد»
بجعل الفسّاق كناية عن أهل البلد ويراد به استثناء العالم من وصف الفسق الموجب
لعدم شمول النهي له ، فكأنّه قيل لا تكرم أهل البلد إلّا العالم لأنّ كلّهم فسّاق
إلّا العالم. وهذا التأويل في الآية بالنظر إلى قواعد الألفاظ كما ترى تكلّف ركيك
ومجاز بعيد لا يصار إليه إلّا القرينة واضحة ، ومجرّد أصالة الحقيقة في أداة
الاستثناء لا تصلح لها لكونها معارضة بمثلها في المشتقّ مع كونها أولى بالطرح ،
فإنّ انقطاع الاستثناء وإن كان مجازاً إلّا أنّه مجاز شائع يكثر دورانه في
الاستعمالات العرفيّة ، بخلاف تجريد المشتقّ عن وصف المبدأ وجعله للذات البحت
المعرّاة عن الاتّصاف بمبدإ الاشتقاق فإنّه مجاز بعيد بل في غاية البعد لندرة
وروده في الكلام ، ومن المحقّق أنّ أقرب
المجازين وأشيعها وروداً في الكلام أولى وأرجح في مقام التعارض من الآخر ،
ولذا لم يلتفت الأكثر إلى اتّصال الاستثناء هنا.
وقد يقدّر
الاستثناء في الآية على تقدير الانقطاع مع قراءة النصب في «تجارة» بأنّ المعنى
إلّا أن تكون السبب تجارة عن تراضٍ ، ولعلّه لإرجاع ضمير الاسم إلى مرجع معنوي
ينساق من السببيّة المفهومة من كلمة «البا» في قوله «بِالْباطِلِ» بناءً على كونها سببيّة وتأنيثه حينئذٍ لرعاية المطابقة
مع الخبر لا مع الاسم ، فيكون تقدير المستثنى والمستثنى منه في حاصل المعنى «لا
تأكلوا أموالكم بينكم بسبب من الأسباب الباطلة إلّا أن يكون السبب تجارة عن تراضٍ»
والأولى ما تقدّم في كلام المفسّر فليتدبّر.
وقد يستدلّ على
القول المختار بوجهين آخرين :
أحدهما : قوله
تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بتقريب أنّ
المعاطاة عقد كما تقدّم في الجهة الاولى فيشملها عموم الآية ، نظراً إلى أنّ وجوب
الوفاء بالعقد فرع على صحّته وإفادته الملكيّة.
وهذا في ظاهر
النظر لا يخلو عن وجه خصوصاً بملاحظة ما قرّرناه في رسالتنا المنفردة لتأسيس أصالة
الصحّة في العقود من وجه دلالة الآية على ذلك الأصل ، وملخّصه : أنّ كلاًّ من
المتعاقدين يربط ماله بصاحبه ويجعله بالقصد والنيّة ملكاً له في عوض ماله ، ومقتضى
هذا الربط على حسب ما يجعلانه حصول الارتباط وهو صيرورة مال كلّ ملكاً لصاحبه ،
والشكّ في صحّة عقد وفساده راجع إلى حصول ذلك الارتباط في الواقع وعدمه ، باعتبار
الشكّ في إمضاء الشارع للربط المذكور على حسب ما جعله المتعاقدان وعدمه ، غير أنّه
لو حصل فمقتضاه أن يجب على كلّ منهما أن يدفع ماله إلى صاحبه ويمكّنه من التصرّف
فيه ولا يحول بينه وبين التصرّف فيما دخل في ملكه. وهذا كلّه ما يعبّر عنه بالقيام
بمقتضى العقد الّذي يعبّر عنه بالوفاء والإيفاء ، فإنّ معناه القيام بمقتضى العقد
بالمعنى المذكور فقوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» أمر بالوفاء بكلّ عقد بهذا المعنى ، والوجوب المستفاد من
الأمر يلازم حصول الارتباط في الواقع ، فالأمر به
__________________
كاشف عنه ودالّ على إمضاء الشارع للربط المذكور على حسب ما يقصدانه
المتعاقدان ، فيدلّ بالالتزام على حصول الارتباط الواقعي.
ولكن بالقياس
إلى المعاطاة في دقيق النظر محلّ نظر بل موضع منع ، لأنّ الاستدلال بالآية على
الصحّة فيها إنّما يتمّ على القول باللزوم ، وأمّا على القول بالجواز والملك
المتزلزل فلا ، لابتناء هذا القول على تخصيص الآية في دلالتها على وجوب الوفاء
الملازم للصحّة بما اقترن من العقود بالصيغة المخصوصة الجامعة للخصوصيّات المعتبرة
فيها من العربيّة والماضويّة والصراحة وغيرها ، ومرجع هذا التخصيص على ما حقّقناه
في الرسالة المشار إليها إلى تقييد المادّة في العقود بحالة الاقتران بالصيغة ،
وقضيّة هذا التقييد خروج ما لم يقترن بها ومنه المعاطاة ، فالآية عامّ فيما اقترن
لا غير ، فلا يمكن الاستدلال بعمومها على صحّة ما لم يقترن ، فليتدبّر.
وثانيهما :
قوله عليهالسلام : «الناس مسلّطون على أموالهم» فإنّ عموم
سلطنة الناس على أموالهم يقتضي تسلّطهم على تمليك أموالهم للغير بطريق المعاطاة ،
وهذا يقتضي كونها مفيدة للملك وهو المطلوب.
وفيه نظر بل
منع أيضاً ، لأنّ هذا الحديث بعمومه يفيد تسلّط الناس على التمليك في أموالهم بما
كان قابلاً لأن يملّك ، بأن يكون ممّا جعله الشارع سبباً ناقلاً للملك عن مالك إلى
آخر كالبيع بالصيغة المخصوصة ، وحينئذٍ لو قلنا بعدم الصحّة في بعض أفراد كبيع
المحجور عليه لفلس أو سفه ونحوه رجع ذلك إلى نفي السلطنة فيلزم التخصيص في الحديث.
وأمّا ما شكّ
في صحّته وفساده باعتبار الشكّ في كونه قابلاً لأن يملّك ، أي كونه ممّا جعله
الشارع سبباً مملّكاً ، فهو ليس شكّاً في صحّته لأمر يرجع إلى الناس وهو سلطنتهم
على التمليك الّذي هو نوع من التصرّف في أموالهم ، بل لأمر يرجع إلى الشارع وهو
جعله إيّاه سبباً مملّكاً ، فلو بنينا حينئذٍ على عدم الصحّة فيه استناداً إلى أصل
أو دليل دلّ على الفساد لم يرجع ذلك إلى نفي السلطنة ، فلا يلزم تخصيص في
__________________
حديث السلطنة الّذي هو عامّ في السلطنة على التمليك بما جعله الشارع سبباً
مملّكاً ، والشكّ في صحّة المعاطاة راجع إلى جعل الشارع لا إلى سلطنة الناس على
التمليك فيما جعله الشارع سبباً ، فلا يلزم تخصيص في الحديث لو قيل فيها بعدم
الصحّة ، ولذا لا يلزم تخصيص فيه بالحكم بفساد المعاملة مع الصبيّ أو المجنون أو
فيما ليس بمعلوم أو في المعاملة الربويّة ، لأنّه نفي لجعل السببيّة الّذي هو فعل
للشارع لا نفي للسلطنة الّتي هي حالة في ملّاك الأموال.
والفارق أنّ الشكّ
هنا ليس لعروض حالة للمالك أوجبت الشكّ في سلطنته ، بل نشأ عن عروض حالة للعقد وهو
خلوّه عن الصيغة أوجبت الشكّ في سببيّته فليتدبّر.
فدليل القول
المختار منحصر في السيرة وآية أحلّ الله البيع وآية تجارة عن تراض.
وأمّا أدلّة
سائر الأقوال وهي القول بالفساد ، والقول بالإباحة ، والقول بالمعاملة المستقلّة ،
فاستدلّ على القول بالفساد كما عليه العلّامة في النهاية بأمرين :
أحدهما : الأصل
المقرّر تارةً بالقياس إلى الحكم التكليفي ، وهو حرمة تصرف كلّ من المتعاطيين في
مال صاحبه قبل وقوع المعاطاة بينهما ، وقضيّة الأصل بقاؤها بعد وقوعها. واخرى
بالقياس إلى الحكم الوضعي ، وهو الصحّة المتضمّنة لخروج مال كلّ من المتعاطيين عن
ملكه ودخوله في ملك صاحبه وهما أمران حادثان ، وقضيّة الأصل عدم كلّ منهما ،
ومرجعه إلى أصالة بقاء ملك الأوّل وعدم حدوث الملك للثاني.
وثانيهما :
قوله عليهالسلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» المفيد للحصر ،
فإنّ من أحكام البيع الصحيح المفيد للملكيّة أن يكون محلّلاً لما كان حراماً قبله
ومحرّماً لما كان حلالاً قبله ، وقد دلّ الحديث على كون ذلك التحليل والتحريم
منوطاً بالكلام وهو القول والنطق اللفظي ، ولا نعني من مدخليّة الصيغة في الصحّة
إلّا هذا والمعاطاة لا كلام ولا لفظ فيها.
ويرد على الأصل
بجميع تقاديره الخروج عنه بما تقدّم من أدلّة الصحّة.
وأمّا الخبر
فلا بدّ للنظر في دلالته من ذكر الروايات المشتملة عليه بتمامها ، ففي صحيح يحيى
بن الحجّاج قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يجيء فيقول : اشتر لي هذا الثوب واربحك كذا
وكذا ، قال:أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟قلت : بلى ، قال :
لا بأس به ، إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» .
وصحيحة الحلبي
قال : «سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن الرجل يزرع الأرض فيشترط للبذر ثلثاً وللبقر ثلثاً ،
قال : لا ينبغي أن يسمّي شيئاً ، فإنّما يحرّم الكلام» .
وصحيحة سليمان
بن خالد قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل زارع فيزرع أرض آخر فيشترط للبذر ثلثاً وللبقر
ثلثاً ، قال : لا ينبغي أن يسمّي بذراً ولا بقراً ، فإنّما يحرّم الكلام» .
وخبر أبي
الربيع الشامي عن أبي عبد الله عليهالسلام «أنّه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر فيشترط عليه ثلثاً للبذر وثلثاً للبقر
، فقال : لا ينبغي أن يسمّي بذراً ولا بقراً ، ولكن يقول لصاحب الأرض : ازرع في
أرضك ولك منها كذا وكذا نصفاً وثلثاً وما كان من شرط ، ولا يسمّي بذراً ولا بقراً
فإنّما يحرّم الكلام» !
والتأمّل في
مساق هذه الروايات ومفادها يشرف الفقيه على القطع بعدم دلالة المضمون المذكور على
كون اللفظ المخصوص أو مطلق اللفظ معتبراً في صحّة العقد عموماً أو خصوصاً ، بل هي
مسوقة لإعطاء حكم كلّي آخر لا تعلّق له بما نحن فيه ، وهو كونه شرحاً وبياناً
لضابط الشرط المحرّم للحلال أو المحلّل للحرام على ما ورد في بعض الأخبار المعتبرة
من قوله عليهالسلام : «المؤمنون عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ
حراماً» وحاصل معناها أنّ الشرط المحرّم للحلال أو المحلّل
للحرام هو الشرط الملفوظ به في متن العقد المصرّح به في ضمنه ، وهو المراد بالكلام
لا مجرّد المنويّ في ضمنه من دون ذكره والتلفّظ به في متنه ، ولا مجرّد ما تواطئا
عليه المتعاملان قبل العقد من دون أخذه قيداً لفظيّاً في ضمنه.
وقد اعتبروا
نظير ذلك في صحّة الشروط السائغة المأخوذة في العقود اللازمة
__________________
فقالوا : إنّ من شروط صحّة الشرط أن يلتزم به في متن العقد فلو تواطئا عليه
قبله لم يكف في الإلزام والالتزام بالمشروط على المشهور ، بل يعلم فيه خلاف كما في
كلام بعض مشايخنا وقال : إنّ الظاهر من كلمات الأكثر عدم لزوم الشرط الغير المذكور
في متن العقد وعدم إجراء أحكام الشرط عليه وإن وقع العقد مبنيّاً عليه ، بل في
الرياض «عن بعض الأجلّة حكاية الإجماع على عدم لزوم الوفاء بما يشترط لا في عقد
، بعد ما ادّعى هو قدسسره الإجماع على أنّه لا حكم للشروط إذا كانت قبل عقد
النكاح» وتتبّع كلماتهم في باب البيع والنكاح يكشف عن صدق ذلك
المحكيّ فتراهم يجوّزون في باب الرباء والصرف الاحتيال في تحليل معاوضة أحد المتجانسين
بأزيد منه ببيع الجنس بمساويه ، ثمّ هبة الزائد من دون أن يشترط ذلك في العقد ،
فإنّ الحلّيّة لا تتحقّق إلّا بالتواطؤ على هبة الزائد بعد البيع والتزام الواهب
بها قبل العقد مستمرّاً إلى ما بعده ... إلى آخر ما ذكره .
وعلى هذا فحاصل
المعنى المراد من قوله عليهالسلام : «فإنّما يحرّم الكلام» في أخبار باب المزارعة هو أنّ
تسمية كون ثلث من الحاصل للبذر وثلث منه للبقر على معنى التصريح بذكره في متن عقد
المزارعة هو الشرط المحرّم للحلال ، ولا يقدح نيّته من دون تسمية في متن العقد ،
فالحصر المستفاد من كلمة «إنّما» إضافي بالنسبة إلى مجرّد النيّة. والسرّ في تحريم
التسمية بمعنى الاشتراط الملفوظ به في العقد ، أنّ مقتضى عقد المزارعة حلّيّة
الحصّة المشترطة للمالك ـ كالثلث مثلاً ـ له ، وحلّيّة ما زاد عليها كالثلثين
للزارع ، فاشتراط كون أحد الثلثين للبذر والآخر للبقر على معنى التصريح بذكره في
متن العقد شرط حرّم الثلثين معاً على الزارع ، وإذا أخذهما بموجب هذا الشرط فقد
أخذ حراماً.
وفي كلام محكيّ
عن ابن الجنيد كون سبب الحرمة دخوله في عنوان الربا حيث قال : «ولا بأس باشتراك
العمّال بأموالهم وأبدانهم في مزارعة الأرض وإجارتها إذا كان
__________________
على كلّ واحد قسط من المئونة وله جزء من الغلّة ، ولا يقول أحدهم ثلث للبذر
وثلث للبقر وثلث للعمل ، لأنّ صاحب البذر يرجع إليه بذره وثلث الغلّة من الجنس
وهذا رباً ، فإن جعل البذر ديناً جاز ذلك» .
وعن حواشي
المجلسي أنّ قوله «للبذر ثلثاً» يحتمل وجهين :
أحدهما : أنّ
اللام للتمليك والنهي لكونهما غير قابلين للملك ، وثانيهما : أن يكون المعنى ثلث
بإزاء البذر وثلث بإزاء البقر فالنهي لشائبة الربا في البذر.
أقول : ويمكن
أن يكون النهي لجهالة المشروط به من عوض البذر واجرة البقر ، فالثلثان من الحلال
على الزارع الّذي حرّمهما عليه الكلام على معنى الاشتراط الملفوظ به في العقد.
وبالتأمّل فيما
بيّنّاه يظهر حقيقة المراد من حديث يحيى الحجّاج ، فإنّ الضمير المجرور في قوله عليهالسلام : «لا بأس به» راجع إلى قول السائل يقول : «اشتر لي هذا
الثوب وأربحك كذا وكذا» وحاصل معناه بعد قول السائل «بلى» في جواب قوله عليهالسلام : «أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك» أنّه استدعاء ووعد ولا
بأس به ، بل البأس بالكلام المحلّل للحرام والمحرّم للحلال ، والمراد به الشرط
الملفوظ به في متن عقد لازم الّذي يكون محلّلاً لحرام أو محرّماً لحلال ، وهو غير
متحقّق في مورد السؤال بدليل ما فرض من كون الرجل بحيث إن شاء أخذ وإن شاء ترك ،
أي إن شاء اشترى الثوب من الرجل المأمور باشترائه من مالكه بعد الاشتراء وأعطاه
ربح كذا وكذا حسبما وعده ، وإن شاء لم يشتره منه لأنّ الرجل المأمور لم يشترط عليه
الاشتراء في ضمن عقد لازم وهو أن يلزمه بأن يشتري منه بالربح الموعود بعد ما
اشتراه من مالكه ، فإنّه على تقدير وقوعه من الشرط المحلّل للحرام.
والسرّ فيه أنّ
الاشتراط المذكور على تقدير وقوعه في عقد لازم يرجع من الرجل الشارط إلى إثبات
سلطنة لنفسه على صاحبه ، بأن يلزمه بالاشتراء وإعطاء الربح وإن انصرف عنه ولم يشأه
أي وإن لم يرض به ، ولا ريب في حرمته بحسب أصل الشرع
__________________
لأنّه من الإجبار على الاشتراء ، وهو مع الإجبار على البيع سيّان في
الحرمة. والأصل في ذلك بناء العقود شرعاً وعقلاً نصّاً وإجماعاً على رضا الطرفين ،
ومن شئونه ما ورد من «أنّه لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» .
ولا ينتقض ذلك
بإجبار الحاكم في بعض الموارد المالك على بعض ماله لأداء حقّ واجب عليه وإن امتنع
يتولّى بيعه الحاكم ، لأنّه عبارة عن الإجبار على البيع عن الرضا وطيب النفس وإن
امتنع يتولّى الحاكم ، لأنّ الشارع أسقط حينئذٍ رضا المالك وأقام رضا الحاكم مقام
رضاه.
ومن جزئيّات
القاعدة ما أفتى به الفاضلان في الشرائع والتذكرة وغيرهما من جواز اشتراء البائع متاعه ممّن باعه منه
بشرط أن لا يشرط في بيعه الأوّل بيعه منه. وظاهر عبارة الحدائق كون هذا الشرط
وفاقيّاً بين أهل القول بصحّة الاشتراء ، وعلى اعتبار هذا الشرط حمل ما رواه
الحسين بن المنذر قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة فأشتري له المتاع مرابحة
ثمّ أبيعه إيّاه ثمّ أشتريه منه مكاني ، قال : إذا كان بالخيار إن شاء باع وإن شاء
لم يبع وكنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت وإن شئت لم تشتر فلا بأس ...» الخ ، قال :
وفي هذا الخبر إيماء إلى أنّه مع الشرط لا يصحّ البيع» .
وأظهر منه في
ذلك ما رواه في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام قال : «سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم ثمّ اشتراه
بخمسة دراهم يحلّ؟ قال : إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس» .
أقول : وفي
معناهما روايات مستفيضة اخر ، فوجه المنع من الاشتراط على ما بيّنّاه ليس لزوم
الدور كما فهمه العلّامة في التذكرة ٧ ولا عدم حصول القصد إلى نقله عن البائع ،
لاندفاع الأوّل بأنّ الموقوف على حصول الشرط هو لزوم البيع الأوّل لا إفادته
الملكيّة للمشتري ، واندفاع الثاني بأنّ الفرض حصول القصد.
__________________
وبالجملة شرط
اشتراء المتاع في ضمن العقد اللازم على وجه يكون مفاده إلزام المشروط عليه
بالاشتراء وإجباره عليه وإن لم يشأه ولا يرضى به من الشرط المحلّل للحرام ، لأنّ
إلزام الإنسان باشتراء ما لم يشأ اشتراءه ولا يرضى به حرام ولا يضرّ قصده من غير شرط.
وما ذكرناه في ردّ الاستدلال أولى وأسدّ ممّا ذكره في الرياض ومن تبعه «من أنّها
محمولة على اللزوم وعلى ما بعد الرجوع جمعاً بينها وبين ما دلّ على الإباحة
بالتراضي من الإجماع في الغنية وشرح القواعد وعدم الخلاف بين الطائفة» كما يظهر
بالتأمّل للمنصف.
واستدلّ على
القول بالإباحة بعد نفي البيعيّة لما تقدّم في الجهة الاولى لنفي النقل والانتقال
بالأصل ولإباحة التصرّفات بإجماع الغنية ـ كما أشار إليه السيّد في كلامه
المتقدّم ـ وبسيرة المسلمين كافّة.
ونفي البيعيّة
مندفع بما مرّ في الجهة الاولى مشروحاً ، والأصل مندفع بما تقدّم من أدلّة الصحّة
، وإجماع الغنية بعدم مقاومته السيرة القائمة بالملكيّة من ابتداء الأمر وإجراء
أحكامها ، والسيرة مندفعة بأنّها [لا] تثبت أزيد من إباحة التصرّفات. مع أنّ
الإباحة المجرّدة عن الملك إن اريد بها الإباحة المالكيّة ، فهي غير مقصودة
للمتعاطيين بل المقصود هو التمليك والتملّك الّذي من أحكامه شرعاً جواز التصرّفات
قصده المتبايعان أو لا فما قصداه لم يقع وما وقع لم يقصداه فيبطل ، وإن اريد بها
الإباحة الشرعيّة فلا بدّ لها من دليل وأدلّة إثباتها على ما عرفت مدخولة.
وممّا يرد على
هذا القول أنّه لو لا الملك في الأموال المأخوذة بالمعاطاة لأشكل الحال في وطء
الجارية ولمسها وسائر الاستمتاعات بها ، لأنّ حلّ هذه الامور إمّا بملك اليمين أو
التحليل أو النكاح والكلّ منتف ، أمّا انتفاء الأوّل فلأنّه المفروض ، وأمّا
انتفاء الثاني فلأنّ له صيغة مخصوصة ولم يتحقّق من مالكها في المقام ، وأمّا
انتفاء الثالث فواضح. وكذلك الإشكال في عتقها إذ لا عتق إلّا في ملك ، وإرثها إذ
الوارث يتلقّى
__________________
الملك من مورثه وإذ لا ملك للمورّث لا إرث لوارثه. وكذلك في الوقف والرهن
والهبة والبيع والإجارة وغيرها من التصرّفات المتوقّفة على الملك.
وقد يتفصّى عن
الإشكال بأحد وجهين :
الأوّل : منع
توقّف التصرّفات المذكورة على الملك بقول مطلق ، لجواز تخصيص القاعدة العامّة
الثانية بأدلّة اشتراط هذه التصرّفات بالملك فتخصّص بما عدا الأموال المأخوذة
بالمعاطاة ، ويقال بأنّها في هذه الأموال لا تتوقّف على الملك فإنّه ليس بعادم
النظير ، بل له في الشريعة نظائر كثيرة :
منها : ثلث
الميّت يبيعه الوصيّ وهو ليس بملك أحد من الوصيّ والوارث والميّت ، أمّا الأوّل
فواضح ، وأمّا الثاني فلاختصاص ملكه بما زاد على الثلث ، وأمّا الثالث فلعدم كونه
قابلاً لأن يملك ، لأنّ الملك عرض فيحتاج إلى محلّ يقوم به والميّت غير صالح له.
ومنها :
الأراضي الخراجيّة يتصرّف فيها الوالي ببيع وصلح ونحوه إذا اقتضته المصلحة ليصرف
ثمنها في مصالح المسلمين.
ومنها :
الأوقاف العامّة إذا حصل لبيع شيء منها جهة مسوّغة فيبيعه الحاكم أو الناظر.
ومنها : شراء
المملوك من تركة من لا وارث له سواه ليعتق حتّى ينتقل إليه سائر التركة ، نظراً
إلى أنّ الرقّية من حواجب الإرث فلا بدّ من زوالها بالعتق يتولاهما الحاكم أو غيره
من عدول المؤمنين ، مع أنّ الثمن ليس ملكاً حال الشراء.
الثاني : منع
انتفاء الملك في محلّ هذه التصرّفات مطلقاً ، لجواز حدوثه آناً ما من حين التصرّف
المتوقّف عليه قهراً من الله سبحانه ، كما وقع نظيره في شراء من ينعتق على المشتري
كأحد العمودين على القول بأنّه يملكه آناً ما فينعتق عليه بعده.
ولا يخفى ما
فيهما من الضعف خصوصاً ثانيهما ، ولذا قيل بأنّ التزام حدوث الملك عند التصرّف
المتوقّف عليه لا يليق بمتفقّه فضلاً عن الفقيه.
أمّا ضعف
الأوّل فلأنّ تخصيص القاعدة لا بدّ له من دليل والتزامه بدونه غير سائغ ، ولا دليل
عليه. والاستشهاد بالأمثلة المذكورة يدفعه منع انتفاء الملك فيها ، أمّا ثلث
الميّت فلأنّه ملك له كما هو ظاهر الأخبار المتكفّلة لبيان أنّ له ثلث ماله أو ليس
له إلّا ثلث ماله. ودعوى : أنّه غير قابل لأن يملك ، لا دليل عليها من عقل ولا
نقل. وكون
الملك عرضاً وكون العرض ممّا يفتقر إلى المحلّ مسلّم ، وعدم كون الميّت
صالحاً له غير مسلّم إلّا باعتبار كونه معدوماً ، والمعدوميّة ممنوعة لأنّ محلّ
الملك في حال الحياة هو النفس الإنسانيّة وهي باقية بعد الموت ، غاية الأمر زوال
ملكيّة الزائد على الثلث بسبب انتقاله بالموت إلى الوارث فيبقى الثلث على كونه
ملكاً له ولو بحكم الاستصحاب.
وأمّا الأرض
الخراجيّة فلأنّ الأراضي الخراجيّة ملك لجميع المسلمين ، ولمّا كان اجتماع الكلّ
على بيع شيء منها متعذّراً فيقوم الوالي مقامهم ، فهو بيع للملك صدر ممّن يقوم
مقام المالك.
وأمّا الوقف
العامّ فلأنّ انتفاء الملك في الأوقاف العامّة مبنيّ على كون الوقف فكّ ، وأمّا
على القول بكونه نقلاً للملك إلى الموقوف عليهم أو إلى الله سبحانه فلا ، والحاكم
أو الناظر عند قيام الجهة المسوّغة للبيع يقوم مقام المالك فهو أيضاً بيع للملك
صدر من يقوم مقام المالك.
وأمّا ثمن شراء
المملوك من تركة من لا وارث له سواه فلجواز بقاء جميع التركة في نحو هذه الصورة في
ملك الميّت إلى أن يحصل من يصلح وارثاً بزوال رقّيته مثلاً ، ودعوى الاستحالة
مردودة على مدّعيها كما عرفت.
وأمّا ضعف
الثاني فلأنّ حدوث الملك آناً حين التصرّف يقتضي سبباً ولا سبب له سوى المعاطاة
السابقة ومقتضاها حصول الملك من ابتداء الأمر ، وتنظير المقام بشراء أحد العمودين
على القول بأنّه يملكه المشتري آناً ما مقايسة باطلة ، لأنّ حصول الملك له سببه
وهو البيع الواقع على الملك ثمناً ومبيعاً متحقّق وكونه آناً ما لما دلّ على أنّ
الإنسان لا يملك العمودين حملاً له على الاستقرار والدوام جمعاً. ولأجل ما ذكرنا
ذكر الشيخ قدسسره في شرحه للقواعد في تزييف القول بالإباحة بما ملخّصه من
أنّ القول بالإباحة من غير ملك مع قصده حين المعاملة دون الإباحة يستلزم إمّا
إنكار ما ثبت بالضرورة والسيرة القطعيّة جوازه أو إحداث قواعد جديدة حيث قال ـ في
ردّ هذا القول المدّعى عليه الشهرة والإجماع ـ : «وهو مردود بالسيرة المستمرّة
القاطعة في إجراء حكم الأملاك على ما اخذ بالمعاطاة ، من إيقاع عقد البيع والإجارة
والهبة
والصلح والصدقة وجميع العقود ممّا يتعلّق بتمليك الأعيان أو المنافع عليه ،
وتعلّق العتق والوقف والحبس والرهن والربى والنذور والايمان والوصايا ونحوها به ،
وكذا حكم المواريث والأخماس والزكوات واستطاعة الحجّ ، والنظر إلى الجواري ولمسهنّ
ووطئهنّ وتحليلهنّ وتزويجهنّ ونحو ذلك ، فيلزم إمّا إنكار ما جاز بداهة أو إثبات
قواعد جديدة» انتهى.
أقول : بطلان
اللازم الأوّل واضح ، لأنّ الضرورة والسيرة القاطعة لا تقابل بالإنكار. وأمّا
بطلان اللازم فالإذعان به يستدعي ذكر القواعد الجديدة الّتي ذكرها ونقلها بعين
عبارته قدسسره.
فأوّل ما ذكره
من القواعد قوله : «إنّ العقود وما يقوم مقامها لا تتبع القصود ، وقصد الملك
والتملّك عند المعاملة والبناء عليهما لا محض الإباحة لا ينافيها» انتهى.
وملخّصه : أنّ
قضيّة هذا القول وقوع الإباحة الغير المقصودة في محلّ قصد الملك والتملّك دونهما ،
وهو باطل لأنّ العقود تتبع القصود فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد.
ونوقش بأنّه
ليس إحداثاً لقاعدة جديدة بل هو تخصيص لقاعدة شرعيّة ، ويكفي في دليله الإجماع
المنقول على نفي البيعيّة ، وقوله عليهالسلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» على نفي الملكيّة
وإنّما صيّر إلى الإباحة مع عدم كونها مقصودة لقضاء السيرة القاطعة بذلك ، وظاهر
أنّ المرء متعبّد بالدليل الشرعي فلزوم مخالفة القاعدة غير ضائر.
ويدفعه ـ بعد
الإغماض عمّا يرد منقول الإجماع على نفي البيعيّة وعلى دلالة الرواية ممّا ذكرناه
مشروحاً ـ أنّ هذه السيرة المتمسّك بها على اختيار الإباحة الغير المقصودة بنفسها
على بطلان دعوى تخصيص القاعدة وفساد دليله ، وذلك لأنّها قديماً وحديثاً مستقرّة
في الالتزام بالبيعيّة والالتزام بالملكيّة والالتزام بجواز عموم التصرّفات ، على
أنّه من أثار الملك لا على أنّه من توابع الإباحة المالكيّة.
وثانيها : أنّ
إرادة التصرّف من المملّكات فتملّك العين والمنفعة بإرادة التصرّف بها أو معه دفعة
وإن لم يخطر ببال المالك الأوّل الإذن في شيء من هذه التصرّفات لأنّه
__________________
قاصد للنقل من حين الدفع وأنّه لا سلطان له بعد ذلك بخلاف من قال : أعتق
عبدك عنّي وتصدّق بمالي عنك» انتهى. والضمير في قوله «بها» راجع بإرادة التصرّف
وإنّما ذكره تأكيداً لقوله «بإرادة التصرّف» للتنبيه على أنّ المقصود في المعطوف
عليه فرض إرادة التصرّف سبباً تامّاً ، وفي المعطوف بأو وهو قوله «أو معه» فرضها
مع نفس التصرّف سبباً على أن يكون كلّ واحد جزءاً للسبب فتملّك بهما دفعة واحدة أي
في آن واحد ، وهو آن التصرّف لتقدّمه على الملك باعتبار كونه جزءاً للسبب ذاتاً
وإن قارنه زماناً فتأمّل. وقوله : «بخلاف من قال» الخ قصد بذلك إلى رفع توهّم كون
المملّك في هذين المثالين هو إرادة التصرّف ، وحاصل ما قصد به من الدفع إبداء كون
المملّك فيهما الهبة الضمنيّة فتأمّل.
وثالثها : أنّ
الأخماس والزكوات والاستطاعة والديون والنفقات وحقّ المقاصّة وحقّ الشفعة
والمواريث والربى والوصايا تتعلّق بما في اليد مع العلم ببقاء مقابله وعدم التصرّف
به أو عدم العلم فينفى بالأصل فتكون متعلّقة بغير الأملاك ، وأنّ صفة الغنى والفقر
تترتّب عليه كذلك فيصير ما ليس من الأملاك بحكم الأملاك» انتهى.
ومراده بما في
اليد الّذي تتعلّق به الامور المذكورة ما فيها من الأموال المأخوذة بالمعاطاة
فإنّها غير مملوكة على الفرض ، وتتعلّق بها ما من حقّه أن يتعلّق بالأموال
المملوكة ، وهذا هو مخالفة القواعد المشهورة الشرعيّة ، وإذا جاز ذلك صار قاعدة
جديدة ، وبطلان اللازم في أكثر هذه الامور مسلّم ، وفي بعضها محلّ منع كاستطاعة
الحجّ فإنّها تحصل بأدون من الأموال المباحة الواصلة في اليد كبذل ما يكفيه في
زاده وراحلته فلئن يحصل بتلك الأموال طريق الأولويّة لأنّ المناط صدق أنّه يستطيع
إليه سبيلاً ، ولا يتوقّف ذلك على ملكيّة المال الكافي في الزاد والراحلة ، وفي
بعضها محلّ تأمّل فإنّ أداء الدين من هذه الأموال وإيجابه البراءة للذمّة لا يقصر
عن أداء المتبرّع وصدق اليسار مع وجودها الّذي عليه مدار وجوب الإنفاق على من عليه
نفقته من الزوجة والمملوك والدابّة وغيرها ممّن ذكر في باب النفقات.
ورابعها : كون
التصرّف من جانب مملّكاً للجانب الآخر مضافاً إلى غرابة استناد الملك إلى التصرّف.
وخامسها : جعل
التلف السماوي من جانب مملّكاً للجانب الآخر والتلف من الجانبين معيّناً للمسمّى ،
ولا رجوع إلى قيمة المثل حتّى يكون له الرجوع بالتفاوت ومع حصوله في يد الغاصب أو
تلفه فيها ، فالقول بأنّه المطالب لأنّه تملّك بالغصب والتلف في يد الغاصب غريب ،
والقول بعدم الملك بعيد مع أنّ التلف القهري أنّ ملك التالف قبل التلف فهو عجيب ،
ومعه بعيد لعدم قابليّته حينئذٍ وبعده ملك معدوم ومع عدم الدخول في الملك يكون ملك
الآخر بغير عوض ونفي الملك مخالف للسيرة وبناء المتعاطيين.
وسادسها : أنّ
التصرّف إن جعلناه من النواقل القهريّة فلا يتوقّف على النيّة فهو بعيد ، وإن
أوقفناه عليها كان الواطئ للجارية من غيرها واطئاً بالشبهة ، والجاني والمتلف
جانياً على مال الغير ومتلفاً له.
وسابعها : أنّ
النماء الحادث قبل التصرّف إن جعلنا حدوثه مملّكاً له دون العين فبعيد ومعها فكذلك
وكلاهما منافٍ لظاهر الأكثر ، وشمول الإذن له غير خفيّ.
وثامنها : قصر
التمليك على التصرّف مع الاستناد فيه إلى أنّ إذن المالك فيه إذن في التمليك ،
فيرجع إلى كون المتصرّف في تمليك نفسه موجباً قابلاً ، وذلك جارٍ في القبض بل هو
أولى منه لاقترانه بقصد التمليك دونه» انتهى.
قال شيخنا قدسسره : «والمقصود من ذلك كلّه استبعاد هذا القول ، لا أنّ
الوجوه المذكورة تنهض في مقابل الاصول والعمومات ، إذ ليس فيها تأسيس قواعد جديدة
لتخالف القواعد المتداولة بين الفقهاء» ثمّ أطنب قدسسره في الجواب عن جميع الامور المذكورة ومن يطلبه يراجع
كتاب متاجره ، والّذي يسهّل الخطب في المقام أنّها استبعادات واستغرابات لا تقاوم
دليل هذا القول على نفي البيعيّة ونفي الصحّة بمعنى ترتّب الأثر المقصود وعلى
إثبات الإباحة إن تمّ دلالته وسنده فالقائل على تقدير تماميّة دليله يلتزم بجميع
اللوازم المذكورة ولا يلتفت إلى الاستبعادات ، والعمدة إبطال دليله وقد ذكرناه بما
لا مزيد عليه.
الجهة الثالثة
: في مدخليّة الصيغة أو مطلق اللفظ في اللزوم وعدمه ويرجع البحث
__________________
في ذلك إلى أنّ المعاطاة هل تقع لازمة من ابتداء الأمر مطلقاً كما هو
المعروف عن المفيد بناءً على ظاهر عبارته ، أو بشرط كون الدالّ على
التراضي لفظاً كما حكاه في المسالك عن بعض معاصريه وربّما قوّاه جماعة من متأخّري المحدّثين ، أو تقع جائزة مطلقاً فيجوز لكلّ
منهما الرجوع على صاحبه فيما دفعه إليه كما عليه أكثر القائلين
بالملك بل قيل كلّهم عدا من عرفت؟
والأصل العملي
مع الأصل الاجتهادي عموماً وخصوصاً يساعد على الأوّل.
أمّا الأصل
العملي فهو استصحاب الملك المشكوك في زواله بمجرّد رجوع مالكه الأصلي.
والمناقشة فيه
بأنّ الثابت هو الملك المشترك بين المستقرّ والمتزلزل ، والأوّل لا يقين بحدوثه من
أصله والثاني لا شكّ في ارتفاعه بعد الرجوع فلا معنى لاستصحابه مدفوعة ، «لا لما
قيل من أنّ انقسام الملك إلى المتزلزل والمستقرّ ليس باعتبار اختلاف في حقيقته
وإنّما هو باعتبار حكم الشارع عليه في بعض المقامات بالزوال برجوع المالك الأصلي ،
ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملّك لا اختلاف حقيقة الملك فجواز
الرجوع وعدمه من الأحكام الشرعيّة للسبب لا من الخصوصيّات المأخوذة في المسبّب إذ
لا اختلاف في حقيقة السبب سواء اريد به حقيقته الجنسيّة وهي العقديّة أو حقيقته
النوعيّة وهي البيعيّة ولا شبهة في شيء منهما على ما تقدّم تحقيقه في الجهة
الاولى وليس للمعاطاة حقيقة اخرى سواهما» بل لعدم انقسام الملك إلى قسمين ليكون
الثابت في المحلّ أمراً مشتركاً مردّداً بين القسمين حتّى لا يمكن استصحابه.
وذلك أنّ
التزلزل في الملك المتزلزل ليس صفة منوّعة ليكون المتزلزل نوعاً آخر من الملك
مقابلاً للملك المستقرّ ، بل هي صفة انتزاعيّة تنتزع من الملك باعتبار كونه
__________________
بحيث يرتفع بطروء ما جعله الشارع رافعاً له ، فالشكّ في المقام إنّما هو
لطروء ما يشكّ في رافعيّته وهو رجوع المالك الأصلي ، وإلّا فالملك ليس إلّا نوع
واحد وهو ملك مستقرّ ثابت كالطهارة المسبّبة من الوضوء مثلاً ، وقد جعل الشارع له
روافع كالإقالة والفسخ فيما خياره لأحد المتبايعين بأصل الشرع أو لاشتراطه في ضمن
العقد ، كما جعل للطهارة روافع من البول والغائط والريح والنوم فهي بحيث ترتفع
بطروء ما جعله الشارع رافعاً لها ، ولا يلزم من ذلك أن يكون لها قسمان ولذا جارٍ
استصحابها عند الشكّ في رافعيّة المذي الخارج من المتطهّر ، وكذلك الملك فلا مانع
من استصحابه عند الشكّ في ارتفاعه للشكّ في رافعيّة الرجوع ، وإنّما اختصّ ذلك
الشكّ بالمعاطاة لأنّ الصيغة في البيع بالصيغة أوجبت سقوط حقّ الرجوع المطلق من
المتبايعين واللزوم إنّما هو من جهته.
وأمّا الأصل الاجتهادي
العامّ فهو أصالة اللزوم في العقود إلّا ما خرج بالدليل ، والمعاطاة عقد ودليله
عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» على ما حقّقناه في رسالة منفردة. وأمّا الأصل الاجتهادي
الخاصّ فهو أصالة اللزوم في البيع إلّا ما خرج بالدليل ، ودليله الأخبار المثبتة
للخيارات الّتي منها صحيحة الفضيل قال : «قلت له : ما الشرط في الحيوان؟ قال :
ثلاثة أيّام للمشتري ، قلت : وما الشرط في غير الحيوان؟ قال : البيّعان بالخيار ما
لم يفترقا» فإنّها في إثبات الخيار في فروض مخصوصة من البيع تدلّ
التزاماً على أنّ الأصل فيه أن يكون لازماً ، خرج عنه الفروض المشار إليها كخيار
المجلس وخيار الحيوان وخيار تأخير الثمن وخيار الرؤية وخيار الغبن وخيار العيب وما
أشبه ذلك ، فدليل هذا القول قويّ جدّاً.
وأمّا القائلون
بعدم اللزوم فليس لهم في مقابله إلّا الإجماع ، ويمكن تقريره بوجهين :
أحدهما : الإجماع
المحصّل المستفاد من كلماتهم صراحة وظهوراً على أنّ الصيغة المخصوصة لها أثراً
خاصّاً ، ومن مشايخنا «من ادّعى الإجماع المحصّل والمنقول بل الضرورة على أنّ للصيغ المخصوصة
أثراً بيّناً» ويؤذن بذلك ما في شرح القواعد من
__________________
قوله : «إنّا نعلم يقيناً أنّ للصيغ الخاصّة أثراً خاصّاً ، ولو كان اللزوم
غير موقوف عليها لم يكن لها أثر» وهذا الأثر المجمع عليه إمّا أن يكون تأثيرها في صدق
الاسم ، أو يكون تأثيرها في الصحّة وإفادة الملك ، أو يكون تأثيرها في اللزوم ،
والأوّلان باطلان إذ لا إجماع ولا ضرورة على اعتبارها في صدق الاسم أو الصحّة
والملك ، مضافاً إلى ما تقدّم من الأدلّة الّتي عمدتها السيرة القطعيّة على كلّ من
الصدق والملك بدونها بل بدون اللفظ مطلقاً ، فتعيّن أن يكون التأثير الخاصّ المجمع
عليه تأثيرها في اللزوم ، وقضيّة ذلك أن لا لزوم في المعاطاة وإلّا لزم أن لا يكون
للصيغ المخصوصة تأثير أصلاً وهذا خلاف الإجماع ، وهذا هو معنى ما في كلام الشيخ
المتقدّم من أنّه لو كان اللزوم غير موقوف عليها لم يكن لها أثر.
وتوهّم : أنّ
هذا الأثر يمكن أن يكون أحكام العقد على معنى انعقاده محكماً فبدونها لا يكون
محكماً لا أنّه لا يكون لازماً ، توهّم سخيف لا ينبغي الالتفات إليه ، لأنّ العقد
إذا انعقد لازماً فلا يتعقّل لعدم إحكامه معنى بل لم تتحقّق للإحكام وعدمه معنى
سوى اللزوم وعدمه.
وثانيهما :
الإجماع المنقول المصرّح به في كلام غير واحد جزماً أو ظنّاً المعتضد بالشهرة
المحقّقة والمحكيّة ولو عند المتأخّرين.
أمّا الإجماع
فمنه ما عن المحقّق الكركي في جامع المقاصد من «أنّه يعتبر اللفظ في العقود
اللازمة بالإجماع» .
ومنه ما عن
الشيخ في شرح القواعد «من الإجماع محصّلاً ومنقولاً على عدم كفاية المعاطاة في
اللزوم» .
ومنه ما يظهر
أو يحتمل دعواه من عبارة المسالك لقوله في تحسين قول المفيد أو قول بعض معاصريه : «ما
أحسنه وأمتن دليله إن لم ينعقد الإجماع على خلافه» بناءً على كون
مراده من مخالفة هذين القولين للإجماع مخالفته في دعوى اللزوم بدون
__________________
الصيغة المخصوصة كما هو الظاهر لا مخالفتهما في دعوى البيعيّة أو الصحّة.
ومنه ما تقدّم
من السيّد في الغنية بعد قوله : «فإنّ ذلك ليس ببيع وإنّما هو إباحة للتصرّف بناءً
على أنّه نصّ في الإجماع على نفي اللزوم وإن كان ظاهراً في الإجماع على نفي الملك
فيؤخذ بنصّه ويطرح ظاهره جمعاً بينه وبين السيرة الصريحة في إفادته الملك كما قيل.
ومنه ما في
كلام بعض مشايخنا من دعوى ظهوره بقوله : «إنّ الظاهر فيما نحن فيه قيام الإجماع
على عدم لزوم المعاطاة ، قال : بل ادّعاه صريحاً بعض الأساطين ويعضده الشهرة
المحقّقة ، وقال بُعيد ذلك أيضاً : والإجماع وإن لم يكن محقّقاً على وجه يوجب
القطع إلّا أنّ المظنون قويّاً تحقّقه على عدم اللزوم مع عدم لفظ دالّ على إنشاء
التمليك سواء لم يوجد لفظ أصلاً أم وجد ولكن لا لإنشاء التمليك بل ليكون قرينة على
قصد التمليك من التقابض» .
وأمّا الشهرة
فتحقّقها بين المتأخّرين واضح ولا يستراب فيه وحكاها غير واحد كما حكاها شيخنا في
عبارته المتقدّمة ، وممّن حكاها المحقّق الثاني في كلامه المتقدّم عند نقل الأقوال
حيث قال : «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم يكن كالعقد في اللزوم» .
ولا تتوهّن
الإجماعات المذكورة بمخالفة المفيد إمّا لعدم صراحة عبارته في دعوى اللزوم بدون
الصيغة أو لشذوذه ومعلوميّة نسبه فلا يقدح مخالفته في الإجماع خصوصاً على طريقة
المتأخّرين في تحصيل الإجماع من ابتنائه على الحدس.
ومن ذلك ظهر
عدم قدح مخالفة من تبعه من متأخّري المحدّثين. وكذلك لا يقدح فيه ما في كلام
العلّامة في التحرير من قوله : «الأقوى أنّ المعاطاة غير لازمة» مشعراً بوجود
القول باللزوم وإن كان خلاف الأقوى إمّا لاحتمال كونه إشارة إلى خلاف العامّة أو
إلى عبارة المفيد الغير الصريحة وقد عرفت حالها.
نعم قد يناقش
في الإجماع بأنّ قول الأكثر من المجمعين وهم القائلون بالإباحة
__________________
بعدم اللزوم مبنيّ على نفي الملك بل نفي البيعيّة أيضاً فالسالبة في كلامهم
بانتفاء الموضوع ، وهذا قادح في الإجماع لأنّه بسبب دخول قول الأكثر لا يكشف عن
رأي المعصوم وأنّ معتقده في المعاطاة على تقدير الملك هو عدم اللزوم وكلامنا في
هذا التقدير لا غير.
هذه المناقشة
إن تمّت لوردت على التقرير الأوّل أيضاً ، ولكنّها واضح الدفع بأنّ الإجماعات
المعتضدة بالشهرة المحقّقة والمحكيّة تكشف كشفاً ظنّيّاً عن أنّ المعاطاة الّتي
بأيدي الناس وحالها غير خفيّة على المعصومين عليهمالسلام غير لازمة عند المعصوم ، وأنّ هذا رأي المعصوم ومعتقده
، ومعنى عدم اللزوم أنّه يجوز لكلّ من المتعاطيين الرجوع فيما دفعه إلى صاحبه ،
وهذا الجواز مستند إلى سلطنة كلّ منهما على صاحبه باسترجاع المال المدفوع إليه
قهراً ، غير أنّ الشبهة الّتي منها نشأ الاختلاف في الملك وعدمه إنّما هي في أنّ
هذه السلطنة المقتضية للجواز هل هي من مقتضى بقاء الملك السابق في المال لصاحبه
الأصلي أو أنّها مجعولة من الشارع جعلها لكلّ منهما من حيث عدم إتيانهما بالصيغة
المخصوصة عند المعاملة؟
وقول الأكثر
بعدم اللزوم بناءً منهم على نفي الملك إنّما يقدح في استكشاف رأي المعصوم من
الإجماع أن لو أردنا إثبات الجواز المستند إلى السلطنة المجعولة من الشارع هنا
بالخصوص بالإجماع على معنى الاستناد في إثبات الجواز المقيّد بوصف كونه مقيّداً
إلى الإجماع بأن يكون المستند في إثبات كلّ من المقيّد وقيده هو الإجماع ، وحينئذٍ
يرد عليه أنّ الإجماع لدخول الأكثر في جملة المجمعين لا يكشف عن ذلك على معنى كون
معتقد المعصوم استناد الجواز إلى خصوص السلطنة المجعولة وهذا ليس بمراد ، بل
المراد إثبات الجواز المستند إلى سلطنته لهما لا بقيد كونها من مقتضى بقاء الملك
ولا بقيد كونها مجعولة لهما هنا بالخصوص ، فأنّا في هذا المقام لسنا بصدد إثبات
المقيّد بوصف كونه مقيّداً ولا إثبات قيده ، بل بصدد إثبات ذات المقيّد وهو أصل
الجواز. ولا ريب أنّ الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة توجب الظنّ بأصل الجواز
وتكشف عن كون معتقد المعصوم هو ذلك لا غير.
ثمّ إذا
تكلّمنا في كونه من مقتضى أيّ السلطنتين نتمسّك لإثبات كونه من مقتضى
السلطنة المجعولة بالأدلّة المتقدّمة المقامة على أنّ المعاطاة بيع مفيد
للملك ، على أنّا نقول : إنّا قد فرغنا عن إثبات كونها بيعاً مفيداً للملك
بالأدلّة المتقدّمة الّتي منها السيرة القطعيّة الكاشفة عن رأي المعصوم في ذلك ،
وبذلك ينتفي احتمال وجود السلطنة من مقتضى بقاء الملك السابق المقتضية للجواز ،
غاية الأمر أنّه يبقى الشكّ في أنّه هل جعل الشارع لكلّ منهما سلطنة على صاحبه
باسترجاع ما نقله إليه وملكه له أو لا؟ ومنشأ هذا الشكّ هو الشكّ في اللزوم
والجواز.
ولا ريب أنّ
الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة محقّقة ومحكيّة توجب الظنّ بأصل الجواز وهو
الظنّ باستناد إلى السلطنة المجعولة ، ومرجعه إلى الظنّ بأنّ الشارع جعل لهما
سلطنة مقتضية لجواز الرجوع ، فنثبت مجموع المقيّد وقيده بمجموع الأدلّة المتقدّمة
والإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة ، فأصل الجواز نثبته بالإجماعات وقيده
بالأدلّة المتقدّمة القاضية بانتفاء القيد ، فعلى هذا تنهض الإجماعات المعتضدة
بالشهرة من حيث إفادتها الظنّ الاطمئناني مخرجة عن الأصل العملي ومخصّصة للأصل
الاجتهادي المقتضيين للّزوم.
وبما بيّنّاه
يندفع نحو المناقشة المذكورة لو اورد على التقرير الأوّل من الإجماع أيضاً.
فالإجماع بكلا تقريريه ينهض دليلاً على نفي اللزوم في المعاطاة بجميع صورها
المتقدّم إليها الإشارة ، وهي إحدى وعشرين من خمس وعشرين صورة ، وقضيّة ذلك عدم
كفاية مطلق اللفظ الغير الجامع للشرائط المعتبرة في الصيغة فيما لو كان الدالّ على
التراضي هو اللفظ في اللزوم ، فإنّ الإجماع بكلا تقريريه يدلّ على عدم كفاية ذلك
أيضاً في اللزوم وإن كان الإجماع بالتقرير الأوّل أصرح في الدلالة على ذلك منه
بالتقرير الثاني. خلافاً لبعض معاصري الشهيد الثاني القائل بكفاية مطلق اللفظ في اللزوم ،
ودليله على ما قيل ما دلّ على اعتبار اللفظ في اللزوم ، والظاهر أنّ المقصود بذلك
ما تقدّم من قوله عليهالسلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» ويفسده بعد
الإغماض عمّا بيّنّاه في منع دلالة ذلك على ما نحن فيه أنّه إن تمّ دليلاً لأفاد
اعتبار اللفظ الخاصّ
__________________
في اللزوم وهو الّذي يعبّر عنه بالصيغة المخصوصة الّتي يعتبر فيها امور فلا
جهة للتعدّي عنها بالاكتفاء باللفظ على إطلاقه ، فالتفكيك بين القسمين من الدالّ
على التراضي أعني اللفظ والفعل المحض باللزوم في الأوّل وعدمه في الثاني أو
الإباحة فيه من دون ملك تحكّم ، فإنّ مناط القسمين واحد وطريق الحكم فيهما متّحد.
وينبغي التنبيه
على امور :
الأوّل : أنّ
اللزوم في البيع بالصيغة والجواز في البيع بالمعاطاة ليسا عبارتين عن مجرّد الحكم
التكليفي ـ أعني حرمة الرجوع في الأوّل وإباحته في الثاني ـ بل هما حكمان وضعيّان
يتولّد منهما الحكم التكليفي ، فاللزوم عبارة عن أنّ لا سلطنة لأحد المتبايعين على
الآخر باسترجاع ما ملكه له ويتولّد منه حرمة الرجوع ، والجواز عبارة عن أنّ لكلّ
من المتعاطيين سلطنة على الآخر باسترجاع ما دفعه إليه ويتولّد منه إباحة الرجوع.
أمّا الأوّل فلأنّه مقتضى أدلّة اللزوم في العقود اللازمة على ما قرّرناه في
الرسالة المنفردة في أصالة الصحّة واللزوم في العقود. وأمّا الثاني فلأنّه مقتضى
دليل الجواز في المعاطاة على ما بيّنّاه هنا.
الثاني : أنّ
الجواز في المعاطاة نظير الجواز في الهبة لا الجواز في مواضع الخيار من العقود ،
وقد يعبّر عن الأوّل بالجواز الذاتي لثبوته مطلقاً ما دامت العين باقية ، وعن
الثاني بالجواز العارضي لعروضه العقد في زمان خاصّ أو لحالة مخصوصة ، ومن حكمه
أنّه يقتصر في الالتزام به على مورد الدليل المثبت له ، وفيما يقتصر على مورد
الدليل أيضاً يقتصر على القدر المتيقّن من زمان ثبوته وهو زمان الفور. ولو شككنا
في أنّ تلف إحدى العينين هل يكون مجوّزاً للفسخ نقول بالعدم لعدم الدليل ، بخلاف
الجواز الذاتي فإنّه لا يقتصر فيه على زمان خاصّ ولا حالة مخصوصة ، ولو عرضت حالة
مخصوصة شكّ في كونها ملزمة يبنى على العدم إلّا إذا ساعد عليه دليل.
لنا على ما
بيّنّاه ظهور كلماتهم ظهوراً يمكن معه دعوى إجماعهم عليه ، فإنّها صراحة وظهوراً
مطبقة على كون الجواز في المعاطاة مراعى ببقاء العين.
الثالث : أنّ
الجواز هنا بالمعنى الّذي فسّرناه ـ أعني السلطنة على الرجوع ـ هل هو من لواحق
الملك أعني السلطنة على رفع ملك العين المدفوعة كما في الهبة ، أو من
عوارض سببه أعني السلطنة على رفع العقد على حدّ الإقالة والفسخ في مواردهما
من العقود اللازمة؟ ويظهر الثمرة في أنّ جواز الرجوع على الأوّل منوط ببقاء العين
فمع بقائها يعود إليه ملك العين بالرجوع ومع تلفها لا تأثير للرجوع في عود المثل
والقيمة ، وعلى الثاني يؤثّر الرجوع بمعنى رفع العقد مع بقاء العين ومع عدمه ، فعلى
الأوّل يعود إليه ملك العين وعلى الثاني يعود إليه المثل أو القيمة. وكذلك على
الأوّل لا يعتبر في تأثير الرجوع صيغة كقول «فسخت أو أقلت» بل يكفي مجرّد الترادّ
بخلاف الثاني ، والأظهر من كلماتهم هو الأوّل ولذا لا يعبّرون هنا بخيار الفسخ ولا
يعتبرون صيغة ولا لفظاً.
وأمّا الدليل
على ذلك فيمكن تقريره بوجوه :
منها : أنّ
الحكم المخالف للأصل الثابت بالإجماع يجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من معقد
دليله ، وليس إلّا جواز الرجوع ما دامت العين باقية.
ومنها : أنّ
الإجماع المثبت لهذا الحكم منعقد على الحكم المغيّى مع غايته فالمجمع عليه هو جواز
الرجوع المغيّى بغاية بقاء العين ، وقضيّة ذلك سقوطه بعد التلف.
ومنها : ما
سيأتي عند البحث في ملزمات المعاطاة من دليل كون التلف ملزماً من الإجماع عليه
محصّلاً ومنقولاً.
الرابع : قد
أشرنا سابقاً إلى أنّ اللفظ الغير الجامع للُامور المعتبرة في الصيغة غير كافٍ في
لزوم المعاطاة ، وهل قصد اللزوم حين التقابض يوجبه أو لا؟ وعلى الثاني فهل شرط
اللزوم أو شرط عدم الرجوع من الجانبين هل يوجبه أو لا؟ الوجه في الجميع هو عدم
اللزوم ، لقضاء الإجماع بالتقرير الأوّل والإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة بكون
اللزوم من آثار الصيغة المخصوصة فلا يكفي غيرها لفظاً كان أو قصداً أو شرطاً في
ضمن المعاطاة.
وقد يعلّل عدم
كفاية الشرط بأنّ غاية ما يوجبه الشرط إنّما هو حكم تكليفي لا الحكم الوضعي وهو
اللزوم ، فيحرم عليه الرجوع وإذا رجع أثم ، ولكن رجوعه يؤثّر في عود الملك إليه.
والأولى أن
يعلّل بلزوم الدور فإنّ الشرط إنّما يلزم إذا اخذ في ضمن العقود اللازمة فلزوم
الشرط المأخوذ في ضمن عقد المعاطاة موقوف على لزوم العقد ،
ولو توقّف لزوم العقد على لزومه لزم الدور.
وتوهّم أنّ
لزوم العقد لا يتوقّف على لزوم الشرط بل على وجوده ووجوده لا يتوقّف على لزومه فلا
دور ، يدفعه أنّ وجود الشرط بمجرّده لو لا لزوم العمل به لا يثمر في لزوم العقد ،
فلزوم العقد يتوقّف على لزوم الشرط لا محالة فلا محيص من الدور.
الخامس : جواز
الرجوع في المعاطاة هل هو كالخيار في العقود اللازمة فيسقط بالإسقاط بعد العقد
وبالصلح عليه وبالشرط في ضمن العقد اللازم أو هو كجواز الرجوع في الهبة فلا يسقط
بشيء من ذلك؟ وبالجملة فهل يسقط بإسقاطه بعدها كأن يقول أسقطت جواز الرجوع من
الجانبين أو لا؟ وهل يسقط بالصلح عليه أو لا؟ وهل يسقط بالشرط في ضمن عقد خارج
لازم أو لا؟
والوجه في
الجميع هو العدم كما يظهر من كلماتهم خصوصاً كلماتهم في بيان ملزمات المعاطاة ،
فإنّهم قصّروها على امور غير هذه الامور بل غير واحد صرّحوا بعدم سقوطه بالامور
المذكورة ، فلا إشكال في أنّ بناءهم على عدم السقوط كما أنّ بناءهم أيضاً بمقتضى
ظهور كلامهم بل صريح بعضهم أنّه لا يورّث بالموت كما يورّث الخيار في مواضع ثبوته.
والعمدة إنّما
هو بيان دليل هذا الحكم ، فقد يعلّل بأنّ السقوط بالإسقاط أو بالصلح أو بالشرط في
ضمن العقد اللازم من خصائص الحقوق ، وجواز الرجوع ليس منها بل هو حكم شرعي فلا
يسقط بإسقاط ولا صلح ولا شرط.
وفيه : أنّه
إنّما يستقيم على تقدير كون جواز الرجوع عبارة عن الحكم التكليفي الصرف ، وأمّا
على ما فسّرناه من كونه عبارة عن سلطنة كلّ من المتعاطيين على الآخر باسترجاع ما
دفعه إليه فلا ، لأنّ السلطنة المذكورة أيضاً من الحقوق بل الحقّ في جميع موارده
عبارة عن سلطنة مخصوصة لإنسان على غيره.
فيشكل الحال
حينئذٍ من ملاحظة ما ذكروه في الحقوق من أنّها تسقط بالإسقاط والصلح والشرط وأنّها
تورّث بالموت ، ومن ملاحظة ظهور عباراتهم هنا ولا سيّما عند بيان الملزمات.
ويمكن الذبّ
بأحد وجوه :
الأوّل : أنّه
كما أنّ الجواز في العقود اللازمة خلاف الأصل فيها فلا يلتزم به إلّا حيث ساعد
عليه دليل ، فكذلك اللزوم في العقود الجائزة خلاف الأصل فيها فلا يلتزم به إلّا
حيث ساعد عليه دليل ، والسقوط بالامور المذكورة الّذي مرجعه إلى اللزوم ممّا لا
دليل عليه. ويضعّفه أنّ الدليل أعمّ من الخاصّ والعامّ وقاعدة أنّ الحقوق يسقط
بالإسقاط وتقبل الصلح وتسقط بالشرط في ضمن العقد اللازم دليل عامّ.
الثاني : أنّ
الحقوق على حسب اختلاف مفاد الأدلّة المثبتة لها على قسمين : أحدهما : حقّ يثبت
بدليله على طريقة القضيّة المطلقة الغير المقيّدة بالدوام ، وثانيهما : حقّ يثبت
بدليله على طريقة المشروطة العامّة ، وجواز الرجوع في المعاطاة من هذا القبيل لأنّ
الدليل المثبت له إنّما أثبته ما دامت العين باقية ، فثبوته وسقوطه يدور على بقاء
الوصف العنواني وزواله ، والمراد بالوصف العنواني هنا بقاء العين.
الثالث : منع
كون كلّ سلطنة حقّاً فإنّ الحقّ وإن كان نوعاً من السلطنة ـ كحقّ الخيار وحقّ
الشفعة وحقّ الرجوع في الطلاق ـ وليس كلّ سلطنة حقّاً كسلطنة الملّاك على أموالهم
وأملاكهم ، وهذا من قبيل الحكم بناءً على أنّه أعمّ من التكليفي والوضعي ولذا لا
يسقط السلطنة المذكورة بإسقاط ولا صلح ولا شرط في ضمن عقد ، كما أنّ ولاية أولياء
الصغير لا تسقط بشيء من ذلك ، وجواز الرجوع في المعاطاة وفي الهبة أيضاً من قبيل
هذه السلطنة فهو سلطنة ليس بحقّ ليسقط بالامور المذكورة. والمائز أنّ كلّ سلطنة
تكون من توابع المال فهي ليست من قبيل الحقّ ، وكلّ سلطنة تكون من خصائص الشخص فهو
حقّ ، وهذا أوجه. وبالتأمّل في ذلك يظهر أنّه لا ينتقل بالموت إلى الورثة فإنّ
الانتقال بالإرث من خصائص ملك الأعيان أو المنافع أو الحقوق ، وجواز الرجوع ليس
ملكاً ولا حقّاً بل حكم أثبته الدليل على خلاف الأصل في العقود للمالك الأصلي ،
وانتقاله إلى غيره يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه فالأصل عدمه. وتوهّم : بقاء
الجواز بحكم الاستصحاب ، يبطله أنّ الاستصحاب مع عدم بقاء موضوع المستصحب ممّا لا
معنى له.
لا يقال : إنّ
الموضوع على ما ذكرت سابقاً من أنّ جواز الرجوع من لواحق الملك لا من عوارض العقد
باقٍ ، لأنّ الكلام على تقدير بقاء المالين إلى ما بعد الموت لأنّ
الجواز بمعنى السلطنة نسبة شرعيّة بين ثلاث المتسلّط والمتسلّط عليه
والمتسلّط فيه وهو المال ، لأنّه على ما عرفت عبارة عن سلطنة المالك الأصلي على
صاحبه باسترجاع المال المدفوع إليه ، فله إضافة إلى كلّ من المالك الأصلي والمالك
الثانوي والمال فيكون متقوّماً بالجميع فلكلّ موضوعيّة ، والمفروض انتفاء الأوّل
بالموت فيكون استصحاب الجواز بالقياس إليه من استصحاب الحكم مع عدم بقاء موضوع
المستصحب ، ولو سلّم عدم كونه منه نقول : بأنّ أصالة عدم الانتقال وارد عليه لسببيّة
شكّه. ولو جنّ أحدهما فالظاهر وفاقاً لبعض مشايخنا قيام وليّه في
الرجوع مقامه لعموم أدلّة الولاية. ولا يرد هنا أصالة عدم الانتقال ، لعدم كون
بناء تصرّفات الوليّ على انتقال الحكم عن المولّى عليه إليه ، بل على مباشرة
الوليّ عن المولّى عليه في التصرّفات الراجعة إليه الملغاة في نظر الشارع كالنيابة
في مواردها ، فلا ينتقل الحكم من المولّى عليه إلى الوليّ.
السادس : قد
عرفت سابقاً أنّ للمعاطاة إحدى وعشرين صورة ، وظاهر عبارة الشيخ في شرح القواعد كون هذه الصور
بأسرها من محلّ النزاع ولزم منه أن يجري فيها الأقوال المتقدّمة. وإطلاق ذلك عندنا
غير سديد كما يظهر وجهه ببيان ما يعتبر في انعقادها بيعاً صحيحاً مفيداً للملك وما
لا يعتبر. فهاهنا مسائل :
الاولى : أنّه
يعتبر فيها قصد إنشاء التمليك والتملّك إذ بدونه لا تصير بيعاً ولو صدق الاسم
عرفاً لا تقع صحيحة تترتّب عليها أثر الملك ، وهو أن يقصد الموجب بإيجابه الفعلي ـ
وهو التقابض والتعاطي ـ أو القولي وهو اللفظ الغير الجامع لشرائط الصيغة المخصوصة
أو هما معاً إنشاء تمليك عينه لصاحبه بعوض الثمن الّذي وقع عليه التراضي ، ويقصد
صاحبه الّذي هو القابل بقبوله الفعلي أو القولي أو هما معاً إنشاء تملّك العين
بعوض الثمن المذكور أو إنشاء تمليك ثمنه المذكور للموجب عوضاً عن عينه الّتي
ملّكها له أو إنشاء تملّك العين وتمليك الثمن ، نظراً إلى أنّ ظاهر إطلاق أهل
القول بكون المعاطاة بيعاً صحيحاً كفاية وقوع القبول بأحد هذه الوجوه ، ويساعد عليه
__________________
عموم قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» وإطلاق قوله تعالى : «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» ورجع اعتبار هذا الشرط في المعاطاة إلى أنّ من الشرائط
المعتبرة في الصيغة المخصوصة ما هو معتبر فيها وهو قصد إنشاء التمليك والتملّك.
فما قد يوجد في بعض عبائرهم في بيان ضابط المعاطاة الجامع لصورها الممتاز به عن
البيع بالصيغة المخصوصة أنّ كلّما لم يشتمل على الصيغة المخصوصة سواء لم يشتمل على
صيغة لفظيّة أصلاً أو اشتمل على صيغة مع اختلال شرائط الصيغة المخصوصة كلّها أو
بعضها فهو معاطاة بالنسبة إلى اختلال جميع الشرائط ، ليس على إطلاقه.
وباشتراط الشرط
المذكور في المعاطاة البيعيّة خرج صور منها ، وهي ما لو قصد المتعاطيان بالفعل أو
القول أو هما معاً إنشاء إباحة التصرّفات أي الإذن فيها ، وما لو لم يقصدا شيئاً
من إنشاء التمليك ولا الإباحة ، وما لو قصدا عدم التمليك وعدم الإباحة كما يتحقّق
ذلك في مورد الإكراه ، والجامع بينهما وقوع المعاطاة لا على وجه التراضي.
ولا إشكال في
فسادها فيهما خصوصاً ثانيتهما حتّى بالنسبة إلى إفادة الإباحة المقتضية لجواز
التصرّف ، فلا يجوز لكلّ منهما التصرّف في المال المدفوع إليه لأصالة حرمة التصرّف
في مال الغير من دون إذن مالكه ، ويجب على كلّ ردّ ما أخذه إلى مالكه ، ولو تلف في
يده كان في ضمانه مثلاً أو قيمة.
وأمّا الصورة
الاولى فلا ينبغي التأمّل في عدم انعقادها بيعاً لانتفاء قصد التمليك والتملّك ولا
في فسادها من حيث إفادتها الملك ، وهل تقع صحيحة من حيث إفادة إباحة التصرّفات؟
الوجه نعم ، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» كما يفيدها إحضار المالك الطعام
للضيف وإعطاؤه طعاماً أو ماءً أو غيرهما من المأكول أو المشروب أو نحوهما لصاحبه
أو رفيقه أو غيره ليأكله أو يشربه أو يستعمله للعموم المذكور ، غاية الأمر أنّ هذا
ونظائره إباحة مجّانيّة وما نحن فيه إباحة معوّضة أو مشروطة بالعوض ، مع كون
مقصودهما التعويض بين المالين إلّا أنّ جواز التصرّف لكلّ منهما مراعى في استمراره
وعدم استمراره ببقاء الإذن والرضا في نفس المالكين ، فلو علم أحدهما أو كلاهما
زوال الإذن والرضا عن ضمير المالك لم يجز له أو لهما التصرّف بعده ووجب ردّ ما
بيده إلى مالكه واسترداد ماله ، ولو علما بقاء الإذن والرضا فلا إشكال. ولو شكّ
أحدهما أو كلاهما في البقاء والارتفاع ففي التعويل على استصحاب الحالة
السابقة إلى أن يحصل اليقين بالارتفاع وجه قويّ ، لا يعارضه أصالة حرمة التصرّف في
مال الغير ، لأنّه ليس بغير إذن المالك بحكم الاستصحاب الّذي هو علم شرعي لإحراز
إذن المالك. وهذا ليس من مسألة الإذن بشاهد الحال حتّى يعتبر فيه كونها مفيدة
للقطع.
ثمّ إنّهما إن
قصدا إباحة التصرّفات في الجملة وجب الاقتصار منهما على المتيقّن ممّا دخل منها في
الإذن ، ولا يجوز التعدّي إلى غيره حتّى ما لو شكّ شمول الإذن له ، لأصالة عدم
الإذن.
وإن قصدا إباحة
كلّ تصرّف حتّى يكون إنشاء الإباحة المقصودة على هذا الوجه بمنزلة أن يقول كلّ
منهما : «أبحت لك كلّ تصرّف» فلا يخلو إمّا أن يكون في قصدهما تعميم الإذن بالقياس
إلى التصرّفات الغير المتوقّفة على الملك أو تعميمه بالقياس إلى مطلق التصرّفات
حتّى المتوقّفة منها على الملك.
ففي الصورة
الاولى يجب الاقتصار على التصرّفات المأذون فيها ، فلا يجوز التعدّي منها إلى
غيرها من التصرّفات المتوقّفة على الملك.
وأمّا الصورة
الثانية ففي الجارية ينبغي القطع بعدم حلّ الوطء وما يلحق به من سائر الاستمتاعات
بمجرّد الإباحة المذكورة لانحصار مجوّزه في ملك اليمين والتحليل والنكاح اللذين
لكلّ منهما صيغة خاصّة والمفروض عدم حصول شيء منهما بمجرّد إنشاء الإباحة. وتوهّم
: أنّها في خصوص هذا التصرّف بمنزلة التمليك أو صيغة التحليل أو صيغة النكاح ،
ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه.
وإن اريد به
التنزيل الشرعي لفقد ما يدلّ عليه في الشرع وإذن المالك بمجرّدها لا تصلح مشرّعة
لما يكون مشروعيّته عن سبب خاصّ لم يتحقّق بالفرض.
وفي نحو البيع
والشراء والعتق والوقف والصدقة إن قصدا بإنشاء إباحة هذه التصرّفات الإذن فيها
ليحصل الآثار المقصودة منها من ملك الثمن أو المثمن والتقرّب إلى الله سبحانه
المترتّب على العمل المقرون بنيّة القربة للمبيح ، فالظاهر عدم الإشكال في الصحّة
لأنّ الإباحة والإذن في التصرّف على هذا الوجه تكون توكيلاً من المالك في هذه
المعاملات والمفروض قبولها النيابة.
وإن قصدا وقوع
الآثار للمباح له ففيه إشكال بل الإشكال فيه قويّ ، وإن كان ربّما يتوهّم الجواز
استناداً إلى عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» فإنّه عامّ في جميع أنحاء
التصرّفات ومنها هذا التصرّف أعني إذن المالك للغير في إجراء هذه العقود في ماله
ليرجع الآثار المقصودة منها إلى ذلك الغير.
يدفعه : أنّه
عامّ في التصرّفات الجائزة تكليفاً ووضعاً ، ولذا لا يجوز للمالك جعل عنبه خمراً
ولا يصحّ بيع امّ الولد ولا بيع المصحف من الكافر ، ولا بيع العبد المسلم من
الكافر ، ولا بيع العنب أو الخشب ليعمل خمراً أو صنماً أو طبلاً لأجل العموم ،
وفيما نحن فيه أيضاً يقال : إنّه لا يعقل انتقال ملك أحد العوضين من الثمن أو
المبيع إلى غير مالك العوض الآخر ، ولا يعقل أيضاً أن يتقرّب الإنسان بمال الغير.
ومن ذلك يظهر
منشأ الإشكال وحاصله الإشكال في أنّ ملك أحد العوضين في البيع بل مطلق عقود
المعاوضة هل يتبع ملك العوض الآخر أو لا؟ وأنّ التقرّب في باب العتق والوقف
والصدقة هل يتبع ملك العين أو لا؟
والظاهر بل
الحقّ الّذي لا محيص عنه هو المنع فيهما :
أمّا في الأوّل
: فلأصالة الفساد في المعاملات السليمة عمّا يوجب الخروج عنها ، والإجماع الظاهر
بل المقطوع به من الأصحاب في أبواب العقود على أنّ البيع من عقود المعاوضة الّتي
بمفهومها تقتضي لزوم عود الثمن إلى مالك المثمن وعود المثمن إلى مالك الثمن ،
فالقاعدة مندرجة في مفهوم عقد المعاوضة فتكون من القضايا الّتي قياساتها معها على
حدّ قولنا : «الكلّ أعظم من الجزء» مع كونها إجماعيّة. ويعضد ذلك الإجماع مع الأصل
المذكور ما في كلام بعض مشايخنا «من أنّه صرّح المشهور بل قيل لم يوجد خلاف
في أنّه لو دفع إلى غيره مالاً وقال : اشتر به طعاماً لنفسك ، من غير قصد الإذن في
اقتراض المال قبل الشراء أو اقتراض الطعام بعده أو استيفاء دَين له عليه لم يصحّ
كما صرّح به في مواضع من القواعد وعلّله في بعضها بأنّه لا يعقل شراء شيء لنفسه بمال
الغير» وما ذكره أيضاً بقوله : «من المعلوم أنّ بيع الإنسان
مال
__________________
غيره لنفسه غير جائز بمقتضى العقل والنقل الدالّ على لزوم دخول العوض في
ملك مالك المعوّض» .
فما يتوهّم :
من إمكان الخدشة في الأصل المذكور من أنّه يجب الخروج عنه بعمومات الصحّة جنساً
ونوعاً وصنفاً كآية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وآية «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» وآية «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» ورواية «البيّعان
بالخيار ما لم يفترقا» .
واضح الدفع ،
بمنع تناول عمومات الصحّة لما نحن فيه من بيع الإنسان مال غيره ليكون الثمن له
وشرائه بمال الغير ليكون المثمن له ، أمّا آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فلعدم صدق العقد على نحو هذه المعاملة نظراً إلى أنّه
عبارة عن الربط المعنوي بين المالين كما أشرنا إليه عند بيان صدق العقد على المعاطاة
وذكرناه مشروحاً في رسالة مفردة في أصالة الصحّة واللزوم في العقود ، ولا ريب أنّ
الربط المعنوي لا يتأتّى بينهما فيما لو فرض وقوع الثمن لغير مالك المثمن أو
بالعكس فلا يصدق عليه العقد.
وأمّا آية «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» فلوضوح أنّ التجارة بمعنى الاكتساب وهو تحصيل المال لا
تصدق على بيع مال إلّا على تقدير دخول الثمن في ملك صاحب المال وعوده إليه.
وأمّا آية «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» فلأنّ البيع في معناه العرفي إن كان عبارة عن تمليك عين
بمال على وجه التعويض بحيث يكون التعويض داخلاً في ماهيّته لا يصدق إلّا [على] تقدير
عود الثمن إلى مالك المثمن وبالعكس ، فلو فرض وقوع الثمن لغير مالك المثمن لم يصدق
عليه عرفاً أنّه عوضه ، ولو فرض وقوع المثمن لغير مالك الثمن لم تصدق عليه أنّه
معوّضه فلم يتحقّق تعويض فلم يصدق البيع. وإن كان عبارة عن مبادلة مال بمال فلا
يصدق البدل والمبدل إلّا على تقدير عود كلّ من البدلين إلى مالك البدل الآخر.
ومن هنا يعلم
الوجه في عدم تناول رواية «البيّعان بالخيار» لأنّ البيّع هو البائع وهو من البيع
، وقد عرفت أنّه غير صادق على ما لو وقع لغير مالك البيع.
وأمّا الثاني :
فلاستحالة التقرّب بدون نيّة القربة الّتي مرجعها إلى قصد امتثال الأمر
__________________
واستحالة نيّة القربة ممّن لم يتوجّه إليه أمر ، والظاهر أنّ أوامر العتق
والوقف والصدقة وإن كانت استحبابيّة إلّا أنّها متوجّهة إلى مالك العبد والعين
والمال لا إلى غيره ، فيستحيل لغير المالك أن يتقرّب بإعتاق عبد غيره أو بوقف عين
غيره أو بالتصدّق بمال غيره لاستحالة تحقّق نيّة القربة منه بدون أمر ، وهذا هو
معنى ما تقدّم من عدم إمكان التقرّب بمال وإن أذن فيه المالك لأنّ إذن المالك ليست
مشرّعة ومحدثة للأمر بإعتاق مملوكه أو وقف ملكه أو التصدّق بماله ، فتقرّر بطلان
الإذن في التصرّفات الموقوفة على الملك المقصودة من إنشاء الإباحة على معنى عدم
ترتّب الآثار المقصودة منها عليها وهو وقوع البيع أو العتق أو الوقف أو الصدقة
للمأذون له ، لقاعدة تبعيّة ملك العوض لملك المعوّض ، وعدم إمكان التقرّب بمال
الغير سواء قصد المالك هذا الإذن في ضمن عموم التصرّفات كمحلّ البحث ، أو صرّح بها
بخصوصها كأن يقول : بع مالي لنفسك أو اشتر بمالي لنفسك أو أعتق عبدي أو أوقف داري
أو تصدّق بمالي لنفسك.
فظهر أنّ توهّم
التمسّك لإثبات الصحّة للإذن في جميع ما ذكر بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم»
غير سديد ، لأنّه عامّ في التصرّفات الجائزة تكليفاً ووضعاً ، ومرجعه بالنسبة إلى
التصرّفات المذكورة إلى حكومة دليل عدم إمكان بيع الإنسان مال الغير لنفسه أو
الشراء لنفسه بمال الغير وعدم إمكان التقرّب بمال الغير على هذا العموم ، كحكومة
دليل حرمة اتّخاذ العنب خمراً ودليل عدم جواز بيع العنب أو الخشب ليعمل خمراً أو
صنماً عليه.
ولا ينتقض ما
ذكرنا بمسألة بيع الواهب أو إعتاقه العبد الموهوب من حيث وقوع البيع والعتق للواهب
لا للموهوب له ، لكون البيع أو الإعتاق رجوعاً منه في الهبة ، فيكون كلّ منهما
واقعاً في ملكه العائد إليه بالرجوع لا في ملك الغير.
نعم لو فرض
حصول ملك ضمني للمباح له بإنشاء الإباحة المذكورة كان ما نحن فيه كبيع الواهب
وإعتاقه في وقوع البيع والعتق والوقف والصدقة من المباح له في ملكه ، وهو يتصوّر
من وجهين :
أحدهما : أن
يتضمّن قصد إنشاء الإباحة لقصد إنشاء التمليك أيضاً ، والمفروض في محلّ البحث ليس
من هذا القبيل.
وثانيهما : أن
يدلّ دليل شرعي على حصول الملكيّة للمباح له بمجرّد الإباحة المقصودة ، فيكون
الدليل المفروض كاشفاً عن حصول الملك له ليقع البيع أو العتق أو الوقف أو الصدقة
المأذون فيها في ملكه فيحصل الآثار له ، والمفروض فقد الدليل عليه.
ومنه يعلم ضعف
احتمال دلالة الدليل على انتقال الثمن عن المبيح بلا فصل بعد البيع إلى المباح له
وإن وقع أصل البيع للمبيح ، لفقد الدليل عليه أيضاً. ومثلهما في الضعف احتمال كون
الإباحة المقصودة توكيلاً ضمنيّاً من المبيح للمباح له في بيع ماله له ثمّ نقل
الثمن إلى نفسه بالهبة ، أو في نقله أوّلاً إلى نفسه ثمّ بيعه أو إعتاقه أو وقفه
أو التصدّق به لنفسه ، فإنّ هذا التوكيل لا يتحقّق في نفسه بل يحتاج إلى قصد
المالك والمفروض انتفاؤه.
ثمّ إنّ البيع
الّذي أوقعه المباح له لنفسه إذا لم يقع له ـ وهو المراد من فساد الإباحة بالقياس
إلى هذا التصرّف ـ ففي وقوعه للمبيح بيعاً لازماً بناءً على أنّ قصد البائع كونه
لنفسه يلغو ، أو موقوفاً على إجازة المالك لأنّه لم يقصد التملّك بإنشائه الإباحة
وجهان. وسيأتي تحقيق ذلك في مسألة الفضولي إذا باع البائع الفضولي لنفسه ومنه بيع
الغاصب.
المسألة
الثانية : هل يعتبر في المعاطاة وجريان أحكامها حصول القبض من الجانبين على معنى
قبض العوضين بالإعطاء والأخذ من الجانبين ، أو يكفي حصوله من أحدهما بأن يقصد
بالفعل أو القول الغير الجامع لشرائط الصيغة تمليك عين شخصيّته بثمن كلّي في
الذمّة ، أو تمليك عين موصوفة في الذمّة بثمن شخصي؟ فقد يستشكل في ذلك التفاتاً
إلى عدم صدق المعاطاة من المفاعلة ، خلافاً لجماعة منهم الشهيد في الدروس فذهبوا إلى
كفاية ذلك في لحوق الأحكام ، وتردّد ثاني الشهيدين في المسالك وإن كان استظهر في
آخر كلامه ذلك قائلاً : «لو وقعت المعاملة بقبض أحد العوضين خاصّة ، كما لو دفع
إليه سلعة بثمن وافقه عليه أو دفع إليه ثمناً عن عين موصوفة بصفات السلم فتلف
العوض المقبوض ، ففي لحوق أحكام المعاطاة ولزوم الثمن المسمّى والمثمن الموصوف نظر
: من عدم صدق اسمها لأنّها مفاعلة يتوقّف على
__________________
العطاء من الجانبين ولم يحصل والاقتصار فيما خرج عن الأصل على موضع اليقين
إن كان ، ومن صدق التراضي على المعاوضة وتلف العين المدّعى كونه كافياً في التقابض
من الجانبين ، والظاهر أنّ الحكم واحد وقد ذكر أوّلهما شيخنا الشهيد رحمهالله في الدروس وألحقه بها» انتهى.
وقد ظهر أنّ
العمدة من منشأ الإشكال هو عدم تحقّق معنى المفاعلة بإعطاء أحد العوضين وأخذه ،
والمعاطاة مفاعلة فلا تصدق على المعاملة المذكورة.
ويدفعه أوّلاً
: منع عدم الصدق لما ذكرناه غير مرّة وفاقاً لجماعة من أنّ المعاطاة عندهم اصطلاح
في كلّ معاوضة خالية عن الصيغة المخصوصة ، سواء خلت عن اللفظ مطلقاً أو لا ،
والظاهر أنّ بناء هذا الاصطلاح على اعتبار تحقّق معنى المفاعلة ، فالمعاطاة بحسب
هذا الاصطلاح صادقة على ما نحن فيه.
وثانياً : أنّه
لو سلّم عدم صدقها ولو بالنظر إلى الاصطلاح ، ولكن نقول : إنّه غير قادح في لحوق
أحكامها على ما نحن فيه ، فإنّها ليست عنواناً اخذ في أدلّة تلك الأحكام ليقدح عدم
صدقها في شمول تلك الأدلّة بل المأخوذ فيها عنوان العقد والبيع والتجارة ،
والمعاطاة غير مذكورة في الكتاب والسنّة وغيرهما. نعم إنّما اخذت في معقد إجماع
الغنية ولكنّه غير مضرّ في لحوق الأحكام على ما نحن فيه ، لأنّ إجماع الغنية ليس
من أدلّة القول المختار بل من أدلّة القول بالإباحة المتضمّنة لنفي البيعيّة
والصحّة بمعنى إفادة الملكيّة.
فالعمدة النظر
في صدق العناوين المأخوذة في الأدلّة من العقد والبيع والتجارة ، والظاهر صدق
الجميع ، أمّا العقد فلتحقّق الربط المعنوي بقصد التمليك على أحد الوجهين المتقدّم
ذكرهما في عنوان المسألة. وأمّا البيع فلصدق تمليك العين على وجه التعويض وإبدال
مال بعوض ، نظراً إلى أنّ العين والمال والعوض أعمّ من الكلّي في الذمّة والشخص
الخارجي. وأمّا التجارة فلأنّ هذا النحو من التمليك أيضاً نوع من التجارة بمعنى
الاكتساب فيشمله الأدلّة بأجمعها حتّى السيرة ، لتداول ذلك أيضاً بين المسلمين.
__________________
بل قد يدّعى
عدم اعتبار الإعطاء والأخذ يداً بيد في شيء من الجانبين فضلاً عن المعاطاة
والتعاطي ، بل يكفي مجرّد إيصال الثمن وأخذ المثمن من غير إعطاء كما تعارف أخذ
الماء من مكان السقّاء في غيبته ووضع الفلس في المحلّ المعدّ له ، وكذلك أخذ
الباقة من دكّان البقلي في غيبته ووضع عوضها في كوزه ، ومنه دخول الحمّام ووضع
الحقّ في الصندوق وما أشبه ذلك ، فإنّ الجميع متداول وكافٍ في لحوق أحكام المعاطاة
، ولكن يشترط في الجميع العلم برضا المالك أعني صاحب الدكّان والحمّامي إحرازاً
للتراضي الّذي لا إشكال لأحد في اعتباره.
ولكن يشكل ذلك
لو كان مراد القائل كفاية ما ذكر في انعقاد البيع وصحّته لأنّه لا بدّ في انعقاده
من قصد التمليك وإنشائه ولم يتحقّق في الموارد المذكورة من المالك قطعاً. وتوهّم
حصوله من آخذ الماء والبقل فهو بأخذه يملّكه لنفسه وبوضعه العوض يقبل التمليك فهو
مملّك ومتملّك فيكون موجباً وقابلاً باعتبارين ، يدفعه أنّ تمليك مال الغير لنفسه
ممّا لا معنى له إلّا في موضع الوكالة وهي غير متحقّقة لعدم تحقّق التوكيل من
المالك. واحتمال كونه من البيع الفضولي بعيد ، لعدم لحوق إجازة المالك به المعتبر
في صحّته. والاكتفاء فيها برضاه النفساني المعلوم بشاهد الحال يوجب كونه بيعاً عن
المالك بطريق الوكالة لحصول ذلك الرضا قبل البيع ومقارنته إيّاه فإنّه إذن منه في
تلك المعاملة معلومة بشاهد الحال القطعي فيكون كالوكالة ، ولكن في كونها إذناً في
التمليك عنه لا في مجرّد الأخذ والتصرّف بشرط وضع عوضه إشكال.
وظنّي أنّ هذه
المعاملة على الوجه الّذي في الموارد المذكورة ونظائرها أشبه شيء بالإباحة
المشروطة أو المعوّضة ، نظراً إلى الإذن في الأخذ والوضع المعلومة بشاهد الحال القطعي
، ونحوها معاملة الحمّام حسبما فرض فإنّ الدخول في الحمّام واستيفاء المنفعة
بالغسل والاغتسال واستعمال الماء ثمّ وضع الفلوس المقرّر في الصندوق كلّها إباحة
مالكيّة وإذن في التصرّفات المذكورة معلومة من شاهد حال الحمّامي ، بل لا يختصّ
ذلك بغيبته بل المتعارف في حضوره في جميع الحمّامات في كلّ الأعصار والأمصار هو
ذلك فإنّه ليس إلّا من قبيل الإباحة والإذن في الدخول واستيفاء المنفعة واستعمال
الماء بشرط بذل العوض المقرّر ، للعلم الضروري من سيرة المستأجرين
للحمّامات والداخلين فيها أنّ المستأجرين لا يقصدون عند دخول كلّ داخل
إنشاء تمليك المنفعة بشرائطها له ، والداخلين أيضاً في قصدهم قبول تمليك المنفعة
ولا تملّكها عند الدخول فلا يمكن كون ذلك من باب الإجارة لأنّها عقد والعقد لا بدّ
فيه من إنشاء تمليك المنفعة وليس بحاصل جزماً ، فهو ليس إلّا لأنّ المستأجرين
آذنون للناس إذناً عامّاً في الدخول واستيفاء المنفعة واستعمال الماء معلومة
بشهادة أحوالهم بل كثيراً ما يكون الإذن صريحة.
وبهذا كلّه
اندفعت الإشكالات المعروفة في خصوص عمل الناس في الحمّامات على تقدير كونه من باب
الإجارة من عدم تعيين المنفعة ولا تعيين المدّة لتعيين المنفعة ولا تعيين الماء
الّذي يستعمل ومن جهة إتلاف الماء الّذي هو من العين فإنّ هذه تقدح في الإجارة لا
في الإباحة ، وهذا في كونه إباحة نظير الإباحة فيمن يستأجر داراً ويدخل فيها ضيفه
ورفيقه وصديقه وغيره ، غاية الأمر أنّ ذلك إباحة مجّانيّة وما في الحمّامات إباحة
مشروطة بدفع العوض المقرّر.
فالأولى أن
يعبّر ـ بعد ما تقدّم من عدم اعتبار الإعطاء في شيء من الجانبين ـ مكان «بل يكفي
مجرّد الإيصال والوصول» بأنّه يكفي القول المجرّد عن الفعل الخالي عن شرائط الصيغة
، ومرجعه إلى أنّه لا يعتبر في المعاطاة كونها بالفعل المحض أو الملفّق منه ومن
القول بل يكفي فيها مجرّد القول الخالي عن الشرائط ، كأن يقول أحدهما : هذا ملك لك
بكذا أو منّ من هذه الصبرة ملك لك بكذا ، قاصداً لإنشاء التمليك ، ويقول الآخر :
ما يخالف أو ما يضرّ أو لا ضير فيه أو لا بأس به ، قاصداً لإنشاء قبول التمليك ، أو
يقول أحدهما : أبيعك هذا بكذا ، قاصداً لإنشاء التمليك ، ويقول الآخر : أشتري منك
بكذا ، قاصداً لإنشاء التمليك ، أو يجريا الصيغة الفارسيّة مثل عبارة «فروختم
وخريدم» وما أشبه ذلك. وقد يعبّر عن هذه المعاملة القوليّة الخالية عن شرائط
بأنّهما يتقاولان على مبادلة مال بمال من غير إيصال وقبض في المجلس ، ومناط كفاية
ما ذكر صدق البيع عرفاً فيشمله أدلّة الصحّة ، هذا على القول بالملك. وأمّا على
القول بالإباحة فقد يستشكل في كفايته تعليلاً بعدم الدليل على كفاية نحو ذلك في
الإباحة ، والقدر المتيقّن من دليله وهو السيرة وإجماع الغنية هو المعاطاة
الحقيقيّة ، وهي
الفعليّة المحضة أو الملفّقة.
المسألة
الثالثة : هل يعتبر الشرائط المعتبرة في صحّة البيع ممّا يرجع إلى المتعاقدين وما
يرجع إلى العوضين وإلى بيع الصرف وغيره في المعاطاة مطلقاً ، أو لا تعتبر مطلقاً ،
أو تعتبر على القول بالملك ولا تعتبر على القول بالإباحة؟ وجوه يظهر اختيار أوّلها
من إطلاق جماعة منهم غير واحد من مشايخنا ، ومنهم صاحب الحدائق حيث قال : «ينبغي
أن يعلم أنّه لا بدّ في هذا البيع من جميع الشرائط المعتبرة في صحّة البيوع سوى
الصيغة الّتي ادّعوها. ثمّ حكى فيما بعد ذلك شهرة الاعتبار على القول بالإباحة
قائلاً : المشهور بين القائلين بعدم لزوم المعاطاة صحّة المعاملة المذكورة إذا
استكمل شروط البيع غير الصيغة المخصوصة ، وأنّها تفيد إباحة تصرّف كلّ منهما فيما
صار إليه من العوض» انتهى.
وقوّاه شيخنا قدسسره في متاجره مصرّحاً بعدم الفرق بين القولين وعلّله على
القول بالملك بكونها بيعاً ، وحاصله أنّ الأدلّة دلّت على اعتبار الشروط فتثبت
لكلّ ما صدق عليه أنّه بيع ومنه المعاطاة. وعلى القول بالإباحة علّله تارةً بأنّها
بيع عرفي وإن لم تفد إلّا الإباحة ، والأدلّة دلّت على اعتبارها في البيع العرفي
لا خصوص البيع العقدي ، وتنزيلها على البيع العقدي تقييد لها بغير الغالب. واخرى
بأنّ الإباحة لم تثبت إلّا في المعاملة الفاقدة للصيغة فقط فلا تشمل الفاقدة
للشروط الاخر أيضاً. ولعلّ السرّ فيه على ما رامه أنّ العمدة من دليل القول
بالإباحة السيرة وإجماع الغنية ، والقدر المتيقّن من معقدهما الجامعة للشروط دون
الفاقدة لها. وعلى هذا فالشروط على القول بالملك شروط للصحّة بالقياس إلى إفادة
الملك ، وعلى القول الآخر شروط لها بالنسبة إلى إفادة الإباحة.
والمخالف في
المسألة على ما حكي هو الشهيد فنفى اعتبار جملة من الشروط قائلاً : «يجوز أن يكون
الثمن والمثمن في المعاطاة مجهولين لأنّها ليست عقداً وكذا جهالة الأجل» وعنه في باب
الصرف أيضاً أنّه لا يعتبر التقابض في معاطاة النقدين ،
__________________
وهذا منه قدسسره إمّا اختيار للوجه الثاني ، أو مصير إلى التفصيل وهو
الوجه الثالث.
ويؤيّده أنّه
من أهل القول بالإباحة فعلى مختاره نفى الاشتراط. ويمكن أن يرجع كلامه الي
تفصيل في تفصيل وهو التفصيل في الشروط على قوله بالإباحة لا مطلقاً.
والأقوى هو
القول الأوّل لأنّ الأصل في المعاملات مطلقاً هو الفساد حتّى بالنسبة إلى إباحة
التصرّفات إلّا ما خرج بالدليل ، والقدر المتيقّن خروجه من المعاطاة هي الجامعة
لشروط صحّة البيع ، وأمّا الفاقدة لها كلّها أو بعضها فلا دليل على خروجها فتكون
باقية ، ويعضده الشهرة محقّقة على القول بالملك معتضدة بعدم ظهور [خلاف فيه]
ومحكيّة على القول الآخر معتضدة بما تقدّم من الوجهين مع الاقتصار على القدر
المتيقّن من معقد السيرة وإجماع الغنية ولم نقف للشهيد على وجه ظاهر ، فقضيّة
الأصل المعتضد بما ذكر اشتراط معلوميّة الثمن والمثمن ومعلوميّة الأجل فيها
واعتبار التقابض في معاطاة النقدين.
وهل يجري في
المعاطاة الأحكام المختصّة بالبيع كحرمة بيع الأعيان النجسة وغيرها ممّا تقدّم
وحرمة الربا والشفعة وخياري المجلس والحيوان ونحو ذلك ، أو لا؟ فنقول : أمّا حرمة
بيع الأعيان النجسة وغيرها ممّا تقدّم في مباحث المكاسب فلا ينبغي التأمّل في
جريانها في المعاطاة على القول بالملك المتزلزل لأنّها بيع ، بل هذه الأحكام جارية
في مطلق عقود المعاوضة ، والمعاطاة مع قطع النظر عن كونها بيعاً معاوضة. ومن ذلك
ظهر جريانها على القول بالإباحة لأنّها معاوضة عرفيّة بل قد يقال بكونها معاوضة
شرعيّة نظراً إلى إمضاء الشارع ، بل هي على هذا القول فاسدة من أصلها ولا تفيد
إباحة التصرّفات في الأعيان النجسة وآلات اللهو والقمار واتّخاذ العنب خمراً
والخشب صنماً للحرمة ، جميع ذلك بالأصل ، وإذن المبيح لا يرفعها وإذا انتفت
الإباحة في المعوّض انتفت في العوض أيضاً لأنّ الإباحة مشروطة والشرط غير حاصل
فكذا المشروط.
وأمّا تحريم
الربا فالظاهر جريانه فيها على القولين لقوله تعالى : «وَحَرَّمَ الرِّبا» فإنّه عامّ في كلّ ربا كما أنّ «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» عامّ في كلّ بيع فيندرج فيه المعاطاة الربويّة
__________________
سواء جعلنا الربا عبارة عن البيع المشتمل على الزيادة أو عن الزيادة في
البيع أو عن المعاوضة المشتملة على الزيادة ـ وهو الأقوى ـ أو عن الزيادة في
المعاوضة ، والمعاطاة على القولين معاوضة ، وعلى القول بالملك بيع أيضاً.
وأمّا الخيارات
فيمكن منع جريانها فيها مطلقاً لأنّها جائزة بالذات فلا معنى لثبوت الخيار ، ويمكن
القول بجريانها مطلقاً لأنّها تؤول إلى اللزوم بالتلف وغيره من الملزمات ، ويظهر
أثر الخيار بعد اللزوم وفي الإسقاط والصلح عليه ، ويمكن القول بالفرق بين ما يختصّ
دليله بالبيع كخيار المجلس وخيار الحيوان فلا يجري لاختصاص دليله بما وضع على
اللزوم من غير جهة الخيار فلا يعمّ المعاطاة لخروجها عن هذا الموضوع لكون وضعها
على الجواز ، وما لا يختصّ دليله بالبيع كخيار الغبن وخيار العنب فيأتي فيها لعموم
دليله وهو قاعدة الضرر ، وجوه واحتمالات ، غير أنّه لم نقف على قائل بالوجه الأوّل
، ولا على قائل صريح بالوجه الثاني ، وأمّا الثالث فقد جزم به الشهيد الثاني في
المسالك وهو الأقرب بل الحقّ الّذي لا محيص عنه. ولكن ما لا
يختصّ بالبيع إنّما يثبت فيها بعد حصول الملزم لا قبله.
لنا على عدم
ثبوت ما يختصّ بالبيع فيها حكومة دليل خياري الحيوان والمجلس على دليل لزوم البيع
الّذي هو الأصل فيه المقتضي لترتّب اللزوم على العقد من حين وقوعه ، ببيان أنّ
اللزوم الّذي هو حكم شرعي رتّبه الشارع على العقد في بيع الحيوان بعد ثلاثة أيّام
وفي بيع غيره بعد الافتراق ، ومعنى الحكومة هنا أنّ دليل هذين الخيارين وهو قوله :
«ثلاثة أيّام للمشتري» وقوله : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» بمدلول اللفظي
متعرّض لدليل اللزوم ببيان كمّيّة موضوعه وهي أنّ بيع الحيوان لزومه بعد الثلاثة ،
وبيع غيره لزومه بعد الافتراق ، وهذا كما ترى لا يتمّ إلّا في البيوع الّتي بناؤها
في الشريعة على اللزوم ، فهذه البيوع موضوع هذين الخيارين فلا يندرج فيها المعاطاة
على القولين فلا يشملها دليل الخيارين جزماً.
ولنا على ثبوت
ما لا يختصّ بالبيع كخياري الغبن والعيب بعد حصول الملزم
__________________
لا قبله أنّ قاعدة نفي الضرر حاكمة على دليل سبب اللزوم في البيع العقدي
والمعاطاة على القولين ، ببيان أنّ اللزوم الّذي هو حكم شرعي رتّبه الشارع على
السبب المقتضي له عقداً كان أو غيره في غير محلّ الغبن والعيب لئلّا يلزم الضرر
فلا لزوم في محلّيهما ، وهذا كما ترى لا يعمّ المعاطاة قبل حصول شيء من ملزماتها
إذ لا لزوم حينئذٍ ليلزم بسببه الضرر حتّى ينفيه القاعدة دفعاً للضرر من غير فرق
بين القولين ، ويعمّها بعد حصول شيء من الملزمات فيثبت كلّ من الخيارين لأنّه
لولاه لزم الضرر بسبب اللزوم وهو منفيّ في شرع الإسلام.
لا يقال : إنّ
قضيّة حكومة دليل هذين الخيارين أيضاً على دليل اللزوم كون موضوعه أيضاً البيوع
الّتي بناؤها في الشريعة على اللزوم فلا يندرج فيه المعاطاة أيضاً لعين ما ذكرت في
خيارى الحيوان والمجلس ، لأنّ موضوع قاعدة الضرر ليس هو البيع بل الحكم الضرري
تكليفيّاً كان أو وضعيّاً لزوماً كان أو غيره ، استند اللزوم إلى العقد أو إلى
غيره من ملزمات المعاطاة.
وتوضيحه : أنّ
مدرك قاعدة نفي الضرر ما ورد في الأخبار من قوله عليهالسلام : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ومفاده ـ على
ما فهمه المحقّقون وحقّقناه في رسالة مفردة ـ أنّ الشارع تعالى لم يجعل في شرع
الإسلام حكماً ضرريّاً أي حكماً مؤدّياً إلى ضرر مسلم ، بحيث يسند الضرر إليه
تعالى حيث جعل الحكم المؤدّي إليه ، فكلّ حكم مؤدّ إلى الضرر فهو غير مجعول. ولا
ريب أنّ من الحكم الضرري هو اللزوم في موارد الغبن والعيب لأنّه لو كان مجعولاً من
الشارع في تلك الموارد لزم الضرر على المسلم المغبون والمعيب سلعته الّتي وقعت
بيده بالبيع أو غيره فلا يكون مجعولاً بمقتضى القاعدة دفعاً للضرر. وهذا لا يتفاوت
فيه الحال بين كون اللزوم المؤدّي إليه من مقتضى عقد من العقود اللازمة أو من
مقتضى أسباب اخر كملزمات المعاطاة ، كما لا يتفاوت فيه الحال بالنسبة إلى ملزمات
المعاطاة بين القولين فيها.
وأمّا الشفعة
فالظاهر جريانها فيها على القول بالملك لاختصاص أدلّتها بالبيع
__________________
فيعمّها على هذا القول ، خصوصاً ما هو صريح في العموم مثل قول الصادق عليهالسلام في خبر هارون بن حمزة : «الشفعة في البيوع ...» الخ.
والمعاطاة على هذا القول أيضاً بيع بل هي الغالب من أفراده الخارجيّة.
لا يقال :
إنّها على القول الآخر أيضاً بيع عرفي لأنّ أهل العرف يطلقون عليها اسم البيع وإن
لم تفد إلّا الإباحة فيشملها العموم المذكور وغيره من أخبار الشفعة ، لأنّ هذه
الدعوى غير مسلّمة بالنظر إلى عدم إمضاء الشارع الكاشف عن خطأ أهل العرف في
اعتقادهم البيعيّة فيها ، فإنّ أهل العرف في المعاطاة الّتي بأيديهم يعتقدون كونها
معاوضة بيعيّة مفيدة للملك. ومفاد دليل القول بالإباحة من السيرة وإجماع الغنية
المصرّح بنفي البيعيّة إن تمّ ينحلّ إلى نفي وإثبات ، والأوّل عدم إمضاء الشارع
معتقد أهل العرف فيها من حيث البيعيّة وإفادة الملكيّة ومرجعه إلى أنّ الشرع كشف
عن خطأ اعتقاد أهل العرف فيها من الحيثيّة المذكورة ، والثاني إمضاؤه لمعتقدهم
فيها من حيث كونها معاوضة وأثرها بعد نفي إفادة الملك ليس إلّا إفادة إباحة
التصرّفات ، فهي على هذا القول بعد كشف الشرع ليست بيعاً حقيقة فكيف يعقل شمول
الأدلّة المثبتة للشفعة في البيع لها.
المسألة
الرابعة : في دخول المعاطاة وجريانها في سائر العقود اللازمة والجائزة مطلقاً إلّا
ما خرج بالدليل كعقد النكاح لقيام دليل خاصّ على أنّه يعتبر في صحّته الصيغة
المخصوصة بشرائطها ، وعدمه مطلقاً ، أو في الجملة ، كلام الأصحاب فيه مضطرب حتّى قيل
إنّ ما نحن فيه غير محرّر في كلامهم وعبارات المتعرّضين للمقام مختلفة ، فعن
السيّد صاحب المصابيح «دعوى سيرة المسلمين في الأعصار والأمصار في جميع العقود على
عدم الالتزام بالصيغ المخصوصة» .
وعن شرح
القواعد ما يقضي بدعوى الإجماع المحصّل والمنقول بل السيرة على دخولها في عقود
المعاوضات ، ومن عبارته المتكفّلة لدعوى السيرة في الجميع قوله ردّاً للقول
بالإباحة المدّعى عليه الشهرة والإجماع : «وهو مردود بالسيرة المستمرّة القاطعة
__________________
في إجراء حكم الأملاك على ما اخذ بالمعاطاة من إيقاع عقد البيع والإجارة
والهبة والصلح والصدقة وجميع العقود ممّا يتعلّق بتمليك الأعيان أو المنافع عليه
...» إلى آخر ما ذكره ممّا لا يتعلّق بما نحن فيه.
ومن مشايخنا
أيضاً من جزم بقيام السيرة على جريانها في كلّ باب وعنوان حتّى السبق والرماية
والأوقاف كوقف المساجد والقناديل في الروضات المتبرّكة والحصر وبواري المساجد
والمدارس ، حيث لم نر أحداً من المسلمين من لدن صاحب الشريعة إلى الآن أنّه التزم
بإجراء صيغة خاصّة ، بل نراهم في جميع الأعصار والأمصار أنّهم يكتفون بمجرّد
الأفعال مع القصد.
ونسب إلى
المحقّق الثاني الجزم بجريانها في مثل الإجارة والهبة والقرض ،
والاستشكال في الرهن ، ووجّه بما محصّله اعتبار الوثوق في مفهوم الرهن وهو غير
حاصل مع الجواز إن قلنا بكون معاطاته جائزة كمعاطاة البيع ، ولو قلنا فيها باللزوم
في الرهن فقط كان مخالفاً لما أطبقوا عليه من توقّف العقود اللازمة على اللفظ
والمفروض عدم أوله إلى اللزوم بإتلاف أو تصرّف حتّى يقال بحصول الوثيقة في بعض
الأحيان وبه الكفاية في انعقاد مفهومه الّذي قوامه بالوثوق.
وفي المسالك «ذكر
بعض الأصحاب ورود المعاطاة في الإجارة والهبة بأن يأمره بعمل معيّن ويعيّن له
عوضاً فيستحقّ الاجرة بالعمل ، ولو كان إجارة فاسدة لم يستحقّ شيئاً مع علمه
بالفساد بل لم يجز له العمل والتصرّف في ملك المستأجر مع إطباقهم على جواز ذلك
واستحقاق الأجر إنّما الكلام في تسميته معاطاة في الإجارة ، وذكر في مثال الهبة ما
لو وهبه بغير عقد فيجوز للقابض إتلافه وتملّكه به ولو كانت هبة فاسدة لم تجز ، ولا
بأس إلّا أنّ في مثال الهبة نظراً من حيث إنّ الهبة لا تختصّ بلفظ بل كلّ لفظ يدلّ
على التمليك بغير عوض كافٍ فيها كما ذكروه في بابه ، وجواز التصرّف في المثال
المذكور موقوف على وجود لفظ يدلّ عليها فيكون كافياً في الإيجاب اللهمّ إلّا أن
يعتبر القبول القولي مع ذلك ولا يحصل في المثال فيتّجه ما قاله» انتهى.
__________________
وتحقيق المقام
على ما يساعد عليه النظر أنّ العقود الباقية إمّا لازمة ولو من أحد الجانبين ـ كالإجارة
والصلح والمزارعة والمساقاة والقرض والرهن والوقف والصدقة والهبة لذي رحم والهبة
المعوّضة والمقصود بها القربة إن غايرت الصدقة والنكاح ـ أو جائزة كالشركة والقراض
والوديعة والعارية والوكالة والجعالة.
أمّا العقود
اللازمة فالضابط في دخول المعاطاة فيها وقيامها مقام العقد اللفظي فيها وعدمه دخول
خيار الشرط فيها ، فكلّ عقد دخله خيار الشرط دخله المعاطاة أيضاً ، وينعكس بأنّ
كلّما لا يدخله خيار الشرط لا يدخله المعاطاة ، فإنّها في ذلك من جهة الإجماع على
الدخول أو على عدمه أو الخلاف فيهما على أنواع :
الأوّل : ما لا
يدخله خيار الشرط بالإجماع كالنكاح ، ولعلّ السرّ فيه أنّ النكاح عقد صحّته مربوطة
بلزومه وشرط الخيار ينافي لزومه فينافي صحّته فيبطل ، والمعاطاة أيضاً لكون بنائها
على الجواز تنافي اللزوم بل هي أشدّ منافاة من الخيار فتبطل.
الثاني : ما
يدخله خيار الشرط بالإجماع كالإجارة والصلح المعاوضي والقرض والمزارعة والمساقاة
للإجماع على صحّة شرط خيار الفسخ فيها لأحد الجانبين أو كليهما ، فإنّه يكشف عن
عدم كون صحّة هذه العقود مربوطة للزومها فخيار الفسخ لا ينافي صحّتها وإن كان
ينافي لزومها ، وهذه دخلها المعاطاة أيضاً وتقوم مقام العقد اللفظي فيها لعدم
منافاتها الصحّة ، فتكون فائدة العقد اللفظي هو اللزوم المنتفي في معاطاتها. ويدلّ
على دخولها فيها ما يدلّ على دخولها في البيع من السيرة القطعيّة القديمة في جميع
الأعصار والأمصار في جميع العقود المذكورة ولا سيّما القرض وبعده الإجارة وبعدها
الصلح على عدم الالتزام في إطلاق أساميها وإجراء أحكامها بالصيغ المخصوصة المعتبرة
فيها فتكشف عن تقرير المعصومين في كلّ من الاسم والحكم.
الثالث : ما
اختلف في دخول خيار الشرط وعدم دخوله فيه كالرهن والوقف والصلح الإبرائي والصدقة
والهبة لذي رحم أو المعوّضة أو المقصود بها القربة ، فإنّ اللازم من دخول الخيار
فيها على القول به في كلٍّ دخول المعاطاة أيضاً لكشف دخوله عن عدم كون الصحّة
مربوطة باللزوم ، واللازم من عدم دخوله على القول به في كلّ عدم دخولها أيضاً لكشف
عدم دخوله عن كون الصحّة مربوطة باللزوم. وأمّا التكلّم في
دخول الخيار فيها كلاًّ أم بعضاً وعدمه هنا فليس من وظيفة المسألة بل له
مقام آخر في أبواب الخيارات في مباحث خيار الشرط وسيأتي إن شاء الله تعالى ، وإن كان
الأقوى في الوقف والرهن عدم دخوله كما هو المشهور في الأوّل بل عن المسالك كونه
محلّ وفاق وهو في البواقي محلّ تأمّل ، إلى أن يوفّقنا الله سبحانه على استقصاء
النظر فيه في محلّه.
وأمّا العقود
الجائزة ، فالمعاطاة الّتي تضاف إليها إن كانت قوليّة فلا ينبغي التكلّم في دخولها
فيها بل هو ممّا لا محلّ له ، لأنّ كلّما يفرض بالقياس إليها من معاطاة قوليّة فهي
داخلة في العقد اللفظي المعتبر فيها بناءً على أنّها لا تختصّ بلفظ بل كلّ لفظ
يدلّ على المعنى المقصود منها يكون كافياً في انعقاد العقد المبحوث عن معاطاته
وصحّته فيندرج فيه ما يفرض من المعاطاة القوليّة ، بل هي على هذا التقدير من العقد
اللفظي وتسميته معاطاة مسامحة ، فلا معنى للتكلّم في قيامها مقام العقد اللفظي
إلّا على القول باشتراط العربيّة في كلّ العقود الجائزة أو بعضها ، وكانت المعاطاة
القوليّة بغير اللفظ العربي ، ولكنّ التكلّم في قيامها أيضاً في غير محلّه لأنّه
راجع إلى التكلّم في اشتراط العربيّة في عقدها اللفظي وهو ليس من وظيفة المقام بل
بالقياس إلى كلّ عنوان موكول إلى بابه.
وإن كانت
فعليّة فالتشكيك في قيامها ليس لمدخليّة اللفظ في العقد اللفظي في انعقاد العقد أو
صحّته بل لكونه فاقداً لما هو مناط انعقاده عقداً صحيحاً ، وهو الدلالة على المعنى
المقصود من الوديعة الاستنابة في حفظ المال ، فإذا دفعه المالك إلى غيره وقال : «أودعته
عندك» أو «هذا وديعة عندك» كان دالّا على الاستنابة في الحفظ ، وأمّا لو دفعه إليه
من غير لفظ لم يكن دفع الدافع دالّا على إنشاء هذا المعنى ولا أخذ الآخذ على قبوله
، لقيام احتمال كونه هبة أو عارية أو إباحة للتصرّف أو قراضاً فيكون مجملاً ، ولا
يعقل في المجمل دلالة على المعنى المقصود منه بعينه ، وهذا ممّا لا يعقل قيامه
مقام العقد اللفظي ، وإلّا فلو فرض الفعل بحيث يكون دالّا على المعنى المقصود ولو
بمعونة قرينة مقام ونحوها فلا ينبغي التشكيك في قيامه مقام العقد اللفظي ، ولذا
كان الفعل في مقام القبول بعد سبق الإيجاب القولي كافياً على الأقوى لأنّه بملاحظة
سبق الإيجاب القولي ينصرف إلى كونه قبولاً لذلك الإيجاب ، ولكن يشترط فيه حيث يدلّ
على المعنى المقصود كون دلالته قطعيّة ولا يكفي فيها الظنّ والظهور. وبذلك يفترق
عن العقد اللفظي
الّذي يكفي في دلالته الظهور لحجّيّة الظواهر ، واختصاص الحجّيّة بالألفاظ
بل الدلالة على المعنى المقصود كما أنّها معتبرة في معاطاة العقود الجائزة إذا
كانت فعليّة فكذلك معتبرة في العقود اللازمة أيضاً ، فالمعاطاة حيث تدخل العقود
الجائزة تساوي العقد اللفظي في الفائدة لاشتراكهما في الجواز فإنّ العقد في ذاته
جائز لفظيّاً كان أو معاطاة ، والعقد اللفظي لا تفيد فائدة اخرى زائدة على فائدة
المعاطاة فيها. وبذلك يمتاز هذه المعاطاة عن معاطاة العقود اللازمة فإنّها تغاير
العقد اللفظي المعتبر فيها في الجواز واللزوم.
وأمّا المناقشة
في التسمية بالمعاطاة في أكثرها كما تقدّم نظيرها في معاطاة على ما نقله في
المسالك فيدفعها ، أنّه [إن] اريد عدم التسمية لغة لعدم تحقّق
المفاعلة ولا صدور الفعل بين اثنين ففيه أنّ إطلاق المعاطاة في كلمة الأصحاب ليس
باعتبار اللغة ، وإن اريد عدم التسمية بحسب عرف الفقهاء أو المتشرّعة ففيه منع
واضح ، لما ذكرناه مراراً من أنّها عندهم عبارة عن كلّ معاملة عقديّة فاقدة للصيغة
أو شرائطها ، وهذا المعنى يوجد في الجميع حتّى الإجارة والوكالة والمزارعة
والمساقاة.
ثمّ إنّ قولنا
بقيام المعاطاة مقام العقد اللفظي في العقود اللازمة والجائزة ينحلّ إلى قضيّتين ،
إحداهما : أنّها في كلّ عنوان يصدق عليها اسم ذلك العنوان ، فهي في محلّ الإجارة
إجارة ، وفي محلّ الصلح صلح ، وفي محلّ القرض قرض ، وفي محلّ المزارعة مزارعة ،
وفي محلّ الوديعة وديعة وهكذا. واخراهما : أنّها تفيد فائدة هذا العنوان من تمليك
منفعة أو عين أو الاستنابة في الحفظ أو التصرّف أو الإذن في الانتفاع مع بقاء
العين ، أو الإذن في العمل بعوض أو الإذن في الاتّجار بحصّة من الربح ونحو ذلك. وقضيّة
ذلك كلّه أن يكون معاطاة سائر العقود كمعاطاة البيع في وجوب اجتماع شرائط الصحّة
فيها ، فوجب أن تكون في محلّ الإجارة جامعة لشرائط الإجارة ، وفي محلّ القرض جامعة
لشرائط القرض ، وفي محلّ المزارعة أو المساقاة جامعة لشرائطهما ، وفي محلّ الوديعة
أو العارية جامعة لشرائطهما ، وفي محلّ الوكالة والجعالة جامعة لشرائطهما ، وهكذا.
__________________
السابع
: في ملزمات معاطاة
البيع فنقول : قد اتّفق الأصحاب ـ مع اختلافهم في أنّها هل تفيد الملك أو الإباحة
وعلى الأوّل هل تفيد اللزوم أو الجواز ـ على أنّ لها ملزماً ، وهو لا يخلو عن امور
ثلاث : التلف ، ونقل الملك بسبب شرعي ، وتغيير الوصف. والملزميّة في بعض هذه
الثلاث محلّ وفاق ، وفي البعض الآخر محلّ خلاف حسبما تعرفه. ثمّ لكلّ من هذه
الحالات أقسام أربع ، لأنّها إمّا تحصل في تمام كلّ من العينين ، أو في تمام إحدى
العينين ، أو في بعض كلّ منهما ، أو في بعض إحداهما ، ومرتفع الثلاث في الأربع
اثنى عشر. وتمام البحث في أحكام هذه الأقسام يقع في طيّ مسائل :
المسألة الاولى
: في تلف تمام كلّ من العينين ، ونعني بالتلف تبدّل وصف وجود الشيء بالعدم سواء
كان بآفة سماويّة أو بإتلاف من بيده أو متلف آخر فهل يكون ملزماً أو لا؟ وليعلم
أنّ المراد باللزوم هنا سقوط الجواز الّذي كان ثابتاً قبل التلف وهو جواز الرجوع
بالعين ، وقد يعبّر بجواز الترادّ والمعنى واحد ، والمراد بالجواز المحتمل في
مقابله هو جواز الرجوع على من تلفت بيده العين بغرامة مثلاً في المثليّات وقيمة في
القيميّات ، لا جواز الرجوع بالعين لاستحالته. فاللزوم بالمعنى المذكور بعد تلف
العينين هو المعروف من مذهب الأصحاب الّذي صرّح به جماعة من الأساطين وقد ينفى عنه
الخلاف ، كما عن شرح القواعد وقد يدّعى عليه الإجماع على الظاهر المصرّح به
في بعض العبائر.
وقد يستدلّ
عليه بأصالة اللزوم الّتي هي الأصل في العقود ، والمتيقّن ممّا خرج منه ما دامت
العينان باقيتين فوجب الحكم باللزوم بعد تلفهما عملاً بأصالة اللزوم. ولا خفاء في
ضعفه لأنّ الاستناد إلى الأصل المذكور إنّما يتمّ أن لو كان الجواز المبحوث عنه
مستنداً إلى وجود مانع يكون رافعاً للّزوم بحيث لولاه لكان اللزوم ثابتاً لوجود
مقتضيه ، كما في الخيارات الّتي تثبت في العقد اللازم من مقتضى دليل شرعي كما في
خياري المجلس والحيوان ، أو من مقتضى حالة وجوديّة طارئة دلّ الدليل على كونها
رافعة للّزوم كما في خياري الغبن والعيب ، وهذا هو الّذي تقتصر في مخالفة أصالة
__________________
[اللزوم] والخروج عنها على القدر المتيقّن وفي غيره يحكم باللزوم عملاً
بالأصل ، ولذا صار الخيار في هذه الخيارات فوريّة على الصحيح لأنّ القدر المعلوم
خروجه من الأصل هو زمان الفور. وما نحن فيه ليس من هذا القبيل بل الجواز لو قيل به
مستند إلى فقد المقتضي فإنّه في المعاطاة على ما تقدّم إنّما ثبت بالإجماع محصّلاً
ومنقولاً ومدرك الإجماع اشتراط اللزوم في العقود اللازمة بالصيغة المخصوصة الجامعة
لشروطها المقرّرة والشرط في المعاطاة منتف.
ومن القواعد
العقليّة الغير القابلة للتخصيص أنّه متى ما انتفى الشرط انتفى المشروط ، فالجواز
مسبّب عن انتفاء شرط اللزوم ولا ريب أنّ انتفاء الصيغة في المعاطاة لا يتفاوت فيه
الحال بين حالات العوضين من بقائهما أو تلفهما أو بقاء إحداهما وتلف الاخرى ،
ضرورة أنّ تلف العوضين لا يعطيها وجود الصيغة فالمعاطاة بجميع حالات العوضين فيها
مخرجة عن عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» الّذي هو المقتضي للّزوم في العقود اللازمة وهو مدرك
أصالة اللزوم ، وعلى هذا فلا مقتضي للّزوم في المعاطاة رأساً للزومها انتفاء شرط
اللزوم ، فلا معنى للاستناد إلى أصالة اللزوم بعد تلف العوضين.
وتحقيق المقام
أنّ اللزوم إن اريد به سقوط الجواز السابق على التلف فلا مجال لأحد إلى إنكار أنّ
تلف العوضين يوجبه ، لأنّ الجواز السابق عليه عبارة عن جواز ترادّ العينين وتلفهما
يوجب استحالة ترادّهما فيمتنع بقاء جوازه ، ولا نعني من سقوطه إلّا امتناع بقائه ،
وبالتأمّل في ذلك يعلم عدم إمكان استصحابه لعدم بقاء موضوع المستصحب. وإن اريد به
ما يقابل جواز الرجوع بالغرامة مثلاً أو قيمة أعني عدم جواز الرجوع بها فالحقّ هو
اللزوم أيضاً للأصل ، فإنّ جواز الرجوع بالغرامة أمر إضافي بين المالك الأصلي ومن
بيده التلف فهو من حيث إضافته إلى المالك الأصلي يرجع إلى استحقاقه الغرامة مثلاً
أو قيمة ، ومن حيث إضافته إلى من بيده التلف يرجع إلى ضمانه الغرامة بالمثل أو
القيمة وكلاهما خلاف الأصل ، فإنّ الأصل عدم استحقاق الأوّل وعدم ضمان الثاني ،
مضافاً إلى أصالة البراءة عن وجوب ردّ المثل أو القيمة ، ولا دليل يوجب الخروج عن
الأصل فيهما ، ولا فرق في جريان الأصل بين القول بالملك والقول بالإباحة.
وتوهّم : أنّ
الدليل عليه قاعدة ضمان الإتلاف المستفادة من عموم قوله عليهالسلام : «من
أتلف مال الغير» وقاعدة ضمان اليد المستنبطة من عموم قوله عليهالسلام : «على اليد ما أخذت».
يدفعه عدم
جريان عموم الخبرين فيما نحن فيه لا على القول بالملك ولا على القول بالإباحة.
أمّا عدم جريان
عموم الخبر الأوّل على القول بالملك فلأنّه عامّ في إتلاف مال الغير ، والتالف هنا
لكونه ملكاً ليس بمال الغير ، وعلى القول بالإباحة فلأنّه يقتضي الضمان بإتلاف لم
يكن عن تسليط المالك والمفروض أنّ المالك لإباحته جميع التصرّفات حتّى التصرّفات
الإتلافيّة سلّطه على إتلافه.
وأمّا عدم
جريان عموم الخبر الثاني على القول بالملك فلأنّه عامّ في اليد الغير المالكيّة
وما نحن فيه يد مالكيّة ، وعلى القول بالإباحة فلأنّ اليد الغير المالكيّة الموجبة
للضمان عبارة عن اليد العادية وهي فيما نحن فيه ليست بعادية ، لمكان إذن المالك في
جميع التصرّفات حتّى الإتلافيّة منها ، مضافاً إلى أنّ ضمان المثل أو القيمة بعد
التلف تابع لضمان العين قبل التلف وهو وجوب ردّها إلى مالكها والمفروض عدم وجوب
ردّ العين على المدفوع إليه قبل تلفها فلا يجب عليه مثلها ولا قيمتها بعده.
فتبقى الاصول
المذكورة سليمة عمّا يوجب الخروج عنها سواء كان التلف بإتلاف المدفوع إليه أو بآفة
سماويّة أو بإتلاف أجنبيّ.
أمّا الأوّل
فلما عرفت ، وأمّا الأخيران فلأنّ الموجب للضمان إمّا الغصب فهو منتف ، وإمّا
التسبيب بالتفريط أو التعدّي فهما أيضاً منتفيان ، أمّا انتفاء التفريط فلأنّه لم
يجب عليه في المال المدفوع إليه ما يكون تركه تفريطاً ، وأمّا انتفاء التعدّي
فلأنّه لم يحرم عليه فيه ما يكون فعله تعدّياً ، مع أنّه قد عرفت عدم كون يد
المدفوع إليه يد ضمان لعدم وجوب ردّ العين قبل تلفها فلا يضمن الغرامة بالمثل أو القيمة
بعد تلفها.
ولكن يشكل
الحال في صورة إتلاف الأجنبيّ على القول بالإباحة ، بأنّ غاية ما يسلّم عدم ضمان
المدفوع إليه المثل أو القيمة للمالك ، ولا مانع من أن يضمن أحدهما الأجنبيّ له
بأن يستحقّ غرامة ماله مثلاً أو قيمة في ذمّة الأجنبيّ المتلف له وهو من مقتضى عموم
«من أتلف مال الغير فهو ضامن».
ويمكن الذبّ
عنه بأنّ إتلاف الأجنبيّ إن كان ترخيصيّاً وهو أن يأذن له المدفوع
إليه في إتلافه فهو مستند بالأخرة إلى تسليط المالك ، وإن كان عدوانيّاً
كما لو غصبه ثمّ أتلفه فلا يقتضي الخبر ضمانه المثل أو القيمة للمالك لظهوره ولو
بحكم الانصراف في إتلاف مال لم يصب المالك عوضه والمفروض أنّ المالك قد أصاب عوض
ماله ، غاية الأمر كونه عوضاً جعليّاً فلا يستحقّ عوضاً آخر له في ذمّة الأجنبيّ
الغاصب له عن المدفوع له. ولو سلّم عدم ظهور الخبر فيما ذكرنا فيمنع ظهوره أيضاً
في خلافه فيبقى الشكّ في استحقاق المالك الأصلي بعوض ماله الحقيقي في ذمّة الغاصب
المتلف له وعدمه والأصل عدم استحقاقه له.
لا يقال : إنّ
هذا الأصل معارض بمثله في جانب المدفوع إليه لبطلان استحقاقهما معاً من جهة
استحالة اجتماع المالكين على مال واحد ، واستحالة اجتماع استحقاقين في مال واحد
كبطلان عدم استحقاقهما معاً ، لأنّ الغاصب المتلف للمال ضامن لمثله أو قيمته لا
محالة ، وضمان المثل أو القيمة أمر إضافي يقتضي مضموناً له ، وهو إمّا المالك
الأصلي أو المدفوع إليه من المتعاطيين ، وأصالة عدم استحقاق الأوّل معارضة بأصالة
عدم استحقاق الثاني.
لأنّا نقول :
إنّ استحقاق المالك لغرامة ماله في ذمّة الغاصب المتلف له إمّا أن يكون مع ضمانه
لغرامة مال المدفوع إليه المفروض تلفه في يده أو مع عدم ضمانه لها ، ولا سبيل إلى
الأوّل لما تقدّم من الاصول أعني أصالة عدم استحقاق المدفوع إليه لغرامة ماله على
ذمّة الدافع وأصالة عدم ضمان الدافع لها وأصالة البراءة عن وجوب ردّ مثله أو قيمته
، ولا إلى الثاني لأنّ التعارض المتوهّم إنّما طرأ من جهة العلم الإجمالي بانتقاض
الحالة السابقة في أحد الأصلين لتيقّن حدوث استحقاق للغرامة في ذمّة الغاصب المتلف
مع اشتباه المستحقّ في بادئ النظر ، ولكن يتعيّن كونه حاصلاً للمدفوع إليه المغصوب
عنه لا لصاحب المال الأصلي لأنّه أصاب عوضه الجعلي بالفرض فلو استحقّ عوضه الحقيقي
لزم الجمع بين العوض والمعوّض ، مضافاً إلى ما يلزم بالقياس إلى المدفوع إليه من
خروج ماله بلا عوض وهذا خلاف قاعدة «احترام مال المسلم» ، فإنّ قضيّة احترام المال
أن لا يخرج من مالكه مجّاناً وبلا عوض ، ويؤيّده إطلاق كلام الأصحاب باللزوم وعدم
جواز الرجوع على معنى عدم استحقاق المالك
الأصلي للغرامة بالمثل أو القيمة مع التلف الشامل لما كان التلف بإتلاف
غاصب.
وما يقال عليه
: من أنّ تلف العين إذا كان بجناية الغير فهو ليس بتلف حقيقي لانتقالها حينئذٍ إلى
ذمّة الجاني ، ومع قرارها في الذمّة لِمَ لا يجوز الرجوع عليه بأخذ المثل أو
القيمة. ففيه أنّه لا كلام في الانتقال إلى ذمّة الجاني ، وإنّما الكلام فيمن
يستحقّ ما في ذمّته من المثل أو القيمة ، ونحن نقول بأنّ كونه المدفوع إليه لا
المالك الأصلي أوفق بالأصل والقواعد حسبما بيّنّاه.
وقد يستدلّ على
اللزوم بالسيرة فإنّها قائمة بعدم الرجوع بعد التلف مطلقاً. ونوقش بكونها مجملة إذ
لا يدرى أنّ بناءهم في عدم الرجوع هل هو لزعمهم كونها بيعاً لازماً من أصلها أو
بيعاً جائزاً فيلزم بالتلف أو معاملة مستقلّة لازمة من أصلها أو جائزة تلزم بالتلف
أو إباحة لا تقبل الرجوع بعد التلف؟ فجهة البناء غير معلومة فتكون كالإجماع
التقييدي في عدم صلاحيته للاستناد إليه.
ويزيّفها أنّ
السيرة على فرض قيامها بعدم الرجوع تكشف كشفاً قطعيّاً عن تقرير المعصوم الكاشف عن
كون معتقده أنّه لا رجوع في المعاطاة بعد التلف وهذا كافٍ في ثبوت اللزوم بعده ،
غاية الأمر بقاء التشكيك في الجهة الباعثة عليه وهو لا يضرّ بالقطع بأصل اللزوم
بعد التلف. نعم يخدشها أنّ غاية ما يسلّم قيام السيرة بعدم الرجوع بعد التلف ، وهو
غير اللزوم بمعنى عدم جواز الرجوع وهذا هو محلّ الكلام ، والسيرة ساكتة عنه ،
فدليل اللزوم منحصر في الأصل حسبما قرّرناه.
ولو تلف البعض
من كلّ من العينين فيحتمل فيه القول باللزوم مطلقاً ، والقول بجواز الرجوع بعين
البعض الباقي وعوض البعض التالف ، والقول بالجواز في البعض الباقي واللزوم في
البعض التالف وجوه ، قد يقال بأنّ خيرها أخيرها للاستصحاب مراداً به استصحاب
الجواز السابق على التلف بالنسبة إلى الباقي وأصالة عدم استحقاق الغرامة بالمثل
والقيمة بالنسبة إلى التالف ، مضافاً إلى أصالة عدم ضمانها.
لا يقال : إنّ
الحكم السابق على التلف إنّما جواز ترادّ العينين وهو بتلف البعض من كلّ منهما غير
ممكن فيسقط جوازه أيضاً ، لأنّ المسلّم من عدم الإمكان إنّما هو ترادّ التالف من
كلّ منهما وأمّا ترادّ الباقي منهما فممكن جزماً فنحكم ببقاء جوازه ولو بحكم
الاستصحاب.
نعم يمكن
الخدشة في الاستصحاب بعدم بقاء الموضوع لأنّ موضوع المستصحب هو مجموع العينين وهو
غير باق والباقي الّذي هو البعض من المجموع غيره ، وضابطه وجوب كون القضيّة
المشكوكة بعينها هي القضية المتيقّنة بلا اختلاف بينهما إلّا في اليقين والشكّ
وتعدّد زمانيهما باعتبار السبق واللحوق ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لأنّ
القضيّة المتيقّنة في الزمان السابق جواز الرجوع بمجموع العينين والقضيّة المشكوكة
في الزمان اللاحق جواز الرجوع بالبعض من المجموع ، ولا ريب في تعدّد موضوعي
القضيّتين ، وهذا آية عدم بقاء الموضوع.
ويمكن دفعها
بأنّ الموضوع ليس مفهوم مجموع العينين بل مصداقه ، ولا ريب أنّ مصداق المجموع
ينحلّ إلى أجزائه فيتبعه جواز الترادّ فيضاف إلى كلّ من أجزاء المجموع الّتي منها
البعض الباقي منهما جواز الترادّ ، فجواز الترادّ بالنسبة إلى البعض الباقي من كلّ
منهما ليس من استصحاب الحكم مع عدم بقاء موضوع المستصحب ، إلّا أنّ تتميم ذلك
مبنيّ على ثبوت جواز ترادّ البعض من كلّ من العينين لكلّ من المتعاطيين حال وجود
العينين بتمامهما ، وهذا غير واضح لعدم وضوح الدليل عليه.
نعم ربّما يدخل
في الوهم التمسّك له بالفحوى بتقريب أنّه إذا جاز لهما ترادّ العينين بتمامهما
يجوز لهما ترادّ البعض من كلّ منهما بطريق أولى ، ولكن يزيّفه منع الأولويّة ،
وسند المنع لزوم تبعّض الصفقة الموجب للضرر ، وعليه فيشكل التعلّق بالاستصحاب
لإثبات بقاء جواز الترادّ بالنسبة إلى البعض الباقي منهما. فالوجه والمختار حينئذٍ
أوّل الوجوه المتقدّمة.
المسألة
الثانية : فيما لو تلفت إحدى العينين بتمامها والمصرّح به في كلام جماعة من أساطين
الطائفة من غير خلاف يظهر على القول بالملك لزوم المعاطاة من الجانبين وعلّله
المحقّق الثاني في كلامه المتقدّم في مفتتح الباب «بأنّ الترادّ يجوز ما دام
ممكناً ومع تلف إحدى العينين يمتنع الترادّ فيتحقّق اللزوم» .
__________________
والأولى أن
يقرّر الدليل بأنّ رجوع صاحب العين التالفة بعينها غير ممكن فيسقط الجواز في حقّه
ويلزم منه سقوطه في حقّ صاحب العين الموجودة أيضاً ، لأنّه لو جاز له الرجوع
بعينها الموجودة ، فإمّا أن يرجع بدون ضمانه المثل أو القيمة لصاحب العين التالفة
، أو يرجع مع ضمانه إيّاهما له ، ولا سبيل إلى شيء منهما.
أمّا الأوّل
فللزوم الجمع بين العوض والمعوّض ، وهو باطل بالإجماع.
وأمّا الثاني
فلأصالة عدم الضمان وأصالة البراءة وأصالة عدم استحقاق صاحب العين التالفة لمثل
عينه التالفة وقيمتها.
وتوهّم : تعلّق
الضمان من عموم «من أتلف مال الغير» أو من عموم «على اليد» فاسد ، لأنّه إنّما
أتلف مال نفسه لا مال الغير فلا يعقل كونه موجباً للضمان ، ويده يد مالكيّة فلا
يعقل كونها موجبة للضمان.
وقد يستدلّ
أيضاً بأنّ قضيّة المعاوضة ارتباط كلّ من العوضين بالآخر وقضيّة هذا الارتباط
مشاركتهما في الأحكام ، وحينئذٍ فلو جاز لصاحب العين الموجودة الرجوع بعينها جاز
لصاحب العين التالفة أيضاً الرجوع بعينها ولو لم يجز الرجوع للثاني لم يجز للأوّل
أيضاً ، فيتعارضان والترجيح للثاني لأنّ مرجع التعارض المذكور إلى تعارض المقتضي
والمانع ، ومن المحقّق تقدّم المانع وذلك لأنّ وجود العين الموجودة يقتضي جواز
الرجوع للجانبين وتلف العين التالفة يقتضي عدم جواز الرجوع من الجانبين فيكون
الأوّل مقتضياً والثاني مانعاً ، ويقدّم المانع على المقتضي لأنّ تأثير المقتضي
يتوقّف على فقد المانع وتأثير المانع لا يتوقّف على فقد المقتضي بل من خواصّ أنّه
يجامع المانع فلا يقتضي ، وهذا هو معنى تقديم المانع على المقتضي.
ويشكل بأنّ كون
وجود العين الموجودة مقتضياً للجواز من الجانبين وتلف العين التالفة مانعاً من
الجواز من الجانبين ليس لذاتهما بل باعتبار الملازمة بين العوضين في الحكم ، وهو
أن يقال : بأنّ جواز الرجوع بالعين الموجودة يلازم جواز الرجوع بالعين التالفة
وعدم جواز الرجوع بالعين التالفة يلازم عدم جواز الرجوع بالعين الموجودة. ونحن
نطالب المستدلّ بدليل هذه الملازمة ولم نقف على دليل لها ، إلّا أن يكون إجماعاً ،
وليس ببعيد. هذا كلّه على القول بالملك.
وأمّا على
القول بالإباحة فنقل شيخنا قدسسره عن بعض مشايخه وفاقاً لبعض معاصريه تبعاً للمسالك
أنّه قد استوجه عدم اللزوم لأصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة وملكه.
وردّه بأنّها
معارضة بأصالة براءة ذمّته عن مثل التالف أو قيمته. والأولى أن يقال :بأنّ رجوع
مالك العين الموجودة بعينه عملاً بأصالة بقاء سلطنته إمّا أن يكون بدون ضمانه
للمثل أو القيمة لصاحب العين التالفة ، أو يكون مع ضمانه ، والأوّل باطل لئلّا
يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، والثاني أيضاً باطل للُاصول المتقدّمة. ولكن يرد
على هذه الاصول أنّ أصالة بقاء سلطنة المالك على ماله الموجود واردة عليها لسببيّة
شكّها كما يظهر بالتأمّل. بل قد يقال : بأنّ عموم «الناس مسلّطون على أموالهم»
يدلّ على السلطنة على المال الموجود بأخذه وعلى المال التالف بأخذ بدله الحقيقي
وهو المثل أو القيمة. وفيه نظر لما يظهر وجهه بما بيّناه في المسألة السابقة ،
والعمدة ما تقدّم من ورود أصالة بقاء السلطنة ، فما استوجه وجيه.
وفي حكم تلف
إحدى العينين سقوط أحد العوضين عن ذمّة أحد المتعاطيين فيما لو كان في ذمّته ،
ويندرج فيه صورتان :
إحداهما : ما
لو وقعت المعاطاة على عين شخصيّة مع كلّي في الذمّة ثمناً أو مثمناً ، كما لو باع
رطلاً من الحنطة الموجودة برطل من تمر في الذمّة ثمّ دفع المشتري شخصاً مطابقاً له
إلى البائع وفاءً عنه مع التراضي فإنّه يوجب سقوط الكلّي الّذي هو أحد العوضين عن
ذمّته فإنّه في حكم التلف ، وعلى القول بالملك يوجب اللزوم فليس له الرجوع بالشخص
المدفوع إلى البائع وفاءً ولا للبائع ردّه ، والرجوع بعينه المدفوعة إلى المشتري
لعدم الدليل على الجواز بهذا المعنى ، فإنّ الجواز اللاحق بالمعاطاة إنّما ثبت
بدليله لمورد المعاطاة وهو نفس العوضين ، والمفروض كون أحدهما كلّيّاً في الذمّة
وقد سقط ، والشخص الموجود إنّما حصل في يد البائع مثلاً وفاءً عمّا في الذمّة وهو
معاملة
__________________
اخرى خارجة عن المعاطاة يقال «المعاملة الوفائيّة». وبالجملة الّذي ملكه
البائع بالمعاطاة إنّما هو الكلّي في ذمّة المشتري وقد سقط بدفع شخصه المطابق ،
وهذا الشخص الموجود قد ملكه بالمعاملة الوفائيّة لا بالمعاطاة.
ودعوى أنّ
المعاملة الوفائيّة الواقعة عقيب المعاطاة يتبعها في الجواز واللزوم ، وإذا فرض
كونها قبل دفع الشخص وفاء عمّا في الذمّة جائزة كانت المعاملة الوفائيّة الواقعة
بعدها أيضاً جائزة. يدفعها : أنّ التبعيّة تحتاج إلى دليل ولا دليل عليه ، والأصل
عدم سلطنة المشتري على استرجاعه فقد لزمت المعاطاة من طرفه ويلزم منه لزومها من
طرف البائع أيضاً.
وفيه تأمّل ،
لأنّ غاية ما هنالك انتفاء الجواز في جانب المشتري بالنسبة إلى الشخص المدفوع
وفاءً ، وهذا لا ينافي بقاء الجواز في جانب البائع بالنسبة إلى عينه الموجودة ولو
بحكم الأصل ، فيلزم كون المعاطاة كالهبة جائزة من جانبه لازمة من جانب المشتري.
هذا كلّه على القول بالملك.
وأمّا على
القول بالإباحة ففي اللزوم والجواز بعد سقوط الكلّي عن الذمّة بدفع الشخص المطابق
وفاءً وجهان : من سقوط مورد المعاطاة عن الذمّة والقدر المتيقّن من الجواز الثابت
بدليله هو ما دام العوضان بأنفسهما باقيين ، ومن أنّ الإباحة بالقياس إلى الكلّي
في الذمّة لا تظهر أثرها إلّا في شخصه المدفوع وفاءً لعدم إمكان جميع أنواع
التصرّفات فيما في الذمّة فكان المتعاطيان تبانيا وتواطئا على إباحة الشخص في
مقابلة الشخص ، ومرجعه إلى أنّ المعاطاة كأنّها وقعت على الشخصين ، وهذا أجود في
ظاهر النظر. ولك إجراء الكلام بحذافيره فيما لو كان المثمن كلّيّاً في الذمّة وما
لو كان المثمن والثمن كلّيّين فحصل دفع الشخص وفاءً من الجانبين ، إلّا أنّه ينبغي
القطع باللزوم من الجانبين في الأخير على القول بالملك لا على القول بالإباحة
لجريان المتقدّم فيه أيضاً من عدم ظهور أثر الإباحة إلّا في الشخصين ، لامتناع
أنواع التصرّفات في الكلّيين.
وثانيتهما : ما
لو كان أحد العوضين دَيناً في ذمّة أحد المتعاطيين سابقاً على المعاطاة فتعاطيا
على الدين عوضاً وعين شخصية معوّضاً ، فقال بعض مشايخنا : «إنّه على القول بالملك
يملكه من في ذمّته فيسقط عنه ، والظاهر أنّه في حكم التلف لأنّ الساقط
لا يعود ، ويحتمل العود وهو ضعيف. والظاهر أنّ الحكم كذلك على القول
بالإباحة» .
أقول : أمّا
أنّه يملك الدين في ذمّته فالمراد منه أنّه يملكه آناً ما ، ووجهه أنّه من مقتضى
المعاوضة. وأمّا سقوطه لأنّ الإنسان لا يملك شيئاً في ذمّته لنفسه. وأمّا ضعف
احتمال العود فلأنّ السقوط بمنزلة الانعدام وعود المعدوم محال ، أو لأنّ الأصل عدم
العود وإن فرضنا إمكانه بالذات. وأمّا كون الحكم على القول بالإباحة كذلك فمنظور
فيه ، لأصالة بقاء سلطنة المالك وهو المديون على ماله الموجود في يد الدائن ،
وأصالة بقاء ملكه فيه ، فإذا رجع ضمن للدائن بمثل دَينه الساقط بالمعاطاة لئلّا
يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، لا بنفسه حتّى يلزم إعادة المعدوم المستحيل. نعم
لو قيل بحدوث الملك للدائن في المال بسقوط دَينه عن ذمّة المديون اتّجه اللزوم
وعدم جواز الرجوع للمديون بالمال ، إلّا أنّه ممّا لا دليل عليه ، والأصل يقتضي
عدمه ، ويعضده أصالة بقاء السلطنة للمديون وبقاء ملكه فليتدبّر.
ولو تلف بعض
إحدى العينين ففي اللزوم من الجانبين مطلقاً ، أو الجواز مطلقاً فيرجع أحدهما
بتمام العين الاخرى والآخر بعين الباقي وبدل التالف مثلاً أو قيمة ، أو اللزوم
بالنسبة إلى البعض التالف ومقابله من العين الاخرى ، والجواز بالنسبة إلى البعض
الباقي ومقابله من العين الاخرى؟ وجوه : جزم بأوّلها المحقّق الثاني ، واحتمل
الأخيرين ثاني الشهيدين في المسالك.
أمّا الأوّل
فإنّه بعد ما حكم باللزوم مع تلف إحدى العينين قال : «ويكفي تلف بعض إحدى العينين
لامتناع الترادّ في الباقي ، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة وللضرر ، لأنّ المطلوب هو
كون إحداهما في مقابل الاخرى» .
وأورد عليه في
المسالك في كلّ من وجهيه بقوله : «وفيه نظر فإنّ تبعّض الصفقة لا يوجب بطلان أصل
المعاوضة ، بل غايته جواز فسخ الآخر فرجع إلى المثل أو القيمة كما في نظائره ،
وأمّا الضرر الحاصل من التبعيض المنافي لمقصودهما من جعل إحداهما في مقابلة الاخرى
فمستند إلى تقصيرهما في التحفّظ بإيجاب البيع كما
__________________
لو تبايعا بيعاً فاسداً ، ويحتمل حينئذٍ أن يلزم من العين الاخرى في مقابلة
التالف ويبقى الباقي على أصل الإباحة بدلالة ما قدّمناه» انتهى.
أقول : في كلّ
من الإيرادين نظر :
أمّا الأوّل :
فلأنّ ما ذكره في تبعّض الصفقة غفلة عن حقيقة مراد المحقّق ، فإنّ تبعّض الصفقة في
كلام الأصحاب يطلق على معنيين :
أحدهما :
تبعّضها بالقياس إلى تأثير العقد بأن يؤثّر في بعض المورد دون البعض الآخر ، كما
في بيع الملك والغصب منضمّين ، وبيع ما يملك وما لا يملك كشاة وكلب ، وبيع ما يقدر
على تسليمه وما لا يقدر عليه كما لو باع متاعه مع الطير في الهواء وما أشبه ذلك ،
فإنّ العقد يؤثّر في المملوك وفيما يملك وفيما يقدر على تسليمه لا في الضميمة ،
وهذا هو الّذي لا يوجب بطلان العقد عندهم بل غايته ثبوت الخيار للمشتري.
وثانيهما :
تبعّضها بالقياس إلى الأثر الحاصل من العقد بعد حصوله في تمام المورد بإبطاله في
بعضه وإبقائه في البعض ، كما لو أراد من له خيار الحيوان أو خيار الغبن أو خيار
العيب فسخ العقد في بعض المبيع دون البعض الآخر ، وهذا هو الّذي صرّحوا بعدم جوازه
من جهة الإجماع ، بل لا بدّ إمّا من أن يفسخه في الكلّ أو يلتزم به في الكلّ ،
والّذي يلزم فيما نحن فيه حسبما تمسّك به المحقّق هو من هذا القبيل ، لأنّ صاحب
العين الاخرى يرجع ببعضها المقابل للباقي دون البعض المقابل منها التالف ، وهذا
إبطال لأثر العقد في البعض وإبقاء له في البعض الآخر ، وهذا غير جائز ، بل لا بدّ
من إبطاله في الكلّ أو إبقائه في الكلّ.
وأمّا الثاني :
فلمنع التقصير في التحفّظ بإيجاب البيع ، بعد ما كان أصل البيع الغير العقدي وهو
المعاطاة مشروعاً مرخّصاً فيه من الشارع تسهيلاً لأمر المعاملة على الناس برفع
كلفة رعاية الصيغة ومشقّة إحراز شروطها عنهم ، فلو جاز له الرجوع ببعض العين
الاخرى دون بعض كان الضرر اللازم من التبعيض مستنداً إلى جعل الشارع وهو منفيّ في
شرع الإسلام. فتمسّك المحقّق بكلّ من تبعّض الصفقة والضرر في محلّه ، إلّا
__________________
أنّه يرد عليه أنّ غاية ما يلزم من بطلان تبعّض الصفقة ونفي الضرر إنّما هو
انتفاء الوجه الأخير من الوجوه الثلاث المتقدّمة لا تعيّن الوجه الأوّل ، لقيام
احتمال الوجه الثاني كما أشار إليه الشهيد رحمهالله بقوله «بل غايته جواز فسخ الآخر فيرجع إلى المثل أو
القيمة» اللهمّ إلّا أن يعتذر بأنّ هذا الاحتمال منفيّ بأصالة عدم استحقاق المثل
أو القيمة. وعلى هذا فأوجه الوجوه هو الوجه الأوّل وفاقاً للمحقّق المتقدّم ، هذا
كلّه على القول بالملك. وأمّا على القول بالإباحة فيجري هنا كلّما تقدّم في ذيل
المسألة الاولى في حكم تلف بعض من كلّ من العينين على القول المذكور ، ولا حاجة
إلى الإعادة والتكرار.
المسألة
الثالثة : في نقل ملك كلّ من العينين إلى غير من هي بيده نقلاً لازماً ، كالبيع العقدي
أو الصلح أو الهبة المعوّضة كذلك ، أو جعله مهراً في عقد النكاح ونحو ذلك فالمصرّح
به في كلام جماعة منهم الشهيد في المسالك كونه كالتلف في إفادة اللزوم وقد ينفى
عنه الخلاف ، وعلّلوه بامتناع الترادّ ، ووجه الامتناع أنّ الملك الحاصل للغير
مانع شرعي عن استرجاعه فالامتناع شرعي ، وهو الفارق بينه وبين التلف لكون الامتناع
فيه عقليّاً ، ولا فرق فيه بين القول بالملك في المعاطاة والقول بالإباحة لكون
المانع المذكور مشترك اللزوم بين القولين ، إذ لا كلام عند القائلين بالإباحة في
كون التصرّف الناقل مفيداً للملك في العين لمن انتقلت إليه سواء قيل باشتراط
تأثيره بسبق الملك للمتصرّف وأنّه يحصل آناً ما حين التصرّف ، أو قيل بعدم اشتراطه
به بل يكفي فيه مجرّد إباحة التصرّفات الناقلة.
لا يقال :
الامتناع يسلّم في ترادّ العينين لا في ترادّ البدلين ، لأنّا نقول : إنّ البدل
إمّا جعلي وهو المأخوذ عوضاً عن العين المنتقلة إلى الغير الموجود في يدي
المتعاطيين ، أو واقعي وهو المثل أو القيمة ، وأيّاً ما كان فجواز الترادّ في
البدلين ممّا لا معنى له.
أمّا بالنسبة
إلى البدل الجعلي فتارةً لفقد المقتضي للجواز ، واخرى لوجود المانع منه. أمّا
الأوّل : فلأنّ المقتضي لجواز المعاطاة إنّما اقتضاه في مورديها العوض والمعوّض ،
والبدل الجعلي ليس من موردها فلا مقتضى لجواز ترادّ البدلين ، والأصل عدمه. وأمّا
الثاني : فلأنّ الناقل المفيد للّزوم كما أفاده في العينين كذلك أفاده في بدليهما
، فالملك اللازم المفروض فيهما مانع من ترادّهما ، وفيه تأمّل.
وأمّا بالنسبة
إلى البدل الواقعي ، فأوّلاً : لأنّ يد المتعاطيين في العينين لم تكن يد ضمان كما
تقدّم بيانه في تضاعيف المسألتين السابقتين ، من غير فرق بين القولين بالملك
والإباحة. وأمّا ثانياً : فللأُصول المتقدّمة من أصالة عدم استحقاق كلّ من
المتعاطيين لمثل عينه المنتقلة إلى الغير ولقيمته ، وأصالة عدم ضمان كلّ منهما
لمثل ما نقله إلى غيره أو لقيمته ، وأصالة براءة ذمّة كلّ منهما عن وجوب ردّ المثل
أو القيمة. ولو عادت العينان إلى المتعاطيين فإن كان العود لناقل آخر ـ من بيع أو
صلح أو ارتداد أو ميراث أو نحو ذلك ـ فلا ينبغي التأمّل في عدم عود جواز الترادّ
لعدم كون الملك المتجدّد من أثر المعاطاة ، وإن كان لتفاسخ أو تقايل ففي عود جواز
الترادّ وعدمه وجهان ، من أصالة عدمه ، ومن ارتفاع المانع.
والتحقيق أنّه
على القول بالملك لا ينبغي التأمّل في أنّه لا يعود ، فإنّ السلطنة على الاسترجاع
قد سقطت بالنقل ، وسقوطها عبارة عن انعدامها والمعدوم لا يعود ، فلو كان بعد عود
العين سلطنة على استرجاعها أيضاً لكانت سلطنة جديدة ، والأصل عدم تجدّد سلطنة
اخرى.
وأمّا على
القول بالإباحة ففي عود الجواز وعدمه وجهان ، مبنيّان على النظر في أنّ العين تعود
إلى ملك الناقل أو إلى ملك المالك الأوّل. ومن ذلك ربّما يتّجه التفصيل بين القول
بتوقّف التصرّف الناقل على سبق الملك للناقل ولو آناً ما حين التصرّف فلا معنى
لعود جواز الترادّ لعدم بقاء موضوعه ، والقول بعدم توقّفه على سبق ملك للناقل
فيعود العين إلى ملك المالك الأوّل فيتسلّط المالك على استرجاعه لعموم «الناس
مسلّطون على أموالهم».
ولكن قد يقال :
بعدم عود الجواز مطلقاً ، لأنّ العين تعود بالفسخ والإقالة إلى الناقل. ولعلّ وجهه
أنّ ملك المالك الأوّل قد زال بتخلّل التصرّف الناقل في العين ، والفسخ والإقالة
توجب زوال ملك المالك الثاني لا عود ملك الأوّل ، فإنّ الزائل معدوم والمعدوم لا
يعود ، فلو كان ملك بعد عود العين كان ملكاً متجدّداً وهو مردّد بين تجدّده للناقل
أو تجدّده للمالك الأوّل. وكما يمكن أن يقال : بأنّ الأصل عدم تجدّد الملك للناقل
فكذلك الأصل عدم تجدّده للمالك الأوّل ، فالأصلان يتساقطان ، بل لا أصل في الحقيقة
يكون
حجّة لمكان انتقاض أحد الأصلين بيقين تجدّد ملك مردّد في النظر والأصل
الآخر مشتبه به فسقط عن الحجّية ، فيبقى أصالة عدم سلطنتهما على الترادّ سليمة ،
وهي تقضي بعود العين إلى الناقل على معنى صيرورتها ملكاً له ليكون الأصل المذكور
بالقياس إليه مثبتاً ، لأنّا لسنا بصدد إثبات الملك للناقل بل بصدد بيان عدم عود
الجواز بمعنى السلطنة على الاسترجاع ، والأصل المذكور كافٍ في ذلك ولا حاجة إلى
إثبات الملك الناقل فتدبّر.
ومن طريق بيان
كون نقل العينين كالتلف ملزماً للمعاطاة يعلم أنّه لا فرق فيه بين النقل مع العوض
ـ كالأمثلة المتقدّمة ـ والنقل بلا عوض كالهبة الغير المعوّضة لذي رحم والصدقة
والوقف ، لأنّ الجهة المقتضية للّزوم وهو امتناع الترادّ مشترك اللزوم بينهما.
وفي حكم نقل
الملك في إفادة اللزوم الإخراج عن الملك كالعتق لكونه فكّ ملك ، والوقف العامّ على
القول بكونه فكّاً للملك لامتناع الترادّ معه أيضاً. بل ومن تضاعيف المسألة يظهر
أنّه لا يجوز لهما ترادّ بدلي العينين فيما لو غصب العينين غاصب وأتلفه فرجعا عليه
ببدلهما مثلاً أو قيمة ، إذ المقتضي لجواز المعاطاة إنّما اقتضاه في نفس العينين
لا البدلين ، هذا كلّه في النقل اللازم. ولو كان النقل جائزاً كالهبة الغير
المعوّضة لغير ذي رحم والبيع أو الصلح بطريق المعاطاة مثلاً فالظاهر أنّه كالنقل
اللازم في إفادة اللزوم ليس لكلّ من المتعاطيين إلزام الناقل باسترجاع عينه ، ولا
رجوعه بنفسه إلى عينه ، أمّا الأوّل فلأصالة عدم سلطنته على الإلزام ، وأمّا
الثاني فلأنّ أثر المعاطاة في العين قد زال بالنقل المفروض ، والأثر المتجدّد فيها
حاصل عن سبب آخر ولا سلطنة له على إزالة ذلك الأثر.
وأمّا نقل إحدى
العينين فالظاهر أنّه كنقل ملك العينين في إفادة اللزوم من غير خلاف يظهر ، فليس
لصاحب العين المنتقلة إلى الغير الرجوع بها ، ولا لصاحب العين الباقية الرجوع
بعينه ، أمّا الأوّل فلأنّ أثر المعاطاة قد زال عنها والأثر المتجدّد ليس من
المعاطاة فلا سلطنة له على إزالته ، وأمّا الثاني فلأنّه إمّا أن يرجع بعينه
الباقية بلا عوض عمّا نقله لمالكه الأصلي أو يرجع بها مع العوض مثلاً أو قيمة ،
والأوّل باطل للزوم الجمع بين العوض والمعوّض وكذلك الثاني لأصالة عدم استحقاق
صاحب العين
المنتقلة لغرامة عينه مثلاً أو قيمة. ولو كان النقل المفروض جائزاً فليس
لمالك العين المنتقلة إلى الغير إلزام الناقل بالرجوع بها ولا رجوعه بنفسه إليها ،
لما تقدّم في نقل العينين كذلك.
وأمّا نقل
البعض من كلّ من العينين أو نقل بعض إحدى العينين على وجه اللزوم أو الجواز فيجري
فيهما كلّ ما تقدّم في المسألتين المتقدّمتين في تلف البعض منهما أو من إحداهما ،
ولا حاجة إلى الإعادة والتكرار.
المسألة
الرابعة : في تغيير العينين معاً أو إحداهما ، وهو إمّا تغيير ذاتي كجعل الحَبّ
زرعاً والبيضة فرخاً والخشب فحماً وغير ذلك من موارد الاستحالة ، أو اسمي كجعل
الحنطة طحيناً والطحين عجيناً والعجين خبزاً وجعل العنب عصيراً والعصير دبساً أو
خلّاً وما أشبه ذلك من موارد تبدّل الاسم مع بقاء الحقيقة ، أو وصفي كصبغ الثوب أو
فصله أو خياطته ، أو حالي كمزج العين بمثلها بحيث لا يتمايزان كالحنطة بحنطة اخرى
والدهن بدهن آخر ونحو ذلك ، ومدرك اللزوم وعدم اللزوم في هذه الأقسام جريان أصالة
البقاء وعدم جريانها.
ففي القسم
الأوّل : ينبغي القطع باللزوم لامتناع الترادّ ، وعدم جريان أصالة البقاء لعدم
بقاء الموضوع باعتبار تبدّل الحقيقة من جهة الاستحالة.
وأمّا القسم
الثاني : ففي اللزوم وعدمه وجهان ، من عدم جريان أصالة العدم لتبدّل موضوع
المستصحب من جهة تبدّل الاسم ، ومن جريانها نظراً إلى بقاء الموضوع فإنّ موضوع
جواز الرجوع هو هذا الشخص الخارجي وحقيقته غير متبدّلة بحقيقة اخرى وإن تبدّل
اسمه. وأمّا التكلّم في تبدّل الموضوع وعدمه هنا فهو مبنيّ على النظر في أنّ موضوع
المستصحب هل هو الأمر العرفي أو الأمر الحقيقي؟ ولا يبعد ترجيح الأوّل لضابط أنّ
المعيار في إحراز بقاء الموضوع وعدم بقائه في الاستصحاب إنّما هو كون القضيّة
المشكوكة في الآن اللاحق هو القضية المتيقّنة في الزمان السابق بعينها وكونها
غيرها ، وموضوع القضيّة المتيقّنة هنا في الأمثلة المتقدّمة هو الحنطة أو العنب
مثلاً وفي القضيّة المشكوكة الطحين أو العصير مثلاً ، وهما متغايران عرفاً ، ولذا
لو أراد من طحن الحنطة ردّ الطحين إلى صاحب الحنطة بعنوان الرجوع قهراً عليه يمتنع
من قبوله معتذراً
بأنّي لم أبعك الطحين وإنّما بعتك الحنطة وإن كنت تريد الترادّ فردّ إليّ
حنطتي ، وهذا آية كون الموضوع عرفيّاً.
وأمّا القسم
الثالث : فالّذي يتراءى في بادئ النظر هو الإذعان بعدم اللزوم ، لأصالة البقاء
نظراً إلى عدم تبدّل الموضوع حقيقة ولا اسماً كما لا يخفى ، إلّا أنّه قد يقال
باللزوم تعليلاً «بأنّ الجواز قد أثبته الدليل في عين ما أثّر فيه المعاطاة» ومن
البيّن أنّ ما حصل فيه الأثر هو العين بصفة خاصّة وقد زالت عنها الصفة ، فإنّ
الصفات قد تملك تبعاً لملك العين ويتعلّق بها ضمان القيمة بالغصب والإتلاف لو كانت
متموّلة ، وبالجملة أثر المعاطاة إنّما حصل في المجموع من العين وصفاتها فإذا زالت
تلك الصفات زال عين ذلك الأثر ومعه لا يبقى محلّ للرجوع.
وقد يقرّر ذلك
بأنّ الصفات تنزّل منزلة الأجزاء فزوال وصف العين بمنزلة زوال جزئها من حيث إنّها
عين مملوكة بالمعاطاة وزوال جزء العين تلف للعين ، وقد تقدّم أنّ التلف يوجب
اللزوم لعدم إمكان الترادّ.
وفيه نظر ،
لمنع مدخليّة الصفة في الموضوع عرفاً ، ولا بدّ في محلّ الاستصحاب من تغيير في صفة
أو حالة ، والمعيار جريان أصالة البقاء ولا مانع منه من جهة تغيير الوصف ، لبقاء
الموضوع عرفاً.
نعم قد يفصّل
بين أن يتضرّر المالك الأصلي المرجوع إليه بتغيير الوصف وأن لا يتضرّر ، كما عن
الشيخ في شرح القواعد جعل المدار في جواز الرجوع على عدم الضرر مع إمكان الردّ
قائلاً : «بأنّا نعلم من تتبّع كلام القوم والنظر إلى السيرة القاطعة أنّ الجواز
مشروط بإمكان الردّ وبالخلوّ عن الضرر المنفيّ بحديث «الضرار» .
وهذا التفصيل
ليس ببعيد بل جيّد ، وحيث يجري قاعدة نفي الضرر لا تأثير لأصالة البقاء لورود
القاعدة عليها.
وأمّا القسم
الرابع ففيه وجوه : اللزوم وسقوط الرجوع مطلقاً لامتناع الترادّ ، الجواز مطلقاً
لأصالة بقاء سلطنة المالك الأصلي على ماله الممتزج بمال الغير فيصير شريكاً
__________________
مع مالك المال الممتزج به ومعها يمكن الترادّ بالقسمة ، والفرق بين المزج
بالأجود فتلزم ـ لئلّا يلزم الضرر على مالك الأجود بذهاب بعض من أجوده إلى مالك
غير الأجود ـ وبين المزج بالمساوي أو الأردأ فلا تلزم ، والفرق بين القول بالملك
فسقط الرجوع لامتناع التراد والقول بالإباحة فلا يسقط لأنّ الأصل بقاء تسلّط
المالك على ماله الممتزج بمال الغير فيكون شريكاً. والقول المحقّق من هذه الوجوه
في اثنين منها ، أحدهما : الوجه الأوّل نسب القول به في المسالك إلى جماعة فيما
يأتي من عبارته ، والآخر : الوجه الأخير اختاره شيخنا قدسسره.
وأمّا الوجه
الثالث فقد ذكره في المسالك احتمالاً لا اختياراً حيث قال : «لو اشتبهت بغيرها أو
امتزجت بحيث لا يتميّز فإن كان بالأجود فكالتلف ، وإن كان بالمساوي أو الأردأ
احتمل كونه كذلك لامتناع الترادّ على الوجه الأوّل واختاره جماعة ، ويحتمل العدم
في الجميع لأصالة البقاء» انتهى.
ومن ذيل
العبارة يلوح أنّه ذكر الوجه الأوّل احتمالاً لظهور الجميع في الثلاثة ، ولو حمل
على إرادة المساوي والأردأ كان ذكراً للوجه الثالث احتمالاً ، وكيف كان فأصحّ
الوجوه وأقواها هو الوجه الأوّل وفاقاً للجماعة ، لامتناع الترادّ بقول مطلق ،
فإنّ دليل الجواز في المعاطاة إنّما اقتضى جواز الترادّ ما دام ممكناً وحيث امتنع
كما فيما نحن فيه سقط الجواز.
لا يقال : إنّ
الترادّ ممكن بالقسمة بعد التزام حصول الشركة. لأنّ الشركة المتوهّمة إن اريد بها
ما يحصل على القول بالملك فهو غير صحيح ، لأنّ القسمة في اصطلاح الشرع عبارة عن
اجتماع حقوق الملّاك في مال على سبيل الإشاعة ، وما نحن فيه من اجتماع ملكي مالك
واحد فلا يصدق عليه الشركة بالمعنى المذكور.
وإن اريد بها
ما يحصل على القول بالإباحة ، وعليه فإن اريد بها الشركة بالمعنى الشرعي فلا موجب
، والأصل عدمها ، لأنّها تقتضي انتقالاً وتملّكاً لكلّ من المتعاطيين في كلّ جزء
من أجزاء المالين على سبيل الإشاعة والأصل ينفيه. وتوهّم : أنّ هذا
__________________
الأصل يعارضه أصالة بقاء سلطنة المالك على ماله الممتزج ، يدفعه كون الأصل
المذكور سببيّاً فيكون وارداً على أصالة بقاء السلطنة.
وإن اريد بها
الشركة بمعنى اشتباه المال الممتزج بالممتزج به فهو مسلّم إلّا أنّ الموجب لامتناع
الترادّ هو هذا الاشتباه.
وتوهّم : إمكان
الترادّ على هذا التقدير بالقرعة الّتي هي لتعيين المعيّن في الواقع المشتبه في
الظاهر كما احتمله بعضهم ، يدفعه عدم الجابر لعموم أخبار القرعة بالنسبة إلى هذا
المورد وبدونه لا اعتبار بالقرعة. ولو اشتبه إحدى العينين بعين اخرى مثلها على وجه
الشبهة المحصورة لا الامتزاج فالظاهر سقوط الرجوع لامتناع الترادّ أيضاً مع
الاشتباه. واحتمال التعيين بالقرعة مدفوع بما عرفت.
وينبغي ختم
الباب بإيراد امور مهمّة :
الأمر
الأوّل : فيما يتعلّق
بالمنافع المستوفاة من العين والنماءات المتجدّدة منها بعد المعاطاة من لبن أو صوف
أو نتاج في الحيوان أو ثمار في النخيل والأشجار ، فهذا يتضمّن مسألتين :
الاولى : لو
رجع بالعين بعد ما استعملها من هي بيده واستوفى منافعها إلى زمان الرجوع بالعين ـ كسكنى
الدار وركوب الدابّة واستخدام الأمة ـ لا يرجع بأُجرة المنافع المستوفاة ، كما نصّ
عليه في المسالك .
والظاهر أنّه
ممّا لا خلاف فيه ، وهو المطابق للصواب الموافق للقواعد ، من غير فرق فيه بين
القول بالملك والقول بالإباحة.
أمّا على
الأوّل فلأنّه إنّما استوفاها في ملكه على معنى كونها ملكاً له تبعاً لملك العين
فلا يعقل الاجرة عليها ، مضافاً إلى أصالة عدم استحقاقه الاجرة وأصالة براءة ذمّة
المستوفي لها عن وجوب ردّ الاجرة.
وأمّا على
الثاني فلأنّه إنّما استوفاها بإذن المالك حيث أباح له التصرّفات الّتي هي في معنى
إباحة المنافع ، فتلفها مستند إلى تسليط المالك فلا يعقل كونها مضمونة عليه.
__________________
الثانية : لو
حصل من العين نماء فإن كان تالفاً لم يرجع صاحبها بغرامته ، وإن أتلفه من هي بيده
كما في المسالك . والظاهر أنّ هذا أيضاً ممّا لا خلاف فيه ، من غير فرق
فيه بين ما لو تلفت العين أيضاً وما لو بقيت رجع بها صاحبها أو لا ، ولا بين القول
بالملك أو الإباحة ، لما عرفت من أنّه على الأوّل إتلاف للملك فلا يستتبع ضماناً ،
وعلى الثاني إتلاف مستند إلى تسليط المالك وإذنه فلا يوجب ضماناً أيضاً.
وإن كان باقياً
فهل يرجع به صاحب العين أو لا؟ فنقول : إنّ له صوراً ثلاث لأنّ بقاءه إمّا أن يكون
مع تلف العين ، أو مع بقائها وأراد الرجوع به دونها ، أو أراد الرجوع بهما معاً.
أمّا الصورة
الاولى : فقد يقال بأنّ الحكم فيه من حيث جواز الرجوع به وعدمه يختلف على القول
بالإباحة والقول بالملك ، إذ على الأوّل لا ينبغي التأمّل في جواز الرجوع به لكونه
ملكاً له قبل تلف العين تبعاً لملك العين فكذلك بعده استصحاباً للحالة السابقة ،
وكون تلف العين ملزماً له أيضاً لا يتمّ إلّا بكونه مملّكاً له لمن بيده تلف العين
، وهذا يحتاج إلى دليل وهو مفقود ، والأصل يقتضي بقاءه على ملك مالك العين وعموم «الناس
مسلّطون على أموالهم» يقتضي تسلّطه على الرجوع به. وعلى الثاني في اللزوم وعدمه
وجهان : من أنّ النماء كما أنّه تابع للعين في الملك فيكون ملكاً لمن له ملك العين
فكذلك تابع لها في وصف الملك من حيث اللزوم والجواز فيلزم بلزوم العين وحيث إنّ
التلف يوجب اللزوم في العين فيلزم النماء أيضاً تبعاً لها ، ومن أنّ اللزوم
بالنسبة إلى العين بالتلف إنّما التزمناه لضرورة امتناع الترادّ والضرورة تتقدّر
بقدرها ، والرجوع إنّما تعذّر بالتلف بالنسبة إلى العين وهو بالنسبة إلى النماء
غير متعذّر فلا ضرورة للزومه فيكون جائزاً.
وأمّا الصورة
الثانية : فيحتمل فيها القول بالجواز لأنّه كما يتبع العين في
الملك فكذلك يتبعها في الجواز واللزوم فله أن يرجع به كما أنّ له أن يرجع بالعين ،
والقول باللزوم لمن بيده العين لأنّ الجواز وصف فيما وقع عليه المعاطاة والنماء
ليس منه ،
__________________
والقول بالتفصيل بين القول بالملكيّة فيلزم ، والقول بالإباحة فيجوز الرجوع
به.
وأمّا الصورة
الثالثة : فيجري فيها الوجوه المذكورة أيضاً بالقياس إلى النماء ، وتحقيق المقام
أنّه لمّا كان مبنى المسألة على قاعدة التبعيّة فلا بدّ من التكلّم في تلك القاعدة
، فنقول : إنّ التبعيّة قد تلاحظ بالنسبة إلى أصل الملك ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى
وصفه من حيث الجواز واللزوم ، أمّا بالنسبة إلى أصله فالظاهر أنّ التبعيّة فيه
ثابتة في الجملة وأنّها إجماعيّة فالنماء ملك لمالك العين سواء على القولين
بالملكيّة وبالإباحة ، غاية الأمر أنّه على الأوّل ملك لمن هي بيده لأنّها ملك له
، وعلى الثاني ملك للمبيح لأنّها ملك له.
ولكن قد يورد
عليه بأنّ السيرة في خصوص المعاطاة قائمة بملكيّة النماء لمن بيده العين مطلقاً
حتّى على القول بالإباحة ، ودعوى السيرة إن صحّت كانت السيرة مخصّصة للقاعدة
المجمع عليها ، ولكن قيامها بالملكيّة على الوجه المذكور محلّ شكّ عندنا ، وهذا
يوجب كون القاعدة في معقد الإجماع مجملة ثابتة على وجه القضيّة المهملة ، فلا بدّ
بالقياس إلى النماء في مورد المعاطاة من الرجوع إلى الاصول والأخذ بما يقتضيه
الأصل ، فنقول : لا شبهة في أنّ النماء بتجدّده من العين صار ملكاً مردّداً بين
مالكها ومن هي بيده ، ولو قيل : الأصل عدم دخوله في ملك من هي بيده ، يقال : الأصل
عدم دخوله في ملك من هي ملك له ، والأصلان يتساقطان فيرجع إلى أصل ثالث ، وهو
أصالة عدم تسلّط المبيح على الرجوع به واسترجاعه ممّن هو بيده. وقضيّة هذا الأصل
عدم التبعيّة في وصف الملك وهو الجواز على القول بالملكيّة ، فإنّ الأصل عدم تسلّط
المالك الأصلي للعين على استرجاع نمائها من مالكه وهو مالك العين سواء كانت العين
تالفة أو باقية أراد الرجوع بالعين أو لا. فتقرّر أنّ مقتضى الاصول في النماء هو
اللزوم وعدم الرجوع به في جميع الصور الثلاث المذكورة ، من غير فرق فيه بين القول
بالملكيّة والقول بالإباحة ، فتدبّر.
الأمر الثاني :
قد علم من تضاعيف الباب أنّ المعاطاة في نفسها معاملة جائزة ويعرضها اللزوم بأحد
الأسباب الملزمة المتقدّمة ، فإن توافق المتعاطيان على عدم تحقّق شيء من الأسباب
الملزمة فلا إشكال في عدم اللزوم بل هو في معنى اتّفاقهما
على الجواز ، كما أنّه لو توافقا على تحقّق شيء من الملزمات لا إشكال في
اللزوم بل هو في معنى اتّفاقهما على اللزوم.
وإن اختلفا في
الجواز واللزوم بأن ادّعى أحدهما الجواز وأنكره الآخر بادّعاء اللزوم فله صور ،
لأنّه قد يكون اختلافهما لشبهة حكميّة كما لو اختلفا في ملزميّة ما اتّفقا على
تحقّقه كالمزج مثلاً ، وقد يكون لشبهة موضوعيّة ، وهو قسمان :
أحدهما : ما لو
اختلفا في تحقيق ما اتّفقا على ملزميّته كالتلف ونحوه.
وثانيهما : ما
لو اختلفا في المتقدّم والمتأخّر من الفسخ وحصول الملزم بعد ما اتّفقا على حصولهما
معاً ، فمدّعي الجواز ادّعى تقدّم الفسخ ليرجع بالعين أو عوضها مثلاً أو قيمة ،
ومدّعي اللزوم ادّعى تقدّم حصول الملزم لئلّا يرجع صاحبه بالعين أو بدله ، فهذه
صور ثلاث :
أمّا الصورة
الاولى : فالحاكم بعد ترافعهما إليه يقضي بينهما بموجب فتواه ، كما هو ميزان
القضاء في الشبهات الحكميّة.
وأمّا الصورة
الثانية : فيقدّم فيها قول المدّعي للجواز المنكر لحصول الملزم سواء أطلق أو عيّن
السبب ، لأصالة عدم حصوله مع أصالة بقاء الجواز.
ويشكل بامتناع
الترادّ واقعاً لأنّ المدّعي لحصول الملزم قد يكون صادقاً في الواقع ، وعلى تقدير
الكذب يمتنع الترادّ ظاهراً لأنّه لا يردّ العين بل لا يظهرها لئلّا يظهر كذبه ،
فإن رجع المدّعي للجواز على تقدير تقديم قوله بالعين فهو ممتنع واقعاً وظاهراً أو
ظاهراً ، وإن رجع بغرامة مثلاً أو قيمة بعد ردّ ما في يده ، فالأصل عدم استحقاقه
لها ، وهذا الأصل منضمّاً إلى امتناع ترادّ العين يقتضي تقديم المدّعي للّزوم ،
ويعارض الأصلين المذكورين.
ويمكن الذبّ
بورود الأصلين عليه ، لسببيّة شكّيهما كما هو واضح.
ولكن قد يحتمل
تقديم قول المدّعي للّزوم ، لأصالة بقاء الملك ، وأصالة اللزوم في العقود المستفاد
من عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» خرج منها المعاطاة في الحال المتقدّم على التداعي وبقى
فيها الحال الاخرى المتأخّرة عن الحال الاولى.
وهو في غاية
الضعف ألفساد الأصلين :
أمّا أصالة
بقاء الملك ـ فمع أنّها لا تجري على القول بالإباحة ـ ليست في محلّها ، لعدم
اختلافهما في بقاء الملك وعدم بقائه ، بل هما متّفقان على بقاء الملك إلّا أنّ
المنكر لحصول الملزم يريد إلزام صاحبه بالجواز ليرجع عليه بعينه ويزيل برجوعه
الملك ، والمدّعي لحصوله يريد منع ذلك فلا معنى لأصالة بقاء الملك.
ولو سلّم كونها
في محلّها بتقريب أنّ النظر في إجرائها إلى ما بعد رجوع المدّعي للجواز فإنّه يشكّ
حينئذٍ في تأثير رجوعه في زوال ملك المدّعي عليه وعدمه ، وأصالة البقاء يقتضي بقاءه
، ولكنّها تندفع بسببيّة شكّ الأصلين المذكورين لتقديم قول المدّعي للجواز كما لا
يخفى.
وأمّا أصالة
اللزوم : فلأنّها ممّا لا مقتضي له كما ذكرنا سابقاً ، لأنّ المعاطاة بجميع
حالاتها مخرجة عن عموم آية الوفاء فلا مقتضي لأصالة اللزوم بالقياس إلى الحالة
المتأخّرة عن الحالة الاولى ، ومع الغضّ عن ذلك فأصالة بقاء الجواز يقتضي عدم
اللزوم ولا يلزم تخصيص العامّ بالاستصحاب لأنّه من استصحاب حكم المستثنى وهو
المعاطاة لأنّها خرجت عن العامّ بالتخصيص ، ولا يبقى بعد خروجها عموم بالقياس إلى
حالتها المتأخّرة عن التداعي ، نظراً إلى أن العموم الأحوالي في العامّ بالقياس
إلى فرد منه تابع لعمومه الأفرادي فإذا خرج عنه الفرد بالتخصيص ارتفع عمومه
الأحوالي أيضاً إلى حالات ذلك الفرد. نعم لو كان المخرج بالتخصيص حالة مخصوصة من
الفرد لا ذاته ثمّ شكّ في خروج حالة اخرى له عن العموم بتخصيص آخر كان التمسّك
بعمومه الأحوالي لنفي احتمال تخصيص آخر في محلّه ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل
، فاستصحاب حكم المستثنى بالنسبة إلى حالته المتأخّرة عن الحالة لا يزاحمه عموم
دليل حكم المستثنى منه ليلزم من العمل به تخصيص العامّ ، فليتدبّر.
وأمّا الصورة
الثالثة : فالظاهر أنّ الاختلاف في التقدّم والتأخّر لا يتأتّى إلّا على تقدير عدم
كون الفسخ وحصول الملزم معلومي التاريخ وإلّا قدّم ما تقدّم تاريخه ، وحينئذٍ
فإمّا أن يكون تاريخ أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً ، أو يكونا مجهولي التاريخ ،
وعلى الأوّل يقدّم ما علم تاريخه لأصالة تأخّر الحادث بالقياس إلى ما جهل تاريخه ،
وعلى الثاني فهما بالقياس إلى أصالة [تأخّر الحادث] سيّان فيتعارض الأصل
من الجانبين ، وحينئذٍ فالملزم المتّفق على حصوله إن كان ما عدا نقل الملك
من تلف أو تغيير وصف يقدّم قول الفاسخ لأصالة الصحّة في الفسخ الصادر منه الّذي هو
من فعل المسلم لأنّه تقدّمه على حصول الملزم لزم كونه باطلاً لم يترتّب عليه أثر
الانفساخ وهو ينافي أصالة الصحّة في فعل المسلم ، ولا معارض لها في جانب المدّعي
لتقدّم حصول الملزم ، وإن كان هو النقل فهو أيضاً كالفسخ من فعل المسلم والأصل
يقتضي صحّته بترتّب أثر الانتقال عليه ، كما أنّ الأصل في الفسخ يقتضي صحّته
بترتّب أثر الانفساخ عليه ، فالأصلان في جانب الفاسخ وفي جانب الناقل متعارضان ،
وحينئذٍ لا بدّ من الرجوع إلى اصول اخر ، لو لا أصالة الصحّة مشغولة بمعارضة مثلها
كانت واردة عليها. ويمكن حينئذٍ تقديم قول الفاسخ على القول بالإباحة عملاً
باستصحاب ملكه في العين إلى زمان النقل وما بعده ، فإنّه لو كان حصوله مقدّماً
لكان رافعاً لملك المبيح عن العين من حينه إلى ما بعده وهو مشكوك فيه ، ومقتضى
الاستصحاب بقاؤه إلى حين النقل وما بعده ، وهذا يقتضي تقدّم الفسخ عليه لكونه لا
يرفع ملك المبيح بل يؤكّده ، وإنّما يرفع الإذن في التصرّفات الّتي منها هذا
النقل.
ويشكل الحال
على القول بالملكيّة ، لعدم وضوح جريان أصل يقتضي تقديم أحد القولين. ولكن يسهل
الذبّ عنه بتعيّن تقديم الفاسخ أيضاً لأصالة بقاء سلطنته على الرجوع بالعين في
زمان الفسخ ، فإنّه لو كان النقل متقدّماً عليه لكانت السلطنة المذكورة اللازمة من
المعاطاة الّتي يعبّر عنها بجواز الرجوع منقطعة ، وهو في زمان وقوع الفسخ محلّ شكّ
والأصل يقتضي بقاءها. ولا يمكن معارضته بأصالة بقاء سلطنة الناقل على نقل ما في
يده إلى الغير حين النقل ، فإنّ تقدّم الفسخ عليه يوجب انقطاعها وهو في زمان وقوع
النقل محلّ شكّ ، والأصل يقتضي بقاءها لوروده عليها باعتبار كونه مخرجاً للمورد
وهو العين عن موضوع المستصحب ، فإنّ سلطنة الناقل على نقل العين ليست من مقتضى
المعاطاة كما كانت سلطنة الفاسخ على الفسخ من مقتضاها بل من مقتضى عموم «الناس
مسلّطون على أموالهم».
ولا ريب أنّ
موضوع الحكم المستفاد من هذا العامّ هو المال المملوك وأصالة بقاء سلطنة الفاسخ
على الفسخ الّتي هي عبارة عن جواز الرجوع بالعين يخرجها عن هذا
الموضوع ، فلا يعقل جريان حكمه فيها بعد ملاحظة خروجها عن موضوعه بحكم
الأصل المذكور ، فلا يجري استصحابه حال جريان الأصل المذكور حتّى يعارضه.
لا يقال :
إنّما يعارضه حينئذٍ أصالة بقاء موضوع الحكم المذكور حال النقل ، لأنّ الشكّ في
بقاء هذا الموضوع مسبّب عن الشكّ في بقاء سلطنة الفاسخ حال الفسخ ، فيكون الأصل
بقاء هذه السلطنة لكون شكّه سببيّاً وارداً على أصالة بقاء موضوع سلطنة الناقل على
النقل ، فليتدبّر فإنّ المقام دقيق وكلام الأصحاب فيه غير محرّر.
الأمر الثالث :
قد ظهر في تضاعيف الباب أنّ انعقاد المعاطاة فعليّة أو قوليّة أو ملفّقة منهما
بيعاً صحيحاً مفيداً للملك ، متفرّع على عدم مدخليّة الصيغة المخصوصة ولا اللفظ
المطلق في صدق اسم البيع ولا في صحّته على معنى إفادته الملك ، وهل يكفي في الفعل
الكافي في انعقاد البيع وصحّته الإشارة المفهمة من المتمكّن من النطق والتلفّظ أو
لا؟ الوجه نعم ، لوحدة المناط وهو الدلالة على التراضي وقصد إنشاء التمليك وقبوله
، فإنّ الإفهام المعتبر في الإشارة عبارة عن ذلك ، ولا ينافي ما ذكرناه ما في كلام
الأصحاب من اعتبار العذر والعجز عن النطق في قيام الإشارة مقام البيع لأنّهم إنّما
اعتبروه في قيامها مقام البيع العقدي المفيد للّزوم ، وغرضنا ممّا ذكرنا جعلها
قسماً من المعاطاة لا غير. ولمّا انجرّ الكلام إلى الإشارة المفهمة ممّن عليه
العذر كالأخرس ومن بلسانه آفة فينبغي التكلّم فيها وفيما يعتبر وما لا يعتبر فيها
، والكلام فيه يتمّ برسم مسائل :
المسألة الاولى
: في أنّ معنى قيام الإشارة مع العذر مقام اللفظ أو البيع العقدي المفيد للّزوم هل
هو لحوقها به في الاسم على معنى أنّها من أفراد ماهيّة البيع فإطلاق البيع عليها
حقيقة ، أو لحوقها به في الحكم على معنى أنّها ليست من أفراد الماهيّة بل يجري
عليها أحكامها من حيث إفادة الملك واللزوم وجريان الخيارات والشفعة وغير ذلك ،
فلفظ البيع حيث عليها مجاز لعلاقة المشابهة وهي المشاركة في الأحكام والخواصّ ، أو
تبنى المسألة على الاختلاف في تعريفات البيع ، فعلى تعريفه بالنقل أو الانتقال أو
التمليك كانت من أفراد البيع فيكون إطلاق اللفظ عليها حقيقة وعلى تعريفه باللفظ الدالّ
على نقل الملك كما في ظاهر الشرائع لا يكون من الأفراد فيكون الإطلاق مجازاً ، أو
تبنى على الاختلاف في المعاطاة من حيث البيعيّة المفيدة للملك أو الإباحة
أو المعاوضة المستقلّة فعلى المختار من كونها بيعاً مفيداً للملك اتّجه
الحقيقة كما أنّه حقيقة في المعاطاة غاية الأمر حصول الفرق بينهما في الجواز
واللزوم بخلافه على القولين الآخرين؟ وجوه ، وكلام الأصحاب غير محرّر هنا بل لم
نقف على من تعرّض لهذا المقام في عنوان الإشارة ، وإن نسب إلى ظاهر الأكثر المصير
إلى المجازيّة إلّا أنّ [أوجه] الوجوه الوجه الأخير لما عرفت.
المسألة
الثانية : في أنّ المبايعة بطريق الإشارة إن وقعت بين عاجزين عن النطق فلا إشكال
فيه من حيث إنّ الإيجاب والقبول كلاهما من جنس الإشارة المغتفرة منهما. وإن وقعت
بين عاجز وغير عاجز موجباً كان أو قابلاً فهل يعتبر منه الإتيان باللفظ وإن لزم
منه كون العقد ملفّقاً من الإشارة واللفظ ، بناءً على عدم اعتبار المطابقة بين
الإيجاب والقبول من هذه الجهة مع عدم اغتفار الإشارة من غير العاجز ، أو يعتبر
الإتيان بالإشارة كالعاجز رعاية للمطابقة بينهما من هذه الجهة مع كونه كالعاجز في
اغتفار الإشارة منه ، أو يجب عليه توكيل عاجز آخر رعاية للمطابقة مع عدم الاغتفار
، أو يجب على العاجز توكيل غير العاجز ليأتي كلّ منهما باللفظ رعاية للمطابقة مع
عدم الاغتفار ، أو يجب الجمع بين اللفظ والإشارة احتياطاً لقيام اعتبار اللفظ وعدم
اغتفار الإشارة مع احتمال الاغتفار واعتبار المطابقة ، أو يفصّل بين عاجز لا يسمع
قولاً ولا يفقهه كالأخرس الأصلي ـ بناءً على جري العادة بكونه أصمّ فلا يفقه القول
بل لا يسمعه فيكتفي في المبايعة معه بالإشارة ـ وبين غيره ممّن يسمع القول ويفقهه
فيحتاط فيه بالجمع بين الإشارة واللفظ؟ وجوه ، أوجهها من جهة الأوفقيّة بالقواعد
والاصول أخيرها.
أمّا اعتبار
الجمع على الثاني فلطريقة الاحتياط ، وأمّا الاكتفاء بالإشارة في الإشارة فلأنّ
كون الطرف المقابل لغير العاجز من لا يسمع القول ولا يفقهه أيضاً عذر مانع من
النطق ، بناءً على أنّه في كلام الأصحاب هنا أعمّ ممّا كان في نفس طرف العقد أو في
الطرف الآخر هذا ، مضافاً إلى العقود والمعاملات إنّما وردت على طبق عادات الناس ،
ومن عاداتهم في المحاورات أنّهم يحاورون الأخرس الأصمّ الغير الفاهم للكلام بطريق
الإيماء والإشارة. وبذلك يعلم سقوط احتمال التوكيل من الجانبين مع أنّه قد يكون
عسراً ، فعموم الملّة السمحة السهلة يقتضي نفي اعتباره وكذلك العمومات النافية
للعسر
والحرج. وكلام الأصحاب في هذا المقام أيضاً غير محرّر ، بل لم نقف على من
تعرّض له أيضاً.
المسألة
الثالثة : في أنّ مناط كفاية الإشارة المفهمة عن البيع اللفظي المفيد للّزوم هل هو
الخرس أو العجز عن النطق أو العذر؟والفرق أنّ الأوّل أخصّ من الثاني وهو أخصّ من
الثالث ، فإنّ العذر مفهوم عامّ يشمل الخرس الأصلي والعجز عن النطق من جهة الآفة
العارضة للّسان وغيرهما ممّا كان لفوات غرض ومصلحة أو لدفع مضرّة ومفسدة بأن يكون
للمتبايعين غرض ومصلحة في المبايعة لا يحصل إلّا بالمبايعة بطريق الإشارة ، أو كان
في المبايعة بالعقد اللفظي مضرّة ومفسدة لا تندفع إلّا بالمبايعة بطريق الإشارة ،
فالعدول عن اللفظ إلى الإشارة إنّما هو لئلّا يفوت ما يقصدان من المصلحة ، أو
ليندفع ما يقعان فيه من المفسدة ، والعذر يعمّ نحو ذلك بخلاف العجز عن النطق فيكون
أخصّ منه ، نعم هو يعمّ العجز العارضي لآفة عارضة للّسان فيكون أعمّ من الخرس. وكلمة
الأصحاب وعباراتهم في مناط الحكم الدائر بين هذه الثلاث مختلفة ، فمنهم من أناطه
بالخرس كالعلّامة والشهيد في نهاية الإحكام والدروس حيث عبّرا بإشارة الأخرس ، منهم من أناطه بالعجز عن
النطق كالعلّامة والشهيد في التذكرة والقواعد واللمعة حيث عبّرا بالإشارة مع العجز ، ونحوه ما في كشف اللثام
على ما حكي عنه في النكاح من قوله بعد ذكر العقد اللفظي : «لو عجز أشار بما يدلّ
على العقد وهو ممّا قطع به الأصحاب ولم نجد نصّاً من الأصحاب فيمن عجز لإكراه» انتهى ، ومنهم
من أناطه بالعذر كالمحقّق في الشرائع لمكان قوله : «ويقوم مقام اللفظ الإشارة مع
العذر» وفي معناه ما عن إرشاد العلّامة «لو تعذّر النطق كفت
الإشارة» .
وهل هذا
الاختلاف لأجل خلاف بينهم في مناط الحكم ، أو أنّه اختلاف في مجرّد التعبير وإلّا
فلا خلاف بينهم في المعنى ، إمّا بدعوى أنّ مناط الحكم عند الكلّ هو الخرس خاصّة
بناءً على تنزيل العجز عن النطق وتنزيل العذر في كلام من عبّر
__________________
بأحدهما على إرادة العجز للخرس الأصلي والعذر الخاصّ ، أو بدعوى أنّ المناط
عند الكلّ هو العجز عن النطق مطلقاً بناءً على حمل الأخرس في كلام من عبّر به على
إرادة المثال وتنزيل إطلاق العذر في كلام من عبّر به على إرادة العجز عن النطق
خاصّة ، أو بدعوى أنّ المناط عند الكلّ هو العذر بقول مطلق بناءً على حمل الأخرس
والعجز عن النطق في كلام من عبّر بأحدهما على إرادة المثال؟
والحقّ أنّ المسألة
في كلامهم غير منقّحة بل لم نقف على من تعرّض لها أصلاً ، نعم قد عرفت في عبارة
كاشف اللثام قوله «ولم نجد نصّاً من الأصحاب فيمن عجز لإكراه» إلّا أنّه لم
يتعرّض لتحقيق المقام.
ولكنّ الّذي
ينبغي أن يقطع به بملاحظة فحاوى كلماتهم والإشارات الواقعة فيها وتعليلاتهم أنّ
الحكم غير مقصور على الخرس الأصلي بل يكفي فيه عدم القدرة على النطق لآفة عارضة في
اللسان ، نعم كفاية مطلق العذر حتّى ما كان لعدم فوات المصلحة أو لدفع المفسدة
محلّ شكّ ، غير أنّ المشكوك فيه كفاية ذلك في اللزوم لا في انعقاد أصل البيع ولا
صحّته وإفادته الملك ، فإنّا بنينا على أنّ الإشارة المفهمة مع عدم العذر قسم من
المعاطاة المفيدة للبيعيّة والملكيّة فكيف بها مع العذر المذكور. فالإشكال في أنّ
الإشارة في نحو هذه الصورة الّتي هي من صور العذر هل تفيد اللزوم أيضاً لتلحق
بالبيع العقدي المفيد للّزوم أو لا تفيده حتّى تلحق بالمعاطاة؟.
وظاهر أنّه لا
طريق لاستعلام هذا الحكم إلّا النظر في دليل كفاية الإشارة ، إلّا أنّه لم نقف على
دليل عليه في النصوص ، وكأنّ دليله الإجماع كما يوهمه بعض ، وربّما ادّعاه بعض من
عاصرناه ، ويلوح دعواه من عبارة كاشف اللثام لمكان قوله فيما تقدّم : «وهو ممّا
قطع به الأصحاب» فإنّه بملاحظة الجمع المحلّى في معنى أنّ الأصحاب أجمعوا عليه
بعنوان القطع ، بل هذا لكونه إجماعاً على القطع بالحكم أبلغ من سائر الإجماعات
المنقولة بلفظ الإجماع ، لعدم كون كلّ المجمعين في أكثرها قاطعين بالحكم ، بل قد
يكون فتوى بعضهم عن دليل ظنّي بل قد تكون الفتوى من كلّهم عن
__________________
دليل ظنّي إلّا أنّ الإجماع المذكور لا يجدينا نفعاً لمكان الإجمال في
معقده ، والقدر المتيقّن منه هو العجز عن النطق بقول مطلق ، ودخول العذر على الوجه
الأخير الّذي فرضناه في معقده محلّ شكّ ، خصوصاً مع ملاحظة ما سمعت عن كاشف اللثام
من «أنّه لم يجد نصّاً من الأصحاب فيمن لإكراه» .
نعم في عبارة
الكفاية حكاية الشهرة على مناطيّة العذر حيث قال : «ويقوم مقام اللفظ الإشارة ،
والمشهور اشتراط ذلك بالعذر» ولكنّه لا يورث قطعاً ولا ظنّاً بمناطيّة مطلق العذر.
ويمكن أن يكون
دليل المسألة الّذي هو مدرك الإجماع ظاهراً عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بناءً على صدق العقد بمعنى الربط المعنوي على ما يحصل
بالإشارة المفهمة كما هو الأظهر فيشمله العموم.
وتوهّم المنع
لأجل الانصراف إلى الأفراد الغالبة وهو العقود اللفظيّة وهذا فرد نادر ، يدفعه عدم
جريان قاعدة الانصراف في العمومات والجمع المحلّى عامّ وعمومه وضعي. ومحصّله أنّ
هيئته موضوعة لتسرية الحكم إلى أفراد موضوعه ولا يتفاوت فيه الحال بين الأفراد
الغالبة والأفراد النادرة ، وقضيّة العموم لزوم الإشارة المفهمة بجميع أفراد العذر
حتّى ما نحن فيه.
المسألة
الرابعة : في أنّه هل تلحق كتابة المعذور بإشارته ويقوم مقامها في إفادة البيع
المفيد للّزوم؟كلمة الأصحاب فيه مختلفة بين من يظهر منه الجواز ، ومن يظهر منه
المنع لقصور الكتابة عن الدلالة على الرضا وقصد الإنشاء ، ومن يظهر منه التردّد ،
وفي التحرير قيّد الكتابة في قيامها مقام الإشارة بانضمام قرينة
تدلّ على المعنى المقصود ويمكن أن يكون ذلك مراد من أطلق الجواز وعليه سقط دليل
المانع. وقد يفصّل بين الكتابة مع العجز عن الإشارة فيجوز والكتابة بدون العجز
عنها فرجّح الإشارة.
والتحقيق أنّ
الكتابة إن دلّت على المعنى المقصود في نفسها أو بمعونة القرينة فلا يبعد قيامها
مقام الإشارة مع العجز عنها وبدونه لأجل العموم المتقدّم ، وهل يشترط
__________________
في كفاية إشارة المعذور أو كتابته عن البيع العقدي عدم تمكّنه من توكيل غير
المعذور في إجراء العقد اللفظي؟ الظاهر عدم الاشتراط ، لظاهر إطلاق الأكثر وصريح
جماعة . وقد يستدلّ بفحوى ما دلّ في طلاق الأخرس بطريق الإشارة أو إظهار الكراهة
على عدم وجوب توكيل الغير ، بل قد يقال : بأنّ الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه.
وهل يجوز لغير
المعذور توكيل المعذور في إجراء العقد بالإشارة؟ قيل : نعم ، لعموم أدلّة الوكالة
، مع كون وظيفة المعذور العقد بالإشارة ، فإذا جاز له توكيله جاز له الاكتفاء
بإشارته. ويحتمل المنع ، لأنّ الوكيل قائم مقام الموكّل فيؤول إشارته إلى إشارة
غير المعذور. وهو ضعيف ، والأوّل غير بعيد.
__________________
المبحث
الثاني
في نفس صيغة
البيع والامور المعتبرة فيها ، وجهات الكلام هنا متعدّدة : فقد يتكلّم في الصيغة
من حيث موادّ الألفاظ المعتبرة فيها ، وقد يتكلّم أيضاً من حيث الهيئة المعتبرة في
كلّ من الإيجاب والقبول بانفراده ككونها جملة فعليّة وكالماضويّة ، وقد يتكلّم
أيضاً من حيث الهيئة المعتبرة فيها من حيث تركّبها من الإيجاب والقبول كتقديم
الإيجاب على القبول والاتّصال ، فهاهنا جهات من الكلام :
الجهة الاولى :
فيما يتعلّق بها من حيث موادّ ألفاظها ، وفيها مسائل :
المسألة الاولى
: في أنّه هل يعتبر فيها العربيّة على معنى كونها بألفاظ عربيّة ، أو لا؟ خلاف على
قولين ، أشهرهما بل المشهور منهما العدم ، لأنّ معتبري العربيّة جماعة معدودين من
المتأخّرين كالسيّد العميدي والمحقّق الثاني في جامع المقاصد وتعليق
الإرشاد ورسالته في صيغ العقود والشهيد
الثاني في الروضة والفاضل المقداد على ما حكي ، ولم نقف على مستند لهم سوى الأصل والتأسّي
والأولويّة.
أمّا الأوّل :
فلأنّ الأصل في البيع بل كلّ عقد عدم الصحّة وعدم ترتّب أثر النقل والانتقال إلّا
ما خرج بالدليل ، والقدر المخرج بالدليل ما وقع باللفظ العربي فيبقى غيره تحت
الأصل.
وأمّا الثاني :
فلأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمّة عليهمالسلام ما زالوا كانوا يتبايعون بالألفاظ العربيّة ،
__________________
والتأسّي بهم واجب لقوله تعالى : «لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» .
وأمّا الثالث :
فلعدم انعقاد البيع بغير الماضي من الأمر والمضارع مع كونه عربيّاً ، فعدم وقوعه
بغير العربي بطريق أولى.
وفي الجميع من
الضعف ما لا يخفى :
أمّا الأصل :
فيخرج عنه بالعمومات كآية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و
«أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» و
«تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» لصدق كلّ من العقد والبيع وتجارة عن تراض عرفاً بما يحصل
بالألفاظ الغير العربيّة فيشمله العموم والإطلاق. ومنع شمولها إلّا لما يقع
بالألفاظ العربيّة لأنّه المتداول في زمان الصدور مكابرة.
وأمّا التأسّي
: فبمنع صغراه أوّلاً ، فتارةً بعدم معلوميّة أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو الأئمّة كانوا يباشرون البيع والشراء ، واخرى فبعدم
معلوميّة اتّفاق كون طرف العقد معهم في البيع أو الاشتراء من غير العرب فضلاً عن
العلم بأنّهم كانوا يعقدون معه باللفظ العربي. ومنع كبراه ثانياً ، فتارةً بأنّ
وجوب التأسّي خلافي ومعركة للآراء والأقوى فيه عدم الوجوب ، واخرى بأنّ وجوبه على
القول به مشروط بامور ، منها : عدم كون الفعل الصادر منهم من مقتضى الطبيعة
والسجيّة والعادة ، ولا ريب أنّ التكلّم بالألفاظ العربيّة من العرب من مقتضى
طبائعهم وعاداتهم ، فالعقد باللفظ العربي من النبيّ والأئمّة لو ثبت مداومتهم عليه
من عاداتهم باعتبار كونهم عربي اللسان فلا يكون من موضوع وجوب التأسّي. وبالتأمّل
في ذلك علم عدم صحّة الاستدلال على اعتبار العربيّة بقوله تعالى : «وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ» .
وأمّا
الأولويّة : فبمنعها لوضوح الفرق بين الماضي وأخويه بكونه أقرب إلى المعنى المقصود
من العقد وهو الإنشاء وكونهما أبعد عنه ، بل الفرق أنّ صيغ الماضي في كلّ عقد من
المنقولات إلى المعنى الإنشائي فهو فيها بالوضع العرفي الثاني دالّ عليه بخلافهما.
فتحقيق المقام
: أنّ معتبري العربيّة إن أرادوا اعتبارها في انعقاد أصل البيع وصدق اسمه أو في
صحّته وترتّب الأثر ، فالحقّ ما هو المشهور من عدم اعتبارها لعين ما مرّ في
__________________
بحث المعاطاة من عدم مدخليّة الصيغة المخصوصة الّتي من جملة خصوصيّاتها
العربيّة في صدق الاسم ولا في الصحّة ، فمعنى البيع يتحقّق بالألفاظ الغير
العربيّة عرفاً أيضاً كما أنّه يترتّب عليه الأثر شرعاً لأجل العموم كما عرفت. وإن
أرادوا اعتبارها في اللزوم ، فهو كما قالوه لعين ما مرّ في المبحث المذكور من
مدخليّة الصيغة المخصوصة في اللزوم.
ثمّ إنّها
حيثما وقعت بالعربي فهل يشترط في ألفاظها الصحّة في مقابلة اللحن؟على معنى عدم
كونها ملحونة ، وهو عدم الموافقة للقانون المقرّر لكلمات لغة العرب من حيث الإعراب
والبناء أصليّاً كان أو عارضيّاً ، ومن حيث الحركات والسكنات اللاحقة لبنية
الكلمات ، ومن حيث الحروف بتبديل حرف بآخر ويقال له التحريف ، أو بتقديم حرف على
حرف ويقال له : «التصحيف» كما لو قيل بَعت بفتح الباء أو التاء وقبلت بضمّ الباء
وبحت مكان بعت ، وكبلت مكان قبلت ، وسريت أو استريت بالسين مكان شريت واشتريت ، أو
جوّزت مكان زوّجت وما أشبه ذلك. فعلى المختار من عدم اشتراط العربيّة إلّا في
اللزوم كان المتّجه اشتراط السلامة من اللحن في اللزوم دون الصحّة ما لم يكن اللحن
مغيّراً للمعنى المقصود في العقد في عرف المتعاقدين ، أمّا اشتراطها في اللزوم
فلأنّ القدر المتيقّن ممّا دلّ على مدخليّة الصيغة المخصوصة في اللزوم الصيغة
العربيّة السليمة عن اللحن بجميع وجوهه ، وأمّا عدم اشتراطها في الصحّة فلعموم
أدلّة الصحّة حسبما تقدّم بيانه ، وأمّا اعتبار عدم كونه مغيّراً للمعنى المقصود
فلأنّ المخاطب لا يدري بأيّ شيء خوطب فيبطل ، وأمّا على اشتراط العربيّة في
الصحّة فمقتضى العمدة من دليله وهو الاقتصار على القدر المتيقّن ممّا خرج من الأصل
اشتراط السلامة عن اللحن أيضاً ، لأنّ القدر المتيقّن ممّا خرج هو الصيغة العربيّة
الغير الملحونة. وكذلك على الاستدلال بالتأسّي فإنّه إن تمّ وأفاد اشتراط العربيّة
أفاد اشتراط السلامة عن اللحن أيضاً.
وقد يفصّل بين
ما كان مغيّراً للمعنى المقصود فلا يصحّ ، وما لم يكن مغيّراً فيصحّ. وهو ضعيف
بالنظر إلى دليل مشترطي العربيّة كما عرفت.
وحكي عن فخر الدين
الفرق بين ما لو قال بعتك بفتح الباء وبين ما لو قال
__________________
جوّزتك بدل زوّجتك فصحّح الأوّل دون الثاني إلّا مع العجز عن التعلّم
والتوكيل. قيل : ولعلّه لعدم معنى صحيح في الأوّل إلّا البيع بخلاف التجويز فإنّ
له معنى آخر فاستعماله في التزويج غير جائز. وهذا أيضاً بالنظر إلى الدليل المذكور
لأنّه إن تمّ وأفاد اشتراط العربيّة أفاد المنع من الملحون مطلقاً.
ثمّ على اشتراط
العربيّة في الصيغة فهل يعتبر كون المتكلّم وهو العاقد عربيّاً أيضاً؟ الوجه عدم
الاشتراط ، لإجماعهم المعلوم بالتتبّع في جميع العقود والإيقاعات على الاكتفاء
بالصيغ العربيّة الصادرة عن غير العربي بل هو معلوم بالسيرة المحقّقة في الأعصار
والأمصار.
وهل يعتبر على
تقدير كونه غير عربي اللسان أن يكون عارفاً لجميع ألفاظ لغة العرب مميّزاً بين
حقائقها ومجازاتها أو لا؟ والوجه أنّه غير معتبر أيضاً ، لما عرفت.
وعليه فهل
يعتبر أن يكون عارفاً للألفاظ المستعملة في العنوان المقصود في العقد أعني البيع
وفارقاً بين معنى بعت إخباراً وإنشاءً وأبيع وبع وأنا بائع ، أو يكفي مجرّد علمه
بأنّ بعت بمعنى «فروختم» يستعمل في لسان العرب لإنشاء البيع؟ قيل : الظاهر هو
الأوّل ، لأنّ عربيّة الكلام ليست باقتضاء نفس الكلام بل يقصد المتكلّم منه المعنى
الّذي وضع له عند العرب ، فلا يقال : إنّه تكلّم وأدّى المطلب على طبق لسان العرب
إلّا إذا ميّز بين معنى بعت وأبيع وأوجدت البيع وغيرها ، بل على هذا لا يكفي معرفة
أنّ بعت مرادف لقوله «فروختم» حتّى يعرف أنّ الميم في الفارسي عوض تاء المتكلّم
فيميّز بين بعتك وبعت بالضمّ وبعت بفتح التاء.
وفيه نظر ، بل
الأقوى كفاية ما ذكر مطلقاً ، لإجماعهم المعلوم بالتتبّع على عدم التزامهم
بالمعرفة والتمييز المذكورين حتّى في صيغة النكاح.
وهل يعتبر
العربيّة على القول باشتراطها في جميع الألفاظ المأخوذة في الإيجاب والقبول ممّا
يدلّ على المثمن أو الثمن أو على مقاديرهما فلو قال «بعتك اين كتاب را به يك تومان
او بده درهم» لا يقع صحيحاً أو لا؟ الوجه هو التفصيل فإن قلنا باشتراط ذكر
متعلّقات الإيجاب في العقد اتّجه عدم كفاية ما ذكر لعين ما عرفت من دليل اشتراط
عربيّة نفس الصيغة ، وإلّا كما في القبول فالمتّجه هو الكفاية ومرجعه إلى عدم
إخلال
وجود اللفظ الغير العربي في الصحّة مع عربيّة نفس الصيغة المستعملة في
إنشاء العنوان المقصود.
المسألة
الثانية : في اعتبار الصراحة وعدمه ، فليعلم أنّ الصراحة في لسان العلماء تطلق على
معان :
منها : ما
يقابل الظهور ويقال له «النصوصيّة» أيضاً كما هو المتداول عند الاصوليّين.
ومنها : وضوح
الدلالة ، أعني كون اللفظ واضح الدلالة على العنوان المقصود في العقد سواء كان
بطريق النصوصيّة أو الظهور.
ومنها : ما
يقابل الكناية ، كما في كلام جماعة من معتبري الصراحة حيث يفرّعون عليه إخراج الكنايات ،
والمراد بالكناية هنا ما أفاد لازم العنوان المقصود وإن لم يفد إرادة نفس العنوان
وهو الملزوم إلّا بواسطة القرائن ، كما لو قال : جعلته لك بكذا أو أدخلته في ملكك
بكذا أو سلّطتك عليه بكذا أو أعطيتكه بكذا وما أشبه ذلك ، فالصريح حينئذٍ ما أفاد
نفس الملزوم وهو البيع.
ومنها : ما
يرادف الحقيقة ، كما في كلام من ذكره وفرّع عليه إخراج المجازات ، ومنهم من عمّم
المجاز المخرج باشتراط الصراحة بالقياس إلى القريب والبعيد والجامع بينه وبين
سابقه على ما يظهر من جماعة ما كان دلالته على العنوان المقصود في العقد بالوضع
لغة أو شرعاً ، فإنّ بذلك يخرج المجازات والكنايات معاً وإن شئت قلت إنّ ذلك هو
المعنى الأخير ، ولكن يخرج به المجازات والكنايات أمّا خروج الاولى فلانتفاء الوضع
، وأمّا خروج الثانية فلكون إفادة اللفظ العنوان المقصود بالقرينة كما تقدّم إليه
الإشارة لكون لازمه اللازم الأعمّ واللفظ الدالّ على الأعمّ بالأعمّ بالوضع لا
يدلّ على الملزوم الأخصّ بنفسه.
ولكن ينبغي أن
يقطع بعدم كون مرادهم هنا المعنى الأوّل ، لأنّ مقام التعاقد ليس بخارج عن سائر
مقامات الخطاب الّتي يكون مدار الإفادة والاستفادة فيها على الظهورات النوعيّة
المستندة إلى الأوضاع.
__________________
ولا المعنى
الثاني لعدم كونه مانعاً إن عمّم وضوح الدلالة بالقياس إلى ما كان بمعونة القرينة
ـ لدخول ما كان من المجاز المشهور على القول بترجيح المعنى المجازي ، والمجاز
القريب بضابطة أولويّة أقرب المجازات عند تعذّر الحقيقة ، والمجاز المقرون بقرينة
موضحة للمراد والكلّ ينافي إطلاقهم عدم انعقاد البيع ولا مطلق العقد بالمجازات مع
صريح بعضهم كشارح القواعد على ما نمي إليه بعدم الفرق بين المجاز القريب
والمجاز البعيد ـ وعدم كونه جامعاً إن لم يعمّم بأن يراد وضوح الدلالة بنفس اللفظ
لأنّه يخرج حينئذٍ المشترك بقسميه من اللفظي والمعنوي ، فوجب أن لا يقع البيع بلفظ
«بعت» ولا «شريت» ولا «ملّكت» في إيجاب عقده. وهو في الأوّل خلاف الإجماع ، وفي
الأخيرين خلاف المشهور شهرة عظيمة تكاد تبلغ الإجماع لكون كلّ من الأوّلين مشتركاً
لفظيّاً بين إيجاب البيع وقبوله اللذين يراد منهما في الترجمة الفارسية معنى «فروختن
وخريدن» على ما هو المصرّح به في كلامهم. بل عن المصابيح «أنّه لا خلاف عندهم في
وضعهما للمعنيين فيكونان من الأضداد» وكون الأخير من المشترك المعنوي على ما هو المصرّح به
في كلام جماعة ، بل في كلام مفتاح الكرامة ما يظهر منه كونه محلّ وفاق عند الفقهاء
وأهل اللغة حيث قال : «والحقّ أنّ ملكت مشترك معنوي عند الفقهاء وأهل اللغة كما
يظهر ذلك على من تتبّع كتب الفريقين» انتهى.
ولا المعنى
الثالث حتّى يكون مفاده انعقاد البيع بالمجازات فإنّه ينافي إطلاقهم العدم ،
وتصريح بعضهم بعدم الفرق كما عرفت.
فتعيّن كون المراد
به المعنى الرابع الّذي مفاده خروج المجازات والكنايات معاً ، وهو الّذي ينبغي أن
يقطع به أمّا أوّلاً ، لحكاية الشهرة تارةً على عدم وقوع العقد بالمجازات ، واخرى
على عدم وقوعه بالكنايات. وأمّا ثانياً ، لظهور دعوى الإجماع عليه من بعض العبارات
كعبارة مفتاح الكرامة حيث قال :
«واعلم أنّ
اشتراط الدلالة بالوضع هو الّذي يعبّرون عنه بالصراحة» وله كلام
__________________
آخر متضمّن لدعوى الإجماع صريحاً على عدم وقوعه بالمجازات ولا بالكنايات
حيث إنّه بعد ما فرّع على كون دلالة الصيغة على الرضا الباطني بمقتضى الوضع خروج
المجاز قريباً كان أو بعيداً قال : «وهو الّذي طفحت به عباراتهم حيث قالوا في
أبواب متفرّقة كالسلم والنكاح وغيرهما : إنّ العقود اللازمة لا تثبت بالمجازات ،
فيأخذون هذه القضيّة مسلّمة في مطاوي الاحتجاج ، فلا ينعقد بشيء من المجازات
كالهبة والصلح والإجارة والكتابة والخلع قولاً واحداً ، وكذا لا ينعقد بشيء من
الكنايات كالتسليم والتصرّف والدفع والإعطاء والأخذ ونحو ذلك» انتهى.
وقوله : كالهبة
والصلح ... إلى آخر الأمثلة الأولة ، إمّا أمثلة لمجازات البيع على معنى إطلاق هذه
الألفاظ وإرادة معنى البيع مجازاً كما يساعد عليه ذيل العبارة بل صوغها أيضاً ، أو
أنّها أمثلة للعقود اللازمة الّتي لا تثبت بالمجازات ، وهو أقرب معنى بالنظر إلى
بعد بعض هذه الألفاظ عن معنى البيع بل المنافرة بينهما كالكتابة والخلع. وكيف كان
فغرضنا الاستشهاد بقوله : «قولاً واحداً».
ثمّ إنّ القول
باشتراط الصراحة في الصيغة منسوب إلى جماعة وحكي عليه الشهرة بأنحاء مختلفة :
فتارةً على نفس الاشتراط ، واخرى على عدم الوقوع بالكنايات ، وثالثة على عدم
الوقوع بالمجازات ، واختاره شيخنا في الجواهر ، وقبله استاده في مفتاح الكرامة بل ادّعى عليه
الإجماع وقد سمعت عبارته ، وقبلهما السيّد في المصابيح بل عنه دعوى الإجماع في
موضعين ، أحدهما : في مساقاة المصابيح ادّعاه على أنّ العقود لا بدّ فيها من صيغة
صريحة ، والآخر : في البيع حيث قال ـ على ما حكي ـ : «ولا ينعقد بسائر المجازات
كالهبة والصلح والإجارة والكتابة والخلع قولاً واحداً ، ولا بالنكاح ولو كان
المبيع أمة ، ولا بشيء من الكنايات كالتسليم والتصريف والدفع والأخذ والإعطاء
ونحو ذلك» واختاره العلّامة في التذكرة قائلاً : «الرابع التصريح
فلا يقع بالكناية مع النيّة مثل أدخلته في ملكك أو جعلته لك أو خذه منّي أو سلّطتك
عليه بكذا ، عملاً
__________________
بأصالة بقاء الملك ، ولأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب» وعن السيّد
أيضاً في الطبريّات «الإجماع عليه» .
وفي مقابله
القول بعدم اشتراطها في صيغة عقد البيع بل صيغ سائر العقود اللازمة ، بل يقع العقد
بكلّ لفظ له ظهور عرفي في المعنى المقصود سواء كان ظهوره بالوضع أو بالقرينة ،
فيقع باللفظ الحقيقي وباللفظ المجازي مع القرينة الموضحة للمراد ، وباللفظ الكنائي
مع القرينة المفيدة للملزوم كما يقع بالمشترك اللفظي مع القرينة المعيّنة للمراد ،
وبالمشترك المعنوي مع القرينة المفهمة للمراد من الخصوصيّة ، واختاره جماعة من
مشايخنا وفي كلام بعضهم : أنّ هذا هو الّذي قوّاه جماعة من
متأخّري المتأخّرين ، قال : وحكي عن جماعة ممّن تقدّمهم ومن هؤلاء الجماعة المحقّق
وتلميذه الآبي في كشف الرموز حيث إنّ التلميذ نقل عن شيخه «أنّ عقد البيع لا يلزم
فيه لفظ مخصوص واختاره هو أيضاً ويظهر ذلك من عبارة الشرائع حيث قال في تعريف عقد
البيع أنّه اللفظ الدالّ على نقل الملك ... الخ ، ثمّ قال : ولا يكفي التقابض من
غير لفظ ... الخ ثمّ قال : ويقوم مقام اللفظ الإشارة مع العذر ، ثمّ قال : ولا
ينعقد إلّا بلفظ الماضي» فإنّ اللفظ المتكرّر في هذه العبارة مطلق يتناول إطلاقه
اللفظ المجازي والكنائي ، ويؤيّده تعرّضه لاعتبار الماضويّة ولم يتعرّض الصراحة.
ويظهر اختياره
من العلّامة في التحرير حيث أطلق اللفظ بقوله : «الإيجاب اللفظ الدالّ على النقل
مثل بعتك أو ملّكتك أو ما يقوم مقامهما» وحكي ذلك أيضاً عنه في التبصرة والإرشاد وعن ولده في
شرحه موافقته ، وعن الشهيد في حواشيه أنّه جوّز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه مثل أسلمت إليك
وعاوضتك ، وقد تقدّم في بحث المعاطاة أنّ الشهيد الثاني نقل في المسالك عن بعض
معاصريه أنّه اعتبر اللفظ وأطلق نافياً لاعتبار الصيغة المخصوصة في الصحّة
واللزوم. وقيل : إنّه ظاهر كلّ من أطلق اعتبار
__________________
الإيجاب والقبول فيه من دون ذكر لفظ خاصّ ، كالشيخ وأتباعه .
ومستند هذا
القول العمومات والإطلاقات مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و
«أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» و
«تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» و «البيّعان بالخيار» لصدق العقد والبيع والتجارة على ما
يتحقّق بكلّ لفظ مفيد للمعنى المقصود من إنشاء تمليك العين على وجه التعويض بنفسه
أو بمعونة القرينة. وإنكاره مكابرة ، كما أنّ القدح في تناول العموم والإطلاق
مكابرة.
وأمّا أهل
القول الأوّل فلهم على ما يعطيه التتبّع وجوه :
منها : الأصل
الأوّلي المقتضي لفساد المعاملة مطلقاً إلّا ما أخرجه الدليل ، والقدر المقطوع
خروجه بالدليل هو المعاملة الواقعة بالصيغة الصريحة فيبقى غيرها ممّا يقع بالصيغة
الغير الصريحة تحت الأصل.
ومنها : ما
اعتمد عليه العلّامة في التذكرة من العمل بأصالة بقاء الملك ، ولأنّ المخاطب لا يدري بم
خوطب ، والأوّل يؤول إلى الوجه الأوّل.
ومنها : ما
اعتمد عليه شيخنا في الجواهر ممّا ملخّصه مع تحرير وتوضيح منّا : أنّ غرض الخالق من
خلق العالم وإيجاد بني آدم انتظام أمر المعاد ولا ينتظم إلّا بانتظام أمر المعاش ،
ولا ينتظم إلّا بالمعاملات الموظّفة على كيفيّاتها المقرّرة ، ولا تنتظم المعاملات
إلّا بأن شرّعت على وجه لم تكن مثاراً للتنازع والتجاذب والترافع ، ولا يتأتّى ذلك
إلّا بأن يعتبر في وقوعها الصيغ المخصوصة الصريحة لأنّ الصيغ الغير الصريحة مثار
للتنازع وأخويه وهو يوجب اختلال أمر المعاش ، ومنه يلزم اختلال أمر المعاد وهو نقض
للغرض.
ومنها : الشهرة
المحقّقة المعتضدة بالشهرات المحكيّة.
ومنها :
الإجماعات المنقولة حسبما تقدّم.
وهذه الوجوه
كما ترى كلّها مدخولة ضعيفة :
أمّا ضعف الوجه
الأوّل : فلأنّ الأصل يخرج عنه بما ذكر في دليل أهل القول بعدم الاشتراط من عمومات
أدلّة الصحّة وإطلاقاتها. وبذلك يظهر وجه ضعف أصالة بقاء
__________________
الملك الّتي اعتمد عليها العلّامة ، فإنّها لا تعارض العموم والإطلاق.
وهاهنا شيء
يعجبني ذكره وهو أنّ الشهيد الثاني في شرح عبارة الشرائع حيث قال : «ولا يكفي
التقابض من غير لفظ» الخ ذكر «هذا هو المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعاً غير
أنّ ظاهر كلام المفيد يدلّ على الاكتفاء في تحقّق البيع بما دلّ على الرضا به من
المتعاقدين ... إلى أن قال : وقد كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب إلى ذلك لكن
يشترط في الدالّ كونه لفظاً ، وإطلاق كلام المفيد أعمّ منه ، والنصوص المطلقة من
الكتاب والسنّة الدالّة على حلّ البيع وانعقاده من غير تقييد بصيغة خاصّة تدلّ على
ذلك ، فإنّا لم نقف على دليل صريح في اعتبار لفظ معيّن ، غير أنّ الوقوف مع
المشهور هو الأجود ، مع اعتضاده بأصالة بقاء ملك كلّ واحد بعوضه إلى أن يعلم
الناقل» انتهى.
وهذا منه مع
المناقشة في تنزيل إطلاق اللفظ في عبارة الشرائع إلى اللفظ المعيّن وهو الصيغة
الخاصّة لا يخلو عن تهافت ، لأنّ دلالة النصوص المطلقة كتاباً وسنّة على ما ذهب
إليه السيّد أو على ما ذهب إليه بعض معاصريه إن كانت مسلّمة عنده كما اعترف به بل
اعترف بعدم وقوفه على دليل صريح في اعتبار لفظ معيّن كيف يصحّ الاعتضاد بأصالة
بقاء الملك ، لكون هذه النصوص المطلقة الّتي سلّم دلالتها على عدم الاعتبار ناقلة
عنها. وفي كلامه تهافت آخر وهو أنّ الدلالة المذكورة إن كانت مسلّمة مع الاعتراف
بعدم الوقوف على دليل صريح في اعتبار اللفظ المعيّن كيف يجعل الوقوف مع المشهور
أجود ، إلّا أن يعتذر بأنّ دلالة النصوص المطلقة باعتبار الإطلاق وإنّما يصحّ
التعويل على الإطلاق مع قطع النظر عن الشهرة المذكورة الّتي هي عبارة عن مصير معظم
الأصحاب إلى خلاف مقتضى هذا الإطلاق ، وأمّا مع ملاحظتها فيتوهّن بها الإطلاق فلا
يحصل به ظنّ عدم الاعتبار بل بالشهرة يحصل ظنّ الاعتبار ، فيصحّ الاعتضاد بأصالة
البقاء حينئذٍ ، كما يصحّ جعل الوقوف مع المشهور أجود الّذي هو عبارة عن التعويل
على الشهرة. ولكنّه اعتذار ضعيف لما يظهر وجهه عند الجواب عن الشهرة.
__________________
وأمّا ضعف الوجه
الثاني : الّذي اعتمد عليه العلّامة فلأنّه إن جعل محلّ النزاع في الكناية الغير
المقرونة بقرينة تفيد إرادة المعنى المقصود فما ذكره من «أنّ المخاطب لا يدري بم
خوطب» وإن كان صحيحاً غير أنّه ممّا لا كلام فيه ولا نظنّ بأحد من الأصحاب أنّه
جوّز العقد بكناية لم تفد إرادته بل عباراتهم مشحونة باعتبار وضوح الدلالة والظهور
العرفي ونحوه ، وإن جعله في الكناية مع القرينة المفيدة فيتوجّه إليه منع الملازمة
، فإنّ فائدة القرينة هو أن يفهم المخاطب ما خوطب به. وبملاحظة ما ذكرناه في
الترديد ربّما أمكن القول بأنّ النزاع بين العلّامة ومخالفيه يعود لفظيّاً ،
بتقريب أنّه منع الاكتفاء بالكناية بدون القرينة ومخالفوه جوّزوا الاكتفاء بها مع
القرينة لا غير.
وقد ينزّل كلام
العلّامة في تعويله على الوجه المذكور على كناية لم يكن قرينته لفظاً موضوعاً
للعنوان المقصود منها على سبيل الكناية ، كأن يقول في الأمثلة المتقدّمة : أدخلته
في ملكك بيعاً أو جعلته لك بيعاً أو خذه منّي بيعاً أو سلّطتك عليه بيعاً ، بل
كانت قرينة حال أو مقام أو لفظ سابق على المخاطبة ، فإنّ الأوّل ممّا لا كلام لأحد
في كفايته بخلاف الثاني فإنّه محلّ النزاع بينه وبين مخالفيه.
ولا يخفي بعده
بالنظر إلى إطلاق كلامهم ، وربّما يأباه ظاهر عبارة التذكرة وهي قوله : «فلا يقع
بالكناية مع النيّة» فإنّه يعطي أنّ الكناية الّتي يأتي بها العاقد ليس معها
إلّا نيّة القائل وقصده ، فلو كان نظره إليها مع القرينة الغير اللفظيّة كان
المناسب أن يقول : فلا يقع بالكناية مع القرينة الغير اللفظيّة.
وأمّا ضعف
الوجه الثالث فلوجوه :
الأوّل : أنّه
وجه اعتباري لا اعتبار به في أدلّة الأحكام ، ولا يصلح مدركاً لحكم شرعي ، ولا
ينهض مخصّصاً لعمومات أدلّة الصحّة ولا مقيّداً لإطلاقاتها.
الثاني : أنّه
منقوض بالعقود الجائزة فإنّ محلّ النزاع هي العقود اللازمة كما يعطيه كلماتهم
صراحة وظهوراً ، وأمّا العقود الجائزة فلا كلام لهم في الاكتفاء فيها بكلّ لفظ
حتّى المجاز والكناية وربّما ادّعى الاتّفاق على ذلك ، فلو كان الإتيان بالصيغ
الغير
__________________
الصريحة في المعاملات مؤثّراً في وقوع التنازع والترافع الموجب لاختلال نظم
المعاش والمعاد ، لجرى ذلك في العقود الجائزة أيضاً فيلزم نقض الغرض.
الثالث : أنّه
غير منطبق على مطلوبهم عكساً وطرداً ، أمّا العكس فلأنّه ينتقض بالحقيقة والصيغة
الصريحة فإنّ جهات التنازع المفضي إلى الترافع كثيرة غير محصورة ، فكثيراً ما
يتنازع في المعاملة بالصيغة الصريحة في أصل وقوعها ، وفي المعاملة الواقعة بالصيغة
الصريحة في نوعها ككونها بيعاً أو إجارة ، بيعاً أو صلحاً ، بيعاً أو هبة وكون
النكاح الواقع بين الزوجين دواماً أو انقطاعاً ، وفي نوع المعاملة الواقعة بالصيغة
الصريحة في تعيين المورد ككون المبيع عبداً أو جارية ، وكون الثمن ديناراً أو
درهماً ، وفي النقد والنسية وغير ذلك. وأمّا الطرد فلأنّ المجاز مع القرينة قد
يكون أصرح وأوضح دلالة من الحقيقة ، فلا يقع مثاراً للتنازع فوجب أن يكتفى به.
الرابع : أنّ
مقام التعاقد ليس إلّا كسائر مقامات الخطاب ، ومن المعلوم ضرورة جواز الإتيان في
مقامات الخطاب بالألفاظ المجازيّة والكنائيّة بقرائنها المفيدة لمعانيها المقصودة
، وهذه طريقة مألوفة شائعة.
ودعوى : أنّ
هذه طريقة أهل العرف لا أهل المعاملة وكلامنا في المعاملات لا غير ، يدفعها : أنّ
أهل المعاملة ليس لهم طريقة متجدّدة مغايرة لطريقة أهل العرف في محاوراتهم ، كيف
ولو كان لهم مثل هذه الطريقة لكانت متلقّاة من الشارع ويحتاج ثبوتها إلى دليل ولا
دليل عليها ، حتّى أنّ القائل بثبوتها لم يأت إلّا بما سمعت من الوجه الاعتباري
الّذي قد عرفت كونه قاصر الدلالة غير منطبق على مدّعاهم عكساً وطرداً.
وأمّا ما
يستشمّ من بعض العبارات ممّا يمكن إنهاضه دليلاً عليها «من أنّ العقود اللازمة
المؤثّرة في النقل والانتقال وغيرهما أسباب شرعيّة توقيفيّة موظّفة من الشارع ،
فوجب الاقتصار فيها على موضع اليقين ولا يكون إلّا العقود الواقعة بصيغها المخصوصة
، وأمّا غيرها ممّا يقع بغير هذه الصيغ من الألفاظ المجازيّة والألفاظ الكنائيّة
فتوظيف الشارع وتوقيفه غير ثابت فيها» ففيه أنّه حسن لو لا عمومات الصحّة
وإطلاقاتها ، وقد عرفت نهوضها لإثبات التوقيف والتوظيف بالنسبة إلى ما عدا موضع
اليقين فتكون حاكمة على قاعدة الاقتصار عليه.
وأمّا ضعف
الوجه الرابع : وهو الشهرة ، فلأنّ محقّقها غير ثابت ، ومحكيّها غير مفيد ، لأنّه
لا ينهض لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات ، على أنّه لو سلّمنا كونها محقّقة فهي أيضاً
لا تجدي نفعاً لأنّها ليست حجّة لذاتها بل حيث كشفت كشفاً ظنّياً اطمئنانيّاً عن
وجود دليل معتبر للمشهور لو عثرنا عليه لعملنا به ، وهي فيما نحن فيه ليست بتلك
المكانة خصوصاً مع ملاحظة كثرة المخالف وكون جمع منهم من أساطين الطائفة ووجوههم ،
وقضاء التتبّع بأن ليس لهم إلّا الوجوه المذكورة الّتي عمدتها الأصل وقد تبيّن ضعف
الجميع. ومن هنا قد يجاب عن الشهرة أيضاً بأنّها إنّما تصير حجّة حيث لم يعلم
بفساد مدركها ، وقد علمنا فساده هنا ، إذ لا مدرك لها إلّا الأصل الّذي قد ظهر
حاله.
وأمّا ضعف
الخامس : وهو الإجماعات المنقولة فلأنّها مستراب فيها ، بأنّ المسألة المبحوث عنها
كيف تصير إجماعيّة مع مخالفة جماعة من متأخّري المتأخّرين وجماعة ممّن تقدّمهم مع
كون جمع منهم من أساطين الطائفة ووجوههم. ومن هنا أنكر كلّاً من الإجماع والشهرة
بعض مشايخنا قدسسرهم حيث إنّه بعد ما نقل في خصوص البيع عن الأصحاب من
كلماتهم القاضية بوقوعه بألفاظ هي بالنسبة إليه إمّا من المجازات أو من الكنايات
كالسلم والتولية والتشريك في المبيع والتقبيل في ثمرة النخيل وفي سائر العقود
اللازمة من كلماتهم القاضية بوقوعها بكلّ لفظ أو بألفاظ مخصوصة هي بالنسبة إليها
أيضاً إمّا من قبيل المجاز أو من قبيل الكناية قال : «ومع هذه الكلمات كيف يسند
إلى العلماء أو أكثرهم وجوب إيقاع العقد باللفظ الموضوع له وأنّه لا يجوز بالألفاظ
المجازيّة» انتهى.
ومع الغضّ عن
ذلك نقول : إنّ حجّيّة الإجماع المنقول عندنا إنّما هو من حيث إفادته الظنّ
الاطمئناني وهو هنا لا يفيد لنا ظنّاً فضلاً عن بلوغه حدّ الاطمئنان.
وبعد اللتيّا
والّتي لو سلّمنا الإجماع فيحتمل قويّاً كونه إجماعاً على اشتراط لزوم العقود
اللازمة بالصراحة.
ويقرّبه ما في
كلام مفتاح الكرامة الّذي من ناقلي الإجماع ناقلاً عن الأصحاب من
__________________
قوله حيث قالوا : «إنّ العقود اللازمة لا تثبت بشيء من المجازات» .
ووجه التقريب
أوّلاً : القاعدة المقرّرة من أنّ النفي الوارد عقيب كلام مقيّد ظاهر في الرجوع
إلى القيد ، وقضيّة هذا الظهور كون الإجماع منقولاً على أنّ لزوم العقود اللازمة
لا يثبت بشيء من المجازات.
وثانياً :
قرينة مقابلة العقود اللازمة للعقود الجائزة ، فإنّها تقضي بأنّ اختصاص العقود
اللازمة بهذا الحكم لا بدّ وأن يكون لجهة مائزة بينها وبين العقود الجائزة وليست
إلّا كونها لازمة ، فيكون المتوقّف منها على الصراحة لزومها لا صحّتها ، لأنّها
جهة مشتركة بينها وبين العقود الجائزة ، وهي فيها ليست متوقّفة على الصراحة
إجماعاً ، ولذا لو فرض جميع العقود جائزة أو فرض البيع جائزاً لم يكن لها ولا له
حكم إلّا الصحّة بدون الصراحة.
وممّا يؤيّده
أيضاً صريح عبارة جامع المقاصد في باب القراض فإنّه بعد ما بيّن أنّه جائز من
الطرفين ذكر أنّ قبوله يقع بكلّ ما يدلّ على الرضا بالإيجاب ولو كان فعلاً ،
وعلّله «بأنّه ليس كالعقد اللازم لأنّ الحكم بلزومه متوقّف على حصول السبب المعتبر
شرعاً وهو اللفظ» انتهى.
وحينئذٍ فالّذي
ينبغي أن يذعن به هو كون الصراحة كالعربيّة شرطاً في لزوم البيع وسائر العقود
اللازمة لا في انعقادها وصحّتها ، والله العالم بحقائق أحكامه.
المسألة
الثالثة : في بيان الألفاظ المخصوصة المستعملة في إيجاب البيع وفي قبوله بناءً على
اعتبار الصراحة في الصحّة أو في اللزوم على المختار.
أمّا المستعملة
منها في الإيجاب ، فالمعروف بينهم المصرّح به في كلام جماعة من أساطينهم
أنّها «بعت وشريت وملّكت» وعن الجامع الاقتصار على الأوّلين ، وقالوا : إنّ «بعت وشريت» حيث
يقع كلّ منهما إيجاباً يتعدّى إلى مفعولين ، فلو قال
__________________
البائع : «بعتك هذه أو شريتك هذه» يتعيّن للإيجاب من وجهين : أحدهما وقوعه
من البائع ، والآخر تعديته إلى مفعولين. ولو قال : «بعتها أو شريتها» يتعيّن له من
وجه واحد. وإذا وقع قبولاً يتعدّى إلى مفعول واحد فيقال «بعتها أو شريتها» ويجوز
استعماله بحذف المفعول الواحد أيضاً فيقال «بعت أو شريت».
ثمّ إنّ كفاية
لفظ «بعت» في إيجاب البيع ووقوع البيع به ممّا لا إشكال بل لا كلام فيه لأحد ، وفي
كلام غير واحد نفي الخلاف بل هو القدر المتّفق عليه من ألفاظ الإيجاب.
وأمّا «شريت»
فالمصرّح به في كلام جماعة كفايته في الإيجاب ووقوع البيع به أيضاً ، بل قيل : «إنّه
المشهور شهرة عظيمة تكاد تكون إجماعاً» وقد يستدلّ عليه بوضعه للبيع كما عن بعض
أهل اللغة ، بل قد تقدّم عن سيّد المصابيح نفي الخلاف في وضعه مع بعت لمعنيين
إيجاب البيع وقبوله. فيكون دلالته على البيع صريحة لاستنادها إلى الوضع ،
غاية الأمر افتقاره من جهة الاشتراك إلى القرينة المعيّنة ويكفي فيها صدوره من
البائع وتعديته إلى مفعولين.
وقد يستشكل فيه
نظراً إلى قلّة استعماله عرفاً في البيع ، واحتياجه إلى القرينة ، وعدم نقل
الإيجاب به في الأخبار ولا كلام القدماء. ومن مشايخنا من استوجهه بقوله : «ولا
يخلو عن وجه» .
ويدفعه : أنّ
ندرة الاستعمال مع فرض وجود القرينة المعيّنة للمراد غير قادحة في الصراحة لاستناد
أصل الدلالة إلى الوضع وعليها المدار في الصحّة أو اللزوم ، نعم لو بلغت الندرة
إلى حيث هجر ذلك المعنى بحيث صار مجازاً فيه خرج عن كونه صريحاً ، وعدم الاكتفاء
به حينئذٍ من هذه الجهة لا لمجرّد ندرة الاستعمال ، وكون الندرة المفروضة فيه بتلك
المثابة أوّل المسألة بل موضع منع ولو من جهة الأصل ، ولذا لم يلتفت إليها الجماعة
وعدّوه من ألفاظ الإيجاب. وأمّا الاحتياج إلى القرينة المعيّنة
__________________
فهو أيضاً غير قادح ، بل القادح في الصراحة هو الاحتياج إلى قرينة المجاز
لا مطلق القرينة. وأمّا عدم ورود الإيجاب به في الأخبار ولا في كلام قدماء الأصحاب
فعلى تسليمه فهو أيضاً غير قادح بعد ما ورد إطلاقه على البيع في الكتاب العزيز بل
شيوع ذلك ، كما في قوله عزّ من قائل : «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ» وقوله أيضاً :
«وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ» وقوله أيضاً :
و «الَّذِينَ يَشْرُونَ
الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» بل قيل : إنّه لم
يستعمل في الكتاب العزيز إلّا في البيع. ومع الغضّ عن ذلك فالعبرة في الجواز
بالصراحة والعبرة فيها بالوضع اللغوي.
وأمّا «ملّكت»
بالتشديد فوقوع البيع به وجواز الاكتفاء به في الإيجاب منسوب إلى الأكثر وقد ينسب مع
ذلك إلى المشهور ، وقد يعزى دعوى الإجماع عليه إلى ظاهر جامع المقاصد في تعريف
البيع ، بل يظهر دعوى الاتّفاق عليه من المحكيّ عن نكت الإرشاد من قوله : «لا يقع
البيع بغير اللفظ المتّفق عليه كبعت وملّكت» .
نعم قد يسند
الخلاف فيه إلى ظاهر الجامع نظراً إلى اقتصاره على لفظ «بعت» وشريت. وفيه نظر.
ومن مشايخنا من
استشكل في الاكتفاء به بما ملخّصه «أنّ ملّكت وإن كان نصّاً في الإيجاب إلّا أنّه
ليس نصّاً في البيع لاحتمال غيره كالهبة والصلح ، بل لا اختصاص للفظ التمليك بنقل
الأعيان لوقوعه لنقل المنافع ، وفي نقل الأعيان لا اختصاص له بالبيع لصحّة وقوعه
للهبة والصلح ، ولا يجدي تعلّقه في العقد بالعين لأنّ الهبة أيضاً متعلّقة
بالأعيان ، ولا ذكر العوض لأنّ الهبة قد تكون معوّضة وكذلك الصلح ، إلّا أن يدفع
بالتزام التقييد بالبيع كأن يقال : ملّكتك هذه العين بيعاً بكذا ، وبذلك يرتفع
النزاع بين الأكثر حيث أطلقوا جواز إيجاب البيع بهذا اللفظ وبين الجامع حيث أطلق
المنع بتنزيل
__________________
إطلاق الأكثر على صورة التقييد وحمل إطلاق الجامع على صورة ترك التقييد» .
وقد يذبّ عن
الإشكال بالتمسّك بأصل ادّعاه شارح القواعد ، وهو أنّ الأصل في نقل الأعيان بعوض
هو البيع وفي نقل المنافع بعوض هو الإجارة ، وحينئذٍ فلو أطلق التمليك مع اعتبار
تعلّقه بالعين انصرف إلى البيع وإن لم يقصده من جهة الأصل المذكور.
وهذا في غاية
الضعف ، لأنّ الأصل المذكور إن سلّمناه لا مدرك له إلّا الغلبة من حيث إنّ الغالب
الوقوع في نقل الأعيان بعوض هو البيع لا الهبة والصلح وفي نقل المنافع هو الإجارة
لا الصلح ، وهو إنّما يجدي في الشبهات الموضوعيّة عند الترافع فيما إذا اختلف
المتعاملان على نقل عين بعوض بأن ادّعى أحدهما وقوعه بيعاً والآخر وقوعه صلحاً أو
هبة معوّضة ، فللحاكم أن يقدّم قول المدّعي للبيعيّة تعويلاً على الأصل المذكور ،
ولا يجدي في الشبهات الحكميّة ، والشبهة فيما نحن فيه حكميّة ، إذ الشكّ إنّما هو
في كفاية لفظ «ملّكت» المقصود به التمليك البيعي في انعقاد البيع وعدمه.
وتحقيق المقام
: أنّ محلّ النزاع إن كان لفظ «ملّكتك» المقصود به التمليك البيعي على وجه المجاز
بدخول الخصوصيّة في المراد ، فالمانع يقول بعدم وقوع البيع به لخروجه عن الصراحة
ودخوله في المجازات ، والأكثر يجوّزون وقوعه به فيكون ذلك منهم بمنزلة الاستثناء
عمّا ذكره في اعتبار شرط الصراحة من عدم انعقاد البيع بالمجازات ، ولكنّه خلاف
ظاهرهم في إطلاق هذا القول ، وخلاف ظاهرهم في تجويز وقوعه بهذا اللفظ ، لظهور
كلامهم في كونه بناءً على كون هذا اللفظ من الألفاظ الصريحة كلفظ «بعت». وإن كان
هذا اللفظ المقصود به التمليك البيعي على وجه الحقيقة بفرض إرادة الخصوصيّة من
خارج لا من اللفظ من باب تعدّد الدالّ والمدلول ، فالمانع من وقوعه مستظهر لخروجه
بمقتضى الفرض أيضاً عن الصراحة ، بناءً على تفسيرها المتقدّم من كون دلالة اللفظ
على العنوان المقصود بالوضع والدلالة على خصوص البيع الّذي هو العنوان المقصود
ليست بوضع «ملّكت» بل بالخارج ، اللهمّ إلّا أن يلتزم باعتبار كون الخارج الّذي هو
القرينة المفهمة لفظاً دالّا على العنوان الخاصّ
__________________
بوضعه كلفظ البيع وما يرادفه ، بأن يقول «ملّكتك بيعاً». فالمتّجه حينئذٍ
ما عليه الأكثر بناءً على أنّ الوضع في تفسير الصراحة أعمّ من وضع نفس الصيغة
الدالّة على الإنشاء ووضع قرينتها اللفظيّة إذا كانت من المشتركات المعنويّة فيصدق
على مجموع «ملّكتك بيعاً» أنّ دلالته على التمليك البيعي وضعيّة ، وإن كانت
بالنسبة إلى أصل التمليك بوضع «ملّكت» وعلى خصوص كونه بيعيّاً بوضع لفظ «البيع».
وهذا في توجيه كلام الأكثر هو مقتضى الجمع بين قولهم باشتراط الصراحة وأنّه لا يقع
بالمجازات وقولهم بوقوعه بلفظ «ملّكت». ولا بدّ حينئذٍ من تقييد كلامهم هذا بأمرين
: أحدهما عدم إرادة الخصوصيّة من اللفظ ، وثانيهما كون قرينته لفظاً دالّا على
العنوان بالوضع ، فليتدبّر.
ولكن ربّما
يظهر من المحكيّ عن فخر الدين في شرح الإرشاد من قوله : «معنى بعت في لغة العرب
ملّكت غيري» كون التمليك حقيقة خاصّة في البيع بدخول الخصوصيّة في
وضعه فيكون ملّكت مرادفاً لبعت ، ووجه الظهور أنّ قوله «معنى بعت ...» الخ ظاهر في
كون «ملّكت غيري» تمام معنى «بعت» ولا يكون تمام معناه إلّا إذا دخل خصوص كون
التمليك بيعيّاً في وضع ملّكت غيري ومعناه ، وهذا إن تمّ سلم به ظاهر إطلاق الأكثر
، ولا حاجة إلى اعتبار عدم إرادة الخصوصيّة ولا إلى اعتبار القرينة المفهمة فضلاً
عن كونها لفظيّة ، لعدم اعتبار ملّكت حينئذٍ غير البيع من الصلح والهبة فيكون
ملّكت وبعت سيّان في الصراحة.
ولكنّه محلّ
إشكال ، لأنّه ـ مع مخالفته لصريح جماعة من أساطين الطائفة بكونه مشتركاً معنويّاً
ـ ممّا يكذّبه عدم صحّة سلب اسم التمليك عن الهبة بغير عوض ، بل لو أنكر الواهب
بعد هبة عينه بقوله «ما ملّكتها» ، صحّ تكذيبه وردّه بعبارة «ملّكتها» وهذا آية
عدم دخول خصوصيّة البيع في وضع التمليك.
نعم قد يقال :
إنّ مادّة التمليك مشتركة معنىً بين التمليك المعاوضي وهو البيع خاصّة والتمليك
المجّاني وهو الهبة بلا عوض ، فإن اتّصل بالكلام ذكر العوض أفاد المجموع المركّب
بمقتضى الوضع التركيبي البيع ، وإن تجرّد عن ذكر العوض اقتضى
__________________
تجريده الملكيّة المجّانيّة وهي الهبة بغير عوض ، فلو اريد ممّا اتّصل به
ذكر العوض الهبة المعوّضة أو قصد به المصالحة بنى صحّته على صحّة عقد بلفظ غيره مع
النيّة ، ومرجعه إلى دعوى اختصاص اشتراكه معنىً بالبيع والهبة المجّانيّة ،
ويتعيّن لأحدهما في العقد بذكر العوض وتجريده عنه ، فإذا ذكر معه العوض كان ذلك
قرينة لإفهام البيعيّة ولا يحتمل حينئذٍ المصالحة ولا الهبة المعوّضة حتّى أنّه لو
اريد به أحدهما احتاج إلى قرينة تفيده بل كان مجازاً ، وصحّته حينئذٍ مبنيّة على
صحّة العقد بالمجاز ، ولا حاجة في تخصيصه بالبيع إلى اعتبار قرينة اخرى ولا إلى
اعتبار ذكر البيع معه بعبارة قولنا «ملّكتك بيعاً بكذا».
وهذا في غاية
المتانة ، ووجهه بالنسبة إلى المصالحة واضح ، وبالنسبة إلى الهبة المعوّضة فيه نوع
خفاء فإنّ المصالحة مسالمة من الصلح بمعنى السلم ولذا كان تعديته إلى المفعول
الثاني بكلمة المجاوزة ولا يتعدّى إليه بنفسه ، فمدلوله المطابقي المجاوزة عن مال
مثلاً في مقابلة مال آخر ، ويلزمه الملكيّة أعني ملكيّة المال الأوّل للمتصالح
وملكيّة المال الثاني الّذي يقال له مال المصالحة للمصالح فالتمليك مدلول التزامي
له ، فلو اريد من لفظ «ملّكتك» معنى «صالحتك» صار مجازاً ووجب تعديته حينئذٍ بكلمة
المجاوزة بأن يقال «ملّكتك عن هذا بكذا» مكان «صالحتك عن هذا بكذا» ويحتاج إفادته
لإرادة هذا المعنى إلى قرينة مجاز. وقضيّة ذلك أن لا يحتمل مطلقه المصالحة فلا
حاجة إلى أن يعتبر معه قرينة تخرجها.
وأمّا عدم
احتماله الهبة المعوّضة فتوضيحه : أنّ مفهوم التمليك بحسب الوضع اللغوي جنس مشترك
بين ماهيّتين نوعيّتين ، وهما نوع البيع وهو التمليك المعاوضي ونوع الهبة بلا عوض
وهو التمليك المجّاني ، ولذا ذكرنا في تعريف البيع أنّه تمليك عين على وجه التعويض
، وقلنا إنّ اعتبار كونه على وجه التعويض يخرج به الهبة المعوّضة لظهور القيد في كونه
من لوازم الماهيّة ، والعوض في الهبة المعوّضة من عوارض الشخص ، فهو بذكر العوض
معه الظاهر في كونه لازماً للماهيّة ينصرف إلى البيع ، ولا يحتمل غيره ممّا يكون
العوض من عوارض شخصه وهو الهبة المعوّضة ، لأنّ الماهيّة تتمّ بدون العوض فقولنا «ملّكتك
داري بكذا» هو بعينه معنى البيع بناءً على
التعريف المذكور ، فلا يحتمل غيره حتّى يحتاج إلى اعتبار قرينة معه تخرجه.
وأمّا الألفاظ
المستعملة في قبول البيع فهي على ما يستفاد من مجموع كلم الأصحاب بعد التتبّع
التامّ من غير خلاف يظهر ثمانية ألفاظ ، وهي «قبلت ، ورضيت ، واشتريت ، وابتعت ،
وملكت بالتخفيف ، وتملّكت ، وبعت ، وشريت» بناءً على اشتراكهما بين الإيجاب
والقبول كما تقدّم ، ويتعيّن كلّ منهما لأحدهما بالقرينة ، ولم نقف على مخالف في
بعض هذه الألفاظ ولا على نقل قول بالخلاف عدا ما ينسب إلى المحقّق الثاني في تعليق
الإرشاد من تردّده في لفظ «رضيت» تعليلاً باحتمال توقّف النقل
على الصيغة المعيّنة. ويزيّفه أنّ مجرّد الاحتمال لا ينشأ منه التردّد وإلّا لجرى
ذلك في أكثر الألفاظ المذكورة بل فيما عدا لفظ «قبلت» مع أنّ معيار القبول هو
الدلالة على الرضا بما أوجبه الموجب ، ولا ريب أنّ لفظ رضيت أصرح في الرضا من لفظ
قبلت.
نعم ربّما يوهم
الخلاف اختلاف كلماتهم في الاقتصار على ذكر البعض واحداً أو اثنين أو ثلاثاً ،
وممّن اقتصر على ذكر واحد العلّامة في التبصرة على ما حكي عنه من أنّه ذكر للقبول لفظ «اشتريت» فقط ،
وكذلك الشيخ في المبسوط وعن الغنية أنّه ذكر اثنين «قبلت واشتريت» وذكر جماعة منهم
الشهيدان في الدروس والمسالك ثلاثاً «ابتعت واشتريت وتملّكت» وفي التذكرة وعن نهاية
الإحكام أربعاً «قبلت وابتعت واشتريت وتملّكت» وعن نسخة من
التنقيح خمساً «ابتعت واشتريت وشريت وتملّكته وقبلته».
وهذا الاختلاف
يوهم الخلاف ، ودفعه غير واحد من الأساطين بالحمل على المثال لا تخصيص الحكم ، وممّا يرشد إليه
اقتصار المبسوط والتبصرة على «اشتريت» مع وقوع القبول بـ «قبلت» محلّ وفاق ، ويرشد
إليه كلام العلّامة في التحرير في بيان معنى الإيجاب والقبول بقوله : «الإيجاب هو
اللفظ الدالّ على النقل مثل بعتك أو ملّكتك
__________________
أو ما يقوم مقامهما ، والقبول اللفظ الدالّ على الرضا مثل قبلت واشتريت
ونحوهما» وفيه مواضع من الدلالة خصوصاً ظهوره في بيان ضابط
القبول وهو الدلالة على الرضا وهي موجودة في الجميع. ونحوه قوله «ونحوهما» فإنّه
يعمّ الجميع فلا ينبغي الاسترابة في صحّة القبول بكلّ واحد.
فرعان : الأوّل
ظاهرهم كون ألفاظ الإيجاب كلّها اصولاً ، ونسب ذلك إلى ظاهرهم في ألفاظ القبول
أيضاً خلافاً للمسالك كما عن نهاية الإحكام أيضاً فجعلا
الأصل منها «قبلت» وأنّ ما عداه قائم مقامه وفروع له ، وعلّلاه بأنّ القبول على
الحقيقة ما لا يصحّ الابتداء به كـ «قبلت» ، والابتداء بما عداه كـ «ابتعت واشتريت
وتملّكت» ممكن. وردّ بأنّهما لحظا في القبول معناه اللغوي فإنّه يقتضي سبق إيجاب.
ويزيّفه أنّ القبول عندهم اصطلاح فيما يقابل الإيجاب وهو ما يدلّ على الرضا بما
أوجبه الموجب كما عرفته في كلام العلّامة ، وعلى هذا فالكلّ على حدّ سواء من دون
أصليّة بعض وفرعيّة غيره.
الثاني : لو
أوقع المتبايعان العقد بالألفاظ المشتركة بين الإيجاب والقبول مثل «بعت أو شريت»
ثمّ اختلفا في تعيين الموجب والقابل إمّا بناءً منهما على جواز تقديم القبول على
الإيجاب أو من جهة اختلافهما في المتقدّم والمتأخّر بناءً على عدم الجواز ، فقيل : لا يبعد
الحكم بالتحالف ، ثمّ عدم ترتّب الآثار المختصّة بكلّ من البيع والاشتراء على واحد
منهما مثل خيار تأخير الثمن المختصّ بالبائع وخيار الحيوان المختصّ بالمشتري.
وقد يفصّل بما
ملخّصه : أنّ الحاكم إمّا أن يكون رأيه عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب ، أو
يكون جواز التقديم ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون رأيه عدم جواز تقديم القبول على
الإيجاب ، أو يكون جواز التقديم ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون المتقدّم منهما
معلوماً ، أو يكون مشتبهاً بسبب الاختلاف فيه.
وعلى التقادير
إمّا أن يكون اللفظ الصادر منهما معاً «بعت أو شريت» أو يكون من أحدهما «بعت» ومن
الآخر «شريت» فإن كان رأي الحاكم عدم جواز تقديم القبول
__________________
وكان المتقدّم منهما معلوماً حكم بكون المتقدّم موجباً ، لأصالة الصحّة في
العقد الواقع بينهما. ولو كان رأيه جواز تقديم القبول وكان المتقدّم أيضاً معلوماً
حكم أيضاً بكون المتقدّم موجباً ، استناداً إلى الظهور الناشئ من الغلبة فإنّ
الغالب الوقوع في الخارج هو تقديم الإيجاب ، مع ظهور آخر لو كان الصادر من
المتقدّم لفظ «بعت» ومن المتأخّر لفظ «شريت» لأنّ الغالب في الأوّل استعماله في
البيع وفي الثاني استعماله في الاشتراء ، مضافاً إلى ظهور الأوّل بنفسه في البيع
دون الاشتراء وإن كان مشتركاً بينهما لغة.
وإن كان
المتقدّم مشتبهاً من جهة الاختلاف وكان اللفظ الصادر من أحدهما «بعت» ومن الآخر «شريت»
حكم بكون لافظه موجباً ، للظهورين المذكورين. وإن كان الصادر منهما «بعت أو شريت»
حكم بالتحالف ثمّ المنع من ترتيب الأحكام المختصّة بكلّ من البيع والاشتراء على
واحد منهما كما تقدّم. ونحوه في الحكم بالتحالف ما لو كان المتقدّم معلوماً وكان
الصادر منه لفظ «شريت» ومن المتأخّر لفظ «بعت» لتعارض الظهورين.
الجهة الثانية
: فيما يشترط في الهيئة المعتبرة في كلّ من الإيجاب والقبول بانفراده ، وهو على ما
هو المعروف بينهم الماضويّة ، وهو ينحلّ إلى أمرين :
أحدهما : كون
كلّ من صيغتي الإيجاب والقبول جملة فعليّة ، فلا ينعقد البيع ولا غيره من العقود
اللازمة بالجملة الاسميّة كأن يقول «هذا مبيع لك بكذا» أو «ملك لك بكذا» والظاهر
أنّ ذلك ممّا لا خلاف فيه عندهم بل من مسلّماتهم ، كما ربّما يكشف عنه عدم تعرّض
كثير ممّن تعرّض لبيان اعتبار الماضويّة لبيانه ، فتأمّل. ولا تنتقض بالعتق
والطلاق والنذر نظراً إلى وقوع كلّ منها بالجملة الاسميّة مثل «أنت حرّ لوجه الله»
«وأنت طالق» «ولله عليّ كذا» لكون هذه المذكورات من قسم الإيقاع وكلامنا في العقود
، مع أنّ ما ذكر في المذكورات حكم ثبت فيها بدليل خاصّ بالمورد فلا يتعدّى إلى
غيره.
وثانيهما : كون
الفعل المأخوذ فيها ماضياً ، فلو قال «أبيعك أو اشتر أو ابتع» لم ينعقد وكذا في
جانب القبول لو قال «أشترى منك أو بعني» كما هو المصرّح به في كلام
جماعة كالوسيلة والشرائع والشهيدين في الدروس واللمعة والمسالك والروضة والعلّامة في
القواعد والتذكرة والمختلف ونهاية الإحكام والإرشاد والتحرير وولده في شرح الإرشاد والمحقّق
الثاني في صيغ العقود وتعليق الإرشاد وغيرهم ، وفي كلام جماعة حكاية الشهرة فيه بل في بعض
العبارات وصفها لكونها عظيمة ، وفي التذكرة دعوى الإجماع عليه قائلاً : «لو قال
أبيعك أو قال أشتري لم يقع إجماعاً» .
خلافاً للقاضي
ابن البرّاج في الكامل والمهذّب فصحّحه بالمضارع والأمر على ما حكي ، وللأردبيلي في
مجمع البرهان فنفى عنه البأس نظراً منه إلى أنّه عقد فيشمله عموم ما
دلّ على لزوم الوفاء بالعقود كما حكي ، وهذا هو مستند القول المذكور.
وربّما ايّد
بما ورد في بيع الآبق وبيع اللبن في الضرع من النصّ الدالّ على انعقاد البيع
بالمضارع مثل قوله عليهالسلام في الأوّل : «تقول أشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا
المتاع بكذا وكذا درهماً» ونحو ما ورد في اللبن .
وردّه في مفتاح
الكرامة «بأنّ العقود الّتي امرنا بالوفاء بها هي كلّ ما كان متداولاً في زمن
الخطاب لا مطلقاً ، وكون ما نحن فيه منها غير معلوم ، وهذا كافٍ في منع العموم
وقال ـ في موضع آخر أيضاً ـ : والحاصل أنّه إن كان الإجماع منعقداً على اشتراط
الماضويّة كان الإجماع قرينة على عدم تسمية الخالي عنها عقداً في زمانهم عليهمالسلام وإلّا فالشهرة معلومة ومنقولة فيحصل لنا بسببها الشكّ
في كونه عقداً في ذلك الزمان والشكّ
__________________
كافٍ في المقام ، وكون ذلك الآن عقداً لا يجدي كما هو الشأن في المكيل
والموزون» .
وأمّا التأييد بما
ورد في الآبق واللبن ، ففيه : أنّه لا دلالة للنصّ الوارد فيهما على الاجتزاء بلفظ
المضارع ، خصوصاً مع ملاحظة أنّه في الآبق وارد في مقام حكم آخر وهو اعتبار
الضميمة في بيعه ، مع أنّه ظاهر في المساومة من غير دلالة أنّ المتعاقدين تعاقدا
بمثل ذلك اللفظ.
ومستند القول
باشتراطها أوّلاً : أصالة عدم النقل والانتقال إلّا فيما تيقّن كونه موجباً لهما ،
وهو ما كان بصيغة الماضي.
وثانياً :
الشهرة المحقّقة المعتضدة بالمحكيّة منها في كلام جماعة .
وثالثاً :
الإجماع المنقول في التذكرة.
ورابعاً :
اشتراط الصراحة في الصيغة فإنّها كما هي معتبرة في المادّة كذلك معتبرة في الهيئة
، ولا صراحة في إنشاء المعنى المقصود في العقد إلّا للماضي لكونه منقولاً من
الإخبار إلى الإنشاء ، بخلاف المضارع والأمر فإنّهما لا يحتملان الإنشاء المقصود
في المقام بالوضع ، بل المضارع صريح في الوعد والأمر في الاستدعاء. فلو اريد منهما
الإنشاء المقصود في المقام كان مجازاً ، وقد تقدّم أنّ العقود اللازمة لا تنعقد
بالمجازات.
وتحقيق المقام
: أنّ اشتراط الماضويّة إن كان متفرّعاً على اشتراط الصراحة كما هو قضيّة الوجه
الأخير ، فقد عرفت في بحثها أنّها عندنا معتبرة في اللزوم لا في الصحّة. فهذا هو
المختار هنا أيضاً ، لتحقّق العقد بمعنى الربط بالمضارع والأمر المقصود بهما إنشاء
العنوان المقصود في العقد حيث ساعد على إرادته القرينة المعتبرة كما هو المفروض في
محلّ البحث ، وصدق البيع بمعنى تمليك العين على وجه التعويض أو مبادلة عين بعوض ،
وصدق تجارة عن تراضٍ فيشمله العمومات والإطلاقات ، وبذلك يخرج من الأصل المتقدّم
غاية اندراجه في أقسام المعاطاة ولا ضير فيه.
ودعوى : انصراف
أدلّة الصحّة المذكورة إلى ما تعارف وتداول في زمن الخطاب ، ممّا لا ينبغي الإصغاء
إليه ، لمنع معلوميّة عدم تعارف التعاقد بالمضارع والأمر ثمّة ،
__________________
ومجرّد احتمال عدم تعارفه لا يوجب الانصراف ولا يمنع شمول العموم والإطلاق
لهما ، كما أنّ معلوميّة تعارف التعاقد بالماضي لا يستلزم العلم بعدم تعارفه بغير
الماضي. وأمّا الشهرة محقّقة ومحكيّة والإجماع المنقول في التذكرة فلا ينهضان
لتخصيص عمومات الأدلّة ولا لتقييد مطلقاتها ، لعدم بلوغهما حدّ الظنّ الاطمئناني.
الجهة الثالثة
: فيما يشترط في الهيئة التركيبيّة الحاصلة من الإيجاب والقبول ، وفيه مسائل :
المسألة الاولى
: في أنّه هل يشترط تقديم الإيجاب على القبول أو لا ، بل يجوز تقديم القبول؟ قولان
، أشهرهما على ما نصّ عليه جماعة تبعاً للعلّامة في المختلف الاشتراط ،
ونسب ذلك إلى الشيخ في الخلاف وابن حمزة في الوسيلة والحلّي في
السرائر والعلّامة في جملة من كتبه والمحقّق
الثاني في جامع المقاصد وصيغ العقود وتعليق الإرشاد .
وعن المختلف وشرح الإرشاد نسبته أيضاً
إلى المبسوط. ولكن العبارة المنقولة عنها ليست بصريحة ولا ظاهرة في الاشتراط ،
لأنّه قال : «وإن تقدّم القبول فقال : بعنيه بألف ، فقال : بعتك ، صحّ. والأقوى
عندي أنّه لا يصحّ حتّى يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت» وهذا كما ترى
ظاهر في كون عدم الصحّة الّذي قوّاه ثانياً بعد الحكم بالصحّة من جهة تقديم القبول
إنّما هو لحيثيّة كون القبول المتقدّم المذكور بصيغة الأمر الدالّ على الاستدعاء
لا لمجرّد التقديم ، فإنّ «بعنيه» مشتمل على حيثيّين ، بل حكمه بالصحّة أوّلاً
المعلّق على عنوان تقديم القبول ربّما كان ظاهراً في أنّ الحيثيّة الموجودة في هذا
اللفظ لو كانت منحصرة في التقديم كان حكمها الصحّة ، ولكنّ فيه حيثيّة اخرى هي
موجبة لعدم الصحّة وهي كون القبول بالأمر الدالّ على الاستدعاء.
__________________
وممّا يرشد إلى
ذلك أنّ ما يقرب من هذه العبارة منقول أيضاً عن الغنية وهو كالصريح في كون عدم
الصحّة لهذه الحيثيّة لا غير حيث قال : «واعتبرنا حصول الإيجاب من البائع والقبول
من المشتري تحرّزاً من القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري وهو أن يقول : بعنيه
بألف ، فيقول : بعتك ، فإنّه لا ينعقد حتّى يقول المشتري بعد ذلك : اشتريت أو قبلت»
انتهى.
ونسب في
المسالك كما عن غاية المراد إلى الشيخ في الخلاف دعوى الإجماع
على الاشتراط. وليس كما نسب حتّى أنّه قال في مفتاح الكرامة : «وهو وهم قطعاً ،
لأنّي تتبّعت كتاب البيع فيه مسألة مسألة وغيره حتّى النكاح فلم أجده ادّعى ذلك ،
وإنّما عبارته في المقام توهم ذلك للمستعجل وهي قوله : دليلنا أنّ ما اعتبرناه
مجمع على ثبوت العقد به وما ادّعوه لا دلالة على صحّته» انتهى.
وهو كما ذكره ،
فإنّ الإجماع على ثبوت العقد بتقديم الإيجاب ليس إجماعاً على اشتراط التقديم ولا
على فساد ما قدّم فيه القبول ، ولذا ذكر في ردّ القول بجوازه أنّ ما ادّعوه لا
دلالة على صحّته ، وهذا ظاهر كالصريح في كون مستند عدم صحّة ذلك عدم الدليل على
الصحّة لا الدليل على عدم الصحّة ، فيرجع في الحقيقة إلى التمسّك بالأصل المقتضي
للفساد إلّا ما اجمع على صحّته وهو ما قدّم فيه الإيجاب.
والقول بعدم
الاشتراط لجماعة منهم المحقّق في الشرائع والشهيدان في الدروس واللمعة والمسالك ٩
والروضة ولعلّه عليه أكثر متأخّري المتأخّرين .
وفي المسالك
كما عن الحاشية الميسيّة والروضة ومجمع البرهان «أنّ موضع الخلاف ما لو كان القبول بلفظ : ابتعت أو اشتريت أو تملّكت منك
كذا وبكذا ،
__________________
بحيث يشتمل على ما كان يشتمل عليه الإيجاب ، أمّا لو اقتصر على القبول وقال
: قبلت ، وإن أضاف إليه باقي الأركان لم يكف بغير إشكال» انتهى.
وهذا مبنيّ على
ما تقدّم منه من أنّ الابتداء بـ «قبلت» غير ممكن بخلاف الابتداء بـ «ابتعت» وغيره
فإنّه ممكن. وقد عرفت ضعف الفرق ، إلّا على تقدير إرادة معنى القبول اللغوي ، وهو
موضع منع.
والمنقول من
دليل القول بعدم الاشتراط وجوه أشار إليها ثاني الشهيدين في المسالك بقوله : «ووجه
العدم أصالة الجواز ، وأنّه عقد فيجب الوفاء به ، ولتساويهما في كون كلّ منهما
ينقل ملكه إلى الآخر فإذا جاز للبائع التقدّم جاز للمشتري ، ولأنّ الناقل للملك هو
الرضا المدلول عليه بالألفاظ الصريحة ولا مدخل للترتيب في ذلك ، ولجواز تقديمه في
النكاح بغير إشكال فليكن في غيره كذلك فإنّ النكاح مبنيّ على الاحتياط زيادة على
غيره .
والعمدة من هذه
الوجوه ثانيها ، لفساد وضع البواقي ، فإنّ الجواز في أصالة الجواز إن اريد به
الجواز التكليفي قصداً إلى بيان أنّ من قدّم القبول فعل فعلاً مباحاً فلا يكون
آثماً ولا يستحقّ به العقاب ، ففيه أنّه ليس بمحلّ كلام. وإن اريد به الجواز
الوضعي وهو الصحّة واللزوم فمرجعه إلى الوجه الثاني فلا يكون دليلاً على حدة.
وتساويهما فيما ذكر لا يوجب التعدّي ، لكونه قياساً ولا نصّ بالعلّة فتكون مستنبطة
فيبطل. وعدم مدخليّة الترتيب في الناقل للملك مصادرة ، لأنّ القائل بالاشتراط يقول
بأنّ الناقل هو الرضا المدلول عليه بالألفاظ الصريحة مع تقديم الإيجاب على القبول.
وجواز تقديم القبول في النكاح على فرض تسليمه إنّما هو لمصلحة استحياء الأبكار
المانع لهنّ من التقدّم ، فيكون ذلك فارقاً بينه وبين غيره ، فبطل به دعوى
الأولويّة فيكون التعدّي من القياس الباطل.
واستدلّ
لاشتراط تقديم الإيجاب بوجوه ، أشار إليها في مفتاح الكرامة :
منها : الأصل
عدم العقد ، فإنّه قبل وقوع ما قدّم فيه القبول لم يكن العقد متحقّقاً ،
__________________
فإذا وقع يشكّ في تحقّقه ، والأصل يقتضي عدمه.
ومنها : الأصل
بقاء الملك ، فإنّه قبل وقوع ما ذكر كان كلّ من مالي البائع والمشتري ملكاً له ،
فإذا وقع يشكّ في بقائه ، والأصل يقتضي بقاءه.
ومنها : أنّ
القبول إضافة ، فلا يصحّ تقدّمها على أحد المضافين ، وتوضيحه : أنّ القبول عبارة
عن الرضا بالعوضيّة ، وهي تابعة لتمليك البائع ماله للمشتري ليكون مال المشتري
عوضاً عنه ، والقبول بمعنى الرضا بالعوضيّة إضافة بينهما فلا يتقدّم على أحدهما ،
فلا بدّ من تقديم الإيجاب المحقّق للمضافين.
ومنها : أنّ
القبول فرع للإيجاب ، فلا يعقل تقدّمه عليه.
وهذه الوجوه
كلّها مدخولة :
أمّا الأوّل :
فلمنع الشكّ في تحقّق العقد بما ذكر ، لما ذكرنا مراراً من أنّ العقد عبارة عن
الربط المعنوي بين شخصين فيما يتعلّق بالأموال ، والظاهر أنّ الربط لا بدّ له من
رابط ، وهو كما يمكن أن يكون هو الموجب بأن يربط ماله بمال المشتري وهو أن يملّك
ماله للمشتري ليكون مال المشتري عوضاً عنه ، فكذلك يمكن أن يكون هو المشتري بأن
يربط ماله بمال البائع وهو أن يتملّك مال البائع ليكون ماله ملكاً له عوضاً عنه ،
فالعقد يتحقّق في كلّ من صورتي تقديم الإيجاب وتقديم القبول قطعاً ، فلا معنى
لأصالة عدمه في الصورة الثانية.
وأمّا الثاني :
فلأنّه بعد ما تحقّق العقد في صورة تقديم [القبول] وصدق عليه ـ البيع بمعنى تمليك
عين للغير على وجه التعويض ـ وصدق تجارة عن تراضٍ أيضاً ، يتناوله العمومات ، وبه
يخرج عن أصالة بقاء الملك.
وأمّا الثالث :
فلما أجاب به الشهيد في حواشي القواعد على ما حكي من «أنّ العوضيّة من الامور
الإضافيّة المتعاكسة فلا مزيّة لأحدهما بالاختصاص» وحاصل مراده
أنّ العوضيّة أمر إضافي بين العوض والمعوّض ، ويتعاكس بأنّه كما يجوز أن يقال مال
المشتري عوض عن مال البائع كذلك يمكن أن يقال مال البائع عوض عن مال المشتري ،
__________________
فلا مزيّة لأحدهما على الآخر ليختصّ بالتقدّم من جهتها فيجوز التقدّم لكلّ
منهما.
وأمّا الرابع :
فأُجيب عنه بأنّ القبول عبارة عن الرضا بالإيجاب سواء تحقّق قبله أو بعده ، فإنّ
الرضا بشيء لا يستدعي تحقّق ذلك الشيء في الماضي ، إذ الإنسان قد يرضى بما
يتحقّق في المستقبل ، ففرعيّة القبول للإيجاب لا يقتضي عدم معقوليّة تقدّمه.
وردّ بأنّ
القبول ليس عبارة عن مطلق الرضا بالإيجاب بل الرضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء
نقل ماله في الحال إلى الموجب على وجه العوضيّة ، لأنّ المشتري ناقل كالبائع ،
وهذا لا يتحقّق إلّا مع تأخّر الرضا عن الإيجاب ، إذ مع تقدّمه لا يتحقّق النقل في
الحال ، فإنّ من رضي بمعاوضة ينشؤها الموجب في المستقبل لم ينقل في الحال ماله إلى
الموجب ، بخلاف من رضي بالمعاوضة الّتي أنشأها الموجب سابقاً ، فإنّه يرفع بهذا
الرضا يده من ماله وينقله إلى غيره على وجه العوضيّة.
أقول : وفيه من
التحكّم ما لا يخفى ، فإنّ المعاوضة أمر لا يتحقّق إلّا بين اثنين ، وكما أنّ
الموجب بإيجابه يقصد إنشاء نقل ماله إلى المشتري على وجه يكون مال المشتري عوضاً
عنه ولا يتحقّق المعاوضة بمجرّده حتّى يلحقه القبول ، فكذلك القابل أيضاً برضاه
يقصد إنشاء نقل ماله إلى البائع ليكون عوضاً عن مال البائع الّذي ينقله إليه في
المستقبل ولا يتحقّق المعاوضة بمجرّده حتّى يلحقه الإيجاب ، وكما أنّ نقل ماله إلى
الموجب لا يتحقّق في الحال حتّى يتحقّق المعاوضة بلحوق الإيجاب فكذلك نقل مال
الموجب في صورة تقديم الإيجاب إلى القابل لا يتحقّق في الحال حتّى يتحقّق المعاوضة
بلحوق القبول ، والفرق بين الصورتين في دعوى تحقّق نقل مال البائع في الحال في
صورة تقديم الإيجاب وعدم تحقّق نقل مال المشتري في الحال في صورة تقديم القبول
تحكّم.
وقد يجاب عن
الاستدلال بالفرعيّة المقتضية للتبعيّة ، بأنّ تبعيّة القبول للإيجاب ليس تبعيّة
اللفظ للّفظ ولا القصد للقصد حتّى يمتنع تقديمه ، وإنّما هو على سبيل الفرض
والتنزيل ، بأن يجعل القابل نفسه متناولاً لما يلقي إليه الموجب والموجب مناولاً ،
كما يقول السائل في مقام الإنشاء : أنا راضٍ بما تعطيني وقابل لما تمنحني ، فهو
متناول قدّم إنشاءه أو أخّره ، فعلى هذا يصحّ تقديم القبول ولو بلفظ قبلت ورضيت إن
لم يقم إجماع على خلافه» انتهى.
وردّ «بأنّ
الرضا بما يصدر من الموجب في المستقبل من نقل ماله بإزاء مال صاحبه ليس فيه إنشاء
نقل من القابل في الحال بل هو رضى منه بالانتقال في الاستقبال ، وليس المراد أنّ
أصل الرضا بشيء تابع لتحقّقه في الخارج أو لأصل الرضا به حتّى يحتاج إلى توضيحه
بما ذكره من المثال ، بل المراد أنّ الرضا الّذي يعدّ قبولاً وركناً في العقد» انتهى.
وفيه ما عرفت
من التحكّم ، والتوضيح بذكر المثال لبيان أنّ تبعيّة القبول للإيجاب عبارة عن
تبعيّة القابل الموجب وهي فيه تبعيّة فرضيّة جعليّة من جعل نفس القابل وفرض نفسه
متناولاً والموجب مناولاً ، وظاهر أنّ كلّ متناول تابع لمناوله كما في المثال ،
ولا يتفاوت الحال في تحقّق هذا المعنى من التبعيّة فيه بين أن يقدّم إنشاءه أو
يؤخّره أيضاً كما في المثال.
وقد أجاب عن
الاستدلال بالفرعيّة أيضاً في مفتاح الكرامة بما ملخّصه «أنّ فرعيّة القبول لا
تمنع من تقديمه على الإيجاب إلّا في لفظ قبلت وإلّا لما جاز ذلك في النكاح ، لأنّ
المنع عند قائليه لو كان عقلي والمنع العقلي لا يقبل التخصيص فوجب أن لا يجوز
تقديمه في النكاح وهو باطل بدليل الخلف لأنّ المفروض ثبوت جوازه فيه ، وهذا يكشف
عن عدم كون الفرعيّة مانعة عنه عقلاً. وأمّا في لفظ قبلت فلا نزاع فيه كما صرّح به
جماعة لا للتقديم بل لعدم صحّة هذا اللفظ ، وإنّما النزاع كما في الحاشية الميسيّة
والمسالك والروضة ومجمع البرهان ، وهو الّذي نبّه عليه في نهاية الإحكام وكشف اللثام في باب النكاح
فيما إذا أتى المشتري بلفظ ابتعت أو اشتريت أو نحو ذلك بحيث يشتمل على جميع ما
يعتبر في صحّة العقد في صورة تقديم الإيجاب فحينئذٍ يمكن أن يقال : إنّه يصير
المشتري موجباً والبائع قابلاً كما في مجمع البرهان أو يقال : إنّ
تبعيّة القبول للإيجاب إنّما هي على سبيل الفرض والتنزيل ...» إلى آخر
__________________
ما نقله من الجواب المتقدّم عن استاده.
والظاهر أنّ
نظره في عدم صحّة لفظ «قبلت» في صورة التقديم إلى عدم تحقّق معناه المقتضي
للمسبوقيّة فيكون لغواً واللفظ خال عن الفائدة. ويرد عليه : أنّه بناء منه على
لحاظ معناه اللغوي ، وهو في كلام الفقهاء في باب العقود محلّ منع ، بل القبول
المقابل للإيجاب يراد به الرضا بما أوجبه الموجب وإنشاؤه من المعنى المقصود
للمتعاقدين ، ولا ريب أنّ الألفاظ الثمانية المتقدّمة للقبول كلّها في الدلالة على
الرضا على حدّ سواء ، وإن كانت هذه الدلالة في بعضها أصرح منها في غيره كلفظ «رضيت»
ونحوه «قبلت» فقضيّة الأصل المستفاد من عمومات الصحّة جواز التقديم مطلقاً ، إلّا
أن يقوم في خصوص «قبلت» إجماع على المنع ، وهو غير ثابت حتّى ظنّاً. ونفي الخلاف
على ما في كلام الجماعة مستراب فيه فلا يفيدنا شيئاً ، لقوّة احتمال استناده إلى
لحاظ المعنى اللغوي وقد عرفت فساده.
وقد يفصّل في
المسألة ويقال «بأنّ القبول في العقود على أقسام ، لأنّه إمّا أن يكون التزاماً
بشيء من القابل كنقل مال عنه أو زوجيّة ، وإمّا أن لا يكون فيه سوى الرضا
بالإيجاب.
والأوّل على
قسمين ، لأنّ الالتزام الحاصل من القابل إمّا أن يكون نظير الالتزام الحاصل من
الموجب كالمصالحة ، أو متغايراً كالاشتراء ، والثاني أيضاً على قسمين ، لأنّه إمّا
أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان والاتّهاب والاقتراض ، وإمّا أن لا يثبت
فيه اعتبار أمر أزيد من الرضا بالإيجاب كالوكالة والعارية وشبههما ، وتقديم القبول
على الإيجاب لا يكون إلّا في القسم الثاني من كلّ من القسمين» انتهى.
ومحصّله : عدم صحّة تقديم القبول في الرهن والقرض والهبة والصلح ، وصحّته في سائر
العقود اللازمة والجائزة.
واستدلّ قبيل
ذلك على عدم صحّته في الرهن «بأنّ اعتبار القبول فيه من جهة تحقّق عنوان المرتهن ،
ولا يخفى أنّه لا يصدق الارتهان على قبول الشخص إلّا بعد تحقّق الرهن ، لأنّ
الإيجاب إنشاء للفعل والقبول إنشاء للانفعال ، ثمّ قال : وكذا القول في الهبة
والقرض ، فإنّه لا يحصل من إنشاء القبول فيها التزام بشيء ، وإنّما يحصل به الرضا
__________________
بفعل الموجب ، ونحوها قبول المصالحة المتضمّنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض»
يعني أنّ طريق الاستدلال المذكور يجري في الكلّ فيكون الإيجاب في كلّ واحد
إنشاءً للفعل والقبول إنشاءً للانفعال حتّى المصالحة الغير المشتملة على العوض
الّتي هي بالنسبة إلى ما في الذمّة في معنى الإبراء والإسقاط ، وبالنسبة إلى العين
الخارجيّة في معنى الهبة الغير المعوّضة ، فإنّ إيجاب المصالح فيه إنشاء للفعل وهو
الإسقاط وقبول المتصالح فيه إنشاء للانفعال وهو قبول الأثر قبالاً للفعل بمعنى
التأثير ، ولذلك يكون في كلّ واحد من الامور المذكورة رضاً بالإيجاب على وجه
المطاوعة الّذي هو أيضاً عبارة عن قبول الأثر.
وأمّا المصالحة
المشتملة على العوض فاستدلّ لعدم تقديم القبول «بأنّه لمّا كان ابتداء الالتزام
بها جائزاً من الطرفين وكان نسبتها إليهما على وجه سواء وليس الالتزام الحاصل من
أحدهما أمراً مغايراً للالتزام الحاصل من الآخر كان البادئ منهما موجباً لصدق
الموجب عليه لغة وعرفاً» انتهى. ومحصّله : أنّ كلّ من تقدّم من المتصالحين
بالإنشاء كان هو الموجب وكان المتأخّر منهما قابلاً ، فلا يعقل لقبوله تقديم مع
بقائه على وصف القبوليّة.
ولا يخفى ما في
هذا التفصيل من التمحّل والتحكّم وما في دليله من التكلّف والتجشّم ، فإنّ القبول
في جميع العقود اللازمة والجائزة عبارة عن الرضا بالإيجاب ، غاية الأمر أنّه قد لا
يتضمّن التزاماً بشيء من القابل للموجب كما في الرهن والهبة بغير عوض والمصالحة
الغير المشتملة على العوض والوكالة والعارية ، وقد يتضمّن التزاماً منه بشيء
للموجب كنقل مال إليه على وجه العوضيّة كما في البيع ، أو عوضاً على وجه الشرطيّة
كما في المصالحة المشتملة على العوض ، والهبة المعوّضة والنكاح بالنسبة إلى المهر.
وإرجاعه في بعضها كالرهن والقرض والهبة والصلح بغير عوض إلى الانفعال واعتبار
عنوان المطاوعة فيه لأجل ذلك اعتبار صرف لم يدلّ دليل على ثبوت ذلك الاعتبار في
الشرع. واصطلاح محض لا يترتّب عليه ثمرة في الفروع ، إذ الانفعال
__________________
بالمعنى الحقيقي المصطلح عليه عند أهل المعقول عبارة عن التأثّر الّذي يقال
له «قبول الأثر» قبالاً للفعل الّذي يقال له «التأثير» وهذا التأثّر يترتّب على
الفعل بمعنى التأثير قهراً من غير تأثير من المنفعل ولا اعتبار أمر وجودي من قبله
كما في الكسر والانكسار. والانفعال بهذا المعنى ممّا لا يمكن تحقّقه في شيء من
العقود ، لأنّ الأثر المقصود منها أثر يترتّب على المجموع من الإيجاب والقبول ولا
يكفي فيه أحدهما ، وكما أنّ الإيجاب إنشاء للمعنى المقصود في العقد وهو فعل للموجب
فكذلك القبول إنشاء للرضا بما أوجبه الموجب وهو فعل للفعل والأثر
المقصود يترتّب على مجموع هذين الفعلين ولا يكفي فيه أحدهما ، فجعل أحدهما فعلاً
دون الآخر بجعله انفعالاً تحكّم ، لما عرفت من أنّه أيضاً فعل وليس فيه انفعال
بالمعنى المذكور إلّا أن يجعل تسميته انفعالاً اصطلاحاً آخر غير ما ذكر فلا مشاحّة
في الاصطلاح ، ولكنّه اصطلاح لا يترتّب عليه ثمرة في الفروع.
ودعوى : أنّ
ثمرته عدم جواز تقديم القبول في العقود المذكورة ، يدفعها : أنّ الدليل الّذي
استدلّ على هذا الحكم في هذه العقود ـ وهو أنّ اعتبار القبول في الرهن إنّما هو من
جهة تحقّق عنوان المرتهن ولا يصدق الارتهان إلّا بعد تحقّق الرهن ، لأنّ الإيجاب
إنشاء للفعل والقبول إنشاء للانفعال ونحوه القرض والهبة ـ مختلّ الوضع ، فإنّ
الأثر المقصود في الرهن مثلاً وهو كون العين المرهونة وثيقة بإزاء دين المرتهن بعد
حصوله وترتّبه على مجموع الإيجاب والقبول لزمه صدق كلّ من الارتهان والراهن
والمرتهن دفعة واحدة وفي زمان واحد من غير ترتّب بينها ، فجعل عنوان المرتهن
متأخّراً في تحقّقه عن عنوان الارتهان كجعل تحقّقه متأخّراً عن تحقّق الرهن
مكابرة.
وأمّا ما ذكره
في وجه عدم تقدّم قبول المصالحة المشتملة على العوض من «أنّ الالتزام المقصود فيها
متساوي النسبة إلى المتصالحين فيكون البادئ منهما موجباً وغيره قابلاً ...» الخ
ففيه : أنّ الفرق بين البيع والمصالحة أنّ العوض في الأوّل الّذي هو الثمن داخل في
الماهيّة ومقوّم لها ، والعوض المعتبر في الثاني وهو مال المصالحة
__________________
خارج عن الماهيّة ويكون اعتباره فيه على وجه الشرطيّة ، فالقابل فيه من
اعتبر في المال المنتقل عنه إلى صاحبه العوضيّة على وجه الشرطيّة ويقال له «المتصالح»
فإن تأخّر عن الموجب في الإنشاء كان قبوله عبارة عن إنشاء الرضا بما تحقّق من
الموجب وهو المصالح من نقل ماله إليه على أن يكون ما يخرج عنه من مال المصالحة
عوضاً عنه ، وإن تقدّم عليه في الإنشاء كان قبوله عبارة عن إنشاء الرضا بما يتحقّق
من الموجب من نقل له إليه على أن يكون ما يخرج عنه من مال المصالحة عوضاً عنه ،
فهو المتصالح في الصورتين فيجوز كلّ من التأخّر والتقدّم في قبوله ، فدعوى عدم
تصوّر تقديم فيه مع بقائه على وصف القبوليّة مكابرة.
وبالجملة تشخيص
القابل عن الموجب في الصلح والبيع وغيرهما أمر عرفي منوط باعتبار المتعاقدين كما
اعترف به المفصّل في جملة كلام له بعيد التفصيل المذكور قائلاً : «بأنّ مغايرة
الالتزام في قبول البيع لالتزام إيجابه اعتبار عرفي ، فكلّ من التزم بنقل ماله على
وجه العوضيّة لمال آخر يسمّى مشترياً ، وكلّ من نقل ماله على أن يكون عوضه مالاً
من آخر يسمّى بائعاً. وبعبارة اخرى كلّ من ملّك ماله غيره بعوض فهو البائع ، وكلّ
من ملك مال غيره بعوض ماله فهو المشتري ، وإلّا فكلّ منهما في الحقيقة يملّك ماله
غيره بإزاء مال غيره ، ويملك مال غيره بإزاء ماله» .
وقد يجعل
الضابط في تشخيص المشتري من البائع مقرونيّة سلعته في العقد بباء المقابلة ،
فالمشتري في مثل «بعتك داري بدارك وقبلت دارك بداري» هو مالك الدار الثانية
المقرونة بالباء.
المسألة
الثانية : في اشتراط الموالاة بين الإيجاب والقبول ، وهذا الشرط كما قيل لم يذكره
الأكثرون وإنّما ذكره جماعة أوّلهم الشيخ في المبسوط في باب الخلع
وتبعه العلّامة في جملة من كتبه وبعده الشهيدان والمحقّق الثاني
والفاضل المقداد. وقد يعبّر عن الموالاة باتّصال القبول
بالإيجاب ، ويفسّران بأن لا يتخلّل بينهما سكوت
__________________
ولا كلام. وقد يقيّد السكوت بالطويل ، فلا يضرّ القليل كمقدار نفس ونحوه.
وعن المحقّق الثاني تقييد الكلام بكونه «أجنبيّاً» وإن قلّ ولو نحو ذكر سبحان الله
، خلافاً لبعض العامّة كالشافعي فقال : «بأنّه لا يضرّ قول الزوج بعد الإيجاب :
الحمد لله والصلاة على رسول الله قبلت نكاحها» واحترز بالتقييد عن غير الأجنبيّ وهو ما يرتبط بالعقد
كوصف الثمن أو المثمن وشرط الخيار وشرط التعجيل في ردّ الثمن أو تسليم المثمن وضرب
الأجل أو تعيينه في النسيئة والسلم ونحوه ، فإنّه غير قادح. وقد يدّعى على ذلك
إطباقهم.
وعن قواعد
الشهيد في بيان مدرك الموالاة «وهي مأخوذة من اعتبار الاتّصال بين المستثنى
والمستثنى منه» .
واورد عليه
بأنّ الإيجاب والقبول ليسا من المستثنى والمستثنى منه ، فكيف يقال يكون موالاتهما
مأخوذة من اعتبار الاتّصال بينهما؟.
ويدفعه : عدم
كون مراده بذلك كون العقد الكلام المركّب من الإيجاب والقبول من جنس الكلام
الاستثنائي ، بل مراده كون شرط الموالاة هنا مأخوذاً من دليل شرط الاتّصال في
الكلام الاستثنائي ، ومرجعه إلى الاستدلال على الاشتراط بوحدة المناط ، فإنّ مناط
اعتبار الاتّصال بين المستثنى والمستثنى كون المركّب منهما كلاماً واحداً فيعتبر
عرفاً فيه هيئة اتّصاليّة ، فإذا تخلّل بينهما سكوت طويل أو كلام أجنبيّ زالت
الهيئة الاتّصاليّة فلم يرتبط المستثنى بالمستثنى به فيكون لغواً ، وهذا المناط
جارٍ في العقد المركّب من الإيجاب والقبول فإنّه أيضاً يعدّ في نظر العرف كلاماً
واحداً وإن قام جزءاه بشخصين ، فيعتبر فيهما عند العرف هيئة اتّصاليّة ، والسكوت
الطويل أو الكلام الأجنبيّ يخلّ بها فلا يرتبط القبول بالإيجاب فيكون لغواً. وقد
يجعل ذلك من باب الجواب المعتبر عرفاً اتّصاله بالسؤال ، فلو تخلّل بينهما سكوت
طويل أو كلام أجنبيّ لم يرتبط الجواب بالسؤال ، وكذلك القبول بالنسبة إلى الإيجاب
، والمراد به أيضاً كونه بمنزلته لوحدة المناط لا كونه جواباً على الحقيقة.
__________________
ثمّ إنّه لا
يدرى أنّ الموالاة عند معتبريها هنا هل هي معتبرة في الموضوع فلا يصدق العقد ولا
البيع ولا التجارة على ما لم يتّصل قبوله بإيجابه فلا يتناوله أدلّة الصحّة من
قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و
«أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» و
«إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» أو أنّها معتبرة في الحكم أعني الصحّة وترتّب الأثر إمّا
بدعوى عدم الدليل عليها بناءً على انصراف أدلّتها إلى المتعارف الشائع وقوعه وهو
ما اتّصل قبوله بإيجابه أو بدعوى الدليل على عدم الصحّة فلا بدّ أن يكون الدليل لو
كان بحيث ينهض لتخصيص العمومات المذكورة؟ احتمالات :
منشأها اختلاف
كلمة المتعرّضين للمسألة واختلاف مؤدّيات الوجوه المتمسّك بها لاعتبار هذا الشرط ،
فإنّ قضيّة التمسّك بكون الإيجاب والقبول كالمستثنى والمستثنى منه أو كالجواب
والسؤال في كون العقد المركّب منهما كلاماً واحداً عند العرف ويعتبر فيه عندهم
صورة اتّصاليّة والفصل بينهما تخلّ بالهيئة الاتّصاليّة وبعد فواتها لا يرتبط
القبول بالإيجاب فيلغو فلا يكون مفيداً ، كونها معتبرة في الموضوع ، إذ معنى عدم
كونه مفيداً عدم إفادته بعد اللغويّة لتحقّق العقد أو البيع أو التجارة عن تراضٍ.
وقضيّة التمسّك
بانصراف أدلّة الصحّة إلى المعهود المتعارف دون غيره وليس إلّا ما اتّصل قبوله
بإيجابه لأنّه الغالب وجوده والشائع وقوعه في جميع الأمصار والأعصار حتّى زمان
صدور الخطاب وما لم يتّصل قبوله بإيجابه نادر فلا يتناوله أدلّة الصحّة ، كونها
معتبرة في الحكم ، مع كون الجهة في اعتبارها فيه عدم الدليل على الصحّة بدونها.
وقضيّة التمسّك
بأنّ العقد يعتبر فيه الصراحة ـ بأن يكون صريح الدلالة على إنشاء المعنى المقصود
من الموجب وإنشاء الرضا بما أوجبه الموجب من القابل ، ولا يكون صريحاً إلّا ما
اتّصل قبوله بإيجابه ، لأنّ القبول الغير المتّصل محتمل لغير إنشاء الرضا بما
أوجبه الموجب ، إمّا لاحتمال العدول من الموجب ، أو لاحتمال كونه رضا بما يتحقّق
من الموجب في المستقبل ، لا بما تحقّق منه في الماضي من القابل ـ كونها معتبرة في
الحكم ، لقيام الدليل على عدم الصحّة بدونها ، وهو أنّ الشرط ينتفي بانتفائه.
غير أنّ هذا
الوجه الأخير أضعف الوجوه المتمسّك بها هنا ، لمنع صغراه تارةً إمّا لعدم اطّراد
احتمال العدول في الموجب ، أو لعدم اطّراد احتمال قصد إنشاء الرضا
بما يتحقّق كما لو اخذ في عبارة القبول ما يوجب كونه صريحاً في الرضا بما
تحقّق. ومنع كبراه اخرى إمّا لعدم اعتبار الصراحة في الصحّة كما اخترناه في محلّه
المتقدّم بل هي معتبرة في اللزوم ، أو لأنّ الصراحة على تقدير اعتبارها في الصحّة
ـ كما تقدّم تفسيرها سابقاً ـ عبارة عن كون دلالة الصيغة على العنوان المقصود منها
بالوضع ليخرج به المجاز والكناية ، لا الصراحة بالمعنى المرادف للنصوصيّة ، وقيام
أحد الاحتمالين إن صحّ واطّرد يرفع النصوصيّة ، لا أنّه يوجب المجازيّة في صيغة
الإيجاب ولا صيغة القبول كما هو واضح ، إلّا أن يراد بالمجازيّة ما يلزم في
المركّب باعتبار الوضع التركيبي بفوات الهيئة الاتّصاليّة.
وقد يفصّل في
كونها شرطاً في الموضوع أو للحكم بين العقد أو البيع والتجارة ، فيقال : بأنّه لو
كان حكم الملك واللزوم منوطاً بصدق العقد عرفاً ـ كما هو مقتضى التمسّك بآية
الوفاء بالعقود وبإطلاق كلمات الأصحاب في اعتبار العقد في اللزوم بل الملك ـ فما
ذكر من كون الموالاة معتبرة في العقد حسن ، فإنّ المعاقدة لا يصدق إذا كان الفصل
مفرطاً في الطول كسنة أو أزيد. وإن كان منوطاً بصدق البيع أو التجارة عن تراضٍ فلا
يضرّه عدم صدق العقد ، أي لا يضرّ الحكم المنوط بصدق البيع أو التجارة ، أو لا
يضرّ صدق البيع أو التجارة عدم صدق العقد.
وهذا غير جيّد
، لأنّ القبول إذا صار لغواً بتخلّل الفصل وغير مفيد باعتبار اللغويّة فلا يتفاوت
فيه الحال بين العقد والبيع والتجارة ، فلا يفيد تحقّق شيء من ذلك.
فالأقوى حينئذٍ
اشتراط الموالاة في الصحّة ، للوجهين الأوّلين ، ويؤيّدهما الوجه الثاني وإن كان
باعتبار كون النكتة في عدم انصراف أدلّة الصحّة إلى ما لم يتّصل قبوله بإيجابه عدم
تحقّق موضوع العقد ولا البيع ولا التجارة ليتناوله العمومات والإطلاقات.
ثمّ إنّه كما
أنّ مدرك اعتبار الموالاة هو العرف فتحديدها أيضاً موكول إلى العرف ، فالسكوت
الغير المفرط كمقدار نفس وما يقرب منه وكذلك السعال والعطاس والكلام الأجنبيّ في
غير مدّة طويلة كما لو قال «اسقني» وما أشبه ذلك غير مضرّ في نظر
__________________
العرف. ومن ثمّ قد يقال : بأنّه يجوز الفصل بين الإيجاب والقبول بما لا
يجوز بين كلمات كلّ واحد منهما ، ويجوز بين الكلمات بما لا يجوز بين الحروف كما في
الأذان والقراءة.
المسألة
الثالثة : في المطابقة بين الإيجاب والقبول الّتي عدّها من شروط صحّة العقد جماعة تبعاً للشيخ
في المبسوط وليس المراد بها المطابقة بينهما في اللفظ بحسب المادّة
بأن يكون قبول بعت ابتعت ، وقبول شريت اشتريت ، لعدم اعتبار المطابقة بهذا المعنى
قولاً واحداً ، فيجوز اشتريت في قبول بعت ، وابتعت في قبول شريت ، وفي النكاح قبلت
النكاح في قبول زوّجت ، وقبلت التزويج في قبول أنكحت. بل المراد به ورود القبول
على ما ورد عليه الإيجاب على الوجه الّذي ورد.
وبعبارة اخرى
أن يعتبر في مورد القبول ثمناً ومثمناً ومشترياً كلّما اعتبره الموجب في مورد
إيجابه ذاتاً ووصفاً وشرطاً وكمّاً وزماناً ومكاناً وغير ذلك من القيود
والخصوصيّات. فلو قال البائع «بعتك داري بمائة» لم يصحّ الجواب بأنّه «اشتريتها
لموكّلي» ولو قال «بعت موكّلك» لم يصحّ الجواب بأنّه «اشتريتها لنفسي» ولو قال «بعتك
العبد» لم يصحّ الجواب بـ «اشتريت الجارية» ولو قال «بعت الجارية الحبشيّة» لم
يصحّ الجواب بـ «اشتريت الروميّة» ولو قال «بعتك الفرس بمائة» لم يصحّ الجواب بـ «اشتريت
الفرس والحمار بمائة» ولو قال «بعتك الفرس بمائة دينار» لم يصحّ الجواب بـ «اشتريته
بألف درهم» ولو قال «بعته بعشرة دراهم» لم يصحّ الجواب بـ «اشتريته بدينار» ولو
قال «بعته بمائة» لم يصحّ الجواب «بخمسين».
والأصل في هذا
الشرط أنّ القبول عبارة عن الرضا بما أوجبه الموجب ، ولا يتحقّق إلّا مع المطابقة
، إذ مع عدمها كان رضا بغير ما أوجبه.
وقد يقرّر
الدليل بأنّ قضيّة آية التجارة عن تراضٍ كون التراضي شرطاً في الصحّة ، وهو تفاعل
يعتبر في صدقه حصول الرضا من الجانبين ، فإذا ورد القبول على غير ما ورد عليه
الإيجاب فقد رضي القابل بغير ما رضي به الموجب ، فلم يتحقّق التراضي
__________________
ولزمه الفساد.
وقد يستدلّ
أيضاً بعدم شمول أدلّة الصحّة ، لعدم صدق [العقد] ولا البيع على ما لم يطابق قبوله
لإيجابه فيبقى تحت الأصل المقتضي للفساد. أمّا عدم صدق العقد فلأنّ الربط المعنوي
غير حاصل فيما لو قال البائع «بعتك هذا الفرس بمائة» فقال المشتري «اشتريت الحمار
بمائة» ولا فيما لو قال البائع «بعتك هذين العبدين بمائة» فقال المشتري «اشتريت
أحدهما بخمسين» ولا فيما لو قال «بعتك هذا بشرط كذا بكذا» فقال المشتري «اشتريته
لا بشرط كذا».
ولا يفرّق في
ذلك بين كون البعض ممّا يباع في ضمن الكلّ تبعاً كرجل الفرس مثلاً أو أصالة كنصف
الدار أو إحدى الصفقتين ، وأمّا ما يرى من الصحّة في البعض في مسألة تبعّض الصفقة
كما لو باع مملوكاً وغير مملوك ـ كالشاة مع الكلب أو الخنزير ـ فيصحّ في المملوك
دون غيره فإنّما هو بدليل من الخارج ، وإلّا فمقتضى القاعدة عدم الصحّة فيه أيضاً.
وأمّا عدم صدق
البيع فلأنّه لو قال المشتري «اشتريت أحد هذين» أو «اشتريت الحمار» أو «اشتريته
بمائة» بعد ما أوجب البائع في المجموع أو في الفرس أو بألف لا يقال إنّه باع ذلك
أو باع بكذا ، فما أوجبه الموجب في الصور المذكورة ونظائرهما لم يقبله القابل ،
وما قبله القابل لم يوجبه الموجب ، فلم يتحقّق بينهما ربط ولا بيع ولا تجارة ،
وإذا انتفى الصدق انتفى شمول الأدلّة من قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و
«أَحَلَّ اللهُ» و
«إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» وقضيّة ذلك بقاء كلّ في ملك صاحبه وعدم حصول نقل ولا
انتقال.
ثمّ إنّ هاهنا
فروعاً كثيرة ينبغي الاطّلاع عليها ، فلو قال «بعتك هذين بمائة» واتّحدا جنساً
وتساويا قيمة فقال المشتري «اشتريت أحدهما بخمسين» لم يصحّ من جهة الجهالة في
المبيع ومن جهة عدم المطابقة ، فإنّ الإيجاب وقع على المجموع بإزاء المجموع ،
وربّما يكون في الانضمام غرض للموجب وهو غير حاصل مع عدم الانضمام. ولو قال «اشتريت
هذا بعينه بخمسين» يفسد بالجهة الثانية ، ولو قال البائع «بعتك إيّاهما هذا بخمسين
وهذا بخمسين» فقبل أحدهما بخمسين أو هذا بخمسين لم
يصحّ من الجهتين في الاولى ومن الثانية في الثانية ، ولو قال المشتري «اشتريت
أحدهما بستّين أو أربعين» فسد من الجهتين مضافاً إلى جهة ثالثة ، وهي عدم كون
الثمن ممّا ذكر في الإيجاب فيكون قبولاً لما لا إيجاب فيه.
نعم لو قال «بعتك
هذا بخمسين ، وهذا بخمسين» فقبل أحدهما المعيّن صحّ في جميع الجهات ، ولو قبل
أحدهما لا بعينه احتمل الصحّة والأقرب الفساد ، لعدم ورود القبول على ما ورد عليه
الإيجاب من المتعيّن. والقاعدة في القيميّات تقتضي اعتبار التعيين ، ولو اشترى نصف
الصفقة مشاعاً بأن يقبل نصفها على سبيل الإشاعة بنصف الثمن المسمّى في الإيجاب
احتمل الصحّة فيحصل الشركة ، والأقرب خلافه لعدم المطابقة.
وممّا ذكر
تبيّن حال غير المتحدين جنساً وغير متساوي القيمة مع اتّحاد الجنس ، فإنّ عدم
المطابقة فيهما أولى بالقدح من المتحدين المتساويين ، فلو جمع بين الدار والثوب مع
تساويهما قيمة فقال «بعتك إيّاهما بألف» فقال المشتري «قبلت أحدهما بخمسمائة ، أو
قبلت هذا بخمسمائة» لم يصحّ للجهالة وعدم المطابقة في الأوّل ، ولعدم المطابقة في
الثاني. فلو قال «بعتك إيّاهما بمائة» ولكن قيمة أحدهما تساوي سبعين والآخر ثلاثين
فقال «قبلت أحدهما بسبعين أو ثلاثين أو قبلت هذا بسبعين أو ذلك بثلاثين» لم يصحّ
إمّا للجهالة في المبيع والثمن أو في أحدهما أو لعدم المطابقة في الجميع.
ولو قال في
المثليّات «بعتك برطلين من الصبرة بمائة» فقال «قبلت رطلاً بخمسين أو أربعين أو
ثلاثين» لم يصحّ أمّا في الأوّل لعدم المطابقة ، وفي الأخيرين له ولعدم تعيّن
الثمن في العقد. ولو قال «بعتك رطلين أحدهما بخمسين والآخر بستّين» فقال «قبلت
أحدهما» لم يصحّ ، وكذلك لو قال «قبلت هذا» لعدم المطابقة. ولو قال «بعتك رطلاً
بخمسين ورطلاً آخر بخمسين» مثلاً فقبل أحدهما بأحدهما صحّ لعدم المنافاة. وكذلك في
القيميّات مع تساوي القيمة ، كما لو قال «بعتك إيّاهما هذا بخمسين وهذا بخمسين»
فقال «اشتريت هذا بخمسين».
ومن الفروع ما
وقع فيه نوع اختلاف في كلامهم وإن صار الكلمة بالأخرة واحدة ، مثل أنّه لو قال «بعتك
هذين بألف» فقال «قبلت أحدهما بخمسمائة» صرّح جماعة
__________________
بعدم الصحّة ، وعن جامع المقاصد احتمال الصحّة «لأنّه في قوّة عقدين» وردا
على شيئين فقبل المشتري أحدهما. وفيه ضعف لا يخفى على المتأمّل ، كما تنبّه هو
عليه أيضاً لأنّ الإيجاب وقع على المجموع ، وقد يكون للبائع غرض في الانضمام لم
يحصل مع الانفراد فلا تراضي.
ومثل أنّه لو
قال «بعتكما هذا بألف» فقال أحدهما «قبلت نصفه بنصف الثمن» فصرّح جماعة بأنّه لم يقع
، وعن التذكرة أنّه استشكل فيه ثمّ قرب الصحّة وثبوت الخيار للبائع ،
وعن المختلف «أنّهما الأقوى» أمّا الصحّة فلأنّ البائع إنّما قصد تمليك كلّ واحد
منهما نصف المبيع وقد أتى باللفظ الدالّ عليه وضعاً فيجب الحكم بالصحّة ، كما لو
قال «بعتكما هذا العبد بألف نصفه مثلاً بخمسمائة ونصفه الآخر بخمسمائة» وأمّا ثبوت
الخيار فلأنّ البائع قصد تمليك كلّ واحد بشرط تملّك آخر فإذا فقد الشرط وجب له
الخيار.
وفيه : أنّ
التراضي بالنسبة إلى البائع حصل في المجموع بالمجموع ومع عدم المطابقة لا تراضي ،
فإنّ في الانضمام غرضاً له وهو لا يحصل مع الانفراد فلا رضا له ، ولا ينتقض ببيع
ما يملك وما لا يملك كالشاة والكلب ، حيث إنّه يصحّ في الأوّل ويفسد في الثاني
بحصول التراضي منهما في المجموع وحصول السبب المؤثّر بتمامه من الإيجاب والقبول مع
التطابق بينهما بالنسبة ، وانتفاء الصحّة في البعض إنّما هو من جهة انتفاء شرط
التأثير بالنسبة إلى ذلك البعض لا من جهة انتفاء المطابقة.
المسألة
الرابعة : في اشتراط العقد بالتنجيز ، وهو أن لا يكون معلّقاً على شيء بأداة
الشرط ، فالتعليق مبطل له في العقود اللازمة والجائزة ، ذكره الشيخ والحلّي في
المبسوط والسرائر والعلّامة في القواعد والنهاية والشهيدان في
القواعد وتمهيد القواعد والمحقّق الثاني وفخر الدين في جامع المقاصد وشرح الإرشاد
__________________
ونسب إلى جميع من تأخّر عن العلّامة ، ونسبه في التذكرة إلى علمائنا
مؤذناً بدعوى الإجماع عليه في باب الوكالة ، وعن تمهيد القواعد دعوى الإجماع
على عدم صحّة تعليق العقود على شرط ، قيل وقد تلوح هذه الدعوى عن كاشف اللثام وعن فخر الدين
في باب الوكالة من شرح الإرشاد «أنّ تعليق الوكالة على الشرط لا يصحّ عند
الإماميّة وكذا غيره من العقود لازمة كانت أو جائزة» قيل وظاهر
المسالك في مسألة اشتراط التنجيز في الوقف «الاتّفاق عليه» والظاهر عدم
الخلاف فيه كما اعترف به غير واحد.
والمراد بالشيء
المعلّق عليه في معقد كلامهم على ما صرّح به جماعة أعمّ ممّا كان متوقّع الوقوع في
المستقبل بحيث يحتمل عدمه كما لو قال : بعتك هذا بكذا إن قدم الحاج أو إن جاء زيد
وما أشبه ذلك ويسمّى شرطاً ، وما كان متيقّن الوقوع فيه كما لو قال : بعتك هذا
بكذا إن طلعت الشمس أو إن دخل يوم الجمعة ونحو ذلك ويسمّى صفة ، وهما اصطلاحان لهم
في هذا المقام وإلّا فهما بكليهما على الاصطلاح الاصولي مندرجان في الشرط ، ولعلّ
المراد من الشرط في معقد إجماعي التمهيد وشرح الإرشاد ما هو بحسب الاصطلاح الاصولي
أعني ما يعمّ القسمين. وقد اضطربت كلمتهم في جهة المنع فالمستفاد من أكثرها صراحة
وظهوراً أنّ المنع شرعي ثبت بالإجماع ، ومعناه أنّ التنجيز في العقود شرط تعبّدي
ثبت بالإجماع على مانعيّة التعليق من الصحّة.
وقد يستشمّ من
بعضهم كون المنع عقليّاً ، ومن ذلك ما عن القواعد والتمهيد للشهيدين من
تعليل عدم الصحّة «بأنّ الانتقال مشروط بالرضا ولا رضا إلّا مع الجزم ولا جزم مع
التعليق لأنّه معرضة عدم الحصول ، قالا : ولو قدّر علم حصوله كالمعلّق على الوصف
الّذي يعلم حصوله عادةً كطلوع الشمس ، لأنّ الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه
وأفراده اعتباراً بالمعنى العامّ دون خصوصيّات الأفراد كما في نظائرها من
__________________
القواعد الكلّيّة المعلّلة بامور حكميّة تتخلّف في بعض مواردها الجزئيّة».
أقول : الحقّ
أنّ المنع شرعي لكن لا بالبيان المذكور بل ببيان آخر موافق للتحقيق والنظر الدقيق
، وهو أنّ التعليق يخرج الصيغة في الإيجاب والقبول عن مقتضى الوضع الشرعي ، فإنّ
مقتضى الوضع الشرعي في صيغتي الإيجاب والقبول أن يقصد الموجب بصيغة «بعتك» مثلاً
إيجاد المعنى المقصود أعني نقل ملك العين ، والقابل بصيغة «قبلت» مثلاً إيجاد
الرضا بما أوجبه الموجب ، بحيث يكون السبب التامّ المؤثّر في وجود المعنى المقصود
الّذي يقال له ترتّب الأثر نفس الصيغتين ، ولذا يقال للعقود والإيقاعات أنّها
أسباب شرعيّة قرّرها الشارع ، وإطلاق السبب على الصيغة شائع في كلامهم ، والتعليق
بأحد الوجهين يخرجها عن كونها سبباً ومؤثّراً إلى جعل الشيء المعلّق عليه سبباً
مؤثّراً في وجود المعنى المقصود.
والأصل في ذلك
ما حقّق في الاصول من أنّ الجملة الشرطيّة بما اخذ فيها من التعليق تفيد سببيّة
الشرط للجزاء ، كما في قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه أو أكرم زيداً إن جاءك ، فإنّه
يدلّ على كون مجيء زيد سبباً لوجوب إكرامه فيوجد الوجوب عند وجوده وينتفى عند
انتفائه ، وعلى هذا فقول الموجب «بعتك هذا بكذا إن قدم الحاجّ أو إن طلعت الشمس»
مع قول القابل «قبلت» يقتضي بطبعه باعتبار وضع الجملة الشرطيّة كون السبب المؤثّر
في النقل والانتقال هو قدوم الحاجّ أو طلوع الشمس لا نفس الصيغة ، وبالجملة الموجب
والقابل بما يأخذان من التعليق يقصدان السببيّة والتأثير من الشرط المعلّق عليه لا
من نفس الصيغة ، وهو خلاف الوضع الشرعي في العقود والإيقاعات ، لأنّ الشارع إنّما
جعل السبب المؤثّر نفس الصيغة لا أمراً آخر غيرها فوجب البطلان ، والظاهر أنّ هذا
هو مدرك الإجماع على عدم صحّة تعليق العقود على الشرط لازمة أو جائزة.
وبما قرّرناه
في وجه مانعيّة التعليق يعلم أمران :
أحدهما : الفرق
بين قولي الموكّل : أنت وكيلي في بيع عبدي إن دخل يوم الجمعة ، وأنت وكيلي في بيع
عبدي في يوم الجمعة ، المصرّح في كلامهم من غير خلاف بصحّة
الثاني وبطلان الأوّل ، بل العلّامة في التذكرة ادّعى الإجماع
على الحكمين لا لما ذكره جماعة من أنّ التعليق في الأوّل في أصل الوكالة وفي
الثاني في الموكّل فيه ، للعلم بأنّ المعنى المقصود في العبارتين واحد ، وهو إيقاع
البيع في يوم الجمعة ، بل لأنّه لا تعليق في الثاني بالمعنى المتقدّم ، وهو
التعليق بأداة الشرط المقتضي للسببيّة في الشرط المعلّق عليه لا في نفس الصيغة ،
فالأثر المقصود فيه وهو نيابة الوكيل أو صيرورته نائباً عن الموكّل يترتّب على نفس
الصيغة ، وقوله «في يوم الجمعة» تقييد للإذن في التصرّف ، ومفاده حصول الإذن في
هذا المقدار أعني بيع العبد في يوم الجمعة. بخلاف الأوّل فإنّه تعليق حقيقة ويصرف
الصيغة عن مقتضى وضعها الشرعي إلى جعل دخول يوم الجمعة سبباً.
وفي معنى
الثاني على ما ذكره في التذكرة أيضاً ما لو قال : أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم
الحاجّ ، بناءً على كون «إذا» للتوقيت لا شرطيّة. وفي معناه أيضاً ما لو قال :
وكّلتك في بيع العبد ولا تبعه إلّا في يوم الجمعة ، كما ذكره فيها وصرّح بكونه
صحيحاً. وقد يحكى عنه دعوى الإجماع على عدم صحّة ما لو قال : أنت وكيلي ولا تبع
عبدي إلّا في يوم الجمعة ، ولم نجده في التذكرة ، ولعلّه منقول عن كتاب آخر له.
وعن جماعة الاعتراف في
توجيه عدم الصحّة فيه بأنّه في معنى التعليق ، وهذا واضح المنع ، إذ لا مقتضي فيه
للتعليق ، بل الظاهر أنّ وجهه أنّ قوله «أنت وكيلي» لا يكفي في انعقاد الوكالة
فيبطل لعدم ذكر الموكّل فيه معه ، وقوله «ولا تبع ...» الخ لا يصلح كونه تعرّضاً
لذكر الموكّل فيه لأنّ واو الاستئناف يقطع ما بعدها عمّا قبلها فلا يرتبط ذلك
بسابقه ، وإن كان الاستثناء من المنع يفيد الإذن إلّا أنّه أيضاً لا يكفي في
انعقاد الوكالة ، لوضوح الفرق بين الإذن في التصرّف مطلقاً وبين الوكالة. ويظهر
الفائدة في الأحكام الخاصّة بالوكالة فإنّها لا تجري في مطلق الإذن.
وثانيهما : وجه
استثناء التعليق على ما هو من أركان العقد أو شرائط مورده من المبيع أو الثمن أو
البائع أو المشتري مثلاً ، كما لو قال : إن كان هذا لي أو ملكي فبعته
__________________
بكذا ، أو بعتك إيّاه بكذا إن قبلت أو إن رضيت ، وإن كنت وليّاً على هذه
الصغيرة فزوّجتها منك على مهر كذا ، وإن كان هذا عبدي فبعته بكذا أو فهو حرّ ، وإن
متّ فاعطوا فلاناً كذا أو ثلث مالي له ، وإن كانت هند زوجتي فهي طالق ، وإن كان
هذا ملكي فقد وقفته على كذا ، إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي يلوح من عباراتهم في
أبواب متفرّقة عدم خلافهم في عدم قدح هذا التعليق ، بل ربّما وقع في بعض كلماتهم
في بعض الأمثلة دعوى الإجماع.
فأصل الحكم
ممّا لا إشكال فيه ، بل الكلام في وجه الفرق بين الموارد المستثناة والمستثنى منه.
وقد يقال في
الفرق : إنّ الموجود في الموارد المذكورة هو التعليق على الواقع في الحال وهو غير
قادح ، وهو في المستثنى منه تعليق على ما يقع في المستقبل وهو القادح. وفيه ما لا
يخفى ، فإنّا نطالبهم بلمّ هذا الفرق وسرّه ، والسرّ فيه أنّ التعليق في الموارد
المستثناة تعليق صوري ، لأنّ كون المعلّق عليه ركناً في العقد أو شرطاً في مورده
أو جزءاً للسبب يصرف الجملة الشرطيّة عن اقتضاء سببيّة الأمر المعلّق عليه ، فيبقى
نفس الصيغة على مقتضى وضعها الشرعي ، والأصل ـ فيما ذكرناه ما تقرّر في الاصول
أيضاً ـ في مثل إن قبضت في المجلس صحّ الصرف ، من أنّه لا يفيد السببيّة لثبوت كون
القبض في المجلس شرطاً لصحّة الصرف فهذا قرينة تصرف الجملة الشرطيّة عمّا هي ظاهرة
فيه.
فتلخّص ممّا
ذكرنا أنّ التعليق المنافي للتنجيز المخلّ بصحّة العقد إنّما هو التعليق الحقيقي ،
لأنّه الّذي يصرف الصيغة في العقد أو الإيقاع عن مقتضى وضعها الشرعي ، لا التعليق
الصوري المتحقّق في التعليق على الأركان والشرائط وهكذا ينبغي أن يحقّق المقام وهو
فضل الله يؤتيه من يشاء.
تذنيب : لو قبض
المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان مضموناً عليه ، وهذه قاعدة ذكرها جماعة في هذا المقام
أو في باب الغصب أو في كلا البابين على
__________________
اختلاف مشاربهم. وينبغي التعرّض أوّلاً لبيان أجزاء القاعدة فمن جملتها «القبض»
والمراد منه إثبات اليد على [العين] والاستيلاء عليه بحيث يتسلّط على التصرّف فيها
كيف شاء والتقلّب به حيث أراد على حدّ ما هو معتبر في الغصب ليترتّب عليه الضمان ،
فلا يكفي فيه مجرّد التخلية بينه وبين العين وإن لم يتمكّن من التصرّف فيه أو لم
يثبت يده عليه ، ولا بدّ أن يكون المقبوض عيناً شخصيّة سواء كانت بنفسها مورداً
للعقد أو كان قبضها منوطاً بالمعاملة الوفائيّة عن الكلّي.
و «المشتري»
مثال أو مراد منه ما يعمّ البائع وهو المدفوع إليه المال ثمناً كان أو مثمناً ، إذ
الحكم لا يختصّ بالمشتري بمعناه الأخصّ بوحدة المناط واتّحاد الطريق.
في المقبوض
بالعقد الفاسد والمراد بـ «العقد الفاسد» ما حكم بفساده شرعاً ، إمّا في أصله كما
لو كان الفساد لاختلاف شرط من شروط الصحّة سواء كانت من شروط الصيغة أو المتعاقدين
أو العوضين ، أو لفساد شرط مأخوذ في متنه ، أو لسبب آخر كما لو كان فضوليّاً ولم يلحقه
إجازة المالك بل لحقه ردّه.
وقد ذكر
الأصحاب في هذه القاعدة حكمين ، أحدهما : أنّ القابض لا يملك العين المقبوضة ،
ووجهه واضح لا يحتاج إلى البيان ولا إلى إقامة دليل ، فإنّ الفساد المفروض للعقد
معناه عدم دخول العين المقبوضة في ملك القابض. وأمّا الضمان فله في كلام الأصحاب
إطلاقات ، فقد يراد منه اشتغال الذمّة بمثل مال أو قيمته كما في الإتلاف يقال : إنّ
المتلف يضمن المثل أو القيمة ، وقد يراد منه وجوب ردّ المال بعينه أو بمثله أو
بقيمته كما في ضمان الغاصب حيث يجب عليه ردّ العين مع بقائها أو مثله أو قيمته مع
تلفها ، وقد يراد منه التعهّد بمال من غير مشغول به وهو بهذا المعنى عقد مستقلّ
ومعاملة برأسها.
وقضيّة كون ردّ
العين على تقدير البقاء أولى بالوجوب من ردّ المثل أو القيمة في صورة التلف أن
يكون المراد به في المقام هو المعنى الثاني ، خصوصاً على مقتضى كلام من جعل المقبوض
بالعقد الفاسد كالمغصوب ، ومنه ما عن السرائر من «أنّ البيع الفاسد يجري عند
المحصّلين مجرى الغصب في الضمان» .
__________________
وقضيّة كون
وجوب ردّ العين في صورة البقاء من أحكام ملك العين وعدم دخولها بالعرض في ملك
المشتري فلا كلام لأحد في وجوبه بل الكلام والخلاف لو كان فإنّما هو في وجوب ردّ
المثل أو القيمة على تقدير التلف أن يكون المراد به المعنى الأوّل ، ولذا فسّره
بعض مشايخنا بكون تلفه عليه.
ثمّ إنّ القابض
مع الدافع إمّا جاهلان بالفساد ، أو عالمان به ، أو القابض جاهل والدافع عالم ، أو
بالعكس.
والقول بالضمان
في جميع الصور الأربع لجماعة منهم الشيخان في المقنعة والنهاية والمبسوط والخلاف والفاضلان في
الشرائع وجملة من كتب العلّامة وغيرهما ممّن تأخّر
عنهما نظراً إلى إطلاق كلامهم ، بل قيل : هو المعروف حتّى أنّه لم نقف ممّن قبل
ثاني الشهيدين في المسالك من احتمل خلاف الضمان في شيء من صور المسألة.
نعم هو في
الكتاب احتمل في صورتي علم الدافع عدم الضمان احتمالاً ، ثمّ عدل بعده إلى القول
بالضمان في جميع الصور ، لأنّه قال عند شرح عبارة الشرائع : «لا إشكال في ضمانه
إذا كان جاهلاً بالفساد ، لأنّه أقدم على أن يكون مضموناً عليه فيحكم عليه به وإن
تلف بغير تفريط ... إلى أن قال : ولا فرق مع جهله بين كون البائع عالماً بالفساد
أو جاهلاً مع احتمال عدم الضمان لو علم لتسليطه على إتلافه مع علمه بكونه باقياً
على ملكه ، وكذا لو كانا عالمين بالفساد ، ولو كان البائع جاهلاً به والمشتري
عالماً فالضمان أولى ، والأقوى ثبوته في جميع الصور» انتهى. حتّى
عنه في كتاب الغصب إطلاق دعوى «الاتّفاق على أنّه يضمن» وعن الشيخ في باب الرهن
وفي موضع من البيع الإجماع عليه صريحاً ، وقد عرفت عن الحلّي نسبته إلى
المحصّلين
__________________
مؤذناً بدعواه ، وعن الكفاية في باب الغصب أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب.
وفي مقابل
الإطلاق المذكور ربّما فصّل في المسألة تفصيلاً ، وهو على وجوه ثلاث :
الأوّل : ما
اختاره في مفتاح الكرامة بقوله «إذا تقرّر هذا فإن كانا جاهلين بالفساد فلا إشكال
في ضمان كلّ منهما ما صار إليه لأنّه إنّما وقع الرضا بزعم الصحّة ، كما أنّه لا
إشكال في إباحة التصرّف وعدم الضمان إذا كانا عالمين بالفساد وكان من نيّتهما
المعاطاة ، وأمّا إذا علم أحدهما وجهل الآخر فلا ريب في ضمان غير الجاهل مال
الجاهل» .
الثاني : ما عن
مجمع الفائدة من أنّه قوّى في صورة الجهل عدم الضمان ، ثمّ قال : «ومع علم الآخر
أقوى» وهذا يقتضي ضمان العالم مع علم الدافع أيضاً أو مع جهله.
الثالث : ما عن
الشيخ الغروي في شرحه للقواعد ، وهو أنّ الضمان إنّما يثبت إذا كان قصدهما تعلّق
الملك بالناقلين حقيقة في الجاهلين حتّى يثبت الإقدام على الضمان من الجانبين ،
فلو خلّي من جانب واحد كان الدافع إليه مضيّعاً لماله ، وكذلك في صورة العالمين لو
أوقعا عناداً أو ابتداعاً أو اختراعاً ، تعليلاً بأنّ العقود المبتدعة المخترعة
كبيع الحصاة والملامسة والمنابذة ونحوها من المخترعات لا تثمر ملكاً ولا إباحة ولو
علم بالفساد . والظاهر أنّه يرجع إلى التفصيل الأوّل.
وإن شئت
بملاحظة ما تقدّم من تعميم المشتري بالقياس إلى البائع فعبّر عن القاعدة بأنّ
المقبوض بالعقد الفاسد مضمون على قابضه ، وهذا يتناول المعاطاة الفاسدة أيضاً ، بل
فاسد سائر العقود المعاوضيّة من الصلح والإجارة والهبة المعوّضة بل النكاح الفاسد
بالقياس إلى المهر المقبوض ، لعموم القاعدة وعدم اختصاصها بالبيع.
وأمّا مدرك
القاعدة فممّا استدلّ أو يمكن أن يستدلّ به ، وممّا هو صحيح أو غير صحيح وجوه :
الأوّل :
الإجماعات المنقولة ـ المتقدّم إلى جملة منها الإشارة ـ المعتضدة بالشهرة العظيمة
المحقّقة والمحكيّة بل ظهور الإجماع من تتبّع كلمة الأصحاب في أبواب
__________________
العقود ، فإنّها تفيد الظنّ البالغ حدّ الاطمئنان الّذي هو مناط الاستنباط
في الأدلّة الظنّيّة وبه الكفاية.
الثاني : قاعدة
الإقدام الّذي قد يعبّر عنه بقاعدة التضمين ، وقد يعبّر أيضاً بقاعدة التعويض.
وتقريرها : أنّ القابض للمال بالعقد الفاسد أقدم على أن يكون مضموناً عليه بعوض ،
وإذا لم يسلم له العوض المسمّى بعدم إمضاء الشارع إيّاه من جهة فساد العقد رجع إلى
العوض الواقعي من مثل أو قيمة.
تمسّك بها جماعة
منهم ثاني الشهيدين في المسالك وقبله الشيخ في مواضع [من] مبسوطه إلّا أنّه
عبّر عن الإقدام بالدخول ، وقرّره بأنّه دخل على أن يكون المال مضموناً عليه
بالعوض ، فإذا لم يسلم له العوض المسمّى رجع إلى المثل أو القيمة.
وتوضيحها : أنّ
الدافع والقابض لمّا تراضيا وتواطئا على العقد الفاسد ولو مع علمهما أو علم أحدهما
بالفساد التزما بلوازم العقد الّتي منها ضمان كلّ منهما عوض ما قبضه ، وهذا هو
معنى إقدام كلّ منهما على الضمان للعوض ، والمفروض عدم سلامة العوض المسمّى بسبب
عدم إمضاء الشارع له ، فوجب على القابض ردّ ما قبضه بعينه إن كان باقياً وإلّا وجب
ردّ مثله أو قيمته.
وهذا ينحلّ إلى
الاستدلال بقياس ينتظم من صغرى وكبرى ، وهو أنّ القابض قد أقدم على ضمان المال
بعوض لم يسلم له العوض ، وكلّ من أقدم على ضمان المال بعوض لم يسلم له العوض وجب
عليه عوضه الواقعي من مثل أو قيمة.
واجيب عنه : بما
يرجع إلى منع الصغرى ، وهو أنّهما إنّما أقدما وتواطئا على ضمان خاصّ وهو الضمان
بالعوض المسمّى لا بمطلق العوض ، والمفروض انتفاء الخصوصيّة بعدم إمضاء الشارع
لهذا الضمان الخاصّ ، والجنس لا يبقى بعد انتفاء الفصل ، ومطلق الضمان أعني الضمان
بمطلق العوض ممّا لم يتواطآ ولم يقدما عليه حتّى يتقوّم بخصوصيّة اخرى وهو الضمان
بالعوض الواقعي مثلاً أو قيمة ، فالضمان بالمثل أو القيمة حيثما ثبت تابع لدليله
وليس ممّا أقدم عليه المتعاقدان.
__________________
ويمكن دفعه :
بأنّ الإقدام على الضمان بمطلق العوض بل العوض الواقعي بالخصوص ممّا لا ينبغي
إنكاره ، فإنّ من القضايا المركوزة في أذهان الناس من أهالي جميع الملل والأديان
أنّه لا يخرج مال أحد إلى غيره في غير مقام الهديّة والعطيّة والهبة والصدقة
مجّاناً وبلا عوض ، بل لا بدّ له من عوض ولا يكون إلّا عوضاً واقعيّاً ، وهذه كما
يرشد إليه الوجدان الغنى عن إقامة البرهان مركوزة في ذهني المتعاقدين في عقود
المعاوضة صحيحها وفاسدها ، وارتكازها في ذهنيهما هو الداعي لهما إلى التعويض والتزام
كلّ بدفع العوض إلى صاحبه ، فهما متوافقان على هذه القضيّة المركوزة في الذهن ،
وهذا هو معنى إقدامهما على الضمان بمطلق العوض بل خصوص العوض الواقعي.
نعم بعد
توافقهما عليها يتواطآن في متن العقد المفروض وقوعه فيما نحن فيه على وجه الفساد
على العوض المسمّى ، وكأنّه تراضٍ منهما وتواطؤ على إبدال العوض الواقعي بالعوض
المسمّى ، والمفروض بحكم فساد العقد عدم إمضاء الشارع تواطأهما عليه فيبقى
تواطؤهما على مطلق العوض بل خصوص الضمان بالمثل أو القيمة. فصغرى الدليل ممّا يدرك
بالوجدان فلا مجال لإنكارها ، ومن أنكرها فقد كابر وجدانه.
نعم بقي الكلام
في كبرى الدليل وإثبات الدليل عليها فإنّه لا يخلو عن خفاء وإن كان ظاهر اقتصار
المتعرّضين للجواب عن الدليل على منع الصغرى أنّه لا كلام على تقدير ثبوت الصغرى
في الكبرى بل هي جارية عندهم مجرى المسلّمات الّتي لا يمكن الاسترابة فيها ، غير
أنّ العمدة بيان دليلها ، فإنّ مفادها يرجع إلى دعوى أنّ الدافع يملك عوض ما دفعه
من المثل أو القيمة في ذمّة القابض ، وعليه يتفرّع ضمان أحدهما على معنى وجوب ردّه
إلى الدافع لأنّه ملكه ، وظاهر أنّ تملّكه له في ذمّة القابض يقتضي سبباً ، وذلك
السبب إمّا أن يكون هو العقد المفروض كونه فاسداً أو هو القبض المتحقّق بعده
بانفراده ، أو تلف العين بانفراده ، أو القبض المتعقّب للتلف على معنى كون السبب
هو المجموع منهما. ولا سبيل إلى الأوّل لأنّ فاسد العقد ما لا يترتّب عليه أثر فلا
يعقل كونه سبباً مؤثّراً في تملّك شيء في الذمّة ، ولا إلى الثاني وإلّا لزم جواز
الرجوع بالمثل أو القيمة ولو مع بقاء العين أيضاً وهو باطل بالضرورة ، ولا إلى
الثالث وإلّا لزم ضمان
المشتري بتلف العين المعقود عليها قبل القبض وهو باطل لأنّه في ضمان البائع
، فتعيّن الرابع.
فيؤول الكبرى
إلى أن يقال : إنّ كلّ من أقدم على ضمان مال بعوض لم يسلم له يضمن مثله أو قيمته ،
لأنّ قبض ذلك المال المتعقّب لتلفه في يده علّة وسبب لتملّك الدافع مثله أو قيمته
في ذمّته ، وهذه السببيّة كما ترى حكم شرعي يقتضي وسطاً.
ويمكن القول
بأنّه يكفي فيه أيضاً القضيّة المركوزة في الأذهان ولكن بانضمام إمضاء الشارع لها
، فإنّها من الفطريّات الّتي مرجعها إلى كون معتقد العامّة بحسب الفطرة عدم خروج
مال أحد إلى غيره إلّا بعوضه الّذي هو إمّا المثل أو القيمة الواقعيّة وقد أمضاه
الشارع ، كما يكشف عنه تقرير أهل بيت العصمة الكاشف عن رضاهم الملازم لحقّيّة
معتقد العامّة أو السيرة الّتي مرجعها إلى إجماع العامّة على الاعتقاد بمضمون
القضيّة الكاشف عن رضا المعصومين بها الكاشف عن إمضاء الشارع ، وتوسيط الإقدام
حينئذٍ لبيان أنّ المالك لم يسقط ضمان ماله عن القابض حيث أقبضه بالعقد الفاسد كما
أسقطه بمقتضى «الناس مسلّطون على أموالهم» في الإباحات والهدايا والهبات والصدقات
وغيرها ممّا لا يضمن فيه القابض للمال المدفوع إليه بالمثل والقيمة بالتصرّفات
الإتلافيّة.
وبالجملة
المراد بالإقدام المأخوذ وسطاً في الدليل إنّما هو عدم إسقاط المالك ضمان ماله
المدفوع إلى القابض عنه ، ومبناه على أنّ الضمان بالمثل أو القيمة هو الأصل في
المال ، وسقوطه يحتاج إلى إسقاط من المالك ، ولا مدرك للأصل المذكور إلّا القضيّة
المركوزة في الأذهان المجمع عليها الّتي أمضاها الشارع. فدليل الإقدام على الضمان
المترتّب على القبض المتعقّب للتلف تمام ، لتماميّة صغراه وكبراه معاً.
ولا فرق في
الضمان بين كونهما عالمين بالفساد أو جاهلين به أو مختلفين مع علم الدافع وجهل
القابض أو بالعكس ، لوحدة المناط واطّراده في جميع الصور.
وتوهّم :
احتمال عدم الضمان في صورتي علم الدافع ، ضعيف ، وتعليله بتسليط الدافع القابض على
إتلافه مع علمه ببقاء ملكه عليل ، لوضوح أنّ المسقط للضمان إنّما هو تسليطه على
الإتلاف مجّاناً وهو غير متحقّق فيما نحن فيه ، لبناء العقد على المعاوضة وأخذ
العوض ، وإن علم بعدم دخوله في ملكه بحيث لو لم يدفع ماله إلى القابض جزماً
فهو من إبدال ماله بعوض رضي به ، وإذا فرض عدم إمضاء الشارع لهذا الإبدال
بقي المال المدفوع في ضمان القابض بعوضه الواقعي. وعدم إمضاء الشارع للإبدال ليس
إسقاطاً لهذا الضمان ، كما أنّ علم الدافع بعدم الإمضاء ليس إسقاطاً له ، وقد عرفت
أنّ الضمان هو الأصل ، وسقوطه يحتاج إلى إسقاط المالك وهو غير متحقّق في مفروض
المقام ، بشهادة ما ذكر من أخذ العوض الفاسد الّذي لولاه لم يدفع إلى القابض.
وأضعف من
الاحتمال المذكور احتمال عدم الضمان مع جهل القابض كما احتمله المحقّق الأردبيلي
في مجمع الفائدة لشبهة رجوع المغرور إلى من غرّ. ووجه ضعفه : أنّ الجهل
بالفساد في القابض على تقدير كونه عذراً حتّى مع التقصير إنّما يوجب عدم كونه ما
دام الجهل مخاطباً بردّ المثل أو القيمة ، وهذا لا ينافي ملك الدافع ذلك المثل أو
القيمة في ذمّته لتحقّق سببه وهو القبض مع التلف ، وكونه حكماً وضعيّاً لا يختلف
بالعلم والجهل وبذلك يندفع شبهة الغرور ورجوعه إلى الغار ، بل المقام عند التحقيق
ليس من مجاري رجوع المغرور إلى من غرّ.
نعم ربّما يشكل
الحال في مسألتين :
أحدهما : ما لو
باع بلا ثمن وأقبض المبيع ثمّ تلف في يد المشتري ، فإنّه من البيع الفاسد والمال
المقبوض مقبوض بالعقد الفاسد ، ولا يجري فيه قاعدة الإتلاف المقتضية للضمان.
واخراهما :
شراء المغصوب مع علم المشتري بالغصب ، وعدم لحوق إجازة المالك الّذي اشتهر بينهم
أنّه لا يرجع على البائع بالثمن المدفوع إليه ، وفي تذكرة العلّامة «أنّه قول
علمائنا» مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ، وإطلاقه يقتضي منع المشتري
من الرجوع على البائع حتّى مع بقاء العين أيضاً ، وربّما حكي عن بعضهم التصريح
بذلك أيضاً. وذهب جماعة من المتأخّرين ومتأخّريهم إلى التفصيل بين تلف العين فلا
يرجع وبقائها فيرجع ، وهذا أيضاً من المال المقبوض بالعقد الفاسد ولا ضمان فيه.
والفرق بين المسألتين أنّ الاولى لا يجري فيها قاعدة الإقدام المقتضية للضمان
أصلاً ، والثانية يجري فيها القاعدة ، ولا حكم لها على القول المذكور المدّعى عليه
الإجماع.
__________________
ويمكن الذبّ عن
الإشكال في المسألة الاولى ، بأنّ غاية ما هنالك عدم جريان قاعدة الإقدام لا عدم
كون المبيع في ضمان المشتري ، فإن كان في سائر أدلّة الضمان ما ساعد على الضمان
فيه كخبر على اليد أو غيره فلا إشكال ، وإلّا فلا إشكال أيضاً لأنّ الضمان في
المال المقبوض بالعقد الفاسد إنّما يثبت من باب القاعدة وهي قابلة للتخصيص ، ويكفي
في تخصيصها سقوط ضمان ما نحن فيه بإسقاط المالك حيث باع بلا ثمن.
وأمّا المسألة
الثانية فيمكن الذبّ عن الإشكال فيها أيضاً أوّلاً : بأنّ القول بعدم رجوع المشتري
على البائع وإن كان مشتهراً إلّا أنّه صدر من قائليه على خلاف القواعد خصوصاً مع
بقاء العين ، ويجوز مخالفته عملاً بالقواعد ، كما خالفه المحقّق على ما حكي عنه في
بعض تحقيقاته من مصيره إلى جواز الرجوع مطلقاً ، فلا داعي إلى الالتزام به إلّا أن
يكون إجماعاً كما أومأ إليه في التذكرة ، ولكن في ثبوته نظر لمخالفة المحقّق.
وثانياً :
بأنّه لو سلّم الإجماع بناءً على عدم قدح خلاف المحقّق فيه ، لزم منه تخصيص
القاعدة أيضاً بالقياس إلى هذا المورد ، ولا ضير فيه بعد وضوح المخصّص.
وثالثاً : بأنّ
عدم رجوع المشتري على البائع لا ينافي ضمان البائع ، فإنّ قصارى ما هنالك ثبوت
الإجماع على أنّ المشتري لا يرجع لا على أنّ البائع لا يضمن ، والأوّل حكم تكليفي
صرف وهو حرمة الرجوع والمطالبة على المشتري عقوبة عليه من الشارع حيث دخل في المال
المغصوب مع العلم بغصبيّته ، وهذا لا ينافي بقاء ملكه في الثمن وحرمة تصرّفات
البائع فيه ووجوب ردّه إليه عيناً مع البقاء أو مثلاً أو قيمة مع التلف. ولو ردّه
جاز له أخذه ، وله نظائر كثيرة :
منها : المال
الّذي حلف عليه المنكر على خلاف الواقع مع علمه باستحقاق المدّعي له ، فإنّ
المدّعي بعد الحلف لا يجوز له مطالبته بذلك المال ولا مقاصّته أيضاً من سائر أموال
المنكر الحالف ، والحالف أيضاً لا يجوز التصرّف فيه ويجب عليه دفعه إلى مستحقّه ،
وإذا دفعه جاز له أخذه.
الثالث : قاعدة
الاحترام المستفادة من الأخبار الدالّة على كون مال المسلم وعمله وعرضه ودمه
محترماً ، وكما لا يهراق دمه اقتراحاً وعدواناً فكذلك لا يذهب ماله إلى غيره
مجّاناً ، وترى الأصحاب في أبواب المعاملات والعقود يتمسّكون بها لإثبات
الضمان بثمن المثل أو اجرة المثل أو مهر المثل في جملة من العقود الفاسدة ،
فالمال الّذي قبضه المشتري أو البائع في العقد الفاسد لكونه من مال المسلم المفروض
احترامه يجب عليه ردّه إلى مالكه مع بقاء عينه ، أو ردّ مثله أو قيمته في صورة
التلف.
أقول : ويمكن
الخدشة فيه بأنّ احترام مال المسلم كدمه وإن كان مسلّماً ، ولكن في نهوضه دليلاً
على الضمان بالمثل أو القيمة في صورة التلف نظر ، لأنّ احترام الشيء عبارة عن عدم
جواز انتهاكه فالمحترم هو ما لا يجوز انتهاكه ، والانتهاك هو تناول الشيء
والتعرّض له بما لا يحلّ ، وحاصله تناول الشيء بغير وجه شرعي مجوّز له ، فحاصل
معنى كون المال المعقود بالعقد الفاسد أنّه لا يجوز أخذه ولا التصرّف فيه بعد
الأخذ ولا إمساكه وعدم ردّه إلى مالكه لأنّ كلّ ذلك انتهاك وتناول له بما لا يحلّ
ومن غير وجه شرعي ، وقصارى ما فيه وجوب ردّه ما دامت عينه باقية ، ولا يقتضي ذلك
وجوب ردّ مثله أو قيمته على تقدير التلف ، لأنّ الاحترام بالمعنى المذكور ليس بعين
الضمان بالمثل والقيمة ولا من لوازمه ، وكونه ملزوماً له يتوقّف على ثبوت الملازمة
بينهما بدليل آخر ولا يفي بإثباتها أدلّة الاحترام.
وبالجملة غاية
ما ينساق من أدلّة الاحترام إنّما هو حكم تكليفي معلّق على بقاء عين المال ،
وكلامنا في الضمان الّذي هو حكم وضعي معلّق على تلف العين ، وأحدهما ليس بعين
الآخر ، وثبوت الملازمة بينهما يحتاج إلى دليل آخر غير أدلّة الملزوم ، وإن شئت
زيادة توضيح لذلك فنظّره على حرمة أكل المال بالباطل المستفادة من آية «لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» فإنّها غير
الضمان بالمثل أو القيمة بعد التلف ، فلا يمكن إثبات الضمان بنفس هذه الآية ، ولذا
لم يتمسّك أحد منهم في شيء من موارد الضمان لإثباته بهذه الآية. ومن هذا الباب
أيضاً احترام دم المسلم فإنّ أقصى ما يقتضيه ذلك هو عدم جواز انتهاكه والتعرّض له
بإراقته من دون مسوّغ شرعي ، وأمّا وجوب القصاص أو الدية بعد ما اهريق فهو حكم آخر
يتوقّف ثبوته على دليل آخر ، ولا يفي بإثباته نفس أدلّة الاحترام.
__________________
الرابع : الخبر
المشهور المستدلّ به على الضمان في أكثر موارده وهو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» كما في جملة
من العبارات ، أو «حتّى تؤدّيه» كما في بعض العبارات ، أو «حتّى تؤدّيه إلى أهله»
كما في عبارة ثالثة. وهذا الخبر باعتبار السند وإن كان عامّياً بل مرسلاً أيضاً بل
مقطوع الإسناد على ما هو مذكور في كتب القوم ، إلّا أنّه مشهور بين الفريقين مجمع
عليه عندهما متلقّى بالقبول لدى كافّة الأصحاب حتّى القائلين من القدماء ـ كالسيّدين
والحلّي وأضرابهما ـ بعدم قبول الأخبار إلّا في مواضع العلم بصدورها لتواتر أو
احتفاف بقرائن القطع ، فهو من الأخبار المقطوع بصدورها ، فلا ينبغي التأمّل فيه من
حيث السند ، لانجبار ضعفه بالعامّيّة والإرسال وغيرهما بما ذكر بل بالقطع بصدوره.
بل العمدة في
إنهاضه دليلاً على الضمان التكلّم في دلالته المتوقّف على النظر في معاني مفرداته
ومعناه التركيبي ، فنقول : إنّ مفرداته كلمة «على» وهي على ما حقّق في العلوم
العربيّة وصرّح به في كتب اللغة للاستعلاء ، وهو على ما ذكره النحاة وإن انقسم إلى
الحسّي والمعنوي الّذي قد يعبّر عنه بالمجازي ، إلّا أنّه حقيقة ظاهراً في الحسّي
الّذي قد يعبّر عنه بالركوبي ، كما في «زيد على فرسه أو على السفينة» وقد يعبّر
عنه بالحملي وهو أن يكون المستعلي محمولاً ومدخولها حاملاً له ، وهذا أعمّ. من
الأوّل لصدقه في مثل «زيد على السطح» دون الركوبي وهو أن يكون المستعلي راكباً
ومدخولها مركوباً ، والظاهر أنّها حقيقة في الأعمّ وأيّاً ما كان فله لوازم كثيرة
قد يكنّى في الاستعمال بها ، لها كلّ في مقامه المناسب له.
فمنها : الثقل
على معنى كون ثقل الراكب على المركوب وثقل المحمول على الحامل ، ومنه عليّ دَين
وعليه قضاء أو قصاص أو دية أو نحو ذلك ، ومعناه أنّ ثقله المعنوي من جهة كونه
مخاطباً بأدائه عليه.
ومنها : اللزوم
على معنى كون الراكب أو المحمول لازماً لمركوبه أو حامله ، ومنه و «عَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» و «توكّلت على
الله» ومعناه لزوم العبد في حوائجه
__________________
ومآربه لذيل رحمة ربّه ، ويعبّر عنه بالانقطاع عن الخلق والاعتماد على
الخالق ، ومنه أخذ عليك زيداً أي ألزمه ، وقد يجعل من هذا الباب مثل عليه قضاء أو
قصاص أو دية.
ومنها :
التفوّق على معنى كون المستعلي متفوّقاً على مدخولها كما في الراكب والمحمول ،
ومنه قوله تعالى : «فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ *
وفَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعالَمِينَ» .
ومنها :
التطلّع على معنى كون المستعلي مطلعاً على مدخولها كما في الراكب والمحمول أيضاً ،
ومنه قوله تعالى : «أَوْ أَجِدُ عَلَى النّارِ هُدىً» .
وهذه اللوازم
كلّها يعبّر عنه بالاستعلاء المعنوي لعدم كونه مدركاً إلّا في الذهن وعند العقل ،
وكونه مجازيّاً باعتبار كون اللازم خارجاً عن الملزوم الّذي وضع له اللفظ وكون
إطلاق اللفظ عليه من باب الكناية والمجاز الّذي يتحقّق بذكر الملزوم وإرادة
اللازم.
وهي في الخبر
ليست على حقيقتها قطعاً لاستحالة كلّ من الركوب والحمل ، ولا أنّها كناية عن
التفوّق والتطلّع جزماً. وفي كونها كناية عن الثقل كما في عليه دَين ، أو عن
اللزوم كما في عليك زيداً وتوكّلت على الله وجهان ، من صحّة كلّ منهما ، والظاهر
أنّهما متلازمان ، فإنّ كون ثقل المال المأخوذ على آخذه يلزمه كونه لازماً عليه
غير منفكّ منه ، كما أنّ لزومه له يلزمه كون ثقله عليه فيصحّ الحمل على كلّ منهما
، والمطلب يثبت بكلّ ولا قرينة على التعيين.
ثمّ إنّ «على»
مع مجرورها من قبيل الظرف المقدّر عامله ، والأصل فيه كونه من ألفاظ العموم على ما
حقّقه النحاة نظراً إلى الظهور اللفظي ، فيكون التقدير «ثبت على اليد أو كان عليه»
واحتمال كونه فعلاً خاصّاً كوجب أو فرض مدفوع بما ذكر ، مضافاً إلى أنّه لا يلائمه
الفاعل الّذي هو عبارة عن المال وهو من الأعيان فلا يضاف إليه الوجوب أو الفرض كما
هو الحال في التحليل والتحريم. وبذلك اندفع الخدشة في الدلالة على الضمان بأنّ
كلمة «على» ظاهرة في الحكم التكليفي فلا تدلّ على الضمان الّذي هو حكم وضعي ، فإنّ
هذا الظهور إنّما يسلّم فيما اسند الظرف إلى فعل من أفعال المكلّفين ، وهو هاهنا
مضاف إلى المال كما في عليه دَين. ولو قدّر معه ما يصحّ إضافة
__________________
الوجوب أو الفرض إليه من فعل المكلّف كالردّ أو التأدية ليكون التقدير وجب
أو فرض ردّه أو تأديته ، ففيه ـ مع أنّ التقدير والإضمار خلاف الأصل ـ أنّه لا
يلائمه قوله «حتّى تؤدّي» بل فسد معه المعنى رأساً ، لأنّ الردّ والتأدية بمعنى ،
فيكون التقدير : وجب أو فرض على اليد ردّ ما أخذته أو تأدية ما أخذته حتّى تؤدّيه
، وفيه ما فيه.
ثمّ «اليد» وإن
كانت حقيقة في الجارحة المخصوصة إلّا أنّ الحقيقة متعذّرة هنا لوجهين :
الأوّل : أنّ
الثقل واللزوم في معنى كلمة الاستعلاء إنّما يعتبران بالقياس إلى صاحب الجارحة لا
إلى نفسها.
الثاني : أنّ
جملة «أخذت» ظاهرة في الإسناد إلى الفاعل الحقيقي ، ولا يكون إلّا صاحب اليد لأنّه
فاعل الأخذ والاستيلاء حقيقة ، والجارحة المخصوصة كغيرها من الفم والرجل آلة لا
أنّه فاعل. ومن ذلك ينقدح وجه ثالث وهو أنّ الأخذ الموجب للضمان كما يتأتّى باليد
كذلك يتأتّى بالفم وبالرجل وبغيرهما من الجوارح وغيرها ، فيكون المراد بها صاحبها
كالإنسان تسمية للكلّ باسم الجزء ، كما في إطلاق الرقبة عليه ، والنكتة فيه كون
هذا الجزء ممّا يغلب به وقوع أخذ المال والاستيلاء فيكون كالجزء المقوّم ، كما في
إطلاق العين على ربيئة القوم لأنّ الشغل المطلوب من الربيئة وهو التطلّع على العدوّ
وإنّما يتأتّى غالباً بواسطة العين.
ثمّ إنّ كلمة «ما»
فاعل للظرف باعتبار عامله المقدّر ، وهي كناية عن المال المأخوذ ، فإمّا أنّها
نكرة موصوفة والجملة المتلوّة لها صفة ، أو موصولة والجملة المتلوّة صلة ، وحيث لا
قرينة للعهد في جملة الصفة أو الصلة فيوجب ذلك ظهور كلمة «ما» في المعنى الجنسي ،
فيكون الجملة صفة للجنس أو كالصفة له وهو من أسباب العموم ، كما في قوله تعالى : «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ» فيشمل الحكم
كلّ مال مأخوذ ، وبذلك يندفع الشبهة في عموم الموصول. وفي الكناية بهذه الكلمة عن
المال لطف بليغ في الدلالة على أنّ منافع الحرّ لا تدخل في ضمان من أتلفها ،
لكونها بحسب الوضع لغير
__________________
ذوي العقول فلا يصرف إلى غيرها من دون قرينة. ولا ينتقض ذلك بالمملوك من
عبد أو أمة ، لأنّه باعتبار صفة المملوكيّة يعدّ من غير ذوي العقول.
وأمّا جملة «أخذت»
فلكونها من الأفعال المسندة إلى ذوي الشعور والإرادة كانت ظاهرة في الأخذ
الاختياري ، وهو ما حصل عن قصد وإرادة ، فخرج به الأخذ الغير الاختياري فإنّه
بمقتضى هذا الظاهر لا يوجب ضمان اليد ، كالثوب إذا أطارته الرياح حتّى وقع في يد
إنسان فألقاه من حينه على الأرض ، والمال المغصوب إذا وضعه الغاصب في يد غيره
قهراً عليه فألقاه في الأرض.
ثمّ إنّها
ظاهرة في حدوث الأخذ ، ويدلّ على كون الموجب للضمان هو الأخذ الحادث ، فيخرج به
استمرار القبض كالمبيع إذا لم يردّه البائع مع التمكّن بعد العقد ، وكذلك الثمن
فإنّه وإن كان يجب عليهما ردّه وكان كلّ منهما في ضمان من هو بيده حتّى أنّه لو
تلف قبل القبض ضمن المثل أو القيمة بضابطة «كلّ مبيع تلف قبل القبض فهو من مال
بائعه» إلّا أنّ هذا الضمان لا بدّ له من دليل آخر ولا يفي به خبر «على اليد»
ونحوه الوديعة إذا مات المالك فإنّها تنتقل بالموت إلى الورثة وتخرج عن كونها
وديعة ، ويكون حينئذٍ في ضمان الودعي ، ولكن لا بدّ له من مدرك آخر غير هذا الخبر
، لانتفاء الأخذ الحادث.
وفيما لو
أطارته الريح حتّى وقع في يد إنسان أو ما وضعه الغاصب قهراً في يده ، فأمسكه بقصد
الفساد فتلف في يده ففي ضمانه المثل أو القيمة من جهة هذا الخبر وعدمه وجهان : من
أنّ الإمساك ليس بحدوث أخذ ، ومن أنّه يعدّ في العرف ابتداء أخذ ، ولعلّه الأظهر.
وهل يعتبر في
الأخذ الموجب للضمان كونه بغير إذن المالك ، أو كونه على وجه العدوان ونيّته
الفساد ، أو لا يعتبر شيء من ذلك ، بل لو حصل بإذن من المالك أو رضاه كان موجباً
للضمان؟ احتمالات ، أظهرها أخيرها ، نظراً إلى الإطلاق. ومن ثمّ كان المقبوض
بالسوم في ضمان قابضه ، وكذلك المقبوض بالعقد الفاسد عند الأصحاب استناداً إلى هذا
الخبر.
وأمّا «تؤدّيه»
فالمراد به الأداء الكافي في فراغ الذمّة والخروج عن العهدة ، وهو
التخلية بينه وبين المالك بحيث يتمكّن من أخذه والتصرّف فيه فلا يكفي غيره.
والمراد من «أهله»
ربّ المال أو من يقوم مقامه من وكيل له أو وليّ إجباري أو شرعي له ، فلا يكفي
الأداء إلى غيرهما.
وكلمة «حتّى»
للغاية ، ومفاده استمرار الحكم إلى غاية التأدية. وفي تغيية الحكم بغاية التأدية
لطف بليغ في الدلالة على ضمان المثال أو القيمة في صورة التلف ، لكون المعنى أنّ
ثقل المال المأخوذ أو لزومه مستمرّ إلى أن يحصل التأدية ، وظاهر أنّ التلف ليس
بتأدية حتّى يرتفع به الثقل واللزوم. وقضيّة بقائهما حال التلف وبعده كونه مخاطباً
بتأدية المثل في المثلي والقيمة في القيمي ، لتعذّر تأدية العين.
وبالتأمّل في
ذلك يندفع ما أورده الفاضل النراقي من منع دلالة الخبر على ضمان المثل أو القيمة في صورة
التلف ، بل غايته الدلالة على ضمان العين استناداً إلى وجهين :
أحدهما :
الموصول مع صلته وهو قوله عليهالسلام : «ما أخذت» فإنّه يدلّ على أنّ المضمون هو ما أخذته
اليد ، ولا يكون إلّا العين ، لعدم كون شيء من المثل والقيمة بعد تلف العين ممّا
أخذته اليد.
وثانيهما :
ضمير «تؤدّيه» محذوفاً ومذكوراً فإنّه لعوده إلى الموصول الّذي هو كناية عن العين
المأخوذة يدلّ على أنّ الّذي يجب تأديته هو العين ، لوضوح أنّ دفع المثل أو القيمة
ليس أداءً لما أخذته اليد ، بل لا دلالة في لفظ الخبر على صورة التلف فضلاً عن
دلالته على حكمها من ضمان المثل أو القيمة.
ووجه الاندفاع
: أنّ الخبر كما يدلّ باعتبار الموصول وصلته على كون ما أخذته اليد مضموناً ،
فكذلك يدلّ باعتبار الغاية على كون هذا الضمان مستمرّاً إلى أن يحصل تأديته إلى
المالك باعتبار دلالته على استمرار الثقل واللزوم المدلول عليهما بكلمة الاستعلاء
إلى هذه الغاية ، ومعناه كون رافع الثقل واللزوم والضمان هو التأدية ، وذكرنا أنّ
التلف المفروض تحقّقه ليس تأدية له ليرتفع به الضمان والثقل. وقضيّة استمراره إلى
الغاية المذكورة أن يحصل تأديته بردّ المثل أو القيمة ، لتعذّر ردّ العين.
__________________
لا يقال : إنّ
التلف وإن لم يكن تأدية إلّا أنّه يحتمل كونه كالتأدية رافعاً للثقل الّذي هو
عبارة عن الضمان ، وهذا الاحتمال يوجب الشكّ في بقاء الضمان وارتفاعه. فغاية ما
هنالك للمستدلّ أن يتمسّك لإثبات البقاء باستصحاب الحالة السابقة ، والاستصحاب مع
الشكّ في قدح العارض كالاستصحاب مع الشكّ في عروض القادح حجّة. ويرد عليه بطلان
الاستصحاب في خصوص المقام لعدم بقاء موضوع المستصحب بدليل عدم كون القضيّة
المشكوكة باعتبار الموضوع بعين القضيّة المتيقّنة ، فإنّ موضوع القضيّة المتيقّنة
هو عين المال الّذي أخذته اليد وموضوع القضيّة المشكوكة مثله أو قيمته وكلّ منهما
غير المال المأخوذ فلا معنى للاستصحاب.
لأنّا نقول :
أوّلاً لا حاجة في تتميم الاستدلال بالخبر على ضمان المثل أو القيمة إلى توسيط
التمسّك بالاستصحاب ليخدشه نحو ما ذكر ، بل المستند في إثبات البقاء والاستمرار
بعد التلف هو الظهور المستند إلى الإطلاق ، فإنّ قوله : «حتّى تؤدّيه» في الدلالة
على استمرار الثقل والضمان إلى زمان حصول التأدية مطلق بالقياس إلى صورتي تلف
العين وبقائها ، ولا ريب أنّ الظهور الناشئ من الإطلاق المذكور كافٍ في ثبوت بقاء
الضمان واستمراره حال التلف وبعده إلى أن يحصل تأديته بردّ المثل أو القيمة
الملازم لنفي رافعيّة التلف من غير حاجة إلى الاستصحاب.
وثانياً : على
تقدير الحاجة إلى الاستصحاب نقول بصحّة التمسّك به بمنع عدم بقاء موضوع المستصحب ،
فإنّ المال المكنّى عنه بالموصول في الوضع العرفي اسم للقدر الجامع بين العين
وعوضه من المثل في المثلى والقيمة في القيمي ، كما يكشف عنه الصدق العرفي في قضيّة
قول المالك «أعط مالي» عند مطالبة ماله المغصوب عن غاصبه في صورتي بقاء عينه في يد
الغاصب وتلفه في يده ، فإنّ المال المطلوب صادق في كلتا الصورتين ، ومطالبته
بإضافة المال إلى نفسه صحيحة فيهما ، مع أنّ المقصود المطويّ في الضمير في صورة
البقاء مطالبة العين الموجودة وفي صورة التلف مطالبة عوضه الدائر بين المثل أو
القيمة ، ولو استردّ العوض مثلاً أو قيمة منه في صورة التلف يقول : أخذت مالي ،
ولا يصحّ تكذيبه ، وليس هذا كلّه إلّا من جهة كون المال في العرف والعادة عبارة
عمّا يعمّ العين والعوض الواقعي. والأصل في ذلك ما قدّمنا توضيحه في
تتميم قاعدة الإقدام من القضيّة المركوزة في الأذهان ، من أنّه لا يذهب مال
أحد إلى غيره مجّاناً وبلا عوض بل لا بدّ له من عوض لا يكون إلّا المثل أو القيمة
، وعلى هذا فالثقل والضمان الّذي هو المستصحب من أوّل الأمر كان متقوّماً بالقدر
الجامع الّذي هو مع بقاء العين متقوّم بها ومع تلفها متقوّم بعوضها مثلاً أو قيمة
، فاستصحاب الثقل أو الضمان المتقوّم بالقدر الجامع المتقوّم مع التلف بالعوض ليس
من استصحاب الشيء مع عدم بقاء موضوع المستصحب ، وكون المأخوذ هو العين لا ينافي
تقوّم ثقلها بها من حيث إنّها أحد فردي القدر الجامع الّذي مرجعه إلى تقوّمه
بالقدر الجامع على وجه يكون العين أصلاً في مقام الردّ والتأدية على تقدير بقائها
والعوض فرعاً.
وبالتأمّل فيما
بيّنّاه يظهر وجه اندفاع الوجه الثاني ممّا تمسّك به الفاضل المتقدّم ، فإنّ
الضمير محذوفاً أو مذكوراً وإن كان عائداً إلى ما أخذته اليد ، إلّا أنّه باعتبار
المفهوم العامّ العرفي يعمّ العوض مثلاً أو قيمة فيكون دفع كلّ منهما على تقدير
تلف العين أداءً لما أخذته اليد. وبما بيّنّاه من استظهار الإطلاق من الغاية بالقياس
إلى صورتي بقاء العين وتلفها يندفع ما ذكره الفاضل أخيراً من قوله : «بل لا دلالة
في لفظ الخبر على صورة التلف ...» الخ فإنّ الإطلاق المتناول للصورتين في الدلالة
على استمرار الحكم إلى غاية حصول الأداء كافٍ في الدلالة على صورة التلف وعلى
حكمها كما لا يخفى على المتأمّل المنصف. هذا تمام الكلام في بيان معاني مفردات
الخبر وأجزائه.
وأمّا معناه
التركيبي : فقد يورد عليه بالإجمال ، لأنّ الجمل المؤوّلة إلى الإنشاء لا ظهور لها
في الإيجاب ، ولو سلّم فهو حكم تكليفي والضمان حكم وضعي. وفيه ـ مع أنّ المحقّق في
محلّه من ظهور الجمل المذكورة في إنشاء الوجوب ـ أنّه لا داعي هنا إلى التأويل ،
بل لو حمل قضيّة الخبر على الإخبار ليكون من باب بيان الواقع تمّ المقصود ، فيكون
تقديره في حاصل المعنى «أنّه ثبت على الإنسان ما أخذه أي ثقله واستمرّ إلى أن
يؤدّيه أي يؤدّي المال المأخوذ بالمعنى الجامع للعين والعوض» وهذا كما ترى عين
الضمان.
الخامس : «قاعدة
ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» تمسّك بها جماعة ونحن
__________________
قد بسطنا الكلام في تحقيق هذه القاعدة في رسالة منفردة فلا نطيل القول فيها
هنا ، بل الّذي ينبغي أن يذكر هنا هو أنّا في غناء عن التمسّك بها وجعلها دليلاً
على حدة على ضمان المال المقبوض بالعقد الفاسد ، بناءً على ما تقدّم من تعميم
العقد لكلّ عقد فاسد من عقود المعاوضة فيساوق القاعدة المذكورة لما نحن فيه ، مع
كون مدركها على ما يستفاد من كلامهم جميع ما عرفته من أدلّة ما نحن فيه من
الإجماعات المنقولة ، وقاعدة الإقدام ، وقاعدة الاحترام ، وقاعدة ضمان اليد ، وعلى
هذا فهي على مذاقنا لا تصلح مدركاً لما نحن فيه. نعم على مذاق من اقتصر فيما نحن فيه
على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد كما في عبارة الشرائع وغيره ممّن تبعه فلا
بأس بأخذها مدركاً له من باب تفريع الحكم الجزئي على الكلّي والخاصّ على العامّ.
ثمّ إنّ في
المقام فروعاً كثيرة تذكر في طيّ مسائل :
المسألة الاولى
: أنّ ردّ المال المقبوض بالعقد الفاسد إلى مالكه كما هو مقتضى ضمان العين هل يجب
فوراً ـ كما جزم به شيخنا قدسسره قائلاً : «والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه على تقدير عدم
جواز التصرّف فيه» فيأثم بالتأخير من غير عذر ـ أو على التراخي فلا يأثم
بالتأخير كما يظهر من الشيخ فيما حكي عنه في المبسوط من عدم الإثم في قبضه معلّلاً
«بأنّه قبضه بإذن مالكه» نظر [اًإلى] انّ تعليله يقتضي عدم الإثم في إمساكه
أيضاً لأنّ القبض إذا كان بإذن المالك فجميع الأفعال المترتّبة عليه الّتي منها
الإمساك أيضاً تكون بإذنه ، بل عن التحرير التصريح بعدم الإثم في إمساكه ، وكذلك عن السرائر ناسباً له إلى
الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع عليه؟ قولان ، أقواهما الأوّل : إمّا لأنّ الإمساك
تصرّف في مال الغير بغير إذنه فيحرم ، وهو يلازم وجوب ردّه فوراً. ويدلّ على حرمة
التصرّف قول الحجّة عجّل الله فرجه المرويّ مرسلاً : لا يجوز لأحد أن يتصرّف في
مال غيره إلّا بإذنه» . وتوهّم : أنّه مأذون فيه لأنّه قبضه بإذن المالك وهو
يلازم الإذن في جميع الأفعال المترتّبة عليه ومنها الإمساك وإن صدق عليه
__________________
التصرّف ، مدفوع بأنّه إنّما دفعه إليه على وجه التعويض وإذا لم يسلم له
العوض كما هو مقتضى فساد العقد انتفى الإذن في كلّ من القبض والتصرّف والإمساك.
أو لأنّه من
الأفعال المتعلّقة بالعين الّتي دلّ على تحريمها عموم قوله عليهالسلام : «لا يحلّ مال امرئ مسلم لأخيه إلّا عن طيب نفسه» فإنّ الحلّ
المنفيّ المضاف إلى العين يقتضي عدم الحلّ في جميع الأفعال المتعلّقة بها الّتي
منها الإمساك وإن بنينا على عدم صدق التصرّف عليه. وتوهّم : أنّ القبض إذا كان عن
طيب نفسه فجميع الأفعال المترتّبة عليه أيضاً يكون عن طيب نفسه ، يدفعه ما عرفت من
عدم سلامة العوض الموجبة لانتفاء طيب النفس حتّى عن القبض فضلاً عن سائر الأفعال
المترتّبة عليه. وأمّا النسبة إلى الأصحاب المؤذنة بدعوى الإجماع على ما سمعته عن
السرائر ، فضعّفت تارةً بعدم ثبوتها ، واخرى بتنزيلها على صورة الجهل بالفساد.
وكذلك نسبة عدم الإثم في القبض إلى المبسوط. وعلى المختار فليس للمشتري حبسه
لاسترداد الثمن كما نصّ عليه في التذكرة لمنافاته وجوب الردّ فوراً ، فقضيّة عبارة التذكرة
أيضاً هي فوريّة الردّ.
المسألة
الثانية : لو توقّف ردّ العين على مئونة كأُجرة الحمّال أو الدابّة أو نحو ذلك ففي
كون المئونة على القابض مطلقاً كما صرّح به في التذكرة وعن جامع
المقاصد أيضاً «لوجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به» أو على المالك
مطلقاً ـ لمنع توقّفه على تحمّل القابض للمئونة لأنّه كما يتأتّى بتحمّل القابض
كذلك يتأتّى بتحمّل المالك فلا يكون ممّا لا يتمّ الواجب إلّا به ، والأصل براءة
ذمّة القابض عنها خصوصاً إذا كثرت ، لأدلّة نفي الضرر ـ أو أنّها عليه إذا قلّت لا
إذا كثرت لأدلّة نفي الضرر كما احتمله شيخنا قدسسره؟ وجوه ، أقواها الأوّل ، لقوّة دليله ، وضعف دليلي
الآخرين.
أمّا ضعف
أوّلهما : فلأنّ تحمّل المالك لها لا يمنع مقدّمية تحمّل القابض ولا يرفع وجوب
المقدّمة ، غاية الأمر أنّه حيثما حصل كان مسقطاً لوجوب المقدّمة المقدورة ،
فالمقدّميّة مشتركة بين المقدورة والغير المقدورة ، والوجوب المقدّمي يحصل في
الاولى
__________________
والثانية مسقطة.
وأمّا ضعف
ثانيهما : فأوّلاً لأنّ أدلّة نفي الضرر لو جرت هنا وقضت بنفي وجوب المئونة على
القابض فلا يتفاوت فيها الحال بين قليل الضرر وكثيره ، فإنّ تحمّل المئونة القليلة
أيضاً ضرر.
وثانياً : لأنّ
وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به حكم عقلي لا يقبل التخصيص ، والتفصيل موجب له
فيبطل.
لا يقال : إنّ
ما لا يتمّ الواجب إلّا به إنّما يتمّ إذا كان الواجب مطلقاً لا مشروطاً ، ومن
الجائز كون الردّ واجباً مشروطاً بحصول تحمّل المئونة من المالك أو غيره ممّن عدا
القابض ، فلا يجب مقدّمته على القابض لعدم وجوب ذي المقدّمة ما لم يحصل شرط وجوبه.
لأنّا نقول :
إنّ فوريّة وجوب الردّ المسبّبة عن حرمة الإمساك تقضي بكون الردّ واجباً مطلقاً ،
لأنّ دليل حرمة الإمساك إنّما قضى بالحرمة مطلقاً.
المسألة
الثالثة : أنّ العين المقبوضة بالعقد الفاسد قد يصاحبها امور في القبض تبعاً ، فهل
يتبعها في الضمان على معنى كونها مضمونة على القابض ،كما أنّ العين الّتي هي مورد
العقد مضمونة عليه أو لا؟ فنقول : إنّ هذه الامور المصاحبة على قسمين :
أحدهما : ما
يدخل في ملك القابض تبعاً لملك العين على تقدير صحّة العقد ـ كصوف الغنم وشعر
المعز ، وأغصان الشجر وأوراقه فيما كان لأوراقه ماليّة كورق التوت وورق السدر ،
ونغل الدابّة ، وثياب العبد على القول بدخولها في المبيع تبعاً وما أشبه ذلك ـ ولا
إشكال في كونها كالعين مضمونة ولا أظنّ خلافاً في ذلك ، لعين ما دلّ على ضمان
العين من الأدلّة المتقدّمة الّتي عمدتها خبر «على اليد» فإنّ الامور المذكورة
كالعين من مال الغير وباقية في ملك المقبض ، وكما أنّها تتبع العين في الملك على
تقدير صحّة العقد فكذلك تتبعها في الضمان على تقدير فساد العقد.
وثانيهما :
الامور الّتي لا تتبع العين في الملك ولا تنتقل إلى قابض العين على تقدير صحّة
العقد ولكن تقبض تبعاً لقبض العين لكون قبضها من مقدّمات قبض العين ، على معنى كون
قبضها ممّا يتوقّف عليه قبض العين ـ كماعون الدهن أو الدبس ، وقربة الماء
أو الخلّ ، وعدل المتاع أو الطحين ، وصندوق العنب وما أشبه ذلك ، وكذلك الدابّة
المستأجرة الّتي يقبضها المستأجر للتوصّل إلى قبض المنفعة واستيفائها في الإجارة
الفاسدة ـ فقد يحكى فيها قول بالضمان تبعاً لضمان العين تعليلاً بأنّ المالك لم
يقبضها مجّاناً وبلا عوض فيكون مضمونة على قابضها.
وضعّف : بأنّها
وإن لم يقبضها المالك مجّاناً إلّا أنّه لم يقبضها على وجه التعويض أيضاً بل إنّما
أقبضها للتوصّل إلى إقباض العين ، فتكون في يد قابضها أمانة كما في صورة صحّة
العين ، ومن حكم الأمانات عدم كونها مضمونة إلّا مع التفريط أو التعدّي ، غاية
الأمر كون الأمانة فاسدة لفساد العقد فيشكّ في ضمان عوضها مثلاً أو قيمة على تقدير
تلفها من غير تفريط ولا تعدّ ، والأصل براءة الذمّة لعدم الدليل على الضمان كما لا
ضمان فيه على تقدير صحّة العقد ، مضافاً إلى قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن
بفساده».
وممّا بيّنّاه
انقدح أنّ ثمر البحث هنا يظهر في صورة التلف بلا تفريط ولا تعدّ ، فلو لم تتلف بأن
تكون باقية في يد قابضها لا ينبغي الاسترابة في وجوب ردّها إلى المالك ، كما أنّها
لو تلفت بالتفريط أو التعدّي لا ينبغي التأمّل في ضمان أعواضها مثلاً أو قيمة.
المسألة
الرابعة : إنّه لو كان للعين المقبوضة منفعة استوفاها المشتري ـ كركوب الدابّة ،
واستخدام العبد ، ولبس الثوب ، وسكنى الدار وما أشبه ذلك ـ ففي المنفعة فعليه
عوضها الّذي يقال له اجرة المثل كما عليه بعض مشايخنا ناسباً له إلى
المشهور ، وعدمه كما عن الوسيلة ؟ قولان. وقد يستظهر ممّا ذكره الحلّي في السرائر من كون
هذا المال بمنزلة المغصوب الاتّفاق عليه ، لمكان الاتّفاق على ضمان منافع المغصوب
المستوفاة.
واستدلّ عليه
بعموم قوله : «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» بناءً على صدق
المال على المنفعة ، ولذا يجعل ثمناً في البيع ومهراً في النكاح.
وفيه : نظر بل
منع ، لأنّ نفي الحلّيّة يلازم الحرمة أو عينها ، وأيّاً ما كان فهو غير الضمان
الّذي هو حكم وضعي ، فلا يثبت به الحكم الوضعي إلّا إذا ثبت بينهما ملازمة ،
وثبوتها يحتاج إلى دليل من إجماع أو نصّ غير هذا الخبر الّذي هو دليل الملزوم
__________________
فلا يفي بالملازمة.
وإذا كان مبنى
الاستدلال به على صدق المال على المنفعة كان الاستدلال بقوله عليهالسلام «من أتلف مال الغير فهو ضامن» أولى وأسدّ. وأولى منه الاستدلال بعموم خبر «على
اليد ما أخذت» بناءً على ما تقدّم في شرحه من أنّ الموصول كناية عن المال المأخوذ
، واليد عن صاحبها من إطلاق الجزء على الكلّ ، والأخذ عن الاستيلاء ، وظاهر أنّ
المستوفي للمنفعة استولى عليها فكانت عليه وذمّته مشغولة حتّى تؤدّيها بردّ عوضها.
وعن الوسيلة الاحتجاج بأنّ
«الخراج بالضمان» كما في النبويّ المرسل والخراج عبارة عن الفائدة فيصدق على المنفعة ، والباء
للسببيّة أي المنفعة تذهب بسبب الضمان أي في مقابله ، ومعناه كونها في مقابلة ضمان
العين. وحاصل تفسير الخبر أنّ من تقبّل شيئاً لنفسه وضمنه فخراجه له ، والمشتري
لمّا أقدم على ضمان المبيع وتقبّله على نفسه بتقبيل البائع وتضمينه إيّاه على أن
يكون الخراج له مجّاناً ، كان اللازم من ذلك أن يكون خراجه له على تقدير الفساد ،
كما أنّ الضمان عليه على هذا التقدير أيضاً. والحاصل أنّ ضمان العين لا يجتمع مع
ضمان الخراج ، ومرجعه إلى أنّ الفائدة والغنيمة بإزاء الغرامة. قال شيخنا قدسسره : وهذا المعنى مستنبط من أخبار كثيرة متفرّقة مثل قوله
في مقام الاستشهاد على كون منفعة المبيع في زمان الخيار للمشتري : «ألا ترى أنّها
لو احترقت كانت من مال المشتري» ونحوه في الرهن وغيره .
واجيب : بأنّ
الضمان الّذي يوجب كون الخراج للضامن هو ما أقدم عليه المتبايعان وأمضاه الشارع
كضمان الثمن المسمّى في البيع الصحيح ، ولذا يقع فوائد المبيع ومنافعه للمشتري
مجّاناً وبلا عوض ، وما أقدم عليه المتبايعان في العقد الفاسد من ضمان الثمن
المسمّى لم يمضه الشارع بحكم فساد العقد ، وما ورد على المشتري من ضمان العين
وعوضه الواقعي مثلاً أو قيمة حكم قهريّ جاء من قبل الشارع من دون إقدامهما عليه
__________________
ولا التزام المشتري به ، نظير ضمان المقبوض بالسوم وضمان المغصوب.
وربّما نقض ما
ذكر في معنى الرواية بالعارية المضمونة ، من حيث إقدام المستعير على ضمانها مع عدم
كون خراجها له لعدم تملّكه المنفعة ، وإنّما تملّك الانتفاع الّذي عيّنه المالك.
ولا يخلو عن شيء.
واورد على
القول المذكور أيضاً بما ورد في شراء الجارية المسروقة من ضمان قيمة الولد وعوض
اللبن بل عوض كلّما انتفع بها. وردّ بأنّ الكلام في البيع الفاسد الحاصل بين مالكي
العوضين من جهة أنّ مالك العين جعل خراجها للمشتري بإزاء ضمانها بالثمن ، لا ما
كان فساده من جهة التصرّف في مال الغير قيل : وأضعف من ذلك الإيراد عليه بصحيحة أبي ولّاد المتضمّنة
لضمان منفعة المغصوب المستوفاة ردّاً على أبي حنيفة القائل : «بأنّه إذا تحقّق
ضمان العين ولو بالغصب سقط كراها» كما يظهر من تلك الصحيحة.
نعم لو كان
القول المذكور موافقاً لقول أبي حنيفة في إطلاق القول «بأنّ الخراج بالضمان»
انتهضت الصحيحة وما قبلها ردّاً عليه.
المسألة
الخامسة : في ضمان المنافع الغير المستوفاة الفائتة على مالك العين في يد قابضها
بالعقد الفاسد وعدمه ، وبما أخذناه في العنوان يظهر الفرق بين هذه المسألة
والمسألة السابقة ، فإنّ الموجب للضمان في المنافع المستوفاة إنّما هو إتلاف
المنفعة ، ومحلّ البحث في هذه المسألة تلف المنفعة من غير إتلاف ، لأنّ المفروض
عدم استيفاء من بيده العين وإنّما تلفت في يده ، فهل هو كالإتلاف في كونه موجباً
للضمان أو لا؟ فيه خلاف على أقوال ، ضبطها بعض مشايخنا وجعلها خمسة :
أوّلها :
الضمان مطلقاً نسبه في موضع إلى المشهور ، وفي آخر قال : «وكأنّه للأكثر».
__________________
الثاني : عدم
الضمان كما عن الإيضاح .
الثالث :
الضمان مع جهل البائع بالفساد وعدمه مع علمه به ، كما عن بعض من كتب على
الشرائع.
الرابع :
التوقّف في هذه الصورة كما استظهره جامع المقاصد والعميدي من عبارة
القواعد .
الخامس :
التوقّف مطلقاً كما عن الدروس والمسالك والتنقيح وعليه شيخنا المتقدّم قائلاً : «إنّ للتوقّف في المسألة
مجالاً كما في المسالك تبعاً للدروس والتنقيح» .
والأقوى هو
القول بالضمان مطلقاً ، لعين ما تقدّم في المسألة السابقة من عموم خبر «على اليد»
بناءً على كون الأخذ عبارة عن الاستيلاء ، فإنّ من استولى على العين وتمكّن من
جميع تصرّفاتها واستيفاء منافعها صدق أنّه استولى على منافعها ، وحيث تلفت المنافع
تحت يده ضمن عوضها. وأمّا سائر الوجوه المحتملة هنا من عموم خبر «لا يحلّ مال امرئ
...» الخ ، وخبر «من أتلف مال الغير» وقاعدتي «الاحترام والإقدام» فكلّها مدخولة.
وأضعف من الجميع توهّم تناول منقول الإجماع في عبارة التذكرة قائلاً : «منافع
الأموال من العبد والثياب والعقار وغيرها مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد
العادية ، فلو غصب عبداً أو جارية أو عقاراً أو حيواناً مملوكاً ضمن منافعه سواء
أتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده بأن بقيت مدّة في يده لا يستعملها عند
علمائنا أجمع» انتهى. بناءً على كون مراده من اليد العادية مقابل اليد
الحقّة لبعد هذا البناء خصوصاً مع ملاحظة تفريع الغصب.
المسألة
السادسة : قد ظهر أنّ العين إذا تلفت وكانت مثليّة تضمن بالمثل على ما هو المعروف
من مذهب الأصحاب ، وقد يقال «بلا خلاف» إلّا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي
__________________
وقد يعبّر عنه «بالإجماع» كما عن جامع المقاصد وعن غاية
المراد «أطبق الأصحاب على ضمان المثلي بمثله إلّا ما يظهر من ابن الجنيد».
وقد يقال في
مذهبه : إنّ كلامه محتمل لأن يكون المالك مخيّراً في ضمان المثلي بين الأخذ بالمثل
أو بالقيمة ولتعيّن القيمة إلّا إذا رضي المالك بالمثل عبارته المحكيّة في باب
الغصب «إنّ ترك المغصوب ضمن قيمته أو مثله إن رضي صاحبه».
ومبنى الاحتمالين
احتمال رجوع القيد إليهما ، واحتمال رجوعه إلى الأخير.
وقد تعرّض
الأصحاب لتعريف المثلي دون القيمي اكتفاءً في اتّضاح حاله باتّضاح حال المثلي
باعتبار قرينة المقابلة.
واختلفت
كلماتهم في تعريف المثلي غاية الاختلاف ، وأجودها كما اعترف به غير واحد تعريفه بما
يتساوى قيمة أجزائه كما في الشرائع وعن الشيخ وابن زهرة والعلّامة وغيرهم وفي كلام غير واحد وصفه بالمشهور. وظنّي أنّه لو عبّر مكان القيمة بالقيم
كان أولى. وقد يعبّر عن أصل التعريف بما يتساوى أجزاؤه من حيث القيمة ، والمراد
بأجزائه كما قيل : «ما يصدق على كلّ اسم الحقيقة» كما أنّ
المراد بتساوي الأجزاء من حيث القيمة «تساويها فيها من حيث المقدار» ويلزم من ذلك
أن يتساوى الأجزاء أيضاً من حيث المقدار إذ لو لا تساويها كذلك لم تتساو من حيث
القيمة ، وقضيّة هذا كلّه أن يكون نسبة قيمة كلّ جزء إلى قيمة المجموع كنسبة نفس
كلّ جزء إلى نفس المجموع ، وهذا ما يقال له بتساوي الأجزاء من حيث القيمة في
النسبة.
وقد يفسّر ذلك
بأن يكون قيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة البعض الآخر كنسبة نفس البعضين من حيث
المقدار ، ولذا قيل في توضيحه : «أنّ المقدار منه إذا كان يستوي قيمة نصفه فنصفه
يستوي نصف تلك القيمة» ومن هنا رجّح الشهيد كون المصوغ
__________________
من النقدين قيميّاً قال : «إذ لو انفصلت نقصت قيمتها» قال شيخنا قدسسره بعد نقل هذه الكلمات : «قلت : وهذا يوجب أن لا يكون
الدرهم الواحد مثليّاً ، إذ لو انكسر نصفين نقص قيمة نصفه عن قيمة المجموع إلّا أن
يقال : إنّ الدرهم مثليّ بالنسبة إلى نوعه ، وهو الصحيح ولذا لا يعدّ الجريش مثلاً
للحنطة ، ولا الدقاقة مثلاً للُارز ، ومن هنا يظهر أنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد
، بل كلّ صنف من أصناف نوع واحد مثلي بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع أو الصنف.
فلا يرد ما قيل
: من أنّه [إن] اريد التساوي بالكلّيّة ، فالظاهر عدم صدقه على شيء من
المعرّف إذ ما من مثلي إلّا وأجزاؤه مختلفة في القيمة كالحنطة ، فإنّ قفيزاً من
حنطة تساوي عشرة ومن اخرى تساوي عشرين. وإن اريد في الجملة فهو في القيمي موجود
كالثوب والأرض انتهى. قال : وقد لوّح هذا المورد في آخر كلامه إلى دفع
إيراده بما ذكرنا ، من أنّ كون الحنطة مثليّة معناه أنّ كلّ صنف منه متماثل
الأجزاء ومتساوية القيمة ، لا بمعنى أنّ جميع أبعاض هذا النوع متساوية في القيمة
فإذا كان المضمون بعضاً من صنف فالواجب دفع مساويه من هذا الصنف ، لا القيمة ولا
بعض من صنف آخر.
لكنّ الإنصاف
أنّ هذا خلاف ظاهر كلماتهم ، فإنّهم يطلقون المثلي على جنس الحنطة والشعير ونحوهما
، مع عدم صدق التعريف عليه. وإطلاق المثلي على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه أو
أصنافه وإن لم يكن بعيداً ، إلّا أنّ انطباق التعريف على الجنس بهذا الاعتبار بعيد
جدّاً ، إلّا أن يُهملوا خصوصيّات الأصناف الموجبة لزيادة القيمة ونقصانها كما
التزمه بعضهم ، غاية الأمر وجوب رعاية الخصوصيّات عند أداء المثل عوضاً عن التالف
أو القرض ، وهذا أبعد.
هذا مضافاً إلى
أنّه يشكل اطّراد التعريف بناءً على هذا ، بأنّه [إن] اريد تساوي الأجزاء من صنف
واحد من حيث القيمة تساوياً حقيقيّاً ، فقلّما يتّفق ذلك في الصنف الواحد من النوع
، لأنّ أشخاص ذلك الصنف لا يكاد يتساوى في القيمة لتفاوتها
__________________
بالخصوصيّات الموجبة لزيادة الرغبة ونقصانها كما لا يخفى.
وان اريد تقارب
أجزاء ذلك الصنف من حيث القيمة وإن لم يتساو حقيقة ، تحقّق ذلك في أكثر القيميّات
، فإنّ لنوع الجارية أصنافاً متقاربة في الصفات الموجبة لتساوي القيمة ، وبهذا
الاعتبار يصحّ السّلَم فيها ، ولذا اختار العلّامة في باب القرض من التذكرة : أنّ
ما يصحّ فيه السّلَم من القيميّات ، مضمون في القرض بمثله وقد عدّ الشيخ
في المبسوط الرطب والفواكه من القيميّات ، مع أنّ كلّ نوع منها
مشتمل على أصناف متقاربة في القيمة بل متساوية عرفاً.
ثمّ لو فرض أنّ
الصنف المتساوي من حيث القيمة في الأنواع القيميّة عزيز الوجود بخلاف الأنواع
المثليّة ، لم يوجب ذلك إصلاح طرد التعريف ، نعم يوجب ذلك الفرق بين النوعين في
حكمة الحكم بضمان المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة» انتهى كلام
الشيخ قدسسره.
والّذي ينبغي
أن يقال في تحقيق المقام : هو أنّه لا جدوى في الإطناب بالتكلّم في تعريف المثلي
بمثل ما عرفت وغيره ، مع أنّه لا يكاد يوجد تعريف له ممّا ذكره الأصحاب وغيرهم
يكون سليماً عمّا يرد عليه في طرده أو في عكسه ، بل العمدة في المقام بيان مفهومي
المثلي والقيمي حسبما يستفاد من النسبة ، فنقول : إنّ المثلي باعتبار هذه النسبة
عبارة عن المال المنسوب إلى المثل ، وانتساب المال إلى المثل إنّما هو باعتبار كون
ضمان تالفه بالمثل ، ومن ذلك يعلم وجه انتساب المال إلى القيمة في القيمي ، والمثل
المأخوذ طرفاً في النسبة في المثلي لغة وعرفاً عبارة عن «شبه الشيء وشبيهه» فإمّا
أن يراد به ما يماثل التالف ويشابهه في الجنس ، أو في النوع أو في الجنس ، أو في
الخصوصيّات الّتي لها مدخليّة في رغبات الناس احتمالات.
ينبغي القطع
ببطلان ما عدا الأخير للزوم عدم اطّراد المثلي على غيره ، إذ ما من قيمي إلّا وله
ما يماثله ويشابهه في الجنس بل وفي النوع أيضاً ، ووجود ما يماثله ويشابهه في
الصنف أيضاً كثير في القيميّات ، وكلّ مثلي يوجد ما يماثله ويشابهه في الخصوصيّات
الّتي لها مدخليّة في الرغبات ، ولو اتّفق نادراً ما لا يوجد له مثل بهذا
__________________
المعنى فهو مندرج فيما تعذّر له المثل ، وسيأتي حكمه. ويغلب في القيمي عدم
وجود المماثل والمشابه في جميع الخصوصيّات ، ولو اتّفق نادراً وجود المماثل على
هذا الوجه فلا عبرة به إذ النادر بمنزلة المعدوم ، والعبرة بما هو الغالب من عدم
وجود المماثل والمشابه ، فيكون الضمان في كلّ من الغالب والنادر بالقيمة. فتعيّن
أن يكون المراد هو الأخير محافظة على الطرد ، ولأنّ الّذي يظهر من كلماتهم في
الضمان بالمثل وهو المصرّح به في كلام غير واحد ، ومنه ما عرفت هو رعاية المماثلة
والمشابهة في جميع الخصوصيّات الّتي لها مدخليّة في الرغبات ، وحيث إنّ مدرك كون
ضمان المثلي بالمثل والقيمي بالقيمة فكلّ ما انعقد الإجماع على كونه مثليّاً فلا
إشكال ، كما أنّ كلّما انعقد الإجماع على كونه قيميّاً فلا إشكال.
نعم : يشكل
الحال في الموارد المشتبهة باعتبار وقوع الاختلاف في المثليّة والقيميّة ، كما في
الذهب والفضّة الغير المسكوكين لما عن الشيخ من التصريح بكونهما من القيميّات وعن ظاهر غيره كونهما
مثليّين ، والحديد والنحاس والرصاص لما عن ظاهر عبائر المبسوط والغنية والسرائر من كونها
قيميّة وعن عبارة السرائر كونها صريحة في «أنّ اصول هذه الأشياء مثليّة وإن كان
المصوغ منها قيميّاً» ولما عن الشيخ من المبسوط من التصريح
بكون «الرطب والعنب قيميّاً ، والتمر والزبيب مثليّاً» وعن المختلف الاستشكال في
الفرق بينهما ، ونقل شيخنا قدسسره عن بعض من قارب عصره التصريح «بكون الرطب والعنب مثليّين» وعن موضع من
جامع المقاصد «أنّ الثوب مثلي» والمشهور خلافه ، إلى غير ذلك من موارد الخلاف ، ونحوها
سائر الموارد المشتبهة ، فهل الأصل فيها الضمان بالمثل أو بالقيمة أو تخيير
__________________
المالك أو تخيير الضامن؟.
فقد يقال : لا
يبعد أن يقال : إنّ الأصل تخيير الضامن لأصالة براءة ذمّته عمّا زاد على ما يختاره
، إلّا أن يقوم الإجماع على خلافه ، فالأصل تخيير المالك لأصالة عدم براءة ذمّته
بدفع ما لا يرضى به المالك.
ويخدشه : أنّ
المقام ليس من الشكّ من التكليف ، ولا ممّا يؤول إليه من الشكّ في المكلّف به كما
لو دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر ، بل من الشكّ في المكلّف به الدائر بين
المتباينين وهما الضمان بالمثل أو بالقيمة ، نظراً إلى أنّ المثل من حيث مثليّته
في مقابل القيمة ، لا باعتبار قيمته ليئول مع القيمة المقابلة له إلى الأقلّ
والأكثر ، فلا يجري أصل البراءة بل الأصل هو تخيير المالك لأصالة الاشتغال ، فإنّ
يقين الشغل بأداء عوض العين التالفة يستدعي يقين البراءة ، ولا يحصل إلّا بأداء ما
يرضى به المالك فيجب.
ويخدشه أيضاً :
أنّ الضابط في جريان أصل الاشتغال وجود القدر المتيقن ممّا يحصل به الامتثال وهو
غير موجود في محلّ المقال ، لدوران الأمر بين المحذورين ، وهما تعيين المثل بحيث
لم يكن للمالك مطالبة القيمة ولا للضامن الامتناع منه ، وتعيين القيمة بحيث لم تكن
للمالك مطالبة المثل ولا للضامن الامتناع منها ، فلا يمكن البراءة اليقينيّة.
وقيل : يمكن أن
يقال : إنّ القاعدة المستفادة من إطلاقات الضمان في المغصوبات والأمانات المفرّط
فيها وغيرها هو الضمان بالمثل لأنّه أقرب إلى التالف من حيث الماليّة والصفات ،
ثمّ بعده بقيمة التالف من النقدين وشبههما لأنّه أقرب إليه من حيث الماليّة ،
ولأجل الاتّكال إلى هذا الظهور أهمل الشارع بيان الحكم للموارد المشتبهة مع عموم
البلوى بها.
أقول : ويساعد
عليها ظاهر خبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» فإنّ الثقل المستفاد من كلمة على ـ
كما قرّرناه ـ مستصحب إلى أن يحصل التأدية بما هو أقرب إلى العين في الماليّة
والصفات ، ومع تعذّره يعدل إلى ما هو أقرب إليه في الماليّة وهو القيمة. فقد تلخّص
من جميع ما ذكرناه أنّ ما أجمع على كونه مثليّاً يضمن بالمثل وتعني به ما يماثل
التالف ويشابهه في الجنس والنوع والصنف والصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات ،
سواء ساوى قيمته قيمة التالف أو نقص عنها أو زاد عليها.
وتوهّم : الضرر
على المالك في صورة نقصان القيمة ، يدفعه أنّ ماله الّذي في ذمّة الضامن هو المثل
كائناً ما كان لا القيمة. كما أنّ توهّم لزومه على الضامن في صورة الزيادة ، يندفع
بأنّ ما خوطب بردّه هو ذلك لا القيمة نظير الدين في ذمّة المديون في القرض ، فإنّ
اختلاف القيمة لا يعدّ ضرراً.
وما أجمع على
كونه قيميّاً يضمن بالقيمة وإن وجد له مثل أو كان مثله في ذمّة الضامن ، لعدم كون
بنائهم فيه على التهاتر القهري.
وما يشكّ في
كونه قيميّاً أو مثليّاً يلحق بالمثلي. وقد يقيّد بعدم اختلاف قيمتي المدفوع
والتالف ، وأمّا مع الاختلاف فيلحق بالقيمي. ووجهه غير واضح ، ولعلّه ما تقدّم في
وجه أصالة الضمان بالمثل من كون مناطه كون المثل أقرب إلى التالف في الماليّة ،
فإذا نقص المثل من حيث القيمة وجب العدول إلى قيمة التالف رعاية إلى الأقرب إليه
من حيث الماليّة.
ويشكل بأنّ
مناط الأصل المذكور هو الأقربيّة من حيث الماليّة والصفات معاً ، والعدول إلى
القيمة فيما نحن فيه وإن كان محصّلاً للأقربيّة من حيث الماليّة إلّا أنّه مفوّت
للأقربيّة من حيث الصفات ، وقد يكون مطلوب المالك المرغوب فيه عنده هو الصفات لا
الماليّة ، كما أنّه قد يكون مطلوبه المرغوب فيه هو الماليّة لا الصفات ، فلا بدّ
من طرح إحدى الأقربيّتين فيما نحن فيه ، والطرح ليس من وظيفة الضامن بل من وظيفة
المالك ، لأنّ كلاًّ منهما في صورة الإمكان حقّه ، فالوجه حينئذٍ إناطة تعيين أحد
الأمرين من المثل الموافق للتالف في الصفات أو القيمة الموافقة لها في الماليّة
باختيار المالك هذا ، مضافاً إلى أصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به
المالك.
نعم يمكن أن
يقال : إنّ العبرة في أقربيّة المثل إلى التالف ليست بالماليّة والقيمة ، بل
بالمماثلة والمشابهة له في الجنس والنوع والصنف والصفات ، ومع وجود المثل بهذا
المعنى كان مال المالك المضمون به ولا يتسلّط على مطالبة غيره ولو مع اختلاف
القيمتين ونقصان قيمة المثل عن قيمة التالف ، ولذا حكموا على ما حكي بأنّ تنزّل
قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة ، بل عن بعضهم
أنّه احتمل ذلك مع سقوط المثل في زمان الدفع عن الماليّة كالماء عند شاطئ البحر
والثلج في
الشتاء. وعلى هذا كلّه فللمالك مطالبة مثل ماله في كلّ مكان يكون ولو في
غير مكان التلف ، لعموم «الناس مسلّطون» من غير فرق في صورة اختلاف المكانين بين
كون قيمته في مكان المطالبة أزيد من قيمته في مكان التلف أو لا ، كما حكي عن ظاهر
السرائر والتذكرة والإيضاح والدروس وجامع المقاصد وعن السرائر «أنّه الّذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلّة
واصول المذهب.
وعلى هذا فما
عن القواعد من «أنّه لو لم يوجد المثل إلّا بأكثر من ثمن المثل ففي وجوب الشراء
تردّد» لا وجه له ، بل الوجه هو وجوب الشراء وإن صار قيمته
أضعاف قيمة التالف يوم تلفه ، سواء كان صيرورته كذلك لارتفاع قيمته السوقيّة أو
لعدم وجوده إلّا عند من يبيعه بأكثر من ثمن المثل ولو لعناد أو غرض آخر له ، وعن
الخلاف نفي الخلاف ، وإطلاقه يشمل الصورتين قائلاً : «إذا غصب ماله مثل كالحبوب
والادهان فعليه مثل ما تلف في يده يشتريه بأيّ ثمن كان بلا خلاف» ويدلّ عليه
إطلاق النصّ والفتوى ، ويؤيّده فحوى حكمهم بأنّ تنزّل قيمة المثل حين الدفع عن يوم
التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة. وتوهّم : الفرق بين الصورتين بدعوى إمكان
التردّد في الصورة الثانية تعليلاً بأنّ بذل ما يزيد مالك المثل بإزائه يعدّ ضرراً
في العرف ، تحكّم.
المسألة
السابعة : لو تعذّر المثل في المثلي فله صور :
الاولى : أن
يتواطأ المالك والضامن على القيمة فلا إشكال فيه ، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم»
المقتضي لسلطنة المالك على إبدال ماله في ذمّة الضامن بقيمته ، وإذا دفعها الضامن
برئت ذمّته.
الثانية : أن
يتواطآ على الصبر والانتظار إلى أن يوجد المثل وإن طال مدّة الصبر ، فإذا وجد وجب
دفعه. ولا إشكال فيه ، لأجل العموم المذكور ، وأصالة براءة الضامن عن القيمة.
الثالثة : أن
يطالب المالك قيمة المثل المتعذّر في العاجل والضامن لا يرضى بها آمراً له بالصبر
إلى أن يوجد المثل تعليلاً بأنّ حقّك فيه لا في القيمة ، فقد يقال : بأنّ مقتضى
القاعدة مع مطابقة المالك وجوب دفع القيمة ، لأنّ منع المالك ظلم وإلزام
__________________
الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر فوجبت القيمة جمعاً بين الحقّين ، ولقوله
تعالى : «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» فإنّ الضامن
إذا الزم بالقيمة مع تعذّر المثل لم يعتد عليه أزيد ممّا اعتدى.
أقول : إن كان
إجماعاً فلا كلام ، وإلّا ففيه نظر ، لضعف الوجهين :
أمّا القاعدة
فلأنّ منع المالك عن مطالبته للصبر والانتظار إلى وجود المثل الّذي حقّه فيه لو
كان ظلماً ، فإلزام الضامن بدفع القيمة مع كون ما في ذمّته المثل لا القيمة أولى
بكونه ظلماً ، بل الإنصاف أنّ الثاني ظلم دون الأوّل ، بل هو كإنظار المديون
المعسر إلى اليسار ، نعم منع المالك عن حقّه مطلقاً حتّى المثل المتعذّر في زمان
وجوده ظلم.
وأمّا الآية
فلأنّها على تقدير وفائها بالضمان المالي فمفادها الرخصة في الاعتداء بمثل ما
اعتدى ، لا المنع من أزيد ممّا اعتدى ، وقد بيّنّا سابقاً أنّ المثل في متفاهم
العرف ظاهر فيما يماثل الشيء ويشابهه من جميع الجهات ، فلا يشمل القيمة فالإلزام
بها وإن لم يصدق عليه الاعتداء بأزيد ممّا اعتدى إلّا أنّه لم يصدق عليه الاعتداء
بمثل ما اعتدى ، فالرخصة المستفادة من الآية لا يشملها.
لا يقال : إنّ
المنع عن الاعتداء بأزيد ممّا اعتدى ينساق من تبادر المماثلة في المقدار من المثل ،
لأنّ هذا المتبادر من جملة الجهات الّتي يتبادر من المثل المماثلة فيها ، ومن
جملتها الجنس والنوع والمثل والصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات.
الرابعة : أن
لا يطالب المالك قيمة ماله بل يصبر إلى وجود المثل ، ولكنّ الضامن لا يرضى به بل
يريد دفع القيمة ، هل له إلزام المالك بقبولها؟ الظاهر العدم ، لأصالة بقاء حقّ
المالك في المثل ، وعدم سقوط حقّه عن المثل مع عدم الدليل على إلزامه بقبولها.
وقد يعلّل
أيضاً بأنّ المتيقّن أنّ دفع القيمة علاج لمطالبة المالك ، وجمع بين حقّه بتسليطه
على المطالبة وحقّ الضامن بعدم تكليفه بالمعذور أو المعسور ، أمّا مع عدم المطالبة
فلا دليل على سقوط حقّه عن المثل.
وهذا مبنيّ على
تماميّة القاعدة المذكورة في الصورة السابقة ، وقد سمعت المناقشة
__________________
فيها. وأمّا عدم الدليل على سقوط حقّ المالك عن المثل فحقّ لا سترة عليه.
ثمّ بعد ما
وجبت القيمة إمّا للتواطؤ أو على القول بوجوبها مع مطالبة المالك مطلقاً ، فهل
المعتبر فيها قيمة يوم الدفع ، أو قيمة يوم التعذّر ، أو قيمة يوم المطالبة ، أو
قيمة يوم تلف العين؟ احتمالات ، وربّما يذكر فيه احتمالات اخر سيأتي بيانها ، إلّا
أنّ المشهور كما حكي المنسوب إلى الأكثر وهو الأقوى كون العبرة فيها بقيمة
يوم الدفع ، كما نسب التصريح به إلى المحقّق وهو ظاهر المحكيّ عن التذكرة والإيضاح وهو أنّ المثل
لا يسقط بالإعواز ، ألا ترى أنّ المغصوب منه لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك المطالبة
به وإنّما المصير إلى القيمة وقت تغريمها انتهى. وعلّل الحكم بأنّ المثل ثابت في الذمّة إلى ذلك
الزمان ولا دليل على سقوطه بتعذّره كما لا يسقط الدين بتعذّر أدائه ، وهو المستفاد
أيضاً من عبارتي التذكرة والإيضاح لمكان قولهما «لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك
المطالبة به» وفيه نوع قصور. والأولى أن يقال : إنّ انتقال المثل المضمون به
المفروض تعذّره إلى القيمة إنّما هو بإبداله بالقيمة ، وهو إنّما يتحقّق في زمان
الدفع الّذي هو وقت إقباض القيمة.
وعن جماعة
كالحلّي في البيع الفاسد والعلّامة في التحرير في باب القرض والمسالك اعتبار قيمة
يوم التعذّر ، وعلّلوه بأنّه وقت الانتقال إلى القيمة.
وفيه من
المصادرة على المطلوب ما لا يخفى ، مع توجّه المنع إلى دعوى كونه وقت الانتقال إلى
القيمة ، فإنّ الانتقال إليها مبنيّ على الإبدال وهو يتحقّق في وقت الدفع ، كما في
انتقال الزكاة المتعلّقة بالعين إلى ذمّة المالك بتقبّلها بقيمتها الّذي يوجب
الانتقال إلى القيمة في الذمّة وقت التقبّل ، فيكون العبرة فيها بقيمة ذلك الوقت.
وممّا بيّنّاه
ينقدح ضعف احتمال كون العبرة بقيمة يوم المطالبة ، إذ الانتقال إلى القيمة إذا كان
منوطاً بالإبدال فهو لا يتحقّق بمجرّد مطالبة المالك ، غاية الأمر أنّه
__________________
يستحقّ مطالبتها وهي بمجرّدها لا توجب الانتقال المذكور بحيث ينقلب المثل
المضمون قيمته في الذمّة.
على أنّا نقول
في توضيح بطلان هذا الاحتمال وسابقه : إنّ القيمة المنتقل إليها إمّا قيمة المثل
المتعذّر ، أو قيمة العين التالفة ، فإن كان الأوّل فلا مناص من اعتبار قيمة يوم
الدفع لأنّه لا يسقط عن الذمّة ولو بحكم الأصل إلّا بأداء عوضه وهو القيمة ، وإن
كان الثاني فلا محيص من اعتبار قيمة يوم تلف العين ، فالواسطة من اعتبار قيمة يوم
المطالبة واعتبار قيمة يوم التعذّر منتفية.
ومن ذلك ظهر
بطلان اعتبار أعلى القيم بجميع محتملاته. وما ذكرناه من المختار هو مقتضى الأصل
والقاعدة ، ولا يقدح فيه لو ثبت اعتبار شيء ممّا عدا قيمة يوم الدفع بدليل خاصّ
في بعض الفروض ، فإنّه من باب تخصيص القاعدة.
وأمّا تحقيق
أنّ القيمة المنتقل إليها هو قيمة المثل المتعذّر لا قيمة العين التالفة ، فلأنّ
كونها قيمة العين التالفة معناه كون المضمون به من حيث تلف العين هو القيمة لا
المثل ، وهذا لا يتمّ إلّا بدعوى انقلاب المثلي في مسألة تعذّر المثل قيميّاً.
وهذه الدعوى لكونها على خلاف مقتضى دليل كون ضمان المثلي بالمثل تحتاج إلى دليل
ولا دليل عليها. وتوهّم : الدليل عليها من فرض كون تعذّر المثل حاصلاً من حين تلف
العين ، بتقريب أنّ الخطاب بردّ المثل حينئذٍ مع تعذّره تكليف بالممتنع وهو قبيح ،
فهذا الخطاب بقبحه ساقط ولازمه توجّه الخطاب إلى ردّ القيمة ولا يعنى من انقلاب
المثلي قيميّاً إلّا هذا. يدفعه : أنّ هذا مع أنّه لا يتّفق إلّا في فرض نادر لا
يوجب التكليف بالممتنع إلّا إذا فرض المثل المتعذّر من حين تلف العين بحيث لا يرجى
وجوده في الأزمنة المتأخّرة أيضاً بأن يكون تعذّره دائميّاً ، إذ مع كونه بحيث
يوجد في الأزمنة المتأخّرة لا يكون الخطاب به تكليفاً بالممتنع ، إذ ليس المراد من
الخطاب به أداؤه حال تعذّره بل أداؤه حين يوجد ، نظير الأمر المشروط بالفعل حال
عدم وجوده الّذي لا يقصد منه الإتيان بالفعل حال عدم وجود الشرط بل الإتيان به بعد
وجود الشرط ، فإذا فرض الانقلاب المذكور في صورة التعذّر الدائمي فنحن نلتزم به
إلّا أنّه لا يوجب كون الحكم الكلّي في مسألة تعذّر المثل في المثلي هو الانتقال
إلى القيمة على أنّها
قيمة العين التالفة لا قيمة المثل المتعذّر ، بل غايته أنّه حكم جزئي يلتزم
به في بعض الفروض النادرة بدليله من باب تخصيص القاعدة المذكورة حسبما أشرنا إليه.
ولكن العلّامة
في القواعد قال في باب الغصب : «ولو تلف المثلي في يد الغاصب والمثل موجود فلم
يغرّمه حتّى فقد ففي القيمة المعتبرة احتمالات :
الأوّل : أقصى
قيمته من يوم الغصب إلى التلف ، ولا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال.
الثاني : أقصى
قيمته من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز.
الثالث : أقصى
القيم من وقت الغصب إلى الإعواز.
الرابع : أقصى
القيم من وقت الغصب إلى وقت دفع القيمة.
الخامس :
القيمة يوم الإعواز».
وقال المحقّق
الثاني في ترجيح الاحتمال الخامس : «هذا هو الأصحّ ، لأنّ الواجب هو المثل ، فإذا
دفع بدله اعتبرت البدليّة حين الدفع فحينئذٍ يعتبر القيمة» انتهى.
والعلّامة
هاهنا لم يرجّح شيئاً إلّا أنّه قبل أن يذكر عنوان هذه الاحتمالات بأسطر متضمّنة
لذكر فروع قال : «وغير الحيوان يجب ضمانه بالمثل إن كان مثليّاً ، وهو ما تتساوى
قيمة أجزائه ، فإن تعذّر فالقيمة يوم الإقباض لا الإعواز» وعلّله
المحقّق المذكور في شرحه بما يوافق ما ذكره في وجه ترجيح الاحتمال الخامس بقوله : «وذلك
لأنّ الواجب في الذمّة هو المثل فعند إرادة التسليم ينتقل إلى القيمة لو تعذّر
المثل ، فلو وجبت القيمة وقت الإعواز لكان إذا تمكّن من المثل بعد الإعواز ولم
يسلّم العوض لا يجزئ تسليم المثل ، لاستقرار القيمة في الذمّة والأصل بقاؤها
والتالي بطلانها» انتهى.
والظاهر أنّه
فرض التعذّر هاهنا أيضاً بعد وجوده حال تلف العين ، فالموضعان سيّان من حيث كون
المفروض ما إذا طرأ تعذّر المثل بعد وجوده في بعض أزمنة التلف ، لا ما تعذّر المثل
ابتداءً من حين التلف.
ثمّ إنّ الظاهر
أنّ ضمير «قيمته» في الاحتمال الأوّل يعود إلى المثل كما فهمه المحقّق المذكور ،
لا إلى «المغصوب» لشهادة وحدة سياق الاحتمالات الخمس من حيث إنّ
__________________
المبحوث عنه المطلوب معرفة قيمته هو المثل ، ولا ريب أنّ ضمير «قيمته» في
الاحتمال الثاني ظاهر كالصريح في العود إلى المثل ، كما أنّ القيمة في بقيّة
الاحتمالات ظاهرة في قيمة المثل فيبعد إرجاعه إلى المغصوب كما عن الشارحين ، مضافاً
إلى استلزامه الاستخدام فيه وفي ضمير الاحتمال الثاني ، وهو خلاف ظاهر لا داعي إلى
ارتكابه.
والاستشهاد له
بقوله : «ولا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال» مع قوله : «من يوم الغصب إلى يوم التلف»
بدعوى أنّ المفهوم منه من يوم غصبه إلى يوم تلفه.
يدفعه : أنّ
المثل المتعذّر بعد ما كان جارياً مجرى المغصوب في الوجوب ، وتعذّره جارياً مجرى
تلف المغصوب كما عليه مبنى الاحتمال الأوّل على ما ستعرفه ، صحّ أن يقال : إنّ
المعتبر زيادة قيمته من وقت الغصب إلى يوم التلف. ولا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال
، ولا ينافيه كون المفهوم من يوم الغصب إلى يوم التلف من يوم غصبه إلى يوم تلفه
كما لا يخفى على المتدبّر.
وممّا يؤيّد ما
رجّحناه عبارة التذكرة فإنّه على ما حكي قال في بيان الاحتمال الأوّل : «إنّ
الواجب أقصى قيمته من يوم الغصب إلى التلف ولا اعتبار بزيادة قيمة أمثاله بعد تلفه
كما في المتقوّمات ، ولأنّ المثل جارٍ في الوجوب مجرى المغصوب ، فإذا تعذّر صار
بمنزلة تلف المغصوب ، والمغصوب إذا وجب قيمته وجب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى
حين التلف» انتهى. قال المحقّق المذكور : والتعليل الثاني كالصريح
في أنّ المراد قيمة المثل.
وكيف كان فقد
عرفت أرجح الاحتمالات ، وأقواها هو الاحتمال الخامس ، وقد سمعت وجهه. وأمّا
الاحتمالات الأربع الاولى فقد ذكر لها وجوه مزيّفة :
فوجه الاحتمال
الأوّل ما ذكره العلّامة في العبارة المتقدّمة المحكيّة عن التذكرة وملخّصه : أنّ
المثل في مسألة التعذّر يجري مجرى المغصوب في الوجوب ، وتعذّره بمنزلة تلف المغصوب
، وحكم المغصوب أنّه إذا تلف ووجب قيمته وجب أعلى قيمه من حين الغصب إلى وقت
التلف.
__________________
وفيه : منع
المقدّمتين ، أمّا المقدّمة الاولى فلأنّ المثل يجري مجرى المغصوب في الوجوب من
حين تلف المغصوب لا من حين غصبه ، وأمّا المقدّمة الثانية فلمنع كون تعذّر المثل
بمنزلة تلف العين إلّا أنّه كان تعذّره ابتداءً من حين تلف المغصوب ولا يرجى وجوده
فيما بعد أصلاً ، فحينئذٍ ينقلب المثلي قيميّاً فيجب أعلى قيمه من يوم الغصب إلى
يوم التلف ، لا إذا طرأ تعذّره بعد ما كان موجوداً حال تلف المغصوب ، ولذا لو
تمكّن من المثل بعد ذلك كان للمالك مطالبته ويجب على الضامن تأديته ، فما دام لم
يأخذ المالك القيمة فالمثل باقٍ في الذمّة ، وتعذّره لا يسقطه عن الذمّة ولو بحكم
الاستصحاب وأصالة البقاء.
ووجه الاحتمال
الثاني ما قرّره المحقّق المذكور من «أنّ انتقال الحكم إلى البدل الّذي هو المثل
إنّما هو حين تلف المغصوب ، إذ مع وجوده يجب ردّه وبعد تعذّره انتقل الفرض إلى
القيمة» انتهى.
وفيه : أنّ
انتقال الحكم إلى المثل حين تلف المغصوب وإن كان مسلّماً إلّا أنّه لا ينتج اعتبار
أعلى القيم من ذلك الحين إلى التعذّر ، إلّا بانضمام مقدّمة اخرى إليه ، وهي كون
تعذّر المثل بمنزلة تلفه ، وهذا التنزيل موضع منع لعدم الدليل عليه.
ووجه الاحتمال
الثالث : ما ذكره أيضاً بقوله : «ووجهه يعلم من الوجهين في الاحتمالين الأوّلين ،
فإنّ المثل لمّا جرى مجرى المغصوب كانت قيمته في جميع أزمان ضمان المغصوب مضمونة
إلى زمان تعذّره» وملخّصه : أنّ المثل جارٍ مجرى المغصوب في وجوبه من حين
الغصب وتعذّره بمنزلة تلفه.
وفيه : منع
المقدّمتين ، وسند المنع ما عرفت من أنّ المثل إنّما يجب حين تلف المغصوب لا من
حين غصبه ، وإنّ تعذّر المثل لا يوجب سقوطه عن الذمّة كما عرفت فهو مستصحب فيها
إلى أن يحصل المسقط ، ومسقطه القيمة يوم الإسقاط ، وهو يوم الدفع لا يوم التعذّر.
ووجه الاحتمال
الرابع : ما ذكره أيضاً من «أنّ قيمة المثل معتبرة من زمان وجوبه
__________________
أو وجوب مبدله فإنّها مضمونة لضمان أصلها ، فيجب الأقصى تفريعاً على إيجاب
أعلى القيم في القيمي» .
وفيه : منع
التفريع لعدم دليل عليه ، ومنع كون قيمة المثل معتبرة من زمان وجوبه أو وجوب
مبدّله ، ومنع كونها مضمونة لضمان أصلها بل المضمون من حين تلف المضمون هو المثل ،
ولا يسقط بتعذّره بل بالإسقاط في زمانه وهو يوم الإقباض لا الإعواز.
ثمّ إنّه قد
عرفت أنّ المأخوذ في عنوان الاحتمالات المذكورة في عبارة القواعد صورة وجود المثل
حين تلف المغصوب ثمّ إعوازه في بعض أزمنة ما بعد التلف ، وقضيّة ذلك عدم جريان
الاحتمالات فيما لو تعذّر المثل ابتداءً على معنى حصول التلف حال إعواز المثل
وتلفه. وفي جامع المقاصد أنّه يتعيّن حينئذٍ قيمة يوم التلف على معنى قيمة التالف
يوم تلفه ، وكأنّه لانقلاب المثلي حينئذٍ قيميّاً ، ووجّه بعدم تنجّز التكليف
بالمثل عليه في وقت من الأوقات. ويرد عليه أنّه يتمّ كما ذكرناه سابقاً في الإعواز
الدائمي وإلّا فلا حجر من التكليف به كما في الأمر المشروط بالفعل حال عدم وجود
الشرط.
وعلى هذا فما
قيل في وجه عدم تنجّز التكليف به من «أنّ أدلّة وجوب المثل ظاهرة في صورة التمكّن
وإن يكن مشروطاً به عقلاً فلا تعمّ صورة العجز ، نعم إذا طرأ العجز فلا دليل على
سقوط المثل وانقلابه قيميّاً» إن اريد به عدم شمولها صورة العجز الدائمي لظهورها
في صورة التمكّن من المثل ابتداءً وإن طرأ العجز بعده أو التمكّن منه بعد إعوازه
وتعذّر فحسن ، وإلّا فغير جيّد.
ولذا اورد على
المحقّق فيما ذكره «من تعيّن قيمة التالف يوم تلفه لصورة تعذّر المثل ابتداءً» من
أنّ اللازم ممّا ذكره أنّه لو ظفر المالك بالمثل قبل أخذ القيمة لم يكن له مطالبته
، ولا يظنّ على أحد أنّه يلتزمه.
والظاهر أنّه
إيراد على إطلاق كلامه وإلّا فمع الإعواز الدائمي لو اتّفق لا يجري عثور المالك
بالمثل حتّى ينظر في حكمه ، وأنّه هل له مطالبته أم لا؟
__________________
ثمّ بقي من
مسألة انتقال الحكم من المثلي إلى القيمة لتعذّر المثل امور ينبغي ذكرها من باب
الفروع :
الأوّل : أنّ
الموجب لانتقال الحكم هل هو إعواز المثل أو تعذّره؟ احتمالان ، نظراً إلى اختلاف
عبارات الأصحاب في التعبير تارةً بالإعواز واخرى بالتعذّر ، حتّى أنّ العلّامة في
عبارة القواعد عبّر بـ «الإعواز» كما سمعت ، وفي عبارة التذكرة عبّر بـ «التعذّر»
والمحقّق الثاني في شرح عبارة القواعد المشتملة على ذكر الاحتمالات
الخمس المتقدّمة عبّر مكان الإعواز بـ «التعذّر».
والفرق بينهما
أنّ الإعواز بحسب المفهوم أخصّ من التعذّر ، لأنّ التعذّر قد يكون بغير إعواز كما
لو كان المثل موجوداً عند من لا يبيعه ولو بأزيد من ثمن المثل.
ويمكن أن يقال
بأنّ اختلاف العبارات في مجرّد التعبير لا في المعنى ، إمّا بإرجاع الإعواز إلى
معنى التعذّر ، أو بإرجاع التعذّر إلى معنى الإعواز. والأظهر الأوّل لوحدة المناط
، فإنّ مناط انتقال الحكم عدم التمكّن من أداء المثل ولو كان لعدم إمكان الوصلة
إليه مع فرض وجوده عند من لا يبيعه أصلاً.
الثاني : أنّ
المراد بإعواز المثل على ما عن العلّامة في التذكرة «أن لا يوجد في البلد وما حوله»
وعن المسالك «أنّه زاد قوله ممّا ينقل عادةً منه إليه» ويشكل بأنّ هذا التحديد ممّا لا
دليل عليه من نصّ أو إجماع فلا يكون مقبولاً.
وعن جامع المقاصد
«الرجوع فيه إلى العرف» وهذا أيضاً غير واضح ، لأنّ الرجوع إلى العرف إنّما يستقيم
في معرفة موضوعات الأحكام المأخوذة في النصوص أو معاقد الإجماعات ، والإعواز لم
يرد ذكره في نصّ بل هو واقع في كلام الفقيه. نعم لو ثبت الإجماع على انتقال الحكم
إلى القيمة عند إعواز المثل كان للإرجاع إلى العرف وجه ، ولكنّه غير واضح.
فالوجه حينئذٍ
ما قيل : من أنّ مقتضى عموم «وجوب أداء مال الناس»
__________________
و «تسلّطهم على أموالهم» أعياناً خارجيّة كانت أم أعواضاً في الذمّة وجوب تحصيل
المثل أينما كان ولو كان في تحصيله مئونة كثيرة ، ولذا يجب شراؤه على تقدير وجوده
بأيّ ثمن يكون . ويؤيّده أنّ العلماء إذا كانوا بين معبّر بالإعواز
ومعبّر بالتعذّر كان المتيقّن الرجوع إلى الأخصّ وهو التعذّر لأنّه المجمع عليه.
وقد يستأنس لما
عن التذكرة بما ورد في بعض أخبار السّلَم من أنّه إذا لم يقدر المسلم إليه على إيفاء المسلم فيه
تخيّر المشتري ، إذ من المعلوم أنّ المراد بعدم القدرة ليس التعذّر العقلي
المتوقّف على استحالة النقل من بلد آخر ، بل الظاهر منه عرفاً ما عن التذكرة وفيه نظر.
الثالث : أنّ
المثل إذا كان معدوماً في صورة الإعواز ، فقيمته لدفعها إنّما تعرف بتقدير وجوده ،
وقد يشكل الأمر فيما اختلف قيمته بحسب اختلاف حالاته على تقدير وجوده الدائرة بين
العزّة والابتذال والمتوسّط بينهما ، كالعنب مثلاً في أوائل بلوغه وأواخر شيوعه
والمتوسّط بينهما ، وله في كلّ حالة قيمة وأعلى قيمه قيمة حالة عزّته ، والظاهر
أنّ العبرة بقيمة حالة عزّته تحصيلاً للمبرئ اليقيني ، فإنّ المثل على مفروض
المسألة لا يسقط عن الذمّة إلّا بإسقاط ، ومسقطه المبرا لها دفع القيمة والمتيقّن
منه إنّما هو قيمة حالة العزّة.
ولكن ينبغي أن
يراعى العادة في كلّ من وجوده المقدّر وقيمته المفروضة ، بأن يقدّر وجوده في زمان
يعتاد وجوده فيه ولو عزيزاً فلا يكفي الوجود الغير المعتاد كبعض الفواكه الّذي
يقتنى إلى غير موسمه الّذي يعتاد وجوده فيه ، وأن يكون القيمة المفروضة له بحيث
يعتاد بذلها في البيع والشرى لغرض عادي يرغب لأجله الراغبون في بيع هذا الجنس
وشرائه ، فلا عبرة بتقدير وجوده عند من يستغني عن بيعه بحيث لا يرغب في بيعه إلّا
بعوض لا يرغب في بذله الراغبون في هذا الجنس بمقتضى رغبتهم إلّا لغرض غير عادي
الجأهم إلى بذل هذا العوض ، مثل مداواة مريض مشرف
__________________
على الهلاك أو إهدائه إلى سلطان ونحوه ، بل لو وجد هذا الفرد من المثل لم
يقدح في صدق التعذّر الموجب لانتقال الحكم إلى القيمة ، ومن هنا ما قيل : «من أنّ
كلّ موجود لا يقدح وجوده في صدق التعذّر لا عبرة بتقدير وجوده عند عدمه» .
الرابع : قد
تقدّم أنّ المثل في صورة وجوده وتمكّن الضامن من أدائه فللمالك مطالبة الضامن به
في أيّ مكان ظفر عليه ولو في بلد آخر غير بلد الضمان الّذي هو بلد التلف ، حتّى
أنّه لو توقّف ردّه على شرائه وجب الشراء ولو بأزيد من ثمن المثل ، وكذلك كان له
المطالبة بالقيمة في صورة إعوازه بل تعذّره في أيّ مكان يكون ولو غير بلد الضمان
والتلف ، إلّا أنّ هذا الحكم على تقدير مساواة قيمتي بلد التلف وبلد المطالبة ممّا
لا إشكال فيه. نعم يشكل الأمر فيما لو كان أحدهما مخالفاً للآخر في القيمة فهل
يتعيّن قيمة بلد التلف ، أو قيمة بلد المطالبة ، أو أعلى القيمتين؟ وجوه. أشار
إليها بعض مشايخنا من غير ترجيح ، ويمكن ترجيح الأخير تحصيلاً للمبرئ اليقيني
حسبما بيّنّاه في الفرع الثالث.
ثمّ إنّه حكى
شيخنا قدسسره عن مبسوط الشيخ تفصيلاً لا يكاد ينطبق على ما نحن فيه
قال ـ عقيب ذكر الوجوه ـ : «وفصّل الشيخ في المبسوط في باب الغصب
بأنّه إن لم يكن في نقله مئونة كالنقدين فله المطالبة بالمثل سواء كانت القيمتان
مختلفتين أم لا ، وإن كان في نقله مئونة فإن كانت القيمتان متساويتين كان له
المطالبة أيضاً ، لأنّه لا ضرر عليه في ذلك ، وإلّا فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف
أو يصبر حتّى يوفّيه بذلك البلد» انتهى.
وفيه لأنّ ظاهر
كلام الشيخ أنّه ذكر ذلك التفصيل لصورة وجود العين المغصوبة وبقائها في بلد الغصب
والمالك ظفر على الغاصب في بلد آخر سواء كانت مثليّة أو قيميّة بدليل ضمان
الحيلولة الّذي ذكره في آخر كلامه وغيره من القرائن الاخر الّتي يجدها المتأمّل في
كلامه ، فإنّه قال : «إذا غصب منه مالاً مثلاً بمصر فلقيه بمكّة فطالبه به لم يخل
من أحد أمرين : إمّا أن يكون لنقله مئونة ، أو لا مئونة لنقله ، فإن لم يكن لنقله
__________________
مئونة كالأثمان فله مطالبته به سواء كان الصرف في البلدين مختلفاً أو
متّفقاً لأنّه لا مئونة في نقله في العادة ، والذهب لا يقوّم بغيره والفضّة لا
تقوّم بغيرها إذا كانا مضروبين. وإن كان لنقله مئونة لم يخل من أحد أمرين : إمّا
أن يكون له مثل ، أو لا مثل له ، فإن كان له مثل كالحبوب والأدهان نظرت ، فإن كانت
القيمتان في البلدين سواء كان له مطالبته بالمثل لأنّه لا ضرر عليه في ذلك ، وإن
كانت القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل وفيما لا مثل له سواء ، فللمغصوب منه
إمّا أن يأخذ من الغاصب بمكّة قيمته بمصر ، وإمّا أن يدع حتّى يستوفي منه ذلك بمصر
لأنّ في النقل مئونة والقيمة مختلفة فليس له أن يطالبه بالفضل ، فإن صبر فلا كلام
، وان أخذ القيمة ملكها المغصوب منه ، ولم يملك الغاصب ما غصب ، لأنّ أخذ القيمة
لأجل الحيلولة لا بدلاً عن المغصوب كما لو غصب عبد فأبق فأخذنا منه قيمته فإنّ
القيمة تملك منه ، ولم يملك الغاصب العبد ، فإن عاد إلى مصر والشيء قائم بحاله
انتقض ملكه عن القيمة الّتي أخذها وعاد إلى عين ماله كما قلناه في العبد الآبق» انتهى.
ومراده من
النقل الّذي قسّمه إلى ما لا مئونة له وما له مئونة ، هو نقل الشيء المغصوب من
بلد الغصب إلى بلد المطالبة ، فإن لم يكن له مئونة وجب على الغاصب المطلوب منه
المال المغصوب بعينه نقله من بلد الغصب إلى بلد المطالبة ، إذ المفروض أنّه لا ضرر
عليه في نقله من جهة عدم مئونة فيه ، فلا يتوهّم الانتقال إلى المثل لعدم تلف العين
ولا ضرر في نقلها ولا إلى القيمة ، لأنّ قيمة المسكوك من الذهب والفضّة لا يكون
إلّا مثله وقد لغى اعتباره حينئذٍ ، فليتدبّر.
الخامس : هل
يعدّ خروج المثل في المثلي عن الماليّة بسقوطه عن القيمة من إعوازه وتعذّره الموجب
لانتقال الضمان منه إلى القيمة ، كالماء على شاطئ البحر إذا غصبه وأتلفه في مفازة
له فيها قيمة ، والجمد في الشتاء إذا غصبه وأتلفه في الصيف أم لا؟ الأقوى الأوّل ،
بل هو المتعيّن كما جزم به بعض مشايخنا ، وقال : «بل حكي عن بعض نسبته
إلى الأصحاب وغيرهم» قال : «والمصرّح به في محكيّ التذكرة
__________________
والإيضاح والدروس قيمة المثل في تلك المفازة وفي الصيف ، ويحتمل آخر مكان
أو زمان سقط المثل فيه عن المالية» .
السادس : لو
أخذ المالك قيمة المثل بعد إعوازه أو تعذّره ثمّ تمكّن الضامن منه ،فالظاهر عدم
عود المثل إلى الضمان لسقوطه عن الذمّة بدفع قيمته فعوده يحتاج إلى دليل والأصل
عدمه ، وفاقاً لكلّ من تعرّض للمسألة كالعلّامة وغيره هذا على
المختار من اعتبار قيمة يوم الدفع ، وكذلك على قول من يزعم انقلاب المثلي قيميّاً
بتعذّر مثله بل بطريق أولى ، وأمّا على قول من يزعم أنّ تعذّر المثل بمنزلة تلفه
فيصير المثل بذلك قيميّاً فقد يحتمل وجوب المثل عند وجوده والتمكّن من ردّه ، لأنّ
القيمة حينئذٍ بدل الحيلولة عن المثل ، وسيأتي أنّ حكمه عود المبدل عند انتفاء
الحيلولة ، وفيه إشكال.
المسألة
الثامنة : في القيمي المقبوض بالعقد الفاسد الّذي تقدّم أنّ ضمانه عند تلفه
بالقيمة وحكي عليه الاتّفاق ، ويدلّ عليه الأخبار المتكثّرة
المتفرّقة في كثير من القيميّات الّتي منها صحيحة أبي ولّاد الآتية في ضمان البغل
، ومنها رواية تقويم العبد ، ومنها رواية السفرة ، وغير ذلك من الأخبار الكثيرة.
وينبغي أن يعلم
أنّه قد تقدّم في تعريف المثلي أنّ الأولى في تعريفه أن يقال : «إنّه ما وجد له ما
يماثله ويشابهه من جميع الجهات حتّى الصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات ، وقد
ظهر من تضاعيف المسألة السابعة أنّ المثلي قد يتعذّر مثله ولا يوجد له المثل
بالمعنى المذكور ، وحينئذٍ صحّ أن يقال في ضابط المثلي : «إنّه ما يغلب فيه وجود ما
يماثله ويشابهه في جميع الجهات حتّى الصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات» فلا
ينافيه ما يتّفق نادراً من إعواز المثل وعدم وجوده.
وعلى هذا
فالقيمي بمقتضى المقابلة هو «ما يغلب فيه عدم وجود ما يماثله ويشابهه في جميع
الجهات حتّى الصفات» فلا ينافيه ما يتّفق نادراً من وجود المثل له
__________________
بالمعنى المذكور ، خصوصاً في الكرباسات وغيرها ممّا يتّخذ منها الأثواب ،
خصوصاً ما كان المغصوب من الكرباس ذراع من ثوب ومثله من ذلك الثوب باقٍ موجود ،
فالمدار في كلّ من المثلي والقيمي على غلبة وجود المماثل وعدم وجوده ، وقد عرفت
حكم المورد النادر من المثلي من انتقال الحكم فيه من المثل إلى القيمة.
وأمّا المورد
النادر من القيمي ففي انتقال الحكم فيه من القيمة إلى المثل إشكال : من عدم الدليل
عليه ، والأصل يقتضي عدمه.
ويخدشه أنّ
الأصل المذكور إنّما يتّجه لو كان المضمون به من أوّل الأمر في القيمي الّذي وجد
له مثل هو القيمة ثمّ ادّعي انتقال الضمان من القيمة إلى المثل ، وليس كذلك ،
لمكان الشكّ في شمول دليل كون ضمان القيمي بالقيمة لمثل هذا الفرض لكمال ندرته.
والعمدة من دليله الإجماع المنقول والقدر المتيقّن من معقده ما لا يوجد له مثل ،
والأخبار متفرّقة كلّ منها مخصوص بمورد خاصّ ، فليس فيها عموم أو إطلاق يتمسّك
بهما على عموم الحكم لما وجد له نادراً مثل ، فلا مجرى للأصل المذكور. ولمّا كانت
المسألة من دوران المكلّف به بين المتباينين فلا يجري فيه أصل الاشتغال أيضاً ،
وأصل البراءة أيضاً أولى بعدم الجريان لعدم كون الشكّ ابتداءً في التكليف ولا أنّه
يؤول إليه.
نعم يمكن إجراء
الأصل المتقدّم في اشتباه المثلي والقيمي هنا ، ويؤيّده آية «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدى» ونفي الضرر لما قيل من
أنّ خصوصيّات الحقائق قد تقصد إلّا أن يحقّق إجماع على خلافه ، ويؤيّده إطلاق
الفتاوي في الضمان بالقيمة المتناول لصورة تيسّر المثل. وبالجملة فالمسألة قويّة الإشكال.
وكيف كان فقد
اختلفوا في تعيين القيمة المضمون بها في القيميّات على أقوال ، فعن الشيخين وأتباعهما اعتبار قيمة
يوم التلف ، وعن الشهيدين في الدروس والروضة نسبته إلى الأكثر.
__________________
وعن جماعة منهم
العلّامة في التحرير الاستدلال عليه «بأنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف
إذ الواجب قبله ردّ العين» .
واورد عليه «بأنّ
يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة ، أمّا كون المنتقل إليها قيمة يوم التلف فلا» .
ويندفع : بأنّ
القيمة المنتقل إليها ليست أمراً موهوماً واعتباريّاً صرفاً ، بل هو أمر مقدّر مع
العين التالفة يعرفه أهل المعاملة ، فالمراد بها قيمتها المقدّرة حين التلف الّتي
يعرفها أهل المعاملة ولا تكون إلّا قيمة يوم التلف. وقد يقرّر الدفع بأنّ ضمان
العين معناه كونها في عهدته حتّى يردّها ، وإذا تلفت وجب تداركها ببدلها ، والمراد
بالبدل ما يعادلها ويساويها في الماليّة حال التلف ولا يكون إلّا قيمة يوم التلف ،
وعلى هذا فالأصل في كلّ قيمي أن يكون ضمانه عند تلفه بقيمة يوم التلف إلّا ما خرج
منه بالدليل ، فلا ينافيه كون ضمان المغصوب بقيمته يوم الغصب في قول ، أو أعلى
قيمة من يوم الغصب إلى يوم التلف لأنّه مخرج من الأصل بالدليل. نعم إن تمّ ما عن
الحلّي من دعوى «الاتّفاق على كون المبيع بالبيع الفاسد بمنزلة المغصوب إلّا في
ارتفاع الإثم» كان كالمغصوب مخرجاً عن الأصل ، للحوقه به في الحكم على
القولين فيه. وعلى هذا فالأقوال في تعيين قيمة المبيع بالبيع الفاسد ثلاثة ، أحدها
ما عرفت ، والآخران كالقولين في المغصوب ، ولمّا كان مدرك الحكم في المغصوب صحيحة
أبي ولّاد جرى الحكم المستفاد منها في المبيع أيضاً ، إمّا لاتّفاق الحلّي إن تمّ
لأنّه اتّفاق على عدم الفصل بينه وبين المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم ، أو لما قيل
من أنّ الصحيحة تكشف عن أنّ الضمان في القيميّات التالفة بقيمة يوم القبض سواء كان
قبضاً عدوانيّاً كالغصب أو لا كما في المبيع بالبيع الفاسد.
وينبغي ذكر
الصحيحة بتمام فقراتها ، وهي ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي ولّاد قال : «اكتريت
بغلاً إلى قصر بني هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلمّا
صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل ، فتوجّهت
__________________
إلى نحو النيل فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّه توجّه إلى بغداد ، فاتّبعته
وظفرت به وفرغت ممّا بيني وبينه ، ورجعت إلى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر
يوماً ، فأخبرت صاحب البغل بعذري ، وأردت أن أتحلّل منه فيما صنعت وارضيه ، فبذلت
له خمسة عشر درهماً فأبى أن يقبل ، فتراضينا بأبي حنيفة ، وأخبرته بالقصّة وأخبره
الرجل ، فقال لي : ما صنعت بالبغلة؟ قلت : رجعته سليماً ، قال : نعم ، بعد خمسة
عشر يوماً ، قال : فما تريد من الرجل؟ قال : اريد كراء بغلي فقد حبسه عليّ خمسة
عشر يوماً ، فقال : إنّي ما أرى لك حقّاً ، لأنّه اكتراه إلى قصر بني هبيرة فخالف
فركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن فيه البغل وسقط الكراء ، فلمّا ردّ البغل سليماً
وقبضته لم يلزمه الكراء ، قال : فخرجنا من عنده وأخذ صاحب البغل ليسترجع ، فرحمته
ممّا أفتى به أبو حنيفة وأعطيته شيئاً وتحلّلت منه ، وحججت تلك السنة فأخبرت أبا
عبد الله عليهالسلام بما أفتى به أبو حنيفة ، فقال : في مثل هذا القضاء
وشبهه تحبس السماء ماءها وتحبس الأرض بركاتها ، فقلت لأبي عبد الله عليهالسلام : فما ترى أنت جعلت فداك؟ قال : أرى له عليك مثل كري
البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل وذاهباً من النيل إلى بغداد ومثل كري البغل من
بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه ، قال : قلت : جعلت فداك ، فقد علفته بدراهم ، فلي
عليه علفه؟ قال : لا ، لأنّك غاصب ، قال : أرأيت لو عطب البغل أو أنفق أليس كان
يلزمني؟ قال : نعم ، قيمة بغل يوم خالفته ، قلت : فإن أصاب البغل عقرٌ أو كسر أو
دَبَرٌ؟ قال : عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه ، قلت : فمن يعرف
ذلك؟ قال : أنت وهو ، إمّا أن يحلف هو فيلزمك وإن ردّ عليك اليمين فحلفت على
القيمة لزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا
وكذا فيلزمك ...» . الخبر.
ودلالته على
اعتبار قيمة يوم الغصب في موضعين :
أحدهما : قوله «نعم
قيمة بغل يوم خالفته» فإنّ يوم المخالفة هو يوم الغصب وهو اليوم الّذي توجّه فيه
إلى نحول النيل. ولا يرد على تنوين «بغل» أنّه يفيد الاكتفاء بقيمة أيّ بغل ولو
كان أدون من مورد السؤال ، إذ الظاهر أنّ التنوين للعوض عوضاً عن
__________________
المضاف إليه وهو الضمير العائد إلى المالك ، كضمير «خالفته» لا للتنكير ،
والتقدير قيمة بغله يوم خالفته.
وثانيهما :
قوله «ويشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا» بناءً على أنّ حين الاكتراء هو
يوم المخالفة ، إذ الظاهر باعتبار قرينة المقام خروجه من الكوفة إلى القنطرة يوم
الاكتراء ، وليس بين الكوفة والقنطرة الّتي هي محلّ المخالفة إلّا مسافة قليلة ،
فالاكتراء والمخالفة وقعا في يوم واحد.
والمراد بقيمة
ما بين الصحّة والعيب تفاوت ما بين قيمتي الصحيح والمعيب الّذي يقال له الأرش.
و «يوم تردّه»
ظرف لقوله «عليك» ويحتمل كونه قيداً للعيب فإنّه كثيراً يزداد يوماً فيوماً فيزداد
نقصان قيمته معيباً في يوم الردّ بذلك يزداد التفاوت بين القيمتين.
قوله «فمن يعرف
ذلك» يعني به كون التفاوت بين القيمتين مجهولاً جهالة مؤدّية إلى الاختلاف بين
المالك والغاصب ، مثل أن يدّعي الغاصب كونه عشرة والمالك كونه ثلاثين ، فبيّن
الإمام عليهالسلام له ميزان القضاء بينهما ، وهو الأمر الدائر بين حلف
المالك على ما ادّعاه من القيمة أو ردّه اليمين إلى الغاصب فيحلف على ما ادّعاه
وبين إقامة المالك البيّنة.
وربّما يشكل
التوفيق بينهما بحيث يطابق كلّ منهما موازين القضاء ، وذلك لأنّه لو كان حلف
المالك باعتبار قاعدة تقديم قول المالك مع يمينه نظراً إلى أنّه أعرف بقيمة بغله
يوم اكترى فهذا وإن طابقت القاعدة إلّا أنّه لا يلائمه قوله «أو يأتي صاحب البغل
بشهود يشهدون ...» الخ لأنّ إقامة البيّنة في مسألة تقديم قول المالك مع يمينه من
وظيفة صاحبه لا من وظيفة المالك. ولو كان جعل إقامة البيّنة من وظيفته باعتبار كون
مسألة اختلافهما من مسألة الدعوى والإنكار لكون المالك يدّعي قيمة زائدة والغاصب
ينكر الزيادة ، وبضابطة «البيّنة على المدّعي» كان إقامة البيّنة من وظيفته فذلك
وإن طابقت القاعدة غير أنّه لا يلائمها تقديم حلفه أوّلاً ثمّ ردّه إن شاء إلى
الغاصب ، لأنّ اليمين في الدعوى والإنكار من وظيفة المنكر ، وإن ردّها على المدّعي
فحينئذٍ يحلف المدّعي لا أنّه يحلف أوّلاً أو يردّه إلى المنكر.
ويمكن الذبّ
بجعل كلمة «أو» في قوله «أو يأتي بشهود» لنحو من التنويع
لا التخيير ولا الترديد الملازم للشكّ ، والمراد بالتنويع جعل واقعة اختلاف
المالك والغاصب في مورد السؤال على قسمين :
أحدهما : كون
الاختلاف بينهما في دعوى نقصان قيمة صحيح البغل يوم تعيّبه باعتبار تنزّل القيمة
السوقيّة بأن يدّعي الغاصب النقصان وأنّ قيمته حين التعيّب ثلاثون فصار بالعيب
عشرين وتفاوت ما بينهما عشرة ، وأنكره المالك بدعوى بقائه على قيمته يوم الاكتراء
وهو خمسون وتفاوت ما بينهما ثلاثون ، مع اتّفاقهما على كون قيمته يوم الاكتراء
خمسين ، ولا ريب في أنّ اليمين حينئذٍ وظيفة المالك لأنّه المنكر فإمّا أن يحلف أو
يردّ اليمين إلى الغاصب المدّعي لنقصان القيمة.
وثانيهما : أن
يكون اختلافهما في قيمة الصحيح من يوم الاكتراء مع اتّفاقهما على عدم نقصان القيمة
حين التعيّب ، بأن يدّعي المالك كون قيمته خمسين والغاصب كونها ثلاثين منكراً
للزيادة ثمّ صيرورتها بالعيب عشرين وما بينهما على قول المالك ثلاثين وعلى قول
المنكر عشرة ، فيكون جعل البيّنة وظيفة له على القاعدة ، فكأنّه عليهالسلام بالعطف المتوسّط بين المعطوف والمعطوف عليه قال : إن
كان واقعة اختلافهما على الوجه الأوّل يحلف المالك لأنّه المنكر للنقصان أو يردّ
اليمين إلى الغاصب ، وإن كان على الوجه الثاني يقيم المالك البيّنة لأنّه مدّعي
الزيادة والغاصب ينكرها ، وإنّما أمره بإقامة البيّنة ولم يأمر الغاصب بها في
الصورة الاولى لعجزه عنها لندرة اتّفاق من يطّلع على نقصان القيمة الّذي ادّعاه في
ظرف مدّة خمسة عشر يوماً والبغل بيده في تلك المدّة ، وتمكّن المالك عن إقامتها
على ما ادّعاه من قيمة يوم الاكتراء لكثرة المطّلعين عليها من أهل البلد كما لا
يخفى. وكيف كان فالرواية واضحة الدلالة على اعتبار قيمة يوم الضمان الّذي هو في
المغصوب يوم الغصب وفي المبيع يوم القبض.
ولعلّه المراد
من يوم البيع في المحكيّ عن المفيد والقاضي والحلبي من اعتبار قيمة يوم البيع نظراً إلى غلبة وقوع القبض في
وقت البيع.
ولمّا كان مورد
الرواية هو المغصوب فالتعدّي منه إلى البيع يحتاج إلى وسط ، وهو
__________________
إمّا الاتّفاق المتقدّم عن الحلّي ، أو دعوى كشف الصحيحة عن معنى التدارك
والغرامة في المضمونات وكون العبرة في جميعها بيوم الضمان كما هو أحد الأقوال.
والأوّل يخدشه
الموهونيّة بمصير الأكثر إلى اعتبار يوم التلف كما عرفت ، فإمّا أنّ أصل الاتّفاق
المدّعى لا أصل له ، أو أنّ المنزلة المأخوذة في معقده يراد بها المشاركة في بعض
الأحكام غير هذا الحكم.
والثاني أيضاً
مخدوش بمنع الكشف المذكور إن اريد به كونه كذلك بمقتضى الدلالة العرفيّة ، إذ ليس
في الصحيحة لفظ عامّ ولا مطلق يعمّ ما عدا المغصوب أيضاً ، وبدونها يرجع دعوى
الكشف إلى كونها رجماً بالغيب.
فالقول باعتبار
يوم القبض في المبيع لمخالفته الأصل وخلوّه عن دليل مخرج ضعيف ، وأضعف منه القول باعتبار
أعلى القيم من حين الغصب في المغصوب إلى التلف كما عن ثاني الشهيدين والعجب
استشهاده لذلك بالصحيحة مع عدم شهادة فيها صراحة ولا ظهوراً. وربّما استدلّ له بأنّ العين
مضمونة في جميع تلك الأزمنة الّتي منها زمان ارتفاع قيمته. وهذا أضعف من أصل القول
، إذ لو اريد من كون العين مضمونة في جميع الأزمنة كونها مضمونة بقيمتها فهو خلاف
ضمان العين لأنّ المراد به كون العين في عهدة الغاصب ما دامت موجودة فيجب تأديتها
مع وجودها وإلّا وجب تداركها بالقيمة ، وهذا هو مفاد خبر «على اليد ما أخذت» وإن
اريد كونها مضمونة بنفسها وحينئذٍ فإن اريد من اعتبار قيمة يوم الارتفاع ما لو
اتّفق تلف العين في ذلك اليوم فهو حقّ لا سترة عليه ، إلّا أنّه ليس إلّا اعتبار
القيمة يوم التلف لأنّها قد تكون أعلى القيم إذا اتّفق التلف يوم ارتفاع القيمة.
وإن اريد
اعتبارها ولو اتّفق التلف في غير يوم الارتفاع فهو أوّل المسألة ولا دليل عليه ،
والتقرير المذكور في الدليل لا ينهض بإثباته.
__________________
وقد يوجّه
الاستدلال المدّعى فيه كون العين مضمونة في جميع الأزمنة بأنّ العين إذا ارتفعت
قيمتها في زمان وصار ماليّتها مقوّمة بتلك القيمة ، فكما أنّه إذا تلفت حينئذٍ يجب
تداركها بتلك القيمة ، فكذا إذا حيل بينها وبين المالك حتّى تلفت ، إذ لا فرق مع
عدم التمكّن منها بين أن تتلف أو تبقى. نعم لو ردّت تدارك تلك الماليّة بنفس العين
، وارتفاع القيمة السوقيّة أمر اعتباري لا يضمن بنفسه ، لعدم كونه مالاً وإنّما هو
مقوّم لماليّة المال وبه تمايز الأموال قلّة وكثرة.
وفيه : أنّ
المعتبر في ضمان الحيلولة عدم تمكّن الغاصب من ردّ العين مع وجودها لا عدم تمكّن
المالك من التصرّف ، على أنّه لو كان بناء الضمان بالقيمة على الحيلولة وجب ضمان
قيمة يوم الغصب لحصول الحيلولة من حينه ، فتأمّل.
وأضعف من
الاستدلال المذكور على هذا القول الاستدلال بأصالة الاشتغال لاشتغال ذمّته بحقّ
المالك ولا يحصل البراءة منه إلّا بالأعلى ، كما عن السرائر وغيره . ووجه الضعف
أنّ المقام ممّا يجري فيه أصل البراءة لرجوع الشكّ إلى التكليف بالزائد ، ومعه لا
حكم لأصالة الاشتغال.
فروع
:
الأوّل : لو
زادت قيمة العين بعد تلفها في بعض أزمنة ما بعد التلف فلا عبرة بها على الأقوال ، خصوصاً
لو كان ذلك بعد دفع القيمة المضمونة ، كقيمة يوم التلف على المختار ، وقيمة يوم
الغصب أو أعلى القيم على القولين الآخرين لسقوطها عن الذمّة بالدفع ، أو توجّه
الخطاب بالقيمة المضمونة إن كان حصول الزيادة قبل الدفع ، فالخطاب بالقيمة الزائدة
تحتاج إلى دليل وهو مفقود فالأصل عدمه ، وعن الشرائع هنا التردّد ،
ووجهه غير واضح ، وما يوجّه له من «أنّه لعلّه من جهة احتمال كون القيمي مضموناً
بمثله ودفع القيمة إنّما هو لإسقاط المثل» ولا خفاء في ضعفه ، إذ لو اريد بضمان
القيمي بمثله ما قد يتّفق في بعض الفروض النادرة من وجود مثل للعين التالفة ، ففيه
أنّ الضمان
__________________
بالمثل حينئذٍ حسن ، ولكن بناء المسألة في هذا الفرع ليس على هذا الفرض
النادر ، ومع هذا فالترديد لا معنى له لتعيّن المثل حينئذٍ نظراً إلى الأصل الّذي
قدّمناه سابقاً ، ولو اريد كونه كذلك مطلقاً فهو خلاف ما تقدّم من الأدلّة على كون
ضمان القيمي بقيمته.
الثاني : أنّ
الخلاف المتقدّم بحسب الأقوال الثلاثة إنّما هو فيما لو كان اختلاف القيم بحسب
الأزمنة ، وأمّا إذا كان بحسب الأمكنة كما إذا كان في محلّ الضمان بعشرة وفي مكان
التلف بعشرين وفي مكان المطالبة بثلاثين ، فالظاهر كما قيل اعتبار قيمة
مكان التلف كزمانه لأنّ ماليّة الشيء تختلف بحسب الأماكن ، ودفع القيمة تدارك لماليّته
فتعتبر بحسب قيمة مكان التلف ، كما يعلم ذلك بملاحظة المعاملة بالبيع والشراء
وغيرهما ، فلو طالب البائع قيمة بلد آخر في ثمن عينه في البيع كان مستنكراً عند
أهل العرف.
الثالث : أنّ
ما تقدّم من الخلاف والأقوال الثلاث إنّما هو فيما إذا ارتفعت القيمة السوقيّة
المختلفة بسبب تفاوت رغبات الناس ، وأمّا إذا كان حاصلاً من زيادة في العين فقيل : إنّ الظاهر
عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم ، وهو الوجه ، لا لأنّ قيم العين التالفة مختلفة بل
لأنّ زيادة القيمة في بعض أزمنة الضمان لأجل الزيادة العينيّة الحاصلة فيها الّتي
هي بمنزلة الجزء لها بل جزء في الحقيقة ، والعين تضمن بجميع أجزائها ، فإذا تلفت
الزيادة تضمن بقيمتها ، كما أنّه إذا تلفت العين تضمن بقيمتها ، ومجموع القيمتين
هو قيمة المجموع. ومن هنا يعلم أنّ التعبير عنه بأعلى القيم مسامحة.
وفي كون العبرة
في قيمة الزيادة بقيمة يوم تلفها ، أو بقيمة يوم ضمانها ، أو بأعلى القيم من يوم
ضمانها إلى يوم التلف ، وجوه ، يمكن بناؤها على الخلاف المتقدّم في تلف نفس العين
، فعلى المختار ثمّة يتّجه اعتبار يوم التلف هنا أيضاً.
الرابع
: في حكم تلف العين في القيمي بل المثلي
أيضاً من حيث ضمانها بالقيمة
أو المثل تعذّر الوصول إليها وإن لم تهلك ـ كما إذا سرق أو غرق أو ضاع أو أبق أو أخذه متسلّط
غصباً بحيث لا يتمكّن من استنقاذه عنه من سلطان ونحوه ـ للأدلّة المقرّرة في أبواب
الأمانات المضمونة وغيرها الدالّة على الضمان بهذه الأشياء. وهل يعتبر في
__________________
التعذّر الموجب للضمان بالقيمة أو المثل حصول اليأس من الوصول إليها ، أو
يكفي عدم رجاء وجدانها وإن احتمل الوجدان ، أو يكفي مطلق التعذّر ولو مع العلم
بوجدانها في مدّة يتضرّر المالك من انتظارها والصبر إليها طويلة كانت المدّة أو
قصيرة؟ وجوه ، وقيل : ظاهر أدلّة ما ذكر من الامور الموجبة للضمان هو أحد الأوّلين
، ولكن ظاهر إطلاق الفتاوى هو الأخير ، كما يظهر من إطلاقهم «بأنّ اللوح المغصوب
في السفينة إذا خيف من نزعه غرق مال لغير الغاصب انتقل ضمانه إلى القيمة حتّى تبلغ
الساحل» .
ويؤيّده أنّ
فيه جمعاً بين الحقّين حقّ الضامن نظراً إلى فرض رجوع الصحّة إلى ملك الضامن عند
التمكّن من العين ، وحقّ المالك نظراً إلى أنّ تسلّط الناس على أموالهم الّذي فرض
كونه في عهدة الضامن يقتضي جواز مطالبة الخروج عن عهدته عند تعذّر نفسه ، نظير ما
تقدّم في تسلّطه على مطالبة القيمة للمثل المتعذّر في المثلي. نعم يعتبر في زمان
التعذّر كونه مدّة معتدّاً بها يتضرّر المالك بالصبر إلى زوال العذر في نظر العرف
، فلا عبرة بالزمان القليل الّذي لا يوجب الصبر فيه ضرراً في نظر العرف. ثمّ إنّ
معنى كون تعذّر الوصول إلى العين في حكم تلفها كونه مثله في أصل الضمان بالقيمة لا
في جميع الأحكام ، ويتفرّع عليه أمران :
أحدهما : أنّ
ثبوت القيمة مع التعذّر ليس كثبوته مع التلف في كون دفعها حقّاً للضامن ، بحيث إذا
دفعها وجب على المالك قبولها وليس له الامتناع من قبولها ، بل هو حقّ للمالك فله
الامتناع والصبر إلى زوال العذر ، عملاً بقاعدة تسلّط الناس على أموالهم ، وحكي عن
الشيخ في المبسوط التصريح به.
وثانيهما : أنّ
المال المبذول مع التلف يملكه مالك العين ، وفي التعذّر يحتمل عدم الملك بل غايته
الإباحة المطلقة على معنى جواز جميع التصرّفات له من غير أن يدخل في ملكه إلّا أن
يتلف العين كما في المعاطاة على القول بالإباحة ما دامت العين باقية وعن الفاضل
القمّي في مسائل شتاته الجزم بهذا الاحتمال ، خلافاً لمن ذهب
إلى
__________________
دخوله في ملكه بلا خلاف ، كما عن المبسوط والخلاف والغنية والسرائر وقيل : «إنّ ظاهرهم
إرادة نفي الخلاف بين المسلمين».
ولعلّ الوجه
فيه أنّ التدارك لا يتحقّق إلّا بذلك ، وعلّل أيضاً بأنّ معنى ضمان العين ذهابها
من مال الضامن ولازم ذلك إقامة مقابله من ماله مقامه ليصدق ذهابه من كيسه.
وفيهما نظر ،
ولذا استشكل المحقّق والشهيد الثانيان في الملك على ما حكي عنهما فقال أوّلهما : «إنّ
هنا إشكالاً ، فإنّه كيف يجب القيمة ويملكها الآخذ ويبقى العين على ملكه ، وجعلها
في مقابلة الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه» وقال ثانيهما : «إنّ هذا لا يخلو عن إشكال من حيث العوض
والمعوّض على ملك المالك من دون دليل واضح ، ولو قيل بحصول الملك لكلّ منهما
متزلزلاً وتوقّف تملّك المغصوب منه للبدل على اليأس من العين وإن جاز له التصرّف
كان وجهاً في المسألة» انتهى.
ولعلّه مبنى
إشكال الأوّل أيضاً على لزوم الجمع بين العوض والمعوّض. وإن كان قد يذبّ عن ذلك
بأنّ دفع القيمة هاهنا ليس معاوضة ليلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، فالمبذول هنا
كالمبذول مع تلف العين في عدم البدل له. وفيه نظر فإن كان إجماعاً فلا منازعة ،
وإلّا فالقول بعدم الملك لا يخلو عن قوّة ، للأصل ، ويعضده ظاهر مفهوم بدل
الحيلولة فإنّ معنى الحيلولة أنّ الغاصب حال بين العين والمالك ومنعه من التصرّفات
فيه والانتفاعات به ، وأخذ القيمة ليتدارك بها ذلك وينتفع بها المالك بدل
انتفاعاته بعينه. وهذا كما ترى لا يقتضي أزيد من إباحة التصرّفات وجواز عموم
الانتفاعات ، ودخولها في ملكه يحتاج إلى دليل.
الخامس : ربما
يتوسّط بين تلف العين وتعذّر الوصول إليها امور : منها : ما منع المالك شرعاً بفعل
الغير من الانتفاع بعينه مطلقاً كالحيوان المقصود به ظهره من الخيل والبغال
والحمير إذا وطأه إنسان ، فإنّ الواطئ إذا كان غير المالك يغرم
__________________
قيمته للمالك ويملكها قولاً واحد ، ويجب إخراج الموطوء إلى بلد آخر لا يعرف
فيه ويباع في ذلك البلد. وفي عود ثمنه إلى المالك أيضاً ، أو إلى الغارم ، أو لا
إليهما بل يتصدّق به؟ أقوال مقرّرة في بابي الأطعمة والحدود ، فتحقيق المسألة
موكول إلى محلّه ، وإن كان الأوّل أضعفها ، وأقوى الأخيرين أوّلهما ، وهو أوسط
الأقوال.
وقد يوجّه بعدم
بعد انكشاف انتقال العين إلى الغارم من حكم الشارع بوجوب غرامة قيمته للمالك.
ومنها : ما
قامت من العين بسبب فعل الغير معظم الانتفاعات بها الّتي بها قوام ماليّتها ، واللازم
من ذلك خروجها عن الماليّة كالماء المغصوب المستعمل في الوضوء قبل العلم بالغصبيّة
إذا علم بها بعد الفراغ ، أو بعد الغسل وقبل المسح مع بقاء الرطوبة والأجزاء
المائيّة في الأعضاء المغسولة ، فإنّه يضمن قيمته للمالك عوضاً عن المنافع الفائتة
فيملكها المالك ، وفي بقاء العين المتفرّقة في الأعضاء على ملكه وخروجها عن ملكه
قولان ، ويظهر الفائدة في جواز المسح بعد العلم بالغصبيّة بالبلّة الباقية وإن لم
يأذن فيه المالك ، وعدم جوازه إلّا بإذنه.
والتحقيق أنّ
المناقشة في بقائها على ملكه مع التغريم بقيمة الجميع بلزوم الجمع بين العوض
والمعوّض عنه ، ضعيفة بما عرفت من كون القيمة بدل المنافع الفائتة ، كما أنّ توهّم
الملازمة بين زوال الماليّة وزوال الملكيّة ، ضعيف بمنع الملازمة. فأصالة البقاء
تساعد على القول بالبقاء ، إلّا أن يتحقّق من العرف كون المفروض بمنزلة التلف ـ على
معنى كون تفرّق أجزاء الماء في أعضاء المتوضّئ مع تساقط جملة كثيرة منها على الأرض
بحيث يتعذّر جمعها والانتفاع بها ممّا يعدّ تلفاً في نظر العرف وهو مخرج لها عن
الملكيّة ـ وليس ببعيد ، إلّا أنّ الأحوط رعاية إذن المالك للمسح بالبلّة الباقية.
ومنها : الخيوط
المغصوبة الّتي خاط بها الغاصب ثوبه ، وقد تكلّم الأصحاب في حكمها في مسألتين :
إحداهما : ما
لو طلب المالك نزعها وإخراجها عن الثوب ، فهل يجب النزع مطلقاً كما عن القواعد
قائلاً : «ولو طلب المالك نزعها وان أفضى إلى التلف وجب ، ثمّ يضمن
الغاصب النقص ، ولو لم يبق لها قيمة غرم جميع القيمة» أو لا يجب
كذلك كما عن مجمع البرهان من اختيار عدم وجوب النزع حتّى أنّه قال : «يمكن أن لا
يجوز ويتعيّن القيمة لكونه بمنزلة التلف ، وحينئذٍ يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب
المخاط ، إذ لا غصب فيه يجب ردّه كما قيل بجواز المسح بالرطوبة الباقية من الماء
المغصوب الّذي حصل العلم به بعد إكمال الغسل وقبل المسح» أو يفصّل بين
ما لو لم تخرج الخيوط بالإخراج عن القيمة فيجب النزع وما لو خرجت عن القيمة فلا
يجب؟ احتمالات ، لا يبعد المصير إلى أخيرها.
بل عن المسالك «أنّ
ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب بعد خروجه عن القيمة بالإخراج ،
فتعيّن القيمة فقط» .
وهذا الظهور
وإن كان لا يساعد عليه ظاهر عبارة القواعد إلّا أنّه لو تمّ لقضى بأنّ الخلاف في
قولين ، وأنّ محلّه ما لو لم يخرج الخيط بإخراجه عن القيمة وإن نقصت قيمته.
وكيف كان
فالوجه مع عدم خروجه عن القيمة هو وجوب الإخراج لو طلبه المالك ، لعموم «الناس
مسلّطون على أموالهم» و «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» وإطلاق القول بكونه بمنزلة
التلف كما عرفته عن مجمع البرهان غير مسموع ، ولعلّه منزّل على الصورة الاخرى ،
وهي ما لو خرج بالإخراج عن القيمة. وحينئذٍ ففي جواز الصلاة في الثوب المخاط به
وجهان : من خروجه عن ملك المالك كما عليه مبنى كلام المجمع ، وعدمه كما عن المسالك
التصريح به ، وهو الأظهر لمنع صدق التلف عرفاً والعين موجودة في الثوب ، غاية
الأمر تعذّر انتفاع المالك بها والحال هذه ، ولأجل ذا يغرم له الغاصب قيمته من باب
ضمان الحيلولة والأصل بقاء ملكه ، فلا يجوز حينئذٍ إلّا بإذن المالك. وهذا هو
المسألة الثانية المتقدّم إليها الإشارة في قولنا ، وقد تكلّم الأصحاب في حكمها في
مسألتين.
ومنها : ما لو
خرج العين بفعل الغير عن الماليّة مع بقاء حقّ الأولويّة للمالك كالخلّ المغصوب
إذا صار في يد الغاصب خمراً فإنّه يغرم للمالك قيمته. وفي وجوب ردّ العين
__________________
مع القيمة كلام ، وعن القواعد الاستشكال فيه ، قيل : «ولعلّه من استصحاب وجوب ردّها ،
ومن عدم بقاء موضوع المستصحب بناءً على أنّه الملك إذ لم يجب إلّا ردّه وهو غير
باقٍ. ويخدشه أنّ الموضوع في نظر العرف هو هذا الشخص والمفروض بقاؤه ، فعلى القول
بأنّ بقاء الموضوع في الاستصحاب موكول إلى نظر العرف يتّجه الاستصحاب ، ولذا لو
عاد خلّاً ردّ إلى المالك بلا خلاف يظهر» . فالمتّجه وجوب ردّ العين مع القيمة ، وحينئذٍ فلو عاد
بعد الردّ خلاًّ لا يلزم الجمع بين العوض والمعوّض ، لأنّ الخلّ الثاني مال جديد
أعطاه الله سبحانه المالك لا أنّه المال الأوّل ، فتأمّل.
__________________
المقصد
الثاني
في شروط
المتعاقدين مالكين كانا أو وكيلين أو وليّين أو مختلفين ، وقد ذكروا لهما شروطاً
ثلاث : البلوغ ، والعقل ، والاختيار في مقابل الإكراه ، فهاهنا مباحث :
المبحث
الأوّل
في البلوغ ، وهو
أن يبلغ الطفل حدّاً يتكوّن معه الماء الدافق في بدنه ، ويعلم في الذكر باستكماله
خمسة عشر سنة وبالاحتلام وبنبات الشعر ، وفي الانثى باستكمال تسعة سنين ونبات
الشعر والحيض والحمل ، فإنّ كلّاً ممّا ذكر علامة تكشف عن سبق البلوغ.
والمشهور أنّه
شرط في صحّة العقد فعقد الصبيّ باطل بل قولاً واحداً في غير المميّز ، وقد يدّعى
ضرورة سائر الملل والأديان ، وكذلك في غير المميّز الغير البالغ عشراً ، وكذلك
المميّز البالغ عشراً على المشهور شهرة عظيمة بل بلا خلاف.
عدا ما عزي إلى
الشيخ من القدماء وإلى المحقّق الأردبيلي وبعض من تبعه من متأخّري المتأخّرين من
القول بصحّة عقده مع الوصفين.
وفي النسبة إلى
الشيخ كلام لأنّه على ما حكي صرّح في الخلاف والمبسوط بعدم صحّة بيع الصبيّ وشرائه أذن له الوليّ أو لم يأذن.
نعم قال في ثانيهما : «وروي أنّه إذا بلغ عشر سنين وكان رشيداً كان جائز التصرّف»
وظاهره أنّه لم يعمل بها ، فانحصر
__________________
الخلاف في الأردبيلي فصحّ مع مخالفته دعوى الإجماع على عدم الصحّة كما عن الغنية صريحاً ، وعن
الفاضل المقداد في كنز العرفان ظاهراً ، حيث نسب عدم صحّة عقد الصبيّ إلى أصحابنا ،
وممّن صرّح بالإجماع العلّامة في التذكرة قائلاً على [ما حكي] «أنّ الصغير محجور
عليه بالنصّ والإجماع سواء كان مميّزاً أولا في جميع التصرّفات ، إلّا ما استثني
كعبادته وإسلامه وإحرامه وتدبيره ووصيّته وإيصاله الهديّة وإذنه في الدخول على
خلاف في ذلك» انتهى.
ومستند البطلان
ـ بعد الأصل وهو أصالة عدم ترتّب الأثر والإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة
العظيمة – الروايات وهي قسمان :
أحدهما :
الرواية النبويّة المرويّة بطرق العامّة والخاصّة المعمول بها عند الفريقين «رفع
القلم عن ثلاثة : عن الصبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى
يستيقظ» وذكرها الصدوق في الخصال والأصحاب في
كتب الاستدلال.
ووجه الاستدلال
: أنّ قوله : «رفع القلم» كناية عن سلب جميع الأحكام الّتي تكتب بالقلم حتّى
الأحكام الوضعيّة الّتي منها صحّة عقوده وإيقاعاته ، ومعناه أنّ الصبيّ لا يكتب
عليه الأحكام تكليفيّة كانت أو وضعيّة ، وقضيّة ذلك أن لا يصحّ عقده أيضاً.
وفيه نظر : إذ
لو اريد به أنّ الأحكام لا تكتب عليه في اللوح المحفوظ ، فحمل رفع القلم عليه مع
بعده في نفسه لا يلائمه عطف النائم عليه وكونه أحد الثلاثة بل يأباه ، لضرورة أنّ
الأحكام المكتوبة في اللوح المحفوظ بأسرها ثابتة في حقّه ، غير أنّه ما دام نائماً
لا يتوجّه إليه الخطاب لقبح خطاب الغافل.
ولو اريد به
أنّها لا تكتب عليه في صحائف الأعمال الّتي يباشر الكتابة فيها الملكان ـ الرقيب
والعتيد ـ ففيه أنّ صحائف الأعمال ليست محلّاً لكتابة الأحكام بل كتابتها ليست من
شغل الملكين ، بل شغلهما ثبت الأعمال من الحسنات والسيّئات.
وعلى هذا فمعنى
رفع قلم الكتابة عن الصبيّ أنّه لا يكتب عليه من الأعمال الأفعال
__________________
والتروك الّتي هي في حقّ غيره من المكلّفين سيّئات وكذلك الصبيّ بعد بلوغه
، وحاصله أنّه لا يكتب عليه إثم في أعماله ، وهو كناية عن نفي المؤاخذة والعقوبة
وغيرهما من آثار الإثم والمعصية ، وهو يستلزم نفي أصل التكليف الإلزامي والخطاب
التكليفي ، على معنى أنّ الصبيّ ما لم يحتلم لم يتوجّه إليه خطاب تكليفي ولم يجعل
عليه تكليف إلزامي ، وهذا لا ينافي ثبوت الأحكام الوضعيّة في حقّه أيضاً الّتي
منها صحّة عقده وإيقاعه ، ولذا يضمن بإتلافه مال الغير ، غاية الأمر أنّه لا يخاطب
بردّ ما ضمنه حتّى يبلغ ، أو أنّه يخاطب به وليّه ، وكذلك المجنون والنائم.
وثانيهما : الروايات
الخاصّة الإماميّة ، والعمدة منها وأظهرها دلالة روايتان :
إحداهما :
رواية حمزة حمران قال : «سألت أبا جعفر عليهالسلام قلت له : متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة
وتقام عليه ويؤخذ بها؟ قال : إذا خرج عنه اليتم وأدرك ، قال : فلذلك حدّ يعرف به ،
فقال : إذا احتلم أو بلغ خمس عشر سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك اقيمت عليه الحدود
التامّة واخذ به واخذت له ، قلت : فالجارية متى يجب عليها الحدود التامّة وتؤخذ
بها وتؤخذ لها؟ قال : إنّ الجارية ليست مثل الغلام أنّ الجارية إذا تزوّجت ودخل
بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع
واقيمت لها الحدود التامّة واخذ لها وبها ، قال : والغلام لا يجوز أمره في الشراء
والبيع ولا يخرج من اليتم حتّى يبلغ خمس عشر سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك»
.
واخراهما :
رواية ابن سنان «متى يجوز أمر اليتيم؟ قال : حتّى يبلغ أشدّه ، قال : ما أشدّه؟
قال : احتلامه» . وفي معناهما روايات اخر.
وفي الرواية
الاولى موضعان من الدلالة على عدم جواز أمر الصبيّ في الشراء والبيع على معنى عدم
نفوذهما وعدم ترتّب الأثر عليهما بالنسبة إلى الجارية وإلى الغلام ، إلّا أنّه
بالنسبة إلى الجارية بالمفهوم وبالنسبة إلى الغلام بالمنطوق.
__________________
وفي الرواية
الثانية وجهان من الدلالة ، فتارةً باعتبار تقرير المعصوم حيث إنّ سؤال الراوي بـ «متى»
يكشف عن أنّه كان معتقداً بأنّ في اليتيم زمانين : أحدهما ما لا يجوز فيه أمره ،
والآخر ما يجوز فيه أمر [ه] فسأل عن تميّز الثاني عن الأوّل ، وكان في تعرّض
الإمام عليهالسلام في الجواب لبيان الزمان الّذي جاز فيه أمره تقرير
للسائل على معتقده. واخرى باعتبار قول المعصوم حيث قال : «حتّى يبلغ أشدّه» فإنّه
بالمفهوم يدلّ على أنّه ما لم يبلغ أشدّه لم يجز أمره. وجواز الأمر عبارة عن مضيّ
فعله وشغله ، على معنى نفوذ تصرّفاته وترتّب الآثار عليه. وشموله لعقوده وإيقاعاته
إنّما هو بترك الاستفصال كما هو واضح. فدلالة الروايتين على المطلب حسبما بيّنّاه
واضحة. ولو كان في سنديهما ضعف وقصور فينجبر بالعمل والشهرة العظيمة ، فلا ينبغي
التكلّم في سنديهما.
نعم ربّما
يناقش فيهما باعتبار الدلالة ، ويقال : بأنّ جواز الأمر في هذه الروايات ظاهر في
استقلاله في التصرّف لأنّ الجواز مرادف للمضيّ فلا ينافي عدمه ثبوت الوقوف على
الإجازة ، كما يقال بيع الفضولي غير ماضٍ بل موقوف ، ويشهد له الاستثناء في بعض
تلك الأخبار بقوله : «إلّا أن يكون سفيهاً» فلا دلالة لها على سلب عبارته ، وأنّه
إذا ساوم وليّه متاعاً وعيّن له قيمته وأمر الصبيّ بمجرّد إيقاع العقد مع الطرف
الآخر كان باطلاً ، وكذا لو أوقع إيجاب النكاح أو قبوله لغيره بإذن وليّه انتهى.
وفيه : منع
الظهور المذكور ، وتعليله بمرادفة الجواز للمضيّ عليل ، ودلالة نفيه بقول مطلق على
سلب عبارته واضحة ، لأنّه ظاهر في الجواز المطلق الغير المتوقّف على إجازة الغير ،
كما أنّ المضيّ ظاهر في المضيّ المطلق الغير المتوقّف على إمضاء الغير فلا يصرف
عنه إلى الجواز المعلّق المتوقّف على إجازة الغير إلّا لقرينة ، كما في مثال البيع
الفضولي فإنّ حمل غير ماضٍ على المعلّق من المضيّ إنّما هو لقرينة بل موقوف ،
ولولاه لم يكن له ظهور في المعلّق منه المتوقّف على الإمضاء ، فقضيّة إطلاق نفي
جواز أمره في روايات الباب سلب عبارته وعدم ترتّب أثر عليها ، حتّى فيما ساوم
وليّه المتاع وعيّن قيمته وأمره بمجرّد إيقاع العقد مع الطرف الآخر ، وكذلك في
إيقاعه إيجاب
__________________
النكاح أو قبوله لغير بإذن الوليّ.
وممّا يرشد إلى
ما بيّنّاه من الظهور في نفي الجواز المطلق ما في الروايات من تعليق جواز أمره في
الشراء والبيع ببلوغه تسع سنين في الجارية وخمس عشر سنة في الغلام ، فلو كان لإذن
الوليّ أو إجازته مدخليّة في جوازه قبل البلوغ وجب تعليقه بكلّ من الأمرين ، بأن
يقول : لا يجوز أمره حتّى يجيزه وليّه ، أو يبلغ خمس عشر سنة ، لورودها في مقام
الحاجة وعدم جواز تأخير البيان عن وقتها.
وقد يقال :
بأنّه لا يبعد بناء المسألة على أنّ أفعال الصبيّ وأقواله شرعيّة أم لا؟ كما عن
المحقّق الثاني «فحكم بأنّها غير شرعيّة وأنّ الأصحّ بطلان العقد» وهذا غير واضح
، إذ لو اريد بأفعاله وأقواله ما يكون من قبيل المعاملات من العقود والإيقاعات
والإقرارات فشرعيّتها عين المسألة فبناء المسألة عليها ممّا لا معنى له ، وإن اريد
ما يكون من قبيل العبادات ففيه منع ابتناء المسألة على شرعيّة عباداته ممنوع ،
لأنّ معنى شرعيّة عباداته على القول بها رجحان عباداته عند الشارع ومطلوبيّتها
لديه بحيث يترتّب عليها الثواب ويعود الثواب إلى أبويه ، وهذا لا يلازم شرعيّة
عباداته وضعاً في العقد أو الإيقاع بحيث يترتّب عليها الآثار الشرعيّة أصلاً ، بل
الملازمة يحتاج ثبوتها إلى دليل عليها من نصّ أو إجماع والمفروض انتفاؤه.
واستدلّ أهل
القول بصحّة عقده إذا بلغ عشراً أوإذا كان مميّزاً مطلقاً بوجوه غير تامّة :
منها : إطلاقات
أدلّة صحّة البيع والشراء وغيره من العقود ، كقوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» وقوله عليهالسلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» ونحوهما عدا قوله
تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإنّه خطاب تكليفي يستحيل توجّهه إلى الصبيّ ، فلا يصحّ
الاستدلال بعمومه على صحّة عقوده.
وتوهّم : أنّه
يتضمّن حكمين : تكليفي وهو وجوب الوفاء ، ووضعي وهو الصحّة ، والمستحيل توجّهه إلى
الصبيّ هو الأوّل دون الثاني ، فيجوز الاستدلال به بالنسبة إلى الثاني ، أو أنّ
الأمر هنا إرشادي معرّى عن الطلب ، فالمقصود به الإرشاد إلى اللزوم
__________________
المقابل للجواز اللذين هما من الأحكام الوضعيّة فلا مانع من شموله للصبيّ
فيصحّ الاستدلال به حينئذٍ.
يدفعه : بأنّ
الحكم الوضعي تابع ، ومن المستحيل انفكاكه عن متبوعه ، فثبوت أحدهما يستلزم ثبوت
الآخر ونفيه يستلزم نفيه ، فالتفكيك بينهما غير صحيح. وكما أنّ توجيه التكليف إلى
الصبيّ غير صحيح فكذلك توجيه الخطاب إليه ولو كان إرشاديّاً غير صحيح ، مع أنّ
قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» قبل قوله : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» قرينة واضحة على أنّ الخطاب مع البالغين الكاملين الموصوفين
بالإيمان فلا يدخل فيه الأطفال.
وفيه : مع أنّ
آية «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» أيضاً خطاب تكليفي سيّما مع ملاحظة عطف «وَحَرَّمَ الرِّبا» يجب الخروج عن الإطلاق أو العموم بالروايات الخاصّة
المعتضدة بالإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة.
ومنها : قوله
تعالى : «وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» فإنّه تعالى
أمر بدفع أموال اليتامى إليهم عند استيناس الرشد وهو يعمّ ما قبل البلوغ لأنّ
الرشد كثيراً يحصل قبله.
وفيه : ابتناء
الدلالة على الوجه المذكور على جعل «حتّى» عاطفة مع تقدير ما يكون معطوفاً عليه
قبلها بحيث يكون ما بعدها جزءاً ممّا قبلها المقدّر ليكون التقدير « ابْتَلُوا الْيَتامى في جميع أوقاتهم حتّى وقت بلوغهم النكاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً في أيّ وقت من هذه الأوقات فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » وهذا غير واضح ، حيث لم نقف من أهل العربيّة ولا من
أهل التفسير أنّه التفت إلى هذا الاعتبار مع استلزامه للحذف والتقدير الّذي ينفيه
الأصل ويأباه ظهور الهيئة الكلاميّة في عدم حذف شيء من أجزائه ، بل الوجه أنّها
إمّا جارّة للغاية ويكون «إذا» بعدها في محلّ الجرّ بها كما عن ابن مالك في هذه
الكلمة إذا دخلت على «إذا» الشرطيّة ، ومنه قوله تعالى : «وَسِيقَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» فيكون تقدير
الآية « وَابْتَلُوا
الْيَتامى إلى وقت بلوغهم النكاح فَإِنْ آنَسْتُمْ
مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » ويكون
__________________
الفاء للتعقيب بلا مهلة ، ومعناه أنّه إن آنستم منهم في وقت بلوغهم النكاح
رشداً فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ، أو ابتدائيّة للدلالة على كون ما بعدها كلاماً
مستأنفاً مع كون إذا في محلّ النصب بشرطها أو جوابها كما عن الجمهور ، واختاره ابن
هشام في هذه الكلمة إذا دخلت على إذا ويكون تقدير الآية حينئذٍ « ابْتَلُوا الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا
النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ في ذلك الوقت رُشْداً فَادْفَعُوا
إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » بتقريب ما عرفت من كون الفاء للتعقيب بلا مهلة ، ويكون
قوله : «فَادْفَعُوا» جواباً بالشرطين ، نظير ما لو قيل : إذا جاءك زيد فإن
سلّم عليك فأكرمه ، فالآية على التقديرين تدلّ على وجوب دفع أموال اليتامى إليهم
بشرطين «البلوغ والرشد» كما فهمه وصرّح به الطبرسي في مجمع البيان فلا دلالة
فيها على مطلوب المستدلّ.
وأمّا ما قد
يقال في توجيه الاستدلال بها : من أنّه تعالى أمر باختبار اليتامى وامتحانهم
لاستعلام رشدهم وهو إنّما يحصل بالبيع والشراء ، فأمره تعالى باختبارهم بالبيع
والشراء يقتضي صحّة ما صدر منهم من الأمر ، إذ لا معنى للأمر باختبارهم بذلك مع
عدم وقوعه صحيحاً. وهذا أضعف من سابقه ، لعدم انحصار طريق الاختبار في ذلك ، بل له
طرق كثيرة يعرفها أهل الاختبار.
ومنها : الرواية المرسلة المتقدّمة عن
الشيخ في المبسوط.
وفيه : أنّها
ضعيفة بالإرسال ، وإعراض الأصحاب أو المعظم عنها ، وبأنّ الراوي لها ـ وهو الشيخ
أيضاً ـ لم يعمل بها كما عرفت.
ومنها : السيرة
المستمرّة المستقرّة على أنّ الصبيان يتعاملون في الأسواق ويبيعون ويشترون فتدلّ
على صحّة جميع ذلك منهم.
وفيه : أنّ
السيرة إن اريد بها سيرة الصبيان بأنفسهم فهي ليست بشيء ، وإن اريد بها سيرة
البالغين المكلّفين بدعوى استقرارها على المعاملة مع الأطفال ببيع أو شراء ، ففيه
: أنّ السيرة في محلّ ثبوتها إجماع عملي ولا إجماع هنا ، إذ المتعاملون مع
الأطفال ليسوا إلّا جمعاً من العوامّ المتسامحين في دينهم غير مبالين من المعاملات
الفاسدة
__________________
وأكل الأموال المحرّمة مع احتراز الصلحاء المتّقين المتورّعين العارفين
للمسائل وكذلك أهل العلم والفقهاء عن المعاملة مع الأطفال ، حتّى أنّ العلماء
والوعّاظ وناشري المسائل ينكرون على المتعاملين معهم ويمنعونهم من باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر في منابرهم ومجالسهم ومحافلهم ويذكرون المنع في رسائلهم
العمليّة لعمل العوامّ.
ومنها : صحّة وصيّته وعتقه وتدبيره وطلاقه
إذا بلغ عشراً ، فإذا صحّ منه
هذه الامور صحّ سائر العقود إمّا لعدم القول بالفصل أو لوحدة المناط ، فإنّ
الأسباب الشرعيّة من باب واحد وإذا صحّ البعض صحّ البعض الآخر.
وفيه : منع عدم
القول بالفصل ، فإنّ الصحّة في الامور المذكورة ليست بإجماعيّة والقائل بها مفصّل
والمناط غير معلوم ، وما ذكر في توجيهه لا يرجع إلى محصّل إلّا دعوى المساواة ،
فالتعدّي من حكم أحد المتساويين إلى آخر قياس. هذا كلّه في عدم صحّة عقود الصبيّ
ومعاملاته وتصرّفاته على وجه الإجمال. وأمّا تفاصيل
هذا الإجمال الّتي وقع في أكثرها الخلاف ففيها مسائل :
المسألة الاولى : في أنّ الوليّ إذا أذن
الصبيّ في إيقاع العقد فهل يقع صحيحاً على معنى كون إذن الوليّ مصحّحة للعقد
الصادر منه أو لا؟ فيه خلاف إلّا
أنّ المشهور على ما حكي عدم الصحّة واختاره العلّامة في التذكرة ونقله عن
الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين. خلافاً لأبي حنيفة وأحمد في
الرواية الاخرى فصحّحاه مع إذن الوليّ وعزي اختياره إلى ولد العلّامة منّا ، وإلى
الشيخ النجفي في شرحه للقواعد على ما يظهر من عبارته القائلة بعد المنع عن صحّة
عقده أصالة ووكالة بأنّه «نعم ثبت الإباحة في معاملة المتميّزين إذا جلسوا مقام
أوليائهم أو تظاهروا على رءوس الأشهاد حتّى يظنّ أنّ ذلك من إذن الأولياء خصوصاً
في المحقّرات. ثمّ قال : ولو قيل بتملّك الآخذ منهم لدلالة مأذونيّته في جميع
التصرّفات فيكون موجباً قابلاً لم يكن بعيداً» انتهى.
__________________
والأقوى ما هو
المشهور ، لنا إطلاق ما تقدّم من الروايات والإجماعات المعتضد بالشهرة العظيمة
الظاهر في عموم المنع والبطلان ومسلوبيّة العبارة بالذات المفيد لشرطيّة البلوغ
مطلقاً وهو مفقود مع إذن الوليّ أيضاً ، وقيامها مقام الشرط المفقود يحتاج إلى
دليل مفقود أيضاً.
وعن أبي حنيفة
الاستدلال بأنّ المقتضي للصحّة موجود والمانع مفقود ، إذ ليس إلّا الحجر وإذن
الوليّ يرفعه.
ويزيّفه منع
وجود المقتضي تارةً ، ومنع فقدان المانع اخرى :
أمّا الأوّل :
فلأنّ المقتضى إن اريد به نفس العقد ، ففيه : أنّه إنّما يقتضي الصحّة إذا جامع
الشروط ، والمقام فاقد لبعضها وهو البلوغ ، وكون إذن الوليّ قائمة مقامه أوّل
المسألة. وإن اريد به العمومات القاضية بصحّة العقود ، ففيه : أنّها مع تسليم
تناولها لعقود الصبيّ مخصّصة بدليل شرطيّة البلوغ مع عدم دليل على قيام الإذن
مقامه. وإن اريد به أصالة الصحّة في أفعال المسلم وأقواله ، ففيه : أنّ أصالة
الصحّة ليست مشرّعة بأن تفيد عدم شرطيّة البلوغ أو قيام إذن الوليّ مقامه ، وإنّما
هي ملحقة لما اشتبه حاله من جهة الشكّ في تحقّق الشرائط الثابتة للعقد الصحيح
ونحوه به.
وأمّا الثاني :
فلأنّ الحجر على ما اعترف به المستدلّ كان متيقّن الثبوت ، وكون الإذن رافعة له
يحتاج إلى الثبوت بدليل مفقود في المقام فيستصحب.
وعن فخر
المحقّقين أنّ عقده المقترن بإذن الوليّ بمنزلة عقد الوليّ فيصحّ.
ويزيّفه ـ مع
أنّه بظاهره مصادرة أو قياس ـ أنّه إن اريد أنّه بمنزلة عقد الوليّ في إفادة
الصحّة ، ففيه : أنّ عقد الوليّ إنّما يصحّ لاجتماعه شروط الصحّة ، ومنها كونه
معتبر العبارة في نظر الشارع ، وقد عرفت أنّ الصبيّ مسلوب العبارة وكون إذن الوليّ
مصلحة لها لا يسلّم إلّا الدليل ولا دليل. وإن اريد أنّه بمنزلته في الدلالة على
رضاه ، ففيه : أنّ مناط صحّة عقد الوليّ ليس مجرّد رضاه بل اجتماعه الشروط الّتي منها
الرضا ومنها البلوغ ، والمقام ليس منه لعدم ثبوت قيام الإذن مقام البلوغ بالدليل.
هذا كلّه في عقد الصبيّ.
وهل ينفذ سائر
تصرّفاته الغير العقديّة كدعواه في مجلس المرافعة وإقراره وقبضه
المال كقبض الوقف وقبض العين الموهوبة وقبض الدين من المديون له وقبض ما اعطي
من خمس أو زكاة وقبض الوديعة والأمانة الشرعيّة؟ فهل يفيد صحّة الوقف والهبة؟ وهل
يبرأ القبض في الأمثلة الاخر وإقباضه وإيصاله الهديّة إلى المهدي إليه وإذنه في
الدخول في البيت ونحو ذلك ممّا لا يحصى وإن أذن له الوليّ في هذه التصرّفات ، أو
لا ينفذ شيء من تصرّفاته المذكورة؟ وهو الوجه ، لعموم ما دلّ على مسلوبيّة عبارته
وعدم جواز شيء من اموره وإن أذن له الوليّ ، وفاقاً لشيخنا الاستاد قائلاً : «بأنّ
مقتضى ما تقدّم من الإجماع المحكيّ في البيع وغيره من العقود والأخبار المتقدّمة
بعد انضمام بعضها إلى بعض عدم الاعتبار بما يصدر من الصبيّ من الأفعال المعتبر
فيها القصد إلى مقتضاها كإنشاء العقود أصالة ووكالة والقبض والإقباض وكلّ التزام
على نفسه من ضمان أو إقرار أو نذر أو إيجار» .
وقال في
التذكرة : «فروع :
الأوّل : لو
اشترى الصبيّ وقبض أو استقرض وأتلف فلا ضمان عليه ، لأنّ التضييع من الدافع ، فإن
كان المال باقياً ردّه ، وعلى الوليّ استرداد الثمن ولا يبرأ البائع بالردّ إلى
الصبيّ ، وبه قال الشافعي.
الثاني : كما
لا يصحّ تصرّفاته اللفظيّة كذا لا يصحّ قبضه ، ولا يفيد حصول الملك في الهبة وإن
اتّهب الوليّ له ولا لغيره وإن أمره الموهوب منه بالقبض. ولو قال مستحقّ الدين
للمديون : سلّم حقّي إلى هذا الصبيّ ، فسلّم قدر حقّه ، لم يبرأ عن الدين وبقى
المقبوض على ملكه ولا يضمنه الصبيّ ، لأنّ البراءة تستند إلى قبض صحيح ولم يثبت. ولو
فتح الصبيّ الباب وأذن في الدخول عن إذن أهل الدار وأوصل هديّة إلى إنسان عن إذن
المهدي فالأقرب الاعتماد ، لتسامح السلف فيه» انتهى.
هذا على ما في
النسخة الحاضرة عندنا ، وربّما يحكى عنه علاوة على ما سمعت مع اختلاف يسير في بعض
ألفاظ ما سمعت ، فحكى عقيب قوله : وبقى المقبوض على ملكه ، هكذا «ولا ضمان على
الصبيّ لأنّ المالك ضيّعه حيث دفعه إليه وبقى الدين لأنّه
__________________
في الذمّة ولا يتعيّن إلّا بقبض صحيح ، كما لو قال : ارم حقّي في البحر ،
فرمى مقدار حقّه. بخلاف ما لو قال للمستودع : سلّم مالي إلى الصبيّ أو ألقه في البحر
، لأنّه امتثل أمره في حقّه المعيّن. ولو كانت الوديعة للصبيّ فسلّمها إليه ضمن
وإن كان بإذن الوليّ ، إذ ليس له تضييعها بإذن الوليّ. وقال أيضاً : لو عرض الصبيّ
ديناراً على الناقد لينقده أو متاعاً إلى مقوّم ليقوّمه فأخذه لم يجز له ردّه إلى
الصبيّ بل على وليّه إن كان ، فلو أمره الوليّ بالدفع إليه فدفعه إليه برئ من
ضمانه إن كان المال للوليّ وإن كان للصبيّ فلا ، كما لو أمره بإلقاء مال الصبيّ في
البحر فإنّه يلزمه ضمانه. وإذا تبايع الصبيان وتقابضا وأتلف كلّ واحد منهما ما
قبضه ، فإن جرى بإذن الوليّين فالضمان عليهما ، وإلّا فلا ضمان عليهما بل على
الصبيّين ويأتي في باب الحجر تمام الكلام. ولو فتح الصبيّ الباب وأذن في الدخول
على أهل الدار ، أو أدخل الهديّة إلى إنسان عن إذن المهدي فالأقرب الاعتماد لتسامح
السلف فيه» انتهى.
أقول : في
التعليل بالنسبة إلى الأمرين الأخيرين نظر ، إذ لو اريد بتسامح السلف في الاعتماد
على قول الصبيّ قلّة مبالاتهم في أمر الدين حيث اعتمدوا على ما لا ينبغي الاعتماد
عليه ، فهو مع ما فيه من كونه في معنى تفسيقهم أنّه لا يكشف عن الجواز ، وإن اريد
به عدم مداقّتهم ليتحرّوا في تحصيل العلم ، فيكشف ذلك عن جواز الاعتماد على هذا
الخبر في خصوص الأمرين ، وان لم يفد الأمرين ففيه منع واضح ، لأنّ هذا الخبر في
غالب موارده محفوف بقرينة العلم بالصدق ، فاعتماد السلف إنّما كان على العلم
بالصدق لا على نفس خبر الصبيّ وإن لم يعلم صدقه ، فالوجه في الأمرين أنّ خبره ما لم
يفد العلم بصدقه بمعونة قرائن الحال والمقام لم يجز أخذ الهديّة منه ولا الدخول في
البيت ، فالمدار على العلم بصدقه لا على نفس الخبر الغير المفيد له.
وأمّا وكالته
عن الوليّ في إجراء العقد إيجاباً أو قبولاً على ماله أو على مال الوليّ لنفسه أو
لغيره أو عن غير الوليّ لنفسه أو لثالث ، فالوجه فيها أيضاً عدم صحّة الوكالة وعدم
صحّة عقده بموجب هذه الوكالة الفاسدة ، لعموم ما دلّ على مسلوبيّة عبارته
__________________
وعدم جواز أمر من اموره من النصّ والفتوى المعتضدين بإطلاق الإجماعات
المنقولة والشهرة العظيمة من غير خلاف من أهل القول بعدم صحّة عقوده ، ولذا يذكرون
في باب الوكالة البلوغ من شروط الوكيل المعتبرة في الصحّة من غير خلاف يظهر ولا
نقل قول بالخلاف ثمّة.
وليس في
الروايات ما يدلّ على خلاف ذلك عدا ما رواه في الكافي عن محمّد ابن عيسى عن سلمة
الخطّاب عن حسن بن عليّ بن يقطين عن عاصم بن حميد عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي
عبد الله عليهالسلام «قال : تزوّج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم امّ سلمة ، والمزوّج لها ابنه أبو سلمة زوّجها إيّاه
وهو صبيّ لم يبلغ الحلم» وجه الدلالة أنّ أبا سلمة ربيب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم زوج امّه إيّاه وهو غير بالغ ، فلولا وكالة الصبيّ
صحيحة في إجراء عقد النكاح لما كان لذلك وجه.
وفيه أوّلاً :
ضعف سند الرواية لسلمة الخطّاب البراوستاني نسبة إلى براوستان ، فإنّ النجاشي والخلاصة ذكرا أنّه كان
ضعيفاً في حديثه ، وزاد الخلاصة قال الغضائري : إنّه كان يكنّى أبا محمّد وضعّفه.
نعم ربّما يذكر أمارات لو لا الجرح الصريح كانت ظاهرة في اعتبار روايته غير أنّها
لا تنهض لمعارضة الجرح.
وثانياً :
أنّها ممّا لم يعمل بها الأصحاب كما يفصح عنه ما عرفت من جعلهم البلوغ شرطاً في
الوكيل ، فتسقط عن درجة الاعتبار وإن صحّحنا السند ، مع ما ذكر فيها من التأويلات
المخرجة لها عن صلاحية الدلالة ، مثل احتمال كون أبو سلمة واسطة بينهما لا مجرياً
للعقد وكالة عن امّه. ولو سلّم فمن المحتمل كونه قد نسخ. ولو سلّم فمن المحتمل
كونه من الخصائص كهبة المرأة نفسها منه ، فإنّه يوجب حلّ البضع بمجرّد ذلك من غير
عقد.
المسألة
الثانية : هل يستثنى من قاعدة عدم صحّة عقد الصبيّ وعدم نفوذ تصرّفاته معاملاته
ببيع أو شراء في الأشياء الحقيرة أو لا؟ المشهور العدم فلا فرق في عدم
__________________
الصحّة بين الأشياء الخطيرة والأشياء الحقيرة ، وهو الأقوى ، عملاً بإطلاق
النصّ والفتوى والإجماعات المنقولة. خلافاً لما عن المحدّث الكاشاني من قوله : «الأظهر
بيعه وشراؤه فيما جرت العادة به من الأشياء اليسيرة دفعاً للحرج» انتهى.
وهذا كما ترى
نقض لإطلاق الأدلّة ودفع لعموم قوله : «الغلام لا يجوز أمره في البيع والشراء حتّى
يبلغ خمس عشرة سنة» فلا بدّ له من دليل ولا دليل ، والتعليل بدفع الحرج
عليل لمنع الملازمة ، إذ لا يستريب أحد في أنّه لو لا معاملات الأطفال في الأشياء
اليسيرة لا يلزم حرج أصلاً ، سواء اريد بالنفي في قولنا لو لا منع الأطفال من
البيع والشراء أو منع البالغين المكلّفين من المعاملة معهم ببيع أو شراء منهم أو
منع الأولياء من نصب الأطفال في الأسواق للبيع والشراء ، فدعوى لزوم الحرج تحرّج
من غير أن يكون هناك حرج.
لا يقال : إنّ
دليل المسألة هو ما أشار إليه بقوله «فيما جرت به العادة» فإنّ جريان العادة عبارة
عن استقرار السيرة بذلك ، لمنع استقرار السيرة الكاشفة أيضاً فإنّها في موارد
وجودها إجماع عملي يكشف عن رأي المعصوم ورضاه ، وهو ليس بمتحقّق هنا ، إذ الناس
أصناف :
منهم : العلماء
والمجتهدون خلفاً عن سلف ، ونقطع بأنّهم لا يتعاملون مع الصبيان أصلاً لا في
الأشياء الخطيرة ولا الحقيرة.
ومنهم :
الصلحاء المتورّعون المتّقون من العوامّ العارفين بالمسائل ، ونقطع بأنّهم أيضاً
يحترزون عن المعاملة مع الصبيان حتّى في الأشياء الحقيرة.
ومنهم :
العوامّ الجاهلون بالمسائل وبعدم صحّة عقد الصبيّ وعدم نفوذ تصرّفاته ، وهم قد
يتعاملون مع الصبيان ولكن لجهلهم بحكم المسألة.
ومنهم :
العوامّ الغير المبالين في امور دينهم فيتعاملون مع الأطفال ويبيعون ويشترون منهم
، لعدم مبالاتهم من العقود الفاسدة وأكل الأموال المحرّمة ، وهم الّذين يشترون
الأموال المسروقة مع العلم بالسرقة ، والّذين يأكلون الربا ، والّذين يبيعون
__________________
ويشترون الأشياء الموزونة والمكيلة من دون وزن وكيل ، والّذين يبيعون
ويشترون من دون مراعاة لمعلوميّة الثمن ولا تعيين جنسه ، وهم الذين يتعاملون مع
الظلّام فيأخذون منهم الأموال المحرّمة مع العلم بالحرمة. فأين إجماع المسلمين على
المعاملة معهم في الأشياء اليسيرة حتّى ينعقد به السيرة المستمرّة.
المسألة الثالثة : في أنّ السيّد صاحب الرياض قد صحّح
معاملات الصبيّ في الأشياء الحقيرة إذا كان بمنزلة الآلة لمن له أهليّة التصرّف في
المال ، لاستقرار السيرة واستمرارها بذلك.
وهذا القول
محدث منه رحمهالله ولم يسبقه إليه أحد ممّن تقدّمه ظاهراً فيكون ضعيفاً ،
ويكفي في ضعفه أنّ الآليّة مفهوم اعتباري وأمر انتزاعي لم يؤخذ عنواناً في الأدلّة
الشرعيّة ، ولم يرتّب عليه حكم في الشريعة ولم يوجد له أثر في نصوص الباب وفتاوى
الأصحاب الّتي هي معاقد الإجماعات ، فلا يترتّب عليها أثر في المقام فلا تصلح
مصحّحة لمعاملة الصبيّ الصادرة على وجه الآليّة لا على وجه الاستقلال إلّا لدليل
ولا دليل عليه.
والتمسّك
باستقراء السيرة بذلك إن اريد به أنّ السيرة مستمرّة من قديم الأيّام على استعمال
الصبيان في المعاملات على وجه الآليّة لا على الاستقلال ، ففيه ما لا يخفى إذ
المعتبرون من المسلمين كالعلماء والصلحاء من العوامّ لا يستعملون الأطفال في
المعاملات أصلاً لا بالاستقلال ولا على وجه الآليّة ، وأمّا الباقون فالأكثرون
منهم لا يراعون جهة الآليّة ولا يلتفتون إليها حين البعث أو النصب والأخذ والإعطاء
فلا يبقى إلّا الأقلّون منهم ولا يتحقّق بعملهم إجماع عملي بين المسلمين.
وإن اريد به
أنّ المعاملة الواقعة بتوسّط الصبيّ على وجه الآليّة بأن يكون الصبيّ واسطة بين
الفاعل والمنفعل وهو المعاملة القائمة بالكاملين اللذين هما الفاعل ممّا استقرّت
السيرة على تصحيحها وترتيب الآثار عليها ، ففيه منع استقرار السيرة على التصحيح
إلّا على تقدير كون المعاملة المفروضة جامعة لشروط الصحّة الّتي منها أن يقصد كلّ
من الكاملين عند رفع كلّ من العوضين إلى الصبيّ ليوصله إلى صاحبه إنشاء
__________________
تمليكه من صاحبه عوضاً ومنها اتّصال القبول بالإيجاب بعدم تخلّل فصل زماني
طويل بينهما ، ومن المعلوم ضرورة عدم اطّراد تحقّق هذه الشروط سيّما الأخير إذا
كان أحد الكاملين المرسل للصبيّ في بيته والآخر في السوق وكان بينهما مسافة بعيدة
إلّا أن يلتزم بسقوط اعتبار شرط الاتّصال في المعاطاة ، بدعوى أنّه كما ثبت
مشروعيّة أصل المعاطاة بالسيرة فكذلك يثبت عدم اعتبار الاتّصال فيها بالسيرة ،
ومرجعه إلى أنّ الاتّصال إنّما يعتبر في البيع بالصيغة المخصوصة لا في المعاطاة
بدلالة السيرة على ذلك ، فيشكل الحال حينئذٍ في تماميّة السيرة بحيث تكشف عن رضا
المعصوم ، لعدم معلوميّة كونها قديمة مستمرّة من أعصار أهل بيت العصمة إلى يومنا
هذا. فجعل هذه المعاطاة الّتي لا اتّصال فيها بين إيجابها وقبولها الفعليّين من
الكاملين الغائب كلّ منهما عن صاحبه ، بيعاً صحيحاً مفيداً للملك استناداً إلى
السيرة مع خروجها عن معاملة الصبيّ في غاية الإشكال.
نعم لو جعلت من
الإباحة المشروطة بإباحة إذا علم كلّ منهما من جهة القرائن برضا صاحبه بالتصرّف في
ماله المدفوع إليه بواسطة الصبيّ نظير الهديّة الواصلة إليه بواسطته لم يكن
بعيداً. لكنّ الأقرب بالتقوى والأوفق بطريقة الاحتياط الّذي هو سبيل النجاة هو
مراعاة التوكيل ، بأن يوكّل أحد الكاملين صاحبه خصوصاً في واقعة خاصّة أو عموماً ،
في أنّه عند مجيء الصبيّ من قبله وإتيانه بالثمن يبيع المتاع منه ويقبل البيع من
قبله فيسلّمه للصبيّ ليوصله إليه.
المبحث الثاني
في العقل وهو ثاني شروط المتعاقدين
المعتبرة في صحّة العقد ، وفرّع عليه عدم صحّة عقد المجنون والمغمى عليه والسكران ، وربّما يستشكل في
التفريغ نظراً إلى أنّ العقل يطلق على معنيين :
أحدهما : ما
يتميّز به الإنسان عن سائر أنواع الحيوان ، وهو القوّة العاقلة الإنسانيّة وهي
الملكة النفسانيّة الّتي يصدر منها الآثار على وجه الاعتدال ، وهو أن يشبه الأفعال
والتروك الصادرة من صاحبها بأفعال العقلاء وتروكهم.
ثانيهما :
الحالة النفسانيّة المترتّبة على المعنى الأوّل وهو التعقّل المفسّر بالإدراك
الفعلي للمنافع والمضارّ والتمييز بين المصالح والمفاسد ، والفرق بين المعنيين مع
اشتراكهما في كونهما من الكيفيّات النفسانيّة ، أنّ الأوّل من قبيل الملكات
والثاني من قبيل الحالات ، فلو اريد به في محلّ الاشتراط المعنى الأوّل لم يصحّ
تفريع عدم صحّة عقد المغمى عليه والسكران عليه لأنّهما ليسا بفاقدين للمعنى الأوّل
بل المعنى الثاني ، ولو اريد به المعنى الثاني لم يصحّ تفريع عدم صحّة عقد المجنون
عليه ، لأنّ ظاهرهم كونه باعتبار انتفاء القوّة العاقلة. ولكنّ الأمر في دفعه سهل
، فإنّ شرط الصحّة هو التعقّل وهو لا ينافي ظهور كلامهم في كون عدم الصحّة في
المجنون لكونه فاقداً للقوّة العاقلة ، نظراً إلى أنّ انتفاء التعقّل قد يكون لفقد
المقتضي ، وقد يكون لوجود المانع ، أما الأوّل فكما في المجنون لأنّ القوّة
العاقلة بالنسبة إلى التعقّل والإدراك الفعلي من باب المقتضي لا العلّة التامّة ،
وأمّا الثاني فكما في المغمى عليه والسكران لأنّ كلاًّ من الإغماء والسكر مانع من
التعقّل والإدراك الفعلي.
والسرّ في كون
التعقّل معتبراً في الصحّة أنّ العقد بمعنى الربط المعنوي بين المتعاقدين لا
يتحقّق إلّا بتعقّل كلّ منهما وإدراكه لمدلول الإيجاب والقبول ، والدليل على
الشرطيّة مضافاً إلى ذلك الإجماع بقسميه ، بل المنقول منه على ما في كلامهم مستفيض
، وقد اعترف بعضهم بأنّ الدليل منحصر في الإجماع.
نعم قد يستدلّ
عليه مضافاً إلى الإجماع بالخبر النبويّ المتقدّم في شرط البلوغ «رفع القلم عن
ثلاثة : عن الصبيّ حتّى يبلغ ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى يستيقظ» بناءً على أنّ
المراد رفع جميع الأحكام الّتي منها صحّة العقود.
وفيه : منع
الدلالة عليه بسند متقدّم في البلوغ ، وملخّصه : أنّ ظاهر الخبر بملاحظة إضافة
الرفع إلى القلم رفع قلم الكتابة ، ومعناه أنّه لا يكتب عليه في صحيفة الأعمال من
الأفعال والتروك الصادرتين عنه ما لو صدر من البالغ العاقل كان من السيّئات كالقتل
والجناية والضرب والشتم ، وأكل المال المحرّم وترك الصلاة والصوم وما أشبه ذلك ،
واللازم منه أن لا يؤاخذ بتلك الأفعال والتروك ، وهذا لا يلازم عدم صحّة عقوده.
ومن طريق هذا
المنع يعلم منع الدلالة أيضاً فيما لو استدلّ بالخبر المرويّ عن قرب الإسناد بسنده
عن أبي البختري عن أبي جعفر عليهالسلام عن أبيه عليهالسلام عن عليّ عليهالسلام أنّه قال : «المجنون والمعتوه الّذي لا يفيق ، والصبيّ
الّذي لم يبلغ عمدهما خطأ يحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم» .
فإنّ رفع القلم
هنا أيضاً ظاهر في رفع قلم الكتابة لسيّئاتهما في صحائف الأعمال ، وهذا لا يلازم
عدم صحّة عقودهما ، إلّا أن يستظهر الدلالة من ذلك باعتبار كونه لتعليل الحكم
المستفاد من قوله : «عمدهما خطأ» نظراً إلى أنّ العمد هنا عبارة عن القتل العمدي
الصادر منهما عن قصد ورويّة ، ومعنى كون قصدهما خطأ» أنّه بمنزلة العدم في نظر
الشارع ، على معنى أنّه لم يعتبر قصدهما ولم يرتّب عليه الآثار الشرعيّة المترتّبة
على القصد ، ولذا رفع عنه القصاص وجعل الدية على العاقلة ، وقضيّة ذلك من جهة
__________________
عموم العلّة المنصوصة أن لا يكون قصدهما معتبراً في العقود أيضاً. ولكن ذلك
مبنيّ على التزام تحقّق القصد من المجنون وأنّ عدم صحّة عقده باعتبار كون هذا
القصد كلا قصد ، ومرجعه إلى أنّ القصد الّذي هو ملاك صحّة العقود على ما سيأتي هو
القصد الناشئ عن القوّة العاقلة والملكة النفسانيّة لا مطلق القصد وإن لم ينشأ
منها ، فليتدبّر.
فرعان :
أحدهما : إذا أوجب أحد المتعاقدين وهو
عاقل وصاحبه غير عاقل ولمّا فرغ أفاق صاحبه فقبل عاقلاً ، أو أنّه لمّا فرغ جنّ فقبل الآخر حال
جنونه ، فقد يقال فيه بالصحّة. ولا يخلو عن إشكال ، لظهور معاقد الإجماعات في
اعتبار وجود العقل لكلّ من الموجب والقابل حال تلفّظه بما هو وظيفته من صيغتي
الإيجاب والقبول وتلفّظ صاحبه بما هو وظيفته أيضاً ، مع أنّ الربط المعنوي لا
يتحقّق بينهما إلّا على تقدير تعقّل كلّ منهما وفهمه لمدلولي الصيغة الصادرة منه
والصيغة الصادرة من صاحبه.
ثانيهما : لو وقع العقد والتقابض بين
ناقصين كصبيّين أو مجنونين أو
صبيّ ومجنون فتلف ما في يد كلّ منهما بإتلافه أو بغير إتلافه كان الضمان عليهما إن
لم يأذنهما وليّهما في التعاقد ، وعلى وليّهما إن أذنهما فيه لأنّه السبب بإذنه في
الإتلاف والتلف. وقد يفرّط في تضمين الوليّين وإن لم يأذنهما فيه إذا اطّلعا وعلما
بإرادتهما وقصّرا في منعهما لأنّ الوليّ منصوب لحفظ المولّى عليه وحفظ ماله فتلفه
يستند إلى تقصيره ، وليس ببعيد. ولو وقع العقد والتقابض بين كامل وناقص لا ضمان
على الناقص ، لأنّ الكامل ضيّع ماله حيث دفعه إلى الناقص وسلّطه على إتلافه ،
بخلاف الكامل فإنّه يضمن مال الناقص لعموم «على اليد» وعموم «من أتلف».
المبحث
الثالث
في الاختيار
الّذي جعله الأصحاب ثالث شروط المتعاقدين المعتبرة في الصحّة ، وفرّعوا عدم صحّة
عقد المكره.
وليعلم أنّ
الاختيار له معنيان :
أحدهما : ما
يقابل الجبر ، وهو أن يكون الفاعل مجبوراً في فعله ، ومنه أفعال العباد على مذهب
الجبريّة القائلة بكونهم مجبورين في أفعالهم لاستناد صدورها إلى إرادة قديمة وهي
إرادة الله سبحانه من دون إرادة منهم أو مع إرادة غير مؤثّرة ، خلافاً للعدليّة
القائلين بكونهم مختارين في أفعالهم لصدورها عنهم بإرادة حادثة وهو إرادة العبد من
دون مدخليّة للإرادة القديمة فيها. والاختيار بهذا المعنى ملاك التكاليف الشرعيّة
، وعليه مدار اتّصاف الأفعال بالحسن والقبح ، وهو مناط الثواب والعقاب.
ثانيهما : ما
يقابل الإكراه ، وهو أن يكون الحامل له على الفعل توعيد الغير وتهديده على تركه
بقتل أو جناية أو ضرب أو أخذ مال منه بقهر ونحو ذلك ، فالاختيار أن يكون الحامل له
على الفعل شيء من الدواعي العادية الباعثة على صدوره عن رضاه وطيب نفسه. والمراد
به في محلّ البحث هو هذا المعنى على ما يقتضيه كلمة الأصحاب نصوصيّة وظهوراً ،
ولأنّهم باعتبار هذا الشرط احترزوا عن عقد المكره.
واستدلّ على
الشرطيّة بعد الأصل بالإجماع والكتاب والسنّة.
أمّا الإجماع فبقسميه
، بل المنقول منه مستفيض.
وأمّا الكتاب فقوله تعالى : «إِلّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» يدلّ على أنّ
كلّ تجارة ليس فيها تراض ورضاً نفساني فأكل المال المأخوذ من جهتها أكل بالباطل ،
ولا يكون كذلك إلّا من جهة البطلان ، بناءً على أنّ بطلان عقد المكره باعتبار
انتفاء الرضا لا غير.
وأمّا السنّة : فقوله عليهالسلام : «لا يحل مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» بناءً على ما
عرفت من كون بطلانه باعتبار انتفاء الرضا وطيب النفس.
واستدلّ أيضاً
بالنبوي المتّفق عليه بين المسلمين المعمول به عند الفريقين العامّة والخاصّة «رفع
عن امّتي تسعة ، وذكر منها ما استكرهوا عليه» ولا ينافيه ظهوره في رفع المؤاخذة ، لأنّ المراد به رفع
المؤاخذة على مخالفة الإلزامات الشرعيّة الحاصلة في الواجبات ، ويكون كناية عن
ارتفاع أصل الإلزامات بسبب طروء إحدى الأعذار التسعة الّتي منها الإكراه ، فيدلّ
بعمومه على رفع الإلزام في عقد المكره إذا امتنع بعد العقد عن ردّ المثمن أو الثمن
إلى صاحبه عند ارتفاع الإكراه بعد العقد وقبل الردّ بموت المكره ونحوه ، وهو
يستلزم عدم صحّة العقد وعدم انتقال المال عن المكره إلى صاحبه بذلك العقد.
واستدلّ أيضاً
بالأخبار الواردة في بطلان طلاق المكره مع انضمام الإجماع
المركّب وعدم القول بالفصل.
والعمدة في
المقام هو التكلّم في تحقيق موضوع المسألة الّذي هو مورد الأدلّة ومعقد الإجماعات
المنقولة ، فنقول : إنّ العقد اللفظي مشتمل على لفظ وهو الصيغة المخصوصة كصيغة «بعت»
مثلاً في البيع ، وعلى مدلول مادّي وهو معنى «البيع» وعلى مدلول هيئي وهو المعنى
الإنشائي أعني إيجاد معنى البيع وإيقاعه بنفس الصيغة ، وعلى مدلول التزامي هو
الحاصل من المعنى الإنشائي أعني مضمون العقد الواقع في الخارج كتمليك العين المستتبع
لتملّكها من حيث إنّه الواقع في الخارج ، وهو المقصود بالأصالة والمطلوب بالذات من
إجراء العقد. ومن المعلوم أنّ العقد المشتمل على الامور
__________________
المذكورة لا ينعقد صحيحاً إلّا بقصود أربع على معنى توقّف انعقاده على هذه
القصود ، وهي القصد إلى التلفّظ بهذا اللفظ الخاصّ ، والقصد إلى مدلوله المادّي ،
والقصد إلى مدلوله الهيئي أعني قصد الإنشاء وهو إيجاد المدلول المادّي وإيقاعه حال
التلفّظ بنفس الصيغة المتلفّظ بها ، والقصد إلى وقوع ما قصد إيقاعه في الخارج وقد
يعبّر بالقصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج. ولا ريب أنّ قصد الإيقاع لا يستلزم
قصد الوقوع في الخارج ، نعم انتفاء قصد الوقوع يستلزم انتفاء الوقوع في الخارج ،
وهو يستلزم عدم تحقّق الإيقاع وإن قصد ، لأنّ صدق الإيقاع باعتبار تحقّق الوقوع في
الخارج فإذا لم يتحقّق لانتفاء القصد إليه لم يصدق الإيقاع فلا يبقى إلّا قصده.
وكيف كان فإذا
انتفى القصد إلى التلفّظ كالصيغة الصادرة من النائم أو الغافل أو الغالط ، أو
القصد إلى المدلول المادّي كما إذا صدرت من الهاذل أو المورّي في بعض فروضهما ولو
باعتبار إرادة معنى لفظ آخر في التورية كالإجارة أو الصلح أو النكاح ، أو القصد
إلى المدلول الهيئي كما في الهاذل أو المورّي في فرض آخر ولو باعتبار إرادة
الإخبار لا الإنشاء فلا عقد. ولو انتفى القصد إلى وقوع المضمون في الخارج فلا نفوذ
بل يقف النفوذ على لحوق الرضا به بلحوق الإجازة الكاشفة عنه.
وبهذا يعلم أنّ
القصد الرابع يغاير غيره ممّا قبله ذاتاً ، بكونه عبارة عن الرضا المقابل للكراهة
، والمراد به عدم كراهة وقوع مضمون العقد في الخارج ويطلق عليه لفظ الاختيار. قال
في المجمع : «قوله ورضيت بالشيء رضا اخترته ، وارتضيته مثله» وهما معاً
بمعنى طيب النفس ، ولذا قال في المجمع أيضاً : «قول العرب طاب لي هذا أي فارقته
المكاره وطاب له العيش فارقه المكاره» وحاصل معنى مفارقة المكاره إيّاه أن لا يكرهه ، ومنه
قوله عزّ من قائل : «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» وطبت به نفساً
وطابت نفسي به يراد بهما رضا النفس به أي كونه بحيث لا تكرهه النفس ، فطيب النفس
بالقياس إلى مضمون العقد رضاها بوقوعه في الخارج وعدم كراهتها إيّاه.
ووصفاً بإمكان
حصول كلّ ممّا قبله بمجرّد الإكراه بأن يكون الحامل له على قصد
__________________
التلفّظ بالصيغة أو قصد معناها المادّي أو الهيئي هو التخلّص عن الضرر
المتوعّد به بخلاف القصد بمعنى الرضا والاختيار وعدم الكراهة ، لعدم إمكان حصوله
بمجرّد الإكراه بل حصوله منوط بدواعي نفسانيّة أو دواعي خارجيّة موجبة لرجحان وقوع
مضمون العقد في الخارج على عدم وقوعه الّذي هو الحامل على الرضا به والباعث على
ارتفاع الكراهة ، ولا ريب أنّ الإكراه ليس منها بل الإكراه ما دام باقياً لا يعقل
حصول وزوال الكراهة ، فإنّه عبارة عن حمل الغير على أمر كرهاً أي حمله على ما
يكرهه. ومن هنا يقال : إنّ الإكراه على القصد غير ممكن ، إذ لا يصحّ تنزيل القصد
في هذه القصد إلى ما عدا القصد بمعنى الرضا بوقوع مضمون العقد في الخارج.
وقد اضطربت
كلمة الأصحاب في أنّ الجهة المقتضية لبطلان عقد المكره هل هي انتفاء القصد إلى
مدلوله ، أو انتفاء الرضا من المكره؟ فقد يسند إلى ظاهر جماعة منهم الشهيدان أنّ المكره
قاصد إلى اللفظ غير قاصد إلى مدلوله ، بل يظهر ذلك من بعض كلمات العلّامة أيضاً ، وظاهر
هذه العبارة كما ترى اعتبار انتفاء القصد إلى مطلق المدلول في عقد المكره. ولذا قد
يعترض عليهم أخذاً بظاهر كلامهم بعدم كون المنتفى عن عقد المكره ـ الّذي هو موضوع
المسألة ومعقد الأدلّة ـ هو القصد إلى المدلول بل المنتفي عنه إنّما هو الرضا.
وقد يوجّه
كلامهم بعدم كون المراد من القصد إلى المدلول المدّعى انتفاؤه في عقد المكره القصد
إلى مطلق المدلول حتّى المعنى المادّي والهيئي وهو الإنشاء ، بل القصد إلى وقوع
مضمون العقد في الخارج فإنّه أيضاً من مدلول العقد.
وهذا هو الصحيح
بوجوه :
منها : ما عرفت
سابقاً من أنّهم فرّعوا عدم صحّة عقد المكره على شرطيّة الاختيار ، وقد عرفت
لاحقاً أنّ الاختيار والرضا لمعنى وهما مع طيب النفس لمعنى ، ويراد من الجميع ما
يقابل الكراهة ، ورجع ذلك إلى أنّ شرط صحّة العقد المعتبر وجوده في المتعاقدين هو
الرضا وأنّ كراهة المالك مانع ، ومن المعلوم أنّه يكره الأثر ووقوعه
__________________
في الخارج فيكون فساد عقده لانتفاء الرضا لا غير.
ومنها : ما
سيأتي من أنّ المشهور المدّعى عليه الاتّفاق صحّة عقد المكره ونفوذه بلحوق الرضا
الملازم لارتفاع الكراهة ، وظاهر أنّ لحوق الرضا المتأخّر إنّما يصحّحه إذا كان
المنتفى عنه هو الرضا بعد تحقّق القصد إلى المعنى المادّي والهيئي معاً ، لا إذا
كان فاقداً لهذا القصد أيضاً فإنّه حينئذٍ يصير بمنزلة ما يصدر من الهازل والمورّي
ولا يعقل أن يصحّحه الرضا المتأخّر. والسرّ في الفرق أنّ العقد سبب للأثر المترتّب
عليه وقصد معنى اللفظ مادّة وهيئة معتبر في تحقّق ذات السبب فإذا انتفى انتفى ذات
السبب ، والرضا المتأخّر لا يعطيه الوجود بخلاف الرضا مع تحقّق شرط تحقّق الذات ،
فإنّه شرط لتأثيره فإذا انتفى انتفى التأثير لا الذات ، وإذا لحقه الرضا أو
الإجازة الكاشفة عن الرضا يؤثّر أثره ، غاية الأمر رجوع ذلك إلى أنّ هذا الشرط
للتأثير لا يعتبر فيه المقارنة للعقد ، ولا ضير فيه إذا ساعد عليه الدليل.
ومنها : ما
يجده المتتبّع في تضاعيف كلماتهم ، من أنّ عقد المكره يجري عندهم في البطلان
والصحّة مع الإجازة الكاشفة عن الرضا مجرى عقد الفضولي ، ولا ريب أنّ عقده فاقد
لرضا المالك لا القصد إلى مدلول اللفظ مادّة أو هيئة وكذا ما يجري مجراه. وأيضاً
يوجد في مطاوي عباراتهم التعبير عن الشرط المفقود في عقد المكره تارةً بالقصد إلى
مدلول اللفظ ، واخرى بالرضا مكان القصد ، وثالثة بالقصد والرضا معاً في موضع واحد
أو موضعين من كتاب واحد ، ومن ذلك ما في الرياض من نقل تعليلهم لصحّة عقده بعد
الإجازة «بأنّه بالغ رشيد قاصد إلى اللفظ دون مدلوله ، وإنّما منع عدم الرضا ،
فإذا زال أثّر العقد كعقد الفضولي حيث انتفى القصد إليه من مالكه مع تحقّق القصد
إلى اللفظ في الجملة ، فلمّا لحقته إجازة المالك [أثّرت] ولا يعتبر مقارنته للعقد
للأصل ، بخلاف العقد المسلوب بالأصل كعبارة الصبيّ فلا يجبره إجازة الوليّ ولا
رضاه بعد بلوغه» انتهى.
فلاحظ ما في
عبارة الدليل ، أوّلاً :من فرض انتفاء القصد إلى مدلول اللفظ ، وثانياً :
__________________
حصر الجهة المقتضية للمنع في عدم الرضا ، وثالثاً : جعل المفقود في عقد
الفضولي القصد إليه من مالكه ، وهذا كلّه يعطي مرادفة الرضا للقصد إلى مدلول اللفظ
عندهم ، ولا يتمّ إلّا إذا كان مدلول اللفظ مراداً به الأثر المعبّر عنه بمضمون
العقد.
ومنها : أنّهم
حكموا بعدم وجوب التورية في التفصّي عن الإكراه توصّلاً إلى إفساد العقد الصادر
منه ، والسرّ فيه أنّه في عقده إن لم يكن كارهاً لوقوع مضمونه في الخارج فهو ليس
بمكره وعقده خارج عن موضوع عقد المكره ، وحينئذٍ فإن ورّى كان فساده من جهة
التورية لا من جهة عقد مكره ، وإن كان كارهاً فكراهته كافية في فساده من غير حاجة
إلى التورية لكون الرضا المرادف للاختيار من شروط الصحّة وهو لا يجامع الكراهة.
فبجميع ما
ذكرنا ظهر وجه صحّة التوجيه المتقدّم لكلام الجماعة من كون المكره قاصداً للّفظ
غير قاصد لمدلوله ، ويجري نحوه فيما ذكره العلّامة في التحرير من أنّه لو اكره على
الطلاق فطلّق ناوياً فالأقرب وقوع الطلاق إذ لا إكراه على القصد انتهى. وحاصله أنّ
هذا الطلاق من جهة تحقّق نيّة الطلاق على معنى قصد وقوع أثره في الخارج ليس من
طلاق المكره ، ليفسد من جهة النصوص الدالّة على فساد طلاق المكره. وقوله : «إذ لا
إكراه على القصد» يعني أنّ طلاق المكره المحكوم على فساده ما اكره على
القصد على معنى كون الإيعاد بالإضرار على ترك الطلاق موجباً لوقوعه عن كره ولا عن
طيب نفس ، وهذا ليس كذلك لوقوعه عن قصد وقوع أثره.
ثمّ ينبغي
الكلام في موضوع المكره ، وما يعتبر في تحقّق الإكراه وما لا يعتبر ، فنقول : إنّ
المكره مفعول من الإكراه وهو إفعال من الكره فبضابطة أنّه يعتبر في صدق المشتقّ
تحقّق المبدأ لا بدّ في صدق المكره من تحقّق الإكراه المتوقّف على تحقّق الكره ،
فنقول : إنّ ظاهر كلماتهم يعطي اتّفاقهم على اعتبار الإيعاد في تحقّقه ، بأن يكون
الحامل له على إجراء العقد إيعاد الغير بالإضرار على تركه ، فمن لا إيعاد من الغير
في عقده فليس بمكره ، وإن كان الحامل له على العقد خوف التضرّر بتركه ـ كما لو باع
ملكه أو عقاره أو متاعه دفعاً للضرر المترتّب على ترك البيع ـ فإنّه ليس من عقد
__________________
المكره ولا إشكال في صحّته ، لصدوره باختياره ورضاه وعن طيب نفسه وإن كان
الباعث عليه خوف الضرر ، بل أكثر البيوع الصادرة من الناس ولا سيّما أهل الأسواق
ولا سيّما التجّار إنّما تصدر لخوف الضرر بتركها.
ويعتبر في
تحقّقه أيضاً كون الإيعاد على ترك العقد على معنى كون المتوعّد على تركه نفس العقد
لا أمراً آخر حاملاً للعاقد على اختيار العقد ، فمن اوعد على ترك دفع مال كالظالم
إذا طلب منه مالاً ظلماً وأوعده على عدم دفعه ، وتوقّف دفعه على بيع بعض أمواله أو
أملاكه أو عقاراته ، فباعه للتفصّي عن الضرر المتوعّد به على عدم دفع المال ،
فبيعه ليس من عقد المكره ولا إشكال في صحّته ، لحصوله باختياره وعدم كرهه في أصل
البيع وإن كان مكرهاً في دفع المال ، وهذا أيضاً كثير شائع وقوعه بين الناس.
ثمّ إنّهم
اعتبروا في تحقّق موضوع الإكراه شروطاً ثلاث ذكروها في كتاب الطلاق في باب طلاق
المكره : وهي أن يكون المكرِه ـ بالكسر ـ قادراً على فعل ما أوعد به من قتل أو جرح
أو ضرب أو حبس أو إهانة أو استخفاف أو هتك عرض ، وغلبة ظنّ المكرَه ـ بالفتح ـ على
أنّه يفعل ما أوعده به ، وأن يكون ما أوعده به مضرّاً بخاصّة نفسه أو متعلّقه
كأبيه وابنه وامّه وأخيه.
والسرّ في
اعتبار هذه الامور أنّ الأصل في أفعال الإنسان هو الاختيار ويعبّر عنه بـ «أصالة
الاختيار» ومدركها الغلبة ، وأنّ الظاهر من العقد الصادر من البالغين الكاملين هو
تحقّق القصود الأربع المتقدّمة الّتي رابعها قصد وقوع الأثر في الخارج والرضا به
وطيب النفس فيه وعدم الكره فيه. فلا بدّ في صدق كون العاقد مكرهاً وتحقّق الكراهة
فيه عند الإيعاد بالإضرار على تركه العقد من حصول ما يزاحم أصالة الاختيار والظهور
اللفظي ، ويوجب الخروج عنهما بظهور عدم الاختيار وتحقّق الكره ـ أعني ما يكشف عن
الكره وعدم الاختيار ـ وليس إلّا الإيعاد المقترن بالامور الثلاث ، ضرورة أنّ
إيعاد من لا يقدر على فعل ما أوعد به ، أو إيعاد من لا يغلب على الظنّ أنّه يفعل
ما أوعد به ، أو الإيعاد بما لا يكون مضرّاً بخاصّة نفس العاقد أو متعلّقه لا يكشف
عن الكره وعدم الاختيار ، فيكون الأصل والظهور اللفظي على حالهما ويجب الأخذ بهما
ومقتضاهما الصحّة.
وهل يعتبر في
موضوع الإكراه عجز المكرَه عن التفصّي عن الضرر المتوعّد به
بما لا يوجب ضرراً آخر ، فمن يقدر على دفعه بفرار أو مقاومة أو استعانة ولم
يدفعه فهو ليس بمكره أولا؟ فعن جماعة منهم الشهيد الثاني اعتباره ، وقيل بالعدم.
وليعلم أنّ
الصور المتصوّرة في المقام أربعة ، لأنّ المكرَه إمّا أن يدور أمره على سبيل منع
الخلوّ بين أن يأتي بالفعل المكره عليه أو يمكّن نفسه عن تحمّل الضرر المتوعّد به
، أو بين أن يأتي بالفعل المكره عليه أو يمكّن نفسه عن تحمّل الضرر المتوعّد به أو
يدفع الضرر بما يوجب ضرراً آخر مساوٍ للأوّل أو أشدّ منه أو أخفّ منه ، أو بين أن
يأتي بالفعل المكره عليه أو يمكّن نفسيه من تحمّل الضرر المتوعّد به أو يدفعه بما
لا يوجب ضرراً آخر أو بين أن يأتي بالفعل أو يمكّن نفسه من تحمّل الضرر أو يدفعه
بما يوجب ضرراً آخر أو بما لا يوجب ضرراً آخر.
ولا ريب في
تحقّق الإكراه في الصورة الاولى بل هو محلّ وفاق ، وكذلك الثانية لأنّ القدرة على
دفع الضرر المتوعّد به بما يوجب ضرراً آخر في معنى عدم القدرة على دفع نوع الضرر
فكونه مكرهاً حينئذٍ أيضاً محلّ وفاق ، وليس ذلك نظير دوران الأمر بين قبيحين أو
ضررين أحدهما أشدّ من الآخر ، لأنّ وجوب اختيار الأقلّ حينئذٍ إنّما هو لانحصار
الأمر في ارتكاب أحدهما ولم يكن مناص عنه ، ومحلّ الكلام ليس منه لأنّ الغرض دفع
الضررين معاً بالإقدام على الفعل المكره عليه ، ولا ريب أنّه يصدق عرفاً أنّه مكره
في فعله ، ولذا قيّد جماعة من الفحول القدرة على الدفع بما لا يوجب ضرراً آخر.
وأمّا الصورتان
الاخريان فكلّ منهما من محلّ النزاع ، ومرجع الكلام فيهما إلى أنّ القدرة على دفع
الضرر بما لا يوجب ضرراً آخر ، فمن لم يدفعه واختار الإتيان بالفعل المتوعّد على
تركه هل يكشف عن الاختيار والرضا به وعدم كراهته أولا؟ فنقول : إنّ الإكراه الّذي
رتّب عليه الحكم في الشرعيّات قسمان :
أحدهما : ما
اعتبر في رفع الأحكام التكليفيّة في الواجبات والمحرّمات ، وهو الإكراه المسوّغ
لتناول المحظورات وترك المفروضات ، بحيث لا يكون آثماً ولا مؤاخذاً
__________________
ولا مخاطباً بكفّارة وغيرها من الآثار المترتّبة على مخالفة التكليف
الإلزامي ، كما لو اكره على شرب الخمر أو أكل المال الحرام أو ترك الصلاة أو صيام
نهار رمضان وما أشبه ذلك ، وهذا ممّا لا إشكال بل الظاهر أنّه لا خلاف في أنّه
يعتبر في تسويغه المحظورات عجزه عن التفصّي عن الضرر المتوعّد به ، ومناطه توقّف
دفع ضرر المكره على ارتكاب المكره عليه من فعل محرّم أو ترك فريضة ، وعليه يحمل
الإكراه في حديث رفع المؤاخذة «عمّا استكرهوا عليه».
وثانيهما :
الإكراه الرافع لآثار المعاملات ، وهذا هو محلّ البحث ، فنقول : إنّه ربّما يستظهر
عدم اعتبار العجز من رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا يمين في قطيعة رحم ، ولا في جبر ، ولا في
إكراه ، قلت : أصلحك الله ، وما الفرق بين الجبر والإكراه؟ قال : الجبر من السلطان
، ويكون الإكراه من الزوجة والامّ والأب وليس ذلك بشيء ...» الخبر. فإنّ
المقابلة وبيان الفرق ظاهر في أنّ المراد بالجبر ما يبلغ حدّ الإلجاء والاضطرار ،
ولا يكون إلّا حيث لم يكن له طريق إلى التخلّص ، ولذا خصّه بالسلطان الّذي يغلب
فيه ذلك. فيكون الإكراه دونه وهو ما لا يبلغ الحدّ المذكور ، ولذا أضافه إلى الزوجة
والامّ والأب الّذين يغلب فيهم وجود طريق التخلّص.
وفيه : نظر ،
لمنع كون نظر الإمام في بيان الفرق إلى ما ذكر ، بل إلى اعتبارات اخر مثل أنّ
السلطان يأمر بما يخاف الضرر على تركه من دون توعيد ، بخلاف الإكراه الّذي لا بدّ
فيه مع الأمر من التوعيد ، أو أنّ جعل الجبر من السلطان باعتبار كونه عند العرف
جابراً فأمره بخلاف العدل مع التوعيد على الترك جبر ، بخلاف الزوجة والامّ والأب
لعدم صدق الجابر عليهم ، أو أنّ الجبر أمر بخلاف العدل مع خوف الضرر على المخالفة
من غير توعيد ، بخلاف الإكراه الّذي هو أمر مع التوعيد ، فلا ظهور للرواية على عدم
اعتبار العجز في موضوع الإكراه.
فالحقّ في
المقام ما عليه الجماعة من اعتبار العجز عن التفصّي في مفهوم الإكراه لشهادة
التبادر الوجداني والاستقرائي بذلك ، فإنّ المتبادر المنساق من لفظ الإكراه
__________________
وتصاريفه مثل «أكرهته على كذا وأكرهني على كذا وما أشبه ذلك» هو أمر
الإنسان بفعل مع التوعيد على تركه بما يعدّ في العرف ضرراً من قتل أو جرح أو ضرب
أو حبس أو شتم أو هتك عرض أو إتلاف بحيث لم يتمكّن المأمور من التفصّي عادةً بوجه
من الوجوه إلّا فعل المأمور به ، فيعتبر فيه الأمر بالفعل والتوعيد على تركه
والعجز عن التفصّي إلّا بفعل المأمور به.
وكما أنّه لا
إكراه مع انتفاء أصل الأمر وإن كان الحامل على الفعل دفع الضرر المترتّب على تركه
كبيع الدار لدفع الضرر المترتّب على ترك البيع أو مع عدم كون الفعل الصادر منه نفس
المأمور به المتوعّد على تركه بل من مقدّماته كبيع الدار لدفع ثمنه إلى ظالم يطلب
منه مالاً ظلماً ، فكذلك لا إكراه فيما يقدر المأمور من التفصّي عن الضرر بغير فعل
المأمور به ، فالأمر الحامل له على الفعل حينئذٍ ليس من موضوع الإكراه عرفاً ، فلا
يرتفع به حكم تكليفي فيما لو تحقّق بالنسبة إلى ما رتّب عليه [الأحكام] التكليفيّة
كالحرمة في شرب الخمر وغيره ، ولا حكم وضعي فيما لو تحقّق فيما رتّب عليه الأحكام
الوضعيّة كالصحّة في البيع ونحوه.
والسرّ في
انفهام العجز أنّ الظاهر المتبادر من التوعيد على ترك المأمور به كون الضرر
المتوعّد به مترتّباً على ترك المأمور به بعينه كما في أمر الشارع مع التوعيد
بالعقاب على المخالفة ، وهذا يقتضي اعتبار العجز عن التفصّي ، إذ مع القدرة عليه
كان الضرر المتوعّد به مترتّباً على ترك المأمور به وترك التفصّي معاً لا على ترك
المأمور به بعينه. وقضيّة ذلك أن يكون مختاراً في إتيانه بالمأمور به ، كما أنّه
لو أقدم على التفصّي كان مختاراً فيه ، والّذي يكشف عن كونه مختاراً في التفصّي ـ مضافاً
إلى الصدق العرفي ـ أنّ التفصّي مسقط عن الفعل المأمور به لا أنّه بدل له ، لأنّ
الآمر لم يأمره بأحد الأمرين من فعل المأمور به أو التفصّي عن الضرر على وجه
التخيير ، فإنّه لو كان كذلك لم يكن مختاراً لا في التفصّي على تقدير الإقدام عليه
ولا في فعل المأمور به على تقدير الإقدام عليه ، وإنّما أمره بفعل المأمور به
بعينه ، ووجود المسقط يوجب صدق كونه مختاراً في فعله كما أنّه مختار في فعل
التفصّي.
وبالتأمّل في
ذلك يظهر أنّه لا فرق في صدق الإكراه عرفاً في محلّ العجز عن
التفصّي بين كون المأمور به المكره عليه أمراً واحداً شخصيّاً كما لو قال :
«بع دارك وإلّا لأقتلنّك» أو أمرين على وجه التخيير الّذي صرّح به الآمر كما لو
قال : «بع دارك أو طلّق زوجتك وإلّا لأقتلنّك» فاختار بيع الدار ، أو أمراً
كلّيّاً حكم العقل بالتخيير بين أفراده كما لو قال : «بع واحداً من عبيدك وإلّا
لأقتلنّك» وعنده عبيد متعدّدون فباع واحداً معيّناً منهم ، فإنّه في الجميع مكره
في نظر العرف. وبالجملة تعدّد المكره على أحدهما أو كلّيّته لا يمنع من تحقّق
موضوع الإكراه ، ولا يرفع صدق اسم المكره عرفاً فيما إذا اختار أحد الفردين
المخيّر فيهما بنصّ الآمر أو بحكم العقل.
ثمّ إنّه هل
يعتبر في الإكراه المانع من صحّة العقد مع العجز عن التفصّي عن الضرر العجز عن
التورية لدهشة أو جهل بطريق التورية فالعقد مع القدرة عليها لا يدخل في عقد المكره
، أو لا يعتبر العجز منها فالعقد من القادر عليها ليس بخارج عن عقد المكره؟ قولان
، عزي ثانيهما إلى الأكثر ، وهو ظاهر النصّ والفتاوى ومعاقد الإجماع في عقد
المكره ، وظاهر خصوص النصوص الواردة في طلاق المكره وعتقه. وقيل بالأوّل. والصحيح
ما عليه الأكثر.
والقول
بالاعتبار إمّا أن يراد به اعتبار العجز عنها في موضوع الإكراه وصدق اسم المكره
كالعجز عن التفصّي ، أو يراد به اعتباره في حكم الإكراه وهو إبطاله العقد على معنى
كونه شرطاً تعبّديّاً فيه.
وأيّاً ما كان
فهو غير سديد ، أمّا الأوّل : فلأنّ مناط موضوع الإكراه بالنسبة إلى المعاملة
كونها لا عن طيب نفس ورضا بوقوع مضمون العقد وأثره في الخارج ، وهذا يجامع كلاًّ
من عدم قصد ظاهر اللفظ مادّة أو هيئة وقصد خلاف ظاهره مادّة وهيئة وقصد ظاهره كذلك
، وقضيّة ذلك عدم توقّف تحقّق موضوعه وصدق اسمه على التورية ، سواء اريد بها عدم
قصد الظاهر أو قصد خلاف الظاهر.
وأمّا الثاني :
فلأنّ جعل العجز عن التورية شرطاً تعبّديّاً تقييد في نصوص الباب وفتاوى الأصحاب
ومعاقد إجماعاتهم ، وهو يحتاج إلى دليل من نصّ أو إجماع ،
__________________
ولا دليل عليه ، مضافاً إلى أنّه ممّا لا يرجع إلى محصّل ولا يفيد أثراً ،
لما عرفت من أدلّة بطلان عقد المكره كون الاختيار بالمعنى المرادف للرضا وطيب
النفس شرط مستقلّ لصحّة العقد فانتفاؤه كافٍ في البطلان فيلغو اعتبار العجز عن
التورية ، فالقدرة عليها لا تنافي الإكراه موضوعاً وحكماً ، ولا ينافيه ما اشتهر
بين الأصحاب من وجوب التورية في الإكراه على الإتيان بكلام خبري غير مطابق حذراً
عن الكذب المقتضي لاعتبار العجز عنها ، لأنّ المقصود بذلك إحراز الاضطرار إلى
الكذب المسوّغ له الرافع لحرمته ، وهو مع القدرة على التورية من دون مراعاتها غير
متحقّق ، فيكون في إتيانه بالخبر الغير المطابق قد فعل محرّماً فيكون آثماً. وهذا
ممّا لا مدخل له في الإكراه المعتبر في رفع الآثار الوضعيّة المترتّبة على صيغ
العقود والإيقاعات ، لكفاية انتفاء طيب النفس والرضا النفساني في ذلك.
وبهذا يعلم
الحال في الكلام الخبري الصادر عن الإمام على وجه التقيّة كما لو قال : «غسل
الرجلين في الوضوء واجب» فإنّ مصلحة التقيّة في نحوه تتأدّى تارةً بإرادة الظاهر
من باب بيان خلاف الواقع ، واخرى بإرادة خلاف الظاهر من باب التورية كأن يريد من
الغسل معنى المسح مجازاً من غير قرينة ، وهل يجوز له الأمران ، أو يتعيّن عليه
الثاني ومرجعه إلى وجوب التورية عليه عليهالسلام في الكلام الصادر عنه على وجه التقيّة أو لا؟ وقيل
بالأوّل إذ لا اضطرار إلى الكذب مع إمكان التورية فيه فيكون مع عدم التورية قد فعل
محرّماً وهو لا يناسب عصمته. والوجه عندنا على ما حقّقناه في الاصول هو التفصيل
بين كون مصلحة التقيّة ملحوظة في حقّ الإمام فوجب عليه التورية حذراً عن الكذب
المنافي لعصمته ، أو في حقّ السائل باعتبار اختلاطه مع المخالفين فوجب إرادة
الظاهر ليعرف السائل حكمه المبنيّ على التقيّة ، وهو وجوب غسل الرجلين عليه في
الوضوء ما دامت التقيّة قائمة في حقّه فليتدبّر.
ثمّ إنّ في
المقام فروعاً تذكر في طيّ مسائل :
المسألة الاولى
: قد ذكرنا سابقاً أنّ الإكراه الرافع لأثر العقد كما يتحقّق لشخص على فعل واحد
كذلك يتحقّق لشخص على أحد الفعلين تخييراً كأن يقول : «بع دارك أو طلّق زوجتك
وإلّا قتلتك» فباع داره فيقال عرفاً إنّه مكره على بيع داره لأنّه أحد
البدلين المكره على أحدهما ، وقد يتحقّق أيضاً لأحد الشخصين على فعل واحد
كفاية كأن يقول : «ليبع أحدكما داره وإلّا لأقتلنّكما» فباع أحدهما فإنّه مكره على
بيع داره عرفاً.
المسألة الثانية : أنّ الإكراه قد
يتحقّق للمالك العاقد ، وقد يتحقّق للمالك دون العاقد ، وقد يتحقّق للعاقد دون المالك.
أمّا الصورة
الاولى : فقد تقدّمت أمثلتها الّتي منها أن يقول للمالك : «بع دارك وإلّا قتلتك»
فباع مكرهاً ، ولا إشكال في كونه من عقد المكره.
وأمّا الصورة
الثانية : فكأن يقول للمالك : «وكّل فلاناً لأن يبيع دارك وإلّا قتلتك» فوكّله
مكرهاً فباع الفلان ، والوجه فيه كون البيع خارجاً عن عقد المكره إذ لا إكراه
للعاقد على عقده بل للمالك على توكيله ، فعلى تقدير عدم تحقّق الوكالة بسبب
الإكراه فالعقد المفروض داخل في عقد الفضولي ويلحقه حكمه. وليس من هذا الباب ما لو
قال للمالك : «بع دارك وإلّا قتلتك» فقال المالك لغيره : «أنت وكيل في بيع داري»
فباعها الوكيل ، إذ المالك ليس بمكره على التوكيل ، كما أنّ العاقد ليس بمكره على
البيع ، فكلّ من عقد الوكالة وعقد البيع يقع صحيحاً لأنّ المالك مختار في توكيله
لأصالة الاختيار والقصد ، وإذا صحّ عقد الوكالة ترتّب عليه صحّة عقد البيع لكونه
من بيع الوكيل ، إلّا أن يقال : بأنّ قول المكره «بع دارك وإلّا قتلتك» إكراه على
أحد الأمرين من المباشرة للبيع وتوكيل الغير فيه فيكون مكرهاً في توكيله كما أنّه
على تقدير مباشرة البيع كان مكرهاً عليه ، وفيه منع واضح لعدم الانفهام العرفي.
وأمّا الصورة
الثالثة : فلها فروض ثلاث :
الأوّل : أن
يقول : «بع داري وإلّا قتلتك» فباعها مكرهاً ، ومثله ما لو قال : «طلّق زوجتي
وإلّا قتلتك» فعن ثاني الشهيدين في المسالك احتمال عدم الصحّة نظراً إلى أنّ
الإكراه أسقط حكم اللفظ كما لو أمر المجنون بالطلاق فطلّقها ، ثمّ ذكر الفرق
بينهما «بأنّ عبارة المجنون مسلوبة ، بخلاف المكره فإنّ عبارته مسلوبة لعارض تخلّف
القصد ، فإذا كان الآمر قاصداً لم يقدح إكراه المأمور» انتهى. وهذا
هو الوجه الصحيح لوقوع
__________________
العقد من المكره مقروناً برضا المالك وطيب نفسه فكان صحيحاً ، بل هذا أولى
بالصحّة من عقد المالك المكره عليه إذا رضى به لاحقاً.
الثاني : ما لو
قال للوكيل في بيع الدار لا للموكّل : «بع دار فلان وإلّا قتلتك» فباع الوكيل
مكرهاً فذكر في المسالك «فيه وجهين : من تحقّق الاختيار في الموكّل المالك ، ومن
سلب عبارة المباشر» . أقول : الأوجه الصحّة ، لمقارنة العقد لرضا المالك
وطيب نفسه ، ولا أثر معه لكراهة العاقد الوكيل.
الثالث : ما لو
قال لأجنبيّ : «بع دار فلان وإلّا قتلتك» فباع مكرهاً. والوجه فيه كونه من عقد
الفضولي فيلحقه حكمه ، والفرق بينهما بأنّ العاقد الفضولي قاصد للأثر ، وهذا غير
قاصد لا يوجب فرقاً في الحكم بعد لحوق الإجازة.
المسألة الثالثة : لو أكرهه على بيع عبد
معيّن من عبديه اسمه المبارك فباع البشير ، أو أكرهه على بيع الواحد المعيّن فباعه وغيره معاً ، أو
أكرهه على بيع واحد غير معيّن منهما فباعهما ، أو أكرهه على بيعهما فباع أحدهما ،
أو أكرهه على بيع الدار فباع نصفها ، فالصور أربعة أو خمسة ، فهل هو في الجميع من
عقد المكره أو لا في البعض ، أو لا في شيء منها؟
وينبغي الإشارة
إلى ضابط كلّي يعرف به حقيقة الحال فيها ، وهو أنّه قد ذكرنا سابقاً أنّ العقد إذا
صدر عن الإنسان الكامل كان ظاهراً في قصد اللفظ وقصد المعنى مادّة وهيئة وقصد وقوع
الأثر في الخارج ، والإكراه الحامل على إجرائه حيثما تحقّق قرينة مقام تزاحم ظهوره
الأخير وتصرفه إلى خلافه بكشفها في نظر العرف عن كون الحامل له على إجرائه إنّما
هو خوف الضرر المتوعّد وقصد دفعه لا غيره من الدواعي النفسانيّة ، وهذا هو معنى
كشفها عن كراهة وقوع الأثر وعدم طيب النفس والرضا به ، ومن المعلوم ابتناء كشفه عن
ذلك ودلالته عليه في نظر العرف بحيث ينهض قرينة صارفة للّفظ عن ظاهره على عدم
اكتنافه بخصوصيّة اخرى باعتبار خصوص تزاحمه وتمنعه عن الدلالة على ما ذكر ، ومنشأ
الإشكال في الصور المذكورة هو الإشكال في
__________________
كون خصوصيّة المقام المكتنفة بالقرينة المذكورة مانعة من دلالتها على
الكراهة وانتفاء طيب النفس وعدمه.
وإذا عرفت هذا
فنقول :
أمّا الصورة
الاولى : فالخصوصيّة المكتنفة بالقرينة في مقام أمثلة هذه الصورة عدول المكره عمّا
اكره عليه من بيع العبد المعيّن إلى بيع غيره ، والحقّ فيها إنّها تزاحم دلالة
القرينة على الكراهة وانتفاء طيب النفس بالقياس إلى بيع غير المعيّن المكره عليه ،
ولذا يصحّ عرفاً أن يقال : إنّه غير مكره في بيع البشير وأنّه مختار فيه ، فالعقد
الواقع بالنسبة إليه باقٍ على ظهوره في قصد وقوع الأثر فيكون صحيحاً بلا إشكال.
وأمّا الصورة
الثانية : فالخصوصيّة المكتنفة فيها بالقرينة إنّما هو الجمع بين المعيّن المكره
عليه وبين غيره بالبيع ، فهل تزاحم دلالة القرينة على الكراهة وانتفاء طيب النفس
فيهما معاً أو لا تزاحمها فيهما معاً ، أو تزاحمها بالقياس إلى غير المكره عليه
ولا تزاحمها بالنسبة إلى المكره عليه؟ وجوه ، أوجهها الأخير لشهادة الوجدان والصدق
العرفي ، فيصحّ أن يقال : إنّه ليس بمكره على بيع البشير ولا يصحّ ذلك بالقياس إلى
بيع المبارك ، بل يقال : إنّه مكره عليه ، فيصحّ الأوّل ويفسد الثاني.
لا يقال : إنّ
الصحّة والفساد وصفان متضادّان ، والعقد واحد فكيف يتّصف بوصفين متضادّين ، لأنّا
نقول : لا منافاة بينهما هنا لتعدّد المتعلّق ، فإنّ الصحّة عبارة عن تأثير العقد
في تحقّق الأثر بالنسبة إلى البشير كما أنّ الفساد عبارة عن عدم تأثيره في تحقّق
الأثر بالنسبة إلى المبارك ، ومناط تأثيره في الأوّل وعدم تأثيره في الثاني وجود
طيب النفس في بيع البشير وانتفاؤه في بيع المبارك ، هذا كلّه فيما إذا باعهما بعقد
واحد من باب الصفقة الواحدة.
وأمّا لو
باعهما بعقدين على التعاقب ، فإن قدّم بيع الشيء المكره عليه ثمّ باع الآخر فلا
إشكال في عدم دلالة القرينة على الكره بالنسبة إلى الثاني فهو ليس من عقد المكره
بخلاف الأوّل ، وإن قدم غير المكره عليه ثمّ باع المكره عليه فهل هذه الخصوصيّة
تمنع القرينة عن الدلالة مطلقاً نظراً إلى أنّه لو كان الحامل له على بيعه خوف الضرر
المتوعّد به وقصد دفعه لناسب تقديمه فالعدول عنه إلى التأخير يكشف عن أنّ الحامل
له غيره
من الدواعي النفسانيّة ، أو لا تمنعها مطلقاً نظراً إلى الصدق العرفي لصحّة
أن يقال : إنّه مكره على بيع المبارك وليس بمختار ، أو يفصّل بين ما لو كان بيع
غير المكره عليه مقدّماً على بيع المكره عليه محصّلاً لغرض الأمر بإسقاطه المأمور
به في نظره فلا يبقى إكراه في بيع المكره عليه فيكون صحيحاً وبين ما لو لم يكن
محصّلاً لغرضه في الأمر ببيع المكره عليه فيكون من عقد المكره فيفسد؟ وجوه ، ولا
يبعد تقوية الأخير. ويعلم كونه محصّلاً وعدمه باعتبار الخارج ، ولو شكّ فمحلّ
إشكال من حيث إفضائه إلى الشكّ في دلالة القرينة على الكراهة وعدمها ، ومرجعه إلى
إجمال القرينة وهو ربّما يسري إلى العقد بالنسبة إلى ظهوره في قصد وقوع الأثر
كتعقّب الأمر للحظر الموجب لإجماله.
وأمّا الصورة
الثالثة : فاستشكله العلّامة في التذكرة وفصّل بعض مشايخنا «بأنّ بيع العبدين إن كان تدريجاً
فالظاهر وقوع الأوّل مكرهاً دون الثاني ، مع احتمال الرجوع إليه في التعيين سواء
ادّعى العكس أم لا. ولو باعهما دفعةً احتمل صحّة الجميع لأنّه خلاف المكره عليه
والظاهر أنّه لم يقع شيء منهما عن إكراه ، وبطلان الجميع لوقوع أحدهما مكرهاً
عليه ولا ترجيح ، والأوّل أقوى» .
أقول : وجه
ظهور الأوّل أنّ أمر المكره ببيع أحدهما من غير تعيين قرينة مقام تزاحم ظهور العقد
بالنسبة إلى بيع الأوّل ، ويدلّ على وقوعه لا عن طيب نفسه ، ولا تدلّ عليه بالنسبة
إلى بيع الثاني فيرجع فيه إلى ظاهر اللفظ ، مضافاً إلى أنّه لا يقال عرفاً : إنّه
مكره على بيع الثاني بل يقال : إنّه مختار فيه.
ووجه الثاني :
وهو احتمال الرجوع إليه في التعيين وإن ادّعى العكس أنّه كما اكره على بيع أحدهما
فكذلك يقال عرفاً بعد بيعهما تدريجاً : إنّه كان مكرهاً على بيع أحدهما وإنّما
يكون كذلك باعتبار انتفاء طيب النفس عن أحدهما وهو أمر قلبي لا يعلم إلّا من قبله
، فيقبل قوله في التعيين عملاً بعموم قبول دعوى المدّعي فيما لا يعلم إلّا من
قبله. وهذا أوجه.
ووجه الثالث :
وهو صحّة الجميع أنّه كان مكرهاً على بيع أحدهما ، والواقع منه في
__________________
الخارج بيعهما معاً وليس بمكره عليه عرفاً ، فيرجع إلى أصالة الاختيار
وظهور اللفظ في قصد وقوع الأثر.
ووجه الرابع :
وهو بطلان الجميع أنّه وإن كان مكرهاً على بيع أحدهما إلّا أنّ بيعهما معاً لا
ينافي صدق أنّه كان مكرهاً على بيع أحدهما ، ولكنّه غير معيّن ولا مرجّح ، فيحكم
ببطلان الجميع لعدم إمكان الترجيح بلا مرجّح.
وفيه : نظر ،
لإمكان الرجوع إليه في التعيين ، لأنّ انتفاء طيب نفسه عن بيع أحدهما لا يعلم إلّا
من قبله فيقبل قوله وهو المرجّح. فالأقوى صحّته في أحدهما ويرجع إليه في التعيين.
ولو ادّعى الكراهة فيهما معاً لم يقبل ، لعدم دلالة القرينة عليه فيبقى ظهور اللفظ
سليماً. ولو امتنع عن التعيين يجبره الحاكم.
وأمّا الصورة
الرابعة : فقال شيخنا «بأنّه إن باع النصف بعد الإكراه على الكلّ بقصد النصف الآخر
امتثالاً للمكره ـ بناءً على شمول الإكراه لبيع المجموع دفعتين ـ فلا إشكال في
وقوعه مكرهاً عليه ، وإن كان لرجاء أن يقنع المكره بالنصف كان أيضاً إكراهاً ، لكن
في سماع دعوى البائع ذلك مع عدم الأمارات نظر» انتهى.
لعلّ وجه النظر
احتمال وقوع بيع النصف لداع آخر من الدواعي النفسانيّة الخارجة عن الإكراه. ويشكل
بأنّ هذا الاحتمال مع تسليم شمول الإكراه لبيع المجموع دفعتين متدرّجتين ممّا لا
يلتفت إليه ، لأنّ مبناه على ظهور أمر المكره من جهة إطلاق البيع في إرادة بيع
المجموع كيفما اتّفق سواء كان دفعةً أو دفعتين ، وهذا الظهور كافٍ أمارة على صدق
دعوى البائع ، فإنّ العدول عن البيع دفعة إليه دفعتين بمقتضى الظهور المذكور لا يكون إلّا لقصد بيع
النصف الآخر فيما بعد ، أو لرجاء أن يقنع المكره بالنصف الأوّل ، والاحتمال الآخر
خلاف الظاهر. ومثل هذين الوجهين بيعهما معاً دفعتين متعاقبتين من غير فصل بينهما.
المسألة
الرابعة : قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ الإكراه الرافع للحكم التكليفي
أخصّ من الإكراه الرافع للحكم الوضعي وهو الصحّة في المعاملات ، فإنّ
__________________
الأوّل يعتبر فيه البلوغ إلى حدّ الإلجاء والاضطرار بخلاف الثاني ، فلو
اكره على أحد الأمرين من «شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير» فارتكب إحدى الخصوصيّتين
كان من الإكراه الرافع لحرمته ، من جهة الاضطرار إليه باعتبار الاضطرار إلى القدر
المشترك ، فإنّ القدر المشترك بين المحرّمين محرّم ولا مندوحة عنه من جهة الفرار
عن الضرر المتوعّد به ، فاختيار أحد الخصوصيّتين لا يرفع أثر الإكراه ، بخلاف ما
لو قال : «اشرب الخمر أو اشرب الماء وإلّا قتلتك» فاختار شرب الخمر فإنّه حينئذٍ
فعل محرّماً فكان آثماً وإن كان مكرهاً على القدر المشترك بينهما ، فإنّ القدر
المشترك بين المحرّم والمباح ليس بمحرّم فلم يضطرّ إلى فعل المحرّم ، لأنّ له
مندوحة عنه وهو أن يختار للفرار عن الضرر المتوعّد به فعل المباح.
ونحوه ما لو
قال : «بع دارك أو اشرب الخمر» فاختار شرب الخمر فإنّه لم يضطرّ إليه وإن كان
مكرهاً عليه لمكان المندوحة باختيار البيع فيكون آثماً ، فهذا ممّا لم يتحقّق فيه
الإكراه الرافع للحكم التكليفي ، وأمّا لو اختار البيع فهو من الإكراه الرافع
للحكم الوضعي لأنّه إن اختار بدله يترتّب عليه الضرر الاخروي وهو العقاب ، وإن اختار
ترك البدلين معاً يترتّب عليه الضرر الدنيوي وهو الضرر المتوعّد به فلا محيص له عن
البيع دفعاً للضررين فيكون مكرهاً عليه عرفاً ولغة ، لأنّ الحامل له الفرار من
بدله ووعيد المكره المضرّين معاً.
ومن هذا الباب
ما لو اكره على البيع أو إعطاء مال غير مستحقّ عليه بأن يقول : «بع دارك أو أعطني
مائة درهم وإلّا قتلتك» فاختار البيع فإنّه إنّما فعله فراراً عن الضرّ المتوعّد
به وأخذ المال الّذي هو أيضاً ضرر غاية الأمر هنا كون الضررين دنيويّين ، بخلاف ما
لو اكره على البيع أو إعطاء مال مستحقّ عليه كأداء دَين أو إنفاق زوجة وما أشبه
ذلك ، كأن يقول : «بع دارك أو أدّ دَينك أو أنفق على زوجتك وإلّا قتلتك» فاختار
البيع فإنّه حينئذٍ ليس بمكره عليه ، لأنّه ليس للفرار عن الضررين ضرر البدل وضرر
الوعيد ، فإنّ البدل وهو أداء الدين أو إنفاق الزوجة طريق تخلّص عن الضرر المتوعّد
، به فإذا اختار البيع كان مختاراً فيه.
وفيه نظر :
لأنّ أداء الدين أو إنفاق الزوجة بدل لا أنّه مسقط ، فاختيار كلّ منهما
لا يخرجه عن صدق كونه مكرهاً على أحدهما وإن كان أحدهما حقّاً والآخر غير
حقّ ، ولذا لو اختار أداء الدين أو إنفاق الزوجة يقال : إنّه أداء دَين أو إنفاق
زوجة حصل لا عن طيب نفس ، ولزم منه أنّه لو اختار البيع كان واقعاً لا عن طيب
نفسه.
وأمّا ما يقال
: من أنّه لو اكره على بيع مال أو إيفاء مال مستحقّ لم يكن إكراهاً ، لأنّ القدر
المشترك بين الحقّ وغيره إذا اكره عليه لم يقع باطلاً وإلّا لوقع الإيفاء أيضاً باطلاً
، فإذا اختار البيع صحّ لأنّ الخصوصيّة غير مكره عليها والمكره عليه وهو القدر
المشترك غير مرتفع الأثر.
ففيه : أنّ
إيفاء الدين لكونه أداءً لحقّ الغير لم يؤثّر الكراهة وانتفاء طيب النفس في بطلانه
، والمفروض عدم كونه من قبيل العقد ليكون الرضا وطيب النفس معتبراً في صحّته ،
بخلاف البيع لو اختاره فإنّه عقد والكراهة رافعة لصحّته ، إلّا أن يلتزم فيه بعدم
الكراهة ، وفيه منع واضح ، فكون أحد البدلين حقّاً لا يخرج القدر المشترك بينهما
عن حدّ الإكراه ، فيكون الحامل له على فعل كلّ منهما الفرار عن الضرر المتوعّد به
لا غير ، وهو آية الكراهة وانتفاء طيب النفس.
نعم لو أكرهه
على غير حقّ مع التوعيد بحقّ ، كأن يقول : «بع دارك وإلّا أخذت منك دَيني أو ديتي»
فهو خارج عن موضوع الإكراه رأساً ، لعدم كون ما توعّد به مضرّاً به ، فلا يكون
حامله على البيع هو الفرار عن الضرر ، بل حبس حقّ الغير أو تأخير أدائه وهو من
الدواعي النفسانيّة الخارجة عن الإكراه الموجبة لتحقّق الرضا وطيب النفس في اختيار
البيع.
ويمكن أن يقال
في الفرع السابق : إنّ الحامل له على اختيار البيع هو المجموع المركّب من الفرار
عن الضرر المتوعّد به ومنع ذي الحقّ عن حقّه ، وهذا أمر ربّما يرفع الكراهة ويوجب
طيب النفس في البيع ، وغاية ما هنالك الشكّ فيرجع إلى أصالة الاختيار وظهور اللفظ
لسلامته عمّا يزاحمه من طرف القرينة لمزاحمة الخصوصيّة لها ، فالمتّجه حينئذٍ وقوع
البيع صحيحاً.
المسألة الخامسة : في الإكراه بحقّ كما لو أكره الحاكم من عليه حقّ للغير على بيع مال أو
ملك أو عقار له في إيفاء حقّ الغير من أداء دَين أو ردّ دية أو إنفاق زوجة أو
نحو ذلك من الأمثلة الّتي ذكرها في المسالك ، فالمصرّح به في كلام جماعة
منهم ثاني الشهيدين وقوع البيع صحيحاً من حينه ، وظاهرهم بل هو صريح بعضهم عدم
وقوفه على لحوق رضا المالك وإجازته. ووجّه بأنّ رضا المالك هنا ملغى ومرجعه إلى
تخصيص أدلّة اشتراط الصحّة برضاه ، أو لأنّ رضا الحاكم قائم مقام رضاه ، كما أنّ
رضا الوليّ في بيع مال الصبيّ ورضا الوكيل في بيع مال الموكّل قائم مقام رضا
المولّى عليه والموكّل.
وقد يستشكل
بأنّ صحّة البيع مع عدم رضا المالك مقارناً ولاحقاً ممّا لم نتحقّق معناه ، بل
الوجه هنا تولّي الحاكم للبيع لا أمر المالك به لأنّه وليّ الممتنع ، فإنّ المالك
لمّا امتنع من إيفاء حقّ الغير وهو متوقّف على بيع مال له فيتولّاه الحاكم.
وظنّي أنّ هذا
الاستشكال ممّا لا يرجع إلى محصّل ، لأنّ رضا الحاكم إذا صلح أن يؤثّر في صحّة
العقد الصادر منه مع عدم رضا المالك فيصلح أن يؤثّر في صحّة العقد الصادر من
المالك مكرهاً عليه ، ودليل الملازمة عموم الولاية فإنّه على تقدير ثبوته يقتضي
التسوية بين المقامين. والظاهر أنّ مراد الجماعة من الاستثناء بيان أنّ الإكراه
بحقّ الصادر من الحاكم لا يؤثّر في عدم صحّة العقد المكره عليه ووقوفه على لحوق
الرضا المتأخّر من المالك ، لا بيان أنّ الحاكم ليس له تولّي العقد ، نعم يتعيّن
عليه التولّي إذا امتنع المالك من المباشرة مع الإكراه أيضاً.
المسألة
السادسة : عن الفاضلين
والشهيدين
وفخر الإسلام
وغير [ه] أنّ المكره
إذا رضي بما فعل نفذ ويترتّب عليه الأثر ، ونسب إلى المشهور
بين المتأخّرين ، ونحوه ما في مفتاح الكرامة إلّا أنّه أطلق ، وفي الرياض كما عن
الحدائق «ظاهرهم الاتّفاق عليه» ونقل دعوى [الإجماع] عن شرح القواعد أيضاً. خلافاً
للمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة قائلاً : «بأنّ الظاهر عدم صحّته بذلك» وعن
__________________
الكفاية «أنّ فيه إشكالاً» وتظهر عن المحكيّ عن جامع المقاصد التأمّل فيه قائلاً :
«إن كانت المسألة إجماعيّة فلا بحث ، وإلّا فللنظر فيها مجال» .
حجّة المشهور
على ما يستفاد من كلماتهم وجود المقتضي للصحّة ، وفقد مانعه :
أمّا الأوّل :
فالإطلاقات والعمومات مثل «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» و
«تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» و
«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإنّ موردها ما اجتمع شرائط الصحّة رضا المالك وطيب نفسه
، وعقد المكره الملحوق به رضا المالك فيشمله الإطلاقات والعمومات.
وأمّا الثاني :
فلأنّه لا مانع إلّا دعوى اعتبار مقارنة للعقد.
ويدفعها أوّلاً
: النقض بعقد الفضولي لانتفاء المقارنة فيه أيضاً.
وثانياً : أنّ
اعتبار المقارنة ممّا لا شاهد له من الأدلّة بحيث ينهض لتقييد المطلقات وتخصيص
العمومات ، فيرجع إلى الأصل المقرّر لنفي الشرطيّة في المعاملات.
وإلى هذا
الطريق من الاستدلال ينحلّ ما نقله السيّد في الرياض من التعليل «بأنّه بالغ رشيد
قاصد إلى اللفظ دون مدلوله ، وإنّما منع عدم الرضا فإذا زال أثّر العقد أثره كعقد
الفضولي» .
وقد يقرّر
بأنّه عقد حقيقي فيؤثّر أثره مع اجتماع باقي شرائط البيع وهو طيب النفس ، وايّد
بأدلّة نفوذ عقد الفضولي بلحوق الرضا والإجازة لوحدة المناط وهو الرضا المتأخّر
الغير المقارن ، بل بفحوى تلك الأدلّة فإنّ الإجازة المتأخّرة في عقد الفضولي
عبارة عن إمضاء المالك الغير ، ومعناه طيب النفس بمضمونه وإذا أثّر طيب النفس
بمضمون عقد الغير في صحّته فطيب نفسه بمضمون عقده أولى بالتأثير.
وتوهّم : وجود
الفارق وهو أنّ عقد الفضولي غير خالٍ عن الرضا وطيب النفس رأساً وهو رضا العاقد
وطيب نفسه بخلاف ما نحن فيه لخلوّه عنهما رأساً ، يدفعه : أنّ الشارع لم يعتبر رضا
غير المالك ، لا على أنّه مؤثّر تامّ ، ولا على أنّه جزء للمؤثّر فيكون ملغى على
معنى كون وجوده بمثابة عدمه ، فهو مع عقد المكره يتساويان من حيث خلوّهما عن
مقارنة الرضا وطيب النفس.
__________________
نعم هاهنا كلام
آخر وهو دعوى اعتبار المقارنة في مفهوم العقد ، ويلزمه أن لا يكون عقد الفضولي
عقداً على الحقيقة ، ولا أظنّ أحداً يرضى بذلك ، ويردّه مضافاً إلى ذلك منع
اعتبارها في مفهومه ، فإنّ العقد مفهومه الربط المعنوي الّذي يوجده المتعاقدان
فيما بينهما ، ويكفي فيه التلفّظ بالصيغة مع القصد إليه وإلى المعنى المادّي
والإنشاء والرضا بوقوع الأثر وأن حصل ذلك الأخير متأخّراً عن التلفّظ.
لا يقال : إنّ
الربط لا يتحقّق إلّا بعد حصول الارتباط وهو لا يحصل إلّا بوقوع الأثر في الخارج ،
والمفروض أنّ وقوعه في الخارج إنّما هو حين لحوق الرضا فيكون الربط المستتبع
للارتباط المتوقّف على وقوع الأثر متحقّقاً حين الرضا ، وقضيّة ذلك أن يكون العقد
هو الرضا لا غير ، وهذا باطل بضرورة من العرف واللغة ، لأنّ تحقّقه من ذلك الحين
مسلّم ، ولكن لا لأنّ الرضا نفس العقد بل لأنّه جزء أخير من العلّة التامّة
المركّبة من التلفّظ والقصود المذكورة ، وبدون البعض لا ربط وإن حصل الرضا وطيب
النفس بوقوع الأثر في الخارج.
ومستند القول
بمنع نفوذ عقد المكره بلحوق الرضا على ما يوجد في كلماتهم نقلاً وتحصيلاً امور :
منها : النقض
بما يصدر من الهاذل ، مع أنّهم لم يقولوا بصحّته بعد لحوق الرضا.
ومنها : قوله
تعالى : «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» يدلّ على
اعتبار كون العقد واقعاً عن التراضي.
ومنها :
النبويّ المشهور الدالّ على رفع أحكام العمل المكره عليه ، ومنه
عقد المكره ، ومن حكمه المرفوع بالإكراه نفوذه بلحوق الرضا.
وفي الجميع من
الضعف ما لا يخفى :
أمّا الأوّل :
فلأنّ ما يصدر من الهاذل وهو فاعل السخريّة والتهكّم خالٍ عن قصد المعنى المادّي
أو عن قصد الإنشاء على وجه منع الخلوّ من حين التلفّظ ، فهو خالٍ عمّا هو العمدة
من أركان العقد والرضا اللاحق لا يعطيه الوجود حتّى يؤثّر ، بخلاف عقد المكره
الّذي قد عرفت سابقاً أنّه لخلوّه عن الرضا وطيب النفس صار محلّ كلام عندهم ،
__________________
لأنّ قرينة المقام وهو الفرار عن الضرر المتوعّد به لا تزاحم من ظهورات
اللفظ إلّا ظهوره في الرضا وطيب النفس بمضمونه ، فهو قبل لحوق الرضا متأهّل للصحّة
والنفوذ.
وأمّا الثاني :
فلأنّ كون التجارة واقعة عن تراضٍ صادقة مع الرضا المتأخّر ، إذ التجارة تتحقّق من
حينه ، مع منع دلالة الآية على عدم صحّة ما لم يكن وقوعه عن تراضٍ ، لأنّها لو
دلّت لدلّت باعتبار مفهوم الوصف وهو خلاف التحقيق ، مع أنّه عند معتبريه مقيّد
بعدم ورود القيد مورد الغالب ، ولذا لا مفهوم في قوله تعالى : «وَرَبائِبُكُمُ
اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ» ودعوى كونه
هنا للاحتراز لا شاهد لها. وتوهّم الدلالة من جهة مفهوم الحصر ، يندفع بأن لا حصر
في الآية ، لأنّ الاستثناء منقطع غير مفرّغ لكون المستثنى منه مذكوراً وعدم كون
المستثنى من جنسه.
وأمّا الثالث :
فلظهور الرواية في رفع المؤاخذة أو رفع الأحكام الموجبة للمؤاخذة ، وحاصل معناه
أنّ الأعمال الّتي إذا صدرت في غير مقام الإكراه يؤاخذ بها ، فهي بحيث إذا صدرت عن
إكراه لا يؤاخذ بها كالأفعال المحرّمة المكره عليها ، وهو كناية عن كون الإكراه
رافعاً لحرمتها ، وهذا المعنى لا يشمل عقد المكره ، إذ ليس الكلام في أنّ عقد
المكره محرّم أم لا؟ وأنّه آثم في فعله وأنّه يؤاخذ عليه أم لا؟ بل في أنّه إذا
لحقه الرضا هل ينفذ أو لا؟ فلا يكون مشمولاً لحديث رفع المؤاخذة أو الأحكام
الموجبة للمؤاخذة.
وينبغي التنبيه
على امور :
الأوّل : هل
يعتبر في الرضا اللاحق بالعقد لحوقه بسرعة وبلا فصل زماني أو لا ، بل إذا لحقه بعد
فصل زماني طال أم لا؟ ظاهر إطلاق الأكثر وهو ظاهر النصوص الثاني.
وربّما قيل
بالأوّل ولازمه بطلان العقد بتخلّل الفصل بينه وبين الرضا ، تعليلاً بأنّ الكراهة
المتخلّلة بينه وبين الرضا يجري مجرى الردّ في عقد الفضولي ، وكما أنّ الردّ مبطل
لعقد الفضولي ولا ينفعه الإجازة بعد الردّ فكذلك الكراهة مبطلة لعقد المكره فلا
ينفعه الرضا بعدها.
وفيه : أنّ
مبنى نفوذ عقد المكره بعد لحوق الرضا على كون الرضا شرطاً لا على كون الكراهة
مانعة وإلّا لبطل من حينه ، ومعنى عدم كونها مانعة أن لا تأثير لها في
__________________
البطلان ، فكيف تكون جارية مجرى الردّ في الفضولي؟
لا يقال :
القدر المسلّم من عدم المانعيّة هو في الكراهة المقارنة للعقد ، وكلامنا في
الكراهة المتأخّر عنه المتخلّلة بينه وبين الرضا ، لأنّ مانعيّة الكراهة المتأخّرة
على معنى كونها مؤثّرة في البطلان مع تسليم عدم كونها مؤثّرة حال العقد يحتاج إلى
دليل دلّ على أنّ الشارع جعلها مؤثّرة ، ولا دليل عليه ، والأصل عدمه ، بل عدم
تأثيرها السابق مستصحب.
لا يقال : كون
هذه الكراهة مؤثّرة في البطلان باعتبار ما يقارنها وهو عدم الرضا الّذي هو عدم شرط
ولا ريب أنّ المشروط عدم عند عدم شرطه ، لابتنائه على كون شرط الصحّة هو الرضا
المتّصل بالعقد وهو أوّل المسألة ، بل الشرط هو أصل الرضا قارن العقد أو لا ، اتّصل
به أو لا ، طال الزمان الفاصل أو لا؟.
الثاني : إنّما
يبطل عقد المكره أي يخرج عن تأهّله للصحّة وترتّب الأثر كعقد الفضولي بالردّ ، وتفصيل
القول في الردّ وما به يتحقّق الردّ يأتي في باب الفضولي ، وبيانه هنا على وجه
الاختصار أنّ الردّ إمّا قولي كقول «رددت العقد أو فسخته أو أبطلته أو أفسدته أو
رفعته» أو فعلي وهو أن يفعل المالك في المبيع مثلاً ما ينافي وقوع أثر العقد فيه
وهو نقل الملك ، كإتلافه أو نقله إلى الغير أو عتقه أو تزويجه وما أشبه. وقد يعدّ
من الردّ الامتناع من الرضا ، وليس ببعيد.
الثالث :
الكلام في كون الرضا المتأخّر المصحّح لعقد المكره ناقلاً أو كاشفاً بالكشف
الحقيقي أو الحكمي كالكلام في إجازة الفضولي ، وتحقيق القول في ذلك وترجيح أحد
الأقوال يأتي مشروحاً في باب الفضولي ، ولا بأس بالإشارة إلى ما هو الحقّ هنا ،
فنقول : إنّ الأصل والظاهر يساعدان على النقل ، أمّا الأصل فهو أصالة عدم حصول
الملك وعدم ترتّب الأثر إلى أن يلحقه الرضا ، وأمّا الظاهر فظهور النصّ كتاباً
وسنّة كقوله تعالى : «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» وقوله عليهالسلام : «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه» لظهورهما في
كون التجارة وحلّيّة المال ناشئة عن نفس الرضا ، لا عن أمر منتزع عنه عارض للعقد ،
وهو تعقّبه للرضا ، كما تكلّف القائل بالكشف
__________________
كونه شرطاً ، تخلّصاً عن محذور تأخّر الشروط عن المشروط.
وقد يقال : إنّ
مقتضى الأصل هنا وفي الفضولي هو الكشف ، لأنّ مقتضى الرضا بالعقد السابق هو الرضا
بما أفاده من نقل الملك حين صدوره ، فأمضاه الشارع للرضا بهذا المعنى وهو النقل من
حين العقد ، وترتّب الآثار عليه لا يكون إلّا بالحكم بحصول الملك في زمان النقل.
وفيه : منع كون
العقد السابق مفيداً لنقل الملك حين صدوره ، بل المفيد له على هذا الوجه هو العقد
الجامع للشروط الّتي منها الرضا المقارن له وهو فاقد له ، فلم يفد حين صدوره نقل
الملك وإن اشتمل على قصد إنشاء نقله ، بل هو متأهّل لأن يؤثّر في نقل الملك بعد
الرضا ، فالرضا عبارة عن الرضا بوقوع نقل الملك في الخارج ، وقولنا «في الخارج»
ظرف لوقوع نقل الملك وإمضاء الشارع تابع له ، ومعناه حكم الشارع بوقوع نقل الملك
في الخارج على حسبما قصده المالك.
وقد يستدلّ على
القول بالكشف بأنّه على القول بالنقل «ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد» وهو باطل
لضابطة أنّ العقود تابعة للقصود ، وبيان الملازمة أنّ العاقد قصد نقل الملك حين
العقد وهو على النقل غير واقع ، وما وقع من نقل الملك حين الرضا غير مقصود.
وهذا أضعف من
سابقه ، لابتنائه على الخلط بين قصد إنشاء نقل الملك وقصد وقوع نقل الملك في
الخارج ، وما قصده العاقد هو الأوّل لا الثاني ، فلا يلزم ما ذكر.
وأضعف من ذلك
ما استدلّ به أيضاً ، من أنّ الرضا يؤثّر في صحّة العقد ، وظرف الصحّة هو العقد لا
الزمان المتأخّر بل الزمان المتأخّر ظرف للرضا.
وفيه : أنّ
الصحّة عبارة عن وقوع نقل الملك في الخارج والرضا يؤثّر فيه ، لا بمعنى أنّه
المؤثّر التامّ بل بمعنى أنّه جزء المؤثّر باعتبار كونه شرطاً ، والمؤثّر التامّ
هو العقد المقصود به التلفّظ والمعنى والإنشاء الملحوق به الرضا ، فزمان الرضا من
تتمّة زمان المؤثّر التامّ ، ونقل الملك حاصل فيه لا في زمان العقد الخالي عن
الرضا.
الرابع : هل
يعتبر في الرضا المتأخّر اللاحق بالعقد أن يكون باللفظ ، أو يكفي الرضا النفساني
المنقدح في الضمير ، وعلى الأوّل فهل يعتبر في اللفظ كونه عربيّاً؟ احتمالات ،
أجودها الأوّل ، وهو كفاية الرضا النفساني وعدم اعتبار لفظ معه ، لأنّ اعتبار
الرضا في
العقد باعتبار كونه من شروط الصحّة ، والشرط نفس الرضا لا اللفظ الدالّ
عليه ، ولذا لا يعتبر في الرضا المقارن للعقد لفظ آخر سوى لفظ العقد ، فالمكره إذا
انقدح في نفسه الرضا نفذ عقده فيما بينه وبين الله سبحانه ووجب عليه أن يرتّب عليه
الآثار. نعم لمّا كان رضاه أمراً نفسانيّاً لا يطّلع عليه غيره إلّا بواسطة ما
يكشف فيعتبر لاطّلاع غيره عليه حتّى يرتّب غيره أيضاً آثاره عليه وجود كاشف عنه ،
ولا ينحصر الكاشف في اللفظ بل كثيراً ما يكون أمراً آخر غير اللفظ ، كالتصرّف في
الثمن المقبوض ، ومطالبة الثمن الغير المقبوض ، وتسليم المبيع أو الثمن وما أشبه
ذلك. نعم قد ينحصر الكاشف في اللفظ ويسمع دعواه في الرضا ، لأنّه لا يعلم إلّا من
قبله.
الخامس : إذا
مات العاقد المكره قبل الرضا بما فعله ، فهل يبطل ويخرج عن تأهّله للصحّة لكون
الموت كالردّ مبطلاً أو لا؟ ويظهر الثمرة في رضا الوارث إذا لحق عقد المورّث فهل
يجدي في نفوذه أو لا؟ ومبنى المسألة على أنّ الرضا المصحّح لعقد المكره هل هو
كالخيار لذي الخيار ينتقل بالموت إلى الوارث أو لا؟ والّذي يساعد عليه النظر هو
الثاني ، لعدم كون الرضا من قبيل الحقوق حتّى ينتقل بالإرث ، بل هو كإجراء العقد
على الملك والمال ، ونقله إلى الغير وسائر التصرّفات فيه من توابع الملك والسلطنة
على المال ، ولذا لا يقبل الانتقال إلى الغير بالصلح ولا السقوط بالإسقاط. فتعيّن
بطلان العقد بالموت ، لتعذّر لحوق الشرط ، والمشروط عدم عند عدم الشرط.
السادس : هل للطرف الغير المكره أن يفسخ
العقد قبل لحوق رضا المكره ، أو لا؟ الظاهر أنّه على القول بالنقل لا ينبغي التأمّل في الفسخ
إذ لا مانع منه إلّا اللزوم وهو فرع على الصحّة وهي غير حاصلة بالفرض ، بخلافه على
القول بالكشف لأنّ العقد متزلزل بين الصحّة والفساد باعتبار أنّ الشرط على هذا
القول هو الأمر الاعتباري المعبّر عنه بتعقّب العقد للرضا ، وهو إمّا حاصل في علم
الله فالعقد حينئذٍ صحيح لازم في الواقع ولا يقبل الفسخ ، أو غير حاصل في علم الله
فالعقد فاسد ولا فائدة في فسخه ، فلو فسخ والحال هذه لا يمكن الحكم بانفساخه لكونه
دائراً بين اللزوم والفساد فلا تأثير للفسخ على التقديرين ، وسيأتي مزيد تحقيق في
نظيره في باب الفضولي.
[ختم
المقام]
وينبغي ختم
المقام ببيان ما ظهر حكمه على الإجمال في تضاعيف المسألة ، وهو القصد المعتبر في
العقد المنحلّ إلى قصد التلفّظ وقصد المعنى المادّي كالبيع في بعت وقصد المعنى
الإنشائي فإنّه أيضاً من شروط المتعاقدين ، ولقد اهمل ذكره صريحاً في الشرائع
وذكره صريحاً في القواعد ، ولعلّ وجه إهمال الشرائع إحالة اعتباره إلى وضوحه أو
الاكتفاء بذكره ضمناً في ضمن الاختيار ، فإنّه بحسب المرتبة متأخّر عن القصد
بأنواعه الثلاث ، وكيف كان فلا ينبغي الاسترابة في كونه شرطاً بلا خلاف يظهر ، فما
لم يقصد فيه إلى اللفظ ـ كما في الغافل والغالط ونحوهما ـ أو إلى المعنى كما في
الهاذل ، أو الإنشاء كما فيه أو في المتورّي يقع فاسداً من حينه بلا خلاف يظهر ،
سواء قصد معنى آخر كالإجارة ونحوها والإخبار أو لا؟ للأصل الّذي لا تزاحمه هنا
الأصل الاجتهادي المستنبط من العمومات كـ «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» و
«تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» و
«أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لأنّ عموم الحكم فرع على تحقّق موضوع البيع والتجارة
والعقد وليس شيء منها متحقّقاً بدون القصد المذكور كما هو واضح ، مضافاً إلى
الإجماع الّذي يعلم بالتتبّع في أبواب العقود والإيقاعات ومن ذلك ما يشتهر أنّ
العقود تتبع القصود.
وقد يستدلّ
بأخبار النيّة ، كقوله عليهالسلام : «لا عمل إلّا بنيّة» «وإنّما الأعمال بالنيّات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» بتقريب أنّ
النيّة لغة هو القصد ، وإجراء العقد عمل ، وهو بدون القصد ليس بعقد بناءً على نفي
الحقيقة ، أو ليس بصحيح بناءً على نفي الصحّة الّذي هو أقرب المجازات إلى الحقيقة.
__________________
وفيه : نظر
يظهر وجهه بمراجعة رسالتنا المنفردة في بيان أحكام الواجب وأقسامه ، وينبغي تفصيل
القول في القضيّة المشتهرة المتقدّم إليها الإشارة ، وهي أنّ العقود تابعة للقصود
ببيان أنّ القصد الّذي يتبعه العقد أيّ قصد وكم هو ومتعلّقه الّذي هو المقصود أيّ
شيء؟ وبيان ما يعتبر قصده وما لا يعتبر ، وما يضرّ ، قصده وما لا يضرّ وما يفيد
قصده وما لا يفيد ، فنقول : الأشياء الّتي يصلح قصدها في العقود أنواع :
منها : الامور
المعتبرة في ماهيّة العقد وذاته من حيث كونه لفظاً خاصّاً ، كالتلفّظ والمعنى
مادّة وهيئة ، فهل يعتبر قصدها في انعقاد العقد وتحقّق ذاته أو لا؟.
ومنها : الامور
المعتبرة في ماهيّته من حيث تقوّمه بمحلّ تأثيره ومورد أثره الّتي يعبّر عنها
بأركان العقد ، وقد يقال لها ضروريّات العقد كالمتعاقدين والعوضين في عقود
المعاوضة ، فهل يعتبر قصد تعيين هذه الامور؟ بأن يقصد الموجب قابلاً معيّناً
والقابل موجباً معيّناً ، وهما يقصدان مبيعاً معيّناً وثمناً معيّناً في البيع ،
فلو قال الموجب : «بعت داري بمائة» من دون قصد إلى قابل معيّن ، فقال أحد : «قبلت»
أو قال الموجب : «بعتك» قاصداً إلى معيّن ، فقال القابل : «قبلت» من دون قصد إلى
موجب معيّن للذهول عن التعيين ، أو قال الموجب : «بعتك بمائة» من دون قصد إلى مبيع
معيّن ، فقال المشتري : «قبلت» ثمّ عيّنا المبيع ، أو قال البائع : «بعتك داري» من
دون قصد إلى ثمن معيّن ، فقال المشتري : «قبلت» ثمّ عيّنا الثمن.
ومنها : الامور الّتي هي لوازم عقليّة
لتأثير العقد كانتقال ملك المعوّض إلى مالك العوض ، وانتقال ملك العوض إلى مالك المعوّض ، وهل قصد ذلك شرط
فيه أو لا؟ وعلى الثاني فهل قصد خلافه ـ بأن يقصدا انتقال ملك المعوّض إلى غير
مالك العوض كولده مثلاً أو يقصدا انتقال ملك العوض إلى غير مالك المعوّض كولده ـ مانع
أو لا؟ وعلى الثاني فهل معنى عدم المانعيّة وقوع الانتقال على حسبما قصداه أو وقوع
القصد المذكور لغواً وانتقال ملك كلّ من العوضين يقع لمالك العوض الآخر قهراً على
خلاف ما قصد؟.
ومنها : الأحكام المترتّبة على العقد ، كحلّيّة البضع في عقد النكاح ، واستحقاق الزوجة للنفقة ،
ووجوب القسم بين الزوجات على الزوج ، ولحوق الولد ، والتوارث بين الزوجين ، وحرمة
الجمع بين الاختين ، وحرمة نكاح الخامسة ونحو ذلك ، وإباحة
التصرّف في المثمن أو الثمن في البيع ، واللزوم ، وضمان الدرك ، والشفعة ،
وخيار المجلس ، وخيار ثلاثة أيّام في الحيوان وما أشبه ذلك ، فهل يعتبر في ترتّب
هذه الأحكام قصدها أو لا؟.
ومنها : الامور الّتي لو لا قصدها لا
يقتضي العقد لو خلّي وطبعه ترتّبها عليه ـ كإرث الزوجة واستحقاقها النفقة في عقد الانقطاع ،
وخيار فسخ النكاح في غير الأسباب الموجبة له ونحو ذلك ـ فهل قصدها يفيد ترتّبها
عليه أو لا؟.
وينبغي لتنقيح
المطلب وبيان ما هو الحقّ في هذه المقامات أن يبيّن ضابطاً كلّيّاً ، وهو أنّه قد
ذكرنا سابقاً أنّ العقد بحسب العرف واللغة عبارة عن الربط المعنوي الّذي توجده
المتعاقدان فيما بينهما ، وهو في البيع والاشتراء أن يجعل أحدهما ملك عينه لصاحبه
بإزاء مال صاحب ليكون ملكه له عوضاً عن عينه ، ولقد شاع في لسان الفقهاء إطلاقه
على الصيغة المركّبة من الإيجاب والقبول ، كما يرشد إليه التتبّع في كلماتهم في
سائر أبواب العقود ، ومن كلماتهم تصريحهم بأنّ العقد مركّب من الإيجاب والقبول ،
ولا ريب أنّ المركّب هو مجموع صيغتي الإيجاب والقبول كـ «بعت واشتريت» وهذا ليس
بوضع عرفي لانحصاره في الربط المعنوي ولا بوضع شرعي لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في
لفظ العقد ، بل هو عرف فقهائي حصل لمناسبة السببيّة من تسمية السبب باسم المسبّب.
ولقد اعتبر الفقهاء في هذا المعنى العرفي الخاصّ قصد التلفّظ وقصد المعنى المادّي
وقصد المعنى الإنشائي ، لصحّة سلب اسم العقد عندهم عن الخالي عن القصود الثلاث ،
كما في الصيغة الصادرة عن الغافل أو الغالط أو الهاذل أو المورّي.
نعم لم يعتبر
فيه مقارنة الرضا وهو قصد وقوع الأثر في الخارج ، كما يشهد به إطلاقهم العقد على
عقد المكره من غير صحّة سلبه عنه عندهم ، فالقصود الثلاث المذكورة معتبر في تحقّق
ماهيّة العقد بالمعنى العرفي الفقهائي والقصد الرابع معتبر في تأثيره.
ولقد جعل
الشارع هذا المعنى العرفي الخاصّ أعني الصيغة المركّبة من الإيجاب والقبول
المقرونة بالقصود الثلاث مع قصد وقوع الأثر سبباً للعقد بالمعنى العرفي اللغوي وهو
الربط المعنوي ، ضرورة أنّ المتعاقدين بواسطة الصيغة المركّبة بشرائطها مع شرط قصد
وقوع الأثر في الخارج يوجدان الربط المعنوي المذكور ، وظاهر أنّ هذا
المعنى لا يتأتّى ولا يترتّب على الصيغة المركّبة إلّا بأن الموجب والقابل
معاً إلى المعوّض المعيّن والعوض المعيّن ، ويقصد الموجب قابلاً معيّناً والقابل
موجباً معيّناً ، فإنّ جعل الموجب ملك عينه للقابل بإزاء مال القابل ليصير له
عوضاً عن عينه مع قبول القابل ـ على معنى إنشائه الرضا بما صنعه الموجب ـ يتضمّن
القصد إلى تعيين المعوّض والعوض منهما ، والقصد إلى تعيين القابل من الموجب ،
والقصد إلى تعيين الموجب من القابل.
فهذه القصود
الأربع بعد حصول الصيغة المركّبة المقرونة بشروطها المذكورة معتبرة في تحقّق
ماهيّة العقد بمعنى الربط المعنوي. ولكنّ الكلام في أنّ هذه القصود الأربع عين قصد
المعنى المادّي وقصد المعنى الإنشائي وقصد وقوع الأثر في الخارج والاختلاف بينهما
إنّما هو في مجرّد العبارة ، أو أنّها قصود انتزاعيّة تنتزع من القصود الثلاث
المذكورة المعتبرة في السبب ، أو أنّها قصود مغايرة لها ولوازم منها؟ أوجه ،
أوجهها الأخير فإنّها على ما يرشد إليه التأمّل قصود مستقلّة هي لوازم للقصود
الثلاث المعتبرة في السبب ، فإنّ المعنى المادّي لقول البائع «بعتك داري بمائة»
عبارة عن تمليك العين بعوض ، ومعناه الهيئي عبارة عن إيجاد نقل ملك هذه العين إلى
المشتري بإزاء المائة ، وأثره عبارة عن انتقال ذلك الملك في الخارج إلى المشتري
بإزاء انتقال ملك المائة في الخارج إلى البائع ، فالبائع بتلك الصيغة يقصد باعتبار
مادّة البيع تمليك داره بعوض المائة بقصد إيجاد نقل ملكه في الدار إلى المشتري من
الهيئة مع قصده لوقوع انتقال الملك له في الخارج بعوض انتقال ملك المائة إليه فيه
، والمشتري بقوله «اشتريت» يقصد إنشاء الرضا بما صنعه البائع من نقل ملك العين
إليه لوقوع الانتقال له بإزاء وقوع انتقال المائة إليه في الخارج. وهذه القصود
يستلزم القصد منهما إلى المعوّض المعيّن والعوض المعيّن ، والقصد من الموجب إلى
القابل المعيّن ، ومن القابل إلى الموجب المعيّن قصداً تفصيليّاً أو إجماليّاً.
وبجميع ما ذكر
يتبيّن ما هو الحقّ في المقام الأوّل ، وما هو الحقّ في المقام الثاني ، كما
يتبيّن بالتأمّل فيما تبيّن في المقامين ما هو الحقّ في المقام الثالث ، وهو وقوع
انتقال ملك كلّ من العوضين لمالك العوض الآخر ، فإنّ العقد بمعنى الربط المعنوي
على الوجه المتقدّم بطبعه يقتضي ذلك مع كونه مقصوداً للمتعاقدين قصداً إجماليّاً ،
وهذا هو معنى
قاعدتهم المعروفة المعبّر عنها بأنّ «مقتضى المعاوضة وقوع ملك كلّ من
العوضين لمالك العوض الآخر» فإنّ ذلك مأخوذ في مفهوم المعاوضة الّتي هي مفاعلة من
العوض ، ولا تتحقّق إلّا بتبادل ملكي العوضين. ومن هنا عرّف البيع أهل اللغة بـ «مبادلة
مال بمال» فإنّ المبادلة لا تصدق إلّا بصيرورة مال كلّ من البائع والمشتري بدلاً
عن مال الآخر.
وقضيّة ذلك
كلّه أنّه لو قصد البائع بنقل عين غيره إلى المشتري لينتقل ثمن المشتري إليه كما
في البائع الفضولي ، أو قصد المشتري بجعل مال غيره ثمناً لينتقل عين مال البائع
إليه كما في المشتري الفضولي ، أو قصد البائع نقل عينه إلى المشتري لينتقل الثمن
من المشتري إلى غيره كولده مثلاً ، أو قصد المشتري بجعل ماله ثمناً انتقال عين
البائع إلى غيره كولده مثلاً ، أن يقع ذلك القصد بجميع صوره الأربع لكونه على خلاف
مقتضى المعاوضة وعلى خلاف مقتضى العقد بطبعه المقتضى للقصد الإجمالي لوقوع كلّ عوض
بدلاً عن العوض الآخر لغواً غير مؤثّر فيما قصد.
ومن هنا ربّما
توهّم وقوع التعارض بين القاعدة المشار إليها وقاعدة تبعيّة العقود للقصود ، لكون
مفاد كلّ منافياً لمفاد الاخرى ، فإنّ قاعدة المعاوضة تقتضي دخول كلّ عوض في ملك
مالك العوض الاخر لا غيره ، ومقتضى قاعدة تبعيّة العقود للقصود وقوع البيع في
الصور المذكورة على حسب ما قصد من دخول العوض أو المعوّض في ملك غير مالك الآخر.
فجمع بينهما بضابطة ورود الأصل الثانوي على الأصل الأوّلي وحكومة القاعدة
الثانويّة على القاعدة الأوّليّة ، بتقريب : أنّ قاعدة المعاوضة أخصّ مورداً من
قاعدة التبعيّة فتحكم عليها بإخراج موردها عن عمومها ، فيكون مفاد القاعدتين بعد
الجمع بينهما أنّ العقود تابعة للقصود إلّا فيما قصد حصول الأثر في أحد العوضين
لغير مالك العوض ، فإنّه يحصل لمالك العوض وإن قصد خلافه تحقيقاً لمفهوم المعاوضة
وإحرازاً للعوضيّة والبدليّة.
أقول : ويمكن
منع التعارض من أصله ، بدعوى أنّ المراد من القصود الّتي يتبعها العقود القصود
الّتي هي مقوّمات للعقد اللفظي كقصد التلفّظ وقصد المعنى مادّة وهيئة ، والعقد
المعنوي كقصد الأركان من المعوّض والعوض والموجب والقابل ووقوع ملك العوض لمالك
المعوّض وبالعكس ليس من أركان العقد بل فائدته ، فلا يكون قصده من
مقوّماته فلا يندرج في قاعدة التبعيّة.
والفرق بين هذا
الاعتبار والاعتبار السابق أنّ ما سبق دفع للمنافاة بطريق التخصيص ، وهذا دفع لها
بطريق التخصّص.
ولا ينتقض قاعدة
المعاوضة بما يكثر وقوعه في عقد النكاح من جعل المهر المسمّى فيه من مال غير الزوج
من أبيه أو غيره فإنّه يدخل في ملك الزوجة مع أنّ الزوجيّة غير حاصلة لمالكه
الأصلي ، لعدم كون عقد النكاح من عقود المعاوضة ، فاعتبار المهر فيه ليس على وجه
العوضيّة والبدليّة ـ ولذا صحّ بلا اعتبار مهر كما في مفوّضة البضع ـ بل إنّما
يعتبر على وجه الشرطيّة فيكون خارجاً عن ماهيّة المعاوضة ، ولذا يتعدّى صيغة «أنكحت
وزوّجت» بالنسبة إلى المهر بكلمة الاستعلاء للتنبيه على الشرطيّة ، لا بكلمة
المقابلة المفيدة للعوضيّة.
ومن هذا القبيل
ما يعتبر شرطاً في عقد البيع من مال آخر خارج عن الثمن لغير البائع ، كأن يقول : «بعتك
الدار بمائة ، وشرطت عليك هذا الثوب لزيد» فإنّ زيداً يملكه مع عدم كونه مالكاً
لأحد العوضين. والسرّ فيه أنّ هذا المال المشترط به خارج عن حقيقة المعاوضة ،
لكونها متقوّمة بالمبيع والثمن ، وهذا شرط خارج عنهما.
وعلى هذا فلو
قال الراهن للمرتهن : «بعه لنفسك» أو قال المالك لمن يستقرض منه مالاً : «بعه بشرط
الخيار لنفسك» أو دفع مالاً إلى من يطلب منه الطعام ، وقال : «اشتر به طعاماً
لنفسك» فإن أراد به البيع أو الاشتراء عنه مع الإذن في التصرّف في الثمن أو المثمن
لم يناف قاعدة المعاوضة ، لكونه توكيلاً في البيع أو الاشتراء. وإن أراد به وقوع
البيع أو الاشتراء عن نفسه ليقع ملك الثمن أو المثمن له لا للمالك ينافيها ، فلو
باع أو اشترى حينئذٍ بقصد وقوع الملك لنفسه لم يؤثّر فيما قصد ، بل الوجه فيه وقوع
القصد لغواً مع وقوع الأثر للمالك.
ومن ثمّ يقال :
إنّ حكمهم ببطلان البيع في مثال الرهن واشتراء الطعام معناه عدم وقوعه للمخاطب ،
لا أنّ المخاطب إذا قال : «بعته لنفسي أو اشتريته لنفسي» لم يقع لمالكه إذا أجازه
، فإنّ حكمهم بصحّة بيع الفضولي أو شرائه لنفسه ووقوعه للمالك يدلّ على عدم تأثير
قصد وقوعه لغير المالك.
ثمّ اعلم : أنّ
التعيين المعتبر في المعوّض والعوض عبارة عن العهد بمعنى المعهوديّة ، بأن يكون
كلّ منهما معهوداً عند المتعاقدين بأحد أسبابه الّتي منها الحضور ، ومنها الذكر
والوصف ، وهو يتأتّى على وجهين :
أحدهما : العهد
باعتبار كون كلّ منهما أو أحدهما شخصاً معيّناً في الخارج.
وثانيهما :
العهد باعتبار إضافة كلّ منهما أو أحدهما إلى ذمّة شخص معيّن ، ومن هنا ينقسم مورد
العقد بالنسبة إلى العوضين إلى الجزئي الحقيقي الموجود في الخارج والكلّي المعتبر
وجوده في الذمّة ، فالعقد باعتبار المورد المنقسم إلى العين الشخصيّة والعين
الكلّيّة يصحّ في صور أربع :
الاولى : أن
يرد على عين شخصيّة بإزاء عين شخصيّة كأن يقول البائع : «بعتك هذا الكرّ من الطعام
بهذا الألف» ويقول : «المشتري اشتريت هذا بهذا».
الثانية : أن
يرد على عين كلّيّة في ذمّة البائع بإزاء عين كلّيّة في ذمّة المشتري ، كأن يقول :
«بعتك كرّ طعام في ذمّتي بألف في ذمّتك» ويقول المشتري : «اشتريت».
الثالثة : أن
يرد على عين شخصيّة بإزاء عين كلّيّة في الذمّة ، كأن يقول : «بعتك هذا الكرّ بألف
في ذمّتك» ويقول المشتري : «اشتريت».
الرابعة : أن
يرد على عين كلّيّة في الذمّة بإزاء عين شخصيّة كأن يقول : «بعتك كرّ طعام في
ذمّتي بهذا الألف» ويقول المشتري : «اشتريت».
وحينئذٍ فلو
ورد على عين مبهمة بإزاء عين مبهمة كأن يقول : «بعتك كرّ طعام بألف» من دون اعتبار
كون الأوّل في ذمّة البائع ولا في ذمّة موكّله ، وكون الثاني في ذمّة المشتري ولا
في ذمّة موكّله ، ويقول المشتري : «اشتريت» بطل. وكذلك لو ورد على عين معيّنة
بإزاء عين مبهمة. أو على عين مبهمة بإزاء عين معيّنة ، والسرّ في البطلان عدم
تحقّق العقد بمعنى الربط المعنوي مع الإبهام ولو في أحد العوضين ، فإنّ المراد به
الربط المعنوي بين المالين وهو يتبع العهد بأحد الوجهين ، فالإبهام ولو في أحدهما
مانع عن تحقّقه كما لا يخفى.
وأمّا التعيين
المعتبر في المتعاقدين فلا يكون إلّا بكون كلّ منهما شخصاً معهوداً للآخر في
الخارج فلا يمكن فيهما الكلّيّة ، فلو قال البائع : «بعتك كرّ طعام في ذمّة رجل
بألف في ذمّة امرأة» بطل ، وكذلك لو قال : «بعتك كرّ طعام» متردّداً بين
اعتبار كونه في ذمّته أو في ذمّة موكّله إذا اجتمع فيه جهتا الأصالة والوكالة بألف
في ذمّتك ، أو قال : «بعتك كرّ طعام في ذمّتي بألف» متردّداً بين اعتباره في ذمّة
المشتري أو في ذمّة وكيله إذا اجتمع فيه جهتا الأصالة والوكالة ، أو قال : «بعتك
كرّ طعام بألف» متردّداً فيهما معاً ، لعدم تحقّق العقد بمعنى الربط المعنوي سواء
اعتبرنا حصوله بين المالين أو بين المتعاقدين كما يظهر بالتأمّل.
ومن هنا يعلم
عدم صحّة عقد النكاح فيما اعتبر الناكح أو المنكوحة كلّيّاً كما لو قال : «أنكحت
امرأة من رجل على مهر كذا» أو قال : «أنكحت هذه المرأة من رجل على مهر كذا» أو قال
: «أنكحت امرأة من هذا الرجل على مهر كذا» أو قال وليّ الصغيرة لوليّ الصغير : «أنكحت
بنتي لابنك على مهر كذا» وله بنات متعدّدة من دون تعيين أو للقابل بنين متعدّدين
من دون تعيين. والسرّ في البطلان أنّ العهد المعنوي في عقد النكاح لا بدّ وأن يحصل
بين الناكح والمنكوحة ، وهو عبارة عن الزوجيّة الّتي إذا حصلت بين شخصين من الذكور
والانثى صحّ أن يقال لأحدهما الزوج وللآخر الزوجة ، وهذه كما ترى غير حاصلة في
الأمثلة المذكورة ونظائرها ، إذ لا أحد صحّ أن يقال له الزوج أو الزوجة. وأيضاً
فإنّ الإنكاح والتزويج في مادّتي «أنكحت وزوّجت» عبارة عن المعنى الّذي يقال له في
الترجمة الفارسيّة «زن را شوهر دادن يا مرد را زن دادن» وهذا كما ترى غير حاصل في
الأمثلة المذكورة ونظائرها الّتي ضابطها إبهام أحد المتعاقدين أو كليهما. فظهر
الفرق بين عقد البيع وعقد النكاح في جواز كون مورد الأوّل كلّيّاً وعدم جوازه في
الثاني.
وبالتأمّل في
جميع ما قرّرناه في المقامات الثلاث يعلم ما هو الحقّ في المقام الرابع ، وهو أنّه
لا يعتبر في ترتّب الأحكام المترتّبة على العقود قصدها بل تترتّب قهراً قصد
ترتّبها أو لم يقصد ، لعدم كونها من أركان العقد ليكون قصدها من مقوّماته ، بل هي
أحكام رتّبها الشارع على موضوعات يحرزها العقود ، فإذا تحقّق الموضوع لزمه أن
يترتّب عليه موضوعه وإن لم يقصد ترتّبه كسائر الأحكام المترتّبة على موضوعاتها بلا
مدخليّة لقصد المكلّف في ترتّبها.
ومن ذلك علم ما
هو الحقّ في المقام الخامس أيضاً ، وهو عدم التأثير في قصد عدم ترتّب ما يترتّب
على العقد بطبعه ، ولا في قصد ترتّب ما لا يترتّب على العقد بطبعه ، أمّا الأوّل
فلما عرفت من أنّ ترتّب ما ذكر يتبع تحقّق موضوعه ، وكما أنّ قصد ترتّبه ليس شرطاً
بل يترتّب قهراً ، وكذلك قصد عدم ترتّبه ليس مانعاً. وأمّا الثاني فلأنّ الشارع لم
يجعل للعقد ولا الموضوع المحرز به نحو ذلك الأثر فلا تأثير لقصد ترتّبه ، لأنّ قصد
المكلّف لا يجعل غير المجعول مجعولاً.
فظهر بجميع ما
قرّرناه حقيقة المراد من قضيّة تبعيّة العقود للقصود ، وأنّ القصود الّتي يتبعها
العقود هي القصود المقوّمات للعقد اللفظي ، وهي قصد التلفّظ وقصد المدلول مادّة
وهيئة ، أو العقد المعنوي وهي قصد وقوع الأثر في الخارج ، وقصد تعيين العوضين
والمتعاقدين.
فصل
ومن شروط
المتعاقدين على ما ذكره الأصحاب الحرّيّة ، واحترزوا بها عن بيع المملوك ـ ذكراً
كان أو انثى ـ واشترائه وصلحه وسائر عقوده بدون إذن سيّده. وينبغي تحرير المقام
بما يتشخّص به موضوع المسألة عن غيره ، فنقول : إنّ تصرّفات المملوك الّتي رتّب
عليها الشارع أحكاماً وآثاراً على قسمين :
أحدهما : ما
يترتّب عليه الآثار قهراً أذن فيه السيّد أو لم يأذن ورضي به أم لم يرض ، وهي
التصرّفات الغير الإنشائيّة المندرجة في الأسباب الخارجة عن العقود والإيقاعات ،
كغسله لثوب الغير أو بدنه وجنايته وقتله ، فإنّه لو جنى على حرّ أو رقّ يترتّب
عليه أحكامه الشرعيّة المقرّرة في محلّه قهراً من غير توقّف له على إذن السيّد
ورضاه ، وكذلك إتلافه مال الغير أو غصبه فإنّه يضمن بذلك مطلقاً ، غاية الأمر أنّه
لا يطالب بردّ العوض إلّا بعد التحرّر لأنّه ما لم يتحرّر لا مال له وأنّ جميع ما
في يده لو كان لسيّده.
وأمّا لو أتلف
مال سيّده أو غصبه فالمصرّح به في كلامهم أنّه لا يضمن لسيّده بلا خلاف يظهر ، وقد
نقل عليه الإجماع أيضاً كما عن التنقيح وعلّله جماعة بأنّه ملك للسيّد ولا يعقل تعلّق الملك
بالملك ، وهذا التعليل عليل لا لما عن المحقّق الأردبيلي من المناقشة فيه تمسّكاً
بالعمومات المقتضية للضمان كعموم «من أتلف مال الغير فهو ضامن» وعموم «على اليد ما
أخذت» لوضوح فساده ـ فإنّ العلّة وهي عدم
__________________
المعقوليّة المدّعاة في التعليل لو كانت مسلّمة فدفعها بالتمسّك بالعمومات
غير صحيح ، لأنّها بنفسها تنهض مخصّصة للعمومات لأنّها حكم عقلي لا يزاحمها العموم
ـ بل لمنع عدم المعقوليّة الّذي هو في معنى الاستحالة العقليّة فإنّ العقل لا
يستحيل تعلّق الملك بالملك بل الشرع أيضاً لا يأباه ، كيف وقد وقع في الشرع كما في
مال الكتابة الّذي يملكه السيّد في ذمّة المكاتب خصوصاً المكاتب المشروط. فالوجه
في دليل عدم الضمان هو الإجماع المنقول المعتضد بعدم ظهور الخلاف بل ظهور الإجماع.
وثانيهما : ما
لا يترتّب عليه الأثر إلّا بإذن السيّد سابقاً أو لاحقاً ، كبيعه وشرائه وصلحه
وسائر عقوده بل مطلق إنشاءاته حتّى الإيقاعات ، ومحلّ الكلام في المقام هو هذا
القسم لا القسم الأوّل. وهذا القسم من التصرّفات قد يتكلّم في جوازها التكليفي
وعدمه ، وقد يتكلّم في جوازها الوضعي وهو الصحّة وترتّب الأثر وعدمه.
أمّا الجهة
الاولى : فالظاهر أنّه لا إشكال بل لا خلاف في عدم جوازها من دون إذن السيّد فيعصي
بها وإن وقعت في مال غير السيّد كما لو باع مال الغير أو اشترى لنفسه في ذمّته ،
لأنّه بنفسه وبدنه وجميع أعضائه وجوارحه حتّى لسانه ملك لسيّده ، فتصرّفه في نفسه
وبدنه فعلاً وفي لسانه قولاً ما لم يكن مأذوناً فيه بالإذن الصريح أو الفحوى أو
شاهد الحال تصرّف في ملك الغير من دون إذن مالكه ، فيكون قبيحاً عقلاً ومحرّماً
شرعاً ، بل لا يختصّ القبح والحرمة من هذه الجهة بتصرّفاته الإنشائيّة ، بل يعمّ
سائر أفعاله وأقواله الغير المأذون فيها من السيّد.
عدا ما استثنى
بدليل عقل ، كضروريّات عيشه ولوازم حياته من التنفّس في الهواء والتحيّز في مكان
ما وما أشبه ذلك.
أو بدليل شرع
كما في واجباته الشرعيّة من صلاته وصومه وطهارته.
أو بسيرة
كالأعمال أو الأقوال الجزئيّة الّتي ليس لها عوض وقيمة ـ كسلامه وكلامه العادي ،
ودلالته إلى طريق وتعريفه لأحد ، وأخذه شيئاً من الأرض ودفعه إلى صاحبه ، وإعانته
في الحمل ، ونحوه ، وما أشبه ذلك ، ممّا لم يتعلّق به اجرة من أفعال العقلاء ـ لقضاء
السيرة القطعيّة المستمرّة بين المسلمين المنتهية إلى أعصار الأئمّة وزمان صادع
الشريعة بجواز هذه التصرّفات وإن لم يكن أذن فيها السيّد.
ويمكن كون
الجهة المسوّغة لها شهادة حال السيّد الّتي هي من أقسام الإذن ، وعليها مدار
السيرة ، وحينئذٍ فلو منع السيّد عنها وجب اتّباعه فلو خالف أثم.
وكيف كان فجهة
الجواز التكليفي في تصرّفات المملوك الإنشائيّة وغيرها أيضاً خارجة عن محلّ البحث
، بل البحث إنّما هو في الجواز الوضعي وعدمه ، والحرّيّة المعتبرة في شروط
المتعاقدين معتبرة في الجواز الوضعي. وقضيّة كونها شرطاً توقّف الجواز على إذن
السيّد سابقاً أو لاحقاً.
فليعلم أنّ
المملوك في عقده بدون إذن سيّده ليس كالصبيّ ليقع تصرّفه من أصله باطلاً ، ولا
كالحرّ المالك ليقع تصرّفه من حينه صحيحاً نافذاً ، بل هو كالحرّ الفضولي واسطة
بينهما ، فيمتاز عن الصبيّ بكون الصبيّ كالمجنون مسلوب العبارة فليس في تصرّفه
العقدي أهليّة التأثير ولا شأنيّة الصحّة بخلافه ، وعن الحرّ المالك بكون تصرّف
الحرّ صحيحاً صحّة فعليّة فتصرّفه العقدي ببيع أو اشتراء أو صلح في ذمّته أو في
مال سيّده أو في مال غير سيّده متأهّل للصحّة والتأثير ، ومن شأنه أن يترتّب عليه
الأثر إلّا أنّ ترتّبه فعلاً عند مشترطي الحرّيّة يقف على إذن السيّد سابقاً أو
لاحقاً ، وهذا هو المعروف من مذهب الأصحاب.
ومن هنا يعلم
أنّ الحرّيّة من شروط المتعاقدين ليست كالبلوغ والعقل لأنّهما شرطان لأهليّة
التأثير وشأنيّته ، بخلاف الحرّيّة فإنّ الأهليّة والشأنيّة حاصلة بدونها فهي شرط
لفعليّة التأثير ، فتكون في إخراجها لعقد المملوك بدون إذن السيّد كالاختيار
المخرج لعقد المكره لفقده الرضا وطيب النفس.
وقد يستشمّ من
بعض العبارات كون إذن السيّد بالنسبة إلى عقد المملوك معتبرة في جوازه التكليفي لا
الجواز الوضعي ، فليس في عقده الصادر منه من دون إذن السيّد في مال الغير إلّا
العصيان ، وإلّا فجوازه الوضعي حاصل بدون إذنه ، بل هو ظاهر الشيخ في شرح القواعد
حيث إنّه في شرح عبارة القواعد «ليس للمملوك أن يبيع أو يشتري» قال : «ليس يباح
للمملوك أن يبيع أو يشتري لغير سيّده إلّا بإذن السيّد» فإنّه على ما حكي ظاهر
كالصريح في أنّ الموقوف على إذن السيّد إنّما هو إباحة التصرّف وجوازه التكليفي ،
وأصرح منه كلامه في الصور الّتي فرضها للمسألة :
«منها : ما لو
باع لغير سيّده بدون إذن السيّد ولا إذن المالك يكون عاصياً فضوليّاً ، فلو أجاز
بعد ذلك المالك صحّ ولو أجاز السيّد لم ينفع ، لأنّ العصيان قد تحقّق سابقاً من
جهة تصرّفه في ملك الغير وهو نفسه بغير إذن مالكه.
ومنها : ما لو
باع بإذن المالك دون السيّد صحّ ، ويكون عاصياً ، بل ولو كان مع نهي السيّد لم
يقدح في الصحّة أيضاً لتعلّقه بأمر خارج عن المعاملة.
ومنها : ما لو
باع بإذن السيّد دون المالك يكون فضوليّاً غير عاصٍ ، فيقف الصحّة على إجازة
المالك.
ومنها : ما لو
باع بإذنهما صحّ ولا عصيان» انتهى ملخّصاً.
وظاهر إطلاق
كلام الأصحاب أنّه لا فرق في تصرّف المملوك ببيع أو اشتراء بين وقوعه على مال
السيّد أو على مال غيره أو عدم وقوعه على مال أحد ، كما لو اشترى شيئاً في ذمّته
بل هو صريح جماعة منهم الشيخ المتقدّم في عبارته المذكورة.
وبالتأمّل فيما
ذكرناه ظهر أنّ البحث في عقد المملوك ليس من جهة كونه فضوليّاً حتّى يتوجّه إليه
أنّ إفراده بالبحث مع اندراجه في عنوان عقد الفضولي الآتي ممّا لا وجه له لكون
البحث في عقد الفضولي مغنياً عن البحث عنه بانفراده ، إذ ليس النظر هنا إلى حيثيّة
وقوع التصرّف في مال الغير سيّداً كان أو غيره وهذا هو جهة الفضوليّة ، بل إلى حيث
كونه تصرّفاً في نفسه ولسانه وهو ملك لسيّده وقد تصرّف فيه بغير إذن مالكه ، وهذه
حيثيّة اخرى غير حيثيّة الفضوليّة ، ويظهر الثمرة فيما إذا اشترى شيئاً في ذمّته بغير
إذن السيّد أو باع مال الغير بإذنه دون إذن سيّد بل ما لو باع مال الغير بغير إذنه
وإذن سيّده ، فهل يتوقّف على إجازتين أو على إجازة واحدة وهي إجازة المالك فقط ولا
يتوقّف على إجازة السيّد؟ ففي المقام جهتان من البحث :
إحداهما :
توقّف الجواز الوضعي لتصرّف المملوك ببيع أو اشتراء أو نحوهما من حيث كونه تصرّفاً
في ملك السيّد على إذن السيّد وعدمه.
واخراهما :
كفاية الإجازة اللاحقة من السيّد في جوازه الوضعي أعني نفوذه
__________________
وترتّب الأثر عليه وعدمه.
فأمّا الجهة
الاولى : فالظاهر توقّف نفوذ تصرّفاته الإنشائيّة على إذن السيّد سابقاً أو لاحقاً
، فبدونها تقع فاسدة ، للأصل ، والإجماع الّذي نقله سيّد الرياض في كتاب الحجر
، ولقوله عزّ من قائل : «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» «وَهُوَ كَلٌّ عَلى
مَوْلاهُ» فإنّ قوله : «لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» صفة بعد صفة للجنس على حدّ قوله تعالى : «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ
بِجَناحَيْهِ» وحاصله أنّ
عدم القدرة على شيء من لوازم ماهيّة العبوديّة ، ولفظة «شيء» نكرة في سياق النفي
مفيدة للعموم ، فتدلّ باعتبار العموم على أنّ العبد المملوك لا يقدر على إجراء
العقد وغيره من التصرّفات الإنشائيّة لأنّه أيضاً شيء ، وظاهر أنّ ليس المراد
بالقدرة المنفيّة هنا القدرة العقليّة ليكون نفيها إثباتاً للامتناع لكونه دفعاً
للضرورة وتكذيباً للحسّ ، فإنّا نرى بالضرورة ونشاهد بالحسّ أنّ جميع مقدورات
الأحرار مقدورة للعبيد فتحمل على إرادة الاستقلال. وحاصل مفاد الآية حينئذٍ أنّ
العبد المملوك ليس كالحرّ ليكون مستقلّاً في تصرّفاته بحيث لا يتوقّف شيء من
تصرّفاته في نفسه على إذن غيره وإجازته بل لا يستقلّ في شيء من تصرّفاته ، وهو
كناية عن توقّف نفوذ تصرّفاته على إذن السيّد.
لا يقال : إنّ
القدرة العقليّة إذا تعذّرت يحمل القدرة المنفيّة على القدرة الشرعيّة ليكون نفيها
إثباتاً للمنع الشرعي ، وقضيّة ذلك أن يكون عقده بدون إذن سيّده ممنوعاً بالمنع
الشرعي ، على معنى كونه منهيّاً عنه والنهي يقتضي الفساد ، وقضيّة ذلك أن يقع عقده
فاسداً من حين وقوعه. لأنّ إرادة المنع الشرعي بهذا المعنى يأباه ما ورد في تصحيح
نكاحه بعد إجازة السيّد من الروايات ، ومن ذلك قوله عليهالسلام : «لم يعص الله وإنّما عصى سيّده فإذا أجاز جاز» .
نعم ربّما أمكن
المناقشة في الدلالة بحمل القدرة المنفيّة على المالكيّة ، وإطلاق عدم القدرة على
شيء عدم ملك شيء ، يقال في مقام إظهار الفقر : «لا أقدر على شيء»
__________________
أي لا أملك شيئاً ، فتكون الآية في مقام بيان عدم مالكيّة المملوك شيئاً
حتّى أنّ ما في يده لمولاه. وحاصل معناها حينئذٍ أنّه إذا حاز حطباً أو حشيشاً
ليتملّك لا يملك ، ولو قبل هبة أو وصيّة ليتملّك الموهوب أو الموصى به لا يملك ،
حتّى أنّه لو مات مورّث له لا يملك الإرث. وعلى هذا فالآية خارجة عن محلّ المقام
فيسقط بها الاستدلال.
ويمكن دفعها
بالروايات الّتي منها المرويّ عن الفقيه بسنده عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام وأبي عبد الله عليهالسلام قالا : «المملوك لا يجوز نكاحه ولا طلاقه إلّا بإذن
سيّده ، قلت : فإن كان السيّد زوّجه بيد من الطلاق؟ قال : بيد السيّد «ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» فشيء الطلاق» فإنّ استشهاد الإمام عليهالسلام لنفي قدرته على الطلاق بالآية يأبى عن كون المراد
بالقدرة المنفيّة هو الملك ، ولو سلّم فوجب حمل الملك على ما يعمّ ملك الطلاق ، لا
خصوص الملك المعتبر في الأموال وحاصله السلطنة ، فمعنى أنّه «لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» أنّه لا يتسلّط على شيء حتّى إجراء العقد وإيقاع الطلاق
، ومرجعه إلى نفي استقلاله في التصرّفات الّتي منها تصرّفاته الإنشائيّة ،
فليتدبّر.
وأمّا الجهة
الثانية : ففي كفاية الإجازة المتأخّرة من السيّد في نفوذ تصرّفاته الإنشائيّة
إشكال : من أنّ المنع هنا ليس لحيثيّة راجعة إلى العوضين اللذين يتعلّق بكلّ منهما
حقّ المالك له فله أن يرضى بما وقع على ماله من التصرّف وله أن لا يرضى ، بل
لحيثيّة راجعة إلى نفس الإنشاء الصادر من المملوك من حيث كونه تصرّفاً في نفسه
الّذي هو ملك لسيّده. ووجه الفرق بينهما أنّ الإجازة على الحيثيّة الاولى إنّما
تتعلّق بمضمون العقد وهو انتقال المال بعوض فيقع للمجيز ، وعلى الثانية تتعلّق
بأصل الإنشاء من حيث كونه تصرّفاً خاصّاً في ملك الغير من دون إذنه فلا تنفع في
رفع قبحه العقلي ولا في زوال تحريمه الشرعي الموجب للإثم والعصيان.
ومن عموم أدلّة
وجوب الوفاء بالعقود المقتضي لنفوذ التصرّفات وترتّب الآثار عليها ، ولا ينافيه
عدم استقلال العبد في تلك التصرّفات المستفاد من الآية المتقدّمة
__________________
حسبما مرّ الإشارة إليه ، لأنّ قصارى ما يستلزمه عدم الاستقلال هو ثبوت
مدخليّة للمولى فيها لا اشتراط نفوذها وترتّب الأثر عليها بإذنه السابق حتّى أنّه
لو شكّ في الاشتراط كان التمسّك بالعموم لنفيه متّجهاً. وهو الأقوى ، للعموم ،
ويؤيّده الأخبار الواردة في نكاحه الدالّة على أنّه لمولاه إن شاء أجاز وإن شاء لم
يجز بل فرّق بينهما ، ومنها ما تقدّم من تعليل الصحّة بعد الإجازة بأنّه «لم يعص
الله وإنّما عصى سيّده فإذا أجاز جاز».
نعم ربّما يشكل
الحال في هذا التعليل من جهة أنّ نفي عصيان الله لا يجامع ما تقدّم من قبح الإنشاء
عقلاً وتحريمه شرعاً ، من جهة كونه تصرّفاً غير مأذون فيه من مالكه خصوصاً على
طريقة من يحمل العصيان في قضيّتي النفي والإثبات على عدم الإذن لا مخالفة الخطاب ،
دفعاً للتدافع عمّا بينهما ، فيكون معناه أنّه لم يأت بما لم يأذن فيه الله بل أتى
بما لم يأذن فيه السيّد فإذا أجاز صحّ.
ويمكن الذبّ
عنه بحمل العصيان المنفيّ بالنسبة إليه تعالى على إرادة أنّ هذا العقد من حيث كونه
هذه المعاملة الخاصّة ليس ممّا نهى عنه الله تعالى ليكون من المعاملة المنهيّ عنها
لنفسها ويكون النهي مقتضياً لفساده بل عصى سيّده الّذي نهاه عنه ، وهذا لا ينافي
قبحه ولا حرمته من حيث كونه تصرّفاً في ملك السيّد من دون إذنه ، وهذا النهي لا
يقتضي الفساد حتّى ينهض مخصّصاً للعمومات المقتضية للصحّة لتعلّقه بأمر خارج عن
المعاملة ، لوضوح أنّ التصرّف في ملك الغير من دون إذن المالك أمر خارج عن
المعاملة ، حتّى أنّ مخالفة السيّد المنهيّ عنها أيضاً أمر خارج عن المعاملة.
فلا يرد أنّ
معصية السيّد تستلزم معصية الله تعالى فكيف ينفى أوّلاً ، فإنّ المنفيّ هو المعصية
اللازمة من النهي عن النكاح من حيث كونه هذه المعاملة الخاصّة ، فيكون حاصل معنى
التعليل منطوقاً ومفهوماً أنّه إذا عصى الله في عقد باعتبار كونه في نفسه ممّا نهي
عنه كان باطلاً لعدم تصوّر رضا الله بما سبق من معصيته ، وأمّا إذا لم يعص الله
وعصى سيّده أمكن رضا سيّده فيما بعد بما لم يرض به سابقاً فإذا رضي به وأجاز صحّ.
ومحصّله أنّ
معيار الصحّة في معاملة المملوك بعد كون المعاملة في نفسها ممّا لم ينه عنه الشارع
هو رضا سيّده بوقوعه سابقاً أو لاحقاً ، وأنّه إذا عصى سيّده بمعاملة
ثمّ رضي السيّد بها صحّت. فما قيل : من أنّ معصية السيّد لا يزول حكمها
برضاه بعده وأنّ الرضا اللاحق غير نافع ، كما نقل عن طائفة من العامّة غير سديد.
وعن الشيخ في
شرح القواعد الاستشهاد بهذه الرواية وغيرها في قوله المتقدّم بصحّة
عقد العبد ، وإن لم يسبقه إذن ولم يلحقه إجازة بل ومع سبق النهي أيضاً ، لأنّ غاية
الأمر هو عصيان العبد وإثمه في إيقاع العقد والتصرّف في لسانه الّذي هو ملك للمولى
، لكنّ النهي مطلقاً لا يوجب الفساد خصوصاً النهي الناشئ عن معصية السيّد ، كما
يومئ إليه هذه الأخبار الدالّة على أنّ معصية السيّد لا تقدح بصحّة العقد.
وردّ بأنّ
الروايات واضحة الدلالة على أنّ الصحّة من جهة ارتفاع كراهة المولى وتبدّله بالرضا
بما فعله العبد ، وليس ككراهة الله عزوجل بحيث يستحيل رضاه بعد ذلك بوقوعه السابق ، فكأنّه قال :
«لم يعص الله» حتّى يستحيل تعقّبه للإجازة والرضا ، وإنّما عصى سيّده فإذا أجاز
جاز ، فقد علّق الجواز صريحاً على الإجازة ، ويدلّ بالمفهوم على عدم الجواز بعدم
الإجازة.
أقول : والأظهر
في معنى هذه الروايات كما بيّنّاه أن يحمل نفي معصية الله على انتفاء النهي عن
معاملة العبد في نفسها ، فلا يكون عقده من المعاملة المنهيّ عنها لنفسها حتّى يوجب
النهي الفساد. وهذا لا ينافي كونها منهيّاً عنها من حيث إنّها تصرّف في ملك المولى
بغير إذنه ، أو من حيث كونها معصية للمولى لأنّ كلاًّ من ذلك أمر خارج عن حقيقة
المعاملة ، والنهي عنها باعتبار الأمر الخارج لا يوجب الفساد. وبالجملة النهي
المتصوّر بالنسبة إلى عقد العبد على وجوه : النهي عنه في نفسه ليكون من المعاملة
المنهيّ عنها لنفسها ، والنهي عنه من حيث كونه تصرّفاً غير مأذون فيه ، والنهي عنه
من حيث كونه معصية للسيّد إمّا بمعنى عدم إذنه فيه أو بمعنى كونه مخالفة لنهيه ،
والمنفيّ بقوله عليهالسلام : «لم يعص الله» هو الوجه الأوّل ، وهو لا ينافي ثبوت
النهي على الوجه الثاني أو الثالث.
ودعوى : أنّ
قوله : «لم يعص الله» مطلق وإطلاقه يقتضي انتفاء النهي بجميع وجوهه
__________________
فما معنى الفرق والتفصيل ، مدفوعة بأنّ إطلاق الدليل اللفظي لا يعارض الحكم
العقلي ولا يدافع الضرورة ، وحرمة التصرّف في ملك الغير من دون إذنه تنشأ من القبح
العقلي ، وحرمة معصيته السيّد ثابتة بضرورة الدين ، فإنّ من ضروريّاته حرمة معصية
العبيد لمواليهم ، فقضيّة الجمع بينه وبينهما تقييد الإطلاق بالنهي النفسي الغير
المنافي لثبوت القبح العقلي والتحريم الضروري. نعم ربّما يتّجه الدعوى المذكورة في
الجملة إن صحّ منع القبح العقلي من هذا النحو من التصرّف ، كما يلوح ذلك عن بعض
مشايخنا حيث منع في أثناء كلامه حرمة هذا النوع من التصرّفات
الجزئيّة تمسّكاً بالسيرة المستمرّة على مكالمة العبيد ونحو ذلك من المشاغل
الجزئيّة ، إلّا أنّها لا تتمّ بالنسبة إلى حرمة معصية السيّد ، لكون الضرورة
المثبتة لها ممّا لا يمكن الاسترابة والتشكيك فيها.
فرع : لو أمره
أحد باشتراء نفسه من مولاه عنه بمال فذهب إلى مولاه وقال : «أمرني أو وكّلني فلان
بأن أشتري نفسي منك عنه بكذا» فإن قال المولى : «أنت مأذون في قبول الوكالة» ثمّ
قال : «بعتك من فلان بكذا» فقال العبد : «قبلت أو اشتريت» فلا إشكال في الصحّة ،
لسبق الإذن في قبول الوكالة على البيع إيجاباً وقبولاً.
وإن قال : «بعتك
من فلان بكذا» من دون سبق الإذن صريحاً ، فقال العبد : «قبلت» فالظاهر أيضاً
وفاقاً لجماعة منهم الفاضلان في القواعد والشرائع الصحّة ، لأنّ قول السيّد «بعتك» مع كونه إيجاباً للبيع
إجازة ضمنيّة للعبد في قبوله الوكالة بناءً على أنّه في ذهابه إلى سيّده ليشتري
نفسه قصد قبول الوكالة وهو قبول فعلي يكفي في باب الوكالة ، أو أنّه مع كونه
إيجاباً للبيع إذن ضمني للعبد في قبول الوكالة بناءً على عدم قصده القبول بالفعل
المذكور.
فقول العبد : «قبلت»
قبول للبيع حصل بعد قبول الوكالة المأذون فيه ، لا بمعنى أنّ القبول حصل في ضمن
قبول البيع حتّى يقال إنّ جزءاً من لفظ «قبلت» ولو أوّل حرف منه حصل قبل تماميّة
الوكالة ، بل بمعنى أنّ إخراج العبد نفسه في معرض قبول البيع بعد إيجاب السيّد
قبول فعلى ، غاية الأمر عدم اتّصال القبول بإيجاب الوكالة وهو غير
__________________
قادح في باب الوكالة ، كما لا يقدح عدم قابليّة العبد للقبول في زمان
الإيجاب من جهة عدم انعقاد الوكالة بعد ، لأنّ هذا الشرط ليس على حدّ غيره من
الشروط كالبلوغ والعقل حتّى يعتبر وجوده من حين الشروع في الإيجاب مستمرّاً إلى
الفراغ عن القبول ، بل هو كإذن مالك الثمن في المشتري الفضولي إذا حصل بعد إيجاب
البيع وقبل قبوله يكفي حصوله في الأثناء.
وعن القاضي ابن
البرّاج القول ببطلان البيع في المسألة ، تعليلاً بأنّ عبارة العبد عبارة السيّد
فيتّحد الموجب والقابل.
والتعليل عليل
، إذ لو أراد به أنّ عبارة العبد عين عبارة السيّد ، فهو مكابرة للوجدان ومدافعة
للبداهة. ولو أراد به أنّ عبارته بمنزلة عبارة السيّد في الأحكام ، فكما أنّ عبارة
«قبلت» إذا صدرت من السيّد بعد الإيجاب كان من اتّحاد الموجب والقابل فكذا ما هو
بمنزلته. ففيه أوّلاً : منع المنزلة والمشاركة في الأحكام ، إذ لا دليل عليها. [وثانيا]
: منع البطلان من جهة اتّحاد الموجب والقابل بالذات ، لأنّ التغاير بالاعتبار كافٍ
في الصحّة.
وأضعف منه
الاسترابة في الصحّة باعتبار اتّحاد المبيع والمشتري ، وهو خلاف القانون المقرّر
في البيع من لزوم تغايرهما ، ولذا عدّ أركانه أربعة المتعاقدان والعوضان. ووجه
الضعف عدم كون المشتري هو العبد فإنّه قابل على حسب الوكالة والمشتري هو الموكّل ،
هذا كلّه إذا أمره بالاشتراء من المولى.
ولو أمره
بالاشتراء من وكيل المولى ، فعن جماعة منهم المحقّق والشهيد الثانيان في جامع
المقاصد والمسالك عدم الصحّة ، لعدم الإذن من المولى في قبول الوكالة.
ويمكن القول
بالصحّة فيه أيضاً بدعوى تحقّق الرضا من المولى بوكالة عبده من إطلاق توكيل وكيله
في بيع عبده ، فإنّ إطلاق الوكالة يقتضي الرضا ببيعه من الأصيل أو من الوكيل مع
إطلاقه في الوكيل بالنسبة إلى عبده أو غيره.
فلا حاجة إلى
توجيه الصحّة بأنّ غاية ما هنالك النهي عن قبول الوكالة باعتبار التصرّف في ملك
الغير وهو لا يوجب الفساد سيّما إذا كان باعتبار أمر خارج عن
__________________
حقيقته ، حتّى يردّ بأنّ وجه المنع ليس هو النهي بل عدم استقلال العبد في
شيء من تصرّفاته المستفاد من آية أنّه «لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ» المقتضي لاعتبار إذن السيّد سابقاً أو لاحقاً في الصحّة
والنفوذ ، والمفروض أنّ الإذن غير حاصل. وإن كان يمكن دفع هذا الردّ بما استكشفناه
من إطلاق الوكالة من تحقّق الرضا من السيّد بوكالة عبده كرضاه بوكالة غيره ، ولكنّ
المسألة بعد محلّ تأمّل من جهة خفاء الفرد ، فليتدبّر.
فصل
ومن شروط
المتعاقدين أن يكونا مالكين ، أو ممّن يقوم مقام المالك ، كالوكيل أو الوصيّ أو
الوليّ الإجباري كالأب والجدّ ، أو الوليّ الشرعي كالحاكم وأمينه. وقد يعبّر بكون
العاقد مالكاً أو من يقوم مقامه ، ولا ضير فيه بناءً على إرادة المعنى الجنسي
الشامل للواحد والاثنين.
وفي الشرائع
عبّر بـ «أن يكون البائع مالكاً أو ممّن له أن يبيع عن المالك ، كالأب والجدّ
والوكيل والوصيّ والحاكم وأمينه ، فلو باع ملك غيره وقف على إجازة المالك أو وليّه
على الأظهر» .
ولعلّ إفراد
البائع بالذكر مع جريان الفضولي في سائر العقود لمراعاة التعرّض للعقد الفضولي في
كتاب البيع ، ولا يخلو عن مسامحة وإن كان قد يوجّه بحمله على إرادة المثال الغير
المنافي لعموم الحكم سائر العقود.
وفي تعبيره
بالبائع مسامحة اخرى نظراً إلى جريان الفضولي في المشتري أيضاً ، كما لو اشترى
سلعة بمال الغير ثمناً أو بعوض في ذمّة الغير.
وقد يوجّه ذلك
بحمل «البائع» على إرادة ما يعمّ المشتري لشيوع إطلاقه عليه في كلامهم ، ومن ذلك
ما في قولهم : «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» لإجماعهم على جريان ذلك
الحكم في سلعة المشتري وعدم اختصاصه بسلعة البائع ، فيحمل البائع على إرادة ما يعمّ
المشتري كما يحمل المبيع على ما يعمّ السلعتين. وبالجملة
__________________
اشتراط المالكيّة في المشتري أيضاً متّفق عليه بينهم كاشتراطها في البائع ،
وينهض ذلك قرينة على إرادة المعنى العامّ.
وهاهنا مسامحة
اخرى في لفظ «المالك» نظراً إلى أنّ العقد قد يجري على ما في الذمّة وهو كلّي بل
قد يجري فيما لا وجود له في الخارج حال العقد كما في بيع السلم فيما لا يمكن وجود
المبيع إلّا في وقت انصرام الأجل ، والملك وصف وجودي لا يلحق إلّا بالموجود الخارج
ولا وجود لما في الذمّة ولا لما ذكر من المثال. ولو وجّه الأوّل بأنّ الجزئي
المطابق للكلّي في الذمّة له وجود فإطلاق المالك حينئذٍ امّا باعتبار أنّه يملك
المبيع نفسه فيما إذا كان عيناً شخصيّة أو أنّه يملك جزئيّة المطابقة له فيما إذا
كان المبيع كلّيّاً في الذمّة ، فهو لا يتمشّى في الثاني ، فالمسامحة بالنسبة إليه
على حاله ، ومبنى المسامحة على التوسّع في الاستعمال بإرادة ما يعمّ المالك
الحقيقي والمالك المجازي وهو من يملك فيما بعد ، فإنّ الإطلاق عليه باعتبار ما
يؤول إليه ، فيجوز دخوله في الإرادة من باب الاستعمال في عموم المجاز.
ثمّ المالك
بالمعنى الحقيقي عبارة عن مالك التصرّف ، وملك التصرّف عبارة عن سلطنة مخصوصة
تقتضي جواز التصرّف في المال أيّ تصرّف أصالة لو لا المانع. واحترزنا بقولنا «أصالة»
عن الوكيل والوصيّ والوليّ ، فإنّ جواز تصرّفهم ليس أصالة بل تبعاً لإذن المالك أو
الولاية عليه. وبقولنا «لو لا المانع» عمّن لا يجوز له التصرّف في ماله لمانع من
تعلّق حقّ للغير به كحقّ الرهانة في العين المرهونة وحقّ الديّان في المفلس أو
صباء أو جنون أو سفه وما أشبه ذلك ، فإنّ عدم جواز التصرّف في هذه الموارد وغيرها
لوجود المانع فلا ينافي السلطنة المقتضية له ، لأنّ المقتضي قد يجامع وجود المانع.
والمراد بـ «المالك»
هاهنا هو المالك للتصرّف أصالة أو تبعاً بإذن أو ولاية لو لا المانع ، بقرينة
أنّهم احترزوا باشتراط المالكيّة عن الفضولي ، وهو من لم يكن أحد هؤلاء ، ولذا
عرّفه الشهيد على ما حكي «بالكامل الغير المالك للتصرّف ولو كان غاصباً» وفي معناه ما
عن بعض العامّة من تعريفه «بأنّه العاقد بلا إذن من يحتاج إلى إذنه» واحترز
__________________
بقوله : «بلا إذن» عن الوكيل أو الوصيّ إذا عقد في مال الموكّل أو الموصي ،
وبقوله : «من يحتاج إلى إذنه» عن المالك ووليّه ـ كالأب والجدّ والحاكم وأمينه ـ لأنّ
الأوّل لا يحتاج في عقده إلى إذن أحد ، والثاني لا يحتاج إلى إذن المالك.
ثمّ إنّ ظاهرهم
الاتّفاق على اشتراط المالكيّة بالمعنى الأعمّ ـ وحينئذٍ ربّما يشكل الحال في عقد
الفضولي على القول بصحّته مع الإجازة ، فإنّ مقتضى شرطيّة المالكيّة بالمعنى
الأعمّ وقوعه باطلاً من أصله كما عليه جماعة فما معنى صحّته مع الإجازة؟ ويمكن الذبّ بأنّهم اتّفقوا
على الاشتراط واختلفوا في المشروط به وأنّه هل هو تأثير العقد أو استقرار أثره؟
فمنهم من قال : بأنّ المالكيّة بالمعنى المذكور شرط لتأثير العقد ، ولزمه القول
ببطلان عقد الفضولي من أصله. ومنهم من قال : بأنّها شرط لاستقرار أثره ، ولزمه
القول بصحّة عقد الفضولي ووقوف استقرار أثره على لحوق الرضا أو الإجازة.
ويشكل بأنّ
المستفاد من كلماتهم صراحة وظهوراً في الاستدلال على صحّة عقد الفضولي أو بطلانه
كون مناط الصحّة هو رضا المالك أو إذنه ، ورجوع اختلافهم إلى أنّ المعتبر هو الرضا
أو الإذن السابق المقارن للعقد خاصّة أو مطلق الرضا والإذن ولو لاحقاً ، وقضيّة
ذلك أن يكون شرط استقرار الأثر على القول بالصحّة هو لحوق الرضا أو الإذن الّتي يقال
لها الإجازة ـ لا المالكيّة بالمعنى المذكور.
اللهمّ إلّا أن
يقال : بأنّ المالكيّة بهذا المعنى شرط لشرط التأثير لا أنّها في نفسه شرط له ،
على معنى أنّ شرط الصحّة والتأثير هو الرضا أو الإذن مطلقاً أو بشرط السبق
والمقارنة ، ولكن يعتبر فيهما كونهما من المالك بالمعنى الأعمّ. وبعبارة اخرى أنّ
العلماء بذكر شرط المالكيّة قصدوا إلى بيان أنّ شرط صحّة العقد وتأثيره هو رضا
المالك للتصرّف مطلقاً ولو لاحقاً أو رضاه السابق المقارن لا مطلقاً. هذا غاية ما
يمكن أن يقال في الجمع بين كلماتهم في بيان شرط المالكيّة وإناطتهم لصحّة العقد
برضا المالك ، ثمّ اختلافهم في أنّه مطلق الرضا ولو لاحقاً أو الرضا المقارن
بالخصوص ، وتفريعهم صحّة عقد الفضولي مع لحوق الإجازة عليها.
__________________
وعن المختلف أنّه جعل ما
عدا الملكيّة من الشرائط المتقدّمة شروطاً للصحّة ، والملك أو ما يقوم مقامه شرطاً
للزوم. وهذا لا يستقيم على القول ببطلان الفضولي بل وعلى القول بالصحّة مع التوقّف
على الإجازة على القول بكون الإجازة ناقلة ، بل على القول بكونها كاشفة أيضاً كما هو
واضح.
وكيف كان ففي
صحّة بيع الفضولي مع الإجازة قولان ، أحدهما : الصحّة ، وهو قول الأكثر كما في
المسالك وعن المفاتيح وأشهر القولين كما عن الروضة وإيضاح النافع
والأشهر بين المتأخّرين بل مطلقاً كما في الرياض وهو المشهور
كما عن مجمع البرهان والكفاية والحدائق بل زاد في الأخير «كاد يكون إجماعاً» وعن التذكرة ما
ظاهره دعوى الإجماع حيث قال : «إنّه جائز عندنا لكن يكون موقوفاً على الإجازة» وقيل يظهر دعوى
الإجماع أيضاً من جامع المقاصد في باب الوكالة.
والقول الآخر :
عدم الصحّة ، وهو على ما حكي لجماعة ، فمن القدماء الخلاف والغنية ومن
المتأخّرين فخر الدين في الإيضاح وظاهر الأردبيلي في مجمع البرهان والسيّد
الداماد في صيغ العقود وصاحبا الكفاية والحدائق ونسب أيضاً إلى ظاهر الوسائل .
وينبغي تحرير
المسألة بأنّ البائع الفضولي قد يبيع للمالك ، وقد يبيع لنفسه ، وعلى الأوّل فقد
لا يسبقه منع من المالك ، وقد يسبقه المنع ، فهنا مسائل :
المسألة الاولى
: أن يبيع للمالك مع عدم سبق منع منه ، والمشهور فيه الصحّة
__________________
واستدلّ بوجوه :
منها : أنّه
عقد صدر من أهله في محلّه فيكون صحيحاً ، أمّا أنّه عقد فلصدق الاسم عليه عرفاً
وخلوّه عن مقارنة إذن المالك لا يوجب سلب اسم العقد ولا البيع عنه ، وأمّا أنّه
صدر من أهله فلفرض صدوره من الكامل بالعقل والبلوغ والاختيار ، وأمّا أنّه وقع في
محلّه فلفرض تحقّق العوضين مع اجتماعهما لشرائط الصحّة ، وليس إلّا عدم مباشرة
المالك والأصل عدم كونها شرطاً ، أو عدم مقارنة إذن المالك والأصل أيضاً عدم
الشرطيّة. واورد عليهما بمعارضة أصالة عدم ترتّب الأثر.
ويدفعه أوّلاً
: أنّ أصالة عدم الشرطيّة واردة على أصالة عدم ترتّب الأثر ، لسببيّة شكّه.
وثانياً :
انقطاع أصالة الفساد بعموم «حِلّ البيع» و «وجوب الوفاء بالعقود» و «تجارة عن تراض»
وغير ذلك.
ومن هنا يندفع
أيضاً ما عن غاية المراد من المناقشة في الدليل بكونه من باب المصادرات ، وكأنّه
لم يلتفت إلى أنّ مستند دعوى الصحّة في عبارة الدليل هو العمومات.
نعم ربّما يورد
على الاستدلال بالعمومات بعدم شمولها للأفراد النادرة خصوصاً إذا كانت في غاية
الندرة ، والبيع الفضولي فرد نادر.
واجيب تارة
بمنع الصغرى ـ أعني الندرة ـ فإنّ الأحبّاء والأصدقاء والرفقاء والوكلاء والأولياء
والعبيد وغيرهم يتصرّفون في أموال غيرهم ويعقدون عليها بالبيع والشراء وغيرهما
فضولاً ثمّ يستأذنون ويستجيزون ، فهو طريق معهود مألوف استقرّت السيرة به فكيف
يرمى بالندرة كما عن الشيخ الغروي في شرحه للقواعد . واخرى بمنع
الكبرى فإنّ الأصحاب لا يزالون في جميع الأعصار والأمصار يستدلّون بتلك العمومات
على الأفراد النادرة الّتي منها بيع السّلَم ونحوه كما يظهر للمتتبّع في أبواب
العقود ، فيكون ذلك إجماعاً منهم كاشفاً عن إرادة عموم الحكم بحيث يشمل الأفراد
الشائعة والنادرة معاً كما عن سيّد الرياض .
والأولى في الجواب
بعد تسليم الندرة أن يقال : إنّ شبهة عدم الانصراف في الأدلّة
__________________
إلى الأفراد النادرة وإن كانت في مثل «أحلّ البيع» ممّا كان أشبه بالمطلقات
لا بعد فيها ، ولكنّها في مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ممّا كان من قبيل العمومات خلاف التحقيق ، لأنّ عموم
العامّ وضعي لا يتفاوت الحال فيه بين الأفراد ، فيشمل المتعارفة الشائعة والنادرة
بل الأندرة أيضاً.
ومنها : فحوى
ما دلّ على صحّة الفضولي في النكاح من النصّ المستفيض والإجماع كما نقله علم الهدى
في الحرّ والعبد ، والحلّي في الحرّ ، والشيخ في الخلاف في العبد ،
وصحّته فيه مع احتياطهم لكونه في الفروج يستلزم صحّته في البيع ونحوه بطريق أولى.
تمسّك به جماعة منهم غاية المراد والرياض بل في الثاني «أنّه لولاه أشكل الحكم من
جهة الإجماعين الآتيين» على المنع .
وقد يورد عليه
بما محصّله : أنّه إن اريد بالفحوى ما ينطبق على مفهوم الموافقة ، ففيه أنّه يعتبر
في مفهوم الموافقة كون أولويّة المسكوت عنه من المنطوق به عرفيّة ، على معنى كونها
منساقة من الخطاب في متفاهم العرف ، كأولويّة ضرب الوالدين بالتحريم من التأفيف
المنساقة من آية «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ» وهي فيما نحن
فيه ليست عرفيّة بالمعنى المذكور. وإن اريد به ما ينطبق على القياس بطريق أولى ،
ففيه أنّه يعتبر فيه كون الأولويّة قطعيّة بأن يكون علّة الحكم في الأصل معلومة مع
وجودها في الفرع وكونها فيه أشدّ وآكد ، وهي فيما نحن فيه ليست بهذه المثابة لعدم
معلوميّة علّة الحكم في النكاح ، مع احتمال كون الحكمة فيه شدّة الاستحياء في
النساء ، فإنّه ربّما يمنعهنّ من التوكيل في التزويج فسوّغ الشارع فيه الفضولي
وأوقفه على الإجازة لأنّ أمر الإجازة أسهل وأهون ، إذ ليس استحياؤهنّ فيها
كالاستحياء في التوكيل.
ويمكن دفعه
بأنّ هنا شقّاً ثالثاً ، وهو كون المراد بالفحوى هنا الأولويّة الظنّيّة المندرجة
في الظنّ المطلق على القول بحجّيّة الظنون المطلقة ، ولا ريب في حصول الظنّ
الاطمئناني من جهتها بمشاركة البيع وغيره النكاح في صحّة الفضولي مع الإجازة.
__________________
نعم وقد يورد
عليها بالنصّ الوارد في الردّ على العامّة الفارقين بين تزويج الوكيل المعزول مع
جهله بالعزل وبين بيعه ، بالحكم بالصحّة في الثاني لأنّ المال له عوض ، والبطلان
في الأوّل لأنّ البضع ليس له عوض ، فقال الإمام ردّاً عليهم وتنبيهاً على اشتباههم
في وجه الفرق : «سبحان الله ما أجور هذا الحكم وأفسده ، فإنّ النكاح أولى وأجدر أن
يحتاط فيه ، لأنّه الفرج ومنه يكون الولد ...» الخبر.
وحاصله كون
النكاح من جهة الاحتياط المتأكّد فيه أولى بالصحّة من البيع ، وقضيّة ذلك أنّه إذا
ثبت الفضولي في البيع فهو يستلزم ثبوته في النكاح أيضاً بطريق أولى ، لا أنّ ثبوته
في النكاح يستلزم ثبوته في البيع بطريق أولى كما عليه مبنى الاستدلال المتقدّم.
وفيه : منع
دلالة ذلك على كون الأولويّة في العكس ، لعدم كون مستند العامّة في الحكم بصحّة
البيع دون النكاح هو أولويّة البيع بالصحّة من النكاح ، ولا الاحتياط ، بل عدم
المبيع من البائع بلا عوض على تقدير البطلان لأنّ له عوضاً ، بخلاف النكاح فإنّه
على تقدير البطلان يستلزم خروج البضع من الزوجة بلا عوض لأنّ البضع لا عوض له ،
فليس مقصود الإمام في الردّ عليهم دعوى الأولويّة بين البيع والنكاح وجعل النكاح
أولى بالصحّة من البيع لأنّ الاحتياط فيه أشدّ من الاحتياط ، بل مقصوده الردّ
عليهم ببيان مشاركة النكاح للبيع في وجود المقتضي للصحّة في زعمهم وعلى طريقتهم في
الاعتماد على الاستحسانات الذوقيّة والمصالح المرسلة ، فحاصل مراده عليهالسلام بيان أنّ البيع كما يوجد فيه المقتضي للصحّة في زعمهم ،
وهو كون المال له عوض ، فكذلك النكاح أيضاً فيه المقتضي للصحّة ، وهو كون إبقائه
أحوط من إبطاله وأنّه أقرب إلى الاحتياط ، ومرجعه إلى إعمال الأولويّة بين إبقاء
النكاح وإبطاله لا بين النكاح والبيع ، فإنّ إبطال النكاح يستلزم التفريق بين
الزوجين فتتزوّج المرأة فعلى تقدير صحّة العقد في نفس الأمر يلزم الزنا بذات البعل
ويحصل منه الولد ، بخلاف إبقائه فإنّه على تقدير بطلان العقد في نفس الأمر يستلزم
الزنا بالمرأة الخالية من المانع ، وهو أهون من الزنا
__________________
بذات البعل وأقرب بالاحتياط ، فيكون إبقاء النكاح أولى وأجدر من إبطاله عند
دوران الأمر ، فليتدبّر.
ومنها : الخبر
العامّي المعروف الوارد في قصّة عروة البارقي حيث دفع إليه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ديناراً وقال : «اشتر لنا به شاة للُاضحيّة ، فاشترى به
شاتين ، ثمّ باع إحداهما في الطريق بدينار ، فأتى النبيّ بالشاة والدينار ، فقال
له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : بارك الله لك في صفقة يمينك» فإنّ بيعه
لإحدى الشاتين لعدم كونه مأذوناً فيه وقع فضولاً ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «بارك الله ...» الخ إمضاء له ، فلو لم يصحّ الفضولي
مع الإجازة لم يكن لإمضاء النبيّ معنى. بل قد يقال : بأنّ اشتراءه الشاتين بدينار
أيضاً وقع فضولاً ، لأنّ المأمور به هو اشتراء شاة بدينار لا اشتراء شاتين فقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «بارك الله ...» الخ إجازة لهما. ولو وجّه اشتراؤه
الشاتين بحيث خرج عن كونه فضوليّاً بجعله مأذوناً فيه بالفحوى لأنّ من أذن باشتراء
شاة بدينار راضٍ باشتراء شاتين بدينار بطريق أولى ، لكفى كون بيعه لإحدى الشاتين
فضوليّاً.
واورد على
الاستدلال بالرواية بوجوه ، فتارةً : بعدم دلالتها على أنّ عروة اشترى الشاتين
للنبيّ لجواز كونه إنّما اشتراهما لنفسه بدينار أعطاه النبيّ أي وهبه وملّكه لمّا
رأى من حاله أنّه لا شيء له ليشتري به الشاة للُاضحيّة وهو يحبّ الاضحية ولم يكن
عنده شيء ، غاية ما هنالك حمل الإعطاء على إرادة الهبة لا مجرّد المناولة ، وهو
شائع في الاستعمالات يقال : عطيّة فلان وعطايا سلطان وما أشبه. وإتيانه إلى النبيّ
بالدينار ليردّه عليه شكراً لنعمته من جهة حصول غرضه وهو تملّكه شاة للُاضحيّة ،
ولعلّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يقبله بل ردّه إليه خصوصاً على احتمال كون الدينار
من الوجوه الّتي يستحقّها عروة فملكه بمجرّد دفع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن قصد بإعطائه المناولة.
واخرى : بأنّ
الرواية تتضمّن الغبن الفاحش إمّا لبائع الشاتين أو لمشتري إحداهما على سبيل منع
الخلوّ ، لأنّ ثمن مثل الشاتين إمّا يكون أزيد من دينار كدينارين مثلاً فيلزم
الغبن للبائع ، وإن كان دنيا فيلزم الغبن للمشتري. ومن المستبعد أن يرضى النبيّ
__________________
مع كمال رأفته وشفقته على امّته بذلك الغبن ، فلا بدّ من إطراح الرواية أو
تأويلها بما يوجب خروج موردها عن عنوان الفضولي ، أو بما لا يوجب ثبوت المدّعى.
وثالثة :
بأنّها مشتملة على ما لا يقول به أهل القول بصحّة الفضولي من جهات عديدة ، وهو
أنّهم لا يجوّزون التصرّف قبل لحوق الإجازة ويحرّمونه كتصرّف عروة في الدينار
بالإقباض وفي الشاتين بالقبض ، وفي إحداهما بالبيع والإقباض من المشتري وقبض
ديناره ، وكيف يقرّره النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على فعل هذه المحرّمات ولا يذمّه بل يمدحه ويدعو له ،
فلا بدّ وأن [لا] يكون معاملته اشتراء وبيعاً من باب الفضولي.
ورابعة : بأنّ
مورد الرواية من باب حكايات الأحوال الّتي إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب
الإجمال فيسقط بها الاستدلال ، ومن المحتمل كون وكالة عروة مطلقة عامّة لجميع
التصرّفات ، ولا سيّما على ما قيل فيه من كونه من وكلائه ، ولا ينافيه إذنه في هذا
التصرّف الخاصّ المستفاد من الأمر باشتراء الخاصّ ، لجواز كونه من الإذن الخاصّ
بعد الإذن العامّ ، فلا يمكن بها على حكم الفضولي.
وخامسة :
باحتمال كون معاملة عروة في مورد الرواية معاطاتية إباحيّة لا تمليكيّة مندرجة في
العقد الفضولي ، وقد أرضى مالك الشاتين ومالك الدينار بأن يأتي بهما إلى النبيّ
ويقصّ عليه القصّة فإن رضي بما صنعه كانت المعاملة ممضاة وإلّا أرجع إليهما ما أخذ
منهما ، فتخرج عن محلّ الاستدلال لعدم كونها من العقد الصادر من الفضولي.
وفي الجميع ما
لا يخفى ، أمّا إجمالاً فلأنّ الاحتمالات البعيد المخالفة للظاهر لا يلتفت إليها ،
ولا تمنع الاستدلال بالظواهر ، وإلّا انسدّ باب التمسّك بألفاظ الكتاب والسنّة ،
إذ ما من ظاهر إلّا وفي مقابله احتمال بعيد أو احتمالات بعيدة. وأمّا تفصيلاً
فلوضوح ضعف كلّ من الوجوه المذكورة :
أمّا الأوّل :
فلظهور إطلاق الإعطاء في المناولة فلا يصرف إلى التمليك والهبة إلّا لقرينة ، ولا
قرينة في الرواية بل القرينة قائمة بخلاف ذلك ، فإنّ إتيان عروة للشاة والدينار
معاً إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أقوى شاهد في العرف بكون الاشتراء له صلىاللهعليهوآلهوسلم لا لنفسه ، وردّ الدينار عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم مع فرض كونه ملكاً له ممّا لا مقتضي له خصوصاً مع
احتياجه واستحقاقه ، وقصد إظهار شكر نعمته لا يقتضي ذلك لحصوله بحكاية الواقعة
وإظهار امتنانه.
وأمّا الثاني :
فلأنّ حمل معاملة عروة على المعاملة المحاباتيّة أولى من حملها على معاملة
المغابنة ، مع منع تحقّق غبن لبائع الشاتين ولا لمشتري شاة واحدة ، فإنّ مجاري
العادات أنّ كل متاع حال وفوره يتنزّل قيمته وحال قلّته وعزّته تترفّع قيمته ،
وكثيراً ما يختلف الحال بالوفور والعزّة في زمان قليل ، ولا سيّما مورد الرواية
وهو أغنام الاضحية خصوصاً في يوم الأضحى الّتي تتوفّر في أوّل النهار ثمّ تتعزّز
بعده بساعة أو أقلّ أو أكثر ، فمن الجائز وقوع الاشتراء حال وفورها وطروء العزّة
فيما بينه وبين مسيره إلى النبيّ ووقوع بيع الشاة في هذه الحالة.
وأمّا الثالث :
فلمنع وقوع بعض التصرّفات المذكورة كدفع الدينار إلى البائع ، ومنع كون وقوع البعض
الآخر كقبض الشاتين على الوجه المحرّم لكونه مأذوناً فيه من البائع ، وكذلك أخذه
الدينار من المشتري مع احتمال كون عروة جاهلاً قاصراً بحكم المسألة ، خصوصاً على
تقدير وقوع الواقعة في أوائل الإسلام فلا حرمة حتّى توجب استحقاقه الذمّ والتوبيخ.
وأمّا الرابع :
فلاندفاع احتمال الإذن العامّ أو الوكالة المطلقة بالأصل فإنّ الإذن الخاصّ معلوم
الحصول ، وحصول الإذن العامّ قبله أو بعده غير معلوم ، والأصل عدمه ، فيكون المورد
من المعاملة الفضوليّة. ولا يرد على الأصل كونه من الاصول المثبتة لأنّ كونها من
العقد التوكيلي أو العقد المأذون يحتاج إلى حصول الوكالة المطلقة أو الإذن العامّ
، وكونها من العقد الفضولي لا يحتاج إلى أمر حادث بل يكفي فيه عدم حصول الوكالة
المطلقة والإذن العامّ قبل هذا الإذن الخاصّ ، والأصل يحرزه. وبالجملة : الفضوليّة
أمر عدمي هو عبارة عن عدم الإذن في التصرّف ، وهو مفهوم عين المستصحب لا أنّه
يغايره.
وأمّا الخامس :
فلأنّ احتمال المعاطاة الإباحيّة في معاملتي عروة لا يزاحم أصالة الحقيقة في لفظي
الاشتراء والبيع ولا قرينة على التجوّز فيهما ، مضافاً إلى أنّه من المستبعد في
الغاية أن يأمره النبيّ باشتراء الشاة للُاضحيّة الّتي لا تقع إلّا في ملك وهو
يأخذ الشاتين بالمعاطاة الإباحيّة ثمّ يدعو له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله : «بارك الله لك في صفقة يمينك».
نعم : هاهنا
كلام آخر أورده شيخنا قدسسره بقوله : «لا يخفى أنّ الاستدلال يتوقّف على
دخول المعاملة المقرونة برضا المالك في بيع الفضولي ، توضيح ذلك : أنّ
الظاهر علم عروة برضا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بما يفعل ، وقد أقبض المبيع وقبض الثمن ، ولا ريب أنّ
الإقباض والقبض في بيع الفضولي حرام لكونه تصرّفاً في مال الغير فلا بدّ إمّا من
التزام أنّ عروة فعل الحرام في القبض والإقباض وهو مناف لتقرير النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وإمّا من القول بأنّ البيع الّذي يعلم بتعقّبه للإجازة
يجوز التصرّف فيه قبل الإجازة بناءً على كون الإجازة كاشفة وسيجيء ضعفه ، فيدور
الأمر بين ثالث وهو جعل هذا الفرد من البيع وهو المقرون برضا المالك خارجاً عن
الفضولي كما قلناه ، ورابع وهو علم عروة برضا النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بإقباض ماله للمشتري حتّى يستأذن ، وعلم المشتري بكون
البيع فضوليّاً حتّى يكون دفعه للمثمن بيد البائع على وجه الأمانة ، وإلّا
فالفضولي ليس مالكاً ولا وكيلاً فلا يستحقّ قبض المال ، فلو كان المشتري عالماً
فله أن يستأمنه على المثمن حتّى ينكشف الحال ، بخلاف ما لو كان جاهلاً.
ولكنّ الظاهر
هو أوّل الوجهين كما لا يخفى ، خصوصاً بملاحظة أنّ الظاهر وقوع تلك المعاملة على
جهة المعاطاة ، وقد تقدّم أنّ المناط فيها مجرّد المراضاة ووصول كلّ من العوضين
إلى صاحب الآخر ، وحصوله عنده بإقباض المالك أو غيره ولو كان صبيّاً أو حيواناً ،
فإذا حصل التقابض بين فضوليّين أو فضولي وغيره مقروناً برضا المالكين ثمّ وصل كلّ
من العوضين إلى صاحب الآخر وعلم برضا صاحبه كفى في صحّة التصرّف ، وليس هذا من
معاملة الفضولي لأنّ الفضولي صار آلة في الإيصال والعبرة برضا المالك المقرون به» انتهى.
وهذا بناءً على
الظهور الّذي ادّعاه قدسسره في أوّل التوضيح ـ ولعلّه استظهره من تقريره صلىاللهعليهوآلهوسلم المستحيل كونه على المحرّم ـ في كمال المتانة إن قلنا
بكفاية مقارنة رضا المالك في خروج البيع عن الفضولي وعدم افتقاره إلى إذنه الصريح
، وسيأتي الكلام في تحقيق هذا المقام إن شاء الله.
ومنها : خبر
الوليدة المرويّ في الكتب الأربعة بسند صحيح على الصحيح في غير
__________________
الفقيه وموثّق في الفقيه بمحمّد بن الحسن ، وسنده على ما في الكافي
والتهذيب والاستبصار عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن
محمّد ابن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قضى أمير المؤمنين عليهالسلام في وليدة باعها ابن سيّدها وأبوه غائب فاستولدها الذي
اشتراها فولدت منه غلاماً ، ثمّ جاءها سيّدها الأوّل فخاصم سيّدها الآخر ، فقال :
وليدتي باعها ابني بغير إذني ، فقال عليهالسلام : الحكم أن يأخذ وليدته وابنها فناشده الّذي اشتراها ،
فقال عليهالسلام له : خذ ابنه الّذي باعك الوليدة حتّى ينفذ لك البيع ،
فلمّا أخذه فقال له أبوه : أرسل ابني ، فقال : والله لا ارسل إليك ابنك حتّى ترسل
ابني ، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه ...» الحديث.
ودلالته على
كون بيع الوليدة فضوليّاً لمكان قوله : «باعها ابني بغير إذني» وعلى صحّة الفضولي
بعد الإجازة لمكان قوله عليهالسلام : «الحكم أن يأخذ وليدته وابنها» وقوله عليهالسلام : «خذ ابنه حتّى ينفذ لك البيع» وقوله : «أجاز بيع ابنه»
واضحة لا ينبغي الاسترابة.
نعم ربّما
يستشكل في الرواية من جهة اشتمالها على مخالفة قواعد عديدة :
فتارةً :
باعتبار ظهورها في تأثير الإجازة بعد الردّ ، بتقريب ظهور مخاصمة سيّد الوليدة في
الردّ ، وأظهر منه حكم الإمام عليهالسلام بأنّ الحكم أن يأخذ وليدته فإنّه لو لا سبق الردّ كان
البيع متزلزلاً فلم يكن للحكم بأخذ الوليدة منجّزاً من غير تقييد له باختيار الردّ
معنى ، وكذلك أخذ السيّد لها من دون ردّ غير سديد ، وممّا أجمع أهل القول بصحّة
الفضولي عدم تأثير الإجازة بعد الردّ.
واخرى :
باعتبار اشتمالها على الحكم بأخذ ابن الوليدة ، مع ظهور كونه حرّاً من جهة كونه
ولد الشبهة ، فإنّ ولد الحرّ من أمة الغير إنّما يكون رقّاً إذا كان من زنا لا من
شبهة ، والمشتري إنّما استولد الوليدة باعتقاد صحّة البيع ودخولها في ملكه ، فكيف
يحكم الإمام بأخذ الحرّ.
وثالثة :
باعتبار أمره عليهالسلام بأخذ المشتري ابن سيّد الوليدة وهو حرّ قطعاً. ودعوى : أنّه
إنّما أخذ للغرامة ، ممّا لم نتحقّق معناه ، إذ لو اريد كونه للغرامة عن ولد
المشتري فهو
__________________
ممّا لا معنى له إذ الحرّ كما هو المفروض لا غرامة له ولو سلّم رقّيّته فهو
رقّ لسيّد الوليدة ومع هذا فالحرّ كيف يصير غرامة له ، ولو اريد كونه لغرامة الثمن
الّذي أخذ ابن السيّد من المشتري فهو أيضاً لا يقتضي أخذ الحرّ وحبسه بل يقتضي
مطالبته واسترداد الثمن منه ومع الامتناع إجبار الحاكم إيّاه على الردّ ، مضافاً
إلى أنّه لا يلائم قوله عليهالسلام : «حتّى ينفذ لك البيع» فإنّه لو كان لغرامة الثمن وجب
أن يقول : «حتّى يردّ إليك الثمن».
هذا : ولكنّ
الإنصاف ومجانبة الاعتساف يساعد على عدم استعمال الرواية على مخالفة شيء من
القواعد :
أمّا من الجهة
الاولى : فلمنع ظهور الرواية في سبق الردّ ، واستظهاره من المخاصمة ، يدفعه أنّه
إن اريد به كون المخاصمة في نفسها ردّاً ، ففيه أنّ الردّ كما ستعرفه لا يحصل إلّا
بصيغة «رددت البيع أو فسخته أو أبطلته أو نحو ذلك» كما صرّح به الشهيد أيضاً في
الدروس حتّى أنّه لو قال لم اجزه أو لا اجيزه أو لا أرضى به لم
يقع الردّ. وإن اريد به أنّها كاشفة عن سبق الردّ ، ففيه المنع أيضاً فإنّ غاية ما
يكشف عنه إنّما هو عدم رضاه بالبيع ، وهو لا ينافي الصحّة بعد لحوق الإجازة ، حتّى
انّه لو سبقه منع المالك أيضاً لم يؤثّر في البطلان مع الإجازة اللاحقة كما ستعرفه
، ولعلّ سيّد الوليدة مع عدم رضاه بما وقع من بيع ابنه كان متردّداً حين المخاصمة
وأخذ الوليدة بين ردّ البيع وإجازته.
وأمّا الجهة
الثانية : فلأنّ الحكم بأخذ الوليدة من جهة أنّ كونه عند المشتري قبل إجازة البيع
كان بغير حقّ بل كان قبضها وإمساكها والتصرّف فيها واستيلادها كلّها محرّمة فكان
من حقّ المالك أن يأخذها حتّى يتبيّن الحال فيما بعد من حصول الردّ أو لحوق
الإجازة ، ومن هنا يعلم الوجه في حكمه عليهالسلام بأخذ ابنها لقيام احتمال علم المشتري بكون البيع
فضوليّاً ، ومن ثمّ صار جميع تصرّفاته حتّى استيلاده محرّمة فكان الولد حاصلاً عن
زنا فكان رقّاً ، فأخذه مع الوليدة إنّما هو لكونه نماء ملكه فكان من حقّ المالك
أن يأخذه مع الوليدة حتّى يتبيّن حال البيع.
وأمّا الجهة
الثالثة : فلأنّ المشتري لمّا ناشده لأن يجعل له مخلصاً يتوصّل به إلى
__________________
إجازة سيّد الوليدة وابنه بيع ولده حتّى يرجع إليه الابن مع امّه ، وأمره عليهالسلام بأخذ ابن السيّد لأجل أنّه التزم للمشتري أن يأتي له
بإجازة أبيه ، وكان طريق التوصّل إلى ذلك الحقّ منحصراً فيه ، ويكفي في الحمل عليه
الاحتمال. فالرواية سليمة عن مخالفة القواعد ، ولذا يقال : إنّها تدلّ على صحّة
الفضولي بعد الإجازة مع كون الإجازة كاشفة.
ومنها : عدّة
أخبار مخصوصة واردة في موارد متفرّقة.
كخبر مسمع أبي
سيّار المرويّ في التهذيب والفقيه بسنديهما عن أبي عبد الله عليهالسلام «إنّي كنت استودعت رجلاً مالاً فجحدنيه وحلف لي عليه ، ثمّ إنّه جاءني بعد
ذلك بسنين بالمال الّذي كنت استودعته إيّاه فقال : هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف
درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك واجعلني في حلّ ، فأخذت المال منه وأبيت أن
آخذ الربح منه وأوقفت المال الّذي كنت استودعته وأتيت حتّى أستطلع رأيك فما ترى؟
قال : فقال : خذ نصف الربح وأعطه النصف وأحلّه ، إنّ هذا رجل تائب والله يحبّ
التوّابين» ودلالتها على صحّة المعاملة الفضوليّة بل مع كون الفضولي غاصباً وعدم
وقوعها فاسدة من أصلها واضحة ، وإن كانت ساكتة عن اعتبار لحوق الإجازة نفياً
وإثباتاً ، مع إمكان كون أخذ نصف الربح وإعطاء النصف الآخر له الّذي أمر به الإمام
عليهالسلام إجازة فعليّة.
وعن الفقه
الرضوي ما يوافقه أيضاً.
وموثّقة خبر جميل
الّذي ذكره المشايخ الثلاث وهو على ما في التهذيب محمّد بن الحسن الصفّار عن
معاوية بن حكيم عن محمّد بن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل دفع إلى رجل مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربة ، فذهب فاشترى
به غير الّذي أمره ، قال : هو ضامن والربح بينهما على ما شرط» .
وهذا أيضاً
كسابقه في وضوح الدلالة على صحّة الفضولي وعدم وقوعه من أصله فاسداً ، وهذا هو
المقصود بالاستدلال ، وسكوته عن الدلالة على اعتبار لحوق الإجازة غير قادح ، مع
احتمال كون جعله الربح بينهما تنبيهاً على الأمر بالإجازة ، غاية الأمر
__________________
كون أخذه الربح على ما شرط إجازة فعليّة ولعلّها كافية على ما سيأتي.
والأولى أن يقال : إنّ لحوق الرضا النفساني كافٍ في الإجازة ، وهو حاصل بشهادة
مجاري العادات بأنّ المالك إذا رأى ترتّب الربح على المعاملة الفضوليّة وهو
المقصود في باب المضاربة يرضى بها.
وما رواه في
الكافي في نوادر باب الزكاة عن عليّ بن محمّد عمّن حدّثه عن معلّى ابن عبيد عن
عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «سألته عن الزكاة تجب عليّ في موضع لا يمكنني أن
اؤدّيها؟ قال : اعزلها ، فإن اتّجرت بها فأنت ضامن لها ولها الربح ، وإن تَوِيَتْ
في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك ، وإن لم تعزلها واتّجرت
بها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح ولا وضيعة عليها» .
ودلالتها على
الصحّة مع السكوت عن اعتبار لحوق الإجازة كسابقيها. واحتمل الشيخ في شرح القواعد
على ما حكي أنّ مثل ذلك لا يحتاج إلى الإجازة ، لأنّ التصرّف إذا وقع على طبق
المصلحة الواقعيّة لا إجازة فيه فلا ينافي الصحّة عدم لحوق الإجازة من المالك ،
على أنّه لا مالك للزكاة قبل التأدية إلى المستحقّ. وردّ بأنّ الإجازة على تقدير
وقوع المصلحة حاصلة من الإمام ، لأنّه وليّ الأمر بل يجب عليه الإجازة حينئذٍ
لعموم ولايته على المستحقّين ، ومن مقتضى ولايته أن يراعي المصلحة ولا يهمل فيها.
ورواية ابن
أشيم في العبد المأذون الّذي دفع إليه مال ليشتري به نسمة ويعتقها ويحجّه عن أبيه
فاشترى أباه وأعتقه ثمّ تنازع مولى المأذون ومولى الأب وورثة الدافع وادّعى كلّ
منهم أنّه اشتراه بماله فقال أبو جعفر عليهالسلام : «يردّ المملوك رقّاً لمولاه وأيّ الفريقين أقاموا
البيّنة بعد ذلك على أنّه اشتراه بماله كان رقّاً له ...» الخبر. فإنّ
اشتراءه أباه وعتقه وقعا فضولاً لعدم كونهما المأمور به ، وقوله : «يردّ المملوك
رقّاً لمولاه» إبطال للعتق لبطلان الفضولي في الإيقاعات ، وقوله : «وأيّ الفريقين»
إلى قوله : «كان رقّاً» تصحيح للاشتراء لأنّه لو لا صحّته كان المملوك رقّاً
لمولاه الأوّل ، ولا يردّ هنا عدم
__________________
الدلالة على اعتبار الإجازة لأنّ مطالبة المبيع كما يكشف عنها التنازع
إجازة للبيع.
وصحيحة الحلبي «عن
الرجل يشتري ثوباً ولم يشترط على صاحبه شيئاً فكرهه ، ثمّ ردّه على صاحبه ، فأبى
أن يقبله إلّا بوضيعة ، قال : لا يصلح له أن يأخذ بوضيعة ، فإن جهل فأخذه فباعه
بأكثر من ثمنه ردّ على صاحبه الأوّل ما زاد» .
بناءً على أنّ
المراد من أخذه بوضيعة جهلاً بالمسألة أخذه على وجه الإقالة المشروط فيها الوضيعة
فإنّها لفساد الشرط تقع فاسدة ، ولزمه بقاء الثوب في ملك المشتري أو أخذه اقتراحاً
بوضيعة من دون رعاية إقالة مخرجة عن الملك ولا بيع أو صلح ناقل له ثانياً إلى ملك
صاحبه الأوّل ولزمه بقاؤه أيضاً في ملك المشتري ، وعلى أحد الوجهين ينزّل قوله عليهالسلام : «لا يصلح له أن يأخذ بوضيعة» الدالّ على الحرمة لا
على أخذه بيعاً أو صلحاً بوضيعة الملحق له ببيع المواضعة الّذي لا إشكال في جوازه
وصحّته نصّاً وإجماعاً ، فعلى أحد الوجهين المذكورين كان بيعه بعد الأخذ فضوليّاً
، والحكم بردّ ما زاد على ثمنه على صاحبه الأوّل أي المشتري مبنيّ على صحّة بيع
الفضولي.
والأخبار
الواردة في صحّة نكاح العبد بدون إذن مولاه إذا أجازه المعلّلة «بأنّه لم يعص الله
وإنّما عصى سيّده» بناءً على أنّ المراد بالتعليل بيان أنّ المانع من صحّة
النكاح ليس معصية الله لئلّا يرجى زواله ، لأنّ معصية الله إذا وقعت يستحيل
تعقّبها برضاه تعالى بما وقع إذ لا معصية لله تعالى ، بل المانع هو عصيان السيّد
وهو ممّا يرجى زواله بطروء الرضا بما وقع وتعقّبه بالإجازة ، فإنّ السيّد من صفته
أنّه لا يرضى بالنكاح حين وقوعه ثمّ يرضى به فيما بعد. ولكنّ الاستدلال بها على
حكم الفضولي لا يتمّ إلّا باندراج نكاح العبد في الفضولي ، ووجه اندراجه أنّ نكاح
العبد بدون إذن مولاه يتضمّن جهتين :
إحداهما : كونه
تصرّفاً من العبد في نفسه الّذي هو ملك السيّد ، وهو بهذا الاعتبار خارج عن عنوان
الفضولي ، كما نبّهنا عليه في مسألة تصرّفات المملوك وإن شاركه في اعتبار إجازة
السيّد في الصحّة.
__________________
واخراهما :
وقوعه على مال من السيّد مهراً وهو بهذا الاعتبار مندرج في الفضولي ، والأخبار
المشار إليها تدلّ على الصحّة من الجهتين فيندرج فيها المطلق.
والأخبار الواردة في
اتّجار غير الوليّ في مال اليتيم بدون إذن الوليّ المصرّحة بأنّ الربح لليتيم ،
بناءً على حملها على صورة إجازة الوليّ كما صنعه جماعة تبعاً للشهيد وإلّا فعلى
العمل بإطلاقها كما عليه جماعة أيضاً فهي خارجة عن معاملة الفضولي ، أو أنّها فضوليّة
غير محتاجة إلى الإجازة لوقوعها على طبق المصلحة الواقعيّة كما تقدّم عن الشيخ في
شرح القواعد ، وقد يحتمل كونها منها أيضاً من حيث أنّ الحكم بالمضيّ إجازة إلهيّة
لاحقة للمعاملة وهو الوليّ الحقيقي.
واحتجّ أهل
القول ببطلان الفضولي بعد الأصل المقرّر من وجوه ـ كأصالة عدم جعل الشارع هذا
العقد مؤثّراً ، وأصالة بقاء ما كان على ما كان من ملك الأعيان والمنافع ، وأصالة
عدم النقل والانتقال ، وأصالة عدم ترتّب سائر الأحكام ـ بالأدلّة الأربعة من
الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.
أمّا الكتاب : فقوله
تعالى : «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» فإنّ عقد
الفضولي ليس من التجارة عن تراضٍ لعدم مقارنته لرضا المالك فيكون التصرّف في المال
المأخوذ بسببه من أكل المال بالباطل فيحرم ، ولا ينافيه تفسير الباطل على ما ورد
في الروايات بـ «القمار والربى والبخس بالميزان والظلم» بناءً على ظهوره في المثال
لا الحصر. ولو جعل كناية عن الجهات الباطلة كما عن المفسّرين فلا إشكال أصلاً ،
إلّا أنّ الظاهر بناؤه على قراءة «تجارةً» بالنصب خبراً عن «تكون» كما عن أهل
الكوفة واسمها حينئذٍ الضمير العائد إمّا إلى التجارة ليكون التقدير «إلّا أن تكون
التجارة تجارة عن تراض» أو إلى الأموال ليكون التقدير «إلّا أن تكون
__________________
الأموال أموال تجارة عن تراضٍ» بحذف المضاف ـ كما احتملهما في المجمع ـ أو
إلى الباطل ، فلا بدّ من اعتبار تأنيث في معناه رعاية للمطابقة. وأمّا على قراءة
الرفع كما عن أكثر القرّاء فلا حاجة إلى هذا الاعتبار لكون «تكون» حينئذٍ من كان
التامّة بمعنى «تثبت» وتأنيثه باعتبار تأنيث فاعله ولا ضمير فيه حينئذٍ يعود إلى
الباطل ليبعث على اعتبار ضمير في معناه فلا يتمّ الحمل المذكور.
وكيف كان
فالجواب عن الاستدلال أنّ الآية باعتبار الاستثناء والمستثنى منه تدلّ على حكمين :
أحدهما : منع
أكل المال بالباطل وإن حمل على الجهات الباطلة ، والآخر : الترخيص في أكل المال
بالتجارة عن تراضٍ.
ودلالتها على
حرمة التصرّف في المال المأخوذ بسبب عقد الفضولي المستلزمة لبطلانه موقوف على
إثبات مقدّمتين ، إحداهما : خروجه عن المستثنى وهو التجارة عن تراضٍ ، واخراهما :
دخوله في المستثنى منه وهو الباطل ، وإن حمل على الجهات الباطلة.
ويتطرّق المنع
أوّلاً إلى المقدّمة الاولى ، فإنّ عقد الفضولي الملحوق به الإجازة المتأخّرة ممّا
يصدق عليه التجارة عن تراضٍ. ودعوى : ظهور «تجارة عن تراضٍ» باعتبار كلمة المجاوزة
في مقارنة الرضا ، يدفعها منع كون التراضي في الآية من الرضا النفساني ، لما حكاه
الطبرسي في المجمع «أنّ مذهب الإماميّة والشافعي وجمع من العامّة أنّ معنى التراضي
بالتجارة إمضاء البيع بالتفرّق أو التخاير بعد العقد» وهو إسقاط
الخيار من الطرفين ، وأيّاً ما كان فهو على هذا التفسير متأخّر عن العقد ويندرج
فيه إجازة المالك في الفضولي ، فالتفسير المذكور ممّا يصرف الكلمة المذكورة عن
ظهورها في اعتبار المقارنة. ولو سلّم الظهور بعدم ثبوت الحكاية فغاية ما تفيده
كلمة المجاوزة كون «التجارة عن تراضٍ» على معنى مقارنتها رضا المالك لا كون العقد
عن تراضٍ ، وليس يلزم في كلّ عقد أن يكون تجارة فإنّ التجارة هو اكتساب المال ولا
اكتساب في أكثر العقود ، وعقد الفضولي قبل لحوق إجازة المالك عقد لا أنّه تجارة ،
__________________
وإنّما يعتريه التجارة بمعنى الاكتساب على القول بالصحّة عند الإجازة ،
فالتجارة الطارئة له عند الإجازة اكتساب نشأ عن التراضي بمعنى الرضا النفساني ،
فهو حين الإجازة تجارة عن تراضٍ فيندرج بهذا الاعتبار في المستثنى. ولكن لا يذهب
عليك أنّ هذا الاعتبار لا يتمّ إلّا على القول بالنقل في الإجازة ، كما هو واضح.
وثانياً : على
تقدير تسليم المقدّمة الاولى مطلقاً أو على القول بالكشف في الإجازة يتطرّق المنع
إلى المقدّمة الثانية ، فإنّ الآية باعتبار المستثنى منه دلّت على حرمة أكل المال
في موضوع محرز من غير جهة الآية ، وهو كون المال مأخوذاً بسبب الباطل أو بالجهات
الباطلة ، فلا يندرج فيه المأخوذ بالعقد الفضولي إلّا بعد إثبات بطلان ذلك العقد
من أصله بدليل آخر خارج عن الآية ، والآية بنفسها لا تنهض دليلاً على البطلان ولا
على كونه من الباطل أو من الجهات الباطلة ، لأنّها مسوقة لإعطاء الحكم لا لإحراز
الموضوع ، فالآية لا تتناول المال المأخوذ بالعقد الفضولي لا بنفي ولا بإثبات ،
فيبقى الأدلّة المتقدّمة على الصحّة سليمة عن معارضة الآية.
لا يقال : إنّ
الآية تدلّ على حصر المبيح لأكل المال في التجارة عن تراضٍ ، فمفهوم الحصر تدلّ
على أنّ غير التجارة عن تراضٍ أو التجارة لا عن تراضٍ غير مبيح لآكل مال الغير وإن
لحقها الرضا ، ومن التجارة لا عن تراضٍ هو عقد الفضولي لأنّ المفروض عدم دخوله في
المستثنى.
لأنّا نقول :
إنّ دلالتها على الحصر ممنوعة لانقطاع الاستثناء كما هو ظاهر اللفظ والمحكيّ
صريحاً عن جماعة من المفسّرين ، ضرورة عدم كون التجارة عن تراضٍ فرداً
من الباطل خارجاً عن حكمه ، وإن جعل كناية عن الجهات الباطلة من غير فرق ظاهراً
بين القراءتين بالنصب وبالرفع في تجارة كما هو واضح.
وأمّا ما يقال
: لتصحيح اتّصال الاستثناء من أنّه متّصل مقصود به التنبيه على خروج التجارة عن
تراضٍ عن وصف البطلان بعد إخراجه ، فقضيّة الآية تنحلّ إلى كلامين استثناءين ،
فكأنّه قيل «لا تأكلوا أموالكم بشيء من الجهات إلّا أن تكون الجهة
__________________
تجارة عن تراضٍ» لأنّ كلّ جهة باطلة إلّا التجارة عن تراضٍ ، وإنّما اوتي
في الآية بتلك العبارة رعاية لكمال البلاغة مع أداء المقصود بإعطاء حكمي التكليفي
وهو حرمة الأكل والوضعي وهو بطلان ما عدا التجارة عن تراضٍ بأخصر عباراته ، فكان
كدعوى الشيء ببيّنة وبرهان. ونظير ذلك في كلام البلغاء كثير ، ومنه ما يقال في
العرف : «أهن الفسّاق أو لا تكرمهم إلّا عالم البلد» ويراد به التنبيه على خروج
عالم البلد عن وصف لئلّا يشمله الأمر بالإهانة أو النهي عن الإكرام ، فكأنّه قيل :
لا تكرم أحداً إلّا عالم البلد ، لأنّ كلّ أحد فاسق إلّا عالم البلد.
ففيه ـ مع أنّ
هذا الاعتبار لا يتمشّى على قراءة الرفع لعدم رابط في «تكون» يربطه إلى ما قبله ـ أنّه
تأويل مبنيّ على الاستخدام في ضمير الاسم على قراءة النصب بإرادة الجهة بعد
تعريتها عن وصف البطلان ، وهو مجاز لا داعي إليه في المقام ولا قرينة عليه في
الكلام.
فإن قلت : إنّ
القرينة عليه كون الوصف علّة للحكم فلا يكون جزءاً من موضوعه بل الموضوع حينئذٍ هو
الموصوف لا المجموع منه ومن الوصف ، ويلزم منه كون مرجع الضمير هو الجهة المعرّاة
عن الوصف.
قلت : دعوى
علّيّة الوصف ممّا لا شاهد عليه. وتوهّم : أنّها من مقتضى تعليق الحكم على
المشتقّ. يدفعه : أنّه على ما حقّق غير دالّ عليها ، بل غايته الإشعار وهو دون
الدلالة فلا يعبأ به ، فوجب الأخذ بما هو ظاهر الكلمة وهو موضوعيّة مجموع الذات
المتّصفة ووصفها.
فإن قلت : إنّ
هنا قرينة اخرى وهي نصب «تجارة» وهو يقتضي اسماً لـ «تكون» عائداً إلى الباطل
بمعنى الذات المتّصفة بالبطلان ، أو إلى الجهات الباطلة ، فإمّا أن يعود حينئذٍ
إلى الذات أو الجهات المتّصفة بالوصف ، أو إلى الذات أو الجهات المعرّاة عن الوصف
، الثاني باطل لضرورة انتفاء الوصف في التجارة عن تراضٍ ، فتعيّن الأوّل وهو
المطلوب.
قلت : نصب «تجارةً»
ليس بصريح ولا ظاهر في عود ضمير الاسم إلى الباطل ، لقيام احتمال عوده إلى التجارة
أو إلى الأموال ليكون التقدير «إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراضٍ ، أو إلّا أن
تكون الأموال أموال تجارة عن تراضٍ» فحذف المضاف
واقيم المضاف إليه مقامه ، بل القائلون بالنصب لم يحتملوا سوى هذين على ما
في المجمع ، مصرّحاً «بأنّ الاستثناء على هذا الوجه أيضاً منقطع» يعني على
تقدير النصب ، فلا حصر في الآية ، ولا مقتضي لدخول عقد الفضولي في المستثنى منه
فيكون مسكوتاً عنه.
ولو سلّم دخوله
فيه فيكفي في صدق أكل المال بالباطل على التصرّف في المال المأخوذ من جهته قبضه
والتصرّف فيه قبل لحوق الإجازة الّذي لا خلاف عند أهل القول بصحّة الفضولي في كونه
محرّماً ويشمله النهي المفيد للحرمة بهذا الاعتبار.
ولا ينافيه
ارتفاع الحرمة بلحوق الإجازة المبيحة للتصرّفات ، لأنّه إنّما يفيد حرمة أكل المال
بالباطل من حيث كونه أكلاً له بالباطل ، وهذا لا ينافيه ارتفاع الحرمة بلحوق الجهة
المبيحة كالتصرّف في المال المأخوذ بالقمار أو المعاملة الربويّة أو البخس
بالميزان أو الظلم قد يرتفع حرمته بلحوق الهبة أو إنشاء الإباحة الصريحة أو الإذن
الصريح في التصرّف أو نحو ذلك ، ومن هذا الباب إجازة المالك في الفضولي على ما قضت
به أدلّة الصحّة ، ففي الحقيقة لا تعارض بين الآية وأدلّة صحّة الفضولي بالإجازة ،
هكذا ينبغي أن يحقّق المقام.
وأمّا السنّة
فعدّة روايات عاميّة وخاصّيّة :
ومن الاولى
النبويّ المستفيض نقله وهو قوله لحكيم بن حزام : «لا تبع ما ليس عندك» وفي معناه ما
في حديث المناهي المذكور في الفقيه من قوله : «ونهى عن بيع ما ليس عندك» وعبّر عنه
جماعة بالنهي عن بيع ما ليس عنده.
ووجه الاستدلال
أنّ لفظة «عند» ترد لغةً ظرفاً للمكان تارةً ، والزمان اخرى ، وعلى التقديرين يراد
بها الحضور في المكان أو الزمان ، يقال زيد عندنا أي حاضر لدينا في المكان الّذي
نحن فيه فهو حقيقتها ، ولا ينافيه تفسيرها في كلمات العلماء في غير هذا المقام
بالمقارنة ، لأنّها هيئة منتزعة عن الشيئين باعتبار حضور أحدهما للآخر.
ولكن ليس
المراد بقوله : «ليس عندك» نفي الحضور المكاني ليكون مفاده اعتبار
__________________
حضور المبيع عند البائع ولو كان مالكاً في مجلس المبايعة في الصحّة ليترتّب
عليه بطلان بيع الغائب ، لعدم كون الحضور من شرائط الصحّة نصّاً وفتوى ، ولا خلاف
لأحد في صحّة بيع الغائب. بل هو كناية عن نفي السلطنة على إقباضه وتسليمه.
فالمراد ما لا
سلطنة لك على إقباضه وتسليمه ، لا لمانع عقلي كعدم القدرة على التسليم بل لمانع
شرعي من جهة انتفاء الملك والولاية على المالك والوكالة عنه ، فيكون مفاده راجعاً
إلى مفاد نبويّ آخر من قوله : «لا بيع فيما لا يملك» بعد قوله «لا طلاق فيما لا
يملك ولا عتق فيما لا يملك» وقد يروى ذلك بهذه العبارة «لا بيع إلّا فيما يملك»
بعد قوله : «لا طلاق إلّا فيما يملك ولا عتق إلّا فيما يملك» بناء على أنّ المراد
نفي الملكيّة الفعليّة لا نفي قابليّة الملك ليكون مورده بيع مثل الحرّ والخنزير
والخمر وما أشبه ذلك.
فينطبق الجميع
على بيع الفضولي الّذي يبيع عين ملك غيره ولا يتسلّط على التصرّف فيه ولا تسليمه
الغير بناءً على كون الموصول كناية عن العين الشخصيّة لا العين الكلّيّة للنصّ
والإجماع على صحّة بيع الكلّي المضمون في الذمّة ومنه السّلَم.
والنهي يقتضي
الفساد ، والنفي أيضاً إن كان لنفي الحقيقة كما هو الحقيقة فيثبت به المطلوب أيضاً
مع زيادة ، وإلّا لا بدّ من حمله على نفي الصحّة لأنّ نفيها أقرب إلى نفي الحقيقة
الّذي هو الحقيقة.
ومن الثانية :
ما في التهذيب في صحيح الصفّار «كتبت إلى أبي الحسن عليهالسلام ـ يعني العسكري ـ في رجل باع قرية ، وإنّما له فيها
قطاع أرضين ، فهل يصلح للمشتري ذلك وقد أقرّ له بكلّها؟ فوقّع عليهالسلام : لا يجوز بيع ما ليس بملك وقد وجب الشراء على ما يملك»
.
وصحيح محمّد بن
القسم بن فضيل «سألت أبا الحسن الأوّل عليهالسلام عن رجل اشترى من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم وكتب
عليها كتاباً بأنّها قد قبضت المال ولم تقبض أيعطيها أم يمنعها؟ قال : قل له
يمنعها أشدّ المنع ، فإنّها باعت ما لا تملكه» .
وصحيح ابن مسلم
عن أبي جعفر عليهالسلام «انّه سأله عن رجل من أهل النيل عن أرض
__________________
اشتراها بفم النيل ، وأهل الأرض يقولون هي أرضهم ، وأهل الاستان يقولون هي
من أرضنا ، قال : لا تشترها إلّا برضا أهلها» فم النيل صدره وساحله ، والنيل نهر كان في قديم الأيّام
في العراق نظير ما هو موجود الآن ، والاستان بضمّ الهمزة أربع كور ببغداد عالي
وأعلى وواسط وأسفل ، وفي نسخة أوسط وأسفل.
وتوقيع الحميري
المرويّ عن الاحتجاج في السؤال «عن ضيعة للسلطان فيها حصّة مغلوبة ، فهل يجوز
شراؤها من السلطان أم لا؟ فأجاب عليهالسلام : لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضا منه»
.
وخبر جرّاح
المدائني «لا يصلح شراء السرقة والخيانة إذا عرفت» .
وخبر قرب
الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام «سألته عن رجل سرق جارية ثمّ باعها يحلّ فرجها لمن اشتراها؟ فقال : لا يحلّ
إذا أنبأهم أنّها سرقة وإن لم يعلم به فلا بأس» .
والجواب عن
الطائفة الاولى : بأنّها تكون دلالتها بالعموم قابلة للتخصيص بأدلّة صحّة الفضولي
بالإجازة ، فتخصّص بما لم يلحقه إجازة المالك.
وقد يجاب بمنع
الدلالة فتارةً : بالحمل على أن يبيع غير المالك عيناً شخصيّة للغير عن نفسه ثمّ
يمضي ليشتريها ويسلّمها المشتري ، كما عن التذكرة قال : «لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ذكره جواباً لحكيم بن حزام ، حيث سأله عن أن يبيع الشيء
فيمضي ويشتريه ويسلّمه» فإنّ هذا البيع غير جائز ولا نعلم فيه خلافاً للنهي
المذكور وللغرر ، لأنّ صاحبها قد لا يبيعها.
واخرى : بحمل
النهي المقتضي للفساد على البطلان ، بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود ، فإنّ البائع
يبيعه عن نفسه ومعناه وقوع البيع له ، ومعنى بطلانه عدم وقوعه له ، وهذا لا ينافي
وقوعه للمالك إذا أجازه كما يستفاد من كلام بعض مشايخنا .
__________________
وثالثة :
بإبداء احتمال كون المراد من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا بيع فيما لا يملك» بيع ما لا يصحّ تملّكه كالحرّ
ونحوه لعدم جواز بيعه كما يأتي ، أو رجوع النفي إلى اللزوم فيكون المراد «لا بيع
لازم إلّا فيما يملك» ومن قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تبع ما ليس عندك» النهي عن بيع غير المقدور على
تسليمه كبيع الطير في الهواء ونحوه ، والمقام ليس منه لإمكان القدرة على تسليمه
بإجازة صاحبه» كما في الرياض.
وأجاب عنه
أيضاً : بمعارضته بكثير من النصوص المعتبرة المجوّزة لبيع ما ليس عنده المعربة عن
كون المنع منه مذهب العامّة ، ففي الصحيح «عمّن باع ما ليس عنده قال : «لا بأس ،
قلت : إنّ من عندنا يفسده ، قال : ولِمَ؟ قلت : باع ما ليس عنده ، قال : ما يقول
في السلف قد باع صاحبه ما ليس عنده ...» الخبر.
وهذا في غاية
الضعف لقضائه بخروج الخبر من جهة موافقته لمذهب العامّة مخرج التقيّة ، وهي من
النبيّ غير معقولة.
وعن الطائفة
الثانية : بقبول الجميع للتخصيص بأدلّة الصحّة على تقدير تسليم الدلالة ، وإلّا
فيتطرّق المنع إلى أصل دلالتها على ما ينافي القول بصحّة الفضولي بالإجازة :
أمّا في الخبر
الأوّل : فلظهور كون المراد بالجواز المنفيّ نفوذ البيع ولزومه في غير المملوك
للبائع ، بقرينة قوله عليهالسلام : «وقد وجب الشراء على ما يملك» بالنسبة [إلى] مملوكه
من الأرضين بناءً على أنّ الوجوب في البيع نفوذه ولزومه.
وأمّا في
الثاني : فلأنّ أقصى ما فيه المنع من دفع الثمن إلى البائع لملك الغير وهو ممّا
يسلّمه القائلون بصحّة الفضولي ، لأنّهم لا يجوّزون للمشتري تسليم الثمن إلى
البائع الفضولي.
وأمّا في
الثالث : فلظهوره في مسألة السائل المريد لاشتراء أرض في فم النيل عمّن يشتريها مع
وقوع التداعي فيها بين الداخل الّذي عبّر عنه بأهل الأرض والخارج الّذي عبّر عنه
بأهل الاستان ، فأجاب الإمام عليهالسلام بما وافق القاعدة من تقديم قول ذي
__________________
اليد حتّى يثبت الخارج حقّه بالبيّنة ، فقوله عليهالسلام : «لا تشترها إلّا برضا أهلها» كناية عن أنّ المناط
المجوّز للاشتراء هو رضا الداخل لا رضا الخارج لتقدّم قول ذي اليد.
وأمّا في
الرابع : فلأنّه على خلاف مطلب المستدلّ أدلّ ، من جهة أنّه عليهالسلام حصر من يجوز الابتياع منه في أنواع ثلاث : المالك ، ومن
يأمره المالك أي وكيله ومأذونه في البيع ، ومن رضي بفعله المالك ، وهو في مقابلة
الوكيل المأذون في البيع لا محمل له إلّا غير الوكيل الّذي لحق فعله رضا المالك ،
فتأمّل.
وأمّا في
الخامس والسادس : فلظهورهما في شراء السرقة على وجه ترتيب الآثار على نفس الشراء من
دون مراعاة إجازة المالك ، بل الثاني منهما ظاهر كالصريح في المنع عن ترتيب الآثار
على نفس الشراء ، حيث سأل الراوي عن حلّ وطء الجارية المسروقة ، ومنع منه المعصوم عليهالسلام من علم بإخبار البائع بكونها مسروقة ، والقائل بصحّة
الفضولي يسلّم هذا المنع قبل الإجازة.
وأمّا الإجماع فإجماعان
منقولان :
أحدهما : ما عن
الشيخ في الخلاف مع اعترافه بكون الصحّة مذهب قوم من أصحابنا .
والآخر : ما عن
ابن زهرة في الغنية ويعضدهما ما عن الحلّي في باب
المضاربة من ادّعاء عدم الخلاف في بطلان شراء الغاصب إذا اشترى بعين المغصوب.
والجواب : أنّ
الإجماع المنقول إنّما يعتبر عندنا حتّى أورث الظنّ الاطمئناني بالحكم الشرعي لا
تعبّداً ولا من حيث النبئيّة. وهو فيما نحن فيه لا يورث ظنّاً بادئاً فضلاً عن
كونه اطمئنانيّاً ، لصيرورته موهوناً من جهات عديدة :
منها : اعتراف
الشيخ بكون الصحّة مذهب قوم من أصحابنا.
ومنها : ما حكي
عنه في موضع آخر من الخلاف من تفصيله في الفضولي بين كون البائع فضوليّاً فصحّحه ،
وكون المشتري فضوليّاً فأبطله ، وهذا يوهن إطلاق نقله الإجماع.
ومنها : ذهابه
في النهاية الّذي قيل : إنّه آخر مصنّفاته إلى الصحّة ، وقيل : آخر
__________________
مصنّفاته الاستبصار ، وقد صار فيه أيضاً إلى الصحّة. وهذا عدول منه كاشف عن
عدم كون البطلان إجماعيّاً.
ومنها : ذهاب
معظم القدماء كالقديمين والمفيد والمرتضى وسلّار وابن برّاج وابن حمزة إلى الصحّة مع اتّباع المتأخّرين إلّا شذّ منهم
وندر.
وأمّا العقل : فقرّر
بأنّ العقل مستقلّ بقبح التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، والنقل مطابق له ، ومن
النقل ما في المرويّ عن احتجاج الطبرسي من التوقيع عن مولانا صاحب الأمر عجّل الله
فرجه من قوله عليهالسلام : «لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلّا بإذنه» وفي معناه
النبويّ المعروف المتلقّى بالقبول عند الفريقين «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب
نفسه» وعقد الفضولي في مال الغير تصرّف في ماله بدون إذنه فيكون قبيحاً عقلاً
محرّماً شرعاً ، والرضا اللاحق لا يرفع القبح السابق.
والجواب أوّلاً
: منع الصغرى فإنّ مجرّد إجراء العقد على مال الغير من دون ترتيب الآثار عليه ولا
قبضه وإقباضه ليس تصرّفاً في العرف ، فإنّه في متفاهم العرف عبارة عن استيلاء
الإنسان على المال بحيث يقلّبه كيف شاء وحيث أراد ، ومجرّد إجراء العقد ليس بتلك
المكانة. وهذا المنع نظير ما ذكره أهل القول بالإباحة في الأشياء النافعة الخالية
عن أمارة المضرّة قبل ورود الشرع ـ كالاستظلال بجدار الغير والاستضاءة بضوئه
والاستنارة بناره وما أشبه ذلك ـ في ردّ الحاظرين المتمسّكين على الحظر بكونه
تصرّفاً في مال الغير بدونه من منع صدق التصرّف على هذه الأشياء ، بل المنع فيما
نحن فيه أوضح منه في هذه الأشياء لتحقّق انتفاع واستيفاء منفعة فيها ، بخلاف ما
نحن فيه الّذي لا منفعة للعاقد الفضولي في إجرائه العقد أصلاً.
وثانياً : منع
كلّيّة الكبرى بعد تسليم الصغرى ، لعدم حكم العقل بقبح نحو هذا التصرّف الّذي لا
ينتفع به المتصرّف أصلاً ، ولا ينتقص بسببه المال أصلاً ، ولا يتضرّر به
__________________
المالك أصلاً ، خصوصاً مع مقارنته لتوقّع لحوق إجازة المالك ورضاه ، ولا
سيّما مع عدم القصد إلى ترتيب شيء من الآثار حتّى يلحقه الإجازة. وتناول النقل
لمثل هذه التصرّفات أيضاً غير واضح. ولو سلّم القبح العقلي والحرمة الشرعيّة فهو
لا ينافي تأهّل العقد لأن يترتّب عليه الآثار بعد الإجازة ولو على جهة الكشف ،
فإنّ الحرمة لم تتعلّق بالعقد من حيث إنّه هذه المعاملة الخاصّة ، بل باعتبار أمر
خارج عنه متّحد معه في الوجود ، فكونها مقتضية للفساد غير واضح بل واضح المنع كما
لا يخفى.
واستدلّ على
البطلان أيضاً بوجوه اخر من الاعتبارات والوجوه العقليّة وغيرها :
منها : ما عن
فخر المحقّقين
من أنّ جواز التصرّف
بالعقود تابع للملك ومعلول له ، فلو صحّحنا عقد الفضولي لزم تخلّف المتبوع عن
تابعه والعلّة عن معلولها ، واللازم باطل فكذا الملزوم.
وفيه من وضوح
الفساد ما لا يخفى ، إذ لو اريد من التصرّف بالعقود مجرّد إجراء العقد ومن الملك
ملك التصرّف في المال على معنى سلطنة العاقد على التصرّف فيه ، فدعوى توقّف جوازه
عليه أوّل المسألة ، فيكون الدليل مصادرة ، سواء كان المراد من الجواز هو الجواز
التكليفي وهو الإباحة أو الجواز الوضعي وهو النفوذ واللزوم.
ولو اريد
بالتصرّف بالعقود مجرّد إجراء العقد ومن الملك ملك المال عيناً أو منفعة ، فدعوى
توقّف جوازه عليه تكليفاً ووضعاً ـ مع أنّها مصادرة أيضاً ـ منقوضة بعقد الوليّ
والوكيل ، ومردودة بمنع توقّفه على الملك بل يتوقّف على الرضا ولو متأخّراً ، نعم
يعتبر في الرضا كونه من المالك فهو شرط للشرط كما نبّهنا عليه في مفتتح المسألة.
ولو اريد
بالتصرّف بالعقود التصرّف في المال بسبب العقد الواقع عليه ، فجوازه وإن كان
موقوفاً على ملك المال فدعوى الملازمة ممنوعة ، لأنّ النظر فيها إن كان إلى ما قبل
لحوق الإجازة فنحن لا نجوّز التصرّف حينئذٍ حتّى يلزم تخلّف المتبوع والعلّة ، وإن
كان إلى ما بعد الإجازة فالمتبوع والعلّة وهو الملك غير متخلّف عن التابع
والمعلول.
ومنها : أنّ
القدرة على التسليم شرط في صحّة البيع ولذا حكموا بفساد بيع العبد
__________________
الآبق ، والفضولي غير قادر عليه ، لمكان المنع الشرعي وهو كالمانع العقلي.
وفيه أوّلاً :
النقض ببيع الوكيل إذا كان وكيلاً في إجراء العقد فقط ، لا في تسليم المال.
وثانياً :
الحلّ بأنّ المعتبر في الصحّة هو قدرة المالك لا العاقد ، ولا ريب أنّ المالك
المجيز قادر على التسليم ، والمشتري أيضاً في العقد مع الإجازة قادر على التسلّم ،
وهو كما يأتي في محلّه كافٍ في الصحّة حتّى أنّ بيع العبد الآبق إذا قدر المشتري
على التسلّم صحيح.
ومنها : أنّ
بيع الفضولي موضع غرر لعدم الوثوق عند التعاقد بالتأثير وترتّب الأثر ، لأنّ لحوق
الإجازة مجهول الحصول ، فهو بيع في موضع الجهالة فيبطل.
وفيه أوّلاً :
النقض بما لو تعاقد المالكان مع الشكّ في الفساد للجهل بشرطيّة شيء في الصحّة
ورجعا إلى الحاكم المفتي وسألاه فحكم بالصحّة ، فالجهالة بالتأثير حين العقد غير
قادحة في الصحّة وليست من الغرر القادح فيها ، وكذلك معاملات الجاهل بشرائط العقد
وصحّته إذا طابقت الواقع.
وثانياً :
الحلّ بأنّ الغرر بمعنى الخطر وهو خوف النفس وعدم اطمئنانها بحصول المال على الوجه
المقصود الّذي يتفاوت باختلافه الماليّة والرغبة ، ولذا يعتبر كونه معلوماً بجميع
جهاته الّتي لها مدخليّة في الماليّة والرغبة من جنس ووصف ومقدار كيلاً أو وزناً
أو ذرعاً أو عدداً أو مساحة وغير ذلك ممّا لا يتسامح فيه عرفاً وفي مجاري العادات
، ولا ريب أنّ احتمال عدم ترتّب الأثر بل الشكّ فيه بل الظنّ بعدمه أيضاً لا يعدّ
غرراً وخطراً ، ولا ينافي الاطمئنان والوثوق بحصوله ولعلّه لكفاية كون المال
موجوداً في زمان العقد ممكناً حصوله في يد المشتري عادةً في رفع الخطر وعدم صدق
الغرر عرفاً ، ولا ريب أنّ الجهل بحصوله من جهة احتمال الفساد لا ينافي الاطمئنان
والوثوق بحصوله عادةً على الوجه المقصود على تقدير الصحّة ، وعلى هذا فلا غرر في
عقد الفضولي ولو كان غاصباً ونحوه عقد المكره سيّما مع توقّع لحوق الرضا وترقّب
إجازته. نعم لو كانا قاطعين بعدم إجازة المالك إيّاه فسد من حينه لكن لا من جهة
الفضوليّة بل من جهة سفهيّة المعاملة في نحو الصورة المفروضة ، مع أنّه قد يكون
المتعاقدان أو المشتري فقط قاطعاً بحصول الإجازة.
ومنها : أنّ
العقود تابعة للقصود ، ومن القصد المعتبر فيها قصد وقوع الأثر ، وهذا القصد إنّما
يتأتّى من المالك ويمتنع حصوله من الفضولي فعقده فاقد لهذا القصد فيكون باطلاً.
وفيه : منع
امتناع قصد وقوع الأثر من الفضولي إذا احتمل لحوق إجازة المالك ، ولو ظنّ لحوقها
فإمكان حصوله منه أظهر ، ولو قطع به كان أظهر من سابقه ، غاية ما هنالك أنّه لا
يؤثّر إلّا بعد لحوق الإجازة لأنّها تتضمّن إمضاء ذلك القصد فيؤثّر حينئذٍ. ولو
سلّم امتناعه منه فيكفي حصوله من المالك حين الإجازة الكاشفة عن الرضا النفساني
الّذي هو عبارة عن قصد وقوع الأثر ، غاية الأمر عدم مقارنته العقد ، ولا ضير فيه
بعد مساعدة الأدلّة على صحّة الفضولي الكاشفة عن أنّ المعتبر في الصحّة هو أصل
الرضا لا مقارنته.
المسألة
الثانية : أن يبيع للمالك مع سبق منعه وكراهته ، وقد عزي إلى المشهور صحّته أيضاً.
وقيل بالبطلان
هنا ، وعن فخر الدين «أنّه حكى عن بعض القائلين بصحّة الفضولي أنّه اعتبر فيها عدم
سبق نهي المالك» ومعناه البطلان مع سبقه.
ويلوح ذلك من
العلّامة في نكاح التذكرة حيث إنّه بعد ما ضعّف سند النبوي «أيّما عبد تزوّج بغير
إذن مولاه فهو عاهر» حمله على أنّه نكح بعد منع مولاه وكراهته فإنّه يقع
باطلاً ، بناءً على ما قيل من أنّ الظاهر أنّه لا يفرّق بين النكاح وغيره. ويظهر
أيضاً ممّن أفسد بيع الغاصب تعليلاً بوجود القرينة الدالّة على الكراهة وعدم الرضا
وهو الغصب.
ووجه البطلان
من أهل القول ببطلان الفضولي رأساً واضح ، فإنّ جميع الأدلّة المتقدّمة للقول
بالبطلان آتية هنا بل بطريق أولى ولا حاجة إلى الإعادة ، والجواب عنها هو الجواب
المتقدّم.
وأمّا من
القائل بصحّة الفضولي في المسألة الاولى فوجهه لا يخلو من أحد الأمرين : من دعوى
فقد المقتضي للصحّة بتخيّل كون أدلّة الصحّة مختصّة بغير هذه الصورة خصوصاً رواية
عروة البارقي ، أو دعوى وجود المانع بتخيّل أنّ المنع الموجود
__________________
بعد العقد ولو آناً ما كافٍ في الردّ فلا ينفع الإجازة اللاحقة بعده ،
بناءً على أنّه يكفي في الردّ مجرّد الكراهة وعدم الرضا الباطني الّذي كشف عنه
المنع كما التزمه بعضهم حيث حكم بأنّه إذا حلف الموكّل على نفي الإذن في اشتراء
الوكيل انفسخ العقد ، لأنّ الحلف عليه أمارة عدم الرضا.
وأيّاً ما كان
فهو واضح الدفع :
أمّا الأوّل :
فلمنع الاختصاص لعدم انحصار أدلّة الصحّة في رواية عروة ، والعمومات جارية في
الصورتين ، مع ترك الاستفصال المفيد للعموم في صحيحة محمّد ابن قيس في بيع الوليدة
، وفحوى أدلّة نكاح العبد بدون إذن سيّده الظاهرة في سبق منع السيّد ولو بشاهد
الحال فيما بين الموالي والعبيد ، بل هو صريح «وإنّما عصى سيّده» في بعضها ، مع
جريان الروايات الاخر في بيع مال اليتيم والمغصوب ومخالفة ربّ المال فيما اشترط
عليه الصريح في منعه عمّا عداه.
وأمّا الثاني :
فلأنّ المنع السابق الباقي بعد العقد الواقع ولو آناً ما ليس فسخاً لذلك العقد
الشخصي وردّاً له في عرف ولا شرع ، لعدم الدليل عليه حتّى لا يفيد الإجازة اللاحقة
بعده. وكون مجرّد الحلف على نفي الإذن في اشتراء الوكيل موجباً لانفساخ العقد من
دون حاجة إلى الفسخ بعد الحلف غير مسلّم ، ولو سلّم فالانفساخ ليس لمجرّد عدم
الرضا الّذي يكشف عنه الحلف ، بل الانفساخ على الحلف كاشف عن سبق الفسخ اللازم من
الخصومة والمؤاخذة السابقة على الحلف ، وينهض ما تقدّم من صحّة عقد المكره بعد
لحوق رضا المالك ينهض شاهداً بأنّ كراهة المالك حال العقد وبعد العقد لا يؤثّر في
فساد العقد. فالأقوى إذن هو القول المشهور.
المسألة
الثالثة : أن يبيع العاقد الفضولي مال الغير أو يشتري بمال الغير لنفسه ، على معنى
القصد إلى [أن] يقع الثمن في الأوّل والمثمن في الثاني ملكاً له ، إمّا لجهله
بالموضوع بتخيّل كون المال له فتبيّن خلافه ، أو مع علمه بالموضوع كما في الغاصب
بتخيّل الصحّة ، ولقد نسب إلى المشهور فيه القول بالصحّة أيضاً ، ومرجعه إلى عدم
__________________
الفرق في صحّة الفضولي بين ما لو باع أو اشترى للمالك وبينه لنفسه. وقيل
بالمنع ، ومرجعه إلى الفرق بين الصورتين بالصحّة في الاولى والبطلان في الثانية.
وقيل بالفرق بين صورتي علم المشتري وجهله ، فالصحّة في الثانية دون الاولى.
والأقوى هو
الصحّة وفاقاً للمشهور ، لعموم «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» وخصوص صحيحة
الحلبي ، وظهور صحيحة محمّد بن قيس المتقدّمتين ولو سلّم عدم
ظهور الثانية فيكفي ظهورها في العموم من جهة ترك الاستفصال ، وفحوى ما دلّ على
صحّة النكاح في الفضولي حتّى نكاح العبد بدون إذن مولاه.
وليس للقول
بالمنع إلّا وجوه ضعيفة :
منها :
النبويّان المتقدّمان ، في أحدهما «لا تبع ما ليس عندك» وفي الآخر «لا بيع إلّا
فيما يملك» والفضولي يبيع لنفسه ما لا يملكه فيبطل للنهي والنفي.
والجواب ما
تقدّم في المسألة الاولى من الظهور فيما لا يتعلّق به ملك المسلم كالخمر والمسلم
وما أشبه ذلك ، وقبول التخصيص بما إذا لم يلحقه إجازة المالك ، واحتمال البطلان
بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود للعاقد وهو وقوع البيع له ، فهو لا ينافي وقوعه
للمالك بعد الإجازة وإن لم يقصده العاقد.
ومنها :
الأخبار الناهية عن شراء السرقة والخيانة ، وقد تقدّم منها رواية
جرّاح المدائني وفيها «لا يصلح شراء السرقة والخيانة» والمرويّ عن قرب الإسناد في
السؤال عن حلّ فرج الجارية المسروقة المبتاعة.
والجواب ـ مع
عدم ظهور «لا يصلح» في التحريم ، وظهور خبر الجارية سؤالاً وجواباً في التصرّف قبل
لحوق إجازة المالك ، فالمنع عنه لا ينافي صحّة أصل العقد بعد لحوق الإجازة ـ بأنّها
قابلة للحمل على المنع من ترتيب الآثار الّتي منها جواز التصرّف على نفس الشراء من
دون مراعاة الإجازة ، بل هو على ما عرفت ظاهر المرويّ عن قرب الإسناد فلتحمل عليه
جمعاً.
ومنها : أنّ
عقد الفضولي يعتبر في صحّته عدم سبق منع المالك وكراهته وهو في بيع
__________________
الغاصب مفقود غالباً ، وقد سمعت عن المحقّق الثاني في «أنّ الغصب قرينة عدم
الرضا»
واجيب عنه
أوّلاً : أنّ الكلام في الأعمّ من بيع الغاصب.
وثانياً : أنّ
الغصب أمارة عدم الرضا بالبيع للغاصب ، وهو لا ينافي رضاه به على أن يقع له.
وثالثاً : قد
تقدّم في المسألة الثانية أنّ منع المالك غير مؤثّر ، ولا دليل على كونه ردّاً
لهذا العقد الشخصي.
ومنها : أنّ
العقود تابعة للقصود ، والمفروض أنّ العاقد الفضولي قصد البيع لنفسه ، فإذا أجازه
المالك ، فإمّا أن يجيزه على أن يقع له لم يصحّ ، لأنّ ما قصد لم يقع وما وقع لم
يقصد. وإن أجازه على أن يقع للعاقد حسبما قصده لم يصحّ ، لخروجه عن عقد المعاوضة ،
فإنّ البيع من عقود المعاوضة والأدلّة تصحّحه على هذا الوجه ، والمعاوضة بمفهومها
تقتضي وقوع كلّ من العوضين لمالك العوض الآخر وهو هاهنا على تقدير الصحّة يقع لغير
مالك العوض الآخر ، فلا يندرج البيع لأجله في أدلّة الصحّة.
وقد يقرّر بأنّ
المالك إمّا أن يجيز البيع على أن يكون العوض للعاقد على حسبما وقع عليه العقد ،
أو على أن يكون له على خلاف ما قصده العاقد ، ولا سبيل إلى شيء منهما ، أمّا
الأوّل فلخروج الفرض عن قانون المعاوضة المقتضية لانتقال ملك العوض إلى مالك
المعوّض ، وأمّا الثاني فلأنّ الإجازة إمضاء للعقد السابق فلا بدّ وأن يقع على طبق
ما وقع عليه العقد ، ومفروض المقام ليس كذلك. فما وقع غير مجاز ، والمجاز غير واقع
لعدم المطابقة.
وتوهّم : عدم
الخروج عن قانون المعاوضة بكون الإجازة هبة ضمنيّة إمّا للعين فينتقل بها إلى
العاقد آناً ما ثمّ تنتقل منه إلى المشتري لا من المالك ، أو للثمن على معنى
انتقاله آناً ما إلى المالك بالبيع المجاز ثمّ من المالك إلى العاقد بالهبة
الضمنيّة.
يزيّفه منع
تحقّق الهبة بالإجازة حيث لم يقصدها المالك بشيء من التقريرين ، مع عدم تحقّق
القبول من العاقد وهي من العقود فلا يعقل حصولها بدون القبول ، مع فوات شرط صحّته
وهو قبض العين الموهوبة في بعض الأحيان ، إذ لا يعتبر في عقد الفضولي
__________________
كون العين مقبوضة في يده حين العقد.
وعن الفاضل
القمّي في أجوبة مسائل شتاته تصحيح العقد بالإجازة على تقدير وقوعها على أن يكون
الثمن للمالك «بأنّ الإجازة مصحّحة لبيع لا بمعنى لحوق الإجازة لنفس العقد كما في
الفضولي المعهود ، بل بمعنى تبديل رضى الغاصب وبيعه لنفسه برضى المالك ووقوع البيع
عنه. وقال : نظير ذلك فيما لو باع شيئاً ثمّ ملكه» .
وعنه في موضع
آخر أنّه «صرّح بأنّ حاصل الإجازة يرجع إلى أنّ العقد الّذي قصد إلى كونه واقعاً
على المال المعيّن لنفس البائع الغاصب والمشتري العالم قد بدّلته على كونه على هذا
الملك بعينه لنفسي ، فيكون عقداً جديداً كما هو أحد الأقوال في المسألة» .
وفي كلّ من
التقريرين من التكلّف الّذي لا يرجع إلى محصّل ما لا يخفى :
أمّا التقرير
الأوّل : فلأنّ تبديل الرضى بالرضى إن اريد به التبديل الحقيقي ، فهو غير معقول.
وإن اريد به التبديل التنزيلي على معنى أنّ الشارع نزّل رضى البائع الغاصب منزلة
رضى المالك بإجازته ، فهو دعوى تحتاج إلى دليل ، وأيّ دليل عليها؟ وأمّا تنظيره
المقام بما ذكره من بيع شيء ثمّ ملكه فممّا لم نتحقّق معناه.
وأمّا التقرير
الثاني : فلأنّه إن اريد بكون الإجازة على الوجه المذكور عقداً جديداً أنّها
بانفرادها إيجاب للبيع من المالك وقبول من المشتري عن المالك ، فهو غير متصوّر
عقلاً وغير صحيح شرعاً ، للإجماع على انحصار كلّ من صيغتي الإيجاب والقبول في
ألفاظ مخصوصة ليس منها قول المالك «أجزت».
وإن اريد به
أنّها قائمة مقام الإيجاب وينضمّ إليها قبول المشتري المتقدّم فيصير المجموع عقداً
جديداً ولو لتجدّد أحد جزأيه كما يؤيّده قوله «كما هو أحد الأقوال في الإجازة»
فإنّ الظاهر أنّ مراده بذلك القول ما حكي عن كاشف الرموز أنّه نقله عن شيخه من «أنّ
الإجازة من مالك المبيع بيع مستقلّ فهو بيع بغير لفظ البيع قائم مقام إيجاب البائع
، وينضمّ إليه القبول المتقدّم من المشتري» ـ فهو غير صحيح ، أمّا أوّلاً :
__________________
فلعدم المطابقة بين الإيجاب والقبول لعدم موافقة القصدين بالنسبة إلى
الثمن.
وأمّا ثانياً :
فلعدم الاتّصال العرفي بينهما.
وأمّا ثالثاً :
فلعدم تقدّم الإيجاب على القبول.
وأمّا رابعاً :
فلعدم دلالة «أجزت» على إيجاب البيع بشيء من الدلالات ، مع مخالفته لإجماعهم على
حصر الإيجاب في ألفاظ مخصوصة ليس هذا منها. وما عدا الأوّل من هذه الوجوه يرد على
شيخ كاشف الرموز.
وقد يجاب بأنّ
قصد المعاوضة مبنيّ على جعل الغاصب نفسه مالكاً حقيقيّاً ، وإن كان هذا الجعل لا
حقيقة له لكنّ المعاوضة الحقيقيّة المبتنية على هذا الأمر الغير الحقيقي حقيقيّة
نظير المجاز الادّعائي في الاصول ، نعم لو باع لنفسه من دون بناء على ملكيّة
المثمن ولا اعتقاد له كانت المعاملة باطلة غير واقعة له ولا للمالك ، لعدم تحقّق
معنى المعاوضة. ولذا ذكروا أنّه لو اشترى بماله لغيره شيئاً بطل ولم يقع له ولا لغيره
، والمراد ما لو قصد تملّك الغير للمبيع بإزاء مال نفسه. وعن بعض المحقّقين «أنّ
البطلان هنا يستلزم البطلان في المقام ، وهو ما لو باع مال غيره لنفسه ، لأنّه
عكسه» . ويندفع بأنّ عكسه هو ما لو باع وقصد تملّك الثمن من دون بناء ولا اعتقاد
لتملّك المثمن ، وأمّا مع البناء المذكور فلا ، والحاصل أنّ البائع يملّك المثمن
بانياً على تملّكه وتسلّطه عليه عدواناً أو اعتقاداً لزم منه بناؤه على تملّك
المثمن والتسلّط عليه ، وهذا معنى قصد بيعه لنفسه ، وحيث إنّ المثمن ملك لمالكه
واقعاً فإذا أجاز المالك الواقعي المعاوضة انتقل عوضه إليه ، فالإجازة الحاصلة منه
متعلّقة بإنشاء الفضولي وهو التملّك المسند إلى مالك المثمن وهو حقيقة نفس المجيز
فيلزم من ذلك انتقال الثمن إليه.
وفيه ـ مع ما
فيه من التعسّف والتكلّف الواضح ـ منع الصغرى أوّلاً ، ومنع الكبرى ثانياً.
أمّا الأوّل :
فلأنّ البناء والجعل المذكور ممّا لا يكاد يتحقّق في بيع الغاصب ، ومجرّد الاعتقاد
في غير الغاصب لا يجعل المعاوضة [حقيقيّة] ، نظراً إلى أنّها مفاعلة بين ملكي
العوضين ، وملك العوض بحسب الواقع منتف عن البائع. وتنظيره بالمجاز الادّعائي في
__________________
الاصول باطل ، لأنّ عدم تحقّق ماهيّة المعنى الحقيقي في الفرد الادّعائي
حقيقة لا ينافي وقوع استعمال اللفظ في معناه الموضوع له فيكون الاستعمال حقيقة ،
ولا استعمال للفظ المعاوضة في المقام لئلّا ينافي حقيقيّته عدم تحقّق الملك للبائع
حقيقة ، وكون الجعل المفروض لا حقيقة له بل هي أمر لبّي ينوط تحقّقه بتحقّق ملكي
العوضين للبائع والمشتري ، والمفروض عدم تحقّقه للبائع في المثمن ، فالمعاملة غير
واقعة بين المالكين لتكون معاوضة.
وأمّا الثاني :
فلأنّ البائع ادّعى قيام صفة المالكيّة بنفسه ليدخل الثمن في ملكه باعتبار هذه
الصفة الّتي لا حقيقة له ، والمالك أجاز بيعه ليقع الثمن له لا لمن ادّعى صفة
المالكيّة لنفسه على خلاف الواقع فلم يطابق القصدان ، فالواقع غير مجاز والمجاز
غير واقع.
نعم لو قرّر
الاعتبار المذكور بأنّ البائع جعل نفسه نفس المالك ادّعاءً بأن ادّعى كونه زيداً
مثلاً لو كان المالك زيداً فباع المال عن نفسه بعنوان أنّه زيد ليقع الثمن له
بعنوان الزيديّة فأجازه المالك فقد أجاز بيع زيد عن نفسه لنفسه ، كان له وجه ،
لأنّه أجاز ما وقع. ولكن هذا الاعتبار غير واقع بل مبنيّ على مجرّد الفرض ، وفرض
الشيء لا تحقّق ذلك الشيء.
وقد يجاب أيضاً
: بأنّ إجازة عقد الفضولي موجبة لصيرورة العوض ملكاً للفضولي ، وبعبارة اخرى أنّ
العقد الملحوق به الإجازة يوجب صيرورة الثمن للفضولي. ونسب ذلك إلى الشيخ
النجفي في شرحه للقواعد وذكروا في توجيهه وجوهاً :
منها : أنّ
الإجازة هبة ضمنيّة تفيد دخول العين في ملك العاقد آناً ما ، فيقع البيع في ملكه
ويفيد انتقال الثمن إليه.
وفيه : منع
واضح تقدّم ذكره في أوائل المسألة ، لعدم القصد إلى الهبة من المجيز ، وعدم تحقّق
القبول من العاقد ، وعدم كون العين مقبوضة له حين استكمال عقد الهبة.
ومنها : أنّ
الإجازة تنحلّ إلى تمليك المال للفضولي وإمضاء تمليكه الغير ، فإنّ قول الفضولي «بعت»
ينحلّ إلى تملّك وتمليك ، فكأنّه قال : «تملّكت هذا عن فلان ثمّ ملّكته
__________________
لك بكذا» فيكون قول المالك «أجزت» إمضاءً لهذين الأمرين ، فكأنّه قال : «أجزت
تملّكك ثمّ تمليكك.
وفيه ـ مع أنّ
اعتبار إمضاء تمليك الفضولي مع إفادة لفظ «أجزت» تمليك المال له لغو ـ أنّ
الانحلال القهري غير معقول ، والانحلال القصدي غير حاصل لعدم حصول قصد التملّك في «بعت»
ولا قصد التمليك في «أجزت» مع عدم دلالة اللفظ على التملّك والتمليك الضمنيّين
عرفاً بشيء من الدلالات ، والصحّة بدون القصد والدلالة ولو اقتضاء غير معقولة.
ودعوى : أنّ العمومات شاملة للمفروض ، مدفوعة بأنّها إنّما تشمل الفضولي المعهود
المشتمل على قانون المعاوضة لا غير.
ومنها : أنّ
قضيّة بيع مال الغير عن نفسه أو الشراء بمال الغير لنفسه جعل ذلك المال له ضمناً
حتّى أنّه على فرض صحّة ذلك البيع أو الشراء تملّكه ، قبل آن انتقاله إلى غيره
ليكون انتقاله إليه عن ملكه ، نظير ما إذا قال : «اعتق عبدك عنّي» أو قال «بع مالي
عنك أو اشتر بمالي لك كذا» فهو تملّك ضمني حاصل ببيعه أو شرائه ، ونقول في المقام
أيضاً : إذا أجاز المالك صحّ البيع أو الشراء وصحّته يتضمّن انتقاله إليه حين
البيع أو الشراء ، فكما أنّ الإجازة المذكورة تصحّح البيع أو الشراء كذلك تقضي
بحصول الانتقال الّذي يتضمّنه البيع الصحيح ، فتلك الإجازة اللاحقة قائمة مقام
الإذن السابق قاضية بتمليكه المبيع ليقع البيع في ملكه ولا مانع منه.
وفيه : منع
الحكم في الأصل ـ وهو الإذن السابق ـ أوّلاً ، ثمّ في الفرع وهو الإجازة ثانياً.
أمّا الأوّل :
فلأنّ صحّة الإذن في بيع المال لنفسه أو الشراء به لنفسه ممنوعة ، لمنافاته مفهوم
المعاوضة والمبادلة.
وأمّا الثاني :
فلأنّ جعل الإجازة قائمة مقام الإذن السابق قياس مع الفارق ، فإنّ الإذن في البيع
يحتمل فيه أن يوجب من باب الاقتضاء دخول المال في ملكه ولو آناً ما ، بخلاف
الإجازة الغير الدالّة عليه ولو من باب الاقتضاء ، فإنّها تعلّقت بما وقع من
الفضولي ، والمفروض أنّه لم يقع إلّا مبادلة مال الغير بمال آخر أو مبادلة مال
بمال الغير.
ومنها : أنّه
لا دليل على اشتراط كون أحد العوضين ملكاً للعاقد في انتقال بدله إليه ، بل يكفي
أن يكون مأذوناً في بيعه لنفسه أو الشراء به ، فلو قال : «بع هذا لنفسك أو
اشتر لك بهذا» ملك الثمن في الصورة الاولى بانتقال المبيع عن مالكه إلى
المشتري وكذا ملك المثمن في الصورة الثانية ، ويتفرّع عليه أنّه لو اتّفق بعد ذلك
فسخ المعاملة رجع الملك إلى مالكه لا إلى العاقد.
وفيه : أنّ الدليل
على الاشتراط هو مفهوم المبادلة ومفهوم البيع الّذي هو «مبادلة مال بمال أو تمليك
عين على وجه التعويض» فإنّ معنى المبادلة جعل ملك أحد المالين بدلاً عن ملك المال
الآخر ، كما أنّ معنى المعاوضة هو جعل ملك أحد المالين عوضاً عن ملك المال الآخر ،
والمفروض أنّ ملك أحد المالين ليس للفضولي بل لمالكه فلا يتحقّق البدليّة ولا
التعويض للفضول ، بل لو تحقّق فإنّما يتحقّق للمالك ، ولذا صرّح العلّامة في غير
موضع على ما حكي «بأنّه لا يتصوّر» كما في موضع أو «لا يعقل» كما في موضع آخر «أن
يشتري الإنسان شيئاً لنفسه بمال الغير» بل عن بعضهم في مسألة قبض المبيع ادّعاء «عدم الخلاف في
بطلان قول مالك الثمن : اشتر لنفسك به طعاماً» قيل وقد صرّح به الشيخ والمحقّق وغيرهما أيضاً.
وتحقيق المقام
: كما بيّنّاه في باب عقد المكره أنّ قولهم «العقود تابعة للقصود» ليس على إطلاقه
، بل إنّما هو بالنسبة إلى أركان العقد اللفظي من التلفّظ والمعنى المادّي والمعنى
الإنشائي ووقوع الأثر في الخارج ، والعقد اللفظي من تعيين المبيع وتعيين الثمن
وتعيين الموجب وتعيين القابل ، وأمّا تعيين من ينتقل إليه المال فليس من أركانه.
فقصد انتقال الثمن إلى مالك المثمن أو انتقال المثمن إلى مالك الثمن ليس شرطاً ،
ولا قصد انتقال الثمن إلى غير مالك المثمن أو انتقال المثمن إلى مالك الثمن مانعاً
، بل المثمن ينتقل إلى مالك الثمن والثمن إلى مالك المثمن قصد أو لم يقصد ، قصد
خلافه أو لم يقصد.
والأصل في ذلك
أنّ الصيغة إيجاباً وقبولاً بظهورها النوعي وانفهامها العرفي تقتضي انتقال ملك كلّ
من العوضين إلى مالك العوض الآخر قصد أو لم يقصد قصد
__________________
خلافه أولا ، للسيرة المعلومة ، وإجماع الفرقة المحقّة. ولذلك ترى
المتعاملين أنّهم في العينين الشخصيّين لا يتعلّق غرضهم إلّا بإنشاء تمليك إحداهما
في عوض ملك الاخرى ، ولا يلاحظون كون طرفي العقد أصيلين أو وكيلين أو مختلفين ،
ولا يستفسرون عن أنّه هل عقد لنفسه أو لغيره بل مهما وجدوا العين شخصيّة يقصدون
العقد عليها من دون قصد إلى مالكها ولا إلى من ينتقل إليه ملك عوضها.
قيل : والسرّ
في ذلك أنّ العقد عبارة عن الربط بين المالين دون المالكين ، فإذا كان المالان
شخصيّين يحصل الربط بقصد إنشاء تمليك عين في مقابل عين آخر ، فيصير أحدهما معوّضاً
والآخر عوضاً ، ولا حاجة له بعد ذلك إلى تعيين المالك وقصده ، ولا إلى تعيين من
ينتقل إليه الملك وقصده.
نعم لو عقد على
عين شخصيّة في مقابلة كلّي في الذمّة فلا ينبغي التأمّل في كون تعيين من له الذمّة
ركناً وقصده شرطاً ، فلو باع بعشرة دراهم في الذمّة أو اشترى بعشرة دراهم كذلك من
غير قصد من له الذمّة لم ينعقد ، ولذلك ذكروا أنّ الوكيل لو اشترى شيئاً بما [في]
ذمّة الموكّل لا بدّ من أن يقصد ذلك بالخصوص ، وأنّ الوليّ لو اشتراه بما في ذمّة
المولّى عليه من غير قصد لذلك لم يؤثّر شيئاً في ذمّته.
وحجّة المفصّل أمران :
أحدهما : ما
نسب الإشارة إليه إلى العلّامة وولده فخر المحقّقين بالنسبة إلى
البطلان في صورة العلم ، من أنّهم أطبقوا في بيع الغاصب مع علم المشتري بالغصبيّة
على أنّه لو دفع الثمن إلى الغاصب وتلف في يده ورجع عليه المالك بأخذ عين ماله على
تقدير البقاء أو عوضه مثلاً أو قيمة على تقدير التلف ، لا يرجع على الغاصب بأخذ
ثمنه ولا هو مسلّط عليه ، وأطلقوا في هذا الحكم ، وهذا ينافي صحّة الفضولي لنفسه
مع علم المشتري بالحال.
وفيه : أنّهم
ذكروا ذلك في بيع الغاصب مع البناء على نفس العقد في التصرّف في المال من دون
بناءٍ على رجاء إجازة المالك ، وعلّلوه بعلّة غير جارية في الفضولي
__________________
المبنيّ فيه على لحوق إجازة المالك مع لحوقها أيضاً ، وهو أنّ المشتري أقدم
على إتلاف ماله حيث دفعه إلى الغاصب وسلّطه على إتلافه مجّاناً ، وهذا لا ينافي
الصحّة على تقدير إجازة المالك مع علمه بأنّ المالك إمّا يجيز أو لا يجيز فيرجع
على ماله عيناً أو عوضاً.
وثانيهما :
أنّه إذا قصد المتبايعان العقد لهما دون المالك مع العلم بالحال كان العقد لا عن
قصد إنشاء النقل والتمليك ، لأنّ قصد نقل ملك الغير مع العلم بكونه ملكاً للغير
لينتقل إليه العوض غير ممكن فيكون فاسداً ، لاشتراط الصحّة بقصد إنشاء النقل
والتمليك.
وفيه : منع عدم
إمكان القصد مع العلم بالموضوع إذا بنى على الجهل بمسألة المعاوضة من اقتضائها
بدخول كلّ عوض في ملك مالك العوض الآخر ، وقد يكون العالم بالمسألة أيضاً غافلاً
عنها حين العقد ، مع إمكان منع منافاة العلم لقصد إنشاء النقل كما يظهر بالتأمّل.
وقد يجاب :
بإمكان القصد مع البناء على التنزيل وجعل الفضولي نفسه مالكاً ادّعاءً ، وقد ظهر
ضعفه.
وينبغي ختم
الباب بذكر امور مهمّة :
الأمر الأوّل :
أنّ مال الغير المعقود عليه في الفضولي قد يكون عيناً في الخارج وقد يكون كلّيّاً
في الذمّة ، والظاهر على القول بصحّة بيع الفضولي عدم الفرق بينهما في الصحّة
مثمناً كان الكلّي أو ثمناً ، وتشخيص كونه كلّيّاً في الذمّة يتأتّى تارةً بإضافة
الذمّة إلى الغير ، بأن يقول «بعت كرّاً من طعام في ذمّة فلان بكذا» أو «بعت هذا
بعشرة دراهم في ذمّة فلان» ويقع العقد له فإن أجازه صحّ وإن ردّه بطل ، واخرى بقصد
الفضولي العقد له فكلّ من قصده الفضولي في العقد لينتقل الثمن أو المثمن إليه في
الكلّي تعيّن كونه صاحب الذمّة ، لضابطة استحالة دخول أحد العوضين في ملك غير من
خرج عنه العوض الآخر.
ومن فروع هذه
الضابطة : أنّ تعيين العوض في الخارج يغني عن قصد من وقع له العقد كما تقدّم.
ومنها : أنّ
قصد من وقع له العقد يغني عن تعيين صاحب الذمّة بإضافة الثمن الكلّي
إليه ، وحينئذٍ فإن أجاز العقد من قصد له وقع له وعليه ردّ ما في ذمّته إلى
مالك من خرج عنه العوض. فإن ردّه فهل بطل واقعاً أو وقع للعاقد الفضولي واقعاً؟
قولان :
اختار أوّلهما
شيخنا قدسسره قائلاً : «بأنّ مقتضى القاعدة بطلان العقد واقعاً ،
لأنّ مقتضى ردّ العقد بقاء كلّ عوض على ملك صاحبه ، إذ المال في باب الفضولي مردّد
بين مالكه الأصلي ومن وقع له العقد ، فلا معنى لخروجه عن ملك مالكه وتردّده بين
الفضولي ومن وقع له العقد ، ولو صحّ وقوعه للفضولي لم يحتج إلى إجازة ووقع له ،
إلّا أنّ الطرف الآخر لو لم يصدّقه على هذا العقد وحلف على نفي العلم حكم به على
الفضولي ، لوقوع العقد له ظاهراً ، كما عن المحقّق وفخر الإسلام والمحقّق
الكركي والسيوري والشهيد الثاني » انتهى .
ونسب ثانيهما
إلى ظاهر إطلاق بعض الكلمات كالقواعد والمبسوط وحكي نسبته أيضاً إلى جماعة في بعض فروع
المضاربة.
ولعلّ مبناه
على كون العقد عبارة عن الربط بين المالين لا المالكين ، فالبائع في صورة كلّيّة
المثمن بتمليكه الكلّي بإزاء الثمن الخارجي ليكون عوضاً عنه يربط بينهما قاصداً
البيع لزيد مثلاً ، وفي صورة كلّيّة الثمن بتمليكه العين الخارجي بإزاء الثمن
الكلّي يربط بينهما والمشتري يقبله قاصداً الشراء لزيد مثلاً ، وإذا لم يجزه زيد
انصرف الكلّي في الأوّل إلى ذمّة البائع وفي الثاني إلى ذمّة المشتري لعموم وجوب
الوفاء بالعقود.
وفيه : أنّ
تحقّق الربط بين المالين فرع على تحقّق الارتباط وهو في الفضولي المفروض مراعى
بإجازة من قصد له البيع أو الشراء ، فإذا ردّه ارتفع الارتباط المراعى فلم يتحقّق
الربط فلا يشمله العموم لانتفاء العقد.
ثمّ إنّ
العلّامة قال في التذكرة : «لو اشترى فضوليّاً فإن كان بعين مال الغير فالخلاف في
البطلان والوقف على الإجازة ، إلّا أنّ أبا حنيفة قال : للمشتري
لكلّ حال وإن كان
__________________
في الذمّة لغيره ، وأطلق اللفظ ، قال علماؤنا : يقف على الإجازة ، فإن أجاز
صحّ ولزمه أداء الثمن ، وإن ردّ نفذ عن المباشر ، وبه قال الشافعي في القديم وأحمد
وإنّما يصحّ الشراء لأنّه تصرّف في ذمّته لا في مال غيره ، وإنّما وقف على
الإجازة لأنّه عقد الشراء له ، فإن أجازه لزمه وإن ردّه لزم من اشتراه ، ولا فرق
بين أن ينقد من مال الغير أولا ، وقال أبو حنيفة : يقع عن المباشر» انتهى.
ووجّه الأصحاب
في تصحيح الشراء لمن قصد له على تقدير الإجازة ما قدّمناه من استحالة دخول أحد
العوضين في ملك غير من خرج عنه الآخر ، وذلك يوجب صرف الكلّي إلى الغير تبعاً
لوقوع الشراء له تبعاً لقصده له ، وهذا معنى ما يقال : من أنّ قصد البيع للغير أو
إضافته إليه في اللفظ يوجب صرف الكلّي إلى ذمّة ذلك الغير ، كما أنّ إضافة الكلّي
إليه يوجب صرف البيع أو الشراء إليه وإن لم يقصده أو لم يضفه إليه ، وعلى ذلك مبنى
القول بالتنافي بين إضافة البيع إلى غيره وإضافة الكلّي إلى نفسه أو قصده من غير
إضافة ، وكذا بين إضافة البيع إلى نفسه وإضافة الكلّي إلى غيره.
فلو جمع بين
المتنافيين بأن قال : «اشتريت هذا لفلان بدرهم في ذمّتي» أو «اشتريت هذا لنفسي
بدرهم في ذمّة فلان» ففي الأوّل يحتمل البطلان لأنّه في حكم شراء شيء للغير بعين
ماله ، ويحتمل إلغاء أحد القيدين وتصحيح المعاملة لنفسه أو للغير ، وفي الثاني
يحتمل كونه من قبيل شرائه لنفسه بعين مال الغير فيقع للغير بعد إجازته ، ومبناه
على إلغاء قيد إضافته إلى نفسه كما أنّ مبنى صحّته للمباشر على تقدير الردّ على
إلغاء قيد إضافة الكلّي إلى الغير ، ولعلّ وجهه عموم آية الوفاء بكلّ عقد ، وفي
صدق العقد مع الردّ نظر ، إلّا أن يكون إجماعاً كما هو ظاهر النسبة إلى علمائنا
على تقدير شمولها الحكمين ، والمسألة لا تخلو عن إشكال.
الأمر الثاني
: الظاهر بالنظر إلى
إطلاق كلماتهم عدم الفرق في صحّة الفضولي بين وقوعه بالصيغة أو بالمعاطاة وفاقاً
لشيخنا لعمومات الصحّة مثل «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وغيرهما
فإنّها كانت شاملة للمعاطاة كما تقدّم في بابها ، وللفضولي
__________________
أيضاً كما تقرّر في الباب ، ويلزم من ذلك شمولها لمعاطاة الفضولي أيضاً
بناءً على المختار من كونها بيعاً مفيداً للملك ، مضافاً إلى عموم رواية عروة
البارقي من جهة ترك الاستفصال ، بل قد يدّعي ظهورها في وقوع المعاملة بالمعاطاة ،
وكذلك ترك الاستفصال في صحيحة محمّد بن قيس في بيع الوليدة وسائر ما تقدّم.
لا يقال : إنّ
الإقباض الّذي يحصل به التمليك في المعاطاة محرّم لكونه تصرّفاً في مال الغير بدون
إذنه كما هو حكم الفضولي في التصرّف في المال قبل الإجازة فلا يترتّب عليه الأثر.
لأنّ المعاملة المعاطاتيّة قد لا تحتاج إلى إقباض المال كما لو باع الكلّي في الذمّة
أو اشترى شيئاً بما في الذمّة ، مضافاً إلى أنّها قد يقارنها العلم برضى المالك في
الإقباض بناءً على أنّها بمقارنة رضاه لا تخرج عن الفضوليّة ، وإلى منع اقتضاء
النهي للفساد لتعلّقه بأمر خارج وهو وصف كونه بلا إذن ، وبأنّ المقصود ترتّب الأثر
على الإقباض على أن يكون سبباً مستقلّاً وعدم ترتّب ذلك الأثر لا ينافي ترتّبه
عليه على أنّه جزء للسبب.
فإن قلت : إنّ
المعاطاة منوطة بالتراضي وقصد إنشاء التمليك ، وهما من وظائف المالك ولا يتصوّر
صدورهما من غيره ، ولذا ذكر الشهيد الثاني «أنّ المكره والفضولي قاصدان للّفظ دون
المدلول ، وأنّ قصد المدلول لا يتحقّق من غير المالك» .
قلت أوّلاً :
أنّه منقوض بالبيع بالصيغة ، فإنّ التراضي والقصد معتبران فيه أيضاً ، وهما من
وظائف المالك على ما ذكرت.
وثانياً : أنّ
القصد يتأتّى من غير المالك أيضاً بالضرورة ، وعليه مبنيّ صحّة الفضولي بعد
الإجازة فإنّها إمضاء له ، والمعاطاة عقد فعلي ، وكما أنّ البائع بالصيغة يقصد
بقوله إنشاء التمليك فكذلك في المعاطاة يقصد بفعله إنشاء
التمليك. وأمّا التراضي فالمفروض حصوله مقارناً من الأصيل ، وأمّا من طرف غيره ،
فإن اريد بكونه من وظائف المالك أنّ رضا الفضولي غير معتبر هنا بل المعتبر هو رضا
المالك ، فهو حقّ لا سترة عليه ، ولكن مبنى تصحيح المعاطاة الفضوليّة ليس على
الاكتفاء برضا الفضولي
__________________
بل على اعتبار رضا المالك لاحقاً بالمعاملة حين الإجازة الكاشفة عن الرضا.
وإن اريد به أنّ المعتبر مقارنة رضا المالك الّتي لا يتأتّى إلّا بمعاطاته ، ففيه
المنع كما عليه مبنيّ صحّة الفضولي. وبما ذكرناه اندفع ما نقل عن ثاني الشهيدين.
نعم لو قيل
بعدم الصحّة على القول بكونها إباحة لا بيعاً مفيداً للتمليك كان متّجهاً ، لأنّ
القاعدة في باب الفضولي حرمة التصرّف في المال قبل لحوق الإجازة وهي تنافي الإباحة
، والإجازة اللاحقة على تقدير تضمّنها الإباحة لا تجدي في صحّة المعاطاة من حيث
إفادتها الإباحة ، لأنّ الإباحة اللازمة من الإجازة إباحة جديدة. وبالجملة إباحة
التصرّفات في المال من وظائف المالك ، ولا تتأتّى إلّا بالإجازة ولا يعقل فيها
الفضوليّة.
الأمر الثالث :
الظاهر عدم اختصاص الفضولي بالبيع والنكاح كما هو المصرّح به في نكاح الروضة على ما حكي ،
وفي الجواهر تبعاً لشيخيه في شرح القواعد ومفتاح
الكرامة ، قال في الثاني : «واعلم أنّه يجري في سائر العقود لأنّه إذا ثبت في
النكاح والبيع ثبت في جميع العقود إذ لا قائل باختصاص الحكم بهما كما في الروضة
ذكر ذلك في كتاب النكاح» انتهى. بل يجري في سائر العقود اللازمة والجائزة حتّى
ما يعتبر في صحّته التقابض كالصرف أو الإقباض كالهبة ، ولا ينافيه كون إقباض المال
قبل لحوق الإجازة محرّماً لأنّه نهي عن الشرط وهو توصّلي فلا دلالة له على فساد
أصل المعاملة مع كونه في الشرط لوصف خارج.
نعم ينبغي
القطع بعدم جريانه فيما يتوقّف في صحّته النيّة وقصد القربة المتوقّفة على الأمر
كالوقف إذ لا أمر على الفضولي في وقف مال غيره ولو استحباباً ، وعن الشهيد في شرح
الإرشاد دعوى الإجماع على عدم صحّته فيه ، وربّما يعلّل المنع
بكونه من الإيقاعات المجمع على أن لا فضوليّة فيها. وبالجملة فهو إمّا عقد على
الأقوى أو إيقاع ، على التقديرين ثبت لها جهة عبادة لتوقّف صحّته على النيّة ، مع
اعتبار مباشرة المالك أو مقارنة رضاه لوقوعه في صحّته ثبت ذلك بالإجماع ونحوه.
ولا فيما ينافي
الفضوليّة من حرمة التصرّف قبل الإجازة لمقتضى العقد كالعارية
__________________
لمنافاة إباحة الانتفاع لحرمة التصرّف ، وكذلك الوكالة الّتي هي استنابة في
التصرّف الّتي تتضمّن الإذن فيه ، والإباحة والإذن اللازمتان من الإجازة إباحة
جديدة وإذن مستأنف.
وعن شرح
القواعد إجراؤه في غير العقود قائلاً : «وفي جري الفضولي فيما جرت فيه الوكالة من
العبادات ـ كالأخماس والزكوات وأداء النذور والصدقات ونحوها من مال من وجبت عليه
أو من ماله ـ وفيما قام من الأفعال مقام العقود ونحوه وكذا الإيقاعات ممّا لم يقم
الإجماع على المنع فيها وجهان ، أقواهما الجواز ، ويقوى جريانه في الإجازة ،
وإجازة الإجازة ، وهكذا ، ويتفرّع عليها أحكامه كما لا يخفى على ذوي الأفهام» انتهى.
وهو في غاية
الإشكال خصوصاً في العبادات ، لعدم الأمر في الفضولي الّذي عليها مبنى النيّة
الّتي هي من شروط صحّتها ، وقبولها النيابة من جهة الوكالة لا يستلزم قبولها
النيابة لا من جهة الوكالة ، وهو خلاف الأصل ولا دليل عليه هنا.
نعم ربّما ايّد
الجواز بالنصوص الواردة في باب الخمس المشتمل بعضها على تصرّف بعض مواليهم فيه من
غير إذنهم عليهمالسلام ثمّ طلب الإجازة منهم عليهمالسلام فأجازوه ، وبالروايات الواردة في باب اللقطة والمال
المجهول المالك الآمرة بأنّه يتصدّق عن المالك ، فإذا تعيّن وأجاز صحّت الصدقة له
، وإلّا وقعت للدافع وعليه ردّ العوض إلى المالك.
ويندفع الأوّل
: بأنّ النصوص المذكورة واردة في طلب الحلّ والإبراء ، لا في طلب الإجازة والإمضاء
لفعله في الدفع إلى المستحقّ فضولاً ، كما لا يخفى على المتتبّع.
والثاني :
بخروج مورد الروايات المشار إليها عن ضابطة الفضولي ، ولذا يجوز التصرّف للمتصدّق
عليه في المال بجميع أنواع التصرّفات حتّى الناقلة والمتلفة منها ، ولو أتلفه لا
رجوع للمالك عليه على تقدير عدم إجازته بل يرجع على الدافع ، بل الحقّ أنّ الدافع
ليس بفضولي في دفعه بل هو مأذون من المالك الحقيقي فيكون كالوكيل. وقد يجاب بأنّ
مضمون تلك الروايات إنّما هو من باب الحكم الشرعي في واقعة خاصّة مخالفة للقواعد
والاصول ولا دخل له في باب الفضولي حتّى يستدلّ به على صحّة
__________________
الفضولي في العبادات الماليّة أو ايّدت صحّته به ، فالحق أنّها لا تقع إلّا
من المالك أو وكيله فيعتبر في صحّتها المباشرة أو مقارنة الإذن.
وأمّا إجراء
الفضولي في الإيقاعات فهو أيضاً ممّا لا تعرف له وجهاً كيف؟ وقد قيل بأنّ الأصحاب
أجمعوا على عدم صحّته في شيء منها خصوصاً الطلاق الّذي ورد فيه «أنّ الطلاق بيد
من أخذ بالساق» فالوجه أنّ منها ما يعتبر فيها المباشرة كالنذر والعهد
واليمين ، ومنها ما يقبل النيابة من جهة الوكالة لا غير.
وأمّا الأفعال
القائمة مقام العقود فإن اريد بها تقابض المعاطاة فقد مرّ الكلام فيه ، وإن اريد
بها إشارة الأخرس فجريه فيها محلّ تأمّل للاسترابة في شمول أدلّته وعلى تقدير
الشمول فلا كلام ، وإن اريد بها غيرهما كقبض الدين وقبض الثمن وقبض الوقف وقبض
الهبة وما أشبه ذلك فضولاً فأمضاه من له ولاية القبض ، فالأمر فيه سهل.
الأمر الرابع :
في حكم الإجازة من حيث الكشف والنقل ، وشروطها ، وسائر ما يتعلّق لها ، ففيه مباحث
:
المبحث الأوّل
: في أنّ القائلين بصحّة الفضولي بعد اتّفاقهم على توقّف الصحّة على الإجازة
اختلفوا في كونها كاشفة عن الصحّة ، على معنى كشفها عن الانتقال وحصول الملك
وترتّب آثار الملكيّة من حين العقد بحيث كأنّها وقعت حال العقد مقارنة له ـ كما عن
ظاهر جماعة وصريح الشهيد في الدروس وحواشي
القواعد واللمعة والفاضل المقداد في التنقيح والكركي في
جامع المقاصد والشيخ إبراهيم القطيفي في إيضاح النافع والشيخ علي
الميسي في الحاشية الميسيّة والمسالك والروضة والرياض ناسباً له فيه إلى الأشهر ، وعن مجمع البرهان «إنّه
مذهب
__________________
الأكثر» ـ أو ناقلة على معنى كونها موجبة للنقل والانتقال وحصول
الملك وترتّب آثاره من حينها بحيث كان العقد وقع حالها مقارناً لها ، كما عن مجمع
البرهان ٢ وظاهر فخر الدين في الإيضاح ونسب الميل إليه إلى كاشف اللثام وقد ينسب إلى
الكفاية والمدارك في باب الزكاة.
ثمّ القائلون
بالكشف بين قائل بالكشف الحقيقي ومعناه ما سمعت وهو لأكثرهم ، والكشف الحكمي وهو
أن يكشف الإجازة عن ترتّب آثار الملك على العقد من حينه دون حصول نفس الملك بل هو
حاصل بالإجازة حينها ، وهذا نقل حقيقي في حكم الكشف ، ولذا يقال له : الكشف
الحكمي.
ومن مشايخنا من
جعل كاشفيّة الإجازة على وجوه ثلاث قائلاً : «بأنّه قال بكلّ منها قائل أحدها :
وهو المشهور الكشف الحقيقي مع الالتزام بكون الإجازة فيها شرطاً متأخّراً ، ولذا
اعترضهم جمال المحقّقين في حاشية الروضة بأنّ الشرط لا يتأخّر.
والثاني :
الكشف الحقيقي والتزام كون الشرط تعقّب الإجازة لا نفس الإجازة ، فراراً عن لزوم
تأخّر الشرط عن المشروط. والتزم بعضهم بجواز التصرّف قبل الإجازة لو علم تحقّقها فيما بعد.
الثالث : الكشف
الحكمي ، وهو إجراء أحكام الكشف بقدر الإمكان مع عدم تحقّق الملك في الواقع إلّا
بعد الإجازة» .
وقد يجعل
القائلون بالنقل أيضاً فريقين :
أحدهما : كون
الإجازة ناقلة على أنّها جزء للسبب. والآخر : كونها ناقلة على أنّها عقد مستقلّ.
ويظهر اختياره من
الآبي صاحب كشف الرموز . وقد وافق فيه شيخه المحقّق وعبارته على ما حكاه في
مفتاح الكرامة في أصل مسألة صحّة الفضولي وبطلانه هكذا
__________________
«البحث في المسألة يبتني على اقتضاء النهي الفساد وعدمه ، فمن قال بالأوّل
يلزمه القول بالبطلان إلّا أن يقول : إنّ عقد البيع لا يلزم فيه لفظ مخصوص بل كلّ
ما يدلّ على الانتقال ، فلو لم يلتزم هذا القول تكون الإجازة بمثابة عقد ثانٍ. ثمّ
نقل عن شيخه أنّ النهي في المعاملة لا يقتضي الفساد وأن ليس للبيع لفظ مخصوص وأنّ
الشيخين يخالفان في المسألتين ، وأنّه هو موافق لشيخه فيهما» انتهى.
وينبغي التعرّض
لبيان ثمرات الأقوال قبل الخوض في تحقيق المقام ، ويتمّ ذلك في طيّ مسائل :
المسألة الاولى
: في الثمرة على الكشف الحقيقي بين كون نفس الإجازة شرطاً وكون الشرط تعقّب العقد
بها ، فقد يقال : إنّه قد تظهر الثمرة في جواز تصرّف كلّ منهما فيما انتقل إليه
بإنشاء الفضولي إذا علم إجازة المالك فيما بعد ، والظاهر أنّ المراد به جواز
التصرّف على القول بشرطيّة التعقّب لأنّه يتصرّف في ملكه المعلوم حصوله بالعقد
المقرون بشرط تأثيره بخلافه على القول بشرطيّة نفس الإجازة.
ويشكل بأنّ
حصول الملك على القول بالكشف الحقيقي مع العلم بلحوق الإجازة فيما بعد مشترك
اللزوم ، لأنّ الكلام بعد تصحيح تأخّر الشرط في الوجود الخارجي عن المشروط ،
والإغماض عن استحالة تقدّم الموقوف على الموقوف عليه عقلاً.
ويمكن الذبّ
بالبناء على أحد امور :
الأوّل : أن
يقال : إنّ الشارع ينزّل الإجازة المتأخّرة في زمان حصولها منزلة الإجازة المقارنة
للعقد ، فما لم تكن حاصلة لم يكن التنزيل واقعاً فيحكم بعدم حصول الملك ظاهراً ،
وإن كان في الواقع حاصلاً.
الثاني : أن
يقال إنّه ينزّل زمان العقد المفروض انقضاؤه وانعدامه منزلة الموجود حال الإجازة.
ومرجعه إلى إعادة المعدوم تنزيلاً.
الثالث : أنّه
جعل عدم حصول الشرط في حكم عدم حصول المشروط.
الرابع : أنّ
من انتقل إليه المال قبل لحوق الإجازة محجور عليه من التصرّفات فيه
__________________
وإن كان مالكاً كحجر الراهن في العين المرهونة ، لبقاء حقّ وعلاقة فيه
للمالك الأصيل وإنّما ينقطع علاقته بالكلّيّة بإجازاته ، فهو ما دام باقياً مانع
من التصرّف كمنع حقّ المرتهن المتعلّق بالرهن. وفي الجميع ما لا يخفى وإن كان
أوجهها الأخير.
المسألة
الثانية : في الثمرة بين الكشف الحقيقي والكشف الحكمي ، فقيل : إنّه يظهر
الثمرة فيما لو باع مالك جارية جاريته من فضولي عن غيره ، فهو قبل حصول الإجازة
تصرّف فيها ووطئها واستولدها ، فلا إشكال في أنّ تصرّفه ووطأه كان حراماً في الظاهر
لأصالة عدم حصول الإجازة فيما بعد. وحينئذٍ فلو فرض أنّ الغير المشتري له الجارية
ردّ العقد فلا إشكال في انكشاف كون وطئه حلالاً في الواقع أيضاً لوقوعه في ملكه ،
وكون الجارية امّ ولد له لحدوث الولد في ملكه فليس له أن يبيعها ما دام الولد. وإن
أجازه فعلى القول بالكشف الحكمي فيها فكذلك أيضاً ، لحدوث الولد في ملكه كوقوع
الوطء في ملكه فليس له بيعها لو عاد إليه الملك بإرث ونحوه. ويحتمل المنع قضيّة
لجعل العقد ماضياً يترتّب عليه آثار الملك وإن لم يحصل الملك إلّا بعد الإجازة ،
ومن آثاره حرمة تصرّف غير المالك الحكمي وحرمة وطئه فلا تكون الجارية حينئذٍ امّ
ولد له ، فله أن يبيعها لو عاد إليه الملك كما أنّ للمجيز أن يبيعها لعدم كونه امّ
ولد له. وعلى القول بالكشف الحقيقي انكشف كون وطئه حراماً في الواقع لوقوعه في ملك
الغير ، وعليه عوض البضع من عشر القيمة على تقدير البكارة أو نصف عشر القيمة على
تقدير الثيبوبة ، والولد رقّ للمشتري إن كان وطؤه لا عن اشتباه وإلّا فعليه ، فله
فكّه على المشهور أو دفع قيمته على قول الشيخ وهي ليست بامّ ولد ، فله بيعها إن
عاد إليه الملك كما كان للمجيز بيعها.
وقد يعكس هذه
الثمرة بفرض الفضوليّة في جانب البائع فوطئ المشتري الجارية قبل إجازة مالكها
فأجاز ، فإنّ الوطء على الكشف الحقيقي حرام ظاهراً لأصالة عدم الإجازة ، حلال
واقعاً لكشف الإجازة عن وقوعه في ملكه ، ولو أولدها صارت امّ ولد على الكشف
الحقيقي والحكمي ، لأنّ مقتضى جعل العقد الواقع ماضياً ترتّب حكم
__________________
وقوع الوطء في الملك. ويحتمل عدم تحقّق الاستيلاد على الحكمي ، لعدم تحقّق
حدوث الولد في الملك وإن حكم بملكيّته للمشتري بعد ذلك.
ولو نقل المالك
امّ الولد عن ملكه قبل الإجازة فأجاز بطل النقل على الكشف الحقيقي لانكشاف وقوعه
في ملك الغير ، مع احتمال كون النقل بمنزلة الردّ وبقى صحيحاً على الكشف الحكمي ،
وعلى المجيز قيمته لأنّه مقتضى الجمع بين جعل العقد ماضياً من حين وقوعه ومقتضى
صحّة النقل الواقع قبل حكم الشارع بالجعل كما في الفسخ بالخيار مع انتقال متعلّقه
بنقل لازم.
المسألة
الثالثة : في الثمرة بين الكشف والنقل ، وقد ذكروا للثمرة بينهما اموراً :
منها : النماء
المتخلّل بين العقد والإجازة ، فإنّه على الكشف يقع للمنتقل إليه العين من غير فرق
فيه بين الكشف الحقيقي والكشف الحكمي ، وعلى النقل للمنتقل عنه.
ومنها : ما حكي
ذكره عن المحقّق الكركي في جامع المقاصد من ظهور الثمرة في فسخ الأصيل لو كان
العقد بينه وبين الفضولي ، ونحوه فسخ المجيز لو وقع بين الفضوليّين فأجاز أحدهما
قبل صاحبه فأراد الفسخ ، فعلى الكشف يقع باطلاً لأنّه صادف غير محلّه ، لأنّ من له
الإجازة إمّا أن يجيز بعد فسخه أو لا؟ فعلى الأوّل يكشف عن وقوعه بعد لزوم العقد ،
وعلى الثاني ينكشف وقوعه بعد فساد العقد ، وعلى التقديرين يقع بلا فائدة بخلافه
على القول بالنقل وحينئذٍ فلا يبعد القول بصحّته قياساً له على فسخ الموجب إيجابه
قبل لحوق القبول المجمع على قبوله الفسخ لجامع كون كلّ من القبول والإجازة جزءاً
للسبب ، فإنّ العقد في الفرع بمنزلة الإيجاب في الأصل.
واستشكله شيخنا
قدسسره بأنّه مع كونه قياساً مع الفارق فإنّ المانع من الفسخ
إنّما هو اللزوم وهو من مقتضى آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فمحلّه لا بدّ وأن يكون عقداً ، والإيجاب بانفراده ليس
عقداً فلا يتناوله الآية فلا لزوم له فلا مانع من قبوله الفسخ ، بخلاف ما نحن فيه
فإنّه عقد ولا مانع من كونه مشمولاً للآية فتأمّل ، فالوجه فيه باعتبار الاصول عدم
قبوله الفسخ لاستصحاب الحالة السابقة وهي الصحّة التهيّئيّة ولا يدري زوالها
بالفسخ الطارئ فهو من الشكّ في قدح العارض ، ويجري فيه الاستصحاب كعكسه.
ومنها : جواز
تصرّف الأصيل فيما انتقل عنه على القول بالنقل لعموم «الناس
مسلّطون على أموالهم» حتّى أنّه جاز له فعل ما ينافي مقتضى العقد بحيث أدّى
إلى انفساخه وإن قلنا بعدم قبوله الفسخ القولي ، فلو باع جارية من فضولي جاز له
وطؤها وإن استولده صارت امّ ولد له ، ولو زوّجت الحرّة نفسها من فضولي جاز لها
التزويج من الغير فلو حصلت الإجازة لم تؤثّر لبقائها بلا محلّ. وبالجملة فعله لما
ينافي انتقال المال عنه كما في المثالين يفوّت محلّ الإجازة فينفسخ العقد بنفسه
وإن قلنا بأنّ الفسخ القولي غير مؤثّر في الانفساخ. قال شيخنا : «عدم جواز التصرّف
على هذا القول أيضاً ولعلّه لجريان عموم وجوب الوفاء بالعقد في حقّ الأصيل وإن لم
يجب في الطرف الآخر ، وهو الّذي يظهر من المحقّق الثاني في مسألة شراء الغاصب بعين
المال المغصوب ، حيث قال : لا يجوز للبائع ولا الغاصب التصرّف في العين لإمكان الإجازة
سيّما على القول بالكشف انتهى. وفيه : أنّ الإجازة على القول بالنقل لها مدخل
في العقد شرطاً أو شطراً ، فما لم يتحقّق الشرط أو الجزء لم يجب الوفاء على أحد من
المتعاقدين ، لأنّ المأمور بالوفاء به هو العقد المقيّد الّذي لا يوجد إلّا بعد
قيده» انتهى.
وأمّا على
القول بالكشف فعن جماعة كالعلّامة والعميدي والمحقّق الثاني وظاهر غيرهم عدم جواز التصرّف له ، بل قيل : ظاهرهم
الإطباق عليه لأنّهم ذكروه كلمة واحدة بلا نقل خلاف فيه. وقد يعلّل بإمكان الإجازة
واحتمال خروجه عن الملك ودخوله في ملك الغير. واعترض عليه بأنّ مجرّد الاحتمال غير
قاطع للأصل واستصحاب السلطنة السابقة ، ويكفي من الأصل أصالة بقاء الجواز السابق ،
غاية ما هنالك أنّ هذا التصرّف الجائز ظاهراً بحكم الأصل لو كان منافياً لمقتضى
العقد بأن يكون إتلافاً فعليه على تقدير حصول الإجازة دفع العوض مثلاً أو قيمة ،
وعليه ردّ الاجرة لو كانت جارية واستخدمها ، ودفع عوض البضع لو وطئها بعشر القيمة
أو نصفه على تقدير البكارة أو الثيبوبة.
وعلّله شيخنا
بعموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإنّه تقتضي وجوب الوفاء بالعقد على الأصيل ولزومه من
طرفه وعدم كونه مراعى بإجازة الطرف الآخر ، بل مقتضاه وجوبه
__________________
عليه وإن علم عدم إجازة المالك.
وبه يندفع
الأصل المذكور ، لأنّ العموم دليل اجتهادي ، نعم لا لزوم له من الطرف الآخر حتّى
يجيز ، فإنّ ردّ كان فسخاً له وإن أجاز كان إمضاءً له. ولزوم العقد من أحد
الجانبين دون الجانب الآخر ليس بعزيز ، كما في موارد الخيار.
لكن هذا كلّه
على المشهور في معنى الكشف ، من كون نفس الإجازة المتأخّرة شرطاً لكون العقد
السابق حينئذٍ مؤثّراً تامّاً وهو الّذي يجب الوفاء به عليه بلا تقييد له بأمر غير
حاصل أو مشكوك حصوله قبل الإجازة ، كما هو الحال على القول بشرطيّة تعقّب العقد
للإجازة لمكان الشكّ في تحقّقه باعتبار الشكّ في حصول الإجازة ، فالاعتراض بالأصل
المتقدّم على هذا التقدير في محلّه.
والسرّ في
اللزوم من طرفه لأجل العموم أنّه التزم على نفسه مقتضى العقد من انتقال ملكه إلى
الغير بإخراجه عن نفسه وإدخاله في ملك الغير ، فيجب عليه القيام بما التزم على
نفسه لأجل العموم ، فلا يجوز له التصرّف فيما خرج عنه لحرمة التصرّف في ملك الغير
من غير إذنه.
لا يقال : صدق
العقد على إنشائه ممنوع لأنّه عبارة عن الربط المعنوي بين المالين ومناطه تحقّق
المبادلة والمعاوضة والمفروض خلافه ، لأنّا نقول : بتحقّق المبادلة والمعاوضة
بإنشائي الأصيل والفضولي ، فإنّ قضيّة كاشفيّة الإجازة حصول الصحّة بنفس العقد ولا
يعقل حصولها بدون الانتقال من الجانبين ، فكما أنّ مال الأصيل خرج عن ملكه ودخل في
ملك صاحبه فكذا مال صاحبه أيضاً ، وهذا هو معنى المبادلة والمعاوضة ، غاية الأمر
أنّه من جانب الأصيل مستقرّ ومن الطرف الآخر متزلزل.
فإن قلت : لو
صحّ ما ذكرت لجاز للأصيل التصرّف فيما انتقل إليه لفرض دخوله في ملكه بنفس العقد
وهو خلاف إجماعهم الظاهر على عدم جواز التصرّف في المال قبل إجازة مالكه.
قلت : لعلّ
المنع هنا تعبّدي ثبت على خلاف القواعد ، مع إمكان كون المانع بقاء حقّ للمالك في
المال نظير حقّ الرهانة ولا ينقطع ذلك الحقّ إلّا بإجازته.
وبعبارة اخرى
أنّ المال وإن خرج عن مالكه ودخل في ملك الغير إلّا أنّ علقته
بالمرّة غير منقطعة ، وهي الموجبة له الخيار بين الردّ والإمضاء فهي
المانعة من التصرّف إلى أن يحصل ما يسقطها وهو الإجازة.
وبذلك يندفع ما
قيل من أنّ القيام بمقتضى العقد كما يوجب حرمة تصرّف الأصيل فيما انتقل عنه كذلك
يوجب جواز تصرّفه فيما انتقل إليه لأنّه مقتضى مبادلة المالين فحرمة التصرّف في
المالين ينافي مقتضى العقد والمبادلة ، فإنّ ذلك لوجود المانع وهو ما ذكرناه لا
لفقد المقتضي.
وهذا في دفع
السؤال أولى وأسدّ ممّا قيل في دفعه من أنّ معنى وجوب الوفاء بالعقد على الأصيل هو
وجوب القيام بما التزمه على نفسه وهو خروج عينه عن ملكه وانتقاله إلى مالك البدل ،
وأمّا انتقال البدل إليه فهو ليس ممّا التزمه على نفسه بل هو ما جعله لنفسه ، فلا
مقتضي في وجوب الوفاء بالعقد لجواز التصرّف فيه ، بل يرجع فيه إلى الأصل وهو أصالة
عدم الانتقال فإنّ ذلك خلاف الفرض ووارد على خلاف التحقيق.
أمّا الأوّل :
فلأنّ الكلام على القول بكاشفيّة الإجازة ومقتضى الكاشفيّة على تقدير حصولها
انتقال المالين عن مالكه إلى صاحبه من حين العقد ، فنفي انتقال البدل إلى الأصيل بالأصل
خلاف فرض الكاشفيّة.
وأمّا الثاني :
فلأنّ ما انتقل إليه لو صلح لنفيه بالأصل لكان ما انتقل عنه أيضاً صالحاً لنفيه
بالأصل ، فنفي أحدهما بالأصل دون الآخر تحكّم.
لا يقال :
انتقال البدل إليه معلّق على تقدير لم يعلم تحقّقه وهو حصول الإجازة ، لأنّ هذه
الجهة مشتركة بين الانتقالين والشكّ في الانتقال لعدم العلم بحصول الإجازة متساوي
النسبة إلى المالين فإجراء الأصل في أحدهما معاً دون الآخر تحكّم. وإجرائه فيهما
معاً يقتضي جواز تصرّف الأصيل في ماله وحرمة التصرّف في بدله. ومع الغضّ عن ذلك
فنفي انتقال البدل بالأصل يوجب فوات مفهوم المبادلة ، وهو يوجب عدم صدق العقد
بمعنى الربط المعنوي بين المالين المنوط بتحقّق المبادلة ، ويلزم منه عدم شمول
عموم وجوب الوفاء بالعقد لما نحن فيه حتّى في حقّ الأصيل بالنسبة إلى ما التزمه
على نفسه.
وتوهّم : أنّ
المبادلة العرفيّة حاصلة وهي كافية في صدق العقد ، يدفعه كون الربط المعنوي
منوطاً بالمبادلة الشرعيّة الموقوفة بإدخال كلّ عوض في ملك مالك العوض
الآخر.
قال العلّامة
في نكاح القواعد : «ولو تولّى الفضولي أحد طرفي العقد ثبت في حقّ المباشر تحريم
المصاهرة ، فإن كان زوجاً حرمت عليه الخامسة والاخت والامّ والبنت إلّا إذا فسخت
على إشكال في الامّ ، وفي الطلاق نظر لترتّبه على عقد لازم فلا يبيح المصاهرة ،
وإن كانت زوجة لم يحلّ لها نكاح غيره إلّا إذا فسخ ، والطلاق هنا معتبر» .
أقول : لعلّ
الوجه في ثبوت تحريم المصاهرة في حقّ المباشر وهو الأصيل إذا كان هو الزوج أنّ
العقد وإن لم يعلم سببيّته وعدم سببيّته باعتبار دورانه بين تقديرين يكشف أحدهما
عن كونه سبباً من حين وقوعه وهو الإجازة على الكشف والآخر عن عدم كونه سبباً من
حينه وهو الفسخ ، إلّا أنّه نقل المصاهرة في الموارد الأربعة عن الحلّ والجواز
لتعلّق التحريم فيها بعنوان يكفي في تحقّقه كون العقد في عرضة الصحّة وهو الجمع
بين نكاح الأربع لو كان المعقود عليها فضولاً رابعة الأربع ونكاح الخامسة ، والجمع
بين الاختين في النكاح ، والجمع بين العقد على البنت والعقد على الامّ ، والجمع
بين العقد على الامّ والعقد على البنت.
ووجه الحلّ على
تقدير فسخها أنّه يكشف عن عدم وقوعه مؤثّراً ، ومعناه انكشاف بطلانه من حينه فصارت
المعقود عليها كمن لم يعقد عليها ، وارتفع به عنوان الجمع بالنسبة إلى العقد على
امرأة اخرى لعدم كونها خامسة حينئذٍ حتّى لو كانت اختاً للُاولى أو امّاً لها أو
بنتاً لها. ووجه الإشكال في تأثير الفسخ بالنسبة إلى الامّ إذا كانت المعقود عليها
هي البنت ، لأنّ الامّ بعد العقد على البنت يضاف إليها مع حرمة الجمع حرمة العين
والفسخ إنّما يوجب زوال حرمة الجمع لارتفاع الموضوع ورفعه حرمة العين أيضاً محلّ
إشكال ، أو أنّ ثبوت هذه الحرمة أيضاً قبل الفسخ موقوف على صدق امّهات النساء على
امّ المعقود عليها فضولاً ، وهو محلّ شبهة ، فإن كانت حرمة العين حاصلة باعتبار
صدق امّهات النساء فالفسخ لا يرفعها ، وإلّا كشف عن عدم حصولها رأساً.
وأمّا وجه
النظر في الطلاق فمن أنّه واضح مترتّب على عقد لازم وهذا ما لم يلحق
__________________
الإجازة غير لازم من طرف المعقود عليها فلا يوجب إباحة المصاهرة ، ومن أنّه
طلاق صدر من أهله في محلّه ، لكون موقعه كاملاً والعقد من طرفه لازماً ، فوجب أن
يترتّب عليه مقتضاه ، وهو إباحة نكاح الاخت والبنت.
وناقش فيه
الكركي في جامعه «بأنّه لا نكاح من طرفه فكيف يقع الطلاق منه ، ولأنّ الحال لا
يخلو من أن تجيز المرأة أو تفسخ ، فإن فسخت تبيّن بطلان النكاح وعدم تحريم الاخت
والبنت ، وإن أجازت تبيّن صحّة النكاح ولزومه ، فيكون الطلاق الواقع صحيحاً فيبيح
نكاح البنت والاخت ، فعلى كلّ من التقديرين يحلّان. ثمّ تنظّر فيه بأنّ الطلاق مع
عدم الجزم بالزوجيّة غير مؤثّر ، فالحقّ حلّ الجميع بفسخها لا بالطلاق» .
قال بعض
مشايخنا : «وأمّا مثل النظر إلى المزوّجة فضولاً وإلى امّها مثلاً فهو باقٍ تحت
الاصول ، لأنّ ذلك من لوازم علاقة الزوجيّة الغير الثابتة بل المنفيّة بالأصل» .
ويشكل بأنّ
نفيه زوجيّته بالأصل أيضاً ممكن وإجراءه في طرفها دونه تحكّم ، فينبغي أن يحلّ
المصاهرة بلا حاجة إلى فسخها إلّا أن يذبّ بما نبّهنا عليه من نقل العقد عن الحلّ.
ومنها : اشتراط
بقاء قابليّة الملك في كلّ من المتبايعين من حين العقد إلى حصول الإجازة وعدمه على
القولين ، فلو باع عينه من فضولي ثمّ مات فيما بينه وبين الإجازة فعلى الكشف صحّت
الإجازة وكشفت عن صحّة العقد وبالموت ينتقل الثمن إلى الوارث لحصول الملك حال حصول
الشرط وهو الحياة ، وعلى النقل بطلت لأنّ الميّت لا يملك ولزمه بطلان العقد من
رأسه. ولو باع عبده المسلم أو المصحف من فضولي حال إسلام من له الإجازة فارتدّ قبل
الإجازة ثمّ أجاز فعلى الكشف لا يقدح ارتداده في صحّة العقد غاية الأمر أنّه يجيز
على بيعهما ، وعلى النقل يبطل لعدم جواز نقل المسلم والمصحف إلى الكافر.
واعترض عليه بعدم
الفرق في عدم الصحّة بين القولين لظهور الأدلّة في اعتبار
__________________
استمرار القابليّة إلى حين الإجازة على القول بالكشف ليكشف الإجازة عن حدوث
الملك من حين العقد مستمرّاً إلى حين الإجازة.
وردّ بأن لا
وجه لاعتبار استمرار القابليّة ولا استمرار التملّك المكشوف عنه بالإجازة إلى
حينها ، كما لو وقعت بيوع متعدّدة على ماله فإنّهم صرّحوا بأنّ
إجازة الأوّل توجب صحّة الجميع مع عدم بقاء مالكيّة الأوّل مستمرّاً كما يشعر بعض
أخبار المسألة المتقدّمة ، حيث إنّ ظاهر بعضها وصريح الآخر عدم اعتبار حياة
المتعاقدين حال الإجازة ، مضافاً إلى فحوى خبر تزويج الصغيرين كما في صحيح الحذّاء قال :
«سألت أبا جعفر عليهالسلام عن غلام وجارية زوّجهما وليّان لهما ، وهما غير مدركين؟
فقال : النكاح جائز ، وأيّهما أدرك كان له الخيار ، وإن ماتا قبل أن يدركا فلا
ميراث بينهما ولا مهر إلّا أن يكون قد أدركا ورضيا ، قلت : فإن أدرك أحدهما قبل
الآخر ، قال : يجوز ذلك عليه إن هو رضي ، قلت : وإن كان الرجل الّذي أدرك قبل الجارية
ورضي بالنكاح ثمّ مات قبل أن تدرك الجارية أترثه؟ قال : نعم يعزل ميراثها منه حتّى
تدرك فتحلف بالله ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج ثمّ يدفع إليها
الميراث ونصف المهر.قلت : فإن ماتت الجارية ولم تكن أدركت أيرثها الزوج المدرك؟
قال : لأنّ لها الخيار إذا أدركت ، قلت : فإن كان أبوها هو الّذي زوّجها قبل أن
تدرك قال : يجوز عليها تزويج الأب ويجوز على الغلام ، والمهر على الأب للجارية ...»
الخ.
والمراد
بالوليّين في صدره بقرينة ما في ذيله من له الولاية عرفاً كالعمّ والأخ ، أو في
المال خاصّة كالحاكم والقيّم والوصيّ ونحوه.
ومنها : ما لو
زالت قابليّة الملك والتملّك عن محلّ العقد كما لو كان عبداً فمات أو خلاًّ فانقلب
خمراً قبل الإجازة ثمّ أجاز ، فعلى الكشف لا يقدح في الصحّة لحصول
__________________
الملك حال وجوده ، وعلى النقل لغت الإجازة وبطل العقد ، لأنّ الميّت لا
يملك ، والخمر لا يتملّك ولا ينقل.
ومنها : ما
حصلت القابليّة للمحلّ قبل الإجازة بعد ما كان غير قابل حال العقد فأجاز ـ كما لو
كان خمراً فانقلب خلاًّ ، أو كان كلب هراش فصار كلب صيد ، أو كان امّ ولد فمات
ولدها ـ فعلى الكشف كان العقد فاسداً ولم يصحّحه الإجازة ، وعلى النقل صحّ
بالإجازة لحصول الملك والنقل والانتقال حال وجود الشرط.
وفيه : أنّ
ظاهر أدلّة الشروط اعتبار حصولها حال العقد ، مع أنّ ظاهرهم في باب الفضولي
إطباقهم على وجود جميع شرائط الصحّة حال العقد مقارناً له عدا رضا المالك المختلف
في اعتبار المقارنة فيه أيضاً وعدمه ، فتجدّد القابليّة بعد العقد حال الإجازة لا
يصلح ثمرة لبطلان العقد على القولين ، وكذا سائر الشروط لو قارن العقد فقدها فتجدّد
حصولها عند الإجازة.
وقيل قد يظهر
الثمرة في تعلّق الخيارات وحقّ الشفعة واحتساب مبدأ الخيارات ، ومعرفة مجلس الصرف
والسلم والايمان والنذور المتعلّقة بمال البائع أو المشتري. وتظهر الثمرة أيضاً في
العقود المترتّبة على الثمن أو المثمن وسيأتي بيانه إن شاء الله.
وإذا عرفت جميع
ما ذكر فينبغي التعرّض لذكر أدلّة القولين ، فنقول : استدلّ الأكثر على كاشفيّة
الإجازة بوجوه :
الأوّل : ما عن
الفخر من «أنّه لو لم تكن الإجازة كاشفة لزم تأثير المعدوم في الموجود لأنّ العقد
حالها عدم» وتوضيحه : أنّ الملكيّة الّتي تحصل عند الإجازة أمر
وجودي أثّر فيه العقد الّذي صار حال الإجازة معدوماً لأنّه على النقل جزء للسبب ،
والتالي باطل لامتناع تأثير المعدوم في الموجود ، كما حقّق في الكلام ، وعليه أكثر
المتكلّمين ، وبنوا عليه إثبات الصانع فقالوا : لو جاز تأثير المعدوم في الموجود لزم
انسداد باب إثبات الصانع ، إذ كلّما أردنا إثبات كونه من الامور الوجوديّة صانعاً
كان للخصم المنكر لوجوده منع ذلك ، استناداً إلى جواز تأثير المعدوم في الموجود ،
ولعلّ
__________________
هنا أمراً عدميّاً هو المؤثّر في الوجود ، واحتياج الممكن إلى المؤثّر لا
يلازم كون المؤثّر أمراً وجوديّاً حتّى يلزم وجود الصانع الواجب وجوده عندكم.
والجواب عنه
تارةً : بالنقض بالقبول الّذي هو أيضاً جزء للسبب ، وجزؤه الآخر الإيجاب الّذي هو
حال القبول معدوم ، بل بالجزء الآخر من القبول الّذي عنده يحصل الملكيّة وقد انعدم
سائر أجزائه مع الإيجاب ، لكون التلفّظ بالصيغة من الامور السيّالة فيوجد حرفاً
فحرفاً.
واخرى : بالحلّ
فإنّ معنى امتناع تأثير المعدوم في الموجود امتناع كون المعدوم علّة تامّة للوجود
، وعليه مبنى إثبات الصانع لا امتناع كونه جزء من العلّة كيف وقد أطبق المحقّقون
من الفقهاء والاصوليّين على كون عدم المانع كالشرط جزء من العلّة ، ومعنى جزئيّته
أنّ له مدخليّة في وجود المعلول كالشرط ولا امتناع فيه ، والعقد على النقل جزء
للسب لا أنّه علّة تامّة. وقد يقال أيضاً بناءً على عدم كون العلل الشرعيّة كالعلل
العقليّة بل هي معرّفات بجواز أن يجعل الشارع الأمر العدمي مناطاً للتأثير في
الوجود ، فتأمّل.
الثاني : ما
عنه أيضاً من أنّه لو كانت الإجازة ناقلة لزم وقوع القبول بأيّ لفظ يكون ، واللازم
باطل لأنّه لا يقع إلّا بألفاظ مخصوصة فكذا الملزوم. وكأنّه ذكره قبالاً لمن يظهر
منه جعل الإجازة بمنزلة القبول ، فجوابه حينئذٍ أنّ هذا القول فاسد في نفسه ،
والدليل لا يرد على من يجعلها شرطاً.
الثالث : ما عن
جامع المقاصد والروضة
من «أنّ العقد سبب
تامّ في الملك ، لعموم قوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وتمامه في
الفضولي إنّما يعلم بالإجازة ، فإذا أجاز تبيّن كونه تامّاً يوجب ترتّب الملك عليه
، وإلّا لزم أن لا يكون الوفاء بالعقد خاصّة بل به مع شيء آخر» .
وفيه : أنّه إن
اريد من العقد مجموع الإيجاب والقبول ومن كونه سبباً تامّاً كونه علّة تامّة للملك
على ما هو المعنى المصطلح عليه عند أهل المعقول ، فانّما يسلّم كونه كذلك
__________________
إذا اجتمع شروط التأثير وفقد موانعه ، وبدون أحدهما كان سبباً تامّاً وهو
المقتضي القابل لمقارنة فقد بعض شروط التأثير أو فقد بعض موانعه كما هو المعنى
المصطلح عليه الاصولي. وأمّا تبيّن كونه تامّاً بالإجازة فهو أوّل المسألة ، لأنّ
الإجازة تكشف عن لحوق الرضا الّذي هو من الشروط لا عن مقارنة الرضا فيصير تامّاً
عند الإجازة لتأخّر شرط تأثيره ، ومعه كيف يعقل حصول الأثر قبله ، فلا يلزم منه
كون ما يجب الوفاء به هو العقد مع شيء آخر بل إنّما يكون الوفاء بالعقد الجامع
لشروط التأثير الّذي تحقّق اجتماعه بلحوق الرضا المكشوف عنه بالإجازة خاصّة.
وأضعف من
البيان المذكور للدليل تقريره «بأنّ العقد الواقع جامع لجميع الشروط ، وكلّها
حاصلة إلّا رضى المالك فإذا حصل بالإجازة عمل السبب عمله فإنّ الاعتراف
بكون الرضى شرطاً مع الاعتراف بعدم مقارنته العقد اعتراف بكون الإجازة الكاشفة عن
تأخّر حصول الشرط عن العقد ناقلة لاستحالة تقدّم المشروط على الشرط.
ودعوى : أنّ
الشروط الشرعيّة ليست كالشروط العقليّة بل هي بحسب ما يقتضيه جعل الشارع ، فقد
يجعل الشارع ما يشبه تقديم المسبّب على السبب كغسل الجمعة يوم الخميس وإعطاء
الفطرة قبل وقته ، فضلاً عن تقديم المشروط على شرطه كغسل الفجر بعد الفجر لصوم
المستحاضة ، وغسل العشاءين لصوم اليوم الماضي على القول به. يدفعها : بأنّ استحالة
تقدّم المشروط على الشرط إذا كانت عقليّة فلا يتفاوت فيها الحال بين الشروط
العقليّة والشروط الشرعيّة. وما ذكر بالنسبة إلى الشروط يشبه بأن يقال : إنّ
التناقض الشرعي بين الشيئين لا يمنع من اجتماعهما ، لأنّ النقيض الشرعي ليس كالنقيض
العقلي. وهو كما ترى.
وأمّا
الاستشهاد للجواز بالأمثلة المذكورة حتّى بالنسبة إلى المسبّب والسبب الشرعيين ،
ففيه المنع من تقديم المسبّب على السبب في المثالين الأوّلين ، ثمّ المنع من تقديم
المشروط على الشرط في المثالين الآخرين.
أمّا سند المنع
في أوّل المثالين الأوّلين ، فلأنّ غسل يوم الخميس لخائف طروء
__________________
العذر في يوم الجمعة مع غسل يوم الجمعة لغير الخائف تكليفان في حقّ مكلّفين
، وكلّ منهما يقع في وقته لا أنّ الأوّل يقع قبل وقته ، وإطلاق التقديم عليه لأنّ
مرجعه لو لا خوف طروء العذر أن يقع يوم الجمعة ، كما أنّ إطلاق يوم الجمعة عليه
أيضاً بهذا الاعتبار. وفي ثانيهما فلأنّ إعطاء الفطرة قبل وقته إن اريد به إعطاؤها
بعنوان الفطرة قبل توجّه الخطاب إليه فجوازه وإجزاؤه محلّ منع ، وإن اريد إعطاؤها
المستحقّ قرضاً ليحتسب عليه في الوقت فهو ليس من تقديم المسبّب على الوقت الّذي هو
السبب.
وأمّا سنده في
المثالين الآخرين فلمنع كون الغسلين من قبيل الشرط المتأخّر عن المشروط ، لعدم كون
المشروط بهما نفس الصوم المنعقد قبلهما بل صحّته ، والصحّة في العبادة عبارة عن
موافقة الأمر بمعنى موافقة المأتيّ به للمأمور به الكلّي ، وهي حاصلة باعتبار أنّ
المأمور به هو الإمساك المتعقّب لهذين الغسلين.
ودعوى : أنّ
الشرط فيما نحن فيه أيضاً هو تعقّب العقد لرضى المالك أو لحوق الرضى به لا نفس
الرضى ، فالشرط مقارن للعقد والمشروط وهو انتقال ملك العوضين مترتّب عليه ومتأخّر
عنه ، لأنّ العلّة التامّة هو العقد المتعقّب للإجازة والعقد الملحوق بالإجازة ،
والصفة الّتي هو الأمر المنتزع مقارنة للعقد وإن كان نفس الإجازة متأخّرة عنه.
يدفعها : أنّ
جعل الشرط الأمر المنتزع وإن كان ممكناً إلّا أنّه لمخالفته أدلّة شرطيّة الرضى
يحتاج إلى دليل مفقود في المقام ، فإنّ ظاهر الآية والرواية كـ «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» و «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» كون الشرط نفس
الرضى وطيب نفس المالك ، لا لحوقه بالعقد ولا تعقّب العقد له.
وتوهّم : الفرق
في ذلك بين العقد الّذي باشره المالك ومن يقوم مقامه ، والعقد الّذي باشره الفضولي
، وشرطيّة نفس الرضى بمقتضى ظاهر الأدلّة إنّما هو في الأوّل دون الثاني.
يدفعه : أنّ
هذا الفرق يحتاج إلى فارق شرعي ، والبيان المذكور لكاشفيّة الإجازة لا يفي بذلك.
الرابع : أنّ
الإجازة متعلّقة بالعقد فهو رضى بمضمونه ، وليس إلّا نقل العوضين من حينه.
وفيه : أنّ كون
الإجازة متعلّقة بالعقد وكونها عبارة عن الرضا بمضمونه مسلّم ، ولكن كون مضمونه
نقل العوضين من حينه غير مسلّم.
أمّا أوّلاً :
فبالنقض بالقبول الّذي هو أيضاً رضى بمضمون الإيجاب ، فوجب أن يكون مضمونه نقل
العوضين من حينه لا من حين القبول بل بعد الفراغ منه ، ولا نظنّ قائلاً بذلك.
وأمّا ثانياً :
فبالحلّ بأنّ مضمون العقد وإن كان نقل العوضين المقصود إنشاؤه حين العقد ، ولكنّه
بمجرّده لا يستلزم الانتقال الّذي هو أثر العقد ، بل يتوقّف استلزامه الانتقال على
الرضا المفروض تأخّره عن زمن العقد المقصود به النقل المذكور ، وقضيّة تأخّر الشرط
تأخّر الانتقال الّذي هو عبارة عن تأخّر ترتّب الأثر ، ومعناه تأخّر الملك وحصوله
حين الإجازة المفروض كونها رضى بمضمون العقد.
وأمّا ما يقال
: من أنّ العقد سبب للملك فلا يتقدّم عليه ، فممّا لم نتحقّق معناه ، فإن اريد به
أنّ العقد مع الملك المسبّب منه من قبيل السبب والمسبّب اللذين يتّحدان ذاتاً
ويتغايران بحسب العبارة ـ نظير الإتيان بالصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه
القبلة وتحصيل العلم بأداء المأمور به الواقعي ـ وقضيّة اتّحادهما ذاتاً عدم تقدّم
السبب على المسبّب ، ففيه منع واضح ضرورة تغايرها ذاتاً على معنى تغاير وجوديهما
وعدم كونهما نظير ما ذكر ، ولذا لا يصحّ الحمل بينهما فلا يقال : العقد ملك ولا
الملك عقد ، بخلاف ما ذكر فيصحّ الحمل فيه.
وإن اريد
أنّهما مع تغايرهما ذاتاً لا يتقدّم فيهما السبب على المسبّب ، فهو أوضح منعاً ،
ضرورة أنّ قضيّة تغاير وجودي السبب والمسبّب مع ترتّب وجود المسبّب على وجود السبب
تأخّر وجوده عن وجود السبب ، غاية الأمر أنّه قد يتّصل وجوده من طرف الابتداء
بوجود السبب من طرف الانتهاء ، وقد يتّصل بوجود آخر شروط تأثيره كما فيما نحن فيه
ولذا قد يقال : إنّ الشيء يستند إلى العلّة التامّة أو إلى الجزء الأخير منها.
الخامس : آية
وجوب الوفاء بالعقد ، بتقريب أنّ الوفاء بالعقد والعمل بمقتضاه هو الالتزام بالنقل
من حين العقد.
وفيه : أنّ
الخطاب يتوجّه إلى المالكين ومن يقوم مقامهما ، فما لم يصدر الإجازة الكاشفة عن
الرضا ـ الّذي هو من شروط تأثير العقد ممّن له الإجازة ـ لم يتوجّه إليه الخطاب
بالوفاء ، وإلّا لم يحتج إلى اعتبار إجازته. والمراد من الوفاء بالعقد حينئذٍ هو
الالتزام بالانتقال المترتّب لاحقاً من حين الإجازة على النقل المقصود من
العقد بمعنى مجموع الإيجاب والقبول من حينه ، على معنى كون النقل مقصود من حين
العقد وإن كان الانتقال الّذي هو الأثر المقصود من العقد حاصلاً عند الإجازة.
السادس :
الروايات المتقدّمة كصحيح محمّد بن قيس ، وأخبار الاتّجار بمال اليتيم ، وخبر مسمع
أبي سيّار ، وصحيح الحلبي ، وصحيح أبي عبيدة الحذّاء.
الأوّل لمكان
قوله : «فناشده الّذي اشتراها ، فقال له : خذ ابنه الّذي باعك الوليدة حتّى ينفذ
البيع لك ، فلمّا رآه أبوه قال له : أرسل ابني ، قال : لا والله ، لا ارسل ابنك
حتّى ترسل ابني ، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه» يدلّ على عود ولد
الوليدة بالإجازة إلى المشتري لا إلى الرقّ لسيّدها ، مع أنّه نماء ملكه بناءً على
وقوع تصرّفه فيها واستيلاده محرّماً على وجه الزنى لعلمه بالغصبيّة ، وعدم كون ابن
السيّد مأذوناً في بيعها ، ولا يستقيم ذلك إلّا على كاشفيّة الإجازة ، لما تقدّم
من ظهور الثمرة بينها وبين الناقليّة في النماء المتخلّل بين العقد والإجازة.
والثانية
بصراحة دلالتها على كون الربح لليتيم ، وهذا أيضاً لا يستقيم إلّا على الكشف ،
ضرورة أنّه على النقل يرجع الربح إلى الأصيل من المتعاقدين في العقود المترتّبة لا
إلى اليتيم الّذي هو مالك المال المتّجر به.
وعلى هذا
القياس خبر مسمع الدالّ على استحقاقه أربعة آلاف درهم ربح له حيث أمره عليهالسلام بأخذه النصف وإعطائه النصف الآخر للودعي.
وكذلك صحيح
الحلبي الدالّ بقوله : «فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ، ردّه إلى صاحبه
الأوّل ما زاد» على كون ما زاد على الثمن لمالك الثوب المشتري لا لمن اشتراه من
بائعه الأوّل الّذي باعه ثانياً جهلاً ببقائه على ملك المشتري.
وصحيح الحذّاء
لدلالته على استحقاق الزوجة المدركة بعد موت زوجه الميراث من مال الزوج لا ينطبق
أيضاً إلّا على كاشفيّة الإجازة ، لأنّ استحقاقها الميراث وكذلك نصف المهر فرع على
حصول الزوجيّة الموجبة للاستحقاق قبل الإجازة بنفس العقد.
وأمّا القول
بالنقل فلم نقف على مستند له سوى أمرين :
أحدهما : الأصل
بالنسبة إلى انتقال المال وخروجه عن ملك مالكه الأصلي وترتّب
الآثار فإنّ كلّها امور حادثة والمتيقّن حدوثها عند الإجازة ، والأصل عدمه
قبلها ، ومرجعه إلى أصالة تأخّر الحادث.
وثانيهما :
الاعتبار العقلي فإنّ الإجازة امّا شرط أو سبب ، وأيّاً ما كان فلا يتأخّر عن
الصحّة لاستحالة تقدّم المشروط أو المسبّب على الشرط أو السبب ، ولأجل [هذا]
مضافاً إلى ما تقدّم من ضعف ما عدا الروايات من أدلّة القول بالكشف قال شيخنا : «بأنّ
الأنسب والقواعد والعمومات هو النقل ثمّ بعده الكشف الحكمي ، وأمّا الكشف الحقيقي
مع كون نفس الإجازة من الشروط فإتمامه بالقواعد في غاية الإشكال» .
أقول :
والتحقيق الموافق للقواعد عندي هو الكشف الحقيقي ، لا على أنّ نفس الإجازة شرط ،
ولا على أنّ الشرط هو الوصف المنتزع المعبّر عنه بتعقّب العقد بالإجازة أو كونه
ملحوقاً بالإجازة ، بل على [أنّ شرط] الصحّة هو رضى العاقد على معنى قصده لوقوع
الأثر في الخارج الممضى بإمضاء المالك و [أنّ] مقتضى الجمع بين أدلّة شرطيّة الرضا
وأدلّة صحّة عقد الوليّ وعقد الوكيل وعقد الفضولي مع الإجازة كون شرط الصحّة رضا
العاقد ، وهو القدر الجامع بين رضا المالك إذا كان هو المباشر للعقد ورضا وليّه
ورضا المأذون من قبله ورضا الفضولي الممضى منه. والإجازة المتعلّقة بالعقد معناها
إمضاؤه بجميع ما تضمّنه من قصود العاقد من قصد التلفّظ ، وقصد المعنى المادّي ،
وقصد المعنى الهيئي وهو الإنشاء ، وقصد وقوع الأثر في الخارج المعبّر عنه بالرضا
كما تقدّم في عقد المكره. فالشرط على تقدير لحوق الإجازة حاصل في علم الله سبحانه
، ولازمه الصحّة من حينه ، ووقوفه على الإجازة لأجل أنّ كونه ممضى من المالك لا
يحرز إلّا بها ، فهي عند حصولها مع كونها إمضاء كاشفة عن الصحّة وترتّب الآثار من
حين العقد لانكشاف جامعيّته لشروط الصحّة الّتي منها القصود المذكورة الممضاة من
المالك ، ولأجل ذا أجاب الشيخ في شرح القواعد عن الاستدلال المتقدّم ، «بأنّها
ليست شرطاً ولا سبباً بل علامة» ومعناها الكاشفيّة كما عليه الأكثر.
وبما بيّنّاه
تبيّن المعنى المراد من التراضي في آية «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» وهو رضا
__________________
المتعاقدين بالمعنى الأعمّ الّذي من أفراده رضا غير المالك الّذي أمضاه
المالك فإنّ إمضاءه هنا بمنزلة إذنه للوكيل ، ولا يلزم به الخروج عن ظاهر قوله عليهالسلام : «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» فإنّ طيب نفسه
أعمّ من رضاه المقارن ومن إمضائه لرضا غيره ، ولذا لا يحلّ التصرّف قبل الإجازة
حتّى على الكشف لعدم كون طيب نفسه محرزاً بدونها.
الأمر الخامس :
في بقايا أحكام [الإجازة] فليعلم أوّلاً أنّ الإجازة ليست فوريّة بل هي على
التراخي ما لم يردّ العقد كما نصّ عليه في مفتاح الكرامة ونقله عن
الدروس والتنقيح والحدائق والرياض والظاهر أنّه وفاقي ، وفي صحيح محمّد ابن قيس دلالة
عليه.
وينبغي أن يقطع
بأنّه لا تقع بمجرّد السكوت ما لم يكن معها قرينة كاشفة عن الرضا ، كما نصّ عليه
في الشرائع بقوله : «ولا يكفي سكوته مع العلم ولا مع حضور البيع» وكذلك
العلّامة في جملة من كتبه كالتذكرة والتحرير ونهاية الإحكام والإرشاد بل في التذكرة دعوى الوفاق عليه قائلاً : «لو باع سلعة
وصاحبها حاضر ساكت فحكمه حكم الغائب قاله علماؤنا وأكثر أهل العلم». وعلّله
الأردبيلي في مجمع البرهان على ما حكي «بأنّ السكوت مع الحضور لا يدلّ على الرضا» .
كما ينبغي
القطع بوقوعها باللفظ الصريح الدلالة عليها عرفاً كلفظ «أمضيت» أو «أجزت» أو «أنفذت»
أو «رضيت» أو نحو ذلك. بل ظاهر خبر عروة البارقي حيث قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «بارك الله صفقة يمينك» وقوعها باللفظ الكنائي أيضاً.
والظاهر وفاقاً
لبعض مشايخنا كفاية الفعل الكاشف عرفاً عن الرضا بالعقد كالتصرّف في
الثمن ومنه إجازة البيع الواقع عليه ، وكتمكين الزوجة من الدخول بها إذا زوّجت
فضولاً كما صرّح به العلّامة في القواعد.
__________________
خلافاً لما حكي عن التنقيح من اعتبار اللفظ الدالّ عليها فيها بقوله : «بل لا بدّ
من لفظ يدلّ عليها». بعد قوله : «فلا يكفي في الإجازة السكوت مع العلم ولا مع حضور
العقد» وتبعه في مفتاح الكرامة بقوله : «والأصحّ أنّه لا بدّ من اللفظ كما هو صريح
جماعة وظاهر آخرين كما أنّ الردّ لا بدّ فيه من اللفظ» .
وعن التنقيح
الاستدلال «بأنّها كالبيع في استقرار الملك» .
واجيب : بأنّه
يشبه المصادرة ، والأولى أن يجاب بأنّه قياس ومع الفارق إذ اللفظ معتبر في صيغة
البيع ليستقرّ به الملك ، والإجازة إمضاء لرضا العاقد الفضولي المتوقّف تأثيره على
ذلك الإمضاء ، سواء استقرّ معه الملك كما لو وقع العقد باللفظ ، أو لا كما لو وقع
بالمعاطاة.
واستدلّ أيضاً
بما ورد في الروايات من أنّه : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» كما عن شرح
القواعد .
وجوابه ما
ذكرناه مشروحاً في باب المعاطاة ، وملخّصه : أنّ المراد به اشتراط لزوم الشرط في
ضمن العقد بتسميته والتلفّظ به في متن العقد ، ولا يكفي إضماره ولا التوافق عليه
قبل العقد من غير تسمية في متنه.
وقد يستدلّ
أيضاً بالمرويّ في التوقيع من قول مولانا الحجّة عجّل الله فرجه : «لا يحلّ لأحد
التصرّف في مال غيره بدون إذنه» بتقريب : أنّ الإذن عبارة عن إعلام الرضا ولا يكون إلّا
بلفظ يدلّ عليه.
وهذا أضعف من
سابقه ، أمّا أوّلاً : فلأنّه معارض بالنبويّ المتلقّى بالقبول من قوله عليهالسلام : «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» بتقريب : أنّ
طيب النفس هو الرضا
__________________
النفساني مطلقاً.
وأمّا ثانياً :
فلأنّه منقوض بإذن شاهد الحال المقطوع به من جهة شهادة الحال ، ولا يكون إلّا
الرضا النفساني المدلول عليه بشاهد الحال.
وأمّا ثالثاً :
فلعدم انحصار إعلام الرضا في دلالة اللفظ عليه ، بل أعمّ منه ومن دلالة الفعل
وغيره.
فالأظهر الأقوى
ما هو أشهر القولين من كفاية مطلق ما يدلّ على الرضا النفساني بالعقد الواقع من
الفضولي ، لفظاً كان أو فعلاً أو غيرهما حتّى السكوت في موضع قرينة المقام الموجبة
لكشفه عن الرضا ، استظهاراً له من أكثر أخبار الباب ، وأكثر كلمات الأصحاب :
أمّا الأوّل :
فلأنّ صحيح محمّد بن قيس بسياقه يدلّ على أنّه لا يصدر من سيّد الوليدة سوى إرسال
ولدها معها بعد طلب المشتري ، وقد أطلق عليه الإجازة بقوله «أجاز بيع ابنه».
وخبر مسمع أبي
سيّار ظاهر في عدم صدور شيء من المالك سوى أخذ نصف الأربعمائة ديناراً لنفسه
وإعطائه النصف الآخر للودعي التائب الّذي [أمره] الإمام.
وروايات
الاتّجار بمال اليتيم بإطلاقها تدلّ على كفاية أخذ الربح لليتيم.
وأقوى ما يدلّ
على كفاية مطلق الرضا النفساني وإن دلّ عليه بالسكوت مع القرينة : الروايات
الصريحة بكون سكوت السيّد في نكاح العبد من دون إذنه بعد العلم إقراراً له الّتي
منها صحيحة معاوية بن وهب قال : «جاء رجل إلى أبي عبد الله عليهالسلام فقال : إنّي كنت مملوكاً لقوم ، وإنّي تزوّجت امرأة
حرّة بغير إذن مواليّ ، ثمّ أعتقوني بعد ذلك فأُجدّد نكاحي إيّاها حين اعتقت؟ فقال
له : أكانوا علموا أنّك تزوّجت امرأة وأنت مملوك لهم؟ فقال : نعم وسكتوا عنّي ولم
يغيروا عليّ ، قال : فقال : سكوتهم عنك بعد علمهم إقرار منهم ، أثبت على نكاحك الأوّل»
فإنّ الإقرار اريد به الإمضاء والإجازة وقد أطلق على سكوتهم ، وليس إلّا
باعتبار كشفه بمعونة قرينة الحال عن الرضا النفساني ، إذ لولاه
__________________
لكان عليهم الردّ لفقد المانع.
وأمّا الثاني :
فقد تقدّم في جملة أدلّة كاشفيّة الإجازة استدلال بعضهم بأنّ العقد جامع لجميع
شروط التأثير سوى رضا المالك وإذا حصل بالإجازة عمل السبب عمله ، مع عدم تعرّض أحد
للجواب عنه بعدم كفاية مطلق الرضا بل أجابوا بنهج آخر تقدّم ذكره. وقد تقدّم عن
الأردبيلي تعليل عدم كفاية السكوت في انعقاد الإجازة «بأنّه لا يدلّ على الرضا
لكونه» أعمّ» كما نسب ذلك أيضاً إلى جماعة .
وعن بعضهم أنّه يكفي في
إجازة البكر للعقد الواقع عليها فضولاً سكوتها ، بتقريب : أن ليس المراد بذلك أنّه
لا حاجة إلى إجازتها بل المراد سكوتها إجازة لكشفها بمعونة المقام عن رضاها ، ولا
ريب أنّه ليس لخصوصيّة في البكر بل لأنّ مناط صحّة العقد هو الرضا النفساني لا
غير. وأيضاً فقد تقدّم كفاية الفعل كالتصرّف في الثمن وتمكين الزوجة عن دخول
العاقد عليها فضولاً عليها في الإجازة ، ومن المعلوم أنّه [لا] لخصوصيّة في الفعل
ثابتة بالشرع بل بكشفه عن الرضا فهو المناط.
ويؤيّد الجميع
ما تقدّم في عقد المكره من صحّته بلحوق الرضا ولم يعتبروا فيه لفظاً ، كما يؤيّده
أيضاً أنّا لا نعقل فرقاً بين العقد المباشري والعقد الفضولي سوى مقارنة الأوّل
لرضا المالك ومفارقة الثاني له ، مع كون اختلافهم في صحّة الثاني راجعاً إلى
اعتبار المقارنة وعدمه ، فإذا ساعدنا أدلّة الصحّة على عدم اعتبار المقارنة بقي
كفاية مطلق الرضا ، فاعتبار اللفظ وغيره في الإجازة خارج عمّا هو حيثيّة البحث وما
هو المتنازع فيه مع عدم مساعدة دليل عليه ، فيبقى أدلّة الصحّة من الأخبار
المتقدّمة سليمة عمّا يوجب تخصيصها بما عدا الرضا ، وأمّا بالنسبة إليه فالدليل
على تخصيصها من جهة عموم التجارة عن تراض ، وعدم حلّيّة مال امرئ إلّا بطيب نفسه.
والإجماع واضح.
نعم ربّما يشكل
الحال فيما علم رضا المالك ببيع المالك من حين العقد بشهادة حال أو إخبار مخبر صادق أو نحو ذلك
، من جهة أنّ قضيّة كفاية الرضا النفساني في
__________________
الإجازة كفاية الرضا المذكور عن الإجازة المتأخّرة ، بل قد يقال : بأنّ ما
يؤثّر بلحوقه يؤثّر بمقارنته بطريق أولى ، والظاهر أنّهم لا يلتزمون بذلك ، بل
ربّما يرد النقض بكراهة المالك حين العقد وبعده ولو آناً ما ، فإنّ مجرّد الرضا
النفساني إذا كان كافياً في الإجازة كانت الكراهة النفسانيّة أيضاً كافية في الردّ
، والظاهر أنّهم لا يلتزمون بذلك أيضاً.
ويمكن الذبّ
عنه بأنّ المعتبر من الرضا [شرعاً] ما يكون إمضاء لرضا العاقد الفضولي وقصده لوقوع
الأثر في الخارج ، فلا بدّ من إنشائه بعد العقد ما يدلّ عليه من لفظ أو فعل أو
غيرهما ، وبالجملة الرضا الإنشائي المتعلّق بالعقد الشخصي الواقع في الخارج ، فشرط
الصحّة في الحقيقة هو رضا العاقد الممضى بإجازة المالك الّتي يكفي فيها رضاه بذلك
الرضا وما سبق في الصورة المذكورة ليس بذلك في شيء لأنّه رضي ببيع ماله أو بوقوع
انتقال ماله في الخارج ، لا أنّه إمضاء لرضا العاقد وقصده.
ثمّ إنّه يعتبر
في صحّة الإجازة وتأثيرها أن لا يسبقها الردّ [لأنّ] الردّ فسخ للعقد ومع حصوله
ينفسخ فلا يبقى محلّ للإجازة لتكون إمضاء له ، فلو وقعت بعد الردّ وقعت لغواً ،
والظاهر أنّه إجماعيّ. وقد يستدلّ بأنّ الإجازة إنّما تجعل المجيز أحد طرفي العقد
وإلّا لم يكن مكلّفاً بالوفاء بالعقد ، لأنّ وجوب الوفاء إنّما هو في حقّ العاقدين
أو من يقوم مقامهما. وقد تقرّر أنّ من شروط الصيغة أن لا يحصل بين طرفي العقد ما
يسقطها عن صدق العقد الّذي هو في معنى المعاهدة والاولى أن يقال : بخروجها عن صدق
العقد بمعنى الربط المعنوي ، ويرجع إلى ما بيّنّاه.
وأمّا ما قد
يتوهّم من أنّ صحيحة محمّد بن قيس تقتضي صحّة الإجازة عقيب الردّ ، لأنّ أخذ سيّد
الوليدة عملاً بحكم الإمام عليهالسلام الوليدة وابنها من المشتري ردّ لبيع ولده وقد أجازه بعد
هذا الردّ.
فجوابه : منع
كونه دلالة الأخذ على الردّ ، لجواز كونه متردّداً بينه وبين الإجازة ، وحكم
الإمام بأخذهما لأنّ كونها عند المشتري بل تصرّفه فيها بل قبضه أيضاً لكونها قبل
الإجازة كانت بغير حقّ ، وأخذ الولد لرعاية كونه رقّاً على تقدير لحوق الردّ بعد
ذلك ، فكان من حقّ السيّد أن يأخذهما حتّى يظهر الحال من حيث إنّه يجيز بيع الولد
بعد ذلك أو يردّه فليتدبّر.
فروع
:
الأوّل : إجازة
البيع ليست إجازة لقبض الثمن في فضوليّة المبيع ولا لقبض المبيع في فضوليّة الثمن
، فيكون الثمن أو المثمن في ضمان الأصيل حتّى يوصلهما إلى المجيز ، ولذا ضعّف
العلّامة في المختلف كلام الشيخ حيث حكى عنه «أنّه لو أجاز المالك بيع الغاصب لم يطالب
المشتري بالثمن ثمّ ضعّفه بعدم استلزام إجازة العقد لإجازة القبض» انتهى ، إلّا
إذا أجازهما صريحاً أيضاً أو فهم إجازتهما من إجازة البيع فمضت فيهما أيضاً ،
وثمرتها سقوط ضمان الثمن أو المثمن من عهدة الأصيل ، هذا فيما إذا كان الثمن شخصاً
خارجيّاً.
وأمّا إذا [كان]
كلّيّاً في الذمّة فردّ الشخص المطابق إلى الفضولي [قبل] الإجازة ثمّ أجاز البيع
والقبض معاً ، ففي إفادتها لخروج الكلّي عن ذمّة الأصيل وعدمه وجهان : من استصحاب
الحالة السابقة وهو عدم خروجه بالردّ قبل الإجازة ، ومن أنّ مرجع إجازتهما إلى
إمضاء معاملتين إحداهما المعاملة البيعيّة واخراهما المعاملة الوفائيّة ، وإمضاء
الوفاء معناه احتساب ما قبضه الفضولي عمّا في ذمّة الأصيل ، وقضى ذلك خروجه عن
الذمّة.
وربّما يجعل
إجازة العقد في الصرف والسلم إجازة لقبض الفضولي بعد التفرّق صوناً للإجازة عن
اللغويّة ، فلو قال : «أجزت العقد دون القبض» ففي بطلان العقد أو بطلان ردّ القبض
وجهان.
الثاني : هل
يعتبر في صحّة الإجازة مطابقتها للعقد الواقع كما وقع إطلاقاً وتقييداً وغيرهما أو
لا؟ ففي المسألة صور :
الاولى : أن
يقع العقد على صفقة فأجاز المالك بيع بعضها ، وكذلك بيع دارين فأجاز بيع إحداهما ،
فالأقوى الصحّة كما إذا كانت الصفقة بين مالكين فأجاز أحدهما في سهمه ، وضرر
المشتري في المقامين ينجبر بخياره.
الثانية : أن
يقع على المال بشرط على المالك كشرط الأجل في الثمن وشرط خياطة
__________________
ثوب فأجازه المالك مجرّداً عن الشرط ، فالوجه فيه عدم الصحّة ، لأنّ الواقع
وهو المقيّد غير مجاز والمجاز وهو المطلق غير واقع. ولا يقاس ذلك على الصفقة ،
لانحلال العقد بالنسبة إلى الأجزاء إلى عقدين ، وعدم انحلاله بالنسبة إلى المشروط
وشرطه.
الثالثة : عكس
الثانية وهو أن يقع العقد مطلقاً فأجازه المالك مشروطاً بشرط على الأصيل ، ففي
صحّة الإجازة مع الشرط إذا رضي به الأصيل ـ فيكون نظير الشرط الواقع في ضمن القبول
إذا رضي به الموجب ـ أو بدون الشرط لعدم وجوب الوفاء بالشرط الغير المأخوذ في متن
العقد حتّى أنّ المأخوذ في ضمن القبول مع رضا الموجب لصحّة الوفاء به إلّا إذا
تقدّم القبول على الإيجاب ليرد الإيجاب أيضاً عليه ، أو بطلانها أيضاً مع الشرط
لأنّه إذا بطل الشرط يبقى المشروط بدونه غير مجاز ، وجوه ، أوجهها الأخير وفاقاً
لبعض المشايخ
الثالث : قال
الشيخ في شرحه للقواعد : «لو بلغه عقد متعلّق بالعين وآخر بالمنفعة مقترنان كبيع
وإجارة فأجازهما دفعة صحّا ويتخيّر صاحب العين مع عدم العلم ، ومع الترتيب وسبق
الإجارة كذلك وبالعكس كذلك ، مع احتمال بطلانها هذا على الكشف ، وعلى النقل يراعى
الترتيب وعدمه في الإجازة دون العقد» انتهى. ووجه مراعاة الترتيب في الإجازة على النقل إن
أجازهما دفعة أفادت الإجازة [انتقال العين] إلى المشتري وانتقال المنفعة إلى
المستأجر حين الإجازة فصحّا معاً ، وإن أجاز الإجارة أوّلاً ثمّ البيع ثانياً كانت
إجازة البيع كنقل العين مسلوبة المنفعة فصحّا أيضاً مع تخيّر [صاحب العين] مع عدم
علمه ، ولو انعكس بطلت إجازة الإجارة لبقائها بلا محلّ ، لأنّها تكون [من باب نقل
المنفعة من دون ملك العين] بعد بيع العين الّتي يتبعها المنفعة فوقع عقد الإجارة
على غير محلّها [وكذلك] في الصورة الثالثة على الكشف فلأنّه إذا سبق العقد على
العين على عقد المنفعة وأجازهما المالك كشفت عن انتقال العين مع منفعتها إلى
المشتري قبل عقد الإجارة [فتقع عقد الإجارة] على غير محلّها ، وقضيّة ذلك تعيّن
بطلانه لا احتماله.
__________________
الأمر السادس :
فيما يتعلّق بالمجيز ، ولا ينبغي التأمّل في أنّه يشترط في المجيز أن يكون حال
الإجازة جائز التصرّف بالبلوغ والعقل والرشد لينفذ إجازته حتّى لو أجاز بيع ماله
فضولاً بأقلّ من ثمن المثل في مرض موته بني نفوذه في الجميع أو في قدر الثلث على
القولين في منجّزات المريض ، إلّا أنّ الكلام هنا في مسألة اخرى وهي أنّه هل يشترط
في صحّة عقد الفضولي أن يكون له مجيز في الحال وهو من يملك الإجازة بمالكيّة أو
ولاية أو لا؟ قولان ، استقرب أوّلهما العلّامة في القواعد ونسبه في
التذكرة إلى أبي حنيفة وإلى الشافعيّة أيضاً تفريعاً على القديم ، ونسب ثانيهما إلى جماعة
كالشهيد وابن المتوّج البحراني والفاضل
المقداد والمحقّق الثاني في جامع المقاصد .
وفرّع العلّامة
على ما اشترط أمّا لو بيع مال الطفل فبلغ وأجاز قال : «لم ينفذ على إشكال» ومراده
أنّ وجوده حين العقد مع عدم قابليّته للإجازة لم ينفع ، إذ ليس المراد بوجود
المجيز في الحال وجود ذاته بل وجوده بوصف القابليّة ، فلو تجدّد له القابليّة بعده
ثمّ أجاز لم ينفع.
واورد عليه
بأنّ الوليّ الجامع لشرائط الولاية قابل للإجازة كما أنّه قابل للبيع ، فالمجيز في
الحال موجود سواء كان الوليّ إجباريّاً أو حسبيّاً مجتهداً كان أو عدول المؤمنين
أو الفسّاق إن لم يكن عدول.
وردّ تارةً :
بأنّه يعتبر في المجيز استمرار قابليّته من حين العقد إلى حين الإجازة ، ولا
يستمرّ قابليّة الوليّ إلى حين الإجازة لزوال ولايته بعد بلوغ المولّى عليه.
وفيه منع.
واخرى : بأنّه
لا يوجد له وليّ أصلاً حتّى الحسبي أو لا يمكن الوصول إليه أو لا يطّلع على ما وقع
من البيع ليجيزه فلا يمكن إجازته ، وهو في معنى عدم قابليّته للإجازة.
__________________
وعن القاضي الجواب بأنّ
الفرض غير متحقّق على مذهبكم من وجوب وجود إمام في كلّ عصر وهو عندكم موجود وهو
وليّ عامّ وله الولاية العامّة ، فالمجيز في الحال موجود على مذهبكم.
ويردّ بكونه
لكونه غائباً لا يمكن الاطّلاع على إجازته لو أراد أن يجيز ، فوجوده بهذا الاعتبار
بمثابة عدم وجود المجيز في الحال.
ودفع بأنّ
الاطّلاع على إجازته إنّما لا يمكن بطريق حسّي ولكنّه بطريق الحدس من جهة البرهان
ممكن ، فإنّ الوليّ يجب عليه تنفيذ البيع إذا وقع على وفق مصلحة الطفل ، والإمام
لوجوب عصمته لا يخلّ بالواجب ، فبملاحظة هاتين المقدّمتين أنّ الإمام أجاز البيع
المفروض.
وفيه أوّلاً :
منع وجوب إجازة البيع على المصلحة عليه عليهالسلام بل على مطلق الوليّ أيضاً.
وثانياً : أنّه
لو تمّ لقضى برفع الحاجة إلى الإجازة من الطفل بعد بلوغه.
وثالثاً : أنّ
الالتزام بإجازته للبيع المفروض بعد وقوعه ليس بأولى عن الالتزام بإذنه في إيقاع
البيع عند وقوعه ، فيخرج عن موضوع الفضولي.
ورابعاً : أنّ
غرض القائل باعتبار وجود المجيز بمعنى من يصلح للإجازة وما ذكر يقتضي صدور الإجازة
منه فعلاً.
ولعلّه لبعض ما
ذكر استشكل العلّامة في الفرع المذكور.
كما أنّه لأجل
ما ذكر أيضاً عدل فخر المحقّقين أيضاً على ما حكي عنه إلى التمثيل ببيع مال الطفل على
خلاف المصلحة فبلغ وأجاز لعدم إمكان الإجازة حينئذٍ حتّى للإمام لاشتراط المصلحة
في تصرّفات الوليّ.
ويشكل بأنّ
الفساد حينئذٍ من جهة انتفاء شرط المصلحة لا من جهة عدم وجود المجيز في الحال ،
وإن كان قد يقال في تصحيحه : برجوع الكلام حينئذٍ إلى اشتراط إمكان فعليّة الإجازة
من المجيز لا وجود ذات من شأنه الإجازة فإنّه فرض غير واقع في الأموال .
__________________
وكيف كان
فالأقوى ما عليه الجماعة ولعلّه الأكثر من عدم اشتراط وجود المجيز في الحال في نحو
المثال ، بل العقد بدونه يصحّ إذا لحقه إجازة المالك وهو الطفل بعد بلوغه.
لنا على ذلك
وجود المقتضي ، وفقد المانع.
أمّا الأوّل :
فلشمول العمومات له ، مضافاً إلى ما ورد في نكاح الصغيرين ، وقد تقدّم.
وأمّا الثاني :
فلأنّه لا مانع من الصحّة إلّا ما استدلّ به للقول بالاشتراط ، وهو لعدم تماميّته
لا يصلح للمنع.
فعن فخر
المحقّقين أنّه استدلّ له بوجهين :
أحدهما : أنّ
صحّة العقد والحال هذه ممتنعة ، فإذا امتنع في زمان امتنع دائماً. وقد يقرّر
بتحليله إلى مقدّمات :
الاولى : أنّ
المعتبر في صحّة عقد الفضولي كونه في أقرب مراتب استعداده وتهيّئه للتأثير.
الثانية : أنّ
انتفاء الشرط في زمان يستلزم امتناع الصحّة في ذلك الزمان.
الثالثة : أنّ
امتناع الصحّة في زمان يستلزم امتناعها دائماً.
وجوابه : منع
المقدّمة الاولى ، فتارةً بأنّه لا يتمّ على القول بالكشف للزومه التأثير الفعلي
لا الاستعدادي حتّى ينظر في كونه في أقرب مراتبه أو أبعدها ، ولا على القول بالنقل
لو وقع العقد قبل بلوغ الطفل بيسير وزمان قليل فبلغه فأجاز. واخرى بأنّ الشرط
المذكور ممّا لم تتحقّق معناه ، إذ لا نعقل لكونه في أقرب الاستعداد للتأثير معنى
سوى احتوائه لجميع شروط التأثير سوى رضا المالك المفروض لحوقه متأخّراً طال زمان
لحوقه أم قصر ، وكون وجود المجيز في الحال من جملة الشروط أوّل المسألة. فالدليل
باعتبار هذه المقدّمة يرجع إلى مصادرة. وبما ذكر ظهر منع المقدّمتين لكون كلّ
منهما متفرّعة على سابقتها.
وثانيهما :
لزوم الضرر على المشتري لامتناع تصرّفه في العين ، لإمكان عدم الإجازة. وقد يقرّر
ذلك بأنّه ممنوع من التصرّفات ما دامت الإجازة غير حاصلة ، وهو
__________________
ضرر عليه خصوصاً مع طول زمان البلوغ والإجازة.
وجوابه النقض
بما له مجيز في الحال سيّما مع طول زمان الإجازة أوّلاً ، وأنّه لا يتمّ مع علم
المشتري لأنّه أدخل الضرر على نفسه ثانياً ، وعلى تقدير جهله أنّهم لم يلتفتوا إلى
هذا الضرر في باب الفضولي وإلّا كان مطّرداً في جميع موارده ما لم يحصل الإجازة ،
مع إمكان انجباره بالخيار.
ثمّ إنّ مرجع
عدم اشتراط وجود المجيز في الحال لتصحيح بيع مال الطفل بإجازته بعد البلوغ إلى
أنّه لا يشترط في صحّة بيع الفضولي كون المجيز جائز التصرّف حين العقد ، لكن ينبغي
أن يعلم أنّ عدم جواز التصرّف في المال قد يكون لفقد المقتضي لجواز التصرّف ككونه
مالكاً أو مأذوناً من المالك ، وقد يكون لفقد شرط من شروط اقتضاء المقتضي كالبلوغ
والعقل والرشد ، وقد يكون لوجود مانع من موانعه كحقّ الغير المتعلّق بالمال كما في
الرهن أو نصاب الزكاة.
ولا ينبغي
التأمّل في عدم اشتراط جواز التصرّف في المجيز حال العقد لو كان مستند عدم جوازه
وجود المانع ، فلو باع الراهن الرهن بدون إذن المرتهن ثمّ فكّ الرهن فأجاز بيعه
صحّت الإجازة ونفذ البيع ، بل الظاهر عدم افتقاره إلى الإجازة لتحقّق شرائط الصحّة
حال العقد من المالكيّة والرضا النفساني وطيب النفس ، وإنّما لم يجز له التصرّف
لوجود مانع وهو تعلّق حقّ المرتهن ، وإذا ارتفع المانع نفذ البيع لكونه نفوذه
مراعى بارتفاعه.
وكذا لا ينبغي
التأمّل في عدم اشتراطه لو كان مستند عدم جواز التصرّف انتفاء شرط من شروط اقتضاء
المقتضي للجواز ، فلو باع مال الطفل أو المجنون أو السفيه فضولاً ثمّ بلغ الطفل أو
أفاق المجنون أو كمل السفيه فأجاز صحّ ونفذ ، للعمومات كما عرفت.
وأمّا لو كان
مستند عدم جواز التصرّف فقد المقتضي أعني انتفاء الملك ، على معنى عدم كون المجيز
حين العقد مالكاً فتجدّد له الملك بانتقاله عن مالكه الأوّل إليه فهو محلّ كلام
عندهم. وهو يتضمّن صوراً كثيرة لأنّه قد يبيع غير المالك مال غيره فضولاً لنفسه ،
وقد يبيعه لغيره ، وعلى التقديرين إمّا يملكه البائع ، أو يملكه غيره ، وعلى
التقادير إمّا أن يتجدّد ذلك الملك بسبب اختياري كما لو اشتراه بعد العقد ، أو
بسبب غير اختياري
كما إذا انتقل إليه بالإرث ، وعلى التقادير فإمّا أن يجيز العقد الأوّل بعد
تجدّد الملك له ، أو لا يجيزه.
ونحن نتكلّم
فيما لو باع مال غيره لنفسه ثمّ اشتراه فأجازه ، ففي نفوذ البيع هنا وصحّة العقد
الأوّل خلاف ، فقيل بالصحّة ، وهو ظاهر المحقّق في المحكيّ عن المعتبر في باب
الزكاة «فيما إذا باع المالك النصاب قبل إخراج حصّة الفقراء أو رهنه ، فقال : صحّ
البيع أو الرهن فيما عدا الحصّة. ولو اغترم حصّة الفقراء ، قال الشيخ رحمهالله : صحّ البيع والرهن ، وفيه إشكال لأنّ العين مملوكة ،
وإذا أدّى العوض ملكها ملكاً مستأنفاً فافتقر بيعها إلى إجازة مستأنفة ، كما لو
باع مال غيره ثمّ اشتراه» انتهى. فإنّ ظاهر هذا الكلام بل صريحه هو صحّة البيع مع
الإجازة. وهو خيرة الشهيد في الدروس على ما حكي ، ونسب إلى ظاهر المحكيّ عن الصيمري واختاره شيخنا
قدسسره.
وقيل بالبطلان
، وهو ظاهر العلّامة في القواعد ونسب إلى المحقّق الثاني في تعليق الإرشاد ونسب شيخنا الميل إليه
إلى بعض معاصريه تبعاً لبعض معاصريه وذهب إليه شيخنا الآخر.
ويظهر ممّا
حكاه المحقّق عن الشيخ صحّته ولو مع عدم الإجازة ، ولذا استشكل فيما قاله بما
تقدّم. وقد ينسب القول بالصحّة مطلقاً أيضاً إلى فخر المحقّقين.
ففي المسألة
أقوال ثلاث ، وإن شئت قلت : إنّ في محلّ الكلام نزاعين :
أحدهما : صحّة
البيع مع الإجازة وعدمها ، والآخر صحّته مع عدم الإجازة وعدمها فهاهنا مسألتان :
المسألة الاولى
: في الصحّة وعدمها مع الإجازة.
واستدلّ على
الصحّة بأنّ العقد الّذي أوقعه البائع لنفسه عقد صدر من أهله في المحلّ القابل
للعقد عليه فيشمله العمومات.
__________________
وهذا على القول
بالنقل في الإجازة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ظاهراً ، لأنّ معنى النقل في
الإجازة ـ على ما شرحناه عند البحث عن كونها كاشفة أو ناقلة ـ هو أنّ رضا العاقد
الفضولي بخروج العين عن ملك مالكها ودخولها في ملك المشتري بإزاء ملك مال المشتري
المجعول عوضاً لا يؤثّر في ذلك فوجوده بمثابة عدمه ، بل المؤثّر فيه رضا المجيز
المالك للعين حين الإجازة الكاشفة عنه اللاحقة بالعقد ، وحينئذٍ نقول : إنّ العقد
الواقع على العين كان في عرضة التأثير على تقدير لحوق رضا المالك لها المكشوف عنه
بالإجازة اللاحقة والمفروض لحوقه بإجازة العاقد بعد تملّكه لها. نعم يبقى الكلام
في أنّ العقد الثاني المتخلّل بينه وبين الإجازة هل أخرجه عن كونه في عرضة التأثير
أم لا؟ وهذا ممّا لا دليل عليه فالأصل بقاؤه على ما كان عليه من كونه في عرضة
التأثير.
ودعوى : أنّ
تخلّل ذلك العقد فسخ للعقد الأوّل ، ومعه لا معنى لبقائه في عرضة التأثير.
يدفعها : أنّه
إن اريد بالفسخ هنا أنّ الانفساخ القهري المترتّب على تخلّل العقد الثاني ، فهو لا
يسلّم إلّا بدليل ولا دليل عليه والأصل عدمه.
وإن اريد به
الفسخ الاختياري القصدي من المالك. ففيه : أنّه لم يقصد ببيعه فسخ العقد الواقع
على عينه فضولاً ، خصوصاً إذا لم يطّلع على وقوع ذلك العقد.
وإن اريد به
الفسخ الاختياري من العاقد ففيه : أوّلاً : أنّ الفسخ الموجب لبطلان العقد في
الفضولي ليس من وظيفة العاقد بل لو فسخ لم يؤثّر ، بل من وظيفة المالك. وثانياً :
أنّه أيضاً لم يقصد باشترائه فسخ عقده السابق كيف وهو ينافي غرضه في الاشتراء من
التوصّل به إلى إجازته لعقده الواقع فضولاً المتوقّفة على كونه مالكاً للعين.
نعم يمكن
المناقشة فيه بأنّ مقتضى أدلّة الفضولي صحّته على تقدير لحوق الإجازة الصحيحة به ،
والإجازة الصادرة من العاقد بعد اشترائه للعين ليست بصحيحة على كلّ حال ، لأنّه
يعتبر في صحّة الإجازة المؤثّرة في صحّة العقد مطابقته لمقتضى العقد باعتبار
الظهور النوعي العرفي في الصيغة الواقعة على العين ، وهو دخول كلّ من العوضين في
ملك مالك العوض الاخر قصد ذلك حين العقد أو لم يقصد قصد خلافه أو لا ، والمفروض
أنّ العين حال العقد كانت ملكاً لغير العاقد وهو المالك قبل العقد ،
فالصيغة الواقعة عليها قد اقتضت بظهورها النوعي دخول الثمن في ملك مالك
العين كما اقتضت دخول العين في ملك مالك الثمن ، وهذا هو مقتضى العقد ، وحينئذٍ
فالإجازة الصادرة من العاقد بعد اشترائه العين إن أثّرت ذلك الأثر كان معناه بقاء
العين في ملك مالكه الأوّل ، ومعنى ذلك عدم دخولها في ملك العاقد ، ومعنى ذلك
بطلان العقد الثاني ولزم منه بطلان إجازته لأنّه إجازة من غير المالك حال العقد
وحال الإجازة معاً ، وإن أثّرت خلاف ذلك الأثر وهو دخول الثمن في ملك العاقد لا في
ملك مالك العين حال العقد الأوّل لزم عدم مطابقته لمقتضى العقد الأوّل فتبطل
أيضاً.
فإن قلت : لزوم
مطابقة الإجازة لمقتضى العقد المجاز أوّل الكلام ، إذ لا دليل عليه.
قلت : يكفي في
دليل ذلك ظهور أدلّة عقد الفضولي مع الإجازة ، فإنّ المنساق منها في متفاهم العرف
ولو باعتبار الانصراف هو مطابقة الإجازة لمقتضى العقد فليس فيها مع هذا الانصراف
إطلاق يتناول نحو المقام ، هذا كلّه على القول بالنقل.
وأمّا على
القول بالكشف فيرد على الدليل أنّ العقد الأوّل إمّا أن أثّر أثره أولا ، والثاني
هو معنى البطلان الّذي يقول به القائل بعدم الصحّة ، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون
أثره دخول كلّ من العوضين في ملك مالك العوض الآخر ، أو يكون أثره دخول أحدهما في
ملك مالك العوض الآخر ودخول الآخر في ملك غير مالك العوض الأوّل ، ولا سبيل إلى
الثاني لما عرفت من اقتضاء الصيغة بظهورها النوعي ، ولا إلى الأوّل لتوقّف تأثيره
على تعقّبه للإجازة الصحيحة ولم يتعقّب ، لأنّ الإجازة الصحيحة في هذا العقد إجازة
المالك قبل العقد ولم تحصل ، والإجازة الحاصلة من العاقد لعدم مطابقتها لمقتضى
العقد غير صحيحة ، لأنّ العاقد إنّما يجيزه على أن يكون الثمن له وهو خلاف مقتضى
العقد ، فإنّ الإجازة إمضاء للعقد ورجع الكلام إلى أنّ إجازة العاقد ليست إمضاءً
لعقده. فتعيّن أنّه لم يؤثّر أثره وهو عدم الصحّة.
لا يقال : إنّ
العقد الثاني من طرف مالك المبيع مع كونه بيعاً لماله إجازة للعقد الواقع عليه
فضولاً ، وهذه إجازة صحيحة ضمنيّة تعقّبها العقد فصحّ.
لأنّا نجيب
أوّلاً : بمنع كونه إجازة ضمنيّة حيث إنّ المالك للعين لم يقصد ببيعه من العاقد
إجازة عقده.
وثانياً :
بأنّه لو سلّمنا الإجازة الضمنيّة من باب المماشاة فتعقّب العقد لها يقتضي خروج
المبيع عن ملك مالكه الأوّل ودخوله في ملك المشتري كدخول ثمن المشتري في ملك
المالك الأوّل ، وقضيّة ذلك كون العقد الثاني فضوليّاً لأنّ المالك الأوّل باع
ماله من دون إذنه فيحتاج نفوذه إلى إجازة المشتري وهي غير حاصلة ، وإجازة العاقد
مع عدم كونه إجازة له غير كافية فيبطل ، فرجع الكلام إلى أنّ العقد الأوّل بالمعنى
الّذي قصد منه وهو صيرورة الثمن ملكاً للعاقد بإزاء ملك المبيع للمشتري لم يصحّ.
ومرجع الجواب
على القولين في الإجازة إلى منع صغرى الدليل ، وهو كون العقد المفروض عقداً صدر من
أهله في المحلّ القابل للعقد عليه ، لأنّ العقد الصادر من أهله في محلّه في باب
الفضولي لا بدّ وأن يكون منطبقاً على ضوابط عقد الفضولي ، والمفروض عدم انطباقه
عليها.
واجيب أيضاً
بوجوه :
أوّلها : أنّ
الإجازة حيث صحّت كاشفة على الأصحّ مطلقاً لعموم الدليل الدالّ عليه ، ويلزم
حينئذٍ خروج المال عن ملك البائع قبل دخوله فيه. أقول : أمّا بيان الملازمة فلأنّ
المفروض أنّ المال بالعقد الثاني يدخل في ملك العاقد فلو خرج عن ملكه حين العقد
الأوّل والمفروض عدم دخوله في ملكه بعد فهو خروج له عن دخوله فيه ، وأمّا
الاستحالة فلأنّ خروج المال في الملك مسبوق بدخوله فيه وحيث لا دخول فلا خروج. ودعوى
شمول العمومات ، يدفعها أنّ العمومات لا تصير المحال واقعاً ولا ممكناً فلا معنى
لشمولها فتعيّن عدم الصحّة.
فإن قلت : يدخل
في ملك العاقد حين العقد الأوّل آناً ما ثمّ يخرج عن ملكه في ذلك الحين.
قلت : دخوله في
ملكه لا بدّ له من سبب ، والمفروض أنّ سببه العقد الثاني ، فلو دخل في ملكه حين
العقد الأوّل بالعقد الثاني لزم تقدّم المسبّب على سببه ، وهو محال.
فإن قلت : يخرج
عن ملك مالكه بالعقد الأوّل من غير أن يدخل في ملك أحد ، ثمّ يدخل بالعقد الثاني
في ملك العاقد آناً ما ثمّ يخرج عن ملكه ويدخل في ملك المشتري بالعقد الأوّل ،
والكاشف عنه الإجازة.
قلت : هذا مع
أنّه تكلّف واضح كرّ على ما فرّ ، إذ المفروض عدم دخوله في ملكه حين العقد الأوّل
، فلو خرج عن ملكه في ذلك الحين لزم ما ذكر من المحذور.
فإن قلت : ليس
معنى خروجه عن ملكه بالعقد الأوّل أنّه يخرج عنه حينه بل يخرج عنه ويدخل في ملك
المشتري حين العقد الثاني بالعقد الأوّل فلا يلزم ما ذكر.
قلت : هذا خلاف
معنى الكشف في الإجازة ، فإنّ معناه على ما صرّحوا به تحقّق الخروج عن الملك
والدخول في ملك المشتري حين العقد الأوّل لا في الزمان المتأخّر عنه.
إلّا أن يقال :
إنّ المعروف من معنى الكشف وإن كان ذلك إلّا أنّه بحسب الواقع أعمّ منه ومن تحقّق
الخروج عن الملك والدخول في ملك المشتري بالعقد المفروض وقوعه فضولاً في الزمان
المتأخّر عنه كما فيما نحن فيه ، والدليل على التعميم هو الجمع بين العمومات
وأدلّة الكشف في الإجازة.
وإلى ما شرحناه
ووجّهناه ينظر ما ذكره شيخنا في ردّ الوجه المذكور ، بقوله : «فيه منع كون الإجازة
كاشفة مطلقاً عن خروج المال عن ملك المجيز من حين العقد حتّى فيما لو كان المجيز
غير مالك حين العقد ، فإنّ مقدار كشف الإجازة تابع لصحّة البيع ، فإذا ثبت بمقتضى
العمومات أنّ العقد الّذي أوقعه البائع لنفسه عقد صدر من أهل العقد في المحلّ
القابل للعقد عليه ، ولا مانع من وقوعه إلّا عدم رضى مالكه ، فكما أنّ مالكه
الأوّل إذا رضي يقع البيع له ، فكذلك مالكه الثاني إذا رضي يقع البيع له ، ولا
دليل على اعتبار كون الرضا المتأخّر ممّن هو مالك حال العقد ، وحينئذٍ فإذا ثبت
صحّته بالدليل فلا محيص عن القول بأنّ الإجازة كاشفة عن خروج المالك عن ملك المجيز
في أوّل أزمنة قابليّته ، إذ لا يمكن الكشف فيه على وجه آخر ، فلا يلزم من التزام
هذا المعنى على الكشف محال عقلي ولا شرعي حتّى يرفع اليد من أجله عن العمومات
المقتضية للصحّة ، فإن كان ولا بدّ من الكلام فينبغي في المقتضي للصحّة ، أو في
القول بأنّ الواجب في الكشف عقلاً أو شرعاً أن يكون عن خروج المال عن ملك المجيز
وقت العقد.
وقد عرفت أن لا
كلام في مقتضى الصحّة ، ولذا لم يصدر من المستدلّ على البطلان ، وأنّه لا مانع
عقلاً ولا شرعاً من كون الإجازة كاشفة من زمان قابليّة تأثيرها.
ولا يتوهّم أنّ
هذا نظير ما لو خصّص المالك الإجازة بزمان متأخّر عن العقد ، إذ
التخصيص إنّما يقدح مع القابليّة ، كما أنّ تعميم الإجازة لما قبل ملك
المجيز ـ بناءً على ما سبق في دليل الكشف من أنّ معنى الإجازة إمضاء العقد من حين الوقوع
أو إمضاء العقد الّذي مقتضاه النقل من حين الوقوع ـ غير قادح مع عدم قابليّة
تأثيرها إلّا من زمان ملك المجيز للمبيع» انتهى.
أقول : يمكن
منع المقتضي للصحّة فإنّ العمومات مخصّصة بأدلّة اشتراط الرضا في صحّة العقد ،
والقدر المتيقّن منه وإن كان رضا المالك المقارن للعقد غير أنّه بملاحظة أدلّة
الولاية جعل ذلك الرضا أعمّ من رضا المالك ورضا وليّه ، وبملاحظة أدلّة الوكالة
جعل ذلك الأعمّ أعمّ من رضا المالك أو وليّه أو وكيل أحدهما ، وبملاحظة أدلّة صحّة
الفضولي مع الإجازة جعل أعمّ ممّا ذكر ومن رضا العاقد الفضولي الّذي أمضاه المالك
بالإجازة الّتي هي إمضاء لعقده ، والقدر المتيقّن منه رضاه الّذي أمضاه المالك حال
العقد.
وأمّا كونه
أعمّ منه وممّا أمضاه المالك بعد العقد فلا يمكن إثباته بالعمومات المخصّصة بالرضا
، بل لا بدّ من استظهاره من أدلّة اعتبار الإجازة في عقد الفضولي الدالّة على كون
شرط الصحّة هنا رضا العاقد الّذي أمضاه المالك ، لكون الإجازة هو إمضاء العقد
الواقع فضولاً. ولا يستفاد من تلك الأدلّة أزيد من اعتبار إجازة المالك حين العقد
، فإنّ العمدة منها قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في رواية عروة البارقي : «بارك الله في صفقة يمينك»
وقوله في صحيحة محمّد بن قيس : «خذ ابنه الّذي باعك الوليدة» مع قول الراوي : «فلمّا
رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه» فإنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الأوّل مالك للثمن حين العقد ، ومالك الوليدة في
الثاني مالك للمبيع حال العقد ، وليس فيهما عموم ولا إطلاق يتناول غير المورد ،
فلا يقال : إنّ ذلك تخصيص للعامّ بالمورد.
ولو توهّم
إثبات التعميم بالإجماع الّذي هو أيضاً من أدلّة اشتراط الإجازة في عقد الفضولي ،
لدفعه أنّ القدر المتيقّن من معقد الإجماع هو إجازة من كان مالكاً حين العقد ،
وأمّا من ملك بعد العقد كنفس العاقد فاندراجه في معقد الإجماع غير ظاهر بل المعلوم
خلافه لمكان الخلاف في المسألة ، فلا إجماع على كفاية إجازة المالك بعد العقد.
__________________
لا يقال : يمكن
إثبات التعميم بقوله تعالى : «إِلّا أَنْ تَكُونَ
تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» فإنّ رضا
العاقد الفضولي الّذي أمضاه المالك بعد العقد نوع من التراضي فيشمله الآية ، لمنع
شمول الآية فإنّ «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» ليست بلفظ عامّ بل نكرة في سياق الإثبات ، وهي لا تفيد
العموم وغايته الإطلاق وينصرف إلى الشائع من أفراد الرضا ، وهو رضا المالك حين
العقد ، فرضا غير المالك حين العقد الّذي أمضاه المالك بعده كنفس العاقد ليس
مشمولاً لأدلّة الإجازة في الفضولي ، ولزم منه أن لا يكون العقد المقارن لهذا
الرضا مشمولاً للعمومات المقتضية للصحّة ، لفرض كونها مخصّصة بأدلّة الرضا ، فيرجع
فيه إلى الأصل الأوّلي وهو أصالة الفساد.
وثانيها : أنّ
صحّة العقد يستلزم عدم صحّته وهو محال ، وبيانه أنّ صحّة العقد الأوّل بسبب
الإجازة على الكاشفيّة تستلزم مالكيّة العاقد المجيز حال الإجازة ، ومالكيّته
تستلزم صحّة العقد الثاني وهي تستلزم عدم صحّة العقد الأوّل ليكون المال باقياً
على ملك مالكه الأصلي وينتقل منه إلى العاقد. وقد يقرّر ذلك بأنّ صحّة العقد
الأوّل بإجازة الفضولي متوقّفة على مالكيّته ، وهي متوقّفة على صحّة العقد الثاني
وهي متوقّفة على بقاء المال على ملك مالكه الأصلي ، فيكون صحّة الأوّل مستلزمة لكون
المال المعيّن ملكاً لمالك وملكاً للمشتري معاً في زمان واحد وهو محال لتضادّهما ،
فوجود الثاني وهو كونه ملكاً للمشتري يقتضي عدم الأوّل وهو موجب لعدم الأوّل أيضاً
، فيلزم وجوده وعدمه في آن واحد وهو محال.
فإن قلت : مثل
هذا لازم في كلّ عقد فضولي لأنّ صحّته متوقّفة على الإجازة المتوقّفة على بقاء ملك
المالك ، ومستلزمة لملك المشتري كذلك فيلزم كونه بعد العقد ملك المالك والمشتري
معاً في آنٍ واحد ، فيلزم إمّا بطلان عقد الفضولي مطلقاً ، أو بطلان القول بالكشف
، فلا اختصاص لهذا الإيراد بما نحن فيه.
قلنا : يكفي في
الإجازة ملك المالك ظاهراً وهو الحاصل من استصحاب ملكه السابق ، لأنّها في الحقيقة
رفع اليد وإسقاط للحقّ ، ولا يكفي الملك الصوري في العقد
__________________
الثاني. وردّه شيخنا قدسسره «بأنّ القائل بالصحّة ملتزم بكون الأثر المترتّب على العقد الأوّل بعد
إجازة العاقد له ، هو تملّك المشتري له من حين ملك العاقد ، لا من حين العقد
الأوّل ، وحينئذٍ فتوقّف إجازة العاقد الأوّل على صحّة العقد الثاني مسلّم ،
وتوقّف صحّة العقد الثاني على بقاء المال على ملك مالكه الأصلي إلى زمان العقد
مسلّم أيضاً ، ولكن دعوى أنّ صحّة الأوّل يستلزم كون المال ملكاً للمالك والمشتري
في زمان واحد ممنوعة ، لأنّه إنّما يلزم ذلك لو ادّعي وجوب كون الإجازة كاشفة عن
الملك حين العقد وهذا ممنوع كما تقدّم ، بل يكفي فيها الكشف عن الملك في الزمان
المتأخّر عن العقد وهو زمان العقد الثاني»
أقول : مبنيّ
ذلك على ما تقدّم من تصحيح العقد بدعوى وجود المقتضي لصحّته وهو العمومات الشاملة
له ، مع التأويل في الإجازة الكاشفة بجعلها أعمّ من إجازة من كان مالكاً حين العقد
الأوّل ومن صار مالكاً بعده بالعقد الثاني وهو العاقد ، وقد عرفت منع وجود المقتضي
للصحّة بمنع شمول العمومات لذلك العقد فيرجع فيه إلى الأصل الأوّلي المقتضي
للفساد.
وأمّا ما أورده
المورد في السؤال على مطلق الفضولي على القول بالكشف من لزوم كون المال حال
الإجازة ملكاً للمجيز والمشتري معاً ، فقد يقال عليه بأنّه غير الإشكال الّذي
استنتجه من المقدّمات المذكورة وأورده على المستدلّ وهو لزوم كون المال ملكاً
للمالك الأصلي والمشتري معاً في زمان واحد وهو زمان العقد ، وزيد عليه «بأنّه يلزم
بناءً على هذا الإشكال على القول بالكشف اجتماع ملّاك ثلاث على ملك واحد المالك
الأصلي والمشتري والعاقد ، لوجوب الالتزام بمالكيّة المالك الأصلي ليصحّ منه العقد
الثاني ، والالتزام بمالكيّة المشتري لأنّ الإجازة كاشفة ، والالتزام بمالكيّة
العاقد أيضاً لأنّ المشتري يتلقّى الملك منه وإلّا لم ينفع إجازته.
ثمّ اعترض على
ما أجاب به عن الإشكال الوارد في مطلق الفضولي بأنّه ممّا لا يسمن ولا يغني ، لأنّ
الإجازة إذا وقعت فإن كشفت عن ملك المشتري قبلها كشفت
__________________
عمّا يبطلها ، لأنّ الإجازة لا تكون إلّا من المالك الواقعي ، والمالك
الظاهري إنّما يجدي إجازته إذا لم ينكشف كون غيره مالكاً حين الإجازة ، ولذا لو
تبيّن في مقام آخر كون المجيز غير مالك لم تنفع إجازته ، لأنّ المالكيّة من
الشرائط الواقعيّة دون العلميّة» .
وأمّا ما ذكره
في الفرق بين الإجازة والعقد بكفاية الملك الظاهري في الاولى دون الثاني ، فاورد
عليه بأنّه تحكّم صرف ، خصوصاً مع تعليله بأنّ الإجازة رفع لليد وإسقاط للحقّ ،
فإنّ مناط كفاية الملك الظاهري عدم تبيّن انتفائه في الواقع ، وحيث لم يتبيّن ذلك
كفى في المقامين ، وحيث تبيّن انتفاؤه لم يكف في المقامين.
أقول : التحقيق
أنّ مناط صحّة الإجازة ـ على القول بالكشف في مطلق عقد الفضولي ـ كون المجيز مالكاً
أصليّاً وهو من كان مالكاً قبل العقد ، ولا ينوط باعتبار الملك الظاهري بمقتضى
استصحاب الحالة السابقة ، لأنّ الاستصحاب مع تبيّن خلاف المستصحب ممّا لا معنى له.
والسرّ في كفاية المالكيّة الأصليّة أنّ الإجازة إمضاء للعقد وهو في معنى إمضاء
رضا العاقد ، وهو إذا كان ممضى بإجازة المالك الأصلي شرط لصحّة العقد ، فتحقّقه في
الواقع يؤثّر في الصحّة من حين العقد وعدم تحقّقه في الواقع يؤثّر في عدم الصحّة ،
والكاشف عنهما إجازة المالك الأصلي وردّه ، فإنّ ردّه كشف عن عدم تحقّق شرط الصحّة
في الواقع ، وإن أجاز كشف عن تحقّقه في الواقع ، إلّا أنّ الفرق حاصل بين الردّ
والإجازة في أنّ الردّ يكون من المالك الأصلي مع بقاء ملكه حال الردّ ، والإجازة
يكون منه مع عدم بقاء ملكه حال الإجازة ، ولا ضير فيه إذا ساعد عليه الدليل وهو
جميع أدلّة اعتبار الإجازة في الفضولي الّتي عمدتها دلالة قوله عليهالسلام في صحيحة محمّد بن قيس : «خذ ابنه الّذي باعك الوليدة
حتّى ينفّذ لك البيع».
وثالثها : أنّ
الإجازة لمّا كشفت عن صحّة العقد الأوّل وعن كون المال ملك المشتري الأوّل ، فقد
وقع العقد الثاني على ماله ، فلا بدّ من إجازته كما لو بيع المبيع من شخص آخر فأجاز
المالك البيع الأوّل ، فلا بدّ من إجازة المشتري البيع الثاني أيضاً حتّى يصحّ
ويلزم ، فعلى هذا يلزم توقّف إجازة كلّ من الشخصين على إجازة الآخر ، وتوقّف
__________________
صحّة كلّ من العقد والإجازة على إجازة المشتري الغير الفضولي ، وهو من
الأعاجيب بل من المستحيل ، لاستلزام ذلك عدم تملّك المالك الأصيل شيئاً من الثمن
والمثمن ، وتملّك المشتري الأوّل المبيع بلا عوض إن اتّحد الثمنان ، ودون تمامه إن
زاد الأوّل ، ومع زيادة إن نقص ، لانكشاف وقوعه والثمن له ، وقد كان المبيع له
أيضاً بما بذله من الثمن وهو ظاهر.
واجيب عنه أيضاً
بابتنائه على وجوب كون الإجازة كاشفة عن الملك من حين العقد ، وهو ممنوع.
أقول : وقد
عرفت دفعه وإن كان ما ذكر فاسد الوضع من جهة اخرى ، ملخّصها منع الملازمة ، كما
يظهر وجهه بالتأمّل.
ورابعها : أنّ
من المعلوم أنّه يكفي في إجازة المالك وفسخه فعل ما هو من لوازمهما ، ولمّا باع
المالك ماله من الفضولي بالعقد الثاني فقد نقل المال عن نفسه وتملّك الثمن ، وهو
لا يجامع صحّة العقد الأوّل ، فإنّها تقتضي ملك المالك للثمن الأوّل ، وحيث وقع
الثاني يكون فسخاً له وإن لم يعلم بوقوعه ، فلا يجدي الإجازة المتأخّرة. وبالجملة
حكم عقد الفضولي قبل الإجازة كسائر العقود الجائزة بل أولى منها ، فكما أنّ
التصرّف المنافي مبطل لها كذلك عقد الفضولي.
أقول : هذا
واضح الدفع بأنّا إن لم نعتبر القول في ردّ عقد الفضولي واكتفينا بالردّ الفعلي
فلا أقلّ من اعتبار قصد إنشاء ردّه وفسخه به ، وكون المالك ببيعه المال من الفضولي
قاصداً لإنشاء فسخ العقد الأوّل أوّل الكلام بل محلّ منع ، خصوصاً إذا لم يلتفت
بوقوع العقد الأوّل ، وبدون قصده لا معنى لالتزام بطلانه وخروجه عن قابليّة
الإجازة.
نعم لو علم
باعتبار الخارج أنّه قصد ببيعه إنشاء فسخه فلا كلام في بطلانه حينئذٍ ، إلّا أنّ
ذلك جهة خارجة عن مفروض المسألة ، لأنّ الكلام في أنّ البيع المتخلّل بين العقد
الأوّل وإجازة الفضولي بعد تملّكه المبيع بما هو بيع من المالك فسخ له ومقتض
لبطلانه أم لا؟ والمانع عن ذلك مستظهر وإن رجع المورد إلى أنّ الإجازة حينئذٍ على
__________________
الكشف لا تكشف عن الصحّة وتملّك المشتري الغير الفضولي من حين العقد الأوّل
، بل تكشف عن تملّكه بذلك العقد من حين العقد الثاني ، وهذا خلاف معنى كشف الإجازة
فهو رجوع إلى وجه آخر تقدّم ذكره ، وكلامنا على هذا الوجه بعد الإغماض عن الوجه
السابق أو البناء على عدم تماميّته.
وقد يقرّر
الجواب عن هذا الوجه ، «بأنّ فسخ عقد الفضولي هو إنشاء ردّه ، وأمّا الفعل المنافي
لمضيّه ـ كتزويج المعقودة فضولاً نفسها من آخر وبيع المالك له المبيع فضولاً من
آخر ـ فليس فسخاً له ، خصوصاً مع عدم التفاته إلى وقوع عقد الفضولي ، غاية ما في
الباب أنّ الفعل المنافي لمعنى العقد مفوّت لمحلّ الإجازة ، فإذا فرض وقوعه صحيحاً
فات محلّ الإجازة ويخرج العقد عن قابليّة الإجازة ، إمّا مطلقاً كما في مثال
التزويج ، أو بالنسبة إلى من فات محلّ الإجازة بالنسبة إليه كما في مثال البيع ،
فإنّ محلّ الإجازة إنّما فات بالنسبة إلى الأوّل ، فللمالك الثاني أن يجيز.
نعم لو فسخ
المالك الأوّل نفس العقد بإنشاء الفسخ بطل العقد من حينه إجماعاً ، ولعموم تسلّط
الناس على أموالهم بقطع علاقة الغير عنها» .
أقول : وفي
التفصيل في خروج العقد الأوّل عن قابليّة الإجازة وعدمه بين المثالين منع واضح ،
لا لابتنائه على ما تقدّم من كفاية إجازة المالك الثاني في الصحّة ، فالوجه فيهما
الخروج عن القابليّة مطلقاً.
وخامسها : أنّه
لو باع مال الغير لنفسه ولعلّ المراد أنّه إن وقع الثمن للعاقد على حسبما قصد لا
للمالك مع وقوع المبيع للمشتري ، فهو خلاف مقتضى مفهوم المعاوضة وخلاف مقتضى
الصيغة المقتضية لدخول كلّ من العوضين في ملك مالك العوض الآخر ، وإن وقع للمالك
على خلاف ما قصده العاقد فهو موقوف على إجازته ، والمفروض عدم حصولها فيبطل. وهذا
في محلّه.
وسادسها : أنّا
حيث جوّزنا بيع غير المملوك مع انتفاء الملك ورضى المالك والقدرة على التسليم ،
اكتفينا بحصول ذلك للمالك المجيز لأنّه البائع حقيقة ، والفرض هنا عدم
__________________
إجازته وعدم وقوع البيع عنه ، وهذا راجع إلى سابقه. فهو أيضاً في محلّه.
وسابعها :
الروايات المقتضية عموماً أو خصوصاً فساد ذلك العقد.
أمّا الاولى :
فالمستفيضة عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الناهية «عن بيع ما ليس عندك» فإنّ النهي
فيها مقتض للفساد. وقد يقرّر وجه الاستدلال بها بأنّ النهي فيها إمّا لفساد البيع
المذكور مطلقاً بالنسبة إلى المالك وإلى المخاطب العاقد معاً فيكون دليلاً على
فساد عقد الفضولي مطلقاً ، وإمّا لبيان فساده بالنسبة إلى المخاطب العاقد خاصّة
فيكون دليلاً على عدم وقوع بيع مال الغير لبائعه مطلقاً ولو ملكه فأجاز ، بل الظاهر
إرادة بيان حكم صورة تملّكه بالخصوص ، وإلّا فعدم وقوعه له من دون أن يملكه بعد
بيعه ممّا لا يحتاج إلى البيان.
وأمّا الثانية
: فعدّة أخبار فيها الصحيح وغيره ، كصحيحة ابن مسلم قال : «سألته عن رجل أتاه رجل
فقال له : ابتع لي متاعاً لعلّي أشتريه منك بنقد أو نسيئة ، فابتاعه الرجل من أجله؟
قال : ليس به بأس ، إنّما يشتريه منه بعد ما يملكه» ووجه الدلالة
أنّ قوله عليهالسلام : «إنّما يشتريه منه ...» الخ تعليل لنفي البأس المقتضي
للصحّة ، فبمفهوم التعليل يدلّ على ثبوت البأس لو اشتراه منه قبل أن يملكه وهو
ظاهر في الفساد لأنّ المفهوم نقيض المنطوق.
وصحيحة منصور
بن حازم عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل أمر رجلاً ليشتري له متاعاً فيشتريه منه ، قال : لا بأس بذلك ،
إنّما البيع بعد ما يشتريه» ووجه دلالته كسابقه إلّا أنّ عموم التعليل في الأوّل
ربّما يتناول الملك بسبب غير اختياري بانضمام أنّ المورد لا يخصّص.
وعموم الخبرين
وإن كان يعمّ ابتياع المتاع الشخصي وابتياع المتاع الكلّي في الذمّة فبالمفهوم
يدلّان على الفساد فيهما ، إلّا أنّه يخصّصهما بالمتاع الشخصي ما دلّ من الروايات
على الصحّة في الكلّي :
كموثّقة إسحاق
بن عمّار عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام
__________________
عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ما ليس عنده فيشتري منه حالًّا قال : ليس
به [بأس] قلت : إنّهم يفسدونه عندنا ، قال : وأيّ شيء يقولون في السلم؟ قلت : لا
يرون به بأساً يقولون هذا إلى أجل فإذا كان إلى غير أجل وليس عند صاحبه فلا يصلح ،
فقال : فإذا لم يكن [إلى] أجل كان أجود ، ثمّ قال : لا بأس بأن يشتري الطعام وليس
هو عند صاحبه إلى أجل ...» الخ ، فإنّه قاضٍ بالصحّة في غير العين الشخصيّة ،
فيختصّ المحكوم بالفساد بمقتضى مفهوم التعليل في الصحيحين ببيع العين الشخصيّة قبل
أن يملكه البائع.
ومن الأخبار
الخاصّة مصحّحة يحيى بن الحجّاج قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل قال لي : اشتر هذا الثوب وهذه الدابّة وبعنيها
اربحك كذا وكذا ، قال : لا بأس بذلك ، اشترها ولا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو
تشتريها» .
ورواية خالد بن
الحجّاج قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرجل يجيئني فيقول : اشتر هذا الثوب واربحك كذا وكذا
، قال : أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك ، قلت : بلى ، قال : لا بأس ، إنّما يحلّل
الكلام ويحرّم الكلام» وغير ذلك من الروايات.
والجواب عن
الأخبار العامّة النبويّة فقد تقدّم عند الاستدلال بها على فساد مطلق عقد الفضولي
، ونزيد هنا أنّ الاستدلال ربّما يتمّ لو كان الواقع مكان «عندك» «لك» لظهوره
حينئذٍ فيما ليس ملكاً لك بخلاف «عندك» فإنّه ظرف مستقرّ وعامله المقدّر «حاصل أو
موجود» فيكون ظاهراً في بيع الكلّي في الذمّة الّذي ليس موجوداً عنده فيشتري الفرد
المطابق له ويردّه إلى المشتري ، ولمّا كان ذلك مخالفاً لنصوصنا وإجماع أصحابنا
فوجب إطراحها أو تأويلها بحمل النهي على الكراهة.
وأمّا الأخبار
الخاصّة ، فأُجيب عنها تارةً بما ملخّصه : أنّ دلالتها على النهي عن
البيع قبل الملك ممّا لا مساغ لإنكاره ، وأنّ دلالة النهي على الفساد أيضاً ممّا
لا مجال لإنكاره ، وأنّ الفساد عبارة عن عدم ترتّب الآثار أيضاً ممّا لا كلام فيه
، ولكن يكفي في ذلك عدم ترتّب الآثار المقصودة للمتبايعين ، وهو لزوم البيع بحيث
يتسلّط المشتري
__________________
على أخذ المبيع والبائع على أخذ الثمن ويجوز لهما التصرّف فيما أخذاه ،
وهذا لا ينافي قابليّته لأن يترتّب الآثار عليه بالإجازة عقيب التملّك حين الإجازة
أو حين التملّك.
ويزيّفه أنّه
خروج عن مقتضى فساد النهي لأنّ معنى فساد النهي عدم ترتّب شيء من الآثار على
البيع بحيث يكون وجوده بمثابة عدمه ، وما ذكر تفصيل في الآثار بين الآثار الفعليّة
بعدم الترتّب والآثار المتأخّرة بالترتّب ، ولا يتحمّله النهي إلّا بإخراجه إلى
الإرشاد إلى أنّ الآثار الفعليّة المقصودة لا تترتّب والآثار المتأخّرة الغير
المقصودة تترتّب ، ولا يسلّم ذلك إلّا بدليل ولا دليل عليه.
إلّا أن يقال :
إنّ ذلك إنّما يتوجّه لو كان هناك نهي لفظي ، والمفروض في الأخبار الخاصّة خلافه ،
لأنّ غاية ما فيها دلالة التعليل بمفهومه على ثبوت البأس في بيع المال قبل أن
يملكه البائع ، ويكفي في صدقه عدم ترتّب الآثار المقصودة على ذلك ، ولا ينافيه
قابليّته لأن يترتّب عليه الآثار بالإجازة بعد الملك حينها أو حين الملك.
واخرى : بأنّه
يجب الاقتصار في الخروج عن عمومات الصحّة على مورد تلك الأخبار وهو وقوع البيع
للبائع بمجرّد العقد بالاستقلال من دون حاجة إلى إجازة لا من المالك الأصيل ولا من
البائع بعد تملّكه لأنّه الّذي يتبانى عليه المتبايعان ، وفساد عقد الفضولي على
هذا الوجه ممّا لا كلام فيه ، بل الكلام في صحّته وفساده على تقدير إجازة العاقد
بعد تملّكه ، ولا دلالة في الأخبار على الفساد فيبقى عمومات الصحّة سليمة ، وما
ذكرنا كونه مورد الأخبار هو الّذي ذكره العلّامة في التذكرة نافياً للخلاف في
فساده قائلاً : «لا يجوز أن يبيع عيناً لا يملكها ويمضي ليشتريها ويسلّمها ، وبه
قال الشافعي وأحمد ولا نعلم فيه خلافاً ، لقول النبيّ : لا تبع ما ليس
عندك ولاشتمالها على الغرر ، فإنّ صاحبها قد لا يبيعها وهو غير مالك لها ولا
قادر على تسليمها ، أمّا لو اشترى موصوفاً في الذمّة سواء كان حالًّا أو مؤجّلاً ،
فإنّه جائز إجماعاً» انتهى.
وأصرح منه
كلامه فيما تقدّم ذلك عند الجواب عن استدلال أهل القول ببطلان
__________________
عقد الفضولي رأساً ، وهو قوله : «والجواب : النهي في المعاملات [لا يقتضي]
الفساد ، ونصرفه إلى أنّه باع عن نفسه ويمضي فيشتريه من مالكه ، لأنّه ذكره جواباً
له حين سأله أن يبيع الشيء ثمّ يمضي ويشتريه ويسلّمه ، والقدرة على التسليم من
المالك موجودة إن أجازه» وحكي عن المختلف أيضاً «الإجماع على المنع» واستدلاله بالغرر وعدم
القدرة على التسليم ظاهر بل صريح في وقوع الاشتراء غير مترقّب لإجازة مجيز ، بل
وقع على وجه يلزم على البائع بعد البيع تحصيل المبيع وتسليمه ، فحينئذٍ لو تبايعا
على أن يكون العقد موقوفاً على الإجازة فاتّفقت الإجازة من المالك أو من البائع
بعد تملّكه لم يدخل في مورد الأخبار ولا في معقد الاتّفاق ، ولو تبايعا على أن
يكون اللزوم موقوفاً على تملّك البائع دون إجازته ، فظاهر عبارة الدروس أنّه من
البيع المنهيّ عنه في الأخبار المذكورة حيث قال : «وكذا لو باع ملك غيره ثمّ انتقل
إليه فأجاز ، ولو أراد لزوم البيع بالانتقال فهو بيع ما ليس عنده ، وقد نهى عنه» انتهى.
المسألة
الثانية : في الصحّة وعدمها مع عدم الإجازة ، ونحن لمّا بنينا في المسألة الاولى
على عدم الصحّة فلئلّا يصحّ في هذه المسألة طريق الأولويّة ، وذهب شيخنا قدسسره هنا إلى عدم الصحّة مع اختياره الصحّة في الاولى ،
قائلاً : بأنّه «قد ظهر ممّا ذكرنا في المسألة المذكورة حال المسألة الاخرى ، وهي
ما لو لم يجز المالك بعد تملّكه ، فإنّ الظاهر بطلان البيع الأوّل لدخوله تحت
الأخبار المذكورة يقيناً ، مضافاً إلى قاعدة «تسلّط الناس على أموالهم» وعدم
صيرورتها حلالاً من دون طيب النفس ، فإنّ المفروض أنّ البائع بعد ما صار مالكاً لم
يطب نفسه بكون ماله للمشتري الأوّل ، والتزامه قبل تملّكه بكون هذه المال المعيّن
للمشتري ليس التزاماً إلّا بكون مال غيره له.
اللهمّ إلّا أن
يقال : إنّ مقتضى عموم وجوب الوفاء بالعقود والشروط على كلّ عاقد وشارط هو اللزوم
على البائع بمجرّد انتقال المال إليه وإن كان قبل ذلك أجنبيّاً لا حكم لوفائه
ونقضه ، ولعلّه لأجل ما ذكرنا رجّح فخر الدين في الإيضاح بناءً على صحّة الفضولي صحّة العقد المذكور
بمجرّد الانتقال من دون توقّف على الإجازة.
__________________
قيل ويلوح هذا من
الشهيد الثاني في هبة المسالك وقد سبق استظهاره من عبارة الشيخ المحكيّة في المعتبر .
لكن يضعّفه :
أنّ البائع غير مأمور بالوفاء قبل الملك فيستصحب ، والمقام مقام استصحاب حكم
الخاصّ ، لا مقام الرجوع إلى حكم العامّ فتأمّل ، مضافاً إلى معارضة العموم
المذكور بعموم سلطنة الناس على أموالهم وعدم حلّها لغيرهم إلّا عن طيب النفس ،
وفحوى الحكم المذكور في رواية الحسن بن زياد المتقدّمة في نكاح العبد بدون إذن مولاه وأنّ
عتقه لا يجدي في لزوم النكاح لو لا سكوت المولى الّذي هو بمنزلة الإجازة» انتهى كلامه
رفع مقامه.
هذا كلّه فيما
لو دخل المال المبتاع فضولاً في ملك العاقد الفضولي بسبب اختياري كالاشتراء. وأمّا
لو دخل في ملكه بسبب غير اختياري كالإرث كما لو كان البائع ممّن يرث المالك فمات
المالك المورّث بعد بيعه من دون أن يجيزه فأجاز البائع الوارث بيعه ، ففي صحّته
والعدم قولان :
يظهر أوّلهما
من إطلاق العلّامة والشهيد في المختلف والدروس ، قال الأوّل في فصل النقد والنسيئة
: «ولو باع عن المالك فاتّفق انتقاله إلى البائع فأجاز فالظاهر أيضاً الصحّة ،
لخروجه عن مورد الأخبار» وقال ثانيهما : «وكذا لو باع ملك غيره ثمّ انتقل إليه
فأجاز» .
وعن ظاهر
العلّامة في القواعد والتذكرة عدم الصحّة ، أو الاستشكال فيها. وفيه نظر.
وكيف كان فمبنى
الخلاف إن كان على أنّ عقد الفضولي من العقود الجائزة ومن حكمها أنّها تبطل بموت
من له التصرّف فيها ـ كما في الوكالة والعارية والوديعة فعقد الفضولي أيضاً يبطل
بموت المالك ـ ففيه منع الصغرى والكبرى معاً :
أمّا الأوّل :
فلمنع كونه عقداً جائزاً بل هو عقد حيث صحّ لزم وحيث لم يلزم
__________________
لم يصحّ ، لأنّه على تقدير الإجازة صحّ ولزم ، وعلى تقدير الردّ لم يلزم
ولم يصحّ ، وهذا هو آية اللزوم ، وقبوله الردّ ليس معنى الجواز لأنّه على الكشف في
الإجازة مردّد قبلها بين الصحّة الملزومة للّزوم وعدم اللزوم الملازم لعدم الصحّة
، وعلى النقل فيها لم يتمّ بعد وإنّما يتمّ بها وإذا تمّ صحّ ولزم ، وقبوله الردّ
معناه قبوله البقاء على عدم التمام ، فالردّ إبقاء له على عدم التمام فيبطل بهذا
الاعتبار بخلاف العقود الجائزة فإنّ بناءها من أوّل الأمر على جواز خروج كلّ من
المتعاقدين عن الالتزام بمقتضى العقد من دون أن يكون فيها جهة لزوم.
وأمّا الثاني :
فلمنع كلّيّة الكبرى وبطلان كلّ عقد جائز بالموت ، وما يرى في العقود الثلاثة
المذكورة من البطلان بالموت فإنّما هو بدليل خاصّ بها ، والتعدّي منها إلى عقد
الفضولي قياس لا نقول به.
وإن كان على
كون الإجازة من الحقوق المنتقلة بالإرث إلى الوارث كحقّق الخيار وحقّ الشفعة وحقّ
قبول الوصيّة عند موت الموصى له لينتقل الموصى به إليه نظراً إلى أنّه مشروط بموت
الموصي وقبول الموصى له أو وارثه بعده ، ففيه أيضاً منع الصغرى ومنع البكرى معاً ،
على معنى منع كونها حقّاً ومنع انتقال كلّ حقّ.
أمّا الأوّل :
فلأنّ الحقّ عبارة عن سلطنة مخصوصة لإنسان على غيره من إنسان أو غيره والإجازة
ليست بذلك ، فإنّ اعتبارها في عقد الفضولي إنّما هو من جهة كون الرضا من شروط
الصحّة ، وهو إمّا رضى المالك أو رضى من أمضى رضاه المالك ، فهي على القول بالنقل
رضى من المالك ، وعلى القول بالكشف إمضاء لرضى العاقد ، ولا ريب أنّ الشرطيّة من
قبيل الحكم لا الحقّ فلا معنى لانتقاله بالإرث.
وأمّا الثاني :
فلمنع كلّيّة الكبرى لأنّ من الحقوق ما لا ينتقل ، كحقّ الرجوع في الطلاق ، وحقّ
القسم بين الزوجات ، وحقّ المضاجعة في كلّ أربعة ليال ليلة ، فانتقاله في الأمثلة
المتقدّمة بالدليل ولا يقاس عليها غيرها.
والظاهر أنّ
الفرق هو أنّ من الحقوق ما كان الموضوع مقوّماً له فإذا ارتفع الموضوع بالموت سقط
الحقّ ـ كحقّ الرجوع وأخويه ـ ومنها ما لا يكون الموضوع مقوّماً له فلا يسقط
بارتفاع الموضوع بالموت بل ينتقل إلى الورثة كحقّ الخيار
وأخويه. وكون حقّ الإجازة من قبيل القسم الثاني دون القسم الأوّل يحتاج إلى
دليل ، وحيث لا دليل عليه فيبقى الشكّ في انتقالها ، والأصل يقتضي العدم.
وإن كان على
توهّم وجود المانع من الصحّة ، وهو لزوم المحال لو صحّ بإجازة الوارث من استلزام
وجود الشيء عدمه واجتماع مالكين على ملك واحد في وقت واحد وغير ذلك ممّا تقدّم في
المسألة المتقدّمة ، ففيه : أنّه لا يتمّ على القول بالنقل في الإجازة لمنع
الملازمة ، وأمّا على القول بالكشف فيها فقد يدفع الملازمة أيضاً بنحو ما تقدّم في
المسألة المتقدّمة ، من أنّه إنّما يلزم إن فسّرنا الكشف بكشف الإجازة عن الصحّة
وحصول النقل والانتقال من حين العقد ، وأمّا إن فسّرناه بما هو أعمّ منه ومن الكشف
عن الصحّة في الزمان المتأخّر وهو زمان تملّك العاقد بالإرث فلا ، إلّا أنّه يرد
عليه ما قدّمناه.
وإن كان على
دعوى وجود المقتضي لصحّة هذا العقد فإنّه عقد صدر من أهله في المحلّ القابل للعقد
عليه فيشمله العمومات ، ففيه : أنّ كون المال المفروض محلّاً للعقد عليه أمر واضح
لا يمكن الاسترابة فيه ، وأمّا كون الواقع عليه صادراً من أهله أوّل الكلام ، فإنّ
العاقد الفضولي إنّما يسلّم كونه أهلاً إذا لحق عقده إجازة من كان مالكاً له قبل
العقد. وأمّا صيرورته أهلاً بلحوق إجازة من يرث المالك بعد العقد فيحتاج إلى دليل
وأيّ دليل قام بذلك؟
والّذي يسهّل
الخطب هنا هو أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّه إذا مات المالك انتقل بموته إلى
العاقد الوارث له شيء ، وهو إمّا ملك المبيع ، أو سلطنة المالك على إجازة العقد
الواقع عليه وعلى ردّه. واحتمال : عدم انتقال شيء إليه وصيرورته هنا بمثابة
الأجنبيّ ، ممّا لا يصغى إليه.
والظاهر بل
المقطوع به على القول بالنقل في الإجازة انتقال ملك المبيع إليه ، لعدم خروجه
بالعقد عن ملك مورّثه ، فيكون ممّا تركه الميّت فينتقل إلى وارثه ، وكذلك على
القول بالكشف ولكنّ ظاهراً من جهة الاستصحاب ، فإنّه لا يدري أنّه لو بقي المالك
حيّاً هل كان يختار إجازة العقد الواقع على ماله لتكشف عن خروجه عن ملكه ، أو
يختار ردّه ليكشف عن بقائه على ملكه ، فيشكّ في أنّه بالعقد المتعقّب لموته خرج عن
ملكه أولا بل هو باق على ملكه؟ ومن المعلوم أنّ الأصل بقاؤه فيكون هذا
الملك الظاهري أيضاً ممّا تركه الميّت فينتقل إلى وارثه.
وأمّا سلطنته
على الإجازة والردّ فمشكوك في انتقالها بالإرث ، والأصل عدمه.
لا يقال : إنّ
السلطنة على إجازة عقد الفضولي الواقع على المال وردّه من لوازم ملكه وإذا انتقل
الملزوم إلى الوارث لزمه انتقال لازمه أيضاً لأنّ ما هو من لوازم الملك المنتقل
إلى الوارث إنّما هو السلطنة على الإجازة والردّ في العقد الفضولي الّذي يقع على
المال بعد ذلك ، وأمّا السلطنة على إجازة العقد السابق وردّه فهي ليست من لوازم
ملك الوارث بل أمر زائد عليه ويشكّ في انتقاله مع الملك ، والأصل عدمه.
ثمّ إنّ هاهنا
مسألة اخرى تعرّض لذكرها العلّامة في القواعد والتذكرة قال : «لو باع مال أبيه بظنّ الحياة وأنّه فضولي فبان
أنّه ميّت حينئذٍ فالوجه الصحّة» وظاهر أنّ ذكر البيع والأب مثال وإلّا فحكم
المسألة يعمّ الصلح وغيره من عقود المعاوضة وبيع مال غير الأب من مورّث آخر له أو
أجنبيّ ، فعنوان المسألة على الوجه الكلّي نظراً إلى اتّحاد الدليل هو : ما لو باع
مالاً فضولاً باعتقاد أنّه لغيره فبان أنّه كان له فهل يصحّ وينفذ أو لا؟
وقد عرفت أنّ
العلّامة قال : «الوجه الصحّة» وعن المحقّق الثاني في جامع المقاصد عند شرح
العبارة حمل الصحّة في كلام مصنّفه على اللزوم ، وكأنّه استظهره من إطلاقه حيث لم
يعتبر فيه الوقوف على الإجازة ، ثمّ قال : «والأصحّ وقوفه على الإجازة» واحتمل عدم
الوقوف تعليلاً بكفاية قصد البيع ، ومعناه كفاية قصد الجنس بناءً على إلغاء قصد
الخصوصيّة وهو كونه فضوليّاً. وحكي عن العلّامة في هبات القواعد ما يومئ إلى كون
الصحّة إجماعيّة حيث ذكر ثمّة هبة الولد مال أبيه بظنّ الحياة فبان أنّه حينئذٍ
ميّت وادّعى فيه الإجماع على الصحّة ، ثمّ قال : «وكذا لو باع مال أبيه بظنّ
الحياة» الخ. بناءً على كون قوله : «وكذا» تشبيهاً للبيع على
الهبة في الحكم ومدركه معاً ، كما عن مفتاح الكرامة . وربّما منع
من كونه تشبيهاً في المدرك لمجرّد الاستبعاد.
__________________
وفي المحكيّ عن
الكفاية ما يومئ إلى دعوى الشهرة في الصحّة حيث ذكر في باب الهبات هبة الولد مال
أبيه بظنّ الحياة فبان أنّه ميّت فقال : «المشهور الصحّة ، وكذا لو باع مال أبيه
باعتقاد أنّه حيّ ثمّ بان أنّه ميّت» بناءً على أنّه تشبيه في الحكم والشهرة.
وعن الشهيد في
الدروس تعرّضه للمسألة والحكم فيها بالصحّة من دون دعوى إجماع
ولا شهرة.
وعن فخر
المحقّقين ما يومئ إلى تردّده في الصحّة حيث ذكر فيها وجهين
الصحّة وعدمها ولم يرجّح شيئاً منهما.
ثمّ إنّ
للمسألة صورتين ، إحداهما : ما لو باع مال غيره لنفسه فبان أنّه له ، واخراهما :
ما لو باعه للمالك ـ أي لمن اعتقد كونه مالكاً ـ فبان أنّه له. وإطلاق كلام
العلّامة وغيره في الحكم بالصحّة يعمّ الصورتين ، غير أنّ في كلام ولده ما هو ظاهر
في أنّ معقد المسألة الصورة الثانية حيث إنّه استدلّ على عدم الصحّة بوجوه يأتي
نقلها ، ومنها : أنّه باع عن الأب لا عنه.
وكيف كان فأمّا
الصورة الاولى فأقوى الاحتمالين فيها وأصحّهما الصحّة ، لأنّه عقد صدر من أهله في
محلّه فيشمله العمومات المقتضية للصحّة ، أمّا كونه في محلّه لأنّه وقع على ما هو
ملك للعاقد في الواقع ، وأمّا كونه صدر من أهله لأنّ المفروض كون العاقد هو المالك
في الواقع واعتقاد كونه لغيره مع فرض عدم مطابقته الواقع غير قادح في الصحّة لأنّ
وجوده بمثابة عدمه ، فالصحّة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيها. نعم إنّما الكلام في
لزومه من دون إجازة وعدم لزومه إلّا بالإجازة ، ومرجعه إلى أنّه هل يقف لزوم هذا
العقد على إجازة العاقد بعد تبيّن كونه مالكاً أو لا؟ والّذي يترجّح في النظر
القاصر عدم وقوفه عليها ، فإنّ الإجازة في الفضولي إنّما تعتبر من جهة أنّ رضا
المالك شرط للصحّة وينوب منابه رضى العاقد إذا أمضاه المالك بإجازته العقد ، ورضا
المالك هاهنا حاصل مقارناً للعقد ، لفرض كون العاقد مالكاً فهو ليس من رضا غير
المالك حتّى يفتقر إلى إمضاء المالك بإجازته.
__________________
لا يقال : إنّ
المالك الّذي هو العاقد إنّما رضى بالعقد على أنّه فضولي لا على أنّه مالكي ،
والمقصود من الاستدلال تصحيح هذا البيع على أنّه مالكي ، لا على أنّه فضولي ، فما
قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، فلا بدّ من الإجازة لأنّ العقود تتبع القصود.
لأنّا نقول :
إنّ الفضوليّة والمالكيّة في العقد ليستا من أركانه ، فلا يندرج قصدهما في القصود
الّتي تتبعها العقود.
نعم يمكن أن
يقال : إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ لو كان مبنى العقد على المداقّة بحيث أحرز فيه
العاقد كون بيع المال صلاحاً مع موافقته الغرض في الثمن المسمّى فيه ، وأمّا لو
كان مبناه على المسامحة باعتبار اعتقاد العاقد كونه بيعاً لمال الغير فلم يحرز فيه
كون أصل البيع صلاحاً ولا كون الثمن المسمّى فيه موافقاً للغرض ، بحيث لو علم كون
المال له لم يبعه لعدم كونه صلاحاً أو لم يرض بذلك الثمن لعدم موافقته غرضه.
وحينئذٍ فلو الزم على البيع من دون اعتبار إجازته لزم الضرر وهو منفيّ في الإسلام
، إلّا أن يقال : إنّه ضرر أقدم هو عليه وأدخله على نفسه. ولكن يدفعه أنّه أقدم
عليه على أنّ المبيع لغيره فلم يقدم على ضرره من حيث إنّه ضرره ، هذا.
ولكن التحقيق
أنّ إثبات حقّ الإجازة فيما نحن فيه بقاعدة الضرر ليس في محلّه ، لأنّها إنّما
يتمسّك بها لإثبات حقّ الخيار لا لإثبات حقّ الإجازة ، والفرق بينهما أنّ حقّ
الإجازة يثبت في كلّ عقد يكون متزلزلاً في حدوثه كعقد المكره وعقد الفضولي ، وحقّ
الخيار يثبت في عقد متزلزل في بقائه ، ولذا تراهم أنّهم لإثبات اعتبار الإجازة في
عقد الفضولي تمسّكوا بالأدلّة الخاصّة من إجماع أو نصّ لا بقاعدة نفي الضرر ،
والمفروض في المقام عدم تزلزل العقد في حدوثه لعدم الشكّ في صحّته وتأثيره من حينه
، لأنّ تزلزل العقد في الفضولي إنّما نشأ من عدم مقارنته لرضا المالك وهو فيما نحن
فيه مقارن لرضاه فلا جهة لكونه متزلزلاً في حدوثه ، واعتقاد كون المال لغيره على
خلاف الواقع لا يوجب التزلزل في حدوثه مع مقارنته لشرط التأثير ، وتقدير عدم الرضا
بتقدير علمه بكون المال له لا يصير الموجود معدوماً.
نعم لو شكّ في
تزلزله في بقائه وعدمه وجرى فيه قاعدة نفي الضرر أمكن فيه الالتزام بحقّ الخيار ،
وهذا لا ينافي عدم وقوف لزومه على الإجازة ، كما لا ينافيه
لو ثبت الخيار من جهة هذه القاعدة لظهور غبن أو عيب أو نحو ذلك.
نعم يبقى
الكلام في جريانها فيما بني على المسامحة حتّى يثبت بها حقّ الخيار الّذي يكفي في
سقوطه الرضا بالعقد وعدمه ، والّذي يساعد عليه النظر هو عدم جريانها هنا لعدم كون
الضرر المترتّب على المسامحة بحيث يسند عرفاً إلى الله سبحانه لو جعل اللزوم لهذا
العقد كما في موارد خياري الغبن والعيب ، بل إنّما يسند إلى البائع لمسامحته وهو
من فعله.
لا يقال : كما
أنّ المسامحة هاهنا أمر راجع إلى البائع ومن ثمّ يصحّ إسناد الضرر إلى نفسه فكذلك
الجهل بالقيمة أو العيب في موارد خيار الغبن أو العيب أمر راجع إلى البائع فينبغي
أن يسند الضرر إليه لا إلى الله لو جعل اللزوم للعقد ، لوضوح الفرق بين الفعل
الاختياري والوصف الغير الاختياري ، فإنّ اختياريّة الأوّل ممّا يصحّح في نظر
العرف إسناد الضرر إلى فاعله ، وعدم اختياريّة الثاني ممّا يوجب صرف النظر عنه ،
وإسناد الضرر إلى جاعل الحكم ففي الأوّل يقال : إنّ البائع سامح في بيعه فأدخل
الضرر على نفسه ، وفي الثاني يقال : إنّه تعالى جعل اللزوم للعقد فأدخل الضرر على
العاقد.
وأمّا الصورة
الثانية : فالأقوى فيها أيضاً هو الصحّة ، لوجود المقتضي وفقد المانع :
أمّا الأوّل :
فالعمومات الشاملة للمقام ، لكونه عقداً صدر من أهله في محلّه بالتقريب المتقدّم.
وأمّا الثاني :
فلأنّه ليس في المقام ما يحتمل كونه مانعاً إلّا ما حكي الاستدلال به على عدم
الصحّة عن الإيضاح ، من «أنّه إنّما قصد نقل المال عن الأب لا عنه ، ولأنّه وإن
كان منجّزاً في الصورة إلّا أنّه معلّق في المعنى لأنّ التقدير إن مات مورّثي فقد
بعتك ، وكالعابث عند مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبيع لغيره» .
وليس شيء منها
بشيء ولا يصلح للمانعيّة :
أمّا الأوّل :
فلما ذكرناه مراراً من أنّ قصد كونه عنه غير معتبر في الصحّة ، وقصد كونه عن غيره
غير قادح فيها ، بل البيع في وقوعه يتبع ملك المبيع والمفروض كونه له
__________________
فيقع عنه. وقد يقرّر الجواب بأنّه باع عن الأب على أنّه المالك ففي الحقيقة
باع عن المالك ، والمفروض أنّه المالك لا الأب ، غاية الأمر أنّه أخطأ في اعتقاد
كون المالك هو الأب ، والاعتقاد الخطئي لا يصرف البيع عن المالك الحقيقي إلى غيره.
وأمّا الثاني :
فلمنافاته الوجه الأوّل أوّلاً ، لأنّه يقتضي تقدير حياة أبيه لا موته ، ومع الغضّ
عن ذلك يتوجّه المنع إلى قصده التعليق المذكور ، وتقديره على الوجه المذكور انتزاع
تعليق غير مقصود له فلا يكون مؤثّراً في البطلان ، ولو سلّم أنّه مضمر له ولكنّه
ليس من التعليق المبطل ، وهو التعليق في اللفظ على شرط أو صفة بواسطة أداة الشرط
من كلمة «إن» و «لو» وما بمعناهما.
وأمّا الثالث :
فلأنّه إنّما يكون كالعابث إذا لم يقصد التلفّظ بالصيغة أو لم يقصد المعنى
الإفرادي أو لم يقصد المعنى التركيبي ، ومحلّ الكلام ما جامع شروط الصحّة ،
واعتقاد كون المبيع لغيره لا يؤثّر في انتفاء هذه القصود كلاًّ ولا بعضاً ، وإلّا
لاطّرد ذلك في مطلق عقد الفضولي ، وهو كما ترى.
ثمّ إنّ الكلام
في عدم وقوفه على الإجازة نظير ما سبق في الصورة الاولى فإنّ الإجازة في عقد
الفضولي إنّما تعتبر من جهة كون رضا المالك شرطاً في صحّة العقد وينوب منابه رضى
العاقد إذا أمضاه المالك وإجازته إمضاء له ، ومفروض المقام مقارن لرضى المالك
الحقيقي ولا معنى لاعتبار إمضاء رضائه أو لا دليل عليه ، وإلى ذلك يرجع ما عن غير
واحد ممّن وافقنا من التعليل بأنّ المالك هو المباشر للعقد فلا وجه لإجازة فعل
نفسه.
وعن المحقّق
والشهيد الثانيين وقوفه في الصورتين على الإجازة ، ووافقهما بعض مشايخنا
قائلاً : «فالدليل على اشتراط تعقّب الإجازة في اللزوم هو عموم تسلّط الناس على
أموالهم ، وعدم حلّها لغيرهم إلّا بطيب أنفسهم ، وحرمة أكل المال إلّا بالتجارة عن
تراض. وبالجملة فأكثر أدلّة اشتراط الإجازة في الفضولي جارية هنا ... إلى أن قال :
وأمّا أدلّة اعتبار التراضي وطيب النفس فهي دالّة على اعتبار رضى المالك
__________________
بنقل خصوص ماله بعنوان أنّه ماله ، لا بنقل مال معيّن يتّفق كونه ملكاً له
في الواقع فإنّ حكم طيب النفس والرضا لا يترتّب على ذلك» انتهى.
ويشكل بأنّ
الاستدلال بهذه العمومات لإثبات اللزوم بعد البناء على صحّة أصل العقد ليس في
محلّه ، أمّا عموم تسلّط الناس على أموالهم فلأنّه يقتضي التسلّط على المال في
ابتداء البيع ، وأمّا إذا باع المالك الواقعي ماله الواقعي وفرض كون البيع صحيحاً
فهو يقتضي خروج المال عن كونه مالاً له ، ومعه لا يبقى لعموم هذا العامّ محلّ حتّى
يستدلّ به على إثبات توقّف اللزوم على الإجازة ، بل اللزوم يثبت بعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» من دون اشتراط له بالإجازة. وبناء الاستدلال على كون ذلك
المال بعد خروجه عن ملكه مالاً له باعتبار ما كان ، يوجب الاستعمال في المعنى
الحقيقي والمجازي معاً.
وفيه ما فيه ،
وأمّا أدلّة اعتبار طيب النفس والتراضي فلأنّها أدلّة يستدلّ بها على اشتراط
الصحّة بطيب النفس والتراضي على اشتراط اللزوم بهما ، حتّى أنّ الاستدلال بها على
اشتراط الإجازة في الفضولي فإنّما هو لإثبات اشتراط صحّة الفضولي بها لا اشتراط
اللزوم بها ، بل اللزوم لازم للصحّة من جهة عموم وجوب الوفاء بالعقد لا من جهة تلك
الأدلّة ، فالاستدلال بها لإثبات اشتراط اللزوم بالإجازة بعد الالتزام بأصل الصحّة
بدون الإجازة ليس في محلّه بل لا يخلو عن تهافت. فالوجه ما بيّنّاه من عدم اشتراط
اللزوم بالإجازة المستأنفة.
ومثل البيع
المفروض في الصحّة واللزوم من دون وقوف على الإجازة ما لو باع مالاً بعنوان
الفضوليّة عن المالك أو عن نفسه ثمّ بان كونه وليّاً على المالك باعتبار كونه
صغيراً أو وكيلاً عن المالك في بيعه فإنّه صحيح لازم لوجود المقتضي وفقد المانع ،
وقصد عنوان الفضوليّة غير قادح في الصحّة ولا اللزوم لعدم كون ذلك العنوان من
أركان العقد ليؤثّر قصده في عدم الصحّة أو عدم اللزوم إلّا مع الإجازة.
وأمّا عكس
المسألة بكلتا صورتيها ، وهو ما لو باع مالاً باعتقاد أنّه ماله ثمّ بان أنّه
لغيره ، فهو مندرج في عقد الفضولي فيلحقه أحكامه الّتي منها توقّف نفوذه على
الإجازة ،
__________________
وقصد عنوان كونه بيعاً مالكيّاً لا يقدح في لحوق أحكام عقد الفضولي بذلك
البيع ، لما عرفت من عدم كون هذا العنوان من أركان العقد ليترتّب على قصده أثر ،
فليتدبّر.
الأمر السابع :
فيما يتعلّق بالمجاز.
وفيه مسائل :
المسألة الاولى
: يعتبر أن يكون العقد جامعاً لجميع الشروط المعتبرة في تأثيره ممّا يرجع إلى
الصيغة ، وما يرجع إلى المتعاقدين ، وما يرجع إلى العوضين ، ويضبطها كون الأصيل
والفضولي معاً كاملين بالعقل والبلوغ قاصدين للتلفّظ والمعنى الإفرادي والمعنى
التركيبي ـ أعني الإنشاء ـ عالمين بالعوضين جنساً ووصفاً وقدراً مع طهارتهما
الأصليّة والانتفاع بهما وغير ذلك ، سوى القدرة على التسليم والرضا ، من غير فرق
فيه بين القولين في الإجازة بالكشف والنقل.
أمّا على
الأوّل : فلأنّ العقد سبب تامّ للنقل والانتقال والإجازة كاشفة عن تماميّته ، ولا
يعقل التماميّة إلّا باجتماعه جميع الشروط المعتبرة في تأثيره.
وأمّا على
الثاني : فلأنّ العقد إمّا تمام السبب والإجازة من شروط تأثيره ، أو جزؤه والإجازة
جزؤه الآخر ، وعلى أيّ تقدير فلا بدّ من اجتماعه للشروط.
ويتفرّع على ما
ذكرناه أنّه لا يكفي حصول الشرائط في طرف الأصيل ، ولا يقوم مقام حصولها للفضولي ـ
موجباً كان أو قابلاً ـ حصولها أو حصول جملة منها للمجيز حين الإجازة إلّا شرطان :
أحدهما :
القدرة على التسليم ، فيكفي حصولها للمجيز حال الإجازة ، ولا يعتبر حصولها للفضولي
أيضاً ، بل لا يمكن ذلك بالنسبة إليه بعد كونه ممنوعاً بحسب الشرع من التصرّف
والإقباض.
وثانيهما :
الرضا بوقوع الأثر في الخارج على القول بالنقل في الإجازة ، فيكفي حصوله للمالك
المجيز حال الإجازة ، ولا يعتبر حصوله للفضولي بل لو حصل كان وجوده بمثابة عدمه.
ومثل القدرة
على التسليم إسلام مشتري المصحف والعبد المسلم ، فيكفي فيه إسلام من له الإجازة
لأنّه المنتقل إليه ، ولا يعتبر إسلام الفضولي في اشترائه فلو كان
كافراً مع إسلام من له الإجازة لم يقدح في الصحّة. ولو انعكس الأمر على
معنى كون الفضولي مسلماً مع كفر من له الإجازة فالظاهر البطلان ، لانتفاء شرط
الصحّة فيمن انتقل إليه المبيع. وهل يعتبر في إسلامه حصوله من حين العقد باقياً
إلى حال الإجازة ، أو يكفي حصوله حال الإجازة فيما لو كان حين العقد كافراً فأسلم
فيما بينه وبين الإجازة ثمّ أجاز ، أو يفصّل بين القول بالكشف في الإجازة فيعتبر
حصوله من حين العقد إلى حال الإجازة والقول بالنقل فيها فيكفي حصوله حال الإجازة؟
وجوه ، أوجهها الأخير ، ووجهه واضح.
وهل يعتبر في
الشروط المعتبر حصولها حال العقد بقاؤها إلى حال الإجازة أو لا يعتبر ذلك ، أو
يفصّل بين القولين في الإجازة ، أو يفصّل بين شروط المتعاقدين فلا يعتبر وشروط
العوضين فيعتبر؟ وجوه.
والتحقيق أن
يقال : إنّ من شروط المتعاقدين ما لا يمكن بقاؤه كالقصود المعتبرة في الصيغة ،
ومنها ما لا يعتبر بقاؤه كالكمال فلو جنّ أحدهما أو كلاهما بعد العقد لم يضرّ.
وأمّا شروط العوضين فمنها : ما يعتبر بقاؤه على القول بالنقل في الإجازة لا الكشف
كالطهارة الأصليّة ، فلو بيع العصير فضولاً ثمّ انقلب فيما بين وقوع العقد ولحوق
الإجازة خمراً فعلى القول بالكشف لم يضرّ ، وعلى القول بالنقل لم ينفع الإجازة
فيبطل العقد. ومنها : ما يعتبر بقاؤه مطلقاً كمعلوميّة الجنس أو الوصف أو القدر ،
فلو طرأ الجهل بنسيانهما الجنس أو النوع أو الوصف لم ينفع الإجازة للزوم الغرر ،
ويمكن الاكتفاء في رفع الغرر بعلم المجيز لو كان متذكّراً لما وقع عليه العقد ،
وأمّا مع جهله فالوجه هو البطلان كما ذكرناه ، ولكنّ المسألة بعد غير خالية عن شوب
الإشكال.
المسألة
الثانية : هل يعتبر في المجاز ـ وهو العقد الواقع في الخارج ـ أن يكون معلوماً
للمجيز بالتفصيل باعتبار جنسه ككونه بيع داره لا إجارتها أو بالعكس وكونه بيع
جاريته لا نكاحها أو بالعكس وباعتبار نوعه ككونه بيعاً لداره لا صلحاً أو بالعكس
وباعتبار متعلّقه ككونه بيعاً لداره لا بستانه أو بالعكس ونحو ذلك ممّا يرجع إلى
الثمن ، أو يكفي كونه معلوماً له بالإجمال بأن يعلم بوقوع عقد في الخارج قابل
للإجازة ، أو يفصّل بين ما لو علم من حاله أنّه راضٍ بما وقع على جميع تقاديره
فيكفي فيه
الإجمال وما لو علم أنّه غير راضٍ به إلّا في بعض تقاديره فيعتبر التفصيل ،
أو يفصّل بين القولين بالكشف والنقل في الإجازة فيكفي الإجمال على الأوّل دون
الثاني؟.
والّذي يساعد
عليه النظر أنّه على القول بالنقل يعتبر العلم بالتفصيل لئلّا يلزم الغرر ، فإنّ
الإجازة إنّما يعتبر حينئذٍ لكون المكشوف عنها بالإجازة شرطاً في تأثير العقد ،
فهو رضا متأخّر حكمه كحكم الرضا المقارن ، فكما يعتبر في الرضا المقارن كما في
صورة مباشرة المالك لإجراء كون متعلّقه معلوماً بالتفصيل دفعاً للغرر فكذلك في
الرضا المتأخّر أيضاً يعتبر ذلك ، وهذا واضح.
وأمّا على
القول بالكشف فيفصل بين معلوميّة رضاه بجميع تقادير العقد الواقع فيكفي الإجمال
لأنّ الإجازة حينئذٍ إمضاء لرضا العاقد الحاصل بالفرض مقارناً لعلمه بالتفصيل
فيكفي في إمضائه الإجمال ، وبين معلوميّة عدم رضاه إلّا ببعض التقادير فيعتبر
التفصيل لئلّا يلزم إمضاء ما لا يرضى به في الواقع ، فليتأمّل.
المسألة
الثالثة : في العقود المترتّبة على المثمن أو الثمن أو هما معاً ثمّ لحقها الإجازة
، فإن أجاز الجميع صحّ الجميع ، وإن أجاز البعض فإن كان من العقود المترتّبة على
المثمن صحّ المجاز وما بعده ، وإن كان من العقود المترتّبة على الثمن صحّ المجاز
وما قبله ، هكذا ذكره في الروضة تبعاً لجماعة منهم الإيضاح والدروس .
وتنقيح المسألة
مع بيان دليل الصحّة في المجاز وما بعده في الشقّ الأوّل وفيه وما قبله في الشقّ [الثاني]
، وبيان ما اورد على إطلاق الحكمين ، والتعرّض لما استشكله العلّامة في بعض صور
المسألة وغير ذلك يستدعي الكلام في مقامات :
المقام الأوّل
: في ترتّب العقود على المثمن وهو سلعة الفضولي موجباً كان أو قابلاً ، كما لو باع
دار أحد بكتاب ثمّ باعها المشتري بسيف ثمّ باعها المشتري الثاني بفرس ، أو باعها
بمائة ثمّ باعها المشتري بمائتين ثمّ باعها المشتري الثاني بثلاثمائة فأجاز المالك
أحدها ، فإن كان الأخير اختصّ الصحّة به لأنّ بإجازته انتقل ملك الدار عنه إلى
المشتري الثاني ، وبطل سابقاه لعدم الإجازة ، وعقد الفضولي بدون الإجازة
__________________
باطل. وإن كان المتوسّط صحّ ذلك مع ما بعده لأنّ بإجازته انتقل ملك الدار
عنه إلى المشتري الثاني فهو في بيعه إيّاها بالفرس قد باع ملكه ، وبطل المتقدّم
لعدم إجازته. وإن كان الأوّل صحّ وما بعده جميعاً ، لأنّ بإجازته انتقل ملك الدار
عنه إلى المشتري الأوّل ، فكان كلّ من المشتريين في بيعهما إيّاها قد باعا ملكهما.
وأورد المحقّق
والشهيد الثانيان على إطلاق ذلك الحكم بأنّه لا يستقيم إلّا على القول
بكون الإجازة كاشفة إذ على هذا القول ينكشف بالإجازة خروج المبيع حين العقد المجاز
عن ملك المجيز ودخوله في ملك مشتريه فيكون ذلك المشتري ومن بعده في بيع ذلك المبيع
قد باع ملك ملكه ، وأمّا على القول بكونها ناقلة فالمبيع قد خرج عن ملك المجيز حال
الإجازة لا حين العقد المجاز فيكون بيع من انتقل إليه حينئذٍ بيعاً له قبل أن
يملكه ، فصحّته مبنيّة على صحّة ما لو باع مال غيره ثمّ ملكه بعد البيع. وقد تقدّم
أنّ فيه وجوهاً ثلاث. البطلان ، والصحّة مع عدم إجازة بائعه ، والصحّة مع وقوفها
على إجازته ، فعلى القول بالبطلان ـ كما هو الأقوى ـ اختصّت الصحّة بالمجاز.
المقام الثاني
: في ترتّب العقود على الثمن وهو سلعة الأصيل المدفوع عوضاً عن سلعة الفضولي ، وقد
سمعت أنّهم أطلقوا الصحّة في المجاز وما قبله ، وذلك لأنّه لا يملك الثمن في العقد
المجاز إلّا على تقدير تملّكه للأثمان في العقود السابقة عليه ، فصحّته تتوقّف على
صحّتها بخلاف العقود المتأخّرة لعدم الإجازة ، قال في الروضة على إطلاق الحكم
المذكور : «هذا إذا بيعت الأثمان في جميع العقود أمّا لو تعلّقت العقود على الثمن
الأوّل مراراً كان كالمثمن في صحّة ما اجيز وما بعده ، وهذا القيد وارد على ما
أطلقه الجميع في هذه المسألة كما فصّلناه أوّلاً ، مثاله ما لو باع مال المالك
بثوب ثمّ باع الثوب بمائة ثمّ باعه المشتري بمائتين ثمّ باعه مشتريه بثلاثمائة
فأجاز المالك العقد الأخير فإنّه لا يقتضي إجازة ما سبق بل لا يصحّ سواه ، ولو
أجاز الوسط صحّ وما بعده كالمثمن ، نعم لو كان قد باع الثوب بكتاب ثمّ باع الكتاب
بسيف ثمّ باع السيف بفرس فإجازة بيع السيف بالفرس تقتضي إجازة ما سبقه من العقود ،
لأنّه إنّما
__________________
يملك السيف إذا ملك العوض الّذي اشترى به وهو الكتاب ولا يملك الكتاب إلّا
إذا ملك العوض الّذي اشترى به وهو الثوب فهنا يصحّ ما ذكروه» انتهى.
أقول : قوله : «وهذا
القيد وارد على ما أطلقه الجميع» يمكن منع إطلاق الجميع بأنّ كلامهم مفروض في
العقود المترتّبة على الثمن من حيث الثمنيّة ، بأن يكون كلّ من العقود المتأخّرة
واقعاً على ما هو ثمن في سابقه مثل ما فرضه أخيراً ، فما فرضه من تعلّق العقود على
الثمن الأوّل مراراً ليس بداخل في إطلاق كلامهم حتّى يرد عليهم القيد.
ثمّ إنّ إطلاقه
في بيع الأثمان في جميع العقود بعدم صحّة ما سوى العقد الأخير الّذي أجازه إنّما
هو بالنسبة إلى العقود المترتّبة على الثمن الأوّل لا بالنسبة إلى العقد الأوّل
الواقع على مال المالك بإزاء الثوب المفروض كونه ثمناً في ذلك العقد ، فإنّ ذلك
العقد لا بدّ من صحّته ليكون الثوب بسببه ملكاً له حتّى يصحّ العقد الأخير الّذي
معنى صحّته دخول ثلاثمائة في ملكه ، فيكون إجازة ذلك الأخير متضمّناً لإجازة العقد
الأوّل الّذي بيع فيه المال بالثوب ، نعم إنّما لا يصحّ بيع الثوب بمائة وبيعه
بمائتين لعدم إجازتهما.
المقام الثالث
: فيما استشكله العلّامة في القواعد والنهاية ، فإنّه في القواعد بعد ما ذكر أنّ
بيع الفضولي موقوف على الإجازة على رأي قال : «وكذا الغاصب وإن كثرت تصرّفاته في
الثمن بأن يبيع الغصب ويتصرّف في ثمنه مرّة بعد اخرى فللمالك تتبّع العقود ورعاية
مصلحته ، ومع علم المشتري إشكال» انتهى.
وينبغي الإشارة
إلى فقه مسألة بيع الغاصب ليتّضح به وجه الاستشكال ، فنقول : إذا باع الغاصب العين
المغصوبة وأقبضها المشتري وأخذ منه الثمن ثمّ رجع المالك على المشتري بعينها ، فإن
كان المشتري جاهلاً بالغصب رجع على الغاصب بثمنه إجماعاً كما في مفتاح الكرامة ،
وإن كان عالماً به وكان الثمن تالفاً في يد الغاصب ففي الكتاب المذكور أنّه قد
أجمع الأصحاب على أنّه لا يرجع على الغاصب بالثمن ، وإن كان عينه باقية في يده ففي
الكتاب أيضاً أنّ ظاهرهم أيضاً أنّه لا يرجع عليه أيضاً بالثمن ، قال :
__________________
وفي ظاهر التذكرة وظاهر الإيضاح وغيره الإجماع عليه .
ثمّ اختلفت
الأنظار في محلّ الإشكال حسبما رامه العلّامة ، فعن الشهيد في حواشي القواعد يمكن
أن يكون الإشكال في صحّة البيع مع الإجازة وفي التتبّع معاً ، قال : «لأنّ المشتري
مع علمه بالغصب يكون مسلّطاً للبائع الغاصب على الثمن فلا يدخل في ملك ربّ العين ،
فحينئذٍ إذا اشترى به البائع متاعاً فقد اشتراه لنفسه وأتلفه عند الدفع إلى البائع
فيتحقّق ملكه للمبيع ، فلا يتصوّر نفوذ الإجازة هنا لصيرورته ملكاً للبائع ، وان
أمكن إجازة البيع مع عدم احتمال نفوذها أيضاً ، لأنّ ما دفعه إلى الغاصب كالمأذون
له في إتلافه ، فلا يكون ثمناً فلا تؤثّر الإجازة في جعله ثمناً ، فصار الإشكال في
صحّة البيع وفي التتبّع. ثمّ قال : إنّه يلزم من القول ببطلان البيع بطلان إجازة
البيع في المبيع ، لاستحالة كون المبيع بلا ثمن ، فإذا قيل إنّ الإشكال في صحّة
العقد كان صحيحاً» انتهى.
وعن القطب
الراوندي أنّه جعل الإشكال في التتبّع ، قال : «وجه الإشكال أنّ المشتري مع العلم
يكون مسلّطاً للبائع الغاصب على الثمن ، ولذا لو تلف لم يكن له الرجوع ، ولو بقي
ففيه الوجهان : فلا ينفذ فيه إجازة الغير بعد تلفه بفعل المسلّط بدفعه ثمناً عن
مبيع اشتراه ، ومن أنّ الثمن عوض عن العين المملوكة ولم يمنع من نفوذ الملك فيه
إلّا عدم صدوره عن المالك ، فإذا أجاز جرى مجرى الصادر عنه» انتهى.
وعن جامع
المقاصد جعل الإشكال في صحّة البيع وذكر في وجهه نحو ما ذكره الشهيد
أخيراً.
وفي مفتاح
الكرامة بعد نقل كلام عن الإيضاح «أنّه قد تحصّل أنّ هنا مقامين :
الأوّل : هل
للمشتري العالم بالغصبيّة مطالبة الغاصب البائع بالثمن مطلقاً سواء بقيت العين في
يده أم أتلفها أم ليس له المطالبة مطلقاً أم له مع بقائها خاصّة؟
__________________
الثاني : هل
بيع الغاصب مع علم المشتري بالغصب صحيح ، فللمالك تتبّع العقود والإجازة أم ليس
بصحيح؟» .
أقول : أمّا
التكلّم في المقام الأوّل فله محلّ آخر يأتي في مسألة رجوع المشتري على البائع
الفضولي بما اغترم وبثمنه على تقدير ردّ المالك العقد ورجوعه على المشتري بعينه ،
فإنّهم تكلّموا في رجوع المشتري العالم بالغصب وعدم رجوعه في هذه المسألة.
وأمّا التكلّم
في المقام الثاني فقد مضى عند البحث في معمّمات عقد الفضولي ، وقد ذكرنا ثمّة أنّه
لا فرق في صحّة عقد الفضولي مع الإجازة بين ما لو باع الفضولي للمالك أو لنفسه ،
كما لو اعتقد المال لنفسه جهلاً أو كان غاصباً ، ونقلنا القول ببطلان بيع الغاصب
مطلقاً ، أو مع علم المشتري بالغصب ، ونقلنا أدلّته ودفعناها فلا حاجة إلى الإعادة
هنا.
غير أنّه نزيد
هنا دفع ما عرفت عن الشهيد من دليل عدم صحّة هذا البيع مع علم المشتري «وهو أنّ ما
دفعه المشتري إلى الغاصب من الثمن كالمأذون له في إتلافه فلا يكون ثمناً فلا تؤثّر
الإجازة في جعله ثمناً فلا تؤثّر أيضاً في صحّة المبيع لاستحالة المبيع بلا ثمن» فإنّه على
إطلاقه غير جيّد ، لأنّ لبيع الغاصب مع علم المشتري بالغصب صورتين :
إحداهما : أن
يبيع الغاصب ويشتري العالم مع علمها بالفساد وعدم ترقّبهما لإجازة المالك وبنائهما
على عدم الاعتناء بشأنه ، ومرجعه إلى أنّ الغاصب يجعل البيع الصوري وسيلة للتوصّل
إلى الثمن والمشتري يجعله وسيلة للتوصّل إلى العين المغصوبة ، وهذا ممّا لا يستريب
أحد في بطلانه ، وحينئذٍ فالمشتري يصير غاصباً والعين مضمونة عليه حتّى يؤدّيها
إلى مالكها ، فإذا رجع المالك عليه بالعين فإن كان الثمن في يد الغاصب تالفاً فهو
لا يتسلّط على الرجوع عليه بغرامته لأنّه سلّطه على إتلافه مجّاناً ، وإن كان
باقياً في يده فلا ريب أنّه باقٍ على ملك المشتري ، وتسليطه الغاصب على إتلافه مع
أنّ المفروض عدم إتلافه له لم يخرجه عن ملكه. وتوهّم أنّه يخرجه عن ملك مالكه وإن
لم يدخله في ملك الغاصب أيضاً ، يدفعه استحالة الملك بلا مالك ، وقضيّة الملك أن
__________________
يتسلّط المالك على استرجاعه. ولو سلّم قيام احتمال خروجه عن الملك كفى في
نفيه استصحاب الحالة السابقة ، فيندرج في عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» فمقتضى
القواعد جواز رجوعه على الغاصب بثمنه المفروض بقاؤه في يده إلّا أن يكون هنا إجماع
على المنع ، كما استظهره صاحب مفتاح الكرامة فيما تقدّم ، ونسب ظهور نقله أيضاً إلى التذكرة
والإيضاح.
ثانيتهما : أن
يبيع الغاصب ويشتري المشتري العالم بالغصبيّة مترقّبين لإجازة المالك ، ففي مثل
ذلك لم يسلّطه على إتلافه مجّاناً فلو أجازه المالك وجب القطع بصحّته ، وحينئذٍ
فلو ردّه واسترجع عينه من المشتري رجع المشتري أيضاً على الغاصب بثمنه عيناً أو
بدلاً ، فإذا صحّ على تقدير الإجازة لزمه جواز تتبّع العقود على تقدير ترتّبها.
ثمّ قد عرفت
أنّهم في العقود المترتّبة على الثمن المجاز أحدها ، أطلقوا الحكم بصحّة المجاز
وما قبله. وهذا بإطلاقه على ما يترجّح غير جيّد ، إذ الصور المتصوّرة في إجازة
العقد المتأخّر مثلاً فيما لو باع الكتاب بثوب والثوب بسيف والسيف بفرس ثلاث :
الاولى : أن
يعلم من حال المجيز أنّه قصد بإجازته العقد المتأخّر إجازة ما سبقه من العقود
أيضاً. ولا ينبغي الاسترابة في صحّة الجميع حينئذٍ.
الثانية : أن
يعلم أنّه قصد إجازة خصوص المتأخّر دون ما سبقه. والوجه فيها بطلان الجميع ، لأنّ
معنى صحّة العقد المتأخّر في نحو المثال أن يكون المجيز مالكاً للفرس ، وهو موقوف
على أن يكون مالكاً للسيف في سابقه ، وهو موقوف على أن يكون مالكاً للثوب في العقد
الأوّل ، ومالكيّته للثوب في هذا العقد وللسيف في العقد الثاني موقوفة على
إجازتهما ، والمفروض عدم القصد إلى إجازتهما ، والإجازة المتعلّقة بالعقد الأخير
لا يرتبط بهما ، فهي بالنسبة إلى العقد الأخير من إجازة الأجنبيّ فلا تكون مؤثّرة
في ملك ثمن هذا العقد.
فإن قلت :
إجازة العقد المتأخّر تدلّ على إجازة العقود المتقدّمة بالدلالة الالتزاميّة
الاقتضائيّة ، وهي عبارة عن كون المدلول الالتزامي بحيث يتوقّف عليه صدق الكلام أو
__________________
صحّته عقلاً أو صحّته شرعاً ، وإجازة العقود المتقدّمة ممّا يتوقّف عليه صحّة
إجازة العقد المتأخّر.
قلت : الدلالة
الالتزاميّة الاقتضائيّة على ما حقّق في محلّه من الدلالات المقصودة ، ومعناها كون
المدلول الالتزامي بحيث يتوقّف على قصده صحّة الكلام والمفروض عدم كون إجازة
العقود المتقدّمة مقصودة ، فلم يتحقّق بالنسبة إليها دلالة اقتضاء.
فإن قلت :
قضيّة انتفاء القصد ثبوت دلالة الإشارة بالنسبة إلى صحّة العقود المتقدّمة ، وهي
أن يكون المدلول الالتزامي لازماً للمراد والمقصود من إجازة العقد المتأخّر.
قلت : أوّلاً
أنّ صحّة العقود المتقدّمة إنّما تكون لازمة للمراد من إجازة العقد المتأخّر على تقدير
تحقّق شرط الصحّة وهو الإجازة ، والمفروض عدم تحقّقه بعدم قصدها.
وثانياً : أنّ
صحّة العقود المتقدّمة غير مندرجة في ضابط دلالة الإشارة ، فإنّها دلالة عقليّة
تبعيّة والحاكم باللزوم فيها العقل بملاحظة الخطاب مع مقدّمة عقليّة من لزوم الكذب
أو الإغراء بالجهل أو تكليف ما لا يطاق أو قبح آخر لو لا كونه لازماً للمراد ، ولا
ريب أنّه لا يلزم بعدم صحّة العقود المتقدّمة لم يلزم في إجازة خصوص العقد المتأخّر شيء ممّا ذكر.
الثالثة : أن
يشكّ في قصده إجازة العقود المتقدّمة وعدم قصده لها فهل تلحق هذه الصورة بالصورة الاولى
فيحكم بصحّة الجميع لأصالة الصحّة ، أو تلحق بالصورة الثانية فيحكم ببطلان الجميع
لأصالة الفساد في المعاملات ، أو يفصّل بين أن يعلم أو يحتمل كونه حين إجازة العقد
المتأخّر ملتفتاً إلى ما سبقه من العقود فتلحق بالصورة الاولى ، وبين أن يعلم عدم
التفاته إلى ما سبقه فبالثانية؟ أوجه :
أوجهها الأخير
، أمّا الصحّة في الأوّلين فلأصالة الصحّة في فعل المجيز وقوله ، ويكفي في حمله
على الصحّة احتمال قصده إجازة العقود المتقدّمة أيضاً ، كما يكفي في احتمال القصد
احتمال التفاته حين الإجازة إليها فضلاً عن العلم به. وأمّا البطلان في الثاني
فلاستحالة قصد إجازة العقود المتقدّمة من إجازة العقد المتأخّر مع عدم الالتفات
إليها.
__________________
الأمر الثامن :
في أحكام الردّ ، وفيه مسائل :
المسألة الاولى
: في بيان ما يتحقّق به الردّ من القول الصريح والقول الغير الصريح وما بمعناه ،
والفعل. فأمّا القول الصريح في الردّ ـ كقوله : رددته ، أو فسخته ، أو أبطلته ، أو
أفسدته وما أشبه ذلك ـ فلا يمكن الاسترابة في تحقّق الردّ به وهو محلّ وفاق ، كما
أنّه لا ينبغي الاسترابة في عدم تحقّقه بالقول الغير الصريح في الردّ كقوله : ما
رضيت به أو لا أرضى به ، وما أجزته ، أو لا اجيزه ، وما أشبه ذلك.
وأولى منه بعدم
وقوع الردّ به السكوت الغير الكاشف عن الرضا فإنّه كما لا يكفي في الإجازة فكذلك
لا يكفي في الردّ ، وكذلك التردّد بين الإجازة والردّ فإنّه ليس ردّاً ، وكذلك
الكراهة سواء كانت حادثة بعد العقد أو مقارنة له مع الاطّلاع على العقد ومع عدمه.
وكلّ ذلك لأصالة بقاء اللزوم من طرف الأصيل وأصالة بقاء قابليّته للزوم من طرف
الفضولي.
ويظهر الثمرة
في كون القول الصريح ردّاً وعدم كون ما عداه من الامور المذكورة ردّاً في عدم
تأثير الإجازة الواقعة بعده على الأوّل ، وتأثيرها على الثاني.
وأمّا جواز أخذ
العين من المشتري على تقدير إقباضه إيّاها فهو ليس من أحكام الردّ ، بل من أحكام
عدم الإجازة فيكفي فيه عدم الإجازة ، ولذا يكون كلّ من الإقباض والقبض قبل الإجازة
محرّماً ، كما سبق بيانه.
وأمّا الفعل
فعلى أنحاء :
منها :
التصرّفات المخرجة للعين عن الملك من إتلاف أو عتق أو نقل بالبيع أو الصلح أو
الهبة.
ومنها :
التصرّفات المنافية لملك المشتري من حين العقد ، كاستيلاد الجارية ، وإجارة العبد
، وتزويج الأمة ، وما أشبه ذلك.
ومنها :
التصرّفات الغير المخرجة عن الملك ولا المنافية لملك المشتري من حين العقد ،
كتعريض المبيع للبيع الفاسد.
أمّا النوع
الأوّل : فالتصرّفات المخرجة عن الملك وإن لم تكن ردّاً للعقد إلّا أنّ مفادها
مفاد الردّ ، لأنّها على تقدير وقوعها صحيحة مفوّتة لمحلّ الإجازة لفرض
خروج العين عن ملك المالك فلا تؤثّر إجازته لو حصلت عقيب تلك التصرّفات.
وأمّا النوع
الثاني : فالتصرّفات المذكورة فيه وإن لم تكن مخرجة للعين عن قابليّة وقوع الإجازة
عليه لبقاء ملك العين ، إلّا أنّها مخرجة له عن قابليّة وقوع الإجازة عليه من حين
العقد ، لفرض وقوعها صحيحة فلا تصحّ مع صحّتها الإجازة الواقعة عليه من حين العقد
فيبطل العقد.
والأصل في ذلك
أنّ من حكم عقد الفضولي المجمع عليه عندهم قبوله الإجازة من زمان العقد ، وأنّ
للمالك أن يتصرّف في ماله قبل الإجازة بجميع أنواع التصرّفات حتّى التصرّفات
المذكورة المنافية لملك المشتري من زمان العقد مع كونها صحيحة وفاقاً من القائلين
بصحّة عقد الفضولي مع الإجازة ، وأنّ صحّة هذه التصرّفات تنافي وقوع الإجازة
مؤثّرة من زمان العقد ، كما أنّ وقوع الإجازة مؤثّرة من ذلك الزمان ينافي صحّة هذه
التصرّفات ، وأنّ من حكم المتنافيين أنّه إذا وقع أحدهما مؤثّراً استحال أن يقع
الآخر مؤثّراً لامتناع اجتماع المتنافيين. ونتيجة هذه المقدّمات أنّ وقوع هذه
التصرّفات صحيحة منافٍ لوقوع الإجازة مؤثّرة من زمان العقد ، فإذا وقع أحد
المتنافيين صحيحاً فلا بدّ من امتناع وقوع الآخر مؤثّراً ، أو من إبطال صاحبه ورفع
صحّته ، أو كشفه عن كون إيقاعه على غير وجه الصحّة ، ولا سبيل إلى الأخيرين ، إذ
لا دليل من عقل ولا نقل على كون الإجازة المتأخّرة عن التصرّفات الواقعة على وجه
مبطلة لها ورافعة لصحّتها ، والمفروض أنّها وقعت صحيحة في الظاهر والواقع فلا معنى
لكشف الإجازة المتأخّرة عن البطلان بحسب الواقع ، فتعيّن الأوّل.
ولذا يقال :
إنّ كلّما يكون باطلاً على تقدير لحوق الإجازة المؤثّرة من حين العقد فوقوعه
صحيحاً مانع من لحوق الإجازة مؤثّرة ، لامتناع اجتماع المتنافيين.
وتوهّم : منع
وقوع الإجازة مؤثّرة من حين العقد من أنّ المالك لو انتفع بالعين قبل الإجازة بالسكنى
واللبس والركوب وما أشبه ذلك كان عليه اجرة مثل هذه التصرّفات إذا أجاز بعدها ،
يدفعه : أنّ كلامنا في التصرّفات المنافية لملك المشتري من زمان العقد على القول
بالكشف في الإجازة ، والتصرّفات المذكورة ليست منافية لملكه فإذا أجاز كشفت عن
وقوعها في ملك المشتري فيجب عليه ردّ اجرة المثل إليه ، بخلاف ما نحن
فيه من التصرّفات المنافية لملكه.
لا يقال : لا
دليل على اشتراط قابليّة العقد لتأثير الإجازة من حينه ولذا صحّح جماعة إجازة
المالك الجديد فيمن باع شيئاً فضولاً ثمّ ملكه ثمّ أجاز ، لاندفاعه باتّفاق أهل
الكشف على كون الإجازة مؤثّرة من حين العقد ، مع أنّه تقدّم منّا بيان أنّ مقتضى
أدلّة الكشف في الإجازة كونها كاشفة من حينه لا في الزمان المتأخّر عنه.
فإن قلت : هذا
كلّه إنّما يتمّ على الكشف في الإجازة ، وأمّا على النقل فلا ، إذ الملك إذا حصل
بالإجازة حينها فلا ينافيه التصرّفات السابقة عليه ، فيجمع بين صحّتها وتأثير
الإجازة من حينها ، إلّا أن يدّعى ثبوت الملازمة بين القولين في عدم التأثير ، بأن
يقال : كلّما لم تكن الإجازة مؤثّرة من حين العقد على القول بالكشف لم تكن مؤثّرة
من حينها على القول بالنقل ، فيقع الكلام في ثبوت الملازمة وهو محلّ منع ، إذ لا
دليل عليها من عقل ولا نقل.
قلت : يمكن
دعوى ثبوت الملازمة العقليّة بأنّ الإجازة ليست مؤثّرة تامّة ، بل العمدة من
المؤثّر هو العقد والإجازة على الكشف محقّقة لشرط تأثيره وهو رضا العاقد الممضى
بإمضاء المالك والإجازة إمضاء ، وعلى القول بالنقل إمّا شرط لتأثيره أو جزء
للمؤثّر على معنى كون المؤثّر التامّ هو المجموع من العقد والإجازة ، وحينئذٍ
فمعنى كون صحّة التصرّفات المذكورة مانعة من وقوع الإجازة مؤثّرة من حين العقد
أنّها أخرجت هذا العقد الشخصي عن كونه في عرضة التأثير ، فإذا خرج العقد بتلك
التصرّفات عن كونه في عرضة التأثير فلا يتفاوت فيه الحال بين القول بالكشف والقول
بالنقل في الإجازة ، إذ لا يمكن أن يقال بأنّه على القول بالكشف خرج عن كونه في
عرضة التأثير وعلى القول بالنقل لم يخرج عن كونه في عرضة التأثير ، لاستحالة
اجتماع المتنافيين ، فإذا خرج على الكشف عن كونه في عرضة التأثير فلا بدّ وأن يخرج
على النقل أيضاً. وقضيّة ذلك ثبوت الملازمة المذكورة الّتي ملاكها استحالة اجتماع
المتنافيين.
فإن قلت : إنّ
المتنافيين إنّما يستحيل اجتماعهما بحسب الواقع ، وهو أن يقال : إنّ هذا العقد
الشخصي باعتبار القولين يكون في عرضة التأثير في الواقع ولا يكون في عرضة التأثير
في الواقع ، وهذا مبنيّ على صحّة كلّ من القولين ومطابقته الواقع وهي
مبنيّة على القول بالتصويب ، ولمّا كان التصويب باطلاً فلا محالة أحد
القولين باطل في الواقع وإن صحّ ظاهراً في نظر قائله ، وحينئذٍ فهذا العقد الشخصي
على حدّ الانفصال الحقيقي إمّا أن يكون في عرضة التأثير في الواقع أو لا يكون في
عرضة التأثير في الواقع ولا استحالة فيه ، والمفروض أنّ القائل بالنقل يدّعي كونه
في عرضة التأثير.
قلت : قد ذكرنا
أنّ التصرّفات المذكورة المفروض صحّتها قد أخرجته عن كونه في عرضة التأثير ، فلو
كان دائراً بين كونه في عرضة التأثير وعدم كونه في عرضة التأثير لزم منه كون
التصرّفات المذكورة دائرة بين الصحّة في الواقع والبطلان كذلك ، وهذا باطل بدليل
الخلف ، إذ لا كلام لأحد في صحّة هذه التصرّفات بل هو محلّ وفاق عند الفريقين ،
وصحّتها مستلزمة لخروج العقد عن عرضة التأثير في الواقع ومعه لا يمكن أن يكون في
عرضة التأثير في الواقع على القول بالنقل ، وإلّا لزم اجتماع المتنافيين في الواقع
وهو محال.
فإن قلت : إنّ
التصرّفات وإن كانت صحيحة على القولين إلّا أنّ صحّتها إنّما أخرجت العقد عن كونه
في عرضة التأثير لمنافاتها لملك المشتري ، والمنافاة إنّما تحصل على القول بالكشف
لا على القول بالنقل ، فإذا لم تكن منافية لملك المشتري في الزمان المتأخّر عن
وقوعها وهو زمان الإجازة لم تكن مؤثّرة في خروج العقد عن كونه في عرضة التأثير في
الواقع فلم يثبت الملازمة المدّعاة.
قلت : إنّ من
حكم المتنافيين أنّه إذا وقع أحدهما على محلّ في زمان استحال أن يقع الآخر عليه في
ذلك الزمان ، وذلك مثل السواد والبياض فإنّ السواد على تقدير وقوعه على الشيء
الأبيض كان منافياً لبياضه فيكون البياض الواقع عليه أيضاً منافياً للسواد ، وقد
ذكرنا أنّ من حكم المتنافيين أنّه إذا وقع أحدهما على محلّ في زمان استحال أن يقع
الآخر عليه في ذلك الزمان ، ووجه الاستحالة خروج المحلّ في ذلك الزمان عن قابليّته
لوقوع الآخر.
وحينئذٍ نقول :
إنّ الإجازة على تقدير وقوعها مؤثّرة في زمان التصرّفات المذكورة كانت على القول
بالنقل منافية لصحّة التصرّفات في ذلك الزمان فتكون صحّة التصرّفات الواقعة في ذلك
الزمان منافية لوقوع الإجازة فيه مؤثّرة على القول بالنقل ،
ولمّا كان التقدير تقدير وقوعها صحيحة فيستحيل وقوع الإجازة فيه مؤثّرة
لخروج المحلّ وهو العقد في ذلك الزمان عن قابليّته لوقوع الإجازة عليه مؤثّرة ،
ومعنى ذلك خروج العقد في ذلك الزمان عن كونه في عرضة التأثير على القول بالنقل
أيضاً ، فإذا خرج عن كونه في عرضة في ذلك الزمان لزمه خروجه عن كونه في عرضة
التأثير في سائر الأزمنة المتأخّرة عن ذلك الزمان ، إذ لا معنى لكون عقد فاسداً في
زمان ثمّ يصير صحيحاً في الأزمنة الاخر المتأخّرة عن ذلك الزمان فثبت الملازمة ،
وهي أنّ الإجازة كلّما لم تكن مؤثّرة من حين العقد على القول بالكشف لم تكن مؤثّرة
من حينها على القول بالنقل.
وأمّا النوع
الثالث : وهو التصرّفات الغير المنافية لملك المشتري من حين العقد كتعريض المبيع
فضولاً للبيع صحيحاً أو فاسداً ، وبيعه فاسداً وما أشبه ذلك. فلا يخلو إمّا أن لا
يكون حين ذلك الفعل ملتفتاً إلى وقوع العقد ، أو يكون ملتفتاً إلى وقوعه.
فإن كان الأوّل
فلا ينبغي الاسترابة في عدم كونه ردّاً للعقد ولا مبطلاً له ، أمّا أنّه ليس ردّاً
لافتقاره إلى قصد إنشاء الردّ وهو مع عدم الالتفات محال ، وأمّا أنّه ليس مبطلاً
لعدم منافاته ملك المشتري من زمان العقد.
وإن كان الثاني
فقد يقال : بأنّه مع الالتفات ردّ فعلي للعقد ، ملحق بالردّ القولي محتجّاً بوجوه
:
الأوّل : صدق
الردّ عليه ، فيشمله عموم ما دلّ على أنّ للمالك الردّ.
الثاني : أنّ
المانع من صحّة الإجازة بعد الردّ القولي موجود في الردّ الفعلي ، وهو خروج المجيز
بعد الردّ عن كونه بمنزلة أحد طرفي العقد.
الثالث : فحوى
الإجماع المدّعى على حصول فسخ ذي الخيار بالفعل كالوطئ والبيع والعتق ، فإنّ الوجه
في حصول الفسخ بهذه الأفعال هي دلالتها على قصد فسخ البيع ، وإلّا فتوقّفها على
الملك لا يوجب حصول الفسخ بها بل يوجب بطلانه لعدم حصول الملك المتوقّف على الفسخ
قبلها حتّى تصادف الملك. وتوضيح الفحوى أنّه إذا صلح الفسخ الفعلي لرفع أثر العقد
الثابت المؤثّر فعلاً صلح لرفع أثر العقد المتزلزل من حيث الحدوث القابل للتأثير
بطريق أولى.
ولا خفاء في
ضعف الجميع :
أمّا الأوّل :
فلمنع صدق الردّ عرفاً على الفعل المفروض عدم منافاته لصحّة العقد وعدم القصد به
إلى إنشاء الردّ. ودعوى : أنّ الالتفات إلى العقد حال الفعل ظاهر في قصد الردّ ،
يدفعها : منع الظهور لكونه أعمّ فإنّه قد يكون الباعث له على الفعل كراهته للعقد
الّتي تقدّم عدم كونها ردّاً ، ولو سلّم الظهور أو قام قرينة مقام على القصد
المذكور يتطرّق المنع إلى كفاية هذا الفعل وإن قصد به الردّ في تحقّق الردّ ورفع
أثر العقد ، لما حكاه المستدلّ من بعض معاصريه من ظهور دعوى الاتّفاق على اعتبار اللفظ
في الفسخ ، ولذا استشكل العلّامة في القواعد في بطلان الوكالة بإيقاع العقد الفاسد على متعلّقها مع
الجهل بفساده ، وعن الإيضاح وجامع المقاصد تقريره على الإشكال. وغاية ما هنالك بقاء شكّ في تأثيره
في رفع أثر العقد وخروجه عن قابليّة التأثير ، والأصل عدمه.
وأمّا الثاني :
فلمنع كون المانع في الردّ القولي ما ذكر ، بل خروج العقد عن قابليّة التأثير ،
ومعه لا يقع الإجازة مؤثّرة ولا تصير الفاسد صحيحاً ، وكون الفعل المفروض مثله في
إخراج العقد عن قابليّة التأثير أوّل المسألة.
وأمّا الثالث :
فلمنع الفحوى والأولويّة ، فإنّ الوطء والبيع والعتق إنّما تدلّ على قصد الفسخ
لتوقّفها على الملك ، فلا بدّ من إعادة الملك السابق برفع الملك اللاحق ولا يكون
إلّا بقصد الفسخ ، بخلاف الفعل المفروض فإنّه لعدم منافاته صحّة العقد لا يتوقّف
على الملك فلا يدلّ على قصد الفسخ. مآل الكلام إلى أنّ القدر المتيقّن من الردّ هو
الردّ القولي ، وفي حكمه ما يفوّت محلّ الإجازة بحيث لا يصحّ وقوعها مؤثّرة من حين
العقد.
المسألة
الثانية : في أنّه إذا لم يجز المالك بالمعنى الأعمّ من فسخه العقد أو امتناعه من
إجازته ، فإن كان ماله في يده فلا حكم له في الرجوع على المشتري ، كما أنّ المشتري
إن لم يقبض الثمن على البائع الفضولي لا حكم له في الرجوع عليه. وإن كان في يد
المشتري بإقباض البائع أو بقبض المشتري بنفسه من دون إقباضه فله انتزاعه
__________________
قولاً واحداً ، وهل له زائداً على ماله حقّ آخر يطالبه من المشتري من عوض
منافع أو بدل حيلولة أو غير ذلك ، أو لا؟
فنقول : إنّ
المال إمّا أن يكون ممّا له منافع يستحقّ الاجرة عليها كالعبد والجارية والدار
والدابّة والثوب ، أو لا يكون له منافع كالدينار والدرهم والعين من الذهب أو
الفضّة ، ومثّل له في التذكرة بالغنم والشجر والطير.
وعلى الأوّل
إمّا أن يكون المشتري قد انتفع به واستوفى منافعه أو لا ، والمصرّح به في كلام
جماعة كالمبسوط والقواعد والتذكرة وجامع المقاصد ومفتاح الكرامة وغيرها أنّه يستحقّ مطالبة اجرة المنافع المستوفاة
والمنافع التالفة في يد المشتري ، وعليه ردّها إليه. والظاهر أنّه ممّا لا خلاف
فيه ، وفي مواضع عديدة من التذكرة ما ظاهره دعوى الإجماع عليه ، بل كلامه في بعض
المواضع صريح فيه حيث قال : «منافع الأموال من العبيد والثياب والعقار وغيرها
مضمونة بالتفويت والفوات تحت اليد العادية ... إلى أن قال : بأن بقيت في يده مدّة
لم يستعملها عند علمائنا أجمع» . ودعوى : أنّ يد المشتري ليست بعادية لظهورها في يد
الغاصب ، يدفعها : أنّه قبض المال قبل الإجازة من غير استحقاق فيكون يده عادية
ويكون هو في تصرّفاته وانتفاعاته غاصباً.
فهذا الإجماع
المنقول المعتضد بظهور عدم الخلاف وبفتوى المعتبرين هو الحجّة ، مضافاً إلى عموم «على
اليد ما أخذت» بناءً على كون المراد من الأخذ هو الاستيلاء ، وكما يصدق بالنسبة
إلى عين المال أنّ المشتري استولى عليها ، فكذلك يصدق ذلك بالنسبة إلى منافعها
المستوفاة ومنافعها التالفة تحت يده ، وفي حكمها نماءاتها التالفة تحت يده من ثمرة
أو لبن أو غير ذلك.
وهل يستحقّ بدل
الحيلولة فيما له منافع وما ليس له منافع بالنسبة إلى مدّة كون العين في يده؟
الوجه هو عدم الاستحقاق ، لأنّ التقدير تقدير انتزاع عين المال ووصولها إلى يد
المالك وهو رافع لموضوع بدل الحيلولة بالنسبة إلى الأزمنة الماضية ، فإنّ
__________________
الحيلولة عبارة عن السلطنة الّتي تفوّت على المالك على التصرّف في ماله بأنواع
الانتفاعات والاكتسابات والاشتراء بها النفقة وغيرها من ضروريّاته فيما تعذّر
انتزاع العين ، كما لو كان عبداً فأبق في يد المشتري أو دابّة فشردت في يد الغاصب
أو طال مدّة انتزاعها والوصول إليها مدّة يعتدّ بها في العرف والعادة للانتفاعات
والاكتسابات ، كما لو أخرجها المشتري من بلد المالك إلى بلد آخر يطول زمان إحضارها
فحينئذٍ يجب عليه أن يدفع إلى المالك بدلها مثلاً في المثلي أو قيمة في القيمي ،
وإذا دفعه ملكه مالك العين ملكاً مراعى على تمكّنه من عين ماله ووصولها إلى يده
فيتصرّف فيه حيث شاء وكيف أراد حتّى أنّه جاز له إخراجه عن يده ببيع أو صلح أو هبة
أو غيرها من التصرّفات الناقلة بل المتلفة ، فإذا تمكّن من عين ماله زال ملكه عنه
ووجب ردّه إلى المشتري مع بقاء عينه ومع عدم بقاء العين يرد عليه مثله أو قيمته ،
وهذا هو معنى كون انتزاع العين رافعاً لموضوع الحيلولة وهو ملك البدل على تقدير
أخذه له فكيف يستحقّه بعد الانتزاع بالنسبة إلى الأزمنة المتقدّمة؟
وكيف كان فلو
أخرجه المشتري إلى بلد آخر كان للمالك أن يطالبه بإحضاره وعليه إحضاره ، كما أنّه
لو دفعه إلى غيره كان للمالك أن يطالبه باسترداده وعليه استرداده ، ولو افتقر
إحضاره أو استرداده إلى مئونة وجب عليه بذلها وإن كثرت وزادت على قيمة المال ،
سواء تمكّن المالك من إحضاره أو استرداده بلا مئونة أولا؟.
ولو توقّف
استرداده إلى مئونة وتمكّن المالك من استرداده بلا مئونة كان له مطالبته
بالاسترداد وليس له أن يأخذ منه مئونة لاسترداده ليباشر بنفسه الاسترداد ، ولو لم
يتمكّن من استرداده إلّا المالك ولكن مع المئونة كان له أن يأخذ مئونة الاسترداد ،
ولو تعذّر إحضاره أو استرداده للمشتري كان للمالك أن يأخذ منه بدل الحيلولة مثلاً
أو قيمة ليتصرّف فيه وينتفع به أو يكتسب به إلى أن يتمكّن من عين ماله على معنىً
إليه ، فيردّ ما أخذه من البدل عيناً أو عوضاً مع عدم بقاء العين إلى المشتري.هذا
كلّه على تقدير بقاء عين المال في يد المشتري أو في يد من دفعه إليه.
ولو لم تكن
العين باقية بأن تكون تالفة وفي حكم التلف تعذّر الوصول إليها أبداً ـ كما لو
ألقاها إلى البحر أو أخذها ظالم متسلّط وما أشبه ذلك ـ كان عليه ضمان
عوضه للمالك مثلاً أو قيمة ، لعموم «على اليد» وغيره ، بل الظاهر أنّه
كضمان العين محلّ وفاق.
المسألة
الثالثة : فيما يتعلّق بالمشتري من رجوعه على البائع بثمنه وبما اغترمه للمالك
وعدمه ، ففيه مقامان :
المقام الأوّل
: في رجوعه عليه بالثمن وعدمه ، فنقول : إنّه حين الابتياع إمّا أن يكون جاهلاً
بالغصبيّة ، أو يكون عالماً بها ، فإن كان جاهلاً فلا إشكال بل لا خلاف ظاهراً في
أنّه يرجع على البائع بالثمن الّذي دفعه إليه فيأخذه عيناً إن كان باقياً وإلّا
فعوضه مثلاً أو قيمة ، وعن المختلف وشرح الإرشاد لفخر الإسلام الإجماع عليه ، وفي جواهر شيخنا الإجماع
بقسميه ، وهو مع كونه إجماعيّاً منصوص عليه في بعض الأخبار كخبر جميل بن درّاج ـ المدّعى
كونه موثّقاً ـ عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولّدها ، ثمّ يجيء مستحقّ الجارية ،
فقال : يأخذ الجارية المستحقّ ، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ، ويرجع على من
باعه بثمن الجارية وقيمة الولد الّتي اخذت منه» .
وهو مع هذا
كلّه مطابق للقواعد لأنّه لم يدفع الثمن إلى البائع مجّاناً بل إنّما دفعه عوضاً
عن المبيع ، فإذا لم يسلّم له العوض وخرج مستحقّاً للغير يستحقّ الرجوع بماله
عيناً أو عوضاً ، فأصل الحكم ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه.
ثمّ ربّما يشكل
الحال في أنّه لو أقرّ المشتري حال المبايعة بمالكيّة البائع للمبيع فهل يسقط به
استحقاقه الرجوع عليه بثمنه ـ نظراً إلى أنّه إقرار باستحقاق البائع للثمن فيكون
إقراراً بعدم استحقاقه له فلا يستحقّ الرجوع عليه به ـ أو لا يسقط؟ نظراً إلى ظهور
استناده فيه إلى ظاهر اليد فيكون إقراراً بالمالك الظاهري لا باستحقاقه له في
الواقع ، فإذا تبيّن خلاف الواقع بخروج المبيع مستحقّاً للغير ظهر استحقاقه له في
الواقع فيستحقّ الرجوع عليه بأخذه منه ، ومن ثمّ قال شيخنا قدسسره : «ولا يقدح في ذلك اعترافه
__________________
بكون البائع مالكاً لأنّ اعترافه مبنيّ على ظاهر يده» وفي معناه قول
العلّامة في القواعد والتذكرة ونهاية الإحكام .
ولا يبطل رجوع
المشتري الجاهل بادّعاء الملكيّة للبائع لأنّه يبني على الظاهر ، وقال السيّد
الشارح في شرح عبارة القواعد : «يريد أنّ المشتري الجاهل إذا ادّعى أنّ هذا المال
مال زيد وقد باع عينه ثمّ ثبت أنّه مال الغير لم يمنع قوله ذلك عن الرجوع على
زيد ، لأنّه بنى في ذلك على الظاهر وإن كان ظاهر قوله ينافي استحقاق الرجوع» انتهى.
ثمّ إنّ
العلّامة في القواعد لم يستشكل فيما ذكره من عدم سقوط استحقاقه الرجوع بإقراره
السابق ولم يحتمل أيضاً خلافه ، وفي التذكرة استشكل فيه بقوله : «على إشكال» ينشأ
من اعترافه بالظلم فلا يرجع على غير ظالمه ، وعنه في نهاية الإحكام احتمال عدم
الرجوع لاعترافه بالظلم فلا يرجع على غير ظالمه. ومراده بالظلم الّذي اعترف أخذ
الغير المدّعي لكون المال ماله ، المال منه. ويرد على إطلاقه أنّه إنّما يكون
ظلماً إذا أخذه منه قهراً لمجرّد الادّعاء ، وقد يأخذه منه بحقّ كما لو ادّعاه
فأقام عليه البيّنة عند الحاكم فأخذه بحكم الحاكم فلا يكون حينئذٍ معترفاً بالظلم
لئلّا يستحقّ الرجوع على غير ظالمه ، ومع الغضّ عن ذلك فمستنده في اعترافه بالظلم
إنّما هو البناء على ظاهر اليد ، فكما أنّ إقراره بالملكيّة المستند إليه لا يؤثّر
في سقوط استحقاقه الرجوع ، فكذلك اعترافه بالظلم المستند إليه لا يؤثّر في سقوط
استحقاقه.
ثمّ إنّ شيخنا قدسسره بعد كلامه المتقدّم ، قال : «نعم لو اعترف به على وجهٍ يعلم عدم استناده
إلى اليد ـ كأن يكون اعترافه بذلك بعد قيام البيّنة ـ لم يرجع بشيء ، ولو لم يعلم
استناد الاعتراف إلى اليد أو إلى غيره ، ففي الأخذ بظاهر الحال من استناده إلى
اليد أو بظاهر لفظ الإقرار من دلالته على الواقع وجهان» .
__________________
أقول : إقرار
المشتري الجاهل بمالكيّة البائع قد يستند إلى علمه بكونه مالكاً ، وقد يستند إلى
سبب صحيح معتبر شرعاً قائم مقام العلم باعتبار كونه مرآتاً للواقع كالبيّنة
القائمة عند الحاكم ، وقد يستند إلى سبب شرعي مفيد للملكيّة الظاهريّة كاليد ونحوه
استصحاب الملكيّة السابقة ، وقد يستند إلى سبب غير صحيح كإخبار من لا يعتبر إخباره
كالفاسق أو الصبيّ أو المجنون إذا أخبر أحدهم بكونه مالكاً وعوّل عليه المشتري
فأقرّ بمالكيّته ، وقد لا يعلم استناده إلى أيّ شيء من الامور المذكورة.
ثمّ إنّ موضوع
الكلام في المسألة لمّا كان هو الجهل بالغصبيّة المقابل للعلم بالمعنى الأعمّ ، من
العلم الحقيقي والعلم الشرعي الّذي منه البيّنة العادلة القائمة عند الحاكم
المقبولة لديه ، فيما لو ادّعى أحد عند اشترائه المال من بائعه المدّعي للمالكيّة
أو المأذونيّة عن المالك كونه مالكاً له وأقام عند الحاكم بيّنة عادلة مقبولة ،
فإنّه حينئذٍ لو اشتراه مع قيام البيّنة المذكورة فإن أخذه المدّعي بعد ذلك منه
كان حكمه من حيث رجوعه على البائع بثمنه كحكم المشتري العالم بالغصبيّة ، فإن
بنينا فيه على عدم استحقاق الرجوع مطلقاً أو إذا لم يكن عين الثمن باقية فهذا
أيضاً لا يستحقّ الرجوع كذلك ، لأنّ البيّنة المفروضة علم شرعي بالغصبيّة في حقّه
وإن لم يحكم الحاكم على طبقها بعد ، لأنّ الحقّ يثبت بمجرّد قيامها عنده بحيث تكون
مقبولة لديه ولا مدخليّة لحكمه الإنشائي في ثبوت الحقّ ، بل هو إلزام على ردّه إلى
صاحبه حتّى يتفرّع إليه عدم جواز نقضه.
وأمّا لو ادّعى
أحد المالكيّة في المال من دون إقامته البيّنة أو مع إقامته بيّنة ناقصة ـ كشهادة
عدل واحد ، أو شهادة فاسقين ، أو شهادة عدل وفاسق ، أو بيّنة عادلة عند غير الحاكم
، أو عنده مع عدم قبوله إيّاها ـ فهو غير خارج في شيء من هذه الصور عن عنوان
الجاهل بالغصبيّة حتّى في صورة قيام البيّنة العادلة عند غير الحاكم ، لأنّ استماع
البيّنة في مقام الخصومة بالدعوى والإنكار أو بالتداعي من وظيفته لا وظيفة غيره. فنحو
هذه البيّنة ليس علماً شرعيّاً في حقّ المشتري ، وكذلك ما لم يقبله الحاكم وإن
كانت تامّة عند المشتري ، فله حينئذٍ اشتراء ذلك المال ، ولو تبيّن بعد اشترائه
فساد العقد وخروج المال مستحقّاً لمدّعيه حين الاشتراء يرجع على المشتري ويأخذ منه
ثمنه.
نعم لو كان
عالماً بسبق ملك ذلك الغير المدّعي له وسبق يده عليه بأن علم أنّه كان مالكاً له
في سابق الزمان ولكن يجده الآن في يد البائع المدّعي للمالكيّة أو المأذونيّة من
المالك رجع الواقعة إلى مسألة تعارض اليدين إحداهما سابقة والاخرى لاحقة ، فإن
بنينا في تلك المسألة على تقديم اليد السابقة استصحاباً للحال ، فليس له الاشتراء
، ولو اشتراه ثمّ انتزعه منه مدّعيه كان حكمه كحكم المشتري العالم بالغصبيّة ،
لأنّ القاعدة المقتضية لتقديم اليد السابقة علم شرعي في حقّه. بخلاف ما لو بنينا
في تلك المسألة على تقديم اليد اللاحقة اعتباراً للحال وحملاً لها على الصحّة فله
الاشتراء ثمّ الرجوع بعده على البائع بثمنه على تقدير خروج المال مستحقّاً لمدّعيه
، لعدم خروجه عن عنوان الجاهل بمجرّد ادّعاء المدّعي ولا بمجرّد علمه بسبق ملكه
ويده ، فليتدبّر.
وإن كان عالماً
بالغصبيّة ففي رجوعه على البائع بالثمن مطلقاً ، أو عدمه كذلك ، أو إذا كان باقياً
دون ما لو كان تالفاً ، وجوه :
فقيل بأنّه لا
يرجع مطلقاً ، وهو ظاهر إطلاق الشيخ في النهاية وربّما عزي
الموافقة له إلى بني إدريس وزهرة وحمزة ونسب أيضاً إلى ظاهر السيّد قدسسره ولكنّا لم نجد من كتبهم ، ونسبه في التذكرة إلى علمائنا
مؤذناً بدعوى الإجماع ، ويقرب منه ما عنه في نهاية الإحكام والمختلف .
ففي الأوّل : «أطلق
علماؤنا ذلك» وفي الثاني «قال علماؤنا : ليس للمشتري الرجوع على الغاصب ، وأطلقوا
القول في ذلك» ونحوه حكي عن ولده في الإيضاح وعنه في موضع آخر نسبته تارةً إلى قول الأصحاب ، واخرى
إلى نصّهم ، وثالثة إلى الأكثر وفي المسالك والرياض والكفاية نسبته إلى المشهور ، وفي موضع من الروضة نسبته إلى
الأكثر.
وقيل بالرجوع
مع البقاء دونه مع التلف كما اختاره العلّامة في كثير من كتبه
__________________
كالتذكرة والمختلف ونهاية الإحكام والقواعد وعن ولده في الإيضاح وشرح الإرشاد واختاره
الشهيدان في الدروس والمسالك .
وعن المحقّق [الثاني]
في جامع المقاصد وعن المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة التردّد ،
وربّما عزي إلى المحقّق في الشرائع لمكان قوله : «وقيل لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب» من غير ترجيح
ولا ردّ له.
وأمّا الرجوع
مطلقاً فلم نقف على قائل به صريحاً ولم ينقل القول به في كلامهم ، نعم احتمله في
المسالك ناسباً له إلى المحقّق في بعض فتاويه قال : «ولو لا ادّعاء العلّامة في
التذكرة الإجماع على عدم الرجوع مع التلف لكان في غاية القوّة» واستحسنه في
الرياض.
ونحن نتكلّم تارةً في حكمه مع البقاء ،
واخرى فيه مع التلف ، فيقع الكلام فيهما في مسألتين :
المسألة الاولى : أنّ الأصحّ الأقوى
والأوفق بالقواعد أنّه يرجع بالثمن مع بقاء عينه ، لنا على ذلك أنّه عين ماله وملكه فيستحقّ انتزاعه من يد
الغاصب لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» إذ المفروض عدم خروجه عن ملكه ولا
انتقاله إلى البائع ، ضرورة أنّه يحتاج إلى سبب شرعي وليس بمتحقّق ، لأنّه إن كان
هو العقد الّذي لم يجزه المالك فالمفروض بطلانه بالفسخ ، وإن كان تجارة عن تراض
فالمفروض عدم وقوعها بينهما ، وإن كان هبة فالمفروض عدم قصدها حين الدفع ولو سلّم
قصدها وتحقّق شرائطها فهي أيضاً في غير ذي رحم ما دامت العين باقية قابلة للفسخ
والرجوع ، وإن كان الإعراض بدعوى أنّه في دفعه إيّاه إلى البائع مع علمه بعدم
استحقاقه له إعراض عن ماله ، ففيه أوّلاً : أنّه لم يقصد الإعراض ، ولو سلّم
فغايته أنّ البائع بقصده التملّك ملكه ملكاً متزلزلاً فإذا عاد المالك ورجع بماله
فهو أولى به.
__________________
ودعوى : أنّه
سلّطه على إتلافه مجّاناً ، يدفعها : أنّ التقدير تقدير عدم تحقّق الإتلاف ، وكون
التسليط بمجرّده مخرجاً عن الملك أو ناقلاً إلى البائع أوّل المسألة ، ويحتاج إلى
دليل وهو منتف والأصل يقتضي عدمه.
حجّة القول
بعدم الرجوع : ما أشار إليه في المسالك فإنّه في شرح عبارة الشرائع وقيل : لا يرجع
بالثمن مع العلم بالغصب ، قال : «هذا هو المشهور بين الأصحاب مطلقين الحكم فيه
الشامل لكون الثمن باقياً أو تالفاً ، ووجّهوه بكون المشتري قد دفعه إليه وسلّطه
عليه مع علمه بعدم استحقاقه له فيكون بمنزلة الإباحة ، وهذا يتمّ مع تلفه ، أمّا
مع بقائه فله أخذه لعموم النصوص الدالّة على ذلك بل يحتمل الرجوع بالثمن مطلقاً ،
وهو الّذي اختاره المصنّف في بعض تحقيقاته لتحريم تصرّف البائع فيه حيث إنّه أكل
مال بالباطل فيكون مضموناً عليه ...» إلى آخر ما ذكر.
وقد يجاب أيضاً
بالنقض بالمقبوض بالعقد الفاسد من المثمن والثمن ، فإنّ كلاًّ من المتعاقدين يسلّط
صاحبه على ماله. ولعلّ المراد نقضه بصورة علمهما بفساد العقد وإلّا كان في غير
محلّه.
والتحقيق في
الجواب أن يقال : إنّه من جهة التعبير بكونه بمنزلة الإباحة ينتج ضدّ المطلوب ،
لأنّ كون شيء بمنزلة شيء في الروايات وعبائر العلماء بل في العرف واللغة أيضاً
عبارة عن لحوقه به في حكمه مع عدم دخوله في اسمه ، كما يقال : «النبيذ بمنزلة
الخمر» وماء في قوله عليهالسلام : «ماء الحمام بمنزلة الجاري» وما أشبه ذلك ، وحينئذٍ
نقول : إنّ كون التسليط المذكور بمنزلة الإباحة على تقدير تسليمه معناه أنّه ليس
بإباحة اسماً ولكن حكمه حكم الإباحة ، ومن حكم الإباحة جواز رجوع المالك المبيح
إلى ما أباحه مع بقائه وأخذه من المباح له ، فالدليل المذكور ينتج جواز الرجوع
بالثمن مع بقائه لا عدم جوازه.
وفي كلام غير
واحد التعبير مكان ما تقدّم بعبارة «فيكون إباحة» ويرد عليه أيضاً أنّه لو سلّمنا
كونه إباحة ينتج خلاف المطلوب ، مع تطرّق المنع إلى كونه إباحة ، لأنّه إمّا
__________________
أن يراد به الإباحة المالكيّة كما هو الظاهر ، أو الإباحة الشرعيّة على
معنى أنّ الشارع أباحه للبائع من جهة تسليط البائع له على إتلافه ، وأيّاً ما كان
فهو ليس بمسلّم.
أمّا الأوّل :
فلأنّ المشتري لا يقصد بدفعه إنشاء الإباحة للبائع خصوصاً مع توقّعه لحوق إجازة
المالك ، بل إنّما قصد به كونه عوضاً عمّا يأخذه من البائع ولو كان عالماً
بالغصبيّة بل بفساد البيع لأنّ علمه ذلك لا ينافي قصد العوضيّة ، ولا ريب أنّ قصد
العوضيّة بدفعه لا يتضمّن قصد إنشاء الإباحة للبائع مجّاناً.
وأمّا الثاني :
فلأنّ الإباحة الشرعيّة تحتاج إلى دليل ، والمفروض أنّ المستدلّ لم يأت بما يصلح
دليلاً ، بل ادّعى كون دفعه تسليطاً وكون التسليط إباحة ، وهذا مع منع صغراه
مصادرة بالمطلوب في كبراه ، لأنّ كون التسليط إباحة شرعيّة أوّل المسألة.
وفي مفتاح
الكرامة تبعاً للشيخ النجفي في شرحه للقواعد توجيه عدم جواز الرجوع «بأنّ من
الجائز أن يكون عدم جواز الرجوع للمشتري عقوبة له حيث دفع ماله معاوضاً به على
محرّم ، فيكون الغاصب البائع مخاطباً بردّه ، فإن بذله أخذه المشتري وإن امتنع منه
بقي للمشتري في ذمّته ، وإن لم يجز له مطالبته كما هو الشأن فيما لو حلف المنكر
كاذباً على عدم استحقاق المال في ذمّته» .
وهذا كما ترى
أضعف من سابقه ، لأنّ كون شيء عقوبة شيء يذكره الأصحاب في بعض المقامات نكتة
لحكم شرعي بعد وقوعه وثبوته ودلالة الدليل عليه ، كما ذكروه في باب الحجّ في مسألة
إفساد الحجّ فيمن أفاض عن العرفات قبل الغروب ولم يعد ، فقد ثبت فيه بالنصّ
والإجماع أنّه يجب عليه إتمام ذلك الحجّ وإعادته أيضاً في العام المستقبل ، ووجّهه
الأصحاب بأنّ أحدهما عقوبة إمّا الإتمام أو الإعادة في القابل والآخر مأمور به ،
وعلى هذا فالعقوبة فرع على ثبوت عدم جواز الرجوع مطلقاً بالدليل والمفروض عدمه ،
والجواز العقلي مع عدم ثبوت عدم الجواز الشرعي لا يصلح دليلاً عليه.
وقد يستدلّ
بفتوى الشيخ في النهاية بتقريب : أنّه لا يفتي فيها إلّا بمتون الروايات من غير
اختلاف أو مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ من غير تغيير للمعنى ، فتكون
__________________
رواية مرسلة منجبرة هنا بموافقة القدماء ، كابن إدريس وابني زهرة وحمزة
وظاهر السيّد.
وهذا أيضاً
كسابقيه في الضعف ، لمنع كونها رواية مرسلة ، ومنع انجبارها على تقدير التسليم بما
ذكر لمنع وضوح الموافقة ، بل لم نجدها في كتبهم لا في باب البيع ولا في باب الغصب.
وقد يحتمل
الاستدلال بالإجماعات المنقولة في عبائر العلّامة في كتبه المتقدّمة وعبارة
الإيضاح ، المعتضدة بالشهرات المحكيّة المتقدّمة.
وفيه ـ مع عدم
صراحة العبائر المتقدّمة في دعوى الإجماع ـ أنّها موهونة بمخالفة مدّعيها في صورة
بقاء العين ، إذ قد عرفت أنّ العلّامة في الكتب المتقدّمة وولده في الإيضاح مع
نسبتهما القول بعدم جواز الرجوع إلى علمائنا أو إلى الأصحاب رجّحا جواز الرجوع مع
بقاء العين ، وهذا منهما يكشف عن عدم الإجماع عندهما في تلك الصورة بحيث لم يجز
مخالفته. وأمّا الشهرات المحكيّة ـ فمع أنّها محكيّة وليست محقّقة ـ فهي أيضاً
تتوهّن بالعلم بفساد مدرك المشهور ، إذ قد عرفت أنّ مستنده كما ذكره الشهيد وغيره ما تقدّم من
تسليط المشتري الموجب لكون دفعه إباحة مجّانية أو بمنزلتها ، وقد ذكرنا وجه فساده
، ولا عبرة بالشهرة حيث علم فساد مدركها.
المسألة
الثانية : المعروف عدم رجوع المشتري على البائع مع تلف ثمنه في يده ، ونقل عليه
الإجماع في مفتاح الكرامة ونسب نقله إلى العلّامة في التذكرة وقد عرفت
عبارة نقله ، وحكي عن جامع المقاصد ومستندهم ما تقدّم من أنّ سلّطه على ماله مجّاناً وبلا
عوض.
لا يقال :
إنّما دفعه إليه بعوض ، وهو المبيع الّذي أخذه منه فإذا لم يسلم له العوض رجع عليه
بما دفعه ثمناً ، فإذا فرض تلفه في يده استحقّ عوضه مثلاً أو قيمة.
لأنّا نقول :
إنّما دفعه إليه بعوض هو مال غيره لا بعوض من ماله ليكون ذمّته مشغولة بعوضه من
ماله على تقدير التلف.
__________________
لا يقال : بناء
المعاملة في بيع الغاصب على ادّعاء مالكيّته للمبيع ، فعوض الثمن وإن كان مال
الغير في الواقع إلّا أنّه مال ادّعائي للبائع ، فالمشتري سلّطه على ماله بعوض هو
مال ادّعائي للبائع فيتسلّط عليه بعوض ثمنه من ماله.
لأنّا نقول :
إنّ ادّعاء الماليّة لا يوجب ضمانه بعوض الثمن المفروض تلفه في يده إلّا إذا كان
ادّعائه بحيث أمضاه الشارع ، والمفروض بحكم فساد العقد أنّ الشارع لم يمض ادّعاءه
فلا يؤثّر في كون الثمن معوّضاً به من مال البائع ليكون ضامناً بعوضه في ذمّته.
فإن قلت : إنّ
المقتضي لضمانه العوض عموم قوله عليهالسلام : «على اليد ما أخذت» فإنّه كما
يقتضي وجوب ردّ عينه مع البقاء كذلك يقتضي وجوب أداء بدله مع التلف.
قلت : عموم
الخبر مخصّص بفحوى ما دلّ على عدم الضمان في موارد الأمانة ، كمن استأمنه المالك
بدفع ماله إليه لحفظه كما في الوديعة ، أو للانتفاع به كما في العارية ، أو
لاستيفاء منافعه المملوكة له كما في الإجارة ، فإنّ الدفع على هذا الوجه ـ مع عدم
كونه تسليطاً على الإتلاف ـ إذا لم يوجب الضمان فالدفع التسليطي على الإتلاف أولى
بعدم كونه موجباً للضمان.
فإن قلت : إنّ البائع
حال كون عين الثمن باقية إمّا أن يكون مخاطباً بردّه إلى المشتري أو لا ، والثاني
باطل ، لقوله تعالى : «لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» فإنّ الآية
لظهور النهي في التحريم تدلّ على أنّ كلّ أكل للمال بالباطل محرّم ، وقد استثني
منه أكل المال المستند إلى تجارة عن تراضٍ ، وأكل البائع للثمن على معنى تصرّفاته
فيه حال بقائه لم يكن أكلاً له عن تجارة عن تراض ، لمكان بطلان بيعه فلا يصدق عليه
التجارة عرفاً مع كون المبيع مال الغير ، فيكون خارجاً عن المستثنى فيدخل في
المستثنى منه فيكون أكلاً للمال بالباطل فيكون محرّماً. وقضيّة كونه محرّماً كونه
مخاطباً بردّه إلى المشتري ، وإذا كان مخاطباً بردّه مع بقائه كان مخاطباً بردّ
عوضه مثلاً أو قيمة مع تلفه ، ولا نعني من ضمانه العوض إلّا هذا.
قلت : كونه
مخاطباً بردّه حال بقاء عينه إنّما يستتبع ضمانه العوض بعد تلفه إذا
__________________
ثبت وجوب ردّ عينه حال البقاء بخبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» الّذي هو
دليل على الضمان ، والمفروض عدم دلالة الخبر عليه ، لأنّ المراد باليد فيه إمّا
اليد العادية على معنى الاستيلاء العدواني على مال الغير ، أو اليد الغير المأذون
فيها على معنى الاستيلاء الغير المأذون فيه على مال الغير ، ولذا لا يتناول الخبر
يد الأمانة بجميع أقسامها ، واستيلاء البائع على الثمن حال بقائه لم يكن استيلاءً
عدوانيّاً ولا استيلاءً غير مأذون فيه ، لأنّ المشتري إنّما دفعه إليه بطيب نفسه.
فإذا لم يدلّ الخبر على وجوب ردّه حال بقائه فلم يدلّ على ضمانه العوض بعد تلفه ،
ولا ينافيه جواز رجوع المشتري عليه حال البقاء لأنّه غير وجوب ردّه إليه حال
البقاء على البائع قبل رجوع المشتري ، ولا ملازمة بينهما.
نعم : إذا رجع
عليه مع البقاء صار مخاطباً بردّه ، فإذا امتنع عن ردّه يصير يده يد عادية أو غير
مأذون فيها فيتناوله الخبر حينئذٍ ، فإذا اتّفق تلفه والحال هذه صار ضامناً لعوضه
مثلاً أو قيمة ، ولكنّ المفروض أنّ المشتري لم يرجع عليه حال بقائه بل رجع بعد
تلفه.
وأمّا ثبوت
وجوب ردّ العين بالآية حال البقاء بالتقريب المتقدّم وإن كان مسلّماً إلّا أنّه لا
يستتبع ضمان العوض بعد تلفه ، لأنّ الآية مسوقة لبيان حكم تكليفي وهو تحريم أكل
المال بالباطل ، وأمّا ضمان العوض مع التلف فهي ساكتة عنه نفياً وإثباتاً ، فلا
بدّ في إثباته من دليل آخر ، والآية غير وافية بإثباته.
فإن قلت : إنّ
ضمان العوض يثبت بقاعدة الإقدام ، وهو إقدام البائع على أن يكون الثمن في ضمانه ،
ولذا دفع المبيع إلى المشتري عوضاً ، وقد استدلّ الشيخ بها على
الضمان في فساد ما يضمن بصحيحه.
قلت : إنّ
البائع إنّما أقدم على ضمان الثمن بمال لغيره مع علم المشتري بكونه لغيره ولم يقدم
عليه بمال لنفسه ، والموجب لضمان العوض على تقدير التلف مع عدم سلامة العوض الأوّل
إنّما هو الثاني لا الأوّل.
فإن قلت : إنّ
الضمان يثبت بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كما استدلّ
__________________
الأصحاب بها لضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، والمفروض أنّ الثمن
المدفوع إلى البائع بعد فساد البيع بعدم إجازة المالك مقبوض بالعقد الفاسد فيضمنه
قابضه ، لأنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، فإذا اتّفق تلفه في يد القابض ضمن
عوضه.
قلت : ما نحن
فيه ليس من موارد القاعدة ، لأنّ معنى «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» أنّ كلّما
يضمنه العاقد بمال نفسه في صحيح العقد يضمنه بمال نفسه أيضاً في فاسده ، ولا ريب
أنّ الغاصب البائع وكذلك العاقد الفضولي على تقدير صحّة العقد بإجازة المالك لا
يضمن الثمن بمال لنفسه بل الضامن له على هذا الوجه إنّما هو المالك المجيز ، فإذا
لم يكن ضامناً له بمال لنفسه على تقدير الصحّة لم يكن ضامناً له بمال لنفسه على
تقدير الفساد.
فإن قلت : يثبت
الضمان بقوله عليهالسلام : «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» بتقريب أنّ
المشتري وإن دفع الثمن إلى البائع بطيب نفسه لكن لا على كلّ تقدير بل على تقدير
سلامة المبيع وبقائه في يده ، فإذا لم يسلم وانتزعه المالك عنه فالمال المدفوع إلى
البائع حينئذٍ لم يكن مدفوعاً إليه بطيب نفس مالكه فيكون في ضمانه عيناً وعوضاً على
تقديري البقاء والتلف.
قلت : هذه
الرواية واردة في مساق الآية المتقدّمة ، فيكون مسوقة لبيان حكم تكليفي ساكتة عن
الحكم الوضعي وهو الضمان.
فإن قلت : يثبت
الضمان بقاعدة نفي الضرر المستفادة من قوله عليهالسلام : «لا ضرر ولا ضرار» فلو لم يضمن
البائع عوض الثمن يتضرّر به المشتري ، وهو منفيّ بعموم الخبر.
قلت : الخبر
إنّما ينفي مجعوليّة كلّ حكم يترتّب عليه ضرر المسلم ، بحيث يسند الضرر إلى الشارع
حيث جعل ذلك الحكم ، والضرر هنا يسند إلى فعل المشتري نفسه حيث دفع ماله إلى من لا
يستحقّه وسلّطه على إتلافه في مقابل مال علم بعدم صلاحيته لكونه عوضاً عن ماله ،
مع أنّه لا جعل هنا وعدم الضمان أمر عدمي ليس قابلاً للجعل
__________________
وإنّما يتعلّق الجعل بالامور الوجوديّة ، فالضرر لا يترتّب على حكم مجعول
حتّى ينفي الخبر مجعوليّته.
ولا يمكن
التمسّك لإثبات ضمان العوض باستصحاب الحالة السابقة بدعوى أنّ المشتري حال وجود
الثمن في يد البائع كان متسلّطاً على الرجوع به على البائع وبعد تلفه يشكّ في بقاء
تلك السلطنة والأصل بقاؤها ، لأنّ الاستصحاب مع عدم بقاء موضوع المستصحب ممّا لا
معنى [له] ، والحالة السابقة في زمان اليقين هي السلطنة على عين الثمن وهي غير
باقية ، والسلطنة على العوض غير ثابتة في الزمان السابق حتّى تستصحب.
وحينئذٍ نقول :
إنّه إن شكّ في أمر يرجع إلى المشتري وهو أنّه هل يتسلّط على مطالبة عوض الثمن
مثلاً أو قيمة ويستحقّه على البائع؟ فالأصل عدمه ، وإن كان في أمر يرجع إلى البائع
وهو أنّه هل يجب عليه ردّ عوض الثمن إلى المشتري؟ فالأصل براءة ذمّته عنه.
فتلخّص بجميع
ما قرّرناه في المسألتين أنّ الأقوى في رجوع المشتري على البائع هو ما عليه
العلّامة ومتابعوه من التفصيل بين بقاء عين الثمن فيستحقّ الرجوع عليه به وتلفه
فلا يستحقّ.
نعم يستثنى عن
الحكم الثاني صور أربع :
الاولى : ما لو
باع الغاصب أو الفضولي لنفسه أو للمالك ، واشتراه المشتري بتوقّع إجازة المالك ،
واتّفق أنّه لم يجزه ورجع على المشتري وانتزع عنه المبيع.
الثانية : ما
لو قبض البائع الثمن بلا إقباض من المشتري اختياراً إمّا قهراً عليه أو بخفية أو
بحيلة اخرى.
الثالثة : ما
لو شرط المشتري على البائع رجوعه عليه بثمنه لو رجع المالك عليه بانتزاع المبيع.
الرابعة : ما
لو شرط المشتري لنفسه خيار الفسخ.
فهو في جميع
هذه يستحقّ الرجوع بثمنه مطلقاً لأنّه لم يدفعه إليه فيها مجّاناً ولم يسلّطه على
إتلافه بلا عوض. ولا ينافي هذا الاستثناء إطلاق الجماعة الحكم بعدم الرجوع مع
التلف ، لأنّ إطلاقهم منزّل على ما عدا الصور المذكورة ، بل بمقتضى دليلهم
وهو التسليط المجّاني على الإتلاف منصرف إلى ما عداها ، فهم أيضاً موافقون
على استثنائها وإن لم يصرّحوا به في كلامهم.
المقام الثاني
: في رجوعه عليه بما اغترم للمالك ـ من عوض المنافع المستوفاة والغير المستوفاة ،
وقيمة النماءات المنتفع بها من لبن أو صوف أو ثمرة ، والنماءات التالفة تحت يده ،
وزيادة قيمة عين المالك على تقدير تلفها الموجب للرجوع بالقيمة ـ أو للعين من نفقة
أو مئونة عمارة أو اجرة خدمة أو حراسة أو نحو ذلك ، وعدمه.
فنقول : إنّه
إن كان عالماً بالغصبيّة فالمصرّح به في كلامهم قولاً واحداً أنّه لا يستحقّ
الرجوع عليه بما اغترم مطلقاً وقد يدّعى عليه الإجماع بقسميه ، لعدم الدليل عليه ،
فالأصل عدم استحقاقه له كما أنّ الأصل براءة ذمّة البائع عمّا اغترمه. وليس لأحد
أن يتوهّم قضاء قاعدة نفي الضرر باستحقاقه ، لأنّه بنفسه أقدم على ضرره وأدخله على
نفسه حيث عرّض نفسه للغرامات مع علمه بالغصبيّة.
وإن كان جاهلاً
ففيه من حيث عدم حصول نفع في مقابل ما اغترمه ـ كنفقة الدابّة ومئونة العمارة
وزيادة القيمة ـ وحصول نفع في مقابله كعوض المنافع المستوفاة ونحوها مرحلتان :
المرحلة الاولى
: فيما لم يحصل له في مقابله نفع ، والمعروف بين الأصحاب من غير خلاف يظهر أنّه
يرجع على البائع بهذا النوع ممّا اغترمه ، وعن غصب الكفاية والرياض نسبته إلى
الأصحاب ، وفي مفتاح الكرامة كما عن شرح الإرشاد لفخر الإسلام دعوى الإجماع عليه ، وعن السرائر يرجع قولاً
واحداً ، وعن المحقّق والشهيد الثانيين في كتاب الضمان نفي الإشكال عن ضمان البائع
لدرك ما يحدثه المشتري إذا قلعه المالك.
وهو الحقّ
الّذي لا محيص عنه ، لقاعدة الغرر فإنّ البائع لبيعه مال الغير من غير إعلام
المشتري غيره أوقعه في هذه الغرامات والمغرور يرجع على من غرّ ، مضافاً إلى
__________________
قاعدة نفي الضرر السليمة عن مزاحمة الإقدام ، وإلى رواية جميل بن درّاج في
خصوص قيمة ولد الجارية المنعقد حرّاً عن أبي عبد الله عليهالسلام «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ، ثمّ يجيء مستحقّ الجارية ،
قال : يأخذ الجارية المستحقّ ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ، ويرجع على من باعه
بثمن الجارية وقيمة الولد الّتي اخذت منه» .
وقيل في وجه
الدلالة : «إنّ حرّية ولد المشتري إمّا أن يعدّ نفعاً عائداً إليه أو لا ، وعلى
التقديرين يثبت المطلوب» والرواية بقرينة حرّية الولد ظاهرة في جهل المشتري.
وقد يقال :
بأنّ في توصيف قيمة الولد بأنّها اخذت منه نوع إشعار بعلّية الحكم ، فيطّرد في
جميع موارد ما اخذت.
ولا ينافيها في
الدلالة على الرجوع بقيمة الولد رواية زرارة «في رجل اشترى من سوق المسلمين جارية
فخرج بها إلى أرضه فولدت منه أولاداً ، ثمّ أتاها من يزعم أنّها له وأقام على ذلك
البيّنة ، قال : يقبض ولده ويدفع إليه الجارية ، ويعوّضه من قيمة ما أصاب من لبنها
وخدمتها» لأنّها مسوقة لبيان حكم المشتري مع المالك.
ودعوى : ورودها
في مقام البيان بالنسبة إلى المشتري مع المالك وبالنسبة إليه مع البائع أيضاً ،
فسكوتها في معرض البيان من الجهة الثانية عن بيان رجوع المشتري على البائع بما
اغترم دليل على عدم استحقاقه له. يدفعها : أنّ دلالة السكوت من باب الظهور وهو لا
يزاحم نصوصيّة الرجوع بقيمة الولد ، مع أنّ ما اغترمه في تلك الرواية من قيمة لبن
الجارية وخدمتها من قبيل ما حصل في مقابله نفع للمشتري ، وعدم الرجوع بها على
البائع لا ينافي استحقاقه الرجوع بما لم يحصل في مقابله النفع.
وكذلك لا
ينافيها لأجل السكوت رواية زريق المرويّة في الجواهر هكذا قال : «كنت عند أبي عبد
الله عليهالسلام يوماً إذ دخل عليه رجلان ... إلى أن قال : فقال :
أحدهما إنّه كان عليّ مال لرجل من بني عمّار وله بذلك ذكر حقّ وشهود ، فأخذ المال
ولم أسترجع منه الذكر بالحقّ ولا كتبت عليه كتاباً ولا أخذت منه براءة بذلك ، وذلك
لأنّي وثقت به ، وقلت له : مزّق الذكر بالحقّ الّذي عندك ، فمات وتهاون بذلك ولم
يمزّقه ، وعقيب هذا
__________________
طالبني بالمال ورّاثه وحاكموني وأخرجوا بذلك الذكر بالحقّ وأقاموا العدول
فشهدوا عند الحاكم فأُخذت بالمال وكان المال كثيراً فتواريت عن الحاكم ، فباع عليّ
قاضي الكوفة معيشة لي وقبض القوم المال ، وهذا رجل من إخواننا ابتلي بشراء معيشتي
، ثمّ إنّ ورثة الميّت أقرّوا أنّ المال كان أبوهم قد قبضه وقد سألوه أن يردّ عليّ
معيشتي ويعطونه الثمن في أنجم معلومة ، فقال : إنّي احبّ أن أسأل أبا عبد الله عليهالسلام عن هذا ، فقال الرجل ـ يعني المشتري ـ جعلني الله فداك
كيف أصنع؟ فقال : تصنع أن ترجع بمالك على الورثة وتردّ المعيشة إلى صاحبها وتخرج
يدك عنها ، قال : فإذا أنا فعلت ذلك له أن يطالبني بغير هذا؟ قال : نعم له أن يأخذ
منك ما أخذت من الغلّة من ثمن الثمار ، وكلّ ما كان مرسوماً في المعيشة يوم
اشتريتها يجب أن تردّ ذلك ، إلّا ما كان من زرع زرعته أنت فإنّ للزارع إمّا قيمة
الزرع ، وإمّا أن يصبر عليك إلى وقت حصاد الزرع ، فإن لم يفعل كان ذلك له ، وردّ
عليك القيمة وكان الزرع له ، قلت : جعلت فداك فإن كان هذا قد أحدث بناءً أو غرساً؟
قال : له قيمة ذلك ، أو يكون ذلك المحدث بعينه يقلعه ويأخذه ، قلت : أرأيت إن كان
فيها غرس أو بناء فقلع الغرس وهدم البناء؟ قال : يردّ ذلك إلى ما كان أو يغرم
القيمة لصاحب الأرض ، فإذا ردّ جميع ما اخذ من غلّاتها إلى صاحبها وردّ البناء
والغرس وكلّ محدث إلى ما كان أو ردّ القيمة كذلك يجب على صاحب الأرض أن يردّ عليه
كلّ ما خرج منه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة ،
ودفع النوائب عنها كلّ ذلك فهو مردود إليه ...» الخ .
المرحلة
الثانية : فيما حصل له في مقابله نفع ـ كأُجرة المنافع المستوفاة من سكنى دار
وركوب دابّة ، واستخدام جارية واستيفاء بضعها وقيمة النماءات المنتفع بها من لبن
وصوف وثمرة ونحوها ـ ففي رجوعه على البائع وعدمه قولان :
أحدهما : أنّه
لا يرجع ، وهو للشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط والآبي في كشف الرموز على ما نسب إليهم ، وهو ظاهر الحلّي أيضاً في السرائر
حيث قال :
__________________
«ويرجع المشتري بما غرمه من المنافع الّتي لم يحصل له في مقابلتها نفع إلّا
أن يكون المشتري علم أنّه مغصوب» .
وثانيهما :
أنّه يرجع عليه كما عن الشيخ في المبسوط أيضاً والفاضلين في القواعد والشرائع والنافع والشهيدين في
الدروس والمسالك والروضة وفخر الإسلام في الإيضاح وشرح الإرشاد والمحقّق
الثاني في جامع المقاصد والأردبيلي في مجمع البرهان واختاره جماعة
من مشايخنا قدّس الله أرواحهم وفي كلام بعضهم كونه المشهور.
وعن غير واحد
حكاية القولين من غير ترجيح ، فيظهر منهم التردّد. وفي مفتاح الكرامة «أنّ القولين
يلتفتان إلى أنّه لمّا حصل له نفع وحصل عنده عوضه ـ كأن سكن الدار وأكل الثمرة
وشرب اللبن ـ كان كأنّه قد اشترى واستكرى فلم يحصل عليه ضرر ، وهو أوفق بالأصل ،
مع عدم معلوميّة صلوح المعارض للمعارضة لعدم وضوح دليل على ترتّب الضمان على
الغارّ بمجرّد الغرور وإن لم يلحقه ضرر كما هو المفروض ، ولم يثبت انعقاد الإجماع
على هذه الكلّيّة بحيث يشمل ما نحن فيه. وإلى أنّه سلّطه عليه بأن يأكله مجّاناً
ولا يعطي شيئاً غير ثمن المبيع ، ولعلّه لو علم أنّه ليس له لم ينتفع به ، فلم يسكن
بأُجرة داراً أو لم يشرب بقيمة درّاً. فالظاهر الرجوع ، لحصول الضرر ، فكان
الإجماع متناولاً لذلك ، ولأنّه بمنزلة ما لو قدّم إليه طعام الغير فأكله جاهلاً
... إلى أن قال : ويدلّ على بعض هذه الأحكام خبر جميل بن درّاج
عن أبي عبد الله عليهالسلام» الخ.
ويظهر من
السيّد في الرياض في باب البيع التوقّف لمكان استشكاله في الرجوع ،
ووجّهه في كتاب الغصب بما ملخّصه «عدم وضوح دليل على ترتّب الضمان على الغارّ
__________________
بمجرّد الغرور وإن لم يلحقه ضرر ، كما فيما نحن فيه بمقتضى الفرض ،
لاستيفائه المنفعة في مقابلة ما غرمه ، والإجماع على هذه الكلّيّة غير ثابت بحيث
يشمل نحو مفروض المسألة ، نعم ربّما يتوجّه الرجوع حيث يتصوّر له الضرر بالغرور ،
كما إذا اخذت منه قيمة المنافع أزيد ممّا يبذله هو في مقابلتها من غير ملكه ونحو
ذلك» انتهى.
وظاهره انحصار
دليل ضمان البائع في قاعدة الغرور وأنّ مدرك هذه القاعدة قاعدة نفي الضرر.
وردّ بأنّ
المستفاد من كلمات الأصحاب أنّها قاعدة اخرى غير مبتنية على الضرر ، فتراهم
يتمسّكون بها في موارد لا يتحقّق فيها ضرر كما في خيار العيب ، فإنّ كلّ عيب لا
يعدّ ضرراً بل ربّما يعدّ نفعاً ويوجب منافع كما لو اشترى عبداً فخرج خصيّاً فإنّ
الخصاء ربّما يوجب زيادة القيمة ويكون مرغوباً إليه ومطلوباً للعقلاء ، وكما لو
زوّج الأبرص ببرصاء وهو مغرور فيه وغير عالم بكونها برصاء فإنّه عيب يوجب خياراً
له مع عدم كونه ضرراً في العرف والعادة.
وقد يستدلّ
للمشهور وهو ضمان البائع الغارّ لما غرمه المشتري المغرور بقاعدتهم المعروفة من «أنّ
السبب أقوى من المباشر» فإنّ إتلاف المنافع وإن كان بمباشرة المشتري غير أنّه لمّا
كان مغروراً فكان إتلافه مسبّباً عن البائع ، فكان البائع هو السبب الّذي هو أقوى
من المباشر فيغرم بما غرم به المباشر ، لأنّ الفعل في الحقيقة راجع إليه ، نظير ما
لو دفع غاصب مال الغير إليه بدعوى أنّه ملكه فوهبه له أو أباحه له ليأكله فأكله
ثمّ تبيّن كونه مال الغير فجاء المالك وأخذ منه القيمة ، فله الرجوع على الغاصب
الغارّ لأنّه السبب في إتلافه.
وقد يستدلّ
أيضاً : على ضمانه بقاعدة الضرر ، فإنّ تغريم من أقدم على إتلاف شيء من دون عوض
مغروراً من آخر بأنّ له ذلك مجّاناً من دون الحكم برجوعه على من غرّه في ذلك ضرر
عظيم ، ومجرّد رجوع عوضه إليه لا يدفع الضرر ، وكيف كان فصدق الضرر وإضرار الغارّ
به ممّا لا يخفى خصوصاً في بعض الموارد.
__________________
وفي كلام بعض
مشايخنا «لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة كون الغارّ سبباً في تغريم المغرور فكان
كشاهد الزور في ضمان ما يؤخذ بشهادته ، أو قاعدة الضرر ، أو الإجماع المدّعى في
الإيضاح على تقديم السبب إذا كان أقوى ، أو الأخبار الخاصّة
الواردة في الموارد المتفرّقة ولا ريب في ثبوت هذه الوجوه فيما نحن فيه» .
أقول : ينبغي
النظر في تتميم هذه الوجوه وعدمه.
أمّا الوجه
الأوّل : فالنظر فيه يقتضي التكلّم تارةً في صغرى قاعدة الغرور ، واخرى في كبراها.
أمّا الصغرى
فالتكلّم فيها تارةً ببيان معنى الغرور ومفهومه عرفاً ولغة ، واخرى ببيان تحقّق
هذا المفهوم في محلّ البحث.
أمّا الأوّل
فنقول : إنّ جماعة من أهل اللغة كالجوهري والفيروزآبادي وابن السكّيت والأصمعي وابن
الأثير والأزهري والهروي والطريحي ذكروا لمادّة الغرّ والغرور والغرر والغرّة
بالكسر والغرّة بالضمّ معاني متعدّدة ، إلّا أنّ ما يناسب منها مباحث الفروع
ويرتبط بمقاصد الفقهاء في المسائل الفرعيّة معنيان :
أحدهما : معنى
الغرر وهو الخطر بمعنى الهلاك ، وعليه حمل الحديث النبويّ المتلقّى بالقبول عند
الخاصّة والعامّة «نهى النبيّ عن بيع الغرر» وهو بيع يكون محلاًّ للخطر باعتبار كون أحد العوضين فيه
في معرض الهلاك مشرفاً للتلف من جهة عدم الوثوق بالعوض الآخر المقابل له ، لقيام
احتمال لا يتسامح فيه عند العقلاء ومن شأنه أن يحترز عنه في العرف والعادة بحيث من
لم يلتفت إليه ولا يعتني به وأقدم على عدم الاحتراز عنه كان محلاًّ للتوبيخ
ومستحقّاً للّوم عند العقلاء ، من جهة تضييعه ماله وتعريضه للتلف وخروجه عنه بلا
عوض ، أو بعوض غير مطابق لغرضه ، إمّا لكون العوض الآخر المقابل في معرض تعذّر
الوصول إليه كبيع السمك في الماء وبيع الطير
__________________
في الهواء وبيع الآبق بلا ضميمة وما أشبه ذلك ، أو في معرض عدم الدخول في
الوجود الخارجي كبيع الملاقيح وبيع الحمل والجنين في بطن امّه ، أو في معرض عدم
مطابقته للغرض والمطلوب كبيع ما جهل جنسه أو صنفه أو وصفه ، فهذا المعنى خارج عن
محلّ البحث لكونه معتبراً في بيع الغرر الّذي يذكر في مقامات اخر.
وثانيهما :
معنى الغرور وهو على ما في القاموس وغيره «غرّه غرّاً وغروراً وغرّة بالكسر فهو
مغرور وغرير خدعه وأطمعه بالباطل ، واغترّ به خدع به» فالغرور بمعنى
الخداع والخدعة وهو في الفارسيّة «فريفتن وفريب دادن» والغارّ والغرور بالفتح «فريبدهنده»
والمغرور والغرير «فريب داده شده» واغترّ به «فريب داده شد» وهذا هو المعنى المراد
من الغرور في قاعدة الغرور الّتي يعبّر عنها بأنّ كلّ مغرور يرجع إلى من غرّه.
وأمّا الثاني :
فالظاهر بل المقطوع به تحقّق هذا المفهوم فيما نحن فيه ، بل الظاهر عدم الخلاف في
ذلك عند الأصحاب ، إذ لم نقف على أحد ناقش في التمسّك بقاعدة الغرور لتغريم البائع
ما اغترمه المشتري للمالك بمنع صغرى القاعدة ، بل كلّ من ناقش فيه فإنّما ناقش من
جهة الكبرى بمنع قيام دليل تامّ عليها من غير جهة الضرر والإضرار ، فإنّ البائع
غرّ المشتري وخدعه حيث باعه مال الغير ولم يعلمه أنّه مال الغير ، فهو لجهله زعمه
مال نفسه وملكه من جهة البيع فأتلف منافعه ونماءاته فغرمه المالك بأخذ عوض المنافع
وقيمة النماءات منه ، فإنّه لو كان عالماً بالغصبيّة لم يكن يشتريه وعلى تقدير
الاشتراء بتوقّع إجازة المالك لم يتلف منه شيئاً حتّى يستقرّ حاله فيكون مغروراً
في اشترائه وتصرّفه وإتلافه من البائع فيكون البائع غارّاً.
وقد يقرّر
الصغرى بأنّ مفهوم الغرور الموجب للرجوع في باب الإتلاف وإن كان غير منقّح إلّا
أنّ المتيقّن منه ما كان إتلاف المغرور لمال الغير وإثبات يده عليه ، لا بعنوان
أنّه مال الغير بل قصده إلى إتلافه مال نفسه أو مال من أباح له الإتلاف فيكون غير
قاصد لإتلاف مال الغير ، فيشبه المكره في عدم القصد.
وأمّا الكبرى
فالغرض من التكلّم فيها هو النظر في مدرك هذه الكلّيّة ممّا استدلّ به
__________________
أو يمكن أن يستدلّ به بحيث يشمل المقام ، ويكون نتيجته ضمان البائع الغارّ
للمشتري فيما اغترمه للمالك فنقول : إنّه قد استدلّ عليها بوجوه ، منها : قاعدة
تقديم السبب على المباشر إذا كان أقوى منه المدّعى عليه الإجماع في الإيضاح .
وفيه : نظر ،
أمّا أوّلاً : فلمنع كون البائع السبب لإتلاف المنافع والنماءات أقوى من مباشرة
الّذي هو المشتري ، فإنّ ملاك تمييز الأقوى منهما من الأضعف هو أنّ التلف المبحوث
عنه إن كان بحيث يسند في العرف والعادة إلى السبب لا إلى المباشر بل كان المباشر
في نظر العرف بمنزلة الآلة ـ كما في المكره على إتلاف شيء إكراهاً سالباً
لاختياره بحيث صدر الفعل منه بلا قصد وشعور ـ كان السبب فيه أقوى من المباشر ، وإن
انعكس الأمر كان المباشر أقوى فيه من السبب.
ولا ريب أنّ
المقام ليس من قبيل الأوّل ، لأنّ المشتري فيما صدر منه من الإتلافات لا يعدّ في
العرف بمنزلة الآلة بل الإتلاف يسند إليه إسناداً حقيقيّاً لا يشوبه شكّ وريبة ،
ولو سلّم صحّة إسناده إلى البائع أيضاً لتسبيبه فهو يوجب التساوي لا الأقوائيّة
المقتضية لتقديم السبب في الضمان ، فالإتلاف يسند إلى كلّ من المشتري والبائع ،
أمّا الأوّل فلمباشرته ، وأمّا الثاني فلتسبيبه ، نظير فتح البلد الّذي يصحّ
إسناده إلى العسكر لمباشرته وإلى الأمير لتسبيبه.
وأمّا ثانياً :
فلأنّ أقوائيّة السبب حيث سلّمناها إنّما ينتج تضمين السبب ابتداءً على معنى إرجاع
الضمان المترتّب على الإتلاف الدائر بين السبب والمباشر إلى السبب ، وملخّصه كون
البائع الّذي هو السبب الأقوى ضامناً لإعواض ما أتلفه المشتري بحيث يستحقّ المالك
الرجوع عليه لا على المشتري وهذا خلاف المطلوب. وبعبارة اخرى نتيجة قاعدة كون
السبب أقوى من المباشر تغريم البائع للمالك ، والمقصود من التمسّك بقاعدة الغرور
تغريم البائع للمشتري بما اغترمه للمالك لا تغريم البائع للمالك ابتداءً.
وإن شئت قلت :
إنّ المالك في أخذه عوض المنافع وقيمة النماءات من المشتري إمّا أن يستحقّ الرجوع
على المشتري أو لا يستحقّ الرجوع عليه؟ فإن كان الأوّل يبقى
__________________
أقوائيّة السبب بالنسبة إلى البائع بلا فائدة ، وإن كان الثاني فكان المالك
في رجوعه على المشتري وأخذه العوض والقيمة منه ظالماً فوجب أن يرجع المشتري بما
اغترمه عليه لا على البائع ، لأنّ كلّ مظلوم يرجع على ظالمه لا على غير ظالمه ،
فبقى تغريم البائع للمشتري بما اغترمه للمالك بلا دليل.
فإن قلت :
أسباب الضمان كثيرة منها المباشرة ومنها التسبيب ، فالمشتري ضامن للمالك لمباشرته
إتلاف منافع عينه ونماءاته ، والبائع ضامن للمشتري لتسبيبه فإنّ اغترام المشتري
للمالك ضرر بلغه من البائع فكان البائع سبباً لذلك الضرر فيضمنه لأجل ذلك.
قلت : هذا
إثبات لتغريم البائع بقاعدة نفي الضرر وسيأتي الكلام فيه ، والمقصود من الاستدلال
إثباته بقاعدة الغرور المستدلّ عليها بقاعدة تقديم السبب الأقوى على المباشر ، وقد
عرفت أنّ الدليل لا ينتجه ، وإثباته بقاعدة الضرر عدول عن الدليل المستدلّ به.
ومنها : قاعدة
العَدْوى على معنى العدوان المستفادة من قوله عزّ من قائل : «فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» بتقريب أنّ
اغترام المشتري عدوان بلغه من البائع فبمقتضى قوله : «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدى» يرجع المشتري
على البائع ويأخذ منه مثل ما أخذ منه.
لا يقال :
اغترام المشتري للمالك ليس اعتداءً لأنّ المالك إنّما غرّمه بحقّ فالآية لا تتناول
المقام ، لأنّا نقول : إنّ اغترام المشتري له نسبة إلى المالك من حيث إنّه أخذ عوض
ما أتلفه ونسبة إلى البائع من حيث إنّه صار سبباً لذلك الاغترام وأخذ الغرامة منه
، فهو باعتبار نسبته إلى المالك وإن لم يكن اعتداء إلّا أنّه باعتبار نسبته إلى
البائع اعتداء ، والآية تتناوله بهذا الاعتبار لا بالاعتبار الأوّل ، ولا يخلو عن
وجه.
ومنها : قاعدة
نفي الضرر المستفادة من قوله عليهالسلام : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» فإنّ اغترام
المشتري غرور وضرر بلغه من البائع فوجب عليه جبرانه بضمانه للمشتري بما اغترمه
للمالك.
وفيه : أنّ
قاعدة نفي الضرر إن صلحت دليلاً على ضمان البائع لما اغترمه المشتري
__________________
فهي بنفسها كافية في إثباته ولا حاجة إلى توسيط قاعدة الغرور وستعرف نهوضها
وعدم نهوضها عليه ، مع أنّ النسبة بين القاعدتين بحسب الموارد عموم وخصوص من وجه
فلا تصلح إحداهما دليلاً على الاخرى.
ومنها : ما
اشتهر بينهم من الخبر المعروف وهو «أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه» ذكره في
العناوين معترفاً بأنّه لم يقف عليه في كتب الأخبار ثمّ قال : «ولكنّ الظاهر من
سياق كلامهم أنّه مرويّ وحيث إنّ مضمونه مجمع عليه فلا يحتاج إلى ملاحظة سند ونحوه»
انتهى.
وفيه : نظر ،
بل منع ، لأنّ ذلك كما لا يوجد في كتب الأخبار فكذلك لم نقف على ذكره بعنوان
الخبريّة في كتب الاستدلال بل المذكور فيها هذا المضمون بعنوان القاعدة ولم يذكره
مشايخنا المصنّفين قدّس الله أرواحهم في تصانيفهم ، نعم ذكره في المستند حاكياً نقله
عن المحقّق الشيخ عليّ في حاشيته على الإرشاد. وعلى هذا فلو سلّم وروده خبراً
فالإجماع على مضمونه لا يصلح جابراً لضعف سنده من جهة الإرسال ، فإنّ غايته أنّه
يكشف عن صدور هذا المضمون عن اهل بيت العصمة عليهمالسلام وأمّا كشفه عن صدور الخبر المذكور بهذا المتن وتلك
العبارة فلا. وهذا نظير الشهرة الجابرة لضعف سند الرواية الضعيفة من حيث إنّ
المعتبر في الجبر الشهرة الاستناديّة لا مجرّد الشهرة في الفتوى إذا وافقت مضمون
رواية ضعيفة من دون استناد إليها ، فإنّه لا يكفي في جبر السند بحيث أوجبت الوثوق
والاطمئنان بصدورها من المعصوم.
ومنها :
الإجماع المحصّل من تتبّع كلامهم في مقامات الغرور ، حيث يحكمون برجوع المغرور على
الغارّ فضلاً عن الإجماعات المحكيّة ، ذكره أيضاً في العناوين ٤ ومن مشايخنا أيضاً من
ادّعى الاتّفاق عليها مصرّحاً بأنّه يكشف عن وجود دليل معتبر عليها عندهم وإن لم
نعثر عليه تفصيلاً. وهذا لا ضير فيه ، وموارد هذا الإجماع كثيرة ومن موارده ضمان
من دفع مالاً إلى غيره بادّعاء المالكيّة فملكه أو أباح له إتلافه
__________________
فبان بعد الإتلاف أنّه مال الغير فجاء المالك وغرم المدفوع إليه فيرجع
الغريم إلى الدافع بما اغترمه إجماعاً لكونه مغروراً منه ، ونحوه ما لو أحضر عنده
مال نفسه وهو جاهل به فبان بعد إتلافه كونه مال نفسه فيرجع إلى الدافع ويأخذ عوضه
منه لكونه مغروراً منه في إتلافه.
ومنها : تغريم
من زوّج رجلاً بامرأة على أنّها حرّة أو بنت مهيرة أو باكرة فبانت أمة أو بنت أمة
أو ثيّبة بمهرها أو نصف مهرها المأخوذ من الزوج ، وكذا مدّعي الوكالة عن رجل في
تزويج امرأة فظهر كذبه فإنّه يضمن نصف مهرها لكونه غارّاً.
وأمّا الوجه
الثاني : فلأنّ عدم ضمان البائع للمشتري فيما اغترمه للمالك في
إتلافاته المستندة في تسليط البائع عليها مجّاناً ضرر ، والضرر منفيّ في الإسلام ،
ونفي عدم الضمان إثبات له فهو المطلوب.
ويشكل بأنّ عدم
الضمان أمر عدمي وخبر «لا ضرر ولا ضرار» الّذي هو مدرك القاعدة لا يتناول الامور
العدميّة ، لأنّ مفاده نفي جعل الأحكام الّتي يترتّب عليها ضرر المسلم بحيث يسند
الضرر إلى الله تعالى من حيث إنّه جعلها ، فيختصّ بالأحكام الوجوديّة لأنّها
مجعولات الشارع ، والامور العدميّة ليست من مجعولاته بل ولا قابلة للجعل ، فلا
تكون مشمولة للخبر.
ويمكن الذبّ
بأن ليس في متن الخبر لفظ الجعل ولا الحكم بل كلمة «لا ضرر» لتعذّر حقيقته وهو نفي
ماهيّة الضرر حذراً عن الكذب تحمل على نفي الامور الموجبة للضرر من الأحكام
المعدودة من شرع الإسلام الّتي يتديّن بها المسلمون ، بحيث يسند الضرر المترتّب
عليها إلى الشارع سواء كانت أحكام وجوديّة أو عدميّة ، إذ كما أنّ وجوب الصلوات
الخمس في الليل والنهار من شرع الإسلام ويتديّن به المسلمون ، فكذلك عدم وجوب ما
زاد عليها ، والخبر ينفي ما يعمّهما إذا ترتّب على وجود الأوّل أو عدم الثاني ضرر
المسلم بحيث يسند الضرر إليه تعالى من حيث جعله الأوّل وعدم جعله الثاني.
__________________
وبالجملة الأحكام
الضرريّة وجوديّة كانت أو عدميّة ، وضابطها ترتّب الضرر على وجودها أو على عدمها ،
فكما يجب في حكمة الشارع عدم جعل الأحكام الّتي يلزم من وجودها ضرر المسلم ، فكذلك
يجب في حكمته جعل الأحكام الّتي يلزم من عدمها ضرر المسلم ، وهذا هو مفاد الخبر
الوارد في مقام الامتنان الّذي هو بالنسبة إلى الأحكام الوجوديّة عدم جعلها
وبالنسبة إلى الأحكام العدميّة جعلها.
ونقول : فيما
نحن فيه أنّ عدم ضمان البائع للمشتري فيما اغترمه حكم ضرري يترتّب الضرر على عدمه
ويسند الضرر إلى الشارع لعدم جعله الضمان ، وينفيه عموم الخبر ونفيه إثبات لجعل
الضمان. ويؤيّده مورد الخبر فإنّ عدم سلطنة الأنصاري على قلع عذق سمرة بن جندب
ليمرّ إليها سمرة من دون استئذان الأنصاري ضرر على الأنصاري ، كما أنّ سلطنة سمرة
على المرور إليها من دون استئذان ضرر عليه ، وقد أثبت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم للأنصاري سلطنة القلع نافياً لسلطنة سمرة بقوله : «اذهب
فاقلعها وارم بها إليه أنّه لا ضرر ولا ضرار» .
لا يقال : عدم
ضمان البائع قد يكون باعتبار حكم الشارع بعدمه ، وقد يكون بمعنى حكمنا به باعتبار
عدم الدليل على وجوده ، والخبر إنّما يكون نافياً له على الأوّل لا على الثاني ،
لعدم كون الضرر حينئذٍ مسنداً إلى الشارع فلا يعمّه الخبر على الثاني ، وهو المراد
من عدم ضمان البائع للمشتري لأنّا نفرض قضيّة البائع والمشتري من حيث الضمان وعدمه
واقعيّة ، والنقيضان كما لا يجتمعان في الواقع كذلك لا يرتفعان في الواقع.
فنقول : إنّ الشارع
في الواقع إمّا جعل الضمان على البائع للمشتري فيما اغترمه للمالك أو لم يجعله ،
ولا سبيل إلى الثاني للزوم الضرر بحيث يسند لزومه إلى الشارع بسبب عدم جعله الضمان
وهو منفيّ بعموم الخبر فتعيّن الأوّل ، إذ لا واسطة بين الجعل وعدم الجعل وهو
المقصود بالاستدلال.
وأمّا الوجه
الثالث : وهو الإجماع فقد ذكره شيخنا قدسسره وقال : «إنّه وإن لم يرد في خصوص المسألة إلّا أنّ
تحقّقه في نظائر المسألة كافٍ ، فإنّ رجوع آكل طعام الغير إلى
__________________
من دفعه هبة أو إباحة مورد الإجماع ، وكذلك رجوع المحكوم عليه إلى شاهدي
الزور بعد رجوعهما عن الشهادة» ومراده قدسسره الإجماع على القاعدة المستنبط من الإجماعات المتحقّقة
في الموارد الخاصّة ، وهو ضمان كلّ من صار سبباً لضرر الغير بتدليس ونحوه ، فلا يضرّه
وجود الخلاف في خصوص المسألة لاندراجها في القاعدة المجمع عليها فتأمّل.
وأمّا الوجه
الرابع : وهو الأخبار فهي أيضاً وإن لم ترد في خصوص المسألة ، إلّا أنّ ورودها في
الموارد الجزئيّة من نظائر المسألة كافٍ لاستفادة عموم القاعدة من ملاحظة مجموعها
والإشعارات والتعليلات الواقعة في جملة منها ، فإنّ رجوع المحكوم عليه إلى شاهدي
الزور مورد للأخبار.
ومن الأخبار
أيضاً رواية جميل المتقدّمة بناءً على أنّ حرّية الولد نفع حصل لمشتري الجارية في
مقابل ما اغترمه من قيمة الولد ، وقيل : «إنّ في توصيف قيمة الولد بأنّها اخذت منه
نوع إشعار بعلّة الحكم فيطّرد في سائر ما اخذت منه» .
ومنها : رواية
أبي عبيدة عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «في رجل تزوّج امرأة من وليّها فوجد بها عيباً
بعد ما دخل بها ، قال : فقال : إذا دلّست العفلاء والبرصاء والمجنونة والمفضاة ومن
كان بها زمانة ظاهرة فإنّها تردّ على أهلها من غير طلاق ، ويأخذ الزوج المهر من
وليّها الّذي كان دلّسها ...» الخ. والتعليق على التدليس والتوصيف به أيضاً يفيد
العلّيّة فيطّرد الحكم في جميع موارد العلّة.
ومنها : رواية
رفاعة بن موسى قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام إلى أن ، قال : وسألته عن البرصاء؟ فقال : قضى أمير
المؤمنين عليهالسلام في امرأة زوّجها وليّها وهي برصاء أنّ لها المهر بما
استحلّ من فرجها ، وأنّ المهر على الّذي زوّجها ، وإنّما صار عليه المهر لأنّه
دلّسها» والعلّة المنصوصة عامّة لجميع مواردها الّتي منها ما
نحن فيه ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.
__________________
وأمّا القول
بعدم الرجوع فلم نقف له على مستند ، ولعلّه الأصل بادّعاء عدم الدليل على استحقاق
الرجوع ، وقد عرفت الدليل عليه فانقطع به الأصل.
والعجب عن صاحب
الحدائق حيث زعم أن لا رجوع للمشتري على البائع بشيء سوى الثمن
، واستند في ذلك إلى أنّه لم يذكر شيء من ذلك في خبر زريق المتقدّم مع كونه في
مقام بيان.
واجيب عنه :
بأنّ من لحظ الخبر ظهر له أنّه عليهالسلام إنّما كان جوابه فيما سأله السائل على وفق سؤاله ، ولم
تكن همّة السائل في فقرات سؤاله إلّا في تخليص نفسه وتفريغ ذمّته من حقّ المالك ،
ومن المعلوم أنّه لو لم يسأله ثانياً وثالثاً لاقتصر عليهالسلام على جوابه الأوّل ، أتراك تقدر أن تقول بأنّه عليهالسلام لو اقتصر على جوابه الأوّل ليس للمالك إلّا أخذ معيشته
، كلّا ولا يظنّ بأحد أن يتفوّه بذلك.
فروع
:
الأوّل : لا
يعتبر في رجوع المشتري على البائع بما اغترم علم البائع بأنّه مال الغير أو أنّه
غير مأذون ولا وكيل ، فلو باعه باعتقاد أنّه مال نفسه أو باعتقاد المأذونيّة أو
الوكالة فبان الخلاف ضمن ما اغترمه المشتري للمالك كما هو الظاهر من إطلاق أكثر
الفتاوي وصريح العناوين ، حيث إنّه في بيان تفصيل قاعدة الغرور قال : «وأمّا لو
كان عالماً ولم يكن قاصداً للتغرير ولكنّه أثّر فعله في الغرور فالظاهر صدق الغارّ
عليه ، وأمّا لو كان جاهلاً بالواقع كمن اعتقد أنّه مال نفسه فبذله لغيره فتبيّن
أنّه مال الغير فهل يصدق عليه الغارّ أم لا؟ احتمالان. ومثله ما لو زعم أنّه مأذون
في الدفع أو اعتقد أنّه وكيل أو نحو ذلك من الطرق الرافعة للضمان باعتقاده فبان
خطؤه ، والّذي يقوى في النظر حينئذٍ أنّ ذلك أيضاً يعدّ غروراً ، فإنّ فعله قد غرّ
الآخذ» ويظهر ذلك أيضاً من شيخنا في الجواهر حيث قال : «لتعميم
الضمان من جهة قاعدة الغرور وإن لم يقصد التغرير» خلافاً لما في
مستند النراقي من تخصيصه الضمان بصورة علم البائع «بأنّه مال الغير لتحقّق التغريم
والتدليس» .
__________________
وتحقيق المقام
: أنّ الجهة المقتضية لضمان البائع لما اغترمه المشتري إن كانت تدليسه استناداً
إلى أخبار التدليس فالمتّجه عدم ضمان مع الجهل لعدم صدق التدليس بمعنى إخفاء العيب
معه ، وكذلك إن كانت تغريمه لعدم صدق غرّه بمعنى خدعه معه ، وإن كانت تسبيبه
لتضرّر المشتري فالمتّجه ضمانه لقاعدة نفي الضرر الّتي لا فرق فيها بين صورتي
العلم والجهل ولا يعتبر فيه قصد الإضرار ، ولذا يضمن حافر بئر في الطريق بوقوع
أعمى فيها وإن لم يكن بحفره قاصداً له ، ويؤيّده بل يدلّ عليه إطلاق قوله عليهالسلام في خبر جميل : «ويرجع بقيمة الولد الّتي اخذ منه».
الثاني : لو
تبرّع متبرّع بأداء ما ضمنه المشتري للمالك من الاجرة والقيمة وسائر ما في عهدته
للمالك ، فالوجه سقوط ضمان البائع له وعدم استحقاقه للرجوع عليه بما دفع عنه
المتبرّع ، لعدم وقوع ضرر مالي عليه ولم يؤخذ منه شيء.
وتوهّم : أنّه
مغرور من البائع في تصرّفاته وإتلافاتها فيرجع عليه بقاعدة «أنّ المغرور يرجع على
من غرّه» مدفوع بأنّ المغرور يستحقّ الرجوع على الغارّ بما اخذ منه ، ومفروض
المقام أنّه لم يؤخذ منه شيء ، فمجرّد صدق كونه مغروراً غير مفيد.
وأولى منه بعدم
استحقاقه الرجوع على البائع لو أبرأه المالك عمّا ضمنه له بإتلافاته وغيرها. وأمّا
لو احتسبه عليه خمساً أو زكاة إذا كان من أهل استحقاقهما ففي رجوعه على البائع
وعدمه احتمالان ، أوّلهما لا يخلو عن قوّة لأنّ الاحتساب بمنزلة أخذ المال منه
فكأنّه دفع إليه الخمس أو الزكاة ثمّ اخذ منه في ما ضمنه فيكون ضرراً ، وأولى منه
بالرجوع ما لو دفع إليه المالك ما يساوي ما في ذمّته خمساً أو زكاة ثمّ استردّه
عمّا في ذمّته ، ونحو ما لو دفعه صدقة مستحبّة ثمّ استردّه عمّا في ذمّته.
الثالث : لو
تلف عين المبيع في يد المشتري وكان قيمته يوم العقد ما يوازي الثمن المدفوع إلى
البائع فرجع المالك عليه بقيمته فهو يستحقّ الرجوع على البائع بثمنه ، ولا يستحقّ
الرجوع بالقيمة المأخوذة منه زائدة على الثمن لأنّها بمنزلة المبيع ، ولا يجوز
الجمع بين العوض والمعوّض.
ولو أنّه رجع
بعين المبيع المبتاعة بعشرة وقيمته يوم العقد عشرون فالمشتري لا يستحقّ من البائع
ما زاد على العشرة الّتي دفعها إليه ثمناً من العشرة الاخرى لأنّه
لم يؤخذ منه تلك الزيادة ، والمالك إنّما أخذ منه عين ماله. ولو كان العين
المبتاعة ما يساوي قيمته عشرين وقد باعها البائع بعشرة فتلفت في يد المشتري وغرمه
المالك بعشرين فلا إشكال في أنّه يرجع على البائع بعشرة ثمنه ، وهل يرجع بالعشرة
الزائدة أيضاً لأنّه ممّا اغترمه للمالك أو لا؟.
فقد يقال :
بعدم الرجوع لأنّه إنّما أقدم على ضمان العين وأن يكون تلفه منه ، كما هو شأن فاسد
كلّ عقد يضمن بصحيحه ، ومع الإقدام لا غرور ولذا لم نقل به في العشرة المقابلة
للثمن.
وفيه : أنّه
فرق واضح بين المقبوض بالعقد الفاسد وما نحن فيه ، إذ لا غرور في الأوّل أصلاً
فيكون إقدامه على ضمان العين مؤثّراً في ضمانه للقيمة الواقعيّة وهي عشرون ، فلا
يأخذ العشرة المدفوعة إلى البائع ثمناً ، ويردّ إليه العشرة الاخرى الزائدة على
الثمن ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه وإن كان أقدم على أن يكون العين في ضمانه فيضمن مع
التلف قيمته الواقعيّة وهي عشرون ، غير أنّ إقدامه بالنسبة إلى العشرة الزائدة
مسبّب عن غروره من البائع فيرجع بها أيضاً على من غرّه ، مضافاً إلى أنّ اغترامه
لها ضرر عليه مسبّب عن البائع أيضاً فيضمنها له من جهة تسبيبه.
ولو فرض أنّ
المالك أخذ من المشتري عشرين قيمة المبيع التالف في يده من غير أن يكون دافعاً
للثمن إلى البائع حين قبض المبيع فإنّه حينئذٍ لا يرجع عليه بعشرة الثمن ، وإلّا
لزم أن يكون تلفه من مال البائع من دون أن يغرمه في ذلك ، لأنّه لو فرض صدق البائع
في دعوى الملكيّة لم يزل غرامته للبائع للثمن بإزاء المبيع التالف فهذه الغرامة
للثمن لم ينشأ عن كذب البائع ، وأمّا العشرة الزائدة فإنّما جاء غرامتها من كذب
البائع في دعواه فحصل الغرور فوجب الرجوع ، هذا إذا كانت زيادة القيمة موجودة حال
العقد ، ولو تجدّدت بعده فالحكم بالرجوع فيها أولى منه في الزيادة الموجودة حال
العقد.
وحكم ما يغرمه
بإزاء الأجزاء في التلف حكم المجموع فيرجع في الزائد على ما يقابل ذلك الجزء من
الثمن لا فيما يقابله ، وفي حكم الأجزاء أوصاف العين الّتي يتفاوت بها القيمة إذا
زالت عند المشتري فرجع المالك عليه بالتفاوت ، كما لو كان عبداً كاتباً أو صانعاً
فنسي الكتابة أو الصنعة فيرجع المشتري أيضاً على البائع بما اغترمه
بإزاء الأوصاف ، وكذلك لو كان دابّة سمينة فهزلت عند المشتري فيرجع على
البائع بما اغترمه للمالك من تفاوت القيمة ، لأنّ كلّ هذه غرامات وقعت عليه من
تغريم البائع وتسبيبه ، هذا كلّه فيما اغترمه للمالك.
وكذلك الحكم
فيما اغترمه للعين من النفقات والاجرات والمؤن لحفظه أو تربيته أو إصلاحه وعمارته
أو رفع مفاسده وعلله ، كنفقة الدابّة واجرة خادمها ونفقة المملوك ومئونة مرضه أو
تربيته ، ومئونة إصلاح الدار والعقار وعمارتها ورفع مفاسدها ، واجرة تعليم المملوك
والمملوكة لواجباتهما وتعليمها القرآن والكتابة ورسوم الخدمة وآدابها ، ومؤن ختان
العبد وما أشبه ذلك. وضابطه كلّما يترتّب على ملك العين من صرف المال مع
المشروعيّة فيرجع في الجميع على البائع للغرور وتسبيبه الضرر. بخلاف ما لم يكن
مشروعاً كما لو غذّى المملوك والمملوكة لحم الخنزير أو الميتة أو شربه الخمر أو
سائر المسكرات ، أو بذل اجرة لتعليمه التغنّي أو الرقص وما أشبه ذلك فلا يرجع فيها
من جهة انتفاء الغرور لسبق منع الشارع عنها.
ويرجع أيضاً
بما اغترمه في جناية العبد الجاني من الأرش كائناً ما كان وبالغاً ما بلغ ، وإن
زاد على قيمة رقبته كما هو أحد القولين في المسألة ، أو أقلّ الأمرين من الأرش ، أو قيمة رقبته
على القول الآخر.
وربّما الحق به
دية جناية الدابّة كما عن شرح القواعد للشيخ النجفي ، فحكم فيها أيضاً بالرجوع.
وردّ بأنّ
جناية الدابّة إن لم تكن ناشئة عن تقصيره في الحفظ أو كانت ناشئة عن جهله بأنّ من
شأنها الإفساد فهو حينئذٍ غير ضامن لدية الجناية ، فلو اخذ منه الدية والحال هذه
فقد اخذت والمظلوم يرجع على ظالمه ، وإن كانت ناشئة عن تقصيره في الحفظ يضمن الدية
لتقصيره ، ولا مدخليّة فيه لغروره فلا رجوع على التقديرين.
ولو بذل في
نفقة العبد وكسوته ونفقة الدابّة وغيرها ما زاد على زيه وشأنه ، ففي رجوعه بالقدر
الزائد إشكال ، ولا يبعد الرجوع لصدق الغرور.
__________________
ولو خرج منه في
حفظه أو تربيته أعمال لها اجرة في العرف والعادة ففي رجوعه بأُجرة تلك الأعمال وجه
قويّ ، لاحترام عمل المسلم وقد خرج منه لغروره من البائع.
ثمّ بقي في
المقام فائدتان مهمّتان :
الفائدة الاولى
: في أنّ المالك إذا لم يجز بيع الغاصب أو العقد الفضولي كان له الرجوع بماله على
كلّ من البائع والمشتري ، لتعلّق الضمان بكلّ منهما على طريقة ضمان الأيادي
المترتّبة على مال واحد. فإن كانت عين المال موجودة في يد المشتري ورجع عليه
المالك وأخذ منه ماله سقط به ضمان البائع ، وإن رجع على البائع وجب عليه تخليصه عن
المشتري ، وإن توقّف على بذل مال وبذل له ما بذل ثمّ ردّه إلى المالك. وإن كانت
تالفة في يد المشتري يضمن كلّ منهما بدله مثلاً أو قيمة ، وللمالك الرجوع على كلّ
منهما على البدل ، فإن رجع إلى المشتري وأخذ البدل منه سقط ضمانه عن البائع ، وإن
رجع على البائع وأخذ البدل منه رجع البائع أيضاً على المشتري وأخذ ما اغترمه
للمالك من بدل العين منه لفرض اشتغال ذمّته به ، فأداء البدل من اللاحق يوجب سقوطه
من السابق ومن السابق لا يوجب سقوطه من اللاحق. وضمان الأيادي المتعاقبة كلّ واحد
للعين وبدله إجماعيّ ، ومدركه عموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه».
وهاهنا إشكال
مشهور ، وهو أنّ المال المضمون عيناً وبدلاً شيء واحد فكيف يعقل استقراره في ذمم
متعدّدة ، مع أنّ الموصول في قوله : «على اليد ما أخذت» كناية عن المال وهو شيء
واحد ، فكيف يكون على كلّ واحد من الأيادي المتعدّدة ، ولقد حقّق في فنون المعقول
أنّ الشخص الواحد بوحدته الشخصيّة الّذي هو جزئي حقيقي ممّا يمتنع أن يتعدّد
بتعدّد محالّه.
والتحقيق في
دفع الإشكال منع استلزام ضمان كلّ واحد من الأيادي المتعاقبة لاستقرار مال واحد في
ذمم متعدّدة وتعدّد شخص واحد على حسب تعدّد محالّه ، فإنّ ضمان كلّ واحد معناه كون
كلّ واحد مخاطباً بردّ المال أو بدله مع التلف إلى مالكه ، وأيّاً ما كان فالمردود
واحد والخطاب بالردّ متعدّد. والأصل فيه أنّ ضمان اليد واحدة أو متعدّدة مستفاد من
خبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» وطريق الاستفادة ما شرحناه
مبسوطاً في مسألة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد.
وملخّصه : أنّ
الاستعلاء المستفاد من كلمة «على» هنا استعلاء معنويّ ، وهو ما يلزم من الاستعلاء
الحسّي المفسّر تارةً بالاستعلاء الركوبي ، واخرى بالاستعلاء الحملي ، ولكلّ منهما
لوازم كثيرة أوفقها بالمقام هو الثقل على معنى كون ثقل الراكب على مركوبه وثقل
المحمول على حامله ، فمعنى كون المال المأخوذ على اليد الآخذة له كون ثقله عليه
باعتبار كونه مخاطباً بردّه وأدائه ، وهذا الثقل المسبّب عن الخطاب بالردّ والأداء
يتعدّد عند تعدّد الأيادي ، وهو لا يستلزم تعدّد أصل المال عيناً ولا بدلاً ، فما
يستقرّ في الذمم المتعدّدة إنّما هو الردّ والأداء لا نفس المال عيناً أو بدلاً.
وإن شئت [قلت]
: إنّ التعدّد في إضافات المال الواحد باعتبار كون ثقله على كلّ واحد من الأيادي ،
ومن المعلوم أنّ تعدّد إضافات الشيء الواحد الشخصي لا يوجب تعدّد المضاف ، بل هو
مع تعدّد الإضافات باقٍ على وحدته الشخصيّة كالصوفيّة والمغزوليّة والمنسوجيّة
والملبوسيّة والعبائيّة المعتورة على صوف شخصي متّخذ عباءً ، فللمالك أن يرجع إلى
كلّ واحد على البدل ويطالب منه عين ماله على تقدير البقاء وبدله على تقدير التلف ،
فإن كان عين المال في تقدير البقاء في يد المرجوع إليه يردّه ، وإن كان في يد غيره
يستردّه ويخلّصه ويردّه. وفي تقدير التلف يردّ المرجوع إليه بدله ، فإن كان المال
قد تلف في يده فلا رجوع له إلى غيره من الأيادي السابقة ، وإن كان قد تلف في يد
غيره فله أن يرجع إلى من تلف في يده ويأخذ منه ما اغترمه من البدل بالشرط الآتي.
وما ذكرناه في
دفع الإشكال أسدّ وأجود ممّا في زبر غير واحد من الأصحاب المتعرّضين لبيان الإشكال
ودفعه ، مثل ما في العناوين من قوله : «والّذي ينبغي أن يقال هنا : إنّ الحكم
بظاهر دليل اليد ضمان كلّ واحد منهم ولا ينافيه كون الأداء غاية لأنّا نبيّن بعد
ذلك في معنى الأداء أنّه أعمّ من المباشرة ، وأنّ المراد منه الوصول إلى صاحب
الحقّ بأيّ نحو كان حتّى الإبراء.
فنقول : إذا
أدّى أحدهم فقد أدّى عن الباقين لأنّه حقّ واحد ، فإذا أدّى سقط الضمان كما لو
تبرّع الأجنبيّ ، فيصير ذلك من باب الواجب التخييري في التكاليف على
ما يراه الإماميّة من وجوب الكلّ والسقوط بفعل أحدها ولا مانع من ذلك
عقلاً. فلا يتوهّم : أنّ الواجب التخييري طلب يمكن تعلّقه بامور متعدّدة يسقط بفعل
أحدها بخلاف المقام ، فإنّ الحقّ الواحد لا يعقل تعلّقه بالذمم المتعدّدة وليس ذلك
على سبيل التبعيض والتجزية حتّى يمكن ، لأنّا نقول لا بأس بأن نلتزم بتعدّد الحقّ
في الذمم بظاهر دليل اليد ، فإنّ كلاً منهم مشغول الذمّة على المالك بالحقّ ، فإذا
أدّى أحدهم جعل الله ذلك مسقطاً عن الباقين» انتهى.
ولا يخفى ما
فيه :
أمّا أوّلاً :
فلأنّه جعل ضمان الأيادي المتعاقبة نظير الواجب التخييري مع أنّه أشبه شيء
بالواجب الكفائي ، لأنّ التعدّد في المكلّف وهو الضامن مع وحدة المال لا في
المكلّف به مع وحدة المكلّف.
وأمّا ثانياً :
فلأنّ ما نسبه إلى الإماميّة من تفسير الواجب التخييري بوجوب الكلّ والسقوط بفعل
أحدها سهو ، بل هو قول ضعيف نسب إلى بعض المعتزلة القائل بوجوب الجميع والسقوط
بفعل البعض ، وأمّا الإماميّة فقالوا : إنّ الواجب التخييري كلّ واحد على البدل
فلا يجب الجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع وأيّها أتى به فهو نفس الواجب لا بدله.
وأمّا ثالثاً :
فلأنّ ما التزمه في المقام من تعدّد الحقّ في الذمم استناداً إلى ظاهر دليل اليد
بالنسبة إلى عين المال غير معقول لوحدته الشخصيّة ، وبالنسبة إلى بدله مع تلف
العين غير صحيح ، لأنّ المالك كما أنّه في صورة بقاء العين لا يستحقّ إلّا مالاً
واحداً فكذلك في صورة التلف لا يستحقّ إلّا بدلاً واحداً لا أبدالاً متعدّدة.
لا يقال : إنّ
البدل مثلاً أو قيمة على تقدير التلف كلّي ومن حكم الكلّي أن يتعدّد أفراده فلِمَ
لا يجوز أن يتعلّق كلّ فرد منها بذمّة ، لأنّه وإن كان كلّيّاً ولكنّه بالنسبة إلى
أفراده المتمايزة بالمشخّصات الخارجيّة لا بالنسبة إلى الأفراد المتمايزة بتمايز
الذمم. ودعوى ظهور دليل اليد في الثاني ممنوعة.
__________________
ومثل ما عن فخر
الدين والشهيد أنّهما حكيا عن العلّامة أنّه ذكر في درسه من أنّه لا
مانع من ضمان الاثنين على وجه الاستقلال ، قال : «ونظيره في العبادات الواجب
الكفائي وفي الأموال الغاصب من الغاصب.
وهذا غير مفهوم
المراد ، إذ لو أراد من ضمان الاثنين على وجه الاستقلال ضمان كلّ على وجه يتعدّد
المال المضمون فهو محلّ الإشكال. وتنظيره بالغاصب من الغاصب غير صحيح ، لأنّه من
أفراد المسألة. وتوهّم : إرجاعه إلى ما عليه العامّة من باب الضمان من جعله ضمّ
ذمّة إلى ذمّة اخرى فاسد ، لأنّه خلاف ما أجمع عليه الأصحاب من جعله عبارة عن نقل
المال عن ذمّة إلى ذمّة اخرى لإجماعهم على بطلان الأوّل ، تعليلاً بأنّ المال
الواحد لا يتعدّد على حسب تعدّد الذمم.
وإن أراد منه
ضمانهما على وجه يتعدّد الخطاب بالردّ وإن لم يتعدّد معه المال ، فهو في نفسه وإن
كان صحيحاً وتنظيره بالواجب الكفائي وإن كان لا ضير فيه غير أنّه مجمل لم يتعرّض
فيه لبيان كيفيّة كلّ واحد على وجه الاستقلال بحيث لا يتعدّد معه المال.
ومن مشايخنا من
قال : «معنى كون العين المأخوذة على اليد كون عهدتها ودركها بعد التلف عليه ، فإذا
فرض أيدي متعدّدة تكون العين الواحدة في عهدة كلّ من الأيادي ، لكن ثبوت الشيء
الواحد في العهدات المتعدّدة معناه لزوم خروج كلّ منها عن العهدة عند تلفه ، وحيث
إنّ الواجب هو تدارك التالف الّذي يحصل ببذل واحد لا أزيد ، كان معناه تسلّط
المالك على مطالبة كلّ منهم الخروج عن العهدة عند تلفه ، فهو يملك ما في ذمّة كلّ
منهم على البدل ، بمعنى أنّه إذا استوفي في أحدها سقط الباقي لخروج الباقي عن كونه
تداركاً لأنّ المتدارك لا يتدارك ... إلى أن قال : ويتحقّق ممّا ذكرنا أنّ المالك
إنّما يملك البدل على سبيل البدليّة إذ يستحيل اتّصاف شيء منها بالبدليّة بعد
صيرورة أحدها بدلاً عن التالف واصلاً إلى المالك» انتهى.
ولا بأس بشرح
بعض فقرات كلامه قدسسره ليتّضح به مرامه ثمّ اتباعه بما يتوجّه إليه ، فنقول :
إنّ الظاهر في عطف «دركها» على «عهدتها» عدم كونه عطف تفسير كما يوهمه
__________________
ابتداء النظر ، وتوضيحه : أنّ العهدة والعهد والذمّة بحسب أصل اللغة على ما
ستفاد من كلام أئمّة اللغة بمعنى ، والأصل في معنى الذمّة المرادفة للعهدة ما عن
أبي عبيدة من قوله : الذمّة التذمّم ممّن لا عهد له ، وهو أن يلزم الإنسان نفسه
ذماماً أي حقّاً يوجّه عليه. وفي التفسير من المسامحة ما لا يخفى ، إذ قضيّة جعل
الذمّة بمعنى التذمّم أن يفسّر التذمّم بالالتزام وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه.
فالذمّة بحسب أصل اللغة كلّ التزام للإنسان بحقّ على نفسه سواء كان بسبب اختياري
من قبله كالنذر والعهد واليمين والشرط في ضمن العقد اللازم والإتلاف والتسبيب
للتلف والإضرار والغصب والجناية وما أشبه ذلك ، أو بسبب قهري من الخالق ـ كالخمس
والزكاة واستطاعة الحجّ والنفقة فيمن يجب عليه إنفاقه وما أشبه ذلك ـ أو من
المخلوق كالغرور من الغاصب وغيره الموجب لوقوعه قهراً في ضمان مال الغير ونحوه ،
فالعهدة المرادفة له حينئذٍ بمعنى التعهّد وهو الالتزام بالحقّ أيضاً على الوجه
المذكور. فمعنى كون المال الفلاني في ذمّة فلان أو في عهدته كونه في التزامه بحيث
يجب عليه الخروج عن الالتزام بأدائه عيناً أو بدلاً على تقدير التلف.
ثمّ الذمّة
بالخصوص في عرف أهل الشرع بدليل قوله «اشتغال الذمّة ، أو مشغول الذمّة ، أو ذمّة
فلان مشغولة ، أو ذمّتي مشغولة» حيث يسند الاشتغال إلى الذمّة لا العهدة استعيرت
عن الالتزام بالحقّ الّذي هو في حاصل المعنى عبارة عن جعل الحقّ لازماً للنفس أو
للعنق إلى النفس أو إلى العنق ، فمعنى اشتغال ذمّة الإنسان بالحقّ اشتغال نفسه أو
عنقه به باعتبار كونه لازماً له.
والأظهر هو
الثاني كما يرشد إليه استعمالات أهل الفرس وغيرهم وتعبيراتهم حيث يعبّرون عن
الذمّة بـ «گردن» وغيره من مرادفاته ممّا عدا اللغة العربيّة ، وإنّما استعيرت إلى
العنق لكونه الجزء المقوّم للإنسان. وإنّما خصّصنا الاستعارة إليه بالذمّة ، لعدم
إسناد الاشتغال في إطلاقات العرف إلى العهدة فلا يقال : اشتغال العهدة ولا عهدة
فلان مشغولة ولا عهدتي مشغولة. وإنّما التزمنا الاستعارة ، لعدم صحّة إسناد
الاشتغال إلى نفس الالتزام. ومن الذمّة بمعنى الالتزام بالحقّ اخذ الذمّة في أهل
الذمّة في أهل الكتاب الملتزمين بالفدية وغيرها من الشرائط الموجبة لدخولهم في
عنوان
«الصاغرين». وعلى ما ذكرنا فالذمّة بمعنى التذمّم والعهد والعهدة بمعنى
التعهّد والضمان كلّها عبارة عن الالتزام بالحقّ ، وإن كانت الذمّة تطلق أيضاً على
العنق أو النفس.
وأمّا الدرك
بالفتح فهو في أصل اللغة بمعنى التبعة ، ومنه قوله : «إذا لحقك درك فعليّ إصلاحه»
والتبعة لغة لمعنيين ، أحدهما : ما فيه الإثم أو أصل الإثم ، وإطلاقها عليه في
الأدعية كثير ، ومنه «لا تجعل لك عندي تبعة إلّا وهبتها». والآخر : المظلمة ،
والظاهر أنّ المراد بالمظلمة حقوق الناس ترد على الإنسان باعتبار ظلمه لا مطلق
الظلم. وهذا هو المناسب للمقام في إطلاقات العرف وأهل الشرع ، ولك أن تقول : بأنّه
في لسان أهل الشرع استعيرت لكلّ غرامة ماليّة ترد على الإنسان ويتوجّه إليه بسبب
من الأسباب الاختياريّة أو القهريّة ، ومنه ضمان الدرك في باب البيع ، وعلى هذا
فالدرك بحسب المعنى يغاير العهدة فلا يكون عطفه للتفسير. وحينئذٍ فتخصيصه لكون
العين المأخوذ على اليد الّذي هو عبارة عن ضمان اليد المستفاد من خبر «على اليد ما
أخذت» بكون عهدتها بعد التلف عليه ، غير واضح الوجه ، لأنّ ضمان اليد إنّما يثبت
في العين على تقدير البقاء والبدل على تقدير التلف معاً ، لا في البدل فقط على
تقدير التلف ، فإنّ العين أيضاً في عهدة آخذها والتزامه حتّى تؤدّيها وتخرج عن
عهدتها بردّها إلى المالك. نعم إذا تلفت يكون بدلها مثلاً أو قيمة في عهدتها
والتزامها.
ثمّ الظاهر من
قوله : «فإذا استوفي أحدها سقط الباقي لخروج الباقي عن كونه بدلاً أن يتعدّد بدل
التالف في أوّل تعلّقه بالعهدات والذمم» وهذا أيضاً غير واضح الوجه ، بل التحقيق
أنّ التعدّد في الالتزام لا في البدل الملتزم به ، بأنّ الشارع جعل لكلّ مال في
الواقع بدلاً واحداً ، ومعنى كونه في العهدات المتعدّدة التزام كلّ من المتعدّدين
بردّ ذلك البدل الواقعي الواحد إلى مالكه ، ولوحدته في الواقع جاء البدليّة في ملك
المالك له في ذممهم ، فهو يرجع على وجه البدليّة على كلّ منهم أراد ويطالب منه
البدل الواحد الواقعي ، فإذا أخذه منه سقط الالتزام والخطاب بالأداء من الباقين
لبقائه بلا موضوع ، فالساقط عنهم هو الالتزام والخطاب بأداء بدل التالف لا نفس
البدل لارتفاع موضوع الخطاب.
ثمّ اعلم : أنّ
ضمان اليد في الأيادي المتعدّدة معناه أنّ كلّ واحد منهم بأخذه مال الغير
واستيلائه عليه يضمن الأمر الدائر بين العين والبدل إلّا أنّه يضمن العين منجّزاً
والبدل معلّقاً على تلف العين لأنّ المالك لا يملك البدل إلّا بعد تلف
العين ، فلا يستحقّ مطالبة البدل ما دامت العين باقية يمكن الوصول إليها ، وإذا
تلفت العين فله الرجوع إلى كلّ واحد منهم على البدل سواء كان من تلف المال في يده
أو غيره ، فإن رجع إلى من تلف المال في يده وأخذ منه البدل فإن كان مغروراً من
سابقه بأن كان جاهلاً بالغصبيّة رجع إليه بما اغترمه للمالك من البدل ، وإن لم يكن
مغروراً من سابقه باعتبار علمه بالغصبيّة لم يرجع إليه بما اغترمه لاستقرار الضمان
عليه ، وإن رجع على غير من تلف المال في يده وأخذ منه بدل التالف فإن كان غارّاً
لمن تلف المال في يده لا يرجع إليه بما اغترمه من البدل ، إذ لا معنى لرجوعه إلى
من لو رُجِعَ إليه لرَجَع إليه ، وإن لم يكن غارّاً له رجع عليه أو على غيره من
الوسائط ، وإن لم يتلف في يده كما هو المصرّح به في كلامهم ، والظاهر أنّ هذا
الحكم محلّ وفاق فلا كلام فيه.
وإنّما الكلام
والإشكال في وجه استحقاقه للرجوع بما دفعه إلى المالك من بدل التالف على كلّ واحد
من الأيادي اللاحقة على البدل ممّن تلف المال في يده ومن غيره من الوسائط ، فإنّه
في معنى ضمان كلّ واحد من اللواحق للسابق الدافع لبدل التالف إلى مالكه بعد الرجوع
عليه لا للمالك ، لخروجهم عن ضمانه بحصول أداء بذل ماله من الدافع ، وإن شئت قلت :
إنّه من انقلاب ضمان كلّ منهم للمالك ببدل التالف إلى ضمان كلّ منهم للسابق الدافع
للبدل بما دفعه لا ببدل التالف. ومحلّ الإشكال هو حدوث الضمان الثاني لا عدم بقاء
الضمان فإنّه على القاعدة ، إذ لا معنى لبقاء ضمان بدل التالف للمالك بعد ارتفاع
موضوعه ، بضابطة أنّ البدل المتدارك لا يتدارك ثانياً.
فقد يقال في
وجه رجوعه ـ أي رجوع غير من تلف المال في يده إلى من تلف في يده على تقدير رجوع
المالك إليه ـ إنّ ذمّة من تلف بيده مشغولة للمالك بالبدل ، وإن جاز له إلزام غيره
باعتبار الغصب بأداء ما اشتغلت ذمّة من تلف بيده ، فيملك حينئذٍ من أدّى البدل
بأدائه ما للمالك في ذمّة من تلف بيده بالمعاوضة الشرعيّة القهريّة ، وبناه على
الفرق بين من تلف بيده وبين غيره في أنّ خطاب الأوّل بأداء البدل ذمّي وخطاب
الثاني به شرعي إذ لا دليل على شغل ذمم متعدّدة بمال واحد ، وحينئذٍ يرجع عليه
ولا يرجع هو. هكذا وجّهه شيخنا في الجواهر في باب الغصب.
واعترض عليه
شيخنا الآخر أوّلاً : بأنّه لا وجه للفرق بين من تلف المال بيده وبين غيره في
الخطاب بجعله في الأوّل ذمّياً وفي الثاني شرعيّاً ، والمفروض أنّه لا خطاب فيهما
إلّا خبر «على اليد ما أخذت» ودلالته على الضمان بالنسبة إليهما على نهج سواء.
وثانياً :
بأنّه لا يكاد الفرق بين الخطاب الشرعي بالأداء والخطاب الذمّي.
وثالثاً :
بأنّه لا يكاد يعرف خلاف من أحد في كون كلّ من ذوي الأيدي مشغول الذمّة بالمال
فعلاً ما لم يسقط بأداء أحدهم أو إبراء المالك ، نظير الاشتغال بغيره من الديون في
إجباره على الدفع أو الدفع عنه من ماله ، وتقديمه على الوصايا ، والضرب فيه مع
الغرماء ، ومصالحة المالك عنه مع آخر إلى غير ذلك من أحكام ما في الذمّة.
ورابعاً : بأنّ
تملّك غير من تلف المال بيده لما في ذمّة من تلف المال في يده بمجرّد دفع البدل لا
يعلم له سبب اختياري ولا قهري ، بل المتّجه سقوط حقّ المالك عمّن تلف في يده
بمجرّد أداء غيره ، لعدم تحقّق موضوع التدارك بعد تحقّق التدارك.
وخامساً : بأنّ
اللازم ممّا ذكره أن لا يرجع الغارم فيمن لحقه في اليد العادية إلّا إلى من تلف في
يده ، مع أنّ الظاهر خلافه فإنّه يجوز له أن يرجع إلى كلّ واحد ممّن بعده.
نعم لو كان غير
من تلف بيده فهو يرجع إلى أحد لواحقه إلى أن يستقرّ على من تلف في يده .
ووجّهه شيخنا
المعترض بما ملخّصه مع تحرير منّا : بأنّ كلّ واحد من اللواحق يضمن لشخصين على
البدل : أحدهما المالك فيضمن كلّ واحد له بدل التالف ، والآخر السابق على تقدير
رجوع المالك عليه ، فيضمن كلّ واحد له ما دفعه إلى المالك ، فضمانهم للمالك تنجيزي
فعلي وللسابق تعليقي لكونه معلّقاً على دفعه البدل إلى المالك ، ولذا لا يجوز له
الدفع إليه قبل دفعه إلى المالك ، كما أنّ المضمون عنه لا يدفع إلى الضامن قبل دفع
الضامن إلى المالك.
وإن شئت عين
عبارته فلاحظ قوله : «إنّ الوجه في رجوعه هو أنّ السابق اشتغلت
__________________
ذمّته له بالبدل قبل اللاحق ، فإذا حصل المال في يد اللاحق فقد ضمن شيئاً
له بدل ، فهذا الضمان يرجع إلى ضمان واحد من البدل والمبدل على سبيل البدل ، إذ لا
يعقل ضمان المبدل معيّناً من دون البدل ، وإلّا خرج بدله عن كونه بدلاً ، فما
يدفعه الثاني فإنّما هو تدارك لما استقرّ تداركه في ذمّة الأوّل ، بخلاف ما يدفعه
الأوّل فإنّه تدارك نفس العين معيّناً إذا لم يحدث له تدارك آخر بعد ، فإن أدّاه
إلى المالك سقط تدارك الأوّل له ، ولا يجوز دفعه إلى الأوّل قبل دفع الأوّل إلى
المالك ، لأنّه من باب الغرامة والتدارك فلا اشتغال للذمّة قبل فوات المتدارك ،
وليس من قبيل العوض لما في ذمّة الأول.
فحال الأوّل مع
الثاني كحال الضامن مع المضمون عنه في أنّه لا يستحقّ الدفع إليه إلّا بعد الأداء.
والحاصل : أنّ
من تلف المال في يده [ضامن] لأحد الشخصين على البدل من المالك ومن سبقه في اليد ،
فيشتغل ذمّته إمّا بتدارك العين ، وإمّا بتدارك ما تداركها ، وهذا اشتغال شخص واحد
بشيئين لشخصين على البدل ، كما كان في الأيدي المتعاقبة اشتغال ذمّة أشخاص على
البدل لشيء واحد لشخص واحد» .
ويشكل : بأنّه قدسسره لم يأت في كلامه بدليل الضمان المذكور ، ولم يتعرّض
لبيان أنّه من أيّ قسم من أقسام الضمان ، نظراً إلى أنّه ليس من ضمان الغصب
بالمعنى الأعمّ الّذي يقال له ضمان اليد ، لأنّ اللاحق لم يغصب مالاً للسابق ، ولا
من ضمان الإتلاف بالمباشرة لأنّه لم يتلف مالاً للسابق ، ولا من ضمان التسبيب
للتلف لعدم تسبيبه لتلف مال للسابق ، ولا من ضمان التفريط ولا التعدّي كما في
الأمانات لعدم مال في يده للسابق على سبيل الأمانة حتّى يتحقّق منه ترك ما وجب
فعله فيه وهو التفريط أو فعل ما حرّم فعله فيه وهو التعدّي ، ولا من ضمان الغرور
لعدم كون السابق مغروراً من اللاحق.
وبالجملة : لا
كلام لنا في أنّ اللاحق يضمن لكلّ من المالك والسابق على تقدير الرجوع عليه ،
فللمالك يضمن بدل التالف ، وللسابق المرجوع عليه يضمن ما دفعه إلى المالك. ولكنّ
الكلام في أنّ ضمانه للسابق المرجوع عليه هل هو من توابع ضمان اليد ،
__________________
أو أنّه ضمان مستقلّ أثبته دليل آخر غير دليل ضمان اليد؟ نظير ضمان السابق
الغارّ لكلّ من المالك واللاحق المغرور على تقدير رجوع المالك ، فيضمن للمالك بدل
التالف وللّاحق المغرور بما اغترمه للمالك ، وهذا ضمان أثبته قاعدة «أنّ المغرور
يرجع على من غرّه» فهو ضامن للمالك بغصبه وللّاحق بتغريره.
فنقول : يمكن
أن يقال بأنّه من توابع ضمان اليد المستفاد من خبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»
بملاحظة الغاية الموجودة فيه ، فإنّ قوله : «على اليد» يدلّ على كون ثقل المال
المأخوذ على آخذه ، والغاية تدلّ على استمرار ذلك الثقل إلى غاية الأداء عيناً أو
بدلاً على تقدير التلف من الآخذ ، فما لم يؤدّ البدل على تقدير التلف إمّا إلى
المالك لو رجع عليه أو إلى السابق المرجوع عليه ، وأيّاً ما كان فلا يخرج عن كونه
أداءً للبدل ، غير أنّه في ظرف التحليل على الأوّل كان بدلاً للتالف ، وعلى الثاني
بدلاً لبدل التالف ، فما لم يحصل الأداء منه بأحد الوجهين كان الثقل باعتبار خطابه
بالأداء باقياً عليه. ولا ينتقض ذلك بأداء المتبرّع أو بإبراء المالك ، لكون كلّ
منهما قائماً مقام أدائه مسقطاً لخطابه بالأداء ورافعاً للثقل المذكور عنه.
ويمكن أن يكون
ضماناً مستقلّاً ثبت بقاعدة نفي الضرر ، فإنّ ضمان السابق للمالك على تقدير الرجوع
عليه مع عدم استحقاقه للرجوع على اللاحق بما دفعه إلى المالك من بدل التالف حتّى
على من تلف المال بيده ضرر عليه مسند إلى الله سبحانه حيث حكم بضمانه وعدم
استحقاقه ، والضرر منفيّ بعموم قوله عليهالسلام : «لا ضرر ولا ضرار» بناءً على أنّ مفاده نفي مجعوليّة
الحكم الضرري الّذي يترتّب عليه ضرر المسلم ، ومعنى نفيه هنا نفي الحكم بعدم
استحقاق السابق الدافع لبدل التالف إلى المالك للرجوع إلى اللاحق ، ونفيه إثبات
لاستحقاقه وهو المطلوب.
ويمكن أن
يستدلّ لهذا الضمان بالأدلّة النافية للظلم عن الله سبحانه من العقل والنقل ، فإنّ
حكمه تعالى بضمان السابق المرجوع إليه للمالك ببدل التالف وعدم استحقاقه للرجوع
على اللاحق خصوصاً من تلف المال بيده مع عدم كونه غارّاً ولا ضارّاً وعدم تحقّق في
يده ظلم عليه ، والظلم قبيح عقلاً ومنفيّ نقلاً بقوله تعالى :
«إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئاً وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ» وما أشبه ذلك.
وقضيّة قبحه عقلاً ونفيه نقلاً أن لا يحكم تعالى بعدم استحقاق السابق للرجوع على
اللاحق بما دفع إلى المالك ، فيثبت به استحقاقه وهو يلازم ضمان اللاحق له بما
دفعه. فهذه وجوه ثلاث لإثبات هذا الضمان ، أوجهها الأوّل ، ودونه الثاني ، ودونهما
الثالث.
تذنيب : لو كانت العين في يد المشتري
على تقدير عدم إجازة المالك تالفة يرجع المالك ببدلها مثلاً لو كانت من المثليّات أو قيمة لو كانت القيميّات
، وهذا هو الأصل الكلّي المجمع عليه في ضمان البدل ولا كلام فيه. وإنّما الكلام في
تعيين القيمة في القيمي أهو قيمة يوم التلف ، أو قيمة يوم القبض الّذي هو في باب
الفضولي أعمّ من الغصب باعتبار علم المشتري بالفضوليّة أو الغاصبيّة وجهله بهما ،
أو أعلى القيم من قيمة يوم القبض إلى يوم التلف؟ ولقد سبق منّا الكلام في تحقيق
هذا المقام مشروحاً في باب ضمان المقبوض بالعقد الفاسد ، وذكرنا ثمّة أنّ الأصل في
ضمان القيمة هو قيمة يوم التلف لأنّه يوم انتقال الضمان من العين إلى القيمة إلّا
فيما أخرجه الدليل ، كما في العين المغصوبة المختلف في تعيين قيمتها المضمونة بين
قيمة يوم الغصب وأعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف على قولين ، ومنشأ
الاختلاف اختلاف النظر في فقه صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة في الباب المذكور ، ونحن
قد استظهرنا في موضعين منها الدلالة على اعتبار قيمة يوم الغصب. فمن هنا يعلم أنّ
المتّجه فيما نحن فيه هو التفصيل بين ما لو كان المشتري في قبضه غاصباً باعتبار
علمه بالفضوليّة أو الغاصبيّة فيضمن قيمة يوم القبض عملاً بالصحيحة ، وما لو لم
يكن غاصباً باعتبار جهله بهما فيضمن قيمة يوم التلف عملاً بالأصل.
الفائدة
الثانية : في أنّه لو باع الفضولي مال غيره مع مال نفسه ، فهل يصحّ فيهما ، أو
يبطل فيهما ، أو يصحّ في ماله ويبطل في مال غيره؟ ولقد عبّر في الشرائع عن العنوان
«بأنّه لو باع ما يملك وما لا يملك مضى بيعه فيما يملك ، وكان فيما لا يملك
موقوفاً على الإجازة» وقضيّة كلامه هو الصحّة في الجميع على تقدير الإجازة.
وهذا لازم
__________________
كلّ من يقول بصحّة الفضولي مع الإجازة. وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه بناءً
على المختار.
فلا ينبغي
التكلّم في عنوان هذه المسألة من حيث كون البائع بالنسبة إلى بعض المبيع فضوليّاً
، إذ لا يتفاوت في بحث الفضولي من حيث الصحّة مع الإجازة والبطلان رأساً بين كون
العاقد فضوليّاً في الجميع أو في البعض ، وأدلّة القول بالصحّة مع أدلّة القول
بالبطلان جاريتان في المقامين ، ولم يعهد قول بالتفصيل من أحد أيضاً. فالمقصود
الأصلي في عنوان هذا المقام إنّما هو التكلّم في البيع المذكور بالنسبة إلى مال
البائع على تقدير عدم إجازة مالك بعض المبيع في ماله ، وهو من جهات :
الجهة الاولى :
في صحّته وفساده بالنسبة إلى البعض الّذي هو مال البائع ، فنقول :
المعروف من
مذهب الأصحاب هو القول بالصحّة فيقسّط الثمن على المجموع ويأخذ البائع حصّته منه.
وفي الرياض وجواهر شيخنا نفي الخلاف في الصحّة ، مع استظهار الإجماع عليها
في الثاني ، ويظهر دعواه من تذكرة العلّامة حيث نسب القول بالصحّة إلى علمائنا ، قبالاً
للشافعي النافي للصحّة ، بل عن غنية ابن زهرة دعوى الإجماع عليه صريحاً ، وعن شرح القواعد للشيخ النجفي
الاستدلال عليها بالإجماع محصّلاً ومنقولاً.
ولم نقف على
قائل بالبطلان من أصحابنا ولا على من احتمله إلّا المحقّق الأردبيلي ، فاحتمل
البطلان فيه على تقدير عدم إجازة المالك ، واحتمله أيضاً على
القول ببطلان الفضولي رأساً ، واستند له إلى أنّ التراضي الّذي هو شرط لصحّة
التجارة بحكم آية «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» إنّما حصل في
المجموع وهو غير حاصل ، وما حصل من البعض لم يحصل فيه التراضي.
وقضيّة ذلك
خروج البيع بالنسبة إلى مال البائع عن المستثنى ودخوله في المستثنى منه ، فيكون
أخذ بعض الثمن بإزاء بعض المبيع أكلاً للمال بالباطل. ولأجل ذلك قد
__________________
يقال : بأنّ الأصل في المقام هو البطلان ، مراداً به الأصل الاجتهادي
المستفاد من الآية.
وقد يدّعى فيه
الأصل الأوّلي العملي وهو أصالة عدم ترتّب الأثر وعدم النقل والانتقال وبقاء الملك
السابق وعدم تجدّد ملك لاحق ، للاسترابة في عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» من جهة الاسترابة في صدق العقد على هذا البيع بالنسبة
إلى بعض المبيع ، بتقريب أنّ العقد عبارة عن الشدّ والربط بين المالين المبيع
والثمن ، وإنّما حصل ذلك في المجموع في مقابل المجموع والمفروض عدم حصول المجموع ،
وما حصل من البعض ليس ممّا شدّه وربطه المتعاقدان بجزء الثمن.
ويمكن
الاسترابة في عموم «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» أيضاً ، لأنّ قصد إنشاء تمليك العين إنّما حصل بالنسبة
إلى المجموع بإزاء المجموع ، وأمّا الجزء من المبيع فلم يقصد البائع إنشاء تمليكه
بإزاء جزء من الثمن ، فيرجع في حكمه إلى أصالة الفساد.
وكيف كان فقد
أجاب السيّد في [الرياض] عن احتمال البطلان «بأنّ البائع مأمور بالوفاء بالعقد في
ماله ، وعدم إجازة المالك لا يرفع الأمر المستقرّ في الذمّة» وكأنّه رام بذلك
التمسّك باستصحاب الحالة السابقة على ردّ المالك وهو وجوب الوفاء بالعقد على
البائع في ماله الثابت قبل لحوق ردّ المالك في ماله ، فإنّ الاستصحاب مع الشكّ في
قدح العارض كالاستصحاب مع الشكّ في عروض القادح في الحجّيّة.
وفيه ـ مع أنّه
لا يتوجّه إليه إلّا على بعض تقارير الشبهة ، وهو الاستناد في احتمال البطلان إلى
منع عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لا إلى انتفاء التراضي ـ أنّك إمّا أن تقول بكون صحّة
البيع في مال البائع مرتبطة بصحّته في مال غيره قطعاً ، أو تقول بعدم كونها مرتبطة
بها قطعاً ، أو تقول بأنّي أشكّ في الارتباط والعدم وهو يوجب الشكّ في بقاء الحالة
السابقة وارتفاعها فنستصحب. ولا مجال للاستصحاب في شيء من التقادير ، أمّا على
التقدير الأوّل : فلأنّ عدم إجازة المالك البيع في ماله مع فرض الارتباط بعنوان
كما يكشف عن انتفاء الصحّة في ماله فكذلك يكشف عن انتفائها في مال البائع قطعاً
ومعه لا معنى للاستصحاب ، والأصل فيه أنّ ارتفاع أحد المنتسبين يستلزم ارتفاع
المنتسب الآخر ، وهذا حكم عقلي قطعي وارد على الاستصحاب رافع لموضوعه.
وأمّا على
التقدير الثاني : فلأنّ المناسب لدفع الشبهة ممّن يدّعي القطع بعدم الارتباط إقامة
الدليل على نفيه لا التمسّك بالاستصحاب ، فإذا ساعد دليل على صحّة البيع في مال
البائع وعدم ارتباطها بصحّته في مال الغير فارتفع به موضوع الاستصحاب أيضاً.
وأمّا على
التقدير الثالث : فلأنّ الشكّ في الارتباط يوجب الشكّ في وجوب الوفاء على البائع
من أوّل الأمر وهو من الشكّ الساري ، ولا معنى للاستصحاب مع سريان الشكّ ، كما
حقّقناه في الاصول.
فالحقّ أنّ
القول بالصحّة ممّا لا مدفع له ، لنا عموماً جميع عمومات الصحّة ، وخصوصاً صحيحة
صفّار.
أمّا الأوّل :
فأوّلاً آية «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» ودعوى : أنّ التراضي إنّما حصل في مجموع المبيع بإزاء
مجموع الثمن لا في الجزء بإزاء الجزء ، يدفعها : أنّ التراضي في الكلّ يتضمّن
التراضي في كلّ جزء من أجزائه ، بل لا معنى لوجود الكلّ إلّا وجودات أجزائه ، ألا
ترى أنّ صبغ الثوب المشتمل على أجزاء يتضمّن صبغ كلّ واحد من تلك الأجزاء ، ولا
يعقل من أحد أن يقول : إنّ الصبغ في الكلّ بمعنى مجموع الأجزاء لا في كلّ جزء جزء.
لا يقال : إنّ
التراضي بالنسبة إلى كلّ جزء إنّما حصل بشرط انضمامه إلى الجزء الآخر ، والشرط في
مفروض المقام منتف ، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط. لأنّا نقول : إنّ
التراضي بالنسبة إلى مال البائع إنّما حصل في حال انضمامه إلى مال الغير لا بشرط
انضمامه إليه ، فالانضمام لا مدخليّة له في التراضي ولا يوجب تقييد العقد به ، على
أنّ المعتبر في الشروط المأخوذة في العقود الموجبة لتقييد العقد بمورد حصول الشرط
هو ما صرّح به في متن العقد ، ولا يكفي الشرط المطويّ في ضمير المتعاقدين من دون
ذكره صريحاً في العقد ، بل هو في نظر الشارع ملغى فيبقى التراضي على إطلاقه.
فإن قلت : لو
لم يكن للانضمام مدخليّة في التراضي كيف يثبت خيار تبعّض الصفقة للمشتري في صورة
الجهل؟.
قلت : ثبوت هذا
الخيار ليس من جهة مدخليّة الانضمام في التراضي وإلّا كان مقتضاه بطلان العقد
رأساً لا ثبوت الخيار الّذي هو فرع على صحّة العقد ، بل الخيار إنّما
يثبت من جهة قاعدة نفي الضرر لئلّا يتضرّر المشتري بعدم حصول جزء المبيع ،
إذ كثيراً ما يكون في الهيئة الاجتماعيّة غرض للمشتري فيتضرّر بعدم حصول غرضه.
وثانياً : آية
وجوب الوفاء بالعقد ، فإنّ ربط مجموع المالين بالثمن المسمّى يتضمّن ربط كلّ منهما
بما يقابله من الثمن ، بل هو بملاحظة أنّ الكلّ لا وجود له إلّا وجودات أجزائه
عينه ، فالعقد صادق على ربط البائع ماله بما يقابله من الثمن فيشمله عموم الآية.
وتوهّم : لزوم
تحقّق عقود متعدّدة على حسب تعدّد الأجزاء ، وهو باطل لشهادة الحسّ بأنّه ليس إلّا
عقداً واحداً.
يدفعه : أنّ
العقد إن اريد به مصطلح الفقهاء وهو الصيغة المخصوصة ولذا يقولون بأنّه مركّب من
الإيجاب والقبول ، فالملازمة ممنوعة بالبداهة ، بل الّذي يلزم هو تأثير العقد بهذا
المعنى في بعض الأجزاء بإزاء ما يقابله من الثمن وعدم تأثيره في البعض الآخر ولا
ضير فيه. وإن اريد به المعنى اللغوي وهو الربط ـ كما بيّنّاه ـ فهو في تعدّده
واتّحاده أمر اعتباري منوط باعتبار المعتبر ، فإن أخذ مقيساً إلى الكلّ بما هو كلّ
يقال له ربط واحد ، وإن أخذ مقيساً إلى كلّ واحد من الأجزاء فهو ربطات متعدّدة ،
فبطلان اللازم على هذا التقدير ممنوع لأنّ المحسوس عند الوجدان هو التعدّد.
وثالثاً : آية «أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ» فإنّ تمليك العين على وجه التعويض المتعلّق بالمالين
بإزاء الثمن المسمّى متعلّق بكلّ منهما بإزاء ما يقابله من الثمن ، فالبائع ملّك
عين ماله بما يقابله من الثمن ، فهو بيع حقيقة فيشمله العموم أيضاً.
وقد يستدلّ
أيضاً على الصحّة بوجوه غير تامّة : مثل الخبر المرويّ من قوله عليهالسلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» . وقوله عليهالسلام أيضاً : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» . وأنّ الأسباب
الشرعيّة كالأسباب العقليّة تؤثّر في القابل ولا تؤثّر في غير القابل ، وذلك
كالنار مثلاً إذا أصابت شجراً أو حجراً فإنّها تحرق الشجر ولا تحرق الحجر ، وكذلك
الأسباب الشرعيّة فيؤثّر العقد في مال البائع لأنّه قابل للتأثير ولا يؤثّر في مال
غيره لعدم قبوله بعدم إجازته التأثير.
__________________
وفي الأوّل :
أنّه مخصوص بموارد التكليف وهي العبادات وغيرها من الواجبات المركّبة إذا تعذّر
بعض أجزائها لعذر عقلي أو شرعي فصار بهذا الاعتبار معسوراً وباقي الأجزاء الّتي لم
يطرأها عذر عقلاً ولا شرعاً ميسور ، ومفاد الرواية حينئذٍ أنّ هذا الميسور لا يسقط
بالمعسور ، على معنى أنّ التكليف لا يسقط عن الجزء الغير المتعذّر بسقوطه عن الجزء
المتعذّر.
وهذا هو معنى
الخبر الآخر أيضاً ، وحاصله : أنّ كلّ عبادة مركّبة إذا لم يدرك كلّ أجزائها لطروء
عذر عقلي أو شرعي لا يترك كلّها حتّى أجزائها الّتي لم يطرأها عذر ، أي لا يجوز
ترك أجزائها الباقية ويجب الإتيان بها.
ومحلّ البحث من
موارد الوضع لأنّ الكلام في صحّة البيع في مال البائع بعد فساده في مال غيره بعدم
إجازته ، والصحّة والفساد من الأحكام الوضعيّة فلا يتناوله الخبران. وإن اوّل
بإرجاعه إلى موارد التكليف بالنظر إلى وجوب الوفاء بالعقد فيقال : إنّ وجوب الوفاء
بالعقد في مال البائع الّذي هو ميسور لا يسقط بسقوطه في مال غيره الّذي صار
معسوراً بعدم إجازته فيتناوله الخبران ، لورد عليه أنّ هذا متّجه لو كان الخطاب
بالوفاء متوجّهاً إلى شخص واحد وهو البائع كما في موارد التكليف ومحلّ البحث ليس
كذلك ، لأنّ وجوب الوفاء في بعض المبيع خطاب البائع وفي البعض الآخر خطاب غيره على
تقدير إجازته ، ولمّا كان التقدير تقدير عدم الإجازة فلم يتوجّه إليه خطاب الوفاء
بالعقد فلا ميسور ولا معسور بالنسبة إليه ولا بالنسبة إلى البائع. نعم يبقى الكلام
في أنّه هل توجّه ذلك الخطاب إلى البائع في ماله أو لا؟ وهو أوّل المسألة فكيف
يشمله الخبران!!.
ولو قيل : إنّ
وحدة المخاطب في خطاب الوفاء بالعقد متحقّقة بالنسبة إلى المشتري ، فيصدق في حقّه
أنّ تكليفه بالوفاء بالعقد بالنسبة إلى مال البائع لكونه ميسوراً لا يسقط عنه
بسقوطه في مال غيره لصيرورته بعدم إجازته معسوراً.
لقلنا : إنّ
وفاء المشتري بالعقد على تقدير صحّته بالنسبة إلى جزئي المبيع عبارة عن إقباضه
الثمن وتسليمه إيّاه إلى مالكي المبيع ، ولم يتعذّر عليه شيء بل هو متمكّن عن
تسليم كلّ من حصّتي مالكي المبيع ، غير أنّه لمّا لم يجز مالك أحد جزئيه العقد في
ماله ارتفع موضوع الوفاء بالنسبة إليه ، فسقط عن المشتري وجوب الوفاء بالنسبة إليه
من جهة ارتفاع موضوعه وهو العقد ، لا من جهة صيرورة تسليم حصّته من الثمن
معسوراً عليه فلا يشمله الخبران.
وفي الثالث :
أنّه بين قياس ومصادرة ، إذ لو اريد بكاف التشبيه التفريع بمعنى إلحاق الفرع على
الأصل بإجراء حكم الأسباب العقليّة في الأسباب الشرعيّة لجامع بينهما وهو السببيّة
، ففيه : أنّه قياس وليس من مذهبنا.
ولو اريد به
التنظير على معنى أنّه كما أنّ الأسباب العقليّة تؤثّر في القابل ولا تؤثّر في
غيره فكذلك الأسباب الشرعيّة ، ففيه : أنّه مصادرة ، إمّا لمنع كون مال البائع بعد
عدم إجازة مالك غيره العقد قابلاً لتأثير العقد فيه فلا بدّ من إثبات القابليّة
فيه بالدليل ، أو لأنّ مجرّد قابليّة المحلّ لتأثير العقد فيه لا يلازم فعليّة
التأثير ، بل فعليّة التأثير تحتاج إلى إثبات بالدليل. فالوجوه الثلاثة لإثبات
صحّة البيع في مال البائع كلّها ضعيفة.
وأضعف منها :
ما عن الشافعي القائل بالفساد ، من الاستناد إلى أنّ اللفظة الواحدة لا يتأتّى
تبعيضها ، فإمّا أن يغلب الصحيح على الفاسد أو بالعكس ، والثاني أولى ، لأنّ تصحيح
العقد في الفاسد ممتنع وإبطاله في الصحيح غير ممتنع ، ولأنّه لو باع درهماً
بدرهمين أو تزوّج بأُختين حكم بالفساد ، ولأنّ الثمن المسمّى يتوزّع عليهما ولا
يدرى حصّة كلّ واحد منهما عند العقد ، فيكون الثمن مجهولاً وصار كما يقال : بعتك
عبدي هذا بما يقابله من الألف إذا وزّعت عليه وعلى عبد فلان ، فإنّه لا يصحّ.
ويندفع الأوّل
: بأنّ تصحيح العقد في الفاسد أي فيما فرض كونه فاسداً بالنسبة إليه وإن كان
ممتنعاً ولكن إبطاله في الصحيح أي فيما فرض صحيحاً بالنسبة إليه ممّا لا موجب له.
وتوهّم : لزوم تبعيض اللفظة الواحدة ، يندفع بأنّه ليس من تبعيض اللفظة الواحدة ،
بل هو من تأثيرها في بعض المبيع لاحتوائه شرائط التأثير ، وعدم تأثيرها في البعض
الآخر لعدم احتوائه بعض الشرائط وهو إجازة المالك ، ولا محال فيه.
ويندفع الثاني
: بأنّ بيع درهم بدرهمين لكونه ربى فاسد ، فإمّا أن يحكم بفساده في أحدهما دون
الآخر أو يحكم به فيهما ، والأوّل باطل للزوم الترجيح من غير مرجّح فتعيّن الثاني.
والعقد في تزويج اختين لكونه جمعاً بين الاختين فاسد ، والحكم بالفساد في إحداهما
ترجيح بلا مرجّح فتعيّن الحكم به فيهما معاً ، والحكم بصحّة العقد في مال
البائع لاجتماع شرائط الصحّة وعدم صحّته في مال غيره لانتفاء بعض شرائط
الصحّة فيه ليس ترجيحاً بلا مرجّح.
ويندفع الثالث
: بأنّ الثمن المسمّى ثمن المجموع وهو معلوم ، ولا يعتبر معلوميّة حصّة كلّ واحد
من الأجزاء من الثمن بعد إمكان استعلامها بالقسمة وملاحظة النسبة ، وهذا ليس من
قبيل المثال المفروض ، إذ الألف لم يعتبر ثمناً باعتبار عدم كون عبد فلان داخلاً
في المثمن فلا بدّ وأن يكون ثمن عبد البائع معلوماً ، وما يقابله من الألف مجهول
حين العقد.
ثمّ إنّ جمعاً
من الأصحاب قيّدوا صحّة البيع في مال البائع بأن لا يتولّد من عدم إجازة مالك بعض
المبيع مانع شرعي من الصحّة ، من لزوم بيع الآبق بلا ضميمة ، أو لزوم ربى ، أو غير
ذلك ، وإلّا فسد لعدم صحّة بيع الآبق من دون ضميمة كما لو باع عبده الآبق مع عبد
غيره الّذي ليس بآبق فلم يجزه مالكه ، ولعدم صحّة البيع الربوي كما لو باع درهماً
له مع فلس لغيره بدرهمين فلم يجزه مالك الفلس ، فلو أخرج قيمة الفلس من الدرهمين
بالتوزيع بقي فيما يقابل درهم البائع من الدرهمين أزيد من درهم ، وهو بيع جنس
بالجنس مع زيادة.
الجهة الثانية
: في أنّ البائع بعد ما صحّ البيع في ماله يأخذ بحصّته من الثمن ، ولا بدّ
لاستعلام الجهة ومعرفته من طريق ، ويختلف ذلك بحسب اختلاف صور المبيع في كونه
بمجموعه قيميّاً أو مثليّاً أو ملفّقاً من القيمي والمثلي ، فهاهنا مسائل ثلاث :
المسألة الاولى
: في بيان طريق معرفة حصّة البائع من الثمن فيما إذا كان المثمن بمجموع جزئيه من
القيميّات ، فنقول : إنّ طريق معرفة الحصّة إنّما هو التقسيط ، وقد اختلفت عبارات
الأصحاب في بيان كيفيّته اختلافاً فاحشاً واضطربت كلماتهم اضطراباً شديداً ، ولا
فائدة مهمّة في التعرّض لنقل عباراتهم المختلفة وكلماتهم المضطربة ، بل المهمّ
إنّما هو بيان الطريق الواقعي المنضبط لكيفيّة التقسيط بحيث لا يتخلّف ولا يستتبع
ظلماً وإجحافاً ولا تنازعاً ولا محذوراً آخر ، فنقول : إنّ لها طريقين :
أحدهما : أن
يقوّم المالان متفرّقين وبعبارة اخرى أن يقوّم كلّ منهما منفرداً ، ثمّ تنسب قيمة
أحدهما إلى مجموع القيمتين فيؤخذ من الثمن المسمّى بتلك النسبة
فما خرج فهو الحصّة.
وثانيهما : أن
يقوّم المالان مجتمعين وبعبارة اخرى يقوّم مجموعهما معاً ، ثمّ يقوّم أحدهما
منفرداً ثمّ تنسب تلك القيمة إلى قيمة المجموع فيؤخذ من الثمن المسمّى بتلك النسبة
فما خرج فهو الحصّة. وهذان الطريقان يتّحدان ولا يختلفان في غالب موارد المسألة.
نعم قد يحصل
الاختلاف بينهما فيما لو كان للهيئة الاجتماعيّة مدخليّة في زيادة القيمة بحيث
يزيد من جهتها قيمة المجموع على مجموع قيمتيهما ، كمصراعي الباب وزوجي الخفّ وما
أشبه ذلك ، كما لو كان الثمن المسمّى ثلاثة وكان قيمة المجموع أربعة ، وقيمة كلّ
واحد منفرداً واحداً ، فمجموع القيمتين اثنان ، ويزيد عليه قيمة المجموع باثنين ،
ونسبة الواحد [إلى] مجموع القيمتين بالنصف وإلى قيمة المجموع بالربع ، وبسبب
اختلاف النسبة يتفاوت الحصّة أيضاً ، لأنّ حصّة البائع على نسبة النصف نصف الثلاثة
واحد ونصف ، وعلى نسبة الربع ربع الثلاثة وهو ثلاثة أرباع واحد ، والأوّل يزيد
عليه بمثله وهو حصّته من الزيادة الحاصلة من الهيئة الاجتماعيّة الّتي لم تسلّم
للمشتري في صورة عدم الإجازة فلا يستحقّها البائع ، فلو أخذها والحال هذه لزم
خروجها من المشتري بلا عوض وهو إجحاف وظلم عليه.
وطريق التخلّص
عنه إنّما هو التقسيط على حسب نسبة قيمة ماله إلى قيمة مجموع المالين لا إلى مجموع
القيمتين ، فنحن نتكلّم أوّلاً في كيفيّة التقسيط بالنسبة إلى غالب الموارد الّتي
لم يكن للهيئة الاجتماعيّة مدخليّة في زيادة القيمة ونقصانها ، وقد عرفت أنّ
طريقها أن يقوّم كلّ من المالين منفرداً ثمّ تنسب قيمة مال البائع إلى مجموع
القيمتين ، فيبقى للبائع من الثمن ما هو على حسب تلك النسبة ، ومثاله على ما ذكروه
ما إذا كان الثمن المسمّى ثلاثة دنانير وقوّم المملوك وهو مال البائع بقيراط وغيره
بقيراطين ، فيرجع المشتري بثلثي الثمن ويستردّهما من البائع على تقدير دفعه إليه ،
أو يرجع البائع على المشتري بثلث الثمن ويطالبه منه على تقدير عدم دفعه ، وإنّما
لم يقسّط الثمن على العينين ابتداءً ، لأنّهما قد لا يكونان متماثلين كعبد وفرس
مثلاً فتعذّر التقسيط حينئذٍ ، وفيما كانا متماثلين فكثيراً ما لا يتساوى قيمتاهما
فيتعذّر التقسيط أيضاً فلا بدّ في التقسيط من التقويم توصّلاً إلى التمكّن منه في
جميع الفروض.
وإنّما اعتبر
في التقويم نسبة قيمة أحد المالين كمال البائع إلى مجموع القيمتين لا إلى نفس
الثمن وأخذ القيمة منه بتلك النسبة ، لئلّا يفتقر إلى تقويمين تحرّزاً عن الإجحاف
والظلم بالنسبة إلى البائع أو إلى المشتري ، فإنّ الثمن المسمّى قد ينقص عن مجموع
القيمتين وقد يزيد عليه ، فلو اخذ قيمة المملوك على حسب نسبتها إلى الثمن لا إلى
مجموع القيمتين لزم أن يخرج من المشتري إلى البائع شيء بلا عوض على الأوّل ، وأن
يبقى من حقّ البائع شيء عند المشتري ، ومثاله ما لو كان الثمن أربعين وقوّم مال
البائع بعشرين والمال الآخر بثلاثين ومجموعهما خمسون ، ونسبة عشرين إلى خمسين
خمسان ، فلو أخذ البائع من الثمن على حسب تلك النسبة كان حصّته ستّة عشر خمسي
أربعين ، ولو أخذ على حسب نسبة عشرين إلى أربعين كان حصّته تمام عشرين ، وهو يزيد
على الأوّل بأربعة وهو من مال المشتري يخرج إليه بلا عوض ، أو كان الثمن ستّين مع
كون قيمة كلّ من المالين كما ذكر ، فلو أخذ البائع من الثمن على حسب نسبة عشرين
إلى خمسين كان حصّته أربعة وعشرين خمسي ستّين ، ولو أخذ على حسب نسبة عشرين إلى
الثمن كان حصّته عشرين ثلث ستّين فيبقى من حقّه في ذمّة المشتري أربعة فيلزم الظلم
بالنسبة إليه.
وأيضاً فلو
قسّط الثمن على حسب ما قوّم المملوك بأن يأخذ البائع من الثمن عين قيمة ماله من
دون مراعاة النسبة لزم ـ مضافاً إلى الإجحاف ـ التنازع ، وذلك لأنّ قيمة مال
البائع بعد عدم إجازة المالك قد تساوى الثمن ، وقد تزيد عليه ، وقد تنقص منه.
فعلى الأوّل لو
كانت العبرة بعين القيمة يلزم الإجحاف على المشتري لو قلنا بأنّه لا يرجع بما
يقابل قيمة ما لم يجز البيع فيه من المبيع ، لخروج جزء من ثمنه بلا عوض وهو الّذي
دفعه في مقابل الجزء الغير المجاز من المبيع ، ولو قلنا بأنّه يرجع لزم التنازع
فيما لو كان قيمة كلّ من المالين عشرة والثمن المسمّى أيضاً عشرة ، ولو خصّص
العشرة لزم الترجيح بلا مرجّح ، مضافاً إلى أنّه لو خصّصناه بالمشتري لزم مع
الإجحاف على البائع الجمع بين العوض والمعوّض ، لأنّه يأخذ مال البائع ويمنعه من
عوضه وهو جمع بين العوض والمعوّض ، بل يلزم التنازع على تقدير إجازة المالك مضافاً
إلى لزوم الترجيح بلا مرجّح لو خصّص بأحدهما.
ومثله الكلام
في لزوم المحذورين على الثاني وهو زيادة القيمة على الثمن ، مضافاً إلى لزوم محذور
آخر وهو استحقاق البائع على المشتري القدر الزائد على الثمن من غير الجهة العقديّة
، فيكون من قبيل تملّك مال بلا سبب شرعي ، إذ المفروض تحقّق السبب بالنسبة إلى
المسمّى ، والقدر الزائد خارج منه فلا بدّ في التقسيط من ملاحظة النسبة ، ثمّ
يقسّط الثمن على حسب تلك النسبة لئلّا يلزم شيء من المحاذير.
وضابطه الكلّي
أن يلاحظ مجموع القيمتين بعد تقويم كلّ من المالين منفرداً ، وينسب إليه قيمة كلّ
منهما فيؤخذ من الثمن بإزاء كلّ مال بتلك النسبة سواء كان المأخوذ بتلك النسبة
لكلّ مال مساوياً لقيمته منفرداً أو أزيد منها أو أنقص منها ، فلو قوّم المالان
كلّ بخمسة والثمن عشرة يقسّط العشرة نصفين ، ولو قوّم أحدهما بأربعة والآخر بستّة
يقسّط العشرة أخماساً ، ولو قوّم أحدهما بثلاثة والآخر بأربعة يقسّط العشرة
أسباعاً ، ولو قوّم أحدهما باثنين والآخر بثلاثة قسّط العشرة أخماساً ، ولو قوّم
أحدهما باثنين والآخر بأربعة قسّط العشرة أثلاثاً ، ولو قوّم أحدهما بواحد والآخر
بثلاثة قسّط الثمن أرباعاً وهكذا. وإن شئت مثالاً لمزيد التوضيح فافرض الثمن اثني
عشر وقيمة أحد المالين ثلاثة والآخر ستّة فاجمع القيمتين فيحصل تسعة ، وانسب
الثلاثة إلى التسعة فيكون ثلاثة ، فيكون ما يقابله من الثمن أربعة لأنّه ثلث اثني
عشر ، ومن هنا يعلم أنّه يكفي في التقسيط نسبة إحدى القيمتين إلى المجموع ، لأنّه
إذا عرفت هذه النسبة واخذ من الثمن على حسبها يبقى الباقي منه في مقابلة قيمة
المال الآخر ، وإن لم يعلم أنّ نسبتها إلى المجموع ما ذا.
فظهر بما
قرّرناه أنّ الطريق المذكور موافق للعدل ويقتضيه الاعتبار وطريقة الشارع ، وهو كما
يجري على تقدير عدم الإجازة يجري على تقدير الإجازة أيضاً بلا فرق بينهما ، غاية
الأمر أنّ الثمن على الأوّل بين البائع والمشتري ، وعلى الثاني بين البائع
والمجيز.
ولكن قد يشكل
الحال فيما لم يكن كلّ من جزئي المبيع متموّلاً بانفراده لعدم قيمة له في العرف
والعادة إذا اخذ منفرداً ، بل المجموع المركّب متموّل والقيمة متقوّمة بالمجموع
فحينئذٍ لا يمكن تقويم كلّ واحد منفرداً حتّى يلاحظ النسبة بين إحدى
القيمتين ومجموع القيمتين ، فيتعذّر التقسيط بناءً على هذا الطريق ، وذلك
نظير حمل حطب بين جماعة لكلّ واحد عودة خشب لا قيمة لها ، أو رطل حنطة بينهم لكلّ
واحد حبّة لا قيمة لها ، أو قطعة أرض بينهم لكلّ واحد منها شبر لا قيمة له.
فقد يقال :
بأنّ الثمن في مثل ذلك يقسّط على حسب الملكيّة وعدد رءوس الشركاء ، فلو كان المبيع
بين اثنين يقسّط الثمن نصفين أو بين ثلاثة فأثلاثاً أو بين أربعة فأرباعاً ، وهكذا
من غير فرق بين تساوي الحقوق في المقدار وزناً أو مساحة ، وبين اختلافها كاختلاف
أعواد الحطب في الطول والقصر ، واختلاف حبّات الحنطة في الكبر والصغر ، واختلاف
أبعاض الأرض في تماميّة الشبر ونقصانه والزيادة بما لا يبلغ حدّ الماليّة ، فإنّ
نحو هذا الاختلاف غير ضائر ، إذ ليس في الشرع ميزان منضبط لرفعه فيكون مغتفراً ،
وله في الشرعيّات نظائر كثيرة ، كما لو جنى اثنان على واحد ، واجتمع اثنان على
إتلاف مال واحد مع اختلافهما في زيادة التأثير وقلّته ، فإنّ الدية في الأوّل
والضمان في الثاني عليهما بالسويّة.
وفيه : نظر ،
أمّا أوّلاً : فلأنّ ذلك على تقدير تماميّته إنّما يصحّ في صورة إجازة المالك ،
وأمّا في صورة عدم الإجازة فلا للزوم بيع ما ليس بمال ، وبذل المال في مقابلة ما
ليس بمال وهذا خلف من جهة المعاملة السفهيّة ، فالوجه فيه بطلان البيع رأساً. وهذا
في الحقيقة يندفع بمفهوم التقييد المتقدّم في كلام جماعة من الأصحاب ، وهو تقييد
صحّة البيع في مال البائع على تقدير عدم إجازة مالك بأن لا يتولّد من عدم الإجازة
مانع من الصحّة ، إذ المفروض عدم انحصار المانع الشرعي فيما تقدّم من الربويّة
والإباق ، بل من الموانع الشرعيّة عن صحّة البيع خروج الشيء عن الماليّة.
وأمّا ثانياً :
فلإمكان الاعتبار الرافع لتفاوت الاختلاف على طبق الطريق المتقدّم بالتضعيف ، وهو
تكرير الواحد مراراً عديدة فيكرّر كلّ جزء من المبيع مراراً عديدة حتّى يبلغ
الحاصل مبلغ الماليّة فيقوّم مبلغ كلّ جزء ثمّ يجمع القيم ثمّ تنسب قيمة مبلغ حقّ
البائع إلى مجموع القيم ، وأيّ نسبة حصلت تكون هذه النسبة ميزاناً فيقسط الثمن بين
الأجزاء على حسب تلك النسبة ، ويخرج الحصّة الواقعيّة من دون إجحاف. وبمراعاة هذا
الاعتبار يندفع الإشكال أيضاً فيما لو باع ماله منضمّاً إلى ملك غيره ممّا
لا يتموّل بانفراده وأجازه المالك ، فلا يلزم إجحاف على البائع لو كرّر
ماله مع ملك الغير مراراً حتّى يبلغ ملك الغير مبلغ الماليّة ، فينسب قيمة مبلغ
مال البائع إلى مجموع القيمتين فيأخذ البائع من الثمن على حسب تلك النسبة ، فما
بقي منه فهو حصّة المالك. هذا كلّه على تقدير عدم مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في
زيادة القيمة.
فأمّا إذا كان
لها مدخليّة في زيادة القيمة ، فلا كلام ظاهراً لأحد في أنّ طريق التقسيط فيه على
تقدير إجازة المالك كما تقدّم من تقويم كلّ واحد منفرداً ونسبة قيمة أحدهما إلى
مجموع القيمتين والأخذ من الثمن على حسب تلك النسبة ، وإنّما الكلام في صورة عدم
إجازة المالك فاختلف الأصحاب في أنّ طريق التقسيط هل هو أن يقوّم كلّ منهما
منفرداً تنسب قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة ـ كما عن
جامع المقاصد والميسيّة والمسالك والروضة والرياض والحدائق ـ أو أن يقوّما مجتمعين وتنسب قيمة أحدهما إلى قيمة
المجموع ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة كما عن آخرين؟
ويظهر الثمرة
في زيادة حصّة البائع من الثمن ونقصانها ، إذ على الطريق الأوّل يزيد حصّته منه
عليها على الطريق الثاني ، فلو كان قيمة المجموع اثني عشر مثلاً وقوّم كلّ منهما
بأربعة ونصف ، والثمن ستّة ومجموع القيمتين تسعة ، فلو أخذ البائع من الثمن على
حسب نسبة أربعة ونصف إلى التسعة كان حصّته ثلاثة نصف الستّة ، ولو أخذ منه على حسب
نسبة أربعة ونصف إلى اثني عشر كان حصّته اثنين وربعاً ربع الستّة ونصف ربعه ،
لأنّه نسبة قيمة ماله إلى اثني عشر قيمة المجموع.
ولو قوّما
منفردين على التفاوت ، بأن كان قيمة مال البائع منفرداً ثلاثة ، وقيمة المال الآخر
ستّة ، كان مجموع القيمتين أيضاً تسعة ، فالبائع إذا أخذ من الثمن بمقتضى نسبة
الثلاثة إلى التسعة وهو الثلاث كان حصّته منه اثنين ثلث الستّة ، وإذا أخذ منه
بمقتضى نسبته إلى اثني عشر وهو الربع كان حصّته منه واحداً ونصفاً ربع الستّة ،
فمرجع قول الأوّلين إلى أنّ البائع يستحقّ من الثمن على تقدير عدم إجازة المالك
قدر ما يستحقّه
__________________
مع الإجازة ، ولازمه أن يقولوا إنّ البيع مع عدم إجازة المالك يبطل في قدر
ما يستحقّه من الثمن مع الإجازة ، فلا يتفاوت الحال في طريق التقسيط بين صورتي
إجازة المالك وعدم إجازة مع مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في زيادة القيمة ، كما هو
كذلك مع عدم المدخليّة.
واحتجّوا عليه
كما في مفتاح الكرامة «بأنّه لا يستحقّ مالك كلّ واحد حصّته إلّا منفردة فلا
يستحقّ ما يزيد باجتماعهما» .
وقد يقرّر بأنّ
كلاًّ منهما يستحقّ حصّة ماله منفرداً ، والهيئة الاجتماعيّة ليست مملوكة لأحد ،
ومقتضى استحقاق البائع لحصّة ماله منفرداً أن ينسب قيمة ماله منفرداً إلى المجموع
منها وقيمة المال الآخر.
وقرّره في
الرياض «بأنّه لا يستحقّ مالك كلّ واحد ماله إلّا منفرداً ، وحينئذٍ فيقوّم كلّ
منهما منفرداً وينسب قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة ،
دون أن ينسب إلى قيمتهما مجتمعين» .
فمبنى كلامهم
على ما يقتضيه بياناتهم في الاحتجاج كسائر كلماتهم على عدم كون الهيئة الاجتماعيّة
الحاصلة من انضمام المالين مملوكة فليس لها قسط من الثمن ، فإذا لم تسلّم للمشتري
بعدم إجازة غير البائع لم يسقط من الثمن شيء ، فيستحقّ البائع مع عدم الإجازة قدر
ما يستحقّه مع الإجازة ، وقضيّة ذلك أن يكون مبنى كلام الآخرين على توهّم كون
الهيئة الاجتماعيّة مملوكة لهما لتقوّمها بماليهما فيكون لها قسط من الثمن ، فإذا
لم تسلّم للمشتري من جهة عدم إجازة غير البائع يسقط من الثمن قسطها ، فتقويمهما
مجتمعين ثمّ نسبته قيمة أحدهما إلى قيمة المجموع ، والأخذ من الثمن بتلك النسبة
إنّما هو لاستعلام ما يسقط من الثمن في مقابل الهيئة الاجتماعيّة ، وما يبقى
للبائع بعد سقوط ما يقابل الهيئة ، فرجع النزاع في المقام إلى النزاع في أنّ
الهيئة الاجتماعيّة هل هي مملوكة ولها قسط من الثمن فيبقى قسطها مع سلامتها
للمشتري ويسقط مع عدم سلامتها أولا؟
والأصحّ هو
الثاني لا لما قيل : من أنّ البيع يبطل في مال الغير مع عدم إجازته
__________________
بحصّته من الثمن الّتي كان يستحقّها مع الإجازة ، فيستحقّ البائع مع عدم
الإجازة بحصّته الّتي كان يستحقّها مع الإجازة لعدم الملازمة.
ولا لما قيل :
من أنّ المشتري على تقدير عدم الإجازة يقوم مقام المالك على تقدير إجازته ، فكما
أنّ المالك يستحقّ من الثمن ما يقتضيه نسبة قيمة ماله إلى مجموع القيمتين ،
فالمشتري أيضاً يستردّ منه على تقدير عدم إجازة المالك ما يقتضيه تلك النسبة ،
فتبقى للبائع أيضاً من الثمن ما يقتضيه ، لأنّه دعوى بلا دليل ، فالاستناد إليه من
غير دليل نوع مصادرة.
ولا لما قد
يستند إليه من أصالة عدم سقوط شيء عن حصّة البائع من الثمن ، وهو القدر الزائد
على ما يقتضيه نسبة قيمة ماله إلى قيمة المجموع ، أعني الثلاثة أرباع في المثال
المتقدّم ، على تقدير كون قيمة ماله منفرداً أربعة ونصفاً والنصف على تقدير كونها
ثلاثة ، لأنّها معارضة بأصالة عدم ثبوت ذلك القدر الزائد من أصله ، فإنّ القدر
المقطوع بثبوته للبائع من الثمن اثنان وربع على التقدير ، وواحد ونصف على التقدير
الثاني ، والزائد وهو الثلاثة أرباع أو النصف مشكوك في ثبوته له والأصل عدمه ، بل
إطلاق المعارضة مسامحة ، فإنّ أصالة عدم سقوط هذا القدر الزائد غير صحيحة لسريان
شكّه ، فإنّ الشكّ إنّما هو في الحدوث لا في البقاء بعد إحراز تيقّن الحدوث.
بل لأنّ الهيئة
الاجتماعيّة أمر اعتباري حصل من انضمام أحد المالين إلى الآخر ، والملك لا بدّ له
من سبب وهو قبل الانضمام لم يكن حاصلاً ، ولا دليل من عقل ولا نقل على أنّ انضمام
أحد المالين إلى الآخر من الأسباب المملّكة للهيئة الاجتماعيّة المتقوّمة ، وغاية
ما هنالك الشكّ في طروء الملك لها والأصل عدمه. ولا يمكن معارضته بأصالة عدم
استحقاق البائع للقدر الزائد من الثمن على ما يقتضيه نسبة قيمة ماله إلى قيمة
المجموع ، لورود أصالة عدم الملك عليها باعتبار سببيّة شكّه كما يظهر بأدنى تأمّل.
لا يقال : إنّ
السبب المقتضي لطروء الملك للهيئة الاجتماعيّة إنّما هو العقد الواقع على المجموع
، ولا يقدح كونه ملكيّة حاصلة بعد العقد لفرض انتفائها قبل العقد ولو بحكم الأصل ،
بل الملكيّة المفيدة في المقام إنّما هو ما حصل بعد العقد ، لأنّه إذا سلمت
الهيئة للمشتري بإجازة مالك أحد المالين حصل له ملكها فيستحقّ عليه البائع
والمجيز ما يقابلها من الثمن ، وإذا لم تسلم له الهيئة بعدم إجازة مالك أحد
المالين سقط ملكها فيسقط ما يقابلها من الثمن.
لأنّا نقول :
إنّ ملك شيء بعد العقد تابع لملكه قبل العقد ، فإنّ الشيء ما لم يكن ملكاً للبائع
قبل العقد كيف يصير ملكاً للمشتري بعده ، وبالجملة ملك الشيء للمشتري بعد العقد
تابع لكونه ملكاً للبائع قبل العقد ، فإنّ المشتري يتلقّى الملك من البائع كما
يقتضيه أيضاً تعريف البيع بنقل العين أو انتقالها ، فإنّ البائع ينقل إلى المشتري
ملك عينه لا ذات عينه ، وقد فرضنا أنّ الهيئة الاجتماعيّة قبل العقد لم تكن مملوكة
لأحد ولو بحكم الأصل.
لا يقال : نفي
مملوكيّة الهيئة الاجتماعيّة قبل العقد ممّا يبطله دليل الخلف ، لأنّ مفروض
المسألة مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في زيادة القيمة ، فإنّ قضيّة هذه المدخليّة
أن تقع زيادة القيمة في مقابلتها ، ولا يستقيم ذلك إلّا إذا كانت الهيئة مملوكة ،
وإلّا بطل ما فرض من مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في زيادة القيمة.
لأنّا نقول :
ليس المراد من مدخليّة الهيئة في زيادة القيمة أنّها معتبرة على وجه الموضوعيّة
حتّى يقابلها جزء من الثمن ، بل الزيادة حاصلة في قيمة العينين بسببها فهي معتبرة
على وجه الداعي ، والسرّ فيه أنّ اختلاف قيمة الشيء كثرة وقلّة إنّما هو باعتبار
اختلاف رغبات الناس فيه كثرة وقلّة ، وهو باعتبار الاختلاف في حصول الفائدة
المقصودة وعدم حصولها ، وكلّ ما يحصل به الفائدة المقصودة منه تكثر الرغبة في
اشترائه فيكثر قيمته ، وكلّما لا يحصل به الفائدة المقصودة منه يقلّ الرغبة في
اشترائه فيقلّ قيمته.
ومن هذا القبيل
مصراعا الباب وزوجا الخفّ وغيرهما ممّا للهيئة الاجتماعيّة فيه مدخليّة في زيادة
القيمة ، فإنّ الفائدة المقصودة من الباب شيء لا يحصل إلّا بمجموع مصراعيه وهو
سدّ المدخل والمخرج ، ومن الخفّ شيء لا يحصل إلّا بمجموع زوجيه وهو ستر الرجلين
وحفظ الأذى عن باطن القدمين ، فيكثر الرغبة في اشتراء الباب بمجموع مصراعيه فيكثر
قيمتهما ، وفي اشتراء الخفّ بمجموع جزئيه فيكثر قيمتهما ،
بخلاف أخذ جزء كلّ منهما فإنّه لعدم حصول الفائدة المقصودة يقلّ الرغبة في
اشترائه فيقلّ قيمته ، وكم من هذا القبيل في الأشياء ، ومنها العقارات كالدار
والحانوت والبستان وما أشبه ذلك ، فإنّ الدار إذا بيعت بجميع أجزائها يكثر الرغبة
في اشترائها فيكثر قيمتها ، بخلاف ما إذا بيع نصفها أو ثلثها أو ربعها مثلاً ،
فإنّه لقلّة الرغبة في اشترائه يكون قيمته أقلّ ممّا يقابله من القيمة المبذلة في
مقابل الكلّ.
وممّا يرشد إلى
ما بيّنّاه من أنّ اعتبار الهيئة الاجتماعيّة إنّما هو على وجه الداعي لا على وجه
الموضوعيّة فلا يقابلها جزء من الثمن أنّها كما قد تكون لها مدخليّة في زيادة قيمة
العينين ، فكذلك قد تكون لها مدخليّة في نقصان قيمة العينين كالجارية وامّها أو
اختها إذا تساوت قيمتاهما منفردتين مع لزوم هلاكة كلّ منهما بالتفريق على الفرض ،
فالبائع لا يبيعهما إلّا مجتمعتين والمشتري لا يرغب إلّا في اشتراء إحداهما فلا
محالة ينقص قيمة منهما ببيعهما معاً ، كأن يكون كلّ منهما منفردة عشرة وقيمة
مجموعهما خمسة عشر مثلاً ، وكما أنّ النقص بسبب الهيئة الاجتماعيّة حصل في قيمة
كلّ من العينين ، فكذلك الزيادة الحاصلة بسببها حصلت في قيمة كلّ من العينين.
وقد تكون لها
مدخليّة في زيادة قيمة أحدهما دون الآخر كالجارية وولدها الرضيع مع كونه لغير
البائع مثلاً فإنّ الامّ قيمتها مع الانفراد ومع الانضمام إلى الولد واحدة ، ولكن
قيمة الولد تزيد إذا بيع منضمّاً إلى الامّ بخلاف ما لو بيع منفرداً ، وليس لأحد
أن يقول : إنّ الزيادة هنا تقع في مقابلة الهيئة الاجتماعيّة ، لضرورة أنّها زيادة
في قيمة الولد لكونه مع الامّ ، كما لو كان قيمة كلّ منهما منفرداً أربعة ونصفاً ،
وقيمتهما مجتمعين اثنى عشر مع كون الزائد على التسعة الّذي هو مجموع القيمتين
زيادة في قيمة الولد والثمن ستّة.
ويشكل الحال في
نحو هذه الصورة لو بنى كيفيّة التقسيط على ما تقدّم ، من ملاحظة نسبته قيمة أحد
المالين إلى مجموع القيمتين بعد تقويم كلّ منهما منفرداً ، للزوم الظلم على الغير
على تقدير إجازته وعلى المشتري على تقدير عدم الإجازة ، من جهة شركة البائع في
الزيادة المفروض كونها زيادة في قيمة مال الغير فهي إمّا للبائع وحده أو للمشتري
كذلك ، ولم نجد لأصحاب القول بنسبة أحد المالين إلى مجموع القيمتين
نصّاً في ذلك ، ويمكن القول بكون هذه الصورة عندهم مستثنى من تلك القاعدة ،
فتنسب قيمة مال البائع إلى قيمة المجموع لتقع الزيادة بتمامها في الطرف الآخر
للغير أو للمشتري دفعاً للظلم.
ويمكن إعمال
طريق آخر في التقويم ، وهو أن يقوّم المالان تارةً منفردين واخرى مجتمعين ، ثمّ
تنسب مجموع القيمتين إلى قيمة المجموع ، فيؤخذ من الثمن قدراً بتلك النسبة في
مقابل المالين ويكون الباقي بإزاء الهيئة ، ثمّ يقسّط القدر المأخوذ بإزاء المالين
بين البائع والغير أو المشتري بنسبة قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين ، فيكون ما
بإزاء مال الغير مع ما بإزاء الهيئة للغير أو للمشتري ، ويكون للبائع ما بإزاء
ماله وحده ، ففي المثال المذكور تنسب التسعة إلى اثني عشر ، ويؤخذ من الستّة
باعتبار تلك النسبة ثلاثة أرباعه وهو أربعة ونصف بإزاء المالين ، ويبقى من اثني
عشر ربعه بإزاء الهيئة ، فيكون الربع الباقي من الستّة وهو واحد وربع في مقابل
الهيئة ثمّ يقسّط الأربعة والنصف بين البائع والغير أو المشتري بالنصف ، لأنّه
نسبة أربعة ونصف قيمة كلّ من المالين منفردين إلى التسعة بمجموع القيمتين ، فيكون
حصّة البائع اثنين وربعاً ، ويبقى للغير أو المشتري ما بإزاء المال الآخر مع ما
بإزاء الهيئة ثلاثة وثلاثة أرباع ، وهذا الطريق جارٍ في صور مدخليّة الهيئة
الاجتماعيّة في زيادة قيمة المالين أيضاً على القول بملاحظة نسبة قيمة أحد المالين
إلى قيمة مجموعها المبنيّ على مملوكيّة الهيئة وكون قسط من الثمن لها ، كما أشار
إليه صاحب الكفاية فليتدبّر.
وليس لهذا
القول ما يستند إليه إلّا ما قد يستشمّ من بعض العبائر ، من أنّ هيئة الاجتماع
ملحوظة في العقد ، ضرورة أنّ المشتري بذل الثمن بإزاء المجموع ، والعقد أيضاً وقع
على المجموع من حيث المجموع ، فلا بدّ وأن يلاحظ أيضاً في التقويم وتنسب قيمة
أحدهما إلى قيمة المجموع.
ويزيّفه : أنّ
ملاحظة الهيئة في العقد مع بذل الثمن بإزاء المجموع وإن كان مسلّماً إلّا أنّه على
وجه الداعي ، على معنى أنّ الهيئة تدعو المشتري إلى بذل الثمن لحصول
__________________
الفائدة المقصودة في المجموع ، لا على وجه الموضوعيّة تكون جزءاً من المبيع
وبعضاً من مورد العقد حتّى يقابلها جزء من الثمن.
وقد يستند
أيضاً إلى لزوم الظلم على المشتري فيما إذا كان جاهلاً بكون البائع فضوليّاً أو
غاصباً ، لأنّه إنّما بذل الثمن بإزاء المجموع ولم يحصل له المجموع ، فخروج بعض ما
بإزاء الهيئة منه إلى البائع ظلم.
ويندفع أوّلاً
: بالنقض بصورة علمه بالحال فلا ظلم عليه ، لأنّه بنفسه أقدم على إدخال الظلم على نفسه
حيث بذل الثمن بإزاء المجموع مع عدم اطمئنانه بأنّه يسلّم له.
وثانياً :
بمعارضته بلزوم الظلم على البائع لو منع ممّا بإزاء الهيئة لعدم تقصيره ولا إتلافه
شيئاً على المشتري ، وإنّما أراد له شيئاً لم يسلم له من جهة الغير لا من جهته ولا
خفاء ما فيه.
وثالثاً : بأنّ
ضرر الظلم عليه ينجبر بخياره ، فإن اختار الفسخ فلا ضرر ، وإن اختار الرضا بالعقد
فهو السبب لضرره.
ثمّ لو كان
المالان لمالك واحد باعهما غيره فأجاز المالك في أحدهما دون الآخر فاحتمل فيه في
الروضة وجهين ، قائلاً : «أمكن فيه ما أطلقوه مع احتمال ما قيّدنا» أراد بما
أطلقوه تقويمهما مجتمعين ثمّ نسبة قيمة أحدهما ، وبما قيّده ما ذكره فيما كان
للهيئة الاجتماعيّة مدخليّة من تقويمهما منفردين ثمّ النسبة إلى مجموع القيمتين.
ويقرب منه ما في المسالك من قوله : «لو فرض كونهما لمالك واحد كما لو باع الفضولي
المصراعين معاً فأجاز مالكهما في أحدهما دون الآخر ، ففي تقديرهما مجتمعين كالغاصب
أو منفردين كما لو كانا لمالكين نظر» ومبنى الاحتمالين كما أشار إليه على ما قد
يحكى من أنّه قد يفرّق بين تعدّد الغاصب واتّحاده في صورة الغصب ضرورة عدم ضمان
الغاصب هيئة الاجتماع مع تعدّد المالك لعدم كونها مستحقّة لأحدهما ، بخلاف ما لو
اتّحد المالك فإنّها حينئذٍ من توابع ملكه.
وفيه : أنّ
مبنى الفرق المذكور أيضاً على ما بيّنّاه في توجيه مدخليّة هيئة الاجتماع في
مدخليّة القيمة فلا جهة للتردّد ، بل الوجه هو تعيين تقويمهما منفردين ليدخل
الزيادة الحاصلة بسبب الاجتماع في ما يقابل العينين من الثمن ، فإنّ ضمان الغصب
بالقيمة مع اتّحاد المالك يتعلّق بقيمة المجموع لكون الاجتماع موجباً
لزيادة قيمتي العينين ، وهذا هو معنى كون هيئة الاجتماع حينئذٍ من توابع ملكه ،
بخلاف صورة تعدّد المالك فإنّ الغصب بالنسبة إلى كلّ مالك يتعلّق بملكه منفرداً
ولا تأثير للهيئة حينئذٍ فيقوم كلّ منهما منفرداً.
المسألة
الثانية : فيما لو كان المبيع من ذوات الأمثال كالحنطة والتمر ونحوهما ، والمراد
أن يكون مال كلّ من البائع والغير مثليّاً ، فإمّا أن يتّحدا قدراً ووصفاً من حيث
الجودة والرداءة كرطلين من الحنطة الجيّدة لكلّ منهما رطل ، أو يختلفا قدراً
ويتّحدا وصفاً كثلاثة أرطال من الحنطة الجيّدة لأحدهما رطل وللآخر رطلان ، أو
يتّحدا قدراً ويختلفا وصفاً كرطلين من الحنطة أحدهما جيّدة لأحدهما والآخر رديئة
للآخر ، أو يختلفا قدراً ووصفاً كثلاثة أرطال من الحنطة رطل لأحدهما جيّدة ورطلان
للآخر من الرديئة فالصور أربع.
ففي الاولى
والثانية : وضابطهما اتّحاد الوصف اتّحد القدر أيضاً أو اختلف يقسّط الثمن على
أجزاء المثمن من غير تقويم ، فإن كان لكلّ منهما رطل قسّط نصفين ، وإن كان لأحدهما
رطل وللآخر رطلان قسّط أثلاثاً أو ثلاثة أرطال قسّط أرباعاً أو أربعة أرطال قسّط
أخماساً ، وهكذا ، لأنّ التقويم إنّما يحتاج إليه لاختلاف الأجزاء في القيمة
وقضيّة اتّحاد الوصف تساويها قيمة.
وفي الثالثة
والرابعة : وضابطهما اختلاف الوصف اتّحد المقدار أو اختلف لا بدّ من تقويمهما ثمّ التقسيط
على حسب النسبة ، كما تقدّم في ذوات القيم لأنّ الاستغناء عن التقويم إنّما هو
لتساوي الأجزاء في القيمة ، وقضيّة اختلاف الوصف اختلاف القيمة فلا مناص من
التقويم لتعذّر التقسيط ، ومثل اختلافهما في الوصف اختلافهما في الجنس كالحنطة
والتمر اتّحد المقدار كرطل حنطة لأحدهما ورطل تمر للآخر ، أو اختلف كرطل حنطة
ورطلي تمر فلا مناص من التقويم لتغاير القيمة.
المسألة
الثالثة : فيما لو كان المبيع بأحد جزئيه مثليّاً وبجزئه الآخر قيميّاً ، كما لو
كان لأحدهما حنطة وللآخر سيف أو فرس أو نحو ذلك ، وهذا أيضاً من جهة لزومهما
الاختلاف في القيمة لا مناص فيه من التقويم ثمّ التقسيط على حسب النسبة ،
هذا كلّه مع إشاعة الثمن الموجبة للشركة. وأمّا مع إفرازه كما لو باع
المالين أحدهما بدنانير والآخر بدراهم ، أو أحدهما بهذا الفرس والآخر بذاك الفرس ،
أو أحدهما بدنانير والآخر بفرس ، وهكذا فلا حاجة إلى تقويم ولا تقسيط ، بل يختصّ
بكلّ منهما ما يقابل ماله فيأخذ كلّ ما يختصّ به ، وفي صورة عدم إجازة المالك يرجع
إلى المشتري ما يقابل مال المالك الغير المجيز. وبالجملة : البائع يأخذ ما يقابل
ماله ، والمقابل الآخر يأخذه المالك المجيز أو يستردّه المشتري.
ومثله ما لو
كان الثمن مثليّاً لا على سبيل الإشاعة كما لو باعهما برطلين من الحنطة أحدهما
بهذا الرطل والآخر بذلك الرطل ، فكلّ يأخذ ما يخصّه ممّا يقابل ماله اتّحدا في
الوصف أو اختلفا.
وأمّا لو كان
مثليّاً على سبيل الإشاعة كرطلين أو ثلاثة أرطال من حنطة إذا بيع بهما المالان ،
فإن اتّفقا في الوصف يتقاسمانه على حسب النسبة بين ماليها ، وإن اختلفا فيه كما لو
بيعا برطلين أحدهما أجود والآخر أردأ يقسّط كلّ منهما منفرداً على حسب النسبة بين
ماليهما فيأخذ كلّ نصفاً من الأجود ونصفاً من الأردأ على تقدير تساوي ماليهما في
القيمة أو في المقدار ، والأوّل في القيمي والثاني في المثلي ، ومع عدم إجازة
المالك يستردّ المشتري نصفاً من هذا ونصفاً من ذاك.
فائدة مهمّة :
لو كان دار مثلاً مشتركة بين اثنين فباع أحدهما نصفها بقوله للمشتري : بعتك نصف
الدار ، فإن ظهر بقرينة حال أو مقال إرادته النصف المملوك له أو نصف غيره فلا كلام
، وإن لم يظهر قرينة على إحدى الخصوصيّتين فهل يصرف لفظ النصف على النصف المملوك
له خاصّة أو يحمل على النصف المشاع بين نصفيهما؟ أعني نصف الدار المشتركة بينهما
على سبيل الإشاعة ليكون المبيع نصفاً من نصفه المملوك له ونصفاً من نصف شريكه حتّى
يقف نفوذه فيه على الإجازة ، فالّذي رجّحه جماعة كالعلّامة في القواعد وعنه في نهاية
الإحكام وولده في الإيضاح وجامع المقاصد في البيع والصلح والوصايا والمسالك في الصلح هو
الأوّل ، وعن الأخير
__________________
نسبته إلى الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ، وربّما يومئ إليه ما عن فخر
الدين من الإجماع على أنّه لو قال : «بعت غانماً» واللفظ مشترك بين عبده وعبد غيره
انصرف إلى عبده ، وكذا ما نحن فيه وإن كان اللفظ هنا متواطئاً لا مشتركاً ، بناءً
على أنّ مراده من ذكر الإجماع في المشترك ثمّ إلحاق المتواطئ به بيان الكاشف عن
مدرك الحكم في المقامين.
وكيف كان فلم
نقف على من رجّح الاحتمال الآخر صريحاً ولا على نقل قول به صريحاً ، نعم إنّما
ذكره جماعة احتمالاً. فما رجّحه الجماعة هو الصحيح ، لظهور اللفظ من باب الانصراف
العرفي في النصف المملوك للبائع ، ويقرّر ذلك الظهور من وجهين :
أحدهما : أنّ
لفظ النصف عند إطلاقه وإن كان متساوي النسبة إلى النصف المملوك للافظه والنصف
الغير المملوك له ، إلّا أنّه في مقام تصرّف اللافظ بما يحتمل كونه تصرّفاً في غير
المملوك ينصرف في متفاهم العرف إلى التصرّف في المملوك له ، ومرجعه إلى انصراف
المطلق بمفهومه إلى النصف المقيّد بكونه للبائع ، وبعبارة اخرى إطلاق لفظ النصف في
مقام التصرّف فيه بالبيع ينصرف إلى النصف المقيّد وهو نصف البائع. وإن شئت قلت :
إنّ مبنى هذا الظهور على كون التصرّف دليلاً على الملك كما هو الأصل الكلّي ،
والبيع تصرّف.
وثانيهما :
انصراف البيع فيما يحتمل كونه مال البائع أو مال غيره إلى كونه بيعاً لماله ، ولا
يصرف إلى بيع مال غيره إلّا لقرينة موجبة للعلم بأنّه باع مال غيره وكالة أو ولاية
أو فضولة ، ولذا يرجع المشتري في بيع الفضولي وبيع الغاصب إلى البائع بما اغترمه
للمالك إذا كان جاهلاً بالفضوليّة والغصب لكونه مغروراً ، لاعتقاده بأنّ البائع
باعه مال نفسه ، فإنّ هذا الاعتقاد الّذي هو مناط الجهل ممّا لا موجب [له] إلّا
الظهور المذكور.
وأمّا الاحتمال
الآخر فلا مستند له إلّا أنّ اللفظ صالح لملكه ولملك غيره ولذا يقبل التقييد بكلّ
منهما بأن يقال : «بعت نصفي» أو «بعت نصف غيره» فوجب أن يحمل على الإشاعة على معنى
النصف المشاع بين النصفين عملاً بالإطلاق النافي لكلّ من التقييدين ، ولأنّ الشارع
لم يجعل صحّة التصرّف قرينة في المجازات والمشتركات ، كما لو قال «أعطوه حماراً»
ولا حمار له وإنّما له عبد بليد فإنّه لا يصرف إليه محافظة على
الوصيّة عن البطلان ، على معنى أنّ صحّة الوصيّة لا تنهض قرينة على التجوّز
في لفظ الحمار بإرادة البليد.
وفي الأوّل :
أنّه لا معنى له إلّا دعوى الظهور الإطلاقي ، وما ذكرناه ظهور تقييدي وهو وارد على
الظهور الإطلاقي.
وفي الثاني :
أنّ الموجب للحمل على النصف المملوك فيما نحن فيه ليس صحّة التصرّف ، كيف وهي
بناءً على صحّة الفضولي أعمّ منه ومن الحمل على نصف الغير ، بل الموجب له الظهور
الانصرافي في متفاهم العرف حسبما قرّرناه.
هذا في مقام
البيع ، وأمّا لو قال في مقام الإقرار : «نصف الدار لك والنصف الآخر لي ولشريكي»
فقالوا : إنّه يصرف إلى النصف المشاع بين ما في يده وما في يد شريكه من النصفين ،
فيبقى منهما ربع له ممّا في يده وربع لشريكه ممّا في يد الشريك ، وحينئذٍ فإن
كذّبه الشريك فله ثلث ما في يده وللمقرّ له ثلثاه ، لأنّ الشريك لتكذيبه المقرّ في
إقراره بكون النصف ممّا [في] يده وهو الربع والنصف ممّا في يد الشريك وهو الربع
أيضاً للمقرّ له نفذ تكذيبه في حقّه وهو إتلاف على المقرّ والمقرّ له كلّ ثلث ماله
فبالنسبة إلى المقرّ له ثلث النصف وبالنسبة إلى المقرّ ثلث ربعه ومجموعهما الربع
المقرّ به في ما في يد الشريك فيعود إليه ، فيكون للشريك نصف وللمقرّ له ثلثا
النصف الآخر وللمقرّ ثلثه ، والمسألة من اثني عشر لأنّه أقلّ عدد يخرج منه ثلث
الربع صحيحاً ، أو لأنّ المقرّ أتى في كلامه بثلاث كسور وهي النصف والثلث والربع ،
أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الأخيران فلأنّ قوله «لك النصف والنصف الآخر لي ولشريكي»
يتضمّن الإقرار بأنّ الشركة بيني وبينك بالثلث والثلثين وبيني وبين شريكي بالمثل
فلي نصف النصف وهو الربع ولشريكي ، ومن مخارج هذه الكسور اثنان وهو داخل في
الأربعة فيكتفي بالأربعة للتداخل ويصرف الأربعة في الثلاثة للتباين فيحصل اثني عشر
ستّة للشريك من جهة تكذيبه المقرّ الّذي هو إتلاف عليهما ثلث مالهما وهو ثلاثة من
التسعة فتلف على المقرّ واحد من ثلاثة وعلى المقرّ له اثنان من ستّة ، فبقى له
أربعة وللمقرّ اثنان وهو شركة بينهما في النصف بالثلث والثلثين لزمت على المقرّ
بموجب إقراره.
والسرّ في حمله
في مقام الإقرار على الإشاعة ظهور المطلق عند تجرّده عن
القرائن في إرادة المطلق ، وهو النصف المعرّى عن القيدين فيتساوى نسبته إلى
النصفين فيحمل على النصف المشاع بينهما ، ولا مقتضي لصرفه عن المطلق إلى المقيّد
بخلاف ما تقدّم من مسألة البيع فإنّ صرفه إلى المقيّد لوجود المقتضي المقرّر بأحد
الوجهين المتقدّمين وهذا المقتضي بكلّ من وجهيه غير موجود في مقام الإقرار.
وتوهّم : أنّ
الإقرار بكون نصف الدار للمقرّ له تصرّف فيه فيكون ظاهراً في الملك.
يدفعه : منع
صدق التصرّف عرفاً على الإقرار ، فإنّه إخبار بملك الغير في الواقع ، وغايته أنّه
متعلّق بالمال ، ولا يقال على الإخبار عن الشيء بشيء بكونه تصرّفاً في المخبر به
، ولذا لو فرض مسألة بيع النصف في العين المشتركة بحيث لم يجر فيه المقتضي
المتقدّم لحمله على المطلق ، كما لو كان البائع لنصف الدار المشتركة وكيلاً أو
وليّاً عن مالك النصف فالنصف المبيع حينئذٍ يحمل على الإشاعة المقتضية للشركة في
الثمن على تقدير الإجازة.
وتوهّم : أنّ
كون البائع وكيلاً أو وليّاً قرينة على إرادة المقيّد ، يندفع بأنّ قرينة التقييد
كقرينة المجاز لا بدّ وأن تكون معاندة للإطلاق ، ولا يعاند الوكالة ولا الولاية
لإرادة المطلق من النصف ولا المقيّد الآخر.
تذنيب : لو باع
ما يقبل التملّك وما لا يقبل التملّك صفقة واحدة بثمن مبذول بإزاء المجموع ، كعبد
وحرّ وشاة وخنزير وخلّ وخمر ، فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يعرف صحّته
فيما يقبل والبطلان في غيره ، وعن الخلاف والغنية إجماع الفرقة عليه.
وعن جماعة منهم
كشف الرموز والتنقيح والحواشي المنسوبة إلى الشهيد تقييده بجهل المشتري بالموضوع أو
بالحكم ، وأمّا مع علمه بهما فالمتّجه البطلان كما حكي ذلك عن الشافعي ويلوح الميل
إليه من العلّامة في التذكرة حيث نقل البطلان مع علم المشتري عن الشافعي قال : «إنّه
ليس عندي بعيداً من الصواب» .
__________________
فالمسألة ذات
قولين الصحّة مطلقاً ، والتفصيل بين صورتي الجهل فالصحّة والعلم فالبطلان.
وقد يعمّم
العنوان أو حكمه بالقياس إلى كلّ جزء للمبيع بطل فيه البيع لفقد شرط من شروط
الصحّة وإن كان ممّا يملكه المسلم ـ كما لو باع مملوكه المقدور على تسليمه مع ما
ليس مقدوراً على تسليمه ، أو مملوكه المعلوم مع ما جهل جنسه أو وصفه وما أشبه ذلك
ـ تعليلاً بأنّ مناط المسألة إنّما هو تبعّض الصفقة اللازم من بطلان البيع في بعض
المبيع وبطلان البيع فيه ، كما أنّه قد يكون لعدم قبوله الملك فكذلك قد يكون من
جهة كونه فاقداً لبعض شروط العوضين وإن كان قابلاً للملك. وليس ببعيد.
وكيف كان
فاستدلّ على الصحّة في المملوك خصوصاً بصحيح محمّد بن الحسن الصفّار الواردة في
بيع القرية بحدودها الّتي للبائع منها قطاع أرضين وقد قال الإمام عليهالسلام في جوابه : «لا يجوز بيع ما لا يملك وقد وجب الشراء
فيما يملك» .
وعموماً بقاعدة
الصحّة المستنبطة من العمومات.
ونوقش في
الأوّل : بانصرافه إلى ما يقبل التملّك نظراً إلى القرية الّتي هي ملك لأربابها
كقطاع أرضي البائع. ودفعت بأنّ خصوص المورد لا يخصّص العامّ الّذي هو الموصول ،
وعلى هذا فالإمام عليهالسلام في مقام إعطاء قاعدة عامّة فيما يملك ، فتعمّ المورد
وغيره ومنه ما نحن فيه.
وفيه : أنّه
حسن لو قرأ الفعلان بصيغة المجهول لا بصيغة المعلوم وكلّ محتمل ، ولعلّ الثاني
أظهر الاحتمالين بملاحظة قوله عليهالسلام : «وقد وجب الشراء» بصيغة المضي الظاهرة في واقعة
شخصيّة وقعت ، وغاية ما يسلّم من عموم الموصول هنا كونه في المورد ، وهو مال الغير
المقابل للتملّك ، فتأمّل.
ونوقش في
الثاني أيضاً : بأنّ التراضي والتعاقد إنّما وقع على المجموع الّذي لم يمضه الشارع
قطعاً ، فالحكم بالإمضاء في البعض مع عدم [كونه] مقصوداً إلّا في ضمن المركّب
يحتاج إلى دليل آخر سوى العمومات. وتندفع بأنّ الشارع إنّما لم يمض
__________________
التراضي في المجموع باعتبار أحد جزأيه لا باعتبار كلّ من جزأيه ، وهو لا
ينافي إمضاءه التراضي في الجزء الآخر ، ويكفي في إثباته العمومات.
ودعوى : أنّ
التراضي وقع على المجموع بإزاء المجموع لا على البعض ، قد زيّفناها في المسألة
السابقة ، فعليك بمراجعة ما سبق ولا حاجة إلى الإعادة ، فالعمدة في دليل الصحّة هي
العمومات المعتضدة بالإجماعين المتقدّمين عن الخلاف والغنية ، ويؤيّدها خبر
الصفّار.
وبقى الكلام
فيما تقدّم عن الجماعة من تقييد الحكم بجهل المشتري بالموضوع أو الحكم احترازاً عن
العالم بهما لكون المتّجه فيه البطلان رأساً ، فإنّهم علّلوه بإفضاء العلم بهما
إلى الجهل بثمن المملوك حين العقد. وقد يجاب عنه تبعاً للشهيد بمنع الملازمة ،
لأنّ المشتري القادم على بذل الثمن بإزاء المجموع مع علمه بعدم سلامة البعض له
قادم على بذل تمام الثمن بإزاء المملوك فقط ، فالبائع يستحقّ الثمن بتمامه وهو
معلوم كما صرّح به الشهيد في محكيّ الحواشي المنسوبة إليه حيث قال : «إنّ هذا
الحكم مقيّد بجهل المشتري بعين المبيع أو حكمه وإلّا لكانت البذل بإزاء المملوك
ضرورة أنّ القصد إلى الممتنع كلا قصد» انتهى.
ولا خفاء في
ضعفه ، لأنّ القصد إلى الممتنع بحسب الشرع غايته أنّه ممّا لم يمضه الشارع ، وهذا
لا يقضي بعدم قصده في الشراء إلى المجموع ، لأنّه قد يكون له غرض في اشتراء الحرّ
أو الخنزير أو الخمر ولو فاسداً وعصياناً فلم يكن قادماً على بذل الثمن بإزاء
المملوك فقط ، فجهالة قسطه من الثمن في محلّه.
فالأولى في
الجواب منع بطلان اللازم ، إذ الجهل في باب العقود إنّما يمنع من الصحّة حيث أفضى
إلى الغرر بمعنى الخطر وهو الهلاك الّذي هو في طرفي المعاوضة عبارة عن تلف المال.
وحاصله كون باذله حال العقد على خطر وخوف تلف في ماله المبذول ، لكون عوضه في معرض
تعذّر الوصول إليه كالطير في الهواء والسمك في الماء ، أو في معرض عدم دخوله في
الوجود كالجنين في بطن امّه ، أو في معرض عدم مطابقته لمطلوبه من بذل الثمن بإزائه
، كالمجهول جنسه أو وصفه ، ولا ريب أنّ جهالة
قسط المملوك ليست بتلك المكانة لعلمه بسلامة المملوك من المبيع له مع إمكان
استعلام قسطه من معلوميّة مجموع الثمن ، وإن افتقر إلى توسيط تقويم ثمّ تقسيط ،
ومرجعه إلى كفاية معلوميّة الكلّ في إحراز معلوميّة البعض بحيث معه الغرر كما يرشد
إليه خبر الصفّار باعتبار كون كفاية معلوميّة الكلّ في إحراز معلوميّة البعض
بالنسبة إلى المبيع معتقداً للبائع ، وقد قرّر الإمام عليهالسلام على معتقده بقوله : «وقد وجب الشراء فيما يملك»
فالمشتري ليس على خطر حال العقد في بذله الثمن فلا غرر.
ولو اريد من
الجهل بالثمن في قضيّة التعليل ما يلزمه الغرر ، رجع ما ذكرناه في الجواب إلى منع
الملازمة.
ثمّ إنّ طريق
استعلام قسط المملوك من الثمن هو ما تقدّم في المسألة السابقة من تقويم كلّ من
الجزءين بانفراده ، ونسبة قيمة المملوك إلى مجموع القيمتين والأخذ من الثمن بتلك
النسبة.
وأمّا معرفة
قيمة غير المملوك ، فطريقها على ما صرّحوا به في الحرّ أن يقدّر عبداً بصفاته من
الكبر والصغر والبياض والسواد وغيرها ممّا له دخل في القيمة والرغبة فيقوّم العبد
الموصوف بتلك الصفات مع رعاية زمان العقد ومكانه لأنّ لهما دخلاً فاحشاً في اختلاف
القيمة.
وأمّا في الخمر
والخنزير فذكروا أنّهما يقوّمان بقيمتهما عند مستحلّيهما. واستشكل بأنّه إن تمّ
فإنّما يتمّ مع علم المشتري بالعين لا مع جهله ، لأنّه مع الجهل قد بيع منه
الخنزير والخمر بعنوان الشاة والخلّ فبان الخلاف ، وقضيّة ذلك أن يقدّرا شاة
وخلًّا فيقوّم الشاة والخلّ لا الخنزير والخمر. ولذا جزم بعض هنا بوجوب تقويمهما
قيمة الشاة والخلّ ، وهذا جيّد.
واستشكل أيضاً
حيث يقوّمان قيمة الخنزير والخلّ بأنّ المقوّم لا بدّ وأن يكون عدلاً حيث إنّ
التقويم من قبيل الشهادة الّتي يعتبر في قبولها العدالة بل التعدّد معها فلا بدّ
في التقويم من عدلين ، ولا يمكن إحرازهما في المستحلّين لأنّهم كفّار والكافر ليس
بعادل. ودفع على ما في كلام جماعة بإمكان إحرازهما في مسلمين سبقهما الكفر أو
عاشرا أهل الكفر فاطّلعا على حالهما عندهم. وفي المسالك والرياض جواز الاعتماد
على قول جماعة منهم يؤمن تواطؤهم على الكذب بحيث حصل منه العلم أو الظنّ الغالب
المقارب للعلم. وهذا حيث حصل من أخبارهم العلم حسن ، وفي غيره ممّا حصل منه الظنّ
ضعيف وإن قارب العلم ، لابتناء الاكتفاء به على القول بحجّية الظنّ في الموضوعات
الخارجيّة ، وهو خلاف التحقيق.
وفي بعض
العبارات تجويز الرجوع في معرفة قيمة الخمر إلى العصاة من المسلمين فإنّ له عند
شاربيه وبائعيه قيمة ، ويمكن للعدول من المسلمين الاطّلاع عليها. ولا يخلو عن
إشكال ، لأنّ القيمة المضروبة له عند العصاة لم يظهر من الشارع إمضاؤها وترتيب حكم
عليها في شيء من الموارد لعدم كونه مالاً في طريقة الإسلام بخلاف المستحلّين
فإنّه مال عندهم ، فيكون المعتبر في التقويم قيمته عندهم ، فليتدبّر إن شاء الله.
__________________
الفهرس
كتاب
المتاجر
معنى التجارة وأقسامها.............................................................. ٤
الباب الأوّل :
التجارة المحرّمة من الأعيان ، الأعيان النجسة............................ ١٠
حكم بيع الخمر.................................................................. ٣٠
حكم التكسّب بالمسكرات
الجامدة................................................. ٤٦
بيع الميتة......................................................................... ٥٢
بيع الدم......................................................................... ٦٦
بيع أبوال وأرواث ما
لا يؤكل لحمه................................................ ٧٣
حكم بيع الأرواث
الطاهرة........................................................ ٧٦
الأبوال الطاهرة................................................................... ٧٩
في التكسّب بالمنيّ................................................................. ٨٨
التكسّب بالكافر................................................................. ٨٩
التكسّب بالخنزير................................................................. ٩٠
التكسّب بالكلب................................................................. ٩٥
بيع المائعات النجسة ،
العصير العنبي............................................... ١١٠
المضاف المتنجّس
بالملاقاة......................................................... ١١٤
الأدهان المتنجّسة............................................................... ١٢٠
الباب الثاني : في
الأعيان الّتي منافعها المقصودة محرّمة................................ ١٣٦
بيع أواني الذهب
والفضّة........................................................ ١٤٦
تذنيب : لو باع العنب
أو الخشب ممّن يعملها خمراً أو صنماً......................... ١٥٧
حكم المعاوضة على
الجارية المغنّية وكلّ عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام....... ١٦٣
إجارة المسكن أو
السفينة أو الحمولة للمحرّمات.................................... ١٦٥
بيع السلاح لأعداء
الدين........................................................ ١٧٠
لا فرق في التحريم بين
المشركين والخوارج......................................... ١٧٣
هل يلحق بأعداء الدين
قطّاع الطريق؟............................................ ١٧٣
يلحق السروج بالسلاح
في الحكم................................................. ١٧٤
هل البيع من أعداء
الدين حيث يحرم فاسد أيضاً أو لا؟............................. ١٧٤
الباب الثالث : عدم
جواز التكسّب بما لا ينتفع به من الأشياء........................ ١٧٦
في جواز التكسّب
بالعلق......................................................... ١٨٥
في التكسّب بالمسوخ............................................................ ١٨٥
إذا اشتبه حال المسوخ
من حيث اشتماله على منفعة عقلائيّة وعدمه................... ١٩١
في أنّ المسوخ تقبل
التذكية....................................................... ١٩٢
في التكسّب بالسباع............................................................ ١٩٢
الباب الرابع :
التكسّب بما يحرم في نفسه.......................................... ١٩٩
عمل صور المجسّمة.............................................................. ٢٠٠
لا فرق في التحريم بين
هيئة القائم والجالس والمضطجع.............................. ٢٠٥
نقص الصورة ببعض
أجزائها لا ينفع في رفع تحريم عملها............................ ٢٠٥
لا يحرم عمل بعض أجزاء
الحيوان................................................. ٢٠٦
حكم تصوير نصف الحيوان...................................................... ٢٠٦
لو شرع بالتصوير بقصد
التمام ثمّ بدا له في عدم الإتمام.............................. ٢٠٦
لو بدأ بالتصوير قاصداً للناقصة فبدا له الإتمام...................................... ٢٠٦
في لحوق تصوير صورة
الملك والجنّ بتصوير صورة الحيوان........................... ٢٠٦
لو صوّر صورة تخيّلها
صورة حيوانيّة ولا مماثل لها بين أنواع الحيوانات................. ٢٠٦
لو اشترك اثنان في
تصوير الصورة................................................. ٢٠٦
جواز اقتناء الصورة
مجسّمة كانت وغيرها......................................... ٢٠٧
معنى الغناء..................................................................... ٢٠٨
حكم الغناء.................................................................... ٢١٥
في منع استثناء الغناء
في قراءة القرآن.............................................. ٢٢٠
منع استثناء الغناء في
المراثي....................................................... ٢٢٤
غناء المغنّية في
الأعراس.......................................................... ٢٢٧
حكم الحُداء.................................................................... ٢٢٧
تحريم معونة الظلمة.............................................................. ٢٢٩
في النوح بالباطل................................................................ ٢٣٤
في حفظ كتب الضلال.......................................................... ٢٣٧
هجاء المؤمنين.................................................................. ٢٤١
في الغيبة....................................................................... ٢٤٥
يعتبر في الغيبة كونه
بالقول....................................................... ٢٤٧
يعتبر في الغيبة غياب
المغتاب...................................................... ٢٤٩
يعتبر في الغيبة أن
يكون ما يذكر في غيابه سوءاً وذمّاً................................ ٢٤٩
يعتبر في الغيبة كون
العيب ثابتاً للمغتاب........................................... ٢٥٠
يعتبر في الغيبة كون
ذكر الرجل بعينه لسامع يفهمه................................. ٢٥١
يعتبر في الغيبة كراهة
المغتاب..................................................... ٢٥١
يعتبر في الغيبة تعيين
المغتاب...................................................... ٢٥٣
يعتبر الحصر في الغيبة............................................................ ٢٥٤
لا فرق في الغيبة بين
ما لو كان ما يذكر فيه من العيب عيباً في بدنه أو نسبه أو........ ٢٥٥
حكم الغيبة.................................................................... ٢٥٥
حكم غيبة المخالف............................................................. ٢٥٧
في استثناء المتجاهر.............................................................. ٢٦٠
من مستثنيات الغيبة
تظلّم المظلوم.................................................. ٢٦٣
من مستثنيات الغيبة
استفتاء المظلوم................................................ ٢٦٨
من مستثنيات الغيبة
تحذير المؤمن.................................................. ٢٦٩
استثناء نصح المستشير........................................................... ٢٧٠
استثناء جرح الشاهد والراوي
من الغيبة........................................... ٢٧٢
من مستثنيات الغيبة
الشهادة عند الحاكم بالقتل أو شرب الخمر أو.................... ٢٧٣
استثناء ما يدخل في
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الغيبة....................... ٢٧٧
من مستثنيات الغيبة
تفضيل بعض العلماء عن بعض................................. ٢٧٧
استثناء ذمّ المؤمن
وذكر معائبه لحفظ دمه أو عرضه أو ماله من الغيبة.................. ٢٧٨
من مستثنيات الغيبة
نفي النسب عمّن يدّعي نسباً ليس له........................... ٢٧٨
استثناء ذمّ الأولاد
والعيال تأديباً لهم من الغيبة...................................... ٢٨٠
من المستثنيات ذكر
المؤمن باسمه المعروف المشعر بالذمّ كالأعور والأعرج و............ ٢٨١
رضى المغتاب باغتيابه
هل يكون مبيحاً للاغتياب أو لا؟............................. ٢٨٢
حرمة استماع الغيبة............................................................. ٢٨٥
في ردّ الغيبة.................................................................... ٢٩٠
في استحلال الغيبة
والاستغفار لصاحبها............................................ ٢٩٢
في السحر : معرفة
موضوع السحر وحقيقته....................................... ٢٩٣
أنواع السحر وأقسامه........................................................... ٢٩٧
هل السحر أمر ممكن أم
لا؟...................................................... ٣٠٠
هل السحر أمر واقع أم
لا؟...................................................... ٣٠٣
في حكم السحر................................................................ ٣٠٥
في حرمة عمل السحر........................................................... ٣٠٦
هل استثني من السحر شيء
أم لا؟................................................ ٣٠٩
في تعلّم السحر................................................................. ٣١٨
في تعليم السحر
والتكسّب به وكفر مستحلّه....................................... ٣١٩
في الشعبذة..................................................................... ٣٢٠
في الكهانة..................................................................... ٣٢٣
في القيافة...................................................................... ٣٣٠
في التنجيم : تعريف
التنجيم..................................................... ٣٣٣
في ما يتعلّق بالأجرام
الفلكيّة والكواكب........................................... ٣٣٤
ما يتعلّق بالأجرام
العلويّة وحركاتها................................................ ٣٣٦
في نقل الأخبار
المتعلّقة بالتنجيم................................................... ٣٣٧
مضارّ التنجيم.................................................................. ٣٣٩
في تحريم علم النجوم
وتعلّمه...................................................... ٣٤١
في القمار : تعريف
القمار....................................................... ٣٤٥
في تحريم القمار................................................................. ٣٤٦
اللعب بآلات القمار من
الاثنين مع الرهن والعوض................................. ٣٤٦
هل يحرم الحضور في
مجلس القمار والنظر إليه؟..................................... ٣٤٨
في اللعب بآلات القمار
من غير رهن.............................................. ٣٤٩
اللعب بغير الآلات
المعمولة في القمار مع الرهان.................................... ٣٥٢
في الغش : معنى الغشّ........................................................... ٣٥٥
في حرمة الغشّ................................................................. ٣٥٧
في حكم الغشّ من حيث
فساد المعاملة وعدمه...................................... ٣٦٠
في تحريم النجش................................................................ ٣٦٣
تدليس الماشطة.................................................................. ٣٦٤
تزيين الرجل بما يحرم
عليه........................................................ ٣٦٧
يحرم على النساء لبس
الثياب المختصّة بالرجال..................................... ٣٦٨
يجب على الخنثى تجنّب
الزينتين المختصّتين بالرجال والنساء.......................... ٣٦٨
الباب الرابع : في
التكسّب بالواجبات ، موضوع المسألة............................. ٣٦٩
أنواع الواجبات
والمستحبّات..................................................... ٣٧١
في القول بجواز
التكسّب بالواجبات............................................... ٣٧٧
أدلّة القول بمنع
التكسّب بالواجبات............................................... ٣٧٨
تحقيق المسألة أي
التكسّب بالواجبات............................................. ٣٨٠
مقدّمات الواجب كنفس
الواجب في حرمة أخذ الاجرة عليها........................ ٣٨٩
يجوز أخذ الاجرة على
إرضاء اللباء............................................... ٣٩٠
لا يجوز أخذ الاجرة
على تحمّل الشهادة ولا على أدائها............................. ٣٩٠
عدم جواز أخذ الاجرة
على القضاء............................................... ٣٩٢
في تحريم الرشوة................................................................. ٣٩٣
أخذ الاجرة على
المندوبات....................................................... ٤٠٢
عدم جواز أخذ الاجرة
على الأذان ولا على الصلاة جماعة........................... ٤٠٥
جواز ارتزاق المؤذّن
من بيت المال................................................. ٤٠٧
جواز أخذ الاجرة على
إجراء عقد النكاح......................................... ٤٠٨
مسائل مهمّة : ١ ـ بيع
المصحف................................................ ٤٠٨
٢ ـ جوائز الظلمة............................................................. ٤١٣
أحكام مال المجهول
المالك........................................................ ٤٢٥
تذنيب : في أخذ الخراج
والمقاسمة من السلطان الجائر................................ ٤٣٤
مسائل مهمّة : ١ ـ اشتراط
قبض السلطان أو عامله في جواز القبول منه مجّاناً أو بعقد. ٤٤١
٢ ـ الرخصة الحاصلة من
الأئمّة مختصّة بالآخذ المتقبّل.............................. ٤٤٢
٣ ـ هل يشترط جواز
الأخذ من الجائر في أزمنة الغيبة بإذن الحاكم الشرعي.......... ٤٤٨
٤ ـ فيما يعتبر وما لا
يعتبر في الجائر............................................. ٤٥١
٥ ـ لا يعتبر في حلّ
الخراج أن يكون المأخوذ منه ممّن يعتقد في الجائر استحقاقه للأخذ منه ٤٥٥
٦ ـ هل يعتبر في حلّ
الخراج كون الآخذ من أهل استحقاق ما يأخذه من المال أو لا؟. ٤٥٦
٧ ـ يشترط في جواز
تناول المقاسمة أو الخراج من الجائر كونهما مأخوذين على الأراضي الخراجيّة ٤٥٨
٨ ـ يشترط في كون
الأرض خراجيّة امور........................................ ٤٥٩
تتمّة : ليس للخراج
قدر معيّن.................................................... ٤٧٠
كتاب البيع
في تعريف البيع................................................................. ٤٧٢
البيع يطلق على معانٍ............................................................ ٤٧٥
هل للصيغة المخصوصة
تأثير خاصّ باعتبار كونها معتبرة في اللزوم أو الصحّة أو في صدق الاسم أو لا؟ ٤٨٢
في مدخليّة الصيغة
المخصوصة في صدق الاسم...................................... ٤٨٩
في مدخليّة الصيغة
المخصوصة في الصحّة........................................... ٤٩٦
في مدخليّة الصيغة أو
مطلق اللفظ في اللزوم........................................ ٥١٨
التنبيه على امور :
١ ـ اللزوم في البيع
والجواز في المعاطاة ليسا عبارتين عن مجرّد الحكم التكليفي......... ٥٢٥
٢ ـ الجواز في
المعاطاة نظير الجواز في الهبة لا الجواز في مواضع الخيار................. ٥٢٥
٣ ـ هل الجواز في
المعاطاة من لواحق الملك أو من عوارض سببه..................... ٥٢٦
٤ ـ هل قصد اللزوم حين
التقابض يوجبه أو لا؟.................................. ٥٢٦
٥ ـ جواز الرجوع في
المعاطاة يسقط بالإسقاط أم لا؟............................. ٥٢٧
٦ ـ للمعاطاة إحدى
وعشرون صورة ، هل هذه الصور كلّها محلّ للنزاع............. ٥٢٩
مسائل :
أ ـ يعتبر في المعاطاة
قصد إنشاء التمليك والتملّك.................................. ٥٢٩
ب ـ هل يعتبر في
المعاطاة حصول القبض من الجانبين أو يكفي من أحدهما............ ٥٣٥
ج ـ هل تعتبر الشرائط
المعتبرة في صحّة البيع مطلقاً ، أو لا تعتبر مطلقاً ، أو تعتبر على القول بالملك
ولا تعتبر على القول بالإباحة؟.............................................................................. ٥٣٩
د ـ في جريان المعاطاة
في سائر العقود اللازمة والجائزة.............................. ٥٤٣
٧ ـ في ملزومات
المعاطاة....................................................... ٥٤٨
مسائل :
١ ـ في تلف تمام كلّ
من العينين................................................. ٥٤٨
٢ ـ لو تلفت إحدى
العينين بتمامها............................................. ٥٥٣
ولو تلف بعض إحدى
العينين.................................................... ٥٥٧
٣ ـ في نقل ملك كلّ من
العينين إلى غير من هي بيده نقلاً لازماً.................... ٥٥٩
٤ ـ في تغيير العينين
معاً أو إحداهما.............................................. ٥٦٢
امور مهمّة :
١ ـ في ما يتعلّق
بالمنافع المستوفاة من العين والنماءات المتجدّدة بعد المعاطاة............ ٥٦٥
٢ ـ المعاطاة في نفسها
معاملة جائزة ويعرضها اللزوم............................... ٥٦٧
٣ ـ هل يكفي الإشارة
المفهمة في المعاطاة أم لا؟................................... ٥٧١
مسائل في الإشارة وما
يعتبر فيها وما لا يعتبر فيها................................... ٥٧١
صيغة البيع : ما
يتعلّق بصيغة البيع من حيث موادّ ألفاظها............................ ٥٧٧
مسائل :
١ ـ في اشتراط
العربيّة وعدمه................................................... ٥٧٧
٢ ـ في اعتبار الصراحة
في صيغة البيع وعدمه..................................... ٥٨١
٣ ـ في بيان الألفاظ
المخصوصة المستعملة في إيجاب البيع وفي قبوله.................. ٥٩٠
ما يشترط في الهيئة
المعتبرة في كلّ من الإيجاب والقبول بانفراده....................... ٥٩٨
يعتبر في الصيغة أن
تكون جملة فعليّة.............................................. ٥٩٨
في اشتراط الماضويّة.............................................................. ٥٩٨
ما يشترط في الهيئة
التركيبيّة الحاصلة من الإيجاب والقبول وفيه مسائل :............... ٦٠١
١ ـ هل يشترط تقديم
الإيجاب على القبول أو لا؟................................. ٦٠١
في بيان ضابط تشخيص
المشتري من البائع......................................... ٦١٠
٢ ـ في اشتراط
الموالاة بين الإيجاب والقبول....................................... ٦١٠
٣ ـ في المطابقة بين
الإيجاب والقبول............................................. ٦١٤
٤ ـ في التعليق
والتنجيز........................................................ ٦١٧
في المقبوض بالعقد
الفاسد........................................................ ٦٢١
المقبوض بالعقد الفاسد
، قاعدة الإقدام............................................ ٦٢٥
المقبوض بالعقد الفاسد
، قاعدة الاحترام........................................... ٦٢٩
المقبوض بالعقد الفاسد
، تحقيق خبر اليد........................................... ٦٣١
مسائل في المقبوض
بالعقد الفاسد :
١ ـ هل يجب ردّ المال
المقبوض بالعقد الفاسد فوراً أم لا؟.......................... ٦٣٨
٢ ـ مئونة الردّ على
القابض أو المالك............................................ ٦٣٩
٣ ـ هل الامور
المصاحبة للعين تابعة لها في الضمان................................ ٦٤٠
٤ ـ في المنافع
المستوفاة للعين المقبوضة بالعقد الفاسد............................... ٦٤١
٥ ـ في ضمان المنافع
الغير المستوفاة الفائتة على مالك العين......................... ٦٤٣
٦ ـ في ضمان المثل في
المثلي..................................................... ٦٤٤
٧ ـ لو تعذّر المثل في
المثلي...................................................... ٦٥١
٨ ـ في القيمي المقبوض
بالعقد الفاسد............................................ ٦٦٣
في تعيين القيمة في
القيمي أهي أعلى القيم أو غيرها؟................................ ٦٦٤
فروع :
١ ـ لو زادت قيمة
العين بعد تلفها في بعض أزمنة ما بعد التلف فلا عبرة بها.......... ٦٧٠
٢ ـ في اختلاف القيمة
بحسب الأمكنة........................................... ٦٧١
٣ ـ إذا كان ارتفاع
القيمة حاصلاً من زيادة في العين.............................. ٦٧١
٤ ـ تعذّر الوصول إلى
العين في حكم تلفها....................................... ٦٧١
٥ ـ ربّما يتوسّط بين
تلف العين وتعذّر الوصول إليها امور......................... ٦٧٣
في شروط المتعاقدين :
شروط المتعاقدين ،
البلوغ....................................................... ٦٧٧
مسائل في معاملات
الصبيّ :
١ ـ إذا أذن الوليّ
للصبيّ فهل يقع عقده صحيحاً أم لا؟............................ ٦٨٤
٢ ـ معاملات الصبيّ في
الأشياء الحقيرة........................................... ٦٨٨
٣ ـ هل تصحّ معاملات
الصبيّ إذا فرض آلة لمن له أهليّة التصرّف؟................. ٦٩٠
شروط المتعاقدين ،
العقل........................................................ ٦٩٢
شروطه المتعاقدين ،
الاختيار..................................................... ٦٩٥
في المكرَه وما يعتبر
في تحقّق الإكراه وما لا يعتبر.................................... ٧٠٠
يعتبر في الإكراه
العجز عن التفصّي............................................... ٧٠١
لا يعتبر في الإكراه
العجز عن التورية.............................................. ٧٠٥
مسائل :
١ ـ كما يتحقّق
الإكراه لشخص على فعل واحد كذلك يتحقّق لشخص على أحد الفعلين ٧٠٦
٢ ـ قد يتحقّق الإكراه
للمالك العاقد وقد يتحقّق للمالك دون العاقد وقد يتحقّق للعاقد دون المالك ٧٠٧
٣ ـ لو أكرهه على بيع
عبد معيّن اسمه المبارك فباع البشير أو أكرهه................ ٧٠٨
٤ ـ الإكراه الرافع
للحكم التكليفي أخصّ من الإكراه الرافع للحكم الوضعي........ ٧١١
٥ ـ حكم الإكراه بحقّ......................................................... ٧١٣
٦ ـ إذا رضي المكرَه
بما فعل نفذ ويترتّب عليه الأثر............................... ٧١٤
التنبيه على امور :
هل يعتبر في الرضى
اللاحق لحوقه بسرعة وبلا فصل زماني أو لا؟.................... ٧١٧
في أنّ الردّ إمّا
قوليّ أو فعليّ...................................................... ٧١٨
في أنّ الرضا المتأخّر
المصحّح لعقد المكره ناقل أو كاشف............................ ٧١٨
هل يعتبر في الرضا
المتأخّر أن يكون باللفظ أو يكفي الرضا النفساني؟................. ٧١٩
موت المكرَه مبطل
للعقد كالردّ أم لا؟............................................. ٧٢٠
هل للطرف الغير
المكرَه أن يفسح العقد قبل لحوق رضا المكرَه أو لا؟................. ٧٢٠
شروط المتعاقدين ،
القصد....................................................... ٧٢١
تفصيل القول في قاعدة
أنّ العقود تتبع القصود..................................... ٧٢٢
شروط المتعاقدين ،
الحرّيّة........................................................ ٧٣٠
من شروط المتعاقدين أن
يكونا مالكين أو ممّن يقوم مقام المالك....................... ٧٤١
في بيع الفضولي................................................................. ٧٤٣
مسائل في بيع الفضولي
:
١ ـ أن يبيع للمالك مع
عدم سبق منع منه........................................ ٧٤٤
أدلّة القول ببطلان
الفضولي...................................................... ٧٥٧
٢ ـ أن يبيع للمالك مع
سبق منعه وكراهته....................................... ٧٦٩
٣ ـ أن يبيع العاقد
الفضولي مال الغير أو يشتري بمال الغير لنفسه................... ٧٧٠
امور مهمّة :
الأمر الأوّل : أنّ
مال الغير المعقود عليه في الفضولي قد يكون عيناً وقد يكون كلّيّاً...... ٧٧٩
الأمر الثاني : عدم
الفرق في صحّة الفضولي بين وقوعه بالصيغة أو بالمعاطاة............ ٧٨١
الأمر الثالث : عدم
اختصاص الفضولي بالبيع والنكاح.............................. ٧٨٣
الأمر الرابع : في حكم
الإجازة من حيث الكشف والنقل وشروطها وما يتعلّق لها....... ٧٨٥
الإجازة كاشفة أو
ناقلة.......................................................... ٧٨٥
أقسام الكشف................................................................. ٧٨٦
الإجازة جزء للسبب أو
عقد مستقلّ.............................................. ٧٨٦
مسائل في ثمرات
الأقوال :
١ ـ في الثمرة على
الكشف الحقيقي بين كون الإجازة شرطاً وكون الشرط تعقّب العقد بها ٧٨٧
٢ ـ في الثمرة بين
الكشف الحقيقي والكشف الحكمي............................. ٧٨٨
٣ ـ في الثمرة بين
الكشف والنقل............................................... ٧٨٩
في أدلّة القائلين
بكاشفيّة الإجازة.................................................. ٧٩٦
في أدلّة القائلين
بالنقل........................................................... ٨٠١
القول المختار في
الكشف والنقل.................................................. ٨٠٢
الأمر الخامس : في
بقايا أحكام الإجازة............................................ ٨٠٣
فروع :
الأوّل : إجازة البيع
ليست إجازة لقبض الثمن في فضوليّة المبيع ولا لقبض المبيع في فضوليّة الثمن ٨٠٨
الثاني : هل يعتبر في
صحّة الإجازة مطابقتها للعقد الواقع كما وقع إطلاقاً وتقييداً أو لا؟ ٨٠٨
الثالث : لو بلغه عقد
متعلّق بالعين وآخر بالمنفعة فأجازهما دفعة صحّا................. ٨٠٩
الأمر السادس : في ما
يتعلّق بالمجيز................................................ ٨١٠
لو باع مال غيره ثمّ
اشتراه فأجازه................................................. ٨١٤
لو باع مال أبيه بظنّ
الحياة فبان أنّه ميّت.......................................... ٨٣٢
الأمر السابع : فيما
يتعلّق بالمجاز ، وفيه مسائل :.................................... ٨٣٨
١ ـ يعتبر أن يكون
العقد جامعاً لجميع الشروط المعتبرة في تأثيره.................... ٨٣٨
هل يعتبر في الشروط
المعتبر حصولها حال العقد بقاؤها إلى حال الإجازة أم لا؟......... ٨٣٩
٢ ـ هل يعتبر في
المجاز أن يكون معلوماً للمجيز بالتفصيل؟......................... ٨٣٩
٣ ـ في العقود
المترتّبة على المثمن أو الثمن أو هما معاً ثمّ لحقها الإجازة............... ٨٤٠
الأمر الثامن : في
أحكام الردّ ، وفيه مسائل :...................................... ٨٤٧
١ ـ ما يتحقّق به
الردّ.......................................................... ٨٤٧
٢ ـ إذا لم يجز المالك
وكان ماله في يده أو يد المشتري هل له زائداً على ماله حقّ آخر أو لا؟.. ٨٥٢
٣ ـ في ما يتعلّق
بالمشتري من رجوعه على البائع بثمنه وبما اغترمه للمالك وعدمه..... ٨٥٥
رجوع المشتري على
البائع بما اغترم............................................... ٨٦٧
رجوع المشتري على
البائع الفضولي بما اغترم ، قاعدة الغرور........................ ٨٧٢
رجوع المشتري على
البائع الفضولي بما اغترم ، للمالك.............................. ٨٨٠
رجوع المشتري على
البائع الفضولي بما اغترمه للعين................................ ٨٨٣
للمالك إذا لم يجز
البيع الرجوع على البائع والمشتري................................ ٨٨٤
للمالك إذا لم يجز
البيع الرجوع على البائع والمشتري ، معنى العهدة والذمّة............ ٨٨٧
للمالك إذا لم يجز
البيع الرجوع على البائع والمشتري ، معنى الدرك................... ٨٨٩
معنى ضمان اليد في
الأيادي المتعدّدة............................................... ٨٨٩
في أنّ الاعتبار في
ضمان قيمة العين التالفة بقيمة يوم التلف أو غيرها.................. ٨٩٤
لو باع الفضولي مال
غيره مع مال نفسه........................................... ٨٩٤
إذا قال أحد الشريكين
: بعتك نصف الدار ، هل يحمل على النصف المملوك له أو النصف المشاع ٩١٤
لو باع ما يقبل
التملّك وما لا يقبل التملّك بصفقة واحدة بثمن مبذول بإزاء المجموع.... ٩١٧
|