بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله المعصومين ينابيع أحكام الله.

وبعد ، فإنّ من نعم الله الكبرى على هذه الامّة المرحومة أن هيّأ لها في كلّ عصر وزمان رجالا أفذاذا وعلماء عدولا يذبّون عن حوزة الدين ويدافعون عن شريعة سيّد المرسلين بفكرهم الوقّاد وبيانهم النقّاد ، فكتبوا في مختلف الميادين ، وثبّتوا في قلوب الناس اسس الحكمة واليقين ، ووقفوا بحقّ وقفة الاسود في الدفاع عن الثقلين المقدّسين الأكبر والأصغر ، بعد أن بيّنوا المجملات ، وأوضحوا المبهمات ، وفسّروا الآيات ، وشرحوا الأخبار وما اعضل من الروايات ، وعرّفوا الناس الحلال من الحرام ، وأرشدوهم إلى ما به سعادتهم في الدنيا والختام. فها هي آثارهم تشهد لهم بالحسنى ، وها هي كتبهم تدلّ على مدى الإخلاص الّذي انطوت عليه سرائرهم ، وصلاح النوايا الّتي انعقدت عليه ضمائرهم ، فشروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله فأثابهم وأكرمهم بأفضل حلل الكرامة. فلله سبحانه درّهم وعليه تعالى أجرهم.

ومن هؤلاء الأنجم الزاهرة والأعلام الباهرة : فقيه العصر واعجوبة الدهر سماحة العلّامة السيّد عليّ الموسوي القزويني (المتوفّى سنة ١٢٩٨ ه‍ ق) صاحب الحاشية على المعالم والقوانين ومؤلّفات ثمينة اخرى ، منها هذه الموسوعة الفقهيّة المنيفة ، يأتي وصفها في تقدمة حفيده الفاضل سماحة الحجّة السيّد علي العلوي القزويني ـ دامت إفاضاته ـ ونحن نباهي بهذا التوفيق الغالي الّذي توفّقت مؤسّستنا في طريق إحياء هذا التراث القيّم ، شاكرين الخلف الصالح للمؤلّف وحفيده العالم سماحة حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد جواد الموسوي العلوي القزوينى ـ دام ظلّه ـ كفاء ما تفضّل به من النسخة الأصلية ؛ ونشكر أيضا لنجله الفاضل المحقّق على ما بذل من الجهود في تصحيح وتحقيق الكتاب ، مزدانا بتخريجات نافعة وتعاليق لائقة.

مؤسّسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة


نبذة من حياة المؤلّف :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الّذي رفع درجات العلماء ، وجعلهم ورثة الأنبياء ، وفضّل مدادهم على دماء الشهداء ، والصلاة والسلام على الصادع بالشريعة الغرّاء ، ومؤسّس الملّة البيضاء ، شمس فلك الاصطفاء ، محمّد المصطفى وآله الطيّبين الأصفياء.

أمّا بعد ، فهذه نبذة حول حياة أحد الشخصيّات العلميّة الخالدة ، والنوابغ القلائل اللامعة ، ذي النفس الزاكية ، والآراء الراقية ، والتصانيف العالية ، الّذي يضنّ بأمثاله الدهر إلّا في المجالات المتقطّعة والفترات النادرة ، بحر الفواضل والفضائل ، وفخر الأواخر والأوائل ، قدوة المحقّقين ونخبة المدقّقين واسوة العلماء الراسخين ، سلالة المصطفين ، المحرز لقصبات السبق في مضمار الفضل ، وحيد عصره وفريد دهره ، سيّد الفقهاء والمجتهدين ، جدّ جدّنا الأمجد ، وسمي مولانا الممجّد فخر الأساطين ، صاحب الحاشية على القوانين ، السيّد عليّ بن إسماعيل الموسوي القزويني قدّس الله نفسه الزكيّة.

وحيث لم يصل إلينا من تاريخ حياته وتفصيل مجاري أحواله إلّا ما ذكره بعض أصحاب التراجم والفهرستات ، وما كتبه والدي الماجد ـ دام ظلّه الوارف ـ في مقدمة رسالة العدالة (المطبوعة بقم المشرّفة سنة ١٤١٩ ه‍. ق) لمؤلّفه العلّامة رحمه‌الله ولم يتيسّر لنا مزيد تتبّع وفحص إلّا اليسير ، فنكتفي بنقل ما ذكروه وما تيسّر لنا من الإضافات ، فنقول ومن الله التوفيق :

مولده واسرته وهجرته :

كان ميلاده الشريف في شهر ربيع المولود سنة ١٢٣٧ ه‍. ق في مدينة قزوين (١)

__________________

(١) كما صرّح بذلك في ختام المجلد الأوّل من حاشيته على القوانين بقوله : « قد تمّ بيد مؤلّفه ـ


حسب ما يستفاد من وصيّته الّتي أرّخ فيها زمن بلوغه بقوله : « براى من از قيمت آنها (ثلث أموال) از أوّل زمان تكليف من كه ربيع المولود سنة ١٢٥٢ هزار ودويست وپنجاه ودو باشد ، إلى يوم وفاة استيجار صوم وصلاة نمايند ».

وكانت أمّه من أرحام السيّد إبراهيم الموسوي القزويني صاحب ضوابط الاصول (المتوفّى سنة ١٢٦٢ ه‍) كما ذكره العلّامة الطهراني في ذيل ترجمة السيّد رضي الدين القزويني خال سيّدنا المترجم له بقوله :

« السيد رضي الدين القزويني : كان من العلماء الأعلام والمراجع في التدريس ونشر الأحكام وكان زاهدا مرتاضا ، وهو خال السيّد عليّ القزويني صاحب حاشية القوانين ، وقد قرأ عليه ابن اخته المذكور في الأوائل قليلا ـ إلى أن قال ـ : أنّ اسم والد المترجم له السيّد علي أكبر وأنّه كان ابن عمّ السيّد إبراهيم بن محمّد باقر الموسوي القزويني صاحب « الضوابط » (١).

ومن أجل ذا كان يعبّر سيّدنا المترجم له عنه كثيرا في مختلف مجالات هذا الكتاب بـ « ابن عمّنا السيّد » أو « ابن عمّنا السيّد في ضوابطه » (٢).

وأمّا أبوه السيّد إسماعيل فلم يصل إلينا شي‌ء من أحواله غير ما ذكره والدي ـ دام ظلّه ـ بقوله : « ومن المظنون أنّ مسقط رأس والده كان في قرية خوئين من قرى زنجان » (٣).

ويؤيّده ما ذكره العلّامة الطهراني في ترجمة السيّد رضي الدين المتقدّم ذكره بقوله : « ... إنّ أصلهم من خوئين لكن جدّهم سكن قزوين فتعاقبوا من بعده ونسبوا

__________________

ـ الفقير إلى الله الغني عليّ بن إسماعيل الموسوي القزويني مولدا ومسكنا في العشر الأوّل من الربيع الأوّل سنة اثني وتسعين ومائتين بعد الألف ١٢٩٢ من الهجرة النبويّة ».

(١) الكرام البررة : ج ٢ ص ٥٧٦.

(٢) كما جاء في المجلد الثالث من التعليقة ـ حسب تجزئتنا ـ في مبحث الأوامر بقوله : هل يعتبر كون الأمر مستفادا من القول أو أعمّ منه وممّا يستفاد من الفعل؟ فيه وجهان بل قولان ، اختار أوّلهما العلّامة في التهذيب والنهاية وصار إلى ثانيهما جمع من متأخّري الأعلام منهم « ابن عمّنا السيّد » قدّس الله روحه وعلّله السيّد في ضوابطه بأنّ المتبادر عند الإطلاق وإن كان هو الأوّل ولكنّه إطلاقي لعدم صحّة السلب عن طلب الأخرس بالإشارة أو الكتابة إلى آخره.

(٣) رسالة في العدالة ـ للسيّد عليّ القزويني ـ المطبوعة بقم المشرفة سنة ١٤١٩ ه‍ ص ٤.


إليها » (١).

ثمّ مات أبوه وهو لم يبلغ الحلم ، فعاش في كنف خاله العلّامة السيّد رضي الدين القزويني (٢) ـ المتقدّم ذكره ـ عيشة تعزّز ونعمة. وقد حدب خاله العلّامة على تربيته تربية علميّة صالحة ، ومهّد له السبيل إلى تحصيل العلم فظهرت معالم النبوغ الفطري على هذا الطفل المؤمّل من أوائل أمره حتّى فرغ من تحصيل مقدّمات العلوم في حداثة سنّه وبداية أمره ، ثمّ هاجر في طلب العلم وتكميل مباني الفقاهة والاجتهاد إلى حائر الحسين عليه‌السلام في شهر شعبان المعظّم سنة مائتين واثنين وستّين بعد الألف من الهجرة النبويّة (١٢٦٢ ه‍. ق) كما سجّل ذلك بخطّ يده الشريفة على ظهر حاشية السيّد الشريف على الرسالة الوضعيّة العضديّة بقوله :

« هو المالك بالاستحقاق ، كيف أقول هذا ملكي وأنا مملوك ربّي ، بل هو من عواري الدهر عندي استعرتها بالمبايعة الشرعيّة تحت قبّة سيّدي الحسين عليه وعلى أولاده المعصومين ألف تحيّة وسلام ، وكان ذلك في شهر رمضان المبارك من شهور مائتين واثنتين وستّين بعد الألف من الهجرة النبويّة ـ على هاجرها ألف تحيّة وسلام ـ ولقد كان الشهر المزبور الثاني من السنة الاولى من ورودي في هذه الأرض الأقدس ، وإنّي أقلّ الخليفة بل ليس موجودا في الحقيقة ، عبده العاصي عليّ الموسوي. (محلّ خاتمه الشريف) ».

ثمّ هاجر الهجرتين إلى الأرض الأقدس النجف الأشرف لائذا بمنبع العلم والفضيلة مولى الموحّدين أمير المؤمنين ـ عليه آلاف التحيّة والثناء ـ ولكن لم نعثر على تاريخ هجرته الثانية ، ولا يبعد كونها بعد وفاة السيّد إبراهيم القزويني صاحب « ضوابط الاصول » حسبما يساعده الاعتبار. والله العالم.

وأمّا تاريخ عوده إلى موطنه قزوين فلم نقف على تفصيله في مظانّه ، عدا ما قاله

__________________

(١) الكرام البررة : ج ٢ ص ٥٧٦.

(٢) قال في المآثر والآثار (ص ١٥٢) في ترجمته : آقا سيّد رضي الدين : مجتهد قزويني ، خال آقا سيّد علي صاحب تعليقة معالم وحاشية قوانين بود ودر قزوين ومتعلّقاتش رياستى بزرگ ومجلس فقه خارجى به مثابة رؤساى عراق عرب مشحون به گروهى از مستعدّين علماى عجم داشت ، جلالت قدر وعظمت شأن آن بزرگوار در اين گونه اختصارات نمى‌گنجد (قدس‌سره).


كيوان القزويني ـ الذي عاصر سيّدنا المترجم له ـ في كتابه الموسوم بـ « كيوان‌نامه » بقوله : « آقا سيد على از شاگردان شريف العلماء بود وقدرى هم نزد شيخ أنصارى درس خوانده بود وهنوز شيخ انصارى زنده بود كه او آمد قزوين وبساط رياستش گسترده شد » (١).

بعض مشايخه :

كان سيّدنا قدس‌سره قد ترعرع في أحضان أساتذة عظام ، وتتلمذ عند أساطين العلم وعباقرة الفضل في عصره ، منهم :

١ ـ خاله العلّامة السيّد رضي الدين القزويني ، كما قال العلّامة الطهراني في ذيل ترجمته

« وهو خال السيّد عليّ القزويني صاحب حاشية القوانين ، وقد قرأ عليه ابن اخته المذكور في الأوائل قليلا » (٢).

٢ ـ الميرزا محمّد التنكابني رحمه‌الله صاحب « قصص العلماء » حيث قال : « ابن فقير را تلامذة چنديست كه أرباب كمالند ، وبعضى از اين فقير اجازه دارند ، از آن جمله :

« آقا سيّد علي كه مسلّم بلد است ، واز خويشان استاد آقا إبراهيم است » (٣).

٣ ـ السيّد الجليل والاستاذ النبيل السيّد إبراهيم الموسوي القزويني صاحب « ضوابط الاصول » (المتوفّى سنة ١٢٦٢ ه‍. ق) كما ذكره في مستدركات أعيان الشيعة بقوله :

« ... ثمّ هاجر إلى العراق قاصدا الحوزة العلميّة الكبرى وسكن كربلاء والتحق بحوزة السيّد إبراهيم الموسوي الذي كان يرتبط به بصلة القرابة ولكن لم تطل أيّامه وتوفّي السيّد في نفس العام فتوجّه المترجم له إلى النجف الأشرف ... » (٤).

هذا وإن ساعد عليه الاعتبار ، ولكنّا لم نقف على ما يدلّ عليه صراحة من خلال كلماته وعباراته ، نعم يؤيّده ما أورده في تقريرات بعض مشايخه بقوله : « كذا ذكره السيّد الاستاذ عن استاذه الشريف » (٥).

__________________

(١) كيوان‌نامه ص ٥٩.

(٢) الكرام البررة : ج ٢ ص ٥٧٦.

(٣) قصص العلماء : ص ٦٧.

(٤) مستدركات أعيان الشيعة : ج ٣ ص ١٣٨.

(٥) والمراد بـ « الاستاد الشريف » هو الشيخ محمّد الشريف المعروف بشريف العلماء المازندراني ـ


٤ ـ شيخ المشايخ ، استاذ الفقهاء والمجتهدين الشيخ محمّد حسن النجفي رحمه‌الله (صاحب الجواهر) (المتوفّى سنة ١٢٦٦ ه‍. ق) ويستفاد ذلك من صريح كلامه في مواضع عديدة من كتابه الكبير في الفقه الموسوم بـ « ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام » حيث يعبّر عنه بـ « شيخنا في جواهره » أو « شيخنا في الجواهر ».

منها : ما في مبحث استحباب مسح الرأس بمقدار ثلاث أصابع ، حيث قال ـ بعد ما نقل مقالة الشهيد قدس‌سره في المسالك عند قول المحقّق : « والمندوب مقدار ثلاث أصابع عرضا » ـ : وقد تبعه على ذلك شيخنا في الجواهر ، حيث قال : والظاهر أنّ المراد من المستحبّ مقدار عرض ثلاث أصابع لأنّه المتبادر من التقدير ... إلى آخره.

٥ ـ قدوة المحقّقين وفخر المجتهدين وحيد عصره وفريد دهره الشيخ مرتضى الأنصاري (المتوفّى سنة ١٢٨١ ه‍. ق) حيث عبّر عنه بـ « شيخنا » أو « شيخنا الاستاذ » وهذا يبدو من مجالات متعدّدة من مؤلّفاته في الفقه والاصول.

منها : ما ذكره في المجلد الخامس من التعليقة على المعالم عند ختام البحث عن حجّية ظواهر الكتاب بقوله : « ثمّ إنّه ينبغي ختم المسألة بذكر امور ، أوّلها : ما حكاه شيخنا قدس‌سره من أنّه ربّما يتوهّم أنّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى ... إلى آخره ».

ومنها : ما في مبحث حرمة العمل بالظنّ ، حيث قال ـ بعد ما نقل عن المحقّق البهبهاني رحمه‌الله بداهة عدم جواز العمل بالظنّ عند العوام فضلا عن العلماء ـ : « ونقل الضرورة ربّما يكون أقوى من نقل الإجماع كما نبّه عليه شيخنا الاستاذ عند تتلمذنا عنده ».

٦ ـ وقد قيل : (١) بتتلمذه عند شريف العلماء المازندراني الحائري رحمه‌الله ، ولكنّه أمر لا يساعده الاعتبار ، لأنّ الاستاذ الشريف مات بكربلاء بمرض الطاعون في سنة (١٢٤٦ ه‍. ق) ـ على الأصحّ ـ (٢) وهو آنذاك لم يكمل عشر سنين ومن البعيد جدّا تتلمذه

__________________

ـ أصلا والحائري مسكنا ومدفنا (المتوفّى سنة ١٢٤٦ ه‍. ق) وهو الّذي تتلمذ عنده السيّد إبراهيم القزويني صاحب ضوابط الاصول (المتوفّى سنة ١٢٦٢ ه‍. ق).

(١) تاريخ روابط ايران وعراق ـ مرتضى مدرس چهاردهى ـ ص ٢٠٧. كيوان‌نامه ـ كيوان قزويني ـ ص ٥٩.

(٢) حكى في « مكارم الآثار » (ج ٤ ص ١٢٧١) عن بعض تلامذة صاحب الفصول رحمه‌الله ـ الذي كان آنذاك قاطنا بكربلاء المعلّى وابتلي أيضا بالطاعون ولكن نجى منها ـ ما هذا لفظه : ـ


عنده ، هذا مضافا إلى أنّ وروده بكربلاء كان في سنة (١٢٦٢ ه‍. ق) كما تقدّم آنفا.

٧ ـ قد عدّ صاحب مستدركات أعيان الشيعة (١) جملة من العلماء الأعلام القاطنين آنذاك بقزوين في زمرة مشايخه كالشهيد الثالث المولى محمّد تقي البرغاني ، والمولى آغا الحكمي ، والشيخ ميرزا عبد الوهّاب البرغاني ، وغيرهم ـ قدّس الله اسرارهم ـ ولكنّا مع شدّة فحصنا في آثاره رحمه‌الله لم نعثر على ما يدلّ عليه صراحة أو ظهورا ، ولا تكفي فيه المعاصرة أيضا كما لا يخفى.

هذا مع أنّه لم يصرّح به في كلمات غيره من أصحاب الفهارس والتراجم ، ولم نقف على مستنده في ذلك.

بعض تلامذته :

قد ارتوى من منهل علمه العذب كثير من الأجلّة الأفاضل منهم :

١ ـ العلّامة الحكيم الحاج مولى محمّد المدعوّ بالهيدجي ابن الحاج معصوم علي (٢) (المتوفّى في حدود سنة ١٣٤٩ ه‍)

٢ ـ العلّامة المحقّق والفقيه الاصولي الشيخ عبد الله المازندراني (سنة ١٢٥٩ ـ ١٣٣١) (٣).

٣ ـ العلّامة الهمام فخر المحقّقين الحاج الشيخ جواد بن مولى محرّمعلى الطارمي (سنة ١٢٦٣ ـ ١٣٢٥) (٤).

__________________

ـ « اليوم ٢٤ شهر ذي القعدة الحرام سنة ١٢٤٦ روزى بى‌دروغ تخمينا در كربلاى معلّى دويست وپنجاه تا سيصد نفر از طاعون مى‌ميرند ... وجناب شريف العلماء اليوم وفات كرد وزنش ودختر وپسرش ... ».

وقال في موضع آخر :

« اليوم ٢٤ شهر ذي قعدة سنة ١٢٤٦ أحوالم بحمد الله خوب است لكن خلق بسيار مردند ، وجناب شريف العلماء ملا شريف مازندرانى ملقّب به آخوند مطلق اليوم مرد با يك زنش ويك دختر ويك پسرش به چند يوم قبل ... ».

(١) مستدركات اعيان الشيعة : ج ٣ ص ١٣٨.

(٢) فهرست مشاهير علماء زنجان ـ الشيخ موسى الزنجاني ـ : ص ١٣٥.

(٣) ذيل سياحت شرق ـ آقا نجفى قوچاني ـ : ص ٣٦٦.

(٤) نقباء البشر : ج ١ ص ٣٣٩ ، أعيان الشيعة : ج ٤ ص ٢٧٩ ، فهرست مشاهير علماء زنجان : ص ٢٢.


٤ ـ العالم الفقيه والفاضل الجليل السيّد حسين الاشكوري (المتوفّى سنة ١٣٤٩ ه‍. ق) (١).

٥ ـ العلّامة المحقّق الشيخ شعبان الجيلاني النجفي (سنة ١٢٧٥ ـ ١٣٤٨) الّذي كان من الفقهاء الأعلام ومراجع التقليد في عصره (٢).

٦ ـ الفقيه الزاهد السيّد حسين الزرآبادي (المتوفّى بعد سنة ١٣٠٠ ه‍ ـ. ق) (٣).

٧ ـ العالم الفقيه السيّد مهدي بن حسن ابن السيّد أحمد القزويني النجفي الحلّي (المتوفّى سنة ١٣٠٠) (٤).

٨ ـ العلّامة الشيخ جعفر بن عبد الله (المتوفّى سنة ١٣٣٤ ه‍. ق) (٥)

٩ ـ العلّامة الشيخ فتحعلي بن الحاج ولي بن علي عسكر (المتوفّى سنة ١٣٣٨ ه‍. ق) (٦)

١٠ ـ العالم البارع المولى علي أصغر بن غلامعلي (المتوفّى سنة ١٣٤١ ه‍. ق) (٧)

١١ ـ العالم الفقيه الميرزا نصر الله شيخ الإسلام والد الميرزا فضل الله المعروف بشيخ الإسلام الزنجاني (٨)

١٢ ـ العالم الفقيه السيّد أبو الحسن بن هادي بن محمّد رضا الحسيني التنكابني (المتوفّى سنة ١٢٨٦ ه‍. ق) (٩)

ولعلّ هناك كثيرا ممّن لم نعثر على أساميهم ، الّتي قد اهملت أسماؤهم ولم يضبط أحوالهم في كتب التراجم فلم نقف عليها.

تأليفاته :

ترك سيّدنا الجدّ قدس‌سره آثارا جليلة ، أهمّها ما يلي :

١ ـ الحاشية على القوانين : وهو الكتاب الّذي نال به مؤلّفه شهرته الخالدة في علم الاصول حتّى صار يعرّف المؤلّف بالمؤلّف ويوصف بـ « صاحب الحاشية على القوانين ». وهذه من أشهر حواشي القوانين وأحسنها تنقيحا وأجودها توضيحا وأمتنها تعبيرا وتحريرا.

__________________

(١) نقباء البشر : ج ٢ ص ٥٩٠.

(٢ و ٣) نقباء البشر : ج ٢ ص ٨٣٨ و ٥٠١.

(٤) أعيان الشيعة : ج ٢ ص ١٤٥.

(٥ و ٦) فهرست مشاهير علماء زنجان : ص ٣٣ و ٩٧ و ١٣٥.

(٨) مستدركات أعيان الشيعة : ج ٧ ص ٢١٠.

(٩) المصدر السابق : ج ٣ ص ٧.


وقد حكي في « تاريخ روابط ايران وعراق » عن العلّامة محمّد صالح المازندراني السمناني في شأن هذا الكتاب ما هذا نصّه : « اين دو كتاب (حاشيه سيد على بر قوانين وحاشيه ميرزا محمّد على مدرّس رشتى) از نظر دقت وتحقيق علم اصول از شاهكارهاى علمى در قرون اخير بشمار مى‌روند » (١).

وقال في أحسن الوديعة في ذيل ترجمته : « أقول : وقد طبعت حاشية صاحب العنوان في هامش القوانين ومستقلّا وعندنا نسخة منها ولعمري أنّها تكشف عن غاية مهارته في الاصول ونهاية بارعيّته الخ » (٢).

وقد طبعت هذه الحاشية المباركة في (سنة ١٢٩٩ ه‍. ق) في عاصمة طهران وطبعت أيضا بهامش القوانين كرارا.

٢ ـ التعليقة على معالم الاصول : وهذا السفر الجليل أبسط تعليقة علّقت على المعالم ، وهذه التعليقة المباركة منذ تأليفه كانت حبيسة في زوايا المكتبات يعلوها التراب ، ولم يطّلع عليها إلّا بعض النابهين من الأعلام ممّن يفتّشون عن النفائس دون الزخارف.

واليوم ـ بحمد الله والمنّة ـ قد خرجت في أحسن هيئة وأجمل اسلوب إلى الحوزات العلميّة والملأ العلمي ، ولله الحمد على ما أنعم والشكر على ما ألهم.

٣ ـ رسالة في تحقيق حقيقة المفرد المحلّى باللام.

٤ ـ رسالة في أقسام الواجب وأحكامها.

٥ ـ رسالة في تداخل الأسباب والمسبّبات.

٦ ـ رسالة في قاعدة نفي الضرر والضرار ، وقد أحال إليها في مبحث البراءة من حاشيته على القوانين.

٧ ـ رسالة في الولاية وقد أشار إليها في حاشية القوانين في مبحث الاجتهاد والتقليد.

٨ ـ رسالة في قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، طبعت في (سنة ١٤١٩ ه‍. ق) بقم المشرّفة.

٩ ـ رسالة في العدالة ، وقد فرغ من تأليفها في محرّم الحرام (سنة ١٢٨٦ ه‍. ق)

__________________

(١) تاريخ روابط ايران وعراق : ص ٢٤٥.

(٢) احسن الوديعة ص ١٢٥.


طبعت في (سنة ١٤١٩ ه‍. ق) بقم المشرّفة.

١٠ ـ رسالة في حمل فعل المسلم على الصحّة ، قد فرغ منها في إحدى وعشرين من شهر ذي القعدة الحرام سنة (١٢٨٨ ه‍. ق) طبعت في (سنة ١٤١٩ ه‍. ق) بقم المشرّفة.

١١ ـ رسالة في أنّ الأصل في المعاملات الصحّة أو الفساد.

١٢ ـ رسالة فارسيّة في الاجتهاد والتقليد والطهارة والصلاة والزكاة والخمس والصوم والرضاع طبعت في (سنة ١٢٩٠ ه‍. ق).

١٣ ـ رسالة فارسيّة في أنواع التكسّب والبيع والخيارات والقرض.

١٤ ـ رسالة فارسيّة المسمّاة بـ « اصول الدين وشرح أفعال الصلاة » طبعت في (سنة ١٣٣١ ه‍. ق) في العاصمة طهران.

١٥ ـ رسالة سؤال وجواب بالفارسية ، المشتملة على أجوبة الاستفتاءات وغيرها من المسائل الفقهيّة ، وفيها بيان لمعاني بعض الأخبار المشكلة.

ولقد أشار المحقّق الطهراني إلى تلك الرسائل في الذريعة ذيل عنوان « الرسائل الكثيرة » (١).

١٦ ـ شرح على شرائع الإسلام : من أوّل كتاب التجارة إلى الاجرة على الأذان ، ومن أوّل الفصل الثاني في عقد البيع إلى بيع السمك في الآجام.

وشرح على كتاب الصيد والذباحة من أوّله إلى مسألة القطعة المبانة من الحيّ.

وشرح على كتاب الصوم من أوّله إلى إيصال الغبار والدخان إلى الحلق ، ويلحق به البحث عن شرائط المتعاقدين في النكاح.

١٧ ـ كتاب البيع من أوّله إلى آخره ، ويشتمل على البحث من جملة من المشتركات بين المسلمين ، كالمساجد والمدارس والربط والمعادن.

١٨ ـ تعليقة على كتاب الرضاع للشيخ مرتضى الأنصاري رحمه‌الله.

١٩ ـ كتاب الرضاع بالفارسيّة : قال في مفتتح هذا الكتاب : « بدان كه چون أقلّ عباد الله سابق بر اين رساله رضاعيّة منسوب به شيخ استاد ـ طاب ثراه ـ را ملاحظه كرده وبر بعض مواضع آن حاشيه نوشته بودم ومقلّدين را اذن در رجوع به آن وعمل

__________________

(١) الذريعة : ج ١٠ ص ٢٥٦.


كردن بر مسائل آن داده بودم ومسائل آن نيز در ميان مردم كثير الحاجة وعامّ البلوى است خواستم آن را هم جزء اين رساله قرار داده باشم ، حواشى آن را داخل در متن نموده ومجموع را جزء اين رسالة قرار دادم كه مردم در مسائل رضاع نيز كه محتاج به آنها مى‌شوند معطّل نباشند ».

٢٠ ـ تعليقة على تفسير البيضاوي.

٢١ ـ ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام (١) : وهذا التراث الفقهيّ الكبير ـ كأكثر تآليفه القيّمة ـ بقيت منذ تأليفه حتّى اليوم مخطوطة عند اسرته الشريفة حتّى انتهت النوبة إلينا وقد منّ الله علينا حيث وفّقنا لإحيائها بالتحقيق والتدقيق ـ حسب ما في وسعنا وطاقتنا ـ.

ثمّ هذا السفر الجليل يشتمل على خمس مجلّدات كبار :

المجلد الأوّل : في المياه ، وهذا هو الكتاب الماثل بين يديك.

المجلد الثاني : في الطهارات الثلاث وتوابعها.

المجلّد الثالث : في الصلاة.

المجلد الرابع : في الزكاة.

المجلد الخامس : في التجارة.

وقد أحال إليه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من حاشيته على القوانين. ص ١٠٥)

منزلته العلميّة وزهده ومرجعيّته :

كان ـ قدّس الله نفسه الزكيّة ـ من أحد الشخصيّات النادرة في تاريخ الفقه والاصول ، وقد آتاه الله فكرا قويّا ثاقبا وذوقا سليما سويّا في التفكير والاستدلال ، كما يكشف عنه حاشيته المعروفة على القوانين بما فيها من الكنوز الثمينة من الآراء الناضجة والتحقيقات الراقية ، وهذا يجعلنا في غنى وكفاية عن تبيين موقفه العلمي.

كان قدس‌سره دائم التفكير لا يفارقه العمل العلمي تدريسا أو تأليفا إلّا في أوقات العبادة

__________________

(١) الذريعة : ج ٢٥ ص ٨٨٦.


والراحة كما يومئ إليه ما كتبه في ختام المجلّد الأوّل من ينابيعه بقوله :

« قد فرغ من تسويده مؤلّفه الفقير إلى الله الغني عليّ بن إسماعيل المرحوم الموسوي عند طلوع الفجر من يوم الثلاثاء الاثنى عشر من شهر رجب المرجب من شهور سنة ١٢٧٢ ه‍. ق ».

ومع ذلك كان من مراجع عصره قد رجع إليه جمع من المؤمنين ، وطبعت رسالته العمليّة في (سنة ١٢٩٠ ه‍. ق) لتنبيه امور المقلّدين الّذين يرجعون إليه في التقليد ، وقد علّق عليه فقيه الطائفة المحقّة السيّد محمّد كاظم اليزدي صاحب العروة الوثقى (١).

ومن جانب آخر كان في حياته الشخصيّة زاهدا قانعا معرضا عن الدنيا وأربابها ورئاساتها الفانية ، كما أشار إليه كلّ من تصدّى لترجمته من أصحاب التراجم والفهرستات كما يأتي إن شاء الله تعالى.

وممّا ينبغي الإشارة إليه هنا ، ما حكى بعض المعاصرين (٢) عن بعض من عاصره رحمه‌الله في شأنه رحمه‌الله بقوله :

« ... درس اصول ـ خصوص قوانين ـ وپيشنمازى ووثوق قلبى وحتّى تقليد بعضى منحصر به آقا سيّد علي بود ، ولو قضاوت نمى‌كرد ، مراوده با أعيان واشراف هم نداشت ، خمس وزكاة ومظالم مى‌گرفت وفورا تقسيم مى‌كرد ميان علماء وطلّاب ، واز اين جهت روى دل طلّاب به او بود ...

در مسجد آقا سيّد على هركه اقتداء مى‌نمود هيچ مقيّد نبود كه خود را به او نشان دهد زيرا به هركه چيزى مى‌داد توقّع اقتداء از او نداشت ...

مسجد آقا سيّد علي چنان پر از مأمومين مى‌شد كه غالبا جا نبود با آنكه مسجد بزرگى بود جنب خانه‌اش ، در ماه رمضان مسجد آقا سيّد علي براى نماز جا خريده مى‌شد وهر واعظى آرزو داشت كه در آنجا منبر رود ... »

أولاده :

قد أنجب قدس‌سره ابنا وأربع بنات ، وأمّا ابنه فهو :

__________________

(١) وهو موجود في مكتبة والدي دام ظلّه بقزوين.

(٢) سيماى تاريخ وفرهنگ قزوين ـ دكتر پرويز ورجاوند : ج ٢ ص ١١٠٢ نقلا عن كيوان‌نامه ص ٥٣ ـ ٥٦.


العالم الفقيه الاصولي السيّد محمّد باقر الموسوي القزويني رحمه‌الله (المتوفّى سنة ١٣٣٨ ه‍. ق) الّذي كان من أجلّاء عصره ومشاهير دهره ، ولد في أرض الغري وتخرّج على الميرزا حبيب الله الرشتي والشيخ محمّد حسن بن عبد الله الممقاني ، وله إجازات من أعلام عصره كالفاضل الشربياني والسيّد المجدّد آية الله السيّد محمّد حسن الشيرازي وغيرهما من الأعلام ، وبرز منه تأليفات كثيرة وتوفّي يوم الأربعين (سنة ١٣٣٨ ه‍. ق) بكربلاء المشرّفة ودفن في جوار مولانا الحسين عليه‌السلام (١).

وأمّا بناته فهنّ :

١ ـ زوجة العالم الورع الميرزا حسين بن المولى آغا القزويني (الخوئيني) كما نبّه عليه العلّامة الطهراني في الكرام البررة (٢).

٢ ـ زوجة العالم الفقيه السيّد أبو القاسم الحسيني القزويني ، وهي أمّ العالم الأورع والفقيه الزاهد السيّد محمّد الحسيني المدعوّ بـ « الجزمئي » قدس‌سره.

٣ ـ زوجة السيّد زين العابدين التنكابني رحمه‌الله ، وهي أمّ العالم الفقيه السيّد أبو الحسن التنكابني رحمه‌الله.

٤ ـ زوجة العالم الجليل السيّد خليل بن السيّد رفيع القزويني ، وهي أمّ الحكيم الإلهي والفيلسوف الربّاني ، فقيه الطائفة آية الله السيّد أبو الحسن الرفيعي القزويني (المتوفّى سنة ١٣٩٦ ه‍. ق).

الثناء عليه :

تعرّض لوصفه ببالغ المديح والثناء كثير من العلماء العظام وأصحاب التراجم والفهرستات.

١ ـ وفي طليعتهم ما أثنى عليه السيّد المجدّد آية الله الميرزا محمّد حسن الشيرازي رحمه‌الله (المتوفّى سنة ١٣١٢ ه‍. ق) عند إجازته لولده العالم السيّد محمّد باقر ـ المتقدّم ذكره ـ حيث عبّر عن والده قدس‌سره بـ « مجتهد الزماني » مع ما هو معلوم من سيرته

__________________

(١) راجع مقدمة رسالة العدالة ص ١١ ـ نقباء البشر : ج ١ ص ٢١٤.

(٢) الكرام البررة : ج ٢ ص ٥٧٧.


وطريقته من شدّة تجنّبه عن بذل العناوين والألقاب إلى غير أهلها ، وهذا يكشف جليّا عن جلالة قدر سيّدنا المترجم له وعلوّ شأنه (١).

٢ ـ قال في المآثر والآثار (ص ١٤٢) :

« آقا سيد على قزويني : از أعاظم مجتهدين وأجلّة حفظة شريعت ودين بود ودر علم فقه مقام تحقيق او را از معاصرين إحدى انكار نداشت ولى در اين اصول مسلّم‌تر مى‌نمود ، غالب اوقات قوانين محقّق قمى را عنوان افادت قرار مى‌داد وبه آن كتاب كريم اعتقادى عظيم داشت وهم بر قوانين حاشيه نگاشته كه به طبع رسيده ونيز بر معالم الاصول تعليقة مبسوطى پرداخته است ، به زهد وتقوى وقدس او كمتر كسى ديده شده وآن علامة عهد وزاهد عصر همشيره‌زادة حاج سيد رضى الدين مجتهد قزوينى است رضوان الله عليهما ».

٣ ـ وفي ريحانة الأدب (ج ٤ ص ٤٥٤) لميرزا محمّد على المدرّس الخياباني ـ :

« قزويني سيّد على بن اسماعيل موسوى عالمى است فاضل ، عابد ، زاهد ، فقيه ، اصولى ، محدّث ، رجالى ، مفسّر ، معقولى ، منقولى ، از فحول علماى أواخر قرن سيزدهم هجرت كه اغلب اوقات قوانين الاصول ميرزاى قمى را تدريس مى‌كرده واز تأليفات اوست :

١ ـ حاشية قوانين مذكور كه بسيار مرغوب وبين العلماء محلّ توجه ومطلوب واز تبحّر ورشاقت بيان مؤلّف خود حاكى است ودر تهران چاپ شده.

٢ ـ حاشية معالم الاصول.

٣ ـ قاعدة لا ضرر ، ودر سال هزار ودويست ونود وهشت هجرت وفات يافته »

٣ ـ قال في نقباء البشر (ج ٤ ص ١٣٠٨) :

__________________

(١) هذه صورة ما أجازه : بسم الله الرحمن الرحيم : بر قاطبه مؤمنين أيّدهم الله تعالى مخفى نماند كه جناب مستطاب سلالة السادات العظام عمدة العلماء الأعلام كرّوبى نصاب ، قدسى خطاب آقا سيّد باقر ابن مرحوم « مجتهد الزماني » آقا سيّد علي أعلى الله مقامه ، آراسته بزينت تقوى ومتحلّى به حليه پرهيزكارى از جمله موثّقين بوده ومى‌باشند لهذا آن جناب مأذون مى‌باشد در تصرف كردن در جميع امور حسبيه كمال احتياط را مراعات خواهند فرمود ...

الأحقر محمّد حسن الشيرازي

(محل خاتمه الشريف)


« السيّد عليّ القزويني : من الفضلاء الأجلّة والعلماء الكاملين ، ومن أرحام السيّد إبراهيم القزويني صاحب « الضوابط » وقد أجازه العلّامة الميرزا محمّد التنكابني صاحب « قصص العلماء » (المتوفّى في سنة ١٣٠٢ ه‍. ق) كما ذكره فيه ».

٤ ـ قال في أحسن الوديعة (ص ١٢٥) : « العالم المحقّق والفقيه المدقّق المجتهد الاصوليّ مولانا الآقا سيد على ابن السيّد اسماعيل القزويني مولدا ومسكنا ، كان رحمه‌الله عالما فاضلا ومحقّقا كاملا ، شهد له اعيان الرجال بالكمال في الفقه والاصول والحديث والتفسير والرجال وكان بيته في قزوين مجمع الفضلاء ومحطّ رحال العلماء » الخ.

وكذا ذكره في الذريعة ج ٦ ص ١٧٧ ، ج ١٠ ص ٢٥٦ ، وهكذا تصدّى لترجمته غيرهم من أصحاب التراجم كما جاء في نجوم السماء (ج ١ ص ٣٣١) و « مينو در » يا باب الجنّة ج ٢.

وفاته ومدفنه :

قد جرى عليه قضاء الله ولبّى نداء ربّه في يوم الثلاثاء أربع مضين من شهر محرم الحرام سنة مائتين وثمان وتسعين بعد الألف من الهجرة النبويّة (١٢٩٨ ه‍. ق) بعد ساعتين من النهار في بلدة قزوين ، وحمل جثمانه الشريف إلى حائر الحسين عليه‌السلام ودفن في بقعة فيها مرقد السيّد إبراهيم القزويني صاحب ضوابط الاصول وخاليه السيّد تقي والحاج السيّد رضي الدين القزويني قدس‌سرهم.

وجاء في تاريخ وفاته :

بر پيغمبريه (١) آسمان گفت

چنين : يا ليتني كنت ترابا

پى تاريخ ديدم بر مزارى

بود سيد على رضوان مآبا

فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّا.

منهجيّة التحقيق :

لا يخفى على المتتبّع ما يواجهه المحقّق من مصاعب شتّى في مسيرة عمله

__________________

(١) پيغمبريه : مقبرة معروفة بقزوين ، يقال : دفن فيها أربعة أنبياء من بني إسرائيل.


التحقيقي ، وبالخصوص فيما لو عزّت عليه النسخ لأجل تثبيت المواضع المضطربة أو تشخيص المقاطع المبهمة ، ممّا يضعه في دوّامة لا محيص عنها. وهذا ما دعانا إلى اتّباع الدقّة والانتباه بقدر الممكن لابتغاء المطلوب الذي جهدنا على تحقيقه.

ولذا فقد بادرنا إلى تشكيل برنامج عمل يتّخذ ما يلي أساسا له :

١ ـ اعتمدنا في مراحل عملنا على النسخة الوحيدة المدوّنة بخطّ المؤلّف رحمه‌الله.

٢ ـ قمنا بتقويم النصّ ، وقد آلينا الدقّة المطلوبة فيها ، وتلخّص في : تقطيع النصّ إلى عدّة فقرات حسب ما تقتضيه المطالب ، ووضع العلامات الإملائيّة بين العبائر لغرض تسهيل القراءة والإعانة على فهم المطالب المذكورة ، وتوضيح المبهمات ، وشرح الكلمات الغريبة وإدراجها في ذيل صفحات الكتاب.

٣ ـ بذلنا ما في الوسع لتخريج الآيات الكريمة والروايات الشريفة والأقوال الفقهيّة الّتي أوردها المصنّف واستدلّ بها أو ناقشها أثناء بحثه ، وإرجاعها إلى مصادرها الاصليّة والاشارة إلى ذلك في الهامش.

٤ ـ أضفنا إلى المتن بعض الكلمات الّتي نراها مناسبة لمقتضى السياق ، حرصا منّا على توضيح المراد ، وإعانة للقارئ الكريم على الوصول إلى بغيته المرجوّة. هذا وقد حرصنا على أن نجعل الإضافة الواردة بين معقوفتين [ ] حفظا منّا على الأصل الّذي هو أمانة في أعناقنا.

وفي الختام يجب علينا أن نتقدّم بالشكر والامتنان إلى الأخ الأعزّ الفاضل سبط المؤلّف سماحة الحجّة السيد عبد الرحيم الحسيني الجزمئي الّذي ساعدني في إنجاح هذا المأمول بما تيسّر له من الجهود المشكورة ، جزاه الله عن سلفه الصالحين خير الجزاء.

ونسأل الله تعالى أن يتقبّل منّا هذا المجهود القليل خالصا لوجهه الكريم ، ويجعلنا من محيي تراث مدرسة أهل البيت : ويجعلنا نعم الخلف لأولئك الماضين من علمائنا الّذي كانوا نعم السلف لنا إن شاء الله ، ونسأل الله تعالى التوفيق والتسديد في إخراج بقيّة الأجزاء الاخر بالشكل المطلوب إن شاء الله تعالى ، وآخر. دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

قم المشرّفة ـ حفيد المؤلّف

السيّد عليّ العلوي القزويني


مصادر الترجمة

١ ـ طبقات أعلام الشيعة (نقباء البشر ـ الكرام البررة) للعلّامة الشيخ آغا بزرگ الطهراني.

٢ ـ قصص العلماء ، لميرزا محمّد التنكابني.

٣ ـ نجوم السماء ، لميرزا محمّد مهدي الكشميري.

٤ ـ أحسن الوديعة ، للسيّد مهدي بن السيّد محمّد الموسوي الخوانساري.

٥ ـ تاريخ روابط ايران وعراق ، لمرتضى مدرسى چهاردهى.

٦ ـ سيماى تاريخ وفرهنگ قزوين ، للدكتور پرويز ورجاوند.

٧ ـ مقدمة على رسالة في العدالة ، للسيّد جواد العلوي.

٨ ـ اختلافيه كيوان ، لعباس على كيوان.

٩ ـ كيوان‌نامه ، لعباس على كيوان.

١٠ ـ المآثر والآثار ، لاعتماد السلطنة.

١١ ـ ريحانة الأدب ، لميرزا محمّد علي مدرّس الخياباني.

١٢ ـ حاشية القوانين ، للسيّد علي القزويني.

١٣ ـ فهرست مشاهير علماء زنجان ، للشيخ موسى الزنجاني.

١٤ ـ سياحت شرق ، لآقا نجفى قوچاني.

١٥ ـ أعيان الشيعة ، للسيّد محسن الأمين.

١٦ ـ مستدركات أعيان الشيعة ، للسيّد حسن الأمين.

١٧ ـ مينو در يا باب الجنّة ، لمحمّد علي گلريز.

١٨ ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، للعلّامة الطهراني.

١٩ ـ التعليقة على معالم الاصول ، للسيّد علي القزويني.

٢٠ ـ ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام ، للسيّد علي القزويني.

٢١ ـ مكارم الآثار ، لميرزا محمّد علي معلّم حبيب‌آبادي.



كتاب الطهارة

قسم المياه


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ، فهذه أوراق سوّدتها روما لشكره على إفاضة الإنعام ، وسمّيتها بـ « ينابيع الأحكام في معرفة الحلال من الحرام » ، وأسأله أن يتّخذها من فضله ذخيرة لي في يوم القيام.

ينبوع

الماء ينقسم عندهم إلى مطلق ومضاف ، ثمّ المطلق إلى جار وغيره ، ثمّ غير الجاري إلى غيث وغيره ، ثمّ غير الغيث إلى بئر وغيرها ، ثمّ غير البئر إلى كثير وغيره ، ثمّ غير الكثير إلى سؤر وغيره.

وظاهر أنّ غير السؤر إنّما يلحقه البحث هنا باعتبار حكمه الوضعي المعبّر عنه بالطهارة والنجاسة ، وإن كان المقصود بالأصالة من ذلك البحث التوصّل إلى الأحكام التكليفيّة المترتبة عليهما ـ حسبما قرّر في محلّه ـ بخلاف السؤر الّذي يبحث فيه هنا عن حكم تكليفي ، من كراهة شربه أو مطلق استعماله وعدمها ، وإن كان قد يلحقه البحث عن حكمه الوضعي أيضا استطرادا ، كما في سؤر الكافر وأخويه.

وفي دخول المضاف في تقسيمات الأصحاب ، أو ما عنون به باب الطهارة إن لم يكن هناك تقسيم صريحا وجهان : من أنّ اللفظ لا يتناول بظاهره إلّا المطلق ، فيكون


البحث عن غيره واردا من باب الاستطراد لعدم كونه فردا منه ، ومن أنّ المضاف يلحقه أحكام مقصودة أصالة كغيره من الأقسام فيبعد كون البحث عنه استطرادا ، ولازمه كونه داخلا في المقسم ، أو ما عنون به الباب ، وإن توقّفت صحّته على نحو تجوّز في الإطلاق بإرادة عموم المجاز.

ولكنّ الّذي يساعد عليه الإنصاف : أنّ هذا المقام ممّا يختلف فيه الحال باختلاف مشارب الأعلام ، فمن تعرّض منهم لذكره صريحا في أصل التقسيم أو العنوان كما في نافع المحقّق (١) ، فلا محيص من الحكم عليه بالتجوّز واعتبار عموم المجاز ، ومن أعرض منهم عن ذلك كما في شرائعه (٢) ، فليس الحكم عليه بارتكاب التجوّز ممّا ينبغي.

وما قرّرناه من الاستبعاد في منع الاستطراد لا يصلح بمجرّده قرينة على العدول عن الأصل والظاهر ، خصوصا مع ملاحظة أنّ الاستطراد ليس بعادم النظير ، بل واقع في كافّة المسائل والأبواب.

__________________

(١) المختصر النافع ٢ حيث قال : « الركن الأوّل في المياه ، والنظر في المطلق والمضاف والأسآر ».

(٢) شرايع الإسلام ١ : ١٨ قال فيه : « الأوّل في المياه وفيه أطراف ... ».


ينبوع

كون الماء من أظهر المفاهيم تناولا وأشيعها عند العرف تداولا ممّا يغنينا عن التعرّض لشرحه ، بإيراد ما يتعلّق به من الضوابط المعمولة في تشخيص الموضوعات ، لغويّة أم عرفيّة.

نعم ، هو باعتبار وصف كونه مطلقا في مقابلة المضاف عبارة ـ على ما في كلام غير واحد من الأصحاب ـ عن كلّ ما يستحقّ إطلاق اسم الماء عليه من غير إضافة ، على معنى كونه بحيث لو أطلق عليه الاسم بلا قيد ولا إضافة كان ذلك الإطلاق باعتبار استناده إلى الوضع اللغوي أو العرفي في محلّه ، الّذي يكشف عنه عدم اشتماله على الغرابة في لحاظ الاستعمال ، ولا صحّة سلب الاسم عنه في نظر العرف ، وإن فرض وقوعه في بعض الأحيان مقرونا بالقيد والإضافة ، فخرج عنه ماء الورد والعنب واللحم ونظراؤه ، كما دخل فيه ماء البحر والكوز والملح وأشباهه.

ووضوح كون ذلك التفسير من مقولة التعريف اللفظي ـ المقصود منه تفسير اللفظ لخفاء مسمّاه بأظهر ما يرادفه ممّا علم فيه بذلك المسمّى ، كالأسد بالقياس إلى الليث مثلا ، وعلى قياسه ما عليه طريقة نقلة متون اللغة في ذكر معاني الألفاظ ـ ممّا يدفع حزازة اشتماله على لفظة « الكلّ » جنسا ؛ نظرا إلى أنّ الماهيّة لمكان البينونة بينها وبين الأفراد لا تعرّف بما لا يدلّ إلّا على الأفراد ، وعلى لفظة « الماء » فصلا بملاحظة أدائه إلى الدور ، المستحيل معه حصول المعرفة ، فإنّ كلّ ذلك إنّما يمنع عنه في التعاريف الحقيقيّة المعبّر عنها بالحدود والرسوم ، التفاتا إلى أنّ المقصود فيها الكشف عن الماهيّة والتوصّل من معلوم تصوّري تفصيلا إلى مجهوله ، وهو ممّا لا يتأتّى بما يباين الماهيّة


ولا بإعادة المعرّف.

وبعبارة اخرى : التعريف اللفظي إنّما يقصد به بيان ما يطلق عليه اللفظ في اصطلاح التخاطب ولو كان مجهولا باعتبار الماهيّة ، وهو ممّا يتأتّى بكلّ ما يوجبه ، بخلاف الحدّ والرسم المقصود بهما بيان أصل الماهيّة وتمييزها عمّا عداها من الماهيّات المردّد فيها ، فلا يتأتّى بما يدلّ على الأفراد ، ولا بلفظ المعرّف أو مرادفه ، وإنّما اقتصروا في المقام على مجرّد التعريف اللفظي بينها ، على أنّ الفقيه لا يتعلّق غرضه في التعاريف إلّا بتحصيل ما هو من موضوع بحثه ؛ لضابطة أنّ الأحكام تدور مدار الموضوعات [العرفيّة وذلك يحصل] (١) بالتعريف اللفظي أيضا ؛ لكون موضوعات الأحكام منوطة بصدق الاسم عرفا أو لغة ، ولذا تراهم يقتصرون في تحصيل الموضوعات اللغويّة على مجرّد ما ذكره أئمّة اللغة ، فالماء الّذي علّق عليه من الأحكام الشرعيّة ـ تكليفيّة ووضعيّة ـ ما لا يعدّ ولا يحصى ما يطلق عليه الاسم على جهة الاستحقاق ، ويصدق عليه اللفظ عرفا على وجه يأبى عن سلبه.

فما علم فيه بذلك فلا إشكال في إجراء الأحكام عليه ، كما أنّ ما علم فيه بخلاف ذلك فلا إشكال في عدم إجراء الأحكام عليه ، بل في إجراء أحكام المضاف عليه.

وأمّا ما اشتبه حاله فيرجع فيه إلى الاصول ، مثل أنّه لو كان ذلك الاشتباه عن حالة سابقة معلومة من الإطلاق والإضافة ، يلحق المشكوك فيه بأحد الأوّلين استصحابا لما كان عليه سابقا ، من غير فرق بين ما لو كان الشكّ ناشيا عن زوال وصف ، أو حدوثه مشابها بما هو من أوصاف الطرف المقابل ، أو مشكوكا حاله.

ولو لم يكن عن حالة سابقة ، فبالنسبة إلى انفعال نفسه بمجرّد الملاقاة أو تطهّره باتّصال الكرّ أو الجاري ما دام الوصف باقيا يحكم بالعدم ، مع تأمّل في الأوّل يأتي وجهه في مباحث المضاف ، كما أنّه بالنسبة إلى رفعه الحدث أو الخبث عن غيره يحكم بالعدم ؛ للأصل في كلّ منهما ، مضافا إلى أنّ الشرط في مشروط بالماء ولو من جهة نذر معلّق عليه ممّا لا يحرز بالشكّ ، فسبيله من هذه الجهة سبيل المضاف ، وإن لم يكن منه بحسب الواقع.

__________________

(١) محي ما بين المعقوفتين من نسخة الأصل ولذا أثبتناه في المتن لاستقامة العبارة.


نعم ، عند الشكّ في إباحة استعماله في غير مشروط بالماء من شرب ونحوه ، كما لو دار بين الماء والمضافات النجسة كالخمر ونحوها ، كان سبيله سبيل الماء ، وإن لم يكن ماء في الواقع ، من غير فرق في كلّ ذلك بين ما لو كانت الشبهة مصداقيّة ، أو ناشئة عن الشكّ في الاندراج.

والفرق بينهما مع اشتراكهما في الشكّ في الصدق ، أنّ الشبهة في الثاني تنشأ عن الجهل بتفصيل المسمّى ، وفي الأوّل تنشأ عن أمر خارج وجودي أو عدمي غير مناف للعلم بالمسمّى تفصيلا.

وإن شئت فقل : إنّ الشكّ في الأوّل نظير الشكّ في الصغرى بعد إحراز الكبرى ، وفي الثاني نظير الشكّ في الكبرى بعد إحراز الصغرى ، والمراد بالكبرى المشكوك فيها ما كان محموله شيئا معلوم الوصف مشكوكا في كونه ماء ، كالمياه الكبريتيّة والنفطيّة ، وبالصغرى المشكوك فيها ما كان محموله شيئا مشتملا على وصف وجودي أو عدمي شبيه بوصف المضاف ، مع العلم بكونه ماء على فرض عدم الوصف ، كمائع فيه رائحة الجلّاب ، مشكوك في كونه جلّابا في الواقع أو ماء قد اكتسب الرائحة بالمجاورة ونحوها ، أو مائع ليس فيه رائحة الجلّاب ، مشكوك في كونه ماء أو جلّابا زال رائحته لعارض.

ومحصّله : أنّ الشكّ في الصورتين هنا راجع إلى كون الوصف الموجود من الوجودي أو العدمي أصليّا ، ليكون المائع جلّابا في الصورة الاولى وماء في الصورة الثانية ، أو عرضيّا ليكون ماء في الصورة الاولى وجلّابا في الصورة الثانية.


ينبوع

الماء بعنوانه الكلّي المتحقّق في ضمن جميع الأقسام المتقدّمة حتّى ما كان منه مذابا من الثلج أو البرد أو كان ماء بحر ، ما دام باقيا على خلقته الأصليّة ـ بعدم مصادفة ما يوجب فيه سلب الإطلاق ، أو التنجّس والانفعال ـ طاهر في نفسه مطهّر لغيره من حدث ـ وهو الحالة المانعة من الصلاة المتوقّف رفعها على النيّة ، أو ما كان منشأ لتلك الحالة من الأسباب الآتي تفاصيلها ، فيراد برفعها رفع الأثر المتعقّب لها المعبّر عنه بالحالة المذكورة ـ وخبث ـ وهو نفس النجاسة الّتي تفارق عن الحدث بما ذكر فيه من القيد الأخير ـ خلافا في ماء البحر لسعيد بن المسيّب (١) المانع من الوضوء به مع وجود الماء ، وعبد الله بن عمر القائل : « بأنّ التيمّم أحبّ إليّ منه » على ما حكي عنهما (٢) ؛ فإنّ خلافهما ـ مع إمكان تأويله إلى ما لا ينافي ما ادّعيناه من الكلّية ، بإرجاعه إلى شبهة في الموضوع ، حصلت لهما على حدّ ما فرضناه في مشكوك الحال المردّد بين كونه مطلقا أو مضافا ـ وإن كانت شبهة في مقابلة البديهة ـ مضافا إلى عدم كون المحكيّ عن الثاني صريحا في المخالفة ، لجواز ابتناء كلامه على الاحتياط الغير اللازم ، كما هو ظاهر التعبير بـ « أحبّ » ، وإن كان ذلك الاحتياط في غير محلّه ـ محجوج عليه بما ستسمعه

__________________

(١) المجموع ١ : ٩١ ـ سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب المحزومي القرشي أبو محمّد.

أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر ، سمع من عمر وعثمان وزيد بن ثابت وعائشة وأبي هريرة وسعد بن أبي وقّاص ، واختلف في سنة وفاته ، فقيل : سنة ٩٤ وقيل : سنة ٨٩ وقيل : سنة ١٠٥ ه‍ ـ [تذكرة الحفّاظ ١ : ٥٤ ـ شذرات الذهب ١ : ١٠٢ ـ وفيات الأعيان ٢ : ١١٧].

(٢) البحر الرائق : ١ : ٦٦ ، حكى عنهما الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٥١ المسألة ٢.


من الأدلّة القاطعة ، مضافا إلى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما سئل عن الوضوء بماء البحر : « هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته » (١).

والدليل على الكلّية المدّعاة واضح ، بعد ملاحظة الإجماع الضروري من العلماء كافّة ، ونقله على حدّ الاستفاضة المدّعى كونها قريبة من التواتر الّذي منه ما عن المعتبر (٢) والمنتهى (٣) وشرح الدروس للمحقّق الخوانساري (٤) ، ونقل كونه من ضروريّات الدين عن المفاتيح (٥) ، ولعلّه كذلك ، بل ممّا لا يمكن الاسترابة فيه ، والأخبار المتواترة معنا بل البالغة فوق التواتر بألف مرّة الواردة في تطهير النجاسات وتعليم الطهارات ، الآمرة بها وبتفاصيلها المتكفّلة لبيان أجزائها وشروطها وموانعها وسائر ما اعتبر فيها.

وقد شاع عندهم الاستدلال من الكتاب العزيز بقوله عزّ من قائل : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (٦) وقوله الآخر : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٧) ولا كلام لأحد في دلالة الأوّل على المطهّريّة مطابقة والطهارة التزاما عرفيّا بل عقليّا ؛ لا لأنّ فاقد الشي‌ء لا يعقل معطيا له ، فإنّ حكم التطهير مبنيّ على التسبيب الشرعي [ولا يحكم العقل] (٨) بامتناع أن يجعل الشارع شيئا غير طاهر سببا لتطهير الغير ، كما في الأرض الّتي تطهّر باطن النعل على القول بعدم اشتراط الطهارة فيها ، ومثله ثلاثة أحجار الاستنجاء إن لم نقل باشتراط الطهارة فيها تعبّدا ، بل لأنّ الماء إذا كان نجسا فيسري نجاسته إلى المحلّ فلا يزيد فيه إلّا نجاسة في نجاسة ، ومعه لا يمكن التطهّر.

نعم ، ربّما نوقش فيه بل وفي الثاني أوّلا : بمنع العموم في لفظة « الماء » ؛ لكونها نكرة في الإثبات.

وثانيا : بعدم تناوله لمياه الأرض ، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٣٦٦ ، ب ٢٢ من أبواب أحكام الملابس ح ١١.

(٢) المعتبر : ٨ حيث قال ـ بعد نقل قول ابن المسيّب وعمر ـ « لنا : الإجماع ، فإنّ خلاف المذكورين منقرض ».

(٣) منتهى المطلب ٤ : ١.

(٤) مشارق الشموس : ١٨٤ قال : « ثمّ كونه طاهرا مطهّرا من الحدث والخبث مطلقا ... ممّا وقع عليه إجماع المسلمين ».

(٥) مفاتيح الشرائع ١ : ٨١.

(٦) الأنفال : ١١.

(٧) الفرقان : ٤٨.

(٨) محي ما بين المعقوفين من نسخة الأصل ولذا أضفناه في المتن لاستقامة العبارة.


ويمكن المناقشة أيضا بعدم تناوله رفع الحدث ؛ لأنّ كونه تطهيرا إنّما ثبت بالشرع ، واللفظ الوارد في الخطاب إنّما يحمل على ما يتداوله العرف ويساعد عليه اللغة.

ولكن دفعها بناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه وفي لفظ « الطهارة » أيضا هيّن ، وعلى القول بعدم ثبوتها فيه بالخصوص ـ كما هو الأرجح ـ بأن نقول : حمل اللفظ على المعنى العرفي اللغوي هنا لا يقدح في دخول رفع الحدث في مفهوم التطهير ؛ فإنّ النظافة في مفهوم « الطهارة » لغة وعرفا في نظر العرف شي‌ء وعند الشارع شي‌ء آخر ، ولعلّ بينهما عموما من وجه ، فيكون الاختلاف بينهما اختلافا في المصداق دون المسمّى ، نظير ما لو اختلف زيد وعمرو ـ بعد اتّفاقهما على أنّ لفظة « زيد » موضوعة لابن عمرو ـ في أنّ ابن عمرو هذا الرجل أو ذاك الرجل ، فإذا حملنا التطهير الوارد في الآية على التنظيف بالمعنى الشامل لرفع الحدث والخبث معا ، لم يكن منافيا لحمله على معناه العرفي اللغوي جدّا.

واجيب عن الاوليين : بأنّ ورود المطلق مورد الامتنان وإظهار الإنعام والإحسان ممّا يفيد العموم ، فيمنع عن كون لفظة « الماء » حينئذ نكرة ، بل هو اسم جنس منوّن ، على حدّ ما في قول القائل : « في الدار رجل لا امرأة » ، ومعه كان الحكم معلّقا على الماهيّة الجنسيّة ، فيسري إلى الأفراد قاطبة.

وأنّ مياه الأرض كلّها من السماء ، كما نطق به قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (١) ، وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) (٢) ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ) ـ إلى قوله ـ (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ) (٣).

وجه الاستدلال بالآية الاولى : أنّها تقضي بذلك صدرا وذيلا.

أمّا الأوّل : فلكونه في معرض الامتنان ، فلو لا جميع مياه الأرض من السماء لما تأتي ذلك الغرض ؛ لإمكان التعيّش من الماء بما هو من أصل الأرض.

وأمّا الثاني : فلظهور قوله : (وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (٤) في إرادة التهديد على كفران النعمة ، والعدول عن الطاعة إلى المعصية ، فلو لا إذهابه بماء السماء موجبا لخلوّ

__________________

(١ و ٤) المؤمنون : ١٨.

(٢) الزمر : ٢١.

(٣) النحل : ١٠ ـ ١١.


الأرض عن الماء لما تأتي ذلك الغرض ، هذا مضافا إلى ما عن القمّي أنّه روى في تفسيره عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « هي الأنهار والعيون والآبار » (١).

وبالثانية والثالثة : أنّهما واردان أيضا في معرض الامتنان ، فلو لا جميع ما في الأرض من الينابيع وما يحصل به الشراب والشجر والزرع والنبات منزلا من السماء من أصله ـ وإن كان نابعا فعلا من الأرض ـ لما أعطى الله سبحانه بكلامه الغرض حقّه ، بل كان الامتنان في غير محلّه ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

وربّما يتأمّل في دلالة الآيتين ، أو هما مع ما تقدّم من الرواية في تفسير الآية الاولى ، كما أشار إليه في الرياض (٢) ، آمرا به بعد ما أوردهما عقيب الرواية المذكورة.

ولعلّ وجهه قصور الجميع عن إفادة تمام المطلب ؛ فإنّ أعظم مياه الأرض إنّما هو ماء البحر ، ولا دلالة في شي‌ء من ذلك على كونه من السماء.

ويمكن دفعه : بأنّه إنّما يتّجه لو لم يكن ماء البحر نابعا من الأرض ، وإلّا فيرجع إلى عنوان « العيون » الوارد في الرواية والآية الاولى من الأخيرتين ـ ولو من جهة أصله ـ ولعلّه الظاهر ، أو بأنّ ماء البحر على ما يشاهد بالحسّ ما يجتمع فيه من الأنهار العظيمة المخرجة إليه عن العيون والأمطار والثلوج ، فلا يكون خارجا عنها ، أو بأنّ المطلب يتمّ بملاحظة عموم الامتنان أيضا ، إذ لو كان ماء البحر من نفس الأرض لما احتاج العباد إلى مياه السماء ، فيكون الامتنان واردا في غير محلّه. فتأمّل (٣).

نعم ، هاهنا مناقشة اخرى واردة على الثاني خاصّة ، وهي : أنّ لفظة « طهور » لا تقضي إلّا بوصف الطهارة ، والعمدة في المقام إنّما هو إثبات المطهّريّة ، وأصل هذه المناقشة عن أبي حنيفة (٤) ، فإنّه منع عن دلالة الآية على كون الماء مطهّرا ، ومستنده إمّا

__________________

(١) تفسير القمّي : ٢ : ٩١.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٣١.

(٣) وجه التأمّل : عدم تمكّن جميع من في الأرض عن ماء البحر ، بل هو كذلك بالنسبة إلى أكثرهم ، لوقوعهم في البلاد النائية عن البحر ، فيتمّ الامتنان بالنسبة إليهم ، وإن لم يتمّ بالنسبة إلى المتمكّنين منهم. ويمكن دفعه : بعدم تماميّته بالنسبة إليهم ، لعدم كون ماء البحر ـ لمكان كونه مالحا بل مرّا ـ ممّا ينتفع به في الشرب والطعام ، فتأمّل أيضا جيّدا (منه).

(٤) المجموع ١ : ٨٤ ؛ أحكام القرآن ـ للقرطبي ـ ١٣ : ٣٩.


ما حكاه في الرياض (١) والحدائق (٢) من عدم جواز كون « طهور » على بابه من المبالغة في أمثاله ؛ لأنّ المبالغة في « فعول » إنّما هي بزيادة المعنى المصدري وشدّته فيه ، كـ « أكول » و « ضروب » ، وكون الماء مطهّرا لغيره أمر خارج عن الطهارة ـ الّتي هي المعنى المصدري ـ فكيف يراد منه ، بل هو حينئذ بمعنى الطاهر.

أو ما قرّره الشيخ في التهذيب من : « أنّه كيف يكون الطهور هو المطهّر ، واسم الفاعل منه غير متعدّ ، وكلّ فعول ورد في كلام العرب متعدّيا لم يكن متعدّيا إلّا وفاعله متعدّ ، فإذا كان فاعله غير متعدّ ينبغي أن يحكم بأنّ فعوله غير متعدّ أيضا ، ألا ترى أنّ قولهم : « ضروب » إنّما كان متعدّيا لأنّ الضارب منه متعدّ ، وإذا كان اسم الطاهر غير متعدّ يجب أن يكون الطهور أيضا غير متعدّ » (٣).

ولا يذهب عليك : أنّ هذا لا يرجع إلى الوجه الأوّل ، لأنّ مبناه على منع دعوى المبالغة في تلك اللفظة بخصوصها رأسا ، بتوهّم أنّها مبنى الاستدلال على كون الماء مطهّرا ، ومحصّله يرجع إلى أنّ المبالغة إنّما هي للدلالة على الزيادة في أصل المعنى المصدري ، وهذه الزيادة في خصوص تلك اللفظة إمّا أن تعتبر بالقياس إلى معنى الطهارة ، أو بالقياس إلى معنى التطهير ، ولا سبيل إلى شي‌ء منهما.

وأمّا الأوّل : فلأنّ الطهارة في الماء لا تكون إلّا على نمط واحد ، فلا تقبل الزيادة والتكرار.

وأمّا الثاني : فلخروج معنى التطهير عمّا هو معنى مصدري لطهور ، فلا يعقل منه الدلالة على المبالغة بالقياس إليه ، بخلاف الوجه الثاني الّذي مرجعه إلى منع كون المبالغة في تلك اللفظة بالقياس إلى المعنى المتعدّي ، وهو كما ترى لا ينافي كونها للمبالغة بالقياس إلى المعنى اللازم.

وملخّصه : أنّ المبالغة بالقياس إلى ما عدا المعنى اللازم مبنيّة على كون « طهور » متعدّيا وهو باطل ؛ لمكان التلازم فيما بين الفاعل والفعول لغة في وصفي التعدية واللزوم ، و « الطهور » إذا كان فاعله وهو « الطاهر » لازما ـ كما هو المسلّم المتّفق عليه ـ فكيف يمكن التفكيك بينهما بجعل « فعوله » متعدّيا ، وهو كما ترى ممّا لا تعرّض فيه

__________________

(١) رياض المسائل ١ : ١٣١.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٦.

(٣) التهذيب ١ : ٢١٤.


لمنع المبالغة بالقياس إلى المعنى اللازم.

فما ذكره الشيخ في دفع هذا الوجه من : أنّه لا خلاف بين أهل النحو أنّ اسم « فعول » موضوع للمبالغة وتكرّر الصفة ، ألا ترى أنّهم يقولون : « فلان ضارب » ، ثمّ يقولون : « ضروب » إذا تكرّر منه ذلك وكثر ، وإذا كان كون الماء طاهرا ليس ممّا يتكرّر ويتزايد ، فينبغي أن يعتبر في إطلاق « الطهور » عليه غير ذلك ، وليس بعد ذلك إلّا أنّه مطهّر ، ولو حملناه على ما حملنا عليه لفظة الفاعل لم تكن فيه زيادة فائدة (١) ، ليس ممّا يتوجّه إليه بل هو بظاهره أجنبيّ منه.

نعم ، يتوجّه إلى الوجه الأوّل الّذي سمعته عن الرياض (٢) والحدائق (٣) ، وكلام الشيخ رحمه‌الله خلو عن الإشارة إليه.

نعم ، إنّما يتوجّه إليه ما قرّره من العلاوة بقوله : « إنّ ما قاله السائل : إنّ كلّ اسم للفاعل إذا لم يكن متعدّيا فالفعول منه غير متعدّ فغلط أيضا ، لأنّا وجدنا كثيرا ما يعتبرون في أسماء المبالغة التعدية ، وإن كان اسم الفاعل منه غير متعدّ ، ألا ترى إلى قول الشاعر :

حتّى شآها كليل موهنا عمل

باتت طرابا وبات الليل لم ينم (٤)

فعدّى « كليل » إلى « موهنا » لما كان موضوعا للمبالغة ، وإن كان اسم الفاعل منه غير متعدّ » (٥) انتهى.

ثمّ ، إنّ بعد الغضّ عمّا ذكرناه ، فالّذي يقتضيه التدبّر ويساعد عليه النظر ، ورود كلّ من الوجهين على خلاف التحقيق ؛ لا لما قرّره في المدارك (٦) ـ كما عن صاحب المعالم (٧) أيضا ـ في دفع الوجه الأوّل ، من أنّ ذلك إثبات للّغة بالاستدلال ، وترجيح لها بالعقل ، فإنّ ذلك أيضا وارد في غير محلّه ؛ لما تنبّه عليه في الحدائق (٨) ، وأشار إليه

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢١٤ ـ ٢١٥.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٣١.

(٣ و ٨) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٦.

(٤) البيت لساعدة بن جؤيّة كما في خزانة الأدب ٨ : ١٥٥.

(٥) التهذيب ١ : ٢١٥.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٢٧ حيث قال ـ بعد أن أورد كلام الشيخ المتقدّم ـ : « لتوجّه المنع إلى ذلك ، وعدم ثبوت الوضع بالاستدلال كما لا يخفى ».

(٧) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ١٧٦ ـ فقه المعالم ١ : ١٢٣.


في الرياض (١) أيضا ، بل لابتنائهما على المغالطة والاشتباه من جهات اخر.

أمّا الأوّل منهما : فلعدم كون الخصم بصدد إنكار ورود صيغة « فعول » لغة للمبالغة ، حتّى يدفع كلامه بما ذكر من قضيّة عدم الخلاف بين أهل النحو في وضع « الفعول » لغة للمبالغة وتكرّر الصفة ، بل غرضه إنكار كون « طهور » بالخصوص مندرجا في « الفعول » بهذا المعنى ، فحينئذ يتّجه أن يقال : كما أنّه لا خلاف بين أهل النحو في وضع « فعول » للمبالغة وتكرّر الصفة ، فكذلك لا خلاف بينهم في وضعه لمجرّد الوصف قائما مقام الفاعل فيما كان من فعل يفعل بضمّ العين ، على قياس ما هو الحال في الصفات المشبّهة ، فأيّ شي‌ء يستدعي لحوق « طهور » بالأوّل دون الثاني؟ بل قضيّة ما أشرنا إليه من الضابط كونه من الفعول بمعنى الفاعل ، لا ممّا هو مبالغة في الفاعل.

ومع الغضّ عن ذلك ، فالعدول عن جعله للمبالغة في المعنى اللازم إلى جعله لها في المعنى المتعدّي ممّا لا داعي إليه ، بعد ملاحظة أنّ « الطهارة » باعتبار معناها اللغوي ـ وهو النظافة والنزاهة ـ ممّا يقبل الزيادة والشدّة والضعف ، كما يشير إليه ما عن الزمخشري من « أنّ الطهور : البليغ في الطهارة » (٢) ، وتنبّه عليه صاحب المدارك أيضا فأشار إليه في دفع ما حكاه عن الشيخ من الوجه الأوّل ، وقال : « وابتنائه على ثبوت الحقيقة الشرعيّة للمطهّر على وجه يتناول الأمرين ، فهو أولى ممّا ذكره الشيخ في التهذيب » ـ إلى قوله ـ : « لتوجّه المنع إلى ذلك ، وعدم ثبوت الوضع بالاستدلال » (٣).

فإنّ قوله : « لتوجّه المنع إلى ذلك » ، مراد منه المنع عن عدم صلاحيّة « طهور » بغير المعنى المتعدّي للتكرّر والتزايد.

ووجهه : أنّ النظافة في الماء باعتبار الصفاء والكدورة ، أو خلوصه عن الأوساخ والأقذار وعدمه ، أو عن الأرياح المنتنة والألوان المكرهة وعدمه لها مراتب ، لأنّ كلّا من ذلك قد يضعف وقد يتضاعف ، وقد يقلّ وقد يتكثّر على وجه ينشأ منه صحّة إطلاق « فعول » للمبالغة في ذلك عرفا كما نشاهده بطريق الحسّ والعيان ، وبذلك ينقدح أيضا

__________________

(١) رياض المسائل ١ : ٢٤.

(٢) الكشّاف ٣ : ٢٨٤ ذيل الآية ٤٨ من سورة الفرقان.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٢٧.


فساد الأوّل [الّذي] (١) تقدّم تقريره.

نعم ، الطهارة بالمعنى الشرعي غير صالحة لهما ، لعدم كونها متصوّرة إلّا على نمط واحد ، وكأنّ مبنى كلام الخصم على توهّم إرادته ، وهو كما ترى ممّا لا ضرورة في المقام دعت إلى اعتباره ، إلّا على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ « الطهارة » ، أو ثبوت القرينة على اعتباره مجازا على التقدير الآخر ، وكلاهما ممنوعان.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فاعتبار المبالغة بالنسبة إلى المعنى اللغوي ممّا لا يكاد يعقل بعد فرض كون « طهور » أو « فعول » من المشتقّات ، لمكان كونه مخالفا للقياس وقانون الاشتقاق ، فإنّ المشتقّ في تعديته ولزومه تابع لمأخذ اشتقاقه ، والمفروض أنّه لازم ، وإلّا كانت التعدية سارية في جميع التصاريف ، وهو باطل ومخالف لضرورة العرف واللغة.

ودعوى أنّ كون الماء طاهرا ممّا لا يتكرّر ولا يتزايد ، فينبغي أن يعتبر المبالغة في كونه مطهّرا.

يدفعها : أنّ هذا الاعتبار لا بدّ وأن يثبت من الواضع ، وهو ليس بثابت إن لم نقل بثبوت خلافه ، بملاحظة كون الوضع في المشتقّات نوعيّا ـ على ما قرّر في محلّه ـ فإنّ خصوص لفظ « طهور » ليس ممّا وضعه واضع اللغة ، حتّى يقال : بأنّه إذا وضعه للمبالغة بدليل مثبت له فلا محالة اعتبر المبالغة في كون الماء.

مطهّرا لعدم صلاحية ما عداه للتكرار والزيادة ، بل الّذي تصدّى لوضعه الواضع إنّما هو صيغة « فعول » مجرّدة عن خصوصيّات الموادّ الّتي منها مادّة « طهر » ، وهذه الصيغة إنّما تعتبر مفيدة لما وضعت له من المبالغة في كلّ مادّة تكون صالحة للزيادة والتكرار ، وقد فرضتم خلافه في مادّة « طهر » ، ومعه لا محيص عن اعتبار كون « طهور » من الفعول الموضوع للمعنى الوصفي ، المعبّر به عن الفاعل ـ حسبما أشرنا إليه ـ على حدّ ما يقال في أفعل التفضيل : من أنّه يصاغ عن مادّة قابلة للتفاضل ، وأمّا ما ليس كذلك فالأفعل بالقياس إليه وصفي كما في أعمى ونحوه.

وما ذكرناه من أنّ الواضع لم يتصدّ لوضع « طهور » بخصوصه للمبالغة ، لا ينافي ما

__________________

(١) أثبتناه لاستقامة العبارة.


يأتي في كلام كثير من أهل اللغة من تفسير « الطهور » بالطاهر المطهّر ، أو المطهّر فقط ؛ لعدم ابتناء كلامهم على دعوى كونه من جهة المبالغة ، كيف ولا إشارة في كلام [واحد منهم بذلك] (١) وإن سبق إلى بعض الأوهام كما ستعرفه ، بل أقصى ما يقضي به نصّهم إنّما هو كون ذلك من مقتضى الوضع الشخصي الثابت له بإزاء المطهّر ، ولعلّه وضع عرفيّ محدث وارد على الوضع اللغوي النوعي ، بل الالتزام به في تصحيح كلامهم ممّا لا محيص عنه عند التحقيق ، كما ستعرفه.

ومن جميع ما قرّرناه ينقدح حينئذ فساد الوجه الثاني الّذي ذكره الشيخ ، فإنّ ما ذكره مخالف لقانون الاشتقاق ، المقتضي لسراية مأخذ الاشتقاق في المشتقّ ، المقتضية لكون المشتقّ تابعا لمأخذ اشتقاقه ، حتّى في التعدية واللزوم ، ولزوم الفاعل دليل محكم وشاهد عدل على لزوم المأخذ ، وهو ملازم للزوم المشتقّ الآخر وهو « فعول » ، وإلّا حصل التخلّف ، وهو كما ترى غير معقول.

وأمّا ما استشهد به من كثرة اعتبار التعدية في أسماء المبالغة وإن فرض الفاعل لازما ، فليس ممّا يشهد له بكون « طهور » أيضا من هذا الباب ، إن أراد به اعتبارها مطلقا ولو على سبيل التجوّز ؛ ضرورة أنّ ثبوت التجوّز في موضع لقرينة دلّت عليه لا يقضي بثبوته في سائر المواضع ، ولا سيّما في الموضوعات النوعيّة الّتي أشخاصها ألفاظ مستقلّة في حدّ أنفسها تباين بعضها بعضا ، فلا ينبغي مقايسة بعضها على بعض في وصفي الحقيقة والمجاز.

وإن أراد به اعتبارها على سبيل الحقيقة ، فهو يخالف قانون الاشتقاق ، مضافا إلى ما ثبت في المشتقّات من الوضع النوعي ، هذا مع ما في الاستشهاد بقول الشاعر من الغفلة عن حقيقة الحال.

أمّا أوّلا : فلتوجّه المنع إلى كون « كليل » في الشعر المذكور متعدّيا ، عاملا على المفعوليّة في « الموهن » ، الّذي هو عبارة عن ساعات الليل ، أو نحو من نصفه ، أو ما بعده بساعة ، وإن توهّمه سيبويه ـ على ما حكاه عنه الشارح الرضي (٢) ـ فيما ادّعاه من أنّ :

__________________

(١) أثبتناه لاستقامة العبارة.

(٢) شرح الكافية : ٢ : ٢٠٢.


فاعلا إذا حوّل إلى « فعيل » أو « فعل » عمل ، متمسّكا بذلك الشعر ، بل « الموهن » ـ على ما يساعد عليه الذوق ، ونصّ عليه غير سيبويه ـ نصب على الظرفيّة متعلّق بـ « شآها » بمعنى ساقها ، أو سبقها راجعا ضميره إلى « للاتن » وهي حمير الوحش ، وعلى فرض كونه معمولا لـ « كليل » فهو نصب على الظرفيّة أيضا ، وهو على التقديرين لازم مراد منه العجز والتعب ، اللذين اعتبرا وصفين للبرق الّذي هو السائق.

غاية الأمر ، استلزام ذلك مجازا في الإسناد ، من باب الإسناد إلى السبب ؛ نظرا إلى أنّهما في الحقيقة وصفان للاتن ، وإنّما أسندا إلى « البرق » الّذي اريد من الكليل ـ لكونه سببا لهما فيها ، نظير إطلاق « القاتل » على سبب القتل ، وهذا كما ترى باب وسيع العرض يجري في فنون كثيرة ، ولا سيّما المقام الّذي لا بدّ فيه من اعتباره بملاحظة الفقرات الاخر الواردة فيه من باب المجاز في الإسناد ، الّتي منها : إسناد السوق إلى « البرق » الّذي لا يلائم إلّا كونه من باب التسبيب ؛ لعدم كون السوق بالقياس إليه من الأفعال المباشريّة ، ضرورة ابتناء المباشرة على الشعور والإرادة ، وظاهر أنّ « البرق » ليس من ذوات الشعور والإرادة.

ومنها : إسناد البيتوتة إلى الليل ، فإنّها في الحقيقة وصف « للاتن » والليل ظرف له ، فإسنادها إليه من باب الإسناد إلى الظرف.

ومنها : إسناد عدم النوم إليه ، بناء على كون قوله : « لم ينم » عطفا على قوله : « بات » بإسقاط العاطف للضرورة ، والتقريب ما تقدّم.

هذا مضافا إلى أنّه لو لا إطلاق « الكليل » هنا من باب المجاز في الإسناد ـ حسبما قرّرناه ـ لزم على تقدير كونه متعدّيا مجازان :

أحدهما : ما يلزم منه فيه باعتبار المادّة ، من حيث إنّه بالوضع الأصلي اللغوي من الموادّ اللازمة.

وثانيهما : ما يلزم منه في تعديته إلى « الموهن » ، فإنّ الإعياء بمعنى الإعجاز والإتعاب ممّا يقع في الحقيقة على « الاتن » ، و « الموهن » ظرف لهما ، فيكون الإسناد إليه من باب قولهم : « أتعبت يومك ، وساهرت ليلتك » ، ولا ريب أنّ المجاز الواحد أولى من مجازين.

وأمّا ثانيا : فلأنّ « الكليل » إذا كان متعدّيا فهو مبالغة في الفاعل بمعنى الفعل ، وقضيّة


ذلك اعتبار التعدية في كلّ من « الفاعل » و « الفعيل » ، وهو ـ مع أنّه خلاف ما استشهد له ـ ممّا لا يجري في « الطهور » إذا فرض كونه مبالغة في الطاهر ، إذ لم يقل أحد بكون « طاهر » بمعنى المطهّر حتّى في موضع الاستدلال.

وأمّا ثالثا : فلأنّ غاية ما هنالك ، ثبوت استعمال على الوجه المذكور ، ولعلّه في هذا الموضع وارد على سبيل المجاز ، محافظة على القاعدة النحويّة من « أنّ المفعول به لا يعمل فيه إلّا المتعدّي » ولا يلزم من ذلك اعتبار التجوّز في كلّ « فعول » ورد مجرّدا عن القرينة ، ونعم ما قال الشارح الرضي ـ [في نفي] (١) كون « الكليل » متعدّيا من المكلّ من ـ : « أنّه لا استدلال بالمحتمل ولا سيّما إذا كان بعيدا » (٢).

وبالجملة : هذه الكلمات ممّا لا ينبغي التفوّه بها في منع الدليل المحكم المطابق للعرف واللّغة ، والقواعد المحكمة المتّفق عليها.

نعم ، لو كان منع كلام الخصم وهدم استدلاله ممّا لا بدّ منه ، فليقل : بمنع ابتناء الدلالة على كون الماء مطهّرا على كون « طهور » في الآية مرادا منه المبالغة ، وسند هذا المنع وجوه جمعناها عن كلام الأصحاب ، وإن كان بعضها واضح الضعف :

منها : ما حكاه صاحب المصباح المنير ، في عبارة محكيّة عنه عن بعض العلماء ، أنّه قال : « ويفهم من قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٣) أنّه طاهر في نفسه مطهّر لغيره ، لأنّ قوله : « ماء » يفهم منه أنّه طاهر ، لأنّه ذكره في معرض الامتنان ، ولا يكون ذلك إلّا بما ينتفع به ، فيكون ظاهرا في نفسه ، وقوله : « طهورا » يفهم منه صفة زائدة على الطهارة ، وهي الطهوريّة » (٤).

وقد يقال : بأنّ « الطهور » لو لم يرد منه المطهّريّة ، بعد ما كانت الطهارة مفهومة من الماء بملاحظة الامتنان ، كان ذكره عبثا تعالى الله عن ذلك.

وفيه : أنّ الامتنان وإن كان يقتضي كون الماء ممّا ينتفع به ، إلّا أنّ جهة الانتفاع به لا تنحصر فيما يقتضي الطهارة الشرعيّة ، بالمعنى المقابل للنجاسة ، بل له جهات اخر كثيرة

__________________

(١) أثبتناه لاستقامة العبارة.

(٢) شرح الكافية ٢ : ٢٠٢.

(٣) الفرقان : ٤٨.

(٤) المصباح المنير ؛ مادّة « طهر » : ٣٧٩.


غير متوقّفة على الطهارة بهذا المعنى ، كسقي الدوابّ والبساتين والمزارع والأشجار واتّخاذ الطين للأبنية والمساكن ، ولو سلّم فذكر الوصف بعده لا يقتضي كونه لصفة زائدة ، غاية الأمر كونه ـ على تقدير إرادة الصفة المفهومة أوّلا ـ للتوضيح ، وهو ليس ممّا يمنع عنه في الكلام ، وإن كان الأصل الناشئ عن الغلبة يقتضي خلافه ، وهذا الأصل كما ترى ممّا لا ينبغي إجراؤه في المقام ، بعد ملاحظة دوران الأمر فيه بين الأخذ به أو الأخذ بأصالة الحقيقة بالنسبة إلى مادّة « طهور » ، فإنّ العدول عن الحقيقة يستدعي قرينة معتبرة ، والأصل المذكور غير صالح لها.

هذا إذا كان انفهام المطهّريّة مبنيّا على التجوّز ، وإلّا ـ فمع أنّه في حيّز المنع ـ فأصالة الحقيقة كافية في إفادة الحكم المذكور عمّا ذكر من الوجه الاعتباري.

وأمّا ما عرفته من الزيادة ، ففيه : أنّه كلام فاسد قد هدمنا بنيانه في مباحث المفاهيم من فنّ الاصول (١) ، فلا يعبأ به ، والعجب عن شيخنا في الجواهر (٢) أنّه استوجه هذا الوجه.

ومنها : ما حكاه أو احتمله في المدارك ، من أنّ « الطهور » في العربيّة على وجهين :

صفة ، كقولك : « ماء طهور » أي طاهر ، واسم غير صفة ، ومعناه : ما يتطهّر به ، كالوضوء والوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضّأ به ويوقد به ، وإرادة المعنى الثاني هناك أولى ، لأنّ الآية مسوقة في معرض الإنعام ، فحمل الوصف فيها على الفرد الأكمل أولى وأنسب (٣)

وفيه : ـ مع رجوعه إلى إثبات الحكم الشرعي بالاستحسان ومجرّد الاعتبار العقليّين ، لحصول المقصود من الامتنان بمجرّد الطهارة المقتضي للحمل على المعنى الوصفي ـ أنّ الحمل على المعنى الاسمي لا يستقيم إلّا مع ارتكاب ضرب من التجوّز ، كما تنبّه عليه غير واحد من الأصحاب ، وهو تجريد اللفظ عمّا يدلّ على الذات المأخوذة في مفهومه ، إذ لولاه لما صحّ الوصف به ، وهذا التجوّز كما ترى ممّا لا شاهد له في الكلام ،

__________________

(١) تعليقة على معالم الاصول الرابع : الجزء الرابع ـ في المفاهيم ـ (سيصدر قريبا إن شاء الله ص : ٦٥ من المخطوط) حيث قال في ذيل قول المصنّف : ـ « بأنّه لو ثبت الحكم مع انتفاء الصفة لعرى تعليقه عليها عن الفائدة الخ » ـ : « واجيب عنه : بأنّ العبث إنّما يثبت إذا لم يوجد للوصف فائدة أخرى ، والفوائد كثيرة غير منحصرة في الاحتراز الخ ».

(٢) جواهر الكلام : ١ : ١٧٥.

(٣) مدارك الأحكام : ١ : ٢٧.


وما ذكر من الأولويّة الاعتباريّة بمجرّده لا يصلح لذلك بعد قيام احتمال معنى غير موجب له ، ومرجعه إلى أنّ الاحتمال ولو ساعد عليه الاعتبار لا يعارض أصالة الحقيقة.

وأمّا عدم جواز الوصف على المعنى الاسمي بدون التجرّد ، فقد يعلّل : بكونه من جهة جمود اللفظ بهذا المعنى ، وهو أيضا ليس بسديد ؛ فإنّ أسماء الآلة يعدّ عندهم كأسماء المكان والزمان من المشتقّات الاسميّة ، فكيف يلائمه الحكم على « الطهور » بالجمود.

فالأولى إرجاع ذلك إلى قاعدة التوقيف ، نظرا إلى أنّ الأوضاع مجازيّة أو حقيقيّة ، شخصيّة أو نوعيّة ، إفراديّة أو تركيبيّة ، لا تتلقّى إلّا من الواضع ، ومن الأوضاع النوعيّة التركيبيّة توصيف شي‌ء بشي‌ء في الكلام ، وهذا ممّا لم يثبت في خصوص أسماء الآلة ، كما أنّه لم يثبت في أسماء الزمان والمكان ، والّذي يفصح عنه إنّما هو الاستهجان العرفي فيما لو أخذ شي‌ء من هذه وصفا بلا ارتكاب تجريد كما لا يخفى.

ثمّ العجب عن شيخ الحدائق (١) وسيّد الرياض (٢) أنّهما تعرّضا لذكر احتمال إرادة المعنى المذكور ، وظاهرهما الارتضاء به ، بل ظاهر الثاني الاعتماد عليه ، مع أنّه تنبّه على ابتناء ذلك على التأويل المذكور.

ومنها : ما يظهر عن المدارك (٣) من ابتناء ذلك على ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ « طهور » للمطهّر ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ وظاهره أنّه لا خصوصيّة للفظ « طهور » في تلك الدعوى ، بل الحقيقة الشرعيّة لو كانت ثابتة فيه فإنّما هو لثبوتها في مبدأ اشتقاقه وهو الطهارة ، كما أشار إليه قبل ذلك عند شرح « الطهارة » لغة وشرعا ، فقال ـ بعد ذكر معناها اللغوي ـ : « وقد استعملها الشارع في معنى آخر مناسب للمعنى اللغوي ، مناسبة السبب للمسبّب ، وصار حقيقة عند الفقهاء ، ولا يبعد كونه كذلك عند الشارع أيضا على تفصيل ذكرناه في محلّه » (٤).

وهذه الدعوى في خصوص تلك اللفظة ـ بناء على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ـ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٤.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٣١ حيث قال ـ بعد احتمال إرادة المعنى الاسمي ، أي ما يتطهّر به ، في معنى الطهور ـ : « وإن احتيج في وصفه به حينئذ إلى نوع تأويل ».

(٣ و ٤) مدارك الأحكام ، ١ : ٢٧ و ٦.


وإن كانت خلافيّة ، ولكنّها في غاية الإشكال ، وإن قلنا بها في غيرها ؛ لعدم جريان الضابط ـ الّذي قرّرناه في محلّه (١) ـ لإثبات الحقيقة الشرعيّة نوعا في خصوص هذه اللفظة ؛ إذ لم يثبت من الشارع الاستعمال في معنى مغاير للمعنى اللغوي ولو مجازا ، بل لو استعمله في المعنى اللغوي لم يكن منافيا للمعنى الشرعي ، بل غاية ما حصل من الاختلاف بينهما هو الاختلاف في مصاديق هذا المعنى ؛ فإنّ « النظافة » عند أهل اللغة تصدق على شي‌ء ، وعند الشارع على شي‌ء آخر مغاير له كشف عنه الأدلّة الخارجيّة ، ولا ريب أنّ الاختلاف في المصداق لا يوجب الاختلاف في أصل المسمّى ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ فحينئذ لو وجدنا « الطهارة » مستعملة في كلام الشارع حملناها على « النظافة » ، ثمّ نراجع الأدلّة الشرعيّة في استعلام ما يصدق عليه « النظافة » عند الشارع ، كما أنّه لو وجدنا « المطهّر » مستعملا في كلام الشارع حملناه على المنظّف ، فنراجع الأدلّة الشرعيّة لمعرفة ما يصدق عليه « التنظيف » في نظر الشارع ، ومعه لا داعي إلى التزام النقل الشرعي ، كما هو لازم القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، مع كونه في حدّ ذاته مخالفا للأصل.

نعم ، يمكن دعوى الحقيقة الشرعيّة في خصوص « طهور » بإزاء المطهّر ، لا لأجل ضابطنا المقرّر في محلّه ، بل بملاحظة كثرة ما استعمله الشارع في هذا المعنى ، كما يكشف عنه روايات كثيرة.

منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا » (٢).

ومنها : « أيّما رجل من أمّتي أراد الصلاة فلم يجد ماء ووجد الأرض ، لقد جعلت له مسجدا وطهورا » (٣).

ومنها : قوله ـ وقد سئل عن الوضوء بماء البحر ـ : « هو الطهور ماؤه » (٤).

ومنها : ما عن الصادق عليه‌السلام « كان بنوا إسرائيل إذا أصابتهم قطرة من بول ، قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسّع الله عليكم بما بين السماء والأرض ، وجعل لكم الماء

__________________

(١) تعليقة على معالم الاصول ٢ : ٢٦٢.

(٢) الخصال : الباب الأربعة ٢٠١ / ١٥ ، سنن أبي داود ١ : ١٩ / ٧١.

(٣) الوسائل ٢ : ٩٧٠ / ٢ و ٤ ، ٩٦٩ ب ٧ من أبواب التيمّم ح ٢ ، ٤ ، الفقيه ١ : ٢٤٠ / ٧٢٤.

(٤) الوسائل ١ : ١٠٢ ، ب ٢ من أبواب الماء المطلق ح ٤.


طهورا ، فانظروا كيف تكونون » (١).

ومنها : ما عن أمير المؤمنين ، إذ قال ـ لابن الحنفيّة ـ : « يا محمّد ايتني بإناء من ماء أتوضّأ للصلاة ، فأتاه محمّد بالماء ، فأكفاه بيده اليسرى على يده اليمنى ، ثمّ قال : بسم الله والحمد لله الّذي جعل الماء طهورا ولم يجعله نجسا » (٢).

ومنها : قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٣) بناء على ما قيل : من أنّ المراد به المطهّر ، مستندا إلى ما نقل : أنّ الرجل من أهل الجنّة تقسّم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا ، فيأكل ما شاء ، ثمّ يسقى شرابا طهورا ، فيطهّر باطنه ، ويصير ما أكله رشحا يخرج من جلده أطيب ريحا من المسك (٤).

ويشكل ذلك أيضا : بأنّ مجرّد كثرة الاستعمال في معنى مغاير للمعنى الأصلي لا تكشف عن النقل وحدوث الوضع ما لم تبلغ الاستعمالات في الكثرة حدّا يستغني معها عن مراعاة القرينة ، فكيف بها إذا وجدت مع القرينة كما في المقام ، لاقتران اللفظ في جميع الروايات المذكورة بالقرينة ، كما لا يخفى على المتدرّب ، ولا سيّما مع ملاحظة تحقّق تلك الكثرة في الطرف المقابل أيضا ، كما يظهر للمتتبّع.

فالحقّ أنّ إثبات الوضع الشرعي المخالف للأصل بمجرّد الاستعمالات المذكورة ممّا لا سبيل إليه.

نعم ، يمكن أن يستكشف ببعض تلك الاستعمالات عن إرادة هذا المعنى من اللفظ الوارد في الآية ، بأن يجعل ذلك قرينة كاشفة عن المراد كما في الروايتين الأخيرتين ؛ فإنّ قول الصادق عليه‌السلام : « وقد وسّع الله عليكم بما بين السماء والأرض ، وجعل الماء طهورا ، » إظهار للشكر وقبول للامتنان الّذي أخذه الله تعالى على العباد بقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٥) ، أو حثّ وتحريص على قبوله وإظهار الشكر على تلك النعمة

__________________

(١) الفقيه : ١ : ١٠ ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٣٥٦ / ١٠٦٤ ـ الوسائل ١ : ١٠٠ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٤ وفيها : « وسّع الله عليكم بأوسع ما ».

(٢) الوسائل ١ : ٤٠١ ب ١٦ من أبواب الوضوء ح ١ ـ التهذيب ١ : ٥٣ / ١٥٣.

(٣) الإنسان : ٢١.

(٤) نقله في مجمع البيان ١٠ : ٦٢٣ ذيل الآية ٢١ من سورة الإنسان.

(٥) الفرقان : ٤٨.


العظمى ، ومثله قول الأمير : « الحمد لله الّذي جعل الماء طهورا ، ولم يجعله نجسا » (١) ؛ فإنّه أيضا يرشد إلى أنّه خروج عن عهدة ما اقتضاه الامتنان الوارد في الآية ، فتأمّل جيّدا.

ومنها : ما اعتمد عليه غير واحد من أصحابنا المتأخّرين ، من نقل أئمّة اللغة وتفسيرهم للطهور بالطاهر المطهّر ، أو المطهّر وحده ، كما عن الفاضل الفيّومي في كتاب المصباح المنير ، أنّه قال : « وطهور قيل : مبالغة وأنّه بمعنى طاهر ، والأكثر أنّه لوصف زائد ، قال ابن فارس : قال ثعلب : والطهور هو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره ، وقال الأزهري أيضا : الطهور في اللغة هو الطاهر المطهّر ، وفعول في كلام العرب لمعان ، منها فعول لما يفعل به ، مثل الطهور لما يتطهّر به ، والوضوء لما يتوضّأ به ، والفطور لما يفطر عليه ، والغسول لما يغتسل به ، أو يغسل به الشي‌ء ، وقوله عليه‌السلام : « هو الطهور ماؤه » ، أي هو الطاهر المطهّر قاله ابن الأثير ، قال : وما لم يكن مطهّرا فليس بطهور ، قال الزمخشري : « الطهور : البليغ في الطهارة » (٢) ، قال بعض العلماء : ويفهم من قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) ، أنّه طاهر في نفسه مطهّر لغيره ، لأنّ قوله : « ماء » ، يفهم منه أنّه طاهر ، لأنّه ذكره في معرض الامتنان على العباد ، ولا يكون ذلك إلّا فيما ينتفع به ، فيكون طاهرا في نفسه ، وقوله : « طهورا » ، يفهم منه صفة زائدة على الطهارة وهي الطهوريّة.

وإنكار أبي حنيفة استعمال « الطهور » بمعنى الطاهر المطهّر غيره ، وأنّه لمعنى الطاهر فقط ، وأنّ المبالغة في « فعول » إنّما هي بزيادة المعنى المصدري كالأكول لكثير الأكل لا يلتفت إليه ، بعد مجي‌ء النصّ من أكثر أهل اللغة ، والاحتجاج بقوله : « ريقهنّ طهور » مردود ، بعدم اطّراده ، وأنّه في البيت للمبالغة في الوصف ، أو واقع موقع « طاهر » لإقامة الوزن ، لأنّ كلّ طاهر (٣) طهور ولا عكس ، ولو كان « طهور » بمعنى « طاهر » مطلقا ، لقيل : ثوب طهور ، وخشب طهور ، ونحو ذلك وهو ممتنع » انتهى عبارة المصباح المنير (٤).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٠١ ، ب ١٦ من أبواب الوضوء ، ح ١ ـ التهذيب ١ : ٥٣ / ١٥٣.

(٢) الكشّاف ٣ ؛ ٢٨٤ ذيل الآية ٤٨ من سورة الفرقان.

(٣) كذا وجدناه في المجمع ، والظاهر أنّ فرض النسبة كما ذكر تحريف من قلم الناسخ ، وإلّا فالاعتبار مع الشرط المذكور فيما بعد تقضيان انعكاس النسبة ، كما لا يخفى على المتدبّر ، (منه).

(٤) المصباح المنير ؛ مادة « طهر » : ٣٧٩.


وعن القاموس : « الطهور » المصدر واسم ما يتطهّر به ، والطاهر المطهّر » (١) ، وعن الترمذي وهو من أئمّة اللغة ، أنّه قال : « الطهور بالفتح من الأسماء المتعدّية وهو المطهّر غيره » (٢) ، وفي الحدائق ـ عن بعض مشايخه ـ : « أنّ الشافعيّة نقلت ذلك عن أهل اللغة (٣) ، وعنه أيضا : « أنّه نقله عن الترمذي ، وعن المعتبر أنّه نقله عن بعض أهل اللغة » (٤).

وعن المصابيح ـ للسيّد مهدي ـ « أنّ المشهور بين المفسّرين والفقهاء وأئمّة اللغة أنّه بمعنى المطهّر أو الطاهر المطهّر » (٥).

قال الشيخ في التهذيب : « (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٦) ، فأطلق على ما وقع اسم « الماء » عليه بأنّه « الطهور » ، و « الطهور » هو المطهّر في لغة العرب ، فيجب أن يعتبر كلّما يقع عليه اسم « الماء » بأنّه طاهر مطهّر إلّا ما قام الدليل على تغيّر حكمه ، وليس لأحد أن يقول : إنّ « الطهور » لا يفيد في لغة العرب كونه مطهّرا ، لأنّ هذا خلاف على أهل اللغة ، لأنّهم لا يفرّقون بين قول القائل : هذا ماء طهور ، وهذا ماء مطهّر إلى آخر ما حكينا عنه آنفا » (٧).

ولا يذهب عليك أنّ غرض الشيخ من أهل اللغة هنا ليس همّ النقلة للمتون ، الذين عرفت ذكر جملتهم ، ليكون مقصوده فيما ادّعاه الاستناد إلى قولهم ، بل مراده به أهل لسان العرب ، بدليل قوله : « لأنّهم لا يفرّقون بين قول القائل : هذا ماء طهور ، وهذا ماء مطهّر » فإنّ ظاهره عدم الفرق بين اللفظين بحسب الاستعمال العرفي ، وانفهام العرف عند الإطلاق ، لأنّه إنّما يعلم بالاستعمال دون النصّ اللغوي كما لا يخفى ، فيكون قوله المذكور كقول غيره نصّا في أمر لغوي ، فيكون بنفسه مثبتا للّغة معتبرا في حقّ غيره.

ولا ينافيه ما تقدّم عنه في دفع كلام من أنكر ورود « طهور » لهذا المعنى ، استنادا إلى ما سبق ذكره من إناطة كونه لهذا المعنى بعلّة فاسدة وهو كونه من مقتضى الوضع المبالغي في « فعول » ، لعدم استناده في أصل الدعوى إلى هذه العلّة ، كما فهمه صاحب

__________________

(١) القاموس المحيط ؛ مادّة « طهر » ٢ : ٧٩.

(٢ و ٦) الفرقان : ٤٨.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٧.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٧ ، المعتبر : ٧.

(٥) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) ، الورقة : ٩ ، نقله عنه في جواهر الكلام أيضا ١ : ٦٤.

(٧) التهذيب ١ : ٢١٤.


المدارك (١) والمعالم (٢) ، وأوردا عليه : بكونه إثباتا للّغة بالاستدلال ، بل مستنده في ذلك ـ كما فهمه صاحب الحدائق (٣) وغيره ـ إنّما هو العرف ، وطريقة أهل اللسان الّذين عبّر عنهم بأهل اللغة ، وإنّما ذكر ذلك حكمة لكونه لهذا المعنى وعلّة له بعد الوقوع ، هدما لإنكار من أنكره ، غاية الأمر خطؤه في فهم ما ذكره من الحكمة ، ولا ريب أنّ خطأه في ذلك لا يقضي بخطئه في فهم أصل المعنى عن العرف ، ونحن نأخذ بفهمه هذا ونطرح فهمه الآخر لعلمنا بفساده.

وإلى ذلك ينظر ما ذكره ثاني الشهيدين في الروضة ـ عند شرح التعريف الّذي ذكره الشهيد الأوّل للطهارة شرعا ، وهو : « استعمال طهور مشروط بالنيّة » ـ فقال : « والطهور مبالغة في الطاهر ، والمراد منه هنا الطاهر في نفسه المطهّر لغيره ، جعل بحسب الاستعمال متعدّيا ، وإن كان بحسب الوضع اللغوي لازما كالأكول » (٤) ، فإنّ مراده بالاستعمال إنّما هو الاستعمال العرفي ، فيكون كلامه في موضع دعوى تحقّق النقل في تلك اللفظة عرفا عن المعنى اللازم اللغوي المبالغي إلى المعنى المتعدّي ، فهو أيضا نصّ في اللغة ، حكمه حكم نصّ من تقدّم من أئمّة اللغة.

ويوافقه في تلك الدعوى ما عن المعتبر (٥) وكنز العرفان (٦) من أنّ كلام أبي حنيفة موافق لمقتضى القياس غير موافق لمقتضى الاستعمال ، فإنّ ظاهر هما إرادة الاستعمال الحقيقي ، لأنّ الاستعمال المجازي في هذا المعنى ليس ممّا ينكره أحد ، حتّى أبي حنيفة الّذي ظاهر كلامه فيما أنكره إنّما هو الجري على مقتضى الأصل ، كما هو مناط حمل اللفظ المجرّد عن القرينة ، ولا ريب أنّ الاستعمال الحقيقي الّذي ادّعياه لا يكون إلّا من جهة النقل العرفي ، لاعترافهما بكون القياس اللغوي على خلافه ، فهو منهما أيضا بمنزلة النصّ اللغوي ، فيكون مسموعا.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ كلام هذين ـ ككلام ثاني الشهيدين ـ في دعوى النقل لا يخالف كلام من تقدّم من أئمّة اللغة ، فإنّ كلامهم وإن كان خاليا عن تلك الدعوى ،

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٢٧.

(٢) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ١٧٦.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٦.

(٤) الروضة البهيّة ١ : ٢٤٦.

(٥) المعتبر : ٧.

(٦) كنز العرفان ١ : ٣٨ ذيل الآية ٥٠ من سورة الفرقان.


غير أنّه لا محيص من تنزيله إليها ، أو دعوى ابتنائه على تحقّق النقل ؛ لعدم انطباق المعنى المذكور على ما هو مقتضى القياس اللغوي في « فعول » بحسب ما ثبت فيه من الوضع النوعي بإزاء المعنى المبالغي ، أو المعنى الوصفي المعبّر عنه بلفظ « فاعل » ، والوجه ما تقدّم ، فلا بدّ وأن يستند هذا المعنى بوضع آخر لاحق بالوضع الأوّل النوعي ، متعلّق بلفظ « طهور » (١) بالخصوص ، ولا نعني من النقل إلّا هذا.

ويؤيّده أيضا : أنّ ما يذكره أهل اللغة ليس ممّا يتلقّونه عن الواضع الأوّل ، بل إنّما يأخذونه عن عرف أهل زمانهم ، بملاحظة الاستعمالات الدائرة فيما بينهم ، ومراجعة الأمارات الكاشفة عن أوضاعهم ، فيكون ذلك الّذي ذكروه للفظ « طهور » معنى عرفيّا مستفادا عن أهل اللسان ، لا معنى أصليّا مستفادا عن واضع أصل اللغة ، ولا ينافيه ما في تعبيرات بعضهم ـ فيما تقدّم ـ بقولهم : « في اللغة » ، لأنّ اللغة لها إطلاقات وهي في كلامهم عبارة عن عرف أهل اللسان ، أو الألفاظ المتداولة فيما بينهم المستعملة في محاوراتهم ، والنسبة بينها بهذا المعنى وبينها بمعنى عرف الواضع ، أو الألفاظ الموضوعة الّتي وصل وضعها منه عموم من وجه ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

لا يقال : حمل كلامهم على هذا المعنى ، والتزام ابتنائه على تحقّق النقل ، ينفيه الأصل ، وقضيّة ذلك كون « طهور » بهذا المعنى واصلا عن الواضع ، ومعه لا معنى لدعوى النقل في تلك اللفظة.

لأنّ التزام النقل بملاحظة ما ذكرناه ممّا لا محيص عنه ، وإن قلنا بأنّ المتصدّي لوضعها بإزاء هذا المعنى هو الواضع ؛ لأنّ المفروض لحوق هذا الوضع بالوضع الأوّلي المتعلّق بالفعول نوعا ، فيكون اللفظ مخرجة عن مقتضى الوضع الأوّلي النوعي إلى المقتضى الوضع الثانوي ، من غير فرق بين كونه صادرا عن الواضع أو أهل العرف على

__________________

(١) لا يذهب عليك أنّ هذا النقل إنّما تحقّق في تلك اللفظة من جهات ثلاث.

أحدها : في مدلولها المادّي ، لصيرورته متعدّيا.

وثانيها : في مدلولها الهيئي بالنظر إلى المعنى الوصفي أو المبالغى ، وثالثها : في مدلولها الهيئي أيضا بالنسبة إلى ما أخذ فيه من النسبة ؛ لأنّ نسبة التطهير إنّما هي للمكلّف فاعتبرت هنا بالنقل للماء الّذي هو آلة بين المكلّف والتطهير ، فتأمّل ، (منه).


سبيل التعيين أو التعيّن ، وإن كان أصالة التأخّر تقتضي كونه عن غير الواضع ، فالأصل المشار إليه ليس في محلّه ، فبما قرّرناه نجمع بين القياس اللغوي الجاري في تلك اللفظة ، ونصّ أئمّة اللغة الوارد على خلافه.

وبذلك يضعّف ما عن الزمخشري في الكشّاف من أنّه قال : « طهورا أي بليغا في طهارته ، وعن أحمد بن يحيى هو ما كان طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره ، فإن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الطهارة ، كان سديدا ، ويعضده قوله : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (١) ، وإلّا فليس « فعول » من التفعيل في شي‌ء » (٢) ، وما عن صاحب المغرب من قوله : « وما حكي عن ثعلب أنّ « الطهور » ما كان طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره » (٣) إن كان مراده بيان النهاية في الطهارة فصواب حسن ، وإلّا فليس فعول من التفعيل في شي‌ء ، وقياس هذا على ما هو مشتقّ من الأفعال المتعدّية كـ « منوع » و « قطوع » ليس بسديد.

وما عن الطراز : « أنّ فعولا ليس من التفعيل في شي‌ء ، وقياسه على ما هو مشتقّ عن الأفعال المتعدّية كمنوع وقطوع غير سديد » (٤) ، إلّا أن يكون المراد بذلك بيان كونه بليغا في الطهارة فهو حسن صواب ، إذا كانت الطهارة بنفسها غير قابلة للزيادة ، لترجع الزيادة إلى انضمام التطهير ، لا أنّ اللازم قد جاء متعدّيا.

ووجه الضعف ـ فيما ذكره هؤلاء ـ : منع انحصار طريق الجمع بين القياس وما ذكروه في معنى « الطهور » ـ من المعنى المتعدّي ـ في كون ذلك لبيان البلاغة في الطهارة ، ومنع ابتنائه على القياس على ما اشتقّ عن الأفعال المتعدّية أيضا ، بل هاهنا شقّ آخر وهو الابتناء على ما ذكرناه من الوضع الثانوي ، فإنّه هو الّذي لا محيص عن التزامه دون غيره من الاحتمالات السخيفة الغير المستقيمة.

كما يضعّف أيضا ما قيل : من أنّ من ذكر أنّه يراد بالطهور المطهّر ، أخذه من « الطهور » بمعنى ما يتطهّر به ، لا أنّ المراد بالطهور المطهّر وضعا ، إذ لا ريب في استفادة المطهّريّة منه على تقدير كونه اسما للآلة.

__________________

(١) الأنفال : ١١.

(٢) الكشّاف ٣ : ٢٧٦ ذيل الآية ٤٨ من سورة الفرقان.

(٣) المغرب ؛ مادّة « طهر » ٢ : ٢٠٩.

(٤) نقله عنه في مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٩.


ووجه الضعف : أنّه ينافي كلماتهم المؤدّاة بطريق الحمل ، الظاهر في كون ذلك من مقتضى الوضع كما قرّر في محلّه ، كيف وهو ينافي تصريح كلام جملة منهم حيث ذكر « الطهور » بمعنى ما يتطهّر به مقابلا له بمعنى الطاهر المطهّر ، كما عرفته عن القاموس (١) وعن الأزهري حيث قال : « الطهور في اللغة هو الطاهر المطهّر ، وفعول في كلام العرب لمعان منها فعول لما يفعل به الخ » (٢) فتأمّل.

والعجب عن شيخنا في الجواهر في تقويته هذا الكلام ، بقوله : « وكيف كان فلا يخلو القول بإنكار كون « الطهور » بمعنى المطهّر وضعا من قوّة ، نعم هو يستفاد من كونه اسما لما يتطهّر به » (٣).

نعم ، ربّما يشكل تتميم الاستدلال بحمل الآية على هذا المعنى ، من جهة كون المقام بالنظر إلى ما قرّرناه من مسألة تعارض العرف واللغة كما لا يخفى ، ولا يضرّه احتمال كون الوضع الطاري أيضا من واضع اللغة ، بعد ملاحظة أصالة التأخّر.

لا يقال : الحمل على المعنى اللغوي ـ وهو ما يتطهّر به ـ لا ينافي الحمل على المعنى العرفي ؛ لكونهما متلازمين ، فلا تعارض بينهما في الحقيقة.

لأنّ المعنى اللغوي غير منحصر في ذلك ، بعد ملاحظة المعنى المبالغي والمعنى الوصفي ، فلا يتعيّن الحمل على ما لا ينافي المعنى العرفي على تقدير عدم الحمل عليه ، فما ذكرناه من الإشكال في محلّه ، إلّا أن يستفاد عن أهل اللغة أنّهم إنّما ذكروا هذا المعنى باعتقاد ثبوته عن قديم الأيّام ، وأقلّه ثبوته في زمن الشارع ، وليس ببعيد لو ادّعينا ذلك.

ثمّ هذا المعنى على تقدير ثبوته هل المطهّر أو الطاهر المطهّر؟ وهذا وإن لم يتعلّق به فائدة ، لرجوع كلّ إلى الآخر ، غير أنّ الظاهر كونه موضع خلاف ، وأقلّه اختلاف كلمات أهل اللغة في ذلك ، كما يظهر بالمراجعة إلى ما تقدّم ، ولكن لا يبعد ترجيح الثاني بملاحظة الغلبة في المنقولات العرفيّة ، فإنّ النقل على الأوّل من باب النقل عن اللازم إلى الملزوم ، وعلى الثاني من باب النقل عن العامّ إلى الخاصّ ، نظرا إلى أنّ

__________________

(١) القاموس المحيط ؛ مادّة « طهر » ٢ : ٧٩.

(٢) تهذيب اللغة ٦ : ١٧٢.

(٣) جواهر الكلام ١ : ١٨٢.


« الطهور » بمعنى « طاهر » قد يكون مطهّرا وقد يكون غير مطهّر ، فيكون الطاهر المطهّر فردا من الطاهر المطلق ، فتأمّل.

ومنها : ما اعتمد عليه في الرياض بعد الاعتماد على نصوص أهل اللغة ، فتمسّك في إثبات كون « طهور » لهذا المعنى ببعض الأخبار ، قائلا : « وإنكار وروده في كلام أهل اللغة بهذا المعنى ـ كما وقع لجماعة من متأخّري الأصحاب ـ لا وجه له ، بعد ملاحظة ما ذكرنا ، وخصوص صحيحة داود بن فرقد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ـ إلى قوله ـ وجعل لكم الماء طهورا » ، الحديث (١) ، مضافا إلى قولهم عليهم‌السلام ـ في تعليل الأمر بالتيمّم ـ : جعل الله التراب طهورا ، كما جعل الماء طهورا » (٢) (٣).

ولا يخفى ضعفه ، فإنّ ورود لفظ في خطاب الشرع لا يصلح دليلا على المطلب المتعلّق باللغة ، كيف وأنّ قضيّة عدم دلالة الاستعمال على الحقيقة عندهم واضحة ، ولا سيّما في المتعدّد المعنى ، بل فيما ثبت له معنى حقيقي على التعيين وشكّ في غيره ، وإن أراد به الكشف عن المراد في الآية ، فهو ـ مع أنّه لا يظهر عن سياق العبارة ـ ممنوع أيضا ، لأنّ مجرّد استعمال لفظ في معنى لقرينة بل وكثرته أيضا لا يصلح قرينة على كونه مستعملا في هذا المعنى عند فقد القرينة ، إلّا أن يرجع إلى ما استظهرناه وقرّرناه سابقا ، فإنّه ليس بذلك البعيد ، كما يشهد به الذوق السليم.

ومنها : ما أفاده خالي العلّامة دام ظلّه (٤) ، بعد ما اعتمد على النصّ اللغوي ، من أنّه يظهر أيضا كون « الطهور » في الآية بمعنى الطاهر المطهّر من تتبّع أغلب موارد استعمال هذا اللفظ في الكتاب والسنّة ، فإنّ المراد منه في أغلب ما تكلّم الشارع به إنّما هو

__________________

(١) الفقيه ١ : ٩ / ١٣ ، التهذيب ١ : ٣٥٦ / ١٠٦٤ ، الوسائل ١ : ١٣٣ / ٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق.

(٢) الوسائل ٣ : ٣٥٨ ب ٢٣ من أبواب التيمّم ح ١ ، الفقيه ١ : ٦٠ / ٢٢٣.

(٣) رياض المسائل ١ : ١٢٣.

(٤) وهو العلّامة الفقيه السيّد رضي الدين القزويني ، قال العلّامة الطهراني في ترجمته : « ... وهو خال السيّد علي القزويني ، صاحب حاشية القوانين ... أنّ اسم والد المترجم له السيّد علي أكبر وأنّه كان ابن عمّ السيّد إبراهيم بن محمّد باقر الموسوي صاحب (الضوابط) ... » (الكرام البررة ٢ : ٥٧٦) هذا ولكنّا لم نعثر على ما نقل عنه المصنّف رحمه‌الله.


الطاهر المطهّر ، وإن كان مع قرينة تدلّ عليه ، فيظنّ باعتبار تلك الغلبة أنّ المراد منه في الآية أيضا هو هذا المعنى ، وإن كان بلا قرينة ، ثمّ عقّبه بقوله : « فتأمّل ».

ويشكل ذلك أيضا ـ بعد تسليم أصل الغلبة ـ : بأنّ المدار في الخروج عن الظواهر عند العرف إنّما هو على القرائن المعتبرة لديهم ، ولم يظهر منهم أنّ مجرّد غلبة استعمال لفظ في معنى مع القرينة قرينة على إرادة هذا المعنى في موضع التجرّد عن القرينة ، بل الظاهر خلافه كما هو المصرّح به في كلام أهل الاصول ، فإنّ ظاهر اللفظ هو الحجّة المحكّمة نوعا ما لم يقم ظنّ معتبر بخلافه ، والظنّ الحاصل عن الغلبة المذكورة ـ على فرض تسليمه ـ ليس من الظنون المعتبرة ، كيف وأنّ مجرّد الغلبة المتحقّقة في الكتاب والسنّة غير كافية في إفادة الظنّ ، بل العبرة فيه بالغلبة المتحقّقة في قاطبة الاستعمالات الصادرة من الشارع في كافّة محاوراته ، لا في خصوص الكتاب والسنّة ، وأيّ طريق إلى إحراز تلك الغلبة.

ثمّ لو سلّمنا ثبوت هذه الغلبة ، فإن أفادت الظنّ بحيث أوجب إجمال اللفظ في نظر العرف وسقوطه عن الظهور ـ كما في المجاز المشهور على فرض تحقّقه ـ فهو لا يوجب إلّا التوقّف ، وإلّا فلا يترتّب عليه أثر أصلا في العدول عن الظاهر ، ولا سقوطه عن الظهور ، وعلى التقديرين لا وجه للعدول إلى خلاف الظاهر وحمل اللفظ عليه ، كما هو المطلوب ولعلّ قوله مدّ ظلّه : « فتأمّل » يشير إلى بعض ما ذكر.

ومنها : ما احتمله شيخنا في الجواهر (١) ، من القول بأنّه يراد المطهّريّة من « الطهور » ولو مجازا ، بقرينة قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (٢) ، وهو كما ترى أضعف الوجوه ، فإنّ الكلام المنفصل عن اللفظ لا يعدّ عندهم صارفة عن الظاهر ، إلّا إذا كان بظاهره معارضا لظاهر ذلك اللفظ ، وأيّ منافاة بين الآيتين إذا اريد بإحداهما إفادة حكم الطهارة المحضة ، وبالاخرى حكم المطهّريّة.

فالّذي يترجّح في النظر القاصر ـ بملاحظة جميع ما قرّرناه من النقوض والإبرامات ـ أنّ إثبات مطهّريّة الماء بآية « الطهور » ممّا لا سبيل إليه ، إلّا على ما قرّرناه

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ١٧٨.

(٢) تهذيب اللغة ٦ : ١٧٢.


من جعل الخبرين المتقدّمين قرينة كاشفة ، بتقريب ما ذكر ـ إن تمّ ـ وأمّا ما عداه من الامور المذكورة فليس شي‌ء منها صالحا له.

نعم نصّ أهل اللغة في نفسه دليل محكم ، غير أنّ حاله في خصوص المقام كما عرفت ، إلّا على ما أشرنا إليه أيضا من استظهار كونهم فيما نصّوا به معتقدين بثبوته عن قديم الأيّام.

وقد شاع الاستدلال على أصل المطلب بعد الفراغ عن الاستدلال بالكتاب الاستدلال بجملة من الأخبار ، فعلى كون الماء طاهرا ، بما رواه المشايخ الثلاث بأسانيدهم عن الصادق عليه‌السلام قال : « الماء كلّه طاهر ما لم تعلم أنّه قذر » (١) ، وعلى كونه مطهّرا ، بما تقدّم من رواية داود بن فرقد عن الصادق عليه‌السلام قال : « كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة من بول » إلى آخر ما تقدّم ذكره (٢) ، وهذا كما ترى في محلّه.

وربّما يكثر الاستدلال بما في الكافي عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الماء يطهّر ولا يطهّر » (٣).

وقد يعلّل الفقرة الثانية : بأنّه إنّما لا يطهّر لأنّه إن غلب على النجاسة حتّى استهلكت فيه طهّرها ولم ينجّس حتّى يحتاج إلى التطهير ، وإن غلبت عليه النجاسة حتّى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة ، ولم يقبل التطهير إلّا بالاستهلاك في الماء الطاهر ، وحينئذ لم يبق منه شي‌ء ، كذا عن الوافي (٤).

وفيه : ما فيه كما يظهر بأدنى تأمّل.

وأورد عليه : بأنّ قليل الماء إذا تنجّس كان تطهيره بالكثير من الجاري والراكد ، فلم يصدق أنّه لا يطهّر.

فدفع : بأنّ المراد يطهّر غيره ولا يطهّره غيره.

وقد يوجّه أيضا : بأنّه يطهّر كلّ شي‌ء حتّى نفسه ، ولا يطهّر من شي‌ء إلّا من نفسه ، فيعلّل : بأنّ التعميم في الأوّل أولى ، ثمّ يقال : وقد يخطر بالبال أنّه يمكن أن يستدلّ بهذا

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢١ ـ الكافي ٣ : ١ / ٣.

(٢) الفقيه : ١ : ١٠ ، ح ١٣ ، التهذيب ١ : ٣٥٦ / ١٠٦٤ ، الوسائل ١ : ١٠٠ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٥ ـ ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ، ٦ ، الكافي ٣ : ١ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٥ / ٦١٨ ـ المحاسن : ٥٧٠ / ٤.

(٤) الوافي ٦ : ١٨.


الخبر على عدم نجاسة البئر بالملاقاة ، لأنّه لو نجس لكان طهره بالنزح ، والقول بأنّ الطهر بالماء النابع بعد النزح بعيد كما لا يخفى.

وفيه : أيضا ما لا يخفى.

وقد أورد على التوجيه المذكور أيضا : بأنّه على إطلاقه غير مستقيم ، لانتقاضه بالبئر ، فإنّ تطهيرها بالنزح ، والماء النجس يطهّر باستحالته ملحا ، والماء القليل إذا كان نجسا وتمّم كرّا بمضاف لم يسلبه الإطلاق ، فإنّه في جميع هذه الصور قد طهّر الماء غيره.

واجيب عن الأوّل : تارة : بأنّا لا نسلّم أنّ مطهّر البئر حقيقة هو النزح ، بل هو في الحقيقة الماء النابع منها شيئا فشيئا ، بعد إخراج الماء المنزوح.

أقول : الّذي يختلج بالبال أنّه لا حاجة في دفع ما ذكر من الإشكال إلى هذا التكلّف ، بل يسهل دفعه بأن يقال : إنّ إسناد التطهير إلى الماء عند التحقيق مجاز ، لأنّه فعل يباشره المكلّف ، والماء آلة شرعيّة ، فحاصل معناه الحقيقي الّذي يباشره المكلّف ويخاطب به استعمال الماء على الكيفيّة المقرّرة في الشريعة ، ولا ريب أنّ استعمال الماء أعمّ من صبّه على النهج المعهود الّذي يسمّى بالغسل ، أو تقليله الّذي يعبّر عنه بالنزح ، فيصدق عليه أنّه تطهير ، ومن هنا يمكن توجيه الرواية بقراءة الاولى مشدّدا بصيغة المجهول ، والثانية كذلك بصيغة المعلوم ـ على عكس ما فهمه الجماعة ـ ويكون المعنى : أنّ الماء يقع عليه التطهير ، ولا يصدر عنه التطهير ، لأنّ التطهير فعل يصدر من المكلّف بواسطته ، لا أنّه يصدر منه.

واخرى : بمنع نجاسة البئر بالملاقاة حينئذ ، فأصل الاعتراض ساقط ، كذا حقّقه في الحدائق (١).

وعن الثاني : بأنّ الماء قد عدم بالكلّيّة ، فلم يبق هناك ماء مطهّر بغيره ، ومثله أيضا الماء النجس إذا شربه حيوان مأكول اللحم واستحال بولا ، فإنّه يخرج عن الحقيقة الاولى إلى حقيقة اخرى.

وعن الثالث : بأنّه ـ بعد تسليم ذلك ـ لا يسمّى في العرف تطهيرا لاضمحلال

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٨.


النجس حينئذ ، فيصدق حينئذ أنّ الماء لا يطهّر.

وهذا أيضا ضعيف لأنّ المراد بالاضمحلال إن كان الانعدام الصرف أو استهلاك الماء في جنب المضاف ـ فمع أنّه ينافي الحسّ ، ويمتنع الانعدام الصرف ـ أنّه خلاف ما فرضه المورد ؛ لأنّه قيّد مورد النقض بماء لم يكن المضاف المتمّم له كرّا موجبا لسلب الإطلاق عنه ، ومعه لا معنى لفرض الانعدام أو الاستهلاك ، لصيرورة الجميع حينئذ مضافا صرفا ، وإن كان المراد ما عدا ذلك فهو ـ مع وجوده ـ إمّا طاهر في ضمن الجميع أو غير طاهر ، والأوّل محقّق للاعتراض ، والثاني خلاف فرض المعترض من كون التتميم بالمضاف مطهّرا.

وقد يناقش في أصل التمسّك بالرواية من حيث إنّها بنفسها معارضة لنفسها ، لمنافاة صدرها لذيلها ، بملاحظة العموم المستفاد من حذف المتعلّق فيها ، فمفادها صدرا وذيلا : « أنّ الماء يطهّر كلّ شي‌ء حتّى نفسه ، ولا يطهّر بشي‌ء حتّى بنفسه » ، وهما عمومان من وجه تعارضا ، فلا بدّ من التصرّف في أحدهما ، بأن يقال : الماء يطهّر كلّ شي‌ء إلّا نفسه ، أو أنّه لا يطهّر بشي‌ء إلّا بنفسه ، ولا ريب أنّ ارتكاب التخصيص في أحد العامّين ليس بأولى من ارتكابه في الآخر ، فيصير سبيل الرواية سبيل ما يطرئه الإجمال ، ومعه يسقط بها الاستدلال.

وفيه : ـ بعد تسليم أنّ حذف المتعلّق ممّا يفيد العموم ـ أنّه إنّما يفيده في موضع يليق به وليس المقام منه ، فإنّ الرواية بقرينة ما فيها من الجمع بين السلب والإيجاب واردة مورد الإهمال ، ومراد منها أداء المطلب على طريق الإجمال ، فقرينة المقام قائمة بعدم اعتبار العموم في كلّ من الجانبين ، وشاهدة باعتبار جزئيّة فيها إمّا في الإيجاب أو في السلب ، فلا تعارض فيها بين صدرها وذيلها ، حيث لا ظهور لها بالنسبة إلى أحد العمومين.

غاية الأمر أنّ ما اعتبر فيه الجزئيّة غير متعيّن ، وهو غير قادح فيما هو الغرض الأصلي هنا من الاستدلال بها ، وهو إثبات مطهّريّة الماء في الجملة ، لكن بالنسبة إلى ما يقبل التطهير لا بالنسبة إلى أفراد الماء ، حتّى ينافي ما تقدّم من عنوان المسألة ، حيث اعتبرناه على طريق الإيجاب الكلّي بالنسبة إلى المياه ؛ ضرورة أنّ هذا الغرض يتأتّى بكلّ من الاحتمالين إن أحرزنا العموم فيها بالنسبة إلى الماء ، ولو بقي عندك مناقشة في


هذا العموم فهو كلام آخر لا مدخل له فيما ذكرته من المناقشة المقتضية لرميها بالإجمال المسقط للاستدلال.

فالحقّ أن يقال : إنّ الرواية بملاحظة ورودها مورد الإهمال ، بإرادة المهملة في إحدى قضيّتيها الّتي هي في قوّة الجزئيّة محتملة لوجوه كثيرة ، تبلغ إلى ستّة عشر وجها ، حاصلة بملاحظة الأربع الجارية في الصدر ، من جهة احتمالي التخفيف والتشديد ، في احتمالي المعلوم والمجهول في نفس تلك الأربع الجارية في الذيل.

ولا ريب أنّ كلّا من تلك الوجوه ـ مع ملاحظة ما ذكرناه من قرينة المقام ـ ممّا يصحّ إرادته من دون أن ينشأ منه محذور ، غاية ما في الباب أنّها في بعض تلك الوجوه تصير من أدلّة مطهّريّة الماء ، وفي بعضها الآخر تصير من أدلّة طهارته أو قبوله الطهارة بعد ما تنجّس ، والمفروض كون كلّ من الحكمين مطلوبا في المسألة ، فعلى أيّهما دلّت كانت دالّة على ما هو المقصود ، وإن كانت دلالتها على الحكم الأوّل ـ على تقدير الحمل على الوجوه المناسبة له ـ دلالة على تمام المقصود ، ولو من جهة اعتبارها تارة من حيث المطابقة ، واخرى من حيث الالتزام ، وعليك باستخراج تلك الوجوه مفصّلة ، واستفادة المعنى عن كلّ وجه على حسب ما يقتضيه القواعد العرفيّة في مثل هذه الهيئة التركيبيّة.

وإن شئت نشير إلى بعض تلك القواعد ، لتكون بمراعاتها على بصيرة وتدبّر ، فلو قيل لأحد : « احبّ مجيئك إيّاي ، ولا احبّ مجيئك إيّاي » ، فإنّما يقال به وبنظائره عرفا في كلّ موضع يكون موضوع القضيّة ذا حيثيّتين ، تعلّق به الإيجاب بالنظر إلى إحداهما والسلب بالنظر إلى الاخرى ، على نحو يكون مفاد المثال المذكور فرضا : « أنّي احبّ مجيئك لأنّي مشتاق إلى لقائك ، أو لأن أتبرّك بحضورك » ، ونحو ذلك ممّا يمكن فرضه ، « ولا احبّ مجيئك لأنّه تعب عليك ، أو مانعك عمّا هو أهمّ لك » ونحو ذلك ، وعلى هذا القياس باعتبارات شتّى ما لو قيل : « زيد يأكل ولا يأكل » ، « يشتغل ولا يشتغل » ، « يعطي ولا يعطي » ، وما أشبه ذلك إلى ما لا يعدّ ولا يحصى ، كما يظهر لمن تأمّل في العرفيّات.

فحينئذ لو حملنا الصدر والذيل في الرواية على كونهما معلومين مشدّدين كان الحكمان المختلفان من جهة اختلاف الحيثيّة في أصل الموضوع ، وذلك الاختلاف إمّا باعتبار اختلاف مواضع التطهير ، فإنّ منها ما يقبله ومنها ما لا يقبله ، أو من جهة اختلاف


كيفيّات التطهير ، فإنّ كلّ كيفيّة قرّرها الشارع تطهّر ، وكلّ كيفيّة يخالفها لا تطهّر ، أو باعتبار اختلاف الخصوصيّات العارضة للماء من الخارج ، كالإباحة والغصبيّة بالقياس إلى رفع الحدث ، فإنّ المباح يرفعه والمغصوب لا يرفعه ، وهكذا إلى آخر ما فرض ، هذا على احتمال التشديد فيهما ومثله تجري على احتمال التخفيف فيهما.

فحينئذ إمّا أن يرجع الطهر وعدمه إلى نفس الماء فلا حذف معه ، أو إلى شي‌ء آخر بواسطته فيلزمه الحذف ، ويكون المعنى : « الماء يطهّر به الشي‌ء ولا يطهّر به الشي‌ء » ، فعلى الاحتمالين يجري فيهما من القاعدة نظير ما فرضناه فلاحظ ، وافرض ما شئت هذا على قراءة المعلومين ، وكذلك على قراءة المجهولين مع التشديد أو التخفيف ، وأمّا على الاختلاف في المعلوميّة والمجهوليّة فمفاد القضيّة عرفا نظير ما تقدّم الإشارة إليه عنهم في دفع الإيراد الأوّل على الرواية.

هذا مضافا إلى ما أشرنا إليه سابقا ، بناء على هذا الاحتمال من كون ذلك لبيان اختلاف النسبة في الحقيقيّة والمجازيّة ، ولكنّه مبنيّ على فرض الأوّل مجهولا والثاني معلوما كما عرفت ، فإنّ النسبة في الأوّل حقيقيّة وفي الثاني مجازيّة واردة من باب الإسناد إلى السبب بتقريب ما تقدّم ، مع ما يحتمل في عكس هذا الفرض من كون القضيّة في الثاني من باب السالبة المنتفية الموضوع ، مرادا بها بيان طهارة الماء بحسب الخلقة الأصليّة ، فليس ينجّس حتّى يطهّر أو يحتاج (١).

وبالجملة : فلا إشكال في مفاد الرواية من حيث اشتمالها على النفي والإثبات الواردين على موضوع واحد ، فلا وجه لرميها بالإجمال من هذه الجهة ، كما لا وجه للحكم عليها بالمطروحيّة كما في رياض السيّد (٢).

وأمّا الإشكال من جهة اخرى ، كقصورها عن إفادة العموم في أفراد الماء ـ على فرض توجّهه ـ فهو شي‌ء آخر غير ما ذكروه.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما عرفت من الأدلّة على مطهّريّة الماء حتّى ـ آية الطهور إن تمّت دلالتها ـ فإنّما تنهض دليلا على نفس المطهّريّة ولو في جميع أفراد الماء ، وأمّا

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٣٣.


موضع التطهير وما يرتفع به من النجاسة وكيفيّته وشروطه وآدابه فتبقى مستفادة من الخارج ؛ لكون تلك الأدلّة ساكتة عن التعرّض لها نفيا وإثباتا ، وورودها مورد حكم آخر ، فلو شكّ حينئذ في شي‌ء أنّه هل يقبل التطهير بالماء كالأدهان المتنجّسة؟ أو في نجاسة أنّها هل ترتفع بالماء وحده كولوغ الكلب؟ أو في تطهير نجاسة أنّه هل يعتبر فيه التعدّد كالبول؟ أو يعتبر فيه النيّة أو إباحة الماء أو المباشرة؟ كغسل الثوب للصلاة ، فلا يمكن التمسّك لاستعلامه بالآية ولا غيرها عموما ولا إطلاقا ، إذ لم يؤخذ شي‌ء ممّا ذكر عنوانا فيها ، فلا يعقل معه بالنسبة إليه حينئذ عموم أو إطلاق ، وإنّما الّذي عنون في صريح تلك الأدلّة هو حكم المطهّريّة القائمة بالماء ، والعموم بالقياس إليه ثابت ، فحينئذ لو شكّ في فرد من أفراده بعد إحراز الفرديّة وصدق الاسم عليه أنّه هل يصلح لكونه مطهّرا ورافعا للخبث أو الحدث ـ كالماء المستعمل في رفع الحدث من وضوء أو غسل ، أو في رفع الخبث كما في الاستنجاء على القول بعدم انفعاله ، كما هو المجمع عليه بشروطه الآتية ـ يحكم بصلوحه له ، استنادا إلى عموم الآية أو إطلاقها أو غيرها من الأدلّة المتقدّمة بلا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه.

فتقرّر عندنا بما أثبتناه من الحكمين قاعدتان كلّيّتان يجدي الرجوع إليهما في مواضع الشك والشبهة ، إحداهما : طهارة الماء بجميع أفراده عدا ما خرج منها بالدليل ، واخراهما : مطهّريّته كذلك إلّا ما أخرجه الدليل ، فليكن ذلك على ذكر منك ليجديك في كلّ موضع وجدتنا نتمسّك بالأصل على الطهارة أو المطهّريّة في شي‌ء ، فإنّ مرادنا به إنّما هو إحدى القاعدتين.

* * *


ينبوع

ما عرفت من الحكمين الكلّيّين إنّما يلحقان الماء ما دام باقيا على خلقته الأصليّة وصفاته الأوّليّة كما تقدّم الإشارة إليه ، والسرّ في هذا القيد أنّه قد يطرئه بعنوانه الكلّي على النهج المتقدّم من غير استثناء شي‌ء ما يقابل الحكمين لعارض التغيّر من جهة النجاسة ، فيحكم بنجاسته حينئذ وعدم صلوحه للمطهّريّة إلى أن يثبت لها مزيل شرعي ، وكان ذلك أصل ثانوي ورد على الأصل الأوّلي الدائر بين الحكمين ، ولا تعارض بينهما لورود كلّ موضوعا غير موضوع الآخر كما عرفت ، وفائدتهما أنّه لو شكّ في نجاسة فرد من المتغيّر يلحق بالثاني لانتفاء موضوع الأوّل ، كما أنّه لو شكّ في فرديّة شي‌ء للمتغيّر يلحق بالأوّل لعدم كون موضوع الثاني محرزا ، وكيف كان فتحقيق القول في هذا العنوان يستدعي رسم مطالب :

المطلب الأوّل :

إذا تغيّر الماء مطلقا بسبب النجاسة في أحد أوصافه الثلاثة ، أعني اللون والطعم والرائحة ، فقال الأصحاب ـ قولا واحدا في الجملة ـ : بأنّه ينجّس ، وعليه نقل الإجماعات فوق حدّ الكثرة ، وفي الدلائل (١) : « كونها فوق حدّ الاستفاضة » ، وفي الجواهر (٢) : « أنّها كادت تكون متواترة » ، وفي الحدائق (٣) : « نفي الخلاف والإشكال عنه » ، وفي [حاشية الإرشاد (٤)] : « لا خلاف فيه » ، وفي الرياض (٥) : « بالإجماع

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) جواهر الكلام ١ : ١٩٠.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ١٧٨.

(٤) وفي المصدر [حد]. والمظنون أنّ المراد منه حاشية الارشاد كما أثبتناه في المتن ، ولكنّا.

(٥) رياض المسائل ١ : ١٣٣.


والنصوص المستفيضة العاميّة والخاصّيّة » ، وفي المنتهى (١) : « أنّه قول كلّ من يحفظ عنه العلم » ، وعن المعتبر (٢) : « أنّه مذهب أهل العلم كافّة » ، وعن السيّد في الناصريّات (٣) : « إجماع الشيعة عليه » ، وفي [حاشية الإرشاد] : « الأخبار في الأخيرين متواترة وفي الأوّل مستفيضة » ، وممّا يؤيّد الإجماع أنّ المسألة غير معنونة في مختلف العلّامة مع أنّه موضوع لذكر خلافيّات الشيعة.

وبالجملة : لا يعرف فيه خلاف لا من العامّة ولا من الخاصّة ، عدا ما يظهر من سيّد المدارك من التشكيك في الأوّل في مسألة عدم انفعال البئر بالملاقاة ، محتجّا عليه بما يأتي من قول الرضا عليه‌السلام : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه » (٤) ، فقال ـ في جملة أجوبته عن الاعتراض على الحجّة المذكورة بأنّ الحصر المستفاد منه متروك الظاهر ، للقطع بنجاسة الماء مطلقا بتغيّر لونه ـ : « وثانيا : بأنّا لم نقف في روايات الأصحاب على ما يدلّ على نجاسة الماء بتغيّر لونه ، وإنّما الموجود فيها نجاسته بتغيّر ريحه أو طعمه كما في صحيحتي أبي خالد القمّاط (٥) ، وحريز بن عبد الله عن الصادق عليه‌السلام (٦) ، وما تضمّن ذلك عامّي مرسل ، فإن لم يثبت ما ذكرناه من الملازمة أو الأولويّة أمكن المناقشة في هذا الحكم » (٧).

وقوله : « ما تضمّن ذلك عاميّ مرسل » يشير به إلى ما يأتي من النبوي المرسل ـ المدّعى انجباره بالعمل ـ : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٨) ، ومراده بالملازمة والأولويّة ما أشار إليهما أوّلا : ـ في جملة الأجوبة عن الاعتراض المذكور ـ : « من أنّ تغيّر اللون مقتض لتغيّر الطعم ، ومع ثبوت الملازمة ينتفي المحذور ، أو يقال : إنّه إذا ثبت نجاسة الماء بتغيّر طعمه أو ريحه وجب القطع

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٠.

(٢) المعتبر : ٨.

(٣) المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٥).

(٤) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٦ ، الاستبصار ١ : ٣٣ / ٨٧ ، الوسائل ١ : ١٢٧ ، باب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٥) التهذيب ١ : ٤٠ / ١١٢ ، الاستبصار ١ : ٩ / ١٠ ، الوسائل ١ : ١٠٣ ب ...من أبواب الماء المطلق / ٤.

(٦) الكافي ٣ : ٣ / ٤ ، التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ ، الاستبصار ١ : ١٢ / ١٩ ، الوسائل ١ : ١٠٢ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٥٧.

(٨) عوالي اللآلي ٣ : ٩ / ٦.


بنجاسته بتغيّر لونه لأنّه أظهر في الانفعال » (١).

وتبعه بعده في تلك المقالة شيخنا البهائي في كلام محكيّ عنه في حبل المتين ، فقال : « وما تضمّنه الحديث الثاني والثالث ـ يعني بهما الصحيحتين اللتين أشار إليهما السيّد من نجاسة الماء بتغيّر ريحه أو طعمه بالنجاسة ـ ممّا لا خلاف فيه ، ويدور على ألسنة الأصحاب أنّ تغيّر لونه أيضا كذلك ؛ ولم أظفر به في أخبارنا صريحا ، وما ينقل من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٢) ، فخبر عامّي مرسل ».

ثمّ قال : « ولو قيل إنّ تغيّر اللون بذي طعم أو ريح لا ينفكّ عن التغيّر بأحدهما لم يكن بعيدا ، بل ربّما يدّعى أنّ انفعال الماء بلون النجاسة متأخّر في المرتبة عن انفعاله بريحها أو طعمها فاستغنى بذكرهما عن ذكره » (٣).

وتبعهما في ذلك كلّه المحقّق الخوانساري في شرح الدروس ، حيث قال : « واعلم أنّ الروايات المتقدّمة خالية عن التعرّض للّون ، سوى رواية العلاء بن الفضيل (٤) ، فإنّها بمفهومها تدلّ على نجاسته بتغيّر اللون ، لكنّها ضعيفة بمحمّد بن سنان ، ونقلوا رواية عن الجمهور أيضا متضمّنة لذكر اللون ولا يصلح أيضا للتعويل ، وذكر بعضهم أنّ تغيّر الريح والطعم أسرع من تغيّر اللون ، إذ لا ينفكّ تغيّر اللون عن تغيّرهما ، فلا ثمرة في التعرّض له ووجهه غير ظاهر ، وقد يستنبط اعتبار اللون من قوله عليه‌السلام ـ في صحيحة حريز المتقدّمة ـ : « فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم » (٥) ، وفيه : أيضا إشكال ، وقد يتمسّك فيه بما قاله ابن أبي عقيل : أنّه قد تواتر عن الصادق وعن آبائه عليهم‌السلام : أنّ الماء طاهر لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٦) ، والظاهر أنّ انضمام هذه الامور بعضها مع بعض مع اعتضادها بالإجماع يكفي في الحكم » الخ (٧).

__________________

(١) المدارك ١ : ٥٧.

(٢) عوالي اللآلي ٣ : ٩ / ٦.

(٣) الحبل المتين : ١٠٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق / ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٣.

(٥) الكافي ٣ : ٣ / ٤ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ١٩ ـ الوسائل ١ : ١٠٢ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٦) نقله عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.

(٧) مشارق الشموس : ٢٠٣.


ومحصّل ما أفاده رحمه‌الله أنّه وافق السيّد والشيخ في القدح في سند النبويّة المرسلة ، فأشار إليه بقوله : « ونقلوا رواية عن الجمهور أيضا متضمّنة لذكر اللون ولا يصلح أيضا للتعويل » ، وخالفهما في استظهار الحكم ممّا ذكره أخيرا ، وحذا حذوه صاحب الحدائق وإن خالفه في الاستناد للحكم إلى جملة من أخبار أصحابنا ، فإنّه بعد ما نقل كلام السيّد المتقدّم في القدح على سند الرواية المتقدّمة ، قال : « والحقّ أنّه كذلك ، فإنّا لم نقف عليه في شي‌ء من كتب أخبارنا بعد الفحص التامّ ، وبذلك صرّح أيضا جمع ممّن تقدّمنا » (١).

وبالجملة : فهؤلاء الأجلّاء متّفقون على القدح في الرواية المذكورة وإن اختلفوا في المذهب ، فالأخيران وافقا المعظم في أصل الحكم ، غير أنّ الأوّل منهما قال به على سبيل الظنّ ، والثاني على سبيل الجزم كما لا يخفى على من لاحظ عبارته في الحدائق ، وأمّا الأوّلان فظاهر هما إنكار أصل الحكم.

ويمكن أن يقال : بأنّ السيّد لا يظهر منه المخالفة بناء على ما ادّعاه من الأولويّة ، وإن كان ما قرّره من الملازمة يدعوه إلى المخالفة ، وكيف كان فقد تقرّر بجميع ما ذكر أنّ هاهنا كلامين :

أحدهما : دعوى الملازمة بين تغيّر اللون وغيره ، وبعدها دعوى الأولويّة اللتين عرفتهما من السيّد ، ووافقه شيخنا البهائي على الاولى ، وإليهما ينظر ما في الحدائق من قوله : « ولعلّ السرّ في اشتمال أكثر الأخبار على التغيّر الطعمي أو الريحي دون اللوني أنّ تغيّر الطعم والريح أسرع من تغيّر اللون ، إذ لا ينفكّ تغيّر اللون من تغيّرهما ، ولا ثمرة في التعرّض له حينئذ » (٢).

وثانيهما : الطعن على سند النبوي المشار إليه ، وينبغي النظر في صحّة هذين الكلامين وسقمهما.

أمّا الملازمة : فغاية ما يمكن أن يقال في تقريرها ـ على وجه يكون عذرا لخلوّ الأخبار أو أكثرها عن التعرّض لذكر تغيّر اللون ـ : أنّ تغيّر اللون بالقياس إلى أخويه بمنزلة الخاصّ في مقابلة العامّ ، فبينه وبينهما عموم وخصوص مطلق ولكن من حيث

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٨٠.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٨١.


المورد لا المفهوم ؛ فإنّ تغيّر اللون حيثما وجد فقد وجد معه تغيّر الطعم والرائحة أيضا ، فهو لا ينفكّ عنهما بخلافهما لانفكاكهما عنه ، فلهما فردان ، أحدهما : ما اقترن منهما مع تغيّر اللون ، وثانيهما : ما انفكّ منهما عن تغيّر اللون.

فإذا اريد بهما في الأخبار ما يعمّ القسمين كان تغيّر اللون ممّا استغنى عن ذكره ، كما أنّ ذكر العامّ ممّا يستغني به عن ذكر الخاصّ لتناوله الخاصّ وغيره.

وفيه أوّلا : أنّه ينافي فتاوي الأصحاب الظاهرة بل الصريحة في استقلال كلّ من الثلاثة في السببيّة لتنجّس الماء.

وتوضيح ذلك : أنّ تغيّر الطعم والريح إذا صادفهما تغيّر اللون أيضا فإمّا أن يستند السببيّة إلى المجموع على نحو الشركة ، أو إلى تغيّر الطعم والريح فقط وكان تغيّر اللون كالحجر في جنب الإنسان ، أو إلى تغيّر اللون وحده وكان تغيّر الطعم والريح كما ذكر ، ولا سبيل إلى شي‌ء منها.

أمّا الأوّل : فلمنافاته أوّلا : صريح فتاوي الأصحاب في الدلالة على كون كلّ سببا مستقلّا.

وثانيا : لما يراه مدّعي الملازمة من كون تغيّر الطعم والريح مستقلّين في السببيّة ، ولذا يقول بجواز انفكاكهما عن تغيّر اللون.

وأمّا الثاني : فلمنافاته صريح الفتاوي.

وأمّا الثالث : فلمنافاته صريح الفتاوي ، وما يراه مدّعي الملازمة.

وثانيا : منع كون النسبة بينه وبينهما كما ذكر ، بل الّذي يقتضيه التدبّر : أنّ بين كلّ مع الآخر عموم من وجه ، فإنّ النجاسات مختلفة في الاشتمال على الأوصاف الثلاثة وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا ، والصور المتصوّرة سبع ، فإنّ منها ما هو ذو اللون فقط ، ومنها ما هو ذو الطعم فقط ، ومنها ما هو ذو الرائحة فقط ، ومنها ما هو ذو اللون والطعم دون الرائحة ، ومنها ما هو ذو اللون والرائحة دون الطعم ، ومنها ما هو ذو الطعم والرائحة دون اللون ، ومنها ما هو ذو اللون والطعم والرائحة ، فكلّ يفترق عن صاحبه ، وأكثر تلك الصفات تتلاحق البول باختلاف أحواله على ما هو المشاهد ، وأظهر أفراد افتراق ذي


اللون عن ذي الطعم والرائحة إنّما هو في الدم ، إذ ليس فيه طعم ورائحة فاحشين على وجه يستدعي استناد التغيّر إليهما ، بل الغالب فيه التغيّر اللوني.

فحينئذ إمّا أن يقال : بأنّه كالمتغيّر في سائر الصفات غير الثلاثة من الحرارة والبرودة ونحوهما فلا حكم له في إيراث النجاسة ، أو أنّ الشارع قد أهمل فيه حيث لم يتعرّض لذكره فيما بين أقسام ما يوجب نجاسة الماء من التغيّر ، ولا يصغى إلى شي‌ء من ذلك ، مع منافاته لدعوى الملازمة.

وأمّا ما قرّره السيّد من الأولويّة فهو أهون من الملازمة المدّعاة ، إمّا لمنع أصل الأولويّة ، أو لمنع اعتبارها لكونها ظنّيّة ، وذلك لأنّه لو أراد بكون تغيّر اللون أظهر في الانفعال كونه أظهر في نظر الحسّ.

ففيه : أنّ الانفعال ممّا لا يدرك بالحسّ ، إلّا أن يراد به الانفعال الوصفي ، فيدفعه : أنّه ليس بأظهر من انفعال الرائحة بل الطعم أيضا ، ولو أراد به كونه أظهر في نظر العقل ، فمع أنّه ممنوع لا عبرة به ، لعدم جزم العقل به فيكون ظنّيّا ، وهو لا يوجب إلّا أولويّة ظنّيّة وهو كما ترى ، ولو أراد به كونه كذلك في نظر الشرع فهو أوضح فسادا ، بملاحظة أنّ الشرع ليس فيه ما يقضي بذلك أصلا.

وأمّا الطعن في النبوي فقد اجيب عنه : بأنّ غير الصحيح قد تبلغ بالجبر مرتبة الصحيح ، وقد يقرّر ذلك : بانجباره بالإجماع والشهرة والإجماعات المحكيّة ، وأنت إذا تأمّلت في عباراتهم لوجدتها مملوّة من الإشارة إلى ذلك.

ويشكل ذلك كلّه : بأنّ الشبهة إذا كانت في السند فالإجماع والشهرة لا يجديان في جبران ضعفه إلّا في موضع الاستناد ، على معنى كون ما شكّ في سنده مستندا للمجمعين أو المعظم ، فإنّ استنادهم إليه يكشف عن سلامة سنده في الواقع ، ولو بأن يبلغهم من الخارج ما أفادهم الوثوق به ، ولم يظهر منهم ما يقضي بذلك ، بل نرى كلام كثير منهم خاليا عن ذكر هذا الحديث والاستناد إليه.

نعم غاية ما يترتّب على هذه الامور أنّها تكشف عن صدق المضمون ومطابقته للواقع ، وهو كما ترى ليس من تصحيح السند في شي‌ء ، ولا رفع الشبهة المذكورة.


نعم يمكن رفعها بطريق آخر ، وهو التشبّث في خصوصه بما ادّعي من التواتر أو الاستفاضة ولو في غير جهة إسناده إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الاتّفاق على روايته ، فعن ابن أبي عقيل ـ في جملة احتجاجاته على عدم انفعال الماء الراكد بملاقاة النجاسة ـ : « أنّه قد تواتر عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : أنّ الماء طاهر لا ينجّسه إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته » (١).

وعن السرائر : « ومن قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المتّفق على روايته أنّه : « قال خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٢) ، وعن ابن فهد : « روي متواترا عنهم أنّهم قالوا : « الماء طهور لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٣) وعن الوافي : « وما استفاض روايته عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٤) ، وعن الشيخ : أنّه رواه أيضا (٥) ، وفي المنتهى (٦) روى الجمهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٧) ، وعن الذخيرة : « أنّه ما عمل الامّة بمدلوله وقبلوه » (٨).

ولا ريب أنّ نقل التواتر إذا بلغ حدّ التواتر كنفس التواتر ، فيفيد العلم بصدور هذا اللفظ عن المعصوم عليه‌السلام.

ومع الغضّ عن ذلك فأقلّ مراتبه الظنّ بالصدور ، والظاهر أنّه كاف في أسانيد الأخبار على ما قرّر في محلّه ، كيف وهو لا يقصر عن رواية عدلين أو عدل واحد إذا كان عن ناقل واحد فضلا عن ناقلين متعدّدين ، حيث إنّ كلّا منهما يخبر عن علم ، غايته أنّه في ناقل التواتر علم مع الواسطة.

ثمّ مع التنزّل عن ذلك أيضا نقول : بأنّ ثبوت المطلب غير منوط بثبوت اعتبار سند هذا الحديث ، إن كان العذر في عدم المصير إليه عدم ورود خبر في أخبار أصحابنا ، لتظافر الروايات عن أئمّتنا في خصوص التغيّر اللوني ، فإنّها كثيرة جدّا إن لم نقل بتواترها.

__________________

(١) نقله عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.

(٢) السرائر ١ : ٦٤.

(٣) المهذّب البارع ١ : ٧٩.

(٤) الوافي ٤ : ١٨.

(٥) الخلاف ١ : ١٧٣ المسألة ١٢٦.

(٦) منتهى المطلب : ١ : ٢١.

(٧) سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ، سنن الدار قطني ١ : ٢٨ ، كنز العمّال ٩ : ٣٩٦ / ٢٦٦٥٢.

(٨) ذخيرة المعاد : ١١٦.


منها : ما عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام « في الماء الجاري يمرّ بالجيف والعذرة والدم يتوضّأ منه ويشرب ، وليس ينجّسه شي‌ء ما لم يتغيّر أوصافه ، طعمه ولونه وريحه » (١).

ومنها : ما عن الكتاب المذكور (٢) أيضا عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إذا مرّ الجنب في الماء وفيه الجيفة أو الميتة ، فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا يشرب منه ولا يتوضّأ ولا يتطهّر » ، رواه شيخنا في الجواهر مرسلا (٣).

ومنها : ما عن الفقه الرضوي : « كلّ غدير فيه من الماء أكثر من كرّ لا ينجّسه ما يقع فيه من النجاسات ، إلّا أن يكون فيه الجيف فتغيّر لونه وطعمه ورائحته ، فإن غيّرته لم تشرب منه ولم تتطهّر » (٤).

ومنها : ما في مختلف العلّامة في جملة احتجاجات ابن أبي عقيل على عدم انفعال الماء بالملاقاة ، رواه مرسلا قال : « وسئل الصادق عليه‌السلام عن القربة والجرّة (٥) من الماء سقط فيهما فأرة أو جرذ أو غير ذلك فيموتون فيها ، فقال : « إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه ، وإن لم يغلب عليه فاشرب منه وتوضّأ واطرح الميتة إذا أخرجتها رطبة » (٦) وفي نسخة اخرى طريّة.

ومنها : ما في الوسائل في الصحيح ـ على الصحيح ـ عن الثقة الجليل محمّد ابن الحسن الصفّار في كتاب بصائر الدرجات ، عن محمّد بن إسماعيل ـ يعني البرمكي ـ عن عليّ بن الحكم عن شهاب بن عبد ربّه قال : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام أسأله فابتدأني ، « فقال : إن شئت اسأل يا شهاب وإن شئت أخبرناك بما جئت له ، قلت : أخبرني ، قال : جئت تسألني عن الغدير تكون في جانبه الجيفة أتوضّأ منه أو لا؟ قال : « نعم » ، قال : توضّأ من الجانب الآخر ، إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن ، وجئت تسأل عن الماء الراكد ، فإن لم تكن فيه تغيّر وريح غالبة قلت : فما التغيّر؟ قال : الصفرة ، فتوضّأ منه (٧) ، وكلّما

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ١١١.

(٢) المصدر السابق : وفيه « ولا يتطهّر منه ».

(٣) جواهر الكلام : ١ : ١٩٢.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ص ٩١ ، ب ٥ ؛ مستدرك الوسائل : ١ : ١٨٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٥) الجرّة : هو الإناء المعروف من الفخّار. نهاية ابن الأثير ١ : ٢٦٠.

(٦) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨.

(٧) هذا على ما في نسخة اخرى غير منسوبة إلى الوسائل ، وأمّا ما نقلنا عنه من الوسائل فهو خال ـ


غلب كثرة الماء فهو طاهر » (١).

ومنها : ما في زيادات التهذيب عن العلاء بن فضيل قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض يبال فيها ، « قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٢).

ومنها : ما في نوادر الكافي في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل رعف فامتخط ، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه ، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال : « إن لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه » (٣) بناء على أنّ المراد باستبانة الدم في الماء استبانة أثره ، ولا يكون إلّا باللون فتأمّل.

والظاهر أنّه ممّا لا مدخل له في المقام بعد ملاحظة أنّ السؤال وقع عن كون إصابة الدم الإناء صالحا للحكم بتنجّس الماء وعدمه ، فأجابه الإمام عليه‌السلام بأنّ المعيار في ذلك تبيّن الدم في الإناء ، أي الماء الّذي فيه ، بمعنى العلم بوقوعه فيه ومجرّد العلم بإصابته الإناء غير كاف لكونه أعمّ ، فلعلّه لم يتعدّ عن خارج الإناء إلى داخله ، والّذي يرشد إليه وقوع السؤال بعد ذلك عن صورة العلم بوقوع الدم في الإناء ، فقال : « وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ ، فقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال : لا » (٤) ، ومن هنا ضعف ما فهمه الشيخ عن تلك الرواية من عدم انفعال القليل بما لا يدركه الطرف من الدم.

وأمّا ما عدا ذلك فالكلّ صريح في الدلالة على المطلب ، وما فيها من التكاثر والتظافر إن لم يفد العلم بالصدق فلا أقلّ من إفادته الوثوق ، مضافا إلى أنّ فيها ما هو صحيح ـ على الصحيح ـ كما أشرنا إليه ، ومنه رواية علاء بن الفضيل (٥) ورميها بالضعف ـ كما صنعه المحقّق الخوانساري (٦) على ما عرفت سابقا ـ من جهة اشتمال سندها

__________________

ـ عن قوله : « فتوضّأ منه » وظنّي أنّه سهو من قلم الناسخ وإلّا كان الشرط المتقدّم ناقصا (منه).

(١) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ مع اختلاف يسير ـ بصائر الدرجات : ٢٥٨ / ١٣.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٥ / ٣٠.

(٣ و ٥) الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩ ـ الاستبصار ١ : ٢٣ / ٥٧ الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٣.

(٦) مشارق الشموس : ٢٠٣.


على محمّد بن سنان ممّا لا وجه له ؛ فإنّ هذا الرجل وإن كان ممّن ضعّفه النجاشي (١) والفضل بن شاذان (٢) وغيره (٣) ، غير أنّ الّذي يظهر بملاحظة القرائن الخارجيّة المقرّرة في محالّها وثاقته ، وكونه من الأجلّاء الفضلاء ، هذا مع ما يأتي من روايات اخر مطلقة تشمل بإطلاقها تغيّر اللون أيضا.

ثمّ إنّ بملاحظة أكثر ما ذكر يعرف الحكم في تغيّر الطعم والرائحة أيضا ، مضافا إلى روايات اخر كثيرة واردة في المقام.

منها : ما في التهذيب والاستبصار من الصحيح عن أبي خالد القمّاط ، أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع وفيه الميتة والجيفة ـ وفي بعض النسخ الميتة الجيفة ـ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إن كان الماء قد تغيّر ريحه وطعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ ، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ [منه] (٤) » ، وفي بعض نسخ التهذيب : « ريحه أو طعمه » (٥).

ومنها : ما فيهما أيضا من الصحيح عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم فلا توضّأ منه ولا تشرب » (٦) ، ورواه في الكافي أيضا مرسلا عن حمّاد عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٧).

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٢٨ قال فيه : « ... وهو رجل ضعيف جدّا لا يعوّل عليه ولا يلتفت إلى ما تفرّد به ... ».

(٢) حكى عنه النجاشي في رجاله ، حيث قال : « قال : أبو الحسن عليّ بن محمّد بن قتيبة النيشابوري قال : قال أبو محمّد الفضل بن شاذان : لا احلّ لكم أن ترووا أحاديث محمّد بن سنان ... [رجال النجاشي : ٣٢٨]

(٣) قال العلّامة في الخلاصة : « وقد اختلف علماؤنا في شأنه ، فالشيخ المفيد رحمه‌الله قال : إنّه ثقة وأمّا الشيخ الطوسي رحمه‌الله فإنّه ضعّفه وكذا قال النجاشي ، وابن الغضائري وقال : إنّه ضعيف غال لا يلتفت إليه ، وروى الكشّي فيه قدحا عظيما ، وأثنى عليه أيضا ، والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ... [خلاصة الأقوال : ٣٩٤].

(٤) أثبتناه من المصدر.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١١٢ ـ الاستبصار ١ : ٩ / ١٠.

(٦) التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ١٩ ـ الوسائل ١ : ١٣٧ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ وفيه « إذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم ».

(٧) الكافي ٣ : ٤ / ٣.


والظاهر أنّ مراده بمن أخبره هو حريز بن عبد الله بقرينة ما سبق ، فإنّه هو الّذي روى عنه حمّاد بن عيسى على ما ذكر في الرجال (١) ، فيكون الرواية على طريق الكليني الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم ، لأنّه يروي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن حمّاد عمّن أخبره ، ولو أخذنا من هذا السند بمحمّد بن إسماعيل كان صحيحا جدّا ، لو صحّ ما ذكرنا من أنّ هذا الإرسال بمنزلة الإسناد. فتأمّل.

ومنها : ما فيهما أيضا من الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : كتبت إلى رجل أسئلة أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام أتوضّأ؟ فقال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، فينزح منه حتّى يذهب الريح ويطيب الطعم ، لأنّ له مادّة » (٢).

ومنها : ما في الكافي من الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم عن زرارة ، قال : « إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي‌ء ، تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ ، إلّا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء » (٣) ، والظاهر أنّ المرويّ عنه هو أبو جعفر عليه‌السلام لوقوع هذا الحديث في ذيل حديث رواه الشيخ في الاستبصار بطريق ضعيف بعليّ بن حديد ، وقد رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « قلت له راوية من ماء سقطت فأرة ، ـ إلى أن قال ـ : وقال أبو جعفر : « إذا كان الماء أكثر إلخ » (٤).

وأقوى ما يشهد بذلك أنّ هذا الحديث ما رواه في الكتاب المذكور بعينه عن الكليني مسندا إلى أبي جعفر عليه‌السلام ، وكان ما عندنا من النسخة فيه غلط من قلم الناسخ.

ومنها : ما في الكافي في الصحيح عن عبد الله بن سنان ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا جالس عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال : « إذا كان الماء قاهرا ولم يوجد

__________________

(١) رجال النجاشي : ١٤٤ ـ حيث قال ـ في ترجمة حريز بن عبد الله : « له كتاب الصلاة كبير وآخر ألطف منه وله كتاب نوادر روى عنه حمّاد بن عيسى » الخ ـ جامع الرواة ١ : ١٨٢.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٦ ـ وسائل الشيعة ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٨ ـ الاستبصار ١ : ٧ / ٧.

(٤) نفس المصدر.


فيه الريح فتوضّأ » (١).

ومنها : ما في الاستبصار من الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لا تغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن أنتن ، فإن انتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر » (٢).

ومنها : ما في التهذيب من الصحيح أو الحسن بالحسين بن الحسن بن أبان عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يمرّ بالماء وفيه دابّة ميتة قد أنتنت؟ قال : « إن كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضّأ ولا يشرب » (٣).

ومنها : ما في الاستبصار في القويّ أو الصحيح بياسين بن ضرير عن حريز بن عبد الله عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ؟ فقال : « إن تغيّر فلا تتوضّأ منه ، وإن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه » (٤) ، ومن قوله : « وكذلك الدم » يمكن استفادة حكم اللون أيضا كما لا يخفى.

ومنها : ما في الكافي في الصحيح عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر [به] » (٥) ، ومثله ما في التهذيب (٦).

ومنها : ما في الاستبصار في الحسن عن محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة وأقلّ وأكثر يتوضّأ منها؟ قال : « ليس يكره من قرب ولا بعد يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر [الماء] (٧) » و (٨).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤ / ٤ ـ الوسائل ١ : ١٤١ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٢ / ٦٧٠ ـ الاستبصار ١ : ٣٠ / ٨٠ ـ الوسائل ١ : ١٧٣ ، ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ وفيه : « ... إلّا أن ينتن ».

(٣) التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٤ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ١٨ ـ الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٦.

(٤) التهذيب ١ : ٢١٧ / ٦٢٦ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ٢٠ ـ الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٣.

(٥) الكافي ٣ : ٤ / ٤ ـ الوسائل ١ : ١٤١ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(٦) الكافي ٣ : ٥ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٧ ـ الوسائل ١ : ١٧٠ ، ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٧) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٨) التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٤ ـ الاستبصار ١ : ٤٦ / ١٢٩ ـ الوسائل ١ : ٢٠٠ ، ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.


ومنها : ما في مختلف العلّامة مرسلا في جملة احتجاجات ابن أبي عقيل أيضا ، سئل عن الماء النقيع والغدير وأشباههما فيه الجيف والقذر وولوغ الكلب ، ويشرب منه الدوابّ وتبول فيه أيتوضّأ منه؟ فقال لسائله : « إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضّأ منه ، وإن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه ، واغتسل » (١).

ويتّضح طريق الاستدلال بالأخبار المذكورة بعد حمل مطلقاتها على مقيّداتها ، وحمل ما ذكر فيه من الأوصاف واحدا أو اثنين على إرادة المثال ، أو على أنّه الوصف الغالب ممّا يحصل فيه التغيّر فلا تنافي بينها أصلا ، فالمسألة بحمد الله سبحانه في غاية الوضوح.

نعم ، يبقى في المقام أمران ينبغي التنبيه عليهما :

أحدهما : ما أشار إليه المحقّق الخوانساري ـ في شرح الدروس ـ من : « أنّه يشكل أن يستنبط من تلك الروايات أنّ تغيّر الطعم وحده موجب للنجاسة ؛ لأنّ في بعض نسخ التهذيب في صحيحة أبي خالد المتقدّمة « قد تغيّر ريحه أو طعمه ، » وفي النسخة المعتمدة « وطعمه » ويؤيّدها آخر الحديث ، والتعويل أيضا على الإجماع » (٢) ، وهو كما ترى أضعف شي‌ء يذكر في المقام.

أمّا أوّلا : فلعدم انحصار روايات الباب في الصحيحة المذكورة ، لما عرفت من أنّ فيها ما اشتمل على كلمة « أو » بلا اختلاف في النسخ.

وأمّا ثانيا : فلأنّ « الواو » كثيرا ما ترد مورد « أو » فلتحمل عليها كي يرتفع الإشكال.

فإن قيل : العكس أيضا ممكن.

لقلنا : بأنّ العكس يأباه اختلاف الروايات في التضمّن على الصفات المذكورة وحدانيّة وثنائيّة وثلاثيّة ، فإنّ كثيرا منها ما تضمّن واحدا منها ، وكلّ ذلك شاهد عدل بأنّ كلّا من الصفات مستقلّ بانفراده في السببيّة ، فيكون ذلك قرينة على ما ذكرناه من التجوّز دون العكس.

وثانيهما : أنّه قد يوجد في الروايات ما يعارض روايات الباب في الدلالة على كون التغيّر بالنجاسة مقتضيا لنجاسة الماء ، كما في الكافي مرسلا عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.

(٢) مشارق الشموس : ٢٠٣.


قال : قلت : يسيل عليّ من ماء المطر الّذي فيه التغيّر وأرى فيه آثار القذر فتقطر القطرات عليّ ، وينتضح عليّ منه ، والبيت يتوضّأ على سطحه ، فكيف على ثيابنا؟ قال : « ما به (١) بأس ، لا تغسله ، كلّ شي‌ء يراه ماء المطر فقد طهر » (٢).

وهو أيضا كما ترى كلام ظاهريّ ، فإنّ هذه الرواية ـ مع أنّها مرسلة غير صالحة للمعارضة للروايات الكثيرة القريبة من التواتر ، بل المتواترة في الحقيقة ، الّتي منها ما هو الصحيح ومنها ما هو في حكمه من حيث الاعتبار ـ غير دالّة على ما ينافي مفاد روايات الباب ، بل هي عند التحقيق واردة لإعطاء قاعدة كلّيّة مجمع عليها ، مدلول عليها بالأخبار الكثيرة الّتي منها : ما استفاض عنهم عليهم‌السلام « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) ، ومحصّل مفاد الرواية ـ على ما يرشد إليه سياق السؤال ـ : أنّ السائل لمّا وجد التغيّر في الماء المفروض ومع ذلك وجد فيه القذر أيضا ، ولكن لم يتبيّن عنده أنّ هذا التغيّر مستند إلى القذر المفروض ، فسأل الإمام عليه‌السلام استعلاما ، لأنّ وجود القذر مع الماء المتغيّر هل يصلح أمارة على استناد التغيّر إليه أو لا؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام بما يرجع إلى منع صلوحه لذلك ، فنهاه عن غسل الثياب تنبيها على أنّ مدار النجاسة في الشريعة على العلم ، وأنت غير عالم بالاستناد فغير عالم بالنجاسة ، وقوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء يراه المطر فقد طهر » جواب عن سؤال آخر تعرّض له السائل بقوله : « والبيت يتوضّأ على سطحه » ، وغرضه بذلك ـ والله أعلم ـ أنّ النجاسة الّتي تتحقّق مع التوضّي على سطح البيت فيه هل تؤثّر في نجاسة ثيابنا بالقطرات الواقعة منه عليها بواسطة ماء المطر؟ فأجاب عنه الإمام عليه‌السلام بالعدم تعليلا بما أفاده.

المطلب الثاني :

في نبذة من الفروع المتعلّقة بالباب وهي امور :

أحدها : كلّ واحد من الصفات الثلاث القائمة بالنجاسة قد يكون في اقتضاء تغيّر

__________________

(١) في المصدر [ما بذا].

(٢) الكافي ٣ : ١٣ / ٣ ـ الوسائل ١ : ١٤٦ ، ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٣ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ، ح ٢ ـ الفقيه ١ : ٦ / ١.


صفة الماء علّة تامّة ، وقد يكون جزء للعلّة ، بحيث لو لا انضمام مغيّر خارجي إليه من عمل شمس أو حرارة هواء أو تصرّف غيرها ممّا يتكوّن في الماء من الديدان ونحوها لا يكون صالحا للتأثير ، بل يكون التأثير قائما بالمجموع منها على الشركة من دون كفاية كلّ بانفراده في التأثير ، ففي كونه كافيا في توجّه الحكم بنجاسة الماء مطلقا ، أو عدمه كذلك ، أو إناطة الأمر بما يساعد عليه نظر العرف في صدق عنوان « التغيير » على وجه يسند إلى النجاسة (١) أو وصفها وعدمه وجوه.

من أنّ الحكم المخرج في الشرع على خلاف الأصل يجب فيه الاقتصار على القدر المتيقّن.

ومن أنّ إسناد التغيير إلى النجاسة أو وصفها الوارد في روايات الباب ليس على حقيقته ، بل هو وارد من باب التسبيب ، وظاهر أنّ هذا الإسناد كما أنّه يصدق عرفا فيما لو اعتبر إلى السبب التامّ كذلك يصدق فيما لو اعتبر إلى جزء السبب كما يفصح عنه قولهم : « أنبت الربيع البقل » ، المتّفق على كونه من باب المجاز في الإسناد بالقياس إلى السبب ، والربيع ليس إلّا أحد أجزاء العلّة ، فيكون ما ورد في الروايات شاملا لما يتحقّق مع النجاسة في صورة ما لو كانت سببا تامّا ، وما يتحقّق معها في صورة ما لو كانت جزء للسبب.

ومن أنّ اللفظ الوارد في خطاب الشرع ينزّل على ما يساعد عليه العرف ، فإن صحّ عرفا في صورة جزئيّة النجاسة القول بأنّ هذا ما غيّرته النجاسة يتبعه الحكم بالنجاسة وإلّا فلا.

ولكنّ الإنصاف أن يقال : إنّ الحكم في وجوده وعدمه يتبع العنوان الوارد في الأخبار ، المعلّق عليه ذلك الحكم ، وأنت بملاحظة الأخبار المتقدّمة تعرف أنّ ما أخذ فيها عنوانا لذلك الحكم شيئان ، هما عند التحقيق متلازمان وجودا وعدما.

أحدهما : غلبة وصف النجاسة على وصف الماء ، من ريح أو لون أو طعم.

وثانيهما : تغيير النجاسة أو وصفها المذكور لوصف الماء.

__________________

(١) بأن يقال عرفا أنّ الماء قد غيّرته النجاسة ، ولو مع العلم بكونها جزءا للعلّة ، وأنّ لها في إيراث التغيّر في الماء شريكا. (منه).


ولا ريب أنّ العنوان الأوّل غير متحقّق مع الفرض ، لوضوح عدم غلبة لوصف النجاسة في فرض الجزئيّة على وصف الماء ، وأمّا ثاني العنوانين فهو وإن كان في نظر العقل ممّا لا مانع من إجرائه في مفروض الكلام غير أنّ العرف يأبى عنه ؛ ضرورة أنّ التغيير الوارد في الأخبار بأيّ صيغة كانت لو عرضناه على العرف كان ظاهرا في تمام السببيّة ، بحيث لا يكاد الذهن ينصرف إلى صورة الجزئيّة ، ولو كان ذلك باعتبار تركيب الكلام المتضمّن لهذا اللفظ ، فلاحظ وتأمّل كي يتّضح لك حقيقة الحال.

وقضيّة ذلك اختصاص الحكم بالنجاسة بما لو كان النجاسة أو وصفها علّة تامّة لتغيّر وصف الماء ، فيلحق المفروض بالأصل الأوّلي المقتضي للطهارة ، مضافا إلى اصول اخر جارية في المقام هذا ، ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه خصوصا في مشروط بالمائيّة.

وثانيها : إذا تغيّر الماء بالنجاسة لا عن وصف النجاسة ـ على معنى تغيّره في وصف مغاير لوصف النجاسة جنسا أو نوعا ، كتغيّر لونه بذي الطعم أو الرائحة ، أو طعمه بذي اللون أو الرائحة ، أو رائحته بذي الطعم أو اللون ـ فهل يقتضي ذلك نجاسة الماء كما يقتضيها لو حصل في الوصف الموافق أو لا؟

والأوّل أولى ، عملا بإطلاق الإجماعات وفتاوي الأصحاب ، وإطلاق جملة كثيرة من روايات الباب ، وخصوص المرسلة الواردة في مختلف العلّامة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه » (١) ، وصحيحة هشام بن عبد ربّه المشتملة على قوله : « فما التغيّر؟ قال : الصفرة » (٢) ، نظرا إلى أنّ ظاهر السياق بقرينة ما سبق كون السؤال عن الجيفة الّتي تكون وصفها الغالب هو الريح.

مضافا إلى أنّ المعلوم من طريقة الشارع كون مناط الحكم هو التغيّر المستند إلى النجاسة بأيّ نحو اتّفق ، ولا ينافي شيئا من ذلك ما في رواية العلاء بن الفضيل من قوله : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٣) ؛ لعدم ابتناء روايات الباب على الضبط

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨ وفيه : « اذا غلبت رائحته » الخ.

(٢) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ بصائر الدرجات : ٢٥٨ / ١٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٣.


والحصر ، كما يفصح عنه اختلافها زيادة ونقيصة في الاشتمال على الأوصاف الثلاثة.

فما عن المعتبر من قوله : « وكلّه ينجّس باستيلاء النجاسة عليه ، ونريد باستيلاء النجاسة غلبة ريحها على ريح الماء وطعمها على طعمه ولونها على لونه » (١) ، ليس بسديد إن أراد به الاشتراط.

والعجب عن شيخنا في الجواهر (٢) أنّه ـ بعد ما ذكر الاحتمالين في مفروض المسألة ـ قوّى الاحتمال الثاني استنادا إلى استصحاب الطهارة ، مع الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن ، فإنّه كما ترى اجتهاد في مقابلة النصّ ، واتّكال بالأصل في موضع الدليل.

فعلى ما قوّيناه لو وقع في الماء نجاسات متعدّدة مختلفة اللون فحصل له من جهتها لون آخر غير موافق للون شي‌ء منها كان نجسا ، ولا يقدح فيه مخالفة لونه لألوانها بحسب النوع.

بل وبما عرفت من التحقيق تعرف أنّه لو وقع فيه نجاسة لا وصف لها من حيث الجهات الثلاث المعهودة ، فامتزجت معه وأورثت فيه بمقتضى اختلاط مزاجيهما تغيّرا في إحدى من جهاته الثلاث كان نجسا ، بل قضيّة بعض ما سبق ـ مضافا إلى أنّ مورد أكثر روايات الباب إنّما هو الميتة أو الجيفة ـ عدم الفرق بين ما لو كان الوصف الغالب من النجاسة على وصف الماء من لوازم طبعها ومقتضيات ماهيّتها كحمرة الدم ونحوها ، أو من الطوارئ اللاحقة بها بعد انقضاء مدّة مثلا ، كنتن الجيفة الّتي أصلها الميتة ، وهي ما لم ينقض عنها زمان اقتضى فيها الفساد ممّا ليس لها وصف مغيّر.

وثالثها : لو وقع في الماء ما يغيّره وكان مردّدا بين الطاهر والنجس لا يخرج الماء عن طهارته الأصليّة ، للأصل السليم عن المعارض ، مع استصحاب الطهارة ، كما أنّه كذلك لو ظنّ بكونه نجسا ، ما لم يقم على اعتبار هذا الظنّ دليل بالخصوص ، ولو وقع فيه من النجس ما يصلح للتغيير فاستعقب تغيّرا في الماء مع عدم العلم باستناده إليه كان باقيا على طهارته ، كما أنّه لو وقع فيه ما شكّ في كونه صالحا للتغيير فتعقّبه التغيّر مع

__________________

(١) المعتبر : ٨.

(٢) جواهر الكلام ١ : ١٩٤.


احتمال استناده إلى غيره كان طاهرا.

وكذلك لو وقع فيه طاهر ونجس وتعقّبهما التغيّر مع الشكّ في استناده إلى الطاهر أو النجس ، نعم لو علم باستناده إلى أحدهما معيّنا يلحقه حكمه من طهارة أو نجاسة ، وأمّا لو علم باستناده إليهما معا على نحو الشركة فهو من جزئيّات الفرع الأوّل وقد تبيّن حاله.

ولو تغيّر بعض الزائد على الكرّ فإن كان الباقي كرّا اختصّ النجاسة بالمتغيّر ، بخلاف ما لو كان الباقي دون الكرّ فإنّه ينجّس الجميع ، أمّا البعض المتغيّر فللتغيّر ، وأمّا الباقي فبالملاقاة ، وأمّا لو شكّ في كرّيّة الباقي كان محكوما عليه بالطهارة للأصل والاستصحاب.

وأمّا ما يسند إلى بعض الشافعيّة (١) ـ من القول بنجاسة الجميع وإن كثر وتباعدت أقطاره ، لأنّ المتغيّر نجس فينجّس ما يلاقيه ثمّ ينجّس ملاقي ملاقيه وهكذا ـ فضعيف جدّا ؛ لأنّ ملاقي النجس إذا كان كثيرا لا ينجّس بالملاقاة إجماعا كما يأتي تحقيقه.

ولو تغيّر الماء بالنجاسة في غير الصفات الثلاثة ، من الحرارة والبرودة أو الخفّة والغلظة أو الصفاء والكدورة أو التأثير والخاصّيّة لم ينجّس قولا واحدا فتوى وعملا ؛ لاختصاص أدلّة التنجيس بغير تلك الصفات من الصفات الثلاثة ، ولا ينافيه ما فيها من المطلقات بعد إعمال قاعدة حمل المطلق على المقيّد ، الّذي هو عبارة عن الحصر المستفاد من ملاحظة مجموع الروايات ، حيث لم يقع فيها إشارة إلى اعتبار التغيّر فيما عدا الأوصاف الثلاث بالخصوص.

ولو تغيّر بالمجاورة ومرور رائحة النجاسة القريبة منه إليه من دون ملاقاتها له لم ينجّس أيضا ، وفي الحدائق قولا واحدا (٢) ؛ لأنّ الرائحة ليست بنجاسة فلا تؤثّر تنجيسا ، وهو كما ترى في غاية الجودة ، وإن كان لا يخلو عن ضرب من القصور في التأدية.

فتوضيحه : أنّ الحكم في أكثر روايات الباب معلّق على أعيان النجاسات من الدم والبول والجيفة على فرض وقوعها في الماء وكونها بأعيانها فيه ، ولا ريب أنّ اللون في مفروض المسألة ليس بعين نجسة ، كما أنّ العين فيها ليست بواقعة في الماء ، ومعه

__________________

(١) المغني لابن قدامة ١ : ٢٩.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٨٧.


لا داعي إلى الحكم بالنجاسة في تلك الصورة.

نعم ، في جملة من الروايات ما يوهم في ابتداء النظر عدم الفرق بين ما لو كان التغيّر عن عين النجاسة أو عن مجاورتها ومرور رائحتها ، كالنبوي المتقدّم (١) ، والأولى من روايتي دعائم الإسلام (٢) ، ورواية الشهاب (٣) بما في ذيلها ، ورواية حريز (٤) ، وروايتي محمّد بن إسماعيل (٥) الواردتين في البئر ، ولكن ليس شي‌ء منها بشي‌ء.

أمّا النبوي فللقدح في سنده أوّلا ، ودلالته ثانيا.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من كونه عامّيّا مرسلا وإن ادّعي كونه متواترا ، ولا جابر له في خصوص المقام لما عرفت من ذهاب الأصحاب إلى خلاف ما اقتضاه إطلاقه أو عمومه ، بل ولو فرضنا سنده صحيحا لسقط عن الاعتبار في خصوص هذا الحكم ، بملاحظة إعراض الأصحاب عنه من هذه الجهة وعدم الاعتناء به.

وأمّا الثاني : فلمنع عموم أو إطلاق في الرواية بحيث يشمل المبحوث عنه أيضا ؛ فإنّ « شيئا » في قوله : « لا ينجّسه شي‌ء ، » لا يراد منه ما يصدق عليه الشي‌ء في الخارج كائنا ما كان ، وإن كان عامّا من جهة وقوعه في سياق النفي ، بل يراد به بملاحظة تركيب الكلام وتضمّنه للفظ « ينجّسه » جميع الأفراد ممّا كان من سنخ المتنجّس ، كما أنّه لو قال لأحد : « ما أكلت اليوم شيئا » ، لا يتناول ذلك العامّ ما ليس من أفراد المأكول أصلا ، بل هو عامّ في خصوص أفراد المأكول ، فيكون حاصل تقدير الرواية : أنّه لا ينجّسه شي‌ء من المنجّسات ، فيكون قوله : « إلّا ما غيّر لونه » الخ استثناء عن الشي‌ء بهذا المعنى ، وحاصله : إلّا متنجّس غيّر لونه الخ.

ولا ريب أنّه بهذا المعنى لا يتناول نظائر المقام ولو فرضناه عامّا ، بناء على القول بكون الموصولات من العمومات ؛ إذ العامّ إنّما يشمل أفراده بعد الفراغ عن إحراز فرديّتها له ، وكون مرور الرائحة إلى الماء من النجاسة وتغيّره بالمجاورة منجّسا له ممّا

__________________

(١) عوالي اللآلي ١ : ٩ / ٦.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١١١.

(٣) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(٤). التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ ـ الاستبصار ١ : ١٢ / ١٩ ـ الوسائل ١ : ١٣٧ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٦ ـ الوسائل ١٧٢ : ١ ، ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.


لم يكن محرزا ؛ لعدم قيام دليل من الشرع على أنّه أيضا يوجب نجاسة الماء فيكون مشكوكا في فرديّته ، ومعه لا يعقل العموم بالقياس إليه.

وأمّا رواية دعائم الإسلام فللقدح فيها أيضا سندا ودلالة.

أمّا الأوّل : فقد اتّضح ، وأمّا الثاني : فلانصراف قوله : « وليس ينجّسه شي‌ء ما لم يتغيّر أوصافه » إلى الامور المذكورة أوّلا من الجيف والعذرة والدم ، فيكون التغيّر ظاهرا فيما يستند إليها ، وهو ظاهر فيما يستند إلى أعيانها.

ودعوى : أنّ المورد لا يصلح مخصّصا للوارد.

يدفعها : أنّ الحمل المذكور ليس من باب التخصيص بل هو عند التحقيق أخذ بما هو من مقتضى التخصّص.

وبيان ذلك : أنّ لفظ « شي‌ء » حيثما طرأه العموم المصطلح ليس على حدّ غيره من ألفاظ العموم الّتي لمدلولها أفراد مضبوطة معيّنة لا يتجاوزها الألفاظ إلّا بالتخصيص ، بل هو في إفادته العموم وكمّيّة ما يعمّه يتبع المقام ، ويأخذ من الأفراد ما يناسبه ويساعد عليه سياق الكلام ، فقوله : « ليس ينجّسه شي‌ء » إنّما ينصرف عرفا إلى ما سبقه من النجاسات المذكورة ، فيكون عامّا في أفرادها لا مطلقا.

وأمّا الثالث : فلظهور أنّ المراد بالماء الراكد بقرينة ما سبق الماء الراكد الّذي فيه الجيفة.

لا يقال : لو صحّ ذلك لكان إضمار السؤال عن أحدهما مغنيا عنه في الآخر لكون كلّ من الغدير والراكد من واد واحد.

لأنّا نقول : إنّهما موضوعان متغايران وإن كان الثاني أعمّ من الأوّل ، فإنّ الغدير هو الماء الّذي تغادره السيول أي تخلّفه ، والراكد هو الماء الساكن الغير الجاري ، فلعلّ السائل قد أضمر السؤال عن كليهما لتوهّمه الفرق بينهما في الحكم باعتبار خصوصيّة من الخصوصيّات ، لعلمه بأنّ مبنى الشرع على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتّفقات.

وأمّا الرابع : فلأنّ المتبادر من قوله : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة » ما اعتبر غلبة وصفه على الجيفة الواقعة فيه الملاصقة له ، لا مطلقا.

وأمّا الخامس : فلأنّ المراد بـ « الإفساد » الوارد في الروايتين إنّما هو الإفساد الشرعي المانع عن استعمال الماء في مشروط بالطهارة وهو التنجيس ، فيرجع مفاده إلى ما قرّرناه في


النبوي ، فلا يتناول عمومه للمجاورة ونحوها لمكان الشكّ في كونها من المنجّسات.

ولو تغيّر الماء في أحد أوصافه الثلاثة المعروفة بالمتنجّس دون عين النجس ـ كالدبس النجس وما شابهه ـ ففي قبوله النجاسة به وعدمه وجهان ، بل قولان على ما قيل ، فالمعظم إلى الثاني ، وعن كشف اللثام : « أنّه ظاهر الأكثر » (١) ، وفي الرياض : « أنّه الأشهر » (٢) ، وعن شرح المفاتيح : « أنّه مذهب جميع من عدا الشيخ » (٣) ، وعن ظاهر الشيخ في المبسوط (٤) الأوّل ، فلا فرق في نجاسة الماء بالتغيّر عنده بين ما لو كان التغيّر بعين النجس أو بالمتنجّس ، وربّما يعزى إلى ظاهر السيّد في الجمل (٥) أيضا بل عن المصابيح (٦) أنّه استظهره من المعتبر (٧) والتحرير (٨) ، وقد يستظهر الموافقة من السرائر (٩) كما في الجواهر (١٠) ، بل في مناهل السيّد (١١) : « أنّه قد يستظهر من الكتب الّتي أطلقت التنجّس بالتغيّر مصرّحة بأنّه لا ينجّس الجاري إلّا أن يتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه ، كالمقنعة (١٢) ، وجمل العلم (١٣) ، والجمل والعقود (١٤) ، والغنية (١٥) ، والتبصرة (١٦) ، والدروس (١٧) ، والبيان (١٨) ، والجعفريّة (١٩) ، ومجمع الفائدة (٢٠).

وقد يدّعى استفادته أيضا من الكتب الّتي صرّحت بأنّه لا ينجّس إلّا باستيلاء النجاسة على أحد أوصافه ، كالوسيلة (٢١) ، والمراسم (٢٢) ، والنافع (٢٣) ، والشرائع (٢٤) ،

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٥٦.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٣٤.

(٣) مصابيح الظّلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخلوط) الورقة : ٥١٧.

(٤) المبسوط ١ : ٥.

(٥ و ١٣) الجمل والعلم (رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٢٢).

(٦) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (المخطوط) الورقة : ١١. (٧) المعتبر : ٨.

(٨) تحرير الأحكام : ١ : ٥.

(٩) السرائر ١ : ٦٢. (١٠) جواهر الكلام ١ : ٢٠٤.

(١١) المناهل ـ : كتاب الطهارة (مخطوط) ـ ص : ٨٧.

(١٢) المقنعة ١ : ٦٤. (١٤) الجمل والعقود (في ضمن الرسائل العشر : ١٦٩).

(١٥) غنية النزوع (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٣٧٩). (١٦) تبصرة المتعلّمين ١ : ٢٣.

(١٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩. (١٨) البيان : ٩٨.

(١٩) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٣). (٢٠) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٠.

(٢١) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤١٤). (٢٢) المراسم العلويّة : ٣٧.

(٢٣) المختصر النافع : ١٤١.

(٢٤) شرائع الإسلام : ١ : ٧.


وحاشيته (١) ، ومن الكتب الّتي صرّحت بأنّه لا ينجّس إلّا بتغيّر لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة كالنهاية (٢) والإرشاد (٣) والقواعد (٤) والسرائر (٥) ونهاية الإحكام (٦) والجامع (٧) واللمعة (٨) والروضة (٩) ، لأنّ النجاسة يعمّ المتنجّس في كلمات الأصحاب.

وأنت خبير : بأنّ كلّ هذه الاستظهارات وارد على خلاف التحقيق ، فإنّ لفظ « النجاسة » أو « النجس » ليس ممّا ورد في أخبار الباب ، ولا أنّه اخذ بهذا العنوان الكلّي عنوانا في أدلّة المسألة ، بل هو مفهوم كلّي انتزعه الفقهاء عن الموارد الخاصّة الواردة في الروايات والأعيان المخصوصة من النجاسات المعلّق عليها الحكم في أخبار الباب ، كالبول والدم والميتة والجيفة ، بعد إسقاط الخصوصيّة وإلغاء الفارق بينها وبين سائر أنواع النجاسات ، ولا ريب أنّ ما ينتزع عن شي‌ء لا يراد منه عند الإطلاق إلّا ما ينطبق على المنتزع عنه ، وليس المتنجّس من جملته ؛ ضرورة عدم وروده في الروايات بهذا اللفظ ، ولا أنّ فيها إشارة إليه ، ولا أنّ شيئا من مصاديقه مذكور في أسئلتها ولا أجوبتها ، حتّى يقال : بأنّ ما ذكر من المفهوم الكلّي منتزع عمّا يعمّه والموارد الخاصّة من أعيان النجاسة ، ومعه كيف يجترئ على الفقهاء باستظهار كون مرادهم من النجاسة في عناوينهم المطلقة ما يعمّ الأمرين.

كيف ولو كانت قضيّة الاستظهار صادقة على النهج المذكور لزم كون القول بنجاسة الماء إذا تغيّر بالمتنجّس مذهبا للمشهور ، وهو كما ترى ينافي خلوّ كلامهم كافّة عن التصريح بذكره عنوانا ومثالا ، وكأنّ الحال في استظهار هذا القول أيضا من الشيخ والسيّد من هذا القبيل ، بل هو كذلك عند التحقيق ؛ لقصور العبارة الّتي استظهر منها هذا القول عن إفادته والدلالة على اختياره ، وهي ـ على ما حكي عنه ـ قوله : « ولا طريق إلى تطهير المضاف إلّا بأن يختلط بما زاد على الكرّ من المياه الطاهرة المطلقة ، ثمّ ينظر فيه فإن سلبه إطلاق اسم الماء وغيّر أحد أوصافه ، إمّا لونه أو طعمه أو رائحته فلا يجوز

__________________

(١) حاشية شرائع الإسلام ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٣.

(٢) النهاية : ٣.

(٣) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٥.

(٤) قواعد الاحكام ١ : ١٨٢.

(٥) السرائر ١ : ٦٢.

(٦) نهاية الأحكام ١ : ٢٢٨.

(٧) الجامع للشرائع : ٢٠.

(٨) اللمعة الدمشقيّة : ١ : ٢٥١. (٩) الروضة البهيّة ١ : ٢٥١.


استعماله بحال ، وإن لم يتغيّر أوصافه ولا سلبه إطلاق اسم الماء جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه المطلقة » (١).

فإنّ مفاد هذه العبارة ـ كما ترى ـ أنّه صرّح فيما يحكم عليه بعدم جواز الاستعمال باعتبار اجتماع الأمرين من سلب إطلاق الاسم والتغيّر ، وفيما يحكم عليه بجواز الاستعمال باعتبار انتفاء الأمرين معا ، فيبقى ما انتفى عنه أحد الأمرين واسطة بين القسمين ، وهو كما يمكن لحوقه بالقسم الأوّل فكذلك يمكن لحوقه بالقسم الثاني فيكون أعمّ ، ومن البيّن أنّ العامّ لا يصلح دليلا على الخاصّ.

بل لنا أن نقول : بإمكان كون ما انتفى عنه التغيّر دون عدم سلب إطلاق الاسم ملحقا بالقسم الأوّل في الجملة ؛ لأنّه مضاف حينئذ وهو ممّا لا يجوز استعماله في مشروط بالمائيّة ، وما انتفى عنه سلب الإطلاق دون التغيّر ملحقا بالقسم الثاني.

هذا مع أنّ الظاهر كون عطف « التغيّر » على سلب إطلاق الاسم عطفا تفسيريّا مرادا به بيان ما يحقّق سلب الإطلاق ويتحقّق معه عدم صدق الاسم ، بناء على كون المراد بتغيّر الماء حينئذ اكتسابه شيئا من أوصاف المضاف طعما أو لونا أو رائحة ، لا اكتسابه شيئا من صفات النجاسة الواقعة كما هو الظاهر الّذي يساعد عليه الاعتبار ، ولا ينافيه الحكم عليه حينئذ بعدم جواز الاستعمال بحال ، لأنّه إذا اكتسب شيئا من أوصاف المضاف انقلب مضافا فيلحقه النجاسة ، لأنّ المضاف كائنا ما كان ينفعل بملاقاة النجاسة والمتنجّس معا إجماعا ، كانفعال الماء القليل الملاقي بهما ، فحينئذ يكون عبارته أجنبيّة عمّا فهموه بالمرّة ، ولا يعقل معه الاستظهار المذكور.

فالإنصاف : أنّه لم يظهر من أصحابنا من كان قائلا بنجاسة الماء المتغيّر بالمتنجّس صراحة ولا ظهورا ، ومن هنا يمكن استظهار الإجماع على عدم النجاسة ، كيف وأنّه مقتضى الأصل والاستصحاب كما استند إليه المعظم ، ولم يوجد في روايات الباب ما ينافيهما صريحا ولا ظهورا ولا إشعارا.

نعم ، الروايات المطلقة في الحكم بالنجاسة لمجرّد التغيّر ـ الّتي منها النبوي (٢) ـ

__________________

(١) المبسوط ١ : ٥.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١١١.


ربّما توهم ذلك ، ولكنّه يندفع بملاحظة مجموع روايات الباب من مطلقاتها ومقيّداتها ؛ فإنّ الّذي يظهر منها ـ والله أعلم ـ أنّ هذه المطلقات ليست بإطلاقها كما توهّم ، بل هي منزّلة على المقيّدات وناظرة إليها ومنطبقة عليها حرفا بحرف وقذّا بقذّ ، وكأنّ الوجه في ورودها مطلقة تبيّن الأمر للمشافهين بها من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام باعتبار الخارج من قرينة حال أو مقال.

ولو سلّم عدم ظهور ذلك ، فلا أقلّ من صيرورة الإطلاق الّذي فيها بملاحظة ما ذكرناه ـ مضافا إلى مصير المعظم إن لم نقل مصير الكلّ إلى خلافه ـ موهونا ساقطا عن درجة الاعتبار والحجّيّة ، ومعه يبقى الأصلان المذكوران سليمين عن المعارض.

فتحقيق المقام ـ على ما يقتضيه القواعد المقرّرة والاصول المسلّمة ـ أن يقال : إنّ الوصف الحاصل في الماء عند دخول المتنجّس فيه ، إمّا أن يعلم كونه من أوصاف نفس المتنجّس كحلاوة الدبس ، ورائحة ماء الورد ، وحمرة ماء البقّم (١) مثلا ، أو يعلم كونه من أوصاف النجاسة الّتي مع ذلك المتنجّس كحمرة الدم إذا كان المتنجّس متنجّسا من جهته ، أو يعلم كونه من وصفيهما معا على معنى استناد تغيّره إليهما على جهة الشركة ، أو لا يعلم شي‌ء من ذلك.

أمّا الأوّل : فالمتّجه فيه عدم النجاسة لعين ما مرّ.

وأمّا الثاني : فالمتّجه فيه النجاسة لصدق كونه متغيّرا بعين النجاسة فيشمله الأدلّة.

وأمّا الثالث (٢) : فهو من جزئيّات الفرع الأوّل الّذي تقدّم الكلام فيه.

وأمّا الرابع : فهو كالأوّل ، لسلامة الأصلين بالنسبة إليه عن المعارض.

وهذا التفصيل يظهر عن غير واحد من متأخّري أصحابنا ، منهم ثاني الشهيدين في الروضة ، كما أشار إليه بقوله : « فإنّه لا ينجّس بذلك كما لو تغيّر طعمه بالدبس [المتنجّس] (٣) من غير أن تؤثّر نجاسته فيه » (٤) ، وإن كان إطلاق القيد يشمل في كلامه ما

__________________

(١) البقّم : بتشديد القاف ، صبغ معروف ، قيل عربيّ ، وقيل معرّب قال الشاعر : كمرجل الصبّاغ جاش بقّمه (المصباح المنير ؛ مادة « البقّم » : ٥٨).

(٢) وفي الأصل و « أمّا الثاني » ، ومن المقطوع كونه سهوا من قلمه الشريف ، ولذا صحّحناه بما في المتن.

(٣) وفي الأصل : « النجس ».

(٤) الروضة البهيّة ١ : ٢٥١.


لو كان تأثير النجاسة فيه على سبيل الجزئيّة ، فإنّ قضيّة ذلك توجّه الحكم فيه بالنجاسة أيضا وإن كان ذلك خلاف التحقيق كما عرفت سابقا.

وممّن صرّح بهذا التفصيل في الجملة السيّد الطباطبائي في مصابيحه ـ على ما حكي ـ قائلا : « بأنّه لا يتوهّم من إطلاق الأصحاب بعدم نجاسة الماء بتغيّره بالمتنجّس ، أنّه لا ينجّس بتغيّره بالنجاسة بواسطة المتنجّس أيضا ، بناء على أنّ التغيّر بالواسطة تغيّر بالمتنجّس أيضا لا بالنجاسة ، ومن ثمّ ترى الأصحاب مثّلوا له بالدبس المتنجّس ونحوه ممّا يوجب التغيّر بصفته الأصليّة دون العارضة بواسطة النجاسة إلخ » (١) ، وظاهر هذه العبارة بل صريحها أنّ هذا التفصيل مذهب للأصحاب أيضا.

المطلب الثالث :

التغيّر قد يكون حسّيّا وقد يكون تقديريّا ، والمراد بالأوّل ما من شأنه أن يكون مدركا بإحدى الحواسّ الظاهرة من البصر والذوق والشمّ ، وبالثاني ما لا يكون كذلك من جهة كون النجاسة الواقعة في الماء مسلوب الصفات الأصليّة موافقة له في صفاته بالعارض ، ولكن كانت في المقدار بحيث لو كانت على صفاتها الأصليّة المخالفة لصفات الماء كانت موجبة لتغيّره غالبة صفاتها على صفاته ، فهل المعتبر في التغيّر الموجب لتنجّس الماء أن يكون حسّيّا ، فلا يكفي فيه مجرّد التقدير ما لم يكن التغيّر ممّا يدركه الحسّ ، أو لا؟ بل هو موجب للتنجّس ولو تقديريّا ، بحيث لو لم يكن محسوسا يجب تقدير الأوصاف في النجاسة ، فلو كانت ممّا يتغيّر بها الماء على تقدير وجودها نجس الماء وإلّا فلا.

اختلف فيه الأصحاب على قولين :

أوّلهما : ما عليه الأكثر كما في الرياض (٢) ، وهو قول أكثر الأصحاب كما عن الذخيرة (٣) ، وهو المشهور كما في الحدائق (٤) ، وهو لظاهر المعظم وثاني الشهيدين

__________________

(١) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٢.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٣.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٦.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ١٨١.


وجماعة من المتأخّرين كما عن المصابيح (١) ، وهو ظاهر المذهب كما عن الذكرى (٢) والروض (٣) ، وهو صريح أكثر من تأخّر عن العلّامة (٤) وظاهر من تقدّمه (٥) ، لتعبيرهم بالتغيّر الظاهر في الحسّي كما في الجواهر (٦).

وثانيهما : ما صرّح به العلّامة في القواعد (٧) ، وعنه أيضا في نهاية الإحكام (٨) ، والمختلف (٩) ، وعن ابنه فخر الإسلام في الإيضاح (١٠) ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (١١) ، وعن المصابيح (١٢) : أنّه حكاه عن ابن فهد في موجزه (١٣) ، وفي المناهل (١٤) : « وقيل : نفى عنه البعد في حبل المتين » (١٥).

حجّة الأوّلين : الأصل والعمومات ودلالة النصوص والفتاوي على دوران الحكم بالتنجّس مدار التغيير بالأوصاف الثلاثة ، الّذي هو حقيقة في الحسّي خاصّة.

أمّا أوّلا : فلأنّه المتبادر منه عند الإطلاق.

وأمّا ثانيا : فلصحّة السلب عن التقديري.

وأمّا ثالثا : فلتصريح جامع المقاصد ١٦ والروض ١٧ بأنّ التغيّر حقيقة في الحسّي ، وهو لا يقصر عن إخبار أهل اللغة بوضع اللفظ بل هو أولى بالقبول ، وأنّ اعتبار التقدير في مسلوب الصفة يقتضي اعتباره في فاقدها وفي الواجد الضعيف منها ، والإجماع قائم على عدمه كما عن المصابيح ١٨.

__________________

(١) مصابيح الأحكام : ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١١.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٧٦.

(٣) روض الجنان : ١٣٤.

(٤) كالسيّد في مدارك الاحكام ١ : ٢٩ ـ والسبزواري في ذخيرة المعاد : ١٧٦.

(٥) كالمفيد في المقنعة : ٦٤ ـ والشيخ في المبسوط ١ : ٥ ـ وابن إدريس في السرائر ١ : ٦٠ وأبي الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٦) جواهر الكلام ١ : ١٩٥.

(٧) قواعد الاحكام : ١ : ١٨٣. (٨) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٧.

(٩) مختلف الشيعة ١ : ١٧٧. (١٠) إيضاح الفوائد ١ : ١٦.

(١١ و ١٦) جامع المقاصد ١ : ١١٤.

(١٢ و ١٨) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ص ١١.

(١٣) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١١).

(١٤) المناهل : كتاب الطهارة ـ ص ٩١ (مخطوط).

(١٥) الحبل المتين : ١٠٦.

(١٧) روض الجنان : ١٣٤.


وللآخرين أيضا وجوه :

منها : ما عن الإيضاح من أنّ هذا القول أحوط فيجب المصير إليه (١).

وفيه أوّلا : أنّ الاحتياط لا يجدي نفعا في إثبات ما هو الغرض الأصلي في المسألة من معرفة حكم الله الواقعي.

وثانيا : منع وجوب الاحتياط ، لسلامة الاصول وعمومات الطهارة عن المعارض ؛ إذ المفروض أنّ أدلّة التنجّس بالتغيّر لا تشمل هذا الفرد ، كما يظهر الاعتراف به من أصحاب هذا القول ، فلذا لا يتمسّكون له إلّا بوجوه لا ترجع إلى دلالة تلك الأدلّة ، فلا معارض لعمومات الطهارة ، والمفروض أنّه لا إجمال فيها فيندرج فيها المقام ، ويبقى الاصول مؤيّدة لها.

نعم ، إنّما يتّجه الاحتياط وجوبا لو كانت النجاسة الواقعة في الماء باعتبار الكثرة بحيث أوجبت الشكّ في استهلاك الماء أو خروجه عن الإطلاق ، من جهة أنّ ذلك شكّ في الاندراج في عمومات الطهارة ، غير أنّ صور المسألة لا تنحصر في ذلك ، ومن هنا قد يجاب عنه بمنع كونه أحوط في جميع الفروض بل هو كذلك غالبا ، وأنت خبير بأنّ دعوى الغلبة أيضا ليست في محلّها.

ومنها : ما عن العلّامة : « بأنّ التغيّر الّذي هو مناط النجاسة دائر مع الأوصاف ، فإذا فقدت وجب تقديرها » (٢).

وفيه : تسليم المقدّمة الاولى ومنع الثانية ، لكونها إعادة للمدّعى فلا تصلح دليلا.

وقد يوجّه : بأنّ غرضه دعوى استناد النجاسة إلى عين النجاسة وذاتها ، فإنّها المؤثّرة في تنجّس العين دون الوصف ، فلهذا لا يحكم به في صورة تغيّر الأوصاف بالمجاورة ، فالأوصاف الثابتة في النجاسة ممّا لا مدخل لها في التأثير ، غير أنّ الشارع تعالى أناط الحكم بتغيّر الوصف من جهة أنّه كاشف وجودا وعدما عن تحقّق المؤثّر الواقعي ، فإذا علم عند فقد الوصف بتحقّق المقدار الّذي يكفي في حصول الأثر على تقدير وجود الوصف كما هو قضيّة القول بالتقدير علم بتحقّق المؤثّر التامّ ، ومعه لا مناص من الحكم

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ١٦.

(٢) حكى عنه في ذخيرة المعاد : ١١٦.


بحصول الأثر استحالة تخلّف الأثر عن مؤثّره التامّ ، ولا يقدح فيه فقدان الوصف حينئذ لأنّ فائدة اعتباره ليست إلّا الكشف عن الواقع وقد حصل بدونه من جهة التقدير.

وفيه : منع عدم دخول تغيّر الوصف في المؤثّر ، بل ظاهر الأدلّة إن لم نقل صريحها كون التغيّر مؤثّرا في الحكم داخلا في موضوعه ، ومعه لا يعقل التفكيك بينه وبين الحكم ، سلّمنا عدم ظهور ذلك ولكن ظهور خلافه من الأدلّة في حيّز المنع ، ومعه يبقى المقام مشكوكا في اندراجه تحت تلك الأدلّة ، فيبقى أدلّة الطهارة سليمة عمّا يزاحمها.

ومنها : ما عن فخر المحقّقين في الإيضاح ، من « أنّ وجه اختيار المصنّف صيرورة الماء مقهورا ؛ لأنّه كلّما لم يصر مقهورا بالنجاسة لم يتغيّر بها على تقدير المخالفة ، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كلّما تغيّر على تقدير المخالفة كان مقهورا ، ولا يلزم من عدم أمارة الشي‌ء عدمه » (١).

وفيه أوّلا : كذب الأصل المستلزم لكذب العكس ـ للضابطة المقرّرة في محلّه المعتبرة في قاعدة عكس النقيض ـ إن اريد بمقهوريّة الماء مقهوريّته بحسب الذات ، بكون النجاسة الواقعة فيه أكثر منه بحسب الكمّيّة والمقدار ، لضرورة قضاء الوجدان المطابق للحسّ والعيان بأنّ النجاسة كثيرا ما تكون بحسب المقدار أقلّ من الماء بمراتب شتّى فتغيّره لو وقعت فيه ، ويكفيك في ذلك ملاحظة الدم والجيفة فإنّ صاعا من الأوّل يغيّر صياعا من الماء ، ولا سيّما عند اشتداد لونه وبلوغه في الشداد حدّ السواد ، وأنّ دجاجة من الثاني إذا أنتنت تغيّر أكرارا من الماء فضلا عن كرّ واحد أو أقلّ ، وعن جيفة الشاة أو ما هو أكبر منها في الجثّة ، ولا ندري من أنّ دعوى هذه الكلّيّة القاطعة للضرورة من أيّ شي‌ء نشأت لمثل هذا الفاضل المشتهر بالمحقّق ، نعم لو اريد بالمقهوريّة ما هو بحسب الكيف أعني الوصف فكلّيّة الشرطيّة مسلّمة ، ولكنّ الشرط كذب وإلّا كان خارجا عن الفرض فلا نتيجة.

وثانيا : أنّ المقهوريّة إن اريد بها ما يتحقّق معها الاستهلاك فلا كلام لأحد في التنجّس هنا ، بل هو في الحقيقة خارج عن مفروض المسألة ، وإن اريد بها ما دون ذلك

__________________

(١) إيضاح الفوائد ١ : ١٦.


على وجه يكون الإطلاق معه باقيا ، فكونها مع فقد الوصف ملزومة للتنجّس على ما هو النتيجة المقصودة أوّل الكلام ، إلّا إذا ثبت أنّها هو السبب التامّ ، وتغيّر الوصف حيثما يوجد إنّما اعتبر كاشفا والكاشف قد يقوم مقامه غيره ، وهو في حيّز المنع كيف ولم يثبت إلّا خلافه كما تقدّم الإشارة إليه ، ونفصّله أيضا بعد ذلك.

وقد يجاب عنه ـ أيضا ـ على هذا التقدير : بأنّ المدار لو كان على الغلبة والمقهوريّة فكيف يصحّ تعليق الحكم على التغيّر الّذي هو وصف مفارق لها ، وجعلها دائرة مداره ، وأيضا ينبغي القول حينئذ بما إذا كشف عن الغلبة غير التغيّر من الكثرة ونحوها ، وأيضا لو كان المدار عليها لوجب القول بالتقدير في فاقد الصفات ، وفي الواجد الضعيف ، وقد نقل الإجماع على خلافه ، وبعض هذه الوجوه غير خال عن المكابرة.

ومنها : ما عن المحقّق الثاني في شرح القواعد من « أنّه يمكن الاحتجاج بأنّ المضاف المسلوب الأوصاف لو وقع في الماء وجب اعتباره إمّا بقلّة الأجزاء أو كثرتها ، أو تقديره مخالفا في الأوصاف على اختلاف القولين ، وإذا وجب الاعتبار في الجملة للمضاف فللنجاسة أولى ، ولأنّ عدم وجوب التقدير يفضي إلى جواز الاستعمال وإن زادت النجاسة على الماء أضعافا وهو كالمعلوم البطلان ، فوجب تقدير الأوصاف لأنّها مناط التنجّس وعدمه » (١).

وفيه : بعد تسليم الحكم في المقيس عليه منع الأولويّة في المقيس ، لوضوح الفرق بينهما بأنّ الحكم هنا معلّق على أمر واقعي يستلزم المحسوسيّة ، فإذا انتفت المحسوسيّة كشف عن انتفاء ذلك الأمر الواقعي المعلّق عليه الحكم ، لوضوح استلزام انتفاء اللازم انتفاء الملزوم فينتفي معه الحكم ، وثمّة معلّق على أمر واقعي لا يستلزم المحسوسيّة ، فإذا لم يكن مدركا بالحسّ لفقده أوصافه احتمل كونه متحقّقا في الواقع لاحتمال استهلاك الماء به ، واحتمل عدم تحقّقه لاحتمال استهلاكه بالماء ، فوجب تقدير أوصافه استعلاما لحقيقة الحال.

وأيضا المقصود بالتقدير هنا إحراز ما هو من مقولة المانع وهو التنجّس ، بعد الفراغ عن إحراز المقتضي وهو صدق « المائيّة » وبقاء الإطلاق ، وثمّة إحراز المقتضي باستعلام بقاء « المائيّة » وصدق الاسم ، ولا ريب أنّ المقتضي ممّا لا يحرز إلّا بطريق

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١١٤.


رافع للشكّ ، فلذا لا يمكن إحرازه بالأصل إلّا في بعض الفروض النادرة ، فلا بدّ من اعتبار التقدير استكشافا عن وجود المقتضي وبقائه أو ارتفاعه ليتوصّل به إلى ترتيب الأحكام المعلّقة عليه وجودا وعدما ، وهو لا يقضي بوجوب التقدير فيما لو شكّ في وجود المانع وتحقّقه مع الجزم ببقاء المقتضي ؛ لأنّ المانع ممّا ينفي احتماله بالأصل فيترتّب على المقتضي الموجود أحكامه المعلّقة عليه.

وأمّا ما ذكره في العلاوة ، فإن أراد به صورة الاستهلاك وعدم بقاء الإطلاق فهو ممّا لا يقول فيه أحد بجواز الاستعمال في مشروط بالمائيّة ولا في مشروط بالطهارة ، وإن أراد به غير تلك الصورة حتّى لا يكون زيادة النجاسة على الماء أضعافا منافية لبقاء « المائيّة » وصدق الاسم عليه عرفا ، فدعوى العلم بالبطلان فيه غير واضح الوجه ؛ لعدم كونه ممّا يساعد عليه العقل والشرع وإلّا ارتفع الإشكال ، بل لا نرى ذلك إلّا استبعادا صرفا هو ممّا لا يصلح للتعويل عليه في استعلام أحكام الشرع ، سيّما بعد ملاحظة قيام الدلالة الشرعيّة على الجواز ، من أصل وعموم وإطلاق دليل كما سبق الكلام فيه.

ومنها : ما احتجّ به في الحدائق من أنّه « يمكن أن يقال : إنّ التغيّر حقيقة في النفس الأمري لا فيما كان محسوسا ظاهرا ، فقد يمنع عن ظهوره مانع ، كما اعترفوا به فيما سيأتي ممّا إذا خالفت النجاسة الجاري في الأوصاف لكن منع من ظهورها مانع ، فإنّهم هناك قالوا بوجوب التقدير استنادا إلى أنّ التغيّر حصل واقعا وإن منع من ظهوره مانع ، والمناط التغيّر في الواقع لا الحسّي ، والفرق بين الموضعين لا يخلو عن خفاء.

ويؤيّد ذلك أنّ الشارع إنّما أناط النجاسة بالتغيّر في هذه الأوصاف لدلالته على غلبة النجاسة وكثرتها واقعا ، وإلّا فالتغيّر لها من حيث هو لا مدخل له في التنجّس ، فالتنجيس حقيقة هو غلبة النجاسة وزيادتها ، وإن كان مظهره التغيّر المذكور ، وحينئذ فلو كانت هذه النجاسة المسلوبة الأوصاف بلغت في الكثرة إلى حدّ يقطع بتغيّر الماء بها لو كانت ذات أوصاف ، فقد حصل موجب التنجّس حقيقة الّذي هو غلبة النجاسة وزيادتها على الماء » (١).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٨١.


وفيه : أنّ الأمر الواقعي النفس الأمري قد يستلزم المحسوسيّة لزوما مساويا ، خصوصا التغيّر الّذي هو عبارة عن انتقال الشي‌ء عن حالة إلى اخرى ، فإذا انتفت المحسوسيّة كشف عن انتفاء ما هو ملزوم لها ، فالتغيّر حينئذ معدوم صرف لا أنّه موجود وقد منع عن ظهوره مانع ، فقوله : « فقد يمنع عن ظهوره مانع » ، ليس بالقياس إلى مفروض المسألة في محلّه جدّا ، كما أنّ قوله : « كما اعترفوا به فيما سيأتي ممّا إذا خالفت النجاسة الجاري في الأوصاف لكن منع من ظهورها مانع » ليس في محلّه إن أراد به مقايسة المقام عليه ، كيف وأنّ أصل الحكم في المقيس عليه غير مسلّم إلّا في بعض الفروض النادرة الّتي هي في الحقيقة خارجة عن محلّ البحث ـ كما سيأتي الكلام فيه مفصّلا ـ وعلى فرض تسليم ذلك فالفرق بين المقامين واضح كما بين السماء والأرض ، فإنّ عدم الظهور لوجود مانع غير عدم الظهور لفقد المقتضي ؛ إذ الأوّل ربّما لا يكون منافيا لوجود أصل الموجود بحسب الواقع بخلاف الثاني لاستناد عدم الظهور فيه إلى عدم الوجود ، فالسالبة فيه إنّما هي بانتفاء الموضوع وفي الأوّل بمنع المانع الخارجي مع تحقّق الموضوع ، فبطل بذلك قوله : « والمناط التغيّر في الواقع لا الحسّي والفرق بين الموضعين لا يخلو عن خفاء ».

وأمّا ما ذكره في نتيجة الوجه الثاني بقوله : « فالمنجّس حقيقة هو غلبة النجاسة وزيادتها إلخ ».

ففيه : أنّا لا ندري أنّ هذا المناط من أيّ شي‌ء حصل له ولمن تقدّمه ، فهل هو بما أثبته الإجماع أو أعطاه النصّ أو أنّه استفيد بالاستنباط؟ وظنّي أنّه وهم نشأ عن ورود التعبير في بعض روايات الباب بلفظ « الغلبة » مطلقة أو مضافة إلى عين النجاسة دون وصفها ، كما في رواية شهاب المتضمّنة لقوله : « وكلّما غلب كثرة الماء فهو طاهر » (١) ، ورواية أبي بصير المشتملة على قوله : « وإن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه » (٢) ، والرواية المرسلة المشتملة على قوله : « إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا توضّأ

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ بصائر الدرجات ٢٥٨ / ١٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٨ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٦.


منه ، وإن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه ، واغتسل » (١).

وأنت خبير بأنّ التعويل على مجرّد ذلك ليس على ما ينبغي ، مع إمكان حمله على غلبة الوصف على حدّ حذف المضاف ، بقرينة سائر الروايات المصرّحة باعتبار الغلبة أو التغيّر في الوصف ، كما في رواية الفقه الرضوي : « إلّا أن يكون فيه الجيف فتغيّر لونه وطعمه ورائحته » (٢) ، ومرسلة مختلف العلّامة : « إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه » (٣) ، وصدر رواية الشهاب : « إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن » (٤) ، ورواية العلاء بن الفضيل : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٥) ، وهكذا إلى آخر الروايات المتقدّمة مع أنّ الاعتماد عليه كما ترى طرح لتلك النصوص أو الظواهر الكثيرة.

فإن قلت : إنّما يلزم ذلك لو كانت الروايات المذكورة منافية له وليس كذلك ، بعد ملاحظة كون اعتبار الأوصاف فيها واردا من باب الكاشفيّة دون المدخليّة.

قلنا : إنّما ينافي ذلك الجمل الشرطيّة الواردة فيها الظاهرة في العلّيّة وارتباط الجزاء بالشرط ربطا مسبّبيّا بسببه التامّ كما قرّر في محلّه ، وقضيّة ما ذكر حمل هذه على إرادة مجرّد الملازمة ، كالّتي بين المتلازمين المتساويين أو المختلفين في العموم والخصوص وهو كما ترى ممّا لا وجه له ولا داعي إليه أصلا ، مع ما ذكرنا من احتمال اعتبار الإضمار فيما ذكر ، ولا ينبغي لأحد أن يعارض ذلك باحتمال التجوّز في القضايا المذكورة.

أمّا أوّلا : فلأنّها أظهر في إفادة السببيّة بمراتب شتّى من ظهور ما ذكر في عدم الإضمار.

وأمّا ثانيا : فلصيرورة هذا الظاهر موهونا بقلّته في الغاية ، وإعراض الأكثر الأشهر عنه فلا يعبأ به جدّا ، ولا أنّه صالح للمعارضة ، مع أنّ ظاهر سياق مجموع الروايات

__________________

(١) نقله في مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.

(٢) فقه الرضا : ٩١ ب ٥ ـ مستدرك الوسائل ١ : ١٨٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨.

(٤) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ بصائر الدرجات ٢٥٨ / ١٣.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٣.


بملاحظة العرف يقضي بعدم اعتبار هذا الظاهر واعتبار ما يقضي بسببيّة الأوصاف وإناطة الحكم بها من غير دخل فيه للغلبة أو الكثرة في الماء أو النجاسة ، مضافا إلى ما قيل : « إنّ اعتبار هذه الصفات لو كان لكشفها عن الغلبة » ـ كما ادّعاه المستدلّ ـ لزم اعتبار غيرها من الصفات أيضا ، لأنّها في الكشف عن الغلبة مثلها ، فعلم أنّ المدار على خصوصيّة الصفات المعتبرة فيثبت الحكم بثبوتها.

تنبيه :

قال في المدارك ـ بعد ما وافقنا في المسألة السابقة ـ : « لو خالفت النجاسة الجاري في الصفات لكن منع من ظهورها مانع ، كما لو وقع في الماء المتغيّر بطاهر أحمر دم مثلا فينبغي القطع بنجاسته لتحقّق التغيّر حقيقة ، غاية الأمر أنّه مستور عن الحسّ ، ثمّ قال : وقد نبّه على ذلك الشهيد رحمه‌الله في البيان. انتهى » (١).

ومحكيّ عبارة البيان أنّه قال : « إنّ الماء إذا كان مشتملا على ما يمنع من ظهور التغيّر فحينئذ يكفي التقدير ، لأنّ التغيّر هنا تحقيقي ، غاية الأمر أنّه مستور عن الحسّ » (٢). وحكى نحوه عن المعالم (٣) ، وجامع المقاصد (٤) ، وعن المصابيح (٥) أيضا ، سيّما فيما لو كانتا الصفة الثابتة في الماء أصليّة ، كما في المياه الزاجيّة والكبريتيّة مدّعيا فيها القطع بالتنجّس ، وفي الحدائق : « أنّه ما قطع به متأخّر والأصحاب من غير خلاف معروف في الباب » (٦)

ويظهر من إطلاق ثاني الشهيدين في الحكم بعدم اعتبار التقدير خلاف ذلك حيث قال : « والمعتبر من التغيّر الحسّي لا التقديري » (٧) ، بل هو خيرة الرياض (٨) حيث صرّح بعدم الفرق في عدم اعتبار التقدير بين حصول المانع ظهور التغيّر وعدمه ، كما إذا توافق الماء والنجاسة في الصفات وعليه كافّة من عاصرناهم ، وعن المحقّق الخوانساري (٩)

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٠.

(٢) البيان : ٩٨.

(٣) فقه المعالم : ١ : ٤٧ ، حكاه عنه في جواهر الكلام ١ : ١٩٧.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١١٤.

(٥) مصابيح الأحكام في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ ص ١١ (مخطوط) ـ حكاه عنه في جواهر الكلام ١ : ١٩٧.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ١٨٤.

(٧) مسالك الافهام ١ : ١٤. (٨) رياض المسائل ١ : ١٣.

(٩) مشارق الشموس : ٢٠٣.


الفرق في صورة مانعيّة صفات الماء عن ظهور التغيّر بين كونها أصليّة كالمياه الزاجيّة والكبريتيّة وبين كونها عارضيّة كالمصبوغ بطاهر ، فيعتبر التقدير في الثاني دون الأوّل ، فانقدح بذلك أنّ المسألة ذات أقوال ثلاث.

وتحقيق المقام : أنّ الماء إذا وافق النجاسة في الأوصاف لخلقة أو لعارض ، فإمّا أن يكونا متساويين فيها بحسب المرتبة ـ على معنى كونهما باعتبار الوصف في درجة واحدة بأن لا يزيد الوصف في أحدهما عليه في الآخر ـ أو لا ، وعليه فإمّا أن يكون وصف النجاسة أشدّ وأعظم من وصف الماء أو بالعكس ، والّذي يساعد عليه النظر أنّ شيئا من هذه الصور ممّا لا ينبغي الخلاف في حكمها من حيث الطهارة والنجاسة ، نظرا إلى أنّ المتّجه في الاولى والثالثة الحكم بالطهارة وفي الثانية الحكم بالنجاسة.

أمّا في الصورة الاولى : فلأنّ التغيّر بحكم الحسّ والوجدان ممّا لا يتأتّى فيما بين شيئين على نحو يكون أحدهما مغيّرا والآخر متغيّرا إلّا إذا كانا قابلين للفعل والانفعال ـ أي التأثير والتأثّر ـ ولا يعقل ذلك إلّا إذا كان لأحدهما مزيّة كاملة على صاحبه ، على معنى اشتماله في حدّ ذاته أو لعارض على ما لا يشتمل عليه صاحبه ليكون من جهته صالحا للفعل والتأثير فيه ، ومعطيا إيّاه شيئا ممّا اشتمل عليه ؛ ضرورة أنّ فاقد الشي‌ء لا يعقل معطيا لذلك الشي‌ء.

وإذا فرضنا الماء والنجس متساويين في مرتبة الوصف غير متفاوتين في الزيادة والنقيصة باعتبار ذلك الوصف فدخل أحدهما في الآخر واختلط معه ، فكيف يعقل التأثير والتأثّر فيما بينهما وتغيّر أحدهما عن صاحبه ، مع أنّه لو صحّ ذلك فإمّا أن يكون من أحد الجانبين خاصّة أو من كليهما ـ بأن يكون كلّ مؤثّرا في الآخر ومتأثّرا ـ ولا سبيل إلى شي‌ء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ ذلك التأثير إمّا أن يكون بإحداث زيادة في وصفه وإيراث شدّة له ، أو بإيجاد ضعف وخفّة في وصفه ، والأوّل محال بالنظر إلى ما أشرنا إليه من أنّ الفاقد لا يصلح معطيا ، كما أنّ الثاني ممّا لا يعقل إلّا في المتخالفين من جهة الوصف كالأسود والأبيض مثلا ، فيؤثّر الأسود مثلا في الأبيض فيضعف به بياض الأبيض والمقام ليس منه ، مع أنّ فرض التأثير من أحدهما دون الآخر مع فرض تساويهما من جميع الجهات


تجويز للترجّح بغير مرجّح ، نظرا إلى أنّه لو صحّ الواحد المعيّن لذلك فصاحبه أيضا صالح له ، مع أنّ ذلك ممّا يدفع ضرورة الحسّ والوجدان ويقطع بديهة ما يشاهد بالعيان.

وإن شئت : فاستوضح ذلك بملاحظة اللبنين المتمازجين ومراعاة الأحمرين المتخالطين ، فهل تجد لنفسك طريقا إلى دعوى تحقّق للفعل والانفعال فيما بينهما أو أنّهما باقيين بعد الاختلاط والامتزاج على ما كانا عليه قبلهما من البياض والحمرة من دون طروّ شدّة في بياض أحدهما أو حمرته ، ولا تطرّق خفّة إليهما في الآخر ، غاية الأمر أنّهما لشدّة الامتزاج في أحدهما صارا كالمتّصل الواحد ، على نحو كان كلّ جزء من كلّ باقيا على وصفه الأوّلي القائم به قبل الامتزاج.

وأمّا الثاني : فلأنّ تأثير كلّ في الآخر فرع لقابليّة المحلّ للتأثّر وهو باطل ، لتشاغل كلّ قبل انعقاد جهة التأثير بما لو كان الآخر مؤثّرا فيه لكان هو أثره ، مع أنّ حقيقة التأثير هنا ترجع إلى اكتساب الوصف بالمجاورة ، ولا اكتساب إلّا في موضع الحاجة ولا حاجة إلّا للفاقد ، مع أنّ تأثير كلّ في الآخر إمّا أن يكون بزيادة على ما فيه من الوصف أو بنقيصة عمّا كان فيه ولا سبيل إليهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ تلك الزيادة إمّا أن تأتي من الخارج والمفروض خلافه ، أو من قبل نفس المؤثّر والمفروض أنّه فاقد لها.

وأمّا الثاني : فلأنّ النقص في الوصف ممّا لا يتأتّى إلّا باستيلاء الوصف المخالف ، ولا مخالفة بينهما في الوصف على ما هو المفروض.

وبالجملة : حصول التغيّر في الصورة المفروضة بحسب الواقع على نحو يكون مستورا عن الحسّ ممّا لا يمكن تعقّله.

وأمّا في الصورة الثانية : فلأنّ قضيّة أشدّيّة وصف النجس بالقياس إلى وصف الماء أن يتأثّر به الماء لا محالة بحدوث زيادة ما في وصفه ، إذ المفروض كون النجس بحسب المقدار بحيث لو لا المانع عن ظهور أثره لأثّر وظهر الأثر ، ولا ريب أنّ الزيادة لا مانع من حصولها لقابليّة المحلّ مع وجود المقتضي فوجب حصولها وهي مع ذلك محسوسة ، وإن تعذّر امتيازها عن المزيد عليه ، ولعلّ كلام أهل القول بالتنجّس ناظر إلى تلك الصورة ، وإن كان ممّا لا يساعد عليه إطلاقهم ، ولا يلائمه التصريح بأنّ التغيّر وإن


كان تحقيقيّا غير أنّه مستور عن الحسّ ، فإنّ قضيّة الفرض كونه محسوسا أيضا ، نعم إنّما يخفى على نظر الحسّ امتياز ما حصل عمّا كان ، إلّا أن يحمل كلامهم في دعوى المستوريّة على إرادة هذا المعنى ، فلو تمّ هذا كلّه خرج أصل النزاع لفظيّا ، إذ لا نظنّ أنّ القائلين بعدم التنجّس ينكرونه في تلك الصورة أيضا ، وكأنّهم إنّما ينكرونه في الصورة المتقدّمة وإن كان لا يساعد عليه إطلاقهم أيضا ، لكن لنا في أصل الحكم هنا بالنجاسة تأمّلا يأتي الإشارة إليه وإلى وجهه في ذيل المسألة.

وأمّا في الصورة الثالثة : فلأنّ قضيّة الفرض أن يؤثّر الماء في تطهير النجس ، لأنّ التغيّر إنّما يحدث فيه بطروّ الزيادة في وصفه لا في الماء.

وبالجملة : نحن لا نعقل في تلك الصورة تغيّرا ، بل الّذي نعقله أنّه ضعف بذلك من الماء تغيّره السابق ، لا أنّه زيد على تغيّره السابق تغيّرا آخر ، إلّا أن يكتفى به في الحكم بالتنجّس ، بدعوى : أنّ ما حصل من الضعف في وصف الماء نحو من التغيّر فيشمله إطلاق الأدلّة وعمومها ، وهو كما ترى خروج عن السداد ، وعدول عن قانون الاجتهاد ، لكون الأدلّة ظاهرة كالنصّ في اعتبار الأمر الوجودي في عنوان « التغيّر » الّذي انيط به الحكم ، كما هو معلوم للناظر المنصف ، من غير إشارة فيها إلى اعتبار الأمر العدمي أيضا ، كيف وأنّ زوال التغيّر في إيجابه التنجّس يعدّ من شرائط التطهير ومقدّماته فيكون لضعفه أيضا مدخليّة في ذلك ، ومعه كيف يعقل موجبا للتنجّس في موضع قيام الطهارة فليتدبّر.

فنتيجة الكلام أنّ تقدير التغيّر ممّا لا حكم له في الشريعة في شي‌ء من صور المسألة ، سواء كان في موضع موافقة النجس للماء في الصفات ، أو في موضع موافقة الماء للنجس ـ بالأصل أو بالعارض ـ في صفات النجس ، ما لم يحدث بسبب التداخل والامتزاج زيادة في تغيّره السابق على ورود النجس عليه أو وروده على النجس ، ومعه يخرج الفرض عن قاعدة التقدير حسبما قرّروها.

وأمّا ما عرفته عن المشارق (١) من الفرق في صورة موافقة الماء للنجس في الصفات بين ما لو كانت الصفات أصليّة وما لو كانت عارضيّة فلا نعقل وجهه ، إلّا أن

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٠٣.


يقال : بابتنائه على توهّم كون المقتضي لتنجّس الماء إنّما هو قابليّة النجاسة للتأثير فيه من حيث تغيير صفاته لا فعليّة التأثير خاصّة ، والقابليّة إنّما تحصل لها في ماء يكون صفاته الأصليّة مخالفة لصفاتها ، حتّى توجب تغيّرها وانقلابها إلى صفاتها ، وقد حصلت هذه في فرض كون صفاته عارضيّة.

ومحصّله يرجع إلى أنّ مخالفة الصفات الأصليّة للماء لصفات النجاسة شرط مقوّم للمؤثّر ، مأخوذ في ماهيّته من حيث المؤثّرية ، والموافقة مانع عن التأثير فعلا لا أنّ عدمها مأخوذ في قوام المؤثّر ، فمن هنا ينشأ الفرق بين الصورتين من حيث إنّ المفقود في إحداهما إنّما هو نفس المؤثّر وفي الاخرى تأثيره الفعلي ، وفقدان الأوّل ملزوم لفقد المقتضي للتنجّس وهو قابليّة التأثير ؛ ضرورة أنّ ما لا يكون مؤثّرا تامّا لا يكون قابلا للتأثير ، بخلاف فقدان الثاني فإنّه لا ينافي تحقّق القابليّة ، والمفروض أنّها المقتضية للتنجّس دون ما زاد عليها.

وفيه : أنّ هذا المعنى إن اريد استفادته عن أخبار الباب أو كلام الأصحاب فلا شاهد عليه ، وإلّا فلا تعويل عليه.

وأمّا حجّة هذا القول ـ فعلى ما حكي ـ وجوه :

أحدها : أنّ التأثير المقدّر على النهج المذكور لا يكون إلّا مع أثر للنجاسة صالح للتغيير لو فرض ، وهذا الأثر ممّا يجب إزالته في تطهير الماء لو فرض تغيّره حسّا بنجاسة اخرى ـ كما يشهد به أخبار البئر ـ فهو مؤثّر للتنجيس أيضا.

وفيه : ما لا يخفى من التفكيك بين مقدّمتي الدليل وعدم ارتباط إحداهما بالاخرى ، ومع ذلك نقول : إنّ الّذي يجب إزالته في تطهير الماء على فرض تغيّره حسّا بنجاسة اخرى إنّما هو أثر النجاسة الفعلي الحاصل في الماء ، المعبّر عنه بالتغيّر ، فذلك يكشف عن أنّ المؤثّر في تنجيسه أيضا أثرها الفعلي الحاصل فيه حسّا ، دون ما هو صالح للحصول ولم يحصل فعلا ، وإلّا لفاتت الملازمة بين ما يجب إزالته وما هو المؤثّر في التنجيس ، ومعه لا نتيجة للقياس ، وكون تقدير التأثير عند القائلين بالتقدير دائرا مدار أثر النجاسة صالح للتغيير لو فرض لا يقضي بكون المؤثّر في التنجيس هو الأثر الصالح للتغيير ، إلّا إذا ثبت اعتبار التقدير في الشريعة كيف ولم يثبت ، هذا مع ما يظهر


من الأدلّة أنّ المؤثّر في التنجيس إنّما هو حصول الأثر فعلا لا كونه صالحا للحصول.

ومع الغضّ عن جميع ذلك ، فقد يتوجّه المنع إلى الفرق بين ما لو كان المانع عن حصول الأثر فعلا هو الصفات الأصليّة للماء أو الصفات العارضيّة ، فإنّ الصفات الأصليّة إنّما هي أصليّة من جهة أنّها ليست من طواري الشخص ، وإلّا فهي بالنظر إلى الماهيّة النوعيّة عارضيّة أيضا ، فوجب اعتبار التقدير بالإضافة إليها أيضا والفارق لا يصلح للفرق.

وثانيها : أنّه لو زالت الصفة أوّلا بالنجاسة ثمّ ورد عليه الطاهر المغيّر لو لا سبق النجاسة فلا إشكال في النجاسة فكذلك العكس ، لأنّا نعلم أنّ زوالها بالطاهر أوّلا لا يوجب قوّة للماء ، لو لم يوجب ضعفا.

وفيه : أنّا لا ندري أنّ ذلك ـ مع أنّه قياس ـ بأيّ جامع يتمّ وبأيّ طريق يستقيم ، وهو مع ذلك يقتضي ما يضادّ المطلوب ، إذ كما أنّ ورود الطاهر عليه في المقيس عليه الّذي من شأنه التغيير لو لا سبق النجاسة لا يؤثّر في زوال النجاسة الحاصلة بزوال الصفة الأصليّة بالنجاسة ، فكذلك يجب أن لا يكون ورود النجاسة الّتي من شأنها التغيير لو لا سبق طاهر عليها مؤثّرا في زوال الطهارة الأصليّة الثابتة للماء ، بل هو أولى بعدم التأثير ؛ لوضوح الفرق بين ما كان أصليّا وما كان عارضيّا.

ودعوى العلم بأنّ زوال الصفة بالطاهر أوّلا لا يوجب قوّة للماء مسلّمة ، ولكنّه يوجب قيام ما يزاحم النجاسة الواردة في اقتضائها التنجّس من جهة إناطة تأثيرها فيه بإيراث وصفها في الماء ، فبذلك يظهر الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، فإنّ النجاسة في الثاني صادفت محلّا فارغا عمّا يزاحمها في التأثير ، وورود الطاهر عقيبها ليس ممّا يترتّب عليه أثر بعد ما أثّرت النجاسة أثرها ، بخلاف الأوّل فإنّها إنّما صادفت محلّا مشغولا بما يزاحمها في إيراث ما عليه مدار تأثيرها في التنجّس حسبما اقتضته الدلالة الشرعيّة.

وثالثها : أنّه لو القي في الماء طاهر ونجس بحيث استند تغيّره إليهما معا ، وكان النجس بنفسه صالحا للتغيير فهذا الماء نجس قطعا ، ولا وجه لذلك إلّا وقوع ما هو صالح لتغييره.

وفيه أوّلا : بطلان دعوى القطع بالنجاسة في الصورة المفروضة ، ومنع تأثير النجاسة في التنجّس ما لم تكن علّة تامّة للتغيّر كما سبق وجهه في الفرع الأوّل. وثانيا :


منع كون الموجب للنجاسة في الصورة المفروضة مجرّد وقوع ما يصلح للتغيير ، بل هو مع التأثير فيه في الجملة ولو بعنوان الجزئيّة ، ولا ريب أنّ هذا المعنى ليس بموجود في مفروض المسألة وإلّا ارتفع النزاع بالمرّة.

ورابعها : أنّه لو فرض وقوع نجاسة مغيّرة إلى صفة ، ثمّ وقوع نجاسة مغيّرة عنها إلى اخرى فالماء نجس يقينا ، ولا وجه لمنع كون التغيّر الثاني غير مندرج في التغيّر المعتبر الواجب إزالته في التطهير ، والمفروض أنّ النجاسة الثانية لم تغيّر صفة الماء المذكور في النصّ والفتوى ، ولذا لا يكفي إعادة الصفة لو فرض إمكانها ، فتعيّن اعتبار الصفة الذاتيّة للماء وتقدير وقوع النجاسة حال وجودها إن وردت حال زوالها ، وجعل توارد المغيّر بمنزلة توارد الناقض ، فإذا توارد طاهر ونجس أثّر النجس أثره وهو المطلوب.

وفيه : ما لا يخفى من الخلط بين المسألتين ، واشتباه موضوع إحداهما بموضوع الاخرى ، فإنّ وجوب التطهير حكم آخر غير ما نحن بصدده ، وموضوعه إنّما هو وجود أثر النجاسة في الماء من غير فرق بين كونه هو الرافع لصفة الماء أو رافعا الرافع صفته ، ولا بين كونه هو الموجب لتنجّس الماء أو أنّ الموجب غيره ، وهو وارد عليه على سبيل التعاقب مصادف محلّا غير قابل للتنجّس ثانيا ـ بناء على أنّ النجس لا ينجّس ثانيا ـ فلا يلزم من كون إزالة الصفة الثانية معتبرة في التطهير كونها هي المغيّرة لصفة الماء ، ولا كونها هي المقتضية لتنجّسه ، بل اعتبار إزالتها إنّما هو من جهة أنّ عدمها مأخوذ في التطهير ، ووجودها مانع عن حصول أثره وهو الطهارة.

وإن شئت : فلاحظ نظائر الفرض ، فإنّها كثيرة جدّا.

منها : ما لو أحدث المتطهّر ونقض طهارته بحدث كالبول مثلا ، ثمّ صيّر نفسه سكران بشرب الخمر ونحوه ، فإنّه حينئذ لو أخذ بالوضوء وهو سكران لا ينفعه ذلك ولو كرّره بألف مرّة ، بل يعتبر في حصول الطهارة حينئذ زوال حالة السكر عنه جزما ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّ وجود السكر كما أنّه رافع للطهارة فيما لو لم يسبقه رافع آخر ، فكذلك مانع عن حصولها.

والوجه في ذلك : أنّ ما اعتبر كونه ناقضا للطهارة الحدثيّة بل الخبثيّة أيضا ليس إلّا من جهة أنّه في حدّ ذاته معاند لها.


ومن البيّن أنّ المعاند للشي‌ء كما أنّه يعانده في بقائه فيكون رافعا له ، فكذلك يعانده في حدوثه فيكون دافعا ، فنواقض الوضوء بأجمعها قد يلحقها وصف الرفع وقد يلحقها وصف الدفع ، وكذلك الأسباب الموجبة لتنجّس الماء وغيره من الأشياء الطاهرة ، فإنّها قد تكون رافعة للطهارة وقد تكون دافعة عنها ، وليس ذلك إلّا من جهة ما فيها من منافاتها الطهارة بقاء وحدوثا.

وقضيّة ذلك كون زوال صفة النجاسة عن الماء شرطا في تطهيره ، سواء كانت نجاسته مستندة إلى تلك الصفة الموجودة أو إلى غيرها ممّا هي واردة عليه قائمة مقامه على وجه البدليّة ، ولا يتولّد من تلك ما ينافي مدّعانا من أنّ المعتبر في تنجيس الماء إنّما هو وجود أثر النجاسة فيه فعلا ، ولا يكفي فيه قابليّة الوجود ، كما لا يلزم منه كون كلّ أثر موجود فعلا لا بدّ وأن يكون موجبا للتنجّس.

وبالجملة : ما فرضه رحمه‌الله تعالى في إثبات مطلوبه لا ربط له بالمقام أصلا ، ولا أنّه معارض لمفروض المسألة ، ولا مقابل له ولا شبيه به.

نعم ، له مناسبة ما فيما لو قلنا بعدم التنجّس إذا وقع في الماء طاهر مغيّر له إلى صفة ، ثمّ وقع نجس مغيّر له عن تلك الصفة إلى صفة اخرى وهو كما ترى ممّا لا نقول فيه بعدم التنجّس ، ولا أنّه قال به أحد ممّن يحفظ عنه العلم ، لتحقّق ما هو مناط التنجّس فيه ، وهو حصول أثر النجاسة في الماء فعلا وتغيّره به من صفة إلى اخرى ، إذ لم يعتبر في التغيّر الموجب لتنجّس الماء كونه حاصلا في صفاته الأصليّة ، بل يكفي فيه لو كان حاصلا في الصفات العارضيّة أيضا ، غير أنّ ذلك ممّا لا مدخل له في محلّ البحث أصلا ، بل ولو قلنا فيه بعدم التنجّس لما كان فيه بعد إذا ساعدنا عليه القواعد ، كأن يقال : بأنّ الصفة المضافة إلى الماء الّتي تغيّرها النجاسة في تعليق الحكم بالتنجّس عليه ظاهرة في الصفة الأصليّة ، كما يعترف به المستدلّ بعد ذلك في ثامن أدلّته فلا يشملها أدلّة الباب ، وغايته الشكّ في الشمول فيرجع معه إلى الاصول المقتضية للطهارة وعدم النجاسة.

وخامسها : أنّه لو تغيّر الماء بطاهر أحمر ، ثمّ بالدم ثمّ صفا الماء عن حمرة الطاهر فظهر لون الدم ، فإنّ الماء نجس قطعا ، ولا وجه له إلّا ما قلنا ، لعدم بقاء عين النجاسة حين ظهور صفتها ، وعدم تجدّد تأثيرها في الماء ، فيلزم الحكم بتنجيسها من حين وقوعها.


وفيه : منع اعتبار قيام الأثر المؤثّر في التنجّس في تأثيره بعين النجاسة حين التأثير ، بل المعتبر حصوله فعلا مع استناده إلى عين النجاسة الواقعة في الماء ، سواء بقيت معه حين تأثيره في التنجّس أم زالت.

وإن شئت فقل : إنّ ما يستفاد من أدلّة الباب هو أنّ المؤثّر في نجاسة الماء ليس هو عين النجاسة ولو عارية عن أثرها ، ولا أثرها كيفما اتّفق حتّى بالمجاورة ، بل هو العين بشرط كونها مستتبعة لأثرها في الماء حسّا ، أو هو الأثر بشرط استناده إلى وقوع العين فيه ، وأمّا اشتراط بقائها حين تأثير ذلك الأثر أثره فلم يقم عليه من الشرع دلالة ، فينفي احتماله بإطلاق الأدلّة المعطية إيّاه كونه مؤثّرا.

وسادسها : أنّه لو القي في الماء طاهر أحمر حتّى استعدّ لأن يحمرّ بقليل من الدم ، فالقي فيه فتغيّر ، فلا سبيل إلى الحكم بنجاسته كما هو ظاهر ، فعلم أنّ الملحوظ في نظر الشارع حال الماء قبل حدوث الطواري ، فلا عبرة بتغيّره بإعداد الطوارئ ولا بعدمه لمنعها.

وفيه : أنّ هذا الفرض داخل في جزئيّات ما فرضناه في الفرع الأوّل ، لأنّ مرجعه إلى فرض كون الحمرة الناشئة من الدم جزء لعلّة التنجّس ، غايته أنّه هنا جزء أخير منها ، وقد تبيّن حكمه من حيث عدم إيجابه الحكم بنجاسة الماء معه ، ولكنّه لا يكشف عمّا ذكر في متن الدليل ، بل غايته الكشف عن كون العبرة في الموجب لتنجّس الماء في نظر الشارع بما لو كانت النجاسة علّة تامّة للتغيّر ، ولا يكفي فيه كونه جزءا للعلّة ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون في نظره عبرة بعدم الطواري ، نظرا إلى أنّه لولاه كانت الطواري مانعة عن تأثّر الماء وانفعاله.

وسابعها : أنّه كما استفيد من مجموع أخبار الباب اعتبار الصفات الثلاث ، كذلك المحصّل منها بعد الجمع بينها أنّ المعتبر في طهارة الماء غلبته على النجاسة وقهره لصفاتها ، بحيث لا يوجد شي‌ء منها في الماء على وجه يصلح لتغييره أصلا.

وفيه : أوّلا منع استفادة هذا المعنى من الأخبار ، بل الّذي يستفاد منها بعد الجمع وإعمال القواعد ـ كما تقدّم ـ هو كون العبرة في التنجيس بغلبة صفة النجاسة على صفة الماء إذا كانت من الثلاث المذكورة.

وثانيا : منع الملازمة بين المغيّر للماء أو ما هو صالح للتغيير وبين كونه غالبا على


الماء إن اريد به الغلبة بحسب الكمّ والمقدار.

نعم ، إن اريد به الغلبة بحسب الكيف فاستفادة اعتبارها من الأخبار مسلّمة ، ولكنّه ينافي ظاهر الدليل وما هو غرض المستدلّ ، لرجوعه إلى مختارنا من كون العبرة في التنجيس بوجود الصفة فعلا ؛ إذ لا معنى للغلبة بدونه وشأنيّة الغلبة ليست من الغلبة في شي‌ء ، فإنّ أحكام الشرع واردة على الموضوعات المحقّقة ، ولا ريب أنّ فرض التحقّق لا يحقّق الموضوع ، ولا يجدي نفعا في ترتّب الحكم عليه ما لم يتحقّق هو بنفسه في الخارج ، فتدبّر حتّى لا يختلط عليك الأمر فيما ذكرنا وما هو المقرّر في محلّه من تعلّق أحكام الشرع بالطبائع من حيث هي دون أفرادها الموجودة في الخارج ، إذ لا منافاة بين الكلامين كما يظهر بالتأمّل.

وتوضيحه : أنّ حكم السببيّة للتنجيس إنّما تعلّق بماهيّة الغلبة ومفهومها مع قطع النظر عن أفرادها الخارجيّة ، وهي ظاهرة في الفعليّة دون ما يعمّها والشأنيّة ، فأفرادها الموجودة في الخارج الّتي يترتّب عليها النجاسة فعلا ، إنّما هي الصفات الحاصلة من النجاسة في الماء فعلا ، ولا يندرج فيها ما هو صالح للحصول ولم يحصل بعد ، ففرض الحصول في حقّه لا يصلح محقّقا للحصول ، حتّى يندرج المفروض في أفراد ما هو موضوع الحكم.

وثامنها : أنّه كما لا يعتبر في النجاسة إلّا صفاتها الأصليّة المستندة إليها لا صفاتها العارضيّة المستندة إلى غيرها وإن كانت هي الموجودة بالفعل ، فلا تكون معتبرة في صفات الماء أيضا ، لدلالة الإضافة على اعتبار الحيثيّة في الموضعين.

وفيه : أنّ مفاد هذا الدليل شي‌ء لا يرتبط بالمبحوث عنه أصلا ، فإنّ أقصى ما يدلّ عليه أنّ النجاسة لو غيّرت من الماء صفاته العارضيّة المستندة إلى الخارج لا تكون مؤثّرة في انفعاله ، لدلالة إضافة الصفة ـ المعتبر تغيّرها ـ إلى الماء على الصفة الأصليّة ، كما أنّ الظاهر من الصفة المضافة إلى النجاسة ـ المعتبر كونها مغيّرة ـ الصفة الأصليّة ، فلو استند التغيير إلى صفتها العارضيّة كما لو القي شي‌ء من الزعفران في البول الصافي ، فالقي البول في الماء فأثّر فيه بإيراثه الصفرة فيه لا يكون موجبا للانفعال ، وكلّ من ذلك كما ترى مطلب آخر خارج عن المسألة ، وقد تعرّضنا لبعضه سابقا ، ولعلّنا نتعرّض له ولغيره تفصيلا فيما بعد ذلك عن قريب إن شاء الله ، فبناء المسألة على اعتبار الصفات الأصليّة واستظهار


ذلك عن أخبار الباب لا يجدي نفعا في مطلوبه ، بعد ملاحظة ما استظهرناه منها من كون العبرة في حكم نجاسة الماء بتأثّره فعلا عن النجاسة المفقود في موضع البحث.

ولنختم المقام بإيراد فروع :

الأوّل : بناء على وجوب التقدير ، إن علم في الوصف المسلوب عن النجاسة بحالته الخاصّة الّتي سلب على تلك الحالة من الأشدّيّة والأضعفيّة وما يتوسّط بينهما تعيّن تقديره على تلك الحالة ، فيرتّب عليه الحكم كائنا ما كان ، وإلّا ففي وجوب اعتبار الأشدّ رعاية لجانب الاحتياط أو الأوسط أخذا بالغالب ، أو الأضعف ترجيحا لجانب الأصل المقتضي للطهارة وجوه :

أوّلها : ما نسب إلى ظاهر العلّامة والشهيد في نهاية الإحكام (١) والذكرى (٢).

وثانيها : ما استظهره في الحدائق (٣) وجامع المقاصد (٤) على ما في عبارة محكيّة عنه ، وحكي عن بعض المتأخّرين أيضا.

وثالثها : ما حكي (٥) احتماله عن بعض متأخّري المتأخّرين ، ويظهر الفائدة في قلّة ما يقدّر له الوصف من النجاسة وكثرته.

ولا يبعد ترجيح الأخير عملا بالاصول ـ اجتهاديّة وفقاهيّة ـ السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، نظرا إلى أنّ الاحتياط ليس في محلّه ، وأنّ الغلبة لا عبرة بها هنا لكونها ظنّا في الموضوع الصرف.

الثاني : عن المحقّق الثاني : « وهل يعتبر أوصاف الماء وسطا؟ نظرا إلى شدّة اختلافها كالعذوبة والملوحة ، والرقّة والغلظة ، والصفاء والكدورة فيه احتمال ولا يبعد اعتبارها ؛ لأنّ له أثرا بيّنا في قبول التغيّر وعدمه » (٦).

وعن المعالم ـ أنّه بعد ما نقل ما ذكره المحقّق المذكور ـ احتماله « حيث لا يكون

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٩ حيث قال : « ويعتبر ما هو الأحوط الخ » حكاه أيضا عنه في الحدائق الناضرة ١ : ١٥٨.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٧٦.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ١٨٥.

(٤ و ٦) جامع المقاصد ١ : ١١٥.

(٥) حكاه في الحدائق الناضرة ١ : ١٨٥.


الماء على الوصف القويّ ، إذ لا معنى لتقديره حينئذ بما دونه » (١) ، وعن بعضهم (٢) أنّه استشكله بما إذا لم يكن خارجا عن أوصافه الأصليّة ، واستظهر في الجواهر من الباقين عدمه ، واختاره قائلا : « وهو أولى سيّما إذا كان الماء على صفة معلومة ، إذ لا معنى لفرض عدمها لعدم المانع في اختلاف المياه في الانفعال وإن كانت فردا نادرا ».

ثمّ قال : « ولعلّه من ذلك ينقدح الفرق في الماء الموافق للنجاسة في الصفة بين الصفة الأصليّة والعارضيّة ، فيقدّر في الثانية دون الاولى. فتأمّل » (٣).

الثالث : على المختار من عدم اعتبار التقدير إن بلغ النجاسة حدّا استهلك معه الماء فلا إشكال في النجاسة ، وإن لم يستهلك فإن لم يسلبه معه إطلاق الاسم فلا إشكال في الطهارة للأصل والاستصحاب ، وإن سلبه معه الإطلاق ولم يدخل تحت الاسم فعدم كونه مطهّرا ممّا لا إشكال فيه ؛ لانتفاء المائيّة حينئذ ، وفي كونه طاهرا وجه رجّحه في الرياض (٤) استنادا إلى الأصل السالم عن المعارض ، لتعارض الاستصحابين من الجانبين ، وكأنّ مراده بالأصل أصالة الإباحة المقتضية لجواز الاستعمال فيما لا يجوز فيه استعمال النجس من أكل أو شرب أو نحوه ، وبالاستصحابين استصحاب طهارة الماء واستصحاب نجاسة الخليط ، وقد يقرّر الأصل بأصالة الطهارة والاستصحابين بأصالة عدم ذهاب الإطلاق مع أصالة عدم ذهاب اسم الخليط ، فإنّ كلّا من الذهابين أمر حادث ، والأصل يقتضي تأخّر كلّ منهما عن الآخر ، فيبقى أصل الطهارة سليما ، إلّا إذا كان المغيّر للماء من الأجسام الّتي علم بقاؤها بعد زوال الإطلاقيّة ، فإنّ المتّجه حينئذ الحكم بالنجاسة.

الرابع : هل المعتبر في صفات الماء الّتي يغيّرها النجاسة الصفات الأصليّة؟ فلو غيّرت ما كان وصفا عارضا له حتّى عاد إلى وصفه الأصلي أو وصف ثالث لم ينجّس؟ أو لا عبرة بأصليّة الصفات فينجّس الماء بالتغيّر مطلقا؟ احتمالان : أقواهما الأوّل ؛ لظهور الإضافة الواردة في الأخبار في الاختصاص ، بل ظهور ألفاظ الصفات الواردة

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ١٤٨.

(٢) حكاه في الحدائق الناضرة ١ : ١٨٥.

(٣) جواهر الكلام ١ : ٢٠٢.

(٤) رياض المسائل ١ : ١٣.


فيها في الصفات الأصليّة ، فإنّ الحكم معلّق على لون الماء وطعمه ورائحته ، ولا شي‌ء من الصفات العارضيّة بلون الماء ولا طعمه ولا رائحته ، فلا يشمله إطلاق الأدلّة ولا عمومها ، وأقلّه الشكّ في الشمول فيرجع إلى الاصول ، ففي مقام التطهير يحكم بعدم المطهّريّة لاستصحاب الحالة السابقة من حدث أو خبث ، وفي مقام الاستعمال في مشروط بالطهارة يحكم بها استصحابا لها ، والأقوى عدم الفرق فيه بين الحكم بكونه مطهّرا أو طاهرا ، للأصل المستفاد من العمومات حسبما تقدّم ، فإنّ كلّا من الأمرين يدوران على المائيّة والنجاسة إن كانت مانعة ، وحيث لم تكن يرتّب عليه أحكام الماء مطلقة ، لصدق الاسم وعدم قيام المانع.

الخامس : بما قرّرناه من الفرع يعلم الحال فيما لو لم يكن النجاسة باقية على وصفها الأصلي ، وكان التغيير القائم بها مستندا إلى وصفها العارضي ، كما لو القي فيها وهو بول صافي شي‌ء من الزعفران ، فإذا القيت في الماء أورثت فيه لون الزعفران أو رائحته وهي باقية على اسم البول ، فقضيّة الأصل المذكور بقاؤه على كونه طاهرا ومطهّرا ، مع اعتضاده في الأوّل باستصحاب الحالة السابقة.

السادس : إذ قد عرفت أنّ المعتبر في تنجيس الماء تغيّر وصفه المستند إلى وصف النجاسة الواقعة لا مطلقا ، ففي كون المعتبر في تأثير وصف النجاسة فيه وجود العين وبقاؤها حين تأثير الوصف وعدمه وجهان ؛ لعدم ثبوت اشتراط وجود العين حين تأثير الوصف بدلالة الشرع عليه ، فالأصل يقتضي عدم الشرطيّة ؛ ولأنّ احتمال الاشتراط محقّق لموضوع أصل الطهارة ، وموجب للشكّ في اندراج المقام في أدلّة الباب ولازمه الرجوع إلى الاصول ، نظرا إلى أنّه لم يعلم من تلك الأدلّة إطلاق بحيث أوجب شمولها المقام وهذا أقرب ، والله العالم.

السابع : إذا كانت النجاسة في صورة موافقة الماء لها في الصفات أشدّ وصفا من الماء ، بحيث لو القيت فيه لأوجبت زيادة في وصفه الأوّلي العارضي ، ففي كون ذلك من التغيّر المقتضي لنجاسة الماء وعدمه وجهان ، منشؤهما الشكّ في أنّ حدوث الزيادة في الوصف العارضي للماء هل هو تغيّر له في وصفه الأصلي حتّى يندرج في أدلّة المسألة ، أو تغيّر في وصفه العارضي حتّى يخرج عن تلك الأدلّة بضابطة ما قدّمنا ذكره.


الثامن : لو تغيّر الماء في أحد أوصافه بطاهر لم يخرج عن حكمه الأصلي من الطهارة والمطهّريّة ما دام باقيا على إطلاق اسم المائيّة ، دون ما إذا خرج عن الإطلاق ، فإنّه حينئذ وإن كان طاهرا ما لم يصبه ما أوجب تنجّسه ، إلّا أنّه خرج عن حكم المطهّريّة ، وكلّ ذلك في مرتبة الوضوح بحيث لا يحتاج إلى الاحتجاج ، وعن المحقّق في المعتبر تصريح بما ذكرناه في قوله ـ المحكيّ ـ : « لو مازج المطلق طاهر فغيّر أحد أوصافه لم يخرج بالتغيير عن التطهير ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء ، سواء كان ممّا لا ينفكّ عنه الماء كالتراب والطحلب والكبريت وورق الشجر ، أو ممّا ينفكّ كالدقيق والسويق ، أو من المائعات كاللبن وماء الورد والأدهان كالبرز والزيت ، أو ممّا يجاوره ولا يشيع فيه كالعود والمسك ؛ لأنّ جواز التطهير منوط بالمائيّة وهي موجودة فيه ؛ ولأنّ أسقية الصحابة الأدم وهي لا تنفكّ عن الدباغ المغيّر للماء غالبا ولم يمنع منها ؛ ولأنّ الماء لرطوبته ولطافته ينفعل بالكيفيّات الملائمة ، فلو خرج بتغيّر أحد الأوصاف عن التطهير لعسرت الطهارة ؛ ولأنّه لا يكاد ينفكّ عن التكيّف برائحة الإناء » (١) ، ويقرب من ذلك ما ذكره غير واحد من الأصحاب ، منهم الشهيد في الذكرى (٢).

وعلى قياس ما ذكرناه ما لو تغيّر الماء من قبل نفسه لطول مدّة مكثه فإنّه إن بقي على إطلاق اسمه عليه كان طاهرا مطهّرا ، وإلّا خرج عن المطهّريّة ، وعن المعتبر (٣) أيضا التصريح به ، مع تصريحه بكراهة استعماله إن وجد غيره ، مستندا في ذلك إلى رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في الماء الآجن يتوضّأ منه ، إلّا أن تجد [ماء] غيره » (٤) ؛ ولأنّه يستخبث طبعا فكان اجتنابه أنسب بحال المتطهّر ، وفي منتهى العلّامة (٥) ما يقرب من ذلك فتوى وحجّة ، إلّا أنّه أضاف إلى الرواية المذكورة ما رواه الجمهور « أنّه عليه‌السلام توضّأ من بئر بضاعة وكان ماؤها نقاعة الحنّاء » (٦).

__________________

(١ و ٣) المعتبر : ٨.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٧٥.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٨ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٦ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٦.

(٥) منتهى المطلب ١ : ٢٣.

(٦) المغني لابن قدّامة ١ : ٤٢ ـ سنن النسائي ١ : ١٧٤.


ينبوع

ما عرفت من البحث في العنوانين المتقدّمين بحث يلحق نوع الماء بما هو هو من دون نظر إلى أقسامه الخاصّة المندرجة تحته ، فأحدهما : ما لحقه باعتبار خلقته الأصليّة من حيث إنّ خلقته هل هي على وصف الطهارة أو لا؟.

وثانيهما : ما لحقه باعتبار الطوارئ اللاحقة به من حيث قبوله من جهتها النجاسة وعدمه ، وقد عرفت ما هو التحقيق في كلا المقامين.

ثمّ ، إنّ هاهنا عناوين اخر مخصوصا كلّ واحد منها بقسم خاصّ من أقسامه المتقدّم إليها الإشارة في الجملة ، ومن جملة تلك العناوين ما هو مخصوص بالكثير الراكد في مقابلة القليل ، والبحث في هذا العنوان يلحقه من جهات :

الجهة الاولى : اختلف العلماء من الخاصّة والعامّة في تقدير الكثير الّذي لا يقبل الانفعال بمجرّد ملاقاة النجاسة ، ففي منتهى العلّامة (١) عن الشافعي وأحمد أنّهما ذهبا إلى تقديره بالقلّتين (٢) ، احتجاجا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا » (٣).

وعن أبي حنيفة (٤) : « إن كان الماء يصل بعضه إلى بعض نجس بحصول النجاسة فيه وإلّا فلا ، واختلف أصحابه في تفسير هذا الكلام ، فعن أبي يوسف والطحاوي تفسيره بحركة أحد الجانبين عند حركة الآخر وعدمها (٥) ، فالموضع الّذي لم يبلغ التحرّك إليه لا ينجّس.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٣٣.

(٢) أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٣ : ٣٤١ ، المغني لابن قدّامة ١ : ٥٢ ، بداية المجتهد ١ : ٢٤ ، التفسير الكبير ٢٤ : ٩٤ ، مغني المحتاج ١ : ٢١ ، تفسير القرطبي ١٣ : ٤٢ ، سنن الترمذي ١ : ٩٨ ـ ٩٩.

(٣) سنن الترمذي ١ : ٩٧ / ٦٧ ـ سنن النسائي ١ : ١٧٥ ـ سنن الدارقطني ١ : ١٦ / ٧.

(٤) بداية المجتهد ١ : ١٣ ، سبل السلام ١ : ٢٠.

(٥) تفسير القرطبي ١٣ : ٤٢.


وعن بعضهم (١) تفسيره : بأنّ ما كان كلّ من طوله وعرضه عشرة أذرع في عمق بئر لا ينجّس ، فإن كان أقلّ نجس بالملاقاة للنجاسة ، وإن بلغ ألف قلّة.

وعن المتأخّرين من أصحابه (٢) القول بأنّ الاعتبار بحصول النجاسة علما أو ظنّا ، والحركة اعتبرت للظنّ ، فإن غلب ظنّ الخلاف حكم بالطهارة.

وعن الشيخين (٣) من أصحابنا والسيّد المرتضى (٤) وأتباعهم الذهاب إلى التقدير بالكرّ ، وعزاه إلى الحسن بن صالح بن حيّ عن محكي الطحاوي (٥) و (٦) ، ولعلّه لا خلاف في ذلك بين أصحابنا ، فهو الحقّ لوضوح فساد غيره ممّا ذكر ، مضافا إلى قيام أدلّة محكمة من الأخبار وغيرها على تقديره بالكرّ.

ومن جملة ذلك ما احتجّ به العلّامة في المنتهى قائلا : « لنا : ما رواه الجمهور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٧) ، وفي رواية « لم يحمل خبثا » (٨) ومن طريق الخاصّة ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٩) ، ولأنّ الأصل الطهارة خرج ما دون الكرّ

__________________

(١) شرح فتح القدير ١ : ٧١ ، ٧٠ ـ بدائع الصنائع ١ : ٧١ ، ٧٣ ـ عمدة القاري ٣ : ١٥٩ ، المبسوط للسرخي ١ : ٧١ ، سبل السلام ١ : ١٧.

(٢) أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٣ : ٣٤٠ ، التفسير الكبير ٢٤ : ٩٤.

(٣) المفيد في المقنعة : ٨ والطوسي في المبسوط ١ : ٦.

(٤) الجمل والعلم (رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٢) ـ الانتصار : ٨.

(٥) هو : أبو جعفر أحمد بن محمّد بن سلامة الأزديّ الحجريّ المصريّ الطحاويّ ، شيخ الحنفيّة ، روى عن هارون بن سعيد الأيلي وعبد الغني بن رفاعة وطائفة من أصحاب ابن عينية ، وروى عنه أحمد بن القاسم الخشّاب والطبراني ، له تصانيف كثيرة ، ولد سنة ٢٣٧ ه‍ ومات سنة ٣٢١ ه‍ تذكرة الحفّاظ ٣ : ٨٠٨ ؛ ـ شذرات الذهب ٢ : ٢٨٨ ـ ؛ وفيات الأعيان ١ : ٧١.

(٦) لم نعثر على حكاية الطحاوي فيما بأيدينا من المصادر ، ونقل السيد المرتضى في الانتصار : ٨ هذا القول من الكتاب الطحاوي الموسوم بـ « اختلاف الفقهاء ».

(٧) الفائق ٣ : ٢٥٨ ، غريب الحديث ـ للهروي ـ ١ : ٣٣٨.

(٨) سنن الترمذي ١ : ٩٧ ح ٦٧ ـ سنن النسائي ١ : ٤٦ ، سنن أبي داود ١ : ١٧ ح ٦٣ ـ سنن البيهقي ١ : ٢٦١ ـ مسند أحمد ٢ : ١٢ ـ سنن الدارقطني ١ : ١٤ ـ ١٥ ح ٢ ـ ٣.

(٩) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ رواه في التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩ بسند آخر ـ الاستبصار ١ : ٦ / ٢.


بما نذكره فيبقى الباقي على الأصل ، إلى أن يظهر مناف » (١) انتهى.

وإن كان هذا الوجه الأخير لا يخلو عن مناقشة من جهة أنّه بانفراده لا يصلح دليلا على أنّ الكثير الّذي لا ينفعل بالملاقاة هو الكرّ ، إلّا بضميمة الأخبار الفارقة بين الكرّ وما دونه ، ومعه يرجع الحجّة إلى الوجه السابق ، فلا يكون دليلا على حدّة كما لا يخفى.

نعم ، لو كان ما دلّ الأخبار على انفعاله بها مبيّنا ، وقدرا معيّنا بنفس تلك الأخبار فشكّ في حكم ما زاد عليه اتّجه الرجوع إلى الأصل ، ولكنّ المقام ليس منه ، لأنّ تعيين ما علم بانفعاله منوط بتعيين ما لا ينفعل ، ولا يتأتّى ذلك إلّا بالأخبار الفارقة ، وكيف كان فتحديد الكثير بما ذكر قد ورد ـ مضافا إلى ما تقدّم ـ في أخبار كثيرة قريبة من حدّ التواتر.

منها : ما رواه الشيخ في التهذيب في باب آداب الأحداث ، وفي الاستبصار في باب القدر الّذي لا ينجّسه شي‌ء ، في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّه سئل عن الماء تبول فيه الدوابّ ، وتلغ فيه الكلاب ، ويغتسل منه الجنب؟ قال عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء ». (٢)

ومنها : نظيره في الكافي في باب الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء ، عن محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الّذي تبول فيه الدوابّ » (٣) الخ.

ومنها : ما رواه الشيخ في التهذيب في زيادات باب المياه ، في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله ، قال : قلت له : الغدير ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء والكرّ ستّمائة رطل » (٤).

ومنها : ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء في الركي كرّا لم ينجّسه شي‌ء ، قلت : وكم الكرّ؟ قال : ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاث أشبار ونصف عرضها » (٥).

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٣٤.

(٢) ـ الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٩ / ١٠٧ و ٢٢٦ / ٦٥١ الاستبصار ١ : ٦ / ١ و ٢٠ / ٤٥.

(٣) الكافي ١ : ٢ / ٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٦٠ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٤.


وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة بالحسن بن صالح الثوري إلّا أنّها في حكم الصحيح بوجود ابن محبوب في سندها ، الّذي هو من أصحاب الإجماع ، ولي فيها بعد تأمّل يأتي وجهه في مسألة تحديد الكرّ.

ومنها : ما رواه الشيخ في التهذيب في باب زيادات المياه ، في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباهها تطأ العذرة ، ثمّ تدخل في الماء يتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا إلّا أن يكون الماء كثيرا قدر كرّ من ماء » (١).

ومنها : ما رواه في التهذيب أيضا في باب آداب الأحداث ، في الصحيح عن إسماعيل بن جابر ، قال : سألت أبا عبد الله عن الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء؟ قال : « كرّ » (٢).

وبالجملة : هذا الحكم بملاحظة تظافر الروايات الصحيحة عليه مع انضمام عمل الأصحاب عليها من قطعيّات الفقه الّتي لا يمكن الاسترابة فيها ، نعم ربّما يوجد في أخبارنا ما يقضي منها بما يخالف ذلك ظاهرا ، مثل ما في التهذيب في زيادات باب المياه ، في المرسل عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شي‌ء ، والقلّتان جرتان » (٣) ، وما رواه في الكافي ـ في الصحيح ـ عن زرارة قال : « إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي‌ء الخ » (٤).

ولكن الأمر في ذلك هيّن بعد ملاحظة سقوط هذا النوع من الأخبار عن درجة الاعتبار ، من جهة كونها معرضا عنها الأصحاب كلمة واحدة ، مع ملاحظة ظهور احتمال خروجها مخرج التقيّة كما هو واضح في خبر القلّتين ، لموافقته مذهب الشافعي (٥) وأحمد (٦) من العامّة كما عرفت ، مضافا إلى إمكان تطرّق التأويل إليها بحمل القلّتين أو الراوية أو غيرهما على ما يسع مقدار الكرّ كما صنعه الشيخ في التهذيب (٧)

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٩٣ / ٤٠٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١١٥.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٦ ، ب ١١ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣٠٩ الاستبصار ١ : ٧ / ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٠ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٩ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٣ ـ التهذيب ١ : ٤٢ / ١١٧ ـ الاستبصار ١ : ٦ / ٤.

(٥ و ٦) ـ تقدّم في الصفحة ٩٢ الهامش رقم ٢.

(٧) التهذيب ١ : ٤١٥ ذيل الحديث ١٣٠٩.


وتصدّى لبيان تفصيله صاحب الحدائق (١) ، فمن أراده فعليه بمراجعة كلامه.

وكيف كان : فحكم المسألة واضح بحمد الله سبحانه ، ولا يقتضي لأجل ذلك زيادة كلام في تحقيقه.

الجهة الثانية : لا فرق فيما تقدّم من حكم عدم انفعال الكرّ بملاقاة النجاسة بين شي‌ء من أفراده حتّى ما في الحياض والأواني كما عليه المعظم ، وادّعى عليه الشهرة على حدّ الاستفاضة ، بل الإجماع في بعض العبائر ، بناء على شذوذ المخالف وانقطاع خلافه ، حيث لم ينسب الخلاف إلّا إلى المفيد (٢) والسلّار (٣) لمصيرهما إلى الانفعال في الحياض والأواني وإن كان كرّا.

لنا : عموم ما تقدّم من أخبار الكرّ المعتضد بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، والأصل المتقدّم تحقيقه ، مع عموم الروايات المتقدّمة ، القاضية بحصر الانفعال في التغيّر ، الصادق عليها قضيّة قولهم : « خرج ما خرج وبقى الباقي » ، الّذي منه الكرّ بجميع أفراده.

مضافا إلى خصوص ما في التهذيب والاستبصار والكافي عن صفوان الجمّال قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض الّتي ما بين مكّة إلى المدينة تردها السباع ، وتلغ فيها الكلاب ، وتشرب منها الحمير ، ويغتسل منها الجنب ، أيتوضّأ منها؟ فقال عليه‌السلام « وكم قدر الماء؟ قلت : إلى نصف الساق وإلى الركبة ، فقال عليه‌السلام : توضّأ منه » (٤).

وما تقدّم من رواية العلاء بن الفضيل ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض يبال فيها؟ قال : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٥).

وما في التهذيب والفقيه عن إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه عليه‌السلام أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أتى الماء فأتاه أهل الماء فقالوا : يا رسول الله إنّ حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لها ما أخذت بأفواهها ولكم سائر ذلك » (٦).

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٠.

(٢) المقنعة : ٦٤.

(٣) المراسم العلويّة : ٣٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٢ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٧ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٤ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١ ، الاستبصار ١ : ٧ / ٧.

(٦) الوسائل ١ : ١٦١ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٧ الفقيه ١ : ٨ / ١٠.


وما عن التهذيب عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « ولا يشرب من سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه » (١).

وليس للمخالف إلّا ما حكي عنه من عموم النهي عن استعمال ماء الأواني مع ملاقاته الكرّ ، وكأنّ مراده به ما توهّمه عن روايات كثيرة :

منها : ما في الكافي عن شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها ـ « أنّه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء » (٢).

ومنها : ما في التهذيب في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس ، إن لم يكن أصاب يده شي‌ء من المنيّ » (٣).

ومنها : ما في التهذيب أيضا في الموثّق عن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الدّن يكون فيه الخمر هل يصلح أن يكون فيه الخلّ أو [ماء] (٤) كامخ أو زيتون؟ قال : « إذا غسل فلا بأس » ، وعن الإبريق يكون فيه خمر أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال : « إذا غسل فلا بأس » (٥).

ومنها : ما عن قرب الإسناد والوسائل عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو باطية ، قال عليه‌السلام : « إذا غسله لا بأس » (٦).

ومنها : ما في التهذيب عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، قال : سألت أبا الحسن عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة ، قال : « يكفئ الإناء » (٧).

ومنها : ما في الكافي في الموثّق بسماعة بن مهران عن أبي بصير عنهم عليهم‌السلام قال : « إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس ، إلّا أن يكون أصابها قذر بول أو

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٥٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٢ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ الكافي ٣ : ١١ / ٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٣ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٩ ـ التهذيب ١ : ٣٧ / ٩٩.

(٤) هكذا في المصدر.

(٥) التهذيب ١ : ٢٨٣ / ٨٣٠ ـ الوسائل ٣ : ٤٩٤ ، ب ٥١ من أبواب النجاسات ح ١ ـ الكافي ٦ : ٤٢٧ / ١.

(٦) الوسائل ٢٥ : ٣٦٩ ، ب ٣٠ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٥ ـ قرب الإسناد : ١١٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٥٤ / ٢١٢.

(٧) التهذيب ١ : ٣٩ / ٤٤.


جنابة ، فإن أدخلت يدك في الإناء وفيها شي‌ء من ذلك فأهرق ذلك الماء » (١). ومنها : ما في التهذيب والاستبصار في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الكلب يشرب من الإناء؟ قال : « اغسل الإناء » الخ (٢).

ومنها : ما في التهذيب في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن خنزير يشرب من إناء كيف يصنع به ، قال : « يغسل سبع مرّات » (٣).

ومنها : ما في الكافي في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل رعف وهويتوضّأ فقطر قطرة في إنائه هل يصلح للوضوء منه؟قال :«لا» (٤).

ومنها : ما في التهذيب والاستبصار عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال عليه‌السلام : « يهريقهما ويتيمّم إن شاء » (٥).

ومنها : ما في التهذيب عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل قال : سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال عليه‌السلام : « يهريقهما جميعا ويتيمّم » (٦).

ومنها : ما في التهذيب عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا ولغ الكلب في الماء أو شرب منه اهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرّات ، مرّة بالتراب ومرّتين بالماء ، ثمّ يجفّف » (٧).

ومنها : ما عن قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٢ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ الكافي ٣ : ١١ / ١.

(٢) الوسائل ١: ٢٢٦ ، ب ١ من أبواب الأسآرح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٤ الاستبصار ١ : ١٨ / ٣٩.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٦ ، ب ١ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٥٩.

(٤) الوسائل ١ : ١٥٠ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦ مسائل عليّ بن جعفر. ١١٩ / ٦٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٥١ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ١٠ / ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٤٩ / ٧١٣.

(٦) الوسائل ١ : ١٥٥ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤٨ / ٧١٢ وفي ١ : ٤٠٧ / ١٢٨١ أورده بسند آخر.

(٧) التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٥ وفيه : « عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا ولغ الكلب في الإناء فصبّه ».


سألته عن حبّ ماء وقع فيه أوقية بول ، هل يصلح شربه أو الوضوء؟ قال عليه‌السلام : « لا يصلح » (١).

والجواب أوّلا : بأنّه أخصّ من المدّعى لعدم شمول النهي المستفاد من الروايات ماء الحياض.

وثانيا : بكونه منزّلا على ما دون الكرّ بملاحظة الغلبة ، فإنّ الغالب في الإناء أنّها لا تسع الكرّ.

وثالثا : بأنّه لا يصلح للمعارضة لعموم ما دلّ على عدم انفعال الكرّ بالملاقاة ، وإن كان النسبة بينهما عموم من وجه ، لاعتضاد ذلك بعمل المعظم وإعراضهم عن الطرف المقابل ، سلّمنا ولكن أقلّه أنّه لا رجحان للطرف المقابل أيضا ، فيؤول الأمر إلى تساقط العامّين بالنسبة إلى مورد الاجتماع فيرجع في حكمه إلى الاصول ، لبقائها سليمة عن المعارض.

لا يقال : لا عموم في أخبار الكرّ بحيث يشمل الأواني ؛ لأنّ الغالب فيها عدم اتّساعها الكرّ ، فإنّ ذلك معارض بالمثل كما أشرنا إليه في ثاني الأجوبة.

ثمّ اعلم : أنّه ربّما ينزّل كلام المفيد والسلّار على ما يوافق المذهب المشهور ، فيستظهر بذلك الإجماع على عدم الفرق حسبما ادّعيناه ، كما في المدارك (٢) والرياض (٣) والمناهل (٤) وغيره ، وأوّل من فتح هذا الباب العلّامة في المنتهى ، فقال : « والحقّ أنّ مرادهما بالكثرة هنا الكثرة العرفيّة بالنسبة إلى الأواني والحياض الّتي تسقى منها الدوابّ ، وهي غالبا تقصر عن الكرّ » (٥).

ثمّ تبعه بعده صاحب المدارك (٦) وسلك هذا المسلك بعدهما صاحب الرياض (٧) وولده الشريف في المناهل (٨) ، وكتابه الآخر (٩) الحاضر عندنا الآن ، ونسبه في الرياض ١٠ إلى الشيخ الّذي هو تلميذ المفيد ، وحكاه صاحب الحدائق عن بعض مشايخه المحقّقين من متأخّري المتأخّرين فاستبعده قائلا : « بأنّه لا يخفى بعد ما استظهره قدس‌سره كما يظهر

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٦ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١٩٧ / ٤٢٠.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٥٢.

(٣) رياض المسائل ١ : ١٣٦.

(٤) المناهل الورقة : ١٠٦ ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط). (٥) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٥٢. (٧ و ١٠) رياض المسائل ١ : ١٣٦.

(٨) المناهل : ١٠٦.

(٩) لم نعثر عليه.


ذلك لمن لاحظ عبارة المقنعة ، سيّما وقد قرن الحياض والأواني في تلك العبارة بالبئر ، مع أنّ مذهبه فيها النجاسة وإن بلغت كرّا » (١).

والحقّ كما فهمه رحمه‌الله ، ضرورة عدم كون الاستظهار المذكور في محلّه ، لكونه ممّا يأبى عنه العبارة المحكيّة عن المقنعة ، الظاهرة كالصريح بل الصريحة فيما أسند إليه من المخالفة.

فإن شئت لاحظ قوله : « وإذا وقع في الماء الراكد شي‌ء من النجاسات وكان كرّا وقدره ألف ومائتا رطل بالبغدادي ، وما زاد على ذلك لم ينجّس إلّا أن يتغيّر به ، كما ذكرنا في المياه الجارية ، هذا إذا كان الماء في غدير أو قليب ، فأمّا إذا كان في بئر أو حوض أو إناء فإنّه يفسد بسائر ما يموت فيه من ذوات الأنفس السائلة ، وبجميع ما يلاقيه من النجاسات ، ولا يجوز التطهّر به حتّى يطهّر ، وإن كان الماء في الغدران والقلبان دون ألف رطل ومائتي رطل جرى مجرى مياه الآبار والحياض الّتي يفسدها ما وقع فيها من النجاسات ، ولم يجز الطهارة به » (٢) انتهى.

والدليل على كون ذلك صريحا أو ظاهرا في غير ما فهمه الجماعة امور :

منها : ما نبّه عليه صاحب الحدائق كما عرفت.

ومنها : ما استدركه بقوله : « هذا إذا كان الماء في غدير أو قليب ، فأمّا إذا كان في بئر أو حوض أو إناء إلخ » ، فإنّه استدراك عمّا فرضه أوّلا من موضوع المسألة وهو الكرّ ، وخصّه بما كان في غدير أو قليب نظرا إلى أنّ الماء في قوله : « هذا إذا كان الماء » بقرينة سبق الفرض في خصوص الكرّ أراد به ذلك المفروض ، وإلّا لكانت الإشارة ودعوى الاختصاص كذبا ، فيكون الضمير في قوله : « فأمّا إذا كان في بئر إلخ » عائدا إلى ذلك الّذي اريد منه الكرّ ، وإلّا لما حصلت المطابقة بين الضمير والمرجع إلّا بتأويله إلى نوع من الاستخدام ، وهو كما ترى.

ومنها : قوله : « وإن كان الماء في الغدران والقلبان دون ألف رطل ومائتي رطل » فإنّه عطف على قوله : « وإذا وقع في الماء الراكد » باعتبار ما اخذ فيه من قيد الكرّيّة ، فلو لا الحكم في المعطوف عليه مخصوصا بالغدران والقلبان ولم يكن الكرّ من الحياض

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٢٦.

(٢) المقنعة : ٦٤.


والأواني خارجا عن موضوع هذا الحكم لما كان لإفراد الغدران والقلبان في المعطوف بالذكر وجه ، بل لم يكن للتنبيه على حكم البئر والحوض والإناء قبل ذلك وجه لو كان مراده بها ما دون الكرّ خاصّة ، بل كان اللازم أن يسقط ما ذكره أوّلا ، ثمّ عمّم الحكم في المعطوف على وجه يشمل الحوض والإناء والبئر أيضا.

ومنها : قوله : « جرى مجرى مياه الآبار والحياض » فإنّ هذا التنظير لا يكون مستحسنا إلّا إذا غاير الفرع الأصل ذاتا ، ولا ريب أنّ مجرّد كون الماء في الغدير والقليب مع كونه في البئر والحوض مع فرض كونهما معا ما دون الكرّ لا يستدعي تلك المغايرة لكون الجميع حينئذ من واد واحد ، فلا وجه لتنظير بعضه على بعض ، فلا بدّ من أن يعتبر المغايرة بينهما بكون المراد من الأصل خصوص الكرّ أو ما يعمّه وما دونه ومن الفرع ما دونه خاصّة ، كما هو صريح الفرض بالنسبة إليه ، ولا ينافي شيئا من ذلك الوصف بالموصول في قوله : « والحياض الّتي يفسدها ما وقع فيها » بعد ملاحظة إمكان كونه وصفا توضيحيّا ، كما هو ظاهر المقام بملاحظة سياق الكلام.

ومثله في الصراحة أو الظهور ما حكي عن مراسم السلّار من قوله : « ولا ينجّس الغدران إذا بلغت الكرّ ، وما لا يزول الحكم بنجاسته فهو ما في الأواني والحياض ، فإنّه يجب إهراقه وإن كثر » (١) انتهى.

فإنّ التعبير بـ « ما لا يزول الحكم بنجاسته فهو إلخ » ، تصريح بأنّ هذا الحكم من لوازم الماهيّة بالنسبة إلى ما في الأواني والحياض الّتي لا تنفكّ عنها أبدا ، وقضيّة ذلك تعدّي الحكم إلى ما يبلغ منه حدّ الكرّ أيضا ، كما أوضحه بقوله : « وإن كثر ».

ودعوى : أنّ الكثرة هنا مراد بها العرفيّة الصادقة على ما دون الكرّ أيضا.

يدفعها : ظهور السياق أوّلا ، وكون إفراد ما في الأواني والحياض بالذكر لغوا ثانيا ، لجريان الحكم المذكور في كلّ ما يكون دون الكرّ جزما.

وربّما يظهر من عبارة الشيخ في النهاية موافقته لهما في الأواني خاصّة ، وهي على ما في محكيّ الحدائق (٢) قوله : « والماء الراكد على ثلاثة أقسام ، مياه الغدران والقلبان

__________________

(١) المراسم العلويّة : ٣٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٢٢٧.


والمصانع (١) ومياه الأواني المحصورة ومياه الآبار ، فأمّا مياه الغدران والقلبان فإن كان مقدارها مقدار الكرّ فإنّه لا ينجّسها شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونها أو طعمها أو ريحها ، وإن كان مقدارها أقلّ من الكرّ فإنّه لا ينجّسها كلّ ما وقع فيها من النجاسة ، وأمّا مياه الأواني المحصورة فإن وقع فيها شي‌ء من النجاسات أفسدها ، ولم يجز استعمالها ». انتهى ملخّصا (٢).

وجه الدلالة في ذلك : أنّه فصّل في الحكم بالنجاسة وعدمها بالنسبة إلى الغدران والقلبان بين ما كان منها قدر الكرّ وما دونه ، وتنحّى عن هذا المسلك في خصوص الأواني فأطلق فيها الحكم بالنجاسة ، وقضيّة ما عنه ـ من أنّ طريقته في النهاية أنّه لا يذكر فيها إلّا متون الروايات من غير تفاوت ، أو مع تفاوت يسير لا يخلّ بالمعنى ـ كون هذه الجملة مضمون الرواية وإن كانت مرسلة.

ولكن يضعّفه : ما سبق في منع الاحتجاج بما تقدّم من الروايات في تفصيل بيان حجّة المفيد والسلّار ، مع إمكان أن يقال : إنّ مراده بالأواني خصوص ما لا يسع الكرّ. كما يفصح عنه الوصف ، نظرا إلى أنّ الحصر ممّا لا معنى له ظاهرا إلّا الضيق ـ كما هو أحد معانيه المذكورة في كلام أهل اللغة ـ فيراد بالأواني المحصورة الأواني الضيّقة. فليتدبّر.

الجهة الثالثة : إذ قد عرفت أنّ فائدة ما أسّسناه في أوّل عناوين الكتاب من الأصل العامّ المستنبط عن عمومات طهارة الماء وطهوريّته ، تظهر فيما لو شكّ فيهما من جهة الطواري بعد إحراز الإطلاق وصدق الاسم بالتفصيل الّذي تقدّم بيانه ، فهل يجوز إجراء هذا الأصل في مشكوك الكرّيّة وعدمها من جهة الشكّ في المصداق ، كما لو وجد الماء في غدير ابتداء وكان مردّدا بين الكرّ وما دونه ، أو في اندراج المشكوك فيه تحت موضوع الكرّ باعتبار الشبهة في شرطيّة شي‌ء له ، أو للحكم المعلّق عليه ، كالوحدة والاجتماع وتساوي السطوح ونحوه ممّا اختلف في اعتباره في الكرّ موضوعا أو حكما ـ على ما ستعرف تفصيله ـ أو لا؟ وجهان :

أوّلهما : ما يظهر عن الرياض حيث قال ـ في الكتاب مستدلا على ما اختاره في

__________________

(١) الصنع بالكسر الموضع الّذي يتّخذ الماء والجمع أصناع ، ويقال له مصنع ومصانع ، والمصنع ما يضع مجمع الماء كالبركة ونحوها ، والجمع مصانع ، كذا في المجمع (منه).

(٢) النهاية : ٣ ـ ٤.


المسألة الآتية من كفاية الاتصال مطلقا في عدم انفعال الكثير بالملاقاة ، وعدم اشتراطه بتساوي السطوح مطلقا ـ : « بأنّ ذلك إمّا بناء على اتّحاد الماءين عرفا وإن تغايرا محلّا فيشمله عموم ما دلّ على عدم انفعال الكرّ ، أو بناء على عدم العموم فيما دلّ على انفعال القليل ، نظرا إلى اختصاص أكثره بصور مخصوصة ليس المقام منها ، وظهور بعض ما لم يكن كذلك في المجتمع وعدم ظهور غيره في غيره بحيث يشمل المفروض ، فيسلم حينئذ الأصل والعمومات المقتضية للطهارة بحالها » (١).

وذكر نظير ذلك عقيب ما ذكر عند دفع استدلال من ذهب في عدم انفعال الكرّ إلى اشتراط المساواة » (٢).

ثمّ وافقه على ذلك جماعة ممّن عاصرناهم وغيرهم ومنهم شيخنا في الجواهر ، فقال : « متى شكّ في شمول إطلاقات الكرّ لفرد من الأفراد وشكّ في شمول القليل فلم يعلم دخوله في أيّ القاعدتين ، فالظاهر أنّ الأصل يقضي بالطهارة وعدم تنجّسه بالملاقاة ، نعم لا يرفع الخبث به بأن يوضع المتنجّس فيه كما يوضع في الجاري والكثير ، وإن كان لا يحكم عليه بالنجاسة بمثل ذلك بل يحكم عليه بالطهارة ، فيؤخذ منه ماء ويرفع به الخبث على نحو ما يرفع بالقليل ، ولا مانع من رفع الحدث به لكونه ماء طاهرا ، وكلّما كان كذلك يجري عليه الحكم ، وكان السبب في ذلك أنّ احتمال الكرّيّة فيه كافية في حفظ طهارته وعدم نجاسته بملاقاة النجاسة » (٣).

وثانيهما : ما صار إليه شيخنا الآخر في شرحه للشرائع ، قائلا ـ بعد ما أفاد طريق المسألة حسبما نشير إليه إجمالا ـ : « بأنّه لا بدّ من الرجوع إلى أصالة الانفعال عند الشك في الكرّيّة ، سواء شكّ في مصداق الكرّ أو مفهومه ، كما إذا اختلف في مقدار الكرّ أو في اعتبار اجتماعه أو استواء سطوح أجزائه ولم يكن هناك إطلاق في لفظ الكرّ « نحوه ليرجع إليه » (٤).

ثمّ عزاه بعد كلام طويل في إثبات تلك المقالة إلى جماعة من أصحابنا ، حيث قال :

__________________

(١ و ٢) رياض المسائل ١ : ١٣٧.

(٣) جواهر الكلام ١ : ٣١٩.

(٤) وهو الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سرّه في كتاب الطهارة : ١ : ١٦٠.


« ولأجل بعض ما ذكرنا أفتى جماعة كالفاضلين (١) والشهيد (٢) بنجاسة الماء المشكوك في كرّيّته ، نظرا إلى أصالة عدم الكرّيّة الحاكمة على استصحاب طهارة الماء » (٣) الخ.

وممّن يظهر منه الموافقة له في تلك المقالة صاحب الحدائق (٤) حيث إنّه بعد ما بنى في المسألة الآتية على التوقّف ، حكم في حكم موضوع المسألة بالاحتياط المقتضي للتحرّز عن مثل هذا الماء ، بل هو صريح جماعة آخرين منهم صاحب المعالم (٥) وغيره.

وتحقيق المقام : مبنيّ على النظر في أنّ مفاد الأخبار الفارقة بين الكرّ وما دونه بانفعال الثاني دون الأوّل ، هل هو مانعيّة الكثرة الكرّيّة عن الانفعال أو شرطيّة القلّة للانفعال؟ فعلى الأوّل يترتّب الحكم في موضع الشكّ بالانفعال ، لضابطتهم المقرّرة من أنّ المانع المشكوك في وجوده محكوم عليه بالعدم ، فيتفرّع عليه خلاف مقتضاه من عدم الانفعال ، وعلى الثاني يترتّب الحكم في موضع الشكّ بعدم الانفعال ، لمكان أنّ الشرط المشكوك في تحقّقه يحكم عليه بالعدم ، فيتفرّع عليه الحكم بخلاف المشروط به.

أو على النظر في أنّ مفاد الأدلّة المخرجة للقليل عن العمومات القاضية بالطهارة وعدم الانفعال بشي‌ء هل هو شرطيّة الكرّيّة لعدم الانفعال؟ حتّى يكون المجموع من المخصّص والمخصّص نظير ما لو قيل : « أكرم العلماء إن كانوا عدولا » ، أو شرطيّة القلّة للانفعال حتّى يكون المجموع من المخصّص والمخصّص نظير ما لو قيل : « أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم » ، حيث إنّ الفسق في ذلك شرط لعدم وجوب الإكرام.

والّذي يساعد عليه النظر ، ويقتضيه أدلّة الباب عموما وخصوصا ، أنّ الحقّ ما فهم الأوّلون خلافا للآخرين ، وأنّ أصل الطهارة ممّا لا مجال إلى رفع اليد عنه ما دام محكّما ـ كما سبق ـ وجاريا كما في المقام ، والوجه في ذلك أنّ الظاهر المنساق من العمومات المحقّقة لذلك الأصل كون الطهارة وعدم قبول الانفعال إنّما هو من مقتضى الطبيعة المائيّة بحسب خلقتها الأصليّة كما يفصح عنه التعبير بالخلق في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خلق الله الماء

__________________

(١) وهما العلّامة في منتهى المطلب ١ : ٥٤ والمحقّق في المعتبر : ١١.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨١.

(٣) وهو الشيخ مرتضى الأنصاري قدس‌سره في كتاب الطهارة : ١ : ١٦٢.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٢٣٤.

(٥) فقه المعالم ١ : ١٣٥.


طهورا لا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (١) ، وبالإنزال في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٢) ، فيكون الماهيّة بما هي هي مقتضية للطهارة ، وظاهر أنّ المقتضي ما دام لم يصادف ما يزاحمه من الموانع أو الروافع كان على اقتضائه ، والتغيير مع ملاقاة النجاسة حيثما وجدا رافعان لذلك المقتضي ، وحاجبان عن الاقتضاء ، غاية الأمر أنّ الأوّل معتبر لا بشرط شي‌ء من الكرّيّة ولا عدمها ، والثاني معتبر بشرط القلّة.

وممّا يدلّ على رافعيّة التغيّر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خلق الله الماء طهورا (٣) الخ » ، وكما أنّ مفاد التخصيص هنا بحكم ظاهر العرف كون التغيّر رافعا ، فكذلك مفاد أدلّة انفعال القليل من المفاهيم والمناطيق الواردة في مواضع خاصّة أيضا كون الملاقاة دافعة للطهارة بشرط القلّة ، غاية الأمر أنّ التخصيص في الأوّل قد حصل بمخصّص متّصل وفي الثاني بمخصّص منفصل ، فيكون مفاد العمومات مع هذين المخصّصين ـ بعد الجمع بينهما ـ : كلّ ماء طاهر لا ينجّسه شي‌ء ولا يرفع طهارته إلّا تغيّره بالنجاسة مطلقا ، أو ملاقاته لها بشرط القلّة.

وإنّما فصّل بينهما باعتبار الأوّل مطلقا والثاني مشروطا ، لأنّ التغيّر يكشف عن تضاعف النجاسة واستيلائها على الماء بحسب المعنى ، فيضعف المقتضي ويخرج عن اقتضائه ، لعدم كون الطبيعة المائيّة علّة تامّة للطهارة حتّى لا يجامعها رافع ، وقضيّة ذلك عدم الفرق فيه بين الكثرة والقلّة ، بخلاف مجرّد الملاقاة فإنّه في التأثير لا يبلغ مرتبة التغيّر فلا يضعف به المقتضي إلّا مع انتفاء الكثرة ، ولا أنّه يخرج عن فعليّة الاقتضاء إلّا مع القلّة.

وأصرح من ذلك في الدلالة على المختار ما رواه المحمّدون الثلاث بطرق متكثّرة من قولهم عليهم‌السلام : « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٤) ، فإنّ تعليق الحكم بالطهارة في كلّ ماء على غاية العلم بالقذارة صريح في أنّ ما لم يعلم بقذارته كائنا ما كان محكوم عليه بالطهارة ، فلو كان الانفعال هو الأصل في موضع الشكّ لما كان لذلك وجه ، بل كان

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٤ ـ الوسائل ١ : ١٣٥ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩.

(٢) الفرقان : ٤٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٥ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢١ ـ الكافي ٣ : ١ / ٣.


يجب أن يعلّق الحكم بالقذارة على غاية العلم بالطهارة ، ويقال : الماء كلّه قذر حتّى يعلم أنّه طاهر ، كما هو مفاد القول بأنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال وأنّ القلّة ليست شرطا في الانفعال ، وأنّ المشكوك فيه المردّد بين الكرّيّة والقلّة يلحق بقاعدة الانفعال لا أصالة الطهارة وهو كما ترى ، وقضيّة كلّ ذلك كون التغيّر والملاقاة رافعين للطهارة المعلومة بالشرع مع اشتراط الثاني في رافعيّته بالقلّة.

والاحتجاج على أنّ الكرّيّة في موضوع المسألة مانعة عن الانفعال ، بأنّ المستفاد من الصحيح المشهور « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١) أنّ الكرّيّة علّة لعدم التنجيس ، ولا نعني بالمانع إلّا ما يلزم من وجوده العدم.

يدفعه : منع ذلك ؛ بأنّ ذلك كما أنّه محتمل لأن يكون من جهة أنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال ، فكذلك محتمل لأن يكون الكرّ ملزوما لانتفاء شرط الانفعال ، فالكرّ لا ينفعل إمّا لأنّه علّة لعدم الانفعال ، أو لأنّه ملزوم لانتفاء شرط الانفعال ، فكيف يستفاد منه العلّيّة على التعيين؟

فإن قلت : قد تقرّر في الاصول أنّ الجملة الشرطيّة ظاهرة في سببيّة المقدّم للتالي ، فلا يمكن رفع اليد عن هذا الظهور بلا صارف.

قلت : قد علمنا بملاحظة أدلّة التغيّر أنّ الكرّيّة ليست بعلّة تامّة بل هي جزء للعلّة ، وهي مركّبة عنها وعن عدم التغيّر ، فكما أنّ استعمال أداة التعليق ـ الظاهرة في العلّيّة ـ في مجرّد التلازم بين المقدّم وانتفاء شرط نقيض التالي مجاز وإخراج لها عن الظهور ، فكذلك استعمالها في شرطيّة المقدّم للتالي وكونه جزءا للعلّة أيضا مجاز وعدول عن الظاهر ، فيبقى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٢) الظاهر في كون القلّة شرطا للانفعال ـ كما يعترف به المدّعي لكون الكرّيّة مانعة عن الانفعال ـ مرجّحا للمجاز الأوّل ، إن لم نقل بأنّه في نفسه أرجح ، نظرا إلى أنّ التلازم أقرب إلى العلّيّة وأشبه بها من حيث اقتضائه اللزوم في الوجود والعدم معا من

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩ ـ الاستبصار ١ : ٦ / ٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٥ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩.


الشرطيّة الّتي لا يقتضي اللزوم إلّا في جانب العدم.

ودعوى : أنّ نفس قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » (١) دالّ على عدم شرطيّة القلّة ، من جهة أنّه يقضي بأنّ الخارج عن عمومات الطهارة إنّما هو القلّة ، وهي أمر عدمي لا يصلح لأن يكون شرطا ، فإذا انتفى احتمال كونها شرطا تعيّن كون الكرّيّة مانعة.

يدفعها : منع عدم كون الأمر العدمي صالحا للشرطيّة ، كما يشهد به قولهم : « بأنّ عدم المانع شرط » ، كيف وأنّ ثبوت كون الامور العدميّة معتبرة بعنوان الشرطيّة في الشريعة في الكثرة ما لا يكاد ينكر ، ألا ترى أنّهم يقولون ـ عند تعداد شرائط النيّة المعتبرة في العبادة ـ : أنّ استمرار النيّة شرط فيها ، ويفسّرونه بعدم قصد المنافي وعدم التردّد في أثناء العمل ، والقول بأنّ الأمر العدمي لا يصلح للتأثير في الوجود مخصوص بما كان عدميّا صرفا غير متشبّث بالوجود ، والقلّة ليست منه لأنّها عبارة عن عدم الكثرة فيما من شأنه الكثرة ، فيكون متشبّثا بالوجود لاقترانه بشأنيّة الوجود ، مع أنّ الشروط الشرعيّة كثيرا ما تكون من باب المعرّفات دون المؤثّرات ، فلعلّ المقام منها.

وبالجملة : رفع اليد عن ظهور مثل « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء الخ » (٢) « والماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » ٣ وما أشبه ذلك المقتضي لكون الماء بما هو هو مأخوذا عنوانا لحكم الطهارة ، وأنّ ما خالفه من أفراده في ذلك الحكم فإنّما هو مخرج عنه بالتخصيص ، ومن المقرّر أنّ كلّ ما يشكّ في خروجه له بالتخصيص مع إحراز دخوله في أصل العنوان ـ كما هو مفروض الكلام ـ يحكم عليه بعدم الخروج لأصالة عدم التخصيص.

فما يقال : من أنّ تلك العمومات ليست من قبيل ما كان عنوان العامّ مقتضيا للحكم وعنوان المخصّص مانعا ، فليس بسديد جدّا.

ولا ينافيه « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » إذا كان المراد منه بيان أقلّ مراتب ما هو ملزوم لانتفاء عنوان المخصّص ، فاعتبار الكرّ ليس من باب أنّه بالخصوص عنوان ينشأ منه الحكم ، بحيث لو شكّ فيه في موضع كان ذلك شكّا في

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٣٥ و ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩ و ٥.


المقتضي ، مانعا عن الأخذ بالمقتضي ، بل المقتضي في الحقيقة هو عنوان المائيّة ، فيوجد المقتضي حيثما وجد وينتفي حيثما انتفى ، والكرّيّة إنّما اعتبرت ميزانا لمعرفة أنّ الكرّ هو أقلّ مراتب ما يسلم من هذا العنوان العامّ عمّا يزاحمه في فعليّة الاقتضاء.

ولو سلّم فمقتضى الجمع بين منطوق هذه الرواية ومفهومها تنوّع هذا العنوان إلى نوعين وانكشاف عدم كونه بما هو هو عنوانا في الشريعة ، بل العنوان الّذي يدور عليه الحكم إنّما هو النوعان المذكوران ، أحدهما : ما هو موضوع المنطوق وهو الماء البالغ حدّ الكرّ ، وثانيهما : ما هو موضوع المفهوم وهو الماء الغير البالغ هذا الحدّ. وقضيّة ذلك : كون المشكوك في كرّيّته كائنا ما كان مجملا مصداقيّا مردّدا بين كونه من أفراد هذا النوع ، أو ذاك النوع ومعه فكما لا يمكن إلحاقه بالنوع الأوّل فكذا لا يمكن إلحاقه بالنوع الثاني.

وقضيّة ذلك لزوم الرجوع إلى الاصول العمليّة من احتياط كما صار إليه صاحب الحدائق ـ فيما عرفت (١) ـ بناء على مذهبه فيما لا نصّ فيه من كون المرجع فيه هو الاحتياط ، أو استصحاب للطهارة السابقة ونحوها ، لا الحكم عليه مطلقا بالانفعال إلّا فيما لو كان مسبوقا بالقلّة وشكّ في بلوغه حدّ الكرّ ، فإنّ اللازم حينئذ أن يترتّب عليه أحكام ما دون الكرّ ، عملا بالأصل الموضوعي الوارد على الأصل الحكمي كما قرّر في محلّه.

وأنت خبير بأنّ موضوع المسألة لا ينحصر أفراده في مثل ذلك بل هو في الحقيقة خارج عن هذا الموضوع ؛ إذ لا أظنّ أحدا يقول في مثله بالطهارة عملا بالأصل المستفاد من العمومات ، ولا يكون ذلك من باب تخصيص العامّ بالأصل العملي حتّى يقال : بمنع ذلك عندهم ، بل المخصّص له في الحقيقة إنّما هو أدلّة انفعال القليل ، والعمل بالأصل المذكور تعميم في موضوع تلك الأدلّة بدعوى : أنّ القليل المحكوم عليه بالانفعال أعمّ من أن يكون كذلك بحسب الواقع أو بحسب الشرع ، عملا بعموم أدلّة الاستصحاب القاضية بأنّه ممّا جعله الشارع طريقا للمكلّف إلى إحراز الواقع من موضوع أو حكم ، وأقامه مقام العلم بالواقع الحاكمة على سائر الأدلّة المقتضية لاعتبار الواقع بطريق علمي ، فليتدبّر.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٣٤.


فبجميع ما قرّرناه ينقدح أنّ ما تقدّم عن الفاضلين (١) والشهيد (٢) من إفتائهما بنجاسة الماء المشكوك في كرّيّته عملا بأصالة عدم الكرّيّة على إطلاقه ليس على ما ينبغي ؛ إذ لا معنى لأصالة عدم الكرّيّة فيما لم يكن مسبوق بالقلّة ، بل أصالة الطهارة الأصليّة في مثله هو الأصل المعوّل عليه ، السالم عن المعارض.

فبالجملة : أصل الطهارة سواء أردنا منه الأصل الاجتهادي المستفاد من عمومات الطهارة ، أو الأصل العملي المعبّر عنه بالاستصحاب ، ممّا لا يمكن الإغماض عنه في مواضع الشبهة والدوران وانسداد الطرق العلميّة ، لإجمال في المصداق ، أو الصدق ، أو المفهوم بالنظر إلى عنوان الكرّيّة وما يقابله.

الجهة الرابعة : بعد ما عرفت أنّ مقدار الكرّ من الماء من حكمه أن لا ينفعل بمجرّد الملاقاة ، فهل يعتبر فيه مساواة سطوحه أو يكفي مجرّد اتّصال بعضه بعضا ولو مع الاختلاف في سطوحه؟ وعلى الثاني فهل يعتبر في كفاية الاتّصال أن لا يكون الاختلاف المفروض معه فاحشا بيّنا بحيث يخفى على الحسّ أو يصعب عليه إدراكه ، أو أنّ الاختلاف غير مضرّ ولو فاحشا بيّنا للحسّ؟

وعلى الثاني فهل يعتبر فيه أن يكون بطريق الانحدار كما لو كان الماء في أرض منحدرة ، أو لا يضرّ الاختلاف ولو كان على طريق التسنيم ، كما لو سال الماء إلى الأرض في ميزاب ونحوه من الأراضي المرتفعة الّتي يجري منها الماء إلى ما تحتها بطريق التسنيم كالجبل وما أشبهه؟ وعلى التقادير فهل معنى كفاية مجرّد الاتّصال وعدم مضرّيّة الاختلاف كون كلّ من الأعلى والأسفل متقوّما بالآخر فلا ينفعل شي‌ء منهما إذا لاقته النجاسة ، أو كون الأسفل متقوّما بالأعلى دون العكس ، فينفعل الأعلى بالملاقاة إن كان أقلّ من الكرّ دون العكس؟ وجوه :

قد وقع الخلاف بينهم في كثير منها ، ولكن ينبغي النظر في معرفة تفصيل أقوالهم وتشخيص موضع الخلاف عن موضع الوفاق في عبائرهم حسبما وقفنا عليه نقلا وتحصيلا ، ولكنّ الّذي يظهر بالتتبّع ـ وصرّح به غير واحد ـ أنّ المسألة لم تكن معنونة في كلام قدماء

__________________

(١) وهما : العلّامة في منتهى المطلب ١ : ٥٤ والمحقّق في المعتبر : ١١.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨١.


أصحابنا ، وإنّما حدث تدوينها ولو بنحو الإشارة من المتأخّرين عن زمن العلّامة رحمه‌الله إلى هذه الأزمنة ، كما أنّه يظهر أيضا عدم الفرق عند المتأخّرين ـ بناء على عدم اعتبار المساواة ـ بين اختلاف الانحدار والتسنيم ، بل عدم الفرق بين ما لو كان الاختلاف فاحشا وغيره.

نعم ، حصل الاختلاف بينهم في مقامين ، أحدهما : أصل اشتراط المساواة وعدمه ، وثانيهما : الفرق ـ بناء على عدم الاشتراط ـ بين الأعلى والأسفل في تقوّم كلّ بالآخر وعدمه.

أمّا المقام الأوّل :

فمحصّل خلافهم فيه يرجع إلى أقوال ثلاث :

أحدها : القول بعدم الاشتراط ، وقد صرّح به الشهيد الثاني في كلام محكيّ له عن الروض ، قائلا : « وتحرير المقام أنّ النصوص الدالّة على اعتبار الكثرة مثل قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١) وكلام أكثر الأصحاب ليس فيه تقييد الكرّ المجتمع بكون سطوحه مستوية ، بل هو أعمّ منه ومن المختلف كيف اتّفق » ، ثمّ قال : ـ بعد كلام مطويّ له ـ « والّذي يظهر لي في المسألة ودلّ عليه إطلاق النصّ ، أنّ الماء متى كان قدر كرّ متّصلا ثمّ عرضت له النجاسة لم تؤثّر فيه إلّا مع التغيّر ، سواء كان متساوي السطوح أو مختلفها » (٢) الخ.

وتبعه في ذلك سبطه السيّد في المدارك ، قائلا ـ بعد ما أسند إلى اطلاق كلامي المحقّق والعلّامة في المعتبر (٣) والمنتهى (٤) أنّه يقتضي عدم الفرق بين مساواة السطوح واختلافها ، فيكون كلّ من الأعلى والأسفل متقويا بالآخر ـ : « بأنّه ينبغي القطع بذلك إذا كان جريان الماء في أرض منحدرة ، لاندراجه تحت عموم قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٥) فإنّه شامل لتساوي السطوح ومختلفها ، وإنّما يحصل التردّد فيما إذا كان الأعلى متسنّما على الأسفل بميزاب ونحوه ، لعدم صدق الوحدة عرفا ولا يبعد التقوّي في ذلك أيضا كما اختاره جدّي قدس‌سره في فوائد القواعد عملا بالعموم » (٦) انتهى.

فظهر منه أنّه جزم بالحكم في الشقّ الأوّل ورجّحه في الثاني بعد ما صار متردّدا ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٢) روض الجنان : ١٣٥ ، ١٣٦.

(٣) المعتبر : ١١. (٤) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٤٣.


ووافقهما على ذلك في الرياض (١) ، وحكي ذلك أيضا عن الأردبيلي في مجمع الفائدة (٢) ، والمحقّق الخراساني في الذخيرة (٣) ، والبهبهاني في حاشية المدارك (٤) ، وشرح المفاتيح (٥) ، ويستفاد التصريح به من المحقّق الخوانساري في تضاعيف كلامه في شرح الدروس (٦) ، ونسبه في المدارك (٧) إلى إطلاق ما صرّح به المحقّق والعلّامة في المعتبر (٨) والمنتهى (٩) من « أنّ الغدير إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما لم ينجّس وإن نقص عن الكرّ إذا بلغ المجموع منهما ومن الساقية كرّا » ، وحكاه عنهما أيضا في شرح الدروس بعد ما قال ـ في أوّل عنوان المسألة ـ : « فالظاهر من كلام الأصحاب الاحتمال الثاني ، يعني عدم اعتبار المساواة ، بل في بعض كلماتهم التصريح به » ، ثمّ قال : « ولم نقف على نصّ ظاهر من كلام الأصحاب في خلافه إلّا ظاهر كلام بعض المتأخّرين » (١٠).

وثانيها : القول باعتبار المساواة في الكرّ ، وخروجه عن الكثرة بالاختلاف خصوصا إذا كان الاختلاف بالتسنيم ونحوه ، وقضيّة ذلك عدم تقوّم شي‌ء من الأعلى والأسفل في صورة الاختلاف بالآخر ، فينجّس كلّ منهما بوقوع النجاسة ولم نقف على من صرّح به إلّا صاحب المعالم ـ في كلام محكيّ (١١) له ـ قائلا : « بأنّ الأخبار المتضمّنة لحكم الكرّ ـ أشبارا وكمّيّة ـ اعتبار الاجتماع في الماء ، وصدق الوحدة والكثرة عليه ، وفي تحقّق

__________________

(١) رياض المسائل ١ : ١٣٦.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦٤ حيث قال : « ثمّ اعلم : أنّ الّذي يظهر ، عدم اشراط تساوي السطح في الكرّ » ... الخ.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٨.

(٤) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٨٩.

(٥) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥١٣ حيث قال ـ في بحث ماء الحمّام ـ : « كان الاستثناء من جهته. عدم اعتبار تساوي السطوح كما هو الغالب في ماء الحمّام ، والحقّ أنّ ماء غير الحمّام أيضا كذلك ».

(٦) مشارق الشموس : ٢٠٢ حيث قال : « فقد تلخّص بما ذكرنا أنّ الظاهر عدم اشتراط مساواة السطح في الكرّ مطلقا ... ».

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٤٤.

(٨) المعتبر : ١١.

(٩) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(١٠) مشارق الشموس : ٢٠٠.

(١١) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٢٣١.


ذلك مع عدم المساواة في كثير من الصور نظر ، والتمسّك في عدم اعتبارها بعموم ما دلّ على عدم انفعال مقدار الكرّ بملاقاة النجاسة مدخول ، لأنّه من باب المفرد المحلّى باللام وقد بيّن في المباحث الاصوليّة أنّ عمومه ليس من حيث كونه موضوعا لذلك على حدّ صيغ العموم ، وإنّما هو باعتبار منافاة عدم إرادته الحكمة ، فيصان كلام الحكيم عنه.

وظاهر أنّ منافاة الحكمة حيث ينتفي احتمال العهد ، ولا ريب أنّ تقدّم السؤال عن بعض أنواع الماهيّة عهد ظاهر ، وهو في محلّ النزاع واقع ؛ إذ النصّ متضمّن للسؤال عن الماء المجتمع وحينئذ لا يبقى لإثبات الشمول لغير المعهود وجه » (١).

وقد يستظهر ذلك من كلام العلّامة ـ كما أشار إليه في شرح الدروس ـ ويقال : « إنّ كلام العلّامة في بحث الحمّام حيث اعتبر كرّيّة المادّة مطلقا ممّا يشعر به ؛ لأنّه لو لم يعتبر مساواة السطح لم يلزم كرّيّة المادّة وحدها ، بل إنّما يلزم أن يكون المجموع من المادّة والحوض الصغير والساقية بينهما كرّا.

لا يقال : ما ذكرتم أعمّ من المدّعى ؛ لأنّ اعتبار الكرّيّة مطلقا في المادّة يدلّ على أنّ عند المساواة أيضا يلزم كرّيّة المادّة ، فعلم أنّ الوجه غير ما ذكر.

لأنّا نقول : إطلاق الحكم إنّما هو بناء على الغالب ؛ إذ الغالب أنّ مادّة الحمّام أعلى ، ويؤيّده أنّه إنّما يمثّل في العلوّ بماء الحمّام كما فعله المصنّف في الذكرى (٢) » انتهى.

واجيب عنه : بأنّ اعتبار ذلك في مادّة الحمّام على فرض تسليمه لعلّه لخصوصيّة فيه لا تتعدّاه إلى غيره ممّا هو من محلّ البحث ، فلا وجه لجعل ذلك من العلّامة قرينة على أنّه قائل به مطلقا ، وأجاب عنه في شرح الدروس (٣) بوجوه :

الأوّل : ما يرجع محصّله إلى منع كون اعتبار الكرّيّة في مادّة الحمّام لأجل حفظ الحوض الصغير عن الانفعال بملاقاة النجاسة ، بل إنّما هو لأجل تطهيره بعد ما طرأه الانفعال ، نظرا إلى أنّ ماء الحمّام حكمه حكم الجاري في تطهير القليل المنفعل ولا يكون ذلك إلّا إذا كان المادّة وحدها كرّا ، إذ ما دون الكرّ لا يصلح لأن يطهّر الماء.

الثاني : ما يرجع ملخّصه إلى أنّ ذلك لعلّه لمراعاة ما هو الغالب في الحمّام من أنّ

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ١٤٠ ـ ١٤١.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٣) مشارق الشموس : ٢٠٠.


الماء يؤخذ فيه كثيرا من الحوض الصغير ، فلو اكتفى بكرّيّة المجموع ممّا فيه وفي المادّة والساقية لطرأه القلّة بواسطة الأخذ منه فينفعل إذا لاقاه النجاسة ، فلا بدّ فيه من عاصم يحفظه عن طروّ القلّة عليه صونا له عن الانفعال ، ولا يكون ذلك إلّا مع اعتبار الكرّيّة في المادّة ، فاعتبارها حينئذ ليس لأجل اعتبار مساواة السطح في الكرّ كما هو محلّ النزاع ، بل لأجل أنّه مانع عن زوال الكرّيّة المعتبرة في المجموع.

الثالث : ما يرجع مفاده إلى أنّ ذلك لعلّه من جهة أنّ العلّامة قائل بمانعيّة الاختلاف على نحو التسنيم ، نظرا إلى أنّ الغالب في الحمّامات انحدار مائها بالميزاب ونحوه ، لا من جهة أنّه مانع عن الاختلاف مطلقا وكلامنا فيه لا في الأوّل الخ (١).

وهذه الأجوبة في حدّ نفسها وإن كانت جيّدة ، حاسمة لدعوى مصير العلّامة إلى تلك المقالة لمجرّد ما اعتبره في المادّة من الكرّيّة ، غير أنّها في مقابلة ما تقدّم من العبارة واردة في غير محلّها ، من حيث إنّ هذا الرجل ليس جازما في إسناد تلك المقالة إلى العلّامة ، ولا أنّه مدّع لدلالة كلام العلّامة على ذلك دلالة معتبرة في نظائره ، بل غاية ما ادّعاه الإشعار وهو دون الدلالة ، وكأنّه أعرض عن دعوى الدلالة بملاحظة قيام ما ذكر من الاحتمالات ، فارتفع النزاع عن البين جدّا.

وثالثها : ما أبرزه في الحدائق من التوقّف والعجز عن ترجيح أحد القولين الأوّلين ، قائلا : « بأنّ الحكم في المسألة لا يخلو عن إشكال ، ينشأ من أنّ المستفاد من أخبار الكرّ تقارب أجزاء الماء بعضها من بعض ، كقوله عليه‌السلام ـ في صحيحة إسماعيل بن جابر حين سأله عن الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء ـ فقال : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » (٢) ، ونحوها من الأخبار الدالّة على التقدير بالمساحة ، وصحيحة صفوان المتضمّنة للسؤال عن الحياض الّتي بين مكّة والمدينة ، حيث سئل عليه‌السلام وكم قدر الماء؟ قال : قلت إلى نصف الساق وإلى الركبة وأقلّ ، قال : « توضّأ » (٣) ـ إلى قوله ـ بعد ما ذكر جملة من المؤيّدات

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٠٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٤ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٢ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٧.


وتكلّم مع أهل القول بعدم اعتبار المساواة بالمناقشة في أدلّتهم من العمومات والأصل والاستصحاب ـ : « وينشأ من إطلاق الأخبار بأنّ بلوغ الماء كرّا عاصم له عن الانفعال بالملاقاة ، والأخبار الدالّة على التحديد بالمساحة وإن أفهمت بحسب الظاهر اعتبار الاجتماع فيه ، إلّا أنّه إن أخذ الاجتماع فيها على الهيئة الّتي دلّت عليه فلا قائل به إجماعا وإن أخذ الاجتماع الّذي هو عبارة عن تساوي السطوح فلا دلالة لها عليه صريحا » ـ إلى أن قال ـ : « فمجال التوقّف في الحكم المذكور لما ذكرناه بيّن الظهور والاحتياط لا يخفى » (١).

وأمّا المقام الثاني : فمحصّل خلافهم فيه يرجع إلى قولين :

أحدهما : ما عليه الأكثر من أنّه لا يتفاوت الحال في عدم قدح الاختلاف في تقوّي بعض الماء ببعض بين الأعلى والأسفل ، وهو المستفاد من الجماعة المتقدّمة صراحة وظهورا.

وثانيهما : ما هو صريح جامع المقاصد في شرح القواعد ، حيث ـ إنّه بعد ما نقل عبارة المتن من أنّه لو اتّصل الواقف القليل بالجاري لم ينجّس بالملاقاة ـ قال : « يشترط في هذا الحكم علوّ الجاري ، أو مساواة السطوح ، أو فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل ، لانتفاء تقوّيه بدون ذلك » (٢).

وربّما يعزى ذلك إلى صريح العلّامة في التذكرة (٣) ، والشهيد في الدروس (٤) ، والذكرى (٥) ، والبيان (٦) ، وقد يتوهّم لأجل ذلك التدافع بين كلامي العلّامة بل الشهيد أيضا ، حيث إنّهما يصرّحان في موضع بالحكم من دون تقييد بما يقضي بعدم تقوّي الأعلى بالأسفل ، ثمّ يصرّحان عقيب ذلك بقليل بما يخالف ذلك ، وأنت إذا تأمّلت في أكثر عبائرهم لوجدتها غير مخالفة لما عليه الأكثر لا صراحة ولا ظهورا وإن أوهمت ذلك في بادي النظر ، وإن شئت صدق هذه المقالة فلاحظ ما ذكره الشهيد في الدروس بقوله : « ولو كان الجاري لا عن مادّة ولاقته النجاسة لم ينجّس ما فوقها مطلقا ، ولا ما تحتها إن كان جميعه كرّا فصاعدا إلّا مع التغيّر » (٧) ، فأطلق الحكم بعدم نجاسة ما تحت موضع الملاقاة إذا بلغ المجموع كرّا من غير اشتراط استواء السطح.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٣٣.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١١٥.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣.

(٤ و ٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩. (٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٦) البيان : ٩٩.


ثمّ قال ـ بعد ذلك بقليل ـ : « ولو اتّصل الواقف بالجاري اتّحدا مع مساواة سطحهما ، أو كون الجاري أعلى لا العكس ، ويكفي في العلوّ فوران الجاري من تحت الواقف » (١).

فاعتبر في صدق الاتّحاد مساواة السطحين أو علوّ الكثير ، وممّن صرّح بتناقض هذين الكلامين المحقّق الخوانساري (٢) عند شرح الكلام الأوّل ، وعن صاحب الذخيرة (٣) أنّه جعلهما من باب الاضطراب في الفتوى الّذي نسبه إلى جماعة من متأخّري الأصحاب.

وأنت إذا تأمّلت لوجدت أنّ ذلك ليس على ما ينبغي ، لما أفاده خالنا العلّامة دام ظلّه (٤) من إمكان حمل مسألة اتّصاف الواقف بالجاري والحكم باتّحادها مع مساواة السطح أو علوّ الجاري دون العكس ، على كون الواقف المتّصل بالجاري بمنزلة الجاري في جميع أحكامه الّتي منها تطهير ما ينفعل من الماء عند تحقّق أحد الشرطين المذكورين ، لا في عدم الانفعال بالملاقاة خاصّة كما هو موضع البحث في مسألة الكرّ ، بخلاف ما لم يتحقّق فيه الشرط ، فيمكن أن يقول فيه حينئذ بعدم الانفعال بالملاقاة ، بناء على أنّ الأعلى يتقوّم بالأسفل كما أنّ الأسفل يتقوّم به ، وإن لا يقول به فليست العبارة بصريحة في التناقض ولا ظاهرة فيه.

وكيف كان : فاعترض صاحب المدارك عليهم ـ في القول بعدم تقوّي الأعلى بالأسفل ـ : « بأنّه يلزمهم أن ينجّس كلّ ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر إذا لم يكن فوقه كرّا ، وإن كان نهرا عظيما وهو معلوم البطلان » (٥).

وعن صاحب المعالم (٦) دفع ذلك بإمكان التزام عدم انفعال ما بعد عن موضع الملاقاة بمجرّدها لعدم الدليل عليه ؛ إذ الأدلّة على انفعال ما نقص عن الكرّ بالملاقاة مختصّة بالمجتمع والمتقارب ، وليس مجرّد الاتّصال بالنجس موجبا للانفعال في نظر الشارع وإلّا لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل لصدق الاتّصال ، وهو منفيّ قطعا ، وإذا لم يكن الانفعال بمجرّده موجبا لسريان الانفعال ، فلا بدّ في الحكم بنجاسة البعيد من دليل.

نعم ، جريان الماء النجس يقتضي نجاسة ما يصل إليه ، فإذا استوعب الأجزاء

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٢) مشارق الشموس : ٢٠١.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٨.

(٤) وهو المحقّق السيّد رضيّ الدين القزويني ، (الكرام البررة ٢ : ٥٧٦) ولكنّا لم نعثر على ما نقل عنه المصنّف قدس‌سره.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٤٥.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٤٥.


المنحدرة نجّسها وإن كثرت ولا بعد في ذلك ، فإنّها لعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل ، فكما أنّه ينجّس بملاقاة النجاسة له ـ وإن قلّت وكان مجموعه في غاية الكثرة ـ فكذا هذه.

وأورد عليه المحقّق الخوانساري : « بأنّه بعد تسليم انفعال ما نقص عن الكرّ بالملاقاة مع الاجتماع والتقارب ، لا شكّ أنّه يلزم نجاسة جميع ماء النهر المذكور ؛ لأنّ النجاسة ملاقية لبعضه ، وذلك البعض ملاق للبعض الآخر القريب منه ، وهكذا فينجّس الجميع ، إذ الظاهر أنّ القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لا يفرّقون بين النجاسة والمتنجّس ، وما ذكره من أنّ مجرّد الاتّصال بالنجس لو كان موجبا للانفعال في نظر الشارع لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل.

ففيه : أنّه مخصّص عن العموم بالإجماع ، فإلحاق ما عداه به ممّا لا دليل عليه قياس لا نقول به ، على أنّ الفارق أيضا موجود كما ذكره بعض من عدم تعقّل سريان النجاسة إلى الأعلى » (١).

ثمّ إنّ المحقّق الشيخ عليّ احتجّ على ما صار إليه : « بأنّ الأسفل والأعلى لو اتّحدا في الحكم ، للزم تنجّس كلّ أعلى متّصل بأسفل مع القلّة وهو معلوم البطلان ، وحيث لم يتنجّس بنجاسته لم يطهّر بطهره » (٢) انتهى.

ومراده بالأسفل في قوله : « كلّ أعلى متّصل بأسفل » ما كان من الأسفل متنجّسا ، وإلّا لا يعقل تنجّس الأعلى به وهو طاهر ، وبالقلّة في قوله : « مع القلّة » المجموع.

وأجاب عنه في المدارك : بأنّ الحكم بعدم نجاسة الأعلى بوقوع النجاسة فيه مع بلوغ المجموع منه ومن الأسفل الكرّ إنّما كان لاندراجه تحت عموم الخبر ، وليس في هذا ما يستلزم نجاسة الأعلى بنجاسة الأسفل بوجه ، مع أنّ الإجماع منعقد على أنّ النجاسة لا تسري إلى الأعلى مطلقا (٣).

وقد يقرّر : بأنّ القول بتقوّي الأعلى بالأسفل ، إمّا لكونهما ماء واحدا مندرجا تحت

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٠١.

(٢) حكاه عنه في مشارق الشموس : ٢٠١ ـ وأيضا عنه في مدارك الأحكام ١ : ٤٥.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٤٥.


عموم « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه » (١) أو لعدم دليل على تنجّسه بناء على عدم عموم في أدلّة انفعال القليل كما ذكرنا ، فإن كان الأوّل فإنّما يلزم ما ذكره لو ثبت أنّ كلّ ماء واحد قليل ينجّس جميعا بنجاسة بعض منه وإن كان أسفل من بعض آخر ، ولم يثبت لما عرفت من عدم دليل عامّ على انفعال القليل ، وعلى تقدير وجوده نقول : إنّه مخصّص بغير صورة النزاع ، للإجماع على عدم سراية النجاسة عن الأسفل إلى الأعلى ، وذلك الإجماع لا يستلزم خروج الأسفل والأعلى عن الوحدة كما لا يخفى ، وقس عليه الحال في نجاسة أسفل الكثير بالتغيّر وعدم نجاسة ما فوقه ، وإن كان الثاني فالأمر أظهر.

فقد انقدح لك بجميع ما فصّلناه في تحرير النزاع ومحلّه ، من تكلّف ذكر العبارات وتعرّض نقل النقوض والإبرامات ، امور :

الأوّل : اتّفاقهم على اعتبار الاتّصال فيما بين أجزاء الماء لو كانت متفرّقة ، فلو انفصل بعضها عن بعض من دون توسّط ما يوجب بينها الوصل ـ ولو بنحو الساقية أو الثقبة ـ لم يكن من محلّ النزاع في شي‌ء ، ولا أنّ المجموع من الكرّ المحكوم عليه بعدم الانفعال بالملاقاة.

والثاني : كون العمدة فيما هو مناط موضع البحث صدق الوحدة عند اختلاف السطوح وعدمه.

والثالث : قضيّة ما تقدّم عن صاحب المعالم كون الاجتماع فيما بين أجزاء الكرّ ممّا له مدخليّة في الحكم ، فلا يكون مجرّد تساوي السطوح عنده مع فرض عدم الاجتماع ـ كما لو تواصلت المياه المتفرّقة في نظر الحسّ بعضها مع بعض المستوية السطوح ـ كافيا في انعقاد موضوع الحكم.

والرابع : عدم كون الخلاف عن نصوص واردة في المسألة بخصوصها ، بل مبناه على الاستظهارات الناشئة عن أخبار الكرّ ، فكلّ يستظهر مطلبه عنها بملاحظة شي‌ء من الجهات الموجودة فيها ولو في نظر الوهم ، وبذلك يعلم أنّ الأمر في تحقيق المسألة هيّن ، لوضوح طريقه واتّضاح مدركه ، فلا بدّ من النظر في مساق الأخبار المذكورة ومفادها حسبما

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.


يساعد عليه العرف وفهم أهل اللسان ، ويوافقه القواعد المحكمة المقرّرة في مظانّها.

فنقول : يمكن الاستدلال لمشترطي المساواة بصحيحة محمّد بن مسلم ـ المتقدّمة ـ المتضمّنة لقول السائل : « قلت له : الغدير ماء مجتمع إلخ » (١) القاضية باعتبار الاجتماع ، الّذي هو أخصّ من مساواة السطح.

ورواية الكافي المتضمّنة لقوله عليه‌السلام « إذا كان الماء في الركيّ » (٢) نظرا إلى أنّ الركيّة ـ وهي البئر ـ ممّا لا يعقل فيه الاختلاف.

وصحيحة صفوان المشتملة على السؤال عن حياض ما بين مكّة والمدينة (٣) وصحيحة إسماعيل بن جابر (٤) وغيرها ممّا يتضمّن تحديد الكرّ بالمساحة على وجه لا يعقل معه عدم الاجتماع ويبعد عدم المساواة ، فلو لا هذه الامور معتبرة في نظر الشارع لما وردت الروايات على هذا النمط.

وأنت خبير بأنّه ليس شي‌ء من ذلك بشي‌ء ، بل كلّ من ذا أوهن من بيت العنكبوت ، على وجه لا يمكن التعويل عليها في إثبات مثل هذا الحكم ، المخرج على خلاف الأصل من جهات شتّى :

أمّا الأوّل من الوجوه فيدفعه : أنّ من المقرّر في المباحث الاصوليّة أنّ خصوصيّة المورد والسؤال لا تصلح مخصّصة للوارد والجواب ، بل العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المحلّ ، وكما أنّ أفراد الغدير بالسؤال عنه لا يقتضي باختصاص الحكم به ولا ينافي شموله غيره كائنا ما كان ـ كما هو المجمع عليه هنا ويعترف به الخصم جدّا ـ فكذلك خصوصيّة الوصف الوارد معه في السؤال أيضا لا يقتضي بذلك ، كيف وأنّ الفرع لا يزيد على الأصل.

وإلحاقه بقاعدة مفهوم الوصف ـ لو قيل به ـ مدفوع بمنع حجّيّة ذلك المفهوم إلّا في مواضع ليس المقام منها ـ كما قرّر في محلّه ـ ومنع اعتباره هنا على فرض الحجّيّة ، من

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٠ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٢ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٧.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٤ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ١٤ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١٤.


حيث عدم وروده إلّا في كلام السائل ، والعبرة إنّما هو بما ورد في كلام المسئول وهو خال عن القيد ، ولا يلزم من عدم إرادته في الجواب خروجه عن المطابقة للسؤال ، لعدم انكشاف كون وروده في السؤال على وجه له مدخليّة في غرض السائل ، لقوّة احتمال ـ بل ظهور ـ كونه حكاية للواقعة حسبما وقعت في الخارج ، من دون التفات إلى مدخليّة الخصوصيّة وعدمها ، كما هو واقع وشائع في جميع العرفيّات وكافّة الأجوبة والسؤالات.

وأمّا الثاني : فقد تبيّن حاله بما ذكرنا ، فإنّ خصوصيّة أصل الركيّة ممّا لا مدخليّة له في الحكم فضلا عن الوصف الموجود فيها في نظر الوهم ، هذا مع توجّه المنع إلى ظهورها في الاجتماع أو المساواة ، لوضوح أنّ المذكور في الخطاب إنّما هو الركيّ ، وهو جمع « الركيّة » على ما عن الصحاح (١) و « الركيّة » هي البئر على ما في المجمع (٢) فيكون إطلاق الرواية قاضيا بأنّه لو كان المجموع من مياه آبار متعدّدة كرّا ـ كما قد يتّفق ذلك ـ كان كافيا في حكم عدم الانفعال فيفوت به اعتبار الاجتماع.

بل لك أن تقول : بمنع ظهوره في المساواة الّتي لا تتحقّق في مفروض المسألة غالبا إلّا بعدم الجريان ، وقد يتّفق كثيرا جريان المجتمع من مياه الآبار عن تحت الأرض كما في القنوات ، ولا ريب أنّ الإطلاق يشمله فترتّب عليه الحكم.

وأمّا الثالث : فالكلام فيه أيضا نظير ما عرفت ، فإنّه سؤال عن محلّ الابتلاء ، أو عمّا عساه يبتلى به ، من دون نظر إلى الخصوصيّات القائمة به ، فلا يوجب شي‌ء منها وهنا في عموم الجواب الوارد عليه الماهيّة المطلقة الّتي حيثما وجدت أوجبت جريان الحكم المعلّق عليها.

وأمّا الرابع : فلأنّ المتبادر في نظائره بيان ضابط كلّي يرجع إليه في مواضع الشبهة ، وهو بلوغ الماء المشكوك في حاله بعد الجمع بحسب المساحة هذا المقدار ، من دون مدخل لخصوصيّة الوضع والشكل في الحكم ، كيف ولو صحّ المدخليّة لوجب الاقتصار على ما يخرج معه الحساب صحيحا مستقيما في جميع الأبعاد الثلاث على حسبما هو صريح التحديد ، من دون حاجة إلى الكسر وإضافة ما خرج في بعضها عن حدّه

__________________

(١) الصحاح ؛ مادّة « ركا » ٦ : ٢٣٦١.

(٢) مجمع البحرين ؛ مادّة « ركا » ١ : ١٩٤.


المضروب إلى ما نقص منها عن هذا الحدّ ، فيلزم أن لا يكون بما عدا المربّع من الأشكال المختلفة من المثلّثات والدوائر والمستطيلات والهلاليّات ونحوها عبرة في ترتيب أحكام الكرّ ، وهو في غاية البعد ، بل يشبه بكونه خلاف الإجماع بل خلاف الضرورة ، مع أنّ الاختلاف على وجه الانحدار الّذي يتحقّق مع جريان اليسير ـ خصوصا إذا لم يكن فاحشا ـ لا ينافي شيئا من تلك التحديدات.

سلّمنا ولكن جميع ما ذكر في تلك الوجوه يعارضه ظاهر روايات اخر واردة في هذا الباب ، كرواية محمّد بن مسلم المتضمّنة للسؤال عن الماء الّذي تبول فيه الدوابّ (١) ، وصحيحة عليّ بن جعفر المشتملة على السؤال عن الدجاجة والحمامة وأشباهها تطأ العذرة ثمّ تدخل الماء (٢) ، وصحيحة إسماعيل بن جابر المتضمّنة للسؤال عن الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء (٣) ، فإنّ السؤال في كلّ ذلك ورد على وجه عامّ وطابقه الجواب ، مع اقترانه بترك الاستفصال من دون إشعار فيهما بشي‌ء من الأحوال والخصوصيّات ، فلو لا الحكم عامّا لجميع الصور لكان ترك التنبيه على ما له مدخليّة ـ لو كان في مقام التعليم والبيان ـ منافيا للحكمة ، وهو كما ترى.

فلو سلّم عدم كون هذه بنفسها أظهر من الطرف المقابل كان غايته التساقط ، فتبقى الأخبار المطلقة الغير المسبوقة بالأسئلة كالنبويّ المتقدّم (٤) ، وصحيحة معاوية بن عمّار (٥) المشتملين ابتداء على قولهم عليهم‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » سليمة عن المعارض.

وينبغي التعرّض لوجه دلالة هذه على المطلوب ليتّضح المقام كمال الوضوح. فنقول : شبهة الخصم إمّا أن تنشأ عن توهّم قصور لفظة « الماء » عن الدلالة على ما يعمّ نظائر المقام ، أو تنشأ عن توهّم ذلك في لفظة « الكرّ » ، أو عن توهّم ذلك في الهيئة التركيبيّة

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٩٣ / ٤٠٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٤ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١٤.

(٤) الفائق ١ : ١٦٤ ؛ غريب الحديث ـ للهروي ـ ١ : ٣٣٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩ بسند آخر.


الكلاميّة المشتملة عليهما وعلى ما يسند إليهما من الفعلين ، ولا سبيل إلى شي‌ء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ « الماء » من أسماء الأجناس الواقعة على القليل والكثير ، المشتركة فيها بين الأكثر والأقلّ ، والكلّ والأبعاض ، كالتمر والحنطة ونحوها ممّا يختلف أفرادها وتتمايز بالقلّة والكثرة ، فالكرّ من الماء ماء ، وصاع منه ـ بل مدّ وغرفة منه على فرض الانفصال ـ ماء ، ولو وزّع أرطالا مثلا وجعل كلّ رطل في مكان ، فإن لم يوصل بين كلّ وصاحبه بساقية كان كلّ واحد ماء والمجموع مياه ، وإلّا كان المجموع ماء ، ولو صبّ الماء من آنية على رأس منارة حتّى يصل منتهاه إلى وجه الأرض كان المجموع ممّا فيهما وما في أثناء النزول ماء ما دام الاتّصال باقيا ، بخلاف ما لو انقطع الاتّصال فكان ما في الآنية ماء ، وما في المنارة آخر ، وما على وجه الأرض ثالثا.

وقضيّة ذلك : سراية الحكم لو علّق على الطبيعة من حيث هي إلى جميع تلك المصاديق من غير أن يخرج شي‌ء منها.

وتوهّم : كون ما فرض في مسألة المنارة من نادر تلك المصاديق ، والإطلاق إنّما ينصرف إلى شائعها ـ كما هو مقرّر في المسائل الاصوليّة ـ يدفعه : منع الاعتبار بندرة الوجود ، وغيرها غير موجود.

وأمّا الثاني : فلأنّ « الكرّ » من الألفاظ الموضوعة لمقدار معيّن ، ولو بحسب الشرع أو على سبيل المجاز ، فلا يقع على الأبعاض كالمنّ ونحوه ، بل يقع على المجموع من حيث هو ، فلهيئته الاجتماعيّة دخل في الصدق ، نعم يكفي في الصدق عليها اتّصال ما بينها إذا كانت متفرّقة في محالّ متعدّدة ، فالمقدار الوارد في الروايات كرّ بأيّ شكل فرض ، حتّى ما يفرض منه في المنارة على الوجه المتقدّم ، فيكون مفاد الروايات بعد الجمع بين مدلوله ومدلول الماء نظير ما لو قيل : ما يقع عليه اسم الماء فهو ممّا لا ينجّسه النجاسة بمجرّد وقوعها فيه إذا كان ممّا يقع عليه اسم الكرّ. ولا ريب أنّ ذلك معنى عامّ لا يشذّ منه شي‌ء من أفراد الماء ، ولا شي‌ء من مصاديق الكرّ ، ومعه كيف يناقش في دلالة ذلك على عموم الحكم ، ولم يسبقه ما يصلح قرينة على العهد الصارف للعامّ إلى الخصوص ، ومن أين يجي‌ء اعتبار الاجتماع أو مساواة السطوح أو نحو ذلك ،


فهل لك أن تقول : بأنّ ما عرى عنهما ليس بماء ، أو أنّه ليس من الكرّ حتّى لا يكون مشمولا للدليل ، أو تقول : بأنّ ذلك شرط خارج عنهما بكليهما معتبر معهما في الحكم على حدّ سائر الشروط الواردة في الشريعة ، ولم يقم عليه من الشارع دلالة ولا إشارة مع كون الحكم ممّا يعمّ به البلوى ، بل هو أعمّ ابتلاء من سائر الشرعيّات.

وتوهّم : عدم انصراف الهيئة التركيبيّة إلى نظائر المقام ، مع عدم اقترانها بما يوجب ذلك ، وظهور سياقها في ورودها لإعطاء قاعدة كلّيّة مندرجة في قولهم عليهم‌السلام : « علينا أن نلقي إليكم الاصول وعليكم أن تفرّعوا » (١) الّتي لا تصلح لذلك إلّا على تقدير كون موضوعها مأخوذا على وجه عامّ معبّر عنه بالماهيّة لا بشرط شي‌ء ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

وكلّ ذلك ممّا يرفع الحاجة إلى التشبّث بالاعتبارات أو الاستبعادات المخرجة في المقام لتأييد هذا المذهب ـ الّتي قد عرفت بعضها ـ كما أنّه ممّا يحسم مادّة الاستبعادات والاعتبارات الاخر المخرجة لتأييد خلاف المذهب بالكلّيّة ، كما أنّه ممّا لا يفترق فيه الحال بين أنواع الاختلاف ، ولا بين أوضاع الماء من علوّ أو دنوّ أو غيرهما ، فإنّ قضيّة العموم تقوّم كلّ بعض من أبعاض الكرّ بالآخر كيفما اتّفق.

والقول : بأنّ الأسفل والأعلى لو اتّحدا في الحكم للزم تنجيس كلّ أعلى طاهر متّصل بأسفل متنجّس مع فرض قلّة المجموع وهو باطل ، فحيث إنّه لا ينجّس بنجاسته فلا يطهّر بطهارته ، كما عرفته من المحقّق الكركي (٢).

يدفعه : منع الملازمة ، بعد ملاحظة قيام الدلالة على المقدّم دون التالي ، بل قيامها على خلافه كما عرفته من الإجماع ، مع أنّا لا نقول : بأنّ العالي يطهّر بطهر السافل ، إذ ليس بحثنا في مسألة التطهير ، بل نقول : إنّه لا ينفعل من جهة وجوده كما في صورة العكس ، وعدم كونهما متّحدين في سائر الأحكام لا يقضي بكونهما كذلك في مسألة التقوّم والاعتصام ، لوضوح بطلان دعوى الملازمة ، كيف ولو لا ذلك اتّجه قبول الانفعال وهو لكونه حكما مخالفا للأصل بل الاصول لا بدّ له من دلالة ، وأنّى لهم الدلالة عليه ، مع

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٦١ ، ب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٥١.

(٢) تقدم في الصفحة : ١٢٤.


الجزم بعدم اندراجه في أدلّة انفعال القليل كما اعترفوا به.

وبالجملة : لا إشكال في حكم المسألة أصلا في شي‌ء من صورها ، نعم لو شئت الأخذ بالاحتياط في بعضها فلا بأس به خروجا عن شبهة الخلاف ، لأنّه حسن على كلّ حال.

ويقوي رجحان الاحتياط فيما لو بلغ الاختلاف حدّا يضعف به صدق الوحدة ، لضعف الاتّصال برقّة الساقية أو دقّة الثقبة كرأس الإبرة ونحوه ، إلّا أنّه لا يبلغ مرتبة الوجوب لعدم صلوحه معارضا للأصل الأصيل الّذي تقدّم الكلام في تحقيقه ، نعم ، يتعيّن الانفعال لو بلغ ضعف الاتّصال حدّا لا يقال معه ماء ، بل يقال ماءان.

ولنختم المقام بإيراد فروع :

الأوّل : إذا وقعت في الكرّ نجاسة مائعة غير مغيّرة جاز استعمال جميعه كما صرّح به العلّامة في المنتهى (١) ؛ لأنّه من آثار الكرّيّة ولوازمها ؛ ولأنّه لو منع عن استعماله فإمّا في الجميع أو في البعض ، والأوّل خلاف الإجماع ، والثاني ترجيح بلا مرجّح.

وقد يعزى إلى بعض الشافعيّة (٢) المنع عن ذلك في المقدار من الماء الّذي لا ينفعل بالنجاسة.

وأمّا لو وقعت فيه نجاسة متميّزة فجاز استعمال الماء المجاور لها ولا يجب التباعد ، وفاقا للعلّامة في الكتاب (٣) ، لأنّه منوط بالمائيّة والطهارة وهما حاصلان في الفرض.

الثاني : لا فرق في عدم انفعال الكثير بالملاقاة الغير المغيّرة بين أنواع النجاسة ، لعموم « لا ينجّسه شي‌ء » (٤) خلافا لأحمد (٥) في قوله بالانفعال بوقوع بول الآدميّين وعذرتهم الرطبة ، استنادا إلى قوله عليه‌السلام : « لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الّذي لا تجري ثمّ يغتسل منه » (٦) وهو يتناول القليل والكثير.

__________________

(١ و ٣) منتهى المطلب ١ : ٤١.

(٢) المهذّب للشيرازي ١ : ٧ ؛ المجموع ١ : ١٣٩ ؛ فتح العزيز بهامش المجموع ١ : ٢١٤.

(٤) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٥) المغني لابن قدامة ١ : ٦٦ ؛ إرشاد الساري ١ : ٣٠٤ ، الإنصاف ١ : ٥٩.

(٦) صحيح البخاري ١ : ٦٩ ، صحيح مسلم ١ : ٢٣٥ ح ٢٨٢ ، سنن أبي داود ١ : ١٨ ح ٦٩ سنن الترمذي ١ : ١٠٠. ح ٦٨ ، سنن النسائي ١ : ١٢٥ ، سنن الدارمي ١ : ١٨٦ مسند أحمد ٢ : ٣٤٦ ، نيل الأوطار ١ : ٣٩.


وجوابه : أنّه محمول على القلّة جمعا بين الأدلّة أو النهي ليس هنا للتحريم ، وعلى فرضه فلا ملازمة بينه وبين النجاسة إلّا بضميمة الإجماع وهو هنا على خلافه.

والزم أيضا : بأنّه لا يقول به في بول الكلب ، فلأن لا يقول به في بول الآدميّين طريق الأولويّة ؛ لأنّ نجاسة بول الكلب أزيد من نجاسته.

الثالث : لو اغترف من كرّ فيه نجاسة غير متميّزة كان المجموع من المأخوذ والباقي وآلة الاغتراف طاهرا ، ولو كانت النجاسة متميّزة فإن لم يخرج الباقي عن الكرّيّة كان الجميع أيضا طاهرا ، وإلّا كان المأخوذ مع باطن الآنية طاهرين ، والباقي مع ظاهر الآنية الملاصق للماء حين خروجها عنه نجسين.

هذا على تقدير دخول الآنية بأجمعها في الماء على وجه لم يخرج ما فيها وما في خارجها عن الاتّصال ، وإلّا نجس الجميع ، لخروج الماء بدخول جزء أوّل منه في الإناء عن الكرّيّة فينجّس بتخلّل الفصل بينه وبين ما فيها ، ولو دخلت النجاسة في الآنية في هذا الفرض فإن كان دخولها بأوّل جزء من الماء كان ما في الآنية مع باطنها نجسين والباقي مع ظاهرها طاهرين ، وإن كان دخولها أخيرا كان الجميع نجسا إن اتّفق سلب الاتّصال فيما بين ما دخل فيها وما خرج عنها ؛ لأنّ الخارج بانقطاعه عن الداخل في أوّل المرتبة قد صار نجسا ، لخروجه عن الكرّيّة ثمّ دخل منه ثانيا فيها جزء آخر وهو نجس ، وإلّا اختصّ النجاسة بما فيها مع باطنها ، وأمّا الباقي مع ظاهرها فهما باقيان على الطهارة.

الرابع : لو دخل الكلب أو أحد أخويه في الكرّ ، فهو طاهر ما دام الكلب داخلا فيه ، إن لم يتلف منه شيئا بشرب ونحوه ، وإذا خرج عنه انقلب حكمه إلى النجاسة من جهة الملاقاة مع القلّة ، كما أنّه كذلك على تقدير الإتلاف ولو مع الدخول.

الخامس : عن العلّامة في المنتهى : « أنّه لو جمد الكثير ثمّ أصابته نجاسة بعد الجمود ، فالأقرب عدم تنجّسه بها ما لم تغيّرها ، محتجّا بأنّ الجمود لم يخرجه عن حقيقته بل هو مؤكّد لثبوتها ، فإنّ الآثار الصادرة عن الحقيقة كلّما قويت كانت أوكد في ثبوتها ، والبرودة من معلولات طبيعة الماء وهي تقضي الجمود ، وإذا لم يكن ذلك مخرجا له عن الحقيقة كان داخلا في عموم قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه


شي‌ء » (١) (٢) وهو كما ترى من أوهن الأشياء كما تنبّه عليه صاحب الحدائق (٣) ، لعدم ابتناء أحكام الشرع على أمثال هذه الدقائق ، بل العبرة فيها بما يساعد عليه العرف أو اللغة ، ولا ريب أنّ عروض الجمود للماء يخرجه عن صدق اسم المائيّة ، ويسلب عنه الإطلاق فلا يتناوله الحكم المعلّق عليه حينئذ.

نعم لو قيل بهذا الكلام في مثل الدهن والدبس ونحوهما ممّا لا يخرج بالجمود عن الصدق كان متّجها ، فيترتّب عليه بعد الجمود الأحكام الثابتة له قبل الجمود ، غير أنّ المقام ليس منه جزما ، فكان الأقوى بل المتعيّن تنجّس موضع الملاقاة في الجامد ، كما عليه الشهيد في الدروس (٤) ، والمحقّق الخوانساري في شرحه (٥) ، واختاره في الحدائق (٦) ، وعزى استظهاره إلى بعض المحقّقين ، وعليه طهره كطهر سائر الجوامد ، فيحصل تارة بإلقاء العين مع ما يكتنفها إن كانت ذات عين ، واخرى باتّصاله بالجاري أو الكثير ، أو وقوع المطر عليه مع زوال العين في الجميع ، وثالثة بصبّ الماء القليل عليه على حدّ ما يتطهّر به سائر الجوامد.

السادس : الماء إذا كان كرّا وتغيّر بعضه فالجميع نجس إن كانت سطوحه مستوية ، وإلّا اختصّت النجاسة بالأسفل إن لم يكن موضع التغيّر هو الأعلى ، لإجماعهم على عدم السراية إليه ، وإن كان زائدا على الكرّ فتغيّر بعضه فإمّا أن يكون الباقي مقدار الكرّ أو أزيد منه أو أنقص ، وعلى التقادير فإمّا أن يستوعب النجاسة عمود الماء ـ وهو خطّ ما بين حاشيته عرضا وطولا ـ أو لا ، وعلى التقادير فإمّا أن يكون سطوحه مستوية أو مختلفة.

ومحصّل أحكام تلك الصور : أنّ الجميع في صورة النقصان مع استواء السطوح نجس ، ومع اختلافها كانت النجاسة مختصّة بالأسفل ، من غير فرق فيهما بين استيعاب العمود وعدمه ، كما أنّ الجميع في غير صورة عدم النقصان مع عدم استيعاب العمود طاهر ، من غير فرق بين استواء السطوح وعدمه ، وأمّا مع الاستيعاب فإن كانت الكرّيّة قائمة بمجموع الطرفين كان الجميع مع الاستواء والأسفل خاصّة مع الاختلاف نجسا ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٧٢ نقلا بالمعنى.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٩.

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٨.

(٥) مشارق الشموس : ٢٠٤.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٨.


وإن كانت قائمة بأحدهما اختصّت الطهارة به مع الاستواء ، وأمّا مع الاختلاف فإن كانت الكرّيّة في الطرف الأسفل كان الجميع طاهرا ، أمّا هو فبالكرّيّة وأمّا الأعلى فبعدم السراية ، وإن كانت في الطرف الأعلى فهو الطاهر بجهتين دون الأسفل.

السابع : عن العلّامة أنّه حكم في القواعد (١) بالنجاسة في الماء الّذي يشكّ في كرّيّته إذا وجد فيها نجاسة ، وعن جامع المقاصد (٢) أنّه علّله : « بأنّ المقتضي للتنجيس موجود والمانع مشكوك فيه فينفى بالأصل » ، وكأنّه مبنيّ على توهّم كون الكرّيّة مانعة عن الانفعال كما سبق إلى بعض الأوهام ، وقد تقدّم منّا ما يهدم بنيان هذا البيان ، فالأقرب في الصورة المفروضة الحكم بالطهارة عملا بالاصول المحكمة ، ومثله الكلام فيما لو وجد نجاسة في الكرّ وشكّ في وقوعها عليه قبل بلوغ الكرّيّة أو بعد بلوغها.

الثامن : عن المحقّق في المعتبر : « أنّه لو تطهّر من ماء ثمّ علم فيه نجاسة وشكّ هل كانت قبل الوضوء أو بعده فالأصل الصحّة ، ولو علم أنّها قبله ولم يعلم هل كان كرّا أو أقلّ أعاد لأنّ الأصل القلّة » (٣).

وهو على إطلاقه غير وجيه ، إذ كثيرا ما لا يكون الماء مسبوقا بالقلّة ، ومعه لا معارض لأصل الطهارة حسبما اقتضته العمومات. فالمتّجه حينئذ صحّة الوضوء وعدم لزوم إعادته ، فإنّها وإن كانت معلّقة على طهارة الماء ، غير أنّ الطهارة منوطة بعدم العلم بالقذارة والمفروض منه ، وإنّما لا نقول به في صورة جريان أصالة القلّة ، لإمكان القول بأنّها علم شرعي بالقذارة وهو قائم مقام العلم ، فيدخل المفروض في غاية قوله عليه‌السلام : « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٤).

الجهة الخامسة : في تحديد الكرّ الّذي لا ينجّس بالملاقاة ، فاعلم : أنّ للأصحاب في تحديد الكرّ طريقين :

الطريق الأوّل : تحديده باعتبار الوزن ، فهو بهذا الاعتبار ألف ومائتا رطل ، كما عن الأصحاب قديما وحديثا ، وعليه نقل الإجماعات على حدّ الاستفاضة ، كما عن صريح الناصريّات (٥) ،

__________________

(١) قواعد الاحكام ١ : ١٨٣.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١١٩.

(٣) المعتبر : ١٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ وفيه : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر ».

(٥) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة) ١ : ١٣٥.


والغنية (١) ، ومجمع الفائدة (٢) ، وظاهر الانتصار (٣) ، والمعتبر (٤) ، ونهج الحقّ (٥) ، وعن الصدوق في محكي [شرح] المفاتيح : « أنّه من دين الإماميّة » (٦) ، وفي الحدائق : « أنّه لا خلاف فيه » (٧) ، وفي الجواهر : « إجماعا منقولا بل محصّلا » (٨).

والأصل في ذلك مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الكرّ من الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء الف ومائتا رطل » ، الواردة في التهذيب في باب آداب الأحداث (٩) ، والاستبصار في باب كمّيّة الكرّ (١٠)، وفي الكافي في باب الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء (١١).

ولا يقدح ما فيها من الإرسال ، أمّا أوّلا : فلاتّفاقهم على أنّ مراسيل ابن أبي عمير في حكم مسانيده ، لأنّه لا يرسل إلّا عن ثقة.

وأمّا ثانيا : فلانجباره في خصوص المقام بعمل الأصحاب وقبولهم إيّاها.

ولا يعارضها ما في الصحيح ـ الوارد في التهذيب (١٢) والاستبصار (١٣) في زيادات باب المياه ـ عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله قال : قلت له الغدير ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء ، والكرّ ستّمائة رطل ».

ولا المرفوعة ـ الواردة في التهذيب في باب الأحداث (١٤) ـ عن عبد الله بن مغيرة رفعه إلى أبي عبد الله : « إنّ الكرّ ستّمائة رطل ».

__________________

(١) غنية النزوع : (سلسلة الينابيع الفقهيّة) ٢ : ٣٧٩.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٩.

(٣) الانتصار : ٨.

(٤) المعتبر : ١٠.

(٥) نهج الحقّ وكشف الصدق : ٤١٧.

(٦) حكى في مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) عن الصدوق في أماليه ، الورقة : ٥١٩.

(٧) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٤. (٨) جواهر الكلام ١ : ٣٣٩.

(٩ و ١١) الوسائل ١ : ١٦٧ ، ب ١١ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١١٣ ـ الاستبصار ١ : ١٠ / ١٥.

(١١) الكافي ٣ : ٦٣ ، الّا أنّه أسقط قوله : « الّذي لا ينجّسه شي‌ء ».

(١٢ و ١٣) ـ نقل ذيله في الوسائل ١ : ١٦٨ ، ب ١١ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ وصدره في ب ٩ من هذه الأبواب ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٧.

(١٤) الوسائل ١ : ١٦٨ ، ب ١١ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٣ / ١١٩ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٦.


ولا ما في التهذيب (١) والاستبصار (٢) والكافي (٣) الموصوف بالحسن عن زرارة قال : « إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجّسه شي‌ء تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ فيه ، إلّا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء ».

ولا ما في الكتب المذكورة الموصوف بالحسن عن عبد الله بن مغيرة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الكرّ من الماء نحو حبّي هذا ، وأشار إلى حبّ من تلك الحباب الّتي تكون بالمدينة » (٤).

ولا ما في التهذيب (٥) والاستبصار (٦) في زيادات باب المياه ، عن عبد الله بن مغيرة عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء قدر قلّتين لم ينجّسه شي‌ء ، والقلّتان جرّتان » ، ورواه في الفقيه أيضا مرسلا (٧).

أمّا الأوّلان : فلأنّهما إمّا محمولان على الرطل المكّي الّذي هو ضعف الرطل العراقي بقرينة ما سيجي‌ء ، أو ساقطان عن درجة الحجّيّة لمصير الأصحاب إلى خلافهما.

وأمّا الأواخر : فلإمكان حمل الجميع على ما يسع الكرّ إذ لا بعد فيه كما قيل ، مضافا إلى ما في الأخيرة من قوّة احتمال ورودها مورد التقيّة كما تقدّم إليه الإشارة ، مع ما في الجميع بعد الإغماض عمّا ذكر من الموهونيّة المسقطة عن الحجّيّة بمصير الأصحاب إلى المخالفة ، فهذا المقدار من المسألة بحمد الله والمنّة له ممّا لا إشكال فيه ، ولا شبهة تعتريه.

وإنّما الإشكال في تعيين المراد بالرطل الوارد في الرواية المذكورة ، فإنّ للأصحاب فيه خلافا ، منشؤه أنّ « الرطل » ممّا يقال بالاشتراك على ثلاث مقادير مخصوصة ، أحدها : بالعراقي ، وثانيها : بالمدني ، وثالثها : بالمكّي ، والأوّل من الثاني ثلثاه ، ومن الثالث نصفه ، كما أنّ الثاني منه ثلاثة أرباعه.

فالأوّل على ما فسّره به المشهور مائة وثلاثون درهما ، فيكون الثاني مائة وخمسة

__________________

(١ و ٣) الوسائل ١ : ١٣٩ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٨ ـ الاستبصار ١ : ٧ / ٧ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٦ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ الكافي ٣ : ٣ / ٨ ـ الاستبصار ١ : ٧ / ٥ ـ التهذيب ١ : ٤٢ / ١١٨.

(٥ و ٦) الوسائل ١ : ١٦٦ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣٠٩ الاستبصار ١ : ٧ / ٦ ـ الفقيه ١ : ٦ / ٣.

(٧) الفقيه ١ : ٦ ـ التهذيب ١ : ٤٤٠.


وتسعين درهما ، والثالث مائتين وستّين درهما ، وإنّما قيّدناه بالمشهور احترازا عمّا عن العلّامة من تفسيره في نصاب الغلّات من التحرير (١) والمنتهى (٢) : « بأنّه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم » ، فينقص من الأوّل بواحد وثلاثة أسباع واحد وفي كلام غير واحد أنّه سهو وغفلة.

وممّا يفصح عن ذلك ويشهد بصدق مقالة المشهور ، ما في مكاتبة الهمداني (٣) عن أبي الحسن عليه‌السلام : « إنّ الصاع ستّة أرطال بالمدني وتسعة أرطال بالعراقي ، ووزنه ألف ومائة وسبعون وزنة » (٤) ؛ فإنّ هذا التقدير يقتضي كون كلّ رطل من العراقي مائة وثلاثين وزنة ، مضافا إلى اقتضائه كون العراقي ثلثين من المدني ؛ إذ لو لا الرطل العراقي ناقصا من المدني بثلثه لما كان عدد أرطال الصاع بالعراقي زائدا على عدد أرطاله بالمدني بثلثه ، فيحصل الموازنة في أرطال الصاع بالعراقي بين نقصان المادّة وزيادة الهيئة ، فيرجع التقدير إلى أرطاله بالمدني ، كما أنّه لو حصلت الموازنة في أرطاله بالمدني بين نقصان الهيئة وزيادة المادّة رجع المقدّر إلى أرطاله بالعراقي فليتدبّر.

وكيف كان : فخلافهم المذكور واقع فيما بين العراقي والمدني دون المكّي الّذي قيل فيه بعدم ذهاب أحد إليه ، ولهم في ذلك الخلاف قولان :

أحدهما : ما نسب إلى المشهور من حمله على العراقي ، وفي المختلف (٥) : قال به الشيخ المفيد (٦) وأبو جعفر رحمهما‌الله (٧) ، وهو اختيار ابن البرّاج (٨) وابن حمزة (٩) وابن إدريس (١٠).

وفي شرح الدروس (١١) : « عليه الشيخ في النهاية (١٢) والمبسوط (١٣) ، وهذا يقتضي

__________________

(١) التحرير ـ زكاة الغلّات (الطبعة الحجريّة) : ٦٢.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٤٩٧.

(٣) الوسائل ٩ : ٣٤٠ ، ب ٧ من أبواب زكاة الفطرة ح ١ ـ التهذيب ٤ : ٨٣ / ٢٤٣ الكافي ٤ : ١٧٢ / ٩ ـ الاستبصار ٢ : ٤٩ / ١٦٣.

(٤) وقضيّة التحديد الوارد في الرواية أن يكون كلّ رطل مائة وثلاثين وزنة (منه) ـ وفسّرت الوزنة في كلام بعض الأصحاب بالدرهم (منه).

(٥) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤. (٦) المقنعة : ٦٤.

(٧ و ١٣) المبسوط ١ : ٦.

(٨) المهذّب البارع ١ : ٢١.

(٩) الوسيلة : ٧٣. (١٠) السرائر ١ : ٦٠.

(١١) مشارق الشموس : ١٩٦.

(١٢) النهاية : ٣.


كونه على طبق الرواية وإن كانت مرسلة لانجبارها بالعمل ».

وفي المناهل (١) : « ذهب إليه الحلّي في السرائر (٢) والفاضلان في المعتبر (٣) والشرائع (٤) والقواعد (٥) والإرشاد (٦) والمختلف (٧) ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (٨) والجعفريّة (٩) ، والمقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة (١٠) ، وصاحب المدارك (١١) والذخيرة » (١٢).

وربّما يعزى إلى محكيّ كشف الرموز (١٣) أنّ الشيخ ادّعى عليه الإجماع.

وثانيهما : ما عن المرتضى والصدوق في الناصريّات (١٤) والانتصار (١٥) والمصباح (١٦) والفقيه (١٧) من حمله على المدني ، وفي المختلف (١٨) : وأطلق ابن الجنيد (١٩) وسلّار » (٢٠).

وفي المناهل (٢١) : وربّما يظهر من الغنية (٢٢) والذكرى (٢٣) التوقّف.

احتجّ الأوّلون بوجوه :

الأوّل : ما قرّره العلّامة في المختلف (٢٤) : من أنّ الأصل طهارة الماء ، خرج ما نقص عن الأرطال العراقيّة بالإجماع فيبقى الزائد على الأصل ، وليس في النصّ ما ينافيه فيجب العمل عليه عملا بالأصل السالم عن المعارض.

وهذا الأصل لا يخلو عن إجمال لاحتماله الأصل الاجتهادي المستفاد من عمومات

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٠٦.

(٢) السرائر ١ : ٦٠.

(٣) المعتبر : ١٠.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ١٣.

(٥) قواعد الأحكام ١ : ١٨٣.

(٦) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٦.

(٧) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٨) جامع المقاصد ١ : ١١٦.

(٩) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٣).

(١٠) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٩.

(١١) مدارك الأحكام ١ : ٤٨.

(١٢) ذخيرة المعاد : ١٢٢. (١٣) كشف الرموز ١ : ٤٨.

(١٤) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٥). (١٥) الانتصار (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٠٥).

(١٦) نقله عنه في المعتبر : ١٠. (١٧) الفقيه ١ : ٦ ذيل الحديث ٢.

(١٨) مختلف الشيعة ١ : ١٨٥. (١٩) نقله عنه في المختلف ١ : ١٨٥.

(٢٠) المراسم العلويّة : ٣٦. (٢١) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١٠٦.

(٢٢) الغنية (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٣٧٩). (٢٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨١.

(٢٤) مختلف الشيعة ١ : ١٨٥.


الأدلّة القائمة بطهارة الماء إلّا ما علم منه بخروجه كما تقدّم ، والقاعدة العامّة المقتضية لكون كلّ شي‌ء مخلوقا لأجل الانتفاع ، واستصحاب الطهارة ، وأصالة البراءة عن الاجتناب عمّا يشكّ في نجاسته بالملاقاة ممّا يزيد على الرطل العراقي ، وإنّما ذكرنا ذلك لورود الاحتجاج في كلامهم بكلّ من هذه الوجوه المذكورة على الاستقلال كما تعرفه.

الثاني : ما حكاه في المناهل (١) : من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٢) فإنّه يدلّ على عدم انفعال الماء بالملاقاة مطلقا ولو كان دون العراقي ، لكنّه خرج عن هذا العموم بالدليل ، ولا دليل على خروج العراقي ، فالأصل بقاؤه على العموم.

الثالث : ما حكاه في الكتاب (٣) أيضا من أنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٤) ، يدلّ على أنّ اللازم الحكم بطهارة الماء في مقام الشكّ في طهارته ونجاسته ، ومحلّ البحث منه.

الرابع : ما حكاه في شرح الدروس (٥) وأنّ الأصل طهارة الماء ، لأنّه خلق للانتفاع والانتفاع بالنجس لا يصحّ.

الخامس : ما حكاه في المناهل (٦) أيضا من أنّ حدّ العراقي قبل ملاقاته النجس كان طاهرا ومطهّرا ، فالأصل بقاؤهما حتّى يثبت المزيل لهما ، ولم يثبت بالنسبة إليه.

والسادس : ما تمسّك به في المدارك (٧) وحكاه في الحدائق (٨) من أنّ الأقلّ متيقّن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل ، يعني أصل البراءة كما صرّح به عند التعرّض لدفعه ، كما سيأتي الإشارة إليه.

والسابع : ما حكاه في المناهل (٩) أيضا من أنّ قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) (١٠) إلخ ،

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١٠٦.

(٢) سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ـ سنن الدارقطني ١ : ٢٨ ، كنز العمّال ٩ : ٣٩٦ ح ٢٦٦٥٢ ، مجمع الزوائد ١ : ٢١٤ باختلاف يسير ، نيل الأوطار ١ : ٣٥.

(٣ و ٦ و ٩) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١١٠.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٣ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الفقيه ١ : ٦ / ١.

(٥) مشارق الشموس : ١٩٦.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٤٨.

(٨) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٤.

(١٠) النساء : ٤٣.


يدلّ بمفهومه على أنّه إذا وجد الماء لم يجب التيمّم فيجب الطهارة المائيّة ، وهو عامّ يشمل المفروض ، وخروج ما دون العراقي من العموم لا يمنع من التمسّك به بالنسبة إليه.

والثامن : ما حكاه فيه أيضا (١) ـ واعتمد عليه غير واحد ، منهم شيخنا في الجواهر (٢) ـ من شيوع إطلاق الرطل في كلامهم عليهم‌السلام وإرادة العراقي منه عند الإطلاق ، كما يشير إليه خبر الكلبي النسّابة (٣) أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن النبيذ؟ فقال : « حلال ، فقال : إنّا نبذه فنطرح فيه العكر ، وما سوى ذلك ، شه شه ، تلك الحمرة المنتنة ، قلت : جعلت فداك فأيّ نبيذ تعني؟ فقال إنّ أهل المدينة شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغيّر الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا ، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له ، فيعمد إلى كفّ من تمر فيقذف في الشنّ (٤) ، فمنه شربه ومنه طهره.

فقلت : وكم كان عدد التمر الّذي في الكفّ؟ فقال : ما حمل الكفّ ، قلت : واحدة أو اثنتين؟ فقال ربّما كانت واحدة وربّما كانت اثنتين ، فقلت : وكم كان يسع الشنّ ماء؟ فقال : ما بين الأربعين إلى الثمانين ، إلى ما فوق ذلك فقلت : بأيّ الأرطال؟ فقال : أرطال مكيال العراق » (٥).

فإنّه عليه‌السلام أطلق وأراد به العراقي قبل أن يسأله السائل ، ولو لم يسأله لأعتمد على ذلك الإطلاق.

والتاسع : ما اعتمد عليه في المدارك (٦) ، من أنّ ذلك هو المناسب لرواية الأشبار الثلاثة ، وقرّره في المختلف ـ معتمدا عليه ـ : « بأنّ الأرطال العراقيّة تناسب رواية

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١١٠.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٣٤١.

(٣) الكلبي النسّابة : مشترك بين هشام بن محمّد بن السائب بن بشر بن زيد ... بن كلب بن مرّة الناسب ، العالم بالأيّام ، المشهور بالفضل والعلم ، وكان يختصّ بمذهبنا وكان أبو عبد الله عليه‌السلام يقرّبه ، المتوفّى سنة (٢٠٦ ه‍) وقيل : سنة (٢٠٤ ه‍) ، وبين أبيه محمّد بن السائب الّذي عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام ، المتوفّى سنة (١٤٦ ه‍) والغالب التعبير عن هشام بابن الكلبي وأيضا المناسب لترك لفظة « الابن » أن يكون الراوي هو الأب دون الابن. والله العالم. رجال النجاشي : ٤٣٤ ـ تاريخ بغداد ١٤ : ٤٦ ـ رجال الطوسي : ١٣٦ ، ٢٨٩.

(٤) الشّنّ : القربة الخلق. الصحاح : مادّة « شنن ».

(٥) الوسائل ١ : ٢٠٣ ، ب ٢ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ الكافي ١ : ٢٨٣ / ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٠ / ٦٢٩ ـ الاستبصار ١ : ١٦ / ٢٩.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٤٨.


الأشبار بخلاف المدنيّة فإنّها تفضل عليها ، ومن المستبعد تحديد مقدار الشي‌ء الواحد بأمرين متفاوتين » (١).

والعاشر : ما تمسّك به في المدارك أيضا واعتمد عليه في المختلف ، فقال الأوّل : « ولما في ذلك من الجمع بين هذه الرواية وبين صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : والكرّ ستّمائة رطل (٢) بحملها على أرطال مكّة ، إذ لا يجوز حملها على غيرها من الأرطال العراقيّة أو المدنيّة ؛ لأنّ ذلك لم يعتبره أحد من الأصحاب كما ذكره الشيخ في التهذيب (٣) » (٤).

وفي المختلف : « قال الشيخ (٥) وهذا يرجح اعتبار العراقيّة ووجهه أن يكون المراد به رطل مكّة لأنّه رطلان ، ولا يمتنع أن يكونوا عليهم‌السلام أفتوا السائل عن عادة بلده ؛ لأنّه لا يجوز أن يكون المراد به رطل أهل العراق ، ولا أرطال أهل المدينة ؛ لأنّ ذلك لم يعتبره أحد من أصحابنا فهو متروك بالإجماع » (٦) انتهى.

وممّا يقرّب مقالة الشيخ إلى الواقع شهادة حال الراوي ، فإنّ محمّد بن مسلم على ما في نقد الرجال (٧) عن رجال الشيخ طائفي ، فكونه من أهل الطائف الّذي هو من أتباع مكّة ممّا يقرب كون الإمام عليه‌السلام قد تكلّم باصطلاحه ، لما عرفت من امتناع حمله على اصطلاح آخر.

الحادي عشر : ما في المناهل : « من أنّ الظاهر أنّ الراوي لابن أبي عمير تحديد الكرّ بألف ومائتا رطل عراقي ، لأنّ الظاهر أنّه من مشايخه ، وهم من أهل العراق فيجب أن يكون الرطل فيما رواه العراقي ، لأنّ الحكيم لا يخاطب إلّا بما هو المصطلح عليه عند المخاطب » (٨).

قال شيخنا في الجواهر ـ مستدلّا على ما اختاره من مذهب المشهور ـ : « لكون المرسل ابن أبي عمير ومشايخه من أهل العراق ، مع قوله فيها : « عن بعض أصحابنا »

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٥.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٨ ، ب ١٢ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٣ / ١١٩ ـ الاستبصار ١ : ١١ / ١٦.

(٣) التهذيب ١ : ٤٣ في ذيل الحديث ١١٩.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ٤٨.

(٥) الاستبصار ١ : ١١ في ذيل الحديث ٦.

(٦) مختلف الشيعة ١ : ١٨٥. (٧) نقد الرجال ٤ : ٣٢٣.

(٨) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٠٧.


وظاهر الإضافة كونه من أهل العراق ، وعرف السائل في الكلام مع الحكيم العالم بعرف المخاطب مقدّم على عرف المتكلّم والبلد ، على أنّه لم يعرف كونه عليه‌السلام قال ذلك وهو في المدينة ، قيل ولذلك اعتبر العراقي في الصاع » ـ إلى أن قال ـ : « وربّما يؤيّده ما قيل إنّ الكرّ في الأصل كان مكيال أهل العراق ، وأنّهم قدّروا بالكرّ من جهة أنّ مخاطبهم كان من أهل العراق » (١) انتهى.

وقيل أيضا (٢) ـ في جواب الاحتجاج الحاملين على المدني ، بأنّه عليه‌السلام كان من اهل المدينة فالظاهر أنّه عليه‌السلام أجاب بما هو المعهود عنده ـ : « بأنّ المهمّ في نظر الحكيم هو رعاية ما يفهمه السائل ، وذلك إنّما يحصل بمخاطبته بما يعهده من اصطلاحه ، ولم يعلم أنّ السائل كان مدنيّا ، وغالب الرواة عنه عليه‌السلام كانوا من أهل العراق ، فلعلّ السائل كان منهم حملا على الغالب ».

قال في الحدائق ـ عقيب هذا الكلام ـ : قلت : « ويؤيّد بأنّ المرسل وهو ابن أبي عمير كان عراقيّا » (٣) وعن الآخرين الاحتجاج أوّلا بالإجماع ، حكاه في المناهل (٤) عن السيّد في الناصريّات ، قائلا : « وأمّا الكلام في تصحيح ما ذكرناه من الكرّ وتعيينه بالأرطال فالحجّة في صحّته إجماع الإماميّة وإجماعنا حجّة » (٥).

وفيه : ما لا يخفى بعد ملاحظة أنّ القول بما صار إليه منحصر فيه وفي الصدوق.

وثانيا : أنّ الصادق عليه‌السلام كان مدنيّا فيجب حمل كلامه على المصطلح عليه بين أهل المدينة ، لأنّ كلّ قوم يحاورون بما هو المصطلح عليه بينهم ، وثالثا : الاحتياط.

وأنت إذا تأمّلت في المسألة علمت بما في أكثر أدلّة الأوّلين مع بعض أدلّة الآخرين ، فإنّها ليست إلّا اجتهادات وردت على خلاف التحقيق واستنباطات خرجت غير مطابقة لمقصود المقام ، فإنّ الشبهة لفظيّة والغرض المهمّ تحصيل ما يوجب الخروج عن تلك الشبهة ، ويجدينا في رفع إجمال الاشتراك بالكشف عن حقيقة المراد من اللفظ ، وأيّ ربط في عمومات الطهارة والمطهّريّة وخلقة الماء لجهة الانتفاع ، والاصول

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٣٤١.

(٢) نقله في الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٨.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٢٥٨.

(٤) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١٠٧.

(٥) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦).


العمليّة من الاحتياط والاستصحاب والبراءة بذلك.

فإنّ أقصى ما يفيده العمومات أنّ عند عدم العلم بالنجاسة يجب البناء على الطهارة ، وهو غير العلم أو الظنّ بأنّ المراد بالرطل الوارد في الرواية العراقي ، الملازم لطهارة ما زاد عليه ، كيف ومن المقرّر في محلّه أنّ إجمال المخصّص ولو في الجملة يسري إلى العامّ ، فيصير مجملا في القدر الّذي كان المخصّص مجملا بالنسبة إليه ، ولا ريب أنّ ما دلّ على انفعال ما دون الكرّ مع ما دلّ على عدم انفعال الكرّ مجمل في القدر الّذي اريد من الكرّ وهو يقضي يكون ما دلّ على طهارة الماء بعمومه مجملا في هذا القدر ، ومعه كيف يمكن أخذه بيانا رافعا للإجمال عن الأوّل ، كما أنّ أقصى ما يفيده الاصول التوصّل بها إلى ما هو حكم ظاهري مجعول للمكلّف طريقا إلى عمله في مقام الجهل والشبهة ، وكيف يلائم ذلك للحكم الواقعي الّذي لا ينعقد إلّا مع تبيّن ما هو حقيقة المراد من الخطاب.

وبالجملة : الاصول في جميع مواردها ممّا لا يجدي نفعا في إحراز الواقع وهذا هو المقصود بالبحث ، إلّا أن يقال : بأنّ هذه الوجوه إنّما خرجت مستندة بعد الفراغ عن رمي الخطاب بالإجمال واليأس عمّا يوجب فيه البيان ، طلبا لطريق العمل والحكم الظاهري المعمول به عند الجهل.

فيرد عليه أوّلا : أنّه لا وجه حينئذ للتمسّك بعمومات الطهارة أصلا كما عرفت وثانيا : أنّه لا وجه لذكر تلك الوجوه في عنوان قولهم : « هل المراد بالرطل العراقي أو المدني »؟

فتحقيق المقام : أنّ الأقوى وإن كان ما صار إليه الأوّلون ، غير أنّ دليله الّذي يمكن التعويل عليه وأخذه حجّة فيما بين الربّ والعبد منحصر في عاشر الوجوه المتقدّمة ، فإنّ حمل « الرطل » الوارد في الرواية المتضمّنة لتحديد الكرّ بألف ومائتا رطل على العراقي من مقتضى الجمع بين تلك الرواية والرواية المتضمّنة لتحديده بستّمائة رطل ، وإنّما يتأتّى ذلك الجمع بعد ملاحظة الإجماع على أنّ الكرّ لا ينقص عن الأرطال العراقيّة ، وامتناع الكذب على الأئمّة عليهم‌السلام ، ووجوب العمل على أدلّة الحجيّة ، وأصالة عدم التقيّة ، وأصالة عدم المعارضة فيما بين الأدلّة ، وأصالة عدم الإجمال والشبهة ، وقاعدة أولويّة الجمع مهما أمكن ونحو ذلك.


ولا ريب أنّ قضيّة الجمع بين هذه الاصول والقواعد أن يحمل رواية ستّمائة على ما يوازي نصفه تمام رواية الألف والمائتين ، ولا يعقل ذلك إلّا إذا حملت الاولى على المكّي والثانية على العراقي ؛ إذ على هذا التقدير يكون الستّة مائة من الأرطال موازية للألف والمائتين منها ، ولا بعد في هذا الجمع بل ممّا لا بدّ منه ، إخراجا لخطاب الحكيم عن الإجمال ، فيكون كلّ من الروايتين بيانا بالقياس إلى الاخرى ، وإن كانت كلّ واحدة مع قطع النظر عن صاحبها مجملة ، وليس ذلك من الجمع الّذي يطالب فيه بدليل دعي إليه ، معتبر في نظر العرف ؛ إذ لا يوجب خروجا عن ظاهر ولا طرحا لدليل في الحقيقة ؛ لعدم ظهور في الروايتين بدونه في شي‌ء ، وإنّما يطرأهما الظهور بعد اعتبار الجمع ، فهو ممّا يعطيهما الظهور لا أنّه يوجب فيهما طرح الظهور ، ولا امتناع في مجملين إذا اجتمعا ولوحظا معا كان كلّ منهما بيانا للآخر ، بمعنى : أنّ بيان كلّ منهما يحصل بملاحظتهما معا.

ثمّ يبقى جملة من الوجوه المتقدّمة مؤيّدة لهذا الجمع ، شاهدة به ـ لو تمّت ـ مع عدم الحاجة إليها ، فاتّضح بذلك حكم المسألة بحمد الله وليّ النعمة.

ولأصحابنا الأعلام رضوان الله عليهم نقوض وإبرامات في تصحيح أدلّة الطرفين وإفسادها ، مذكورة في مظانّها ومن يطلبها فليراجعها ، ولا فائدة مهمّة تدعونا ـ بعد وضوح المسألة ـ إلى تحمّل نقلها وجرحها وتعديلها ، فهي بالإعراض عنها هنا أحرى وأجدر.

ولكن يبقى في المقام فائدة ينبغي الإشارة إليها لعموم النفع بها ، وهي بيان ما يبلغ إليه الكرّ بالأرطال العراقيّة من المنّان ، وغيرها من الأوزان المتعارفة الآن في كثير من البلدان على حسب ما يقتضيه قواعد الحساب وغيرها.

فنقول : إذ قد عرفت سابقا أنّ « الرطل » مائة وثلاثون درهما فاعلم : أنّ « الدرهم » يطلق فيما يقابل المثقال الّذي منه ما كان شرعيّا ومنه ما كان صيرفيّا ، والأوّل من الثاني ثلاثة أرباعه ، كما أنّ الثاني من الأوّل مثله وثلثه ، فالدرهم من المثقال الشرعي نصف مثقال وخمسة ، كما أنّ المثقال الشرعي منه درهم وثلاثة أسباعه ، والدرهم من المثقال الصيرفي نصفه وربع عشره.

وإن شئت السهولة في معرفة هذه النسب ، فافرض العشرين مثقالا صيرفيّا ، وخمسة عشر مثقالا شرعيّا ، والعشرة والنصف درهما ، فاعلم : أنّ كلّ عشرة دراهم على


هذا الحساب سبعة مثاقيل بالشرعي ، وخمسة مثاقيل وربع مثقال بالصيرفي ، وكلّ مائة درهم سبعون مثقالا بالشرعي ، واثنان وخمسون مثقالا ونصف مثقال بالصيرفي ، وكلّ ألف درهم سبعمائة مثقال بالشرعي وستّمائة مثقال وعشرون مثقالا بالصيرفي ، فالرطل على هذا الحساب إذا انحلّ إلى المثاقيل الشرعيّة كان واحدا وتسعين مثقالا شرعيّا ، وإذا انحلّ إلى المثاقيل الصيرفيّة كان ثمانية وستّين مثقالا وربع مثقال.

والكرّ حينئذ إذا انحلّ إلى المثاقيل الشرعيّة كان مائة ألف وتسعة آلاف ومائتين مثقالا ، وإذا انحلّ إلى المثاقيل الصيرفيّة كان واحدا وثمانين ألف مثقال وستّمائة مثقال ، ثمّ « الصاع » بقرينة ما تقدّم في المكاتبة تسعة أرطال بالعراقي ، فكلّ صاع ثمانمائة مثقال وتسعة عشر مثقالا بالشرعي ، وستّمائة مثقال وأربعة عشر مثقالا وربع مثقال بالصيرفي ، وذلك يعادل المنّ التبريزي المعهود في بلاد العجم الموصوف بـ « هشت عبّاسى » إلّا خمسة وعشرين وثلاثة أرباع مثقال بالصيرفي ، لأنّ « المنّ » عبارة عن ستّمائة وأربعين مثقالا بالصيرفي ، وقيل : الصاع العراقي حقّتان بالعطّاري ، فالحقّتان حينئذ ستّمائة وأربعة عشر مثقالا وربع مثقال بالصيرفي ، فالكرّ حينئذ بعيار الصاع مائة وثلاثة وثلاثون صاعا وثلث صاع ، وبعيار المنّ مائة وثمانية وعشرون منّا إلّا عشرين مثقالا بالصيرفي ، وطريق العمل في استخراج ذلك أنّ تقسّم مثاقيل الكرّ المتقدّمة على مثاقيل المنّ المذكورة فالخارج من القسمة هو المطلوب ، وهو يوازي العدد المذكور.

الطريق الثاني : تحديده باعتبار المساحة ، واضطربت كلمة الأصحاب فيه اضطرابا شديدا ، حتّى حدث فيهم أقوال مختلفة.

أحدها : ما كان كلّ من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصف شبر ، بالغا تكسيره اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر ، وهو عن الحلّي في السرائر (١) ، وابن زهرة في الغنية (٢) ، والفاضلين في الشرائع (٣) والقواعد (٤) والإرشاد (٥) ، وعن محكيّ الأمالي (٦) والهداية (٧)

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٠.

(٢) غنية النزوع (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ٣٧٩).

(٣) شرائع الإسلام ١ : ١٣.

(٤) قواعد الأحكام ١ : ١٨٣.

(٥) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٦.

(٦) أمالي الصدوق ـ المجلس ٩٣ ـ ص : ٥١٤.

(٧) الهداية : ٦٨.


للصدوق ، والنهاية (١) والمبسوط (٢) ، والوسيلة (٣) ، والتحرير (٤) والتذكرة (٥) والمنتهى (٦) ونهاية الإحكام (٧) ، وفي اللمعة (٨) ومحكيّ البيان (٩) والذكرى (١٠) والدروس (١١) ، والتنقيح (١٢) وجامع المقاصد (١٣) والمعالم (١٤) والبداية.

وفي محكيّ التنقيح (١٥) والمهذّب (١٦) نسبته إلى المرتضى.

وفي المنتهى (١٧) والروضة (١٨) والمدارك (١٩) والحدائق (٢٠) والرياض (٢١) وغيرها ـ كما عن التذكرة (٢٢) والذكرى (٢٣) والدروس (٢٤) وجامع المقاصد (٢٥) ومجمع الفائدة (٢٦) والذخيرة (٢٧) والمهذّب البارع (٢٨) والمشارق (٢٩) وحبل المتين (٣٠) والمعتصم (٣١) والبحار (٣٢) ـ دعوى الشهرة عليه.

وفي شرح الدروس (٣٣) نسبته إلى الأكثر.

وعن محكيّ الخلاف (٣٤) نسبته إلى جميع القمّيّين وأصحاب الحديث.

وعن الغنية (٣٥) دعوى الإجماع عليه ، حتّى أنّ شيخنا في الجواهر (٣٦) أخذه مستندا لنفسه مضافا إلى ما يأتي ، كما استند إليه في المناهل ، قائلا فيه : « بأنّ الإجماع المنقول حجّة ما لم يثبت المانع منه ، ومجرّد استفادة الشهرة على خلافه من بعض

__________________

(١) النهاية : ٣. (٢) المبسوط ١ : ٦.

(٣) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ٤١٤).

(٤) تحرير الأحكام (حجريّة) ـ كتاب الطهارة ـ : ٤.

(٥) تذكرة الفقهاء ١ : ١٩. (٦) منتهى المطلب ١ : ٤٠. (٧) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٢.

(٨) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٢٥٥. (٩) البيان : ٩٨.

(١٠) ذكرى الشيعة ١ : ٨٠. (١١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٨.

(١٢) التنقيح الرائع ١ : ٤٢. (١٣) جامع المقاصد ١ : ١١٦.

(١٤) فقه المعالم ١ : ٣٢. (١٥) التنقيح الرائع ١ : ٤١.

(١٦) لم نجده في المهذّب البارع. (١٧) منتهى المطلب ١ : ٣٩.

(١٨) الروضة البهيّة ١ : ٣٤. (١٩) مدارك الأحكام ١ : ٤٩.

(٢٠) الحدائق الناضرة ١ : ٢٦١. (٢١) رياض المسائل ١ : ١٤٧.

(٢٢) تذكرة الفقهاء ١ : ١٩. (٢٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨٠.

(٢٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٨. (٢٥) جامع المقاصد ١ : ١١٦.

(٢٦) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦١. (٢٧) ذخيرة المعاد : ١٢٢.

(٢٨) المهذّب البارع ١ : ٨٠. (٢٩ و ٣٣) مشارق الشموس : ١٩٧.

(٣٠) الحبل المتين : ١٠٧. (٣١) المعتصم : لم نعثر عليه.

(٣٢) بحار الأنوار ١٩ : ٧٧. (٣٤) الخلاف ١ : ١٩٠ المسألة ١٤٧.

(٣٥) غنية النزوع : ٤٦. (٣٦) جواهر الكلام ١ : ٣٤٧.


الأصحاب لا يصلح له ، خصوصا إذا قطعت أكثر الأصحاب بأنّ الشهرة موافقة له.

ويؤيّده مضافا إلى الشهرة مصير من لا يعتمد في الشرعيّات إلّا على اليقين إليه » (١) ، وإنّما ذكر ذلك في دفع ما أورد على الإجماع المنقول بوهنه بمصير الأكثر ، كما يستفاد من كلام بعض الأصحاب إلى خلافه ، وبهما يدفع بمثل ما ذكره ما عن المعتبر (٢) ـ في المناقشة في الإجماع المذكور ـ : « من أنّه لا [تصفح] (٣) إلى من يدّعي الإجماع هنا » فإنّه يدّعي الإجماع في محلّ الخلاف ، فيقال : وجود الخلاف لا ينافي تحقّق الإجماع ، لأنّ حجّيّته من باب الكشف عن قول الحجّة وذلك ممكن مع الخلاف ، فلو ادّعاه مدّع وكان ثقة وجب قبوله ، ولا يخفى ما في هذه الكلمات ، وتفصيله موكول إلى محلّه.

وثانيها : ما حكاه في المختلف (٤) عن الصدوق وجماعة القمّيّين ، ومال هو (٥) إليه حيث جعله أقوى ، من أنّه ما كان ثلاثة أشبار طولا في عرض في عمق فخالفوا الأوّلين بإسقاط النصف عمّا حدّوه به ، وعليه يكون مبلغ تكسيره سبعة وعشرين شبرا ، ويظهر من ثاني الشهيدين (٦) الميل إليه ، ونسبه في المناهل (٧) وغيره إلى المقدّس الأردبيلي (٨) والمحقّق في المعتبر (٩) ، وعن المجلسيّين في الحديقة (١٠) والبحار (١١) ، وعن شيخنا البهائي واستاد الكلّ في حبل المتين (١٢) والمشارق (١٣) ، وعن الشيخ عليّ في بعض حواشيه (١٤).

وثالثها : ما نسبه في المختلف (١٥) إلى ابن الجنيد من أنّ حدّه قلّتان ، ومبلغه وزنا ألف ومائتا رطل ، وتكسيره بالذرع نحو مائة شبر ، ثمّ قال : وهو قول غريب ، لأنّ اعتبار الأرطال يقارب قول القمّيّين ، فيكون مجموع أشباره تكسيرا في قولهم : سبعة وعشرين شبرا.

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١١٣.

(٢) المعتبر : ١٠. (٣) وفي المصدر : « ولا تصغ ».

(٤) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.

(٥) قال في مختلف الشيعة ـ بعد تزييف أدلّة المشهور ـ : « والأقوى قول ابن بابويه » ١ : ١٨٣.

(٦) الروضة البهيّة ١ : ٣٤.

(٧) المناهل ـ كتاب الطهارة (مخطوط) ـ الورقة : ١٠٩.

(٨) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٩.

(٩) المعتبر : ١٠. (١٠) حديقة المتّقين ـ للتقي المجلسي (ره) ـ لم نعثر عليها.

(١١) بحار الأنوار ١٩ : ٧٧. (١٢) الحبل المتين : ١٠٨ حيث قال : « والقول به غير بعيد ».

(١٣) مشارق الشموس : ١٩٧.

(١٤) حكى عنه البهائي قدس‌سره في الحبل المتين عن حواشيه على المختلف. [الحبل المتين : ١٠٨].

(١٥) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.


ورابعها : ما نسبه فيه (١) إلى القطب الدين الراوندي (٢) من كون الكرّ عشرة أشبار ونصفا طولا وعرضا وعمقا ، والظاهر أنّه لا مخالفة بينه وبين الأكثر في المستند ، فإنّ كلّا يستند إلى ما يقضي من الروايات ، باعتبار كون كلّ من الأبعاد الثلاثة ثلاثة أشبار ونصف ، إلّا أنّ الخلاف في أنّ الأكثر يعتبرون تكسير هذه المقادير بطريق الضرب فيكون مبلغه اثنان وأربعون شبرا وسبعة أثمان شبر ، وهو يعتبره بطريق الجمع فيكون مبلغه عشرة أشبار ونصفا ، فعلى هذا لا مخالفة بينه وبينهم في المعنى فتأمّل.

وخامسها : ما يظهر عن المدارك من أنّه ما بلغ ذراعين في عمقه ، وذراعا وشبرا سعته ، حيث قال : « وأوضح ما وقفت عليه في هذه المسألة من الأخبار سندا ومتنا ما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن إسماعيل بن جابر ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء ، قال : « ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » (٣) ، إذ معنى اعتبار الذراع والشبر في السعة اعتبارهما في كلّ من البعدين ، ويظهر من المصنّف رحمه‌الله في المعتبر (٤) الميل إلى العمل بهذه الرواية وهو متّجه » (٥).

ثمّ إنّ هاهنا أقوالا اخر شاذّة متروكة :

منها : ما هو منقول عن الشلمغاني (٦) من أنّه ما لا يتحرّك جنباه بطرح حجر في وسطه.

ومنها : ما عن ابن طاوس (٧) من الأخذ بكلّ ما روي.

ومنها : [التوقّف ، وهو المحكيّ] عن ظاهر [المهذّب] (٨) وشرح ابن مفلح الصيمري (٩) [والذخيرة (١٠)] (١١).

والمعروف من مستند القول الأوّل نقلا وتحصيلا ما رواه الكليني عن محمّد ابن يحيى عن أحمد بن محمّد عن عثمان بن عيسى عن ابن مسكان عن أبي بصير قال :

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٢) حكى عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٦٤ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١١٤.

(٤) المعتبر : ١٠. (٥) مدارك الأحكام ١ : ٥١.

(٦ و ٧) حكاه عنهما في ذكرى الشيعة ١ : ٨١.

(٨) المهذّب ١ : ٢١. (٩) كشف الالتباس ١ : ٤١.

(١٠) ذخيرة المعاد : ١٢٣.

(١١) أخذنا ما بين المعقوفات من المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١١٢ ، وأضفناه إلى المتن لاستقامة العبارة وزيادة الفائدة ، والمظنون قويّا أنّ المصنّف رحمه‌الله نقله منه. والله العالم.


« سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكرّ من الماء كم يكون قدره؟ قال : إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف في مثله ، ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض ، فذلك الكرّ من الماء » (١) ، هكذا وجدناه في النسخة المصحّحة من الكافي مع أكثر كتب أصحابنا الفقهاء ، ولكن في المختلف (٢) والمدارك (٣) مكان « نصف » « نصفا » بالنصب ، ولعلّ المعنى يتفاوت بذلك في الجملة كما ستعرف.

وقد يحكى (٤) عن أبي بصير رواية اخرى مصرّحة بذكر الأبعاد الثلاثة مرويّة في المهذّب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا في طوله ومثله ثلاثة أشبار ونصفا في عرضه ومثله ثلاثة أشبار ونصفا في عمقه في الأرض ، فذلك الكرّ من الماء » (٥).

وقد يستدلّ على هذا المذهب أيضا بما في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجّسه شي‌ء ، قلت : وكم الكرّ؟ قال : ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها » (٦) ، ونحوه ما في التهذيب (٧) والاستبصار (٨) إلّا في أنّه أضاف في الثاني إلى البعدين البعد الآخر ، فقال ـ بعد قول الراوي : « وكم الكرّ؟ ـ قال : ثلاثة أشبار ونصف طولها ، في ثلاث أشبار ونصف عمقها ، في ثلاثة أشبار ونصف عرضها ».

وقد يقال : بأنّ الظاهر أنّه سهو من الشيخ أو من الناسخين وقال الشيخ ـ في توجيه هذا الخبر ، من حيث منافاته لما صار إليه من عدم قبول البئر للانفعال مطلقا ما لم يتغيّر

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٦ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٤٢ / ١١٦ ـ الكافي ٣ : ٣ / ٥ ـ الاستبصار ١ : ١٠ / ١٤.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٤٩ ، وفي المدارك الّذي يحضرنا (من منشورات مؤسسة آل البيت لإحياء التراث) ثبت « نصف » بدل : « نصفا ».

(٤) والحاكي هو السيّد المجاهد في المناهل : ١٠٩.

(٥) لم نجدها في المهذّب البارع وكذا في مهذّب ابن البرّاج ، نعم قال فيه : « الكرّ هو ما كان مقدار ألف رطل ومائتي رطل بالعراقي ، أو ثلاثة أشبار ونصف طولا في ذلك عرضا في مثل ذلك عمقا (المهذّب ١ : ٢١) وأمّا احتمال تصحيف « التهذيب » « بالمهذّب » وإن كان غير بعيد في نفسه ، إلّا أنّه لم يوجد في التهذيب أيضا.

(٦ و ٧ و ٨) الوسائل ١ : ١٦٠ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٢ الكافي ٣ : ٢ / ٤ ـ الاستبصار ١ : ٣٣ / ٨٨.


أحد أوصافه الثلاث ـ : « بأنّه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون المراد بالركي المصنع الّذي لا يكون له مادّة بالنبع دون الآبار الّتي لها مادّة ، فإنّ ذلك هو الّذي يراعى فيه الاعتبار بالكرّ على ما بيّناه.

والثاني : أن يكون ذلك ورد مورد التقيّة ؛ لأنّ من الفقهاء من سوّى بين الآبار والغدران في قلّتها وكثرتها ، فيجوز أن يكون الخبر ورد موافقا لهم ، والّذي يبيّن ذلك أنّ الحسن بن صالح راوي هذا الحديث زيدي بتري متروك الحديث فيما يختصّ به (١) انتهى ».

وفي الوجه الأخير ما لا يخفى من البعد الواضح ، إذ لو صحّ حكاية التقيّة لوجب التقدير بالقلّتين ونحوهما ممّا صار إليه العامّة في تقدير الكثير ، دون الكرّ الّذي يختصّ التقدير به بالخاصّة خلافا للعامّة ، وعلى أيّ حال كان فاعترض على الرواية الاولى بالطعن في سندها ودلالتها معا.

أمّا الأوّل : فالّذي أكثر في ذلك الطعن صاحب المدارك في قوله : « وهي ضعيفة السند بأحمد بن محمّد بن يحيى فإنّه مجهول ، وعثمان بن عيسى فإنّه واقفي ، وأبي بصير وهو مشترك بين الثقة والضعيف ، ثمّ قال : وقد اعترف بذلك المصنّف رحمه‌الله في المعتبر ، فقال : وعثمان بن عيسى واقفي فروايته ساقطة » (٢). انتهى.

وذكر العلّامة أيضا في المختلف (٣) بمثل ما عرفت عن المعتبر.

وأمّا الثاني : فلأنّها خالية عن تحديد العمق ، فلا يوافق مذهبهم في اعتبار كلّ من الأبعاد الثلاث على النهج المتقدّم.

واجيب عن الأوّل تارة : بانجبار ضعفها بالشهرة والإجماع المنقول ، وممّن أشار إلى ذلك في الجملة العلّامة في المنتهى ، فقال : « هذه الرواية عمل عليها أكثر الأصحاب ، إلّا أنّ في طريقها عثمان بن عيسى وهو واقفي ، لكنّ الشهرة يعضدها » (٤). واخرى : بأنّ الموجود في الكافي إنّما هو أحمد بن محمّد ، والظاهر أنّه ابن عيسى ، خصوصا مع رواية محمّد بن يحيى العطّار عنه ، وروايته عن عثمان بن عيسى.

نعم نقل عن التهذيب (٥) أنّه أثبت « يحيى » ، والظاهر أنّه من الناسخ أو أنّه تصحيف

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٣ ذيل الحديث ٩.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٤٩.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٣٩.

(٥) التهذيب ١ : ٤٢ / ١١٦.


« عيسى » ، ويؤيّده أنّ العلّامة (١) وغيره لم يطعنوا في الرواية إلّا بعثمان بن عيسى ، وبعضهم بأبي بصير.

وأمّا عثمان بن عيسى فعن الشيخ في العدّة (٢) أنّه نقل الإجماع على العمل بروايته ، وعن الكشّي (٣) : « ذكر بعضهم أنّه ممّن أجمعت الصحابة على تصحيح ما يصحّ عنه » ، وأيضا نقل أنّه تاب ورجع من الوقف ، على أنّ الظاهر أنّه ثقة مع وقفه فيكون الخبر موثّقا ، وهو حجّة كما تبيّن في الاصول.

وأمّا أبو بصير فالظاهر أنّه ليث المرادي بقرينة رواية ابن مسكان عنه ، فإنّ الظاهر أنّ المراد منه عبد الله وهو يروي عن ليث ، مضافا إلى أنّ عبد الله من أصحاب الإجماع فلا يلتفت إلى ما بعده ـ على وجه ـ بعد تنقيح حال عثمان ، ولعلّه لمعلوميّة حال أبي بصير عند العلّامة لم يطعن في سند الرواية في المنتهى (٤) إلّا بعثمان بن عيسى ، على أنّه ذكر الاستاذ الأكبر في حاشيته على المدارك (٥) أنّ أبا بصير مشترك بين ثلاثة كلّهم ثقات ، وعلى كلّ حال فلا ينبغي الطعن في سند الرواية.

أقول : ينبغي القطع بأنّ أحمد بن محمّد ليس إلّا ابن عيسى ، أبو جعفر شيخ القمّيّين ووجههم وفقيههم.

أمّا أوّلا : فلما ذكر في ترجمته ـ كما عن المشتركات (٦) ـ من أنّه يروي عنه جماعة منهم محمّد بن يحيى العطّار.

وأمّا ثانيا : فلما عرفت من كونه شيخ القمّيّين ، فينبغي أن يكون محمّد بن يحيى راويا عنه لأنّه قمّي أيضا.

وأمّا ثالثا : فلأنّ أحمد بن محمّد الّذي يروي عنه محمّد بن يحيى يذكره الكليني في السند مطلقا تارة وهو الأكثر ، ومقيّدا بابن عيسى اخرى ، فليحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا رابعا : فلأنّ المطلق ينصرف إلى فرده الشائع ، ولا ريب أنّ ابن عيسى أشيع وأشهر من ابن يحيى.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٢) عدّة الأصول ١ : ٣٨١.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٥٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٣٩.

(٥) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٩٦.

(٦) هداية المحدّثين : ١٧٥.


وأمّا خامسا : فلأنّ محمّد بن يحيى يكثر الرواية عن أحمد بن محمّد غاية الإكثار ، كما يظهر بالتتبّع ، ومن البعيد في الغاية أن يكون الّذي يروي عنه مجهولا غير مذكور في الرجال ، كيف ولم يوجد ممّن ذكر فيه بعنوان « أحمد بن محمّد بن يحيى » إلّا رجلان يروي عنهما التلعكبري ، أحدهما : أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار القمّي ، وثانيهما : أحمد بن محمّد بن يحيى الفارسي المكنّى بأبي عليّ ، ومن الممتنع أن يكون محمّد بن يحيى راويا عنهما.

أمّا الأوّل : فلأنّه ابنه ، وأمّا الثاني : فلأنّه من أهل طبقة الأوّل ، كما يشهد به رواية التلعكبري عنهما ، فيكون متأخّرا عن الراوي.

هذا مع ما عن التعليقة (١) من احتمال اتّحاده مع الأوّل بملاحظة رواية التلعكبري عنه مع ملاحظة الطبقة والكنية ، وإن كان ذلك بعيدا في الغاية ، لما قيل (٢) في ترجمة الأوّل من أنّ التلعكبري سمع منه سنة ستّ وخمسين وثلاثمائة ، وله منه إجازة ، وفي ترجمة الثاني من أنّه سمع منه سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وخرج إلى قزوين وليس له منه إجازة ، ومن هنا ينبغي الجزم بابتناء ما في تهذيب الشيخ من التقييد بابن يحيى من الغلطيّة أو التصحيف.

وممّا يرشد أيضا إلى صدق مقالتنا ما عن التعليقة (٣) في ترجمة عثمان بن عيسى من إكثار الأجلّاء الثقات الرواية عنه ، وعدّ منهم أحمد بن محمّد بن عيسى ، ونحوه ما عن مشتركات (٤).

وأمّا عثمان بن عيسى فبعض ما تقدّم فيه من الامور الرافعة للقدح من جهته محلّ تأمّل عندنا ، فإنّ الظاهر أنّ دعوى الإجماع عن الشيخ في العدّة (٥) على العمل برواياته سهو ، إذ لم ينقل عن الشيخ إلّا قوله : « إنّ الأصحاب يعملون بأخباره » ، وهو كما ترى لا يدلّ على ما ذكر ـ كما قرّر في محلّه ، نعم فيه نحو إشعار ربّما يمكن تأييد الأمارة الدالّة على الوثاقة به ، أو أخذ المجموع منه ومن نظائره المذكورة في المقام أمارة عليها ،

__________________

(١) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٤٨ ـ منتهى المقال ١ : ٣٥٠.

(٢) منتهى المقال ١ : ٣٥٠.

(٣) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٢١٨ ـ منتهى المقال ٤ : ٣٠٠ و ٣٠١.

(٤) هداية المحدّثين : ١١١.

(٥) عدّة الاصول ١ : ٣٨١.


ونحوه الكلام في دعوى رجوعه عن الوقف ، إذ لم يوجد نقل ذلك في كلام أئمّة الرجال إلّا ما في العبارة المحكيّة عن التعليقة (١) من إشارة إجماليّة إلى كونه اثنى عشريّا ، ولو صحّ ذلك لقضى بإنكار أصل الوقف لإبقائه عليه ، ولو سلّم فلا يجدينا نفعا في تصحيح الرواية المبحوث عنها هنا إلّا بعد ثبوت أنّه قد رواها حال استقامته وأيّ طريق إلى ذلك.

نعم ، يمكن استفادة وثاقته ـ مع كونه واقفيّا ـ ممّا ذكر فيه (٢) من كونه واحد الوكلاء المستبدّين بمال موسى بن جعفر عليه‌السلام ، فإنّه يقضي بكونه من الامناء والعدول عند الإمام عليه‌السلام لعدم صلاحية غيرهم لمرتبة الوكالة.

ولكن يوهنه : أنّ غاية ما يسلّم من ذلك كونه كذلك في زمن حياة الإمام وأمّا بعده فلا ؛ لأنّ عروض الوقف له حينئذ ممّا يرفع العدالة بالمعنى الّذي اعتمد عليها الإمام ، فلم يعلم منه أنّه قد روى الرواية حال تلك العدالة موجودة أو بعد زوالها ، إلّا أن يقال : بأنّ زوال العدالة بهذا المعنى لا ينافي وجودها بالمعنى المعتبر في مذهبه ، غاية الأمر كون الرواية من جهته موثّقة ولا ضير فيه بعد قيام الدلالة على الحجّيّة.

وممّا يرشد إلى هذا المعنى ما تقدّم الإشارة إليه عن محكيّ التعليقة (٣) من إكثار الأجلّاء الثقات الرواية عنه ، ويقوّي ذلك بملاحظة ما في محكيّ التعليقة أيضا من : « أنّا لم نقف على أحد من فقهائنا السابقين تأمّل في روايته في موضع من المواضع ، ويؤيّده كونه كثير الرواية وسديدها ومقبولها وأنّ أهل الرجال ربّما ينقلون عنه ويعتدّون بقوله » (٤) الخ.

وربّما يمكن المناقشة في السند من جهة ابن مسكان لاشتراكه بين أربعة ، ليسوا ثقات بأجمعهم إلّا اثنان منهم عبد الله بن مسكان وعمران بن مسكان ، وأمّا الآخران وهما محمّد بن مسكان وحسين بن مسكان فقد صرّح فيهما بالجهالة.

ولكن يدفعه : ما قيل من أنّ الغالب في ابن مسكان « عبد الله » فلا يحمل على غيره مع احتماله إلّا بقرينة صالحة.

وأمّا أبو بصير فهو على ما في نقد الرجال (٥) كنية لأربعة ، يحيى بن القاسم وليث بن

__________________

(١) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٢١٨ ـ منتهى المقال ٤ : ٣٠٠ و ٣٠١.

(٢) رجال النجاشي : ٣٠٠ / ٨١٧ ـ رجال الطوسي : ٣٥٥.

(٣ و ٤) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٢١٨ ـ منتهى المقال ٤ : ٣٠٠.

(٥) نقد الرجال ٥ : ١٢٥.


البختري وعبد الله بن محمّد الأسدي ويوسف بن الحرث ، إلّا أنّ الإطلاق ينصرف إلى أحد الأوّلين لكونه فيهما أشهر ، فلا يقدح ما في الأخير من التصريح بالضعف ، ولا ما في سابقه من أنّه لم يذكر بمدح ولا قدح ، ورواية ابن مسكان عنه ممّا يعيّن كونه الليث ، لأنّه من يروي عنه جماعة منهم ابن مسكان فيكون ثقة جليلا ، فلا يقدح اختلاف كلماتهم في يحيى بن القاسم ، فيما بين ما يقضي بكونه الثقة ، وما يقضي بكونه غيره ممّن يرمى تارة بالوقف ، واخرى بفساد المذهب ، وثالثة بغيره من صفات الذمّ ، فالسند حينئذ لا بأس به إن شاء الله.

والجواب عن الثاني : أعني المناقشة في دلالة الرواية بمنع خلوّها عن تحديد العمق ، بناء على ما في الكافي والوسائل كما في كلام أكثر الأصحاب المتصدّين لذكر تلك الرواية في كتبهم الفقهيّة من ورد « النصف » مرفوعا ، عطفا على محلّ « ثلاثة » على أنّه خبر كـ « لكان » والظرف نعت أو حال له كما هو الأصحّ ، بل الرواية حينئذ متكفّلة لتحديد كلّ واحد من الأبعاد الثلاث ، أمّا تحديد واحد من العرض أو العمق (١) فلصريح قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصف » (٢) وأمّا تحديد البعد الآخر منهما فلكونه مرادا من لفظة « مثله » ، ضرورة أنّ المماثلة بينه وبين الثلاثة والنصف ممّا لا يصدق إلّا على تقدير المساواة في ذلك المقدار ، ولا ينافيها الظرفيّة ضرورة أنّ البعدين ممّا يصدق على كلّ واحد منهما إذا تساويا أنّه كائن في مثله ، أو حاصل فيه لانتشار كلّ في الآخر ولزومه له.

وأمّا تحديد العمق ، فلقوله : « ثلاثة أشبار ونصف في عمقه » أي حاصلا وكائنا فيه ، على أن يكون عطفا على ما ذكر أوّلا ، على حدّ الخبر بعد الخبر بإسقاط العاطف ، كما في « هذا حلو حامض » وإنّما عبّر هاهنا بالعمق دون المثل إذ لم يبق ـ بعد ما اعتبر المماثلة بين البعدين الأوّلين ، وعبّر عنها بالمثل ـ في مقابل البعد الآخر شي‌ء آخر ليعتبر المماثلة بينهما أيضا ويعبّر عنها بالمثل.

وإنّما عطف فيما بين الخبرين بإسقاط العاطف لكونهما من جهة التداخل وانتشار كلّ في الآخر بمنزلة خبر واحد كما في المثال ، ولا يصغى حينئذ إلى احتمال كون هذا المذكور بدلا عن المثل ، وليس في الكلام ما يساعد عليه ـ والبدليّة بنفسها على خلاف الأصل

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢ / ٥٥.


لأولويّة الإفادة وظهور خلافها ـ حتّى يكون ذلك منشأ للشبهة ، وتوهّم عدم تماميّة الدلالة.

نعم إنّما يقوّي هذا الاحتمال بناء على كون « النصف » في الفقرة الاولى منصوبا عطفا على لفظ « ثلاثة » كما في التهذيب والاستبصار وكلام بعض الأصحاب كالمدارك ومختلف العلّامة ، نظرا إلى أنّ التفكيك بينه وبين ما ذكر في الفقرة الثانية بإيراده غير منصوب ربّما يدخل في الوهم كونه مجرورا عطفا على ثلاثة ، ولا يكونان كذلك إلّا إذا اعتبر كونهما تابعين لمثله المجرور على سبيل البدليّة ، وحينئذ يتوجّه الإشكال من حيث قصور الرواية على هذا التوجيه عن إفادة تحديد العمق.

وفيه : مع ـ أنّ تقدير الجرّ ليس بلازم حينئذ ، بل يجوز الرفع فيهما عطفين على الفقرة الاولى ، على طريقة العطف على المحلّ ليكونا خبرين أيضا ، على حدّ الخبر بعد الخبر بإسقاط العاطف ـ أنّ الظاهر كون ما في التهذيب والاستبصار وغيرهما مبنيّا على سهو الناسخ أو تصرّف الشيخ وغيره ، بجعل اللفظ المذكور منصوبا بتوهّم أنّ ما في الكافي وارد على خلاف القانون النحوي ، نظرا إلى أنّ الشيخ إنّما أخذ الرواية فيهما عن الكافي بقرينة طريقه المشتمل على الكليني ، وأمّا غيره كالعلّامة وصاحب المدارك فقد أخذها منه بعد تطرّق التغيير المذكور ، أو من الكافي فتصرّفا فيها مثل ما تصرّف فيها الشيخ ، وإلّا فأصل الرواية في الكافي قد وردت على ما حكيناه عنه ، بشهادة ورود ما في كلام أكثر الأصحاب موافقا له مع تصريحاتهم بأخذ الرواية عنه ، مضافا إلى ما في الوسائل المرويّ عن الكافي أيضا بقرينة الطريق المذكور فيه محمّد بن يعقوب عن محمّد بن يحيى إلى آخر السند المتقدّم.

وبجميع ما ذكرناه في توجيه الاستدلال تبيّن لك امور :

منها : عدم الحاجة إلى أن يجاب عن الإشكال (١) « بأنّ هذه الأخبار كلّها مشتركة في عدم عدّ الأبعاد الثلاثة بأجمعها ، ولم نجد رادّا لها من هذه الجهة ، بل ظاهر الأصحاب قديما وحديثا الاتّفاق على قبولها ، وتقدير البعد الثالث فيها لدلالة سوق الكلام عليه ، وكأنّ ذلك كان شائعا كثيرا في استعمالاتهم وجاريا دائما في محاوراتهم » (٢) إلخ.

__________________

(١) كلام صاحب الحدائق (منه).

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٢٦٣.


ومنها : اندفاع ما قيل (١) على الرواية ـ قبالا لما تقدّم في تقرير الاعتراض ـ من أنّ القول بعدم تحديد العمق في الخبر لا وجه له ، بل لو كان عدم تحديد فإنّما هو في العرض.

بيانه : أنّ قوله : « ثلاثة أشبار ونصف » الّذي بدل من مثله إذا كان حال العرض فيكون في عمقه كلاما منقطعا منها ، فتأمّل ، إلّا أن يكون المراد في عمقه كذلك ، وحينئذ يظهر تحديد العمق أيضا ، فيكون التحديد للعرض دون العمق ممّا لا وجه له ، بل الظاهر أنّ ثلاثة أشبار ونصف بدل من مثله ، وفي عمقه حال من مثله أو بدله أو نعت لهما ، وحينئذ يكون العمق محدّدا والعرض مسكوتا عنه.

ومنها : اندفاع ما اعترض أيضا (٢) على دلالة الرواية بأنّه يجوز أن يكون المراد من ثلاثة أشبار الأوّل تحديد قطر الماء الّذي هو عبارة عن مجموع الطول والعرض ، والثاني تحديد عمقه ، وحينئذ لم يكن اكتفاء في الكلام ، ولم يتمّ استدلالهم بهذا الخبر على مطلوبهم ، إذ لم يبلغ تكسير هذا القدر إلى ما اعتبروه.

ومنها : اندفاع ما عن المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك (٣) من أنّ في دلالتها على المشهور نظرا من حيث عدم اشتمالها على الأبعاد الثلاثة ، وليس هو من قبيل قولهم : « ثلاثة في ثلاثة » لشيوع هذا الإطلاق وإرادة الضرب في الأبعاد الثلاثة ، لوجود الفارق وهو عدم ذكر شي‌ء من الأبعاد بالخصوص في المثال بخلاف الرواية حيث صرّح فيها ببعد العمق ، فيكون البعد الآخر هو القطر ويكون ظاهرا في الدوري ، ويؤيّده أنّ الكرّ مكيال العراق والمعهود منه الدوري ، وكذا رواية ابن صالح الثوري (٤) الواردة في الركي ؛ إذ لا قائل بتفاوت الكرّيّة ، فيكون الحاصل منهما كون الكرّ ثلاثة وثلاثين شبرا ونصفا وثمنا ونصف ثمن ، ولا قائل به بخصوصه.

ومنها : عدم الافتقار إلى الاستدلال بالرواية المشار إليها حتّى يحتاج في تتميم دلالتها على المطلوب إلى تكلّف أن يقال : إنّ المراد بالعرض السعة فيشمل الطول أيضا.

أو يقال : إنّ العرف شاهد في مثل هذا المقام أنّ الطول أيضا كذلك ، للاكتفاء في

__________________

(١ و ٢) نقله المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس ١ : ١٩٧.

(٣) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٩٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٠ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٤ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٢.


المحاورات كثيرا في أمثال هذه المواضع بذكر البعض وإرادة الجميع.

أو يقال : إنّ تحديد العرض بهذا الحدّ مستلزم لكون الطول أيضا كذلك إذ لو كان أقلّ منه لما كان طولا ، ولو لزم زيادته على هذا الحدّ لكان الظاهر أن يشعر به ، مع أنّ الزيادة عليه منتف البتّة لأنّ خلاف ابن الجنيد والشلمغاني لا عبرة به.

أو يعترض عليه : بأنّه يمكن أن يكون المراد بالعرض القطر ، بقرينة كون السؤال عن البئر والبئر مستديرة ، حتّى يحتاج في التفصّي عنه إلى أن يقال : بأنّ ذلك مبنيّ على ما لا يعرفه إلّا الخواصّ من علماء الهيئة ، من ضرب نصف القطر وهو واحد وثلاثة أرباع في نصف الدائرة وهو خمسة وربع ، لأنّ القطر ثلث الدائرة فيكون مجموع الدائرة عشرة ونصف ؛ إذ المفروض أنّ القطر ثلاثة ونصف فيبلغ المرتفع حينئذ إلى ثلاثة وثلاثين شبرا ونصفا وثمنا ونصف ثمن تقريبا لا تحقيقا على ما توهّم ، وليس كذلك بل التحقيق بلوغه اثنين وثلاثين وثمنا وربع ثمن ، ولا ريب أنّ تنزيل الرواية على مثل ذلك ممّا يتّجه للأفهام المستقيمة ، وكيف يخاطب بذلك الحكيم من هو معلوم له أنّه عن هذه المطالب بمعزل.

أو يعترض عليها بمثل ما تقدّم عن الشيخ (١) ، فيحتاج في دفعه إلى ما ذكره الشيخ من حملها على التقيّة أو على المصنع الّذي ليس له مادّة (٢).

نعم ، لا بدّ في دفع معارضة ذلك لما تقدّم من دليل المطلوب من الالتزام فيها بالتأويل بمثل بعض ما ذكر ، أو الحكم عليها بالاطراح لمخالفتها الإجماع وعدم مصير أحد من الأصحاب إلى موجبها ، بناء على انقطاع بعض ما تقدّم من الأقوال الشاذّة ، مع عدم انطباق شي‌ء منها عليه كما لا يخفى.

فنتيجة الكلام من البداية إلى هذا الختام : أنّ المنصور المقطوع به هو القول المشهور بدلالة ما تقدّم من الرواية ، وأنّ القدح فيها سندا أو دلالة ليس على ما ينبغي ، بدلالة ما قدّمناه في دفع المناقشة.

نعم ، يبقى الكلام المتمّم لهذا المرام في دفع معارضة أدلّة الأقوال الاخر لتلك الرواية ، فإنّ حجّة الصدوق وغيره من موافقيه من القمّيّين وغيرهم الرواية الواردة في الكافي والتهذيب والاستبصار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الّذي لا ينجّسه

__________________

(١ و ٢) تقدّم في الصفحة : ١٥٢.


شي‌ء؟ قال : « كرّ » ، قلت : وما الكرّ؟ قال : « ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار » (١) مع اختلاف في أسانيدها حيث إنّ الشيخ رواها أوّلا في التهذيب (٢) عن شيخه المفيد رحمه‌الله عن أحمد بن محمّد عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن خالد عن محمّد بن سنان عن إسماعيل بن جابر ، ثمّ رواها عقيب ذلك بقليل (٣) بطريق آخر فيه عبد الله بن سنان بدل محمّد بن سنان ، ومثله ما في الاستبصار (٤) ، وقيل إنّ الأوّل صواب ، وفي الكافي (٥) رواها بطريق آخر موصوف بالصحّة ، فيه البرقي عن ابن سنان من غير تعيين.

ثمّ إنّ ما ذكروه في تلك الرواية أيضا من المناقشة فيها سندا ـ باعتبار ما في الطرق المذكورة من الاضطراب والاختلاف في بعض رجاله حسبما عرفت ـ ودلالة باعتبار عدم اشتمالها على تحديد جميع الأبعاد ، ومن النقوض والإبرامات في دفع المناقشة المذكورة ممّا لا يخفى على المتتبّع والناظر في كتب الأصحاب ولا يهمّنا التعرّض لإيراد جميع ما ذكروه في هذا الباب ، بعد البناء على عدم الاستناد إلى تلك الرواية ، بل المهمّ التعرّض لنفي صلوحها للمعارضة للرواية المتقدّمة الّتي أخذناها حجّة على المذهب المشهور الّذي صرنا إليه ، إذ بدونه لا يتمّ الاحتجاج ولا ينقطع العذر.

فنقول : إنّ توهّم المعارضة فيما بين الروايتين إمّا أن يكون بين منطوقيهما ، بدعوى : أنّ الرواية بمنطوقها يدلّ على انحصار الكرّيّة في ثلاثة أشبار ونصف ، والثانية تدلّ بمنطوقها على انحصارها في ثلاثة أشبار ، فيرجع المعارضة إلى المعارضة فيما بين الزائد والناقص.

أو يكون بين مفهوم كلّ ومنطوق الاخرى ، بدعوى : أنّ الاولى تدلّ بمفهومها على نفي الكرّيّة عن أقلّ من ثلاثة أشبار ونصف كائنا ما كان ، والثانية تدلّ بمفهومها على نفيها عمّا عدا ثلاثة أشبار كائنا ما كان ، ولا سبيل إلى شي‌ء منهما ، بل الرواية الاولى سليمة عن المعارض على كلّ تقدير ، أو أنّ الرجحان في جانبها على فرض تسليم المعارضة.

أمّا على التقدير الأوّل فأوّلا : لأنّ الثانية يحتمل فيها ممّا يوجب الوهن في دلالتها ما لا يحتمل في الاولى ، من قوّة احتمال سقوط لفظة « النصف » فيها عن متن الحديث بخلاف الاولى ، إذ ليس فيها إلّا احتمال زيادة تلك اللفظة وهو إمّا مقطوع بعدمه ، أو أنّه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٩ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٢) التهذيب ١ : ٣٧ / ١٠١. (٣) التهذيب ١ : ٤١ / ١١٥.

(٤) الاستبصار ١ : ١٠.

(٥) الكافي ٣ : ٣ / ٧.


في غاية الضعف ، فتندرج في عموم قوله عليه‌السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » (١) وعموم التعليل في رواية عمر بن حنظلة الواردة في علاج المتعارضين بقوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » (٢) بناء على أنّ الريب المنفيّ هنا هو الريب الإضافي ، وأنّ العبرة في باب التراجيح إنّما هو بمطلق الوثوق والاطمئنان ، كما هو المحقّق المقرّر في محلّه.

وثانيا : لأنّ الاولى أظهر في إفادة الحصر ـ من حيث ورود الخطاب فيها بصورة الجملة الشرطيّة الظاهرة في السببيّة المنحصرة أو مطلق التلازم وجودا وعدما ـ من الثانية من حيث ورود الخطاب فيها بصورة القضيّة الحمليّة ، الّتي يكون الأصل في حملها حمل المتعارفي الغير المفيد للحصر ، إلّا أن يقال : بأنّ ورودها مورد التحديد والبيان شاهد حال بإرادة الحصر أيضا ، إذ لولاه لما حصل الغرض فيكون الحمل فيها من باب المواطاة ، أو يقال : بكفاية الحمل المتعارفي أيضا في ثبوت المطلوب ، نظرا إلى أنّ النزاع في أنّ ثلاثة أشبار هل هو ممّا يصدق عليه عنوان الكرّيّة أو لا ، وقضيّة الحمل المفروض هو الصدق ، وهو المطلوب.

وثالثا : لأنّ مرجع ما فرض من التعارض إلى تعارض المطلق والمقيّد في موضع العلم بوحدة الحكم ، فتندرجان في قاعدتهم المقرّرة المحكّمة من حمل المطلق على المقيّد ، وقضيّة ذلك تعيّن العمل بالرواية الاولى.

ورابعا : لأنّ الثانية تتوهّن بمصير الأكثر بل المعظم إلى خلافها فتقوّى به الاولى وتضعّف الثانية ، فيسقط عن رتبة الحجّيّة أو المعارضة.

وأمّا على التقدير الثاني فأوّلا : لأنّ الرواية الاولى إنّما تدلّ على المطلب من جهة مفهوم الشرط ، بخلاف الثانية إذ ليس فيها إلّا تعليق الحكم بالعدد ، ومن المقرّر في محلّه أنّ مفهوم الشرط حجّة دون مفهوم العدد ، فلا مفهوم للثانية ليكون معارضا لمنطوق الاولى.

وثانيا : لأنّ مفهوم الشرط أقوى من مفهوم العدد ـ لو قلنا به مطلقا أو في خصوص المقام ـ بملاحظة قرينة المقام من ورود الخطاب مقام التحديد والبيان ، فيجب تقديمه.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٦٧ ، ب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤٣ ـ تفسير جوامع الجامع : ٥ ـ بحار الأنوار ٢ : ٢٥٩.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي ح ١ ـ الكافي ١ : ٥٤ / ١٠.


وثالثا : بمنع إرادة المفهوم من الثانية هنا لو قلنا بالمفهوم مطلقا وسلّمنا تساويه مع مفهوم الاولى ، أو لا بدّ من حمل مفهومها على نفي الكرّيّة عن الأقلّ من ثلاثة أشبار صونا لها عن مخالفة الإجماع ؛ ضرورة أنّ ما زاد على ذلك كرّ مع زيادة فكيف يعقل نفي الكرّيّة عنه ، ومعه ارتفع المعارضة بينهما كما لا يخفى.

إلّا أن يقال بأنّ : المنفيّ في الثانية بالنسبة إلى جانب الزيادة إنّما هو الكرّ بشرط لا ، لا مطلق الكرّ ، ولا ريب أنّه يصدق على ثلاثة أشبار ونصف على تقدير تحقّق الكرّيّة بأقلّ منه : أنّه ليس من الكرّ بشرط لا ، أي الكرّ بشرط عدم الزيادة.

وفيه : مع أنّه لا ينافي مفاد منطوق الاولى كما لا يخفى ، أنّ الالتزام بذلك التقييد مع عدم إشعار في الرواية به ليس بأولى من التزام عدم اعتبار المفهوم هنا بالمرّة ، أو تخصيصه بجانب القلّة مع صلاحيّة منطوق الاولى مع انضمام الإجماع المشار إليه قرينة على هذا التصرّف في الثانية.

ورابعا : لأنّ مفهوم الاولى ممّا يعضده الشهرة ومصير المعظم إلى خلاف مفهوم الثانية.

ثمّ ، إنّه ربّما يحتجّ على قول القمّيّين بالأصل ، وبالاحتياط ، وبمقاربته للأرطال ولأكثر من راوية والحبّ والقلّتين ، المذكورات في الروايات المتقدّمة.

ولا يخفى ما في جميع ذلك من الخروج عن السداد ، والاعتماد في استنباط الحكم الشرعي على ما لا ينبغي عليه الاعتماد ، فإنّ الأصل والاحتياط ـ مع أنّهما معارضان بمثليهما ، ضرورة أنّ الأصل بقاء الحدث والخبث فيما لو اريد التطهير بما دون ثلاثة أشبار ونصف الملاقي للنجاسة ، وأنّ الاحتياط واستصحاب الاشتغال بمشروط بالمائيّة يقتضيان عدم الاكتفاء بذلك المفروض ـ يندفعان بعدم صلوحهما لإحراز الحكم الواقعي ولا الحكم الظاهري بعد قيام الدليل الاجتهادي السليم عن المعارض على خلافهما كما عرفت ، وكما أنّهما لا يصلحان معارضين لدليل اجتهادي فكذلك لا يصلحان معاضدين له لو وافقهما.

فلو اريد بهما تأييد ما تقدّم من الرواية المقامة حجّة على هذا القول ، يدفعه : توجّه المنع إلى صلوح الأصل العملي معاضدا للدليل الاجتهادي كما قرّر في محلّه.

ومحصّل بيانه على وجه الإجمال : أنّه كما يعتبر في المتعارضين تواردهما على


موضوع واحد ، فلأجل ذلك لا يقع المعارضة بين الأصل والدليل لتعدّد موضوعيهما ، فكذلك يعتبر في المتعاضدين كونهما واردين على موضوع واحد ، ولا ريب أنّ موضوع الأصل يغاير موضوع الدليل فكيف يعقل معه كونه معاضدا له.

وبالجملة : فالدليل الاجتهادي الموافق للأصل إن صلح مخرجا للمورد عن موضوع الأصل فلا يشمله حكم الأصل حتّى يكون معاضدا لذلك الدليل ، وإلّا فالحكم منحصر في حكم الأصل فلا شي‌ء معه حينئذ يكون معتضدا به ، هذا كلّه إذا اريد بالأصل ما يرجع إلى استصحاب الطهارة ، وأمّا لو اريد به قاعدة الطهارة المستفادة عن عمومات الأدلّة فهو وإن كان أصلا اجتهاديّا غير أنّ حكمه حكم الأصل العملي من حيث كونه دليلا تعليقيّا ، فيكون اعتباره منوطا بموضع عدم قيام الدلالة على الخلاف ، والمقام ليس منه لما عرفت من قيام الدلالة الشرعيّة السليمة عمّا يعارضها.

وأمّا البواقي فهي على فرض تسليم موجبها وما ادّعي فيها مقرّبات لا تجدي بنفسها نفعا في إثبات المطلب ، ولا تقوية للدليل الموافق بعد رجحان الدليل المخالف عليه لذاته ، أو بعد عدم معارضة بينهما في الحقيقة ، بناء على كثير من الوجوه المتقدّمة في تقديم دليلنا على المطلب ، الّذي مرجعه في الحقيقة إلى الجمع بينهما.

مضافا إلى عدم منافاة المذكورات للمذهب المشهور ، بناء على ما قيل من إمكان اختلافها في الصغر والكبر على وجه يكون بعض أفرادها موافقا لذلك المذهب ، وبعضها الآخر موافقا لمذهب القمّيّين ، والثالث مخالفا لهما معا.

ومن هنا يعلم أنّ هذه الروايات موهونة بمنافاتها حكمة الشارع ، فإنّها لاختلاف أفرادها غاية الاختلاف ليس بجائز في حكمة الحكيم أن يجعلها مناطا لما يقصد بجعله إعطاء ضابط كلّي لا ينبغي في مثله الاختلاف وعدم الانضباط ، ومعه كيف تصلح لإثبات المطلب أو تأييد ما خرج عن كونه دليلا.

مضافا إلى ما في بعضها من قوّة احتمال الخروج مخرج التقيّة ، مع كون ظواهر جميعها معرضا عنها الأصحاب ، مع توجّه المنع إلى دعوى كون التحديد بالأرطال وزنا مقاربا للتحديد بثلاثة أشبار ، بل إنّما هو يقرب بناء على ما قيل ـ وسيأتي بيانه ـ ممّا رجّحه صاحب المدارك استنادا إلى صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّم بيانها ، الآتي


بعض الكلام فيها وعليها.

وأمّا سائر الأقوال فقد عرفت أنّ منها : قول ابن الجنيد ولم نقف له على مستند ، كما اعترف به غير واحد من فحول أصحابنا ، مع ما فيه من شذوذه ومخالفته الشهرة العظيمة القريبة من الإجماع بل الإجماع في الحقيقة ، حيث لا موافق له منهم مع ما قيل فيه من أنّه ما أبعد بين ما ذهب إليه باعتبار المساحة وما ذهب إليه في الوزن من اعتبار بلوغه القلّتين مع كون مبلغ تكسيره ألفا ومائتي رطل ، وقد تقدّم عن العلّامة في المختلف (١) ما يقرب من هذا الكلام على هذا القول ، وبالجملة فهو ممّا ينبغي الجزم بسقوطه ، وعدم كونه ممّا يعبأ به.

ومنها : قول الراوندي ولم نقف له أيضا على مستند ، نعم في جواهر شيخنا : « أنّ مستنده دليل المشهور من رواية أبي بصير ونحوها ، إلّا أنّه فهم منها أنّ « في » ليست للظرفيّة بل بمعنى « مع » فتبلغ عشرة ونصفا » (٢) وهو كما ترى ، فإن أراد ببلوغه إليه بلوغه بطريقة الضرب فإنّما يبلغ اثنى عشر وربعا ، وإن أراد به بلوغه بطريقة الجمع فإنّما يبلغ سبعة ، وعلى التقديرين لا ينطبق المذكور على هذا القول ، بل الوجه في هذا القول ما أشرنا إليه سابقا ـ على الظاهر ـ من ابتناء كلامه على أنّه فهم ممّا حدّ الكرّ بثلاثة أشبار ونصف في كلّ من أبعاده الثلاث من الأخبار أو فتاوى الأخيار إرادة اعتبار الجمع فيما بين بعض هذه الحدود مع بعض آخر ، خلافا للمشهور في فهم إرادة ضرب بعض في بعض ، ومثل هذا الاشتباه يتّفق كثيرا للإنسان ، كما رأيناه وسمعناه عن بعض أهل عصرنا من تلامذتنا المتردّدين إلينا ، حيث إنّه فهم عمّا حدّده المشهور طريق الجمع ، على وجه سبقت إليه من أجل ذلك شبهة أتعبتنا رفعها.

وممّا ينبّه على صدق ما فهمناه ظاهر سياق كلام العلّامة في المختلف حيث قال ـ بعد الفراغ عن ذكر احتجاجات القولين الأوّلين في المسألة ـ : « تنبيه : الظاهر أنّ الأشبار يراد ضرب الحساب فيها ، فيكون حدّ الكرّ تكسيرا اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر ، وقال القطب ليس المراد ذلك بل يكون الكرّ عشرة أشبار ونصفا طولا وعرضا وعمقا » (٣) انتهى.

وبالجملة : فالّذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنّ هذا اشتباه في فهم المراد بالتحديد بثلاثة

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٣٥٧.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.


أشبار ونصف طولا ، في ثلاثة أشبار ونصف عرضا ، في ثلاثة أشبار ونصف عمقا ، فزعمه أنّه لبيان ما يعتبر تكسيره بطريق الجمع ، فلذا عبّر عمّا يحصل بالتكسير بعشرة أشبار ونصف.

فهل هو حينئذ يخالف المشهور في المقدار الواقعي بالكلّيّة أو يوافقه بالكلّيّة أو يخالفه في بعض الفروض ويوافقه في البعض الآخر؟ وجوه ، من أنّ المراد به بلوغ المجموع من الأعداد المذكورة ذهنا وخارجا هذا المبلغ ، على معنى كون ذلك مبلغا لنفس المعدود الموجود في متن الخارج ، فيراد بالعشرة والنصف المبلغ من الماء الموجود في الخارج الّذي لو قسّم على كلّ واحد من الأبعاد على نحو السويّة لأخذ منه كلّ واحد ثلاثة ونصفا.

أو أنّ المراد به ما لو فرض كون كلّ من هذه المقادير الثلاث مفصولا عن الآخر في نظر الحسّ لكان المجموع منها عشرة ونصفا ، كما أنّه لو اعتبرنا الجمع بين ثلاثة أعداد متفاصلة في الخارج مقدار كلّ ثلاثة ونصف كان الحاصل عشرة ونصفا حتّى يكون ذلك مبلغا حقيقيّا للأعداد على فرض انفصال كلّ عن الآخر دون المعدود الّذي هو الماء.

أو أنّ المراد به بلوغ هذه المقادير حال اتّصالها وتداخل بعضها في البعض المبلغ المذكور ، وإن لزم التكرار في جملة من الفروض ودخول طائفة منها في الحساب مرّات عديدة من جهة ما فيها من التداخل والاتّصال ، كما في الحدّ المشترك بين كلّ بعدين بداية ونهاية ، فإنّه لو جمع حينئذ أحدهما مع الآخر لدخل ذلك الحدّ المشترك في الحساب مرّتين كما لا يخفى.

فعلى الأوّل : يكون هذا المذهب مخالفا للمشهور كلّيّا ، ومن فروض مقدّره حينئذ ما لو كان طول الماء عشرة أشبار ونصفا ، وكلّ من عرضه وعمقه شبرا واحدا.

ومنها : ما لو كان طوله خمسة أشبار وربعا ، وكلّ من عرضه وعمقه شبرين (١).

ومنها : ما لو كان طوله واحدا وعشرين شبرا ، وكلّ من عرضه وعمقه نصف شبر.

ومنها : ما لو كان عرضه شبرين ونصفا وثمن شبر ، وكلّ من طوله وعمقه أربعة أشبار.

ومنها : ما لو كان كلّ من طوله وعرضه أربعة أشبار ، وعمقه شبرين ونصفا وثمن شبر.

ومنها : ما لو كان طوله تسعة أشبار ، وعرضه شبرا ، وعمقه نصف شبر.

__________________

(١) ولا يخفى عدم بلوغ هذه الصورة حدّ الكرّ حتّى على مذهب الراوندي قدس‌سره ، والله العالم.


ومنها : ما لو كان الطول ثمانية أشبار ، والعرض شبرا ونصفه ، والعمق شبرا وهكذا إلى آخر ما يمكن فرضه ، ولا يذهب عليك أنّ اختلاف هذه الفروض ليس اختلافا في مقدار الماء ، بل هو اختلاف يحصل في أوضاعه وأشكاله على حسبما يفرض.

وعلى الثاني : يكون موافقا له كلّيّا فلا اختلاف بينهما حينئذ في المعنى ، بل هو اختلاف في اللفظ والاعتبار.

وعلى الثالث : قد يوافقه وقد يخالفه ، وقد يقرب منه وقد يبعد منه ، ومن هنا قد يقال : إنّه قد يكون كالمشهور كما إذا كان كلّ من أبعاده الثلاثة ثلاثة ونصفا ، وقد يقرب منه كما لو فرض طوله ثلاثة أشبار وعرضه ثلاثة وعمقه أربعة ونصفا ، فإنّ مساحته حينئذ أربعون شبرا ونصف ، وقد يبعد منه جدّا كما لو فرض طوله ستّة وعرضه أربعة وعمقه نصف شبر ، فإنّ مساحته اثنا عشر شبرا ، وأبعد منه ما لو فرض طوله تسعة أشبار وعرضه شبرا واحدا وعمقه نصف شبر ، فعلى كلامه يكون مثل ذلك كرّا وإن كان تبلغ مساحته على تقدير الضرب أربعة أشبار ونصف.

وبجميع ما ذكر ينقدح أنّه لم يتبيّن مخالفته للمشهور ، فإن رجع دعواه إلى ما يوافقه كلّيّا كما يرشد إليه أنّهم لم يذكروه مخالفا للمعظم ، وإنّما ذكره في المختلف (١) وغيره في فروع التحديد بثلاثة أشبار ونصف وأنّ المعظم يعتبرون في الأبعاد الضرب وهو لا يعتبره ، لا أنّه يعتبر عدمه وإلّا فيردّه ظاهر الأخبار وصريح فتاوي الأخيار من اعتبار الضرب في تقدير الكرّ ، مضافا إلى أنّه لو بنى على ما فهمه لكان منافيا لحكمة الحكيم ، من حيث إنّه أناط الكرّيّة العاصمة للماء عن الانفعال بما يختلف أفراده اختلافا شديدا ، وما لا يستقرّ على شي‌ء ولا ينضبط في حدّ ، فيكون التحديد الّذي تعرّض له الشارع واحتاج إليه المحتاجون من المكلّفين والسائلون عن الأئمة المعصومين عليهم‌السلام بمنزلة عدمه وهو كما ترى نقض للغرض وتعمية للمكلّف ، وإرشاد له إلى ما يعسر معرفته على التعيين ، بل ما يتعذّر تعيينه على وجه يرتفع به الحاجة.

ومنها : ما عرفت عن صاحب المدارك (٢) مع مستنده ، وهو صحيحة إسماعيل ابن جابر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء؟ قال : « ذراعان عمقه في

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٤.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٥١.


ذراع وشبر سعته » (١).

وقد يقال : إنّ تكسيره يبلغ إلى ستّة وثلاثين شبرا ، لأنّ المراد بالذراع القدمان ـ كما يظهر من أخبار المواقيت (٢) ـ والقدم شبر ، وقد صرّح هو بأنّ المراد بالسعة كلّ من جهتي الطول والعرض ، فيكون كلّ منهما ذراعا وشبرا فيضرب الثلاثة في مثله يبلغ المرتفع تسعة ، ثمّ يضرب في أربعة فيبلغ المقدار المذكور ، والخطب في ذلك بعد خروجه على خلاف الشهرة ـ لو خالف المشهور ـ هيّن ، لأنّه يتوهّن بذلك ، وإن كان صحيحا بل في أعلى مرتبة الصحّة ، والعجب عنه كيف استوجه العمل به ، والمشهور منه استشكاله في العمل بالصحيح إذا خالف عمل الأصحاب ، مع أنّه قابل للتأويل وإرجاعه إلى ما لا يخالف المشهور إلّا يسيرا ، قال في المنتهى : « وتأوّلها الشيخ على احتمال بلوغ الأرطال ، وهو حسن لأنّه لم يعتبر أحد من أصحابنا هذا المقدار » (٣).

وعن الفاضل الأسترآبادي ـ محمّد أمين ـ في تعليقاته على شرح المدارك : « قد اعتبرنا الكرّ وزنا ومساحة في المدينة المنوّرة فوجدنا رواية ألف ومائتا رطل مع الحمل على العراقي قريبة غاية القرب من هذه الصحيحة » (٤).

نعم في الحدائق : « والظاهر أنّ اعتباره بناء على ما ذكره يرجع إلى سبع وعشرين شبرا » (٥) وقضيّة ذلك انطباق الصحيحة على ما تقدّم من رواية استند إليها القمّيّون ، وهو كما ترى استظهار في غير محلّه ، وكأنّه وهم نشأ عمّا سبق الإشارة إليه في تحديد الكرّ وزنا من احتجاج بعضهم على حمل « الرطل » ثمّة على العراقي بأنّه المناسب لرواية ثلاثة أشبار الصحيحة.

وأنت خبير : بأنّ ذلك توهّم فاسد ، بل هذه الرواية إمّا توافق مذهب المشهور أو تخالفه ومذهب القمّيّين معا ، كما أشار إليه المحقّق الخوانساري بقوله : « الذراع إن كان شبرين كما في بعض الأفراد فحينئذ لا ينطبق على شي‌ء منهما ، بل هو أمر متوسّط

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٤ ، ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١١٤.

(٢) الوسائل ٤ : ١٥٠ ، ب ٨ من أبواب المواقيت ح ٣٤ ـ الكافي ٣ : ٢٧٧ / ٧.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٣٨.

(٤) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٢٧٦.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٢٧٦.


بينهما إذ تكسيره يبلغ ستّة وثلاثين ، وإن كان أزيد منهما كما في البعض الآخر فيمكن أن ينطبق على المذهب المشهور ، وإن لم ينطبق فيقاربه جدّا ، وعلى أيّ حال يكون أقرب إلى المشهور منه إلى القول الثاني » (١) انتهى.

وممّا يؤيّد كونه مخالفا للقولين أنّ صاحب المدارك (٢) اعتمد عليه مع عدم اختياره بشي‌ء منهما ، ولو صحّ ما توهّم فيدفعها ما دفعها حسبما تقدّم بيانه.

ومنها : ما عرفت عن الشلمغاني (٣) ، ومستنده على ما ذكره بعضهم الرضوى ، « وكلّ غدير فيه الماء أكثر من كرّ لا ينجّسه ما يقع فيه من النجاسات ، والعلامة في ذلك أن يؤخذ الحجر فيرمى به في وسط الماء ، فإن بلغت أمواجه من الحجر جنبي الغدير فهو دون الكرّ ، وإن لم يبلغ فهو كرّ لا ينجّسه شي‌ء » (٤) ، وهو كما ترى أضعف الأقوال ومستنده أضعف الأدلّة ، ويكفي في ذلك موافقته لمذهب أبي حنيفة على ما تقدّم بيانه في صدر باب الكثير ، فيقوى فيه احتمال وروده مورد التقيّة بعد سلامة السند عن المناقشة ، ومع الغضّ عن ذلك فإعراض الأصحاب عن العمل به ممّا يسقطه عن درجة الاعتبار.

ومنها : ما عرفت عن ابن طاوس (٥) من العمل بكلّ ما روى ، ومستنده على ما قيل اختلاف روايات الباب ، وقيل : بأنّ مرجعه إلى العمل بقول القمّيّين وجوبا مع استحباب الزائد الّذي عليه المشهور ، وكأنّه ـ لو صحّ ـ مبنيّ على مصيره في مسألة التخيير بين الأقلّ والأكثر إلى وجوب الأقلّ واستحباب الأكثر ، كما هو أحد الأقوال في المسألة.

وربّما يظهر من صاحب المدارك الميل إليه ، كما نبّه عليه عند حكاية هذا القول بقوله : « وكأنّه يحمل الزائد على الندب وهو في غاية القوّة لكن بعد صحّة المستند » (٦).

وفيه : مع أنّ الحقّ في مسألة التخيير بين الأقلّ والأكثر وجوب الزائد والناقص معا ، أنّ التخيير إن اريد به ما يكون في المكلّف به نظير ما هو الحال في خصال الكفّارة فهو فرع الدلالة ، لأنّه خلاف الأصل ـ على ما قرّر في محلّه ـ وهي منتفية على الفرض ، وإن اريد به ما يكون في الإسناد على قياس ما هو الحال في الأدلّة المتعارضة فهو فرع

__________________

(١) مشارق الشموس : ١٩٩.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٥١.

(٣ و ٥) تقدّم في الصفحة ١٥٠ التعليقة ٦ و ٧.

(٤) فقه الرضا : ٩١.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٥٢.


التكافؤ وفقد المرجّح وعدم إمكان العمل ، وقد عرفت في تتميم دليل المشهور المنع عن جميع ذلك ، فإنّ أقلّ المراتب في ذلك قيام المرجّح من جهات شتّى من الداخليّة والخارجيّة وهو كاف في علاج التعارض.

نعم ، ينبغي أن يعلم أنّ هذا المذهب من المعظم مع مصيرهم في تحديد الكرّ إلى ما تقدّم ، إنّما يستقيم إذا لم يحصل بين الحدّين تفاوت بحسب المقدار ولو يسيرا ، وإلّا ـ كما هو توهّمه غير واحد ، حتّى أنّ منهم من يدّعي في ذلك دوام كون الوزن أقلّ ، كبعض مشايخنا (١) في شرح الشرائع ـ أشكل الأمر إشكالا لا يندفع إلّا بتكلّف إناطة ذلك باختلاف المياه وزنا في الثقل والخفّة ، كما ارتكبه بعضهم.

ثمّ إنّ تحديد الكرّ بكلّ من الجهتين مبنيّ على التحقيق ، ولا يكفي فيه التقريب كما قرّر في الاصول ، ونصّ عليه هنا غير واحد من الفحول ، وليس الحال فيه بل في جميع التحديدات الشرعيّة ـ كما في الموازين وغيرها ـ من المقادير الّتي يتسامح فيها عرفا ، فلو نقص الماء عن أحد الحدّين ولو بيسير من مثقال بل أقلّ وجزء من شبر ينفعل بالملاقاة ، ولا يلحقه أحكام الكرّ جزما.

ثمّ إنّ المعتبر في الأشبار إنّما هو شبر مستوى الخلقة ، فلا اعتداد بشبر من قصر شبره عن الحدّ المذكور لصغر يده ، ولا بشبر من زاد شبره على ذلك الحدّ لكبر يده أو طول أصابعه ، وكلّ ذلك قضيّة لانصراف المطلق في نظر العرف والعادة ، ولأنّه لو لا ذلك خرج الحدّ الشرعي عن الانضباط ، وأفضى إلى الهرج والمرج لغاية وضوح الاختلاف ، وقد نصّ على ما ذكرناه أيضا غير واحد من الفحول ، وحكي التصريح به عن السرائر (٢) والمنتهى (٣) والقواعد (٤) والتحرير (٥) وجامع المقاصد (٦) والذكرى (٧) والمسالك (٨) ، بل عن الذكرى (٩) أنّه عزاه إلى الأكثر ، وإلّا فالعلم عند الله الأكبر.

* * *

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ١٩١.

(٢) السرائر ١ : ٦١.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٤٠.

(٤) قواعد الأحكام ١ : ١٨٤.

(٥) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٦) جامع المقاصد ١ : ١١٨.

(٧ و ٩) ذكرى الشيعة ١ : ٨٠.

(٨) مسالك الافهام ١ : ١٤.


ينبوع

الماء إذا كان دون الكرّ فله أنواع ، كالراكد والجاري والمطر والحمّام والبئر وستسمع البحث عن جميع هذه الأنواع ، ولنقدّم البحث عن الأوّل لكونه ممّا يعلم به ما لا يعلم بتقديم البواقي كما لا يخفى ، فالكلام فيه يقع في مقامين :

المقام الأوّل :

في انفعال القليل من الراكد بملاقاة النجاسة في الجملة ، والمعروف من مذهب الأصحاب ـ المدّعى عليه إجماع الفرقة تارة ومقيّدا باستثناء من يأتي من أصحابنا اخرى ـ أنّه ينفعل بمجرّد الملاقاة تغيّر أو لم يتغيّر ، خلافا للعماني ـ ابن أبي عقيل الحسن من قدماء أصحابنا (١) ـ لمصيره فيه إلى عدم الانفعال إلّا في صورة التغيّر كالكرّ ، ثمّ وافقه على ذلك المحدّث الكاشاني (٢) وغيره من جماعة من المتأخّرين على ما حكي عنهم ، وعن العامّة في منتهى العلّامة (٣) اختلافهم في ذلك ، فعن أبي حنيفة (٤) وسعيد بن جبير (٥)

__________________

(١) نقله عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٧٦ ـ الحسن بن عليّ بن أبي عقيل : أبو محمّد العماني الحذّاء ، فقيه متكلّم ، ثقة ، وعرّفه الشيخ بالحسن بن عيسى ، يكنّى أبا علي ، وجه من وجوه أصحابنا ، وهو أوّل من هذّب الفقه واستعمل النظر وفتق البحث عن الاصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ، وله مؤلّفات منها : كتاب المتمسّك بحبل آل الرسول ـ الفهرست للطوسي : ٥٤ ، رجال النجاشي : ٤٨ ، خلاصة الأقوال : ٤٠ ، تنقيح المقال ١ : ٢٩١.

(٢) مفاتيح الشرائع ١ : ٨١.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٤٤.

(٤) المبسوط للسرخسي ١ : ٧٠ ، بدائع الصنائع ١ : ٧١ ، شرح فتح القدير ١ : ٦٨ ، نيل الأوطار ١ : ٣٦.

(٥) سعيد بن جبير الوالبي : أبو محمّد مولى بني والبة ، تابعيّ كوفيّ ، نزيل مكّة. الفقيه المحدّث ، روى عن ابن عبّاس وعديّ بن حاتم ، وروى عنه جعفر بن أبي المغيرة والأعمش وعطاء بن السائب وغيره ، وعدّه الشيخ من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين ، وكان يسمّى جهبذة العلماء ، قتله الحجّاج بعد محاورة طويلة معه. رجال الطوسي : ٩٠ ـ خلاصة الأقوال : ٧٩ ، تذكرة الحفّاظ ١ : ٧٦.


وابن عمر (١) ومجاهد (٢).

وإسحاق (٣) وأبو عبيدة (٤) اختيارهم القول الأوّل ، خلافا لحذيفة (٥) وأبي هريرة (٦) وابن عبّاس (٧)

__________________

(١) عبد الله بن عمر بن الخطّاب بن نقيل القرشي العدويّ ، أبو عبد الرحمن ، روى عن النبيّ وأبيه وأبي بكر وأبي ذر ومعاذ وغيرهم ، وروى عنه عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن المسيّب وعون بن عبد الله ، ولد سنة ثلاث من المبعث ، ومات سنه ٧٤ ه‍. الإصابة ٢ : ٣٤٧ ـ تذكرة الحفّاظ ١ : ٣٧ ، شذرات الذهب ١ : ٨١.

(٢) مجاهد بن جبر المكيّ : أبو الحجّاج المخزوني مولى السائب بن أبي السائب المخزومي ، سمع سعدا وعائشة وأبا هريرة وأمّ هاني وعبد الله بن عمرو وابن عبّاس ولزمه مدّة ، وقرأ عليه القرآن ، روى عنه قتادة والحكم بن عتيبة وعمرو بن دينار ومنصور والأعمش وغيرهم ، مات سنة ١٠٣ ه‍. شذرات الذهب ١ : ١٢٥ ؛ تذكرة الحفاظ ١ : ٩٢.

(٣) أبو يعقوب إسحاق بن ابراهيم بن مخلّد الحنظلي التميمي المروزي ، نزيل نيشابور وعالمها ، يعرف بـ (ابن راهويه) سمع من ابن المبارك وفضيل بن عياض ، وأخذ عنه أحمد بن حنبل والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو العبّاس بن السّراج ولد سنة ١٦٦ ه‍ وقيل : ١٦١ ه‍ مات سنة ٢٣٨ ه‍. تذكرة الحفّاظ ٢ : ٣٥ ـ الفهرست لابن النديم : ٣٢١ ، شذرات الذهب ٢ : ٨٩.

(٤) القاسم بن سلّام ـ بتشديد اللام ـ أبو عبيد البغداديّ اللغوي الفقيه ولي القضاء بمدينة طرسوس ، سمع شريكا وابن المبارك وحدّث عنه الدارمي وأبو بكر بن أبي الدنيا وابن أبي اسامة ، أخذ عن الاصمعي والكسائي والفرّاء وغيرهم ـ مات سنة ٢٢٤ ه‍. بغية الوعاة : ٣٧٦ ، تذكرة الحفّاظ ٢ : ٤١٧ ، شذرات الذهب ٢ : ٥٥.

(٥) حذيفة بن حسل ، ويقال حسيل اليمان بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث ، يكنّى أبا عبد الله العبسي ، شهد حذيفة وأخوه صفوان أحدا وكان من كبار الصحابة ، معروف فيهم بصاحب سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تمييز المنافقين ، روى عن النبيّ ، وروى عنه ابنه أبو عبيدة وعمر بن الخطّاب وقيس بن أبي حازم ، وأبو وائل وزيد بن وهب وغيرهم ، مات بالمدائن سنة ٣٦ ه‍. الإصابة ١ : ٣١٧ ، الاستيعاب بهامش الاصابة ١ : ٣٧٧ اسد الغابة ١ : ٣٩ ، شذرات الذهب ١ : ٤٤.

(٦) أبو هريرة الدوسي ، ودوس هو : ابن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث ، اختلفوا في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا لا يحاط به ولا يضبط في الجاهليّة والإسلام ، وقيل : اسمه عبد شمس في الجاهليّة ، صحب النبيّ وروى عنه الإصابة ٤ : ٢٠٢ ـ الاستيعاب بهامش الإصابة ٤ : ٢٠٢ ـ تذكرة الحفّاظ ١ : ٣٢.

(٧) عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف ، روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ عليه‌السلام ـ


وسعيد بن المسيّب (١) والحسن البصري (٢) وعكرمة (٣) وعطا (٤) وطاوس (٥) وجابر بن زيد (٦)

__________________

ـ ومعاذ بن جبل ، وروى عنه جمع كثير منهم عبد الله بن عمر وأنس وأبو أمامة وعكرمة وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد بن المسيّب وطاوس ووهب بن منبّه وأخوه كثير بن عبّاس وابنه عليّ ابن عبد الله بن عبّاس ، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وتوفّي سنة ٦٨. تذكرة الحفّاظ ١ : ٤٠ ـ شذرات الذهب ١ : ٧٥ ـ اسد الغابة ٣ : ١٩٢.

(١) سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم القرشي المدني : أبو محمّد ، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر ، سمع من عمر وعثمان وزيد بن ثابت وعائشة وأبي هريرة وسعد بن أبي وقّاص ، واختلف في سنة وفاته ، فقيل : ٩٤ وقيل : ٨٩ وقيل : ٩١ وقيل ١٠٥ ه‍. تذكرة الحفّاظ ١ : ٥٤ ، شذرات الذهب ١ : ١٠٢ ، وفيات الأعيان ٢ : ١١٧.

(٢) الحسن بن أبي الحسن يسار : أبو سعيد البصريّ مولى زيد بن ثابت الأنصاري ، وأمّه خيرة مولاة أمّ سلمة ، حدّث عن عثمان وعمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وابن عبّاس ، مات سنة ١١٠ ه‍. تذكرة الحفّاظ ١ : ٧٢ ، شذرات الذهب ١ : ١٣٦ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٥٦٣ ، ميزان الاعتدال ١ : ٥٢٧.

(٣) أبو عبد الله : عكرمة بن عبد الله مولى عبد الله بن عبّاس ، أصله من البربر ، روى عن مولاه وعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبي سعيد وأبي هريرة وعائشة ، واستبعد الذهبي روايته عن عليّ عليه‌السلام ، وكان ينتقل من بلد إلى بلد ، مات سنة ١٠٧ ه‍. تذكرة الحفّاظ ١ : ٩٥ ، شذرات الذهب ١ : ١٣٠ ، وفيات الأعيان ٢ : ٤٢٧.

(٤) عطاء بن أبي رباح : أبو محمّد بن أسلم القرشي ، مفتي أهل مكّة ومحدّثهم ، روى عن عائشة وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وابن عبّاس وأبي سعيد وطائفة ، وروى عنه أيّوب وعمرو بن دينار وابن جريح وأبو إسحاق والأوزاعيّ وأبو حنيفة وخلق كثير ، مات سنة ١١٤ ه‍ ، وقيل : ١١٥ ه‍. تذكرة الحفّاظ ١ : ٩٨ ، شذرات الذهب ١ : ١٤٧ ، وفيات الأعيان ٢ : ٤٢٣ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٧٠.

(٥) طاوس بن كيسان اليماني الجنديّ الخولانيّ : أبو عبد الرحمن من أبناء الفرس ، روى عن ابن عبّاس وزيد بن أرقم ، وزيد بن ثابت ، وروى عنه ابنه عبد الله والزهري وإبراهيم بن ميسرة وحنظلة بن أبي سفيان وكان شيخ أهل اليمن وكان كثير الحج مات بمكّة قبل يوم التروية سنة ١٠٤ ه‍. تذكرة الحفّاظ ١ : ٩٠ ، شذرات الذهب ١ : ١٣٣.

(٦) جابر بن زيد الأزدي البصري : أبو الشعثاء صاحب ابن عبّاس وروى عنه ، روى عنه قتادة وأيّوب وعمرو بن دينار وكان من فقهاء البصرة ، مات سنة ٩٣ ه‍ ، وقيل : ١٣٠ ه‍. تذكرة الحفّاظ ١ : ٧٢ ـ شذرات الذهب ١ : ١٠١.


وابن أبي ليلى (١) ومالك (٢) والأوزاعي (٣) والثوري (٤) وابن المنذر (٥) فإنّ المرويّ عنهم المصير إلى القول الثاني وللشافعي (٦) قولان وعن أحمد (٧) روايتان.

ولا يذهب عليك أنّ الأصل في المسألة اجتهادا وفقاهة من وجوه شتّى كاستصحاب الطهار وأصلي البراءة والإباحة عن وجوب الاجتناب واستعمال هذا الماء مطلقا في جانب القول الثاني فلذا قد يؤخذ حجّة لأصحابه ، وليس في جانب القول الأوّل أصل يوافقه.

نعم قد سبق إلى بعض الأوهام الضعيفة جريان أصل الشغل واستصحابه في مشروط المائيّة في جانبه ، ولكن يدفعه : أنّ الضابط الكلّي في باب الاصول أنّها تجري حيث لم يكن أصل موضوعي في أحد طرفي الشكّ واستصحاب الطهارة أصل موضوعي لا يجري معه الأصلان المشار إليهما ، والسرّ في ذلك أنّه حيثما يجري علم

__________________

(١) محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري : أبو عبد الرحمن ، مفتي الكوفة وقاضيها ، حدّث عن الشعبي وعطاء والحكم بن عيينة ونافع وطائفة ، وحدّث عنه شعبة وسفيان بن سعيد الثوري ووكيع وأبو نعيم ، مات سنة ١٤٨ ه‍ ـ تذكرة الحفّاظ ١ : ١٧١ ـ شذرات الذهب ١ : ٢٢٤ ـ ميزان الاعتدال ٣ : ٦١٣ ـ وفيات الأعيان ٢ : ٣٠٩.

(٢) مالك : أبو عبد الله مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الحميري الأصبحي المدني ، إمام المذهب المالكي ، حدّث عن نافع والمقبري والزهري وغيرهم ، ولد سنة ٩٣ ه‍ ، ومات سنة ١٩٧. شذرات الذهب ١ : ٢٩٢ ـ تذكرة الحفّاظ ١ : ٢٠٧.

(٣) أبو عمر الرحمن بن عمر بن محمّد الدمشقي الأوزاعي الفقيه ، حدّث عن عطاء بن أبي رباح والقاسم بن مخيمرة وربيعة بن يزيد وشدّاد بن أبي عمّار والزهري وقتادة ويحيى بن أبي كثير ، وحدّث عنه شعبة وابن المبارك والوليد بن مسلم ، ولد ببعلبك ونشأ بالبقاع ثمّ نزل بيروت فمات فيها سنة ١٥٧. تذكرة الحفّاظ ٢ : ٣١٠.

(٤) أبو عبد الله سفيان بن مسروق الثوري الفقيه الكوفي ، حدّث عن أبيه وزبيد بن الحارث وحبيب بن أبي ثابت وزياد بن علاقة ومحارب بن دثار ويحيى القطّان وابن وهب ووكيع وقبيصة وجمع كثير ، مات بالبصرة بعد أن كان مختفيا من المهدي سنة ١٦١ ه‍. تذكرة الحفّاظ ١ : ٢٠٣ ، شذرات الذهب ١ : ٢٥٠ ، الفهرست لابن النديم : ٣١٥.

(٥) إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الحزامي الأسدي : أبو إسحاق المدنيّ محدّث المدينة ، روى عن مالك وسفيان بن عينية والوليد بن مسلم وابن وهب وأبي ضمرة ، وروى عنه البخاري وابن ماجة ومحمّد بن إبراهيم البوشنجي وخلق كثير ، مات سنة ٢٣٦ ه‍ ، وهو غير أبي بكر محمّد بن إبراهيم بن المنذر من فقهاء الشافعية. تذكرة الحفّاظ ١ : ٤٧٠ ـ شذرات الذهب ٢ : ٨٦ ، ميزان الاعتدال ١ : ٦٧.

(٦ و ٧) المغني لابن قدامة ١ : ٥٣.


شرعي يحرز به الواقع تعبّدا من الشارع يرتفع معه الشكّ في البراءة ارتفاعا شرعيّا.

ومن هنا ينقدح أنّه لو قرّر هنا في بعض الفروض النادرة أصل آخر مخالف لكلا القولين كقاعدة الشغل الجارية عندنا عند الشكّ في المكلّف به ودوران الأمر بين المتباينين ، فيما لو فرض انحصار الماء في القليل الملاقي للنجاسة عند الاشتغال بمشروط بالطهارة المردّدة في الفرض بين المائيّة والترابيّة المقتضية للجمع بينهما لم يكن في محلّه ، لارتفاع ذلك الشكّ والتردّد بواسطة الأصل الموضوعي المذكور ، وبالجملة : لو كان في المسألة أصل فهو مختصّ بالقول الثاني.

وتظهر فائدته في أمرين أحدهما : أنّ المطالب بالدليل في المسألة أصحاب القول الأوّل ، لمصيرهم إلى مخالفة الأصل دون أهل القول الثاني ، فلو وجدتهم حينئذ مستندين إلى دليل آخر فهو تفضّل منهم.

وثانيهما : كونه المرجع جدّا عند فقدان الدليل ، أو وجوده مجملا أو معارضا بمثله ، المساوي له من جميع الجهات ، الموجب للعجز عن الترجيح.

وأمّا ما يتراءى عن بعض العبائر من ظهور فائدته في مقام الترجيح ، لأنّه يوجب اعتضاد الدليل المقتضي لما يوافقه وتأيّده به ، فهو كلام ظاهري منشؤه عدم التأمّل في مفاد الأصل ، وموضوعه المغاير لموضوع الدليل ، والغفلة عمّا قدّمنا الإشارة إليه من أنّ المعاضد كالمعارض يشترط فيه وحدة الموضوع فيما بينه وبين ما يتعاضد به ، وهي ممّا يمتنع فيما بين الاصول العمليّة والأدلّة الاجتهاديّة ، وقضيّة ذلك امتناع كلّ من التعاضد والتعارض ، كما أنّ الأخير ممّا يعلمه كلّ أحد ، فهو مع الأوّل من واد واحد لا يعقل الفرق بينهما أصلا.

وبجميع ما قرّرناه يتبيّن : أنّ العمدة في المقام الواجب مراعاته إنّما هو النظر في أدلّة القول الأوّل ، فإن تمّت دلالة وسندا وسلامة عن المعارض المساوي أو بالأصول المعتبرة.

فنقول : إنّ العمدة في أدلّة الباب إنّما هو الأخبار المرويّة عن أئمّتنا الأطهار الأطياب سلام الله عليهم أجمعين ، وأمّا نقل الإجماعات وإن ادّعى استفاضتها واعتمد عليها غير واحد من الأصحاب ، ولكنّ التعويل عليها عند التحقيق لا يخلو عن إشكال ، كما أنّ الاحتجاج بالضرورة الّذي يوجد في بعض العبارات غير خال عن الإشكال.


أمّا الأوّل : فلأنّ هذا الإجماع لو فرضناه محقّقا لا يفيدنا في خصوص المقام شيئا فضلا عن كونه منقولا ، لعلمنا بأنّه ليس إلّا عن الأخبار الواردة في المقام الّتي صارت من مزالّ بعض الأقدام ، فلا بدّ من النظر في تلك الأخبار وكيفيّة دلالتها وصحّة أسانيدها ، وخلوّها عن معارض أقوى ، استعلاما لصدق المجمع عليه ، لعدم ثبوت حجّيّة أصل النقل من حيث هو تعبّدا ، ولا حجّيّة أصل الاتّفاق كذلك ، وإنّما يصير حجّة لو كشف عن الواقع كشفا علميّا ، أو عن وجود دليل غير علمي للمجمعين ، بحيث لو عثرنا به ووجدنا لعملنا به ولم نبعّده ، وهذا ليس منه للعلم التفصيلي بالمستند الّذي لم يتحقّق عندنا حاله بعد ، نعم لا مضايقة في أخذها مؤيّدة لتلك الأخبار في مقام ترجيحها على معارضاتها إذا حصل الوثوق بالمنقول ، لكشفه حينئذ عمّا يستقيم به الدلالة لو فرض فيها قصور ، ويتقوّم به السند لو كان معه ضعف ، أو حزازة اخرى ممّا يوجب الوهن في أسانيد الأخبار.

وأمّا الثاني : فللقطع بأنّ انفعال ماء القليل بملاقاة النجاسة ليس حاله كحال سائر الضروريّات كوجوب الصلاة على وجه يعرفه كلّ أحد حتّى الرساتيق والبدويّين من الأمّة أو الشيعة ، كيف ولم يعهد عن أحد من هؤلاء أنّهم يتحرّزون عن ماء قريب من الكرّ بمجرّد ما لاقاه قطرة بول أو ولغة كلب أو نحوه ، بل نرى عملهم على خلافه كما لا يخفى على البصير.

غاية ما في الباب أن تقول : إنّه ينشأ عن قلّة المبالاة والمسامحة في الدين ، غير أنّه احتمال أو مع الرجحان ، ولا ريب أنّه لا يجامع الضرورة لمجامعته احتمال كون منشأه الجهل وعدم الاطّلاع بأصل الحكم ، وإن اريد بالضرورة ما هي بين الخواصّ وأهالي المعرفة بالمسائل والأحكام فمنعها أوضح ، كما يرشد إليه استنادهم عند السؤال عن وجه المسألة إلى فتوى المجتهد ، ومن خواصّ الضرورة كون الحكم معلوما لكلّ أحد بعلم ضروري لا يستند إلى قول المفتي كما لا يخفى ، بل إحالة الوجه إلى الفتوى ممّا يكشف بنفسه عن عدم العلم الضروري كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هاهنا وجهين آخرين استند إليهما العلّامة ، مضافا إلى روايات المسألة أحدهما : ما ذكره في المنتهى : « من أنّ النجاسة امتزجت بالماء وشاعت أجزاؤها في


أجزائه ، ويجب الاحتراز عن أجزاء النجاسة ، وقد تعذّر إلّا بالاحتراز عن الماء المختلط أجزاؤه بأجزائها » (١) ، وهو كما ترى من أوهن ما لا ينبغي الاستناد إليه في أمثال المقام ؛ فإنّه ـ مع أنّ فيه نوع مصادرة لتوجّه المنع عن وجوب الاحتراز عن أجزاء النجاسة بعد شيوعها في الماء ، بل هو أوّل المسألة ـ منقوض بالكرّ وما فوقه إذا شاعت فيه أجزاء النجاسة ، ولا سيّما إذا فرضنا القليل أقلّ منه بيسير كالمثقال بل المثاقيل ، إذ لو لا الحكم على فرض ثبوته تعبديّا صرفا فأيّ عاقل يدرك الفرق بين ألف ومائتي رطل وما نقص عنه بمثقال بل مدّ بل رطل ونحو ذلك ، حتّى يدّعي في الثاني وجوب الاحتراز عن مجموع هذا الماء مقدّمة للاحتراز عن أجزاء النجاسة الشائعة فيه دون الأوّل ، هذا كلّه مع ما فيه من عدم جريانه في جميع صور المسألة حتّى ما لا يكون للنجاسة جزء كعضو الكافر أو أخويه ، أو شي‌ء من أجزائها الساقطة من عظم ونحوه.

وثانيهما : ما قرّره في المختلف : من « أنّ القليل مظنّة الانفعال غالبا ، فربّما غيّرت النجاسة أحد أوصافه ولا يظهر للحسّ ، فوجب اجتنابه » (٢).

وفيه : مع أنّه مبنيّ على اعتبار التغيّر التقديري وقد تقدّم المنع عنه ، وعلى وجوب الاحتياط في مواضع الشبهة سيّما إذا قابله أصل موضوعي اجتهادا وفقاهة حينما عرفت أنّه منقوض أوّلا بالفرض المتقدّم ، وثانيا بعدم جريانه في النجاسات الغير المغيّرة لذواتها أو لقلّة ونحوها ، ولو قيل بأنّ ذلك تعبّد من الشارع فسقط اعتبار هذا الوجه ويطالب القائل بدليل ذلك ، فلا بدّ له من التشبّث بالأدلّة السمعيّة ، وقضيّة ذلك انحصار المستند حقيقة في الأخبار فلا بدّ من النظر فيها.

فنقول : إنّها حسبما احتجّ به أهل هذا القول كثيرة جدّا ، ومنقول فيها البلوغ حدّ التواتر معنى ، بل ربّما يدّعى بلوغها نحو مائتين رواية أو أزيد ، غير أنّ جملة منها صحاح ، واخرى موثّقات ، وثالثة حسان ، ورابعة ضعاف منجبرة بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، مع نقله المدّعى فيه الاستفاضة.

ثمّ إنّ جملة منها ما هو صريح أو ظاهر كالصريح في المطلوب ، واخرى ما هو ظاهر فيه منطوقا ، وثالثة ما هو ظاهر فيه مفهوما ، ونحن نراعي في ذكرها هذه الأنواع الثلاث ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٤٨.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.


فنذكرها بالترتيب المذكور غير مراع فيه مراتب الصحّة وغيرها من الأنواع الأربع الأوّلة.

فأمّا النوع الأوّل : فروايات ، منها : ما في التهذيب والاستبصار ـ الموصوف بالصحّة في كلام جماعة ـ عن الفضل أبي العبّاس قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع ، فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه ، فقال : « لا بأس به » ، حتّى انتهيت إلى الكلب ، فقال : « رجس نجس لا تتوضّأ بفضله ، واصبب ذلك الماء ، واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء » (١).

ومنها : ما فيهما أيضا عن معاوية بن شريح ، قال : سأل عذافر أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن سؤر السنّور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغال والسباع يشرب أو يتوضّأ منه؟ فقال : « نعم اشرب منه وتوضّأ » ، قال : قلت له الكلب؟ قال : « لا » ، قلت أليس هو بسبع؟ قال : « لا والله إنّه نجس ، لا والله إنّه نجس » (٢) وفيهما (٣) أيضا مثله بطريق آخر إلى معاوية بن ميسرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وفي الرجال (٤) اتّحاده مع معاوية بن شريح.

ومنها : ما عن التهذيب في كتاب الأطعمة والأشربة عن أبي بصير ، قال : « دخلت أم معبد العبديّة على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده ، قالت : جعلت فداك أنّه يعتريني قراقر في بطني ، إلى أن قالت : وقد وصف لي أطبّاء العراق النبيذ بالسويق وقد وقفت وعرفت كراهتك له فأحببت أن أسألك عن ذلك ، فقال : وما يمنعك عن شربه؟ قالت : وقد قلّدتك ديني فألقى الله حين ألقاه فاخبره أنّ جعفر بن محمّد أمرني ونهاني ، فقال : « يا أبا محمّد ألا تسمع إلى هذه المرأة وهذه المسائل ، لا والله لا آذن لك في قطرة فلا تذوقي منه قطرة ، إلى أن قال : ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما يبلّ منه الميل ينجّس حبّا من ماء يقولها ثلاثا » (٥).

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ٢٢٦ ، ب ١ ـ من أبواب الأسآر ح ٤ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦ و ٦٤٧ ـ الاستبصار ١ : ١٩ / ٤٠ و ٤١.

(٣) التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٨.

(٤) وفي منتهى المقال : « معاوية بن شريح : له كتاب ... ـ إلى أن قال ـ : والظاهر أنّه ابن ميسرة بن شريح ، وفي التعليقة : هذا هو الظاهر كما يظهر من الأخبار ، وقال الصدوق عند ذكر طرقه : وما كان فيه عن معاوية بن شريح فقد رويته ... إلى أن قال : معاوية بن ميسرة بن شريح هذا وصرّح مولانا عناية الله باتّحاده مع ابن ميسرة ، وهو الظاهر ». منتهى المقال ١ : ٢٨٠ ـ مجمع الرجال ٦ : ٩٩ ـ تعليقة الوحيد البهبهاني : ٣٣٦ ـ الفقيه ـ المشيخة ٤ / ١٦.

(٥) نقل ذيله في الوسائل ٣ : ٤٧٠ ، ب ٣٨ من أبواب النجاسات ح ٦ ـ الكافي ٦ : ٤١٣ / ١.


وجه الاستدلال بالخبر الأخير واضح لا حاجة معه إلى البيان ، وأمّا الأوّلان فلأنّهما يقضيان بالصراحة أنّ السبعيّة ليست عنوانا يقتضي المنع عن الماء ، بل المقتضي له إنّما هو النجاسة الّتي يمتاز بها الكلب عن غيره من سائر الأنواع المذكورة في الخبرين ، ولا ريب أنّ تعليق الحكم بالنجاسة ليس إلّا من جهة أنّها تؤثّر في النجاسة ، ثمّ إنّ الحكم على الكلب بكونه رجسا نجسا وارد مورد التعليل وإن كان مقدّما في الخبر الأوّل على ما علّل به كما يشهد به التأمّل الصادق ، فيعمّ سائر النجاسات ومعه يتعدّى إليها الحكم ، فيندفع به جملة من الاعتراضات الآتية ، نعم هنا بعض آخر من الاعتراضات يعلم اندفاعه بما يأتي إن شاء الله.

وأمّا النوع الثاني فروايات كثيرة منها : ما في زيادات التهذيب في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباهها تطأ العذرة ، ثمّ تدخل في الماء يتوضّأ منه للصلاة؟ قال عليه‌السلام : لا ، إلّا أن يكون الماء كثيرا قدر كرّ » (١).

ومنها : ما فيه في باب آداب الأحداث في الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة قال عليه‌السلام : « يكفئ الماء » (٢).

ومنها : ما في الكافي في الموثّق بسماعة بن مهران في باب « الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها » عن أبي بصير عنهم عليهم‌السلام قال : « إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس ، إلّا أن يكون أصابها قذر بول ، أو جنابة ، فإن أدخلت يدك في الإناء وفيها شي‌ء من ذلك فأهرق ذلك الماء » (٣).

ومنها : ما في باب آداب الأحداث من التهذيب في القويّ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه؟ قال عليه‌السلام : إذا كانت يده قذرة فأهرقه وإن كان لم يصبها قذر فيغتسل منه هذا ممّا قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٥ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٣ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٣٩ / ١٠٥ وفيه : « الإناء » بدل « الماء ».

(٣) الوسائل ١ : ١٥٢ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ، الكافي ٣ : ١١ / ١.

(٤) الوسائل ١ : ١٥٤ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ التهذيب ١ : ٣٠٨ / ١٠٣ ـ رواه ـ


ومنها : ما في باب الماء إذا ولغ فيه الكلب من التهذيب والاستبصار في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن الكلب يشرب من الإناء قال : « اغسل الإناء » الحديث (١).

ومنها : ما في باب تطهير الثياب من التهذيب في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال : « يغسل سبع مرّات » (٢).

ولا يذهب عليك أنّ في هذا الخبر دلالة على المطلب زيادة على ما في سوابقه ، من حيث ظهوره في كون أصل التنجّس مفروغا عنه معتقدا للسائل ، وإنّما وقع السؤال عن كيفيّة تطهير الإناء ، فقرّره الإمام عليه‌السلام على ما اعتقده وبيّن له الكيفيّة ، والمفروض أنّ السائل هو عليّ بن جعفر ، وهو من أهل الوثاقة والفضل والفقاهة ، كما يشهد بها تكثيره في الرواية عن أخيه ، ومن البعيد المقطوع ببطلانه أن يعتقد بما لم يكن أخذه من أخيه ، أو ثبت له من ضرورة أو غيرها من الطرق العلميّة المتحقّقة له في عصره.

ومنها : ما في نوادر كتاب الطهارة من الكافي ـ في الصحيح ـ عن عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ ، فقطر قطرة في إنائه ، هل يصلح الوضوء منه؟ قال : « لا » (٣).

ومنها : ما في باب المياه من التهذيب ـ في الصحيح ـ عن عليّ بن جعفر عليه‌السلام إنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه‌السلام عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمّام؟ قال عليه‌السلام : « إذا علم أنّه نصراني اغتسل بغير ماء الحمّام ، إلّا أن يغتسل وحده على الحوض ، فيغتسل ثمّ يغتسل » الحديث (٤).

ومنها : ما في باب آداب الأحداث من التهذيب ـ في الموثّق ـ عن سماعة بن مهران ، قال : سألته عن رجل يمسّ الطست أو الركوة ، ثمّ يدخل يده في الإناء قبل أن

__________________

ـ في الاستبصار ١ : ٢٠ / ٤٦ بسند آخر.

(١) الوسائل ١ : ٢٢٥ ، ب ١ من أبواب الأسآر ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٤.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٥ ، ب ١ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٦٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٠ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١١٩ / ٦٤.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٢١ ، ب ١٤ من أبواب النجاسات ٩ ـ التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٩٤٠.


يفرغ على كفّيه؟ قال عليه‌السلام : « يهريق من الماء ثلاث حفنات ، فإن لم يفعل فلا بأس ، وإن كانت أصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إن لم يكن أصاب يده شي‌ء من المنيّ ، وإن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفّيه فليهرق الماء كلّه » (١).

ومنها : ما في بابي المياه وتطهير المياه من التهذيب ، وباب القليل يحصل فيه النجاسة ، وعن الكليني أيضا في الكافي ـ في الموثّق ـ عن سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل معه إناءان فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر ، لا يدري أيّهما هو؟ وليس يقدر على ماء غيره؟ قال : « يهريقهما ويتيمّم إن شاء الله » (٢).

ومنها : ما في بابي تطهير المياه وأحكام التيمّم ، من الزيادات من التهذيب ـ في الموثّق ـ عن عمّار الساباطي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل ، قال : سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر ، لا يدري أيّهما هو؟ وليس يقدر على ماء غيره ، قال عليه‌السلام : « يهريقهما جميعا ويتيمّم » (٣).

وفي هذين الخبرين مضافا إلى موافقتهما للأخبار الاخر في جهة الدلالة ، دلالة اخرى تستفاد من ملاحظة سياق السؤال ، بتقريب ما بيّنّاه في خبر عليّ بن جعفر المتقدّم ، كما يشهد به التأمّل ، بل فيهما دلالة من جهة ثالثة وهو أمره عليه‌السلام بالتيمّم ، وظاهر أن ليس ذلك إلّا من جهة نجاسة الماء بوقوع القذر فيه ، ثمّ اشتباه الطاهر بالنجس من باب الشبهة المحصورة الّتي يجب الاجتناب عنها ، كيف ولو لا ذلك لمّا سوّغ العدول من المائيّة إلى التيمّم ، لمكان كونه طهارة اضطراريّة ، واحتمال كون ذلك لأجل التغيّر ـ كما جنح إليه بعض المتأخّرين ـ لا ينشأ منه أثر بعد مراعاة قاعدة ترك الاستفصال ، فتأمّل.

ومنها : ما في الكافي في باب السؤر ـ في الموثّق ـ عن عمّار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عمّا يشرب منه الحمامة؟ قال : « كلّما أكل لحمه فتوضّأ من سؤره واشرب ، وعن ماء شرب منه باز أو صقر ، أو عقاب؟ فقال : كلّ شي‌ء من الطير

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٤ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ التهذيب ١ : ٣٨ / ١٠٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٥١ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٩ / ٧١٣ الكافي ٣ : ١٠ / ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٩ / ٦٦٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٥ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤٨ / ٧١٢ وفي ١ : ٤٠٧ / ١٢١٨ بسند آخر.


يتوضّأ ممّا يشرب منه ، إلّا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه ولا تشرب » (١).

ومنها : ما في آخر باب تطهير الثياب من التهذيب ـ في الموثّق ـ عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا فيه كيف يغسل؟ ـ إلى أن قال ـ : وعن ماء شربت منه الدجاجة؟ قال : « إن كان في منقارها قذر لم تتوضّأ منه ولم تشرب ، وإن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ واشرب ، وقال : كلّما يؤكل لحمه فليتوضّأ منه وليشربه ، [وسأل] عن ماء يشرب منه صقر أو باز أو عقاب؟ قال : كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه : إلّا أن ترى في منقاره دما فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه ، ولا تشرب » الحديث (٢).

ومنها : ما في أواخر زيادات باب المياه من التهذيب ، وسأل عمّار بن موسى الساباطي أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجد في إنائه فأرة وقد توضّأ من ذلك الإناء مرارا وغسل منه ثيابه واغتسل منه ، وقد كانت الفأرة منسلخة ، فقال : « إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه ، ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ، ويغسل كلّما أصابه ذلك الماء ، ويعيد الوضوء والصلاة ، وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمسّ من الماء شيئا ، وليس عليه شي‌ء ، لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه ، ثمّ قال : لعلّه أن يكون إنّما سقطت فيه تلك الساعة الّتي رآها » (٣).

ومنها : ما في الباب المذكور من التهذيب ـ في الموثّق ـ عن سعيد الأعرج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجرّة تسع مائة رطل من ماء ، يقع فيها أوقية من دم أشرب منه وأتوضّأ؟ قال عليه‌السلام : « لا » (٤).

ومنها : ما في باب مياه التهذيب ـ في الموثّق ـ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ليس بأس بفضل السنّور أن تتوضّأ منه ويشرب ، ولا يشرب سؤر الكلب إلّا أن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٠ ، ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٨ / ٦٦٠ ـ الكافي ٣ : ٩ / ٥ ـ الاستبصار ١ : ٢٥ / ٦٤.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣١ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

(٣) التهذيب ١ : ٤١٨ / ٤١.

(٤) الوسائل ١ : ١٥٣ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٨ / ١٣٢٠.


يكون حوضا كبيرا يستقي منه » (١).

ومنها : ما عن علل الصدوق ـ في الموثّق ـ عن عبد الله بن يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ، وفيها يجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم ، فإنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب ، وأنّ الناصب لنا أهل البيت أنجس منه » (٢).

ومنها : ما في باب دخول الحمام من زيادات التهذيب ، عن حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام قال : سألته أو سأله غيري عن الحمّام؟ قال : « ادخله بمئزر ، وغضّ بصرك ، ولا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ماء يغتسل به الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرّهم » (٣).

وفي دلالة هذا الخبر شي‌ء لا يخفى على المتأمّل.

ومنها : ما في باب المياه من التهذيب عن حريز عمّن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا ولغ الكلب في الإناء فصبّه » (٤).

ومنها : المحكيّ عن فقه الرضا قال عليه‌السلام : « إذا ولغ كلب في الماء أو شرب منه اهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرّات مرّة بالتراب ومرّتين بالماء ثمّ يجفّف » (٥).

ومنها : المحكيّ عن كتاب الأطعمة والأشربة من التهذيب عن عمر بن حنظلة ، قال :

قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتّى يذهب عاديته ويذهب سكره؟ فقال عليه‌السلام : « لا والله ، ولا قطرة قطرت في حبّ إلّا اهريق ذلك الحبّ » (٦).

ومنها : ما عن الحميري في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن حبّ ماء وقع فيه أوقية بول ، هل يصلح شربه أو الوضوء؟ قال عليه‌السلام : « لا يصلح » (٧).

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٦ ، ب ١ من أبواب الأسآر ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٥٠.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٠ ، ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ٥ ـ علل الشرائع ١ : ٢٩٢.

(٣) التهذيب ١ : ٣٧٣ / ١١٤٣.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٥.

(٥) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٣ ـ الفقيه ١ : ٨ / ١٠.

(٦) الوسائل ٢٥ : ٣٤١ ب ١٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ١ ـ التهذيب ٩ : ١١٢ / ٤٨٥.

(٧) الوسائل ١ : ١٥٦ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١٩٧ / ٤٢٠.


ومنها : ما في باب النزح من التهذيب ، عن عليّ بن حديد عن بعض أصحابنا ، قال : كنت مع أبي عبد الله في طريق مكّة فصرنا إلى بئر فاستقى غلام أبي عبد الله عليه‌السلام دلوا فخرج فيه فأرتان ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « أرقه : فاستقى آخر فخرج فيه فأرة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أرقه ، فاستقى الثالث فلم يخرج فيه شي‌ء ، فقال : صبّه في الإناء ، فصبّه في الإناء » (١).

ومنها : ما في باب المياه من التهذيب ، عن سعيد الأعرج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر اليهودي والنصراني؟ فقال : « لا » (٢).

ومنها : ما في الحدائق عن الشهيد في الذكرى ، وعن غيره في غيره ، عن العيص بن القاسم قال : سألته عن رجل أصابته قطرة عن طست فيه وضوء؟ قال : « إن كان من بول أو قذر فليغسل ما أصابه » (٣).

ومنها : ما في المناهل (٤) عن الصدوق مرسلا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا وقع وزغ في إناء فأهرق ذلك الماء ، وإذا وقع فيه كلب أو شرب منه أهرق الماء واغسل الإناء مرّات » (٥)

ومنها : ما في الصحيح ـ في زيادات باب المياه من التهذيب ـ عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه ـ قال : وما أحسبه إلّا حفص بن البختري ـ قال : قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال : « يباع ممّن يستحلّ أكل الميتة » (٦).

وفي رواية اخرى صحيحة في الباب المذكور من الكتاب « أنّه يدفن ولا يباع » (٧).

هذا آخر ما وجدناه من مناطيق روايات المسألة وقد عرفت أنّها بحسب المتن على قسمين :

منها : ما هو مشتمل على نفي صلاحية ما لاقاه النجاسة من الماء للتوضّي

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ٢٣٩ / ٦٩٣ الاستبصار ١ : ٤٠ / ١١٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٩ ب ٣ من أبواب الأسآر ح ١ ـ الكافي ٣ : ١١ / ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٦٣٨ ـ الاستبصار ١ : ١٨ / ٣٦.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٥ ، ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٤ ـ ذكرى الشيعة ١ : ٨٤ ، الحدائق الناضرة ١ : ٢٨٦.

(٤) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ الورقة : ١١٣ (المخطوط).

(٥) الفقيه ١ : ٨ / ١٠.

(٦ و ٧) الوسائل ١ : ٢٤٢ و ٢٤٣ ب ١١ من أبواب الأسآر ح ١ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٥ و ١٣٠٦ ـ الاستبصار ١ : ٢٩ / ٧٦ و ٧٧.


والاغتسال به.

ومنها : ما هو مشتمل على النهي عن التوضّي والاغتسال ، وعن الشرب أيضا والأمر بالإراقة ، وهو الغالب جدّا.

وأمّا وجه الاستدلال بالقسم الأوّل فواضح ، من جهة أنّ نفي الصلاحية للتوضّي عن الماء الملاقي للنجاسة لا يعقل له وجه ، إلّا بأن يقال : إنّ الملاقاة قد أوجبت فيه زوال وصف وجودي عليه مدار الصلاحية في نظر الشارع وليس ذلك إلّا الطهارة ، ولا ريب أنّ زوالها ملزوم للنجاسة وهو المطلوب.

ولك أن تقول : إنّها أوجبت في الماء حدوث وصف وجودي عليه مدار عدم الصلاحية شرعا ، ولا يكون ذلك إلّا النجاسة.

واحتمال أنّ الوصف الزائل لعلّه وصف الإطلاق ، كاحتمال أنّ الوصف الحادث لعلّه التغيّر.

يدفعه : القطع بأنّ القطرة من الدم الواقعة في الإناء ، والأوقية من البول الواقعة في الحبّ لا يوجبان شيئا من ذلك ، أمّا الأوّل : فواضح ، وأمّا الثاني : فلأنّ الأوقيّة ـ بضمّ الأوّل وسكون الثاني وتشديد الياء المثنّاة ـ إمّا عبارة عن أربعين درهما ـ على ما حكي عن الجوهري (١) ـ وهو يعادل واحدا وعشرين مثقالا صيرفيّا ، أو عمّا اصطلح عليه الأطبّاء وهو وزن عشرة مثاقيل وخمسة أسباع درهم ، ـ على ما في محكيّ المغرب (٢) ـ وأيّا ما كان فهو لا يعادل عشرا من أعشار الحبّ ، كما لا يخفى ، ومعه كيف يعقل كونه سالبا للإطلاق أو موجبا للتغيير ، ثمّ إنّه لو سلّم أنّهما في بعض الفروض ، يوجبان أحد الأمرين ، فلا يقدح في تماميّة الاستدلال بعد ملاحظة ما في الجواب من ترك الاستفصال المفيد للعموم في المقال.

وأمّا وجه الاستدلال بالقسم الثاني : فلمّا تقرّر في الاصول من أنّ الأوامر والنواهي المتعلّقة بالعبادات والمعاملات بقرينة المقام الّتي يكشف عنها العرف وبناء العقلاء ـ نظير القرينة في الأمر الوارد عقيب الحظر ـ ليست على حقائقها ، بل هي إرشاديّة محضة ، معرّاة عن الطلب الحقيقي ، واردة لبيان الواقع ، وإرشاد المكلّف إلى ما يصلحه وتمييزه له عمّا يفسده ، فيراد بالنواهي إحراز المانعيّة مثلا ، كما يراد بالأوامر إحراز

__________________

(١) الصحاح ، مادّة « وقى » ٦ : ٢٥٢٧.

(٢) المغرب ؛ مادّة « وقى » : ٤٩٢.


الشرطيّة أو الجزئيّة أو نحوهما ، ولا يعقل في المقام مانع يكشف عنه النواهي إلّا النجاسة ، وهذا بالنسبة إلى النواهي عن التوضّي والاغتسال واضح وأمّا بالنسبة إلى النواهي عن الشرب فكذلك ، حملا على النظائر بقرينة وحدة السياق ، وكذلك الحال في الأمر بغسل الإناء فيما شرب منه الكلب ، والأمر بالإراقة ونحوها.

مضافا إلى ما فيه من احتمال كونه واردا من باب الكناية ، مرادا به في الحقيقة النهي عن التوضّي ، أو الاغتسال أو مطلق الاستعمال نهيا اريد منه الإرشاد حسبما بيّنّاه ، بل هذا المعنى ممّا لا اختصاص له بالمقام بل يجري في جميع أبواب الطهارات والنجاسات والتنجّسات ، بل وأنت إذا لاحظت الأخبار الواردة في إثبات حكم النجاسة لأنواع النجاسات وإثبات حكم المتنجّس لما يلاقيه النجاسة غير الماء من البدن والثياب والأواني وغيرها ، لما وجدتها دالّة على ذلك إلّا بواسطة ما فيها من الأوامر والنواهي ، بل قلّما يتّفق فيها ما يدلّ على الحكمين بلفظي « النجاسة » و « التنجّس » ، كما لا يخفى على المتتبّع.

وإن شئت لاحظ الأخبار الواردة في نجاسة البول ونحوه ، فترى أنّه ليس فيها إلّا الأمر بالغسل عنه مرّتين ، أو الأمر بصبّ الماء عليه مرّتين ، وليس ذلك إلّا من جهة وروده مورد الإرشاد إلى النجاسة ، والتنبيه عليها مجرّدا عن الطلب الحقيقي ، كيف ولو فرضناه مع الطلب كان غيريّا وهو أيضا مجاز في قول ، أو تقييد في أشهر الأقوال ، وما ذكرناه أيضا مجاز ، غير أنّه في خصوص المقام أرجح من غيره بحكم العرف والتبادر ونحوه.

بل لنا : أن نثبت الدلالة من غير ابتناء لها على ما ذكرناه من القاعدة في الأوامر والنواهي المتعلّقة بالعبادات أو المعاملات ، بأن نقول : إنّه قد استقرّ بناء العرف في الطهارات والنجاسات على تعريف الطهارة بالأمر بالاستعمال أو الشرب أو نحو ذلك ، وتعريف النجاسة بالنهي عن الاستعمال ، أو الشرب ، أو الأمر بالإراقة ، أو الصبّ أو إبقائه على حاله ، ألا ترى أنّه لو كان هنا ماء معلوم عندك كونه نجسا فأراد أن يأخذه من لا يعلمه على هذا الوصف للشرب أو سائر الاستعمالات ، فأنت تعرّف له النجاسة المعلومة عندك بقولك : « دعه ، أو صبّه أو لا تشربه » أو نحو ذلك ، وهو أيضا لا يفهم من ذلك إلّا النجاسة ، ولا ريب أنّ ما ورد في الأخبار أيضا منزّل ومنطبق على هذا المعنى العرفي وإن كان مجازيّا ، فإنّ الحمل على المجاز بعد ظهور القرينة العرفيّة ووضوحها


ممّا لا ضير فيه ، بل كان واجبا جدّا.

ولا ندري أنّ من ينكر دلالة أوامر المقام ونواهيه على النجاسة ، أو يأخذ فيها بالتأويل ـ حسبما يأتي إليه الإشارة ـ كيف يصنع في إثبات نجاسة أنواع النجاسات ، وبتنجّس ما يلاقيها من الثياب وغيرها ، فإن عمّم في إنكاره بحيث يشمل المقامين فقد سدّ على نفسه باب إثبات الحكمين ، وإن خصّه بالمقام كان مكابرة محضة ، حيث إنّه فرّق بين أمرين لا فرق بينهما في نظر العرف والشرع أصلا ورأسا.

ولو قيل : بأنّ الفارق هو الإجماع ، يرد عليه : أنّ مثله موجود في المقام ـ على ما حكاه جماعة ـ بناء على أنّ مخالفة العماني لمعلوميّة نسبه غير قادحة ، من غير فرق فيه بين طريقة قدماء أصحابنا أو متأخّريهم.

وبالجملة : إنكار ما ذكرناه من الدلالة خارج عن قانون الفقاهة ، وفهم الأحكام الشرعيّة من الأدلّة اللفظيّة بطريق الاستنباط كما لا يخفى.

وما يتوهّم من أنّه لو صحّت الدلالة المدّعاة لكانت شاملة للكرّ وما زاد عليه ، مع أنّكم لا تقولون بها فيه جزما.

ممّا يدفعه أوّلا : المنع عن العموم المذكور ، كيف وأنّ غالب روايات الباب واردة في الأواني المتّخذة للشرب والتوضّي والاغتسال ، ولا ريب أنّ مجرى العادات في أمثال هذه الأواني ما لا يسع كرّا ولا نصفه ولا ربعه ولا ثمنه ولا عشره.

وثانيا : المنع عن عموم الحكم بعد ما فرضنا المورد بنفسه عامّا ، إذ كلّ مطلق قابل للتقييد ، ولا ريب أنّ الأخبار الفارقة بين الكرّ وغيره مقيّدات ، فتحمل مطلقات المقام على تلك المقيّدات.

واحتمال ابتناء أخبار الباب على صورة التغيّر ـ كما سبق إلى بعض الأوهام ـ مندفع.

أوّلا : بمنع جريان أصل الاحتمال ، للقطع بعدم كون النجاسات الواردة في أسئلة الروايات موجبة للتغيّر عادة كقذارة اليد ، ولا سيّما إذا كانت من منيّ ، والدجاجة الواطئة للعذرة ـ وأشباهها ـ الداخلة في الماء ، والدم الّذي يكون في منقار الطيور وما أشبه ذلك ، وكذلك أوقية دم واقعة في جرّة تسع مائة رطل من ماء ، وإن كان لاحتمال التغيّر بالقياس إليه نوع قوّة خصوصا في بعض أفراد الدم ، كما لا يخفى.


وثانيا : بأنّ احتمال التغيّر غير اختصاص الروايات به ، والقادح في الاستدلال هو الثاني والقائم في محلّ المقال هو الأوّل ، وأقصى ما يترتّب عليه بعد التسليم بملاحظة قاعدة ترك الاستفصال إنّما هو ثبوت عموم في موضوع الحكم ، وهو غير مناف للمقصود بعد اندراج محلّ البحث في هذا العامّ جزما ، مع عدم مخرج له قطعا.

وممّا يرد على الأخذ بهذا الاحتمال ـ بل على القول بخلاف ما هو ظاهر الأخبار ، مضافا إلى ما ذكر ـ أنّه يوجب إبطال التحديد الوارد في الأخبار الكثيرة المجمع على العمل به ، وطرح تلك الأخبار مع كثرتها وهو كما ترى.

أمّا بيان الملازمة : فلأنّ هذا التحديد لا بدّ له من فائدة تكون فارقة بين الكرّ وما دونه ، وهذه الفائدة إمّا عبارة عن النجاسة بالتغيّر وعدمها فالكرّ لا ينجّس به بخلاف ما دونه ، أو عن الانفعال بمجرّد الملاقاة وعدمه.

والأوّل : باطل بالإجماع وغيره ممّا تقدّم في محلّه من الدلالة على أنّ التغيّر ممّا يوجب نجاسة الماء ولو كرّا أو أكرارا.

والثاني : ممّا أبطله أهل هذا القول فلا يبقى إلّا أنّ هذا التحديد قد ورد لغوا ، لا يعقل له فائدة اخرى سوى ما ذكرناه.

وممّا يدخل في عداد مناطيق أخبار الباب : ما رواه في باب آداب الأحداث من التهذيب ـ في الصحيح ـ عن إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء؟ قال : « ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته » (١).

وما رواه فيه في الباب المذكور ـ في الصحيح ـ عن إسماعيل بن جابر قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء؟ قال : « كرّ » ، الحديث (٢).

وما رواه في زيادات التهذيب ، وباب القليل الّذي يحصل فيه النجاسة من الاستبصار ـ في الصحيح ـ وفي الكافي أيضا في الباب المذكور ، بطريق فيه سهل بن زياد عن صفوان الجمّال قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض الّتي ما بين مكّة إلى المدينة تردها السباع ، وتلغ فيها الكلاب ، وتشرب منها الحمير ، ويغتسل منها الجنب ، أيتوضّأ منها؟ فقال عليه‌السلام : وكم قدر الماء؟ قلت : إلى نصف الساق وإلى الركبة ، فقال عليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٦٥ ب ١٠ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٤ ـ التهذيب ١ : ٤١ / ١١٤ و ١١٥.


« توضّأ منه » (١).

وجه الدلالة في الأوّلين : أنّ السؤال الوارد فيهما يدلّ على أنّ السائل كان معتقدا بأنّ الماء منه ما لا ينجّسه شي‌ء ، ومنه ما ينجّسه شي‌ء ، ومشتبها في تشخيص الموضوع وتمييز الأوّل عن الثاني ، وإنّما سأل الإمام عمّا يرفع ذلك الاشتباه فقرّره الإمام عليه‌السلام على الاعتقاد المذكور وأجاب له بما رفع الاشتباه فلو لا الحكم كما اعتقده السائل لما كان لتقرير الإمام عليه‌السلام ولا جوابه بما ذكر وجه ، بل كان عليه الجواب بما يردعه عن هذا الاعتقاد كما لا يخفى.

وفي الأخير : أنّ الإمام عليه‌السلام قد استفصل عن مقدار الماء الّذي في الحياض ، فلو لم يكن فرق بين قليل الماء وكثيرة في الحكم لما كان لذلك الاستفصال وجه ، بل كان لغوا ، وكان عليه الأمر بالتوضّي مطلقا تنبيها للسائل على أنّ الماء بإطلاقه لا ينجّس بما ذكر من النجاسات.

واحتمال كون نظره عليه‌السلام في ذلك الاستفصال إلى تشخيص ما يتحقّق معه التغيّر الموجب للنجاسة عمّا عداه.

يدفعه : أنّ السؤال الوارد في ذلك يأبى عن ذلك ؛ إذ لم يذكر فيه من النجاسات ما يوجب التغيّر بل لم يذكر فيه نجاسة إلّا ولوغ الكلب ، وهو كما ترى ليس ممّا يوجب التغيّر جدّا ، ومعه كيف يمكن تنزيل الاستفصال المذكور إلى مراعاة صورة التغيّر.

ويمكن تقرير الاستدلال بالخبرين الأوّلين من وجه آخر ، وهو : أنّ مقتضى الجمع بين ما ذكر في السؤال وجواب الإمام المطابق له ، أن يقال : إنّ مفاد الرواية أنّ الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء بعنوانه الكلّي ما كان كرّا ، أو ما كان عمقه ذراعين وسعته ذراعا وشبرا ، فينعكس هذه الكلّيّة بطريقة عكس النقيض إلى أنّ ما ليس بكرّ وما لا يكون عمقه ذراعين وسعته ذراعا وشبرا لا يكون بما لا ينجّسه شي‌ء ، ولمّا كان النفي في النفي ممّا يفيد الإثبات فكان مفاد العكس إثبات النجاسة لما كان فاقدا للوصفين معا وهو المطلوب ، غير أنّ الدلالة فيهما على هذا التقرير تكون من باب المفهوم ، فيدخلان في عداد أخبار النوع الثالث ، ولا ضير فيه بعد وضوح المطلب.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٢ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٧ ـ الاستبصار ١ : ٢٢ / ٥٤ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٧.


وأمّا أخبار هذا النوع فكثيرة أيضا.

منها : صحيحة محمّد بن مسلم ـ الواردة في باب آداب الأحداث من التهذيب ، وباب مقدار الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء من الاستبصار ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّه سئل عن الماء تبول فيه الدوابّ وتلغ فيه الكلاب ويغتسل منه الجنب؟ قال عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١).

ومثله الصحيح في الكافي ـ في باب الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء ـ عن محمّد بن مسلم ، إلّا أنّه قال فيه : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الّذي تبول فيه الدوابّ » إلى آخر المتن المذكور (٢).

ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار ـ الواردة في الكتب الثلاثة في الأبواب المذكورة ـ قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٣).

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ الواردة في باب المياه من زيادات التهذيب ـ قال : قلت له الغدير ماء مجتمع تبول فيه الدوابّ ، وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب؟ قال عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء ، والكرّ ستّمائة رطل » (٤).

ومنها : الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب المذكور ـ في الباب المتقدّم من الكافي ـ عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجّسه شي‌ء ، قلت : وكم الكرّ؟ قال : ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها » (٥).

ومنها : الصحيحة المذكورة في باب المياه من زيادات التهذيب عن عليّ بن جعفر عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع أيغتسل منه لجنابته ، أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره؟ والماء لا يبلغ صاعا

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٩ / ١٠٧ ـ الاستبصار : ١ : ٦ / ١ و ٢٠ / ٤٥.

(٢) الكافي ٣ : ٢ / ٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩ ـ الكافي ١ : ٦ الاستبصار ١ : ٦ / ٢.

(٤) أورد ذيله في الوسائل ١ : ١٦٨ ، ب ١١ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٦٠ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٤.


للجنابة ، ولا مدّا للوضوء ، وهو متفرّق فكيف يصنع وهو يتخوّف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال عليه‌السلام : « إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه ، وكفّا أمامه ، وكفّا عن يمينه ، وكفّا عن شماله ، » الحديث (١).

ومنها : موثّقة شهاب بن عبد ربّه ـ الواردة في الكافي في باب الرجل يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل أن يغسلها؟ قال : « إنّه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء » (٢).

ومنها : الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم ـ الوارد في حكم الجنابة من التهذيب ـ عن زرارة قال : قلت له كيف يغتسل الجنب؟ فقال : « إن لم يكن أصاب كفّه منيّ غمسها في الماء ثمّ بدأ بفرجه فأنقاه ، ثمّ صبّ على رأسه ثلاث أكفّ ، ثمّ صبّ على منكبه الأيمن مرّتين ، وعلى منكبه الأيسر مرّتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه » (٣).

وهذا الخبر باعتبار سنده لا يخلو عن شي‌ء لما فيه من الإضمار ، وإن قيل فيه بأنّ الظاهر أنّ المضمر أحد الصادقين [عليهما‌السلام].

ومنها : موثّقة سماعة ـ المذكورة في باب آداب الأحداث من التهذيب ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أصابت الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس ، إن لم يكن أصاب يده شي‌ء من المنيّ » (٤).

ومنها : موثّقة عمّار ـ الواردة في باب تطهير الثياب من التهذيب ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الدنّ يكون فيه الخمر ، هل يصلح أن يكون فيه الخلّ أو كامخ أو زيتون؟ قال : « إذا غسل فلا بأس وعن الإبريق يكون فيه خمر أيصلح أن يكون فيه ماء قال إذا غسل فلا بأس » (٥).

ومنها : المحكي عن كتاب الوسائل ، وكتاب قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٧٦ / ١١١٥ مع اختلاف يسير.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٢ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ الكافي ٣ : ١١ / ٣.

(٣) الوسائل ٢ : ٢٢٩ ب ٢٦ من أبواب الجنابة ح ٢ ـ التهذيب ١ : ١٣٣ / ٣٦٨.

(٤) الوسائل ١ : ١٥٣ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٩ ـ التهذيب ١ : ٣٧ / ٩٩.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٩٤ ب ٥١ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٣ / ٨٣٠.


باطية؟ قال عليه‌السلام : « إذا غسله فلا بأس » (١).

ومنها : المحكيّ عن مصابيح السيّد عن محمّد بن الحسن الصفّار في كتاب بصائر الدرجات ـ في الصحيح ـ عن شهاب بن عبد ربّه قال : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام أسأله فابتدأني ، فقال : « إن شئت أخبرتك بما جئت له ، قلت : أخبرني جعلت فداك ، قال عليه‌السلام : جئت تسأل عن الجنب يغرف الماء من الحبّ بالكوز ، فيصيب يده الماء ، قال : قلت نعم ، قال عليه‌السلام : ليس به بأس ، قال : وإن شئت سل وإن شئت أخبرتك ، قلت : أخبرني قال عليه‌السلام : جئت تسأل عن الجنب يسهو فيغمز يده في الماء قبل أن يغسلها؟ قال : قلت وذلك جعلت فداك ، قال عليه‌السلام : إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء فلا بأس » (٢).

ومنها : رواية عليّ بن يقطين ـ المذكورة في باب المياه من التهذيب ـ عن أبي الحسن عليه‌السلام في الرجل يتوضّأ بفضل الحائض؟ قال : « إذا كانت مأمونة فلا بأس » (٣).

ومنها : ما في الباب المذكور من الكتاب عن عيص بن القاسم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر الحائض؟ قال : « توضّأ منه ، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة » (٤).

وجه الدلالة في هذا النوع من الأخبار : أنّ الحكم الوارد فيها أعني عدم التنجيس كما في الأربعة الأوّلية ، وتجويز الأخذ من الماء كما في الخامسة ، وتجويز غمس اليد في الماء كما في السادسة ، وتجويز الوضوء من سؤر الجنب كما في الثاني عشر ، ونفي البأس كما في البواقي معلّق على وصف الكرّيّة في الأوّل ، ووصف النظافة في الثاني ، وعدم إصابة المنيّ الكفّ أو اليد والغسل والمأمونيّة ، ومن المقرّر في محلّه أنّه في الجمل الشرطيّة يفيد انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف المعلّق عليه على ما هو مفاد حجّيّة مفهوم الشرط ، وهو في الأربعة الأول عين المطلوب ، وفي البواقي كاشف عنه ، فإنّ نفي الجواز كإثبات البأس ممّا لا معنى له إلّا لكونه لأجل مانع ، ولا يعقل ما يصلح المنع إلّا النجاسة ، أو أنّه المتبادر عرفا في نظائر المقام كما تقدّم الإشارة إليه.

فروايات هذا النوع كلّها متّفقة في وجه الدلالة ، لكونها في الجميع من باب مفهوم

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٦٩ ، ب ٣٠ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٥ ـ قرب الإسناد : ١١٦ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٥٤ / ٢١٢.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٢٦ ب ٤٥ من أبواب الجنابة ح ٢ باختلاف يسير ـ بصائر الدرجات : ٢٥٨.

(٣ و ٤) التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٢ ، و ٦٣٣.


الشرط ، وإن حصلت المفارقة بينها في كمّيّة المدلول ، حيث إنّ الأربع الاول تفيد المطلب بتمامه ، وعمومه بالقياس إلى الماء والنجاسة معا ـ بناء على ما ستعرف تحقيقه ـ بخلاف البواقي فإنّها لا تفيده إلّا في موارد خاصّة ورد ذكرها في أسئلة تلك الأخبار ، فإنّ الحكم المستفاد منها لا يتعدّى تلك الموارد إلّا مع ضميمة خارجيّة كالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، إذ ليس فيها ما يفيد العموم وضعا أو عرفا بالقياس إلى الماء ولا إلى النجاسة ، فبمجرّد تلك الأخبار لا يمكن القول بأنّ كلّ ماء في كلّ حال ينجّس بملاقاة كلّ نجس كما لا يخفى.

هذا كلّه على حسبما استفدناه من كلام القوم في تقرير وجه الدلالة ، غير أنّ لنا مناقشة على ما ذكروه في خصوص الأربعة الأول ، لعدم انطباق الدلالة القائمة بها على قاعدة حجّيّة مفهوم الشرط ، لأنّ معنى الحجّيّة على القول بها ـ كما هو المحقّق عندنا أيضا ـ كون مفاد القضيّة بملاحظة أداة الشرط السببيّة التامّة القائمة بالمقدّم بالقياس إلى التالي ، الّتي تفسّر بكون الشي‌ء بحيث يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، وقد قطعنا بملاحظة الخارج أنّ الكرّيّة بنفسها ليست سببا تامّا لعدم التنجّس ، وإنّما هو جزء للسبب ، لأنّ السبب التامّ هو المجموع منها ومن عدم التغيّر.

هذا بناء على الإغماض عمّا يساعد عليه النظر ، وإلّا فلنا أن نمنع دعوى كون هذا المجموع أيضا سببا ، لأنّ المعهود في السبب كونه مؤثّرا فيما هو مسبّب منه ، ونحن نقطع بأنّه لا تأثير لشي‌ء من الكرّيّة وعدم التغيّر في طهارة الماء ، بل الطهارة حيثما تكون قائمة من مقتضيات نفس الطبيعة المائيّة ولوازمها كنجاسة الكلب ونحوها ، كما نطق به قوله عزّ من قائل : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٢).

فإنّ قضيّة ذلك كون النجاسة بالنسبة إلى الماء من الطوارئ الّتي لا يلحقه إلّا بعد ارتفاع ما هو من مقتضياته وأوصافه المستندة إلى طبيعته ، ولا ريب أنّ الوصف الأصلي للشي‌ء لا يعقل ارتفاعه عن ذلك الشي‌ء إذا كان بنفسه مقتضيا له ، حتّى يطرأ محلّه وصف وجودي

__________________

(١) الفرقان : ٤٨.

(٢) سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ـ سنن الدار قطني ١ : ٢٨ ، كنز العمّال ٩ : ٣٩٦ ح ٢٦٦٥٢.


آخر إلّا من جهة قيام رافع لولاه لما كان مرتفعا ، وممّا جعله الشارع رافعا لطهارة الماء أو كشف عن رافعيّته إنّما هو التغيّر بالنجاسة ، فإذا فرض كون وجوده رافعا لها فكيف يعقل كون عدمه مؤثّرا في وجودها ومحدثا لها ولو بعنوان الجزئيّة ، وإلّا لزم ارتفاع النقيضين أو ضدّين لا ثالث لهما ، إذ المفروض كون كلّ من الطهارة والنجاسة مستندة إلى أمر خارج عن ذات الماء ، فالذات بما هي هي معرّاة عن كلا الوصفين ، وإن لم يمكن فرض خلوّها عن أحدهما باعتبار الزمان ، حيث إنّها لا تخلو عن أحد وصفي التغيّر وعدمه ، إلّا أنّه كما لا يمكن ارتفاع النقيضين أو الضدّين عن الشي‌ء باعتبار الزمان ـ أي في زمان من الأزمنة ـ فكذلك لا يمكن ارتفاعهما عنه باعتبار الذات ـ بمعنى خلوّها بما هي هي عنهما معا ـ ولذلك جعل وصف الماء باعتبار ذاته وخلقته الطهارة ، كما يرشد إليه أيضا تعليق عدم الطهارة على العلم بالقذارة ، المستفاد من قولهم عليهم‌السلام : « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (١) فلو لم يكن وصفه الأصلي هو الطهارة ولا أنّ عدمها من جهة طروّ ما يرفعها ، لوجب تعليق عدم قذارته على العلم بالطهارة كما لا يخفى.

فإذا ثبت أنّ طهارة الماء من مقتضيات ذاته ، وأنّه لا يحكم عليها بالعدم إلّا من جهة طروّ ما يوجب ارتفاعها ، وأنّ عدم التغيّر ليس بمؤثّر فيها ، بل هو حيثما وجد معها يكون من باب المقارنات الاتّفاقيّة ، وأنّ التغيّر هو الّذي يؤثّر في عدمها ويوجب ارتفاعها ، علم أنّ ملاقاة النجاسة في الماء القليل أيضا من مقولة الروافع ، ولكن بهذا الشرط ـ أي شرط القلّة ـ فالعلّة في ارتفاع الطهارة الّتي هي من مقتضيات ذات الماء حينئذ مركّبة عن وصفي القلّة والملاقاة ، فإذا كان وجود هذين الوصفين مؤثّرا في ارتفاع الطهارة فلا يعقل كون عدمها مؤثّرا في وجود الطهارة لعين ما تقدّم.

وقضيّة ذلك أن لا يكون وصف الكرّيّة كوصف عدم التغيّر مؤثّرا في الطهارة ، بل هو كأخيه حيثما وجد مع الطهارة كان من المقارنات الاتّفاقيّة ، وإنّما اعتبره الشارع مناطا للحكم لا من جهة أنّه مؤثّر ـ ولو بعنوان الشرطيّة ـ بل من جهة أنّه ميزان كلّي هو ملزوم لانتفاء ما هو مؤثّر في ارتفاع الطهارة ، وشرط لطروّ النجاسة وهو القلّة ، وإلّا فالمقتضي للطهارة كما عرفت هو نفس الذات لا بشرط هذا الوصف ، كيف ولو كان له

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.


مدخل في اقتضاء الطهارة ولو بعنوان الشرطيّة لزم انتفاء الطهارة في الماء القليل الغير الملاقي للنجاسة أيضا ، ضرورة أنّ المشروط عدم عند عدم شرطه ، وهو بديهي البطلان ، وهذا أيضا من أقوى الشواهد على أنّ طهارة الماء مستندة إلى ذاته من غير مدخل للكرّيّة فيها ، وإلّا لزم تخلّف الشرط عن المشروط وهو محال.

وقضيّة كلّ ما ذكر عدم إمكان تتميم الاستدلال على المطلب بقاعدة حجّيّة مفهوم الشرط ، بل لا بدّ وأن يقال ـ في تقريب الاستدلال ـ : بأنّ مقتضى ظاهر الجملة الشرطيّة وإن كان سببيّة المقدّم للتالي ، ولكن الصارف في خصوص المقام صرفنا عن هذا الظاهر ومنعنا عن الحكم على الكرّيّة بالسببيّة التامّة ، فإمّا أن يحكم عليها حينئذ بالشرطيّة ـ بالمعنى المصطلح عليه عند الاصولي ـ فيكون مفاد القضيّة العلقة الشرطيّة على حدّ ما هو في قولك : « إن قبضت في المجلس صحّ الصرف » ، أو يحكم بكونها ملزومة للطهارة من جهة أنّها ملزومة لانتفاء ما هو شرط للنجاسة ، فيكون مفاد القضيّة مطلق الملازمة ، معرّاة عن التأثير والعلقة السببيّة والشرطيّة فيما بين المقدّم والتالي ، على حدّ ما في قولك : « إن كنت محدثا فصلاتك ليست بصحيحة ».

وكلّ من هذين المعنيين وإن كان معنى مجازيّا للقضيّة ـ حسبما تقرّر في الاصول ـ إلّا أنّ المتعيّن منهما بعنوان القطع واليقين هو المعنى الثاني ، بقرينة ما قرّرناه من عدم إمكان فرض الكرّيّة شرطا ، ومعه يثبت المفهوم وهو الانتفاء مع الانتفاء ، وإن لم يكن من باب مفهوم الشرط في الاصطلاح ، وهو كاف في تماميّة الاستدلال وثبوت المطلب جدّا.

ثمّ إنّه أورد على روايات الباب بوجوه :

منها : ما يرد على ما اشتمل منها على الأمر بالغسل أو الصبّ أو الإراقة والنهي عن الشرب أو التوضّي أو الاغتسال ، من أنّ الاستدلال بأمثال ذلك إنّما تصحّ إذا كان الأمر والنهي حقيقة في الوجوب والتحريم وهو في حيّز المنع ، ولو سلّم فيشكل التعلّق بهما في الحمل على الوجوب والتحريم ، لشيوع استعمالهما في كلام الأئمّة في الندب والكراهة ، بحيث صارا من المجازات الراجحة المساوي احتمالها في اللفظ لاحتمال الحقيقة ، كما صرّح به صاحب المعالم (١) وتبعه غيره.

__________________

(١) معالم الاصول : ٤٨.


ومنها : ما يرد على ما علّق فيه الحكم على نظافة اليد من باب مفهوم الشرط ، من أنّ طهارة اليد إنّما جعلت شرطا لوجوب الاستعمال ، لمكان الأمر الّذي هو حقيقة في الوجوب ، واللازم منه انتفاء الوجوب بانتفائه لا انتفاء الجواز.

ومنها : ما يريد على ما اشتمل من الروايات على نفي البأس معلّقا على ما ذكر فيها من الشروط ، من أنّ نفي البأس نفي للحرمة والكراهة معا ، فثبوته يقتضي ثبوت أحدهما فلا يتعيّن ثبوت الحرمة ، إذ العامّ لا يدلّ على الخاصّ.

ومنها : ما يرد على ما يكون دلالته من باب المفهوم ، من منع حجّيّة المفهوم.

ومنها : ما يرد على ما اشتمل منها على لفظة « النجاسة » ، من منع كونها في عرفهم بالمعنى المصطلح عليه الآن ، لجواز كونها بمعنى الاستقذار والاستكراه ، وحينئذ لا تثبت نجاسة القليل بالمعنى المصطلح الّذي هو المتنازع فيه ، بل إنّما ثبت استقذارها ، وغاية ما يلزم كراهة استعماله بعد ملاقاة النجاسة ولا نزاع فيه ، سلّمنا كونها في عرفهم لهذا المعنى غير أنّها يعارضها عمومات دالّة على عدم نجاسة الماء ما لم يتغيّر ـ كما سيأتي في حجّة القول بعدم التنجيس ـ ولا نسلّم أنّ تخصيص العمومات بها أولى من حملها على المجاز ، بل الرجحان مع الثاني بملاحظة الأصل والاستصحاب والعمومات المتقدّمة الدالّة على طهارة الماء ما لم يعلم أنّه قذر.

ومنها : ما ورد على ما اشتمل منها على عبارة « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » من حيث إنّ مفهومه « إذا لم يكن الماء قدر كرّ ينجّسه شي‌ء » ، وهو لا يدلّ على الكليّة المدّعاة من انفعال كلّ ماء بكلّ نجاسة ، نظرا إلى أنّ « شيئا » في قضيّة المفهوم نكرة في سياق الإثبات ، فلا يفيد العموم.

والجواب عن الأوّل ، أوّلا : بأنّ المحقّق في محلّه المدلول عليه بالقاطع كون الأمر حقيقة في الوجوب والنهي حقيقة في التحريم ، وتفصيل ذلك في محلّه.

وثانيا : بأنّ المطلب غير مبتن ثبوته على كون المراد بهما الوجوب والتحريم ، لما عرفت من قيام القرينة العرفيّة على إرادة الإرشاد ، وهو وإن كان معنى مجازيّا ، غير أنّ المصير إليه واجب مع القرينة ، فلا يضرّ فيه عدم كونهما حقيقة في الوجوب والتحريم ، ولا كونهما من المجازات الراجحة في الندب والكراهة ، لو سلّمنا أصل هذه الدعوى


وأغمضنا عمّا أوردناه في دفعها وإبطالها في محلّه.

وبالجملة : فكلّ من هاتين المناقشتين ممّا لا وقع له في خصوص المقام ، بعد ملاحظة ما قرّرناه في توجيه الاستدلال.

وعن الثاني : بمنع كون المعلّق على وصف الطهارة وجوب الاستعمال ـ بناء على ما قرّرناه من عدم كون أمثال هذه الأوامر مرادا منها الوجوب ـ بل المراد منها الإرشاد إلى الطهارة وتعريفها ، وإن كان المستعمل فيه هو تجويز الاستعمال ، فيكون المعلّق على الوصف المذكور هو الأمر بهذا المعنى ، واللازم من ذلك انتفاء الجواز عند انتفائه ، ويكون ذلك إرشاد إلى النجاسة بالملاقاة وتعريفها وهو المطلوب.

وعن الثالث : بمنع إطلاق القول بكون نفي البأس مرادا منه نفي الحرمة والكراهة ، بل يختلف مفاده في استعمالات الشارع بحسب اختلاف الموارد حسبما يشهد به الانسباق العرفي المقرون بقرينة المقام ، فيراد به في موضع توهّم الحرمة نفي الحرمة ، وفي موضع توهّم الكراهة نفي الكراهة ، وفي موضع توهّم فساد المعاملة نفي جهة الفساد ، وفي موضع توهّم بطلان العبادة نفي الجهة المقتضية له ، وفي موضع توهّم النجاسة نفي النجاسة ، وإنّما يعلم ذلك الاختلاف بملاحظة الأسئلة الواردة في الروايات ، فإنّ كلّ سؤال يرد في موضع توهّم شي‌ء ممّا ذكر ويرد الجواب على طبقه ، فيراد من نفي البأس حينئذ نفي ما توهّمه السائل ليكون الجواب مطابقا للسؤال ، ولا ريب أنّ الظاهر من الأسئلة الواردة في باب المياه كونها في موضع توهّم النجاسة ، فيكون نفي البأس الوارد في أجوبتها مرادا به نفي النجاسة ، وقضيّة ذلك كون المراد بالبأس في جانب المفهوم إثبات النجاسة وهو المطلوب.

وعن الرابع : بالمنع عن دعوى عدم حجّيّة المفهوم ، بل المحقّق الثابت في محلّه هو الحجّيّة ، غير أنّه قد عرفت في المقام عدم إمكان المصير إلى المعنى الحقيقي لقيام صارف عنه ، ولكنّه لا يقدح في نهوض الدلالة من جهة اخرى على المطلوب وإن كانت مجازيّة ، وهي مع قيام القرينة القاضية بالتعيين ممّا يجب المصير إليها ، وقد تبيّن القرينة الّتي مفادها مطابق لمفاد المعنى الحقيقي بالقياس إلى أصل المطلب.

وعن الخامس : فعن وجهه الأوّل : بمنع ابتناء ثبوت المطلب على ثبوت الحقيقة


الشرعيّة في تلك اللفظة ، بل نقول : بأنّ لفظ « النجاسة » كلفظ « الطهارة » باق على معناه الأصلي اللغوي وهو القذارة قبالا للنظافة ، غير أنّ المعلوم من طريقة الشارع أنّ مصداق النجاسة بهذا المعنى في نظر الشارع غير ما هو مصداقها في نظر العرف ، فإنّهم يروه صفة ظاهريّة يعرض الماء وغيره من الألوان المكروهة والأرياح المنتنة والطعوم المستقبحة ، والشارع يراه صفة معنويّة تعرض الماء وغيره وتوجب المنع عن الاستعمال ، فإذا علمنا من طريقة الشارع ، اعتبار هذا المعنى في مصداق النجاسة في سائر الموارد يجب علينا اعتباره في كلّ موضع لم يقم قرينة على خلافه والمقام منه.

هذا مضافا إلى أنّ احتمال الاستقذار والاستكراه العرفيّين ليس ممّا ينبغي تنزيل كلام الشارع إليه ، من حيث إنّ بيان أمثال ذلك ليس من وظيفته ، بل اللائق بشأنه وبمنصب الإمامة إنّما هو بيان النجاسة بالمعنى الشرعي.

ودعوى : كون بيان غيره لأجل التنبيه على كراهة الاستعمال ، يدفعها : منع الكراهة بمجرّد ملاقاة النجاسة من دون انفعال ، لعدم قيام الدلالة عليه شرعا ، ومجرّد الاحتمال غير كاف في نهوضها ، ولا يعارض الدلالة المعتبرة القائمة بإرادة المعنى الشرعي.

وعن وجهه الثاني : بمنع المعارضة أوّلا ، ومنع كون الرجحان في جانب المعارض ثانيا ، بل الرجحان في جانب روايات الباب لقوّة دلالتها في أنفسها لما فيها من الصراحة والظهور منطوقا ومفهوما ، واعتضادها بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، ولا مرجّح في جانب المعارض ، لكون الأصل والاستصحاب غير صالحين للترجيح ، كما ذكرناه مرارا ولا منافاة لعموم ما دلّ على طهارة الماء حتّى يعلم أنّه قذر ، لدخول المقام في غاية هذا العامّ ، بناء على أنّ العلم المأخوذ فيه غاية أعمّ من الشرعي ، والأخبار المقامة على النجاسة علم شرعي.

فيبقى إعراض الأصحاب عن العمل بالأخبار المعارضة مع كثرتها على ما توهّمه الذاهب إليها موهنا فيها ، كاشفا عن قصور فيها سندا أو دلالة أو هما معا ، وتمام الكلام في منع نهوضها دليلا على عدم الانفعال ، يأتي عند ذكر الاحتجاج بها.

وعن السادس : بمنع كون قضيّة المفهوم كما ذكر ، بل هو قضيّة معقولة لو عبّر عنها باللفظ لعبّر بقولنا : « إذا لم يكن الماء قدر كرّ ينجّسه كلّ شي‌ء من النجاسات » وتحقيق


القول فيه مع الدليل عليه في الاصول ، ومجمل ذلك : أنّ مفهوم المخالفة كائنا ما كان يعتبر بينه وبين منطوقه الوحدة والمطابقة من جميع الجهات الّتي منها الكمّ ، إلّا جهتي الإيجاب والسلب وموضوعيهما ، وكما أنّ في منطوق قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١) عموما من جهات أربع :

الأوّل : في الماء ، والثاني : في الشي‌ء ، وهذان عمومان أفراديّان ، والمعنى : كلّ فرد من أفراد الماء ، وكلّ فرد من أفراد الشي‌ء المنجّس ، والثالث : في قدر الكرّ ، والرابع : في لم ينجّسه ، وهذان عمومان أحواليّان ، فالأوّل منهما في كيفيّات مقادير الكرّ ومحالّ وقوعه وأنحاء شكله ، والثاني في كيفيّات الملاقاة من التساوي والاختلاف ، تسنّما أو انحدارا ، وورود النجاسة على الماء أو ورود الماء على النجاسة ، وأمثال ذلك ، ممّا يستفاد من النسبة ، فكذلك يجب أن يعتبر هذا العموم في جانب المفهوم أيضا من جميع الجهات المذكورة ، ولا ينافي العموم من الجهة الأخيرة في المفهوم كون عموم الشي‌ء في جانب المنطوق وضعيّا ، لكونه نكرة في سياق النفي ، والوضع منتف عنه في جانب المفهوم ، لأنّ انتفاء الوضع لا يوجب انتفاء ما يقوم مقامه ، كما في المجازات وغيرها ، وقد قامت القرينة العرفيّة بل العقليّة القطعيّة على اعتبار العموم في جانب المفهوم أيضا ، غايته أنّه عموم معنويّ حيث لا معبّر له في الكلام ، ولعلّه صار منشأ لمزالّ بعض الأقدام ، وكأنّه غفلة عن قضيّة السببيّة ، أو الملازمة المطلقة الّتي يستحيل معها تحقّق المسبّب بدون السبب ، أو اللازم بدون الملزوم ، وإلّا لما كان السبب سببا ولا الملزوم ملزوما وقد فرضنا خلاف ذلك.

ومن أجل ما ذكر نحكم على من أنكر العموم في مفهوم يكون منطوقه عامّا ـ ولو من جهة الإطلاق والسكوت عن التقييد في معرض البيان ـ بأنّ مآله إلى إنكار أصل الحجّيّة ، مع أنّه يعدّ نفسه من أهل القول بها ، ولا يخفى ما في هاتين الدعويين من التهافت الواضح ، وهذا ليس بعادم النظير ، بعد ما كان مبناه على الغفلة عن حقيقة الحال ، والله العالم في جميع الأحوال.

وبقي الكلام في حجّة القول بعدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة ، وقد احتجّ العلّامة

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.


له في المختلف ، بل حكى عن ابن أبي عقيل الاحتجاج بأنّه : « قد تواتر عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام « أنّ الماء طاهر لا ينجّسه إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته » ، ولأنّه سئل عليه‌السلام عن الماء النقيع والغدير وأشباههما ، فيه الجيف والقذر ، وولوغ الكلاب ويشرب منه الدوابّ وتبول فيه أيتوضّأ منه؟ فقال : لسائله : « إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضّأ منه ، وإن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه واغتسل » (١).

وروي عنه عليه‌السلام في طريق مكّة أنّ بعض مواليه استقى له من بئر دلوا من ماء فخرج فيه فأرتان ، فقال : « أرقه » ، فاستقى آخر فخرج فيه فأرة فقال : « أرقه ثمّ استقى دلوا آخر فلم يخرج فيه شي‌ء فقال له : صبّه في الإناء فتوضّأ واغتسل منه وشرب » (٢).

وسئل الباقر عليه‌السلام عن القربة ، والجرّة من الماء سقط فيهما فأرة أو جرذ أو غيره فيموتون فيها ، فقال عليه‌السلام : « إذا غلب رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه ، وإن لم يغلب عليه فاشرب منه وتوضّأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة » (٣).

وذكر بعض علماء الشيعة : أنّه كان بالمدينة رجل يدخل إلى أبي جعفر محمّد ابن عليّ عليهما‌السلام ، وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيفة وكان يأمر الغلام يحمل كوزا من ماء يغسل رجليه إذا خاضه فأبصرني يوما أبو جعفر عليه‌السلام فقال : « إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا طهّره فلا تعد منه غسلا » (٤).

وهذه الأحاديث عامّة في القليل والكثير ، والأخبار الدالّة على الكثير مقيّدة ، ولا يجوز أن يكونا في وقت واحد للتنافي بينهما ، بل أحدهما سابق ، فالمتأخّر يكون ناسخا والمتأخّر هنا مجهول ، فلا يجوز العمل بأحد الخبرين دون الآخر ، ويبقى التعويل على الكتاب الدالّ على طهارة الماء مطلقا ، وأيضا ليس القول بنجاسة الماء الطاهر بمخالطته للنجاسة بأولى من القول بطهارة النجس لملاقاته الماء الطاهر ، مع أنّ الله تعالى جعل الماء مزيلا للنجاسة » (٥).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠ و ٤١ ح ١١١ و ١١٢ نقلا بالمعنى.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ح ٢٤ مع اختلاف يسير.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٨ نقلا بالمعنى.

(٤) راجع المختلف ١ : ١٧٨.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.


والجواب عن ذلك : بمنع الصغرى والكبرى معا.

أمّا الأوّل : فلأنّ التنافي الّذي بينهما على تقدير كونهما في وقت واحد ، إن اريد به ما يكون كذلك في الظاهر والواقع فالملازمة ممنوعة ؛ ضرورة : أنّ العامّ إنّما يقتضي العموم معلّقا على عدم ورود ما يكشف عن عدم اعتبار المتكلّم لعمومه وهو الخاصّ ، ومعه لا اقتضاء فيه للعموم واقعا ، فلا تنافي بينه وبين الخاصّ المخالف له واقعا ، كما يشهد به العرف والاعتبار من غير فرق في ذلك بين ورودهما في وقت واحد أو في وقتين مع تأخّر الخاصّ أو تقدّمه ـ كما قرّر في محلّه ـ بل الواجب في الجميع حمل العامّ على الخاصّ ، وجعل الخاصّ بيانا له وقرينة كاشفة عمّا أراده المتكلّم منه.

وإن اريد به ما يكون كذلك في الظاهر فقط فهو غير قادح في الحمل بل شرطه المحقّق له ، ولا يقتضي العدول منه إلى النسخ ليعتبر فيه العلم بالتاريخ وتأخّر الناسخ عن المنسوخ ، كيف ولو صلح ذلك مانعا لجرى في احتمال النسخ أيضا ، ولكن بالنسبة إلى الأزمان من حيث إنّ الناسخ في الحقيقة بيان لانتهاء الحكم ، وقد اقتضى دليل الأصل بظاهر إطلاقه أو عمومه دوامه واستمراره ، كما هو من شرائط النسخ المقرّرة في محلّه.

وأمّا الثاني : فلأنّ النسخ بعد انقطاع الوحي ممّا لا معنى له ، ومع الغضّ عن ذلك فانقطاع اليد عن التعويل على أحد الخبرين ـ لعدم إمكان معرفة الناسخ من المنسوخ ـ موجب لانقطاع اليد عن عموم الكتاب أيضا ، بناء على ما عليه بعض المحقّقين من جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، فإذا احتمل عمومات الأخبار لكونها منسوخة بمقيّد أخبار الكرّ كان ذلك الاحتمال قائما في الكتاب الدالّ على طهارة الماء مطلقا ، بل لا يعقل فيه البقاء على العموم مع كون ذلك الحكم في الواقع منسوخا ، وقضيّة ذلك عدم جواز التعويل على الكتاب أيضا ، بل قضيّة إناطة التوقّف بالنسبة إلى النوعين من الأخبار بالجهل بالمتأخّر أن لا يتوقّف في منسوخيّة الكتاب ؛ لتأخّر الخبر المقيّد عنه لا محالة ، ومعه يتعيّن عمومات الأخبار ؛ لكونها منسوخة حذرا عن تعدّد النسخ كما لا يخفى ، وقضيّة ذلك تعيّن العمل على المقيّد وهو المطلوب.

وأمّا ما ذكره في العلاوة ، ففيه : أنّ المصير إلى نجاسة الماء الطاهر بمخالطته للنجاسة ليس لمجرّد التشهّي وهوى النفس ، ليتوجّه إليه منع كونه أولى من المصير إلى طهارة


النجس لملاقاة الماء الطاهر ، بل هو من جهة دلالة الشرع عليه بأنحائها المختلفة من الصراحة والظهور ، منطوقا ومفهوما وسياقا ونحو ذلك ، وعليه يكون ذلك هو الباعث على الأولويّة ، وليس مثله موجودا في جانب العكس ؛ لاعتراف الخصم بأنّ كلّ ما فيه من الأخبار لا يكون إلّا عمومات أو مطلقات ، ولا ريب أنّ الاولى قابلة للتخصيص والثانية للتقييد.

وأمّا ما في العلاوة الاخرى : من أنّ الله تعالى جعل الماء مزيلا للنجاسة ، إن اريد به ما هو الحال في غسل الثياب وغيرها من المتنجّسات القابلة للتطهير ، ففيه : أنّه حكم خاصّ تعبّدي أثبته الدليل في مورده الخاصّ به فلا يقاس عليه غيره ، ما لم يكن هناك مناط معلوم أو أولويّة قطعيّة أو عرفيّة ، وإن اريد به ما يكون كذلك مطلقا حتّى بالقياس إلى المتنازع فيه فهو أوّل المسألة كما لا يخفى ، فيكون التعويل عليه مصادرة بيّنة.

وعن المحدّث الكاشاني الذاهب إلى عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة الاحتجاج بوجوه :

أوّلها : ما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الماء يطهّر ولا يطهّر » (١).

حيث قال ـ في الوافي في شرح الحديث ـ : « إنّما لا يطهّر لأنّه إن غلب على النجاسة حتّى استهلكت فيه طهّرها ولم ينجّس حتّى يحتاج إلى التطهير ، وإن غلبت عليه النجاسة حتّى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة ولم يقبل التطهير إلّا بالاستهلاك في الماء الطاهر ، وحينئذ لم يبق منه شي‌ء » (٢) انتهى.

ومحصّل الاحتجاج : أنّ النفي في السالبة إنّما هو من جهة انتفاء الموضوع ، وذلك من جهة أنّ الماء إمّا يستهلك فلا ماء ، أو يوجب الاستهلاك فلا ينجّس ، فليس له حالة يكون فيها باقيا على صدق اسم المائيّة عليه وهو نجس ، حتّى يحتاج إلى تطهير يصدق عليه أنّه تطهير للماء ، وهذا المعنى ممّا يستفاد من النفي فيكون دليلا على أنّ الماء بما هو ماء لا ينجّس.

وفيه : مع تطرّق القدح في السند كما لا يخفى ، منع دلالته على ما ذكر ، كيف وأنّه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٥ ـ ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ ٦ ـ الكافي ٣ : ١ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٥ / ٦١٨ ـ المحاسن : ٥٧ / ٤.

(٢) الوافي ٦ : ١٨.


يفضي إلى إنكار تنجّسه بالتغيّر أيضا ، ودعوى : أنّ التغيّر ممّا لا يتأتّى إلّا باستهلاك الماء في النجاسة ، يدفعها : البداهة القاضية بأنّ الاستهلاك موضوع آخر مغاير لموضوع التغيّر ، فهو حال التغيّر ماء ونجس فيحتاج إلى التطهير ، فحمل الرواية على المعنى المذكور إخراج لها إلى الكذب ، مع أنّه قد سبق منّا (١) في معنى الرواية محامل كثيرة ظاهرة لا معنى معها لتكلّف الحمل على المعنى المذكور ، ولو سلّم عدم ظهورها فلا يسلّم ظهور هذا المعنى أيضا ، ومعه يكون الرواية سبيلها سبيل المجملات فيخرج به عن عداد ما يعتبر في الاستدلالات.

وثانيها : أنّه لو كان معيار نجاسة الماء وطهارته نقصانه عن الكرّ وبلوغه إليه ، لما جاز إزالة الخبث بالقليل منه بوجه من الوجوه مع أنّه جائز بالاتّفاق ؛ وذلك لأنّ كلّ جزء من أجزاء الماء الوارد على المحلّ النجس إذا لاقاه كان متنجّسا بالملاقاة ، خارجا عن الطهوريّة في أوّل آنات اللقاء ، وما لم يلاقه لم يعقل أن يكون مطهّرا ، والفرق بين وروده على النجاسة وورودها عليه ـ مع أنّه مخالف للنصوص ـ لا يجدي ؛ إذ الكلام في ذلك الجزء الملاقي ولزوم تنجّسه ، والقدر المستعلي لكونه دون مبلغ الكرّ لا يقوى على أن يعصمه بالاتّصال عن الانفعال ، فلو كانت الملاقاة مناط التنجيس لزم تنجّس القدر الملاقي لا محالة فلا يحصل التطهير.

وأمّا ما تكلّفه بعضهم من ارتكاب القول بالانفعال هناك من بعد الانفصال عن محلّ النجاسة فمن أبعد التكلّفات ، ومن ذا الّذي يرتضي القول بنجاسة الملاقي للنجاسة بعد مفارقته عنها وطهارته ـ بل طهوريّته ـ حال ملاقاته لها برطوبة.

وفيه : أنّ الأحكام التعبّديّة الثابتة في الشريعة من جهة الضرورة لا تدفع بالاستبعادات العقليّة ، ولا تقابل بالاستغرابات الذوقيّة خصوصا مع ما اشتهر فيما بينهم من أنّ مبنى شرعنا على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتّفقات ، مع إمكان أن يقال : بمنع كون استناد الطهارة إلى نفس الماء وأنّه علّة تامّة له ، بل التطهّر حقيقة يحصل بإخراج أجزاء النجاسة عن المحلّ أو إخراج أثرها عنه ، ولا يتأتّى ذلك إلّا بواسطة الماء ؛ حيث إنّه إذا صبّ على المحلّ ما يحيط منه عليه ويستولي على أجزاء النجاسة

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٥٠.


الواصلة إليه أوجب إخراجه عنه بالعصر ، وما في معناه فيما لا يقبل العصر ، خروج أجزاء النجاسة عنه فيطهّر ، ولا ينافيه الحكم عليه بكونه مطهّرا ، لأنّه هو الموجب لتحقّق ما هو مناط التطهير في الحقيقة.

وممّا يؤيّد ذلك اعتبار العصر ونحوه في الغسل ، وأنّه لو كان المحلّ ممّا يمكن فيه عزل أجزاء النجاسة عنه بغير توسّط ماء كان طاهرا ، كما لو كان عينا جامدة والنجاسة عينيّة يمكن إلقاؤها مع ما يكتنفها من المحلّ.

هذا مع ما اجيب عنه بالنقض بأحجار الاستنجاء ، فإنّ الأصحاب اوجبوا فيها الطهارة وحكموا بأنّ النجس منها لا يطهّر ، مع أنّها تنجّس حال الاستعمال بمجرّد الملاقاة ، ولم يقل أحد بكون نجاسة هذه مانعة عن حصول طهارة المحلّ بها ، ونحوه الكلام في مسألة تطهير الأرض.

وثالثها : أنّ اشتراط الكرّ مثار الوسواس ، ولأجله شقّ الأمر على الناس ، يعرفه من يجرّبه ويتأمّله ، وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك لو كان شرطا لكان أولى المواضع بتعذّر الطهارة مكّة والمدينة المشرّفتين ؛ إذ لا يكثر فيها المياه الجارية ولا الراكد الكثير ، ومن أوّل عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آخر عصر الصحابة لم ينقل واقعة في الطهارات ، ولا سؤال عن كيفيّة حفظ المياه عن النجاسات ، وكانت أواني مياههم تتعاطاها الصبيان والإماء الّذين لا يتحرّزون من النجاسات ، بل الكفّار كما هو معلوم لمن تتبّع.

وفيه : أنّ هذا ممّا لا يفهم معناه ، فإن اريد به أنّ إناطة حفظ الماء عن الانفعال بالكرّيّة ممّا يوجب الأمرين لما يكثر في المياه من الشكّ في الكرّيّة ، ففيه : مع أنّه منقوض بكافّة الموازين الشرعيّة الّتي انيط بها الأحكام الكلّيّة ، كإناطة حلّية اللحوم وحرمتها بالتذكية والعدم ، وإناطة حلّ الأموال وحرمتها بالملكيّة والعدم ، وإناطة الملكيّة بأسبابها المعهودة إلى غير ذلك ممّا لا يحصى عددا ، أنّ هذا الشكّ وما يترتّب عليه من الأمرين بعد تسليم الملازمة يرتفع بملاحظة الضوابط الكلّيّة ، والقواعد المقرّرة في الشريعة مرجعا للمكلّف في مظانّ الشكّ والشبهة من الاصول العمليّة والاجتهاديّة ، فإنّ هذا الشكّ غير خال عن كونه ابتدائيّا أو مسبوقا بمعلوميّة الكرّيّة أو معلوميّة القلّة ، ولا إشكال في شي‌ء من الصور.

أمّا الاولى : فلتعيّن الرجوع حينئذ إلى الأصل العامّ المستفاد عن عمومات الطهارة ،


وخصوص الخبر المستفيض « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (١) كما أسّسناه وشيّدناه ، وبالغنا في إحكامه بتتميم الاحتجاج عليه ، وعلى الأخيرتين : يرجع إلى الاستصحاب الجاري فيهما ، هذا كلّه لو اريد بالوسواس ما يحصل للمعتدلين من المكلّفين ، وأمّا غيرهم فوسواسهم إنّما ينشأ من قبل الشيطان فلا يكون منشأ للأثر.

وإن اريد به أنّ من الأناسي طوائف لا يتمكّنون عن الكرّيّة ، ولا ما هو بمنزلتها لعدم وجود المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة عندهم ، فيشقّ عليهم الأمر في حفظ المياه القليلة عن الانفعال ، ومعه يشكل ويعسر عليهم الأمر في سائر معايشهم.

ففيه : بعد تسليم مثل هذا الفرض ، إنّا لا نعقل إشكالا ولا عسرا في حفظ المياه حينئذ عن الانفعال ، كما أنّهم يحفظون المآكل والملابس وغيرها عنه ، ومعه لا مجال للوسواس أصلا ، سيّما بعد ملاحظة ما أوسع الله عليهم من إناطة النجاسة بالعلم بها واكتفائه في طهارة كلّ شي‌ء بمجرّد عدم العلم بالقذارة ، مع أنّ لزوم محذور في بعض الفروض النادرة لا يقضي بنقض القاعدة الكلّيّة ، المنوطة بمصالح عامّة ملحوظة فيها حال الغالب أو الأغلب ، وإلّا فكم من هذا القبيل ، فيلزم حينئذ هدم جميع القواعد والضوابط الشرعيّة ، مع أنّ ذلك لو صلح نقضا لكان وروده على المستدلّ أوضح ، وقضى بعدم اعتبار الكرّيّة بالكلّيّة ، وستعرف عنه فيما يأتي من تأويله لأخبار الكرّ أنّه يعتبرها ميزانا لمعرفة التغيّر وعدمه بالنجاسة المعتادة حيثما لم يكن ظاهرا عند الحسّ.

وأنت خبير : بأنّ ذلك أكثر إثارة للوسواس ، وأشدّ مدخليّة في صعوبة الأمر على الناس ، لكثرة ما يتّفق لهم من الشكّ في التغيّر عند عدم ظهوره للحسّ ، فيكون نتيجة كلامه إنكارا لما ثبت بضرورة من المذهب ـ بل الدين ـ نظرا إلى أنّ اعتبار الكثرة في الماء في الجملة ممّا اتّفق عليه الفريقان ، غاية الأمر وقوع الخلاف بينهما في تقدير تلك الكثرة ، حيث إنّ الأصحاب رضوان الله عليهم قدّروها بالكرّيّة أخذا برواياتهم المستفيضة ، وغيرهم يقدّرونها بطرق اخر ممّا تقدّم إليها الإشارة.

وأمّا ما ذكره في تأييد هذا الكلام : « من أنّه لم ينقل من أوّل عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آخر الصحابة واقعة في الطهارات ، ولا سؤال عن كيفيّة حفظ المياه من النجاسات » ، فهو

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ ، ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ ـ ٦٢١.


من أعجب ما يذكر في هذا المقام ، كيف وكم من هذا القبيل فيما بين الأحكام الثابتة في الشريعة ، ولا سيّما ما اختصّ منها بالفرقة المحقّة ، وأيّ ملازمة بين ثبوت حكم كلّي ثمّة ونقل واقعة أو وقائع في مراعاة ذلك الحكم إلينا ، فإنّ أمثال هذه الوقائع كثيرا ما لا تنقل اقتناعا ببداهة الحكم فيها ، كما أنّها قد لا تنقل لمعاندة المعاندين ومكايدة أعداء الدين ، الّذين كان هممهم مصروفة في إخفاء الشريعة المطهّرة ، وهدم أساس القوانين النبويّة ، كما هو معلوم من طريقتهم في مواضع متكثّرة ، مع أنّ العبرة بنقل أصل الحكم بعنوانه الكلّي ، وقد نقل بلسان أئمّتنا سلام الله عليهم الّذي هو لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ كلّ واقعة لو فرض نقلها لتطرّق إليها التأويل ، كما تطرّق إلى نقل أصل الحكم المتحقّق بما تقدّم من وجوه البيان.

ورابعها : أنّ ما يدلّ على المشهور إنّما يدلّ بالمفهوم ، والمفهوم لا يعارض المنطوق ولا الظاهر النصّ ، مع أنّ أقصى ما يدلّ عليه هذا المفهوم وتنجّس ما دون الكرّ بملاقاة شي‌ء ما ، لا كلّ نجاسة فيحمل على المستولية جمعا ، فيكون المراد ما لم يستول عليه شي‌ء ، أي لم يظهر فيه النجاسة ، فيكون تحديدا للقدر الّذي لا يتغيّر بها في الأغلب ، ثمّ عنه : « أنّه حمل الأخبار المتضمّنة للنهي عن الشرب والوضوء ممّا لاقته النجاسة على التنزّه والاستحباب ».

ولا يخفى ما في كلّ هذه الكلمات ، فإنّ دلالة المفهوم من الدلالات المعتبرة في العرف والشرع ، والمناقشة فيها بأنّ أقصاها اقتضاء التنجّس بشي‌ء ما لا كلّ شي‌ء ، قد عرفت ما فيها سابقا ممّا بيّنّا إجمالا ، ودعوى : أنّ المفهوم لا يعارض المنطوق واضحة الفساد ، بعد ملاحظة أنّ المفهوم كثيرا ما يعارض المنطوق ويقدّم عليه ، ولا سيّما المقام الّذي وقع فيه التعارض بين ظاهر العامّ والجملة الشرطيّة ، ومن المقرّر في محلّه أنّ الجملة الشرطيّة أظهر في اعتبار المفهوم من العامّ في إرادة العموم ، فيخصّص به العامّ جدّا.

هذا على فرض تسليم ما ادّعى دلالته على عدم الانفعال عموما ، وإلّا فيتّجه المناقشة في أصل الدلالة بالنسبة إلى أكثرها ، أو كونها على جهة العموم ، فلا منطوق لأكثر تلك الأخبار بحيث يكون منافيا لمفهوم أخبار الانفعال ، مع توجّه المنع إلى دعوى انحصار تلك الأخبار في كون دلالتها مفهوميّة ؛ لما عرفت من أنّ أكثرها يدلّ


على الانفعال منطوقا بعنوان الصراحة أو الظهور ، والعذر في توجيه ما اشتمل منها على الأوامر أو النواهي بحملهما على التنزّه والاستحباب قد عرفت ما فيه ، من أنّهما محمولان من جهة قرينة المقام على معنى آخر غير الوجوب والتحريم والاستحباب والكراهة وهو الإرشاد ، ومعه يثبت المطلب.

هذا مع ما في دعوى كون أخبار المقابل دالّة على عدم الانفعال من باب المنطوق على الإطلاق من المنع الواضح ، لما سيتّضح من أنّ جملة من ذلك إنّما يدلّ على الحكم مفهوما ، وقضيّة ذلك ـ مضافا إلى ما سبق ـ مقابلة مناطيق تلك الأخبار لمناطيق أخبار الانفعال ومقابلة مفاهيمها لمفاهيمها ، ولا ريب أنّ أخبار الانفعال في مناطيقها ومفاهيمها معا مقدّمة سندا ومتنا على ما يقابلها منطوقا ومفهوما.

أمّا تقدّمها سندا : فبحكم أنّ الموهون منها بالضعف والإرسال يتقوّى بالعمل ، فضلا عمّا هو المعتبر منها بالصحّة والموثّقيّة والحسن ، كما أنّ المعتبر من الطرف المقابل يتوهّن بالإعراض ، ويسقط به عن درجة الاعتبار ، فكيف بما هو غير معتبر منه في حدّ ذاته.

وأمّا تقدّمها متنا : فبحكم المرجّحات الداخليّة من جهة الدلالة وغيرها ، والخارجيّة باعتبار المضمون وجهة الصدور ، وتوضيح ذلك يحتاج إلى ذكر تلك الأخبار مفصّلة والتكلّم عليها دلالة وغيرها ، فنقول : إنّها تشتمل على طوائف :

الطائفة الاولى : ما يدلّ بمنطوقه على المطلب في الماء والنجاسة بعنوانهما الكلّي كالنبويّ المتقدّم ، المدّعى تواتره « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (١) والخبر المستفيض المرويّ في الكتب الأربعة بطرق متعدّدة « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (٢) وصحيحة محمّد بن حمران وجميل عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ الواردة في باب التيمّم من زيادات التهذيب ـ أنّهما سألاه عن إمام قوم أصابته في سفر جنابة وليس معه من الماء ما يكفيه في الغسل أيتوضّأ ويصلّي بهم؟ قال : « لا ولكن يتيمّم ويصلّي ، فإنّ الله تعالى جعل التراب طهورا ، كما جعل الماء

__________________

(١) عوالي اللآلي ٣ : ٩ ح ٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ الكافي ٣ : ١ / ٣ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢١.


طهورا » (١) وصحيحة داود بن فرقد ـ في باب استنجاء زيادات التهذيب ـ المرويّة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة من البول ـ إلى قوله عليه‌السلام ـ : وجعل لكم الماء طهورا إلخ » (٢).

والجواب عن هذه الجملة تارة على الجملة ، واخرى على التفصيل.

أمّا الأوّل : فأيّ عاقل يرضى بالعمل على تلك الأخبار الّتي هي أعمّ عمومات ما ورد في الماء ، ورفع اليد عن أوّل أنواع ما تقدّم من أخبار الانفعال الّذي تضمّن نصوصا صريحة لا سبيل إلى إبداء احتمال الخلاف فيها ، وإن اختصّ بموارد خاصّة من النجاسات كالكلب والنبيذ ، وهل هذا إلّا الخروج عن جادّة الإنصاف ، والتشبّث بذريعة الاعتساف ، بل هو في الحقيقة يرجع إلى التعمّد على مخالفة الحجّة ، على ما هو دأب أهل الخلاف الملتزمين بإبداء القول على خلاف قول الحجّة.

وأمّا الثاني : فلمنع دلالة أخبار هذه الجملة على خلاف ما يقتضيه أخبار الانفعال ، أمّا في الخبرين الأخيرين فلوضوح كون الإطلاق فيهما مسوقا لبيان حكم آخر وهو قيام وصف المطهّريّة بالماء بحسب خلقته الأصليّة ، وأمّا عدم قبوله الانفعال لعارض فلا تعرّض فيهما لبيانه أصلا ، ولذا نقول : إنّه لا تنافي بينهما وبين أخبار التغيّر الموجب للانفعال ، نعم لو ثبت أنّهما يدلّان على أنّ الطبيعة المائيّة علّة تامّة للمطهّريّة اتّجه القول بالدلالة على الحكم المذكور ، ولكنّه يدفعه : منع الدلالة أوّلا ، بل غاية ما فيه الدلالة على أنّها مقتضية لها فلا ينافيه مجامعة المانع الرافع لما هو مقتضاها ، وكونها منقوضة ثانيا بالتغيّر الموجب لزوال الوصف عنه المانع عن حصوله ما دام باقيا ، فلو سلّمنا فيها الدلالة ظاهرا فكشف عن خلافها القاطع المثبت للتغيّر عنوانا مقتضيا للتنجّس المنافي للوصف المذكور.

وأمّا في الثاني : فلعدم تعرّض فيه أيضا لبيان حكم الانفعال وعدمه.

وتوضيح ذلك : أنّ الطهارة في قوله : « كلّ ماء طاهر » إن اريد بها الحكم الواقعي الإلهي المجعول لطبيعة الماء ، أو الثابت فيه بحسب الواقع فهو لا يغيّا بالعلم بالقذارة ؛ لأنّها من الأحكام الّتي لا يدخل فيها العلم والجهل ، بل هي ثابتة لموضوعها في نفس

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٠٤ / ١٢٦٤.

(٢) التهذيب ١ : ٣٥٦ / ١٠٦٤.


الأمر سواء علم بها أو بخلافها المكلّف أو لم يعلم بهما ، فتعليق خلافها على العلم بالقذارة قرينة واضحة على عدم إرادة هذا المعنى جزما ، ولو اريد بها إعطاء حكم ظاهري فمن شأنه التعليق على العلم بالخلاف ، وهو الظاهر من الخبر فحينئذ يخرج عن إفادة عدم الانفعال رأسا ، لكونه في صدد بيان حكم لصورة الاشتباه ، وإفادة أنّ النجاسة إنّما يحكم بها مع العلم بها خاصّة ، فيكون جاريا مجرى أدلّة البراءة المعلّقة على العلم بالتكليف ، وهو ممّا لا دخل فيه لعدم الانفعال بالعارض بحسب الواقع أصلا.

فإن قلت : قضيّة ذلك دخول القليل الملاقي للنجاسة في موضوع هذا الحكم وهو الاشتباه ، ومعه يحكم عليه بالطهارة وهو المطلوب.

قلت : مع أنّه لا يلائم أصل المسألة المفروضة لمعرفة الحكم الواقعي ، يدفعه : أنّه إنّما يتّجه مع عدم قيام ما يرفع الاشتباه في خصوص المورد ، والأخبار المقامة على الانفعال من النصوص والظواهر رافعة له ، وواردة على هذا الخبر باقتضائها الخروج عن الموضوع ، فلا معارضة بينه وبينها على ما هو الحال في سائر الأدلّة المعلّقة على الجهل والاشتباه في مقابلة الاجتهاديّات الواردة عليها.

مع أنّه لو سلّمنا أنّ الخبر ورد في مقام إعطاء الحكم الواقعي ، فمفاده لا يزيد على كون الطبيعة المائيّة ملزومة للطهارة من باب المقتضي ، وهو لا ينافي مصادفة ما يوجب ارتفاعها كما يرشد إليه تعليق القذارة على العلم بها ، ولو لا الماء بطبعه قابلا لعروض النجاسة لعرى ذلك عن الفائدة بالمرّة ، وبطل به قاعدة التغيّر القائمة على حكم النجاسة.

فنقول حينئذ : إنّ القذارة المستندة إلى العلم بها لا بدّ لها من مورد والقليل الملاقي للنجاسة منه بحكم الأخبار الواردة فيه ، كما أنّ منه المتغيّر بالنجاسة ، ولا ينافيه كونها في الخبر معلّقة على العلم ، لأنّ الأخبار المذكورة علم شرعي.

لا يقال : إنّ العلم حقيقة في الواقعي ، فلا يشمل ما ذكر لكونه معنى مجازيّا للعلم.

لأنّ ذلك إنّما في موضع عدم نهوض ما يصرفه عن ظاهره من القرائن ، ولا ريب أنّ أدلّة حجّيّة أخبار الآحاد صارفة له عن ذلك ، وحاكمة على هذا الخبر بكشفها عن كون المراد بالعلم ما يعمّ الشرعي ، وإلّا أشكل الحال بالقياس إلى التغيّر ، حيث إنّ أدلّته ليست إلّا الأخبار ، ودعوى : أنّ أخبار التغيّر مفيدة للعلم الواقعي لكثرتها والإجماع على


العمل بها ، يعارضها : أنّ أخبار القليل الملاقي أيضا كذلك لكثرتها ، وصراحة دلالة جملة منها ، وقيام العمل بها مع شذوذ المخالف وضعف المعارض.

وأمّا في الأوّل : فلأنّ النظر في الاستدلال إن كان إلى إطلاق الماء فهو قابل للتقييد فيقيّد بما دون القليل جمعا ، وإن كان إلى عموم النكرة المنفيّة فهي قابلة للتخصيص بمتّصل ومنفصل ، وكما أنّها مخصّصة بما معها من المتّصل ـ وفاقا من الخصم ـ فكذلك تخصّص بالمنفصل جمعا بضرورة من العرف واللغة ، ومعه لا يبقى فيه دلالة أصلا.

الطائفة الثانية : روايات وردت في موارد خاصّة من الماء أو النجس أو هما معا تدلّ بمنطوقها أو مفهومها على المطلب عموما ، كحسنة محمّد بن ميسّر ـ المرويّة في الكافي والتهذيب ـ قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، ويريد أن يغتسل منه ، وليس معه إناء يغترف به ، ويداه قذرتان؟ قال : « يضع يده ويتوضّأ ويغتسل ، هذا ممّا قال الله عزوجل : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) (٢).

وصحيحة أبي خالد القمّاط ، أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ، في الماء يمرّ به الرجل وهو نقيع فيه الميتة الجيفة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضّأ منه ، وإن لم يتغيّر ريحه وطعمه فاشرب وتوضّأ » (٣).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، إنّه سئل عن الماء النقيح تبول فيه الدوابّ؟ فقال : « إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه ، وإن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه ، وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه » (٤).

وصحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم فلا توضّأ ولا تشرب » (٥).

وموثّقة سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يمرّ بالماء

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٢ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٢ التهذيب ١ : ١٤٩ / ٤٢٥.

(٢) الحج : ٧٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١١٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١١١ ـ الاستبصار ١ : ٩ / ٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ و ٦٢٤.


وفيه دابّة ميتة قد أنتنت؟ قال : « إن كان النتن الغالب على الماء فلا تتوضّأ ولا تشرب » (١). وصحيحة شهاب بن عبد ربّه ، قال : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام أسأله فابتدأني فقال : « إن شئت يا شهاب فسل ، وإن شئت أخبرتك ، قال : قلت أخبرني ، قال : جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضّأ أو لا؟ قلت : نعم ، قال : فتوضّأ من الجانب الآخر إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن ، وجئت لتسأل عن الماء الراكد من البئر ، قال : فما لم يكن فيه تغيّر أو ريح ، قلت : فما التغيّر؟ قال عليه‌السلام : الصفرة ، فتوضّأ منه وكلّما غلب كثرة الماء فهو طاهر » (٢).

وصحيحة عبد الله بن سنان قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا جالس ـ عن غدير أتوه وفيه جيفة؟ فقال عليه‌السلام : « إذا كان الماء قاهرا ولا يوجد فيه الريح فتوضّأ » (٣).

وصحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير ، يستقى به الماء من البئر ، أيتوضّأ من ذلك الماء؟ قال : « لا بأس » (٤).

وصحيحة هشام بن سالم إنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن السطح يبال عليه : فيكفّ فيصيب الثوب؟ فقال : « لا بأس به ، ما أصابه من الماء أكثر منه » (٥) ، بناء على حجّيّة العلّة المنصوصة المقتضية لاطّراد الحكم في جميع موارد جريانها ، واعتبار الأكثريّة في موضع النصّ بالعلّيّة.

وموثّقة سماعة قال : سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء؟ قال : « يتوضّأ من الناحية الّتي ليس فيها الميتة » (٦).

وموثّقة أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّا نسافر فربّما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية ، فيكون فيه العذرة ، ويبول فيه الصبيّ ، وتبول فيه الدابّة وتروث؟ فقال : « إن عرض في قلبك شي‌ء فقل هكذا ـ يعني افرج الماء بيدك ـ ثمّ توضّأ ، فإنّ الدين ليس بمضيّق ، وإنّ الله تعالى يقول : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥ و ٦٢٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٦١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ بصائر الدرجات ٢٥٨ / ١٣.

(٣) الوسائل ١ : ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٤.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٠ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الفقيه ١ : ٧ / ٤.

(٦) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٥.


حَرَجٍ) » (١) (٢).

ورواية العلاء بن الفضيل قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض يبال فيها؟ قال : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٣).

ورواية عليّ بن حمزة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الساكن والاستنجاء منه؟ قال : « توضّأ من الجانب الأخر ، ولا توضّأ من جانب الجيفة » (٤).

ورواية عثمان بن زياد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أكون في السفر فآتي الماء النقيع ويدي قذرة فأغمسها في الماء؟ قال : « لا بأس » (٥).

ورواية إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن أبيه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى الماء فأتاه أهل الماء ، فقالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لها ما أخذت بأفواهها ، ولكم سائر ذلك » (٦).

وما رواه الصدوق مرسلا عن الصادق عليه‌السلام أنّه سئل عن غدير فيه جيفة؟ فقال عليه‌السلام : « إن كان الماء قاهرا لها لا يوجد الريح منه فتوضّأ منه واغتسل » (٧).

ورواية محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لو أنّ ميزابين سالا ميزاب ببول وميزاب بماء ، فاختلطا ثمّ أصابك ما كان به بأس » (٨).

ورواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت رواية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة : قال : « إذا تفسّخت فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضّأ وصبّها ، وإن كان غير متفسّخ فاشرب منه وتوضّأ واطرح الميتة إذا أخرجتها طريّة ، وكذلك الجرّة ، وحبّ الماء ، والقربة ، وأشباه ذلك من أوعية الماء ».

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٦.

(٢) الحج : ٧٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١٥ / ١٣١١.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٢ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٤.

(٥) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٦ ـ التهذيب ١ : ٣٩ / ١٠٤ و ٤١٦ / ١٣١٤.

(٦) الوسائل ١ : ١٦١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٧.

(٧) الوسائل ١ : ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ الفقيه ١ : ١٢ / ٢٢.

(٨) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٦.


قال : وقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي‌ء تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ إلّا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء » (١).

ورواية الأحول ـ المحكيّة عن الصدوق في العلل ـ قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : سل عمّا شئت فارتجّت عليّ المسائل فقال لي : « سل عمّا بدا لك ، فقلت : جعلت فداك الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الّذي استنجى به؟ فقال : لا بأس ، فسكت فقال : أو تدري ولم صار لا بأس به؟ فقلت : لا والله جعلت فداك ، فقال : إنّ الماء أكثر من القذر » (٢).

بناء على ما تقدّم إليه الإشارة من حجّيّة العلّة المنصوصة المقتضية للعموم.

والرواية المحكيّة عن كتاب دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام إنّه قال : « إذا مرّ الجنب في الماء وفيه الجيفة أو الميتة ، فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه أو ريحه أو لونه فلا يشرب منه ، ولا يتوضّأ ولا يتطهّر منه » (٣).

ولا يخفى أنّ دفع هذه الأخبار هيّن بعد المراجعة إلى أخبار الانفعال ، لكونها عمومات قابلة للتخصيص أو غيره من أنواع التأويل ، فلو قابلناها بالنوع الأوّل من أخبار الانفعال فلا ينبغي التأمّل في تعيّن تخصيصها بها ، لدلالتها الصريحة على الانفعال فيما دون الكرّ بالخصوص ، حيث تضمّنت فضل الكلب كما في خبر الفضل بن أبي العبّاس ، أو سؤره كما في خبر معاوية بن شريح ، الظاهرين بل الصريحين فيما دون الكرّ ، أو حبّ من الماء كما في خبر أبي بصير ، نظرا إلى أنّ الحبّ لا يكون إلّا أنّه يسع ما دون الكرّ أو الغالب فيه هو ذلك ، ونظيره الكلام فيما لو قابلناها من أخبار النوع الثالث بما تضمّن قوله « إذا كان الماء قدر كرّ ينجّسه شي‌ء » كما في أربعة أو خمسة من أخبار هذا النوع.

ودعوى : أنّ ذلك مفهوم وهو لا يصلح معارضا للمنطوق ، قد عرفت ما فيه من صلوحه لذلك ، وتقدّمه فيما بين الظواهر على ظاهر العامّ أو المطلق حيثما وردا في كلامين منفصلين ، مع اعتضاد المفهوم هنا بوجوه من الخارج كالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، ونقل الإجماعات في حدّ الاستفاضة ، الّتي منها : ما في محكيّ الفاضل

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٨.

(٢) علل الشرائع ١ : ٢٨٧.

(٣) دعائم الإسلام ١ : ١١٢.


الهندي في شرح القواعد (١) عن الناصريّات (٢) والانتصار (٣) والغنية (٤) والخلاف (٥) ، وقوّة احتمال التقيّة فيما يقابله من المناطيق لموافقته مذهب أكثر العامّة كما عرفت في صدر المسألة ، مع ما عرفت من أنّ جملة من الأخبار المقابلة إنّما تدلّ على مطلب الخصم مفهوما ، كما في موثّقة سماعة ورواية دعائم الإسلام ، فالمعارضة حينئذ وإن كانت بين المفهومين إلّا أنّ الأوّل يقدّم لكونه خاصّا فيخصّص به الثاني لكونه عامّا كما لا يخفى.

وأمّا لو قابلناها بالنوع الأوّل والبواقي من مفاهيم النوع الثالث ، فطريق العلاج من وجوه :

أحدها : أن يقال : إنّ أكثر أخبار هذين النوعين بين صريحة وظاهرة فيما دون الكرّ ، فيخصّص بها ما يعمّه والكرّ أيضا ، ولا يتطرّق إليها المناقشة المذكورة وأمّا المناقشة في دلالة الأوامر والنواهي الواردة فيها قد عرفت ما فيها ، مع ما عرفت في طيّ الاستدلال بها من قيام الدلالة بها من غير هذه الجهة ، مضافا إلى ما عرفت في جملة منها من الأمر بالتيمّم الّذي لا يصحّ بإجماع الفرقة إلّا مع تعذّر المائيّة عقلا أو شرعا ، مع أنّ الأمر بناء على ابتناء تماميّة الدلالة على كونهما مرادا بهما الوجوب والتحريم ـ كما هو المشهور في وجه الاستدلال ، واعترف به الخصم أيضا ـ دائر بين المجاز والتخصيص ، أو التقييد ، ومن المقرّر في محلّه أولويّة الأخيرين.

وثانيها : أن يقال : إنّ النسبة بين الطرفين من الأخبار هو التباين ، بناء على الإغماض عمّا قرّرناه في الوجه السابق ، فيرجّح أخبار الانفعال ، إمّا لأنّها أظهر دلالة ـ كما يساعد عليه الإنصاف ـ أو اعتضادها من المرجّحات الخارجيّة بما يكشف عن اعتبار دلالتها من الشهرة ونقل الإجماع وعدم تطرّق احتمال التقيّة أو ضعفه فيها ، أو لأنّها لمّا دلّت بعمومها على انفعال الكرّ أيضا بمجرّد الملاقاة فتخصّص بما دونه بالإجماع ، ومنطوق « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » الوارد في المستفيض من الأخبار ، فيرجع التعارض إلى تعارض العامّ والخاصّ المطلقين ، وقضيّة ذلك نهوض تلك الأخبار مخصّصة لأخبار الطرف المقابل ، فيحمل الحكم الوارد فيها على الكرّ ويخرج عنها ما دونه.

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٦٩.

(٢) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٤).

(٣) الانتصار : ٨٤.

(٤) غنية النزوع : (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٣٧٩).

(٥) الخلاف ١ : ١٩٢ ذيل المسألة ١٤٧.


وثالثها : أنّه بعد فرض فقد المرجّح والعجز عن الجمع يصير المسألة من باب التعادل ، وأقلّ مراتبه البناء على التساقط ، أو التوقّف والرجوع إلى الخارج من أصل ونحوه ، ولا ريب أنّ المرجع حينئذ النوع الأوّل من أخبار الانفعال ، والقسم الأوّل من مفاهيم أخبار النوع الثالث ، لبقائها سليمة عن المعارض.

وليس لأحد أن يقول : باختصاص بعض الأخبار الدالّة على عدم الانفعال بالقليل ، كحسنة محمّد بن ميسّر المشتملة على الماء القليل ، لمنع كونه مرادا به ما هو موضوع المسألة ، إذ لم يثبت فيه للشارع ولا للأئمّة عليهم‌السلام ولا أهل زمانهم اصطلاح بالقياس إليه في المعنى المعهود عند الفقهاء ، فيحمل على ما يساعده عليه العرف فيعمّ الكرّ وما زاد عليه ، وعلى فرض تسليمه أمكن دعوى ظهوره في الجاري ، كما يومئ إليه تمسّكهم في بحث الجاري بتلك الرواية على عدم انفعال القليل منه بالملاقاة ، فلو سلّم عدم الظهور فأقلّ المراتب كونه أعمّ من الجاري والراكد ، قابلا للتخصيص بالجاري ، فينتهض الأخبار المقامة على الانفعال مخصّصة لها ، لظهور أكثرها في قليل الراكد ، مع توجّه المنع إلى أصل الدلالة في جملة منها وإمكان القدح فيها ، كما في صحيحة زرارة الواردة في الحبل من شعر الخنزير ، وصحيحة هشام الواردة في إصابة الثوب ممّا يكفّ عن السطح الّذي يبال عليه ، وروايتي العلاء بن الفضيل وإسماعيل بن مسلم الواردتين في الحياض.

أمّا الاولى : فلمنع دلالتها على أنّ الماء الّذي يتوضّأ هو الّذي يستقى بالحبل المفروض ، فتكون الرواية من أدلّة عدم انفعال البئر بالملاقاة ، وعلى فرضه فيتّجه المنع إلى كون الماء المستقى ممّا لاقاه ذلك الحبل ، أو تقاطر منه فيه شي‌ء ، ولعلّ السؤال ورد لاحتمال ذلك فأجاب المعصوم عليه‌السلام بما دلّه على أنّ الاحتمال ممّا لا يوجب المنع ، وعلى فرضه فورودها مورد التقيّة احتمال ظاهر.

وأمّا الأخيرتان فلظهورهما في الكرّيّة ، لأنّ الغالب في الحياض الّتي يتّخذها الناس كونها ممّا يسع الكرّ وما زاد ، سيّما في البلاد الّتي ليس عند أهلها مياه جارية ولا غيرها ، فإنّ ديدنهم في مثل ذلك اتّخاذ الحياض لحفظ الكرّ ، الّذي يرجع إليه في تطهير النجاسات ونحوه.

وأمّا صحيحة هشام فأصل الحكم الوارد فيها ممّا لا إشكال فيه ، بل هو في مورد


هو خارج عن المتنازع ، لظهور السياق وكيفيّة السؤال في نزول المطهر وهو مطهّر غير منفعل ولو قليلا ، وأمّا التعليل الّذي هو محلّ الاستدلال فالإنصاف إنّا لا نفهم معناه ، ونظيره الكلام في رواية الأحوال الواردة في الاستنجاء ، فإنّ أصل الحكم فيها ممّا لا إشكال فيه ، لكون ماء الاستنجاء من مستثنيات القاعدة ، وتعليله بأكثريّة الماء من القذر غير مفهوم المعنى ، ولعلّ المراد بها فيهما الأكثريّة المعنويّة أي الزيادة في القوّة العاصمة ، أو أنّها حكم مخصوص بالمورد كما قيل به في المطر ، وسيلحقك زيادة بيان وتوضيح لذلك في بحث الغسالة ، عند دفع الاحتجاج بتلك الرواية على طهارة الغسالة ، وكيف كان فلو استفدنا منه شيئا ظاهرا فنحن نقول به حيث عاضده العمل ، وإلّا لا ينفكّ عن الوهن المانع عن العمل.

الطائفة الثانية : روايات وردت في موارد خاصّة بين ظاهرة في المطلب خصوصا ، وغير دالّة عليه نفيا وإثباتا ، وظاهرة في خلافه عند التحقيق في ثالثة.

منها : صحيحة ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه والسنّور أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك ، أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال عليه‌السلام : « نعم إلّا أن تجد غيره فتنزّه عنه » (١).

وفيه : أنّ التفصيل في التنزّه وعدمه بين وجدان الغير وعدمه ، وإن كان لا يلائم الانفعال ، ويقتضي كون الأمر بالتنزّه استحبابيّا مقتضيا لكراهة التوضّي ولكنّه لا يلائم تشريك الجمل والدابّة مطلقا بل السنّور في التنزّه أيضا ، ولو فرضناه مستحبّا ملازما لكراهة خلافه فالرواية بعضها يعارض بعضا ، فيضطرب معه الدلالة واعتبارها ، فتسقط عن صلاحية المعارضة لنصوص الانفعال وظواهره.

وبالجملة : فلو أخذنا منها بحكم الجواز المعلّق على عدم وجدان المقتضي للطهارة ، كانت معارضة بموثّقة أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال فيها : « ولا يشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه » (٢).

ومن هنا حملها الشيخ في التهذيب (٣) على ما بلغ الكرّ جمعا ، ولو أخذنا منها

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٤٩.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٥٠.

(٣) التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٤٩ حيث قال في ذيل الخبر : « فليس في هذا الخبر رخصة فيما ولغ ـ


بالأمر بالتنزّه المعلّق بوجدان الغير سواء كان إيجابيّا أو ندبيّا ، كانت معارضة بما ورد من الروايات في فضل السنّور وسؤر الدوابّ والغنم دالّا على عدم المنع بل المرجوحيّة أيضا (١) ، مع ما فيها من عدم صلوحها لمعارضة ما سبق من الصحاح ، وغيرها المعتضدة بالعمل وغيره ، مع ما قيل فيها ـ كما عن المصابيح (٢) ـ من المناقشة في سندها من حيث اشتماله على محمّد بن سنان الّذي ضعّفه الأكثر ، مع تصريح علماء الرجال بأنّ عبد الله بن مسكان لم يرو عن أبي عبد الله عليه‌السلام إلّا حديث « من أدرك المشعر فقد أدرك الحجّ » (٣) فتكون الرواية مرسلة ، ولا جابر لها في إرسالها ، فيكون عدم صلوحها للمعارضة أوضح.

ومنها : صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال : كتبت إلى من يسأله عن الغدير تجتمع فيه ماء السماء ، ويستقى فيه من بئر ، فيستنجي فيه الإنسان من بول ، أو يغتسل فيه الجنب ، ما حدّه الّذي لا يجوز؟ قال : « فكتب : لا تتوضّأ من مثل هذا إلّا من ضرورة إليه » (٤).

وفيه : مع ما فيها من الإضمار الموجب لإجمال الضمير ، لتردّده بين كونه للمسئول أو المكتوب إليه السائل ، مع تردّد المسئول بين الحجّة وغيره ، أنّه استدلال بما هو خارج عن المتنازع ، لما يأتي من استثناء ماء الاستنجاء من قاعدة الانفعال ، فالسؤال إنّما وقع عن جواز التطهير بمثله ، وبما يغتسل فيه الجنب والجواب مطابق له ، ولا منافاة في المنع عن التطهير بما لا يكون نجسا تعبّدا من الشارع ، مع إمكان حمل الضرورة على التقيّة ، واحتماله احتمالا غير خفيّ فلا ينافي التفصيل بينها وبين غيرها للانفعال لو قلنا به في ماء الاستنجاء.

ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال عليه‌السلام : « لا ، إلّا أن يضطرّ إليه » (٥).

وفيه : أنّه على القول بنجاسة أهل الكتاب كان حملها على التقيّة احتمالا ظاهرا ،

__________________

ـ فيه الكلب ، لأنّ المراد به إذا زاد على الكرّ الّذي لا يقبل النجاسة » الخ.

(١) راجع الوسائل ١ : ٢٢٧ أحاديث ب ٢ من أبواب الأسآر ح وأيضا أحاديث ب ٥ من تلك الأبواب.

(٢) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة ٣٣.

(٣) الوسائل ١٤ : ٤١ ب ٢٣ من أبواب الوقوف بالمشعر ح ١٣ ـ ١٤.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٥ ـ التهذيب ١ : ١٥٠ / ٤٢٧.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٢١ ب ١٤ من أبواب النجاسات ح ٩ ـ التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٦٤٠.


كما يرشد إليه التفصيل بين الاضطرار وغيره ، بناء على إرادة التقيّة منه بقرينة أنّه لولاه مع فرض عدم الانفعال لما كان لمنعه عن التوضّي في صورة عدم الاضطرار وجه ، سواء كان تحريميّا أو تنزيهيّا كما لا يخفى.

وعلى القول بطهارتهم كانت الرواية من أدلّته فكانت خارجة عن المتنازع.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال عليه‌السلام : « اغسله في المركن مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (١) ، و « المركن » على ما عن الجوهري الإجانة الّتي تغسل فيها الثياب.

وفيه أوّلا : منع تعرّض الرواية لبيان حكم الماء من حيث إنّه ينفعل أو لا ينفعل ، وإنّما هي مسوقة لبيان حكم البول من حيث الاكتفاء بغسل الثوب عنه مرّة واحدة إذا غسل في الجاري ولزوم التعدّد إذا غسل في غيره ، وذكر « المركن » إنّما هو من باب المثال فتكون حينئذ من أدلّة القول بعدم اشتراط ورود الماء في إزالة النجاسة كما عن جماعة ، ولا ينافيه دلالتها التزاما ـ من باب الإشارة ـ على عدم الانفعال ، لجواز كونه حكما خاصّا بالمورد أثبته الشارع تعبّدا ، فتكون من أدلّة القول بعدم نجاسة الغسالة كما عليه غير واحد.

مع اتّجاه المنع إلى الدلالة على ذلك رأسا ، لجواز انفعاله وطهر المغسول بالانفصال على ما وجّهناه سابقا ، مع ورود النقض بذلك في كافّة أنواع إزالة الخبث إذا كانت بالقليل ، فلو لا الحكم تعبّديّا ـ على القول بانفعال القليل بالملاقاة ـ لشقّ الأمر على العباد في تطهير المتنجّسات ، مع إمكان القول بأنّ أقصاها الدلالة على أنّ ملاقاة المتنجّس لا توجب الانفعال ، ولعلّ القائل بانفعاله بالنجاسة لا يقول به في المتنجّس ، وعلى فرضه يكون الدليل أخصّ من المدّعى.

وثانيا : أنّها لا تقاوم ما قدّمناه من النصوص والظواهر المعتبرة المعتضدة بأنواع المرجّحات.

ومنها : الرواية المرويّة عن الفقيه عن الصادق عليه‌السلام عن جلود الميتة ، يجعل فيها اللبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال : « لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٧ ب ٢ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧١٧.


سمن ، وتوضّأ منه وتشرب ، ولكن لا تشرب فيها » (١).

وفيه : ـ بعد عدم مقاومتها لما تقدّم ـ ما لا يخفى من أمارات الكذب والتقيّة ، فإنّها مبنيّة على ما صارت إليه العامّة من طهر جلود الميتة بالدباغ ، فتكون خارجة مخرج التقيّة ، كما يشهد به السياق الجامع للماء واللبن والسمن ، مع أنّه لا خلاف في انفعال غير الماء بالنجاسة.

ومنها : رواية عليّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل رعف فامتخط ، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا ، فأصاب إناءه هل يصلح له الوضوء منه؟

فقال عليه‌السلام : « إن لم يكن شي‌ء يستبين فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا يتوضّأ منه » (٢).

وفيه : مع أنّ النهي في الشقّ الثاني ممّا يكشف عن الانفعال فتكون من أدلّة القول به في الجملة ، منع الدلالة على المطلب لما قدّمناه في بحث التغيّر من أنّ أقصى ما فيه الدلالة على إصابة الدم الإناء وهو غير إصابته الماء ، ولعلّ السؤال وارد لاستعلام أنّ ذلك هل يصلح أمارة على إصابته الماء فيترتّب عليها الحكم عليه بالانفعال المانع عن الوضوء؟ فخرج الجواب مخرج التفصيل الموافق لمفاد قولهم : « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) ، فالاستبانة وعدمها كنايتان عن العلم بالإصابة وعدمه ، ويعطيان إناطة الحكم بالنجاسة بالعلم دون غيره.

وممّا يفصح عن ذلك ورود السؤال بعد ذلك عن صورة العلم بالإصابة بقوله : وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ ، فقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال : « لا » ، وعلى فرض تسليم الدلالة ينهض دليلا على ما فصّله الشيخ لا على عدم الانفعال مطلقا ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فعدم مقاومته لما تقدّم كما سبق.

ومنها : مرسلة ابن أبي عمير عمّن رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في عجين عجن وخبز ، ثمّ علم أنّ الماء كانت فيه ميتة؟ قال : « لا بأس ، أكلت النار ما فيه » (٤) ؛ فإنّ السؤال بإطلاقه يتناول القليل الراكد أيضا ، وإطلاق نفي البأس يدلّ على عدم انفعاله ، ولا ينافيه

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٣ ب ٣٥ من أبواب النجاسات ح٥ ـ الفقيه ١ : ٩ / ١٥ وفيه :«ولكن لا تصلّي فيها».

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٥ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٨ ـ التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٤.


التعليل بقوله : « أكلت النار ما فيه » لعدم تحقّق الاستحالة ، وقد قام الإجماع على أنّ النار (١) إنّما تطهّر ما أحالته دون غيره ، فكان ذلك دفعا للاستخباث والاستقذار.

وفيه أوّلا : احتمال ابتناء الجواب على إبداء احتمال كون وقوع الميتة في الماء الّذي أخذ منه للعجين مسبوقا بالأخذ ، وثانيا : صلوح إطلاقه للتقييد ، وثالثا : وروده في مقام ضرب من التقيّة ، ورابعا : عدم صلوحه لمعارضة ما تقدّم.

ومنها : رواية عليّ بن أبي حمزة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الساكن والاستنجاء منه؟ فقال عليه‌السلام : « توضّأ من الجانب الآخر ، ولا توضّأ من جانب الجيفة » (٢) ، ورواها الصدوق أيضا مرسلة (٣).

وفيه : أنّ طريق الجواب يقضي بكون الماء المسئول عنه بمحضر من الإمام ومرئى منه ، حيث إنّه تعرّض لذكر الجيفة وفصّل بين جانبي الماء وهي غير مذكورة في السؤال ، وقضيّة ذلك أن لا يكون للماء المسئول عنه إطلاق يصلح للاستناد إليه ؛ لقوّة احتمال كونه كرّا وما زاد ، وقد علم به الإمام بالمشاهدة.

ومع الغضّ عن هذا الاحتمال فليست الرواية إلّا من باب حكايات الأحوال ، فترمى بالإجمال ويخرج عن صلاحية الاستدلال ، ويجري هذا المجرى في جميع ما ذكرناه موثّقة سماعة قال : سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء؟ قال : « يتوضّأ من الناحية الّتي ليس فيها الميتة » (٤) ، وعلى الإطلاق فيهما فهو قابل للتقييد بما تقدّم.

ومنها : رواية محمّد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لو أنّ ميزابين سالا ، ميزاب ببول وميزاب بماء ، فاختلطا ، ثمّ أصابك ما كان به بأس » (٥).

وفيه : أنّ ظاهر الرواية ورودها في ماء المطر وهو خارج عن المتنازع ، ولو كان فيها إطلاق بالقياس إلى حال التقاطر وعدمها فليحمل عليها جمعا ، مع ما فيها من قصور السند وعدم صلاحية المعارضة لما سبق.

__________________

(١) وفي الأصل : « الماء » والصواب ما أثبتناه في المتن.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٢ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٤.

(٣) الفقيه ١ : ١٢ / ٢١.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٤ / ١٢٥٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ الكافي ٣ : ١٢ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٦.


ومنها : رواية زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء؟ قال : « لا بأس » (١).

وفيه : مع احتمال ورودها تقيّة احتمالا ظاهرا ، إمكان حملها على ما ليس من الاستعمالات [المشروطة] بالطهارة كسقي الدوابّ والبساتين والمزارع ، أو ورودها استعلاما لحكم البئر فتكون من أدلّة عدم انفعالها ، وهي موضوع آخر خارج عن المتنازع ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فغير صالحة للمعارضة.

ومنها : رواية أبي مريم الأنصاري ، قال : « كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام في حائط فحضرت الصلاة فنزح دلوا للوضوء من ركيّ له ، فخرج عليه قطعة عذرة يابسة فأكفأ (٢) رأسه وتوضّأ بالباقي » (٣).

واجيب عنها أوّلا : بقصور السند ، لجهالة « عبد الرحمن » ، واشتراك « بشير » بين مجاهيل ، وثانيا : بقصورها دلالة لعدم ظهورها في وصول العذرة إلى الماء ، لعود الضمير إلى الدلو ، ولا يمتنع استقرار العذرة عليه من دون أن تصل إلى الماء ، فأكفأ رأسه لسقوط العذرة وغسل محلّها ، كما يشعر به الحكم عليها باليبوسة ، إذ لو كانت في الماء لما بقيت يابسة ، مع احتمال كون المراد بالعذرة السرقين كما حكي احتماله عن المصابيح قائلا : « بأنّ ما ادّعاه بعض الفضلاء من اختصاصها لغة وعرفا بفضلة الإنسان استنادا إلى ما يظهر من كلام الهروي ، حيث قال : إنّ العذرة في أصل اللغة فناء الدار ، وسمّيت عذرة الإنسان بهذه لأنّها كانت تلقى في الأفنية فكنّي عنها باسم الفناء ، فيتوجّه عليه : أنّ المفهوم من الصحاح والقاموس أنّها أعمّ منها ، حيث فسّر الخرء فيهما بالعذرة ، ولا ريب أنّه أعمّ » (٤).

ويرشد إليه صحيحة ابن بزيع قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن عليه‌السلام عن البئر يسقط فيها شي‌ء من العذرة كالبعرة ونحوها » ، الحديث (٥) ، وصحيحة عبد الرحمن ابن أبي عبد الله قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٥ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٦ ـ الفقيه ١ : ٩ / ١٤ التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠١.

(٢) أكفأ الشي‌ء : أماله (لسان العرب ١ : ١٤١).

(٣) الوسائل ١ : ١٥٤ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٦ / ١٣١٣.

(٤) مصابيح الأحكام ـ كتاب طهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٣٥ ، ٣٦.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٥.


أو سنّور أو كلب ، الحديث (١).

وقيل : بإمكان حملها على اشتباه الراوي ، لجواز عدم كون ما رآه عذرة ، وقد توهّم كونه عذرة هذا ، مع ما فيها من عدم صلوحها للمعارضة للأخبار المتواترة المانعة عن الوضوء بمثل ذلك.

ومنها : رواية عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أغتسل في مغتسل يبال فيه ، ويغتسل من الجنابة ، فيقع في الإناء ماء ينزو من الأرض؟ فقال : « لا بأس به » (٢).

وفيه : منع كون ما وقع في الإناء مرتفعا عن محلّ البول ، إذ الرواية تضمّنت كونه ينزو من الأرض وهي أعمّ ، فيكون السؤال واردا لاستعلام حال الاشتباه ، فأجاب له الإمام عليه‌السلام بما وافق أصل الطهارة الجاري في المياه المشتبهة وكون الأرض من الشبهة المحصورة لا يوجب تنجّس ملاقيها كما هو مقرّر في محلّه ، هذا مع عدم صلوحها للمعارضة مع ضعفها بـ « المعلّى » سندا.

ومنها : رواية الأحول قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء ، فيقع ثوبي في ذلك الماء الّذي استنجيت به؟ قال : « لا بأس به » (٣).

وفيه : ما تقدّم من خروج ماء الاستنجاء عن موضوع المسألة.

ومنها : مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال:سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال : « لا بأس » (٤).

وفيه : منع واضح ، لعدم تعرّض الرواية لذكر ملاقاة النجاسة ، والغسالة أعمّ منها فلا يبقى إلّا الاحتمال وهو المنشأ للسؤال ومثله من مجرى الأصل والجواب مطابق له جدّا.

ومنها : رواية أبي بكّار بن أبي بكر ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يضع الكوز الّذي يغرف به من الحبّ في مكان قذر ، ثمّ يدخل الحبّ قال : « يصبّ من الماء ثلاثة أكف ، ثمّ يدلك الكوز » (٥).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٧٥ ب ٤٠ من أبواب النجاسات ح ٥.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٧.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢١ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٥ التهذيب ١ : ٨٥ / ٢٢٣.

(٤) التهذيب ١ : ٣٧٩ / ١١٧٦.

(٥) الوسائل ١ : ١٦٤ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٧ ـ الكافي ٣ : ١٢ / ٦.


وفيه : أنّها أظهر في الدلالة على خلاف المطلب ، نظرا إلى أنّ قوله عليه‌السلام : « يصبّ من الماء ثلاثة أكفّ ، ثمّ يدلك الكوز » تعليم لكيفيّة تطهير الكوز ، فيريد به صبّ ثلاثة أكفّ على الكوز لغسله ، والّذي أمر به عبارة عن غسله ، والمراد بقول السائل : « ثمّ يدخل الكوز » إرادة الإدخال لا تحقّقه ، والقرينة عليه أنّه لو كان فرض السؤال فيما بعد الإدخال لما كان للدّلك الّذي أمر به فائدة أصلا ، وشأن الحكيم أرفع من أن يأمر بما لا فائدة فيه أصلا ، وظنّي أنّ هذا المعنى الّذي استظهرناه واضح لا سترة عليه ، وقضيّة ذلك قلب الاستدلال بالرواية ، بأنّه لو لا الكوز المفروض موجبا لانفعال ماء الحبّ لما أمر بغسله قبل الإدخال فيه.

ومنها : رواية عليّ بن جعفر عن أخيه موسى ، قال : وسألته عن جنب أصابت يده من جنابته ، فمسحه بخرقة أدخل يده في غسله قبل أن يغسلها هل يجزيه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال : « إن وجد ماء غيره فلا يجزيه أن يغتسل به ، وإن لم يجد غيره أجزأه » (١).

وفيه : أنّها لا تلائم القول بالانفعال في شقّها الثاني ، فكذلك لا تلائم القول بالعدم ، لأنّ لازمه جواز الاغتسال بالماء المفروض وكونه مجزيا عن الفرض ، غايته أنّهم يقولون بكراهة استعماله ، كما عليه مبنى حملهم النواهي الواردة في المقام عن الاستعمال على الكراهة ، ولا ريب أنّ الكراهة لا تؤثّر في عدم الإجزاء ، وقد حكم به الإمام عليه‌السلام فالاستدلال بها ساقط من الطرفين.

إلّا أن يرجع إلى ابتنائها على قاعدة اصوليّة ـ قرّرناها في محلّها ـ من امتناع اجتماع الكراهة مع الوجوب والندب ، فكان المنع عن الاغتسال بالماء المفروض ـ على تقدير وجدان ماء غيره ـ استنادا إلى أنّ الاغتسال به ممّا لا أمر به لمكان الكراهة المانعة عنه ، بخلاف التقدير الآخر المحكوم عليه بالإجزاء ، من حيث إنّ عدم وجدان ماء آخر يوجب الاضطرار إلى الماء المفروض وهو يوجب ارتفاع الكراهة فيحصل الأمر ، اعتبارا لوجود المقتضي وفقد المانع ، وعليه يمنع كون ما أصاب اليد من الجنابة عبارة عن المنيّ ، لجواز كونه شيئا مشتبها به وبطاهر ، أو كون الماء المفروض قليلا لجواز كونه عند السائل مردّدا بين الكثير والقليل ، ولا ريب أنّ كلّا من ذلك ممّا يقتضي الاحتياط ويوجب كراهة الاستعمال من حيث كون الماء محتملا للنجاسة ، فأعطى له

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٨٠ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ٢٠٩ ح ٤٥٢.


الإمام عليه‌السلام قاعدة كلّيّة متضمّنة للتفصيل المذكور ، المبتني على الكراهة وزوالها ، ومع ذلك كلّه فالرواية غير صالحة للمعارضة جزما.

ومنها : رواية دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه سئل عن الغدير ، تبول فيه وتروث ، ويغتسل فيه الجنب؟ فقال : « لا بأس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بأصحابه في سفر لهم على غدير ، وكانت دوابّهم تبول فيه وتروث ، فيغتسلون فيه ويتوضّئون ويشربون » (١).

وفيه : ما لا يخفى من عدم إشعارها بملاقاة النجاسة ، لعدم التعيّن في مرجع ضمير تبول ونحوه ، بل الظاهر كونه مرادا به « الدوابّ » ، كما يرشد إليه تأنيث الضمير وذكر « الدوابّ » في كلام الإمام عليه‌السلام عند حكايته الواقعة المفروضة ، ولا ريب أنّ الدوابّ لا تتناول مثل الإنسان ونحوه ممّا ليس بطاهر البول.

ومنها : صحيحة شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : ـ في الجنب يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء ، وينضح الماء من الأرض فيصير في الإناء ـ « أنّه لا بأس بهذا كلّه » (٢).

وفيه : ما لا يخفى أيضا من عدم إشعاره بنجاسة الأرض ولا الجسد ، ولا ينبغي التمسّك بالإطلاق لوروده مقام إفادة حكم آخر ، وهو عدم مانعيّة ما تقاطر في الإناء من قطرات غسالة الاغتسال عن صحّة الغسل.

ونظيره الكلام في صحيحة فضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : في الرجل الجنب يغتسل فينضح من الماء في الإناء؟ فقال : « لا بأس (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) » (٣).

ومنها : رواية الوشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنّه كره سؤر ولد الزناء ، وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك ، وكلّما خالف الإسلام ، وكان أشدّ عنده سؤر الناصب » (٤).

وفيه : أنّ الكراهة في أخبار الأئمّة ـ سلام الله عليهم ـ شائع استعمالها في التحريم ، فلا ينبغي حملها على المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء ، غير أنّه ينبغي حملها على ما يعمّ المعنيين بقرينة السياق الجامع بين ولد الزناء وغيره من الطوائف المذكورة ، مضافا

__________________

(١) دعائم الإسلام ١ : ١١٢.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ٢١٢ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٦ و ٥ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٦ و ٧.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٩ ب ٣ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٦٣٩.


إلى أنّه طريق جمع بينها وبين الأخبار الدالّة على الانفعال صراحة وظهورا.

فهذه هي الأخبار الّتي عثرنا عليها للقول بعدم الانفعال ، ولا ريب أنّ الاستناد إليها لهذا الحكم خروج عن قانون الفقاهة ، بعد وجود أخبار اخر متواترة دالّة على الانفعال ، فإنّ ذلك لا ينشأ إلّا عن قصور البال.

ثمّ عن الكاشاني كلمات اخر في تشييد مذهبه المخالف للنصوص المتواترة ، وهي لغاية سخافتها وإن كانت ممّا لا ينبغي الالتفات إليها ، وتضييع الوقت بالتعرّض لنقلها وتزييفها ، غير أنّ مزيد انكشاف شناعة ما صار إليه وما اعتمد عليه يدعونا إلى التعرّض لذلك.

فنقول : إنّ من جملة ما حكي عنه : أنّه أيّد ما صار إليه من عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة ، بورود الأخبار المصرّحة بطهارة ماء الاستنجاء.

وفيه : أنّ حكم الانفعال إنّما ثبت من باب القاعدة ، ولا شي‌ء منها إلّا وهي قابلة للتخصيص ، وما ذكر مخصّص لها ، كما ثبت نظيره في المطر بالإجماع ونحوه ، والبئر والجاري على القول بعدم انفعال القليل فيهما ، فلو صلح ما ذكر مؤيّدا لمذهبه الفاسد لكان هذه منه ، فلا وجه للاقتصار عليه.

مع ما قيل عليه : من أنّ تخصيص الحكم بماء الاستنجاء في الروايات يشعر بالمغايرة لغيره من المياه الملاقية للنجاسات ، فلأن يكون ذلك من مؤيّدات القول بالانفعال طريق الأولويّة دون العكس.

ومن جملة ما حكي عنه : أنّه جمع بين الروايات الّتي تمسّك بها لمصيره إلى عدم الانفعال ، والأخبار المصرّحة باشتراط الكرّيّة ، بحملها على أنّها مناط ومعيار للقدر الّذي لا يتغيّر من الماء بما يعتاد وروده من النجاسات.

قائلا في الوافي : « وعلى هذا فنسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء ، كنسبة مقدار أقلّ من تلك النجاسة إلى مقدار أقلّ من ذلك الماء ، ومقدار أكثر منها إلى مقدار أكثر منه ، فكلّما غلب الماء على النجاسة فهو مطهّر لها بالاستحالة ، وكلّما غلب النجاسة عليه بغلبة أحد أوصافها فهو منفعل منها خارج عن الطهوريّة بها » (١).

وعنه أيضا أنّه بعد ما أورد صحيحة صفوان ، المتضمّنة للسؤال عن الحياض الّتي

__________________

(١) الوافي ٦ : ١٩.


بين مكّة والمدينة ، قال : « ولمّا كانت الحياض بين الحرمين الشريفين معهودة معروفة في ذلك الزمان ، اقتصر عليه‌السلام على السؤال عن مقدار الماء في عمقها ، ولم يسأل عن الطول والعرض ، وإنّما سأل عن ذلك ليعلم نسبة الماء إلى تلك النجاسات المذكورة ، حتّى يتبيّن انفعاله منها وعدمه ، فإنّ نسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء في التأثير والتغيير كنسبة ضعفه إلى ضعفه مثلا وعلى هذا القياس » (١).

وعنه أيضا : أنّه أيّد هذا المعنى الّذي أوّل الأخبار إليه باختلاف تلك الأخبار ، قائلا : « بأنّه يؤيّد ما قلناه ـ من أنّه تخمين ومقايسة بين قدري الماء والنجاسة ـ أنّه لو كان أمرا مضبوطا وحدّا محدودا لم يقع الاختلاف الشديد في تقديره لا مساحة ولا وزنا ، وقد وقع الاختلاف فيهما معا ، والوجوب لا يقبل الدرجات بخلاف الاستحباب ، وقد اعترف جماعة منهم بمثل ذلك في ماء البئر » (٢) انتهى.

وفيه : إن أراد بما أفاده من الحمل دعوى الملازمة بين الكرّيّة وعدم قبول التغيير فهو ممّا يشهد بكذبه الضرورة والعيان ، فكم من كرّ بل كرور يقبل التغيّر ، فلذا ترى كلماتهم مشحونة في بحث التغيّر بالتصريح بعدم الفرق فيه بين الكرّ وغيره ، وإن أراد به دعوى الملازمة بينها وبين مقدار معيّن من النجاسة الواقعة في الماء ، ككون وقوعها فيه ممّا جرت العادة عليه.

ففيه : مع أنّه ممّا لم يستقرّ له عادة ، بل لم يحصل له حدّ عادي ، أنّه يوجب أوّلا ارتكاب التجوّز في لفظ « ينجّسه » الوارد في تلك الأخبار بحمله على « يغيّره » ، والتقييد ثانيا بحمل « شي‌ء » على ما يعتاد وقوعه من النجاسات ، مع لزوم تقييد آخر بحمله على ما كان صالحا للتغيير ليخرج عنه مباشرة الكافر والكلب ونحوهما ممّا لا يوجب تغيّر أصلا ، وأيّ دليل على هذه كلّها.

ولو سلّم أنّ الداعي إلى ذلك إرادة الجمع بينها وبين ما دلّ بإطلاقه على عدم الانفعال ، فتطرّق التأويل إليها ليس بأولى من تطرّقه إلى تلك المطلقات بحملها في اقتضاء عدم الانفعال على الكرّ ، مع أنّه لو اعتبر المفهوم مع هذا التأويل كان مفاده أنّ ما دون الكرّ يلازم التغيير وهو خلاف الحسّ ، وإلّا لزم خلاف أصل آخر وهو إلغاء المفهوم.

__________________

(١ و ٢) الوافي ٦ : ٣١ و ٣٦.


وأمّا ما استنبطه من النسبة فالظاهر أنّ معناها : أنّ ما يعتاد وروده على الماء من النجاسة إذا لم يكن مغيّرا للكرّ ، فبعض منه بنسبة مخصوصة إذا وقع في بعض من الكرّ بتلك النسبة لم يكن مغيّرا له أيضا ، لوضوح اتّحاد البعض للكلّ في الحكم ، فحينئذ لو أنّ ثلثا من الكرّ ـ مثلا ـ إذا وقع فيه بعض من النجاسة المعتاد وقوعها في الماء ، فلا بدّ من استعلام الحال بأخذ النسبة بين ذلك البعض وكلّه ، فإن بلغ ثلثه لم يكن مغيّرا لما هو واقع فيه ، كما أنّه لو قصر عنه لم يكن مغيّرا له ، وإن تجاوز الثلث كان مغيّرا له ، ولو أنّ ربعا ممّا يعتاد وقوعه وقع على بعض من الكرّ يجب مراعاة النسبة بينهما ، فإن بلغ ربعه أيضا لم يكن الواقع فيه مغيّرا له ، كما أنّه كذلك لو قصر عنه ، وأمّا لو زاد عليه كان مغيّرا له ، وهكذا إلى آخر الفروض.

وأنت خبير : بوضوح فساد ذلك ، وعدم كونه ممّا ينساق عن تلك الأخبار ، فإنّ هذا ممّا لا ينضبط أبدا ، ومراعاة تلك النسبة ممّا لا يبلغ إليه فهم كافّة المكلّفين عدا الأوحدي من الخواصّ ، ومع ذلك فالغالب وقوعه من النجاسات على المياه ما يقع بغتة بلا معلوميّة مقداره ، مع تعذّر استعلامه بعد ذلك أيضا ـ كما لو كان من المائعات ـ فكيف يسوغ على الشارع الحكيم أن ينوط حكمه الّذي يعمّ به البلوى في قاطبة الأعصار وكافّة الأمصار على قاعدة لا يدركها إلّا الأوحدي من البعض ، مع تعذّر إعمالها في غالب موارد موضوعها ، مع أنّه لا يدري أنّ اعتبار هذه النسبة والإرشاد إلى هذا التخمين والمقايسة لأيّ فائدة هو؟ بعد ما كان أصل التغيّر أمرا حسّيّا غير محتاج إلى الكاشف.

ومن هنا يتوجّه إشكال آخر ، من جهة لزومه حمل كلام الشارع على ما ليس بيانه من شأنه ، وهو إعطاء الضابط والميزان لما هو من مقولة الحسّيّات ، وما اعتذر له المحدّث ـ في جملة من كلامه ـ « بأنّه ربّما يشتبه التغيّر مع أنّ الماء قد تغيّر أوصافه الثلاثة بغير النجاسة فيحصل الاشتباه » (١).

ففيه : مع قضائه بحمل الكلام على موارده النادرة ، أنّ الاشتباه يرتفع بأصل الطهارة الّذي قرّره الشارع ، مضافا إلى خصوص قوله : « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٢) الّذي عرفت اختصاصه بمواضع الاشتباه.

__________________

(١) الوافي ٦ : ٣٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.


وأمّا ما ساق إليه التأويل المذكور ، بل استشهد به لمختاره من صحيحة صفوان بن [مهران] الجمّال (١) ، ففيه : أنّ سياق السؤال الوارد فيها يأبى عن ذلك ، حيث لم يذكر فيه من النجاسات ما يوجب تغيّر الماء عادة ، كما لا يخفى على المتأمّل فيه.

وأمّا ما أيّد به مختاره من اختلاف الأخبار المقدّرة للكرّ وزنا ومساحة.

ففيه : أوّلا : عدم قيام ما يقضي بكون الاختلاف من جانب الشارع ، فلعلّه اختلاف نشأ من الرواة أو الجاعلين للأخبار الكاذبة ، والتأييد إنّما يحصل على التقدير الأوّل دون الأخيرين.

وثانيا : أنّه كم من هذا القبيل في أخبار أئمّتنا المعصومين ، الواردة في جميع أبواب الفقه ، فلو كان ذلك منشأ للأثر وموجبا لتطرّق التأويل إلى الأخبار الظاهرة والنصوص المحكمة ، لم ينضبط قاعدة من قواعد الفقه.

وثالثا : أنّ ذلك لو صلح إشكالا لكان مشترك الورود ، فيتوجّه إلى ما صار إليه بل بطريق أولى ؛ لأنّ مرجع كلامنا إلى أنّ أخبار الكرّ واردة لإحراز موضوع لحكم شرعي معلّق عليه وهو الكرّيّة الّتي ينوط بها عدم الانفعال بشي‌ء ، ومرجع كلامه إلى أنّها إنّما وردت لإعطاء ضابط كلّي وميزان مطّرد لمعرفة موضوع حكم وهو التغيّر المورّث للانفعال ، فإذا كان الأوّل مقتضيا لكون مفادها أمرا مضبوطا وحدّا محدودا ، فكان الثاني أولى بالاقتضاء كما لا يخفى.

ثمّ إنّه بقى الكلام في مقامين ، ينبغي سوق عنان النظر إليهما.

أحدهما : النظر في معمّمات المسألة.

وثانيهما : في مستثنياتها من محلّ وفاق أو خلاف ، فاستمع لما يتلى عليك.

أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فمن جهات :

الجهة الاولى : يظهر من صاحب المدارك بعد ما صار إلى انفعال القليل بالملاقاة ، التشكيك في انفعاله بكلّ نجس قائلا فيه : « لكن لا يخفى أنّه ليس في شي‌ء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، بل ولا على انفعاله بكلّ ما يرد عليه من النجاسات » (٢) الخ.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٢ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.


والعجب منه أنّه ذكر ذلك مع تمسّكه على ما صار إليه بصحيحتي محمّد بن مسلم (١) ، ومعاوية بن عمّار « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٢) وكأنّه مبنيّ على منع العموم في المفهوم ، كما صار إليه جماعة منهم الكاشاني فيما تقدّم عنه من جملة اعتراضاته على الأخبار الواردة بهذا المضمون ، وقد أشرنا إجمالا إلى ما يدفعه.

ونقول هنا أيضا : أنّ المفهوم على ما يساعد عليه العرف وطريقة أهل اللسان ، يتبع المنطوق في عمومه وخصوصه ، وما توهّم : من منع العموم في المفهوم مع كون المنطوق مشتملا على النكرة في سياق النفي ، إنّما يتّجه لو فسّر مفاد منطوق قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » بأنّه لا ينجّس بجميع أفراد النجس ، ليكون محصّله السلب الجزئيّ المستلزم لكون المفهوم إيجابا جزئيّا ، وهو كما ترى بعيد عن هذه العبارة غاية البعد ، بل لا يكاد ينساق منها عرفا ، بل معناه : أنّه لا ينجّس بشي‌ء من أفراد النجس ، فيكون مفهومه : أنّه ينجّس بكلّ فرد منه ، ومع الغضّ عن ذلك يكفينا في إثبات العموم عموم التعليل في قوله : « رجس نجس » الوارد في الكلب (٣) حسبما قرّرناه.

مضافا إلى إطلاق « القذر » الوارد في كثير من أخبار الباب ، مع كفاية ملاحظة مجموع الروايات المتضمّن كلّ واحد منها لنوع أو نوعين أو أنواع من النجاسات ، حتّى أنّه لا يشذّ منها شي‌ء ظاهرا ، مع الإجماع المركّب أيضا ، كما في كلام غير واحد من الفحول.

مع أنّ المسائل الفرعيّة الّتي كلّها ضوابط كلّيّة وقواعد مطّردة يقتبس أغلبها ـ من الطهارات إلى الديات ـ من موارد جزئيّة من جزئيّات موضوعاتها ، من غير أن يرد فيها لفظ عامّ شامل لجميع الجزئيّات ، وعليه طريقة الفقهاء قديما وحديثا ، ولذلك تراهم لا يزالون يستدلّون على الأحكام الكلّيّة بما ورد من الأخبار في بعض الجزئيّات ، وكأنّ ذلك من جهة أنّه علموا من طريقة الشارع أنّه يعطي الضوابط الكلّيّة بخطابات جزئيّة وبيانات شخصيّة.

مع إمكان دعوى تنقيح المناط في خصوص المقام ـ لو سلّم عدم ورود جميع أنواع النجاسات في الأخبار الواردة فيه ـ بتقريب : أنّ القطع يحصل بأنّ الانفعال بالنسبة إلى الموارد الخاصّة الواردة في تلك الأخبار ، ليس مستند إلّا إلى ما في تلك الموارد من

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٣٩ / ١٠٧ و ١٠٩.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦.


الوصف العنواني الّذي يعبّر عنه بـ « النجاسة » ، من غير مدخليّة في ذلك لما فيها من الخصوصيّة الراجعة إلى ذاتيّاتها أو عرضيّاتها من غير جهة هذا الوصف ، هذا.

الجهة الثانية : ربّما يحكى في المسألة عدم تنجيس المتنجّس ، الّذي لازمه أن لا ينفعل القليل به ، ويظهر من المحقّق الخوانساري الميل إليه (١) ، وإن كان جعل الانفعال أولى بعد ما نسبه إلى ظاهر كلام الأصحاب ، ويظهر من شيخنا في الجواهر (٢) الفرق بين متنجّس لا يفيد الماء طهره فالانفعال ، ومتنجّس يفيد الماء طهره فعدم الانفعال ، ويظهر ذلك أيضا من محكيّ المصابيح (٣) فيما لو ورد عليه الماء مفيدا طهره ، ومنشؤه على ما صرّح به في الجواهر (٤)طهارة الغسالة ـ على ما صار إليه ـ جمعا بين القاعدتين : انفعال القليل بالملاقاة ، وطهارة الغسالة.

وصحّة هذا التفصيل ـ على أحد الوجهين ـ وسقمه مبنيّتان على النظر في حكم الغسالة ، والكلام مع المدّعين لطهارتها وستعرفه في محلّه ، وأمّا منع الانفعال بالمتنجّس مطلقا فلم نقف له على وجه ، ولعلّه غفلة عن التدبّر في روايات الباب ، أو مبنيّ على توهّم انحصار أدلّة الانفعال في مفهوم قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » (٥) مع منع العموم فيه بحيث يشمل المتنجّس أيضا ، وكيف كان فهو في غاية الضعف.

أمّا أوّلا : فللمفهوم المشار إليه ، فإنّه عامّ بالقياس إلى جميع مصاديق « شي‌ء » ومنها المتنجّس ، غاية الأمر خروج ما كان منها طاهرا بالتخصيص أو التخصّص ، بدعوى : عدم صلاحيّة الطاهر مشمولا للمنطوق ، نظرا إلى كون بيان الحكم بالنسبة إليه من باب توضيح الواضحات وهو سفه ، فليس من شأن الحكيم بل ويقبح ذلك عليه ، وقضيّة ذلك خروجه عن المفهوم من أوّل الأمر من دون حاجة له إلى المخرج.

ولكن فيه : أنّ المراد بالخروج في مواضع التخصيص ليس هو الخروج الحقيقي لاستحالة البداء من الحكيم العالم ، بل المراد به انكشاف خروجه بملاحظة الخارج الّذي يعبّر عنه بالمخصّص ، ولا ريب أنّ ذلك الخارج الّذي يوجب الانكشاف كما أنّه

__________________

(١) مشارق الشموس : ١٩٠.

(٢ و ٤) جواهر الكلام ١ : ٢٣٨.

(٣) مصابيح الأحكام ـ الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٤٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩.


قد يكون لفظا فكذلك قد يكون عقلا قاطعا ، وما قرّرناه في وجه استحالة شمول المنطوق للطاهر ليس إلّا عقلا قاطعا قام في المقام وكشف عن حقيقة المراد ، وإلّا فاللفظ بما هو هو ـ أي مع قطع النظر عن ذلك ـ صالح للشمول جزما ، فيكون خروجه المذكور عن المنطوق من باب التخصيص ، ويتبعه في ذلك المفهوم ويكون مخصّصا بخروج ما ذكر ، ويبقى الباقي ومنه المتنجّس ؛ إذ لا استحالة في كونه مرادا في المنطوق فيكون كذلك في المفهوم ؛ إذ لا مخرج له من عقل ولا نقل.

لا يقال : إنّ العامّ بالقياس إليه مجمل إذ لا ريب ـ على ما اعترفت به ـ في ورود تخصيص عليه ، والقدر المتيقّن ممّا يشمله المخصّص إنّما هو الطاهر ، كما أنّ القدر المتيقّن ممّا يشمله العامّ إنّما هو نفس النجاسة ، وأمّا المتنجّس فيبقى متردّدا بين كونه مشمولا للعامّ أو المخصّص ، ومعه لا معنى للتمسّك بالعموم بالنسبة إليه.

لأنّا نقول : بمنع كون هذا النوع من التردّد موجبا لإجمال العامّ ، وإنّما هو في الشبهة المصداقيّة أو المفهوميّة بالقياس إلى مسمّى موضوع المخصّص ، والمقام ليس بشي‌ء منهما ، بل التردّد المذكور فيه ابتدائي ينشأ من احتمال زيادة التخصيص ، فيرتفع بملاحظة ظهور اللفظ نوعا ، وأصالة عدم الزيادة في التخصيص.

ولو سلّم عدم ارتفاعه فليس بقادح في جواز التمسّك بالعامّ ، لكون اعتبار ظواهر الألفاظ ثابتا بالنوع ، وكون قلّة التخصيص أولى من كثرته ـ حيثما دار الأمر بينهما ـ باب معروف متسالم عليه عندهم ، فلا وجه للمناقشة في العموم.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قذارة اليد الواردة في أكثر روايات الباب الموجبة للانفعال تشمل ما لو كانت متنجّسة ، وحملها على ما لو كانت العين باقية فيها بعيد عن الانفعال (١) وينفيه ترك الاستفصال.

ودعوى : ظهور « القذر » في العين ، يدفعها : ما في صحيحة البزنطي « عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة » (٢) وما في قويّة أبي بصير « إذا كانت يده قذرة فأهرقه » (٣).

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٩ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٤ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ التهذيب ١ : ٣٠٨ / ١٠٣.


وأمّا ثالثا : فلخصوص صحيحة عليّ بن جعفر المشتملة في ذيلها على قوله عليه‌السلام : « إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء » (١) إلخ وموثّقة عمّار المتضمّنة لقوله : وعن الإبريق يكون فيه خمر ، أيصلح أن يكون فيه ماء؟ قال : « إذا غسل فلا بأس » (٢) ، ورواية عليّ بن جعفر المتضمّنة لقوله عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو باطية؟ قال عليه‌السلام : « إذا غسله فلا بأس » (٣) ، وروايتي عليّ بن يقطين (٤) ، وعيص بن القاسم (٥) الواردتين في سؤر الحائض وفضلها الحاكمتين بأنّه إذا كانت مأمونة فلا بأس ، أو توضّأ منه إذا كانت مأمونة.

الجهة الثالثة : عزي إلى المشهور عدم الفرق في النجاسة الموجبة للانفعال بين كثيرها وقليلها حتّى ما لو كان منها ممّا لا يدركه الطرف مثل رءوس الإبر الّتي لا تحسّ ولا تدرك ولو كان دما ، وعن الحلّي (٦) دعوى الإجماع عليه ، وعليه الشيخ على ما حكي عنه في سائر كتبه سوى المبسوط والاستبصار ، وأمّا فيهما فخالف المشهور وذهب إلى الفرق بين الكثير والقليل الّذي لا يدركه الطرف فخصّ الحكم بالأوّل دون الثاني ، قائلا في المبسوط ـ على ما حكي ـ : « وحدّ القليل ما نقص عن الكرّ ، وذلك ينجّس بكلّ نجاسة تحصل فيه ، قليلة كانت النجاسة أو كثيرة ، تغيّرت أوصافه أو لم يتغيّر ، إلّا ما لا يمكن التحرّز منه مثل رءوس الإبر من الدم وغيره ، فإنّه معفوّ عنه لأنّه لا يمكن التحرّز منه » (٧).

وعنه أنّه خصّ ذلك في الاستبصار بالدم (٨) ، كما أنّ العلّامة حكاه عنه في المختلف (٩) مخصوصا به من غير تعرّض لتعيين كتابه ، ولعلّه أيضا وهم نشأ عن كلامه في الاستبصار ، ولأجل ذلك توهّم جماعة على ـ ما حكي ـ كون أقواله ثلاثة والإنصاف يقتضي خلافه ، إذ لا إشعار في كلامه في الاستبصار باختصاص الحكم

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٧ / ١١١٥.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٤ ب ٥١ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٣ / ٨٣٠.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٦٩ ب ٣٠ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٥ ـ قرب الإسناد : ١١٦ ـ مسائل عليّ ابن جعفر : ٥١٤ / ٢١٢.

(٤) الوسائل ١ : ٢٣٧ ب ٨ من أبواب الأسآر ح ٥.

(٥) الوسائل ١ : ٢٣٤ ب ٧ من أبواب الأسآر ح ١.

(٦) السرائر ١ : ١٨٠.

(٧) المبسوط ١ : ٧.

(٨) الاستبصار ١ : ٢٣.

(٩) مختلف الشيعة ١ : ١٨٢.


بالدم ، كما لا يخفى على من يراجعه في ذيل باب القليل الّذي تحصل فيه النجاسة (١)

وكيف كان ففي المختلف (٢) احتجّ الشيخ رحمه‌الله بوجهين :

الأوّل : رواية عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن رجل امتخط فصار الدم قطعا فأصاب إناءه ، هل يصلح الوضوء منه؟ فقال : « إن لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه » (٣).

الثاني : أنّ وجوب التحرّز عن ذلك مشقّة عظيمة وضرر كثير فيسقط ، لقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤).

وقد يقال : إنّ دلالة الرواية مبنيّة على إرادة السائل إصابة الماء من الإناء تسمية باسم المحلّ ، لأنّ إرادة خصوص الظرف لا يناسب السؤال.

ولا يخفى بعده لكونه مجازا بلا قرينة واضحة ، ولا يلائمه قوله عليه‌السلام : « في الماء » لكونه على التوجيه المذكور في موضع الإضمار ، مع توجّه المنع إلى ابتناء دلالتها على ذلك ، لجواز تقريرها بأنّ السؤال وإن كان لا قضاء له بإصابة الدم للماء غير أنّ الجواب يشمل بعمومه ما هو المقصود بالاستدلال في وجه ، أو هو مختصّ بالمقصود في آخر.

أمّا على ما في بعض النسخ من نصب « شي‌ء » ، فلعود الضمير في الفعل الناقص إلى « الدم » بنفسه ، أو بوصف كونه مصيبا للإناء ، وكون الجملة المتعقّبة له صفة للشي‌ء والظرف متعلّقا بها ، فيكون المعنى : إن لم يكن الدم أو ما أصاب الإناء شيئا يستبين في الماء فلا بأس ، وهذا كما ترى يعمّ ما لو لم يكن فيه شي‌ء أصلا ، أو كان ولم يكن مستبينا فيه ، بناء على رجوع النفي إلى كلّ من الوصف والموصوف ، فثبت به المطلوب أيضا.

ولكنّ الحمل عليه لعلّه ليس على ما ينبغي ؛ لعدم كون إفادة الحكم لصورة انتفاء الدم بالمرّة من شأن السائل ولا المسئول ، مضافا إلى أنّ النفي والإثبات يرجعان في الكلام إلى القيد ، وكما أنّ الإثبات في الفقرة الثانية من الرواية يدور على القيد فكذلك

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٢٣.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ١٨٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.

(٤) الحجّ : ٧٨.


في النفي ، فيكون حاصل معنى الفقرة الاولى : إن كان ما أصاب الإناء شيئا غير مستبين في الماء فلا بأس ، وهذا عين المطلوب.

وأمّا على ما في أكثر النسخ ـ على ما وجدناه في الكافي والتهذيب والاستبصار ـ من رفع « شي‌ء » فيكون « شي‌ء » اسما للفعل الناقص ، وخبره الجملة المستعقبة للظرف الّذي هو متعلّق بها ، أو الظرف والجملة صفة للشي‌ء ، فيكون المعنى ـ بناء على رجوع النفي إلى الخبر أو إلى الصفة ـ : إن كان شي‌ء غير مستبين في الماء فلا بأس ، أو إن كان شي‌ء غير مستبين حاصلا في الماء ، أي إن حصل في الماء شي‌ء غير مستبين فلا بأس ، وهذا أيضا عين المطلوب.

وبما قرّرناه يندفع ما أورد عليه غير واحد بأنّه لا يدلّ على إصابة الدم للماء الّتي هي محلّ الكلام ، قال العلّامة في المختلف : « والجواب أنّه غير دالّ على محلّ النزاع ، لأنّه ليس في الرواية دلالة على أنّ الدم أصاب الماء ، ولا يلزم من إصابته الإناء إصابته للماء ، وإن كان يفهم منه ذلك لكن دلالة المفهوم ضعيفة » (١).

وقد يجاب عنه ـ كما في المختلف أيضا ـ : بأنّه معارض برواية عليّ بن جعفر ـ في الصحيح ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ ، فيقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال : « لا ». (٢)

وهو كما ترى بمكان من الوهن ، فإنّ الفرق بين القطرة وما لا يدركه الطرف المفسّر في كلام الشيخ برءوس الإبر كما بين السماء والأرض ، فهي معارضة بما ليس من محلّ النزاع في شي‌ء.

ودون هذا الجواب ما قيل أيضا : من أنّ عدم استبانة الدم في الماء لا يقضي بلوغ قطع الدم في الصغر إلى حدّ رءوس الإبر ، فإنّه قد لا يستبين في الماء وهو أعظم ممّا ذكر ، ووجهه : أنّ ذلك مذكور في كلام الشيخ من باب المثال لا من باب الانحصار ، وإلّا فمناط كلامه إنّما هو عدم الاستبانة كائنا ما كان.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.


وأدون من الجميع ما عن الذخيرة من : « أنّ مورد الرواية دم الأنف ، فالتعميم لا يخلو عن إشكال ، وأشكل منه إلحاقه في المبسوط كلّ ما لا يستبين » (١) ، ووجهه : أنّ المناط عند القائلين بانفعال القليل بالملاقاة واحد ، وهو مباشرة وصف النجاسة الّتي هي حاصلة في الجميع ، ولذا يدّعي إجماعهم المركّب على التعميم في أصل المسألة.

والأولى في هدم الاستدلال بالرواية منع دلالة ما فيها من الجواب المفصّل بين الاستبانة وعدمها ، بل هي عند التحقيق تقضي بما ذهب إليه المشهور من إطلاق القول بالانفعال ، فإنّ « الاستبانة » لغة وعرفا ضدّ الخفاء ، يقال : « استبان الأمر » ، أي اتّضح وتبيّن وانكشف أي زال خفاؤه ، وكما أنّ الشي‌ء قد يخفى على الحسّ فلا يرى أو لا يسمع ، فكذلك يخفى على الذهن فلا يدرك ، يقال : « خفي الحقّ عليّ » ، كما يقال : « خفي الهلال على بصري ».

وقضيّة ذلك أن يكون التبيّن ـ على معنى زوال الخفاء ـ مقولا بالاشتراك على التبيّن في الحسّ والتبيّن في الذهن معا ، ولذا لو حصل لك العلم بفسق أحد تقول : « قد خفي عليّ فسقه فتبيّن لي أنّه فاسق » ، ولا يصحّ أن تقول : « ما تبيّن لي فسقه » ، كما أنّه إذا رأيت الهلال تقول : « قد خفي على بصري الهلال فتبيّن » ، ولا يصحّ أن تقول : « لم يتبيّن ».

وقضيّة ذلك أن يكون الحكم المعلّق على الاستبانة بهذا المعنى ، معلّقا عليها بالمعنى الأعمّ الّذي هو القدر المشترك بين النوعين ، فيكون مفاد الرواية حينئذ إناطة حكم النجاسة المانعة عن الوضوء بزوال خفاء مباشرة الدم للماء ، الّذي يتحقّق تارة عند البصر كما لو رأيناه فيه بعينه ، واخرى عند الذهن كما لو علمنا بوقوعه فيه وإن خفي على أبصارنا بعد الوقوع ، فيكون المعنى ـ على نسخة النصب ـ : إن كان الّذي أصاب الإناء شيئا يخفى عليك كونه في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا لا يخفى عليك كونه في الماء فلا يتوضّأ منه ، ولا ريب أنّه إذا علمنا بوقوع قليل من الدم أو غيره ولو صغيرا بقدر رءوس الإبر في الماء ، لصدق في حقّنا قضيّة القول بعدم خفاء كونه في الماء ، ولم يصدق لو قلنا : أنّه شي‌ء خفي علينا كونه في الماء.

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٢٥.


وعلى نسخة الرفع : إن كان شي‌ء من الدم أو غيره خفي كونه في الماء فلا بأس به ، وإن كان شيئا لا يخفى كونه في الماء فلا يتوضّأ منه ، ولا ريب أنّ الرواية بكلّ من التقديرين واضحة الدلالة على أنّ إدراك مباشرة النجاسة بالحسّ أو الذهن موجب لترتّب النجاسة وأحكامها ، وهو عين ما صار إليه المشهور ، ولا شهادة لها بما صار إليه الشيخ ، ومحصّل مفادها ـ على ما أشرنا إليه غير مرّة ـ إفادة النجاسة وأحكامها منوطة بالعلم بالمباشرة ولو بتوسّط الحسّ ، ويكون موردها كما يرشد إليه السؤال المصرّح بإصابة الدم للإناء صورة الاشتباه والاحتمال ظنّا أو وهما أو شكّا ، لصدق الخفاء المعلّق عليه عدم المنع على الجميع عرفا ، ولا ريب أنّها ممّا يحسن معها السؤال ، بل السؤال عن مثلها ممّا ينبعث عن التقوى وكمال الاعتناء بآثار الشرع وأحكامه ، كما هو من دأب المحتاطين وديدن المتّقين ، لا سيّما الّذين لهم حظّ من العلم والفقاهة في مسائل الدين.

فما أورد على القول بمنع دلالة الرواية إلّا على إصابة الإناء ، من أنّ ذلك غير لائق بعلوّ شأن السائل وهو عليّ بن جعفر ؛ لكونه فقيها جليل القدر عظيم الشأن من أهل العلم والمعرفة ، فكيف يسأل عن حكم إصابة النجاسة للإناء دون الماء ، مع وضوحه وبداهة أنّ إصابة الإناء ممّا لا يعقل لها تأثير في المنع ، ليس على ما ينبغي.

لا يقال : السؤال إنّما ينبعث عن الجهل ، ومن البعيد أن لا يكون عليّ بن جعفر عالما بحكم صورة الاشتباه ، وما قرّر لها من الأصل الّذي يرجع إليه معها ، لأنّه لا يناسب ما فيه من الفقاهة وجلالة الشأن وعلوّ المرتبة ، لمنع اقتضاء كلّ ذلك ما ذكر من الاستبعاد ، فإنّ البحر قد يشذّ منه القطرة ، مع أنّ الفقاهة إنّما تحصل تدرّجا فلم لا يجوز كون الرواية صادرة في أوّل الأمر ، أو أنّه علم الأصل بالاجتهاد ومع ذلك راعى السؤال أخذا بالأوثق ، أو أنّ السؤال إنّما ورد تنبيها للغير على حكم المسألة ممّن خفي عليه الأمر.

وبما قرّرناه في دفع دلالة الرواية على ما صار إليه الشيخ ، وقعنا في فراغ عن القدح في سندها ، والحكم عليه بالضعف من جهة الجهالة ، فإنّ في طريقها محمّد ابن أحمد العلوي وهو مجهول حاله ، غير منصوص في كلام علماء الرجال بمدح ولا قدح ، حتّى يعارض بكون توثيقه مستفادا من تصحيح العلّامة رواياته في المختلف والمنتهى ،


سيّما هذه الرواية الّتي صحّحها العلّامة في المختلف (١) بخصوصها.

وأمّا الوجه الثاني : ممّا احتجّ به الشيخ فمنعه واضح غاية الوضوح ، وتفصيل القول عليه منع الصغرى أوّلا : ـ سواء أراد بالمشقّة العظيمة العسر والحرج المنفيّين في الشريعة ، أو ما فوق ذلك ـ ومنع الكبرى ثانيا : فإنّ أقصى ما يترتّب على المشقّة ارتفاع الحكم التكليفي كما هو نتيجة الدليل المصرّح بها في متن الاستدلال المعبّر عنها بالعفو ، ولا يلزم منه عدم انعقاد الحكم الوضعي وهو النجاسة وتحقّق الانفعال ، كما أنّه ممّا لا يلزم منه ارتفاع الحكم الوضعي ، كما ثبت نظيره في غير موضع من الشرعيّات كقليل الدم في لباس المصلّي أو بدنه ، ومثله دم القروح والجروح فيهما ونحو ذلك ، ولا ريب أنّ المتنازع فيه هو الثاني دون الأوّل كما لا يخفى ، فثبت إذن أنّ الأقوى ما صار إليه المشهور عملا بعموم الأخبار منطوقا ومفهوما ، سيّما عموم التعليل الوارد في الكلب.

ومنع ذلك ـ كما عن جماعة ويظهر من المحقّق السبزواري (٢) أيضا ـ ليس بوجيه ، فإنّ المستفاد من ملاحظة مجموع الروايات ـ خصوصا ما ورد من التعليل بالنجاسة ـ كون الحكم منوطا بنفس الوصف مع قطع النظر عن خصوصيّة موصوفه ، ولا ريب أنّه يتحقّق مع الكثير ومع القليل أيضا في أيّ مرتبة من مراتبه ، والتشكيك في مثل ذلك خروج عن جادّة الاستقامة واجتهاد في مقابلة النصّ ، وتبقى الرواية المتقدّمة بالمعنى الّذي فسّرناها به دليلا آخرا ومؤيّدة للدليل ، فاحفظ هذا واغتنم.

الجهة الرابعة : قد استفاض نقل الشهرة في عدم الفرق في انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة بين ورودها عليه ، أو وروده عليها ، أو تواردهما ، كما لو سالا عن ميزابين ونحوهما فاختلطا ، كما أنّه اشتهر المخالفة في ذلك عن السيّد المرتضى في الناصريّات لذهابه إلى الفرق بتخصيصه الانفعال بالماء الّذي يرد عليه النجاسة دون العكس ، وهو محكيّ عن الشافعي من العامّة ، ولكن العبارة المحكيّة عن السيّد غير دالّة على استقرار هذه المخالفة منه ، لأنّه عند حكاية القول بعدم الفرق بين الورودين عن جدّه الناصر ، قال في الناصريّات : « قال الناصر : ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة وورود النجاسة على الماء.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٢.

(٢) ذخيرة المعاد : ١٢٥.


قال السيّد : وهذه المسألة لا أعرف لها نصّا لأصحابنا ولا قولا صريحا ، والشافعي يفرّق بين ورود الماء عليها ، وورودها عليه فيعتبر القلّتين في ورود النجاسة على الماء ، ولا يعتبر في ورود الماء على النجاسة ، وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة ، والّذي يقوى في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمّل لذلك. صحّة ما ذهب إليه الشافعي ؛ والوجه فيه : إنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة لأدّى ذلك إلى أنّ الثوب لا يطهّر من النجاسة إلّا بإيراد كرّ من الماء عليه وذلك يشقّ ، فدلّ على أنّ الماء الوارد على النجاسة ، لا يعتبر فيه القلّة والكثرة كما يعتبر فيما يرد عليه النجاسة » (١).

وهذا كما ترى ممّا لا يقضي بأنّه أخذ ذلك مذهبا لنفسه على سبيل الإذعان ، ولا على استقراره عليه لو فرض إذعانه به حين إنشاء تلك العبارة ، وعلى أيّ حال فلم نقف من أصحابنا على من وافقه على ذلك عدا صاحب المدارك من المتأخّرين ، في قوله ـ بعد ما رجّح في مسألة الانفعال خلاف مذهب العمّاني ـ : « لكن لا يخفى أنّه ليس في شي‌ء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، ولا على انفعاله بكلّ ما يرد عليه من النجاسات ، ومن ثمّ ذهب المرتضى رحمه‌الله في جواب المسائل الناصريّة إلى عدم نجاسة القليل بوروده على النجاسة وهو متّجه » (٢) انتهى.

نعم ، عن الحلّي في السرائر أنّه قال ـ بعد ما نقل العبارة المتقدّمة عن السيّد ـ قال : « محمّد بن إدريس وما قوي في نفس السيّد هو الصحيح ، المستمرّ على أصل المذهب وفتاوي الأصحاب » (٣) انتهى.

وما أبعد بين كلامه رحمه‌الله وعبارة السيّد المتقدّمة حيث إنّ ظاهره الإجماع على الفرق المذكور ، ومن البعيد أن يكون مسألة إجماعيّة ولم يعرف السيّد فيها نصّا ولا قولا صريحا لأصحابنا ، وهو أقدم منه وأعرف بفتاوي من سلف منهم واصول مذهبهم ، ولعلّه أراد بما نقله ما تحقّق متأخّرا عن عصر السيّد ، أو ما تحقّق بين أهل عصره بالخصوص ، وهو أيضا بمكان من المنع ، حيث لم يوافقه أحد على ذلك النقل ، وربّما يمكن القول بأنّه وهم نشأ عن ملاحظة ما استقرّ عليه المذهب واجتمعت عليه فتاوي الأصحاب ، من أنّ الماء القليل الوارد

__________________

(١) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧).

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.

(٣) السرائر ١ : ١٨١.


على المتنجّس يفيد طهارة المحلّ بزعم أنّه ممّا لا يتأتّى إلّا على فرض طهارة الماء.

وربّما يحمل كلام السيّد فيما تقدّم على أن يكون مراده بعدم نجاسة الوارد عدم نجاسة العالي بالسافل ، حتّى يكون لما ذكره ابن إدريس من أنّ فتاوي الأصحاب به وجه صحّة فيرتفع الخلاف في البين ، وهو كما ترى في وضوح من البعد ، وعن ظاهر الشهيد في الذكرى (١) أنّ كلامهما في الغسالة خاصّة ، فلا مخالفة لهما في مسألة الورودين ، ويقوى ذلك بملاحظة جملة من العبارات المحكيّة عنهما الظاهرة في موافقة المشهور.

فعن السيّد ـ في مسألة التطهير بالمستعمل في رفع الحدث ـ : « أنّه يجوز أن يجمع الإنسان وضوءه عن الحدث أو غسله من الجنابة في إناء نظيف ويتوضّأ به ، ويغتسل به مرّة اخرى ، بعد أن لا يكون في بدنه شي‌ء من النجاسة ، بناء على أنّ اعتبار نظافة الإناء وخلوّ البدن عن النجاسة إنّما هو لحفظ الماء الوارد عليهما عن الانفعال كما هو الظاهر ، لا لأنّ غسالة النجس لا تصلح مطهّرة ، وإن كانت طاهرة » (٢).

وعن ابن إدريس في مواضع :

منها : ما حكي عن أوّل السرائر ، من قوله : « والماء المستعمل في تطهير الأعضاء والبدن الّذي لا نجاسة عليه إذا جمع في إناء نظيف كان طاهرا مطهّرا ، سواء كان مستعملا في الطهارة الكبرى أو الصغرى على الصحيح من المذهب » (٣) والتقريب فيه أيضا نظير ما تقدّم.

ومنها : ما حكي أيضا في مسألة ماء الاستنجاء وماء الاغتسال من الجنابة ، من قوله : « متى انفصل ووقع على نجاسة ثمّ رجع إليه وجب إزالته » (٤) ، وهذا كما ترى كالصريح في موافقة المشهور في غير الغسالة.

ومنها : ما حكي أيضا من أنّه ادّعى الإجماع والأخبار على نجاسة غسالة الحمّام ، بناء على أنّها في الغالب من المياه الواردة على النجاسة (٥).

وقد يستظهر القول المبحوث عنه من الشيخين في المقنعة والمبسوط ؛ لأنّ الأوّل ـ بعد ما حكم بطهارة ما يرجع من ماء الوضوء إلى بدن المتوضّي أو ثيابه ـ قال :

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٤.

(٢) المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٨ ، المسألة السادسة).

(٣ و ٥) السرائر ١ : ٦١ و ١٨٤ و ٩٠.


« وكذلك ما يقع على الأرض الطاهرة من الماء الّذي يستنجى به ثمّ يرجع عليه لا يضرّه ولا ينجّس شيئا من ثيابه وبدنه ، إلّا أن يقع على نجاسة ظاهرة فيحملها في رجوعه ، فيجب غسل ما أصابه منه » (١).

والثاني قال : « لو كان على جسد المغتسل نجاسة أزالها ثمّ اغتسل ، فإن خالف واغتسل أوّلا ارتفع حدث الجنابة ، وعليه أن يزيل النجاسة إن كانت لم تزل بالاغتسال » (٢) ، فإنّ حكمه بارتفاع حدث الجنابة مبنيّ على عدم انفعال الماء الوارد على النجاسة الّتي تكون في الجسد ، وإلّا لم يكن لما ذكره وجه ، بناء على اشتراط الطهارة في ماء الغسل.

واجيب عن الأوّل : باحتمال أن يكون مراد المفيد من حمل الماء النجاسة تنجّسه بها ، كما في قوله عليه‌السلام : « لم يحمل خبثا » (٣) ، لا حمله جزءا منها حتّى يكون إيجاب الغسل من جهة هذا الجزء لإصابته الثياب أو البدن ، فلا ظهور لما ذكره في ما توهّم منه.

وعن الثاني : بحمل كلامه على الاغتسال فيما لا ينفعل من الماء لا مطلقا.

وكيف كان فلم نقف من أصحابنا على مصرّح بالقول المذكور على نحو يشمل محلّ النزاع ، نعم عبارة المدارك ـ فيما تقدّم (٤) ـ ظاهرة في الميل إليه ، ودونها في الظهور كلام الحلّي المتقدّم (٥) ، وأمّا السيّد فقد عرفت أنّ كلامه غير ظاهر في اختياره مذهبا على جهة الاستقرار ، وعلى أيّ حال فالحقّ هو المشهور المنصور لوجوه.

الأوّل : ظاهر الخبر المستفيض « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٦) فإنّه بعموم مفهومه التابع لعموم منطوقه يشمل المقام وغيره ، من ورود النجاسة على الماء أو تواردهما معا ، والوجه في ذلك ما سبق الإشارة إليه من أنّ له عموما من جهات أربع : باعتبار لفظي « الماء » و « الشي‌ء » فيشملان كلّ ماء وكلّ نجس ، وباعتبار لفظ « الكرّ » بالنظر إلى الأحوال الطارئة له من الاجتماع والتفرقة ، مع الاتّصال أو تساوي السطوح. واختلافهما ، تسنّما أو انحدارا ، وباعتبار نسبة التنجيس إلى الشي‌ء المنفيّ في المنطوق المثبت في

__________________

(١) المقنعة : ٤٧.

(٢) المبسوط ١ : ٢٩.

(٣) مستدرك الوسائل ١ : ١٩٨ ، ب ٩ من أحكام المياه ح ٦ ـ عوالي اللآلي ١ : ٧٦ ـ ٢ : ٦.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.

(٥) السرائر ١ : ١٨١.

(٦) الوسائل ١ : ١٥٨ ، ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.


المفهوم ، بالنظر إلى الأحوال اللاحقة بالمباشرة الّتي تستفاد من تلك النسبة من كونها حاصلة بورود الشي‌ء على الماء ، أو بورود الماء على الشي‌ء ، أو بورود كلّ على الآخر دفعة.

ولا ريب أنّ إطلاق تلك النسبة يشمل جميع تلك الأحوال فيتبعه الحكم منطوقا ومفهوما ، لئلّا يلزم الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه ، وما ادّعي من القول المذكور لا يصار إليه إلّا مع دليل دافع لذلك الإطلاق وليس ثابتا لما ستعرف من ضعف المستند.

وممّا قرّرناه تبيّن اندفاع ما اعترض عليه من منع شموله لمحلّ البحث ، تعليلا بأنّ الدلالة تنشأ عن عموم « الشي‌ء » المأخوذ في المفهوم ، وهو بمكان من المنع لكونه نكرة في سياق الإثبات فلا يعمّ ، كما تبيّن بطلان ما قيل في دفعه ـ بعد تسليم المنع المذكور ـ من أنّ الدلالة تنشأ من لفظ « الماء » وهو عامّ.

والوجه فيهما : أنّ العامّ إنّما يشمل من الأفراد لما هو من سنخه بحسب المفهوم العرفي أو اللغوي ، ولو من جهة الإطلاق المقابل للتقييد ، ولا ريب أنّ كون كلّ فرد من أفراد النجاسة ممّا يوجب انفعال القليل لا يستلزم كونه كذلك في جميع الأحوال اللاحقة بالمباشرة ؛ إذ ليست الأحوال من سنخ أفراد النجاسة ، كما أنّ كون كلّ فرد من أفراد القليل ممّا ينفعل بالملاقاة لا يستلزم كونه كذلك بالقياس إلى جميع أحوال المباشرة ، فلا بدّ من إحراز العموم من جهة اخرى ممّا يرجع إلى المباشرة ، نظرا إلى أنّها الّتي تختلف بالأنواع المختلفة المعبّر عنها بالورودين والتوارد.

الثاني : إطلاق جملة من الروايات المتقدّمة كرواية أبي بصير الواردة في النبيذ المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « ما يبلّ منه الميل ينجّس حبّا من ماء » (١) ، فإنّ ذكر « الحبّ » وارد من باب المثال ، للقطع بعدم مدخليّة الخصوصيّة في الحكم ، فهو في الحقيقة كناية عن الكثير الّذي يباشره النبيذ كائنا ما كان ، وتحديده بما يبلّ منه الميل مبالغة في قوّة ما فيه من التأثير ، حتّى أنّ أقلّ قليل منه ينجّس من الماء ما كان أكثر منه بمراتب ، ولا ريب أنّ ذلك بإطلاقه يتناول محلّ البحث أيضا.

ورواية عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل يجد في إنائه فأرة ، وقد توضّأ من ذلك الإناء مرارا ، وغسل منه ثيابه واغتسل منه ، وقد كانت الفأرة

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٧٠ ب ٣٨ من أبواب النجاسات ح ٦ ـ الكافي ٦ : ٤١٣ / ١.


منسلخة؟ فقال : « إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه ، ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء ، فعليه أن يغسل ثيابه ، ويغسل كلّما أصابه ذلك الماء ، ويعيد الوضوء والصلاة الحديث » (١) فإنّ ترك الاستفصال في موضع الاحتمال يفيد العموم في المقال ، ولو لا عدم الفرق بين الورودين لكان اللازم تفصيلا آخر في اولى شقي التفصيل المذكور في الرواية ، كما لا يخفى.

ورواية عمر بن حنظلة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما ترى في قدح من مسكر يصبّ عليه الماء حتّى يذهب عاديته ، ويذهب سكره؟ ، فقال عليه‌السلام : « لا والله ، ولا قطرة قطرت في حبّ إلّا اهريق ذلك الحبّ » (٢) فإنّ السؤال ظاهر بل صريح في ورود الماء والجواب صريح في عكسه ، فلو لا المراد إعطاء الحكم على الوجه الأعمّ لفاتت المطابقة بينهما ، بل لك أن تقول : لا حاجة إلى توسيط ذلك ، بناء على أنّ النفي المستفاد من قوله عليه‌السلام : « لا » ، راجع إلى فرض السؤال ويبقى ما بعده مخصوصا بصورة العكس ، تعميما للحكم بالقياس إلى الصورتين معا وهو المطلوب.

والثالث : جملة من الروايات أيضا صريحة أو ظاهرة كالصريحة في خصوص المسألة المبحوث عنها ، كموثّقة عبد الله بن يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ، وفيها يجتمع غسالة اليهودي ، والنصراني ، والمجوسيّ ، والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (٣) ، فإنّ غسالة الحمّام تحصل غالبا بصبّ الماء على البدن لغسل أو تنظيف أو غير ذلك كما لا يخفى.

ومنه رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « لا تغتسل من البئر الّتي تجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ماء يغتسل به الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا أهل البيت » ، الحديث (٤) ، ولكنّها إنّما تنطبق عليها لو قلنا بظهورها في الانفعال ، وإلّا فأقصاها الدلالة على أنّ الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر لا يرفع

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٨ / ٤١.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٥.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٠ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ٥ ـ علل الشرائع : ٢٩٢.

(٤) الوسائل ١ : ٢١٨ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٧٣ / ١١٤٢.


الحدث ، ولا يستعمل ثانيا في التطهير عن الحدث ، كما يرشد إليه الجمع بين الناصب والجنب وولد الزناء مع عدم كونهما نجسين ، وكون الجنب ممّن عليه نجاسة خارجيّة مجرّد احتمال لا ينبغي تنزيل الرواية عليه.

وموثّقة عمّار المتضمّنة لقوله : وعن الإبريق يكون فيه خمرا يصلح أن يكون فيه ماء؟ قال : « إذا غسل فلا بأس » (١) ، وهي صريحة في ورود الماء دالّة بمفهومها على الانفعال في المتنازع نفسه.

وفي معناها رواية الوسائل وقرب الإسناد ، المتضمّنة للسؤال عن الشرب في الإناء يشرب منه الخمر قدحان عيدان أو باطية ، المستعقب لقول الإمام عليه‌السلام : « إذا غسل فلا بأس » (٢)

والرابع : إطلاق الإجماعات المحكيّة في المسألة على حدّ الاستفاضة.

منها : ما عن أمالي الصدوق : « من أنّه من دين الإماميّة الإقرار بأنّ الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر ، ولا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة » (٣) ، لا يقال : إنّه لا يشمل جميع أنواع النجاسة ؛ لأنّه غير قادح فيما نحن بصدده ، مع إمكان إرجاعه إلى أكثر الأنواع نظرا إلى أنّ الغالب منها ما يرجع إلى ذي النفس كما لا يخفى على المتأمّل.

ومنها : ما عن الغنية (٤) من أنّه إن كان الماء الراكد قليلا ، ومياه الآبار قليلا كان أو كثيرا تغيّر بالنجاسة أو لم يتغيّر فهو نجس بدليل إجماع الطائفة.

ومنها : ما في المختلف (٥) من أنّه اتّفق علماؤنا إلّا ابن أبي عقيل على أنّ الماء القليل ـ وهو ما نقص عن الكرّ ـ ينجّس بملاقاة النجاسة له تغيّر بها أو لم يتغيّر.

ومنها : ما عن السيوري (٦) من أنّ تنجّس القليل من الراكد مذهب كافّة العلماء ، إلّا ابن أبي عقيل منّا ومالكا من الجمهور.

ومنها : ما عن شرح المفاتيح للمحقّق البهبهاني : « أجمع علماؤنا على انفعال القليل

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٤ ب ٥١ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٣ / ٨٣٠.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٦٩ ب ٣٠ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٥.

(٣) أمالي الصدوق ـ المجلس ٧٣ ـ ص : ٧٤٤.

(٤) الغنية : ٤٦.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ١٧٦.

(٦) التنقيح الرائع ١ : ٣٩.


بالملاقاة سوى ابن أبي عقيل ، ولعلّه خارج غير مضرّ لكونه معلوم النسب إلخ » (١).

وأمّا ما تقدّم في عبارة السيّد من الاحتجاج ، فجوابه ـ بعد قصوره عن إفادة تمام المدّعى كما أشار إليه في المصابيح ـ على ما حكي ـ قائلا : « بأنّ غاية ما هناك قضاء الضرورة بطهارة الوارد على المحلّ المتنجّس إذا استعقب طهر المحلّ ، فأمّا طهارة الوارد مطلقا ولو على النجس أو المتنجّس فيما عدا الغسلة المطهّرة فلا » (٢) ـ منع الملازمة ، لما سبق الإشارة إلى تحقيقه من أنّه لا مانع عن إفادة هذا الماء ولو مع الانفصال طهارة المحلّ بعد الانفصال.

فإن قلت : الفاقد للشي‌ء لا يصلح لكونه معطيا له.

قلت : أوّلا أنّه منقوض بأحجار الاستنجاء ، وثانيا : منع كون الماء بنفسه علّة مستقلّة للطهارة ، بل العلّة هو المجموع من وروده طاهرا على المحلّ مع انفصاله عنه بالعصر ونحوه ، فالمطهّر حقيقة ورود الطاهر مع انفصاله ، ولا يقدح فيه انفعاله بنفسه فيما بين الجزءين إذا دلّ عليه الشرع ، فالالتزام به عند التحقيق إنّما هو من جهة الجمع بين القاعدتين : قاعدة انفعال القليل بالملاقاة ، وقاعدة طهر المتنجّس بالقليل الوارد عليه ، فإنّ كلّا من القاعدتين ممّا قام به الدليل ، والمفروض أنّ الأسباب الشرعيّة ليست كالعلل العقليّة حتّى تقاس بالعقول ، بل هي امور تعبّديّة تتبع دليل التعبّد بها ، فإذا قام الدليل عليه يجب الأخذ بها وإعمالها في موارد ذلك التعبّد.

وعن بعض المتأخّرين أنّه بعد ما وافق السيّد في المذهب المذكور احتجّ بأنّ أقصى ما دلّت عليه الأدلّة الدالّة على انفعال القليل هو انفعال ما وردت عليه النجاسة ، فيتمسّك فيما عدا ذلك بمقتضى الأصل ، والعمومات السالمة على المعارض.

وأنت بعد ما أحطت خبرا بما قرّرناه في دليل المختار تعرف ضعف ذلك ، وأضعف منه ما عرفت عن الحلّي (٣) من دعوى استمرار الفرق بين الورودين على فتاوي الأصحاب واصول المذهب ، فإنّه كما ترى ينافي إطلاق الإجماعات المتقدّمة ، وكيف ذلك مع ما

__________________

(١) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٨١.

(٢) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٤٨.

(٣) السرائر ١ : ١٨١ ؛ تقدّم في الصفحة ٢٤٨.


عرفت عن السيّد (١) من إنكاره وجود نصّ من الأصحاب ولا قول صريح لهم في ذلك.

المقام الثاني :

في مستثنيات قاعدة الانفعال ممّا هو محلّ وفاق وما هو محلّ خلاف ، وقبل الخوض فيها ينبغي الإشارة إلى دقيقة ينكشف بها بعض الفوائد والغفلات ، وهي أنّك قد عرفت ممّا سبق ـ من أوّل المسألة إلى مقامنا هذا ـ أنّ قاعدة انفعال القليل بالملاقاة مطلقا ، يقابلها أقوال حدثت فيما بين العلماء.

أحدها : قول العمّاني بعدم انفعاله مطلقا.

وثانيها : قول السيّد بعدم انفعاله إذا كان واردا على النجاسة.

وثالثها : عدم نجاسة الغسالة الحاصلة من النجس.

ورابعها : عدم سراية النجاسة من أسفل الماء إلى أعلاه ولو قليلا ، وهذا قول إجماعي في الجملة على ما حكي ، ولا ريب أنّ كلّا من هذه الأقوال ناظر إلى جهة تطرأ القليل من غير الجهة الطارئة له بالنظر إلى قول آخر ، فالقليل ممّا يطرئه جهات متكثّرة نشأت من كلّ جهة قول ، غير أنّ هذه الجهات قد تجامعه في بعض فروضه ، وقد تفارق بعضها بعضا في البعض الآخر من الفروض ، وتوضيح ذلك : أنّ القليل الوارد على النجاسة عاليا كان أو غير عال له صور.

منها : ما لو ورد على النجاسة واستعقب طهر المحلّ وانفصل عنه بعد وروده ، فذلك الماء المنفصل حينئذ ممّا يلحقه حكم الطهارة قبالا للحكم عليه بالنجاسة من جهات ، بحسب الأقوال الناشئة عن تلك الجهات ، للزومه أن يقول بطهارته العماني لما يراه من عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة في جميع أحواله ، وأصحاب القول بطهارة الغسالة لكونه من أفرادها ، والسيّد لكونه من أفراد الماء الوارد على النجاسة.

ومنها : ما لو ورد على النجاسة من غير أن يستعقب طهارة المحلّ ، انفصل عنه أو لم ينفصل مستعليا كان أو غيره ، وهذا ممّا يتمشّى فيه قولا العماني والسيّد ، فما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ القول بالفرق بين الورودين مبنيّ على القول بطهارة الغسالة ،

__________________

(١) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦ ـ ١٣٧).


ليس على ما ينبغي.

ومنها : ما لو ورد عليها مستعليا ، وهذا ممّا يجري فيه قول العماني وقول السيّد والقول بعدم سراية النجاسة من الأسفل ، فما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ طهارة المستعلي مبنيّة على الفرق بين الورودين غفلة ، مبناها عدم مراعاة حيثيّات المسألة فإنّها ممّا تختلف باختلافها العنوانات ، واجتماع حيثيّة مع حيثيّة اخرى في موضوع واحد لا يوجب وحدة المسألة بعد ما تعدّد الموضوع بتعدّدهما ، ولذا ترى أنّ إحدى الحيثيّتين تفارق الحيثيّة الاخرى ، فينعقد بها مسألة لا يدخل فيها مسألة اخرى ، ويمتاز الحيثيّة الاخرى بانعقاد الإجماع على الحكم معها ، مع الخلاف فيه بالقياس إلى الحيثيّة الاولى.

فكون الماء المفروض من حيث إنّه مستعل غير منفعل بما ورد عليه من النجاسة ، ممّا لا مدخليّة فيه ، لكونه غير منفعل من حيث إنّه وارد عليها ، غاية الأمر كونهما متصادقين في مورد واحد ، وهو ليس من اتّحاد المسألتين في شي‌ء ، ولذا ترى أنّه من حيث الورود قد يطرئه أحوال يجري على الجميع الحكم بعدم الانفعال عند أهل القول بالفرق بين الورودين ، وهي حالة اللقاء ـ أي حدوثه ـ وحالة بقائه متّصلا بها إلى مدّة ، وحالة انفصاله المستتبع لزوال وصف العلوّ عنه ، فإنّ قضيّة إطلاق القول بعدم انفعال الوارد ودليله أيضا لو تمّ تشمل جميع تلك الأحوال ، بخلاف القول بعدم نجاسة العالي ، فإنّ ظاهره كونه كذلك ما دام وصف العلوّ باقيا ، وأمّا إذا زال عنه الوصف ـ سواء بقي على كونه ملاقيا لها أو انفصل عنها جزء فجزء ـ فيندرج في عنوان الغير المستعلي الملاقي للنجاسة ، وهو كما ترى خروج عن الموضوع ، ومعه لا يعقل لحوق الحكم به لكون القضيّة بالقياس إلى الوصف الزائل من باب المشروطة.

فمسألة عدم انفعال المستعلي مفروضة في العالي بوصف كونه عاليا ، وأظهر أفراده ما لو جعل الماء في انبوبة متّصل رأسها بنجاسة بحيث أوجب اتّصالها بها اتّصال الماء من الجانب التحتاني بها ، وهذا مع نظائره ممّا يندرج تحت مفهوم المستعلي ممّا يعدّ من مستثنيات قاعدة الانفعال ، ويستفاد من غير واحد ثبوت هذا الاستثناء ، بل ظاهرهم فيما وجدناه من كلماتهم في الفروع الّتي منها ما سبق الإشارة إليه في فروع الكرّ الاتّفاق


عليه ، وفي كلام غير واحد منهم صاحب الحدائق (١) في فروع الكرّ التعليل له بعدم تعقّل سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، وحكى ذلك عن الشهيد في الروض (٢).

ولا يخفى ما فيه ، فإنّ الأحكام الشرعيّة التعبّديّة ـ ولا سيّما أحكام الطهارة والنجاسة ـ لا تقاس بالعقول ، فقصور العقل عن إدراك السراية من الأسفل لا يوجب الحكم عليها بالعدم ، بعد ما كان مقتضى الأدلّة النقليّة من العمومات والإطلاقات هو السراية ؛ ضرورة جريان قاعدة الانفعال في المفروض أيضا ، مع أنّ السراية الّتي لا تعقل هنا إن اريد بها سراية عين النجاسة الحاصلة بتفرّق أجزائها في أجزاء الماء وامتزاجها معها.

ففيه : أنّه منقوض بالمتساوي السطوح من القليل الّذي يقع فيه من النجاسات ما لا تتفرّق أجزاؤه مطلقا أو في الجملة ، فقضيّة ما ذكر من الاستحالة أن لا يحكم فيه بالانفعال ، لأنّ مبناها على عدم سراية العين وهو حاصل في الفرض ، فينبغي من أجل ذلك أن يفصّل في مسألة انفعال القليل بملاقاة النجاسة بين ما كان النجاسة الواقعة فيه ممّا له أجزاء قابلة للتفرّق والسراية فيحكم بالانفعال ، وبين غيره وهو كما ترى.

وإن اريد بها سراية أثر النجاسة ، فأيّ استحالة في سراية الأثر من الأسفل إلى الأعلى ، وأيّ شي‌ء قضى لكم بها في غير مختلف السطوح ، والنجاسة لا تباشره إلّا في جزء منه وهو لا يقضي بها هنا ولا يجري في المقام ، وهل هو إلّا تعبّد من الشارع ، أو لأنّ الأثر يسري من جزء إلى جزء آخر بواسطة ما بينهما من الاتّصال ، وأنّ الجزء الملاقي لعين النجاسة ينفعل بها ويوجب انفعال ما اتّصل به من الجزء الغير الملاقي لها وهكذا أتى آخر الأجزاء ، بناء على أنّ انفعال القليل لا يفرّق فيه بين استناده إلى ملاقاة النجس وملاقاة المتنجّس ، بمعنى أنّ ملاقاة المتنجّس أيضا توجب انفعال الملاقي له كملاقاة النجس ، وأيّ عقل ينكر إمكان جريان الأوّل في مفروض المسألة ، كما أنّه أيّ عقل يقضي باستحالة جريان الثاني فيه ، مع أنّ الواسطة في الانفعال وهو مجرّد الاتّصال متحقّقة معه جزما.

فالحقّ أنّ الحكم تعبّدي ومستنده الإجماع لمن حصّل له ذلك ، أو منقوله لمن يراه حجّة ، وقد استفاض من علمائنا الأعلام نقله ، ومنهم ثاني الشهيدين في روضه (٣) على

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٢.

(٢ و ٣) روض الجنان : ١٣٦.


ما حكي ـ وتصدّى لنقله صاحب الحدائق (١) أيضا في غير موضع يظهر للمتتبّع ، والسيّد صاحب المصابيح (٢) في عبارة محكيّة منه ، وصرّح به صاحب المدارك (٣) في مسألة عدم اشتراط تساوي السطوح في عدم انفعال الكرّ ، ردّا على المحقّق الثاني في احتجاجه بما تقدّم في بحث الكرّ على عدم تقوّي الأعلى بالأسفل ، وقد حكي (٤) ذلك عن صاحب المقابس (٥) من تلامذة السيّد المتقدّم ذكره ، وله في مصابيحه عبارة عثرنا على حكايته ولا بأس بأن نذكرها لتضمّنها تحقيقا وبسطا.

فإنّه قال : « لا ينجّس المستعلي من السائل عن نبع وغيره ، والمراد به ما فوق الملاقي للنجاسة أو المتنجّس بغير هذه الملاقاة ، لما تقدّم من عدم الفرق في الملاقي بين الوارد والمورود عليه كما هو المشهور ، والحكم بطهارة المستعلي بهذا المعنى مجمع عليه ، وقد حكى جماعة من الأصحاب ، منهم الشهيد في الروض (٦) ، وسبطه في المدارك (٧) الإجماع على عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، والمراد نفي السراية في السائل خاصّة ، فلو استقرّ نجس الأعلى إلّا على القول بالفرق بين الورودين ، فالمستعلي على هذا القول طاهر مطلقا ، سواء في ذلك الملاقي للنجاسة وغيره ، ولا فرق في طهارة المستعلي من السائل بين النابع وغيره ، وإن كان الحكم في الأوّل أظهر لثبوت العصمة فيه باعتبار الجريان والاستعلاء معا ، بخلاف الثاني فإنّ المانع من انفعاله هو الثاني خاصّة ، وعلى قول العلّامة باشتراط الكرّيّة في الجاري فالمانع عن الانفعال هو الاستعلاء مطلقا ، وقد صرّح غير واحد من الأصحاب في مسألة تغيّر الجاري والكثير باختصاص المتغيّر بالتنجيس إذا اختلف سطوح الماء وكان المتغيّر هو الأسفل ، وهذا يقتضي طهارة المستعلي عن نبع وغيره.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٣ حيث قال : « لأنّ الأعلى لا تسري إليه النجاسة إجماعا » وأيضا ١ : ٢٤٢ حيث قال : « وأمّا الأعلى فظاهر كلامهم ، الاتّفاق على عدم نجاسته ؛ لعدم تعقّل سريان النجاسة إلى الأعلى »

(٢) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٤.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٤٥حيث قال:« مع أنّ الإجماع منعقد على أنّ النجاسة لا تسري إلى الأعلى مطلقا ».

(٤) والحاكي هو الشيخ الأنصاري قدس‌سره في كتاب الطهارة ١ : ١١٦.

(٥) مقابس الأنوار : ٧٩.

(٦) روض الجنان : ١٣٦.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٤٥.


وقال العلّامة رحمه‌الله في المنتهى : « لا فرق بين الأنهار الكبار والصغار ، نعم الأقرب اشتراط الكرّيّة لانفعال الناقص عنها مطلقا ، ولو كان القليل يجري على أرض منحدرة كان ما فوق النجاسة طاهرا » (١) ، وقال في التذكرة : « لو كان الجاري أقلّ من الكرّ نجس بالملاقاة الملاقي وما تحته » (٢) ، وقال الشهيد في الدروس : « ولو كان الجاري لا عن مادّة ولاقته النجاسة لم ينجّس ما فوقها مطلقا » (٣) ، وقال في البيان : « ولو كان الجاري بلا مادّة نجس بالملاقاة إذا نقص عن الكرّ ، ولا ينجّس به ما فوق النجاسة » (٤).

وقال ابن فهد في الموجز : « ولو كان لا عن مادّة كثيرا لم ينجّس بالملاقاة مطلقا ، وقليلا ينفعل السافل خاصّة » (٥) ، وقال المحقّق الكركي في حواشي الإرشاد : « أنّ الجاري هو النابع من الأرض دون ما جرى فإنّه واقف ، وإن لم ينجّس العالي منه بنجاسة السافل إذا اختلف السطوح » (٦) ، وهذه العبارات صريحة في طهارة المستعلي من السائل من حيث هو كذلك ، جاريا كان أو راكدا ، سواء قلنا بنجاسة الماء الوارد على النجاسة أو لم نقل » (٧) انتهى.

أقول : ما استظهره رحمه‌الله من عموم الحكم بالقياس إلى السائل عن مادّة والسائل لا عن مادّة في محلّه ، بل وإطلاق بعض هذه العبارات بل وصريح بعضها يقضي بعدم الفرق في ذلك بين ما لو كان العالي بنفسه كرّا أو عاليا في كرّ أو في قليل.

ويبقى الكلام مع السيّد المتقدّم رحمه‌الله في شي‌ء ، حيث إنّه خصّ الحكم بما إذا كان العالي سائلا ، فإنّه غير معلوم الوجه ، ولعلّه اقتصار على القدر المتيقّن من معقد الإجماع المخرج عن القاعدة ، أو مستفاد من كون المسألة في فتاوي الأصحاب مفروضة في خصوص الجاري بالمعنى الأعمّ من النابع والسائل لا عن نبع كما يرشد إليه الكلمات السابقة ، أو من أنّ إجماعات المسألة قد نقلت في الجاري بالمعنى الأخصّ ، أو في مسألة اختلاف سطوح الكثير الّذي لا يتأتّى فرضه إلّا مع السيلان ، وعلى كلّ تقدير فهو

__________________

(١) المنتهى ١ : ٢٨.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ١٧.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ٩١١.

(٤) البيان : ٩٨.

(٥) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١١).

(٦) حاشية الإرشاد ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ١٥.

(٧) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٤.


إغماض عن إطلاق العبارة في منقول الإجماع المتضمّنة لقولهم : « النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى » ، ولا ريب أنّها تشمل الغير السائل أيضا ، بل أظهر أفراده ما تقدّم الإشارة إليه من مسألة الانبوبة ، ومن المصرّح به في كلام غير واحد من الأساطين أنّ منقول الإجماع عند العاملين به تعبّدا باعتبار العبارة الحاكية له من جملة الأدلّة اللفظيّة ، ولذا يسمّونه بالسنّة الإجماليّة ، فيجري عليه جميع أحكام اللفظ من إطلاق وتقييد ، وعموم وخصوص ، وإجمال وبيان ، فإذا كان عبارة قولهم : « النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى إجماعا » ، أو أنّهم أجمعوا على عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى مطلقة شاملة لعال غير سائل ، فأيّ شي‌ء يقضي بخروج ذلك عن الحكم المثبت بذلك وهو يوجب تقييد تلك العبارة ، ولا يصار إليه إلّا بدليل.

وقاعدة الاقتصار على مورد اليقين لا مجال إليها في الظواهر ، لأنّ الظاهر حيثما ثبت حجّيّة سنده قائم مقام اليقين ومعه لا معنى للاقتصار ، وخصوصيّة المثال في فتاوي الأصحاب لا تقضي باختصاص إجماعهم المنقول بعبارة مطلقة ظاهرة في العموم ، كما أنّ خصوص المورد والسبب لا يوجب تخصيصا في العامّ ولا تقييدا في المطلق ، واعتبار كون كلّ ذلك قرينة كاشفة عن حقيقة مراد الناقلين للإجماع من تلك العبارة ، أو مراد المفتين في المسألة بتلك العبارة ليس على ما ينبغي ، لتوجّه المنع الواضح إلى صلوح ذلك للقرينيّة ، وإلّا لكان ينبغي أن يقال بمثله في غير محلّ المقال كعمومات اخر واردة في موارد خاصّة ، ومجرّد الاحتمال لا يعارض الظهور ، ويقوى هذا الإشكال لو كان مستند الحكم أو مستند الإجماع ما سبق الإشارة إلى ضعفه من عدم معقوليّة سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، كما لا يخفى.

نعم ، يمكن الاعتذار له قدس‌سره بأنّ مستنده في حكم المسألة إجماع حصّله بنفسه ، كما صرّح به في صدر العبارة المتقدّمة ، وكان معقد ذلك الإجماع مجملا في نظره بالقياس إلى بعض الأفراد ، فاضطرّ إلى الاقتصار على مورد اليقين ، حيث إنّ الإجماع المحصّل ليس من مقولة الألفاظ ليعتبر فيه إطلاق أو عموم أو نحو ذلك ، ولكنّه بعيد عن المتتبّع الناقد ، ولعلّه عثر من الخارج على ما دلّه على ما ادّعاه فهو أبصر بحقيقة الحال ، ولكن مجرّد ذلك لا يوجب لغيره الغير العاثر على ما عثر عليه رفع اليد عن ظهور منقول


الإجماع إن قال بالتعبّد به ، ثمّ إنّ هاهنا فروعا ينبغي الإشارة إليها.

أحدها : هل الحكم يثبت للعالي بجميع أجزائه حتّى الجزء الملاصق للنجس أو المتنجّس ، أو يختصّ بما عدا ذلك الجزء؟ وجهان : من أنّ العالي يشمل بإطلاقه جميع الأجزاء حتّى الجزء الملاصق ، ومن أنّ الأسفل في مقابلة الأعلى المأخوذ في عبارة الإجماع ظاهر في الماء وهو محكوم عليه بالنجاسة ـ كما يفصح عنه التعبير بأنّ النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى ـ وهو الأظهر ، كما تنبّه عليه السيّد المتقدّم في قوله المتقدّم ، والمراد به ما فوق الملاقي للنجاسة أو المتنجّس بغير هذه الملاقاة ، بناء على أنّ مراده بالملاقي للنجاسة أو المتنجّس هو الجزء الملاصق لهما من الأعلى ، فإنّ المحكوم عليه بالطهارة هو ما فوق ذلك الجزء.

وأمّا هو فمحكوم عليه بالنجاسة مستدلّا عليه بقوله : « لما تقدّم من عدم الفرق في الملاقي بين الوارد والمورود عليه » ولا يخفى ما في هذا التعليل من الوهن الواضح ، فإنّ مستند انفعال ذلك الجزء لو كان هو قضيّة عدم الفرق بين الورودين لقضى بانفعال ما فوقه أيضا ، لأنّ ما لا يفرّق فيه بين الورودين أعمّ من أن يكون واردا على النجس أو المتنجّس ، بناء على عدم الفرق في انفعال القليل بين ملاقاة النجس أو المتنجّس كما سبق تحقيقه ـ وعليه السيّد كما يستفاد من قوله : « أو المتنجّس بغير هذه الملاقاة » ، وإلّا لم يكن فائدة في ذكره ـ فإذا فرض أنّ الوارد على المتنجّس ينجّس بملاقاته يلزم نجاسة ما فوق الجزء الملاقي أيضا ، لوروده على المتنجّس ، ولا فرق في الملاقاة بين الورودين ، فلزم أنّ الحكم بالفرق بين الجزء الملاصق وما فوقه تعبّدي أثبته الإجماع ، وعلى هذا فالمفروض من مستثنيات قاعدة انفعال القليل بالمتنجّس خاصّة.

ثمّ يبقى الإشكال في تحديد ذلك الجزء استعلاما للطاهر عن المتنجّس ، ولو قيل بأنّه أقلّ ما يصدق عليه الماء الملاصق للنجس أو المتنجّس لم يكن بعيدا ، جمعا بين الوجهين المتقدّمين ، فلا يكفي مجرّد النداوة والرطوبة الظاهرة لو أمكن إدراكها منفصلة عمّا فوقها.

وثانيها : ظاهر عباراتهم فتوى ونقلا للإجماع أن يكون المراد بالعلوّ والاستعلاء الارتفاع بحسب المكان ، لا مجرّد الفوقيّة بأن يكون الماء واردا على النجس أو المتنجّس من مكان مرتفع موجب لارتفاع الماء المحكوم عليه بالطهارة على الجزء


الملاصق لهما في نظر الحسّ ، وإلّا لزمهم الحكم بالطهارة في غالب أفراد القليل ومعظم أحواله ، إذ الغالب من الملاقي ولو كان ساكنا وتساوى سطوحه اختصاص الملاقاة بما تحته إذا كان هو الوارد على النجس ، فيكون سائر الأجزاء المتواصلة واقعة في طرف الفوق ، فلو أنّ مجرّد هذه الفوقيّة توجب العصمة لقضى بما ذكرناه ، وهو باطل جزما.

وثالثها : قد عرفت في بحث الكرّ أنّ العلوّ قد يكون على جهة التسنيم وقد يكون على جهة الانحدار ، وتحتهما أفراد مختلفة في الظهور والخفاء ، وأخفى أفراد العالي ما لو كان من المنحدر ما توقّف سيلان الماء على الأرض على ارتفاع خفيّ لها بحيث يدقّ إدراكه على الحسّ ، وعبارات الأصحاب وإن كانت مطلقة في الحكم على الأعلى بعدم انفعاله بالأسفل ، غير أنّ انصراف ذلك الإطلاق إلى المفروض من المنحدر وما يشبهه محلّ إشكال ، كما أنّ المتيقّن من مورد الإجماع وصريح فتاوي الأصحاب ما لو كان عاليا على جهة التسنيم ، ودونه على وجه يعدّ من مصاديق الظاهر صورة الانحدار الّذي يكون ظاهرا في الأنظار ، وما عداهما ممّا فرض سابقا يبقى مشكوكا في حاله من حيث خروجه عن عموم قاعدة الانفعال وعدمه ، ولمّا كان دليل تلك القاعدة في عمومه ظاهر التناول لجميع أفراد المسألة الّتي منها المشكوك فيه فليحكم عليه بعدم الخروج عنها ، عملا بالظاهر السليم عمّا يصلح للمعارضة ، لعدم تبيّن التخصيص بالقياس إليه ، غايته بقاء الاحتمال فيرتفع بالأصل ، وممّن تنبّه على ما قرّرناه شيخنا الاستاد مدّ ظلّه في شرحه على الشرائع بقوله : « والمتيقّن من الإجماع صورة التسنيم وما يشبهه من التصريح ، وللتأمّل في غير ذلك مجال ، والتمسّك بالعموم أوضح ، وفاقا لظاهر كشف الغطاء (١) لصدق وحدة الماء ، فيدخل في عموم « ينجّسه » ، ولذا لو كان الماء على هذه الهيئة كرّا لم ينفعل شي‌ء منه بالملاقاة » (٢) انتهى.

وممّن صرّح بذلك أيضا الفاضل الكاظميني في شرحه للدروس ـ في عبارة محكيّة منه ـ حيث إنّه عند شرح قول المصنّف : « ولو كان الجاري لا عن مادّة » الخ ، قال : « بقى شي‌ء ، وهو أنّ إطلاق عدم النجاسة فيما فوقها غير جيّد ، إذ على تقدير تساوي السطوح وخصوصا مع كون حركة الماء ضعيفة ينجّس ما فوق النجاسة إذا

__________________

(١) كشف الغطاء : ١٨٧.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ١١٦.


نقص المجموع عن الكرّ » (١) انتهى.

وأمّا ما قيل ـ في دفع ذلك ـ : من أنّ إطلاقات الأصحاب وإطلاق الإجماعات المنقولة شاملة لمحلّ الفرض ، وهي وإن كانت معارضة لاطلاقاتهم في الانفعال القليل ، وإطلاق ادّعاء بعضهم عدم الفرق بين أفراد القليل في حكم الانفعال بالملاقاة ، إلّا أنّ الترجيح معها لتأييدها بالاصول والعمومات ، ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.

وأنت بالتأمّل فيما قرّرناه تقدر على دفعه ، مع ما في إبداء المعارضة بين إطلاقات مسألتنا هذه وإطلاقات مسألة الانفعال ما لا يخفى من خروجه عن السداد ، فإنّ هذه الإطلاقات لو صحّت وتمّت دلالتها بحيث تشمل مفروض المسألة كانت بأنفسها قاطعة لاطلاقات الانفعال ، لرجوع النسبة فيما بينهما إلى العموم والخصوص المطلقتين كما لا يخفى ، ومعه لا يكون الحاجة ماسّة إلى التشبّث بالمرجّح الخارجي ، مع ما في الترجيح بما ذكر ممّا لا يخفى ، كما أشرنا إليه مرارا.

ولو سبق إلى الوهم شبهة أنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، بتقريب : أنّ هذه الإطلاقات تشمل المستعلي من المضاف ، فتفترق من جهته ، وإطلاقات انفعال القليل تشمل غير المستعلي من الماء فتفترق به ، وتجتمعان في المستعلي من قليل الماء ، لدفعها : ما سنبيّنه في الفرع الآتي.

فإن قلت : هذا لا يجدي نفعا في المقام لبقاء تلك النسبة من جهة اخرى ، فإنّ اطلاقات المستعلي تشمل ما لو كان المستعلي من الماء كرّا وإطلاقات القليل تشمل غير المستعلي منه ، فيتعارضان في المستعلي من الماء إذا كان قليلا.

قلت : يندفع ذلك بملاحظة أنّ أكثر إطلاقات الانفعال بملاقاة النجاسة تشمل الكرّ وما دونه ، فتكون إطلاقات المستعلي أخصّ منها مطلقا.

ورابعها : في إلحاق المضاف بالماء في عدم نجاسة أعلاه بأسفله قولان ، أحدهما : ما اختاره أو مال إليه بعض أفاضل السادة في مناهله (٢) من عدم لحوقه به ، ناسبا له إلى بعض فضلاء معاصريه ، قائلا في عبارة محكيّة له : « فإذن احتمال سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى في المضاف في غاية القوّة ، كما ذهب إليه بعض فضلاء

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) مناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٢١٨.


المعاصرين » ، ومستنده على ما في شرح الشرائع للأستاد (١) دعوى شمول إطلاق فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم على انفعال المضاف بالملاقاة لما إذا كان المضاف عاليا.

وأورد عليه الاستاذ : « بأنّ ظاهرهم تنجّس المضاف مطلقا على نحو تنجّس المطلق القليل ، بل الملاقاة في كلامهم غير معلوم الشمول لهذا الفرد ، خصوصا عند من لا يرى اتّحاد العالي مع السافل » (٢).

وثانيهما : ما رجّحه الشيخ الاستاذ في شرحه (٣) ، وفاقا لصريح السيّدين في المدارك ، والمصابيح ، والرسالة المنظومة (٤) ، قال في المدارك ـ في مسألة أنّ المضاف متى لاقته نجاسة نجس ، قليله وكثيره ـ : « ولا تسري النجاسة مع اختلاف السطوح إلى الأعلى قطعا ، تمسّكا بمقتضى الأصل السالم عن المعارض » (٥).

وكان مراده قدس‌سره بالأصل القاعدة المجمع عليها من عدم سراية النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، خصوصا إذا استند لها إلى عدم المعقوليّة كما عرفته عن ثاني الشهيدين في الروض (٦) ، وإلّا أشكل الحال في الجمع بين دعوى القطع والتمسّك بالأصل الّذي لا مجال له إلى إيراث القطع ، وعن المصابيح أنّه قال : « وكما أنّ المستعلي من الماء لا ينجّس بملاقاة النجاسة لما تحته فكذا غيره من المائعات ، وقولهم : « النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى » يتناول الماء وغيره ، فلو صبّ من قارورة ماء الورد مثلا على يد الكافر اختصّ ما في يده بالتنجّس ، وكان ما في الإناء والخارج الغير الملاقي طاهرا إجماعا » (٧).

وعنه أيضا ـ في مسألة نفي الفرق بين الورودين : ـ « اعلم أنّ محلّ البحث هو القدر المتّصل بالنجاسة دون ما فوقه ، فإنّه طاهر إجماعا ، لأنّ النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى قطعا ، سواء في ذلك الماء وغيره » (٨).

وفي إطلاق هذا الكلام شي‌ء يظهر وجهه بالتأمّل فيما قرّرناه سابقا ، من مفارقة

__________________

(١ و ٢ و ٣) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ٣٠١.

(٤) الدرّة النجفيّة : ٦ حيث قال :.

و ينجس القليل والكثير

منه ولا يشترط التغيير

إن نجسا لاقى عدا ما قد علا

على الملاقي باتّفاق من خلا

(٥) مدارك الأحكام ١ : ١١٤.

(٦) روض الجنان : ١٣٦ ، تقدّم في الصفحة ٢٥٧.

(٧ و ٨) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة ٥٤ و ٤٩.


مسألة الورودين كثيرا عن مسألة العالي والسافل ، وكلامه يقتضي المصادقة الدائمة وإلّا لم يكن [وجه] (١) لتخصيص محلّ البحث من مسألة الورودين بما يبدأ فيه الفرق بين القدر المتّصل بالنجاسة وما فوقه ، إلّا أن يكون مراده بالفوقيّة ما يتحقّق مع تساوي السطوح أيضا ، وقد عرفت القول فيه.

وكيف كان فالوجه في المسألة هو هذا ، خلافا لما عرفت عن المناهل ، عملا بإطلاق الإجماعات المنقولة ، على أنّ النجاسة لا تسري من الأسفل إلى الأعلى ، فإنّه يشمل المقام وسائر المائعات ممّا لا يندرج تحت المطلق ولا المضاف الّذي يطلق عليه الماء مجازا جزما ، بحيث يكون الاسترابة فيه دفعا للضرورة ، فعلى ثبوت العمل به تمّ الدليل واستقرّت الحجّة ، وليس للمخالف على ما عرفت إلّا إطلاقات الفتاوي ، والإجماعات المنعقدة على انفعال المضاف مطلقا ، ودفعه بعد ملاحظة أنّ إطلاقاتهم فتوى ودعوى للإجماع في الفرق بين العالي وغيره أخصّ مطلقا من تلك الإطلاقات هيّن.

لا يقال : النسبة بينهما ترجع إلى عموم من وجه ، لافتراق الاولى في الماء المستعلي ، وافتراق الثانية في المضاف الغير المستعلي ، فيجتمعان في المضاف المستعلي ، ويلزمه الترجيح بالخارج.

لأنّا نقول : مع إمكان ترجيح الاولى بموافقتها الأصل ، فيه منع واضح فإنّ ذلك إنّما يتّجه إذا لوحظت الثانية منفردة عن إطلاقات انفعال الماء القليل ، وأمّا إذا لوحظتا معا وهما متوافقان في الحكم كان إطلاقات المستعلي أخصّ منهما مطلقا فتخصّصهما معا ، ألا ترى أنّه لو قال : « أكرم الرجال » ، ثمّ قال : « أكرم النسوان » ، ثمّ قال ثالثا : « لا تكرم الفسّاق » ، كان ذلك الأخير مخصّصا للأوّلين معا إذا لوحظا منضمّين ، وإن كان بينه وبين كلّ واحد منهما إذا لوحظ منفردا عموما من وجه كما لا يخفى.

ويستفاد من الشيخ الاستاذ في الشرح المشار إليه (٢) : دعوى الضرورة والسيرة فيه وفي الماء ، وكون مسألة عدم السراية مركوزة في أذهان المتشرّعة ، وهو في الجملة ليس ببعيد خصوصا في الماء ، ثمّ إنّه دام ظلّه خصّ الحكم فيه وفي المطلق بما إذا كان العالي سائلا ، وأمّا مع وقوف العالي على السافل من دون سيلان كما لو أدخل إبرة

__________________

(١) أضفناها لاستقامة العبارة.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ٣٠٤.


نجسة في قارورة من ماء الورد فنفي الإشكال فيه عن انفعال جميعه ، نافيا للخلاف عنه ، وهو أيضا ليس ببعيد بالنظر إلى ما قرّرناه في الفرع الثاني ، وإن كنّا رجّحنا خلافه في أصل المسألة ردّا على السيّد المتقدّم قدس‌سره ، فإنّ الظاهر أنّ ما ذكرناه ثمّة من الفرض داخل في عنوان متساوي السطوح من الوارد على النجاسة ، فتأمّل.

ولكنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه على كلّ حال ، كما أنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي ترك مراعاته فيما لا يكون الاختلاف بين الأعلى والأسفل على جهة التسنيم ، ولا سيّما ما كان من السافل له حركة ضعيفة كما في بعض صور الانحدار ، والله العالم ، هذا تمام الكلام في أوّل ما استثني من قاعدة انفعال القليل بالملاقاة.

والثاني : ممّا استثنى منها وفاقا في الجملة ماء الاستنجاء ، والمراد به ماء يغسل به موضع النجو ، يقال : استنجيت ، أي غسلت موضع النجو ، ومنه الاستنجاء أعني إزالة ما يخرج من النجو ، كذا في المجمع (١) ، والنجو ـ على ما فيه أيضا ـ الغائط ، ومنه الحديث لم ير للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نجو (٢) أي غائط ، وما بمعنى الحدث ومنه أنجى أي أحدث ، ولعلّه بهذا المعنى مخصوص بالغائط والبول أو يشملهما أيضا ، ومع الغضّ عنه فظاهر التفسير الأوّل اختصاصه بالغائط ، وعليه لا يتناول الاستنجاء إزالة البول وغسل موضعه ، ولكن الّذي يظهر من الأخبار كونه للأعمّ ، كما يشهد به صحيحة أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أبول ، وأتوضّأ ، وأنسى استنجائي ، ثمّ أذكر بعد ما صلّيت قال : « اغسل ذكرك ، وأعد صلاتك ، ولا تعد وضوءك » (٣).

ولا يبعد دعوى ثبوت الحقيقة الشرعيّة له في المعنى الأعمّ ، كما يفصح عنه صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا صلاة إلّا بطهور ، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار ، بذلك جرت السنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله » (٤) ، فإنّه لو لا للأعمّ لما حاجة إلى قوله عليه‌السلام : « وأمّا البول الخ » ، إذ احتمال التجوّز ممّا لا يعتنى به

__________________

(١ و ٢) مجمع البحرين ؛ مادّة « نجو ».

(٣) الوسائل ١ : ٢٩٤ ب ١٨ من أبواب نواقض الوضوء ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤٦ / ١٣٣ ، وفيهما : بإسناد الشيخ عن محمّد بن الحسن الصفار ، عن أيّوب بن نوح عن صفوان بن يحيى قال : حدّثني عمرو بن أبي نصر إلخ.

(٤) التهذيب ١ : ٤٩ / ١٤٤.


عند أهل اللسان ، فإنّما أتى به عليه‌السلام على عدم إرادة الأعمّ صونا له عن الوقوع في مخالفة الواقع لأجل فهمه الأعمّ كما هو دأب الحكيم فتأمّل.

وعلى فرض عدمه فهو في الأخبار حيثما تجرّد عن قرينة مخصوصة محمول على الأعمّ بقرينة فهم الأصحاب ، كما في أخبار الباب على ما ستعرفه من أنّهم في ذهابهم إلى طهارة الاستنجاء ، أو ثبوت العفو عنه يستندون إلى هذه الأخبار ، مع تصريحهم في عناوين المسألة بالتعميم بالنسبة إلى الحدثين ، ونقلوا إجماعاتهم على هذا المذكور صريحا في معاقدها كما سيأتي بيانها ، بل ظاهر تعليلاتهم فيما يأتي من مسألة التعميم بالنسبة إلى المخرجين يقتضي كونه للأعمّ باعتبار الوضع ، ولعلّه وضع شرعي كما أشرنا إليه ، وكيف كان فالبحث في ماء الاستنجاء مفروض عندهم في مسألتين :

المسألة الاولى : في أصل جواز مباشرته ، وعدم وجوب غسل الثوب والبدن عنه من جهة الصلاة وغيرها.

والمسألة الثانية : في أنّ هذا الجواز هل هو من جهة العفو ، حتّى لا ينافي نجاسته على قياس ما هو الحال في بعض أفراد الدم وغيره ، أو من جهة الطهارة وعدم انفعاله بمباشرة النجاسة ، ويظهر الفائدة في جواز استعماله في الشرب ونحوه ، واختصاص الجواز بحالة الصلاة لزوال مانعيّتها بدليل العفو ، كما في قليل الدم ، فتأمّل.

ولكن لمّا كان طريق الاستدلال على الحكمين واحدا على القول بعدم النجاسة ، فنحن نورد البحث عنهما في سياق واحد حذرا عن الإطالة بلا طائلة.

ونقول : الحقّ خروج ماء الاستنجاء عن قاعدة انفعال القليل إذا جامع الشروط الآتية ، سواء كان عن غائط أو بول ، والأصل في ذلك الروايات المستفيضة المعتضدة بالمستفيضة من الإجماعات ، مع الشهرة العظيمة.

منها : صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يقع ثوبه على الماء الّذي استنجى به ، أينجّس ذلك ثوبه؟ فقال : « لا » (١).

ومنها : الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم المرويّ في التهذيب والكافي عن محمّد بن النعمان الأحوال قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أخرج من الخلاء ، فأستنجي

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٣ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٨٦ / ٢٢٨.


بالماء ، فيقع ثوبي في ذلك الماء الّذي استنجيت به؟ فقال : « لا بأس به » (١) وعن الصدوق رواه باسناده عن محمّد بن نعمان وزاد في آخره « ليس عليك شي‌ء » (٢).

ومنها : ما في الوسائل عن الصدوق في العلل ، من مرسلة يونس بن عبد الرحمن عن رجل عن العيزار عن الأحول أنّه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ الرجل يستنجي فيقع ثوبه في الماء الّذي استنجى به؟ فقال : « لا بأس » فسكت ، فقال : أو تدري ولم صار لا بأس به؟ فقلت : لا والله جعلت فداك ، فقال : « إنّ الماء أكثر من القذر » (٣) ، وتمام الحديث قد سبق في جملة الأخبار المتمسّك بها على عدم انفعال القليل ، وضعفه بالإرسال وجهالة العيزار ينجبر بموافقة الشهرة.

ومنها : صحيحة محمّد بن النعمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت أستنجي ، ثمّ يقع ثوبي فيه ، وأنا جنب؟ فقال : « لا بأس به » (٤) وكما يمكن أن يكون اعتبار الجنابة كناية عن وجود المني مع الحدث في المخرج ، فكان الاستنجاء غسالة عنهما معا ، فكذا يمكن كونه لتوهّم تأثير القذارة المعنويّة الحاصلة بالجنابة في نجاسة الماء المستنجى به ، وليس الأوّل أظهر من الثاني ، لعدم الملازمة عقلا ولا عادة بين الجنابة وتنجّس موضع الاستنجاء بالمني ، فيكون ذلك مجملا فلا يرد أنّه كما يدلّ على طهارة ماء الاستنجاء فكذلك يدلّ على طهارة الغسالة من المنيّ ، فينبغي القول بهما معا لا بأحدهما فقط ، فتأمّل.

وكيف كان فلا حاجة في تتميم الاستدلال إلى انضمام هذه الرواية ، لما في سوابقها من الكفاية ، ولا ريب أنّها على ما ادّعيناه واضحة الدلالة ، ولا يقدح فيها كون السؤال مخصوصا بالثوب ، لأنّ المنساق عرفا من أمثال هذه الأسئلة كون الجواب واردا عليها على وجه عامّ يشمل الثوب وغيره ، على معنى ورود الحكم فيه بعنوان كلّي ، وإن كان السبب الباعث على السؤال خاصّا ، أو لأنّ الفرق بين وقوع الثوب وغيره ممّا لا يعقل إلّا على فرض كون المراد الدلالة على العفو عن هذا النحو من المتنجّس ، كما في بعض

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢١ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٥ ـ التهذيب ١ : ٨٥ / ٢٢٣.

(٢) الفقيه ١ : ٤١ / ١٦٢.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٢ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ علل الشرائع : ١ / ٢٨٧.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٢ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٨٦ / ٢٢٧.


أنواع الدم لا على عدم النجاسة ؛ إذ لولاه كان الفرق بين المقامين في التنجّس بذلك المتنجّس وعدمه غير معقول ، كما لا يخفى على المتأمّل ، أو لأنّ التعميم إنّما يثبت بالإجماع على عدم الفرق كما نقله غير واحد.

نعم ، ربّما يورد عليها بمعارضة رواية العيص بن القاسم ، قال : سألته عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء ، فقال : « إن كان من بول أو قذر فليغسل ما أصابه » (١).

فاجيب عنها : بأنّها عامّة وروايات الباب خاصّة فيجب حملها عليها ، مضافا إلى ما في سندها من الكلام القادح حيث إنّها لم توجد في الكتب الأربعة ، ولم يظهر حال سندها فلعلّها لا تكون معوّلا عليها ، كذا ذكره المحقّق الخوانساري في شرح الدروس (٢).

أقول : ينبغي أن نشرح المقام ليتّضح به وجه المعارضة ، وانطباق الجواب عليها وعدمه ، والعمدة في ذلك بيان معنى « الوضوء » الوارد في السؤال ، قال في المجمع : « الوضوء بالفتح اسم الماء الّذي يتوضّأ به » ـ إلى أن قال ـ : « وقد يطلق الوضوء على الاستنجاء وغسل اليد وهو شائع فيهما ، ومن الأوّل حديث اليهودي والنصراني حيث قال فيه : وأنت تعلم أنّه يبول ولا يتوضّأ ، أي لا يستنجي ، ومن الثاني حديثهما في المؤاكلة حيث قال : إذا أكل من طعامك وتوضّأ فلا بأس ، والمراد به غسل اليد الخ » (٣).

وظاهره أنّ هذين الأخيرين تفسير للوضوء بالضمّ وهو مصدر ، ولا يبعد أن يقال : إنّ الآلة من هذين المعنيين أيضا هو الوضوء بالفتح ، بل لا محيص من حمله في الرواية عليه ، بناء على الحمل عليهما إذ المعنى المصدري لا يلائمه السؤال كما لا يخفى.

فانقدح بجميع ما ذكر أنّه عبارة إمّا عن الماء الّذي يتوضّأ به ، أو الماء الّذي يستنجى به ، أو الماء الّذي يغسل به اليد ، ويمكن إرادة مطلق الغسالة منه ، ومقتضى عبارة المجمع ـ بناء على ما قرّر في محلّه ـ كونه حقيقة في الأوّل ومجازا في الأخيرين المصدّر بيانهما بلفظة « قد » ، ولا ينبغي أن يكون مبنى المعارضة على المعنى الأوّل ، لبعده عن السؤال ومنافاته للجواب المفصّل بين البول والقذر وغيرهما منطوقا ومفهوما ، فلا بدّ أن يكون مبناها على المعنى الثاني وهو إرادة الاستنجاء ، وأمّا الجواب

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٤ ـ ذكرى الشيعة ١ : ٨٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٥.

(٣) مجمع البحرين ؛ مادّة « نجو ».


عنها فمبناها على المعنى الثالث ، أو المعنى الأخير الّذي احتملناه ، وعليه كيف ينطبق الجواب على السؤال ، وكيف يقال : بأنّ الرواية عامّة ورواياتنا خاصّة ، خصوصا إذا حمل « القذر » على إرادة الغائط منه دون مطلق النجاسة كما هو الظاهر.

فالتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ لفظة « الوضوء » في متن الواقع إمّا حقيقة في جميع المعاني الأربعة ، أو حقيقة في الأوّلين ومجاز في الأخيرين ، أو حقيقة في الأوّل والأخيرين أو أحدهما ومجاز في الثاني ، أو حقيقة في الأوّل خاصّة ومجاز في البواقي ، ولا يتمّ الاستدلال بشي‌ء من الاحتمالات ، لأنّ الحمل على المعنى الأوّل ممّا لا مجال إليه بقرينة ما قرّرناه ، فهو متعذّر على جميع التقادير ، بل قد عرفت أنّ مبناه على المعنى الثاني ، وعليه يكون الدلالة على صحّة المعارضة متوقّفة على ارتكاب أمرين كلاهما على خلاف الأصل.

أحدهما : حمل الشرطيّة في الجواب على ما لا مفهوم لها ، بأن يكون المراد بالشرطيّة بيان تحقّق الموضوع ـ دون التعليق على الشرط القاضي بانتفاء الحكم في جانب المفهوم لانتفاء شرطه ـ حيث لا موضوع له في جانب المفهوم كما لا يخفى ، فيكون قوله عليه‌السلام : « إن كان من بول أو قذر فليغسل ما أصابه » على حدّ قولك : « إن رزقت ولدا فاختنه ، وإن رزقت مالا فاحمد الله ، وإن قدم زيد من السفر فاستقبله » ، وهو كما ترى مجاز لا يصار إليه إلّا مع القرينة المعيّنة.

وثانيهما : اعتبار التقييد في لفظة « قذر » بحملها على خصوص الغائط ، وهو أيضا خلاف الظاهر لظهورها في مطلق النجاسة ، ثمّ إنّه لو قلنا بكون لفظة « وضوء » حقيقة خاصّة في المعنى الأوّل لزم مجاز آخر فيه بحمله على المعنى الثاني ، فيلزم من بناء الاستدلال عليه ارتكاب تقييد ومجازين ، بخلاف ما لو حمل « الوضوء » على أحد الأخيرين فإنّه يستلزم مجازا واحدا ، ولا ريب أنّه أولى ومتعيّن ، ولو قلنا بكونه حقيقة فيهما أيضا أو في أحدهما قوى وجه ضعف الحمل المذكور.

نعم على الحمل عليهما يلزم تخصيص بإخراج ماء الاستنجاء عنه كما هو مبنيّ عليه الجواب ، ولكن لا يوجب ذلك قدحا في الحمل عليهما لكونه خلاف أصل واحد إن قلنا بالحقيقة فيهما أيضا ، أو خلاف أصلين إن قلنا بالمجازيّة فيهما ، وهو على كلّ تقدير يترجّح على حمله على المعنى الثاني ، بل التخصيص إنّما يلزم لو حملناه على الثاني من الأخيرين خاصّة كما لا يخفى ، فلم لا يحمل على الأوّل منهما ليكون خارجا


عن المسألة بالمرّة.

ويؤيّده الحكم على الوضوء بكونه في الطشت الّذي هو إناء معروف ، فإنّ الغالب بين الناس إنّما هو غسل اليد في الطشت من البول وغيره من قذر وغيره ، وأمّا الاستنجاء عليه ففي غاية الندرة.

وإن قلنا بكون الوضوء حقيقة في الاستنجاء أيضا ومجازا في الأخيرين كانت المسألة من دوران الأمر بين تقييد ومجاز ، وتخصيص ومجاز ، فإن لم نقل بترجيح الثاني لكون التخصيص بنفسه أرجح فلا أقلّ من عدم ترجيح الأوّل ، ولازمه خروج الرواية مجملة لتكافؤ الاحتمالين ، ومعه لا استدلال.

وإن قلنا بكونه حقيقة في الجميع يكون المسألة من باب تعارض مجاز وتقييد معا في مقابلة التخصيص ، ولا ريب أنّ الثاني متعيّن ، ترجيحا لما هو راجح بنفسه وتقليلا لمخالفة الأصل ، ولو حملناه على الأوّل من الأخيرين خاصّة لم يلزم مخالفة أصل أصلا كما لا يخفى ، فلا سبيل إلى الحمل على المعنى الّذي عليه مبنى الاستدلال ، ومعه يبطل أصل الاستدلال.

هذا مع ما عرفت في الرواية من القدح في سندها ، مضافا إلى أنّها لو تمّت دلالتها واستقام سندها لم تكن صالحة لمعارضة ما سبق من روايات المسألة ، لكثرتها وصحّة أسانيد أكثرها ، واعتضادها بالعمل والشهرة العظيمة ، والإجماعات المنقولة.

نعم ، يبقى الكلام في شيئين :

أحدهما : تعميم الدليل بحيث يشمل استنجاء البول أيضا ، والأمر في ذلك هيّن بعد وضوح المدرك ؛ لشمول الأخبار كلا المقامين ، إمّا بأنفسها بناء على ما قرّرناه سابقا في شرح « الاستنجاء » ممّا يقتضي كون هذا اللفظ عامّا ، كما يستفاد من جماعة من أساطين الأصحاب كما تعرفه بملاحظة عباراتهم الآتية بعضها ، أو من جهة الخارج حيث لم نقف على مشكّك في ذلك ، مع استنادهم في الحكم إلى الأخبار المتقدّمة ، بل عباراتهم فيما نعلم مصرّحة بالتعميم ، وظاهرهم الاتّفاق على ذلك كما يشعر به عبارة المدارك : « استثنى الأصحاب من غسالة النجاسة ماء الاستنجاء من الحدثين » (١) ، ونسب

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٣.


إلى كثير من الأصحاب التصريح بالعموم وهو كذلك.

ففي المنتهى : « الماء الّذي يغسل به الدبر والقبل يدخل تحت هذا الحكم ، لعموم اسم الاستنجاء لهما » (١).

وعن المعتبر : « ويستوي ما يغسل به القبل والدبر ، لأنّه يطلق على كلّ واحد منهما لفظ الاستنجاء » (٢).

وعن الذكرى : « ولا فرق بين المخرجين للشمول » (٣) ، وعن الدروس (٤) ، وجامع المقاصد (٥) : « ولا فرق بين المخرجين » ، وعن مجمع الفائدة : « والظاهر عدم الفرق بين المخرجين ؛ لعموم الأدلّة من الإجماع والأخبار » (٦) ، وعن المشارق : « ولا فرق بين المخرجين لإطلاق اللفظ » (٧) ، وعن الذخيرة : « ومقتضى النصّ وكلام الأصحاب عدم الفرق بين المخرجين » (٨) ، وفي الحدائق : « وإطلاق هذه الأخبار يقتضي عدم الفرق بين المخرجين ، لصدق الاستنجاء بالنسبة إلى كلّ منهما ، وبذلك صرّح الأصحاب رضي‌الله‌عنهم أيضا » (٩) ، فإذن لا إشكال فيه.

وثانيهما : أنّ خروج ماء الاستنجاء عن القاعدة هل هو لأجل كونه طاهرا ، أو لثبوت العفو عنه؟ وهذه المسألة وإن فرضت في كلام جماعة من الأساطين كالمحقّق الخوانساري (١٠) ، وصاحب الحدائق (١١) ، وصاحب المناهل (١٢) خلافيّة ذات قولين ، أحدهما : القول بالطهارة حكاه صاحب المناهل في كتاب آخر منسوب إليه (١٣) عن الجعفريّة (١٤) ، وجامع المقاصد (١٥) ، والروض (١٦) ، ومجمع الفائدة (١٧) ، والذخيرة (١٨) ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٤.

(٢) المعتبر (الطبعة الحجريّة) : ٢٢.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨٢.

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٥) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٩.

(٧) مشارق الشموس : ٢٥٤. (٨) ذخيرة المعاد : ١٤٣.

(٩ و ١١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٦٩.

(١٠) مشارق الشموس : ٢٥٢.

(١٢) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٠.

(١٣) لم نعثر عليه. (١٤) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦).

(١٥) جامع المقاصد ١ : ١٢٩. (١٦) روض الجنان : ١٦٠.

(١٧) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٩. (١٨) ذخيرة المعاد : ١٤٤.


والمشارق والرياض (١) ، قائلا : و « حكي عن الخلاف (٢) ، والمبسوط (٣) ، والمقنعة (٤) ، والجامع (٥) ، والسرائر (٦) والشرائع (٧) ، والمنتهى » (٨).

ثمّ قال : « وبالجملة الظاهر مصير الأكثر إليه » انتهى.

وعليه المحقّق في الشرائع (٩) ، والمحقّق الخوانساري (١٠) ، وصاحب المدارك (١١) ، وصاحب الحدائق (١٢).

وثانيهما : القول بكونه معفوّا عنه حكاه في المناهل (١٣) وكتابه الآخر (١٤) ، ولكنّا لم نقف على قول صريح به عدا ما يظهر من الشهيد في محكيّ الذكرى من الميل إليه حيث قال : « وفي المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة إنّما هو بالعفو ، ويظهر الفائدة في استعماله ولعلّه أقرب لتيقن البراءة بغيره » (١٥).

وقضيّة هذه العبارة كون العفو قولا للمحقّق في المعتبر أيضا ، وتبعه على نقل هذه العبارة المحقّق الشيخ عليّ في شرح القواعد ـ على ما حكي ـ قائلا فيه : « واعلم أنّ قول المصنّف : « بأنّه طاهر » مقتضاه أنّه كغيره من المياه الطاهرة في ثبوت الطهارة ، ونقل في المنتهى (١٦) على ذلك الإجماع ، وقال في المعتبر (١٧) : ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة وإنّما هو بالعفو ، ويظهر الفائدة في استعماله [ثانيا] ، قال في الذكرى : ولعلّه أقرب ، لتيقّن البراءة بغيره » (١٨) انتهى.

وأصرح منهما في نسبة هذا القول إلى المعتبر كلام محكيّ عن ثاني الشهيدين في الروض قائلا : « وفي المعتبر هو عفو ، وقرّبه في الذكرى » (١٩) انتهى.

وأنكر عليهم هذه النسبة إلى المعتبر في المدارك قائلا : « بأنّه لم أقف على ما نقلوه في الكتاب المذكور ، بل كلامه فيه كالصريح في الطهارة ، فإنّه قال : وأمّا طهارة ماء

__________________

(١) رياض المسائل ١ : ١٨٢.

(٢) الخلاف ١ : ١٧٩ المسألة ٣٥. (٣) المبسوط ١ : ١٦.

(٤) المقنعة : ٤٧. (٥) الجامع للشرائع : ٢٦.

(٦) السرائر ١ : ١٨٤. (٧ و ٩) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٨) منتهى المطلب ١ : ١٢٨. (١٠) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(١١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٤. (١٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٦٩.

(١٣) المناهل : ١٤٠. (١٤) لم نعثر عليه.

(١٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣. (١٦) منتهى المطلب ١ : ١٢٨.

(١٧) المعتبر : ٢٢. (١٨) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(١٩) روض الجنان : ١٦٠.


الاستنجاء فهو مذهب الشيخين ، وقال علم الهدى في المصباح : لا بأس بما ينتضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن ، وكلامه صريح في العفو وليس بصريح في الطهارة ، ويدلّ على الطهارة ما رواه الأحول ، ونقل الروايتين المتقدّمين » (١) ، يعني صحيحتي محمّد بن النعمان.

وتبعه في ذلك الإنكار ونقل العبارة المذكورة صاحب الحدائق أيضا ، قال في الحدائق : « فنسبة القول بالطهارة إلى المعتبر ـ كما فهمه في المدارك ، وجمع ممّن تأخّر عنه ـ كما ترى. وأعجب من ذلك نقل الشهيد في الذكرى ـ كما تقدّم في عبارته المنقولة ـ القول بالعفو عن المعتبر بتلك العبارة ، وتبعه على ذلك الشيخ عليّ في شرح القواعد ، وشيخنا الشهيد الثاني في الروض » ـ إلى أن قال ـ : « والظاهر أنّ أصل السهو من شيخنا الشهيد في الذكرى ، وتبعه من تبعه من غير ملاحظة لكتاب المعتبر ، وعبارة المعتبر ـ كما مرّت بك ـ خالية عمّا ذكروه » (٢).

ومراده بالعبارة المشار إليها ما تقدّم حكايته عن المدارك.

وقال صاحب المعالم : « وأجمل المحقّق كلامه في ذلك فهو محتمل للقولين ، وربّما كان احتمال القول بالطهارة فيه أظهر ، وقد كثر في كلام المتأخّرين نسبة القول بالعفو إليه ولا وجه له ، والعجب أنّ الشهيد في الذكرى حكى عنه أنّه قال : ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة وإنّما هو بالعفو ، ثمّ قال الشهيد : ولعلّه أقرب لتيقّن البراءة بغيره (٣) ، وهذه الحكاية وهم ظاهر ، فإنّ المحقّق حكى عن الشيخين صريحا القول بالطهارة ، وإنّما ذكر هذا الكلام عند نقله عبارة علم الهدى » (٤) انتهى.

ومن الأصحاب ـ كالمحقّق الخوانساري في شرح الدروس ـ من صحّح هذه النسبة إلى المعتبر ، وعقّبه بتوجيه العبارة المنقولة عن المعتبر في الذكرى وصحّحها على ما وجّهه ، قائلا : « وإذ قد تقرّر هذا ، ظهر أنّ ما نسبه المصنّف في الذكرى إلى المعتبر ـ كما ذكرنا ـ ، وتبعه المحقّق الشيخ عليّ ره في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في شرح الإرشاد صحيح ، ومراد الذكرى من أنّ في المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة ،

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٥.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٢ ـ ٤٧٣.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(٤) فقه المعالم ١ : ٣٢٦.


أنّه ليس في الروايات لا في كلام الأصحاب ، وهو كذلك كما قرّرناه » (١) انتهى.

وفيه ما فيه من ابتنائه إلى وهم فاسد سبق إليه ، وإلجائه إلى تصديق الجماعة فيما نسبوه إلى المعتبر وسنزيّفه إن شاء الله.

فالإنصاف : أنّه لم يتحقّق عندنا ما شهد بصحّة هذه النسبة ، ولم يثبت أنّ العفو ما يقول به في المعتبر ، والعبارة المتكفّلة لبيان هذه النسبة قد عرفت أنّها غير ثابتة عن المعتبر ، وهذا الكتاب وإن لم يحضرنا الآن لننظر في صحّة ما نسبوه وسقمه على ما ذكروه الجماعة المتقدّمة ، لكنّ المظنون أنّ ما نقله الشهيد في الذكرى تقطيع عن العبارة الّتي سمعت نقلها عن صاحب المدارك ، مبنيّ على الاشتباه والإغماض عن دقّة النظر ، وإلّا فهذه العبارة لا توافق شيئا من هذه النسبة ، وإن كانت هي أيضا ممّا اختلفت الأنظار في فهمها ، وأنّها هل تدلّ على أنّ مذهب المحقّق هو الطهارة ـ كما صرّح به في المدارك (٢) ، وجعله أظهر الاحتمالين في المعالم (٣) ـ أو على أنّ مذهبه العفو كما استظهره المحقّق الخوانساري في شرح الدروس (٤).

ولأجله صدّق الشهيد ومن تبعه فيما نسبوه إلى المعتبر حيث قال : « ثمّ كلامه هل هو صريح في الطهارة أم العفو؟ » فالّذي يتراءى ظاهرا من قوله : « ويدلّ على الطهارة الخ » الأوّل ، ولكن التأمّل يشهد بالثاني فيكون مراده بالطهارة العفو.

بيانه : أنّه أورد في الاستدلال رواية الأحول (٥) ، وظاهر أنّه لا تفاوت بينها وبين عبارة المرتضى في المعنى ، فحيث صرّح بأنّه ليس في عبارته تصريح بالطهارة فكيف يجوز أن يجعل الرواية دليلا عليها ، وأمّا دليله الآخر من رواية عبد الكريم (٦) فهو أيضا ليس تصريح في الطهارة ، لأنّ عدم تنجيسه الثوب لا يستلزم طهارته ، ـ إلى أن قال ـ : وإذ قد تقرّر هذا ، ظهر أنّ ما نسبه المصنّف في الذكرى إلى آخر ما نقلناه عنه سابقا » (٧).

وقوله : « وأمّا دليله الآخر من رواية عبد الكريم » الخ إنّما ذكر ذلك لأنّه حينما نقل

__________________

(١ و ٤) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٢٥.

(٣) فقه المعالم ١ : ٣٢٦.

(٥) الوسائل ١ : ٢٢٢ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ علل الشرائع ١ : ٢٨٧.

(٦) الوسائل ١ : ٢٢٣ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٨٦ / ٢٢٨.

(٧) مشارق الشموس : ٢٥٣.


عن المعتبر ما نقله صاحب المدارك من العبارة المتقدّمة نسب إلى المحقّق في تلك العبارة أنّه في الاستدلال على الطهارة جمع بين رواية الأحول ورواية عبد الكريم ، وأنت خبير بفساد ما فهمه مع تعليله ، إذ لا تنافي بين ما نسبه إلى علم الهدى وجعله الرواية دليلا على الطهارة ، وإن كانت العبارة الصادرة منه موافقة لعبارة الرواية ، فإنّه لمّا كان بصدد ضبط ما ذهب إليه أصحابنا ، وقالوا به صراحة أو ظهورا ، فنسب إلى الشيخين الذهاب إلى الطهارة ، ومقتضى التعبير بقوله : « فهو مذهب الشيخين » وقوع التصريح منهما بذلك ، وكونه معلوما له من صريح كلامهما ، بخلاف كلام علم الهدى المتضمّن لنفي البأس ، فإنّه ليس بصريح في الطهارة لاحتمال أن يريد به نفي البأس عن المباشرة الغير المنافي للنجاسة ، فيحكم على كلامه بأنّه ليس بصريح في الطهارة ، بمعنى أنّه لا يدلّ على دعوى الطهارة دلالة صريحة ، ومعنى كونه صريحا في العفو أنّ القدر المتيقّن من مذهبه على وجه يصحّ إسناده إليه المعلوم من هذا الكلام كونه قائلا بالعفو لا محاله ، لأنّه لا ينفكّ عن القول بالطهارة ، فهو سواء كان قائلا بالطهارة أو لا قائل بالعفو على وجه ينبغي معه الجزم به.

ولا ريب أنّ عدم دلالة هذه العبارة في كلام السيّد على أنّ مذهبه المحقّق هو الطهارة على وجه الصراحة ، لا ينافي دلالته عليها على وجه الظهور ، فلا ينافي كونها في الرواية دليلا لنا على الطهارة ، نظرا إلى أنّ مبنى دليليّة الأدلّة اللفظيّة على الصراحة تارة والظهور اخرى ، فإذا ثبت أنّها في الرواية تدلّ على الطهارة على وجه الظهور ـ كما هو الحقّ على ما سنبيّنه ـ انتهضت الرواية دليلا عليها ، وصحّ إطلاق الدليل عليها من جهته في الاصطلاح ، فهو مستظهر من رواية الأحوال الدلالة على الطهارة بتقريب ما سنقرّره ثمّ يقوى هذا الظهور بملاحظة رواية عبد الكريم ، فلذا جمع بينهما في الاستدلال.

وممّا يؤيّد هذا المعنى تعرّضه لحكم ماء الاستنجاء في الشرائع والنافع مصرّحا بالطهارة في الأوّل (١) ، وظاهرا فيه كلامه في الثاني (٢) ، حيث استثناه عمّا يزال به الخبث الّذي رجّح فيه القول بالتنجيس الّذي جعله أشهر القولين ، نظرا إلى أنّ الاستثناء عن

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٢) المختصر النافع : ٤٤ حيث قال : « وفي ما يزال به الخبث إذا لم تغيّره النجاسة قولان ، أشبههما : التنجّس عدا ماء الاستنجاء ».


الإثبات نفي ، ونفي التنجيس في معنى إثبات الطهارة ، ومن هنا تبيّن إصابة صاحب المدارك فيما فهمه عن تلك العبارة ، من أنّه قائل بالطهارة قولا ظاهرا كالصريح ، وبطلان ما ذكره المحقّق الخوانساري وغيره من أنّه قائل بالعفو ، كبطلان قوله : « وبهذا ظهر اندفاع ما أورده صاحب المدارك على المصنّف وتابعيه من أنّ هذه النسبة إلى المعتبر غلط ، بل كلامه فيه كالصريح في الطهارة » (١).

وبطلان ما أورده صاحب الحدائق على صاحب المدارك بقوله : « وحينئذ فنسبة القول بالطهارة إلى المعتبر كما فهمه في المدارك وجمع ممّن تأخّر عنه كما ترى » (٢). والعجب عنه في الحدائق حيث إنّه اختلّ ذهنه في إدراك حقيقة المراد من عبارة المعتبر فرماها بالإجمال وحكم عليها بالاضطراب قائلا : « وأمّا كلام المعتبر في هذا الباب لا يخلو من إجمال بل اضطراب ، ولهذا اختلفت في نقل مذهبه كلمة من تأخّر عنه من الأصحاب ».

ثمّ أخذ بنقل عين العبارة فعقّبها بقوله : « وأنت خبير بأنّ مقتضى قوله : « ويدلّ على الطهارة الخ » بعد نقله القولين أوّلا هو اعتبار الطهارة الّتي هي أحد ذينك القولين وقوله في الدليل الثاني : « ولأنّ في التفصّي عنه عسرا فيسوغ (٣) العفو للعسر » ظاهر في اختيار العفو الّذي هو القول الآخر أيضا ، وأيضا ففي حكمه على كلام المرتضى رضى الله عنه بالصراحة في القول بالعفو ـ مع حكمه على رواية الأحول بالدلالة على الطهارة ـ نوع تدافع ، فإنّ العبارة فيهما واحدة ، إذ نفي البأس إن كان صريحا في العفو ففي الموضعين ، وإن كان في الطهارة فكذلك ، وحينئذ فنسبة القول بالطهارة إلى المعتبر » (٤) ، إلى آخر ما نقلناه.

وأنت خبير بما في هذه الكلمات السخيفة والاستخراجات الواهية ، إذ قد عرفت أنّه لا اضطراب في عبارة المعتبر ، ولا إجمال أصلا ، بل هي صريحة الدلالة في اختيار الطهارة ، ولا تدافع بين الحكم على الرواية بالدلالة على الطهارة وعلى كلام السيّد بالصراحة في العفو ، بعد ملاحظة ما قرّرناه من المعنى الواضح.

ولا ينافي قوله بالطهارة استنادا إلى الرواية استدلاله ثانيا بلزوم العسر المسوّغ عدمه العفو ، إمّا لأنّ مراده بالعفو الطهارة توسّعا ، كما استدلّ عليها به جماعة منهم ثاني

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٢.

(٣) وفي الحدائق الموجود عندنا : « فشرّع العفو للعسر »

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧١.


الشهيدين فيما يأتي بيانه ، أو لأنّ ذلك تأييد الأوّل من حيث موافقته له في لازم مفاده وهو العفو الّذي لا ينفكّ عن الطهارة ظاهرا ، أو أنّ الغرض بالتمسّك به إثبات بعض المطلب وإن كان من جهة الملزوم لا إثبات تمامه ، أو إثبات ما هو مفاده ليصار إليه لو خرج الوجه الأوّل مردودا أو غير واضح الدلالة على الطهارة ، حيث إنّ المصير إليه بعد قصور دليل الطهارة عن الدلالة ممّا لا محيص عنه.

وبالجملة : فنسبة القول بالعفو إلى المعتبر مستفادا من عبارته المتقدّمة ليس على ما ينبغي ، وإن تصدّى لها جماعة من الأساطين ، إذ الصارم قد ينبو والجواد قد يكبو ، بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو القول بصراحة المعتبر في اختيار الطهارة ، فليس من أصحابنا من صرّح بالعفو ، وصار إليه على سبيل الجزم والإذعان ، ولا الاطمئنان.

نعم ، للعلّامة في المنتهى كلام ربّما يدخل في الوهم مصيره إلى العفو دون الطهارة ، ومن هنا يظهر عن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس نسبته إليه في الكتاب المذكور بنقل عبارته ، فإنّه قال فيه : « عفي عن ماء الاستنجاء إذا سقط منه شي‌ء على ثوبه أو بدنه ، سواء رجع على الأرض الطاهرة أو لا ، وصرّح الشيخان بطهارته » (١) ومراده بقوله : « سواء رجع على الأرض الطاهرة أو لا » بقرينة ما نذكره بعد ذلك أنّه سواء سقط على الأرض الطاهرة فرجع منها إلى الثوب أو البدن ، أو سقط عليهما ابتداء.

وأنت خبير بأنّ ذلك أيضا وهم صرف منشؤه عدم المراجعة إلى فقرات كلامه المتأخّرة عن تلك العبارة ، بل الّذي يقتضيه التدبّر وصحيح النظر أنّه أيضا قائل فيه بالطهارة ، وأنّ تعبيره بالعفو مسامحة أو كناية عنها ، وأنّ مراده بما نسبه إلى الشيخين الإتيان بموافق له في تلك المقالة ، لا إبداء المخالفة بينه وبينهما ، والّذي يفصح عن ذلك امور عديدة ، كلّ واحد منها قرينة واضحة على ما ادّعيناه ، وشاهد على بما نسبناه إليه ، وجعلنا العفو المصرّح به في كلامه عبارة عن الطهارة.

فمن جملة هذه الامور ، قوله ـ بعد العبارة المذكورة بلا فاصلة ـ : « أمّا لو سقط وعلى الأرض نجاسة ثمّ رجع على الثوب أو البدن فهو نجس ، سواء تغيّر أو لا » (٢) فإنّ ذلك مع ضميمة ما سبق تفصيل لحكم ماء الاستنجاء بين ما لو رجع على الثوب والبدن بعد

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٢.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٤٣.


سقوطه على الأرض النجسة وبين ما لم يكن كذلك ، ولمّا كان الأوّل محكوما عليه بالنجاسة ، فلا بدّ وأن يكون الثاني ـ بقرينة المقابلة ـ محكوما عليه بالطهارة ليختلف القسمان المتقابلان في الحكم ، وإنّما حكم بالنجاسة في الأوّل أخذا بالقدر المتيقّن ممّا خرج بالدليل عن قاعدة انفعال القليل الملاقي للنجاسة ، أو لأنّ الظاهر من ماء الاستنجاء المحكوم عليه بالطهارة في الروايات ما لم يباشر نجاسة اخرى غير نجاسة الحدثين والمفروض ليس منه ، ولذا جعلوا عدم ملاقاته نجاسة اخرى خارجة عن حقيقة الحدث المستنجى منه ـ كالدم مثلا ـ من جملة الشروط على ما سيأتي بيانه.

ومنها : قوله ـ عقيب ما ذكر ثانيا ـ : « وكذا لو تغيّر أحد أوصافه من الاستنجاء » (١) فإنّه تشبيه للمتغيّر من ماء الاستنجاء بالاستنجاء بالقسم المحكوم عليه بالنجاسة ، فيكون هو أيضا محكوما عليه بها ، وهو ممّا حكم عليه بالعفو بمنزلة الاستثناء ، فيكون المراد بالعفو المحكوم به هنا الطهارة ، ليتغاير المستثنى مع المستثنى منه في الحكم.

ومنها : قوله ـ بعد ما فرغ من الاستدلال على العفو ، الّذي حكم به في الاستنجاء بروايتي الأحول ورواية عبد الكريم : ـ « وهكذا حكم الماء الّذي يتوضّأ به أو يغتسل به من الجنابة ، أمّا عندنا فظاهر وأمّا عند الشيخ فلما رواه الشيخ في الصحيح عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل الجنب يغتسل ، فينتضح من الأرض في إنائه؟ فقال : « لا بأس (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) وفي الصحيح عن الفضيل أيضا » (٣) الخ.

فإنّه تشبيه للماء المستعمل في الوضوء والغسل بماء الاستنجاء ، ومن المعلوم لزوم مشاركة المشبّه للمشبّه به في الحكم ، ولو لا المراد بالعفو المحكوم به على ماء الاستنجاء الطهارة خرج هذا التشبيه باطلا ، لأنّ مذهبه في المستعمل في دفع الحدثين الأصغر والأكبر إنّما هو كونه طاهرا ومطهّرا ـ كما حقّقه سابقا ـ خلافا للشيخ الّذي يراه طاهرا فقط ، كما أشار إليه بقوله : « أمّا عندنا فظاهر » فإنّ ذلك إحالة لوجه المسألة إلى ما حقّقه سابقا في مسألتي الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر والمستعمل في رفع الحدث الأكبر ، فإنّه حكم في الاولى بأنّه طاهر مطهّر إجماعا (٤) ، ثمّ ساق الكلام إلى نقل مذاهب العامّة في ذلك ، وفي الثانية ـ بعد ما أسند إلى الشيخين وابن بابويه في

__________________

(١ و ٣ و ٤) المنتهى ١ : ١٤٣ و ١٤٤ و ١٢٨.

(٢) الحجّ : ١٣.


قولهم : « بأنّه طاهر غير مطهّر » ، وإلى العامّة مذاهبهم في الأوّل ـ قال : « والّذي أذهب إليه أنّه طاهر مطهّر » (١) ، ثمّ أخذ بتفصيل المسألة والاستدلال عليها بالنسبة إلى الحكمين.

ومنها : ما ذكره بعد الفراغ عن المسألة في مسألة الآنية من قوله : « الماء الّذي تغسل به الآنية لا يلحقه هذا الحكم » ثمّ أسند إلى الشيخ في الخلاف خلاف ذلك ، ثمّ أخذ بالاستدلال على ما صار إليه بقوله :

« لنا : أنّه ماء قليل لاقى نجاسة فينفعل بها ، ولا يتعدّى إليه الرخصة الّتي في الاستنجاء ، لأنّه استعمال الماء الّذي قام المانع على المنع منه ، مع عدم قيام الموجب » (٢) إلخ.

فإنّ الحكم عليه بالنجاسة ، بعد الحكم عليه بعدم لحوق حكم ماء الاستنجاء ، ظاهر في أنّ الحكم الّذي نفى لحوقه بماء الغسالة عبارة عن عدم الانفعال ، بدليل أنّه بعد ما نفى ذلك الحكم عنه استدلّ عليه بما يقتضي ثبوت نقيضه ، فلا بدّ وأن يكون الحكم المنفيّ هنا الثابت لماء الاستنجاء هو عدم الانفعال ، لأنّ نقيضه الثابت هنا هو الانفعال فتأمّل.

فالإنصاف : أنّه لم يوجد بين أصحابنا قول محقّق بالعفو قبالا للطهارة ، سوى ما عرفت عن الشهيد في الذكرى من احتمال الأقربيّة ، فكان الحكم بالطهارة على الإطلاق من إجماعيّات الأصحاب ، ولا ينافيه الحكم عليه بعدم المطهّريّة عن الحدث مطلقا ، المدّعى عليه الإجماع في المعتبر (٣) والمنتهى (٤) ـ على ما حكي عنهما فيما يأتي ـ لأنّ ذلك حكم خاصّ ثبت له بالخارج ، كثبوته في أشياء اخر.

ومن هنا ترى أنّه قد استفاضت الإجماعات المنقولة على الطهارة الّتي تصدّى بنقلها صاحب المناهل في الكتاب الآخر (٥) المنسوب إليه ، حيث إنّه عند ذكر الأدلّة على الطهارة قال : الثاني : دعوى جماعة الإجماع على الطهارة.

قال في الروض : « واعلم أنّ المستعمل في إزالة الخبث نجس ، إلّا ماء الاستنجاء من الحدثين فإنّه طاهر إجماعا ، كما نقله المصنّف في المنتهى » (٦).

وقال في الجعفريّة : « ماء الاستنجاء من الحدثين طاهر إجماعا » (٧).

__________________

(١ و ٢) منتهى المطلب ١ : ١٣٣ و ١٤٥.

(٣) المعتبر : ٢٢.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٤٢.

(٥) لم نعثر عليه. (٦) روض الجنان : ١٦٠.

(٧) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦).


وقال في جامع المقاصد : « استثنى الأصحاب من غسالة النجاسة ماء الاستنجاء من الحدثين ، فاتّفقوا على عدم تنجّسه ، وحكم الصادق عليه‌السلام ـ بعدم نجاسة الثوب الملاقي له ـ يدلّ على ذلك ».

ثمّ قال : « واعلم أنّ قول المصنّف : « فإنّه طاهر » مقتضاه أنّه كغيره من المياه الطاهرة في ثبوت الطهارة له ، ونقل في المنتهى (١) على ذلك الإجماع » (٢).

وقيل : إنّ ماء الاستنجاء طاهر إجماعا ، حكاه ابن إدريس (٣) في باب تطهير الثياب » (٤). انتهى واحتمال كون الطهارة في عبارة هؤلاء الأساطين مرادا بها معنى العفو كما ترى.

وعلى أيّ حال كان فنحن نفرض المسألة خلافيّة ، ونتكلّم فيها دفعا لمقالة من لو توهّم أنّ الحكم الثابت هنا إنّما هو العفو دون الطهارة ، وينبغي قبل الخوض في الاحتجاج أن نشير إلى مقدّمة يتّضح بها معنى العنوان ، ويتحرّر ما هو محلّ النزاع. وهي : أنّ المراد بطهارة ماء الاستنجاء ـ عند أهل القول بها ـ ما يقابل النجاسة ، الّتي هي عبارة عن الحالة المانعة عن المباشرة ، والباعثة على وجوب الغسل ، وعدم جواز الاستعمال في التطهير عن الحدث والخبث ، وفي شربه وتناوله ، ولازمه أن يحكم عليه بجميع الآثار الشرعيّة المترتّبة على خلاف النجاسة ، من الامور المذكورة وغيرها عدا ما خرج منها بالدليل ، كاستعماله في إزالة الحدث المدّعى على عدم جوازه الإجماع فيما يأتي بيانه.

وأمّا العفو المقابل لها ، فقرينة المقابلة تقتضي كون المراد به ما يلازم النجاسة مع سلب بعض أحكامها ، أعني الحكم بنجاسته مع الرخصة في مباشرته.

ولكنّ الظاهر من الشهيد في عبارته المتقدّمة من الذكرى كون المراد به سلب الطهوريّة وإن كان أكثر الأدلّة المقامة على القول بالطهارة ـ لاقتضائها الطهارة بالمعنى المقابل للمعنى الأوّل من العفو ـ يأبى عن ذلك ، حيث قال : « وتظهر الفائدة في استعماله ، ولعلّه الأقرب ، لتيقّن البراءة بغيره » (٥).

__________________

(١) منتهى ١ : ١٢٨.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٣) السرائر ١ : ١٨٤.

(٤) انتهت عبارة صاحب المناهل في كتابه الآخر الّذي لم نعثر عليه.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٤.


ووجه الظهور : أنّ قوله : « لتيقّن البراءة بغيره » دليل استدلّ به على ما احتمل كونه أقرب وهو العفو ، ولمّا كان الدليل لا بدّ من انطباقه على المدّعى ، فذلك يكشف عن أنّ المشكوك فيه ـ الّذي يبحث عنه ـ إنّما هو كون ماء الاستنجاء طهورا ـ أي رافعا للحدث ـ وعدمه ، فحكم عليه بالعدم لأنّ اليقين بالبراءة لا يحصل باستعماله بل يحصل باستعمال غيره ، وإلّا فلو كان المبحوث عنه هو العفو ـ بمعنى النجاسة مع الرخصة في المباشرة ـ لم يلزم من تيقّن البراءة بغيره كونه في الواقع نجسا مع الرخصة في مباشرته.

ولا يمكن أن يقرّر هذا الدليل بالقياس إلى الصلاة بثوب باشره هذا الماء ، لأنّه لو تمّ لقضى بالنجاسة المطلقة ، الملزومة لعدم الرخصة في مباشرته ، وهو خلاف المدّعى.

ومن هنا ترى أنّ غير واحد من أصحابنا استظهر منه ذلك ، كصاحب المدارك وتبعه صاحب الحدائق ، فقال في الأوّل : « اعلم أنّ إطلاق العفو عن ماء الاستنجاء يقتضي جواز مباشرته مطلقا ، وعدم وجوب إزالته عن الثوب والبدن للصلاة وغيرها ، وهذا معنى الطاهر ، فلا يستقيم ما نقله المحقّق الشيخ عليّ في حواشي الكتاب عن المعتبر أنّه اختار كونه نجسا معفوّا عنه ، بل ولا جعل القول بالعفو عنه مقابلا للقول بطهارته.

والظاهر أنّ مرادهم بالعفو هنا عدم الطهوريّة كما يفهم من كلام شيخنا الشهيد رحمه‌الله في الذكرى ، حيث قال ـ بعد نقل القول بالطهارة والعفو ـ : « وتظهر الفائدة في استعماله ، وقد نقل المصنّف في المعتبر ، والعلّامة في المنتهى الإجماع على عدم جواز رفع الحدث بما تزال به النجاسة مطلقا ، فتنحصر فائدة الخلاف في جواز إزالة النجاسة به ثانيا والأصحّ الجواز تمسّكا بالعموم ، وصدق الامتثال باستعماله » (١).

وقال في الثاني ـ بعد نقله القولين ـ : « وربّما أشعر ذلك بكون العفو عبارة عن الحكم بنجاسته مع الرخصة في مباشرته ، والّذي يظهر من كلام الذكرى ـ وتبعه عليه جماعة ممّن تأخّر عنه ـ كون العفو هنا إنّما هو بمعنى سلب الطهوريّة ، حيث قال ـ بعد نقل القولين ـ : « وتظهر الفائدة في استعماله » وحينئذ فيصير محطّ الخلاف في جواز رفع الحدث أو الخبث به وعدمه ، وكذا تناوله وعدمه ، إلّا أنّهم نقلوا الإجماع أيضا على عدم جواز الرفع بما تزال به النجاسة مطلقا ، كما سيأتي في تالي هذه المسألة ، وحينئذ

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٥.


فينحصر الخلاف في الأخيرين ، والظاهر ـ كما هو المشهور ـ الجواز تمسّكا بأصالة الطهارة عموما وخصوصا ، وصدق الماء المطلق عليه ، فيجوز شربه وإزالة الخبث به » (١) انتهى.

وملخّص الفرق بين المعنيين للعفو : أنّ هناك مطلبين لا بدّ وأن يكون أحدهما مرادا للقائل بالطهارة.

أحدهما : الحكم بطهارته واستثنائه من عموم انفعال القليل بالملاقاة.

وثانيهما : أنّه ما يثبت له أحكام الطهارة بأسرها ، فإن كان مدّعى القائل بالطهارة هو المعنى الأوّل ، فيقابله العفو بمعنى أنّه نجس ومرخّص في مباشرته ، وإن كان مدّعاه المعنى الثاني فيقابله العفو بمعنى أنّه طاهر يخصّ حكمه بما دون التناول ورفع الحدث والخبث.

ولا ريب أنّ المتبادر من لفظ « العفو » ، الشائع جريانه في لسان القوم هو المعنى الأوّل ، فأمّا بالمعنى الثاني فغير معهود في كلامهم ، فلا ينبغي صرف إطلاقه في كلام من لم يعلم مذهبه إلى إرادة هذا المعنى ، وثبوت كون مراد الشهيد منه هذا المعنى ـ لقضاء دليله به ـ لا يقضي بكونه في كلام من عداه مرادا به هذا المعنى ، كيف وأنّ أكثر الأدلّة المقامة على القول بالطهارة ـ على ما ستعرفها ـ إنّما تقضي بما يقابل المعنى الأوّل من العفو ، فعرف منه أنّه هو المتنازع فيه.

والعجب عن صاحب المدارك كيف غفل عن ذلك في قوله : « والظاهر أنّ مرادهم بالعفو هنا عدم الطهوريّة » مع فساد منشأ هذا الاستظهار ، وهو الّذي ذكره أوّلا في الاعتراض على المحقّق الشيخ عليّ ، وعلى من يجعل العفو مقابلا للقول بالطهارة ، لوضوح وهن كلّ منهما ، فإنّ الطاهر لا ينحصر أحكامه فيما ذكره ، بل له أحكام اخر من جواز تناوله ، وعدم انفعال ما يلاقيه برطوبة ، وجواز غسل ما يباشره من الثوب والبدن بقصد التطهير الشرعي ـ على معنى إباحته شرعا بعدم دخوله في البدعة المحرّمة ، نظرا إلى أنّه لو كان [نجسا] (٢) لكان غسله بعد العنوان بدعة وتشريعا ـ إلى غير ذلك من الأحكام.

فثبوت بعض أحكام الطاهر لهذا الماء ـ الّذي يلتزم به القائل بالعفو ـ لا يستلزم كونه طاهرا في مقابلة النجس ، لجواز كونه نجسا قد رفع عنه بعض أحكام النجاسة فلا منافاة ، وبهذا الاعتبار يصحّ مقابلة القول بالعفو ـ بالمعنى الملازم للنجاسة ـ للقول بالطهارة.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٦٩.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.


ولا يسلّم أنّ العفو في كلام كلّ قائل به وارد على إطلاقه ، ومراد به رفع جميع أحكام النجاسة لئلّا يصحّ المقابلة ، ويوجب ذلك العدول عن المعنى الظاهر المعهود إلى معنى آخر غير معهود ، كيف وأنّ عباراتهم تنادي بأعلى صوتها أنّ القول بالعفو يلزمه عدم تجويز الاستعمال من تناول ونحوه ، وهو كما ترى من لوازم النجاسة وأحكامها ، إذ لا يعقل في المقام باعث عليه ولا داع إليه سوى قيام هذا الوصف به ، بل ظاهرهم الإجماع على أنّه لا مانع سواه فتأمّل.

وعلى أيّ حال فالحاسم لمادّة هذا الإشكال ، الّذي ربّما يحصل في تشخيص محلّ المقال ، أن يجعل البحث بالنسبة إلى مسألة العفو هنا من جهتين : باعتبار ما عرفت له من المعنيين ، ثمّ ينظر في كلّ جهة إلى مقتضى ما هو الموجود من دليلها. فتحقيق الكلام في تحرير عنوان المسألتين : أنّ مرجع البحث في الطهارة والعفو بالمعنى الأوّل إلى أنّ مفاد الدليل الوارد في ماء الاستنجاء ، هل هو سلب جميع أحكام النجاسة عن هذا الماء أو سلب بعضها مع إبقاء البعض الآخر؟ كما أنّ مرجعه على العفو بالمعنى الثاني إلى أنّ مفاد الدليل الوارد فيه هل إثبات جميع أحكام الطهارة لهذا الماء أو إثبات بعضها مع إلغاء البعض الآخر.

ولا ريب أنّ النزاع على الوجه الأوّل يرجع إلى أصل الاستثناء عن عموم دليل انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة ، فالقائل بالطهارة لا بدّ وأن يدّعي وقوع هذا الاستثناء ، والقائل بالعفو لا بدّ وأن ينكر ذلك ، بدعوى : أنّ مفاد الدليل الوارد فيه كائنا ما كان إنّما هو سلب بعض أحكام النجاسة عن هذا الماء لا إخراجه عن حكم النجاسة بالمرّة ، كما أنّه على الوجه الثاني يرجع إلى تحقيق معنى الطهارة الثابتة هنا بالدليل الوارد ، بعد الاتّفاق على وقوع أصل الاستثناء ، وخروج هذا الفرد من القليل عن عموم الانفعال.

فالكلام في باب الاستنجاء بالنسبة إلى كلّ من الوجهين وقع في مقامين أحدهما وفاقي ، والآخر خلافي.

أمّا الأوّل على الوجه الأوّل فهو أنّه قد ثبت لماء الاستنجاء عمّا بين مشاركاته حكم يمتاز به عمّا عداه من المياه القليلة الملاقية للنجاسة جزما.

وأمّا الثاني على هذا الوجه : فهو أنّ هذا الحكم الثابت فيه هل هو خروجه عن


حكم الانفعال بالمرّة وكونه محكوما عليه بالطهارة أو هو زوال بعض أحكام النجاسة مع بقاء أصل الوصف الملازم لبقاء البعض الآخر من أحكامها.

وأمّا الأوّل على الوجه الثاني : فهو أنّه قد خرج ذلك عن حكم الانفعال بالمرّة ، وحكم عليه خاصّة بالطهارة في الشريعة.

وأمّا الثاني على هذا الوجه : فهو أنّه هل يثبت له جميع أحكام الطهارة أو يثبت بعضها وينتفي البعض الآخر ، ومن البيّن أنّ الخلاف إن كان في الجهة الاولى صحّ لمدّعي الطهارة أن يتمسّك بما تقدّم من الأخبار الواردة في الاستنجاء ، ولمدّع العفو حينئذ أن يناقش في دلالة تلك الأخبار ، ولا يسوغ للأوّل الرجوع إلى القواعد الخارجة المقتضية للطهارة من الأصل والاستصحاب والعمومات كما لا يخفى ، وإن كان في الجهة الثانية فلا معنى في دعوى الطهارة للرجوع إلى تلك الأخبار ، لأنّها إنّما قضت بخروج الموضوع عن حكم الانفعال ، ولا تعرّض فيها أصلا لبيان أنّ هذا الموضوع المحكوم عليه بكونه طاهرا يثبت له جميع أحكام الطهارة أو بعضها ، بل لا بدّ له من الرجوع إلى الخارج ، ولأجل اختلاط هاتين الجهتين اختلط الأمر كثيرا ما على بعض الفحول ، فيتمسّك تارة بما يناسب الجهة الاولى ، واخرى بما يناسب الجهة الثانية فلاحظ وتأمّل ، وإذا تقرّر هذا كلّه فلا مناص من إيراد الكلام في الجهتين معا.

أمّا الجهة الاولى : فالحقّ فيها أنّ ماء الاستنجاء وإن كان من أفراد القليل الملاقي للنجاسة ، ولكنّه لا ينجّس بتلك الملاقاة ، فهو طاهر لا أنّه نجس معفوّ عنه ، خلافا لمن يتوهّمه كذلك إن كان ؛ إذ ليس له مستند فيما نعلم سوى ما حكي من العمومات الدالّة على أنّ الماء القليل ينجّس بملاقاة النجاسة ، وهذا إنّما يتّجه لو لا الدليل الوارد الموجب للتخصيص في تلك العمومات.

واحتجّ موافقونا في الاختيار بوجوه :

منها : ما عن الذخيرة (١) والمشارق (٢) ومجمع الفائدة (٣) من أصالة الطهارة ، واستصحابها ، وقد يضاف إليهما العمومات القاضية بأنّ الأصل في الماء الطهارة.

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٤٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٩.


وفيه : ما لا يخفى من أنّ الأصل والاستصحاب ممّا لا مدخل لهما في تعريف الحكم الواقعي ، ومع ذلك فقد انقطعا بعموم قاعدة انفعال القليل ، ومعه لا معنى للاستناد إليهما ، ولعلّه مبنيّ على القول بمنع العموم في تلك القاعدة ، وقد ظهر لك ضعفه في محلّه ، وأمّا العمومات فالأمر فيها أوهن ، لأنّ الاستناد إليها إنّما يصحّ لو كان الغرض معرفة حكم ذلك بنوعه وخلقته الأصليّة ولا كلام لنا فيه ، بل الغرض الأصلي هنا معرفة حكمه من حيث قبوله الانفعال وعدمه بالعارض ، ولا تعرّض في تلك العمومات لذلك نفيا ولا إثباتا ، وعلى فرض تعرّضها للنفي فهي منقطعة بما يحكم عليها من الدليل الشرعي ، إذ المفروض أنّ العارض وهو ملاقاة النجاسة متحقّق ، وعموم الدليل على كون هذا النحو من العارض ممّا يوجب الانفعال قائم ، فلا محيص من تخصيصها بذلك ، والمناقشة في عموم ذلك الدليل قد تبيّن دفعها. وبجميع ما ذكر يتبيّن ضعف ما في شرح الدروس للخوانساري (١) من الاحتجاج بما يقرب ممّا تقدّم من أنّ الأصل في الأشياء الطهارة والإباحة ، وقد عرفت أنّ أدلّة نجاسة القليل لا عموم لها بحيث يشمل ما نحن فيه ، وإنّما كان التعدّي عن الموارد المخصوصة الّتي وردت فيها الروايات إلى بعض الصور لأجل الشهرة وعدم القول بالفصل وكلاهما مفقودان فيما نحن فيه فيبنى على الأصل فيثبت جواز الطهارة والتناول.

ومنها : ما احتجّ به جماعة من لزوم العسر والمشقّة لو لا البناء على الطهارة.

وفيه أوّلا : منع الصغرى ، حيث لا نجد عسرا في التحرّز عن هذا الماء أصلا ، خصوصا إذا كان الاستنجاء من البول ، إذ لو اريد به ما يلزم حالة الاستنجاء من حيث إنّها معرض للرشاش ، فلدفعه طرق واضحة لا تكاد تخفى على أحد ، ولو اريد به ما يلزم من جهة غلبة الابتلاء بماء الاستنجاء بالمباشرة ونحوها فمنعه أوضح ، إذ لا نعقل ابتلاء به يكون غالبيّا أو كثيرا إلّا حالة التشاغل بأصل الاستنجاء ، وهو كما ترى لا يقتضي عسرا في التحرّز عنه إذا تحقّق معه الغسل على النهج المقرّر في الشرع ، المستتبع لطهارة المحلّ واليد المباشرة له وزوال الغسالة على النحو المتعارف.

وثانيا : منع الكبرى ، إذ لو اريد بالعسر ما ينشأ من الوسواس فلا عبرة به في الشريعة لفساد مبناه ، ولو اريد به ما ينشأ من الاحتياط ـ الّذي هو حسن على كلّ حال

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٣.


ـ فهو غير معلوم الشمول للأدلّة النافية له فهو غير منفيّ حينئذ ، ولو اريد به ما ينشأ من التكليف الإلزامي الالهي فيرتفع بالعفو عنه والرخصة في مباشرته ، وهو ممّا لا ينكره الخصم ، والمفروض عدم حصول البلوى باستعماله في التطهير ليلزم العسر ، بل العذر على تقدير نجاسته لتوقّف التطهير على الطهارة ، ومجرّد المباشرة بالثوب والبدن لا يقتضي أزيد من العفو والرخصة ، وإلى ذلك أشار المحقّق الخوانساري في دفع الاحتجاج ، قائلا : « بأنّ الحرج على تقدير تسليمه يرتفع بالعفو ، ولا يتوقّف على طهارته ، إذ لا حرج في عدم جواز استعماله في رفع الخبث والتناول » (١) وتبعه على ذلك غير واحد من الأصحاب.

ومنها : ما تكرّر الاحتجاج به في كلام الأصحاب من الأخبار المتقدّم بيانها ، وهي الحجّة الّتي لا محيص عنها في المسألة ، لوضوح دلالتها ولا سيّما الأوّل منها ، وهو خبر عبد الكريم على الطهارة.

والمناقشة في ذلك بما يظهر من شرح الدروس : « بأنّ نفي البأس الوارد في أكثر تلك الأخبار أعمّ من الطهارة والعفو ، فلا قضاء له بالطهارة » (٢) ـ وتبعه في تلك الدعوى صاحب الحدائق (٣) ـ وكذا الحال في رواية عبد الكريم ، فإنّ عدم تنجيسه الثوب لا يستلزم طهارته ، إذ كونه معفوّا عنه مطلقا أيضا يستلزم ذلك.

والجواب : أمّا عن المناقشة في خبر عبد الكريم ، فبأنّ الاستلزام إن اريد به العقلي فانتفاؤه مسلّم ، ولكن اعتباره في الشرعيّات بل ودلالة الألفاظ ليس بلازم ، وإن اريد به غيره شرعيّا أو عرفيّا فهو موجود بكلا قسميه.

أمّا الأوّل : فلأنّ المعلوم من طريقة الشارع المركوز في أذهان المتشرّعة أنّ ملاقاة النجس إذا قارنت شرائط التأثير توجب النجاسة في الملاقي أيضا ، إلّا في مواضع مخصوصة خرجت بالدليل ، وإنكاره مكابرة لا يلتفت إليها.

وأمّا الثاني : فلأنّ المنساق من قوله : « لا ينجّس » جوابا لمن قال : « هل ينجّس ذلك بذلك الشي‌ء » في العرف والعادة إنّما هو انتفاء النجاسة من الشي‌ء الثاني ، وإن كان

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٤ حيث قال : « ونفى البأس وإن كان أعمّ من الطهارة إلّا ... » الخ.


المصرّح بنفيه في عبارة الجواب إنّما هو نجاسة الشي‌ء الأوّل ، نظرا إلى أنّ نفي اللازم يقضي بنفي الملزوم ، بناء على أنّ الملازمة بينهما عند تحقّق اللقاء مع اجتماع شرائط التأثير مركوزة في أذهان المتشرّعة فعدم تنجيسه الثوب إنّما هو لعدم كونه بنفسه نجسا.

فإن قلت : قضيّة ذلك حمل السلب في قضيّة الجواب على كونه باعتبار انتفاء الموضوع ، وهو خلاف الأصل.

قلت : إنّما يلزم ذلك لو فرض كون النجاسة مأخوذة في موضوع قضيّة السؤال وليس كذلك ، بل الموضوع هو ذات ماء الاستنجاء معرّاة عن وصف النجاسة ، وهذا الموضوع باق في قضيّة الجواب ، وليس السلب الوارد فيه من جهة انتفائه ، بل من جهة انتفاء أمر خارج عنه غير لازم له.

فإن قلت : لو لا وصف النجاسة مأخوذا في قضيّة السؤال فلأيّ فائدة وقع السؤال؟ فإنّ كلّ عاقل يعلم بأنّ الشي‌ء لا ينجّس بواسطة ملاقاة الطاهر.

قلت : فائدة السؤال استعلام ما احتمله السائل من قيام وصف النجاسة بماء الاستنجاء ، كغيره من المياه القليلة الملاقية للنجاسة الموجب لسرايته إلى ما يلاقيه ، فأورد السؤال عن اللازم انتقالا إلى ما هو مرامه من الملزوم.

مع أنّه لو لا دلالته على عدم النجاسة لما كان دالّا على العفو أيضا ، بالمعنى المعروف الّذي فرضنا البحث من جهته ، لأنّ القائلين به معترفون بأنّه نجس ، ويوجب النجاسة في مباشره ولكنّهم يدّعون العفو عنه ، على معنى أنّ هذه النجاسة الحاصلة في الثوب أو البدن من جهة أنّها حاصلة عن ماء الاستنجاء لا تقدح في صحّة الصلاة أو الطواف أو غير ذلك من مشروط بطهارة الثوب والبدن ، بل هي من جهة ما فيها من الخصوصيّة ملغاة في نظر الشارع تسهيلا للأمر على المكلّف ، وصونا له عن الوقوع في العسر والمشقّة ، وقد دلّت الرواية على انتفاء النجاسة من الثوب رأسا ، لا أنّها موجودة ولكنّها معفوّ عنها ، وبذلك بطل ما ذكره في التعليل من قوله : « إذ كونه معفوّا عنه مطلقا أيضا يستلزم ذلك » إن أراد بقوله : « يستلزم ذلك » استلزامه عدم تنجّس الثوب ، فإنّه مخالف لما عليه أهل القول بالعفو ، فلا يمكن حمله على إرادة العفو ، ومعه يتعيّن حمله على إرادة الطهارة ؛ للإجماع على انتفاء الواسطة ، كما لا يخفى على الفطن العارف.


وأمّا عن المناقشة في الروايات المشتملة على نفي البأس ، فلأنّ الظاهر من سياق السؤال وملاحظة الأسئلة الواردة في نظائر المقام ، كون السؤال ناشئا عن الجهل بحكم هذا الماء ، وواردا في موضع توهّم نجاسته ، وإن كان المذكور في متن السؤال وقوع الثوب فيه ، فلو كان المراد بنفي البأس نفيه عن مباشرته ـ على نحو يكون مفاده العفو ـ لم يطابق الجواب للسؤال ، ولم يوجب رفع الجهالة عن السائل فيما جهل به.

مع أنّ كلمة « لا » نافية للجنس ، والبأس ظاهر في الماهيّة الصادقة على جميع ما يصدق عليه في العرف أنّه بأس ، والعفو بالمعنى المبحوث عنه مراد به انتفاء البأس عن مجرّد مباشرته حال الصلاة ونحوها ، فلو حمل النفي في الرواية على إرادة هذا المعنى فقط كان منافيا لإطلاقه المفيد للعموم ؛ لكونه تقييدا بلا دليل ، خصوصا إذا ضمّ إليه قوله عليه‌السلام : « ولا شي‌ء عليك » كما في رواية الصدوق.

وبالجملة : إمّا أن يقال : « بأنّ هذا الماء طاهر » أو يقال : « بأنّه نجس وينجّس ما يلاقيه ، ولكن عفى عن مباشرته » ، أو يقال : « بأنّه نجس ولا ينجّس ما يلاقيه » ، أو يقال : « بأنّه نجس وينجّس ما يلاقيه ، ولا يجوز مباشرته في حال » ، والأخيران منفيّان بالإجماع ، مضافا إلى كون الأخير منهما منفيّا بنصّ الرواية ، فتعيّن الأوّل ؛ لكون الثاني تخصيصا في العامّ أو تقييدا في المطلق ، ولا يصار إليهما إلّا بدليل ولا دليل.

فإنّ قضيّة الحمل المذكور أن لا يجوز تناول المعتصر من هذا الماء الّذي باشر الثوب لو فرض عصره على نحو يحصل منه ما يمكن تناوله ، وأن لا يجوز استعماله في إزالة الخبث لو اعتصر منه ما يكفي في الإزالة ، وأن ينجّس ما يلاقيه في الثوب الملاقي له ، وأن ينفعل القليل الّذي يقع فيه ما لاقاه من الثوب ـ بناء على ما سبق تحقيقه من عدم الفرق في انفعال القليل بالملاقاة بين النجس والمتنجّس ـ ولا ريب أنّ كلّ ذلك بأس يبقى خارجا عن النفي ، وهو مناف لإطلاق النفي أو عمومه ، ولو حمل النفي على نفي جميع ذلك رجع مفاده إلى إثبات الطهارة ، إذ لا يعني بالطهارة إلّا ما انتفى معه جميع آثار النجاسة وأحكامها وهو المطلوب.

وإلى هذا أشار المحقّق الشيخ عليّ ـ في كلام محكيّ له ـ فقال : « قلت : اللازم أحد الأمرين : إمّا عدم إطلاق العفو عنه ، أو القول بطهارته ؛ لأنّه إن جاز مباشرته من كلّ


الوجوه لزم الثاني ؛ لأنّه إذا باشره بيده ثمّ باشر به ماء قليلا ـ ولم يمنع من الوضوء به ـ كان طاهرا لا محالة ، وإلّا وجب المنع من مباشرة نحو ماء الوضوء به إذا كان قليلا ، فلا يكون العفو مطلقا ، وهو خلاف ما ظهر من الخبر وكلام الأصحاب » (١).

كما أنّه إلى ذلك ـ مضافا إلى ما قرّرناه في وجه الاستدلال بخبر عبد الكريم ـ ينظر ما قيل من أنّ كونه معفوّا عنه مطلقا مع نجاسته يستلزم نجاسة ما يلاقيه ، غايته أنّه يكون أيضا معفوّا عنه ، فحيث حكم بعدم تنجيسه الثوب ظهر أنّه ليس بنجس.

وكذا الكلام في رواية الأحول ، بأن يقال : نجاسة الماء تستلزم وجوب إزالته عن الثوب والبدن ، ووجود البأس فيه ، فحيث نفي البأس عنه يثبت طهارته ، فإنّ الظاهر أنّ إفراد استلزام نجاسته نجاسة ما يلاقيه ووجوب إزالته عن الثوب والبدن بالذكر إنّما هو من باب المثال ، إذ كلّ أحد ممّن له أدنى معرفة بتفاصيل الشرع يعلم أنّ النجاسة كما يقتضي الامور المذكورة ، فكذا تقتضي امورا اخر ممّا أشرنا إليها سابقا وممّا لم نشر ، كاقتضائها المنع عن رفع الحدث وإزالة الخبث بذلك الماء ، خصوصا إذا اعتبرناه معتصرا عن الثوب الملاقي له ، فحيث نفي نجاسة الثوب به ونفي البأس عنه على الإطلاق يدلّ على طهارته ، لأنّ نفي اللوازم يستدعي نفي الملزوم.

فما ذكره الخوانساري في شرحه للدروس في دفع ما قيل ـ من « أنّ الاستلزام ممنوع ، وغاية ما يتمسّك به في اقتضاء النجاسة هذه الامور الإجماع ، وهو فيما نحن فيه مفقود » (٢) ـ ليس على ما ينبغي ، فإنّ غاية ما فقد فيه الإجماع من اللوازم إنّما هو وجوب إزالة هذا الماء عن الثوب والبدن ، كما هو مفاد القول بالعفو ، وأمّا سائر اللوازم فلا خلاف عندهم في وجودها على تقدير ثبوت العفو ، والمفروض أنّ الروايتين دلّتا بعمومهما على انتفاء اللوازم بأسرها ، ومعه لا مناص عن القول بالطهارة ، فالكلام المذكور عن المحقّق من الامور العجيبة.

وأعجب منه ما ذكره عقيب الكلام المذكور ، من : « أنّه ولو فرض تحقّق عمومات دالّة على ذلك ، نقول : الروايات في بحث القليل تدلّ على نجاسة هذا الماء أيضا عند من يقول بعمومها كالمحقّق وأضرابه ، والنجاسة كما تقتضي الأشياء الّتي ذكرتم ، كذلك

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٣٠.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٣.


تقتضي أشياء اخر من عدم جواز رفع الحدث ورفع الخبث والتناول ؛ للاتّفاق على عدم الفرق بين هذه الامور وبين تلك ، وهذان الخبران إنّما دلّا على ارتفاع بعض أحكامها ممّا ذكر ، وأمّا البعض الآخر من عدم جواز استعماله في رفع الحدث والخبث وتناوله ، فينبغي أن يكون على حاله حتّى يثبت ارتفاعه بدليل آخر ، ونفي البأس غير ظاهر في الجميع ، بل ظاهره عدم النجاسة أو العفو » (١).

فإنّ قوله : « لا بأس » إذا كانت نكرة منفيّة وكانت النكرة المنفيّة مفيدة للعموم خصوصا مع ملاحظة حذف المتعلّق المفيد للعموم أيضا ، وإذا كان نفي نجاسة الثوب مستلزما لنفي جميع لوازم النجاسة عن الماء الّذي هو في الثوب ، فأيّ شي‌ء يدعو إلى دعوى أنّ هذان الخبران إنّما دلّا على ارتفاع بعض أحكامها ، وبأيّ قاعدة يقال : إنّ نفي البأس ظاهر في عدم النجاسة أو العفو ، مع أنّ العامّ لا يردّد بين العموم والخصوص إلّا على بعض المذاهب الفاسدة في صيغ العموم ـ المذكورة في فنّ الاصول ـ وكيف يعقل إبداء المعارضة بين عمومات القليل المقتضية لانفعاله بالملاقاة وبين هذين الخبرين ، وهما خاصّان وكلّ خاصّ مقدّم على العامّ وحاكم عليه ، وهل الكلام المذكور التزام بالتخصيص في المخصّص أيضا بعد التزامه في المخصّص بلا دليل يقضي بذلك.

نعم ، غاية ما يلتزم به من التخصيص في المخصّص ـ بالكسر ـ إنّما هو بالنسبة إلى رفع الحدث ، لنقل الإجماع على عدم جوازه بذلك الماء مع إمكان المناقشة فيه ، وأمّا سائر أحكام الطهارة فباقية تحت عموم نفي البأس وغيره.

لا يقال : التزام ما ذكر من التخصيص يكفي الخصم في إثبات النجاسة مع العفو ؛ لأنّ النجاسة هي الباعثة على ذلك الحكم الثابت بالإجماع ، لمنع انحصار الباعث على هذا الحكم في النجاسة ، ألا يرى أنّ المضاف أيضا ممّا لا يرفع به الحدث ، وكذا الماء المغصوب ، والماء المستتبع استعماله في ذلك للضرر على النفس المحترمة ونحوها ، ولعلّ الباعث على ذلك في ماء الاستنجاء زوال وصف ينوط به قوّته الرافعة غير الطهارة ، أو حدوث وصف يمنع عن تأثيره في الرفع غير النجاسة ، وقد علم به الشارع الحكيم ونبّه عليه ، وممّا يفصح عن ذلك استناد المفتين بذلك في الكتب الفقهيّة إلى

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٣.


الإجماع ـ أو نقله ـ لا إلى النجاسة.

وأعجب من الجميع ما ذكره في دفع ما أورده على نفسه ـ عقيب الكلام المتقدّم ـ بقوله : « فإن قلت : لو لم يرتفع هذه الأحكام أيضا يلزم التخصيص ».

فقال : « قلت : هذا معارض بلزوم التخصيص في عمومات القليل ، والترجيح لها كما لا يخفى » (١) ، فإنّ الخاصّ في مقابلة العامّ بمنزلة النصّ ـ وإن كان بنفسه من جملة الظواهر ـ فيقدّم عليه.

ومحصّله يرجع إلى أنّه أظهر والأظهر يقدّم على الظاهر ، مع أنّ التخصيص الّذي يحترز عنه في عمومات القليل إن اريد به أصل التخصيص فهو وفاقي الحصول بيننا وبينه ، فكيف يعقل نفيه بترجيح تخصيص الخبرين عليه ، وإن اريد به كثرة التخصيص فالمقام ليس منها ، لأنّ المخرج عن تلك العمومات ليس إلّا فرد واحد وهو ماء الاستنجاء وليس في مقابله شي‌ء يكون الأمر فيما بينه وبينه دائرا بين الأقلّ والأكثر حتّى يرجّح إخراج الأقلّ على إخراج الأكثر ، وما يرى من القلّة والكثرة اللتين يدور الأمر بينهما فهو مفروض بالنسبة إلى لوازم النجاسة الّتي كانت تثبت في ذلك الماء لو لا المخرج له عن عمومات النجاسة ، فلا يعقل في مثل ذلك أن يقال : إنّه قد ورد على تلك العمومات تخصيص ولكنّه مردّد بين كونه في الأقلّ أو الأكثر ، والأصل عدم الزيادة في التخصيص فيرجّح تخصيص الأقلّ.

وإن شئت توضيح ذلك فقس المقام على ما لو ورد خطاب عامّ بوجوب كلّ صلاة ، ثمّ قام خطاب آخر خاصّ بعدم وجوب صلاة الوتيرة مثلا ، والمفروض أنّ المنفيّ هنا شي‌ء مركّب مفهومه بين الاستدعاء والمنع ، وقضيّة نفيه انتفاء كلّ من جزأيه ، فلا يمكن أن يقال : حينئذ بمنع ذلك لاستلزامه تخصيص الأكثر والمتيقّن ممّا خرج عن العامّ إنّما هو أحد جزئي وجوب هذا الفرد ، وهو المنع عن الترك مثلا ، فيحكم بأنّه الخارج تقليلا للتخصيص وذلك واضح.

واحتجّ في المناهل (٢) ـ مضافا إلى النصوص وغيرها ـ بالإجماعات المنقولة المتقدّم إليها الإشارة.

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٢) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٣٩.


ثمّ إنّ قضيّة إطلاق نصوص الباب وفتاوي الأصحاب عدم الفرق بين المتعدّي وغيره ، ما لم يتفاحش على وجه لا يصدق معه على إزالته اسم الاستنجاء عرفا ، كما صرّح به غير واحد من الأصحاب.

قال الشيخ عليّ في حواشي الشرائع : « ولا فرق بين نجاسة المخرجين ، ولا بين المتعدّي وغيره » (١).

وفي الدروس : « ولا فرق بين المخرجين ، ولا بين المتعدّي وغيره » (٢).

قال الخوانساري في شرحه : « وقد قيل : إلّا أن يتفاحش بحيث يخرج به عن مسمّى الاستنجاء ، ولا بأس به » (٣).

وعن الذكرى : « ولا فرق بين المتعدّي وغيره للعموم » (٤).

وعن جامع المقاصد : « لا فرق بين المتعدّي وغيره ، إلّا أن يتفاحش » (٥).

وعن الروض : « لا فرق بين المتعدّي وغيره ، إلّا أن يتفاحش على وجه لا يصدق على إزالته اسم الاستنجاء » (٦).

وعن الذخيرة : « ومقتضى النصّ وكلام الأصحاب عدم الفرق بين المتعدّي وغيره ، إلّا أن يتفاحش على وجه لا يصدق على إزالته اسم الاستنجاء به » (٧).

ووجه التقييد بعدم التفاحش : أنّ الأحكام تدور مع عناوينها وجودا وعدما ، وقضيّة ذلك انقلابها بانقلاب العناوين ، والظاهر أنّ تعدّي الحدث من المخرج إلى أن يتفاحش على الوجه المذكور ممّا يوجب انقلاب العنوان ، فإنّ حكم الطهارة قد علّق في النصّ على عنوان الاستنجاء ، وإزالة المتعدّي على الوجه المذكور ليست من هذا العنوان في شي‌ء ، ولكنّه مبنيّ على كون الاستنجاء عبارة عن إزالة الحدث المعهود عن المخرج خاصّة وما يلحق به من الحواشي القريبة منه ، ولعلّه كذلك بل هو الظاهر من نصّ اللغوي وكلام الأصحاب ، ولذا تراهم لا يسمّون إزالة الحدثين عن الثوب أو موضع آخر من البدن استنجاء ، ولا يلحقه حكم ماء الاستنجاء ، فللخصوصيّة مدخليّة في صدق

__________________

(١) حاشية الشرائع ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٧.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٣) مشارق الشموس : ٢٥٤.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(٥) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٦) روض الجنان : ١٦٠.

(٧) ذخيرة المعاد : ١٤٣.


الاسم ، ومع انتفائها ينتفي الصدق فينقلب العنوان.

وفي كلام غير واحد أيضا التصريح بعدم الفرق بين الطبيعي وغيره ، كما عن الذخيرة (١) ، وفي كلام المحقّق الشيخ عليّ (٢) تقييده بالاعتياد تمسّكا بالإطلاق ، وعن بعضهم المناقشة في ذلك بمنع انصراف إطلاق عبائر الأصحاب ونصوص الباب إلى غسالة غير الطبيعي ـ وإن صار معتادا ـ لندرته ، وإفادة ترك الاستفصال في الأخبار العموم بحيث يشمل ذلك محلّ تأمّل ، اللهمّ إلّا أن يمنع من الدليل على نجاسته ، والأحوط الاجتناب عنه.

والتحقيق أن يقال : إنّ قضيّة عدم الانصراف إلى غير الطبيعي لندرته وإن كانت كما ادّعيت ، والتمسّك بالإطلاق وإن كان ليس في محلّه ، وترك الاستفصال في مثله لا يفيد العموم ، غير أنّه يمكن القول بأنّ الحكم ـ على ما يستفاد من طريقة الشارع وبناء الأصحاب في نظائر المقام ـ طهارة ونجاسة تابع للعنوان ، والخصوصيّات بأسرها ملغاة في نظر الشارع ، فيوجد الحكم حيثما وجد العنوان وينتفي بانتفائه ، كما يفصح عن ذلك بناؤهم في انفعال القليل على عموم الحكم لمجرّد روايات خاصّة ، مع ما فيها من الخصوصيّات والإضافات ما لا تحصى عددا ، فقصور لفظ الرواية عن شموله لبعض الأفراد غير قادح ، فلذا نقول بعدم الفرق في طهارة ماء الاستنجاء بين كون الحدث المستنجى منه من المكلّف نفسه أو من غيره ، فلو سقط من استنجاء غيره شي‌ء على ثوبه أو بدنه لم يكن به بأس ، مع أنّ النصّ غير ظاهر التناول جزما ، فيجري الحكم في الماء الّذي يطهّر به مخرج المريض أو الطفل أو المجنون أو نحو ذلك.

نعم ، لا يلحق به غسل مخرج غير هؤلاء من سائر أنواع الحيوان ، لعدم تحقّق العنوان بالنسبة إليه ، فالعمدة في المقام إحراز أنّ المفروض ممّا يصدق عليه العنوان وإن كان ممّا ندر وقوعه ، بناء على أنّ الاستنجاء بحسب المفهوم ليس إلّا إزالة الحدثين عن المخرج كائنا ما كان ، وأمّا خصوص كون المخرج هو الموضع المعهود الّذي جرى عليه الطبيعة الانسانيّة فممّا لا مدخل له في ذلك لغة ولا عرفا ، أو أنّ عنوان الحكم على ما

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٤٣.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٩ حيث قال : « ولا فرق بين الطبيعي وغيره إذا صار معتادا لإطلاق الحكم ».


يستفاد عن طريقة الشارع هو الإزالة عن المخرج كائنا ما كان ، وإن لم يندرج تحت مفهوم الاستنجاء ، واختصاصه بالذكر في النصوص من جهة أنّه محلّ ابتلاء السائل دون غيره ، وعلى أيّ حال فالمسألة غير خالية عن الإشكال ، وللاحتياط فيها مجال.

نعم ، لا ينبغي التأمّل في إطلاق النصوص وكلام الأصحاب القاضي بعدم الفرق في الطهارة بين الغسلة الاولى والثانية فيما يعتبر فيه التعدّد ، كما نصّ عليه السيّد في المناهل (١) وغيره ، وهو المحكيّ عن الكشف (٢) أيضا ، ناسبا له إلى نصّ السرائر (٣) ، فما عن الشيخ في الخلاف (٤) من تخصّصه بالغسلة الثانية ليس على ما ينبغي ، والاعتذار له : « بأنّه لعلّه لبعد الطهارة والعفو مع اختلاطه ، أو للجمع بين هذه النصوص ومضمرة العيص » (٥) غير مسموع.

ثمّ إنّهم رضوان الله عليهم ذكروا لما صاروا إليه من طهارة ماء الاستنجاء أو العفو عنه شروطا ، بعضها محلّ وفاق عندهم والبعض الآخر محلّ خلاف.

أوّلها : عدم تغيّره بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة ، نصّ عليه في الشرائع (٦) ، والرياض (٧) أيضا غير أنّه عبّر عنه بعدم العلم بتغيّره ، وربّما يحمل عليه كلام الأصحاب في هذا الشرط وغيره من الشروط الآتية ، فيعتبر العلم في جميع ذلك كما صرّح به المحقّق البهبهاني في حواشيه على المدارك ، حيث إنّه عند شرح قول المصنّف : « وشرط المصنّف وغيره الخ » ، قال : « وليس المراد بالشرطيّة معناها المعروف ، لأنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط ، فيلزم ندرة تحقّق الغسالة الطاهرة ، بل المراد أنّه إن علم التغيير أو غيره ممّا ذكر ينجّس ، ولا يجوز حمل الأخبار وكلام الأخيار على الفروض النادرة ، سيّما فيما نحن فيه ». انتهى (٨).

وكيف كان فاعتبار هذا الشرط وفاقي عندهم ظاهرا ، حيث لم نقف فيه على مخالف ، بل ربّما يتمسّك على اعتباره بالإجماع كما في المناهل (٩) ، نعم يظهر من

__________________

(١ و ٩) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٢.

(٢) كشف اللثام ١ : ٣٠١.

(٣) السرائر ١ : ١٨٠.

(٤) الخلاف ١ : ١٧٩ المسألة ١٣٥.

(٥) والمعتذر هو الفاضل الهندي (ره) في كشف اللثام ١ : ٣٠١.

(٦) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٧) رياض المسائل ١ : ١٨٢.

(٨) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٩٠.


الخوانساري في شرح الدروس (١) التشكيك في ذلك لو لا مستنده الإجماع ، حيث إنّه بعد ما ذكر الشرط المذكور قال : « والظاهر أنّه إجماعي وإلّا لأمكن المناقشة ، إذ الروايات الدالّة على نجاسة المتغيّر عامّة وهذه الروايات خاصّة ».

واعترض عليه في المناهل : « بمنع ذلك بل بينهما عموم من وجه ، فإنّ أخبار ماء الاستنجاء من حيث موردها خاصّة ، ومن حيث شمولها لحالتي التغيّر وعدمه عامّة ، وما دلّ من الأخبار على نجاسة الماء بالتغيّر بالنجاسة من حيث اختصاص مورده بالتغيّر خاصّ ، ومن حيث شمولها لماء الاستنجاء وغيره عامّ ، فإذن ينبغي الرجوع إلى وجوه الترجيح ، ومن الظاهر أنّها مع الأخبار الدالّة على نجاسة الماء بالتغيّر بالنجاسة ، فلا يجوز العدول عنها » (٢) الخ.

ولعلّ نظره في دعوى كون الترجيح مع تلك الأخبار ، إلى العمل والفتوى ونقل الإجماع وغيره من المرجّحات الخارجة ، وإلّا فمع الغضّ عن ذلك فالمرجّح الداخلي من حيث الدلالة في جانب أخبار المقام ، لكونها أقلّ أفرادا من الأخبار الدالّة على نجاسة المتغيّر ، فتكون أظهر منها دلالة فيكون حكمها حكم الخاصّ ، ولعلّه الّذي أراده الخوانساري من حكمه على تلك الأخبار بكونها خاصّة.

فالتحقيق : في إثبات هذا الشرط ـ على نحو ينطبق على القواعد ، ولا يبتني على ثبوت الإجماع عليه ، بحيث لو لا ثبوته كان الحكم بالاشتراط في موضع التأمّل أن يقال : بمنع الإطلاق في روايات المقام بحيث يشمل صورة التغيّر وإن فرضناها خاصّة بالقياس إلى أخبار التغيّر ، لا لما ذكره في المناهل من ندرة التغيّر في ماء الاستنجاء ، بل لأنّ التغيّر حيثيّة اخرى مبيّن حكمها في الخارج ، والملحوظ في المقام إنّما هو حيثيّة الاستنجاء من حيث هو مع قطع النظر عن الحيثيّات الاخر ، ومن البيّن اختلاف العنوانات باختلاف الحيثيّات.

وما توهّم من الإطلاق وإن كان إطلاقا في الأحوال غير أنّه إنّما يجدي في تعميم الحكم بالقياس إلى ما شمله من الأحوال ، إذا لم يكن الحالة حيثيّة ممتازة عن غيرها بحكم مبيّن لها في الخارج ؛ ضرورة أنّ عدم اعتبار الإطلاق معه لا يكون منافيا

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٢) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٣.


للحكمة ولا موجبا لمحذور ، ولذا تراهم في مثل قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (١) لا يجوّزون أكل موضع عضّ الكلب ولو مع عدم التطهير ، مع أنّ الاطلاق الأحوالي قائم فيه جزما.

فإذا كانت الحيثيّة المذكورة خارجة عن مفاد الأخبار ، وكانت هي بنفسها مقتضية للمنع لم يتعدّ إليها حكم الطهارة ، لا لأنّه تقييد في ماء الاستنجاء ، أو تخصيص في الأخبار الواردة فيه حتّى يطالب بدليله ، أو يرجع التعارض فيما بينها وبين أخبار التغيّر إلى تعارض الخاصّ مع العامّ ، أو تعارض العامّين من وجه ، بل لأنّه أخذ بالمنع الثابت لحيثيّة التغيّر ، وهو عنوان آخر لا مدخل له لعنوان الاستنجاء ، مجامع له من باب المقارنات ، فعند التحقيق لا معارضة بينهما لاختلاف موضوعيهما ، والعمل في الحقيقة بالدليلين معا ، لا أنّه أخذ بأحدهما وطرح للآخر ؛ لعدم تنافيهما ، فنحكم بكلّ من الحيثين المجامعتين بحكمها الخاصّ له.

ونقول : إنّ حيثيّة « الاستنجاء » مقتضية للطهارة ، وحيثيّة « التغيّر » مقتضية للنجاسة ، غير أنّ هاتين الحيثيّتين لاجتماعهما في مورد واحد شخصي ممّا لا يمكن ترتيب الآثار على حكمهما معا في مقام العمل ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما ترتيبا للآثار على الآخر ، لإمكانه حينئذ على قياس ما هو الحال في الواجبين المتزاحمين ، حيث يرفع اليد عن أحدهما لعدم إمكان امتثالهما معا ، من دون أن يقضي بتخصيص دليله كما قرّر في محلّه ، غاية الفرق بينهما أنّ البناء فيهما على التخيير لإمكان الامتثال كذلك ، ولئلّا يلزم الترجيح بلا مرجّح ، بخلاف المقام حيث إنّ المتعيّن فيه إنّما هو العمل على حيثيّة « التغيّر » لتقدّم الجهة المانعة في جميع الموارد على جهة الإذن ، على ما قرّرناه في محلّه.

ولك أن تسلك هنا مسلكا آخر ، بأن تقول : إنّ الأخبار الواردة عن أهل العصمة فيما يرتبط بالمقام أو ما هو من أفراده ، الحاكمة بعضها بالطهارة وبعضها بالنجاسة ، الّتي يلاحظ النسبة بينها وبين أخبار المقام ، على ثلاثة أصناف :

أحدها : ما هو معنون بعنوان التغيّر.

وثانيها : ما هو معنون بعنوان الكرّيّة.

__________________

(١) المائدة : ٤.


وثالثها : ما هو معنون بعنوان الملاقاة للنجاسة.

ومفاد كلّ واحد منها بعد الجمع بين مناطيقها ومفاهيمها ينحلّ إلى قضيّتين : موجبة وسالبة.

فمن الأوّل : الماء المتغيّر بالنجاسة نجس ، والماء الغير المتغيّر بالنجاسة ليس بنجس.

ومن الثاني : الكرّ من الماء لا ينجّس بملاقاة النجاسة ، وما دون الكرّ منه ينجّس بملاقاة النجاسة.

ومن الثالث : الماء الملاقي للنجاسة ينجّس بالملاقاة ، والغير الملاقي لها لا ينجّس.

وإذا أردنا ملاحظة النسبة بين كلّ واحد من تلك القضايا الستّة مع الاخرى يرتقي صور المسألة إلى خمسة عشر ، كما يظهر بأدنى تأمّل. إلّا أنّه لا يتحقّق معارضة في البين إلّا في أربع منها :

أحدها : قولنا : الماء المتغيّر بالنجاسة ينجّس بالتغيّر ، والكرّ من الماء لا ينجّس بالملاقاة.

وثانيها : الماء الغير المتغيّر بالنجاسة لا ينجّس بالملاقاة ، وما دون الكرّ من الماء ينجّس بالملاقاة.

وثالثها : الماء الغير المتغيّر بالنجاسة لا ينجّس بالملاقاة ، والماء الملاقي للنجاسة ينجّس بالملاقاة.

ورابعها : الكرّ من الماء لا ينجّس بملاقاة النجاسة ، والماء الملاقي للنجاسة ينجّس بالملاقاة.

والنسبة في الصورتين الاوليين عموم من وجه ، وفي الأخيرتين عموم وخصوص مطلق ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وقاعدتهم في تعارض العامّين من وجه ، وفي تعارض الخاصّ والعامّ وإن كانت تقتضي الرجوع إلى وجوه الترجيح في الاوليين ، وتقديم الخاصّ على العامّ في الأخيرتين ، إلّا إنّا نراهم أنّهم في الاولى من الاوليين يحكّمون عموم التغيّر على عموم الكرّ من غير تأمّل ولا خلاف ، وفي الثانية منهما يحكّمون عموم ما دون الكرّ على عموم عدم التغيّر ، وفي الاولى من الأخيرتين يقدّمون العامّ على الخاصّ ، فلا يفرّقون في نجاسة ما دون الكرّ بين صورتي التغيّر وعدمها ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّهم عثروا


من الأدلّة الشرعيّة والقرائن المعتبرة ما دعاهم إلى ذلك ، وإلّا فلا ريب أنّ تقديم العامّ على الخاصّ ـ كما يصنعونه في الصورة الثالثة ـ على خلاف القاعدة.

نعم مشوا على طبق القاعدة في الصورة الرابعة ، حيث قدّموا خصوص الكرّ على عموم الملاقاة ، فمن بنائهم في هذا المقام يظهر الإجماع على تحكيم أدلّة التغيّر على أدلّة سائر العنوانات ، ولو فرضت في بعضها جهة خصوصيّة بالقياس إلى عنوان التغيّر ، وإجماعهم ذلك يكشف جزما عن وجود دليل محكم وقرينة معتبرة ، وإن لم نعلم بهما عينا ، وقضيّة ذلك خروج صورة التغيّر عن أدلّة ماء الاستنجاء ، كما هي خارجة عن أدلّة الكرّ.

ولك أن تقول : إنّ النسبة بين أدلّة الاستنجاء وأدلّة التغيّر وإن كانت في ابتداء النظر عموم من وجه ـ كما فهمه صاحب المناهل ـ غير أنّها منقلبة إلى ما لا معارضة معه ، بعد تحكّم أدلّة التغيّر على أدلّة الكرّ ، ثمّ تحكيم أدلّة الكرّ على أدلّة الماء الملاقي للنجاسة ، ثمّ تحكيم أدلّة الاستنجاء على أدلّة القليل الملاقي للنجاسة ، فإنّ صورة التغيّر حينئذ خارجة عن عنوان الكرّ ، فهو في قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » (١) مقيّد بعدم التغيّر ، فيكون مفهومه أيضا مقيّدا به ، إذ المفهوم تابع للمنطوق في جميع ما اعتبر فيه ، فالحكم بعدم انفعال القليل إنّما ورد عليه وهو مقيّد بعدم التغيّر ، والمفروض أنّ ماء الاستنجاء مخرج منه ، فيكون مشاركا له في قيده ، لوجوب دخول المستثنى في الاستثناء المتّصل في جملة أفراد المستثنى منه ، ومعه أيضا لا يتناول حكم الطهارة في الاستثناء لصورة التغيّر ، فيبقى تلك الصورة ـ إذا تحقّقت في ضمنه ـ في الحكم عليها بالنجاسة سليمة عن المعارض ، فتأمّل جيّدا (٢).

وبالجملة : اعتبار عدم التغيّر في طهارة ماء الاستنجاء ـ كما صنعه الجماعة ، وأطبقوا عليه ، وادّعى عليه الإجماع ـ في محلّه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٢) وجهه : أنّ جهة المعارضة بين الكرّ الغير المتغيّر وبين الملاقي للنجاسة إنّما هي ذات الكرّ دون قيده ، فلا داعي إلى حمل الملاقي على عدم التغيّر ، بل غايته أنّه يحمل على ما عدا الكرّ ، وكذلك جهة العارضة بين ما دون الكرّ الغير المتغيّر وبين الملاقي إنّما هو عموم الملاقي للكرّ ، فيحمل على ما دون الكرّ نفسه دونه مع وصفه ، ومعه لا داعي إلى أخذ عدم التغيّر في موضوع حكم الانفعال ليكون ماء الاستنجاء مخرجا عنه مقيّدا بهذا الوصف كما لا يخفى (منه عفي عنه).


وثانيها : أن لا يقع ماء الاستنجاء على نجاسة خارجة عن حقيقة الحدث المستنجى منه كالدم المستصحب له ، أو عن محلّه وإن لم يخرج عن الحقيقة كالحدث الملقى على الأرض ، من غائط أو بول أو غيرهما من النجاسات ، فلو سقط ماء الاستنجاء وعلى الأرض نجاسة ثمّ رجع إلى الثوب أو البدن فهو نجس ، سواء تغيّر به أو لا ، وسواء كانت النجاسة هو البول أو الغائط المستنجى منهما أو غيرهما.

وقد أشار إلى ذلك في الشرائع (١) ، وقد تقدّم التصريح به ـ في الجملة ـ عن المنتهى (٢) وحكي ذلك عن القواعد (٣) ، والدروس (٤) ، وجامع المقاصد (٥) ، والجعفريّة (٦) ، والمقاصد العليّة (٧) ، والروضة (٨) ، والروض (٩) ، ومجمع الفائدة (١٠) ، والكشف (١١) ، وصرّح به في الرياض (١٢) أيضا ، ونفى عنه الخلاف.

والوجه في ذلك يظهر بالتأمّل فيما تقدّم ، فإنّ وقوعه على ما فرض من النجاسة ممّا يوجب انقلاب العنوان ، ويتبعه انقلاب الحكم أيضا ، وإلى ذلك أشار في مجمع الفائدة ـ على ما حكي ـ بقوله : « نعم اشتراط عدم وقوعه على نجاسة خارجة غير بعيد ، لأنّ الظاهر من الدليل هو الطهارة من حيث النجاسة الّتي في المحلّ ما دام كذلك » (١٣).

وثالثها : ما اعتبره جماعة من أن لا يخالط الحدثان لنجاسة اخرى كالدم والمنيّ ، عزى إلى جامع المقاصد (١٤) ، ومحكيّ الذخيرة (١٥) عن جماعة ، واستشكل فيه صاحب المدارك قائلا : « بأنّ اشتراطه أحوط ، وإن كان للتوقّف فيه مجال لإطلاق النصّ » (١٦) ، ووافقه على ذلك الخوانساري في شرح الدروس قائلا : « بأنّ اشتراطه محلّ كلام لإطلاق اللفظ ، مع أنّ الغالب عدم انفكاك الغائط عن شي‌ء آخر من الدم ، أو الأجزاء

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٤٣.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٤) الدروس الشرعيّة ١: ١٢٢حيث قال :«والمستعمل في الاستنجاء طاهر ما لم يتغيّر أو تلاقه نجاسة اخرى ».

(٥) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٦) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ١٨٦.

(٧) المقاصد العليّة : ١٥٠ المسألة ٢٨.

(٨) الروضة البهيّة ١ : ٣١١.

(٩) روض الجنان : ١٦٠.

(١٠ و ١٣) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٩. (١١) كشف اللثام ١ : ٣٠١.

(١٢) رياض المسائل ١ : ١٢٨. (١٤) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(١٥) ذخيرة المعاد : ١٤٣. (١٦) مدارك الأحكام ١ : ١٢٤.


الغير المنهضمة من الغذاء ، أو الدود ، على أنّ في صحيحة محمّد بن النعمان ـ المنقولة أيضا ـ إشعارا بالعفو عنه ، وإن كان على الذكر منيّ ، كما لا يخفى » انتهى (١).

وأنت خبير بما فيه من الخلط والاشتباه ، والحقّ التفصيل في ذلك ، فإن كانت النجاسة المخالطة بنفسها عنوانا مستقلا في النجاسة ، ثابتا حكمها من الخارج كالدم والمنيّ إذا خرجا مخلوطين مع الحدث المستنجى منه ، فلا مناص فيه من المنع والحكم بالنجاسة ، لمكان تداخل العنوانين واجتماع الحيثين ، فيقدّم جهة المنع على جهة الإذن لما تقدّم الإشارة إليه ، ولا ينبغي التمسّك بالإطلاق حينئذ لعين ما مرّ ، ودعوى وقوع الإشعار بخلافه في الصحيحة المذكورة غير مسموعة ، بملاحظة ما تقدّم في صدر المسألة.

وإن لم تكن كذلك ، بل كانت نجاسته مكتسبة عن الحدث المستنجى منه ، فالأقرب فيه ما صار إليه الجماعة من الحكم بالطهارة ، لمكان الإطلاق السليم عن المعارض ، وإن كان أحواليّا.

ورابعها : ما حكى اشتراطه عن جامع المقاصد (٢) ، والروض (٣) ، من عدم انفصال أجزاء من النجاسة متميّزة مع الماء ، محتجّين عليه : بأنّ أجزاء النجاسة ـ كالنجاسة الخارجة ـ تنجّس الماء بعد مفارقة المحلّ ، ولا يخفى ما فيه من المصادرة.

واستشكل فيه في المدارك (٤) أيضا قائلا بما سبق.

ولو استدلّ على القول الأوّل بما سبق عن مجمع الفائدة (٥) من أنّ الظاهر من الدليل هو الطهارة من حيث النجاسة الّتي في المحلّ ما دام كذلك لكان أسدّ ، ومحصّله : انقلاب العنوان معه ، فإنّ المفروض بعد مفارقة المحلّ داخل في عنوان القليل الملاقي للنجاسة في غير محلّ الاستنجاء ، فيلحقه حكمه ، ويقوي ذلك لو بقي على هذه الحالة بعد الانفصال مدّة ثمّ باشره الثوب أو البدن ، فاتّضح أنّ الاشتراط المذكور في محلّه.

وخامسها : ما عزى إلى الكشف (٦) ومحكيّ بعض ، من اشتراط عدم سبق اليد على الماء في ملاقاة المحلّ ، فلو سبقته ينجّس ، ولو سبقها أو كانا متقارنين كان طاهرا أو معفوّا عنه ، ويظهر من شرح (٧) الدروس الاحتجاج عليه : « بأنّ نجاسة اليد إنّما تكون

__________________

(١ و ٧) مشارق الشموس : ٢٤٥.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٣) روض الجنان : ١٦٠.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٢٤.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٩. (٦) كشف اللثام ١ : ٣٠١.


مستثناة بسبب جعلها آلة للغسل ، فلو اتّفقت لغرض آخر كانت في معنى النجاسة الخارجيّة » ، وفيه : مصادرة أو خروج عن الفرض كما لا يخفى.

وعن صريح جامع المقاصد (١) ، والرياض (٢) والذخيرة (٣) ، والمشارق (٤) ، وظاهر الشرائع (٥) ، والمنتهى (٦) ، والدروس (٧) ، والجعفريّة (٨) ، والمقاصد العليّة (٩) ، والروضة (١٠) ، والروض ، أنّ ذلك ليس بشرط ، وحكى الاحتجاج عليه : « بأنّ التنجّس على كلّ حال ؛ إذ لا أثر للتقدّم والتأخّر في ذلك » (١١) ، وإطلاق هذا الكلام ليس على ما ينبغي ، كما أنّ إطلاق القول الأوّل كذلك.

بل الّذي يقتضيه التدبّر ، التفصيل بين ما لو كان سبق اليد منبعثا عن العزم على الغسل وقارنه الفعل فلا يكون قادحا ، وبين ما لو لم تكن لأجل هذا الغرض ، فاتّفق حدوث العزم على الغسل بعد ما تنجّست ، فيكون نجاستها موجبة لنجاسة الماء.

أمّا الأوّل : بملاحظة ما سبق ، وأمّا الثاني : فلأنّ أعمال اليد من لوازم الاستنجاء ومقدّماته ، فالحكم عليه بالطهارة يقضي بعدم قادحيّة النجاسة الحاصلة فيها بمباشرة النجاسة الحدثيّة إن لم نقل بقضائه بعدم قبولها النجاسة في هذه الحالة ، فهذا المعنى ممّا يستفاد من النصّ بالدلالة الالتزاميّة.

ثمّ إذا لوحظ ما فيه من الإطلاق السليم عن المعارض بالنسبة إليه يتمّ المطلوب ، من عدم الفرق بين السبق والمسبوقيّة والمقارنة.

وسادسها : ما عن الشهيد في الذكرى (١٢) ، من اشتراطه عدم زيادة وزن الماء على ما قبل الاستنجاء ، فلو زاد وزنه بعد الاستنجاء كان نجسا ، ولو لم يزد كان طاهرا ، وفي شرح الدروس : « أنّه ممّا اعتبره العلّامة في النهاية (١٣) في مطلق الغسالة » (١٤) ، وعن

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٢٩.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٨٣.

(٣) ذخيرة المعاد : ١٤٣.

(٤ و ١٤) مشارق الشموس : ٢٥٤.

(٥) شرائع الإسلام ١ : ١٦ « لمكان عدم ذكره هذا الشرط في عداد شرائط طهارة ماء الاستنجاء ».

(٦) منتهى المطلب ١ : ١٤٣. (٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٨) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦).

(٩) المقاصد العليّة : ١٤٥. (١٠) الروضة البهيّة ١ : ١١.

(١١) روض الجنان : ١٦١. (١٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(١٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٤.


الآخرين عدم اشتراطه صريحا أو ظهورا ، وهو صريح المدارك (١) ، وشرح الدروس (٢) ، وغيرهما وهو الأقرب ، لإطلاق النصّ والفتوى ، مضافا إلى أنّه لو استفيد ذلك من نصوص الباب فواضح المنع جدّا ، ولو استفيد من أخبار التغيّر بدعوى : دخول المفروض في عنوان « التغيّر » الموجب للنجاسة.

ففيه : مع أنّ الشرط الأوّل يغني عن إفراده بالذكر ، ما تقدّم تحقيقه في بحث « التغيّر » من أنّه إذا حصل في غير الأوصاف الثلاث المعهودة لم يوجب نجاسته للنصوص وإجماع الأصحاب ، ولو اريد استفادته من خبر العلل (٣) المذيّل بقوله : « إنّ الماء أكثر من القذر » كما احتمله بعضهم ، مستندا له من حيث إنّه يعطي أنّ نفي البأس عنه إنّما هو لأكثريّة الماء واضمحلال النجاسة فيه ، وحينئذ فلو زاد لدلّ على وجود شي‌ء من النجاسة فيه وعدم اضمحلالها.

ففيه أوّلا : أنّ مستند الاشتراط إن كان ذلك فقد علم اعتباره في الشرط الرابع ؛ ضرورة أنّ المفروض ـ لو سلّم الملازمة بين زيادة الوزن وزيادة شي‌ء من أجزاء النجاسة غير مضمحلّ فيه ـ من أفراده فلا يكون شرطا آخر يدلّ عليه.

وثانيا : أنّ ذلك أدلّ على خلاف مدّعاهم ؛ لقضائه بأنّ الماء فيه شي‌ء من القذر ولكنّه أكثر منه ، ولا ريب أنّ ذلك يقضي بزيادة وزنه لا محالة على ما كان عليه قبل الاستنجاء ؛ ضرورة إنّه كان قبله ماء خالصا خاليا عن القذر الّذي فيه بعده ، واضمحلاله فيه لا يوجب عدم زيادته ؛ لأنّه ليس عبارة عن الانعدام الصرف ، بل هو عبارة عن انتشار أجزائه فيه بحيث لا يدركه الحسّ ، على نحو كان المجموع في نظر الحسّ ماء ، فهو سواء اضمحلّ أو لم يضمحلّ موجود فيه جزما ، وهو لا ينفكّ عن زيادة الوزن به جزما.

تنبيه : المعتبر في الشرائط المذكورة عدم العلم بوجود نقيضها ، كما سبق عن المحقّق البهبهاني (٤) التنبيه على ذلك ، فلو شكّ أو ظنّ بوجود شي‌ء من نقيض تلك

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٤ حيث قال : « ... ولا وزن له في نظر الاعتبار كما لا يخفى ».

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٢ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ علل الشرائع ١ : ٢٨٧.

(٤) حاشية البهبهانى على المدارك ١ : ١٩٠ ـ تقدّم في الصفحة ٣٠٣.


الشرائط لم يخرجه عن حكم الطهارة ، والأصل في ذلك الخبر المستفيض « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (١) بناء على ما قررناه من أنّه وارد لبيان الحكم لصورة الاشتباه ، مضافا إلى الأصل المتقدّم تأسيسه في غير موضع ، غير أنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، وممّن صرّح بما ذكرناه السيّد في المناهل قائلا : « بأنّه إذا شكّ في تحقّق الشرط فالأصل طهارة الماء مطلقا ، وإن حصل الظنّ بفقده ، ولكن مراعاة الاحتياط أولى » (٢).

وامّا الجهة الثانية : ففيها مسائل ثلاث.

الاولى والثانية : في أنّ ماء الاستنجاء بعد ما ثبت كونه طاهرا وجامع الشرائط المتقدّمة ، فهل يكون طهورا ـ بالمعنى الأعمّ من إزالة الخبث به ، ولو استنجاء آخر ، ورفع الحدث به صغيرا كان أو كبيرا ، ـ كما كان كذلك قبل الاستنجاء أو لا؟ فيه خلاف على أقوال :

أحدها : أنّه ليس بطهور مطلقا ، وهو لظاهر الشرائع (٣) ، والدروس (٤) ، والمنتهى (٥) ، وصريح الذكرى (٦) ، حيث إنّ الأوّل فرّق بين ماء الاستنجاء والمستعمل في الوضوء والمستعمل في الحدث الأكبر ، فحكم على الأوّل بكونه طاهرا فقط من غير تعرّض لطهوريّته ، وعلى الثاني بكونه طاهرا مطهّرا ، وعلى الثالث بكونه طاهرا وتردّد في طهوريّته.

وصنع نظيره الثاني ، غير أنّه قدّم المستعمل في الوضوء فحكم بكونه طهورا ، ثمّ أورد المستعمل في الحدث الأكبر فحكم بطهارته ، ناقلا في طهوريّته قولين مع جعله الكراهية أقربهما ، ثمّ تعرّض لذكر الاستنجاء فحكم عليه بالطهارة فقط.

والثالث حكم على ماء الاستنجاء بكونه معفوّا عنه بمعنى الطهارة ـ على ما استظهرناه سابقا ـ من غير تعرّض لحكم طهوريّته ، مع أنّه في المستعمل في رفع الحدث الأصغر حكم عليه قبل ذلك بكونه طاهرا مطهّرا مدّعيا عليه الإجماع ، وفي رفع الحدث الأكبر نقل الخلاف في طهوريّته ، واختار هو كونه طاهرا مطهّرا. وأنّ الرابع قال ـ حسبما تقدّم ـ : « وفي المعتبر : ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة إنّما هو

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٢) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٥.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٤٣.

(٥) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٦) ذكرى الشيعة ١ : ٨٢.


بالعفو ، وتظهر الفائدة في استعماله ولعلّه أقرب لتيقّن الطهارة بغيره » (١) ، فإنّ تعليله عامّ يجري في كلّ من النوعين.

وثانيهما : أنّه طهور مطلقا ، وهو الّذي اختاره في المناهل (٢) ، ناسبا في مسألة رفع الحدث الجواز إلى صريح الكشف (٣) ، وظاهر مجمع الفائدة (٤) ، وهذا يقتضي أنّهما يقولان بالجواز في مسألة الخبث أيضا بل بطريق أولى كما لا يخفى.

وثالثهما : الفرق بين المسألتين ، فالجواز في إزالة الخبث وعدمه في رفع الحدث ، ويستفاد ذلك من المدارك (٥) والحدائق (٦) ـ فيما تقدّم عنهما من عبارتهما ـ ويستفاد أيضا من الرياض (٧) وشرح الدروس (٨).

والعجب عن السيّد في المناهل (٩) حيث جعل المسألة ذات قولين ، مدّعيا للاتّفاق على الجواز في إزالة الخبث ، حاكيا للخلاف على قولين في رفع الحدث ، ولم نقف للأوّلين على مستند سوى ما أشار إليه الشهيد في الذكرى (١٠) من تيقّن الطهارة بغيره.

وحكى عن الآخرين الاستدلال بالأصل والعمومات والاستصحاب ، فإنّ الأصل بقاء الطهوريّة خرج عنه ما خرج وبقي الباقي.

وعن الباقين الاستدلال على الجواز في رفع الخبث بما تقدّم من الأصل والعمومات واستصحاب الطهوريّة ، مضافا إلى ما في شرح الدروس (١١) من التمسّك « بأنّ الأوامر إنّما وردت بالغسل بالماء ، وهذا يصدق عليه الماء فيحصل الامتثال » وإلى ما في المدارك (١٢) والحدائق (١٣) « من صدق الامتثال باستعماله » ، ومثله ما عن

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣ ـ أقول : ما في المعتبر : ٢٢ ليس بصريح في ذلك ، راجع الحدائق الناضرة ١ : ٤٧١ ـ جواهر الكلام ١ : ٦٤٠ ـ مفتاح الكرامة ١ : ٩٤.

(٢) المناهل : ١٤٥. (٣) كشف اللثام : ١ : ٣٠٠ ـ حكى عنه في المناهل : ١٤٥.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان : ١ : ٢٨٩.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ١٢٧.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٤٦٩.

(٧) رياض المسائل ١ : ١٨٢.

(٨ و ١١) مشارق الشموس : ٢٥٣.

(٩) المناهل : كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٥.

(١٠) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(١١ و ١٢) مدارك الأحكام ١ : ١٢٧.

(١٢ و ١٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٦٩ حيث قال : « والظاهر ـ كما هو المشهور ـ الجواز تمسّكا بأصالة الطهارة عموما وخصوصا وصدق الماء المطلق عليه ، فيجوز شربه وإزالة الخبث به ».


الذخيرة (١) من قوله : « ولحصول الامتثال في رفع النجاسات به ».

وعلى عدمه بما عزى (٢) إلى المعتبر (٣) والمنتهى (٤) من دعوى الإجماع على عدم جواز رفع الحدث بما تزال به النجاسة مطلقا.

فقد تبيّن بجميع ما ذكر : أنّ القول بالمنع مطلقا أو في الجملة ، لا حجّة عليه سوى قاعدة الشغل ، والاطلاق والإجماع المنقول في المنتهى والمعتبر ، وأنت إذا تأمّلت علمت أنّ شيئا منهما ليس بشي‌ء.

أمّا الأوّل : فلأنّ التمسّك بتلك القاعدة مع وجود ما يرفع موضوعها ـ على ما ستعرف ـ ممّا لا معنى له.

وأمّا الثاني : فلتوجّه المنع إلى شمول هذا الإجماع لمثل المقام ، بل التحقيق : أنّه لا مجال إلى دعوى الاطلاق في إجماع المنتهى ، فإنّه في كلام العلّامة معلّل بما لا يجري في المقام أصلا ، فإنّه بعد ما أورد الكلام في الماء المنفصل عن غسالة النجاسة بجميع صوره ، حتّى ما لو انفصل غير متغيّر من الغسلة الّتي طهّرت المحلّ حاكما في الجميع بالنجاسة ، ـ مع نقله في الأخير اختلاف القولين عن الشيخ في المبسوط (٥) ، فقال : بنجاسته مطلقا ، والخلاف (٦) ، فقال : بنجاسة الغسلة الاولى وطهارة الغسلة الثانية ، ـ قال : « رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا ، أمّا على قولنا فظاهر ، وأمّا على قول الشيخ فلما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الماء الّذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به من الجنابة لا يتوضّأ منه (٧) ». (٨)

فقوله : « أمّا عندنا فظاهر » إشارة إلى ما اختاره فيما تقدّم من نجاسة ما ينفصل من غسالة النجاسة ، تمسّكا بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة ، فينجّس.

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٤٤.

(٢) الناسب : هو صاحب المعالم في فقه المعالم ١ : ٣٢٣.

(٣) المعتبر : ٢٢ ، حيث قال : « وأمّا رفع الحدث به أو لغيره ممّا يزال النجاسة فلا ، إجماعا ».

(٤)منتهى المطلب ١ : ١٤٢ حيث قال:« رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا ».

(٥) المبسوط ١ : ٩٢.

(٦) الخلاف ١ : ١٧٩ ـ المسألة ١٣٥.

(٧) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٠.

(٨) منتهى المطلب ١ : ١٤٢.


فظهر أنّ مستند الإجماع أحد الأمرين : من النجاسة والرواية ، والمقام ليس مندرجا في شي‌ء منهما كما لا يخفى.

وأمّا إجماع المعتبر فلعلّه أيضا من هذا القبيل ، ولم يحضرنا الكتاب حتّى نلاحظ في مفاد كلامه وسياقه ، ثمّ لو سلّم الإطلاق في هذين الإجماعين أو في أحدهما فهو قابل للتقييد ، فإنّه باعتبار العبارة الناقلة عامّ ، وبعض ما ستعرف من أدلّة القول بالطهوريّة في ماء الاستنجاء خاصّ فيخصّص به العامّ ، فالقول بسلب الطهوريّة على إطلاقه ضعيف جدّا ، إذا كان مستنده ما ذكر ونظراءه ، وأمّا القول بالطهوريّة مطلقا فالظاهر أنّ التمسّك عليه بالأصل والعمومات متّجه ، إذا اريد بالأصل القاعدة الشرعيّة المستفادة من أدلّة طهوريّة الماء كتابا وسنّة.

لا يقال : إنّه مع العمومات قد انقطعا بأدلّة انفعال القليل بالملاقاة ، إن اريد بالعمومات قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) وما أشبه ذلك كتابا وسنّة لتوجّه المنع إلى دعوى الانقطاع ، فإنّ المفروض خروج ماء الاستنجاء عن تحت القليل الّذي ينفعل بملاقاة النجاسة ، ومعنى خروجه عنه انكشاف كونه مرادا من العمومات الأوّلية ، أو انكشاف عدم تعرّض أدلّة الانفعال لإخراجه عنها ، وهذا القدر كاف في صحّة التمسّك بها ؛ لأنّ مبناها على الظهور النوعي وهو حاصل هنا.

نعم ، إنّما يتّجه هذه المناقشة بالقياس إلى تمسّكهم بالأصل ، بمعنى استصحاب الطهوريّة الثابتة لهذا الماء قبل الاستنجاء ، لارتفاع موضوعه بورود أدلّة الانفعال الشاملة له ، ومعه لا يعقل الاستصحاب ، كيف ولو صحّ التمسّك به لإثبات الطهوريّة له مع ورود تلك الأدلّة المقتضية لخلافها لصحّ التمسّك به لإثبات الطهارة له أيضا ؛ لكونها كالطهوريّة ثابتة له قبل الاستنجاء ، ومعه يرتفع الحاجة إلى التمسّك بالأخبار الواردة فيه ، واللازم باطل بالضرورة ، وإبداء الفرق بين الحكمين بدعوى : صحّة ذلك في أحدهما دون الآخر ، تحكّم صرف.

فإن قلت : التمسّك به لإثبات الطهوريّة لهذا الماء إنّما هو بعد ملاحظة الأخبار الواردة المخرجة له عن تحت أدلّة الانفعال ، ولا ضير فيه لكشف تلك الأخبار عن عدم

__________________

(١) الفرقان : ٥١.


تعرّض الأدلّة المذكورة لرفع موضوع الأصل بالنسبة إليه ، على قياس ما ذكرته في صحّة التمسّك بالعمومات الأوّلية.

قلت : هذه الأخبار لو صلحت عندهم كاشفة عن هذا المعنى ، لكانت بأنفسها رافعة لموضوع الأصل أيضا ؛ إذ لا فرق في ارتفاع موضوع الأصل بين ورود الدليل على خلافه ووروده على طبقه ؛ لأنّه كائنا ما كان في مقابلة الأصل علم ، ومن البيّن عدم اجتماع العلم مع الشكّ في قضيّة شخصيّة.

ومن هنا فالتمسّك به ممّا لا وجه له على كلّ حال ، إن كان المراد جعله دليلا للحكم على الإطلاق كما هو ظاهر الجماعة.

وممّا ذكرنا يتّجه أن يقال : بصحّة التمسّك بأخبار الاستنجاء لإثبات حكم الطهوريّة أيضا ، كما أشار إلى التمسّك بها في المناهل (١) ، وقد تقدّم منّا الإشارة إلى وجهه عند التمسّك بها على إثبات حكم الطهارة له في الجهة الاولى.

وتوضيح ذلك : أنّ إثبات هذا الحكم لماء الاستنجاء بالأخبار الواردة فيه ليس من جهة وروده فيها بلفظ « الطهارة » على نحو الصراحة ، بل من جهة ما تضمّنته من نفي البأس ، بتقريب : أنّ النكرة المنفيّة لكونها مفيدة للعموم ، فنفي البأس عن هذا الماء في موضع توهّم النجاسة ظاهر في نفي جميع لوازم النجاسة الّتي منها المنع عن استعماله في مقام إزالة الخبث ، أو في مقام رفع الحدث ، أو في مقام الشرب ونحوه من سائر أنحاء الانتفاعات.

ضرورة أنّه كما أنّ المنع عن مباشرته حال الصلاة وغيرها بأس ، فكذلك المنع عن شربه والتطهير به بأس ، وكما أنّ النفي يتوجّه إلى الأوّل فكذلك يتوجّه إلى الباقي ؛ لكون أفراد العامّ متساوية الأقدام بالنسبة إليه ، ودعوى : عدم كون ما ذكر من أفراد البأس ومصاديقه ، تحكّم فلا تسمع ، كما أنّ منع العموم في النفي الوارد على النكرة مطلقا ، أو في خصوص المقام غير مسموعة ، ومن هنا يتّضح الحكم في المسألة الثالثة أيضا.

نعم ، يشكل الحال بالقياس إلى مسألة التطهير من جهة اخرى ، وهي أنّ أقصى ما يستفاد من نفي البأس بالقياس إليه إنّما هو نفي الحكم التكليفي ، وهو المنع عن

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤١.


استعمال هذا الماء في مقام التطهير وتحريمه ، لأنّه بأس على المكلّف وشدّة في حقّه وموجب لتوجّه العذاب إليه ، وهو ليس من مسألة أصل التطهير الّذي هو المبحوث عنه ؛ إذ ليس المراد به مجرّد استعمال الماء معنونا بهذا العنوان ليكون نفي تحريمه مجديا في حال المكلّف ، بل المراد به استعمال بهذا العنوان مستتبع لترتّب الأثر عليه ، من زوال الخبث وارتفاع الحدث ، وهو ليس بلازم من نفي التحريم ؛ لأنّه حكم وضعي لا ملازمة بينه هنا وبين نفي التحريم ، ومن هنا نبّهناك سابقا على أنّ أهل القول بالطهارة ـ قبالا للقول بالعفو ـ إن كان كلامهم في الجهة الثانية الّتي فرضناها للعفو بالمعنى الثاني المتقدّم ، ليس لهم التمسّك في إثبات الطهارة المقابلة للعفو بهذا المعنى بالأخبار الواردة في ماء الاستنجاء ؛ إذ لا تعرّض فيها لبيان أنّ الثابت لهذا الماء هل هو جميع أحكام الطهارة ولوازمها أو بعضها؟ على أنّ مرادنا بتلك الأحكام ما يعمّ الوضعيّة والتكليفيّة.

ويمكن دفعه : بأنّه لو لا كفاية هذا الماء في إفادة التطهير الشرعي ، لكان على المكلّف تحمّل الكلفة في تحصيل ماء آخر مكانه لترتّب هذه الفائدة ، ولو فرضناه متيسّرا مثله بل حاضرا في المجلس ؛ ضرورة اقتضاء التعيين من الكلفة والضيق المعنوي ما لا يقتضيه التخيير ، وهو أيضا نحو من البأس ، والمفروض أنّه منفيّ بجميع أنحائه.

نعم ، ربّما يخدش في ذلك ما تقدّم في روايات القول بعدم انفعال القليل من رواية محمّد بن اسماعيل بن بزيع ، قال : كتبت إلى من يسأله عن الغدير ، تجتمع فيه ماء السماء ، ويستقي فيه من بئر ، فيستنجي فيه الإنسان من بول ، أو يغتسل فيه الجنب ، ما حدّه الّذي لا يجوز؟ قال : « فكتب لا تتوضّأ من مثل هذا إلّا من ضرورة إليه » (١) ، فإنّ التوضّؤ إمّا أن يكون مرادا به معناه الظاهر أو الاستنجاء ، نظرا إلى إطلاقه في الأخبار على هذا المعنى ، فعلى الأوّل تدلّ الرواية على عدم جواز رفع الحدث بماء الاستنجاء ، وعلى الثاني تدلّ على عدم جواز إزالة الخبث به.

ولكنّ الأمر في دفعه هيّن من حيث إنّها ـ مع كونها مضمرة ، قادحة في السند من وجهين ، كما تقدّم إليهما الإشارة ـ ممّا لم يظهر من الأصحاب عامل بها ، مستند إليها في المقام بالخصوص ولا سيّما مع ما تقتضيه من التفصيل في المنع بين الضرورة وعدمها ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٥ ـ التهذيب ١ : ١٥٠ / ٤٢٧.


فإنّه ممّا لم يقل به أحد ظاهرا ، إلّا أن يحمل النهي الوارد فيها على التنزيه الّذي مفاده الكراهة الّتي ترتفع في موضع الضرورة ، فحينئذ تخرج عن معارضة ما ذكرناه بالمرّة ؛ إذ الظاهر أنّ القائلين بجواز التطهير بماء الاستنجاء يعترفون بالكراهيّة ، ولا يبعد القول بها حينئذ عملا بتلك الرواية من باب المسامحة في أدلّة السنن.

ومن هنا اتّجه أن يقال : بجواز التطهير بماء الاستنجاء خبثا وحدثا على كراهيّة ـ بالمعنى المقرّر في الاصول بالقياس إلى الكراهة المضافة إلى العبادات ـ ودليله الأخبار المتقدّمة.

مضافا إلى الأصل ، والعمومات ، والقاعدة المستفادة من الأدلّة ، والأخبار الجزئيّة الواردة في أبواب الطهارات القاضية بأنّ الماء المطلق الطاهر ممّا يجوز التطهير به مطلقا ما لم ينهض مانع شرعي عنه ، والمقام منه ؛ إذ لم يثبت من الشرع كون الحيثيّة الاستنجائيّة من موجبات المنع عن ذلك.

وإلى القاعدة المقرّرة في الاصول من كون الأمر مقتضيا للإجزاء ، فإنّ المأمور به ليس إلّا استعمال الماء الظاهر في الإطلاق ، الخالي عن النجاسة من جهة الدليل الخارج ، وهذا منه ، فقد اوتي بالمأمور به على وجهه ؛ إذ لم يثبت كون الخلوّ عن حيثيّة الاستنجاء وجها من وجوهه ، فيجب الإجزاء.

المسألة الثالثة : لا إشكال بملاحظة ما ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة في جواز شرب ماء الاستنجاء ومطلق استعماله ، كاستعمال سائر المياه الطاهرة ، ما لم يصادفه عنوان آخر مقتضي للمنع كالخباثة ونحوها ، ومعه يدخل في عموم تحريم « الخبائث » وكونه دائم المطابقة لهذا العنوان المقتضي لدوام المنع عنه ، لو سلّمناه لا ينافي جواز استعماله من الحيثيّة المبحوث عنها ، وإن لم يتحقّق للجواز بهذه الحيثيّة مصداق.

والثالث ممّا ادّعي استثناؤه عن قاعدة انفعال القليل : ماء الغسالة.

والمراد به هنا الماء المستعمل في إزالة الأخباث غير الاستنجاء ، ولا إشكال بل لا خلاف في انفعاله مع التغيّر بما استعمل في إزالته من النجاسة ، واستفاض نقل الإجماع عليه ونفي الخلاف عنه في كلامهم ، ومع الغضّ عن ذلك فوجه المسألة واضح بملاحظة ما تقدّم في شرائط ماء الاستنجاء ، وأمّا مع عدم التغيّر به فاختلف فيه


الأصحاب على أقوال (١).

أحدها : القول بأنّه نجس مطلقا ، من غير فرق فيه بين كونه منفصلا عن الغسلة الّتي تستتبع طهر المحلّ ، أو كونه منفصلا عمّا لا يستتبعه ، ولا بين الثياب والأواني ، ولا بين كون نجاسة الآنية حاصلة من ولوغ الكلب وغيره ، ذهب إليه العلّامة في المنتهى (٢) مصرّحا بالجهة الاولى من عدم الفروق ، أمّا الجهات الاخر فتستفاد من إطلاق قوله بالنجاسة ، وعزى إليه ذلك في القواعد (٣) والتحرير (٤) والمختلف (٥) والتذكرة (٦) وقد استفاض من حكاية هذا القول أيضا عن المحقّق في المعتبر (٧) ، وصرّح به في الشرائع (٨) ، والنافع (٩) ، جاعلا له في الثاني أشهر القولين وأظهرهما ،

وفي شرح الشرائع (١٠) للأستاذ نسبته إلى أكثر من تأخّر عن الفاضلين ، بعد ما نسبه إليهما يعني العلّامة والمحقّق.

وفي الحدائق : « الظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين » (١١) ، وفي حاشية الشرائع للشيخ علي : « هذا هو المشهور بين أصحابنا » (١٢).

قال الاستاذ في الشرح : « وحكي عن [المصباح] (١٣) وظاهر المقنع (١٤) ، وفي الذكرى (١٥) عن ابن بابويه ، وكثير من الأصحاب عدم جواز استعمال الغسالة ، وظاهر إطلاقه النجاسة » (١٦) انتهى.

وقال ابن بابويه في الفقيه : « فأمّا الماء الّذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به من الجنابة ، أو تزال به النجاسة ، فلا تتوضّأ به » (١٧) ، ويمكن استفادة هذا القول من عبارته

__________________

(١) ولعلّها تبلغ بملاحظة كلماتنا الآتية إلى ستّة بل سبعة ، إن عدّ التوقّف الّذي صار إليه صاحب الحدائق قولا (منه).

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٤١.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٤) تحرير الأحكام : ٥. (٥) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٧.

(٦) تذكرة الفقهاء ١ : ٣٦. (٧) المعتبر : ٢٢. (٨) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٩) المختصر النافع : ٤٤.

(١٠ و ١٦) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٦.

(١١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٧.

(١٢) حاشية الشرائع ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٧.

(١٣) والصواب : إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤).

(١٤) المقنع : ٤٦.

(١٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥. (١٧) الفقيه ١ : ١٠.


هذه أيضا ، لكن في المدارك : « والتسوية بينه وبين رافع الأكبر تشعر بطهارته » (١).

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ الجمع بين شيئين في الفتوى لا يقتضي إلّا اشتراكهما في الحكم ، وأقصى ما يقتضيه التسوية المذكورة إنّما هو ذلك ، دون الجهة الّتي ينشأ منها الحكم ؛ لجواز اختلافها ، فلعلّها في المزيل للنجاسة وجود المانع ـ وهو النجاسة ـ وفي رافع الحدث الأكبر فقد المقتضي وارتفاعه بالاستعمال المفروض ـ هو الطهوريّة ـ ، كما هو المصرّح به في كلام جملة منهم على ما سيأتي في محلّه ، ومعه فأيّ إشعار فيها بالطهارة.

وفي شرح الاستاذ أيضا : « عن التحرير والمعتبر في باب غسل المسّ الإجماع على نجاسة المستعمل في الغسل ، إذا كان على البدن نجاسة » (٢). وهو ظاهر الشيخ في المبسوط قائلا ـ فيما حكي عنه ـ : « والماء الّذي يزال به النجاسة نجس ؛ لأنّه ماء قليل خالط نجاسة ، ومن الناس من قال : ليس بنجس إذا لم يغلب على أحد أوصافه ، بدلالة أنّ ما يبقى في الثوب جزء منه وهو طاهر بالإجماع ، فما انفصل عنه فهو مثله ، وهذا أقوى والأوّل أحوط » (٣) ، فإنّ حكمه عليه أوّلا بالنجاسة يدلّ على أنّه اختياره ، ولا ينافيه جعله القول الآخر أقوى ، ولا جعله القول الأوّل أحوط ، إذ ليس مراده بالأحوطيّة الاحتياط الاستحبابي ، ولا بالأقوائيّة القوّة بالنظر إلى الواقع ، بل مراده بالأوّل الأحوطيّة بالنظر إلى الواقع المقتضية لوجوب المصير إليه ، وبالثاني الأقوائيّة من حيث الاعتبار فإنّ الوجه الّذي تمسّك به القائل بالطهارة ممّا يساعد عليه الاعتبار الّذي لا ينبغي التعويل عليه في الامور التعبّديّة ، وستعرف عن بعضهم الاعتراف بنظيره فيما يأتي من دليل القول بالتفصيل بين الغسلتين.

وفي نسبته القول المذكور إلى بعض الناس إشعار بأنّه ليس مختاره ، بل ربّما يشعر بأنّه قول لا قائل به من الاماميّة ، كما تنبّه عليه غير واحد.

وممّا يفصح عن اختياره القول بالنجاسة مطلقا ، كلامه الآخر المنقول عنه في المبسوط ، حيث إنّه في الماء المستعمل ـ بعد ما حكم عليه بأنّه طاهر مطهّر من الخبث لا من الحدث ـ قال : « هذا إذا كان أبدانها خالية عن نجاسة ، فإن كان عليها شي‌ء من

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٠.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ٣١٦.

(٣) المبسوط ١ : ٩٢.


نجاسة فإنّه ينجّس الماء ولا يجوز استعماله بحال » (١).

وكلامه الآخر أيضا في مسألة تطهير الثياب قائلا : « وإذا ترك تحت الثوب النجس إجانة ، وصبّ عليه الماء وجرى الماء في الإجانة ، لا يجوز استعماله لأنّه نجس » (٢).

فما في الحدائق (٣) ـ تبعا لشرح الدروس (٤) ـ من أنّه في الظاهر قوّى القول بالطهارة مطلقا ، ليس على ما ينبغي.

نعم ، عنه في الخلاف (٥) ، وأوّل المبسوط (٦) ، أنّه جزم بطهارة ماء الغسلتين من الولوغ ، ولكن الأمر فيه سهل لجواز رجوعه عنه إلى ما ذكر كما جزم به الاستاذ في الشرح (٧) المشار إليه.

ثمّ إنّ الغسالة في كلام هؤلاء القائلين بالنجاسة محتملة لكون حكمها حكم المحلّ قبل الغسل ، فيعتبر فيها العدد فيما يجب فيه التعدّد ، ولكون حكمها حكم المحلّ بعد الغسلة ، فيجب الغسل عنها في الغسلة الغير المستتبعة للطهر دون الغسلة المستتبعة له ، ولكون حكمها حكم المحلّ قبل الغسلة المستتبعة للطهر مطلقا ، فيجب الغسل عنها مرّة واحدة ولو من الغسلة الاولى ، ولم يظهر من كلامهم ما يقضي بإرادة المعنى الأوّل دون أحد الأخيرين ، فما في الحدائق (٨) من تفسيره القول بالنجاسة مطلقا بأنّ حكمها حكم المحلّ قبل الغسل ، لعلّه ليس في محلّه. كما أنّه كذلك ما حكاه في شرح الدروس (٩) عن بعض الأصحاب من حصره القول المذكور في الاحتمال الثاني ، وقد أصاب هو في جعله إيّاه محتملا للوجوه الثلاثة ، وأمّا تحقيق الكلام في ذلك فسنورده إن شاء الله.

وهذا القول هو الراجح في النظر ، وأقوى بالنظر إلى الواقع وأقرب إلى جادّة الاستنباط.

لنا عليه : وجود المقتضي وفقد المانع ، وكلّما كان كذلك يجب المصير إليه ، أمّا الكبرى : فواضحة ، وأمّا الصغرى : فلعموم الأدلّة الواردة في انفعال القليل ، مع ما ورد عليها ممّا خصّصها ، الدالّة على أنّ ملاقاة النجاسة بشرط القلّة سبب للانفعال ما لم يصادفها مانع عن التأثير ، من علوّ أو استعمال في الاستنجاء ، أو جريان عن النبع ـ بناء

__________________

(١) المبسوط ١ : ١١.

(٢) المبسوط ١ : ٣٧.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٢. (٤ و ٩) مشارق الشموس : ٢٥٤.

(٥) الخلاف ١ : ١٨١ المسألة ١٣٧. (٦) المبسوط ١ : ١٥.

(٧) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٢٤. (٨) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٧.


على عدم انفعال القليل من الجاري ـ والمفروض تحقّق السبب بهذا المعنى في محلّ البحث وعدم مصادفة مانع له ، وما احتمل كونه مانعا من حيثيّة كونه مستعملا في إزالة الخبث لم ينهض على مانعيّته من الشرع شي‌ء ، كما نهض على مانعيّة العلوّ وغيره ممّا ذكر ، فمن يدّعي الطهارة لا بدّ له من إقامة ما يحرز به المانعيّة وأنّى له بذلك ، وستعرف ضعف ما احتجّ به على ذلك.

وإلى ما قرّرناه ينظر ما احتجّ به العلّامة في المنتهى ، فعلى نجاسة ما انفصل قبل طهر المحلّ : « بأنّه ماء يسير لاقى نجاسة لم يطهّرها ، فكان نجسا كالمتغيّر ، وكما لو وردت النجاسة عليه ، وكالباقي في المحلّ فإنّه نجس ، وهو جزء من الماء الّذي غسلت به النجاسة ، ولأنّه قد كان نجسا في المحلّ ، فلا يخرجه العصر إلى التطهير ، لعدم صلاحيّته له » (١). وعلى نجاسة ما انفصل في الغسلة المطهّرة للمحلّ : « بأنّه ماء قليل لاقى نجاسة فينجّس بها ، كما لو وردت عليه » (٢) ، وإن كان في أكثر تنظيراته للشقّ الأوّل نظر واضح.

واعترض عليه في المدارك (٣) ـ وتبعه في شرح الدروس (٤) ـ بمنع كلّيّة كبراه ـ كما بيّنّاه سابقا ـ وهذا إشارة إلى ما سبق منه في ذيل مسألة انفعال القليل من قوله : « واعلم أنّه ليس في شي‌ء من تلك الروايات دلالة على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، بل ولا على انفعاله بكلّما يرد عليه من النجاسات » (٥) الخ.

والجواب عن الأوّل : ما أسلفناه في دفع القول بالفرق بين الورودين ، وعن الثاني : بما أسلفناه أيضا في إثبات العموم بالقياس إلى كافّة النجاسات ، مضافا إلى عدم ابتناء المطلب على ثبوت العموم بالقياس إلى أنواع النجاسة ، ولا العموم بالقياس إلى أفراد الماء ، بل يثبت ذلك في النوع الّذي يقول المعترض بكونه سببا للانفعال ؛ لابتنائه على إحراز العموم بالنسبة إلى كيفيّات الملاقاة المستفادة سببا للتنجيس من الأخبار الواردة في المسألة ، وهو محرز جزما بملاحظة ما في أكثر تلك الأخبار من الإطلاق الشامل لكون الملاقاة منبعثة عن إرادة التطهير حاصلة في الغسلة الاولى أو الثانية أو غيرها ممّا ثبت وجوبه شرعا أو لم تكن منبعثة عنه ، استتبعت طهارة المحلّ أولا ، ويكفيك شاهدا

__________________

(١ و ٢) المنتهى ١ : ١٤١ ، ١٤٢.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ١٢٠.

(٤) مشارق الشموس : ٢٥٥.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.


بذلك مفهوم قولهم : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١).

والمناقشة فيه أوّلا : بمنع العموم في المفهوم لمكان صيرورة « الشي‌ء » نكرة في سياق الإثبات ، وثانيا : بأنّ ارتفاع السلب الكلّي في المنطوق أعمّ من الإيجاب الكلّي في المفهوم ، كما في قولك : « إذا خفت من الله فلا تخف من أحد » ، و « إن جاءك زيد فلا تكرمه »

يدفعها : ـ مع ما فيها ممّا ذكرناه مرارا ـ كفاية ما في الملاقاة المستفادة من الرواية منطوقا ومفهوما من الإطلاق الشامل لمحلّ البحث ؛ لعدم ورود ما ينافيه بالقياس إليه ، وإنّما ورد عليها ما أخرجها عن هذا الإطلاق بالقياس إلى مواضع ليس المقام منها ، فلا مجال إلى رفع اليد عنه بالنسبة إليه لمجرّد الاحتمال ؛ إذ الاحتمال لا يعارض الحجّة ، والظاهر الناشئ من الإطلاق هو الحجّة.

وتوضيح ذلك : إنّا لا ندّعي كون ملاقاة النجاسة علّة تامّة للانفعال ؛ كيف وهو منتقض بالكرّ ، والقليل من الجاري ، والعالي من الراكد ، والمستعمل في الاستنجاء ، وغيره ممّا يعدّ من مستثنيات قاعدة انفعال القليل ، بل غرضنا أنّ المستفاد من أدلّة انفعال القليل بالملاقاة ـ مع ملاحظة أدلّة الكرّ ، والأدلّة الواردة في الجاري والمستعلي ، والمستعمل في الاستنجاء ـ كون ملاقاة النجاسة سببا للانفعال ، بالمعنى المصطلح عليه عند الاصولي الّذي يجامع فقد الشرط ـ إذا كان من شروط التأثير لا انعقاد الماهيّة ـ ووجود المانع ـ إذا كان راجعا إلى التأثير أيضا دون أصل الماهيّة ـ وله في تأثيره شرط أثبته الأدلّة وهو القلّة ، بناء على ما مرّ تحقيقه في أوائل الكتاب من أنّ الكرّيّة إنّما اعتبرت لكونها ملزومة لانتفاء شرط الانفعال كاشفة عنه ، لا لكونها سببا لعدم الانفعال ؛ كيف وأنّ المسبّب لا يتخلّف عن سببه ، وقد ترى تخلّفه في الماء المتغيّر بالنجاسة وإن كان كرّا.

ولا يرد مثله علينا في دعوى الملازمة ؛ لأنّ الانفعال له عندنا علّتان : إحداهما : بسيطة وهو التغيّر ، بناء على ما قرّرناه لك عند الجمع بين أدلّة التغيّر ، والأدلّة المخرجة لماء الاستنجاء ، وأخراهما : مركّبة وهي الملاقاة مع القلّة وغيرها ممّا اعتبر عدمه من الموانع ، فالكرّيّة إذا اجتمعت مع عدم التغيّر فقد جامعت فقد ما هو شرط للانفعال ، وإذا اجتمعت مع التغيّر فقد صادفت ما هو علّة تامّة للانفعال ، ولا حكم لها حينئذ ، ومعه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.


لا يمكن حمل التعليق على إفادة السببيّة التامّة ، ـ على ما هو مناط القول بحجّيّة مفهوم الشرط عند أهل التحقيق ـ فإمّا أن يحمل بعد ذلك على إفادة العلقة الشرطيّة فيما بين المقدّم والتالي ، فتكون أحد شروط عدم الانفعال ، أو على إفادة مطلق الملازمة فيما بينهما من غير علقة سبب ولا شرط ، فتكون ملزومة لانتفاء شرط الانفعال كاشفة عنه ، ولا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّ ما يتوقّف عليه الشي‌ء لا ينفكّ عنه ذلك الشي‌ء ، وإلّا لم يكن شرطا ، وقد رأينا انفكاكه في المستثنيات ، إلّا أن يقال : بأنّه شرط على سبيل البدليّة ، ولكنّه خلاف ما يظهر من التعبير من الرواية ، فلا بدّ من حمله على الثاني ، فيكون القلّة على ذلك شرطا للانفعال ، ولا ينافيه التخلّف في المستثنيات ؛ لأنّ الشرط ما لا يلزم من وجوده الوجود لكثرة مقابلته لوجود موانع أو فقد شروط ، والمفروض أنّ ما أثبته الأدلّة سببا للانفعال بشرط القلّة له موانع قد أثبتها الأدلّة المخصّصة لأدلّة الانفعال ، كالجريان عن نبع ، وعلوّ الملاقي ونحوه ممّا سبق الإشارة إليه.

فإذا ثبت أنّ الملاقاة سبب وشرطها القلّة وله موانع ، فهو متحقّق في المقام بهذا الشرط مع فقد الموانع المذكورة ، فيجب تأثيرها ؛ ضرورة أنّ الأثر لا يتخلّف عن مقتضيه الموجود المصادف لفقد الموانع ، ولو كان ذلك بحسب ظاهر اللفظ عن إطلاق أو عموم ، ودعوى : كون حيثيّة رفع الخبث ، أو الاستعمال من جهته في غير جهة الاستنجاء من جملة الموانع تقتضي تقييد الملاقاة في حكم الشرع عليها بالسببيّة بلا دليل ؛ إذ المفروض كون الأدلّة المقامة على تلك الدعوى على ما يأتي ذكرها مدخولة بأسرها.

ومن المشايخ العظام (١) من أجاب عن المناقشة المذكورة بوجوه ، ثالثها ما يرجع في حاصل المعنى إلى ما حقّقناه.

وأوّلها : ما يرجع محصّلة إلى ما هو التحقيق في دليل حجّيّة مفهوم الشرط ، من إفادة التعليق على الشرط في متفاهم العرف كونه سببا تامّا للجزاء على جهة الانحصار ، ومعه لا يعقل إنكار العموم في مفهوم الرواية ، إلّا على القول بإنكار حجّيّة مفهوم الشرط.

وبيان ذلك : أنّ الشرط إذا فرضناه سببا تامّا للجزاء على جهة الانحصار ، فمعناه : أنّ الجزاء لا بدّ من وجوده في جميع موارد وجود الشرط ، وانتفائه في جميع موارد انتفائه ،

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٨.


وإلّا فلو لم يوجد في بعض موارد وجوده ، أو لم ينتف في بعض موارد انتفائه لم يكن الشرط على الأوّل سببا ، ولا على الثاني سببا منحصرا فيه ، كما إليه يرجع كلام السيّد المرتضى المنكر لحجّيّة مفهوم الشرط ، تعويلا على مجرّد احتمال تعدّد الأسباب ، وكلاهما خلاف الفرض ممّا يظهر من قضيّة التعليق.

نعم ، لا ضير في القول بوجود الجزاء مع انتفاء الشرط ـ في بعض الموارد ـ إذا علمنا بتعدّد أسبابه من الخارج ، كما علمناه في المثالين المتقدّم إليهما الإشارة ، حيث نعلم أنّ لعدم الخوف من آحاد الناس أسبابا كثيرة ، منها : الخوف من الله ، ولعدم إكرام كثير من آحاد الناس أسبابا كثيرة ، منها : مجي‌ء زيد ، غير أنّه خارج عن القول بحجّيّة المفهوم ، وارد على خلاف ما يظهر من اللفظ عرفا ، من جهة القرينة الخارجة ، ومع انتفائها فالمتّبع هو الظاهر.

وقضيّة ذلك كون المفهوم من السلب الكلّي الإيجاب الكلّي ، ومن الإيجاب الكلّي السلب الكلّي ، ومعه لا مجال إلى إنكار عموم المفهوم في قضيّة قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١) ، وكون مفهومه الإيجاب الكلّي القاضي بانفعال القليل بكلّ نجاسة » (٢) انتهى محصّلا.

ولعلّه مدّ ظلّه إنّما أورد هذا الجواب في مقام الجدل ، لما فيه من الكفاية في دفع كلام الخصم ، لكونه دفعا لاعتراضه من الجهة الّتي سبقت إليه في توجيه هذا الاعتراض وليس جوابا تحقيقيّا ، وإلّا فلا إشكال في أنّ إثبات العموم بالمعنى المذكور ممّا لا تحسم مادّة الإشكال بالقياس إلى ما هو من محلّ البحث ؛ إذ بعد تسليم أنّ كلّ نجس ينجّس الماء القليل من غير استثناء شي‌ء من أفراد النجس ، ولا استثناء شي‌ء من أفراد الماء ، فالإشكال بالنسبة إلى أحوال الملاقاة على حاله ، لجواز أن يقول أحد : بأنّه لم يظهر من هذه القضيّة الكلّيّة أنّ ملاقاة كلّ نجس سبب للانفعال في جميع أحوالها ؛ إذ لا ملازمة بين العمومين ، كما في قول القائل : « أحبّ كلّ عالم » حيث إنّه لا يدلّ على أنّه محبّه في جميع أحواله.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٩.


والحاسم لمادّة الإشكال إنّما هو العموم من الجهة المذكورة أيضا لا مجرّدة من جهة الأفراد ولا يلزم من كون الشرط علّة منحصرة للجزاء إلّا ثبوت العموم من جهة الأفراد ويبقى إثبات العموم الآخر محتاجا إلى دليل آخر ، ولذا تراه ـ مدّ ظلّه ـ عدل في ثالث الأجوبة عن ذلك إلى ما قرّرناه سابقا.

وثاني ما أفاده مدّ ظلّه في الجواب ، قوله : « لو سلّمنا عدم دلالة المفهوم بمقتضى نفس التركيب على العموم ، لكن القرينة هنا عليه موجودة ؛ لأنّ المراد « بالشي‌ء » في المنطوق ليس كلّ شي‌ء من أشياء العالم ، بل المراد ما من شأنه تنجيس ملاقيه من النجاسات المقتضية للتنجيس فإذا فرض كلّ فرد منها مقتضيا للتنجيس ، وكانت الكرّيّة مانعة ، لزم عند انتفاء الكرّيّة المانعة ثبوت الحكم المنفيّ لكلّ فرد من « الشي‌ء » باقتضائه السليم من منع المانع ، وأوّل المثالين من هذا القبيل ، فإنّ المنفيّ مع ثبوت الخوف من الله هو الخوف من كلّ من يوجد فيه مقتضى الخوف منه ، فمع عدم الخوف من الله يثبت الخوف من كلّ واحد من هذه المخوفات باقتضاء نفسه ، ومن هذا القبيل قولك : « إذا توكّلت على الله فلا يضرّك ضارّ » (١) انتهى.

وظنّي أنّ ذلك منه مدّ ظلّه وقع في غير محلّه ، فإنّ قوله : « فإذا فرض كلّ فرد منها مقتضيا للتنجيس الخ » هذا هو محلّ الكلام ؛ إذ الخصم لا يسلّم أنّ كلّ فرد من النجاسات مقتض لتنجيس الماء ، فلا بدّ في تتميم الدليل من تحقيق هذا الفرض وإثبات عنوان الشأنيّة لكلّ نجس ، فلو اريد إثباته بالخارج كان خروجا عن الاستدلال بالرواية كما لا يخفى ، ولو اريد إثباته بنفس الرواية اتّجه إليه المنع المتقدّم في تقرير الاعتراض ، ولو أرسل ذلك بعدم إقامة دليل على إثباته كان إبقاء لشبهة المعترض على حالها ، من أنّ ما يثبت في جانب المفهوم ليس إلّا قضيّة مهملة هي في قوّة الجزئيّة ، وأنّ رفع السلب الكلّي أعمّ من الإيجاب الكلّي.

هذا مضافا إلى أنّ بناءه مدّ ظلّه في توجيه الرواية ـ على ما حقّقه في غير هذا الموضع ـ على كونها مسوقة لبيان مانعيّة الكرّ عن الانفعال ، وعليه فرّع أصالة الانفعال الّتي بنى عليها الأمر في كلّ ماء مشكوك حاله من حيث الانفعال وعدمه ، وقد مرّ منعه بغير مرّة.

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٩.


هذا مضافا إلى أنّه لو بنى في توجيه الرواية على كونها لبيان المانعيّة أشكل إثبات نجاسة ماء الغسالة ، بل أشكل الاستدلال بها على انفعال القليل على الإطلاق ؛ لأنّ أقصى ما يستفاد منها حينئذ أنّ الكرّيّة حيثما وجدت كانت مستلزمة لعدم الانفعال ؛ لأنّ المانع ما يلزم من وجوده العدم ، وأمّا أنّ عدمها يستلزم الانفعال فلا ؛ إذ المانع ما لا يلزم من عدمه الوجود ، فالجمع بين هذا التوجيه والاستدلال بها في كلا المقامين عجيب.

وبما قرّرنا في توجيه الاستدلال ، وما أثبتناه من نجاسة ماء الغسالة ، ظهر وجه المنع الوارد في رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الماء الّذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به من الجنابة ، لا يتوضّأ منه » (١) فإنّ هذا المنع الجامع للنوعين معا إمّا من جهة وجود المانع في كليهما وهو النجاسة ، أو من جهة فقد المقتضي عن كليهما وهو انسلاخ الطهوريّة عنهما بالاستعمال ، أو من جهة وجود المانع في الأوّل وفقد المقتضي في الثاني ، أو بالعكس.

والأوّل مع الأخير منفيّان كلّ بالإجماع على طهارة ما يستعمل في الغسل ، وبقي المتوسّطان محتملين معا ، غير أنّ الأوّل منهما أيضا منفيّ بما دلّ على نجاسة ماء الغسالة ، فإنّه بمنزلة البيان لتلك الرواية فتعيّن ثانيهما.

ومن هنا يعلم أنّه لا يمكن الاستدلال بتلك الرواية على النجاسة بجعلها دليلا مستقلّا عليها ، فالاستدلال بها ـ كما حكي (٢) عن المعتبر (٣) ، والمنتهى (٤) ، ضعيف جدّا ، ونظيره في الضعف ما قيل : من أنّها تشعر بطهارة ماء الغسالة ، حيث جمع فيها بينه وبين المستعمل في الغسل الّذي هو طاهر إجماعا ، فإنّ اتّحاد شيئين في الحكم لا يقضي باتّحاد الجهة وعلّة ذلك الحكم ، كما لا يخفى.

ثمّ يبقى في المقام شي‌ء وهو أنّ في الشرح المشار إليه للأستاذ (٥) نسبته الاستدلال بها إلى العلّامة في المنتهى ولعلّه اشتباه ؛ لأنّ العلّامة في المنتهى لم يورد هذه الرواية في تلك المسألة ، ولا أنّه تمسّك بها على مطلوبه ، وإنّما أورده بعد الفراغ عن تلك المسألة

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٠.

(٢) والحاكي هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٣٢٣.

(٣) المعتبر : ٢٢.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٤٣.

(٥) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ ١ : ٣٢٣.


في مسألة عدم جواز استعمال ماء الغسالة في رفع الحدث ، وأسند التمسّك بها إلى الشيخ فقال : « رفع الحدث بمثل هذا الماء أو بغيره ممّا يزيل النجاسة لا يجوز إجماعا ، أمّا على قولنا فظاهر ، وأمّا على قول الشيخ فلما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام الحديث » (١).

وبالجملة : فالاستدلال بتلك الرواية من أيّ أحد كان ليس في محلّه ، وكان القدح فيها دلالة بعد القدح في سندها في محلّه جدّا.

نعم ، يصحّ الاستدلال على هذا المطلب بما رواه عيص بن القاسم ـ وأورده الشيخ خاصّة في الخلاف (٢) ، واستند إليه العلّامة من غير قدح فيها سندا ودلالة قال : سألته عن رجل أصابه قطرة من طشت فيه وضوء؟ فقال : « إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه » (٣) ، ودلالته على المطلب بملاحظة ما فيها من الإطلاق الشامل لما انفصل عن الغسلة مطلقا ، بل ظهورها في هذا المعنى بناء على ما تقدّم منّا (٤) في بحث الاستنجاء من توجيهها عند شرح لفظة « الوضوء » واضحة لا إشكال فيه ، وما عن الشهيد في الذكرى (٥) من تكلّف حملها على صورة التغيّر ممّا لا يلتفت إليه ، لكونه قطعا للظاهر بلا داع إليه.

وأضعف منه ما في شرح الدروس (٦) ، من منع دلالة الجملة الخبريّة على الوجوب ، فإنّ المحقّق في محلّه الدلالة ، مع عدم ابتناء ثبوت المطلب على ثبوت تلك الدلالة ، بل يكفي فيه كونه إخبارا في مقام الإرشاد وبيان الواقع كما لا يخفى ، وأضعف من الجميع ما عن الأمين الأسترآبادي (٧) من حملها على كون الاستنجاء في الطشت إنّما وقع بعد التغوّط أو البول فيه ، مدّعيا أنّ ذلك مقتضى العادة.

فإنّ الرواية ليست مسوقة لبيان حكم الاستنجاء جدّا ـ كما بيّنّاه آنفا ـ لعدم جريان العادة بالاستنجاء على الطشت وإن وقع نادرا لضرورة ، وأمّا رفع الأخباث عليه ولا سيّما في الفروش وغيرها من الثياب الغير المنقولة كاللحاف ونحوه شائع معتاد جزما ، وعلى فرض صحّة ما ذكر فالعادة المدّعاة ممنوعة ، كما أشار إليه في الحدائق (٨).

__________________

(١) المنتهى ١ : ١٤٣.

(٢) الخلاف ١ : ١٧٩ المسألة ١٣٥.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٤.

(٤) تقدّم في الصفحة ٢٥٨.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٤. (٦) مشارق الشموس : ٢٥٦.

(٧) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٠.

(٨) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٠.


نعم ، ربّما يناقش في الرواية بما هو جيّد في ظاهر الحال ، وهو القدح في سندها تارة : من جهة أنّها غير موجودة في كتب الأخبار الموجودة الآن ، واخرى : من جهة ما فيها من الإضمار.

ولكنّ الخطب في ذلك هيّن ، لوضوح اندفاع الأوّل : بأنّ رواية الشيخ لها في خلافه لا تقصر عن روايته في تهذيبه واستبصاره ، بل الأوّل أولى بالتعويل عليه في نظر الاعتبار ، لأنّه إنّما ذكرها مستندا إليها في الفتوى بخلاف الثاني ، لكثرة ما فيه من ذكره لمجرّد الضبط من دون استناده إليه.

وأمّا ما فيها من الإرسال لحذفه الوسائط فغير قادح أيضا ، لظهور أنّه إنّما وجدها في كتاب العيص مع ملاحظة ما ذكره في الفهرست (١) من : « أنّ له كتابا » ، وهو بنفسه على ما صرّح به النجاشي (٢) والعلّامة في الخلاصة (٣) : « ثقة عين يروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي الحسن » ، وطريق الشيخ إليه على ما صرّح به غير واحد حسن وهو كذلك ، لأنّه قال في الفهرست (٤) على ما في منتهى المقال (٥) : « له كتاب ، أخبرنا ابن أبي جيد ، عن ابن الوليد ، عن محمّد بن الحسن الصفّار والحسن بن متّيل ، عن إبراهيم بن هاشم ، عن ابن أبي عمير وصفوان ، عن العيص ».

وليس فيه إلّا إبراهيم بن هاشم وابن أبي جيد ، وهو عليّ بن أحمد بن أبي جيد ، والأوّل حاله معلوم من حيث أنّ السند من جهته يعدّ عندهم حسنا ، وربّما يطلق عليه الحسن كالصحيح ، والثاني من ذكر الشيخ في ترجمته في الفهرست : « أنّه كان إماميّا مستقيم الطريقة ، وصنّف كتبا كثيرة سديدة » (٦).

وعن التعليقة : « قال المحقّق البحراني : إكثار الشيخ الرواية عنه في الرجال وكتابي

__________________

(١) الفهرست للطوسي : ٣٤٧.

(٢) رجال النجاشي : ٨٢٤.

(٣) خلاصة الأقوال : ٢٢٧.

(٤) الفهرست للطوسي : ٣٤٧.

(٥) منتهى المقال ٥ : ٢٢٥٩.

(٦) أقول : هذا سهو من قلمه الشريف ، لأنّ ما ذكره الشيخ رحمه‌الله في الفهرست انّما هو ترجمة لعليّ ابن أحمد بن أحمد الكوفي ، المتوفّى سنة ٣٥٢ ، وهو غير عليّ بن أحمد بن أبي جيد ، الّذي لا يذكر في الفهرست ولا في رجال النجاشي ، لعدم كونه من المؤلّفين. [فراجع الفهرست للطوسي : ٢١١ رقم ٤٥٥ ـ رجال النجاشي : ٢٦٥ ـ معجم رجال الحديث ١١ : ٢٤٦].


الحديث يدلّ على ثقته وعدالته وفضله ، كما ذكره بعض المعاصرين يعني خالي (١) والمحقّق الداماد » (٢).

وبالجملة : فالرواية من هذه الجهة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ، وكأنّ إسقاطه الوسائط مبنيّ على قاعدته المعروفة في كتابي الحديث ، من أنّه إذا ترك بعض أسناد الحديث فإنّما يبدأ في أوّل السند باسم الرجل الّذي أخذ الحديث من كتابه ، وأمّا ما فيه من الإضمار ، فهو وإن اشتهر في الألسن كونه ممّا يوجب القدح في الحديث ، غير أنّ التأمّل يقضي بخلافه ، كما صرّح به جماعة منهم صاحب الحدائق قائلا : « بأنّ الإضمار في أخبارنا فقد حقّق غير واحد من أصحابنا رضي‌الله‌عنهم أنّه غير قادح في الاعتماد على الخبر ، فإنّ الظاهر أنّ منشأ ذلك هو أنّ أصحاب الأصول لمّا كان من عادتهم أن يقول أحدهم ـ في أوّل الكلام ـ : « سألت فلانا » ويسمّي الإمام الّذي روى عنه ، ثمّ يقول : « وسألته » أو نحو ذلك حتّى ينتهي الأخبار الّتي رواها ، كما يشهد به ملاحظة بعض الاصول الموجودة الآن ككتاب عليّ بن [أبي فضّال] (٣) ، وكتاب قرب الأسناد وغيرهما ، وكان ما رواه عن ذلك الإمام أحكاما كثيرة مختلفة بعضها يتعلّق بالطهارة ، وبعض بالصلاة ، وبعض بالنكاح وهكذا ، والمشايخ الثلاثة رضي‌الله‌عنهم لمّا بوّبوا الأخبار ورتّبوها اقتطعوا كلّ حكم من تلك الأحكام ، ووضعوه في بابه بصورة ما هو مذكور في الأصل المنتزع منه ، فوقع الاشتباه على الناظر بظنّ كون المسئول عنه غير الإمام ، وجعل هذا من جملة ما يطعن به في الاعتماد على الخبر » (٤) انتهى.

وهذا في غاية الجودة كما نشاهد في الناس ، فإنّ العادة مستقرّة بأنّ من لو وقع بينه وبين غيره وقائع أو مسائل ، فأراد حكاية تلك الوقائع أو المسائل لغيره فيصرّح باسم صاحبه أوّلا ، ثمّ يحكي عنه كلّ مسألة مسألة مضمرا اسمه.

وإن شئت لاحظ المستفتي في حكاية فتاوي مجتهده الّتي سأله عنها في مجلس

__________________

(١) التفسير إنّما هو من الوحيد البهبهاني صاحب التعليقة ، وخاله الّذي من معاصري المحقّق البحراني المتوفّى سنة ١١٢١ هو العلّامة المجلسي المتوفّى ١١١٠.

(٢) تعليقة الوحيد البهبهاني : ٤٠١ ـ انظر منتهى المقال ٧ : ٢٩٢ ـ الرواشح السماويّة : ١٠٥.

(٣) الحدائق الناضرة : ١ : ٤٧٩ ، وفي الحدائق الناضرة « عليّ بن جعفر » بدل « عليّ بن أبي فضّال ».

(٤) الحدائق ١ : ٤٧٩.


واحد ، وهي مسائل متفرّقة كلّ بعض منها متعلّقة بباب ، والعادة أيضا جارية بأنّ الناقلين لتلك الوقائع أو المسائل عمّن يروون عنه ، إذا أرادوا نقل كلّ واقعة أو مسألة في بابها اللائق بها ، فلا يزالون يرتكبون التقطيع بين تلك الوقائع أو المسائل المسموعتين ، وينقلون كلّ واقعة ومسألة في بابهما اللائق بهما بصورة ما كانت مسموعة لهم من التصريح بالاسم ، أو إضماره أو نحو ذلك ، هذا فإنّه تحقيق عامّ نفعه.

وممّا استدلّ على المطلب الإجماع المنقول ، اعتمد عليه شيخنا في الشرح المشار إليه (١)

والّذي وصل إلينا منه ثلاث إجماعات ، أحدها ما في المنتهى ، قائلا : « متى كان على جسد الجنب أو المغتسل من حيض وشبهه نجاسة عينيّة ، فالمستعمل إذا قلّ عن الكرّ نجس إجماعا ، بل الحكم بالطهارة إنّما يكون مع الخلوّ عن النجاسة العينيّة » (٢) ، وثانيها مع ثالثها ـ ما تقدّم الإشارة إليهما ـ عن التحرير (٣) والمعتبر (٤) ، وعليهما اعتمد الاستاد (٥) ، حاكما عليهما بكونهما معتضدين بالشهرة المحقّقة.

واستدلّ أيضا : بإيجاب تعدّد الغسل وإهراق الغسلة الاولى بالكلّيّة من الظروف ، ووجوب العصر فيما يجب فيه العصر ، وعدم جواز تطهير ما لا يخرج عنه الماء بالماء القليل ، بل بالماء الكثير.

وضعف الكلّ واضح للمتأمّل ، لجواز كون إيجاب التعدّد من جهة أنّ النجاسة لا تزول عن المحلّ بالمرّة إلّا معه ، وقد علم به الشارع الحكيم فأوجب التعدّد ، وكون اعتبار الإهراق في الآنية والعصر في الثوب من جهة أنّ المطهّر حقيقة هو الصبّ مع الإهراق أو العصر ، دون نفس الماء وإنّما هو شرط ، ولا ينافيه إسناد المطهّرية إليه ، لأنّه آلة فيتوسّع في الاستعمال ، ولعلّه السرّ في اعتبار الكثرة فيما لا يخرج عنه الماء ، فإنّ المطهّر لمّا كان مركّبا من الصبّ والعصر وهو غير ممكن في المفروض ، فأقام الشارع مقامه الغسل بالكثير ، لعلمه بأنّه أيضا نظير الأوّل في إفادة التطهير.

ومن هنا يندفع ما نقض به الجواب عن اعتبار الإهراق في الأواني ، بأنّ ذلك تعبّد من الشارع ، أو أنّه من جهة توقّف تحقّق مفهوم « الغسل » على إخراج الغسالة ، من أنّه

__________________

(١ و ٥) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٤.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٣٧.

(٣) تحرير الأحكام : ٥.

(٤) المعتبر : ٢٢.


فلم لا يجب إذا فرضنا الغسلة بإجراء ماء معتصم عليه كالكثير والجاري والمطر؟ فعلم أنّ الإهراق ليس إلّا لنجاسة الغسالة ، فإذا غسل بالمعتصم لم ينفعل بملاقاة المحلّ.

ثمّ بقى في المقام تفريعا على المختار أمران :

أحدهما : مقتضى القاعدة أن تكون البلّة الباقية على المحلّ بعد انفصال الغسالة عنه بالعصر أو الإفراغ نجسا ، لأنّه جزء من النجس ، بل قضيّة ذلك أن لا يطهّر المحلّ بالماء القليل أبدا ، لكن ظاهر المنتهى (١) ، والمحكي عن المعتبر (٢) ، المسند إلى ظاهر المشهور في الحدائق المدّعى فيه « أنّه قطع به جمع من الأصحاب » (٣) كونها طاهرة مطلقا.

قال في المنتهى ـ بعد ما حكى عن الشافعي القائل بطهارة الغسالة ، الاستدلال بأنّه جزء من المتّصل ، والمتّصل طاهر ، فكذا المنفصل ـ : « والجواب عن الأوّل : الفرق ، وهو لزوم المشقّة في تنجّس المتّصل دونه » (٤) فإنّ الجواب بإبداء الفارق دون منع الحكم في المقيس عليه ينبئ عن اختياره الطهارة ، كما يدلّ عليه أيضا التعبير بلفظة « التنجّس » في قوله : « لزوم المشقّة في تنجّس المتّصل دونه ».

وأصرح منه كلام المعتبر ـ فإنّه بعد ما حكى عن الشيخ الاحتجاج على طهارة الغسالة في إناء الولوغ ، بأنّه لو كان المنفصل نجسا لما طهّر الإناء ، لأنّه كان يلزم نجاسة البلّة الباقية بعد المنفصل ، ثمّ نجّس الماء الثاني بنجاسة البلّة ، وكذا ما بعده ـ قال : « والجواب أنّ ثبوت الطهارة بعد الثانية ثابت بالإجماع ، فلا يقدح ما ذكره ، ولأنّه معفوّ عنه رفعا للحرج » (٥) ولا منافاة بين الحكم بالطهارة أوّلا ، والحكم بالعفو ثانيا ـ كما سبق إلى بعض الأوهام ـ لجواز كون العفو هنا مرادا به رفع النجاسة نفسها لا رفع حكمها فقط ، ولو اريد به ذلك ـ كما هو المعهود من معنى هذه اللفظة ـ لما كان قادحا أيضا ، لجواز ابتنائه على التنزّل والمماشاة ، وكيف كان فالعفو بهذا المعنى أحد الوجوه المحتملة في المقام ، ولم ينقل اختياره صريحا عن أحد من أصحابنا.

نعم عن الأردبيلي (٦) ذكره احتمالا ، وهو محتمل القول الّذي حكاه الشهيد في حاشية الألفيّة (٧) عن بعض الأصحاب ، أعني القول بنجاسة الغسالة مطلقا ـ ولو بعد

__________________

(٤ و ١) منتهى المطلب ١ : ١٤٢.

(٢) المعتبر : ٢٢.

(٣) الحدائق ١ : ٤٩٤. (٥) المعتبر : ٢٣.

(٦) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٧.

(٧) المقاصد العليّة : ١٦٢.


طهارة المحلّ ـ على ما سنقرّر وجهه.

والوجه الآخر من وجوه المقام النجاسة مطلقا ، في مقابلة الطهارة مطلقا والعفو ، وهذا ممّا لم يذهب إليه أحد.

نعم ، هاهنا وجه رابع ، وهو كونه طاهرا ما دام في المحلّ فإذا انفصل نجّس ، وهو محكيّ في الحدائق وغيره عن صريح العلّامة في القواعد ، قال في الحدائق : « والظاهر أنّه مبنيّ على ما اختاره من عدم نجاسة القليل الّذي تزال به النجاسة إلّا بعد الانفصال عن المحلّ ، قال في الكتاب المذكور : « والمتخلّف في الثوب بعد عصره طاهر ، فإن انفصل فهو نجس » (١) انتهى.

فعنده أنّه إذا عصر الثوب من الغسل المعتبر في تطهيره حكم بطهارته قطعا ، والمتخلّف عنه على حكم الطهارة ، فلو بالغ أحد في عصره فانفصل منه شي‌ء كان نجسا ؛ لأنّ أثر ملاقاته للمحلّ النجس عنده إنّما يظهر بعد الانفصال ». (٢) انتهى.

والّذي يترجّح في النظر القاصر ، أنّها تتبع المحلّ فتكون طاهرة مطلقا ، وذلك لإجماع المسلمين المعلوم من عملهم في كافّة الأعصار والأمصار ، حيث إنّهم يغسلون أبدانهم وأثوابهم وأوانيهم ، ويجرون عليها بعد ذلك وعلى ما فيها من البلل الباقية جميع أحكام الطهارة ولا يتأمّلون فيها ، فيباشرون بها حال البلّة وحال عدمها في مآكلهم ومشاربهم وتطهيراتهم من الأخباث والأحداث ، فإذا غسلوا شيئا من الأبدان يدخلونه في المآكل والمشارب ومياه الوضوء والغسل ، أو شيئا من الثياب لا يتحرّزون عن ملاقاته لشي‌ء من ذلك ، أو شيئا من الأواني يجعلون عليه المأكل والمشرب والوضوء والغسول بلا تأمّل في شي‌ء من ذلك ، فلو لا المحلّ مع ما فيه من البلل طاهرين لما ساغ لهم شي‌ء من ذلك ، لإجماعهم الضروري على اشتراط الطهارة في جميع ما ذكر ، وأخبارهم متواترة عليه معنى.

فنقول : بملاحظة ذلك مع ما ذكر من الإجماع الأوّل أنّ ما ليس بطاهر لا يجوز استعماله في المأكل والمشرب والوضوء والغسول ، فينعكس ذلك بطريقة عكس النقيض إلى أنّ : كلّ ما جاز استعماله في الامور المذكورة فهو طاهر ، والعفو المدّعى في

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٥.


هذا المقام إن اريد به سلب أحكام النجاسة في خصوص المباشرة حال الصلاة ونحوها ، فكيف يجامعه المباشرة في الامور المذكورة ، ولو اريد به سلب أحكام النجاسة مطلقة ولو في الموارد المذكورة فهو عين معنى الطهارة ومعه ارتفع النزاع بالمرّة.

هذا مضافا إلى أنّ نجاسة البلّة الباقية في المحلّ عرضيّة ، حاصلة عن نجاسة المحلّ ، فإذا أفاد الغسل ـ الّذي هو عبارة عن مجموع الصبّ مع العصر أو الإفراغ ـ طهارة المحلّ وزوال النجاسة الأصليّة عنه ، فلأن يكون مفيدا لطهارة البلّة الباقية فيه وزوال نجاستها العرضيّة الحاصلة من النجاسة الأصليّة طريق الأولويّة.

دعوى : أنّه يزيل النجاسة الأصليّة ولا يزيل النجاسة العرضيّة الحاصلة منها كما ترى ، مع أنّه عند التحقيق ممّا لا يكاد يعقل ، حيث إنّ العرضيّة معلولة من الأصليّة ، ولا بقاء للمعلول بدون العلّة.

واحتمال كون الأصل علّة محدثة ، فلا ضير في انعدامه ، لجواز تخلّف العلّة المبقية عنه.

يدفعه : أنّ هذا الفرض إنّما يستقيم إذا كان علّة الحدوث عين النجاسة الموجودة في المحلّ ، لا الأثر الحاصل منها فيه ، فإذا فرض زوال العين عن المحلّ لا يلزم منه زوال المعلول ، لجواز استناده في البقاء إلى الأثر الحاصل منها في المحلّ ، فنحن نفرض في محلّ الكلام كون علّة الحدوث وهو الأثر الحاصل في المحلّ بعد زوال العين ، فحينئذ إمّا أن يقال : بزوال هذه العلّة عن المحلّ بالغسل الشرعي ، أو يقال : بعدم زوالها ، والثاني باطل بالضرورة من الشرع القائم على أنّ الغسل الشرعي يوجب طهارة المحلّ ، والأوّل مستتبع للمحذور ، ولا يعقل مع زوال كلّ من العين والأثر عن المحلّ علّة اخرى يستند إليها بقاء نجاسة البلّة.

ولو قيل : بأنّ العلّة المبقية هو كون ما بقى في المحلّ بلّة ، فحينئذ نقول : إذا زالت البلّة بطروّ اليبوسة على المحلّ ، إمّا أن يكون شي‌ء من أثر تلك النجاسة باقيا في المحلّ أو لا؟ ولا سبيل إلى شي‌ء منهما ، أمّا الأوّل : فلاستلزامه المحذور ، وأمّا الثاني : فلقضائه بكون اليبوسة في غير ما حصل من الشمس في مواضع مخصوصة ـ يأتي ذكرها في محلّها ـ من جملة المطهّرات ، وهو ممّا لا أثر له في الشرع ولا دليل عليه أصلا ، بل الأدلّة قائمة بخلافه ، مع أنّ القول ببقاء النجاسة في البلّة ممّا يفضي إلى عدم قبول


المحلّ للطهارة أصلا ؛ لأنّها ما دامت باقية لازمة للمحلّ ولا تنفكّ عنها ، وهي على الفرض ملزومة للنجاسة ، فكانت النجاسة لازمة للمحلّ ، وهو كما ترى خلاف ما يظهر من الأدلّة ، والقول بطهارة المحلّ مع نجاسة البلّة الباقية فيه كما ترى تناقض في المقالة ، كما أنّ القول بعدم تأثّر المحلّ من تلك النجاسة مجازفة صرفة.

ومن هنا يعلم أنّ الحكم بنجاسة البلّة ممّا يفضي إلى تجويز السفه على الشارع الحكيم في إيجابه الغسل والتطهير ، إذ المفروض عدم انفكاك النجاسة العرضيّة عن المحلّ ، فلأيّ فائدة أوجب على المكلّف تكلّف الغسل ، واعتبار العفو هنا مع أنّه ممّا لا محصّل له يشبه بكونه أكلا بالقفاء ؛ لأنّ هذا العفو كما كان يمكن اعتباره بالنسبة إلى النجاسة العرضيّة ، فكذلك كان يمكن بالنسبة إلى الأصل أيضا ، فلم لم يعتبر فيه مع أنّه أسهل وأقرب إلى السمحة السهلة؟ مع أنّ القول بنجاسة البلّة مع العفو عنها ممّا يخالف مفاد الأدلّة من الأخبار المتواترة جدّا ، الآمرة بالغسل في أنحاء النجاسات وتطهير أنواع المتنجّسات ، والواردة في تعليم كيفيّة ذلك وطريقه في المواضع الّتي يختلف باختلافها الكيفيّة ؛ لأنّ مصبّ الجميع والمنساق منها عرفا وشرعا إنّما هو حصول الطهارة بذلك ، وأنّ الغرض من اعتباره تحصيلها ، ولا ريب أنّ الطهارة في المحلّ مع نجاسة البلّة الباقية فيه غير ممكنة.

وممّا يدلّ على ذلك أيضا خصوص موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا ، كيف يغسل؟ وكم مرّة يغسل؟ قال : « ثلاث مرّات ، يصبّ فيه ماء فيحرّك فيه ، ثمّ يفرغ ذلك الماء منه ، ثمّ يصبّ ماء آخر فيحرّك فيه ، ثمّ يفرغ ذلك الماء منه ، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر فيحرّك فيه ثمّ يفرغ منه ، وقد طهر » (١).

فإنّ نجاسة البلّة الباقية ينفيها قوله عليه‌السلام : « وقد طهر » ، لما عرفت من أنّ نجاسة البلّة تستلزم نجاسة المحلّ لا محالة ، واحتمال كون المراد بالطهارة هنا العفو كما ترى.

ثمّ إذا فرضنا البلّة طاهرة ما دامت في المحلّ ، فأيّ شي‌ء يوجب انقلاب حكمها إلى النجاسة لو فرض انفصالها بالمبالغة في العصر؟ وأيّ دليل من الشرع يقضي بذلك؟ مع أنّ الطهارة هو الأصل في الأشياء ولا سيّما المياه ـ حسبما قرّرناه وأسّسناه سابقا ـ

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٦ ب ٥٣ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.


وكون ذلك متفرّعا على القول بنجاسة ماء الغسالة بعد الانفصال خاصّة كما يأتي عن العلّامة ممّا لا يصلح عذرا لفساد هذا القول من رأسه ، كما يأتي بيانه.

وأمّا مقدار ما يبقى من البلّة في حكم الطهارة ، فهو من فروع كيفيّة الغسل ويأتي التعرّض له في مباحث التطهير ، إن شاء الله تعالى.

وثانيهما : قد عرفت سابقا أنّ القول بنجاسة ماء الغسالة مطلقا في كلام أهل القول بها محتمل لأن يكون حكمه كالمحلّ قبل الغسل ، ولأن يكون كالمحلّ قبل الغسلة المطهّرة كما صرّح به في شرح الدروس (١) ، والوجه في ذلك عدم تصريحهم باختيار شي‌ء من ذلك ، بل ولا إشعار في كلامهم باختيار أحد هذه الوجوه ، لكون الحكم بالنجاسة واردا في كلامهم على الإطلاق كما صرّح به في الحدائق (٢) ، فما في هذا الكتاب عن جملة من المتأخّرين ومتأخّريهم بالنسبة إلى هذا القول ـ أي القول بالنجاسة مطلقا ـ من أنّ حكم الغسالة كالمحلّ قبل الغسل (٣) ليس على ما ينبغي ، إن كان الغرض بيان كونه مذهب القائلين بهذا القول ، والعجب عن صاحب هذا الكتاب أنّه حيثما عنون هذا القول عنونه بعبارة مصرّحة بكون حكمها كالمحلّ قبل الغسل ، فيعتبر التعدّد فيما تلاقيه متى كان التعدّد معتبرا في المحلّ ، ثمّ بالغ في إنكار هذا العنوان عند ذكر الفروع ، قائلا ـ في دفع القول المشار إليه ، المنقول عن جملة من المتأخّرين ومتأخّريهم ـ : « بأنّي لم أجد له أثرا في كلام القائلين بهذا القول ، كالمحقّق والعلّامة ، بل يحتمل أنّ مرادهم أنّها في حكم المحلّ قبل الغسلة ، إذ غاية ما يدلّ عليه كلامهم هو النجاسة ، وأمّا أنّه يجب فيما تلاقيه العدد المعتبر في المحلّ فلا » الخ (٤).

ثمّ لا يخفى ما في اقتصاره على الاحتمال المذكور ، إذ قد عرفت جريان احتمال ثالث في كلامهم.

وكيف كان : فتحقيق المسألة مبنيّ على النظر في أنّ الأصل في تطهير النجاسات هل هو التعدّد ، أو الاكتفاء بالمرّة؟ وله محلّ آخر يأتي إن شاء الله ، ولكن الّذي يقوى في نظري القاصر إلى أن يقع التأمّل التامّ فيه في محلّه الآتي ، هو الاكتفاء بالمرّة ، وفاقا

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٤.

(٢ و ٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٩.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٧.


للحدائق (١) ، ومحكيّ المعالم (٢) ، مع نقله فيه عن بعض مشايخه المعاصرين ؛ لأنّ اعتبار التعدّد تكليف بأمر زائد ، على ما ثبت من الشرع يقينا ، والأصل ينفيه ، ولا يعارضه الاستصحاب وأصل الشغل هنا وإن كانا جاريين ، لما قرّر في محلّه.

هذا حكم الغسالة بعد الانفصال وأمّا حكمها قبله فكذلك ، فلو لاقاها شي‌ء وهي في المحلّ ـ وحاصله ملاقاة المحلّ قبل إخراج الغسالة عنه ـ لم يجب غسله متعدّدا ، كما لو لاقاها بعد مفارقة المحلّ ، هذا تمام الكلام في أوّل الأقوال.

وأمّا ثانيها : فالقول بالنجاسة ، لكن حكمه حكم المحلّ قبل الغسلة ، فيجب غسل ما أصابه ماء الغسلة الاولى مرّتين ، والثانية مرّة فيما يجب فيه المرّتان وهكذا ، ذهب إليه الشهيد في الدروس (٣) ـ كما نقل عنه في الذكرى (٤) ـ وعبارته في الدروس ـ على ما في محكيّ الخوانساري في شرحه (٥) ـ هكذا : « وفي إزالة النجاسة نجس في الاولى على قول ، ومطلقا على قول ، وكرافع الأكبر على قول ، وطاهر إذا ورد على النجاسة على قول ، والأولى أنّ ماء الغسلة كمغسولها قبلها ».

وعن الأردبيلي في شرح الإرشاد (٦) الميل إليه ، واختلفت كلمتهم في اتّحاد هذا القول مع سابقه ومغايرته له ، فعن الشهيد الثاني (٧) وغيره التصريح بالمغايرة ، ويستفاد من صاحب الحدائق اتّحادهما ، حيث قال : « بل ظاهر الشهيد في الذكرى أنّ القول المنسوب إليه هو بعينه القول الأوّل ، وأنّ القول بالنجاسة مطلقا عبارة عن كون حكم الغسالة حكم المحلّ قبل الغسلة الخ » (٨).

ولكن العبارة المتقدّمة منه في الدروس تنادي بفهم المغايرة بين مذهبه والقول الأوّل ، حيث جعل مختاره مقابلا للأقوال الاخر ، الّتي منها القول بالنجاسة مطلقا ، ولا ريب أنّه لا يعقل بينهما مغايرة مع اشتراكهما في أصل الحكم بالنجاسة ، إلّا أنّه فهم من الجماعة أنّهم يجعلون الغسالة كالمحلّ قبل الغسل ، وإن كان فهمه بهذا المعنى موضع مناقشة قدّمناها ، وكان مستند الشهيد الثاني في فهم المغايرة أيضا هو العبارة المذكورة ، واستشهد

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٠.

(٢) فقه المعالم ١ : ٣٢٣.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٥) مشارق الشموس : ٢٥٤. (٦) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٥.

(٧) روض الجنان : ١٥٩.

(٨) الحدائق ١ : ٤٨٩.


في الحدائق على ما فهمه من الاتّحاد بقوله : « فإنّه ـ يعنى الشهيد في الذكرى ـ نقل أوّلا القول بالطهارة عن المبسوط ، ثمّ نقل مذهب الشيخ في الخلاف ، ثمّ نقل مذهب المحقّق والعلّامة وهو القول بالنجاسة مطلقا ، ونقل أدلّته وطعن فيها ثمّ قال : « ولم يبق سوى الاحتياط ، ولا ريب فيها ، فعلى هذا ماء الغسلة كمغسولها قبلها ، وعلى الأوّل كمغسولها بعدها أو كمغسولها بعد الغسل » ، ومثله كلام الشيخ علي في شرح القواعد (١) انتهى.

وجه الاستشهاد : ما أفاده بعد ذلك : « من أنّ التفريع في عبارة الذكرى إنّما جرى على مقتضى الأقوال المتقدّمة ، فإنّ قوله : « فعلى هذا » أي فعلى القول بالنجاسة ، وهو المنقول عن المحقّق والعلّامة ، وقوله : « وعلى الأوّل » إشارة إلى مذهبي المبسوط والخلاف ، وإن كان على سبيل اللفّ والنشر المشوّش ، وعلى تقدير ما ذكر من المغايرة يلزم عدم التفريع على مذهب المحقّق والعلّامة » (٢) انتهى.

والإنصاف : أنّ هذه العبارة ليست بصريحة ولا ظاهرة في كون ما اختاره عين ما اختاره المحقّق والعلّامة.

نعم غاية ما فيها الدلالة على مشاركته في أصل القول بالنجاسة ، وأمّا أنّه يوافقهما في حكم الغسالة من حيث ملاقيها فلا ، والتفريع المذكور فيه لا يشعر بذلك ، بل هو تفريع على أصل القول من حيث إنّه اختاره ، وتحقيق للمسألة لنفسه لا عليه من حيث إنّه مختارهما ، ولا ينافيه عدم التفريع عليه من هذه الحيثيّة ، لجواز كون الحكم المذكور على مذهبهما مشتبها عنده ، بمعنى أنّه لم يكن يدري أنّهما ما يقولان في أصل الغسالة وملاقيها ، بعد البناء فيها على النجاسة ، فليتأمّل.

وكيف كان : فقد ذكر في هذا الكتاب في وجه الفرق بين الغسلتين باعتبار التعدّد في الاولى دون الثانية ـ فيما يجب غسله مرّتين مثلا ـ : « أنّ المحلّ المغسول تضعف نجاسته بعد كلّ غسلة وإن لم يطهر ، ولهذا يكفيه من العدد بعدها ما لا يكفي قبلها ، فيكون حكم ماء الغسلة كذلك ، لأنّ نجاسته مسبّبة عنه فلا يزيد حكمه عليه ، لأنّ الفرع لا يزيد عن الأصل ».

ثمّ نقل عن والده أنّه قال ـ بعد ما نقل هذا الكلام ـ : « أقول : هذا التفصيل بالفرق

__________________

(٢ و ١) الحدائق ١ : ٤٨٩.


بين المنفصل من الغسلتين وإن كان لا يفهم من الأخبار ، ولكنّه قريب من الاعتبار » ، ثمّ قال : « وهو كذلك ، إلّا أنّه بمجرّده لا يمكن الاعتماد عليه في تأسيس حكم شرعي » (١) انتهى.

أقول : لا يخفى عليك أنّه لا مخالفة بيننا وبين الشهيد في أصل المذهب ، وما صار إليه من الفرق بين الغسلتين كلام له راجع إلى ما يتفرّع على هذا القول ، ووجهه ضعيف جدّا ، وبعد الغضّ عنه فالمتّبع هو ما يقتضيه الأدلّة الشرعيّة ، وحيث إنّ من الظاهر البديهي أنّ دليل الأصل في دلالته على اعتبار التعدّد في الغسل عنه كالبول مثلا لا يتناول ما ينفصل من الغسلة عنه ؛ لعدم دخوله في مسمّى البول ولا الدم ولا غيرهما من النجاسات ، ليس في البين مناط يكون منقّحا من نصّ الشارع ، أو تنبيهه عليه بضرب من الدلالة المعتبرة ، فلا جرم يكون اعتبار التعدّد بالنسبة إلى الغسلة الاولى قولا بلا دليل في ظاهر الحال ، كما أنّ الاقتصار على المرّة في الغسلة الثانية استنادا إلى ما ذكر أخذ بموجب الاستحسان الصرف وليس من مذهبنا ، فلا يبقى ما يصلح لأن يكون مرجعا إلّا الأصل المشار إليه ، وقد عرفت أنّ مقتضاه الاكتفاء بالمرّة حتّى يثبت اعتبار الزائد بالدليل ، فلا بدّ من اتّباع الأصل.

وأمّا ثالثها : فالقول بالنجاسة إن كان من الغسلة الاولى والطهارة إن كان من الغسلة الثانية ، وحاصله يرجع إلى أنّ الغسالة كالمحلّ بعد الغسلة ، ولازمه التفصيل المذكور فيما يعتبر فيه الغسل مرّتين ، وإطلاق هذا القول بالقياس إلى أنواع المحلّ المتنجّس من الثوب والبدن والإناء ولو في ولوغ الكلب محكيّ ـ كما في الشرح المتقدّم للأستاد (٢) ـ عن العلّامة الطباطبائي ، وكلّ من قال بأنّ الغسالة كالمحلّ بعدها ، ونسب ذلك أيضا إلى الشيخ في الخلاف (٣) ، ولكن المنقول منه أنّه خصّصه بالمستعمل في تطهير الثوب ، وأمّا المستعمل في الآنية فلا ينجّس عنده مطلقا ، سواء كان من الاولى أو غيرها ، فله تفصيل حينئذ أوّلا بين الثوب والآنية ، ثمّ في الثوب بين الغسلة الاولى وغيرها ، بل ظاهر عبارته المنقولة عنه في الآنية يقتضي اختصاص ذلك بالولوغ ، حيث إنّه في موضع من الخلاف قال : « إذا أصاب من الماء الّذي يغسل به الإناء من ولوغ الكلب ثوب الإنسان أو جسده

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨١.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٤.

(٣) الخلاف ١ : ١٧٩ المسألة ١٣٥.


لا يجب غسله ، سواء كان من الدفعة الاولى أو الثانية أو الثالثة » (١) ، ولعلّ عموم هذا الحكم في الآنية بالقياس إلى جميع النجاسات ـ كما اشتهر في الألسنة ـ مستفاد من دليله الآتي على هذا الحكم ، فإنّه عامّ الجريان وإن كان مورده قاصرا عن إفادة العموم.

وكيف كان فعنه (٢) الاحتجاج على نجاسة الغسلة الاولى في الثوب بأنّه : « ماء قليل معلوم حصول النجاسة فيه ، فيجب أن يحكم بنجاسته ، وبما تقدّم من رواية العيص » (٣).

وأنت خبير بما فيه من التحكّم ، فإنّ قاعدة انفعال القليل بملاقاة النجاسة إن كانت عامّة في نظره بحيث كانت متناولة لماء الغسالة ، لكانت جارية في كلّ من الغسلتين ؛ ضرورة : أنّ المحلّ بعد الغسلة الاولى لم يطهر بعد ، فالماء المستعمل في الغسلة الثانية أيضا ممّا يصدق عليه أنّه ماء معلوم حصول النجاسة فيه ، وإن لم تكن عامّة على نحو تشمل ماء الغسالة فلا وجه للقول بالنجاسة في الغسلة الاولى أيضا ، بل لازمه القول بالطهارة في كلتا الغسلتين ، عملا بالأصل السليم عن المعارض ، ودعوى : شمولها للغسلة الاولى منه دون الثانية كما ترى.

إلّا أن يقال : بخروج تلك الغسلة عن القاعدة بالدليل ، فيدفعه : ما سيأتي في تزييف ذلك ، إذ ليس ذلك إلّا أصل الطهارة ، وهو عامّ لا يعارض الخاصّ ، أو أصل عملي لا يعارض الدليل ، أو الأخبار المتقدّمة في الاستنجاء الحاكمة بطهارة الماء المستنجى به ، فهي لعمومها الشامل للغسلتين معا تقضي بتخصيص القاعدة في الغسلة الاولى أيضا ، فما وجه الفرق بينهما؟

مضافا إلى أنّها لا تشمل المقام بدلالة لفظيّة ، لاختصاصها بماء الاستنجاء المخرج عن مطلق المستعمل في رفع الأخباث ، ولا بدلالة شرعيّة ؛ إذ ليس في المقام مناط منقّح ، وكذا الكلام في احتجاجه بالرواية المشار إليها ، فإنّها أيضا عامّة ـ فإن سلمت عنده سندا ودلالة ـ فهي مقتضية للنجاسة مطلقا ، وإلّا فلا وجه للاستناد إليها أصلا ، إلّا أن يدّعي التخصيص فيها أيضا ، فيبقى الكلام معه في المخصّص ، وليس له ما يصلح لذلك ، نعم يبقى فيها شي‌ء ستسمعه مع دفعه.

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٨١ المسألة ١٣٧.

(٢) الخلاف ١ : ١٧٩ المسألة ١٣٥.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ١٤ ـ نقله في الذكرى ١ : ٨٤.


وقد يجاب عن دليله الأوّل ـ كما في شرح الدروس ـ : « بأنّ أدلّة نجاسة القليل لا عموم لها ، وإنّما يكون مناط التعميم في بعض الصور بعدم القول بالفصل ، والشهرة بين الأصحاب وهما مفقودان فيما نحن فيه ، والأولى أن يقال : إنّ غاية ما يدلّ عليه أدلّة نجاسة القليل نجاسته بورود النجاسة عليه وأمّا العكس فلا ، فحينئذ لو اشترطنا في التطهير الورود ـ كما هو رأي الشيخ ـ لا نسلّم جريان تلك الأدلّة في الغسالة ، وهو ظاهر » (١) انتهى ، وفيه : ما فيه.

وعنه (٢) الاحتجاج على طهارة الغسلة الثانية : بما تقدّم من الأصل ، وأخبار الاستنجاء ، وبأنّ المحلّ بعدها طاهر مع بقاء مائها فيه ، والماء الواحد لا يختلف أجزاؤه في الطهارة والنجاسة.

والجواب عن الأوّلين : قد ظهر بما مرّ ، وعن الأخير ، بأنّه إنّما يتّجه في الأجزاء ما دامت عنوان الجزئيّة باقية ، ولا ريب أنّ الانفصال الّذي يتحقّق فيما بين المنفصل عن المحلّ والمتخلّف فيه رافع لهذا العنوان ، ومعه لا مانع في اختلافهما في الحكم ، فحينئذ نقول : إنّ الماء المستعمل في الغسل نجس بجميع أجزائه ما دام في المحلّ ، وإذا انفصل بقي المنفصل على نجاسته وطهر الباقي تبعا للمحلّ ، بحكم أنّ الغسل الّذي جعله الشارع مطهّرا ـ وهو عبارة عن الصبّ والعصر ـ يوجب الطهر فيهما معا ، ولا مانع منه إذا دلّ عليه الدليل ، ولو سلّم عدم قيام الدلالة على ذلك فيكفينا الاحتمال في هدم ما ذكر من الاستدلال ، لأنّه عقليّ فيبطل بمجرّد الاحتمال.

وقد يستدلّ على الطهارة في الغسلة الثانية المزيلة لنجاسة المحلّ ، احتمالا عن قبل العلّامة الطباطبائي كما في شرح المشار إليه للأستاد (٣) : « بأنّ ملاقاة الماء للمحلّ سبب في طهارته ، والظاهر من أدلّة انفعال القليل انفعاله بما يكون نجسا حين الملاقاة ، لا ما يكون الملاقاة سببا لزوال نجاسته ، لمكان أنّه لا يدخل في أذهان العرف صيرورة الماء الملاقي للمحلّ النجس بمنزلة نفس النجس مع طهارة المحلّ الملاقي له » (٤).

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٥.

(٢) الخلاف ١ : ١٨٠ المسألة ١٣٥ ـ ولا يوجد فيه قوله رحمه‌الله : « وبأن المحلّ طاهر مع بقاء مائها فيه الخ ».

(٣ و ٤) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٣٣٥.


وقياسه على إزالة الأوساخ الحسّيّة الّتي يكتسب فيها كلّ جزء من الماء جزءا من الوسخ بالحسّ ، بدعوى : أنّ النجاسة تنتقل من المحلّ إلى الماء ، كالقذارة الخارجيّة الّتي تستهلك في الماء ويتوزّع على أجزائه ، قياس مع الفارق لأنّ ذلك ممّا يساعد عليه أذهان العرف في القذارة الخارجيّة دون النجاسة ، لأنّهم بعد اطّلاعهم على أنّ كلّ جزء من الماء يكتسب قذارة كقذارة المحلّ بعينها ، مع ملاحظة أنّ الماء يوجب زوال النجاسة عن المحلّ الملاقي له ، يتحاشون عن انفعال الماء بذلك المحلّ.

وصيرورة كلّ قطرة منه كالرطوبة النجسة الّتي في المحلّ الحاصلة من البول أو الدم مثلا ، مع كونها في موضع اريد إزالتها بذلك الماء وهو أيضا يفيد إزالتها ؛ لأنّ ذلك لا يجامع طهارة المحلّ الّتي هي غير ممكن الاجتماع مع نجاسة الماء الّذي فيه ، كما يفهم ذلك منهم لو قيل لهم : أنّ هذا الماء المنصبّ على المحلّ لإزالة ما به من رطوبة الوسخ الفلاني يصير كلّ جزء صغير منه متّصفا بوسخ تلك الرطوبة.

والحاصل كيفيّة تنجيس الشي‌ء أمر لم يدلّ عليه جامع شامل للمقام ، والمستفاد من تتبّع المقامات الخاصّة لا يشمل الملاقاة المزيلة ، والمفروض أنّه إذا عرض على العرف صيرورة كلّ جزء صغير من الماء بمنزلة عين الأثر الموجود في الثوب من الوسخ أنكروا طهارته به ، وإذا عرض عليهم طهارته به أنكروا صيرورته كذلك ، فإذا فرض قطعهم بالثاني لم يفهموا من أدلّة الانفعال شمولها لهذا النحو من الملاقاة المزيلة ، فلم يبق إلّا عموم معاقد الإجماعات في نجاسة الماء القليل الملاقي للنجس ، أو مطلق الجسم الرطب الملاقي له لكن من المعلوم عدم إرادة القائلين بطهارة الغسالة هذا العموم من كلامهم في دعوى الإجماع.

وأمّا القائلون بنجاستها فلو جاز الاكتفاء بهم كفى قولهم بنجاسة الغسالة في دعوى الإجماع عليها.

وأمّا رواية العيص المتقدّمة فالاستدلال بها في المقام مبنيّ على كفاية الغسلة الواحدة ـ في مطلق القذارات ، وإلّا أمكن حمل الرواية على الغالب من اجتماع الغسالتين ، بل يمكن حملها ـ بناء على الاكتفاء في التطهير بالغسلة الواحدة كالإجماعات على ما هو الغالب من اجتماع الأجزاء المنفصلة عن المحلّ قبل زوال


العين ، فإنّ المنفصل عن المحلّ كذلك ليس منفصلا عن الغسلة المطهّرة ، فحكمه كالمنفصل من الغسلة الاولى ، بل هو أشدّ منه ، بل لا ينبغي أن يكون محلّا للنزاع ، لأنّ النزاع في المنفصل عن الغسل المؤثّر في التطهير الشرعي الواجب كونه بالماء المطلق الطاهر ، والمنفصل قبل زوال العين إنّما انفصل عن غسلة غير معتبرة في نظر الشارع ؛ لعدم إفادتها إلّا زوال العين الّذي يحصل بالماء المضاف والنجس والمسح بجسم طاهر أو نجس ، ولذا احتاج الثوب بعده إلى غسلتين ، لكن يكفي في الاولى منهما استمرار الصبّ عن الأوّل آنا ما بعد زوال العين » (١) الخ.

وحاصله يرجع إلى منع العموم في أدلّة انفعال القليل بملاقاة النجاسة بحيث تشمل ماء الغسالة ، حتّى ما انفصل منه عن الغسلة المستتبعة لطهارة المحلّ ، وسند هذا المنع إمّا دعوى قصور تلك الأدلّة عن إفادة حكم الانفعال لنظائر المقام بأنفسها ، فلا عموم في مفهوم قوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٢) لا من جهة « الماء » بحيث يشمل كلّ ماء ، ولا من جهة الشي‌ء النجس بحيث يشمل كلّ نجاسة ، ولا من جهة الملاقاة المستفادة من الرواية منطوقا ومفهوما ، ولا في الأخبار الخاصّة الواردة في موارد جزئيّة بالنسبة إلى الماء وإلى النجس ، إذ ليس المستعمل في إزالة النجاسة بشي‌ء منها ، ولا في الإجماعات المنقولة ولا الرواية الخاصّة المذكورة ، أو دعوى : خروج محلّ البحث عن عموم تلك الأدلّة بملاحظة الخارج ، ولو نحو قرينة حال أو مقام يلتفت إليها العرف ويلاحظها ، مثل ما ثبت لهم بضرورة من شرعهم أنّ الماء القليل إذا استعمل في الثوب النجس ونحوه لإزالة ما فيه من النجاسة يوجب زوالها ، ويصيّره طاهرا ، ولا سبيل إلى شي‌ء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ مفاد القضيّة في جانب مفهوم الرواية يرجع إلى أن يقال : إنّ الماء المتّصف بالقلّة كائنا ما كان من حكمه أن ينفعل بأيّ نجس لاقاه كيفما اتّفق.

أمّا الأوّل : فلورود لفظة « الماء » فيها مطلقة فيكون الحكم المعلّق عليها معلّقا على الطبيعة السارية في جميع مصاديقها ، الّتي منها ما يعدّ لإزالة الأخباث به ، فمن يدّعي

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٣٣٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢.


الاختصاص بغير هذا الماء مطلقا أو في الجملة يطالب بدليل ذلك.

وأمّا الثاني : فبحكم السببيّة التامّة المستفادة من التعليق ، المقتضية لوجود الجزاء في جميع موارد وجود الشرط ، وانتفائه في كلّما انتفى فيه الشرط ـ على ما فهمه غير واحد ـ وأمّا على ما قرّرناه سابقا من عدم إمكان الحمل على كون الكرّيّة سببا تامّا فإمّا أن يكون حينئذ شرطا لعدم الانفعال ، أو ملازما له بكونه ملزوما لما هو شرط له فكذلك أيضا ، لأنّ المشروط يعدم عند عدم شرطه ، كما أنّ اللازم يعدم مع انعدام ملزومه.

ولا ينافي احتمال الشرطيّة ولا احتمال الملازمة ثبوت المشروط أو ثبوت اللازم في بعض صور انتفاء الشرط أو انتفاء الملزوم ، أو ثبوت نقيض اللازم في بعض صور وجود الملزوم ، كما في المستعلي ، وماء الاستنجاء ، وماء الجاري في الأوّلين ، والمتغيّر بالنجاسة في الأخير ؛ لأنّ الشرطيّة والملازمة ليستا بعقليّتين لئلّا يمكن فيهما التقييد ولا التخصيص ، بل هما شرعيّتان ثابتتان بالأدلّة اللفظيّة فتكونان قابلتين للتخصيص كدليلهما ، فيقال على احتمال الشرطيّة أنّ الكرّيّة شرط لعدم الانفعال إلّا في العالي وغيره ممّا ذكر ، وعلى احتمال الملازمة وجودا وعدما أنّ الكرّيّة تلازم عدم الانفعال إلّا في صورة التغيّر ، وأنّ انتفاء الكرّيّة يلازم الانفعال إلّا في صورة العلوّ والاستنجاء والجريان.

فأقصى ما ثبت بالدليل إنّما هو تقييد كلّ من الشرطيّة والملازمة بالقياس إلى الموارد المذكورة ، وأمّا أنّه لا ينفعل أيضا في صورة إزالة النجاسة مع القلّة مطلقا ، أو في الغسلة المطهّرة خاصّة فهو تقييد آخر في مفاد الشرطيّة وفي الملازمة الثانية ، ويحتاج إلى الدليل فمن يدّعيه مطالب بالدليل.

وأمّا الثالث : فلأنّ الملاقاة المفهومة من الرواية منطوقا ومفهوما لها أحوال ، منها كونها مستتبعة لزوال النجاسة عن المحلّ ، وهي مطلقة بالنسبة إلى أحوالها ، فدعوى : أنّها لا تؤثّر في الانفعال حال استتباعها لطهارة المحلّ تقييد لها بما عدا تلك الحالة ، فلا تسمع إلّا بدليل.

وأمّا الثاني : فلأنّ أقصى ما يتصوّر كونه مخرجا لمحلّ البحث عن عموم الأدلّة ، إنّما هو شبهة عدم إمكان كون المزيل للنجاسة متأثّرا بتلك النجاسة وإلّا لا يزيلها بل يؤكّدها ولا يفيد المحلّ إلّا تنجّسا ، وهو خلاف ما قطع بالشرع من صلاحيّة الماء القليل


لإزالة النجاسة ، فلا جرم يقال : إنّ ملاقاة النجاسة سبب للانفعال إلّا فيما كان مزيلا للنجاسة عن محلّ ، فإنّه لا ينفعل بتلك النجاسة.

وظنّي أنّ هذه الشبهة إنّما تنشأ عن توهّم كون نفس الملاقاة في الغسلة المطهّرة سببا لزوال النجاسة عن المحلّ ـ كما تقدّم التصريح به في أوّل الاستدلال ـ فإذا فرض أنّها سبب لزوال النجاسة فكيف يمكن فرض كونها سببا لانفعال الملاقي ، إلّا على تجويز التناقض أو الجمع بين النقيضين ، ولذا نسب إلى العرف : « أنّه إذا عرض عليهم صيرورة كلّ جزء صغير من الماء بمنزلة عين الأثر الموجود في الثوب من الوسخ أنكروا طهارته به ، وإذا عرض عليهم طهارته به أنكروا صيرورته كذلك » الخ.

وأنت خبير بأنّه توهّم فاسد ، فإنّ نفس الملاقاة لا تصلح سببا للتطهير وإلّا لما اعتبر فيه العصر ولا الإفراغ ، بل السبب حقيقة هو الغسل ، وهو شي‌ء لا يتأتّى إلّا مع الملاقاة ، لا أنّه نفس الملاقاة ، فلم لا يجوز صيرورة الماء بملاقاته المحلّ النجس نجسا ، ثمّ إذا تحقّق معه الغسل المعتبر في نظر الشارع باستكمال آدابه وشرائطه وأجزائه أفاد المحلّ الطهارة وزوال النجاسة ، مع بقاء الماء المنفصل على ما كان عليه من النجاسة ، فإنّ النجاسة فيه قد حصلت بالملاقاة ، وطهارة المحلّ قد حصلت بالغسل المتقوّم بتلك الملاقاة ، لا بنفس الملاقاة ، ولا تنافي بينهما أصلا من جهة العقل ، وأمّا من جهة الشرع فهو تابع لدليل الحكمين والمفروض قيامه على كليهما ، أمّا الأوّل : فلعموم أدلّة انفعال القليل بملاقاة النجاسة ، وأمّا الثاني : فلقضاء الشرع بأنّ الغسل بالماء القليل ممّا يوجب زوال النجاسة عن الثوب وغيره ممّا هو قابل له.

نعم بملاحظة هذا البيان يتّجه أن يقال ـ في توجيه التخصيص في أدلّة الانفعال ـ : إنّ ما قام عليه الدليل إنّما هو كون الغسل بالماء القليل الطاهر سببا لزوال النجاسة عن المحلّ لا مطلقا ، فحينئذ يحصل عندنا بملاحظة أدلّة انفعال القليل قضيّتان كلّيّتان :

أحدهما : أنّ الغسل بالماء القليل الطاهر سبب لزوال النجاسة.

والاخرى : أنّ كلّ ماء قليل ينفعل بملاقاة النجاسة.

ولا يمكن العمل بالقضيّة الاولى مع إبقاء الثانية على عمومها ، لأنّ مقتضى هذا العموم صيرورة الماء الملاقي لمحلّ النجس نجسا ، ومقتضى صيرورته نجسا عدم تأثيره في


زوال النجاسة عن المحلّ ، لاختصاص دليل كونه مؤثّرا في ذلك بصورة كونه طاهرا ، فلا محالة إمّا أن يرفع اليد عن تلك القضيّة ويقال : إنّ الماء القليل ممّا لا يصلح كونه مؤثّرا في زوال النجاسة ، أو عن عموم القضيّة الثانية بتخصيصها بما عدا هذا الماء ، ولمّا كان القضيّة الاولى أخصّ منها في الثانية لاختصاصها بما يزيل النجاسة وشمول الثانية له ولغيره ، فلا محيص من تخصيص الثانية بها ؛ إذ لولاه لزم أن لا يكون لأدلّة هذه القضيّة مورد.

ولكن يدفعه : منع هذه الدعوى ، بل بين القضيّتين عند التحقيق عموم وخصوص من وجه ، فإنّ الاولى في اقتضاء الطهارة تشمل ما قبل الملاقاة وما بعدها ، والثانية تشمل هذا الماء وغيره ، فيتعارضان في هذا الماء بالقياس إلى حال الملاقاة ؛ حيث إنّ الاولى تقتضي فيه الطهارة ، والثانية تقتضي نجاسته ، فلا بدّ من الترجيح ومع فقد المرجّح يجب التوقّف والرجوع إلى الاصول ، فعلى فرض التوقّف وإن كان الأصل ـ حسبما قرّرناه سابقا ـ يقتضي الطهارة ، غير أنّه لا داعي إلى التوقّف لوجود المرجّح في جانب القضيّة الاولى ، فإنّ ما فيها من العموم عموم أحوالي وما في الثانية عموم أفرادي ، ومن المعلوم بضرورة العرف واللغة أنّ الدلالة على العموم في الأحوال أضعف منها على العموم في الأفراد ، لاستناد الأوّل إلى أمر خارج من اللفظ بخلاف الثاني ، وإن كان من جهة الإطلاق ، فإذا أوجب رفع اليد عن أحدهما تعيّن الأوّل لضعفه ، فيخصّص قولنا : « الماء القليل الطاهر سبب لزوال النجاسة » بما لم يكن نجسا بغير جهة نجاسة المحلّ ، وبعبارة اخرى : بما كان طاهرا قبل ملاقاته المحلّ.

لا يقال : كون هذا التصرّف من باب التخصيص الراجح على تخصيص القضيّة الثانية ممنوع ، بل هو عند التحقيق تجوّز في لفظة « الطاهر » المأخوذة في القضيّة ، فإنّ المشتقّ حقيقة في حال التلبّس ، والمراد بها ـ على ما قرّر في محلّه ـ اعتبار وجود المبدأ حين اعتبار المتكلّم للنسبة فيما بين المشتقّ وغيره من أطراف الكلام ، فقولنا : « الغسل بالماء الطاهر سبب لزوال النجاسة » يقتضي اعتبار طهارة الماء حال الغسل لأنّه معناه الحقيقي ، وحمله على إرادة الطهارة قبل الملاقاة يستدعي كونه مرادا منه الماضي ، لعود حاصل معنى العبارة إلى أن يقال : الغسل بما كان من الماء القليل طاهرا سبب لزوال النجاسة ، فعاد الأمر إلى تعارض المجاز والتخصيص ، ومن المقرّر في محلّه أولويّة


التخصيص ، كما أنّ من المقرّر في محلّه أيضا مجازيّة المشتقّ في الماضي.

لأنّا نقول : هذه اللفظة ليست بواردة في الخطاب ، ولا أنّ القضيّة المذكورة موجودة بتلك العبارة في كلام الشارع ، وإنّما هي قاعدة تستفاد عن مجموع الروايات الواردة في الغسل عن النجاسات الآمرة به ، مع ضميمة الإجماعات المتضمّنة لاشتراط ذلك بطهارة الماء وعدم حصوله بغير الطاهر ، فإنّ الأخبار الآمرة بالغسل بالماء قد وردت مطلقة ، إذ لا تصريح فيها باشتراط الطهارة ، ولكنّ الإجماعات المنقولة قد أوجبت فيها التقييد ، فحصل من ملاحظة المجموع القضيّة المقيّدة ، وكذلك القضيّة الثانية أيضا مستفادة من الروايات الواردة في انفعال ماء القليل ، فالمعارضة بينهما في الحقيقة حاصلة فيما بين أدلّة القيد المعتبر في القضيّة الاولى وأدلّة القضيّة الثانية ، والنسبة بينهما كما ذكرنا ، لعموم الأوّل في الأحوال وعموم الثاني في الأفراد ، فيرجّح تخصيص الأوّل لما تقدّم ، وقضيّة ذلك كون المشتقّ في القضيّة الاولى مرادا منه الماضي ولا ضير فيه أصلا.

هذا كلّه إذا أردنا استفادة الاشتراط بالطهارة من الإجماعات المنقولة الّتي هي نحو من الأدلّة اللفظيّة ، وأمّا إذا أردنا استفادته من الإجماع المحصّل ، أو من نفس الأخبار الواردة في الغسل بالماء ، بدعوى : أنّها وإن وردت مطلقة بالقياس إلى الطهارة والنجاسة في الماء ، غير أنّ المنساق منها بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة ـ نظرا إلى أنّ أذهان المتشرّعة لا تساعد على حصول الغسل بالماء النجس ، وإنّما تساعد عليه بالماء الطاهر ـ اشتراطه بطهارة الماء ، فلا حاجة إلى تكلّف الترجيح ، بل ولا تتحقّق المعارضة في البين بالنسبة المذكورة ، إذ أقصى ما يحصل عليه الإجماع بملاحظة اختلافهم في طهارة ماء الغسالة ونجاسته ـ إن كان قول محقّق بالطهارة فيما بينهم مطلقا أو في الغسلة المطهّرة ـ وغاية ما ينساق من الأخبار إنّما هو اعتبار أن لا يكون الماء المعدّ للغسل نجسا قبل الغسل وبغير نجاسة المحلّ ، وأمّا اعتبار طهارته حين الغسل فلا.

وقضيّة ذلك تطرّق التصرّف إلى الأخبار الآمرة بالغسل بالماء من باب التقييد ، من دون أن يتحقّق هنا معارض بالقياس إلى أدلّة انفعال القليل بالملاقاة في دلالتها على انفعال هذا الماء حين استعماله.

هذا كلّه في دفع المناقشة في أدلّة انفعال القليل إذا كان النظر فيها إلى الأخبار


الواردة فيه ، وأمّا المناقشة فيها إذا كان النظر فيها إلى الإجماعات ، فيدفعها : أنّها إنّما تتّجه لو اريد استفادة الحكم من الإجماع المحصّل الّذي يحصل من ملاحظة فتاوي الأصحاب ، بعبارة « أنّ الماء القليل ينفعل بملاقاة النجاسة » ، فإنّه مع ملاحظة اختلافهم في نجاسة ماء الغسالة ونجاسته ممّا لا يعقل حصوله على إطلاق هذا العنوان ، حتّى بالنسبة إلى ما يستعمل في إزالة النجاسة ، فحينئذ لو اريد الاستناد إلى معقد هذا الإجماع على إثبات نجاسة ماء الغسالة ، لكان مرجعه إلى الاستناد إلى فتوى من يرى ماء الغسالة نجسا ، وهو كما ترى ليس من الاستناد إلى الإجماع في شي‌ء.

وأمّا لو اريد استفادته من الإجماعات المنقولة المتضمّنة للعبارة المذكورة فلا ، فإنّ الحجّة حينئذ على القول بحجّيّة الإجماع المنقول ـ لكونه بمنزلة السنّة ـ إنّما هي تلك العبارة من حيث إنّها معقد للإجماع ، لا من حيث إنّها صادرة من ناقل الإجماع ، كما أنّ الاستناد إلى الخبر ـ لو فرض وروده هنا بتلك العبارة ـ إنّما هو استناد إلى العبارة من حيث إنّها كلام الحجّة الثابت بنقل الواحد ، لا من حيث إنّها صادرة من الراوي ، فإنّها من هذه الحيثيّة ليست إلّا حكاية ، والحجّة ليست هي الحكاية بل المحكيّ بتلك الحكاية.

فالعبارة المذكورة من حيث إنّها صادرة من ناقل الإجماع عليها مثلها من حيث إنّها صادرة من راوي السنّة ، فكما أنّ العبرة هنا بالمرويّ من حيث إنّه كلام الحجّة ، فكذلك العبرة في نقل الإجماع بالمنقول من حيث معقد للإجماع ، بل من حيث إنّه كلام الحجّة أيضا ، والمفروض أنّه عبارة عامّة تشمل بعمومها لنفسها محلّ البحث أيضا.

ولا ينافيه كون الناقل بنقله لا يريد منه العموم نظرا إلى اعتقاده بطهارة ماء الغسالة ، إذ لا عبرة بإرادة الناقل كما أنّ في الروايات لا عبرة بإرادة الراوي ، بل العبرة بإرادة الحجّة ، فيفرض العبارة المذكورة كالمسموعة بنفسها عن الحجّة ، ولم يثبت أنّه أراد منها ما ينافي العموم ، فيؤخذ بما هو مفاد أصل العبارة ويلغى ما عداه.

ولكن يشكل ذلك : بأنّ فهم الراوي في نقل الأخبار حيثما علم به متّبع ، فلو أنّ هذه العبارة صدرت من الحجّة وفهم الراوي منها الخصوص كان متّبعا ، كما أنّه كذلك لو علم أنّه فهم منها العموم ، وكذلك ناقل الإجماع ، فإنّ إرادته الخصوص إنّما هو من جهة فهمه إيّاه من العبارة المجمع عليها.


ويمكن الذبّ عنه : بأنّ لزوم اتّباع فهم الراوي إنّما هو فيما لم يعلم باستناد فهمه إلى مذهبه الحاصل له بالاجتهاد من جهة الخارج ، بل فيما إذا كان فهمه ناشئا عن مقتضى متفاهم العرف الكاشف عن مراد المتكلّم ، وأمّا إذا نشأ هذا الفهم عن مذهبه الغير الحاصل عن هذا الكلام فلا عبرة به ، فإنّ المتّبع حقيقة هو مدلول الكلام بحسب ما اقتضاه التفاهم العرفي ، الكاشف عمّا اعتبره المتكلّم في ضميره وما ينشأ من مذهبه الحاصل من الاجتهاد ليس منه ولا أنّه كاشف عمّا اعتبره المتكلّم ، لجواز خطئه في الاجتهاد ، واستناده في الاجتهاد إلى ما لا اعتداد به من الأدلّة.

ومن هنا يقال : إنّ مذهب الراوي لا يصلح مخصّصا للعامّ ، ولا ريب أنّ فهم ناقل الإجماع وإرادته الخصوص من هذا الباب ، فالمتّبع في مثل ذلك ما اقتضاه نفس العبارة المجمع عليها دون مذهب الناقل ، على أنّ فهم ذلك للخصوص معارض بما فهم الناقل الآخر ، فإنّ من الناقلين للإجماع من يقول بعموم العبارة ، ويرى ماء الغسالة نجسا ، وقضيّة ذلك إلغاء فهميهما والأخذ بموجب نفس العبارة.

وأمّا المناقشة المذكورة بالنسبة إلى رواية العيص ، فيدفعها : ما في الرواية من الجمع في الجواب بين البول والقذر ، وإيجاب الغسل في كلّ منهما ، إذ ليس كلّ قذر يعتبر فيه التعدّد ، ولا أنّ البول فيه عين تحتاج إلى الزوال ـ سيّما بعد جفافه في المحلّ ـ فلا وقع لدعوى إمكان حملها على الغالب من اجتماع الغسالتين ، ولا لدعوى حملها على ما هو الغالب ـ على تقدير الاكتفاء بالغسلة الواحدة ـ من اجتماع الأجزاء المنفصلة عن المحلّ قبل زوال العين.

مع إمكان أن يقال : باستفادة مناط عامّ من الرواية جار في جميع الغسلات الواردة على المحلّ قبل زوال النجاسة عنه ، وهو أنّ إيجاب غسل ما أصابه الوضوء إنّما هو لمباشرته النجاسة ، ويقوى ذلك الاحتمال على ما في نسخة تلك الرواية ـ المنقولة في شرح الدروس ـ من قوله عليه‌السلام : « إن كان الوضوء من بول أو قذر فيغسل ما أصابه ، وإن كان من وضوء الصلاة فلا يضرّه » (١) فإنّ التفصيل بين الوضوءين يشعر بأنّ مناط الفرق بينهما إنّما هو مباشرة النجاسة وعدم مباشرتها ، هذا تمام الكلام في الاحتجاج عن الشيخ أو غيره ممّن

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٤.


يوافقه على طهارة الغسالة من الغسلة المطهّرة في الثوب خاصّة ، أو مطلق المتنجّسات.

وعنه ـ الاحتجاج على الطهارة مطلقا في الآنية ـ : بأنّ الحكم بالنجاسة يحتاج إلى دليل وليس في الشرع ما يدلّ عليه ، وبأنّه لو حكم بالنجاسة لما طهّر الإناء أبدا ، لأنّه كلّما غسل فما يبقى فيه من النداوة يكون نجسا ، فإذا طرح فيه ماء آخر نجس أيضا ، وذلك يؤدّي إلى أن لا يطهر أبدا.

ولا يخفى ما في الأوّل من التدافع بينه وبين ما أقامه دليلا على نجاسة الغسلة الاولى في الثوب ، ومع الغضّ عن ذلك فيردّه ما لم نقصر في تقريبه وتتميمه من الدليل المقتضي للنجاسة ، ولا حاجة إلى الإعادة والتكرار ، كما تبيّن اندفاع وجهه الثاني أيضا بما عرفته بما لا مزيد [عليه] (١) من عدم المنافاة بين حصول الطهر المسبّب عن الغسل وانفعال الماء الّذي يستعمل في ذلك بسبب الملاقاة ، فإذا دلّ الدليل عليهما معا يجب القول بهما كذلك إلى أن يقوم الدليل بخلافه ، وسيلحقك زيادة توضيح في ذلك عند دفع حجج القول بالطهارة مطلقا ، مضافا إلى ما مرّ.

وأمّا رابعها : فالقول بالطهارة مطلقا ، ويلزمه أن يكون حكمها حكم المحلّ بعد الغسل ، من غير فرق في ذلك بين الغسلة الاولى والثانية ، ولا بين الثوب والآنية ، ولا بين الورودين ، بل مقتضى مقابلة هذا القول في كلام الشهيد في الدروس (٢) حسبما تقدّم ذكره للقول بالفرق بين الورودين ، أن لا يفرّق بين ورود الماء على المتنجّس وعكسه.

ومن هنا يتّجه أن يقال : بعدم وجود قائل به فيما بين أصحابنا ، وقد تقدّم في عبارة الشيخ في المبسوط (٣) إشعار بذلك ، فما في المدارك (٤) من اختصاص القول بالطهارة بصورة ورود الماء ممّا لم يعرف وجهه ، كما أنّ ما في الحدائق عن والده ـ في دفع ما ادّعاه في المدارك ـ من أنّه : « لا يخفى ما فيه ، لأنّ من جملة القائلين بطهارة الغسالة من قال بعدم نجاسة القليل مطلقا بالملاقاة ، ومن المعلوم أنّه لا يظهر للشرط وجه » (٥) ممّا لا وجه له ، فإنّ القول في المسألة إنّما يؤخذ من المتنازعين فيها ، والعماني مع من وافقه خارج عن أصل هذا النزاع ، لابتنائه على القول بنجاسة القليل بالملاقاة ولو في الجملة.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٣) المبسوط ١ : ٩٢.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٢٢.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٤.


وأضعف منه ما عن كشف الالتباس ـ عند نقل هذا القول ـ « من أنّ عليه فتوى شيوخ المذهب ، كالسيّد والشيخ وابني إدريس وحمزة وأبي عقيل » (١).

فإنّ السيّد له قول آخر في مقابلة هذا القول ، والشيخ غير خبير بإطلاق هذا القول ، وإن حكم عليه بالقوّة فيما سبق من عبارة المبسوط (٢) ، بناء على التوجيه المتقدّم في منع توهّم اختياره ، وابن إدريس له كلام محكيّ عن السرائر يأبى عن ذلك ، حيث قال : « وإن أصابه من الماء الّذي يغسل به الاناء ، فإن كان من الغسلة الاولى يجب غسله ، وإن كان من الغسلة الثانية أو الثالثة لا يجب غسله ، وقال بعض أصحابنا : لا يجب غسله سواء كان من الغسلة الاولى والثانية ، وما اخترناه هو المذهب الخ » (٣). فإنّ هذا الكلام صريح في موافقته أهل القول بالفرق بين الغسلتين.

نعم ، كلامه هذا مذيّل بما ينافي ظاهره اختياره هذا المذهب ، فإنّه بعد ما ذكر هذا الكلام أخذ بنقل عبارة السيّد المتقدّمة في مسألة الفرق بين الورودين في انفعال القليل ، ثمّ قال ـ بعد نقل هذه العبارة ـ : « قال محمّد بن إدريس : وما قوّى في نفس السيّد صحيح ، مستمرّ على أصل المذهب ، وفتاوي الأصحاب به » (٤) انتهى.

فإنّ ذلك يقضي باختياره القول الآتي في الفرق بين الورودين ، في مسألة الغسالة الّذي جعله الشهيد وغيره قولا آخر مقابلا للأقوال الاخر.

ولكن يمكن دفع المنافاة بأنّه إنّما تصدّى بنقل عبارة السيّد في مسألة انفعال القليل تنبيها على موافقته للسيّد في تلك المسألة ، ليكون نتيجته التنبيه على أنّه في مسألة الغسالة أيضا يعتبر ـ مع ما تقدّم ـ ورود الماء على المحلّ ، فلازم الجمع بين صدر كلامه وذيله أنّه يقول بنجاسة الغسالة في الغسلة الاولى ، وطهارتها في الغسلة الثانية بشرط ورود الماء على المحلّ ، وأمّا مع العكس فلازمه القول بالنجاسة مطلقا ، وكيف كان فهو ليس قائلا في الغسالة بالطهارة مطلقا.

وأمّا ابن حمزة ، فالمنقول عنه في الذكرى (٥) ، من أنّه والبصروي سويّا بينه وبين

__________________

(١) كشف الالتباس ١ : ١٠٧ وحكى عنه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة : ١ : ٣١٦.

(٢) المبسوط ١ : ٩٢.

(٣ و ٤) السرائر ١ : ١٨٠ و ١٨١.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٤ ، الوسيلة (ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤١٤).


رافع الأكبر ، لا يساعد على أنّه اختار الطهارة ، لما تقدّم الإشارة إليه من أنّ التسوية بينهما لا تقتضي إلّا المشاركة في أصل الحكم دون جهته ، فلعلّه في الأوّل من جهة وجود المانع وفي الثاني من جهة فقد المقتضي ، ونظير هذا التعبير شائع في كلام الفقهاء وأخبار الأئمّة ـ سلام الله عليهم ـ كما لا يخفى على المتتبّع.

ومن هنا ظهر ضعف ما في الحدائق (١) من استظهار اختياره عن ابن بابويه في الفقيه ، حيث ساوى بينه وبين رافع الحدث الأكبر ، وهو طاهر إجماعا ، كما سبق الإشارة إليه أيضا.

نعم ، عن ابن حمزة كلام آخر ربّما يومئ إلى اختياره ، فإنّه ـ على ما في المحكيّ عنه في الوسيلة ـ جعل الماء أوّلا عشرة أقسام ، وعدّ منها المستعمل ، ومنها الماء النجس ، ثمّ قال : « إنّ المستعمل ثلاثة أقسام : المستعمل في الوضوء ، والمستعمل في غسل الجنابة والحيض ونحوهما ، والمستعمل في إزالة النجاسة ، وقال : إنّ الأوّل يجوز استعماله ثانيا في رفع الحدث وإزالة الخبث ، والأخيران لا يجوز ذلك فيهما إلّا أن يبلغا كرّا فصاعدا بالماء الطاهر » (٢).

ثمّ ذكر في حكم الماء النجس : « أنّه لا يجوز استعماله بحال إلّا حال الضرورة للشرب » (٣) فإنّ قرينة المقابلة بين المستعمل والماء النجس تقضي بأنّ المستعمل بأقسامه الثلاث ليس بنجس ، وإلّا لم يكن لذكره مع الماء النجس متقابلين وجه.

ولكن هذه الدلالة ربّما تتوهّن بما اعتبره في تجويز استعمال الأخيرين في رفع الحدث وإزالة الخبث من بلوغهما كرّا بالماء الطاهر ، فإنّ ذلك يرجع إلى القول بطهارة القليل النجس بإتمامه كرّا ـ كما عليه جماعة ـ وقضيّة ذلك اختياره القول بالنجاسة ، حتّى في المستعمل في رفع الحدث الأكبر ، وإن ادّعى الإجماع على خلافه في كلام جماعة.

وممّا يؤيّد أنّه يقول فيه أيضا بالنجاسة ، ما نسب إليه من أنّه حكم في الماء القليل بنجاسته بارتماس الجنب فيه ، بعد ما حكم بنجاسته بوقوع النجاسة فيه ، ولا ينافيه دعوى الإجماع على خلافه ، لأنّ ذلك ليس بعادم النظير في المسائل الفقهيّة.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٣.

(٢) الوسيلة : (سلسلة الينابيع الفقهية ٢ : ٤١٤).

(٣) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهية ٢ : ٤١٦).


ومن هذا القبيل أنّه قال بعدم جواز إزالة الخبث بذلك الماء ، مع دعوى العلّامة وولده ـ على ما حكي عنهما ـ على الجواز.

فالحقّ : أنّ كلامه في تلك المسألة متشابه ، ويناقض بعضه بعضا ، فلا يظهر منه اختياره القول بالطهارة هنا ، إن لم نقل بظهوره في اختيار النجاسة كما عرفت ، ولا ينافيه ما ذكر من قرينة المقابلة ، فلعلّ الداعي إلى جعلهما متقابلين كون النجاسة في الماء النجس جزءا للعنوان ، إذ مع فرض ارتفاعها بعلاج كإتمامه كرّا مثلا يخرج عن كونه الماء النجس ، بخلاف المستعمل في إزالة الخبث ، فإنّ النجاسة فيه ليس جزءا للعنوان ، فلذا فرض فيه ارتفاع الحكم المذكور من عدم جواز استعماله ثانيا ببلوغه كرّا.

وغرضه بذلك الفرض التنبيه على أنّ المانع عن الاستعمال فيه ليس هو حيثيّة كونه مستعملا في إزالة الخبث ، وهو معنون في مقابلة الماء النجس من هذه الحيثيّة ، بل المانع هو النجاسة ، فإذا ارتفع بالعلاج جاز فيه الاستعمال مع بقائه على عنوان المقتضي لجعله مقابلا وعدّه قسما برأسه ، بخلاف الماء النجس المقابل له ، فإنّه إذا ارتفع عنه النجاسة بالعلاج خرج عن عنوانه بالمرّة ، فإنّه بعد الطهارة لا يكون ماء نجسا.

وأمّا التشريك بينه وبين رافع الحدث الأكبر في المنع عن الاستعمال ـ بعد بنائه فيه أيضا على النجاسة ـ لا حكم له في اقتضاء اختياره الطهارة في رافع الخبث ، وكذلك على فرض عدم بنائه فيه على النجاسة وفاقا للمعظم ، لما سبق من أنّ التشريك في الحكم لا يقتضي التشريك في جهة الحكم.

ومن جميع ما ذكر يظهر ضعف ما عن اللوامع (١) أيضا من نسبة القول بالطهارة مطلقا إلى المرتضى وجلّ الطبقة الاولى ، كما يظهر عدم دلالة ما عن جامع المقاصد من : « أنّ الأشهر بين المتقدّمين أنّه غير رافع كالمستعمل في الكبرى » (٢) على دعواه الشهرة على الطهارة.

فنتيجة الكلام أنّه لم يثبت في أصحابنا قول صريح ولا ظاهر فيه.

نعم ، ربّما يحكى عن الأمين الأسترآبادي كلام هو صريح في الميل إلى الطهارة

__________________

(١) حكى عنه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة : ١ : ٣٢٦ ؛ لوامع الأحكام (مخطوط) : ٨٩.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٨.


مطلقا (١) ، وحكي عن ظاهر الشهيد في الذكرى أيضا ـ كما في المدارك (٢) ـ واختاره بعض مشايخنا قدس‌سره (٣) مع اشتراطه ورود الماء ، فهو في الحقيقة اختار القول الآتي في المسألة وهو خامس الأقوال.

وكيف كان فالقول الرابع هو القول بالطهارة مطلقا من غير فرق حتّى بين الورودين ، وأمّا أدلّة هذا القول.

فمنها : ما أشار إليه في المدارك (٤) من الأصل السالم عمّا يصلح للمعارضة ، نظرا إلى أنّ الروايات المتضمّنة لنجاسة القليل بالملاقاة لا تتناول ذلك صريحا ولا ظاهرا ، وتخرج الروايات الدالّة على طهارة ماء الاستنجاء شاهدا ، وبملاحظة جميع ما مرّ يظهر ضعف ذلك بل كونه في غاية الضعف.

ومنها : أنّه لو انفعل لم يطهّر المحلّ ، والتالي باطل إجماعا فكذا المقدّم ، وهذا الوجه وان لم يصرّح بالاستدلال به في هذا المقام ، وإنّما صرّح به في كلام السيّد في مسألة انفعال القليل بالقياس إلى الفرق بين الورودين ، ولكن يمكن إجراؤه في المقام لعموم مفاده ، بل جريانه ثمّة مبنيّ على نهوضه دليلا هنا ، كما لا يخفى.

ولكن لقائل أن يقول : إنّه لو تمّ لم يكن قاضيا بالطهارة إلّا في الغسلة الثانية المزيلة لنجاسة المحلّ ، لمنع بطلان التالي إذا قرّر لإثبات الطهارة في الغسلة الاولى أيضا ، فيكون أخصّ من المدّعى ، ولذا عدل عنه الاستاذ مدّ ظلّه في شرح الشرائع (٥) ، فقرّره على وجه يعمّ الغسلتين ، وهو أنّه لو كان نجسا لم يؤثّر في التطهير.

والجواب : بمطالبة دليل الملازمة ، وهو لا يخلو إمّا قاعدة « اشتراط طهارة الماء في إزالة النجاسة » ، أو قاعدة « أنّ المتنجّس لا يطهّر » وهي أخصّ من الاولى ، أو قاعدة « تنجّس ملاقي النجس » ، ولا سبيل إلى شي‌ء منها ، سواء استند فيها إلى الإجماعات المنقولة ، أو إلى الإجماع المحصّل ، أو إلى تتبّع الأخبار الجزئيّة الواردة في الموارد الخاصّة من أبواب الطهارات.

__________________

(١) حكاه عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٢٢ ـ ذكرى الشيعة ١ : ٨٥ حيث اعترف بأنّه لا دليل على النجاسة سوى الاحتياط.

(٣) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٨.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٢٢.

(٥) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٣٢٧.


وأمّا على الاوليين بجميع تقاديرهما الثلاث فلما مرّ فيهما من الكلام مستوفى في دفع حجج القول السابق بالفرق بين الغسلتين ، فراجع.

ومرجعه إلى منع انعقاد هاتين القاعدتين على تقدير ، ومنع منافاتهما للانفعال على آخر ، إذ لو اريد بالطهارة المشترطة طهارة الماء قبل ملاقاته للمحلّ وحين ملاقاته له ، وبالتنجّس المانع عن التطهير تنجّس الماء أعمّ ممّا حصل من نجاسة المحلّ وما حصل من غيرها سابقا أو لاحقا ، فانعقاد أصل القاعدة ممنوع ، وسند المنع ما تقدّم ، فيبقى عموم قاعدة الانفعال سليما عن المعارض.

وإن عورض بمنع العموم في تلك القاعدة أيضا رجع البحث إلى الدليل السابق ، وقد استوفينا فيه الكلام أيضا فيما سبق.

ولو اريد بهما الطهارة والتنجّس في الجملة ، ولو بالنسبة إلى ما قبل الملاقاة ، أو حينها إذا حصل التنجّس من نجاسة خارجة عن نجاسة المحلّ ، فأصل القاعدة مسلّم ولا إشكال فيها أصلا ، ولكنّها لا تنافي عموم قاعدة الانفعال ، ولو قيل بمنع عموم تلك القاعدة أيضا ليلزم منه صحّة المراجعة إلى الأصل والأخذ بموجبه عاد الكلام السابق.

ومن هنا يتّضح أنّ ما في كلام بعض مشايخنا العظام قدس‌سره ـ بعد ذكر القاعدتين وإبداء المعارضة بينهما ، ـ من : « أنّ دعوى : أنّه لم يعلم كونها ـ يعني قاعدة أنّ المتنجّس لا يطهّر ـ شاملة لمثل المقام ليست بأولى من دعوى : أنّه لم يعلم شمول القاعدة الاولى ـ يعني قاعدة الانفعال ـ له » (١) ليس في محلّه.

والعجب أنّه أقعد القاعدة المذكورة رجما بالغيب ، وأظهر من نفسه تسليم قاعدة الانفعال ، لكن لا إذا استند فيها إلى عموم المفهوم لأنّه غير مسلّم في نظره ، بل إذا استند فيها إلى ما قيل : من أنّ المتتبّع لكثير من الأخبار ـ مضافا إلى حكاية الإجماعات هناك على النجاسة ـ يستفيد قاعدة وهي : « أنّ الماء القليل ينفعل بالملاقاة » ، فتوهّم المعارضة بينهما ثمّ تحرّى في تحصيل المرجّحات للقاعدة الاولى ، فلم يأت إلّا بامور واهية لا يكاد يخفى وهنها على الخبير المنصف ، وسنشير إليها مع ما يوهنها.

وأمّا على الأخيرة : فلأنّها تعضدنا ولا تنافينا كما لا يخفى ، ومع ذلك نقول ما المراد

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٢٨.


بتنجّس ملاقي النجس أو المتنجّس؟ فإن اريد أنّ الماء إذا فرض انفعاله بنجاسة المحلّ كان المحلّ ملاقيا للمتنجّس فيتنجّس به ، لا أنّه يطهّر به.

ففيه : أنّه لا ينافي طهره بعد تحقّق ما هو سبب له شرعا ، وهو الغسل الّذي لا يتأتّى إلّا بإخراج ذلك الماء المتنجّس عنه بالعصر العرفي أو الإفراغ ، على ما يستفاد من الأدلّة من أنّه هو المطهّر حقيقة ، والماء شرط مقوّم له ، كما أنّ طهارته بالمعنى المتقدّم شرط له.

وإن اريد به أنّ طهره به إنّما يكون بما إذا تطهّر حال الملاقاة ، فإذا فرض أنّ الماء يتنجّس به فلا يتأتّى فيه ذلك فلا يطهّر.

وفيه : أنّ اعتبار ذلك في التطهير ممّا لم يقل به أحد ، ولا أنّه ممّا قام عليه دليل بل الدليل على خلافه ، كيف ولو صحّ ذلك لقضى بعدم اعتبار التعدّد في التطهير عن بعض النجاسات ، بل وبعدم اعتبار العصر في الثياب ، ولا الإفراغ في الأواني ، وكلّ ذا كما ترى ، مع أنّ الفريقين من أهل القول بالطهارة وأصحاب القول بالنجاسة متسالمان على أنّه لا تطهّر ما لم يستكمل الغسل بآدابه وشرائطه.

وقد يعترض أيضا : بأنّ قاعدة نجاسة الملاقي للنجس ممّا لا ريب في شمولها لكلّ من الماء والمحلّ ، إذ اللازم من نجاسة الماء بالمحلّ نجاسة المحلّ بالماء لحصول الملاقاة من الطرفين ، فالتزام عدم نجاسة الماء ـ وإلّا لنجس المحلّ ولم يطهّره ـ ليس بأولى من التزام عدم نجاسة المحلّ به ، بل الأوّل أبعد ، لأنّ ما تأثّر من الشي‌ء لا يؤثّر فيه ذلك الأثر ، نعم لا يبعد أن يؤثّر فيه خلافه بنقل ما فيه إلى نفسه.

ويمكن دفعه : بأنّ المتأثّر عن الشي‌ء لا يمكن كونه علّة محدثة لذلك الأثر في ذلك الشي‌ء ، فلم لا يجوز أن يكون علّة مبقية لذلك الأثر فيه؟ إذ ليس معنى تأثّره عنه أنّه ينتقل إليه ذلك الأثر عنه بالمرّة ، بل الّذي ينبغي أن يحمل عليه هذه القاعدة في تتميم الاستدلال إنّما هو إرادة البقاء على التنجّس السابق ، على فرض تنجّس الماء به ، فإنّ ملاقي المتنجّس إمّا أن يحدث فيه التنجّس من جهته إذا كانت الملاقاة مسبوقة بالطهارة ، أو أن يستمرّ فيه التنجّس من جهته إذا كانت الملاقاة مسبوقة بالنجاسة ، فإنّ أصحاب القول بطهارة الغسالة وكذلك أهل القول بنجاستها لا يدّعون أنّ المحلّ يطهر قبل انفصالها عنه ، بل الظاهر أنّه خلاف الإجماع ، بل يشبه بأن لا يكون متعقّلا على


القول بالنجاسة ، بعد فرض استيلاء الماء المتنجّس عليه ونفوذه في جميع أجزائه وأعماقه ، ودعوى : كون ذلك مركوزا في أذهان العرف حيث إنّه يفهمون من أدلّة غسل النجاسة بالماء انتقالها عن المحلّ إليه مع طهر المحلّ غير مسموعة ، وعلى فرض صحّة هذه النسبة فلا عبرة بما عند العرف جزما إذا خالف حكم العقل.

نعم ، يمكن القول بأنّ النجاسة حينئذ وإن كانت تنتسب إلى المحلّ أيضا ولكنّه بالواسطة ، فإنّها قبل ملاقاة الماء للمحلّ كانت قائمة به منتسبة إليه أوّلا وبالذات ، وإذا لاقاه الماء انتقلت النجاسة إليه وصارت قائمة به منتسبة إليه أوّلا وبالذات وإلى المحلّ ثانيا وبالعرض ، بواسطة استيلاء ذلك الماء عليه ونفوذه في جميع أجزائه وأعماقه ، فمعنى طهره قبل الانفصال أنّ النجاسة لا تنتسب إليه أصالة ، لا أنّه طاهر مطلقا ، ولكنّه مبنيّ على ثبوت أنّها تنتقل عنه إلى الماء الملاقي له بالمرّة ، وهو في حيّز المنع ، ولا يكفي فيه مجرّد الاحتمال ، ومع قيام احتمال الخلاف كان عروض النجاسة للماء والانتقال إليه مشكوكا فيه مع تيقّن ثبوته للمحلّ قبل الملاقاة ، فيخرج الأصل الجاري من الجانبين ـ أعني أصالة بقاء النجاسة في المحلّ كما كانت وأصالة عدم عروضها للماء ـ مرجّحا لالتزام عدم نجاسة الماء ، وإلّا لنجّس المحلّ ولم يطهّره.

ولكن يرد عليه حينئذ : أنّ طهارة الماء حينئذ ليس من جهة أنّها لولاها لما طهر المحلّ ، إذ لا منافاة بين نجاسته وطهارة الماء بتحقّق سببها الشرعي وهو الغسل ، بل من جهة الأصل ، ومع ذلك فيقع الكلام في صحّة الاستناد إلى هذا الأصل وجريانه ، ولعلّه في محلّ المنع ، إذ لا مجال له بعد تحكيم قاعدة : « أنّ الملاقي للنجس يتنجّس » المقتضية لتنجّس الماء.

فمن هنا تبيّن أنّ هذه القاعدة لنا لا علينا ، فيبقى دعوى الملازمة في أصل الحجّة ـ على تقدير الاستناد فيها إلى تلك القاعدة ـ بلا دليل ، لأنّا معاشر القول بنجاسة هذا الماء لا ندّعي أنّ المحلّ لا بدّ وأن يطهّر حين ملاقاة الماء ، وأنّ طهره بعد الانفصال منوط بطهره حين الاتّصال ، بل ولا يقول به أحد ، بل ندّعي عدم المنافاة بين نجاسة الماء ـ بل ونجاسة المحلّ ما دام الماء متّصلا به ـ وصيرورته طاهر بعد الانفصال ، لأنّ لكلّ سببا ، وسبب تنجّس الماء المستلزم لتنجّس المحلّ باتّصاله به هو الملاقاة ـ بناء


على عموم قاعدة الانفعال ـ وسبب طهارة المحلّ بعد الانفصال هو تحقّق الغسل واستكماله بالانفصال ، فيجب إعمال السببين لإمكانه وعدم مانع عنه.

ثمّ إنّك قد عرفت أنّ بعض مشايخنا العظام قدس‌سره (١) بعد ما توهّم المعارضة بين قاعدة انفعال القليل وقاعدة أنّ المتنجّس لا يطهّر ، بالغ في ترجيح تلك القاعدة على قاعدة الانفعال ، وذكر في ذلك امورا كثيرة ، ليس شي‌ء منها بشي‌ء.

منها : ما أشار إليه (٢) في صدر البحث ، من أنّ الحكم بنجاسة الغسالة مطلقا فيه من العسر والحرج ما لا يخفى.

وفيه : أنّ هذا كلام لا يساعدنا الوجدان على تعقّله ، فإنّا نجد المتشرّعة متحرّزين في جميع الأعصار والأمصار عن الغسالة بجميع لوازمها العادية من دون أثر للعسر والحرج فيه ، ومع ذلك فهذا العسر إن كان بالنسبة إلى البلّة الباقية في المحلّ فالتزام الحكم بطهارتها لئلّا يلزم العسر والحرج ليس بأبعد من التزام طهارة الغسالة رأسا لئلّا يلزم العسر والحرج ، مع أنّ في الأوّل جمعا بين القاعدتين : قاعدة الانفعال وقاعدة طهارة المتنجّس بالغسل المستلزمة لطهارة البلّة الباقية ، بخلاف الثاني لاستلزامه طرح القاعدة الاولى ، وإن كان بالنسبة إلى اليد الغاسلة وغيرها من آلات الغسل فهي ممّا لا بدّ من تنجّسها على كلّ حال ، لملاقاتها المتنجّس أو النجس برطوبة ، وإلّا لزم طرح قاعدة اخرى وهي : « أنّ ملاقي النجس أو المتنجّس برطوبة يتنجّس » ، ومع ذلك أيّ عسر من جهته بعد جريان طريق التطهير وهو الغسل بالقياس إليها أيضا؟ مع قوّة احتمال جريان قاعدة التبعيّة هنا ، بل يمكن عليه دعوى السيرة وعمل المتشرّعة.

وهنا احتمالات اخر لتقريب دعوى لزوم العسر والحرج لا ينبغي الإطناب بذكرها ، لخلوّه عن الجدوى ، مع أنّ أقصى ما يترتّب على العسر والحرج المنفيّين في الشريعة إنّما هو رفع التكليف ، وهو وجوب التحرّز لا رفع النجاسة ، فلا ملازمة أيضا.

ومنها : عدم وجود أثر لها ـ أي لنجاسة الغسالة هنا ـ فيما وصل إلينا من الأخبار بالخصوص مع عموم البلوى والابتلاء بها ، واشتمالها على كثير من فروعها الدقيقة مثل القطرات ويد المباشر ونحوهما ، ولذلك قال في الذكرى : « والعجب خلوّ كلام أكثر

__________________

(١ و ٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٢٨ و ٣١٧.


القدماء عن الغسالة مع عموم البلوى بها » (١).

وفيه : أنّ مطالبة الأثر في نجاسة الغسالة مع قيام قاعدة انفعال القليل كما ترى ، فإنّها على الفرض قاعدة كلّيّة تكفي في معرفة جزئيّاتها ما لم تخرج عنها ، وقد قرّرها الشارع ومعها لا معنى لمطالبة الدليل في خصوص كلّ مورد من مواردها ، ومن هنا اتّجه عليه إيراد آخر بالقلب ، فإنّه لو كانت الغسالة طاهرة مع اقتضاء قاعدة الانفعال نجاستها لوجب ورود نصّ فيها ، كما ورد في طهارة الاستنجاء ونحوه ، فخلوّ ما وصل إلينا من الأخبار عن مثل هذا النصّ دليل محكّم على العدم ، مع المنع عن خلوّه عن أثر النجاسة ، فإنّ رواية العيص (٢) ـ المتقدّمة ـ كافية في ذلك ، والمناقشة فيها سندا أو دلالة مندفعة بما مرّ ، ثمّ تخرج رواية عبد الله بن سنان (٣) ـ المتقدّمة ـ أيضا شاهدة.

ومنها : تأيّد هذه القاعدة بأصل البراءة ، وأصل الإباحة ، وأصل الطهارة واستصحابها.

وفيه : أنّ قاعدة الانفعال أيضا متأيّدة بالإجماعات المنقولة ـ حسبما تقدّم إليها الإشارة ـ والشهرة محقّقة ومحكيّة ، وعدم قائل بالطهارة صريحا من علمائنا السلف أو ندرة ، والتأييد بهذه الامور لا يقصر عن التأييد بالاصول بل أولى ، كما لا يخفى.

ومنها : نسبة ابن إدريس ما قاله المرتضى ـ في كلامه المتقدّم ـ إلى الاستمرار على أصل المذهب ، وفتاوي الأصحاب به.

وفيه : مع ما عرفت في بحث الورودين من المناقشة في تلك الدعوى ـ حيث لا موافق له فيها ، بل التتبّع في كلمات الفقهاء وملاحظة سيرة الناس يقضي ببطلانها ـ أنّها معارضة بدعوى الإجماعات المتقدّمة ، والعجب أنّه يغمض عن هذه الإجماعات ويتشبّث بما فيه عندهم ألف كلام.

ومنها : أنّ هذه لم يعثر على تخلّفها بالنسبة إلى المياه أبدا ، بخلاف الاخرى فإنّها قد تخلّفت في بعض وهو محلّ وفاق ، كالاستنجاء وماء المطر والجاري ، وآخر محلّ خلاف كالحمّام ونحوه.

وفيه أوّلا : أنّه لو اكتفى في دعوى تخلّف قاعدة الانفعال بما هو محلّ خلاف فمثله

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٤.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ١٤ ، الذكرى ١ : ٨٤.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ١٣ ، التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٠.


موجود في القاعدة الاخرى بالنسبة إلى المياه ، كما في مسألة تتميم القليل النجس كرّا بنجس ، على ما نسب إلى ظاهر جماعة يدّعون الطهارة ، واستنادها إلى اجتماعهما.

وثانيا : أنّ موضوع القضيّة في قاعدة : « أنّ المتنجّس لا يطهّر » إن اعتبر جنس المتنجّس من دون تقييده بالماء ، فتخلّفها بالنسبة إلى حجر الاستنجاء الّذي هو محلّ وفاق ، وإلى الأرض الّتي تطهر باطن القدم وغيره الّذي هو محلّ خلاف ، يكفي في إبداء المعارضة.

وإن اعتبر مقيّدا بالماء ، فمع أنّه لا داعي إليه ـ حيث لا قيد له في كلامهم فينبغي أن تلاحظ مطلقة ـ نحن نقول بموجب القاعدة إن اريد بالتنجّس ما يحصل من غير نجاسة المحلّ ، وإلّا فأصل القاعدة غير مسلّمة ، مع أنّ التخلّف الخلافي لو صلح موهنا للقاعدة لكان محلّ البحث منه ، على أنّه لا يسلّم وجود التخلّف الوفاقي في الطرف المقابل ، لأنّه في كلّ من الموارد المذكورة موضع خلاف كما لا يخفى على المتأمّل.

ومنها : أنّ قاعدة : « المتنجّس ينجّس » القاضية بتنجّس القليل به في المقام استنباطيّة ، ولم يعلم شمولها لمثل [المقام] (١) مع تخلّفها عندهم هنا ، فإنّ الماء عندهم ينجّس ولا ينجّس الثوب مثلا به ، فإن كان لم يعلم شمول قاعدة : « أنّ المتنجّس ينجّس » للمقام حتّى ينجّس الماء للثوب ، فكذلك لم يعلم شمولها له حتّى ينجّس الثوب الماء.

وفيه : إنّا لا نقول بأنّ الماء بعد تنجّسه بالثوب ينجّس الثوب ، ولا أنّ الثوب طاهر ما دام هو فيه ، بل نقول : إنّه باق على تنجّسه حتّى يستكمل المطهّر والسبب الشرعي للتطهّر وهو الغسل ، فإنّا نقول بموجب قاعدة : « أنّ المتنجّس ينجّس » فيما إذا كان الملاقي له قابلا للتنجّس وتجدّده بعدم قيام المانع عنه ، وإنّما لا نقول في الثوب بتنجّسه بالماء المشمّس لأنّه باق بعد على نجاسته ، فهو ليس قابلا للتنجّس حتّى نقول فيه بموجب القاعدة.

ومنها : عسر التحرّز في كثير من المقامات بالنسبة إلى جريانها إلى غير محلّ النجاسة ، وبالنسبة إلى مقدار التقاطر ومقدار التخلّف ونحو ذلك ، والقول بأنّ المدار في ذلك على العرف ، لا أثر له في الأدلّة الشرعيّة ، ولو تأمّل الناظر في عمل القائلين بالنجاسة وكيفيّة عدم تحرّزهم عنها ، لقطع بأنّ عملهم يخالف ما يفتون به » الخ (٢).

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الانصارى رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣١.


وفيه : أنّ مبنى عمل القائلين بالنجاسة في الموارد المذكورة إنّما هو على المصاديق العرفيّة ، ومع كونه ميزانا في المقام ارتفع الإشكال بحذافيره ، ودعوى : أنّ اعتبار العرف ممّا لا أثر له ، من أبعد الأشياء الّتي تذكر في المقام ، كيف وأنّ مسمّيات الموضوعات ممّا لا يعرف إلّا بمراجعة العرف ، ونظيره في المسائل الفرعيّة فوق حدّ الإحصاء ، ألا ترى أنّه في مسألة الخليطين بالنسبة إلى غسل الميّت يقتصر فيهما على المسمّى العرفي ، وفي مسألة السجود على الأرض مثلا يعتبر ما يصدق عليه الاسم عرفا ، وكذلك الكلام في الطهورين وغيرهما.

وبالجملة : المتتبّع في الشرعيّات يقطع بأنّ المناط في موضوعات الأحكام إذا كانت لغويّة إنّما هو الصدق العرفي ، فكذا المقام ومعه لا عسر ولا حرج ، وعلى فرض تسليمهما بالقياس إلى بعض ما ذكر ، فهما إنّما يسقطان التكليف دون الوضع ، فلا يجب التحرّز لا أنّه لا نجاسة.

ومنها : جملة من الروايات الجزئيّة الّتي أخذها بعضهم دليلا من جانب القائلين بالطهارة ، وستسمعها مع ما يدفعها.

وقد يجاب عن أصل الحجّة : بإبداء المعارضة بمثلها ، فيقال : بأنّه لو كانت الغسالة طاهرة لجاز التطهّر بها من الحدث ، لأنّ التفكيك بينهما يوجب التقييد في إطلاق ما دلّ على جواز رفع الحدث بالماء الطاهر ، خرج ماء الاستنجاء عنه كما خرج أحجار الاستنجاء عن الحجّة المذكورة.

وحاصل المعارضة : أنّ هذا الماء قد جمع بين ما هو لازم للطهارة ـ إلّا ما خرج ـ وهو تطهير ، وما هو للنجاسة ـ إلّا ما خرج ـ وهو عدم جواز رفع الحدث به ثانيا ، فأدلّة الملازمتين متعارضة ، وأقصى ما يلزم من هذه المعارضة التوقّف ، أو الحكم بالتساقط ، فيبقى عمومات انفعال القليل سليمة عن المعارض.

إلّا أن يقال ـ بعد تسليم عموم أدلّة الملازمة الاولى ، أعني ما دلّ على الملازمة بين طهارة الماء والتطهير به ـ : كما أنّها معارضة بأدلّة الملازمة الثانية ـ أعني الإطلاقات المذكورة القاضية بالملازمة فيما بين عدم جواز رفع الحدث بالماء ونجاسته ـ كذلك معارضة بأدلّة انفعال القليل ، والتعارض بين الكلّ إنّما هو بالعموم من وجه ، فيجب


التوقّف والرجوع إلى أصالة عدم الانفعال.

لكن يمكن الذبّ عنه : بأنّ ارتكاب التقييد في دليل واحد وهو دليل الملازمة الاولى ـ خصوصا مثل هذا الإطلاق الّذي لا نسلّمه إلّا من باب التنزّل والمماشاة ـ أولى من ارتكابه في الأدلّة المتعدّدة ، وهي أدلّة الملازمة الثانية مع أدلّة انفعال القليل ، فلا داعي إلى التوقّف والرجوع إلى الأصل ، لأنّهما بعد العجز عن الترجيح على حسب مقتضى القواعد العرفيّة المعمولة في الأدلّة اللفظيّة ، ولا عجز هنا.

ومنها : طائفة من الأخبار الّتي أوردها شيخنا الاستاذ دام ظلّه (١) بزعم إمكان الاستدلال بها على الطهارة ، بل أخذها بعض آخر من مشايخنا في الجواهر (٢) مؤيّدة لما اعتمد عليه من قاعدة « أنّ المتنجّس لا يطهّر » ، بل جعلها في الحدائق (٣) دالّة على الطهارة ، ولذا توقّف في المسألة بدعوى : معارضة تلك الأخبار لروايات اخر دالّة على النجاسة ، وهي روايات :

منها : رواية الأحول المتقدّمة في بحث الاستنجاء النافية للبأس عنه ، المعلّلة بأكثريّة الماء في مقابلة القذر ، بقوله عليه‌السلام : « أو تدري لم صار لا بأس به؟ قلت : لا والله ، قال : لأنّ الماء أكثر من القذر » (٤) فإنّ العلّة بعمومها تشمل المقام.

وقد يقرّر : بأن ليس المراد بالأكثريّة مجرّد الكمّ ، بل المراد استهلاك القذر في الماء الّذي يورده عليه ، فدلّ على أنّ كلّ ماء ورد على قذر فاستهلكه بحيث لم يظهر فيه أوصافه كان طاهرا.

وأجاب عنه الاستاذ (٥) بما يرجع محصّله : إلى أنّ تعرّض الإمام عليه‌السلام بعد نفيه البأس عن الماء المفروض في السؤال للتعليل بالعلّة المذكورة ، يدلّ على أنّ الحكم الوارد في الرواية إنّما ورد على خلاف القاعدة ، لأنّه تعرّض لذلك بعد أن سكت ، فكأنّه فهم من حال السائل في زمان سكوته أنّه استبعد ذلك الحكم ، لما ركز في ذهنه من أنّ مقتضى

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٠.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٦٢١.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٦.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٢ ب ١٣ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٢ ، علل الشرائع ١ : ٢٨٧.

(٥) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣١.


القاعدة خلاف ذلك ، فقال : « أوتدري لم صار لا بأس به » دفعا للاستبعاد ، مريدا به أنّ هذا الحكم ما جعل على خلاف القاعدة المركوزة في ذهنك ، والّذي يشعر بذلك أنّه عبّر عن جعل هذا الحكم بلفظ « صار » الّذي يدلّ على الانتقال ، ومعناه أنّ هذا الحكم خارج عن مقتضى [القاعدة] ، والعلّة في خروجه أنّ الماء أكثر من القذر ، ومعه لا يمكن التمسّك بعموم تلك العلّة ، لأنّ الحكم الخارج على خلاف القاعدة هنا طهارة ماء الاستنجاء ، فحينئذ إمّا أن يريد الإمام عليه‌السلام بقوله : « أو تدري لم صار لا بأس به » بيان أنّ طهارة ماء الاستنجاء من حيث كونه ماء قليلا ملاقيا للنجاسة خارجة عن مقتضى القاعدة ، أو يريد به بيان أنّ طهارة ماء الاستنجاء من حيث كونه غسالة خارجة عن مقتضى القاعدة ، أو يريد به بيان أنّ طهارة ماء الاستنجاء من حيث كونه ماء استنجاء خارجة عن القاعدة.

فان كان الأوّل : يدلّ على عدم انفعال القليل بالملاقاة ، كما توهّم مستدلّا بتلك الرواية.

وإن كان الثاني : يدلّ على طهارة الغسالة كائنة ما كانت.

وإن كان الثالث : يدلّ على طهارة ماء الاستنجاء خاصّة.

ولكن لا سبيل إلى الأوّل إذ لا قاعدة في مقابلة عدم انفعال القليل ، ليكون ذلك على خلافها مخرجا عنها ، بل هو على تقدير ثبوته حكم موافق للقاعدة ، لأنّ القاعدة الأولويّة في الماء الطهارة بخلاف الأخيرين ، إذ يمكن فرض قاعدة في مقابلتهما بكون الحكم فيهما مخالفا لها ، إذ على أوّلها يكون الحكم المذكور مخالفا لقاعدة انفعال القليل بالملاقاة ، وعلى ثانيهما يكون مخالفا لقاعدة نجاسة الغسالة ، والاستدلال بالرواية على طهارة مطلق الغسالة لا يتمّ إلّا على تقدير تعيّن أوّل الاحتمالين في كونه مرادا ، ولا معيّن له في الكلام.

والتشبّث بالعموم ممّا لا معنى له ، لأنّه لو كان لقضى بعدم انفعال القليل مطلقا ، وقد فرضنا عدم إمكان إرادته ، والمفروض أنّ المستدلّ أيضا لا يقول به ، بل هو ممّن يقول بالانفعال ، فصارت العلّة الواردة في الرواية مجملة ، ومعه سقط بها الاستدلال جدّا.

أقول : إنّه مدّ ظلّه وإن أجاد فيما أفاد ، وأتى في منع الدلالة بما لم يأته إلّا ذو القوّة القدسيّة ، وصاحب الملكة القويّة المستقيمة ، إلّا أنّ فيه بعد إشكالا لم يتعرّض هو لدفعه ،


مع إمكان المناقشة فيه : بأنّ العلّة إذا كانت بنفسها عامّة ، فغاية ما يلزم ممّا ذكر في نفي إرادة المعنى إنّما هو ورود تخصيص عليها ، ومن المقرّر أنّ العامّ المخصّص حجّة في الباقي بعد التخصيص ، أي ظاهر في تمام الباقي لا أنّه مردّد بينه وبين البعض منه ، فإنّه لو حملناها على إرادة المعنى الثاني لحملناها على تمام الباقي بعد التخصيص ، ولو حملناها على إرادة المعنى الثالث لحملناها على البعض منه ، وحيث إنّ البعض الآخر لا يعلم له مخرج فيجب الحمل على الجميع ، ومعه يتمّ الاستدلال فيها.

وأمّا الإشكال المشار إليه فهو أنّ اللازم من الحمل على أحد المعنيين الأخيرين دون الأوّل أن تكون الرواية فارقة بين أقسام القليل الملاقي للنجاسة ، مفصّلة فيها بالحكم على البعض بالطهارة دون البعض الآخر ، والعلّة المأخوذة لذلك الحكم هي أكثريّة الماء ، وهذه العلّة كما أنّها تجري بالقياس إلى الاستنجاء ، كذلك تجري بالقياس إلى مطلق الغسالة ، وكما أنّها تجري في الغسالة كذلك تجري في مطلق القليل ، ومن القبيح عقلا المستقبح عرفا تعليل الفرق بين شيئين أو أشياء بعلّة مشتركة بين الجميع ، فإنّ علّة الحكم المخصوص بشي‌ء لا بدّ وأن يكون من خصائص ذلك الشي‌ء وإلّا لما اختصّ الحكم به ، لئلّا يلزم تخلّف المعلول عن العلّة.

فالأولى أن يقال في الجواب ـ بعد البناء على كون التعليل في معرض بيان كون الحكم المذكور على خلاف مقتضى القاعدة ، حسبما ذكر ـ : إنّ المراد بأكثريّة الماء بالقياس إلى القذر ليس هو الأكثريّة الحسيّة ، ليلزم أحد المحذورات ممّا ذكر في نفي احتمال المعنى الأوّل ، وما أشرنا إليه من الإشكال بالقياس إلى المعنى الأخيرين ـ ولو فسّرت بما يوجب الاستهلاك ـ بل المراد بها الأكثريّة المعنويّة ، الّتي يرادفها القوّة العاصمة ، فيكون معنى التعليل : أنّ هذا الماء فيه قوّة تعصمه عن الانفعال بذلك القذر ، وليس في القذر في مقابلته قوّة تزاحم ما في الماء وتترجّح عليه فتوجب انفعاله ، وهذه القوّة ممّا لا يدري أنّها هل هي الحيثيّة الاستنجائيّة اللاحقة بالماء ، أو الحيثيّة المطهّريّة عن الخبث العارضة له ، أو مجرّد كونه ماء ، فتكون العلّة مجملة والقدر المتيقّن منها الحيثيّة الاولى ، لأنّها حاصلة على جميع التقادير في ماء الاستنجاء المسئول عنه ، فلا يظهر من الرواية حكم الماء القليل مطلقا ، ولا حكم مطلق الغسالة ، فسقط الاستدلال


بها على عدم انفعال القليل بالملاقاة ، ولا طهارة الغسالة على الإطلاق ، وإلى هذا المعنى ـ من دعوى إجمال العلّة ـ أشرنا في بحث انفعال القليل.

ومنها : ما ورد في بول الصبيّ من الروايات الآمرة بصبّ الماء عليه (١).

وأجاب عنه الاستاذ دام ظلّه : « بأنّها لا تدلّ على طهارة غسالته المنفصلة ، ونحن لا نقول أيضا بنجاسة ما لا يلزم انفصاله عن المحلّ » (٢) وهو أيضا في غاية الجودة كما لا يخفى.

ومنها : ما ورد في غسالة الحمّام الّتي لا تنفكّ عادة عن الماء المستعمل في إزالة النجاسة،كمرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : « سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس تصيب الثوب؟ قال : لا بأس به » (٣).

وفيه : أنّ غسالة الحمّام بنفسها عنوان آخر ، ولهم فيه كلام آخر يأتي إيراده ، ولعلّ البناء فيها على الطهارة ، فلا مدخل لها في محلّ البحث ، على أنّ الكلام في غسالة الحمّام ـ على ما يأتي بيانه ـ فيما لم يعلم بملاقاة النجاسة ولا بعدم ملاقاته.

ودعوى : أنّ الغالب فيها إزالة الخبث بها ، فيحمل الرواية على الغالب.

يدفعها : المعارضة بأنّ الغالب فيها أيضا ملاقاة نجس العين من أصناف الكفّار ، من المجوسي والنصراني واليهودي ، وغيرها من أنواع النجاسات كالبول والمنيّ ، الحاصل ملاقاتهما من غير جهة الإزالة ليكون من محلّ البحث ، فلو بنى على حملها على الغالب لكان ذلك من جملة المحمول عليه ، ولازمه عدم انفعال القليل رأسا ، ولا يقول به المستدلّ ، ومع قيام الأدلّة على الانفعال فلا بدّ من حمل الرواية على ما لا ينافيها ، وهو مورد النادر. ودعوى : أنّ النادر ما لم يلاق نجس العين ليست بأولى من دعوى : أنّ النادر ما لم يستعمل في إزالة الخبث ، أو ما لم يلاق نجس العين ولم يستعمل في إزالة الخبث.

ومنها : رواية الذّنوب (٤) الواردة في أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بتطهير المسجد من بول الأعرابي

__________________

(١) انظر الوسائل ٣ : ٣٩٧ روايات ب ٣ من أبواب النجاسات.

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٣.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٩ ـ الكافي ٣ : ١٥ / ٤.

(٤) وهي ما رواه أبو هريرة قال : دخل أعرابي المسجد فقال : اللهم ارحمني وارحم محمّدا ولا ترحم معنا أحدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لقد تحجّرت واسعا » قال : فما لبث أن بال في ناحية المسجد ، فكأنّهم عجلوا إليه ، فنهاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أمر بذنوب من ماء فاهريق ، ثمّ قال : ـ


بصبّ ذنوب من الماء عليه ، وعن الخلاف في وجه الاستدلال : « أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يأمر بطهارة المسجد بما يزيده تنجيسا » (١) فيلزم أن يكون الماء باقيا على طهارته.

وفيه : ما عن المعتبر عن الخلاف من أنّه بعد حكايتها قال : « إنّها عندنا ضعيفة الطريق ، لأنّها رواية أبي هريرة ، ومنافية للأصول ، لأنّا بيّنّا أنّ الماء المنفصل عن محلّ النجاسة نجس ، تغيّر أم لم يتغيّر ، لأنّه ماء قليل لاقى نجسا » (٢).

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم (٣) المرويّة في المركن ، الآمرة بغسل الثوب فيه مرّتين ، وفي الماء الجاري مرّة واحدة ، وقيل في وجه الدلالة : أنّ نجاسة الغسالة توجب نجاسة المركن فلا يطهّر الثوب بالغسلة الثانية ، خصوصا مع عدم إحاطتها بجميع ما تنجّس منه بالأولى.

وفيه أوّلا : عدم دلالتها على ملاقاة الثوب للمركن بوروده على الماء الّذي هو في المركن ، أو بورود الماء عليه وهو في المركن ، لجواز أن يكون المراد غسله بالقليل الّذي يصبّ عليه من الآنية ونحوها ، على وجه ينفصل منه الغسالة إلى المركن وتدخل فيه ، وقضيّة ذلك طهارة الثوب بالغسلتين ، مع سكوت الرواية عمّا في المركن من الغسالة.

وثانيا : منع دلالتها على ملاقاة الثوب للمركن وهو باق على نجاسته الحاصلة بالغسلة الاولى ، بجواز لزوم غسله بعد الاولى ثمّ إيقاع الغسلة الثانية فيه أيضا ، ولا ينافيه عدم تعرّض الرواية لبيان ذلك ، لجواز أنّ الراوي كان عالما به ، وإنّما وردت الرواية لبيان حكم اعتبار التعدّد في الغسل عن البول إذا كان بالقليل.

__________________

ـ « علّموا ويسّروا ولا تعسّروا » ـ سنن ابن ماجة ١ : ١٧٦ ح ٥٢٩ ، ٥٣٠ ـ سنن الترمذي ١ : ٢٧٥ ح ١٤٧ ، ١٤٨ ؛ سنن أبي داود ١ : ١٠٣ ح ٣٨٠ ، ٣٨١ ـ الذّنوب : الدلو العظيم. لا يقال لها : « ذنوب » إلّا وفيها ماء. مجمع البحرين ؛ مادّة « ذنب » ٢ : ٦٠.

(١) الخلاف ١ : ٤٩٥ المسألة ٢٣٥.

(٢) المعتبر : ١ : ٤٤٩.

(٣) وهي ما رواه في الوسائل والتهذيب ـ في الصحيح ـ عن محمّد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول؟ قال : « اغسله في المركن مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة ».

قال الجوهري في الصحاح : المركن : الإجانة الّتي تغسل فيها الثياب ، الوسائل ٣ : ٣٩٧ ب ٢ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧١٧.


وثالثا : منع منافاة نجاسة المركن بالغسلة الاولى لطهر الثوب بالغسلة الثانية ، إذا وقعت عليه مستكملة بإخراج الغسالة عنه بعد رفعه عن المركن ، والنجاسة الحاصلة فيه بالغسلة الاولى لا تزيد على نجاسة البلّة الباقية في الثوب عن الاولى ، ولا على نجاسة اليد المباشرة له في الغسل ، وكما أنّهما لا تؤثّران في تنجّس الثوب ثانيا ، ولا تنافيان طهره باستعمال الغسل الشرعي ، فكذلك نجاسة المركن ، لأنّ الجميع من واد واحد ، ودعوى ، كون ما فيه قادحا دون ما في البلّة واليد تحكّم ، ومن هنا ترى أنّ العلّامة (١) أفتى بموجب تلك الرواية ، وحكم بأنّ الثوب يخرج طاهرا والمركن وما فيه يكون نجسا ، مع احتمال طهر المركن بالتبعيّة إذا أفرغ منه الغسالة كاليد المباشرة.

ومنها : رواية إبراهيم بن عبد الحميد قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الثوب يصيبه البول فينفذ إلى الجانب الآخر ، وعن الفرو وما فيه من الحشو؟ قال : « اغسل ما أصاب منه ، ومسّ الجانب الآخر ، فإن أصبت شيئا منه فاغسله ، وإلّا فانضحه » (٢). وتقريب الدلالة فيها ـ على ما أشار إليه في الحدائق : « أنّه لو تنجّس الماء الوارد بالملاقاة لكان النضح سببا لزيادة المحذور ، فكيف يؤمر به » (٣).

وفيه : مع أنّه لو تمّ لقضى بعدم انفعال الماء في صورة وروده على النجاسة ، وإن لم يكن في مقام الغسل والإزالة ليدخل في عنوان « الغسالة » ، ضرورة ، أنّ النضح ليس بغسل ، والمستدلّ ممّن لا يقول به أنّه خارج عن المتنازع فيه ، إذ النضح إنّما يكلّف به في موضع عدم إصابة شي‌ء من البول ، فلم يعلم ملاقاته للنجاسة ، وعدم العلم بالملاقاة كاف في الحكم بعدم النجاسة ، فالنضح حينئذ إمّا تعبّد صرف يكلّف به في موضع الاحتمال ، أو أنّ الأمر به في الرواية مبالغة في الحكم بعدم النجاسة مع عدم العلم بها بعد التحرّي والفحص.

وحاصله : إفادة أنّ احتمال النجاسة في عدم اقتضاء الغسل أو وجوب الاجتناب بحيث يجوز معه مباشرة المحلّ وملاقاته بالرطوبة ، وإن شئت فانضح موضع الاحتمال ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٠٠ ب ٥ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ وفيه « وإلّا فانضحه بالماء » ـ الكافي ٣ : ٥٥ / ٣ ـ النضح « الرشّ ».

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٦.


وعلى هذا المعنى يحمل صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن الصلاة في البيع ، والكنائس ، وبيوت المجوس ، فقال : « رشّ وصلّ » (١) والتعبير عن نفي آثار معلومة عن شي‌ء مفروض بنظائر هذه العبارة ، كثير شائع في العرفيّات كما لا يخفى.

فما في الحدائق ـ الاستدلال بتلك الرواية أيضا بالتقريب المتقدّم ـ من : « أنّه لو تنجّس الماء الوارد بالملاقاة لكان الرشّ سببا لزيادة المحذور » (٢) ممّا لا وجه له أصلا.

والعجب منه أنّه استند إلى تلك الروايات بزعم دلالتها على الطهارة فارقا بينها وبين الطهوريّة ، فحكم بعدمها عملا بالأصل الّذي لا يخرج عنه هنا (٣) ، ثمّ توقّف في آخر كلامه ، قائلا : « وبالجملة عندي محلّ توقّف والاحتياط فيها لازم » (٤) نظرا منه إلى جملة اخرى من الروايات الدالّة على النجاسة ، كما تقدّم في مبحث نجاسة الماء القليل بالملاقاة من الأخبار الدالّة على إهراق ماء الركوة والتور ونحوهما ، ممّا وضع فيها إصبع أو يد فيهما قذر ، فإنّ إطلاق تلك الأخبار شامل لما لو كان بقصد الغسل أم لا ، بل [ولو لم يكن بقصد الغسل ، فإنّه يجب الحكم بالطهارة متى زالت العين ولم يتغيّر الماء] (٥) بمجرّد ذلك الوضع ، ونحوها في الدلالة ما ورد من إيجاب تعدّد الغسل فيما ورد فيه ، وعدم تطهير ما لا يخرج عنه الماء إلّا بالكثير ، فإنّه لا وجه لهذه الأشياء على تقدير القول بطهارة الغسالة ، وما اجيب عن ذلك من كون ذلك تعبّدا بعيد جدّا » (٦) انتهى.

وكلّ ذلك كما ترى خروج عن طريق الاجتهاد ، وعدول عن جادّة الاستنباط.

ثمّ إنّه بعد ما استظهر من الأخبار المتقدّمة الدلالة على الطهارة ، وضمّ إليها الحكم بعدم الطهوريّة ، أسند إلى الأمين الأسترآبادي الميل إلى هذا القول ، ناقلا كلامه بأنّه ـ بعد الكلام في المسألة ـ قال : « ملاحظة الروايات الواردة في أبواب متفرّقة تفيد ظاهرا لطهارة غسالة الأخباث وسلب طهوريّتها بمعنى رفع الحدث ، ولم أقف على دلالة سلب طهوريّتها بمعنى إزالة الخبث ، والأصل المستصحب بمعنى الحالة السابقة ،

__________________

(١) الوسائل ٥ : ١٣٨ ب ١٣ من أبواب مكان المصلّي ح ٢ ـ التهذيب ٢ : ٢٢٢ / ٨٧٥.

(٢ ـ ٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٦ و ٤٨٧ و ٤٨٨.

(٥) سقط ما بين المعقوفين من قلمه الشريف في نسخة الأصل ولذا أدرجناه في المتن لاستقامة العبارة.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٨.


وأصالة الطهوريّة بمعنى القاعدة الكلّيّة ، والبراءة الأصليّة بمعنى الحالة الراجحة ، والعمومات تقتضي إجراء حكم الطهوريّة بهذا المعنى إلى ظهور مخرج ، والله أعلم » (١).

وأمّا خامسها : فالقول بالطهارة إذا ورد الماء على المحلّ ، ولازمه النجاسة إذا انعكس الأمر ، وأمّا أنّ المحلّ هل يطهّر حينئذ أو لا يطهّر؟ فمبنيّ على مسألة كيفيّة التطهير المفروضة في اشتراط ورود الماء على المحلّ المغسول وعدمه ، ومن هنا يظهر أنّ هذا القول ينحلّ إلى قولين ، وكيف كان فهذا ممّا عدّه الشهيد في عبارته المتقدّمة من الدروس (٢) قولا برأسه ، مقابلا للأقوال الاخر في المسألة.

ولمناقش أن يناقش فيه بدعوى : أنّه ليس من أقوال تلك المسألة مقابلا للقول بالطهارة ، بل هو جمع بين القول بالطهارة هنا والقول باشتراط الورود في المسألة المشار إليها.

وبيان ذلك : أنّ الفقهاء عندهم نزاعان ، أحدهما : ما في مسألة الغسالة ، من أنّها هل هي طاهرة أو لا؟ والآخر : ما في مسألة الغسل عن الأخباث ، من أنّه هل يشترط فيه ورود الماء على المغسول أو لا؟ فإذا اتّفق أحد قال بالطهارة في الاولى واشتراط الورود في الثانية ، كان قائلا بطهارة الغسالة إذا ورد الماء على المحلّ ، ومعه فلا ينبغي عدّ ذلك قولا برأسه مقابلا للقول بالطهارة هنا.

بل ربّما يمكن أن يقال : بأنّ هذا لا يدخل في أقوال تلك المسألة أصلا ، بل هو جمع بين القول بعدم انفعال الماء القليل في صورة وروده على النجاسة مع القول باشتراط الورود في مسألة الغسل ، وهذا هو الظاهر من كلام السيّد (٣) فيما تقدّم ، وقد عرفت آنفا موافقة الحلّي (٤) له ، وتبعهما صاحب المدارك (٥) ، ويستفاد اختياره من تضاعيف كلام بعض من عاصرناه من مشايخنا العظام (٦).

واحتجّ في المدارك على الطهارة : « بالأصل السالم عمّا يصلح للمعارضة ، فإنّ الروايات

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٧.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٣) وهو السيد المرتضى قدس‌سره في الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦ ـ المسألة الثالثة).

(٤) السرائر ١ : ١٨١.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ١٢١.

(٦) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣١٥.


المتضمّنة لنجاسة القليل بالملاقاة لا تتناول ذلك صريحا ولا ظاهرا ، وتخرج الروايات الدالّة على طهارة ماء الاستنجاء شاهدا » (١) وعلى اعتبار الورود « بأنّ أقصى ما يستفاد من الروايات انفعال القليل بورود النجاسة عليه ، فيكون غيره باقيا على حكم الأصل » (٢).

ومحصّل الوجهين يرجع إلى الاستدلال على النجاسة في صورة ورودها على الماء بروايات انفعال القليل بالملاقاة ، وعلى الطهارة في صورة العكس ، بالأصل بعد المنع عن تناول تلك الروايات لهذه الصورة ، فالعمدة في ذلك الدليل حينئذ دعوى : عدم تناول أدلّة انفعال القليل لصورة ورود الماء ، وقد بيّنّا بطلان تلك الدعوى بما لا مزيد وفي غير موضع ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام.

وعن السيّد الاحتجاج : « بأنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة ، لأدّى ذلك إلى أنّ الثوب لا يطهّر من النجاسة إلّا بإيراد كرّ من الماء عليه ، والتالي باطل بالمشقّة المنتفية بالأصل فالمقدّم مثله ، وبيان الشرطيّة : أنّ الملاقي للثوب ماء قليل فلو نجس حال الملاقاة لم يطهر الثوب ، لأنّ النجس لا يطهّر غيره » (٣).

ولا يخفى أنّ دعوى تلك الملازمة إنّما تستقيم إذا كان في مسألة تطهير الثوب قائلا باعتبار ورود الماء ، وإلّا لكان الدليل على فرض تماميّته قاضيا بعدم انفعال القليل مطلقا كما عليه العماني ، وهو لا يقول به ظاهرا ، وحيث إنّ هذه الملازمة مستندة إلى قاعدة أنّ النجس لا يطهّر ، فمنعها عندنا سهل ، بعد ما استوفينا الكلام في منع القاعدة المذكورة على إطلاقها ، ففيما تقدّم مفصّلا كفاية ـ في الجواب عن هذا الدليل ـ عن إطالة الكلام هنا.

وأجاب عنه العلّامة في المختلف بالمنع من الملازمة أيضا ، قائلا : « بأنّا نحكم بتطهير الثوب والنجاسة في الماء بعد انفصاله عن المحلّ » (٤) والفرق بينه وبين مقالتنا أنّا نحكم بالنجاسة حال الاتّصال وبعد الانفصال معا ولا منافاة ، وهو لا يحكم بالنجاسة إلّا بعد الانفصال وزوال الملاقاة الّتي هي السبب في انفعاله.

__________________

(١ و ٢) مدارك الأحكام ١ : ١٢٢.

(٣) راجع المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهية ١ : ١٣٦ ، المسألة الثالثة) نقلا بالمعنى.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٩.


ومن هنا اعترض عليه في المدارك : « بأنّ ضعفه ظاهر : لأنّ ذلك يقتضي انفكاك المعلول عن علّته التامّة ، ووجوده بدونها ، وهو معلوم البطلان » (١) فإنّه متّجه قطعا ، ولا يمكن التفصّي عنه ، ومراده بالعلّة هي الملاقاة حسبما اقتضته الأدلّة وكلام الأعلام ، فما في حاشية هذا الكلام للمحقّق البهبهاني من : « أنّه لا يخفى أنّه لم يظهر أنّ العلّة ما هي؟ حتّى يعترض عليه بذلك » (٢) ليس على ما ينبغي.

وأمّا الكلام في اعتبار الورود وعدمه ، فهو ممّا لا يتعلّق بالمقام ، ويأتي البحث عنه في محلّه.

وأمّا سادسها : فالقول بالنجاسة مطلقا وإن كان بعد طهارة المحلّ ، بمعنى : أنّ الماء المنفصل عن كلّ غسلة نجس ، وإن ترامت الغسلات إلى ما لا نهاية له ، وعن الشهيد في حاشية الألفيّة : « أنّه حكاه عن بعض الأصحاب » (٣).

وفي الحدائق : « عن الشيخ المفلح الصيمري ـ في شرح كتاب موجز الشيخ ابن فهد ـ أنّه نقل عن مصنّفه أنّه نقل في كتاب المهذّب والمقتصر هذا القول عن المحقّق والعلّامة ، وابنه فخر الدين ، ثمّ نسبه في ذلك إلى الغلط الفاحش والسهو الواضح » (٤) انتهى.

ولعلّه إلى ابن فهد يشير ما في المدارك ـ بعد نقله هذا القول ـ : « من أنّه ربّما نسب إلى المصنّف والعلّامة » ـ ثمّ ردّه بقوله : « وهو خطأ ، فإنّ المسألة في كلامهما مفروضة فيما يزال به النجاسة ، وهو لا يصدق على الماء المنفصل بعد الحكم بالطهارة » (٥).

وعن الروض ـ أنّه بعد ما نقل القول المذكور ، نقل : « أنّه قائله » يعني ابن فهد (٦)

وكيف كان : هذا القول ـ مع أنّه غريب مقطوع بفساده ، لمخالفته الاصول المحكمة ، والقواعد المتقنة وغيرها من الأدلّة الشرعيّة ، فالمحكيّ من حجّته أيضا قاصر عن إفادته ، وهو : أنّه ماء قليل لاقى نجاسة.

وبيانه : أنّ طهارة المحلّ بالقليل على خلاف الأصل ـ المقرّر من نجاسة القليل

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢١.

(٢) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٨٦.

(٣) المقاصد العليّة وحاشيتا الألفيّة : ١٦٢ ـ ٤٧٥ ؛ أيضا حكاه عنه في روض الجنان : ١٥٩.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٨٥.

(٥) نسبه إليهما الشهيد في ذكرى الشيعة ١ : ٨٤.

(٦) لم نجده في روض الجنان.


بالملاقاة ـ فيقتصر فيه على موضع الحاجة وهو المحلّ دون الماء ، ولا خفاء ما فيه من الفساد ، لو كان دليلا على النجاسة في جميع الغسلات حتّى بعد طهارة المحلّ ، لوضوح امتناع صغراه بعد فرض الطهارة في المحلّ ، فإنّ كبراه ـ على ما هو المصرّح به في العبارة ـ كلّيّة انفعال القليل بملاقاة النجاسة ، ولا تتمّ هي دليلا إلّا بعد انضمام الصغرى إليها ، وهي : أنّ هذا الماء ـ أي المنفصل عن المحلّ ـ بعد طهره ملاق للنجس ، وهو كما ترى بعد فرض الطهارة ممّا يبطله دليل الخلف.

نعم ، يمكن بعيدا توجيهه : بكونه مبنيّا على نجاسة البلّة الباقية في المحلّ بعد طهارة المحلّ ـ على القول بنجاسة الغسالة ـ كما هو أحد الاحتمالات المتقدّمة فيه ، فإنّها باقية على النجاسة وإن طهر المحلّ ، فحينئذ فكلّما غسل هذا المحلّ كان الماء الملاقي له ملاقيا لتلك البلّة فيكون ملاقيا للنجس ، وهو صغرى الدليل فيضمّ إليها الكبرى الكلّيّة ويحصل المطلوب ، لكن فيه : ما عرفت آنفا من أنّ نجاسة البلّة الباقية بعد طهارة المحلّ ممّا لم يقل به أحد ، ولا حكي القول به ، وإنّما هو مجرّد احتمال يذكر في المقام ، مع ما عرفت من فساده في نفسه ، وعدم تعقّل مجامعة نجاستها لطهارة المحلّ ، مضافا إلى الوجوه الاخر القاضية بطهارتها.

وبالجملة : فهذا القول بظاهره في غاية السخافة ونهاية الغرابة.

ومن هنا قد يوجّه كلام هذا القائل ـ كما في شرح الشرائع للأستاذ مدّ ظلّه ـ بأنّه : « إذا فرض تحقّق الغسلة المطهّرة ، ولكن لم ينفصل الماء عن المحلّ ، فالمحلّ طاهر والماء الموجود فيه نجس ، فإذا غسل مرّة اخرى لاقى ماؤه الماء الباقي من الغسل المطهّر ـ والمفروض أنّه نجس ، وإن طهر المحلّ ـ فينفعل به الماء الثاني » (١) ، إلى أن قال ـ : « وحينئذ فإذا فرض نجاسة غير المنفصل ، فكلّما لاقاه الماء نجس به ، وإن ترامى إلى غير النهاية » (٢) ، ثمّ قال : « وهذا قول حسن جدّا ، بل هو الّذي ينبغي أن يقول به كلّ من يقول بنجاسة الغسالة ، لأنّ النجاسة لا تختصّ بما بعد الانفصال ، ـ كما يظهر من العلّامة في المختلف (٣) ـ حتّى يورد عليه ـ كما في الذكرى (٤) ـ بلزوم تأخّر المعلول

__________________

(١ و ٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٨.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٩.

(٤) لم نعثر على هذا الإيراد في الذكرى. نعم هو موجود في روض الجنان : ١٥٩.


وهو النجاسة عن العلّة وهي الملاقاة » (١) انتهى.

وهذا توجيه وجيه ، وإن كان خلاف ظاهر الحكاية بل صريحها ، وما ذكرناه أوجه ، وإن كان فاسدا في نفسه.

ثمّ إنّ لنا في حكمه ـ مدّ ظلّه ـ بطهارة المحلّ مع نجاسة ما لم ينفصل عنه من الماء إشكالا ، قد تقدّم بيانه.

فأوّلا : لأنّه كيف يعقل الطهارة فيه مع نجاسة ما نفذ في جميع أعماقه ، إلّا أن يراد بالطهارة زوال نجاسته الأصليّة ، وهذا الموجود نجاسة في الماء عرضيّة ، تنسب إلى المحلّ تبعا وعرضا.

وثانيا : لأنّ المطهّر الشرعي ـ وهو الغسل ـ بعد لم يتحقّق قبل انفصال الماء المنصبّ عنه ، فكيف يحكم عليه بالطهارة قبل الانفصال ، إن اريد به ما قبل العصر والإفراغ ، إلّا أن يبنى على القول بعدم دخولهما في مفهوم الغسل ، ولا كونهما معتبرين معه بالدليل الخارج.

ثمّ بقى في المقام امور ينبغي التنبيه عليها :

الأوّل

قال في المنتهى : « إذا غسل الثوب من البول في إجّانة ، بأن يصبّ عليه الماء فسد الماء وخرج من الثانية طاهرا ، اتّحدت الآنية أو تعدّدت ، وقال أبو يوسف : إذا غسل في ثلاث إجّانات خرج من الثالثة طاهرا ، وماء الإجّانة الرابعة فما فوقها طاهر » (٢) الخ ، ثمّ أخذ في الاحتجاج على طهارة الثوب قائلا : « ويدلّ عليه وجهان :

الأوّل : أنّه قد حصل الامتثال بغسله مرّتين ، وإلّا لم يدلّ الأمر على الإجزاء.

الثاني : ما رواه الشيخ (٣) ـ في الصحيح ـ عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال : اغسله في المركن مرّتين ، فإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (٤).

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٣٩.

(٢ و ٤) منتهى المطلب ١ : ١٤٦.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٩٧ ب ٢ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧١٧.


أقول : غسل الثوب في الإجّانة له ثلاث صور :

إحداها : أن يؤخذ الثوب على اليد والاجّانة تحتها ، ليطرح فيها ما ينفصل عن الثوب من الغسالة وقطرات الماء الملاقي له حال الغسل ، وهذا ممّا لا إشكال لأحد في أنّه يفيد الثوب طهارة ، إذ لا فرق بينه وبين الغسل في غير الإجّانة ، إلّا أنّ المنفصل فيه يطرح في الإجّانة وفي غيره في الأرض ، وهو ممّا لا يعقل كونه فارقا بينهما في الحكم ، بل هذه الصورة خارجة عن فرض المنتهى ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وثانيتها : أن يصبّ الماء في الإجّانة ، ثمّ وضع عليه الثوب ليغسل به فيها ، وهو أيضا خارج عن فرض المنتهى ، ويتبيّن حكمه.

وثالثها : ما هو مفروض المنتهى من انعكاس الصورة الثانية ، وحينئذ يشكل الحال في تنزيله الرواية عليها ، مع أنّها بإطلاقها تشمل الصورتين معا ، بل الصور الثلاث جميعا ، وإن كان بعيدا بالقياس إلى الصورة الاولى ، وكأنّه مبنيّ على الأخذ بالغالب. فتأمّل.

وعن الذخيرة : « أنّه قد يستشكل حكمه بطهارة الثوب مع نجاسة الماء المجتمع تحته في الإجّانة ، سيّما على مذهبه المتقدّم من عدم نجاسة الغسالة إلّا بعد الانفصال عن المحلّ المغسول ، ومن المعلوم أنّ الماء بعد انفصاله عن الثوب المغسول يلاقيه في الاناء ، واللازم ممّا ذكر تنجّسه به » (١).

وعنه (٢) ـ كما في الحدائق ـ : « أنّه وقد يتكلّف في دفع الإيراد المذكور بأنّ المراد من الانفصال خروج الغسالة عن الثوب أو الإناء المغسول فيه ، تنزيلا للاتّصال الحاصل باعتبار الإناء منزلة ما يكون في نفس المغسول ، للحديث » (٣).

ثمّ عنه الاعتراض عليه : « بأنّه لا يخفى بأنّ بناء هذا الخبر على طهارة الغسالة أولى من ارتكاب هذا التكلّف ، فإنّ ذلك إنّما يصحّ إذا ثبت دليل واضح على نجاسة الغسالة ، وقد عرفت انتفاؤه » (٤) مع أنّ ظاهر الرواية يدلّ على الطهارة.

واستجوده شيخنا في الجواهر ، قائلا : « بأنّه في غاية الجودة » (٥) ودفعه في الحدائق « أوّلا : بأنّ هذا التكلّف إنّما ارتكب لدفع المنافاة بين كلامي العلّامة رحمه‌الله من حكمه

__________________

(١ و ٢) ذخيرة المعاد : ١٤٣ مع تفاوت يسير في العبارة.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٦.

(٤) ذخيرة المعاد : ١٤٣.

(٥) جواهر الكلام ١ : ٦٣٨.


بنجاسة الغسالة بعد الانفصال ، وحكمه بطهارة الثوب في الصورة المفروضة ، فنزّل الإناء في الصورة المفروضة منزلة الثوب لتندفع المنافاة بين كلاميه ، وأمّا الكلام في نجاسة الغسالة وطهارتها فهو كلام آخر.

وثانيا : أنّ دعوى دلالة الرواية على طهارة الغسالة مع تضمّنها وجوب التعدّد في الغسل محلّ إشكال ، إلّا أن يدّعي حمل التعدّد على محض التعبّد » (١) الخ.

أقول : الإنصاف أنّ الرواية لا دلالة فيها على طهارة ولا على نجاسة ، كما أنّ التعويل على الإشكال المتقدّم خلاف الإنصاف ، فإنّ الرواية مع سكوتها عن حكم الغسالة طهارة ونجاسة قد تضمّنت طهارة الثوب بغسله على النحو المذكور ، فلا بدّ من الالتزام بها لعدم معارض لها ، مع ثبوت العمل بها في الجملة ، وأمّا حكم الغسالة فلا بدّ فيه من مراجعة القاعدة ، فمن انعقدت القاعدة عنده في الطهارة فيبنى عليها هنا أيضا ، ومن انعقدت عنده في النجاسة فيبنى عليها هنا أيضا.

وإذ قد عرفت أنّ المحقّق عندنا نجاسة الغسالة فنقول بها هنا أيضا ، من غير أن ينشأ منه إشكال ، وما ذكر في تقرير الإشكال ليس إلّا استبعادا محضا ، وهو ممّا لا ينبغي التعويل عليه بعد ورود الشرع بخلافه.

مع أنّ المطهّر للثوب حقيقة بالماء ، وهو إنّما يتحقّق بعد إخراج الماء المنصبّ عليه في الإجّانة ـ بعد رفعه عنها ـ باليد المعصر الّذي هو المخرج ، واتّصاله بما في الإجّانة قبل الرفع عنها ليس بأشدّ من اتّصاله بما فيه نفسه ، وقد ثبت أنّه غير قادح وإن كان نجسا.

مع أنّ اتّصاله بالإجّانة مع ما فيه من الأجزاء المنفصلة عنه من الماء ليس إلّا كاتّصاله باليد مع ما فيها من البلّة المتنجّسة ، وقد تقرّر أنّ أمثال هذه الاتّصالات لا تقدح في طهارة الثوب بعروض المطهّر الشرعي له ، من حيث إنّ ما معها من النجاسات لم تحصل من خارج ، والقدر المحقّق من كونه قادحا إنّما هو ما لو حصل النجاسة فيه بالخارج.

ومن هنا نقدر على أن نقول : إنّه لو القي الثوب من يد الغاسل في غير صورة غسله في الإجّانة على الأرض الّتي وقع عليها من قطراته المنفصلة قبل إخراج الغسالة لم يكن قادحا ، بل برفعه عنها على هذه الحالة فيستكمل غسله بما بقي منه ، لكن في هذا الفرع بعد شي‌ء

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٦.


في النفس ، وطريق الاحتياط هنا ممّا لا ينبغي تركه ، وهو إنّما يحصل باستكمال ما بقي من غسله عن أصل النجاسة ، ثمّ غسله مرّة اخرى لما طرأه من ملاقاة ما لاقاه في وجه الأرض.

ويبقى الكلام مع العلّامة فيما اعتبره في مفروض المسألة من صبّ الماء على الثوب في الإجّانة الّذي يرجع محصّله إلى اعتبار ورود الماء على المغسول ، فإن كان النظر في ذلك إلى ما يقتضيه القاعدة الشرعيّة فهو موكول إلى محلّه ، وإن كان النظر في استفادته من الرواية المذكورة فهو موضع إشكال ، لمنافاته ما فيها من الإطلاق ، ولو ادّعى فيها الانصراف العرفي فهو أشكل ، لعدم قيام ما يقتضيه من غلبة إطلاق ونحوها ، ومجرّد غلبة الوجود لا يوجبه على التحقيق ، مع توجّه المنع إلى أصل الغلبة ، أو كونها معتدّا بها.

وبالجملة : دعوى الانصراف ممّا لا يلتفت إليها ، إلّا على فرض كون لفظ « الغسل » مجازا فيما لو ورد المغسول على الماء ، أو على فرض كون المنساق منه في نظر أهل المخاطبة بملاحظة غلبة إطلاق أو غلبة وجود ـ إن اعتبرناها ـ هو الماهيّة بوصف وجودها في ضمن ما لو ورد الماء على المغسول ، أو على فرض قصور اللفظ عن إفادته الماهيّة المطلقة ، باعتبار كونه في موضع لا يجري فيه مقدّمة : أنّه لولاها مرادة لزم الإغراء بالجهل ، الّتي هي العمدة في إحراز الإطلاق في المطلقات.

والفرق بينهما أنّ الأوّل يرجع إلى دعوى الظهور العرفي في صورة ورود الماء ، والثاني يرجع إلى دعوى عدم الظهور فيما يتناول صورة العكس ، ومنشأ الدعويين : هو الغلبة ، والسرّ في الفرق بينهما اختلاف الغلبة في الشدّة والضعف ، ولا ريب أنّ الوجوه باطل جزما ، وثانيها في غاية الضعف ، كما أنّ ثالثها في محلّ من البعد.

ومن هنا يتبيّن صحّة الاستدلال بالوجه الأوّل ـ الّذي سمعته عن العلّامة ـ من قاعدة الإجزاء ، حتّى على عكس ما فرضه رحمه‌الله ، فإنّ مبناها على إحراز المأمور به على وجهه والإتيان به كذلك وقد حصل ، إذ لا يفهم من قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك عن البول مرّتين » إلّا إيجاد ماهيّة الغسل على ما هو المتعارف مرّتين ، واحتمال مدخليّة ورود الماء أو كون الغسل في غير الإجّانة وغيرها من الإناء منفيّ بالإطلاق ، نعم لو كان هناك دليل من الخارج أوجب خروج ذلك من الإطلاق فهو كلام آخر ، وله مقام آخر ، ولذا أوكلنا تحقيقه إلى محلّه ومقامه ، فانتظر له.


الثاني

حكم غسالة الحمّام ، فإنّها ممّا انفرد ذكره في كلام الأصحاب ، والتعرّض له بالخصوص في هذا الباب ، والمراد بها على ما يستفاد من كلماتهم بل هو صريح بعضهم ـ كالحدائق (١) ـ ما يجتمع في البئر من ماء الحمّام المستعمل في غسلات الناس وصبّاتهم ، ويظهر ممّا حكي عن الأردبيلي (٢) من استدلاله على الطهارة ـ بما يأتي ذكره من صحيحة محمّد بن مسلم ، وموثّقة زرارة ـ كونها أعمّ منه وممّا هو في سطوح الحمّام من المياه الّتي ينحدر منها إلى البئر ، وليس ببعيد ، إذ ليس المجتمع في البئر إلّا المياه المنحدرة إليها ، من السطح الجارية إليها من خطوطه المتّخذة في السطح لأجل تلك الفائدة ، ومعه يبعد الفرق في الحكم بين المجتمع وما هو في السطح وخطوطه ، ويمكن القول : بأنّ المقصود بالعنوان هو الأوّل ، والثاني ملحق به في الحكم لاتّحادهما في المناط.

وعلى أيّ تقدير فلهم فيها عبارات مختلفة ، بعضها مصرّحة بالطهارة ، آخر بالنجاسة ، وثالث غير واضح المؤدّى من حيث الحكم بالطهارة أو النجاسة ، ومع ذلك فلم يرد فيها بالمعنى الأوّل إلّا عدّة روايات غير معتبرة الأسانيد متعارضة الدلالات ، والّتي وقفنا عليها أربع روايات ، مضافا إلى ما سنذكرها من الروايات الاخر.

منها : المرسلة الواردة في الكافي عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، عن أبي يحيى الواسطي ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال : « لا بأس » (٣).

ومنها : ما فيه أيضا من المرسلة بعض أصحابنا ، عن ابن جمهور ، عن محمّد بن القاسم ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا تغتسل من البئر الّتي يجتمع فيها غسالة الحمّام ، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا ، ولا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب وهو شرّهما ، أنّ الله لم يخلق خلقا شرّا من الكلب ، وأنّ الناصب أهون على الله

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥٠١.

(٢) حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٥٠١ ـ مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٩٠.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٩ ـ الكافي ٣ : ١٥ / ٤.


من الكلب » (١).

ومنها : المرسلة في التهذيب ، محمّد بن علي بن محبوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن محمّد بن عبد الحميد ، عن حمزة بن أحمد ، عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام قال : سألته ـ أو سأله غيري ـ عن الحمّام؟ قال : « ادخله بمئزر ، وغضّ بصرك ، ولا تغتسل من البئر الّتي تجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (٢).

ومنها : ما عن علل الصدوق ـ الموصوف في الحدائق (٣) وغيره بالموثّقية ـ عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « وإيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام ، وفيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي ، والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (٤).

ولا يخفى أنّ المرسلة الاولى تعارض البواقي ، غير أنّ العلاج سهل ، من حيث إنّ ما عداها أخصّ منها مطلقا من وجهين ، وهي أعمّ لهذين الوجهين :

أحدهما : تعرّض ما عداها لبيان ملاقاة النجاسة وهي غسالة الكافر ، دونها.

وثانيهما : اختصاص المنع فيما عداها بالأغسال ، وشمول الرخصة المستفادة منها بملاحظة نفي البأس للاغتسال وغيره من أنواع الاستعمال ، نظرا إلى أنّ نفي البأس عمّا أصاب الثوب يقضي بطهارته ، ويستلزم عدم البأس باستعمال الماء الملاقي له ـ وهو في الثوب ـ بجميع أنواعه الّتي منها التطهّر به مطلقا ، فطريق الجمع بينهما يتأتّى من وجهين :

الأوّل : التخصيص فيها بحملها على ما خلا عن النجاسة ، وقضيّة ذلك نجاسة غسالة الحمّام مع اتّفاق ملاقاة النجاسة دون غيره ، فيكون حكمها على قاعدة الغسالة المطلقة ، حسبما تقدّم.

والثاني : التخصيص فيها أيضا بحمل الرخصة فيها على ما عدا الاغتسال ، من أنواع

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٩ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ٤ ـ الكافي ٣ : ١٤ / ١.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٨ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٧٣ / ١١٤٣.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٨.

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٠ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ٥ ـ علل الشرائع : ٢٩٢.


الاستعمال بل مطلق التطهير ، بناء على ما أفتى به غير واحد من الأصحاب ـ كما ستعرف ـ وحينئذ يشكل الحال في دلالة الروايات على النجاسة ، لأنّ ثبوت الرخصة فيما عدا الاغتسال أو مطلق التطهير ممّا لا يجامع النجاسة ، نظرا إلى أنّها ممّا يقتضي المنع مطلقا ، وقضيّة ذلك خروج حكم غسالة الحمّام على خلاف قاعدة مطلق الغسالة ، كما أفتى به بعض الأصحاب على ما ستعرفه.

ولا ينافيه تعرّض ما عدا المرسلة الاولى لبيان ملاقاة النجاسة ـ نظرا إلى أنّ تعليل المنع بالوصف المناسب يقضي بأنّه علّة الحكم دون الذات ، لأنّه لو كان ذات الغسالة كوصف ملاقاة النجاسة صالحة للتعليل بها ، لما كان للعدول عنه إلى التعليل بالوصف العرضي وجه ، ليقدّم الذاتي على العرضي في ذلك ـ كما قرّر في محلّه ـ وإلّا كان سفها. فإذا ثبت أنّ علّة المنع هي الملاقاة للنجاسة ، تبيّن أنّه من جهة أنّها أثّرت في نجاسة أصل الغسالة ؛ إذ لا ملازمة عقلا بين ملاقاة النجاسة ونجاسة الملاقي ، بل الملازمة الثابتة بينهما بعد اللّتيّا والّتي شرعيّة ، وإجراؤها هنا استدلال بما هو خارج عن تلك الروايات.

مع أنّ مرجعه ـ عند التحقيق ـ إلى إجراء حكم العامّ في الخاصّ وهو كما ترى ، وإلّا فأصل الروايات لو خلّيت وطبعها لا قضاء فيها بالملازمة أصلا.

وما ذكرناه في تقريب المنافاة ـ من اقتضاء التعليل بالوصف المناسب للحكم لذلك ـ ممنوع ، لأنّ أقصى ما يسلّم من مناسبة الوصف كون الملاقاة للنجاسة مناسبة لأصل المنع ، لا أنّها مناسبة لنجاسة الملاقي ، والمنع مستند إليها لا إلى أصل الملاقاة ، وإلّا لقضت الروايات بأنّ علّة المنع هي النجاسة الحاصلة بالملاقاة لا نفس الملاقاة ، وإنّما هي علّة للعلّة وهو كما ترى خلاف ما يظهر منها.

ولا مانع من أن يكون ذلك الماء النجس إذا دخل في نوع الغسالة الغير المتنجّسة وامتزج معها مقتضيا لهذا المنع في نظر الشارع ، مع بقاء أصل الممتزج على أصل الطهارة ، غاية الأمر أنّ طهارته توجب زوال النجاسة عمّا دخل فيه وامتزج معه بالاستهلاك أو مطلق الممازجة.

فعلّة المنع في الحقيقة اشتمال غسالة الحمّام على غسالة الكافر ، من حيث إنّها غسالة الكافر ، لا من حيث نجاستها ليستبعد بقاء المعلول مع زوال العلّة بالامتزاج ، إذ


المفروض أنّه لا تصريح في الروايات بالنجاسة ، ولا بأنّها هي المقتضية للمنع ، لجواز أن يكون في غسالة الكافر باعتبار المعنى صفة اخرى غير النجاسة هي المقتضية لذلك المنع.

وممّا يشعر بذلك ما في ذيل رواية ابن جمهور من « أنّ الناصب أهون على الله من الكلب » فإنّه يومئ إلى أنّ الحكمة الداعية إلى المنع المذكور إنّما هي الإهانة على الكافر لما فيه من خبث الباطن ، ولا ينافي ذلك ما في تلك الرواية من الطعن على ولد الزنا من « أنّه لا يطهّر إلى سبعة آباء » لأنّ ذلك أيضا من جهة ما فيه من الخبث الباطني ، لا أنّ الطهارة هنا مراد بها ما يقابل النجاسة بالمعنى الشرعي ؛ فإنّ النجاسة بهذا المعنى ممّا لا سبيل إلى التزامه في ولد الزنا ـ كما تنبّه عليه بعض الأصحاب كصاحب الحدائق ـ قائلا : « بأنّه لم يقل بنجاسة ابن الزنا على هذا الوجه قائل من الأصحاب ، ولا دليل عليه من سنّة أو كتاب » (١).

نعم في بعض نسخ تلك الرواية الواصلة إلينا ـ كما قدّمنا ذكرها في جملة أخبار انفعال القليل ـ مكان قوله عليه‌السلام : « أنّ الله لم يخلق خلقا شرّا من الكلب الخ » ، قوله : « أنّ الله لم يخلق خلقا أنجس من الكلب ، وأنّ الناصب لنا أهل البيت أنجس منه » ومثله ما في ذيل رواية العلل على ما وجدناه في الوسائل ، لكن بعد وقوع الاختلاف في النسخ لا يتعيّن علّيّة وصف النجاسة دون وصف آخر ، وغرضنا منع الدلالة ويكفي فيه مجرّد إبداء الاحتمال ، لابتناء الاستدلال على دعوى : الملازمة بين المنع والنجاسة ، أو دعوى : المنافاة بينه وبين زوال النجاسة ، والاحتمال يرفعهما.

إلّا أن يقال : بأنّ الغرض دعوى الملازمة أو المنافاة العرفيّتين ، والاحتمال لا يقدح فيهما ، لأنّ مبناهما حينئذ على الظهور العرفي وهو حاصل في المقام ، لأنّ المنساق من الروايات عرفا كون العلّة الداعية إلى المنع هي النجاسة في غسالة الكافر ، بل انفعال ما يمتزج هي معها من الغسالات الاخر بملاقاتها إيّاها.

وبعد كلّ هذه اللّتيّا والّتي ، فالإنصاف يقتضي عدم جواز الاستناد إلى تلك الروايات في هذا المقام لإثبات الحكم الشرعي ، من طهارة أو نجاسة ، لعدم سلامة أسانيد أكثرها من الضعف والإرسال معا ، أو أحدهما ، فإنّ المرسلة الاولى مع ضعفها بالإرسال ،

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٢.


مقدوحة بما في أبي يحيى الواسطي من الاشتباه ، لوقوعه ـ كما قيل ـ على إسماعيل بن زياد ، وهو من أصحاب الكاظم عليه‌السلام ولم نقف فيه على مدح ولا قدح ، حيث لم نجده معنونا بخصوصه في كتب الرجال ، وعلى زكريّا بن يحيى وهو من أصحاب الرضا عليه‌السلام وحاله كالأوّل ، نعم في الخلاصة : « زكريّا بن يحيى الواسطي ثقة روى عن أبي عبد الله » (١) والظاهر اتّحادهما ، ولكن قد يبعّده النسبة إلى الإمامين عليهما‌السلام ، إلّا أن يقال : بلقائه إيّاهما ، إلّا أنّ السند يأبى كونه هو لرواية « أحمد ابن محمّد » ، فإنّه بدليل رواية محمّد بن يحيى الظاهر في العطّار ـ بدليل رواية الكليني عنه ـ هو ابن عيسى المعروف الثقة الجليل ، ولم يعهد روايته عن زكريّا ، لما قيل : من أنّه يروي عنه إبراهيم بن محمّد بن إسماعيل ، نعم هو يروي عن سهل ابن زياد ، وهو ثالث من يقع عليهم أبو يحيى الواسطي ، ولكن السند يأبى أيضا عن كونه سهيلا ، لما قيل : من أنّه من أصحاب العسكري عليه‌السلام والمذكور في السند إنّما هو أبو الحسن الماضي عليه‌السلام ، وكونه ملاقيا له عليه‌السلام أيضا يستلزم ملاقاته خمسة وهو بعيد في الغاية ، مع أنّ سهل بن زياد ـ على فرض احتمال السند له ممّن لم يذكر بتوثيق.

نعم عن النجاشي : « أنّه شيخنا المتكلّم » (٢) ولكنّه لا يدلّ على وثاقته ، مع ما قيل فيه : « من أنّه لم يكن بكلّ الثبت » (٣) ، وما عن ابن الغضائري : « من أنّ حديثه نعرفه تارة وننكره اخرى ويجوز أن يخرج شاهدا » (٤) إلّا أن يقال : إنّ رواية أحمد عنه يعدّ عندهم من أمارات الوثاقة ، ومعه ليس علينا أن ننظر في أنّه أيّ رجل ، ومن أصحاب أيّ إمام ، وكيف كان فالسند لا يخلو عن اضطراب صالح للقدح فيه.

والمرسلة الثانية مع ما فيها من الإرسال أيضا ضعيفة جدّا بابن جمهور ، ضعّفه العلّامة في المنتهى (٥) ، والمحقّق في المعتبر (٦) ، ـ على ما حكي عنه في الحدائق (٧) ، ـ ومثله الكلام في المرسلة الثالثة ، فإنّها أيضا مضافا إلى الإرسال ضعيفة بجهالة حمزة بن أحمد ، كما اعترف به العلّامة في المنتهى (٨) ، وغيره في الرجال فلا يبقى في المقام إلّا

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ١٥٢.

(٢ و ٣) رجال النجاشي : ١٩٢.

(٤) مجمع الرجال ١ : ١٨٠.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.

(٦) المعتبر : ٢٣.

(٧) الحدائق الناضرة ١ : ٤٩٩.

(٨) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.


موثّقة العلل ، والكلام في صحّة الاستناد إليها وعدمها يتبيّن بعد تبيّن عبارات الأعلام ، وتعيّن ما هو محلّ كلامهم في هذا المقام.

فنقول : قد اختلفت عباراتهم في ذلك ، فالعلّامة في المنتهى حكم بالطهارة ، قائلا ـ بعد نقل الخلاف في المسألة ـ : « والأقوى عندي أنّه على أصل الطهارة » (١) وإطلاق ذلك يقتضي عدم الفرق عنده بين صور العلم بملاقاة النجاسة ، أو الشكّ فيها ، أو العلم بعدمها.

وممّا يرشد إليه أنّه تمسّك على ذلك بمرسلة أبي يحيى الواسطي المتقدّمة (٢) ـ وهي عامّة ـ وبصحيحة حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب (٣) » ، وبما روي ـ في الحسن ـ عن الكليني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « في الماء الآجن يتوضّأ منه إلّا أن تجد غيره » (٤) ، وهما أيضا عامّان ، وحينئذ فغسالة الحمّام عنده مخرجة عن قاعدة نجاسة الغسالة ، بل قاعدة انفعال القليل بالملاقاة.

إلّا أن يقال : بأنّ قوله بالنجاسة فيهما يقيّد كلامه هنا ، فيخصّصه بصورة عدم العلم بملاقاة النجاسة ، كما أنّ أدلّة القاعدتين تخصّص هذه الأخبار بالصورة المذكورة ، وهو مشكل ، لأنّ قوله بالنجاسة فيهما عامّ وكلامه هنا خاصّ ، وكيف يقيّد الخاصّ بالعامّ ، مع أنّ قاعدة الحمل ممّا لا يجري في فتاوي الفقهاء كما قرّر في محلّه ، والنسبة بين أدلّة الانفعال وهذه الأخبار عموم من وجه ، لاختصاص الاولى بصورة الملاقاة وعمومها بالقياس إلى غسالة الحمّام وغيرها ، واختصاص المرسلة من تلك الأخبار بغسالة الحمّام وعمومها بالقياس إلى صورة الملاقاة وغيرها ، وكيف يخصّص أحد العامّين من وجه بالآخر بلا شاهد خارجي.

نعم ، يجري هذا الكلام بالقياس إلى الحسنة في الآجن ، من حيث إنّها أعمّ من الغسالة وصورة الملاقاة أيضا ، ولكن دليله غير منحصر فيها ، وبالجملة كلامه رحمه‌الله هنا غير

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٩.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٧ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٤) الوسائل ١ : ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٦.


خال عن الاضطراب ، مع ما في استدلاله على ما اختاره بصحيحة حريز من الفساد الواضح ، لأنّ هذه الرواية وإن كانت عامّة غير أنّها بملاحظة أدلّة انفعال القليل ـ الّتي يقول بموجبها ـ محمولة عنده على صورة الكرّ ، ومعه كيف يتمسّك بها هنا.

إلّا أن يقال : بأنّ محلّ النزاع هنا أعمّ من القليل والكثير ، وليس ببعيد.

وكيف كان : فالقول بالطهارة منسوب معه إلى جملة من المتأخّرين ومتأخّريهم ، وعدّ منهم الشيخ عليّ في جامع المقاصد (١) ، غير أنّ صريح كلامه المنقول عنه ـ يقتضي اختصاصه بصورة الشكّ ، لأنّه قال : « والّذي يقتضيه النظر أنّه مع الشكّ في النجاسة تكون على حكمها الثابت لها قبل الاستعمال ، وإن كان اجتنابها أحوط » (٢) ، وعن صاحب المعالم (٣) وقبله والده في الروض (٤) الميل إليه ، وعن العلّامة في الإرشاد (٥) أنّه قال : بالنجاسة ، وفي الحدائق : « ربّما تبعه فيه بعض من تأخّر عنه » (٦).

وعن الصدوق قال : « لا يجوز التطهير بغسالة الحمّام ، لأنّه يجتمع فيه غسالة اليهودي والمجوسي [والنصراني] والمبغض لآل محمّد وهو شرّهم » (٧) ، والظاهر أنّ ذلك فتوى بموجب موثّقة العلل ، وعن أبيه قريب من هذا الكلام في رسالته إليه ، وعن نهاية الشيخ : « غسالة الحمّام لا يجوز استعمالها على حال » (٨) وعن ابن إدريس أنّه جرى عليه قائلا : « غسالة الحمّام لا يجوز استعمالها على حال وهذا إجماع ، وقد وردت به عن الأئمة عليهم‌السلام آثار معتمدة ، قد اجتمع الأصحاب عليها ، لا أجد من خالف فيها » (٩) وعن المحقّق في المعتبر الاعتراض عليه قائلا ـ بعد نقل كلامه ـ : « وهو خلاف الرواية وخلاف ما ذكره ابن بابويه ، ولم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك الرواية ورواية مرسلة ذكرها الكليني قال : بعض أصحابنا عن ابن جمهور ، وهذه مرسلة وابن جمهور ضعيف جدّا ، ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال ، فأين الإجماع وأين الأخبار المعتمدة؟ ونحن نطالبه بما ادّعاه ، وأفرط في دعواه » (١٠) انتهى.

والظاهر أنّ مراده بالرواية المشار إليها الّتي حكم على كلام ابن إدريس بكونه على

__________________

(١ و ٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٣.

(٣) فقه المعالم ١ : ٣٥٠. (٤) روض الجنان : ١٦١.

(٥) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٥٠٠.

(٧) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٠.

(٨) النهاية ١ : ٢٠٣. (٩) السرائر ١ : ٩٠.

(١٠) المعتبر : ٢٣.


خلافها مرسلة أبي يحيى الواسطي ، وكيف كان فعنه في المعتبر القول : « بأنّه لا يغتسل بغسالة الحمّام ، إلّا أن يعلم خلوّها من النجاسة » (١) ، وبه صرّح في النافع (٢) بعين تلك العبارة وعن العلّامة في القواعد (٣) نحوه.

وقضيّة الاستثناء في كلاميهما أنّهما يقولان بالنجاسة في غير صورة العلم بالخلوّ عنها ، حتّى مع الشكّ في الخلوّ وعدمه ، كما أنّ مقتضى ما عرفت عن الشيخ والحلّي أنّهما يقولان بالنجاسة مطلقا حتّى مع العلم بالخلوّ ولكن يبطله : أنّ الحكم بالنجاسة بلا علّة داعية إليه ـ وهي الملاقاة ـ ممّا لا يحوم حوله الجاهل ، فضلا عن الفقيه الكامل ، فلا بدّ من تنزيل إطلاق كلاميهما على غير صورة العلم بالخلوّ عن الملاقاة ، فيرجع قولاهما إلى قولي المعتبر والقواعد.

وأمّا ما عرفت عن المحقّق فلا يخلو عن إجمال ، من حيث إنّه خصّ المنع بالتطهير ، فلو أنّ الجهة هي النجاسة لم يتفاوت الحال بينه وبين سائر أنواع الاستعمال ، إلّا أن يحمل على إرادة المثال لنكتة تأدية المطلب بلفظ الرواية تيمّنا.

نعم ، يبقى الكلام في تعليله ، فلو أراد بما ذكره القضيّة الدائمة ، بدعوى : دوام اتّفاق اجتماع غسالة اليهوديّ وغيره في غسالة الحمّام ، فهو ممّا يكذّبه الضرورة ، ولو أراد به القضيّة الغالبة ، بدعوى : غلبة ذلك فيها بحكم العادة ، فهو أيضا بالنسبة إلى هذا الصنف غير مسلّم في غالب الحمّامات ، ولا سيّما أعصارنا هذه ، وبالنسبة إلى نوع النجاسة غير بعيد ، غير أنّ الكلام حينئذ يبقى في مستند الحكم ، وسيتّضح منع وجوده ، كما يتّضح عدم دلالة رواية العلل عليه ، وعلى أيّ تقدير فلو كان مراده القضيّة الاولى كان قوله مغايرا لقول الشيخ والحلّي والمعتبر والقواعد ، لاختصاصه بصورة العلم بالملاقاة ، غاية الأمر يحصل بينه وبينهم خلاف في الصغرى ، ولو كان مراده الثانية رجع قوله إلى قولهم.

فتلخّص من جميع ما ذكر : أنّ صورة العلم بالخلوّ عن ملاقاة النجاسة خارجة عن معقد هذه المسألة ، وأمّا الصورتان الباقيتان فكون إحداهما وهي صورة العلم بملاقاة النجاسة من معقد هذه المسألة محلّ شبهة ، حيث قد عرفت أنّه لا مصرّح بالنسبة إليها بالطهارة عدا ما كان يوهمه ظاهر عبارة العلّامة في المنتهى ، وقد عرفت ما فيه من

__________________

(١) المعتبر : ٢٣.

(٢) المختصر النافع : ٤٤.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.


الاضطراب والاختلال وعدم استقامة دليله.

فبقيت صورة الشكّ ، وفيها قولان : أحدهما : الطهارة وهو للعلّامة وغيره ممّن عرفتهم ، ويظهر من الأردبيلي (١) أيضا.

[وثانيهما] النجاسة : وهو للصدوق والشيخ والحلّي والمحقّق والعلّامة أيضا ، ولا ريب أنّ القول بالنجاسة هنا مخالف لقاعدتهم المشهورة المتسالم عليها ، من أنّ مدار الحكم بالنجاسة على العلم بتحقّق السبب ، ولا يكفي فيه مجرّد الشكّ والاحتمال بل الظنّ أيضا ، فمرجعه إلى التعويل على الظنّ المستند إلى الغلبة ولو نوعا ، كما أنّ مرجع القول بالطهارة إلى عدم العبرة بذلك الظنّ.

فالعمدة في المقام النظر في هذا المطلب ، وليس فيه من الأدلّة الخاصّة إلّا ما عرفت من الروايات ، مضافة إلى صحيحة محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره ، أغتسل من مائه؟ قال : « نعم ، لا بأس أن يغتسل منه الجنب ، ولقد اغتسلت فيه ، ثمّ جئت فغسلت رجلي ، وما غسلتهما إلّا ممّا لزق بهما من التراب » (٢)

وصحيحته الاخرى ، قال : رأيت أبا جعفر عليه‌السلام جائيا من الحمّام وبينه وبين داره قذر ، فقال : « لو لا ما بيني وبين داري ما غسلت رجلي ولا تجنّبت ماء الحمّام » (٣).

ورواية زرارة الموصوفة بالموثّقة ، قال : « رأيت الباقر عليه‌السلام يخرج من الحمّام فيمضي كما هو ، لا يغسل رجليه حتّى يصلّي » (٤).

حكى الاستدلال بها وبسابقتها عن الأردبيلي (٥) ولا بأس به ، بناء على ما أشرنا إليه آنفا من أنّ غسالة الحمّام ما يجتمع في البئر من سطوحه الجاري من خطوطها المياه إليها ، وفعل المعصوم حجّة كقوله إذا كشف عن حكم بعينه ، فلو لا سطح الحمّام مع ما فيه من المياه محكوما عليه بالطهارة ـ مع قيام الشكّ في نجاسته بحكم العادة ـ لما ترك المعصوم التجنّب عنه جزما ، ولا ضير في تركه الاحتياط الراجح ، لمكان كونه بذلك الفعل في مقام التعليم والارشاد ، ويخرج رواية أبي يحيى الواسطي شاهدة ، لعدم

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٩٠.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٢ و ٣ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ و ٣٧٩ / ١١٧٢ و ١١٧٣.

(٤) الوسائل ١ : ٢١١ ب ٩ من أبواب المضاف ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٣٧٩ / ١١٧٤.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٩٠.


صلوحها دليلا مستقلّا بالإرسال الّذي لا جابر له ، وإن عمل بها العلّامة في المنتهى (١).

وأمّا الروايات الباقية فليس فيها أيضا ما يصلح للاستناد إليه بحكم الضعف والارسال إلّا موثّقة العلل ، والظاهر أنّها مستند الصدوق (٢) فيما عرفت عنه ، وهي عند التحقيق لا تعارض ما ذكر أصلا ، لعدم وضوح دلالتها على نجاسة ولا على طهارة ، فإنّ قوله عليه‌السلام : « وفيها يجتمع غسالة اليهودي والنصراني » إمّا أن يكون قيدا للموضوع ، ليكون مفاد الرواية : المنع عن غسالة الحمّام حال كونها يجتمع فيها غسالة هؤلاء ، الموجبة لتنجّسها ، وحاصله اعتبار العلم بملاقاة النجاسة ، فلا تتناول صورة الشكّ.

أو يكون علّة للحكم ، فيكون المنع على الإطلاق لتلك العلّة الموجبة للنجاسة في مطلق الغسالة ، مع تعيّن حمل القضيّة على الغلبة دون الدوام ، صونا لها عن الكذب ، فتكون شاملة لصورة الشكّ أيضا ، غير أنّه لا يتعيّن الحمل على هذا المعنى بعد قيام احتمال آخر مساو له ، مع إمكان دعوى الظهور فيه كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى قوّة احتمال كون المقصود على الاحتمال الثاني تعليل الحكم بما يكون من مقولة الحكمة ـ وهي علّة التشريع ـ دون العلّة الحقيقيّة ، فيكون محصّل المعنى : أنّ غسالة الحمّام لكونها معرضا لأن يجتمع فيها غسالة هؤلاء وأهلا له ، فمن حكمها أن لا يغتسل بها ، وحينئذ كما ترى خرج عن الدلالة على النجاسة بالمرّة.

مضافا إلى احتمال النهي الوارد فيها لكونه تنزيهيّا احتمالا قويّا ، بقرينة ما سنذكر من رواية عليّ بن جعفر ، وإلى ما سبق آنفا من الكلام في دلالة هذه الرواية ونظائرها من جهات اخر.

فالإنصاف : أنّه لا دلالة ثابتة معتبرة على نجاسة غسالة الحمّام في غير صورة العلم بملاقاة النجاسة ، مع عدم سبق الكرّيّة ، فمقتضى الاصول ـ مضافة إلى الصحيحتين وغيرهما ـ الحكم عليها بالطهارة ، ولو مع الظنّ بتحقّق السبب ، ظنّا مستندا إلى العادة والغلبة.

وأمّا صورة العلم بتحقّق السبب مع عدم سبق الكرّيّة ، فعلى مقتضى القاعدة المتقدّمة في القليل الملاقي للنجس ، كما أنّ صورة التغيّر بالنجاسة مع سبق الكرّيّة على قاعدة التغيّر الموجب للنجاسة ، ولا مانع عن شي‌ء من ذلك في المقام ، إلّا ما عساه يقال : من

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.

(٢) الفقيه ١ : ١٠.


معارضة قاعدة الانفعال للصحيحتين المتقدّمتين وغيرهما ، ممّا يقضي بإطلاقه على عدم النجاسة حتّى مع الملاقاة والقلّة ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، غير أنّ الخطب فيه سهل ، لوجود المرجّح في جانب القاعدة ، مع عدم ظهور مخالف فيه ظاهرا كما عرفت.

هذا كلّه في حكمها بالقياس إلى الطهارة ، وأمّا حكمها من حيث الطهوريّة فمحلّ إشكال ، من حيث إنّ الموثّقة المذكورة تضمّنت المنع عن الاغتسال ، وهو شامل لكلا تقديري الدلالة على الطهارة وعدمها.

ويدفعه : أيضا ابتناء ثبوت المنع عن الطهوريّة ـ كالطهارة ـ على جعل ما سبق علّة للحكم لا قيدا لموضوعه ، وإلّا خرج عن دلالته عليه في صورة الشكّ ، لكن الأحوط الاجتناب عنه في مقام الطهوريّة ، كما أنّ الأحوط الجمع بين استعماله في رفع الحدث وبين التيمّم مع الانحصار.

نعم ، الظاهر أنّ كراهة التطهير بها في رفع الحدث مع الاختيار ممّا لا ينبغي إنكاره ، لما في الوسائل عن الكافي ، عن عليّ بن جعفر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : « من اغتسل من الماء الّذي قد اغتسل فيه ، فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلّا نفسه ، فقلت ـ لأبي الحسن عليه‌السلام ـ : أنّ أهل المدينة يقولون : إنّ فيه شفاء من العين ، فقال : كذبوا يغتسل فيه الجنب من الحرام ، والزاني ، والناصب الّذي هو شرّهما وكلّ من خلق الله ، ثمّ يكون فيه شفاء من العين؟ » الحديث. (١) فإنّها وإن كانت ظاهرة في غير محلّ البحث ، غير أنّ الحكم يتعدّى إليه بالأولويّة ، ولا يقدح ما في سندها من الضعف والجهالة في صحّة الاستناد إليها هنا ، تسامحا في أدلّة السنن ، وهذه الرواية لو كانت جامعة لشرائط الحجّيّة من حيث السند ، لكانت صالحة لصرف الروايات المتقدّمة المانعة عن الاغتسال بغسالة الحمّام عن ظواهرها ، بحمل نواهيها على الكراهة والتنزيه ، ولذا احتملناها سابقا فيها ، والله العالم بحقائق أحكامه.

الثالث

في الماء المستعمل في رفع الحدث الأصغر، وهذا أحد أقسام المستعمل ، الّذي ينقسم عندهم إلى ما يكون مستعملا في إزالة حدث ، أو خبث ، أو مطلقا ، والأوّل إمّا في

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٩ ب ١١ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ الكافي ٦ : ٥٠٣ / ٣٨.


حدث أصغر أو أكبر ، والثاني إمّا في الاستنجاء أو غيره ، والثالث هو غسالة الحمّام.

فالمستعمل في الحدث الأصغر ما حكي فيه عن العامّة في منتهى العلّامة (١) اختلافا عظيما وأقوالا متشتّتة ، القول : بأنّه طاهر مطهّر ـ كما عليه أصحابنا ـ وهو لأكثرهم ، وبأنّه : طاهر غير مطهّر ، وهو لمحمّد بن [الحسين] (٢) ، وحكي عن الشافعي في الجديد ، وعن المالك أيضا ، وغيره.

وبأنّه : نجس نجاسة مغلّظة ، كالدم والبول والخمر ، حتّى إنّه إذا أصاب الثوب أكثر من درهم منع أداء الصلاة ، وهو لأبي حنيفة ، وبأنّه : نجس نجاسة ضعيفة ، حتّى إنّه إذا أصاب الثوب أكثر من درهم لم يمنع الصلاة ، وهي لأبي يوسف.

وبأنّه : إن كان المتوضّئ محدثا ، فهو كما قال محمّد ، وإن كان غير محدث فهو طاهر وطهور ، وهو لزفر ، وقيل : إنّه قول للشافعي ، وعنه أيضا أنّه توقّف فيه.

وعن أبي حنيفة الاحتجاج على ما اختاره ، ومثله أبو يوسف « بأنّ هذا الفعل يسمّى طهارة ، وذلك يستدعي نجاسة المحلّ ، فشارك الّذي ازيلت به النجاسة » (٣). وكأنّه اشتباه في القياس ، وإلّا فالحكم بالقياس إلى أنفسهم لعلّه في محلّه ، فإنّ المستعمل في وضوئهم بملاحظة تلك النسبة لا يقصر بحسب الحقيقة عن المستعمل في إزالة البول ، وهذا القياس هو اللائق بالمقام ، لكمال المناسبة بين المقيس والمقيس عليه دون ما ذكر ، لكمال وضوح الفرق بينهما على هذا البيان ، إذ إطلاق الطهارة لا يقتضي مقابلة النجاسة على التعيين ، بل مقابلة أحد الأمرين منها ومن الحدث ، وهما في الشريعة موضوعان متغايران لا يدخل أحدهما في مسمّى الآخر ولا في حكمه ، ولذا لا يسمّى المحدث نجسا ، ولا أنّ ملاقاة المحدث توجب نجاسة الملاقي ، والتفكيك بين أنحاء الملاقاة غير معقول في النجاسات ، فلو أنّ ملاقاة الماء له حال التوضّي تؤثّر نجاسة الماء فملاقاته له في سائر الأحوال أولى بذلك ، والتسمية بالطهارة في الأوّل دون الثاني لا تصلح فارقة بينهما في الحكم بعد ما كان سبب الحكم هو الاستعمال والملاقاة.

فالحقّ : أنّه طاهر في نفسه مطهّر عن الحدث والخبث بلا خلاف يعرف بين أصحابنا ، وعليه نقل الإجماعات في حدّ الاستفاضة ، منها : ما في المنتهى (٤) ، وما عن المعتبر (٥).

__________________

(١ و ٤) منتهى المطلب ١ : ١٢٨.

(٢) كما في الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٨).

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٣٢.

(٥) المعتبر : ٢١.


لنا : على الطهارة ـ مضافا إلى ما ذكر من القواعد ـ أنّ عروض النجاسة له ـ بعد قيام الدليل عموما وخصوصا على أنّ الماء من حكمه بحسب خلقته الأصليّة الطهارة ، وعلى انحصار سبب عروض النجاسة في التغيّر مطلقا ، والملاقاة للنجاسة مع القلّة ـ ممّا لا يعقل بلا تحقّق سببه ، والمفروض منه.

وعلى المطهّريّة من القواعد القاعدة المستفادة من الأدلّة الشرعيّة عموما وخصوصا ، القاضية بأنّ ما جامع وصفي الإطلاق والطهارة مطهّر عن الخبث والحدث صغيرا وكبيرا ما لم يصادفه مانع كالمغصوبيّة ونحوها وهذا منه ، لعدم قيام الدلالة الشرعيّة من كتاب ولا سنّة ولا غيرهما على مانعيّة عروض الاستعمال ورفع الحدث الأصغر له ، من غير فرق في ذلك بين المستعمل في المرّة الاولى ، والمستعمل في المرّة الثانية المستحبّة ، أو في المضمضة ، والاستنشاق ، أو التجديد ، خلافا في الثاني والثالث والرابع للشافعيّة (١) ، المنسوب إليهم أنّ لهم فيها وجهين :

أحدهما : ذلك لأنّه لم يؤدّه فرضا ، والثاني : المنع لأنّه مستعمل في الطهارة ، فإنّ فساد المدرك يقضي بفساد المذهب ، وتأديته فرضا أو ندبا ممّا لا حكم له في الشريعة ، كما أنّ الماء لم يحدّد له في الشرع فعل فضلا عن انحصاره في فعلين.

فما عن الشافعيّة ـ أيضا ـ في إزالة الخبث بماء الوضوء من الوجهين ، « أحدهما : جواز ذلك ، لأنّ للماء فعلين رفع الحدث وإزالة الخبث ، فإذا رفع الحدث بقي تطهير الخبث.

والثاني : المنع وهو المشهور عندهم ، لأنّه مائع لا يزيل الحدث فلا يرفع الخبث كسائر المائعات ، وليس للماء فعلان بل فعل واحد ، وهو رفع أحدهما ، إمّا الحدث أو الخبث لا بعينه ، فأيّهما حصل زالت طهوريّته » (٢) متّضح البطلان لابتناء كلّ ذلك على قياس أو استحسان ، ولا نقول بشي‌ء منهما.

مضافا إلى أنّ القول بأنّ الماء له فعلان ، إن اريد به المرّة فهو دعوى يبطلها ظواهر النصوص كتابا وسنّة ، القاضية بأنّ له وصف الطهوريّة بحسب الماهيّة ، فإنّ إطلاق قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٣) يقضي بأنّ الثابت له إنّما هو ماهيّة وصف الطهوريّة ، وصرف ذلك إلى إثبات فرد من هذا الوصف له يحتاج إلى دلالة معتبرة من

__________________

(١ و ٢) منتهى المطلب ١ : ١٣٢.

(٣) الفرقان : ٤٨.


الخارج ترفع هذا الإطلاق وليست بموجودة ، وإن اريد به الماهيّة بمعنى أنّه ما قام به هذا الوصف بحسب الماهيّة فهي لا ترتفع بالمرّة ، لأنّ الثابت بالأدلّة حينئذ أنّ ماهيّة هذا الوصف في ثبوتها له تتبع الماهيّة المائيّة ، وهي لا تزول بعروض الاستعمال جزما ، فكذلك ما يتبعها لوجود المقتضي وفقد المانع.

هذا مضافا إلى أنّ الأوامر الواردة في دفع الحدث وإزالة الخبث لم ترد إلّا مطلقة ، والأمر ممّا يفيد الإجزاء ، فلو استعمل المستعمل ثانيا في رفع حدث أو إزالة خبث كان إتيانا بالمأمور به على وجهه فيجب إجزاؤه.

وفي حكمه من حيث الطهارة والمطهّرية المستعمل في تعبّد غير حدثي ولا خبثي ، كغسل اليد من نوم الليل أو للتغذّي متقدّما ومتأخّرا ، فإنّه أيضا طاهر ومطهّر للقاعدة الشرعيّة.

فما عن أحمد ـ من العامّة ـ في الحكم الثاني من الروايتين ، أحدهما : المنع ، « لأنّه مستعمل في طهارة تعبّد أشبه المستعمل في رفع الحدث » ليس بشي‌ء ، لبطلان الأصل عندنا ـ كما في المنتهى (١) ـ مع بطلان الصغرى أيضا ، لعدم دخول المفروض في مسمّى الطهارة شرعا.

وقد شاع الاحتجاج على الحكمين معا ، بما في التهذيب عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : لا بأس أن يتوضّأ بالماء المستعمل ، وقال : الماء الّذي يغسل به الثوب ويغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضّأ به ، وأشباهه ، وأمّا الماء الّذي يتوضّأ به الرجل ، فيغسل به يده ووجهه في شي‌ء نظيف ، فلا بأس أن يأخذه غيره ، ويتوضّأ به » (٢).

وما فيه أيضا عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا توضّأ اخذ ما يسقط من وضوئه ، فيتوضّئون به » (٣) وهو في محلّه لو لا قصور سندها بأحمد بن هلال العبرتائي ، المحكوم عليه بالضعف تارة ، وبالغلوّ اخرى ، إلى غير ذلك ممّا قيل فيه وورد في ذمّه ، ويمكن التعويل على روايته الثانية لما عن الغضائري (٤) من أنّه توقّف في

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٣٣.

(٢) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٠.

(٣) الوسائل ١ : ٢٠٩ ب ٨ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣١.

(٤) راجع منتهى المقال ١ : ٣٦٢.


حديثه ، إلّا فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة ، ومحمّد بن أبي عمير من نوادره ، وقيل : وقد سمع هذين الكتابين جلّ أصحاب الحديث ، واعتمدوه فيهما.

وقيل فيه : لعلّ قبول الغضائري والجماعة لما يرويه من الكتابين لتواترهما عندهم وشهرتهما ، وحينئذ فلا يضرّ ضعف الطريق إليهما ، ويحتمل أن يكون قد صنّفهما في حال استقامته ، وهذه الرواية قد رواها عن الحسن بن محبوب ، ولو ثبت عمل الأصحاب كلّا أو جلّا بهما على نحو الاستناد ارتفع الإشكال.

وأضاف إليهما في المنتهى (١) صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب » (٢) ، وذكر أنّ الاستدلال بها من وجهين :

أحدهما : عموم جواز الاستعمال ، سواء استعمل في الوضوء أم لا.

الثاني : أنّه إذا لاقى النجاسة العينيّة كان حكمه جواز الاستعمال ما دام وصف الماء باقيا ، فالأولى إنّه إذا رفع به الحدث مع عدم ملاقاة النجاسة جاز استعماله ، وليس في محلّه لضعف ما ذكره من الوجهين.

أمّا الأوّل : فلمنع ما ادّعاه من العموم ، إذ ليست الرواية إلّا في معرض بيان أنّ غلبة الماء على ريح الجيفة توجب عصمته عن الانفعال بها ، فجاز التوضّي به لأجل ذلك ، فكانت ساكتة عن الجهات الاخر الّتي منها المبحوث عنه.

ولذا لا يقول أحد بجواز استعماله ثانيا بعد ما استعمل في إزالة الخبث ، استنادا إلى تلك الرواية ، مع جريان ما قرّره من العموم فيه أيضا.

وأمّا الثاني : فلمنع الأولويّة بعد البناء على حمل الرواية على الكرّ ، دفعا للمنافاة بينها وبين روايات الانفعال بالملاقاة ، فإنّ الكرّيّة إذا كانت عاصمة له عن ظهور أثر النجاسة فيه فالأولى كونها عاصمة له عن ظهور أثر الحدث فيه ، وأمّا مع القلّة كما ـ هو محلّ البحث ـ فلا عاصم له عن الانفعال ، ومعه كيف يقاس عليه غيره في نقيض هذا الحكم ويدّعي عليه الأولويّة.

نعم ، يمكن الاستناد إلى الأولويّة بالقياس إلى رافع الحدث الأكبر لو قيل فيه

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٣١.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٧ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥.


بالطهارة ـ كما ادّعى عليه الإجماع ـ والمطهّريّة ـ كما عليه جماعة من فحول الأصحاب ـ فإذن يكون ذلك دليلا آخر مضافا إلى ما قرّرناه من القاعدة.

وعن المفيد في المقنعة (١) القول باستحباب التنزّه منه ، بل عنه (٢) ذلك أيضا في ماء الاغسال المستحبّة ، بل الغسل المستحبّ كغسل اليد للأكل ، ومستنده غير واضح.

نعم ، ربّما يعزى إلى شيخنا البهائي في الحبل المتين الاستدلال بما في الكافي عن محمّد بن عليّ بن جعفر عن الرضا عليه‌السلام قال : « من اغتسل فيه فأصابه الجذام ، فلا يلومنّ إلّا نفسه » (٣) قائلا ـ بعد إيراد الخبر ـ : « وإطلاق الغسل في هذا يشمل الغسل الواجب والمندوب وفي كلام المفيد في المقنعة تصريح بأفضليّة اجتناب الغسل والوضوء بما استعمل في طهارة مندوبة ، ولعلّ مستنده هذا الحديث ، وأكثرهم لم يتنبّهوا له » (٤) انتهى.

أقول : وكان ما نقله رحمه‌الله خبر آخر عثر عليه مخصوص بما استعمل في الوضوء ، وإلّا فلو كان إشارة إلى الخبر المتقدّم في ذيل مسألة غسالة الحمّام فالاستناد إليه في هذا المقام ليس من شأن العامي فضلا عنه ومن هو دونه ، لاختصاص هذا الخبر على ما هو صريح صدره وذيله بالماء الّذي يغتسل فيه.

ومن هنا أورد عليه في الحدائق : « بأنّ عجز الرواية المذكورة يدلّ على أنّ مورد الخبر المشار إليه إنّما هو ماء الحمّام » ، إلى أن قال : « وهذا أحد العيوب المترتّبة على تقطيع الحديث ، وفصل بعضها عن بعض ، فإنّ بذلك ربّما تخفى القرائن المفيدة للحكم كما هنا » (٥) انتهى ، كما أنّه كذلك لو كان إشارة إلى ما عن الكافي ، عن محمّد بن عليّ بن جعفر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « من أخذ من الحمّام خرقة فحكّ بها جسده فأصابه البرص ، فلا يلومنّ إلّا نفسه ، ومن اغتسل من الماء الّذي قد اغتسل فيه ، فأصابه الجذام فلا يلومنّ إلّا نفسه » (٦) نعم لو قيل بجريان قاعدة التسامح وأدلّة السنن في مثل فتوى فقيه واحد كان استحباب الاجتناب متّجها من غير إشكال ، كما لا يخفى.

__________________

(١ و ٢) المقنعة : ٦٤.

(٣) الوسائل ١ : ٢١٩ ب ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٢ ـ الكافي ٦ : ٥٠٣ / ٣٨.

(٤) الحبل المتين : ١١٦.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٦) الوسائل ١ : ٢١٩ ب ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٢ ـ الكافي ٦ : ٥٠٣ / ٣٨.


والرابع

في الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ، وقد اختلفت كلمة جماعة من المتأخّرين في تفسيره على ما هو محلّ نزاعهم الآتي ، ففي المدارك : « والمراد بالمستعمل : الماء القليل المنفصل عن أعضاء الطهارة » (١) وإنّما عبّر بالطهارة ليشمل المستعمل في الوضوء أيضا ، واعتبار القلّة لأنّ الكثير إذا حصلت الطهارة به لا يدخل في مسمّى المستعمل عندهم ، وليس من محلّ كلامهم على ما يظهر من تتبّع تضاعيف عباراتهم ، واعتبار الانفصال يقضي بأنّه ما لم ينفصل عن العضو لا يسمّى مستعملا ، وستعرف أنّ ذلك ليس بمحلّ وفاق بينهم.

وعن العلّامة في النهاية : « أنّه الّذي جمع من المتقاطر من الأعضاء » (٢) وذلك تقضي بأنّ النزاع فيما يحصل به الغسل الترتيبي دون الارتماسي ، وستعرف إن شاء الله أنّه غير مختصّ به.

وعن صاحب المعالم : « أنّه يفهم من كلامه أنّ النزاع في الماء المنفصل عن جميع البدن أو أكثره » (٣).

وفي شرح الدروس : « أنّه القدر المعتدّ به الّذي يكون زائدا على القطرة والرشحة ، إمّا بأن ينفصل مرّة عن البدن أو لا ، بل اجتمع ممّا انفصل عنه مرارا » (٤). وإنّما اعتبر القدر المعتدّ به ليعمّ ما ينفصل عن جميع البدن أو أكثره ، أو ما دون الأكثر ممّا زاد على القطرة والرشحة ، وقد نبّه بذلك على أمرين :

أحدهما : خروج القطرة ونحوها عن موضع النزاع ، كما صرّح به أيضا فيما تقدّم على تلك العبارة.

وثانيهما : دفع كلام صاحب المعالم فيما عرفت منه ، الظاهر في الاقتصار على القسمين الأوّلين ، القاضي بخروج القسم الثالث عن النزاع.

واحتجّ على الأمر الأوّل بكلام الصدوق المشعر بذلك ، فإنّه ـ مع منعه التطهير بغسالة الجنب ـ قال : « وإن اغتسل الجنب فنزا الماء من الأرض فوقع في الإناء ، أو سال

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٧.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٤١.

(٣) حكى عنه في مشارق الشموس : ٢٤٩.

(٤) مشارق الشموس : ٢٤٩.


من بدنه في الماء ، فلا بأس » (١) قائلا : « بأنّ هذا يشعر بما ذكرنا ، ولا يخفى أنّه لو كان النزاع فيه ـ يعني في مثل القطرة أيضا ـ يكون الروايات المتقدّمة آنفا ـ يعني ما أقامه من الأخبار دليلا على طهارة هذا الماء ، وسيأتي بيانها ـ من روايتي الفضل ، ورواية شهاب ، ورواية سماعة ، ورواية عمر بن يزيد ، دالّة على ما اخترناه من جواز رفع الحدث (٢) الخ ».

وأنت خبير بما فيه من اعتماده في تشخيص محلّ النزاع على مجرّد الإشعار ، إن أراد به ما دون الدلالة المعتبرة ، وإلّا فأصل الإشعار ممنوع ، إذ لا منافاة بين اعتقاد الصدوق بكون مثل القطرة من محلّ النزاع وبين ما ذكره في الفرع المتقدّم ، لجواز ابتناء ذلك الفرع على حصول الاستهلاك ، وخروج القطرة الواقعة في الإناء عن عنوان المستعمل بذلك الاستهلاك ، مع كونها في حدّ ذاتها من محلّ النزاع.

وإنّما يظهر الفائدة فيما لو كانت القطرة ممتازة غير مستهلكة في شي‌ء ، فحينئذ لو أخذت من محلّها وجعلت جزءا من ماء الغسل ، بأن يغسل بها جزء من أعضاء الطهارة ، كان منع المانعين عن التطهير بغسالة الجنب مثلا شاملا له ، على تقدير دخولها في محلّ النزاع.

ومن هنا ينقدح ضعف ما ذكره بالنسبة إلى الروايات من دلالتها على مختاره ، فإنّ الدلالة على جواز التطهير فرع المنافاة بين القول بعدم جوازه ومفاد تلك الروايات ، وقد بيّنّا انتفاء المنافاة.

وبذلك أيضا يظهر وهن ما احتجّ به ثانيا ـ على ما زعمه من خروج مثل القطرة عن محلّ النزاع : « من أنّ الشيخ رحمه‌الله مع كونه من المانعين روى أكثر هذه الروايات في التهذيب ، ولم يتعرّض لردّ أو تأويل وإيراد معارض ، فهذا أيضا يشعر بعدم الخلاف فيه » (٣) فإنّ تجشّم هذه الامور إنّما هو بعد المنافاة ، وهذه الروايات قد وردت في مورد خرج عن مسمّى المستعمل بالاستهلاك ، وإنّما يقول الشيخ بالمنع في المستعمل ما دام هذا الوصف لا مطلقا ، فالموضوع متعدّد ومعه لا يعقل التنافي ليوجب تجشّم أحد الامور المذكورة.

ثمّ ، إنّه احتجّ على الأمر الثاني : « بأنّه لا دليل على ذلك ، إذ عباراتهم مطلقة في

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٦.

(٢ و ٣) مشارق الشموس : ٢٤٩.


المنع عن الماء الّذي اغتسل به ، غايته أنّه يفهم من بعض كلماتهم ـ كما نقلنا ـ عدم المنع من القطرة والرشحة ، وهذا لا يستلزم كون النزاع فيما ذكره ، بل الظاهر ما ذكرناه » (١)

وفيه : ما فيه ممّا مرّ ، ومن أنّه قائل لنفسه.

ثمّ إنّه بعد ما ذكر هذا الكلام ، ذكر : « أنّ ما ذكره العلّامة في النهاية من التفسير المتقدّم يؤيّده ما ذكرناه » (٢) وهو أيضا كما ترى فإنّ كلام العلّامة ظاهر في اعتبار أمرين ، أحدهما : الانفصال عن جميع البدن ، لمكان تعبيره بالأعضاء الظاهر في العموم ، وثانيهما : اعتبار الجمع بين ما انفصل عن كلّ واحد من الأعضاء ، وبذلك يفارق ما عرفت عن المدارك عنه ، فإنّه ظاهر في اعتبار القطرة أيضا ، لأنّ كلّ واحد من القطرات المنفصلة عن الأعضاء ماء قليل منفصل عن عضو الطهارة.

فتلخّص بما ذكر : أنّ التفاسير الأربع المذكورة بينها شي‌ء هو ما به اشتراكها ، وشي‌ء آخر هو ما به امتيازها.

أمّا الأوّل : فأمران ، أحدهما : الدلالة على اعتبار الانفصال عن العضو ، وثانيهما : الدلالة على خروج فضل الماء الّذي يتطهّر به عن المتنازع فيه ، وهو كذلك وإن كان الأوّل منظورا فيه ، لما أشرنا إليه وستعرف تفصيله.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما في المدارك ظاهر في كون القطرة بانفرادها أيضا من محلّ النزاع بخلاف الثلاث الباقية ، غير أنّها أيضا تمتاز بأنّ ما في النهاية ظاهر في اعتبار الانفصال عن جميع البدن بخلاف الباقيين ، فإنّ ما عن صاحب المعالم ظاهر في اعتبار أحد الأمرين من الانفصال عن جميع البدن والانفصال من أكثره ، وما في شرح الدروس ظاهر بل صريح في اعتبار أحد الامور الثلاث من الانفصال عن جميع البدن أو أكثره أو ما دون الأكثر ممّا زاد على القطرة.

فما في المدارك أعمّ من الجميع لظهوره في اعتبار أحد الامور الأربع ، الّتي منها القطرة المنفصلة ، وهو الأظهر بملاحظة بعض أدلّة الطرفين ، فإنّ المجوّزين للتطهير بذلك يستدلّون بأنّه ماء مطلق ولم يسلبه الاستعمال إطلاق الاسم ، فيجب أن يكون مجزيا في التطهير المعلّق على الماء المطلق ، وهو كما ترى متناول للقطرة أيضا ، إذا

__________________

(١ و ٢) مشارق الشموس : ٢٤٩.


حصل بها غسل جزء من العضو ، والمانعون يستدلّون بأنّ استعمال هذا الماء في التطهير ممّا لا يحصل معه تيقّن البراءة ، فيجب أن لا يكون مجزيا ، وهو أيضا شامل للقطرة الّتي يحصل بها غسل الجزء من العضو.

وكيف كان فالكلام في هذا الماء تارة في طهارته ، واخرى في طهوريّته.

أمّا الأوّل : فهو مفروغ عنه بين أصحابنا ، إذ لا خلاف لأحد في الطهارة ، ونقل عليه الإجماع في حدّ الاستفاضة ، نعم أسند الاختلاف فيه إلى العامّة في المنتهى (١) على حذو اختلافهم في ماء الوضوء ، ويكفينا في إثبات الطهارة ـ مضافا إلى ما أشرنا إليه ـ ما قدّمناه من القاعدة ، فإنّ سبب الانفعال هو الملاقاة للنجاسة وهو غير متحقّق هنا ، وكون مجرّد الاستعمال رافعا للطهارة الأصليّة ممّا لم يقم عليه دلالة معتبرة ، وإلى ذلك أشار العلّامة في المنتهى بقوله : « ولأنّ التنجيس حكم شرعي ، فيتوقّف ثبوته على الشرع ، وليس في الشرع دلالة عليه » (٢) ، وأضاف إليه وجها آخر وهو : « أنّ القول بالتنجيس مع القول بطهارة المستعمل في الوضوء ممّا لا يجتمعان إجماعا ، والثاني ثابت إجماعا ، فينتفي الأوّل ، وإلّا لزم خرق الإجماع » (٣).

ويدلّ عليه أيضا روايات مستفيضة قريبة من التواتر ، بل متواترة هي بين صحاح وموثّقات وغيرهما.

منها : ما في التهذيب ـ في صفة الوضوء ـ عن الفضيل قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يغتسل فينتضح الماء من الأرض في الإناء؟ فقال : « لا بأس ، هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) » (٤) (٥).

ومنها : ما في الكافي ـ في باب اختلاط ماء المطر بالبول ـ عن شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « في الجنب يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء ، وينتضح الماء من الأرض ، فيصير في الإناء ، أنّه لا بأس بهذا كلّه » (٦).

ومنها : ما في التهذيب ـ في الباب المذكور ـ عن عمّار بن موسى الساباطي ، قال :

__________________

(١ و ٢) منتهى المطلب ١ : ١٣٣.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٣٤.

(٤) الحج : ٧٨.

(٥) الوسائل ١ : ٢١١ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٨٦ / ٢٢٥.

(٦) الوسائل ١ : ٢١٢ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٦ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٦.


سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يغتسل من الجنابة ، وثوبه قريب منه ، فيصيب الثوب من الماء الّذي يغتسل منه؟ قال : « نعم ، لا بأس به » (١).

ومنها : ما فيه في الباب المذكور عن بريد بن معاوية ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام اغتسل من الجنابة ، فيقع الماء على الصفاء ، فينزو ، فيقع على الثوب؟ فقال : « لا بأس به » (٢).

ومنها : ما تقدّم في غسالة الحمّام ، من مرسلة أبي يحيى الواسطي ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال : « لا بأس » (٣).

ومنها : ما سبق ذكره في بحث القليل ، في جملة الأخبار المستدلّ بها على عدم الانفعال ، من رواية عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أغتسل في مغتسل يبال فيه ، ويغتسل من الجنابة ، فيقع في الإناء ماء ينزو من الأرض؟ فقال : « لا بأس به » (٤).

ومنها : ما في التهذيب في باب حكم الجنابة ، عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا أصاب الرجل جنابة ، فأراد الغسل فليفرغ على كفّيه ، فليغسلهما دون المرفق ، ثمّ يدخل يده في إنائه ، ثمّ يغسل فرجه ، إلى أن قال ـ : « فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس » (٥).

وهذه الأخبار هي الّتي توهّم منها المحقّق الخوانساري الدلالة على عدم المنع عن التطهير بماء الغسل ، على فرض كون القطرة أيضا من محلّ النزاع ، وقد عرفت منع هذه الدلالة ، فإنّها غير دالّة على حكم التطهير إثباتا ونفيا كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : ففيه خلاف بين أصحابنا على قولين ، بل أقوال إن صحّ عدّ التوقّف قولا في المسألة.

أحدهما : جواز التطهير به وهو الأقوى ، وفاقا للمنتهى (٦) والمختلف (٧) ، والدروس (٨) ، والمدارك (٩) والحدائق (١٠) ، والرياض (١١) ، والمحكيّ عن

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ٢١٤ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١١ و ١٢ ـ التهذيب ١ : ٨٦ و ٨٧ / ٢٢٦ و ٢٢٩.

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ٩ و ٧ ـ الكافي ٣ : ١٥ و ١٤ / ٤ و ٨.

(٥) الوسائل ٢ : ٢٣١ ب ٢٦ من أبواب الجنابة ح ٨ ـ التهذيب ١ : ١٣٢ / ٣٦٤.

(٦) منتهى المطلب ١ : ١٣٣. (٥) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٤.

(٨) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢. (٩) مدارك الأحكام ١ : ١٢٧.

(١٠) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٨. (١١) رياض المسائل ١ : ١٧٧.


الغنية (١) ، والقواعد (٢) ، والإرشاد (٣) ، والذكرى (٤) ، والتنقيح (٥) والروض (٦) ، والجعفريّة (٧) ، وجامع المقاصد (٨) ، ومجمع الفائدة (٩) ، ونسب إلى محكيّ جمل العلم (١٠) ، والناصريّات (١١) ، والمراسم (١٢) ، والسرائر (١٣) ، وبعض مصنّفات المحقّق (١٤) والتذكرة (١٥) ، ونهاية الإحكام (١٦) ، والبيان (١٧) وشرح القواعد للسيّد عميد الدين (١٨) والمعالم (١٩) والذخيرة (٢٠) ، والحبل المتين (٢١) ، وفي الحدائق : « أنّه المشهور بين المتأخّرين » (٢٢) ، وفي المدارك : « ذهب إليه المرتضى ، وابن إدريس وأكثر المتأخّرين » (٢٣).

وثانيهما : المنع عن التطهير به ، وهو المحكيّ عن الصدوقين (٢٤) ، والشيخين (٢٥) ، وابني حمزة (٢٦) والبرّاج (٢٧) ، وعن الشيخ في الخلاف (٢٨) نسبته إلى أكثر الأصحاب ، ويظهر من المحقّق في كتبه الثلاث المعتبر (٢٩) والشرائع (٣٠) والنافع (٣١) التوقّف ، بل صرّح بالتردّد في الشرائع (٣٢) ، وإن جعل المنع أحوط.

وربّما يستشمّ من الشيخ أنّه قائل بجواز الاستعمال في حال الضرورة ، حيث إنّه

__________________

(١) غنية النزوع : ٤٩.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٣) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٣. (٥) التنقيح الرائع ١ : ٥٨.

(٦) روض الجنان : ١٥٨. (٧) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦).

(٨) جامع المقاصد ١ : ١٢٧. (٩) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٤.

(١٠) الجمل والعلم (رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٢٢).

(١١) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ، ١ : ١٣٨).

(١٢) المراسم (سلسلة الينابيع الفقهيّة ، ١ : ٢٤٥).

(١٣) السرائر ١ : ٦١. (١٤) لم نعثر عليه.

(١٥) تذكرة الفقهاء ١ : ٣٥. (١٦) نهاية الإحكام ١ : ٢٤١.

(١٧) البيان : ١٠٢. (١٨) حكى عنه في المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٦.

(١٩) فقه المعالم ١ : ٣٣٢. (٢٠) ذخيرة المعاد : ١٤٢.

(٢١) الحبل المتين : ١١٦. (٢٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٨.

(٢٣) مدارك الأحكام ١ : ١٢٦. (٢٤) حكى عنهما في مختلف الشيعة ١ : ٢٣٣ ـ ١ : ١٠.

(٢٥) المفيد في المقنعة : ٦٤ والطوسي في المبسوط ١ : ١١. (٢٦) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ، ١ : ٤١٤). (٢٧) جواهر الفقه : ٨ المسألة ٤.

(٢٨) الخلاف ١ : ١٧٢ المسألة ١٢٦.

(٢٩) المعتبر : ٢١. (٣٠ و ٣٢) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٣١) المختصر النافع : ٤٤.


في كتابيه التهذيب (١) والاستبصار (٢) ـ بعد ما أورد فيهما الرواية الآتية عن عليّ بن جعفر المؤذنة بالجواز ـ أخذ بحملها على الضرورة المستفادة من سياقها أيضا ـ على ما قيل ـ ولكن كون ذلك مذهبا له محلّ إشكال ، حيث إنّ التأويل لدفع التنافي لا يستلزم اختياره مذهبا ـ كما تنبّه عليه في الحدائق (٣) ـ ونظيره كثير الوقوع في كلامه في الكتابين كما لا يخفى على المتتبّع.

وبالجملة : فحجّة القول الأوّل ـ من المحصّل ، والمحكيّ ، والمزيّف ، والصحيح ـ وجوه :

أوّلها : الإجماع المحكيّ عن الناصريّات (٤) ، المعتضدة بالشهرة المتأخّرة ، المحكيّة في كلام جماعة ، وهو لمن يراه حجّة بالخصوص في محلّه ، إن لم يكن موهونا بمصير جماعة من أعاظم القدماء إلى خلافه.

وثانيها : أصالة بقاء المطهّريّة الثابتة قبل الاستعمال ، ولا يعارضها أصالة بقاء الحدث الثاني على ما قرّر في محلّه ، كما أنّه بالاستعمال لا يخرج عن موضوعه الأوّل ، وهو أيضا في محلّه إن لم يكن في مقابله ما يرفع موضوعه.

وثالثها : أصالة بقاء الأمر بالغسل الثابت قبل انحصار الماء في المفروض ، وهو فاسد لرجوعه بالقياس إلى إثبات المطهّريّة لهذا الماء إلى الأصل المثبت ، ضرورة أنّ المطهّريّة له ليست من الأحكام الثابتة للمستصحب في الحالة السابقة حتّى يحكم ببقائها في الحالة اللاحقة ، لكونها مشكوكا فيها في كلتا الحالتين كما لا يخفى ، وبذلك يستغني عن تجشّم معارضة ذلك بأصالة بقاء الحدث.

ورابعها : إطلاق الأمر بالغسل ، لصدق امتثاله باستعمال الماء المفروض ، وحاصله : أنّ استعمال هذا الماء في رفع الحدث ونحوه غسل ، وكلّ غسل موجب لامتثال الأمر به ومقتض للإجزاء ، أمّا الصغرى : فواضحة ، وأمّا الكبرى : فلإطلاق الأوامر الواردة بالغسل كتابا وسنّة ، والمناقشة فيه : بخروج الماء المفروض بسبب الاستعمال عن كونه مطهّرا ، مصادرة لا يعبأ بها.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٧ ح ١٣١٨ ـ واكتفى فيه بنقل الرواية فقط من دون حملها على الضرورة.

(٢) الاستبصار ١ : ٢٨ ب ١٤ ذيل حديث ٢.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٤٠.

(٤) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٩).


نعم ، قد يناقش بمنع اعتبار هذا الإطلاق ، لانصرافه إلى الغالب ، وهو الاغتسال بالماء الّذي لم يستعمل في الحدث الأكبر.

ويمكن دفعه : بأنّ الانصراف المدّعى إن اريد به ما هو بالقياس إلى لفظ « الماء » فهو في حيّز المنع ، لأنّ الغلبة والندرة إنّما تلاحظان فيما بين الأفراد الأوّلية للمطلق ، الممتازة بعضها عن بعض بمشخّصاتها الّتي عليها مدار وجوداتها وبها ينوط فرديّتها له ، والماء المستعمل في الحدث الأكبر بوصف أنّه مستعمل فيه ليس منها ، لعدم كون هذا الوصف من مشخّصاته بالمعنى المذكور ، وإنّما هو من طوارئه العارضة له بعد وجوده وتشخّصه بمشخّصاته ، فهو لا يدخل في عداد الأفراد الّتي يلاحظ بينها ـ لمجرّد الفرديّة ـ غلبة وندرة ، فيحمل المطلق على ما هو الغالب منها دون النادر ، بل « الماء » ينبغي أن يلاحظ بالنسبة إليه مطلقا ، لكونه مجامعا لكل واحد من أفراده الحقيقيّة ، المتمايزة بحسب المشخّصات الخارجيّة.

ولو قيل : بأنّ قضيّة هذا البيان كون حيثيّة الاستعمال في الحدث الأكبر من الأحوال الطارئة للماء ، فلا بدّ وأن يراد بالإطلاق المستدلّ به في الدليل المذكور ما يلاحظ بالقياس إلى الأحوال ، حتّى يثبت جواز استعمال الماء حال كونه مستعملا في الحدث الأكبر أوّلا ، أو أنّها من الصفات الطارئة له الزائدة على مشخّصاته ، فلا بدّ من إحراز الإطلاق بالنسبة إلى الصفات ليندرج فيه محلّ البحث ، فحينئذ يتوجّه دعوى الانصراف إلى غير تلك الحالة ، أو غير هذه الصفة.

لدفعه : منع الانصراف الناشئ عن غلبة حصول غير تلك الحالة أو الصفة ، إذ لا ندرة في عروض وصف الاستعمال في الحدث الأكبر للماء بحسب الخارج بالقياس إلى سائر الأحوال والصفات العارضتين له ، كما لا يخفى.

ومن هنا يتّجه منع الانصراف ودعوى الغلبة لو قرّر الإطلاق بالقياس إلى الأفراد وجعل هذا الماء من جملتها ، ضرورة أنّه لا ندرة في هذا الفرد أصلا في الوجود الخارجي بالنسبة إلى كثير من الأفراد الاخر كما لا يخفى ، بل الظاهر أنّ من يدّعي الانصراف هنا لا يدّعيه من هذه الجهة.

وإن اريد به ما هو بالقياس إلى لفظي « الغسل » و « الاغتسال » ، فيخدشه : منع


جريان قاعدة الانصراف في المشتقّات ، لما قرّر فيها من كونها مأخوذة من المبادئ المجرّدة عن اللام والتنوين ، الموضوعة للماهيّات لا بشرط شي‌ء ، فيجب أن تعتبر المشتقّات أيضا على هذا الوجه.

لكن يدفعه : أنّ كون اشتقاقها باعتبار الوضع اللغوي من هذا الباب لا ينافي طروّ الانصراف لها في لحاظ العرف والإطلاق ، لما طرأ أفراد مباديها من الاختلاف في الغلبة والندرة.

فالإنصاف : أنّ الانصراف من الجهة المذكورة ممّا لا مجال إلى إنكاره ، إذ المتبادر من قول القائل : « غسلت واغتسلت ، واغتسل » ، ونحوه إنّما هو ما يحصل بغير المستعمل في الحدث الأكبر ، وهو الفرد الشائع المتعارف الغالب في الوجود.

فما قيل في دفع الانصراف ـ بهذا المعنى ـ : من أنّه في غاية الضعف لصدق « الماء » على المفروض من جهة عدم صحّة السلب ، وصحّة التقسيم ، والتقييد به وبغيره ، وحسن الاستفهام ، وصدق الامتثال بالإتيان به إذا أمر بالإتيان بالماء ، وتبادر القدر المشترك بينه وبين غيره من إطلاق الماء ، وأنّ المخرج عن الإطلاق لا يكون إلّا وصف الاستعمال ، وهو غير صالح له وإلّا كان كلّ ماء مستعمل في طهارة من الحدث أو الخبث أو في غير طهارة ماء مضافا ، والبديهة تشهد بخلافه ـ ليس في محلّه ، لابتنائه أوّلا : على الغفلة عن فهم المقصود بالانصراف هنا ، وثانيا : على الاشتباه في فهم معنى مطلق الانصراف ، فإنّه حيثما ادّعى ممّا لا ينبغي مقابلته بشي‌ء من الوجوه المذكورة ، كما لا يخفى والمفروض أنّه ثابت بالقياس إلى لفظي « الغسل » و « الاغتسال » وما اشتقّ منهما.

فالأولى أن يجاب عنه : بأنّ التبادر العرفي عند الإطلاق وإن كان مسلّما ، غير أنّ الّذي يظهر بملاحظة النظائر أنّ هذا التبادر نوعا ملغى في نظر الشارع ، بمعنى أنّه لم يرتّب عليه حكما ولم يعتبره على وجه يكشف عن المراد ، بل الّذي اعتبره في تعليق الأحكام على هذين اللفظين وما يشتقّ منهما إنّما هو نفس الماهيّة الصادقة على الغالب والنادر ، كما يفصح عنه الإجماع على جواز استعمال المستعمل في الوضوء في رفع الحدث ثانيا ، وعلى جواز استعمال محلّ البحث في إزالة الخبث كما يأتي التنبيه عليه ، وعلى جواز استعمال المياه الكبريتيّة والنفطيّة مطلقا وما أشبه ذلك ، مع أنّ الكلّ مشارك للمقام في الندرة وعدم الانصراف عند الإطلاق ، وستسمع نظير هذا التحقيق عن السيّد


المرتضى في بحث المضاف ، وإن كان ذلك منه في غير محلّه.

وخامسها : عموم ما دلّ على أنّ الماء مطهّر ، كقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (١) ونحوه ، والأولى أن يقال في تقريبه : بأنّ العمومات الواردة في طهوريّة الماء كتابا وسنّة ، مضافة إلى الأدلّة الحاكمة عليها المخصّصة لها في موارد مخصوصة ، قد قضت بأنّ الماهيّة المائيّة من حيث هي مقتضية للطهوريّة ما لم يصادفها ما يمنعها عن الاقتضاء ، ويرفع الطهوريّة عنها من العوارض الخارجيّة ، وكون عروض الاستعمال في الحدث الأكبر من جملة الروافع ، ممّا لم يقم عليه من الشرع دلالة معتبرة ، وما اقيم فيه من الدلالة ليست بمعتبرة كما سنبيّنه ، فالمقتضي للطهوريّة عند استعمال الماء المفروض موجود ، والمانع مفقود ، فيجب القول بها.

وما عساه يناقش في ذلك : بأنّ أقصى ما يلزم من ذلك أنّ الماهيّة المائيّة متّصفة بالطهوريّة ، وأمّا أنّها بمعنى رفع الحدث أو الخبث أو هما معا فلا ، فتكون مجملة. سلّمنا أنّها بمعنى رفع الحدث أو مطلقا ، ولكنّه أعمّ من دفعه مرّة أو مرارا ، فلا دلالة فيها على الثاني.

يندفع : بأنّها من حيث هي من الجهة الاولى وإن كانت مجملة ، غير أنّ الأدلّة الخارجيّة قد بيّنها وكشفت عن كونها بالمعنيين معا ، فالماهيّة المائيّة بموجب تلك الأدلّة رافعة للحدث في موارده ، ومزيلة للخبث في محالّة ، وأمّا كون ذلك حاصلا منه مرارا ـ على ما هو من محلّ النزاع ـ فيثبت بمقتضى ما بيّنّاه من كون الوصفين تابعين لأصل الماهيّة مع فرض بقاء الماهيّة في مفروض المسألة ، إذ الكلام فيما لو بقي الإطلاق ، فإذا كانت الماهيّة باقية فهي بنفسها مقتضية للتكرار ، ولا حاجة معه إلى دلالة اخرى.

وبذلك يستغني عمّا قيل في الذبّ عن نظير تلك المناقشة ، من أنّ صيغة « فعول » للتكرار ، فإذا قيل : « فلان ضروب » ، كان معناه : أنّه يكثر منه الضرب ، كما حكي الإشارة إليه أيضا عن الشهيدين في مقام الاحتجاج على الجواز ، بتقريب : أنّ الطهور يتكرّر منه الطهارة ، مع أنّه في أصله فاسد لابتنائه على كون طهور في الآية وغيرها للمبالغة.

وقد تقدّم في مفتتح الكتاب منعه كما أنّ بما بيّنّا من تقريب الاستدلال ـ مضافا إلى ما قرّرناه في دفع المناقشة المشار إليها ـ يندفع ما قيل في المناقشة في عموم الآية

__________________

(١) الفرقان : ٤٨.


ونظائرها ، من أنّ أقصى ما يستفاد من ذلك كون « الماء » مطهّرا ، وأمّا أنّه من الحدث أو الخبث فلا ، لاشتراك الطهارة لفظا بين رفع الحدث وإزالة الخبث ، كما صرّح به العلّامة في المنتهى (١) ، ولو سلّم الاشتراك المعنوي بينهما فهو لا يجدي نفعا في رفع الإشكال ، لكون المشترك المعنوي إذا وقع خبرا أو ما هو بحكمه مجملا ، كما في قولك : « زيد إنسان » فإنّ أقصى ما يدلّ عليه ذلك إنّما هو كون زيد فردا من الإنسان ، وأمّا أنّه أسود أو أبيض أو أنّه عالم أو جاهل فلا دلالة له على شي‌ء من ذلك ، مع كون الإنسان مشتركا بين الكلّ معنى ، والمقام أيضا من هذا الباب ، فإنّ قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٢) إنّما يدلّ على أنّ الماء من أفراد الطهور ، وهو وإن كان مشتركا بين رفع الحدث وإزالة الخبث ، معنى على الفرض ، ولكن توصيف الماء به لا يدلّ على أنّه موصوف بأحدهما معيّنا أو بكليهما ، فيكون مجملا ، فإنّ « طهور » على ما سبق في أوائل الكتاب ـ إنّما هو بمعنى المطهّر المستلزم للطهارة ، المأخوذ عنها بالمعنى اللغوي الّذي فصّله الشرع بالخلوص عن الحدث والخبث ، فالمطهّر على ما فصّله الشرع هو الرافع للحدث المزيل للخبث فلا اشتراك فيه لفظا كما لا إجمال على الاشتراك معنى.

وسادسها : ما قدّمنا الإشارة إليه في بحث ماء الوضوء ، من القاعدة المستفادة عن مجموع الأدلّة الجزئيّة الواردة في أبواب الطهارات وتطهير النجاسات ، الحاكمة بأنّ الماء إذا جامع وصفي الإطلاق والطهارة فهو مطهّر عن الحدث ومزيل للخبث والمفروض منه ، فيجب كونه كذلك ، ودعوى : أنّ الطهوريّة قد حصلت منه بالفرض فلا يصلح لها ثانيا ، تقييد في موضوع القاعدة فلا يصار إليه إلّا بدليل ، وأيّ دليل عليه في المقام.

وسابعها : قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٣) الآية ، فإنّه يدلّ على المنع من التيمّم مع وجود الماء ، فالماء المفروض مع وجوده يوجب أن لا يصدق هنا قضيّة عدم وجدان الماء فلم يجز التيمّم ، ومعه وجب استعماله للإجماع على عدم سقوط الطهارة حينئذ.

والأولى أن يقرّر : بأنّ الآية بمفهومها دلّت على عدم وجوب التيمّم مع وجدان الماء ، وإذا انضمّ إليه الإجماع المذكور مع الإجماع على أنّ التيمّم حيثما لم يجب لم يجز ، ثبت وجوب استعمال الماء المفروض.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٣٢.

(٢) الفرقان : ٤٨.

(٣) المائدة : ٦.


وما عساه يورد عليه : بأنّ أقصى ما دلّت عليه الآية إنّما هو جواز التيمّم مع عدم وجدان الماء ، وعدم جوازه مع وجدانه ، وأمّا أنّ هذا الماء أيّ ماء ، وأيّ نوع منه فليست الآية بصدد تفصيله ، على معنى أنّها ساكتة عن بيان الموضوع وتعيينه بالتعميم والتخصيص.

يدفعه : أنّ الإهمال ينافيه ما هو مفاد الشرطيّة من السببيّة الثانية ، ومرجع الايراد إلى منع العموم في المفهوم ، وقد سبق تفصيل إبطاله في غير موضع ممّا تعلّق بمفهوم قولهم عليهم‌السلام « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه » (١) وقضيّة ذلك : كون وجدان الماء كائنا ما كان مانعا عن التيمّم ، من غير فرق في ذلك بين حمل عدم الوجدان على معناه الظاهر المرادف لعدم التمكّن العقلي ، أو ما يعمّه وعدم التمكّن الشرعي الغير المنافي للتمكّن العقلي ، ليشمل صور وجود الماء المغصوب ونحوه.

فما يقال : من أنّ المراد بعدم وجدان الماء عدم التمكّن من استعماله لا فقده بالمرّة ، وعدم التمكّن كما يكون لعدم القدرة الذاتيّة ، كذا يكون لنهي الشارع عن استعماله لا فقده بالمرّة ، فهذا الماء يحتمل أن يكون منهيّا عن استعماله شرعا فيكون غير متمكّن من استعماله ، كما يحتمل أن يكون مرخّصا فيه فيكون متمكّنا عن استعماله ، فلم يعلم بتعلّق حكم المنطوق به ولا المفهوم. ممّا لا وقع له ، فإنّ مجرّد احتمال المنع الشرعي ـ مع كونه منفيّا بالأصل ـ لا يوجب رفع التمكّن شرعا ، ومعه فالماء المفروض مندرج في المفهوم جزما.

والقول باندراجه في المنطوق المعلّق على عدم التمكّن ، لأنّ ما لم يقم من الشرع دليل على جواز استعماله في الطهارة فالأصل عدمه ، فيكون الآية على هذا التقدير دليلا على المنع ، واضح المنع ، بأنّ جواز الاستعمال ـ بحكم مفهوم الآية المستند إلى انفهام السببيّة التامّة معلّق على القدرة الذاتيّة مع عدم منع الشارع عن الاستعمال وهما حاصلان في المقام ، أمّا الأوّل : فواضح ، وأمّا الثاني : فلعدم قيام المنع المنفيّ احتماله بالأصل.

نعم ، ربّما يشكل ذلك بأنّ ذلك لا يقتضي إلّا جواز استعماله حال الضرورة ، ولعلّه ليس من محلّ النزاع بالنظر إلى ما يأتي ذكره ، فلا يمكن تتميمه بعدم القول بالفصل بالنسبة إلى حالتي الاختيار والضرورة ، إلّا أن يقال في تقريره : بأنّ كلّ ماء جاز استعماله في

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٢.


موضع مظنّة التيمّم ، جاز استعماله في غير موضع مظنّته بالإجماع المركّب ، ويبقى الكلام حينئذ في إثبات هذا الإجماع ليثبت به الملازمة المذكورة ، وهو محلّ تأمّل.

وثامنها : ما احتجّ به العلّامة في المختلف : « من أنّه لو لم يجز إزالة الحدث به لم يجز إزالة النجاسة به ، والثاني باطل ، أمّا أوّلا : فلأنّ الخصم قد سلّم إزالة النجاسة به ، وأمّا ثانيا : فلأنّه ماء طاهر ، فجاز إزالة النجاسة به للأمر بالغسل على الإطلاق.

وأمّا بيان الشرطيّة : فلأنّ النجاسة العينيّة نجاسة حقيقيّة ، والحدث نجاسة حكميّة ، ورافع أقوى النجاستين يجب أن يكون رافعا لأضعفهما » (١) وهو واضح الضعف ، لوضوح منع الملازمة ، ببطلان دعوى الأقوائيّة في النجاسة العينيّة والأضعفيّة في خلافها ، بل القضيّة عند التحقّق منعكسة ، ولذا يغتفر الأوّل في الصلاة في كثير من صورها بخلاف الثاني ، إذ لا يغتفر أصلا إلّا إذا قارن ارتفاع التكليف عن الصلاة بالمرّة ، وكذلك يتسامح في الأوّل بما لا يتسامح في الثاني ، ولذا ترى أنّ زوال الأوّل يحصل بالماء المغصوب ، وبمباشرة الغير ، وبإجبار الغير عليه بخلاف الثاني ، مع أنّ اختلاف حكميهما كمّا وكيفا من أقوى الشواهد بانتفاء الملازمة فيما بينهما شرعا.

وتاسعها : ما احتجّ به في المختلف أيضا ، من « أنّ زوال الطهوريّة عن هذا الماء مع ثبوتها في المستعمل في الصغرى ممّا لا يجتمعان ، والثاني ثابت بالإجماع فينتفي الأوّل ، والدليل على التنافي : أنّ رفع الحدث مع طهارة المحلّ إمّا أن يقتضي زوال الطهوريّة عن هذا الماء أو لا يقتضي ، وأيّا ما كان يلزم عدم الاجتماع ، أمّا على التقدير الأوّل : فلاقتضائه زوال الطهوريّة عن المستعمل في الصغرى ، وأمّا على التقدير الثاني : فلعدم صلاحية علّيّته لإزالة الطهوريّة عن محلّ النزاع ، ولا مقتضي للإزالة سواه ، فيكون الإزالة منتفية عملا بأصالة طهوريّة الماء ، السالمة عن معارضة العلّيّة » (٢) وهذا كما ترى أضعف من سابقه ، فإنّ دعوى عدم اجتماع الحكمين مع تعدّد موضوعيهما كما ترى ، إذ ملاحظة رفع الحدث بعنوان كلّي في بيان عدم الاجتماع ممّا لا معنى له ، بعد ملاحظة أنّه في الصغرى موضوع ، وفي الكبرى موضوع آخر مغاير للأوّل ، وإنّما يختلف الموضوعان باختلاف الإضافة المختلفة بحسب اختلاف المضاف إليه ، فإنّ الحدث

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٥.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٦.


الأصغر مع الحدث الأكبر أمران متغايران ، دلّ على تغايرهما الشرع بما رتّب على كلّ أحكاما غير الأحكام المترتّبة على الآخر ، كما يفصح عن ذلك حرمة دخول المسجدين ، واللبث في سائر المساجد ، وقراءة سور العزائم ، وكراهة الأكل والشرب والنوم بلا وضوء ولا تيمّم مع الثاني ، وانتفاء هذه الأحكام بأسرها مع الأوّل ، واعتبار الموالاة والترتيب بين أجزاء العضو في الأوّل دون الثاني ، ومن البيّن : أنّ اختلاف اللوازم ممّا يكشف عن اختلاف الملزومات.

فحينئذ يتّجه أن يقال ـ في هدم الاستدلال ـ إنّ رفع الحدث في بيان ما ادّعي من عدم إمكان الاجتماع إن اريد به رفع الأصغر ، فهو لا يقتضي زوال الطهوريّة عمّا استعمل فيه ، ولا يدخل فيه رفع الأكبر لما بيّنّاه من المغايرة بينهما ، وإن اريد به رفع الأكبر ، فلو قيل فيه : بأنّه يقتضي زوال الطهوريّة ، فهو ممّا لا رادع له إلّا القياس الباطل ، وتتميمه بأصالة عدم زوال الطهوريّة ممّا يرفع الحاجة إلى تحمّل المشقّة في نظم هذا الوجه العليل بطوله ، وإن اريد به المعنى الأعمّ فمرجعه إلى الخلط بين المسألتين ، فلا يصغى إليه جدّا.

وعاشرها : عدّة من الروايات الّتي منها : ما في التهذيب ـ من الصحيح ـ عن عليّ بن جعفر ، عن أبي الحسن الأوّل عن الرجل يصيب الماء في ساقية ، أو مستنقع ، أيغتسل منه للجنابة ، أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره؟ والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ، ولا مدّا للوضوء ، وهو متفرّق فكيف يصنع؟ وهو يتخوّف أن تكون السباع قد شربت منه؟ فقال : « إن كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة ، فلينضحه خلفه ، وكفّا أمامه ، وكفّا عن يمينه ، وكفّا عن شماله ، فإن خشي أن لا يكفيه ، غسل رأسه ثلاث مرّات ، ثمّ مسح جلده بيده ، فإنّ ذلك يجزيه ، وإن كان الوضوء غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ، ورجليه ، وإن كان الماء متفرّقا فقدر أن يجمعه ، وإلّا اغتسل من هذا وهذا ، وإن كان في مكان واحد ، وهو قليل ، لا يكفيه لغسله ، فلا عليه أن يغتسل ، ويرجع الماء فيه ، فإنّ ذلك يجزيه » (١).

واعلم أنّ صحّة الاستدلال بتلك الرواية وسقمه يستدعي معرفتهما النظر في فهم

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٦ ب ١٠ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٦ / ١٣١٥.


الفقرات الّتي تضمّنتها ، فإنّها غير خالية عن وصمة الشبهة والإجمال في بادي الرأي ، ومن جملة تلك الفقرات ما تضمّنته أوّلا من الأمر بنضح الجوانب الأربع بأربعة أكفّ من الماء ، وبه ورد روايات اخر مثل رواية ابن مسكان قال : حدّثني ، صاحب لي ثقة ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، فيريد أن يغتسل ، وليس معه إناء ، والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال : « ينضح بكفّ بين يديه ، وكفّا من خلفه ، وكفّا عن يمينه ، وكفّا عن شماله ، ثمّ يغتسل » (١).

وعن المحقّق أنّه رواه في المعتبر (٢) نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمّد بن أبي نصر [عن عبد الكريم] ، عن محمّد بن ميسّر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وعن ابن إدريس (٣) أنّه نقله في آخر السرائر من كتاب نوادر البزنطي ، عن عبد الكريم ، عن محمّد بن ميسّر.

وفي الكافي عن الكاهلي ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « إذا أتيت ماء وفيه قلّة ، فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضّأ » (٤).

واختلفوا في محلّ النضح ، وفي الحكمة الداعية إليه ، وفي المسائل (٥) عن المحقّق أنّه في المعتبر (٦) حكى في تفسير نضح الأكفّ قولين :

أحدهما : أنّ المراد منه رشّ الأرض ، ليجتمع أجزاؤها ، فيمتنع سرعة انحدار ما ينفصل من بدنه إلى الماء.

والثاني : أنّ المراد به بلّ جسده قبل الاغتسال ، ليتعجّل قبل أن ينحدر ما ينفصل منه ويعود إلى الماء ، وحكاهما العلّامة أيضا في المنتهى (٧) ، وصاحب المدارك في حاشية الاستبصار (٨) غير أنّه عدل عنهما باستظهار احتمال ثالث ، قائلا : « والّذي يظهر أنّ المراد به نضح الأرض ، لكن لا لهذه الفائدة ، بل لإلقاء الخبث المتوهّم الحاصل في وجه الماء ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية الكاهلي « إذ أتيت ماء وفيه قلّة فانضح عن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٧ ب ١٠ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٨ ـ الوهدة : أي مكان منخفض (منه) ـ الغسل بالكسر ما يغسل به من الماء (منه).

(٢ و ٦) المعتبر : ٢٢.

(٣) السرائر ٣ : ٥٥٥.

(٤) الوسائل ١ : ٢١٨ ب ١٠ من أبواب الماء المضاف ح ٣ ـ الكافي ٣ : ٣ / ١.

(٥) كذا في الأصل.

(٧) منتهى المطلب ١ : ١٣٦.

(٨) حاشية الاستبصار ؛ لم نعثر عليه.


يمينك ، وعن يسارك ، وبين يديك وتوضّأ » (١) ، وفي رواية أبي بصير : « إن عرضك في قلبك شي‌ء فافعل هكذا ، يعني افرج الماء بيديك ثمّ توضّأ » (٢) وتمام الحديث قد تقدّم في بحث انفعال القليل.

وعن بعضهم القول : بأنّ محلّ النضح هو الأرض ، والحكمة فيه عدم رجوع ماء الغسل ، لكن لا من جهة كونه غسالة بل من جهة النجاسة الوهميّة الّتي في الأرض فالنضح إنّما هو لإزالة النجاسة الوهميّة منها.

وعن الآخر القول : بأنّ الحكمة إنّما هي رفع ما يستقذر منه الطبع من الكثافات ، بأن يؤخذ من وجه الماء أربع أكفّ وينضح على الأرض ، نسبه في الحدائق (٣) إلى صاحب المدارك في حاشية الاستبصار ، ولكن عبارته المتقدّمة يأباه كما لا يخفى. وعن بعضهم أيضا أنّ المراد بمحلّ النضح البدن ، لكن الحكمة فيه ترطيب البدن قبل الغسل لئلّا ينفصل عنه ماء الغسل كثيرا ، فلا يفي بغسله لقلّة الماء ، وعن الآخر : أنّ المراد نضح البدن لحكمة إزالة توهّم ورود الغسالة ، إمّا بحمل ما يرد على الماء على وروده ممّا نضح على البدن قبل الغسل الّذي ليس من الغسالة ، وإمّا أنّه مع الاكتفاء بالمسح بعد النضح لا يرجع إلى الماء شي‌ء.

وعن صاحب المنتقى : « أنّ عجز الخبر ـ يعني صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة ـ صريح في نفي البأس ، فحكم النضح للاستحباب » (٤) ، وغرضه بذلك أنّ النضح سواء اريد به نضح الأرض أو البدن ، ليس لحكمة ما قيل من عدم انحدار ما ينفصل من البدن إلى الماء ، وهذا مبنيّ على توهّم دلالة الرواية على عدم المنع عن استعمال المستعمل ، كما أنّ القول المنقولين في المعتبر وغيره مبنيّان على القول بالمنع.

أقول : أمّا القول بأنّ المراد نضح البدن بجميع محتملاته بالنسبة إلى الحكمة ، فممّا ينبغي القطع ببطلانه ، لدلالة صريح رواية الكاهلي ، وظاهر صحيحة عليّ بن جعفر بذلك.

أمّا الأوّل : فلمكان قوله عليه‌السلام ـ بعد الأمر بالنضح ـ : « وتوضّأ » ضرورة : أنّ الجوانب

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٨ ب ١٠ من أبواب الماء المضاف ح ٣ ـ الكافي ٣ : ٣ / ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ـ ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٦.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤١٦.

(٤) منتقى الجمان ١ : ٦٨.


الأربع حينئذ ممّا لا يتصوّر بالنسبة إلى الوضوء ، واحتمال كون التوضّي مرادا به هنا الاغتسال ، كما ترى ممّا لا يصغى إليه.

وأمّا الثاني : فلأنّ قوله عليه‌السلام : « فإن خشي أن لا يكفيه » وإن كان بالقياس إلى ما قبله مجملا ، من حيث احتمال كونه أمرا بالعدول عن نضح الأكفّ في موضع خشية عدم كفاية الباقي من الماء إلى الغسل والمسح اللذين أمر بهما ، فيكون تنبيها على سقوط النضح حينئذ ، واحتمال كونه أمرا بالكيفيّة المذكورة في موضوع الخشية بعد الفراغ عن نضح الأكفّ ، ويكون حاصل المعنى : أنّه إذا صنع النضح كما فصّل فصادف خشية عدم كفاية الباقي فليفعل في طهارته هكذا.

ومنشأ الاحتمالين أنّ الخشية إذا قسناه إلى نضح الأكفّ قبلا وبعدا لا بدّ له من متعلّق مقدّر ، فإمّا أن يكون المعنى : إن خشي قبل أن ينضح أن لا يكفيه ليفعل هكذا ، وإمّا أن يكون أنّه إن خشي بعد ما فرغ عن النضح أن لا يكفيه ليفعل هكذا ، فعلى الأوّل يكون النضح المأمور به معلّقا ، وعلى الثاني يكون مطلقا ، وعلى التقديرين فهو بالقياس إلى ما بعده مفصّل ، لتضمّنه تعليم كيفيّة الغسل والوضوء في محلّ خشية عدم كفاية الباقي من النضح ، مع حصول النضح أو عدم حصوله.

وأيّا ما كان فالوضوء بقرينة التفصيل اللاحق مندرج في الحكم السابق ، سواء اعتبرناه معلّقا أو مطلقا ، وقد عرفت أنّ نضح البدن في جهاته الأربع بالنسبة إلى الوضوء ومريد التوضّي ، ممّا لا معنى له.

فالإنصاف : أنّ المراد بالنضح الوارد في الروايات إنّما هو نضح الأرض ، بدلالة ما قرّرناه ، لكن الكلام يبقى في الحكمة الباعثة عليه ، والّذي يترجّح في النظر القاصر أنّه لأجل إزالة أثر أقدام السباع الّتي منها الكلب والخنزير ، المتوهّم انطباعه على جوانب الساقية أو النقيع من الأرض ، المحتمل بقاؤه بعد ذهابهنّ عن الماء ، لئلّا ينكشف فساد الماء بعد استعماله في الغسل أو الوضوء ، لمكان كونه قليلا قابلا للانفعال بمباشرة نجس العين ، فإنّ الإنسان ربّما يستعمل الماء فيهما ، فيتبيّن له بعده من آثار أقدامهنّ في حوالي الماء وجوانبه الأربع ما تكون ملزوما للعلم العادي بمباشرتهنّ الماء ، فيفسد عليه الطهارة ، ويشقّ عليه الأمر في تطهير ثيابه وأعضاء طهارته مع قلّة الماء وإعوازه.


وممّا يرشد إلى إرادة هذا المعنى قول السائل وهو يتخوّف أن تكون السباع قد شربت منه ، فإنّ السؤال مفروض في موضع احتمال تردّد السباع المستلزم لمباشرة الماء الموجبة لانفعاله ، والجواب خارج على طبقه ، ومراد به التنبيه على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال ، وعدم وجوب مراعاة المباشرة المحتملة بالنظر في تحصيل الأمارات الدالّة عليها ، الّتي منها آثار أقدامهنّ ، ويبقى بعد ذلك احتمال ظهور الفساد بعد الاستعمال بتبيّن المباشرة بحكم العادة المستندة إلى تبيّن أثر الأقدام ، فيتخلّص من ذلك بالنضح على الجوانب الأربع الموجب لزوال الأثر لو كان موجودا في الواقع.

ولا ينافي هذا المعنى ما في رواية ابن مسكان من قول السائل : « فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء » المتعقّب للجواب الآمر بالنضح على النهج المتقدّم ، وإن أوهم في بادي الرأي كونه لحفظ الماء عن ورود الغسل عليه ورجوعه فيه ، ومنه نشأ توهّم الجماعة ظاهرا ، لكون (١) المورد محتملا لتردّد السباع وإن لم يذكره السائل ، وقد علم به الإمام عليه‌السلام فأجاب بموجب ما اقتضاه هذا الاحتمال ، لجواز اعتقاده بأنّ ما فرضه السائل غافلا عن هذا الاحتمال ممّا لا حكم له ، ولا يترتّب عليه أثر ، ولا ينشأ منه محذور بالقياس إلى عدم تعرّضه لبيان ما هو واقع الأمر فيما عرضه السائل على نحو الصراحة ، لأنّ عدم التصريح ببيان حال ما لا حكم له شرعا ليس بمناف للحكمة ، وإنّما المنافي لها عدم التعرّض لبيان حكم ما له حكم في الشرع ، والمقام ليس منه ، مع إفادته إرشاد السائل إلى خلوّ مورد السؤال عن جهة المنع بعد استعمال النضح ، وإن لم تكن تلك الجهة المنبّه على ارتفاعها بذلك العمل ما توهّمه السائل ، والقرينة على ذلك كلّه ما قرّرناه في توجيه صحيحة عليّ بن جعفر ، فإنّ الظاهر أنّ هذه الروايات كلّها واردة في سياق واحد لحكمة واحدة ، وقضيّة ذلك كلّه كون الأمر بالنضح الوارد إرشاديّا مرادفا للاستحباب ، مرادا به إرشاد السائل إلى طريق الاحتياط ، والأخذ بالأوثق الّذي هو حسن في كلّ حال.

وأمّا الوجوه الاخر الّتي ذكروها في المقام فليس شي‌ء منها بشي‌ء.

أمّا الأوّل منها : فلعدم كون رشّ الأرض ملزوما عقليّا ولا عاديّا لإمساك الغسالة

__________________

(١) هذا جواب لقوله : « لا ينافي هذا المعنى ما في رواية ابن مسكان الخ ».


عن انحدارها ولا بطء انحدارها إلى الماء ، بل له مزيد مدخل في استعداد الأرض ، لإفادتها إيّاها سرعة الانحدار إليه ، كما تنبّه عليه ابن إدريس (١) فيما حكي عنه.

وأمّا الثاني ـ الّذي أفاده صاحب المدارك (٢) ـ فيأباه اعتبار كون النضح على الجهات الأربع ، ضرورة أنّ ذلك حكمة تتأتّى بأيّ نحو اتّفق النضح ، مع أنّ النجاسة المتوهّمة إن كان لها حقيقة فلا ترتفع بذلك بالضرورة ، وإن لم يكن لها حقيقة أصلا ـ أي في شي‌ء من الموادّ ـ فلا يترتّب عليه فائدة ، وعلى التقديرين فلا مورد للاحتياط الّذي كان الأمر بالنضح إرشادا إليه ، نظرا إلى الحكمة المذكورة ، ضرورة أنّ طريق الاحتياط لا بدّ وأن يكون ملزوما للتحرّز عن المفسدة المحتملة ، ولذا تراه موجبا لتيقّن البراءة في موارد جريانه.

وبهذا كلّه يتبيّن فساد الثالث ـ المحكيّ عن بعضهم ـ من أنّه لأجل النجاسة الوهميّة الّتي في الأرض ، فإنّ هذا الوهم إن كان له حقيقة فالرشّ لا يجدي نفعا في زوال المقتضي ، بل ربّما يوجب تضاعفه كما لا يخفى ، وإلّا كان لغوا.

وأمّا الرابع : فهو أوضح فسادا من الجميع ، أمّا أوّلا : فلأنّ بيان طريق رفع هذا الاستقذار ليس من وظيفة الشارع لكونه من الامور البيّنة ، وأمّا ثانيا : فلأنّه لا يقتضي اعتبار الكيفيّة المذكورة في الروايات ، بل يتأتّى بالنضح كيفما اتّفق.

فإن قلت : ما ذكرته في إبطال الوجه الثاني والثالث ممّا يرد على ما استظهرته من الحكمة ، لأنّ احتمال مباشرة السباع للماء إن كان له واقع ، فإزالة أثر أقدامهنّ برشّ الأرض ، ممّا لا يجدي حينئذ في ارتفاع هذه الجهة الّتي هي المانعة عن الاستعمال.

قلت : النجاسة في تأثيرها في المنع معلّقة على العلم بها أو بتحقّق سببها ، ورشّ الأرض لإزالة أثر أقدام السباع حيلة اعتبرها الشارع طريقا إلى عدم اتّفاق حصول العلم بتحقّق سبب النجاسة ، إذ بدونه ربّما يحصل العلم به ولو بملاحظة العادة ، وأمّا معه فينعدم ما هو طريق العلم ، وبذلك أمكن أخذ تلك الروايات من أدلّة اعتبار العلم في النجاسات ، بخلاف الوجهين المذكورين ، فإنّ هذا الكلام ممّا لا يجري فيهما جزما ، لاشتراك صورتي الرّش وعدمه في عدم العلم بالنجاسة كما لا يخفى ، فمناط سقوط أحكام النجاسة حاصل على كلا التقديرين ، فإمّا أن يقال حينئذ : بأنّ النضح معتبر بلا

__________________

(١) السرائر ١ : ٩٤.

(٢) المدارك : ١ ص ١٢٥.


فائدة ، أو يقال : بأنّ العبرة في النجاسة بتحقّق أسبابها في متن الواقع لا العلم به ، فالنضح معتبر لإزالة ذلك الأمر الواقعي لا لسدّ طريق العلم به ، وأيّا ما كان فهو باطل جزما.

ومن هنا ينقدح وجه آخر لإبطال هذين الوجهين ، من حيث ابتنائهما على كون النجاسة من الموانع الواقعيّة دون العلميّة وهو فاسد بالأدلّة القطعيّة ، وقد أشرنا إليه في غير موضع ممّا سبق ، ولعلّنا نتعرّض لتفصيل تحقيقه في موضع يليق به.

ومن جملة فقرات الصحيحة المتقدّمة ، أنّها دلّت على اعتبار غسل الرأس ومسح الجلد في الغسل ، وغسل الوجه مع مسح الذراعين في الوضوء ، وقد استشكل في ذلك بعض أصحابنا كصاحب الحدائق قائلا : « بأنّ هذا الخبر قد اشتمل على جملة من الأحكام المخالفة لما عليه علمائنا الأعلام » (١) ثمّ ذكر من جملة ذلك الحكمين المذكورين.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ المسح هنا استعارة لأقلّ ما يقنع به من الماء واستعماله في صورة خشية عدم الكفاية ، وبعبارة اخرى : المراد به هنا الاكتفاء بأقلّ ما يحصل به الواجب من أفراد الغسل ، لا المسح الحقيقي المقابل للغسل ، والقرينة عليه ما ادّعاه من عمل علمائنا الأعلام إن رجع إلى الإجماع ، لأنّه يصلح قرينة على التجوّز ، كما يصلح قرينة على التخصيص وغيره ، بل ولو رجع إلى نقل الكاشف لكان كافيا في ذلك ، لأنّ عملهم يكشف عن وقوفهم على دليل معتبر هو من تلك الرواية بمنزلة قرينة التجوّز ، ومخالفة الإجماع أو عمل العلماء إنّما تصير موجبة لوهن الخبر إذا لم يتطرّق إليه التأويل بشي‌ء من وجوهه ، الّتي منها التجوّز.

ومن جملة فقراتها ما هو محلّ الاستدلال بها على جواز استعمال غسالة الغسل في الطهارة ، من قوله عليه‌السلام : « وإن كان في مكان واحد وهو قليل ، لا يكفيه لغسله ، فلا عليه أن يغتسل ، ويرجع الماء فيه ، فإنّ ذلك يجزيه » فإنّه صريح في نفي البأس عمّا رجع ممّا انفصل عن البدن في الماء ، فلو لا استعمال ذلك جاز في الطهارة لما كان لذلك وجه.

واعترض عليه تارة : باختصاص دلالتها على الجواز في حال الضرورة والمدّعى أعمّ منها ، ولا يمكن تتميمه بالإجماع المركّب ، إذ لم يعلم اتّفاقهم على عدم الفصل ، بل ربّما يمكن تنزيل إطلاق المانعين إلى ما عدا الضرورة ، كما يومئ إليه كلام الشيخ في كتابي

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٦٤.


الحديث ، حيث يحمل الرواية على صورة الضرورة كما سبق الإشارة إليه ، بل ليس ذلك لمجرّد التأويل رفعا للتنافي بين الروايات حتّى يقال : بأنّه لا يستلزم الاختيار ، إنّما هو أخذ بما هو ظاهر الرواية ومفادها ، فيكون اختيارا للمذهب ، لا أنّه مجرّد وجه جمع ذكره في المقام ، فلا إجماع على عدم الفرق ، إن لم نقل بأنّ النزاع إنّما هو في غير حال الضرورة.

والقول بأنّ النهي المستفاد منها بالقياس إلى حالة الاختيار إنّما اعتبر هنا تنزيها ، كما صرّح به العلّامة في المختلف (١) ، ممّا لا يلتفت إليه ، بعد ظهور الرواية في المنع التحريمي ، ومن هنا أمكن جعلها من أدلّة القول بالمنع ، عملا بمفهوم الشرط في قوله عليه‌السلام : « فإن كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله ، فلا عليه أن يغتسل ، ويرجع الماء فيه ».

واخرى : بأنّ نفي البأس في الصورة المفروضة لعلّه من جهة حصول الاستهلاك وصيرورة الماءين واحد ، المستلزمة لعدم صدق عنوان التطهير بالمستعمل ، فتكون الرواية دالّة على الجواز فيما هو خارج عن محلّ النزاع.

وفي أوّل الاعتراضين : أنّه إن اريد به قصور الرواية عن الدلالة على الجواز بالنسبة إلى حال الاختيار ، ولكن بملاحظة ما في كلام السائل من قوله : « إذا كان لا يجد غيره » لا بملاحظة ما في الجواب من فرض وحدة المكان وقلّة الماء معها وعدم كفايته لغسله ، فله وجه ، نظرا إلى أنّ الجواب ينصرف إلى مفروض السؤال ، وليس فيه لفظ عامّ ولا مطلق صالح لأنّ يتناول مورد السؤال وغيره ، فهو بالنسبة إلى حالة الاختيار ساكت نفيا وإثباتا.

وإن اريد به الدلالة على المنع في حالة الاختيار أيضا ، ولكن بملاحظة ما في الجواب من قوله : « وإن كان في مكان واحد وهو قليل ، لا يكفيه » فهو في حيّز المنع ، إذ لا مدرك لهذه الدلالة إلّا قاعدة المفهوم ، وهو إمّا يعتبر من الشرطيّة ، أو من التقييد بوصف وحدة المكان ، أو من التقييد بالقلّة مع عدم الكفاية ، ولا سبيل إلى شي‌ء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ مثل هذا الشرط إنّما يعتبر لبيان موضوع الحكم ، لا للتعليق المنحلّ إلى إفادة لزوم الوجود للوجود والانتفاء للانتفاء ، فلا مفهوم له ، إذ لا معنى لقولنا : « إن لم يكن في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله فعليه بأس أن يغتسل ويرجع الماء فيه »

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٥.


كما لا يخفى ، بل لو كان هناك مفهوم فهو مفهوم موافقة ، لمكان أولويّة عدم البأس مع الفرض المذكور ، وعلى كلّ تقدير فلا يدخل فيه حالة الاختيار إلّا إذا اعتبر المفهوم بالنسبة إلى القيود المذكورة أيضا ، وهو كما ترى خروج عن الاستناد إلى مفهوم الشرط.

وأمّا الأخيران : فلما تقرّر عندنا من عدم حجّيّة مفهوم الوصف ، ولا يلزم بذلك خروج القيود المذكورة لغوا لظهور كون النكتة في اعتبارها هنا سبق السؤال عمّا يستلزمها ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وفي ثاني الاعتراضين : منع تحقّق الاستهلاك مع فرض القلّة ، على نحو لا يكون كافيا في الغسل.

نعم ، يتّجه أن يقال : إنّ الماءين بعد صيرورتهما واحدا لا يصدق عليه المستعمل ولا غير المستعمل ، بل هو مركّب منهما ، والمركّب خارج عن كلّ منهما فيكون خارجا عن المتنازع فيه من هذه الجهة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ الرواية لا تعرّض فيها لحالة الاختيار ، وأمّا في حالة الضرورة فتدلّ على الجواز في المركّب من المستعمل وغيره ، وأمّا المستعمل الصرف فيبقى حكمه غير مستفاد من الرواية نفيا وإثباتا ، ومن هنا يعلم أنّ ما في كلام غير واحد كصاحب الحدائق (١) ، وصاحب المناهل (٢) ، كالعلّامة في المختلف (٣) ، والشيخ في كتابي الحديث (٤) ـ (٥) ، وغيرهما من التزام دلالتها على الجواز مطلقا في حالة الضرورة ليس في محلّه.

ثمّ إنّه لو سلّمنا دلالتها على المنع في حال الاختيار ـ كما توهّم ـ فلا يثبت مطلوب المانعين على الإطلاق ، بل غايته الدلالة على المنع عن استعمال المستعمل في طهارة في نفس تلك الطهارة لا في طهارة اخرى ، كما لو غسل عضو من أعضاء الوضوء أو الغسل بما انفصل عن العضو الآخر ، وهذه المسألة غير مذكورة في كلامهم ، ولا أنّ عناوين المسألة المبحوث عنها شاملة لها ، لكونها بين صريحة وظاهرة في إرادة

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٤٠.

(٢) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ١٤٩.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٥.

(٤) التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٨ ـ واكتفى فيه بنقل الرواية فقط من دون حملها على الضرورة.

(٥) الاستبصار ١ : ٢٨ ب ١٤ ذيل حديث ٢.


التعدّد ، بأن تستعمل ما انفصل عن غسل في طهارة اخرى وضوءا وغسلا آخر.

فالحقّ : أنّ الرواية لو كانت متعرّضة لحالة الاختيار أيضا كانت وجها في التفصيل في استعمال المستعمل بين استعماله في الطهارة الّتي هو منفصل عنها واستعماله في طهارة اخرى ، وإن لم نقف على قائل به من أصحابنا.

ثمّ خرجت الأخبار الآمرة بالتيمّم في جنب ليس عنده من الماء إلّا ما يكفيه من الوضوء شاهدة به أو مؤيّدة له ، وعلى أيّ تقدير فالاستدلال بتلك الرواية على الجواز مطلقا ليس على ما ينبغي.

ومن الروايات المستدلّ بها على هذا المطلب ، صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : كتبت إليه أسأله عن الغدير ، يجتمع فيه ماء السماء ، ويستقى فيه من بئر ، ويستنجي فيه الإنسان من بول ، ويغتسل فيه الجنب ما حدّه الّذي لا يجوز؟ فكتب : « لا توضّأ من مثل هذا إلّا من ضرورة » (١).

وفيه : أنّ سياق الرواية حيث جمع فيه بين الاغتسال والاستنجاء والاستقاء من البئر وماء السماء ، وإن كان يقضي بالكراهة والضرورة رافعة لها ، غير أنّ الاستدلال بها على حكم محلّ البحث مشكل ، لجواز كون الماء المسئول كرّا وما زاد ، إلّا أن يقال : بأنّ الجواب بملاحظة ترك الاستفصال يعمّ الكرّ وما دونه ، ولكن يشكل الحال أيضا بملاحظة ظهور السؤال في فرض الاجتماع بين الامور المذكورة فيه ، فحينئذ يسقط الدلالة على الكراهة ، ضرورة كون بعض هذه الامور مع دخوله في المجموع كافيا في توجّه المنع إذا لم يثبت فيه الرخصة من جهة الخارج كالاغتسال ، وكون ما عدا ذلك موجبا للكراهة مثلا اذا انفرد لا ينافي كون ذلك موجبا للمنع إذا اجتمع مع موجب الكراهة.

ويمكن دفعه : بأنّ جعل الرواية شاملة لصورة الكرّ وما زاد ممّا يرفع ظهور المنع ، بل واحتماله بملاحظة الإجماع على أنّ الاغتسال في الكرّ لا يورث منع الاغتسال ولا مطلق الاستعمال ثانيا.

ومنها : صحيحة صفوان قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحياض الّتي بين مكّة إلى المدينة ، تردها السباع وتلغ فيها الكلاب ، ويشرب منها الخنزير ، ويغتسل فيها الجنب

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٦.


ويتوضّأ منها؟ فقال : وكم قدر الماء؟ قلت إلى نصف الساق وإلى الركبة ، فقال : « توضّأ منه » (١) والاستدلال بها كما ترى في غاية الوهن ، وإلّا لدلّت على عدم انفعال القليل بملاقاة النجاسة أيضا وهو كما ترى ممّا لا يرضى به المستدلّ لكونها محمولة عنده على بلوغ الكرّيّة ولذا تعدّ من أخبار الكرّ وتذكر ثمّة.

ومنها : صحيحة الفضيل قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يغتسل فينتضح الماء من الأرض في الإناء؟ فقال : لا بأس ، وهذا ممّا قال الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) (٣) وقد تبيّن آنفا ضعف الاستدلال بها ، وأضعف منه الاستدلال بصحيحة محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الحمّام يغتسل فيه الجنب وغيره اغتسل من مائه قال « نعم : لا بأس أن يغتسل منه الجنب » (٤).

حجّة المانعين وجوه :

الأوّل : أنّ السلف قد استمرّت عادتهم بعدم جمع الماء المفروض ، وليس ذلك إلّا لكونه غير رافع للحدث الأكبر ، وهو كما ترى أوهن من بيوت العنكبوت ، لما عن الذكرى من « أنّ السرّ في ذلك ندور الحاجة إليه » (٥) مع أنّ عادتهم كما استمرّت بعدم جمعه لرفع الحدث الأكبر ، فكذلك استمرّت بعدم جمعه لإزالة الخبث به ولاستعمال آخر ، مع جواز كلّ ذلك عندكم.

والثاني : ما عن الشيخ رحمه‌الله : من أنّ الإنسان مكلّف بالطهارة بالمتيقّن ، طهارة المقطوع على استباحة الصلاة باستعماله ، والمستعمل في غسل الجنابة ليس كذلك ، لأنّه مشكوك فيه فلا يخرج عن العمل باستعماله ، ولا معنى لعدم الإجزاء إلّا ذلك (٦).

وأجاب عنه العلّامة في المنتهى : « بأنّ الشكّ إمّا أن يقع في كونه طاهرا وهو باطل عند الشيخ ، أو في كونه مطهّرا وهو أيضا باطل ، فإنّه حكم تابع لطهارة الماء وإطلاقه وقد حصلا ، فأيّ شكّ هاهنا » (٧) وهو في غاية الجودة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٦٢ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٧.

(٢) الوسائل ١ : ٢١١ ب ٩ من أبواب الماء المضاف المستعمل ح ١ ـ التهذيب ١ : ٨٦ / ٢٢٥.

(٣) الحجّ : ٧٨.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٧٢.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٣.

(٦) التهذيب ١ : ٢٢١ نقلا بالمعنى.

(٧) منتهى المطلب ١ : ١٣٥.


والثالث : عدّة أخبار :

منها : ما هو العمدة منها من رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل ، وقال : الماء الّذي يغسل به الثوب ، أو يغتسل به الرجل من الجنابة ، لا يجوز أن يتوضّأ منه وأشباهه ، وأمّا الّذي يتوضّأ به الرجل ، فيغسل به وجهه ، ويده ، في شي‌ء نظيف ، فلا بأس أن يأخذ غيره ويتوضّأ به » (١) وهذه ممّا لا ينبغي القدح في دلالتها ، نعم القدح في سندها ـ على ما في كلام أساطين علمائنا ـ كما سبق في بحث غسالة الوضوء ، فإنّه ضعيف بأحمد بن هلال إلّا في وجه غير ثابت الاعتبار عند كثير منهم ، متقدّم عن الغضائري (٢) ، وعلى ثبوت اعتباره ليس ممّا يجدي نفعا في صحّة التعويل عليها ، لكونها موهونة بمصير المعظم إلى خلافها.

وأمّا المناقشة في دلالتها تارة : بكونها محمولة على الغالب ، وهو مصاحبة الجنب للنجاسة.

واخرى : بأنّ لفظة « لا يجوز » ممّا لا يمكن حملها على الحرمة ، لاستلزامه التخصيص في قوله : « بالماء المستعمل » وتخصيص آخر في قوله : « الماء الّذي يغسل به الثوب » فلا بدّ من حملها على الكراهة ، ترجيحا للمجاز على تخصيصين ، ورجحان التخصيص على المجاز إنّما يسلّم مع الاتّحاد لا غير ، وأنت خبير بما في كلّ من الوجهين من الوهن.

أمّا الأوّل : فلأنّ غلبة مصاحبة النجاسة للجنب بما هو هو وإن كانت مسلّمة ، غير أنّ اللفظ المفرد لا بدّ وأن يعتبر ظهوره في التركيب الكلامي ، فإنّ الهيئة التركيبيّة الكلاميّة ربّما توجب انسلاخ ظهور المفردات ، وقوله : « أو يغتسل به الرجل » ظاهر بملاحظة « باء » الاستعانة في الغسل الترتيبي ، إذ لولاه لكان الأنسب التعبير بقوله ، « يغتسل فيه الرجل » كما لا يخفى ، ولا ريب أنّ الغالب في الاغتسال ترتيبا بل الدائم وقوعه إنّما هو خلوّ البدن عن النجاسة ، ولو من جهة إزالتها قبل الغسل ، فلا يبقى في لفظ « الرجل » باعتبار وصفه المقدّر ظهور فيما ذكر من مصاحبة النجاسة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢١ / ٦٣٠.

(٢) قال العلّامة في خلاصة الأقوال : ٣٢٠ ؛ « وتوقّف ابن الغضائرى في حديثه إلّا فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب المشيخة ، ومحمّد بن أبي عمير من نوادره الخ ».


وأمّا الثاني : فلمنع التعارض بين الأمرين ، فإنّ القرينة على تخصيص قوله : « بالماء المستعمل » موجودة في الكلام ، وهي التفصيل الّذي ذكره بعد ذلك ، فإنّه من الأوّل بمنزلة البيان ، فيكشف عن عدم كونه في لحاظ المتكلّم على إطلاقه ، أي يكشف عن كونه مقيّدا بما كان من الوضوء ، ومثله يقال في التخصيص الثاني ، فإنّ كلمة الاستعانة قرينة مرشدة ـ بالتقريب المتقدّم ـ إلى كون المراد من الماء الّذي يغسل به الثوب ما يرد على المحلّ ، ولا يكون إلّا قليلا ، ومعه يبقى ظهور نفي الجواز في المنع المتأكّد سليما عن المعارض.

ومنها : رواية حمزة بن أحمد ـ المتقدّمة في بحث غسالة الحمّام ـ عن أبي الحسن الأوّل ، المشتملة على قوله : « ولا تغتسل من البئر الّتي يجتمع منها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب ، وولد الزنا ، والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (١).

والقدح فيها سندا ودلالة قد مضى ثمّة.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن ماء الحمّام؟ فقال : « ادخله بإزار ، ولا تغتسل من ماء آخر ، إلّا أن يكون فيه جنب ، أو يكثر أهله فلا يدري فيه جنب أم لا » (٢).

وفيه : أنّ مبنى الاستدلال بذلك ، إمّا على جعل النهي للتحريم كما هو ظاهر الصيغة المجرّدة.

ففيه أوّلا : أنّه متعذّر هنا ، ضرورة أنّ الاغتسال بماء آخر مع وجود ماء الحمّام ليس بمحرّم في نفسه.

وثانيا : أنّه غير مجد في ثبوت المنع عن الاغتسال في ماء الحمّام ، لأنّ الاستثناء من التحريم لا يقتضي إلّا نفي التحريم ، وهو أعمّ من الوجوب.

أو (٣) على جعله من باب النهي الواقع عقيب ظنّ الوجوب أو توهّمه ، ليكون الاستثناء منه مفيدا للوجوب ، لضابطة أنّ الاستثناء من النفي إثبات.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢١٨ ب ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٧٣ / ١١٤٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٩ ب ٧ من أبواب الماء المضاف ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٣٧٩ / ١١٧٥.

(٣) هذا عطف على قوله : « أنّ مبنى الاستدلال بذلك إمّا على جعل النهي على التحريم » الخ.


ففيه أوّلا : أنّه ممّا لا يلائمه قوله عليه‌السلام : « أو يكثر أهله » الخ ، ضرورة أنّ الشكّ في تحقّق جهة المنع ، لا يوجب المنع بل ولا يقول به أهل القول بالمنع ، وعليه دعوى الإجماع في كلام غير واحد ، مضافا إلى ظهور ذلك في كون الماء كثيرا في حدّ الكرّ بل الأكرار ، ولا يقول أحد بالمنع عن الاغتسال فيه ، ليجب الاغتسال في غيره.

وثانيا : أنّه معارض باحتمال كون النهي هنا لمجرّد الإرشاد وبيان الواقع ، والتنبيه على عدم الداعي إلى الاغتسال بغير ماء الحمّام مع وجوده ، فيكون تقدير قوله عليه‌السلام : « ولا تغتسل من ماء آخر » في حاصل المعنى : أنّه لا داعي إلى الاغتسال من ماء آخر ، ومفاد الاستثناء منه يرجع إلى إثبات الداعي إليه ، وهو أعمّ من إثبات المفسدة المقتضية لمنع الاغتسال بماء الحمّام ، أو الجهة المقتضية لمرجوحيّته ، وهذا كما ترى احتمال ظاهر ، والمعنى المذكور معنى شائع في العرف ، يجري في شي‌ء له طريقان :

أحدهما : أكثر مئونة من الآخر ، وأزيد مسافة أو مشقّة منه ، مثلا فأنت إذا أردت إرشاده إلى اختيار غيره ، وتنبيه على أنّه ممّا لا داعي إلى اختياره ، قلت : « افعل كذا وكذا ، ولا تسلك من الطريق الفلاني » أي لا داعي إلى سلوكه ، وهو مع ظهوره في نفسه بعد تعذّر الحقيقة مؤيّد باستثناء صورة الشكّ أيضا ، مع ظهورها في كثرة الماء كما عرفت ، ولو سلّم عدم ظهوره فلا أقلّ من عدم ظهور خلافه ، وعلى أيّ تقدير فلا دلالة للرواية على المنع أصلا.

ولنختم المقام بذكر امور :

أحدها : أنّ معقد البحث في هذه المسألة الماء الّذي استعمله المحدث خاليا بدنه عن نجاسة عينيّة أو أثرها ، فلو كان فيه شي‌ء منهما كان الماء ملاقيا له ، فخرج عن هذا العنوان ودخل في عنوان غسالة النجس ، أو مطلق القليل الملاقي للنجاسة ، ومن حكمه أنّه نجس ـ على ما تقدّم ـ غير مطهّر أيضا.

وقد تنبّه عليه صاحب الحدائق (١) ونبّه عليه في المنتهى ، قائلا : « متى كان على جسد المجنب أو المغتسل من حيض وشبهه نجاسة عينيّة ، فالمستعمل إذا قلّ عن الكرّ نجس إجماعا ، بل الحكم بالطهارة إنّما يكون مع الخلوّ من النجاسة العينيّة ، (٢) » انتهى.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤٤٧.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٣٧.


وفي تعرّض جماعة من الأصحاب لحمل الأخبار الّتي استند إليها المانعون عن التطهير بذلك الماء على صورة وجود النجاسة على الجسد إشارة إلى ذلك أيضا ، إذ لولاه خارجا عن محلّ النزاع لما كان لذلك الحمل فائدة في منع الاستدلال بها ، كما لا يخفى.

وثانيها : إطلاق عناوينهم المعبّرة عن موضوع المسألة بالمستعمل في رفع الحدث الأكبر ، يقضي بأنّ النزاع فيما يعمّ الجنابة والحيض والاستحاضة ونحوها ، بل هو صريح جملة عبائرهم ، كما في المختلف قائلا : « الماء المستعمل في الطهارة الكبرى كغسل الجنابة ، والحيض ، والاستحاضة ، والنفاس ، مع خلوّ البدن من النجاسة طاهر إجماعا ، وهل هو مطهّر أم لا؟ منع الشيخ ، والمفيد ، وابنا بابويه عن ذلك ، وقال السيّد المرتضى ، وابن إدريس أنّه مطهّر وهو الحقّ » (١).

وقريب منه ما عرفت في صدر الأمر الأوّل من عبارة المنتهى (٢) ومن هنا صحّ لصاحب المعالم ـ على ما حكي عنه ـ حمل عبارته الاخرى فيما بعد العبارة المشار إليها من قوله : « المستعمل في غسل الجنابة يجوز إزالة النجاسة به إجماعا منّا » (٣). على إرادة التمثيل دون الحصر (٤).

ولا ينافيه اختصاص الأخبار من الطرفين بالجنابة ، لجواز كون العموم مستفادا لهم من جهة تنقيح مناط ، أو إجماع مركّب أو نحو ذلك ، ولذا ترى أنّ سائر أدلّة الفريقين قد وردت على جهة العموم ، حتّى ما عرفت عن الشيخ من الوجه الثاني المتضمّن لقوله : « الإنسان مكلّف بالطهارة بالمتيقّن طهارة ، المقطوع على استباحة الصلاة باستعماله ، والمستعمل في غسل الجنابة ليس كذلك » (٥) لأنّ استباحة الصلاة باستعمال الماء أعمّ من أن يكون استعمال الماء علّة تامّة لها كما في غسل الجنابة ، أو جزء علّة كما في سائر الأغسال.

ولا ينافي ذلك إفراده الجنابة بالذكر بعد احتمال إرادة التمثيل احتمالا ظاهرا ، كما لا ينافي كلّ ذلك عبارة الصدوق : « فإن اغتسل الرجل في وهدة وخشي أن يرجع ما ينصبّ عنه إلى الماء الّذي يغتسل منه ، أخذ كفّا وصبّه أمامه ، وكفّا عن يمينه ، وكفّا عن يساره ، وكفّا عن خلفه ، واغتسل منه » (٦) ولا عبارة أبيه في رسالته إليه : « وإن اغتسلت

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٣.

(٢ و ٣) منتهى المطلب ١ : ١٣٧ و ١٣٨.

(٤) فقه المعالم ١ : ٣٣٥.

(٥) التهذيب ١ : ٢٢١.

(٦) الفقيه ١ : ١٥.


من ماء في وهدة وخشيت أن يرجع ما ينصبّ عنك إلى المكان الّذي تغتسل فيه ، أخذت كفّا وصببته عن يمينك ، وكفّا عن يسارك وكفّا خلفك وكفّا أمامك واغتسلت » (١) ولا عبارة الشيخ في النهاية : « متى حصل الانسان عند غدير أو قليب ولم يكن معه ما يغترف به الماء للوضوء ، فليدخل يده فيه ، ويأخذ منه ما يحتاج إليه ، وليس عليه شي‌ء ، وإن أراد الغسل للجنابة وخاف أن نزل إليها فساد الماء ، فليرشّ عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه ، ثمّ ليأخذ كفّا من الماء فليغتسل به » (٢) فإنّ كلّ ذلك تأدية بما يوافق متون الروايات في الجملة لما فيه من الأغراض والحكم.

فما في الحدائق : « من أنّ أمثال هذه الامور صريحة في التخصيص بالجنابة » (٣) ، ليس ممّا ينبغي الالتفات إليه ، بل التعبير عن عنوان المسألة بما يرفع الحدث تصريح بخروج المستعمل في الأغسال المندوبة عن المتنازع فيه ، وعن الشيخ في الخلاف : « نفي الخلاف عنه » (٤) ويظهر ذلك عن منتهى العلّامة قائلا : « المستعمل في الأغسال المندوبة ، أو في غسل الثوب ، أو الآنية الطاهرين ليس بمستعمل ، لأنّ الاستعمال لم يسلبه الاطلاق ، فيجب بقاؤه على التطهير للآية (٥).

وقالت الحنفيّة : كلّ مستعمل في غسل بني آدم على وجه القربة فهو مستعمل ، وما لا فلا ، فلو غسل يده للطعام أو من الطعام صار مستعملا ، بخلاف ما لو غسل لإزالة الوسخ ولإزالة العجين من يده » (٦) الخ وبالجملة : تخصيص الخلاف إليهم يقضي بنفيه عمّا بين أصحابنا.

وثالثها : قال العلّامة في المنتهى : « المستعمل في غسل الجنابة يجوز إزالة النجاسة به إجماعا منّا ، لإطلاقه ، والمنع من رفع الحدث به عند بعض الأصحاب لا يوجب المنع من إزالة النجاسة ، لأنّهم إنّما قالوه ثمّ لعلّة لم توجد في إزالة الخبث ، فإن صحّت تلك العلّة ظهر الفرق وبطل الإلحاق ، وإلّا حكموا بالتساوي في البابين كما قلناه » (٧) انتهى.

ولعلّ نظره في العلّة الّتي لا توجد في إزالة الخبث إلى الأخبار المخصوصة في

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ٤ ـ الفقيه ١ : ١٥ ـ المقنع : ١٤.

(٢) النهاية ونكتها ١ : ٢١١.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٤٨.

(٤) الخلاف ١ : ١٧٢ المسألة ١٢٦.

(٥) الأنفال : ١١.

(٦ و ٧) منتهى المطلب ١ : ١٣٨.


المنع ـ على تقدير صحّتها سندا ودلالة ـ برفع الحدث ، وإلّا فبعض أدلّتهم يعمّ البابين كما لا يخفى على المتأمّل.

وكيف كان : فالخلاف في إزالة الخبث بذلك الماء غير متحقّق بين أصحابنا ، ولا حكاه عنهم صريحا أحد منّا ، نعم في عبارة الشهيد المحكيّة عن الذكرى ما يوهم ذلك ، حيث قال : « جوّز الشيخ والمحقّق إزالة النجاسة به ، لطهارته ، وبقاء قوّة إزالته الخبث ، وإن ذهب قوّة رفعه الحدث ، وقيل : لا ، لأنّ قوّته استوفيت فالتحق بالمضاف » (١) انتهى.

وربّما يوجّه ذلك ، ـ كما عن صاحب المعالم (٢) ـ باحتمال أن يكون المنقول عنه بعض المخالفين ، كما يشعر به التعليل الواهي ، وكيف كان فما ادّعاه العلّامة من الإجماع لا يخلو عن وصمة الشبهة ، وإن كان يؤيّده ظهور العناوين ، ولكن الحكم في حدّ ذاته كما ذكره ، بلا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه بالنظر إلى ما قدّمناه من الأدلّة ، ولك أن تستند إلى الأولويّة بالقياس إلى رفع الحدث صغيرا وكبيرا كما لا يخفى.

ورابعها : الأقرب على المختار من طهوريّة المستعمل في رفع الحدث ، كراهية استعماله في رفع الحدث ثانيا ، وفاقا للشهيد في الدروس (٣) ، والخوانساري في شرحه (٤) عملا بما تقدّم من رواية عبد الله بن سنان (٥) ، وإن ضعف سندها بناء على التسامح ، وخصوص الرواية المرويّة عن الكافي (٦) ، الّتي قدّمنا ذكرها في ذيل غسالة الوضوء ، والظاهر أنّه لا يخالف فيه أحد.

وخامسها : يظهر من العلّامة في المنتهى عدم اشتراط الانفصال عند المانعين من أصحابنا في صدق الاستعمال ، ولكن عبارته في هذا المقام غير خالية عن التهافت ، فإنّه قال : « لو اغتسل من الجنابة ، وبقيت في العضو لمعة لم يصبها الماء ، فصرف البلل الّذي على العضو إلى تلك اللمعة جائز ، أمّا على ما اخترناه نحن فظاهر ، وأمّا على قول الحنفيّة فكذلك ، لأنّه إنّما يكون مستعملا بانفصاله عن البدن ، وفي اشتراط استقراره في

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٤.

(٢) فقه المعالم ١ : ٣٣٦ حيث قال ـ بعد نقل عبارة الشهيد ـ : « وكلامه هذا ليس فيه تصريح بأنّ القائل من الأصحاب ».

(٣) الدروس الشرعية ١ : ١٢٢.

(٤) مشارق الشموس : ٢٤٨.

(٥) الوسائل ١ : ٢١٥ ب ٩ من أبواب الماء المضاف ح ١٣.

(٦) الوسائل ١ : ٢١٩ ب ١١ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٢ ـ الكافي ٦ : ٥٠٣ / ٣٨.


المكان خلاف عندهم.

وأمّا في الوضوء ، فقالوا : لا يجوز صرف البلل الّذي في اليمنى إلى اللمعة الّتي في اليسرى ، لأنّ البدن في الجنابة كالعضو الواحد فافترقا ، وليس للشيخ فيه نصّ ، والّذي ينبغي أن يقال على مذهبه عدم الجواز في الجنابة ، فإنّه لم يشترط في المستعمل الانفصال » (١) انتهى.

وكأنّه أخذ بإطلاق كلامه في المنع ، كما نبّه عليه بقوله : « ليس له فيه نصّ » وإلّا فقضيّة عدم النصّ جريان احتمال الأمرين معا في كلامه لا تعيّن أحدهما ، غير أنّه لا يخفى ما فيه ، مع ما ذكره من التعليل بناء على قول الحنفيّة من التهافت ، فإنّه لو صلح علّة لاشتراط الانفصال على مذهب الحنفيّة لجرى على مذهب الشيخ أيضا ، إذ ليس في كلام الشيخ إلّا الاستعمال ، والمفروض أنّه عنوان متوقّف صدقه بمقتضى تلك العلّة على الانفصال.

وكيف كان فعن جمع ممّن تأخّر إنكار النسبة المذكورة إلى الشيخ ، لعدم تصريحه بها في كتبه المشهورة ، مع استلزام ذلك عدم الاجتزاء بإجراء الماء في الغسل من محلّ إلى آخر بعد تحقّق مسمّاه ، وهو بمحلّ من البعد بل البطلان ، كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار الواردة في كيفيّة الغسل من الجنابة ، وقد يعلّل البطلان بلزوم تعذّر الغسل لو لا الاجتزاء ، وهو في الجملة في محلّه كما ستعرفه.

والأولى أن يقال ـ في تحرير المقام ـ : إنّ المستعمل في طهارة ، قد يكون مستعملا في عضو من الطهارة ، أو جزء من العضو فاريد استعماله في عضو آخر منها ، أو جزء آخر من العضو ، وقد يكون مستعملا فيه أو في طهارة كاملة ، فاريد استعماله في طهارة اخرى ، وهذا هو القدر المتيقّن من مراد المانع عن الاستعمال الثاني.

وأمّا الأوّل : فقد يكون منفصلا عن العضو أو الجزء المغسولين ، بأن يؤخذ بعد انفصاله ويغسل العضو أو الجزء الآخر ، وقد لا يكون منفصلا عنه ، وعلى الثاني فقد يكون مستقرّا على العضو أو الجزء اللذين هو فيهما ، فاريد إمراره فيهما إلى العضو أو الجزء الباقي ، وقد لا يكون مستقرّا بل هو سائل ، فاريد إمراره حال السيلان إلى ما لا يسيل عليه عادة ، وهذا هو القدر الّذي يمكن دعوى القطع بخروجه عن المتنازع

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٣٩.


بملاحظة سيرة المتشرّعة ، مع تعسّر الغسل ترتيبا بل تعذّره ، لو لا جوازه والاجتزاء به ، وأمّا الصورتان الباقيتان فكونهما من محلّ النزاع موضع شبهة ، والظاهر أنّ الأخيرة منهما مفروضة في مسألة اللمعة.

وعلى المختار فهل يجوز استعماله فيهما أو لا؟ والظاهر أنّ الجواز في مسألة اللمعة ممّا لا إشكال فيه ، وبه روايات مخصوصة ، تأتي في باب الغسل إن شاء الله ، دالّة على جواز مسح اللمعة بالبلّة الباقية في الأعضاء ، وادّعى عليه ظهور الإجماع في شرح الدروس (١).

وإنّما الإشكال في الصورة الاخرى ، ويظهر الفائدة بالنسبة إليها فيما لو قصر الماء المعدّ للغسل عن تمام الغسل ، بأن لا يكون كافيا إلّا عن غسل بعض الأعضاء ، فهل يجوز الاكتفاء به في تمام الغسل ، بأن يغسل به العضو المذكور ويؤخذ بعد انفصاله عنه في إناء ، ثمّ يغسل به العضو الآخر إلى أن يستكمل الغسل به ، أو لا؟

والحقّ أنّ الجواز هنا مشكل ، من أنّ بعض القواعد المتقدّمة في الاستدلال على الجواز في أصل المسألة ـ كقاعدة : إنّ الماهيّة المائيّة مقتضية للطهارة والطهوريّة معا ما لم يزاحمها خارج ـ يقتضي الجواز ، من حيث إنّ الماهيّة غير زالّة عن المفروض جدّا ، والعارض ممّا لم يعلم كونه مزاحما رافعا لما اقتضته الماهيّة.

ومن أنّه ممّا لا ذاهب إليه من الأصحاب ، بل ظاهرهم في غير هذا الموضع عدم الاكتفاء به ، حيث إنّه في مسألة ما لو وجد المحدث من الماء ما لا يكفيه لطهارته حكموا بوجوب التيمّم عليه ، مصرّحين بعدم الفرق فيه بين الجنب والمحدث بالأصغر ، وعزاه في المنتهى (٢) إلى مذهب علمائنا ، مؤذنا بالإجماع عليه ، فلم يذكروا فيه إلّا احتمال الوضوء مع التيمّم إذا كان جنبا ، أو استعماله في بعض الأعضاء ثمّ التيمّم للباقي ، ناسبين لهما إلى العامّة ، ولهم في هذا المقام روايات مصرّحة بالتيمّم دون الوضوء في الجنب خاصّة ، من غير تعرّض لبيان ما ذكرناه في مفروض المسألة ، فلو أنّه أمر مقرّر في الشريعة ثابت من الشارع لما كان للعدول عن الأمر به إلى الأمر بالتيمّم في الأخبار وجه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) مشارق الشموس : ١٧٨.

(٢) منتهى المطلب ٣ : ١٨.


فتلخّص من ذلك أنّ الأقرب حينئذ هو عدم الاكتفاء بالماء المفروض في الصورة المفروضة ، تحكيما لتلك الأخبار المؤيّدة بعمل الأخيار على القاعدة المشار إليها ، ويؤيّده ما قرّرناه في ذيل الكلام على رواية عليّ بن جعفر ، المتقدّمة في جملة الأخبار المستدلّ بها على طهوريّة المستعمل ، ولكن على التقدير المتقدّم إليه الإشارة.

فصار محصّل مختارنا مع ضميمة ما قرّرناه الآن : أنّ المستعمل في الحدث الأكبر لا يزول عنه الطهوريّة ، إلّا ما لو استعمل في بعض أعضاء الطهارة فاريد استعماله في العضو الآخر من تلك الطهارة ، فإنّه غير جائز لدليله الخاصّ الّذي لولاه لكان الجواز ظاهر الثبوت.

وسادسها : إذا اجتمعت المياه المستعملة حتّى بلغت كرّا وما زاد ، لم يزل المنع على القول به ، وفاقا لمحكيّ المعتبر (١) ، وخلافا للمبسوط (٢) ، والمنتهى (٣) ، وعن الخلاف : أنّه تردّد فيه (٤).

لنا : ما احتجّ به المعتبر : « بأنّ ثبوت المنع معلوم شرعا ، فيتوقّف ارتفاعه على وجود الدلالة ، وهي مفقودة » (٥).

واحتجّ العلّامة : « بأنّ بلوغ الكرّيّة موجب لعدم انفعال الماء عن الملاقي ، وما ذلك إلّا لقوّته ، فكيف يبقى انفعاله عن ارتفاع الحدث الّذي لو كان نجاسة لكانت تقديريّة » (٦).

وفيه : أنّ بلوغ الكرّيّة إن اريد به سبق الكرّيّة على الملاقاة فالمقدّمة الاولى مسلّمة ، ولكن المقام ليس منها ، وإن اريد به لحوق الكرّيّة بها فالمقدّمة الاولى ممنوعة ، فضلا عن المقدّمة الثانية.

وعن الشيخ في الخلاف (٧) في منشأ التردّد : « أنّه ثبت فيه المنع قبل أن يبلغ كرّا ، فيحتاج في جواز استعماله بعد البلوغ إلى دليل ، ومن دلالة الآيات والأخبار على طهارة الماء ، خرج عنه الناقص عن الكرّ بدليل ، فيبقى ما عداه ، وقولهم : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » (٨).

__________________

(١ و ٥) المعتبر : ٢٢.

(٢) المبسوط ١ : ١١.

(٣ و ٦) منتهى المطلب ١ : ١٣٨.

(٤) الخلاف ١ : ١٧٣ المسألة ـ ١٢٧.

(٧) الخلاف ١ : ١٧٣ ١ ـ المسألة ١٢٧ ـ مع اختلاف يسير.

(٨) نسب الشيخ قدس‌سره هذه الرواية إلى الأئمّة عليهم‌السلام ، ونقلها السيّد المرتضى قدس‌سره في الانتصار : ٦ ـ


ويرد على أوّل الوجهين : أنّ المجتمع هو الناقص الّذي بلغ كرّا بالاجتماع ، فإذا سلّم خروجه عن الآيات والأخبار حال النقصان ، فأيّ دليل قضى بدخوله فيهما بعد الاجتماع؟ هذا مع ما فيه من التعبير بالطهارة الّتي ليست من المتنازع فيه ، إلّا أن يراد بها الطهوريّة.

وعلى ثاني الوجهين : القدح فيه سندا ودلالة ، أمّا الأوّل : فلما صرّح به غير واحد من أنّه غير معلوم الإسناد ، وأمّا الثاني : فلظهوره في أنّ بلوغ الكرّيّة مانع عن حدوث الخبثيّة فيه ، أو ملزوم له ، وهو ليس من كونه سببا أو ملزوما لزوالها عنه بعد الحدوث في شي‌ء. ولقد أجاد صاحب المعالم ـ فيما حكى عنه ـ من قوله : « والعجب أنّ الشيخ رحمه‌الله احتجّ في الخلاف (١) على عدم زوال النجاسة في المجتمع من الطاهر والنجس ؛ بأنّه : ماء محكوم بنجاسته ، فمن ادّعى زوال حكم النجاسة عنه بالاجتماع فعليه الدليل ، وليس هناك دليل ، فيبقى على الأصل ، ولو صحّ الحديث الّذي جعله في موضع النزاع منشأ لاحتمال زوال المانع ، لكان دليلا على زوال النجاسة هناك ، وليس بين الحكمين في الخلاف إلّا أوراق يسيرة. » (٢) انتهى.

وسابعها : قال في المنتهى : « لو اغتسل وجوبا من جنابة مشكوك فيها ، كالواجد في ثوبه المختصّ ، أو المتيقّن لها وللغسل الشاكّ في السابق ، أو من حيض مشكوك فيه كالناسية للوقت والعدد ، هل يكون ماؤه مستعملا؟ فيه إشكال ، فإنّ لقائل أن يقول : إنّه غير مستعمل ، لأنّه ماء طاهر في الأصل لم يعلم إزالة الجنابة به ، فلا يلحقه حكم المستعمل ويمكن أن يقال : إنّه مستعمل ، لأنّه قد اغتسل به من الجنابة وإن لم تكن معلومة ، إلّا أنّ الاغتسال معلوم فيلحقه حكمه ، ولأنّه ما أزال مانعا من الصلاة ، فانتقل المنع إليه كالمتيقّن » (٣).

أقول : والأولى إناطة الأمر بأنّ الرافع للطهوريّة هل هو طروّ الاستعمال في الجنابة ولو شرعيّة ، أو كونه رافعا للحدث الّذي هو أمر واقعي؟ فإن كان الأوّل فلا إشكال في

__________________

ـ مسألة ١ عن كتب العامّة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال المحقّق في المعتبر ـ في مسألة الماء المستعمل في الحدث الأكبر ما هذا لفظه : « وما يدّعي من قول الأئمّة عليهم‌السلام إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا ، لم نعرفه ، ولا نقلناه عنهم ونحن نطالب المدّعي نقل هذا اللفظ بالإسناد إليهم ». ـ المعتبر : ٢٢.

(١) الخلاف ١ : ١٩٤ ـ المسألة ١٥٠.

(٢) فقه المعالم ١ : ٣٤٤.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٤٠.


صيرورته مستعملا ، وإن كان الثاني فلا إشكال في الحكم عليه بعدم صيرورته مستعملا ، للأصل الّذي ينشأ عن الشكّ في وجود الرافع ، والّذي يظهر من الأخبار المقامة على المنع ـ على فرض تماميّة دلالتها ـ وكلام العلماء الأخيار هو الثاني ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وثامنها : قد أشرنا سابقا إلى أنّ الحكم في كلام أهل القول بالمنع مختصّ بالقليل ، لخروج الكثير عن المتنازع فيه ، وصرّح به غير واحد ، نعم عن المفيد (١) القول بكراهة الارتماس في الماء الكثير الراكد ، ووجّهه في شرح الدروس بقوله : « والظاهر أنّ وجهه صيرورته مستعملا يكره الطهارة به » (٢) ويظهر من الحدائق (٣) احتمال كون الكراهة مرادا بها المنع ، لأنّها في كلام المتقدّمين ـ كما هو في الأخبار ـ للأعمّ من المعنى المصطلح.

وعن شيخنا البهائي في حواشي الحبل المتين (٤) ما يقضي بتوهّمه عموم النزاع ، مستدلّا بما في المختلف من الاستدلال على عدم المنع بصحيحة صفوان ، الواردة في الحياض بين مكّة والمدينة ، وصحيحة محمّد بن إسماعيل المتقدّمة في عداد أدلّة القول المختار ، وهو كما ترى ، فإنّ الاستدلال بالإطلاق في بعض الأفراد المتنازع في حكمه ، لا يقضي بكون البعض الآخر من أفراده أيضا من المتنازع فيه.

وأمّا كراهة الاغتسال فلا يعرف له وجه ، مع منافاتها مع احتمال المنع لسيرة المتشرّعة ، وعمل الفرقة المحقّة.

وصحيحة محمّد بن إسماعيل (٥) المفصّلة في الرخصة وبين الضرورة ، وغيرها الّتي قدّمنا فيها احتمال كون النهي للكراهة ، بل استظهرناه ـ لا تكفي في إثبات الكراهة ، لعدم تبيّن كون هذه الكراهة هل هي من جهة الاغتسال ، أو من جهة الاستنجاء ، أو غير ذلك؟ والمفروض أنّ السؤال وقع عن هذه الأشياء مجتمعة لا منفردة ، ومن الظاهر كفاية كون بعض من هذه الأشياء مقتضيا للكراهة في الحكم بها مطلقا حال الاجتماع ،

__________________

(١) المقنعة : ٥٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٠.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٥٧.

(٤) الحبل المتين : ١١٥ ـ حكى عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٤٧٥ ـ ما هذا لفظه : « استدلال العلّامة في المختلف بالحديث السابع والثامن ، يعطي أنّ الخلاف ليس في الماء المنفصل عن أعضاء الغسل فقط ، بل هو جار في الكرّ الّذي يغتسل فيه أيضا فتدبّر » انتهى.

(٥) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٤١٧ / ١٣١٦.


والعمدة في هذا السؤال بيان الحكم لا تعيين محلّه ، لأنّ السؤال ورد عن المجتمع فخرج الجواب على طبقه ، فإنّ قيام الجهة المانعة بالجزء كاف في المنع عن الكلّ.

فالإنصاف : أنّ الرواية بالقياس إلى مفردات المسئول عنه مجملة لا يصحّ الاستناد إليها في شي‌ء منها بالخصوص. على إطلاقه وفي جميع أحواله ، فكراهة الاغتسال من الكرّ المغتسل فيه مشكل ، مع أنّه لم يظهر به قول من أصحابنا ، وما عرفت عن المفيد غير ثابت ، وحكمه بكراهة الارتماس في الكثير الراكد غير دالّ عليه ، فإنّ الارتماس في الراكد أعمّ من الاغتسال ، كما أنّ الراكد أخصّ من الكثير ؛ ولعلّه لخصوصيّة لا مدخليّة فيها للاغتسال ، ثمّ إنّ كون ذلك لأجل حفظ الماء عن كونه مستعملا يكره الطهارة به من أيّ جهة والاستظهار المتقدّم عن شرح الدروس ممنوع ، ولعلّ الاغتسال بنفسه مكروه في الراكد ، والله العالم بحقائق أحكامه.

* * *


ينبوع

الماء الجاري ممّا أفرده الأصحاب بعنوان مستقلّ ، لما في قليله عند أهل القول بانفعال القليل بالملاقاة ، من الخلاف في انفعاله ، وإلّا فهو على القول المشهور من عدم انفعاله كان ينبغي أن يذكر في عداد المستثنيات عن قاعدة انفعال القليل ، ونحن أيضا أفردناه بالعنوان ، ولكن عقيب الفراغ عن المستثنيات اقتفاء لأثرهم ، مع مراعاة المناسبة المذكورة على قدر الإمكان.

وكيف كان : فاختلفت كلمتهم في تفسير الجاري هنا ؛ ففي المجمع ـ نقلا عن المصباح ـ : « الماء الجاري هو المتدافع في انحدار واستواء » (١) وفي مفتاح المعاني ـ الّذي هو منتخب من الصحاح والقاموس وغيرهما ـ « جرى الماء سال » (٢).

وعن بعض متأخّري المتأخّرين الاكتفاء بمطلق السيلان ولو لا عن مادّة ، استنادا إلى صدق « الجاري » على المياه الجارية عن ذوبان الثلج ، خصوصا إذا لم ينقطع في السنة.

وفي حاشية الشرائع ـ للشيخ عليّ ـ والمراد بالجاري : « ما كان نابعا من الأرض » (٣).

وعنه في حاشية الإرشاد والمراد به : « النابع من الأرض دون ما اجري » (٤) ، فإنّه واقف وإن لم يتنجّس العالي منه بنجاسة السافل إذا اختلف السطوح وعنه في جامع المقاصد المراد به : « النابع ، لأنّ الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد » (٥).

وعن المسالك : « المراد بالجاري النابع غير البئر سواء جرى أم لا ، وإطلاق الجريان

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ مادّة « جري ».

(٢) المصباح المنير : مادّة « جرى ».

(٣) حاشية شرائع الإسلام ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٣.

(٤) حاشية إرشاد الأذهان ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٣٩.

(٥) جامع المقاصد ١ : ١١٠.


عليه مطلقا تغليب أو حقيقة عرفيّة » (١).

وفي الروضة : « وهو النابع من الأرض مطلقا غير البئر ، على المشهور » (٢).

وعن الذخيرة : « والمراد به النابع غير البئر ، سواء جرى على وجه الأرض أولا ، والجاري لا عن مادّة لا يسمّى جاريا عرفا » (٣).

وفي المدارك : « المراد بالجاري النابع ، لأنّ الجاري لا عن مادّة من أقسام الراكد اتّفاقا » (٤).

وفي الحدائق : « المراد بالجاري هو النابع ، وإن لم يتعدّ محلّه » (٥).

وفي الرياض : « وهو النابع عن عين بقوّة أو مطلقا ولو بالرشح ، على إشكال في الأخير » (٦).

وفي الوسائل : « هو النابع غير البئر ، بقوّة أو مطلقا ولو بالرشح ، على إشكال في الأخير » (٧).

وقيل : هو هنا السائل على الأرض بالنبع من تحتها ، وإلّا فهو الواقف ، لأنّ الجاري لا عن نبع من أقسام الراكد اتّفاقا أو البئر.

وفي شرح الاستاذ للشرائع : « وهو السائل عن مادّة لا النابع مطلقا ، ولا السائل كذلك » (٨).

أقول : والّذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنّ لفظ « الجاري » في وصف الماء به ، ليس حاله إلّا كلفظ « المحقون » و « الواقف » و « الراكد » و « الكرّ » و « القليل » ، فلا وضع فيه لغة وعرفا لما يقابل المحقون وماء البئر وغيرهما من الأقسام المتداولة في لسان الفقهاء ، الممتازة بعضها عن بعض بحسب الأحكام المثبتة من الأدلّة الشرعيّة ، بل هو لغة وعرفا بالمعنى الأعمّ من المتشرّعة وغيرهم ـ وصف عامّ يلحق الماء باعتبار ما يعرضه من وصف السيلان ، ولا ينافيه تبادر ما يقابل المحقون وغيره من الأقسام المشار إليها عند المتشرّعة بالخصوص ، لأنّه تبادر إطلاقي ينشأ من انسهم بطريقة الفقهاء في إجراء الأحكام ، والتفرقة بين ما ذكر من الأقسام ، بناء على أنّ ما عرفت عن الفقهاء من التفاسير

__________________

(١) مسالك الافهام ١ : ١٢.

(٢) الروضة البهيّة ١ : ٢٥٢.

(٣) ذخيرة المعاد : ١١٦. (٤) مدارك الأحكام ١ : ٢٨.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ١٧١. (٦) رياض المسائل ١ : ١٣٥.

(٧) لم نعثر عليه. (٨) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٦٩.


المذكورة بيان لموضوع ـ حكم متّفق عليه أو مختلف فيه ـ استفادوه كلّا أم جلّا من الأدلّة الشرعيّة ، لا أنّه تفسير لمفهوم اللفظ لغة ولا عرفا ولا شرعا حتّى يلزم منه ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه ، وإلّا فمفهوم قولنا : « ماء جار » لغة وعرفا ليس إلّا الماء السائل ، ووصف الجاري صفة تقييديّة يحترز بها عمّا ليس بسائل فعلا ، لا أنّه صفة توضيحيّة.

نعم هو حيثما يؤخذ اللفظ المذكور موضوعا للحكم المشار إليه أو في المسألة المختلف فيها يكون صفة توضيحيّة ، لكن من جهة الفرض والاعتبار ، لا من جهة دخولها مع الموصوف في مفهوم اللفظ لغة أو عرفا.

وبالجملة : مفهوم اللفظ لغة أو عرفا شي‌ء ، وموضوع الحكم الشرعي شي‌ء آخر ، غاية الأمر أنّهما قد يتطابقان وقد يتفارقان ، وغرضهم من التفاسير المذكورة الإشارة إلى الثاني فقط ، والأوّل يفارقه في غير النابع ، فإنّه إذا سال ماء جار لغة وعرفا وإن لم يكن من موضوع الحكم الشرعي أو المسألة المذكورين في شي‌ء ، والّذي يشهد بما ذكرناه من تغاير الأمرين وجوه :

الأوّل : خلوّ كلام أئمّة اللغة ـ فيما نعلم ـ عن تفسيره بما هو موضوع للحكم الشرعي ، واشتمال جملة من كلامهم على تفسيره بما يعمّ هذا المعنى كما عرفت عن مفتاح المعاني ، ولا ينافيه ما عرفته عن المصباح ، لأنّ تفسيره بالمتدافع إمّا تفسير له بما يرادف السائل أو بما يلزمه ، نظرا إلى أنّ السيلان يستلزم كون بعض الأجزاء دافعا للبعض الآخر ، وموجبا لانتقاله عن مكان إلى آخر.

والثاني : ما عرفت في التفاسير المذكورة من التعبير في أكثرها بقولهم : « والمراد بالجاري » ، « أو المراد به هنا » ، فإنّ ذلك كالتصريح بأنّ هذا التفسير بيان لما هو المراد من اللفظ في خصوص المقام ، ويزيده بيانا ما في كلام بعضهم من إخراج الجاري لا عن نبع عمّا هو المراد هنا بطريق الاستدلال ، ولا ينافيه ما في بعض تلك التفاسير من بيان المعنى بطريق الحمل دون التعبير بلفظة « المراد » ، لأنّ ذلك أيضا بقرينة ما في أكثرها ينزّل إلى بيان المراد بالخصوص ، لا بيان مفهوم اللفظ بما هو هو ، كما يفصح عن ذلك ما عرفت عن ثاني الشهيدين في كتابيه المسالك (١) والروضة (٢) ، حيث إنّه في

__________________

(١) مسالك الافهام ١ : ١٢.

(٢) الروضة البهيّة ١ : ٢٥٢.


الأوّل عبّر باللفظ المذكور ، وفي الثاني ذكر المعنى بطريق الحمل.

وأقوى ممّا ذكر ما في الدروس من قوله : « ثالثها : الجاري نابعا » (١) بعد ما جعل أقسام الماء باعتبار مخالطة النجس له أربعة ، وفي شرح العبارة المذكورة للمحقّق الخوانساري : « احترز به عمّا إذا كان جاريا من غير نبع ، فإنّ حكمه حكم الواقف اتّفاقا نعم القليل منه إذا كان منحدرا لا ينجّس ما فوقه » (٢) ، انتهى فإنّ ظاهر هذه العبارات كلّها أنّ وقوع لفظ « الجاري » على الماء ليس بحسب الوضع اللغوي ، ولا العرفي العامّ ، ولا أنّه حصل فيه للفقهاء اصطلاح خاصّ ، وإلّا لم يكن لما فيها من التقييدات والتصريح بالاحترازات وجه.

والثالث : ما عن المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة من قوله : « وأمّا حقيقة الجاري ، فقيل : إنّه النابع غير البئر ، فكأنّه اصطلاح ، ويفهم ممّا نقل عن الدروس اشتراط دوام النبع ، وكذا ابن فهد وليس هنا حقيقة شرعيّة بل ولا عرفيّة ، ومعلوم عدم إرادة اللغويّة ، ويمكن استخراج المعنى المتقدّم. أمّا غير البئر فلانفرادها بالأحكام ، وأمّا النابع مطلقا فلعدم القوّة في غير النابع ، وللإجماع أيضا على اعتبار الكرّيّة في غير النابع بين القائلين بالتنجيس ، ولوجود معنى الجري في النابع » (٣) انتهى. وحينئذ فما في عبارة المسالك من قوله ـ بعد تفسيره المتقدّم ـ « وإطلاق الجريان عليه مطلقا تغليب أو حقيقة عرفيّة » (٤) لا بدّ وأن يحمل على إرادة التغليب في لسان الفقهاء ، حيث يعتبرون المعنى المذكور موضوعا في المسألة المتنازع فيها ، وإرادة الحقيقة العرفيّة الخاصّة كما فهمه الأردبيلي.

وعليه فما ربّما يورد عليه من مخالفة ذلك للعرف واللغة ، والاستدلال في ردّه بأنّ الجاري ، لا يصدق إلّا مع تحقّق الجريان ليس على ما ينبغي ، فإنّ اعتبار الجريان فعلا في صدق الجاري لغة أو عرفا لا ينافي عدم كونه معتبرا فيما هو موضوع في المسألة الفقهيّة ، بعد تبيّن أنّ العبرة فيه بالنبع فقط دون الجريان فعلا ، غاية الأمر كون وقوع اللفظ عليه مجازا من باب التغليب لتحقّق الجريان في أكثر أفراد هذا الموضوع ، أو

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٢) مشارق الشموس : ٢٠٥.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٠.

(٤) مسالك الأفهام ١ : ١٢.


اصطلاحا خاصّا ، ولا مشاحّة فيه.

وربّما يقال : بأنّ قولهم ـ في تطهير الجاري ـ : أنّه يطهّر بكثرة الماء الجاري عليه متدافعا حتّى يزول التغيّر ، وما في بعض الأخبار عن الماء الجاري يمرّ بالجيف والعذرة والدم أيتوضّأ منه؟ يشير إلى كون الجاري ما تحقّق فيه الجريان.

وفيه : ما لا يخفى على المتأمّل.

نعم ، من يدّعي كفاية النبع مطلقا في موضوع المسألة عند الفقهاء ، وعدم اعتبار الجريان الفعلي فيه ، ينبغي أن يطالب بدليل ذلك.

فإذا ثبت أنّ مرجع التفاسير المتقدّمة إلى تحقيق موضوع المسألة. فلا بدّ من النظر في تحقيقه في كلماتهم ، وأدلّتهم المقامة على امتياز الجاري عن سائر الأقسام بحسب الحكم في الجملة.

فنقول : لا إشكال ولا خلاف ظاهرا في أنّ النابع السائل على وجه الأرض من موضوع المسألة ، كما أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّ ما ليس بنابع ولا سائل ليس من موضوع المسألة في شي‌ء ، وإنّما الكلام في اعتبار هذين الوصفين معا في هذا الموضوع ، على وجه لو لا أحدهما لم يكن المورد منه ، والظاهر أنّه لا إشكال ولا خلاف أيضا في اعتبار الوصف الأوّل ـ أعني النبع ـ المفسّر في كلام أهل اللغة بخروج الماء من العين ، ولذا ترى تفاسيرهم المتقدّمة متوافقة على اعتباره ، مع استتباع بعضها بدعوى الاتّفاق على دخول غير النابع في أقسام الراكد ، وإن حصل له وصف الجريان.

وممّا يرشد إلى ذلك أيضا فرضهم مسألة اختلاف السطوح بالتسنيم أو الانحدار ـ الّذي لا يتأتّى إلّا مع الجريان ـ في الكرّ الّذي هو من الراكد.

نعم ، العمدة في المقام اعتبار الوصف الثاني وهو الجريان.

ويظهر الفائدة في العيون الصغار الغير السائلة ، الّتي ينبع منها الماء إلى مرتبة فيقف عليها حتّى يؤخذ منه شي‌ء ، فإذا أخذ ينبع ثانيا إلى أن يصل المرتبة أيضا وهكذا ، وقد اختلفت كلمة المتأخّرين في ذلك ففي صريح المسالك (١) والذخيرة (٢) والحدائق (٣) ـ على ما تقدّم ـ عدم اعتباره ، وصرّح به الخوانساري في شرح الدروس أيضا قائلا :

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ١٢.

(٢) ذخيرة المعاد : ١١٦.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ١٧١.


« واعلم ، أنّه لا يشترط فيه الجريان ، بل يكفي مجرّد النبع » (١) ، ويمكن استفادته أيضا عن جملة من التفاسير المتقدّم ذكرها لما فيها من إطلاق النبع ، وعن ظاهر المحقّق اعتباره ، حيث حكم بعدم تطهير القليل بالنبع من تحته ، تعليلا : « بأنّ النابع ينجّس بالملاقاة » (٢) ، وعن كاشف اللثام ـ للفاضل الهندي ـ أنّه جعله أوضح الاحتمالين (٣) وهو المحكيّ عن المقنعة (٤) ، والتهذيب (٥) ، حيث حكما بانفعال القليل من الغدير النابع وتطهيره بالنزح ، وهو صريح بعض من قاربناه عصرا ، قائلا ، « بأنّه يلحق بالبئر العيون الصغار الغير السائلة ، وغير الصادق عليها اسم البئر ، وفاقا للمقنعة والتهذيب والفاضل الهندي في شرح القواعد ، لعدم صدق الجريان في مائها شرعا ولغة وعرفا ، فلا يشمله عبارات الأصحاب ولا ما ورد من الأخبار » (٦).

وعن المحقّق البهبهاني : « أنّ النابع الراكد عند الفقهاء في حكم البئر » (٧).

ويستفاد عن المحقّق المذكور ـ في عبارة محكيّة عن شرحه للمفاتيح اعتباره في صدق الاسم دون الحكم ، بمعنى دخول العيون المشار إليها في حكم الجاري. وخروجها عنه اسما ، حيث قال : « المعتبر في الجاري والبئر هو الصدق العرفي ـ أي العرف العامّ ـ فمجرّد الجريان اللغوي لا ينفع في الجاري ، حتّى يكون الجريان عن مادّة سواء كانت نبعا أو نزأ حاصلين عن حفر الآبار وخرق أسافلها ، ودخل الماء من بئر إلى بئر إلى أن جرى على الأرض وهذا هو المسمّى بالقناة ، أو كان البئر واحدة وثقب أسفلها حتّى يجري ماؤها على الأرض ، أو امتلأت ماء إلى أن جرى على الأرض ، ففي جميع هذه الصور يكون الماء جاريا ، وإن أطلق عليه ماء البئر أيضا ، إلّا أنّه ليس إطلاقا حقيقيّا باصطلاح العرف العامّ ، ومن الجاري العيون الّتي يجري منها الماء ، وأمّا الّتي لا يجري أصلا وإن كان عن مادّة نبعا أو نزأ فحكمها حكم الجاري في عدم الانفعال ما لم يتغيّر ، للأصل ، والعمومات ، وقوله عليه‌السلام في البئر : « لأنّ له مادّة » وغير ذلك » (٨) انتهى.

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٠٥.

(٢) المعتبر : ١١.

(٣) كشف اللثام ١ : ٢٥٤.

(٤) المقنعة : ٦٦.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٤.

(٦) لم نعرف قائله.

(٧) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٠٤.

(٨) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥١٨.


وأنت بعد ما أحطت خبرا بما قرّرناه آنفا ، من أنّ مبنى إطلاق الجاري على النابع السائل ليس على الوضع اللغوي جزما ، ولا العرفي والشرعي ، حيث لا شاهد بهما أصلا ، بل إنّما هو لأجل كونه أحد أفراد مفهومه اللغوي ، تعرف أنّ بعض الكلمات المذكورة ليس في محلّه ، فالاستناد في نفي دخول ما فرض من العيون في اسم الجاري إلى عدم صدق الجريان ونحوه عليها ليس ممّا ينبغي ، والاعتراف بكونها في حكمه ممّا يشهد بما تقدّم من أنّ غرضهم في المقام ضبط موضوع الحكم لا شرح مفهوم اللفظ ، فلا بدّ وأن يكون الجاري مرادا به حينئذ معنى يشمل الغير السائل أيضا ، ومعه لا معنى لنفي دخوله في المسمّى هنا ، استنادا إلى ما يرجع إلى إحراز المسمّى اللغوي أو العرفي.

والعمدة في معرفة دخوله في موضوع الحكم ملاحظة الأدلّة المقامة على ذلك الحكم ، ولا يبعد أن يقال : بعموم أكثر الأدلّة المقامة على عدم انفعاله على فرض سلامتها دلالة ، خصوصا ما يأتي من رواية البئر المعلّلة بوجود المادّة ، على تقدير رجوع التعليل إلى حكم عدم الإفساد لا الطهر بالنزح كما هو الأظهر ، فإنّها على هذا التقدير تفيد قاعدة عامّة جارية في كلّ ذي مادّة والمقام منه ، نظرا إلى أنّ عدم السيلان على وجه الأرض ينشأ عن تحتيّة المادّة لا عن فقدها أو ضعفها كما قد يتوهّم ، ولو فرض شكّ في شمول ذلك الحكم له بملاحظة ما تقدّم من الخلاف الواقع فيه ، ولم يظهر من الأدلّة شي‌ء ، كان المتعيّن إدخاله في عمومات انفعال القليل ، المفيدة قاعدة عامّة تجري في المقام جزما لو خلّي وطبعها حسبما تقدّم في محلّه.

وهذا ضابط كلّي في المسألة يجب الرجوع إليه في كلّ ما يشكّ دخوله في الجاري الّذي هو موضوع المسألة ، لأجل خلاف ، أو ضعف نبع ، أو يشكّ في وجود النبع ونحوه حين الملاقاة.

ومن جملة ذلك ما يتعدّى محلّه خارجا من الأرض بطريق الرشح ، وهو العرق يقال : « رشح جبينه إذا عرق » ولعلّه إلى إخراج مثل ذلك ينظر ما اعتبره الشهيد في الدروس (١) من دوام النبع في الجاري ، نظرا إلى أنّ الماء في صورة الرشح يخرج شيئا فشيئا ، والمعتبر في عدم الانفعال اتّصال الملاقي للنجاسة بالمادّة حين تحقّق الملاقاة ،

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.


ولا ريب أنّ الاتّصال ممّا لا يعلم به مع الخروج رشحا ، وإنّما اعتبرنا العلم هنا مع أنّ الحكم بالطهارة يكفي فيه عدم العلم بتحقّق سبب النجاسة ، والمقام منه ، لأنّ المقتضي للنجاسة هنا موجود وهو عموم القاعدة ، فلا بدّ في الخروج عنها من مخرج علميّ ولو شرعا.

لكن يرد على الشهيد في اعتباره الشرط المذكور ـ بناء على هذا التوجيه ـ : أنّ ذلك إنّما يستقيم لو كان الحكم بعدم انفعال الجاري معلّقا عند الأصحاب بوجود المادّة ، وهو غير ظاهر من أكثرهم ، بل أكثر أدلّتهم خلو عن اعتباره.

نعم لو استند في ذلك إلى الرواية المشار إليها ، المعلّلة بوجود المادّة كان الاشتراط متّجها. لكن يشكل ذلك : بأنّ الاستناد إليها غير معلوم من جميعهم إلّا أن يقال : بأنّها مستند الحكم عنده ، فاعتبر الشرط المذكور جريا على مقتضى دليله ، فلا إيراد عليه بعد تسليم هذا الدليل منه ، ونقل اعتبار ذلك أيضا عن ابن فهد في موجزه (١) وعن التنقيح : « أنّه استحسن ذلك الشرط » (٢).

وذكر في معناه وجوه :

منها : ما ذكرناه ، وهو أظهرها ، وفاقا للمحكيّ عن بعض محشّي الروضة ، والمحقّق الثاني (٣) وصاحب المعالم (٤) حيث استحسنه.

وأمّا ما أورد عليه : بأنّه غير مفيد ، إذ مجرّد عدم ظهور المادّة لا يكفي في الحكم بالانفعال ، بل التحقيق في صورة الشكّ في وجود المادّة الحكم بعدم الانفعال للأصل ، بل وكذلك مع ظنّ العدم للاستصحاب ، وإن انحصر الدليل على عدم اشتراط الكرّيّة في الخبر المشار إليه ، وهو كما ترى وكأنّه غفلة عمّا قرّرناه من وجود المقتضي للانفعال ، لو لا الدليل المخرج.

ومنها : ما عن روض الجنان (٥) التصريح به من ، أنّ المراد بدوام النبع عدم الانقطاع في أثناء الزمان ، ككثير من المياه الّتي تخرج زمن الشتاء وتجفّ في الصيف.

__________________

(١) الموجز الحاوى (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١١).

(٢) التنقيح الرائع ١ : ٣٨.

(٣) حكى عنه في فقه المعالم عن بعض فوائده ١ : ٣٠٢.

(٤) فقه المعالم ١ : ٣٠٢.

(٥) روض الجنان : ١٣٥ ـ حكاه أيضا في مشارق الشموس عن بعضهم : ٢٠٦ ـ وأيضا في فقه المعالم ١ : ٣٠١.


ففيه : ما لا يخفى ، فإنّ الحكم إذا كان معلّقا بوصف النبع فهو ما لم يتحقّق الانقطاع موجود ، فينبغي أن يتحقّق معه الحكم ، ولا يعقل مدخليّة لانقطاعه في بعض الأزمنة في ذلك ، ولذا يقال : بأنّ القول بالانفعال مع انتفاء الشرط بالمعنى المذكور يوجب تخصيص عموم الأدلّة بمجرّد التشهّي ، ومن هنا صحّ القول بأنّ ذلك ممّا لا ينبغي نسبته إلى مثل الشهيد ، بل من هو دونه بمراتب.

وربّما يورد عليه : بأنّ الدوام بالمعنى المذكور إن اريد به ما يعمّ الزمان كلّه ، فلا ريب في بطلانه إذ لا سبيل إلى العلم به ، وإن خصّ ببعضه فهو مجرّد تحكّم ، وفيه نظر.

ومنها : أن يكون المراد به ما يحترز به عن بعض العيون أو الآبار الّتي لها نبع ولا يجري ماؤها على الأرض ، مع عدم دخولها في اسم البئر ، وإنّما يعلم النبع بأخذ شي‌ء من الماء ، فإنّه حينئذ يأخذ بالنبع إلى أن يبلغ الحدّ الأوّل ، وهذا أضعف من سابقه ، فإنّ الحكم بعدم الانفعال إن كان مستفادا من الأصل أو الروايات غير رواية البئر المعلّلة بما سبق فلا ريب أنّهما ساكتان عن اعتبار أصل النبع فضلا عن دوامه ، وإن كان مستفادا عن الرواية المشار إليها فأقصاها الدلالة على اعتبار وجود المادّة والاتّصال بها ، وعدم تعدّي الماء لا يقدح في شي‌ء منهما ، كما لا يخفى.

وفي الحدائق عن بعض الفقهاء المحدّثين من متأخّري المتأخّرين : أنّ النابع على وجوه :

أحدها : أن ينبع الماء حتّى يبلغ حدّا معيّنا ، ثمّ يقف ولا ينبع ثانيا إلّا بعد إخراج بعض الماء.

وثانيها : أن لا ينبع ثانيا إلّا بعد حفر جديد ، كما هو المشاهد في بعض الأراضي.

وثالثها : أن ينبع الماء ولا يقف على حدّ كما في العيون الجارية ، قال : « وشمول الأخبار المستفاد منها حكم الجاري للوجه الثاني غير واضح ، فيبقى تحت ما يدلّ على اعتبار الكرّيّة ، وكأنّ مراد شيخنا الشهيد رحمه‌الله ما ذكرناه » (١) انتهى.

ويرد عليه : أنّ وقوف نبعه ثانيا على حفر جديد لا يخرج النابع أوّلا عن كونه نابعا ، والحكم معلّق عليه ، إلّا أن يقال : إنّ النبع إنّما يناط به الحكم في موضع اتّصال

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٩٦.


النابع بالمادّة لا مطلقا ، ولا ريب أنّ افتقار النبع ثانيا إلى الحفر الجديد ممّا يكشف عن انقطاع ما نبع أوّلا عن المادّة.

ويبقى من المواضع المشكوك فيها « الثمد » بالفتح والسكون ، بل هو ممّا لا ينبغي الشكّ في عدم اندراجه تحت الجاري اسما وحكما ، سواء فسّرناه بما عن منقول الأساس ـ عن الأصمعي ـ من أنّه : « ماء المطر الّذي يبقى محقونا تحت الرمل ، فإذا انكشف عنه الأرض » (١) وحاصله : ما يختفي تحت الرمل من ماء المطر ، أو بما في مفتاح المعاني (٢) والقاموس (٣) والمجمع (٤) من : « أنّه الماء القليل لا مادّة له » أو « ما يبقى في الأرض الجلد » وهي الأرض الصلبة المستوية المتن ، نعم إن فسّرناه بما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف ـ كما هو أحد الثلاث المذكورة في الكتب المشار إليها ـ كان ممّا تقدّم بيان كونه مرادا للشهيد فيما اعتبره من الشرط المتقدّم ، وقد ظهر بملاحظة ما ذكر أنّ القدر المتيقّن ممّا هو مراد المشهور إنّما هو السائل عن نبع ، وهذا أو ما هو أعمّ منه هو الّذي اختلف الأصحاب في انفعال قليله ، واشتراط الكرّيّة في عدم انفعاله وعدمه على قولين :

الأوّل : ما هو المشهور جدّا محقّقا ومحكيّا من أنّه لا يشترط فيه الكرّيّة ، فلا ينفعل قليله بالنجاسة إلّا إذا تغيّر ، وعزى إلى صريح المبسوط (٥) ، والغنية (٦) ، وشرح الجمل (٧) ، للقاضي ، والدروس (٨) ، والذكرى (٩) ، وحاشية الشرائع (١٠) ، والإرشاد (١١) ، والجعفريّة (١٢) ، والكفاية (١٣) ، والمصابيح (١٤) ، وظاهر إطلاق المقنعة (١٥) ،

__________________

(١) أساس البلاغة ؛ مادّة « ثمد » : ٧٦.

(٢) مفتاح المعاني ؛ مادّة « ثمد ».

(٣) القاموس المحيط ؛ مادة « ثمد » ١ : ٢٨٠.

(٤) مجمع البحرين ؛ مادّة « ثمد » ٣ : ٢٠.

(٥) المبسوط ١ : ٥. (٦) غنية النزوع : ٤٦.

(٧) شرح الجمل والعلم ـ للقاضي ابن البرّاج ـ : ٥٦.

(٨) الدروس ١ : ١١٩.

(٩) ذكرى الشيعة ١ : ٧٩.

(١٠) حاشية الشرائع ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٣.

(١١) حاشية الإرشاد ـ للمحقّق الكركي ـ (محفوظ) الورقة : ٣.

(١٢) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٣).

(١٣) كفاية الأحكام : ٩.

(١٤) المصابيح في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٥.

(١٥) المقنعة : ٧٤.


والخلاف (١) ، والجمل والعقود (٢) ، والنهاية (٣) ، والمراسم (٤) ، والوسيلة (٥) والسرائر (٦) ، والإشارة (٧) ، والنافع (٨) ، والشرائع (٩) ، والمعتبر (١٠) ، والتبصرة (١١) ، والإرشاد (١٢) ، والجامع (١٣) ، واللمعة (١٤) ، والبيان (١٥) ، ومحكيّ أبي الصلاح (١٦) ، والسيوري (١٧) ، وابن فهد (١٨) ، والمحقّق الكركي (١٩) ، وولده (٢٠) ، والشيخ البهائي (٢١) ، والمجمع (٢٢)، والمدارك (٢٣)، والمعالم (٢٤)، بل عن المعتبر ، « ولا ينجّس الجاري بالملاقاة ، وهو مذهب فقهائنا أجمع ، إلى أن قال بعد ذلك :

« ولا الكثير الراكد » (٢٥) ، فعلم أنّه لا فرق بين قليل الجاري وكثيره ، وعن شرح الجمل لابن البرّاج : نقل الإجماع على عدم نجاسة الجاري ، مع التصريح فيه بعدم الفرق بين القليل والكثير (٢٦) ، ونحوه عن الغنية (٢٧) ، وعن ظاهر الخلاف (٢٨) نقله ، ومثله عن حواشي التحرير (٢٩) للمحقّق الثاني ، ومثله عن مصابيح العلّامة الطباطبائي (٣٠) ، وعن الذكرى : « إنّي لم أقف فيه على مخالف ممّن سلف » (٣١) ، أي ممّن تقدّم على العلّامة ، وعن جامع المقاصد : أنّه نسب رأي العلّامة إلى مخالفة مذهب الأصحاب (٣٢).

والثاني : ما عن العلّامة في صريح نهاية الإحكام (٣٣) ، وظاهر القواعد (٣٤) من اشتراط الكرّيّة وانفعال قليله ، وعن ثاني الشهيدين في المسالك (٣٥) إنّه اختاره صريحا ،

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٩٥ ـ المسألة ١٥٢.

(٢) الجمل والعقود : ٥٤. (٣) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٠.

(٤) المراسم العلويّة : ٣٧. (٥) الوسيلة : ٦٧. (٦) السرائر ١ : ٦٢. (٧) إشارة السبق : ٨١.

(٨) المختصر النافع : ٤١. (٩) شرائع الإسلام ١ : ١٢. (١٠) المعتبر : ٩. (١١) تبصرة المتعلّمين : ٢٣.

(١٢) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٥. (١٣) الجامع للشرائع : ٢٠. (١٤) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٣١. (١٥) البيان : ٩٨. (١٦) الكافي في الفقه ـ لأبي الصلاح الحلبي ـ (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٨٢).

(١٧) التنقيح الرائع ١ : ٣٨. (١٨) الموجز الحاوي (لسلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١١).

(١٩) جامع المقاصد ١ : ١١١.

(٢٠ و ٢١ و ٢٩ و ٣٠) حكى عنه السيد مهدي بحر العلوم في مصابيحه ، راجع المصابيح في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٥. (٢٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٢.

(٢٣) مدارك الأحكام ١ : ٣٠. (٢٤) فقه المعالم ١ : ٢٩٨.

(٢٥) المعتبر : ٩. (٢٦) شرح الجمل والعلم : ـ للقاضي ابن برّاج ـ ٥٦.

(٢٧) غنية النزوع : ٤٦. (٢٨) الخلاف ١ : ١٩٥ المسألة ١٥٢.

(٣١) ذكرى الشيعة ١ : ٧٩. (٣٢) جامع المقاصد ١ : ١١١.

(٣٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٩. (٣٤) قواعد الأحكام ١ : ١٨٢.

(٣٥) مسالك الافهام ١ : ١٢.


ويظهر منه الميل إليه في الروضة (١) ؛ قيل : وكذلك أيضا في روض الجنان (٢) ، وعن ولده صاحب المعالم : « أنّه ذهب إليه في جملة من كتبه ، إلّا أنّ الّذي استقرّ عليه رأيه بعد ذلك هو المذهب المشهور » (٣) وعنه في الروض (٤) عن جماعة من المتأخّرين.

احتجّ الأوّلون بوجوه :

أحدها : الأصل ، تمسّك به غير واحد من الأساطين.

ويرد عليه : أنّه إن اريد به القاعدة الكلّيّة المستفادة عن عمومات الأدلّة كتابا وسنّة ، فهي وإن كانت مسلّمة ، غير أنّها لا ربط لها بالمقام ، لأنّ الكلام في قبول الجاري للانفعال بالعارض وعدمه ، والقاعدة إنّما تقتضي طهارته في أصله وخلقته الأصليّة ، فهي في الحقيقة ساكتة عمّا نحن بصدده نفيا وإثباتا.

ومنه يعلم ضعف ما في كلام جملة منهم من الاحتجاج بالعمومات ، وأضعف منه ما في كلام بعضهم من الاحتجاج بالخبر المستفيض « كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (٥) فإنّه على ما قرّرناه سابقا عامّ في مورده وهو الشبهة في الموضوع ، والمقام ليس منه ، على أنّ العلم بالقذارة أعمّ من الشرعي ، وهو قائم في المقام ، بناء على عموم قاعدة انفعال القليل كما هو التحقيق ؛ فلا بدّ في الخروج عنه من مخصّص والعامّ لا يصلح له ، بل هو ممّا ينبغي تخصيصه بالقاعدة ، ومن هنا ظهر جواب آخر عن العمومات والأصل بالمعنى المفروض ، لو قلنا فيهما بالدلالة على عدم قبول الانفعال بالعارض عموما.

وإن اريد به قاعدة الطهارة أيضا ولكن بالمعنى الّذي قرّره صاحب المدارك. (٦) من أنّ الأشياء كلّها على الطهارة إلّا ما نصّ الشارع على نجاسته لأنّها مخلوقة لمنافع العباد ، ولا يتمّ النفع إلّا بطهارتها. ففيه :

أوّلا : منع منافاته أيضا لما نحن بصدده ، إذ غاية ما فيه كون خلقة الأشياء على الطهارة ، وهو لا ينافي عروض النجاسة من جهة الطوارئ.

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٢٥٢.

(٢) روض الجنان : ١٣٤.

(٣) فقه المعالم ١ : ٢٩٨ نقلا بالمعنى.

(٤) روض الجنان : ١٣٥.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ وفيه : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر ».

(٦) مدارك الأحكام ١ : ٣٠.


وثانيا : منع بقائه على عمومه ، بعد ملاحظة خصوص ما ورد في قليل الماء المتناول للجاري أيضا.

وثالثا : منع ذلك الأصل رأسا ، بمنع الملازمة ومنع بطلان اللازم أمّا الأوّل : فلأنّ منافع العباد ملحوظة في الخلقة من باب الحكمة ، فلا يجب فيها الاطّراد. وأمّا الثاني : فلعدم انحصار جهة الانتفاع في مشروط بالطهارة ، كما هو الحال في خلقة الأعيان النجسة.

وإن اريد به استصحاب الحالة السابقة ، فهو إنّما يستقيم لو لا القاطع والرافع لموضوعه ، وفي دليل الخصم ـ على ما سيجي‌ء من عموم قاعدة الانفعال ولو استندت إلى المفهوم ـ كفاية في ذلك ؛ فلا بدّ في دفعه من قاطع آخر حاكم عليه ، والأصل لا يصلح له ، وبذلك يظهر عدم صحّة الاستناد إليه لو اريد به أصالة البراءة ، كما اعتمد عليها المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك ، تعليلا : « بأنّ النجاسة تكليف بالتجنّب » (١).

وثانيها : ما حكى الاحتجاج به عن المحقّق (٢) ، والعلّامة (٣) ، من أنّ النجاسة لا تستقرّ مع الجريان.

وفيه أوّلا : منقوض بالجاري لا عن نبع.

وثانيا : أنّ عدم استقرار النجاسة إن اريد به عدم استقرار عينها ، فاعتبار استقرارها مع إمكان استقرار أثرها في الأجزاء المتواصلة من جهة السراية من جزء إلى جزء ـ ولو لاحقا ـ ممنوع ، ما لم يدخل الأجزاء اللاحقة في عنوان المستعلي ، وإن اريد به عدم استقرار أثرها فهو أوّل الدعوى.

وثالثها : عدّة روايات عامّة منها : النبوي ـ المتكرّر ذكره سابقا ـ : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (٤).

ومنها : صحيحة حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ من الماء واشرب ، فإن تغيّر الماء وتغيّر الطعم ، فلا تتوضّأ ولا تشرب » (٥).

__________________

(١) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٤٦.

(٢) المعتبر : ٩.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٢٨.

(٤) سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ، سنن الدارقطني ١ : ٢٨ ـ ورواها أيضا في المعتبر : ٨.

(٥) التهذيب ١ : ٢١٦ ح ٦٢٥ ـ الاستبصار ١ : ١٢ ح ١٩.


ومنها : حسنة محمّد بن ميسّر قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، ويريد أن يغتسل منه ، وليس معه إناء يغترف به ، ويداه قذرتان؟ قال : يضع يده ويتوضّأ ، ويغتسل ، هذا ممّا قال الله عزوجل : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) (٢). وجه الاستدلال بها : أنّ الأوّلين يدلّان بظاهرهما على انحصار سبب عروض النجاسة في التغيّر ، كما أنّ الأخير يدلّ بإطلاقه على عدم انفعال الماء القليل بقذارة اليد ، سواء حملنا القلّة على المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء ، أو على ما يعمّ الكثير المصطلح ، غاية الأمر أنّه خرج منها القليل الراكد بالدليل وبقي الباقي ، ومنه محلّ البحث.

وفيه : أنّ الدليل الّذي أوجب خروج الراكد توجب خروج الجاري ، ودعوى : الاختصاص ، لا وجه لها بعد ملاحظة عموم المفهوم في روايات انفعال القليل.

ورابعها : خصوص صحيحة إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام « قال : ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء ، إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه ، فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه ، لأنّ له مادّة » (٣) ، بتقريب : أنّه جعل العلّة في عدم فساده بدون التغيّر وطهارته بزواله وجود المادّة ، والعلّة المنصوصة حجّة.

واعترض عليه تارة : بما عن المحقّق الخراساني (٤) ، ـ وتبعه على ذلك صاحب الحدائق ـ من أنّ التحقيق في العلّة المنصوصة ، أنّ الحكم يتعدّى إلى كلّ موضع يوجد فيه العلّة ، إذا شهدت الحال والقرائن على أنّ خصوص متعلّقها الأوّل لا مدخل له في الحكم لا مطلقا ، وإثبات الشهادة المذكورة هاهنا لا يخلو عن إشكال.

واخرى : بمنع وجود المادّة في الجاري مطلقا ، إذ المادّة كما هو الظاهر لا بدّ أن يكون كرّا مجتمعا ، ووجود مثلها في كلّ جار غير معلوم ، إذ يجوز أن يكون نبعه بطريق الرشح من عروق الأرض ، سلّمنا عدم اعتبار الاجتماع ، لكن وجود الكرّ أيضا متّصلا غير معلوم ، لجواز أن يحصل في بعض العيون الماء بقدر ما يخرج تدريجا في الأرض ، إمّا بانقلاب الهواء كما هو رأي الحكماء ، أو بإيجاد الله تعالى إيّاه من غير مادّة ، أو بذوبان

__________________

(١) الحجّ : ١٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٢ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ الكافي ٣ : ٤ / ٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٢٧ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٢.

(٤) ذخيرة المعاد : ١١٧.


الثلج ونفوذه شيئا فشيئا ، والبعض الّذي يبعد فيه هذه الاحتمالات لا ينفكّ عن الكثرة.

والأوّل : واضح الدفع بعد ملاحظة بناء العرف ، فإنّ الأصل العرفي في التعليلات الواردة في الكلام عدم مدخليّة الخصوصيّة في انعقاد الحكم ، نظرا إلى ظهور كلمة « أنّ » وما يؤدّي مؤدّاها في نظائر المقام في كون ما بعدها ممّا اعتبره المتكلّم وسطا لما أفاده من الحكم ، فيكون في قوّة كبرى كلّيّة ، فلا يضرّ فيها حينئذ خصوصيّة المتعلّق الأوّل ، لرجوعه موضوعا في صغرى القياس ، والصغرى لا بدّ فيها من خصوصيّة موضوعها ، فالمراد بشهادة الحال المعتبرة في المقام إن كان هذا المعنى فهي قائمة في المقام جدّا ، وإن كان ما زاد عليه فغير معتبرة جزما.

وأمّا الثاني فيدفعه : أنّ كلام القوم ومحطّ الاستدلال بالرواية مفروضان فيما علم بوجود المادّة فعلا ، وإطلاق ورودها في كلام الإمام عليه‌السلام يأبى عن اعتبار الكرّيّة والاجتماع معها ، ودعوى الظهور في ذلك ممّا لا شاهد عليه ، والقضيّة إنّما اعتبرت فرضيّة ، فعدم انفكاك الكرّيّة عمّا علم فيه بوجود المادّة ـ مع بطلان دعواه في نفسه ـ غير قادح في انعقاد الحكم الّذي يرد على المفهوم دون المصداق ، ففرض الترشّح أو انقلاب الماء من الهواء ، وكون حصوله من إيجاد الله سبحانه ، غير قادح فيما هو من موضوع الحكم ، لكون كلّ ذلك من الصور المشكوكة الّتي يرجع فيها إلى الأصل الأوّلي ـ كما عليه غير واحد هنا ـ أو قاعدة انفعال القليل ، كما هو من مقتضى التحقيق والنظير في خصوص المقام أيضا ـ بناء على ما تقدّم الإشارة إليه ـ فدفع الاستدلال بالرواية بأمثال هذه الامور ، ليس على ما ينبغي.

نعم ، إن كان ولا بدّ من ذلك فليعترض عليه : بمنع رجوع التعليل إلى الحكم الأوّل ، وهو عدم فساد ماء البئر بشي‌ء ، ودعوى : ظهوره في ذلك ممنوعة جدّا ، وإن كان المقصود أصالة من الحديث بيان سعة ماء البئر وعدم فساده بغير التغيّر ، بل ظاهره كونه راجعا إلى الحكم بزوال التغيّر بالنزح ، وقد تنبّه عليه احتمالا شيخنا البهائي رحمه‌الله ـ فيما حكي عنه ـ قائلا في الحبل المتين ـ عند بيان الاستدلال ـ : « وفيه نظر ، لاحتمال أن يكون قوله عليه‌السلام : « لأنّ له مادّة » تعليلا لترتّب ذهاب الريح وطيب الطعم على النزح ، كما يقال : لازم غريمك حتّى يعطيك حقّك ، لأنّه يكره ملازمتك » (١).

__________________

(١) الحبل المتين : ٣٨٩.


والمناقشة فيه : بأنّ تعليل زوال التغيّر بوجود المادّة مع خفائه وانتفاء الحاجة إليه ـ لكون التغيّر من الامور المحسوسة الظاهرة ـ ليس من الوظائف الشرعيّة المطلوب بيانها من كلام الأئمّة ، فلا يحمل الحديث عليه ـ كما عن السيّد الطباطبائي في مصابيحه (١) ـ وقريب منه ما في الحدائق (٢) وغيره.

يدفعها : أنّ ذلك ممّا لا غرابة فيه ، بل هو بنفسه احتمال ظاهر لا خفاء فيه ، بعد ملاحظة أنّ الإمام عليه‌السلام حين ما ادّعى الملازمة بين النزح وزوال التغيّر استفاد من الراوي استبعادا في تلك الملازمة ، فأتى بالعلّة المذكورة رفعا لذلك وتحقيقا لتلك الملازمة ، أو دفعا لما عساه يتأمّل بعد ذلك فيها ، ولا ريب أنّ ذلك ممّا لا ينافي وظيفة الإمامة بعد ما حصل له المقتضي ، وإنّما لا يحمل كلام الأئمّة على نظائر هذه الامور إذا لم يقم عليه مقتض ، كما أنّ المقام كان من مظانّ الاستبعاد والتأمّل المذكورين ، بملاحظة طروّ عدم الالتفات إلى تجدّد الماء من المادّة عقيب نزح المتغيّر منه شيئا فشيئا ، فينشأ منه مقايسة ذلك على ماء الحوض أو البئر الغير النابع ، أو الغدير أو غيره المتغيّر بالنجاسة أو غيرها ، حيث إنّه لا يخرج عن كونه متغيّرا بالنزح بالضرورة والعيان ، بل هو كلّما نزح كان الباقي منه على تغيّره إلى أن لا يبقى منه شي‌ء ، كما لا يخفى ، والتعليل ورد لبيان أنّ ماء البئر ليس من هذا الباب ، بل النزح فيه يوجب زوال التغيّر من جهة وجود المادّة ، الموجبة لتجدّد جزء من الماء الغير المتغيّر مكان ما نزح من المتغيّر ، وهكذا إلى ما لا يبقى معه من المتغيّر شي‌ء ، أو يستهلك في جنب المتجدّد إن بقي منه شي‌ء ، فالمراد بذهاب الريح وطيب الطعم حقيقة إنّما هو فراغ البئر عن المتغيّر لا زوال مجرّد الوصف مع بقاء العين ، فإنّه غير معقول مع تحقّق النزح.

وقد يوجّه الاستدلال على نحو يستلزم المطلوب ، فيقال : إنّ قوله : « لأنّ له مادّة » علّة لأصل الحكم ، وهو عدم فساد الماء بدون التغيّر ، أو له ولطهره بزواله المفهوم من قوله : « فينزح حتّى يذهب الريح » ، أو للأخير خاصّة على بعد ، وعلى التقادير فالحكم المعلّل بالمادّة يطّرد بوجودها في غير مورد التعليل ، لأنّ العلّة المنصوصة حجّة كما

__________________

(١) المصابيح في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ١٨٩.


تقرّر في محلّه ـ فيجري في الجاري لوجودها فيه ، ومقتضى التعليل على الأوّلين نفس المدّعى ، وهو عدم انفعال الجاري بدون التغيّر ، وعلى الثالث ما يستلزمه ، لأنّ زوال النجاسة بواسطة المادّة يستلزم العصمة عن الانفعال بها ، لكون الدفع أهون من الرفع ، وهذا محكيّ عن مصابيح السيّد الطباطبائي (١) ، وفي كلام جماعة ما يقرب من ذلك.

والجواب عنه : منع اقتضاء مجرّد زوال التغيّر بالنزح ـ المعلّل بوجود المادّة ـ حصول الطهر ، لجواز كون المطهّر هو مع شي‌ء آخر من إلقاء كرّ ونحوه ، وقد علم به الراوي من الخارج فلم يبيّنه الإمام عليه‌السلام ، وإنّما بيّن له طريق إزالة التغيّر ، فتأمّل. مع إمكان أن يقال : بورود التعليل مورد الغالب في الآبار من بلوغ مائها كرّا بل كرورا ، كما يومئ إليه قوله عليه‌السلام : « ماء البئر واسع » بناء على أنّه كناية عن كثرة الماء ، أو مراد به اتّساعه بحسب المقدار ، والطهر المستفاد منها لعلّه من جهة أنّ الكرّ يطهّر بمجرّد زوال تغيّره كما هو أحد القولين في المسألة ، فحينئذ لو استلزم ذلك عصمته عن الانفعال بها من غير تغيّر فإنّما يستلزمه لكونه كرّا لا لكونه ذا مادّة ، والمادّة إنّما اعتبرت على الاحتمال الأخير معدّة لزوال التغيّر الّذي هو المطهّر ، أو سببا لتحقّق نزح المتغيّر مع اشتمال المحلّ على الماء بعد تفريغ المتغيّر عنه ، مع إمكان أن يكون وجود المادّة إنّما اعتبر جزءا لسبب التطهير ، المركّب منه ومن النزح المزيل للتغيّر ، أو المجموع منه ومن زوال التغيّر ، ولا يلزم منه كونه علّة تامّة للعصمة عن الانفعال كما لا يخفى ، فدعوى : كون الدفع أهون من الرفع ـ مع كونها رأسا محلّ تأمّل ـ ممّا لا يجدي نفعا هنا ، لكون الرافع شيئا لا يوجد في صورة الدفع.

نعم ، لو وجّه الاستدلال بما قد يقال أيضا : من أنّ التعليل إن رجع إلى الحكم الأوّل فيدلّ على عدم انفعال كلّ ذي مادّة بما عدا التغيّر ، وإن رجع إلى الحكم الثاني فيدلّ على أنّ كلّ ذي مادّة متغيّرة يرتفع نجاسته بزوال تغيّره بتجدّد الماء عليه من المادّة بل مطلق الزوال ، وهذا ممّا لا يجتمع مع انفعال قليله بالملاقاة ، كان أوجه ممّا ذكر.

ولكن يدفعه أيضا : منع المنافاة بين الحكمين ، بجواز قبول قليله الانفعال وكون ما ذكر طريقا إلى تطهيره ، كما عليه مبنى القول بانفعال ماء البئر ، غاية الأمر أنّ النزح على تقدير عدم التغيّر لا يعلّق بزوال التغيّر ، بل له حينئذ حدّ مقرّر في الشريعة ، والمفروض أنّ

__________________

(١) المصابيح في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٦.


أحكام الشرع لا تقاس بالعقول القاصرة ، وإلّا كان اللازم عدم طهر المتنجّس بالغسل بناء على نجاسة الغسالة كما هو التحقيق ، إلّا أن يقال : إنّ طهر المتغيّر بمجرّد زوال التغيّر ، أو به مع ضميمة النزح ، أو بهما مع ضميمة وجود المادّة ، لا يجتمع مع قبول الغير المتغيّر منه المتجدّد من المادّة للانفعال بمجرّد الملاقاة ، بعد ملاحظة أنّ الملاقاة الموجبة للانفعال أعمّ من ملاقاة النجاسة وملاقاة المتنجّس ، فإنّ المتجدّد من المادّة حين زوال التغيّر ملاق للماء وهو متنجّس ، والمفروض أنّه ليس له قوّة عاصمة عن الانفعال ، فإمّا أن يقال : بطهر الجميع بالزوال ، أو يقال : بعدم طهر شي‌ء منها ، أو يقال : بطهر المتغيّر دون غيره ، والثاني بموجب الرواية ، وكذلك الثالث لاستحالة اختلاف الماء الواحد في سطح واحد في وصفي الطهارة والنجاسة ، فتعيّن الأوّل. فإذا كان المتجدّد عن المادّة محلّا لحدوث الطهر فيه بزوال تغيّر غيره ، فلأن يكون محلّا لبقاء طهره عند انتفاء التغيّر رأسا ، وقضيّة ذلك : عدم انفعاله رأسا حتّى بملاقاته المتغيّر ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّ له قوّة عاصمة وليست إلّا المادّة ، ولا يخفى أنّ الاستدلال بهذا الوجه تمام لو لا رجوعه إلى استنباط العلّة ، فليتأمّل.

وخامسها : الروايات النافية للبأس عن البول في الماء الجاري ، كرواية سماعة قال : « سألته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال : لا بأس به » (١) ، ورواية ابن بكير عن أبي عبد الله قال : « لا بأس بالبول في الماء الجاري » (٢) ورواية الفضيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بأن يبول الرجل في الماء الجاري ، وكره أن يبول في الماء الراكد » (٣) ورواية عنبسة بن مصعب ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبول في الماء الجاري؟ قال : لا بأس به إذا كان الماء جاريا » (٤).

وردّ الاستدلال بها : بأنّها واردة في حكم البول في الماء ، لا في حكم الماء بعد البول ، فلا يستفاد منها إلّا حكم تكليفي وهو جواز البول في الجاري ، وهو ليس ممّا نحن فيه ولا مستلزما له ، حيث لا منافاة بين إباحة ذلك الفعل وانفعال الماء به.

وقد يفصّل فيها بجعل الرواية الاولى من أدلّة المقام ، لظهورها في السؤال عن الماء

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٣ ب ٥ أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٣٤ / ٨٩.

(٢ و ٤) الوسائل ١ : ١٤٣ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٣ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٣ / ١٢٢ و ١٢٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٣ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣١ / ٨١ ـ ٤٣ / ١٢١.


لا البول ، دون الباقية لظهورها في السؤال عن البول في الماء دون الماء نفسه.

أقول : الإنصاف ورود هذه الروايات في سياق واحد ، وإن قدّم في بعضها البول وفي البعض الآخر الماء ، والّذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنّ الغرض بالسؤال فيها استعلام الحكم التكليفي حتّى فيما قدّم فيه ذكر الماء ، ولو سلّم عدم الظهور فيها بالخصوص ، فلا نسلّم ظهورها في خلاف ما ذكر ، لأنّ ظهور البواقي فيما ذكر يوجب فيها عدم ظهور في خلافه ، كما أنّ تقديم ذكر الماء فيها يوجب عدم ظهورها فيما ذكر ، فهو في الحقيقة مجمل من جهة العارض.

وربّما يحكي الاستدلال فيما هو من قبيل هذه الروايات بصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة في بحث الغسالة ـ الواردة في الثوب الّذي يصيبه البول ، المشتملة على قوله عليه‌السلام : « وإن غسلته في ماء جار فمرّة واحدة » (١) وهو أضعف من سابقه ، لابتنائه على عدم نجاسة الغسالة ، أو المنافاة بين طهر المحلّ ونجاسة ما يغسل به.

وسادسها : ما ورد في الروايات من تشبيه ماء الحمّام بالجاري ، كصحيحة داود بن سرحان « قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في ماء الحمّام؟ قال : هو بمنزلة ماء الجاري » (٢) ومرسلة الكافي عن ابن جمهور ، عن محمّد بن القاسم ، عن ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت : أخبرني عن ماء الحمّام ، يغتسل منه الجنب ، والصبي واليهودي والنصراني ، والمجوسي؟ فقال : إنّ ماء الحمّام كماء النهر ، يطهّر بعضه بعضا » (٣) بتقريب : أنّه لو كان الجاري يشترط فيه الكرّيّة لم يكن للتشبيه به وجه من جهة الطهارة.

والأولى أن يقال ـ في تقريب الاستدلال ـ : إنّ التشبيه وما هو بمنزلته ممّا يقتضي في نظر العرف والعادة ـ بل العقل ـ أيضا أمرين :

أحدهما : امتياز المشبّه به ـ الّذي هو الجاري هنا ـ عمّا عداه في وصف أو حكم ملحوظ للمتكلّم منبعث منه التشبيه.

وثانيهما : مشاركة المشبّه ـ الّذي هو هنا ماء الحمّام ـ له في ذلك الوصف أو الحكم المقصود إفادتها من التشبيه ، وامتياز الجاري عمّا عداه من المياه إمّا في طهارته

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٩٧ ب ٢ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٥٠ / ٧١٧.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٧٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ الكافي ٣ : ١٤ / ١.


الأصليّة ، وهو باطل لعدم اختصاص ذلك به ، أو في اشتراطه بالكرّيّة في عدم انفعاله وهو أيضا باطل للعلّة المذكورة ، أو في قبوله الانفعال بالتغيّر وهو أيضا باطل لعين ما ذكر ، أو في طهر متغيّرة بمجرّد زوال تغيّره ، أو في عدم قبول قليله الانفعال ، والأوّل خلاف ما يظهر من السياق جدّا ، فتعيّن الأخير وهو المطلوب.

وأمّا ما يقال في دفعها : من أنّها بناء على اشتراط بلوغ المادّة المعتبرة في ماء الحمّام ، ـ ولو بضميمتها في الحياض ـ كرّا أدلّ على خلاف المطلب ، لقضاء التنزيل بتساوي الأمرين في الحكم ، ففيه : أنّ ذلك إنّما يتّجه على تقدير استفادة الاشتراط المذكور من تلك الرواية ، وهو مبنيّ على تنزيل التنزيل الوارد فيها إلى الثاني من الاحتمالات المذكورة وقد عرفت بطلانه.

وأمّا إذا ثبت الاشتراط من جهة الخارج فتشبيهه بالجاري لا يقتضي تعدّي ذلك الحكم منه إليه ، لأنّ التشبيه إنّما يقتضي تعدّي الحكم من المشبّه به إلى المشبّه لا العكس ، فلا بدّ من كونه مسوقا لبيان مشاركته للجاري في حكم آخر ، ولعلّه تقوّي ما في حياضه بما اعتبر معه من المادّة كتقوّي الجاري بما له من المادّة ، ثمّ بملاحظة إطلاق اللفظ في المشبّه به يلزم المطلوب أيضا.

وقد يتكلّف ـ بناء على اعتبار الكرّيّة في ماء الحمّام ـ بحمله على تنزيله منزلة الجاري في تجدّد الماء النظيف منه تدريجا ، فيرتفع به القذارة المتوهّمة من ملاقاة بعضه للنجاسة ، نظرا إلى أنّ الماء الراكد ولو كان كرّا مورد لتوهّم استقرار القذارة المتوهّمة من الملاقاة فيه ، فهذا التنزيل لدفع ما في النفس من الاستقذار الناشئ من ملاقاة النجاسات ، فليس الكلام مسوقا لبيان حكم الجاري من حيث اعتبار الكثرة فيه وعدمه ، وهو كما ترى خروج عن ظاهر السياق سؤالا وجوابا ، وتكلّف يلتزم به بلا داع إليه ، وما ذكرناه أوجه ، بل هو الظاهر بناء على قضيّة الاشتراط ، ومع الغضّ عنه فالرواية ظاهرة في بيان عدم اعتبار الكرّيّة في ماء الحمّام ، وقضيّة ذلك كون الجاري أيضا من حكمه عدم اعتبار الكرّيّة.

ويمكن تقرير الاستدلال بها على المطلب بوجه آخر أمتن ممّا ذكرناه ، وهو : أنّ السؤال وإن لم يصرّح فيه بالحكم المسئول عنه المطلوب استعلامه ، غير أنّ أخذ ماء الحمّام عنوانا في السؤال دليل على أنّ مقصود السائل استعلام حكمه من حيث الطهارة


والطهوريّة ، لاستقرار العادة في الأسئلة حيثما ذكر فيها العناوين مطلقة من غير تصريح بالحكم المسئول عنه معها ، بكون المقصود استعلام أحكامها الظاهرة الّتي أخذت هي في أصل الشرع عناوين لها بالأصالة ، ومن المعلوم أنّ الحكم الّذي يؤخذ « الماء » عنوانا له بالأصالة بحسب الشرع إنّما هو الطهوريّة بالمعنى الشامل للطهارة والمطهّريّة ، فمقصود السائل في تلك الرواية استعلام حكم ماء الحمّام من حيث الطهارة أو المطهّريّة ، لكن لا بالنظر إلى خلقته الأصليّة ، لأنّ ماء الحمّام بحسب الخلقة ليس حاله إلّا كحال سائر المياه ، وقد ثبت طهوريّتها كتابا وسنّة على الإطلاق ، فالغرض حينئذ استعلام بقاء طهوريّته والعدم من جهة الطوارئ ، فتنزيله في الجواب منزلة الجاري كناية عن بقائه على وصف الطهوريّة طهارة أو مطهّريّة وعدم ارتفاعها بسبب الطوارئ ، ولا يستقيم ذلك إلّا أن يكون الجاري أيضا حكمه كذلك كما لا يخفى.

وهذا مع ملاحظة الإطلاق الشامل للكريّة وما دونها عين المطلوب ، سواء كان الغرض استعلام طهارته أو مطهّريّته.

فإن قلت : لو كان الغرض استعلام مطهّريّته لا يستلزم المطلوب ، لجواز كون شبهة السائل زوال الطهوريّة عن الماء المستعمل في رفع الأحداث ، ومع قيام هذا الاحتمال يسقط بها الاستدلال ، لاستلزامه فيها الإجمال.

قلت : سياق السؤال في كونه سؤالا عن الطوارئ السالبة للطهارة أظهر منه في كونه سؤالا عن الطوارئ السالبة للطهوريّة لا من جهة الطهارة ، مع أنّ الجواب لو دلّ على بقاء الطهوريّة ـ مع أنّ ماء الحمّام محلّ لورود النجاسات عليه غالبا ـ لاستلزام بقاء الطهارة ، ولا يقدح فيه عدم التعرّض لحكم الطهارة أصلا وبالذات ، بعد الجزم بثبوت الملازمة الشرعيّة بين الطهارة والطهوريّة كما لا يخفى.

غاية الأمر كون هذه الاستفادة من باب الدلالة بالإشارة ولا بأس به بعد ملاحظة أنّها أيضا من الدلالات المعتبرة.

وأمّا المرسلة : فلو لا الضعف في سندها بالإرسال وابن جمهور ، أمكن الاستناد إليها بحمل « يطهّر بعضه بعضا » على إرادة أنّه يعصم بعضه الغير الملاقي للنجاسة البعض الآخر الملاقي لها كما هو الظاهر ، بقرينة أنّ تطهير البعض للبعض بالمعنى الحقيقي ـ بناء على عدم الانفعال


بمجرّد الملاقاة ـ لا يتأتّى فرضه إلّا في صورة التغيّر الّذي يزول بتجدّد الماء عليه من المادّة ، وليس في النجاسات الواردة في سؤال الرواية ما يوجب التغيّر عادة كما لا يخفى ، وبناء على الانفعال بمجرّد الملاقاة لا يمكن التطهير بلا مطهّر خارجي ، من إلقاء كرّ ونحوه.

وأمّا ما قيل ـ في توجيه الاستدلال ـ : من أنّ المراد به الرفع قضيّة للمعنى الحقيقي ، ويعلم منه الدفع وهو الحكم المطلوب من السؤال بالفحوى ، ففيه : ما لا يخفى من البعد والغرابة.

وربّما يعترض عليها : بأنّها على خلاف المطلب أدلّ ، حيث إنّ ظاهرها اعتصام ماء النهر بعضه ببعض لا بالمادّة ، فتدلّ على اعتبار كثرته في اعتصامه ، وهو أيضا كما ترى ، فإنّ الأبعاض المتواصلة الّتي يعتصم كلّ بعض منها بآخر منتهية إلى المادّة ، وقضيّة ذلك كون الاعتصام الّذي يتحقّق فيما بينها مستندا بالآخرة إلى المادّة.

وأضعف منه الاعتراض أيضا : بأنّ المماثلة ممّا يقتضي المساواة من الطرفين ، ومن المعلوم أنّ رفع النجاسة المتحقّقة في ماء الحمّام لا يكون إلّا بالمادّة البالغة كرّا ، فمقتضى المماثلة اعتبار ذلك في الجاري إذا تنجّس بعضه ، وهذا عين مذهب العلّامة (١) في الجاري ، فإنّ (٢) المماثلة إنّما تقتضي المساواة في الحكم المسوق لبيانه الكلام لا في موضوعه ، والمادّة البالغة كرّا ـ بناء على تسليم اعتبار الكرّيّة فيها في الصورة المفروضة ـ مأخوذة وملحوظة موضوعا لحكم الرفع ، المنساق لبيانه الرواية ، هذا مضافا إلى ما عرفت من ورود الرواية لبيان حكم الدفع لا الرفع الذي يوجب توهّم الاعتراض المذكور.

وأضعف من الجميع المناقشة في اختصاص لفظ « النهر » بالنابع ، ثمّ في شموله لما دون الكرّ ، فإنّ لفظ « النهر » وإن لم يختصّ بالنابع ، إلّا أنّ الظاهر المتبادر منه ومن لفظ « الجاري » الوارد في الروايات المتقدّمة والآتية إنّما هو النابع وإن كان إطلاقيّا ، وهو شي‌ء يجده الذوق بملاحظة المقام.

نعم ، يمكن الاعتراض عليها : بأنّ الدلالة المذكورة إنّما تثبت على جهة العموم بالقياس إلى الكرّ وما دونه ، ومفهوم قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء »

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٨ حيث قال : « لا فرق بين الأنهار الكبار والصغار ، نعم ، الأقرب اشتراط الكرّيّة ، لانفعال الناقص عنها مطلقا » الخ.

(٢) هذا جواب لقوله : « وأضعف منه الاعتراض عليه الخ ».


عامّ بالقياس إلى الجاري والحمّام وغيرهما ، فيتعارضان في قليل الجاري والحمّام ، والجمع وإن كان يحصل بتخصيص كلّ منهما ، غير أنّ تخصيص الرواية بصورة الكرّيّة أولى من تخصيص المفهوم بغير الجاري ، لكون المخرج بالأوّل أقلّ منه بالثاني بمراتب شتّى.

وفيه أيضا : أنّ المخرج عن كلّ من العامّين ـ بناء على ارتكاب التخصيص في أحدهما ـ إنّما هو ما دون الكرّ من الجاري ، وهو شي‌ء واحد لا يطرأه وصفا القلّة والكثرة بالاعتبارين ، بل لنا أن نقول : بأولويّة تخصيص المفهوم ، لكون عمومات الجاري من جهة أنّها أقلّ أفرادا من المفهوم أظهر في العموم من المفهوم ، كما لا يخفى.

وسابعها : عموم روايات وردت في خصوص الجاري ، نافية لتنجيسه بشي‌ء ما عدا التغيّر ، كالمرسل المرويّ عن نوادر الراوندي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الماء الجاري لا ينجّسه شي‌ء » (١) وحديث دعائم الإسلام : « في الماء الجاري يمرّ بالجيف والعذرة والدم يتوضّأ منه ويشرب ، وليس ينجّسه شي‌ء ما لم يتغيّر أوصافه ، طعمه ولونه وريحه » (٢) والمحكيّ عن الفقه الرضوي : « واعلموا رحمكم الله : أنّ كلّ ماء جار لا ينجّسه شي‌ء » (٣)

واعترض عليها : بكونها معارضة بإطلاقات أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة ، والتقييد في إطلاقات الجاري إخراج للفرد النادر ، لأنّ ما لا يبلغ مع ما في المادّة ـ بل بنفسه ـ كرّا قليل ، بخلاف تقييد الماء بغير الجاري في أدلّة إناطة الاعتصام ، فإنّه إخراج للفرد المتعارف ، وبالتأمّل فيما ذكرناه تقدر على دفع ذلك ، نظرا إلى أنّ المخرج ليس إلّا قليل الجاري ، سواء اعتبر إخراجه عن إطلاقات الجاري أو إطلاقات الاعتصام.

وأمّا ما يقال في دفعه : من أنّ الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة في مثل قوله عليه‌السلام : بعد السؤال عن الماء الّذي لا ينجّسه شي‌ء : « أنّه الكرّ من الماء » وقوله : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » ونحو ذلك ، هو مطلق الجاري ، فيكون المقسم في هذه الأدلّة هو الماء الراكد ، وهذا أبعد من تقييد الجاري بما يبلغ كرّا فضعفه أوضح من أن يوضح ، ضرورة : أنّ التنافي لا يتأتّى إلّا بعد اختلاف الدليلين في مفاديهما ، ومن البيّن أنّه لا تنافي بين منطوق

__________________

(١) نوادر الراوندي : ٣٩ ، مستدرك الوسائل ١ : ١٩١ ، ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٤.

(٢) دعائم الإسلام ١ : ١١١ ـ مستدرك الوسائل ١ : ١٨٨ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩١ ـ مستدرك الوسائل ١ : ١٩٢ ، ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦.


الخبرين ، وإنّما التنافي بين مفهوم الثاني ـ بل الأوّل إن كان له مفهوم ـ ولا ريب أنّ المفهوم مخصوص بالقليل ، وأمّا المنطوق الشامل للجاري والراكد وغيرهما فهو موافق لاطلاقات الجاري في الدلالة على عدم الانفعال كما هو واضح وبالجملة : الاولى من التخصيصين إنّما هو تخصيص المفهوم ، تقديما للأظهر على الظاهر من جهتين ، كما لا يخفى على المتأمّل.

نعم ، إنّما يخدش في تلك الروايات عدم ثبوت اعتبار أسانيدها ، والشهرة وإن كانت محقّقة لا تصلح جابرة ، لعدم وضوح كونها مستندة إليها ، على معنى كون مستند المشهور في ذهابهم إلى عدم اشتراط الكرّيّة في الجاري هو تلك الروايات وهو غير واضح ، فالقدح في السند لا رافع له ، ومجرّد موافقة المضمون لها لا يوجب الوثوق بصدقه ما لم تكن الشهرة موجبة للوثوق بمفادها ، وبالجملة : لو لا هذه المناقشة في السند كان في تلك الروايات كفاية في إثبات الحكم المبحوث عنه.

وثامنها : الإجماعات المنقولة ـ المتقدّم إليها الإشارة ـ المعتضدة بالشهرة العظيمة ، محقّقة ومحكيّة ، ويشكل التعويل عليها في المقام على جهة الاستقلال ، لعدم ثبوت حجّيّة منقول الإجماع عندنا بالخصوص ، وكونه حجّة من باب الكشف عن وجود دليل معتبر ليس المقام من موارده ، إذ المراد بالكشف حصول الاطمئنان وسكون النفس وخروجها عن التزلزل ، وهي قاصرة عن الكشف بهذا المعنى ، لما نرى في كلام كثير من المتأخّرين ـ كما عرفت ـ من التعويل على ما ليس بصالح له من الوجوه المتقدّمة ، والتعويل عليها وإن لم يعلم من المجمعين أو كثير من الناقلين للإجماع غير أنّ تعويل المتأخّرين عليها مانع عن حصول الوثوق بما ذكر ، وإن وجد في كلام بعضهم التعويل على ما له دلالة على المطلب ، سليمة عمّا يصلح للمعارضة ، كصحيحة داود بن سرحان (١) ورواية ابن أبي يعفور (٢) ـ على فرض انجبار سندها ـ والروايات الاخر المتقدّمة على فرض اعتبار أسانيدها أو انجبارها.

وتاسعها : ما اعتمد عليه المحقّق البهبهاني ـ مضافا إلى أصالة البراءة المتقدّم ذكرها وقوله : « كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) ـ « من طريقة المسلمين في عملهم في الأعصار والأمصار واتّفاق فتاوي فقهائهم » (٤).

__________________

(١ و ٢) تقدّما في الصفحة ٤٢٨.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

(٤) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ٤٦.


والأصل والرواية قد عرفت ما فيهما ، وطريقة المسلمين وإن كانت جارية في الجملة ، غير أنّه غير واضح الوجه ، لقوّة احتمال استنادها إلى فتاوي فقهائهم فقد تبيّن من البداية إلى تلك النهاية : أنّ المعتمد من الأدلّة المذكورة صحيحة داود بن سرحان ، ودونها ـ بعد سلامة السند ـ رواية ابن أبي يعفور ، المعتضدة بالشهرة العظيمة والإجماعات المنقولة ، وما ذكر من طريقة المتشرّعة ، فإنّ كلّ ذا ممّا لا ضير في أخذها مؤيّدة ، فصار المحصّل : أنّ المختار ما ذهب إليه المشهور ـ المنصور ـ بشرط أن يكون سائلا على وجه الأرض عن نبع ، اقتصارا على القدر المتيقّن من معقد الإجماعات وعمل المسلمين ، المتبادر من الصحيحة ولو بحسب الغلبة والقرائن الخارجة ، المعلومة بالتتبّع ونحوها.

وأمّا غيره من السائل لا عن نبع ، أو السائل عن رشح ، أو النابع أو الراشح بلا سيلان ، فيبقى على حكم القاعدة.

وعن العلّامة الاحتجاج على ما صار إليه ـ من اشتراط الكرّيّة في الجاري ـ بعموم الأدلّة الدالّة على اعتبار الكرّيّة ، كقوله عليه‌السلام في صحيحتي معاوية بن عمّار ، ومحمّد بن مسلم : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١).

أقول : هذا حقّ لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه ، لو لا حكومة ما تقدّم على الأدلّة المذكورة ، لو اريد بها مفهوم الروايتين مع الروايات الاخر الواردة بهذا المضمون ، وإلّا فإطلاق دعوى العموم في محلّ منع ، لكون ما عدا تلك الروايات المشار إليها بين ظاهرة وصريحة في الراكد ، كما لا يخفى على الناظر الناقد.

وأجاب عنه في المدارك ـ ووافقه عليه غيره كما عن مصابيح العلّامة الطباطبائي (٢) ـ : « بمنع العموم ، لفقد اللفظ الدالّ عليه ، سلّمنا العموم لكن نقول : عمومان تعارضا من وجه ، فيجب الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر ، والترجيح في جانب الطهارة بالأصل ، والإجماع ، وقوّة دلالة المنطوق على المفهوم » (٣).

وفيه : ما لا يخفى من التعسّف ، فإنّ المفهوم ـ إذا كان الاستدلال به ـ تابع للمنطوق ، فلفظة « الماء » في المنطوق شاملة للجاري جزما ، لبطلان خلافه بالضرورة ، ولعدم ما

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٨ ، ١٠٩.

(٢) المصابيح في الفقه ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٧.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٣٢.


يوجبه من ندرة ونحوها ، ضرورة عدم ندرة الكرّ من الجاري ، بل هو عند التحقيق أغلب وأكثر يحسب الأفراد من الراكد كما لا يخفى ، فمع فرض شمول المنطوق لكثير الجاري فلا بدّ وأن يشمل المفهوم لقليله أيضا وإن فرضناه نادرا بالقياس إلى قليل الراكد ، وإلّا لزم كون القضيّة في جانب المنطوق مستعملة في معنيين :

أحدهما : التعليق على ما يوجب انتفاؤه الانتفاء بالقياس إلى الراكد.

والآخر : بيان تحقّق موضوع الحكم وهو الكرّيّة بالقياس إلى الجاري كما في قولك : « إن رزقت ولدا فاختنه » وهو كما ترى ، ومجرّد ندرة القليل من الجاري لا يوجب عدم دخوله في موضوع المفهوم ، بعد ملاحظة اقتضاء موضوع المنطوق مقابلا في جانب المفهوم ، وأمّا ما ذكره من المرجّحات فكلّها منظور فيه عدا الأخير منها ، ونضيف إليه ما قدّمنا الإشارة إليه من كون تخصيص عمومات الجاري لقلّة أفرادها تخصيص في الأظهر ، فيرجّح عليه تخصيص المفهوم لكونه تخصيص الظاهر ، تقديما للأظهر عليه.

ثمّ الظاهر أنّ مراده رحمه‌الله بأحد العامّين اللذين فرض النسبة بينهما عموما من وجه ، صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع (١) ، الدالّة على عدم فساد كلّ ذي مادّة بمادّته ومنه الجاري ، الّذي يدخل قليله في عموم المفهوم ، وإلّا فلا تعارض لو اعتبر ذلك العامّ الخبر المستفيض « كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (٢) فضلا عن كونه من باب العموم من وجه ، لدخول القليل حينئذ فيما أخذ غاية في ذلك الخبر ، إن قلنا بتناوله لمشتبه الحكم ، كما أنّ المفهوم أخصّ لو فرض الطرف المقابل صحيحة حريز (٣) ، وصحيحة أبي خالد القمّاط (٤) ، وحسنة محمّد بن ميسّر (٥) ، لعموم تلك الروايات القليل والكثير ، فتخصّص بالمفهوم ، ولم يقع الاستدلال منه رحمه‌الله إلّا بها وبصحيحة محمّد بن إسماعيل. (٦)

* * *

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٥ / ٦١٩ ، وفيه : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر ».

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ١٣٧ و ١٣٨ ، ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٤.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٢ ، ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٦) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.


« ينبوع »

اتّفقت كلمتهم على إلحاق ماء الحمّام بالجاري ، بقولهم : « يلحق به » وما يؤدّي مؤدّاه ، وكأنّه جرى على مقتضى ما ورد في النصوص من تنزيله منزلة الجاري أو تشبيهه به ، وقضيّة ذلك كونه فرعا له في كلّ ما يلحق به من الأحكام ، أو أنّ في خصوص ما عقدوا له الباب المتقدّم من عدم اشتراط الكرّيّة فيه ، فحينئذ يشكل الحال بالنظر إلى خلافهم الآتي ـ في الفرع ـ من اشتراط كرّيّة المادّة كما عليه المشهور ، أو كرّيّة المجموع منها وممّا في الحياض مطلقا ، أو مع تساوي سطحهما أو انحدار المادّة ، وليس شي‌ء من ذلك مذكورا في الأصل ولا في النصوص القاضية بالفرعيّة ، واستفادته من الخارج يوجب إلحاقه بالراكد البالغ مجموعه كرّا ، أو المتّصل بما يبلغ كرّا لا بالجاري ، بل يوجب ذلك كونه في الحقيقة من أفراد الراكد الّذي يعتبر في عدم انفعاله الكرّيّة ، وإن اختلفت سطوحه كما عليه الأكثر ، ومعه لا معنى لإفراده بالذكر فضلا عن إلحاقه بالجاري.

ثمّ إنّه أيّ فرق بين المقام مع فرض الاتّصال بالمادّة المأخوذ في موضوع الحكم وبين الغديرين الموصل بينهما بساقية ، المعدود في كلام جمع من المتأخّرين من أقسام الراكد ، المكتفى فيه عندهم بكرّيّة مجموع ما فيهما وفي الساقية ، وأيّ شي‌ء أوجب إفراد المقام عن المفروض ، ودعا فيه إلى اعتبار الكرّيّة في المادّة ، ونفي كفاية بلوغ المجموع كرّا خصوصا إذا كان مستند اعتبار الكرّيّة في المادّة أو في المجموع أدلّة انفعال القليل واشتراط الكرّيّة في عدم الانفعال ، فإنّ اتّحاد طريق المسألتين يقضي بكونهما من واد واحد ، فكيف يفرّق بينهما بجعل إحداهما فرعا لباب ، وإفراد الاخرى بباب على حدّة.


ويمكن الذبّ عنه : بأنّ الاعتبار وقانون التأدية والإيجاز وإن كان يقتضي ذلك ، ولكن ماء الحمّام لمّا اخذ عنوانا في طائفة من الأخبار فذلك دعاهم إلى إفراده بعنوان خاصّ مع مراعاة إعمال القواعد فيه ، بزعم جريانها من غير معارضة لها في تلك الأخبار ، فاعتبروا فيه كرّيّة المادّة أو المجموع كلّ بحسب ما اقتضاه نظره واجتهاده في إجراء القواعد ، جمعا بينها وبين ما اقتضته الأخبار المشار إليها من تخصيصه بالعنوان.

وعلى أيّ حال كان فينبغي أوّلا سوق عنان القلم إلى بيان المراد من ماء الحمّام المبحوث عنه هنا ، وقد أطبق كلمتهم ـ فيما نعلم ـ على تفسيره : بما في الحياض الصغار الّتي لا تبلغ الكرّ ، ثمّ صريح غير واحد مع ظاهر آخرين يقضي باختصاص البحث عنه بصورة اتّصاله بالمادّة ، والمراد بها ـ على ما في كلام بعضهم ـ الحوض الكبير الّذي يجري منه الماء إلى الحياض الصغار ، كما أنّ المراد بالحياض الصغار ـ على ما يستفاد من تتبّع كلماتهم ـ الحياض المتّخذة في جنب الحوض الكبير ليرد عليها الواردون لأخذ الماء والغسل ، بل الاغتسال أيضا على ما هو المعهود من طريقة أهل السنّة ، حيث لا يغتسلون في الحوض الكبير المسمّى بالخزانة ، وكأنّ دليلهم على هذه التقييدات كلّها كونه المنساق من جملة من الروايات الواردة في ماء الحمّام ، كرواية بكر بن حبيب : « ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة » (١) والمحكيّ عن الفقه الرضوي : « ماء الحمّام سبيله سبيل الجاري إذا كانت له مادّة » (٢) فإنّ كلمة الاختصاص في الظرف تقضي بأنّ المراد به ما يكون للمادّة جهة اختصاص به ، بحيث لا يوجد ذلك الاختصاص في غيره ممّا هو في الحمّام ، ولا يكون ذلك إلّا الحياض الموصوفة بما ذكر الّتي تستمدّ الماء من المادّة.

واعتبار كونها لا تسع الكرّ ، أمّا أوّلا : فلأنّ الغرض من الشرطيّة إفادة ما يعتصم به الماء المذكور ، والكرّ بنفسه معتصم ، فيعود اعتبار وجود المادّة لغوا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ روايات ماء الحمّام مسوقة لبيان أنّه أخفّ حكما من سائر المياه كما لا يخفى على المتأمّل ، والتسوية فيه بين كثيره وقليله توجب كون الحكم فيه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٩ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٦٨.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٦.


أغلظ ، وهو كما ترى.

واشتراط اتّصاله بها ، فلأنّه المتبادر عرفا من عبارة قوله عليه‌السلام : « إذا كانت له مادّة » ، ولأنّه لو لا اتّصالها به كان وجودها بمنزلة عدمها ، فإنّها إنّما اعتبرت عاصمة ، ولا يعقل العصمة لها إلّا مع الاتّصال.

فما يقال : من أنّ ذكر الحياض الصغار في تفسير ماء الحمّام لعلّه مبنيّ على المثال ، أو لأنّه محلّ الثمرة غالبا ، وإلّا فلو كان في الحوض الكثير ما ينقص عن الكرّ لحقه الحكم ، ليس على ما ينبغي إن اريد به الحوض الكبير المعدّ مادّة.

ومنه يظهر ضعف ما قيل من إمكان أن يقال : إنّ الماء المنبسط في أرض الحمّام المتّصل بالحوض الصغير أو الكبير المتّصلين بالمادّة حكمه حكم ما في الحياض ، إن اريد به إدراج ذلك في الروايتين ، وإن اريد استفادة حكمه من باب تنقيح المناط فلا بأس به.

وأضعف منه ـ الّذي ينبغي القطع بفساده ـ ما قيل : من قوّة احتمال تمشّي الحكم إلى حياض المسلخ ، بل الماء الّذي في البئر إذا اتّصل الماء النازل من المادّة بالحوض ، واتّصل ماء الحوض بالماء المنبسط على أرض الحمّام ، واتّصل ذلك بماء البئر ، إلّا أن يكون ذلك من باب تنقيح المناط أيضا لا من جهة شمول النصوص ، وتفسير المادّة بالحوض الكبير لأجل أنّ ماء الحمّام لا مادّة له سواه.

ثمّ من الواضح أنّ المراد بالحمّام وحياضه في الأخبار وكلام العلماء الأخيار ما يقع عليه الاسم عرفا ، ولو كان في الآن الحاضر على الهيئة المغايرة للهيئة الموجودة في الآن السابق ، كما هو الأصل المتّفق عليه في جميع موضوعات الأحكام الثابتة عن الزمن القديم.

فما في الحدائق من الاستشكال في تماميّة الاستدلال بالأخبار : « بأنّ ذلك إنّما يتمّ بعد معرفة الحيضان الّتي كانت في زمانهم على أيّ كيفيّة كانت؟ إذ الظاهر أنّ الأسئلة كانت عن ماء الحمّام المعهود عندهم ، سيّما أنّ أصل الإضافة للعهد » (١) ممّا لا يلتفت إليه ، لمنع كون المعهوديّة عندهم مخصّصة لعموم الجواب بعد فرض تحقّق التسمية مطلقا ، والاختلاف في الكيفيّة لا يوجب الاختلاف في التسمية ، فلا يوجب الاختلاف في الحكم ، وإلّا لتغيّرت أكثر الأحكام الثابتة ثمّة.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٠٣.


فالقول : بأنّ الهيئة المركّبة إذا انتفى شي‌ء منها لا تجري عليها الأحكام ، لانتفاء المركّب بانتفاء أحد أجزائه ، ولأنّ أحكام الحمّام مخالفة للأصل ، فيقتصر فيها على المتيقّن ، بل لو شكّ في كون الموجود الآن كالسابق أو لا؟ لم تجر عليه الأحكام أيضا وإن أطلق عليه الاسم الآن ، مع عدم جريان أصالة عدم التغيّر هنا ، إذ هي إنّما تجري حيث يكون المعنى قديما ورأينا اللفظ الأوّل مستعملا فيه الآن ، وشككنا فيه بالنسبة إلى الزمن السابق فنحكم بذلك لأصالة عدم التغيّر ، لا فيما إذا شككنا في كون هذا المعنى موجودا سابقا أو لا؟ وفرق واضح بين المقامين.

وأصالة عدم الاشتراك لا يثبت بها وجود المعنى ، إذ غاية ما يمكن إثباته بها نفي الاشتراك بعد فرض وجود المعنى ، أمّا أنّها تثبت أنّ هذا الموضوع موجود في السابق فلا ، متّضح الفساد (١) ضرورة أنّ اختلاف الهيئة لا يوجب عدم جريان الأحكام ما لم يكن موجبا لاختلاف الماهيّة وانتفاء الماهيّة الاولى ، ونحن نقطع ببقاء الماهيّة الاولى في الحمّامات المستحدثة ، وإن حصل فيها الاختلاف كثيرا ، والأحكام الثابتة ثمّة تجري عليها مع القطع بالتغيّر فكيف مع الشكّ فيه ، ومعه لم يكن الحاجة ماسّة إلى التشبّث بالأصل حتّى ينظر في جريانه وعدمه.

ووقوع اللفظ عليها مع اختلافها في الهيئات من باب وقوع المشترك المعنوي على أفراده المختلفة ، فلا حاجة إلى أصالة عدم الاشتراك ، وليس للحمّام حكم مغاير للقواعد حتّى يقتصر فيه على المتيقّن ، لكون عدم الانفعال مستند إلى الاتّصال بالمادّة البالغة بنفسها أو مع ما في الحياض والساقية كرّا ، وهو من مقتضي القواعد المقرّرة.

نعم ، على القول بعدم اشتراط الكرّيّة رأسا ـ كما هو أضعف الأقوال ـ ربّما يتّجه ذلك ، غير أنّه يندفع بملاحظة ما قرّرناه ، نظرا إلى ورود النصّ الخاصّ مع عدم داع إلى الاختصاص ، فلا ضير معه في الخروج عن الأصل ، بل هو واجب حينئذ كما مرّ في مستثنيات قاعدة الانفعال ، هذا إذا اريد بالأصل ما يقتضيه تلك القاعدة ، وأمّا إذا اريد به ما يقتضيه الأصل الأوّلي في المياه من الطهارة ، ليكون ذلك دفعا لمقالة مشترطي الكرّيّة بأحد المعنيين ، فيكفي في الخروج عنه عموم تلك القاعدة وعلى أيّ حال كان فما في الحياض الصغار

__________________

(١) هذا جواب لقوله : « فالقول بأنّ الهيئة المركّبة ... » الخ.


إذا لاقته النجاسة حال اتّصاله بالمادّة لا ينفعل به ما لم يتغيّر أحد أوصافه ، والأصل فيه بعد الإجماع ـ محصّلا في الجملة ومنقولا ـ صحيحة داود بن سرحان المرويّة في التهذيب ، قال : قلت لأبي عبد الله ما تقول في ماء الحمّام؟ قال : « هو بمنزلة الجاري » (١).

وما نقل عن قرب الأسناد عن إسماعيل بن جابر ، عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام قال : ابتدأني فقال : « ماء الحمّام لا ينجّسه شي‌ء » (٢) وخبر أبي الحسن الهاشمي ـ المرويّ في التهذيب ـ قال : سئل عن الرجال يقومون على الحوض في الحمّام ، لا أعرف اليهودي من النصراني ، ولا الجنب من غير الجنب؟ قال : « يغتسل منه ، ولا يغتسل من ماء آخر فإنّه طهور » ، وعن الرجل يدخل الحمّام وهو جنب فيمسّ الماء بيديه من غير أن يغسلهما؟ قال : « لا بأس » ، وقال : أدخل الحمّام فأغتسل ، فيصيب جسدي بعد الغسل جنبا ، أو غير جنب؟ فقال : « لا بأس » (٣).

وخبر حنّان ـ الوارد في الكافي ـ قال : سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّي أدخل الحمّام في السحر ، وفيه الجنب وغير ذلك ، فأقوم ، فأغتسل فينتضح عليّ بعد ما أفرغ من مائهم؟ قال : أليس هو جار؟ قلت : بلى ، قال : « لا بأس » (٤) ، والاستدلال به مبنيّ على كون الجاري في قضيّة الاستفهام استعارة ، مرادا به كونه بمنزلة الجاري ، والتشبيه به على حدّ ما هو في « الطواف بالبيت صلاة » كما هو الظاهر ، بملاحظة أنّ المعهود في ماء الحمّام كونه حارّا فلا يكون جاريا بالمعنى المعهود.

وخبر بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة » (٥) ، وخبر ابن أبي يعفور المتقدّم المتضمّن لقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٦) ، بناء على أنّ المراد بالتطهير العصمة كما تقدّم ، بعد فرض انجبار السند بالعمل.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٧٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ قرب الأسناد : ١٢٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٩ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ وأورد قطعة منه في الحديث ٥ من ب ٧ من أبواب الأسآر ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٧١.

(٤) الوسائل ١ : ٢١٣ ب ٩ من أبواب الماء المضاف والمستعمل ح ٨ ـ الكافي ٣ : ١٤ / ٣.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٩ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٦٨.

(٦) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ الكافي ٣ : ١٤ / ١.


والمحكيّ عن فقه الرضا قال عليه‌السلام : « وماء الحمّام سبيله الماء الجاري إذا كانت له مادّة » (١). وجه الاستدلال بها واضح بعد حمل مطلقها على مقيّدها ، وقضيّة ذلك عدم انفعال ماء الحمّام ـ أي ما في حياضه الصغار الغير البالغ كرّا ـ بمجرّد الملاقاة عند اتّصاله بالمادّة.

وربّما يقال : بأنّ في تنزيله منزلة الجاري في خبر ابن سرحان ، وتشبيهه بماء النهر في خبر ابن أبي يعفور ، إشعارا باعتبار المادّة ، لأنّ لكلّ من الجاري والنهر مادّة فلا حاجة فيهما إلى إعمال قاعدة الحمل.

وفيه : أنّ التشبيه لا يقتضي المشاركة في مناط الحكم ، بل غايته المشاركة في أصل الحكم وإن تغاير في المشبّه والمشبّه به ، ألا ترى أنّه لو قيل : « زيد كالأسد » لا يقتضي إلّا المشاركة في الشجاعة ، نعم يمكن الاستناد في اعتبار ذلك في المطلقات إلى الغلبة كما توهّم ، إذ الغالب في الحمّامات وجود المادّة وأمّا ضعف أسانيد جملة منها فمجبور بالعمل في الجملة ، فلا يعبأ بما في المدارك (٢) من القدح في سند رواية بكر بن حبيب لجهالة بكر.

مضافا إلى أنّ من رجال السند صفوان بن يحيى ، فلا ضير في ضعف من قبله ، وقد يوصف السند بالحسن ، ولعلّ وجهه ما استظهره بعض مشايخنا (٣) من احتمال كون بكر بن حبيب هنا هو بكر بن محمّد بن حبيب ، وقد ذكر في ترجمته ما تدلّ على حسنه ، وربّما نقل (٤) عن الكشّي توثيقه وإن أنكره بعضهم ، ولكن الاستظهار غير واضح الوجه ، وقد يؤيّد السند ـ مضافا إلى ما ذكرنا في صفوان ـ بما عن الشيخ في العدّة من أنّه قال في حقّه : « أنّه لا يروي إلّا عن ثقة » (٥).

وفيه : أنّ صفوان يرويه هنا عن ابن حبيب بواسطة منصور بن حازم ، فأقصى ما يقتضيه ما ذكر هنا وثاقة الواسطة ـ مع عدم الحاجة في ثبوت وثاقته إلى ذلك لكونه بنفسه ثقة جليلا ـ لا وثاقة ابن حبيب ، إلّا أن يقال بذلك فيه أيضا من جهة رواية منصور عنه ، نظرا إلى ما قيل فيه : « من أنّه ثقة عين صدوق ، من أجلّة أصحابنا

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٦.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٣٤.

(٣) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ١٠٠.

(٤) وفي منتهى المقال عن تعليقات الشهيد الثاني على الخلاصة : « قال ابن داود نقلا عن الكشّي : إنّه إمامي ثقة انتهى. ولم أجده في الكشّي » ـ منتهى المقال ١ : ١٧٢ ـ رجال ابن داود : ٥٨ الرقم ٢٦٤ ـ تعليقات الشهيد على خلاصة الأقوال : ١٦.

(٥) عدّة الاصول ١ : ١٥٤.


وفقهائهم ، له كتب منها : اصول الشرائع » (١) ، فجلالة شأنه وفضله وعلوّ رتبته يأبى عن روايته عمّن لا يوثق به ، أو روايته ما لا ينبغي الوثوق عليه ، فأقلّه كون الرواية ممّا يوثق به ويعتمد عليه وإن لم يكن الراوي بنفسه على تلك المثابة ، لجواز احتفاف الرواية بقرينة الخارج ، وبالجملة : فأصل الحكم في الجملة ممّا لا إشكال فيه ولا كلام ، فلا ينبغي إطالة الكلام في إقعاده وتتميم الدليل عليه ، بل اللائق بالبحث جهات اخر متعلّقة بموضوع المسألة ، وقد تكلّم فيها الأصحاب واختلفت أقوالهم فيها.

الجهة الاولى : أنّهم اختلفوا في اشتراط الكرّيّة في المادّة على قولين :

أحدهما : كونها شرطا وعزّاه غير واحد إلى الأكثر ، وربّما يعزى إلى العلّامة في التحرير (٢) اعتبار زيادة المادّة على الكرّيّة ، ولكنّه غير واضح الوجه ، فلذا حمله ثاني الشهيدين (٣) والمحقّق الثاني (٤) ـ على ما حكي عنهما ـ على اعتبار ذلك في تطهير الحوض الصغير على فرض تنجّسه.

وربّما يتأمّل في نسبته اعتبار الكرّيّة أيضا إلى الأكثر ، بل عن كشف اللثام (٥) أنّه نقل عن الجامع (٦) ـ وحده ـ موافقة العلّامة على الاشتراط ، حاملا لتلك النسبة على كون المراد من الأكثر أكثر من تأخّر عن المحقّق ، المصرّح بعدم الاشتراط لإطلاق النصوص والفتاوى ، قائلا : « بأنّ ظاهره أنّ الفتاوي مطلقة ».

وثانيهما : عدم كونها شرطا صرّح به المحقّق في محكيّ المعتبر قائلا : « ولا اعتبار بكثرة المادّة وقلّتها ، لكن لو تحقّقت نجاستها لم تطهر بالجريان » (٧) وهو ظاهر إطلاق كلامه في كتابيه الشرائع (٨) والنافع (٩) ، وعزى إلى جملة ممّن تأخّر عنه ، بل عن الشيخ جعفر في ـ محكيّ بعض تلامذته ـ دعوى الإجماع عليه من القائلين باشتراط الكرّيّة ،

__________________

(١) رجال النجاشي : ٤١٣.

(٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٣) روض الجنان : ١٣٧.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١١٣ حيث قال : « وينبغى التنبيه بشي‌ء وهو أنّ المادّة لا بدّ أن تكون أزيد من الكرّ ، إذ لو كانت كرّا فقط لكان ورود شي‌ء منها على ماء الحمّام موجبا لخروجها عن الكرّيّة فيقبل الانفعال حينئذ »

(٥) كشف اللثام ١ : ١٢٠.

(٦) الجامع للشرائع : ٢٠ مع اختلاف في العبارة.

(٧) المعتبر : ٩.

(٨) شرائع الإسلام ١ : ١٢.

(٩) المختصر النافع : ٤١.


حاملا لإطلاق كلامهم في اشتراط الكرّيّة في المادّة على التطهير بعد تنجّس ما في الحياض ، ولإطلاق كلامهم أيضا في كفاية مجموع ما في المادّة والحوض والمجرى على عدم قبول النجاسة بالملاقاة ، فالفريقان اتّفقا على لزوم كرّيّة المادّة للتطهير ، والاكتفاء بكرّيّة المجموع لدفع الانفعال مع اختياره إيّاه.

وللشيخ عليّ في حاشية الشرائع تفصيل في المسألة ، حيث قال : « وينبغي تنقيح المبحث بأنّ المادّة إمّا أن يكون سطوحها مساويا لسطوح الحوض ، أو أعلى ، أو أخفض ، فإن كان مساويا وهما معا طاهران كفى لدفع النجاسة وعدم الانفعال عنها بالملاقاة كون الماءين معا كرّا ، وإن كان سطوح الماء أعلى اعتبر في زمان اتّصال مائها بماء الحوض وتسلّطه عليه بلوغها الكرّيّة ، وهذا إنّما يكون إذا كانت في الأصل أزيد من كرّ ، وإن كانت سطوحها أخفض اعتبر مع هذا فوران المادّة من تحت الحوض بقوّة ودفع ، بحيث تظهر عامليّتها فيه ، فلو كان اتّصالها به إنّما هو اتّصال مماسّة أو يجري إليه ترشّحا لم يعتدّ بها » (١).

حجّة القول الأوّل : أنّه عند عدم بلوغ المادّة كرّا يصدق عليه أنّه ماء قليل لاقى نجاسة ، فيشمله ما دلّ على انفعال القليل.

وقد يؤيّد ذلك أو يستدلّ عليه بانصراف نصوص الحمّام إلى ما هو الغالب فيه من كون مائها كرّا بل أزيد ، مع أنّ في رواية ابن أبي يعفور « ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٢) إشارة بل دلالة على أنّ العاصم له هي الكثرة لا مجرّد المادّة.

واجيب عن الأوّل : بمنع ما ادّعي من الصدق مع بلوغ المجموع كرّا.

ويشكل ذلك : بأنّه لا يجدي نفعا في عدم الانفعال إلّا مع صدق الوحدة على المجموع ، والمراد به صدق قضيّة قولنا : « هذا الماء كرّ » ليشمله منطوق قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » (٣) وهو في حيّز المنع جدّا ، ضرورة عدم وقوع اسم الإشارة بصيغة المفرد على ما في الحوض مع ما في المادّة ولو حال اتّصالها به ،

__________________

(١) حاشية الشرائع ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة : ٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ ١.


فلا يقال عليهما عرفا : « إنّ هذا ماء » بل لو قيل ذلك مع انكشاف المراد كان مستهجنا ، بخلاف ما لو قيل : « هذان أو هذا وهذا ». ولا ريب أنّ كلّا منهما دليل التعدّد ، ومعه لا يندرج المجموع في منطوق « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء ». إلّا أن يقال : بأنّ العبرة في المقام صدق عنوان المائيّة على المجموع مع وقوع اسم الكرّ على ما صدق عليه ذلك العنوان ، لا بوقوع اسم الإشارة عليه بصيغة المفرد ، وعدم وقوع لفظة « هذا » على المجموع من جهة أنّها بحسب الوضع أو الاستعمال مخصوص بما هو ملزوم للوحدة والفرديّة ، وهو الجزئي الخارجي من المشار إليه ، بخلاف لفظة « الماء » لكونها بحسب الوضع للجنس المعرّى عن وصفي الوحدة والكثرة ، فتصدق اللفظ من جهته على الواحد والاثنين وما زاد ، فيتبعه لفظ « الكرّ » في صدقه على ما صدق هو عليه.

ولكنّ الإنصاف : أنّ الحكم إنّما يتبع الظهور والصدق إذا كان الظهور من مقتضى الهيئة التركيبيّة المأخوذة في الخطاب ، ولا ريب أنّها قد تكون ظاهرة في خلاف ما اقتضته مفرداتها باعتبار أوضاعها الأفراديّة فلفظ « الماء » وإن فرضناه صادقا بنفسه على ما عدا الواحد أيضا ، لكنّ الهيئة التركيبيّة في قوله « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » تنصرف عرفا إلى صورة الاتّحاد.

فالأولى أن يقال في الجواب : إنّ قولكم : يصدق عليه أنّه « ماء قليل لاقى نجاسة » إمّا أن يراد منه صدقه على المجموع ، أو على المادّة وحدها ، أو على ما في الحوض وحده ، ولا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ مبنى صدق كونه ماء قليلا على عدم اعتبار الوحدة في صدق قضيّة المفهوم من الرواية ، وإذا جاز ذلك هنا جاز في المنطوق أيضا على تقدير بلوغ المجموع كرّا ، فلا ملازمة بين قصور المادّة عن الكرّ وصدق القليل الملاقي للنجاسة على المجموع على التقدير المذكور.

ولا إلى الثاني ، لمنع صدق الملاقاة للنجاسة على المادّة ولو بالمعنى الأعمّ المتنجّس ، ضرورة كونها حال الاتّصال ملاقية لما في الحوض ، وهو إن لم يكن طاهرا بملاحظة النصّ الغير الفارق بين كرّيّة المادّة وعدمها ، فلا أقلّ من كونه مشكوك الحال بملاحظة الشكّ في اعتبار كرّيّة المادّة وعدمها ، ومعه لا يحكم عليه بالنجاسة جزما ، فكيف يقال : بأنّ المادّة حينئذ ملاقية للنجاسة أو المتنجّس ، وإنّما هي ملاقية لما يحكم


عليه في ظاهر الشرع بالطهارة.

ولا إلى الثالث ، لأنّ اعتبار الكرّيّة فيها إمّا مع البناء على صدق الوحدة على المجموع منها وممّا في الحوض ، أو مع البناء على عدمه.

فعلى الأوّل : يرجع قضيّة الاشتراط إلى اعتبار الزيادة على الكرّ لدفع الانفعال في الماء الواحد ، وهو ممّا لا قائل به ، ولم ينهض عليه دليل ، ولا اقتضاء أدلّة الكرّ أيضا ، نعم ربّما يحكى في الأخبار ما يوهمه كما في الرضوي ـ المحكيّ ـ « وكلّ غدير فيه من الماء أكثر من كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١) ولكنّه ليس بظاهره اتّفاقا على تقدير ثبوت العمل به ، بل محمول على إرادة معنى « كرّ فما زاد » أو « كرّ فصاعدا » كما في كثير من العبارات ، ويراد به إناطة العاصميّة بالكرّيّة زاد عليها أو لا.

وعلى الثاني : يرجع الكلام إلى إناطة اعتصام الماء القليل عن الانفعال باتّصاله بالكرّ وإن لم يكن جزءا منه ، كاعتصامه باتّصاله بالجاري ، وهو وإن لم يكن منافيا للتشبيه والتنزيل الواردين في جملة من الأخبار المتقدّمة ، ولا ظهور تلك الأخبار في امتياز ماء الحمّام عن سائر المياه ، واشتماله على مزيّة لا توجد فيها ، حيث إنّ اعتصامه عن الانفعال يحصل بمجرّد الاتّصال وإن لم يكن بنفسه كرّا ولا جزء من الكرّ ، بخلاف غيره ، فإنّ المعتبر في اعتصامه بلوغه كرّا ، ولا يكفي فيه مجرّد الاتّصال إلّا مع صدق قضيّة الاتّحاد.

ولكن الاستناد في استفادة ذلك الحكم إلى قاعدة انفعال القليل أو قاعدة اعتبار الكرّيّة باطل جدّا ، لأنّ هاتين القاعدتين لا تقضيان إلّا الاعتصام في نفس الكرّ لا فيما يتّصل به وهو ليس منه ، كما أنّه لو اريد استفادته عن أخبار الباب كان أوضح فسادا من الأوّل ، لأنّ هذه الأخبار إن لم تكن نافية لاعتبار الكرّيّة بالمرّة ـ كما سبق إلى بعض الأوهام ، نظرا إلى إطلاقها ـ فلا أقلّ من عدم كونها مثبتة لاعتبارها.

وبالجملة : هذا القول ممّا لم يعرف له مستند صحيح ، وما جعل مستندا له فاسد الوضع في كلّ محتملاته.

وأمّا دعوى : الانصراف إلى الغالب ، فقد يجاب عنها : « بمنع حصول الغلبة إلى حدّ بحيث يكون الأقلّ من كرّ ـ ولو قليلا ـ من الأفراد النادرة بحيث لا يشمله اللفظ ، ولو

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩١.


سلّم الندرة فهي ندرة وجود لا ندرة إطلاق ، ولذلك ترى صدق ماء الحمّام على مثله من غير استنكار كما هو ظاهر » (١).

ولا يخفى ما في الأوّل من كونه مكابرة ، ودفعا للضرورة ، وما في الثاني من عدم منافاة الصدق في لحاظ العقل عدم شمول الإطلاق له في لحاظ المحاورة المبتنية على اعتبار الظواهر والأخذ بها.

والأولى في الجواب أن يقال : إنّ الانصراف الناشئ من الغلبة وإن كان يؤخذ به لدخوله في عداد الظواهر النوعيّة ، غير أنّ الظواهر ـ أوّلية أو ثانويّة ـ إنّما يعوّل عليها ما لم يصادفها ما يوهنها ، بكشفه عن عدم اعتماد المتكلّم في إفادة مطلبه عليها ، وقد قام في تلك الأخبار ما يوجب ذلك ، لما في جملة منها من التصريح باعتبار وجود المادّة ، فإنّ الغلبة موجودة بالنسبة إليها أيضا ، بل لم يعهد حمّام لم يكن له مادّة ، بخلاف كرّيّة تلك المادّة فإنّها قد يتخلّفها ، فكانت غلبة المادّة أولى بالاعتماد عليها في إفادة المطلب ، فالتصريح باعتبارها ممّا يقضي بعدم اعتناء المعصوم عليه‌السلام في خصوص المورد بالغلبة ، وعدم اتّكاله إليها في الإفادة ، وبذلك يضعف تأثير الغلبة المدّعاة في الكشف عن حقيقة المراد.

وقد يجاب عن أصل الحجّة ـ بعد تسليم نهوضها دليلا على اعتبار الكرّيّة في المادّة : « بأنّ بين ما دلّ على انفعال القليل وبين ما نحن فيه تعارض العموم من وجه ، والترجيح مع أخبار الحمّام لكثرتها ، وتعاضدها ، وعدم وجود المعارض فيها ، وكونها منطوقة وتلك أكثرها مفاهيم ، وبعضها قضايا في موارد خاصّة مع معارضتها بكثير من الأخبار.

مضافا إلى أنّ أخبار الحمّام معتضدة بأصالة البراءة ، لأنّ النجاسة تكليف بالاجتناب ، وباستصحاب الطهارة ، وبأصل الطهارة المستفادة من العمومات على وجه ، وما دلّ على عدم انفعال الماء إلّا بما تغيّر ريحه أو طعمه أو لونه » (٢). ولا يخفى ما في هذا الترجيح وما ذكر من المرجّحات ، لعدم كون شي‌ء منها بشي‌ء عند أهل الدقّة والنظر. وقد يعارض : « بأنّ التقييد في أخبار الحمّام أقوى ، لكون الإطلاق فيها أضعف » (٣) ولعلّه من جهة ملاحظة الانصراف بالغلبة المدّعاة سابقا.

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٢٢٧.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٢٢٦.

(٣) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ١٠١.


وفيه : أنّ الغلبة إن كانت ممّا يعتدّ بها هنا فلا كرامة لفرض التعارض حينئذ ليوجب مراجعة الترجيح ، فإنّه فرع الدلالة وهي نافية لها ، وإلّا فلا وجه لدعوى ضعف الإطلاق ، مع أنّه يعارضه كون التقييد المذكور تقييدا فيما هو أقلّ أفرادا من أخبار الانفعال فيكون تقييدا في الأظهر ، ولا ريب أنّ تقييد الظاهر أولى ، فإنّ الإنصاف أنّ أخبار الحمّام أظهر في الشمول لصورتي الكرّيّة وعدمها من أخبار الانفعال في الدلالة على عموم الحكم للحمّام أيضا ، بل هو فيما بين أفراد الماء القليل من نادر الأفراد ، ومن هنا اتّجه المعارضة من جهة اخرى بالنظر إلى دعوى الندرة في خلاف الكرّيّة في ماء الحمّام الموجبة لضعف الإطلاق فيها.

وقد يمنع التعارض أيضا ، بناء على اختصاص أدلّة الانفعال بصورة ورود النجاسة على الماء ، فلا يشمل مثل المقام.

واجيب : بأنّ الكلام في انفعال الماء الموجود في الحوض الصغير بورود النجاسة عليه ، لا فيما يرد عليه.

أقول : وكأنّ المنع مبنيّ على توهّم كون الكرّيّة إنّما تعتبر في المادّة لتطهير ماء الحوض عند تنجّسه ، فاعتبرت الكرّيّة فيها ـ على القول به ـ صونا لها عن الانفعال بملاقاة المتنجّس ، فجوابه حينئذ ما تحقّق في محلّه من عدم الفرق في الانفعال بين الورودين.

وقد يعترض على القول باشتراط الكرّيّة في المادّة : « بأنّه ينافي ما هو كالصريح من الأخبار من أنّ ماء الحمّام له خصوصيّة على غيره من المياه ، إذ على تقدير الاشتراط يكون حاله كغيره من المياه ، كما اعترف به الشهيد في الذكرى » (١) (٢).

ويدفعه : ما أشرنا إليه آنفا ، من أنّ الخصوصيّة لعلّها اعتصامه بما هو ليس جزء منه ، وحاصله عدم اعتبار الكرّيّة فيه لمجرّد اتّصاله بما ليس منه.

والأولى في دفع القول : منع شمول دليله المدّعى ـ حسبما قرّرناه ـ وهو ممّا لا إشكال فيه ، ضرورة أنّه بمجرّد اتّصاله بالمادّة لا يصدق عليه : أنّه ماء وهو بقدر الكرّ فلا ينجّسه شي‌ء فلا يتناوله منطوق قولهم عليهم‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء »

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٠.

(٢) المعترض هو صاحب الجواهر رحمه‌الله ، راجع جواهر الكلام ١ : ٢٢٨.


فلا بدّ في إخراجه عن المفهوم من وسط ، ولا يصلح له إلّا ما دلّ على أنّ كون الماء متّصلا بالكرّ ككونه بنفسه كرّا في مرحلة الاعتصام عن الانفعال بالملاقاة.

ولا ريب أنّ أخبار الكرّ بأجمعها قاصرة عن إفادة ذلك ، كما أنّ أخبار انفعال القليل لا تقضي بشي‌ء من ذلك كما لا يخفى على المنصف ، فلا محيص في إنهاض هذا الوسط من مراجعة أخبار الحمّام ، وقد عرفت أنّها خالية عن الدلالة على اعتبار الكرّيّة في المادّة ، إذ قد تبيّن أنّ غلبة الكرّيّة وندرة خلافها لا عبرة بهما هنا ، مع أنّ الغلبة لو صلحت منشأ للأثر هنا لقضت باعتبار الزيادة على الكرّ بل اعتبار الكرور ، لما هو الغالب في مواد الحمّامات من وجود كرور من الماء فيها كما لا يخفى على المتأمّل وهو كما ترى ، فإذا بنى على كون تلك الغلبة ملغاة في نظر الإمام عليه‌السلام ، فلم لا يبنى على كون غلبة الكرّيّة أيضا ملغاة في نظره ، مع ما فيه من استبعاد واضح لو قيل بالفرق بين ما لو بقيت المادّة بقدر الكرّ وما لو نقصت مثقالا أو عشرة مثاقيل أو عشرين مثقالا ، بدعوى : كون الأوّل من الغالب فيعتصم به ما في الحوض ، والثاني من النادر فلا يصلح للعاصميّة كما هو لازم القول بالاشتراط ، بل هو شي‌ء يعدّ من المضحكات.

فالإنصاف : أنّ اشتراط الكرّيّة في المادّة ممّا لا دليل عليه من العقل والنقل ، فالقول به خال عن الوجه جدّا.

وأمّا القول بعدم اشتراطها فمستنده ـ على ما عرفت عن المحقّق سابقا ـ إطلاق نصوص الباب وفتاوي الأصحاب ، ولا يخدشه إلّا ما ذكره صاحب المدارك : « من عدم صلوحها لمعارضة ما دلّ على انفعال القليل بالملاقاة ، إذ الغالب في مادّة الحمّام بلوغ الكرّيّة فينزّل عليه الإطلاق ، والمعتمد اعتبار الكرّيّة لما سيجي‌ء من الأدلّة الدالّة على انفعال القليل بالملاقاة ، ولأنّ المادّة الناقصة عن الكرّ كالعدم » (١) وأنت بملاحظة ما قرّرناه بما لا مزيد عليه تقدر على دفع ما ادّعاه من تنزيل الإطلاق ، ونهوض أدلّة انفعال القليل على الاشتراط ، ومن العجب أنّه ينادي بأعلى صوته في مواضع عديدة ـ ممّا سبق ولحق ـ بنفي العموم عن تلك الأدلّة ويتمسّك بها هنا ، وهو لا يتمّ إلّا مع إحراز العموم.

وأمّا ما ذكره من الوجه الأخير من كون المادّة الناقصة عن الكرّ كالعدم ، فهو

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٤.


مصادرة واضحة لا يعبأ بها.

الجهة الثانية : عن ثاني الشهيدين في المدارك (١) وغيره أنّه اكتفى بكون المجموع من المادّة وما في الحوض كرّا مع تواصلهما مطلقا ، لعموم قوله عليه‌السلام « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٢) ووافقه على ذلك جمع كثير ممّن تأخّر عنه ممّن عاصرناهم وغيرهم ، وحكي عن شرح المفاتيح (٣) اختياره ، وعن الذخيرة (٤) عن بعض المتأخّرين : « أنّه ذكر أنّ بلوغ المجموع قدر الكرّ كاف مطلقا إجماعا » وأنّ إطلاق الأصحاب اشتراط كرّيّة المادّة مبنيّ على الغالب من كثرة أخذ الماء من الحوض ، وكأنّ المراد به أنّ الكرّيّة إنّما اعتبرت في المادّة لئلّا يخرج المجموع عن الكرّيّة بكثرة أخذ الماء من الحوض.

وعن الأردبيلي في المجمع : « أنّه مع اختلاف السطوح لا يكفي بلوغ المجموع كرّا ، وأمّا مع استواء السطوح فيكتفى به » (٥) وعن جامع المقاصد اختياره أيضا مع نوع اختلاف قائلا : « واشتراط الكرّيّة في المادّة إنّما هو مع عدم استواء السطوح ، بأن تكون المادّة أعلى أو أسفل ، لكن مع اشتراط القاهريّة بفوران ونحوه في هذا القسم ، أمّا مع استواء السطوح فيكفي بلوغ المجموع كرّا ، كالغديرين إذا وصل بينهما بساقية ، بل أولى لعموم البلوى هنا » (٦) وقد سبق هذا التفصيل عن حاشية الشرائع أيضا في الجهة الاولى.

وفي الرياض وغيره عن بعض المتأخّرين الاكتفاء بكرّيّة المجموع مع التساوي ، أو الانحدار مع الاختلاف وإلّا فيشترط الكرّيّة في المادّة ، قائلا : « وربّما نسب إلى العلّامة جمعا بين كلماته في كتبه » (٧) ، ويظهر هذا الجمع أيضا عن صاحب المدارك ، فإنّه بعد ما حكى عن أكثر المتأخّرين (٨) اشتراط الكرّيّة في المادّة ، وعن المحقّق في المعتبر (٩) وغيره (١٠) في مسألة الغديرين إذا أوصل بينهما بساقية ، أنّهما كانا كالماء الواحد مع بلوغ

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٥.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٨ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ ١.

(٣) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥١٣.

(٤) ذخيرة المعاد : ١٢٠.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦٤ نقلا بالمعنى.

(٦) جامع المقاصد ١ : ١١٢.

(٧) رياض المسائل ١ : ١٣٨.

(٨) منهم العلّامة في تبصرة المتعلّمين : ٣ ؛ والشهيد في البيان : ٤٤ ؛ والشهيد الثاني في روض الجنان : ١٣٧.

(٩) المعتبر ١ : ٥٠.

(١٠) كما في منتهى المطلب ١ : ٩ ؛ وتحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.


المجموع منهما ومن الساقية كرّا ، قائلا : « وهو بإطلاقه يقتضي عدم الفرق بين ما سطوحه مستوية أو مختلفة » ثمّ حكى عن العلّامة « أنّه صرّح في التذكرة (١) بالاكتفاء ببلوغ المجموع الكرّ مع عدم تساوي السطوح بالنسبة إلى السافل ، قال معترضا : فيكون حكم الحمّام أغلظ من غيره ، والحال يقتضي العكس ، كما صرّحوا به ، والجمع بين الكلامين وإن كان ممكنا بحمل مسألة الغديرين على استواء السطوح ، أو كون الساقية في أرض منحدرة ، لا نازلة من ميزاب ونحوه ، إلّا أنّ فيه تقييدا للنصّ وكلام الأصحاب من غير دليل » (٢).

وبما بيّنّاه سابقا ـ مضافا إلى ما سيأتي ـ تعرف أنّه لا تنافي بين الكلامين في المسألتين ليحتاج إلى الحمل والجمع ، بل أمكن أن يكون العلّامة قائلا باشتراط الكرّيّة في مادّة الحمّام مع اكتفائه بكرّيّة المجموع في مسألة الغديرين ، أو بشرط عدم الاختلاف بطريق النزول والتسنيم.

وربّما يحكى في المسألة قول بعدم اعتبار الكرّيّة أصلا لا في المادّة ولا في المجموع مطلقا ولو مع الاختلاف بالتسنيم ، صار إليه بعض مشايخنا في جواهره (٣) ، وقد يحكى عن صريح المحقّق في المعتبر (٤) ، وظاهره في الشرائع (٥) ، والنافع (٦) ، وهو اشتباه صرف ، فإنّه على ما تقدّم في الجهة الاولى من عبارته مصرّح بنفي اعتبارها عن المادّة ، وأمّا اعتبارها بالنسبة إلى المجموع فكلامه محتمل ، لإطلاقه.

فهذه أقوال أربع ، مبنى الأوّل منها كما عرفت على إعمال أدلّة انفعال القليل بالملاقاة ، لزعم أنّه لا تنافي بينها وبين أدلّة ماء الحمّام ، إمّا لكونها ساكتة عن اعتبار الكرّيّة وعدمها ، أو لانصرافها إلى ما هو الغالب فيه من بلوغ المجموع كرّا ، أو لأنّ الترجيح على تقدير التنافي في جانب أدلّة الانفعال لضعف الإطلاق في جانب أدلّة الحمّام ، كما أنّ مبنى القول الأخير على إعمال أدلّة ماء الحمّام ، إمّا لعدم تناول أدلّة الانفعال له ، أو لكون الترجيح في جانب أدلّة الحمّام لكونها أظهر من جهة قلّة أفرادها ، أو لظهورها في أنّ ماء الحمّام له مزيّة يمتاز بها عمّا عداه من أفراد الماء القليل.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٣٥.

(٣) جواهر الكلام ١ : ٢٢٥.

(٤) المعتبر : ٩.

(٥) شرائع الإسلام ١ : ١٢.

(٦) المختصر النافع : ٤١ ، حيث قال : « وحكم ماء الحمّام حكمه ـ أي الجاري ـ إذا كان له مادّة ».


وأمّا القولان المتوسّطان فمبناهما على مراعاة صدق الوحدة وعدمه ، بزعم أنّها لا تصدق إلّا مع تساوي السطوح ، أو معه ومع انحدار المادّة فيكتفي بكرّيّة المجموع ، وفي غيرهما لا بدّ من كرّيّة المادّة ، ويشكل التعلّق له بالأدلّة الفارقة بين الكثير والقليل لعدم اقتضائها توقّف الاعتصام عن الانفعال على الاتّصال بالكرّ ، إذ غايتها الدلالة على اعتصام نفس الكرّ لا ما يتّصل به وهو ليس منه ، كما يشكل التعلّق له بأدلّة الحمّام ، إذ مبنى الاستدلال بها إن كان على إطلاقها فهي تقتضي نفي اعتبار الكرّيّة رأسا فضلا عن اعتبارها في المادّة ، وإن كان على ما توهّم من انصرافها إلى كرّيّة المادّة بملاحظة الغلبة ، فهي تقتضي حينئذ ـ على فرض صحّته ـ اعتبارها مع تساوي السطوح واختلافها مطلقا ، لا في خصوص اختلافها مطلقا ، أو في صورة التسنيم خاصّة ، فكيف يخصّص ذلك بصورة الاختلاف مطلقا ، أو مع التسنيم خاصّة والمفروض أنّه على هذا التقدير لا تنافي بينها في صورة التساوي وبين أدلّة إناطة الاعتصام بالكرّ حتّى يقال : إنّه نشأ من ترجيح تلك الأدلّة عليها ، بل الّذي يقتضيه أدلّة الكرّ من كرّيّة المجموع ما يقتضيه أدلّة الباب أيضا بناء على قاعدتهم المذكورة ، إذ كما أنّ الغالب في الحمّام بلوغ المادّة كرّا فكذلك الغالب فيه بلوغ المجموع كرّا ، بل الغلبة في ذلك أقوى وأظهر كما لا يخفى.

وبالجملة : هذان القولان ممّا لا نعرف له وجها يعتمد عليه ، فهما بالإعراض عنهما أولى وأجدر ، بل اللائق بالبحث إنّما هو القول الأوّل والأخير ، وقد عرفت أنّ مبنى الأوّل على تحكيم أدلّة انفعال القليل على أدلّة الحمّام.

ويرد عليه : أنّ هذا لا يجدي في حصول مطلوبهم إلّا إذا اندرج المقام على تقدير كرّيّة المجموع في منطوق « إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء » وهو في غاية الإشكال ، بل في حيّز المنع ، لا لأنّ الكرّ يشترط في عدم انفعاله تساوي السطوح ، بل لعدم جريان ما ذكرناه من الضابط في معنى تلك القضيّة في مباحث الكرّ ، من كون مفاد أدلّته أنّ كلّ ماء يقع عليه اسم الكرّ عرفا فهو ممّا لا ينجّسه شي‌ء ، ولا ريب أنّ ماء الحوض الصغير في الحمّام لا يقع عليه اسم الكرّ ـ ولو حال اتّصاله بالمادّة ـ مع كون المجموع كرّا ، بل مع كون المادّة وحدها كرّا ، ووقوعه على المجموع مبنيّ على الاعتبار ، لا أنّه له في الواقع ونفس الأمر.


وتوضيح ذلك : أنّ موضوعات الأحكام ـ الّتي منها الكرّ ـ امور واقعيّة لا ينفع فيها مجرّد الاعتبار ، فموضوع الحكم بعدم الانفعال لا بدّ وأن يكون متّصفا بالكرّيّة في متن الواقع لا في نظر الاعتبار فقط ، وإنّما يتأتّى ذلك إذا كان للماء هيئة توجب كون كلّ من أطرافه جزءا ممّا حصل منها ، وهذا المعنى غير حاصل في المقام بحسب الواقع ، وصحّة وقوع الاسم على المجموع اعتبار صرف متضمّن لاشتراط حصول تلك الهيئة بحسب الواقع ، وكأنّ غفلة من اكتفى بكرّيّة المجموع نشأت عن الغفلة عن كون ذلك اعتبار صرفا ، أو متضمّنا للتعليق على ما لا تحقّق له في الواقع ، ولا ريب أنّ مجرّد الاعتبار لا يصيّر الشي‌ء واقعا.

ومن هنا اتّضح عدم المنافاة بين ما قرّرناه هنا وما اخترناه في بحث الكرّ من عدم اشتراط تساوي السطوح ، لتحقّق المعنى المذكور ثمّة في جميع صور المسألة والفارق هو العرف ، كما اتّضح سرّ ما عرفت عن العلّامة من فرقه بين الغديرين وما نحن فيه ، فإذا فرض عدم اندراج المقام على تقدير كرّيّة المجموع في المنطوق فلا بدّ وأن يندرج في المفهوم ، وقضيّة ذلك عدم الفرق في انفعال ماء الحمّام ـ وهو ما في الحوض الصغير ـ بين بلوغ المجموع كرّا وعدمه ، وهو مع أنّه خلاف المطلوب ترك للعمل على أخبار الحمّام بالمرّة ، وهو كما ترى.

فإن قلت : العمل بها يحصل في صورة كرّيّة المجموع.

قلت : معنى حصول العمل بها حينئذ كونها مخرجة له عن المفهوم المقتضي للانفعال ، واعتبار كونها مخرجة إمّا مع تسليم كونها مطلقة ، أو مع كونها منصرفة إلى الغالب ، ولا ينطبق شي‌ء منهما على مقصودكم ، أمّا الأوّل : فلأنّ الإطلاق على فرض تسليمه يقتضي إلغاء الكرّيّة رأسا ، وأمّا الثاني : فمع ما فيه من منع اعتبار الغلبة هنا كما سبق مشروحا أنّ التعويل عليه في اعتبار الكرّيّة خروج عن الاستدلال بأخبار انفعال ما دون الكرّ ، مضافا إلى أنّه لو صحّ لقضى باعتبار الكرّيّة في المادّة أيضا لا في المجموع فقط.

فالحقّ أنّ العمل في المقام إنّما هو بأخبار الحمّام لا غير ، وأنّ مقتضى ما فيها من الإطلاق إلغاء الكرّيّة بالمرّة عن المادّة وعن المجموع معا ، والمراد بالإطلاق ما في غير الخبرين المتضمّنين لتنزيل ماء الحمّام منزلة الجاري وتشبيهه بماء النهر ، إذ لا إطلاق فيهما لكونهما واردين لمجرّد بيان حكم الاعتصام وعدم الانفعال كالجاري وماء


النهر ، من غير تعرّض فيهما للتشبيه في عدم اعتبار الكرّيّة كما في المشبّه به ، فلا يستفاد منهما إلّا قضيّة مهملة بخلاف ما عداهما ، فإنّ الإطلاق فيه ممّا لا إشكال فيه خصوصا في خبر قرب الأسناد « ماء الحمّام لا ينجّسه شي‌ء » (١) وخبر بكر بن حبيب : « ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة ». (٢)

ودعوى : كون الإطلاق منزّلا على الغالب قد عرفت ما فيها بما لا مزيد عليه ، فماء الحمّام حينئذ مخرج عن قاعدة انفعال القليل بالدليل ، فثبت أنّ الأقوى في النظر القاصر هو القول الأخير الّذي صار إليه بعض مشايخنا ، قائلا ـ بعد ما أطنب الكلام في تقريب هذا القول ـ : « فصار حاصل البحث أنّ ما في الحياض حاله كحال الماء الخارج من عين الجاري ، والحوض الكبير الّذي يأتي منه الماء بمنزلة العين الّتي ينبع منها الماء القليل ، فلا يقبل ما في الحياض النجاسة سواء كان ما في الحوض الكبير كرّا أو لا ، وسواء كان المجموع مقدار كرّ أولا ، لكن بشرط اتّصالها بالمادّة وتجدّد الخروج منها » (٣) انتهى. ولكن الاحتياط في كرّيّة المجموع ، وأحوط منه اعتبار كرّيّة المادّة أيضا.

الجهة الثالثة : لهم خلاف آخر في تطهير ماء الحمّام ، بعد تنجّسه بسبب الانقطاع عن المادّة حين ملاقاة النجاسة ، وفيه مسائل :

المسألة الاولى : في اشتراط كرّيّة المادّة في رفع النجاسة عن ماء الحوض الصغير وعدمه ، والّذي صرّح به غير واحد هو الاشتراط نافين عنه الاشكال ، بل نقل عليه الإجماعات ، الّتي منها ما ستعرف عن الفاضل الهندي (٤) ، وفي الرياض (٥) نفي الخلاف عنه ، وإن كان بضابطته المعروفة عنه عبارة عن عدم عثوره على الخلاف حيثما يعبّر به ، لا أنّه عثر على الإجماع ، ولعلّه من جهة تردّده في مذهب المحقّق ، حيث إنّه قد ينسب إليه المصير إلى عدم اعتبار الكرّيّة في الدفع والرفع معا ، لإطلاق قوله ـ فيما تقدّم عن المعتبر ـ : « ولا اعتبار بكثرة المادّة وقلّتها » (٦) وقد يعزى إليه اختيار الاعتبار في الرفع خاصّة ، لمكان

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ قرب الأسناد : ١٢٨.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٩ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٣٧٨ / ١١٦٨.

(٣) جواهر الكلام ١ : ٢٣٢.

(٤) كشف اللثام ١ : ٢٦٠.

(٥) رياض المسائل ١ : ١٣٩.

(٦) المعتبر : ٩.


قوله ـ في ذيل العبارة المذكورة ـ : « لكن لو تحقّقت نجاستها لم تطهر بالجريان ».

وفي دلالة ذلك على ما ذكر نظر واضح ، كما تنبّه عليه غير واحد من الأجلّة ، لجواز كونه مرادا به عدم كفاية مجرّد اتّصال المادّة في التطهير واشتراط الامتزاج فيه ، كما هو أحد القولين في المسألة الآتية ، بل لا يبعد أن يقال : بكونه المنساق من نظائر تلك العبارة كما لا يخفى.

فالإنصاف : أنّ كلام المحقّق بالنسبة إلى مسألة التطهير متشابه ، فلا يعلم مذهبه في تلك المسألة بنفس تلك العبارة ، فإن علم من الخارج شي‌ء يقضي باختياره الكرّيّة يعلم له الموافقة وإلّا فلا ، وقد يستفاد اختياره إيّاها بما يرجع في الحقيقة إلى استبعاد صرف ، كما عن الفاضل الهندي حيث قال : « بأنّ المحقّق إنّما يسوّي بين الكرّ والأقلّ من الباقي منها إلّا ما جرى في الحوض ، ولا يقول بأنّ الباقي إذا نقص عن الكرّ فانقطع الجريان ثمّ تنجّس ما في الحوض يطهّر بالإجراء ثانيا ، للاتّفاق على أنّه لا يطهّر الماء النجس إلّا الكرّ أو الماء الجاري » (١) انتهى.

وبالجملة : لم يعهد من الأصحاب هنا مخالف في اعتبار الكرّيّة ، عدا ما يوهمه إطلاق عبارات المحقّق في المعتبر (٢) والشرائع (٣) والنافع (٤).

نعم في الحدائق (٥) عن بعض الأخباريّين (٦) المفصّل في مسألة انفعال القليل بين الورودين الميل إلى عدم اعتبار الكرّيّة في الرفع ، اكتفاء بجريان الماء الطاهر عليه بقوّة بحيث يستهلك الماء فيه ، استنادا إلى ظواهر جملة من الأخبار ، ولكنّ المسألة لو كانت إجماعيّة فهذا الخلاف غير قادح فيه جزما ، حتّى مع صحّة مستنده فكيف به مع فساد المستند كما سيتبيّن ، وعلى أيّ حال كان فحجّة القول باعتبار الكرّيّة وجوه :

أحدها : ظهور الإجماع.

وثانيها : الإجماعات المحكيّة الّتي منها ما تقدّم ، ومنها ما عن الخوانساري (٧) من

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٦٢.

(٢) المعتبر : ٩.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ١٢.

(٤) المختصر النافع : ٤١.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٢١٣.

(٦) وهو المحدّث الأسترآبادي رحمه‌الله.

(٧) مشارق الشموس : ٢٠٨ قوله : « والدليل على الأمر الثاني : مضافا إلى الإجماع أيضا على تقدير كون المادّة كرّا » الخ.


الإجماع ظاهرا على أنّ المادّة البالغة كرّا لها قابليّة لتطهير ما في الحوض بمجرّد جريانه إليه من دون القاء كرّ عليه دفعة ، ولكن في نهوض ذلك على اشتراط الكرّيّة نظر واضح ، لا يخفى وجهه على المتأمّل.

وثالثها : استصحاب النجاسة إلى أن يتحقّق رافع يقيني ، وليس إلّا كرّيّة المادّة.

ورابعها : ما عن جامع المقاصد : « واعلم أنّ اشتراط الكرّيّة في المادّة هو أصحّ القولين للأصحاب ، لانفعال ما دون الكرّ بالملاقاة ، فلا يرفع النجاسة عن غيره » (١).

وهذان أيضا كما ترى لا ينهضان دليلا على الاشتراط ، بل غاية ما فيهما الدلالة على أنّ ما دون الكرّ لا يصلح مطهّرا ، وأمّا أنّ المطهّر هو الكرّ أو أنّ الكرّ صالح له فلا بدّ في إثبات ذلك من إنهاض دليل آخر ، فالحقّ أنّ ماء الحمّام لم يثبت له من حيث الرفع والتطهير خصوصيّة ، لعدم تعرّض في الأخبار الواردة فيه لبيان هذا الحكم فضلا عن كيفيّته كما ستعرف ، فلا بدّ في استعلام حكم المسألة من المراجعة إلى ما يطهّر به الماء القليل ، والنظر في دليل اعتبار كونه كرّا وغيره من الإجماع وغيره ، ولتحقيق ذلك موضع آخر يأتي في أبواب كيفيّة تطهير المياه.

وأمّا القول بعدم الكرّيّة إن كان ثابتا في المسألة ، وكان قائله ممّن يعتنى به ـ فلا مستند له إلّا إطلاق أخبار الباب المتقدّمة ، وهو ظاهر الفساد لكون تلك الأخبار بين صريحة وظاهرة سياقا ومتنا في التعرّض لبيان حكم الدفع من غير تعرّض لبيان حكم الرفع ، نعم في ثلاث روايات منها ما ربّما يوهم ذلك كقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام بمنزلة الماء الجاري » (٢) وقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام كماء النهر ، يطهّر بعضه بعضا » (٣) وقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام سبيله سبيل الماء الجاري إذا كانت له مادّة » (٤) بناء على أنّ المنزلة والتشبيه يفيدان العموم.

وفيه : مع أنّ في عموم المنزلة والتشبيه كلاما ، والقول بانصرافهما إلى الخواصّ الظاهرة لا يخلو عن قوّة ، والظاهر من خواصّ المشبّه به إنّما هو الدفع ، أنّ هذه الامور إنّما تفيد الظهور في العموم إذا لم يقم في الكلام المشتمل عليها ما يصرفها عن ظهورها والمقام ليس منه.

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١١٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء مطلق ح ١ ـ مع تغيير يسير.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٦.


أمّا في الخبر الأوّل : فلأنّ سياق السؤال الوارد فيه بقوله : « ما تقول في ماء الحمّام؟ » ظاهر في السؤال عن حكم الدفع وقبوله الانفعال وعدمه ، كما لا يخفى على المنصف ، فيصرف إليه الجواب.

وأمّا في الخبر الثاني : فلما قرّرناه في توجيهه في بحث الجاري من أنّ المراد بقوله : « يطهّر بعضه بعضا » يعصم بعضه بعضا عن الانفعال ويوجب اعتصامه ، بقرينة ما تقدّم من عدم كون شي‌ء ممّا ذكر في سؤاله من النجاسات ما يوجب تغيّر الماء عادة ، فلاحظ وتأمّل.

وأمّا في الخبر الثالث : فلأنّ قوله عليه‌السلام : « إذا كانت له مادّة » قيد احترازي أتى به المعصوم لدفع ما لعلّه يتوهّمه المخاطب من عدم الاحتياج إلى المادّة في الحكم الّذي أعطاه عليه‌السلام ، والّذي هو محلّ لأن يطرأه هذا التوهّم إنّما هو مقام الدفع دون مقام الرفع ، لأنّ كلّ عاقل متشرّع يعلم أنّ النجاسة بعد ما طرأت الماء لا ترتفع من قبل نفسها ، بل تحتاج إلى رافع شرعي ومطهّر خارجي ، ومحصّله يرجع إلى دوران الشرط بين كونه قيدا احترازيّا أو توضيحيّا ، ومن المقرّر أنّ الأصل ـ بمعنى الظاهر ـ هو الأوّل ، وقضيّة ذلك كون الخبر واردا لبيان الدفع دون الرفع.

المسألة الثانية : في تطهير ماء الحمّام بمجرّد اتّصاله بالمادّة أو اشتراطه بالامتزاج وغلبة المادّة عليه ، قولان من الاقتصار فيما خالف الأصل ـ وهو استصحاب النجاسة أو أصالة عدم الطهارة ـ على المتّفق عليه ، وأنّ الصادق عليه‌السلام حكم بأنّه بمنزلة الجاري ، ولو تنجّس الجاري لم يطهّر إلّا باستيلاء الماء عليه ، بحيث يزيل انفعاله ، ومن امتياز الطاهر من النجس مع عدم الامتزاج ، وذلك يقتضي اختصاص كلّ بحكمه.

ومن أنّ اتّصال القليل بالكثير قبل النجاسة كاف في دفع النجاسة وإن لم يمتزج به فكذا بعدها ، لأنّ عدم قبول النجاسة في الأوّل إنّما هو بصيرورة الماءين ماء واحدا بالاتّصال.

وأنّ الامتزاج إن اريد به امتزاج كلّ جزء من الماء النجس بجزء من الطاهر لم يمكن الحكم بالطهارة أصلا ، لعدم العلم بذلك ، وإن اكتفى بامتزاج البعض لم يكن المطهّر للبعض الآخر هو الامتزاج بل مجرّد الاتّصال ، فيلزم إمّا القول بعدم الطهارة أصلا ، أو القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال.

وأنّه عن المنتهى : « أنّ الاتّفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه


ولا شكّ أنّ المداخلة ممتنعة ، فالمعتبر إذن الاتّصال الموجود هنا » (١) ، وأنّ الأجزاء الملاقية للطاهر يجب الحكم بطهارتها عملا بعموم ما دلّ على طهوريّة الماء ، فتطهّر الأجزاء الّتي يليها لذلك ، وكذا الكلام في بقيّة الأجزاء ، كما حكاه في المدارك عن المحقّق والشهيد الثانيين ، قائلا : « بأنّ هذا اعتبار حسن نبّه عليه المحقّق الشيخ عليّ في بعض فوائده ، وجدّي في روض الجنان » (٢) ، وفي أكثر ما ذكر عن الطرفين نظر ، وإذ قد عرفت أنّ الحمّام لم يثبت له خصوصيّة بالنسبة إلى مقام الرفع ، لكون الأخبار الواردة فيه ساكتة عن ذلك المقام ، فكيفيّة تطهير هذا الماء كتطهير سائر المياه القليلة ، فتحقيق حاله بالقياس إلى اشتراط الامتزاج وعدمه ، موكول إلى محلّه ، وسيلحقك البحث عن ذلك إن شاء الله.

المسألة الثالثة : بناء على القول باشتراط الامتزاج واشتراط كرّيّة المادّة في التطهير ، فهل يكتفى بكون المادّة مقدار الكرّ من غير زيادة عليه ، أو يشترط زيادتها بمقدار ما يحصل به الممازجة والغلبة؟ وكذا بناء على القول بكفاية الاتّصال يجري الكلام في اشتراط الزيادة بمقدار ما ينحدر من الماء عن المادّة المتّصلة بالحوض ، قولان ، اختار أوّلهما في المدارك (٣) ، وعن العلّامة في المنتهى (٤) ، التصريح في مسألة الغديرين.

وحكى ثانيهما عن ثاني الشهيدين تعليلا : « بأنّه لو كانت كرّا فقط لكان ورود شي‌ء منها على الحياض موجبا لخروجها عن الكرّيّة ، إذ المعتبر كرّيّة المادّة بعد الملاقاة فتقبل الانفعال حينئذ » (٥) وعن صريح التحرير (٦) أيضا اختياره ، كما عن جامع المقاصد (٧) اختياره أيضا استنادا بما ذكر عن الشهيد ، ولا يخفى ما فيه من الاعتبار الصرف ، والحكم تابع للإجماع ، فإن ثبت إجماع فكيف ولم يثبت ، وإلّا كان كسائر المياه القليلة الّتي تطهر بالكرّ.

واستدلّ على القول الأوّل بقوله عليه‌السلام : « ماء الحمّام كماء النهر ، يطهّر بعضه بعضا » (٨)

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٤.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٣٦ ـ روض الجنان : ١٣٨.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٣٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(٥) روض الجنان : ١٣٧ نقلا بالمعنى.

(٦) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٧) جامع المقاصد ١ : ١١٣.

(٨) الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ١ مع تغيير يسير.


ويؤيّده « هو بمنزلة الجاري » (١) و « ماء الحمّام سبيله سبيل الجاري » (٢).

وفيه : ضعف واضح تقدّم وجهه.

وقد يقال : بابتناء القولين على قولهم في اعتبار الدفعة في إلقاء الكرّ وعدمه ، فالأوّل مبنيّ على الثاني ، كما أنّ الثاني مبنيّ على الأوّل ، وهو أيضا مشكل.

ثمّ إنّ جماعة من الأصحاب تنبّهوا على فروع في المقام ، لا بأس بإيرادها.

أحدها : أنّه هل يشترط في مادّة الحمّام العلم بعدم نجاستها أو يكفي عدم العلم بالنجاسة؟ احتمالان صرّح بثانيهما العلّامة في المنتهى (٣) ، وتبعه غير واحد ، وأمّا الأوّل فلم نقف على قائل به ، كما أنّ احتمال كفاية المادّة مطلقة ولو مع العلم بالنجاسة ممّا لا قائل به ، بل ظاهرهم الاتّفاق على بطلانه ، بل المستفاد من أخبار الباب بحكم الالتزام العرفي إنّما هو طهارة المادّة ، كما أنّ المستفاد من الأخبار الآمرة بالغسل عن النجاسات إنّما هو اشتراط طهارة الماء الّذي يغسل به ، كما هو مجمع عليه عندهم أيضا ـ على ما سبق بيانه في بحث الغسالة ـ ومع هذا فالفرع المذكور مفروض لاستعلام أنّ الطهارة المعتبرة في المادّة هل هي عبارة عن الطهارة العلميّة أو الشرعيّة الّتي تتأتّى مع عدم العلم بالنجاسة في الجملة ، كما سيتبيّن عقيب ذلك. واحتجّ العلّامة (٤) ـ على ما صرّح به ـ بالعموم ، والتعذّر ، والحرج ، واستجوده المحقّق الخوانساري في شرح الدروس. (٥)

وقد يفصّل : فيحكم بكفاية عدم العلم بالنجاسة إذا لم تكن المادّة مسبوقة بالعلم بها ، وإلّا فلا إشكال في عدم الكفاية في صورة تطهير ما في الحوض بها ، لاستصحابي النجاستين في المادّة وفي الحوض ، وكذلك في مقام الدفع لمكان النجاسة المستصحبة فلا تفيد تقوّيا بالقياس إلى غيرها ، وقضيّة ذلك انفعال ذلك الغير بالملاقاة ، بل بمجرّد اتّصاله بها على إشكال فيه ، ينشأ عن ملاحظة استصحاب الطهارة فيه.

وثانيها : بناء على اعتبار كرّيّة المادّة أو المجموع ، لو شكّ في الكرّيّة فعزى الخوانساري إلى ظاهر كلامهم أنّه يبني على الأصل. وهو عدم بلوغ الكرّيّة ، فضعّفه قائلا : « والظاهر البناء على طهارتها ، وعدم الحكم بنجاستها بملاقاة النجاسة ، للروايات

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٦.

(٣ و ٤) منتهى المطلب ١ : ٣١.

(٥) مشارق الشموس : ٢١٠.


الدالّة على « أنّ كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » ولاستصحاب الطهارة » ـ إلى أن قال : ـ « وكذا طهارة الحوض الصغير ، نعم ، إذا تغيّر الحوض الصغير فلا يمكن الحكم بتطهيره بإجراء تلك المادّة إليه ، وكذا لا يمكن تطهير شي‌ء نجس لا فيها ولا في الحوض الصغير ، وكذا الحال في جميع المياه المشكوك الكرّيّة ». (١)

ووافقه على هذا التفصيل صاحب الرياض قائلا : « وينبغي القطع بالطهارة لو طرأ الشكّ بعد تيقّن الكرّيّة فيها ، لاستصحابي بقاء الطهارة والمادّة على الكرّيّة ، وعمومي الأصلين البراءة ، و « كلّ ماء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » (٢).

ولو طرأ الشكّ بعد تيقّن نقصها من الكرّ بكثرة مجي‌ء الماء إليها فلا يبعد ذلك ، لتعارضهما من الجانبين فيبقى الأصلان سالمين عن المعارض.

ومنه يظهر الحكم فيما لو طرأ مع فقد اليقين ، وأمّا لو انفعل ما في الحوض ثمّ اتّصل بالمادّة المزبورة المشكوك كرّيّتها فالأقرب البقاء على النجاسة ، لاستصحابها السليم عن المعارض ، وإن احتمل الطهارة أيضا في الجملة ، بمعنى عدم تنجيسه ما يلاقيه بإمكان وجود المعارض ، من جانب الملاقي الطاهر لمثله ، إلّا أنّ الظاهر كون الاستصحاب الأوّل مجمعا عليه. » (٣) انتهى ، واستجوده بعض تلامذته (٤) أيضا.

وثالثها : قال المحقّق الخوانساري : و « اعلم أنّهم اكتفوا في الكرّيّة بشهادة العدلين بها واختلف في الواحد ، فقد قطع المحقّق الشيخ عليّ بالاكتفاء به ، بناء على أنّه إخبار لا شهادة ، واستقرب لو كان له يد على الحمّام كالمالك والمستأجر والوكيل ، ونقل عن فخر المحقّقين قبول قول ذي اليد على الحمّام مطلقا ، سواء كان عدلا أو لا وفي غير شهادة العدلين إشكال قويّ لعدم نصّ عليه وفيها أيضا بعض الإشكال ». (٥)

ورابعها : قد عرفت في ذيل كلام السيّد في الرياض الحكم بنجاسة ما يلاقي ماء الحوض النجس المتّصل بالمادّة المشكوكة في كرّيّتها ، مع احتماله طهارة الملاقي خاصّة لإمكان معارضة استصحاب الطهارة فيه لاستصحاب النجاسة في الماء ، مع دعواه على العمل باستصحاب النجاسة المقتضية لنجاسة الملاقي ، وقد يجعل الاحتمالان المذكوران

__________________

(١) مشارق الشموس ٢١٠ ـ ٢١١.

(٢) الوسائل ١ : ١٣٣ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٣) رياض المسائل ١ : ١٣٩.

(٤) لم نعرفه.

(٥) مشارق الشموس : ٢١١.


قولين في ذلك الفرع ، ولكن يرجّح احتمال النجاسة تعليلا بكون استصحاب نجاسة الماء من استصحاب طهارة الملاقي مزيلا له فيقدّم عليه على ما هو مقرّر في محلّه ، ويجعل السرّ في الإجماع المدّعى على العمل باستصحاب النجاسة هو ذلك ، هذا.

وتحقيق الكلام : في جميع الفروع المذكورة مبنيّ على النظر في تأسيس أصل كلّي يجري في غالب أبواب الطهارات وغيرها ، وهو أنّ الطهارة في الماء حيثما علّق عليها الأحكام ، هل العبرة فيها بالعلم بها أو لا؟ وعلى الثاني فهل يعتبر فيها أمارة من الأمارات الشرعيّة التعبّديّة أو لا؟ ثمّ النجاسة على فرض عدم اعتبار علم ولا أمارة في نقيضها يلزمها أن يعتبر فيها العلم أو الأمارة؟ فهل يتعيّن فيها العلم خاصّة ، ولا يحكم بها بدونه ولو مع قيام الأمارة عليها؟ أو يكفي في ثبوتها الأمارة أيضا ، وأنّها تقوم مقام العلم؟ وعليه فهل يتعيّن في ذلك أمارة دون اخرى؟ أو يجري فيها عامّة الأمارات الجارية في غير المقام ، ثمّ إذا كفت الأمارة في ثبوت نجاسة شي‌ء فهل تفيد تلك النجاسة تنجيسا لملاقيه أو لا؟

غير أنّه ينبغي أن يعلم أنّ هذا البحث إنّما يثمر ويجري في معرفة حكم الجزئيّات ، المعلوم حكم كلّيّاتها بأصل الشرع من طهارة أو نجاسة ، الصالحة لاندراجها تحت كلّ من الكلّيّين المعلوم حكمهما الكلّي الإلهي ، الّتي قد يعبّر عنها بالموضوعات الصرفة ، وإلّا فكلّ من الطهارة والنجاسة من حيث إنّه حكم كلّي إلهي يتبع في ثبوته لموضوعاته الكلّيّة ـ الّتي قد يعبّر عنها بالموضوعات المستنبطة ـ لدليله ، من حيث إنّه توقيفي فلا بدّ فيه من دليل علمي أو ظنّي حيث يعتبر.

فالكلام في اعتبار العلم فيه من هذه الجهة ، أو كفاية مطلق الظنّ ، أو اعتبار الأمارة مطلقة ، أو غيرها ، هو الكلام في حجّيّة الظنّ ودليليّة الطرق المعهودة ، وهذا كما ترى شي‌ء لا يتعلّق به غرض الفقيه أصلا وإنّما هو بحث له محلّ آخر ، بل الّذي يتعلّق به الغرض هنا إنّما هو استعلام كون الطهارة والنجاسة المعلومتين للموضوعات المستنبطة منوطتين في موضوعاتها الخارجيّة بالعلم خاصّة ، أو تكفي فيهما الظنّ مطلقا ، أو أنّ الطهارة منوطة بعدم العلم بالنجاسة بخلاف النجاسة ، فإنّها منوطة بالعلم بها ، على معنى العلم بتحقّق سببها الموجب لها ، أو ما هو قائم مقامه على فرض ثبوته ، ثمّ إنّه لا فرق في هذا البحث بين المياه وغيرها ممّا اعتبر فيها الطهارة ، من المآكل والمشارب والثياب


والأواني ونحوها ، وكيف كان فينبغي في المقام الكلام في مطالب :

المطلب الأوّل : لا إشكال كما لا خلاف في أنّ الطهارة المعتبرة في الماء بل كلّ مشروط بالطهارة غير منوطة بالعلم به ، بل الّذي ينوط به في ترتيب الأحكام الشرعيّة إنّما هو النجاسة ، قال الشيخ في لباس المصلّي من زيادات التهذيب ـ عقيب رواية عبد الله بن سنان الآتية ، الآمرة بغسل الثوب للصلاة الّذي اعير لمن يعلم أنّه يأكل الجري ويشرب الخمر ـ : « هذا الخبر محمول على الاستحباب ، لأنّ الأصل في الأشياء كلّها الطهارة ، ولا يجب غسل شي‌ء من الثياب إلّا بعد العلم بأنّ فيها نجاسة ، وقد روى هذا الراوي بعينه خلاف هذا الخبر » (١) يعني به روايته الاخرى الآتية المصرّحة في الثوب الّذي اعير للذمّي بعدم وجوب غسله.

وقال صاحب المدارك : « إنّ ما عدا نجس العين يجب الحكم بطهارته ، تمسّكا بمقتضى الأصل والعمومات إلى أن يحصل اليقين بملاقاته لشي‌ء من الأعيان النجسة بإحدى الطرق المفيدة له ، ولا عبرة بالظنّ ما لم يستند إلى حجّة شرعيّة ، لانتفاء الدليل على اعتباره ، وعموم النهي عن اتّباعه » ، إلى آخر كلامه قدس‌سره (٢).

والأصل فيما ذكرناه من الحكمين بعد الإجماع القولي المقطوع به من تتبّع كلمات الأصحاب ، والعملي المعلوم من طريقة الفقهاء وسيرة كافّة المتشرّعة في عامّة الأعصار وقاطبة الأمصار ، الأخبار المعتبرة الّتي فيها الصحاح وغيرها المستفيضة القريبة من التواتر ، بل المتواترة باعتبار المعنى جدّا بل البالغة فوق التواتر.

منها : الخبر المستفيض المرويّ في كتب المشايخ الثلاث بطرق متكرّرة ، المتّفق على العمل به ، المتلقّى بالقبول لدى الكلّ : « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٣).

ومنها : موثّقة عمّار المرويّة في التهذيب والوسائل عنه عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : « كلّ شي‌ء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك شي‌ء » (٤) وقد مرّ في مباحث الماء القليل الكلام في تطبيق الاولى على

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦١ ذيل ح ١٤٩٤.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٨٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢١ ـ الكافي ٣ : ١ / ٣.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.


الموضوعات الخارجيّة وعلى قياسها الثانية.

ومنها : خبر غياث عن جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ عليهم‌السلام قال : « ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم » (١) تمسّك به في المدارك (٢) على ما تقدّم عنه من دعوى الأصل الكلّي.

ومنها : خبر عمّار بن موسى الساباطي ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجد في إنائه فأرة ، وقد توضّأ من ذلك الإناء مرارا ، أو غسل منه ثيابه أو اغتسل منه ، وقد كانت الفأرة متسلّخة؟ فقال : « إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل ، أو يتوضّأ ، أو يغسل ثيابه ، ثمّ فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ، ويغسل كلّما أصابه ذلك الماء ، ويعيد الوضوء والصلاة ، وإن كان إنّما رآها بعد ما فرغ من ذلك وفعله فلا يمسّ من الماء شيئا ، وليس عليه شي‌ء ، لأنّه لا يعلم متى سقطت فيه ، ثمّ قال : لعلّه أن تكون سقطت فيه تلك الساعة الّتي رآها ، » (٣) وهذا كما ترى يقضي بعدم اعتبار الظنّ بالنجاسة بجميع مراتبه ، حتّى ما يكون منه قويّا متآخما بالعلم ، ضرورة أنّ انفساخ الفأرة كما هو مفروض السؤال ممّا يحصل معه ظنّ قويّ قريب من العلم بسقوطها في الإناء قبل جميع تلك الاستعمالات ، إن لم نقل بإيراثه العلم بذلك ، واحتمال كونها ساقطة في الساعة الّذي أبدأه الإمام عليه‌السلام في غاية البعد والغرابة.

ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة في مباحث الماء القليل ، بالتوجيه المتقدّم ثمّة ، القائلة في دم الرعاف بأنّه : « إن لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه » (٤).

ومنها : مرسلة محمّد بن إسماعيل المرويّة في الكافي عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليه‌السلام « في طين المطر ، أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام ، إلّا أن تعلم أنّه قد نجّسه شي‌ء بعد المطر ، فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله ، فإن كان الطريق نظيفا لم تغسله » (٥).

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٧ الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٥٣ / ٧٣٥ ـ الفقيه ١ : ٤٢ / ١٦٦.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٨٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٢ ب ٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الفقيه ١ : ١٤ / ٢٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٨ / ١٣٢٢ ، في الفقيه والتهذيب « منسلخة ».

(٤) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٧ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٤.


ومنها : الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم ، المرويّ في الكافي عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه شي‌ء فليغسل الّذي أصابه ، فإن ظنّ أنّه أصابه شي‌ء ولم يستيقن ولم ير مكانه ، فلينضحه بالماء ، وإن استيقن أنّه قد أصابه شي‌ء ولم ير مكانه فليغسل ثوبه كلّه ، فإنّه أحسن » (١) بناء على أنّ النضح المعلّق على ظنّ الإصابة وعدم تيقّنها هو الرشّ ، فلا يكون مجزيا عن الغسل لو كان الظنّ كافيا في تنجّس المحلّ ، وهو محمول عندهم بالاستحباب ، وأمكن كونه تعبّدا على حدّ سائر التعبّديّات الّتي منها غسل موضع النجاسة.

ومنها : خبر عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكون له الثوب قد أصابه الجنابة فلم يغسله ، هل يصلح النوم فيه؟ قال : « يكره » (٢) ، وسألته عن الرجل يعرق في الثوب ، يعلم أنّ فيه جنابة ، كيف يصنع؟ هل يصلح له أن يصلّي قبل أن يغسل؟ قال : « إذا علم أنّه إذا عرق أصاب جسده من ذلك الجنابة الّتي في الثوب ، فليغسل ما أصاب جسده من ذلك ، وإن علم أنّه قد أصاب جسده ولم يعرف مكانه ، فليغسل جسده كلّه ، » (٣) فإنّه بمفهومه دالّ على عدم وجوب غسل الجسد مع عدم العلم بإصابة الجسد ، كما أنّه بمنطوقه دالّ على وجوبه مع العلم بالإصابة تفصيلا أو إجمالا.

منها : خبر موسى بن القاسم عن عليّ بن محمّد عليهما‌السلام قال : سألته عن الفأرة والدجاجة والحمامة وأشباهها ، تطأ العذرة ، ثمّ تطأ الثوب أيغسل؟ قال : « إن كان استبان من أثره شي‌ء فاغسله ، وإلّا فلا بأس » (٤) ومثله مرويّ (٥) عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ، ودلالتهما واضحة بعد ملاحظة ما أشرنا إليه في رواية دم الرعاف المتقدّمة.

منها : خبر عبد الله بن الحجّاج ، قال : سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن رجل يبول بالليل ، فيحسب أنّ البول أصابه فلا يستيقن ، فهل يجزيه أن يصبّ على ذكره إذا بال ، ولا يتنشّف؟ قال : « يغسل ما استبان أنّه قد أصابه ، وينضح ما يشكّ فيه من جسده وثيابه ،

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٢٤ ب ١٦ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ الكافي ١ : ٢٥٢ / ٧٢٩.

(٢ و ٣) الوسائل ٣ : ٤٠٤ ب ٧ من أبواب النجاسات ح ٩ و ١٠ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١٥٩ / ٢٣٧ و ٢٣٨.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤٢٤ / ١٣٤٧.

(٥) قرب الأسناد : ٨٩.


ويتنشّف قبل أن يتوضّأ » (١) قال في الوسائل : « المراد بالتنشّف الاستبراء ، وبالوضوء الاستنجاء » ، وجه الاستدلال ما تقدّم في حسنة الحلبي.

ومنها : صحيحة زرارة قال : « قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، أو شي‌ء من المنيّ إلى أن قال : فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك فنظرت ، فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ، قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شي‌ء أن أنظر فيه؟ قال : لا ، ولكنّك تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك » (٢).

ومنها : الحسن بإبراهيم بن هاشم أيضا ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال : « إن كان علم إنّه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يصلّي ، ثمّ صلّى فيه ولم يغسله ، فعليه أن يعيد ما صلّى ، وإن كان لم يعلم فليس عليه إعادة ، وإن كان يرى أنّه أصابه شي‌ء فينظر فلم ير شيئا ، أجزأه أن ينضحه بالماء » (٣).

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر ، أنّي اعير الذمّي ثوبي ، وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ، ويأكل الخنزير ، فيردّه عليّ فأغسله قبل أن اصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » (٤).

ومنها : رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن سفرة وجدت في طريق مطروحة ، كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يقوّم ما فيها ، ثمّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن » ، قيل : يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم هي أم مجوس؟ فقال : « هم في سعة حتّى تعلموا » (٥).

__________________

(١ و ٢) الوسائل ٣ : ٤٦٦ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٢ و ١ ـ التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٥.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٧٥ ب ٤٠ من أبواب النجاسات ح ٣ ـ الكافي ٣ : ٤٠٦ / ٩.

(٤) الوسائل ٣ : ٥٢١ ب ٧٤ من أبواب النجاسات ح ١ ـ وفيه بدل « سئل ابو عبد الله ع » « سأل أبي أبا عبد الله ع » ـ التهذيب ٢ : ٣٦١ / ١٤٩٥.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٩٣ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ١١ ـ الكافي ٣ : ٣٩٨ / ٧.


ومنها : رواية سماعة بن مهران ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن تقليد السيف في الصلاة ، وفيه الغرى (١) والكيمخت؟ فقال : « لا ، ما لم تعلم أنّه ميتة » (٢).

ومنها : رواية عليّ بن أبي حمزة ، إنّ رجلا سأل أبا عبد الله عليه‌السلام ـ وأنا عنده ـ عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه؟ قال : « نعم » ، فقال الرجل : إنّ فيه الكيمخت؟ قال : « وما الكيمخت »؟ قال : جلود دوابّ ، منه ما يكون ذكيّا ومنه ما يكون ميتة ، فقال : « ما علمت أنّه ميّت فلا تصلّ فيه » (٣).

ومنها : خبر ابن مسكان عن الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف الّتي تباع في السوق؟ فقال : « اشتر وصلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميّت بعينه » (٤).

ومنها : صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فرّا ، لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة ، أيصلّي فيها؟ قال : « نعم ، ليس عليكم المسألة ، أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، أنّ الدين أوسع من ذلك » (٥).

ومنها : صحيحته الاخرى عن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخفّ ، لا يدري أذكيّ هو أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه ، وهو لا يدري أيصلّي فيه؟ قال : « نعم ، أنا أشتري الخفّ من السوق ، ويصنع لي واصلّي ، وليس عليكم المسألة » (٦).

ومنها : ما في التهذيب عن إسماعيل بن عيسى ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : « عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك ، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه » (٧).

__________________

(١) هكذا وجدناه في الوسائل ، ولكن في المجمع : وفي الحديث ذكر الغراء والكيمخت ، والغراء ككتاب شي‌ء يتّخذ من أطراف الجلود ملصق به ، وربّما من السمك والغراء كعصا لغة. انتهى ومن القاموس : الغراء ما طلى به أو لصق به ، أو شي‌ء يستخرج من السمك. (منه).

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٣ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ١٢ ـ الفقيه ١ : ١٧٢ / ٨١١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٩١ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٣٠.

(٤ و ٥) الوسائل ٣ : ٤٩٠ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٣ ـ التهذيب ٢ : ٢٣٤ و ٣٦٨ / ٩٢٠ و ١٥٢٩.

(٦ و ٧) الوسائل ٣ : ٤٩٢ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٦ و ٧ ـ التهذيب ٢ : ٣٧١ / ١٥٤٥.


ومنها : ما عن قرب الأسناد ـ لعبد الله بن جعفر ـ عن حمّاد بن عيسى ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « كان أبي عليه‌السلام يبعث بالدراهم إلى السوق ، فيشتري بها جبنا ، فيسمّي ويأكل ولا يسأل عنه » (١).

ومنها : ما في الكافي ـ في الصحيح ـ عن الحلبي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الخفاف عندنا في السوق نشتريها ، فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال : « صلّ فيها حتّى يقال لك أنّها ميتة بعينه » (٢).

ومنها : ما فيه أيضا عن الحسن بن الجهم ، قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أعترض السوق فأشتري خفّا ، لا أدري أذكيّ هو أم لا؟ قال : « صلّ فيه » ، قلت : فالنعل ، قال : « مثل ذلك » قلت : إنّي أضيق من هذا ، قال « أترغب عمّا كان أبو الحسن عليه‌السلام يفعله » (٣).

ومنها : ما ـ في الصحيح ـ في التهذيب عن معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الثياب السابريّة يعملها المجوس ، وهم أخباث وهم يشربون الخمر ، ونساؤهم على تلك الحال ، ألبسها ولا أغسلها واصلّي فيها؟ قال : « نعم » قال معاوية : فقطعت له قميصا وخطته وفتلت له إزارا ورداء من السابري ، ثمّ بعثت بها إليه في يوم جمعة حين ارتفع النهار ، فكأنّه عرف ما اريد فخرج بها إلى الجمعة (٤).

ومنها : ما في التهذيب من خبر المعلّى بن خنيس ، قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « لا بأس بالصلاة في الثياب الّتي تعملها المجوس والنصارى واليهود » (٥) بناء على أنّ المراد نفي البأس عن الصلاة فيها بلا غسل ، وإلّا فلم يكن أحد يشكّ في عدم البأس مع الغسل.

ومنها : ما في التهذيب ـ في الصحيح ـ عن الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال : « يرشّ بالماء » (٦) بناء على ما تقدّم من أنّ الرشّ ليس غسلا ليتبع النجاسة الثابتة.

ومنها : رواية أبي عليّ البزّاز عن أبيه ، قال : سألت جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن الثوب

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٩٢ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٨ ـ قرب الأسناد : ١١.

(٢) الكافي ٣ : ٤٠٣ / ٢٨.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٩٣ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٩ ـ الكافي ٣ : ٤٠٤ / ٣١.

(٤ ـ ٦) الوسائل ٣ : ٥١٨ ـ ٥٢٠ ب ٧٣ من أبواب النجاسات ح ١ و ٣ ـ التهذيب ٢ : ٣٦٢ / ١٤٩٧ و ١٤٩٦ و ١٤٩٨.


يعمله أهل الكتاب ، اصلّي فيه قبل أن يغسل؟ قال : « لا بأس ، وأن يغسل أحبّ إليّ » (١)

ومنها : خبر أبي جميلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن ثوب المجوسي ، ألبسه واصلّي فيه؟ قال : « نعم » ، قال : قلت : يشربون الخمر؟ قال : « نعم نحن نشتري الثياب السابريّة فنلبسها ولا نغسلها » (٢).

ومنها : ما في الوسائل عن أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج ، عن محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه‌السلام عندنا حاكة مجوس يأكلون الميتة ، ولا يغتسلون من الجنابة ، وينسجون لنا ثيابنا ، فهل يجوز الصلاة فيها من قبل أن تغتسل؟ فكتب إليه في الجواب : « لا بأس بالصلاة فيها » (٣).

ومنها : ما في الاستبصار عن سماعة ، قال : سألته عن أكل الجبن ، وتقليد السيف وفيه الكيمخت والفراء؟ فقال : « لا بأس به ما لم يعلم أنّه ميتة » (٤) إلى غير ذلك من الروايات الجزئيّة الّتي يطّلع عليها المتتبّع في أبواب متفرّقة.

ولا ريب أنّ المستفاد من مجموع تلك الأخبار الدالّة بعضها عموما والبعض الآخر خصوصا امور :

أحدها : أنّ ثبوت الطهارة في مواردها وترتّب أحكامها على تلك الموارد لا يتوقّف على العلم بها.

وثانيها : أنّها كما لا تتوقّف على العلم ، فكذلك لا تتوقّف على قيام أمارة تعبّديّة بها ، من استصحاب ، أو بيّنة ، أو إخبار عدل ، أو ذي يد ونحوها ، فإنّ ذلك يستفاد عن إطلاق الخبر الأوّل والثاني وجملة كثيرة من البواقي ، وأقوى ما يدلّ على ذلك الخبر الثالث عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في قوله عليه‌السلام : « ما أبالي أبول أصابني أو ماء » ، ضرورة أنّ ما يتردّد بين الماء والبول لا يعلم له بالخصوص حالة سابقة ، ليكون الحكم بالطهارة مستندا إليها استصحابا لها ، وطهارة المحلّ وإن كانت بعد إصابة ذلك إيّاه قابلة للاستصحاب ، غير أنّ

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥١٨ ب ٧٣ من أبواب النجاسات ح ٥ ـ التهذيب ٢ : ٢١٩ / ٨٦٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٥٢٠ ب ٧٣ من أبواب النجاسات ح ٧ ـ الفقيه ١ : ١٦٨ / ٧٩٤.

(٣) الوسائل ٣ : ٥٢٠ ب ٧٣ من أبواب النجاسات ح ٩ ـ الاحتجاج : ٤٨٤.

(٤) الوسائل ٢٤ : ٩٠ ب ٣٨ من أبواب الذبائح ح ١ ـ الاستبصار ٤ : ٩٠ / ٣٤٢.


المنساق من الرواية كون الحكم بالطهارة لاحقا هنا بالمائع المتردّد بين الأمرين لا بالمحلّ ، وإن استلزم طهارة الأوّل طهارة المحلّ أيضا.

ولا ينافيه ما في صحيحة زرارة (١) من استناد الإمام عليه‌السلام إلى الاستصحاب ، ولا ما يظهر من صحيحة عبد الله بن سنان (٢) من كون الاستناد إلى الحالة السابقة ، فلا داعي إلى حمل المطلقات على هذا المقيّد ، لما قرّر في محلّه من أنّ العامّ والخاصّ لا يحمل أحدهما على الآخر ، فلا يقال : إنّ المراد بـ « كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » أو « كلّ شي‌ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » ما علم له حالة سابقة تصلح للاستناد إليها ، مع أنّ قاعدة حمل المطلق على المقيّد فيما بين المثبتين ـ للتنافي ـ لا تجري إلّا في موضع التكليف الإلزامي والمقام ليس منه ، مع أنّ أصل الحمل لا يمكن بالنسبة إلى الخبر الثالث كما عرفت.

وثالثها : عدم وجوب الفحص والنظر تحصيلا للعلم بالنجاسة ، أو إحراز لأمارة قامت بها على فرض كونها معتبرة في ثبوتها ، والّذي يدلّ عليه صراحة من الأخبار صحيحة زرارة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « لا » ، عقيب قول السائل ، « فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شي‌ء أن أنظر فيه؟ » (٣).

نعم ، قوله عليه‌السلام : « ولكنّك تريد أن تذهب الشكّ الّذي وقع في نفسك » يدلّ على استحبابه ، وهو ممّا لا إشكال فيه لاستقلال العقل بحسن الاحتياط ، ونحو الصحيحة المذكورة في الصراحة على عدم وجوب الفحص الأخبار الاخر النافية للمسألة ، وقد يدّعي الإجماع على عدم وجوبه في العمل بالأصل في الموضوعات الخارجيّة ، كما سمعناه عن بعض مشايخنا العظام (٤) ـ شكر الله مساعيهم ـ مشافهة عند قراءتنا عليه ، والظاهر أنّه في محلّه في الجملة ، وإن اقتضى بعض القواعد وجوبه على ما قرّرناه في بعض تحقيقاتنا الاصوليّة (٥) ، لكن النصوص في خصوص المقام كما عرفت حاكمة عليها.

__________________

(١ و ٢) تقدّم في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٢ و ٤.

(٣) تقدّم في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٢.

(٤) والمراد منه ـ حيثما أطلق ـ هو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله.

(٥) ومن مؤلّفاته رحمه‌الله في الاصول حاشيته المعروفة على القوانين (المطبوعة سنة ١٢٩٩ ه‍) وكذا التعليقة على معالم الأصول في سبعة مجلّدات كبار من أوّل مباحث الألفاظ إلى آخر التعادل ـ


ورابعها : أنّ النجاسة لا تثبت إلّا بالعلم ، وأنّ الظنّ لا يكفي فيها ، ولا ريب أنّ لفظي « العلم » و « الظنّ » الواردين فيها ظاهران في المتعارف من معنييهما ، فمن يكتفي فيها بالظنّ أو الأمارة الشرعيّة ـ عامّة أو خاصّة ـ يطالب بدليل ذلك ، ليكون حاكما على روايات الباب ، بكشفه عن كون الحصر المستفاد منها إضافيّا ، أو أنّ العلم واليقين المعلّق عليهما حكم النجاسة اريد منهما ما يعمّ الظنّ وغيرها من الأمارات ، وأنّى له بإثبات ذلك.

نعم ، يمكن استفادة كفاية إخبار ذي اليد واعتباره فيها من الأخبار المشتملة على السؤال عن وجوب المسألة والسؤال ، فإنّ هذه الأسئلة قاضية بأنّ كون قول ذي اليد مجديا في ثبوت النجاسة كان مفروغا عنه فيما بينهم ، وإنّما الشبهة كانت في وجوب تحصيله ، وجواب المسئول بنفي وجوب المسألة أيضا ربّما يكون تقريرا لهم على معتقدهم.

إلّا أن يقال : بأنّ نفي المسألة بنفسه ردع لهم ، لجواز ابتنائه على كون المراد بيان أنّ ما يترتّب على المسألة من الإخبار بالمسئول عنه لا يجدي نفعا في ثبوت النجاسة حتّى يكون المسألة واجبة ، ولكنّه خلاف ما يظهر من سياق الروايات ، ومن سياق أصل القضيّة ، مع أنّ في بعضها ما يكون ظاهرا بنفسه في لزوم القبول على تقدير تحقّقه ، كما في خبر إسماعيل بن عيسى المتضمّن لقوله عليه‌السلام : « عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك » (١) الخ إذ أقلّ مراتب معنى « عليكم » الرجحان المطلق ، وإلّا فهو ظاهر في الإيجاب ، فلو لا الإخبار بالمسئول عنه مجديا في لزوم القبول لما كان لرجحان السؤال عنه وجه ، فضلا عن وجوبه.

وقد يقرّر ـ كما في شرح الدروس ـ : « بأنّ ظاهره أنّ قول المشركين يقبل في أموالهم أنّها ذكيّة وإلّا فلا فائدة للسؤال عنهم ، فإذا قبل قول المشركين فقبول قول المسلمين بطريق أولى ، » (٢) ولا يخفى ضعفه ـ كما تنبّه عليه في الحدائق ـ إذ ليس المراد بالسؤال المأمور به بقرينة السؤال هو السؤال عن المشرك ، بل المراد به السؤال من

__________________

ـ والتراجيح دورة كاملة ، وهذه الموسوعة الاصوليّة القيّمة لم يطبع إلى الآن ، ولكن قامت أخيرا مؤسّسة النشر الإسلاميّة التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة بطبعه ونشره وسيصدر منه جزءان ويتلوهما سائر الأجزاء إن شاء الله تعالى.

(١) تقدّم في الصفحة ٤٦٥ الرقم ٢.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٨.


المسلم البائع الغير العارف الّذي فرضه السائل ، ولا ينافيه التفصيل كما ذكره في الكتاب المشار إليه قائلا : « بأنّ الأظهر في معنى الخبر أنّه لمّا سأل السائل عن حكم الاشتراء من السوق المذكورة إذا كان البائع مسلما ، وأنّه هل سأل عن ذكاته أم لا؟ أجاب عليه‌السلام بالتفصيل بأنّه إن كان في تلك السوق من يبيع من المشركين فعليكم السؤال من ذلك المسلم ، إذ لعلّه أخذه من المشركين ، وإذا رأيتم المسلم يصلّي فيه فلا تسألوا ، لأنّ صلاته فيه دليل على طهارته عنده ، ويفهم من الخبر بمفهوم الشرط أنّه مع عدم من يبيع من المشركين فليس عليكم السؤال » (١) انتهى.

ولكن يبقى الإشكال في هذا الخبر بالنسبة إلى دلالته على وجوب السؤال على فرض بيع المشركين في تلك السوق ، وهو ينافي إطلاق سائر الأخبار المشار إليها النافية لوجوب الفحص والسؤال ، ولعلّه لضعف سنده ـ كما أشار إليه المحقّق الخوانساري ـ لا يصلح تقييدا لتلك الأخبار لما فيها من الصحاح ، وبذلك يضعف التمسّك به على أصل المطلب وهو لزوم قبول قول ذي اليد.

نعم ، يمكن التمسّك عليه ـ مضافا إلى ما مرّ ـ بصحيحة الحلبي المتقدّمة المشتملة على قوله عليه‌السلام : « صلّ فيها حتّى يقال لك أنّها ميتة بعينه » (٢) فإنّها بمفهومها يدلّ على عدم جواز الصلاة بعد تحقّق القول المذكور ، ولا نعني من لزوم القبول إلّا هذا ، ولكنّها بإطلاقها تدلّ على لزوم القبول مع هذا القول سواء كان القائل مالكا أو غيره ، عادلا أو غيره ، واحدا أو متعدّدا ، فيشمل البيّنة وأخبار العادل بل الفاسق أيضا ولكن الظاهر أنّه لا قائل بهذا الإطلاق.

مضافا إلى أنّه ينافي ظواهر الأخبار الاخر المشار إليها ، لظهورها في مسألة المالك فيقيّد بها هذا الإطلاق وبالجملة : فالظاهر أنّ المسألة ممّا لا إشكال فيه ، ولم يظهر من الأصحاب مخالف فيها ، وربّما يستظهر الاتّفاق عليه كما أشار إليه صاحب الحدائق قائلا : « وظاهر كلام الأصحاب ـ قدّس الله أرواحهم ـ الاتّفاق على قبول قول

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٢٥٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٠ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ التهذيب ٢ : ٢٣٤ / ٩٢٠ ـ وفيه : « صلّ فيه حتّى تعلم أنّه ميّتة بعينه » تقدم في الصفحة ٥١٧ الرقم ٤.


المالك في طهارة ثوبه وإنائه ونجاستهما » (١).

وقال العلّامة رحمه‌الله في موضع من المنتهى : « لو أخبر العدل بنجاسة إنائه فالوجه القبول ، ولو أخبر الفاسق بنجاسة إنائه فالأقرب القبول أيضا » (٢) فما في كلام المحقّق الخوانساري في شرح الدروس من المناقشة في ذلك بأنّ : « قبول قول المالك عدلا كان أو فاسقا فلم أظفر له على حجّة » (٣) ممّا يقضي بالعجب ، ومع ذلك ليس ممّا يلتفت إليه.

وعن جماعة (٤) أنّهم قيّدوا قبول قول إخبار الواحد بنجاسة إنائه بما إذا وقع الإخبار قبل الاستعمال ، فلو كان الإخبار بعده لم يقبل بالنظر إلى نجاسة المستعمل له ، فإنّ ذلك في الحقيقة إخبار بنجاسة العين فلا يكفي فيه الواحد وإن كان عدلا ، ولأنّ الماء يخرج بالاستعمال عن ملكه إذ هو في معنى الإتلاف أو نفسه. وهذا بمكان من القوّة وإن كان ما ذكر في التعليل عليلا ، والوجه في ذلك أنّ هذا الإخبار لا يفيد علما ، ولا يستفاد من الروايات المشار إليها أزيد من قبول إخبار ذي اليد ، لو تحقّق حال وجود المورد وبقائه في يده ، فيبقى الأصل الكلّي المستفاد عن الروايات سليما عن المعارض ، فصار نتيجة الكلام : أنّ النجاسة تثبت بالعلم أو بإخبار ذي اليد بها ، فثبوت الطهارة بهما ـ مع أنّه لا حاجة له إلى شي‌ء منهما ـ بطريق أولى.

وخامسها : إنّ الظنّ بالنجاسة لا عبرة به ولو كان قويّا ، وأنّه لا فرق فيه بين ما لو استند إلى العادة والغلبة وغيرها ، وهذا يستفاد عن إطلاق جملة كثيرة من الروايات ، مضافا إلى ظهور جملة اخرى فيه بالخصوص ، كما يشهد به التأمّل في صحيحة عبد الله بن سنان (٥) الواردة في إعارة الثوب للذمّي ، فإنّ مباشرة الذمّي له ممّا يوجب بحسب العادة الظنّ الغالب بالملاقاة المنجّسة ، وعلى قياسها الأخبار الاخر الواردة في ثياب المجوس ونحوها ، لكن في رواية طين المطر ما ربّما يوهم اعتبار الظنّ الحاصل من الغلبة حيث يقول عليه‌السلام : « فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله » (٦) ، فإنّ الغالب عند مضيّ هذا المقدار من الزمان تحقّق سبب النجاسة.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥ : ٢٥٢.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٥٦.

(٣) مشارق الشموس : ٢٨٥.

(٤) حكى عنهم في فقه المعالم ١ : ٣٨٣.

(٥) تقدّم في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٤.

(٦) كما تقدّم في الصفحة ٤٦٢ الرقم ٣.


غير أنّه يمكن دفعه بظهور كون ذلك تقدير الماء يوجب العلم بتحقّق السبب ، بقرينة قوله عليه‌السلام ـ عقيب تلك ـ : « فإن كان الطريق نظيفا لم تغسله » فإنّ ذلك يوجب تقييد الحدّ المذكور بعدم نظافة الطريق ، أي عدم خلوّه عن النجاسة العينيّة ، ولا ريب أنّ مضيّ هذا المقدار من الزمان مع عدم نظافة الطريق ممّا يورث العلم العادي بتحقّق السبب ، سيّما إذا كثر فيه المستطرقون.

نعم ، هنا روايات اخر تعارض بظاهرها ـ بل صراحة بعضها ـ الروايات المتقدّمة في مفادها.

منها : خبر عبد الله بن الحجّاج ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّي أدخل سوق المسلمين ـ أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام ـ فاشتري منهم الفراء للتجارة فأقول لصاحبها : أليس هي ذكيّة؟ فيقول : بلى ، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال : لا ، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول : قد شرط لي الّذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة ، قلت : وما أفسد ذلك ، قال : « استحلال أهل العراق الميتة ، وأنّ دباغ الجلد الميتة ذكاته ، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلّا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (١) وجه الدلالة : أنّه عليه‌السلام علّل في المنع المذكور بقضيّة استحلال أهل العراق الميتة ، وهي كما ترى قضيّة غالبيّة ، فلو لا الغلبة معتبرة في نظر الشارع لما صلحت جهة للمنع.

ومنها : رواية أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في الفراء؟ فقال : كان علي بن الحسين صلوات الله عليهما رجلا صردا (٢) لا تدفئه فراء الحجاز ، لأنّ دباغها بالقرظ (٣) ، وكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلهم بالفرو فيلبسه ، فإذا حضرت الصلاة ألقاه ، وألقى القميص الّذي يليه ، فكان يسأل عن ذلك؟ فيقول : إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة ويزعمون أنّ دباغه ذكاته » (٤).

ومنها : حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : يكره الصلاة في الفراء إلّا ما صنع

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٥٠٣ ب ٦١ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ الكافي ٣ : ٣٩٨ / ٥.

(٢) الصّرد بفتح الصاد وكسر الراء المهملة من يجد البرد سريعا ، ومنه رجل مصراد لمن يشتدّ عليه البرد (مجمع البحرين).

(٣) القرظ بالتحريك ورق السّلم يدبّغ به الأديم (مجمع البحرين).

(٤) الوسائل ٤ : ٤٦٢ ب ٦١ من أبواب لباس المصلّي ح ٢ و ١ ـ الكافي ٣ : ٣٧٩ / ٢.


في أرض الحجاز أو ما علمت منه ذكاة » (١).

ومنها : صحيحة عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : سألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق للبس ، ولا يدري لمن كان هل يصلح الصلاة فيه؟ قال : « إن كان اشتراه من مسلم فليصلّ فيه ، وإن اشتراه من نصراني فلا يصلّي فيه حتّى يغسله » (٢) وعن الحميري أنّه رواه أيضا في قرب الإسناد (٣) عن عبد الله بن الحسن ، عن جدّه ، عن عليّ بن جعفر.

وحكى عن ابن إدريس أنّه رواه في آخر السرائر نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمّد ابن أبي نصر ، قال : سألته وذكر مثله ، إلّا أنّه قال في آخره : « فلا يلبسه ولا يصلّي فيه » (٤).

ومنها : رواية عبد الله بن سنان قال : سئل أبي عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يعير ثوبه لمن يعلم أنّه يأكل الجريّ ويشرب الخمر ، فيردّه أيصلّي فيه قبل أن يغسله؟ قال : لا يصلّي فيه حتّى يغسله » (٥).

ومنها : صحيحة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه‌السلام أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في فرو اليماني ، وفيما صنع في أرض الإسلام ، قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : إذا كان الغالب عليهما المسلمين فلا بأس » (٦).

والجواب : أمّا عن أوّل الأخبار : بمنع المعارضة ، لما تقدّم ، إذ اعتبار الغلبة هنا ليس من جهة أنّ النجاسة تثبت بها في ظاهر الشرع ، بل لمراعاة ما يرجع إلى البيع صونا له عن الغرر ، أو احتياطا عن إيقاع البيع في غير محلّه ، نظرا إلى أنّه لا يصحّ في الأعيان النجسة الّتي منها الميتة وأجزائها ، كيف ولو لا ذلك ـ بناء على ثبوت النجاسة بالغلبة ـ كان الواجب المنع عن البيع رأسا ، بل وإفساد اشتراء السائل أيضا كما لا يخفى ، فهذه الرواية عند التحقيق توافق روايات الباب ، وفيها دلالة أيضا على اعتبار قول المالك.

وكذا الجواب عن الخبر الثاني : فإنّ فعل المعصوم وإن كان حجّة ، إلّا أنّه هنا مجمل ،

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٤٦٢ ب ٦١ من أبواب لباس المصلّي ح ٢ و ١ ـ الكافي ٣ : ٣٧٩ / ٤.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٩٠ ب ٥٠ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٦٣ / ٧٦٦.

(٣) قرب الأسناد : ٩٦.

(٤) السرائر ٣ : ٥٣.

(٥) الوسائل ٣ : ٤٦٨ ب ٣٨ من أبواب النجاسات ح ١ ـ الكافي ٣ : ٤٠٥ / ٥.

(٦) الوسائل ٤ : ٤٥٦ ب ٥٥ من أبواب لباس المصلّي ح ٢ ـ التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٣٢.


إذ جهة إلقائه عليه‌السلام الفرو عند حضور الصلاة ملتبسة ، حيث لم يظهر كونه لأجل النجاسة الّتي لا يستند ثبوتها هنا إلّا إلى الغلبة ، لجواز كونه احتياطا منه فإنّه حسن خصوصا في حقّهم عليهم‌السلام ، بل هذا هو المتعيّن بملاحظة أنّه لو كان عنده عليه‌السلام ممّا ثبت فيه النجاسة والميتة لم يكن يباشره أصلا ولا يلبسه رأسا ، إمّا لأنّ الميتة ممّا لا ينتفع بها أصلا ، أو أنّ شأنه عليه‌السلام يأبى عن مباشرة النجاسات عن علم وعمد على فرض إباحة الانتفاع بالميتة.

وكذا عن الخبر الثالث : لقوّة احتمال كون المراد بالكراهة معناها المصطلح عليها لا الحرمة ، وإن قيل بشيوع استعمال الكراهة في الروايات في الحرمة وكراهة الصلاة فيما ظنّ بنجاسته واستحباب التجنّب عنه ممّا لا إشكال فيه ، كما يومئ إليه أيضا استثناء ما صنع في أرض الحجاز ، فإنّه ما لا يظنّ معه بالنجاسة والميتة ، وحاصله يرجع إلى أنّ اعتبار الظنّ الحاصل بالغلبة أو غيرها لإحراز موضوع الكراهة لا الحرمة.

وعلى هذا القياس يجاب عن البواقي. فالنهي والأمر الواردين فيها يحملان على الكراهة والاستحباب ، كما أنّ الغلبة الّتي اعتبرها الإمام في الأخير منها يحمل على كونه من جهة إحراز ما يرتفع معه الكراهة ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فهذه الأخبار غير صالحة لمعارضة ما سبق لقلّتها ، وعدم عامل بها ظاهرا ، أو شذوذ العامل على فرض ثبوته ، مع ما عرفت من كون ما سبق بالغ حدّ التواتر بل متجاوز عنه ، فلا يلتفت إلى غيره ، أو يلزم التأويل فيه تقديما للسند على الدلالة كما قرّر في محلّه ، وهو الطريقة المستمرة بين الأعلام.

المطلب الثاني : قد عرفت أنّ مفاد الأخبار المذكورة اعتبار العلم في النجاسة وعدم كفاية الظنّ فيها وأنّه لا يقوم مقام العلم ، وهو المحكيّ عن ابن البرّاج (١) من قدماء أصحابنا ، بل لم نعثر في ذلك على نقل مخالفة عدا ما عن الحلبي (٢) من أنّ الظنّ بها مطلقا يقوم مقام العلم ، وقد يسند إلى العلّامة في التذكرة (٣) التفصيل بين ما كان عن سبب كإخبار العدل فهو كاليقين وما لم يكن كذلك فلا يكتفى به ، وقد يقال : إنّه في جملة من كتبه يكتفي به إذا كان من شهادة العدلين دون غيره والأولى إيراد كلمات العلّامة رحمه‌الله في المطلب الآتي إذ لا مخالفة له في هذا المقام ، حيث إنّه لا يكتفى بمطلق الظنّ.

__________________

(١) جواهر الفقه : ٩.

(٢) حكى عنه في فقه المعالم ١ : ٣٨١.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٩٠.


وعن الحلبي الاحتجاج على ما صار إليه بأنّ : « الشرعيّات كلّها ظنّية ، وأنّ العمل بالمرجوح مع قيام الراجح باطل » (١) ، وقد يحتجّ له أيضا : « بأنّ الاشتغال بالطهارة بالماء الطاهر والصلاة بالثوب الطاهر ثابت يقينا ، وهو ممّا يقتضي اليقين بالبراءة جزما ، ولا يحصل اليقين إلّا بالطاهر الواقعي لمكان وضع الألفاظ للمعاني الواقعيّة ، وقضيّة ذلك تعيّن الاجتناب عمّا ظنّ بنجاسته ، لأنّ مقدّمة الواجب المطلق ممّا لا بدّ منها ». (٢)

والجواب عن الأوّل : بمنع ابتناء الشرعيّات مطلقة على الظنّ ، لو اريد بها ما يعمّ الموضوعات الخارجيّة كما هو المتنازع فيه وبدونه لا يجدي ، ولو سلّم فهو لم يثبت إلّا من باب القاعدة القابلة للتخصيص ، والروايات المتقدّمة تنهض مخصّصة لها ، هذا مضافا إلى ما في حسنة الحلبي المتقدّمة (٣) من الظنّ المأمور معه بالنضح الّذي لا يكفي في رفع النجاسة ، ومثله ما في رواية زرارة المنهيّ معه عن إعادة الصلاة ، فإنّ « الظنّ » إن لم يكن ظاهرا في معناه المعهود فلا أقلّ من كونه شاملا له ، ومثله الشكّ الوارد في رواية ابن الحجّاج (٤) بقرينة تقدّم الحسبان في كلام السائل ، مع شيوع إطلاق هذا اللفظ في الروايات على مطلق الاحتمال ، وعلى هذا القياس لفظ « الرأي » الوارد في رواية عبد الله بن سنان (٥) المحكوم معه بالنضح ، مضافا إلى سائر الروايات الشاملة بإطلاقها لصورة الظنّ أو الظاهرة فيها ، ولا ريب أنّ ما ذكر في الاحتجاج لا يصلح معارضا لشي‌ء من ذلك.

وعن الثاني : بأنّ العقل ممّا لا مدخل له في التعبّديّات ، والعبرة في الراجحيّة والمرجوحيّة بالقياس إليها إنّما هو بما اعتبره الشارع ، ولا اعتداد فيها بالترجيح العقلي ، فحيث إنّ الشارع حكم بالطهارة ، ما لم يحصل العلم بنقيضها كشف عن كون الراجح في نظره مع عدم العلم هو الطهارة ، فنحن أنّما نأخذ بها لا بعنوان أنّه مرجوح في نظر العقل لئلّا يكون جائزا ، بل بعنوان أنّه راجح في نظر الشارع ، بل المتّجه حينئذ المنع عن قضاء العقل بالمرجوحيّة بعد ما لاحظ ترجيح الشارع للطهارة.

وبالجملة : المرجوحيّة لو اريد بها ما هو بحسب اعتقاد المكلّف فنمنع حكم العقل

__________________

(١) حكى عنه في المعالم ١ : ٣٨١.

(٢) مشارق الشموس : ٢٨٣.

(٣) تقدّمت في الصفحة ٤٦٣ الرقم ١.

(٤) تقدّمت في الصفحة ٤٦٤ الرقم ١.

(٥) تقدّمت في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٣.


بعدم جواز الأخذ به ، ولو اريد ما هو بحسب الشرع فنمنع أصل المرجوحيّة بعد نهوض الأدلّة القطعيّة برجحانه.

وعن الثالث : بمنع عدم تيقّن الامتثال بالطهارة المفروضة بعد تنصيص الشارع بالاجتزاء به ، ولا ينافيه كون الألفاظ للمعاني الواقعيّة ، فإنّ الواقع قد يحرز بما نصّ الشارع بكونه محرزا له ، والأخبار المذكورة مع الإجماعات المقطوعة كافية في ذلك ، غاية الأمر نهوض تلك الأدلّة حاكمة على الأدلّة المثبتة لاشتراط الطهارة في امتثال التكاليف إلى الواقع ، بكشفها عن كون الطهارة المأخوذة شرطا عبارة عمّا لم يعلم معه بالنجاسة ، والحاصل : التشبّث بأمثال هذه الامور اجتهاد في مقابله النصّ ، وهل هو من باب الردّ على قول السيّد لو قال لعبده : « ائت بالشي‌ء الفلاني فإنّي أجتزي به ».؟

ومن المحقّقين من أجاب عنه ـ كالخوانساري ـ : « بأنّا لم نجد في الآيات ولا في الروايات ـ على ما يحضرنا الآن ـ ما يكون قائلا بأن تطهّروا بالماء الطاهر ، وصلّوا في الثوب الطاهر مثلا ، بالمعنى المراد في الاحتجاج ، وقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (١) فظاهره مخصوص بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإثبات عمومه مشكل ، مع إمكان المناقشة في ظهور كون الطهارة بالمعنى المراد بناء على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، بل الأوامر فيها إنّما هو بالطهارة بالماء مطلقا ، وكذا الأوامر بالصلاة أيضا مطلقة من دون تخصيص بالثياب الطاهرة ، وغاية ما يدلّ فيها على التقييد هو مثل ما وقع أنّ الماء إذا تغيّر مثلا فلا تتوضّأ منه ، أو أنّه إذا وقع قذر في الماء فلا تتوضّأ أو أنّه إذا وصل الثوب البول مثلا أو خصوص شي‌ء آخر من النجاسات إلى الثوب أو البدن فاغسله ، أو اغسل البول مثلا عن الثوب أو البدن ، أو مثل أنّ الشي‌ء الفلاني إذا كان طاهرا فلا بأس بالصلاة فيه ، الدالّ بمفهومه على أنّه إذا لم يكن طاهرا فيتحقّق البأس فيه وهكذا » (٢) انتهى.

فهذا كما ترى بمكان من الضعف لا يكاد يخفى على ذي بصيرة ، بل هو في الحقيقة أوضح ضعفا من أصل الاحتجاج ، فالتفوّه به لا يليق بالمحقّقين.

المطلب الثالث : اختلفوا في قيام الأخبار بالنجاسة مقام العلم بها إذا كان المخبر عدلا وعدمه على أقوال ، فعن العلامة في التذكرة (٣) إن استند الظنّ إلى سبب شرعي

__________________

(١) المدّثر : ٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٨٣.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٩٠.


كقول العدل فهو كالمتيقّن وإلّا فلا ، وقال في المنتهى : « لو أخبر عدل بنجاسة الإناء لم يجب القبول أمّا لو شهد عدلان فالأولى القبول » (١) وصرّح في المختلف (٢) بذلك مع شهادة الشاهدين ، ونسب اختياره إلى ابن إدريس (٣) أيضا ، وعن المحقّق في المعتبر (٤) أنّه جزم بعدم القبول في العدل الواحد وجعل القبول في العدلين أظهر ، وعن المعالم : « أنّ ما فصّله في المنتهى هو المشهور بين المتأخّرين » (٥) ، وعنه أيضا أنّه نقل عن بعضهم أنّه قيّد القبول في خبر العدلين بذكر السبب ، قائلا : « لاختلاف العلماء في المقتضي للتنجيس » (٦) وفي المختلف عن ابن البرّاج : « عدم وجوب القبول والحكم بالطهارة استنادا إلى أنّ الطهارة معلومة بالأصل ، وشهادة الشاهدين تثمر الظنّ ، فلا يترك لأجله المعلوم » (٧).

وأجاب عنه في المختلف : « بأنّ الحكم بشهادة الشاهدين معلوم ، ولهذا لو كان الماء مبيعا لردّه المشتري ، وإنّما يحصل ذلك بعد الحكم بالشهادة » (٨) واحتجّ هو على ما اختاره من قبول شهادة الشاهدين : « بأنّ الحكم بشهادتهما معلوم في الشرع فيجب العمل بها هنا » (٩) ولا يخفى ما فيه ، إذ لو أراد بما ذكره من معلوميّة الحكم بشهادة الشاهدين ما هو كذلك على الإطلاق حتّى في خصوص المقام ، فهو في حيّز المنع ، لعدم قيام ما يقضي من الشرع بذلك عموما ، وما ورد هو فيه من الموارد لا يتناول المقام جزما ، ولو أراد بكونه كذلك في الجملة فهو غير مجد.

وأمّا الاستشهاد : بأنّ المشتري إذا ادّعى عيب النجاسة في المبيع وشهد عدلان به لوجب القبول.

ففيه أوّلا : أنّ القبول في مقام الحكم للحاكم غير القبول على الإطلاق ، ومحلّ البحث من الثاني.

وثانيا : أنّ الفسخ وإن كان يتوقّف على ثبوت العيب ، وهو يستند إلى القضاء بموجب الشهادة ، لكن عنوان العيب لا ينحصر في النجاسة وتحقّقها ، بل الاتّهام بالنجاسة وكون الشي‌ء معرضا للاحتياط الراجح الّذي لا يكاد يتركه المتّقون ممّا

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٦.

(٢ و ٧) مختلف الشيعة ١ : ٢٥٠.

(٣) السرائر ١ : ٨٦.

(٤) المعتبر : ١٢.

(٥) فقه المعالم ١ : ٣٨٢.

(٦) فقه المعالم ١ : ٣٨٣ نقلا بالمعنى.

(٧ ـ ٩) مختلف الشيعة ١ : ٢٥٠ و ٢٥١ و ٢٥٠.


يصلح كونه عيبا في نظر العرف.

والإنصاف : أنّ مجرّد هذه الاستظهارات لا يصلح حاكما على الأخبار المتقدّمة الدالّة على إناطة النجاسة بالعلم بها ، بل لا بدّ في ذلك من وجود نصّ معتبر صريح الدلالة ، ولم نقف إلى الآن بعد ما تتبّعنا بقدر الوسع على ما يقضي بذلك من الأدلّة الشرعيّة ، وإن قال السيّد في مناهله : « وسمعت من الوالد دام ظلّه العالي وجود رواية دالّة على حجّيّة شهادة العدلين مطلقا » (١).

نعم يمكن الاستناد في ذلك إلى ما في الاستبصار عن عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى ، عن يونس ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن البيّنة إذا اقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال : فقال : « خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا بها بظاهر الحال ، الولايات ، والمناكح والمواريث ، والذبائح ، والشهادات ، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه ». (٢)

ويمكن أن يكون المراد من الرواية الّتي حكى وجودها السيّد عن أبيه قدس‌سرهما هو هذه الرواية ، وفيه : أنّها لو خلّي وطبعها وإن كانت عامّة ، غير أنّ سياقها سؤالا وجوابا يقضي بعدم كون المعصوم عليه‌السلام بصدد بيان هذا الحكم العامّ ، وإنّما هو في مقام إعطاء حكم آخر ، وهو أنّ الشهادات الّتي يجب الأخذ بها في مواردها إنّما يؤخذ بها بلا تفتيش عن البواطن ، كما تنبّه عليه الشيخ في الاستبصار قائلا ـ في تفسيرها : « أنّه لا يجب على الحاكم التفتيش عن بواطن الناس ، وإنّما يجوز له أن يقبل شهادتهم إذا كانوا على ظاهر الإسلام والأمانة ، وأنّ لا يعرفهم بما يقدح فيهم ويوجب تفتيشهم » (٣) ، انتهى كلامه أعلى الله مقامه.

فقضيّة كونها ممّا يجب قبولها بظاهر الحال بالنسبة إلى جميع المقامات ، أو بالنسبة إلى موارد مخصوصة غير متّضحة الدلالة ، فالتشبّث بمثل ذلك في إخراج الأخبار الكثيرة

__________________

(١) المناهل : ١٦٢.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٣٩٢ ب ٤١ من أبواب الشهادات ح ٣ ـ الفقيه ٣ : ٩ / ٢٩.

(٣) الاستبصار ٣ : ١٣ ذيل ح ٣.


المتواترة عن ظواهرها في غاية الإشكال ، وأشكل منه مخالفة من تقدّم من الأساطين ، بل الشهرة على فرض تحقّقها كما حكيت ، فالاحتياط في مثله ممّا لا ينبغي تركه جدّا.

نعم وجوب قبول قول المالك في نجاسة إنائه ، أو كلّ ما يتعلّق به ، ممّا لا ينبغي التأمّل فيه كما عرفت ، آخذا بموجب جملة من الروايات المتقدّمة ، مضافة إلى ما حكاه في الحدائق (١) عن الحميري في قرب الأسناد عن عبد الله بن بكير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلّى فيه وهو لا يصلّي فيه قال : « لا يعلمه » قلت : فإن أعلمه ، قال : « يعيد » (٢) وفي معناه أخبار اخر.

المطلب الرابع : لا أعرف خلافا في قيام الاستصحاب بالقياس إلى النجاسة مقام العلم بها ، فتحرز به النجاسة حيثما كان جاريا ، كما تحرز بالعلم وبغيره ممّا يقوم مقامه ، بل هو المعلوم ضرورة من سيرة العلماء ، ويدلّ عليه عموم الأخبار المستفيضة الواردة في باب الاستصحاب المشتملة على أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، بناء على أنّ المراد بعدم نقض اليقين عدم نقض المتيقّن ، أي رفع اليد عمّا كان متيقّنا إلى أن يحصل اليقين بارتفاعه ، وهذه الأخبار وإن كان أعمّ من أخبار الباب المتقدّمة موردا ومفهوما ، بل أعمّ من جميع الأدلّة ، غير أنّها كأدلّة العسر والحرج في مواردها واردة بحكم فهم العرف على سائر الأدلّة ، وحاكمة عليها في اقتضاء كون الواقع ممّا يحرز بالعلم ، أو أنّ العلم داخل في موضوع الحكم ، فتكون مفادها أنّ الاستصحاب حيثما يكون جاريا يقوم مقام العلم في كلّ ما هو شأنه ، فإن كان العلم في موارد اعتباره معتبرا من باب الطريقيّة إلى الواقع فيقوم مقامه الاستصحاب ، ومرجعه بعد الجمع بين مفادي الأدلّة الحاكمة والمحكوم عليها إلى أنّ الواقع ما يحرز بأحد الأمرين : من العلم ، أو الحالة المتعقّبة له ممّا لم يبلغ رتبة العلم بالخلاف.

وإن كان العلم في موارد اعتباره معتبرا من باب الموضوعيّة ـ على معنى كون العلم داخلا في موضوع الحكم جزءا منه ـ فيقوم مقامه الاستصحاب ، ومرجعه ـ بعد الجمع ـ إلى أنّ موضوع الحكم أحد الأمرين : من العلم ، أو الحالة المتعقّبة له الغير البالغة حدّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ١٣٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٨٨ ب ٤٩ من أبواب النجاسات ح ٣ ـ قرب الأسناد : ٧٩.


العلم بخلاف المعلوم الأوّل ، وإنّما يستفاد هذا التعميم من إطلاق قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » (١) بناء على ما تقدّم من أنّ المراد منع رفع اليد عمّا كان متيقّنا ، وهو كما ترى يشمل ما لو كان اليقين المعتبر معه لمجرّد الطريقيّة ، أو من جهة الموضوعيّة.

ومن جملة ما اعتبر فيه العلم واليقين شرعا من باب الموضوعيّة إنّما هو النجاسة المنوطة بالعلم بتحقّق سببها ، على حسب ما هو موجب الأخبار المتقدّمة ، فإنّ المتأمّل فيها وفي مفادها يعرف أنّ الشارع جعل العلم بالنسبة إلى حكم النجاسة جزءا للموضوع ، على معنى أنّ النجاسة وأحكامها لا تثبت إلّا فيما علم بتحقّق سبب النجاسة فيه.

وممّا يستفاد منه ذلك صراحة صحيحة زرارة (٢) المتقدّمة المشتملة بقوله عليه‌السلام : « تغسله ولا تعيد الصلاة » بعد قول السائل : « فنظرت فلم أر شيئا ثمّ صلّيت فرأيته فيه » فإنّ موضوع النجاسة لو كان هو الواقع من غير مدخليّة للعلم فيه إلّا من باب الطريقيّة ، كان اللازم إبطال الصلاة والحكم بإعادتها ، ضرورة وقوعها في مفروض السؤال مع النجاسة الواقعيّة ، ومن أحكام النجاسة بطلان الصلاة الواقعة معها وفي معناها الأخبار المستفيضة ، بل المتواترة الواردة في اشتمال المصلّي على النجاسة ، المفصّلة بين سبق العلم بها على الصلاة وعدمه ، فموضوع النجاسة ما علم فيه بتحقّق السبب ، أو ما قارنه الحالة المتعقّبة للعلم بتحقّقه إلى أن تصل حدّ العلم بالخلاف.

ومن هنا يعرف أنّ العلم بعد ما كان داخلا في موضوع النجاسة لا يمكن دخوله في موضوع الطهارة ، وإلّا لزم ارتفاع النقيضين ، أو ضدّين لا ثالث لهما في صورة عدم العلم بشي‌ء منهما كما لا يخفى ، ولذا وردت الأخبار المتواترة حسبما عرفت بين صريحة وظاهرة في الحكم بالطهارة ما لم يعلم النجاسة ، فموضوع الطهارة حينئذ ما لم يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة.

ولا ريب أنّ هذا الموضوع ممّا لا يجتمع في الوجود الخارجي مع ما هو موضوع النجاسة ، وهو ما علم فيه بتحقّق سبب النجاسة ، لاشتمال كلّ على قيد معاند لما قيّد به الآخر ، فحيثما انتفى العلم وما يقوم مقامه حصل موضوع الطهارة ، وحيثما حصل العلم أو ما يقوم مقامه انتفى موضوع الطهارة ووجد موضوع النجاسة.

__________________

(١ و ٢) تقدّم في الصفحة ٤٦٤ الرقم ٢.


وقضيّة ذلك أن لا يعارض العلم ولا ما يقوم مقامه في اقتضاء النجاسة شي‌ء من الأمارات ، حتّى الاستصحاب في مقابلة استصحاب النجاسة ، واليد في مقابلة البيّنة القائمة بها ـ إن قلنا بالبيّنة فيها ـ وبالعكس ، فإنّ استصحاب الطهارة في موارده قائم مقام العلم بها ، والعلم بالقياس إلى الطهارة لا يعتبر إلّا طريقا إليها ، وكما أنّ ثبوت أصل الحكم تابع لبقاء موضوعه ، ولا يعقل له البقاء مع ارتفاع الموضوع ، فكذلك الّذي يكون طريقا إليه فإنّه يصلح طريقا إليه ما دام موضوعه باقيا ، وحيث بنينا على أنّ موضوع الطهارة [هو] (١) ما لم يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة ، وأنّ العلم المأخوذ في ذلك أعمّ من العلم الحقيقي وما يقوم مقامه ، وأنّ ممّا يقوم مقامه إنّما هو الحالة المتعقّبة له إلى أن يبلغ حدّ العلم بخلاف المعلوم السابق ، يتبيّن أنّ استصحاب الطهارة في موضع جريان استصحاب النجاسة سواء كانا في محلّ واحد أو في محلّين ممّا لا معنى له أصلا ، ضرورة أنّ استصحاب النجاسة لقيامه مقام العلم رافع لموضوع الطهارة ـ وهو ما لم يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة ـ ومعه لا يعقل كون استصحاب الطهارة طريقا إليها ، ضرورة أنّه مع فرض استصحاب النجاسة ، يصدق على المورد أنّه ما علم فيه بتحقّق سبب النجاسة ، ولا يصدق معه ما هو موضوع الطهارة ، لما عرفت من المنافاة بينهما وعدم إمكان اجتماعهما في محلّ واحد.

فما يوجد في كلام العلماء الأعلام في مواضع استصحاب النجاسة من معارضته باستصحاب الطهارة في غاية الضعف ، وإنّما المعارضة بين الاستصحابين أو مطلق الأمارتين يتأتّى فيما لم يكن شي‌ء من المتعارضين داخلا في موضوع الحكم ، على معنى كونهما في غير موضع التعارض من مواردهما معتبرين لمجرّد الطريقيّة.

فتحصّل من ذلك أصل كلّي وهو : أنّ الامارات القائمة بالنجاسة لا يعارضها الأمارات القائمة بالطهارة ما لم يكن دليل اعتبارها حاكما على دليل اعتبار أمارة النجاسة ، كما في قول ذي اليد والبيّنة ـ إن قلنا بها ـ الواردين على استصحاب النجاسة ، فحينئذ لو قام البيّنة على نجاسة شي‌ء فلا يعارضها إخبار ذي اليد بالطهارة لانتفاء موضوعه ، كما أنّه لو أخبر ذو اليد بنجاسة شي‌ء لا يعارضه البيّنة لو قامت بالطهارة لعين ما ذكر.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.


ولو أنّ شريكين في إناء أخبر أحدهما بنجاسته والآخر بطهارته ، قبل الأوّل لاستلزامه انتفاء موضوع الطهارة ، فيكون الثاني قد صادف غير موضوع الطهارة ، فلا محلّ لقبوله.

ومن هنا يعلم حقيقة الحال فيما لو تعارضت البيّنتان في إناء واحد ، فشهدت إحداهما بعروض النجاسة له في وقت معيّن ، وشهدت الاخرى بعدم عروضها له في ذلك الوقت ، فإنّ للأصحاب في ذلك على ما ضبطه بعضهم (١) أقوال أربع :

أحدها : ما عن العلّامة في التذكرة (٢) والقواعد (٣) من إلحاقه حينئذ بالمشتبه بالنجس الّذي يجب الاجتناب عنه كالإناءين المشتبهين ، وعن فخر المحقّقين في شرح القواعد (٤) أنّه جعله أولى ، وعن ثاني الشهيدين (٥) في بعض فوائده أنّه قوّاه.

وثانيها : ترجيح بيّنه الطهارة لاعتضادها بالأصل ، حكاه فخر المحقّقين (٦) على ما نقل عنه عن بعض الأصحاب.

وثالثها : الحكم بتساقط البيّنتين والرجوع إلى الأصل ، وعن الشهيد أنّه ذكره في البيان (٧) وقوّاه ، وعن فخر المحقّقين (٨) أنّه نسبه مع الّذي قبله إلى الشيخ.

ورابعها : العمل ببيّنة النجاسة لأنّها ناقلة عن حكم الأصل ، وبيّنة الطهارة مقرّرة ، والناقل أولى من المقرّر ، ولموافقتها الاحتياط ، ولأنّها في معنى الإثبات والطهارة في معنى النفي ، وهو منسوب إلى ابن إدريس (٩) وعن صاحب المعالم (١٠) أنّه مال إليه بعض المتأخّرين ، ولا ريب أنّ هذا القول هو المتعيّن لا للوجوه المذكورة ، بل لما قرّرناه من الضابطة ، ولا يلزم منه تكذيب بيّنة الطهارة ولا طرحها ، لورودها في غير موضوع الطهارة فلا محلّ لها حتّى يعمل بها ، بعد ملاحظة دخول المفروض في عنوان ما علم فيه النجاسة علما شرعيّا.

كما يعلم من هنا أيضا حكم ما لو تعارضا (١١) البيّنتان في إناءين ، بأن يشهد إحداهما بأنّ النجس هو هذا بعينه ، والاخرى بأنّه الآخر بعينه ، فإنّه على القاعدة

__________________

(١) راجع فقه المعالم ١ : ٣٨٤.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٤.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٩ ـ ١٩٠.

(٤ و ٦ و ٨) إيضاح الفوائد ١ : ٢٤.

(٥) القواعد للشهيد الثاني ، مطبوع مع الذكرى : ٣٩.

(٧) البيان : ١٠٣.

(٩) السرائر ١ : ٨٨.

(١٠) فقه المعالم ١ : ٣٨٥.

(١١) كذا في الأصل.


المتقدّمة يدخل في عنوان المشتبه ، كما عن المحقّق والعلّامة في المعتبر (١) والتحرير (٢) والشهيد في الذكرى (٣) والشيخ عليّ وثاني الشهيدين في شرح القواعد (٤) وبعض فوائده (٥) فإنّ البيّنتين متّفقتان في نجاسة القدر المشترك المردّد ، فيكون كالمعلوم بالإجمال الّذي يوجب التحرّز عن الجميع من باب المقدّمة.

فلا وجه لما يسند إلى الشيخ في الخلاف (٦) من سقوط الشهادتين وبقاء الماء على أصل الطهارة ، ولا لما اختاره العلّامة في المختلف (٧) من التفصيل بين ما أمكن العمل بشهادتهما معا فيجب ، وما لو تنافيا فيطرح الجميع ويحكم بأصل الطهارة.

ويظهر ذلك عن محكيّ الشيخ في المبسوط قائلا : « لو قلنا : إن أمكن الجمع بينهما قبلتا ونجسا ، كان قويّا » (٨) قال العلّامة في المنتهى ـ بعد ما نقل العبارة المذكورة عن المبسوط ولم يتعرّض لما لا يمكن فيه الجمع ـ : « والوجه فيه وجوب الاحتراز عنهما والحكم بنجاسة أحدهما لا بعينه ، والقول بسقوط شهادتهما فيما يتعذّر الجمع فيه لا يخلو من قوّة وهو قول الحنابلة » (٩) انتهى.

ثمّ نحن لا نعقل هذا التفصيل في الصورة المفروضة ، ولعلّه مفروض فيما لو قامت الشهادتان في الإنائين مع تعرّض كلّ لنفي ما أثبته الاخرى ، أو سكوتها عن النفي والاقتصار على مجرّد الإثبات ، فيكون مرادهم ممّا لا يمكن الجمع بينهما هو الفرض الأوّل ، حيث إنّ الأخذ بكلّ من الشهادتين في عقدها الإيجابي يوجب طرح الاخرى في العقد السلبي ، والوجه عندنا وجوب الاجتناب عن كلّ من الإنائين في كلّ من الفرضين ، أمّا الأوّل : فلما عرفت من دخوله في عنوان المشتبه ، نظرا إلى اتّفاقهما في أنّ هنا نجسا واختلافهما في التعيين ، فيصدقان بالقياس إلى نجاسة القدر المشترك المردّد من دون أن يلزم منه طرح إحداهما في الشهادة بالطهارة ، لأنّ العمل بموجب النجاسة في كليهما

__________________

(١) المعتبر : ٢٦.

(٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٦.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٥.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١٥٥.

(٥) القواعد ـ الشهيد الثاني ـ مطبوع مع الذكرى : ٣٩.

(٦) الخلاف ١ : ٢٠١ المسألة ١٦٢.

(٧) مختلف الشيعة ١ : ٢٥١ ـ ٢٥٢.

(٨) المبسوط ١ : ٨ مع اختلاف يسير في العبارة.

(٩) منتهى المطلب ١ : ٥٥.


ينشأ عن لزوم إدراك ما يحكم عليه بالنجاسة شرعا ، المتوقّف على التحرّز عن الجميع.

وأمّا الثاني : فلكون كلّ أمارة على نجاسة محلّها بلا معارض فيجب الأخذ بهما معا.

وعن ابن إدريس ـ في المختلف ـ : « أنّه فصّل بين ما أمكن الجمع بينهما وغيره ، فحكم بنجاسة الإنائين في الأوّل واضطراب في الثاني ، فأدخله تارة تحت عموم وجوب القرعة لكلّ أمر مشكل ، وأخرجه اخرى عنه مستبعدا لاستعمال القرعة في الأواني والثياب ، ولا أولويّة للعمل بإحدى الشهادتين دون الاخرى ، فيطرح الجميع لأنّه ماء طاهر في الأصل فحصل الشكّ في النجاسة فيبني على اليقين ؛ ثمّ أفتى بعد ذلك كلّه بنجاسة الإنائين معا ، وقبول الشهود الأربع لأنّ ظاهر الشرع يقتضي صحّة شهادتهم ، لأنّ كلّ شاهدين قد شهدا بإثبات ما نفاه الآخر » (١) ولا يخفى ما في أكثر هذه الكلمات من الاضطراب ، وعدم موافقة قانون الاجتهاد ، والأقرب ما ذكرناه بما وجّهناه.

المطلب الخامس : معنى قيام الأمارة كائنة ما كانت مقام العلم كونها كالعلم بها في ترتّب جميع أحكام النجاسة ، الّتي منها تنجّس الملاقي ووجوب تطهيره ، ولا يفترق الحال في ذلك بين استصحاب وغيره ، ولا معنى لاستصحاب طهارة الملاقي حينئذ ، لما عرفت من أنّ ترتّب الحكم على الأمارة فرع على بقاء موضوعها ، وورودها محلّا فارغا عن أمارة رافعة لموضوعها.

وبجميع ما تقرّر في ضمن المطالب المذكورة يعرف أحكام الفروع المتقدّم إليها الإشارة ، فإنّ مادّة الحمّام لا يشترط فيها العلم بعدم النجاسة ، بل يكفي في ترتّب أحكام الحمّام عليها عدم العلم بتحقّق سبب النجاسة فيها ما لم تكن مسبوقة بالعلم بها ، وإلّا فالاستصحاب يقوم مقام العلم بها فيترتّب عليه أحكام النجاسة أيضا بأجمعها ، فلا تفيد حينئذ تطهيرا لماء الحوض الصغير ، ولا تعصمه أيضا عن الانفعال بالغير ، بل ربّما توجب بمجرّد اتّصالها به تنجّسه شرعا ولو لم يصادفه ملاقاة الغير.

والمادّة أو المجموع منها وممّا في الحوض المشكوك في كرّيّتهما يبقى على الطهارة ، فلا يلحقه النجاسة ما لم يعلم بنقصه عن الكرّ ـ على القول باشتراط الكرّيّة ـ من

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٥٢ ـ السرائر ١ : ٨٧.


غير فرق بين سبق العلم بالكرّيّة ولا سبقه بعدمها ، ولا انتفاء العلم رأسا ، لدخول كلّ في موضوع الطهارة ، وهو الّذي لا يعلم فيه بتحقّق سبب النجاسة.

واستصحاب عدم الكرّيّة في بعض تلك الصور لا يجدي نفعا في تحقّق موضوع النجاسة ، لأنّ عدم الكرّيّة ليس سببا للنجاسة ، وإنّما هو شرط لها ، وإحراز الشرط بالاستصحاب حال فرض تحقّق الملاقاة لا يقتضي بإحراز المشروط إلّا من باب الاصول المثبتة ، لعدم كون هذه النجاسة على فرض طريانها من الأحكام الثابتة للمستصحب في حال اليقين.

إلّا أن يقال : بأن لا عبرة بفعليّة طروّ هذه النجاسة في الزمن السابق ، ولا ريب أنّه ثمّة كان صالحا لأنّ يطرأه النجاسة وهو من أحكامه السابقة ، فيستصحب تلك الصلاحية ، على معنى كما أنّه كان قابلا للانفعال في الزمن السابق فيكون كذلك الآن للاستصحاب ، لكن صلاحية قبول الانفعال غير قبوله فعلا ، والمطلوب إثبات الثاني ، ولعلّ إثبات الأوّل غير كاف فيه ، فتأمّل وتحصّن بالاحتياط جدّا.

والكلام في قبول شهادة العدلين بالكرّيّة في الحمّام كما مضى من عدم خلوّه عن الإشكال ، مع موافقته للاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال ، وأمّا قبول قول ذي اليد في إخباره بها مالكا أو وكيلا أو مستأجرا فليس بمحلّ للإشكال.

فلو اتّصل ماء الحوض بعد تنجّسه بالمادّة المشكوك في كرّيّتها ـ بناء على اعتبار الكرّيّة فيها ـ كان استصحاب النجاسة خاليا عن الإشكال أيضا ، ولا يعارضه استصحاب الكرّيّة في بعض الصور المتقدّمة ، لما مرّ من كونه استصحابا في موضع انتفاء موضوع الطهارة ، ومن هنا يعلم حكم الملاقي لذلك الماء المستصحب نجاسته ، فإنّه أيضا ينجّس بحكم الشرع ، ولا حكم لاستصحاب طهارته بعد ما أحطت خبرا بما قرّرناه.

* * *


ينبوع

وممّا يلحق عندهم بالجاري ـ بعد إلحاق ماء الحمّام به ـ ماء المطر حال تقاطره من السماء ، فلا ينفعل قليله بملاقاة النجاسة ما لم يتغيّر أحد أوصافه الثلاثة ، والظاهر أنّه في الجملة ممّا لا خلاف فيه ، حتّى ممّن اشترط الكرّيّة في الجاري كالعلّامة كما هو المصرّح به في كلام جماعة ، وإن شئت لاحظ عبارة المنتهى قائلا : « ماء الغيث حال نزوله يلحق بالجاري » (١) مذيّلا له في آخر المسألة بقوله : « أمّا إذا استقرّ على الأرض وانقطع التقاطر ، ثمّ لاقته نجاسة اعتبر فيه ما يعتبر في الواقف ، لانتفاء العلّة الّتي هي الجريان » (٢) ومراده بالجريان الّذي أخذه علّة نزوله من السماء ، كما يأتي منه التصريح به في دفع احتجاج الشيخ على ما صار إليه من اشتراط الجريان من الميزاب.

وقريب من هذه العبارة ما عنه في نهاية الإحكام : « ولا يشترط فيه الجريان من الميزاب ، بل التقاطر من السماء كاف ، ولو انقطع التقاطر فلاقته النجاسة كان كالواقف » (٣) وعنه في التذكرة التصريح بعدم اشتراط الكرّيّة مع التقاطر ، واشتراطها مع انقطاعه قائلا :« لو انقطع تقاطر المطر وفيه نجاسة عينيّة اعتبرت الكرّيّة ، ولا تعتبر حال التقاطر ، ولو استحالت عينها قبل انقطاعه ثمّ انقطع كان طاهرا ، وإن قصر عن الكرّ » (٤).

وأنت خبير بأنّ ما عرفت منه من التشبيه مع انضمام هذا التصريح إليه ، لا ينافي ما يراه في الجاري من اشتراط الكرّيّة ، لما ذكرناه مرارا في المباحث السابقة من أنّ التشبيه لا يقتضي إلّا المشاركة في الحكم دون علّته ، والّذي يعتبره في الجاري من

__________________

(١ و ٢) منتهى المطلب ١ : ٢٩ و ٣٠.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٩ ـ مع اختلاف يسير.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ١٨.


الكرّيّة علّة للحكم اللاحق به ، ولا يعتبر في العلّة التعدية إلى المشبّه بعد ما قلنا بتعدّي أصل الحكم ، لجواز اختلافه مع المشبّه به في العلّة.

فما عن الكركي في جامع المقاصد بعد نقل كلام العلّامة في القواعد ـ أعني قوله : « وماء المطر حال تقاطره كالجاري » إلى آخره ـ من الاعتراض عليه بقوله : « وعلى ما اختاره المصنّف من اشتراط الكرّيّة في الجاري يلزمه اشتراطها هاهنا.

وقوله : « كالجاري » مع قوله : « فإن لاقته نجاسة بعد انقطاع تقاطره ، فكالواقف » إنّما يظهر ـ لاختلاف التشبيه ـ فيه معنى على مقالة الأصحاب ، أمّا على مقالته فالكلّ سواء » (١).

فلعلّه غفلة عن ملاحظة ما عرفت عنه من التصريح ، مع ما قرّرناه في توجيه التشبيه.

وكأنّه إلى هذا التوجيه ينظر ما عن الفاضل الجواد في شرحه للدروس من قوله : « واعلم أنّ تشبيه ماء المطر بالنابع على مذهب المصنّف جيّد ، إذ لا يشترط في النابع الكرّيّة لعدم الانفعال ، فيتمّ تشبيه ماء المطر به ، وأمّا من اشترطها في النابع فلا معنى لتشبيهه ، إلّا أن يراد أنّه كالجاري حال كرّيّته » (٢) انتهى.

وبذلك يظهر أنّه لا حاجة في الجمع بين كلمات العلّامة إلى تكلّف توجيهات اخر ، كما ارتكبه بعضهم بعد الإيراد عليه بنحو ما عرفت عن جامع المقاصد على ما حكاه الخوانساري في شرحه للدروس قائلا ـ بعد ما نقل عبارة العلّامة ـ : « وأورد عليه أنّ الفرق بين الجاري والواقف إنّما يظهر عند عدم اشتراط الكرّيّة في الجاري كما هو رأي غيره ، وأمّا على رأيه فلا فرق ، إلّا أن يفرّق بينهما باعتبار أنّه لا يعتبر في الكرّ من الجاري مساواة السطوح ، وأيضا يقول فيه بتقوّي الأعلى بالأسفل ، وكذا يحكم في حال النجاسة بطهره بالتدافع والتكاثر وإن لم يكن الماء الطاهر الدافع قدر كرّ ، كما مرّ سابقا من احتمال أن يكون مختاره رحمه‌الله هذه الامور في الجاري بخلاف الواقف ، ولا يذهب عليك أنّ الظاهر من كلامه رحمه‌الله اشتراط الكرّيّة في ماء المطر » (٣) انتهى.

ولا يخفى ما في الجزء الآخر من الغفلة عمّا عرفت عنه من التصريح بعدم اشتراط الكرّيّة فيه ، إلّا أن يكون كلامه في الفرق مأخوذا من كتاب لم يذكر فيه ذلك التصريح.

وكيف كان فأصحابنا بعد اتّفاقهم ظاهرا على عدم اشتراط الكرّيّة في ماء المطر

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١١٢.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) مشارق الشموس : ٢١٤.


بالقياس إلى مقام الدفع ، اختلفوا في اشتراط بعض من الامور الاخر وعدمه ، فالمشهور بينهم اشتراط التقاطر من السماء فقط ، من غير اشتراط الكثرة ولا الجريان من ميزاب أو غيره ، وعليه دعوى الشهرة في كلام غير واحد ، وفي بعض العبارات (١) : « عليه الفاضلان والشهيدان والمحقّقان وغيرهم من الأساطين » ، وقد عرفت التصريح به عن العلّامة في جملة من كتبه (٢) وعن الشهيد في الدروس (٣) ، وعن مجمع الفوائد (٤) أنّه صرّح بعدم اشتراط الكثرة والجريان ، وعزى إلى ظاهر المعتبر (٥) ، وشرح الموجز (٦) ، وصريح شرح المفاتيح (٧) ، وجامع المقاصد (٨) ، واختاره في الرياض (٩) ، وغيره ممّن تأخّر عنه.

لكن ظاهر هؤلاء كما هو صريح بعضهم اعتبار الصدق العرفي مع التقاطر ، لا كفاية مسمّى المطر مطلقا ولو بقطرة ونحوها ، نعم ربّما يحكى عن بعض المتأخّرين القول بطهارة الماء النازل من السماء مطلقا ولو كان قطرة واحدة ، وهو في غاية البعد عن الأدلّة ، خلافا للشيخ في التهذيب (١٠) ، ومحكيّ المبسوط (١١) ـ كما في المنتهى (١٢) ـ بل الاستبصار (١٣) ـ كما في المدارك ـ لمصيره إلى اشتراط الجريان من الميزاب ، قائلا : « أنّ ماء المطر إذا جرى من الميزاب فحكمه حكم الماء الجاري ، لا ينجّسه شي‌ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (١٤) لكن قضيّة احتجاجه على ذلك بصحيحة عليّ بن جعفر الآتية اكتفاؤه بمطلق الجريان ولو عن غير ميزاب ، لذكر الجريان فيها مطلقا ، فيكون الميزاب واردا في كلامه من باب المثال.

وربّما يحكى ذلك عن ابن فهد في الموجز وعن صاحب الجامع (١٥) أيضا ، ولكن

__________________

(١) لم نعرف قائله.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ١٨ ـ منتهى المطلب ١ : ٢٩.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٩.

(٥) المعتبر : ٩. (٦) كشف الالتباس ١ : ٤٥.

(٧) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط).

(٨) جامع المقاصد ١ : ١١٢. (٩) رياض المسائل ١ : ١٤٠.

(١٠) التهذيب ١ : ٤١١ ذيل ح / ١٢٩٦.

(١١) المبسوط ١ : ٦ حيث قال : « ومياه الموازيب الجارية من المطر حكمها حكم الماء الجاري سواء ».

(١٢) منتهى المطلب ١ : ٢٩.

(١٣) لم نجده في الاستبصار ولكن وجدناه في المبسوط ١ : ٦.

(١٤) مدارك الأحكام ٣ : ٣٧٦.

(١٥) الجامع للشرائع : ٢٠ حيث قال : « والمياه الجارية من الميازيب من المطر كالمياه الجارية ».


العبارة المنقولة عن الموجز قاصرة عن تأديته ، ولعلّها ظاهرة في موافقة المشهور ، حيث قال : « وكذا ماء الغيث نازلا ولو من ميزاب » (١) فإنّ اعتبار النزول هو القول المشهور بعينه ، ولا ينافيه تعميمه بالقياس إلى الميزاب ، لأنّ تحقّق النزول بالقياس إلى ما لا يصيبه السماء قد يكون بالميزاب الحاجز بينه وبين السماء ، أو أنّ النزول المعتبر في حفظ الماء عن الانفعال أعمّ من كونه من السماء بلا واسطة أو منها بواسطة الميزاب ، أو أنّ حالة النزول من السماء مقتضية لاعتصام الماء عن قبول الانفعال ولو بالقياس إلى ما ينزل منه من الميزاب ، وحاصله عدم اختصاص الحكم مع هذه الحالة بما له مبدأ النزول عنها فعلا ، بل يتعدّى إلى ما انقضى عنه ذلك المبدأ لكن ما دامت الحالة باقية.

ويمكن إجراء ما يقرب من هذا التوجيه في كلام الشيخ أيضا وإن كان خلاف الظاهر ، ولعلّه لذا عبّر العلّامة في المنتهى عند حكاية مذهبه بقوله : « ويلوح من كلام الشيخ في التهذيب (٢) والمبسوط (٣) اشتراط الجريان من الميزاب » (٤) وعلى هذا فلم يتحقّق منه المخالفة وإن اشتهر في الألسنة ، وعن الفاضل الجواد (٥) أنّه اعتبر أن يكون لماء المطر قوّة بحيث يصلح للجريان ، وإن لم يكن جاريا بالفعل ، وعزى إلى جملة ممّن تأخّر عنه الميل إليه. فأقوال المسألة ـ بضميمة ما عرفته عن الروض ـ (٦) أربع ، وقد يحكى عن العلّامة الطباطبائي في المصابيح (٧) تسديس الأقوال.

أحدها : كفاية النزول من السماء مطلقا ، ولو بنحو قطرة واحدة ، وهو المحكيّ عن الروض (٨).

وثانيها : اشتراط قوّة يصحّ معها إطلاق اسم الغيث والمطر عرفا ، وإن قلّ أو لم يجر وهو المشهور.

ثالثها : اعتبار الكثرة والجريان ولو قوّة ، وهو اختيار الفاضل الأردبيلي (٩).

__________________

(١) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١١).

(٢) التهذيب ١ : ٤١١ ذيل الحديث / ١٢٩٦.

(٣) المبسوط ١ : ١٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٢٩.

(٥) في شرح الدروس الشرعيّة ـ للفاضل الجواد ـ لم نعثر عليه.

(٦) روض الجنان : ١٣٩.

(٧) مصابيح الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ : (مخطوط) الورقة : ٥٢.

(٨) روض الجنان : ١٣٩.

(٩) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٦.


ورابعها : اعتبار مسمّى الجريان فعلا وإن لم يكن من ميزاب ونحوه ، وهو خيرة كشف اللثام (١) ، ونفي عنه البعد في المدارك (٢).

وخامسها : اشتراط الجريان فعلا من الميزاب خاصّة وهو لظاهر الشيخ (٣).

وسادسها : وأحقّ الأقوال ظاهرا هو المذهب المشهور ، ولم نقف على ذكر مستند إلّا له ولمختار الشيخ ولمشترطي الكثرة.

وينبغي أوّلا استقصاء جميع ما ورد في الباب من الأخبار المرويّة في كتب الأصحاب ، ثمّ النظر في دلالتها ، واستعلام ما يتحصّل من مجموعها ، وهي من الصحاح وغيرها عدّة روايات.

منها : ما في التهذيب ـ في الصحيح ـ عن عليّ بن جعفر أنّه سأل أخاه موسى بن جعفر عليهما‌السلام عن الرجل يمرّ في ماء المطر ، وقد صبّ فيه خمر ، فأصاب ثوبه ، هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ فقال : « لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلّي فيه ، فلا بأس » (٤).

ومنها : ما في الوسائل عن التهذيب عن أبي بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكنيف يكون خارجا ، فتمطر السماء فتقطر عليّ القطرة؟ قال : « ليس به بأس » (٥)

ومنها : ما فيه عن الكافي عن الكاهلي ، عن رجل ، عن أبي عبد الله قال : قلت : أمرّ في الطريق فيسيل عليّ الميزاب في أوقات أعلم أنّ الناس يتوضّئون؟ قال : « ليس به بأس لا يسأل عنه » ، قلت : ويسيل عليّ من ماء المطر أرى فيه التغيّر ، وأرى فيه آثار القذر ، فيقطر القطرات عليّ وينتضح عليّ منه ، والبيت يتوضأ على سطحه ، فيكفّ (٦) على ثيابنا؟ قال : « لا بذا بأس ، كلّ شي‌ء رآه ماء المطر فقد طهر » (٧).

ومنها : ما فيه عن الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم ، عن ابن أبي

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٥٩.

(٢) مدارك الأحكام ٢ : ٣٦٧.

(٣) التهذيب ١ : ٤١١ ـ المبسوط ١ : ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٥ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٧ ـ و ٤١٨ / ١٣٢١.

(٥) الوسائل ١ : ١٤٧ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٤٢٦ / ١٣٤٨.

(٦) كفّ يكفّ وكفاء وكيفا ، التقاطر من سقف البيت ، كذا استحصلناه من المجمع (منه).

(٧) الوسائل ١ : ١٤٦ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ أورد صدره في الحديث ٣ الباب ١٣ من أبواب الماء المضاف الكافي ٣ : ١٣ / ٣.


عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « في ميزابين سالا ، أحدهما بول والآخر ماء المطر ، فاختلطا ، فأصاب ثوب رجل ، لم يضرّه ذلك » (١).

ومنها : ما في الفقيه بإسناده الصحيح عن هشام بن سالم ، أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن السطح يبال عليه ، فيصيبه السماء ، فيكفّ فيصيب الثوب؟ فقال : « لا بأس به ، ما أصابه من الماء أكثر منه » (٢).

ومنها : الصحيح الوارد في الفقيه بإسناده عن عليّ بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن البيت يبال على ظهره ، ويغتسل من الجنابة ، ثمّ يصيبه المطر ، أيؤخذ من مائه فيتوضّأ به للصلاة؟ فقال : إذا جرى فلا بأس [به].

قال : وسألته عن الرجل يمرّ في ماء المطر وقد صبّ فيه خمر ، فأصاب ثوبه ، هل يصلّي فيه قبل أن يغسله؟ فقال : « لا يغسل ثوبه ولا رجله ، ويصلّي فيه ولا بأس [به] » (٣).

لا يخفى أنّ هذا الجزء هو الّذي حكيناه أوّلا عن التهذيب أيضا ، وفي الوسائل رواه الحميري في قرب الأسناد عن عبد الله الحسن ، عن جدّه عليّ بن جعفر مثله ، وزاد وسألته عن الكنيف فوق البيت ، فيصيبه المطر ، فيكفّ فيصيب الثياب ، أيصلّي فيها قبل أن تغسل؟ قال : « إذا جرى من ماء المطر فلا بأس » (٤).

ومنها : ما نقله في الحدائق عن عليّ بن جعفر ، قال : وروى في كتاب المسائل أيضا عن أخيه عليه‌السلام قال : سألته عن المطر يجري في المكان فيه العذرة ، فيصيب الثوب ، أيصلّي فيه قبل أن يغسل؟ قال : « إذا جرى به المطر فلا بأس » (٥).

ومنها : ما في الكافي عن محمّد بن إسماعيل ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي الحسن عليه‌السلام :

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٥ ب من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ الكافي ٣ : ١٢ / ١.

(٢) الوسائل ١ : ١٤٦ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الفقيه ١ : ٧ / ٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٥ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الفقيه ١ : ٧ / ٦ و ٧ ـ ومسائل عليّ بن جعفر ٢٠٤ / ٤٣٣ ؛ وما بين المعقوفين غير موجود في المخطوط وإنّما اضفناه من المصدر.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٥ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ قرب الأسناد : ٨٣ ـ ٨٩ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١٩٢ / ٣٦٨.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٢١٧ ـ الوسائل ١ : ١٤٨ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٩ ـ مسائل عليّ بن جعفر ١٣٠ / ١١٥.


« في طين المطر أنّه لا بأس به أن يصيب الثوب ثلاثة أيّام ، إلّا أن يعلم أنّه قد نجسه شي‌ء بعد المطر ، فإن أصابه بعد ثلاثة أيّام فاغسله ، وإن كان الطريق نظيفا لم تغسله » (١).

ولا يذهب عليك أنّ عموم قاعدة انفعال القليل بملاقاة النجاسة ـ حسبما قرّرناه في المباحث السابقة ـ يقتضي عدم الفرق في الانفعال بين ماء المطر وغيره ، خلافا لبعض من ذهب إلى عدم انفعال ماء المطر استنادا إلى عدم العموم في تلك القاعدة كالمحقّق الخوانساري (٢) ، فالقول بعدم الانفعال هنا حال التقاطر مطلقا ـ كما عليه المشهور ـ أو بشرط الجريان مطلقا ، أو مقيّدا بالميزاب ، أو الكثرة الصالحة لأن ينشأ منها الجريان لا يصار إليه إلّا بدليل.

فعلى المشهور لا بدّ من دليلين أحدهما ما يقضي بأصل الحكم الصالح مخصّصا للقاعدة. والآخر ما يقضي بصحّة اشتراط التقاطر وعلى المذهبين الآخرين يزيد عليهما لزوم دليل ثالث يدلّ على اعتبار الجريان أو الكثرة ، لا بمعنى لزوم إقامة أدلّة منفصلة على هذه المطالب ، بل بمعنى لزوم إقامة ما يحتويها جميعا ، اتّحد أو تعدّد ، وحينئذ فلو استدلّ المشهور على ما صاروا إليه بالصحيحة الاولى المشتملة على قول السائل : « عن الرجل يمرّ في ماء المطر ، وقد صبّ فيه خمر » كان كافيا لهم في ثبوت مطلوبهم بكلا جزأيه ، أمّا الجزء الأوّل : فواضح ، وأمّا الجزء الثاني : فلعدم تناول الصحيحة في الإخراج عن القاعدة إلّا حال التقاطر ، فيجب عدم التعدّي إلى غيرها ، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد الدليل ، وإنّما يتّضح هذا البيان بالقياس إلى صغرى القياس على تقدير كون الإضافة في قوله : « في ماء المطر » بيانيّة إذ المرور في المطر ظاهر ـ كالصريح ـ فيه حال النزول والتقاطر ، والمفروض عدم اشتمال الجواب على عامّ أو مطلق ليتّجه القول بعدم صلاحية المورد لتخصيصه.

وأمّا على احتمال كونها لاميّة ، فربّما يدخل في الوهم شمول الجواب بملاحظة ترك الاستفصال حال التقاطر وغيرها ، إلّا أنّه لا يجدي نفعا في استفادة التعميم من الرواية

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٧ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٦ واورد تمامه في الحديث ١ من ب ٧٥ من أبواب النجاسات ـ الكافي ٣ : ١٣ / ٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢١١ حيث قال ـ في الاستدلال على عدم انفعال ماء المطر بملاقاة النجاسة ـ : « لما مرّ مرارا أنّ عموم انفعال القليل لا دليل عليه سوى عدم القول بالفصل في بعض الموارد والقول بالفصل هاهنا موجود ، فالظاهر البناء على أصالة الطهارة ... ».


بمجرّدها بعد قيام احتمال كون الإضافة بيانيّة ، فإنّه لقوّته لو لم يكافؤ الاحتمال الآخر حتّى يكون الإضافة لتردّدها بين المعنيين مجملة ، فلا أقلّ من كونه مزاحما لدلالة الرواية على العموم المبني على الاحتمال الآخر ، وموجبا لضعف تلك الدلالة ، ومعه لا محيص من الأخذ بالقدر المتيقّن من مدلولها ، المشترك بين الاحتمالين ، كما أنّه كذلك على تقدير إجمال الإضافة ، نعم ترك الاستفصال بالقياس إلى اعتبار الجريان أو الكثرة وعدمه في محلّه.

فالمناقشة فيها تارة : بأنّ فيها إشعارا بحصول الجريان ، فلا دلالة فيها على تمام المدّعى.

واخرى : بأنّ دلالتها موقوفة على نجاسة الخمر ، وهي ممنوعة.

يدفعها : منع الإشعار لو اريد به الظهور ، بل ومنعه أيضا مطلقا ، ولو سلّم فاعتباره ممنوع وأنّ المحقّق نجاسة الخمر كما يأتي في محلّه ، ولو سلّم فالرواية بنفسها تنهض دليلا عليها ، كما تنبّه عليه في مجمع الفائدة (١) ـ على ما حكي عنه ـ فإنّ سياق السؤال ممّا يشهد بتعرّض السؤال عن نجاسة الماء ، وهو فرع على اعتقاد السائل بنجاسة الخمر ، واحتمال كونه في صدد السؤال عن نجاسة الخمر ممّا يبعّده سياق السؤال ، ولا يلائمه جلالة شأن السائل ، كما أنّ احتمال كون شبهته في نجاسة الماء ناشئة عن الشبهة في نجاسة الخمر ممّا لا يلائمه جلالة شأنه ، وعلوّ رتبته في الفقه والمعرفة.

لكن يبقى الكلام في صحّة الاستناد إلى مثل هذا الاعتقاد ، لجواز كونه مستحصلا له بطريق الاجتهاد ، ولو عوّل على التقرير المتوهّم في المقام لم يكن في محلّه ، لعدم احتواء المقام جميع مقدّماته لجواز الاكتفاء في الردع بما ذكره عليه‌السلام في الجواب ، إلّا أن يدّعى قيام الظهور العرفي ـ بملاحظة السياق ـ في كون نجاسة الخمر مفروغا عنها فيما بين السائل والمسئول.

وممّا يوافق الصحيحة المذكورة في الدلالة على ما يوافق المذهب المشهور ، والسكوت عن اعتبار الجريان والكثرة الرواية الثانية ، غير أنّه يشكل الحال في التمسّك بها وحدها ، لما في سندها من القصور بجهالة عمرو بن الوليد ، أو عمر بن الوليد على اختلاف النسخ ، لعدم كونه مذكورا في الرجال فيما نعلم بشي‌ء من العنوانين.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٥٦.


نعم ، يصحّ الاستناد عليه أيضا بالرواية الرابعة كما استند إليها في المنتهى (١) ، سواء اعتبرناها صحيحة كما في الكتاب أو حسنة ، ولا يقدح فيه اختصاص المورد بصورة الجريان بعد ملاحظة ما تقدّم في الصحيحة الاولى من العموم في تلك الجهة ، نظرا إلى أنّ المورد بمجرّده لا ينهض دليلا على اختصاص الحكم ، ولا أنّه صالح لتقييد الصحيحة ، لعدم المنافاة بينهما في المقام ونظائره ، وهي أيضا في عدم تناولها لغير حالة النزول كالصحيحة المذكورة ، لمكان انصراف سيلان ماء المطر من الميزاب إليه في حال النزول ، كما لا يخفى.

ويمكن لهم الاستناد بالرواية الثالثة لو لا قصورها بالإرسال ، وربّما يدّعى انجبارها بالشهرة وليس بثابت ، إذ العبرة في الانجبار بالشهرة بكونها استناديّة ليوجب الوثوق بصدور الرواية ، وغاية ما هنالك انكشاف صدق مضمونها ، وهو ليس من انكشاف صدق نفسها في شي‌ء ، وعلى هذا القياس الحال في الثامنة الواردة في طين المطر ، بل هي ممّا لو حصل له جابر تدلّ على أحكام كثيرة.

منها : كون ماء المطر مطهّرا للأرض ، نظرا إلى إطلاق قوله عليه‌السلام : « طين المطر لا بأس به » الشامل لما كان نجسا قبل المطر وغيره.

ومنها : كونه عاصما لغيره عن الانفعال ، لمكان قوله عليه‌السلام : « إلّا أن يعلم أنّه قد نجّسه شي‌ء بعد المطر » فإنّ التقييد ببعديّة المطر يقضي بأنّه لا ينجّسه شي‌ء حال المطر ، وعلى فرض تنجيسه فيقضي بالمطهّريّة أيضا ، بل يقضي بها لو نجّسه قبل المطر أيضا.

ومنها : عدم انفعاله بنفسه لو ورد عليه وهو نجس ، ضرورة أنّ الطين ما يحصل بامتزاج الماء في الأجزاء الترابيّة ، فلو فرض كون تلك الأجزاء نجسة قبل ورود الماء عليها مع كونه قابلا للانفعال بملاقاته إيّاها ، فهو بعد امتزاجه باق على وصف النجاسة ، ومعه كيف يصحّ نفي البأس عن الممتزج فيه بإطلاقه ، بل كونه مطهّرا له على بعض الفروض يستلزم طهارته ، ولا يستقيم ذلك إلّا على تقدير عدم قبوله الانفعال ، إذ الضرورة قاضية بأنّ الامتزاج لا يفيده طهارة ، ودعوى : أنّ المطهّريّة لا يستلزم الطهارة ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

نعم ، لو استند على المشهور بالصحيحة الخامسة كان بلا إشكال أيضا ، لسلامتها عمّا يقدح فيها سندا ودلالة ، لكن يبقى الكلام في معنى « الأكثريّة » الّتي علّل بها الحكم ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٩.


فإنّه ربّما يوهم اعتبار الكثرة بالمعنى المتقدّم سابقا ، ولذا حكي الاحتجاج بتلك الرواية عن أهل القول بذلك.

ولكن يدفعه : منع نهوض ذلك دليلا على هذا الحكم ، لجواز كون المراد « بالأكثريّة » الأكثريّة الإضافيّة بالقياس إلى البول ، مرادا بها بيان أنّه لا داعي إلى ثبوت البأس في هذا الماء الّذي أصاب الثوب إلّا كونه مستهلكا في جنب البول ، وهو مفروض الانتفاء بقرينة كون الماء أكثر من البول بحسب المقدار ، وكلّما كان كذلك فهو موجب لاستهلاك البول ، والأكثريّة بهذا المعنى كما ترى أعمّ من الكثرة النفسيّة حسبما اعتبره القائل ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ ، وكيف كان فهذه الرواية لا تصلح مستندة لهذا القول ، بل دلالتها على المذهب المشهور أنسب وأوضح.

ومن هنا اتّضح ضعف هذا القول ، وعدم جواز المصير إليه ، حيث أنّه ممّا لا مستند له.

نعم ، المعضل دفع القول باشتراط الجريان فعلا لقوّة دليله ظاهرا ، فإنّ الشيخ في زيادات باب المياه من التهذيب (١) احتجّ عليه بالصحيحة السادسة ، المشتملة على قوله عليه‌السلام : « إذا جرى فلا بأس ».

ويمكن دفعه : بأنّه يستقيم على تقدير عود الضمير في الشرط إلى « مائه » المذكور في كلام السائل ، نظرا إلى ظهور الجريان المسند إلى الماء في سيلانه على الأرض ونحوها ، كظهور الماء مضافا إلى المطر فيه بعد النزول من السماء كما هو واضح ، ولعلّه موضع منع لقوّة احتمال عوده إلى المطر المذكور في كلام السائل أيضا سابقا على مائه.

ولا ريب أنّ المطر ظاهر في ماء السماء حال نزوله خاصّة ، كما أنّ الجريان المسند إليه ظاهر في وروده على الأرض ، فيكون الشرطيّة مرادا بها نفي البأس عن ظهر البيت المتنجّس بالبول الّذي ورد عليه المطر ، كما أنّه لا ريب أنّ إطلاق نفي البأس عن المحلّ النجس بورود المطر عليه يستلزم طهره وبقاء الماء الّذي فيه على طهارته الأصليّة ، وهو المطلوب من عدم قبول ماء المطر للانفعال ، ولا يلزم على هذا التقدير عدم مطابقة الجواب للسؤال ، حيث إنّ الغرض الأصلي من السؤال استعلام حال التوضّي بالماء المفروض ، بملاحظة أنّ شبهة السائل في جواز التوضّي ـ على ما يرشد إليه ابتداء

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١١ ذيل الحديث ١٢٩٦.


السؤال ـ إنّما نشأت عن شبهة طهر المحلّ الّذي ورد عليه المطر بعد المطر وطهارة الماء الملاقي له ، وقد علم بذلك الإمام عليه‌السلام فأجابه بما يرفع شبهته الّتي هي المنشأ ، ولعلّ هذا المعنى هو الظاهر المنساق من الرواية بملاحظة ما ذكر ، وكأنّه إليه يرجع ما في منتهى العلّامة (١) وتبعه الجماعة في دفع احتجاج الشيخ بالرواية من حمل الجريان الوارد فيها على النزول من السماء ، ويوافقها على هذا المعنى الرواية السابعة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « إذا جرى به المطر فلا بأس » لوضوح عود الضمير المجرور إلى المكان المذكور في السؤال ، الّذي يجري فيه المطر ، مع ملاحظة ما أشرنا إليه من ظهور الجريان حيثما يسند إلى « المطر » دون « ماء المطر » في النزول والورود ، ولا ضير في موافقة الشرط المأخوذ في الشرطيّة الواردة في الجواب لما هو مفروض في السؤال. ولا يكون نظائره أجنبيّة عن تأدية العبارة ، لأنّ تعليق نفي البأس عليه إعطاء للحكم في موضوعه الّذي فرضه السائل ، وهذا نظير ما لو قيل للطبيب مثلا : « أكلت اليوم الهندباء » ، فيقول : « إذا أكلت الهندباء أو إن أكلت الهندباء فنعم ما فعلت »

غاية ما في الباب لزوم عدم اعتبار المفهوم في مثله ، ولا ضير في ذلك بعد قيام القرينة عليه ، لما قرّر في محلّه من أنّ التعليق بالشرط إذا ورد لبيان موضوع الحكم ـ كما في قولك : « إن أصبت ماء فاشربه » ـ فلا مفهوم له ، أو أنّ المفهوم إنّما يعتبر في الشرطيّة إذا لم يكن المسكوت عنه معلوما حكمه قبل الخطاب ، والظاهر أنّ مورد الرواية أقرب إلى هذه القاعدة ، ضرورة أنّ ثبوت البأس في المكان المفروض في السؤال بلا جريان المطر به ـ على معنى وروده عليه ـ ممّا كان معلوما للسائل ، وإنّما تعرّض للسؤال استعلاما لارتفاع ذلك البأس بالمطر وعدمه.

ولا يخفى أنّ هذه الرواية أقوى دلالة على المعنى المذكور من الصحيحة ، غير أنّها غير صالحة إلّا لتأييد هذا المعنى في الصحيحة ، لمكان ما فيها من الإرسال بعدم معلوميّة سندها ، والغرض من التأييد بتلك الرواية استظهار كون إطلاق الجريان على نزول المطر من السماء صحيحا في عرفهم ، وإن كان مطلقه ينصرف إلى السيلان من الأرض ، ففرق بين الجريان المطلق ومطلق الجريان ، وعلى قياس هذا المعنى ما في العلاوة الّتي عرفتها عن الوسائل عن

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٩.


الحميري في قرب الأسناد من قوله عليه‌السلام : « إذا جرى من ماء المطر فلا بأس » فإنّه أيضا تعليق على شرط مذكور في السؤال ، غير أنّه يقضي بكون كلمة « من » زائدة كما لا يخفى.

ويمكن إضمار فاعل قوله عليه‌السلام : « جرى » مع عوده إلى ما يكفّ بعد إصابة المطر للكنيف فيصيب الثياب ، مرادا به اعتبار كون الّذي يكفّ في موضوع حكم نفي البأس شيئا من ماء المطر لا ممّا هو في الكنيف ، أو اعتبار كون الوكف الّذي لا بأس به لا بدّ وأن ينشأ من المطر ، لا من قبل الكنيف نفسه ، ولا من قبل أمر خارج عنه غير المطر ، بناء على أنّ كلمة « من » نشويّة.

واجيب عن احتجاج الشيخ بالصحيحة المتقدّمة بوجوه اخر :

منها : ما عن المعتبر (١) من أنّه لا يدلّ على الاشتراط ، لأنّه لو لم يكن طاهرا لما طهّر بالجريان ، ولا يخفى ضعفه.

ومنها : ما في شرح الدروس للخوانساري (٢) من أنّ دلالة المفهوم إنّما تعتبر فيما لا فائدة فيه سوى الاشتراط ، وليس الأمر هاهنا كذلك ، لجواز أن يقال : إنّ السؤال لمّا كان متضمّنا للجريان ، فأجاب على وفقه تحقيقا وتثبيتا لنفي البأس في هذه الحالة ، وهو أيضا ضعيف لفساد مدركه.

ومنها : ما أشار إليه في الكتاب (٣) أيضا وتبعه قوم ، من أنّ البأس أعمّ من الحرمة والكراهة ، فيجوز أن يكون التوضّي به قبل الجريان مكروها ، وهو لا يستلزم النجاسة. وهو أضعف من سابقيه.

ومنها : ما في الكتاب المذكور : « من أنّه لا يدلّ على نجاسة ماء المطر بالملاقاة إذا لم يكن جاريا ، لجواز أن يكون البأس حين عدم الجريان ، بناء على عدم تطهيره للأرض بدون الجريان ، ولمّا لم يطهّر الأرض والغالب اختلاط أجزائها بماء المطر فلذلك يتحقّق البأس ، فلم تظهر دلالته على الانفعال بالملاقاة » (٤) ولعلّه بعيد من حيث استلزامه عدم مطابقة الجواب للسؤال ، لظهور السياق في أنّ الغرض الأصلي معرفة حكم الماء والثوب ، وإن خصّت الصلاة بعنوان الاستفهام ، والنكتة في ذلك أنّ أثر نجاسة الماء

__________________

(١) المعتبر : ٩.

(٢ ـ ٤) مشارق الشموس : ٢١٢.


والثوب وطهارتهما إنّما يظهر في الصلاة وغيرها ممّا هو مشروط بالطهارة ، فأجود الأجوبة ما نقلناه عن منتهى العلّامة رحمه‌الله (١) بناء على التوجيه الّذي قرّرناه.

ثمّ لو أغمضنا وقلنا بظهور الجريان مطلقا فيما فهمه الشيخ ، يتوهّن هذا الظهور بملاحظة مخالفته للشهرة القريبة من الإجماع ، فإنّ الشهرة بمجرّدها وإن لم تصلح قرينة على صرف الظاهر عن الظهور ، غير أنّها ربّما تكون موهنة له ، فيشكل معه الأخذ به ، فيبقى الروايات الاخر في المقام بالقياس إلى قضائها بعدم اشتراط الجريان سليمة عمّا يصلح لمعارضتها ، ويؤيّدها أصالة عدم الاشتراط ، فظهر بجميع ما تقرّر أنّ الأقوى هو القول المشهور.

وربّما يستدل عليه ـ مضافا إلى ما مرّ ـ بالأصل ، والقاعدة ، وعموم ما دلّ على طهارة الماء ما لم يتغيّر ، وضعفه بعد ملاحظة عموم قاعدة الانفعال ظاهر ، وربّما يستدلّ أيضا كما في المنتهى (٢) بأنّه يشقّ الاحتراز عن ماء الغيث ، فلو لا التخفيف بعدم انفعاله مطلقا لزم العسر والحرج ، وصغرى ذلك الدليل وإن كانت مسلّمة في الجملة ولكن كبراه لا يخلو عن مناقشة تظهر بأدنى تأمّل ، ولنختم المقام بذكر امور مهمّة.

أوّلها : معنى اعتصام ماء المطر عن الانفعال حال التقاطر عدم قبول ما حصل في الأرض منه للانفعال بتقاطر ما بقي منه عليه ، وإلّا فالمتقاطر حال تقاطره ممّا لا يعقل فيه ملاقاة النجاسة عادة حتّى يلحقه حكم الاعتصام وعدمه ، وملخّص المعنى المذكور : أنّ ماء المطر المنقضي عنه مبدأ التقاطر لا ينفعل بورود ما تلبّس بذلك المبدأ عليه.

وهل يلحق به غيره من المياه القليلة المتوقّف عدم قبولها الانفعال على وجود عاصم ، من مياه الحياض والغدران والقلّتان والأواني ونحوها ، على معنى اعتصامها بالمتقاطر من ماء المطر أوّلا؟ والمسألة موضع توقّف لخلوّ نصوص الباب عن التعرّض لهذا المطلب ، فانحصر طريقه في الإجماع فإن أمكن تحصيله فهو ، وإلّا فلا مجال إلى رفع اليد عن قاعدة الانفعال ، خلافا للخوانساري في شرح الدروس ، قائلا : « بأنّ الظاهر التقوّي ، لعدم عموم انفعال القليل ، مع أنّ الظاهر أنّه المشهور بين الأصحاب ، ولو كان جاريا إليه من ميزاب ونحوه. فالتقوّي ظاهر » (٣) انتهى.

لكن في الحدائق : « لا ريب في ذلك على المشهور من جعل ماء المطر كالجاري

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٤٩٦.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٣٠.

(٣) مشارق الشموس : ٢١٤.


مطلقا ، وأمّا على اعتبار الجريان أو الكثرة فيناط بحصول أحدهما » (١) انتهى.

وعن الذخيرة بناء المسألة على الوفاق ، والخلاف في المسألة السابقة ، حيث قال : « فإن كان بطريق الجريان ، فلا ريب في أنّه يفيده تقوّيا فيصير كالجاري ، وإلّا فيبنى على الخلاف في اشتراط الجريان وعدمه » (٢).

وقد يستدلّ على التقوّي مطلقا باستصحاب الطهارة ، بناء على أنّه لا دليل يوجب رفع اليد عنه ، واتّضح ضعفه.

وبالأولويّة ، بتقريب : أنّ ماء المطر مطهّر للماء النجس ورافع عنه النجاسة ، فكونه عاصما له عن قبول النجاسة ، ـ لمكان كون الدفع أهون من الرفع [طريق الأولويّة] (٣) ، وهو أوهن من بيت العنكبوت لعدم صلاحية الاعتبارات العقليّة وسطا للأحكام التعبّديّة ، ألا ترى أنّ الماء القليل يفيد تطهير النجس ولا يفيد تقوّيا أصلا.

نعم ، لو بنى على أنّ ماء المطر ممّا يطهّر غيره من المياه النجسة ، أمكن المصير إلى طهارة القليل الملاقي للنجاسة لا لأنّه يفيد تقوّيا ، بل لأنّ هذا الماء ينفعل بالملاقاة آنا ما ولو حال التقاطر ثمّ يزول انفعاله بلحوق تقاطر آخر ، أخذا بموجب أنّه يطهّر غيره ، إذ لا يفترق الحال في ذلك بين طروّ النجاسة للغير حال التقاطر أو قبله ، ولكن ثبوت الطهارة له بتلك القاعدة لا يجدي نفعا في طهارة ما لو فرض تحقّق ملاقاة النجاسة له في آخر أزمنة التقاطر ، على معنى انقطاع التقاطر في ثاني زمان الملاقاة كما لا يخفى.

نعم ، على ثبوت قاعدة التقوّي يحكم عليه بالطهارة جزما ، وأمّا لو تحقّقت الملاقاة حال الانقطاع ـ على معنى عروضها مقارنة له ـ فلا يحكم عليه بالطهارة على القاعدتين معا.

وثانيها : لا إشكال في كون ماء المطر حال التقاطر مطهّرا للأرض الّتي أصابها نجاسة قبل نزولها بل حال النزول أيضا ، على تقدير تحقّق الاستيعاب لموضع النجاسة ، وزوال عينها لو كانت عينيّة ، بل لو قلنا بالعمل بمرسلة الكاهلي المتقدّمة كان مطهّرا عن كلّ متنجّس حتّى الأواني والثياب ، لعموم قوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء يراه المطر فقد طهر » وقد يعزى ذلك إلى المشهور ، بل قضيّة الشرطيّة المقتضية للسببيّة التامّة حصول الطهر بمجرّد الإصابة من دون اعتبار ما يعتبر في غسل الأواني والثياب إذا حصل بغير المطر من عصر وإزالة غسالة

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٢٤.

(٢) ذخيرة المعاد : ١٢١.

(٣) أضفناها لاستقامة العبارة.


لكن لمّا لم يثبت عندنا جابر لإرسال تلك الرواية كان الواجب علينا الآن الاقتصار على مورد الدليل ، وليس إلّا الأرض ، والّذي يدلّ عليه جملة من الأخبار المتقدّمة.

منها : الصحيحة الاولى الواردة في المرور في ماء مطر ، صبّ فيه خمر فأصاب الثوب ، المحكوم على الصلاة فيه قبل الغسل بعدم البأس ، مع التصريح بعدم وجوب غسل الثوب والرجل.

بتقريب : أنّ الخمر ما دامت عينها باقية في الأرض توجب نجاستها جزما ، وإن لم تتميّز أجزاؤها عن الماء في نظر الحسّ ، فلو لا طهرها بسبب المطر لم يكن للحكم بعدم البأس وعدم وجوب الغسل معنى ، ضرورة العلم العادي بأنّ ما أصاب الثوب من الماء كان مستصحبا للأجزاء الأرضيّة لا محالة ، وهي باقية على ما كانت عليها من النجاسة ، فتكون كافية في المنع عن الصلاة ووجوب غسل الثوب بل الرجل أيضا ، ضرورة اشتمالها بواسطة الماء على الأجزاء الأرضيّة لا محالة ، والمناقشة فيها بابتناء المطلب على نجاسة الخمر وهي ممنوعة ، قد عرفت دفعها.

ومنها : الصحيحة الخامسة الواردة في السطح يبال عليه فيصيبه السماء ، فيكفّ فيصيب الثوب ، الحاكمة بعدم البأس ، بتقريب ما مرّ.

ومنها : الصحيحة السادسة بهذا التقريب ، والكلام في قضيّة اشتراط الجريان فيها كما مرّ ، ويدلّ عليه أيضا إطلاق المرسلة الثامنة ، النافية للبأس عن طين المطر ، غير أنّك قد عرفت الإشكال في جواز الاستناد إليها ، لما فيها من الإرسال الّذي لا نعلم بجابر له.

وثالثها : ماء المطر كما أنّه مطهّر للأرض كذلك يطهّر الماء المتنجّس ، وقد يدّعى الإجماع عليه إذا كان واردا عليه بطريق الجريان من الميزاب ، والشهرة إذا كان بطريق الجريان مطلقا أو الكثرة.

وعن الذخيرة (١) نفي الريب في تطهيره بمطلق الجريان وهذا الحكم على تقدير صحّة الاستناد إلى مرسلة الكاهلي واضح وعمومها يقتضي عدم اعتبار الجريان من الميزاب وغيره ، ولا الكثرة ولا الامتزاج ولا استيعاب المطر لسطح الماء ، لا بمعنى كفاية ورود قطرة واحدة عليه ـ كما حكي القول به عن بعض الفضلاء (٢) ـ ولو كان الماء

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٢١.

(٢) روض الجنان : ١٣٩.


حوضا كبيرا ، فإنّ ذلك غير معلوم الاندراج تحت المرسلة ، بل بمعنى كفاية ما يسمّى في العرف والعادة مطرا ، بأن يقع عليه المطر على النحو المتعارف ، وإن فرض بقاء بعض من سطحه بحيث لم يقع عليه مطر.

لا يقال : المقتضي لطهارة الماء بمجرّد الاتّصال ـ على القول به ـ هو كون الماء مطهّرا للجزء الّذي يليه ، وبعد الحكم بطهارته يتّصل بالجزء الثاني وهو متقوّ بالكرّ الّذي منه طهره فيطهّر الجزء الثاني وهكذا ، وهذا ممّا لا يتمّ في مفروض المقام بعد عدم تحقّق ملاقاة المطر لبعض سطوح الماء ، لعدم تحقّق اتّصال المطهّر بالقياس إلى هذا الجزء ، لأنّ الاجتهاد في مقابلة النصّ ممّا لا معنى له.

ومناط الطهارة في مدلول النصّ إنّما هو رؤية المطر ، وهذه قضيّة تصدق مع ورود ما يصدق عليه اسم المطر عرفا على الماء ، وإن بقي من أجزاء السطح ما لم يتحقّق فيه ملاقاة المطر ، فإنّه حينئذ غير قادح في صدق رؤية المطر لهذا الماء ، لكن الإشكال في صحّة الاستناد إلى المرسلة كما عرفت.

فالأولى حينئذ الاستناد إلى الصحيحة الرابعة ، الواردة في ميزابين سالا أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل لم يضرّه ذلك ، فإنّها منصرفة إلى حال التقاطر ، لأنّه الغالب في سيلان ماء المطر من الميزاب ، دالّة على كون المطر مطهّر للخمر (١) ولو بعد الاستهلاك ، نظرا إلى أنّه ليس عبارة عن الانعدام بالمرّة ، فأجزاؤها المنتشرة موجودة مع الماء ، وإصابته تستلزم إصابة شي‌ء من تلك الأجزاء وهي من الأعيان النجسة ، فلو لا طهرها بالماء لم يكن لقوله عليه‌السلام : « لم يضرّه ذلك » وجه ، فإذا كان ماء المطر مطهّرا عن النجاسة الذاتيّة فكونه مطهّرا عن النجاسة العرضيّة بطريق أولى أولويّة قطعيّة.

نعم ، ينبغي الاقتصار في ذلك على صورة الامتزاج جمودا بما هو مفروض في مورد الرواية من الاختلاط ، ويمكن استفادة تطهير الماء بطريق الأولويّة عن الصحيحة الاولى وغيرها من المعتبرة المتقدّمة بالتقريب المتقدّم.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : « للبول ».


ينبوع

ومن الموضوعات المخصوصة بالعنوان في كتب الأصحاب البئر ، لاختصاصها بمزيد الأبحاث ، وامتيازها بأحكام مختلفة ناشئة عن اختلاف مواردها والأسباب المقتضية لها ، وينبغي قبل الخوض في البحث عن تلك الأحكام صرف النظر في معرفة البئر موضوعا ، وهي كما ترى من المفاهيم العرفيّة الّتي لا يكاد يخفى أمرها على المتأمّل ، ويقطع بعدم تغيّر العرف فيها ، واتّحاده فيها مع اللغة أو العرف القديم المتناول لعرف نفس الشارع ، ولذلك أنّ القاموس (١) والمجمع (٢) جعلاها معروفة ، فكلّ ما يسمّى في العرف بئرا ـ تسمية حقيقيّة ـ فقد لحقه أحكام البئر ، وإن شكّ في التسمية لشبهة في المصداق أو الصدق فإن دخل في مسمّى الجاري لحقه حكمه ، وإلّا فيعتبر في انفعاله وعدم انفعاله ما هو معتبر في الواقف من الكرّيّة وعدمها.

وربّما يعرّف البئر كما عن الشهيد في شرح الإرشاد : « بأنّها مجمع ماء نابع من الأرض لا يتعدّاها غالبا ، ولا يخرج عن مسمّاها عرفا ، » (٣) وعن الأردبيلي : « أنّه مجمع ماء تحت الأرض ، ذي نبع بحيث يصعب الوصول إليه غالبا عرفا ، وعلى حسب العادة » (٤)

وعن المحقّق الشيخ علي الاعتراض عليه : « بأنّ القيد الأخير موجب لإجمال التعريف ، لأنّ العرف الواقع لا يظهر أيّ عرف هو؟ أعرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله أم عرف غيره؟ وعلى الثاني ، فيراد العرف العامّ ، أو الأعمّ منه ومن الخاصّ؟

مع أنّه يشكل إرادة عرف غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلّا لزم تغيّر الحكم بتغيير التسمية فيثبت في العين حكم البئر لو سمّيت باسمه ، وبطلانه ظاهر.

__________________

(١) القاموس المحيط : مادّة « البئر ».

(٢) مجمع البحرين : مادة « بئر ».

(٣) روض الجنان : ١٤٣.

(٤) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٦٥.


والّذي يقتضيه النظر : أنّ ما ثبت إطلاق البئر عليه في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو زمن أحد الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، كالّتي في العراق والحجاز ، فثبوت الأحكام له واضح ، وما وقع فيه الشكّ فالأصل عدم تعلّق أحكام البئر به ، وإن كان العمل بالاحتياط أولى » (١).

وفيه : أنّ موضوعات الأحكام بحكم الاشتراك في التكاليف لا بدّ وأن تكون مشترك الثبوت فيما بين زماننا وما بعده وقبله ، وزمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، فما ثبت اختصاصه بأهل أحد الزمانين لم يعقل ثبوت حكمه لأهل الزمان الآخر ، إن ثبت له حكم خاصّ أو عامّ.

وقد يحصل الاشتباه في مسمّى اللفظ الوارد في الخطاب بالقياس إلى زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو زمان أحد الأئمّة عليهم‌السلام ، فلا بدّ في الوصول إليه من وسط وليس ذلك الوسط عندهم إلّا العرف ، المردّد بين كونه عرف المتشرّعة ، أو عرف أهل اللغة ، أو العرف الحاضر المعبّر عنه بالعرف العامّ ، كلّ في مورده.

ومعلوم أنّ البئر ليست من الموضوعات المحدثة الّتي لم تكن ثابتة في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا من الموضوعات المنقطعة عن زمان غيره ، بل هي ثابتة في جميع الأزمنة ، فإذا طرأ اشتباه في مسمّاها الّذي أخذه الشارع موضوعا في خطابه لا بدّ في استعلامه من مراجعة العرف بأحد من الأقسام المذكورة ، لعدم إمكان الوصول إلى عرف زمانه بدون ذلك ، والمفروض أنّها ليست ممّا ثبت فيه تصرّف من الشارع ليرجع فيه إلى عرف المتشرّعة ، ولا أنّها ممّا ثبت فيها من أهل اللغة نصّ خاصّ ليرجع إلى عرفهم ، فيعيّن الرجوع فيها إلى العرف الحاضر ، لا بوصف أنّه عرف غير زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل بعنوان أنّه مرآت وطريق إلى عرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فليس المراد بالعرف المأخوذ في الحدّ عرف زمانه بالخصوص ، ليرد عليه : أنّه الوصول إليه غير ممكن فيكون التعريف به تعريفا بالمجهول.

ولا أنّ المراد به غير عرف زمانه بوصف أنّه كذلك ، ليرد عليه : أنّ العبرة في موضوعات الأحكام بما ثبت في عرفه صلى‌الله‌عليه‌وآله دون غيره.

بل المراد به العرف العامّ لا بشي‌ء من القيدين ، نظرا إلى أنّ القيود المأخوذة في

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٢٠.


الحدود إنّما تؤخذ باعتبار مفاهيمها لا باعتبار مصاديقها ، حيث إنّها ترد للماهيّات بالماهيّات ، فالترديد فيه بين أنّ المراد به عرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو عرف غيره في غاية السخافة ، لكون مرجعه إلى اعتبار هذا القيد في الحدّ باعتبار المصداق.

غاية الأمر ، أنّ العرف العامّ باعتبار مفهومه الكلّي المتحقّق تارة في ضمن عرف زمانه ، واخرى في ضمن عرف زمان أئمّة اللغة ، وثالثة في ضمن عرف زماننا ، إن ثبت في الخارج تحقّقه في ضمن عرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان موضوعا للحكم بالاستقلال ، فيتعدّى الحكم إلى الأزمنة المتأخّرة إلى زماننا هذا على تقدير ثبوت المسمّى ، وإن تغيّر العرف وانقلبت التسمية.

وإن ثبت تحقّقه في ضمن عرف أهل اللغة ، كان مرآتا لموضوع الحكم الثابت في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموضوعا له بالاستقلال في زمان أهل اللغة ، وموجبا لتعدّيه إلى زماننا على تقدير بقاء المسمّى وتغيّر العرف والتسمية.

وإن ثبت تحقّقه في ضمن العرف الحاضر كان مرآتا لموضوع الحكم الثابت في الأزمنة المتقدّمة إلى زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموضوعا له بالاستقلال في هذا الزمان ، فلا يلزم في شي‌ء من الصور إشكال ، ولا تغيّر الحكم بتغيّر التسمية ولا ثبوت حكم البئر للعين لو سمّيت باسمه ، لأنّ هذه التسمية ـ على فرض تحقّقها ـ إن فرض كونها على وجه المجاز فعدم ثبوت حكم البئر لمسمّاها واضح ، وكذلك لو فرض كونها على وجه الحقيقة ولكن بالوضع الجديد ، وأمّا لو فرض كونها على وجه الحقيقة مع العلم بثبوتها في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو مع احتمال ثبوتها أيضا ، فأيّ إشكال في ثبوت أحكام البئر للمسمّى بها بعد تسليم كون العرف الحاضر مرآتا إلى عرف زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنع تلك المتقدّمة لعلّه سدّ لباب الاستنباط ، وخرق للإجماع ، وهدم لبناء العرف في حكمهم بتشابه الأزمان في التسمية ما لم يثبت لهم خلافه.

فدعوى : أنّ ما ثبت إطلاق « البئر » عليه في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو زمن أحد الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، ـ كالّتي في العراق والحجاز ـ فثبوت الأحكام له واضح ، وما وقع فيه الشكّ فالأصل عدم تعلّق أحكام البئر به ، ممّا لا وجه له أصلا.

نعم ، لو علم بعدم الإطلاق في العرف الحاضر ، أو شكّ في الإطلاق والعدم ، أو علم بالإطلاق وشكّ في وصفه ، أو علم بالوصف وأنّه على وجه المجاز أو على وجه


الحقيقة بوضع متأخّر مع عدم تبيّن حال زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا تعلّق لأحكام البئر حينئذ ، ولعلّه من أحد هذه الأقسام الآبار الغير النابعة ، كما في بلاد الشام ـ على ما حكي ـ والجارية تحت الأرض كما في المشهد الغرويّ على ساكنه السلام ، ولذا صرّح صاحب المدارك (١) فيهما بعدم تعلّق أحكام البئر.

ومن هذا الباب بعض العيون النابعة الّتي يخرج منها الماء إلى حدّ معيّن لا يتعدّاه إلى وجه الأرض على وجه يجري فيها ، وبعض الآبار الّتي يكثر ماؤها حتّى يجري على وجه الأرض ، فإنّها وإن سمّيت « بئرا » غير أنّه لا يجري عليها أحكام البئر ، كما هو المصرّح به في كلام بعضهم.

وكان قيد « النبع » في الحدّ لإخراج الآبار الغير النابعة ، وقيد « عدم التعدّي » ـ أي عدم بروزه على وجه الأرض ـ لإخراج العيون الجارية ، وقيد « الغالب » لإدخال ما ذكرناه من بعض الآبار ، إن كان النظر في اعتبار الغلبة والندرة إلى الأفراد ، وإن كان النظر فيهما إلى الأزمان والأحيان فلا بدّ من فرض الكلام في بئر يتعدّى ماؤها إلى وجه الأرض في بعض الفصول ، فإنّها من أفراد الماهيّة وإن لم يجر عليها أحكام البئر حال جريانها ، وقيد « عدم الخروج عن المسمّى عرفا » لإخراج بعض العيون حسبما فرضناه.

وممّا ربّما يشكّ في حكمه ، الآبار المتثاقبة الّتي تدخل الماء من بعضها إلى بعض بثقبات تحتها ، من دون أن يجري على وجه الأرض ، بل يدخل في صورة الشكّ بئر يكون ماؤها متّصلا بالكرّ أو الجاري ، لكن هذا الشكّ ليس من جهة الشكّ في التسمية ، بل من جهة الشكّ في شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد ، كما أنّ عدم جريان أحكام البئر لما تعدّى ماؤها إلى وجه الأرض من جهة الشكّ في شمول الأدلّة.

ولا يجدي في إثبات الشمول التعليل الوارد في رواية ابن بزيع « بأنّ له مادّة » (٢) ، إمّا لظهور كونه لبيان الملازمة بين النزح وزوال التغيّر ـ حسبما قرّرناه في بحث الجاري ـ أو لكونه مجملا بتردّده بين كونه لبيان تلك الملازمة أو الملازمة بين ماء البئر وعدم إفساد شي‌ء إيّاه ، مع أنّه لو قلنا بنجاسة ماء البئر بالملاقاة لا يجدينا هذا التعليل رأسا ، وإن قلنا برجوعه إلى الملازمة الثانية ، لكون أصل الرواية متروكة الظاهر عند أهل القول بالنجاسة.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٥٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٦.


وعلى أيّ حال كان فماء البئر ـ بالمعنى الّذي يكشف عنه العرف ـ إن تغيّر أحد أوصافه بالنجاسة الواقعة فيها نجس قولا واحدا نصّا وفتوى ، وعليه الإجماعات المنقولة مستفيضة ، ومع ذا كلّه فهو من مقتضى كون التغيّر علّة تامّة للنجاسة ـ حسبما قرّرناه في المباحث السابقة ـ وأمّا مع عدم تغيّر أحد أوصافه بالنجاسة الواقعة فيها ففي تنجّسه والعدم خلاف على أقوال :

أحدها : ما حكي عليه الشهرة بين قدماء أصحابنا من أنّه ينجّس بمجرّد ملاقاة النجاسة ولو كان كثيرا ، كما عن الصدوقين (١) ، والشيخين (٢) ، بل المشايخ الثلاث وأتباعهم ، والحلّي (٣) ، وابن سعيد (٤) ، والمحقّق في المصريّات (٥) والشهيدين (٦) أيضا ، وعن الأمالي : « أنّه من دين الإماميّة » (٧) ، وعن الانتصار (٨) والغنية (٩) والسرائر (١٠) ومصريّات (١١) المحقّق نفي الخلاف عنه ، وربّما نسب ذلك إلى الشيخ في التهذيبين غير أنّا لم نقف من كلامه فيهما على ما يدلّ على ذلك صراحة وظهورا.

وعن كاشف الرموز : « أنّ عليه فتوى الفقهاء من زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يومنا هذا » (١٢) وعن غاية المراد : « أنّ عليه عمل الإماميّة في سائر الأعصار والأمصار » (١٣) وعن الروضة : « كاد يكون إجماعا » (١٤) وفي المنتهى : « وذهب الجمهور إلى التنجيس

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٣ ـ المقنع : ١٠ ـ ٩ ـ ١.

(٢) وهما المفيد في المقنعة : ٦٤ والشيخ الطوسي قدس‌سره في النهاية ١ : ٢٠٧.

(٣ و ١٠) السرائر ١ : ٦٩.

(٤) الجامع للشرائع : ١٩.

(٥) المسائل المصريّة (الرسائل التسع ـ للمحقّق الحلّي ـ : ٢٢١).

(٦) وهما الشهيد الأوّل في الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩ ؛ وذكرى الشيعة ١ : ٨٧ ؛ والشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٣٥ ؛ وروض الجنان : ١٤٥ ؛ وغاية المراد ١ : ٦٦.

(٧) أمالي الصدوق : ٥١٤.

(٨) الانتصار : ٨٩. (٩) غنية النزوع : ٤٦.

(١١) لم نجد فيه دعوى عدم الخلاف في المسألة ، قال فيه ص ٢٢١ : « لأصحابنا في هذه قولان : أحدهما : النجاسة ووجوب النزح للتطهير : وهو اختيار المفيد قدس‌سره والشيخ أبي جعفر الطوسي في النهاية وعلم الهدى من تابعهم والثاني : أنّها لا تنجّس إلّا بالتغيّر ولا يجب النزح إلّا معه ، وهو اختيار قوم من القدماء ... والمختار هو الأوّل ».

(١٢) كشف الرموز ١ : ٤٩ ـ ٤٨.

(١٣) غاية المراد ١ : ٦٦ (من منشورات مكتبة الإعلام الإسلامى بقمّ المشرّفة).

(١٤) الروضة البهيّة ١ : ٣٥.


أيضا » (١) ، يعني بهم العامّة.

وثانيها : ما يظهر عن الشيخ أيضا ، ولكن في التهذيبين (٢) من أنّه لا ينجّس ما لم يتغيّر ، وإن أوجب فيه النزح المقدّر حسبما يأتي بيانه ، وهو محكيّ عن جماعة من الأصحاب أيضا كالحسن بن أبي عقيل (٣) ، والشيخ ، وشيخه الحسين بن عبد الله الغضائري ، والعلّامة (٤) ، وشيخه مفيد الدين بن جهم (٥) ، وولده فخر المحقّقين (٦) على ما في المدارك (٧) ، بل فيه : « إليه ذهب عامّة المتأخّرين » (٨) ، وعزى إلى صاحب التنقيح (٩) ، والموجز (١٠) ، وجامع المقاصد (١١) والمحقّق الميسي (١٢) ، وثاني الشهيدين في رسالة منفردة (١٣) له في تلك المسألة وجمهور المتأخّرين.

وثالثها : الفرق بين قليله فينجّس وكثيره فلا ينجّس ، وفي المدارك (١٤) ذهب إليه الشيخ أبو الحسن محمّد بن محمّد البصروي من المتقدّمين ، وعن المنتقى : « أنّه حكاه عن جماعة » (١٥) وفي المدارك (١٦) أيضا : « وهو لازم للعلّامة لأنّه يعتبر الكرّيّة في مطلق الجاري ، والبئر من أنواعه ، وتنظّر فيما ادّعاه من الملازمة جماعة ، وهو في محلّه لتوجّه المنع إلى كون البئر من أنواع الجاري » (١٧).

وعن الذكرى عن الجعفي : « أنّه يعتبر فيه ذراعين في الأبعاد الثلاثة حتّى لا ينجّس » (١٨).

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٦.

(٢) التهذيب ١ : ٢٣٢ ـ الاستبصار ١ : ٣٢.

(٣) نقله عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٨٧.

(٤) التحرير ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤ ـ نهاية الإحكام ١ : ٢٣٥.

(٥) نقله عنه في روض الجنان : ١٤٤.

(٦) إيضاح الفوائد ١ : ١٧. (٧ و ٨) مدارك الأحكام ١ : ٥٤.

(٩) التنقيح الرائع ١ : ٤٤. (١٠) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١٢).

(١١) جامع المقاصد ١ : ١٢٠.

(١٢) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ٧٩.

(١٣) رسائل الشهيد الثاني : ٢ ـ ٥.

(١٤ و ١٦) مدارك الأحكام ١ : ٥٥.

(١٥) منتقى الجمان ١ : ٥٨ وما حكاه فيه عن جماعة هو قوله : « وصار جماعة من الأصحاب إلى إيجاب النزح مع القول بعدم الانفعال تمسّكا بظاهر الأوامر »

(١٧) وهذا كما ترى لا يرتبط بهذا القول ، بل هو قول آخر من أقوال المسألة كما ذكره في مفتاح الكرامة ١ : ٧٩ فراجع. (١٨) ذكرى الشيعة ١ : ٨٨.


وأوسط الأقوال أوسطها واحتجّ أهل القول به بوجوه ، بين صحيحة وسقيمة.

أوّلها : الاستصحاب ، أشار إليه العلّامة في المختلف قائلا : « ولأنّه ماء محكوم بطهارته قبل ورود النجاسة عليه ، فيتمّ بعده عملا بالاستصحاب السالم عن معارضة الانفعال بالتغيّر » (١) وهو ممّا لا يعقل له وجه ، إذ لو اريد به أخذه دليلا إقناعيّا فهو بالقياس إلى الكثير من ماء البئر ممّا لا حاجة إلى أخذه وسطا ، بل لا معنى له لكفاية الأصل الاجتهادي وعمومات الكرّ في ذلك ، بل لا موضوع له مع وجودهما ، وبالقياس إلى ما دون الكرّ منه ممّا لا ينفع في مقابلة عموم انفعال القليل ، بل لا يعقل معه أيضا ، ومنع العموم في كلا المقامين فيه ما لا يخفى ، بل هو ممّا لا يرضى به المستدلّ كما يظهر بالتتبّع في كلماته.

وإن اريد أخذه دليلا إلزاميّا فهو لا يجدي نفعا في إلزام الخصم ما دام باقيا على مستنده ولا حاجة إليه بعد إلزامه بمنع مستنده ، وإنهاضه طريقا إلى حكم المسألة بعد البناء على تساقط مستنده بمعارضة مستند أهل القول بالطهارة ، يدفعه : ما ذكرناه أوّلا.

وثانيها : العمومات الدالّة على أنّ مطلق الماء طهور ، وتخصيصها بالماء القليل حال ملاقاة النجاسة لا يخرجه عن كونها حجّة ، تمسّك به العلّامة في المنتهى (٢) ، وكأنّ المراد به إثبات المطلب في الجملة ولو في ضمن الكرّ ، قبالا للإيجاب الكلّي الّذي يدّعيه الخصم ، وإلّا فالعمومات لا تنهض دليلا على عموم المطلب بعد خروج الماء القليل عنها ، لأنّ المقام منه إذا كان قليلا.

وثالثها : ما تمسّك به في المنتهى أيضا من أنّها : « لو نجست لما طهرت ، والتالي باطل اتّفاقا ، ولأنّه حرج فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّه لا طريق إليه إلّا النزح ، وإلّا لزم إحداث الثالث ، وليس بصالح لذلك.

أمّا أوّلا : فلأنّه لم يعهد في الشرع تطهير شي‌ء بإعدام بعضه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه غالبا يسقط من الدلو الأخير إلى البئر ، فيلزم تنجيسها ، ولا ينفكّ المكلّف من النزح وذلك ضرر عظيم.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٨.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٦١.


وأمّا ثالثا : فلأنّ الأخبار اضطربت في تقدير النزح ، فتارة دلّت على التنصيص في التقديرات المختلفة ، وتارة دلّت على الإطلاق ، وذلك ممّا لا يمكن أن يجعله الشارع طريقا إلى التطهير » (١).

وفيه : ما لا يخفى من منع الملازمة ، وضعف الوجوه المقامة عليها.

أمّا الأوّل : فلمنع كون المطهّر هو الإعدام ، بل المطهّر في الحقيقة هو الماء المتجدّد من المادّة ، والنزح اعتبر طريقا إلى تجدّده ، ولو سلّم فأيّ مانع عن كون إعدام البعض مطهّرا إذا دلّ عليه الشرع ، فإنّ الأحكام ولا سيّما أحكام البئر كلّها تعبّديّة متلقّاة من الشارع ، فلا ينبغي قياسها بالعقول القاصرة.

وأمّا الثاني : فلمنع كون سقوط القطرة من الدلو إلى البئر قادحا في طهرها بالنزح المقدّر له شرعا ، لجواز كون تلك القطر مسلوب الأثر في نظر الشارع ، صونا للمكلّف عن الحرج.

ومنه ينقدح ضعف ما قد يقرّر هذا الدليل بأنّها لو نجست لما طهرت ، للزوم تنجّسها بعود الدلو والرشا إليها ، والساقط من الدلو خصوصا الأخير ، واللازم باطل وليس القول بالطهارة بعد النزح بأولى عن القول بعدم النجاسة بالملاقاة.

وفيه : أيضا ضعف واضح فإنّ الأولويّة بعد ما قضى الشرع بهما ممّا لا يمكن رفع اليد عنها.

وأمّا الثالث : فلأنّ اختلاف الأخبار بالإطلاق والتقييد ، أو الإجمال والبيان ممّا لا يعدّ من الاضطراب المخلّ ، وإلّا فكم من هذا القبيل ، وظاهر أنّ كيفيّات الخطاب تختلف بحسب اختلاف المقامات وأحوال المخاطبين ، ومقتضيات الإطلاق والتقييد ، أو الإجمال والبيان ، فإنّ الخطاب ربّما يرد مطلقا ويحال تقييده إلى المقيّدات الخارجيّة ، وقد يرد مجملا إذا لم يكن في موضع الحاجة فيؤخّر بيانه إلى وقتها ، وقد يرد مقيّدا أو مبيّنا حيث كان وقت الحاجة حاضرا.

ورابعها : أنّها لو نجست لزم الحرج الشديد ، خصوصا في البلاد الّتي ينحصر ماؤهم

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٢ ـ ٦١.


في البئر ، وعن كاشف الغطاء ما يرجع محصّله : إلى « أنّ من لاحظ ذلك لم يحتج إلى النظر في الأخبار ، عامّها وخاصّها » (١) ولعلّ المقصود بيان لزوم هذا المحذور على تقدير النجاسة ، مع سائر لوازمها الّتي منها وجوب النزح بأعدادها المقدّرة ، وعلى هذا فالإلزام عليه في محلّه ، والمحذور وارد ، وإلّا فإن كان المراد بيان لزومه لمجرّد النجاسة الداعية إلى التجنّب ، فلزومه بعد جعل النزح طريقا إلى تطهيره في محلّ المنع ، كما لا يخفى.

وخامسها : ما اعتمد عليه بعضهم من أنّه يلزم على التنجيس الحكم بنجاسة الكرّ المصاحب للنجاسة إذا القي في البئر مع نجاسة البئر، والأدلّة تبطله ، والحكم بنجاسة البئر دون الكرّ مع فرض عدم تميّز أحدهما عن الآخر ، غير معقول.

وفيه : ما لا يخفى من توجّه المنع إلى بطلان التالي ، فإنّ الأدلّة المبطلة له إن اريد بها الأدلّة القاضية بكون الكرّيّة عاصمة عن الانفعال ، فجريانها في الفرض المذكور ليس بأقوى من جريانها في الكرّ بل الكرور الّتي هي في نفس البئر ، على أنّ بناء القول بالنجاسة على تخصيص تلك الأدلّة ، فلا يفترق الحال في ذلك بين كون الكرّ الحاصل فيه أصليّا أو عارضيّا بوقوعه عليها من الخارج ، وظهور الإضافة في « ماء البئر » في الماء النابع فيها لا يقدح في ذلك ، بعد البناء على كون دليله عامّا ، كما يرشد إلى الاعتراف به دعوى الملازمة.

وإن اريد بها ما عدا تلك الأدلّة فنطالبه ببيانه حتّى ننظر في حاله ، كيف ولا دليل هنا سوى الاستبعاد الغير الصالح للتعويل عليه في استنباط الحكم الشرعي.

وبذلك يظهر ضعف ما استدلّ به أيضا : من أنّه يبعد كثيرا الحكم بنجاستها مع نبعها واتّصالها بالمياه الكثيرة ، بل بالبحر لو فرض ، مع اشتمال الخارج على الكرور أيضا ، ولو اخرج من مائها خارجها مقدار الكرّ لم ينجّس بالملاقاة ، فإنّ الحكم عند القائل به من لوازم الخصوصيّة البئريّة ، ولا يقدح فيها النبع والاتّصال بالكثير ، ويمكن منع الملازمة في تلك الصورة بالقياس إلى مسألة الاتصال بالكثير ، لجواز كونه قائلا بالتقوّي في تلك الصورة ، لكنّه يطالب بدليل التقوّي ، فإنّه لا بدّ وأن يكون عامّا بحيث يشمل المفروض.

__________________

(١) كشف الغطاء : ١٩٢.


وسادسها : ما أشار إليه في المنتهى من : « أنّه بجريانه من منابعه أشبه الماء الجاري ، فيتساويان حكما » (١) وهو أوضح فسادا من جميع ما مرّ ، مع أنّ قضيّة ذلك مع ملاحظة قوله باشتراط الكرّيّة في الجاري كونه قائلا هنا بالفرق ، ولعلّه من هنا قد يستظهر منه في الكتاب المشار إليها المصير إلى هذا القول ، وكيف كان فالملازمة ممنوعة ، إذ لا مستند لها سوى القياس وهو ليس من مذهبه.

وسابعها : الأخبار الخاصّة وهي العمدة في المقام.

منها : الصحيح المرويّ في الكافي ، والتهذيب ، والاستبصار ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام قال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء ، إلّا أن يتغيّر ريحه ، أو طعمه ، فينزح حتّى يذهب الريح ، ويطيب طعمه ، لأنّ له مادّة » (٢) قال الشيخ في التهذيبين : « المعنى في هذا الخبر أنّه لا يفسده شي‌ء إفسادا لا يجوز الانتفاع بشي‌ء منه إلّا بعد نزح جميعه ، إلّا ما غيّره ، فأمّا ما لم يتغيّر فإنّه ينزح منه مقدار وينتفع بالباقي » (٣) وغرضه بهذا الكلام جعل الرواية بحيث لم تكن منافية لوجوب النزح بدون التغيّر الّذي يقول به تعبّدا ، وإن كان لا يقول بنجاسة الماء.

ويرد عليه : منع كون الإفساد مع التغيّر إفسادا لا يجوز معه الانتفاع بشي‌ء منه إلّا بعد نزح جميعه.

أمّا أوّلا : فلأنّ المنع عن الانتفاع مع التغيّر يدور مع التغيّر وجودا وعدما ، وإعدام التغيّر لا يستدعي نزح الجميع.

وأمّا ثانيا : فلمنع انحصار الانتفاع في مشروط بالطهارة ، لحصوله بسقي الدوابّ والبساتين ونحوها ، ومع ذلك فالمنع المتوقّف رفعه على زوال التغيّر المتوقّف على النزح ـ على تقدير التغيّر ـ ثابت مع عدم التغيّر أيضا ، على ما يراه من وجوب النزح الّذي لا يتحقّق في كثير من صوره إلّا في ضمن نزح الجميع ، فما معنى الاستثناء الوارد في الرواية؟ والتأويل المذكور بعد الجمع بينه وبين قضيّة وجوب النزح موجب لاتّحاد

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ الاستبصار ١ : ٣٣ / ٨٧ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٧ ـ الكافي ٣ : ١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٠٩ ذيل الحديث ١٢٨٧.


المستثنى مع المستثنى منه في الحكم فلغى الاستثناء ، وهو كما ترى.

فالإنصاف : أنّها كما تدلّ على عدم النجاسة مع عدم التغيّر دلالة واضحة ، فكذلك تدلّ على عدم وجوب النزح أيضا ، حيث أنّه خصّه بصورة التغيّر ، كما تنبّه عليه صاحب المدارك في حاشية الاستبصار عند اعتراضه على الشيخ في التأويل المذكور حيث قال : « وما ذكره الشيخ من معنى الخبر بعيد جدّا ، ومع ذلك فيتوجّه عليه : أنّ عدم جواز الانتفاع بشي‌ء من ماء البئر يتحقّق مع التغيّر في كثير من النجاسات عند القائلين بالتنجيس ، كما أنّه قد يجوز الانتفاع بالباقي إذا زال التغيّر بنزح البعض ، فإطلاق القول بعدم جواز الانتفاع بشي‌ء منه مع التغيّر وجوازه مطلقا بدونه غير مستقيم ، وهذه الرواية كما تدلّ على عدم انفعال البئر بالملاقاة كذا تدلّ على عدم وجوب النزح بدون التغيّر ، لأنّه عليه‌السلام اكتفى في تطهيره مع التغيّر بنزح ما يذهب الريح ويطيب الطعم ، ولو وجب نزح المقادير المعيّنة لم يكن ذلك كافيا ، إذ لا يحصل به استيفاء المقدّر ، ويشهد لذلك الاختلاف الكثير الواقع في قدر النزح كما ستطلع عليه ، فإنّه قرينة الاستحباب » (١) انتهى.

والوجه في دلالة الخبر على عدم الانفعال مع عدم التغيّر ، أنّ المراد بالإفساد الّذي حصره عليه‌السلام في صورة التغيّر إنّما هو التنجيس ، بقرينة الوصف بالسعة واستثناء صورة التغيّر ، فإنّه موجب للتنجيس فيكون المنتفي عن المستثنى منه مع عدم التغيّر هو التنجيس أيضا ، كما ذكره في أوّل الحاشية المذكورة.

وأمّا « السعة » فيمكن أن يراد بها السعة الحسّية ، وهي الّتي تفرض بحسب المساحة طولا وعرضا وعمقا ، فيكون في الخبر حينئذ إشعار باعتبار الكرّيّة ـ كما هو أحد أقوال المسألة ـ كما يمكن أن يراد بها السعة المعنويّة ، وهي القوّة العاصمة له عن الانفعال بدون التغيّر ـ أي القوّة الغير القابلة للانفعال بدونه ـ وهو الأظهر بقرينة وصفها بعدم الإفساد ، فإنّ هذا الوصف إمّا تفسير للسعة فلا يصلح إلّا إذا اريد بها السعة المعنويّة ، لأنّه وصف معنوي ومن الواجب اتّحاد المفسّر والمفسّر ، أو تقييد لها فلا يصلح وصفا للكرّيّة ، لأنّ الكرّ مع عدم التغيّر لا ينقسم إلى ما يقبل منه الفساد وما لا يقبله ، بل الّذي ينقسم إليها الماء لا بشرط الكرّيّة ولا بشرط عدمها ، فلا بدّ وأن يعتبر

__________________

(١) لم نعثر عليه.


الموصوف أمرا معنويّا والوصف تفسيريّا ولا محذور ، فتمّت بذلك دلالة الخبر على تمام مدّعى القائلين بعدم الانفعال.

وأمّا الاعتراض عليه تارة : بما عن المعتبر (١) من أنّه مكاتبة يضعف دلالته ، ومن أنّ الفساد يحمل على فساد يوجب التعطيل ، ومن أنّه معارض برواية محمّد بن إسماعيل الآتية.

واخرى : بأنّ دلالته بالعموم ، ويخرج عنه بالأدلّة الخاصّة كما يخرج عن العمومات وعن الأصل بها ، وبأنّه متروك الظاهر لثبوت التنجيس باللون أيضا.

فيدفعه : منع كون هذا الخبر مكاتبة ، بل المكاتبة هو الخبر الآتي الّذي تمسّك به أهل القول بالنجاسة ، ولذا قال في هذا الخبر : « قال » من دون إشعار فيه بالكتابة سؤالا وجوابا ، نعم المكاتبة بهذا المضمون رواها في التهذيب بطريق آخر عن المفيد ، عن ابن قولويه ، عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد ، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام فقال : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء » الحديث (٢). وأنّ التقييد بما ذكر تأويل لا يصار إليه بلا ضرورة دعت إليه.

والمعارضة تندفع بما يأتي من الوجوه الدافعة لاحتجاج القول بالنجاسة.

ومنع قيام أدلّة خاصّة تصلح رافعة للدلالة العامّة إن اريد بها العموم بالقياس إلى ملاقاة نجس لا يغيّره وملاقاة غير النجس ، مع منع العموم من تلك الجهة لظهور « شي‌ء » بقرينة استثناء صورة التغيّر فيما يكون نجسا.

وإن اريد بها العموم بالقياس إلى الكرّيّة وعدمها ، فيدفعه : أنّ الأدلّة الخاصّة إن اريد بها الأخبار الواردة في البئر الدالّة على التنجيس ، ففيه : بعد تسليم دلالتها عليه ، منع كونها أخصّ من هذا الخبر ، بل النسبة بينها وبينه هو التباين ، ومعه يجب الرجوع إلى المرجّحات ، والترجيح في جانبه كما يأتي بيانه.

وإن اريد بها أدلّة انفعال القليل ، ليكون مفاد الاعتراض لزوم اعتبار الكرّيّة في البئر أيضا.

ففيه : أنّ أدلّة الانفعال منها ما لا يتناول البئر ، لاختصاصها بموارد مخصوصة ليس البئر منها ، ومنها ما يتناول بعمومه البئر كمفهوم « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شي‌ء »

__________________

(١) المعتبر : ١٣.

(٢) التهذيب ١ : ٦٧٦ / ٢٣٤.


ففيه : منع أخصّيّة المفهوم ، بل النسبة بينه وبين الخبر عموم من وجه ، لأنّ الخبر أعمّ من الكرّ وعدمه ، والمفهوم أعمّ من ماء البئر وغيره ، فيجب التخصيص في أحدهما ، وهو في المفهوم أولى منه في الخبر ، لكون دلالته منطوقيّة والمنطوق أقوى من المفهوم ، ولا سيّما المنطوق المؤدّى بعبارة الحصر الّذي هو من أظهر الظواهر ، ولا ريب أنّ الأظهر لا يترك بالظاهر.

وأنّ (١) ترك ظهور الكلام في بعض فقراته كالمستثنى مثلا لدليل لا يقضي بضعف ظهوره بالقياس إلى الفقرة الاخرى وهي المستثنى منه هنا.

وحاصله : أنّ التقييد في المستثنى بزيادة شي‌ء عليه لا يقضي بتقييد المستثنى منه لغير جهة تلك الزيادة ، ولا رفع اليد عن ظهوره بغير جهة التقييد كما لا يخفى.

ومنها : الصحيح المرويّ في التهذيب عن عليّ بن جعفر عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن بئر ماء وقع فيها زنبيل (٢) من عذرة رطبة ، أو يابسة ، أو زنبيل من سرقين ، أيصلح الوضوء منها؟ قال : « لا بأس » (٣).

وعن الشهيد في غاية المراد : « أنّ المراد من العذرة والسرقين النجس ، لأنّ الفقيه لا يسأل عن ملاقاة الطاهر » (٤).

وقريب منه ما في المدارك قائلا ـ في دفع الاعتراض على الخبر بأنّ العذرة والسرقين أعمّ من النجس فلا يدلّ عليه ، لعدم دلالة العامّ على الخاصّ ـ : « بأنّ العذرة لغة وعرفا فضلة الإنسان ، والسرقين وإن كان أعمّ منه إلّا أنّ المراد منه هنا النجس ، لأنّ الفقيه لا يسأل عن الطاهر » (٥) أقول : هذا الكلام بالقياس إلى السرقين لعلّه غير وجيه ، لظهور « السرقين » عرفا ولغة في روث الدوابّ ، ولا جهة فيه للعموم ، ولا ينافي السؤال عنه لفقاهة السائل لجواز ابتنائه على توهّم النجاسة في روث الدوابّ.

ولقد أجاد المحقّق البهبهاني في حاشية المدارك قائلا بما يرجع محصّله إلى دعوى : « كون المتعارف في السرقين مثل الحمار والبغل والخيل والأنعام ، وسيجي‌ء في

__________________

(١) هذا جواب عن الاعتراض على الرواية بقوله : و « بأنّه متروك الظاهر » الخ.

(٢) الزبيل والزنبيل : جراب ، وقيل : وعاء يحمل فيه. لسان العرب ١١ : ٣٠٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٨ التهذيب ١ : ٢٤٦ قطعة من الحديث ٧٠٩.

(٤) غاية المراد ١ : ٦٩.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٥٨.


بحث النجاسات ما يدفع هذا الاستبعاد ، حيث قال : جمع بنجاسة بول الدوابّ واحتمل السائل نجاسة سرقينهم أيضا ، فسأل عن صلاحية الوضوء ، وكونه فقيها بحيث لم يكن له إشكال أصلا في صلاحية الوضوء غير ثابت ، مع أنّه إنّما حصل لهم ولنا الفقه من سؤالهم عن المعصوم عليه‌السلام.

فالأولى أن يقال : إنّ الدلالة من جهة العذرة وهي كافية ، أو يقال : ترك الاستفصال يفيد العموم ، لكن هذا فرع عدم كونه أظهر في « ما ذكر » (١) انتهى.

وبالجملة : الاستدلال بالخبر غير مبنيّ على ثبوت نجاسة السرقين عندنا ، لما في نجاسة العذرة كفاية في ذلك ، وبذلك يندفع الاعتراض المشار إليه.

وربّما اعترض عليه : بأنّ وصول الزنبيل إلى الماء ـ كما هو المذكور في السؤال ـ لا يستلزم وصول العذرة والسرقين إليه.

ويدفعه : أنّ الاستلزام يثبت بحكم العادة ، كما صرّح به جماعة.

واعترض عليه أيضا : بإمكان أن يراد نفي البأس بعد نزح المقدّر ، وحكي ذلك عن الشيخ أيضا قائلا : « بأنّ المراد لا بأس بعد نزح ثلاثين دلوا » (٢) وعنه (٣) احتمال آخر وهو : أن يراد بالبئر المصنع دون المعيّن ، لأنّ هنا رواية اخرى « إذا كان فيها كثرة » والكثرة قرينة المصنع.

وأنت خبير بأنّ كلّ ذلك بعيد عن الصواب ، وخروج عن قانون الاجتهاد ، حيث لا داعي إلى ارتكاب هذه الامور ، وظهر أنّ هذا الخبر أيضا تامّ الدلالة على تمام المطلب.

ومنها : صحيحة معاوية بن عمّار المرويّة في التهذيبين عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لا يغسل الثوب ، ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب ، وأعاد الصلاة ، ونزحت البئر » (٤) وعن المحقّق في المعتبر المناقشة في سند هذا الخبر : « بأنّ حمّادا في طريقه مشترك بين الثقة والضعيف » ، وفي دلالته : « بأنّ لفظ « البئر » يقع على النابعة والغدير ، فيجوز أن يكون السؤال عن بئر ماؤها

__________________

(١) حاشية مدارك الأحكام للمحقّق البهبهانى ١ : ١١١.

(٢) الاستبصار ١ : ٤٢ ذيل الحديث ١١٨ ؛ وفيه : « خمسين دلوا » بدل « ثلاثين دلوا ».

(٣) نفس المصدر.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ التهذيب ١ : ٢٣٢ / ٦٧٠ الاستبصار ١ : ٣٠ / ٨٠.


محقون » (١) ودفعهما في المدارك : « بالقطع بأنّ حمّادا هذا هو ابن عيسى الثقة الصدوق ، لرواية الحسين بن سعيد عنه ، وروايته عن ابن عمّار وهذا السند متكرّر في كتب الأحاديث مع التصريح بأنّه ابن عيسى على وجه لا يحصل شكّ في أنّه المراد من الإطلاق كما يظهر للمتتبّع ، وأنّ البئر حقيقة في النابعة ، ولهذا حملت الأحكام كلّها عليها واللفظ إنّما يحمل على حقيقته لا على مجازه » (٢) أقول : ولقد أجاد رحمه‌الله تعالى فيما أفاد.

ومنها : الصحيحة الاخرى عن معاوية بن عمّار المرويّة في التهذيبين في طريق فيه سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمّد عن أبي طالب عبد الله بن الصلت عن عبد الله بن المغيرة عن معاوية بن عمّار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الفأرة تقع في البئر فيتوضّأ الرجل منها ويصلّي ، وهو لا يعلم أيعيد الصلاة ويغسل ثوبه؟ فقال : لا يعيد الصلاة ولا يغسل ثوبه » (٣) وعن المحقّق الشيخ محمّد في شرح الاستبصار القدح في سند الرواية قائلا : « وفي الفهرست الراوي عن ابن الصلت هو أحمد بن أبي عبد الله لا ابن عيسى ، وفي أحمد ابن أبي عبد الله نوع كلام » (٤) ومراده بأحمد ابن أبي عبد الله ، أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ، ووجه الكلام فيه ما قيل في طعنه من أنّه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل ، ولأجل ذا كان أحمد بن محمّد ابن عيسى أبعده عن قم ، ثمّ أعاده إليها واعتذر إليه.

لكن فيما نقله عن الفهرست نظر ، لأنّ أحمد بن محمّد بن عيسى أيضا يروي عن ابن الصلت كما نقل عن كتاب المشتركات (٥) فهما معا يرويان عن ابن الصلت ، كما أنّ سعد بن عبد الله يروي عنهما معا ، غير أنّ ذلك لا يجدي في تعيين كون أحمد هنا هو ابن عيسى ، لما عرفت من اشتراكهما في الوصف ، ولعلّه غير قادح في صحّة الرواية وإن لم يتعيّن هذا الراوي ، لأنّهما معا ثقتان ، ولذا قيل في ترجمة ابن أبي عبد الله : « أنّه كان ثقة في نفسه » (٦) وعن ابن الغضائري : « طعن عليه القمّيون وليس الطعن فيه إنّما الطعن فيمن يروي عنه ، فإنّه كان لا يبالي عمّن أخذ على طريقة أهل الأخبار » (٧) وحينئذ فهذا السند صحيح جدّا ، لكون ابن الصلت الّذي يروي عنه في هذا السند من الثقات ، فلا

__________________

(١) المعتبر : ١٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٥٩ ـ ٥٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٩ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧١ ـ الاستبصار ١ : ٣٧.

(٤) استقصاء الاعتبار ١ : ٢٤٤.

(٥) هداية المحدّثين : ١٠٣. (٦) رجال النجاشي : ٧٦.

(٧) حكى عنه في منتهى المقال ١ : ٣٢٠.


وجه للقدح في الرواية من حيث السند كما لا وجه للقدح فيها من حيث الدلالة ، باحتمال وقوع الفأرة بعد الوضوء مع أنّه لا دلالة فيها على موتها فيها ، فإنّ الاحتمال المذكور يأباه لفظة « الفاء » في قوله : « فيتوضّأ الرجل منها » عقيب قوله : « في الفأرة تقع في البئر » وبذلك يندفع احتمال عدم موتها فيها ، فإنّ مقتضى ظهور ترتيب « الفاء » تبيّن وقوعها قبل الوضوء والصلاة ، ولا ريب أنّ العادة تأبى عن بقائها حيّة في الماء في هذا المقدار من الزمان.

وفي معنى هذا الخبر موثّقة أبان بن عثمان (١) ، ورواية (٢) جعفر بن بشير عن أبي عيينة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ ففي الاولى ـ قال : سئل عن الفأرة تقع في البئر ، لا يعلم بها إلّا بعد ما يتوضّأ منها ، أيعاد الصلاة؟ فقال : « لا » (٣).

وفي الثانية قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر ، فلا يعلم بها أحد إلّا بعد ما يتوضّأ منها ، أيعيد وضوءه وصلاته ، ويغسل ما أصابه؟ فقال : « لا » (٤).

ومنها : موثّقة زيد بن محمّد بن يونس أبي اسامة الشحّام ، لأبان بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا وقع في البئر الطير والدجاجة والفأرة فانزح منها سبع دلاء » ، قلنا : فما تقول : في صلاتنا : ووضوئنا : وما أصاب ثيابنا؟ فقال : « لا بأس به » (٥) ، والمناقشة فيها باحتمال عدم تحقّق الموت ليست على ما ينبغي ، لكونها دفعا للظاهر.

ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم المرويّة في التهذيب عن أحدهما عليهما‌السلام في البئر يقع فيها الميتة ، قال : « إذا كان له ريح نزح منها عشرون دلوا » ، وقال : « إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء » (٦) ، ودلالتها بالمفهوم بناء على ما قيل من أنّ النزح لزوال الريح غالبا بالعشرين ، فيدلّ على نفي النزح على تقدير عدم الريح ، ولكنّه إنّما يستقيم على تقدير تذكير الضمير لعوده إلى « الماء » حينئذ ـ كما في النسخة الحاضرة عندنا ـ وأمّا

__________________

(١) فإنّه من الناووسيّة وباقي السند صحاح (منه).

(٢) وانّما عبّرنا عنها بالرواية لجهالة ابن عيينة ، وإن ذكر فيه شي‌ء ربّما يمكن التعويل عليه (منه).

(٣) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٢ ـ الاستبصار ١ : ٣١ / ٨٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٣ ـ الاستبصار ١ : ٣١ / ٨٣.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٤ ـ الاستبصار ١ : ٣١ / ٨٤.

(٦) الوسائل ١ : ١٩٥ ب ٢٢ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٣.


على تقدير تأنيث الضمير ـ كما في نسخ اخرى نقلها غير واحد من أصحابنا ـ فيحتمل عوده إلى البئر ، أو إلى الميتة ، فلا دلالة فيها إذن على أنّ النزح إنّما هو لأجل التغيّر الّذي يزول غالبا بالعشرين.

ولكنّه لا يقدح في دلالته على أنّه ليس لأجل النجاسة ، بقرينة اعتبار نزح سبع دلاء لدخول الجنب ، لأنّ الجنب بوصف دخوله في البئر لا يستلزم بدنه مباشرة النجاسة والاشتمال عليها كما لا يخفى ، فالرواية بعمومها الشامل لصورة عدم اشتماله عليها تدلّ على النزح ، وهو لا يجامع نجاسة الماء.

وبذلك يتوهّن ما أورد عليها : من أنّها لا تدلّ على أنّه إذا لم يكن لها ريح لم ينزح شي‌ء ، فإنّ دلالتها على النزح ـ على تسليم وجوبه ـ أعمّ من النجاسة فضلا عن توجّه المنع إلى وجوبه.

ومنها : موثّقة يعقوب بن عثيم بأبان بن عثمان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام سام أبرص وجدناه قد تفسّخ في البئر؟ قال : إنّما عليك أن تنزح منها سبع أدل (١) ، قلت : فثيابنا الّتي قد صلّينا فيها نغسلها ونعيد الصلاة؟ قال : « لا » (٢).

وروي في التهذيب عقيب ذلك مرسلا عن جابر بن يزيد الجعفي ، أنّه سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن السام أبرص في البئر (٣) فقال : « ليس بشي‌ء حرّك الماء بالدلو » (٤).

ولو قيل : بمنع نهوض ذلك دليلا على عدم النجاسة ، لتوجّه المنع إلى كون « سام أبرص » (٥) من ذوات الأنفس ، لعارضناه : ـ بعد التسليم ـ بمنع نهوض النزح الوارد في الأخبار دليلا على النجاسة لوروده بعينه في « سام أبرص » كما في الموثّقة.

ومنها : موثّقة عبد الكريم بن عمرو الواقفي الثقة ، عن أبي بصير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام بئر يستقى منها ، وتوضّؤ به ، وغسل منه الثياب ، وعجن به ، ثمّ علم أنّه كان

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٩ ـ التهذيب ١ : ٢٤٥ / ٧٠٧ ـ الاستبصار ١ : ٤١ / ١١٤.

(٣) كذا في الأصل ، وفي التهذيب الموجود عندنا « الماء » بدل « البئر ».

(٤) التهذيب ١ : ٢٤٥ / ٧٠٨.

(٥) وفي هامش الأصل : « سام أبرص » : من كبار الوزغ ، وهو معرفة إلّا أنّه تعريف جنس ، وهما اسمان جعلا واحدا.


فيها ميّت؟ قال : « لا بأس ، ولا يغسل الثوب ، ولا تعاد منه الصلاة » (١) ومنها : صحيحة زرارة الواردة في زيادات التهذيب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير ، يستقى به الماء من البئر ، أيتوضّأ من ذلك الماء؟ قال : « لا بأس » (٢).

ولكن دلالته على المطلب مبنيّة على كون المراد « بالماء » المسئول عن التوضّي به هو ما في البئر ، بناء على أنّه لا ينفكّ عن ملاقاته الحبل عادة ، ولا عن ملاقاة ما في الدلو له ثمّ سقوط القطرات منه إليها ، ولعلّه الأظهر.

وهاهنا روايات اخر ضعيفة الأسانيد بإرسال ونحوه دالّة على المطلب ، كرواية زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن جلد الخنزير يجعل دلوا يستقى به الماء؟ قال : « لا بأس » (٣) (٤). وظاهر السياق وإن كان يقتضي كونه واردا لبيان حكم أصل الاستعمال تكليفا ، لكونه استعمالا لنجس العين وانتفاعا به ، إلّا أنّ قضيّة منصب الإمامة ورجحان الدعاء إلى الخير أو وجوبه ، أن تنبّه عليه‌السلام على الانفعال لو كان ملاقاة النجاسة موجبة لانفعاله ، لئلّا يستعمل من مائه بلا تطهير.

ومرسلة عليّ بن حديد ، عن بعض أصحابنا ، قال : « كنت مع أبي عبد الله عليه‌السلام في طريق مكّة فصرنا إلى بئر ، فاستقى غلام أبي عبد الله عليه‌السلام دلوا فخرج فيه فأرتان ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أرقه ، فاستقى آخر ، فخرج فيه فأرة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أرقه ، قال فاستقى الثالث فلم يخرج فيه شي‌ء ، فقال : صبّه في الإناء ، فصبّه في الإناء » (٥).

وأورد عليه الشيخ في التهذيب : بأنّ عليّ بن حديد رواه عن بعض أصحابنا ولم يسنده ، وهذا ممّا يضعف الحديث ، ويحتمل مع تسليمه أن يكون أراد بالبئر المصنع الّذي فيه من الماء ما يزيد مقداره على الكرّ ، فلا يجب نزح شي‌ء منه ، ثمّ لم يقل أنّه توضّأ منه بل قال : « صبّه في الإناء » وليس في قوله : « صبّه في الإناء » دلالة على جواز استعماله في الوضوء ، ويجوز أن يكون إنّما أمره بالصبّ في الإناء للشرب ، وهذا يجوز

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧١ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٧.

(٢) التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٩ ـ الوسائل ١ : ١٧٠ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٥ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠١.

(٤) وجه الضعف في ذلك اشتمال السند على أبي زياد النهدي ، وهو مجهول (منه).

(٥) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٢٣٩ / ٦٩٣.


عندنا عند الضرورة » (١).

ولا يخفى ما في الوجهين الأخيرين من التكلّف ، وإنّما دعاه إليه مصيره إلى وجوب النزح ، مع ما في وجهه الأخيرين من إمكان المنع ، لما عن المحقّق في المعتبر من أنّه ذكره وزاده في آخره : « فصبّه فتوضّأ منه ، وشرب » (٢).

وما أرسله الصدوق : « أنّه كان في المدينة بئر وسط مزبلة ، وكانت الريح تهبّ وتلقي فيها العذرة ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضّأ منها » (٣).

ورواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام : في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمس أذرع ، أو أقلّ ، أو أكثر ، يتوضّأ منها؟ قال : « ليس يكره من قرب ولا بعد ، يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء » (٤).

ومن الروايات المعتبرة في هذا الباب موثّقة عمّار ، قال سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن البئر تقع فيها زنبيل عذرة يابسة أو رطبة ، قال : « لا بأس ، إذا كان فيها ماء كثير » (٥).

قيل في وجه دلالتها : أنّ الكثرة العرفيّة غير معتبرة في الماء إجماعا إلّا للتحفّظ عن التغيّر ، ولم يثبت الحقيقة الشرعيّة في لفظ « كثير » ليكون الرواية دليلا على اعتبار الكرّيّة في البئر.

وبالجملة : هذه جملة روايات أكثرها معتبرة الأسانيد ، واضحة الدلالات ، عثرنا عليها في الباب تدلّ بإطلاقها على عدم انفعال ماء البئر بمجرّد الملاقاة ، كرّا كان أو دونه ، فهي بالقياس إلى الكرّ على طبق الأصل الثابت فيه ، وبالقياس إلى ما دونه تنهض حاكمة على أدلّة انفعال القليل ، إمّا لأنّه لا تعارض بينهما لعدم تناول أكثر تلك الأدلّة لماء البئر ، أو لكون التأويل فيها أولى ، إن كان النظر فيها إلى ما يعارض بعمومه أخبار الباب معارضة العامّين من وجه.

فظهر إذن أنّ الأقوى في المسألة ما صار إليه معظم المتأخّرين ، من عدم الانفعال مطلقا.

وممّا يمكن أن يؤخذ دليلا على هذا المطلب ـ مضافا إلى ما سيأتي الإشارة إليه ـ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٤٠ ذيل الحديث ٦٩٣.

(٢) المعتبر : ١١.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢٠ ـ الفقيه ١ : ١٥ / ٣٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٧١ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ الكافي ٣ : ٨ / ٤.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٦ / ١٣١٢.


أنّ النوع الواحد من النجاسة لا يعقل أن يختلف أفراده في اقتضاء بعضها من المطهّر ما يزيد على ما اقتضاه الآخر بمراتب شتّى ، ولو فرضناها متساوية في الوصف والمقدار ، ولازم قولهم بالانفعال هو الاختلاف ، نظرا إلى ما سيأتي في ذيل مسائل النزح من أنّ « الدلو » الوارد في الروايات محمولة عندهم على ما جرت العادة باستعماله في شخص البئر ، ولا ريب أنّه يختلف في الصغر والكبر ، وقد اعتبر في النزح عن بول الرجل مثلا أربعون دلوا بما هو متعارف على البئر الّتي وقع فيها البول ، والمطهّر إمّا الماء المتجدّد ، أو نفس النزح ، وعلى التقديرين يلزم الاختلاف لو فرضنا آبارا متعدّدة وقع في كلّ منها من أفراد بول الرجل ما هو بوصف واحد ، ومقدار واحد.

أمّا على الأوّل : فلأنّه قد يبلغ مجموع أربعين دلوا إلى الكرّ وما فوقه ، وقد يبلغ إلى نصف الكرّ ، وقد يبلغ إلى ثلثه ، وقد يبلغ إلى ربعه وهكذا ، ومنشأ ذلك الاختلاف إنّما هو اختلاف دلاء هذه الآبار في الكبر والصغر ، فرجع حكم النزح حينئذ إلى أن يقول الشارع : ماء هذه البئر لا يطهّر إلّا بكرّ من الماء ، وماء هذه الاخرى يطهّر بنصف الكرّ ، ولا يطهّر بما دونه ، وماء هذه الثالثة يطهّر ثلثه ولا يطهّر بما دونه مع أنّ النجاسة الواقعة في الكلّ هو البول على مقدار واحد في وصف واحد ، ومثل هذا الحكم حزازة لا ينبغي نسبتها إلى جاهل ، فضلا عن الحكيم العادل.

وأمّا على الثاني : فواضح ، أو يتّضح بملاحظة ما ذكرناه على الأوّل.

وأمّا القول بالانفعال مطلقا : فليس عليه إلّا وجوه واضحة الدفع ، غير واضحة الدلالة في أكثرها.

منها : أنّه يقبل النجاسة بالانفعال فيقبلها بالملاقاة ، حكاه العلّامة في المختلف (١) فأجاب عنه أوّلا : « بأنّه قياس لا نقول به ، وثانيا : بإبداء الفارق بين حالتي الانفعال وعدمه ، فإنّ الماء حالة الانفعال مقهور بالنجاسة ، فيبقى الحكم وهو الامتناع من استعماله ثابتا وفي حالة عدم الانفعال كان الماء قاهرا فيبقى حكم الماء وهو استعماله ثابتا ، ومع قيام الفرق بطل القياس ، وثالثا : أنّ المشترك غير صالح للعلّية ، لوجوده في

__________________

(١) مختلف الشيعة : ١٨٨ ـ ١٨٩.


الواقف الكثير ، مع تخلّف الحكم عنه » (١).

ومنها : ما حكاه في المختلف (٢) أيضا من : أنّ التيمّم سائغ عند الملاقاة للنجاسة وليس بسائغ عند وجود الماء الطاهر ، فالملاقاة للنجاسة توجب التنجيس ، أمّا الأوّل : فلما رواه عبد الله بن أبي يعفور ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام قال : « إذا أتيت البئر وأنت جنب ، فلم تجد دلوا ولا شيئا تغرف به فتيمّم بالصعيد الطيّب ، فإنّ ربّ الماء ربّ الصعيد ولا تقع في البئر ، ولا تفسد على القوم ماءهم » (٣).

وأمّا الثاني : فللإجماع ولقوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٤).

وقد يقرّر الاستدلال من الصحيحة المذكورة : بالأمر بالتيمّم ، المتوقّف على تنجيس البئر بالاغتسال فيها ، وبالنهي عن الوقوع والإفساد المترتّب عليه ، الّذي يراد به النجاسة ، كما سبق بيانه في صحيحة محمّد بن بزيع في جملة أدلّة القول بالطهارة.

والأولى أن يقال في تقريره : أنّ الملاقاة للنجاسة لو لم تكن سببا لنجاسة البئر لما ساغ التيمّم عند انحصار سبب الاغتسال فيها ، والتالي باطل للصحيحة المذكورة والمقدّم مثله.

والجواب : منع انحصار سبب الاغتسال في مورد الرواية في ملاقاة النجاسة للبئر ، كيف وهو موقوف على فرض اشتمال بدن الجنب المفروض فيها على النجاسة ، وهو ليس بلازم عقلي ولا غالبي له ، فإطلاق النهي عن الوقوع في البئر يشمل صورتي الاشتمال وعدمه ، فيكون أعمّ ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ ، وهو التنجيس.

ولو سلّم أنّ الاشتمال عليها كان متحقّقا في خصوص المورد وقد علم به الإمام عليه‌السلام ، فنمنع الملازمة بينه وبين تنجيس البئر ، كيف وهو مبنيّ على كون الإفساد المنهيّ عنه مرادا به التنجيس ، وهو في حيّز المنع.

أمّا أوّلا : فلأنّ الإفساد أعمّ من التنجيس ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ ، فلعلّ المراد به هنا كون الاغتسال في البئر مستتبعا للاستقذار وتنفّر الطباع عن مائها بعده ، أو لإثارة الوحل وانكداره باستلزامه لامتزاج الأجزاء الوحليّة به ، أو لصيرورته مستعملا في الحدث الأكبر ، وهو ممّا يراه القوم رافعا لطهوريّته.

فلا يقاس ذلك على الإفساد الوارد في صحيحة ابن بزيع المحمول على التنجيس ،

__________________

(١ و ٢) مختلف الشيعة : ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٣) الوسائل ٣ : ٣٤٤ ب ٤ من أبواب التيمّم ح ٢ ـ التهذيب ١ : ١٨٥ / ٥٣٥.

(٤) النساء : ٤٣.


لأنّ ذلك الحمل ثمّة إنّما هو بقرينة ما تقدّم من وصف الواسعيّة ، واستثناء التغيّر الموجب للتنجيس لا محالة ، المقتضي لكون الحكم المنفيّ في المستثنى منه هو التنجيس أو ما يعمّه ، لئلّا يلزم عدم ارتباط الاستثناء بسابقه ، للزومه كون المنفيّ في المستثنى منه شيئا والمثبت في المستثنى شيئا آخر.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو كان علّة المنع التنجيس ، لكان التعليل باللغويّة وزيادة محذور النجاسة في البدن ، وعدم تأتّي الغرض ـ وهو زوال الحدث ـ أولى من التعليل بفساد الماء على القوم ، الّذي علاجه سهل لزواله بالنزح المتعدّد ، إذ المفروض أنّ الماء ينجّس بمجرّد الملاقاة فلا يفيد رفعا للحدث ، ومع ذلك يفيد نجاسة البدن كلّه لملاقاته الماء النجس ، واحتمال طهره بالانفصال عن الماء وبقاء الماء نجسا مبنيّ على عدم اشتراط ورود الماء على المحلّ النجس في تطهيره مطلقا ، حتّى في البدن إذا غسل فيما ينفعل ، ولعلّه ممنوع كما يأتي في محلّه.

وأمّا ثالثا : فعلى تسليم كون المراد به التنجيس ، فكونه هو التنجيس الواقعي الّذي يراه الشارع تنجيسا في حيّز المنع ، لجواز كون المراد به ما هو التنجيس بحسب اعتقاد القوم ومذهبهم الفاسد ، نظرا إلى أنّ المراد بهم الفرقة الغير المحقّة القائلين بالتنجيس ، حيث قد عرفت كونه مذهبا للجمهور ـ على ما حكاه العلّامة (١) ووافقه آخرون ـ فلعلّ الراوي كان محشورا معهم ، وكانت البئر متعلّقة بهم ، وهم يزعمون الملاقاة للنجاسة سببا للتنجيس.

وممّا يومئ إلى إرادة هذا المعنى تعبيره عليه‌السلام بعدم افساده على القوم مائهم ، فلو كان ذلك سببا للتنجيس في متن الواقع لكان الأولى التعبير بما يخصّ الراوي ، أو بما يعمّه أيضا ، بأن يقول : « لا تفسد الماء على نفسك » ، أو « لا تفسده مطلقا » ، أو مع « قيد على أنفسكم » وما يؤدّي مؤدّاه ، فتأمّل.

ومنها : جملة من الأخبار كصحيحة محمّد بن إسماعيل المرويّة في التهذيبين ، والكافي ، قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن البئر يكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم ، أو يسقط فيها شي‌ء من عذرة كالبعرة ونحوها ، ما الّذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه‌السلام في كتابي بخطّه :

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٦.


« ينزح منها دلاء » (١) ولو كانت طاهرة لما حسن تقريره على السؤال.

وصحيحة عليّ بن يقطين المرويّة في التهذيبين ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن البئر يقع فيها الحمامة ، والدجاجة ، والفأرة ، أو الكلب أو الهرّة ، فقال : « يجزيك أن تنزح منها دلاء ، فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء الله » (٢) ، ولو كانت طاهرة لكان تعليل التطهير بالنزح تعليلا لحكم سابق بعلّة لاحقة ، وهو محال.

وموثّقة عمّار ـ الواردة في التهذيب ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ـ حديث طويل ـ قال : وسئل عن بئر يقع فيها كلب ، أو فأرة ، أو خنزير؟ قال : « ينزف كلّها ، فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما إلى الليل ، ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين ، فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت » (٣).

وحسنة زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وأبي بصير بإبراهيم بن هاشم ـ الموجودة في التهذيبين ، وفي الكافي اختلاف يسير في بعض ألفاظها ـ قالوا : قلنا له : بئر نتوضّأ منها يجري البول قريبا منها ، أينجّسها؟ قالوا : فقال : « إن كانت البئر في أعلى الوادي » (٤) والوادي يجري فيه البول من تحتها ، فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع ، أو أربعة أذرع لم ينجّس ذلك شي‌ء ، وإن كانت البئر في أسفل الوادي ويمرّ الماء عليها ، وكان بين البئر وبينه سبعة أذرع لم ينجّسها ، وما كان أقلّ من ذلك لم يتوضّأ منه ».

قال زرارة : فقلت له : فإن كان مجرى بلزقها (٥) وكان لا يلبث (٦) على الأرض فقال :« ما لم يكن له قرار فليس به بأس ، وإن استقرّ منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض ولا قعر له حتّى يبلغ إليه ، وليس على البئر منه بأس ، فتوضّأ منه ، إنّما ذلك إذا استنقع كلّه » (٧).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٩ ـ مع اختلاف يسير ـ الكافي ٣ : ٥ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٥ ـ الاستبصار ١ : ٤٤ / ١٢٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٢ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٦ ـ الاستبصار ١ : ٣٧ / ١٠١.

(٣) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩ ـ و ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢ ـ الاستبصار ١ : ٣٨ / ١٠٤.

(٤) الوادي : المكان الّذي يجري فيه الماء (منه).

(٥) لزق به لزوقا ، والتزق به ، أى لصق به ، وألزقه به غيره ، يقال : فلان لزقي وبلزقي ، أي بجنبي (الصحاح ٤ : ١٥٤٩).

(٦) في هامش الأصل : وفي رواية الكافي : « لا يثبت ».

(٧) الوسائل ١ : ١٩٧ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٣ ـ الاستبصار ٤٦ / ١٢٨.


وفي نسخة اخرى محكيّة عقيب قوله عليه‌السلام : « أو أربعة أذرع » قوله : « لم ينجّس شي‌ء من ذلك ، وإن كان أقلّ من ذلك نجّسها ، قال : وإن كانت البئر في أسفل الوادي ، ويمرّ الماء عليها ، وكان بينه وبين البئر تسعة أذرع لم ينجّس ، وما كان أقلّ من ذلك فلا تتوضّأ منه ، فقلت له : فإن كان مجرى البول يلصقها ... » الحديث (١).

والجواب عن الأوّل : منع كون السائل معتقدا بالنجاسة حتّى يلاحظ فيه التقرير وعدمه ، وإن عبّر في سؤاله بلفظ « التطهير » الموهم لذلك ، لجواز كون عدم النجاسة معهودا فيما بينه وبين المسئول ، معلوما له منه عليه‌السلام ، وأنّ النزح إنّما يجب تعبّدا ، أو أنّه مستحبّ مع جهله بوظيفة الواجب التعبّدي ، أو الاستحباب في مفروض السؤال ، فسأل عنه بعبارة : « ما الّذي يطهّرها؟ » تورية وتحفّظا عن عثور المخالف على ما هو عليه من المذهب ، فأجابه الإمام عليه‌السلام على وفق غرضه من السؤال ، لعلمه عليه‌السلام به بما أفاده التخيير في مراتب الجمع المناسب للاستحباب.

ويقوى هذا الاحتمال بملاحظة أنّ السائل كان يعدّ من وزراء الخليفة ، فدواعي التقيّة بالنسبة إليه كانت متحقّقة من جهات عديدة ، مع ملاحظة أنّ المسألة فيما بينه وبين المسئول حصلت بطريق المكاتبة ، ومن الواضح أنّ المراسلة وإن ارسلت في خفية ممّا يظفر عليه الأعداء المستور عنهم كثيرا ، خصوصا في حقّ من يكثر عنده تردّد المخالفين ، وهو يعاشرهم ليلا ونهارا ، ولا معنى لأصالة عدم التقيّة مع قيام هذه الدواعي وقوّة احتماله.

ولو سلّم أنّه كان معتقدا بالنجاسة ، ولم يكن في سؤاله مظهرا للتقيّة مريدا به التورية ، ولكن الجواب الصادر عن الإمام عليه‌السلام إمّا ردع له عمّا اعتقده ، أو إمساك عن الردع صريحا مع التنبيه على خطئه في اعتقاده ومخالفته للواقع ، وذلك لأنّ صيغة الجمع في قوله عليه‌السلام : « ينزح دلاء » إمّا يراد بها الماهيّة المطلقة الّتي مفادها التخيير بين مصاديقها المترتّبة الّتي منها أقلّ مراتب الجمع ، أو مراد بها الإهمال الغير الملحوظ معه شي‌ء من الإطلاق والتقييد ، أو مراد بها المرتبة المعيّنة من مراتب الجمع مع عدم إفادته التعيين للسائل أصلا ، أو تأخير بيانه إلى زمان آخر ، أو إحالته في معرفة التعيين

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٩٧ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٣ ـ الاستبصار ٤٦ / ١٢٨.


إلى ما تقرّر منه في الخارج.

ولا سبيل إلى الأخير بشي‌ء من محتملاته ، إذ مبنى الفرض على أنّ السائل بعد اعتقاده بأصل النجاسة ، وأنّ زواله يفتقر إلى مطهّر لا محالة ، تصدّى للسؤال عن تعيين المطهّر ، كما هو ظاهر قوله : « ما الّذي يطهّرها »؟ فهو على تقدير إصابة اعتقاده للواقع كان في مقام الحاجة إلى البيان ، ولو كانت حاجته مجرّد العلم بحكم المسألة فلا يناسبه الإجمال ، ولا تأخير البيان إلى غير زمن السؤال ، ولا إحالته إلى ما هو مقرّر في الخارج ، لأنّ ذلك يوجب خروج السؤال منه لغوا ، حيث أنّه قبل السؤال كان عالما ـ على فرض علمه بالنجاسة بحسب الواقع ـ بأنّ هناك مطهّرا معيّنا في الواقع مقرّرا في الخارج ، ولو كان مجرّد ذلك كافيا له في استحصال التعيين لما تعرّض للسؤال.

واحتمال اقتران الجواب بالبيان أيضا ، أو بما يرشده إلى البيان الثابت في الخارج وقد اختفى ذلك علينا ، يدفعه : الأصل ، فتعيّن حينئذ أحد الوجهين الأوّلين.

ولا ريب أنّ الجواب على أوّلهما يفيد ردعا للسائل عن اعتقاده ، لأنّ التخيير المطلق لا يلائم العدد المعيّن الّذي يعتبره أهل القول بالنجاسة ، فيرجع مفاده إلى أنّ مورد السؤال لم يقرّر له في الشريعة مطهّر معيّن ، لا لأنّه يحتاج إلى مطهّر معيّن ولم يبيّن مطهّره ، فإنّ ذلك محال على الإمام عليه‌السلام لكونه من أنحاء الجهل بالحكم الشرعي ، بل لأنّه لا يفتقر إلى مطهّر فكيف يستحصل تعيينه.

غاية الأمر أنّ هناك نزحا ثابتا بعنوان الوجوب ، أو الاستحباب ، وأنت مخيّر فيه بين الزائد والناقص ، ولا يعقل التخيير بينهما بالقياس إلى المطهّر الّذي هو من قبيل الوضعيّات ـ لو سلّمنا إمكانه في التكليفيّات ـ لأنّ الوضعيّات ـ الّتي تكون من مقولة المقام ـ أسباب واقعيّة لا تتغيّر باعتبار العلم والجهل ، والقصد والإرادة ، فلا يطرأها الاختلاف بالوجوه والاعتبارات ، فالناقص إن كان صالحا للتطهير فبمجرّد حصوله يترتّب عليه الأثر ، ويبقى اعتبار الزيادة في الفرد الزائد لغوا ، وقصد اختيار الزائد لا يعطيها التأثير والمدخليّة في الأثر.

بخلاف التكليفيّات فإنّها لقبولها التغيّر والاختلاف بالوجوه والاعتبارات ، الّتي منها قصد المكلّف ونيّته ، ومنها اشتمال الناقص بوصف أنّه ناقص على مصلحة مشتركة بينه


وبين الزائد بوصف أنّه زائد ، أمكن اعتبار التخيير فيها بينهما بدعوى : كون مناط الفرديّة في كلّ منهما هو القصد والنيّة ـ كما عليه بعضهم ـ أو وصفي الزيادة والنقصان من حيث إنّهما متقابلان تقابل الملكة والعدم ، وقد لاحظهما الشارع ووجدهما مشتملتين معا على خصوصيّة معتبرة في أفراد المخيّر فيه المتشاركتين في المصلحة الداعية إلى إيجاب التخيير ، كما فصّلناه في تحقيقاتنا الاصوليّة.

هذا شي‌ء يتكلّف على تقدير وجوب النزح ، وإلّا فعلى تقدير استحبابه ـ كما هو الأظهر ـ فلا حاجة إلى شي‌ء من التكلّف ، لأنّ مراتب الاستحباب ممّا يقبل الاختلاف في زيادة الرجحان ونقصانه إلى أن يبلغ مرتبة رجحان الوجوب ، ومع بلوغه له يسقط حكم التخيير فيما بين المراتب الباقية المندرجة تحت الرجحان الملزم ، وإن أمكن اختلافها في القوّة والضعف لو فرضنا المزيّة في ذي المزيّة بنفسها كافية في الإيجاب والإلزام ، فإنّ ذلك ممّا يقضي بإيجاب التعيين ، ولا يقبل التخيير بينه وبين الفاقد لتلك المزيّة وتمام الكلام في محلّه.

كما أنّه على ثانيهما (١) إمساك عن بيان الواقع مع التنبيه الإجمالي على أنّ السؤال الكاشف عن الاعتقاد ليس على ما ينبغي ، وهو كما ترى ممّا لا يستقيم إلّا إذا لم يكن المقام مقتضيا لبيان الواقع ، فلو لا السؤال على خلاف الواقع لم يعقل مانع عن بيان تفصيله ، لموافقته ما عليه العامّة الّذين يكون التقيّة في مواردها من جهتهم ، وأصالة عدم الخوف والتقيّة ـ على فرض جريانها في المقام ، مع ملاحظة ما ذكر سابقا من وجود دواعيها ـ يعارضها أصالة عدم اقتران الخطاب بما يفيد بيان التعيين ، لأنّ ذلك لا يجدي نفعا إلّا على تقدير فرض السائل سائلا عن تعيين المطهّر ، وكون الجواب متضمّنا لما يحصل به الغرض.

فالأولى حمل الجواب على هذا الوجه الثاني ، بدعوى : أنّ الإمام عليه‌السلام أهمل في جوابه ـ لداعي الخوف ـ عن الردع القائم في خصوص مورد هذا السؤال ، مؤخّرا له إلى مقام يقتضيه بتجرّده عن دواعي الخوف ، فردعه بما صحّ عنه من الرواية المتقدّمة الّتي هي أوّل روايات الطهارة في وقت آخر ، إذ المفروض أنّ هذه الرواية مع ما استدلّ بها

__________________

(١) أى على ثاني الوجهين الأوّلين الّذي أشار إليهما بقوله : « فتعيّن حينئذ أحد الوجهين الأوّلين » الخ.


على النجاسة صحّتا معا عن ابن بزيع ، فليحمل كلام الإمام عليه‌السلام في إحداهما على الإهمال الناشئ عن الخوف لوجود دواعيه حين صدوره ، وفي اخراهما على بيان الواقع المفيد للردع ، لعراء مقام صدوره عن تلك الدواعي ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فنقول : إنّ هاتين الروايتين مع صحّتهما معا ، واتّحاد الطريق فيهما متعارضتان جزما ، فلا بدّ إمّا من الجمع بينهما بإرجاع إحداهما إلى الاخرى باعتبار الدلالة ، أو جهة الصدور ، أو مراجعة الترجيح فيما بينهما ، أو إرجاعهما إلى باب التعادل المقتضي للتخيير فيما بينهما ، وعلى كلّ تقدير كان المتعيّن العمل بالرواية القاضية بالطهارة.

أمّا على التقدير الأوّل : فلأنّ بناء العمل على رواية النجاسة بجعلها حاكمة على رواية الطهارة يستلزم فساد الاستثناء الواقع فيها ، لابتناء صحّة هذا الاستثناء على اعتبار المستثنى منه ملاقاة النجاسة أعمّ من المغيّرة وغير المغيّرة ، فلو أخرجت الملاقاة المغيّرة بالاستثناء والملاقاة الغير المغيّرة برواية النجاسة لزم كذب المستثنى منه.

ولا يرد نظير ذلك في عموم أدلّة التغيّر المتقدّمة الّتي منها : النبوي « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شي‌ء ، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه » (١). بعد الجمع في تخصيصها بين الاستثناء الوارد فيها وأدلّة انفعال القليل ، لأنّ مرجع هذين التخصيصين إلى تخصيص « شي‌ء » بما عدا النجاسة المغيّرة باستثناء المذكور ، وتقييد « الماء » بالكرّ بموجب أدلّة انفعال القليل ، ولا يلزم من ذلك محذور من حيث كون لفظة « الماء » أعمّ من الكرّ ، ولفظة « شي‌ء » أعمّ من النجاسة المغيّرة والنجاسة الغير المغيّرة ، وبعد ارتكاب التقييد مع التخصيص المذكورين يبقى تحت اللفظين الكرّ وما زاد عليه مع النجاسة الغير المغيّرة ، فصدق بذلك المستثنى منه جزما ، ولا يتأتّى نظير هذا الفرض في المقام ، لأنّ مبنى الاستدلال برواية النجاسة على دعوى : نجاسة ماء البئر ـ وإن كان كرّا ـ بملاقاة النجاسة ولو لم يكن مغيّرة ، فلا يبقى تحت المستثنى منه شي‌ء.

ولو قدّرنا المستثنى عامّا بالقياس إلى ملاقاة النجاسة وعدم ملاقاتها لزم فساد آخر ، وهو كون السلب الوارد فيه من باب السالبة المنتفية الموضوع ، ولو قدّرناه عامّا بالقياس إلى ملاقاة النجاسة وملاقاة ما عدا النجاسة لزم فساد ثالث ، وهو حمل

__________________

(١) سنن البيهقي ١ : ٢٥٩ ، كنز العمّال ٩ : ٣٩٧ ح ٢٦٦٥٢ ، ورواها أيضا في المعتبر : ٨.


المستثنى منه بعد الاستثناء والتخصيص على ملاقاة غير النجاسة ، فيرجع مفاده إلى أنّ ملاقاة غير النجاسة لا يوجب فساد الماء ، وهو كما ترى من باب توضيح الواضحات ، وهو كما ترى ممّا لا ينبغي حمل كلام الحكيم عليه.

فلا بدّ من تطرّق التصرّف إلى رواية النجاسة ، إمّا بحملها على التقيّة ، أو بحمل « التطهير » الوارد فيها مع ضميمة التقرير على رفع الاستقذار وتنفّر الطبع ، وليس شي‌ء من ذلك بعيدا في مقابلة المحاذير المذكورة ، مع وجود ما يقرّبهما معا ، أمّا الأوّل : فلما مرّ من قيام دواعي التقيّة ، وأمّا الثاني : فلورود لفظ « التطهير » في الروايات على هذا المعنى.

وأمّا على التقدير الثاني : فلوضوح أنّ الترجيح في جانب رواية الطهارة لموافقتها الأصل ، والعمومات القرآنيّة القاضية بطهارة الماء بحسب الخلقة الأصليّة ، ومخالفتها لمذهب العامّة ، وكونها بعضا من مجموع الأخبار المتقدّمة الّتي أكثرها معتبرة فيما بين صحاح وموثّقات ، فإنّ المعارضة في الحقيقة فيما بين مجموع تلك الأخبار والأخبار المذكورة للقول بالنجاسة ، ولا ريب أنّ الكثرة من المرجّحات ، وليس في جانب تلك الأخبار إلّا الإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة ، وهي موهونة بقوّة المخالف ، والعلم باستنادها إلى أدلّة ضعيفة غير واضحة الدلالة ، الغير السليمة عن قصور جهة صدورها ، ولا ينبغي اعتبار الكثرة فيها بضمّ أوامر النزح الواردة في أنواع النجاسات ـ حسبما يأتي تفصيلها ـ لأنّ ذلك فرع سلامة تلك الأوامر عمّا يزاحمها ممّا يقتضي حملها على الاستحباب ، وستعرف قيام ذلك في المقام من وجوه عديدة.

وأمّا على التقدير الثالث (١) : فلأنّ المقام ـ مع أنّه ليس من جزئيّات التعادل ، لما عرفت من وجوه المرجّح من جهات عديدة ـ قابل لاختيار كلّ من المتعارضين ، فلم لا يختار أخبار الطهارة ، مع أنّ العمل بها عمل بالأصل ، وعمومات الطهارة ، والأدلّة النافية للعسر والحرج ، وعمومات السمحة السهلة.

وبجميع ما قرّرناه في الوجه الأخير من البداية إلى تلك النهاية ينقدح الجواب عن الأخبار الاخر ، فإنّ طريق الاستدلال بها واحد ، وإن كان بعضها أظهر في الدلالة على الانفعال من البعض الآخر فيكون طريق الجواب أيضا واحد ، وإن كان لا يجري بالنسبة

__________________

(١) وفي الأصل : « وأما على التقدير الثاني » ، والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.


إليها الوجهان الأوّلان ممّا ذكرناه بالقياس إلى الصحيحة الاولى ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ومحصّل الجواب : أنّ ترك العمل بأخبار الطهارة عملا بأخبار النجاسة خلاف الإنصاف ، وخلاف طريقة الاجتهاد وقواعد الاستنباط ، وقوانين فهم الألفاظ ، وليس لهذا القول بعد ذلك ممّا يصلح الاستناد إليه إلّا الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة ، والأخبار المتضمّنة للنزح كما حكي الاستدلال بهما أيضا.

والجواب عن الأولى : قد تبيّن بما ذكر من قيام ما يوهنها ، فلا يمكن التعويل عليها ، وعن الثانية : بمنع دلالتها على الوجوب أوّلا ، لقيام ما يزاحمها في تلك الدلالة ممّا يصرفها إلى الاستحباب أوّلا (١) ، ومنع الملازمة بين وجوب النزح والنجاسة ، بعد قيام قوّة احتمال التعبّد ـ كما عليه جماعة ـ ولا سيّما مع ملاحظة كون الحمل عليه طريق جمع بينها وبين أخبار الطهارة ، مع كثرتها واعتبارها سندا وقوّتها دلالة ، مضافا إلى ورود النزح في أشياء طاهرة كما ستعرف.

وأمّا القول بالفرق بين الكرّ وما دونه : فحكي الاحتجاج له بوجوه :

أحدها : رواية الحسن بن صالح الثوري المرويّة في التهذيبين عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء في الركيّ كرّا لم ينجّسه شي‌ء » (٢).

وثانيها : ما عن الفقه الرضوي حيث قال عليه‌السلام : « وكلّ بئر عمق مائها ثلاثة أشبار ونصف في مثلها ، فسبيلها سبيل الماء الجاري ، إلّا أن يتغيّر لونها أو ريحها » (٣).

وثالثها : موثّقة عمّار ـ المتقدّمة ـ قال : سئل عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن البئر يقع فيها زنبيل من عذرة يابسة أو رطبة ، فقال : « لا بأس إذا كان فيها ماء كثير » (٤).

ورابعها : عموم ما دلّ من الأخبار على اشتراط الكرّيّة في عدم الانفعال.

وأجاب الشيخ (٥) عن الأوّل بوجهين :

أحدهما : أن يكون المراد بالركيّ المصنع الّذي لا يكون له مادّة بالنبع ، دون الآبار

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) الوسائل ١ : ١٦٠ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ الكافي ٣ : ٢ / ٤ التهذيب ١ : ٤٠٨ / ١٢٨٢ ـ الاستبصار ١ : ٣٣ / ٨٨.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩١.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٦ / ١٣١٢ ـ الاستبصار ١ : ٤٢ / ١١٧.

(٥) الاستبصار ١ : ٣٣ ذيل الحديث ٨٨.


الّتي لها مادّة ، فإنّ ذلك هو الّذي يراعى فيه الاعتبار بالكرّ.

والثاني : أن يكون ذلك ورد مورد التقيّة ، لأنّ من الفقهاء من سوّى بين الآبار والغدران في قلّتها وكثرتها ، فيجوز أن يكون الخبر ورد موافقا لهم ، والّذي يبيّن ذلك أنّ الحسن بن صالح ـ راوي هذا الحديث ـ زيديّ بتري ، متروك الحديث فيما يختصّ به.

والجواب عن الثاني : بما تقدّم الإشارة إليه من عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظة « كثير » فلا بدّ من حملها على الكثرة العرفيّة ، وهي غير معتبرة في عدم انفعال الماء إجماعا ، فيجب كونها معتبرة للتحفّظ عن التغيّر ، ولو سلّم فهي محتملة للتقيّة كما عرفت في كلام الشيخ ، ومع هذا كلّه فهي معرض عنها الأصحاب بأجمعهم وكان القول بموجبها خرق للإجماع.

وعن الثالث : بعدم اعتبار السند ، وعلى فرض الاعتبار يتوهّن بما عرفت.

وعن الرابع : بأنّ عمومات الكرّ تخصّص بما عدا البئر ، تحكيما لعمومات البئر عليها ، وإن كان بينهما عموم من وجه حسبما عرفت سابقا مع وجه التحكيم ، دون العكس.

وقد يقرّر الاحتجاج بذلك على وجه لا يتوجّه إليه ما ذكر من التحكيم ، وهو عموم أدلّة انفعال القليل ، ولا يعارضها عموم أدلّة طهارة ماء البئر لانصراف ما فيها من الإطلاق إلى ما يبلغ الكرّ ، بملاحظة أنّه الغالب في الآبار ، ولذا ترى أنّهم عليهم‌السلام أمروا أحيانا بنزح مائة دلو وسبعين دلوا ، والكرّ ، من غير تقييد بكون الماء كثيرا تعويلا على الغالب.

ودعوى : أنّ العمومات مخصّصة بما دلّ على طهارة البئر عند التغيّر ، بنزحها حتّى يزول التغيّر ، فلو لا اعتصام الماء لا نفعل ما يخرج منها بملاقاة المتغيّر ، مدفوعة : باحتمال كون النزح مطهّرا تعبّديّا على خلاف القاعدة.

واجيب عنه : بأنّه لو لا إعراض الأصحاب عن هذا القول أمكن المصير إليه ، لقوّة مستنده.

وأمّا قول الجعفي : فلم نقف على مستنده.

ثمّ على المختار فهل النزح الوارد في الأخبار المستفيضة واجب أو لا؟ فيه خلاف ، فعن المشهور القول باستحبابه ، وصرّح الشيخ في التهذيبين (١) بوجوبه ، وهو صريح

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣١ ذيل الحديث ٨٤ قال فيه : « فليس لأحد أن يجعل ذلك دليلا أنّ المراد بمقادير النزح ضرب من الاستحباب » ـ التهذيب ١ : ٢٣٢.


العلّامة في المنتهى (١) ويشكل ذلك من حيث إنّه في الكتاب المذكور صرّح بكون النزح الوارد عن الأئمّة عليهم‌السلام تعبّدا ، مع تصريحه عند الفراغ عن بحث المنزوحات : « بأنّه لا يجب النيّة في النزح ، ويجوز أن يتولّى النزح البالغ وغيره ، والمسلم وغيره مع عدم المباشرة ، للمقتضي وهو النزح السالم عن معارضة اشتراط النيّة » (٢).

وهو كما ترى خلاف المعنى المصطلح عليه في الواجب التعبّدي. ولكن يدفعه : أنّ إطلاق التعبّد هنا ليس باعتبار المعنى المصطلح عليه ، بل معناه : أنّه شي‌ء يلتزمه المكلّف ويثبت عليه ويستقرّ في ذمّته لأجل ما فيه من وصف العبوديّة ، كما صرّح به الفاضل عند الاستدلال على ما ادّعاه من عدم وجوب النيّة بقوله : « لعدم الدالّ (٣) على الوجوب ، ولأنّه ليس في نفسه عبادة مطلوبة ، بل معنى وجوب النزح عدم جواز الاستعمال إلّا به ، لأنّه مستقرّ في الذمّة فجرى مجرى إزالة النجاسات ». (٤)

وقضيّة هذه العبارة كون النزح المعتبر على حدّ الواجبات التوصليّة ، الّتي لا يتوقّف الخروج عنها على المباشرة النفسيّة ولا نيّة القربة ، بل قضيّة العبارة أنّ إطلاق الوجوب هنا أيضا ليس على معناه المصطلح عليه ، وهو الطلب الحتمي الّذي يستتبع مخالفته استحقاق الذّم والعقوبة ، بمعنى أنّه ليس هناك طلب حتمي متعلّق بالنزح نفسه ليكون بنفسه مطلوبا لذاته أو للغير ، بل معنى وجوبه أنّه يحرم استعمال الماء بدونه ، فهو ممّا يتوقّف عليه إباحة الاستعمال وارتفاع الحرمة ، فيكون شرطا للإباحة ، وهو المراد بكونه مستقرّا في الذمّة ، على معنى أنّ من أراد استعمال الماء على وجه مباح وهو لا يتأتّى إلّا بعد النزح ، فذمّته مشغولة بالنزح.

فمعنى كونه جاريا مجرى إزالة النجاسات ، أنّه نظيرها في اشتغال الذمّة المتوقّف رفعه على حصول المشتغل به في الخارج كيفما اتّفق ، لا أنّه نظيرها في جميع الجهات ، وإلّا فهي مع ما ذكر واجبة بالمعنى المصطلح عليه وإن كان وجوبها للغير ، وهو الأمر النفسي مشروط بالطهارة.

فتبيّن من جميع ذلك : أنّ الوجوب المدّعى هنا ليس هو الوجوب النفسي التعبّدي ، ولا الوجوب النفسي التوصّلي كدفن الميّت ومواراته ، ولا الوجوب التوصّلي الغيري

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٨.

(٢ و ٤) منتهى المطلب ١ : ١٠٥.

(٣) كذا في الأصل ، وفي النسخة الموجودة عندنا « لعدم الدليل ... » الخ.


كإزالة النجاسة عن الثوب والبدن ، لأنّ كلّ ذلك يتضمّن الطلب الحتمي وهو منتف في المقام ، وهذا المعنى من الوجوب قد يسمّى عندهم بالوجوب الشرطي قبالا للنفسي والغيري ، وإن كان إطلاق الوجوب عليه باعتبار المعنى المصطلح عليه مجازا ، ولا يخفى أنّ الوجوب بهذا المعنى يصحّ إطلاقه على كلّ ما هو شرط لإباحة شي‌ء محرّم ، كاستئذان المالك مثلا عند إرادة التصرّف في ملكه ، فإنّه محرّم بدون الإذن.

وعلى هذا المعنى يحمل قولهم : يجب الوضوء للنافلة ، ولمسّ كتابة القرآن ، ويجب الغسل لدخول المساجد ، وقراءة العزائم ونحو ذلك ، وممّن صرّح بثبوت هذا الإطلاق وثبوت التسمية المذكورة عندهم صاحب المدارك في أوّل الكتاب عند شرح قول المحقّق : « فالواجب من الوضوء ما كان لصلاة واجبة ». بقوله : « إنّما قيّد الصلاة بالواجبة ، لعدم وجوب الوضوء للنافلة ، وإن كان شرطا فيها ، إذ لا يتصوّر وجوب الشرط لمشروط غير واجب ، ولأنّه يجوز تركه لا إلى بدل ، ولا شي‌ء من الواجب كذلك.

وقد توهّم بعض من لا تحقيق له وجوب الوضوء للنافلة ، لتوجّه الذمّ إلى تاركه إذا أتى بالنافلة في تلك الحال ، وهو خطأ ، فإنّ الذمّ إنّما يتوجّه إلى الفعل المذكور لا الترك ، وأحدهما غير الآخر.

نعم ، قد يطلق على هذا النوع من الندب اسم الواجب تجوّزا ، لمشابهة الواجب في أنّه لا بدّ منه بالنسبة إلى المشروط ، وإن كان في حدّ ذاته مندوبا ، ويعبّر عنه بالوجوب الشرطي إشارة إلى علاقة التجوّز » (١) انتهى.

وعلى هذا فاستعمال الماء قبل النزح يستتبع استحقاق العقوبة بالنسبة إلى فعل المحرّم لا بالنسبة إلى ترك الواجب ، ولا يخلّ ذلك في صحّة ما استعمل فيه ذلك الماء كالطهارة لمشروط بها ما لم يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي المستحيل عندنا ، ولا أنّه يفيد تحريما في فعل متوقّف على استعمال الماء فيه مشروط بطهارة ذلك الماء كما في المأكول ، نعم يفيد تحريما في استعمال المشروب لا بعنوان أنّه شرب للماء ، بل بعنوان أنّه استعمال لما لا يجوز استعماله بدون الشرط المذكور ، كما أنّ أكل مال الغير حرام لا بعنوان أنّه أكل ، بل بعنوان أنّه إتلاف لمال الغير بدون إذن منه.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٩.


ويستفاد هذا المعنى مع جميع ما ذكر من معنى الوجوب هنا وغيره من الشيخ في التهذيب ، حيث إنّه بعد ما نقل عبارة شيخه المفيد قدس‌سره في المقنعة وهو قوله : « وبقي أن ندلّ على وجوب تطهير مياه الآبار ، وأنّ من استعملها قبل تطهيره يجب عليه إعادة ما استعمله فيه إن وضوءا فوضوءا ، وإن غسلا فغسلا وإن كان غسل الثياب فكذلك ».

قال : « قال محمّد بن الحسن : عندي أنّ هذا إذا كان قد غيّر ما وقع فيه من النجاسة أحد أوصاف الماء ، إمّا ريحه أو طعمه أو لونه ، فأمّا إذا لم يتغيّر شيئا من ذلك فلا يجب إعادة شي‌ء من ذلك ، وإن كان لا يجوز استعماله إلّا بعد تطهيره » (١).

أقول : ويشكل ذلك بأنّه إذا كان أصل الاستعمال حراما فكيف يعقل صحّة الوضوء أو الغسل معه وإن لم يكن الماء نجسا ، فإنّ اجتماع الأمر والنهي غير جائز عقلا ولو كان الأمر غيريّا ، ـ كما قرّر في محلّه ـ وكان قوله بالصحّة مبنيّ على تجويزه الاجتماع بينهما مطلقا ، أو إذا كان الأمر غيريّا ، وكيف كان فمراد أهل القول بوجوب النزح تعبّدا كونه شرطا لإباحة استعمال الماء ، وهو لا يستلزم نجاسته جزما. وحينئذ فلا وقع لما اورد (٢) عليهم : « من أنّهم إن أرادوا به الوجوب الشرطي لما يشترط فيه الطهارة من الشرب ، والاستعمال في المأكول ، والطهارة به من الحدث والخبث ، بمعنى عدم جواز هذه الامور قبل النزح ، فليس النجاسة إلّا ما منع استعماله في هذه الامور ، فإذا تحقّق المنع عن هذه الامور تحقّقت النجاسة ، ويلزمها نجاسة الملاقي له ، فلا يرد أنّ الثمرة تظهر في عدم تنجّس ملاقيه. فتأمّل.

وإن أرادوا الوجوب النفسي ففي غاية البعد عن ظاهر الروايات » فإنّ (٣) النجاسة وصف وجوديّ هو منشأ للمنع عن الامور المذكورة لا أنّها نفس المنع عنها ، ولا ريب أنّ منشأ المنع أعمّ من النجاسة ، ولذا ترى المنع عنها ثابتا في الماء المغصوب أيضا ، ولا يقال : بأنّه نجاسة ، فالثمرة المذكورة في محلّها ، ولعلّ الأمر بالتأمّل في كلامه إشارة إلى المعنى الّذي قرّرناه.

فالأولى أن يقال في ردّهم : بأنّ قولكم بوجوب النزح بالمعنى المذكور نشأ عن

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٢.

(٢) والمورد هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٢٠٧.

(٣) هذا جواب عن إيراد الشيخ الأعظم رحمه‌الله.


توهّم كونه طريق جمع بين الروايات القاضية بطهارة ماء البئر الملاقي للنجاسة والأخبار الآمرة بالنزح ، فالقول بالطهارة مع وجوب النزح تعبّدا جمع بينهما في العمل.

ويرد عليه : أنّ بناء هذا الجمع ـ مع كون الوجوب عبارة عن المعنى المتقدّم ـ على حمل الأوامر والجمل الخبريّة الواردتين في أخبار النزح على كونها للإرشاد إلى الواقع ، المفيد لشرطيّة النزح لجواز الاستعمال ، المستلزمة لحرمته بدونه.

ويعارضه إمكان حملها على الاستحباب الغير المستلزم لحرمة الاستعمال بدونه.

واختيار الأوّل دون الثاني لا بدّ له من شاهد خارجي ، وأيّ شي‌ء في المقام ينهض شاهدا بذلك ، مع ما فيه من استلزامه حرمة الاستعمال الّتي هي مخالفة للأصل ، إذ المفروض أنّها لم تثبت بدليل منفصل عن تلك الأخبار ، وإنّما تثبت بعد حمل أوامرها مع جملها الخبريّة على بيان الشرطيّة من باب الدلالة الالتزاميّة.

مع إمكان ترجيح الثاني عليه بشهادة نفس الأخبار القاضية بالطهارة ، بملاحظة ما في أكثرها من إطلاق نفي البأس ، ولا ريب أنّ وجوب النزح بالمعنى المصطلح عليه ـ إن ثبت به قول ـ وحرمة الاستعمال بدونه ـ كما يقول به الجماعة ـ بأس.

مع ما يلزم على هذا القول من تجويز المعصوم عليه‌السلام لاجتماع الأمر والنهي في الأخبار النافية للبأس عن استعمال الماء المفروض قبل النزح ـ كما هو مورد تلك الأخبار ـ لو صحّ الوضوء والغسل بهذا الماء قبله كما هو مقالتهم المتقدّمة ، إذ مبنى ذلك على جعل إطلاق نفي البأس الوارد فيها شاملا لصورتي العلم بملاقاة النجاسة والجهل بها إلى ما بعد الاستعمال ، وإن اختصّ موردها بصورة الجهل كما لا يخفى ، نظرا إلى أنّ خصوصيّة مورد السؤال لا تصلح مخصّصة لعموم الجواب أو إطلاقه ، فيرجع مفاد قولهم : « لا بأس بالماء المفروض ، أو باستعماله المفروض » إلى أنّه لا بأس به سواء كان في صورة العلم أو الجهل ، ولا ريب أنّ نفي البأس عنه في صورة العلم مع قصد صحّة العمل تصريح بجواز اجتماع الأمر والنهي ، وهو على خلاف مقتضي العقل القاطع.

إلّا أن يقال : بمنع تناول الجواب لصورة العلم أيضا ، بل إطلاقه ينزّل إلى مورد السؤال كما هو الأظهر ، بل لا إطلاق في جملة منها لصراحتها في صورة الجهل حين الاستعمال كما لا يخفى ، فنفي البأس عن الاستعمال المذكور في صورة الجهل المتضمّن


لتصحيح العمل لا ينافي حرمته في صورة التذكّر ، المستلزمة لبطلان العمل ، حذرا عن اجتماع الأمر والنهي ، فصحّة العمل في صورة التذكّر لا تستفاد من تلك الأخبار ، فهي ساكتة عن إفادة استحباب النزح كما هي ساكتة عن إفادة حرمة الاستعمال قبله ، فحينئذ لا بدّ في تعيين أحد المعنيين من ملاحظة روايات النزح وتحصيل الشاهد منها.

ولكن يدفعه : منع إطلاق هذا التنزيل ، بل جملة من تلك الأخبار صريحة في صورة العلم ، كصحيحة عليّ بن جعفر (١) ، وصحيحة زرارة (٢) ، ومرسلة عليّ بن حديد (٣) ، وجملة اخرى مطلقة بالقياس إلى صورتي العلم والجهل ، كصحيحة معاوية بن عمّار المشتملة على قوله عليه‌السلام : « لا يغسل الثوب ، ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر ، إلّا أن ينتن » (٤) ، وموثّقة زيد بن أبي اسامة الشحّام (٥) ، ولا ريب أنّه لا داعي فيها إلى التنزيل المذكور ، فإذا كانت هي بصراحتها أو إطلاقها شاملة لصورة العلم بالملاقاة مع تضمّنها لصحّة الوضوء ونحوه ، فكما لا يمكن القول في مواردها بالنجاسة ، فكذلك لا يمكن القول بحرمة الاستعمال حذرا عن اجتماع الأمر والنهي.

واحتمال كون روايات النزح مخصّصة لها بما بعد النزح ، يدفعه : مع أنّه موجب لحمل كلام المعصوم عليه‌السلام على ما لا حاجة له إلى البيان ، من حيث إنّ الصحّة وعدم البأس ممّا يعلمه كلّ أحد حتّى على تقدير النجاسة الّتي ترتفع بالنزح ، أنّ أخبار النزح بناء على صلوحها للتخصيص لا تنافي كون اعتبار النزح لأجل التطهير وإزالة النجاسة ، وليست بظاهرة الدلالة على أنّه لأجل حرمة الاستعمال قبله.

ثمّ بعد البناء على الطهارة بأدلّة اخرى خارجة عنها ، فكما أنّها محتملة لإفادة شرطيّة النزح المستلزمة لحرمة الاستعمال بدونه ، فكذلك محتملة لاستحبابه ، فلا تنافي بينها وبين أخبار الطهارة القاضية بصحّة العمل بدون النزح ، ومعه لا تصلح مخصّصة ، وحيث إنّ هذا الاحتمال قائم فيها مع الاحتمال الأوّل فلم يثبت فيها عنوان المخصّصيّة ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٢٤٧ قطعة من الحديث ٧٠٩.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٠ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٩.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ التهذيب ١ : ٢٣٩ / ٦٩٣.

(٤ و ٥) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ و ١٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٢ و ٢٣٣ / ٦٧٠ و ٦٧٤.


لأنّه مبنيّ على الاحتمال الأوّل والمفروض كونه مشغولا بالمعارض المساوي ، إن لم نقل بكونه أقوى.

هذا مع أنّ هذه الأخبار متعارضة بنفسها ، لتضمّنها باختلافها تقديرات متعدّدة لنجاسة واحدة ، بحيث لا يمكن الأخذ بكلّ من هذه التقديرات بعنوان أنّه شرط ، نظرا إلى أنّه أمر واقعي والواقع لا يقبل الاختلاف ، مع ما في أكثرها من القصور في أسانيدها ، فلا تنهض دليلا على إثبات الحكم المخالف للأصل ، فلا بدّ من حملها على الاستحباب ، لأنّه الّذي يتسامح في أدلّته ، وهو الّذي لا يقبل الاختلاف بحسب مراتبه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ النزح إن اعتبر مطهّرا للبئر ـ على القول بالنجاسة ، أو في صورة التغيّر ـ ففي سقوطه بقيام غيره مقامه ممّا هو مطهّر لغيرها ، من إلقاء الكرّ ، أو إجراء الماء الجاري عليها ، أو وقوع المطر عليها ، نوع كلام بين الأصحاب يأتي التعرّض له عند البحث عن المنزوحات ، وأمّا على المختار من استحباب النزح ، وعلى القول بوجوبه تعبّدا ، فمقتضى القاعدة عدم سقوطه بالغير ما دام صدق اسم البئر باقيا.

ولعلّه إلى ذلك يرجع ما فصّله بعضهم من أنّ النزح لو كان للنجاسة فالظاهر حينئذ سقوطه ، وإن كان للتعبّد فإن حصل الامتزاج بالجاري أو الكثير فالظاهر أيضا السقوط ، لأنّ النزح إنّما تعلّق به في حال البقاء على حقيقته ، وعند الاستهلاك يصير في حكم المعدوم ، وإن حصل الاتّصال فالظاهر عدم السقوط لعدم خروجه عن حقيقته.

* * *


ينبوع

كلّ ماء حكم بنجاسته شرعا من جهة التغيّر ، أو الملاقاة للنجاسة ، أو قيام أمارة عليها ـ حيث تعتبر ـ لم يجز استعماله في الطهارة حدثا وخبثا ، وفي مشروط بالطهارة غير الطهارة أكلا وشربا ، شرعا إلّا عند الضرورة ، ويتوقّف الجواز على تطهيره بما هو مطهّر له شرعا ، وحيث إنّ العنوان مشتمل على أحكام فلا بدّ من إيراد البحث في مقاصد :

المقصد الأوّل : في عدم جواز استعماله في الطهارة ولو كانت عن خبث مطلقا ، والظاهر أنّ هذا الحكم إجماعيّ في الجملة ، وفتاوي الفقهاء متظافرة عليه ، قال العلّامة في المنتهى : « لا يجوز استعمال الماء النجس في رفع الحدث ، ولا في إزالة النجاسة » (١) قال المحقّق في الشرائع : « وإذا حكم بنجاسة الماء لم يجز استعماله في الطهارة مطلقا ، ولا في الأكل والشرب إلّا عند الضرورة » (٢) وفي النافع : « كلّ ماء حكم بنجاسته لم يجز استعماله ، ولو اضطرّ معه إلى الطهارة يتيمّم » (٣) قال الشهيد في الدروس : « ويحرم استعمال الماء النجس ، والمشتبه به في الطهارة » إلى قوله : « ويجوز شربه للضرورة » (٤). ومفهومه عدم جواز الشرب لغير الضرورة.

وفي المدارك : « الإجماع عليه ناقلا حكايته عن النهاية (٥) أيضا ، مع التصريح بعدم الفرق بين حالتي الاختيار والاضطرار » (٦) ، كما تشير إليه قيد الإطلاق في عبارة الشرائع ، وصرّح بالإجماع أيضا في الرياض (٧) وفي الحدائق (٨) نفى الخلاف ، وفي شرح الدروس للخوانساري : « كأنّه إجماعي » (٩) ، وحكي إطلاق المنع في الطهارة

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٤.

(٢) الشرائع ١ : ١٥.

(٣) المختصر النافع : ٤٤.

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٥) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٦.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٧) رياض المسائل ١ : ١٩٣.

(٨) الحدائق الناضرة ١ : ١٩٣.

(٩) مشارق الشموس : ٢٨١ (حجرية).


واختصاصه بالاختيار في الشرب ، كما في المناهل (١) عن النهاية (٢) ، والسرائر (٣) ، والمعتبر (٤) ، والقواعد (٥) ، والتحرير (٦) ، والذكرى (٧) ، والجعفريّة (٨) ، ومجمع الفائدة (٩).

واستدلّ عليه : بأنّ الطهارة تقرّب إلى الله تعالى ، وهو لا يحصل بالنجاسة ، ولا يخفى ما فيه من المصادرة ، فإنّ عدم حصول القرب بتلك الطهارة مبنيّ على ثبوت المنع الشرعي عن استعمال هذا الماء فيها ، وهو لا يثبت بهذا الوجه.

وفي المنتهى (١٠) الاستدلال عليه بالنسبة إلى إزالة النجاسة : « بأنّ الماء منفعل بها ، فكيف يعدمها عن غيره » وبالنسبة إلى رفع الحدث بصحيحتي حريز ، والفضل المتقدّمتين في أخبار انفعال القليل ، ففي أولاهما قال عليه‌السلام : « فإذا تغيّر الماء وتغيّر الطعم فلا توضّأ منه ، ولا تشرب » (١١). وفي الثانية فقال : « رجس نجس ، لا تتوضّأ بفضله ، واصبب ذلك الماء ، واغسله بالتراب أوّل مرّة ، ثمّ بالماء » (١٢).

ويدلّ عليه أكثر ما تقدّم من روايات الباب المذكور ، وأصل الحكم واضح لا حاجة له إلى الاستدلال ، لتظافر الأخبار المفيدة للقطع باشتراط الطهارة في ماء الوضوء والغسل ، مع قضاء العقل القاطع بعدم صلوح النجس لرفع النجاسة ، بل هو لا يفيد إلّا تأكّد نجاسة المحلّ ، وقضيّة ذلك عدم كون استعماله فيها مجزيا ، فعدم الإجزاء ممّا لا إشكال فيه ، بل الإشكال في أنّه هل يحرم بحيث يترتّب عليه الإثم واستحقاق العقوبة؟

ومنشؤه أنّ فتاوي الأصحاب تضمّنت في عناوين المسألة للتعبير عن الحكم بلفظ « الحرمة » و « عدم الجواز » فاختلفت الآراء الناظرة فيها في المعنى المراد من اللفظين ، لاحتمالهما إرادة مجرّد البطلان وعدم الإجزاء ، أو المعنى المتعارف المستتبع للإثم ، ففي المدارك : « المراد بعدم الجواز هنا معناه المتعارف وهو التحريم ، بقرينة قوله : « ولا في

__________________

(١) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ الورقة : ١٦٢ (مخطوط).

(٢) النهاية : ٨ ـ ٧. (٣) السرائر ١ : ٨٨. (٤) المعتبر : ١١.

(٥) قواعد الأحكام ١ : ١٨٩.

(٦) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ١١٠.

(٨) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦).

(٩) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(١٠) منتهى المطلب ١ : ٥٤.

(١١) الوسائل ١ : ١٣٧ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٦ / ٦٢٥.

(١٢) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦.


الأكل والشرب » ، فإنّ استعماله فيهما محرّم قطعا » (١) ، وعزى ذلك إلى المحقّق الثاني في شرح القواعد (٢) ، وثاني الشهيدين في الروضة (٣) ، وعنه في المسالك : « أنّه حرام مع اعتقاد شرعيّته أمّا بدونه فلا » (٤).

وعن العلّامة في النهاية إرادة المعنى الأوّل ، قائلا ـ بعد الحكم بالتحريم ـ : « إنّا لا نعني بالتحريم حصول الإثم بذلك ، بل نعني عدم الاعتداد به في رفع الحدث » (٥) ، واحتمله صاحب المدارك أخيرا في عبارة الشرائع ، واحتجّ على الاحتمال الأوّل : « بأنّ استعمال المكلّف النجس فيما يعدّه طهارة في نظر الشارع ، أو إزالة للنجاسة يتضمّن إدخال ما ليس من الشرع فيه ، فيكون حراما لا محالة » (٦) وحكي مثل هذا الاحتجاج عن المحقّق الثاني ، قائلا : « بأنّ استعمال المكلّف الماء النجس في الطهارة وإزالة النجاسة ، إدخال لما ليس من الشرع فيه ، فيكون حراما لا محالة » (٧).

فظهر من جميع ما ذكر أنّ القائلين بإرادة الحرمة الشرعيّة مرادهم بها الحرمة التشريعيّة والظاهر أنّ العلّامة في النهاية لا ينكر الحرمة بهذا المعنى ، بل الّذي نفاه إنّما هو الحرمة الذاتيّة ، كما أنّ ظاهر الآخرين أنّهم لا ينكرون الحرمة بمعنى عدم الإجزاء ، كيف والحرمة التشريعيّة ممّا لا يعقل الالتزام بها إلّا مع الاعتراف بعدم الإجزاء في نظر الشارع ، لأنّه الّذي يحقّق موضوع التشريع ويثبته مع علم المكلّف به ، وأمّا الحرمة الذاتيّة فلم نقف على قائل بها بعنوان الجزم واليقين.

نعم ، يستفاد عن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس توهّم احتمالها ، حيث أنّه بعد ما تنظّر في احتجاج المحقّق الثاني المتقدّم بقوله : « فيه نظر ، إذ كونه من قبيل الإدخال الّذي يكون حراما ممنوع لا بدّ له من دليل ».

قال : « ويمكن الاستدلال على الحرمة بالمعنى المتعارف في استعمال الماء النجس في الطهارة ، بما ورد كثيرا في أكثر الروايات من النهي عن التوضّي والغسل بالمياه النجسة ، مثل ما ورد في الماء المتغيّر بالنجاسة وغيره ، بحيث يفضي احصاؤه إلى تطويل

__________________

(١ و ٦) مدارك الأحكام ١ : ١٠٦.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٤٩.

(٣) لم نجده في الروضة نعم هو موجود في روض الجنان : ١٥٥.

(٤) مسالك الأفهام ١ : ٢١.

(٥) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٦.

(٧) جامع المقاصد ١ : ١٤٩.


زائد » (١) ، ولا ريب أنّ هذه النواهي على تقدير بقائها على ظواهر لا تقضي إلّا بالحرمة الذاتيّة ، لأنّ الحرمة التشريعيّة لا تنعقد إلّا بعد ما كان موضوعها ـ وهو كون موردها خارجا عن الشرع ـ محرزا ، ولا يعلم به إلّا من تلك النواهي على تقدير كونها لبيان الواقع ، وإرشاد المكلّف إلى مانعيّة النجاسة عن الصحّة ، وكون المأتيّ به المتضمّن لها خارجا عن المأمور به.

ومن البيّن أنّ الحمل عليه لا يجامع الحمل على المعنى المتعارف ، وإن كان الحمل على هذا المعنى يستلزم انعقاد موضوع التشريع ، بناء على أنّ النهي ممّا يقتضي الفساد ، لكن حكم التشريع لا يتأتّى من هذا المعنى وإلّا لزم الدور ، لأنّ انعقاده متأخّر عن انعقاد موضوعه ، وهو متأخّر عن انعقاد المعنى المتعارف ، فلو كان ذلك المعنى هو حكم التشريع بعينه لزم تقدّم الشي‌ء على نفسه وأنّه محال ، فلا يبقى إلّا أنّ الحرمة المستفادة منها هو الحرمة الذاتيّة.

ولكن يضعف هذا الاستدلال ، واستفادة هذا المعنى من تلك النواهي ، بملاحظة ما قرّرناه في بحث انفعال القليل من ظهورها بملاحظة المقام في إثبات شرطيّة الطهارة ومانعيّة النجاسة ، على حدّ سائر النواهي المتعلّقة بالعبادات والمعاملات على ما قرّرناه في محلّه ، وصرّح به هنا غير واحد من الأعاظم ، ومحصّل مفادها يرجع إلى دفع توهّم الاجتزاء في الطهارة بالماء النجس ، الناشئ عن توهّم إطلاق الأوامر الواردة بالطهارات من الوضوء والغسل ونحوه ، ومعه فلا يستفاد منها إلّا البطلان وعدم الإجزاء.

وأمّا الحرمة إن اريد بها الذاتيّة فلا دليل عليها ولا قائل بها أيضا ، وإن اريد بها التشريعيّة فالحقّ ـ وفاقا للجماعة ـ ثبوتها بدليل العقل ، الّذي يستدعي بيانه التعرّض لبيان تفصيل موضوعها ، فنقول : إنّ المكلّف إذا أتى بما ليس من الشرع ـ أي ما ليس من المأمور به المشروع له ـ فإمّا أن يأتي به باعتقاد أنّه ليس من الشرع ، أو يأتي به باعتقاد أنّه من الشرع ، أو يأتي به مع الشكّ في أنّه من الشرع أم ليس من الشرع ، وعلى الأخير فإمّا أن يأتي به لرجاء كونه من الشرع ، أو يأتي به على أنّه منه ـ أي يقصد أنّه منه ـ كما أنّه على الأوّل إمّا أن يأتي به بقصد أنّه من الشرع ولغرض الامتثال بما

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٨١.


أمر به ، أو يأتي به لغرض آخر من تعليم أو تعلّم أو تعود أو نحوه.

فإن أتى به على أنّه من الشرع ـ أي لغرض الامتثال ـ مع اعتقاد أنّه منه ، الحاصل من الاجتهاد أو التعويل على ما أفاد له ذلك الاعتقاد من الطرق الغير الاجتهاديّة ، فلا شبهة في خروجه عن موضوع التشريع ، ولا قبح فيه ذاتا ولا عرضا إن لم نقل بأنّ فيه حسنا ، بل ربّما يقبح تركه في نظر العقل من جهة التجرّي.

وما عرفته عن ثاني الشهيدين (١) من اعتباره اعتقاد الشرعيّة في موضوع الحرمة التشريعيّة لا بدّ من تنزيله إلى غير تلك الصورة بحمل الاعتقاد المذكور على قصد الشرعيّة ـ أي قصد امتثال المشروع بما ليس بمشروع مع اعتقاد المشروعيّة ـ ضرورة أنّ اعتقاد الشرعيّة على معناه الظاهر إن اعتبر مع اعتقاد عدم المشروعيّة أو الشكّ فيها فهو فرض محال ، وإن اعتبر لا مع اعتقاده ولا الشكّ فيه فأيّ شي‌ء يقضي بحرمته ، وبأيّ وجه يدخل في التشريع المحرّم ، خصوصا إذا كان اعتقاد الشرعيّة حاصلا له بالاجتهاد ، مع ملاحظة قولهم : « بأنّ المخطئ معذور ولا إثم عليه ، بل له أجر واحد ».

وإن أتى به لرجاء المشروعيّة مع الشكّ فيها ، فهو أيضا خارج عن عنوان التشريع جزما ، بل العقل فيه مستقلّ بحسنه ، وهذا هو معنى ما يقال : من أنّ الحرمة التشريعيّة لا تمنع عن الاحتياط.

وإن أتى به لغرض آخر معتقدا عدم مشروعيّته فهو أيضا ليس من التشريع المحرّم.

وإن أتى به على أنّه مشروع مع اعتقاد عدم المشروعيّة فهو التشريع المحرّم الّذي يستقلّ العقل بقبحه ، ودونه في القبح ما لو أتى به على أنّه مشروع مع الشكّ في المشروعيّة ، فإنّ الإتيان بغير المشروع أو ما يشكّ في مشروعيّته بقصد الامتثال ممّا يعدّ في نظر العقلاء استهزاء ، وينبغي تنزيل إطلاق ما تقدّم من الاحتجاج عن المدارك (٢) وشرح القواعد (٣) بل كلّ من فسّر التشريع : « بإدخال ما ليس من الدين في الدين » إلى هاتين الصورتين.

وممّا فصّلناه تبيّن أنّ ما عرفت عن الخوانساري (٤) من إطلاق منع كون الطهارة بالماء النجس من الإدخال المحرّم ليس في محلّه.

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ٢١.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٦.

(٣) جامع المقاصد ١ : ١٤٩.

(٤) مشارق الشموس : ٢٨١.


ثمّ قضيّة إطلاق ما تقدّم من الأخبار المشار إليها وفتاوي الفقهاء وتخصيصهم الأكل والشرب باستثناء حال الضرورة ، عدم الفرق في عدم جواز استعمال الماء النجس في الطهارة بين حالتي الاختيار والاضطرار ، بل هو المصرّح به في كلام غير واحد ، مصرّحين بانتقال التكليف مع الاضطرار إلى التيمّم ، بل لم نقف في ذلك على مشكّك ولا مصرّح بالجواز مع الاضطرار ، عدا الخوانساري في نفيه البعد عنه ، قائلا : « وبالجملة لا شكّ في أنّ الاحتياط في عدم التطهّر به في أكثر الصور ، نعم في بعض الصور النادرة كما إذا لم يكن إلّا الماء النجس ويعلم المكلّف أنّ بعد التطهّر به يمكن أن يصل إلى ماء طاهر ، ولكن لا يتيسّر له إلّا تطهير أعضائه الّتي لاقاها الماء النجس لا الطهارة ، لا يبعد أن يكون الاحتياط في الطهارة بالماء النجس ، ثمّ يطهّر الأعضاء ، ثمّ التيمّم ، خصوصا إذا كان نجاسة الماء بما يختلف فيه لا بالمتّفق عليه » (١).

وهو كما ترى ممّا يخالف الاصول والقواعد والنصوص ، ولا يشهد له شي‌ء من العقل والنقل ، نعم ربّما يؤيّده ما تقدّم في جملة الأخبار المستدلّ بها على عدم انفعال القليل بالملاقاة ، من صحيحة عليّ بن جعفر قال : وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال عليه‌السلام : « لا ، إلّا أن يضطرّ إليه (٢) ، وصحيحة ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه ـ إلى أن قال ـ أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال عليه‌السلام : « نعم ، إلّا أن تجد غيره » (٣) وصحيحة ابن بزيع قال : كتبت إلى من يسأله عن الغدير ، يجتمع فيه ماء السماء ، ويستقى فيه من بئر ، فيستنجي فيه الإنسان من بول ، أو يغتسل فيه الجنب ، ما حدّه الّذي لا يجوز؟ قال فكتب : « لا تتوضّأ من مثل هذا إلّا من ضرورة إليه » (٤) ، ودلالة هذه الروايات على ما توهّمه من الجواز واضحة ، لكن لا على التفصيل الّذي ذكره ، ولو لا مخالفة الإجماع وإعراض الأصحاب عنها لما كان المصير إليها بعيدا ، فهي حينئذ مطروحة أو مؤوّلة ، لقوّة احتمال أن يراد بالضرورة والاضطراب موجب التقيّة كما تقدّم بيانه في الباب المشار إليه ، مع انطباق

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٨١.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٢١ ب ١٤ من أبواب النجاسات ح ٩ ـ التهذيب ١ : ٢٢٣ / ٦٤٠.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٤٩.

(٤) الوسائل ١ : ١٦٣ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١٥ ـ التهذيب ١ : ٤١٨ / ١٣١٩ و ١٥٠ / ٤٢٧.


الأخيرة على محلّ البحث بناء على ما سبق من طهارة ماء الاستنجاء وعدم اشتمال السؤال على ملاقاة النجاسة صريحا ، وكيف كان فالقول المذكور في غاية الضعف.

المقصد الثاني : في عدم جواز استعماله في الشرب وغيره ممّا يتوقّف على الماء من أنواع المآكل ، ما لم تدع إليه ضرورة مبيحة لعامّة المحذورات عدا ما خرج ، والظاهر أنّ هذين الحكمين أيضا إجماعيّ ، وما تقدّم من الفتاوى مصرّحة بهما ، والأخبار المستفيضة المتقدّمة في الباب المشار إليه ـ مضافة إلى غيرها ـ ناطقة بأوّلهما ، كما أنّ الظاهر أنّ الحرمة الذاتيّة هنا ممّا لا إشكال فيه ، لكن ظاهر الفتاوى مع النصوص المشار إليها اختصاص المنع بالشرب وما يلحق به دون سائر الانتفاعات من سقي الدوابّ والأشجار والبساتين والمزارع والأبنية ، باستعماله في الطين والجصّ وعجن الحناء وغيره من الأصباغ.

نعم عن الشيخ في المبسوط (١) عدم جواز استعماله بحال.

وتحقيق القول في ذلك يستدعي النظر في كون الأصل في المتنجّسات جواز الانتفاع بها مطلقا إلّا ما خرج بالدليل ، أو عدم جوازه إلّا ما ثبت بالدليل؟

وظاهر أنّ المراد بالأصل المطلوب هنا هو الأصل الثانوي ، وإلّا فمقتضى الأصل الأوّلي المستفاد من عموم (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢) الجواز مطلقا ، ضرورة اندراج المتنجّس قبل طروّ النجاسة له تحت ذلك العامّ ، وطروّ النجاسة أوجب الشكّ في كون الطارئ مانعا وعدمه ، فالمقتضي للجواز موجود والشكّ في مانعيّة الطارئ. وقضيّة ذلك كون الأصل هو الجواز مطلقا ، لكنّ الكلام في انقلاب هذا الأصل إلى أصل ثانوي مستفاد من عموم الدليل وعدمه.

وقد وقع الخلاف في ذلك بين أصحابنا رضوان الله عليهم فعن القدماء ومشهور المتأخّرين كالشيخين في المقنعة (٣) والنهاية (٤) والخلاف (٥) والمبسوط (٦) والسلّار (٧)

__________________

(١) المبسوط ١ : ٦ قال فيه « فإن تغيّر أحد اوصافه بنجاسة تحصل فيه فلا يجوز استعماله إلّا عند الضرورة للشرب لا غير ... الخ ».

(٢) البقرة : ٢٩.

(٣) المقنعة : ٥٨٢ ـ ٦٩ ـ ٦٨ ـ ٦٥ حيث قال : « ولا بأس أن يشرب المضطرّ من المياه النجسة بمخالطة الميتة لها ، والدم وما أشبه ذلك ولا يجوز له شربها مع الاختيار ... ».

(٤) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٩. (٥) الخلاف ١ : ١٩٧ المسألة ١٥٣.

(٦) المبسوط ١ : ٦ و ٧.

(٧) المراسم : ٣٤ قال : « وأمّا المضاف إلى النجس فليس بطاهر ولا مطهّر ، ولا يجوز شربه ولا استعماله على وجه إلّا أن تدعو إلى شربه ضرورة ... ».


والحلّي (١) ، وابن الزهرة في الغنية (٢) ، والعلّامة (٣) والشهيد (٤) في قواعديهما ، والفاضل المقداد في التنقيح ، (٥) انقلاب الأصل.

بل عن الأخير دعوى الإجماع عليه قائلا ـ في الاستدلال على عدم جواز بيع الأعيان النجسة ـ : « بأنّها ممّا لا يجوز الانتفاع بها ، وكلّ ما لا يجوز الانتفاع بها لا يجوز بيعها » ، فقال : « أمّا الصغرى : فبالإجماع المعتضد بفتاوي الأصحاب من القدماء وأكثر المتأخّرين » (٦) ، وعن فخر الإسلام في شرح الإرشاد (٧) أيضا عليه الإجماع ، ونحوه محكيّ عن الشيخ في المبسوط (٨) ، وعن المحقّق الأردبيلي (٩) المصير إلى الثاني ، وقبله المحقّق في المعتبر قائلا : « الماء النجس لا يجوز استعماله في رفع حدث ولا إزالة خبث مطلقا ، ولا في الأكل والشرب إلّا عند الضرورة ، وأطلق الشيخ رحمه‌الله المنع من استعماله إلّا عند الضرورة.

لنا : أنّ مقتضى الدليل جواز الاستعمال ، ترك العمل به فيما ذكرنا بالاتّفاق والنقل وبقي الباقي على الأصل » (١٠) انتهى.

ونسب اختياره إلى الشيخ جعفر (١١) من متأخّري متأخّرينا ، بل هو ظاهر كلّ من اقتصر في المنع على ذكر الشرب فقط أو مع الأكل كما عرفت.

ومن مشايخنا (١٢) من وافق الأوّلين ، ومنهم (١٣) من اختار الثاني وهو الأقوى ، إذ ليس للأوّل إلّا وجوه واضحة الدفع والعمدة منها أمران :

أحدهما : الإجماعات المشار إليها المعتضدة بفتوى الشيخ في النهاية ، المنزّلة منزلة

__________________

(١) السرائر ١ : ٨٨.

(٢) غنية النزوع : ٤٦ قال : « لأنّه يقتضي تحريم استعمال الماء المخالط للنجاسة مطلقا ... ».

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٩.

(٤) قواعد الأحكام والفوائد ٢ : ٨٥ ، القاعدة ١٧٥ حيث قال : « النجاسة ما حرم استعماله في الصلاة والأغذية ... » ولم نعثر على غير ذلك من العبارة الّتي تدلّ على المطلوب.

(٥) التنقيح الرائع ٢ : ٥.

(٦) التنقيح الرائع ٢ : ٥ وفي النسخة الّتي عندنا هكذا : « وأمّا الصغرى : فإجماعيّة ».

(٧) لم نعثر عليه.

(٨) المبسوط ١ : ٨.

(٩) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨١.

(١٠) المعتبر : ١١.

(١١) لم نعرف الناسب.

(١٢) جواهر الكلام ١ : ٥٣٤.

(١٣) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٧٥.


الرواية المرسلة ، لما قيل عنه من أنّه لا يذكر فيها إلّا متون الروايات من دون اختلاف ، أو مع اختلاف يسير غير مخلّ بالمعنى.

وثانيهما : الرواية المنقولة عن تحف العقول (١) مرسلة ؛ وعن الوسائل (٢) مسندة بسند غير نقيّ ، وهي رواية طويلة وموضع الحاجة منها قوله عليه‌السلام :

« وأمّا وجوه الحرام من البيع والشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته ، أو شي‌ء يكون فيه وجه من وجوه الفساد نظير البيع بالربا أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش ، أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شي‌ء من وجوه النجس ، فهذا كلّه حرام ومحرّم ، لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه ، فجميع تقلّبه في ذلك حرام ».

وفيه : مع القدح في سند الرواية المشتمل على الحسن بن عليّ بن أبي حمزة ، وأبيه عليّ بن أبي حمزة المجروحين في كلام أهل الرجال (٣) مع عدم العلم بجابر له ، منع الدلالة على وجه يتناول محلّ البحث ، من حيث إنّ لفظة « وجوه النجس » الواقعة فيها عبارة عن الذوات المأخوذة عنوانا لحكم النجاسة الّتي هي بأنفسها مقتضية لها ، بعد تسليم أنّ لفظة « النجس » بانفرادها تشمل المتنجّس أيضا ، ولا ريب أنّ محلّ البحث ليس من هذا القبيل لكون النجاسة في المتنجّسات ـ ولا سيّما المياه ـ عرضيّة.

وأمّا الإجماعات المنقولة فعلى فرض تناولها لمحلّ الكلام ، فموهونة بمصير المتأخّرين كلّا أم جلّا إلى عدم انقلاب الأصل الأوّلي ، كما يظهر للمتتبّع في كلماتهم في باب المكاسب ؛ وأمّا باقي الوجوه المستدلّ بها على انقلاب الأصل مع أجوبتها فتطلب من الباب المذكور ، فإذن كان الأصل الأوّلي المشار إليه المعتضد بأصلي البراءة والإباحة على حاله.

المقصد الثالث : في كيفيّة تطهير المياه المتوقّف عليها إباحة الاستعمال.

واعلم أنّه كما أنّ عروض النجاسة لما يكون طاهرا بحسب ذاته وأصله على

__________________

(١) تحف العقول : ٣٣١.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٣ كتاب التجارة ، ب ٢ من أبواب ما يكتسب به ، ح ١ و ١٩ : ١٠١ ب ١ من كتاب الإجارة ح ١.

(٣) راجع منتهى المقال ١ : ٤٠٨ ، ٤ : ٣٢٧.


خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلّا بدلالة الشرع عليه ، فكذلك زوال تلك النجاسة العارضة بعد العلم بعروضها على خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلّا بدلالة الشرع عليه ، وقضيّة ذلك وجوب البناء على النجاسة فيما لو شكّ في طهارته بعد تيقّن النجاسة ، من غير فرق فيه بين كون الشكّ من جهة حصول الرافع المعلوم كونه رافعا ، أو في رافعيّة الحاصل لأمر راجع إليه نفسه في شبهة موضوعيّة أو حكميّة لعدم تعيّنه بحسب الشرع ، أو للشكّ في مدخليّة شي‌ء فيه ؛ أو لأمر راجع إلى المحلّ.

وقد تبيّن فيما سبق أنّ الأصل في اقتضاء ترتّب جميع أحكام النجاسة على المحلّ كالعلم ، على معنى أنّه يقوم مقامه ما لم يحصل ما يرفعه ، فالماء المحكوم عليه بالنجاسة إذا شكّ في زوال نجاسته ، لا كلام فيه إذا كان الشكّ ناشئا عن حصول المزيل ، أو عن الشبهة الموضوعيّة في الحاصل ، كما لو ثبت شرعا أنّ الكرّ من الماء رافع لنجاسة القليل المتنجّس ، ومطهّر له ، فالقي عليه مقدار كرّ متردّد بين كونه ماء أو مضافا ، فإنّ المرجع في مثل ذلك هو الأصل بلا إشكال.

وإنّما الغرض المهمّ في المقام ، استعلام حال الشكّ إذا كان في رافعيّة الحاصل لشبهة حكميّة راجعة إلى المحلّ ، كما لو شككنا في كونه قابلا للطهارة كالثياب ، أو غير قابل لها كالأدهان المتنجّسة ، أو إلى الرافع بعد إحراز القابليّة للمحلّ ، إمّا من حيث تعيين أصله المردّد بين كونه ماء أو غيره ، كزوال التغيّر مثلا في الكرّ المتغيّر بالنجاسة ، أو من حيث مدخليّة ما يشكّ في مدخليّة فيه ، كالدفعة والامتزاج وغيره ممّا ستعرفه من موارد الخلاف ، فلا بدّ في الخروج عن ذلك الشكّ من الدلالة الشرعيّة نصّا أو إجماعا ، غير أنّ النصوص ـ كتابا وسنّة ـ خالية عن تلك الدلالة كما اعترف به غير واحد.

هذا إذا أردنا من الدلالة من جهة النصّ ما يكون دلالة صريحة مستقلّة ، وإلّا أمكن إثبات الدلالة التزاما تبعيّا ، بملاحظة النصوص الواردة في البئر المتغيّر ماؤها بالنجاسة ، الدالّة على طهرها بالنزح المزيل للتغيّر ، بناء على ما نستظهر منها كون المطهّر في الحقيقة هو الماء المتجدّد من المادّة لا النزح ، ولا مجرّد زوال التغيّر أو هو مع الزوال ، فإنّ ذلك مع ملاحظة ما دلّ من الأخبار ، على عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة ، ممّا يمكن أخذه دليلا على الملازمة المجمع عليها الّتي ستعرف الكلام في إثباتها هذا.


وأمّا عمومات طهوريّة الماء ـ كتابا وسنّة ـ فلا قضاء لشي‌ء منها بشي‌ء ممّا ذكر ، لكونها ساكتة عن التعرّض لكيفيّة التطهير ومحلّه ، وما يقبله من المتنجّسات ، ولا ينافيه ورودها كلّا أم بعضا مورد الامتنان ، لحصول الامتنان بمجرّد كون الماء بنوعه قابلا لتطهير الغير ، ولا يقتضي أزيد من ذلك ، ولو سلّم اقتضاؤه الزيادة وهو كون هذا الحكم ثابتا لجميع أفراد النوع ، فلا يقتضي حكما بالقياس إلى موارده من حيث القابليّة للتطهّر ، كما أنّه لا يقتضي حكما بالقياس إلى كيفيّة التطهير من جهة ما يعتبر فيه وما لا يعتبر من الشرائط والموانع.

فما ستسمعه عن غير واحد من التمسّك بإطلاق تلك الأدلّة أو عمومها ـ في بعض تفاصيل محلّ البحث وفروعه الآتيتين ـ ليس على ما ينبغي ، إذ التمسّك بالإطلاق عند عدم القيد المفيد للاشتراط ، فرع ثبوت إطلاق في اللفظ يساعد عليه متفاهم العرف ، وهو مع عدم تعرّض الدليل للكيفيّة الراجعة إلى الشرائط نفيا وإثباتا غير معقول ، نعم قيام الدلالة من جهة الإجماع الكاشف عن رأي الحجّة ثابت في المقام جزما ، فإنّهم مجمعون على أنّ الماء المتنجّس بجميع أقسامه قابل للتطهير ، وعلى أنّ مطهّره لا يكون إلّا ماء طاهرا في الجملة ، لكن هذا الإجماع الثاني قد طرأه إجمال في معقده من جهة الشبهة في مدخليّة بعض في حصول التطهير ممّا تقدّم إليه الإشارة ، ومن هنا وقع الخلاف بينهم في اعتبار هذه الامور نفيا وإثباتا ، غير أنّه على تقدير عدم قيام الدلالة على الخروج عن هذه الشبهة لا يورث ذلك إشكالا لا يحصل التفصّي عنه ، لتعيّن مراجعة الأصل حينئذ.

نعم ، ربّما يقع الإشكال في أنّ هذا المرجع هل هو الأصل المقتضي للنجاسة ، وهو استصحاب الحالة السابقة ، أو الأصل المقتضي للطهارة وهو أصالة عدم الشرطيّة؟ فإنّ فيه أيضا خلافا تعرفه ـ مع تحقيقات منّا ـ عند ذكر حجج النافين لشرطيّة لامتزاج ، ولمّا كان موضوع المسألة الّذي هو معقد للإجماع المذكور ممّا يختلف أحكامه باعتبار اختلاف أنواعه ، فلا بدّ من إيراد البحث عنه في مراحل :

المرحلة الاولى : في تطهير الماء القليل المتنجّس متغيّرا أو غيره ، وقد ذكروا فيه أنّه يطهّر بإلقاء كرّ عليه دفعة كما في الشرائع (١) ، هذا إذا لم يكن متغيّرا أو كان وزال تغيّره

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ٧.


بالواحد ، وإلّا فكرّ آخر ، وهكذا إلى أن يزول التغيّر فيطهّر ، فاعتبار الزيادة إنّما هو حيث لم يزل التغيّر بدونها لا لتوقّف الطهر عليها.

نعم ، الكرّيّة معتبرة في الطهر مع التغيّر ومع عدمه عند أهل القول بانفعال القليل بالملاقاة بلا خلاف ، ووجهه واضح من حيث إنّ ما دونه ينفعل بمجرّد الملاقاة ، من غير فرق فيه عندهم بين ملاقاة النجس أو المتنجّس ، فكيف يصلح مطهّرا للغير ، وقد يدّعى عليه الوفاق على الإطلاق ، غير أنّه يشكل ذلك على مذهب العماني ومن تبعه ، بل عن فخر الإسلام في شرح الإرشاد (١) ما ينافي إطلاق هذه الدعوى ، حيث أنّه بعد حكاية هذا المذهب قال ـ في عبارة محكيّة عنه ـ : « ويتفرّع عليه أنّه لو تغيّر بعض أقلّ من الكرّ ثمّ زال التغيّر من قبل نفسه طهر عند العماني ومن وافقه ».

وقضيّة هذا التفريع أنّه لا يعتبر الكرّيّة في الرفع كما أنّه لا يعتبرها في الدفع ، فلو تغيّر ما دون الكرّ على هذا فالقي عليه طاهر أقلّ من الكرّ موجب لزوال تغيّره ، لزم انقلابه طاهرا.

ولعلّ وجه التفريع المذكور أنّ كلّ معلول يدور وجودا وعدما مع علّته ، فيرتفع بارتفاع العلّة ، وحيث أنّه لا تأثير لمجرّد الملاقاة عند أهل هذا المذهب فانحصر علّة النجاسة عندهم في التغيّر ، فإذا زال بغير الكرّ وجب زوال النجاسة أيضا ، وقضيّة ذلك حينئذ طهره أيضا بزوال التغيّر بنفسه من غير حاجة إلى إلقاء الماء الطاهر ولو قليلا ، وهو كما ترى في غاية البعد ، ولم يعهد القول بذلك عن أهل هذا القول.

نعم ، لغيرهم في مسألة الكرّ المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه أو بعلاج كلام يأتي

__________________

(١) لم نعثر عليه :

وفي هامش الأصل بخطّ مصنّفه رحمه‌الله :

« واعلم : أنّ في مطهّر القليل بإلقاء الكرّ يتصوّر أحوال كثيرة ، بعضها متّفق على كونه شرطا في التطهير وبعضها مختلف في شرطيّته وبعضها يتوهّم كونه شرطا.

أمّا القسم الأوّل : فكالكرّيّة وطهارته واستلزامه وزوال التغيّر وملاقاته المتنجّس.

وأمّا القسم الثاني : فكالدفعة والامتزاج وعلوّ المطهّر أو مساواته إن كان به قول محقّق في أصحابنا.

وأمّا القسم الثالث : فالعلوّ والمساواة على تقدير عدم القول به صريحا ، لأنّه ما يوهمه أكثر عناوينهم ـ على ما يأتي الإشارة إليه ـ وكورود المطهّر على المتنجّس على ما يوهمه عبارة الشيخ في الخلاف ويأتي ذكره ، وكالزيادة على الكرّيّة على ما يوهمه عبارة المحقّق الثاني فيما يأتي ، وكاستهلاك المتنجّس على ما يوهمه بعض استدلالاتهم المتضمّنة لهذا اللفظ وستعرفه » (منه).


التعرّض له ، وستعرف أنّ المشهور في تلك المسألة عدم كفاية ذلك ، بل لم يسند المخالفة إلّا إلى يحيى بن سعيد ، وجعله بعضهم لازما لقول كلّ من يقول بطهارة القليل المتنجّس بإتمامه كرّا ، مع ما فيه من المناقشة ومنع الملازمة كما ستعرفه.

فالّذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنّه لا قائل هنا بكفاية زوال التغيّر مطلقا أو مع تلبّسه بإلقاء الماء القليل ، والتفريع المذكور لعلّه اجتهاد من قائله من دون وقوع التصريح به في كلام الجماعة ، فيردّه حينئذ منع الملازمة بين مقامي الدفع والرفع ، وقضيّة العلّيّة على نحو ما ذكرناه أمر نظري عقلي ، وكون العلّة المبقية غير العلّة المحدثة على فرض افتقار الباقي في بقائه إلى العلّة احتمال قائم في المقام ، ومعه لا دافع لاستصحاب النجاسة كما لا رافع للنجاسة المستصحبة.

ويمكن أن يكون التفريع المذكور مبنيّا على توهّم امتناع كون الماء الواحد بعضه طاهرا لمكان عدم انفعال الجزء الغير المتغيّر وبعضه الآخر نجسا وهو الجزء المتغيّر ، ويردّه : إن كان ذلك لمجرّد العقل.

أوّلا : النقض بحالة التغيّر ، فإنّه لا يخرج الماء الواحد عن الوحدة.

وثانيا : أنّ جعل الجزء المتنجّس تابعا للجزء الطاهر في صيرورته طاهرا بمجرّد زوال التغيّر فرارا عن المحذور ، ليس بأولى من جعل الجزء الطاهر تابعا للجزء المتنجّس بمجرّد عروض التغيّر في صيرورته متنجّسا ، والاستصحاب كما أنّه يجري بالقياس إلى الجزء الطاهر كذلك يجري بالقياس إلى الجزء المتنجّس ، وشمول دلالة الشرع على عدم قبول القليل الانفعال بمجرّد الملاقاة بعد تسليمها لتلك الصورة غير معلوم ، لو قيل بأنّ شمول دليل علّيّة التغيّر للانفعال لما بعد زوال التغيّر غير معلوم.

وثالثا : منع امتناع تبعّض الماء في وصفي الطهارة والنجاسة عقلا ، إذ لا مانع منه من جهة العقل والشرع ، وعدم امتياز الجزءين في نظر الحسّ لا يقضي بعدم امتيازهما في علم الله سبحانه ، غاية الأمر أنّ الطهارة والنجاسة وصفان لا يجتمعان في محلّ واحد ، لكن مجرّد صدق الوحدة على الماءين في نظر العرف لا يستلزم وحدة محلّ الوصفين في متن الواقع وإن فرضناهما مختلطين بالامتزاج ، نظرا إلى أنّه لا يخرج الأجزاء المتواصلة عمّا هي عليها ذاتا ووصفا سيّما بناء على عدم تداخل الأجسام ، وإن أوجب


فيها طريان مفارقة البعض عن بعض كما لا يخفى.

والقول : بأنّه يلزم حينئذ عدم جواز استعمال الطاهر الموجود هنا فيما يشترط فيه الطهارة ، لاشتمال كلّ جزء منه بعد الامتزاج على جزء من المتنجّس وهذا في معنى نجاسة الكلّ ، إذ لا يجوز على الفرض شربه ولا التوضّي ولا تطهير الثوب والبدن به.

يدفعه : أنّ ذلك من جهة قيام مانع عرضي لا من جهة فقد المقتضي كما في الشبهة المحصورة ، فلا ملازمة بين منع الاستعمال من جهة الاشتباه وبين كونه لأجل النجاسة في الجميع لا غير.

وأمّا ما يتوهّم : في تلك الصورة أو نظيرها ـ كما في الكرّ الملقى على المتنجّس ، بناء على عدم تأثيره في طهره ولا تأثّره عنه بقبول النجاسة لمكان كرّ غير متغيّر ـ من أنّه لو ارتمس فيه مرتمس ارتفعت جنابته باشتمال الماء الطاهر عليه ، وإن كان يتنجّس بدنه من حين الخروج.

ففيه : ما لا يخفى من الغرابة والبعد عن قواعد الشرع ؛ فإنّ الجنابة لا ترتفع إلّا بطهارة الماء المستعمل فيها بجميع أجزائه ، والعلم باشتمال البدن في الصورة المفروضة على الماء الطاهر ليس من العلم بطهارة الماء المشتمل عليه بجميع أجزائه ، ومعه فأيّ شي‌ء ينهض رافعا للحدث المتيقّن ودافعا لاستصحابه؟ وكيف كان فمذهب العمّاني وموافقيه في تلك المسألة غير معلوم.

ومن هنا يعلم القدح في إطلاق دعوى الإجماع على اشتراط الكرّيّة في المطهّر ، والإجماع على كون الكرّ مطهّرا ليس من الإجماع على أنّ الطهر لا يحصل إلّا بالكرّ.

نعم ، على المختار من انفعال القليل بالملاقاة لا إشكال في اعتبار الكرّيّة ، وكأنّ إطلاق نقل الإجماعات منزّل على هذا التقدير.

ثمّ : لا يذهب عليك إنّا وإن منعنا بطلان تبعّض الماء الواحد في الطهارة والنجاسة من جهة العقل ، ولكنّه لا نمنعه من جهة الإجماع ، مضافا إلى ما أشرنا إليه من قيام الدلالة التبعيّة عليه فيما دلّ من النصوص على طهر البئر المتغيّر بالنزح إلى أن يزول التغيّر ، بناء على ما تقدّم الإشارة إليه مع ما سيأتي من تفصيل ذلك ، غير أنّ العمدة هو الإجماع وهو قائم جزما ، كيف وهو قضيّة إجماعهم على أنّ الكرّ أو غيره ممّا سيأتي


مطهّر عن القليل المتنجّس ، وستعرف في مسألة الامتزاج عن كاشف اللثام (١) دعوى الإجماع عليه بالخصوص ، فعندهم ـ على ما يظهر للمتأمّل ـ ملازمتان قطعيّتان أثبتهما النصوص والإجماع ، وملازمة ثالثة أثبتها الإجماع خاصّة أو هو مع ما أشرنا إليه من الدلالة التبعيّة في نصوص زوال التغيّر.

أمّا الاوليان : فإحداهما أنّ الماء الملقى على المتنجّس إذا كان ذا قوّة عاصمة كالكرّيّة مثلا لم ينفعل بملاقاته.

واخراهما : أنّه إذا عرا عن تلك القوّة ينفعل بتلك الملاقاة.

وأمّا الثالثة : فهي أنّ بقاء الماء الملقى على وصف الطهارة ـ كما هو مقتضي الملازمة الاولى ـ ملازم لزوال النجاسة عن الماء المتنجّس وإلّا لزم تبعّض الماء الواحد في الطهارة والنجاسة وهو منفيّ بالإجماع ، ومرجع هذه الملازمة إلى اعتبار التبعيّة فيما بين الماءين بعد حصول التلاقي بينهما ، فلا بدّ على طريقة الانفصال الحقيقي إمّا وأن يتبع الماء الطاهر لما القي عليه في وصف النجاسة ، أو يتبع الماء المتنجّس لما القي عليه في وصف الطهارة ، فحينئذ لو القي على الماء المتنجّس مقدار كرّ من الماء الطاهر فلا يخلو إمّا أن نقول : بنجاسة الملقي كالملقى عليه أو بالعكس ؛ أو ببقاء كلّ على حكمه الأوّل ، والأوّل منفي بحكم الملازمة الاولى ، كما أنّ الثالث منفي بحكم الملازمة الثالثة ، فتعيّن الثاني إذ لا احتمال سواه.

كما أنّه لو القي عليه ما دون كرّ من الماء فإمّا أن يقال بطهارتهما معا ، أو بنجاستهما كذلك ، أو ببقاء كلّ على حكمه ، والأوّل منفي بحكم الملازمة الثانية ، كما أنّ الأخير منفي بحكم الملازمة الثالثة ، فتعيّن الثاني إذ لا احتمال سواه.

ولعلّه إلى هذا المعنى يرجع ما في كلامهم من الاحتجاج على حكم المطهّريّة كما في المنتهى قائلا : « والواقف إنّما يطهّر بإلقاء كرّ عليه دفعة من المطلق بحيث يزول تغيّره ، وإن لم يزل فبإلقاء كرّ آخر عليه وهكذا ، لأنّ الطاري غير قابل للنجاسة لكثرته ، والمتغيّر مستهلك فيه فيطهّر » (٢) بناء على أنّ مراده بالاستهلاك زوال امتياز التغيّر عن الكرّ بما يتحقّق بينهما من الوحدة ، وذكر نظير هذا الاستدلال في الجاري المتغيّر أيضا

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣١٠.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٦٤.


المحكوم عليه بأنّه إنّما يطهّر بإكثار الماء المتدافع حتّى يزول التغيّر ، وأمّا تطهير القليل الّذي أورده بعدهما وإن لم يستدلّ فيه بمثل ما ذكر غير أنّه جار فيه أيضا ، وكأنّه تركه هنا اكتفاء بما سبق.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّ الملازمة الأخيرة موضوعها الماء الواحد ، فلا بدّ في الاستدلال بها من إحراز الوحدة أوّلا ، وكأنّ اختلافهم الآتي في الشروط الآتية من الدفعة والممازجة ونحوها ناش عن طلب إحراز الوحدة ، فمن يراها كلّا أم بعضا شرطا يرى أنّ الوحدة لا تصدق إلّا معها ، ومن لا يعتبرها يراها صادقة بدونها ، وعليه لا يكون شي‌ء من تلك الشروط أمرا تعبّديّا صرفا ، وبذلك ربّما يرتفع الحاجة في إثبات اعتبار شي‌ء منها أو نفي اعتباره إلى التمسّك بالأصل ، من استصحاب أو أصالة عدم الشرطيّة ـ على الخلاف المتقدّم إليه الإشارة ـ لكون الحكم حينئذ منوطا بالوحدة وصدقها وهو أمر عرفي لا يرجع فيه إلى الشرع.

كما علم بذلك وجه الاختلاف الّذي وقع بين العلّامة والمحقّق في المنتهى والمعتبر في غديرين أحدهما أقلّ من الكرّ فلاقته نجاسة ثمّ وصل بالآخر البالغ كرّا ، حيث إنّ العلّامة قال في الكتاب : « لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا ، واعتبر الكرّيّة فيهما مع الساقية جميعا ، أمّا لو كان أحدهما أقلّ من كرّ ولاقته نجاسة فوصل بغدير بالغ كرّا ، قال بعض الأصحاب : الأولى بقاؤه على النجاسة ، لأنّه ممتاز عن الطاهر ، مع أنّه لو مازجه وقهره لنجّسه ، وعندي فيه نظر فإنّ الاتّفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه ، ولا شكّ أنّ المداخلة ممتنعة ، فالمعتبر إذن الاتّصال الموجود هنا » (١).

والظاهر أنّ مراده ببعض الأصحاب هو المحقّق ، لما حكي عنه في المعتبر من قوله : « الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجّس ، ولو نقص كلّ واحد منهما عن الكرّ إذا كان مجموعهما مع الساقية كرّا فصاعدا ، الثالث : لو نقص الغدير عن كرّ فنجس فوصل بغدير فيه كرّ ففي طهارته تردّد ، والأشبه بقاؤه على النجاسة لأنّه ممتاز عن الطاهر ، والنجس لو غلب على الطاهر نجّسه مع ممازجته فكيف مع مباينته » (٢).

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(٢) المعتبر : ١١.


وإن شئت صدق مقالتنا في دعوى رجوع ذلك إلى الخلاف في صدق الوحدة وعدمه ؛ فانظر في كلاميهما تجدهما مشتملين نفيا وإثباتا على إناطة الحكم بصدق الوحدة وعدم صدقه ، لتصريح العلّامة بصدقها في المسألة الاولى بقوله : « اتّحدا » فيكون المسألة الثانية أيضا على قياسها ، وتصريح المحقّق بعدم صدقها بعنوان الحقيقة لقوله : « صارا كالماء الواحد » فإنّ التأدية بأداة التشبيه تقتضي كون الماءين مع عدم اتّحادهما حقيقة في حكم الماء الواحد البالغ كرّا في عدم انفعاله بمجرّد الملاقاة ، وعلى قياسها المسألة الثانية فإنّ الوحدة الحقيقيّة إذا لم تكن متحقّقة بمجرّد الوصل بساقية لم يكن مجرّد الوصل كافيا في التطهير ، على خلاف الحكم في المسألة الاولى وهو الكفاية في عدم الانفعال.

وجه الفرق بين المسألتين : أنّ الأحكام تدور مدار عناوينها المأخوذة في الأدلّة ، والماء الواحد من حيث أنّه ماء واحد لم يؤخذ عنوانا في حكم عدم الانفعال بملاقاة النجاسة ، بل المأخوذ عنوانا في هذا الحكم ـ حسبما قرّرناه في بحث الكرّ ـ إنّما هو عنوان الكرّيّة وما فوقها ، وصدق هذا العنوان لا يتوقّف على وحدة الماء حقيقة بل يكفي فيه مجرّد الاتّصال بين الماءين كما لا يخفى على المتأمّل ؛ بخلاف حكم التطهير فإنّه معلّق على عنوان الوحدة الّذي لا يتأتّى بمجرّد الاتّصال المفروض.

وبما وجّهناه في الفرق بين المسألتين يندفع المنافاة المتوهّمة بين الكلامين ، فظهر أنّ النزاع بينهما راجع إلى الصغرى ، فالعلّامة يرى مجرّد هذا الاتّصال كافيا في صدق عنوان الوحدة ، والمحقّق لا يراه كافيا لتصريحه بأنّه ممتاز عن الطاهر ، بل يراه متوقّفا على حصول الممازجة كما فهمه العلّامة من كلامه وردّه بأنّ المداخلة ممتنعة ، واستظهره منه أيضا جماعة ، ويرشد إليه أيضا قوله ـ في الوجه الثاني ممّا استدلّ به ـ : « والنجس لو غلب على الطاهر نجّسه مع ممازجته ، فكيف مع مباينته » يعني فكيف يطهّر مع مفارقته عن الطاهر البالغ كرّا.

وحاصله : أنّ نجاسة الكرّ معلّقة على غلبة النجس عليه وتغيّره بسببه ، وهي لا تتأتّى إلّا مع الممازجة ، ضرورة أنّ النجس لو كان مفارقا عن الكرّ لم يصدق عليه أنّه غلبه ، كما أنّ طهر النجس معلّق على صيرورته مع الكرّ ماء واحدا ، ولا يتأتّى ذلك إلّا مع الممازجة.


وبعبارة اخرى : أنّ الكرّ في كلّ من تأثّره عن النجس وتأثيره فيه موقوف على الممازجة ، أمّا الأوّل : فلأنّ تأثّره منه يتوقّف على غلبته عليه ، ولا يتأتّى الغلبة إلّا مع الممازجة.

وأمّا الثاني : فلأنّ تأثيره فيه يتوقّف على الوحدة ، ولا يتأتّى الوحدة إلّا مع الممازجة.

ويوافقه على دعوى كون العبرة في مقام التطهير بالوحدة الرافعة للتمييز بين الماءين الغير المتحقّقة بمجرّد الوصل بينهما عبارة الشهيد المحكيّة عن الذكرى قائلا :

« ويطهّر القليل بمطهّر الكثير ممازجا ، فلو وصل بكرّ مماسّة لم يطهّر للتمييز المقتضي لاختصاص كلّ بحكمه ، ولو كان الملاقاة بعد الاتّصال ولو بساقية لم ينجّس القليل مع مساواة السطحين أو علوّ الكثير كماء الحمّام ، ولو نبع الكثير من تحته ـ كالفوّارة ـ فامتزج طهّره لصيرورتهما ماء واحدا ، أمّا لو كان ترشّحا لم يطهّر لعدم الكثرة الفعليّة » (١)

ومراده بالكثرة الفعليّة الكرّيّة الفعليّة الّتي هي مناط التطهير ؛ ولا ريب أنّها غير متحقّقة مع الرشح.

ويرد عليه مع المحقّق بالنظر إلى إطلاق كلاميهما : أنّ ما ذكرتماه إنّما يستقيم على فرض تسليمه فيما لو كان الوصل بين الغديرين بساقية ، خصوصا إذا كانت الساقية خفيّة ، وإلّا فلو كان هنا حوضان أحدهما كرّ دون الآخر مفصول بينهما بفاصل يساويها في الأبعاد الثلاث وكان ما دون الكرّ نجسا ، ثمّ رفع الفاصل بحيث صارا حوضا واحدا فإنّه لا شبهة حينئذ في صدق الوحدة صدقا حقيقيّا ، إذا كان المراد بها الوحدة العرفيّة كما هو الظاهر المصرّح به في جملة من العبائر ، وظنّي أنّ هذا الفرض لا يندرج في معقد كلاميهما كما يفصح عنه التصريح بالساقية في كلام المحقّق المتضمّن لقضيّة الوصل بين الماءين.

نعم ، يتوجّه الإشكال إلى إطلاق كلام العلّامة في دعوى الاتّحاد ، فإنّ حصوله لو اريد به اتّحاد الماءين في جميع صور المسألة حتّى ما لو كان الوصل بينهما بساقية خفيّة في غاية الإشكال ، والاكتفاء بنحو هذا الاتّصال في نهاية الصعوبة.

وممّا يومئ إلى أنّ محطّ كلامهم هنا اعتبار الوحدة عبارة الشيخ في المبسوط الّتي حكاها العلّامة في المنتهى موردا عليه في بعض محتملاته قائلا : « وقال الشيخ في

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.


المبسوط : « لا فرق بين أن يكون الطاري نابعا من تحته أو يجري إليه أو يغلب » ، فإن أراد بالنابع ما يكون نبعا من الأرض ، ففيه إشكال من حيث إنّه ينجّس بالملاقاة فلا يكون مطهّرا ، وإن أراد به ما يوصل إليه من تحته فهو حقّ » (١).

فإنّ الشيخ يرى الوحدة صادقة في جميع التقادير ، والعلّامة يراها متوقّفة على كون النبع وصلا للكثير إليه من تحته ، ووجه استشكاله على هذا التقدير لو كان المراد بالنابع ما ينبع من الأرض إمّا لأنّ الجاري مطلقا ليس عنده من ذوات القوّة العاصمة فيكون إشارة إلى الملازمة الثانية ممّا تقدّم ، أو أنّ العبرة في التطهير بحصول الكثير في الماء فعلا ولا يتأتّى ذلك إلّا بالوصل إليه دفعة ، ولا يكفي فيه مجرّد النبع كيفما اتّفق ، لأنّه عبارة عن خروج الماء جزء فجزء فهو ما لم ينبع لم يحصل في المتنجّس وبالنبع خرج عن كونه جزءا من المطهّر ، لأنّه يوجب اتّحاده مع المتنجّس ؛ ومثل هذا الاتّحاد لا يجدي لأنّ العبرة فيه باتّحاد المطهّر معه ، والجزء المنفصل عنه المتّحد مع المتنجّس ليس بمطهّر بنفسه ، لعدم كونه ذا القوّة العاصمة فينجّس بالملاقاة ؛ وعلى هذا يكون ذلك أيضا إشارة إلى الملازمة الثانية ؛ وموافقا لما عرفته عن الشهيد فيما يخرج إليه بالرشح.

وإلى هذا ينظر ما عن المعتبر : « من أنّ هذا أشبه بالمذهب ، لأنّ النابع ينجّس بملاقاة النجاسة ، وإن أراد بالنابع ما يوصل إليه من تحته لا أن يكون من الأرض فهو صواب » (٢)

وقد أشار بقوله : « هذا أشبه » إلى ما عن الخلاف (٣) في ردّ الشافعي القائل بكفاية النبع ، من أنّ الطهارة بالنبع حكم مختصّ بالبئر ، ومن هنا يمكن أن يقال : إنّ مراد الشيخ بالنبع في العبارة المتقدّمة عن المبسوط هو ثاني ما ذكره العلّامة في توجيهها ، ومعه لا يتوجّه إليه ما ذكره من الترديد.

ومن جميع ما ذكر تعرف أنّ اشتراط الدفعة في كلامهم كما هو الأظهر ـ على ما سيأتي ـ إنّما هو لإحراز عنوان الوحدة ، إذ بدونها لا يتأتّى الوحدة فيما بين المطهّر والمتنجّس ، بل إنّما تتأتّى فيما بينه وبين جزء من المطهّر ، وهو ليس بذي القوّة العاصمة فينفعل بحكم الملازمة الثانية ، فورود الكرّ بل الأكرار عليه تدريجا لا يكفي في التطهير ، سواء تخلّل الفصل بين الدفعات المتدرّجة أو لا ، وستعرف تفصيل القول فيه وفي سائر الشروط.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٥ ، المبسوط ١ : ٧.

(٢) المعتبر : ١١.

(٣) الخلاف ١ : ١٩٣ المسألة ١٤٨.


وممّا بيّنّاه ـ من مناط التطهير ـ تعرف عدم اشتراطه بعلوّ المطهّر ولا مساواته في السطح ، لعدم توقّف صدق الوحدة على شي‌ء من الوصفين ، ضرورة أنّها تحصل بعد الملاقاة والاتّصال سواء نزل إليه من عال ، أو ورد عليه من مساو ، أو اتّصل به من تحت بشرط كون الاتّصال حاصلا بينه وبين تمام الكرّ ، كما لو كان هناك فيما بينهما حاجز فرفع ، فلو جرى إليه من فوّارة ونحوها لا يكفي في الطهر لفقده ما هو مناط التطهير وهو الوحدة الحاصلة بالنسبة إلى تمام المطهّر لا جزئه.

فما قد يفصّل في المقام ـ من أنّه إن كان من فوّارة بحيث يكون مستعليا على الماء النجس حصل التطهّر به ، إن كان استعلاؤه بحيث لا يمسّ الماء النجس إلّا بعد نزوله ، وإن كان لا من فوّارة بل إنّما ينبع ملاقيا للماء النجس فبناء على الاكتفاء بالاتّصال في التطهير بمثله ، أو على تسليم الملازمة في أنّه ليس لنا ماء واحد بعضه طاهر وبعضه نجس مع القول بعدم اشتراط الكرّيّة في الجاري ، اتّجه القول بالطهارة أيضا ، وإلّا أمكن المناقشة فيه لاستصحاب النجاسة ـ ليس على ما ينبغي.

بل الإنصاف عدم حصول الطهر في كلّ من الصورتين لانتفاء الدفعة الّتي عليها مدار الوحدة ، وهو صريح المحكيّ عن العلّامة في نهاية الإحكام من أنّه : « لو نبع من تحت فإن كان على التدريج لم يطهّره وإلّا طهّره » (١).

وكيف كان : فاشتراط الاستعلاء أو المساواة في المطهّر خال عن الوجه ، بل لم نقف عليه بقائل تحصيلا ولا نقلا ، بل العبارات المتقدّمة عن فحول فقهائنا كالشيخ والعلّامة مصرّحة في عدم الاشتراط.

نعم ربّما يستشمّ ـ كما في الروضة ـ (٢) عن تعبيرهم بـ « إلقاء كرّ دفعة » بناؤهم على شرطيّة العلوّ أيضا ، ودونه في الإشعار بذلك ما في الروضة أيضا من أنّ المشهور اشتراط طهر القليل بالكرّ بوقوعه عليه دفعة (٣).

وما عن تذكرة العلّامة من : « أنّا نشترط في المطهّر وقوع كرّ دفعة ، قائلا ـ في ردّ الشافعي ـ : بأنّه لو نبع الماء من تحته لما يطهّر ، وإن أزال التغيّر خلافا للشافعي ، لأنّا نشترط في المطهّر وقوعه كرّا دفعة » (٤).

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٢٥٧.

(٢ و ٣) الروضة البهيّة ١ : ٢٥٤.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٢١.


وعن الشيخ في الخلاف (١) من أنّه يشترط في تطهير الكرّ الورود ، وأنت بعد التأمّل في ما تقدّم من عباراتهم المصرّحة بعدم الفرق أو الظاهرة فيه تعرف أنّ هذا الاستظهار ليس في محلّه ، كيف والمقصود من هذه العبارات إفادة اعتبار القيد من الكرّيّة والدفعة دون المقيّد ، كما يرشد إليه ورود بعضها في ردّ الشافعي القائل بكفاية النبع ، ومعه فلو بني على الأخذ بمثل هذا الظهور ـ بعد الغضّ عمّا ينافيه ممّا ذكر ـ لاتّجه اعتبار امور اخر غير الاستعلاء الّتي منها قصد التطهير ، لكون الإلقاء من الأفعال الاختياريّة المنوطة بالقصد والنيّة ، وهو كما ترى.

ولذا قد يقال ـ في توجيه التعبير بالإلقاء والوقوع والورود ـ : من أنّه إنّما وقع من جهة أنّ الغالب في تطهير المياه القليلة الباقية في الحياض المنفعلة بالملاقاة كون المطهّر ماء خارجيّا.

وقد يوجّه أيضا : بأنّ مراد من وقعت منه مثل هذه العبارات إنّما هو في مقابلة الشيخ القائل بكفاية التطهير بالنبع من تحت.

وفيه : إن اريد بالنبع ما يكون من الأرض على حدّ ما في الجاري فقد عرفت من عبارة الخلاف المتقدّمة (٢) أنّ الشيخ أيضا لا يقول بالاكتفاء به ، وإن اريد به وصل الكثير إليه من قعره فقد تبيّن أنّه لا يخالفه غيره كالمحقّق والعلّامة في الاكتفاء به.

ويشهد بما ذكرناه من عدم اعتبارهم ظهور الألفاظ المذكورة هنا ـ مضافا إلى ما تقدّم ـ إطلاق الاتّفاق الّذي ادّعاه العلّامة في المنتهى في مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية عند دفع كلام المحقّق المصرّح بعدم كفاية مجرّد الاتّصال في التطهير.

نعم ، ربّما يظهر عن عبارة الشيخ في الخلاف المعبّرة باشتراط الورود توقّف الطهر على ورود المطهّر ، فلو عكس بإيراد المتنجّس على الكرّ الطاهر لم يؤثّر في الطهر ، وقضيّة إطلاق الآخرين عدم الفرق وهو الأقرب أخذا بالملازمة الثالثة المتقدّم ذكرها ، المنوطة بصدق الوحدة الحاصلة في صورة العكس أيضا ، بل حصولها فيه أظهر وأبين كما لا يخفى ، إلّا أن يكون ذلك في نظره شرطا تعبّديّا كالكرّيّة ، غير أنّه يحتاج إلى دليل.

ويظهر الثمرة فيما لو القي الماء النجس في الكثير فيطهّر على ما ذكرناه ، من غير فرق

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٩٣ المسألة ١٤٨.

(٢) الخلاف ١ : ١٩٣ المسألة ١٤٨.


بين كونه من فوق أو من تحت ، كما لو كان في إناء ثمّ كسر الإناء في قعر الحوض البالغ كرّا.

وإذا تمهّد جميع ما بيّنّاه فتنقيح المسألة يستدعي رسم امور :

أحدها : النظر في اعتبار الدفعة وعدمه ، فإنّه ممّا اختلفت فيه عبائر الأصحاب فصريح أكثر العبائر المتقدّمة اعتبارها ؛ وفي الحدائق : « بل الظاهر أنّه المشهور بين المتأخّرين » (١) وفي الروضة التصريح بالشهرة (٢) ، وعن ظاهر آخرين بل صريح بعضهم عدم اعتبارها.

وربّما يشتبه المراد بالدفعة هنا فيذكر فيه وجوه ، وذلك لأنّ الكرّيّة إمّا أن تكون محرزة فيما يلقى قبل الإلقاء أو لا ، بل يلقى عليه من الماء القليل مرّات إلى أن يبلغ المجموع الملقى كرّا.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يلقى بعضا فبعضا على وجه يحصل الانقطاع فيما بين الأبعاض الملقاة من حين الإلقاء ـ كأن يلقى ثلثه فقطع ، ثمّ يلقى الثلث الثاني فقطع ، ثمّ يلقى الثلث الأخير ـ أو لا ، بل يلقى المجموع بلا انقطاع فيما بين الأبعاض ، وعليه فإمّا أن يتحقّق وقوع المجموع عليه في آنات متعدّدة على نحو التدريج كما لو أجرى الكرّ عليه بساقية ضيّقة ، أو يتحقّق وقوعه في آن واحد عرفي ـ كما هو المصرّح به في كلام جماعة ـ أو حقيقي كما هو المنفيّ في كلامهم.

ولا ينبغي أن يكون المراد بها هنا ما يقابل المعنى الأوّل ، ولا ما يقابل المعنى الثاني ، لأنّ اعتبارها بكلّ من المعنيين ليس أمرا وراء اعتبار الكرّيّة ، فلا معنى للخلاف فيه حينئذ لو كان الخلاف محقّقا ، مع أنّ اعتبار الكرّيّة تغني عن اعتبارها ، لظهور اعتبار الكرّيّة في كون المحرز للإلقاء والمعدّ له كرّا في الواقع واقعا على المتنجّس بوصف الكرّيّة.

فتعيّن أن يكون المراد ما يقابل المعنى الثالث ، وهو المعنى الرابع بعينه كما صرّح به غير واحد ، منهم صاحب المدارك قائلا فيه : « المراد بالدفعة هنا وقوع جميع أجزاء الكرّ على الماء النجس في آن عرفي » (٣) وقريب منه ما في الحدائق (٤).

ويدلّ على إرادته أيضا التقييد بالعرفي في بعض كلماتهم ، بل ما تقدّم عن العلّامة في النهاية والتذكرة أيضا في ردّ الشافعي القائل بكفاية النبع من تحته شاهد بذلك.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٣٣٧.

(٢) الروضة البهيّة ١ : ٢٥٤.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٤٠ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٣٣٧.


واختلف في وجه اعتبار الدفعة بهذا المعنى ، فقد يقال : بأنّه يحتمل أن يكون ذلك لأجل تحصيل الامتزاج ، فإنّ الوقوع دفعة يوجب ذلك غالبا بل دائما ، وعن حاشية الروضة لجمال المحقّقين : « إنّ في صورة إلقاء الكرّ دفعة يتحقّق الممازجة ، وإنّما الخلاف في اشتراط الممازجة فيما يلق دفعة » (١).

وأن يكون اعتبارها مختصّا بصورة الإلقاء دون الاتّصال الّذي يحصل فيما بين الغديرين المتواصلين ، تحرّزا عن اختلاف سطوح المطهّر فينفعل السافل منه بالملاقاة ولا يتقوّى الجزء العالي منه.

وأن يكون ذلك لاستصحاب النجاسة ولزوم الاحتياط في إزالتها بعد ذهاب جماعة إلى الدفعة ، وعن حاشية الروضة (٢) ـ المشار إليها ـ الاعتماد عليه.

وأن يكون الوجه فيه ما ذكره في جامع المقاصد : « من ورود النصّ بالدفعة وتصريح الأصحاب بها » (٣).

بل قد يقال : بأنّ ذلك هو غاية ما يمكن الاستناد فيه إليه ، وأمّا ما في المدارك من المناقشة فيه : « بأنّا لم نعثر عليه في كتب الحديث ، ولا نقله ناقل في كتب الاستدلال » (٤) فغير قادح في الاعتبار ، إذ عدم الوجدان لا يقضي بعدم الوجود ، ونسبته إلى تصريح الأصحاب مع ما في الحدائق (٥) من نسبته إلى المشهور بين المتأخّرين جابران لهذا المرسل ، مع أنّ استصحاب النجاسة محكّم ولا بيان لكيفيّة التطهير.

هذا كلّه : مع التأييد بأنّ مع التدريج ينجّس كلّ جزء يصل إلى الماء النجس لعدم تقوّي السافل بالعالي.

وأنت خبير بما في هذه الوجوه من الوهن الواضح.

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ النسبة بين الدفعة والممازجة ـ على ما يشهد به التأمّل الصادق ـ عموم من وجه يجتمعان في مادّة ويفترقان في اخريين ، ولذا ترى أنّ العلّامة

__________________

(١) حاشية الروضة البهيّة ـ للخوانساري رحمه‌الله ـ (الطبعة الحجريّة) : ١٢ في ذيل قول المصنّف : « وكذا لا يعتبر ممازجته » الخ مع اختلاف يسير في العبارة.

(٢) حاشية الروضة البهيّة ـ للخوانساري ـ (الطبعة الحجريّة) : ١٢ حيث قال : « فيكفي لنا دليلا على اعتبارها ذهاب جمع من الأصحاب إلى اعتبارها وعدم دليل لنا على التطهير بدونها فتأمّل ».

(٣) جامع المقاصد ١ : ١٣٣.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٤٠.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٣٣٧.


في المنتهى مع أنّه صرّح باعتبار الدفعة (١) أنكر على بعض الأصحاب ـ وهو المحقّق على ما هو ظاهر ما تقدّم ـ اعتبار الممازجة ، مصرّحا في الغديرين المتواصلين بكفاية الاتّصال الموجود هنا (٢).

فما عرفت عن جمال المحقّقين من أنّ في صورة إلقاء الكرّ دفعة يتحقّق الممازجة في حيّز المنع ؛ لعدم الملازمة بينهما كما لو وضع على الماء المتنجّس كرّ محرز في إناء على وجه يتحقّق معه المماسّة بين سطحيهما بدون مداخلة ، وعلى فرض تسليم استلزامه المداخلة لا محالة فهي ليست من الممازجة المقصودة هنا ، بل هي مداخلة في الجملة فتكون أعمّ أيضا.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّه تقييد في إطلاق كلامهم من وجهين ؛ فالتقييد الأوّل ينافي إطلاق اشتراطهم الدفعة كالمحقّق والعلّامة في المعتبر (٣) والمنتهى (٤) ، كما أنّ التقييد الثاني ينافي إطلاقهم في عدم انفعال الكرّ بالملاقاة ، المقتضي لعدم الفرق بين استواء السطوح واختلافها ، المستلزم لأن يكون كلّ من الأعلى والأسفل متقوّيا بالآخر كما في الكتابين أيضا.

والظاهر أنّ مرادهم بالدفعة ما يعمّ إلقاء تمام الكرّ عليه في آن واحد عرفي ، ووصله إليه إذا كان في غدير يمكن وصله إليه ، ومنه مسألة الغديرين المتواصلين ، لأنّ مناط نظرهم ـ على ما عرفت من الملازمة الثالثة ـ حصول عنوان الوحدة فيما بين الماءين من حين اللقاء ولا يتأتّى ذلك إلّا بأحد الوجهين ، هذا مضافا إلى ما ستعرف في الاعتراض على ما يأتي عن صاحب المدارك والمعالم.

وأمّا الوجه الثالث : فلأنّ الاستصحاب ـ مع أنّ المقصود من اعتبار الدفعة إحراز شرط لا حاجة له عند التحقيق إليها وهو الوحدة بين الماءين ـ ليس في محلّه.

وأمّا الوجه الرابع : فلأنّ النصّ المدّعى وروده ممّا لا أثر له أصلا ، وإلّا كانت العادة قاضية بنقله إلينا وضبطه في الكتب لعموم البلوى به ومن هنا أنكره في المدارك (٥) ، ولو سلّم فهو مرسل لا جابر له ، إذ ما تقدّم ممّا ادّعي كونه جابرا لا يصلح جابرا كما هو

__________________

(١ و ٤) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٥٤ ـ ٥٣.

(٣) المعتبر : ١١.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٤٠.


واضح ، مع إمكان كون مراد من ادّعاه به غير معناه المصطلح عليه على أن يكون عطف تصريح الأصحاب عليه تفسيرا له.

فتحقيق المقام أن يقال : إنّ الدفعة إن اريد بها ما يكون شرطا تعبّديّا فالمتّجه منع اعتبارها ، لانتفاء الدلالة عليه شرعا.

وإن أريد بها ما يكون مقدّمة لإحراز الوحدة بين الماءين ـ الكرّ والمتنجّس ـ الرافعة للتمييز بينهما ، فاعتبارها ممّا لا محيص عنه ، بناء على ما تقدّم من الملازمة المتوقّفة عليها.

ولكن ينبغي أن يراد بالدفعة حينئذ ما يعمّ الإلقاء في آن واحد ، وإيجاد الاتّصال بين الكرّ والمتنجّس في موضع عدم إمكان الإلقاء ، كما لو كانا في حوضين أو غديرين فوصل بينهما على وجه صارا حوضا أو غديرا واحدا ، وذلك ممّا لا يقتضي ممازجة ولا مداخلة ، ولا يكفي فيه إجراء الكرّ إليه على وجه يدخل فيه جزء فجزء وإن لم يحصل الانقطاع في الأثناء ، إذ لا يتحقّق معه الوحدة بينه وبين تمام الكرّ ؛ والوحدة الحاصلة بينه وبين أجزاء الكرّ ليست من الوحدة بينه وبين الكرّ ، وذلك يوجب انفعال كلّ جزء منه يدخل فيه ويتّحد معه ، لا لأنّ الكرّ يشترط في عدم انفعاله مساواة السطوح ، بل لأنّ الجزء المفروض بمجرّد اتّحاده مع الماء المتنجّس يخرج عن كونه جزء من الكرّ ويدخل في عنوان الجزئيّة للماء المتنجّس ، والمفروض أنّه بنفسه غير معتصم فينفعل لا محالة ، بل لو دخل فيه كرور كثيرة بهذا الوجه انفعل المجموع بانفعال أجزائها المجتمعة فيه المتّحدة معه ، كما لو القي عليه مياه قليلة بدفعات متكرّرة.

ولعلّه إلى ما ذكرنا من كفاية الاتّصال الحاصل في بعض الصور ينظر ما نسب إلى الشهيد في الذكرى ؛ وإن كان لا يوافق ما تقدّم عنه فيه (١) أيضا سابقا من الاكتفاء بإلقاء كرّ عليه متّصل مع عدم اشتراط الدفعة.

ولكنّ الإنصاف : أنّ ظاهر مراده بالاتّصال هنا اتّصال أجزاء الكرّ الملقى بعضها ببعض ، احترازا عمّا القي بدفعات متكرّرة على وجه يتحقّق الانفصال فيما بينها ؛ والاتّصال بهذا المعنى أحد المعاني المتقدّمة للدفعة ، فالقول بأنّه لم يشترط الدفعة بإطلاقه في غير محلّه.

ومن هنا ظهر أنّه لا وقع لما عن المحقّق الشيخ عليّ من الاعتراض عليه : « بأنّ فيه

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.


تسامحا لأنّ وصول أوّل جزء منه إلى النجس يقتضي نقصانه عن الكرّ ، فلا يطهّر حينئذ ولورود النصّ بالدفعة ، وتصريح الأصحاب بها » (١).

فإنّ وجه الاعتراض إن كان أنّه أهمل الدفعة بالمرّة ولم يعتبرها ، ففيه : أنّ الاتّصال الّذي صرّح به أحد معاني الدفعة.

وإن كان أنّه لم يعتبر الزيادة على الكرّ في مقام التطهير لئلّا يخرج عند الاتّصال عن الكرّيّة.

ففيه : منع خروجه عنها باتّصال أوّل جزء منه بالماء المتنجّس ، لأنّ مجرّد اتّصاله به بواسطة هذا الجزء يوجب تحقّق الوحدة فيما بينهما الّتي هي مناط حكم التطهير وموضوع الملازمة المتقدّمة المجمع عليها ، فإنّ في آن الاتّصال يحصل الوحدة ويقارنها طهره عند ذلك بلا تراخي زمان.

ولا ينافيه كون الوحدة شرطا مأخوذا في موضوع الملازمة فلا بدّ من تقدّمها على الطهر ، ضرورة تقدّم الشرط على مشروطه فكيف يقارنها الطهر في آن واحد ، لأنّ أقصى ما يقتضيه عنوان الشرطيّة ـ كما هو الحال في سائر المقدّمات ـ إنّما هو التقدّم بحسب الذات وهو حاصل في المقام ، ولا ينافيه المقارنة بحسب الزمان ، فلا [وجه] (٢) للاعتراض المذكور في شي‌ء من الاحتمالين.

إلّا أن يقال : بأنّ المقصود منه هو الاحتمال الأوّل ، لكن وجهها : أنّ الاتّصال بمعنى الدفعة بالمعنى المذكور ليست من الدفعة الّتي هي المقصودة في المقام اللازم اعتبارها ، لشموله ما لو دخل فيه الكرّ الواحد على سبيل التدريج والمفروض أنّه غير كاف على التحقيق ، فحينئذ كانت الاعتراض بنفسه متّجها غير أنّ صدر العبارة تأبى عن إرادة هذا المعنى ؛ وإنّما هو ظاهر في دعوى اعتبار الزيادة على الكرّ ، إلّا أن يقال أيضا : إنّ العبارة صدرا وذيلا تتضمّن دعوى اعتبار أمرين :

أحدهما : الزيادة على الكرّ ، وقد أشار إليه بصدر العبارة.

وثانيهما : الدفعة بالمعنى المبحوث عنه ، فأشار إليه بدعوى ورود النصّ والتصريح.

لكن يرد عليه في اعتبار الأمر الأوّل : أنّ مجرّد وصول الجزء إلى النجس لو كان

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٣٣.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.


مقتضيا للنقصان لما كانت الزيادة مجدية في رفع المحذور ، لأنّ ذلك الاقتضاء لا يستقيم إلّا مع سبق الجزء على الكلّ في الوصول إليه ، فلو فرض الإلقاء على نحو يستلزم سبق بعض الأجزاء على بعض في الوصول فهذا المعنى يتحقّق بالنسبة إلى ما يلحق الجزء الأوّل ، فإنّه أيضا سابق بالقياس إلى لاحقه وهكذا إلى أن ينتهي إلى النقصان بل إلى آخر الأجزاء ، فيلزم أن لا يطهّر أبدا ولو بإلقاء كرور على هذا الوجه ، وهذا كما ترى.

مع أنّ اعتبارهم الدفعة وتقييدهم إيّاها بالعرفيّة في معنى اعتبار عدم سبق بعض أجزاء الكرّ على بعض آخر في الملاقاة إذا اريد بالسبق وجودا وعدما ما يكون عرفيّا ، فإنّ عدم السبق العرفي متحقّق مع الدفعة العرفيّة جزما ، وإذا اريد به ما يكون عقليّا فلا يتحقّق الشرط أبدا فيلزم محذور عدم حصول الطهر أبدا.

وممّا يرشد إلى ما ذكرناه آنفا ـ من أنّ الاتّصال بالمعنى الّذي اكتفينا به بالنسبة إلى الغديرين أو الحوضين المتواصلين داخل في الدفعة المشترطة ما في منتهى العلّامة من تقييد العنوان بالدفعة (١) ، مع ما عرفت منه من التصريح بكفاية الاتّصال الموجود في الغديرين المتواصلين (٢) ، ولا ينبغي أن يكون مراده بالدفعة هنا مجرّد الاتّصال بين أجزاء الكرّ احترازا عمّا يلقى متفرّقة الأجزاء كما فهمه ثاني الشهيدين ـ فيما حكي عنه في شرح الدروس ـ (٣) لأنّ ذلك مناف لما سمعت عنه في دفع كلام الشيخ في المبسوط (٤) وما حكي عنه في التذكرة (٥) فراجع وتأمّل.

ثمّ إنّ لصاحب المعالم رحمه‌الله تفصيلا في المقام ، محكيّا عنه في كلام غير واحد من الأعلام ، قائلا في معالمه : « والتحقيق في ذلك أنّه لا يخلو إمّا أن يعتبر في عدم انفعال مقدار الكرّ استواء سطحه أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يشترط في التطهير حصول الامتزاج أو لا ، وعلى تقدير عدم الاشتراط إمّا أن يكون حصول النجاسة عن مجرّد الملاقاة أو مع التغيّر ، فهاهنا صور أربع :

الاولى : أن يعتبر في عدم انفعال الكرّ استواء السطح ، والمتّجه حينئذ اشتراط الدفعة في الإلقاء ، لأنّ وقوعه تدريجا يقتضي خروجه عن المساواة فينفعل الأجزاء الّتي

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٥٤.

(٣) مشارق الشموس : ١٩٣.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٦٥ ، المبسوط ١ : ٧.

(٥) التذكرة ١ : ٢٣.


يصيبها الماء النجس ، وينقص الطاهر عن الكرّ فلا يصلح لإفادة الطهارة ، ولا فرق في ذلك بين المتغيّر وغيره لاشتراك الكلّ في التأثير في القليل ، والمفروض صيرورة الأجزاء بعدم المساواة في معنى القليل.

الثانية : أن يهمل اعتبار المساواة ولكن يشترط الامتزاج ، والوجه حينئذ عدم اعتبار الدفعة بل ما يحصل به ممازجة الطاهر بالنجس واستهلاكه ، حتّى لو فرض حصول ذلك قبل إلقاء تمام الكرّ لم يحتج إلى الباقي ، ولم يفرّق هنا أيضا بين المتغيّر وغيره ، لكن يعتبر في المتغيّر مع الممازجة زوال تغيّره ، فيجب أن يلقى عليه من مقدار الكرّ ما يحصل به الأمران.

ولو قدّر قوّة المتغيّر بحيث يلزم منه تغيّر شي‌ء من أجزاء الكرّ حال وقوعها عليه وجب مراعاة ما يؤمن معه ذلك الأمر بتكثّر الأجزاء أو بإلقاء الجميع دفعة.

الثالثة : أن لا يشترط الممازجة ولا يعتبر المساواة ويكون نجاسة الماء بمجرّد الملاقاة ، والمتّجه حينئذ الاكتفاء بمجرّد الاتّصال ، فإذا حصل بأقلّ مسمّاه كفى ولم يحتج إلى الزيادة منه.

الرابعة : الصورة بحالها ولكن كان النجاسة للتغيّر ، والمعتبر حينئذ اندفاع التغيّر كما في صورة اشتراط الامتزاج ، وحينئذ لو فرض تأثير المتغيّر في بعض الأجزاء يتعيّن الدفعة وما جرى مجراها كما ذكر ، وحيث قد تقدّم منّا الميل إلى اعتبار المساواة فاعتبار الدفعة متعيّن » (١) انتهى.

ولا يخفى ما في هذا التفصيل من الخروج عن السداد ، والعدول في جميع صوره عن جادّة الصواب.

أمّا الصورة الاولى : فيرد على ما حقّقه فيها أوّلا : منع ابتناء اعتبار الدفعة هنا على اشتراط مساواة السطوح في عدم انفعال الكرّ ، فإنّ القول باشتراط المساواة إنّما نشأ عن توهّم توقّف اعتصام الكرّ عن الانفعال على صدق عنوان الوحدة على ما يصدق عليه عنوان الكرّيّة ، ولا يتأتّى ذلك إلّا مع مساواة السطوح.

وكما أنّ اعتصام الكرّ عن الانفعال يتوقّف على صدق الوحدة عليه ـ على هذا

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ١٥٥ ـ ١٥٦.


القول ـ فكذلك طهر الماء النجس بإلقاء الكرّ يتوقّف على صدق عنوان الوحدة على المجموع منه ومن الكرّ الملقى عليه ولا يتأتّى ذلك إلّا مع الدفعة ، إذ الوحدة الحاصلة مع التدريج حاصلة بينه وبين أبعاض الكرّ لا بينه وبين الكرّ ، ولازمه انفعال الأبعاض بمجرّد الملاقاة ، سواء قلنا باشتراط المساواة في الاعتصام عن الانفعال في غير الصورة المفروضة أو لم نقل ، فلا معنى لتفريع اشتراط الدفعة على أحد القولين دون الآخر.

ثمّ على القول باشتراط المساواة فالمقتضي لانفعال الأجزاء ليس هو صيرورتها من جهة عدم المساواة في معنى القليل ، بل خروجها بمجرّد الدخول في الماء المتنجّس عن جزئيّة الكرّ واتّحادها مع النجس ؛ بناء على الملازمة الثانية المتقدّمة.

وممّا ذكر جميعا انقدح ضعف ما ذكره في الصورة الثانية من اعتبار ما يحصل به الممازجة دون الدفعة ـ بناء على الإهمال في اعتبار المساواة ـ فإنّ ذلك غير كاف جزما ؛ هذا مضافا إلى بطلان ما ذكره من عدم الاحتياج إلى القاء تمام الكرّ لو فرض استهلاك الماء النجس بالطاهر قبل إلقاء التمام ، فإنّ الحكم معلّق على عنوان الكرّيّة مع تحقّق الوحدة بين الماءين كما عرفت ؛ وكيف يجتمع هذا العنوان قبل إلقاء التمام.

مع أنّ الاستهلاك لو اريد به مجرّد زوال الامتياز في نظر الحسّ فهو معتبر بالقياس إلى نفس الكرّ لا مجرّد ما حصل منه الممازجة بينه وبين النجس ، ولو اريد به مقهوريّة النجس في جنب الطاهر الممازج معه فهو كثيرا ما ـ بل دائما ـ يحصل بين ما لو كان الطاهر الملقى قريبا من الكرّ ، بل كثيرا غير بالغ حدّ الكرّيّة وكان النجس بالقياس إليه أقلّ قليل ، فبناء على عدم الحاجة إلى إلقاء تمام الكرّ على تقدير حصول الاستهلاك يلزم حصول الطهر في تلك الصورة أيضا ، لأنّ وجود ما لا يحتاج إلى إلقائه بمنزلة عدمه ؛ فأين اعتبار الكرّيّة المجمع على اعتبارها؟.

إلّا أن يقال : إنّ اعتبار التمام إنّما هو لحفظ المطهّر عن الانفعال ، لكنّه لا يجدي في دفع محذور عدم اعتبار الكرّيّة في مسألة التطهير.

وانقدح : بما ذكر أيضا عدم كون ما ذكره في حكم الصورة الثالثة على ما ينبغي ؛ فإنّ مسمّى الاتّصال غير كاف جزما حيث لم يرد فيه نصّ لفظي ؛ ولا أنّ الاتّصال مأخوذ عنوانا في الأدلّة اللفظيّة حتّى يكتفى بمسمّاه بناء على الإطلاق ، وإنّما الحكم مستفاد من الإجماع


معلّق على وصفي الكرّيّة والوحدة ـ حسبما قرّرناه ـ فلا بدّ حينئذ من الاتّصال بقدر ما يجمع معه الوصفان ؛ على معنى أن يصدق الوحدة عرفا على الماء النجس مع الكرّ الملقى عليه وغيره ، ولو مع القول بعدم اشتراط الممازجة ولا المساواة في عدم انفعال الكرّ.

ومنه يظهر الضعف في حكم الصورة الرابعة ، فإنّ مجرّد الزوال غير كاف في الطهر لو فرض حصوله بما دون الكرّ أو ببعضه ، لما تبيّن سابقا من أنّ الكرّيّة إنّما اعتبرت لا لزوال التغيّر ، واعتبار زوال التغيّر المصرّح به في كلامهم ليس من جهة أنّه بنفسه مقتض للطهر كما قيل به في الكرّ أو الجاري المتغيّر ؛ بل من جهة أنّ وجوده وبقاءه مانع عن حصول الطهر بالكرّ ؛ وإذ قد عرفت أنّ الكرّ بشرط اتّحاده مع النجس مناط للحكم فلا بدّ من اعتبار الدفعة أو الاتّصال الرافعين للتمييز بين الماءين ، سواء زال التغيّر بدون ذلك أو لا ، وسواء أهملنا اعتبار الممازجة والمساواة أو لا.

فصار محصّل المقام : أنّ الدفعة بالمعنى الشامل للاتّصال الرافع للتمييز ممّا لا محيص عنه في كلّ التقادير ؛ ومن هنا وردت الفتاوى في اعتبار الدفعة مطلقة ، ولا يقدح في اعتبارها من جهة الإجماع على الملازمة الثالثة عدم ورود اعتبارها في كلام بعضهم ، أو تصريحه بعدم الاعتبار ، لأنّ ذلك مخالفة ـ على فرض تحقّقها واستقرارها ـ ترجع إلى أمر صغروي وهو أنّ الوحدة ربّما تحصل بدون الدفعة ، فإنّا أيضا نوافق على هذه الدعوى على تقدير صدق الفرض وصحّته ؛ ضرورة أنّ الدفعة إنّما نعتبرها توصّلا إلى إحراز الوحدة لا تعبّدا.

وثانيها : النظر في اعتبار الامتزاج وعدمه ، فإنّه أيضا ممّا اختلفت فيه كلمة الأصحاب ، وقد عرفت عن العلّامة في المنتهى (١) التصريح بكفاية الاتّصال في مسألة الغديرين عند دفع كلام المحقّق ، وعزى إليه أيضا في التحرير (٢) والنهاية (٣) ، وهو محكيّ عن المحقّق والشهيد الثانيين (٤) ، وهو ظاهر المحقّق في الشرائع (٥) حيث أطلق إلقاء

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٥٣.

(٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٢.

(٤) والحاكي هو صاحب فقه المعالم ١ : ١٤٩ ـ جامع المقاصد ١ : ١٣٣ ـ الروضة البهيّة ١ : ٢٥٨.

(٥) لشرائع الإسلام ١ : ٧.


الكرّ دفعة خلافا لجماعة ، قيل : ونسب إلى الأشهر.

وعن بعضهم : أنّ القول بالامتزاج لم يعرف ممّن قبل المحقّق في المعتبر (١) ، وربّما عزى إلى الشيخ في الخلاف مستشهدا بأنّه في الاستدلال على طهر الكثير المتغيّر ـ بأن يرد عليه من الكثير ما يزيل تغيّره ـ قال : « إنّ البالغ الوارد لو وقع فيه عين النجاسة لم ينجّس ؛ والماء المتنجّس ليس بأكثر من عين النجاسة » (٢) ، ثمّ ذكر في القليل النجس : « أنّه لا يطهّر إلّا بورود كرّ عليه لما ذكرنا من الدليل » (٣) انتهى.

قيل في وجه الاستشهاد بذلك : ولا ريب أنّ تمسّكه بأولويّة المتنجّس بالطهارة من عين النجاسة لا يصحّ إلّا مع امتزاجه بالكرّ واستهلاكه ؛ إذ مع الامتياز لا يطهر عين النجاسة حتّى يقاس عليه المتنجّس.

ولا يخفى ما فيه من الاشتباه الواضح ، فإنّ الأولويّة المشار إليها هنا مدّعاة في عدم انفعال الكثير الملقى على المتنجّس لتطهيره ، لا في طهر المتنجّس وزوال نجاسته ، وأحدهما ليس بعين الآخر.

وتوضيح ذلك ـ بناء على ما تقدّم إليه الإشارة من الملازمة المجمع عليها ـ أنّ الكثير إذا القي على المتنجّس فلا محالة إمّا أن يتأثّر هو من المتنجّس فينجس ، أو يتأثّر المتنجّس منه فيطهر ، والأوّل ممّا لا سبيل إليه ، لأنّ الكثير من حكمه أن لا ينجس بمجرّد ملاقاة عين النجاسة فكيف بالمتنجّس وهو أهون من العين ، فإنّه أولى بعدم التأثير لعرضيّة نجاسته ، فتعيّن الثاني لبطلان الواسطة بالإجماع على الملازمة ، وهذا المعنى على ما هو صريح العبارة ممّا لا ربط له بما ذكر ولا فيه إشعار باعتبار الممازجة.

وقد يستظهر القول بالامتزاج من كلّ من ذكر في الجاري المتغيّر أنّه يطهّر بتدافع الماء من المادّة وتكاثره حتّى يزول التغيّر ، كما في المقنعة (٤) والمبسوط (٥) والسرائر (٦) والوسيلة ؛ (٧) فإنّ اعتبار زوال التغيّر بالتدافع والتكاثر لا يكون إلّا لاعتبار الامتزاج ، إذ لو

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة عن شارح الروضة ١ : ١٣٨ ـ لاحظ المناهج السويّة (مخطوط) : ٣٠ ـ المعتبر : ١١.

(٢ و ٣) الخلاف ١ : ١٩٣ المسألة ١٤٨ و ١٤٩.

(٤) المقنعة : ٦٦.

(٥) المبسوط ١ : ٦.

(٦) السرائر ١ : ٦٢.

(٧) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤١٤).


كفى الاتّصال كان الطهر بمجرّد زوال التغيّر كما في اللمعة (١) والجعفريّة (٢).

وهذا أيضا بمكان من الوهن ، فإنّ إفراد الجاري المتغيّر بهذا التعبير وجعل اعتبار الوصفين مغيّا بغاية زوال التغيّر ـ على فرض استلزامهما الامتزاج ـ يأبى عن كون ذلك لتوقّف الطهر عليه ، مع ملاحظة أنّ توقّف زوال التغيّر في الغالب عليهما أمر حسّي لا يقبل الإنكار.

وظنّي أنّ هذا التعبير في الجاري المتغيّر نظير تعبيرهم في القليل المتغيّر بأنّه يطهّر بإلقاء كرّ عليه فما زاد كما في الشرائع (٣) وغيره ؛ مع إجماعهم على أنّ الزيادة على الكرّيّة لا تعتبر إلّا حيث يتوقّف عليها زوال التغيّر.

وقال في المنتهى : « والواقف إنّما يطهّر بإلقاء كرّ عليه دفعة من المطلق بحيث يزول تغيّره ، وإن لم يزل فبإلقاء كرّ آخر عليه وهكذا » (٤) وقال أيضا بعد ذلك بقليل : « الماء القليل وإن لم يتغيّر بالنجاسة فطريق تطهيره بإلقاء كرّ عليه أيضا دفعة ، فإن زال تغيّره فقد طهر إجماعا ، وإن لم يزل وجب إلقاء كرّ آخر وهكذا إلى أن يزول التغيّر » (٥).

فاعتبار التدافع والتكاثر في كلامهم ليس إلّا من حيث توقّف زوال التغيّر عليهما ، ولذا أنّ العلّامة في المنتهى صدر منه العبارة المذكورة بعينها مع أنّ ظاهره فيه بل صريحه في بعض مواضع منه كفاية مجرّد الاتّصال وعدم اعتبار الامتزاج ، فما عن جامع المقاصد (٦) أيضا من جعله التعبير بتلك العبارة مبنيّا على اعتبار الامتزاج ، ليس على ما ينبغي.

فالإنصاف : أنّ هذا القول صريحا لم يثبت إلّا من المحقّق والعلّامة والشهيد في المعتبر والتذكرة والذكرى ، فعن المعتبر في مسألة الغديرين المتواصلين ما تقدّم من قوله : « لو نقص الغدير عن كرّ فوصل بغدير آخر فيه كرّ ففي طهارته تردّد ؛ والأشبه بقاؤه على النجاسة لأنّه ممتاز عن الطاهر ، والنجس لو غلب الطاهر ينجّسه مع ممازجته فكيف مع مباينته » (٧).

وربّما يستظهر ذلك من كلامه الآخر فيه ، قائلا ـ في الاستدلال على طهارة القليل النجس بورود كرّ من الماء عليه ـ : « بأنّ الوارد لا يقبل النجاسة والنجس مستهلك » (٨) فإنّه كالصريح في اعتبار الامتزاج.

__________________

(١) اللمعة الدمشقيّة : ١٥.

(٢) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٣.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ٧. (٤ و ٥) منتهى المطلب ١ : ٦٤ و ٦٥.

(٦) جامع المقاصد ١ : ١٣٥.

(٧ و ٨) المعتبر : ١١.


وضعفه واضح بعد ملاحظة ما ذكرناه في المسألة المتقدّمة من ظهور كون الاستهلاك بالنسبة إلى النجس مرادا به فوات التمييز بينه وبين الكرّ ، وهذا كما ترى يحصل بغير الامتزاج أيضا ، كيف لا مع أنّ الاستهلاك بالمعنى الّذي يحصل من المداخلة والامتزاج في كثير من صور المسألة متساوي إلى الطاهر والنجس ، كما لو كان النجس أقلّ من الكرّ الطاهر بيسير ، فالقول بتحقّق الاستهلاك في مثل ذلك بالنسبة إلى النجس ليس بأولى من القول بتحقّقه بالنسبة إلى الكرّ الطاهر ؛ فلو لا أنّ المناط حينئذ انتفاء التمايز بينهما الموجب لجريان الملازمة المجمع عليها ـ المتقدّم إليها الإشارة ـ لاتّجه الحكم بنجاسة الطاهر لمكان الاستهلاك الموجب للنجاسة عندهم ، فتأمّل.

وقال العلّامة في التذكرة ـ على ما حكي عنه ـ : « لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا إن اعتدل الماء ، وإلّا ففي حقّ السافل ، فلو نقص الأعلى عن الكرّ انفعل بالملاقاة ؛ فلو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتّصال ، وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة. لأنّ النجس لو غلب على الطاهر نجّسه مع الممازجة فمع التمييز يبقى على النجاسة » (١).

وعن الذكرى : « ويطهّر القليل بمطهّر الكثير ممازجا ، فلو وصل بكرّ مماسّة لم يطهّر ، للتمييز المقتضي لاختصاص كلّ بحكمه (٢) الخ ».

وربّما يستظهر ذلك عن كلامه الآخر قائلا ـ عقيب ما ذكر ـ : « لو نبع الكثير من تحته ـ كالفوّارة ـ فامتزج طهّره ، لصيرورتهما ماء واحدا ، أمّا لو كان رشحا لم يطهّر لعدم الكثرة الفعليّة » (٣) نظرا إلى أنّ مراده من الكثرة الفعليّة ما يحصل به الامتزاج لا بلوغ الكرّ ، إذ لا يعتبر عنده الكرّيّة في النابع ، ولو فرض النابع في كلامه بئرا أو كونه قائلا بانفعال مطلق النابع القليل كان اللازم تعليل الحكم بنجاسة النابع بالملاقاة كما في المعتبر (٤) والمنتهى (٥).

وأنت خبير أيضا بما فيه من الخروج عن استقامة السليقة ، فإنّه فرض النبع في الكثير إذا تحقّق من تحت النجس كالفوّارة ، فليس مراده به النابع المصطلح عليه في الجاري حتّى يقال : بأنّه لا يقول بانفعال قليله ، ومن المعلوم أنّ مطهّر القليل اتّحاده مع

__________________

(١) التذكرة ١ : ٢٣.

(٢ و ٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٤) المعتبر : ١١.

(٥) منتهى المطلب ١ : ٦٥.


الكرّ الفعلي ، بأن يتّحد مع نفس الكرّ دون ما يرشّح منه شيئا فشيئا ، فمراده بعدم الكثرة الفعليّة ـ كما تقدّم الإشارة إليه أيضا ـ الكرّيّة الفعليّة فيما يحصل الاتّحاد بينه وبين المتنجّس الّتي هي مناط التطهير.

وكيف كان فالعبارات المذكورة من هؤلاء الأساطين صريحة في اعتبار الممازجة ، غير أنّه لا يتحقّق بمجرّد ذلك إجماع ولا شهرة في الاعتبار ، فلا ندري أنّ دعوى الشهرة أو الأشهريّة من أين حصلت؟ مع أنّها معارضة بعباراتهم الاخر الّتي هي بين صريحة وظاهرة في عدم الاعتبار كما عرفته عن العلّامة في كتبه المتقدّم إليها الإشارة ؛ (١) وعن ظاهر الشرائع وهو المحكيّ عن اللمعة ، فيحتمل حينئذ رجوعهم عمّا بنوا عليه الأمر أوّلا من اعتبار الممازجة ، مع أنّ التعليلات الواردة في عباراتهم المتقدّمة تقضي بأنّه ليس بشرط تعبّدي ، وإنّما هو معتبر لإحراز الوحدة بين الماءين ورفع التمييز الّذي يوجب لأن يلحق كلّ واحد حكمه السابق.

وإذا كان مناط الحكم هو هذا ، فنحن نقول : إنّه قد يتأتّى مع عدم الممازجة أيضا ، فقضيّة ذلك إناطة الحكم بالوحدة الرافعة للتمييز ، وجعل الممازجة وغيرها كالدفعة ـ على ما بنينا عليه ـ مقدّمة لها ، فيقال باعتبار كلّ في موضع التوقّف عليه لا مطلقا.

وقد ينقل في المقام قول ثالث ، وهو التفصيل بين الجاري وماء الحمّام وبين غيرهما ، فيشترط الامتزاج في الأوّلين ، ونسب إلى ظاهر المنتهى والنهاية والتحرير والموجز وشرحه (٢) من حيث إنّهم حكموا بالطهارة بتواصل الغديرين (٣) ، وعبّروا في الجاري بأنّه يطهّر بالتدافع والتكاثر (٤) ، واعتبروا في طهارة ماء الحمّام استيلاء الماء من المادّة عليه إمّا مطلقا ـ كما في كتب العلّامة ـ أو مع عدم تساوي سطح الطاهر والنجس كما في الأخيرين (٥).

وبما ذكرناه في توجيه ما ذكروه في الجاري يظهر ضعف هذا الاستظهار بالنسبة إلى الجاري من العبارة المذكورة ؛ وأمّا بالنسبة إلى ماء الحمّام فقد قيل في ردّه : « بظهور

__________________

(١) تقدّم تخريج كلمات هؤلاء الأعلام آنفا ، فلا نعيد.

(٢) نسب إليهم المحقّق الشيخ أسد الله الكاظمي في مقابس الأنوار : ٨٢.

(٣ ـ ٥) منتهى المطلب ١ : ٥٣ ، نهاية الإحكام ١ : ٢٥٩. تحرير الأحكام ١ : ٤ ، الموجز الحاوي (الرسائل العشر : ٣٦) ، كشف الالتباس ١ : ٤٨ و ٤٢ و ٤٣.


عدم قائل بكون ماء الحمّام أغلظ حكما من غيره » ، هذا مع ما عن الموجز وشرحه (١) من أنّ صريحهما عدم الفرق بين ماء الحمّام وغيره من الحياض الصغار.

وقد يحكى (٢) هذا الفصل بعكس ما ذكر من أنّ الامتزاج يختصّ بغير الجاري وماء الحمّام تعويلا على صحيحة ابن بزيع ـ المتقدّمة ـ (٣) المعلّلة بوجود المادّة ، ومرسلة الكاهلي المتقدّمة : « كلّ شي‌ء يراه المطر فقد طهر » (٤) ، وقوله عليه‌السلام « ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٥) ، ومستنده على فرض ثبوته ضعيف كما ستعرفه.

وأمّا القول بالاعتبار مطلقا فلا مستند له إلّا وجهان :

أحدهما : ما يستفاد من بعض تعليلاتهم ـ كما عرفت ـ من توقّف صدق عنوان الوحدة وزوال امتياز الماءين على الممازجة.

وجوابه : ما سمعت مرارا من منع التوقّف.

لكن ربّما يشكل ذلك لو كان الحكم المجمع عليه منوطا بزوال الامتياز ، بدعوى : أنّ المانع عن الطهر هو الامتياز كما سمعته في عبارتي المعتبر (٦) والذكرى (٧) لإمكان الفرق بين الوحدة وعدم الامتياز بنحو ما يفرّق به بين العامّ والخاصّ المطلقين ، لإمكان فرض الوحدة مفارقة عن عدم الامتياز كما في وصل الغديرين أحدهما إلى الآخر على وجه يفرض بينهما في الذهن ـ بل الخارج أيضا ـ حدّ فاصل ، كما لو علّم موضع تلاقيهما من خارج حيّزيهما ، فالمجموع بملاحظة ما حصل بينهما من الاتّصال الحسّي ماء واحد ، وكلّ واحد بملاحظة الحدّ الفاصل أو الموضع المعلّم ماء ممتاز عن صاحبه ، وحينئذ فلم يثبت كون معقد الإجماع هو الوحدة فقط ، ومع مانعيّة الامتياز لا محيص عن اعتبار الامتزاج إحرازا لرفع المانع.

__________________

(١) الموجز الحاوي (الرسائل العشر : ٣٦) ـ كشف الالتباس ١ : ٤٣.

(٢) حكاه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ١٥٠ عن بعض معاصريه ، ولعلّه صاحب الجواهر ، راجع جواهر الكلام ١ : ١٤٩ ، قوله : « هذا كلّه في إلقاء الكرّ ... » الخ.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٤٦ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٥) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٦) المعتبر : ١١.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.


ويدفعه : أنّ ظاهرهم كون اعتبار الامتياز وجودا وعدما ، والتعليل به في صورة الحكم بعدم الطهر وارد في كلامهم أيضا لتوهّم كونه مساوقا لعدم الوحدة ، وكون زواله مساوقا للوحدة وإلّا فالحكم منوط بالوحدة ، ألا ترى أنّ الشهيد في أوّل كلامه في العبارة المتقدّمة منه في الذكرى علّل الحكم بعدم الطهر لمجرّد الوصل بالتمييز ، المقتضي لاختصاص كلّ بحكمه ؛ ثمّ قال : « ولو نبع الكثير من تحته ـ كالفوّارة ـ فامتزج طهّره لصيرورتهما ماء واحدا » (١) وهذا كالصريح في أنّ اعتبار الامتزاج وإن كان لإحراز عدم التمييز بين الماءين غير أنّ عدم التمييز مساوق للوحدة الّتي هي مناط الحكم ، وإلّا لزم كون تعليله بصيرورتهما ماء واحدا تعليلا للحكم المعلّق على الخاصّ بالعامّ كما لا يخفى وهو قبيح.

وقد عرفت في المسألة السابقة عن المحقّق أنّ تعليله بقوله : « لأنّه ممتاز عن الطاهر » (٢) إنّما هو في موضع حكم فيه على الماء بكونه كالماء الواحد ، المقتضي بظاهر التشبيه انتفاء الوحدة الحقيقيّة ؛ فغرضه من اعتبار الممازجة الّتي لا تتأتّى مع الامتياز إنّما هو إحراز كون الماءين ماء واحدا بعنوان الحقيقة ، لعدم كفاية مجرّد كونهما كالماء الواحد هنا كما كان كافيا في حكم عدم الانفعال المنوط بصدق عنوان الكرّيّة دون صدق عنوان الوحدة الحقيقيّة ، كما تقدّم شرحه مفصّلا.

نعم في عبارة العلّامة ـ المتقدّمة عن التذكرة ـ (٣) ما ربّما يوهم كون الحكم بعدم الطهارة مع عدم الممازجة واردا فيما يعمّ صورتي صدق الوحدة وعدمه ؛ بناء على أنّ قوله : « فلو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتّصال ؛ وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة » ابتداء كلام في مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية شامل لكلتا صورتي اعتدال الماء ومساواة سطحه ، المقتضي لاتّحاد الماءين ، وعدمهما المقتضي لعدم الاتّحاد وارد على خلاف حكم التقوّي والاعتصام عن الانفعال الّذي فصّل فيه بين صورتي الاعتدال المقتضي لكون كلّ من الغديرين متقوّيا بالآخر فلا يطرأهما الانفعال. وعدمه المقتضي لاختصاص التقوّي بالأسفل دون الأعلى الّذي يلزم منه انفعال الأعلى بملاقاته النجاسة لو نقص عن الكرّ ، فإطلاق الحكم ببقاء النجس على حاله عند عدم الممازجة من غير تفصيل الشامل للصورتين معا ممّا ينفي كون العبرة في مسألة التطهير

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٥.

(٢) المعتبر : ١١.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣.


بمجرّد الوحدة ، ويقضي بإناطة الحكم بالممازجة الّتي هي أخصّ من الوحدة.

ولكن يدفعه أيضا : ظهور كون قوله هذا ، كقوله المتقدّم عليه : « فلو نقص الأعلى عن الكرّ انفعل بالملاقاة » (١) من فروع صورة عدم اعتدال الماء واختلاف سطوحه فيكون كلّ من الحكمين في نظره مستندا إلى عدم الاتّحاد الّذي لا يتأتّى في تلك الصورة بمجرّد الاتّصال.

وبالجملة : نحن لا نفهم من كلماتهم إلّا إناطة الحكم بالوحدة الّتي قد تتأتّى بدون الممازجة ، وإن كان بعض عباراتهم يقضي بتوهّم توقّفها عليها فيعود النزاع صغرويّا ، لكن فيه بعد شي‌ء يتبيّن وجهه عن قريب.

وثانيهما : ما هو العمدة المعوّل عليه في كلام غير واحد ـ خصوصا فحول مشايخنا المعاصرين ـ من أصالة النجاسة وعدم الدليل على الطهارة إلّا بالممازجة ، لضعف ما تمسّكوا به على الطهارة بدونها ، وهذا كما ترى تتضمّن ثلاث مقدّمات.

إحداها : أنّ أصالة النجاسة تقتضي ثبوتها إلى أن يثبت ما يرفعها.

وثانيتها : أنّ الدليل قائم على الطهارة مع الممازجة.

وثالثتها : أنّ أدلّة القول بالطهارة مع عدم الممازجة ضعيفة ، وهذه المقدّمة مسلّمة في الجملة لا شبهة فيها لما ستعرفه.

أمّا المقدّمة الاولى فستعرف أيضا حالها من صحّة أو سقم.

وأمّا المقدّمة الثانية فيستند عليها بوجوه :

منها : الإجماع على أنّ الكرّ الممتزج بالنجس مطهّر له كما ادّعي ؛ وهو كما ترى لا يقضي بأزيد من حصول الطهر به ، وإلّا فالمجمع عليه المتوقّف عليه الطهر حقيقة هو الكرّ المتّحد مع المتنجّس ، فيكون فرض الامتزاج معه مع عدم مدخليّته في الحكم كالحجر الموضوع في جنب الإنسان ، إلّا على توهّم توقّف الاتّحاد عليه لكن لا مطلقا بل بالمعنى الّذي سنقرّره.

ومنها : أنّ الكرّ إذا فرض عدم قبوله الانفعال بالملاقاة وامتزج مع المتنجّس فإن طهّره فهو المطلوب وإلّا فإن تنجّس به لزم خلاف الفرض ؛ وإن اختصّ بالطهارة لزم

__________________

(١) التذكرة ١ : ٢٣.


تعدّد حكم الماءين الممتزج أحدهما بالآخر ، بل يلزم عدم جواز استعمال الكرّ فيما يشترط فيه الطهارة ، لاشتمال كلّ جزء منه على جزء من المتنجّس وهذا في الحقيقة في معنى انفعاله ، إذ لا يجوز شربه ولا التوضّؤ منه ولا تطهير الثوب به ، وقد تبيّن في صدر المسألة ضعف ذلك بجميع فقراته ، إلّا إذا استند في دعوى عدم جواز تعدّد حكم الماءين الممتزج أحدهما بالآخر إلى الإجماع ، ليرجع إلى ما تقدّم من الملازمة الثالثة ، لكن يبقى المناقشة في كون الامتزاج مأخوذا في موضوع تلك الملازمة على جهة الاستقلال.

ومنها : فحوى ما دلّ على طهارة نجس العين بالاستهلاك ، كرواية العلاء بن الفضيل ـ المتقدّمة في باب الكرّ ـ عن الحياض يبال فيها ، قال : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (١) فإنّ وقوع النجاسة العينيّة يستلزم تغيّر ما اكتنفتها من أجزاء الماء فينجّس ، وقد حكم الشارع بنفي البأس عن ذلك وليس إلّا لامتزاجه بباقي أجزاء الكرّ ، فدلّ على حصول الطهارة بالامتزاج.

وفيه : منع دلالة الرواية على تحقّق الممازجة والاستهلاك ، ولو سلّم فكونهما مؤثّرين في الحكم في موضع المنع ؛ ولو سلّم فلعلّه حكم مختصّ بعين النجاسة حيث إنّها لا تنتقل إلى الطهارة إلّا بانقلاب الماهيّة وتبدّل العنوان الغير المعقولين في المقام. الغير الحاصلين في غير صورة الاستهلاك الّذي هو فوق الامتزاج.

ولو سلّم الدلالة على الامتزاج بالمعنى المتنازع فيه على جهة الاعتبار ، فلعلّه لكونه مقدّمة لزوال التغيّر عن الأجزاء المكتنفة من الماء بالنجس المغيّر لها حسبما فرضه المستدلّ ؛ والحاصل كون اعتباره على فرض الدلالة عليه لأجل مدخليّته في الطهر دون زوال التغيّر المقتضي للنجاسة موضع منع.

ومنها : أنّه حيث يكون طاهرا ووصل دخل تحت قوله عليه‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ » بخلاف ما إذا كان نجسا لاشتراط كون ذلك الماء طاهرا وإلّا لم يكن وجه لقوله : « لم ينجّسه شي‌ء ».

نعم على رواية « لم يحمل خبثا » ربّما يكون داخلا لكن لا نقول بمقتضاها ، كما سيظهر في مسألة إتمام القليل المتنجّس كرّا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧.


وهذا بظاهره كما ترى لا ينتج شيئا إلّا أن يوجّه : بأنّ الماء النجس إذا وصل بكرّ لا يمكن إثبات طهره بمجرّد ذلك الوصل تعويلا على الرواية ، لتوقّف صدق قضيّة « لم ينجّسه شي‌ء » على كون الطهارة محرزة قبل الوصل والملاقاة ، فلا يمكن إحرازها بعد الملاقاة بتلك القضيّة ، فلا بدّ من اعتبار أمر زائد على الكرّيّة ليفيد طهارته وليس ذلك إلّا الامتزاج.

وفيه : أنّ مستند القول بالطهارة بمجرّد الوصل ليس هو الرواية ليصحّ دفعه بما ذكر ، ثمّ أنّه أيّ دليل على تأثير الامتزاج بما هو امتزاج في الطهارة ليفيد اعتباره زائدا على وصف الكرّيّة؟

فإن قلت : الإجماع قائم بأنّ الماء المتنجّس الممتزج بالكرّ ينتقل حكمه إلى الطهارة.

قلت : قصارى ما يقتضيه الإجماع المذكور أنّ الامتزاج لا ينافي الطهارة ، وهو ليس من دعوى كونه مؤثّرا في شي‌ء.

فإن قلت : إنّما يشهد بكونه مؤثّرا وقوع اعتباره في كلام جماعة من المجمعين.

قلت : مع أنّه معارض بعدم وقوعه في كلام الآخرين ، بل التصريح بعدم التأثير في كلام غير واحد منهم ، قد عرفت الوجه في اعتباره وأنّه ليس اعتبارا للامتزاج بعنوان أنّه امتزاج بل بعنوان أنّه محصّل للوحدة.

ومنها : أنّ المعروف من الماء المطهّر ـ حيث يطهّر ـ أنّ المطهّر يتخلّل في أجزائه ويجري عليه حيث يكون جسما قابلا لذلك ، وإلّا فلا معنى للقول بطهارة الطرف البعيد المتناهي في البعد بمجرّد ملاقاته لأوّل أجزاء الطرف الآخر ، والقول بأنّ الأجزاء الملاقية طهرت بالملاقاة وهي طهّرت غيرها للملاقاة والامتزاج ، وهكذا خيال حكمي لا يصلح لأن يكون مستندا للحكم الشرعي من غير دليل ، على أنّه مبنيّ على السراية وهي مخالفة للأصل من وجه.

وفيه : أنّ الجزء الأوّل من الدليل لا يرجع إلى محصّل إلّا القياس الباطل ، إذ المداخلة والتخلّل والجريان قد ثبت اعتبارها في التطهير بالقياس إلى غير موضع النزاع كالثوب ونحوه ؛ ولو اريد به الإلحاق بمورد الغالب فهو ظنّي لا يعبأ به ، والجزء الثاني منه استبعاد صرف لا يصلح مستندا في المقام بعد ما قام من الشرع ما يقضي به ، والمتّبع هو الإجماع القائم في المقام وقد تبيّن مفاده ومعقده.


وأمّا القول بعدم الاعتبار مطلقا ، فمستنده وجوه :

منها : الأصل الّذي حكي التمسّك به عن بعض الأفاضل ، والظاهر أنّ المراد به أصالة عدم الشرطيّة.

واجيب عنه : بأنّ الأصل يقتضي النجاسة ، وكأنّ المراد به استصحاب النجاسة.

ووجهه : أنّ تطهير الماء بعد تيقّن النجاسة حكم ورد من الشارع على خلاف الأصل ، ومن البيّن أنّ كلّ حكم مخالف للأصل يجب الاقتصار فيه على القدر اليقيني الرافع منه لموضوع الأصل ، وقضيّة ذلك القول بمدخليّة كلّ ما يشكّ في مدخليّته معه ، ومنه الامتزاج في خصوص المقام تحصيلا للرافع اليقيني للنجاسة.

ولكن يشكل ذلك أوّلا : بأنّ التمسّك باستصحاب النجاسة هنا إنّما يستقيم لو كان النزاع في أمر تعبّدي وقد عرفت منعه بما لا مزيد عليه ، لرجوع الكلام إلى تحقّق موضوع الطهارة وهو الوحدة بدون الممازجة وعدمه ، ونحن في علم بتحقّقها بدونها ومعه لا يعقل الاستصحاب.

ويمكن دفعه : بأنّ هذا إنّما يتّجه إذا اريد بالوحدة في موضوع الطهارة ما يكون كذلك في نظر الحسّ ، ولم لا يجوز أن يراد به ما هو كذلك في نظر العرف؟

وبعبارة اخرى : ما يصدق عليه الماء الواحد حال الاتّصال عند العالم بالحال والجاهل بها ، ومجرّد الاتّصال غير كاف في ذلك ، لأنّ أقصى ما فيه صدق الوحدة عند الجاهل ؛ وأمّا العالم فلعلمه بسبق الانفصال وطروّ الاتّصال لا يحسبه من الماء الواحد إلّا بعد المداخلة وتحقّق الممازجة وهو المراد بالوحدة العرفيّة ، لأنّها عبارة عمّا لا يختلف العرف في وصفه بالوحدة ، وإليه يشير تعليلاتهم المتقدّمة بالامتياز ، فالوحدة بهذا المعنى إن لم يتيقّن دخولها في معقد الإجماع فلا أقلّ من احتمال دخولها فيه ، فيكون المقام من مورد الاستصحاب.

وثانيا : أنّ التمسّك بالاصول إنّما يصحّ إذا لم يكن في المقام أصل موضوعي رافع لموضوعها ؛ ولا ريب أنّ الشبهة راجعة إلى موضوع حكم المطهّريّة الّتي أثبتها الشارع ، والاستصحاب لا يتعرّض لذلك الموضوع نفيا وإثباتا وإلّا كان أصلا مثبتا ؛ وقد دلّ الإجماع على قيام المطهّريّة بالكرّ الملقى المتّصل مع الماء المتنجّس ، وحصل الشكّ في مدخليّة


الممازجة في ذلك الموضوع وعدمها ، وأصالة عدم الشرطيّة تتعرّض له وتوجب عدم المدخليّة ، فإذا ثبت به المطهّر الرافع للنجاسة ثبوتا شرعيّا وصادف الماء المتنجّس فقد أوجب ارتفاع الشكّ في الطهارة ارتفاعا شرعيّا ومعه لا وجه للاستصحاب أيضا.

وتوضيح المقام : أنّ الأصل المقتضي للنجاسة ممّا لا معنى له إلّا استصحاب النجاسة المستند إلى عموم قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين إلّا بيقين مثله » (١) المقتضي لوجوب إجراء حكم النجاسة هنا إلى أن تتحقّق رافع يقيني ، وهذا الأصل ممّا لا إشكال في كبراه ؛ ولكنّ الكلام في صغراه حيث إنّ أصالة عدم الشرطيّة ـ فيما لا يبيّنه إلّا الشرع ولم يبيّنه في مفروض المقام بعد ما بيّن أصل الرافع في الجملة ، وهو الكرّ الملقى دفعة محصّلة للوحدة بينه وبين ما يلقى عليه ـ أصل يقيني أو ظنّي بالظنّ الخاصّ القائم مقام اليقين ، ناف لاحتمال شرطيّة الامتزاج مقتض لكون ما ذكر هو الرافع اليقيني ، أو القائم مقام الرافع اليقيني المأخوذ غاية لحكم الاستصحاب المقتضي للنجاسة ، وقضيّة ذلك كون المقام مندرجا تحت تلك الغاية ـ نظير ما لو ورد نصّ خاصّ بعدم شرطيّة الامتزاج قطعي أو ظنّي معتبر ـ ، لا أنّه مندرج في المغيّى ومعه لا معنى للاستصحاب بعد فرض كونه مغيّا بغاية حاصلة [حتّى] (٢)

وبالجملة : أصالة عدم الشرطيّة ممّا لا مدفع له إلّا منع صغراه ، بأن يقال : أصل معلّق على عدم وصول البيان واستصحاب النجاسة ـ حسبما فرضه الخصم ـ كاف في وصوله هنا ، أو منع كبراه بأن يقال : إنّ هذا الأصل ممّا لا مدرك له بالنسبة إلى القضايا الوضعيّة الّتي منها المقام ، إذ غاية ما قام عليه الدليل من الشرع قطعا أو ظنّا خاصّا إنّما هو أصل البراءة الغير الجارية إلّا في القضايا التكليفيّة ، نظرا إلى أنّ الأدلّة المقامة عليها منها ما هو مقيّد بالعلم الّذي هو موضوع للتكليف ، دون الموضوع الّذي هو أمر واقعي لا يدخل فيه العلم شطرا ولا شرطا إلّا في موضوع قام على جزئيّته الدليل ، كما في النجاسة فيما يحكم عليه بالنجاسة بناء على ما تقدّم تحقيقه من أنّ أحكام النجاسة مرتّبة في نظر الشارع على العلم بها الّذي يقوم مقامه الاستصحاب.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ ب ١ من أبواب نواقض الوضوء ح ١ ـ وفيه : « لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ وانّما تنقضه بيقين آخر ».

(٢) كذا في الأصل.


ومنها ما هو ناف للمؤاخذة والعقاب عند عدم البيان اللذين لا يعقلان إلّا في التكاليف.

ومنها ما هو ناف للحكم حتّى يرد فيه أمر أو نهي ، فلا يجري أيضا إلّا في التكاليف.

والأوّل : ممّا لا سبيل إليه جزما ، لأنّ الاستصحاب لا يقتضي إلّا ترتّب أحكام النجاسة على المورد وإلّا كان أصلا مثبتا ، فهو إنّما يرفع صغرى الأصل المقتضي للطهارة ، وهو أنّ شرطيّة الامتزاج في التطهير ممّا لم يبيّنه الشارع إذا اقتضى شرطيّة الامتزاج ؛ والمفروض أنّه غير صالح له فيبقى الصغرى المذكورة صادقة ؛ وإذا انضمّ إليها الكبرى المذكورة كان مفاديهما نفي الشرطيّة فيرتفع به صغرى الاستصحاب ، هذا مع أنّ جعل الاستصحاب رافعا لصغرى أصالة عدم الشرطيّة يؤدّي إلى الدور المستحيل ، لأنّ جريان الاستصحاب هنا موقوف على ثبوت صغراه وهو تيقّن النجاسة مع عدم تيقّن ما يرفعها ، وهو موقوف على عدم جريان كبرى أصالة عدم الشرطيّة (١) ، وهو موقوف على انتفاء صغراها ، إذ المفروض في منع الصغرى كون الكبرى مسلّمة وإلّا رجع الكلام إلى المنع الثاني وهو خلاف الفرض ، فلو توقّف انتفاء هذه الصغرى على جريان الاستصحاب لزم توقّف جريان الاستصحاب على نفسه.

ولا يرد نظير ذلك في صورة العكس ، لأنّ جريان أصالة عدم الشرطيّة وإن كان موقوفا على عدم جريان استصحاب النجاسة لكن عدم جريان استصحاب النجاسة أعمّ من أن يكون من جهة عدم صغراه المتوقّف على جريان أصالة عدم الشرطيّة ، أو من جهة عدم ثبوت كبراه هنا بالخصوص ؛ ولمّا كان الأوّل باطلا لاستلزامه الدور المستحيل فتعيّن الثاني ؛ وهو لا يستتبع محذورا لأنّ غاية ما يترتّب عليه خروج كبرى الاستصحاب عن الكلّيّة لا بطلانها رأسا.

وقضيّة ذلك لزوم تخصيص في دليل الاستصحاب ، بأن يكون مفاده لزوم العمل بكلّ استصحاب إلّا ما عارضه أصالة عدم الشرطيّة ، وهو بعد ما قام عليه الدليل ـ ولو من جهة العقل ـ ممّا لا ضير فيه.

__________________

(١) وحاصله : أنّ منع هذه الكبرى تارة بمنع ثبوت أصلها رأسا ، بأن يقال : إنّ أصالة عدم الشرطيّة ممّا لا دليل عليها في الشريعة ، أو بمنع جريانها في خصوص المقام لانتفاء صغراها ، والأوّل خلاف الفرض ، فتعيّن الثاني ومعه يلزم الدور. (منه عفى عنه).


ولا يمكن جريان نظير ذلك في أصالة عدم الشرطيّة بأن يقال في منع الدور : إنّ عدم ثبوت صغرى الاستصحاب وإن كان موقوفا على عدم جريان أصالة عدم الشرطيّة ، لكنّه أعمّ من أن يكون من جهة عدم ثبوت صغراها المتوقّف على جريان الاستصحاب ؛ أو من جهة عدم ثبوت كبراها هنا بالخصوص ؛ ولمّا كان الأوّل باطلا لاستلزامه الدور المستحيل فتعيّن الثاني ، لأنّه لو بنى في ذلك على منع الكبرى لزم بطلانها رأسا فيلزم بقاء أصالة عدم الشرطيّة والدليل عليها بلا مورد كما لا يخفى على المتأمّل ؛ وهو كما ترى.

وممّا ذكر يتبيّن وجه تقدّم الاستصحاب على أصل البراءة حيثما يتقدّم عليه ، ووجه تقدّم أصل البراءة على الاستصحاب حيثما يقدّم عليه ، فإنّ الأوّل من جهة كون الاستصحاب واردا على أصل البراءة رافعا لموضوعه كما هو واضح بخلاف الثاني ؛ فإنّ تقدّمه على الاستصحاب إنّما هو من جهة حكومة دليله على دليل الاستصحاب وتعرّضه له بالتخصيص ولا يعقل كونه من باب الورود ؛ لأنّ فرض وروده على الاستصحاب يقضي بكونه متعرّضا لصغرى الاستصحاب مع كون كبراه سليما عن المعارض ؛ والمفروض أنّه أيضا لعموم دليله وسلامة كبراه عن المعارض متعرّض لصغرى أصل البراءة لئلّا يلزم بقاء دليله في مظانّ الشكّ في الشرطيّة بلا مورد ؛ فيلزم الدور في الجانبين كما يظهر بالتأمّل فيما سبق.

نعم ، فرض الورود بالنسبة إلى الاستصحاب إنّما يصحّ فيما لو عارضه استصحاب آخر وكان شكّه سببيّا كما في استصحاب طهارة الماء المشكوك في كرّيّته عند ملاقاته النجاسة ؛ فإنّ تقديم استصحاب القلّة وعدم الكرّيّة على استصحاب الطهارة لا يمكن كونه من باب الحكومة ؛ لأنّه ليس مدلولا لدليل يعارض دليل استصحاب الطهارة حتّى يفرض ذلك الدليل مخصّصا لدليل استصحاب الطهارة ، لكونهما مدلولي دليل واحد ، والمفروض أنّ دخول بعض أفراد العامّ تحته عند التنافي بينه وبين البعض الآخر لا يعقل كونه مخصّصا له مخرجا لذلك الفرد المنافي عن تحته لامتناع الترجيح بغير مرجّح ؛ ضرورة كون أفراد العامّ المندرجة فيه متساوية الإقدام بالنسبة إليه ؛ فلا بدّ في تقديمه من اعتبار مقدّمة اخرى بأن يقال : إنّ الشكّ في الكرّيّة لمّا كان علّة للشكّ في النجاسة والعلّة متقدّمة بالذات على معلولها فهو حين طروّه المتقدّم بالذات على الشكّ


في النجاسة كان مقتضيا للاستصحاب قبل الالتفات إلى معارض له ، فيكون الاستصحاب المتقوّم به علما شرعيّا بالنجاسة ومعه لا يبقى لاستصحاب الطهارة موضوع ؛ فمعنى تقديم استصحاب عدم الكرّيّة أنّه لا استصحاب هنا يكون معارضا له ؛ لا أنّ هنا استصحابا محقّقا وهو مقدّم عليه ، فإنّه غير معقول لما عرفت من قضيّة لزوم الترجيح بغير مرجّح.

وقد يتّفق في تعارض الاستصحابين ما لا يمكن فيه اعتبار الحكومة ولا الورود ؛ كما لو كان شكّاهما في مرتبة واحدة من غير سببيّة أحدهما للآخر ؛ كما في الكرّ الوارد على الماء المتنجّس تدريجا المقارن للشكّ في تنجّسه مع الشكّ في طهر الماء المسبّبتين عن الشكّ في اشتراط الدفعة في التطهير ؛ ومنه المقام بملاحظة الشكّ في شرطيّة الامتزاج ، فإنّ استصحاب نجاسة المتنجّس يعارضه استصحاب طهارة الكرّ ففي مثل ذلك لا يمكن العمل بأحد الاستصحابين تعيينا ، لأنّ التعيين لا بدّ وأن يكون إمّا من باب الحكومة أو الورود ؛ ولا سبيل إلى الأوّل لعدم إمكانه ولا إلى الثاني لفقد المرجّح المذكور من كون الشكّ في أحدهما علّة للآخر ، فإمّا أن يقال حينئذ بالتخيير ، أو طرحهما معا ، والظاهر أنّ الثاني أيضا ممّا لا سبيل إليه وإن قال به بعض الأصحاب لأنّه يوجب التخصيص في أدلّة الاستصحاب بلا مخصّص ، لأنّ العمل بها في أحد الاستصحابين ممكن ، وعدم العمل بالآخر بعد التخيير ليس من باب التخصيص ، بل من جهة اقتضاء بناء العمل على صاحبه نظير أمر الأبوين في مكان التنافي.

ولو سلّم كونه من باب التخصيص فلا بأس به بالنسبة إلى أحدهما ، لأنّ المانع عن العمل قائم في هذا المقدار فالمخصّص حينئذ هو العقل ؛ هذا كلّه وإن كان كلاما خارجا عن المقام لكن أوردناه هنا لكثرة فوائده ، فلنعد إلى ما نحن فيه فنقول : قد عرفت أنّ منع صغرى أصالة عدم الشرطيّة ممّا لا سبيل إليه.

وأمّا منع الكبرى فقد يسبق إلى الوهم عدم إمكانه أيضا لما ورد في بعض أخبار البراءة ما يعمّ غير موارد التكليف أيضا ، كقوله : « كلّ شي‌ء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » فإن (١) النصّ أعمّ من خطاب التكليف ، وخطاب الوضع.

لكنّ الإنصاف : أنّ هذا الخبر على تقدير ثبوته وصحّته وارد في سياق نفي التكليف

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣١٧ وفيه : « نهى » بدل « نصّ ».


ولوازمه ؛ خصوصا إذا كان قوله : « مطلق » مرادا به « مرخص فيه » ، فإنّه لا يفيد حينئذ إلّا الإباحة بالمعنى التكليفي ؛ وهو ليس من محلّ البحث في شي‌ء ؛ ولا يمكن إرجاع المقام إلى ما يتعلّق بالتكليف بملاحظة العبادة المشروطة بالطهارة ؛ نظرا إلى أنّ شرطيّة الامتزاج في الواقع تستلزم عدم صحّة الصلاة بالوضوء أو الغسل الحاصلين بذلك الماء الّذي لم يحصل في تطهيره الامتزاج ؛ وهو في حكم الترك فيترتّب استحقاق العقوبة عليه وهو منفيّ بالأصل ، لأنّ أدلّة الأصل مسوقة في سياق أصل التكليف لا ما يكون التكليف من لوازمه البعيدة ، وإلّا أمكن التوصّل به إلى نفي كلّ حكم وضعي وهو خلاف الطريقة المستمرّة عند العلماء ، فاستصحاب النجاسة حينئذ لا مدفع له ، ولكن بملاحظة ما ذكرناه من قيام احتمال كون الوحدة المأخوذة في الملازمة المجمع عليها هي الوحدة العرفيّة الغير الحاصلة إلّا بالممازجة.

ومنها : أنّ اتّصال القليل بالكثير قبل ورود النجاسة كاف في دفعها فكذا ما بعده ، لأنّ عدم قبول النجاسة في الأوّل إنّما هو لصيرورة الماءين ماء واحدا بالاتّصال.

وفيه : ما لا يخفى من فساد الوضع ، لأنّ دعوى الملازمة بين الوحدة الحاصلة بالاتّصال وزوال النجاسة إن كانت لمجرّد ثبوت الملازمة بينها وبين عدم قبول الانفعال كما هو صريح الاستدلال ، ففيه : أنّه قياس ، ومع الفارق ، لوضوح الفرق بين مقامي الدفع والرفع ، وإن كانت لأمر خارج كالإجماع ونحوه فبطل توسيط مسألة الدفع حينئذ ، ومع ذلك فكفاية الوحدة الحاصلة لمجرّد الاتّصال في مورد الإجماع أوّل الدعوى ، لأنّها وحدة حسّيّة ولعلّ المأخوذ في مورد الإجماع هو الوحدة العرفيّة الّتي لا يتفاوت فيها العالم والجاهل ، وقد عرفت أنّها لا تتأتّى إلّا بالمداخلة ، وأقلّ مراتب هذا الاحتمال تحقّق موضوع الاستصحاب وهو كاف في لزوم اعتبار الممازجة تحصيلا للرافع اليقيني.

ومنها : ما عرفت عن منتهى العلّامة (١) من أنّ الاتّفاق واقع على أنّ تطهير ما نقص عن الكرّ بإلقاء كرّ عليه ، ولا شكّ أنّ المداخلة ممتنعة فالمعتبر إذن الاتّصال الموجود هنا.

وفيه : أنّ المداخلة المحكوم عليها بالامتناع إن اريد بها دخول الأجزاء بعضها في بعض حتّى الأجزاء الصغار من أحد الماءين فيها من الماء الآخر دخولا حقيقيّا

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٥.


فالامتناع مسلّم ؛ ولكن اعتباره عند أهل القول بالممانعة ممنوع ؛ وإن اريد بها انتشار أجزاء أحد الماءين في أجزاء الماء الآخر على وجه يوجب تعذّر امتياز البعض عن بعض على قياس ما هو الحال في سائر المركّبات المزجيّة فامتناعها ممنوع ؛ كيف وجواز ذلك من ضروريّات العقل خصوصا في الماء الّذي هو سريع النفوذ.

ومنها : أنّ الأجزاء الملاقية للطاهر يجب الحكم بطهارتها عملا بعموم ما دلّ على طهوريّة الماء ، فتطهر الأجزاء الّتي يليها كذلك وكذا الكلام في بقيّة الأجزاء ، وفي المدارك : « وهذا اعتبار حسن نبّه عليه المحقّق الشيخ على في بعض فوائده ، وجدّي في روض الجنان » (١).

وفيه : ما لا يخفى من المصادرة المحضة ، لتوجّه المنع إلى طهر الأجزاء الملاقية بمجرّد الاتّصال ، لجواز كونه مشروطا بالممازجة والانتشار ولا نافي له ؛ بناء على أنّ عموم المطهّريّة قاصر عن إفادة كيفيّة التطهير كما تقدّم إليها الإشارة ، فالاستصحاب سليم عن المعارض.

ومنها : أنّ الامتزاج إن اريد به امتزاج كلّ جزء من الماء النجس لجزء من الماء الطاهر لم يمكن الحكم بالطهارة أصلا لعدم العلم بذلك ، وإن اكتفى بامتزاج البعض لم يكن الطهر للبعض الآخر هو الامتزاج بل مجرّد الاتّصال ، فيلزم إمّا القول بعدم طهارته أصلا ، أو القول بالاكتفاء بمجرّد الاتّصال.

وفيه : أنّ المراد بالامتزاج انتشار يتعذّر معه الامتياز وهو معلوم الحصول ضرورة.

وقد يقرّر هذا الوجه بما فيه بسط وتطويل ، فيقال : « لو اعتبر الممازجة فإمّا أن يراد امتزاج الكلّ بالكلّ ، أو البعض بالبعض.

أمّا الأوّل ففيه أوّلا : أنّه غير ممكن.

وثانيا : أنّه غير ممكن الاطّلاع عليه ، فالأصل بقاء النجاسة.

وثالثا : أنّ جماعة من معتبري الامتزاج كالعلّامة والشهيد وغيرهم حكموا بطهارة حياض الصغار المتّصلة باستيلاء الماء من المادّة عليها ، وبغمس كوز الماء النجس في الكثير ولو بعد مضيّ زمان ، وطهارة القليل بماء المطر ، بل ادّعى السيوري (٢) والشهيد الثاني (٣)

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٦ ـ راجع روض الجنان : ١٣٨.

(٢) التنقيح الرائع ١ : ٤٥.

(٣) الروضة البهيّة ١ : ٢٥٨.


الإجماع على الثالث ، مع أنّ الامتزاج الكلّي لا يحصل في شي‌ء.

ورابعا : أنّ الامتزاج ليس كاشفا عن الطهارة حين الملاقاة قطعا بل يتوقّف عليه ، والمفروض أنّ الماء المعتصم يخرج عن كونه كرّا أو جاريا أو ماء غيث قبل تمام الامتزاج الكلّي.

وخامسا : أنّه إذا القي النجس الكثير في المطهّر القليل بحيث يستهلك فيه ؛ فإمّا أن يحكم بالنجاسة وهو خلاف الأصل والإجماع ؛ أو بالطهارة وهو المطلوب ؛ وكذلك عكسه إذا سيق المطهّر عن مجاري متعدّدة بل دفعة ، وغاية ما يمكن أن يقال : إنّه يطهّر أجزاءه المخالطة له وهكذا بالتدريج.

وفيه : مع استلزامه المنع عن استعمال الماء قبله بلا دليل ؛ واختلاف الماء الواحد في السطح الواحد ، أنّه إنّما يتمّ إذا اجتمع الأجزاء المختلطة بحيث لا يتوسّط بين الكرّ منها النجس وعلم ذلك والمعلوم مع الاستهلاك خلافه.

وأمّا الثاني : فإن اريد بالبعض مسمّاه فهو المطلوب ؛ أو القدر المعيّن فلا بدّ من أن يبيّن ، أو الأكثر بالأكثر تقريبا فلا دليل عليه ، مع أنّ الفرق بين الأبعاض غير معقول ، مضافا إلى ورود كثير ممّا ذكر في الأوّل هنا » (١) انتهى.

وفيه : أنّ الامتزاج إذا اريد به انتشار الأجزاء في الأجزاء على وجه يزول معه الامتياز بينهما في نظر العالم بالحال فلا استحالة فيه ، ولا أنّ الاطّلاع عليه محال بل هو ممكن ضرورة من الحسّ والوجدان ، وظهور كلام العلّامة في المسألتين المشار إليهما في عدم اعتبار الامتزاج الكلّي ليس بأقوى من صريح كلامه في جملة من كتبه في نفي اعتباره ؛ والمفروض أنّ القائل باعتبار الامتزاج لا يعتني بمثل هذه المخالفة وإن ثبتت منه بنحو الصراحة ، مع أنّه لو كان مستنده في دعوى الاعتبار هو الأصل تكون هذه المخالفة محقّقة لموضوع ذلك الأصل ، فالاستشهاد بها حينئذ لا يجدي نفعا في إلزامه ؛ والامتزاج عند هذا القائل يعتبر ناقلا لا كاشفا وعند خصمه لا يترتّب عليه أثر ، فهو على كلا المذهبين غير مناف لبقاء الماء المعتصم كائنا ما كان على طهارته وطهر المتنجّس ، وبعد ما كان الحكمان متّفقا عليهما عند الفريقين فبأيّ شي‌ء يلزم أحد

__________________

(١) حكاه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة عن بعض الأفاضل ، ١ : ١٤٧ ـ والظاهر أنّه هو المحقّق الشيخ أسد الله الدزفولي الكاظمي في مقابس الأنوار : ٨٢.


الفريقين على بطلان مذهبه ، لأنّ الّذي يقول به من جهة الامتزاج خاصّة لا ينافيه الامتزاج عند الفريق الآخر القائل بعدم كونه مؤثّرا.

فلو قيل : إنّ الإشكال يتوجّه على تقدير عدم حصول الطهر بمجرّد الاتّصال ، وتوقّفه على حصول الامتزاج بالمعنى المفروض ، فحصوله متأخّر عن الامتزاج وهو يستلزم محالا ، لأنّ الماء المعتصم بمجرّد الامتزاج الجزئي المتقدّم على الامتزاج الكلّي طبعا يخرج عن كونه معتصما بل عن كونه جزء من المعتصم ، على معنى أنّه لا يبقى فيه عنوان الكرّيّة ولا الجريان ولا المطريّة بصيرورته كلّا أم بعضا جزء من المتنجّس ، فهو حينئذ إذا لم يكن بنفسه معتصما عن الانفعال فكيف يعقل بالنسبة إلى غيره كونه رافعا للانفعال.

ففيه : أنّ هذه الشبهة وإن كانت في محلّها غير أنّها تندفع بملاحظة أنّ أصل حكم التطهير هنا ثابت بالإجماع ، لجواز كون الإجماع حاصلا فيه على هذا النمط ، ولا اجتهاد بعد الإجماع لكون أحكام الشرع منوطة بالتعبّد.

وفرض إلقاء النجس الكثير لو اريد به الكثير العرفي المتجاوز عن الكرّيّة في المطهّر القليل لو اريد بقلّته ما يكون عرفيّا مجامعا للكرّيّة على وجه يستهلك معه المطهّر لا ينافي مناط الطهر هنا بل يؤكّده ، لأنّ الغرض الأصلي من الامتزاج إنّما هو رفع الامتياز بين الماءين وهو حاصل في هذا الفرض جزما.

وأمّا عكس هذا الفرض وهو سوق المطهّر القليل من مجاري متعدّدة إلى الكثير النجس ؛ فالمتّجه فيه عدم حصول الطهر لا من جهة اختلال جهة الامتزاج بل من جهة اختلال الدفعة الّتي قد عرفت كونها شرطا كما لا يخفى ؛ بل قضيّة بعض ما سبق في بحث الدفعة انتقال المطهّر إلى النجاسة ، ولو سلّم بقاؤه على الطهارة فلا استحالة في اختلاف الماء الواحد في السطح الواحد من حيث الحكم في غير مورد الامتزاج ؛ فإنّ المانع عن ذلك ليس هو العقل كما تقدّم شرحه ؛ ولا الشرع إذا اعتبرناه غير الإجماع ، وأمّا إذا اعتبرناه الإجماع فهو غير ثابت في جميع فروض المسألة.

وبذلك يظهر الجواب أيضا عمّا استدلّ به أيضا من أنّ الاتّصال يقتضي الاتّحاد والماء الواحد لا يختلف حكمه ؛ فإنّ الاتّحاد إن اريد به اتّحاد السطح فقط مع إمكان التمييز بينهما فالكبرى ممنوعة ، وإن اريد به الاتّحاد الرافع للامتياز وهو الاتّحاد في


الإشارة فالصغرى ممنوعة ، بل بملاحظة ذلك ـ مضافا إلى بعض ما سبق ـ يظهر الجواب عن الوجه الآخر ممّا استدلّ به من أنّ الاتّصال يوجب اختلاط بعض أجزاء الكرّ ببعض أجزاء المتنجّس ؛ فإمّا أن يرتفع النجاسة عن النجس أو يتنجّس جزء الكرّ ، والثاني مخالف لأدلّة عدم انفعال الكرّ فتعيّن الأوّل ، فإذا طهر الجزء طهر الجميع لعين ما ذكر ، لجواز الواسطة بين ارتفاع النجاسة عن النجس وتنجّس جزء الكرّ وهو بقاء كلّ على حكمه إلى أن يتحقّق الامتزاج المعتبر ، غاية ما يلزم اختلاف السطح الواحد في الحكم ولا دليل على بطلانه مطلقا.

ثمّ على فرض تسليم زوال النجاسة عن الجزء المختلط فالتعدّي منه إلى الأجزاء الباقية لا وجه له بعد الفرق بينهما بتحقّق الشرط في الأوّل دون الثاني.

ومنها : الروايات الواردة في مطهّريّة الماء بقول مطلق أو في الجملة ، كقوله : « الماء يطهّر ولا يطهّر » (١) بناء على أنّ المعنى : « يطهّر حتّى نفسه ولا يطهّر بغير نفسه » ، بقرينة ما ذكر من جهة حذف المتعلّق دفعا للتناقض ، « وماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٢) ولا يضرّ غلبة المزج في النهر المشبّه به ، لظهور أنّ التشبيه في أصل الحكم لا في كيفيّته ، « وكلّ شي‌ء يراه المطر فقد طهر (٣) » كما في مرسلة الكاهلي ، فإنّه يصدق على ماء المطر الواقع على سطح الحوض أنّه رأى الحوض فطهر.

وما حكاه العلّامة عن بعض علماء الشيعة : من أنّه كان بالمدينة رجل يدخل إلى أبي جعفر عليه‌السلام وكان في طريقه ماء فيه العذرة والجيفة ، وكان يأمر الغلام يحمل كوزا من ماء يغسل رجليه إذا خاضه ، فأبصر بي يوما أبو جعفر عليه‌السلام فقال : إنّ هذا لا يصيب شيئا إلّا طهّره » (٤).

وما في صحيحة ابن بزيع « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء ، إلّا ما غيّر طعمه أو ريحه ، فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب الطعم ، لأنّ له مادّة » (٥) بناء على اختصاص

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٣ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٣) الوسائل ١ : ١٤٦ ب ٦ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨ مع اختلاف يسير.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.


التعليل بالفقرة الأخيرة ، أو شموله لها ولما قبلها ، وعلى كلّ تقدير فيدلّ على كفاية زوال التغيّر في طهارة ما ينجّس بالتغيّر وله مادّة من غير اعتبار امتزاجه بشي‌ء من المادّة أو ماء معتصم آخر ، فإذا اكتفى بالاتّصال في المتغيّر ذي المادّة اكتفى في غيره من المياه النجسة بغير التغيّر باتّصاله بماء معتصم.

وقد تقدّم منّا في صدر الباب ما يدفع به أكثر هذه الروايات ، ونقول هنا : إنّ الرواية الاولى مع أنّها غير معتبرة السند بالسكوني غير واضحة الدلالة ، لمكان ما فيها من الإجمال المتقدّم بيانه مشروحا ، وكون حذف المتعلّق مفيدا للعموم ـ على فرض تسليمه ـ مشترك الاعتبار بالنسبة إلى الفقرتين ، ودفع التناقض الّذي يلزم على تقدير اعتبار العموم فيهما بتخصيص أحدهما بالآخر متساوي النسبة إليهما معا ، فلا معيّن لإبقاء الاولى على العموم وتقييد الثانية ، مع قوّة احتمال أن يكون الفعلان على فرض التشديد معلومين ، أو مجهولين مرادا بهما قضيّتان مهملتان متصادقتان على الماء ، لما فيه من اجتماع حيثيّتين باعتبار نفسه أو باعتبار الفاعل أو باعتبار القابل ، فهو بملاحظة إحدى الحيثيّتين يطهّر أو يقبل الطهر ، وبملاحظة الحيثيّة الاخرى لا يطهّر أو لا يقبل الطهارة ، كما إذا قلت : « إنّي احبّ الشي‌ء الفلاني ولا احبّه » ومن المعلوم أنّ مثل هذه القضيّة لا يفيدنا إلّا الإجمال ، ومعه كيف يصلح محلّا للاستدلال.

ورواية النهر مع ضعف سندها ـ كما تقدّم في بحث الجاري والحمّام ـ ممنوعة الدلالة على حكم التطهير ، لما تقدّم من القرينة على إرادة تقوّي البعض بالبعض لا تطهّره به ، ولو سلّم الدلالة على التطهير فهي أيضا دلالة إجماليّة مقصودة منها إعطاء أصل الحكم لا كيفيّته.

والمرسلة مع أنّه لم يثبت لإرسالها جابر وإن كانت دلالتها واضحة لمكان الإطلاق في الرؤية ، يقيّدها رواية الميزابين (١) ـ المتقدّمة في بحث المطر ـ المتضمّنة لاعتبار الاختلاط كما لا يخفى على المتأمّل ، ومع الغضّ عن ذلك فالتعدّي عن حكم المطر إلى غيره ممّا لا قاضي به ؛ والكلام إنّما هو في التطهير بالكثير ولعلّ بينهما فرقا في نظر الشارع.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٤٤ ب ٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ وفيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لو أنّ ميزابين سالا ، أحدهما ميزاب بول والآخر ميزاب ماء ، فاختلطا ثمّ أصابك ما كان به بأس ».


وببعض ما ذكر يظهر الجواب عن المرسلة الاخرى مع ما فيها من ظهور قوله عليه‌السلام : « هذا لا يصيب شيئا إلّا طهّره » (١) في كونه تأكيدا لطهوريّة المشار إليه ، مرادا به أنّ هذا الماء من شأنه أن يطهّر الأشياء المتنجّسة لا أنّ من شأنه أن ينجّس الأشياء الطاهرة ، ردعا للمخاطب عن معتقده الّذي كشف عنه فعله ، فلم يعتبر فيها أيضا عموم أو إطلاق يصلح للاستناد إليه.

والظاهر أنّ الصحيحة أدلّ على خلاف مطلب المستدلّ ؛ بناء على ظهور رجوع التعليل إلى الفقرة الأخيرة كما تقدّم في باب البئر وغيره ، نظرا إلى ما تقدّم منّا في بعض المباحث المتقدّمة من أنّ اعتبار النزح هنا ليس من جهة أنّه بنفسه مطهّر ، بل إنّما هو لمجرّد رفع مانعيّة التغيّر وإلّا فالمطهّر في الحقيقة هو الماء المتجدّد من المادّة ، ضرورة أنّ ماء البئر كلّما ينزح يتجدّد من المادّة ما يقوم مقام المنزوح حتّى يزول التغيّر ، فالطهر مستند إلى هذا الماء المتجدّد وهو لازم الممازجة مع الماء المتنجّس عادة بسبب النزح الّذي يوجب مباشرة الدلو وغيره من الآلات المقتضية بحكم العادة تحرّك الماء وتقلّب أجزائه من مكان إلى آخر كما لا يخفى.

وهذا كما ترى ملزوم للممازجة لا محالة ، ولو سلّم فالتعدّي من البئر إلى غيرها لا بدّ له من وسط وهو مفقود ، بناء على اختصاص العلّة بزوال التغيّر كما هو الظاهر ؛ ولعلّ ذلك حكم مختصّ بالبئر كسائر أحكامها المختصّة بها الّتي منها المنزوحات المقدّرة فيها وجوبا أو استحبابا فليتدبّر ، ولنختم المقام بذكر فوائد :

الاولى : أنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا أنّ المعتبر من الامتزاج ما يرتفع به امتياز الماءين على وجه لا يقع عليهما عند المطّلع بالحال إلّا إشارة واحدة ، سواء حصل ذلك باختلاط كلّ الأجزاء بكلّ الأجزاء أو بغيره ، لأنّ المقتضي للامتزاج هو الامتياز فلا بدّ وأن يكون العبرة بارتفاعه المتحقّق تارة بالامتزاج الكلّي واخرى بالامتزاج الجزئي ، خلافا لكاشف اللثام ـ المحكيّ عنه ـ الاكتفاء بامتزاج البعض مطلقا مدّعيا عليه الإجماع ، قائلا : « بأنّه مع الاتّصال لا بدّ من اختلاط شي‌ء من الأجزاء ، فإمّا أن ينجّس الطاهر ، أو يطهّر النجس ، أو يبقيان على ما كانا عليه ، والأوّل والثالث خلاف ما اجمع عليه فتعيّن الثاني.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨.


وإذا تطهّر ما اختلط من الأجزاء طهر الباقي ، إذ ليس لنا ماء واحد في سطح واحد يختلف أجزاؤه طهارة ونجاسة بلا تغيّر ؛ وأيضا لا خلاف في طهر الزائد على الكرّ أضعافا كثيرة بإلقاء كرّ عليه وإن استهلكه.

وربّما كانت نسبة ما يقع فيه الاختلاط منه ومن أجزاء النجس إلى مجموع أجزائه كنسبة ما يقع فيه الاختلاط بين القليل والكثير عند أوّل الاتّصال ، فإمّا أن يقال هنا : أنّه يطهّر الأجزاء المختلطة ، ثمّ هي تطهّر ما جاورها وهكذا إلى أن يطهّر الجميع ، فكذا فيما فيه المسألة.

وإمّا أن لا يحكم بالطهارة إلّا إذا اختلط الكرّ الطاهر بجميع أجزاء النجس ويحكم ببقائه على الطهارة ، وبقاء الأجزاء الغير المختلطة من النجس على النجاسة إلى تمام الاختلاط ، وقد عرفت أنّه ليس لنا ماء واحد في سطح واحد يختلف أجزاؤه من غير تغيّر ، وأيضا فالماء جسم لطيف سيّال تسري فيه الطهارة سريعا كما تسري فيه النجاسة ، ولا دليل على الفرق بينهما » (١) انتهى.

وضعفه ظاهر بعد الإحاطة بجميع ما تقدّم مع أنّه لو كان هذا التحقيق منه بناء على القول باشتراط الامتزاج لغى معه الاشتراط ، لأنّ الاختلاط الجزئي كيفما اتّفق لازم عقلي للاتّصال كما لا يخفى على المتأمّل.

الثانية : قد يستظهر من كلمات أهل القول باعتبار الامتزاج زيادة عليه القول باعتبار الاستهلاك أيضا على الوجه المعتبر في تطهير المضاف وعدم كفاية مطلق الامتزاج ؛ وهو كما ترى إفراط كما أنّ ما سبق عن كاشف اللثام من القول بكفاية الاختلاط الجزئي الحاصل عند أوّل الاتّصال تفريط ؛ ولم نقف في كلمات من تقدّم على ما يقضي بهذا الظهور ، بل من تأمّل في العبارات المتقدّمة ونظر فيها حقّ النظر يجدها بين صريحة وظاهرة في عدم اعتباره ؛ وما تقدّم في عبارة كاشف اللثام من نفي الخلاف في طهر الزائد على الكرّ أضعافا كثيرة بإلقاء كرّ عليه وإن استهلكه ممّا يشهد بكذب دعوى اعتباره عندهم ، كيف وهو مستحيل الفرض فيما لو كان الماء النجس أقلّ من الكرّ الملقى عليه بقليل ، فضلا عن كونه أكرارا كثيرة والملقى عليه كرّا واحدا.

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣١٠.


نعم ، ربّما يوهم اعتباره وقوع لفظ « الاستهلاك » في بعض استدلالاتهم المتقدّمة على طهر القليل بإلقاء كرّ عليه ؛ ومثله ما في الاستدلال على طهر الجاري المتغيّر بزوال التغيّر من جهة تدافع الماء من المادّة وتكاثره كما عرفته عن المنتهى (١) ، لكن كلماتهم الاخر في طيّ تفاصيل المسألة قرائن تنهض شاهدة بعدم إرادة الاستهلاك بالمعنى المذكور ، بل بإرادة الامتزاج الرافع للامتياز الخارجي بين الماءين ، وحينئذ فيلزم حصول الطهر ولو فرض الكرّ الملقى مستهلكا في جنب النجس كما في مفروض كاشف اللثام ، وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه بالنظر إلى استدلالهم بما تقدّم من الملازمة المجمع عليها الّتي لا يقطع بها إلّا مع الامتزاج المذكور ، فحينئذ يكفي في طهر كرور متكاثرة كرّ واحد إذا امتزج معها على الوجه المذكور.

الثالثة : لا فرق في اعتبار الامتزاج في تطهير القليل المتنجّس بين أنواعه ، حتّى ماء الحمّام الّذي هو عبارة عمّا في حياضه الصغار إذا تنجّس بسبب انقطاعه عن المادّة ، فإنّ مستند الاعتبار في غيره الّذي هو استصحاب النجاسة إلى أن يتحقّق مزيل يقيني كما ترى جار في ماء الحمّام أيضا ، نظرا إلى أنّه بملاحظة الخلاف المتقدّم في بابه من مواضع الشبهة ، وطهره بإلقاء الكرّ عليه دفعة مع تحقّق الممازجة أيضا ممّا لا إشكال فيه.

وأمّا طهره بإجراء المادّة عليه فالظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه عندهم ، بل عليه الإجماع في كلام المحقّق الخوانساري المتقدّم في بابه ؛ (٢) ، نعم ربّما يتوهّم الخلاف في اعتبار كرّيّة المادّة عند الرفع وعدمه وإن لم يوجد عليه قول محقّق كما مرّ ثمّة ، وعلى أيّ حال فقضيّة الأصل المشار إليه اعتبارها فهو أيضا ممّا لا إشكال فيه.

نعم ، يحصل الإشكال بالنظر إلى اشتراط الدفعة ـ المتقدّم في تحقيقه الكلام ـ الّتي لا تكاد تتحقّق في مادّة الحمّام لورود الماء منها إلى الحياض تدريجا ، ولو فرضناهما متساويي السطح فاتّصل أحدهما بالآخر أشكل الحال من جهة حصول الوحدة المعتبرة في تطهير القليل حسبما تقدّم ؛ فإن حصل الإجماع على إلغاء هذين الأمرين في خصوص

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٠٨ حيث قال : « ... فالمعوّل في عدم نجاسة الحوض الصغير بملاقاة النجاسة حال كونه متّصلا بالمادّة الإجماع كما هو الظاهر ، وكذا في تطهيره بعد النجاسة بجريان المادّة إليه إذا كانت كرّا ... »


الحمّام وإلّا أشكل الحال غاية الإشكال وقوي معه احتمال تعيّن إلقاء الكرّ في تطهيره ، وعلى أيّ حال فالاحتياط في مثله المعتضد بالاستصحاب ممّا لا ينبغي تركه جدّا.

الرابعة : كما أنّ القليل المتنجّس يطهّر بإلقاء كرّ عليه فكذا يطهّر بالجاري ونزول الغيث ، أمّا الأوّل فقد نصّ عليه غير واحد منهم الشهيد في الدروس (١) وغيره ، بل الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه في الجملة كما في شرح الدروس للخوانساري (٢).

نعم ، على القول باشتراط الكرّيّة في عدم انفعال الجاري يعتبر الكرّيّة ؛ وأمّا على المختار فالكرّيّة ليست بمعتبرة هنا كما أنّ الظاهر عدم اعتبار الدفعة هنا ، بل لا معنى له بعد ملاحظة أنّ وصف الجريان لا يجامعه الدفعة بالمعنى المتقدّم ؛ وأمّا الامتزاج فقد صرّح غير واحد بأنّ الكلام فيه هنا كالكلام في إلقاء الكرّ ، وقضيّة ذلك كونه معتبرا هنا عند معتبريه ثمّة ، وهذا هو مقتضى الأصل المتقدّم ذكره ، ولا فرق في الطهر به بين الورودين ولا بين علوّ المطهّر وغيره ، فلو اتّصل به الجاري من تحته فامتزجا طهر ، والدلالة على ذلك كلّه ما سبق مفصّلا في إلقاء الكرّ.

وأمّا ما عن العلّامة في القواعد (٣) والتحرير (٤) من أنّه لا يطهّر بالنبع من تحته ، فلعلّه لا ينافي ما ذكرناه ، لجواز أن يكون مراده بالنبع خروج الكثير المنخفض عن القليل إليه بطريق النبع ، كما مرّت الإشارة إليه في نظير ذلك عنه في المنتهى (٥) في ردّ الشيخ في المبسوط.

وقد يذكر في توجيهه وجهان آخران كما في شرح الدروس (٦).

أحدهما : ابتناؤه على اشتراط العلوّ في الطهر ، وهو ليس على ما ينبغي كما يظهر وجهه بملاحظة ما أشرنا إليه عنه في المنتهى.

وثانيهما : ابتناؤه على ما هو مختاره من نجاسة الجاري بالملاقاة إذا كان قليلا ، وما ذكرناه أوجه ، وأمّا الثاني فقد سبق شرحه مفصّلا في باب المطر.

وثالثها (٧) : في تطهير القليل بإتمامه كرّا ، وهذا ممّا اختلف فيه الأصحاب رضوان الله

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٨.

(٢) مشارق الشموس : ١٩٣ قال : « الظاهر أنّ تطهيره بالجاري في الجملة ممّا لا خلاف فيه ... » الخ.

(٣) قواعد الأحكام ١ : ١٨٦.

(٤) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٥) منتهى المطلب ١ : ٦٥.

(٦) مشارق الشموس : ١٩٤.

(٧) تقدّم ثانيها في ص ٩٧.


عليهم ، فعن الشيخ في الخلاف (١) وابن الجنيد (٢) وأكثر المتأخّرين عدم طهره به مطلقا سواء كان بطاهر أو نجس ؛ وفي بعض العبائر : « أنّه المشهور » ، وعن المرتضى في المسائل الرسيّة (٣) ، والشيخ في ظاهر المبسوط (٤) ، والسّلار (٥) ، ويحيى بن سعيد (٦) ، وابني إدريس (٧) وحمزة (٨) ، والمحقّق الشيخ عليّ (٩) القول بالطهارة ، وهؤلاء ـ على ما نقل ـ بين مطلق ومصرّح بعدم الفرق بين الطاهر والنجس كما عن ابن إدريس (١٠) ، وعن المبسوط نسبته إلى بعض أصحابنا ، ومقيّد له بالطاهر كما عن بعضهم على ما في محكيّ المبسوط (١١) والذكرى (١٢).

والأقوى الأوّل ، لأنّه ماء حكم الشارع بنجاسته فيقف زواله على دلالة من الشارع وهي منتفية ، كيف وأنّ المتمّم إن كان طاهرا فقد تنجّس بالملاقاة بحكم علّيتها المستفادة من مفهوم « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (١٣) ومعه لا يعقل الطهارة في المجموع بمجرّد الإتمام ؛ وإن كان نجسا فأولى بعدم التأثير في التطهير.

ويؤيّده عموم النهي عن استعمال غسالة الحمّام الّتي لا تنفكّ عادة عن الطاهر إذا بلغ المجموع كرّا.

فإن قلت : كما أنّ ملاقاة هذا النجس علّة لانفعال الملاقي بحكم المفهوم فكذلك علّة لكرّيّة المجموع وهي مانعة عن الانفعال ؛ فيجب القول بعدمه في الملاقي عملا بمنطوق الرواية ، ثمّ يحكم بطهارة المجموع عملا بالإجماع على عدم اختلاف الماء الواحد في السطح الواحد في وصفي الطهارة والنجاسة ولو بعد اعتبار الممازجة بينهما.

قلت : مع أنّ المستفاد من المنطوق أنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال إذا صادفت طهارة

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٩٤ المسألة ١٤٩ ، حيث قال : « ولا يحكم بطهارته إلّا إذا ورد عليه كرّ من الماء فصاعدا »

(٢) حكى عنه في مختلف الشيعة ١ : ١٧٩.

(٣) جوابات المسائل الرسيّة الاولى (رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٦١).

(٤) المبسوط ١ : ٧.

(٥) المراسم العلويّة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ٢٤٦).

(٦) الجامع للشرائع : ١٨. (٧) السرائر ١ : ٦٣.

(٨) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤١٤).

(٩) جامع المقاصد ١ : ١٣٤.

(١٠) السرائر ١ : ٦٣.

(١١) المبسوط١: ٧،قال : « وفي أصحابنا من قال:إذا تمّمت بطاهركرّا زال عنها حكم النجاسة وهوقويّ ... ».

(١٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨٦.

(١٣) الوسائل ١ : ١٥٩ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ الكافي ٣ : ٢ / ١ ـ التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩.


المجموع فلا يندرج فيه المقام ؛ ومعه يبقى المفهوم سليما عن المعارضة ، أنّ الملاقاة لكونها علّة للكرّيّة مقدّمة ذاتا على الكرّيّة فهي بمجرّد تحقّقها تؤثّر في انفعال الملاقي قضاء لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة ، غاية الأمر أنّ هذا المعلول يقارن المعلول الآخر وهو الكرّيّة في الوجود الخارجي ، وقضيّة ذلك مصادفة هذا المعلول محلّا غير قابل لأن يؤثّر في عدم انفعاله وإلّا لزم اجتماع النقيضين.

فإن قلت : إنّما يلزم المحذور لو ترتّب الأثران على الملاقاة والكرّيّة متقارنين وهو ليس بلازم ، لجواز أن يترتّب الأثر على الكرّيّة بعد ما ترتّب على الملاقاة أثرها ، غاية ما هنالك لزوم الالتزام بأنّ هنا حدوثا للانفعال وزوالا له جمعا بين المفهوم والمنطوق.

قلت : ذلك خروج عن الفرض حيث إنّ الاعتراض ـ قبالا لما ادّعيناه من اقتضاء الملاقاة انفعال الملاقي ـ دعوى مانعيّة الكرّيّة عن حدوث الانفعال ، وما ذكر في التفصّي عن المحذور التزام بكون الكرّيّة رافعة للانفعال الحادث ؛ والفرق بين المعنيين بيّن كما بين السماء والأرض ؛ مع أنّ مفاد المنطوق كون الكرّيّة مانعة عن حدوث الانفعال لا أنّها رافعة للانفعال الحادث فلا منطوق بالقياس إلى ما ذكر ، فيعود الكلام إلى بقائه تحت المفهوم.

ودعوى دخوله فيه أوّلا وخروجه ثانيا بطروّ الكرّيّة ممّا لا شاهد بها.

وفي كلام غير واحد الاحتجاج على المختار بالاستصحاب وهو لا يخلو عن نوع مناقشة ؛ إذ لو اريد بالنجاسة المستصحبة نجاسة الجميع فهو كذب ، لمكان كون الحالة السابقة في المتمّم الطهارة.

ولو اريد بها ما يختصّ بالبعض المتنجّس فهي معارضة بطهارة المتمّم ؛ ولو اريد العمل بالاستصحابين معا ولو بعد الممازجة ، فهو باطل بحكم الملازمة المجمع عليها المقتضية لعدم اختلاف الماء الواحد في الحكم.

إلّا أن يقال : بأنّ المراد بها النجاسة المختصّة مع الحكم بنجاسة الجميع بحكم تلك الملازمة ، أو بحكم ما دلّ على انفعال القليل بملاقاة المتنجّس الّذي حكم عليه بالنجاسة شرعا ، على ما سبق تحقيقه في ذيل مسألة أنّ النجاسة منوطة في نظر الشارع بالعلم بها ولو شرعا.


ولكن يتوجّه إليه : أنّ المقام ليس من موارد الاستصحاب لمكان العلم ببقاء النجاسة ، إلّا أن يكون التمسّك به مبنيّا على المماشاة مع الخصم.

وكيف كان فاحتجّ أهل القول بالطهارة بوجوه :

منها : ما عن المرتضى (١) من أنّ البلوغ قدر الكرّ يوجب استهلاكه للنجاسة فليستو وقوعها قبل البلوغ وبعده.

وجوابه : أنّ معنى كون بلوغ قدر الكرّ موجبا لاستهلاك النجاسة أنّ الماء معه لا يتأثّر عمّا يقع فيه من النجاسة العينيّة الغير المغيّرة وما في حكمها في التأثير كالمتنجّس ، كما أنّ معنى كون الماء البالغ قدر الكرّ مستهلكا للنجاسة عدم قبوله أثر النجاسة الواقعة فيه وعدم بروز أثر تلك النجاسة فيه وعروضه له ، بحيث كان وجودها فيه بمنزلة عدمها ، فلو اريد بالمقدّمة الاولى من الدليل هذا المعنى فهو حقّ متين لا سترة عليه ، لكنّه لا يقتضي الاستواء بين وقوعها قبل البلوغ ووقوعها بعد البلوغ ، ضرورة الفرق بينهما كما بين السماء والأرض ، إذ ليس الكلام في أنّه هل يتأثّر أو لا يتأثّر؟ بل في أنّه هل يزول عنه الأثر أو لا يزول؟ ومن البيّن أنّ أحدهما ليس بعين الآخر ولا ملازمة بينهما عقلا ولا شرعا ، فيكون التعدّي عن أحدهما إلى الآخر قياسا ومع الفارق ، ضرورة أنّ الماء في رفعه الأثر الحاصل ربّما يحتاج إلى ما لا يحتاج إليه في دفعه الأثر الغير الحاصل كما هو معلوم من الشرع.

ولو اريد بها ما زاد على هذا المعنى بدعوى : أنّ الكرّيّة في الماء صفة لا تجامعها صفة النجاسة سابقة ولا حقة ، وبعبارة اخرى : أنّ الشرع قد كشف عن كون الكرّيّة مضادّة للنجاسة ولا معنى له إلّا كونها في مقام الرفع رافعة وفي مقام الدفع دافعة ؛ فهو أوّل الدعوى لمنع قيام الدلالة من الشرع على هذا المعنى ، بل القدر المسلّم قيام الدلالة على أنّ سبق الكرّيّة يوجب في الماء قوّة تعصمه عن حصول أثر النجاسة وحدوثه فيه.

ومنها : ما عنه (٢) أيضا من أنّ الإجماع واقع على طهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة ولم يعلم هل كان وقوعها قبل بلوغ الكرّيّة أو بعده ، وما ذاك إلّا لتساوي الحالين ، إذ لو اختصّ الحكم ببعديّة الوقوع لم يكن للحكم بالطهارة وجه ، لأنّه كما

__________________

(١ و ٢) المسائل الرسيّة الاولى (رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣٦١ و ٣٦٢).


يمكن تأخّره عن البلوغ كذا يمكن تقدّمه عليه.

وجوابه أوّلا : أنّه أدلّ على خلاف المقصود من الاستدلال ، ضرورة أنّه لو لا الفرق بين وقوعها قبل بلوغ الكرّيّة ووقوعها بعده لغى أخذ الشكّ قيدا في موضوع الحكم المجمع عليه ، والمفروض أنّه لا إجماع مع عدم اعتبار هذا الشكّ ، فظهر أنّ للشكّ المذكور مدخليّة في الحكم وبطل به دعوى تساوي الحالين مطلقا.

وثانيا : أنّ ذلك من جهة استصحاب الطهارة الأصليّة في الماء ، حيث إنّ بلوغ الكرّيّة مع وقوع النجاسة بكليهما أمران حادثان لا يجري فيهما الأصل ، فيبقى أصالة الطهارة سليمة.

وثالثا : أنّ ذلك لما سبق تحقيقه من أنّ أحكام النجاسة في نظر الشارع معلّقة على العلم بتحقّق أسباب النجاسة ولو شرعا ، وأنّ مشكوك النجاسة عندنا محكوم عليه عنده بالطهارة ، ولا ريب أنّ المقام ممّا لا مدخل له في ذلك ، فبالجملة فرق بين المقامين والفارق هو الإجماع في أحدهما دون الآخر ، مضافا إلى الأصلين المتقدّم إليهما الإشارة.

وقد يجاب عنه ـ بعد ما قرّر بأنّه : لو لم يحكم بالطهارة بذلك لم يحكم بطهارة الماء الّذي وجد فيه نجاسة لم يعلم وقوعها قبل الكرّيّة أو بعدها ـ : « بأنّ الالتزام به ليس من المنكرات فلا يحكم عليه بالطهارة ولا النجاسة ، فهو لا ينجّس الطاهر ولا يطهّر النجس ، فيكون حاله حال المشكوك في كرّيّته إذا لاقته النجاسة في وجه قويّ ، لأنّه كما أنّ الكرّيّة شرط وقد شكّ فيها فكذلك الطهارة شرط وقد شكّ فيها » (١).

وفيه : أنّ ذلك لا يلائم الإجماع المدّعى على الحكم بالطهارة ، وكأنّه غفلة عن كون مستند بطلان التالي هو الإجماع كما يرشد إليه تجريد التقرير المذكور عن ذكره ، وقد وقع التصريح بالاستناد إليه في كلام جماعة على وجه يظهر منهم الاعتراف به ، وحكي الاعتراف به أيضا عن الفاضلين (٢) والشهيد (٣).

هذا مع ما في مقايسة المقام على المشكوك في كرّيّته من الفساد الواضح ، لمنع أصل الحكم في المقيس عليه ، ضرورة أنّ المشكوك في كرّيّته إمّا أن يعلم له حالة سابقة من

__________________

(١) المجيب هو صاحب الجواهر رحمه‌الله ، راجع جواهر الكلام ١ : ٣١٦.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ١٨٤.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨١ قال فيه : ولو علمه وشكّ في سبق النجاسة ، فالأصل الطهارة الخ أقول : وهذا كما ترى ليس من الاستناد بالإجماع.


قلّة أو كرّيّة أو لا؟ فعلى الأوّل يكون المتّبع هو الأصل الّذي يقتضيه الحالة السابقة ، فالمتّجه حينئذ الحكم بالنجاسة لاستصحاب القلّة أو الحكم بالطهارة لاستصحاب الكرّيّة.

وعلى الثاني : يكون المتّبع قاعدة الطهارة بعد الحكم على الأصلين بالتساقط ، بل لا أصل في البين حينئذ لانتفاء الحالة السابقة الّتي هي من أركان الاستصحاب ، فيبقى قاعدة الطهارة المستفادة عن عموم « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (١) سليمة.

وأمّا التعليل بشرطيّة الكرّيّة وشرطيّة الطهارة المشكوك فيهما فممّا لا يرجع إلى محصّل ، لأنّ الكرّيّة شرط في عدم نجاسة الماء بوقوع النجاسة فيه ، والطهارة شرط في تطهير النجس ، لكنّ الشرط إذا كان مطابقا للأصل أمكن إحرازه بالأصل ، فلم لا يحكم بأصالة الطهارة إن سلمت عن معارضة أصالة عدم الكرّيّة وتقدّمها عليها حتّى يترتّب عليه تطهير النجس؟ ومع عدم السلامة فأصالة عدم الكرّيّة يقضي بالنجاسة فيترتّب عليها تنجّس الطاهر ، ففسد التعليل كما فسد أصل الحكم.

ومنها : ما عن ابن إدريس (٢) الاحتجاج بالإجماع قائلا : « بأنّ إجماع أصحابنا على هذه المسألة إلّا من عرف اسمه ونسبه » ، وبقوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » (٣) مدّعيا إجماع المؤالف والمخالف على هذه الرواية ، فإنّها عامّة لصورتي تأخّر الخبث وتقدّمه.

بل عن القاموس (٤) ونهاية ابن الأثير (٥) أنّ معنى « لم يحمل خبثا » : لم يظهر فيه خبث ، وحينئذ يكون دلالته من باب الخصوص لا العموم ، لأنّ عدم ظهور الخبث فيه يستلزم معناه أنّه كان سابقا على البلوغ وبعده لم يظهر حكمه فيه.

وبالعمومات الدالّة على طهارة الماء وجواز استعماله كقوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (٦) وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (٧) ؛ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر : « إذا وجدت الماء فامسسه جسدك » (٨) ، وقوله : « أمّا أنا فلا ازيد على أن أحثوا

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥. (٢) السرائر ١ : ٦٦.

(٣) مستدرك الوسائل ١ : ١٩٨ ، ب ٩ ح ٦. (٤) القاموس المحيط ، مادّة « حمل » ٣ : ٣٦٢.

(٥) نهاية ابن الأثير : مادّة « حمل » ١ : ١٤٤. (٦) الأنفال : ١١.

(٧) المائدة : ٦.

(٨) هذا من حديث رواه أحمد في مسنده ٥ : ١٤٦ ، وأبو داود في السنن ١ : ٩١ ، وروي الترمذي في جامعه ١ : ١٩٣ ، القطعة الأخيرة منه المتعلّقة بالتيمّم والغسل وروى ابن العربي في شرحه على جامع الترمذي الحديث بتمامه ، ورواه أيضا البيهقي في السنن ١ : ١٧٩.


على رأسي ثلاث حثيات فإذن أنّي قد طهرت » (١) ، وضعف الجميع واضح.

أمّا الأخير : فلأنّ عموم الآية لا تعرّض فيه لما بعد النجاسة ، بل أقصى ما فيها الدلالة على حكم الماء بحسب الخلقة الأصليّة وهو لا ينافي طروّ النجاسة فضلا عن استمرارها بعد الطروّ.

وأمّا البواقي : فلأنّها قضايا مهملة سيقت لإعطاء أصل حكم التطهير ، من غير نظر فيها إلى تشخيص موضوعه عموما ولا خصوصا.

وأمّا الأوّل : فلمنافاته مخالفة المعظم فلا اعتداد بنقله بعد الاسترابة في منقوله.

وأمّا الأوسط : فمع ما فيه من قدح السند ـ على ما يظهر وجهه ـ يرد عليه منع دلالته على ما يرامه المستدلّ كما هو واضح لمن له أدنى خبرة بمعاني الألفاظ ومقتضى تراكيب الكلام ؛ إذ أقصى ما فيها من الدلالة أنّ الماء ببلوغ الكرّيّة لا يتحمّل صفة الخبثيّة ، على معنى أنّه لا يحدث له تحمّل تلك الصفة ، لا أنّه بسببه يضع حمله من تلك الصفة على تقدير تحمّله لها قبل البلوغ ، وهذان معنيان متغايران ، والأوّل منهما يقتضي خلوّ الماء عنها قبل البلوغ ؛ ومحلّ البحث مندرج في الثاني فلا يندرج في الرواية ، فيكون مفادها مطابقا لمفاد « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء ».

ولا ينافيه ما عرفت نقله عن القاموس والنهاية ، لأنّ عدم ظهور الخبث معناه عدم بروزه في ظرف الخارج لا زوال الخبث البارز في الخارج عنه.

وللمحقّق ـ على ما نقل عنه في المعتبر ـ كلام طويل في دفع هذه الأدلّة ولا سيّما الرواية ، حيث إنّه بعد ما نقل الأدلّة قال : « فالجواب : دفع الخبر فإنّا لم نروه مسندا ، والّذي

__________________

(١) هذا الحديث رواه الشوكاني في نيل الأوطار عن أحمد ١ : ٢١٥ هكذا : « أمّا أنا فاحثي على رأسي ثلاث حثيات ثمّ أفيض فإذا أنا قد طهرت » ، ثمّ قال : وقال الحافظ : قوله : « فإذا أنا قد طهرت » لا أصل له من حديث صحيح ولا ضعيف. ولكنّه وقع من حديث أمّ سلمة ، قال لها : « إنّما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثمّ تفيضين الماء عليك فإذا أنت قد طهرت » وأصله في صحيح مسلم ». انتهى ما في نيل الأوطار : وروى البخاري في صحيحه : ح ١ (باب من أفاض على رأسه ثلاثا) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا » وأشار بيديه كلتيهما ، وهكذا رواه مسلم في صحيحه ١ : ١٣٦ ؛ والنسائي في سننه ١ : ٤٩ ، وابن ماجة في سننه ١ : ٢٠٣ ؛ وأبو داود في سننه ١ : ٦٢ ؛ وابن حجر في مجمع الزوائد ١ : ٢٧١ ؛ ورواه أيضا ابن ماجه في سننه ١ : ٢٠٣ هكذا : « أمّا أنا فأحثو على رأسي ثلاثا ».


رواه مرسلا المرتضى رضي‌الله‌عنه والشيخ أبو جعفر وآحاد ممّن جاء بعده ؛ والخبر المرسل لا يعمل به وكتب الحديث عن الأئمّة عليهم‌السلام خالية عنه أصلا ، وأمّا المخالفون فلم أعرف به عاملا سوى ما يحكى عن ابن حيّ وهو زيدي منقطع المذهب ، وما رأيت أعجب ممّن يدّعي إجماع المخالف والمؤالف فيما لا يوجد إلّا نادرا ، فإذن الرواية ساقطة.

وأمّا أصحابنا فرووا عن الأئمّة عليهم‌السلام « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » وهذا صريح في أنّ بلوغه كرّا هو المانع لتأثّره بالنجاسة ، ولا يلزم من كونه لا ينجّسه شي‌ء بعد البلوغ رفع ما كان ثابتا فيه ومنجّسا قبله ، والشيخ رحمه‌الله قال بقولهم عليهم‌السلام ، ونحن قد طالعنا كتب الأخبار المنسوبة إليهم فلم نر هذا اللفظ ، وإنّما رأينا ما ذكرناه وهو قول الصادق عليه‌السلام « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » ولعلّ غلط من غلط في هذه المسألة لتوهّمه أنّ معنى اللفظين واحد.

وأمّا الآيات والخبر البواقي فالاستدلال بها ضعيف لا يفتقر إلى جواب ، لأنّا لا ننازع في استعمال الطاهر المطلق ، بل بحثنا في هذا النجس إذا بلغ بطاهر ، فإن ثبت طهارته تناولته الأحاديث الآمرة بالاغتسال أو غيره ، وإن لم يثبت طهارته فالإجماع على المنع منه فلا تعلّق له إذن فيما ذكره ، وهل يستجيز أن يقول محصّل : أن يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أحثوا على رأسي ثلاث حثيات ممّا يجتمع من غسالة البول والدم وملغة الكلب »؟.

واحتجّ لذلك أيضا بالإجماع وهو أضعف من الأوّل ؛ لأنّا لم نقف على هذا في شي‌ء من كتب الأصحاب ولو وجد كان نادرا ، بل ذكره المرتضى رحمه‌الله في المسائل منفردة وبعده اثنان أو ثلاثة ممّن تابعه ، ودعوى مثل هذا إجماعا غلط ، إذ لسنا بدعوى المائة نعلم بدخول الإمام عليه‌السلام فيهم فكيف بفتوى الثلاثة والأربعة » (١) انتهى.

المرحلة الثانية : (٢) في تطهير الكرّ والجاري المتغيّرين ، ففيها مسألتان.

المسألة الاولى : في تطهير الكرّ.

فانّه يطهّر بإلقاء كرّ عليه فما زاد حتّى يزول التغيّر ، سواء عمّ التغيّر جميع الكرّ أو اختصّ ببعضه مع كون الباقي أقلّ من كرّ ، ولو زال التغيّر بكرّ واحد ولو بعد مكث ومضيّ مدّة اكتفى به ولم يحتج إلى الزائد ، بشرط أن لا يتغيّر الكرّ الملقى كلّا أم بعضا

__________________

(١) المعتبر : ١٢.

(٢) تقدّمت المرحلة الاولى في ص ٥٤٨.


وإلّا احتيج إلى إلقاء كرّ آخر ، والبحث في اعتبار الدفعة والممازجة كما سبق ، فالمتّجه على المختار اعتبارهما هنا أيضا.

ولو اختصّ التغيّر ببعض الكرّ وكان الباقي أيضا كرّا ولم يقطع التغيّر عمود الغير المتغيّر كفى ذلك الباقي في طهر صاحبه ، بشرط تموّج بعضه في بعض تحقيقا للممازجة المعتبرة ، وعلى القول بعدم اعتبارها كفى الاتّصال الموجود هنا ، لكن يشترط على كلا التقديرين زوال التغيّر.

وأمّا الدليل على الطهر في جميع الصور المذكورة هو الدليل المتقدّم في تطهير القليل من الملازمة المجمع عليه.

ويطهّر الكثير أيضا بالجاري وبماء المطر على النحو المتقدّم إليه الإشارة ، وينوط الحكم فيهما أيضا بزوال التغيّر ، فهذا كلّه ممّا لا إشكال فيه.

نعم ، الإشكال في طهره بزوال التغيّر من قبل نفسه ، أو بعلاج من تصفيق الرياح أو وقوع أجسام طاهرة فيه ونحوه ، كما نقل القول به عن يحيى بن سعيد من أصحابنا في الجامع (١) ، وعن العلّامة في النهاية (٢) أنّه تردّد في حصول الطهارة بزوال التغيّر من قبل نفسه خاصّة ؛ وأمّا الباقون فعلى أنّه لا يطهّر به مطلقا ، وقد يجعل ذلك أشهر القولين.

وفي المنتهى : « المشهور أنّه لا يطهّر به » (٣) ، ولم يعرف من أصحابنا عدا من ذكر قائل بالطهر به.

نعم ، في المنتهى نقل تفصيلا عن الشافعي وأحمد من العامّة وهو : « أنّه إن زال التغيّر لطول المكث عاد طهورا ، وإن زال لطرح المسك والزعفران فلا ، لأنّهما ساتران لا مزيلان » ، ثمّ قال : « وفي التراب قولان مبنيّان على أنّه مزيل أو ساتر ».

ثمّ قال : « ولو زال التغيّر بأخذ بعضه لم يطهر وإن كان كرّا ، وكذا لو زال التغيّر بإلقاء أقلّ من الكرّ على الأقوى ، خلافا لبعض علمائنا وللشافعي » (٤).

لكن في المدارك جعل القول الأوّل ـ الّذي ذهب إليه القاضي ـ مبنيّا على ما ذهب إليه من أنّ الماء النجس يطهّر بالإتمام ، ومن هنا صرّح بأنّه في الحقيقة لازم لكلّ من قال بذلك (٥).

__________________

(١) الجامع للشرائع : ١٨.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٥٨.

(٣ و ٤) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٤٦ وفيه « الفاضل » بدل « القاضي ».


وفي الحدائق : « صرّح جمع من الأصحاب بأنّ القول بطهارة المتغيّر بزوال التغيّر لازم لكلّ من قال بالطهارة بالإتمام » (١) ، ونقل دعوى هذه الملازمة عن المحقّق في المعتبر (٢) أيضا.

ولعلّها مبنيّة على توهّم رجوع القول بالطهارة بالإتمام إلى دعوى منافاة عنوان الكرّيّة لوصف النجاسة ، وهو ممّا لا ينافيه أكثر أدلّة هذا القول ، بل بعضها ـ إن تمّ ـ متناول للمقام كالرواية المتقدّمة مع عمومات الطهارة والمطهّريّة ، ولا ينافيه كون التغيّر عند أصحاب هذا القول مقتضيا للنجاسة حتّى مع عنوان الكرّيّة ، لأنّ أقصى ما يلزم من ذلك التزامهم بتقييد العنوان بغير صورة التغيّر أو تخصيص تلك الصورة عن العامّ.

ولا يقدح فيه القول بالطهارة بعد زوال التغيّر ، لأنّ ذلك تخصيص في بعض الأحوال وهو لا يقضي بتخصيص الفرد في جميع الأحوال ، فالمخرج عن العموم هو حالة التغيّر دون الفرد المتغيّر حتّى لا يمكن دخوله فيه بعد الخروج ، وقضيّة ذلك شمول حكم العامّ له بعد ارتفاع الحالة المذكورة نظرا إلى وجود المقتضي وارتفاع المانع.

ولكن يضعّف دعوى الملازمة بمصير بعض أهل القول بالطهارة في مسألة الإتمام إلى عدمها في مسألة زوال التغيّر كالحلّي (٣) ـ على ما حكي ـ وذهاب بعض القائلين بعدم الطهارة ثمّة إليها هنا ، مستدلّا : بأنّ الأصل في الماء الطهارة ، والحكم بالنجاسة للتغيّر ، فإذا زالت العلّة انتفى المعلول كما حكاه في المدارك (٤) ، وكيف كان فعمدة ما احتجّ به للقول بالطهارة هو الوجه المذكور.

واجيب عنه : بأنّ المعلول هو حدوث النجاسة لا بقاؤها ، وقد تقرّر في الاصول أنّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٦.

(٢) المعتبر : ٩ حيث قال : « الثاني : طريق تطهير المتغيّر إن كان جاريا ... وإن كان واقعا فبأن يطرأ عليه من الماء الطاهر المطلق ما يرفع تغيّره ... ولو تمّم كرّا فزال معه لم يطهر ويجي‌ء على قول من يطهّر النجس ببلوغه كرّا أن يقول بالطهارة هنا ».

(٣) السرائر ١ : ٦٢ حيث قال : « وإن ارتفع التغيّر عنه من قبل نفسه ، أو بتراب يحصل فيه ، أو بالرياح الّتي تصفقها ... لم يحكم بطهارته الخ ».

وقال في مسألة إتمام القليل كرّا : « والطريق إلى تطهير هذا الماء أن يزاد زيادة تبلغه الكرّ أو أكثر منه ... الخ » ١ : ٦٣.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ٤٦.


البقاء لا يحتاج إلى دليل في نفسه ، إذ الأصل أنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع وذلك معنى الاستصحاب ، لكن ربّما يتوجّه إليه مناقشة من حيث التعليل المذكور يظهر وجهها بالتأمّل.

وقد يستدلّ له بوجوه اخر :

منها : الرواية المتقدّمة في المسألة السابقة (١) إمّا بناء على ما قرّرناه من أنّ الخارج من ذلك حالة التغيّر فيدخل ما بعدها في العموم ، أو لأنّه إذا فرض الماء المتغيّر نصفين زال تغيّرهما فاجتمعا دخل تحت عموم الرواية ، وإذا ثبت فيه ثبت في غيره بالإجماع.

وفيه : أنّ الاستناد إلى تلك الرواية إنّما يصحّ لو كانت متعرّضة لحكم الزوال عقيب الحدوث خصوصا أو عموما وقد مرّ منعه في المسألة السابقة ، فإنّ العبارة قاصرة جدّا عن التعرّض للحكم المذكور نفيا وإثباتا ، وظاهرة في إعطاء حكم الدفع الّذي ليس المقام عنه ، ومع الغضّ عن ذلك فالتمسّك بالإجماع بناء على التقرير الثاني ضعيف جدّا ، إذ لا محمل له إلّا مركّب الإجماع وهو مع وجود القول بالفصل كما ترى ؛ وقد عرفت أنّ الحلّي العامل بالرواية فيما هو من قبيل المسألة الثانية أنكر الطهارة هنا.

وقد يجاب عنه (٢) أيضا : بأنّ الرواية مخصوصة بالنصّ والإجماع بالخبث الّذي لا يكون مغيّرا للماء ، فإذا ثبت النجاسة بالتغيّر كانت مستصحبة ، وبالتأمّل فيما قرّرناه في تحقيق دعوى الملازمة بين القولين تقدر على تزييف ذلك بأحسن وجه.

ومنها : قاعدة الطهارة بناء على عدم جريان استصحاب النجاسة ، لأنّ موضوع النجاسة هو المتلبّس بالتغيّر ، أو المردّد بين ما حدث فيه التغيّر في زمان وما تلبّس به ، وعلى التقديرين فلا يعلم بقاء الموضوع الّذي هو شرط في جريان الاستصحاب.

وفيه : منع كون موضوع النجاسة شي‌ء ممّا ذكر ، بل الموضوع هو الماء الملاقي للنجاسة المغيّرة ، بناء على أنّ الموجب للنجاسة هو الملاقاة المغيّرة دون الملاقاة مطلقة ولا التغيّر منفردا وهو باق جزما ، وسيلحقك زيادة توضيح في ذلك.

ومنها : الأخبار الظاهرة في اعتبار فعليّة التغيّر في النجاسة مثل قوله عليه‌السلام : « كلّما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضّأ [من الماء] واشرب » (٣) وقوله عليه‌السلام : « لا بأس إذا

__________________

(١) والمراد بها قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا ».

(٢) المجيب هو المحقّق الخوانساري رحمه‌الله في مشارق الشموس : ٢٠٤.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٧ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١.


غلب لون الماء لون البول » (١) ، وقوله عليه‌السلام : « إذا كان النتن الغالب على الماء فلا توضّأ ولا تشرب » (٢) ونحو ذلك.

وفيه : أنّ اعتبار فعليّة التغيّر في النجاسة ممّا لا ينكره أحد ، لكنّها تلاحظ تارة بالقياس إلى حدوث التغيّر فيراد بها حدوثه فعلا ، واخرى بالقياس إلى بقاء التغيّر فيراد بها بقاؤها فعلا ، والمطلب إنّما يثبت لو كان المستفاد من الأخبار اعتبار الفعليّة في كلّ من جهتي الحدوث والبقاء ، على معنى استفادة استناد النجاسة حدوثا وبقاء إلى التغيّر حدوثا وبقاء ، فحدوثها إلى حدوثه وبقاؤها إلى بقائه ، وقضيّة ذلك انتفائها عند انتفاء إحدى جهتي التغيّر ، فلا حدوث مع عدم حدوثه ولا بقاء لها مع عدم بقائه ، وهذا كما ترى موضع منع كلّ المنع ، لوضوح أنّ أقصى ما يستفاد منها اعتبار الفعليّة في جهة الحدوث فقط ، وأمّا جهة البقاء فهي إمّا دالّة على عدم اعتبار الفعليّة فيها أو ساكتة عن التعرّض لها نفيا وإثباتا ، فعلى كلّ من التقديرين يجب استصحاب النجاسة بعد زوال التغيّر إلى أن يقوم رافع يقيني ، وإن كان الاستصحاب على التقدير الأوّل يراد به معنى وعلى التقدير الثاني معنى آخر وسيأتي بيان المعنيين مع الفرق بينهما.

وممّا يفصح عمّا ذكرناه من أنّ المستفاد من الأخبار اعتبار الفعليّة في جهة الحدوث فقط ورد التعبير في الأخبار عن اعتبار التغيّر في النجاسة بصيغة الفعل ماضيا ومستقبلا الّتي هي باعتبار الوضع اللغوي ظاهرة في الحدوث ، وسيلحقك زيادة بيان في ذلك.

ومنها : الأمر بالنزح في البئر المتغيّر حتّى يزول التغيّر الوارد في صحيحة محمّد بن بزيع (٣) بناء على أنّ كلمة « حتّى » للتعليل أو للانتهاء ، مع استظهار كون ما بعدها علّة غائيّة نظير ما في قولك : « تفكّر في العبارة حتّى ـ أو إلى ـ أن تفهمها ».

وفيه أوّلا : منع كون كلمة « حتّى » تعليليّة لظهورها في الانتهاء ، ولو سلّم فليس ذهاب الريح وطيب الطعم علّة للطهر وإنّما هو علّة للنزح الّذي اعتبره الشارع لرفع المانع عن الطهر المقارن للطهر الحاصل بتجدّد الماء من المادّة ، فالمطهّر هو الماء المتجدّد دون زوال التغيّر ، لكون وجود التغيّر مانعا عن حصول الطهر.

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٣٩ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ و ٦.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ٧.


وثانيا : منع دخولها على العلّة الغائيّة على تقدير كونها انتهائيّة ، لما تبيّن من أنّ الغاية المقصودة من النزح طهر البئر بتجدّد الماء من المادّة ، وذهاب الريح مع طيب الطعم مقصود بالتبع دفعا للمانع.

ولو سلّم كونه مقصودا بالأصالة فإنّما يقصد إحرازا لرفع المانع لا لأنّ المقصود إحراز المقتضي للطهارة ولا يكون إلّا زوال التغيّر.

ولو سلّم أنّ إحراز المقتضي أيضا مقصود بالأصالة فالمقتضي ليس إلّا الماء المتجدّد من المادّة المقارن تجدّده لزوال التغيّر فكلاهما مقصودان بالأصالة ، إلّا أنّ تجدّد الماء مقصود لإحراز المقتضي وزوال التغيّر مقصود لإحراز رفع المانع.

ولو سلّم أنّ عدم المانع له مدخليّة في ترتّب الأثر فغايته كونه جزءا للعلّة لا أنّه علّة تامّة ، فالجزء الآخر هو تجدّد الماء.

ولو سلّم عدم الدلالة على مدخليّة تجدّد الماء فلا نسلّم الدلالة على نفي المدخليّة أيضا ، ولازم ذلك قيام الاحتمال المتساوي ومعه يكون المقام من مجاري الاستصحاب الّذي لا قاطع له سوى تجدّد الماء ، فكون زوال التغيّر علّة غائيّة لا يستلزم كونه هو المطهّر ، فالاستدلال بالصحيحة على طهر الماء بمجرّد زوال التغيّر غير متّجه ، سواء جعل كلمة « حتّى » تعليليّة ، أو انتهائيّة داخلة على العلّة الغائية أو لا.

حجّة القول المشهور امور :

أحدها : ما اعتمد عليه المحقّق الخوانساري فإنّه قال ـ معرضا عن الوجوه الثلاث الآتية ـ : « والأولى أن يتمسّك بالروايات الدالّة على النجاسة بالتغيّر ، لأنّ فيها النهي عن الوضوء والشرب من هذا الماء ، والنهي للدوام والتكرار خرج ما بعد التطهير بالإلقاء ونحوه ممّا فيه إجماع أو دليل آخر بالدليل فيبقى الباقي » (١) ، وهذا كما ترى بمكان من الوهن ، ضرورة أنّ النهي هنا تابع للنجاسة لكونه ناشئا منها فدوامه موقوف على بقائها بعد زوال التغيّر ، فالتمسّك بدوامه على بقائها لا يخلو عن نوع مصادرة ، ولك أن تقول : بكونه مؤدّيا إلى الدور كما يعرف بأدنى تأمّل ، ومن هنا يعلم أنّ دعوى دوام النهي هنا إن لم تكن عن علم ببقاء النجاسة لا بدّ لها من وسط ، فمع وجوده لغى توسيط دوام

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٠٤.


النهي وبدونه بقي المطلب موقوفا ، فالاستدلال بالأخبار إن كان ولا بدّ منه فلا بدّ وأن يقرّر بطريق آخر سنشير إليه.

وثانيها : ما اعتمد عليه العلّامة في المنتهى (١) من « أنّ النجاسة حكم شرعي ، فيتوقّف زواله على حكم آخر » وهذا أيضا لا يخلو عن نوع ضعف ؛ إذ كلّ من المقدّمتين مسلّمة لا إشكال فيها غير أنّ الحكم بزوال النجاسة يكفي فيه زوال علّة الحدوث ، ومع قيام شبهة العلّيّة في التغيّر المقطوع زواله لا يمكن العلم بعدم زوال العلّة ، فالعمدة في المقام نفي العلّيّة عن التغيّر لا الاقتصار على ما لا يجدي شيئا من ثبوت المطلوب ودفع كلام الخصم.

وثالثها : ما اعتمد عليه في الكتاب المذكور أيضا من أنّ « النجاسة تثبت بوارد ، فلا تزول إلّا بوارد ، بخلاف نجاسة الخمر ، فإنّها تثبت بغير وارد فتطهر بغير وارد » (٢) ، وهذا أضعف من سابقه.

ورابعها : ما اعتمد عليه غير واحد من فحول أصحابنا منهم العلّامة في الكتاب المذكور (٣) من أنّه كان نجسا قبل الزوال فيستصحب الحكم بعده أيضا ، وهذا هو الّذي لا محيص عنه في المقام ، ومحصّله يرجع إلى التمسّك بالاستصحاب وإن اختلفوا في المعنى المراد به هنا ، حيث إنّ ظاهر الأكثرين وصريح بعضهم أنّ المراد به معناه المعهود الّذي يعدّ عندهم من أدلّة الأحكام الظاهريّة واختلف في حجّيّته ، خلافا لصريح بعضهم في عدّه هنا من العمل بعموم الدليل وإطلاقه كما نقله صاحب الحدائق عن بعض من استدلّ بالوجه المذكور ، حيث أنّه بعد ما فرغ عن تقرير الاستدلال قال : « وليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع فيه ، بل مرجعه إلى العمل بعموم الدليل » (٤).

والظاهر أنّ الاستصحاب بهذا المعنى هو الّذي يعبّر عنه في العمل بالأدلّة اللفظيّة بأصالة العموم ، أو الإطلاق ، وأصالة عدم التخصيص ، أو عدم التقييد ، ومن المصرّح به في كلامهم أنّ الاستصحاب عندهم يطلق على هذا المعنى.

قال في مقدّمات الحدائق : « واعلم أنّهم صرّحوا بأنّ الاستصحاب يقع على أقسام أربعة :

أحدها : نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمّة منه إلى أن يظهر دليله وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة.

__________________

(١ و ٢ و ٣) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٧ و ٥١.


وثانيها : استصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصّص وحكم النسخ إلى أن يرد الناسخ.

وثالثها : استصحاب إطلاق النصّ إلى أن يثبت القيد.

ورابعها : استصحاب حكم شرعي في موضع طرأت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، بمعنى أنّه يثبت في وقت ثمّ يجي‌ء وقت آخر لا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم فيه فيحكم ببقائه على ما كان استصحابا لتلك الحالة الاولى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا خلاف ولا إشكال في حجّيّته بالمعنى الثاني والثالث ، لأنّ مرجعهما إلى الاستدلال بعموم النصّ وإطلاقه وإنّما الإشكال والخلاف في معنى البراءة الأصليّة وقد تقدّم وفي المعنى الرابع » انتهى.

وقال في الكتاب المذكور بعد الفراغ عن نقل الاستدلال بالاستصحاب مع العبارة المصرّحة « بأن ليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع فيه » في شرح هذا الكلام وتوضيحه : « وتحقيق القول في الاستصحاب وجملة أقسامه قد تقدّم في المقدّمة الثالثة.

فظاهر كلام المستدلّ هنا أنّ الاستصحاب المذكور من قبيل القسم الثالث المذكور هناك الّذي هو عبارة عن إطلاق النصّ ، دون القسم الرابع الّذي هو محلّ للنزاع ». ـ إلى أن قال ـ : « وتحقيق القول في ذلك أن يقال : إذا تعلّق حكم بذات لأجل صفة ـ كالماء المتغيّر بالنجاسة ، والماء المسخّن بالشمس ، والحائض أي ذات دم الحيض ـ فهل يحكم بمجرّد زوال التغيّر وزوال السخونة وانقطاع الدم بخلاف الأحكام السابقة ، أو يحكم بإجراء الأحكام السابقة إلى ظهور نصّ جديد؟ فيه إشكال ينشأ من أنّ الحكم في هذه النصوص الواردة في هذه الأفراد المعدودة ونحوها محتمل القصر على زمان وجود الوصف ، بناء على أنّ التعليق على الوصف مشعر بالعلّيّة ، وأنّ المحكوم عليه هو العنوان لا الفرد وقد انتفى ، وبانتفائه ينتفي الحكم ، ومحتمل للإطلاق بناء على أنّ المحكوم عليه إنّما هو الفرد لا العنوان ، والعنوان إنّما جعل آلة لملاحظة الفرد ، فمورد الحكم حقيقة هو الفرد.

فعلى الاحتمال الأوّل يكون من القسم الرابع ، وإن تغيّر الماء بالنجاسة نظير فقد


الماء في مسألة المتيمّم الداخل في الصلاة ثمّ يجد الماء ، فكما أنّ وجود الماء هناك حالة [اخرى] مغايرة للأولى ؛ فتعلّق النصّ بالاولى لا يوجب استصحابه في الثانية لمكان المخالفة فكذا هنا زوال الوصف حالة ثانية مغايرة للأولى لا يتناولها النصّ المتعلّق بالاولى.

وعلى الاحتمال الثاني يكون من قبيل القسم الثالث » (١) انتهى.

ومحصّل كلامه رفع مقامه : أنّ كون الاستصحاب هنا مرادا به المعنى المعروف المتنازع فيه أو المعنى الآخر المعبّر عنه بإطلاق الدليل مبنيّ على كون حكم النجاسة بالتغيّر متعلّقا بالعنوان دون الفرد ، أو بالفرد دون العنوان ، لكن فيه فساد المبنى في وجه وفساد الابتناء في وجه آخر ؛ وذلك لأنّ العنوان والفرد إن اريد بهما معناهما الظاهر المتعارف وهو المفهوم الكلّي في الأوّل والفرد الخارجي المنطبق عليه في الثاني.

ففيه : فساد المبنى ، لأنّ الفرد لا يتخلّف عن عنوان ولا يخالفه وإلّا لا يكون فردا له ، فكلّ ما اعتبر في العنوان من القيود والصفات لا بدّ من اعتباره في الفرد المطابق له إحرازا لقضيّة الانطباق ، فإذا فرض أنّ منشأ فقد الإطلاق في دليل الحكم كون موضوعه مأخوذا فيه وصف مشعر بالعلّيّة فلا يفترق الحال فيه بين القول بتعلّقه بأصل العنوان مع قطع النظر عن أفراده الموجودة في الخارج وبين القول بتعلّقه بالفرد المنطبق عليه ، لقيام الموجب في كلّ منهما ، فلا يحصل في دليل الحكم على التقدير الثاني إطلاق أيضا بالقياس إلى حالتي وجود الوصف وزواله ليتمسّك به عند طروّ حالة الزوال ، وإلّا لزم كون الفرد المنطبق على العنوان أعمّ من العنوان وهو محال.

هذا مع أنّ المحقّق أنّ الأحكام كائنة ما كانت إنّما تتعلّق بالعناوين دون الأفراد المنطبقة عليها ، والفرد لا مدخل له في متعلّق الحكم إلّا باعتبار الوجود الخارجي من حيث إنّ وجوده في الخارج يتضمّن وجود العنوان ، ومن هنا يظهر فساد ما لو قرّر الاستصحاب بالمعنى المعروف ـ فرارا عن شبهة ارتفاع الموضوع المتقدّم إلى رفعها الإشارة ـ بأنّ : هذا الماء الموجود في الخارج المشار إليه بالإشارة الحسّيّة كان نجسا قبل زوال التغيّر فيحكم عليه بالنجاسة أيضا بعده استصحابا للحالة السابقة في موضوع

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٢٤٨.


نقطع ببقائه وهو هذا الماء ، فإنّ ذلك من أبده المفاسد.

ضرورة أنّ الحكم الشرعي الأصلي لم يكن متعلّقا بهذا الفرد من حيث أنّه هذا الفرد ، ولا باعتبار عنوان صادق عليه حين زوال التغيّر ، بل باعتبار عنوان التغيّر الّذي لم يكن باقيا فيه جزما ومعه لا يعقل الاستصحاب ، فعلى القول بمدخليّة الوصف في موضوع الحكم لا يمكن له البقاء بعد زوال ذلك الوصف.

وإن اريد بهما الذات الموصوفة والذات المجرّدة عن الوصف ، بمعنى تعلّق الحكم على الأوّل بالماء بوصف أنّه متغيّر على أن يكون وصف التغيّر جزء للموضوع : وتعلّقه على الثاني بالذات المعرّاة عن ذلك الوصف وبالماهيّة لا بشرط هذا الوصف ، ولا ينافي ورود اعتباره في الأدلّة معه لأنّه معتبر معه من باب المرآتيّة لا الموضوعيّة على معنى كونه علامة لمعرفة موضوع الحكم وهو الّذي يطرأه ذلك الوصف ، فإذا عرفناه بذلك الوصف نحكم عليه بهذا الحكم إلى أن يظهر له رافع سواء بقي فيه الوصف أم لا.

ففيه : فساد الابتناء لعدم انحصار وجه المسألة في الاحتمالين المذكورين ، بل هاهنا احتمال ثالث يجري معه الشبهة والإشكال ، وهو أنّ الوصف ليس بداخل في الموضوع ولا أنّه معتبر لمجرّد العلاميّة ، وإنّما هو علّة للحكم مؤثّر في حدوثه كما هو الحقّ الّذي لا محيص عنه.

وتوضيح ذلك ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ : أنّ موضوع النجاسة هنا هو الماء الملاقي للنجاسة المغيّرة ، على أن يكون كلّ من الملاقاة والتغيّر جزء للعلّة والمجموع منهما علّة تامّة لا جزء للموضوع ، فلا يكفي مجرّد الملاقاة ولا التغيّر بدون الملاقاة كما سبق تحقيقه في مسألة أنّ التغيّر الحاصل بمجاورة النجاسة لا يوجب نجاسة الماء ؛ والوجه في عدم كون التغيّر جزء للموضوع ورود اعتباره في أخبار الباب بعبارة القضيّة الشرطيّة المفيدة للسببيّة كما لا يخفى على المتتبّع ، وقد حصلت هاهنا شبهتان :

إحداهما : ما نشأ منها الخلاف في أنّ زوال التغيّر بنفسه هل يوجب زوال النجاسة عن الماء أو لا؟

واخراهما : ما نشأ منها الخلاف بين القائلين بعدم طهر الماء بمجرّد زوال التغيّر في أنّ ثبوت النجاسة في الحالة الثانية هل هو من مقتضى الخطاب الأوّل أو من مقتضى


الاستصحاب بالمعنى المعروف؟

ومرجع الشبهة الاولى إلى أنّ المستفاد من أدلّة التغيّر هل هو علّيّة حدوث التغيّر فقط أو علّيّة حدوثه وبقائه معا ، كما أنّ مرجع الشبهة الثانية إلى أنّ الأدلّة الدالّة على علّيّة حدوث التغيّر فقط هل هي بالقياس إلى ما بعد التغيّر دالّة على ثبوت الحكم أيضا إلى أن يقوم له رافع يقيني فيكون المقام من مجاري استصحاب حكم الإطلاق المتّفق على حجيّته ، أو ساكتة عنه نفيا وإثباتا ، فيكون المقام من مجاري الاستصحاب بالمعنى المعروف المختلف في حجّيّته؟

ونحن قد تخلّصنا عن الشبهة الاولى بدعوى ظهور الأخبار الواردة في الباب في علّيّة الحدوث فقط من غير تعرّض فيها لجهة البقاء ، وإن شئت لاحظ ما في النبوي من قوله : « إلّا ما غيّر لونه » (١) أي أحدث فيه تغيّر اللون ، وما في خبري دعائم الإسلام من قوله : « ما لم يتغيّر أوصافه » (٢) كما في أوّلهما ، أي ما لم يحدث فيه تغيّر الأوصاف.

وقوله : « فإن كان قد تغيّر لذلك طعمه » (٣) كما في ثانيهما ، أي حدث فيه تغيّر الطعم.

وما في المرويّ عن الفقه الرضوي من قوله : « إلّا أن يكون فيه الجيف فتغيّر لونه » (٤) أي حدث به تغيّر اللون.

وما في المرسل المروي في المختلف من قوله : « إذا غلبت رائحته على طعم الماء أو لونه فأرقه ، وإن لم يغلب عليه فاشرب منه » (٥) أي حدث فيه غلبة الرائحة ولم يحدث الغلبة ، وما في خبر بصائر الدرجات من قوله : « إلّا أن يغلب الماء الريح فينتن » (٦) أي يحدث غلبة الريح على الماء فيحدث من جهة النتن في الماء.

وعلى هذا القياس ما في خبر العلاء من قوله : « لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول » (٧) ، وخبر أبي خالد القمّاط من قوله : « إن كان الماء قد تغيّر ريحه » (٨) ، وخبر

__________________

(١) رواه في المعتبر مرسلا عن الجمهور ، لاحظ المعتبر : ٨ ـ الوسائل ١ : ١٣٥ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٩.

(٢ و ٣) دعائم الإسلام ١ : ١١١ و ١١٢.

(٤) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩١.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ١٧٨.

(٦) بصائر الدرجات : ٢٣٨ / ١٣ ـ الوسائل ١ : ١٦١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(٧ و ٨) الوسائل ١ : ١٣٩ و ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٧ و ٤.


حريز من قوله : « فإذا تغيّر الماء أو تغيّر الطعم » (١) ، وخبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع من قوله : « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه » (٢) ، وخبر زرارة من قوله : « إلّا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء » (٣) ، وخبر عبد الله بن سنان من قوله : « إذا كان الماء قاهرا ولم يوجد فيه الريح فتوضّأ » (٤) ، وخبر معاوية بن عمّار من قوله : « لا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب » (٥) ، وخبر أبي بصير من قوله عليه‌السلام : « إن تغيّر [الماء] فلا تتوضّأ منه وإن لم تغيّره أبوالها فتوضّأ منه » (٦) ، والخبر الآخر لمحمّد بن إسماعيل من قوله : « لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر » (٧) ، وخبر محمّد بن القاسم من قوله : « ما لم يتغيّر » (٨) ، وهذه كما ترى كلّها ظاهرة في علّيّة الحدوث من غير دلالة فيها على إناطة بقاء النجاسة على بقاء التغيّر على وجه يكون مفادها نفي الحكم مع انتفاء التغيّر مطلقا.

نعم ، في جملة من أخبار الباب ما يوهم ذلك كما في ذيل خبر البصائر المتقدّم ذكره من قوله عليه‌السلام : « وجئت تسأل عن الماء الراكد فإن لم تكن فيه تغيّر وريح غالبة فتوضّأ منه » (٩) ، وخبر سماعة من قوله عليه‌السلام : « إن كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضّأ ولا يشرب » (١٠) ، والمرسل الآخر في مختلف العلّامة من قوله : « إن كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضّأ منه ، وإن كان الماء غالبا على النجاسة فتوضّأ منه واغتسل » (١١) ، بملاحظة أنّ لفظة « كان » من أفعال الناقصة لتقرير الصفة ، فتدلّ على أنّ العبرة في النجاسة وعدمها بثبوت التغيّر والغلبة وعدمهما.

ولا ينبغي لأحد توهّم عدم الفرق بين التركيبين في المعنى لأنّه من ضروريّات الوجدان ، كما يفصح عنه ملاحظة قولنا : « إن قام زيد فأكرمه » ، وقولنا : « إن كان زيد

__________________

(١ ـ ٣ و ١٠) الوسائل ١ : ١٣٧ ـ ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ١٢ و ٨ و ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٤١ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ١١ مع اختلاف يسير في العبارة.

(٥ و ٨) الوسائل ١ : ١٧٣ و ١٧١ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ و ٤.

(٦) الوسائل ١ : ١٣٨ ب ٣ من أبواب الماء المطلق ح ٣.

(٧) الوسائل ١ : ١٧٠ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ وفيه : « إلّا أن يتغيّر به ».

(٩) بصائر الدرجات : ٢٣٨ / ١٣ ـ الوسائل ١ : ١٦١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١١.

(١١) مختلف الشيعة ١ : ١٧٧.


قائما فأكرمه » ؛ لظهور الثاني في اعتبار فعليّة التلبّس حدوثا وبقاء بخلاف الأوّل. ولكن يمكن رفعه بأنّ الثبوت في جانب المنطوق وإن كان أعمّ من التلبّس المسبوق بالوجود وهو العدم الابتدائي ، وأمّا عدم التلبّس المسبوق بالوجود الّذي هو من قبيل محلّ البحث فخارج عن مدلول اللفظ منطوقا ومفهوما ، فلا دلالة في هذه الجملة من الأخبار أيضا على زوال النجاسة بمجرّد زوال التغيّر.

وأمّا الشبهة الثانية : فإنّما نتفصّى عنها بالتزام دخول محلّ البحث في مناطيق المتقدّم إليها الإشارة ، فتكون النجاسة في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره ثابتة بإطلاق الدليل إلّا في وجه ضعيف نشير إليه ، ضرورة أنّ الأخبار الدالّة على علّيّة حدوث التغيّر مطلقة بالقياس إلى حالتي بقاء التغيّر وزواله ، وكما أنّ قولك : « إن قام زيد فأكرمه » يدلّ في متفاهم العرف على وجوب الإكرام بمجرّد حدوث التلبّس بالقيام وبقاء ذلك الواجب على الذمّة إلى أن يحصل أداؤه في الخارج ولو بعد زوال التلبّس ، ولا ينافي ذلك مفهوم الشرطيّة وهو عدم وجوب الإكرام عند انتفاء التلبّس رأسا ، فكذلك أخبار الباب في دلالتها على علّيّة حدوث التغيّر للنجاسة ، فإنّها أيضا بإطلاقها تنفي شرطيّة البقاء وتدلّ على بقاء النجاسة إلى أن يحصل رافعها ولو بعد زوال التغيّر ، فمن أنكر ذلك فقد كابر وجدانه.

نعم ، يشكل الحال بالقياس إلى جملة من تلك الأخبار المتقدّم إليها الإشارة أيضا ، لما عرفت فيها من أنّ عدم التلبّس المسبوق بالتلبّس غير داخل فيها منطوقا ولا مفهوما ، وليس ذلك إلّا من جهة أنّه لا إطلاق فيها منطوقا بالقياس إلى حالتي بقاء التلبّس وزواله ، لكن قد عرفت أنّها باعتبار المفهوم ظاهرة في نفي النجاسة عند انتفاء التغيّر رأسا من غير تعرّض فيها مفهوما لحكم زوال التغيّر ، فإن تمّ ذلك الظهور سهل الذبّ عن هذا الإشكال ، ضرورة أنّ هذا الظهور لاختصاصه بانتفاء التغيّر رأسا ممّا يحرز به بالقياس إلى زوال التغيّر بعد حدوثه موضوع الاستصحاب بالمعنى المعروف ، ولمّا كان الاستصحاب بهذا المعنى ممّا لا يعارض الدليل فيكون إطلاق المنطوق في الأخبار الاخر واردا عليه رافعا لموضوعه.

وعليه يكون مدرك النجاسة هو الاستصحاب بالمعنى الثالث ممّا تقدّم وهو العمل بإطلاق النصّ ؛ وإلّا وقع التعارض بين مفهوم هذه الجملة من الأخبار ومنطوق الأخبار


الاخر على طريق تعارض العامّين من وجه ؛ حيث إنّ المنطوق بإطلاقه يقضي بنجاسة ما حدث فيه التغيّر سواء بقي على حاله أو لم يبق ، والمفهوم بإطلاقه يقضي بطهارة ما انتفى عنه التغيّر سواء حدث فيه أوّلا أو لم يحدث أصلا ، فلا بدّ حينئذ إمّا من الترجيح بتقديم العمل بالمنطوق أخذا بالكثرة وقوّة الدلالة ونحوها ، فيكون العمل أيضا بالاستصحاب بالمعنى الثالث ، أو القول بالتساقط ، فيندرج المقام حينئذ في موضوع الاستصحاب بالمعنى المعروف ؛ وعليه يتعيّن العمل بهذا المعنى من الاستصحاب.

فنتيجة الكلام : أنّ النظر في أخبار التغيّر يقضي بنجاسة المتغيّر الّذي زال تغيّره إمّا للاستصحاب بمعنى العمل بإطلاق النصّ كما في وجه قويّ ؛ أو للاستصحاب بالمعنى المعروف كما في وجه ضعيف.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه ينقدح أنّ جريان الاستصحاب بهذا المعنى لا يتوقّف على القول بعدم حجّيّة مفهوم الوصف.

فما يقال ـ في دفع مقالة من فسّر الاستصحاب هنا بالعمل بعموم الدليل ـ من : أنّ الظاهر من الأدلّة أنّ القضيّة دائمة عرفيّة ما دام الوصف ، يعني كلّ ماء متغيّر نجس ما دام متغيّرا فلا تفيد العموم المذكور ، فانحصر الدليل حينئذ في الاستصحاب الممنوع عنده ؛ وتقريره حينئذ : أنّ القضيّة المذكورة وإن كانت دائمة ما دام الوصف في صورة الإثبات إلّا أنّها لا تدلّ على نفي الحكم عند نفيه كما هو المحقّق في مفهوم الوصف ، فيبقى الحكم في ثاني الحال مشكوكا فيه فيتمسّك لثبوته بالاستصحاب حتّى يحصل الرافع اليقيني.

ففيه أوّلا : أنّ القضيّة بالعبارة المذكورة غير موجودة في شي‌ء من أخبار الباب ، وإنّما هي شي‌ء يجري في لسان الفقهاء انتزعوه عن الأخبار فلا يصلح ميزانا لحكم الشرع الّذي يختلف باختلاف مؤدّى العبارات الصادرة من الشارع ، والموجود في خطاباته هنا إنّما هو إعطاء الحكم بعبارة القضيّة الشرطيّة كما عرفت ، ومفهوم الشرط حجّة مضافا إلى ذكر المفهوم في كثير من الأخبار صريحا كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ ثبوت المفهوم هنا فيما له مفهوم لا ينافي جريان الاستصحاب بهذا المعنى ، لما عرفت من أنّ أقصى ما فيه الدلالة على نفي الحكم على تقدير انتفاء


حدوث التغيّر ، وأمّا انتفاء بقائه بعد الحدوث فالمفهوم أيضا ساكت عن حكمه إلّا في وجه ضعيف تقدّم الإشارة إليه.

والظاهر أنّ طهره بإلقاء كرّ عليه ، أو إجراء جار آخر إليه ، أو نزول الغيث عليه ، مع مراعاة سائر الشروط المتقدّمة ـ الّتي منها زوال التغيّر في الجميع ، والدفعة في الأوّل والممازجة فيه وفي الباقيين أيضا ـ ، ممّا لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه ، لأنّ مناط الطهر بهذه الامور على التفصيل المتقدّم واحد يجري في الجميع ، وليس في عدم تعرّض الفقهاء إلّا لبيان ما سيأتي من العنوان دلالة على خلاف ما ذكرناه لأنّ إثبات الشي‌ء لا ينفي ما عداه ، ووجه الاقتصار عليه التعرّض لذكر ما لا يجري في غير الجاري.

ومن هنا ترى جماعة من فحول الأصحاب أنّهم بالنسبة إلى العنوان الآتي فرّعوا على القول باشتراط الكرّيّة في عدم انفعال الجاري أنّ من لوازمه أن لا يطهّر ذلك الماء إلّا بمطهّر خارجي وإن كان عينا عظيما ما لم يكن الخارج من المنبع في كلّ نبع كرّا فما زاد.

وكيف كان فقد ذكروا أنّه « يطهّر بكثرة الماء الطاهر عليه ـ متدافعا ـ حتّى يزول التغيّر » كما في الشرائع (١) « أو إنّما يطهّر باكثار الماء المتدافع حتّى يزول التغيّر » كما في المنتهى (٢) ؛ « أو طهره بتدافعه حتّى يزول التغيّر » كما في الدروس (٣) ؛ والتصريح « بتدافع الماء من المادّة وتكاثره » محكيّ أيضا عن المبسوط (٤) والسرائر (٥) والوسيلة (٦) والمعتبر (٧) والتذكرة (٨) ، وكونه مع زوال التغيّر في الجملة مطهّرا ممّا لا خلاف فيه أيضا.

المسألة الثانية : في تطهير الجاري.

نعم ربّما يتوهّم الإشكال في أمرين :

أحدهما : طهره بمجرّد زوال التغيّر ، وقد صرّح غير واحد من أصحابنا المتأخّرين

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٩.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٤) المبسوط ١ : ٦.

(٥) السرائر ١ : ٦٢حيث قال:« والطريق إلى تطهيرها تقويتها بالمياه الجارية ، ودفعها حتّى يزول عنها التغيّر ».

(٦) الوسيلة (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢ : ٤١٤) حيث قال : « ويمكن تطهيره بإكثار الماء إلى حدّ يزيل حكم الاستيلاء ... ».

(٧) المعتبر : ٨.

(٨) تذكرة الفقهاء ١ : ١٦.


ـ تبعا لصاحب المدارك ـ (١) أنّ اعتبار التدافع حتّى يزول التغيّر إنّما هو على رأي من يعتبر الممازجة كالمحقّق وغيره ؛ وأمّا من يكتفي بالاتّصال فالظاهر على رأيه كفاية زوال التغيّر وإن لم يحصل التدافع.

وهو كما ترى فإنّ العلّامة في المنتهى (٢) ـ على ما عرفت ـ ممّن يكتفي بالاتّصال وهو مصرّح هنا بالتدافع كما عرفت.

وقال في موضع آخر قبل ذلك : « لو كان الحوض الصغير من الحمّام إذا نجس لم يطهّر بإجراء المادّة إليه ما لم يغلب عليه بحيث يستولي عليه ، لأنّ الصادق عليه‌السلام حكم بأنّه بمنزلة الجاري ، ولو نجس الجاري لم يطهّر إلّا باستيلاء الماء عليه بحيث يزيل انفعاله » (٣).

ومن هنا علم أنّه ليس لأحد أن يحمل ورود التدافع في كلامه وكلام غيره ممّن تقدّم على إرادة كونه أسهل أسباب زوال التغيّر وأغلبها في الجاري ؛ على معنى أنّ ذكره ليس من جهة أنّه معتبر في التطهير ؛ بل من جهة أنّه مقدّمة لإحراز زوال التغيّر الّذي هو مانع عن الطهر ، بل الظاهر أنّه لا خلاف في اعتبار التدافع إلّا ما يوهمه عبارة اللمعة (٤) كما عن الجعفريّة أيضا من : « أنّه يطهّر بزوال التغيّر » (٥).

ويمكن الذبّ عنه : بدعوى ابتناء الاكتفاء بمجرّد زوال التغيّر في مثل هذه العبارة على فرض كون اعتبار التدافع مفروغا عنه وممّا لا بدّ منه ، والسرّ في عدم التصريح به ـ مع أنّ الطهر بناء على اشتراطه بالتدافع لا يتأتّى إلّا بعد إحراز مقتضيه وفقد مانعه ـ أنّ العمدة في المقام المحتاج إلى التنبيه عليه والتصريح به إنّما هو اعتبار زوال التغيّر الّذي هو مانع إحرازا لفقد المانع ، وأمّا المقتضي فهو دائم الوجود ، إذ الجاري لا يكون إلّا بتدافع أجزائه من المادّة بعضها بعضا كما لا يخفى ، فكلّما يحرز زوال التغيّر فالتدافع من المادّة موجود معه مقارن له.

ومن هنا ظهر : أنّ التعرّض لهذا البحث ـ كما في كلام جمع كثير من متأخّري المتأخّرين ـ ليس فيه كثير فائدة ؛ وعلى فرض جواز الانفكاك بينهما فليس في عدم اكتفاء العلّامة ونحوه بالاتّصال بالمادّة هنا منافاة لاكتفائه بالاتّصال في الغديرين

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٣٣.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٣٣.

(٤) اللمعة الدمشقيّة : ١٥.

(٥) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٣).


المتواصلين ، لوضوح الفرق بين المقامين بصيرورة الماءين في الغديرين عنده ماء واحدا بالاتّصال في نظر العرف دون ما يتّصل من الجاري بالمادّة ، لأنّها ما لم يبرز منها شي‌ء في الخارج لا تعدّ في نظر العرف من الماء المتّحد مع ما برز في الخارج ، والحاصل : أنّ الوحدة الّتي هي مناط التطهير في المياه الحاصلة في نظره بمجرّد الاتّصال غير محرزة هنا ، ومن هنا ظهر بطلان توهّم التلازم بين الاكتفاء بالاتّصال وعدم اشتراط التدافع رأسا.

وأمّا ما قيل في وجه التفرقة بين المسألتين : من أنّ الاتّصال الّذي يكتفى به في التطهير هو الحاصل بطريق العلوّ أو المساواة وليس بمتحقّق هنا ، لأنّ المادّة باعتبار خروجها من الأرض لا تكون إلّا أسفل منه.

ففيه : مع أنّه لا يتمّ إلّا في بعض الصور ، بل الغالب في موادّ المياه الجارية ارتفاعها بالقياس إلى ما يجري منها على الأرض ، أنّه لا يلائم ما عرفت عن العلّامة القائل بكفاية الاتّصال ، وغيره من التصريح في مسألة تطهير القليل بما يقضي بعدم الفرق بين الأحوال الثلاث ، فراجع وتبصّر.

وثانيهما : اعتبار الكرّيّة وعدمه في المطهّر هنا ، فإنّ إطلاق أكثر العبائر يقضي بعدم اعتبارها ، وهو صريح كلّ من وقفنا على كلامه من متأخّري المتأخّرين ، بل هو لازم ما يراه المعظم من عدم انفعال قليل الجاري بمجرّد الملاقاة ، وليس في تعبير المحقّق في الشرائع (١) بـ « كثرة الماء الطاهر » ـ على ما تقدّم ـ منافاة لذلك كما سبق إلى بعض الأوهام ، إذ ليس المراد بالكثرة هنا ما يقابل القلّة بالمعنى المصطلح عليه ، بل المراد بها كثرة التدافع ، فهي في المعنى قيد للتدافع وإن قدّمت عليه لفظا ، فهذا التعبير نظير تعبيرهم في تطهير الكثير المتغيّر بإلقاء كرّ فما زاد أو فصاعدا عليه حتّى يزول التغيّر ، فكما أنّ الزيادة هنا أمر زائد على الكرّيّة معتبر معها حيث يتوقّف عليها زوال التغيّر لا مطلقا ، فكذلك الكثرة في المقام أمر زائد على أصل التدافع ، فاعتبارها إنّما هو حيث يتوقّف عليها زوال التغيّر ، وإلّا فالمطهّر هو خروج الماء الجديد من المادّة ولو في آن واحد بشرط تحقّق زوال التغيّر في هذا الآن مع مراعاة شرط الممازجة أيضا حسبما تقدّم.

نعم ، ربّما يستشكل في ذلك بالنظر إلى مذهب العلّامة لقوله في عدم انفعال الجاري

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٩.


باشتراط الكرّيّة (١) ، ومن هنا نشأ توهّم المدافعة بين مذهبه هذا واحتجاجه في المنتهى ـ على ما تقدّم ـ عنه من القضيّة بأنّ : « الحكم تابع للوصف فيزول بزواله ، ولأنّ الطارئ لا يقبل النجاسة لجريانه والمتغيّر مستهلك » (٢) ، وهو في محلّه ظاهرا وإن نقل عن كاشف اللثام ما يدفعه في زعمه من « أنّ ذلك مبنيّ على اعتبار الدفعة في إلقاء الكرّ المطهّر ، وقد عرفت أنّ معناها الاتّصال وهو متحقّق في النابع ، وأمّا منبع الأنهار الكبار الّذي ينبع الكرّ أو أزيد منه دفعة فلا إشكال فيه.

نعم ينبغي التربّص في العيون [الصغار] وفيما لا ينبع الكرّ فصاعدا [متّصلا] ، إذ ربّما ينقطع في البين فينكشف عدم اتّصال الكرّ » (٣) إلى آخره ، فإنّ ذلك ـ مع ما فيه من الحزازات الّتي يظهر بعد التأمّل ـ توجيه لما ذكر بما لا يرضى به صاحبه ، كيف وقد عرفت عن العلّامة التصريح بما يقضي بعدم كفاية مجرّد الاتّصال هنا.

وعلى أيّ حال كان فدليل طهر الماء بما عرفت من التدافع المزيل للتغيّر المحصّل للممازجة هو ما تقدّم من الملازمة المجمع عليها.

وقد يستدلّ عليه بمرسلة الكاهلي : « ماء الحمّام كماء النهر يطهّر بعضه بعضا » (٤) وقد سمعت منع ذلك غير مرّة ، وبصحيحة محمّد بن بزيع « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا ما غيّر طعمه أو ريحه ، فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب الطعم ، لأنّ له مادّة » (٥) بناء على حجّيّة العلّة المنصوصة القاضية هنا بتعدّي الحكم إلى كلّ ذي مادّة ، وإنّما يستقيم ذلك لو لم يكن العلّة راجعة إلى زوال التغيّر المقصود بها بيان الملازمة بينه وبين النزح وقد تقدّم منعه.

المرحلة الثالثة : (٦) في تطهير البئر وهو على المختار من عدم انفعاله بمجرّد الملاقاة ممّا لا يحتاج إليه إلّا في صورة التغيّر ، فطهرها حينئذ بنزحها إلى أن يزول

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٨ حيث قال : « لا فرق بين الأنهار الكبار والصغار ، نعم ، الأقرب اشتراط الكرّيّة ، لانفعال الناقص عنه مطلق ... ».

(٢) منتهى المطلب ١ : ٦٤.

(٣) كشف اللثام ١ : ٣١٤.

(٤) والصواب ، « رواية ابن أبي يعفور » المرويّة في الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٢ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧.

(٦) تقدّمت المرحلة الثانية في ص ٥٩٨.


التغيّر بتجدّد الماء من المادّة ، فيعتبر فيه النزح ثمّ تجدّد الماء ثمّ زوال التغيّر ، فلا يكفي الأوّل بدون الأخيرين ، ولا الأوسط بدون الطرفين ، ولا الأخير بدون الأوّلين ، خلافا لما حكي من القول بكفاية زوال التغيّر بالنزح وإن لم يتجدّد الماء تعويلا على إطلاق قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن بزيع « فينزح حتّى يذهب اللون ويطيب الطعم » (١) ، والمحكيّ الآخر من القول بعدم اعتبار النزح وكفاية زوال التغيّر لاتّصاله بماء المادّة ، بناء على أنّ علّة النزح في الصحيحة زوال تغيّره فهو المقصود دونه ، وذكره في الصحيحة لكونه مقدّمة له في الغالب.

لنا : الصحيحة المذكورة المذيّلة بقوله : « لأنّ له مادّة » (٢) بناء على رجوعه علّة للملازمة بين النزح وزوال التغيّر كما هو الظاهر ، لا لأنّ المطهّر هو زوال التغيّر مستقلّا ، بل لأنّه الماء المتجدّد أو هو وزوال التغيّر معا.

ولا ينافيه عدم التصريح به في العبارة ، لأنّ تعليل زوال التغيّر بوجود المادّة نظرا إلى انتفاء الملازمة بينهما لا يظهر له أثر بدون التجدّد فهو مذكور بحكم تلك الملازمة ، ويمكن اعتبار كونه مذكورا بحكم ملازمة النزح لزوال التغيّر مع ملاحظة أنّ النزح بنفسه لا يؤثّر في الزوال وإن بلغ إلى إخراج الكلّ.

وقد يستند في ذلك إلى الغلبة نظرا إلى أنّ الغالب في زوال التغيّر بالنزح تحقّقه بالتجدّد لا مطلقا.

وبكلّ من هذه التقادير يندفع أوّل القولين المذكورين ومستنده ، وأمّا ثانيهما فضعفه مع مستنده يظهر بملاحظة ظهور كلمة « حتّى » في الانتهاء.

نعم ، ربّما يشكل إثبات الدلالة على مدخليّة تجدّد الماء في حصول الطهر وإن سلّمنا الدلالة على اعتبار وجوده ، لجواز كون اعتباره من جهة أنّه مقدّمة دائميّة أو غالبيّة لزوال التغيّر بالنزح.

ولكن يمكن دفعه : بأنّه كما لا يدلّ على المدخليّة على نحو يوجب الاطمئنان فكذلك لا يدلّ على المقدّميّة بهذا العنوان ، فيبقى احتمال المدخليّة مقتضيا لجريان الاستصحاب وفيه الكفاية حتّى بالقياس إلى اعتبار النزح وإن فرضنا عدم ورود النصّ

__________________

(١ و ٢) المصدر السابق.


به ؛ وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك في بحث زوال التغيّر بنفسه عن الكرّ المتغيّر.

وفي معنى الصحيحة المذكورة صحيحة أبي اسامة الشحّام الواردة في التهذيبين عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في الفأرة والسنّور والدجاجة والكلب والطير؟ قال : « فإذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء ، وإن تغيّر الماء فخذ منه حتّى يذهب الريح » (١) ، وموثّقة سماعة الواردة فيهما عن أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال : « إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء ـ إلى أن قال ـ : وإن أنتن حتّى توجد ريح النتن في الماء نزحت البئر حتّى يذهب النتن من الماء » (٢).

وصحيحة أبي بصير ـ المرويّة في الكافي ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمّا يقع في الآبار؟ ، فقال : « أمّا الفأرة وأشباهها فتنزع منها سبع دلاء إلّا أن يتغيّر الماء فينزح حتّى تطيب » (٣).

ورواية زرارة ـ المرويّة في التهذيبين وإن كانت غير نقيّة السند ـ قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر؟ قال : « الدم والخمر والميّت ولحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ، ينزح منه عشرون دلوا ، فإن غلبت الريح نزحت حتّى تطيب » (٤).

وأمّا ما يتوهّم من منافاة صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن أنتن غسل الثوب ، وأعاد الصلاة ، ونزحت البئر » (٥) لتلك الأخبار حتّى عن الشيخ الاستناد إليها على نزح الجميع.

ففيه : منع واضح ، ضرورة أنّ قوله : « نزحت البئر » قضيّة كما تحتمل تقييدها بالجميع كذا تحتمل التقييد بالبعض الّذي يزول معه التغيّر ، ولا ريب أنّ الأوّل ليس بأولى من الثاني ، فهي في الحقيقة قضيّة مجملة تبيّنها الأخبار المذكورة ومعه لا يعقل التعارض.

نعم ، في بعض الروايات كرواية منهال بن عمرو المرويّة في التهذيب ، وصحيحة

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٨٤ و ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ و ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ و ٢٣٦ / ٦٨٤ و ٦٨١ ـ الاستبصار ١ : ٣٧ و ٣٦ / ١٠٢ و ٩٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٨٥ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ١١ ـ الكافي ٣ : ٦ / ٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٧ ـ الاستبصار ١ : ٣٥ / ٩٦.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٠ ـ التهذيب ١ : ٢٣٢ / ٦٧٠ ـ الاستبصار ١ : ٣٠ / ٨٠.


أبي خديجة المرويّة في الاستبصار ما ينافيها.

ففي أولاهما : قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : العقرب تخرج من البئر ميتة؟ قال : « استق عشرة دلاء » قال : فقلت : فغيرها من الجيف؟ فقال : « الجيف كلّها سواء إلّا جيفة قد أجيفت [فإن كانت جيفة قد أجيفت] فاستق منها مائة دلو ، فإن غلب عليها الريح بعد مائة دلو فانزحها كلّها » (١).

وفي ثانيتهما : قال : سئل عن الفأرة تقع في البئر؟ قال : « إذا ماتت ولم تنتن فأربعين دلوا ، وإذا انتفخت فيه ونتنت نزح الماء كلّه » (٢).

لكن يدفعهما : مع عدم صلوح الاولى بجهالة المنهال لمعارضة ما سبق ، أنّهما محمولان على ما لو توقّف زوال التغيّر على نزح الجميع ، كما يومئ إليه ما في الرواية الاولى من قوله عليه‌السلام : « فإن غلب عليها الريح بعد مائة دلو » فإنّ التقييد ببعديّته بالقياس إلى المقدّر المذكور تقضي بأنّه في الفرض تغيّر لا يزول بنزح ما عدا الجميع ، مع إمكان حملهما على الاستحباب كيف وأنّا في الرواية الثانية نحمل نزح الأربعين المقدّر لغير صورة النتن بقرينة ما سبق على الاستحباب فكيف بنزح الجميع المقدّر لصورة النتن ، مع احتمال كون المراد بالبئر الواقع فيهما المصنع الّذي لا مادّة له ولا يزول تغيّره إذا توقّف على النزح إلّا بنزح الجميع.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فما تقدّم من الأخبار تترجّح عليهما لكثرتها وقوّة دلالتها لسلامتها عمّا يوهنها من الاحتمالات المذكورة الجارية فيهما دونها.

هذا كلّه على القول المختار من عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة.

وأمّا على القول بالانفعال فاختلفت أقوالهم وتشتّت آرائهم في تطهير المتغيّر ، وهي على ما حكاه غير واحد تبلغ ثمانية :

أحدها : ما عن أبي الصلاح (٣) ، والشهيد في البيان ، (٤) وظاهر المفيد (٥) من أنّه ينزح حتّى يزول التغيّر ، وإطلاق هذا القول كما ترى يشمل ما لو كان للنجاسة المغيّرة مقدّر

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٩٦ ب ٢٢ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣١ / ٦٦٧ ـ الاستبصار ١ : ٢٧ / ٧٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٨ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ الاستبصار ١ : ٤٠ / ١١١ ـ التهذيب ١ : ٢٣٩ / ٦٩٢.

(٣) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٤) البيان : ٩٩.

(٥) المقنعة : ٦٦.


وغيره ، قصر المقدّر عمّا يزول به التغيّر أو ساواه أو زاد عليه ؛ ومستنده إطلاق ما تقدّم من الأخبار المستدلّ بها على المختار.

ويشكل ذلك في صورة زوال التغيّر قبل استيفاء المقدّر فيما له مقدّر ، فإنّ الاكتفاء به مطلقا ترك للعمل بأخبار المقدّرات.

وكونه من باب تخصيص تلك الأخبار بغير صورة التغيّر ، يدفعه : المعارضة بإمكان ذلك في الأخبار المذكورة بحملها على غير ما له مقدّر نظرا إلى أنّ النسبة بين النوعين عموم من وجه ، ولا ريب أنّ مورد الاجتماع وهو التغيّر الحاصل بذي التقدير قابل لأن يخرج عن كلّ منهما ، فإخراجه عن أحدهما ليس بأولى من إخراجه عن الآخر.

وما عساه أن يتوهّم من أنّ تخصيص أخبار المقدّرات بإخراج مورد الاجتماع عنها مطلقا عمل بما في سوى صحيحة ابن بزيع من أخبار زوال التغيّر من الانتقال عن إيجاب نزح المقدّر إلى إيجاب نزح المزيل للتغيّر المفروض عروضه ، نظرا إلى قضاء ذلك بكون إيجاب نزح المقدّر مشروطا بعدم التغيّر ، وأمّا معه فالمتّبع إزالة التغيّر مطلقا ، ثمّ هذا التفصيل المقتضي للاشتراط المذكور ينهض قرينة على تقييد الأخبار المطلقة من المقدّرات الغير المشتملة على التفصيل المذكور.

يدفعه : منع ابتناء هذا التفصيل على إرادة الاشتراط ، وإنّما هو لبيان عدم كفاية نزح المقدّر الوارد تقديره في الأخبار المفصّلة في تحقّق موضوع زوال التغيّر ، ضرورة عدم زواله بالخمس والسبع بل العشرين أيضا في الغالب ، والاكتفاء بنزح ذلك مع بقاء التغيّر ممّا لا معنى له ، لا أنّه يفيد تقييد اعتبار نزح المقدّر بغير صورة التغيّر كما هو مفاد التوهّم المذكور.

مع أنّ هذا كلّه مبنيّ على تعارض هذين النوعين من الأخبار الّذي هو ضروري المنع في المقام ، لمكان كونهما مثبتين متوافقين في المدلول فيمكن العمل بهما معا في كلّ من مادّتي الافتراق والاجتماع ، كما في قولك : « أكرم العلماء » « وأكرم الشعراء » ، فلا سقوط في شي‌ء من العامّين في شي‌ء من الأحوال الثلاث الجارية في كلّ منهما من النقصان والمساواة والزيادة الّتي يشملها العموم الإطلاقي ، غاية الأمر أنّ ذلك يقضي بلزوم نزح الأكثر ممّا يحصل به زوال التغيّر واستيفاء المقدّر عملا بهما معا في جميع


الأحوال الثلاث المذكورة لمورد الاجتماع في كلّ من الجانبين ، ضرورة أنّ الأخذ بالأكثر في كلّ من الجانبين أخذ بأقلّ الجانب الآخر لاندراج الأقلّ تحت الأكثر ، بناء على أنّه في مفاد أخبار المقدّرات ليس مأخوذا بشرط عدم الزيادة ، فمورد في كلّ من العامّين باق على إطلاقه ، فلا داعي إلى التخصيص لا بالنظر إلى أحد العامّين ولا بالنظر إلى مورد اجتماعهما ، هذا.

لكنّ الإنصاف : أنّ دعوى تناول أخبار المقدّرات لصورة التغيّر على وجه يكون مفادها إعطاء حكم المقدّر وكفايته مع التغيّر وعدمه في غاية الإشكال ، بل هو عند التأمّل الصادق في حيّز المنع ، بل الحكم في المقدّرات يختصّ بغير حالة التغيّر.

أمّا أوّلا : فلأنّ كثيرا ممّا ورد له تقدير بالخصوص من النجاسات ليس صالحا لتغيير الماء كبول الفطيم وقطرة خمر أو بول وما أشبه ذلك ، فكيف يكون حكمه لما يعمّ حالة التغيّر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ من تتبّع آثار تلك الديار وأنصف ملاحظا لمساق ما ورد في حكم المقدّرات من الأخبار يجد جازما أنّ مفروض الأسئلة ومصبّ الأجوبة المنطبقة عليها إنّما هو حيثيّة وقوع النجاسات الّتي ورد فيها المقدّرات وملاقاتها البئر من غير نظر للسائل ولا المسئول إلى حيثيّة التغيّر ؛ بل يعلم أنّ مورد كلّ من السؤال والجواب إنّما هو مجرّد الوقوع والملاقاة لا هما أعمّ من التأثير في التغيّر وعدمه.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما عرفته في جملة من أخبار اعتبار إزالة التغيّر من استفصال المسئول بين حالة التغيّر وحالة عدمها وتخصيصه المقدّر بحالة العدم قرينة واضحة على أنّ الأجوبة الوارد في الأخبار المطلقة للمقدّرات ليست على إطلاقها بحيث تشمل في الدلالة على كفاية المقدّر كلتا حالتي التغيّر وغيرها ، بل إنّما هي مخصوصة بما عدا حالة التغيّر ، ولا ينافيه التنبيه مع ذلك على عدم كفاية مثل الخمس والسبع والعشرين من المقدّرات في تحقّق الزوال عند قيام مقتضي اعتباره.

وأمّا رابعا : فلأنّ التقدير في المقدّرات المطلقة لو كان مطلقا شاملا إطلاقه في الدلالة على كفاية المقدّر في التطهير حالة التغيّر أيضا لقضى به ولو حصل استيفاء المقدّر قبل زوال وهو ضروري البطلان ، لا لما يقال : من أنّه نظير ما إذا استوفى المقدّر أو بعضه قبل إخراج عين النجاسة لأنّ بقاء التغيّر دليل بقاء العين ، حتّى يتوجّه إليه المنع


على حدّ الضرورة ، بل لأنّ زوال المعلول مع بقاء العلّة غير معقول ، وقد ثبت عن الأدلّة أنّ التغيّر حدوثا وبقاء علّة للنجاسة ومعه كيف يمكن اعتبار العموم أو الإطلاق في المقدّرات المطلقة ، وقضيّة ذلك اختصاص اعتبارها بغير حالة التغيّر.

فإن قلت : غاية ما يلزم من ذلك تقييد المطلقات بما إذا لم يكن المقدّر أقلّ من مزيل التغيّر ، فالمتّجه حينئذ اعتبار أكثر الأمرين من المقدّر ومزيل التغيّر عملا بنوعي أخبار الباب.

قلت : أخبار المقدّرات بناء على إطلاقها قابلة لأن يتصرّف فيها بأحد الوجهين ، تخصيصها بغير حالة التغيّر مطلقا ، أو تقييدها بما إذا لم يكن المقدّر أقلّ من مزيل التغيّر ، غير أنّ هذا التصرّف الثاني ممّا يأباه كثير من المقدّرات الواردة لعدم كونها صالحة لإزالة التغيّر بالذات لمكان كونها أقلّ من مزيله كالثلاث والخمس والسبع والعشرة والعشرين غالبا وما أشبه ، فلا بدّ في مثله من تطرّق أوّل التصرّفين ، وقضيّة ذلك كون التطرّق إلى البواقي هو هذا التصرّف لمكان ورود أخبار الباب بأجمعها في متفاهم العرف على نمط واحد ، واعتبار أحد التصرّفين في جملة والتصرّف الآخر في جملة اخرى كما ترى بعيد عن العرف والوجدان ، ويزيد ذلك البعد في جملة مشتملة على مقدّرين في نوعين من النجاسات أحدهما لا يصلح مزيلا للتغيّر والآخر صالح له في الجملة ، ومن هذه الجملة رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن سقط في البئر دابّة صغيرة ، أو نزل فيها جنب ، نزح منها سبع دلاء ، وإن مات فيها ثور أو صبّ فيها خمر نزح الماء كلّه » (١).

ورواية عمرو بن سعيد قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة والسنّور إلى الشاة؟ فقال : « كلّ ذلك يقول سبع دلاء ، حتّى بلغت الحمار والجمل ، قال : كرّ من ماء » (٢) ، ونظير ذلك كثير فيما بين روايات الباب.

ولا ريب أنّ الالتزام بالتخصيص صدرا والتقييد ذيلا في أمثال ذلك في غاية الغرابة ، بل المتعيّن في متفاهم العرف اعتبار التخصيص مطلقا لعدم جريان التقييد فيهما معا.

وممّا يؤيّد عدم تناول أخبار المقدّرات لحالة التغيّر كون التقدير الوارد فيها بأعداد

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٧٩ و ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ و ٢٣٥ / ٦٩٥ و ٦٧٩ ـ الاستبصار ١ : ٣٤ / ٩٣ و ٩١.


معيّنة لا يمكن أن يناط بها زوال التغيّر في المتغيّر لعدم انضباطه وتعيّنه في عدد معيّن ، وبالجملة فالّذي يقتضيه التدبّر اختصاص روايات التقدير بغير حالة التغيّر ، فيبقى الروايات المتضمّنة لحالة التغيّر في الدلالة على اعتبار إزالته سليمة عمّا يزاحمها من غير فرق في ذلك بين كون النجاسة المغيّرة ممّا لم تقدّر وغيره ، أمّا الأوّل : فلما في جملة من تلك الأخبار من الاستفصال وأمّا الثاني : فلإطلاق صحيحة ابن بزيع.

فتحصّل من جميع ما قرّرناه : أنّ الأقوى ممّا بين أقوال المسألة ـ بناء على القول بنجاسة البئر بالملاقاة ـ إنّما هو القول المذكور ، وهو اعتبار زوال التغيّر في تطهير البئر مطلقا عند التغيّر.

وثانيها : ما عن الصدوقين (١) والمرتضى (٢) والشيخ (٣) وعليه المحقّق في الشرائع من أنّه ينزح الجميع ومع التعذّر فالتراوح ، وعدّ الشيخ من أهل هذا القول بناء على القول بالنجاسة بمجرّد الملاقاة ليس في محلّه ، لما مرّ من أنّه قائل بوجوب النزح تعبّدا لا للنجاسة.

نعم ، يصحّ ذلك ممّن لا يخصّص الاختلاف في تطهير المتغيّر بأهل القول بالنجاسة كالعلّامة في المختلف.

وكيف كان فمستند هذا القول بالنسبة إلى نزح الجميع ما تقدّم من الروايات القاضية به ، المعارضة لما مرّ من أخبار اعتبار نزح المزيل للتغيّر ، وقد يعلّل بكون النجاسة الحاصلة بالتغيّر غير منصوص المقدّر بناء على ظهور أخبار المقدّرات في الاختصاص بغير صورة التغيّر ، وبالنسبة إلى التراوح مع التعذّر موثّقة عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث طويل ـ قال : وسئل عن البئر وقع فيه كلب أو فأرة أو خنزير؟ [قال :] « تنزف كلّها ، ثمّ فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما إلى الليل ، ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين ، فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت » (٤).

وفي كلام الشيخ في التهذيبين ـ بعد قوله عليه‌السلام : « تنزف كلّها » ـ يعني : إذا تغيّر لونه أو طعمه بدلالة ما تقدّم من أربعين دلوا في هذه الأشياء ، وقد يعلّل بأنّه قائم مقام نزح

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٩ ، حكى عنه وعن والده في مختلف الشيعة ١ : ١٩.

(٢) الانتصار : ١١.

(٣) المبسوط : ١ : ١١.

(٤) الوسائل ١ : ١٩٦ ب ٢٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : / ٢٨٤ / ٨٣٢.


الجميع فيما يكون واجبا مع تعذّره.

وقد يستدلّ على الحكمين معا بأنّه : ماء محكوم بنجاسته فيجب إخراجه أجمع ، ومع التعذّر التراوح كما في غيره من النجاسات المقتضية لنزح الجميع.

والجواب عن الجميع : بأنّ ترك العمل بما تقدّم من الأخبار الدالّة على كفاية زوال التغيّر في التطهير مع كونها أظهر دلالة وأكثر عددا والمصير إلى هذا القول عملا بالوجوه المذكورة ـ مع تبيّن ضعف بعضها ـ خلاف الإنصاف ؛ وحمل الأخبار المشار إليها على الاستحباب أو على صورة توقّف الزوال طريق الجمع ، فوجوب نزح الجميع لإزالة التغيّر غير ثابت ليقوم مقامه التراوح عند التعذّر.

والاستدلال بالموثّقة لإيجاب التراوح ليس في محلّه ، لعدم اعتبار كونه في الرواية للتغيّر ، وتنزيلها إليه تأويل يلتزم به لمجرّد الجمع فلا يصلح مستندا لإيجاب الجميع ، ودعوى كون النجاسة الحاصلة بالتغيّر غير منصوص المقدّر مع ورود الأخبار المتقدّمة المعتبرة الواضحة الدلالة في غاية الغرابة ، والوجه الأخير القائم على الحكمين معا لا يرجع إلّا إلى المصادرة فلا يلتفت إليه ، ولو اريد الاستناد فيه إلى الاستصحاب فيردّه : ورود الدليل على كفاية زوال التغيّر كما عرفت.

وثالثها : ما عزى إلى الشيخ في النهاية (١) والمبسوط (٢) وعن كاشف الرموز : (٣) أنّه نقله عن المقنعة من أنّه ينزح الجميع ومع تعذّره فإلى زوال التغيّر ، ومستنده على ما قيل الجمع بين النوعين المتقدّمين من أخبار التغيّر ، بحمل ما دلّ منها على نزح الجميع على صورة الإمكان وما دلّ منها على اعتبار زوال التغيّر على صورة تعذّر نزح الجميع.

وفيه : أنّ حمل النوع الثاني على صورة تعذّر نزح الجميع ليس بأولى من حمل النوع الأوّل على صورة توقّف زوال التغيّر على نزح الجميع ، بل الأولى هو هذا لكونه في الحقيقة تصرّفا في خبر واحد وهو صحيحة أبي خديجة ، لما عرفت من أنّ الدالّ على نزح الجميع خبران أحدهما لقصور سنده ـ وهو رواية منهال ـ غير صالح لمعارضة ما سبق من المعتبرة بخلاف الأوّل فإنّه تصرّف في عدّة أخبار معتبرة.

__________________

(١) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٩.

(٢) المبسوط ١ : ١١.

(٣) كشف الرموز ١ : ٥٧ ـ ٥٦ وفيه : « قال الشيخان : مع تعذّر نزح الكلّ ، ينزح حتّى يطيب ».


ورابعها : ما عزى إلى ابن الزهرة (١) وتبعه الشهيد في الذكرى (٢) من أنّه ينزح الأكثر ممّا يحصل به زوال التغيّر واستيفاء المقدّر ، ومستنده الجمع بين أخبار التقدير وأخبار زوال التغيّر ، وكأنّ المراد بهذا الجمع ليس معناه المصطلح عليه المستلزم لطرح ظاهر أو ظاهرين بل العمل بالدليلين معا من غير طرح وإسقاط ، بناء على ما قدّمنا توجيهه من أنّ الأخذ بأكثر كلّ من الجانبين عمل بأقلّ الجانب الآخر من حيث أنّه مندرج فيه.

وعلى هذا فلا وقع لما يعترض عليه بما في الحدائق من : « أنّه لا منافاة بين ما دلّ على نزح مقدار مخصوص مع عدم التغيّر وما دلّ على نزح ما يزول به التغيّر وإن اتّحدت النجاسة ليحتاج إلى الجمع بين أخبارهما ، لتغاير السببين الموجب لتغاير الحكمين » (٣). فإنّ مراعاة اتّحاد السبب إنّما تعتبر في قاعدة الحمل لا الجمع بالمعنى المذكور.

ثمّ على فرض شمول أخبار التقدير لجميع أحوال زوال التغيّر حتّى ما لو كان المزيل أقلّ من المقدّر أو بالعكس فلازمه دلالة دليل الأقلّ على كفايته في التطهير ، ودلالة دليل الأكثر على خلاف ذلك وهو عين التعارض ، فكيف ينفي المنافاة عمّا بينهما ، ولو لا ما قدّمنا ذكره من منع تناول أخبار التقدير لحالة التغيّر كان ذلك القول جيّدا متعيّنا للقبول جدّا ، وإن كان قد أهمل قائلوه في حكم ما لم يكن للنجاسة المغيّرة تقدير ، فمن هنا كان القول الآتي أجود منه لتعرّضه لبيان حكم ما لا تقدير له من اعتبار إزالة التغيّر ، ويمكن إرجاع ما ذكر إلى هذا القول فلا يكون حينئذ قولا على حدة.

وخامسها : ما نسب إلى صاحب المعالم (٤) وظاهر جملة من تأخّر من أنّه ينزح أكثر الأمرين ممّا يزول معه التغيّر أو يستوفى به المقدّر إن كان للنجاسة المغيّرة تقدير ، وإلّا اكتفى بزوال التغيّر ؛ واستظهره الخوانساري (٥) ، وصاحب الحدائق (٦) ، وهذا هو الحقّ الذي لم يكن محيص عن اختياره لو لا ما تقدّم ، وعليه اتّضح ضعفه مع حجّته وهو الجمع بين النصوص الدالّة على الاكتفاء بزوال التغيّر والنصوص الموجبة لاستيفاء المقدّر في الحكم الأوّل ، وعموم النصوص الأوّلة في الحكم الثاني حيث لا معارض لها فيما لا مقدّر له.

__________________

(١) غنية النزوع : ٤٨.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٨٨.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٧٨ (حجريّة) ـ سقط هذا الفقرة من الحدائق ط مؤسّسة النشر الإسلامي لاحظ الحدائق الناضرة ١ : ٣٦٧ و ٣٦٨. ولذا أرجعناه إلى الطبعة الحجريّة.

(٤) فقه المعالم ١ : ٢٦٣.

(٥) مشارق الشموس : ٢٣٩.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٣٦٨.


وسادسها : ما عن ابن إدريس (١) ، والمحقّق الشيخ عليّ (٢) ، من نزح أكثر الأمرين من المقدّر ومزيل التغيّر إن كان للنجاسة المغيّرة مقدّر وإلّا فالجميع ، فإن تعذّر فالتراوح ، وعن ثاني الشهيدين في الروض (٣) أنّه اختاره.

وحجّته على الأوّل ما تقدّم من قضيّة [الجمع] (٤) وعلى الثاني والثالث توهّم كونه ممّا لا نصّ فيه ، ومذهبهم أنّ ما لا نصّ فيه يجب فيه نزح الجميع ، وبدليّة التراوح مع تعذّره ففي صورة التغيّر بتلك النجاسة بالطريق الأولى ، ويظهر الجواب عن الكلّ بملاحظة ما سبق.

وسابعها : ما صرّح به الشهيد في الدروس (٥) من وجوب نزح الجميع ، فإن غلب الماء اعتبر أكثر الأمرين من مزيل التغيّر والمقدّر ، واستظهره الخوانساري (٦) من المعتبر ، ثمّ احتمل في كلامه كون مراده في صورة تعذّر الجميع وجوب نزح ما يزيل المتغيّر ثمّ استيفاء المقدّر ، ثمّ قال : « وهذا القول أيضا غير صريح فيما إذا تعذّر نزح الجميع ولم يكن له مقدّر ، لكن الظاهر الاكتفاء بزوال التغيّر » (٧) انتهى.

وحجّته : ظاهرا الجمع بين ما دلّ على وجوب نزح الجميع مع ما دلّ على التقدير ، وما دلّ على اعتبار زوال التغيّر ، وبملاحظة ما سبق في تقريب القول الأوّل وتزييف الأقوال الاخر يظهر الجواب عنه فلاحظ وتأمّل.

وثامنها : ما نسبه الخوانساري (٨) إلى بعض الأصحاب ، وقوّاه بعض مشايخنا ـ دام ظلّه ـ (٩) من نزح ما يزيل التغيّر أوّلا ثمّ المقدّر بعده إن كان لتلك النجاسة مقدّر ، وإلّا فالجميع ، وإن تعذّر فالتراوح.

وحجّته : أنّ وقوع النجاسة الّتي لها مقدّر موجب لنزحه بمجرّده ، فإذا انضمّ إليه التغيّر الموجب لنزح ما يزول به التغيّر صارا سببين ، ولا منافاة بينهما فيعمل كلّ منهما عمله ، وتقديم مزيل التغيّر لكون الجمع بين الأمرين لا يتمّ إلّا به ، وأمّا ما لا مقدّر له

__________________

(١) السرائر ١ : ٧١.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٣٧.

(٣) روض الجنان : ١٤٣.

(٤) أضفناه لاستقامة العبارة.

(٥) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٦) مشارق الشموس : ٢٣٨ ، المعتبر : ١٨.

(٧ و ٨) مشارق الشموس : ٢٣٨.

(٩) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٦٦.


فلوجوب نزح الجميع فيما لا نصّ فيه وبدليّة التراوح مع تعذّره.

وجوابه : منع سببيّة مجرّد الوقوع إذا صادفه التغيّر ، لما عرفت من عدم تناول النصوص الدالّة على سببيّته إلّا حال التغيّر ، فانحصر السبب في التغيّر الّذي يكتفى فيه بزواله عملا بالنصوص الواردة فيه.

وتوهّم جريان الاستصحاب المقتضي لاستيفاء المقدّر ، يدفعه أوّلا : أنّه لو صحّ لقضى بوجوب نزح الجميع أو بدله.

وثانيا : أنّ اعتبار ما زاد على زوال التغيّر ممّا ينفيه وروده غاية في النصوص الواردة فيه ، فإنّ ورودها مورد التعليم يقضي باعتبار المفهوم فيها ، كيف ولو وجب نزح المقدّر بعد إزالة التغيّر لوجب التنبيه عليه والمفروض خلافه ، وبالجملة ظاهر نصوص زوال التغيّر ـ كما يظهر لمن تأمّل فيها جيّدا ـ أنّه لا يعتبر شي‌ء بعد زوال التغيّر ومعه لا معنى للاستصحاب.

وأمّا الجواب عن تقدير نزح الجميع أو بدله فيظهر ممّا مرّ ، هذا كلّه فيما لو توقّف زوال التغيّر على النزح ، وأمّا لو زال من قبل نفسه أو بعلاج فمقتضى ما حقّقناه في بحث تطهير الكرّ المتغيّر وغيره عدم طهرها به كما صرّح به غير واحد من أصحابنا ، بل في كلام جماعة نفي الإشكال عنه.

نعم ، الإشكال يقع فيما يطهّره حينئذ ، وينبغي النظر فيه تارة على القول المختار من عدم انفعال البئر بمجرّد الملاقاة ، واخرى على القول الآخر.

أمّا الجهة الاولى : فالظاهر أنّه لا فرق في طريق التطهير حينئذ بينها وبين سائر المياه المتنجّسة ، فيجري فيها جميع ما تقدّم من الطرق المطهّرة من إلقاء الكرّ ، وإجراء الجاري ، وإنزال الغيث عليها.

وضابطه اعتبار وجود الماء المعتصم فيها منضمّا إلى مائها مراعيا للشرائط المتقدّمة في تطهير القليل ، إحرازا لموضوع الملازمة المتقدّمة المجمع عليها ، ومن جملة ذلك ظاهرا تجدّد الماء من المادّة ، بناء على ما تقرّر عندنا من عدم انفعال مائها كائنا ما كان في غير صورة التغيّر ، فإذا تجدّد الماء من المادّة واتّحد مع الباقي صار موضوعا لتلك الملازمة ، ضرورة أنّ المتجدّد غير قابل للنجاسة حينئذ بمجرّد ملاقاة


الباقي المتنجّس ، فلو بقي ذلك على نجاسته بعد حصول الاتّحاد بينه وبين المعتصم لزم تبعّض الماء الواحد في الطهارة والنجاسة وهو منفي بحكم الملازمة المذكورة.

ومن هنا اتّجه أن يقال : بكفاية مسمّى النزح على نحو يستتبع تجدّد شي‌ء من ماء المادّة وامتزاجه مع الباقي لو توقّف تجدّده على النزح.

وممّا يمكن أن يستدلّ به على هذا المطلب نفس الروايات الدالّة على طهرها بالنزح المزيل لتغيّرها ، نظرا إلى أنّ الطهر لا يحصل إلّا بالدلو الأخير المستتبع للزوال ، لقيام المقتضي لبقاء النجاسة قبله حتّى بالقياس إلى ما تجدّد بالدلاء السابقة لو فرض تغيّره بممازجة المتغيّر ، ومن البيّن أنّ الطهر حينئذ لا يستند إلّا إلى الجزء الأخير المتجدّد بنزح ذلك الدلو ، وليس ذلك إلّا لما ذكرنا من كفاية المسمّى.

ولأجل ذلك أمكن الاستدلال بتلك الروايات على الملازمة المشار إليها كما أشرنا إليه أيضا في بعض ما سبق ، وعليه يمكن الاحتجاج بنفس تلك الروايات على المختار من عدم انفعال ماء البئر بمجرّد ملاقاة النجس أو المتنجّس ولو قليلا.

وما تقدّم في ذيل البحث عن تلك المسألة من المناقشة فيه باحتمال كون النزح مطهّرا تعبّديّا في البئر.

يدفعه : ورود النزح في الروايات مقيّدا بزوال التغيّر الّذي لا يتأتّى إلّا بمقارنة النزح تجدّد الماء ، فالماء المتجدّد مع عدم انفعاله بملاقاة المتنجّس له مدخل في التطهير من باب العلّيّة التامّة أو جزء العلّة ولو بحكم الاستصحاب.

وبملاحظة وجود الاستصحاب في مثل مسألتنا لا يبعد القول بكون الأحوط اعتبار التقدير هنا ، وهو اعتبار نزح المقدار الّذي كان يزول معه التغيّر على فرض ثبوته وعدم سبق زواله بنفسه أو بعلاج.

وأمّا إذا تعذّر العلم بذلك المقدار ـ كما يتّفق في بعض الصور ـ فالأحوط اعتبار نزح الجميع ، لأنّ العلم بنزح المقدار المذكور لا يحصل إلّا بذلك.

وأمّا الجهة الثانية : فالظاهر عدم الفرق بينها وبين الجهة الاولى بملاحظة ما تقدّم ترجيحه من أنّ تطهير البئر في صورة التغيّر ـ على القول بانفعالها في غير صورة التغيّر ـ إنّما هو بالنزح المزيل للتغيّر أيضا ، عملا بالنصوص المتقدّمة الّتي لا يعارضها نصوص


المقدّرات ، فيجري في تلك الجهة حينئذ جميع ما تقدّم في الجهة الاولى.

فالأقرب حينئذ كفاية نزح المسمّى المستتبع للتجدّد من المادّة ، والأحوط نزح المقدار الّذي كان يزول معه التغيّر إن أمكن العلم به وإلّا اعتبر نزح الجميع ، لكنّ المنقول في ذلك عن الأصحاب قولان :

أحدهما : ما عن العلّامة في التذكرة (١) من إطلاق القول بنزح الجميع ، وعن ولده فخر المحقّقين (٢) أنّه صحّحه ، وعن الذكرى (٣) أنّه قوّاه ، وعن بعض المتأخّرين (٤) أيضا موافقتهم على ذلك.

وثانيهما : ما عن ثاني الشهيدين (٥) ، وصاحب المعالم (٦) وظاهر البيان (٧) من الاكتفاء بمزيل التغيّر على تقديره.

وعن الأوّلين الاحتجاج بأنّه : ماء محكوم بنجاسته وقد تعذّر ضابط تطهّره ، فيتوقّف الحكم بالطهارة على نزح الجميع.

واجيب عنه : بمنع إطلاق دعوى التعذّر ، فإنّه يمكن في كثير من الصور أن يعلم المقدار الّذي يزول معه التغيّر تقريبا ، نعم لو فرض عدم العلم في بعض الصور توقّف الحكم بالطهارة حينئذ على نزح الجميع ، إذ لا سبيل إلى العلم بنزح القدر المطهّر إلّا به.

واحتجّ على القول الثاني بأنّه : إذا اكتفى بنزح ذلك المقدّر من الماء للتطهير مع وجود التغيّر فلئن يكتفى به مع ذهابه طريق الأولويّة ، والأقرب هو ما ذكرنا وإن كان الأحوط هو التفصيل كما عرفت ، هذا.

وهل يطهّر البئر حينئذ على هذا القول بسائر المطهّرات الجارية في سائر المياه أو لا تطهّر إلّا بالنزح؟

والظاهر أنّ فيه خلافا وإن لم يصرّح به هنا بالخصوص ، بناء على كونه من أفراد

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٣٠.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٢١ ، ٢٢.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٨٩.

(٤) حكاه عنهم في فقه المعالم ١ : ٢٦٩.

(٥) حكاه عنه في فقه المعالم ١ : ٢٦٩ بقوله : « ففي وجوب نزح الجميع حينئذ أو الاكتفاء بما يزول به التغيّر ـ لو كان ـ قولان ـ إلى أن قال ـ : « والأقرب الثاني وهو الظاهر من كلام الشهيد رحمه‌الله في البيان ، واختيار والدي رحمه‌الله ».

(٦) فقه المعالم ١ : ٢٦٩.

(٧) البيان : ٩٩.


العنوان الّذي حكي الخلاف فيه على القول بالنجاسة المتوقّف رفعها على نزح المقدّرات الواردة في الشريعة من قيام سائر الطرق المطهّرة للماء مقام نزح المقدّر هنا وعدمه.

فعن جماعة أنّهم صرّحوا بعدم انحصار طريق تطهير البئر حيث حكم بنجاسته في النزح ، بل هو طريق يختصّ به ، وهو يشارك غيره من المياه في الطهارة بوصول الجاري إليه أو وقوع الغيث عليه أو إلقاء الكرّ على ما مرّ تفصيله ، وهو ظاهر العلّامة في المنتهى قائلا : « لو سبق إليها نهر من الماء الجاري وصارت متّصلة فالأولى على التخريج الحكم بالطهارة ، لأنّ المتّصل بالجاري كأحد أجزائه فخرج عنه حكم البئر » (١) ، ويوافقه عبارته المنقولة عن القواعد قائلا : « لو اتّصلت بالنهر الجاري طهرت » (٢) ، بل قد يقال : كما أنّها تشارك غيرها في المطهّر فكذلك قد يشاركها غيرها في التطهير بالنزح كالغدير النابع على ما هو ظاهر صحيحة ابن بزيع الشاملة لكلّ ذي مادّة ، وأفتى به الشيخان أيضا.

وعن ظاهر المعتبر انحصار طريق تطهيرها في النزح حيث قال : « إذا أجرى إليها الماء المتّصل بالجاري لم تطهر ، لأنّ الحكم متعلّق بالنزح ولم يحصل » (٣) ، ووافقه عليه المحقّق الخوانساري محتجّا عليه : « بأنّ التطهير أمر شرعي لا بدّ له من دليل ولا دليل ظاهرا على ما عدا النزح فيستصحب حكم النجاسة » (٤).

وذهب الشهيد في الدروس بعد ما وافق الأوّلين في القول بالمشاركة في البيان ـ قائلا : « وينجّس ماء البئر بالتغيّر ويطهّر بمطهّر غيره وبالنزح » ـ (٥) ، « والأصحّ نجاسته بالملاقاة أيضا وطهره بما مرّ وينزح كذا وكذا » (٦) فذكر المقدّرات إلى تفصيل في المسألة ، قائلا : « ولو اتّصلت بالجاري طهرت ، وكذا بالكثير مع الامتزاج ، وأمّا لو تسنّما عليها من أعلى فالأولى عدم التطهير ، لعدم الاتّحاد في المسمّى » (٧).

ويوافقه عبارته في الذكرى قائلا ـ على ما حكي ـ : « وامتزاجه بالجاري مطهّر ، لأنّه أقوى من جريان النزح باعتبار دخول ما ينافي اسمه ، وكذا لو اتّصل بالكثير ، أمّا لو وردا من فوق عليها فالأقوى أنّه لا يكفي ، لعدم الاتّحاد في المسمّى » (٨).

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٩.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ١٨٩ ـ ١٨٨.

(٣) المعتبر : ١٩.

(٤) مشارق الشموس : ٢٤١. (٥) البيان : ٩٩.

(٦) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩ مع تغيير يسير في العبارة.

(٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠ ـ ١٢١.

(٨) ذكرى الشيعة ١ : ٨٩.


وله في بحث الواقف القليل من الدروس كلام ربّما يتوهّم كونه مدافعا للعبارة المذكورة ، حيث قال : « ولو اتّصل الواقف بالجاري اتّحدا مع مساواة سطحيهما ، أو كون الجاري أعلى لا العكس » (١).

ويمكن دفع توهّم المدافعة بإبداء الفرق بين المقامين ، حيث إنّ المعتبر في محلّ البحث ـ وهو مقام الرفع عن ماء البئر ـ صيرورة الماءين واحدا بأن يخرج المجموع عن مسمّى البئر ليزول عنه الحكم المخصوص بها وهو النزح ، ولا ريب أنّه لا يكفي فيه مجرّد الجريان من فوق ما دام مسمّى البئر باقيا ، والمقصود في المقام الآخر ـ وهو الدفع عن الواقف القليل ـ مجرّد الاتّصال بالمعتصم ، لقيام الدلالة على كفايته في اتّحادهما في الحكم ، كما هو مذهب من يقول في الكرّ الغير المتساوي السطوح بتقوّي الأسفل بالأعلى دون العكس ، فالمثبت هنا إنّما هو الاتّحاد في الحكم والمنفيّ في الأوّل هو الاتّحاد في الاسم ، ولذا صدر العبارة مقيّدة بالمسمّى.

وأنت إذا تأمّلت في عبارة العلّامة ـ المتقدّمة ـ (٢) لم تجدها مخالفة لتلك العبارة ، ويرجع إليهما ظاهرا كلام المعتبر (٣) في المنع عن الكفاية ، إذ لا يظنّ أنّه يقول به حتّى في صورة خروج العنوان عن مسمّى البئر كما لا يخفى.

فينبغي القطع حينئذ بعدم الخلاف في الكفاية في تلك الصورة ، ومنشأ احتجاج المعتبر على عدم الكفاية بما مرّ هو الحصر المستفاد من نصوص المنزوحات الّتي أصرحها دلالة عليه صحيحة ابن بزيع ـ المتقدّمة ـ (٤) في أدلّة القول بالنجاسة ، المشتملة على قوله عليه‌السلام : « ينزح دلاء » في جواب قول السائل : « ما الّذي يطهّرها »؟

واجيب عنه : بظهور ورودها مورد الغالب من تعذّر التطهير بغير النزح أو تعسّره ، ولي في المسألة تأمّل.

وقد يعترض ـ على القول بتطهيرها بإلقاء الكرّ عليها ـ : بأنّ اللازم من القول بذلك الالتزام أيضا بصيرورة ماء البئر معتصما لا ينفعل بما يقع فيه ، لأنّ دليل التطهير بإلقاء

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ١٨٨.

(٣) المعتبر : ١٩.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٥ ـ الاستبصار ١ : ٤٤ / ١٢٤.


الكرّ عدم قبول الكرّ للانفعال ، واتّحاد ماء البئر معه بالامتزاج أو مجرّد الاتّصال على الخلاف المتقدّم ، وقضيّة ذلك عدم قبوله النجاسة الخارجيّة بعد ذلك ، فيكفي في اعتصام البئر دائما إلقاء الكرّ عليه.

ودفع بإمكان أن يقال : أنّه إن استهلك به الكرّ في البئر بعد وقوعه دخل في حكم البئر فيشمله أدلّة البئر ويخرج عن مورد أدلّة الكرّ ، وحصول التطهّر به إنّما هو بأوّل وقوع المطهّر ، وامتزاج البئر مع شي‌ء منه معتصم به ولا استهلاك في ذلك الآن ، وإنّما المستهلك هو الواقع بعد انقضاء حالة الوقوع ، فلا منافاة بين كونه رافعا وكونه غير دافع ، بل وغير معتصم لاختلاف زمانيهما ، وإن استهلك البئر بالكرّ الملقى لقلّتها جدّا كان لها حكم الكرّ لعدم صدق البئر عليها حينئذ ، وإن شكّ رجع إلى أصالة عدم استهلاك البئر ، أو إلى أصالة عدم الانفعال على اختلاف الأنظار في ذلك.

ولا يخفى ما في التعويل على أوّل هذين الأصلين ، لكونه في الحقيقة ترجيحا للحادث بالأصل ومعه كان أصالة عدم الانفعال واستصحاب الطهارة السابقة سليمتين عن المعارض.

ثمّ يبقى الكلام على القول بالنجاسة في تطهير البئر عن النجاسة الغير المغيّرة بطريق النزح ، وله حسبما يستفاد من النصوص المختلفة المتعارضة بعد الجمع بينها مقدّرات اعتبرها الشارع على حسب اختلاف أنواع النجاسات ، وتفصيل البحث في ذلك يقع في طيّ مسائل :

المسألة الاولى : ما يوجب نزح الجميع ، وهو على ما ضبطه غير واحد من الأصحاب وأفتوا به امور ، وهو موت البعير ، والثور ، ووقوع الخمر وكلّ مسكر ، والفقّاع ، والمنيّ ، وأحد الدماء الثلاث ، وفي حكم موت البعير وأخيه وقوعهما ميّتين كما تنبّه عليه بعض مشايخنا (١) ، للقطع باستناد الحكم إلى نجاستهما لا تحقّق موتهما في البئر.

ولا ينافيه اشتمال بعض العناوين بالموت الظاهر فيما يتحقّق فيها ، بعد ملاحظة التنزيل على الغالب.

و « البعير » على ما نقل عن الجوهري (٢) وغيره من أئمّة اللغة كالنهاية الأثيريّة (٣)

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٤٠٨ ـ ٤٠٩.

(٢) الصحاح ٢ : ٥٩٣ مادّة « بعر ».

(٣) النهاية في غريب الحديث ١ : ١٦ مادّة « إبل ».


والمصباح المنير (١) ومختصر الصحاح : (٢) « أنّه من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس » ، ومقتضاه أنّه يشمل الذكر والانثى ، كما هو المصرّح به في كلام غير واحد من الأصحاب كمنتهى العلّامة (٣) وغيره ـ على ما حكي ـ كالحلّي (٤) ، والمقداد (٥) ، والمحقّق الأوّل (٦) ، والثاني الشيخ عليّ (٧) ، والفاضل الهندي (٨) ، وثاني الشهيدين (٩) ، وغيرهم ، بل عن الفاضل دعوى اتّفاق أهل اللغة عليه (١٠) ، لكن يستفاد منه الميل ـ في كلام محكيّ عنه ـ إلى أنّ ذلك إنّما هو بحسب أصل اللغة وإلّا ففي العرف شاع استعماله في الذكر خاصّة ، كما إليه يرجع ما حكاه عن الشافعي من القول في الوصيّة بأنّه لو قال : « أعطوه بعيرا » لم يكن لهم أن يعطوه ناقة ، فحمل « البعير » على الجمل ، لأنّ الوصيّة مبنيّة على عرف الناس لا على محتملات اللغة الّتي لا يعرفها إلّا الخواصّ (١١).

وعليه أمكن الجمع بين ما عرفت عن الأئمّة وما عن الغزالي في البسيط من : « أنّ المذهب أنّه لا تدخل فيه الناقة » (١٢) ، لكنّه لا يجدي نفعا في صحّة حمل الخطاب الشرعي على المطلق على فرض صدق دعوى الانصراف العرفي إلى الذكر ، لظهور عدم كون نظيره من الامور الحادثة بعد زمن الخطاب ، وعليه اتّجه القول بأولويّة إلحاق الناقة بما لا نصّ فيه.

ثمّ في شمول « البعير » كالإنسان للكبير والصغير كلام لهم تبعا لما عن أهل اللغة من الاختلاف في ذلك ، فعن النهاية الأثيريّة (١٣) كما عن ظاهر فقه اللغة (١٤) ـ للثعالبي ـ التعميم ، وعليه القطع في المنتهى (١٥) ، كما عن المعتبر (١٦) ، والذكرى (١٧) ، ووصايا التذكرة (١٨) ، والقواعد (١٩).

__________________

(١) المصباح المنير : مادّة « البعير » ، ص ٥٣.

(٢) مختار الصحاح : مادّة « ب ع ر ».

(٣) منتهى المطلب ١ : ٧٤.

(٤) السرائر ١ : ٧٠. (٥) التنقيح الرائع ١ : ٤٦.

(٦) المعتبر : ١٥. (٧) جامع المقاصد ١ : ١٣٨.

(٨ و ١٠ و ١١) كشف اللثام ١ : ٣٢١. (٩) روض الجنان : ١٤٧.

(١٢) حكى عنه في كشف اللثام بقوله : « وقال الغزالي في بسيطه : الخ » ١ : ٣٢٢.

(١٣) النهاية في غريب الحديث ؛ مادّة « إبل » ١ : ١٦.

(١٤) فقه اللغة ؛ مادّة « بعر » : ٨٦.

(١٥) منتهى المطلب ١ : ٧٤.

(١٦) المعتبر : ١٩. (١٧) ذكرى الشيعة ١ : ٩٩.

(١٨) تذكرة الفقهاء ٢ : ٤٨٥.

(١٩) قواعد الأحكام ١ : ١٨٨.


وعن القاموس : « الجمل » : الباذل أو الجذع (١) ، وعن العين (٢) : أنّه الباذل. وعن الصحاح (٣) والمحيط (٤) وتهذيب اللغة (٥) أنّه يقال : لما أجذع.

وأمّا « الثور » فهو الذكر من البقر كما في المجمع (٦) ، ولا ينبغي الريبة في اختصاصه بالأهلي ، فاحتمال تناوله للوحشي في غاية الغرابة ، وقد يحتمل لحوق الوحشي بالأهلي بملاحظة العطف في الرواية الآتية عليه بلفظة و « نحوه ».

وكون الحكم في البعير ما ذكر هو المصرّح به في المنتهى (٧) والشرائع (٨) والدروس (٩) وغيره (١٠) ، المنفيّ عنه الخلاف في كلام جماعة (١١) ، بل عن الغنية (١٢) والسرائر (١٣) الإجماع عليه ، وأمّا لحوق الثور به فقد جعله جماعة مشهورا وغيرهم وصفه بالأشهر.

والحجّة فيهما صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا سقط في البئر شي‌ء صغير فمات فيها فانزح منها دلاء ، وإن وقع فيها جنب فانزح منها سبع دلاء ، وإن مات فيها بعير أو صبّ فيها خمر فلينزح الماء كلّه » (١٤).

وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام [قال] : « إن سقط في البئر دابّة صغيرة ، أو نزل فيها جنب نزح منها سبع دلاء ، وإن مات فيها ثور ، أو صبّ فيها خمر ، نزح الماء كلّه » (١٥).

وأمّا ما في خبر عمرو بن سعيد بن هلال ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة والسنّور إلى الشاة؟ فقال : « كلّ ذلك نقول سبع دلاء » ، قال : حتّى بلغت الحمار والجمل؟ قال : « كرّ من ماء » (١٦) فغير صالح لمعارضة ما ذكره لقصوره سندا بما في منتهى العلّامة (١٧) من أنّ عمرو هذا فطحيّ ، والأصحاب لم يعملوا بهذه الرواية.

__________________

(١ و ٤) القاموس المحيط ١ : ٣٧٥ مادّة « بعر ».

(٢) العين ؛ مادّة بعر : ٢ : ١٣٢. (٣) الصحاح ؛ مادّة « بعر » ٢ : ٥٩٣.

(٥) تهذيب اللغة ٢ : ٣٧٧. (٦) مجمع البحرين : مادّة « ثور ».

(٧) منتهى المطلب ١ : ٦٨. (٨) شرائع الإسلام ١ : ١٣.

(٩) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩. (١٠ و ١٢) غنية النزوع : ٤٨.

(١١ و ١٣) السرائر ١ : ٧٠.

(١٤) الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٤٠ / ٦٩٤ ـ الاستبصار ١ : ٣٤ / ٩٢.

(١٥) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الاستبصار ١ : ٣٤ / ٩٣.

(١٦) الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٧٩ ـ الاستبصار ١ : ٣٤ / ٩١.

(١٧) منتهى المطلب ١ : ٦٩.


أو بما في حواشي الاستبصار (١) ـ للسيّد صاحب المدارك ـ من أنّ عمرو بن سعيد بن هلال لم ينصّ عليه علمائنا بمدح ولا قدح.

وتصدّى الشيخ في الاستبصار لدفع التنافي بتخصيصه التقدير المذكور بالحمار قائلا : « بأنّه لا يمتنع أن يكون عليه‌السلام أجاب بما يختصّ حكم الحمار ، وعوّل في حكم الجمل على ما سمع منه من وجوب نزح الماء كلّه » (٢) ، وهذا التأويل كما ترى لا يلائم ما في المدارك (٣) عن الشيخين (٤) ، وأتباعهما (٥) ، من أنّهم أوجبوا في البقرة كرّا ، بناء على أنّ تاءها للوحدة والمجرّد عنها اسم جنس يقع على الذكر والانثى كما في المجمع (٦) ، وكأنّه وجد عن الشيخ في كتابه الآخر ، وعلى أيّ نحو كان فهو ضعيف وإن أرادوا بالبقرة خصوص الانثى كما يظهر عن صاحب المدارك (٧) ، ومثله في الضعف ما عن ابن إدريس (٨) من أنّه اكتفى في الثور بكرّ.

وكما أنّ الخبرين المتقدّمين يدلّان على حكم ما تقدّم فكذلك يدلّان على حكم وقوع الخمر على ما استدلّ عليه بهما الجماعة ، مصرّحين بعدم الفرق بين قليله وكثيره ، وجعله الشيخ مؤيّدا لصحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله في البئر يبول فيها الصبيّ ، أو يصبّ فيها بول أو خمر؟ فقال : « ينزح » (٩).

وفيه نظر واعترض في تعميم الحكم بالقياس إلى القليل بمنع تناول الخبرين له ، لأنّ التعبير بالصبّ يفهم منه الكثرة ، ومن هنا ذهب ابن بابويه القمّي ـ على ما حكي

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) الاستبصار ١ : ٣٥ ذيل الحديث ٣ من ب ١٩ من أبواب المياه.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٦٦.

(٤) وهما المفيد في المقنعة : ٦٦ والشيخ في المبسوط ١ : ١١ ـ والنهاية ١ : ٢٠٨.

(٥) منهم ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢١ وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠ والسلّار في المراسم العلويّة : ٣٥.

(٦) مجمع البحرين : مادّة « بقر ».

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٦٦ حيث قال : « والأظهر إلحاق الثور والبقرة به » الخ.

(٨) السرائر ١ : ٧٢ حيث قال : « ما يوجب نزح كرّ ، وهو مرّت خمس من الحيوان : الخيل ، والبغال ، والحمير أهليّة كانت أو غير أهليّة ، والبقر وحشيّة كانت أو غير وحشيّة ، أو ما ماثلها في مقدار الجسم » ، ولا ريب في دخول الثور في ما ماثلها في مقدار الجسم.

(٩) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٦ ـ الاستبصار ١ : ٣٥ / ٩٤ ـ وزاد فيه : « ينزح الماء كلّه ».


عنه ـ (١) في المقنع (٢) إلى التفصيل بين القطرة فخصّها بعشرين دلوا ، محتجّا بما رواه زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بئر قطر فيها دم أو خمر؟ قال : « الدم والخمر والميّت ولحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ، ينزح منه عشرون دلوا ، وإن غلبت الريح نزحت حتّى تطيب » (٣).

وقد ورد لها التقدير بثلاثين أيضا كما في خبر كردويه ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن البئر يقع فيها قطرة دم ، أو نبيذ مسكر ، أو بول ، أو خمر؟ قال : « ينزح منها ثلاثون دلوا » (٤) وأجاب في المختلف عن الاعتراض : « بمنع دلالة الأنصاب على الكثير ، بل مفهومه الوقوع لذي الأجزاء على الاتّصال سواء قلّ أو كثر ، والخمر الوارد في الحديث نكرة لا يدلّ على قلّة ولا كثرة ».

وعن الخبرين : « بالمنع من صحّة سنديهما ، لأنّ في طريقيهما من لا يحضرني الآن حاله » (٥) وعلى فرض الصحّة فإعراض المعظم عنهما يخرجهما عن الاعتبار.

وأمّا سائر المسكرات فإلحاقها بالخمر محكيّ عن المفيد (٦) ، والشيخ (٧) ، والمرتضى ، وقد يدّعي فيه الشهرة العظيمة ، بل عن الغنية (٨) ، والسرائر (٩) الإجماع عليه ، وقيّدها جماعة بالمائع بالأصالة احترازا عن الجامد كالحشيشة للاتّفاق على عدم نجاسته ، كما في كلام المحقّق الخوانساري (١٠) لكنّهم لم يذكروا هنا في أصل الحكم حديثا ، بل اعترف بعدم الظفر عليه غير واحد منهم العلّامة في المنتهى (١١).

نعم المصرّح به في جملة كلماتهم كما في المنتهى (١٢) ، وغيره ، وعن المعتبر (١٣) ، وغيره أنّ ذلك من جهة إطلاق الخمر على كلّ مسكر في كثير من الأخبار ، كرواية عطاء

__________________

(١) والحاكي هو الفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ٣١٨.

(٢) المقنع : ٣٤ ، ولا يخفى أنّ الاحتجاج برواية زرارة يكون من الحاكي لا من المحكيّ عنه ، وإن كان استناد المحكيّ عنه إليه أيضا غير بعيد ولذا قال في مدارك الأحكام ١ : ٩٣ : « وربّما كان مستنده رواية زرارة ».

(٣) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٧ ـ الاستبصار ١ : ٣٥ / ٩٦.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٨ ـ الاستبصار ١ : ٣٥ / ٩٥ ، و ١ : ٤٥ / ١٢٥.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧.

(٦) والحاكي هو العلّامة في منتهى المطلب ١ : ٧٠ ؛ المقنعة : ٦٧.

(٧) النهاية ١ : ٢٠٧. (٨) غنية النزوع : ٤٨.

(٩) السرائر ١ : ٧٢. (١٠) مشارق الشموس : ٢٢٠.

(١١ و ١٢) منتهى المطلب ١ : ٧٠ و ٧١. (١٣) المعتبر : ١٣.


ابن يسار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ مسكر خمر » (١) ، ورواية عليّ بن يقطين عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام : « إنّ الله لم يحرّم الخمر لاسمها ، ولكن حرّمها لعاقبتها ، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر » (٢).

ويعترض عليه تارة : بأنّه لو بنى على هذا العموم لزم عدم الفرق بين الجامد والمائع ، ولو بنى على ظهور التنزيل في حرمة التناول خاصّة خرج ما عدا الخمر ، لاختصاص ما فيه من الأمر بنزح الكلّ بالخمر.

واخرى : بما في المدارك (٣) من أنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة ، والمجاز خير من الاشتراك.

ويمكن دفع الأوّل : باختيار الشقّ الأوّل مع القول بموجب العموم المذكور لو لا ما يوجب الخروج عنه بالقياس إلى الجامد من الدلالة على عدم نجاسته ، وقد عرفت نقل الاتّفاق عليه ، وكلّ عامّ قابل للتخصيص.

ودفع الثاني : بأنّ التمسّك بالإطلاق ليس لغرض إثبات الوضع والحقيقة حتّى يقابل بما ذكر ، مع ما فيه من عدم جريانه بالنسبة إلى احتمال الاشتراك المعنوي كما قرّر في محلّه ، وإنّما المقصود به إثبات الإطلاق على نحو الاستعارة والتشبيه ليحرز به ما هو مناط قاعدتهم المعروفة من أنّ التشبيه يفيد المشاركة في الأحكام مطلقة أو الظاهرة منها خاصّة ، نعم يشكل ذلك بمنع كون وجوب نزح الجميع من الأحكام الظاهرة ، والمحقّق عدم اقتضاء التشبيه إلّا المشاركة فيها خاصّة ، ومن هنا اتّجه أن يقال : إنّه لو قيل بنزح الجميع فيما لا نصّ فيه عمّ الحكم لغير الخمر أيضا وإلّا فللتأمّل فيه مجال واسع.

وممّا ذكر تبيّن الحال في الفقّاع الّذي حكى عن الشيخ (٤) إلحاقه بالخمر ، وعن أبي الصلاح (٥) أنّه تبعه ، وكذلك ابن إدريس (٦) وغيره (٧) ، بل عنه (٨) كابن زهرة (٩) دعوى الإجماع عليه ، فإنّ ذلك أيضا ممّا لا مستند له في الأخبار عدا ورود إطلاق الخمر عليه

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٢٦ ب ١٥ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٥ ـ الكافي ٦ : ٤٠٨ / ٣.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٤٢ ب ١٩ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ١ ـ الكافي ٦ : ٤١٢ / ٢.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٦٣.

(٤) حكى عنه في منتهى المطلب ١ : ٧١ ـ لاحظ المبسوط ١ : ١١.

(٥) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٦) السرائر ١ : ٧٢.

(٧) كالقاضي في المهذّب ١ : ٢١.

(٨) السرائر ١ : ٧٢. (٩) غنية النزوع : ٤٨.


في كثير منها ، كرواية هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الفقّاع؟ فقال :« لا تشربه فإنّه خمر مجهول » (١).

وعن الرضا عليه‌السلام : « وهو حرام وهو خمر » (٢) وعن أبي الحسن الأخير عليه‌السلام قال : « هي خمر استصغرها الناس » (٣) والظاهر أنّ هذا هو مستند الحكم كما في كلام جماعة ، واعترض عليه أيضا في المدارك (٤) بنحو ما مرّ ، وقد تقدّم الجواب عنه مع المناقشة في أصل الاستدلال من وجه آخر ، بل النظر في سياق الأخبار وملاحظة صدرها وذيلها يعطي عدم ورودها إلّا لإفادة حكم التحريم ، وإن بنينا في أصل مسألة التشبيه على التعميم ، فالإشكال في الفقّاع هو الإشكال المتقدّم.

وأمّا موضوع الفقّاع فعن القاموس : « الفقّاع كرمّان ، هذا الّذي يشرب ، وإنّما سمّي بذلك لما يرتفع في رأسه من الزبد » (٥).

وفي المجمع : « شي‌ء يشرب يتّخذ من ماء الشعير فقط وليس بمسكر ولكن ورد النهي عنه » (٦).

وعن المرتضى في الانتصار : « أنّ الفقّاع هو الشراب المتّخذ من الشعير » (٧).

وفي حاشية الشيخ عليّ للشرائع : « أنّ المراد به ما يتّخذ من الشعير ويسمّى بالغبيراء » (٨).

وعن الشهيد في الذكرى إلحاق العصير العنبي به بعد ما غلى واشتدّ (٩) ، واستبعده في الروضة (١٠) ، ومنعه في المدارك (١١) عملا بالأصل السالم عن المعارض ، وعن حاشية المدارك للمحقّق البهبهاني : « أنّ ما نقل في المسكر والفقّاع وارد في العصير أيضا ، بل

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٢٣ ح ٧ ، التهذيب ٩ : ١٢٥ / ٥٤٤ ، الاستبصار ٤ : ٩٦ / ٣٧٣ ـ الوسائل ٣ : ٤٦٩ ب ٣٨ من أبواب النجاسات ح ٥.

(٢) التهذيب ٩ : ١٢٤ / ٥٣٦ ، مع اختلاف في العبارة.

(٣) الوسائل ٢٥ : ٣٦٥ ب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ١ ، وفي المصدر : « خميرة ».

(٤) مدارك الأحكام ١ : ٦٣.

(٥) القاموس المحيط مادّة : « الفقع ».

(٦) مجمع البحرين : مادّة « فقع ».

(٧) الانتصار : ١٩٩.

(٨) حاشية شرائع الإسلام ـ للمحقّق الكركي (مخطوط) الورقة : ٤.

(٩) ذكرى الشيعة ١ : ٩٩.

(١٠) الروضة البهيّة ١ : ٣٥.

(١١) مدارك الأحكام ١ : ٦٥.


وأشدّ ، يظهر ذلك من الأخبار الواردة في علّة حرمة الخمر ، لاحظ الكافي وغيره » (١).

وقد يجعل من تلك الأخبار المشار إليها ما ورد من « أنّ الخمر من خمسة : العصير من الكرم ، والنقيع من الزبيب ، البتع من العسل ، والمزر من الشعير ، والنبيذ من التمر » (٢) ، وفيه تأمّل.

وأمّا « المنيّ » ففسّره جماعة بمنيّ ذي النفس السائلة إنسانا كان أو غيره ، وقيل باختصاصه بمنيّ الإنسان وأنّ غيره ملحق بما لا نصّ فيه.

واعترضه : بأنّ كلا النوعين كذلك (٣) ؛ والوجه في ذلك ما اعترف به غير واحد كما في المنتهى (٤) ، وعن المعتبر (٥) ، وشرح النهاية لأبي عليّ (٦) من : أنّهم لم يقفوا فيه على نصّ ، ولا ورد فيه مقدّر شرعي ، وإن كان ممّا قال به الشيخ وتبعه جماعة.

وعن المحقّق الشيخ عليّ : « أنّه اشتهر القول بذلك بين الأصحاب » (٧) ، بل عن الغنية (٨) والسرائر (٩) الإجماع عليه ، وفي المنتهى (١٠) ـ كما عن المعتبر ـ (١١) أنّه : « يمكن القول بأنّه ماء محكوم بنجاسته ، وتقدير بعض المنزوحات ترجيح من غير مرجّح فيجب الجميع ».

وعلى قياسه الكلام في الدماء الثلاثة ، فإنّ القول بوجوب نزح الجميع فيها منقول عن الشيخ (١٢) وتبعه السلّار (١٣) ، وابن البرّاج (١٤) ، وابن إدريس (١٥) ، وابن الزهرة (١٦) ، بل عنهما دعوى الإجماع عليه ، واعترف غير هؤلاء بعدم ورود حديث في ذلك ، ولذا عزي إلى المفيد (١٧) إطلاق القول في الدم بنزح عشرة لكثيره وخمسة لقليله ، ومثله ابن بابويه وأبوه (١٨) في عدم التفصيل وإن خالفاه في التقدير.

__________________

(١) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١١٨.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٢٨٠ ب ١ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٣ ـ الكافي ٦ : ٣٩٢ / ٣.

(٣) المعترض هو صاحب المدارك ، لاحظ مدارك الأحكام ١ : ٦٥.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٧٢.

(٥ و ١٠ و ١١) المعتبر : ١٣.

(٦) لا يوجد لدينا أصل الكتاب ، ولكنّه نقل عنه في ذكرى الشيعة ١ : ٩٣ وكشف اللثام ١ : ٣٢٠ وجامع المقاصد ١ : ١٣٨.

(٧) جامع المقاصد ١ : ١٣٨.

(٨ و ١٦) غنية النزوع : ٤٨.

(٩ و ١٥ ا) لسرائر ١ : ٧٢ و ٧٠. (١٢) المبسوط ١ : ١١.

(١٣) المراسم العلويّة : ٣٥. (١٤) المهذّب ١ : ٢١.

(١٧) المقنعة : ٦٧. (١٨) مختلف الشيعة ١ : ١٩٧.


وعن المعتبر أنّه كسائر الدماء قائلا ـ في وجه قول الشيخ بعد الاعتراف بعدم عثوره على نصّ في ذلك ـ : « ولعلّ الشيخ نظر إلى اختصاص دم الحيض بوجوب إزالة قليله وكثيره من الثوب ، فغلّظ حكمه في البئر وألحق به الدمين الآخرين ، لكن هذا التعليل ضعيف ، فالأصل أنّ حكمه حكم بقيّة الدماء عملا بالأحاديث المطلقة » (١) انتهى.

وتنظر فيما ادّعاه من إطلاق الأحاديث بعد ما استوجه التسوية بينه وبين بقيّة الدماء ، واستحسن ما ذكره من ضعف التعلّق بالتوجيه المذكور ، ولعلّ وجه النظر في دعوى الإطلاق ما قيل فيه من دعوى الانصراف ، المقتضي للحوق المقام بما لا نصّ فيه ، لكنّه عند التأمّل في حيّز المنع ، والظاهر أنّ الإطلاق ثابت.

وقد يحكى عن ابن البرّاج (٢) قول بوجوب نزح الجميع لعرق الجنب حراما ، وعرق الإبل الجلّالة ، والفيل ، وآخر عن أبي الصلاح (٣) بوجوبه لروث وبول ما لا يؤكل لحمه مطلقا ، كما نسبه العلّامة في المختلف (٤) أو في غير بول الصبي والرجل كما نسبه في الذكرى (٥) على ما حكي.

وأورد على الجميع بعدم ورود الدليل عليه.

وقد يوجّه : بأنّ هذا القائل لعلّه يقول بوجوب نزح الجميع فيما لا نصّ فيه ، فاعترض بأن لا وجه حينئذ لإفراد هذه الامور بالذكر ، وكأنّه لذا عدّ الشهيد في الدروس (٦) من جملة ما يجب فيه نزح الجميع نجاسة لا نصّ فيها بناء له على الأحوط ، ونحوه محكيّ عن الشيخ في المبسوط قائلا : « بأنّ الاحتياط يقتضي نزح جميع الماء » (٧) ويظهر منه الميل إلى اختيار أربعين الّذي هو أحد أقوال المسألة ، لقوله ـ عقيب الكلام المذكور بلا فصل ـ : « وإن قلنا : بجواز أربعين دلوا منها ، لقولهم عليهم‌السلام : « ينزح منها أربعون دلوا إن صارت مبخرة » (٨) ، وفي بعض النسخ المحكيّة عنه « وإن صارت منجرة » (٩).

__________________

(١) المعتبر : ١٤.

(٢) المهذب ١ : ٢١ ولم يذكر فيه الفيل ، بل قال : « وكلّ ما كان جسمه مقدار جسمه ـ أي البعير ـ أو أكثر ».

(٣) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ١٩٢.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٩٣.

(٦) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٧ و ٩) المبسوط ١ : ١٢.

(٨) البئر المبخرة : هي الّتي يشمّ منها الرائحة الكريهة كالجيفة ونحوها. (مجمع البحرين).


ولا نعقل معنى هذه الرواية ولا وجه الاستدلال بها ، مع ما فيها من ضعف السند بالإرسال ، ولذا أورد عليه : بعدم وجود ذلك في كتب الأخبار مع عدم معلوميّة حال سنده بل وقصور دلالته ، لمكان عدم كون متعلّق نزح أربعين مذكورا والدلالة موقوفة عليه.

ولا يخفى عليك أنّ هذا كاف في القدح وإن قلنا بما قيل في دفع الأوّلين من أنّ الشيخ ثقة ثبت فلا يضرّ إرساله ، لأنّه لا يرسل إلّا من الثقات ، والقول بأنّ الظاهر من احتجاجه دلالة صدره على محلّ النزاع في دفع الأخير ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، بعد ملاحظة أنّ الخطاء غير مأمون على المجتهد ولا عبرة باجتهاد الغير.

نعم ، هنا رواية اخرى ذكرها العلّامة في المختلف (١) عن كتابه المسمّى بمدارك الأحكام ، وهو ما رواه الحسين بن سعيد ، عن محمّد بن أبي عمير ، عن كردويه قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول ، والعذرة ، وأبوال الدوابّ وأرواثها ، وخرء الكلاب؟ قال : « ينزح منها ثلاثون دلوا وإن كانت مبخرة » (٢) ولكنّه كما ترى لا يرتبط بمحلّ البحث أوّلا ، وبالقول المذكور ثانيا ، وكيف كان فلهم في مسألة ما لا نصّ فيه أقوال ثلاث :

أحدها : القول بوجوب نزح الجميع ، المحكيّ عن ابن إدريس (٣) ، وبن زهرة (٤) ، وعن الغنية (٥) الإجماع عليه.

وثانيها : القول بوجوب نزح أربعين ، المنسوب إلى بعض الأصحاب (٦) ، الظاهر من الشيخ (٧) فيما عرفت ، وعزي إلى العلّامة أيضا في بعض كتبه (٨) ، وإلى الشهيد في شرح الإرشاد (٩).

وثالثها : القول بوجوب نزح ثلاثين ، المحكيّ عن السيّد جمال الدين بن طاوس في البشرى (١٠) ، وعن الشهيد (١١) نفي البأس عنه أيضا.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢١٦.

(٢) التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠٠.

(٣) السرائر ١ : ٧٢. (٤ و ٥) غنية النزوع : ٤٨.

(٦) الوسيلة : ٧٥. (٧) المبسوط ١ : ١٢.

(٨) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٧.

(٩) روض الجنان : ١٥٠.

(١٠) حكى عنه في كشف اللثام ١ : ٣٥٢ وأيضا حكاه في مدارك الأحكام عن شرح الإرشاد ١ : ١٠٠.

(١١) حكى عنه في روض الجنان : ١٥١ حيث قال : « وذهب بعض الأصحاب إلى نزح الجميع ونفى عنه الشهيد في الشرح البأس الخ ».


واحتجّ للقول الأوّل ـ كما في المنتهى ـ (١) : بأنّه ماء محكوم بنجاسته ، فلا بدّ من النزح والتخصيص ببعض المقادير ترجيح من غير مرجّح ، فوجب نزح الجميع.

ومرجعه إمّا إلى الاحتياط كما تقدّم عن الشيخ (٢) ، بدعوى : أنّ مع نزح الجميع يحصل القطع بجواز الاستعمال ومع نزح البعض لا يحصل اليقين بالجواز.

أو إلى الاستصحاب كما في كلام جماعة وهو الظاهر ، ويمكن كونه وجها آخر غيرهما كما هو الأظهر ، وعلى أيّ حال فهذا القول هو الأقرب بناء على القول بالنجاسة ، للاستصحاب السليم عن المعارض ، ولا مجال لأصل البراءة هنا لأنّه لا يفيد حكم الطهارة عند الشكّ في النجاسة ، وكذا الحال لو قلنا بوجوب النزح وجوبا شرطيّا لرجوع الشكّ حينئذ إلى ارتفاع المنع عن الاستعمال بغير نزح الجميع ، وواضح أنّ الأصل عدمه.

نعم ، على تقدير كون وجوبه في قول من لم يقل بالنجاسة تعبّديّا صرفا كان المتّجه الاكتفاء بالأقلّ وهو نزح ثلاثين ، لو قلنا بانحصار أقوال المسألة في الثلاثة انحصارا نافيا للقول الرابع ، كما هو الأصل المقرّر في كلّ أكثر وأقلّ يدور الأمر بينهما في التعبّديّات الصرفة.

نعم ، يشكل الحال هنا على القول المختار من استحباب النزح من حيث أنّه في جميع موارده يتبع النصّ ولو ضعيفا ، ولا نصّ هنا بالقياس إلى شي‌ء من أقوال المسألة ، ولو قيل باستحباب نزح الجميع احتياطا خروجا عن شبهة النجاسة أو الوجوب تعبّدا لم يكن بعيدا كما لا يخفى.

واحتجّ للقول بالأربعين : بما تقدّم عن الشيخ (٣) وقد عرفت عدم نهوضه دليلا عليه في سنده ولا دلالته ، قال في المدارك ـ بعد القدح فيما ذكر بنحو ما مرّ مفصّلا ـ : « نعم يمكن الاستدلال عليه بصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة في أدلّة الطهارة ، فإنّها صريحة في الاكتفاء في طهارة البئر مع تغيّره بنزح ما يزيل التغيّر خاصّة وعدم وجوب نزح الماء كلّه ، ومتى انتفى وجوب نزح الجميع مع التغيّر انتفى مع عدمه بطريق أولى ، فيثبت الأربعون لعدم الجزم بحصول الطهارة بالثلاثين » (٤) انتهى.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٤.

(٢ و ٣) المبسوط ١ : ١٢.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٠٠.


وهو كما ترى لا يفيد إلّا نفي وجوب نزح الجميع على تقدير تسليم أصل الدلالة ، وأمّا تعيين أربعين فلا ، إلّا إذا ثبت الإجماع على نفي القول الرابع الزائد على الأقوال المذكورة ، وهو بمحلّ من المنع.

واحتجّ للقول الثالث : برواية كردويه المتقدّمة (١) ، وردّ : بقصور السند أوّلا ، وقصور الدلالة ثانيا ، بوضوح اختصاصها بأشياء مخصوصة من دون أن يكون فيها دلالة على الحكم عموما ، فالحكم الوارد فيها في الحقيقة من جملة المقدّرات الخاصّة لا أنّه حاكم لما لا تقدير له عموما.

ثمّ في المسألة وجه آخر احتمله المحقّق في المعتبر قائلا ـ على ما حكي عنه ـ : « ويمكن أن يقال فيه وجه [ثالث] وهو : أنّ كلّما لم يقدّر له منزوح لا يجب فيه نزح ، عملا برواية معاوية المتضمّنة لقول أبي عبد الله عليه‌السلام « لا يغسل الثوب ولا يعاد الصلاة ممّا يقع في البئر إلّا أن ينتن » ، ورواية ابن بزيع « ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه » وهذا يدلّ بالعموم فيخرج منه ما دلّت عليه النصوص بمنطوقها أو فحواها ، ويبقى الباقي داخلا تحت هذا العموم » (٢) انتهى.

وهو كما ترى إنّما يتّجه على القول بوجوب النزح لمجرّد التعبّد كما اعترف به هو في ذيل تلك العبارة ، وإلّا فالمتّجه تعيّن نزح الجميع عملا بالأصل المتقدّم.

ثمّ أنّه عن الشيخين (٣) وأتباعهما (٤) فيما تعذّر استيعاب ماء البئر فيما يجب نزح الجميع الحكم بالاكتفاء بالتراوح ، وهو أن ينزح أربعة ، كلّ اثنين دفعة يوما إلى الليل ، فإنّ « التراوح » تفاعل من الراحة ، لأنّ كلّ اثنين يريحان صاحبيهما ، وكون ذلك كافيا ممّا جعله في شرح الدروس (٥) مشهورا بين الأصحاب ، بل في منتهى العلّامة : « ولم أعرف مخالفا من القائلين بالنجاسة » (٦) ، وعن المحقّق في المعتبر تعليل الحكم ـ مضافا إلى ما سيأتي ـ : « بأنّه إذا وجب نزح الماء كلّه وتعذّر فالتعطيل غير جائز ، والاقتصار على نزح

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠٠.

(٢) المعتبر : ١٩.

(٣) المفيد في المقنعة : ٦٧ ؛ والشيخ في المبسوط ١ : ١٠ ؛ والنهاية ١ : ٢٠٧.

(٤) منهم ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢١ ؛ وأبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠ ؛ والسّلار في المراسم العدّية : ٣٥.

(٥) مشارق الشموس : ٢٤٠.

(٦) منتهى المطلب ١ : ٧٣.


البعض تحكّم ، والنزح يوما يتحقّق معه زوال ما كان في البئر فيكون العمل به لازما » (١).

وضعفه واضح بعد ملاحظة كون بعض مقدّماته ممنوعة وبعضها الآخر مصادرة ، والعمدة في المستند موثّقة عمّار المرويّة في التهذيب عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث طويل ـ قال : وسئل عن بئر يقع فيها كلب ، أو فأرة ، أو خنزير؟ قال : « ينزف كلّها ، فإن غلب عليه الماء فلينزف يوما إلى الليل ، ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون اثنين اثنين ، فينزفون يوما إلى الليل وقد طهرت » (٢).

وفي معناه ما روي عن فقه الرضا عليه‌السلام من قوله عليه‌السلام : « فإنّ تغيّر الماء وجب أن ينزح الماء كلّه ، فإن كان كثيرا وصعب نزحه فالواجب عليه أن يكتري عليه أربعة رجال يستقون منها على التراوح من الغدوة إلى الليل » (٣).

واعترض على الأوّل تارة : بقصور سنده من حيث إنّ جماعة من رجاله فطحيّة فلا تعويل عليه.

فاجيب عنه : بأنّ جماعة من رواته وإن كانت فطحيّة غير أنّها ثقات ، فيعمل بما رووه مع سلامته عن المعارض واعتضاده بعمل الأصحاب ؛ وما عن الشيخ في العدّة (٤) من دعوى إجماع الإماميّة على العمل برواية عمّار مع تأيّده بالرضوي المذكور ، واخرى : بتهافت متنه من حيث تضمّنه إيجاب نزح الجميع لما لا قائل به فيه.

فدفع : بأنّ نزح الجميع هنا إمّا محمول على الاستحباب ، أو على صورة التغيّر كما صرّح به الشيخ في التهذيب ؛ (٥) وأيّا ما كان فليس ممّا لا قائل به ، ويثبت به بدليّة التراوح عن نزح الجميع وهو المطلوب.

وقد يستند ـ على تقدير الحمل على التغيّر ـ للتعدّي إلى غيره إلى الأولويّة ، فإنّه إذا أجزأ التراوح في صورة التغيّر عن نزح الجميع عند العجز عنه ، أجزأ عنه في المقام بطريق أولى.

__________________

(١) المعتبر : ١٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٩٦ ب ٢٣ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢ ـ ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٤.

(٤) عدّة الاصول ١ : ١٥٠ في ب ذكر القرائن الّتي تدلّ على صحّة أخبار الآحاد ـ وأيضا حكاه عنه المحقّق في المعتبر : ١٤.

(٥) التهذيب ١ : ٢٤٢.


وفيه : منع استفادة البدليّة المطلقة على تقدير الحمل على الاستحباب كما هو الظاهر ، فإنّ بدليّة مستحبّ عن مستحبّ لا يقضي ببدليّة مثل ذلك المستحبّ عن واجب ، سيّما إذا اعتبرناه للتطهير لا لمجرّد التعبّد ، وحمله على التعبّد تأويل لا شاهد له يصلح التعويل عليه ، وعلى صحّة التعويل عليه هنا فهو في أشياء مخصوصة ليس معها ما يدلّ بعموم الحكم ، وسقوط الخصوصيّة ولو سلّم فأقصى ما يسلّم فيه من العموم إنّما هو بالنسبة إلى أفراد التغيّر لا مطلقا ، والأولويّة المدّعاة ممنوعة ، كيف والتغيّر أقوى سببي النجاسة.

وثالثة : بأنّ ظاهره يدلّ على وجوب التراوح يوما بعد وجوب نزحه يوما ، وحاصله الدلالة على وجوب نزحه يومين ، لمكان قوله عليه‌السلام : « ثمّ يقام عليها قوم يتراوحون » بعد قوله عليه‌السلام : « فلينزف يوما إلى الليل » وهو ممّا لا قائل به.

فدفع تارة : بمنع كون كلمة « ثمّ » هنا للترتيب ، لجواز كونها لغيره ، كما ورد كثيرا ومنه قوله تعالى : (كَلّا سَيَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلّا سَيَعْلَمُونَ) (١).

واخرى : بالإجماع على عدم وجوب ما عدا التراوح ، فهو قرينة ظاهرة على عدم إرادة الترتيب.

وثالثة : باحتمال سقوط لفظ « قال » بعد كلمة « ثمّ » على أن يكونا من كلام الراوي ، كما يرشد إليه ما في سابقه في التهذيب (٢) من قوله : « ثمّ قال : فإن غلب » الظاهر في كونه للشيخ ، لمكان قوله ـ بعد قال ـ : « أعني أبا عبد الله » ، هذا مضافا إلى ما عن بعض النسخ من قوله : « ثمّ قال : يقام » كما نقل ، مع قوّة احتمال زيادة تلك اللفظة كما عن المعتبر (٣) من عدم ذكره إيّاها.

ورابعة : بأنّ المراد بالنزف يوما نزح الجميع في يوم ، ثمّ إذا لم ينزف في يوم تراوح عليها أربعة.

وخامسة : باحتمال الفتح في « ثمّ » على أن تكون للإشارة ، فيكون معنى : ثمّ يقام في تلك الحال وذلك الوقت يقام عليها قوم ، ويكون قوله : « يقام » بيانا لكيفيّة النزف.

ولا يخفى ما في الكلّ من التكلّف ؛ وفي المقام فروع ينبغي الإشارة إليها.

__________________

(١) التكاثر : ٣ و ٤.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩.

(٣) المعتبر : ١٤.


منها : أنّ الّذي يقتضيه عبارة المقنعة (١) المحكيّة في التهذيب كون حكم التراوح معلّقا على صعوبة نزح الجميع وتعسّره ، لقوله : « وإن مات فيها بعير نزح جميع ما فيها ، فإن صعب ذلك لغزارة الماء وكثرته تراوح على نزحه أربعة رجال » (٢) إلى آخره.

إلّا أنّ مقتضى صريح الجماعة كونه معلّقا على التعذّر ، والخبر المتقدّم (٣) الّذي هو مستند الحكم يعضد الأوّل ، لوقوع التعبير فيه بالغلبة الّتي هي أعمّ من موجب التعذّر ، بل يوافقه صريح الرضوي (٤) إن قلنا بالعمل به ، ولعلّ كلام الجماعة مبنيّ على خارج بلغهم من إجماع وغيره ، وإلّا فلا يساعدهم الدليل النقلي كما عرفت.

ويمكن ابتناؤه على مراعاة الاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال ، وإن كان كلامهم فيما نعلم خلوّا عن التعليل به ، بل عن التعرّض لذكر هذا الفرع.

وكيف كان فالمعتبر في التعذّر أو التعسّر الموجبين للاكتفاء بالتراوح كونه ناشئا عن كثرة الماء وغزارته المانعة عن نزح جميعه ، كما هو المصرّح به في كلماتهم ، المنصوص عليه في الخبرين المتقدّمين ، فلا يجتزأ به لو كان العذر أو العسر لمانع خارجي ، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد النصّ.

ومنها : أنّ مقتضى القاعدة المشار إليها وقوع النزح في النهار القائم المتّصل طويلا كان أو قصيرا لإطلاق النصّ ، فلا يكفي مقداره من الليل ولا الملفّق من الليل والنهار كائنا ما كان ، ولا نصف النهار لو فرض فيه وقوع ما يقع في النهار التامّ من العمل ، كما أنّه لا يجب تحرّي أطول الأيّام ، بل هو في كثير من الصور منفيّ بالضرر.

لكنّ الكلام في تحديد النهار هنا من حيث احتمال كون العبرة فيه بما بين طلوع الشمس وغيبوبتها ، كما هو في ظاهر العرف المنصرف إليه الإطلاق في النذور والإجارات وغيرها من العقود ، أو بما هو معتبر في يوم الصوم كما يساعد عليه الاحتياط وخرج به في كلام جماعة من الأصحاب.

وعلى أيّ حال فيجب تهيئة الأسباب قبل الوقت ، بل أخذ شي‌ء من الطرفين للعمل شروعا وختما مقدّمة للعلم ، وربّما يقال بوجوب التهيّؤ قبل الوقت حتّى بالقياس إلى

__________________

(١) المقنعة : ٦٧.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤٠.

(٣ و ٤) قد تقدّم آنفا في الصفحة ١٨٦.


إرسال الدلو إلى البئر ، وهو بعيد بل منفيّ ببطلان الترجيح من غير مرجّح ، حيث إنّ ذلك لا يعقل إلّا في الدلو الأوّل الّذي يشرع به.

ومنها : أنّ قضيّة القاعدة المشار إليها بملاحظة مفهوم « القوم » الظاهر في الرجال إن لم نقل باختصاصه بهم ـ كما يقتضيه المحكيّ عن الصحاح (١) والنهاية الأثيريّة (٢) ، وقوله عزّ من قائل : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) (٣) وقول زهير : « أقوم آل حصن أم نساء » ، مضافا إلى ورود التصريح بهم بالخصوص في الرضوي على تقدير العمل به ـ عدم الاجتزاء بالنسوان ولا الصبيان ولا الخناثي ، وإن نهض كلّ واحد من هؤلاء بعمل الرجال ، وهو المصرّح به في كلام غير واحد عدا العلّامة في المنتهى (٤) ، حيث استشكل في عدم إجزاء هؤلاء لو ساوت قوّتهم قوّة الرجال ، بل عن بعض الأصحاب ـ كما في المدارك ـ (٥) الاجتزاء بهم ، واستحسنه في الكتاب على تقدير عدم قصور نزحهم عن نزح الرجال ، وهذا جيّد على القول بكون النزح للتطهير ، للقطع بعدم مدخليّة الرجوليّة في ذلك.

وأمّا على القول به تعبّدا فالإشكال قويّ في غاية القوّة ، ولعلّه الداعي إلى ما عرفته من العلّامة من حيث إنّه في المسألة قائل بطهارة البئر ووجوب النزح تعبّدا كما تبيّن آنفا.

ومنها : أنّ قضيّة إطلاق « القوم » في الخبر الأوّل ، وإطلاق قوله عليه‌السلام : « يتراوحون اثنين اثنين » عدم انحصار العدد المعتبر هنا في الأربعة ، وكفاية الزائد عليه ما لم يؤدّ الكثرة إلى صرف الوقت بالبطء ونحوه ، ولا ينافيه ما في الرضوي من تخصيص الأربعة بالذكر ـ على تقدير العمل به ـ بعد ملاحظة أنّ العدد لا مفهوم له ، فتأمّل.

نعم ، قضيّة ما ذكر من اعتبار التراوح بين اثنين اثنين في النزح عدم كفاية ما دون الأربعة اقتصارا على مورد النصّ ، كما صرّح به غير واحد ، وإن كان العلّامة في المنتهى (٦) قد استقرب إجزاء نزح الاثنين إن امتدّ نزحهما إلى الليل وعلم مساواته لتراوح الأربعة ، وهذا قويّ على تقدير اعتبار النزح للتطهير كما عرفت.

وقد يقال : باعتبار قيام الآخرين للنزح في أوّل زمان تعب الأوّلين وكلّهما تحصيلا

__________________

(١) الصحاح ٥ : ٢٠١٦ مادّة « قوم ».

(٢) النهاية في غريب الحديث ؛ مادّة « قوم » ٤ : ١٢٤.

(٣) الحجرات : ١١.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٧٤.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٦٨.

(٦) منتهى المطلب ١ : ٧٤.


لصدق الإراحة ، وليس ببعيد سيّما على التعبّد.

ومنها : قال في الروضة : « ويجوز لهم الصلاة جماعة ، لا جميعا بدونها ، ولا الأكل كذلك » (١) وفي المدارك : « قيل [إنّه] يستثنى لهم الأكل جميعا ، والصلاة جماعة » (٢) ، ثمّ نفى عنه البأس تعليلا بقضاء العرف بذلك.

وأورد عليه : بأنّ مسألة التراوح حكم شرعي فلا دخل لمعرفة العرف فيه ، وظاهر الخبر امتداد النزح إلى الليل ، والغالب فيه التعبّد ، ولذا لا يكفي فيه الليل ولا الملفّق » (٣).

وفيه : أنّ مقصود المتمسّك بالعرف أنّه يفهم من خطاب التراوح عرفا الترخيص في الاجتماع للأكل والصلاة ، فلا ينافيه كون مسألة التراوح حكما شرعيّا ، ولا ظهور الخبر في الامتداد إلى الليل ، لأنّ معنى الامتداد حينئذ عدم التقاعد عن الاشتغال جميعا في غير ما ساعد العرف على الترخيص فيه ، وعدم منافاته للامتداد.

نعم ، عن بعض المحقّقين الاستشكال في الاجتماع لغير صلاة الجمعة ، إذ دليل الجماعة أعمّ من دليل التراوح من وجه والأصل بقاء نجاسة البئر ، كيف ولو اعتبر هذا العموم لدخل سائر المستحبّات كقضاء حاجة المؤمن وتشييع الجنازة ، ودعوى استثناء الصلاة من اللفظ عرفا أو عادة محلّ تأمّل.

وربّما يتأمّل أيضا في طهارة البئر لو ترك النزح لصلاة الجمعة أيضا ، لإمكان تطهيرها في غير يومها.

وقد يعترض على دعوى استثناء الجماعة للصلاة بأنّ اللازم عليهم استثناء زمان مقدّمات الجماعة كالسعي والانصراف إلى المسجد ونحوه ، وبالجملة هذه الأحكام كلّها على خلاف الاحتياط ؛ وبناء العرف في خصوص المقام غير معلوم وإن ادّعي ثبوته على الترخيص في الاجتماع.

ومنها : أنّ المشهور المدّعى عليه الشهرة كون العبرة في كيفيّة تراوح القوم اثنين اثنين اشتغال كلّ اثنين معا بالنزح ، بأن يستقيا بدلو واحد ويتجاذبا إيّاه إلى أن يتعبا فيقعدان وقام الآخران مشتغلين متجاذبين كذلك ، وعن ثاني الشهيدين في روض الجنان : « أنّ

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٤٤.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٦٨.

(٣) المورد هو المحقّق البهبهاني في حاشية مدارك الأحكام ١ : ١٢٠.


أحد المتراوحين يكون فوق البئر يمتح الدلو والآخر فيها يملؤه » (١) ، والأولى كونهما معا فوق البئر كما في المدارك (٢) لأنّه المتعارف ، وعن المولى التقيّ المجلسي قدس‌سره (٣) أنّه احتاط في ذلك بدخول واحد في البئر ووقوف اثنين في الفوق للنزح خروجا عن الشبهة.

المسألة الثانية : ما يوجب نزح كرّ من ماء البئر ، وهو على ما ضبطه الشهيد في الدروس (٤) وأفتى فيه بالحكم المذكور ، الدابّة ، والبغل ، والحمار ، والبقرة ، ونقل عنه مثله في الذكرى (٥) والبيان (٦) ومثله في اللمعة (٧) أيضا ولكن بإسقاط « البغل » تبعا في ذلك لشرائع (٨) المحقّق ، وقرينة المقابلة تعطي كون المراد بـ « الدابّة » في كلامهما « الفرس » خاصّة ، دون ما يدبّ على الأرض ، ولا ما يركب على إطلاقهما.

قال في الروضة : « هذا هو المشهور والمنصوص منها ، مع ضعف طريقة « الحمار والبغل » ، وغايته أن ينجبر ضعفه بعمل الأصحاب ، فيبقى إلحاق الدابّة والبقرة بما لا نصّ فيه أولى » (٩).

قال العلّامة في المنتهى ـ بعد ذكر الامور المذكورة بزيادة « أشباهها » ـ : « أمّا الحمار ، فقد ذهب إليه أكثر أصحابنا » ـ إلى أن قال ـ : « وأمّا البقرة والفرس ، فقد قال الشيخ والسيّد المرتضى والمفيد بمساواتهما للحمار في الكرّ » (١٠).

وعن السرائر (١١) أنّه ذكر الخيل ، والبغال ، والحمير أهليّة كانت أو غير أهليّة ، والبقرة وحشيّة أو غير وحشيّة ، أو ما ماثلها في مقدار الجثّة.

وعن الوسيلة (١٢) ، والإصباح (١٣) : الحمار والبقرة وما أشبههما.

وعن المهذّب (١٤) : الخيل ، والبغال ، والحمير ، وما أشبههما في الجسم.

وعن الغنية (١٥) دعوى الإجماع على الخيل وشبهها ، وعن المعتبر المناقشة في هذا التعميم ، قائلا ـ بعد ما نسب إلحاق الفرس والبقر بالحمار إلى الثلاثة ـ (١٦) : « ونحن نطالبهم بدليل ذلك ، فإن احتجّوا برواية عمرو بن سعيد ، قلنا : هي مقصورة على الجمل

__________________

(١) روض الجنان : ١٤٨. (٢) مدارك الأحكام ١ : ٦٩.

(٣) روضة المتّقين ١ : ٩٠. (٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤. (٦) البيان : ١٠٠.

(٧) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٣٦. (٨) الشرائع ١ : ١٣.

(٩) الروضة البهيّة ١ : ٣٦. (١٠) منتهى المطلب ١ : ٧٤.

(١١) السرائر ١ : ٧٢. (١٢) الوسيلة : ٦٩.

(١٣) إصباح الشيعة : ٤. (١٤) المهذّب ١ : ٢١.

(١٥) غنية النزوع : ٤٨. (١٦) يعني السيّد والشيخين (منه).


والحمار والبغل ، فمن أين يلزم في البقرة والفرس ، فإن قالوا : هي مثلها في العظم ، طالبنا هم بدليل التخطّي إلى المماثل من أين عرفوه ، لا بدّ له من دليل ، ولو ساغ البناء على المماثلة في العظم لكانت البقرة كالثور ، ولكان الجاموس كالجمل ، وربّما كانت الفرس في عظم الجمل ، فلا تعلّق إذا بهذا وشبهه ، ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل ذلك لادّعى الإجماع بوجوده في كتب الثلاثة ، وهو غلط وجهالة إن لم يكن تجاهلا ، فالأوجه أن يجعل الفرس والبقرة في قسم ما لم يتناوله نصّ على الخصوص » (١) انتهى.

والظاهر أنّ مراده بالمقلّد المدّعي للإجماع هو ابن الزهرة (٢) ، ومراده برواية عمرو بن سعيد ما تقدّم إليه الإشارة في المسألة الاولى ، قال : سألت أبا جعفر عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة والسنّور إلى الشاة؟ فقال : « كلّ ذلك نقول سبع دلاء » قال : حتّى بلغت الحمار والجمل ، قال : « كرّ من ماء » (٣).

والظاهر أنّ مستند الحكم هنا هو هذه الرواية ولو بالنسبة إلى بعض المذكورات ، وقد تقدّم عن العلّامة (٤) ، وصاحب المعالم (٥) ، القدح في سندها ، فإنّ العلّامة رمى عمرو بن سعيد بالفطحيّة كما عنه أيضا في المختلف (٦) ، وعن المحقّق في المعتبر (٧) وعن الشهيد في الذكرى (٨).

وقد يستفاد توثيقه عن بعض الأخبار (٩) ، بل وثاقته وجلالة شانه عن كلام بعض العلماء الأخيار كالكليني ، حيث وصف في الروضة (١٠) الحديث الّذي هو في سنده

__________________

(١ و ٧) المعتبر : ١٤.

(٢) غنية النزوع : ٤٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٧٩.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٦٩.

(٥) فقه المعالم ١ : ١٨٠ ، أقول : لم ينقل عنه سابقا القدح في سندها.

(٦) مختلف الشيعة ١ : ١٩٤.

(٨) ذكرى الشيعة ١ : ٩٢.

(٩) قال المقدّس التقيّ المجلسي رحمه‌الله في روضة المتّقين ١٤ / ٤٠٣ : « روى الشيخ في الموثّق ما يدلّ على توثيقه في باب ١٩ الأوقات من التهذيب » انتهى. أقول : والمراد به هو ما رواه الشيخ في التهذيب ٢ : ٢٢ / ٦٢ والاستبصار ١ : ٢٤٨ / ٨٩١.

(١٠) الكافي ٨ : ١٦٨ / ١٨٩ حيث قال : « وفي الصحيح عن عمرو بن سعيد بن هلال ، قال : قلت للصادق عليه‌السلام : إنّي لا أكاد ألقاك إلّا في السنين فأوصني بشي‌ء ، فقال : اوصيك بتقوى الله ... » الحديث.


بالصحّة ، وبالجملة فهو إمّا صحيح أو موثّق أو منجبر بعمل الأصحاب ، ولا يقدح في اعتباره اشتماله على الجمل الّذي لم يقل بذلك الحكم فيه أحد ، لأنّ ذلك يوجب الوهن فيه في هذا المقدار ، أو أنّه لا جابر له بالقياس إلى هذا المقدار.

وإلى بعض ما ذكرناه يشير عبارة المنتهى القائلة : « بأنّها ضعيفة من حيث السند ، ومن حيث التسوية بين الحمار والجمل ، إلّا أنّ أصحابنا عملوا فيها بالحمار والتسوية سقطت باعتبار حصول المعارض ، فلا يلزم نفي الحكم عمّا فقد عنه المعارض ». (١) وأمّا دلالته من حيث الصراحة فترى أنّها مقصورة على « الحمار » على ما هو في النسخ الموجودة الآن بأيدينا ، أو هو و « البغل » على ما صرّح به ثاني الشهيدين (٢) والمحقّق (٣) فيما تقدّم ، وعن المعتبر (٤) أنّه نقل الرواية بزيادة « البغل » ونحوه محكيّ عن المهذّب (٥) ، بل عن شرح الفاضل الهندي (٦) وجود « البغل » فيها في موضع من التهذيب (٧) ، ونحوه عن كشف الالتباس (٨) والمقتصر (٩) والروض (١٠) والذكرى (١١) ، وعن المحقّق البهبهاني ـ بعد نقل الرواية ـ : « وفي نسخة من التهذيب حتّى بلغت الحمار والبغل والجمل ، وظاهرها أنّ الراوي كان يسأل عن [حكم] موت حيوان بترتيب الجثّة من الصغر إلى الكبر ، فقوله : « حتّى بلغت الحمار والجمل » في قوّة أن يقال : إلى أن بلغت جثّة الحمار ، ثمّ بعدها إلى أن بلغت جثّة الجمل ، ومعلوم أنّ جثّة البقر جثّة الحمار ، وأمّا جثّة الدابّة فهي الجثّة المتوسّطة بين جثّة الحمار وجثّة الجمل ، هذا على النسخة المشهورة ، وأمّا على النسخة الغير المشهورة فغير خفيّ أنّ جثّتها جثّة البغل » (١٢) انتهى.

والمقصود من هذا التحقيق جعل الرواية متضمّنة لجميع الامور المذكورة حتّى الدابّة والبقرة وليس ببعيد ، بل الظاهر من سوق الرواية أنّ ذكر « الحمار » على النسخة المشهورة وارد من باب المثال ، وإلّا فغرض السائل سؤاله عن حكم « الحمار » وما يشبهه أو يقرب منه في الجثّة ، كما تنبّه عليه بعض مشايخنا قائلا : « ويظهر من سوق

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٧٤.

(٢ و ١١) روض الجنان : ١٤٨.

(٣ و ٤) المعتبر : ١٤. (٥) المهذّب ١ : ٢١.

(٦) كشف اللثام ١ : ٣٢٦.

(٧) التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٧٩.

(٨) كشف الالتباس ١ : ٦٠.

(٩) المقتصر : ١٩. (١١) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤.

(١٢) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٥.


الرواية عموم حكم الحمار لما ماثلها في الجنّة ، حيث جعل الحيوانات أصنافا بحسب الجثّة فيشمل البقرة » (١).

وإلى ذلك نزّل ما تقدّم من عبارات القدماء قائلا : « بأنّ الظاهر أنّ الكلّ فهموا من رواية الحمار وغيرها ما ذكرنا من إرادة المثال » (٢).

ولا يخفى على الفطن العارف أنّ ذلك في غاية الجودة ، وأجود ممّا رامه العلّامة في المنتهى (٣) من الاستناد في تعميم الحكم إلى ما رواه الشيخ ـ في الصحيح ـ عن الفضلاء الثلاثة زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وبريد بن معاوية العجلي ، عن أبي عبد الله وأبي جعفر عليهما‌السلام في البئر يقع فيها الدابّة والفأرة والكلب والطير فيموت؟ ، قال : « يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ اشرب وتوضّأ » (٤).

فقال في وجهه : « قال صاحب الصحاح : « الدابّة » اسم لكلّ ما يدبّ على الأرض ، و « الدابّة » اسم لكلّ ما يركب ، فنقول : لا يمكن حمله على المعنى الأوّل وإلّا لعمّ ، وهو باطل لما يأتي ، فيجب حمله على الثاني.

فنقول : الألف واللام في « الدابّة » ليست للعهد ، لعدم سبق معهود يرجع إليه ، فإمّا أن يكون للعموم كما ذهب إليه الجبّائيان ، أو لتعريف الماهيّة على المذهب الحقّ ، وعلى التقديرين يلزم العموم في كلّ مركوب.

أمّا الأوّل : فظاهر ، وأمّا الثاني : فلأنّ تعليق الحكم على الماهيّة يستدعي ثبوته في جميع صور وجودها وإلّا لم يكن علّة ، هذا خلف ، وإذا ثبت العموم دخل فيه الحمار ، والفرس ، والبغل ، والإبل ، والبقر [نادرا] غير أنّ الإبل والثور خرجا بما دلّ بمنطوقه على نزح الجميع ، فيكون الحكم ثابتا في الباقي.

فإن قلت : يلزم التسوية بين ما عدّده الإمامان عليهما‌السلام.

قلت : خرج ما استثنى بدليل منفصل ، فيبقى الباقي لعدم المعارض ، وأيضا : التسوية حاصلة من حيث الحكم بوجوب نزح الدلاء ، وإن افترقت بالكثرة والقلّة ، وذلك شي‌ء

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٢١٩.

(٢) كتاب الطهارة ١ : ٢٢٢.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٧٤ ـ ٧٥.

(٤) الوسائل ١ : ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٣٦ / ٦٨٢.


لم يتعرّضا عليهما‌السلام له ، إلّا أنّ لقائل أن يقول : إنّ ما ذكرتموه لا يدلّ على بلوغ الكرّيّة ، ويمكن التمحّل بأن يحمل « الدلاء » على ما يبلغ الكرّ جمعا بين المطلق والمقيّد خصوصا مع الإتيان بصيغة جمع الكثرة.

لا يقال : إن حمل الجمع على الكثرة استحال إرادة القلّة منه ، وإلّا لزم الجمع بين إرادتي الحقيقة والمجاز ، وإن حمل على القلّة فكذلك.

لأنّا نقول : لا نسلّم استحالة التالي ، سلّمناه لكن إن حمل على إرادة معناه المجازي وهو مطلق الجمع لم يلزم ما ذكرتم ، على أنّ لنا في كون الصيغ المذكورة حقائق أو مجازات في القلّة والكثرة نظرا » (١) ، إلى آخر ما ذكره ، ولا يخفى ما في هذا التقريب من وجوه النظر.

أمّا أوّلا : فلأنّ لزوم الحمل على المعنى الثاني إنّما هو لقرينة المقابلة فيما بين الدابّة والفأرة والكلب والطير لا العموم الموهوم ، وإلّا سهل علاجه بتطرّق التخصيص ، كما يعالج ذلك على الحمل على المعنى الثاني أيضا بالقياس إلى الثور ، والحمل بالتخصيص حسبما اعترف به قدس‌سره.

وتوهّم كون الداعي إلى الفرق لزوم تخصيص الأكثر على التخصيص الأوّل دون الثاني ، يدفعه : أنّ إخراج غير موضوع الحكم هنا ليس من باب التخصيص المصطلح ، حيث لا عامّ في المقام ، بل هو من باب تقييد المطلق وهو جائز كائنا ما كان.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الحمل عليه يقضي بعدم تناول الحكم للبقرة ، لعدم كونها بحسب العادة من جنس المركوب ، والركوب عليها عند بعض الطوائف النادرة ـ على فرض تسليمه ـ غير مجد ، بعد ملاحظة أنّ المطلق لا ينصرف إلى الأفراد النادرة ، ويرد ذلك بعينه بالنسبة إلى الحمار والبقر الوحشيّين مطلقا كما لا يخفى ، مع أنّ ظاهر الجماعة بل صريح بعضهم عدم الفرق في الحكم المذكور بين الوحشي من الأنواع المذكورة وغيره.

وأمّا ثالثا : فلأنّ جعل اللام للعهد الذهني أيضا ممكن ، مع عموم الحكم لجميع الأنواع المذكورة كما لا يخفى ، ولا يبعد أخذ ورود السؤال بعنوان الوقوع قرينة على ذلك ، بملاحظة أنّ الوقوع من عوارض الشخص دون الجنس والماهيّة.

وأمّا رابعا : فلأنّ ذلك بعد اللتيّا والّتي لا يجدي نفعا في ثبوت التحديد بالكرّيّة ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٧٩ ـ ٧٨.


والتمحّل له بالجمع بين المطلق والمقيّد غير مفهوم المعنى ، حيث لم يرد التقدير بالكرّيّة للدابّة ، إلّا أن يراد به ما ورد في الرواية السابقة بالقياس إلى الحمار أو هو والبغل ، وفيه : أنّ ما ورد في هاتين الروايتين أشبه بكونه من باب المجمل والمبيّن ، مع ما في التشبّث بتلك القاعدة من إخراج الرواية أجنبيّة عن المطلوب ، حيث إنّ « الدابّة » في تلك الرواية أيضا مطلقة ، فيحمل على مقيّد الرواية السابقة وهو « الحمار » ، بناء على أنّ المقيّد عبارة عمّا دلّ لا على شايع في جنسه ، إلّا أن يتفصّى بعدم المنافاة بينهما من هذه الجهة الّذي هو الداعي إلى الجمع وحمل أحدهما على الآخر ، بخلاف ما بين التحديد بالدلاء والتحديد بالكرّيّة ، المفيد أوّلهما الاجتزاء بما دون الكرّ كما لا يخفى ، ثمّ حمل الجمع على الكثرة لا يقضي بتعيّن الكرّيّة ، لأنّ الكثرة لها مراتب منها الكرّيّة ، ومنها ما فوقها ، ومنها ما دونها في الجملة ، وكون اعتبار الزائد عليها هنا منفيّا بالإجماع ـ على فرض تسليمه ـ لا يقضي بنفي اعتبار ما دونها إذا اندرج في مفهوم الكثرة عرفا ، إلّا أن يتشبّث لنفي كفاية الأقلّ أيضا بالإجماع ، فيتّضح حينئذ منعه مع عدم جدواه في تتميم الاستدلال بالرواية كما هو مقصود المقام ، لكون المطلب إنّما ثبت حينئذ بالإجماع على نفي طرفي الكرّ.

المسألة الثالثة : فيما ينزح له سبعون دلوا بما اعتاده البئر ، ومع الاختلاف فالأغلب كما هو صريح الروضة (١) وغيرها ، وهو على ما اتّفقت عليه كلمة أهل القول بالتنجيس وغيرهم ممّن يوجب النزح ولو تعبّدا موت الإنسان.

وفي المنتهى : « وهو مذهب القائلين بالتنجيس » (٢) ، وفي المختلف : « ذهب إليه أصحابنا » (٣) وعن الغنية (٤) وظاهر المعتبر (٥) دعوى الإجماع عليه ، ومستنده على ما في كلام غير واحد موثّقة عمّار الساباطي المرويّة في التهذيب ، قال سئل أبو عبد الله عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر؟ قال : « تنزح منها دلاء ، هذا إذا كان ذكيّا فهو هكذا ، وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأقلّه العصفور ينزح دلوا واحدا ، وما سوى ذلك فيما بين هذين » (٦).

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٣٧.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٧٦.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ١٩٥ وفيه : « ذهب علماؤنا ».

(٤) غنية النزوع : ٤٨.

(٥) المعتبر : ١٤ ، حيث نسبه إلى علمائنا القائلين بالتنجيس.

(٦) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٨.


وقدح فيها العلّامة في المنتهى بكون رواتها فطحيّة (١) ، غير أنّه واضح الدفع بالعمل والوثاقة كما هو صريح المحكيّ عن المعتبر (٢) ، وقضيّة إطلاق « الإنسان » عدم الفرق فيه بين الكبير والصغير ، ولا السمين والمهزول ، ولا الذكر والانثى ، كما هو المصرّح به في كلام غير واحد ، مع دعوى الاتّفاق عليه في بعض العبائر ، وفي شموله للكافر كشموله للمسلم قضيّة للإطلاق خلاف ، فالأكثر على الشمول ، وغيرهم كابن إدريس ـ في المحكيّ عنه ـ على منعه ، لقوله في الكافر بوجوب نزح الجميع ، محتجّا : « بأنّ الكافر نجس ، فعند ملاقاته حيّا يجب نزح البئر أجمع ، والموت لا يطهر فلا يزول وجوب نزح الماء » (٣) ، ثمّ دفع التمسّك بإطلاق « الإنسان » بمعارضته للجنب إذا ارتمس في البئر المحمول على المسلم ، مع أنّه بإطلاقه يعمّ الكافر.

وأجاب عنه في المنتهى : « بمنع وجوب نزح الجميع في مباشرة الكافر حيّا ، لابتنائه على وجوب نزح الجميع فيما لا مقدّر له بالخصوص في النصوص ، وهو في حيّز المنع ، وما ذكر من القياس ضعيف حيث أنّه لا جامع بين المقامين ، إلّا من حيث إنّ لفظ « الإنسان » مطلق ، كما أنّ لفظ « الجنب » مطلق ، وهذا لا يوجب أن لو قيّد أحد المطلقين بوصف وجب أن يقيّد به المطلق الآخر ، كيف ولو صحّ ذلك لاطّرد في كلّ اسم جنس حلّي باللّام ، فوجب أن يقال : إنّ لفظ « البيع » في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (٤) ولفظ « الزاني » و « الزانية » وكذا « السارق » و « السارقة » ونحوهما ليس للعموم ، لأنّ لفظ « الجنب » ليس للعموم ، ولا ريب في فساد ذلك ، على أنّا نقول : إن وجد بالقياس إلى الجنب مخصّص امتنع القياس ، وإلّا كان التقييد فيه أيضا ممنوعا ، مع أنّ دعوى عدم النصّ هنا غير مسلّمة ، كيف وأنّ النصّ كما يدلّ بمنطوقه فكذلك قد يدلّ بمفهومه الّذي هو ثابت هنا ، حيث إنّ « الإنسان » مطلق يتناول المسلم والكافر ، فيجري مجرى النطق بهما معا ، فإذا وجب في موته سبعون لم يجب في مباشرته أكثر ، لأنّ الموت يتضمّن المباشرة فيعلم نفي ما زاد من مفهوم النصّ ، سلّمنا ، لكن نمنع بقاء نجاسة الكفر بعد الموت ، وإنّما يحصل له نجاسة بالموت مغايرة لنجاسة حالة الحياة.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٧٧.

(٢) المعتبر : ١٤.

(٣) السرائر ١ : ٧٣ نقلا بالمعنى.

(٤) البقرة : ٢٧٥.


وتوضيحه : أنّ النجاسة حكم شرعي يتّبع مورد النصّ ، والكافر إنّما لحقه حكم التنجيس باعتبار كفره وجحوده الحقّ ، وقد انتفى ذلك بموته فينتفي الحكم التابع له ، ويلحقه حكم آخر شرعي بالموت ، والحكمان متغايران » ، انتهى ملخّصا (١) ، وعن المعتبر (٢) أيضا الاعتراض على الحلّي بما يقرب من ذلك.

وأنت خبير بما في جميع ذلك من المكابرة ودفع ضرورة الوجدان ، القاضي بكون المتّجه هو ما ذكره الحلّي (٣) ، ووافقه الإسكافي ـ على ما حكي ـ ، لوجوب عدم كون المطلق في إفادة الإطلاق واردا مورد حكم آخر ، ولذا لا يقولون بحلّيّة أكل الصيد كيفما اتّفق ولو قبل تطهير موضع عضّ الكلب ، تمسّكا بقوله : (فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (٤) وليس ذلك إلّا من جهة أنّ ملاقاة الكلب برطوبة كعدم وقوع الذبح الشرعي جهة مقتضية للمنع ، على نحو يكون كلّ منهما سببا مستقلّا له ، وكان المطلق مسوقا لرفع ما يقتضيه الجهة الثانية من المنع ساكتا عن الجهة الاولى نفيا وإثباتا ، فيطهر حينئذ ثمّ يؤكل عملا بالدليلين الغير المتعارضين ، المقتضي أحدهما اشتراط إباحة أكل ما لاقته النجاسة بتطهيره ، والآخر حلّيّة الصيد مع عدم وقوع الذبح الشرعي عليه ، كيف فإمّا أن يقال : بورود الآية لرفع مقتضي الجهة الاولى ، أو لرفع مقتضي الجهة الثانية ، أو لرفع مقتضي الجهتين.

والأوّل يأباه التعبير بعنوان « الإمساك » ، كما أنّ الأخير يأباه متفاهم العرف ، فتعيّن الأوسط ، لأنّه الّذي يساعد عليه العرف ، ولا ريب أنّ المقام ليس إلّا من هذا الباب ، فإنّ موت الإنسان في البئر أو وقوعه ميّتا بنفسه جهة مقتضية للنزح ونجاسة الكفر أيضا جهة اخرى مقتضية له ، وإلّا لزم الفرق في النجاسات بينها وبين غيرها وهو منفيّ باتّفاق الأقوال.

فقوله عليه‌السلام : « وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء ، فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا » إمّا أن يكون لبيان ما اقتضته كلتا الجهتين فلا يساعد عليه متفاهم العرف ، أو لبيان ما اقتضته الجهة الثانية فينافيه صريح قوله : « فيموت » وظاهر السياق صدرا وذيلا ، فتعيّن كونه لبيان ما اقتضته الجهة الاولى وهو الّذي يساعد عليه العرف ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٧٨ ـ ٧٩ مع اختلاف يسير في العبارة.

(٢) المعتبر : ١٥.

(٣) السرائر ١ : ٧٣.

(٤) المائدة : ٤.


كيف ولو لا ذلك لزم استعمال لفظ « الإنسان » في أكثر من معنى لكون إحدى الجهتين مستلزمة لإرادة المطلق ، والاخرى مستلزمة لإرادة المقيّد ، ولا يكفي فيه إرادة المطلق فقط لعدم كون الجهة الثانية من لوازم مطلق الماهيّة واحتمال كفاية سبعين عن الجهتين معا فلا يضرّ فيه إرادة المطلق مبنيّ على تداخل السببين ، وهو منفيّ بما قرّر في محلّه من أصالة عدم التداخل.

فالحاصل : أنّ الكافر من حيث نجاسة كفره في حكم المسكوت عنه ، ومعه لا يعقل الحكم بكفاية السبعين الوارد لنجاسة الموت عن نجاسة الكفر أيضا ، فيجب المراجعة من حيث النجاسة المسكوت عنها إلى ما يقتضيه دليلها خصوصا أو عموما ، ولمّا لم يرد لها دليل خاصّ فالواجب مراجعة الدليل العامّ الجاري في غير المنصوص عموما.

فإن قلت : تخصيص الكافر عن حكم الموت المنصوص على مقدّره ليس بأولى من تخصيصه عن حكم الكفر الغير المنصوص على مقدّره.

قلت : ما ذكرناه ليس من باب التخصيص بل هو عمل بالدليلين ، بناء على عدم التداخل إن قلنا في غير المنصوص بوجوب ثلاثين أو أربعين ، نعم لو قلنا فيه بوجوب نزح الجميع كان الكافر خارجا عن حكم الموت المقدّر بسبعين ، لكن لا بعنوان التخصيص بل من جهة انتفاء موضوع هذا المقدّر ، نظرا إلى أنّ الماء إذا وجب نزح جميعه ، فلا يبقى لنزح سبعين محلّ حتّى يمتثل الأمر به إلّا في موضع التراوح ، فيجب الجمع أيضا بين مقدّر الموت والتراوح قضيّة لعدم التداخل.

ومن هنا اندفع ما يقال في الاعتراض على القول بأنّ النصّ وإن كان شاملا للكافر إلّا أنّه أوجب نزح سبعين لأجل موته ، فهو ساكت عمّا يجب نزحه للكفر ، من : « أنّ الجهتين في الكافر متلازمتان فلا معنى للسكوت عن إحداهما ، فهو نظير ما إذا حكم الشارع بصحّة الصلاة في ثوب عليه عذرة الكلب ناسيا ، فإنّه لا يمكن القول بأنّ الحكم بالصحة من جهة نجاسة الثوب بالعذرة لا من جهة استصحاب فضلة ما لا يؤكل لحمه أو العكس ، لأنّ الجهتين متلازمتان يقبح السكوت عن إحداهما في مقام البيان » (١) انتهى.

فإنّ الجهتين المتلازمتين إنّما تشاركتا في اقتضاء أمر واحد بحكم العقل ، إذا لم

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٢٣.


يمكن تفارقهما باقتضاء أمرين مختلفين كالصحّة وعدمها في المثال المفروض ، فيفارقه المقام لكون مقتضي الجهتين فيه أمرين وجوديّين يمكن اجتماعهما مختلفين بالزيادة والنقصان ، فبطلت المقايسة بوضوح الفرق.

ومن جميع ما قرّرناه تبيّن إصابة ما ذكره صاحب المعالم ـ على ما حكي عنه ـ في الاعتراض على المحقّق ـ الموافق للعلّامة فيما تقدّم ـ من الاعتراض على ابن إدريس من « أنّ الحيثيّة معتبرة في جميع موجبات النزح ، فمعنى وجوب نزح السبعين لموت « الإنسان » أنّ نجاسة موته يقتضي ذلك ، فالعموم الواقع فيه إنّما يدلّ على تساوي المسلم والكافر في الاكتفاء لنجاسة موتهما بنزح السبعين ، فإذا انضمّ إلى ذلك جهة اخرى للنجاسة كالكفر ونحوه لم يكن للّفظ دلالة على الكفاية ، ألا ترى أنّه لو كان بدن المسلم متنجّسا بشي‌ء من النجاسات وكانت العين غير موجودة لم يكف نزح المقدّر عن الأمرين ، ولو تمّ ما ذكروه لاقتضى الاكتفاء وهم لا يقولون به.

وبالجملة ، فالكفر أمر عرضي للإنسان كملاقاة النجاسة ، ولكلّ منهما تأثير في بدنه بالتنجيس ، لكن الأوّل يشمل جميع بدنه ، والثاني يختصّ بما يلاقيه ، فكما أنّ العموم غير متناول لنجاسة الملاقاة ، لا يتناول نجاسة الكفر.

وبهذا يظهر أنّ معارضة الحلّي في محلّها ، إذ حاصلها أنّ الحيثيّة متبادرة من اللفظ ، ولذلك فرّقوا بين المسلم والكافر في مسألة الجنب ، فينبغي مثل ذلك هاهنا أيضا ».

ـ إلى أن قال ـ : « وقوله : « هذا ليس بنقض على مسألتنا بل نقض على استعمال اللّام في الاستغراق » واه جدّا ، لأنّ اللازم من عدم عموم لفظ « الجنب » لنجاسة الكفر عدم تناول الزاني والسارق ونحوهما لغير حيثيّة الزنا والسرقة بحيث يكون الحدّ المذكور لكلّ واحد منهما كافيا عنه وعن غيره » (١) ، انتهى كلامه رفع مقامه.

وإنّما نقلناه بطوله لاشتماله على دفع أكثر ما سمعته عن العلّامة كما لا يخفى على المتأمّل ، ويمكن أن يستشهد على ما ادّعاه من اعتبار الحيثيّة في جميع موجبات النزح بصدر رواية المقام المتضمّن لقوله عليه‌السلام : « هذا إذا كان ذكيّا ، وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه » عقيب ما أعطاه من الحكم بنزح دلاء لوقوع الطير المذبوح بدمه ،

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ١٩٧ ـ ١٩٨.


نظرا إلى أنّه كان محلّا لتوهّم الإطلاق بالقياس إلى أحوال وقوع الطير بالدم الّتي فيها وقوعه ميّتا بغير التذكية ، أو تحقّق موته في الماء لغير الذبح الواقع عليه في مفروض السائل ، بأن يستند موته إلى الماء دون الذبح ، فإنّه عليه‌السلام لمّا التفت إلى هذا المعنى فردع عنه بقوله عليه‌السلام : « هذا إذا كان ذكيّا » فتعرّض لحيثيّة الموت بما أفاده بعد ذلك إلى آخر الرواية.

وقضيّة هذا الالتفات أنّه لو فرض تحقّق موت الطير المفروض في الماء مستندا إليه لم يكن مطلق الدلاء كافيا في نزحه ، وهو عين ما عرفته عن صاحب المعالم وفهمه الحلّي ، ولازم ما ذكره الجماعة وعرفته عن المحقّق والعلّامة كون ذلك كافيا ، فانظر كي تعرف المحقّ عن غيره.

ثمّ إنّ العلّامة في المختلف صرّح بعدم الفرق في الكافر بين وقوعه ميّتا ، ووقوعه حيّا ثمّ موته في البئر ، فاكتفى في الجميع بنزح السبعين ، قائلا ـ بعد نقل قول الحلّي واحتجاجه ـ : « والحقّ تفريعا على القول بالتنجيس أن نقول : إن وقع ميّتا نزح له سبعون للعموم ، وتمنع من زيادة نجاسته ، فإنّ نجاسته حيّا إنّما هو بسبب اعتقاده ، وهو منفي بعد الموت ، وإن وقع حيّا ومات في البئر فكذلك ، لأنّه لو باشرها حيّا نزح له ثلاثون لحديث كردويه » (١) انتهى.

ومحصّله في كلا الشقّين يرجع إلى التمسّك بالعموم ، والظاهر ابتناؤه في الشقّ الثاني على القول بالتداخل ، وإلّا لم يكن للاكتفاء بالسبعين مع إيجاب الثلاثين لمباشرته حيّا ـ بناء على مصيره إليه فيما لا نصّ فيه ـ معنى ، وعلى أيّ حال كان فوهنه واضح بعد ملاحظة ما تقدّم.

وعن المحقّق (٢) والشهيد الثانيين (٣) الفرق بين وقوعه ميّتا فيكتفى بنزح السبعين للعموم ، وموته في البئر بعد وقوعه حيّا فينزح الجميع إن قلنا به فيما لا نصّ فيه ، وإلّا فثلاثون أو أربعون على الخلاف ، فلو كان المعهود عنهما موافقة العلّامة في القول بزوال نجاسة الكفر بالموت لكان ذلك وجها ظاهرا في هذا الفرق ، غير أنّ المحكيّ عن الشهيد في شرح الإرشاد (٤) دفع كلام العلّامة في دعوى زوال نجاسة الكفر ، فحينئذ

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٩٥.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٤٦.

(٣) روض الجنان : ١٤٩.

(٤) روض الجنان : ١٤٩ حيث قال : « وأمّا منع زيادة نجاسته بعد الموت بزوال الاعتقاد الّذي ـ


يشكل الحال في الفرق.

وإن كان قد يوجّه : (١) « بأنّ نظر المفصّل إلى أنّ المستفاد من النصّ أنّ السبعين لأجل نجاسة الموت مطلقا لا خصوص موت المسلم ، ولا فرق بين المسلم ، والكافر في النجاسة الحاصلة بالموت ، وأمّا إيجاب نزح الجميع لموت الكافر فليس للفرق بين موته وموت المسلم ، بل لخصوص نجاسة الكفر حال الحياة » (٢) ، وعليه يبنى ما تعرفه من الاعتراض عليهما.

وفيه : أنّ نجاسة الكفر إذا كانت مؤثّرة في اقتضاء نزح الجميع ولو من جهة البناء على حكم ما لا نصّ فيه ، فما الّذي [ألغاها] (٣) في صورة ما لو وقع ميّتا إلّا على ما يراه العلّامة من زوالها بعد الموت ، ولا أظنّ أنّ الموجّه لحدّة نظره يرضى بذلك ، وعليه فما اعترض عليهما الخوانساري في شرح الدروس : « من أنّ الرواية صريحة في الوقوع حيّا ثمّ الموت بعده ، فإن عمل على عمومها مع عدم اعتبار الحيثيّة لزم الاكتفاء بالسبعين في الموضعين ، وإن لم يعمل على عمومها أو يعتبر الحيثيّة المقتضية لقصر السبعين على نجاسة الموت فقط يجب أن لا يكتفي به على التقديرين ، إذ كما أنّ في الصورة الثانية يجتمع جهتان للنجاسة بالقياس إلى الكفر والموت ، فكذا في الصورة الاولى » (٤) كان متّجها ثمّ الظاهر في المسلم عدم الفرق في اعتبار السبعين بين وقوعه ميّتا أو وقوعه حيّا وموته في البئر ، لظهور النصّ في إناطة الحكم بالموت كائنا ما كان ، ولا ينافيه ورود فرض الرواية في الوقوع حيّا ، بعد ملاحظة كونه آخذا بما غلب وقوعه فليتأمّل ، والاحتياط طريق لا ينبغي الإغماض عنه.

المسألة الرابعة : فيما ينزح له خمسون دلوا ، وهو على ما في كلام غير واحد من الأصحاب أمران :

أحدهما : العذرة ، وظاهرهم كصريح بعضهم أنّ المراد بالعذرة هنا فضلة الإنسان ، مع

__________________

ـ هو سبب النجاسة ، ففيه : منع ، لأنّ أحكام الكفر باقية بعد الموت ، ومن ثمّ لا يغسل ولا يدفن في مقابر المسلمين » الخ.

(١) الموجّه شيخنا الاستاذ دام ظلّه (منه).

(٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٢٥.

(٣) وفي الأصل : « ألقاها » والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.

(٤) مشارق الشموس : ٢٢٧ ، مع اختلاف يسير في العبارة.


أنّهم في غير هذا الموضع اختلفوا في اختصاصها بها ، وقد تقدّم عن صاحب المدارك (١) التصريح بأنّها لغة وعرفا فضلة الإنسان ، وعن المعتبر (٢) التصريح بأنّ العذرة والخرء مترادفان يعمّان فضلة كلّ حيوان ، وهو ظاهر المحكيّ عن الحلّي (٣) حيث أضافها هنا إلى ابن آدم ، بناء على أنّ القيد ظاهر في التخصيص.

وقد ورد في بعض الأخبار إطلاقها على ما يعمّ فضلة غير الإنسان أيضا ، كخبر عبد الرحمن « عن الرجل يصلّي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنّور أو كلب » (٤) ، ورواية ابن بزيع ـ المتقدّمة ـ « في البئر يقع فيها شي‌ء من العذرة كالبعرة ونحوها » (٥) ، ومقتضى قاعدتهم في استعمال اللفظ في معنيين خاصّ وعامّ كونه حقيقة في العامّ إلّا إذا غلب الاستعمال في الخاصّ ، فيكون حقيقة فيه خاصّة ؛ والظاهر ثبوت تلك الغلبة هنا.

لكن يشكل ذلك بأنّ مقتضى قاعدتهم الاخرى في تعارض قول نقلة اللغة كون اللفظ حقيقة في العامّ إذا كان الاختلاف بينهما في العموم والخصوص المطلقين ، وقد عرفت وجود هذا الخلاف بين قولي المعتبر والمدارك ، ومثله موجود في كلام أئمّة اللغة ، فإنّ المحكيّ عن جماعة منهم كون العذرة : خرء الإنسان ، وظاهر المصباح المنير والمجمع كونها للعامّ ، حيث فسّرا بمطلق الخرء ، قال الأوّل : « العذرة : وزان كلمة الخرء ولا يعرف تخفيفها وتطلق العذرة على فناء الدار ، لأنّهم كانوا يلقون الخرء فيه ، فهو مجاز من باب تسمية الظرف باسم المظروف » (٦).

وقال الثاني : « العذرة وزان كلمة الخرء ، وقد تكرّر ذكرها في الحديث ، وسمّي فناء الدار (٧) عذرة لمكان إلقاء العذرة هناك » (٨) ، ولعلّ الخلاف نشأ عن ملاحظة المطلق من غير نظر إلى انصرافه ، وعن الأخذ بموجب الانصراف توهّما ، ويمكن حمل التفسيرين على المسامحة في التعبير ، كما يوهمه عبارة اخرى في المجمع في عنوان الخرء ، قائلة : « وقد تكرّر ذكر الخرء كخرء الطير والكلاب ونحو ذلك ، والمراد ما خرج منها كالعذرة

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٧٨.

(٢) المعتبر : ١١٤.

(٣) السرائر ١ : ٧٩.

(٤) الوسائل ٢ : ١٠ ب ٤٠ من أبواب الماء.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١.

(٦) المصباح المنير ؛ مادّة « عذر » : ٣٩٩.

(٧) فناء الدار ، الخارج المملوك منها وهو حريمها (منه).

(٨) مجمع البحرين ؛ مادّة « عذر ».


من الإنسان » (١).

وفي المصباح ما يوهم اختصاص الخرء أيضا بالإنسان ، لأنّه إذا أخذ بشرح تلك المادّة قال : « خرئ بالهمزة يخرأ من باب تعب ، إذا تغوّط واسم الخارج خرء » (٢) ، وإذا أخذ بشرح مادّة التغوّط قال : « الغائط اسم للمكان المطمئنّ الواسع من الأرض ، ثمّ أطلق الغائط على الخارج المتقذّر من الإنسان كراهية تسميته باسمه الخاصّ ، لأنّهم كانوا يقضون حوائجهم في الأمكنة المطمئنّة فهو من باب مجاز المجاورة ، ثمّ توسّعوا فيه حتّى اشتقّوا منه وقالوا : تغوّط الإنسان انتهى » (٣).

وكيف كان فالعذرة إمّا اسم خاصّ أو اسم عامّ منصرف إلى مسمّى خاصّ ، وعلى كلّ تقدير فيبقى فضلات سائر الحيوانات النجسة داخلة في عنوان ما لا نصّ فيه.

ثمّ الحكم المذكور للعذرة مشهور ، ونقل الشهرة عليه في حدّ الاستفاضة ، بل عليه نقل الإجماع عن ابن الزهرة (٤) ، وعن الصدوق (٥) والمحقّق في المعتبر (٦) والنافع (٧) الحكم بالأربعين إلى الخمسين ، وعن الأوّل في الأوّل عدم الوقوف على شاهد للأوّل ، ولعلّه لتوهّم كون الترديد في الرواية المذكورة مستندة له من الإمام عليه‌السلام ، وهي رواية أبي بصير المرويّة في التهذيبين ، ورواية عليّ بن أبي حمزة المرويّة في الكافي قال : سألت أبي عبد الله عليه‌السلام عن العذرة تقع في البئر؟ قال : « ينزح منها عشرة دلاء ، فإن ذابت فأربعون أو خمسون دلوا » (٨) غير أنّ نظر المشهور في الاستناد إلى احتمال كونه من الراوي ، الموجب للشكّ المحرز لموضوع الاستصحاب ، وقصور سندها باشتراك أبي بصير وضعف عليّ بن أبي حمزة منجبر بالعمل ، مع أنّه يرد على المحقّق عدم انطباق قوله على الرواية لو حمل الترديد على كونه من الإمام عليه‌السلام ، لقضائه بالتخيير بين المقدّرين مع كون الزيادة للاستحباب والأفضليّة كما عليه جماعة ، وللوجوب كما عليه البعض مع قوّته عندنا ، والقول المتقدّم يستدعي الاكتفاء بما بين المقدّرين أيضا وهو ليس من مقتضى النصّ في شي‌ء ، إلّا أن يوجّه بحمل « إلى » في كلامه على بيان البدليّة ، على حدّ

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ مادّة « خرأ ».

(٢) المصباح المنير ، مادّة « خرئ » : ١٦٧.

(٣) المصباح المنير : ٤٥٧ ، مادّة « الغائط ».

(٤) غنية النزوع : ٤٩.

(٥) المقنع : ٣٠. (٦) المعتبر : ١٥.

(٧) المختصر النافع : ٤٢.

(٨) الكافي ٣ : ٧ / ١١.


ما هو في كلامهم في حدّ الواجب المخيّر : « ما جاز تركه إلى بدل » ، وفي حدّ الواجب المطلق : « ما لا يجوز تركه لا إلى بدل » ، وعلى أيّ حال فالأخذ بالمشهور أخذ بالأحوط فلا ينبغي تركه.

ثمّ صريح الرواية اشتراط هذا التقدير للعذرة بذوبانها ، كما أنّ قضيّة ما فيها من الإطلاق عدم الفرق بين وقوعها رطبة أو يابسة فذابت في الماء ، وأمّا الذوبان ففي كلام غير واحد الانتشار وتفرّق الأجزاء.

وفي المجمع : « ذابت العذرة في الماء أي تفرّقت أجزاؤها وشاعت فيه » (١).

وفي المصباح المنير : « أنّ الذائب خلاف الجامد » (٢) وذكر هذا الشرط وارد في كلام جماعة كالشرائع (٣) ، والنافع (٤) ، وعن المعتبر (٥) ، والتذكرة (٦) ، والذكرى (٧) ، والهداية (٨) ، ومصباح السيّد (٩). ونقله في المختلف (١٠) عن الشيخين (١١) والتقيّ (١٢) والديلمي (١٣) والقاضي (١٤) والعجلي (١٥). وفي اللمعة (١٦) كما عن البيان (١٧) ونهاية الشيخ (١٨) ومبسوطة (١٩) والوسيلة (٢٠) والمراسم (٢١) والإصباح (٢٢) والنهاية (٢٣).

وفي المنتهى (٢٤) اعتبار كونها رطبة ، وفي الدروس (٢٥) كما عن الإرشاد (٢٦) والتحرير (٢٧) اعتبار أحد الأمرين الذوبان أو الرطوبة ، وعن الموجز (٢٨) الاقتصار على التقطّع ، ولعلّه يرادف الذوبان بالمعنى المتقدّم.

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ مادّة « ذوب » ٢ : ٦١.

(٢) المصباح المنير ؛ مادّة « ذاب » : ٢١١.

(٣) شرائع الإسلام ١ : ١٤. (٤) المختصر النافع : ٤٢.

(٥) المعتبر : ١٥. (٦) التذكرة ١ : ٢٦.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤. (٨) الهداية ـ للصدوق ـ : ٧١ قال : « وإن ذابت فيها فأربعون دلوا إلى خمسين دلوا ». (٩) حكى عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١١٠.

(١٠) مختلف الشيعة ١ : ٢٠٩. (١١) المقنعة : ٦٧ والنهاية ١ : ٢٠٨.

(١٢) الكافي في الفقه : ١٣٠. (١٣ و ٢١) المراسم العلويّة : ٣٥.

(١٤) المهذّب ١ : ٢٢. (١٥ و ٢٠) الوسيلة : ٦٩ و ٧٥.

(١٦) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٣٧. (١٧) البيان : ١٠٠. (١٨) النهاية ١ : ٢٠٨.

(١٩) المبسوط ١ : ١٢. (٢٢) إصباح الشيعة (سلسلة الينابيع الفقهيّة) ٢ : ٣.

(٢٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٥٩. (٢٤) منتهى المطلب ١ : ٧٩.

(٢٥) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩. (٢٦) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٧.

(٢٧) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٤.

(٢٨) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١٢).


وأمّا اعتبار الرطوبة أو أحد الأمرين منها ومن الذوبان فلعلّه على خلاف النصّ ، وتوجيهه بلزوم الذوبان للعذرة الرطبة عادة ممّا يؤدّي إلى عراء اعتبار الرطوبة مع الذوبان ، والعطف بينهما بكلمة « أو » يمنع عن اعتبار كونه للتفسير ، وكيف كان فلا دليل على الاكتفاء بمجرّد الرطوبة ما لم يصادفها الذوبان ، وعليه فلو وقعت العذرة رطبة من دون أن تذوب فأخرجت لزمها نزح عشرة عملا بإطلاق النصّ.

والظاهر من إطلاق العذرة أيضا عدم الفرق بين الكبير والصغير ، ولا بين الذكر والانثى ، ولا بين العاقل والمجنون ، ولا بين المسلم والكافر ، إلّا أن يدّعى الانصراف ، فيكون عذرة الكافر حينئذ مندرجة في غير المنصوص ، كما جزم به بعض مشايخنا (١) وأمّا مقدارها فالظاهر أنّه لا حدّ له ، بل يكفي مسمّاه عرفا ما لم يدخل من جهة القلّة فيما لا يتناوله الإطلاق كحبّة من خردل ، غير أنّه لا يجدي في سقوط المقدّر المذكور حيث أنّه لا تقدير لقليلها كذلك ، وإلحاقه بما لا نصّ فيه يبطله الأولويّة إن قلنا فيه بنزح الجميع ، نعم على القولين الآخرين لا يبعد اعتبار مقدّريهما.

والأحوط اعتبار مقدّر الكثير وهو الخمسون ، أو هو والأربعون تخييرا ، ولم نقف من الأصحاب على كلام في هذا الفرع سوى ما نسب إلى المحقّق البهبهاني في شرحه للمفاتيح قائلا : « ولا حدّ لمقدار العذرة ، بل يكفي مسمّاه عرفا بأن يكون فردا متبادرا لقوله عليه‌السلام : « فإن ذابت » ، فلا يكفي كونها قدر حبّة من خردل وأقلّ منه ، وعلى القول بالانفعال لعلّه يكفي لانفعال البئر به واحتياجها إلى مطهّر شرعي ، وهو منحصر في النزح عند القائل به ، فبنزح الخمسين يحصل الطهارة البتة بخلاف ما هو أقلّ منه » (٢).

ثمّ إنّ لهم في اعتبار ذوبان الجميع أو كفاية ذوبان البعض كلاما ، فقيل بالأوّل لأنّ الرواية أسندت الذوبان إلى العذرة الواقعة في البئر ، وهو إنّما يحصل بذوبان الجميع ، وقيل بالثاني لعدم اعتبار القلّة والكثرة ، فلو سقط مقدار البعض الذائب منفردا وذاب كان كافيا في التأثير ، فانضمام الغير إليه لا يمنعه عن التأثير ، وهذا أوجه كما أنّ الأخذ بموجبه أحوط.

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٢٦.

(٢) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط).


وثانيهما : كثير الدم الّذي مثّلوه بدم ذبح الشاة ، وفي عبارة محكيّة عن السرائر (١) تحديد أقلّ الكثير بدم الشاة ، وتحديد قليل الدم بما نقص عن دم الشاة ، وعن القطب الراوندي (٢) ملاحظة الكثرة والقلّة بالإضافة إلى ماء البئر كثرة وقلّة ، فتختلفان باختلافهما فيه ، خلافا للمشهور المحكيّ عنهم ملاحظة الكثرة بالإضافة إلى نفس الدم ، وقد تقيّد الكثرة بالعرفيّة.

وفي الجميع نظر لخلوّها عن المستند ، وعدم ورود الحكم في النصوص منوطا بلفظي « الكثير » و « القليل » حتّى ينظر في مفهوميهما ، والقول بأنّ المراد من الكثير ما ظهر من مورد الرواية في مقابل القليل وهما بالنسبة إلى الدم نفسه ، واضح الدفع ، بأنّ : مورد الرواية على ما فهموا منه الكثير ليس إلّا ذبح الشاة ، وعلى ما فهموا منه القليل ليس إلّا ذبح الدجاجة ، أو دم رعاف ، على ما في رواية عليّ بن جعفر الآتية (٣).

وفيه أوّلا : عدم قضاء الرواية بالخمسين تعيينا ولا تخييرا ، حتّى يقال بإناطته بالكثرة المفهومة من مورد الرواية.

وثانيا : عدم قضائها بوقوع دم الشاة المذبوحة بأجمعه في البئر ، حتّى يجعل ذلك ميزانا لمعرفة مناط الحكم ، بل المتأمّل في مورد السؤال يعطي وقوع البعض المطلق أو القليل منه فيها ، كما أنّ ذلك هو المفهوم من سؤال الدجاجة ، ثمّ أنّه على تقدير انفهام الكثرة عن مورد تلك الرواية فهي كثرة إضافيّة بالقياس إلى مقابلة دم الدجاجة ، وذلك لا يوجب أصلا كلّيّا مطّردا في جميع أنواع الدم الكثير حتّى ما كان منه دم إنسان أو ثور أو بعير أو نحو ذلك ، فالتعدّي حينئذ ممّا لا مسوّغ له إلّا القياس المبنيّ على استنباط ظنّي بل وهمي ، وهو كما ترى.

فما عن السرائر من أنّه : « ينزح لسائر الدماء النجسة من سائر دماء الحيوانات سواء كان مأكول اللحم أو غيره ، نجس العين أو غيره ، ما عدا دم الحيض والاستحاضة والنفاس إذا كان الدم كثيرا ، وحدّ أقلّ الكثير دم شاة خمسون دلوا ، وللقليل منه وحده ما نقص عن دم شاة عشرة دلاء بغير خلاف ، إلى آخره » (٤) ، ممّا لم يعرف له مستند ، ولو

__________________

(١ و ٤) السرائر ١ : ٧٩.

(٢) نقله عنه الشهيد في روض الجنان : ١٥٠.

(٣) الوسائل ١ : ١٩٣ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٨.


كان مبناه على ما ذكر فليس إلّا قياسات في قياس ، وكيف كان فالحكم المذكور لكثير الدم موصوف في كلامهم بكونه مشهورا.

وعن جماعة كشرح الفاضل على القواعد (١) ، والكفاية (٢) ، والذكرى (٣) ، والرياض (٤) ، والمجمع (٥) نقل الشهرة عليه ، وعن الغنية (٦) الإجماع عليه ، وفي العبارة المتقدّمة من (٧) السرائر نفي الخلاف عنه ، وحكاه في المنتهى (٨) وغيره عن الشيخ في النهاية (٩) والمبسوط (١٠) ، لكن أضاف إليه العشرة للقليل.

وفي المسألة مع ذلك أقوال اخر :

منها : ما عن المفيد في المقنعة (١١) من أنّ لكثير الدم عشر دلاء ولقليله خمس دلاء.

ومنها : ما عن الصدوق (١٢) من وجوب ثلاثين إلى ربعين في الكثير ودلاء يسيرة في القليل ، وعن المعتبر (١٣) أنّه مال إليه ، وعن الشهيد في الذكرى (١٤) أنّه حسّنه ، وعن الفاضل الهندي أنّه قرّبه ، قائلا : « بأنّه لا يخلو عن قرب » (١٥).

لأنّ المرويّ صحيحا عن عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام في رجل ذبح شاة فاضطربت فوقعت في البئر ، وأوداجها تشخب دما؟ قال : « ينزح منها ما بين ثلاثين إلى أربعين » (١٦) وطرح هذا الصحيح لأجل الشهرة والإجماع المدّعى في الغنية ، وعدم الخلاف المدّعى في السرائر ، مع مخالفة المشايخ الأربعة من القدماء والفاضلين والشهيدين من المتأخّرين في غير محلّه ، نعم العمل بالمشهور أحوط » (١٧).

ومنها : ما عن المرتضى في المصباح (١٨) من أنّ الدم فيه ما بين الدلو الواحدة إلى عشرين ، وأمّا روايات الباب فعدّة أخبار لا بأس بإيرادها جميعا.

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣٢٩.

(٢) كفاية الأحكام : ١٠.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤. (٤) رياض المسائل ١ : ١٥٦.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٧١. (٦) غنية النزوع : ٤٨.

(٧) السرائر ١ : ٧٩. (٨) منتهى المطلب ١ : ٧٩.

(٩) النهاية ١ : ٢٠٩. (١٠) المبسوط ١ : ١٢.

(١١) المقنعة : ٦٧. (١٢) الفقيه ١ : ٢٠ / ٢٩.

(١٣) المعتبر : ١٥. (١٤) ذكرى الشيعة ١ : ٩٤.

(١٥) كشف اللثام ١ : ٣٣٠ وفيه : « وهو الأقرب » بدل « لا يخلو عن قرب ».

(١٦) الوسائل ١ : ١٩٣ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(١٧) لاحظ كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٣٣٠.

(١٨) حكاه عنه في المعتبر : ١٥.


منها : الصحيحة المشار إليها في كلام الفاضل ، وهي على ما في الاستبصار عن عليّ بن جعفر ، قال : سألته عن رجل ذبح شاة فاضطربت فوقعت في بئر ماء وأوداجها تشخب دما هل يتوضّأ من تلك البئر؟ قال : « ينزح منها ما بين الثلاثين إلى الأربعين دلوا ويتوضّأ ولا بأس به ».

قال : وسألته عن رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر هل يصلح أن يتوضّأ منها؟ قال : « ينزح منها دلاء يسيرة ثمّ يتوضّأ منها ».

وسألته عن رجل يستقي من بئر فرعف فيها هل يتوضّأ منها؟ قال : « ينزح منها دلاء يسيرة » (١).

ومنها : ما تقدّم في المسألة الاولى من رواية كردويه ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن البئر يقع فيها قطرة دم ، أو نبيذ مسكر ، أو بول ، أو خمر؟ قال : « ينزح منها ثلاثون دلوا » (٢).

ومنها : ما تقدّم أيضا في المسألة المذكورة من رواية زرارة قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام بئر قطر فيها قطرة دم أو خمر؟ قال : « الدم والخمر والميّت ولحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ينزح منه عشرون دلوا » (٣) إلى آخره.

ومنها : ما تقدّم في المسألة الثالثة من رواية عمّار المتضمّنة لقوله : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل ذبح طيرا فوقع بدمه في البئر؟ فقال : « ينزح منها دلاء ، هذا إذا كان ذكيّا » (٤) إلى آخره.

ومنها : ما تقدّم في أدلّة القائلين بنجاسة البئر بالملاقاة من رواية ابن إسماعيل ابن بزيع ، قال : كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن البئر تكون في المنزل للوضوء ، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم ، أو يسقط فيها شي‌ء من العذرة كالبعرة ونحوها ، ما الّذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع عليه‌السلام بخطّه في كتابي : « ينزح دلاء منها » (٥).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٩٣ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الاستبصار ١ : ٤٤ / ١٢٣.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٢ و ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٨ و ٦٩٧.

(٤) الوسائل ١ : ١٩٤ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٥.


وأنت خبير بأنّ هذه الروايات لا ينطبق شي‌ء منها على شي‌ء من الأقوال المتقدّمة حتّى قول الصدوق أيضا ، لأنّ قضيّة ذلك القول دخول الثلاثين في التحديد القاضي بجواز الاكتفاء به ، وما يمكن توهّم انطباقه عليه من الروايات إنّما هو صحيحة عليّ بن جعفر ـ على ما فهمه الفاضل ـ (١) وهي كما ترى ظاهرة في الخروج ، وكون العبرة بما بين الثلاثين والأربعين من الأعداد ، وأقصى ما يتكلّف في ذلك إدراج الطرف الثاني وهو الأربعون في الحدّ ، بناء على أنّ التقييد بالغاية ظاهر في دخول الغاية في المغيّى ، وأمّا الطرف الأوّل فلا مقتضي لاندراجه بحسب الدلالة اللفظيّة ، وادّعاء فهم العرف للدخول غير مسموع ؛ والمفروض أنّه لا أولويّة في البين أيضا لتوجب ظنّ الدخول ، وكون مستند دخوله الإجماع ينفيه الخلاف الفاحش المتقدّم ومخالفة المشهور.

وأمّا ما قيل في الاحتجاج للمفيد بمكاتبة ابن بزيع الحاكمة بنزح دلاء ، من أنّ أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة فيجب أن يؤخذ به ويصير إليه ، إذ لا دليل على ما دونه ، على ما حكي عن الشيخ (٢) من هذا التقرير للاحتجاج.

ففيه : ما لا يخفى ، أمّا أوّلا : فلعدم انطباق مورد الرواية على القول المذكور ، مع عدم تبيّن وجه الحكم في تعيّن الخمس لقليل الدم ، نظرا إلى أنّ السؤال مفروض في القطرات المنبئة عن القلّة ، وتعيّن العشرة في ذلك القول مفروض في الكثير.

وأمّا ثانيا : فلمنع الاختلاف في مفاد صيغ الجمع في نظر العرف على ما قرّر في محلّه ، وما عليه النحاة من الفرق بين جموع القلّة وجموع الكثرة بكون أقلّ الأوّل ثلاثة وأكثره عشرة وهي أقلّ الثاني اصطلاح لا شاهد عليه ، بل العرف شاهد بخلافه ، فلا يعدل عنه في خطابات الشرع ، ومقتضاه الاقتصار على الثلاثة في الجميع عملا بالإطلاق القاضي بكفاية أقلّ المراتب.

وأمّا ثالثا : فلمنع كون لفظة « الدلاء » من جموع القلّة على ما هو مضبوط عندهم ، ومع كونه من جموع الكثرة فقضيّة البناء على الفرق المذكور كون العشرة أقلّ عدد يضاف إلى هذا الجمع لا أكثره.

وأمّا رابعا : فلمنع تعيّن الحمل على الأكثر بعد تسليم المقدّمتين ، بل القاعدة تقتضي

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣٢٩.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤٥.


الاكتفاء بالأقلّ كما عرفت ، ومن هنا لو ذهب الوهم إلى اعتبار ذلك مستندا لقول الشيخ بالعشرة في القليل ـ كما تقدّم عنه في النهاية (١) والمبسوط ـ (٢) وهو الّذي نسب إلى المشهور أيضا في بعض المسائل الآتية بدعوى : أنّ هذا العدد أقلّ ما يضاف إلى جمع الكثرة ، لاتّجه المنع إليه بابتنائه على الفرق المتقدّم منعه.

وبالجملة : أقوال المسألة لا يخلو عن اضطراب وتشويش ، حيث لا مستند لشي‌ء منها يكون واضح الدلالة على المطلق حتّى المشهور ، وإن حكي عليه الإجماع والشهرة ، لأنّهما ما لم يوجبا أو لم يقترنهما ما يوجب الاطمئنان لا عبرة بهما ، ومع ذلك فهو الأحوط لكونه أجمع الأقوال بعدم خروج شي‌ء منها عنه.

ويمكن تأييده بما عرفت من مصير الشيخ في النهاية إليه ، بناء على أنّه بمنزلة الرواية المرسلة لما اعترف به من أنّه لا يفتي فيها إلّا بمتون الروايات (٣) ، فالمصير إليه حينئذ أولى عملا بالاحتياط.

ثمّ إنّ إطلاق الأصحاب يقضي بشمول الحكم لدم نجس العين ، بل هو صريح ما تقدّم عن ابن إدريس (٤) ، غير أنّ التأمّل في ظاهر الروايات ولو من جهة الانصراف ممّا يعطي خلافه ، فالأولى على القول بوجوب نزح الجميع في غير المنصوص إلحاقه به ، وإلّا فإلحاقه بغيره من الدماء مع البناء فيها على المشهور أولى وأحوط ، وعلى قياسه الدماء الثلاث الّتي قد عرفت عن الحلّي (٥) التصريح باستثنائها من عنوان المسألة ، والله العالم.

المسألة الخامسة : فيما ينزح له أربعون دلوا ، وقد اختلفت كلمة الأصحاب في ضبط ذلك وحصره عددا ، ففي شرائع المحقّق : « أنّه لموت الثعلب ، والأرنب ، والخنزير ، والسنّور ، والكلب ، وشبهه ، وبول الرجل » (٦).

وفي المنتهى (٧) عزاه في الجميع مع زيادة « الشاة » إلى الشيخين ، ثمّ نسب إلى السيّد أنّه وافقهما في الكلب وبول الرجل ، وإلى ابن بابويه أنّه وافقهم في البول.

ووافقهم في الجميع إلّا زيادة لفظة « شبهه » الشهيد في الدروس (٨) واللمعة (٩) ، وعن

__________________

(١ و ٣) النهاية ١ : ٧ و ٢٠٩.

(٢) المبسوط ١ : ١٢.

(٤) السرائر ١ : ٧٩. (٥) السرائر ١ : ٧٩.

(٦) شرائع الإسلام ١ : ١٣. (٧) منتهى المطلب ١ : ٢٨.

(٨) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٩) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٣٨ ولكن اضيف فيه إلى المذكورات قوله : « وشبه ذلك » ويحتمل كونه ـ


السرائر (١) زيادة الشاة ، والغزال ، وابن آوى ، وابن عرس ، على ما عرفت عن الشرائع ثمّ قال : « وما أشبه ذلك في مقدار الجسم على التقريب » (٢).

وعن الغنية (٣) الإجماع على المذكورات وأشباهها ، وفي الروضة (٤) ـ كما عن شرح المفاتيح ـ (٥) جعل الحكم مشهورا ، وعن الذكرى (٦) أنّ الحكم في الكلب والسنّور مشهور ، وعن الكفاية (٧) شهرته في الكلب والسنّور ، قال الصدوق في الفقيه : « فإن وقع فيها كلب نزح منها ثلاثون دلوا إلى أربعين دلوا ، فإن وقع فيها سنّور نزح منها سبع دلاء » ـ إلى أن قال ـ : « وإن بال فيها رجل استقى منها أربعون » ـ إلى أن قال ـ : « وإن وقعت شاة وما أشبهها في بئر ينزح منها تسعة دلاء إلى عشرة دلاء » (٨).

وعنه في المقنع : « إن وقع فيها كلب أو سنّور فانزح ثلاثين دلوا إلى أربعين ، وقد روى سبع دلاء » (٩).

ومستند المشهور في غير بول الرجل ـ على ما في كلام غير واحد ـ روايتان ، إحداهما : موثّقة سماعة ـ المرويّة في التهذيبين ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر أو الطير؟ قال : « إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء ، وإن كانت سنّورا أو أكبر منه نزحت منها ثلاثين دلوا أو أربعين دلوا » (١٠).

اخراهما : رواية القاسم عن عليّ المرويّة فيهما أيضا ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء » قال : وسألته عن الطير والدجاجة تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء ، والسنّور عشرون ، أو ثلاثون ، أو أربعون دلوا ، والكلب وشبهه » (١١).

ولا يذهب عليك أنّ هذه الرواية كسابقتها إنّما تقتضي الأربعين على جهة التخيير ، وهو ينافي التعيين الّذي صار إليه الجماعة ، ولكن ظاهرهم أنّهم إنّما صاروا إليه من

__________________

ـ من كلام الشهيد الثاني رحمه‌الله فاشتبه بكلام الماتن فادخل في المتن ـ والله العالم.

(١ و ٢) السرائر ١ : ٧٦.

(٣) غنية النزوع : ٤٩.

(٤) الروضة البهيّة ١ : ٣٨.

(٥) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٦.

(٦) ذكرى الشيعة ١ : ٩٥.

(٧) كفاية الأحكام ١ : ١٠. (٨) الفقيه ١ : ٢١. (٩) المقنع : ٣٠.

(١٠ و ١١) الوسائل ١ : ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ و ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٦ و ٢٣٥ / ٦٨١ و ٦٨٠ ـ الاستبصار ١ : ٣٦ / ٩٨ و ٩٧.


جهة الاستصحاب كما هو صريح البعض ، أو لمراعاة الاحتياط خروجا عن شبهة الخلاف ، وعملا بجميع ما ورد في هذا الباب من الأخبار ، وإن شئت فانظر إلى كلام الشيخ في التهذيب في وجه الاحتجاج بالروايتين ، قائلا : « وليس لأحد أن يقول : كيف عملتم على أربعين دلوا في السنّور والكلب وشبههما ، وفي الدجاجة والطير على سبع دلاء ، وفي هذين الخبرين ليس القطع إلى أربعين دلوا ، بل إنّما يتضمّن على جهة التخيير ، وهلّا عملتم بغير هذين الخبرين ممّا يتضمّن نقصان ما ذهبتم إليه؟ لأنّا إذا عملنا على ما ذكرناه من نزح أربعين دلوا ممّا وقع فيه الكلب وشبهه ، و [نزح] سبع دلاء ممّا وقع فيه الدجاج وشبهه ، فلا خلاف بين أصحابنا في جواز استعمال ما بقي من الماء ، ويكون أيضا الأخبار تتضمّن الأقلّ من ذلك داخلة في جملته ، وإذا عملنا على غير ذلك نكون دافعين لهذين الخبرين جملة وصائرين إلى المختلف فيه ، فلأجل هذا عملنا على نهاية ما وردت به الأخبار » (١).

واعتذر بمثل ذلك في الاستبصار (٢) ، وأضاف فيه التعليل : بأنّ العمل بالخبرين ممّا يوجب العلم بزوال النجاسة ، ولا يحصل مع العمل على غيرهما ، وعلى هذا فيظهر ثمرة الاستدلال بالخبرين في نفي اعتبار ما زاد على أربعين ، لأنّه أقصى ما ورد به النصّ ، وحينئذ فلا إشكال ظاهرا.

نعم ، يبقى الكلام في جواز الاعتماد على الرواية الثانية باعتبار سنده الّذي هو بنفسه ضعيف بواسطة القاسم بن محمّد ، وعليّ بن أبي حمزة ، ولذا وصفه في المنتهى (٣) بالضعف تعليلا بكون الرجلين واقفيّين ، ولكن الخطب في ذلك بعد ملاحظة انجباره بالشهرة وبعمل من لا يعتمد على أخبار الآحاد كالحلّي (٤) ، مع ما ستعرفه في عليّ ، ممّا يوجب الاطمئنان به ، مع أنّ تعويل الشيخ عليه من أمارات الاعتبار عندهم.

وممّا بيّنّاه من ظاهر دلالة الخبرين ظهر وجه الاختلاف بينهم وبين الصدوق ، فإنّ ظاهره أنّه أخذ بظاهر التخيير من دون التفات إلى احتياط وغيره ، مع ظهور كون مستنده الموثّقة أو ما هو نظيرها في الاقتصار على ما يشمل الكلب والسنّور ، لكنّه مع

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٦ الحديث ٦٨١.

(٢) الاستبصار ١ : ٣٧.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٨٣.

(٤) السرائر ١ : ٧٦.


إشكال في دعوى الانحصار لا ينطبق إلّا على فتواه في المقنع (١) ، وأمّا فتواه في « الشاة » ـ على ما عرفته عن الفقيه ـ (٢) فقيل : إنّ مستنده رواية إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه ، أنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : « الدجاجة ومثلها يموت في البئر نزح منها دلوان [أ] وثلاثة ، فإذا كانت شاة وما أشبهها فتسعة أو عشرة » (٣).

وهذه الرواية مع روايات اخر قد خرجت على خلاف المذهب المشهور ، ولأجل ذا سقطت عن الاعتبار ، سيّما الروايات الاخر الّتي لا عامل بها أصلا ، وهي الّتي بين ما دلّ على وجوب نزح الجميع كرواية عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سئل عن بئر يقع فيها كلب ، أو فأرة ، أو خنزير؟ قال : « تنزف كلّها » (٤) ، وحملها الشيخ (٥) على صورة التغيّر.

وما دلّ على نزح دلاء كرواية الفضل البقباق ، قال : قال : أبو عبد الله عليه‌السلام في البئر يقع فيها الفأرة ، أو الدابّة ، أو الكلب ، أو الطير ، فيموت ، قال : « يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء ثمّ يشرب منه ويتوضّأ » (٦).

ورواية عليّ بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن البئر يقع فيها الحمامة ، والدجاجة ، أو الفأرة ، أو الكلب ، أو الهرّة؟ فقال : « يجزيك أن تنزح منها دلاء ، فإنّ ذلك يطهّره إن شاء الله تعالى » (٧).

وفي معناهما روايات اخر ، وحملهما الشيخ على إرادة بيان الحكم لبعض المذكورات كالفأرة والطير ، أو أنّ الدلاء جمع كثرة وهو ما زاد على عشرة فلا يمتنع أن يكون المراد به أربعين.

وما دلّ على كفاية السبع كرواية عمرو بن سعيد بن هلال ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عمّا يقع في البئر ما بين الفأرة والسنّور إلى الشاة؟ فقال : « كلّ ذلك نقول سبع دلاء » (٨) إلى آخره ، وما دلّ على كفاية الخمس كرواية أبي أسامة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الفأرة ، والسنّور ، والدجاجة ، والكلب ، والطير ، قال : « فإذا لم يتفسّخ ، أو يتغيّر طعم الماء ، فيكفيك خمس

__________________

(١) المقنع : ٣٠. (٢) الفقيه ١ : ٢١. (٣) الوسائل ١ : ١٨٦ ب ١٨ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٣. (٤ و ٦ و ٧) الوسائل ١ : ١٨٤ و ١٨٢ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ و ٦ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٢ و ٢٣٧ / ٦٩٩ و ٦٨٥ و ٦٨٦.

(٥) التهذيب ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩.

(٨) الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٧٩.


دلاء » (١) وحملها الشيخ على نظير ما سبق من إرادة بيان الحكم لبعض المذكورات.

ولا يخفى أنّ اختلاف هذه الروايات وغيرها من روايات البول قرينة واضحة على المختار من عدم نجاسة البئر وعدم وجوب نزحها ، لأنّ الاستحباب هو الّذي لا ينافيه هذا الاختلاف ، لاختلاف مراتب الفضل والرجحان.

وأمّا الحكم في بول الرجل فقد أسنده في المدارك (٢) إلى الخمسة وأتباعهم ، وعن الغنية (٣) والسرائر (٤) الإجماع عليه ، ومستنده الرواية المرويّة ـ في التهذيبين ـ عن عليّ ابن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن بول الصبيّ الفطيم يقع في البئر؟ فقال : « دلوا واحدة » ، قلت : بول الرجل؟ قال : « ينزح منها أربعون » (٥).

والرواية واضحة الدلالة على المطلوب ، غير أنّه قد يستشكل بالنظر إلى سندها من جهة عليّ بن أبي حمزة المجروح عندهم ، المرميّ بالوقف ، لكن الخطب فيه أيضا سهل بعد ملاحظة الانجبار بالشهرة كما صرّح به جماعة منهم المحقّق ـ على ما حكي ـ قائلا : « إنّها مجبورة بعمل الأصحاب » (٦).

وعن المنتهى : « أنّ عليّ بن حمزة لا يعوّل على روايته ، غير أنّ الأصحاب قبلوها وبذلك يطرح ما يعارضها من الأخبار » (٧).

وفي حاشية المدارك ـ للمحقّق البهبهاني ـ : « أنّ الشيخ ادّعى إجماع الإماميّة على العمل برواية عليّ بن أبي حمزة ، مضافا إلى أنّ هذه الرواية منجبرة بالشهرة » (٨).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٤.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٢ ـ والمراد بالخمسة هم والد الصدوق والسيّد ، نقله عنهما في المعتبر ١٦.

والصدوق كما في الفقيه ١ : ١٧ ، والهداية ٣٠ ؛ والمفيد في المقنعة ٦٧ ؛ والشيخ كما في التهذيب ١ : ٢٤٣ ؛ والمبسوط ١ : ١٢ ؛ والنهاية : ٧. والمراد باتباعهم هما أبو الصلاح في الكافي في الفقه : ١٣٠ ؛ والسلّار في المراسم العلويّة : ٣٥.

(٣) غنية النزوع : ٤٩.

(٤) السرائر ١ : ٧٨.

(٥) الوسائل ١ : ١٨١ ب ١٦ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٣ / ٧٠٠ ـ الاستبصار ١ : ٣٤ / ٩٠.

(٦) المعتبر : ١٦.

(٧) منتهى المطلب ١ : ٨٦ وعبارة : « وبذلك يطرح ما يعارضها من الأخبار » لا يوجد في المنتهى ، بل هو من كلام الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٢٣١ الّذي نقل عنه المصنّف رحمه‌الله عبارة المنتهى ، ـ كما يظهر بالتتبّع ـ وزعم أنّه من تتمّة كلام العلّامة رحمه‌الله.

(٨) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٣٦.


وعن المحقّق في المعتبر أنّه دفعه ـ مضافا إلى دعوى الانجبار ـ « بأنّ كونه واقفيّا غير قادح في اعتبار روايته ، لأنّ تغيّره إنّما كان بعد موت الكاظم عليه‌السلام فلا يقدح فيما قبله » (١).

واستضعفه في المدارك بأنّ : « العبرة في عدالة الراوي بوقت الأداء لا التحمّل ، ومن المعلوم انتفاء تحقّق ذلك » (٢).

وعن صاحب المعالم نظير ذلك مع وجه آخر ، قائلا : « بأنّ قوله : « ابن أبي حمزة إنّما تغيّر في زمن موسى ، عليه‌السلام » عجيب ، إذ ليس الاعتبار في عدالة الراوي بحال التحمّل بل بحال الرواية ، وكيف يعلم بمجرّد إسنادها إلى الصادق عليه‌السلام أنّ روايته لها وقعت قبل تغيّره؟ وما هذا إلّا محض التوهّم.

مع أنّ الجزم بإرادة ابن أبي حمزة البطائني الّذي هو واقفي لا وجه له ، لاشتراك الاسم بينه وبين ابن أبي حمزة الثمالي ، وأيّ قرينة واضحة على التمييز » (٣).

أقول : لا حاجة إلى قرينة التميّز لكون الثمالي بنفسه ثقة مصرّحا بتوثيقه في كلام غير واحد ، فلا وجه لما ذكره إن أراد به القدح من جهة الاشتراك.

وفي حاشية المدارك ـ للمحقّق المتقدّم ذكره ـ التعرّض لتوجيه كلام المحقّق دفعا للاعتراض المذكور قائلا : « ولعلّ غرض المحقّق أنّ الأصحاب يعملون بروايته مع أنّ عادتهم عدم الاتّفاق على العمل برواية من أنكر الحقّ عنادا ، وأكل أموال الكاظم عليه‌السلام ظلما وعدوانا ، فالظاهر أنّهم إنّما أخذوا الرواية عنه قبل أن يصدر منه ما صدر » (٤).

وقد يوجّه أيضا : « بأنّه لعلّه لأنّ الظاهر أنّ من تحمّل الحديث عن الإمام عليه‌السلام يبادر إلى نقله وروايته لغيره وثبته في كتابه ، والظاهر أنّ من سمعه إنّما سمعه منه قبل موت الكاظم عليه‌السلام ، ويبعد أن يكون قد ترك الرواية من زمان الصادق عليه‌السلام إلى زمان الرضا غير مرويّة ولا مثبتة في الكتاب » (٥).

وفي المسألة قولان آخران.

أحدهما : ما يستفاد من العلّامة في المنتهى قائلا : « والأقرب عندي في العمل الأخذ

__________________

(١) المعتبر : ١٦.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٢.

(٣) فقه المعالم ١ : ٢٠٧.

(٤) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٣٦.

(٥) الموجّه هو الشيخ الأعظم الأنصاري في كتاب الطهارة ١ : ٢٣١.


برواية محمّد بن بزيع لسلامة سندها ، ويحمل « الدلاء » في البول على رواية كردويه ، فإنّها لا بأس بها » (١).

ومراده من رواية محمّد بن بزيع الصحيحة ـ المتقدّمة مرارا ـ المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « ينزح منها دلاء » (٢) وبرواية كردويه ما تقدّم من قوله سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن البئر يقع فيها قطرة دم ، أو نبيذ مسكر ، أو بول ، أو خمر؟ قال : « ينزح منها ثلاثون دلوا » (٣).

ولعلّ الحمل الّذي اعتبره بين الروايتين مبنيّ على توهّم عطف البول في رواية كردويه على المضاف في « قطرة دم » دون المضاف إليه ، وإلّا لم يكن لحمل « دلاء » الصحيحة على ثلاثين دلوا [وجها] (٤) لاختصاصه بالقطرة ، ومع ذلك فأصل القول شاذّ لا عبرة به.

وثانيهما : ما استظهره صاحب المدارك (٥) من نزح دلاء للقطرات من البول مطلقا ، لصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام (٦) ، ونزح الجميع لانصبابه فيها مطلقا ، لصحيحة معاوية بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام في البئر يبول فيها الصبي ، أو يصبّ فيها بول ، أو خمر؟ فقال : « ينزح الماء كلّه » (٧).

ويظهر الميل إليه من صاحب المعالم أيضا ، قائلا ـ في كلام محكيّ له ـ : « المتّجه العمل بصحيحة معاوية بن عمّار في الكثير ، لدلالة الانصباب عليه ، وبصحيحة محمّد بن إسماعيل في القليل ، لظهور القطرات فيه ، إلّا أن يتحقّق إجماع على خلافه ، لا مجرّد عدم ظهور القائل به كما يقال » (٨).

وهذا أيضا كسابقه في الشذوذ المسقط للاعتبار.

(فروع) أحدها : إذا عرفت أنّ مورد النصّ والفتوى هو الرجل ، وهو ظاهر في الذكر البالغ ، تعلم أنّ الحكم لا يتناول المرأة ، فحصل الفرق إذن بينهما ، وهو المحكيّ عن

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٨٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٨.

(٤) زيادة يقتضيها السياق.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٨٢.

(٦) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١.

(٧) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٦.

(٨) فقه المعالم ١ : ٢٠٨ ، مع اختلاف يسير في العبارة.


الأكثر المصرّح به في كلام جماعة.

لكن المرويّ عن السرائر (١) عدم الفرق تعليلا : بأنّ الأخبار متواترة من الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام على أنّه ينزح لبول الإنسان أربعون دلوا ، وظاهره الشمول للمرأة فضلا عن الصغير ، قيل : وهو المحكيّ عن التحرير (٢) ، بل وعن الغنية (٣) ، والإصباح (٤) والإشارة (٥)

قيل : وفي شرح المفاتيح (٦) وغيره نقل الإجماع عن ابن زهرة عليه ، قال في المنتهى : « لا فرق بين بول المرأة والرجل ، إن عملنا برواية محمّد بن بزيع أو رواية كردويه ، وإن عملنا برواية عليّ بن أبي حمزة حصل الفرق ، وابن إدريس لم يفرّق بينهما من مآخذ اخر ، قال : لأنّها إنسان ، والحكم معلّق عليه معرّفا باللام الدالّ على العموم ، ومقدّماته كلّها فاسدة. نعم لا فرق في المرأة بين الصغيرة والكبيرة في وجوب الأربعين » (٧).

وعن المعالم : « وعلى ما ذكرناه ـ من العمل بروايتي معاوية بن عمّار ، ومحمّد ابن إسماعيل ـ لا فرق بينهما ، لإطلاق البول في الروايتين » (٨).

وعن المعتبر الاعتراض على ما ذكره ابن إدريس ، قائلا : « نحن نسلّم أنّها إنسان ، ونطالبه أين وجد الأربعين معلّقة على بول الإنسان ، ولا ريب أنّه وهم » (٩) ، واستحسنه المحقّق الخوانساري (١٠) تعليلا بعدم وقوفه في الروايات على ما يدلّ عليه.

ثمّ القائلون بالفرق اختلفوا في مقدّر المرأة ، فعن جماعة منهم إلحاقه بما لا نصّ فيه ، وعن المعتبر أنّه أوجب ثلاثين دلوا ، سواء كان من صغيرة أو كبيرة لرواية كردويه ، وحكم باستحباب نزح الجميع لرواية معاوية بن عمّار ، وتنظر المحقّق الخوانساري في القولين بكليهما.

« أمّا الأوّل : فلورود النصّ فيه متعدّدا ، كصحيحتي معاوية بن عمّار ، وابن بزيع

__________________

(١) السرائر ١ : ٧٨.

(٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٣) غنية النزوع : ٤٩٠.

(٤) إصباح الشيعة : ٤.

(٥) إشارة السبق : ٨١ وفيه : « وكذا البول البشري البالغ ».

(٦) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٦ ـ حيث قال : « لكن نقل ابن زهرة الإجماع على أربعين في بول الإنسان وكذلك ابن إدريس محتجّا بتواتر الأخبار في ذلك ».

(٧) منتهى المطلب ١ : ٨٦.

(٨) فقه المعالم ١ : ٢٠٩.

(٩) المعتبر : ١٦. (١٠) مشارق الشموس : ٢٣٠.


وروايتي كردويه ، إلّا أن يقال : صحيحة معاوية لم يعمل بها الأصحاب في حكم البول فلا عبرة بها ، وقد يقال : إنّ عدم عمل الأصحاب بها إنّما هو في بول الرجل لوجود مخصّص في الخارج ، وذلك لا يستلزم عدم العمل بها في بول المرأة ، إلّا أن يقال : إذا ثبت عدم العمل بها في بول الرجل فالتخصيص ليس بأولى من المجاز ، فليحمل على الاستحباب ؛ وكذا الحال في صحيحة ابن بزيع ، وأمّا روايتا كردويه فإحداهما خارجة عن البحث لاختصاصها بالمخالط بماء المطر ، وأمّا الاخرى فغير نقيّة السند ، فالعمل بها مشكل ، مع أنّ الأصحاب لم يعملوا بمضمونها ، وأيضا أنّها مختصّة ظاهرا بقطرة البول فلا نصّ فيما عداها.

وأمّا الثاني : فلأنّ رواية كردويه لا تصلح للاعتماد عليها مع ظهورها في القطرة ، والّذي يقتضيه النظر أن يكتفى في القليل منه بدلاء لصحيحة ابن بزيع ، مع تأيّدها بالأصل ، وأمّا في الكثير فلا يبعد الاكتفاء بالثلاثين ، لأنّه القدر المتيقّن ولا دليل على الزائد ، والأولى الأربعون ، والأحوط الجميع » (١) ، انتهى ملخّصا. وهذا كما ترى قول آخر اختاره وهو فرق في بول المرأة بعد الفرق بينه وبين بول الرجل بين قليله وكثيره ، فعلم أنّ المسألة ذات أقوال ، وحيث إنّا لا نقول بالنجاسة ولا بوجوب النزح فلا جدوى للتعرّض لجرح هذه الأقوال وتعديلها.

وثانيها : عن ظاهر الأكثر عدم لحوق الخنثى بالرجل ، وعن بعضهم استقرب إلحاقه بما لا نصّ فيه ، وعن المسالك : « والأجود في بول الخنثى وجوب أكثر الأمرين من الأربعين وما يجب لما لا نصّ فيه » (٢).

وفي الروضة ـ بعد إلحاقه بما لا نصّ فيه ـ : « ولو قيل فيما لا نصّ فيه بنزح ثلاثين أو أربعين وجب في بول الخنثى أكثر الأمرين منه ومن بول الرجل مع احتمال الاجتزاء بالأقلّ » (٣) انتهى.

وفي حكم الخنثى الممسوح وهو الّذي ليس له ما للرجال ولا للنساء.

وثالثها : قضيّة إطلاق الرجل في مورد النصّ عدم الفرق فيه بين المسلم وغيره ، كما

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٣٠.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ١٧.

(٣) الروضة البهيّة ١ : ٣٨.


في الروضة (١) ، وعن المسالك (٢) ، والمهذّب (٣) ، وشرح الفاضل (٤) ، بل عن السرائر (٥) ، والتحرير (٦) ، ونهاية الإحكام (٧) ، أيضا.

وفي المنتهى التصريح به (٨) ، وعن المعالم (٩) ، وشرح المفاتيح (١٠) ، والذخيرة (١١) ، « أنّه ظاهر الأصحاب ».

وفي شرح الدروس للخوانساري : « أنّ المتقدّمين حتّى ابن إدريس القائل بالفرق بين موت المسلم والكافر لم يفرّقوا بينهما في البول ، لتناول العموم لهما ، واحتمل بعض المتأخّرين الفرق لأنّ لنجاسة الكفر تأثيرا ، ولهذا لو وقع في البئر ماء متنجّس بملاقاة بدن الكافر لوجب له النزح ، فكيف يكتفي للبول مع ملاقاته لبدنه بأربعين ، والحكم إنّما هو منوط بنجاسة البول لا بنجاسة الكفر ، وقال : وهذا وارد في سائر فضلاته كعذرته وبوله ، ومثله دم نجس العين » (١٢) انتهى.

وأنت خبير بوهن هذا الكلام وفساد ذلك الاستنباط ، فإنّ أقصى ما ثبت بالدليل من نجاسة الكافر إنّما هو نجاسة ظواهر بدنه لا بواطنه ، ولا سيّما عروقه ومجاري فضلاته ، والبول وما أشبهه إنّما يخرج من الباطن من دون لصوقه لظاهر البدن كما لا يخفى ، ولو فرض الكلام فيما لو لاصق ظاهر البدن اتّفاقا ـ فمع أنّه خارج عن مفروض المسألة ـ يتّجه المنع إلى اقتضاء ذلك تأثيرا من حيث ابتنائه على قبول النجس أو المتنجّس للنجاسة ثانيا ، وهو موضع منع ، خصوصا في النجس بالأصل كالبول والدم وغيرهما من الفضلات ، وقياس ما نحن فيه على الماء المتنجّس بملاقاة بدن الكافر باطل لوضوح الفرق بين المقامين.

ومن هنا يظهر الفرق بين مسألتنا هذه وما تقدّم من مسألة الموت الّذي صرنا فيه

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٣٨.

(٢) مسالك الأفهام ١ : ١٧.

(٣) المهذّب ١ : ٢٢.

(٤) كشف اللثام ١ : ٣٣٣.

(٥) السرائر ١ : ٧٨.

(٦) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٧) نهاية الإحكام ١ : ٢٥٩.

(٨) منتهى المطلب ١ : ٨٦.

(٩) فقه المعالم ١ : ٢٠٩.

(١٠) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٦ وفيه : « ونسب إلى الأكثر عدم الفرق بين المؤمن والكافر لعموم اللفظ ».

(١١) ذخيرة المعاد : ١٣٣. (١٢) مشارق الشموس : ٢٣٠.


إلى الفرق بينهما فيما لو وقع الكافر حيّا في البئر ثمّ اتّفق موته فيها.

ومحصّل الفرق : أنّ ماء البئر يلاقيه نجاسة الكفر سابقة على الموت وهي داخلة في غير المنصوص ولا يشملها حكم الموت ، كما سبق تفصيل القول في تحقيقه ، بخلاف المقام الّذي لم يطرأ الموضوع نجاسة اخرى غير النجاسة البوليّة.

فاندفع بذلك ما عن صاحب المعالم قائلا : « والتحقيق : أنّ الحيثيّة معتبرة في الجميع كما أشرنا إليه في مسألة موت الإنسان ، واللازم من ذلك عدم الاكتفاء بالمقدّر لحيثيّته عند مصاحبة اخرى لها ، لما سيأتي من عدم تداخل المنزوحات عند تعدّد أسبابها.

ولا ريب أنّ ملاقاة النجاسة لنجاسة اخرى على وجه مؤثّر يوجب لها قوّة واعتبارا زائدا على حقيقتها ، والدليل الدّال على نزح مقدار مخصوص لها غير متناول لما سواها ، فكيف يكون كافيا عن الجميع بتقدير الاجتماع » (١) انتهى.

ومحصّل الاندفاع : منع اجتماع الحيثيّتين من النجاسة أو نجاستين مؤثّرتين ، حيث لا مقتضى لأحدهما كما عرفت.

المسألة السادسة : فيما ينزح له ثلاثون دلوا ، وهو على ما في كلام غير واحد ماء المطر المخالط للبول ، والعذرة ، وخرء الكلب.

وأصل الحكم مشهور ، ونقل الشهرة عليه إلى حدّ الاستفاضة في كلامهم مذكور ، ومستنده الرواية المرويّة ـ في التهذيبين وغيرهما ـ عن ابن أبي عمير عن كردويه ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن بئر يدخلها ماء المطر فيه البول ، والعذرة ، وأبوال الدوابّ وأرواثها ، وخرء الكلاب؟ قال : « ينزح منها ثلاثون دلوا ، وإن كانت مبخرة » (٢) وضعف الرواية بكردويه لجهالته غير قادح ، بعد ملاحظة قضيّة الانجبار بالشهرة ورواية ابن أبي عمير عنه.

وأمّا ما عن مبسوط الشيخ من أنّه : « متى وقع في البئر ماء خالطه شي‌ء من النجاسات مثل ماء المطر والبالوعة وغير ذلك ، نزح منها أربعون دلوا للخبر » (٣) فاسد مخالف للنصّ والفتوى ، والخبر المشار إليه ممّا لم يعرف له أثر.

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ٢١٠.

(٢) الوسائل ١ : ١٨١ ب ١٦ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠٠ الاستبصار ١ : ٤٣ / ١٢٠.

(٣) المبسوط ١ : ١٢.


ومثله في الشذوذ ما عن الفقيه (١) بدل « ماء المطر » « ماء الطريق » ، إلّا أن ينزّل إلى إرادة ماء المطر لأنّه الغالب ، وكيف فالتعدّي عن مورد النصّ غير سائغ ، وإلحاق غير المنصوص هنا كالمطر المخالط بغير ما ذكر من النجاسات ، والماء المخالط لها ولغيرها بغير المنصوص المخصوص بحكم آخر متعيّن ، إن لم يفهم من دليل مقدّر كلّ نجاسة منفردة شموله لها مختلطة.

ولعلّه إلى ذلك ينظر ما عن السرائر من « أنّ ما في المبسوط غير واضح ولا محكيّ ، بل تعتبر النجاسة المخالطة للماء [الواقع في ماء البئر] ، فإن كانت منصوصة [عليها] أخرج المنصوص [عليها] ، وإن كانت غير منصوصة دخلت في قسم غير المنصوص ، والصحيح من المذهب والأقوال المقصودة (٢) بالإجماع والنظر والاعتبار والاحتياط نزح جميع ماء البئر ، ومع التعذّر التراوح » (٣) انتهى.

وقضيّة ما عرفت عدم التعدّي عن حكم النصّ إلى ما لو انضمّ إلى المذكورات غيرها ، أو وقع الغير بدل بعضها ، ولمّا كان النصّ ظاهرا في اعتبار وقوع جميع المذكورات فقد يشكل الحال لو فقد بعضها ، لكن في كلام غير واحد ـ كما عن الشيخ عليّ في شرحه للقواعد (٤) ، وشرح الدروس (٥) ، وغيرهما ـ الاقتصار على حكم الجميع بالطريق الأولى.

وللتأمّل في أمثال هذه الأولويّة مجال واسع ما لم تكن عرفيّة ، والأقرب ملاحظة حال النصّ الوارد في مقدّر النجاسة المختلطة إذا وقعت منفردة ، فإن تناولها مختلطة وإلّا فالإلحاق بغير المنصوص ، من غير فرق في جميع ما ذكر بين كون مقدّر البعض المختلط مساويا للثلاثين أو زائدا عليه أو ناقصا منه.

وقد يقال في الأخير : بالاقتصار على المقدّر الأقلّ من ثلاثين إن كان ، ويدّعى عليه الأولويّة أيضا بالإضافة إلى حالة الانفراد وإن كان الأحوط اعتبار الثلاثين ، وفي

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢ / ٣٥.

(٢) والصواب : « المعتضدة » كما قال في السرائر : « فالصحيح من المذهب والأقوال الّذي يعضده الإجماع » الخ.

(٣) السرائر ١ : ٨١ ، مع اختلاف يسير في العبارة.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١٤٢.

(٥) مشارق الشموس : ٢٣١.


الروضة أطلق القول بأنّ الحكم معلّق على الجميع فيجب لغيره مقدّره أو الجميع إن لم يكن له مقدّر ، الأقرب بالاحتياط هو ما ذكرنا.

ثمّ إنّ هاهنا إشكالا معروفا أورده بعضهم على أصل المسألة ، وهو : أنّ ترك الاستفصال عن النجاسات المذكورة يقتضي [تساوي] جميع محتملاتها في الحكم ، فيستوي حال العذرة رطبة ويابسة ، وحال البول إذا كان بول رجل أو غيره ، وقد حكموا بنزح خمسين للعذرة الرطبة ، وأربعين لبول الرجل مع انفراد كلّ منهما ، فكيف تجتزئ بالثلاثين مع انضمام أحدهما إلى الآخر ، وانضمام غيرهما إليهما ، وهو مقتض لزيادة النجاسة وتضاعفها.

واجيب عنه تارة : بإمكان تنزيل الرواية على ماء المطر المخالط لهذه النجاسات مع استهلاك أعيانها.

وردّ : بأنّه على تقدير الاستهلاك لا يبقى فرق بين ماء المطر وغيره وقد فرّقوا.

واخرى : بجواز استناد الحكم إلى التخفيف المستند إلى مصاحبة ماء المطر كما عن المسالك (١).

وثالثة : بأنّ الاستبعاد غير مسموع في مقابلة النصّ ، خصوصا مع ملاحظة ابتناء أحكام البئر ـ بل الأحكام الشرعيّة مطلقا ـ على جمع المتباينات وتفريق المتماثلات (٢).

ورابعة : بأنّ هذا الكلام إنّما يتوجّه إذا كان دليل الحكم ناهضا بإثباته وليس الأمر كذلك هاهنا ، نظرا إلى أنّ راوي هذا الحديث أعني « كردويه » مجهول الحال ، إذ لم يتعرّض له الأصحاب في كتب الرجال ، وبما تقدّم ذكره تقدر على دفع ذلك.

المسألة السابعة : فيما ينزح له عشرة دلاء وهو أمران :

أحدهما : العذرة الجامدة ، والمراد بها ما يقابل الذائبة الذائبة المنزوح لها خمسون دلوا على ما تقدّم الكلام فيها مشروحا ، وحيث إنّ الذوبان كان عبارة عن تفرّق الأجزاء وشيوعها في الماء فالجمود كان عبارة عمّا لم تتفرّق أجزاؤه ، بأن تخرج قبل شيوعها ولو بعد صيرورتها متبتلة أو رطبة ، والحكم المذكور لها هو المشهور المحكيّ عليه الشهرة في حدّ الاستفاضة ، المنفيّ عنه الخلاف كما عن السرائر (٣) ، بل المنقول عليه الإجماع عن

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ : ١٩.

(٢) المجيب بهذا هو صاحب المعالم رحمه‌الله في فقه المعالم ١ : ٢١٨.

(٣) السرائر ١ : ٧٩.


الغنية (١) ، المنصوص عليه فيما تقدّم في العذرة الذائبة من رواية أبي بصير (٢) المنجبر ضعفها بالعمل ، وباقي الأحكام والفروع الجارية فيها كما تقدّم ثمّة ، فراجع واستعلم.

وثانيهما : الدم القليل ، المقابل لكثيره المتقدّم ذكره والبحث عنه مفصّلا مقرونا بما يستعلم منه حال القليل أيضا.

ومجمل القول فيه على وجه الإعادة : أنّ الحكم المذكور له مشهور منقول عليه الشهرة كما عن جماعة ، بل الإجماع كما عن الغنية (٣) ، وحدّدوه : بدم الدجاجة والرعاف اليسير ، وقد تقدّم بعض الكلام فيه مع المناقشة في التحديد بما ذكر على وجه يكون ضابطا كلّيّا.

وأمّا تعيين العدد المذكور فممّا لا نصّ فيه أصلا ، والعمدة من مستنده ما تقدّم من صحيحة عليّ بن جعفر (٤) في رجل ذبح دجاجة أو حمامة فوقعت في بئر ، القائلة : « بأنّه ينزح منها دلاء يسيرة » ، وفي رجل يرعف فيها الآمرة بنزح دلاء يسيرة أيضا.

وهذه كغيرها ممّا استفاض في باب الدم من الروايات المتقدّم إلى جملة منها الإشارة غير قاضية بالعدد المذكور ، فإنّ « الدلاء » تشمل ما زاد عليها وما نقص منها ، ولا يعطيها التقييد باليسيرة في جملة منها ظهورا في ذلك.

فما قد يوجّه به من أنّ « الدلاء » وإن كان جمع كثرة إلّا أنّ تقييده هنا بلفظ « اليسيرة » الّذي يؤدّي مؤدّى القلّة قرينة على إرادة القلّة منه هنا ليس بسديد ، وما قد عرفته عن الشيخ (٥) في تقريب الاستدلال بها من « أنّ أكثر عدد يضاف إلى هذا الجمع عشرة فيجب أن يؤخذ به ، إذ لا دليل على ما دونه » ، فقد سمعت المناقشة فيه من جهات عديدة فراجع وتأمّل ، ألا ترى أنّ المعتبر اعترض عليه : « بأنّا لا نسلّم أنّه إذا جرّد عن الإضافة كانت حاله كذا ، فإنّه لا يعلم من قوله : « عندي دراهم » أنّه لم يخبر عن زيادة عن عشرة ، فإنّ دعوى ذلك باطلة » (٦).

وأمّا ما ذكره المنتهى في دفعه : « بأنّ الإضافة هنا وإن جرّدت لفظا ، لكنّها مقدّرة ،

__________________

(١ و ٣) غنية النزوع : ٤٩.

(٢) الوسائل ١ : ١٩١ ب ٢٠ من أبواب الماء المطلق ح ١.

(٤) الوسائل ١ : ١٩٣ ب ٢١ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤٠٩ / ١٢٨٨.

(٥) التهذيب ١ : ٢٤٥ ذيل الحديث ٧٠٥.

(٦) المعتبر : ١٦.


وإلّا للزم تأخير البيان عن وقت الحاجة » ، ـ إلى أن قال ـ : « فلا بدّ من إضمار عدد تضاف إليه تقديرا ، فتحمل على « العشرة » الّتي هي أقلّ ما يصلح إضافته لهذا الجمع أخذا بالقدر المتيقّن ، وحوالة على أصالة براءة الذمّة » (١) فممّا لا محصّل له ، من أنّ تأخير البيان فرع إرادة التعيين الّذي لم ينهض عليه إلى الآن قرينة من عقل أو نقل ، فيبقى ظهور التخيير على ما هو شأن كلّ جمع منكر علّق عليه الحكم سليما عمّا يعارضه أو يصلح معارضته ، وعلى تقدير وجوب التقدير فيكون أقلّ ما يصلح إضافة إلى الجمع « عشرة » في حيّز المنع ، بل أقلّه على ما أطبق العرف واللغة عليه « ثلاثة » ، فليحمل عليه لأصالة البراءة من الزائد ، كما اعترف به غير واحد منهم صاحب المدارك (٢).

وبالجملة : لو لا الحكم مشهورا لكان سلب تعيين هذا العدد هنا ممّا لا إشكال فيه ، ولا شبهة تعتريه ، لكن مخالفة المشهور أيضا ممّا لا تخلو عن إشكال ، وإذن كان الاحتياط في طرفه ، فالمصير إليه حينئذ احتياطا ممّا لا بأس به.

المسألة الثامنة : فيما ينزح له سبع دلاء ، وهو امور :

أحدها : موت الطير ، المفسّر بالحمامة والنعامة وما بينهما في محكيّ المسالك (٣) ، وجماعة ، ومثله عن كتب العلّامة (٤) ، والموجز (٥) ، وشرحه (٦).

وعن الذكرى : « أنّ الصادق فسّره بذلك » (٧) وعن جماعة الحمامة والدجاجة وما أشبههما (٨).

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٨١.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٤.

(٣) مسالك الأفهام ١ : ١٧.

(٤) نهاية الأحكام ١ : ٢٠٨ ؛ وإرشاد الأذهان ١ : ٢٣٧ ؛ تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٥) الموجز الحاوي (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٤١٢).

(٦) كشف الالتباس ١ : ٧٨.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ٩٦ ، ولم ينسبه إلى الصادق عليه‌السلام ، بل قال : « سبع لموت الطير ـ في المشهور ـ لرواية عليّ بن أبي حمزة عن الصادق عليه‌السلام وفسّر بالحمامة والنعامة وما بينهما » ، نعم في مفتاح الكرامة ١ : ١١٤ وطهارة الشيخ ١ : ٢٣٤ كما هنا ، ومن المظنون قويّا كون السبب فيه قراءتهم قوله : « فسّر » بصيغة المعلوم ، من دون المراجعة إلى أصل الرواية.

(٨) كالمفيد في المقنعة : ٦٦ ؛ والشيخ في المبسوط ١ : ١١ ؛ وابن زهرة في غنية النزوع : ٤٩ وفيه : « أو ما ماثلهما ».


وفي المنتهى : « قال ابن إدريس : (١) والسبع يجب للنعامة والحمامة وما بينهما » (٢).

ثمّ في المدارك : « أنّ القول بوجوب السبع في موت الطير للثلاثة وأتباعهم » (٣).

وفي شرح الدروس للخوانساري : « هذا هو المعروف بين الأصحاب » (٤) ، وعن الذخيرة : « أنّه مذهب الأصحاب » (٥).

وعن غير واحد ؛ هو المشهور ، وعن الغنية الإجماع عليه (٦) ، ومستنده روايات فيها صحيح ، وفيها غير صحيح ، موثّق وغيره.

ومنها : صحيحة أبي اسامة عن أبي عبد الله قال : « إذا وقع في البئر الطير ، والدجاجة ، والفأرة ، فانزح منها سبع دلاء » (٧).

ومنها : موثّقة سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر ، أو الطير؟ قال : « إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء » (٨).

ومنها : رواية عليّ بن أبي حمزة ـ المتقدّمة ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء ». قال : وسألته عن الطير ، والدجاجة ، تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء (٩) إلى آخره ».

ثمّ في المقام أخبار اخر تعارضها بظاهرهما بين دالّة على نزح دلاء ، ودالّة على دلوين وثلاث ، ودالّة على الخمس ، وقد تقدّم ذكرها في بحث السنّور ، لكنّ الخطب فيها سهل لعدم عامل بها من الأصحاب ، عدا رواية الخمس مع كونها صحيحة الّتي استظهر العمل بها في المدارك ناسبا اختياره إلى المعتبر أيضا ، حيث قال : « والأظهر الاكتفاء بالخمس

__________________

(١) السرائر ١ : ٧٧.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٨٩.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ٨٤ والمراد بالثلاثة : السيّد المرتضى كما نقله عنه في منتهى المطلب ١ : ٨٧ ؛ والمفيد في المقنعة : ٦٦ ؛ والشيخ في النهاية ١ : ٢٠٨ ؛ والمبسوط ١ : ١١.

والمراد بأتباعهم : ابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢٢ ، والسلّار في المراسم العلويّة : ٣٦ وابن إدريس في السرائر ١ : ٧٧.

(٤) مشارق الشموس : ٢٣١.

(٥) ذخيرة المعاد : ١٣٤ وفيه : « كذا ذكره الأصحاب ».

(٦) غنية النزوع : ٤٩.

(٧) الوسائل ١ : ١٧٣ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٤.

(٨) الوسائل ١ : ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ٢٣٦ / ٦٨١.

(٩) الوسائل ١ : ١٨٦ ب ١٨ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٨٠.


كما اختاره في المعتبر (١) ، لصحيحة أبي اسامة المتقدّمة ، وعليه يحمل إطلاق لفظ « الدلاء » في صحيحتي زرارة وعليّ بن يقطين » (٢) انتهى.

والخطب في ذلك أيضا سهل لقصور عمل واحد أو اثنين عن دفع ما عرضها من الوهن بسبب إعراض الأكثر.

وثانيها : وقوع الكلب المستتبع لخروجه حيّا ، فإنّ وجوب السبع فيه ممّا ذهب إليه أكثر الأصحاب كما في شرح الدروس (٣) ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (٤) كما في المنتهى (٥) ، وعلى المشهور كما عن الذكرى (٦) ، خلافا لابن إدريس الذاهب فيه إلى نزح أربعين كما في موته (٧) ، ولصاحب المدارك (٨) الّذي يظهر منه الميل إلى الاكتفاء بمسمّى الدلاء حملا للسبع والخمس الواردين في الأخبار على الاستحباب.

ومستند المشهور صحيحة عبد الله بن المغيرة ـ كما في نسخة الاستبصار ـ وأبي مريم ـ كما عن نسخة التهذيب ـ قال : حدّثنا جعفر ، قال : كان أبو جعفر عليه‌السلام : « يقول إذا مات الكلب في البئر نزحت » ، وقال [أبو] جعفر : « إذا وقع فيها ثمّ أخرج منها حيّا نزح منها سبع دلاء » (٩).

ولمّا كان صدرها ينافي ما تقدّم في موته من نزح أربعين لظهوره في نزح الجميع فتصدّى الشيخ في الاستبصار (١٠) وغيره بحمله على صورة التغيّر ، مع جواز ابتنائه على الاستحباب كما احتمله بعضهم ، كما يحمل على أحدهما ما في خبر عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن بئر يقع فيها كلب ، أو فأرة ، أو خنزير؟ قال : « تنزف كلّها » (١١)

__________________

(١) المعتبر : ١٧. (٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٥.

(٣) مشارق الشموس : ٢٣٤.

(٤) المبسوط ١ : ١١.

(٥) منتهى المطلب ١ : ٩٠. (٦) ذكرى الشيعة ١ : ٩٦.

(٧) السرائر ١ : ٧٦.

(٨) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.

(٩) الوسائل ١ : ١٨٢ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٧ ـ الاستبصار ١ : ٣٨ / ١٠٣ ولا يخفى أنّ لفظة (أبو) لم ترد في الأصل ، ولكنّها موجودة في نسخة صاحب الوسائل رحمه‌الله وكتب مصنّفه عليها علامة « نسخة » ، كما في ذيل الوسائل المطبوعة باهتمام مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث.

(١٠) الاستبصار ١ : ٣٨ ذيل الحديث ١٠٢.

(١١) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٢٤٢ / ٦٩٩ ـ الاستبصار ١ : ٣٨ / ١٠٤.


بعد تنزيل الإطلاق إلى صورة الموت ، ولكن الحمل الأوّل مبنيّ على القول بنزح الجميع في صورة التغيّر وقد عرفت أنّ التحقيق خلافه ، فعلى المختار يتعيّن الحمل على الاستحباب خاصّة لو قلنا بتناول إطلاقه لصورة الوقوع والخروج حيّا ، فعليه لا معارض للصحيحة.

نعم ، في صحيحة عليّ بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : سألته عن البئر يقع فيها الحمامة ، والدجاجة ، أو الفأرة ، أو الكلب ، أو الهرّة؟ فقال : « يجزيك أن تنزح منها دلاء » (١) الخ.

وفي صحيحة أبي اسامة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الفأرة والسنّور والدجاجة والكلب والطير ، قال : « فإذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء » (٢) إلى آخره ، وإطلاقهما يشمل محلّ البحث أيضا ، لكنّ العلاج سهل بحمل « الدلاء » في الأوّل على السبع حملا للمطلق على المقيّد إن كان المقام من مجاريها ، وإلّا فرميه كالثاني على الشذوذ من جهة إعراض الأصحاب عنه أولى ، كما ضعّفه غير واحد ، وعن ابن إدريس أنّه طرح الصحيحة قائلا : « بأنّها ليست بشي‌ء يعتمد عليه والواجب العدول عن الرواية الضعيفة ، ونزح أربعين دلوا » (٣) ثمّ اعترض على نفسه : « بأنّك إذا لم تعمل بالرواية ، فلم لم تقل بنزح الجميع ، لأنّه ممّا لا نصّ فيه؟

فاعتذر بأنّه : إذا كان حال موته يجب له أربعون ففي الحياة بطريق أولى ، لأنّ الموت يزيد النجس نجاسة » (٤). وربّما يعتذر له : (٥) بأنّ تضعيفه الرواية مع كونها صحيحة مبنيّ على أصله المعروف من منع العمل بأخبار الآحاد ، وهو الوجه في وصفه المقام بما لا نصّ فيه ، لأنّ ما فيه نصّ غير معتبر بمنزلة ما لا نصّ فيه ، وعليه فما اعترض عليه العلّامة من قوله : « والجواب : المنع من عدم النصّ وقد ذكرنا حديث

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٨ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٢ و ٢٣٧ / ٦٩٩ و ٦٨٦ ـ الاستبصار ١ : ٣٨ و ٣٧ / ١٠٤ و ١٠١.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٤.

(٣) السرائر ١ : ٧٦.

(٤) السرائر ١ : ٧٧ نقلا بالمعنى.

(٥) المعتذر هو صاحب المعالم رحمه‌الله ـ حيث قال ـ بعد ما أورد كلام ابن إدريس ـ : « وهذه الحجّة جيّدة على أصل ابن إدريس في ترك العمل بخبر واحد » ، فقه المعالم ١ : ٢٢٧.


أبي مريم » (١) ليس على ما ينبغي ، وكأنّ الأولويّة الّتي ادّعاها في الحيّ بالقياس إلى الميّت مبناها على مفهوم الموافقة من الخطاب الوارد في الميّت ، فلا يرد عليه : « أنّ هذه أحكام شرعيّة تتبع الاسم ، فلا بدّ وأن تستفاد من النصّ ، ولذا يجب في الفأرة مع تفسّخها وتقطّع أجزائها وانفصالها بالكلّيّة نزح سبع دلاء ، مع وجوب نزح الجميع في البعرة منها لعدم ورود النصّ هنا وثبوته هناك » (٢) ، فإنّ مفهوم النصّ غير خارج عن النصّ.

إلّا أن يقال : بمنع كون الحكم في الأصل مستفادا من النصّ بخصوصه ، كما يعلم ذلك بمراجعة كلام الشيخ المتقدّم في بحث الأربعين للكلب (٣) ، المصرّح بكون الأخذ به معيّنا من باب الاحتياط.

لكن يمكن دفعه ـ بعد الإغماض عن احتمال كون ابن إدريس قد بلغه في ذلك الحكم نصّ خاصّ ـ : بأنّ غاية ما هنالك كون تعيّن الأربعين متّجها من باب الحكم الظاهري ، فيجري الأولويّة أيضا بدعوى : أنّ الحيّ من الكلب أولى من ميّته بذلك الحكم الظاهري ، نعم إن كان ولا بدّ من منع دليله فيمنع من الأولويّة المدّعاة ، لابتنائها على كون النجس قابلا للتنجّس ثانيا وهو لا يسلّم إلّا بدليله ، وهو غير واضح.

ومنه : يظهر الجواب لو قرّر الاستدلال : بأنّ الكلب ميّتا أنجس منه حيّا ، مضافا إلى جواز أن يكون له حال الحياة صفة يقتضي زيادة في نجاسته وقد زالت عنه بالموت ، وكون الموت منجّسا للحيوان إنّما تسلّم فيما لم يسبقه النجاسة ، ولو سلّم كونه هنا مؤثّرا لا محالة فلعلّه من باب أنّه قد ارتفعت منه النجاسة الثابتة حال الحياة وتجدّدت نجاسة اخرى بسبب الموت على حدّ نجاسة سائر الأموات ، مع كون النجاسة المتجدّدة أخفّ من الزائلة ، واستصحاب الحالة السابقة مع تبدّل العنوان غير معقول ، إذ لا ريب أنّ الميّت ليس بكلب حقيقة ، واحتمال أن يقال : إنّ هذا العين الخارجي قد كان نجسا وهو باق ، فيبقى نجاسته بحكم الاستصحاب.

يدفعه : أنّ الأحكام الشرعيّة لا تتبع الأعيان الخارجيّة ، وإنّما تتبع عناوينها الكلّيّة ، والعنوان غير باق هنا جزما ، مع أنّ ثبوت الأولويّة إن كان من باب مفهوم الموافقة

__________________

(١ و ٢) مختلف الشيعة ١ : ٢١٩.

(٣) التهذيب ١ : ٢٣٦ ، ذيل الحديث ٦٨١ ـ الاستبصار ١ : ٣٧.


ـ حسبما وجّهناها به ـ فهي أمر عرفي لا يمكن إحرازه بالاستصحاب ، لعدم كون اعتمادهم بمثل هذه الأولويّة في فهم الخطاب معلوما من بنائهم ، وإن لم يكن من هذا الباب فلا محصّل لها إلّا الظنّ العقلي بها ، فيشكل التعويل عليها حينئذ ، وممّا يكشف عن كونها من الأولويّة الظنّية ما تقدّم الإشارة إليه ـ على فرض كونه كذلك في الواقع ـ من أنّ ذلك من باب إجراء ما ثبت في الأصل من الحكم الظاهري في الفرع ، فلا يرجع في الحقيقة إلّا إلى القياس الباطل في مذهبنا.

وثالثها : بول الصبيّ الّذي لم يبلغ كما في الشرائع (١) ، هذا باعتبار المنتهى وأمّا باعتبار المبدأ فالظاهر أنّه الّذي يتغذّى بالطعام ، كما يقتضيه قرينة المقابلة بينه وبين الصبي الّذي لم يتغذّ بالطعام ، وأطلق الصبيّ في المنتهى (٢) لكن في مقابلة الصبيّ الرضيع ، وقيّده في الدروس (٣) بغير الرضيع ، وعنه في الذكرى تفسير الصبيّ بأنّه : « الذي لم يتغذّ باللبن أو اغتذى به مع غلبة غيره » (٤) ، وعن المعتبر تفسير الرضيع : « بمن لم يأكل » (٥) وقضيّة ذلك كون المعتبر في الصبيّ هنا هو الأكل مطلقا ، والاكتفاء به مطلقا محكيّ عن المشهور تارة ، وعن الأكثر اخرى ؛ وعن الأكثر اخرى ؛ وعن جماعة ثالثة ، وعن صريح المختلف (٦) ، وشرح الفاضل (٧) ، وظاهر المقنعة (٨) ، والنهاية (٩) رابعة ، وعن المسالك ـ تبعا لجامع المقاصد (١٠) في تفسير محلّ البحث ـ : « أنّه الفطيم » « والمراد به من زاد سنّه على الحولين » (١١) ، مع تفسيرهما الرضيع بمن كان في الحولين ، وعن ابن إدريس (١٢) تفسير الرضيع هنا بمن كان له دون الحولين ، سواء أكل أو لا ، وسواء فطم أو لا.

ولا مستند لشي‌ء من هذه التفاسير ، مع ما فيها من الاختلاف الفاحش ، ولم يرد في نصوص الباب إلّا لفظا « الصبي » و « الفطيم » ، و « الصبيّ » على ما في المصباح المنير : الصغير (١٣).

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٢) منتهى المطلب ١ : ٩٤.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ١٠١ نقلا بالمعنى.

(٥) المعتبر : ١٧. (٦) مختلف الشيعة ١ : ٢٠٥.

(٧) كشف اللثام ١ : ٣٤٠. (٨) المقنعة : ٦٧.

(٩) النهاية ١ : ٢٠٨. (١٠) جامع المقاصد ١ : ١٤٣.

(١١) مسالك الأفهام ١ : ١٩. (١٢) السرائر ١ : ٧٨.

(١٣) المصباح المنير ؛ مادّة « الصبيّ » : ٣٣٢.


ومثله في المجمع (١) ، وعن الصحاح : الغلام (٢) ، وعن القاموس : من لم يفطم بعد. وأمّا « الفطيم » ففي المصباح : فطمت المرضع الرضيع فطما من باب ضرب ، فصلته عن الرضاع فهي (فاطمة) ، والصغير (فطيم) (٣).

وفي المجمع : « الفطيم كـ « كريم » ، هو الّذي انتهت مدّة رضاعه ، يقال : فطمت الرضيع من باب ضرب ، فصلته عن الرضاع » (٤).

وكيف كان فإيجاب السبع للصبيّ المقيّد بأحد ما ذكر هو المشهور كما عن جماعة ، وعن المحقّق البهبهاني في شرح المفاتيح : «أنّ الأصحاب أفتوا بالسبع» (٥) ، وعن الغنية (٦) ، والسرائر (٧) الإجماع عليه ، وفي شرح الدروس : «هذا مختار الشيخين (٨) وجماعة ، والصدوق في المقنع (٩) والفقيه (١٠) أوجب ثلاثة دلاء ، واختاره المرتضى رحمه‌الله» (١١) (١٢) انتهى.

ومخالفة الصدوق والسيّد محكيّة في كلام جماعة (١٣) ، ومستند المشهور رواية منصور بن حازم المرويّة ـ عن التهذيب في باب تطهير المياه ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ينزح منها سبع دلاء إذا بال فيها الصبيّ ، أو وقعت فيها فأرة ، أو نحوها » (١٤).

ولعلّ القول المذكور مع ما يأتي من القول بنزح دلو واحد للصبيّ الرضيع الغير المغتذي بالطعام جمع بين هذه الرواية وما تقدّم في بحث بول الرجل من رواية عليّ بن أبي حمزة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن بول الصبيّ الفطيم يقع في البئر؟ فقال : « دلو واحد » (١٥) على ما أخذ مستندا لهذا القول بناء على حمل « الفطيم » على المشارف للفطام كما قيل ، ولو لا ذلك لبطل التقييد بما عرفت ، لتناول إطلاق « الصبيّ » لغير مورد القيد أيضا ، ولذا صار السلّار (١٦) ـ على ما حكي عنه ـ إلى إطلاق القول بوجوب السبع

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ مادّة « صبا » ١ : ٢٦٠. (٢) الصحاح ؛ مادّة « صبا » ٦ : ٢٣٩٨.

(٣) المصباح المنير ؛ مادّة « فطم » : ٤٤٧.

(٤) مجمع البحرين ؛ مادّة « فطم » ٦ : ١٣١.

(٥) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (المخطوط) الورقة : ٥٢٨ ـ.

(٦) غنية النزوع : ٤٩. (٧) السرائر ١ : ٧٨.

(٨) النهاية ١ : ٢٠٨ ، والمقنعة : ٦٧. (٩) المقنع : ٣٠. (١٠) الفقيه ١ : ١٧.

(١١) ذكره في المصباح وحكاه عنه المحقّق في المعتبر : ١٧.

(١٢) مشارق الشموس : ٢٣٦. (١٣) منهم صاحب المعالم رحمه‌الله في فقه المعالم ١ : ٢٢٦ ـ ٢٢٥.

(١٤ و ١٥) الوسائل ١ : ١٨١ ب ١٦ من أبواب الماء المطلق ح ١ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٤٣ / ٧٠١ و ٧٠٠.

(١٦) المراسم العلويّة : ٣٦.


في بول الصبيّ عملا بالرواية.

وأمّا ما سمعت عن الصدوق والسيّد فعن المعتبر : « لم نعثر له على نصّ » (١) ، وقد يقال : مستنده ما روى في الفقه الرضوي : « من أنّ بول الصبيّ إذا أكل الطعام استقى منها له ثلاث أدلؤ ، وإن كان رضيعا استقى منها دلوا واحدا » (٢).

وهاهنا قول آخر حكاه بعضهم عن ابن حمزة (٣) من أنّه أوجب السبع في بول الصبيّ وأطلق ، ثمّ أوجب الثلاث في بوله إذا أكل الطعام ثلاثة أيّام ، ثمّ أوجب واحدة في بوله إذا لم يطعم ، ولعلّه جمع بين روايات المقادير الثلاث كما قيل ، وإن كان فيه بعض الخصوصيّات الخارجة عن الروايات كلّها ، كتعيّن ثلاثة أيّام لما وجب له الثلاث ، وهاهنا رواية اخرى تقدّم ذكرها في بحث الخمر دالّة على وجوب نزح الجميع ، وهي صحيحة معاوية بن عمّار في البئر يبول فيها الصبيّ ، ويجد فيها البول أو الخمر؟ قال : « ينزح الماء كلّه » (٤) وهي ـ مع سقوط اعتبارها بالنسبة إلى هذا الجزء بإعراض الأصحاب عنه وإن كانت صحيحة لذاتها ـ مؤوّلة إلى صورة التغيّر ، وإن كان بعيدا بملاحظة مساوقاته كما لا يخفى.

ثمّ إطلاق الأخبار وعلمائنا الأخيار يتناول ولد الكافر عدا الشهيد المحكيّ عنه في البيان (٥) التقييد بابن المسلم ، ولعلّه أخذ بقضيّة الانصراف ولا يخلو عن وجه ، وإن كان الأقرب الأوّل ، نعم لا يلحق به الصبيّة من جهة عدم النصّ كما عن بعض المحقّقين.

ورابعها : موت الفأرة ، لكن في الشرائع (٦) ، والدروس (٧) ، وغيرهما (٨) تقييدها بالتفسّخ أو الانتفاخ ، والّذي ورد في الأخبار من حيث الوصف « التفسّخ » كما في بعضها ، و « الانسلاخ » في البعض الآخر ، ولم نقف على ما ذكر فيه « الانتفاخ » ، فلذا أورد في المدارك على معتبريه : « بأنّه لا وجه لإلحاق الانتفاخ بالتفسّخ ، لعدم الدليل

__________________

(١) المعتبر : ١٧ وفيه : « فنحن نطالبهم بلفظ الرضيع أين نقل وكيف قدّر لبوله دلو واحد ».

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٤ مع اختلاف يسير في العبارة ـ الفقيه ١ : ١٣ / ٢٢.

(٣) الوسيلة : ٧٠.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٦.

(٥) البيان : ١٠٠.

(٦) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٨) كمنتهى المطلب ١ : ٩٠ ـ المبسوط ١ : ١٢ ـ غنية النزوع : ٤٩.


عليه » (١). وفيه عن المصنّف « أنّه حكى عن بعض المتأخّرين أنّه جعل حدّ التفسّخ الانتفاخ » (٢).

ولا يخفى بعده من العرف واللغة وتصريح غير واحد من الأصحاب حيث فسّروا « التفسّخ » بتفرّق الأجزاء.

نعم عن الدلائل (٣) وظاهر الكفاية (٤) دعوى الشهرة فيهما معا ، بل عن الغنية الإجماع عليهما معا (٥) ، وعن المسالك (٦) ، والروضة (٧) ، التصريح بالشهرة في الثاني خاصّة ، لكن يعارض الجميع ما عن شرح المفاتيح (٨) ، وكشف الالتباس (٩) ، من الشهرة في الأوّل ، بل عن كشف الرموز نفي الخلاف عنه (١٠).

وكيف كان فمستند هذا القول روايات منها ما هي مطلقة ، ومنها ما هي مقيّدة ، ومنها ما هي مجملة أو مطلقة أيضا ، ولكن أعمّ من المطلقة الاولى.

فمن المطلقات موثّقة سماعة ـ المتقدّمة ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر ، أو الطير؟ قال : « إن أدرك قبل أن ينتن نزحت منها سبع دلاء » إلى آخره (١١).

ومنها : رواية عليّ بن أبي حمزة ـ المتقدّمة أيضا ـ قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ قال : « سبع دلاء » (١٢).

ومن المقيّدات ؛ رواية أبي عيينة ـ المرويّة في التهذيب ـ قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في البئر؟ فقال : « إذا اخرجت فلا بأس ، وإن تفسّخت فسبع دلاء » (١٣).

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٨٦.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٨٦ ، وقوله : « وفيه عن المصنّف الخ » يعني : وفي المدارك عن المصنّف في المعتبر ».

(٣) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١١٥.

(٤) كفاية الأحكام : ١٠. (٥) غنية النزوع : ٤٩.

(٦) مسالك الأفهام ١ : ١٧. (٧) الروضة البهيّة ١ : ٤١.

(٨) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٧.

(٩) كشف الالتباس ١ : ٧٩.

(١٠) كشف الرموز ١ : ٥٤.

(١١) الوسائل ١ : ١٨٦ ب ١٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ وفيه « سألته » بدل « سألت » و « أدركته » بدل « أدرك ».

(١٢) الوسائل ١ : ١٨٣ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٥ / ٦٨٠.

(١٣) الوسائل ١ : ١٧٤ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ١٣ ـ وفيه : « خرجت » بدل « اخرجت » ـ التهذيب ١ : ٢٣٣ / ٦٧٣.


ومنها : رواية أبي سعيد المكاري ـ المرويّة في التهذيبين ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا وقعت الفأرة في البئر فتسلّخت فانزح منها سبع دلاء » (١) ، ولا بأس بما فيهما من الضعف بعد ملاحظة قضيّة الانجبار بالشهرة ، وبذلك تنهضان لتقييد الروايتين المطلقتين وما في معناهما ، وإن كان فيهما ما هو موثّق ، ولا ضير في اختلاف القيدين الواردين فيهما من حيث إنّ « الانسلاخ » يغاير « التفسّخ » ، لابتناء العمل بهما معا على كفاية أحد الأمرين في انعقاد الحكم ، فليحمل الإطلاق في غيرهما على ما يتحقّق معه أحد الأمرين ، وممّن صرّح بكفاية أحد الأمرين المحقّق في النافع (٢) ـ على ما حكي عنه ـ وإن لم نجده فيه.

وأمّا الصنف الثالث من الروايات ، فمنها : صحيحة الفضلاء الثلاث زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وبريد بن معاوية العجلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي جعفر عليهما‌السلام في البئر يقع فيها الدابّة ، والفأرة ، والكلب ، والطير فيموت؟ قال : « يخرج ، ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ اشرب [منه] وتوضّأ » (٣) ، وصحيحة أبي العبّاس الفضل البقباق ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : في البئر يقع فيها الفأرة أو الدابّة ، أو الكلب ، أو الطير فيموت؟ ، قال : « يخرج ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ يشرب منه ويتوضّأ » (٤).

وهاتان الروايتان وما في معناهما قابلة لأن تحمل على ما تقدّم لإجمالهما أو إطلاقهما ، ولك أن تحملهما على صحيحة معاوية بن عمّار ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر؟ قال : « ينزح منها ثلاث دلاء » (٥) تقليلا للتقييد بناء على حمل الصحيحة على ما يتحقّق معه أحد الأمرين ، لا بحيث رجع مفاده إلى اعتبار الفأرة بشرط لا ، فإنّ ذلك أيضا نوع من التقييد ، بل بمعنى حملها على الماهيّة المطلقة خرج عنها بعض أفرادها بالدليل ، فيقال : إنّ هذه الماهيّة من حكمها أن ينزح لها ثلاث

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٧ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٣٩ / ٦٩١ ـ الاستبصار ١ : ٣٩ / ١١٠.

(٢) لم نجده أيضا في النافع ، لاحظ المختصر النافع : ٤٣ ، حيث قال : « وللفأرة إن تفسّخت ـ سبع ـ وإلّا فثلاث الخ ».

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ١٨٣ و ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٥ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٣٦ و ٢٣٧ / ٦٨٢ و ٦٨٥ ـ الاستبصار ١ : ٣٦ و ٣٧ / ٩٩ و ١٠٠.

(٥) الوسائل ١ : ١٨٧ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٨٨.


دلاء إلّا الفرد المتفسّخ أو المتسلّخ منها لوجوب السبع له ، غير أنّ اللازم من ذلك التفصيل في الفأرة بين المتفسّخ أو المتسلّخ وغيرهما ، كما ذهب إليه الشيخ وصرّح في الاستبصار وغيره (١) ، حيث جمع بين الصحيحة المذكورة وموثّقة سماعة ، ورواية ابن أبي حمزة المتقدّمتين بحملهما على صورة التفسّخ ، واستشهد له برواية أبي سعيد المكاري المتقدّمة ، والظاهر أنّه لا ضير فيه لوجود عامل حينئذ بالصحيحة المذكورة وإن لم يعرف عن المشهور ما عدا حكم المقيّد.

وبما ذكرنا من وجود عامل بالصحيحة يظهر العذر في عدم الحمل على سائر الروايات الواردة في الباب المتضمّنة للخمس أو غيرها ، لعدم وجود عامل بها صريحا ، وبذلك يعلم أنّ أمثال هذه الروايات لا تنهض معارضة لما تقدّم ، وهي رواية أبي اسامة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام :«فيكفيك خمس دلاء»(٢) ورواية عمّار الساباطي المذيّلة لقوله عليه‌السلام : « تنزف كلها » (٣).

وفي المسألة قولان آخران ، أحدهما : ما عن المقنع : « وإن وقع فأرة فانزح منها دلوا واحدا ، وأكثر ما روي في الفأرة إذا تفسّخت سبع دلاء » (٤) ومثله عن الفقيه ، ومستندهما على الدلو الواحد مع عدم التفسّخ غير واضح كما اعترف به غير واحد ، وربّما احتمل كونه إلحاقا بالعصفور ولا يخفى ضعفه.

وثانيهما : ما يظهر عن صاحب المدارك (٥) من العمل بالسبع مع التفسّخ ، والخمس بدونه ، استنادا إلى صحيحة أبي اسامة القائلة بأنّه : « إذا لم يتفسّخ أو يتغيّر طعم الماء فيكفيك خمس دلاء » بعد ما استقرب الاكتفاء بالثلاث مطلقا ولا موافق له في ذلك.

وفي لحوق الجرذ بالفأرة في الحكم وجهان ، من اندراجه فيها اسما كما يشهد به كلام جماعة من أئمّة اللغة ، ففي المصباح المنير : « قال ابن الأنباري والأزهري هو الذكر من الفأر ، وقال بعضهم هو الضخم من الفيران ، ويكون في الفلوات ولا يألف البيوت » (٦) ، وعن الصحاح (٧) والقاموس (٨) : الجرذ ضرب من الفأر.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٣٩.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٧ و ٨.

(٤) المقنع : ٣٢ ـ ٣١.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٨٦.

(٦) المصباح المنير ؛ مادّة « الجرذ » : ٩٦.

(٧) الصحاح ؛ مادّة « جرذ » ٢ : ٥٦١.

(٨) القاموس المحيط ؛ مادّة « الجرذ » ١ : ٦٦١.


وفي المجمع : « هو الذكر من الفيران ويكون في الفلوات ، وهو أعظم من اليربوع أكدر في ذنبه سواد ، وعن الجاحظ الفرق بين الجرذ والفأر كالفرق بين الجواميس والبقر والبخاتي والعراب » (١) ، ومن التأمّل في انصراف الإطلاق إلى ما يتناوله ، وهذا هو الأحوط ، فيلحق بغير المنصوص.

وخامسها : اغتسال الجنب في البئر مطلقا ، كما في الشرائع (٢) ، والنافع (٣) ، والمنتهى (٤) ، والدروس (٥) ، كما عن المعتبر (٦) ، والقواعد (٧) ، والإرشاد (٨) ، والبيان (٩) ، واللمعة (١٠) ، وقيل : بل جميع كتب العلّامة ، وفي صريح الخوانساري في شرحه للدروس (١١) ، كما عن شرح المفاتيح للعلّامة البهبهاني (١٢) ، وظاهر الكفاية : « أنّه المشهور » (١٣).

أو ارتماسه فيها كما عن نهاية الشيخ (١٤) ، ومقنعة المفيد (١٥) ، بل كتب الشيخين (١٦) ، والسلّار (١٧) ، وبني حمزة (١٨) ، والبرّاج (١٩) ، وسعيد (٢٠) ، وإدريس (٢١) ، وغيرهم بل عن ابن إدريس الإجماع عليه (٢٢).

وهل مرادهم به ما يحصل بعنوان الاغتسال؟ أو مطلق الارتماس ولو لغير الاغتسال؟ وجهان : أظهرهما الأوّل ، وإن لم يصرّحوا به لظهور كلامهم ـ ولا سيّما استدلالهم برواية أبي بصير المشتملة على الاغتسال ـ فيه ، وتنقيح المسألة يستدعي تقديم نقل ما ورد في هذا الباب من السنّة وهي عدّة روايات :

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « وإن وقع فيها جنب فانزح منها سبع دلاء » (٢٣).

__________________

(١) مجمع البحرين ؛ مادّة « جرذ » ٣ : ١٧٩. (٢) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٣) المختصر النافع : ٤٣. (٤) منتهى المطلب ١ : ٨٩.

(٥) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٦) المعتبر : ١٧. (٧) قواعد الأحكام ١ : ١٨٧.

(٨) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٧. (٩) البيان : ١٠٠.

(١٠) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٤١. (١١) مشارق الشموس : ٢٣١.

(١٢) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٧.

(١٣) كفاية الأحكام : ١٠. (١٤) النهاية ١ : ٢٠٨.

(١٥) المقنعة : ٦٧. (١٦) وهما الشيخ الطوسي في النهاية ١ : ٢٠٨ ؛ والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٧.

(١٧) المراسم العلويّة : ٣٦. (١٨) الوسيلة : ٧٠.

(١٩) المهذّب ١ : ٢٢. (٢٠) الجامع للشرائع : ١٩.

(٢١ و ٢٢) السرائر ١ : ٧٩.

(٢٣) الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٤٢٠ / ٦٩٤.


ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبع دلاء » (١).

ومنها : صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إن سقط في البئر دابّة صغيرة ، أو نزل فيها جنب ، فانزح منها سبع دلاء » (٢).

ومنها : رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يدخل في البئر فيغتسل منها؟ قال : « ينزح منها سبع دلاء » (٣).

ومنها : صحيحة ابن أبي يعفور ، وعنبسة بن مصعب ، ـ المتقدّمة في بحث انفعال البئر ـ : « إذا أتيت البئر وأنت جنب ولم تجد دلوا ولا شيئا تغرف به ، فتيمّم بالصعيد ، فإنّ ربّ الماء وربّ الصعيد واحد ، ولا تقع في البئر ، فتفسد على القوم ماءهم » (٤).

والداعي إلى ذكر هذا الأخير هنا بعض الأغراض المتعلّقة بالباب وإن لم يكن متضمّنا للتقدير بالسبع.

فاعلم أنّه لا كلام لهم في النزح بالسبع هنا ، حيث لا منكر له ولا قائل بالزيادة عليه ، كما أنّه لا خلاف لهم في أنّ الجنابة لها مدخليّة في ذلك الحكم.

نعم ، لهم كلام من جهات اخر.

الجهة الاولى : في أنّ المقتضي للنزح هل هو وقوع الجنب في البئر وإن لم يغتسل ، المعبّر عنه بمطلق مباشرته جنبا؟ أو اغتساله منها ولو ترتيبا ، أو ارتماسه ولو لغير الغسل؟ كما يقتضيه إطلاق حكاية القول به ، احتمالات بل أقوال :

أوّلها : منسوب إلى صريح المحكيّ عن جماعة ، كما هو صريح صاحب المدارك (٥) وظاهر الخوانساري (٦).

وثانيها : ما صار إليه جماعة ، ولعلّه المشهور بين المتأخّرين ، وقد عرفت نقل الشهرة عليه.

وثالثها : ما عرفته عن جماعة من المتقدّمين.

__________________

(١ و ٣) الوسائل ١ : ١٩٥ ب ٢٢ من أبواب الماء المطلق ح ٢ و ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٤٤ / ٧٠٣ و ٧٠٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٩ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٤١ / ٦٩٥ ـ الاستبصار ١ : ٣٤ / ٩٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٧٧ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٦٥ / ٩ ـ التهذيب ١ : ١٤٩ / ٤٢٦.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٨٨.

(٦) مشارق الشموس : ٢٣٢.


حجّة القول الأوّل : إطلاق الصحاح من الأخبار المذكورة عدا الأخير الّذي هو ساكت عن أصل الحكم ، وعدم صلوح غيرها مستندا للحكم وإن تضمّن التعليق بالاغتسال في وجه.

حجّة القول الثاني ، وجوه :

الأوّل : تعليق الحكم على الاغتسال في رواية أبي بصير فيحمل عليها غيرها حملا للمطلق على المقيّد.

وأورد عليه تارة : بضعف سند الرواية بعبد الله بن بحر ، واشتراك أبي بصير كما في المدارك (١).

ويردّه : أنّه مع انجباره بالشهرة غير قادح ، إلّا أن يمنع الشهرة أو استناد المشهور إلى تلك الرواية.

واخرى : بعدم خروج الرواية منافية للأخبار المطلقة من حيث إنّ التقييد الوارد فيها إنّما هو من كلام السائل ، وجوابه عليه‌السلام عن ذلك المقيّد لا يقتضي نفي الحكم عمّا عداه.

وثالثة : بمنع المنافاة أيضا المقتضية لوجوب الحمل ، لجواز وجوب السبع لكلّ من الوقوع والاغتسال معا.

وتوضيحه : أنّه ليس المقيّد هنا نظير قولك : « أعتق رقبة مؤمنة » في مقابلة قولك : « أعتق رقبة » ليكون مفاد الأوّل بحسب المنطوق الوجوب التعييني المنافي للوجوب التخييري المستفاد من الثاني.

والمفروض عدم حجّيّة مفهوم القيد ليكون مفاده انتفاء الحكم عند انتفاء القيد المعلّق عليه المنافي لمنطوق المطلق ، وقضيّة الجمع بين المطلق والمقيّد في العمل مع إمكانه كفاية كلّ من الأمرين في انعقاد الحكم ، أو القول بأنّ المقتضي للحكم إنّما هو مطلق المباشرة ، والتعليق على الاغتسال لكونه من أفرادها أو مستلزما لها ، وهذا في غاية الجودة.

وممّن أغرب في هذا المقام المحقّق الخوانساري في شرح الدروس حيث تعرّض لهذا الإيراد ، ثمّ اعترض على نفسه بقوله :

« فإن قلت : ليس المراد أنّه ممّا يجب فيه حمل المطلق على المقيّد حتّى يشترط المنافاة ، بل أنّ التقييد بالاغتسال قرينة على أنّ المراد في الروايات الاخر من الوقوع

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٨٨.


والنزول والدخول الاغتسال ، مع أنّ له ظهورا في الجملة أيضا بحسب العرف ، سيّما مع تأييده بالأصل ».

فدفعه بقوله : « قلت : هذا لا يصلح قرينة أيضا ، لأنّ التقييد بالاغتسال ليس في كلامه عليه‌السلام بل السائل إنّما سأل عن الاغتسال وأجاب عليه‌السلام بنزح السبع ، فيجوز أن يكون أمره عليه‌السلام بالنزح فيه لأنّه من أحد أفراد الوقوع وهو ظاهر ، مع أنّ الرواية غير نقيّ السند ، وما ذكرته من ظهور الدلالة بحسب العرف ممنوع ، والتأييد بالأصل لا وجه له بعد ورود الروايات الصحيحة بخلافه » (١) انتهى.

وفيه : أنّ منع التنافي على مدّعي الحمل في معنى منع صلاحية التقييد قرينة على كون المراد بالأفعال المذكورة خصوص الاغتسال ، فلا يسوغ إبداء هذا الاحتمال لمن يسلّم المنع المذكور ، ضرورة أنّ قرينة المجاز عبارة عمّا يعاند ظهوره لظهور اللفظ في معناه الحقيقي بحسب إرادة المتكلّم مع كونه أقوى من ظهور اللفظ في نظر العرف والعادة ، ولا نعني من التنافي في مسألة وجوب حمل المطلق على المقيّد إلّا ما يكون من هذا الباب ، فلا فرق بين الاحتمالين في اشتراط المنافاة ، غاية الأمر حصول الفرق بينهما بلزوم التجوّز في الألفاظ المذكورة على الاحتمال الثاني ، لابتنائه على فرض كون المستعمل فيه الاغتسال بقيد الخصوصيّة الّذي هو فرد من كلّ واحد من تلك الأفعال ، بخلافه على احتمال الحمل الّذي هو أوّل الاحتمالين ، بناء على ما تقرّر في محلّه من أنّه لرجوعه إلى إطلاق الكلّي على الفرد ـ من حيث انطباقه لا من حيث الخصوصيّة ـ لا يستلزم تجوّزا في اللفظ.

والثاني : أنّه لو لا الحمل على الاغتسال لم يكن للنزح وجه ، إذ المفروض خلوّ بدنه عن النجاسة العينيّة من منيّ أو غيره ، أمّا غير المنيّ فواضح ، وأمّا هو فلأنّ المني ممّا يجب له نزح الجميع فلا معنى لإيجاب السبع منه ، وقضيّة ذلك عدم كونه لأجل النجاسة ، فتعيّن أن يكون لزوال الطهوريّة الحاصلة من الاغتسال ، فظهر الاشتراط به وهو المطلوب.

وفيه أوّلا : منع انحصار سبب النزح في عروض النجاسة أو زوال الطهوريّة ، لجواز كونه للتعبّد المحض ، أو لرفع القذارة الوهميّة الّتي تتنفّر عنها الطباع ونحو ذلك.

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٣٢.


وثانيا : منع اقتضاء مباشرة البدن للمني عدم لحوق الحكم بنزح السبع به ، والقول بنزح الجميع في المنيّ ليس إلّا من جهة دخوله في عنوان ما لا نصّ فيه ، والروايات المذكورة على تقدير استفادة كون ذلك الحكم لأجل مباشرة البدن للمنيّ بملاحظة الحمل على الغالب ـ على ما قيل من أنّ الغالب عدم انفكاك بدن الجنب عن نجاسة المنيّ ـ تصلح نصّا بالقياس إليه ، فتخرج به عن العنوان المذكور ، ومعه لا مانع لإيجاب السبع له.

وقد يجاب أيضا : بمنع انحصار الأسباب المقتضية للتنجيس في الامور المعهودة في مظانّها ، لجواز كون بدن الجنب أيضا ممّا اعتبره الشارع منجسا للماء كسائر الأسباب المنجّسة له.

وفيه : من البعد ما لا يخفى ، بل ينبغي القطع الضروري بفساده ، كيف ولو صحّ ذلك لاطّرد الحكم بالتنجيس ، فكان القليل من الراكد أولى بالتنجّس من جهته ، ووجب تنجّس ما يلاقيه برطوبة من الأجسام الطاهرة لأنّ هذا هو معنى النجس ، وكونه نجسا بالقياس إلى شي‌ء دون آخر ممّا لم يعهد له نظير في الشريعة.

والثالث : أنّ الأخبار وإن كان أكثرها مطلقة لكن إطلاقها ينصرف إلى صورة الاغتسال ، بل لو ادّعي انصرافها بحكم غلبة الوجود إلى الارتماس لم يكن بعيدا ، كما هو ظاهر لفظ « الوقوع » في رواية الحلبي ، وهذا لو تمّ لكان في غاية المتانة ، وبه يدفع ما تقدّم من احتجاج أهل القول الأوّل بإطلاق تلك الأخبار ، ويرتفع الحاجة إلى أن يقال في اشتراط الاغتسال بأنّ العمل بإطلاق الأخبار ليس مشتهرا بين الأصحاب ، ويورث ذلك شبهة عظيمة في تعيين معناها فيندرج المقام في ما يكتفى فيه بالقدر المتيقّن أو المظنون.

لكن دعوى الانصراف غير خالية عن الإشكال ، لعدم إمكان العلم به إلّا بعد العثور بمنشئه وهو الغلبة وجودا أو إطلاقا ولا سبيل لنا إلى ذلك ، كيف لا ولم يعهد عندنا فيما نعلم دخول الجنب أو نزوله في البئر فضلا عن كون الغالب فيه الاغتسال ، فإحراز الغلبة إن كان ولا بدّ منه لا يتأتّى حينئذ إلّا بملاحظة حال زمن الصدور أو بلد الخطاب ، وهو أيضا كما ترى غير متيسّر.

نعم ، لو كان مورد الروايات الاغتسال في البئر أو بماء البئر ونحو ذلك لكان ثبوت الانصراف إلى الارتماس كما ادّعاه المستدلّ في آخر كلامه بلا إشكال ؛ لا من جهة


غلبة الوجود حتّى يتوجّه ما أشرنا إليه من عدم العلم بالوجود ؛ بل لأنّ ذلك من مقتضى الهيئة التركيبيّة العارضة لخصوص هذه المفردات بحسب العرف كما يشهد به الوجدان السليم ، لكن مفروض المقام ليس من هذا الباب.

فإن قلت : المركّب قد يتبادر منه بنفس معناه التركيبي معنى مفرد كما في قولك : « دخلت الحمام » و « اشتريت الثوب » ونحوه المتبادر منه التنظيف واللبس ، فلم لا يجوز أن يكون القضيّة الواردة في الأخبار المطلقة من هذا الباب؟

قلت : فهم المعنى الخارج عن أجزاء القضيّة لا بدّ له من مقتض ، وهو إمّا غلبة وجود أو إطلاق قد عرفت عدم ثبوتها هنا ، أو لزوم عرفي كما في المثال المذكور ونظائره ، حيث إنّ المعنى الخارج المتبادر الّذي هو التنظيف أو اللبس إنّما يتبادر من جهة كونه في العرف والعادة غاية ، وبملاحظة أنّ وضع الحمّام للتنظيف ووضع الثوب للبس ، وهذا المعنى فيما نحن فيه أيضا منتف ، لعدم كون وضع البئر لاغتسال الجنب فيها حتّى يكون الاغتسال متبادرا من قضيّة قوله عليه‌السلام : « فإن وقع فيها جنب » أو « إذا دخل الجنب البئر » ونحوه نظير تبادر الغايات من القضايا العرفيّة.

نعم ، ربّما يمكن استفادة ذلك من هذه التراكيب بملاحظة خارج آخر ، وهو ما في صحيحة ابن أبي يعفور من قوله عليه‌السلام : « ولا تقع في البئر » الظاهر أو الصريح في الاغتسال أو كونه للاغتسال ، فإنّ ظاهر هذا الكلام بقرينة كونه في سياق الاغتسال يدلّ على كونه بالنسبة إلى هذا المعنى اصطلاحا معهودا لديهم ، وحينئذ يترتّب عليه الانصراف إلى الارتماس.

وبذلك يظهر صدق مقالة قدماء الأصحاب في اعتبار الارتماس ، ويتعيّن كون مرادهم به ما يحصل معه الاغتسال ، وإن كان قد يناقش في ذلك بأنّ هذا الظهور ـ لو سلّم ـ لا ينافي ظهور رواية أبي بصير في الترتيب ، فيجمع بينهما على تقدير اعتبار السند والدلالة بكون كلّ من الفردين سببا للحكم ، لا بحمل المطلق على المقيّد كما توهّم ، وهذا الظهور كما ترى ممّا لا يعرف له مستند إلّا باعتبار لفظة « من » المذكورة فيها على خلاف لفظة « في » الظاهرة في الارتماس.

ويزيّفه : أنّ لفظة « من » هنا ابتدائيّة نشويّة نظير ما في قولك : « فهمت منه » و « علمت


منه » و « أردت من اللفظ كذا وكذا » فيكون للأعمّ من الترتيب ومقابله.

الجهة الثانية : في أنّ النزح الواجب على تقدير كونه للاغتسال ارتماسا هل هو لنجاسة ماء البئر بسببه ، أو لزوال الطهوريّة عنه (١) ، أو أنّه تعبّد صرف؟ وجوه بل أقوال.

اختار أوّلها العلّامة في المختلف (٢) ، بناء على مذهب الشيخين (٣) من سلب الطهوريّة عن الماء المستعمل في الحدث الأكبر ، وهو المحكيّ عن صريح المعتبر (٤) تارة وظاهره اخرى (٥).

وثانيها : محكيّ عن كتب ثاني الشهيدين (٦) ، ويلوح الثالث عن كلام جماعة كما في المدارك (٧) ، وهذا هو الأقوى والموافق للأصول القويمة السليمة عمّا يصلح معارضا ولا رافعا لها ، بل الأوّل من الأقوال ممّا ينبغي القطع ببطلانه لما تقدّم من أنّ حدوث النجاسة بغير سبب يقتضي التنجيس غير معقول.

والقول بكون الروايات محمولة على الغالب من عدم انفكاك بدنه عن النجاسة.

يدفعه : منع هذه الغلبة في الجنب الواقع أو الداخل أو النازل في البئر ، ومع تسليمها مطلقا فليس عليها مدار القول بالنجاسة ، ضرورة منافاتها لما حكي عن الشهيد من أنّ ظاهره أنّ علّة النزح هي النجاسة لكن بشرط الاغتسال ، فإنّ استناد النجاسة إلى النجاسة الخارجيّة العارضة للبدن بحكم الغلبة يقتضي عدم الفرق بين تحقّق الاغتسال وعدمه بعروض النجاسة للماء بمطلق المباشرة فيلغو الاشتراط.

كما أنّ القول بأنّ ما ذكر استبعاد مدفوع بالنصّ ، يدفعه : أنّ الاستبعاد لا يرتفع

__________________

(١) ينبغي أن تكون العبارة هكذا « ... هل هو لزوال الطهوريّة عنه أو لنجاسة ماء البئر بسببه ... الخ » حتّى يستقيم ما سيجي‌ء منه قدس‌سره من قوله : « وثانيها : محكيّ عن كتب ثاني الشهيدين الخ » ، لأنّ الشهيد رحمه‌الله من القائلين بكون العلّة في وجوب النزح هو نجاسة البئر وإن كان بدنه خاليا من النجاسة ، انظر : (روض الجنان : ١٥٤).

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٠.

(٣) المقنعة : ٦٧ ـ النهاية ١ : ٢٠٢ حيث قال : « ولا بأس باستعمال المياه وإن كانت قد استعملت مرّة اخرى في الطهارة ، إلّا أن يكون استعمالها في الغسل من الجنابة أو الحيض ، أو ما يجري مجراهما ، أو في إزالة النجاسة ».

(٤) المعتبر : ٢١ حيث قال : « وما يرفع به الأكبر طاهر وفي رفع الحدث به ثانيا قولان ، المرويّ المنع ... ».

(٥) المعتبر : ٢٢ حيث قال : « والأولى عندي تجنّبه والوجه التفصّي من الاختلاف والأخذ بالاحتياط ».

(٦) روض الجنان : ١٥٤ ـ الروضة البهيّة ١ : ٢٧٠.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ٨٨.


بمجرّد النصّ بل يتوقّف على دلالته الواضحة المعتبرة ، ولا سبيل لأحد إلى إحراز تلك الدلالة في نصوص المقام ، كيف لا وقصارى ما فيها إنّما هو الدلالة على وجوب النزح بعد تسليمها وهي أعمّ ، والعامّ لا يصلح دليلا على الخاصّ ، وما تقدّم منّا من دعوى نهوض الدلالة عرفا في الأوامر الواردة في باب المياه وغيرها من سائر التطهيرات وكذلك نواهيها على كونها لأجل النجاسة لا التعبّد الصرف إنّما نقول به فيما لم يصادف الأمر ما يوجب وهنه في تلك الدلالة ، ومن الموهنات القائمة في المقام عدم معهوديّة مقتض للنجاسة في الشريعة يختلف فيه الأشياء ، ولا سيّما المياه القابلتين للتنجّس.

وكون ذلك الاختلاف إنّما نشأ عن قصور ماء البئر في القوّة العاصمة عن الانفعال فلذا ينفعل كرّه بملاقاة مطلق النجاسة.

يفسده : أنّ ماء البئر ليس بأضعف من المضاف وهم لا يقولون بانفعاله بمباشرة الجنب ولو بقصد الاغتسال.

وكون ذلك مستندا إلى الفرق في أنّ المضاف لا يرفع الحدث ـ مع أنّه باطل بأنّ التحقيق كما سيأتي أنّ الحدث لا يرتفع بهذا الاغتسال أيضا ـ ينفيه : أنّ رفع الحدث حيثيّة في الماء تكشف عن زيادة القوّة فكيف تصلح أمارة لما هو ملزوم للقصور والضعف؟ مع أنّ المقتضي لهذا الحكم إن كان هو رفع نوع الحدث فهو منقوض بالأحداث الاخر من الحيض والاستحاضة والنفاس ، وإن كان هو رفع حدث الجنابة خاصّة فيؤول الكلام إلى دعوى : أنّ من المنجّسات الثابتة في الشريعة رفع حدث الجنابة ، وهذا كما ترى حكم كلّي قاطع للأصول المحكمة شرعيّة وعقليّة فكيف يمكن إثباته بمثل هذه الدلالات الضعيفة ، مع أنّ في ثبوتها ألف كلام وفيه مخالفة للشهرة أيضا.

وبجميع ما ذكر يندفع ما قيل في تقريب القول بالنجاسة من استظهاره من ظاهر لفظ « الإفساد » الوارد في صحيحة ابن أبي يعفور ، بدعوى : « أنّ ظاهره عدم ترتّب أثر عليه فلا يطهّر من الحدث ولا الخبث ؛ بل ظاهره عدم الصلاح فيه رأسا فلا يصلح للشرب أيضا ، وهذه الامور من لوازم النجاسة » (١) انتهى.

مع ما فيه من منع ظهور تلك اللفظة في هذا النحو من عموم الحكم ، بل قصارى ما

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٣٨.


فيه الدلالة على قضيّة مهملة مردّدة بين امور قد تقدّم الإشارة إلى جملة منها في مسألة انفعال البئر وعدمه ، وأظهر تلك الامور كون المراد بالفساد هنا زوال الطهوريّة عن الماء في زعم من ليس منّا كما يومئ إليه التعبير بلفظة « القوم » الظاهرة أو المحتملة احتمالا مساويا لكون المراد بهم العامّة القائلة بسلب الطهوريّة في الماء المستعمل.

وبذلك ـ مضافا إلى ما حقّقناه في الماء المستعمل ـ يظهر منع القول بكون علّة النزح هنا زوال الطهوريّة عن ذلك الماء ، فإنّ ذلك أيضا يفتقر إلى دلالة قويّة فكيف يثبت بالدلالات المدخولة.

وما اخترناه من التعبّد الصرف إنّما هو أخذ بالقدر المتيقّن المتّفق عليه من تلك الدلالات ، فإنّ الوجهين الأوّلين أيضا مبنيّان على التعبّد ، غير أنّهما لاشتمالهما على اعتبار أمر زائد وجودي أو ارتفاعي منفيّان بمخالفة الاصول وقصور الدلالة الواردة على خلافها الغير الصالحة لقطعها.

ومن المقالات المخرجة على خلاف الأصل والاعتبار ما حكي عن بعض القائلين بنجاسة البئر من القول بأنّه : « إن اغتسل مرتمسا طهر بدنه من الحدث ونجس بالخبث ، وإن اغتسل مرتّبا أجزأه غسل ما غسله قبل وصول الماء إلى البئر إن كان خارجا عن الماء وإلّا فما قارن به النيّة خاصّة ».

وهو كما ترى ، مع ما عن الشهيد (١) الموافق له في القول بالنجاسة من الاعتراض عليه في صورة الترتيب من أنّ الحكم معلّق على الاغتسال ولا يتحقّق إلّا بالإكمال.

الجهة الثالثة : اختلفوا في ارتفاع الحدث عن هذا المغتسل وعدمه، فقيل : بالأوّل لتحقّق الامتثال وعدم استلزام الأمر بالنزح النهي عن الاستعمال ، وقيل : بالثاني وحكي اختياره عن المحقّق الشيخ عليّ (٢) محتجّا عليه بأنّ خبر عبد الله بن أبي يعفور صريح في النهي عن الوقوع في البئر ، وذلك مقتض لفساد الغسل.

وعن الشهيد الثاني أنّه أجاب : « بمنع أنّ النهي عن العبادة ، بل عن الوقوع في الماء وإفساده ، وهو إنّما يتحقّق بعد الحكم بطهر الجنب لا بمجرّد دخوله في البئر ، فلا يضرّ هذا النهي لتأخّره وعدم كونه عن نفس العبادة » (٣).

__________________

(١ و ٣) روض الجنان : ١٥٤.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٤٣.


وتنظر فيه سبطه في المدارك : « بأنّه رحمه‌الله قد حقّق فيما سبق أنّ المراد بالوقوع الغسل ، حملا للمطلق على المقيّد ، فيكون النهي متوجّها إليه خاصّة ، والفساد وإن كان مترتّبا على الغسل ومتأخّرا عنه عند القائل به إلّا أنّ المفسد له في الحقيقة هو الغسل ، وليس بعده فعل يمكن توجّه النهي إليه ، وإنّما الموجود أثر ذلك الفعل » انتهى (١).

والّذي يساعد عليه النظر فساد ذلك الغسل وإن لم نحمل « الوقوع » عليه ، إن كان المراد بالإفساد المنهيّ عنه سلب الطهوريّة عن الماء ـ وكان المورد نظير مورد الرواية في كون البئر ممّا تعلّق به ملك الغير على جهة الاختصاص أو الاشتراك ـ فإنّه بهذا المعنى ـ مع الشرط المذكور ـ من آثار الغسل ومعلولاته ، ومن المحقّق في محلّه أنّ مقدّمة الحرام محرّمة سيّما إذا كانت علّة تامّة له.

ولا يجدي في رفع المحذور عدم مقارنة الغسل لنيّة الإفساد إن أمكن الانفكاك بينهما في حقّ العالم بالحكم ، لأنّ قصد العلّة في حكم العقل كاف في قصد المعلول.

نعم ، على تقدير كون المراد بالإفساد معنى آخر من نشر التراب في الماء وجعله كدرا ونحو ذلك أمكن منع العلّيّة ، نظرا إلى أنّه حينئذ ليس من آثار حيثيّة الغسل ، وإنّما هو من آثار الوقوع وإن لم يقارنه الغسل ، ولكنّه لا يجدي نفعا إلّا إذا لم يتّحد الكونان بحسب الوقوع الخارجي.

وربّما أمكن منعه بدعوى : أنّ الإفساد حينئذ وإن كان مترتّبا على الوقوع لكنّه من حيثيّة الغسل بمنزلة الجنس وهي بمنزلة الفصل ، ولا ريب أنّ الجنس والفصل متّحدان في الوجود الخارجي ، فليس للفصل وجود سوى وجود الجنس ، فالنهي متعلّق بإيجاد هو بعينه إيجاد للغسل ، ومعه لا يمكن تعلّق الأمر به ، ضرورة استحالة اجتماع الأمر والنهي.

ويمكن دفعه : بمنع اتّحاد الكونين ، ومنع كون الغسل فصلا للوقوع ، بدعوى : أنّ الإفساد يترتّب على الوقوع سواء وجد معه الغسل أو لا ، فهو أمر زائد على كلّ من اللازم والملزوم ، وما هذا شأنه لا يكون لازما لشي‌ء منهما ولا ملزوما له ، فلا يسري إليه النهي لا أصالة ولا تبعا.

وفيه : منع نفي كون الغسل ملزوما للوقوع ، كيف وهو من مقدّماته إن لم يقارن نيّته

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٩٠.


لأوّل الوقوع وإلّا فيتّحدا في الوجود الخارجي ، ومن البيّن أنّ المقدّمة من لوازم ذيها ، فإذا كانت منهيّا عنها لكونها علّة للإفساد المنهيّ خرجت عن كونها مقدورة من جهة الشرع ، لأنّ المنع الشرعي كالمنع العقلي ، ومن المحقّق عند العقل أنّ الواجب المطلق بالقياس إلى القدرة على مقدّماته الوجوديّة مشروط كالقدرة على نفسه ، فهو فاقد للأمر عند انتفاء القدرة عنه أو عن إحدى مقدّماته ، ومعه لا يعقل فيه الصحّة المقصودة في العبادات.

لكن هذا إنّما يتمّ في المقدّمة المنحصرة كما في مورد الرواية ، وأمّا في غيرها كما لو تمكّن عن الغسل بطريق آخر غير الوقوع في البئر فلا يلزم من عدم مقدوريّة إحدى مقدّماته انتفاء الأمر عنه رأسا ، وقضيّة ذلك وقوعه صحيحا وبوصف كونه مأمورا به ، وإن كانت مقدّمته قد حصلت بوصف كونها منهيّا عنها ، غاية ما هنا لك عدم تعلّق الوجوب المقدّمي ـ على القول به كما هو الحقّ ـ بتلك المقدّمة ، ومن البيّن أنّ عدم وجوب فرد من المقدّمة لمانع لا يقضي بعدم وجوب ذيها.

ثمّ كلّ ذلك إنّما يتوجّه إذا كان الإفساد بهذا المعنى ممّا تعلّق به النهي ، كما لو تحقّق الوقوع والغسل في حقّ الغير الّذي يعلم من حاله أنّ هذا الّذي يترتّب عليهما إفساد في نظره ، وإلّا فأصل الوقوع والإفساد ليسا بمنهيّ عنهما فلا مانع حينئذ من الصحّة.

وبذلك يعلم أنّ البئر في مورد الرواية كانت ملكا للغير أو ممّا تعلّق به ملك الغير أيضا ، ككونها من مشتركات المسلمين كافّة ولو بعنوان الوقف دون الملك المطلق ، أو من مشتركات قوم منهم من غير فرق بين حمل « الإفساد » على إرادة سلب الطهوريّة أو غيره ممّا أشرنا إليه ، وإن كان يجب الحمل على الثاني بقرينة خارجيّة غير ما تقدّم الإشارة إليه ، وهي : أنّه لو لا ذلك لزم من وجود الشي‌ء عدمه ، وأنّه محال.

وبيان الملازمة : أنّ كون ماء البئر مستعملا في رفع الحدث وصف لا ينعقد في الخارج إلّا إذا وقع الغسل صحيحا ، وصحّة الغسل مع فرض كونه علّة للإفساد بهذا المعنى المنهيّ عنه غير معقولة كما تقدّم ، فإذا لم يقع على وصف الصحّة لم ينعقد الوصف المذكور في الخارج ؛ وقضيّة استحالة ذلك خروج النهي لغوا يجب تنزيه كلام الحكيم عنه ، ولا يتأتّى ذلك إلّا بحمل « الإفساد » على غير المعنى المذكور ، وإذا اعتبر مع ذلك عدم كون البئر ممّا تعلّق به حقّ الغير خرج محلّ البحث عن مورد الرواية


بالمرّة ، إذ ليس الكلام فيما لو تحقّق الغسل في ملك الغير أو ما تعلّق به حقّه ؛ ولا ريب أنّ إفساد المالك وفي حكمه المأذون ماء بئره بأيّ معنى اريد منه ليس بمنهيّ عنه ، وإذا انضمّ إليه حيثيّة كونه في ملك الغير أو ما تعلّق به حقّ الغير مع عدم الإذن فيه لا مالكيّا ولا شرعيّا فعدم الصحّة إنّما هو من حيثيّة اخرى وهي التصرّف العدواني في ملك الغير ، لا لحيثيّة كونه للإفساد وسلب الطهوريّة.

وكيف كان فالحقّ : أنّ الغسل صحيح ، إذ لا موجب لتوهّم فساده إلّا وجوب النزح على فرضه ، وهو غير مستلزم له عقلا ولا شرعا وهذا ممّا لا تعلّق له بمورد الرواية حتّى يصحّ التعلّق بها في إبداء القول بالفساد ، وإنّما هي محمولة على مورد لم يكن محلّ البحث منه جزما.

ومن هنا اتّضح زيادة على ما مرّ في الجهة الثانية أنّ علّة وجوب النزح الوارد في الأخبار المطلقة ليست سلب الطهوريّة عن الماء ، إذ لا دليل عليه لمن توهّم ذلك إلّا الرواية المذكورة وقد عرفت أنّها ممّا لا تعلّق له بمحلّ البحث وبمسألة وجوب النزح أصلا ، ونحن إنّما ذكرناها هنا من جهة دفع بعض الكلمات المتعلّقة بها الصادرة عنهم هنا لا من جهة أنّ لها مدخليّة بموضع البحث هذا ، وتدبّر.

الجهة الرابعة : عن جماعة من الأصحاب أنّهم اشترطوا خلوّ بدن الجنب عن نجاسة عينيّة ليتمّ الاكتفاء بالسبع ، إذ لو كان عليه نجاسة لوجب مقدّرها إن كان وإلّا فعلى ما اختلف فيه من حكم ما لا نصّ فيه ؛ وعن العلّامة في المنتهى (١) التوقّف في الاشتراط ، وإن كانت هذه النسبة لا تخلو عن نظر ، لعدم دلالة كلامه على أنّه متوقّف في أصل المسألة ، وإن كان لا يخلو عن المناقشة من جهة اخرى حيث توهّم اختصاص النجاسة العينيّة المشترط خلوّها بالمنيّ كما لا يخفى على المتأمّل.

وعلى أيّ حال كان فالحقّ ما صار إليه الجماعة من قضيّة الاشتراط ، نظرا إلى أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها وهي ممّا تختلف باعتبار الحيثيّات ؛ والظاهر أنّ الأخبار الواردة في المقام معلّقة على حيثيّة الجنابة فلا تدخل فيها الحيثيّات الاخر ، ولا يعقل

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٨٩.


في الخطاب الوارد لبيان حكم حيثيّة مخصوصة إطلاق بالقياس إلى غيرها من الحيثيّات المستقلّة بأحكام اخر ، وقد تقدّم تقريب هذا الاستدلال في بحث موت الإنسان.

ومن هنا يعلم اختصاص الحكم باغتسال غير الكافر ، وأمّا هو فاغتساله يندرج في عنوان ما لا نصّ فيه إن لم يثبت في الشريعة لنجاسة الكفر بالنسبة إلى منزوحات البئر حكم بالخصوص ، وإلّا فالواجب إجراء حكمه ، وأمّا الذكر والانثى فالظاهر من الإطلاق عدم الفرق بينهما كما هو كذلك بالقياس إلى المخالف والمؤمن ، والله أعلم.

المسألة التاسعة : فيما ينزح له خمس ، وهو مقصور في فتاويهم على ذرق الدجاج ، لكن عن مقنعة (١) المفيد وجماعة آخرين تقييده بالجلّال ، بل في الحاشية الميسيّة على الشرائع (٢) أنّ المشهور اختصاص النزح بالجلّال منه ، وعن التذكرة (٣) : « أنّ الأكثر قيّده بذلك » ، وعن نهاية الشيخ (٤) وجماعة غير الأوّلين عدم تقييده بذلك ، بل عن الروضة (٥) والروض (٦) : « أنّه المشهور ».

ولم نعرف دليل هذا الحكم في شي‌ء من القولين بل في كلام غير واحد الاعتراف بعدم الوقوف على دليل عليه ، وإن شئت لاحظ العلّامة في المنتهى قائلا : « ولم أقف على حديث يدلّ على شي‌ء منهما » (٧).

وعن معتبر المحقّق : « وفي القولين إشكال أمّا الإطلاق فضعيف ، لأنّ ما ليس بجلّال ذرقه طاهر ، وكلّ رجيع طاهر لا يؤثّر في البئر تنجيسا ، أمّا الجلّال فذرقه نجس لكن تقدير نزحه بالخمس في موضع المنع ونطالب قائله بالدليل » (٨).

وفي المدارك : « ولم أقف على نصّ يقتضي النزح لذلك » (٩).

لكن في حاشية هذه العبارة للعلّامة البهبهاني : « الظاهر أنّ المفيد رحمه‌الله ومثله ممّن حكم بهذا الحكم كان لهم نصّ » (١٠) انتهى.

ويمكن تأييد القول الآخر بأنّ فتوى الشيخ في النهاية بمنزلة الرواية المرسلة ، بناء

__________________

(١) المقنعة : ٦٨ ، وفي هامش المقنعة : عن بعض النسخ « الدجاج الجلّالة ».

(٢) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١١٨.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٧.

(٤) النهاية ١ : ٢٠٩.

(٥) الروضة البهيّة ١ : ٤٢.

(٦) روض الجنان : ١٥٤. (٧) منتهى المطلب ١ : ٩٤.

(٨) المعتبر : ١٨. (٩) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.

(١٠) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٤٢.


على ما حكي عن صريح كلامه فيها من أنّه لا يفتي فيها إلّا بمتون الروايات من دون تغيير أو مع تغيير يسير ، وإذا ثبتت الشهرة المدّعاة على هذا القول كانت جابرة لإرسالها ، فهذا القول متعيّن لكن على تقدير صحّة الحكايتين.

وأمّا ما عرفت عن المعتبر من المناقشة فيه ، فيدفعه أوّلا : ما في المدارك (١) من تقييد هذا القول بالبناء على القول بنجاسة الذرق ، فإن كان القول بالنزح هنا ممّا لا بدّ من دفعه فلا بدّ من بناء دفعه على منع ما هو مبنيّ عليه كما منعه في الكتاب المذكور.

وثانيا : بأنّ مرسلة النهاية على تقدير صحّة الحكايتين كما أنّها تصلح مستندة للنزح تصلح مستندة لنجاسة الذرق ، فتأمّل.

وثالثا : بأنّ الحكم بالنزح قد يكون لمحض التعبّد كما هو الحال في اغتسال الجنب على ما تقدّم ، ولا سيّما على مذهب الشيخ القائل بالوجوب التعبّدي في سائر النجاسات ، فعلى فرض ثبوت المرسلة واعتبارها اتّضح مستند الحكم وإن قلنا بمنع الملازمة بين إيجاب النزح ونجاسة الموجب كما أشرنا إلى إمكانه في الأمر بالتأمّل. واحتمل بعضهم الاستناد إلى الإجماع ، كما نقل ادّعاؤه في الروض (٢) على عدم وجوب الزائد على الخمس ، مع ضميمة أنّ الأقلّ غير مبرئ للذمّة بعنوان اليقين.

ونوقش فيه بمخالفة أبي الصلاح ، فإنّه قال : « بأنّ خرء ما لا يؤكل لحمه يوجب نزح الماء » (٣).

وفيه : ظهور كلام أبي الصلاح فيما لا يؤكل لحمه بأصل الشرع لا من جهة العارض ، هذا مع ما قيل في دفعها من أنّ المخالفة من معلوم النسب غير مضرّة في انعقاد الإجماع على رأي القدماء ومن وافقهم.

وممّا بيّنّاه يتبيّن ضعف ما يوهمه كلام بعضهم من لحوق ذرق الدجاج الجلّال بمورد كلام أبي الصلاح الّذي لا مدخل له بالمقام.

وأضعف منه ما في المدارك من قوله : « واستقرب المصنّف في المعتبر دخوله في قسم العذرة » (٤) ، فاعترض عليه بقوله : « وفيه بعد » (٥).

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.

(٢) روض الجنان : ١٥٥.

(٣) الكافي في الفقه : ١٣٠ نقلا بالمعنى.

(٤ و ٥) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.


ووجه ضعفه : أنّه ذكر ذلك في خرء ما لا يؤكل لحمه الظاهر فيما يكون كذلك أصالة المتّفق على نجاسته ، لأنّه على ما في عبارة محكيّة له عن المعتبر قال ـ بعد ما ناقش في قولي المسألة بما تقدّم ـ : « وقال أبو الصلاح : خرء ما لا يؤكل لحمه يوجب نزح الماء ، ويقرب عندي أن يكون داخلا في قسم العذرة ينزح له عشرون ، فإن ذاب فأربعون أو خمسون ، ويحتمل أن ينزح له ثلاثون لخبر المنجبرة » (١) انتهى.

وقد عرفت أنّ ما لا يؤكل لحمه في عبارة أبي الصلاح ظاهر فيما هو كذلك بأصل الشرع فكذلك ما ذكره المحقّق ، بناء على أنّه إنّما نقل كلام أبي الصلاح هنا من جهة المناسبة لا من جهة تفريع المسألة على عنوان ما لا يؤكل لحمه ، كيف لا وذكره له من جهة التفريع يناقض ما ذكره أوّلا في دفع القولين في المسألة.

إلّا أن يقال : بأنّه يناقض دفعه القول بالحكم فيما ليس بجلّال دون دفعه القول به في الجلّال ، لأنّه دفع له في تقدير النزح بالخمس لا في دعوى النجاسة الّتي لا مجال لها في ذرق غير الجلّال.

فيرد عليه حينئذ أوّلا : ما تقدّم من منع تعلّق المسألة بمورد كلام أبي الصلاح. وثانيا : ما أورده غير واحد من أنّ العذرة لغة فضلة الإنسان خاصّة ، ونزح الثلاثين المستند إلى خبر المنجبرة وهو رواية كردويه المتضمّنة لوقوع ماء المطر المخالط بالبول وخرء الكلاب وغيرهما مختصّ بالأشياء المذكورة مع مخالطة ماء المطر ، فالتعدّي عنها ممّا لا مسوّغ له.

والمراد بالجلّال ـ على ما في المدارك ـ (٢) المتغذّي بعذرة الإنسان محضا إلى أن يسمّى في العرف جلّالا.

المسألة العاشرة : فيما ينزح له ثلاث ، وهو الفأرة إذا لم يتفسّخ ولم تنتفخ ، أفتى به الشيخان (٣) ، وأبو الصلاح (٤) ، وسلّار (٥) ، وابن البرّاج (٦) ، وابن إدريس (٧) ، على ما حكاه

__________________

(١) المعتبر : ١٨.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٩٢.

(٣) أي الشيخ الطوسي في النهاية انظر النهاية ١ : ٢٠٨ والمبسوط ١ : ١٢ والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٦.

(٤) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٥) المراسم العلويّة : ٣٦.

(٦) المهذّب ١ : ٢٢.

(٧) السرائر ١ : ٧٧.


في المختلف (١) ، خلافا لعليّ بن بابويه المحكيّ عنه في المختلف (٢) أيضا الاكتفاء بنزح دلو واحد ، وعن المرتضى على ما في المختلف (٣) أيضا أنّه قال : ينزح لها سبعة دلاء ؛ وقد روي ثلاثة ولم يفصّل.

واحتجّ الشيخ ـ على ما حكي عنه ـ وهو ظاهره بل صريحه في التهذيبين بما رواه فيهما من صحيحة معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر؟ قال : « ينزح منها ثلاث دلاء » (٤).

وفي معناها صحيحة عبد الله بن سنان (٥) المرويّة فيهما ، وتوهّم إطلاق الوقوع الشامل لصورتي الموت والخروج حيّا ، يدفعه : انصرافه إلى الموت عرفا كما فهمه الشيخ وغيره من الجماعة.

وأمّا الروايات القاضية بنزح السبع فيها على الإطلاق فهي محمولة على صورة وجود الوصفين بقرينة ما تقدّم في المسألة الثانية من الروايات المقيّدة كما صنعه الشيخ في الكتابين (٦) ، حيث جمع بذلك بين الروايات المختلفة ، فلذا صار في الفأرة إلى التفصيل في نزحها بالسبع والثلاث بين صورتي وجود الوصف وانتفائه كما تقدّم بيانه.

وبما ذكر يظهر الجواب عن احتجاج المرتضى بالروايات المطلقة في السبع ، فإنّ من وظيفة المطلق أن يحمل على المقيّد حيث يتعارضان.

وأمّا قول عليّ بن بابويه فلم يعرف حجّته كما اعترف به في المختلف (٧) ، وقد يلحق بها هنا امور :

منها : الحيّة ، حكاه في المختلف (٨) عن الشيخ (٩).

وأبي الصلاح (١٠) ، وسلّار (١١) ، وابني البرّاج (١٢) ، وإدريس (١٣).

__________________

(١ و ٢ و ٣) المختلف ١ : ٢٠٣.

(٤) الوسائل ١ : ١٨٧ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٨٨ ـ الاستبصار ١ : ٣٩ / ١٠٦.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٨٩.

(٦) التهذيب ١ : ٢٣٨ ذيل الحديث ٦٩٠.

(٧ و ٨) مختلف الشيعة ١ : ٢٠٥ و ٢١٣.

(٩) المبسوط ١ : ١٢ ـ النهاية ١ : ٢٠٨.

(١٠) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(١١) المراسم العلويّة : ٣٥ ـ ٣٦.

(١٢) المهذّب ١ : ٢٢. (١٣) السرائر ١ : ٨٣.


وعن جماعة دعوى الشهرة فيه (١) ، وعن السرائر : نفي الخلاف عنه (٢).

وعن الغنية : الإجماع عليه (٣) ، واختلفت الحكاية عن ابن بابويه ففي المختلف ينزح منها سبع دلاء ، حكاه عنه في مسألة العقرب أيضا قائلا : « وقال عليّ بن بابويه في رسالته : إذا وقعت فيها حيّة ، أو عقرب ، أو خنافس ، أو بنات وردان ، فاستق منها للحيّة سبع دلاء ، وليس عليك فيما سواها شي‌ء » (٤).

وعن المحقّق في المعتبر (٥) أنّه نقل عبارة الرسالة المذكورة بحيث كان فيها دلو واحد في موضع السبع.

وعن صاحب المعالم : « وفيما عندنا من نسخة الرسالة القديمة الّتي عليها آثار الصحّة « دلاء » بدون السبع » (٦).

وعنه أيضا ـ عقيب الكلام المذكور المنقول بالمعنى ـ : « وعلى ما فيها ربّما لا يبقى في المسألة خلاف ، لأنّ لفظ « الدلاء » لا يبعد حمله عند الإطلاق على الثلاث لما مرّ تقديره » (٧) انتهى.

واعترف غير واحد بعدم ورود نصّ فيها بالخصوص.

وعن المعتبر : « ويمكن الاستدلال بما رواه الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

« قال إذا سقط في البئر حيوان صغير فمات فيها فانزح منها دلاء » (٨) فينزّل على الثلاث لأنّه أقلّ محتملاته (٩).

وفي المختلف : « احتجّ الأكثرون برواية عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام فيما يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكبره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأصغره العصفور ينزح منها دلو واحد (١٠).

وللحيّة يجب فيها أكثر من العصفور وإلّا لم يختصّ القلّة بالعصفور ، وإنّما أوجبنا نزح ثلاث لمساواتها الفأرة في قدر الجسم تقريبا.

__________________

(١) كما في ذكرى الشيعة ١ : ٩٨ ـ كشف اللثام ١ : ٣٤٥.

(٢) السرائر ١ : ٨٣.

(٣) غنية النزوع : ٤٩.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ٢١٢.

(٥ و ٩) المعتبر : ١٨.

(٦ و ٧) فقه المعالم ١ : ٢٤٣ نقلا بالمعنى.

(٨) الكافي ٣ : ٦ / ٧ ـ الوسائل ١ : ١٨٠ ب ١٥ من أبواب الماء المطلق ح ٦.

(١٠) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٨.


وبما رواه إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : « الدجاجة ومثلها يموت في البئر ينزح منها دلوان وثلاثة » (١) ولا ريب أنّ الحيّة لا تزيد على قدر الدجاجة في الجسم » (٢).

واعترض على الاحتجاج بتلك الأخبار بأنّ الأحاديث الواردة في أنّ ما لا نفس له إذا وقع في البئر لا بأس به ـ كما في بعض ـ ولا يفسد الماء ـ كما في آخر ـ مخرجة للحيّة عن عموم تلك الأخبار ، ومن الأحاديث المذكورة ما حكاه في المختلف (٣) من رواية عمّار الساباطي في حديث طويل عن الصادق عليه‌السلام : وقد سئل عن الخنفساء ، والذباب ، والجراد ، والنمل ، وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت وشبهه قال : « كلّ ذلك ما ليس له دم فلا بأس » (٤).

ومنها : ما حكاه أيضا في الصحيح عن ابن مسكان عن الصادق عليه‌السلام قال : « وكلّ شي‌ء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس » (٥).

وهذا الاعتراض إنّما يتّجه لو ثبت صغرى القياس وهو مذهب المشهور على ما في محكي شارح المفاتيح (٦) من أنّها ليس لها نفس.

وعن الفاضل في شرح القواعد أنّه تشكّك فيه ثمّ قال : « ويمكن اختلاف أنواعها » (٧) انتهى.

لكن صرّح جماعة من فحول أصحابنا بأنّ لها نفسا ، ومن المصرّحين المحقّق ـ في عبارة محكيّة له ـ في المعتبر قائلا : « والّذي أراه وجوب النزح في الحيّة ، لأنّ لها نفسا سائلة وميتتها نجسة » (٨).

ومنهم العلّامة في المنتهى قائلا : « والأولى عندي تعلّق الحكم ، وهو نزح الثلاث بالحيّة دون غيرها ، لوجود النفس السائلة لها دون غيرها وميتتها نجس » (٩).

ومنهم من عاصرناه من فحول مجتهدينا المعاصرين قدس‌سره على ما وجدناه في كلام له

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٦ ب ١٨ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٧ / ٦٨٣.

(٢ و ٣) مختلف الشيعة ١ : ٢١٤ و ٢١٣.

(٤) التهذيب ١ : ٢٣٠ / ٦٦٥ و ٢٨٤ / ٨٣٢.

(٥) التهذيب ١ : ٢٣٠ ـ ٢٣١ / ٦٦٦.

(٦) مصابيح الظلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٥٢٨.

(٧) كشف اللثام ١ : ٣٤٦.

(٨) المعتبر : ١٨.

(٩) منتهى المطلب ١ : ٩٦.


في الكتاب المعمول في أجوبته عن الأسئلة المعروضة عليه (١) ، ونقل عنه (٢) أيضا أنّه أخبر التصريح عن بعض الأعلام أنّه امتحنها بالذبح فرأى أنّ لها نفسا سائلة ، ومن البيّن أنّ الاحتجاج بالأخبار المتقدّمة مبنيّ على هذا المذهب ومعه لا وقع للاعتراض المذكور أصلا.

وعن عليّ بن بابويه أنّه احتجّ على إيجاب سبع بأنّها في قدر الفأرة أو أكبر ، وقد بيّنّا أنّ في الفأرة سبع دلاء فلا يزيد الحيّة عليها للبراءة ولا ينقص عنها للأولويّة (٣).

وضعفه واضح ، لمنع الأولويّة وعدم تأثير للبراءة بعد ملاحظة استصحاب النجاسة ، وأمّا الاكتفاء بالدلو الواحد ـ على ما في المعتبر ـ (٤) فلم نعرف له دليل ، وأمّا على ما حكاه المعالم فاحتمل بعضهم الاستدلال عليه بصحيحة الحلبي المتقدّمة ، بل بصحيحة الفضلاء ، ورواية الفضل المتقدّمتين في بحث الفأرة من المسألة الثامنة.

ومنها : الوزغة ، أفتى بالثلاث فيها على ما في المختلف (٥) الشيخان (٦) ، وابن البرّاج (٧) ، وابن حمزة (٨) ، والصدوق (٩) ، ودليله على ما تقدّم في الفأرة من صحيحتي ابن عمّار ، وابن سنان ، واضح.

لكن يشكل الحال في ذلك بعدم كون الوزغة ـ على ما صرّحوا به ـ من ذوات النفس ليوجب موتها نجاسة البئر ، ولذا صار ابن إدريس ـ على ما عزى إليه ـ إلى منع وجوب النزح فيها ، محتجّا : بأنّها لا نفس لها سائلة (١٠) ، إلّا على ما ذكره العلّامة في المختلف في تقريب هذا القول من أنّه : « يجوز أن يكون الأمر بالنزح من حيث الطبّ بحصول الضرر في الماء بالسمّ لا من حيث النجاسة ، ولا شكّ أنّ السلامة من الضرر أمر مطلوب للشارع ، فلا استبعاد في إيجاب النزح لهذا الغرض » (١١).

__________________

(١) لم نجده في جامع الشتات ـ على ما فحصنا عنه في الجملة ـ ولعلّه يوجد مع شدّة الفحص.

(٢) غنائم الأيّام ١ : ٥٦٩ حيث قال : « وسمعت ثقة قتلها وشاهد أنّ لها دما سيّالا في غاية القوّة كالسائل عن الفصد ، وسمعت بعض مشايخنا أيضا أنّه سمع ثقة آخر كذلك ».

(٣ و ٥) مختلف الشيعة ١ : ٢١٤ و ٢١٠.

(٤) المعتبر : ١٨.

(٦) أي الشيخ الطوسي في النهاية ١ : ٢٠٨ ، والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٧.

(٧) المهذّب ١ : ٢٢.

(٨) الوسيلة : ٧٥.

(٩) الفقيه ١ : ١٤ / ٢٨.

(١٠) السرائر ١ : ٨٣.

(١١) مختلف الشيعة ١ : ٢١٢.


فإن تمّ ذلك اندفع به قول ابن إدريس أيضا واحتجاجه ، وإلّا لسرى الإشكال إلى الفأرة الّتي عطف عليها الوزغة في الرواية ، وقضيّة ذلك استحباب النزح فيهما معا كما أفتى به المحقّق في الوزغة خاصّة على ما حكي عنه في المعتبر (١).

وفي المسألة قول ثالث أو رابع محكيّ عن سلّار (٢) وأبو الصلاح الحلبي (٣) وهو الاكتفاء بالدلو الواحد ، احتجاجا بما في التهذيب والفقيه عن يعقوب بن ميثم أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال له : بئر ماء في مائها ريح يخرج منها قطع جلود ، فقال : « ليس بشي‌ء ، لأنّ الوزغ ربّما طرح جلده ، إنّما يكفيك من ذلك دلو واحد » (٤).

وفي معناها ما عن الكافي (٥) في باب البئر.

ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج من الوهن بعدم دلالة الروايتين على نفي الزائد لو وقع فيها الوزغ بنفسه ، وإنّما هما تدلّان على الاكتفاء بالواحد في جلده ، وهو ليس من موضوع المسألة في شي‌ء.

ومنها : العقرب ، حكي القول به عن الشيخ في النهاية (٦) ، والمبسوط (٧) ، وتبعه ابن البرّاج (٨) ، وأبو الصلاح (٩) ، ولم يتعرّض لها ابن حمزة ، وسلّار ، والشيخ المفيد ، وقد تقدّم عن عليّ بن بابويه (١٠) ما يدلّ على عدم وجوب شي‌ء فيها ، وهو اختيار ابن إدريس (١١).

حجّة الشيخ ـ على ما في المختلف ـ (١٢) ما رواه هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك يقع في الماء فيخرج حيّا هل يشرب من ذلك الماء أو يتوضّأ به؟ قال : « يسكب ثلاث مرّات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثمّ يشرب منه ويتوضّأ منه غير الوزغ ، فإنّه لا ينتفع ما يقع فيه » (١٣).

وجه الاستدلال : أنّ العقرب ينزح لها مع خروجها حيّة ثلاث دلاء فمع الموت أولى ، مضافا إلى أنّ المقتضي للنزح في الوزغة وهو السمّ موجود في العقرب.

__________________

(١) المعتبر : ١٨.

(٢) المراسم العلويّة : ٣٦.

(٣) الكافي في الفقه : ١٣٠.

(٤)التهذيب ١: ٤١٩ / ١٣٢٥ ـ الفقيه ١ : ١٥ / ٣٠ ، وفيها « يعقوب بن عثيم»بدل« يعقوب بن ميثم ».

(٥) الكافي ٣ : ٦ / ٩. (٦) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٨.

(٧) المبسوط ١ : ١٢. (٨) المهذّب ١ : ٢٢.

(٩) الكافي في الفقه : ١٣٠. (١٠ و ١٢) حكاه عنه في مختلف الشيعة ١ : ٢١٢.

(١١) السرائر ١ : ٨٣.

(١٣) التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٩٠ ـ الوسائل ١ : ١٨٨ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٥.


وهذا من جهة ابتنائه على القياس الفاسد ضعيف جدّا ، والعمدة هي الرواية ، وفيها : أنّ الأولويّة المدّعاة إنّما تنهض على تقدير دلالة الرواية على الوجوب ولعلّها في حيّز المنع ، كما يرشد إليه العطف على الفأرة المخرجة حيّة المجمع على عدم وجوب النزح فيها ، كيف وهو إمّا من جهة النجاسة فهي منتفية مع الحياة ، أو من جهة شبهة السمّية الّتي انتفاؤها أوضح ، ومع ذلك فهي على فرض الدلالة معارضة بعموم ما تقدّم في غير ذي النفس ، وخصوص صحيحة ابن مسكان المتقدّمة عن الصادق عليه‌السلام قال : « وكلّ شي‌ء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس » (١) وهي صحيحة ، وعمل بها العلّامة (٢) وغيره فتكون أرجح ، وعليه يجمع بينها وبين ما تقدّم بحمله على الاستحباب كما صنعه العلّامة في المختلف (٣) ، وبذلك يظهر الوجه في رواية منهال بن عمرو عن الصادق عليه‌السلام قلت له : العقرب يخرج من البئر ميتة؟ قال : « استق عشرة دلاء » (٤) وقد حملها الشيخ على الاستحباب (٥) ، كما في المختلف (٦).

وعن المانعين عن وجوب النزح الاحتجاج : بأنّه حيوان لا نفس له سائلة فلا يجب بموته شي‌ء كالذباب والخنافس ، وبالروايات المتقدّم إليها الإشارة في غير ذوات النفس ، وهو في غاية الجودة.

المسألة الحادية عشر : فيما ينزح له دلو واحد ، وهو أمران :

أحدهما : العصفور وما أشبهه ، نسب القول به في المنتهى (٧) إلى الشيخين (٨) وأتباعهما (٩) ، وفي كلام غير واحد نسبته إلى المشهور.

بل في شرح الدروس (١٠) ـ كما عن المعالم ـ (١١) لم يعرف فيه خلاف.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣١ ـ ٢٣٠ / ٦٦٦.

(٢) المختلف ١ : ٢١٢ حيث قال : « وهذا الحديث أصحّ ما رأيته في هذا الباب ، وعليه أعتمد ... الخ ».

(٣ و ٦) مختلف الشيعة ١ : ٢١٢.

(٤) الوسائل ١ : ١٩٦ ب ٢٢ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٣١ / ٦٦٧.

(٥) التهذيب ١ : ١٣١ / ٦٦٧.

(٧) منتهى المطلب ١ : ٩٨.

(٨) أي الشيخ الطوسي في النهاية ١ : ٢٠٨ ، والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٧.

(٩) كابن البرّاج في المهذّب ١ : ٢٢ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ٧٧ ، والسلّار في المراسم العلويّة : ٣٥ ـ ٣٦.

(١٠) مشارق الشموس : ٢٣٨.

(١١) فقه المعالم ١ : ٢٤٩.


وعن الغنية : الإجماع عليه وعلى مماثله في الجسم من الطير (١).

نعم ربّما يستظهر الخلاف من الصدوقين ، فعن الفقيه : « وأكثر ما يقع في البئر الإنسان » ـ إلى أن قال ـ : « وأصغر ما يقع في البئر الصعوة فينزح منها دلو واحد ، وفيما بين الإنسان على قدر ما يقع منها » وعن أبيه : أنّه كذا قال في الرسالة (٢).

ووجه المخالفة : أنّ الصعوة ليس بمطلق العصفور بل عصفور صغير ، كما نصّ عليه في القاموس (٣).

وقد يوجّه كلامهما على وجه يرتفع معه المخالفة وهو إمّا بإطلاق الخاصّ على العامّ ، أو بأنّه لم يثبت كون الصعوة أخصّ فيكونان مترادفين.

وكيف كان فمستند المشهور رواية عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وذكر الحديث ـ إلى أن قال ـ : « وأقلّ ما يقع في البئر عصفور ينزح منها دلو واحد » ، وعمّار وإن كان فطحيّا لكن الرواية موثّقة ، ومع ذلك فهي معتضدة بعمل المشهور بل الكلّ.

قال العلّامة في المنتهى : « لكنّ الأصحاب قبلوا روايته وشهدوا له بالوثاقة » (٤).

وبذلك تنهض الرواية مخصّصة للمعتبرة الاخر من الصحاح وغيرها القاضية بعضها بالدلاء في الطير ، والاخر بالسبع ، وثالث بالخمس ، ورابع بالثلاث.

فما في المدارك (٥) من الميل إلى الخمس أو الثلاث في الطير مطلقا لصحيحتي الفضلاء ، وعليّ بن يقطين عن الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ، كما عن المعالم (٦) من نفي البعد عن العمل بصحيحة الحلبي المتقدّمة في موت الحيّة لصغير الحيوان الشامل للعصفور ، ليس ممّا يلتفت إليه ، وقد يمنع (٧) شمول الحيوان للطير وهو بعيد.

وعن بعض الأصحاب تفسير « العصفور » بما دون الحمامة ، وقيل : وهو الظاهر من تفسيرهم « الطير » بالحمامة ونحوها ممّا فوقها ، وهو كما ترى لا يلائم تفسيرهم

__________________

(١) غنية النزوع : ٤٩.

(٢) المعتبر : ١٨.

(٣) تاج العروس في شرح القاموس ؛ مادّة « صعو » ١٠ : ٢٠٩.

(٤) منتهى المطلب ١ : ٩٨.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ٩٤.

(٦) فقه المعالم ١ : ٢٤٩.

(٧) المانع هو صاحب المعالم رحمه‌الله حيث قال : « ... لعدم دخول العصفور في لفظ الحيوان بالنظر إلى العرف ... الخ » فقه المعالم ١ : ٢٥٠.


ل « شبهه » بما يضاهيه في الجسم والمقدار.

ومع ذلك فيدفعه : ما في الرواية من التصريح بما يوجب خروج الحمامة وما دونه إلى العصفور عن هذا الحكم ، فإنّ فيها : « وما سوى ذلك ممّا يقع في بئر الماء فيموت فيه فأكثره الإنسان ينزح منها سبعون دلوا ، وأقلّه العصفور ينزح منها دلو واحد ، وما سوى ذلك فيما بين هذين » (١).

فإنّ المراد بأكثره إمّا الأكثريّة في الجثّة والمقدار كما يؤيّده ما في بعض نسخ الرواية من التعبير بأكبره ، أو أكثريّة المنزوح كما يناسبه التعبير عمّا يقابله بالأقلّ في كلتا النسختين ، وعلى التقديرين فمرجع اسم الإشارة الثانية إمّا أحد الأمرين من « الإنسان » و « العصفور » كما هو الظاهر ، أو خصوص « العصفور » ، وعلى التقديرين فالحكم عليه بكونه فيما بين هذين ، مع ظهور المثنّى في التقديرين المذكورين في الرواية من السبعين والواحد ، مخرج لما عدا الحمامة ممّا فوقها إلى الإنسان وما تحتها إلى العصفور عن هذين الحكمين.

وقضيّة ذلك عدم بلوغ مقدّره في الكثرة إلى السبعين ولا في القلّة إلى الواحد ، وهو أمر مجمل يستفصل من الروايات ، ومع ذلك فكيف يفسّر به « العصفور » حيث أنّه ليس بمعناه الموضوع له على ما يشهد به العرف ونصّ عليه أئمّة اللغة ، ولا أنّ في المقام قرينة قاضية بإرادة ذلك في الرواية ، والعجب عن المحقّق الميسي في حاشية الشرائع (٢) حيث أنّه فسّر « شبهه » أوّلا بما يشبهه في حجمه ، ثمّ قال : « وهو ما دون الحمامة » ، ولا ريب أنّ بين الحمامة والعصفور وسائط كثيرة.

وبملاحظة ما ذكرناه يشكل التعدّي عن العصفور إلى ما يشبهه في الجثّة والمقدار أيضا كما اعترف به جماعة ، ومنعوه تعليلا بأنّ النصّ مخصوص بالعصفور ، فإنّ ذلك إنّما يصحّ لو جعلنا المراد بالأكثر الأكثريّة في الجثّة والمقدار المستلزمة لكون المراد بالأقلّ الأقلّيّة فيهما أيضا ، نظرا إلى أنّ الرواية في صدد التعرّض لحصر أصناف الحيوانات في الثلاثة ، فلو لم يكن المراد بالعصفور ما يعمّ المتساويات في الجثّة والمقدار بطل الحصر المقصود ، فتأمّل.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٣٤ / ٦٧٨.

(٢) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ١١٩.


ولكن قد عرفت أنّ هذا الاحتمال يعارضه الاحتمال الآخر الّذي لا يقتضي كون المراد بالعصفور المعنى الأعمّ كما يظهر بأدنى تأمّل ، نظرا إلى أنّ الحصر المقصود حينئذ إنّما هو في المنزوحات المقدّرة ، فجعلها المعصوم عليه‌السلام في الكثرة والقلّة وما يتوسّطهما على أقسام ثلاث وهي السبعون والواحد وما بينهما ، وقضيّة ذلك خروج الرواية من هذه الجهة مجملة ، إلّا أن يجعل فهم المشهور قرينة على التعيين وهو مشكل.

وأمّا ما يقال ـ في تقريب التعدّي ـ : من أنّه لمّا ثبت تفسير « الطير » بالحمامة فما فوقها كما تقدّم في بحثه ، وكان له سبع ولا واسطة بين السبع والواحد من العدد فيما بين الحمامة والعصفور تعيّن إلحاق ما دونها به.

ففيه أوّلا : ثبوت الواسطة بنصّ الرواية بالتقريب الّذي قرّرناه.

وثانيا : أنّ عدم ورود الواسطة في النصوص يقضي بكون ما عدا العصفور ممّا دون الحمامة ملحقا بما لا نصّ فيه كما هو الحال في سائر النجاسات الغير المنصوصة لا بالعصفور.

وكيف كان فالحكم معلّق على العصفور خاصّة ، وعلى تقدير التعدّي يتعدّى إلى كلّ ما يشابهه في الجثّة بحسب الخلقة الأصليّة لا باعتبار صغر السنّ من غير فرق في ذلك بين المأكول وغيره.

فما عن نظام الدين الصهرشتي شارح النهاية (١) من إجراء هذا الحكم في صغير الطير (٢) كالفرخ ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، وأضعف منه ما عن الراوندي (٣) من تخصيصه الحكم بمأكول اللحم احترازا عن الخفّاش ، تعليلا بأنّه مسخ أو أنّه نجس ، فإنّه مع أنّه ممّا لا دليل عليه مردود أوّلا : بمنع كونه مسخا ، وثانيا : نمنع نجاسته ، وثالثا :بكونه أخصّ من المدّعى.

وثانيهما : بول الصبيّ الّذي لم يتغذّ بالطعام ، نسب إلى الشيخين (٤) وكثير من الأصحاب ، وادّعي عليه الشهرة ، وعن أبي الصلاح وابن زهرة المصير إلى نزح ثلاث دلاء (٥) ، وعن

__________________

(١ و ٣) حكى عنه في المعتبر : ١٨.

(٢) كلّ طائر حال صغره « نسخة بدل ».

(٤) أي الطوسي في النهاية ١ : ٢٠٨ والمفيد في المقنعة : ٦٧.

(٥) الكافي في الفقه : ١٣٠ ؛ وغنية النزوع : ٤٩.


الثاني دعوى الإجماع عليه ، وهو عجيب مع مخالفة المشهور ومع ذلك فمستند قوله غير واضح ؛ ولو احتجّ له بصحيحة ابن بزيع المتقدّمة (١) الحاكمة بنزح دلاء لقطرات البول ، لدفعه : إمّا الانصراف إلى ما عدا بول الرضيع ، أو لكون قطرات البول أعمّ من وجه من بوله فلا يتناول ما زاد على القطرات ، ويقضي بالثلاث في غير بوله والقول به ضعيف كما تقدّم.

وكيف كان فمستند المشهور ـ على ما حكي الاحتجاج به عن الشيخ ـ رواية عليّ بن أبي حمزة المتقدّمة الواردة في بول الصبيّ الفطيم ، يقع في البئر فقال : « دلو واحد » (٢) وهذا مبنيّ على حمل « الفطيم » على المشارف للفطام ، نظرا إلى تحديد « الصبيّ » هنا في كلامهم بمن يغتذي باللبن محضا ، أو بحيث يغلب على الطعام ، فيغاير « الفطيم » المتقدّم تفسيره في بول الصبيّ المتغذّي بالطعام ، وهو كما ترى. مجاز يحتاج إلى القرينة ، ولعلّ المشهور عثروا بها كما يومئ إليه كلام عن المهذّب البارع (٣) من أنّ الرضيع هو المعبّر عنه في الروايات بالفطيم.

وكيف كان فالقول المذكور مستندا إلى هذه الرواية غير خال عن الإشكال ، والأحوط بل الأولى إطلاق القول في بول الصبيّ بالسبع ، وفاقا للسلّار على ما حكي عنه فيما تقدّم ، مستندا إلى إطلاق رواية منصور بن حازم المتقدّمة في بحث بول الصبيّ.

نعم ، إنّما يتّجه القول بالواحد هنا على تقدير صحّة الاستناد إلى ما روي عن الفقه الرضوي المتقدّم ذكره في البحث المذكور ، لكنّه لم يثبت عندنا إلى الآن ما يقضي بصحّة ذلك ، وعليه فالاحتياط بناء على القول بالتنجيس أو الوجوب تعبّدا ممّا لا ينبغي تركه.

ولنختم المقام بإيراد مباحث نذكرها هنا من باب التفريع :

المبحث الأوّل : فيما يتعلّق بالدلو المعتبر في النزح ؛ الوارد في الروايات ، وما يلحق به وما لا يلحق وفيه مسائل :

الاولى : في أنّ « الدلو » المعتبر في الروايات آلة للنزح ليس ممّا ثبت له معنى شرعي ، ولا أنّه ممّا له في عرف زمان الشارع معنى خاصّ به ، ولا أنّه ممّا اختلف فيه عرف الراوي والمرويّ عنه وبلد السؤال ، أو ممّا اختلف فيه الاصطلاحات كالمنّ

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٦ ب ١٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢١ ـ الكافي ٣ : ٥ / ١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٤٣ / ٧٠٠.

(٣) المهذّب البارع ١ : ١٠٢.


والرطل ونحوهما ، ولا أنّه ممّا اختلف فيه العرف واللغة ؛ بل هو لغة وعرفا لفظ مقول بالاشتراك المعنوي على الصغار والكبار مع اختلاف آحادهما والمتوسّط بينهما ، لكن إطلاقه لا ينصرف إلى الصغير والكبير الخارجين عن حدّ التعارف والاعتدال ، كما لو كان منه في الصغر ما يسع مدّا أو أقلّ إلى مثقال ومثقالين مثلا ، وفي الكبر ما يسع كرّا أو كرورا أو نصف كرّ أو ثلثه وربعه مثلا ، فإنّهما على فرض دخولهما في مسمّى اللفظ عرفا أو لغة خارجان عن إطلاق اللفظ جدّا ، ومقتضي القاعدة المحكّمة في مثل ذلك أن يحمل الخطاب على ما يصدق عليه الاسم عرفا وينصرف إليه اللفظ استعمالا ، كبيرا كان أو صغيرا أو متوسّطا بينهما ما لم يخرجا عن حدّ الاعتدال ، إذ المفروض عدم ورود نصّ في تقديره كما وردت النصوص في تقدير النزح واعتبار العدد ، وورود النصوص المقدّرة للعدد بالنسبة إلى الدلو مطلقة من غير استفصال (١) فيها عن الصغر والكبر ولا تفصيل بين الصغير والكبير ، ولعلّه إلى ما ذكرناه يرجع ما في كلام الفقهاء من العبارات المختلفة في هذا المقام.

فعن مبسوط الشيخ : « أنّه دلو العادة الّتي يستقي بها دون الدلاء الكبار لأنّه لم يقيّد في الخبر » (٢).

وعن السرائر : « أنّه دلو العادة ـ دون الشاذّة ـ الّتي يستقي بها ، ودون الصغار والكبار الخارجة عن المعتاد والغالب لأنّه لم يقيّد في الخبر » (٣).

وعن الغنية والكافي : « أنّه دلو البئر المألوف » (٤).

وعن الوسيلة : « الدلو دلو العادة » (٥) ، ونحوه عن المنتهى والتحرير (٦) ، وفي الشرائع : « ما جرت العادة باستعمالها » (٧) ، وعن المعتبر : « هي المعتادة صغيرة كانت أو كبيرة ، لأنّه ليس في الشرع لها وضع فيجب أن تتقيّد بالعرف » (٨).

وعن التذكرة : « الحوالة في الدلو على المعتاد لعدم التقدير الشرعي » (٩) وعن كتب

__________________

(١) الاستفصال من الراوي والتفصيل من الإمام عليه‌السلام. (في هامش الأصل بخطّ مؤلّفه رحمه‌الله).

(٢) المبسوط ١ : ١٢.

(٣) السرائر ١ : ٨٣.

(٤) غنية النزوع ١ : ٤٨ ، والكافي في الفقه : ١٣٠.

(٥) الوسيلة : ٧٥.

(٦) منتهى المطلب ١ : ١٠٤ ـ تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٧) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٨) المعتبر : ١٨.

(٩) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٨.


الشهيد : « أنّها المعتادة » (١).

إذ ليس المراد بالعادة في تلك العبارات ما يوجب تقييد المفهوم العرفي حتّى يطالب بدليله ، بل الغلبة وكثرة التداول الموجبين لانصراف اللفظ إلى ما ليس بخارج عن حدّ الاعتدال لقلّة وجوده وعدم كونه ممّا اعتيد استعماله في الآبار وإن فرض استعماله في بعض الأحيان كما يشهد به مقابلة الشواذّ أو الكبار أو الصغار والكبار ، نظرا إلى ظهور أنّ المراد بهما ما هو الخارج في الصغر والكبر عن حدّ الاعتدال المتعارفي لا مطلق مسمّى الصغير والكبير ، اللذين من جهة أنّهما أمران إضافيّان لا واسطة بينهما بحيث لا يكون صغيرا ولا كبيرا ، بل كلّما فرض من دلو معتاد فهو صغير بالإضافة إلى دلو وكبير بالإضافة إلى آخر.

فما في المدارك من أنّه : « ينبغي أن يكون المرجع في الدلو إلى العرف العامّ ، ولا عبرة بما جرت العادة باستعماله في تلك البئر إذا كان مخالفا له » (٢) ، وقريب منه ما في شرح الدروس ـ كما عن المعالم (٣) أيضا ـ إن اريد به المعنى الّذي ذكرناه فمرحبا بالوفاق ، وإن اريد به ما يعمّ ذلك فوارد على خلاف التحقيق ، والظاهر أنّهم يريدون المعنى الأوّل وعليه لا يخالف كلامهم للعبارات المتقدّمة.

وأمّا ما يظهر من بعضهم من توهّم المخالفة فهو إمّا مبنيّ على فهم المعنى الثاني من كلامهم ، أو على ما قد يستظهر من العبارات المذكورة من إرادة ما هو المعتاد على تلك البئر ، بل هو محكيّ عن صريح المحقّق والشهيد الثانيين (٤).

ثمّ يقال : « بأنّ أظهر تلك العبارات فيه عبارة السرائر (٥) ، حيث احترز بـ « العادة » عن الشاذّة الّتي يستقى بها ، فإنّ المراد بها ـ بقرينة عطف الصغار والكبار عليها ـ ما شذّ إلّا الاستقاء بها وإن كانت متوسّطة في الصغر والكبر » (٦) انتهى.

والأوّل وإن كان محتملا لكنّ الثاني مقطوع بفساده ، بل العبارات ظاهرة فيما ذكرناه ، وأظهرها فيه عبارة المعتبر المذيّلة بقوله : « فيجب أن يتقيّد بالعرف » ، بل هو

__________________

(١) البيان : ١٠٠ ، الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١ ، اللمعة الدمشقيّة ١ : ٣٧.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ٩٦.

(٣) فقه المعالم ١ : ٢٨٦.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١٤٦ ، روض الجنان : ١٤٨.

(٥) السرائر ١ : ٨٣.

(٦) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٤٦.


بضميمة تفسيره « الدلو » بالمعتادة مع تعميمه إيّاها من حيث الصغر والكبر صريح في ذلك كما يظهر بأدنى التفات.

نعم ، ربّما يوهم خلاف ذلك عبارة الغنية والكافي لمكان احتمال كون « اللام » في البئر للعهد ، غير أنّه مدفوع أيضا بظهوره في الجنس على ما هو وضعها الأصلي.

ودعوى أظهريّة عبارة السرائر في ذلك بتقريب ما ذكر ، يدفعها : أنّ المراد بالشاذّة بقرينة استثناء الصغار والكبار ما يشذّ اتّخاذ الدلو منها من جلود السباع ونحوها بعد تذكيتها ، لكونها من الأفراد الغير المتداولة في العرف والعادة ، وعليه يكون المراد بالصغار والكبار ما هو الخارج في الصغر والكبر عن حدّ الاعتدال ممّا يتّخذ من الجلود المتعارف اتّخاذ الدلو منها ، لا ما يشذّ استعماله في تلك البئر ولو كان ممّا يتّخذ من الجلود المتعارفة ممّا لا يكون صغيرا ولا كبيرا خارجا عن الاعتدال ، وإلّا بطل إطلاق استثناء الصغار والكبار ، لكونه منافيا لجعل العبرة بالمعتاد على تلك البئر لو فرض كون معتادها دلوا كبيرا أو صغيرا ، فإنّ هذا كلّه مضافا إلى أنّ اعتبار المعتاد على تلك البئر خاصّة دعوى لا شاهد عليها ، بل تقييد لإطلاق « الدلو » في الأخبار بلا موجب له من شاهد خارجي.

فإن قلت : الشاهد له التبادر العرفي ولو كان إطلاقيّا ، ألا ترى أنّه إذا أمر السيّد عبده بنزح دلاء من بئر معيّن لكان المنساق منه نزحه بما يعتاد من الدلاء على تلك البئر.

قلت : نمنع ذلك التبادر من إطلاق اللفظ ، وإنّما المتبادر أوّلا الماهيّة الشاملة للمعتاد عليها ولغيره ، ولمّا كان الأخذ بالماهيّة لا يتأتّى إلّا بأخذ مصداق لها فحصل الالتفات إلى تعيين المصداق للأخذ به مقدّمة ، [فيلتفت] (١) الذهن إلى ذلك المعيّن المعتاد على تلك البئر ، ولذا لو فرض أنّ العبد عدل عن استعمال هذا المعتاد واستعار دلوا آخر ممّا يعتاد على غير تلك البئر كان ممتثلا لأمر السيّد جزما ، وإن كان قد يعدّ فعله هذا سفها إذا كان صدر منه بلا حكمة دعت إليه كما لا يخفى.

فإن قلت : القدر المتيقّن المتّفق على حصول الامتثال به إنّما هو المعتاد على تلك البئر خاصّة.

قلت : هذا يرجع إلى مراعاة الاحتياط الّذي نمنع وجوبه بعد نهوض إطلاق اللفظ

__________________

(١) وفي المصدر : « فيلفت » والصواب ما أثبتناه في المتن.


الوارد في الأخبار ، واستحبابه المسلّم بحكم العقل والنقل لا ينافي الاكتفاء بغير المعتاد ممّا هو متداول في العرف.

فإن قلت : لا إشكال كما لا خلاف لأحد في أنّ الظاهر المنساق من الأخبار إنّما هو المتعارف في زمن الصدور ، فلم لا تعتبره وتكتفي بالمفهوم العرفي العامّ؟.

قلت : هذا الظهور إنّما هو من جهة اختصاص الخطاب بأهل زمن الصدور بل خصوص المخاطب ، لكن قد عرفت سابقا أنّه لا مخالفة في لفظ « الدلو » بين عرف ذلك الزمان وعرف سائر الأزمنة إلى زماننا هذا ، ولا بين العرف العامّ واللغة ، فإذا اكتفينا بالعرف العامّ الثابت في هذا الزمان فقد أخذنا بما كان متعارفا نوعه في زمن الصدور جزما.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الاحتمالات الجارية في المقام وفي عبارات الأصحاب من كون العبرة بالمعتاد في زمن الصدور خاصّة ، أو بالمعتاد في جميع الأزمنة ، أو بالمعتاد في زماننا هذا في جميع البلدان ، أو بالمعتاد في بلد البئر المبتلى بها ، كلّها يرجع إلى معنى واحد ، وهو كون العبرة بالمفهوم العرفي العامّ المنصرف عند الإطلاق إلى الأفراد الغالبة ، وهي الّتي صارت معتادة في جميع الأزمنة وكافّة البلدان الدائرة بين صغير وكبير غير الخارجين عن الاعتدال والمتوسّط بينهما ، فالمكلّف بحكم إطلاق الأخبار وفتاوي العلماء الأخيار مخيّر بين الجميع ، وإن لم يكن معتادا استعماله على شخص البئر أو نوعها.

نعم ، الاحتياط الاستحبابي في اعتبار المعتاد لو كان أكبر من غيره ، كما أنّه في غيره لو كان أكبر منه.

فما يستفاد من بعضهم وتبعه غير واحد من متأخّري المتأخّرين بعد اعتبار ما جرت العادة على شخص البئر أو على نوعها من أنّه إن تساوت الدلاء فيه في جميع الأزمان فلا إشكال ، وإن اختلفت فالغالب ، وإن تساوت فالتخيير ، ولو لم يكن لها دلو في البلد ولا لأمثالها فدلو أقرب البلدان إليها فالأقرب إن اتّفقت ، ومع الاختلاف ما تقدّم من اعتبار الغالب إن كان وإلّا فالتخيير ، تكلّف غير واضح الوجه.

وينفيه : إطلاق الأخبار ، مع الجزم بأنّ أصحاب الأئمّة ما كانوا يلتزمون بمثل هذا التكلّف ، فلذا لم يقع إليه في النصوص وكلام الأصحاب إشارة.


وعن بعض المتقدّمين : (١) أنّ المراد بالدلو الهجريّة (٢) ووزنها ثلاثون رطلا ، وقيل : أربعون ، وهو ضعيف جدّا لعراه عن مستند معتبر ، وإن كان قد يقال : إنّ مستنده ما نقل عن الفقه الرضوي من أنّه : « إذا سقط في البئر فأرة أو طائر أو سنّور وما أشبه ذلك فمات فيها ولم يتفسّخ نزح منها سبعة أدلو من دلاء هجر ، والدلو أربعون رطلا » (٣) ، فإنّ العذر في عدم الاعتداد بذلك ما تقدّم الإشارة إليه ، كما عليه بناء المعظم على ما اعتذر لهم بعضهم في عدم اعتدادهم هنا بما عرفت.

المسألة الثانية : عن العلّامة في أكثر كتبه (٤) ، وتبعه الشهيد في الذكرى (٥) ، وصاحب المعالم (٦) وغيره ـ على ما حكي ـ القول بأنّه لو نزح البئر بإناء عظيم يسع العدد ومقدار الدلاء المقدّرة دفعة أو دفعات كان مجزيا ، وعن المحقّق في المعتبر (٧) ، والعلّامة في التحرير (٨) ، والمنتهى (٩) ، والشهيد في الدروس (١٠) والبيان (١١) ، والشهيد الثاني (١٢) أيضا القول بخلافه ، حجّة الأوّلين وجهان :

أحدهما : أنّ الغرض من اعتبار النزح ـ وهو إخراج المقدار ـ يحصل بذلك أيضا فيكون مجزيا.

وفيه : إنّ ذلك إنّما يصحّ فيما لو كان المقدّر الشرعي مقدّرا وزنيّا كالكرّ المقدّر نزحه في بعض النجاسات ، وفي حكمه النزح المزيل للتغيّر على المختار من حصول الطهر بإزالة التغيّر ونزح الجميع فيما اعتبر له ذلك ، فإنّ الغرض في هذه الصور يحصل بكلّ ما أمكن معه النزح كما نصّ عليه غير واحد ونفوا عنه الإشكال بل الخلاف أيضا ، ولا ريب أنّ مفروض المسألة ليس من هذا الباب ، بل المقدّر الشرعي هنا عددي ، وأداء المقدّر الوزني من دون مراعاة العدد المخصوص لا يقوم مقام العدد وإن بلغ في الكثرة ما

__________________

(١) حكاه في فقه المعالم ١ : ٢٨٧.

(٢) وفي هامش المعالم عن بعض النسخ : « المراد بالدلو النجرية ».

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٩٢.

(٤) كما في تذكرة الفقهاء ١ : ٢٨.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ٨٩.

(٦) فقه معالم ١ : ٢٨٨ ـ ٢٨٧. (٧) المعتبر : ١٩.

(٨) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٩) منتهى المطلب ١ : ١٠٤.

(١٠) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(١١) البيان : ١٠٠. (١٢) مسالك الأفهام ١ : ١٩.


بلغ ؛ ولعلّ الشارع الحكيم من جهة علمه بأنّ أثر هذه النجاسة لا يزول إلّا بتحقّق هذا العدد في الخارج واعتبره على قياس ما هو الحال في التطهير عن النجاسات الحاصلة في الثوب ونحوه المعتبر في غسلها التعدّد مرّتين أو ثلاث أو سبع مرّات ، وكما أنّ ذلك لا يطهّر بغسله مرّة بمدّ أو أكثر من الماء الّذي لو فرض غسله به مع اعتبار العدد كان كافيا في طهره فكذلك المقام ، لا نقول بأنّه مثله حتّى يكون راجعا إلى القياس ، بل المراد أنّ كونه كذلك محتمل فينعقد معه موضوع الاستصحاب وهذا أصل لا رافع له هنا.

نعم ، ربّما يقوى هذا التوهّم على القول بوجوب النزح تعبّدا ، نظرا إلى أنّ وجوبه حينئذ توصّلي ومن حكمه أن يحصل في الخارج بأيّ نحو اتّفق ، ولذا لا يعتبر فيه نيّة القربة كما يأتي إليه الإشارة.

ولكن يدفعه : أنّ المأخوذ في مفهوم الواجب التوصّلي حصول المأمور به في الخارج كيفما اتّفق إذا اتي به على نحو ما امر به ، والمفروض خلافه ، إذ الأمر قد تعلّق بالعدد والمقدار الغير العددي ليس منه ، كيف ولو صحّ ذلك لكان الواجب على الشارع التعرّض لتعيين المقدار ، وكان عليه التفصيل في الدلاء باعتبار ما يكون منها كافيا عدده المعيّن في خروج المقدار المعيّن.

ومن هنا قد يؤيّد القول بعدم الإجزاء بأنّهم عليهم‌السلام أمروا بنزح العدد من غير تفصيل بين الدلو الصغير والكبير مع أنّ الغالب التفاوت بين الدلاء بكثير.

وأمّا ما قد يؤيّد به القول بالإجزاء من أمنه من انصباب الماء النجس عن الدلو في البئر إلّا نادرا ، فليس بشي‌ء بعد ثبوت العفو عن ذلك قليله وكثير [ه] ، ومجرّد احتمال كون الأمر بالعدد واردا مورد الغالب لا يوجب اليقين بالبراءة الّذي يستدعيه اليقين بالاشتغال ، ولذا احتجّ المانعون عن الاجتزاء بأنّ الحكمة قد تعلّقت بالعدد ولا يعلم حصولها بغيره ، واحتجّوا أيضا بعدم الإتيان بالمأمور على وجهه.

وثانيهما : أنّ الأمر بالنزح وارد على الماء ، والدلاء مقدار ، فيكون القدر هو المراد ، وتقييده بالعدد لانضباطه وظهوره بخلاف غيره.

وجوابه : يظهر بملاحظة ما ذكرناه جوابا عن الأوّل ، ومحصّله : يرجع إلى منع المقدّمة الثالثة والرابعة معا ، فإنّ كلّا من ذلك أوّل المسألة وعين المدّعى ، فلا بدّ له من دليل آخر.


وبالجملة : التعدّي عن مورد النصّ إلى ما هو خارج عنه ممّا لا وجه له سواء على القول بالتنجيس وغيره.

نعم ، على القول بالتنجيس لا يبعد القول بكفاية نزح العدد بإناء آخر من سطل أو آنية فخار أو نحوهما ممّا يسع ما يسعه الدلو المعتاد ، بدعوى : القطع الوجداني بعدم مدخليّة خصوصيّة إناء دون إناء آخر في التطهير إذا تساويا في السعة ، ولا ينافيه اختصاص ما ورد في النصوص بالدلو بعد ملاحظة كونه الآلة الغالبة في النزح ، فلا ينافي ثبوت الحكم في غير الغالب أيضا.

الثالثة : إذا غار ماء البئر قبل النزح ثمّ عاد فعلى القول بالوجوب تعبّدا لا إشكال في سقوط الأمر بالنزح ما دام غائرا ، ضرورة ارتفاع الأمر بانتفاء موضوعه ، وعوده بالعود غير معلوم فالأصل عدمه ، وعلى قياسه الكلام بناء على المختار من استحباب النزح ، وأمّا على القول بالنجاسة ففي منتهى العلّامة : « أنّ الأصل فيه الطهارة » (١) ، وهو محكيّ عن جملة من الأصحاب كما عن القواعد (٢) ، والدروس (٣) ، وظاهر المعالم (٤) ، وقيل : بل عن كثير من الأصحاب (٥) [و] احتجّوا بوجهين :

الأوّل : أنّ المقتضي للطهارة ذهاب الماء وهو كما يحصل بالنزح يحصل بالغور ، ولا يعلم كون الغائر هو العائد ، والأصل فيه الطهارة.

والثاني : أنّ النزح لم يتعلّق بالبئر ، بل بمائها المحكوم بنجاسته ، ولا يعلم بوجوده والحال هذه ، فلا يجب نزحه.

واجيب (٦) عن الأوّل : بمنع كون المقتضي للطهارة ذهاب [الماء] ، لجواز كونه النزح ، باعتبار أنّه يوجب جريان الماء فيطهّر به أرض البئر وماؤها ، ولا ريب أنّ هذا المعنى مفقود في الغور فلم يطهّر أرض البئر ، فكلّما ينبع منها الماء يصير نجسا لملاقاته النجاسة على القول بانفعال البئر بها.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٨.

(٢) قواعد الأحكام ١ : ١٨٨.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٤) فقه المعالم ١ : ٢٨٣.

(٥) والقائل هو صاحب المعالم رحمه‌الله في فقه المعالم ١ : ٢٨٣.

(٦) المجيب هو المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس : ٢٤٤.


وعن الثاني : بأنّ المفروض أنّ ماء كانت نجسة (١) ، ولم يعلم لها مزيل فيستصحب نجاستها ، وبه ينجّس كلّما ينبع من الماء.

ولا يخفى ضعف الجوابين ، وإن كان منع كون المقتضي للطهارة ذهاب الماء في محلّه ، فإنّ نجاسة أرض البئر لا قاضي بها إلّا الاستصحاب ، وكون النجاسة المستصحبة منجّسة غير مسلّمة لمكان كونها ظاهريّة.

ومع الغضّ عن ذلك ، فكما يحتمل تنجّس الماء المتجدّد بأرض البئر كذلك يحتمل تطهّر الأرض بذلك الماء فيحكم على الماء بالطهارة شرعا ، مع توجّه المنع إلى انفعاله على فرض كون النجاسة في الأرض يقينيّة لعدم الدليل عليه.

وتوهّم شمول أدلّة انفعال البئر له في محلّ المنع ، لعدم كون النابع حال نبعه ممّا يصدق عليه ماء البئر ، بل لا يبعد صدق الجاري عليه حينئذ ، كما يرشد إليه ما تقدّم في بعض ما يتعلّق من الكلام بصحيحة ابن بزيع من استظهار كون المطهّر لماء البئر في الحقيقة هو الماء المتجدّد والنزح مقدّمة لتجدّده ، وهو لا يلائم كونه مشمولا لأدلّة الانفعال ، مع أنّه لا حاجة لنا إلى إثبات هذه الدعوى بعد قيام منع كونه حال النبع من ماء البئر ، فإنّه يوجب اندراجه تحت الأصل العامّ المقتضي لطهارة كلّ ماء مشكوك في حاله ، وطهارته شرعا يستلزم تطهّر الأرض أيضا ، وعلى فرض عدم الاستلزام فبقاؤها على النجاسة مع الحكم على الماء بالطهارة الموجبة لعدم وجوب النزح غير قادح ـ ولو بعد دخول الماء ـ في صدق ماء البئر ، لمكان كون النجاسة المفروضة استصحابيّة فلا تندرج في أدلّة الانفعال ، لمكان ظهورها في عين النجاسة لا فيما هو بحكمها ، فالقول بأنّها توجب نجاسة الماء المتجدّد في غاية الضعف. وأضعف منه ما قيل بالنجاسة فيما لو طهرت أرض البئر بعد الغور بالشمس أو بالمطر ، تعليلا : بأنّ غور الماء النجس قد أوجب تنجّس عمق الأرض فينجّس الماء بوصوله إليه ، إلّا إذا طهر

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي مشارق الشموس هكذا : « وأمّا الثاني : فلأنّ تعلّق النزح بمائها لا دخل له في المقام ، إذ الكلام في أنّ أرض البئر كانت نجسة ولم يعلم لها مزيل ، إذ ما علم من الشرع أنّه مزيل لها إنّما هو النزح وقياس الغور عليه قياس مع الفارق كما ذكرناه ، فيستصحب نجاستها ، فكلّما ينبع منها الماء يصير نجسا الخ ».


القدر من العمق الّذي علم بوصول الماء الغائر إليه.

ثمّ أنّه إذا اجريت البئر المتنجّس ماؤها عن تحتها فعن بعض القائلين بالطهارة في الغور أنّه نفاها هنا ، وليس بوجه لعدم الدليل على النجاسة حينئذ لخروج الماء المتنجّس عن مكانه بالجريان ؛ وتنجّس المتجدّد الجاري عن مكانه غير معلوم فيحكم عليه بالطهارة بتقريب ما تقدّم ، والاستصحاب مع عدم بقاء الموضوع الأوّلي غير معلوم ، وكون أرض البئر حال وجود الماء المتنجّس متنجّسة غير ضائر في طهارة الماء هنا بل طهارة نفسها كما تقدّم.

ومن هنا اعترض صاحب المعالم على القول المذكور : « بأنّ التوجيه المذكور في مسألة الغور جاء هنا أيضا ، ويزيد ذلك عليها بحصول الجزم بأنّ الآتي غير الذاهب ، فإنّ الجريان يذهب الموجود جزما ، وما يأتي بعده ماء جديد ، مضافا إلى أنّ الحكم بالنزح [معلّق] بالبئر والإجراء يخرجها عن الاسم » (١) انتهى ؛ وفي حكم الغور ما لو ثقبت البئر من التحت إلى أن خرج ماؤها أجمع من الثقبة ، فما لو نبع عليها من الماء ثانيا محكوم عليه بالطهارة ولا نزح للأصل.

المبحث الثاني : فيما يتعلّق بالنزح وآلاته ، والنازح وما يجب فيه وما لا يجب ، وهو يتضمّن مسائل :

الاولى : أطلق غير واحد القول بوجوب إخراج النجاسة قبل النزح ، وقد يدّعى عليه الإجماع ، وفي المنتهى ما يوهم اختصاص الإجماع بأصحاب القول بالتنجيس ، حيث قال : « النزح إنّما يجب بعد إخراج النجاسة ، وهو متّفق عليه بين القائلين بالتنجيس ، فإنّه قبل الإخراج لا فائدة فيه وإن كثر » (٢) انتهى.

وقد يحتمل الإجماع على القول بعدم التنجيس أيضا ، كما في حاشية المدارك للمحقّق البهبهاني قائلا : « يجب إخراج النجاسة قبل الشروع في النزح ، والظاهر أنّه اتّفاق بين القائلين بالتنجيس ، بل لعلّه عند القائلين بعدمه أيضا كذلك » (٣) انتهى.

فإن تمّ الإجماع على القولين معا ، وإلّا أمكن المناقشة بدعوى : اقتضاء القواعد

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ٢٨٣.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٠٧.

(٣) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٤٨.


اختصاص الحكم بالقول بالتنجيس دون غيره.

أمّا الأوّل : فلأنّ المستفاد من الروايات الآمرة بالنزح ـ على تقدير دلالتها على التنجيس ـ كون سبب النزح وقوع النجس من حيث استلزامه نجاسة ماء البئر ، فسبب النزح في الحقيقة هو نجاسة الماء وهي مترتّبة على وجود النجس فيه ، سواء كان ذلك الوجود حدوثيّا أو استمراريّا ، فإنّه ما دام موجودا في الماء كان مقتضيا لتنجّسه ، فالنزح الحاصل مع وجوده لا يجدي نفعا وإن بلغ في الكثرة ما بلغ ، حتّى فيما لو كان الواجب نزح الجميع ، فإنّ نزح الجميع حينئذ مع مقارنته لوجود النجاسة إلى الدلو الأخير لا يفيد تطهّرا ولو بالقياس إلى أرض البئر ، بل هو حينئذ نظير مسألة الغور ، فلو تجدّد الماء بعد ذلك فعلى القول بأنّه ينجّس لملاقاته الأرض النجسة لم يزل التنجيس وإن كان ذلك عندنا خلاف التحقيق.

وأمّا الثاني : فلأنّ المستفاد من الروايات حينئذ كون أوامر النزح معلّقة على وقوع النجس على معنى حدوث ملاقاته الماء ، استمرّت الملاقاة إلى أن يلحقها النزح أو زالت ، فإنّها سبب لماهيّة النزح في ضمن عدد معيّن ، فإذا استكمل العدد صدق عرفا حصول الماهيّة المقيّدة به في الخارج ، ومن المقرّر أنّ الأمر مقتض للإجزاء ومع سقوطه فلا نزح بعده وإن كان النجس موجودا ، وإلّا لزم وجوب الامتثال عقيب الامتثال وهو مع عدم تكرار الأمر غير معقول.

لا يقال : ومن المقرّر في مسائل الاصول تكرّر الأمر المشروط بتكرّر شرطه ، فلا معنى لالتزام سقوط الأمر مع وجود النجس الّذي هو في معنى التكرّر ، لأنّ ذلك غفلة عمّا قرّرناه أوّلا من أنّ سبب النزح على ما هو ظاهر الأدلّة حدوث الملاقاة ، ولا ريب أنّ الاستمرار ليس منه.

ألا ترى أنّ السيّد إذا قال لعبده : « إن دخل زيد في الدار فأضفه » ، لا يستفاد منه عرفا إلّا سببيّة حدوث الدخول للضيافة ، فلذا لو دخل وبقي فيها مستمرّا فأضافه العبد مرّة امتثل ، ولا يعاقب على ترك الضيافة ثانيا من جهة استمرار وجوده فيها ، وإنّما يعاقب عليه لو خرج بعد الدخول فدخل ثانيا على وجه صدق معه تكرّر الدخول ، فالاستمرار لا ينزّل في نظر العرف منزلة التكرار جزما.


نعم ، على تقدير كون الوجوب هنا مرادا به الشرطي بالمعنى المتقدّم أمكن القول بتوقّف الامتثال على إخراج النجاسة ، لأنّ النزح حينئذ مقدّمة لارتفاع المنع عن الاستعمال ، وهو بالنزح قبل الإخراج غير معلوم الارتفاع فيستصحب.

هذا كلّه إذا أردنا الأخذ بموجب القواعد الخارجة عن النصوص ، وإلّا ففي بعض النصوص ورد الأمر بالإخراج صريحا ، كما في صحيحتي الفضلاء (١) والفضل ٢ ، وإن لم نقف على من التفت أو استند إليه ، ففيهما معا قال : « يخرج ثمّ ينزح » إلى آخره ، وهذا كما ترى يتناول جميع المذاهب.

نعم ، على القول بوجوب النزح تعبّدا أمكن القول بكون وجوب الإخراج نفسيّا للأصل ، لا أنّه غيريّ حتّى يلتزم بكونه شرطا لصحّة النزح لكنّه بعيد عن السياق ، والعجب عن الأصحاب في عدم التفاهم إلى ذلك. فليتدبّر.

وفي حكم عين النجس الموجودة المانعة عن تأثير النزح إلى أن يخرج ـ على القول بالتنجيس أو مطلقا على القول المتقدّم ـ الشعر المنتشر في الماء إذا كان من نجس العين ، فيستعلم خروجه ولو بالنزح ثمّ ينزح المقدّر ، والظاهر قيام الظنّ مقام العلم في موضع تعذّره.

قال الشهيد في الدروس : « ولو تمعّط (٣) الشعر فيها كفى غلبة الظنّ بخروجه وإن كان شعرا [نجسا] ، ولو استمرّ خروجه استوعب فإن تعذّر واستمرّ عطّلت حتّى يظنّ خروجه أو استحالته » (٤).

وعنه في الذكرى : « [لو تمعّط الشعر في الماء] نزح الماء حتّى يظنّ خروجه ، [إن كان شعر نجس العين] فإن استمرّ الخروج استوعب ، فإن تعذّر لم يكف التراوح ما دام الشعر ، لقيام النجاسة ، والنزح بعد خروجها أو استهلاكها ، وكذا لو تفتّت اللحم.

وأمّا شعر طاهر العين فأمكن الإلحاق بمجاورته النجس مع رطوبته وعدمه لطهارته في أصله » (٥).

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ١٨٣ و ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٥ و ٦.

(٣) أى انبثّ وانتشر ، كما في شرحه (منه).

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٥) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٢ ، مع اختلاف يسير في بعض العبارات.


الثانية : قال في الدروس : « ويعفى عن المتساقط من الدلو وعن جوانبها وحماتها » (١) وفي شرحه للخوانساري تقييد المتساقط بكونه بالقدر المعتاد قائلا : « وهذا الحكم ممّا لا خفاء فيه ، وكاد أن يكون من الضروريّات ، إذ لو لم يكن ذلك لما أمكن تطهير البئر بالنزح في المعتاد » (٢).

وفي حاشية المدارك للمحقّق المتقدّم ذكره : « والمتساقط من الدلو الأخير معفوّ عنه ، للمشقّة العظيمة ، ولأنّ الطهارة معلّقة على النزح وقد حصل ، ولكن الظاهر أنّ المعفوّ عنه هو المتساقط العادي ، فلو خرج عن العادة مثل أن يكون في الدلو خرق ومزق بما يزيد على العادة لم يكن معفوّا عنه ، بل لم يكن الدلو محسوبا من العدد ، وكذا لو تحرّك الدلو بما هو زائد على المعتاد فانصبّ منه كثير ، على أنّ في مطلق الخرق والتمزّق إشكالا ، لأنّ المتبادر من الدلو هو الصحيح السالم.

نعم ، ما يخرج من مسامّات (٣) الدلو ومخارق الإبر لا يضرّ إذا كان الدلو من الدلاء المتعارفة » (٤) انتهى.

والظاهر أنّ مرادهم بالعفو هنا ـ كما هو المصرّح به في الشرح المتقدّم ـ أنّ المتساقط وإن كان متنجّسا لكنّه لا يوجب انفعال ما في البئر بتجدّد أثر على الأثر الأوّل كما في غير الدلو الأخير ، أو تجدّده الرافع للطهارة الحاصلة بالنزح كما فيه.

ويشكل ذلك على القول بالتنجيس بأنّ المحقّق عندهم في تنجّس ماء البئر عدم الفرق بين النجس والمتنجّس ، ولا بين كثير كلّ منهما وقليله ، فكيف يلائم الحكم المذكور لمقالتهم هذا ، وكيف يعقل ذلك إذا كانت الماهيّة الصادقة على القليل والكثير في حكم الشرع مقتضية للتنجيس ، ولزوم العسر الشديد لا يقضي إلّا بنفي التكليف وهو ليس من المدّعى في شي‌ء ، إلّا بإرجاعه إلى تخصيص الأدلّة القاضية عندهم بالانفعال وهي الأوامر الواردة بالنزح.

وفيه : أنّ التزام التخصيص في جميع هذه الأوامر ليس بأولى من التزام التجوّز بإرادة الاستحباب.

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٤.

(٣) السمّ : الثقب ... ومسامّ الجسد : ثقبه. القاموس المحيط ؛ مادّة « ثقب » ٤ : ١٣٣.

(٤) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٤٩.


ولو سلّم أنّ التخصيص بنوعه أرجح من المجاز لا يلزم منه الأرجحيّة في جميع الأشخاص حتّى ما كان منها موهونا بمصادفة خارج كما في المقام ، لما تقدّم من اختلاف الروايات في تقديرات النجاسات حتّى ما كان منها نوعا واحدا ، واختلاف أفراد نوع واحد من النجاسات في مقدار النزح كثرة وقلّة ، مع انتفاء ذلك الاختلاف في غير ماء البئر ممّا يتنجّس بملاقاة النجاسة.

سلّمنا لكن يمكن التفصّي عنهما معا وإن استلزم القول بوجوب النزح تعبّدا ، نظرا إلى أنّ النجاسة في مفاد تلك الأوامر ليست من مقتضي الوضع اللغوي ولا العرفي الثابت على خلاف اللغة ، وإنّما هو لازم عرفي أو شرعي علم أو ظنّ به في غير المقام بملاحظة طريقته في الأوامر الواردة في المياه وغيرها ممّا يغسل ويتطهّر من الأواني والثياب وغيرها ، فغايته أنّه ظهور خارجي ثبت في الأوامر بالعرض ، وجعل الضرورة وغيرها بالقياس إلى حكم المتساقط قرينة على الخروج عن هذا الظاهر من جهة التخصيص ليس بأولى من جعلها كاشفة عن عدم اعتبار ذلك الظاهر رأسا في خصوص المقام.

وعلى أيّ حال كان فالعفوّ عن المتساقط بالقيد المتقدّم بناء على التنجيس ثابت لا شبهة فيه ، وبعض ما تقدّم في عبارة الحاشية موضع [منع] ؛ وما ادّعاه من تبادر الصحّة حتّى بالنسبة إلى خرق ومزق وثقبة لا يسلم عنها الدلاء غالبا غير مسلّم ، والعبرة بما هو الغالب والمعتاد.

ثمّ إنّ العفو عن المتساقط كما هو ثابت بالقياس إلى ماء البئر فكذلك ثابت بالقياس إلى جوانب البئر وجوانبها وطينتها فيما لو فرض السقوط عليها ، كما يتّفق في نزح الجميع.

وممّن صرّح بذلك العلّامة في المنتهى ، قائلا : « لا تنجس جوانب البئر بما يصبّها من المنزوح ، للمشقّة المنفيّة » (١). وتنزيل ما تقدّم عن الدروس (٢) إلى هذا المعنى ، كما احتمله الشارح فخدشه : « بأنّ هذا الحكم وإن لم يستبعد في الجدران ، لكن لا معنى له في الحماة » (٣) وهي الطينة ، في غاية البعد من هذه العبارة ، وإنّما هي ظاهرة في العفو بالمعنى المراد بالنسبة إلى المتساقط ، وهو أنّ الجدران والطينة وإن كانت نجسة بملاقاة

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٥.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٣) مشارق الشموس : ٢٤٤.


الماء المتنجّس ، غير أنّ نجاستها لا تؤثّر في ماء البئر حال النجاسة ولا حال صيرورته طاهرا بالنزح ، وليت شعري لم لم يحكم بطهارتهما تبعا لطهارة الماء بعد كمال النزح؟كما ذكروه في المباشر ، والدلو ، والرشاء كما يأتي في المسألة الآتية ، فإنّه أقرب بظاهر الشرع ، ولعلّه المراد من العبارة ، وإن كانت غير ظاهرة فيه كما فهمه الشارح المتقدّم ، قائلا : « بأنّ المراد بالعفو أنّه بعد تمام النزح يصير طاهرا » (١) وكيف كان فالأقرب هو الطهارة.

الثالثة : جعل في شرح الدروس (٢) المتساقط الخارج عن المعتاد أعمّ من أن ينصبّ جميع الدلو المنزوح في الماء وعدمه ، وانصباب الدلو بأجمعه عندهم مسألة يستفاد منهم الخلاف فيها على قولين ، بل أقوال ثلاث :

الأوّل : ما صرّح به في الذكرى ـ على ما حكي ـ من أنّه : « لو انصبّ بأسره اعيد مثله ـ في الأصحّ ـ وإن كان الأخير ، للأصل » (٣) ، وهو الّذي يظهر من إطلاق المحقّق المتقدّم في حاشية المدارك بل صريحه من « أنّه لا يوجب إلّا نزح عوضه » (٤) ، ثمّ حكى الفرق عن منتهى العلّامة (٥) بإدخال ما يكون من الدلو الأخير فيما لا نصّ فيه ، فقال : « وفي الفرق تأمّل » (٦).

والثاني : ما يستفاد من الشرح المتقدّم من الميل إلى دخوله في غير المنصوص في كلّ من الدلو الأخير وغيرها ، حيث أخذ بالمناقشة فيما فصّله العلّامة بنفي الفرق ، تعليلا : « بأنّ وجه إدخال الدلو الأخير فيما لا نصّ فيه ـ على الظاهر ـ أنّه ماء نجس لاقى البئر فانفعل عنه كغيره من أنواع النجاسات ، ولم يرد له مقدّر ، فيكون من أفراد غير المنصوص ، وهو جار فيما عداه.

وتوهّم الفرق بأنّ البئر طاهرة في صورة انصباب الدلو الأخير ونجسة في غيرها.

يدفعه : أنّ ثبوت الانفعال بنوع من أسبابه لا يمنع من تأثير سبب آخر ، ألا ترى أنّ أهل القول بالتداخل أوجبوا نزح الأكثر ، وإن كان الموجب له متأخّرا في الوقوع عن موجب الأقلّ » (٧).

__________________

(١ و ٢) مشارق الشموس : ٢٤٤.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٩١.

(٤ و ٦) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٥١.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٠٨.

(٧) مشارق الشموس : ٢٤٤.


والثالث : ما فصّله العلّامة قائلا في المنتهى : « لو وجب نزح عدد معيّن ، فنزح الدلو الأوّل ثمّ صبّ فيها ، فالّذي أقوله تفريعا على القول بالتنجيس : أنّه لا يجب نزح ما زاد على العدد عملا بالأصل ، ولأنّه لم تزد النجاسة بالنزح والإلقاء ، وكذا إذا القي الدلو الأوسط ، أمّا لو القي الدلو الأخير بعد انفصاله عنها ، فالوجه دخوله تحت النجاسة الّتي لم يرد فيها نصّ ، وكذا لو رمى الدلو الأوّل في بئر طاهرة الحق بغير المنصوص » (١). انتهى ، وهذا القول بظاهر القواعد لا يخلو عن قوّة ، ففيما عدا الدلو الأخير ـ ولا سيّما الدلو الأوّل وما يقرب منه ـ لا دليل على وجوب الزيادة على ما في الذمّة أوّلا من تمام العدد ، كما في الدلو الأوّل أو ما بقي منه كما في غيره ، ودخوله في غير المنصوص إن اريد به في الاسم فقط فهو مسلّم ، لكنّه غير مجد في التزام أمر زائد.

وإن اريد به في الحكم أيضا ، فهو إنّما يسلّم إذا اقتضى انفعالا آخر في الماء غير ما هو حاصل قبل انصبابه ، وهو ـ مع كون نجاسته أثرا من الأثر الثابت أوّلا ـ في حيّز المنع ، فيدفع احتماله بالأصل ، وكونه مشمولا لعموم أدلّة الانفعال ممنوع ، لظهور الأدلّة في ملاقاة نجس أو متنجّس محلّا طاهرا ، ولا ريب أنّ هذه الصغرى منتفية هنا.

نعم ، هذا الكلام متّجه في الدلو الأخير بعد انفصاله عن المحلّ الموجب لطهارته ، فإنّه بعد الانصباب داخل في الصغرى المذكورة ، فيترتّب عليها الكبرى وهي انفعال المحلّ ثانيا ، ولمّا لم يرد بالنسبة إليه نصّ بالخصوص فيلحقه حكم غير المنصوص.

لكن المتعيّن في نزحه هنا في بادئ النظر ما صار إليه صاحب المعالم (٢) ـ على ما حكي عنه ـ من الاكتفاء بنزح أقلّ الأمرين من مقدّر النجاسة المقتضية للنزح ومنزوح غير المنصوص حسبما يترجّح فيه ، ولمّا ثبت أنّ الأرجح عندنا في ذلك نزح الجميع فالمتعيّن حينئذ نزح المقدّر ، للقطع بأنّ نجاسته فرع من هذا الأصل ، وأنّها أضعف منها بمراتب ، فلا يزيد حكمها على حكم الأصل.

وإلى ذلك يرجع الأولويّة الّتي ادّعاها في المعالم (٣) لصورة الاكتفاء بالمقدّر ، والمناقشة فيها بمنع الأوّليّة ـ كما في كلام الخوانساري شارح الدروس ـ (٤) لا يلتفت إليها.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٨.

(٢ و ٣) فقه المعالم ١ : ٢٨١.

(٤) مشارق الشموس : ٢٤٤.


الرابعة : قال في الدروس : « وبطهرها يطهر المباشر والرشاء » (١) والظاهر أنّ مراده من المباشر ما يعمّ بدنه وثيابه ، لكن بشرط كون النجاسة الحاصلة فيهما مستندة إلى ما يلزمه النزح من مباشرة الماء المتنجّس ، وهذا الحكم لم يرد لبيانه نصّ بالخصوص غير أنّه يستفاد من غير واحد كونه اتّفاقيّا ، ويجوز للفقيه أن يستند فيه إلى ظهورات يستظهرها من الروايات بدلالاتها الغير المقصودة ، مثل سكوتها عن إيجاب غسل هذه الأشياء بعد كمال النزح ، وخلوّها عمّا يدلّ على بقائها على نجاسة ، مع أنّها لا ينفكّ عنها النزح ، واستحباب الزائد على المقدّر في بعض المنزوحات من دون إشارة إلى تبديل الدلو والرشاء ولا تطهيرهما وتطهير المباشرة ، مع أنّه لو بقي أحد هذه الأشياء على نجاسة لسرت إلى ماء البئر لضرورة الملاقاة عادة.

وأقوى ما يستظهر منه ذلك الحكم صحيحة الفضلاء وصحيحة الفضل المتقدّمتان في الأبواب السابقة ، القائلة اولاهما بأنّه : « يخرج ، ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ اشرب منه وتوضّأ » (٢).

وثانيتهما : بأنّه « يخرج ، ثمّ ينزح من البئر دلاء ، ثمّ يشرب ويتوضّأ » (٣) فلو أنّ الدلو وغيره لا يطهّر بطهر الماء لكان عليه أن يقول بعد قوله عليه‌السلام : « ثمّ ينزح » ، « ثمّ يغسل الدلو ، والرشاء ، ويد المباشر ، ثمّ يشرب ويتوضّأ » وإلى بعض ما ذكرناه هنا أشار المحقّق في محكيّ المعتبر قائلا : « بأنّه لو كان نجسا لم يسكت عنه الشرع ، ولأنّ الاستحباب في النزح (٤) يدلّ على عدم نجاستها ، وإلّا لوجب نجاسة ماء البئر عند الزيادة عليه (٥) قبل غسلها ، والمعلوم من عادة الشرع خلافه » (٦).

الخامسة : وجوب النزح على القولين توصّلي ولو من جهة الأصل فيه ، ولازمه أن لا يعتبر فيه نيّة ولا قصد القربة ولا مباشرة نفسيّة ، فلو انعقد في الخارج على العدد المقدّر لا بنيّة ، أو بنيّة جهة اخرى ، أو بنيّة نزح المقدّر لكن رياء ، كان كافيا في سقوط

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ١٨٣ و ١٨٤ ب ١٧ من أبواب الماء المطلق ح ٥ و ٦.

(٤) يعني النزح الزائد على المقدّر في بعض النجاسات (منه).

(٥) يعني المقدّر (منه).

(٦) المعتبر : ١٩.


الأمر ، كما أنّه كذلك لو حصل من غير المكلّف بالغا أو غيره ، مسلما أو غيره بشرط عدم المباشرة المنجّسة ، بل يكفي نزح المقدّر لو حصل من غير إنسان كالثور ونحوه ، وقد صرّح بأكثر ما ذكرناه غير واحد من أصحابنا ، منهم العلّامة في المنتهى (١).

المبحث الثالث : فيما يتعلّق بما ينزح له من النجاسات الموجبة له ، وفيه : مسائل ثلاث :

الاولى : قال المحقّق في شرائعه : « حكم صغير الحيوان في النزح حكم كبيره في النزح » (٢) ولعلّه أخذ بما يوجب اليقين بالبراءة ، وإلّا فلمنع انصراف أدلّة العناوين الموجبة للنزح إلى ما عدا الكبير ـ ولا سيّما ما كان من الصغير في أوائل تولّده ـ مجال واسع ، وعليه دخول الصغير في غير المنصوص لا يخلو عن قوّة ، غير أنّه لو قيل في غير المنصوص بما يزيد على مقدّر هذا النوع من الحيوان فالقطع حاصل بأنّ منزوح صغيره لا يزيد على منزوح كبيره ، ولو قيل بما يقصر عنه فالاكتفاء به له غير بعيد ، وإن كان الاحتياط في الأخذ بمقدّر النوع ، ويعضده استصحاب النجاسة.

الثانية : قال في المنتهى : « لو وقع جزء الحيوان في البئر ، كيده ورجله ، يلحق بحكمه ، عملا بالاحتياط الدالّ على المساواة ، وأصالة البراءة الدالّة على عدم الزيادة » (٣) وهو الظاهر من شرائع المحقّق حيث قال : « إلّا أن يكون بعضا من جملة لها مقدّر فلا يزيد حكم أبعاضها عن جملتها » (٤).

وعن المحقّق الشيخ عليّ (٥) احتمال إلحاقه بغير المنصوص لعدم تناول اسم الجملة له ، وعن صاحب المعالم التفصيل قائلا : « بأنّه إن كان مقدّر الكلّ أقلّ من منزوح غير المنصوص اكتفى به للجزء ، لأنّ الاجتزاء به في الكلّ يقتضي الاجتزاء به في الجزء بالطريق الأولى ، وإن كان المقدّر زائدا فالمتّجه عدم وجوب نزح الزائد » (٦) انتهى.

وهذا هو الأقرب وإن كان الأحوط المتأيّد بالاستصحاب على القول بالنجاسة اعتبار مقدّر الكلّ مطلقا.

نعم ، على القول بوجوب النزح تعبّدا رجع الشكّ إلى ثبوت التكليف بالزائد والأصل ينفيه ، ولا يعارض هنا باستصحاب الأمر ولا اشتغال الذمّة ، مع إمكان المنع

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٥. (٢ و ٤) شرائع الإسلام ١ : ١٤.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٠٧.

(٥) حكى عنه في مدارك الأحكام ١ : ٩٨.

(٦) فقه المعالم ١ : ٢٧٧.


عن أصل الاشتغال على هذا القول بالنسبة إلى غير المنصوص.

وهذا المنع قويّ متّجه ، وعليه يختصّ ما تقدّم من حكم غير المنصوص واخترنا فيه لزوم نزح الجميع بالقول بالانفعال ، لأنّ الاشتغال على هذا القول تابع لعروض النجاسة للبئر وهو قدر مشترك بين المنصوص وغيره ، وإن كان إتمامه في غاية الإشكال إلّا من جهة الإجماع على عدم الفرق ، ولعلّه ثابت. فتأمّل.

هذا كلّه إذا اتّحد الجزء أو تعدّد وعلم بكونه من حيوان واحد ، وأمّا مع الاشتباه في كونه من واحد أو اثنين ففي المدارك : « الأقرب عدم التضاعف ، لأصالة عدم التعدّد » (١) وهو واضح الضعف ، لأنّ التعدّد بالنسبة إلى الجزءين محرز فلا يعقل نفيه بالأصل ، وبالنسبة إلى الكلّ محتمل ككون الاتّحاد محتملا فلا يقين بشي‌ء منهما لاحقا ولا سابقا.

وعن الشهيد : « أنّ الأجود التضاعف » (٢) وكأنّ مستنده الاستصحاب ، لكن بناء على عدم التداخل ولو من جهة الاستصحاب.

وعن صاحب المعالم : « الوجه عندي نزح أقلّ الأمرين من مقدّر الكلّ من كلّ منهما ومن منزوح غير المنصوص » (٣) ، وهذا جيّد وإن كان الاحتياط واستصحاب النجاسة يقتضي اعتبار مقدّر الكلّ بل القول بالتضاعف.

ولو اشتبه الجزء بين حيوانين مقدّر أحدهما أكثر من الآخر ، فمقتضى الاستصحاب اعتبار مقدّر الأكثر ، ومنه يعلم الحال في الجزءين المشتبهين بين حيوانين مختلفين في المقدّر.

الثالثة : قال في الدروس : « ولو تضاعف المنجّس تضاعف النزح ، تخالف أو تماثل في الاسم أو في المقدّر » (٤) وعزاه الخوانساري في الشرح (٥) إلى جماعة من المتأخّرين ، منهم المحقّق والشهيد الثانيين (٦) ، وهو محكيّ عن المعالم أيضا (٧) ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه بعدم التداخل مطلقا ، وعن العلّامة في جملة من كتبه كالقواعد (٨) ، والمنتهى (٩) المصير إلى تداخل النجاسات مطلقا ، متخالفة كانت كالإنسان والكلب ، أو متماثلة في

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ٩٩.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٩١. (٣) المعالم ١ : ٢٧٨.

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢١.

(٥) مشارق الشموس : ٢٤٣.

(٦) كما في جامع المقاصد ١ : ١٤٧ ، ومسالك الأفهام ١ : ٢٠.

(٧) فقه المعالم ١ : ٢٧٥.

(٨) قواعد الأحكام ١ : ١٨٨ حيث قال : « ولو تكثّرت النجاسة تداخل النزح مع الاختلاف وعدمه ».

(٩) منتهى المطلب ١ : ١٠٧.


الاسم كإنسانين ، أو في المقدّر كالكلب والسنّور.

قال في المنتهى : « إذا تكثّرت النجاسة ، فإن كانت من نوع واحد فالأقرب سقوط التكرير في النزح ، لأنّ الحكم معلّق على الاسم المتناول للقليل والكثير لغة ؛ أمّا إذا تغايرت فالأشبه عندي التداخل.

لنا : أنّه بفعل الأكثر يمتثل الأمرين فيحصل الإجزاء ، وقد بيّنّا أنّ النيّة غير معتبرة ، فلا يقال : إنّه يجب عليه النزحان ، لكلّ نجاسة مقدار مغاير » (١) انتهى.

وتبعه في ذلك شارح الدروس (٢) ، وعن المحقّق في المعتبر القول بعدم التداخل إذا كانت الأجناس مختلفة كالطير والإنسان ، وإن تماثلت في المقدّر ، لأنّ الأصل في الأسباب أن تعمل عملها ولا يتداخل مسبّباتها ، وتردّد إذا كانت متساوية ، لأنّ النجاسة من الجنس الواحد لا تتزايد ، إذ النجاسة الكلبيّة موجودة في كلّ جزء ، فلا يتحقّق زيادة توجب زيادة النزح ، وأنّ كثرة الواقع تؤثّر كثرة في مقدار النجاسة فتؤثّر شياعا في الماء زائدا ، ولهذا اختلف النزح بتعاظم الواقع.

وربّما يحكى عن ابن إدريس (٣) التصريح بالفرق من دون تردّد.

حجّة القول الأوّل : ما تقدّم في أوّل شقّي المعتبر ، وقد يقرّر : بأنّ مقتضي دليل كلّ نوع سببيّة وقوعه لاشتغال الذمّة بنزح المقدّر ، فتعدّد السبب يقضي بتعدّد الاشتغال ، وهو يقضي بتعدّد الامتثال.

وهذا القول هو الأقوى على ما قرّرناه في كتبنا الاصوليّة ، والحجّة المذكورة ممّا لا دافع لها ، من غير فرق في ذلك بين القول بالتنجيس والقول بوجوب النزح تعبّدا ، وإن كان على الثاني أظهر.

فإن قلت : نمنع استفادة السببيّة عن أدلّة أنواع النجاسة ، لجواز كونها معرّفات كما في سائر العلل الشرعيّة للأحكام ، فلا مانع من تعدّدها على معلول واحد.

قلت : مع أنّه لا يجري على القول بالتنجيس ، لضرورة كون وقوع كلّ نوع سببا لنجاسة البئر ، إن اريد به كونه مجرّد احتمال فهو ممّا لا يصغى إليه في إخراج الخطاب عن ظاهره ، ولا يقدح في وجوب الأخذ بالظاهر ، حيث إنّ الاستدلال ليس بعقلي صرف.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٧.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٣.

(٣) السرائر ١ : ٧٧.


وإن اريد به كونه مع ذلك ظاهرا ، فمنعه أوضح ممّا مرّ ، لوضوح ظهور الخطاب في السببيّة ولو من جهة دلالته التنبيهيّة ، كما هو الحال في محلّ المقال.

مع أنّ الظاهر أنّ فرض المعرّفية غير مجد في حسم مادّة الإشكال ، حيث لا فرق بين العلّة والمعرّف إلّا في أنّ الاولى واسطة في الثبوت والثاني واسطة في الإثبات ، على معنى كونه علّة للعلم بالثبوت ، فالمعرّف ما كان علّة تامّة لوجود شي‌ء في الذهن ، وكما أنّه يستحيل استناد وجود شي‌ء في الخارج إلى أكثر من علّة تامّة واحدة ، فكذلك يستحيل استناد وجوده الذهني إلى أكثر من علّة تامّة ، وجواز اجتماع أكثر من دليل واحد في مسألة واحدة لا يقضي بكون العلم الحاصل فيها معلولا لكلّ واحد ، بل العلّة حينئذ إمّا المجموع أو أحدها الغير المعيّن ، مع انتفاء سبق البعض البالغ في العلّيّة أو كونه بالقياس إلى غيره أقوى في التأثير.

فحينئذ ينبغي أن يقال ـ في نظائر المقام مع فرض الاجتماع ـ : بأنّ وقوع كلّ معرّف سبب للعلم بوجود معرّفه الواقعي وإن لم نعرفه بعينه ، سواء كان نفس الحكم الشرعي أو ما هو علّة له في الواقع ، حتّى أنّه إذا اجتمع هناك معرّفان نقول : بتحقّق معلومين وهكذا ، بل هذا ممّا لا بدّ منه على قياس ما هو الحال على فرض العلّيّة الواقعيّة ، نظرا إلى أنّ كلّ واسطة في الثبوت واسطة في الإثبات أيضا ، فبتعدّد العلّة يتعدّد المعلوم الّذي هو المعلول الواقعي.

ولا ريب أنّ المعلوم بعنوان كونه معلولا لا يتعدّد إلّا إذا أثّر كلّ علّة بوجودها في وجود معلولها ، وهو ملزوم للعلم بالوجود ، وهكذا يقال في المعرّف وإن لم يكن المعلوم المتعدّد معلولا له.

وبالجملة تعدّد المعرّف بظاهر الخطاب بتعدّد التعريف ، وهو لا يعقل إلّا مع تعدّد المعرّف ، والقول بكون الكلّ للتعريف إلى معرّف واحد خلاف ظاهر الخطاب القاضي بكون كلّ معرّفا تامّا.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يندفع ما يقال ـ في تأييد الحمل على التعريف من ـ : أنّه إذا كان ظاهر الدليل اتّحاد المسبّب ـ ولو نوعا ـ كما هو المفروض ، فلا حاجة إلى ارتكاب تعدّده الشخصي بتعدّد الأشخاص ، بل ينبغي حمل السبب على المعرّف.


ويشهد له أنّه لا يفهم عرفا فرق بين ورود الأسباب المتعدّدة لحكم شخصي ، مثل قوله : « إن زنى زيد فاقتلوه ، وإن ارتدّ فاقتلوه » ، وبين ورودها لحكم واحد بالنوع قابل للتعدّد الشخصي ، مثل قوله : « إن قدم زيد من السفر فأضفه ، وإن زارك في بيتك فأضفه ».

ووجه الاندفاع : أنّ الاتّحاد والتعدّد الملحوظين في المقام إنّما يعتبران في إيجاد النوع ، بل في إيجاب إيجاده لا في نفسه ، فكون المسبّب واحدا بالنوع لا ينافي تعدّد إيجاداته إذا قضت به السببيّة المستفادة عن دليل كلّ نوع ، ولا أنّه يوجب اعتبار التعدّد الشخصي في مورد الدليل ، ليكون ارتكابا لخلاف ظاهر فيه ، إذ الشخصيّة الملحوظة هنا من لوازم الامتثال بالنوع ، لا من مقاصد دليل ذلك النوع ولا من محتملاته المخرجة له عن ظاهره ، فإذا كان ظاهر الدليل سببيّة كلّ نوع أو كلّ وقوع لإيجاد نوع المسبّب وهو النزح ، فقضيّة تعدّد الأنواع أو تعدّد الوقوعات تعدّد الإيجادات بتعدّد إيجابات إيجاده على حدّ الأوامر الواردة بإيجاد طبيعة واحدة في غير مورد التأكيد ، فالحاجة ماسّة إلى اعتبار التعدّد لكن في الامتثال بنوع المسبّب لا في أشخاصه.

وأمّا التفرقة بين المثالين بكون الأوّل من باب ورود الأسباب المتعدّدة لحكم شخصي ، والثاني من باب ورودها لحكم واحد بالنوع ، فضعفها واضح ، بعد ملاحظة أنّ مجرّد إضافة « القتل » إلى « زيد » لا توجب كونه واحدا بالشخص ، لما اعتبر في الشخصيّة من انضمام خصوصيّات اخر من جهة الفاعل وزمان الفعل ومكانه ونحوه ، [و] كلّها ملغاة في المثال ، فقتل « زيد » كضيافته أمر كلّي ، غير أنّ الأوّل غير قابل لتعدّد اشخاصه في ظرف الخارج لا في وعاء الذهن ، والثاني قابل له.

ولعلّ ذلك الفرق أوجب توهّم كون الأوّل واحدا بالشخص والثاني واحدا بالنوع.

وأنت خبير بأنّ ما هو من لوازم الوجود لا يؤخذ فيما هو من مقاصد الخطاب ، وعدم قابليّة التعدّد في الخارج لا ينافي إمكان فرض التعدّد.

ومن هنا نقول ـ في مثال القتل أيضا ـ : إنّ توارد الأسباب المتعدّدة عليه يقضي بتعدّد الأمر به على نحو التكاليف المتعدّدة ، ولا ينافيه عدم بقاء التكليف بعد حصول امتثال واحد منها ، لأنّ ذلك من جهة سقوط الباقي بارتفاع موضوعه لا من جهة أنّ الثابت بالدليل فيه تكليف واحد ، أو من جهة كفاية امتثال واحد عن اشتغالات عديدة.


ومن هنا يندفع اعتراضان آخران أوردا على التقرير المتقدّم في الاحتجاج :

أحدهما : منع قضاء تعدّد المسبّب بتعدّد الواجب ، فإنّ المسبّب اللازم تعدّده بتعدّد أسبابه إنّما هو الوجوب ، ولا ريب أنّ تعدّد الوجوب لا يقتضي تعدّد الواجب ، بل من الجائز اجتماع إيجابات متعدّدة في واجب واحد للتأكيد أو لجهات اخر.

وثانيهما : ما يرجع إلى منع اقتضاء تعدّد الواجب تعدّد الامتثال ، بل يكفي فعل واحد عن فعلين ، لصدق الامتثال مع الواحد أيضا على قياس ما هو الحال في الأغسال وغيرها من الأحداث المقتضية للوضوء أو الغسل.

وجه اندفاع الأوّل : أنّ الوجوب إن اريد به التكليف الفعلي المتوقّف فعليّته على العلم بتحقّق سببه الّذي منه صدور الخطاب الكاشف عن انقداح الطلب النفساني صدورا ، المتوقّف تعلّقه على العلم بتحقّق جهة صدوره ، فلا ريب أنّ تعدّده يقضي بتعدّد الواجب ، كيف لا وكلّ عرض لا بدّ له من معروض ، ومقايسة ذلك على مقام التأكيد غير سديدة ، ضرورة أنّ الحادث في التأكيد ليس إيجابات حقيقيّة متعدّدة ، بل إيجاب واحد مبيّن بعبارات متعدّدة ، وحمل المقام على نظير ذلك خروج عن الظاهر بلا داع إليه.

ووجه اندفاع الثاني : أنّ معنى تعدّد الواجب تعدّد الاشتغال بأفعال متعدّدة أو فعل واحد بالنوع ، ولا ريب أنّ تعدّد الأفعال ممّا يستدعي في حكم العقل تعدّد الامتثال ما لم يقم دليل على كفاية الواحد ، ومع قيامه خرج المورد عن المبحث.

فمنه يتبيّن فساد التمثيل بالأغسال وغيرها ، فإنّ الاكتفاء بالواقع هناك اتّباع للدليل الغير الموجود هنا ، ولو سلّم عدم قضاء العقل بلزوم التعدّد في الامتثال عند تعدّد الاشتغال فلا أقلّ من الشكّ في اعتباره ، وهو محرز للأصل المقتضي لبقاء الاشتغال بغير ما امتثل به ، ولا رافع له في جانب اللفظ ولو من جهة الإطلاق كما لا يخفى.

وممّا يعترض في المقام : إنّ القاعدة وإن اقتضت عدم التداخل ، إلّا أنّ من المعلوم في خصوص المقام أنّ النزح لإزالة النجاسة الحاصلة من ملاقاة ما وقع فيه ، والنجاسة وإن تعدّدت أفرادها ـ كما يكشف عن ذلك اختلاف كيفيّة إزالتها ـ إلّا أنّ الثابت من ذلك كفاية مزيل أحد الأفراد لإزالة الفرد الآخر المساوي له في الكيفيّة ، فيكفي مزيل واحد للنجاسة الحاصلة من وقوع شاة وكلب ، لأنّ الفرض اتّحاد نجاستهما لاتّحاد مزيلهما ،


وكفاية مزيل الأشدّ لإزالة الأضعف ، فيتداخل الأقلّ مقدارا في الأكثر.

وفيه : منع ثبوت هذا المعنى من أدلّة المقام ، فالكفاية المدّعاة من كلّ من القسمين مبنيّة على أحد الأمرين ، من أصالة التداخل في مسبّبات الأسباب ، أو قيام القرينة عليه في خصوص المقام ، والكلّ محلّ منع ، بل الأصل المستفاد من الأدلّة يقتضي خلافه ولا مخرج عنه هنا.

فإن قلت : لا ريب أنّ السبب المقتضي للنزح على القول بانفعال البئر بالملاقاة إنّما هو النجاسة العارضة للماء بسبب وقوع ما يقع فيها من أنواع النجاسات لا نفس الوقوع ، فلا عبرة بتعدّد الوقوع ولا الواقع ، بل المعتبر في عدم التداخل هنا ـ على ما يقتضيه الإنصاف ـ إحراز أحد الأمرين ، من تعدّد الحدوث لصفة النجاسة على حسب تعدّد ما يقع فيها ، بأن يحدث بوقوع كلّ واقع من صفة النجاسة فرد ممتاز ولو في علم الله سبحانه مقتض لمقدّره المعلوم له من الشرع ، زاد على مقدّر الفرد الآخر أو ساواه أو قصر عنه ، أو بلوغ الصفة الحادثة بكثرة الواقع وتلاحقه في القوّة وتأكّد التأثير حدّا لا ترتفع معه إلّا بنزح مجموع المقدّرين أو المقدّرات المساوية أو المتخالفة ، بدعوى : أنّ الصفة الحادثة مرتبة بالغة من مراتب النجاسة ، بناء على أنّها تتأكّد وتتضاعف ، وأنّ مجموع المقدّرين أو المقدّرات كأنّه في نظر الشارع مقدّر لتلك المرتبة ، وكلّ من هذين الأمرين وإن كان ممكنا في نظر العقل لكن ليس في حكمه ولا في النصوص الواردة في الشرع ما يقتضي أحدهما.

غاية الأمر قيام احتمال في ذلك وهو لا يعارض الأصل الجاري في المقام ، فإنّ الأصل عدم حدوث ما زاد على فرد واحد ، كما أنّ الأصل عدم بلوغ الصفة الحادثة إلى ما ذكر من المرتبة.

ولا ينبغي معارضة ذلك الأصل باستصحاب النجاسة ، كما تمسّك به بعضهم على عدم التداخل ، لعدم كون ذلك الاستصحاب في مجراه ، إمّا لانتفاء الحالة السابقة إن قرّر بالقياس إلى ما لم ينزح مقدّره ، أو لتيقّن ارتفاع الأثر إن قرّر بالقياس إلى ما ينزح مقدّره.

ولا يقاس ذلك الاستصحاب على استصحاب القدر المشترك المتيقّن المردّد بين الأقلّ والأكثر ، لوضوح الفرق بينهما بكون القدر المشترك المتيقّن من أوّل الأمر مردّدا ، فهو في الحقيقة كسائر مواقع الاستصحاب أمر واحد طرأه حالة يقين سابقة وحالة


شكّ لاحقة كما يظهر بأدنى تأمّل ، بخلاف المقام لمكان اليقين بحدوث أثر أحد الواقعين بعينه كما في المتعاقبين ، أو لا بعينه كما في المتقارنين ، والشكّ في حدوث أثر الآخر من أوّل الأمر ، فاليقين والشكّ هنا واردان على موضوعين ممتازين في حالة واحدة ، لا على موضوع واحد في حالتين ، كما لا يخفى.

قلت : كما أنّ صفة النجاسة الحاصلة في الماء سبب للنزح ، كذلك وقوع النجاسة الخارجيّة في البئر سبب لحدوث تلك الصفة ، ولمّا كانت السببيّة المستفادة من أدلّة كلّ نوع السببيّة التامّة ـ على معنى كون وقوع كلّ نوع سببا تامّا لانفعال ماء البئر إلى ما يتوقّف ارتفاعه على نزح المقدّر ـ فلا جرم يتعدّد الأثر الحاصل في الماء ، سواء فرضت أثر كلّ فردا مستقلّا من النجاسة ، أو مجموع الآثار فردا بالغا في القوّة إلى ما لا يرتفع إلّا بنزح مقدّرات المجموع ، وإن كانت تلك الاستفادة حاصلة من إطلاق الأدلّة ، فإنّ منع تماميّة السبب لا مستند له إلّا قيام احتمال مدخليّة وجود شرط أو فقد مانع ، وكلّ ذلك ممّا ينفيه إطلاق أدلّة السببيّة ، ومعه لا مجرى للأصل المذكور هنا.

ولا ينبغي نقض المقام بإطلاق أدلّة انفعال القليل من الراكد بكلّ نجاسة ، وأدلّة تطهير الأواني والثياب وغيرها عن النجاسات الملاقية لها ، نظرا إلى أنّ الكلام حرفا بحرف جار في الجميع ، ولا قائل بعدم التداخل في شي‌ء من المسألتين ، بل التداخل في ثانيتهما محكيّ عليه الاتّفاق في كلام بعض ، لمكان الفرق بين المقامين ، فإنّ الشرع في كلّ من المسألتين أسقط اعتبار إطلاق الأدلّة الموجودة فيهما ، حيث دلّ من جهة الضرورة وغيرها على كفاية غسل واحد عن الجميع عند الاجتماع ، والقول فيهما ـ عند التحقيق ـ القول في مسألتي الأغسال ورفع الأحداث الصغيرة ، وإلّا فلو لا ذلك لكان التمسّك بإطلاق الأدلّة في الجميع متّجها ، وكان مقتضاه السببيّة التامّة المقتضية في كلّ سبب وظيفته وإن تعدّدت.

ويمكن الفرق بين المسألتين وغيرهما من النظائر وبين المقام بعد فرض اشتراك الجميع في بقاء إطلاق الأدلّة على حاله ، وكون مقتضاه في الجميع تعدّد الآثار الحادثة في المحلّ من جهة تعدّد المؤثّرات ، بناء على دلالة الإطلاق على كون كلّ مؤثّرا تامّا ولكنّ الشرع في غير المقام من جهة الضرورة اكتفى بمزيل واحد عن الجميع ، ولا يجوز مقايسة المقام عليه لبطلانه رأسا ، ولإمكان الفارق بمدخليّة خصوصيّة في البئر قاضية


بعدم الاكتفاء ، بل تحقّق الفارق كما يفصح عنه الاختلاف في كيفيّة التطهير هنا اختلافا فاحشا شديدا مع انتفاء نظيره في المسألتين ، ولو لا ذلك من جهة مدخليّة الخصوصيّة لبطل الفرق المذكور جدّا.

لا يقال : الإطلاق المدّعى هنا لعلّه في حيّز المنع ، بل لا نرى في أدلّة المقام إطلاقا صالحا لتناول سائر الأحوال ، إن لم نقل بظهورها حال الانفراد كما هو كذلك في أكثرها ، كما لا يخفى على من يلاحظها سياقا وسؤالا وجوابا.

لأنّا نقول : إنّ المعتبر في نهوض الإطلاق دليلا عدم اعتبار التقييد لا ثبوت اعتبار الإطلاق ، وإلّا لانسدّ باب التمسّك بالمطلقات ؛ ولا ريب في عدم ثبوت التقييد ولا عدم قيام ما يقضي باعتبار الانفراد ، وظهوره المدّعى وإن كان مسلّما في الجملة لكنّه غير كاشف عن الاعتبار ، لكونه ناشئا عن اتّفاق الانفراد في الغالب ؛ فالموجب للظهور هو غلبة اتّفاق الانفراد ، ومثل هذه الغلبة غير معتبرة جدّا في شي‌ء من المحاورة ، وهل هي إلّا نظير غلبة الصفاء في الماء الّذي رتّب عليه الشارع أحكاما كثيرة؟

وبالجملة : لا عبرة بالغلبة الناشئة عن مجرّد العادة ، لكون موردها من البدو إلى الختم من اتّفاقيّات الامور لا من مقاصدها ، بل المعتبر منها في إفادة انصراف اللفظ وظهوره المعتبر في خلاف الإطلاق إنّما هو الغلبة في إطلاق اللفظ ، بأن يغلب استعماله لبعض الأفراد المساوي للبعض الآخر في الوجود أو الأقلّ منه وجودا.

ومن هنا يندفع ما عساك تقول في منع نهوض الإطلاق على بعض الوجوه : من إبداء احتمال مدخليّة طهر المحلّ وعدم سبق النجاسة إليه ، فيكون ثاني السببين مصادفا للمحلّ وهو غير قابل للتأثير ؛ والإطلاق المتوهّم موهون جدّا بقوّة احتمال الغناء عن التصريح بالاشتراط والتعرّض للذكر بوجوده في موارد السؤال وعدم الحاجة إلى التنبيه عليه ، كما يقتضيه سياق الأسئلة وغيرها ، فإنّ ذلك في جميع النصوص ظاهر في ورود النجاسة أو فرض ورودها على محلّ طاهر ، فإنّ ذلك ليس إلّا من جهة الغلبة العادية المستندة إلى مجرّد الاتّفاق ، ولا يصلح مثلها صارفة عن الإطلاق.

نعم ، هنا مناقشة اخرى قويّة لم نقف على من سبقنا إليها كجملة ممّا تقدّم ، وهي أنّ تحكيم هذا الإطلاق على الأصل المتقدّم ذكره يعارضه قضاء نفس تلك الأدلّة بكون


مقدّر كلّ نوع مطهّرا تامّا وموجبا مستقلّا لطهر الماء ، فحينئذ لو وقع فيها فردان من نوع ، أو نوعان متساويان ، أو مختلفان في المقدّر ، فنزح مقدّر أحد الفردين أو أحد النوعين ساوى مقدّر الباقي أو زاد عليه أو نقص عنه ، فإمّا أن يقال : بحصول الطهر في الماء ، أو يقال : بتوقّفه على نزح مقدّر الباقي.

والأوّل اعتراف بالتداخل وعدم تضاعف النزح ، والثاني إخراج للسببيّة المستفادة عن الإطلاق عن كونها تامّة.

بل الإنصاف : أنّ استفادة السببيّة التامّة عن تلك الأدلّة بالقياس إلى المنجّس ليست بأظهر من استفادتها بالقياس إلى المطهّر ، إن لم نقل بأنّها في الدلالة على أنّ كلّ مقدّر سبب تامّ للطهر أظهر ، فقضيّة التنافي بين القضيّتين طرح إحداهما والأخذ بالاخرى بمرجّح خارجي ، ولا يبعد كون الرجحان في جانب القضيّة الثانية ، لتأيّدها أوّلا : بالأصل المتقدّم ، وثانيا ، بملاحظة النظائر الّتي تقدّم إلى بعضها الإشارة ؛ وثالثا : بقضاء الاعتبار بأنّ أثر النجاسة ليس من الامور القابلة للتعدّد.

واحتمال التأكّد بكثرة الوارد ليس ممّا يساعد عليه النظر ، حيث لا مقتضي له سوى قيام الدليل على تأكّد أثر بعض النجاسات بالقياس إلى أثر نجاسة اخرى ، كالخمر بالقياس إلى الدم ، كما يفصح الاختلاف في المقدّر بالكثرة والقلّة ؛ وهو كما ترى قياس ومع الفارق ، لجواز كون تأكّد الأثر في المقيس عليه من مقتضيات ذات المؤثّر وطبعه ، فكيف يقاس عليه غيره في اقتضاء التأكّد بواسطة أمر عرضي وهو انضمام مؤثّر إلى مثله.

ولكن يمكن دفعها : بمنع اقتضاء الأدلّة كون كلّ مقدّر سببا تامّا للطهر ، بل القدر المسلّم اقتضاؤها كونه سببا تامّا لزوال الأثر الناشئ عن النوع المعلّق على وقوعه ذلك المقدّر ، ولا ريب أنّه بحكم السببيّة التامّة في مزيله حاصل ، غايته كونه مقارنا لطهر المحلّ إن قلنا بكونه أمرا وجوديّا ، وقد يقارن أثر النجاسة الباقية المتوقّف زواله على نزح مقدّرها أيضا ، فعدم حصول الطهر فعلا لمانع بعد نزح أحد المقدّرين لا ينافي كون ذلك النزح سببا تامّا كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكر من الوجوه في تأييد القضيّة الثانية ، فليس شي‌ء منها بشي‌ء يصلح للتعويل عليه في نظائر المقام.


وبالتأمّل في جميع ما ذكر ظهر ضعف حجّة القول بالتداخل مطلقا أو في الجملة ، وبقي في المقام امور ينبغي الإشارة إليها من باب التفريع.

أحدها : قضيّة الدليل المذكور عدم الفرق في المنجّس بين النوعين المختلفين في الاسم والحكم معا ، أو في الاسم فقط ، واقعين في البئر على سبيل التعاقب أو الدفعة ، وبين فردين من نوع واحد ، خلافا لمن توهّم الفرق محتجّا في الأخير : بأنّ الحكم معلّق في الأخير على الاسم المتناول للقليل والكثير لغة وعرفا.

واجيب عنه : بأنّ ظاهر الأدلّة في الأكثر تعلّق الحكم بالفرد من الجنس ، نعم قد يتمّ ذلك في مثل البول والعذرة وأشباهها ، لشمول اللفظ للقليل منهما والكثير ، أمّا في مثل البعير والحمار فلا ، لعدم شمول اللفظ أزيد من واحد.

ولا يخفى وهنه على الخبير البصير ، فإنّ الأحكام تتبع الطبائع باعتبار وجوداتها ، على معنى أنّ المصحّح لتعلّق الحكم بها وجوداتها الخارجيّة ولو بحسب الإمكان لئلّا يلزم السفه ، مضافا إلى التكليف بغير المقدور.

نعم ، قد ترد الطبيعة في الخطاب مقرونة بما هو من لوازم الوجود الخارجي ، كـ « الوقوع » الوارد في أسئلة نصوص الباب وأجوبتها كما هو الأكثر ، فيظنّ أنّ ذلك الوجود له مدخليّة في موضوع الحكم فيترتّب عليه حينئذ دعوى تعلّقه بالفرد ، وهذا كما ترى ، فإنّ أقصى ما يلزم من ذلك توارد السؤال والجواب على الفرد من حيث انطباقه على الطبيعة المطلقة لا من حيث الفرديّة.

فتحصّل من ذلك دفع الاحتجاج بأنّه إن اريد بما ذكر كون ذلك هو الأصل في المسألة الاصوليّة فقد دفعناه في محلّه ، وإن اريد به كونه كذلك في خصوص المقام بملاحظة ما ذكر من القرينة فقد تبيّن منعه.

فالحقّ أنّ الحكم معلّق على الطبيعة من غير نظر إلى الأفراد ، وقد دلّ الدليل على أنّها في ضمن أيّ فرد تحقّقت مؤثّر تامّ لما يقتضي نزح المقدّر ، ومقتضي المؤثّريّة التامّة تعدّد أثرها بوقوعاتها المتعدّدة على سبيل التدريج.

فما في بعض العبائر من دعوى القطع بعدم الفرق في الحكم بين مقدار من البول وقع دفعة أو وقع كلّ جزء منه دفعة ؛ وأنّا نفهم من أدلّة وقوع هذه الطبائع أنّ السبب وجودها


في البئر ولو برجوعات متعدّدة ، واضح الضعف ؛ بعد ملاحظة ما بيّنّاه من قاعدة السببيّة.

وأضعف منه ما في كلام بعض المشايخ من : « أنّ الدليل لمّا دلّ على أنّ العذرة ينزح لها خمسون دلوا وكانت ماهيّة صادقة على القليل والكثير ، واشتغل الذّمّة بالنزح بالوقوع الأوّل وجاء الوقوع الثاني انقلب الفرد الأوّل إلى الثاني ، فصارت مصداقا واحدا للماهيّة ، وهكذا كلّما يزداد فيدخل تحت قوله عليه‌السلام : « العذرة المذابة ينزح لها خمسون » وليس هذا إلّا كتعدّد النوع الواحد من الحدث الأصغر أو الأكبر ، كالبول مرّات والجنابة مرّات » (١) انتهى.

ولعلّه قدس‌سره فرض الكلام فيما يقع مستمرّا على وجه يكون أجزاؤها الواقعة متواصلة أو متفاصلة بفصل غير معتدّ به ، وإلّا فلا يرجع إلى محصّل ، فإنّ الواقع بالوقوع الأوّل قد وقع بوصف أنّه مؤثّر تامّ فلا بدّ له من أثر لا محالة ، ثمّ إذا جاء الوقوع الثاني فإمّا أن ينعقد به مع قطع النظر عن الأوّل المؤثّر التامّ أو لا ، وعلى الأوّل فما معنى الانقلاب؟ وأيّ شي‌ء أوجب وحدة المصداق؟ مع أنّه عند التحقيق غير معقول بملاحظة أنّ الواقع أوّلا قد انعدم بعد وقوعه بالاستهلاك ، والواقع ثانيا حين وقوعه موجود ، وكيف ينعقد المعدوم مع الموجود مصداقا واحدا لماهيّة.

ثمّ أيّ فائدة في ذلك الانقلاب ووحدة المصداق إلّا قيام الأثر بهما معا ، وهو خلاف فرض كونهما مؤثّرين تامّين ؛ مع أنّه غير معقول أيضا ، إذ الأثر قد استكمل بالأوّل فتوجّه الثاني أيضا إليه توارد للعلّتين التامّتين على معلول واحد.

إلّا أن يقال : بكون ترتّب الأثر على الأوّل معلّقا على لحوق الثاني وهو خلاف ما فرضناه أوّلا كما لا يخفى.

وعلى الثاني فعدم التأثير إمّا لقصور في الواقع ، بدعوى : أنّه فاقد للماهيّة الّتي علّق عليها التأثير ، أو فاقد للخصوصيّة الثابتة في الواقع الأوّل. أو لقصور في المحلّ ، بدعوى : أنّه لا يتأثّر إلّا إذا كان فارغا عن أثر مؤثّر آخر.

ولا سبيل إلى شي‌ء منها ، لقيام الضرورة بوجود الماهيّة ، كيف لا وأنّ الكلام على هذا الفرض دون غيره ، وضرورة عدم مدخليّة الخصوصيّة المتعيّنة في صلاحية التأثير

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٤٩٤.


ولا فعليّته ، سيّما مع أنّ الكلام على تقدير تعلّق الحكم بالطبيعة وظهور إطلاق الأدلّة ـ على ما بيّنّاه ـ في عدم مدخليّة ما عدا الماهيّة ، فسبق أثر إلى المحلّ لا يصلح مانعا عن التأثير وإلّا لزم تقييد الأدلّة بلا شاهد عليه.

ونعم ما قيل (١) ـ في دفع بعض ما ذكر ـ من : أنّ صدق « أنّ العذرة ينزح لها خمسون » على الكلّ إنّما يوجب حدوث سبب متأخّر عن الكلّ ، لا انقلاب ما حدث بالأوّل إلى كونه مسبّبا عن المصداق الواحد الصادق على الكلّ.

ثمّ تشبيه المقام بمسألة الحدث الأصغر والأكبر ، قد عرفت ما فيه بغير مرّة.

نعم ، ربّما يشكل الحال في اعتبار تعدّد الأثر على حسب تعدّد الفرد الواقع في صورة وقوع الفردين على سبيل الدفعة ، إذ الماهيّة حينئذ ليست إلّا واحدة صادقة على الجميع ، ولم يتحقّق لها وقوع إلّا مرّة واحدة ، فكيف يتعدّد أثرها.

وقد يفصّل : (٢) بأنّ موضوع الحكم بالمقدّر إن كان هو الفرد الواحد فوقوع المتعدّد دفعة في حكم المتعاقبين ، واحتمال خروج ذلك عن مورد النصّ ضعيف ، وإن كان هو الطبيعة الكلّيّة الصادقة على القليل والكثير فلا يحصل التعدّد فيها إلّا بالتعاقب مع الفصل الموجب لصدق التعدّد.

أقول : ويمكن اعتبار التعدّد أيضا على الوجه الثاني ، إذ لا عبرة بتعدّد الوقوع حتّى يقال : بانتفائه هنا ، ولا أنّ النظر في هذا الوجه إلى تعدّد الواقع حتّى يقال : برجوعه إلى الوجه الأوّل ، بل المعتبر تعدّد التأثير وإن كان قائما بماهيّة واحدة ، كما هو كذلك في الفردين المتعاقبين ، وكما أنّ الماهيّة يجوز اتّصافها بوصفين متضادّين فصاعدا ، ووجودها في مكانين متغايرين فصاعدا ، فكذلك يجوز اتّصافها بتأثيرين فصاعدا ، كلّ تأثير في ضمن خصوصيّة لا بشرط انضمام الخصوصيّة ، بل لأنّ من دأبها أن تؤثّر حال الوجود ، نظرا إلى أنّ التأثير الفعلي من لوازم وجودها الخارجي ولا وجود لها إلّا مع انضمام الخصوصيّة ، ولا يعقل فرق من هذه الجهة بعد إلغاء الخصوصيّة بين وجودها في ضمن فردين متقارنين ووجودها في ضمن فردين متعاقبين ، فإنّ المؤثّر في الكلّ هو

__________________

(١) القائل هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٢٥١.

(٢) المفصّل هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في المصدر السابق.


الماهيّة ، وكما يتعدّد تأثيرها مع التعاقب فينبغي أن يتعدّد التأثير مع التقارن ، ومجرّد تقارن الفردين وتعاقبهما مع إحراز بعض ما سبق لا يصلح في حكم العقل فارقا بينهما في الحكم ، كيف لا ولا ريب أنّها في ضمن كلّ من الفردين المتقارنين كانت مؤثّرة تامّة على تقدير الانفراد وعدم اتّفاق الانضمام بينهما حتّى أنّها من جهتها منفردين كانت مقتضية لأثرين ، فأيّ شي‌ء أسقطها عن هذا الحكم؟ وهل هو إلّا إنكار السببيّة التامّة بالقياس إليها؟ أو رجوعا عن القول بأنّ الأدلّة قضت بكونها سببا تامّا للتنجيس كائنة ما كانت ؛ والمفروض تحقّقها في ضمن كلّ من الفردين فيجب بحكم السببيّة المطلقة أن تؤثّر أثرين.

وثانيها : عن أهل القول بعدم التداخل أنّه استثنوا من ذلك ما إذا تبدّل موضوع حكم بسبب تعاقب الفردين من ماهيّة فصاعدا بموضوع حكم آخر ، كما لو وقع دمان قليلان فصاعدا إلى أن بلغ المجموع حدّ الدم الكثير الّذي هو موضوع لنزح خمسين ، كما أنّ القليل موضوع لنزح عشرة فاكتفوا منه بمنزوح الموضوع الثاني وهو خمسون في المثال.

وعن الشهيد رحمه‌الله (١) استثناء آخر لما إذا كان التكثّر داخلا تحت الاسم كزيادة كثرة الدم ، فلا زيادة في القدر حينئذ لشمول الاسم.

والأوّل لا يخلو عن مناقشة ، فإنّ القليل والكثير ليسا بعنوانين واردين في النصوص ليتمسّك في الموارد المشتبهة بإطلاق لفظيهما ، وإنّما هما معنيان استفادوهما من النصوص الواردة في رمي الشاة والدجاجة كما مرّ ، فيضعف تناولهما لمثل هذه الكثرة الانتزاعيّة جدّا.

بل لو كان الموجود في النصوص هو لفظ « الكثرة » ـ كالموجود في الفتاوي ـ لكان شموله لمثل المقام في غاية الإشكال ، إذ « الكثرة » هنا في مقابل « القلّة » فتكون ظاهرة فيما كان وصفا حقيقيّا في فرد ، لا ما كان منتزعا عن أفراد ، مع أنّك قد عرفت أنّ التأثير قائم بذات المؤثّر حال الوجود ، فالمقتضي لنزح خمسين إنّما هو الكثير الخارجي لا مفهومه الذهني الصرف ولا خارج له هنا ، لأنّ الفرد الأوّل عند وجوده كان منفردا عن الثاني ثمّ انعدم باستهلاكه في الماء عند وجود الثاني.

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٩١.


نعم ، إذا اعتبر العقل بينهما حالة انضمام حصل عنده عنوان « الكثرة » وليس ذلك إلّا مفهوما ذهنيّا ، مع أنّ الفرد الأوّل بحكم أدلّة السببيّة قد أثّر بحدوثه في نزح العشرة جزما ، فإذا حدث الفرد الثاني لكان ينبغي أن يؤثّر في نزح عشرة اخرى لا في انقلاب الحكم الأوّل إلى حكم آخر ، لا لأنّ الأصل عدم حدوث ذلك الحكم ، حتّى يعارض بأصالة عدم حدوث العشرة الثانية نظرا إلى أنّ الشكّ في تعيين الحادث لا في نفس الحدوث ، بل لأنّ الانقلاب يقتضي زوال الحكم الأوّل وحدوث حكم آخر والأصل في الحادث القلّة ، ولا ريب أنّ الزوال محلّ شكّ ولا معارض للأصل النافي له.

مع أنّه كما يصدق على مجموع هذه الدماء عنوان « الكثرة » فيندرج بذلك في أدلّة دم الكثير ، فكذلك يصدق على كلّ واحد عنوان « القلّة » فيندرج بذلك في أدلّة القليل ، ولا يمكن الجمع بين الدليلين بمراعاة المنزوحين الحاصلة بنزح الخمسين تارة اعتبارا للمجموع ، ونزح العشرة مكرّرا تارة اخرى اعتبارا لكلّ واحد ، لأنّ العبرة في تعدّد السبب المقتضي لتعدّد المسبّب بالتعدّد الحقيقي الخارجي ، والمغايرة بين المجموع وكلّ واحد اعتباري عقلي ، فيجب إعمال أحد الدليلين بإعمال الترجيح بينهما ، ولعلّ الرجحان مع دليل العشرة لكون القلّة في كلّ واحد حقيقيّة والكثرة في المجموع اعتباريّة.

وملخّصه دعوى : أنّ أدلّة القليل أظهر شمولا للمقام من أدلّة الكثير فيجب العمل بها.

وقد يتكلّف في المقام بلزوم مراعاة أكثر الأمرين من منزوح القليل المتكرّر ومنزوح الكثير جمعا بين الدليلين ، بدعوى : « أنّ الموجود في الخارج على سبيل البدل إمّا أسباب متعدّدة للعشرة ، وإمّا سبب واحد للخمسين ، ولا وجه لإلغاء تأثير مصداق السبب المقتضي للأكثر ، ولا لإلغاء تأثير المقتضي للأقلّ ، لكنّه يتداخل في الأكثر لعدم إمكان الجمع بين مقتضاهما للحكم بالسبعين فيما لو وقع دمان قليلان.

وإنّما اعتبرنا التداخل في جانب الأقلّ إذ بعد البناء على تداخل مقتضي المصداقين لا معنى لتداخل الأكثر في الأقلّ إلّا إسقاط الزائد مع وجود سببه ، وهو طرح لإطلاق دليله من غير تقييد ، بخلاف تداخل الأقلّ في الأكثر فإنّه لا يوجب إسقاطا ، فلو فرضنا أنّ التعدّد يقتضي أزيد من الخمسين كما إذا وقع القليل سبع مرّات فصار بالثامن كثيرا ، فإنّه وإن صدق على المجموع « وقوع الدم الكثير » ، إلّا أنّه يصدق أيضا « وقع فيه سبع


مرّات بل ثمانية دماء قليلة » فلا معنى حينئذ لإلغاء ما يوجبه كلّ مرّة ، وليس في ذلك إلغاء لمقتضى مصداق الدم الكثير » (١).

وفيه : أنّ الجمع بعد فقد المرجّح واليأس عن الترجيح ، وقد عرفت وجود المرجّح ، فالأقوى إذن الاكتفاء بمنزوح القليل متكرّرا حسب تكرّر الدم ، زاد المجموع على منزوح الكثير أو ساواه أو نقص عنه ، وإن كان الاحتياط مع مراعاة جانب الكثير ، وأحوط منه الأخذ بالأكثر كائنا ما كان.

وثالثها : قضيّة إطلاقهم في عدم التداخل مع إطلاق قولهم فيما تقدّم بلحوق الجزء بالكلّ تضاعف النجاسة فيما لو وقع فيه جزءان من حيوان ، لكن عن الشهيد (٢) أنّه مع اختياره القولين المذكورين اكتفى بنزح مقدّر الكلّ ، بناء على صدق الاسم فيما لو اتّفق وقوع أجزاء الحيوان كلّها دفعة أو تدريجا ، وقد يقال : بأنّه مستثنى من قاعدة عدم التداخل ، وكأنّ القائل بدخول الجزء فيما لا نصّ فيه أيضا قائل بالاكتفاء.

واعترض عليه الخوانساري في شرح الدروس بأنّ : « ذلك يستلزم نقصان النزح بسبب زيادة النجاسة ، وذلك لأنّه إذا وقع جزءان من الحيوان دفعتين بحيث لم يتمّ كلّه فعلى القول بالإلحاق وعدم التداخل يجب نزح مقدّر ذلك الحيوان مرّتين ، وعلى القول بإدخاله فيما لا نصّ فيه يجب نزح ما يجب فيه مرّتين ، وإذا وقع حينئذ الجزء الآخر الّذي يتمّ به الحيوان يجب نزح مقدّره « مرّة » ، فيلزم المحذور على الأوّل مطلقا وعلى الثاني إذا كان هذا المقدّر أقلّ من مرّتي منزوح ما لا نصّ فيه ».

ثمّ دفعه رحمه‌الله : « بأنّ الاستبعاد في الامور الشرعيّة ممّا لا مجال له خصوصا في أحكام البئر » (٣).

وأنت خبير بعدم ابتناء الاعتراض على الاستبعاد الصرف ، بل الاعتراض متّجه من جهة أنّ في الحكم المذكور مخالفة للأصل ، لابتنائه على انقلاب الحكم الأوّل الناشئ من قاعدة عدم التداخل المبتنية على قاعدة السببيّة ، ولا معنى له إلّا زوال حكم وحدوث حكم آخر ، ولا دليل لهم عليه يرفع حكم الأصل.

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٥٤ ، مع اختلاف يسير.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٩١.

(٣) مشارق الشموس : ٢٤٣.


وتحقّق صدق اسم الكلّ لا يصلح رافعا لحكم حادث قبله ، وإنّما هو موجب لحدوث حكم غير حادث لو لا المانع ، وهو هنا غير معقول لما عرفت من كون المغايرة بين الكلّ والأبعاض اعتباريّة ، ومعه لا يتعدّد مقتضاهما.

إلّا أن يدفع : بأنّ الحكم بلحوق الجزء بالكلّ كان مبنيّا على الاحتياط ، بناء على عدم صدق اسم الكلّ على الجزء ، وتضاعف النزح على تقدير تعدّد الجزء الغير البالغ حدّ الكلّ أيضا كان مبنيّا على ذلك ، فالاستصحاب المذكور النافي لاحتمال زوال الحكم الأوّل استصحاب في حكم الاحتياط ، فهو حكم ظاهري في حكم ظاهري ، وصدق الاسم حيثما تحقّق إنّما يعطي الحكم الواقعي ولو بملاحظة دليل اجتهادي ، ومن البيّن ارتفاع الحكم الظاهري بانكشاف الحكم الواقعي وحدوثه.

لكن إنّما يستقيم ذلك بعد تسليم قضيّة الصدق ، وإلّا فللمناقشة فيه مجال واسع ، لوضوح مدخليّة تواصل الأعضاء في صدق اسم الحيوان بعنوان الحقيقة أو المجاز القريب.

والأولى في كلّ من الجزء والجزءين فصاعدا وتمام الأجزاء اعتبار ما تقدّم عن صاحب المعالم (١) من الاكتفاء بأقلّ الأمرين من مقدّر الكلّ ومقدّر غير المنصوص ، ودليله الأولويّة.

إلّا أن يقال : بمنع الأولويّة ، بل ثبوتها مع تمام الأجزاء أو ما يقرب منه من الأجزاء الناقصة في الإلحاق بغير المنصوص المقتضي عند التعدّد المفروض تعدّد نزح ما يجب لغير المنصوص ، للقطع بأنّ النجاسة الملاقية للماء حينئذ أكثر وأزيد من الملاقية فيما لو وقع الحيوان كاملا متواصلة الأعضاء ، هذا ومع ذلك فالمسألة ليست بخالية عن الإشكال.

وممّا ذكرناه جميعا بان الحكم فيما لو وقع جزءان من إنسانين مثلا ، فعلى القول بإلحاق الجزء بالكلّ يجب نزح مقدّر الإنسان مرّتين ، وعلى القول بإدخاله فيما لا نصّ فيه يجب منزوح ما لا نصّ فيه مرّتين ، وعلى قول صاحب المعالم يجب نزح أقلّ الأمرين من المقدّر للكلّ من كلّ منهما ومن منزوح غير المنصوص ، كذا قيل.

ورابعها : عن الشهيد في الذكرى (٢) أنّه ألحق الحيوان الحامل وذا الرجيع النجس بغيرهما ، إمّا لانضمام المخرج المانع من الدخول في الماء ، أو لإطلاق الأدلّة في تقدير

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ٢٧٧.

(٢) ذكرى الشيعة ١ : ٩١.


النزح ، إلّا إذا انفتح المخرج بحيث تحقّق معه ملاقاة الماء لما في الباطن.

وعن صاحب المعالم (١) أنّه استوجهه إلّا في ثاني التعليلين ، فإنّ الاعتماد عليه في الحيوان الحامل مشكل ، من حيث إنّ الإطلاق إنّما يجدي فيما يغلب لزومه لذي المقدّر كالرجيع الكائن في الجوف ، وليس الحمل منه كما لا يخفى ، وإنّما الاعتماد على التعليل الأوّل واستحسنه في هذا الكلام الخوانساري (٢).

والظاهر ابتناء هذا الكلام على قاعدتهم في انصراف المطلق إلى الغالب ، الّتي مآلها إلى مانعيّة الندرة عن شمول الإطلاق ، وإن كان مؤدّى العبارة يعطي شرطيّة الغلبة للشمول ، وعلى أيّ تقدير فلا وجه له بعد ملاحظة ما سبق بيانه من أنّ العبرة في انصراف المطلق ليست بالغلبة العاديّة.

وخامسها : عن صاحب المعالم أنّه بعد ذكر المسألة قال : « إذا تقرّر هذا ، فاعلم أنّ الحكم على تقدير سعة ماء البئر لنزح المقادير المتعدّدة واضح.

وأمّا مع قصوره عنها فالظاهر الاكتفاء بنزح الجميع ، لأنّه به يتحقّق إخراج الماء المنفعل ، والحكم بالنزح إنّما تعلّق به ، وهذا آت فيما لو زاد المقدّر الواحد عن الجميع أيضا.

وحينئذ فلو كان كلّ واحد من المتعدّد موجبا لنزح الجميع حصل التداخل واكتفى بنزحه مرّة ، ولو كان الماء ـ والحال هذه ـ غالبا وقلنا بقيام التراوح مقام نزح الجميع حينئذ ، ففي الاكتفاء بتراوح اليوم للكلّ نظر.

من حيث إنّه قائم مقام نزح الجميع وبدل منه ، وقد فرض الاكتفاء في المبدل بالمرّة فكذا البدل.

ومن أنّ الاكتفاء في المبدل بالمرّة إنّما هو لزوال متعلّق الحكم بالنزح أعني الماء المنفعل ، وذلك مفقود في البدل ، ولا يلزم من ثبوت البدليّة المساواة من كلّ وجه.

ويمكن ترجيح الوجه الأوّل بأنّ ظاهر أدلّة المنزوحات كون نزح الجميع أبعد غايات النزح عند ملاقاة النجاسات ، وقيام التراوح مقامه حينئذ يقتضي نفي الزيادة عليه » (٣) انتهى.

__________________

(١) فقه المعالم ١ : ٢٧٧.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٣.

(٣) فقه المعالم ١ : ٢٧٦ ـ ٢٧٥.


ولا يخفى ضعف الوجه الأوّل مع ما ذكره في ترجيحه ، فإنّ التراوح يقوم مقام نزح الجميع في كونه أبعد الغايات إذا لم يتعدّد ما يوجب نزح الجميع ، وأمّا معه فسقوط الحكم مع حصول نزح الجميع مرّة إنّما هو لعدم قابليّة المحلّ للتعدّد لا لحصول ما هو أبعد الغايات عن الكلّ ، وحينئذ فلا موجب لسقوط التعدّد عن التراوح المفروض بدلا ، لانتفاء موجب السقوط وهو تعذّر التعدّد.

فقضيّة البدليّة تعدّد البدل مع تعدّد المبدل واتّحاده مع اتّحاده ، وإن شئت نظّر المقام بمسألة قتل زيد إذا تعدّد أسبابه كقتل النفس مرّتين مثلا ، وقلنا : ببدليّة الدية عن القصاص إذا رضي بها أولياء الدم ، فحينئذ لو اختير المبدل فلا إشكال في الاكتفاء بالمرّة ، وإن قلنا بعدم التداخل لعدم قابليّة المحلّ للتعدّد ، وأمّا مع اختيار البدل فلا أظنّ قائلا يقول بالاكتفاء فيه بدية واحدة.

وأمّا ما قيل : من أنّ الواجب أوّلا نزح الجميع للكلّ فإن لم يمكن قام مقام الجميع التراوح ، وكما أنّه إذا نزح الجميع في صورة الإمكان أجزأ لعدم بقاء ما يتعلّق به النزح ، كذلك إذا نزح الماء بطريق التراوح ، فإنّ ماء التراوح على هذا يكون عبارة عن مجموع ماء البئر ، فلم يبق للنزح حينئذ متعلّق حتّى يمكن تعدّد البدل ، لأنّ الماء الباقي بعد التراوح يكون في حكم النابع بعد نزح الجميع ، وكما أنّه لا يتعلّق النزح بالنابع فكذلك لا يتعلّق بما هو مثله.

فضعفه واضح جدّا ، ضرورة أنّ التراوح بدل عن نزح الجميع في تعلّق الحكم به لا أنّه بدل عنه في ارتفاع الحكم عنه ، ولا ريب أنّ الحكم قد تعلّق بنزح يتعدّد بتعدّد أسبابه من أوّل الأمر ، غايته أنّه إذا حصل في الخارج مرّة ارتفع الحكم عن الباقي لعدم بقاء متعلّقه ، لا أنّ الباقي لم يتعلّق به الحكم من أوّل الأمر ، ولذلك لا يوجب ذلك تخصيصا في دليل سببيّة ما يقتضي من النجاسات نزح الجميع ثانية وثالثة وهكذا ، فإنّ زوال الحكم المتعلّق بانتفاء متعلّقه غير عدم تعلّق الحكم من أوّل الأمر بما هو صالح له ، والتخصيص يلزم على الأوّل دون الثاني ، فإذا فرض أنّ الحكم يتعدّد تعلّقه بنزح الجميع عند تعدّد أسبابه وفرض تعذّر ذلك من جهة غلبة الماء واستيلائه ، فلا جرم يتعدّد الحكم المتعلّق ببدله بعد ثبوت البدليّة ؛ والمفروض أنّ انتفاء المتعلّق بالقياس إليه


غير معقول ما دام نزح الجميع غير ممكن ، فلا مقتضي حينئذ لسقوط الحكم عن الباقي بعد حصول التراوح مرّة ، ولو فرض أنّ الماء الباقي بعد تراوح اليوم يقصر عن تراوح يوم آخر فهو فرض انكشاف خطأ في ظنّ تعذّر نزح الجميع أوّلا ، فينكشف به عدم انتقال الحكم من المبدل إلى بدله من أوّل الأمر ، فيجب الإقدام على نزح الباقي لينعقد به نزح الجميع المأمور به الأوّلي.

ولو سلّم أنّ الحكم أوّلا بمقتضى حجّيّة الظنّ كان متعلّقا بالبدل ، فانكشاف القصور بالقياس إلى البدل الآخر يكشف عن كون الحكم بالقياس إليه قائما بنفس المبدل لا منتقلا منه إلى البدل.

* * *


ينبوع

لا ينجّس البئر بالبالوعة ، قربت منها أم بعدت ما لم يعلم بتغيّرها بما فيها إذا كان نجاسة عينيّة ، على المختار من عدم انفعالها بمجرّد الملاقاة أو بملاقاة ما فيها لها ، وإن لم يكن نجاسة عينيّة على القول الآخر ، ولا يكفي فيهما الظنّ المطلق بتحقّق السبب ، والكلام في كلّ هذه المطالب وأدلّتها قد تقدّم ، ويدلّ على المختار أو يؤيّده رواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة أذرع وأقلّ وأكثر يتوضّأ منها؟ قال : « ليس يكره من قرب ولا بعد ، يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء » (١).

وعلى القول الآخر يؤول الرواية إلى أنّ التغيّر إنّما اعتبر هنا أمارة غالبيّة على الملاقاة ، لا لقصر الحكم على التغيّر ليخرج عنه الملاقاة المطلقة.

والبالوعة : ثقب في وسط الدار كما في المجمع (٢) ، وعن الصحاح أيضا (٣) ، أو بئر يحفر ضيّق الرأس يجري فيها ماء المطر ونحوه كما عن القاموس (٤) ، أو مجمع ماء النزح كما في الروضة (٥) ، أو مرمى مطلق النجاسات كما عن الروض (٦) ، أو ما يرمى فيه ماء النزح أو غيره من النجاسات كما في المدارك (٧) ، وهو الأجود.

وعلى أيّ معنى فحكموا بأنّه تستحبّ التباعد بينها وبين البئر واتّفقوا عليه ، وإن اختلفوا في تحديد ما ينبغي بينهما من البعد ، فعن المشهور ـ مع استفاضة حكاية الشهرة فيه ـ أنّه بخمسة أذرع مع صلابة الأرض أو فوقيّة البئر ، وبسبعة أذرع مع انتفاء الأمرين.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٠ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٤.

(٢) مجمع البحرين ؛ مادّة « بلع ».

(٣) الصحاح ؛ مادّة « بلغ » ٣ : ١١٨٨.

(٤) قاموس اللغة ٣ : ٧.

(٥) الروضة البهيّة ١ : ٤٧.

(٦) روض الجنان : ١٥٦.

(٧) مدارك الأحكام ١ : ١٠٢.


ومقتضى ذلك استحباب الخمس في أربع صور من الستّ الّتي هي مرتفع الاثنين اللذين هما صلابة الأرض ورخاوتها في الثلاث الّتي هي فوقيّة البئر ومساواتها وتحتيّتها ، واستحباب السبع في صورتين منها وهما صورة المساواة وتحتيّة البئر مع رخاوة الأرض.

ومعنى فوقيّة البئر أن يكون قرارها أعلى من قرار البالوعة ، بأن يكون البالوعة أعمق منها كما في المدارك (١) ، وفي كلام شارح الدروس : « أنّ العبرة في الفوقيّة على ما ذكره الأصحاب بقراريهما ، لا بوجه الأرض » (٢) ، وفي عبارة الشيخ علي في حاشية الشرائع : « المراد بالفوقيّة كون قرار البئر أعلى ، ويتحقّق علوّ أحدهما بكونها أكثر عمقا وبالجهة » (٣) ، وقضيّة ذلك ـ كما في المدارك ـ (٤) كون القرار عبارة عن قعريهما من الأرض.

وقد يقال في تفسيره : إنّه وجه الماء لا قعره ، والأوّل أظهر ؛ وصرّحوا أيضا بأنّ المراد بالذراع ما هو المعتبر في تحديد المسافة ، وفسّرها في المدارك (٥) بالذراع الهاشميّة (٦) ، وليس على ما ينبغي ؛ بل المعتبر في المسافة ذراع اليد المحدودة بستّ قبضات معتدلة ، وكلّ قبضة أربع أصابع معتدلة ، والإصبع عرض ستّ شعيرات معتدلة ، والشعيرة ستّ شعرات من ذنب البرذون.

ومقابل المشهور مذهب ابن جنيد الإسكافي ، وهو على ما في مختلف العلّامة أنّه : « إن كانت الأرض رخوة والبئر تحت البالوعة فليكن بينهما اثنى عشر ذراعا ، وإن كانت صلبة أو كانت البئر فوق البالوعة فليكن بينهما سبع أذرع » (٧).

وهذه العبارة كما ترى لا توافق عبارته المحكيّة عنه في مختصره ؛ وهي : « لا استحبّ الطهارة من بئر يكون بئر للنجاسة الّتي يستقرّ فيها النجاسة من أعلاها في مجرى الوادي ، إلّا إذا كان بينهما في الأرض الرخوة اثنى عشر ذراعا ، وفي الأرض الصلبة سبع أذرع ، فإن كان تحتها والنظيفة أعلاها فلا بأس ، وإن كانت محاذيتها في سمت القبلة فإذا كان بينهما سبع أذرع فلا بأس » (٨).

__________________

(١ و ٤ و ٥) مدارك الأحكام ١ : ١٠٢.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٦.

(٣) حاشية الشرائع ـ للمحقّق الكركي ـ (مخطوط) الورقة ٥.

(٦) ذراع الهاشميّة ذراع وثلث باليد ، فذراع اليد أربع وعشرون إصبعا عرضا ، وذراع الهاشميّة اثنان وثلاثون إصبعا (منه عفى عنه).

(٧) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٧.

(٨) حكاه عنه في فقه المعالم ١ : ٢٩٢.


ووجه المخالفة : أنّها يقضي باعتبار اثنى عشر بشرط فوقيّة البالوعة ورخاوة الأرض ، والسبع بشرط فوقيّة البالوعة وصلابة الأرض ، أو بشرط تحاذيهما من جهة القبلة ، بأن يكون إحداهما في جهة الشرق واخراهما في جهة الغرب ؛ وعدم اعتبار شي‌ء من التقديرين وغيرهما مع انتفاء الامور كلّها ، بأن يكون البالوعة تحت البئر في رخوة أو صلبة ، فإنّ إطلاق نفي البأس هنا يقضي بعدم اعتبار تقدير في ذلك.

وهاهنا مذاهب اخر محكيّة :

منها : ما حكي عن ظاهر الصدوق من جعله المدار على الصلابة والرخاوة ، وهذه عبارته في الفقيه : « والبئر إذا كان إلى جانبها كنيف ، فإن كانت الأرض صلبة فينبغي أن يكون بينهما خمسة أذرع ، وإن كانت رخوة فسبعة أذرع » (١).

ومنها : ما عن السرائر (٢) من أنّه يستحبّ أن يكون بين البئر الّتي يستقى منها وبين البالوعة سبعة أذرع ، إذا كانت البئر تحت البالوعة وكانت الأرض سهلة ، وخمسة أذرع إذا كانت فوقها والأرض أيضا سهلة ، وإن كانت الأرض صلبة فخمس.

ومرجع ذلك إلى ما حكي من عبارة التلخيص من أنّه : « يستحبّ تباعد البئر عن البالوعة بسبع أذرع مع الرخاوة والتحتيّة ، وإلّا فخمس » (٣).

ومنها : ما حكي عن الإرشاد من « أنّه يستحبّ تباعد البئر عن البالوعة بسبع أذرع إن كانت الأرض رخوة أو كانت البالوعة فوقها ، وإلّا فخمس » (٤) ، وعن بعض النسخ « الواو » بدل « أو » وحينئذ يرجع إلى عبارة التلخيص ، والسرائر.

ومستند المشهور الجمع بين رواية الحسن بن رباط ومرسلة قدامة بن أبي زياد الجمّاز ، المرويّتين في الكتب الثلاث الكافي والتهذيبين.

فاولاهما : عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن البالوعة يكون فوق البئر؟ قال : « إذا كانت أسفل من البئر فخمسة أذرع ، وإن كانت فوق البئر فسبعة أذرع من كلّ ناحية (٥)

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨ ذيل الحديث ٢٢.

(٢) السرائر ١ : ٩٥ ـ ٩٤.

(٣) تلخيص المرام (سلسلة الينابيع الفقهيّة ٢٦ : ٢٧١).

(٤) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٥) في شرح الدروس : « وفسّر قوله عليه‌السلام : « من كلّ ناحية » بأنّه لا يكفي البعد بهذا المقدار من جانب واحد من جوانب البئر إذا كان البعد بالنظر إليها متفاوتا ، وذلك مع استدارة رأس البئر ، فربّما يبلغ المساحة السبع إذا قيس إلى جانب ولا يبلغه بالقياس إلى جانب آخر ، فالمعتبر ـ


وذلك كثير » (١).

وثانيتهما : عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته كم أدنى ما يكون بين بئر الماء والبالوعة؟ فقال : « إن كان سهلا فسبعة أذرع ، وإن كان جبلا فخمسة أذرع ، ثمّ قال : يجري الماء إلى القبلة إلى يمين القبلة ، ويجري عن يمين القبلة إلى يسار القبلة ، ويجري عن يسار القبلة إلى يمين القبلة ، ولا يجري من القبلة إلى دبر القبلة » (٢).

وجه الاستدلال بهما : أنّ الحكم بالخمس في الاولى معلّق على أسفليّة البالوعة وفي الثانية على جبليّة الأرض وهي صلابتها ، كما أنّ الحكم بالسبع في الاولى معلّق على فوقيّة البالوعة وفي الثانية على سهليّة الأرض وهي رخاوتها ، فالاولى مطلقة من حيث الأرض ومقيّدة من حيث الوضع ، كما أنّ الثانية مطلقة من حيث الوضع ومقيّدة من حيث الأرض ، فيتعارضان فيما لو كانت البالوعة فوقا في أرض صلبة وما لو كانت البالوعة أسفل في أرض سهلة ، ضرورة أنّ مطلق الاولى في الصورة الاولى يقتضي السبع ، ومقيّد الثانية يقتضي فيها الخمس ، كما أنّ مقيّد الاولى في الصورة الثانية يقتضي الخمس ومطلق الثانية يقتضي فيها السبع ، فيطرح مطلق كلّ في جانب السبع بمقيّد الاخرى في جانب الخمس جمعا بينهما.

وقضيّة ذلك دخول الصورتين المذكورتين في حكم الخمس ، لرجوع قوله عليه‌السلام : « وإن كانت فوق البئر فسبعة أذرع » في الرواية الاولى بعد التقييد إلى أن يقول : « وإن كانت فوق البئر فسبعة أذرع إلّا أن تكونا في أرض صلبة فيكفي حينئذ الخمس » فيدخل الاولى من الصورتين في حكم الخمس ، ورجوع قوله عليه‌السلام : « إن كان سهلا فسبعة أذرع » في الرواية الثانية بعد التقييد إلى أن يقول : « إن كان سهلا فسبعة أذرع إلّا مع أسفليّة البالوعة

__________________

ـ حينئذ البعد بذلك المقدار ، فما زاد بالقياس إلى الجميع » ، انتهى. والأظهر أنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ ناحية » تعميم للحكم بالقياس إلى الجهات الّتي تقع فيهما البئر والبالوعة من الجنوب والشمال والمشرق والمغرب ، والظرف متعلّق بعامل مقدّر والجملة في محلّ النصب على أن يكون حالا للضمير في قوله : « وإن كانت فوق البئر فسبعة » ولفظة « الكلّ » مراد بها معنى « أيّ » ، المفيد للعموم البدلي ، فليتدبّر (منه عفى عنه).

(١) الوسائل ١ : ١٩٩ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٣ ـ الكافي ٣ : ٧ / ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٠ الاستبصار ١ : ٤٥ / ١٢٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٩٨ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٨ / ٣ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩١.


فيكفي حينئذ الخمس » فيدخل الثانية من الصورتين في حكم الخمس أيضا ، فالداخل في حكم الخمس أربع صور من الستّ المذكورة ، والباقي تحت السبع صورتان.

وأنت خبير بأنّه يمكن انعكاس الفرض أيضا بحيث كان الداخل في حكم السبع أربع صور والباقي تحت الخمس صورتين ، وإنّما يتأتّى ذلك بطريق خر للجمع ، وهو طرح مطلق كلّ في جانب الخمس بمقيّد الاخرى في جانب السبع ، وقضيّة ذلك دخول الصورتين المذكورتين موردا للتعارض في حكم السبع ، فيبقى تحت الخمس ما لو كانت البالوعة في الأرض الصلبة أسفل من البئر أو مساوية لها.

وإلى ذلك ينظر عبارة الإرشاد المتقدّمة على النسخة الّتي فيها « أو » ، وكان منشؤها اختيار هذا الطريق من الجمع على خلاف ما اختاره المشهور ، ومن هنا ترى شارح الدروس اعترض على مختار المشهور بأنّ : « طريق الجمع لا ينحصر فيما ذكر ، إذ كما يقيّد الحكم بالسبعة في الموضعين ، يمكن أن يقيّد الحكم بالخمسة فيهما ، لكن الأولى متابعة المشهور مع التأييد بالأصل » (١) انتهى.

وإن كان صاحب الحدائق تصدّى بدفعه قائلا : « لا يخفى أنّ الغرض من التحديد في هذه الأخبار والشروط المذكورة فيها إنّما هو منع تعدّي ماء البالوعة إلى البئر ، فمع السهولة فيما عدا صورة علوّ قرار البئر لمّا كان مظنّة التعدّي كان اعتبار البعد بالسبعة أليق ، ومع الصلابة وكذا مع علوّ قرار البئر في السهلة لمّا كان مظنّة عدم التعدّي حسن الاقتصار على الخمسة ، فلا يحتاج إلى قيد خر » (٢).

وعن الشهيد الثاني في الروض المناقشة في مستند المشهور ، بقوله : « والرواية الّتي هي مستند الحكم ليس فيها ما يدلّ على حكم التساوي فهو مسكوت عنه » (٣) انتهى.

ولعلّه إلى دفع هذه المناقشة ينظر ما قد يتكلّف في بيان وجه جمع المشهور ، ويقال : « وجمع المشهور بينهما بتقييد حكم السبع في الروايتين مع إرادة عدم فوقيّة البئر من الفقرة الثانية من الرواية الاولى ، لأنّ المتبادر من مثله نقيض الشرطيّة الاولى لا ضدّها » (٤) انتهى.

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٤٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٣٨٧.

(٣) روض الجنان : ١٥٧.

(٤) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٦٧.


فإنّ عدم فوقيّة البئر المراد من تلك الفقرة أعمّ من فوقيّة البالوعة ومساواتها ، فعلم من الرواية حينئذ حكم التساوي أيضا.

وأنت خبير بعدم الحاجة إلى ارتكاب هذا التكلّف وعدم ورود المناقشة المذكورة ، فإنّها إنّما تتوجّه إذا انحصر مستند المشهور في الرواية الاولى ، وقد عرفت أنّه المجموع منها ومن الرواية الثانية بعد اعتبار الجمع بينهما وتقييد مطلق كلّ بمقيّد الاخرى ، ولا ريب أنّ حكم التساوي وإن كان مسكوتا عنه بالقياس إلى الرواية الاولى ، غير أنّه منطوق به في الرواية الثانية بحكم الإطلاق من حيث الوضع ، الشامل لصور ثلاث ، منها صورة التساوي ، والمفروض أنّه لم يخرج من هذا الإطلاق بعد اعتبار التقييد بالقياس إليه إلّا صورة فوقيّة البئر ، فتبقي الصورتان الأخيرتان مندرجتين في حكم السبع.

ومن هنا يعلم عدم خروج صورة التساوي المحكوم عليها بالخمس مع صلابة الأرض ، لأنّها مندرجة في الفقرة الثانية من الرواية الثانية أخذا بموجب الإطلاق الّذي لم يطرأه التقييد أصلا.

وقد يقال : « بأنّ المستفاد من مجموع الروايتين أنّ السبعة لها سببان : وهما السهولة وفوقيّة البالوعة ، والخمسة أيضا لها سببان : الجبليّة وأسفليّة البالوعة ، ويحصل التعارض عند تعارض السببين ، كما إذا كانت الأرض سهلة والبالوعة أسفل ، فلا بدّ من مرجّح خارجي ، وكذا إذا كانت الأرض جبليّة والبالوعة فوق البئر ، ولعلّه بالنسبة إلينا يكفي الشهرة في الترجيح ، فيحكّم كلّ منهما على الآخر بمعونتها ، وبالنسبة إليهم لا نعلم المرجّح ولعلّه دليل خارجي » انتهى.

وهذا الكلام نقله بعض مشايخنا (١) عن بعض مشايخه المعاصرين (٢) أنّه ذكره بعد ما زيّف جمع المشهور بعدم جريانه على القواعد ، ومبناه على العمل بالروايتين معا من دون تصرّف فيهما ، وهو كما ترى غير معقول مع فرض التعارض ، فكيف يستفاد السببيّة لكلّ من الامور الأربع حتّى يفرض صورة التعارض بين السببين.

ثمّ على فرض هذا التعارض فكيف يصحّ الشهرة مرجّحة فيه ، وهي على فرض صلوحها للمرجّحيّة إنّما يرجع إليها في تعارض الدليلين ، والكلام المذكور مبنيّ على

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٦٨.

(٢) جواهر الكلام ١ : ٥٢٤.


عدم الالتفات إلى تعارض الدليلين ، لأنّه أخذ بالمدلولين بعد الفراغ عن تماميّة الدليلين. فظهر أنّ ما صنعه المشهور هو الموافق للقواعد ، وعليه كان المستفاد من الروايتين بعد الجمع والتقييد ـ مع ملاحظة أنّ الغرض الأصلي من التقدير والتحديد الواردين فيهما إنّما هو حفظ ماء البالوعة عن النفوذ والتعدّي إلى البئر ـ أنّ عدم التعدّي مشروط بأحد الامور الثلاث من صلابة الأرض في البعد المحدود بالخمس ، وأسفليّة البالوعة في ذلك البعد أيضا ، وكون البعد بينهما سبعة أذرع مع انتفاء الأمرين الأوّلين.

وبذلك ـ مضافا إلى ما مرّ ـ يظهر الدليل على جمع المشهور ، وكونه أولى من الجمع الّذي كان يقتضيه الإرشاد على إحدى النسختين.

وبقي الكلام في مستند سائر الأقوال ما عدا قولي المشهور والإرشاد.

أمّا قول الصدوق : فلعلّه مبنيّ على الأخذ بالرواية الثانية بعد البناء على التخيير ، أو من جهة ترجيحها على الرواية الاولى بمرجّح داخلي أو خارجي ، أو على العمل بهما معا ، بتوهّم أنّهما من باب العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر ، نظرا إلى أنّ الفقرة الاولى من الرواية الاولى مقيسا إلى الفقرة الثانية من الثانية ، والفقرة الثانية من الاولى مقيسا إلى الفقرة الاولى من الثانية خاصّ في مقابل العامّ موافق ظاهراهما فلا تعارض بينهما ، ومعه يجب العمل عليهما معا بحمل الخاصّ على بيان إحدى فردي العامّ.

أمّا عموم فقرتي الرواية الثانية فلأنّهما يتضمّنان من جهة الوضع صورا ثلاث ، وأمّا خصوص فقرتي الرواية الاولى فلاختصاص كلّ منهما من جهة الوضع بإحدى الثلاث ، وأمّا موافقة الظاهرين في الحكم فلاتّحاد اولى الاولى مع ثانية الثانية في التقدير بالخمس ، واتّحاد ثانية الاولى مع اولى الثانية في التقدير بالسبع.

وأنت خبير بما في كلّ من هذه الوجوه من الفساد الواضح :

أمّا فساد الأوّلين : فلأنّ اعتبار التخيير أو الترجيح بين الدليلين المتعارضين إنّما هو مبنيّ على عدم إمكان الجمع بينهما بأحد من وجوه التصرّف ، من تخصيص أو تقييد فيهما معا أو في أحدهما حسبما يقتضيه القواعد والقرائن العرفيّة ، وقد عرفت أنّ الجمع بنحو التقييد في الروايتين معا مع قيام القرينة على تعيينه ممكن ، ومعه لا يعقل التخيير ولا الترجيح.


وأمّا فساد الثالث : فلما عرفت من أنّ كلّا من الروايتين بالقياس إلى الاخرى خاصّ من جهة وعامّ من جهة اخرى ، ومعه لا يمكن العمل عليهما بعد مقابلة الفقرة الاولى من كلّ للفقرة الثانية من الاخرى لتخالفهما في الحكم.

وهاهنا وجه رابع يمكن كونه مناط قول الصدوق ، وهو ابتناؤه على طرح الرواية الاولى أوّلا وبالذات والإعراض عنها ابتداء ، لما بلغه من الخارج وكشف له عن عدم سلامة سندها ، فهو أعلم بما منعه.

لكنّا نقول : بأنّ شيئا من الروايتين لا يخلو سندها عن شي‌ء ـ ولا سيّما الثانية ـ من جهة ما فيها من الإرسال ؛ لكن عمل المشهور بهما جابر لضعفهما ، هذا مع ما تقرّر عندهم من جواز المسامحة في أدلّة السنّة كما صرّح به هنا بعض الأجلّة.

وأمّا قول السرائر : فقد يقال : بأنّ مستنده الجمع بين الروايتين بتقييد حكم السبع في إحداهما به في الاخرى ، مع بقاء الفقرة الثانية من الاولى على ظاهرها من إرادة خصوص فوقيّة البالوعة دون عدم فوقيّة البئر ، الشامل بعمومه لصورة التساوي.

وهو كما ترى جمع لا يجامع القواعد ، كيف وهو فرع التعارض ، ولا تعارض بين الروايتين بالقياس إلى حكم السبع لتوافق الحكمين ، غاية الأمر أنّ مقتضاهما ـ لكون كلّ أعمّ من الآخر من وجه بحسب المفهوم ـ اجتماع السببين للسبع في صورة سهولة الأرض مع فوقيّة البالوعة.

ولو فرض مستند هذا القول كونه جمعا بين الروايتين بتقييد كلّ من فقرتي الاولى بالفقرة الاولى من الثانية مع بقاء فقرتها الثانية على ظاهرها.

لدفعه : أنّ الفقرة الاولى من الثانية لا تعارض الفقرة الثانية من الاولى لما ذكر ، فلا وجه لاعتبار التقييد هنا ، مضافا إلى أنّ الفقرة الثانية من الثانية لا يلائم الفقرة الثانية من الاولى ، فلا بدّ من تقييد في إحداهما بالاخرى.

وأمّا قول التلخيص وإحدى نسختي الإرشاد : فقد عرفت أنّ مرجعهما إلى قول السرائر إلّا بنحو من الاعتبار الّذي قد يتكلّف ، وهو أن يراد بتحتيّة البئر مع رخاوة الأرض نقيض الفوقيّة ، وهو عدم فوقيّة البئر الشامل لصورتي التساوي مع الرخاوة أيضا ، بناء على أنّ المراد بها في عبارة السرائر معناه الظاهر ، وعليه يكون مستند هذا


القول الجمع بين الروايتين حسبما فهمه المشهور.

لكنّك خبير بأنّ هذا الفرق بين القولين تحكّم بحت ، فهما معا إمّا يوافقان المشهور أو يخالفانه ، بناء على أنّهما يهملان صورة التساوي مع رخاوة الأرض المحكوم عليها في كلام المشهور باعتبار السبع.

وأمّا قول الإسكافي : فمستنده ـ على ما حكاه العلّامة في المختلف (١) بعد ما حكى مذهبه المتقدّم ـ رواية محمّد بن سليمان الديلمي عن أبيه فقال [لي] : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : « عن البئر يكون إلى جنبها الكنيف؟ فقال : إنّ مجرى العيون كلّها مع (٢) مهبّ الشمال ، فإذا كانت [البئر] النظيفة فوق الشمال والكنيف أسفل منها لم يضرّها إذا كان بينهما أذرع ، وإن كان الكنيف فوق النظيفة فلا أقلّ من اثنى [عشر] ذراعا ، وإن كانت تجاهها بحذاء القبلة وهما مستويان في مهبّ الشمال فسبعة أذرع ... » (٣).

بل الاستناد إلى تلك الرواية صريح عبارته المتقدّمة المذيّلة بقوله : « تسليما لما رواه ابن يحيى عن سليمان عن أبي عبد الله » عقيب ما تقدّم من العبارة.

وأورد عليه : بأنّ الرواية لا تنطبق على كلامه بشي‌ء من النقلين المتقدّمين ، أمّا على ما نقله العلّامة وغيره فلأنّهم نقلوا عنه التباعد بسبعة أذرع في صورة فوقيّة البئر ، مع أنّه ليس في الرواية لذلك أثر.

وأمّا على ما نقلوه من العبارة المتقدّمة ، فلأنّهم نقلوا عنه التفصيل في صورة علوّ البالوعة بالرخاوة والصلابة ، والرواية كما ترى لا تفصيل فيها بشي‌ء من ذلك.

وقد يعتذر له بما يدفع معه هذا الإشكال عن العبارة المنقولة عنه لو كان سديدا ، فيقال : « ولعلّه قدس‌سره فهم من إطلاق الأرض الرخوة ، لأنّها الغالب ، وتحديده البعد في الصلبة بسبع لرواية الحسن بن رباط ـ المتقدّمة ـ في اعتبار السبع مع فوقيّة البالوعة ، بناء على أنّ المراد بالفوقيّة أعمّ من العلوّ من حيث الجهة ، وحملها على الصلبة لكونها الفرد المتيقّن من الإطلاق كالرخوة في هذه الرواية ، فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر » (٤) انتهى.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٨.

(٢) وفي بعض النسخ : « من » بدل « مع » كما في الوسائل.

(٣) الوسائل ١ : ٢٠٠ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٢.

(٤) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٧٠.


ولا يخفى بعده وخروجه عن السداد ، ومع [هذا] فأصل هذا القول لشذوذه وندرة القائل به ليس ممّا يلتفت إليه ليصرف النظر في تصحيح مستنده ، ويزيد على ضعف القول رأسا ضعف هذه الرواية بمحمّد بن سليمان الديلمي ، قال في المدارك : « فقد قيل : إنّ سليمان كان غاليا كذّابا ، وقال القتيبي : إنّه كان من الغلاة الكبار ، وقال النجاشي : أنّ ابنه محمّدا ضعيف جدّا لا يعوّل عليه في شي‌ء » (١).

ثمّ عن جماعة من المتأخّرين القائلين بالمشهور أنّهم ألحقوا بالفوقيّة الحسّية الفوقيّة بالجهة ، فحكموا بالاكتفاء بالخمس مع استواء القرارين ورخاوة الأرض إذا كانت البئر في جهة الشمال ، بناء على أنّ جهة الشمال أعلى وأنّ مجاري العيون كما يدلّ عليه رواية سليمان المتقدّمة المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « مجرى العيون كلّها مع مهبّ الشمال » ، وفي ذيل رواية قدامة أيضا إشارة إلى هذا المعنى حيث قال : « يجري الماء إلى القبلة » ـ إلى قوله ـ : « ولا يجري من القبلة إلى دبر القبلة » ، فإنّ المراد بالقبلة قبلة أهل العراق بقرينة أنّ الرواة منهم ، وهي كناية عن جهة الجنوب ، وإنّما عبّر عنها بها لمعروفيّتها عند عامّة الناس من العراقيّين ، فالمراد بدبر القبلة العراق وما يحاذيها ، لوقوعها في جهة الشمال ، فيمين القبلة ويسارها إشارة إلى الغرب والشرق.

وحاصل معنى الرواية : أنّ الماء بالأخرة يميل إلى جهة القبلة وهي الجنوب ، وإن مال أوّلا إلى يمين القبلة ، وعن يمين القبلة إلى يسار القبلة ، وعن يسار القبلة إلى يمين القبلة ، بخلاف دبر القبلة فإنّ الماء لا يميل إليه بالطبع أصلا.

والسرّ في ذلك ، ما قيل : من أنّ كلّ شي‌ء يميل إلى مركزه ، ومركز الماء البحر ، وهو في طرف الجنوب ، فهو بالطبع (٢) مائل إلى الجنوب ليصل إلى البحر ، وما قد يشاهد من خلاف ذلك فليس من جهة الطبع ، بل هو لأجل العارض. وكيف كان : فمستند الإلحاق

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٤ ـ كما في رجال النجاشي : ١٨٢ ؛ وأيضا رجال النجاشي : ٣٦٥ وكذا في رجال الكشّي : ٣٧٥ وفيه : « محمّد بن مسعود،قال: قال عليّ بن محمّد : سليمان الديلمي من الغلاة الكبار ».

(٢) والسرّ في ذلك ـ على ما ذكروه ـ : أنّ الشمال مشرف على الجنوب بحسب وضع الأرض ، لأنّ كرة الأرض واقعة في البحر ، ثلثاها في الماء وثلثها خارج البحر ، وقبّة الأرض ورأسها محاز للقطب الشمالي ، فالماء بالطبع ـ يميل إلى الجنوب سواء كان فوق الأرض أو جاريا في أعماق الأرض. فليتأمّل (كذا في هامش الأصل بخطّ مصنّفه قدس‌سره).


على ما في المدارك وغيره (١) رواية سليمان المتقدّمة ، وأورد عليه في الكتاب : « بأنّها غير دالّة عليه ».

أقول : وكأنّ المقصود بالاستناد إليها إثبات العلوّ لجهة الشمال بالقياس إلى الجنوب ، ليترتّب عليه الإلحاق ، بناء على ما استفادوه من النصوص من أنّ الغرض من التحديد الوارد فيها حفظ الماء عن نفوذ البالوعة إليه كما تقدّم الإشارة إليه ، وحينئذ فلا إشكال في أنّ البئر إذا كانت واقعة في جهة الشمال فلا تميل إليها البالوعة وإن تساوى قراراهما ، بخلاف ما لو كانت واقعة في جهة الجنوب ، فإنّ البالوعة حينئذ يميل إليها بالطبع.

ثمّ إنّ صور المسألة على ما ذكره الجماعة أربع وعشرون ، حاصلة من ضرب الجهات الأربع وهي الجنوب والشمال والمشرق والمغرب في الستّة المتقدّمة ، الحاصلة من ضرب الاثنين المتصوّرين من جهة الأرض في الثلاث المتصوّرة من حيث الوضع.

ومحصّل العمل : أنّ البعد فيما بين البئر والبالوعة إمّا أن يكون ممّا بين الجنوب والشمال ، أو ممّا بين المشرق والمغرب ، وكلّ من هذين صورتان ، وعلى التقادير الأربع فالأرض إمّا صلبة أو رخوة ، فهذه ثمان صور ، وعلى التقادير إمّا أن يستوي القراران حسّا ، أو يكون البئر أعلى ، أو البالوعة ، فالمرتفع أربع وعشرون صورة ، وإن لم يكن لبعضها تأثير في اختلاف الحكم.

وقد ذكروا : أنّ في سبع عشر منها يكون التباعد بخمس أذرع ، وفي سبع منها بسبع أذرع ، وهذه السبع بعض من الثمان المخرجة لصورتي استواء القرارين ، أو علوّ قرار البالوعة في الأرض الرخوة ، بناء على أنّ كلّ صورة من الصور الستّ المتقدّمة يتحصّل لها بملاحظة الجهة أربع صور ، فإذا اخرج من تلك الثمان صورة ما لو استوى القراران وكان البئر أعلى جهة من البالوعة بكونها في جهة الشمال والبالوعة [تحتها] وادخلت في صور الحكم بالخمس ، يبقى تحت حكم السبع سبع صور يعلم تفاصيلها بالتأمّل.

لكن في كلام شارح [الدروس] بعد ذكر الصور ما لفظه : « وفي صورة يقع التعارض بين الفوقيّتين يجعلونها بمنزلة التساوي » (٢) ، ومراده بالفوقيّتين فوقيّة البئر قرارا وفوقيّة البالوعة جهة ، أو بالعكس ، والمراد من كونها بمنزلة التساوي الحكم عليها بالسبع ، وحينئذ

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٣ ـ روض الجنان : ١٥٦.

(٢) مشارق الشموس : ٢٤٧.


لا يتمّ العددان المذكوران حسبما ضبطوهما ، ولذا اعترض عليهم المحقّق المشار إليه عقيب الكلام المذكور بكثير قائلا : « وفي كلام جمع من الأصحاب هاهنا تأمّل ظاهر ، إذ ذكروا أنّ التباعد بسبع في سبع ، وبخمس في الباقي ، والاعتبار يقتضي أن يكون التباعد بسبع في ثمان أو ستّ ، لأنّ فوقيّة القرار إمّا أن تعارض فوقيّة الجهة وتصير بمنزلة التساوي أو لا ، فعلى الأوّل الأوّل ، وعلى الثاني الثاني ، وأمّا اعتبار الجهة في البئر دون البالوعة فتحكّم » (١)

وهذا الاعتراض كما ترى متّجه.

ووجهه واضح بالتأمّل ، وإن كان صاحب الحدائق تصدّى لدفعه قائلا : « بأنّ ما نقله [عنهم] من جعلهم صورة التعارض بمنزلة التساوي ممّا لم أقف عليه فيما حضرني من كلامهم ، بل صرّح غير واحد منهم أنّ الفوقيّة بالجهة إنّما تعتبر في الرخاوة مع تساوى القرارين ومقتضى ذلك اختصاص اعتبارها بالبئر دون البالوعة ، ولهذا صرّح في الروض (٢) ـ في صورة كون البئر في جهة الجنوب مع رخاوة الأرض وعلوّ قرار البئر ـ بأنّه : « يستحبّ التباعد بخمس أذرع نظرا إلى علوّ قرار البئر » ، وبمقتضى ما ذكره من تعارض الفوقيّتين مطلقا ينبغي أن يكون بسبع » (٣) انتهى.

وهذا الكلام عند التحقيق غير صالح لدفع الاعتراض ، كيف والتحكّم المذكور في كلام المعترض باق على حاله ، والاستشهاد بكلام الروض لا يجدي نفعا ، إذ الاعتراض على هذا الكلام ونظائره ، ووجه التحكّم : أنّ علوّ الجهة إمّا أن يصلح مؤثّرا في اقتضاء خلاف ما يلزم مع انتفائه أو لا ، فعلى الأوّل ينبغي أن يلاحظ في كلّ من البئر والبالوعة ويرتّب عليه أثره ، وعلى الثاني ينبغي أن لا يلاحظ في شي‌ء منهما ، والفرق بينهما في الاعتبار والعدم ليس إلّا تحكّما بحتا ، كما أنّ ما عساه أن يدّعي من أنّه صالح للتأثير في البئر دون البالوعة ليس إلّا مكابرة محضة ، بل ليس إلّا من الخرافات ، فالاعتراض بظاهر الحال في محلّه.

ثمّ إنّ في تحديد البعد بين البئر والبالوعة روايات اخر لم يعمل بها الأصحاب ، مثل ما حكاه في الحدائق (٤) عن الحميري في قرب الأسناد عن محمّد بن خالد الطيالسي

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٤٧.

(٢) روض الجنان : ١٥٧.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٣٨٥.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٣٩٠.


عن العلاء عن الصادق عليه‌السلام « قال : سألته عن البئر يتوضّأ منها القوم ، وإلى جانبها بالوعة؟

قال : إن كان بينهما عشرة أذرع وكانت البئر الّتي يستقون منها تلي الوادي ، فلا بأس » (١).

وما رواه في الكافي عن الفضلاء الثلاث زرارة ، ومحمّد بن مسلم ، وأبي بصير ، قالوا : قلنا له : بئر يتوضّأ منها ، يجري البول قريبا منها أينجّسها؟ قال فقال : « إن كانت البئر في أعلى الوادي ، والوادي يجري فيه البول من تحتها ، فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع ، أو أربعة أذرع ، لم ينجّس ذلك شي‌ء ، [وإن كان أقلّ من ذلك نجسها] (٢).

قال : وإن كانت البئر في أسفل الوادي ، ويمرّ الماء عليها ، وكان بين البئر وبينه سبعة أذرع لم ينجّسها ، وما كان أقلّ من ذلك لم يتوضّأ منه ».

قال زرارة : فقلت له : فإن كان مجرى البول يلزقها وكان لا يثبت على الأرض؟ فقال : « ما لم يكن له قرار فليس به بأس ؛ وإن استقرّ منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض ، ولا قعر له حتّى بلغ البئر ، وليس على البئر منه بأس ، فيتوضّأ منه ، إنّما ذلك إذا استنقع كلّه » (٣).

وهذه الرواية مذكورة في التهذيبين أيضا باختلاف يسير في بعض ألفاظها.

ويبقى الكلام في وجه استفادة ما أطبقوا عليه من استحباب التباعد بين البئر والبالوعة بأحد الأبعاد المتقدّمة على الخلاف ، مع ظهور النصوص الموجودة في هذا الباب في الوجوب ، فهو إمّا من جهة الإجماع الناهض قرينة على صرف النصوص عن ظاهرها ، ولا ينافيه الاختلاف مع التمسّك بتلك النصوص ، لأنّ ذلك اختلاف في مقدار المستحبّ واستعلام له.

أو من جهة اختلاف النصوص الواردة في التحديد ، نظرا إلى أنّه يصلح قرينة على إرادة الاستحباب الّذي يختلف مراتبه ، كما ذكروا نظيره في مواضع ، منها : ما تقدّم في روايات النزح من تصريحهم بكون اختلافها الشديد في التقادير قرينة على استحباب النزح ، أو من جهة تنزيل النصوص إلى الاستحباب الّذي يتسامح في دليله ، نظرا إلى ما فيها من الضعف المانع عن صلوحها دليلا على الوجوب.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٠ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٨ ـ قرب الأسناد : ١٦.

(٢) الزيادة منّا بملاحظة متن الرواية ، ولعلّها سقطت من قلمه الشريف سهوا.

(٣) الوسائل ١ : ١٩٧ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ الكافي ٣ : ٧ / ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٠ / ١٢٩٣.


أو من جهة قيام قرينة عليه في نفس تلك النصوص ، كما تقدّم من رواية محمّد بن القاسم عن أبي الحسن عليه‌السلام في البئر يكون بينها وبين الكنيف خمسة وأقلّ وأكثر يتوضّأ منها؟ قال : « ليس يكره من قرب ولا بعد ، يتوضّأ منها ويغتسل ما لم يتغيّر الماء » (١) ، وممّن صرّح بالوجه الأخير الشيخ في الاستبصار قائلا : « هذا الخبر يدلّ على أنّ الأخبار المتقدّمة كلّها محمولة على الاستحباب دون الحظر والإيجاب » (٢).

* * *

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٠ ب ٢٤ من أبواب الماء المطلق ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٤١١ / ١٢٩٤.

(٢) الاستبصار ١ : ٤٦ / ١٢٩.


ينبوع

المضاف كلّ ما افتقر صدق اسم « الماء » عليه إلى تقييد ، كما في منتهى العلّامة (١) ، أو ما لا يتناوله إطلاق « الماء » كما في الدروس (٢) ، أو ما لا يتناوله الاسم بإطلاقه كما في نافع المحقّق (٣).

أو كلّ ما اعتصر من جسم أو مزج به مزجا يسلبه إطلاق الاسم كما في شرائعه (٤).

أو ما لا ينصرف إليه لفظ « الماء » على الإطلاق عرفا بل يحتاج في صدقه إلى القيد كما في الحدائق (٥).

أو كلّ مائع يصحّ إطلاق اسم « الماء » عليه لعلاقة المشابهة الصوريّة كما في كلام بعض مشايخنا العظام (٦).

ولا يخفى على البصير أنّ هذه التعاريف وغيرها ممّا هو مذكور في كلام الأصحاب كلّها لفظيّة يراد بها كشف المسمّى بأشهر اسميه ، على حدّ ما هو قانون أهل اللغة في بيان مسمّيات الألفاظ ، فلا ضير في عدم كون بعضها مطّردا بدخول الدم المعتصر من جسم ، أو منعكسا بخروج المصعّد من الأنوار أو الأوراق كماء الورد والهندباء ونحوهما ، فالمناقشة في ذلك بالقياس إلى تعريف الشرائع بعد وضوح الأمر ليست في محلّه.

ثمّ إنّ المضاف منه ما يحصل بالتصعيد كماءي الورد والهندباء ، وما يحصل بالعصر كماءي الحصرم والرمّان ، وما يحصل بمزج الماء بغيره على وجه زال عنه عنوان المائيّة في نظر العرف كماء الزعفران ونحوه ، وأمّا الممزوج بغيره لا على هذا الوجه فليس

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١١٤.

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٣) المختصر النافع : ٤٣.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ١٥.

(٥) الحدائق الناضرة ١ : ٣٩١.

(٦) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٩٠.


بمضاف وإن تغيّر وصفه لونا كالممتزج بالتراب ، أو طعما كالممتزج بالملح وإن اضيف إليهما ، والعبرة فيهما بالصدق العرفي وعدمه ، ولو اشتبه العرف أو اشتبه الأمر على العرف بتردّد الموضوع بين المطلق والمضاف يرجع في إحراز أحد العنوانين أو الأحكام المترتّبة عليهما إلى الاصول والقواعد المقرّرة ، وذلك يتأتّى في صور :

منها : ما لو وجد مائع وتردّد ابتداء بين المطلق والمضاف من غير تبيّن حالته السابقة ، وفي مثله لا أصل يحرز به العنوان ، وأمّا الأحكام فبالنسبة إلى انفعاله بملاقاة النجاسة فالأصل هو الانفعال إذا كان قليلا ، لأنّه إن كان في الواقع مطلقا فحكمه هذا وإن كان مضافا فأولى بذلك.

وإذا كان كثيرا فقد يتوهّم فيه الطهارة لأصالة عدم الانفعال ، وليس كما توهّم ، لما هو المعلوم من ضرورة المتشرّعة وتتبّع الأخبار الجزئيّة الواردة في الأبواب المتفرّقة من أنّ النجس معدّ لتنجيس ما يلاقيه كائنا ما كان عدا ما كان منه مخرجا بالدليل من المواضع المخصوصة الّتي ليس المقام منها ، فإنّ ذلك أصل كلّي مستفاد من الشرع وارد على الأصل المذكور ونظائره ، ومن علامات هذا الأصل أنّ المركوز في قاطبة الأذهان من عالم أو عامّي مطالبة من [يدّعي] (١) عدم التنجيس في مواضع ملاقاة الطاهر مع النجس مع تحقّق شرائط السراية الّتي منها الرطوبة.

ولو قيل : هذا الأصل يكذّبه ما استقرّ في الأذهان من مطالبة من يدّعي انفعال الماء القليل الراكد بالملاقاة ، فلو أنّ الأصل ثابت لكان كافيا في الدلالة.

لدفعه : أنّ ذلك إنّما هو من جهة مخالفة هذه الدعوى لأصل ثانوي ثابت في الماء خاصّة ، من أنّه بحسب الخلقة الأصليّة طاهر ، وأنّ الطبيعة المائيّة مقتضية للطهارة غير قابلة للنجاسة عدا ما خرج منه بالدليل وهو القليل الراكد عند من يقول بانفعاله ، فإنّ الماء بمقتضى هذا الأصل من جملة المخرجات عن الأصل المذكور.

مع إمكان أن يقال : إنّ الداعي إلى ذلك وإلى تجشّم الاستدلال على الانفعال بأدلّة خاصّة ، حدوث القول بعدم الانفعال استنادا إلى أدلّة خاصّة لو تمّت دليلا لما كان الأصل

__________________

(١) وفي الأصل : « مدّعي » والصواب ما أثبتناه في المتن.


صالحا للمعارضة لها ، فالغرض من تجشّم الاستدلال دفع هذا القول وردّ أدلّته ، فليتأمّل.

وقد يستظهر هذا الأصل عن قوله عزّ من قائل : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (١) ، أو يؤيّد باستدلال الغنية (٢) على نجاسة القليل بالملاقاة بتلك الآية.

ولا يخفى وهنه ـ بعد تسليم كون الآية محمولة على المعنى المبحوث عنه ـ فإنّ أقصى ما يستفاد منها وجوب الاجتناب عن « الرجز » الّذي هو النجس أو المتنجّس أيضا ، وليس ذلك إلّا كبرى كلّيّة ، فإن اريد بصغرى تلك الكبرى كون ملاقي النجس رجزا فهو أوّل المسألة ، بل لا يكاد يستقيم ذلك إلّا بإثبات وصف الرجزيّة من الخارج ، وهو ليس استدلالا بالآية ، ولو اريد بها نفس النجس الّذي لاقاه الطاهر فالكبرى بالقياس إليه مسلّمة ، لكنّه لا يجدي نفعا في ثبوت دعوى سراية ما فيه من النجاسة إلى ملاقيه ، كما لا يخفى.

وأمّا حكمه بالنسبة إلى إفادته التطهير عن حدث أو خبث ، فمبنيّ على المباحث الآتية ، فإن ثبت فيها أنّ المضاف صالح لذلك مطلقا أو في الجملة يلزمه كون المقام صالحا له كذلك ، لأنّه إمّا مطلق أو مضاف والكلّ صالح له.

ومنها : ما لو امتزج المطلق بمضاف خاصّ على وجه يعلم معه بعدم صدق الاسمين عليه ، فتحقّق عنوان المضاف على الوجه الكلّي ممّا لا ريب فيه بنفس الفرض ، مع ملاحظة انتفاء الواسطة بحسب الشرع فيما بين المطلق والمضاف ، وعدم اندراج المفروض في اسم نوع خاصّ منه لا يوجب خروجه عن عنوانه الكلّي ، مع عدم اندراجه في اسم المطلق أيضا ، فهو مضاف لا اسم له بالخصوص.

وقضيّة ذلك عدم ترتّب أحكام الماء عليه كائنة ما كانت ، لأنّ الخروج عن الاسم كاف في العدم ، ولا يمكن استصحاب تلك الأحكام لتيقّن ثبوتها قبل هذه الحالة في هذا الموضوع الخارجي.

أمّا أوّلا : لتبدّل المشار إليه السابق بالامتزاج وإن اعتبرنا الشخص ، فإنّ الموجود بعد الامتزاج ليس بعين ما كان قبل الامتزاج ليترتّب عليه الأحكام السابقة.

__________________

(١) المدّثر : ٥.

(٢) غنية النزوع : ٤٦.


وأمّا ثانيا : لكون الأحكام تابعة للعنوان الّذي هو ليس بباق بالفرض ، وعروضها لهذا الموضوع الموجود في الخارج لم يكن من جهة أنّه هو هذا الموجود في الخارج ، بل من جهة انطباقه على عنوان غير باق هنا.

ولا يفرّق فيما ذكرناه من عدم ترتّب أحكام الماء على ذلك ، بين ما لو تحقّق استهلاك أحدهما بالآخر في الواقع وبين ما لو لم يتحقّق استهلاك واقعي.

فما توهّم من احتمال ترتّب ثار المطلق على أجزاء المطلق الموجودة فيه ، وترتّب ثار المضاف على أجزاء المضاف الموجودة فيه ـ بناء على عدم الاستهلاك ـ فيصحّ ارتماس الجنب لانغماره بالأجزاء المائيّة الموجودة فيه بالفرض مقطوع بفساده ، لكون تلك الأحكام منوطة بما هو داخل في اسم « الماء » عرفا لا بما يعمّ هذه الأجزاء ، مع أنّ العلم بمباشرة تلك الأجزاء المتفرّقة لجميع أجزاء البشرة من أيّ شي‌ء حصل؟ بعد فرض كون كلّ من الأجزاء المائيّة والأجزاء المضافيّة بالقياس إلى مباشرة كلّ جزء من كلّ عضو ـ ولو على البدل ـ متساوي النسبة ، ولعلّ الرطوبة الموجودة في جزء غير معيّن من العضو من أثر الأجزاء المضافيّة خاصّة ، على معنى أنّ هذا الجزء لم يباشره جزء مائي أصلا.

ومنها : ما لو امتزج المطلق بمضاف أو مائع غير مضاف كالدبس ، أو جامد غير مضاف على وجه شكّ معه في سلب الإطلاق عنه ، فالظاهر بقاء الإطلاق بمقتضى الأصل الجاري هنا.

والقول بأنّ المفروض من باب الشكّ في اندراج هذا الجزئي الحقيقي تحت العنوان ، وهذا لم يكن متيقّنا في الآن السابق ، وما كان مندرجا في السابق تحت العنوان كان جزئيّا حقيقيّا خر متشخّصا بمشخّصات اخر.

واضح الدفع ، بأنّ الأحكام ليست مترتّبة على الجزئي الحقيقي ليكون التبدّل مضرّا في استصحاب بقائه ، وإنّما هي مترتّبة على العنوان الّذي هو مشكوك في بقائه بعد تيقّن ثبوته في الآن السابق ، ولا ريب أنّ مجرّد تبدّل الشخص لا يستلزم تبدّل العنوان ما لم يعلم بكون المتبدّل إليه من أشخاص عنوان خر غير العنوان المتيقّن ، والمقام ليس منه ، لجواز كون هذا الشخص من أشخاص العنوان الأوّل ، وإن غاير الشخص الأوّل بتغاير مشخّصاته الحادثة ، كيف لا ومعنى الشكّ في بقاء العنوان الأوّل هو هذا ، فالقطع بتبدّل


الشخص لا ينافي الشكّ في بقاء العنوان وهو المستصحب المتيقّن الثبوت المشكوك البقاء ، فالاستصحاب في محلّه.

وإذا تمهّد هذا ، فاعلم أنّه لا إشكال ولا كلام في طهارة المضاف بنفسه إذا كان أصله طاهر ، أو لم يطرأه ما يقتضي تنجّسه ، ونقل الإجماعات عليه ونفي الخلاف فيه في حدّ الاستفاضة ، مضافا إلى أنّ الطهارة هي الأصل في الأشياء والنجاسة طارئة فيحتاج إلى سبب ، فهذا الحكم ليس بمقصود المقام ، بل المقصود البحث عن امور اخر يلحقها من جهة قبوله الانفعال وعدمه ، وصلوحه رافعا للحدث وعدمه ، مزيلا للخبث وعدمه ، وقبوله التطهير على فرض الانفعال وطريق تطهيره ، وغير ذلك ممّا يتلى عقيب ذلك ، فينبغي إيراد الكلام في مباحث :

المبحث الأوّل : المشهور القريب من الإجماع أنّ المضاف مطلقا لا يرفع حدثا مطلقا اختيارا ولا اضطرارا ، بل هو إجماع من أصحابنا حقيقة كما يفصح عنه نقل الإجماعات في كلام غير واحد ، بناء على أنّ مخالفة معلوم النسب لا تقدح في انعقاد الإجماع ، أو أنّها منقرضة بتأخّر الإجماع ، والمخالف من أصحابنا الصدوق على ما حكي عنه في الفقيه قائلا : « ولا بأس بالوضوء والغسل من الجنابة والاستياك بماء الورد » (١) ، وعن الشيخ في الخلاف (٢) أنّه حكى عن قوم من أصحاب الحديث منّا أنّهم أجازوا الوضوء بماء الورد ، وعن ظاهر ابن أبي عقيل العماني (٣) أنّه جوّز الوضوء حال الضرورة فيقدّم على التيمّم.

والمعتمد : الأوّل ، لأصالة بقاء الحدث ، والمنع عن الدخول في الصلاة إلى أن يتحقّق رافع يقيني ومبيح شرعي ، مضافا إلى جملة ممّا احتجّ به الأكثر وهو امور :

منها : قوله عزّ من قائل : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (٤) حيث أوجب التيمّم عند فقد الماء ، ولا ريب أنّ الماء بإطلاقه لا يتناول المضاف ، فعلم منه سقوط الواسطة ، إذ اللفظ يحمل على حقيقته ، فلو كان الوضوء سائغا بغير الماء لم يجب التيمّم عند فقده.

ومنها : ما اعتمد عليه العلّامة في المختلف (٥) من قوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ

__________________

(١) الفقيه ١ : ٦.

(٢) الخلاف ١ : ٥٥ ، المسألة : ٥.

(٣) حكاه عنه في مختلف الشيعة ١ : ٢٢٢.

(٤) النساء : ٤٣.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٢.


السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) (١) بتقريب : أنّه خصّ التطهير بالماء بقرينة وروده مورد الامتنان ، فلو وقع بغيره لكان الامتنان بالأعمّ أولى ، ولم تكن للتخصيص فائدة ، وقضيّة ذلك كلّه أن لا يقع بغيره ، ولا يخفى وهنه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الامتنان معلّق على حيثيّة الإنزال من السماء لأجل فائدة التطهير لا على مجرّد جعل تلك الفائدة في الماء ، ولا ريب أنّ هذه الحيثيّة المحقّقة للامتنان مختصّة بالماء.

وحاصل معنى الآية : « أنّ إنزال الماء من السماء إنّما هو لأجل تطهيركم به » ولا ريب أنّ هذا المعنى لا ينافي حصول التطهير بغير الماء أيضا ، وإلّا يرد النقض بالصعيد الّذي يحصل به التطهير أيضا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المضاف أيضا بجميع أقسامه أصله من الماء كما يظهر بأدنى التفات ، فحصول التطهير به لا ينافي قصد الامتنان بكون الماء منزّلا لحصول التطهير به ، لرجوعه بالأخرة إليه من جهة استناده إليه بحسب أصله.

واعترض أيضا : بأنّه يجوز أن يخصّ أحد الشيئين الممتنّ بهما بالذكر ، لكونه أبلغ وأكثر وجودا وأعمّ نفعا.

ومنها : رواية أبي بصير المرويّة في التهذيبين عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون معه اللبن ، أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : « لا إنّما هو الماء والصعيد » (٢) بتقريب : أنّ كلمة « إنّما » للحصر ، فتفيد انتفاء التطهّر بغير الماء والصعيد.

وعن الصدوق الاحتجاج بما رواه في التهذيب عن محمّد بن عيسى عن يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يغتسل بماء الورد ويتوضّأ به للصلاة؟ قال : « لا بأس بذلك » (٣).

ويضعّف : باشتمال سنده على سهل بن زياد وهو عامّي ، ومحمّد بن عيسى عن يونس ، وقد نقل الصدوق عن شيخه محمّد بن الوليد أنّه لا يعتمد على حديث محمّد بن

__________________

(١) الأنفال : ١١.

(٢) الوسائل ١ : ٢٠١ ب ١ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ١٨٨ / ٥٤٠.

(٣) الوسائل ١ : ٢٠٤ ب ٣ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢١٨ / ٦٢٧.


عيسى عن يونس ، وحكم الشيخ في كتابي الأخبار (١) بشذوذ هذه الرواية ، وأنّ العصابة أجمعت على ترك العمل بظاهرها قائلا : « بأنّه خبر شاذّ شديد الشذوذ ، وإن تكرّر في الكتب والاصول ، فإنّما أصله يونس عن أبي الحسن ولم يروه غيره ، وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره ، وما هذا [يكون] حكمه لا يعمل به.

ولو سلّم لاحتمل أن يكون أراد به الوضوء الّذي هو التحسين ، وقد بيّنّا فيما تقدّم أنّه يسمّى وضوء ».

ثمّ قال : « وليس لأحد أن يقول : إنّ في الخبر أنّه سأله عن ماء الورد يتوضّأ به للصلاة؟ فإنّ ذلك لا ينافي ما قلناه ، لأنّه يجوز أن يستعمل للتحسين ومع هذا يقصد به الدخول في الصلاة من حيث أنّه متى استعمل الرائحة الطيّبة لدخوله في الصلاة ولمناجاة ربّه كان أفضل من أن يقصد به التلذّذ حسب دون وجه الله ، وفي هذا إسقاط ما ظنّه السامع.

ويحتمل أن يكون أراد بقوله : « ماء الورد » الّذي وقع فيه الورد ، لأنّ ذلك يسمّى « ماء ورد » وإن لم يكن معتصرا منه ، لأنّ كلّ شي‌ء جاور غيره فإنّه يكسب اسم الإضافة إليه » (٢) انتهى.

وفي حاشية المدارك : « وربّما وجّه بأنّ المراد ماء الورد » (٣) بكسر الراء.

وبجميع ما ذكر يظهر ضعف قول العماني أيضا ، ولم يذكر له مستند فيما حضرنا من كتب الأصحاب.

وظاهر النقل عنه أنّه يجوز التطهير بكلّ مضاف من غير اختصاص له بماء الورد ولا موافق له وللصدوق فيما ادّعياه.

نعم ، ربّما يحكى عن المحدّث الكاشاني في المفاتيح والوافي ما يوهم ميله إلى موافقة الصدوق ، حيث قال في الأوّل : « ويحتمل قويّا الجواز لصدق الماء على ماء الورد ، لأنّ الإضافة ليست إلّا لمجرّد اللفظ كماء السماء ، دون المعنى كماء الزعفران والحناء والخليط بغيره ، مع تأيّد الخبر بعمل الصدوق وضمانه صحّة ما رواه في الفقيه

__________________

(١). التهذيب ١ : ٢١٩ ـ الاستبصار ١ : ١٤.

(٢) التهذيب ١ : ٢١٩.

(٣) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٧٤.


وعدم المعارض النافع » (١).

وقال في الثاني ـ بعد نقل خبر يونس المتقدّم ـ : « وأفتى بمضمونه في الفقيه ، ونسبه في التهذيبين إلى الشذوذ ، ثمّ حمله على التحسين والتطيّب للصلاة دون رفع الحدث مستدلّا بما في الخبر الآتي إنّما هو الماء والصعيد.

أقول : هذا الاستدلال غير صحيح ، إذ لا منافاة بين الحديثين ، فإنّ ماء الورد ماء مستخرج من الورد » (٢) انتهى.

ومرجعه إلى إنكار الإضافة المخرجة عن الإطلاق ، فماء الورد ماء وإن اضيف إلى الورد كماء البئر ونحوه ، فما لم يكن الإضافة مؤثّرة في سلب الإطلاق لم يكن منافاة بين الخبر وما دلّ على انحصار الطهور في الماء والصعيد.

وهذا الكلام كما ترى يرجع إلى إنكار الصغرى ، فلا مخالفة بينه وبين المشهور في منع التطهّر بغير الماء ، وإنّما خالفهم في خصوص المقام في دعوى كون المتّخذ من الورد ماء وإن أطلق مضافا إلى الورد.

فدفع كلامه حينئذ إنّما هو بدفع هذه الدعوى ، لا بإقامة الدليل على أنّ المضاف لا يرفع الحدث ، كما قد يوجد في بعض العبائر.

المبحث الثاني : المشهور أنّ المضاف كما لا يرفع الحدث لا يرفع الخبث أيضا ، وعن الروض (٣) الإجماع عليه ، خلافا للمفيد في المسائل الخلافيّة (٤) ، والمرتضى في شرح الرسالة قائلا فيه : « يجوز عندنا إزالة النجاسة بالمائع الطاهر غير الماء » (٥) ونقل عنه أيضا في المسائل الناصريّة (٦) جواز ذلك بكلّ مائع ، وعن المعتبر (٧) أنّه أضاف ذلك إلى مذهبنا ، وعن ابن أبي عقيل (٨) أيضا القول بجواز ذلك حال الضرورة خاصّة ، والمعتمد الأوّل للأصل المتقدّم ، حجّة المشهور امور :

منها : ورود الأمر بغسل الثوب والبدن بالماء في أخبار كثيرة ، وهو حقيقة في

__________________

(١) مفاتيح الشرائع ١ : ٤٧ ـ وفيه : « وعدم المعارض الناصّ ».

(٢) الوافي ٦ : ٣٢٥.

(٣) روض الجنان : ١٣٢.

(٤ و ٥) حكاه عنهما في المعتبر : ٢٠.

(٦) المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٤٨).

(٧) لم نجده في المعتبر ، ولكنّه موجود في المسائل المصريّة (الرسائل التسع ـ للمحقّق الحلّي ـ : ٢١٦ ـ ٢١٥)

(٨) حكاه عنه في المختلف ١ : ٢٢٢.


المطلق فيجب حمله عليه ، ولا ينافي ذلك إطلاق الأمر بالغسل في بعضها أيضا ، لأنّ المقيّد يحكم على المطلق كما هو مقرّر في الأصول.

واعترض عليه تارة : بأنّ الأوامر المذكورة مخصوصة بنجاسات معيّنة والمدّعى عامّ.

فأجاب عنه المحقّق ـ بما حكي عنه في بعض مسائله ـ : « من أنّه لا قائل هنا بالفرق » (١) واخرى بما عن الذخيرة : من أنّه كما يمكن الجمع بحمل المطلق على المقيّد ، كذا يمكن بالحمل على الاستحباب ، أو على ما هو الغالب من أنّه لا يستعمل في الإزالة غير الماء (٢).

والجواب عن الأوّل : مقرّر في الاصول.

وعن الثاني : بأنّ الغلبة المدّعاة إن اريد بها ما هو في جانب المطلق ، على معنى أنّ الأمر بمطلق الغسل ينصرف إليه بالماء لأنّه الغالب ، فهو تأييد لقول المشهور ، ودفع لما ورد على تمسّكهم بالأوامر المقيّدة من وجود الأوامر بالمطلق أيضا ، ورفع للحاجة إلى تجشّم حمل المطلق على المقيّد دفعا للمعارضة بينهما ، إذ مبنى هذا الكلام على منع المعارضة بينهما من طريق خر غير قاعدة الحمل.

فإن اريد بها ما هو في جانب القيد الوارد في المقيّد ، على معنى كون قيد « الماء » واردا مورد الغالب فلا يكون مفهومه حجّة.

ففيه : منع ابتناء قاعدة الحمل على أن يكون للقيد الوارد في الكلام مفهوم كما هو مقرّر في الاصول ، وإنّما هو مبتن على التنافي بين إطلاق المطلق وتقييد المقيّد ، وهو حيثما حصل كان من مقتضيات منطوق المقيّد وإن لم يكن له مفهوم ، حيث إنّ إطلاق المطلق يقتضي تخيير الوجوب ، والتقييد يقتضي تعيينه رأسا وهما متنافيان ، ومن هنا كان الحمل ممّا يقول به من لا يقول بالمفهوم رأسا.

ويمكن المناقشة في هذا الحمل بأنّ : من شرائطه المقرّرة في محلّه اتّحاد موجب الخطابين ، بأن يكون علّة الحكمين متّحدة ، وهذا الشرط ليس بمحرز في المقام ، حيث إنّ علّة الحكم في المقيّد النجاسة البوليّة ونحوها ، وهي في المطلق سائر النجاسات ، ولعلّه إلى هذا البيان يرجع ما تقدّم في الاعتراض الأوّل. فجوابه : حينئذ ما عرفت عن

__________________

(١) المسائل المصريّة (الرسائل التسع ـ للمحقّق الحلّي ـ : ٢١١).

(٢) ذخيرة المعاد : ١١٢.


المعتبر (١) ، ومرجعه على هذا البيان إلى منع انحصار الشرط في اتّحاد ذات الموجب ، بل هو أحد الأمرين من اتّحاد الذات واتّحاد الأثر وإن تعدّدت الذات ، ويعلم ذلك عند تعدّد ذات الموجب بقيام دليل من الخارج ، على أنّ هذه الموجبات متّحدة في الاقتضاء والأثر ، والمقام من هذا الباب ، والدليل الخارج هو عدم القول بالفرق بين أنواع النجاسات في اقتضاء الغسل بما يوجب زوالها ، إن ماء ففي الجميع وإن أعمّ منه ففي الجميع.

نعم ، إن كان المقام ولا بدّ من المناقشة فيه ، فالأولى أن يقال : إنّ من شروط قاعدة الحمل كون المطلق والمقيّد تكليفيّين إلزاميّين ، دون وضعيّين ، أو تكليفيّين غير إلزاميّين ، ولعلّه منتف في المقام ، لما هو المقرّر من أنّ الأوامر والنواهي الواردتين في نظائره يراد بها الإرشاد دون الطلب والإلزام ، فهي إرشاد ورد بصورة الطلب ، فتكون مساقها مساق القضايا الوضعيّة ، وهي في الحقيقة قضايا إخباريّة ، ومعه لا تنافي بين مطلقاتها ومقيّداتها ليوجب الاضطرار إلى الحمل.

فالأولى في طريق الاستدلال منع إطلاق الغسل بالقياس إلى ما يحصل منه بالمضاف ، بدعوى : كونه باعتبار اللغة والعرف حقيقة فيما يحصل بالماء ، كما هو مذكور في كلام جماعة من الأصحاب ، فحينئذ لا تنافي بين المطلقات والمقيّدات ، بل المقيّدات على ذلك معتبرة بالقياس إلى المطلقات من باب القرائن المؤكّدة ، بل لا تقييد حينئذ ولا إطلاق ، بل الكلّ مجتمعة على مدلول واحد ، غاية الأمر أنّ الدلالة في البعض من باب النصوصيّة وفي الباقي من باب الظهور لابتنائها فيه على إعمال أصالة الحقيقة كما لا يخفى.

ولعلّه إلى هذا المعنى يشير ما ورد في بعض المعتبرة كقوله : « ولا يجزي في البول غير الماء » (٢) وقوله : « كيف يطهّر من غير ماء » (٣) بناء على كون المراد أنّ الحكم معلّق على الغسل وهو لا يتأتّى بغير الماء ، وقوله : « كيف يطهّر من غير ماء »؟ مبالغة في إنكار تأتّيه بغير الماء ، وليس ذلك إلّا من جهة كمال البعد بين الغسل المعلّق عليه الحكم وما يحصل بغير الماء.

__________________

(١) والصواب : « ما عرفت عن المحقّق » ، لأنّ ما ذكره المحقّق رحمه‌الله من الجواب بقوله : « أنّه لا قائل هنا بالفرق » ليس موجودا في المعتبر ، بل يكون في المسائل المصريّة كما أشرنا إليه في محلّه.

(٢) الوسائل ١ : ٣١٦ ب ٩ من أبواب الخلوة ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٥٠ / ١٤٧.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٥٣ ب ٢٩ من أبواب النجاسات ، ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٧٣ / ٨٠٥.


ويؤيّده ما عن الصحيح عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام عن رجل أجنب في ثوب وليس معه غيره؟ قال : « يصلّي فيه إلى حين وجدان الماء » (١).

فإنّ قضيّة الجمع بين الجواب والسؤال أنّ الرجل كان في حالة الاضطرار لمجرّد انحصار ثوبه في ثوب الجنابة وعدم وجدانه الماء ، فلو أنّ الغسل أو إزالة الخبث يتأتّى بغير طريق استعمال الماء لم يكن هناك حالة اضطرار ، وليس في الرواية تعرّض لعدم وجدانه غير الماء من أنواع المضاف ، ولا أقلّ من الريق ، مع ما قيل من أنّ أهل الحجاز كان في بيوتهم الخلّ وماء الورد وأمثالهما ، أو كان هذه الأشياء موجودة في بلادهم مكّة والمدينة ونحوهما ، فكيف يفرض في حقّهم عدم التمكّن عن المضاف.

ومنها : قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٢) وقوله عليه‌السلام في حديث « كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة البول قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسّع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض ، وجعل لكم الماء طهورا » (٣) فإنّ قصر الحكم في مقام الامتنان يدلّ على انحصار المطهّر فيه ، وهذا موهون بما ذكرنا في المسألة السابقة فلاحظ بعين الدقّة.

ومنها : أنّ ملاقاة المائع للنجاسة يقتضي نجاسته ، والنجس لا يزال به النجاسة ، وهو كما ترى لا يتمّ على القول بطهارة الغسالة ، وعلى قول المرتضى (٤) بالفرق بين الورودين ، بل على قول الآخرين بنجاسة الغسالة أيضا ، كيف وهو منقوض على هذا القول باستعمال المطلق القليل في إزالة النجاسة ، فإنّه ينجّس بالملاقاة ومع هذا يفيد طهارة المحلّ.

وأمّا ما قيل في دفعه ـ كما عن المعتبر ـ : « من أنّ مقتضى الدليل التسوية بينهما ، لكن ترك العمل به في المطلق للإجماع ولضرورة الحاجة إلى الإزالة ، والضرورة تندفع بالمطلق ، ولا يسوّى غيره لما في ذلك من تكثير المخالفة للدليل » (٥).

ففيه : ما لا يخفى من الغفلة عن حقيقة المقصود بالنقض ، فإنّه عند التحقيق حلّ وردّ بصورة النقض.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٨٤ ب ٤٥ من أبواب النجاسات ح ١ ـ مع اختلاف يسير ـ التهذيب ١ : ٢٧١ / ٧٩٩.

(٢) الفرقان : ٤٨.

(٣) الوسائل ١ : ١٣٣ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٤.

(٤) المسائل الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٣٦) ـ وأيضا حكاه عنه في المعتبر : ٢٠.

(٥) المعتبر : ٢٠ ، نقلا بالمعنى.


وملخّصه : منع ما استحاله المستدلّ من إفادة المتنجّس طهر متنجّس غيره ، وسنده عدم المنافاة بين نجاسة المطهّر المكتسبة عن المتنجّس الّذي يطهّره وبين طهارة ذلك المتنجّس بهذا المطهّر ، كما كشف عنه الشرع في القليل المطلق المستعمل في إزالة النجاسة ، ومعه انهدم بنيان الاستدلال الّذي مبناه على الاستحالة العقليّة ، وإن لم يوجب بنفسه ثبوت مدّعى الخصم ، نظرا إلى أنّ الاحتمال مبطل لمثل هذا الاستدلال.

ومنها : أنّها طهارة تراد لأجل الصلاة ، فلا تجوز إلّا بالماء كطهارة الحدث ، بل اشتراط الماء هنا أولى ، لأنّ اشتراطه في النجاسة الحكميّة يعطي أولويّة اشتراطه في النجاسات الحقيقيّة.

وضعفه واضح ، وإن قال العلّامة في توجيهه : بأنّه استدلال بالاقتضاء ، فإنّ التنصيص على الأضعف يقتضي أولويّة ثبوت الحكم في الأقوى ، كما في دلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب ، لمنع كونه أقوى بعد ملاحظة أنّه يعتبر في النجاسة الحكميّة ما لا يعتبر في الحقيقيّة كالنيّة وغيرها من الشرائط المقرّرة في محالّها.

ومنها : أنّ منع الشرع في استصحاب الثوب النجس مثلا في الصلاة ثابت قبل غسله بالماء ، فيثبت بعد غسله بغير الماء أيضا بحكم الاستصحاب ، وهذا أمتن وإليه يرجع ما اعتمدنا عليه من الأصل ، وإن اعترض شارح الدروس : « بأنّ الاستصحاب إنّما يكون حجّة إذا كان دليل الحكم غير مقيّد بوقت دون وقت وليس المقام كذلك ، إذ العمدة في إثبات المنع المذكور بطريق العموم الإجماع ، وهو في منع استصحاب النجس قبل الغسل مطلقا ، لا قبل الغسل بالماء » (١) فإنّ هذا التشكيك مدفوع بما قرّر في الاصول.

وعن المرتضى الاحتجاج بوجوه :

الأوّل : الإجماع ، وضعفه بعد ملاحظة مصير المعظم إلى المخالفة واضح ، وأمّا نسبة ذلك إلى مذهبنا فعن المحقّق أنّه وجّهه : « بأنّ مذهبنا العمل بالبراءة الأصليّة ما لم يثبت الناقل ، وهنا لم يثبت » (٢) قيل : ولو لا هذا التوجيه لظنّنا موافقة بعض من تقدّم عليهما

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٦٠.

(٢) المسائل المصريّة (الرسائل التسع ـ للمحقّق الحلّي ـ ٢١٦) ، ... انظر كتاب طهارة للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٢٩٧.


لهما في هذه المسألة (١).

الثاني : قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٢) ، بتقريب : أنّه تعالى أمر بتطهير الثوب من دون استفصال بين الماء وغيره ، وعنه ـ على ما في المختلف ـ (٣) أنّه اعترض على نفسه بالمنع من تناول الطهارة للغسل بغير الماء.

فأجاب : بأنّ تطهير الثوب ليس بأكثر من إزالة النجاسة منه ، وقد زالت بغسله بغير الماء مشاهدة ، لأنّ الثوب لا يلحقه عبادة.

وأجاب عنه في المختلف : « بأنّ المراد ـ على ما ورد في التفسير ـ لا تلبسها على معصية ولا على غدر ، فإنّ الغادر [و] الفاجر يسمّى دنس الثياب.

سلّمنا : أنّ المراد الطهارة المتعارفة شرعا ، لكن لا دلالة فيه على أنّ الطهارة بأيّ شي‌ء تحصل ، بل دلالتها على [ما قلناه : من] أنّ الطهارة إنّما تحصل بالماء أولى ، إذ مع الغسل بالماء يحصل الامتثال قطعا ، وليس كذلك لو غسل بغيره.

وقوله : « النجاسة قد زالت حسّا » ، قلنا : لا يلزم من زوالها في الحسّ زوالها شرعا ، فإنّ الثوب لو يبس بلله بالماء النجس ، أو بالبول لم يطهر وإن زالت النجاسة عنه ، مع أنّه أجاب حين سئل « عن معنى نجس العين ونجس الحكم » بأنّ : الأعيان ليست بنجسة لأنّها عبارة عن جواهر مركّبة وهي متماثلة ، فلو نجس بعضها نجس سائرها ، وانتفى الفرق بين الخنزير وغيره ، وقد علم خلافه ، وإنّما التنجيس حكم شرعي.

ولا يقال : نجس العين إلّا على وجه المجاز دون الحقيقة ، وإذا كانت النجاسة حكما شرعيّا لم يزل عن المحلّ إلّا بحكم شرعي ، فحكمه رحمه‌الله بزوالها عن المحلّ لزوالها حسّا ممنوع » (٤) انتهى.

ولا يخفى لطف هذا الجواب خصوصا بعض وجوهه ، وهو منع دلالة الآية على أنّ الطهارة بأيّ شي‌ء تحصل ، فإنّ ذلك في كمال المتانة.

ووافقه على هذا الجواب المحقّق ـ فيما حكي عنه ـ (٥) من « منع دلالتها على ،

__________________

(١) والقائل هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٢٩٧.

(٢) المدّثّر : ٤.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٤.

(٤) المختلف ١ : ٢٢٥ ـ ٢٢٤.

(٥) الحاكي هو المحقّق الخوانساري رحمه‌الله في مشارق الشموس : ٢٦١.


موضع النزاع ، لأنّها دالّة على وجوب التطهير والبحث ليس فيه ، بل في كيفيّة الإزالة » (١) وملخّصه على ما رامه رحمه‌الله : أنّ مرجع الاستدلال بالآية إلى التمسّك بإطلاقها المتناول لما يحصل بالماء وما يحصل بغيره ، لمكان عدم الاستفصال ، وهو باطل لأنّ الآية ليست في صدد بيان كيفيّة التطهير وطريقه ليكون الإطلاق من هذه الجهة مناطا للحكم ، وإنّما هي في صدد تشريع أصل التطهير مع السكوت عن كيفيّته ، ومعه لا معنى للتمسّك بالإطلاق من هذه الجهة ، على ما هو الشرط المقرّر في التمسّك بالمطلقات من عدم ورودها مورد بيان حكم آخر.

والثالث : إطلاق الأمر بالغسل من النجاسة في عدّة أخبار من غير تقييد بالماء ، وقد اعترض على نفسه أيضا : « بأنّ إطلاق الأمر بالغسل ينصرف إلى ما يغسل به في العادة ، ولم يقض العادة بالغسل بغير الماء.

فأجاب : بمنع اختصاص الغسل بما يسمّى الغاسل به غاسلا عادة ، إذ لو كان كذلك لوجب المنع من غسل الثوب بماء الكبريت والنفط وغيرهما ممّا لم يجر العادة بالغسل به ، ولمّا جاز ذلك وإن لم يكن معتادا إجماعا علمنا عدم الاشتراط بالعادة ، وأنّ المراد بالغسل ما يتناوله اسمه حقيقة من غير اعتبار العادة » (٢) انتهى.

وجوابه بناء على ما قدّمناه في تتميم الاستدلال على المذهب المشهور واضح ، ومرجعه إلى منع إطلاق الغسل بالقياس إلى ما يحصل بغير الماء ، فإنّ اللفظ لا يعقل فيه إطلاق بالقياس إلى معنييه الحقيقي والمجازي.

وحكي هذا الجواب عن جماعة من الأصحاب منهم العلّامة في المنتهى (٣) ، والشهيد في الذكرى (٤) ، وإن كانوا في دعوى الحقيقة بين مطلق ومقيّد لها بالشرعيّة ، وعن المطلقين الاحتجاج بسبقه إلى الذهن عند الإطلاق ، كما يسبق عند إطلاق الأمر بالسقي فيما لو قال السيّد : « اسقني » حيث لا يتبادر منه إلّا السقي بالماء ، ولذا لو أتاه المأمور بمضاف كان معاقبا ، وليس ذلك إلّا من جهة كون الماء مأخوذا في مفهوم السقي.

وأمّا على طريقة من يقول بأنّ الغسل باعتبار مفهومه اللغوي وإن كان للأعمّ ولكنّه

__________________

(١) المسائل المصريّة (الرسائل التسع ـ للمحقّق الحلّى ـ ٢١٤).

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٥.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٢٦.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ٧٢.


لا ينصرف عند الإطلاق إلّا إلى أحد فرديه لكونه الغالب ، فيجاب عن النقض تارة : بالفرق بين الانصرافين ، واخرى : بأنّ شمول المطلق أو حكمه لبعض الأفراد النادرة لدليل لا يوجب التعدّي إلى غيره منها.

والرابع : أنّ الغرض من الطهارة إزالة عين النجاسة كما يشهد به ما رواه الفقيه في باب ما ينجّس الثوب والجسد في الصحيح عن حكم بن حكيم الصيرفي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أبول فلا اصيب الماء ، وقد أصاب يدي شي‌ء من البول ، فأمسحه بالحائط والتراب ، ثمّ يعرق يدي فأمسّ وجهي أو بعض جسدي ، أو يصيب ثوبي؟ قال : « لا بأس به » (١).

وما رواه التهذيب في زيادات باب تطهير الثياب عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عن عليّ عليه‌السلام « قال : لا بأس بأن يغسل الدم بالبصاق » (٢).

واجيب عنه ـ كما عن المعتبر ـ (٣) بما يرجع محصّله إلى أنّ : زوال النجاسة بالتراب ممّا لا يقول به الخصم ، وخبر غياث متروك لكون غياث بتريّا ضعيف الرواية فلا يعمل على ما ينفرد به ، أو محمول على جواز الاستعانة في غسله بالبصاق ، فإنّ جواز الغسل به لا يقتضي طهر المحلّ به منفردا ، والبحث فيه.

وكما في الرياض بأنّ : « دعوى التبعيّة مصادرة محضة (٤) ، والخبر مع ضعفه وعدم صراحته لا يقاوم ما قدّمناه ، وهو مع ذلك من طريق الآحاد والسيّد لا يعمل به ، وبه يجاب عن الحسن (٥) ، مع معارضته بما تقدّم من أنّه « لا يجزي في البول غير الماء » مع عدم وضوح الدلالة ، لاحتمال رجوع نفي البأس إلى نجاسة الممسوس لا إلى طهارة الماسّ بذلك ، [وذلك] بناء على عدم العلم بملاقاة المحلّ النجس له وإن حصل الظنّ به ، بناء على عدم اعتباره في أمثاله ، وفي الموثّق : « إذا بلت وتمسّحت فامسح ذكرك

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠١ ب ٦ من أبواب النجاسات ح ١ ـ الفقيه ١ : ٤٠ / ١٥٨.

(٢) التهذيب ١ : ٤٢٥ / ١٣٥٠ ـ الوسائل ١ : ٢٠٥ ب ٤ من أبواب الماء المضاف ح ٢.

(٣) المعتبر : ٢٠.

(٤) ولا يخفى أنّ هذه الفقرة لا يرتبط بالجواب عن الرواية المبحوث عنها ، بل هي جواب عن دليل آخر على المدّعى الّذي أورده في الرياض بقوله : « وتبعيّة النجاسة للعين ، فإذا زالت زالت ». فلاحظ وتأمّل.

(٥) المراد به رواية حكم بن حكيم الصيرفي الّذي عبّر عنها في الرياض بالحسن. لاحظ رياض المسائل ١ : ١٧٢.


بريقك ، فإن وجدت شيئا فقل هذا من ذاك » (١) (٢) انتهى.

ثمّ عن المحدّث الكاشاني في المفاتيح أنّه قال : « يشترط في الإزالة إطلاق الماء على المشهور خلافا للسيّد والمفيد فجوّزا بالمضاف ، بل جوّزا تطهير الأجسام الصيقليّة بالمسح بحيث يزول العين لزوال العلّة ، ولا يخلو من قوّة ، إذ غاية ما يستفاد من الشرع وجوب اجتناب أعيان النجاسات ، أمّا وجوب غسلها بالماء من كلّ جسم فلا ، فكلّ ما علم زوال النجاسة عنه قطعا حكم بتطهيره إلّا ما أخرج بدليل ، حيث اقتضى فيه اشتراط الماء كالثوب والبدن ، ومن هنا يظهر طهارة البواطن كلّها بزوال العين مضافا إلى نفي الحرج ، ويدلّ عليه الموثّق ، وكذا أعضاء الحيوان المتنجّسة غير الآدمي كما يستفاد [من الصحاح] » (٣) انتهى.

وظاهر هذا الكلام بل صريحه موافقة السيّد فيما نسب إليه من تطهير الأجسام الصيقليّة بالمسح على الوجه الّذي ذكره ، بل ظاهره موافقته في رفع الحدث بالمضاف لكن في غير الثوب والجسد ، ولا يخفى ما فيه من مخالفته لما علم من الشرع ضرورة ، ونطقت به الأخبار البالغة فوق الكثرة المتفرّقة في أبواب النجاسات والمطهّرات ، ولباس المصلّي وغيره ، وبالجملة المعلوم من الشرع خلاف ما ذكره جدّا.

ونعم ما قيل ـ في ردّه من معارضة الكلّيّة المدّعاة في كلامه ـ : بأنّ كلّ متنجّس يجب تطهيره بالماء إلّا ما خرج بالدليل ، ولا ريب أنّ هذه الكلّيّة أكثر أفرادا وأشمل أشخاصا من الكلّيّة الّتي ادّعاها ، بحيث لم يخرج سوى ما ذكره من الفردين ، وهما طهارة البواطن وطهارة أعضاء الحيوان بالغيبة.

وهل يصحّ من عالم كامل أو جاهل عاقل أن يدّعي قاعدة كلّيّة وضابطة مطّردة يكون خارجها أكثر بمراتب شي‌ء من داخلها ، بحيث لم يعلم لها داخل إلّا فردان أو ثلاثة أفراد ، وليس ذلك إلّا من سوء الحدس وقصور الملكة ».

المبحث الثالث : المعروف من مذهب الأصحاب المنقول فيه الإجماع في كلام غير واحد أنّ المضاف ينفعل بملاقاة النجاسة وإن كثر وبلغ في الكثرة ما بلغ مطلقا ، أو بشرط ورودها ، بناء على ما هو لازم كلام المفيد والسيّد من تجويز رفع الحدث به ، إلّا

__________________

(١) الفقيه ١ : ٦٩ / ١٦٠.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٧٢.

(٣) مفاتيح الشرائع ١ : ٧٧.


على المشهور المنصور من الجمع بين الانفعال والرفع على الوجه الّذي سبق بيانه في محلّه ، وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه.

والحجّة فيه بعد الإجماع الضروري فتوى وعملا ، بعض الأخبار الواردة في مواضع مخصوصة من المضافات ـ بل مطلق المائعات وإن كانت من قبيل الأدهان ، مع ضميمة الإجماع على عدم الفصل ـ مثل ما رواه التهذيب في باب الأطعمة والأشربة عن زكريّا ابن آدم قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قطرة خمر ، أو نبيذ مسكر ، قطرت في قدر فيه لحم [كثير] ومرق كثير؟ قال : « يهراق المرق ، أو يطعمه أهل الذمّة [أ] والكلاب ، واللحم اغسله وكله » (١).

وما رواه أيضا في الباب المذكور عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سئل عن قدر طبخت ، وإذا في القدر فأرة؟ قال : « يهراق مرقها ، ويغسل اللحم ، ويؤكل » (٢).

وما رواه أيضا عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت ، فإن كان جامدا فألقها وما يليها ، وكل ما بقي ، وإن كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك » (٣).

فما في شرح [الدروس] من المناقشة في الخبر الأخير من : « أنّه ليس ممّا نحن فيه ، إذا المضاف في اصطلاحهم لا يشمل الدهن والزيت » (٤) ، ليس على ما ينبغي القاعدة المستفادة من الشرع بملاحظة بناء المتشرّعة والأخبار المتفرّقة في الأبواب الفقهيّة ، من أنّ كلّ مائع ـ بل كلّ جامد رطب ـ قابل للانفعال بملاقاة النجاسة ، وأنّ كلّ نجس معدّ لتنجيس ملاقيه برطوبة ، عدا ما خرج بالدليل.

ولنذكر نبذة من الأخبار الّتي يستفاد منها تلك الكلّيّة وهي كثيرة جدّا.

منها : ما رواه في الوسائل عن عليّ بن جعفر في كتابه ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكون له الثوب قد أصابه الجنابة ، فلم يغسله هل

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٧٠ ب ٣٨ من أبواب النجاسات ح ٨ ـ التهذيب ١ : ٢٧٩ / ٨٢٠.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ٢٠٥ ب ٥ من أبواب الماء المضاف ح ٣ و ١ ـ التهذيب ٩ : ٨٦ و ٨٥ / ٣٦٥ و ٣٦٠.

(٤) مشارق الشموس : ٢٥٧.


يصلح النوم فيه؟ قال : « يكره ».

قال : وسألته عن الرجل يعرق في الثوب يعلم أنّ فيه جنابة كيف يصنع؟ هل يصلح له أن يصلّي قبل أن يغسل؟ قال : « إذا علم أنّه إذا عرق أصاب جسده من ذلك الجنابة الّتي في الثوب فليغسل ما أصاب جسده من ذلك ، وإن علم أنّه قد أصاب جسده ولم يعرف مكانه فليغسل جسده كلّه » (١).

ومنها : ما رواه أيضا عن الخصال عن عليّ بن إبراهيم في حديث الأربعمائة ، قال :

« تنزّهوا عن قرب الكلاب ، فمن أصاب الكلب وهو رطب فليغسله ، وإن كان جافّا فلينضح ثوبه بالماء » (٢).

وفي معناه ما رواه أيضا عن الشيخ عن حريز عن الفضل أبي العبّاس قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إن أصاب ثوبك من الكلب رطوبة فاغسله ، وإن مسّه جافّا فاصبب عليه الماء » ، قلت : لم صار بهذه المنزلة؟ قال : « لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بغسلها » (٣).

ومنها : ما رواه أيضا عن الكافي عن محمّد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام : عن نية أهل الذمّة والمجوس؟ فقال : « لا تأكلوا من نيتهم ، ولا من طعامهم الّذي يطبخون ، ولا في نيتهم الّتي يشربون فيها الخمر » (٤) وفي هذا دلالة على ما هو من محلّ البحث بالخصوص كما لا يخفى.

وفي معناه ما رواه أيضا عنه عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم رجل مجوسي ، أيدعونه إلى طعامهم؟ فقال : « أمّا أنا فلا أؤاكل المجوسي » الحديث (٥).

ومنها : الأخبار الآمرة لمن صافح الكافر بغسل يده (٦) ، والناهية عن مؤاكلته (٧) ، والدالّة على نجاسة سؤره (٨) ، الشاملة بعمومها لما هو من أفراد المبحث ، وهي كثيرة كما

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٤ ب ٧ من أبواب النجاسات ح ٩ و ١٠ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٥٩ / ٢٣٧.

(٢) الوسائل ٣ : ٤١٧ ب ١٢ من أبواب النجاسات ح ١١ ـ الخصال : ٦٢٦.

(٣) الوسائل ٣ : ٤١٤ ب ١٢ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٥٩.

(٤) الوسائل ٣ : ٥١٧ ب ٧٢ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ الكافي ٦ : ٢٦٤ / ٥.

(٥) الوسائل ٣ : ٤١٩ ب ١٤ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ الكافي ٦ : ٢٦٣ / ٤.

(٦ و ٧ و ٨) راجع الوسائل ٣ : ٤١٩ أحاديث ب ١٤ من أبواب النجاسات.


لا يخفى على المتتبّع.

ومنها : ما رواه أيضا عن الشيخ عن العيص بن القاسم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء ، فمسح ذكره بحجر ، وقد عرق ذكره وفخذه؟ قال : « يغسل ذكره وفخذيه » (١).

ومنها : ما رواه الشيخ في الموثّق عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن الشمس هل تطهّر الأرض؟ قال : « إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ، ثمّ يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة ، وإن أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطبا فلا يجوز الصلاة عليه حتّى ييبس ، وإن كان رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصلّ على ذلك الموضع ، وإن كان غير الشمس أصابه حتّى يبس فانّه لا يجوز ذلك » (٢).

ومنها : ما في الكافي عن عمّار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الدنّ يكون فيه الخمر ، هل يصلح أن يكون فيه الخلّ أو كامخ أو زيتون؟ قال : « إذا غسل فلا بأس » الحديث ، وفيه أيضا دلالة على ما هو من أفراد المسألة كما لا يخفى.

ومنها : الأخبار الكثيرة المتقدّمة في بحث القليل.

وبالجملة : المستفاد من تلك الأخبار وغيرها بعنوان القطع أنّ الرطوبة حيثما توسّطت فيما بين نجس أو متنجّس وطاهر أثّرت في تنجّس ذلك الطاهر بملاقاته النجس أو المتنجّس ، فهذا أصل كلّي لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، ولا يفرّق فيه بين النجس والمتنجّس ، كما يعلم بملاحظة بعض الأخبار المذكورة.

فما عن بعض المتأخّرين (٣) من التشكيك في تنجّس الشي‌ء بملاقاة المتنجّس الّذي ليس معه نجاسة عينيّة ، بل تقويته العدم استظهارا له من بعض الأخبار ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه للقطع بفساده.

فما عن المحدّث الكاشاني في جملة كلام له في الوافي ونحوه في المفاتيح قائلا :

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٥٠ ب ٣١ من أبواب أحكام الخلوة ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٣.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٥٢ ب ٢٩ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ التهذيب ٢ : ٣٧٢ / ١٥٤٨.

(٣) هو المحدّث الكاشاني في مفاتيح الشرائع ١ : ٧٥.


« لا يخفى على من فكّ رقبته عن ربقة التقليد أنّ هذه الأخبار وما يجري مجراها صريحة في عدم تعدّي النجاسة من المتنجّس إلى شي‌ء قبل تطهيره وإن كان رطبا إذا ازيل عنه عين النجاسة بالتمسّح ونحوه ، وإنّما المنجّس للشي‌ء عين النجاسة لا غير ، على أنّا لا نحتاج إلى دليل في ذلك ، فإنّ عدم الدليل على وجوب الغسل دليل على عدم الوجوب ، إذ لا تكليف إلّا بعد البيان » (١) مقطوع بفساده.

وقد يستدلّ على هذا الأصل بقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٢) ، ويؤيّد ذلك بفهم الغنية (٣) حيث استدلّ به على انفعال القليل بملاقاة النجاسة ، وقد تقدّم منّا ما يخدشه في صدر الباب.

وقد يستدلّ أيضا (٤) بما دلّ على وجوب الاجتناب عن النجاسات ، بتوهّم : أنّه يستفاد منه وجوب الاجتناب عمّا يلاقيها ، ويجعل من أجل هذه الاستفادة عدّ الإمام عليه‌السلام من ارتكب الطعام الملاقي للميتة مخالفة للشارع في تحريمه لها ، كما نطق به خبر جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أتاه رجل فقال له : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت ، فما ترى في أكله؟ قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « لا تأكله » ، فقال له الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها ، قال : فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « إنّك لم تستخفّ بالفأرة ، وإنّما استخففت بدينك ، أنّ الله حرّم الميتة من كلّ شي‌ء » (٥).

فإنّ أكل الطعام المذكور لا يكون استخفافا لحكم الشارع بحرمة الميتة ، يعني نجاستها إلّا من جهة ما هو المركوز في الأذهان من استلزام نجاسة الشي‌ء لنجاسة ما يلاقيه.

وفيه : نوع تأمّل ، والعمدة أصل القاعدة وهي ثابتة جدّا لوضوح مدركها للمتتبّع ، ويستفاد من كلام الفقهاء أيضا تسالمهم عليها ، وإليها يرجع استدلال المعتبر ـ على ما حكي عنه ـ على نجاسة المضاف وإن كثر بالملاقاة : « بأنّ المائع قابل للنجاسة ، والنجاسة موجبة لنجاسة ما لاقته ، فيظهر حكمها عند الملاقاة ، ثمّ تسري النجاسة بممازجة المائع بعضه بعضا » (٦).

__________________

(١) الوافي ٤ : ١٥٠ ـ لاحظ مفاتيح الشرائع ١ : ٧٥.

(٢) المدّثر : ٥.

(٣) غنية النزوع ١ : ٤٢.

(٤) المستدلّ هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٢٩٩.

(٥) الوسائل ١ : ٢٠٦ ب ٥ من أبواب الماء المضاف ، ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤٢٠ / ١٣٢٧.

(٦) المعتبر : ٢١.


واستحسنه في المدارك (١) ، فما في كلام شارح الدروس من المناقشة فيه : « بعدم دليل عامّ يدلّ على نجاسة جميع المائعات بملاقاة النجاسة أو المتنجّس بأيّ نحو كان » (٢) ليس على ما ينبغي بعد استفادة عموم القاعدة من الأخبار الجزئيّة الواردة في موارد مخصوصة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ الحكم المستفاد من تلك القاعدة بالقياس إلى محلّ البحث مخصوص بما عدا الأجزاء العالية فيما اختلفت سطوحه ، بناء على أصالة عدم سراية النجاسة من السافل إلى العالي على الوجه الّذي قدّمناه مفصّلا في مستثنيات انفعال القليل ، من غير فرق فيه بين المطلق والمضاف كما تقدّم ذكره ، وفاقا لبعض مشايخنا المحقّقين (٣) ، وممّن صرّح به هنا بالخصوص صاحب المدارك مدّعيا فيه القطع ، حيث إنّه بعد ما استحسن الدليل المتقدّم على الانفعال قال : « ولا تسري النجاسة مع اختلاف السطوح إلى الأعلى قطعا ، تمسّكا بمقتضى الأصل السالم من المعارض » (٤) انتهى.

ولا ريب أنّ دعوى القطع لا تقصر عن دعوى الإجماع ، وإن كان الجمع بينهما وبين التمسّك بالأصل لها ممّا لا يكاد يمكن ، غير أنّه قدس‌سره أعلم بحقيقة ما ادّعاه ، وقد تقدّم في البحث المذكور عن الشهيد في روض الجنان (٥) وعن غيره دعوى عدم معقوليّة السراية ، فإنّها وإن كانت لا تخلو عن إشكال كما تقدّم وجهه ، لكنّه في قوّة نقل الإجماع الكاشف عن عدم وجدانهم الخلاف في المسألة ، الكاشف عن عدم وجوده.

وقد يوجّه : بأنّ مرادهم عدم تعقّل المتشرّعة له وعدم دخوله في أذهانهم لا عدم المعقوليّة المصطلح عليه عند أهل المعقول ، فإنّ عدم السراية إلى الأعلى في مطلق المائعات من الامور المركوزة في أذهان المتشرّعة ، الكاشفة عن بناء الشارع عليه واعتقاده به.

وبالجملة : لم نقف على مخالف في ذلك عدا السيّد الجليل في مناهله (٦) ـ فيما

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١١٤.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٧.

(٣) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٠٠.

(٤) مدارك الأحكام : ١١٤.

(٥) روض الجنان : ١٣٦.

(٦) المناهل ـ كتاب الطهارة الورقة : ٢١٨ (مخطوط) حيث قال : « وبالجملة : لا إشكال في أنّ تلك الإجماعات تقتضي نجاسة جميع أجزاء المضاف من غير فرق بين الأجزاء الّتي هي تحت الجزء المتّصل بالنجس والّتي فوقه والّتي تساويه من الأطراف ... الخ ».


حكي عنه ـ (١) من إنكار ذلك في خصوص المضاف ، تمسّكا بشمول إطلاق فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم على انفعال المضاف بالملاقاة لما إذا كان المضاف عاليا.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ إطلاق الفتاوى يقيّد بما ذكر ، على قياس ما هو الحال في انفعال القليل من المطلق ، وإلّا فالفتاوى ونقل الإجماعات وأخبار الأئمّة عليهم‌السلام في ذلك أيضا مطلقة تشمل بإطلاقها لما إذا كان المطلق عاليا ، ومع ذلك فلا كلام لأحد بالنسبة إليه في عدم سراية النجاسة إلى الأعلى بالشروط المتقدّمة ، هذا كلّه ولكنّ الاحتياط ممّا يحسن مراعاته هنا جدّا.

المبحث الرابع : لا خلاف بين الأصحاب في طهر المضاف المتنجّس بصيرورته مطلقا بسبب اختلاطه بما زاد على الكثير من المياه المطلقة ، بل بكلّ ماء معتصم وإن كان جاريا أو ماء مطر ، بناء على أنّ ذكر « الكثير » في عباراتهم إنّما ورد من باب المثال ، أو من جهة غلبة استعماله في التطهير ، لا من باب قصر الحكم عليه.

والدليل على ذلك : ما تقدّم في تطهير المطلق المتنجّس من الإجماع على الملازمة الّتي يعبّر عنها بامتناع اختلاف ماء واحد في سطح واحد في الحكم ، بكون بعضه محكوما عليه بالطهارة والبعض الآخر محكوما عليه بالنجاسة ، على ما هو المفروض من أنّهما باختلاطهما وامتزاجهما صارا ماء واحدا ووقع عليهما إشارة واحدة ، مع انضمام ما دلّ على عدم انفعال الماء المعتصم بملاقاة النجاسة.

فحينئذ يقال : إنّ هذا الماء لا بدّ أن يكون له حكم واحد من طهارة الجميع أو نجاسة الجميع بحكم الملازمة المجمع عليها ، ولا سبيل إلى الحكم بنجاسة الجميع بحكم أدلّة عدم انفعال المعتصم بما لاقاه من نجس أو متنجّس ، فتعيّن طهارة الجميع إذ لا واسطة بعد (٢).

وإلى هذه الحجّة أشار العلّامة في المنتهى قائلا : « والطريق إلى تطهيره حينئذ إلقاء كرّ فما زاد عليه من الماء المطلق ، لأنّ بلوغ الكرّيّة سبب لعدم الانفعال عن الملاقي ، وقد مازجه المضاف فاستهلكه ، فلم يكون مؤثّرا في تنجيسه لوجود السبب ، ولا يمكن الإشارة إلى عين نجسة فوجب الجزم بطهارة الجميع » (٣).

__________________

(١) الحاكي هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٣٠١.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٢٧.


وقد يستدلّ بوجهين آخرين :

أحدهما : الأدلّة الدالّة على عدم انفعال الكثير بوقوع الأبوال النجسة والدم والعذرة ونحوها ، إذ من المعلوم أنّ هذه النجاسات توجب إضافة أجزاء من الماء مجاورة لها ولو يسيرة ، بل اختلاطها بالماء يوجب صيرورة أنفسها مضافة في أوّل الاختلاط ، فحكم الشارع بطهارة الجميع لا يكون إلّا بالاستهلاك.

وفيه : تأمّل واضح ، من حيث إنّ حكم الشارع بطهارة الجميع ممّا لا يستفاد من تلك الأدلّة ولا دلالة فيها عليه بشي‌ء ، بل غايتها الدلالة على بقاء الماء بعد وقوع هذه الأشياء على طهارته الأصليّة وعدم زوال الطهارة ، وهو كما ترى يجامع بقاء ما وقع فيه من هذه الأشياء على حكمها الأصلي من النجاسة ولو في علم الله سبحانه على فرض الاستهلاك ، بناء على أنّه ليس عبارة عن الانعدام بالمرّة ، بل عن تلاشي الأجزاء وشيوعها في أجزاء الماء على وجه امتنع على الحسّ إدراكها ، فلا قاضي إذا بطهر هذه الأجزاء وزوال صفة النجاسة عنها ، ولو انضمّ إلى تلك الأدلّة مقدّمة امتناع اختلاف الماء الواحد في الحكم رجع الدليل إلى الوجه الأوّل ، فلا تغاير بينهما ليكون دليلا ثانيا كما هو مقصود المستدلّ.

وثانيهما : أنّ المضاف المتنجّس يصير ماء مطلقا ، فيطهّر بامتزاجه بالكثير إجماعا ، كما تقدّم في تطهير القليل.

وفيه : أنّ صيرورته ماء مطلقا لم تكن جزما إلّا بالامتزاج ، وعبارة الدليل تستدعي اعتبار امتزاج خر غير هذا الامتزاج الموجب للإطلاق ، على وجه يتحقّق هنا امتزاجان ، أحدهما ما هو موجب للإطلاق ، والآخر ما هو موجب للطهر ، ليكون طهره من باب طهر الماء القليل ومندرجا في دليله.

فإن اريد بما ذكر ما هو ظاهر العبارة ، ففيه أوّلا : أنّ ثاني الامتزاجين بعد تحقّق الامتزاج الأوّل محال ، إذ الامتزاج وصف يحصل في الشيئين ، مسبوق بالامتياز بينهما ، رافع لذلك الامتزاج (١) ، والمفروض أنّ الكثير مع المضاف المتنجّس بالامتزاج الأوّل صارا ماء واحدا ، فلا امتياز بينهما بعد ليلحقه امتزاج رافع له.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : « الامتياز » بدل « الامتزاج » نظرا إلى السياق. ولعلّه سهو منه رحمه‌الله والله العالم.


وثانيا : أنّ اعتبار الامتزاج الثاني على فرض تحقّقه يشبه بكونه خلاف الإجماع ، لتطابق عباراتهم بعد البناء على اشتراط الامتزاج في التطهير على كفاية الامتزاج الأوّل الموجب للإطلاق.

وإن اريد به خلاف ظاهر العبارة ، وهو الاكتفاء بالامتزاج الأوّل كما هو مقتضى كلام الأصحاب.

ففيه : أنّ دعوى الطهر بذلك لا تتمّ إلّا بعد إحراز المقدّمة المذكورة في الوجه الأوّل المجمع عليها ، ومعه يرجع الكلام أيضا إلى الوجه الأوّل ، فلم يتحقّق هنا دليل خر كما لا يخفى.

ودعوى : كون ذلك تطهيرا للماء بعينه ، فيكون مشمولا لدليله من حيث إنّه دليله ، ممّا يكذّبه الوجدان ، بل هو تطهير من باب تطهير المطلق لجريان دليله فيه ، لا تطهير المطلق بعينه ، والفرق بين المعنيين واضح للمتأمّل ، وكيف كان فلا خلاف عندهم في كون ما ذكر مطهّرا للمضاف المتنجّس ، لكنّهم اختلفوا في جهات اخر.

إحداها : اعتبار الزيادة على الكرّ في مطهّر المضاف وعدمه ، والقائل بالاعتبار الشيخ في المبسوط على ما هو ظاهر عبارته المحكيّة : « ولا طريق إلى تطهيرها بحال إلّا أن يختلط بما زاد على الكرّ من المياه الطاهرة المطلقة » (١) كما في كلام شارح الدروس (٢).

أو « والمضاف إذا وقعت فيه نجاسة نجس قليلا كان أو كثيرا على ما قدّمناه ولا يطهر إلّا بأن يختلط بما زاد على الكثير (٣) من المطلق » على ما في مختلف العلّامة (٤).

أو « أنّه ـ يعني المضاف ـ لا يطهّر إلّا بأن يختلط بما زاد عن الكرّ الطاهر المطلق » على ما في كلام بعض مشايخنا العظام (٥).

وكيف كان فظاهر هذه العبارات المحكيّة عن الشيخ اشتراط الزيادة على الكرّ ، واتّفق الآخرون على خلافه ، وإن احتمل موافقة المعتبر (٦) له حيث إنّه تصدّى لنقل قوله ولم يتعرّض لردّه.

__________________

(١) المبسوط ١ : ٥.

(٢) مشارق الشموس : ٢٥٧.

(٣) وفي مختلف الشيعة : « الكرّ » بدل « الكثير ».

(٤) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٠.

(٥) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٠٥.

(٦) المعتبر : ٢١.


وممّن صرّح بمخالفته العلّامة في المختلف ، حيث إنّه بعد ما نقل كلامه المشتمل على فقرة اخرى تأتي بيانها قال : « والحقّ عندي خلاف ما قاله الشيخ رحمه‌الله في موضعين ، أحدهما : أنّا لا نشترط امتزاجه بما زاد على الكرّ ، بل لو مزج بالكرّ وبقي الإطلاق جاز استعماله » انتهى.

وربّما يحمل كلام الشيخ إلى كونه واردا على جهة التساهل لا على جهة الاشتراط.

أقول : ويمكن تنزيل عبارته إلى إرادة ما يراد بقولهم : « يطهّر بإلقاء كرّ فما زاد » كما سبق نظيره في عبارة المنتهى ، وعلى تقدير كون المراد ظاهر العبارة على وجه ينشأ منه الخلاف في المسألة فلا وجه له يعتدّ به ، إلّا ما قيل : من أنّ قدر الكرّ لا ينفكّ غالبا عن تغيّر أحد أوصاف جزء ما منه ، ومعه ينتقض عن الكرّيّة فينجّس البتّة ، فلا بدّ من الزيادة عليه.

وفيه أوّلا : النقض بكثير من أفراد الزائد على الكرّ أيضا كما لا يخفى ، إلّا أن يكون المراد بالزيادة زيادة ما يبقى بعد تغيّره من كرّ غير متغيّر.

وثانيا : كونه في الحقيقة اجتهادا في مقابلة النصّ ، لأنّ اعتبار الزيادة بالوجه المذكور هنا يستدعي اعتبارها في مسألة عدم انفعال الكثير بملاقاة النجاسات الّتي منها البول المغيّر والدم والعذرة ، إذ الفرق بين المسألتين تحكّم بحت ، والالتزام بالاعتبار فيهما تقييد للأدلّة القاضية بعدم الانفعال.

إلّا أن يقال : بأنّ التزام التقييد ممّا لا محيص عنه ، عملا بموجب ما دلّ بعمومه على نجاسة الماء بالتغيّر قليلا كثيرا أو جزء كثير ، بناء على ما قدّمنا تحقيقه من الإجماع على تحكيم أدلّة التغيّر على أدلّة الكثير ، وإن كان بينهما عموم من وجه.

وعليه نحن نفرّق بين المسألتين باعتبار الزيادة بالقدر المذكور ثمّة دون المقام ، والفارق ما قدّمنا في بحث التغيّر من أنّه إنّما يوجب التنجّس إذا حصل من عين النجاسة دون المتنجّس منها ، والتغيّر المفروض في المقام مستند إلى المضاف وهو ليس بعين النجس.

ثمّ يرد على الشيخ ـ مع هذا ـ : أنّ هذا الشرط على فرض اعتباره ليس أمرا وراء ما يعتبره في مطهّر المضاف من بقائه على إطلاقه وعدم تغيّر أوصافه من الطعم واللون والرائحة على ما سيجي‌ء من الخلاف فيه ، بناء على ما اشتهر في كلامهم من أنّ الشيخ يعتبر هنا امورا ثلاث : الزيادة على الكرّيّة ، وبقاء الإطلاق ، وعدم التغيّر ، إلّا أن يحكم


بخطئهم في تلك النسبة ، بدعوى : أنّ الشيخ قائل باعتبار أمرين يعبّر عن أحدهما بعبارتين متلازمتين ، وقضيّة ذلك أن يكون للشيخ موافق في اعتبار الزيادة وإن لم يصرّح بها في عبائرهم ، نظرا إلى ما سيأتي في الجهة الثانية من مصير جماعة إلى اعتبار عدم التغيّر.

وثانيتها : اعتبار بقاء المطهّر بعد الاختلاط على إطلاقه ، وعدم سلبه المضاف الإطلاق وعدمه ، وأوّل من علم منه القول بالاعتبار الشيخ حيث أنّه بعد العبارة المتقدّمة عنه في المختلف قال : « ثمّ ينظر فإن سلبه إطلاق اسم الماء لم يجز استعماله بحال ، وإن لم يسلبه إطلاق اسم الماء وغيّر أحد أوصافه إمّا لونه أو طعمه أو رائحته لم يجز استعماله بحال » (١) ثمّ تبعه بعده المحقّق في المعتبر (٢) ، والعلّامة في التحرير (٣) ، والنهاية (٤) ، والتذكرة (٥) ـ على ما حكي ـ وهو ظاهره في المختلف (٦) ، حيث إنّه في ردّ قول الشيخ لم يتعرّض إلّا لنفي اعتبار الزيادة على الكرّيّة واعتبار عدم التغيّر في الأوصاف الثلاث ، وحكي اختيار هذا القول عن المحقّق والشهيد الثانيين (٧) ، وعليه الشهيد في الدروس (٨) ، ومحكي الذكرى (٩) ، وعبارته في الدروس : « ويطهّر بصيرورته مطلقا ، وقيل : باختلاطه بالكثير وإن بقى الاسم » (١٠).

والعبارة المحكيّة عن المعتبر ما قال : « لو كان المائع الواقع في الماء نجسا ، فإن غلب أحد أوصاف المطلق كان نجسا ، ولو لم يغلب أحد أوصافه وكان الماء كرّا فإن استهلكه الماء صار بحكم المطلق وجاز استعمالها أجمع ، ولو كانت النجاسة جامدة جاز استعمال الماء حتّى ينقص عن الكرّ ، ثمّ ينجّس الماء بما فيه من عين النجاسة » (١١).

وهذه العبارة وإن لم يصرّح فيها باشتراط بقاء الإطلاق ولكن اشتراط عدم التغيّر يقضي باشتراط بقاء الإطلاق بطريق أولى كما لا يخفى ، مضافا إلى مفهوم قوله : « فإن

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٠ ـ راجع المبسوط ١ : ٥.

(٢) المعتبر : ٢١.

(٣) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٤) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٧.

(٥) تذكرة الفقهاء ١ : ٣٣.

(٦) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٠.

(٧) كما في جامع المقاصد ١ : ١٣٦ ؛ والروضة البهيّة ١ : ٤٥.

(٨ و ١٠) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٩) ذكرى الشيعة ١ : ٧٤.

(١١) المعتبر : ١١.


استهلكه الماء ».

والعبارة المحكيّة عن التحرير ما قال : « ويطهّر بإلقاء كرّ عليه فما زاد عليه دفعة بشرط أن لا يسلبه الإطلاق ولا يغيّر أحد أوصافه » (١).

وأمّا النهاية والتذكرة فلم نقف على عبارتهما (٢).

والمخالف في المسألة العلّامة في المنتهى والقواعد (٣) ، لمصيره فيهما إلى تطهيره باختلاطه بالكثير وإن تغيّر أحد أوصاف المطلق ، بل وإن سلب عنها الإطلاق ، لكن في الصورة الثانية يزول عنه حكم الطهوريّة لا الطهارة ، ويصير في حكم المضاف فينجّس بملاقاة النجاسة ، وعبارته المؤدّية في المنتهى لهذا المعنى قوله : « لو سلبه المضاف إطلاق الاسم ، فالأقوى حصول الطهارة وارتفاع الطهوريّة » (٤) ولم نقف على عبارة القواعد (٥).

ثمّ لا يذهب عليك أنّ قول الشيخ باشتراط بقاء الكثير على إطلاقه مع اختلاطه بالمضاف المتنجّس يستلزم اشتراط زوال الإضافة عن المضاف ، ضرورة أنّ البقاء على الإطلاق مع امتزاج المضاف على وجه صارا واحدا لا يتأتّى إلّا مع زوال الإضافة عنه. فما في كلام شارح الدروس من قوله : « واعلم : أنّه لم يفهم من كلام المبسوط أنّه إذا لم يتغيّر أحد أوصاف المطلق لكن بقى المضاف ممتازا ، ولم يسلب عنه الإضافة زالت أوصافه أو لا ، فما حكمه » (٦).

ليس على ما ينبغي بل الاستلزام المذكور ثابت على القول باشتراط بقاء الإطلاق وعدم اشتراط عدم التغيّر بغير ما ذكر.

__________________

(١) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٢) وأمّا عبارة التذكرة فهكذا : « وطريق تطهيره إلقاء كرّ عليه إن لم يسلبه الإطلاق ، فإن سلبه فكرّ آخر وهكذا ، ولو لم يسلبه لكن غيّر أحد أوصافه فالأقوى الطهارة خلافا للشيخ » ، تذكرة الفقهاء ١ : ٣٣ ؛ وأمّا ما في النهاية فقوله : « ولو مزج المضاف النجس بالمطلق فسلبه إطلاق الاسم ، خرج عن كونه مطهّرا ... » نهاية الإحكام ١ : ٢٣٧.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٢٨ ـ قواعد الأحكام ١ : ١٧٩.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٢٨.

(٥) وفي القواعد : « و ـ يطهر ـ المضاف بإلقاء كرّ دفعة وإن بقي التغيّر ما لم يسلبه الإطلاق فيخرج عن الطهوريّة » قواعد الأحكام ١ : ١٧٩.

(٦) مشارق الشموس : ٢٥٨.


فلا وجه لقوله أيضا : « وكذا لم يعلم على القول الثالث أنّ حكمه مع الامتياز وعدم سلب الإضافة ما ذا؟ » (١).

فإنّ حكم ذلك يعلم من اعتبارهم الاختلاط في التطهير كما لا يخفى ، ومراده بالقول الثالث حسبما ذكره هو ما ذكرناه.

حجّة القول باشتراط بقاء الإطلاق ـ على ما قرّر ـ : أنّ المضاف يتوقّف طهره على شيوعه في المطلق بحيث يستهلك ، وهذا لا يتمّ بدون بقاء المطلق على إطلاقه ، وإذا لم يحصل الطهارة للمضاف وصار المطلق بخروجه عن الاسم قابلا للانفعال فلا جرم ينجّس الجميع.

ومقتضى هذه الحجّة أنّ هذا الشرط من فروع اشتراط الاختلاط والامتزاج ، بمعنى شيوع الأجزاء في الأجزاء على وجه زالت الامتياز بينهما ، وهو كما ترى ، فإنّ ظاهرهم التسالم في اشتراط الاختلاط بهذا المعنى ، والّذي يختلفون فيه أمر زائد عليه.

ولو سلّم اختلافهم في اشتراط الاختلاط أيضا كما يومئ إليه تعبير العلّامة في المنتهى بقوله : « والطريق في تطهيره إلقاء كرّ فما زاد عليه » (٢) وتعبير الشيخ بأنّه : « لا يطهّر إلّا بأن يختلط بما زاد على الكثير » (٣) فهو أمر خر لا ربط له بمسألة بقاء المطلق على إطلاقه ، إذ قد يحصل الشيوع بينهما على الوجه المذكور مع خروج المطلق عن إطلاقه ، وإن خرج المضاف أيضا عن اسمه الأوّل ، كما لو كان الخليط خلًّا حادّا في غاية الحدّة ، أو ماء ممزوجا بالدبس ، وكان بعد الامتزاج حلوا في غاية الحلاوة ، وذلك واضح ، ويتّضح غاية الاتّضاح فيما لو كان الخليط كثيرا في غاية الكثرة ، فعبارة الحجّة حينئذ إمّا مسامحة في التعبير أو اشتباه عن سوء الفهم.

والمنقول من حجّة المنتهى والقواعد : أنّ بلوغ الكرّيّة سبب لعدم الانفعال من دون التغيّر بالنجاسة ، فلا يؤثّر المضاف في تنجّسه باستهلاكه إيّاه ، لقيام السبب المانع ، وليس

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٨.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٢٧.

(٣) كذا في الأصل ، ولا يخفى عدم مطابقته مع ما في المبسوط ، وإليك نصّه : « ولا طريق إلى تطهيرها بحال إلّا أن يختلط بما زاد على الكرّ من المياه الطاهرة المطلقة ... الخ » المبسوط ١ : ٥.


ثمّة عين نجسة مشار إليها يقتضي التنجيس.

ولا يخفى ما فيه أيضا من الاشتباه الواضح ، لأنّ عبارة المنتهى خالية عن الاحتجاج على نفي شرطيّة البقاء على الإطلاق ، وإنّما هي فتوى بلا دليل ، وما ذكر من الحجّة شي‌ء قرّره العلّامة على ما ادّعاه من حصول المطهّر بإلقاء كرّ فما زاد ، وليس كلامه في تقريره صريحا ولا ظاهرا في فرض استهلاك المطلق في جنب المضاف ، بل سوق الدليل يقتضي انعكاس الفرض كما لا يخفى على من يراجع كلامه وتأمّل في عبارته المتقدّمة.

وكيف كان ، فاجيب عن التقرير المذكور : بأنّ بلوغ الكرّيّة وصف للماء المطلق ، فإنّما يكون سببا لعدم الانفعال مع وجود موصوفه ، ومع صيرورته مستهلكا يخرج عن الاسم ، فيزول الوصف الّذي هو السبب لعدم الانفعال ، فينفعل حينئذ ولو بالمتنجّس.

واعترض عليه بوجهين :

أحدهما : أنّ غاية ما ذكر في الجواب أنّ الماء المطلق بعد صيرورته مضافا ينجّس بملاقاة النجاسة وهو ليس بتمام ، لأنّ الشأن حينئذ في إثبات نجس أو متنجّس ينجّسه ولا سبيل إليه ، إذ المضاف الّذي كان نجسا قبل الاختلاط لم يعلم بقاؤه على النجاسة حينئذ ، نظرا إلى أنّ نجاسته السابقة كانت ثابتة بالإجماع ولا إجماع فيما نحن فيه ، لمكان الخلاف ـ على الفرض ـ في طهارته.

نعم ، لو ثبت حجّيّة الاستصحاب فيما نحن فيه أيضا ، وسلّم شمول روايات عدم جواز نقض اليقين بالشكّ له ، لكان الأمر كما ذكر ، فإنّ نجاسته المستصحبة حينئذ يبقى إلى صيرورة المطلق مضافا ، وحينئذ ينجّس به.

وفيه : أنّ الاستصحاب المذكور حجّة على ما قرّر في محلّه ، لكنّ الإشكال يقع في إفادة النجاسة المستصحبة تنجّس الغير ، فإنّ دليل تنجّس الملاقي للنجس أو المتنجّس لا يشمله ، لظهوره في النجس أو المتنجّس اليقينيّين كما يظهر بأدنى تأمّل ، وأقصى ما يقتضيه النجاسة المستصحبة إنّما هو وجوب الاجتناب عن معروضها ، وهو لا يقضي بنجاسة ما يلاقي ذلك المعروض ، إلّا على القول بأنّ وجوب الاجتناب عن الشي‌ء يستلزم وجوب الاجتناب عمّا يلاقيه ، وهو عندنا محلّ تأمّل كما سبق الإشارة إليه في المبحث الثالث ، إلّا أن يتمّ ذلك الاستلزام في خصوص المقام بضميمة إجماع الأعلام


على امتناع اختلاف الماء الواحد في الحكم ، بدعوى : عدم اختصاص هذه القاعدة بالماء بل تجري في مطلق المائع ، ولعلّها كذلك.

وثانيهما : أنّ كلام الأصحاب ليس مفروضا في صورة استهلاك المطلق ، بل المعتبر عندهم استهلاك المضاف في الكثير المطلق ، وحينئذ لو فرض أنّ استهلاك المضاف في الماء المطلق وحدوث إضافته صار دفعة واحدة حقيقيّة ، أمكن أن يقال : إنّ المضاف لم يلاق نجسا ، بل الكثير بتلاشيه فيه صار مضافا ، والمفروض حدوث الطهارة بنفس التلاشي لأنّ الكثير لا ينفعل ، فالاختلاط سبب للتطهير والإضافة معا ، ولو شكّ في طهارة المضاف حينئذ شكّ في نجاسة الكرّ والأصل عدمهما ، فيتساقطان ويرجع إلى قاعدة الطهارة.

ودفع : بأنّ الامتزاج الدفعي الحقيقي ممّا لا يوجد في الخارج ، وبدونه لا مناص عن التزام النجاسة بما ذكر ، بل ينبغي الحكم بالانفعال مع الدفعة إذا القي الكرّ على المضاف على ما فرضه في المنتهى ، لأنّ محلّه يبقى على النجاسة فينجّس المضاف بملاقاته.

أقول : ويمكن دفع ذلك بأنّ طهارة المحلّ حينئذ تابعة لطهارة الحالّ ، فإذا فرض أنّ طهارة المضاف مع إضافة المطلق قد حصلتا في ن واحد ، فيلزم طهارة المحلّ أيضا تبعا.

ولا يلزم منه كون مطهّره المضاف ، ليرد عليه : أنّ المضاف لا يصلح مطهّرا ، لأنّ المؤثّر في طهارة الحالّ حين الامتزاج هو المطلق ، وهو لو صلح مؤثّرا فيها في تلك الحين كان صالحا له بالقياس إلى المحلّ أيضا والفرق تحكّم.

إلّا أن يقال : بأنّ المقتضي لتأثيره في طهارة الحالّ إنّما هو امتناع اختلاف المائعين في الحكم المجمع عليه عند الأصحاب ، وهذا غير جار بالقياس إلى المحلّ.

وفيه : كما أنّ هذا الإجماع ثابت بالقياس إلى الحالّ كذلك ثابت بالقياس إلى المحلّ أيضا ، إذ لا يعقل شرعا كون مائع كائن في محلّ طاهرا ومحلّه نجسا ، فطهارته حين ما هو طاهر تستلزم طهارة محلّه ، وبعد حدوث الطهارة فيه لا يعود نجاسته الزائلة.

وتحقيق المقام : أنّ حكم المسألة لا بدّ وأن يستفاد من الملازمة المجمع عليها النافية لاختلاف المتخالطين في الحكم ، فإن حكم ببقاء المضاف على نجاسته فيتبعه المطلق ، وإن حكم ببقاء المطلق بعد الإضافة على طهارته فيتبعه المضاف ، لكنّ الحكم


ببقاء المطلق على الطهارة لا بدّ وأن يستند إلى أدلّة عدم انفعال الكثير بملاقاة النجاسة ، وشمول تلك الأدلّة لمثل المقام محلّ تأمّل ، بل مقطوع بعدمه عند التحقيق ، وذلك لأنّها لا تثمر في المقام إلّا بعد إحراز الملازمة المذكورة ، وقد تبيّن في مباحث تطهير المطلق المتنجّس أنّ تلك الملازمة منوطة بصدق الوحدة الحقيقيّة على المتخالطين ، ولا ريب أنّها لا تتأتّى إلّا بعد الامتزاج الكلّي بينهما ، وكما أنّ الامتزاج بحصوله هنا علّة لتحقّق الوحدة فكذلك علّة لحدوث الإضافة في المطلق على وجه كلّي ، فالوحدة حين حدوثها مقارنة لوصف الإضافة في الجميع ، فالجميع ماء مضاف حين هو واحد ، فلا يقع مع ذلك مشمولا لأدلّة عدم انفعال الكثير ، لكون تلك الأدلّة واردة في الماء ، والمفروض حين ما هو واحد ليس بماء ، بل هو عند حدوث وصفي الوحدة والإضافة مضاف ملاق للمضاف المتنجّس ، ومعه يجب القطع بنجاسة الجميع.

أمّا نجاسة المضاف الأوّل : فلعدم تحقّق رافع لنجاسته قطعا.

وأمّا نجاسة المضاف الثاني : فلملاقاته المتنجّس.

وممّا بيّنّا تبيّن : أنّه لا محلّ للاستصحاب هنا لا في جانب المضاف الأوّل ولا في جانب المضاف الثاني ، أمّا الأوّل : فلانتفاء الشكّ اللاحق ، وأمّا الثاني : فلانقلاب الموضوع كما لا يخفى ، بناء على أنّ الموضوع هو العنوان الغير الباقي لا مصداقه الباقي.

فالحق إذا قول الشيخ وتابعيه ، من غير فرق في ذلك بين ما لو القي المضاف في المطلق أو انعكس الأمر ، وإن قيل : بأنّ موضع النزاع هو الأوّل دون الثاني ، كما عن جماعة من أصحابنا كجامع المقاصد (١) ، وكاشف اللثام (٢) ، والمعالم (٣) ، قائلين بأنّ صورة العكس يجب فيها الحكم بعدم الطهارة جزما ، لأنّ مكان المضاف ـ أي محلّه ـ متنجّس به ، وهو ما لم يصر مطلقا لا يطهّره ، وملاقاته له مستمرّة فيردّه على النجاسة لو فرضنا طهارته ، وقد سبق منّا ما يصحّح هذا الكلام ويزيّفه.

وثالثها : اعتبار عدم تغيّر أحد أوصاف المطلق باختلاطه مع المضاف المتنجّس وعدمه ، والمصرّح بالاعتبار هو الشيخ (٤) على ما عرفت في عبارته المتقدّمة ، وبعده

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ١٢٥.

(٢) كشف اللثام ١ : ٢٩١.

(٣) فقه المعالم ١ : ٤٣٤.

(٤) المبسوط ١ : ٥.


المحقّق في المعتبر (١) ، والعلّامة في التحرير (٢) ، كما يظهر بملاحظة عبارتيهما المتقدّمتين ، والمخالف العلّامة في صريح المنتهى (٣) ، والمختلف (٤) ، ومحكيّ النهاية (٥) ، والتذكرة (٦) ، والقواعد (٧) ، والشهيد في ظاهر الدروس (٨) بناء على إطلاق كلامه ، ومحكيّ الذكرى (٩) ، والمحقّق والشهيد الثانيان (١٠) في المحكيّ عنهما.

وهاهنا شي‌ء ينبغي أن ينبّه عليه وهو أنّه ربّما وقع الاختلاف فيما حكي عن الشيخ بحسب العبارة اختلاف مؤدّيا إلى اختلاف المعنى في وجه ، وذلك أنّه قد عرفت عبارة المختلف في نقل القول عن الشيخ بقوله : « قال الشيخ رحمه‌الله : المضاف إذا وقعت فيه نجاسة نجس ، قليلا كان أو كثيرا على ما قدّمناه ، ولا يطهّر إلّا بأن يختلط بما زاد على الكثير من المطلق ، ثمّ ينظر فإن سلبه إطلاق اسم الماء لم يجز استعماله بحال ، وإن لم يسلبه إطلاق اسم الماء وغيّر أحد أوصافه إمّا لونه أو طعمه أو رائحته لم يجز استعماله بحال » (١١) انتهى.

وعبارته على ما حكاه بعض مشايخنا (١٢) عن المبسوط : « أنّه لا يطهّر إلّا بأن يختلط بما زاد عن الكرّ الطاهر المطلق ، ثمّ نظر فيه ، فإن سلبه أو غيّر أحد أوصافه لم يجز استعماله وإن لم يغيّره ولم يسلبه جاز استعماله فيما يستعمل فيه المياه الطاهرة » (١٣) انتهى.

وعن بعض نسخ المبسوط عطف غيّر « بالواو » لا بـ « أو » وحينئذ يوافق العبارة ما نقله شارح الدروس عن المبسوط من : « أنّه ولا طريق إلى تطهيرها بحال إلّا أن يختلط بما زاد على الكرّ من المياه الطاهرة المطلقة ، ثمّ ينظر فيه ، فإن سلبه إطلاق اسم الماء وغيّر أحد أوصافه ، إمّا لونه أو طعمه أو رائحته ، فلا يجوز أيضا استعماله بحال ، وإن لم يغيّر أحد أوصافه ولا سلبه اسم الماء جاز استعماله في جميع ما يجوز استعمال المياه الطاهرة » (١٤) انتهى.

__________________

(١) المعتبر : ٢١.

(٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٢٧.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٠.

(٥) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٧.

(٦) تذكرة الفقهاء ١ : ٣٣.

(٧) قواعد الأحكام ١ : ١٨٥. (٨) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٩) ذكرى الشيعة ١ : ٧٤ ـ ٧٥. (١٠) جامع المقاصد ١ : ١٣٦.

(١١) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٠. (١٢) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٣٠٥.

(١٣) المبسوط ١ : ٥. (١٤) مشارق الشموس : ٢٥٧.


وجه الاختلاف : أنّ العبارة الاولى مع الثانية على نسخة العطف « أو » تقتضي كون المانع عن الاستعمال أحد الأمرين : من سلبه الإطلاق ، وحدوث التغيّر ، وإذا اجتمعا فأولى بالمنع ، والجواز يتوقّف حينئذ على ارتفاع الأمرين معا.

بخلاف العبارة الثالثة مع الثانية على نسخة العطف « بالواو » فإنّها تقتضي كون المانع مجموع الأمرين ، وأمّا أحدهما منفردا عن الآخر فيمكن أن لا يكون مانعا وإن لم يصرّح بحكمه في العبارة.

وكيف كان فمستند القول بعدم الاعتبار ما سبق ذكره عن المختلف (١) ، ومحصّله : أنّ مقتضى دليل نجاسة الماء بالتغيّر أنّه ينجّس إذا تغيّر بعين النجاسة لا إذا تغيّر بالمتنجّس بها ، وهذا حقّ لا مدفع له على ما قرّرناه في محلّه.

وحجّة قول الشيخ ومتابعيه : أنّ المضاف بعد تنجّسه صار في حكم النجاسة ، فكما ينجّس الماء بالتغيير بها ينجّس بالتغيّر به أيضا.

وضعفه واضح ، إذ لو اريد بما ادّعى من القضيّة الكلّيّة ، يدفعه : عدم نهوض دليل عليها.

ولو اريد بها كونها كذلك في الجملة ، فهو حقّ لكنّه غير مجد في ثبوت المطلب كما لا يخفى.

والأولى بناء القولين هنا على ما تقدّم من الخلاف في اقتضاء التغيّر بالمتنجّس نجاسة الماء وعدمه.

وقد يقال : بأنّه يمكن أن يحتجّ عليه باستصحاب النجاسة إلى أن يثبت المزيل ، وهو غير ثابت هنا.

فعورض : « بأنّه كما يحكم باستصحاب النجاسة في المضاف يحكم باستصحاب الطهارة أيضا في المطلق ، بل فيه أولى لوجود أدلّة اخر فيه سوى الأصل مقتضية للطهارة ، من الروايات الدالّة على طهارته ما لم يتغيّر بعين النجاسة ، ومقتضى الاستصحابين حينئذ الحكم ببقاء كلّ على وصفه السابق ، وإذا أدخل اليد مثلا في هذا الماء فإن علم بملاقاة الأجزاء المضافة أيضا يحكم بنجاسة اليد ، وإلّا بني على أصل الطهارة.

لكن يدفعه : إمكان الاستدلال على طهارة الجميع بظهور تحقّق الإجماع على أنّ

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٠.


هذا الماء له حكم واحد ، ولا اختلاف لأجزائه في الحكم ، ولا ترجيح ليغلّب أحد الاستصحابين على الآخر ، فيحكم بتساقطهما ، ويبنى الحكم على أصالة الطهارة في جميع الأشياء سيّما الماء ، وأصالة حلّ التناول ، وحصول الامتثال باستعماله في الأوامر الواردة بالتطهير بالماء » (١) انتهى محصّلا.

ثمّ إنّ الكلام في سائر شرائط المطهّر هنا من الدفعة والممازجة وغيرها نفيا وإثباتا ، نظيره فيما سبق من مباحث تطهير المتنجّس من المطلق حرفا بحرف ، فكلّما اعتبرناه من الشروط ثمّة لا بدّ من اعتباره هنا بعين ما قدّمنا ذكره ثمّة ، فراجع وتأمّل.

المبحث الخامس : إذا اختلط المضاف بالمطلق فلا إشكال في أنّ الأحكام تتبع في ترتّبها إطلاق الاسم عرفا ، بل لا خلاف فيه إذا اختلفا في الأوصاف ، وأمّا إذا اتّفقا ولو بزوال الوصف عن أحدهما كماء الورد المنقطع الرائحة فاختلفت كلمة الأصحاب في جواز التطهّر به وعدمه ، ومجموع القول فيه ما تكفّله كلام العلّامة في المختلف قائلا :

« قال الشيخ رحمه‌الله : إذا اختلط المطلق بالمضاف كماء الورد المنقطع الرائحة حكم للأكثر ، فإن تساويا ينبغي القول بجواز استعماله لأنّ الأصل الإباحة ، وإن قلنا يستعمل [ذلك] ويتيمّم كان أحوط.

قال ابن البرّاج : والأقوى عندي أنّه لا يجوز استعماله في رفع الحدث ، ولا إزالة النجاسة ، ويجوز في غير ذلك.

ثمّ نقل مباحثة جرت بينه وبين الشيخ رحمه‌الله ، وخلاصتها تمسّك الشيخ رحمه‌الله بالأصل الدالّ على الإباحة وتمسّكه هو بالاحتياط.

والحقّ عندي : خلاف القولين معا ، وأنّ جواز التطهير به تابع لإطلاق الاسم ، فإن كانت الممازجة أخرجته عن الإطلاق لم يجز الطهارة به وإلّا جاز ، ولا اعتبر في ذلك المساواة والتفاضل ، فلو كان ماء الورد أكثر وبقى إطلاق [اسم] الماء أجزأت الطهارة به ، لأنّه امتثل المأمور به وهو الطهارة بالماء المطلق ، وطريق معرفة ذلك أن يقدّر ماء الورد باقيا على أوصافه ثمّ تعتبر ممازجته حينئذ فيحمل عليه منقطع الرائحة » (٢) انتهى.

وعنه في النهاية أنّه علّل الحكم بالتقدير : « بأنّ الإخراج عن الاسم سالب للطهوريّة

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٥٨.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٩.


وهذا الممازج لا يخرج عن الاسم بسبب الموافقة في الأوصاف ، فيعتبر بغيره (١) كما يفعل في حكومات الجرائح » (٢) وإليه يرجع ما عن المحقّق الثاني في بعض فوائده من أنّه بعد ما اختار التقدير وجّهه : « بأنّ الحكم لمّا كان دائرا مع بقاء اسم الماء مطلقا ، وهو إنّما يعلم بالأوصاف ، وجب تقدير بقائها قطعا كما يقدّر الحرّ عبدا في الحكومة » (٣).

ولا يخفى أنّ التأمّل في هذه الكلمات وما ذكر من التعليلات يعطي أنّهم متسالمون في أنّ العبرة في ترتيب الأحكام على المتخالطين إنّما هي بإطلاق الاسم عرفا ، فما يطلق عليه اسم الماء عرفا يرتّب عليه أحكام الماء الّتي منها الطهوريّة ، وما يطلق عليه اسم المضاف خصوصا أو عموما يرتّب عليه أحكام المضاف الّتي منها عدم الطهوريّة ، وأنّ ما اشتبه الحال فيه يرجع لاستعلام حكمه إلى الاصول ، وظاهر كلام الشيخ أنّ الأكثريّة في أحد المتخالطين ميزان لبقاء الاسم مطلقا كان أو مضافا ، ومعنى قوله : « حكم للأكثر » حكم على ما حصل بالاختلاط بالاسم الّذي هو للأكثر ، أي لأكثرهما.

وأمّا مع التساوي فالميزان المميّز لأحد العنوانين مفقود ، ومعه يدخل الموضوع في عنوان المشتبه الّذي يرجع فيه إلى الاصول ، وهذا المقدّر على ما يستفاد من الحكاية متّفق عليه بينه وبين ابن البرّاج ، واختلافهما راجع إلى تعيين الأصل الّذي يرجع إليه في مشتبه الحال ، فرجّح الشيخ كونه أصل الإباحة القاضية بجواز الاستعمال ، ثمّ جعل الجمع بين الاستعمال والتيمّم أحوط ، وخالفه ابن البرّاج فرجّح الأصل كونه الاحتياط القاضي بالاجتناب وترك الاستعمال.

ومخالفة العلّامة لهما ترجع إلى منع كون المفروض من صور الاشتباه الّذي يرجع فيه إلى الاصول ، بناء على أنّ الاشتباه المسوّغ لذلك ما لم يكن إلى دفعه طريق والمقام ليس منه ، لأنّ تقدير المخالفة في الأوصاف بين المتخالطين ثمّ حمل المفروض على ما يقتضيه اعتبار التقدير ، من كونه من موارد إطلاق اسم المطلق أو من موارد إطلاق اسم المضاف طرق إلى رفع الاشتباه ، واستعلام الحال في الواقع من إطلاق أحد الاسمين عرفا ، فإنّ الاشتباه مانع للعرف عن الإطلاق وموجب للتوقّف ما دام هو موجودا ،

__________________

(١) كذا في الأصل ، وفي نسخة الموجودة بأيدينا : « تغيّره » بدل « بغيره ».

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٧.

(٣) حكاه عنه في فقه المعالم ١ : ٤٣١.


وتقدير المخالفة بالمعنى المذكور رافع للمانع ، فخلافه أعلى الله مقاماته إنّما هو في صغرى العمل بالاصول لا في كبراه.

وممّا بيّنّاه ظهر أنّ ما ذكره شارح الدروس في ردّ كلام العلّامة من « أنّ ما اختاره العلّامة من التقدير أمر لا مستند له أصلا لا شرعا ولا عقلا ، وهل هو إلّا مثل ما يقال ـ فيما إذا جاور مضاف مطلقا ولم يخالطه ـ : أنّه يقدّر بأنّه لو خالطه هل يخرجه عن الإطلاق أم لا؟ كيف وبناء الأحكام على الأسماء ، فإذا أمر بالماء وفرض أنّه يصدق على شي‌ء بالفعل أنّه ماء فلا شكّ أنّه يجوز الطهارة به إلى آخره » (١) أجنبيّ عن هذا المقام بالمرّة ، فإنّ العلّامة أو غيره لا ينكر كون بناء الأحكام على الأسماء ، بل الداعي إلى اعتباره التقدير إنّما هو هذه المقدّمة ، لأنّه يرى استعلام الاسم متوقّفا على التقدير المذكور ، وأنّ بدونه لم يتبيّن الاسم ليرتّب عليه الحكم.

وتنظير مورد كلامه بما ذكره من المثال ليس على ما ينبغي ، بل هو بالقياس إلى العلّامة وأحزابه سوء أدب جزما ، كيف ولا اشتباه فيما ذكره ومعه لا داعي إلى اعتبار التقدير وإلّا يؤدّي إلى السفه ، بخلاف المقام الّذي هو مورد كلام العلّامة ، فإنّه مقام الاشتباه والصدق العرفي لأحد الاسمين بدون الطريق المذكور وما يجري مجراه مجهول ، لا علينا فقط بل على العرف أيضا ، فإنّ الاشتباه حاصل لأهل العرف ، فإنّهم يتوقّفون في إطلاق أحد الاسمين حتّى يرتفع الاشتباه.

فما ذكر من أنّه إذا أمر بالماء وفرض أنّه يصدق بالفعل على شي‌ء أنّه ماء فلا شكّ أنّه يجوز الطهارة به حقّ ، لكن المقام ليس منه ، إذ لا صدق للاسم بالفعل ما دام الاشتباه باقيا ، هذا إذا كان العبرة بصدقه عند العالمين بالحال والمطّلعين على الاختلاط المفروض في محلّ المقال ، وأمّا إذا كان النظر إلى صدقه عند الجاهلين الغير المطّلعين على حقيقة الحال فالصدق عندهم ما دام الجهل وإن كان مسلّما لكنّه لا عبرة به أصلا ، وإلّا فهذا الصدق حاصل عندهم في المضاف الخالص المسلوب عنه الصفات كماء الورد المنقطع الرائحة ، فإنّه بحيث لو رآه كلّ من لا يعلم بأصله يحكم عليه بأنّه ماء ، ويرتّب عليه أحكام الماء ، فيجب متابعته والأخذ بقضيّة الصدق عنده ، وأنّه باطل

__________________

(١) مشارق الشموس : ٢٦١.


بديهة ، وليس الاكتفاء بالصدق عند الجاهلين بالحال مع تحقّق علمنا بالحال إلّا كالاكتفاء بصدق اسم الماء على ما نعلم كونه خمرا عند من يجهله ، فيجوز شربه واستعماله في كلّ مشروط بالمطلق الطاهر وهذا كما ترى.

ونظير المقام ما لو كان هناك ماء نعلم بأنّ له حالة سابقة وهي النجاسة ووجده من لا يعلم له بهذه الحالة ، فإنّه حينئذ بمقتضى الأصل المقرّر للجاهل الابتدائي يبني على الطهارة ويرتّب عليه أحكامها ، وليس لنا ذلك اتّباعا له بل تكليفنا البناء على النجاسة عملا بالاستصحاب.

وبالجملة : ما ذكره رحمه‌الله من الاعتراض في غاية الضعف والسقوط ، ولنرجع إلى تحقيق المسألة.

فنقول : إنّ ملاحظة ما نقل من كلماتهم تعطي كون الكلام في حالة الضرورة والاضطرار إلى استعمال هذا الشي‌ء الحاصل بالاختلاط ، وإلّا لم يكن للحكم على كون الجمع بين الاستعمال والتيمّم أحوط معنى كما لا يخفى.

ومن هنا يتبيّن أنّه ليس شي‌ء من الأصلين المتمسّك بهما في كلامي الشيخ وابن البرّاج في محلّه ، أمّا ما تمسّك به الشيخ فليس المقام من مواضع اشتباه التكليف المحتمل للحرمة حتّى يرجع فيه إلى أصل الإباحة ، بل الاشتباه إنّما هو باعتبار الوضع وهو صحّة هذا الاستعمال وترتّب الآثار الشرعيّة عليه من زوال نجاسة أو ارتفاع حدث ، وأصل الإباحة لا ينفع في ذلك شيئا ، بل المقام في موارد الاستصحاب القاضي هنا ببقاء كلّ من النجاسة والحدث ، والحرمة التشريعيّة الّتي تتأتّى في استعمال المضاف مع العلم بإضافته في التطهيرات لا تتأتّى هنا أيضا ، لأنّه لا يستعمله على أنّه مضاف وإنّما يستعمله لرجاء كونه مطلقا.

وأمّا ما تمسّك به ابن البرّاج فلأنّ الاحتياط المذكور يعارضه الاحتياط المقتضي للاستعمال ، وذلك لأنّ المقام لكونه مقام ضرورة بالنسبة إلى استعمال ذلك فالأمر دائر بين التكليف بالمائيّة والتكليف بالترابيّة ، لأنّ الأوّل مشروط بوجدان الماء والثاني مشروط بفقدانه ، ولا ريب أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط ، فكما أنّ الاقتصار على استعمال هذا الشي‌ء خلاف الاحتياط لاحتمال كونه في الواقع مضافا ،


فكذلك العدول إلى التيمّم أيضا خلاف الاحتياط ، لجواز كون ذلك مطلقا في الواقع ، ومقتضى العمل على الاحتياطين الجمع بين الأمرين حسبما ذكره الشيخ أخيرا ، لا الاجتناب عن استعمال ذلك رأسا.

ثمّ يبقى الكلام بعد ما أمكن الاحتياط بالجمع فيما ذكره العلّامة من اعتبار التقدير استعلاما للحال ورفعا للاشتباه الّذي هو مناط الاحتياط بناء على إمكانه ، وجواز ذلك كما ترى ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف ، بل الكلام ـ لو كان ـ فإنّما هو في وجوبه ، ولمّا كان المقام ممّا أمكن فيه الامتثال العلمي وكان دائرا بين الامتثال التفصيلي ـ وهو ما اوتي بشي‌ء على أنّه بعينه المأمور به ـ والامتثال الإجمالي ـ وهو ما اوتي بأشياء على أنّ المأمور به فيها مردّد بينها ، بأن يكون الإتيان بكلّ واحد على أنّه أحد الامور المردّد فيها المأمور به ـ فالكلام يرجع إلى أنّ المعتبر في مورد إمكان الامتثال العلمي هل هو الامتثال التفصيلى ، ولا يجوز العدول إلى الامتثال الإجمالي إلّا مع تعذّر الامتثال التفصيلي أو لا؟ بل يجوز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي أيضا ، على معنى ثبوت التخيير بين الامتثالين من أوّل الأمر.

والمسألة اصوليّة وفيها وجهان بل قولان وتحقيقها موكول إلى محلّه ، ومجمل القول فيها ـ حسبما يساعد عليه النظر القاصر ـ أنّ الامتثال التفصيلي متعيّن ما دام ممكنا ، عملا بأصل الشغل السليم هنا عن المعارض ، بناء على ما هو الراجح من كون الامتثال اللازم في الأوامر من قبيل الأغراض لا من قيود المأمور به حتّى يدفع احتمال مدخليّة التفصيل وكونه معتبرا مع المأمور به بإطلاق الأمر.

وعليه كان الأقوى في المقام ما ذهب إليه العلّامة ومن وافقه كالشهيد رحمه‌الله في الدروس (١) ، والمحقّق الثاني في بعض فوائده (٢) من اعتبار التقدير ووجوبه ، إذ به يحصل الامتثال العلمي التفصيلي ، وما يحصل من الامتثال بالاحتياط المقتضي للجمع وإن كان علميّا لكنّه إجماليّ ينفي جواز الاكتفاء به بأصل الشغل. فما في كلام جماعة من أنّ هذا القول ممّا لا دليل عليه من عقل ولا شرع كلام خال عن التحصيل.

ثمّ عن العلّامة أنّه اعتبر تقدير الوصف في كثير من كتبه ولم يتعرّض لبيان الوصف

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٢) حكاه عنه في فقه المعالم ١ : ٤٣١.


المقدّر ، من حيث إنّه يختلف بالشدّة والضعف والتوسّط بينهما ، فهل المعتبر تقدير الأشدّ أو الأضعف أو الوسط؟ لكن عن المحقّق الثاني (١) أنّه حكى عنه (٢) أنّه قال في بعض كتبه : « يجب التقدير على وجه تكون المخالفة وسطا ، ولا يقدّر الأوصاف الّتي كانت قبل ذلك » واستوجهه.

وعن الشهيد في الذكرى الموافقة له في ذلك قائلا : « فحينئذ يعتبر الوسط في المخالفة ، فلا يعتبر في الطعم حدّة الخلّ ، ولا في الرائحة ذكاء المسك ، وينبغي اعتبار صفات الماء من العذوبة والرقّة والصفاء وأضدادها » (٣) انتهى.

وعن المحقّق المذكور تعليل ما استوجهه : « بأنّه بعد زوال تلك الأوصاف صارت هي وغيرها على حدّ سواء ، فيجب رعاية الوسط ، لأنّه الأغلب ، أو للتبادر عند الإطلاق.

قال : « وإنّما قلنا إنّ الزائل هنا لا ينظر إليه بعد الزوال ، لأنّه لو كان المضاف في غاية المخالفة في أوصافه فنقصت مخالفته لم يعتبر ذلك القدر الناقص ، فكذا لو زالت أصلا ورأسا » (٤) انتهى.

واعترض عليه : « بأنّ النظر إلى كلامه الأخير يقتضي كون المقدّر هو أقلّ ما يتحقّق به الوصف لا الوسط.

وتحقيقه : أنّ نقصان المخالفة كما فرضه لو انتهى إلى حدّ لم يبق معه إلّا أقلّ ما يصدق به المسمّى لم يؤثّر ذلك النقصان ، ولا اعتبر مع الوصف الباقي أمر آخر ، فكذا مع زوال الوصف من أصله ، واعتبار الأغلبيّة والتبادر هنا ممّا لا وجه له » (٥) انتهى.

وأنت خبير بما في كلّ من التعليل والاعتذار وتحقيق المعتبر (٦) ، أمّا الأوّل : فلأنّ التسوية بين الوصف الزائل وغيره أوّل الكلام.

وأمّا الثاني : فرجوعه إلى القياس مع توجّه المنع إلى الحكم في المقيس عليه أيضا.

وأمّا الثالث : فلما يتّضح بعد ذلك.

وتحقيق المقام : إنّك قد عرفت أنّ الداعي إلى اعتبار التقدير إنّما هو استعلام كون

__________________

(١) والحاكي عنه هو صاحب المعالم رحمه‌الله في فقه المعالم ١ : ٤٣١.

(٢) أي عن العلامة رحمه‌الله.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ٧٤.

(٤) حكاه عنه في فقه المعالم ١ : ٤٣١.

(٥) فقه المعالم ١ : ٤٣٢.

(٦) كذا في الأصل.


هذا الشي‌ء ممّا سلب عنه الإطلاق لئلّا يجوز استعماله في التطهير ، أو سلب عنه الإضافة ليجوز استعماله في التطهير ، ومن المعلوم أنّ معنى سلب الإطلاق وسلب الإضافة المحتملين هنا بحسب الواقع انقلاب ماهيّة أحد المختلطين بالآخر ، لا مجرّد تغيّر وصف أحدهما بوصف الآخر ، أو بقائه على وصفه الأصلي.

فالمضاف إذا كان على الوصف الأضعف فربّما لا يوجب لضعف وصفه تغيّر وصف المطلق مع احتمال سلب الإطلاق في الواقع ، كما أنّه إذا كان على الوصف الأشدّ فربّما يوجب بشدّة وصفه تغيّر وصف المطلق مع احتمال بقاء الإطلاق السالب لإضافة المضاف بحسب الواقع ، وإنّما يعلم هذا الاختلاف فيما بين الظاهر والواقع في كلّ من القسمين بفرض مضاف آخر متوسّط الوصف متساوي المقدار للمفروض ، مختلطا بمثل ما اختلط به الأوّل من الماء في المقدار ، فإن خالف الأوّل في التأثير والاقتضاء كشف عن كون ما اقتضاه الأوّل من البقاء على الوصف الأصلي أو الخروج عنه مستند إلى الوصف القائم به من جهة ضعفه أو شدّته ، لا إلى ذاته الموجبة عند التأثير لانقلاب الماهيّة ، لاستحالة الاختلاف بينهما في الاقتضاء والتأثير ، مع اتّحاد الذات فيهما ومساواتهما فيما يرجع إلى الذات.

مثلا لو فرضنا ثلاثة أمداد من ماء الورد أحدهما شديد الرائحة والآخر متوسّطها والثالث ضعيفها ، فامتزج كلّ واحد بمدّ من ماء مثلا ، فإن تغيّر وصفه على الأوّلين دون الأخير كشف ذلك عن سلب الإطلاق في الواقع في كلّ من الثلاث ؛ وأنّ بقاء الأخير على وصفه الأصلي إنّما هو لضعف ممزوجه في الوصف لا في الاقتضاء المستند إلى ذاته في ذلك الفرض ؛ وإن تغيّر وصفه على الأوّل دون الأخير كشف ذلك عن بقاء الإطلاق الواقعي في جميع الثلاث ؛ وأنّ خروج الأوّل عن وصفه الأصلي إنّما هو لأجل شدّة ممزوجه في الوصف لا في الاقتضاء المستند إلى ذاته في هذا الفرض.

ونتيجة هذا الاختلاف أنّ الوصف إذا كان ضعيفا فله تأثير في عدم تغيّر الوصف وإن انقلبت معه الماهيّة ، وإذا كان شديدا فله تأثير في تغيّر الوصف وإن لم تنقلب معه الماهيّة ، وعليه فلا عبرة بالأوصاف الضعيفة ولا الأوصاف الشديدة ، بل المعتبر هو الأوصاف المتوسّطة ، لأنّ الوصف المتوسّط على البيان المذكور لا بدّ وأن يغاير


القسمين ، ولا يعقل المغايرة إلّا بأن لا يكون بنفسه مؤثّرا لا في التغيّر ولا في عدمه مخالفا لما أثّرته الماهيّة.

وحينئذ لو امتزج ذو الوصف المتوسّط بالمطلق وصادف امتزاجه لتغيّر المطلق كشف ذلك عن انقلاب الماهيّة وسلب إطلاقه بحسب الواقع ، وكونه مستندا إلى ذات ذي الوصف لا إلى وصفه.

وقضيّة ذلك لزوم تقدير الوصف المتوسّط في محلّ البحث لا الوصف الزائل ، ضعيفا كان أو شديدا ، إذ معه يحصل التغيّر السالب للإطلاق المصادف لانقلاب الماهيّة.

فظهر من جميع ذلك أنّ الأقوى ما صار إليه الجماعة ، وأنّ القول بلزوم تقدير أقلّ ما يتحقّق به مسمّى الوصف كالقول بأنّ تقدير الوصف المتوسّط لا دليل عليه ضعيف ، كيف وهذا من مقتضى الاحتياط وأصل الشغل الّذي قرّرناه دليلا على وجوب التقدير خروجا عن شبهة بقاء الإطلاق المانع عن التيمّم أو زواله المسوّغ له ، بل مقتضى هذا الاحتياط العدول إلى تقدير الوصف المتوسّط فيما له وصف محقّق شديد أو ضعيف ، وإن لم نقف على القول به من الأصحاب كما لا يخفى ، والله العالم.

المبحث السادس : لو كان مع المكلّف من المطلق ما لا يكفيه للطهارة وأمكن إتمامه بمضاف على وجه لا يسلبه الإطلاق ، فعن الشيخ عدم وجوب ذلك (١) ، وخالفه العلّامة فرجّح وجوبه (٢) ، وتبعه المحقّق الثاني (٣) ، وبعض من لا تحصيل له.

قال في المختلف : « لو كان معه رطلان من المطلق ويفتقر في طهارته إلى ثلاثة أرطال مثلا ومعه ماء الورد إذا مزجه بالمطلق لم يسلبه الإطلاق ، قال الشيخ رحمه‌الله : ينبغي أن يجوز استعماله وليس واجبا ، بل يكون فرضه التيمّم ، لأنّه ليس معه من الماء ما يكفيه لطهارته.

وهذا القول عندي ضعيف لاستلزامه التنافي بين الحكمين ، فإنّ جواز الاستعمال يستلزم وجوب المزج ، لأنّ الاستعمال إنّما يجوز بالمطلق ، فإن كان هذا الاسم صادقا عليه بعد المزج وجب المزج ، لأنّ الطهارة بالمطلق واجبة مع المكنة ، ولا يتمّ إلّا بالمزج ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، وإن كذّب الإطلاق عليه لم يجز استعماله

__________________

(١) المختلف ١ : ٢٤٠ ـ ٢٣٩.

(٢) المبسوط ١ : ١٠ ـ ٩.

(٣) جامع المقاصد ١ : ١٢٦.


في الطهارة ويكون خلاف الفرض ، فظهر في الحكمين.

والحقّ عندي : وجوب المزج إن بقي الإطلاق ، والمنع من الاستعمال إن لم يبق » (١) انتهى.

وأنت بعد التأمّل في سوق ما نقله عن الشيخ تعرف عدم التنافي بين ما ذكره من الحكمين ، فإنّ استعمال المضاف المحكوم عليه بجوازه المتعقّب للحكم بعدم وجوبه ليس مرادا به الاستعمال في الطهارة ، حتّى يرد عليه ما ذكر ، بل المراد به استعماله في المزج فإنّه جائز وليس بواجب ، لا أنّ استعماله منفردا في الطهارة جائز ، ولا أنّ استعماله مركّبا مع المطلق بلا سلبه الإطلاق ليس بواجب ، فإنّ كلّا من ذلك باطل جدّا ، فلا تنافي بين الحكمين أصلا.

وأمّا ما رجّحه من وجوب المزج ، فأجاب عنه ابنه فخر المحقّقين في الشرح ـ على ما حكي عنه ـ : « بأنّ الطهارة واجب مشروط بوجود الماء والتمكّن منه ، فلا يجب إيجاده لأنّ شرط الواجب المشروط غير واجب » (٢).

وردّه شارح الدروس : « بصدق الوجدان فيما نحن فيه ، وليس وجدانه هنا بأبعد من الوجدان فيما إذا أمكن حفر بئر مثلا ، والظاهر أنّه لا نزاع أنّه إذا أمكن حفر بئر مثلا لتحصيل الماء لوجب ، فلم لم يحكم بالوجوب هنا والتفرقة خلاف ما يحكم به الوجدان » (٣).

وعن المحقّق الثاني أنّه ردّه في جامع المقاصد بأنّه : « إن أراد بإيجاد الماء ما لا يدخل تحت قدرة المكلّف ، فاشتراط الأمر بالطهارة به حقّ ولا يضرّنا ، وإن أراد به الأعمّ فليس بجيّد ، إذ لا دليل يدلّ على ذلك ، والإيجاد المتنازع فيه معلوم كونه مقدورا للمكلّف ، والأمر بالطهارة خال عن الاشتراط ، فلا يجوز تقييده إلّا بدليل » (٤) انتهى.

ولعلّ نظره في منع اشتراط الأمر بالطهارة إلى مثل قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (٥) ، وقوله عليه‌السلام : « إذا دخل الوقت وجبت الصلاة والطهور » (٦).

ولا يخفى ضعف كلّ من الردّين ، أمّا ما ردّه شارح الدروس : فلمنع صدق الوجدان

__________________

(١) المختلف ١ : ٢٤٠ ـ ٢٣٩.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ١٨.

(٣) مشارق الشموس : ٢٦٦.

(٤) جامع المقاصد ١ : ١٢٦.

(٥) المائدة : ٦. (٦) الوسائل ١ : ٣٧٢ ب ٤ من أبواب الوضوء ح ١ ـ التهذيب ٢ : ١٤٠ / ٥٤٦.


فيما نحن فيه ، فإنّ العبرة إنّما هو بصدق وجدان الماء لا ما يؤول إلى الماء ، فإنّ الماء اسم لما تلبّس بمبدإ المائيّة فعلا ، والمفروض ليس من هذا الباب ، بل هو آئل إلى المتلبّس بالمبدإ على تقدير لحوق المزج ، وبذلك يظهر التفرقة بينه وبين حفر البئر إخراجا للماء ، لأنّه طلب للمتلبّس بالمبدإ بالفعل.

وإلى ذلك ينظر ما عن بعض المحقّقين من أنّ صدق الوجدان على ما نحن فيه عرفا غير مسلّم ، وجعله كحفر البئر على تقدير تسليم صدق الوجدان عنده قياس مع الفارق ، فإنّ الماء هنا موجود بالفعل والحفر للتوصّل إليه بخلاف ما نحن فيه ، فإنّه معدوم الحقيقة والمزج إيجاد لها كنفس الاستطاعة المعدومة.

وأمّا ما ردّه المحقّق الثاني : فلأنّ الآية والرواية وغيرهما وإن كانت مطلقة ولكن قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (١) مقيّد ، ضرورة أنّ تقيّد الأمر بالتيمّم بعدم وجدان الماء يقضي بتقييد الأمر بالوضوء بوجدانه ، فيقيّد بها ما ذكر من المطلقات جدّا.

فلو قيل : تقييد الآية للإطلاق متوقّف على حمل « الوجدان » على حقيقته مع بقاء الآية على إطلاقها ، ولا ريب أنّه ليس بممكن ، لأنّا نرى تحقّق وجدان الماء بالفعل مع حرمة الوضوء لمانع شرعي كخوف الضرر من استعماله ونحوه ، ونرى عدم تحقّقه كالفاقد له المتمكّن عن حفر البئر ونحوه لتحصيله مع وجوب الوضوء به ، فلا بدّ حينئذ من التجوّز في الآية ، وهو إمّا بالتقييد لمنطوقها ومفهومها لوجوب استثناء ما عرفت من الصور ، فيرد ما ذكرت حينئذ من كون التقييد بالوجدان موجبا لتقييد تلك الإطلاقات ، ومقتضاه عدم وجوب المزج.

أو بحمل الوجدان على التمكّن والاقتدار مجازا ، فلا يرد بذلك حينئذ عدم وجوب المزج لمكان التقييد بالقدرة وهي متحقّقة في المقام ، فالوضوء حينئذ واجب لتحقّق شرط وجوبه ، وهو يستلزم وجوب المزج لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب.

نعم ، لو لم يتمكّن المكلّف من المزج المذكور سقط عنه الوضوء بحكم الآية ، لأنّه يكون من باب الواجب المشروط المنتفي شرطه ، ولكن لمّا كان المفروض تحقّق القدرة الّتي هي شرط التكليف بالفرض بقيت تلك الإطلاقات الدالّة على الوجوب على

__________________

(١) المائدة : ٦.


إطلاقها ، وتكون هذه المقدّمة أعني المزج المحصّل للماء بالنظر إلى الوضوء الواجب مقدّمة وجوديّة يجب تحصيلها ، والمجاز وإن كان مرجوحا بالقياس إلى نوع التقييد ، إلّا أنّه لوحدته وتعدّد التقييد منطوقا ومفهوما ـ مع تفسير المقدّس الأردبيلي في آيات أحكامه (١) لـ « تجدوا » في الآية بـ « تتمكّنوا » من دون نقل خلاف فيه ، المشعر بالاتّفاق عليه ، مع تصريح بعض الفقهاء أيضا بذلك ، وشهرة الحكم المذكور على الظاهر ـ وجب المصير إليه ، فالقول بوجوب المزج إذا أرجح ، مع أنّه أحوط.

لقلنا : مع أنّه لا حاجة إلى استثناء بعض المذكورات حتّى يلزم بذلك تقييد ، لما عرفت من صدق قضيّة وجدان الماء عند التمكّن بالحفر ونحوه من مقدّمات التحصيل ، لا تعارض بين التقييد والمجاز المذكورين ليوجب ذلك إلى مراجعة الترجيح ، بل مفاد الآية ما يستلزم تقييد المطلقات ولو حملنا « الوجدان » على التمكّن ، فلا يلزم وجوب المزج على التقديرين وكونه مقدّمة وجوديّة ، أمّا على تقدير حمل « الوجدان » على حقيقته المستلزم للتقييد فلما ذكرناه ، وأمّا على تقدير حمله على التمكّن والاقتدار فلأنّ التمكّن ليس بحاصل بالقياس إلى الماء بالمعنى المذكور ، وإنّما هو تمكّن بالقياس إلى ما يؤول إلى الماء بعين ما ذكر ، فلا يختلف الحال بسبب اختلاف التفسير ، فتفسير المحقّق الأردبيلي رحمه‌الله مع كونه متعيّنا لا ينفع شيئا في إثبات دعوى إطلاق وجوب الوضوء المقتضي لوجوب المزج ، إلّا على تقدير حمل « الماء » أيضا على معناه المجازي بعلاقة الأول ، وهو كما ترى مجاز آخر غير ما يلزم منه بحمل « الوجدان » على التمكّن ، فما في كلام جماعة من بناء المسألة على احتمالي كون « الوجدان » مرادا به معناه الحقيقي أو التمكّن مجازا ليس بشي‌ء.

فالراجح في النظر ـ على ما بيّنّاه ـ ما صار إليه الشيخ عملا بقاعدة عدم وجوب إيجاد مقدّمة الوجوب ، وإن كان الإيجاد ممكنا بحسب أصله وذاته ، كاستطاعة الحجّ الغير الموجودة مع التمكّن عن إيجادها بالسعي في تحصيل المال أو قبول ما يبذله باذل.

* * *

__________________

(١) زبدة البيان : ٢٦.


ينبوع

وممّا خصّه الأصحاب بالعنوان من أفراد المياه ، الماء الطاهر المباح المطلق إذا اشتبه بغيره من النجس ، أو المغصوب ، أو المضاف ، فإنّ كلّ واحد من ذلك ممّا لحقه البحث عندهم ، وكثر التشاجر في فروع بعضها لديهم ، وبسط الكلام فيها يستدعي رسم مقامات :

المقام الأوّل : في الماء المشتبه بالنجس ، المعنون في كلام بعضهم بالإناءين أحدهما طاهر والآخر نجس فاشتبها ، وظاهر أنّ تخصيص الإناء بالذكر مثال ، أو اقتفاء في التعبير لعبارة النصّ على ما سيظهر في الموثّقتين الآتيتين ، كما أنّ ذكر هذا العدد بالخصوص مبنيّ على المثال ، أو اكتفاء بأقلّ مراتب التعدّد ، وظاهرهم كصريح غير واحد منهم عدم اختصاص الحكم بما كان الاشتباه ابتدائيّا ، كما لو وقعت النجاسة في الطاهرين أو أكثر على ما لا يعلم أيّهما هو وإن اختصّ به مورد النصّ ، بل يجري فيما لو كان الاشتباه طارويّا أيضا ، كما لو كان الطاهر مع النجس ممتازين ففات امتيازهما.

وفي حكم الاشتباه الابتدائي الحاصل بين الطاهرين ما يحصل بين النجسين لو زالت النجاسة عن أحدهما من غير علم بأنّه أيّ منهما ، كما أنّه في حكم النجس بالذات النجس بالعرض وهو المتنجّس ، فإنّ جميع هذه الصور من واد واحد وإن اختصّ عنوان الأصحاب كالنصّ الموجود في الباب ببعضها ، مع ما بينها من التفاوت في قوّة احتمال عدم وجوب الاجتناب عن الجميع وضعفه حسبما يأتي الإشارة إليه.

وكذلك التفاوت في قوّة احتمال الوجوب وضعفه ، بل الظاهر بناء على عموم القاعدة المستفاد عن عموم جملة من أدلّتهم الآتية ـ كما هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ـ عدم الفرق في الحكم بين ما لو كانت أطراف الشبهة من أفراد ماهيّة واحدة مشتركة بينها


كالإناءين والثوبين ونحوهما ، وما لو كانت من أفراد ماهيّتين فصاعدا ، كالثوب والإناء أو الثوب والبدن إذا علم بإصابة نجاسة للأمر المردّد بينهما ، فإنّ قضيّة حجّيّة العلم الإجمالي وجوب الاجتناب عن كليهما معا في الصلاة ونحوها من مشروط بالطهارة.

نعم ، ينبغي تخصيص الحكم بما كانت الشبهة محصورة ، أخذا بموجب تصريحاتهم وأدلّتهم المقتضية لعدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة حسبما قرّر في الاصول.

وكيف كان ، فقال المحقّق قدس‌سره في الشرائع : « ولو اشتبه الإناء النجس بالطاهر وجب الامتناع عنهما » (١) وصرّح بما يقرب من ذلك في النافع (٢) ، وقريب منهما ما في الدروس (٣) ، ومنتهى العلّامة ومختلفه (٤) ، وحكى الجزم به في المنتهى (٥) عن الشيخ في النهاية ، وابن بابويه في كتابه ، والمفيد في المقنعة.

كما حكى الموافقة في ذلك في المناهل (٦) عن الفقيه (٧) ، والنهاية (٨) ، والناصريّات (٩) ، والغنية (١٠) ، والمعتبر (١١) ، والسرائر (١٢) ، والتحرير (١٣) ، والقواعد (١٤) ، ونهاية الإحكام (١٥) ، والإيضاح (١٦) ، والذكرى (١٧) ، وجامع المقاصد (١٨) ، والجعفريّة (١٩) ، ومجمع الفائدة (٢٠).

واستفاض نقل الإجماع عليه ، وحكى نقله أيضا عن الشيخ في الخلاف (٢١) ، والمحقّق في المعتبر (٢٢) ، والعلّامة في المختلف (٢٣) والتحرير (٢٤) ونهاية الإحكام (٢٥) ،

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٥.

(٢) المختصر النافع : ٤٤.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٢.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٧٤ ـ مختلف الشيعة ١ : ٢٤٨.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٧٤ ـ انظر : المقنع : ٢٨ ـ النهاية ١ : ٢٠٦ المقنعة : ٦٩.

(٦) المناهل ـ كتاب الطهارة ـ الورقة ١٦٢ (مخطوط).

(٧) الفقيه ١ : ٧. (٨) النهاية ١ : ٢٠٦.

(٩) الناصريّات (سلسلة الينابيع الفقهيّة ١ : ١٤٠). (١٠) غنية النزوع ١ : ٥١.

(١١) المعتبر : ٢٦. (١٢) السرائر ١ : ٨٥.

(١٣) غنية النزوع ١ : ٥١. (١٤) قواعد الأحكام ١ : ١٨٩.

(١٥ و ٢٥) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٨. (١٦) إيضاح الفوائد ١ : ٢٢.

(١٧) ذكرى الشيعة ١ : ١١٠. (١٨) جامع المقاصد ١ : ١٥٠.

(١٩) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦). (٢٠) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨١.

(٢١) الخلاف ١ : ١٩٦ المسألة ١٥٣. (٢٢) المعتبر : ٢٦. (٢٣) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٨.

(٢٤) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٦.


وصاحب الذخيرة (١) ، وعن ظاهر جماعة كالتنقيح (٢) ، والسرائر (٣) ، والمنتهى (٤) ، بل لم نقف على حكاية خلاف في المسألة عن أصحابنا ، بل عن العامّة أيضا عدا ما عن الشافعي على ما في حاشية المدارك للمحقّق البهبهاني قائلا : « ونقل الإجماع في هذه المسألة غير واحد من الفقهاء ، منهم الفاضلان (٥) ، بل ما نقلوا خلافا إلّا عن الشافعي ، فإنّه قال : « يجتهد المكلّف في تحصيل الأمارات المرجّحات ومع العجز يتخيّر » (٦) ، فالظاهر أنّها وفاقيّة بين المسلمين جميعا » (٧) انتهى.

والعجب عن صاحب المدارك (٨) في جعله مذهب الأصحاب ، مشعرا بدعوى الإجماع ، مع ميله إلى جواز الارتكاب إذا لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه ، إلّا أن يكون ذلك من جهة القدح في هذا الإجماع بتضعيف مستنده حسبما يأتي في كلامه.

والحقّ ما صاروا إليه ، واستقرّت عليه فتاواهم ، وانعقد عليه إجماعهم من وجوب الامتناع عن الجميع ، ومستنده من النقل الموثّقان المتقدّمان في أخبار انفعال القليل.

أحدهما : ما عن سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل معه إناءان ، فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو ، وليس يقدر على ماء غيره؟ قال : « يهريقهما [جميعا] ويتيمّم إن شاء الله » (٩).

وثانيهما : ما عن عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو؟ وليس يقدر على ماء غيره؟ قال عليه‌السلام : « يهريقهما جميعا ويتيمّم » (١٠).

والخبران المتقدّمان في مسألة إناطة أحكام النجاسة بالعلم بتحقّق السبب ،

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٣٨.

(٢) التنقيح الرائع ١ : ٦٤.

(٣) السرائر ١ : ٨٥.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٧٤.

(٥) المعتبر : ٢٦ ـ المختلف ١ : ٢٤٨ ـ تذكرة الفقهاء ١ : ٨٩.

(٦) كذا في الأصل ، وفي بعض النسخ : « يجتنب » بدل « يتخيّر ».

(٧) حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٦٢.

(٨) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.

(٩) الوسائل ١ : ١٥١ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٩ / ٦٦٢.

(١٠) الوسائل ١ : ١٥٥ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١٤ ـ وفيه « غيرهما » بدل « غيره » ـ التهذيب ١ : ٢٤٨ / ٧١٢.


أحدهما : الحسن كالصحيح بإبراهيم بن هاشم المرويّ في الكافي عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « وإن استيقن أنّه قد أصابه شي‌ء ولم ير مكانه فليغسل ثوبه كلّه » (١).

وثانيهما : خبر عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « وإن علم أنّه قد أصاب جسده ولم يعرف مكانه فليغسل جسده كلّه » (٢).

وجه الاستدلال بهما : أنّه لو كان الاشتباه صالحا لرفع النجاسة أو أحكامها لم يكن للأمر بغسل الثوب كلّه ولا للأمر بغسل الجسد كلّه وجه ، نعم لا ينهض ذلك حجّة على من جوّز الارتكاب في غير ما يحصل معه مباشرة الجميع.

والأخبار الآمرة في الثوبين المشتبهين بالصلاة فيهما معا ، الّتي منها حسنة صفوان بن يحيى عن الصادق عليه‌السلام أنّه كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان ، فأصاب أحدهما بول ، ولم يدر أيّهما هو؟ وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء ، كيف يصنع؟ قال : « يصلّي فيهما » (٣).

وعن الصدوق في الفقيه : أنّه بعد نقل الرواية قال : « يعني على الانفراد » (٤) والتقريب في الاستدلال بها نظير ما مرّ ، مع قيامه حجّة على من جوّز الارتكاب بغير ما يحصل معه مباشرة الجميع ، وفيها دلالة على المطلوب من وجه آخر وهو : كون وجوب الغسل في تلك الصورة مع وجود الماء معتقدا للسائل مفروغا عنه لديه ، كما يفصح عنه قوله : « وليس عنده ماء » فسئل عمّا أشكل عليه الأمر وهو الصلاة في تلك الحالة ، بقوله : « كيف يصنع »؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام بما ينطبق على سؤاله.

والمقصود من إيراد هذه الأخبار التنبيه على أنّ الناظر فيها وفي غيرها ممّا نقف عليها بالتتبّع يجد أنّ الشارع في جميع أنواع المشتبه كان بناؤه على إيجاب الاجتناب ، وترتيب آثار النجس على جميع أطراف الشبهة.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٣ ب ٧ من أبواب النجاسات ح ٥ ـ مع اختلاف يسير ـ الكافي ٣ : ٥٤ / ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٥٢ / ٧٢٨.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٠٤ ب ٧ من أبواب النجاسات ح ١٠ ـ مسائل عليّ بن جعفر : ١٥٩ / ٢٣٨.

(٣) الوسائل ٣ : ٥٠٥ ب ٦٤ من أبواب النجاسات ح ١١ ـ وفيه : « يصلّى فيهما جميعا » ـ التهذيب ٢ : ٢٢٥ / ٨٨٧ ـ الفقيه ١ : ١٦١ / ٧٥٧.

(٤) الفقيه ١ : ١٦١ ذيل الحديث ٧٥٧.


والمناقشة في الأوّلين بما في المدارك (١) من ضعف السند بجماعة من الفطحيّة ممّا لا يلتفت إليها ، بعد ملاحظة انجبارهما بعمل الأصحاب كافّة ، وكونهما ممّا تلقّوه بالقبول كما في صريح غير واحد من الفحول ، مع ملاحظة موافقة مضمونهما لحكم العقل ومقتضى القواعد والاصول حسبما يأتي بيانها ، مع أنّ الموثّق بنفسه ممّا يفيد الاطمئنان الّذي عليه مناط الحجّيّة في الأخبار حسبما قرّر في الاصول.

كما لا يلتفت أيضا إلى المناقشة فيها بمعارضة أصالة الطهارة ، وأصالة الحلّيّة في الأشياء ، والأخبار الدالّة على « أنّ كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » الّتي منها : صحيحة عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام « كلّ شي‌ء يكون فيه حرام وحلال ، فهو لك حلال [أبدا] حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه » (٢)

ومنها : رواية سليمان (٣) قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن؟ فقال : « سألتني عن طعام يعجبني » ، ثمّ أعطى الغلام درهما فقال : « يا غلام ابتع لنا جبنا » ، ثمّ دعى بالغداء فتغدّى وتغدّينا معه ، فأتى الجبن فأكل وأكلنا ، فلمّا فرغنا قلت : ما تقول في الجبن؟ فقال : « تراني آكله » ، قلت : بلى ولكنّي احبّ أن أسمعه منك ، فقال : « سأخبرك من الجبن وغيره ، كلّما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه [فتدعه] » (٤) فإنّ الأصلين ثابتان في غير نظائر المقام ممّا لا علم معه بتحقّق السبب أصلا ، كما يفصح عنه التقييد بغاية العلم في مستند الأصل الأوّل ، وهو الخبر المستفيض المتقدّم ذكره مرارا « الماء كلّه طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٥) و « كلّ شي‌ء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر » (٦) فإنّ العلم الّذي هو منتهى الحكم بالطهارة حاصل في المقام ، ودعوى : عدم شمول العلم لما اشتبه معلومه غير مسموعة.

والأخبار المذكورة مع أنّها غير صالحة لمعارضة ما سبق ، ظاهرة بحكم العرف في

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٧ ب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ١ ـ الفقيه ٣ : ٢١٦ / ١٠٠٢.

(٣) وفي الوسائل : « ابن سليمان ».

(٤) الوسائل ٢٥ : ١١٧ ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ١ ـ الكافي ٦ : ٣٣٩ / ١.

(٥) الوسائل ١ : ١٣٤ ب ١ من أبواب الماء المطلق ح ٥.

(٦) الوسائل ٣ : ٤٦٧ ب ٣٧ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.


غير ما حصل فيه العلم ولو على نحو ما هو المفروض في المقام ، على معنى كون المراد بقوله : « كلّ شي‌ء يكون فيه حرام وحلال » أنّ كلّ شي‌ء صالح لأن يوجد فيه فرد حرام وفرد حلال ومحتمل لهما معا فهو لك حلال ، كما يفصح عنه صريح صحيحة ضريس قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن السمن والجبن نجده في أرض المشركين بالروم أنأكله؟ فقال : « أمّا ما علمت أنّه قد خلطه الحرام فلا تأكل ، وأمّا ما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام » (١)

وظهور الموثّقة الّذي هو كالصريح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّ شي‌ء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب فيكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع قهرا ، أو امرأة تحتك وهي اختك ، أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك ، أو تقوم به البيّنة » (٢).

ولا ينافيه لفظ « بعينه » لكون المراد به العلم بوجود شخص الحرام في محلّ الابتلاء ، وهو مفروض الحصول في المقام ، مع قوّة احتمال ورودها ـ بعد تسليم شمولها لصورة العلم المبحوث عنه ـ في الشبهة الغير المحصورة الّتي أجمعوا فيها على عدم وجوب الاجتناب ، وقضت به الأدلّة النافية للعسر والحرج الموجبين هنا لاختلال نظم العالم ، مضافة إلى قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق في أكثر صور تلك الشبهة ، بل هو الظاهر منها بعد تسليم المقدّمة المذكورة ، كما يفصح عنه ما حكاه في المجالس عن أبي الجارود قال : سألت الباقر عليه‌السلام عن الجبن؟ فقلت : أخبرني عمّن رأى أنّه يجعل فيه الميتة ، فقال : « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ، فما علمت منه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله أنّي لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والتمر والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم مأمون هذه البريّة وهذه السودان » (٣).

ثمّ على فرض تسليم عموم هذه الأخبار لصورتي العلم وعدمه ، وكلا قسمي الشبهة ، فهي لعمومها قابلة للتخصيص ، وأخبار الباب أخصّ منها مطلقا فتنهض

__________________

(١) الوسائل ٢٤ : ٢٣٥ ب ٦٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ح ١ ـ التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٦.

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٩ ب ٤ من أبواب ما يكتسب به ح ٤ ـ الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠.

(٣) الوسائل ٢٥ : ١١٩ ب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ح ٥ ـ وفيه : « ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البربر وهذه السودان ».


مخصّصة لها ، وعلى فرض منع هذه القضيّة فهذه الأخبار موهونة بعدم أخذ الأصحاب بعمومها فيما يتعلّق بالمقام.

ومن العقل والاصول العامّة وجوه بين سليم وسقيم.

منها : ما نقرّره على وجه يكون سليما عمّا يقدح فيه ، من : أنّ النجاسة في موضع العلم بتحقّق سببها ما يوجب وجود تكاليف كثيرة مترتّبة على العلم المذكور ، من حرمة مباشرتها في الأكل والشرب ، ووجوب إزالتها في مشروط بها من الصلاة والوضوء ونحوهما ، ووجوب الصلاة ونحوها بما سلم عنها من ثوب أو بدن أو ماء أو نحوه ، ولا ريب أنّ التكليف اليقيني بحكم العقل المرشد المكلّف إلى ما يدفع معه استحقاق العقوبة ومخالفة الإطاعة يستدعي الفراغ اليقيني والامتثال العلمي بالمعنى الأعمّ ، ممّا هو قائم مقام العلم في نظر الشارع ، والفارغ اليقيني بعنوان أنّه يقيني كالامتثال العلمي بوصف أنّه علمي لا يتأتّى إلّا بإجراء لوازم النجاسة في الجميع ، من التحرّز عن الجميع في مقام الأكل والشرب ، وعدم تطهير الثوب أو البدن ، وكذلك الاغتسال والتوضّي به ، وعدم الدخول في الصلاة ونحوها مع مباشرته كلّا أم بعضا في بدن أو ثوب ، ولو كان ذلك من جهة كون الثوب بنفسه من أطراف الشبهة ، فيكون الكلّ واجبا من باب المقدّمة الثابت وجوبها هنا كوجوب ذيها بحكم العقل على جهة الإنشاء بنفسه ، لا إدراك المنشأ لغيره.

والمناقشة في هذا الدليل إنّما هي بمنع مقدّماته ، كمنع العلم بتحقّق السبب رأسا ، أو منع تأثير هذا القسم في ثبوت النجاسة ، أو منع كفايته في اقتضاء النجاسة الثابتة به لأحكامها ولوازمها ، بدعوى : أنّ الاشتباه المقارن لهذا العلم مانع عن حدوث تلك الأحكام ورافع لما حدث منها قبل طروّه كالعذر العقلي أو الشرعي ، أو أنّ الشارع جعله أمارة لرفع أحكام النجاسة عن النجس المعلوم بالإجمال ، أو منع شمول الأدلّة المرتّبة لتلك الأحكام للمعلوم بالإجمال ، أو منع استدعاء الشغل اليقيني العلم بالفراغ بالموافقة ، بل غاية ما يستدعيه إنّما هو منع المخالفة القطعيّة وهي لا تحصل بارتكاب ما لا يقطع معه بمباشرة النجس الواقعي.

وأنت خبير بأنّها بجميع الوجوه المقرّرة دعوى ممنوعة على مدّعيها.

أمّا الوجه الأوّل من المنع : فلأنّ المفروض حصول العلم بوجود السبب ، وكونه إجماليّا باعتبار عدم تعيّن متعلّقه في ظاهر الحال لا يقضي بانتفائه رأسا.


وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ ثبوت صفة النجاسة في الشي‌ء لا ينوط يعلم أصلا ، حتّى يقال : بأنّ العلم الإجمالي غير مؤثّر فيه ، بناء على أنّها من الامور الواقعيّة التابعة لموضوعاتها الّتي كشف عنها الشرع ورتّب عليها أحكاما ، فثبت حين ثبوت الموضوع ، وتنتفي بانتفائه ، من غير مدخليّة للعلم فيها وجودا وعدما ، والقول : بأنّها ليست إلّا الأحكام المرتّبة الّتي لا بدّ فيها من العلم ضعيف جدّا ، وعلى فرض صحّته فالمناط موجود قطعا.

وأمّا الوجه الثالث : فلأنّ جريان أحكام النجاسة تابع للأدلّة المعلّقة لها على العلم بتحقّق سبب النجاسة ، ولا ريب أنّه لا تقييد في تلك الأدلّة كما يظهر بملاحظة ما تقدّم من الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر في مسألة إناطة أحكام النجاسة بالعلم ، أو ما يقوم مقامه ، ودعوى انصراف العلم الوارد فيها إلى غير المقام مكابرة يكشف عنها بناء العرف في عدم الفرق في الأخذ بآثار العلم بين المعلوم تحقّق سببه تفصيلا أو إجمالا.

هذا بناء على ما تقرّر في المسألة المشار إليها من نهوض الأخبار المذكورة فيها مقيّدة لأدلّة الواقع ، وإلّا فخطاب قوله : « اجتنب عن النجس » مثلا وما يؤدّي مؤدّاه ظاهر في وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي من غير مدخليّة للعلم إلّا طريقا للتوصّل إلى امتثال الأمر بالاجتناب ونحوه بحكم العقل ، الّذي لا فرق فيه بين المعلوم نجاسته تفصيلا أو إجمالا.

فمنع شمول أدلّة الواقع ، أو الأدلّة المقيّدة لتلك الأدلّة بصورة العلم لمثل المقام مكابرة ، يدفعها : فهم العرف ، وعدم قيام صارف من قبله ، ولا من قبل العقل ولا الشرع.

أمّا الأوّل : فلأنّ أهل العرف هم الّذين يقيمون بذمّ من يخالف معلوم بالإجمال. وأمّا الثاني : فلأنّ العقل لا يأبى عن معاقبة المخالف بل يجوّزها ، ولا يرضى من العالم بالإجمال بخلاف الامتثال الّذي هو متمكّن عنه بالفرض.

وأمّا الثالث : فلأنّه ليس في خطابات الشرع إلّا ما يقضي بمنع المخالفة كما عرفته من الأخبار الآمرة بالاجتناب ، أو بما هو من لوازم الاجتناب.

وتوهّم المعارضة لذلك بما تقدّم من الأصلين ، وعمومات الأخبار المعمولة في أصل البراءة ، قد عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه.


وبذلك كلّه يندفع القول بكون الاشتباه المقارن للعلم المفروض مانعا عن ترتّب أحكام المعلوم ورافعا لما حدث منها ، سواء اريد به المانعيّة والرافعيّة الثابتتان بحكم العقل أو خطاب الشرع ، فإنّ قضيّة كلّ منهما كون العلم المصادف لهذا الاشتباه مقتضيا تامّا لترتّب الأحكام جميعا ، ومعه لا يعقل المانعيّة ولا الرافعيّة.

وأمّا الوجه الأخير : فلأنّ مرجع ما ذكر إلى دعوى كفاية الموافقة الاحتماليّة في موضع التمكّن عن الموافقة القطعيّة ، وهي ممّا ينكره العقل السليم والوجدان المستقيم ، والّذي يكشف عن ذلك صحة معاقبة من اقتنع في امتثال الأمر المتوجّه إليه باحتمال الموافقة فصادف عمله مخالفة (١) الواقع ، من غير فرق في ذلك بين الأفعال والتروك ، فإنّ معنى كفاية الاحتمال كونه قائما مقام العلم مبرءا للذمّة ، ومعه لا يحسن العقاب على اتّفاق المخالفة ، لأنّ الاحتمال من شأنه ذلك.

وبجميع ما ذكر تبيّن أنّ وجوب الامتناع عن جميع أطراف الشبهة المتّفق عليه لدى الأصحاب ليس إلّا وجوبا مقدّميّا ثابتا بحكم العقل ، مضافا إلى خطاب الشرع به أصالة كما تقدّم ، ومن لوازم الوجوب المقدّمي أن لا يترتّب على مخالفة عقاب ما لم تفض إلى مخالفة الواقع ، وما تقدّم من خطاب الشرع لا يستفاد منه في خصوص المقام أزيد من ذلك ، فهو في الحقيقة تقرير لحكم العقل ، هذا بناء على الإغماض عمّا هو الأصل المقرّر عندنا في الخطابات الواردة في نظائر المقام ، وإلّا فهي بملاحظة الانسياق العرفي ظاهرة في الإرشاد إلى أمر واقعي من النجاسة أو أحكامها كما في المقام.

ومنها : ما احتجّ به العلّامة في المختلف ـ على ما نقله في المدارك ـ (٢) من « أنّ اجتناب النجس واجب قطعا ، وهو لا يتمّ إلّا باجتنابهما معا ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب » (٣).

ويمكن إرجاعه بضرب من التأويل إلى ما قرّرناه ، بأن يكون المراد من الاجتناب الواجب المتوقّف على اجتنابهما معا اجتنابه على وجه القطع به ، حتّى يكون الواجب قائما به على هذا الوجه لا الاجتناب الواقعي ، ويكون الواجب في الحقيقة هو القطع بالاجتناب لا نفس الاجتناب ، أو يكون قوله : « قطعا » قيدا للمحمول لا للإسناد ، حتّى

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.

(٣) مختلف الشيعة : ١٨.


يكون وصف الوجوب راجعا إلى القطع ، ولو لا ذلك لضعف : بأنّ المتوقّف على اجتنابهما معا ليس هو اجتناب النجس الواقعي بنفسه لاتّفاق حصوله تارة بالاجتناب عن أحدهما واخرى باجتنابهما بل المتوقّف عليه حينئذ العلم باجتناب النجس الواقعي.

وكيف كان فعن صاحب المدارك ـ وفاقا لشيخه الأردبيلي ـ (١) الاعتراض عليه : « بأنّ اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلّا مع تحقّقه بعينه لا مع الشكّ فيه ، واستبعاد سقوط حكم هذه النجاسة شرعا إذا لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه غير ملتفت إليه ، وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المنيّ في الثوب المشترك ، واعترف به الأصحاب في غير المحصور أيضا ، والفرق بينه وبين المحصور غير واضح عند التأمّل » (٢).

وأنت خبير بما فيه ، فإنّ تقييد أدلّة أحكام النجاسة بصورة العلم بتحقّق السبب وإن كان مسلّما ثابتا بالأدلّة المتقدّم إليها الإشارة ، لكن دعوى كون المعتبر في ذلك تحقّقه بعينه لا ترجع إلى محصّل ، إلّا تقييد الأدلّة المقيّدة بما يخرج معه علم يكون معلومه مجملا ، وهي كما ترى دعوى لا شاهد لها من عقل ولا نقل ، بل الشواهد العرفيّة والعقليّة والنقليّة متطابقة في خلاف تلك الدعوى كما تقدّم بيانه ، فمنع سقوط حكم هذه النجاسة ليس من جهة الاستبعاد الصرف ، مع ما في جعل ذلك استبعادا غير ملتفت إليه ، وتقييده بما لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه من التدافع الواضح ، ضرورة أنّ سقوط حكم هذه النجاسة في الواقع أو الظاهر يقتضي جواز المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه ، كما أنّ منع مباشرة الجميع اعتراف بعدم سقوط حكم النجاسة ولزوم الاجتناب عن الجميع الّذي حكم به العقل ووافقه الشرع ليس من أحكام هذه النجاسة من حيث هي حتّى يرتفع الاستبعاد عن سقوطه بل هو من أحكام العلم بعدم مباشرة النجاسة.

وأعجب ممّا ذكر مقايسة المقام على مسألة واجدي المنيّ في الثوب المشترك ، فإنّ وضوح الفرق بين المقامين كما بين السماء والأرض ، فإنّ المكلّف في محلّ البحث عالم بتوجّه طلب الشارع إليه لعلمه بتحقّق سبب النجاسة بالقياس إليه نفسه ، فينعقد معلومه بذلك تكليفا فعليّا في حقّه فيجب عليه امتثاله على وجه القطع به ، بخلاف المقيس عليه الّذي لا علم فيه لأحد من المشتركين في الثوب بتوجّه الخطاب إليه ، من

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٨١.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٧.


جهة عدم علمه بتحقّق السبب منه ، بل لو فرض استمرار العذر لهما معا يقبح على الشارع الحكيم توجيه الخطاب إليهما بطلب الاغتسال عنهما معا أو عمّن تحقّق منه السبب بحسب الواقع ، ضرورة عدم جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه ؛ وهو علم المأمور بتحقّق جهة صدور الطلب المتوقّف على علمه بتحقّق السبب منه بعينه ، ولا يجدي فيه علم الآمر بواقع الأمر ، لأنّ العبرة في صحّة الأمر بعلم المأمور لا بعلم الآمر.

وأضعف من الجميع الاستشهاد بما اعترف به الأصحاب من حكم الشبهة الغير المحصورة ، فإنّ هذا الاعتراف منهم إنّما نشأ عن وجوه غير جارية في المقام الّذي هو من أفراد الشبهة المحصورة ، وإلّا فلو لا قيام تلك الوجوه ثمّة لمكان الحكم الّذي اعترفوا به على خلاف القاعدة ، فالفرق بين المقامين واضح للمتأمّل.

ومنها : ما احتجّ به في المنتهى (١) تبعا للخلاف ـ (٢) على ما في شرح الدروس ـ (٣) من أنّ الصلاة بالماء النجس حرام ، فالإقدام على ما لا يؤمن معه أن يكون نجسا إقدام على ما لا يؤمن معه فعل الحرام ، فيكون حراما.

ولا يخفى ضعفه ، فإنّ حرمة الصلاة بالماء النجس إن اريد بها الحرمة الذاتيّة فالمتّجه منعه ، لعدم قيام دليل عليه من الشرع بالخصوص ، وإن اريد بها الحرمة التشريعيّة فالمتّجه منع كلّيّة المقدّمة الثانية ، لأنّه لا يأتي بالماء المذكور إلّا لرجاء إصابة الماء الطاهر ، فلا يعلم اندراجه في موضوع التشريع ليكون حراما.

ومنها : ما عن المعتبر (٤) من أنّ يقين الطهارة في كلّ منهما معارض بيقين النجاسة ولا رجحان ، فيتحقّق المنع.

وعن المعالم الإيراد عليه : « بأنّ يقين الطهارة في كلّ واحد بانفراده إنّما يعارضه الشكّ في النجاسة لا اليقين » (٥).

واستجوده شارح الدروس ، وأضاف إليه : « أنّه لو تمّ المعارضة من دون رجحان فما الوجه في المصير إلى المنع ، لم لا يصار إلى أصلي البراءة والطهارة » (٦).

والظاهر أنّ المراد بيقين الطهارة في الحجّة اليقين الفعلي بالطهارة المردّدة ظاهرا ،

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٧٦.

(٢) الخلاف ١ : ١٩٧ المسألة ١٥٣.

(٣ و ٦) مشارق الشموس : ٢٨١.

(٤) المعتبر : ٢٦.

(٥) فقه المعالم ١ : ٣٧٨.


المتساوي نسبتها من جهة الاشتباه إليهما معا ، وهذا وإن كان ممّا يقتضي جواز الاستعمال ، غير أنّه يعارض اليقين الفعلي بالنجاسة المردّدة المتساوي نسبتها إلى كلّ واحد ، المقتضي لمنع الاستعمال.

وقوله : « ولا رجحان » أي لا مزيّة لأحد اليقينين لتوجب الأخذ به في حدّ ذاته ، لعدم تعيّن مورده ، فلا بدّ من مراجعة الخارج ، ومقتضاه المنع عن الجميع ، إمّا لحكم العقل بوجوب الإطاعة الّتي لا يحصل العلم بها إلّا بذلك ، أو لبناء العرف على تقديم أدلّة المنع على أدلّة الجواز وفهمه حكومة الاولى على الثانية.

وبالجملة مرجع هذه الحجّة ـ بناء على الظاهر ـ إلى ما قرّرناه وحقّقناه ، وعليه يضعّف ما ذكر في الإيراد عليه ، ولا سيّما الوجه الثاني ، فإنّ كلّا من أصلي البراءة والطهارة ممّا يصار إليه في غير موضع العلم بالخلاف ، وكأنّ مبنى الوجه الأوّل على توهّم إرادة اليقين السابق من يقين الطهارة ، فيقال في دفعه : إنّه لا مقابل له في كلّ واحد منفردا إلّا احتمال النجاسة ، وهو لا يصلح معارضا لليقين بالطهارة السابق على طروّ الاشتباه ، بل هو ممّا يحقّق الاستصحاب ومحلّه ، أو يوجب مراجعة أصل الطهارة الجاري في كلّ مشكوك في نجاسته.

وأنت خبير بما فيه من أنّه لا يجري في أكثر الصور المتقدّمة ، ولا سيّما صورة تأخّر الشبهة عن اليقين بنجاستهما معا عند إصابة المزيل لأحدهما المشتبه ، فينعكس فرض الاستصحاب حينئذ ، مع أنّ اليقين بالنجاسة ولو كانت مردّدة المفروض وجوده في المقام صالح لنقض اليقين السابق بالطهارة ، ضرورة أنّه يقين نقضناه بيقين مثله ، مع أنّ مقتضى القاعدة المتقدّمة المأخوذة من حكم العقل عدم الفرق بين الصور المشار إليها ، الّتي منها ما لو كان المشتبهان مسبوقين بالطهارة كما في مورد الرواية ، أو بالنجاسة ، أو غير معلوم الحالة السابقة.

ولعلّه لأجل ما أشرنا إليه من توهّم جريان الاستصحاب أو أصل الطهارة قد يقال : « ويحتمل ضعيفا الفرق بين الصور بالحكم بجواز ارتكاب أحدهما في الاولى دون الأخيرتين ، أو في الاولى والأخيرة دون الثانية » (١) ، بل ومقتضى القاعدة جريان الحكم في الشيئين

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٧٨.


المختلفين في الماهيّة المعلوم بإصابة النجاسة لأحدهما لا بعينه كما نبّهنا عليه سابقا. وأمّا ما في المدارك من أنّه « يستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الماء وخارجه لم ينجّس الماء بذلك ، ولم يمنع من [استعماله] » (١) ، آخذا له مؤيّدا لما تقدّم منه من إنكار لزوم الاجتناب عن الجميع فغير واضح الوجه ، إذا كان كلّ من المشتبهين ممّا يحوج إلى استعماله المكلّف في مشروط بالطهارة ، بحيث لو فرض علم تفصيلي له بمورد النجاسة لكان مخاطبا بالاجتناب عنه خطابا فعليّا كثوب بدنه ، وماء إناءه الّذي يريد استعماله أو شربه ، والأرض الّتي يريد التيمّم بها ، أو ماء يريد شربه ، وأرض يريد التيمّم بها (٢) وما أشبه ذلك.

وليس في كلام الأصحاب ولا في أخبار الأئمّة الأطياب عليهم صلوات الله ربّ الأرباب ما يقضي بما ادّعاه تصريحا ولا تلويحا.

نعم ، في رواية عليّ بن جعفر المتقدّمة في مواضع متكثّرة من الأبواب المتقدّمة ما ربّما يوهم ذلك حيث يقول : « عن رجل رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا ، فأصاب إناءه ، هل يصلح الوضوء منه؟ قال : إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا تتوضّأ منه » (٣).

وقد تقدّم منّا ما يدفع ذلك ، فإنّ الرواية صريحة في إصابة الإناء ولا مدخل له بصورة الاشتباه ، والسؤال واقع عن صلاحية إصابة الإناء أمارة على إصابة الماء أيضا ليوجب الامتناع عنه في الوضوء ، فالمورد ليس إلّا من باب الشكّ الصرف في إصابة الماء ، وهذا من مجاري أصالة الطهارة ، ولذا أناط الإمام عليه‌السلام الامتناع عنه باستبانة الدم في الماء.

ويمكن تنزيل كلامه إلى ما لا يستلزم توجّه التكليف الفعلي بالاجتناب على تقدير العلم التفصيلي بموقع النجاسة ، بحمل « الخارج » الّذي هو أحد طرفي الشبهة على ما لا يقع موضع ابتلاء للمكلّف ، بحيث لو فرض توجّه التكليف إليه لعدّ عبثا ، لكنّه يخرج حينئذ عن كونه مؤيّدا لمطلوبه.

وبالجملة هاهنا صورتان ، إحداهما : ما لو كان كلّ من أطراف المشتبه من مواضع ابتلاء

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٨.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) الوسائل ١ : ١٥٠ ب ٨ من أبواب الماء المطلق ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٢ / ١٢٩٩ ـ الكافي ٣ : ٧٤ / ١٦.


المكلّف ، على وجه صحّ توجّه التكليف إليه فعلا على تقدير عدم الاشتباه ، مع كون التكليف الفعلي مسبّبا عمّا حصل الاشتباه في مورده.

واخراهما : ما لم يكن بعض الأطراف من مواضع ابتلاء المكلّف ، أو كان لكن كان الحكم بالاجتناب عن بعض معيّن ثابتا على كلا تقديري إصابة هذه النجاسة المردّدة وعدمها ، كما لو أصاب قطرة بول أو دم وتردّد بين إصابته الماء أو الثوب ، وإصابته الأرض النجسة أو العذرة الموجودة فيها أو البالوعة ونحوها.

ولا ريب أنّ محلّ الكلام ومورد حكم العقل هو الصورة الثانية ، إذ مع الابتلاء تنجّز التكليف الفعلي ويقوم العلم الإجمالي بتحقّق سببه مقام العلم التفصيلي حسبما ذكرنا.

وأمّا الصورة الثانية فالارتكاب فيها لمحلّ الابتلاء من أطراف الشبهة جائز قطعا ، والعلم الإجمالي بتحقّق النجاسة المردّدة بينه وبين غير محلّ الابتلاء لا يؤثّر في تنجّز التكليف أصلا ، فأصالة الطهارة فيه سليمة عن المعارض قطعا.

ومنه ما لو وقع النجاسة على ما يتردّد بين ثوبه وثوب شخص آخر الّذي لا يمسّ له الابتلاء بذلك ، ومنه ما لو تردّدت النجاسة الواقعة بين وقوعها في إنائه الّذي يريد التطهّر به أو استعماله في أكل أو شرب أو في الماء الكثير أو الجاري الموجود عنده ، فإنّ أمثال هذه الفروض من باب الشكّ الصرف في التكليف ، بالقياس إلى ما لو علم بتحقّق السبب فيه تفصيلا لكان مكلّفا بالاجتناب عنه فعلا.

ثمّ إنّ هاهنا فروعا ينبغي التعرّض لبيانها لما فيها من عموم النفع.

أحدها : إذا اتّفق ملاقاة طاهر للمشتبه ، فهناك صور.

الاولى : ما يتولّد معه العلم التفصيلي بالنجاسة ، كما لو اتّفق ملاقاته لكلا طرفي الشبهة.

الثانية : ما يتولّد معه العلم الإجمالي ، كما لو اتّفق ملاقاة طاهر لأحد طرفي الشبهة وآخر لطرفها الآخر.

الثالثة : ما يتولّد معه مجرّد الاحتمال.

ولا إشكال في الصورة الاولى لدخول المفروض في النجس المعلوم بالتفصيل ، ولا في الصورة الثانية لدخول المفروضين في الشبهة المحصورة فيلحقهما حكمها ، وأمّا


الصورة الثالثة ففيها إشكال نشأ من جهة خلاف بين الأصحاب ، فقيل : بأنّه لا يلحقه حكم المشتبه ولا يجب اجتنابه ، صرّح به في المدارك (١) ، وحكى القطع به عن المحقّق الشيخ عليّ في حاشية الشرائع (٢) ، والميل إليه عن جدّه قدس‌سره في روض الجنان (٣) ، لأنّ احتمال ملاقاة النجس لا يرفع الطهارة المتيقّنة ، وقد روى زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » (٤) ولأنّه لم يعلم ملاقاته لنجس ، وإنّما علم ملاقاته لما يجب الاجتناب عنه مقدّمة ، فهو باق على أصالة الطهارة ، ولا يجري فيه دليل وجوب الاجتناب عن النجاسة الواقعيّة بعد حكم الشارع بأنّه طاهر غير نجس.

وقيل : بأنّه يلحقه حكم المشتبه الّذي منه وجوب غسله ، صرّح به العلّامة في المنتهى قائلا : « بأنّه لو استعمل أحدهما وصلّى به ، لم تصحّ صلاته ووجب غسل ما أصابه المشتبه بماء متيقّن الطهارة كالنجس » (٥).

ثمّ حكى عن الحنابلة وجها بعدم وجوب غسله ، لأنّ المحلّ طاهر بيقين ، فلا يزول بشكّ النجاسة.

فأجاب عنه : « بأنّه لا فرق هنا بين يقين النجاسة وشكّها في المنع بخلاف غيره » (٦).

واجيب عنه : « بأنّ اليقين بالنجاسة موجب لليقين بنجاسة ما أصابه ، وأمّا الشكّ فيها فلا يوجب اليقين بنجاسة ما أصابه ، فيبقى على أصالة الطهارة ، وعدم الفرق بين اليقين والشكّ هنا شرعا إنّما هو في وجوب الاجتناب لا في تنجيس الملاقي » (٧).

والوجه في ذلك : أنّ الساري من حكم النجس الواقعي إلى كلّ من المشتبهين إنّما هو الحكم التكليفي أعني وجوب الاجتناب ، لأنّ الاجتناب عن كلّ واحد مقدّمة علميّة للواجب ، وأمّا الحكم الوضعي وهي نفس النجاسة فلا يعقل سرايتها إليهما ، بل هي قائمة بما هو نجس واقعا. ويظهر من صاحب الحدائق موافقة العلّامة ، حيث يقول : « بأنّ مقتضى القاعدة المستفادة من استقراء الأخبار الواردة في أفراد الشبهة المحصورة أنّ

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٨.

(٢) لم نجده في حاشية الشرائع.

(٣) روض الجنان : ١٥٦.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٧٧ ب ٤١ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٥.

(٥ و ٦) منتهى المطلب ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٧) كتاب الطهارة ـ للشيخ الانصاري رحمه‌الله ـ ١ : ٢٨٣.


الشارع أعطى المشتبه بالنجس والحرام حكمهما ، ألا ترى أنّ ملاقاة النجاسة بعض أجزاء الثوب مع الاشتباه بباقي أجزاءه موجب لغسله كملا » (١).

وردّ : بمنع عموم هذه الدعوى إن أريد بها جميع الأحكام ، وعدم جدواه إن اريد في الجملة.

وبمثل ذلك اعترض صاحب المعالم على ما ذكر في الاحتجاج على مذهب العلّامة ، من أنّ المفروض كون الاشتباه موجبا للإلحاق بالنجس في الأحكام ، فملاقيه إمّا نجس أو مشتبه بالنجس ، وكلاهما موجب للاجتناب ، قائلا : « وفساده ظاهر ، فإنّ إيجاب الاشتباه للإلحاق بالنجس إن كان في جميع الأحكام فهو عين المتنازع ؛ وإن كان في الجملة فغير مجد ، وكون مطلق الاشتباه موجبا للاجتناب في حيّز المنع ، وإنّما الموجب لذلك على ما هو المفروض اشتباه خاصّ » انتهى (٢).

وتحقيق المقام : أنّه لا يمكن مقايسة ملاقي المشتبه كائنا ما كان على نفس المشتبه في شي‌ء من أحكامه حتّى الحكم التكليفي المعبّر عنه هنا بوجوب الاجتناب ، لأنّ أصالة الطهارة أصل قرّره الشارع ـ حسبما تقدّم بيانه مفصّلا ـ لإحراز الطهارة في كلّ ماء ـ بل كلّ شي‌ء ـ مشكوك في نجاسته ، باعتبار الشكّ في عروض وصف النجاسة بتحقّق سببه وعدمه ، ولا ريب أنّ المقام من مجاريه ، السليمة عمّا يمنع جريانه ، ومعناه القاعدة المقتضية لإجراء جميع أحكام الطهارة وآثارها ، وعدم الاعتناء باحتمال طروّ النجاسة ـ ولو ظنّا ـ ما لم يستند إلى دليل شرعي.

وقضيّة ذلك كونه في مجاريه علما شرعيّا بالطهارة في ترتيب أحكامها ، كالدخول في الصلاة وغيرها من مشروط بالطهارة ، متلبّسا بمورده باستعمال وغيره من أنواع الملاقاة ، وتناوله أكلا أو شربا أو نحو ذلك من أنواع التصرّفات المنوط جوازها بالطهارة ، فلا يعارضه أصل الشغل الجاري في الصلاة ونظائرها ، ولا استصحاب الأمر المقتضيين للعلم بالبراءة المتوقّف على ترك مباشرة المورد ، لأنّ العلم المأخوذ في مقتضاهما بملاحظة الأدلّة الشرعيّة القطعيّة ، الّتي عمدتها السيرة والإجماع الضروري والأخبار المتفرّقة في الأبواب الفقهيّة البالغة فوق حدّ التواتر ، معنى أعمّ من الشرعي

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥١٣ نقلا بالمعنى.

(٢) فقه المعالم ٢ : ٥٨١.


الّذي هو موجود في المقام.

ولا يجري نظيره في نفس المشتبه لعدم كونه من مجاريه المأخوذ فيها الشك في عروض الوصف ، ضرورة أنّ أحد فردي المشتبه متيقّن طهارته والفرد الآخر متيقّن نجاسته ، ولا شكّ في شي‌ء منهما ، غاية الأمر حصول الاشتباه بين موردي الطهارة والنجاسة المتيقّنتين ، ومعه لا يعقل جريان الأصل المعلّق على الشكّ في عروض الوصف ، ولا ينفع في ذلك فرض الكلام في أحدهما المعيّن الّذي هو مشكوك في طهارته ونجاسته ، لأنّ هذا الشكّ شكّ في تعيين ما عرض له الوصف لا أنّه شكّ في عروض الوصف ، ومثله لم يعلم كونه مشمولا لأدلّة الأصل إن لم ندّع العلم بالعدم.

ولو سلّم عموم الأدلّة ، فهذا الأصل كما يمكن فرض جريانه في هذا المعيّن فكذلك يمكن جريانه في المعيّن الآخر ، وإعماله فيه دون صاحبه ترجيح بلا مرجّح ، وإعمالهما معا طرح لأدلّة النجس الواقعي المحرز لأحكامه جميعا فيما هو النجس الواقعي من الفردين ، واعتبار التخيير بينهما ممّا لم يقم عليه دليل من العقل ولا النقل ، فيبقى حكم العقل بلزوم اجتناب الجميع مقدّمة للعلم بالامتثال سليما عمّا يرفعه.

ولا يمكن استفادة التخيير من نفس أدلّة الأصل ، كما هو في سائر موارد التخيير المعلّق على الاضطرار ، ولذا كان التخيير الثابت فيها راجعا إلى حكم العقل الّذي هو هنا بعد حكمه بلزوم تحصيل المقدّمة العلميّة غير معقول.

وممّا ذكر جميعا يندفع ما توهّم في المقام من أنّ الموجب لسقوط أصالة الطهارة في المشتبه الملاقى ـ بالفتح ـ وهي معارضتها بأصالة طهارة المشتبه الآخر موجود بعينه في الثالث الملاقي ـ بالكسر ـ ، فيسقط أصالة طهارته أيضا ، فيجب الاجتناب عنه مقدّمة للواجب الواقعي.

هذا مع أنّ المعارضة بين الأصلين بالنسبة إلى المقام إنّما تتأتّى فيما كان الأخذ بأحد الأصلين منافيا للعلم بحصول امتثال الأمر بالاجتناب عن النجس الواقعي ، كما في الأصل الجاري في كلّ من المشتبهين ، ولا ريب أنّ ما يجري في الملاقي بالكسر ليس بهذه المثابة ، لعدم دخول مورده في أطراف العلم الإجمالي المحرز للتكليف الفعلي.

فإن قلت : مقتضى الخطاب بالاجتناب عن النجس الواقعي وجوب ترتيب جميع


آثار النجس على المشتبه ، الّتي منها الاجتناب عن ملاقيه ، كما أنّ منها الامتناع عن تناوله أكلا وشربا ، ولا يعلم امتثال هذا الخطاب إلّا بالامتناع عن ملاقي المشتبه أيضا ، فيكون ذلك أيضا مقدّمة علميّة للامتثال.

قلت : آثار النجس الواقعي على قسمين :

أحدهما : ما ليس له في ترتّبه موضوع سوى نفس النجس المعلوم وجوده هنا فيما بين المشتبهين ، كحرمة تناوله أكلا وشربا ، وعدم إجزاء استعماله في مشروط بالطهارة.

وثانيهما : ما له في ترتّبه موضوع أثبته الشارع ، لا يترتّب ذلك الحكم إلّا بعد كون ذلك الموضوع محرزا ، كوجوب الاجتناب عن ملاقي النجس ، فإنّه حكم تابع لموضوعه وهو الملاقاة ، وهو في المقام غير محرز ، لعدم تبيّن كون الملاقى ـ بالفتح ـ هو النجس الواقعي ، ومجرّد الاحتمال غير كاف في ذلك ، فحينئذ لم يعلم كون الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ المفروض هنا من آثار النجس المشتبه ، كما علم ذلك في الملاقي لكلا المشتبهين.

وبجميع ما ذكر ينقدح أنّه لو فقد المشتبه الملاقي لم يكن المشتبه الآخر مع الملاقى من باب الشبهة المحصورة كما قد يتوهّم.

نعم ، لو اتّفق اشتباه الملاقى بالمشتبه الملاقي أو صاحبه استقرّت الشبهة بين الجميع ، لدخول الملاقى في دائرة العلم الإجمالي.

وثانيها : لو انصبّ أحد الإنائين بعد ملاقاة النجاسة وقبل العلم بها ، فإذا علم بها حصل الاشتباه في محلّ الملاقاة هل هو الإناء المنصبّ أو الباقي؟ لم يجب الاجتناب عن الباقي لا أصالة ولا مقدّمة.

أمّا الأوّل : فلعدم تبيّن كون الملاقاة بالنسبة إليه.

وأمّا الثاني : فلعدم تنجّز التكليف بذي المقدّمة ، أمّا قبل الانصباب فلعدم العلم بتحقّق السبب ، وأمّا بعده فلعدم العلم ببقاء الموضوع.

ومن هذا الباب ما لو انصبّ أحد الإنائين بعد الاشتباه الطاري لمحلّ الملاقاة المعلومة ، ضرورة أنّ ارتفاع موضوع الحكم من مسقطاته ، وبقاؤه مع هذا الفرض غير معلوم ، ومعه لا يعلم ببقاء التكليف. ولا يمكن إبقاء الموضوع بحكم الاستصحاب ، لأنّ


الانصباب قد حدث بيقين والشكّ في المنصبّ ، ولا يعقل تعيينه بالأصل ، ولا يمكن أيضا استصحاب وجوب الاجتناب كما توهّم ، إذ لو اريد به الوجوب الأصلي المعلّق على النجس الواقعي فبقاء موضوعه غير محرز ، ولو اريد الوجوب المقدّمي فهو ـ مع أنّه تابع لوجوب ذي المقدّمة ووجوده ـ حكم قد ثبت من العقل الّذي هو موجود مع الفرض ، فينبغي المراجعة إليه نفسه لا استصحاب حكمه ، ولا نجده بعد المراجعة إلّا ساكتا ، كيف وحكمه كان مبنيّا على عدم اقتناعه باحتمال الامتثال في موضع تيقّن الاشتغال ، وهو في الفرض غير متيقّن.

فما يقال هنا : من أنّه يجب الامتناع عن الآخر الباقي لبقاء حكم العقل الثابت قبل الانصباب ، ولا معنى لارتفاعه بتعذّر الامتناع عن المنصبّ ، شي‌ء لا نعقله ، فحينئذ لو اشتبه طاهر آخر بذلك المشتبه الباقي لا يوجب اندراجهما في عنوان الشبهة ، فما في منتهى العلّامة من أنّه « لو كان أحدهما متيقّن الطهارة والآخر مشكوك النجاسة ، كما لو انقلب أحد المشتبهين ثمّ اشتبه الباقي بمتيقّن الطهارة ، [وكذا لو اشتبه الباقي بمتيقّن النجاسة] وجب الاجتناب » (١) ليس بسديد.

نعم ، قوله : « وكذا لو اشتبه الباقي بمتيقّن النجاسة وجب الاجتناب » سديد.

هذا كلّه إذا كان النظر إلى إثبات الحكم من جهة القاعدة ، وأمّا بناء على الاقتصار على النصّ فيمكن استفادة الإلحاق منه في مورده بناء على عدم التعدّي عنه إلى غيره ، نظرا إلى أنّه لو كان انصباب أحدهما وسيلة إلى رفع التكليف بالاجتناب المسوّغ لاستعمال الباقي في طهارة وغيرها لكان على المعصوم عليه‌السلام الإرشاد إليه بالأمر باهراق أحد الإنائين دون الجميع ، فالأحوط إذن الاجتناب عن الباقي وطاهر مشتبه به أيضا ، ولا يترك هذا الاحتياط البتّة.

وثالثها : إذا تمكّن المكلّف عن ماء آخر غير المشتبهين لصلاته حدثا أو خبثا تعيّن بلا إشكال ولا خلاف ، ولا يسوغ معه العدول عن المائيّة إلى التيمّم ، وإذا لم يتمكّن عن ماء آخر فإن لم يمكن له الصلاة بالطهارة المتيقّنة عن الحدث فالظاهر أنّه لا إشكال أيضا عندهم في تعيّن العدول إلى التيمّم ، وإن أمكن له الصلاة بالطهارة المتيقّنة كما لو

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٧٨.


تطهّر بأحدهما وصلّى ، ثمّ تطهّر بالآخر وصلّى بعد ما غسل من أعضائه ما لاقاه الأوّل ، فالمصرّح به في كلام جمع المنع عنه أيضا ، بل في الحدائق : « الظاهر أنّه لا خلاف في الحكم المذكور » (١) ، والمنقول عن المعتبر في تعليله : « أنّه ماء محكوم بالمنع منه ، فيجري استعماله مجرى النجس » (٢) ، وعن بعضهم : « أنّه يصدق عليه بعد الطهارة الاولى أنّه متيقّن الحدث شاكّ في الطهارة ، ومن هذا [شأنه] لا يسوغ له الدخول في الصلاة نصّا وإجماعا ، والوضوء الثاني يجوز أن يكون بالنجس ، فيكون قد صلّى بنجاسة » (٣).

وعلّله في المدارك : « بأنّ هذين الماءين قد صارا محكوما بنجاستهما شرعا ، واستعمال النجس في الطهارة ممّا لا يمكن التقرّب به ، لأنّه بدعة » ، ثمّ قال : « وفيه ما فيه » (٤) ولعلّه لمنع المقدّمة الاولى ، حيث إنّ هذين الماءين إنّما حكم بالاجتناب عنهما لا بنجاستهما معا ، ولا ملازمة بين وجوب الاجتناب عن شي‌ء ونجاسته ، والمانع عن قصد التقرّب إنّما هو النجاسة المتيقّنة ، وهي مع الصلاة بكلّ واحد بعد استعماله منفردا ثمّ غسل ما لاقاه الأوّل غير حاصلة ، ومقارنة رجاء إدراك الصلاة مع الطهارة الحدثيّة رافعة لعنوان البدعة ، واحتمال فوات الطهارة الخبثيّة عند كلّ صلاة لا يعارض اليقين بوقوع إحداهما مع الطهارة لا محالة.

نعم ، إنّما يترتّب الأثر على هذا الاحتمال فيما لم يتخلّل صلاة بين الوضوءين ، بأن توضّأ بأحدهما ثمّ توضّأ بالآخر بعد ما غسل به العضو الملاقي للأوّل ثمّ صلّى ، فإنّ الغسل وإن كان يمنع عن يقين وجود النجاسة في العضو حين الوضوء الثاني والصلاة به ، غير أنّه يوجب اليقين بطروّ النجاسة للعضو المردّد بين كونه بالوضوء الأوّل أو غيره لا محالة ، مع عدم اليقين بزوالها بمجرّد ذلك الغسل لجواز كونه باعثا على طروّها ، ولا ريب أنّ المقام حينئذ من مواضع الاستصحاب ، والنجاسة المستصحبة كالنجاسة المتيقّنة في اقتضاء المنع ، وليس كذلك الحال في الفرض المتقدّم لاستلزامه وقوع إحدى الصلاتين بالطهارة المتيقّنة.

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٥١٧ ، وفيه : « الّذي صرّح به جمع من الأصحاب المنع وهو الظاهر ».

(٢) المعتبر : ٢٦.

(٣) حكاه عنه في الحدائق الناضرة ١ : ٥١٧.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٠٩.


نعم ، قضيّة ما نبّهنا عليه من تقرير الاستصحاب تحقّق المنع في هذا الفرض أيضا عن الصلاة الثانية ولو بمعونة أصالة تأخّر الحادث ، بملاحظة أنّ استعمال الماء الثاني في غسل العضو والوضوء بعده مع استلزامه حصول اليقين بطروّ النجاسة للعضو لا محالة مردّد بين كونه مقتضيا لطروّها أو رافعا للطاري ، فلا يمكن الحكم عليه بأحد العنوانين معيّنا ، لكن أصالة تأخّر الحادث يقتضي مقارنة طروّها له ، ولا يمكن الاستناد إلى أصل الطهارة بالقياس إلى العضو لانقطاعه باليقين المذكور ، فالإقدام على الصلاة ثانيا حينئذ إلقاء للنجاسة المستصحبة ونقض لليقين بها بمجرّد الشكّ ، فهذه الصلاة محكوم بفسادها جدّا ، وإن لم نقل بحرمة فعلها من جهة تحقّق عنوان البدعة فيها ، أو حرمة مخالفة الاستصحاب ، أو حرمة الصلاة بالنجاسة ـ ولو مستصحبة ـ حرمة ذاتيّة.

ومن هنا لا يبعد طرد نظير هذا الكلام إلى الصلاة الاولى أيضا ، بملاحظة أنّه حين الإقدام عليها شاكّ في شرط الصحّة من طهارة حدثيّة وخبثيّة معا ، ومعلوم أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط ، والشكّ في الصحّة كاف في الحكم بالفساد ، إذ لا بدّ في الإقدام عليها على وجه الصحّة من كون شروط الصحّة محرزة ولا محرز لهذين الشرطين.

ولو سلّم أنّ الطهارة الخبثيّة ممّا يحرز بالأصل فلا يتمّ ذلك في الطهارة الحدثيّة ، بل الأصل بالنسبة إليها يقتضي الخلاف كما لا يخفى ، فالمانع عن الإقدام على هذه الصلاة هو استصحاب الحدث ، كما أنّ المانع عن الصلاة الثانية هو استصحاب الخبث.

ومع قيام هذين المانعين فكيف يكتفي بهاتين الصلاتين في إحراز الصحّة وامتثال الأمر بالصلاة ، ولعلّه إلى ما قرّرناه ينظر الثاني من الوجوه المتقدّمة في سند المنع ، فتبيّن أنّه أوجه من الوجهين الآخرين.

فما يقال : من أنّ الأقوى وجوب الجمع بين الوضوءين مع التيمّم على تقدير إمكان غسل العضو الملاقي لأوّل الماءين ثمّ الصلاة عقيب كلّ وضوء غير واضح الوجه ، فإنّ الوضوءين لاقتران كلّ منهما بما يقتضي بطلان الصلاة معه يكون وجودهما بمنزلة عدمهما ، فهما مع التيمّم كالحجر الموضوع جنب الإنسان.

إلّا أن يقال : بأنّ المكلّف قبل الإقدام على إيجاد الوضوءين يعلم أنّ أحدهما يقع


بماء طاهر على محلّ طاهر ، فيعلم أنّ إحدى الصلاتين تقع جامعة لشرطي الطهارة الحدثيّة والخبثيّة معا ، وإن كان لا يعلم به عند إيجاد كلّ بعينه ، فهو من أوّل الأمر قاصد لإيجادهما بداعي إدراك المأمور به الواقعي وهو الصلاة الجامعة للشرطين ، كما في الصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة بشرط أن لا يقصد عند إيجاد كلّ كونه بعينه المأمور به الواقعي ، ولا كونه بعينه مقدّمة علميّة ، بل يأتي بكلّ على أنّه بعض من العدد المندرج فيه المأمور به الواقعي ، فالاشتباه لا ينافي قصد التقرّب والنيّة الّتي هي الداعي في الحقيقة ، وانضمام التيمّم حينئذ إلى الوضوءين إنّما هو للخروج عن شبهة الحرمة الذاتيّة في التطهّر بالماء النجس الموجبة لسقوط الأمر بالمائيّة ، لعدم إمكانها بعد فرض وجوب الاجتناب عن الجميع مقدّمة علميّة للاجتناب الواجب ، الثابت وجوبه بالقياس إلى ما هو نجس في الواقع ، كما هو الحال بالقياس إلى مقام الاستعمال في الأكل والشرب ، فيكون الوجه في وجوب الجمع حينئذ هو الاحتياط الّذي هو واجب في نظائر المقام.

لكن يشكل ذلك : بأنّ الالتزام بذلك الاحتياط رعاية لتحصيل الطهارة الحدثيّة على وجه اليقين ترك للاحتياط بالقياس إلى رعاية الطهارة الخبثيّة ، لما عرفت من أنّ الغسل المتخلّل بين الوضوءين مورث لطروّ النجاسة اليقينيّة ، ومحرز لموضوع استصحاب تلك النجاسة المتيقّنة إلى أن يقارن الوضوء والصلاة الثانيين للنجاسة المستصحبة في العضو ، ومعه لا يعقل كونهما بعضا من العدد المندرج فيه المأمور به الواقعي.

فالأقوى إذن الاكتفاء بصلاة واحدة مع الوضوء بإحدى الماءين مع انضمام التيمّم إليه ، هذا كلّه على حسب القواعد مع قطع النظر عن النصّ ، ولعلّه عليه يبتني كلام الأصحاب في الاستدلال على المنع من الاستعمال رأسا بالوجوه المتقدّمة وإلّا فالنصّ المتقدّم ذكره في الإناءين صريح في المنع من الاستعمال مطلقا والأمر بالتيمّم ، فالأخذ بمقتضى النصّ يستدعي تعيّن التيمّم ، وكون التكليف في الصلاة معه فقط.

إلّا أن يقال : بأنّه حكم ثبت في محلّ خاصّ ولا عموم في النصّ ليشمل ساير أفراد الشبهة الحاصلة في الماءين.

وأمّا ما في كلام بعض مشايخنا (١) من احتمال تنزيله على صورة عدم التمكّن من

__________________

(١) كتاب الطهارة ـ للشيخ الأنصاري رحمه‌الله ١ : ٢٨٧.


إزالة النجاسة المتيقّنة عن بدنه ، فإنّ تكرار الصلاة مع كلّ وضوء وإن كان ممكنا ، إلّا أنّه قد لا يمكن إزالة النجاسة للصلاة الآتية ولسائر استعمالاته المتوقّفة على طهارة يده ووجهه ، مع كون المقام من مواضع ترك الاستفصال المفيد للعموم في المقال ، ليس على ما ينبغي ، إذ لم يعلم بقاطع ولا موهن له في المقام.

فتقرّر بجميع ما ذكر : أنّ الأقوى الاقتصار على التيمّم في مورد النصّ خاصّة ، والجمع بينه وبين استعمال أحد الماءين في غيره عملا بالاحتياط.

ورابعها : ما تقدّم من الكلام إنّما هو في استعمال أحد الماءين أو كليهما للطهارة عن الحدث ، وأمّا بالقياس إلى الطهارة عن الخبث ففي جوازه بأحدهما ، أو بهما معا ، أو عدم جوازه مطلقا وجوه ، نسب أوسطهما إلى جماعة منهم العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله القائل في منظومته

« وإن تواردا على رفع الحدث

لم يرتفع ، وليس هكذا الخبث » (١).

وهذا هو الأقوى عملا بالطهارة المتيقّنة المشكوك في استناد حصولها إلى الغسل بالماء الأوّل أو الغسل بالماء الثاني لكن بعد انضمام أصالة التأخّر ، لأنّها أمر حادث يشكّ في بدو زمان حدوثه ، فأصل العدم يقتضي حدوثه بالغسل الأوّل ، وليس في المقام أصل يقتضي النجاسة ، إذ لو اريد بها النجاسة السابقة على الغسلين فالأصل بالنسبة إليهما منقطع بالقطع بأنّ أحد الغسلين قد أثّر طهارة لا محالة ، ولو اريد بها ما يستند طروّها إلى ملاقاة النجس الواقعي من هذين الماءين المقطوع بتحقّقها.

ففيه : أنّ هذه الملاقاة هنا غير معلوم التأثير ، لأنّ المنجّس إنّما يفيد تنجيسا إذا ورد محلّا فارغا عن النجاسة ومن الجائز مصادفة الغسل بالماء النجس نجاسة المحلّ ، بأن يكون هو أوّل الغسلين ، ولا أثر له في إفادة التنجيس ، ومصادفته طهارة المحلّ بأن يكون هو ثاني الغسلين ، فيكون موجبا لنجاسة المحلّ ثانيا ، وقضيّة ذلك كون النجاسة الثانية مشكوكا في حدوثها رأسا ، فلا يعقل بالنسبة إليها أصل.

ولو سلّم أنّ المتنجّس قابل للتنجيس ثانيا ، فأقلّه معارضة الأصل المقتضي لتأخّر تلك النجاسة للأصل المتقدّم المقتضي لتأخّر الطهارة الحاصلة من الغسل بطاهر

__________________

(١) الدرّة النجفيّة : ٨ وفيها : « ولو تعاقبا على رفع الحدث ».


الماءين ، فيتساقطان ، فيرجع إلى أصالة الطهارة في الأشياء ، ولا معارض لها بعد تساقط الأصلين وانقطاع الأصل بالنسبة إلى النجاسة السابقة.

فبجميع ما ذكر يندفع ما يقال ـ في وجه الاحتمال الثالث ممّا تقدّم ـ من : أنّ المرجع بعد تساقط الأصلين عموم ما دلّ على وجوب غسل الثوب من النجاسة المردّدة مثلا إذا فرضناها بولا ، دلّ قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) على وجوب الغسل عقيب كلّ بول ، والأمر بالغسل وإن لم يعلم بقاؤه ، إلّا أنّ الاحتياط اللازم عند الشكّ في سقوط الأمر يقتضي وجوب الغسل ، فإنّ وجوب الاحتياط يدفعه الأصل المشار إليه ، واستحبابه غير مفيد.

نعم ، مقتضى الاحتياط واستصحاب النجاسة السابقة لزوم الغسل بكلّ من الماءين وعدم الاقتصار على أحدهما.

فما يقال ـ في وجه الاحتمال الأوّل ممّا تقدّم ـ : من أنّ إطلاقات الغسل بالماء يقتضي ذلك ، غاية الأمر أنّه خرج منها ما علم نجاسته وبها يدفع استصحاب نجاسة المحلّ ، واضح الضعف ، فإنّ المنساق من الإطلاقات كون الغسل حاصلا بالماء الطاهر ، فالمفروض غير معلوم الاندراج فيها.

ولو سلّم الشمول لكن دليل اشتراط الطهارة في الغاسل المسلّم عند المستدلّ ـ كما يفصح عنه قوله : « خرج منها ما علم نجاسته » ـ قيدها بصورة الطهارة ، والشرط غير معلوم الحصول فيحصل به موضوع استصحاب النجاسة في المحلّ ، وهو محرز لموضوع تلك الإطلاقات وهو النجاسة ، ضرورة أنّ النجاسة الّتي يجب الغسل عنها أعمّ من النجاسة المستصحبة ، ومع ذلك فكيف يندفع بها الاستصحاب المذكور.

نعم ، يندفع بحصول ما علم كونه رافعا بحسب الشرع وهو غير معلوم الحصول كما عرفت.

ثمّ لو انصبّ أحد الماءين ففي وجوب الغسل بالآخر عند انحصار الماء فيه وعدمه وجهان ، من أنّ النجاسة المستصحبة كالنجاسة المتيقّنة في اقتضاء المنع ووجوب الغسل ونحو ذلك من سائر أحكام النجاسة ، والغسل المذكور لا يوجب ارتفاع شي‌ء

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ ب ٨ من أبواب النجاسات ، ح ٢ و ٣ ـ الكافي ٣ : ٥٧ / ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٦٤ / ٧٧٠.


من تلك الأحكام ، بل غاية ما يوجبه إنّما هو نقل النجاسة المتيقّنة إلى النجاسة المستصحبة ، فالأحكام بعد باقية ، فلم يترتّب عليه فائدة ، فلا وجه لإيجابه.

ومن أنّ النجاسة الغير المعلومة أهون في نظر الشارع من معلومتها ، فلذا القي أحكام النجاسة الواقعيّة بمجرّد انتفاء العلم بها ، والأوّل اولى للأصل وإن كان أحوط.

وخامسها : اختلفوا في وجوب إراقة الماءين الواردة في النصّ المتقدّم في الإنائين ، فعن الشيخين (١) والصدوقين (٢) الوجوب لظاهر الأمر الوارد في النصّ ، وعن ابن إدريس (٣) ومن تأخّر عنه الثاني ، وعليه العلّامة في المختلف (٤) وغيره ، وعن بعض الأصحاب (٥) أنّ علّة الأمر بالإراقة ليصحّ التيمّم ، لأنّه مشروط بعدم الماء.

وقد يعدّ ذلك قولا على حدة في مقابلة الأوّل ، حملا له على وجوبها تعبّدا وذلك على وجوبها مقدّمة للتيمّم.

وردّه غير واحد ـ كما في المختلف (٦) ، وعن المعتبر (٧) ، أيضا ـ : « بأنّ وجود الماء الممنوع من استعماله لا يمنع التيمّم كما في المغصوب ».

وحاصله : أنّ شرط التيمّم عدم التمكّن من استعمال الماء لا مجرّد عدمه ، ومنع الشارع عن استعمال هذا الماء رافع لتمكّن الاستعمال ، فالشرط حاصل ، ومعه لا حاجة إلى إراقة الماء.

وهذا كما ترى مبنيّ على حرمة الاستعمال ذاتا حتّى في رفع الحدث ، وهو محلّ إشكال.

والأولى في دفع هذا القول أن يقال : إنّ التيمّم مع وجود هذا الماء إمّا أن يكون سائغا أو لا ، فعلى الأوّل لا مقتضي للإراقة ، وعلى الثاني يتعيّن المائيّة بذلك الماء ، وذلك يكشف عن عدم المنع من استعماله في الطهارة ، ضرورة امتناع التكليف بالمتناقضين كامتناع عدم ثبوت التكليف بشي‌ء من البدلين.

وبذلك يظهر ضعف ما ذكر في توجيه الأمر الوارد في النصّ ، نعم إنّما يتّجه ذلك

__________________

(١) وهما الشيخ الطوسي كما في النهاية ١ : ٢٠٧ والشيخ المفيد في المقنعة : ٦٩.

(٢) المقنع : ٢٨ ـ الفقيه ١ : ٧.

(٣) السرائر ١ : ٨٥.

(٤ و ٦) مختلف الشيعة ١ : ٢٤٩ و ٢٥٠.

(٥) حكاه عنه في المعتبر : ٢٦.

(٧) المعتبر : ٢٦.


فيمن يشكّ في حصول شرط التيمّم والحال هذه ، فيلتزم بإراقة الماء إحرازا للشرط المشكوك فيه ، وهو مستحيل على المعصوم عليه‌السلام.

فالأقوى إذن عدم وجوب الإراقة للأصل ، ولا ينافيه الأمر الوارد لظهور كونه كناية عن النجاسة والمبالغة فيها ، كما في كثير من الأخبار بالقياس إلى غير المقام ، المتقدّمة في بحث انفعال القليل ، وإطلاق مثل هذا اللفظ في موضوع إرادة المبالغة في عدم ترتّب الفائدة المطلوبة من الشي‌ء شايع في العرف والعادة.

ويؤيّده : أنّه لو كان مكان الماءين عين النجس لم يجب إراقته بالضرورة.

المقام الثاني : في الماء المشتبه بالمغصوب ، والكلام فيه أيضا كسابقه في وجوب الاجتناب عن الجميع ، وعدم جواز ارتكاب شي‌ء كلّا ولا بعضا ، والدليل عليه أيضا ما تقدّم على جهة التفصيل ، وما عن بعض أفاضل متأخّري المتأخرين من استشكاله في ذلك استنادا إلى قوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه » (١) ، ليس بشي‌ء.

والمعروف عن علماء الاصول في تلك المسألة ونظائرها الّتي منها المسألة المتقدّمة المندرج جميعها في عنوان « الشبهة المحصورة » أقوال ، قد استقصينا الكلام في جرحها وتعديلها في المسألة الاصوليّة ، فلو ارتكب كليهما أو أحدهما فعل حراما ، لكن لو توضّأ أو اغتسل بهما ففي صحّته أقوال.

أحدها : الصحّة ، لأنّ أحدهما ماء مباح ، ولا شكّ أنّه قد وقع الطهارة ، فيستلزم أن تكون صحيحة ، وكون كلّ منهما حراما منهيّا عنه لا يوجب الفساد ، بعد منع دلالة النهي على فساد العبادة ، حكى التصريح به عن بعض محقّقي متأخّري المتأخّرين.

وثانيها : عدم الصحّة ، صرّح به غير واحد من متأخّري أصحابنا ، وقوّاه العلّامة في المنتهى (٢) تعلّقا بنهي العبادة المقتضي للفساد ، ويقين الاشتغال المقتضي ليقين البراءة الغير الحاصل هنا ، لعدم حصول الجزم بالتقرّب ، بل التقرّب بما يحتمل كونه حراما احتمالا مساويا ربّما يعدّ قبيحا ، بل هو الظاهر ، فلا يقع الامتثال.

وثالثها : الفرق بين صورتي انحصار الماء فيهما فلا يصحّ ، وعدمه فيصحّ ، لأنّ

__________________

(١) التهذيب ٩ : ٧٩ / ٣٣٧.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٧٩.


الانحصار يوجب ارتفاع الأمر بالمائيّة وعدم تعلّقه رأسا ، لامتناع الأمر باستعمال ما نهي عن استعماله ، بخلاف صورة عدم الانحصار فإنّ الأمر بالمائيّة متوجّه جزما ، ومباح الماء موجود بين المشتبهين ، فالمكلّف قبل اشتغاله باستعمال هذا وذاك قاصد باستعمالهما لإدراك الطهارة بالمباح الموجود فرضا ، وبذلك يتحقّق قصد التقرّب وإن لم يستتبع حصوله بفعله المنهيّ عنه ولو مقدّمة ، فإنّ شرط الصحّة قصد التقرّب لا حصوله ، بل الشرط في الحقيقة قصد الامتثال الموجب للتقرّب ، فالتعبير عنه به تعبير باللازم.

فلو سلّم حينئذ أنّه مع تفطّنه بأنّه يفعل المحرّم جازم بعدم حصول التقرّب ، ومعه يستحيل منه القصد ، نقول : إنّ استحالة قصد التقرّب لا تستلزم استحالة قصد الامتثال.

وفيه : منع إمكان حصول قصد الامتثال ، بل عدم إمكان قصد التقرّب لعدم إمكان قصد الامتثال ، ضرورة أنّ الامتثال بمعنى موافقة الأمر فرع الأمر ، وإيجاد الطهارة بهذين الماءين بعد فرض كونه محرّما فكيف يعقل كونه موردا للأمر ، والمفروض أنّه ليس إلّا أمرا واحدا ، والأمر الواحد لا يصلح موردا للأمر والنهي ، وكونه موردا لأحدهما دون الآخر خلاف الفرض أو مثبت للمطلوب من انتفاء الأمر ، فلا جرم يتقيّد المأمور به بغير هذين الماءين وإن كان بينه وبين استعمالهما المنهيّ عنه عموم من وجه ، لضابطة ما تقرّر في الاصول من امتناع اجتماع الأمر والنهي وإن كان أحدهما مقدّميّا الموجب للتصرّف في الأمر ، ومجرّد كون أحد الماءين مباحا ذاتيّا مع فرض الحرمة العرضيّة المانعة عن تعلق الأمر غير مجد كما لا يخفى ، فالأقوى إذن عدم الصحّة.

نعم ، لو استعملهما أو استعمل أحدهما في رفع الخبث كان مجزيا ، لا لحصول الامتثال ، بل لسقوط الأمر بحصول الغرض في الخارج.

والمقام الثالث : في الماء المشتبه بالمضاف ، المصرّح به في كلام الأصحاب وجوب التطهير بكلّ منهما ، وهو كذلك لوجود الماء جزما والتمكّن قطعا ، فيثبت الأمر بالمائيّة لوجود المقتضي وفقد المانع ، ولا يحصل يقين الامتثال إلّا بالجمع ، فيجب تحقيقا لمقتضى يقين الاشتغال.

والمناقشة فيه : بأنّه لا بدّ من الجزم كما في النيّة ، ولا جزم هنا عند شي‌ء من الطهارتين ، قد عرفت ما فيها من أنّ الجزم هنا حاصل قبل التشاغل ، فإنّه جازم بأنّ


أحد المشتبهين ماء وهو باستعمالهما معا يدرك استعمال الماء المأمور به ، فينوي من حينه امتثال الأمر وأداء المأمور به ، فيأتي بهذا وذاك بداعي هذه النيّة ، مع مقارنتها من حينها لنيّة كون الجمع بينهما مقدّمة للعلم ، من غير أن ينوي في كلّ بخصوصه عنوان المقدّميّة ، ولا عنوان كونه مأمورا به على جهة الاستقلال ، غاية الأمر أنّه ينوي عند إيجاد كلّ إيجاد الوضوء أو الغسل بشرائطهما وآدابهما المقرّرة في الشريعة.

وأمّا ما يقال في دفعها : من منع اشتراط مثل هذا الجزم في النيّة ، ولو سلّم فهو في صورة تيسّر الجزم أو الظنّ ، وأمّا مع عدم التيسّر فلا ، فإن اريد به منع اعتبار الجزم في الخصوصيّتين بدعوى : كفاية الجزم الإجمالي في تيسّر نيّة التقرّب فهو راجع إلى ما ذكرناه ، وإن اريد به منع اعتبار الجزم رأسا فهو واضح الضعف ، كيف وهو ـ عند التحقيق ـ راجع إلى إنكار اعتبار نيّة التقرّب في صحة العبادة ، ضرورة أنّها غير ممكن الحصول مع عدم الجزم ولا الظنّ المعتبر بوجود المأمور به مع المأتيّ به لا تفصيلا ولا إجمالا.

وما يقال : من أنّ احتمال المطلوبيّة ولو مرجوحا يكفي في تأتّي قصد التقرّب ، فإنّما يسلّم إذا جامع هذا الاحتمال للجزم الإجمالى بوجود المأمور به الواقعي مع المأتيّ به ، بأن يكون الاحتمال بالقياس إلى الخصوصيّة والجزم في الأمر المردّد بينها وبين خصوصيّة اخرى ، كما في اشتباه القبلة ونحوها ، ولا يوجب ذلك الترديد في النيّة ، لأنّه إنّما يلزم إذا كان التردّد بين أن يفعل وأن لا يفعل ، لا إذا تردّد المأمور به اليقيني بين هذا وذاك.

ثمّ إنّ هذا الحكم عند عدم التمكّن عن ماء آخر غير مشتبه واضح ، وأمّا مع التمكّن عنه فالمحكيّ عن ثاني الشهيدين في شرحه للإرشاد (١) عدم الصحّة ، للقدرة على الجزم التامّ في النيّة فلا تصحّ بدونه ، ومرجعه إلى عدم الاكتفاء بالامتثال الإجمالي مع التمكّن عن الامتثال التفصيلي ، ولا يخلو عن قوّة كما تقدّم الإشارة إليه في مباحث النزح.

وهاهنا مسألة اخرى وهي : أنّه لو انقلب أحد المشتبهين بحيث تعذّر استعماله ، فالمنقول في المدارك عن الأصحاب « أنّهم قطعوا على وجوب الوضوء بالباقي مع التيمّم ، مقدّما للأوّل على الثاني » (٢) انتهى.

__________________

(١) روض الجنان : ١٥٦.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٩ مع اختلاف يسير.


ونقل القطع عن الأصحاب كما ترى لا تقصر عن نقل إجماعهم على المسألة ، غير أنّه على كلّ تقدير يشكل التوفيق بينه وبين المحكيّ عن جدّه في روض الجنان (١) من الاستناد لأصل الحكم إلى القواعد العمليّة من أصل الشغل والاستصحاب ، القاضي بعدم كونه بالخصوص مأخوذا من المعصوم ، ونظير هذه القواعد ممّا لا سبيل له إلى إعطاء القطع إلّا أن يفرض بالقياس إلى الحكم الفعلي الظاهري.

وكيف كان فالعبارة المنقولة عن روض الجنان ما هذه صورته : « ولو فرض انقلاب أحدهما قبل الطهارة وجب الطهارة بالآخر ثمّ التيمّم ، لما تقدّم من أنّ الجمع مقدّمة الواجب المطلق ، ولأنّ الحكم بوجوب الاستعمال تابع لوجود المطلق ، وقد كان وجوده مقطوعا به فيستصحب إلى أن يثبت العدم ، ويحتمل ضعيفا عدم الوجوب فيتيمّم خاصّة ، لأنّ التكليف بالطهارة مع تحقّق وجود المطلق وهو منتف ، ولأصالة البراءة من وجوب الطهارتين.

وجوابهما : يعلم ممّا ذكرناه ، فإنّ الاستصحاب كاف في الحكم بوجود المطلق ، وأصالة البراءة منتفية بوجوب تحصيل مقدّمة الواجب المطلق وهي لا تتمّ إلّا بفعلهما معا.

فإن قيل : ما ذكرتم من الدليل يقتضي عدم وجوب التيمّم ، فإنّ استصحاب وجود المطلق ـ إن تمّ ـ لا يتمّ معه وجوب التيمّم ، إذ هو مع الاشتباه لا مع تحقّق الوجود.

قلنا : الاستصحاب المدّعى إنّما هو استصحاب وجوب الطهارة بناء على أصالة عدم فقد المطلق ، وذلك لا يرفع أصل الاشتباه ، لأنّ الاستصحاب لا يفيد ما في نفس الأمر ، فالجمع بين الطهارتين يحصّل اليقين » (٢) انتهى.

وكأنّ مراده بالواجب المطلق الّذي يجعل الجمع مقدّمة له يقين البراءة الّذي يستدعيه يقين الشغل بالصلاة مع الطهارة المردّدة بين المائيّة والترابيّة ، الواجب بحكم العقل ، المتوقّف على الجمع بين الطهارتين ، وعليه فهذا هو الوجه الّذي لا محيص عنه ، فيكون القول بوجوب الجمع ـ كما نقل القطع به عن الأصحاب ـ ممّا لا بدّ من المصير إليه.

وأمّا التمسّك باستصحاب وجود المطلق ففي غاية الوهن ، ضرورة أنّه لا يجدي إلّا مع الحكم من جهته بكون هذا الموجود هو الماء المطلق ، وهو محال بعد ملاحظة أنّ

__________________

(١) روض الجنان : ١٥٦.

(٢) روض الجنان : ١٥٦.


استصحاب وجود المضاف أيضا يقتضي الحكم عليه بكونه مضافا ، ومع الغضّ عن ذلك فوجود الماء ـ على ما تقرّر في الشريعة ـ مع إمكان استعماله مانع عن [الترابيّة] (١) ورافع للتكليف بها ، ومعه فلا مقتضي للجمع.

والاعتذار له : « بأنّ المدّعى هنا استصحاب وجوب الطهارة بناء على أصالة عدم فقد المطلق ، وذلك لا يرفع أصل الاشتباه ، لأنّ الاستصحاب لا يفيد ما في نفس الأمر » ، غير نافع في دفع الإشكال ، بعد ملاحظة أنّ وجوب الطهارة المائيّة ـ ولو ثبت بنحو الاستصحاب ـ لا يجامع التكليف بالترابيّة ، ولا يعتبر في وجود المطلق كونه معلوما بالعلم الحقيقي ، بعد ملاحظة كون الاستصحاب ـ على فرض جريانه واستكماله شرائط الحجّيّة ـ علما شرعيّا قائما مقام العلم الحقيقي ، ولا يعتبر فيه إفادة نفس الأمر وإلّا انسدّ باب التعويل عليه ، وخرج عن كونه أصلا تعبّديّا غير ناظر إلى ما في الواقع ونفس الأمر.

وأمّا ما عن بعض الأصحاب ـ كما في المدارك ـ : « من أنّ الماء الّذي يجب استعماله في الطهارة إن كان هو ما علم كونه ماء مطلقا فالمتّجه الاجتزاء بالتيمّم وعدم وجوب الوضوء به كما هو الظاهر ، وإن كان [هو] ما لا يعلم كونه مضافا اكتفي بالوضوء ، فالجمع بين الطهارتين غير واضح » (٢).

فيدفعه : أنّ الواجب استعماله في الطهارة ليس هذا بعينه ولا ذاك بخصوصه ، بل ما هو ماء مطلق بحسب الواقع ونفس الأمر ، لكنّ الواقع لكونه ممّا لا مرآة له إلّا العلم ، ولا طريق إلى إدراكه إلّا من جهة الاعتقاد بالمعنى الشامل للشرعي ، فلا بدّ في حكم العقل من إحرازه بطريق علمي ولو شرعا ، وحيثما فقد الطريق بكلا قسميه مع عدم قيام ما يرفع الخطاب بالواقع سوى الاشتباه الغير الصالح للرفع إلّا مع فرض كون المنصبّ المتعذّر استعماله هو المطلق ، اتّجه الاحتياط في حكم العقل مقدّمة ليقين الشغل بالطهارة أو بالصلاة معها ، حسبما تقدّم بيانه بما لا مزيد عليه.

نعم ، يبقى الإشكال فيما تقدّم في كلام الأصحاب من اعتبار تقديم المائيّة على الترابيّة فإنّه غير واضح الوجه ، كما حكى التنبّه عليه عن المفصّل المتقدّم ذكره ، حيث

__________________

(١) وفي الأصل : « المائيّة » والظاهر أنّه سهو ، والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٠٩.


أنّه بعد العبارة المتقدّمة عنه قال : « ومع ذلك فوجوب التيمّم إنّما هو لاحتمال كون المنقلب هو المطلق ، فلا يكون الوضوء بالآخر مجزيا ، وهذا لا يتفاوت الحال فيه بين تقديم التيمّم وتأخيره كما هو واضح » (١) انتهى.

ويمكن الاعتذار عنه بأنّ التيمّم بدل اضطراري للمائيّة ، ورتبته في الحكم الشرعي متأخّرة عنها ، فينبغي أن يتأخّر عنها أيضا في الوضع العملي ، غير أنّه لا يفيد لزوم الاعتبار ، فالإشكال من هذه الجهة على حاله ، وإن كان مقتضى الاحتياط الّذي عليه مبنى الجمع هو ذلك خروجا عن شبهة مخالفة الواقع.

* * *

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٠٩.


ينبوع

وممّا خصّه الأصحاب بالعنوان بحث الأسآر ، المتّخذة لديهم قسما للمطلق بجميع أقسامه ، والمضاف بجميع فروضه الّتي يلحقها البحث هنا طهارة ونجاسة وحرمة وكراهة ، ونحن أيضا أفردناها بالذكر تأسّيا لهم وتبعا لممشاهم ، وإلّا فيشكل الحال كلّ الإشكال بأنّ منظور هذا الباب إن كان بيان حكم الماء من حيث أنّه ينفعل أو لا ينفعل بملاقاة ما يباشره من حيوان نجس العين أو طاهرها ، فقد تبيّن ذلك في المباحث المتقدّمة المتكفّلة لبيان ما ينفعل من الماء وما لا ينفعل قليلا أو كثيرا ، ولبيان ما كان يتعلّق بالمضاف من الانفعال ونحوه.

وإن كان بيان حكم ذي السؤر من أنواع الحيوانات من طهارة عينيّة أو نجاسة عينيّة موجبة لانفعال السؤر مع قلّته أو إضافته ، فهو ممّا يتبيّن في مباحث النجاسات ولا ربط له بهذا المقام.

وإن كان بيان ما يتعرّض لتحقيقه في ضمن بعض مباحث هذا الباب من كون زوال عين النجاسة عن الحيوان أو غيبته بعد مباشرتها مطهّرا له ، فهو شي‌ء ينبغي إيراده في مباحث المطهّرات.

وإن كان بيان الأحكام التكليفيّة الراجعة إليه من حرمة استعماله أو كراهته أو إباحته أكلا أو شربا أو تطهيرا ، فالأنسب إيراده في باب الأطعمة والأشربة.

إلّا أن يقال : إنّ استعماله في مقام التطهير لم يتبيّن حكمه من الحرمة والكراهة في الأبواب الاخر ، فهو المقصود بالبيان هنا ، وإن بيّن معه أحكام اخر من الطهارة والنجاسة وغيرها تبعا ، لمراعاة شدّة مناسبة إيراده في أبواب المياه ، على حدّ ما روعي ذلك في مباحث الماء المستعمل في الحدث كبيرا أو صغيرا وإن كان له محلّ مناسب أيضا في


أبواب الطهارات ، غير أنّ ذلك أنسب لكون موضوع القضيّة الّذي هو العمدة من أجزائها هو الماء ، وهو المأخوذ عنوانا في جملة من الأخبار حسبما يأتي ذكرها مفصّلة.

وكيف كان فقد اختلفت كلمة أئمّة اللغة في تفسير « السؤر » بحسب اللغة اختلافا دائرا بين أقوال ، مرجعها إلى ما تكفّلها العبارة المنقولة عن كاشف اللثام من : « أنّه في اللغة : البقيّة من كلّ شي‌ء ، أو ما يبقيه المتناول من الطعام والشراب ، أو من الماء خاصّة » (١).

ومثله ما في الرياض بزيادة « مع القلّة » عقيب قوله : « من الماء خاصّة » مفرّعا عليه : « أنّه لا يقال لما يبقى في النهر أو البئر أو الحياض الكبار إذا شرب منها » (٢) ، وكأنّه غفلة عمّا ورد في بعض الروايات من أنّه « لا يشرب سؤر الكلب إلّا أن يكون حوضا كبيرا يستقى منه » (٣) ، أو مبنيّ على جعله من باب الاستعمال الأعمّ ، أو على جعل الاستثناء من باب الانقطاع.

وعلى أيّ حال فأوّل الوجوه : قول نقل التصريح به عن القاموس بقوله : « البقيّة ، والفضلة » وفي معناه ما في المجمع عن الأزهري مع دعوى الاتّفاق عليه قائلا : « اتّفق أهل اللغة أنّ سائر الشي‌ء باقية قليلا كان أو كثيرا.

وثانيها : ممّا لم نقف تحصيلا ولا نقلا على صريح من كلامهم ، نعم عن المغرب وغيره ـ على ما في المجمع ـ أنّه : « بقيّة الماء الّتي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض ، ثمّ استعير لبقيّة الطعام » (٤) ولكنّه لا يلائم الوجه المذكور إلّا بحمله على إرادة ما يعمّ المعنى الحقيقي والمجازي على ما هو مقتضى العبارة المذكورة ، أو على إرادة ما يعمّ المعنى اللغوي الثابت بالوضع الأوّلي والعرفي الثابت بالوضع الثانوي ، بناء على حمل الاستعارة في العبارة المذكورة على ما استتبع النقل العرفي.

وثالثها : ما نسب إلى المعالم أنّه نقله عن الجوهري بعبارة : « البقيّة بعد الشرب » (٥) غير أنّ في شرح الدروس (٦) ما يقضي بإنكار وجدانه في الصحاح ، فلعلّه لم يجده بهذه

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٨٣.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٨٧.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ، ح ٧ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٥٠.

(٤) مجمع البحرين : مادّة (سأر).

(٥) فقه المعالم ١ : ٣٥٥ وفيه : « السؤر في اللغة ما يبقى بعد الشرب ، قاله الجوهري ».

(٦) مشارق الشموس : ٢٦٧.


العبارة كما تنبّه عليه في الحدائق (١) ، وإلّا فهو منقول عنه بعبارة قوله : « يقال : إذا شرب فأسأر ، أي أبقى شيئا من الشراب في قعر الإناء » (٢) وعن المعتبر : « السؤر : لغة بقيّة المشروب » (٣) وفي الحدائق ـ عن المجمع ـ : أنّه نقل عن الأزهري « أنّ السؤر هو ما يبقى بعد الشرب » (٤) وهو كما ترى لا يوافق ما قدّمنا نقله عنه عن الأزهري ، وليس في النسخة الحاضرة عندنا سواه.

نعم فيها (٥) عن النهاية : « سائر مهموز ، ومعناه الباقي ، لأنّه اسم فاعل من السؤر ، وهو ما يبقى بعد الشراب ، وهذا ممّا يغلط فيه الناس فيضعونه موضع الجميع » (٦) فإنّ ذلك يمكن أن يرجع إلى القول المذكور المنسوب إلى المجمع نقله عن الأزهري ، بناء على كون الذيل بيانا للصدر ، ويحتمل رجوعه إلى أحد القولين الأوّلين بناء على كون الخصوصيّة المأخوذة في الذيل واردة من باب المثال.

وربّما يوجد في كلام بعض أهل اللغة ما يبائن جميع الأقوال المذكورة كالفيّومي في المصباح المنير ، قائلا : « إنّ السؤر من الفأرة وغيرها كالريق من الإنسان » (٧).

ولم يتعرّض لذكره كثير من الأصحاب ، إمّا لتبيّن ضعفه عندهم ، أو لعدم ارتباطه بمقام البحث.

وقد يوجّه ذلك : بأنّه إمّا معنى آخر وأنّه في الأصل لذلك ، أو أنّ تسمية بقيّة المشروب سؤرا لما يمازجه من الريق بسبب الشرب ، ولا يخفى بعده.

وكيف كان فمقتضى القول الأوّل عدم الفرق في البقيّة بين كونها من مأكول أو مشروب ، مطلق أو مضاف ، قليل أو كثير ، في آنية أو غيرها ، أو من غيرهما من جامد أو مائع ، كما أنّ مقتضى القول الثاني اختصاصها بالمشروب مع عدم الفرق فيه بين المطلق والمضاف ، والقليل والكثير في الإناء أو غيره.

وأمّا القول الثالث فمقتضاه ـ على ما في الصحاح (٨) والمعتبر ـ (٩) عدم الفرق فيه

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤١٧.

(٢) مختار الصحاح ؛ مادّة « س أ ر » ٣٤٨.

(٣) المعتبر : ٢٣. (٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤١٨.

(٥) مجمع البحرين ؛ مادّة « سأر ».

(٦) النهاية في غريب الحديث والأثر ؛ مادّة « سأر » ٢ : ٣٢٧.

(٧) المصباح المنير ؛ مادّة « سأر » : ٢٩٥.

(٨) الصحاح ؛ مادّة « سأر » ٢ : ٦٧٥.

(٩) المعتبر : ٢٣.


بين كون المشروب من ماء أو مضاف ، فيخالفه نقل الكاشف (١) حينئذ من هذه الجهة ، وكأنّه مبنيّ على توهّم انصراف الشرب إلى ما يستلزم الماء ، كما أنّ اعتبار القلّة ـ على ما سمعته عن الرياض ـ (٢) لعلّه لأجل توهّم الانصراف ، وإلّا فقد عرفت عن الأزهري تصريحا بالتعميم بالقياس إلى القليل والكثير.

نعم ، ربّما يتبادر إلى الذهن بملاحظة الاستعمالات كون الباقي أقلّ من الذاهب وإن كان كثيرا في نفسه ، غير أنّه أيضا عند التحقيق تبادر بدوي لا عبرة به ، لعدم إباء الاستعمالات إطلاقه على الأكثر كما يظهر بأدنى تأمّل.

فمن هنا يعلم أنّ ما تقدّم من تفريع الرياض المتضمّن لنفي قول السؤر على ما يبقى في النهر أو البئر أو الحياض الكبار إذا شرب منها ، ليس على ما ينبغي.

نعم ، اشتراط القلّة في المعنى المبحوث عنه هنا الوارد في كلام الأصحاب الموجود في أخبار الباب كما حكي التصريح به عن جماعة ، ليس ببعيد تعويلا على ظهور الفتاوي والأخبار في القلّة ، غير أنّ تفسيرها حينئذ بما دون الكرّيّة ـ كما في جواهر بعض مشايخنا ـ (٣) لعلّه غير مستقيم ، وكأنّه توهّم عن كون بعض الأحكام الجارية على السؤر ما لا يجري إلّا إذا كان الماء قليلا بهذا المعنى ، كالنجاسة إذا كان ذو السؤر من نجس العين ، وإلّا فلقائل أن يقول : بأنّ كلام الأصحاب مع روايات الباب لا يتناول في غير حكم النجاسة إلّا ما كانت القلّة فاحشة ، فلا يشمل البحث لكثير من أفراد ما دون الكرّ.

وربّما وقع النزاع عندهم في اختصاص البحث بالماء أو عمومه لمطلق المائع ، فعن جملة التصريح بالأوّل ، وعن ابن إدريس (٤) التصريح بالثاني ، فلعلّ وجه الأوّل ورود الروايات المشتملة على السؤر وما يرادفه في خصوص الماء كما يظهر بأدنى تأمّل ، ووجه الثاني عدم الفرق في بعض أحكامه كالطهارة والنجاسة بين سائر المائعات ، بل ربّما يستفاد من بعض الروايات ما يعمّ المائع مطلقا بل الجامد أيضا ، كما في المرويّ عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن أكل سؤر الفأر » (٥) ، وصحيح زرارة عنه أيضا أنّ في كتاب عليّ عليه‌السلام « أنّ الهرّ سبع [و] لا بأس بسؤره ، وإنّي لأستحيي من

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٢٨٣.

(٢) رياض المسائل ١ : ١٨٧.

(٣) جواهر الكلام ١ : ٦٦١.

(٤) السرائر ١ : ٨٥.

(٥) الوسائل ١ : ٢٤٠ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٧ ـ الفقيه ٤ : ٢ / ١.


الله أن أدع طعاما لأنّ الهرّ أكل منه » (١).

وكما تستفاد منها عموم الحكم بالقياس إلى كلّ مأكول ومشروب ، كذلك يستفاد منها خصوصه بالقياس إلى كون المباشرة حاصلة بالفم ، وكأنّه من هنا نشأ مخالفة صاحب المدارك للشهيد وغيره فيما سيجي‌ء من الاعتراض عليه.

لكن المستفاد من خبر العيص عن القاسم (٢) عن سؤر الحائض قال : « توضّأ منه ، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ، وتغسل يدها قبل أن تدخلها الإناء ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو وعائشة يغتسلان في إناء واحد » (٣) عموم الحكم لمطلق المباشرة كما فهمه جماعة ، وهو الّذي حكى التصريح به عن السرائر (٤) والذكرى (٥) ، والمهذّب للقاضي (٦) ، والروض (٧) ، والمسالك (٨) ، وغيرها.

وعن المقنعة : « أنّ أسآر الكفّار هو ما فضل في الأواني ممّا شربوا منه ، أو توضّئوا به ، أو مسّوه بأيديهم وأجسادهم » (٩).

وفي معناه ما عن بعضهم : « من أنّ السؤر عبارة عمّا شرب منه الحيوان أو باشره بجسمه من المياه وسائر المائعات ».

وبجميع ما ذكر ـ مضافا إلى ما يأتي ـ يعلم أنّه لا فرق في المباشر بين الآدمي وغيره من سائر أنواع الحيوان ، كما صرّح به غير واحد.

وإن شئت فلاحظ المنتهى حيث إنّه بعد العنوان أخذ بتقسيم السؤر باعتبار انقسام ذيه قائلا : « الحيوان على وجهين : آدميّ وغير آدميّ ، فالآدميّ إن كان مسلما أو بحكمه فسؤره طاهر ، عدا الناصب والغلاة ، فإنّ سؤرهم نجس.

وغير الآدميّ مأكول اللحم وغيره ، فالأوّل سؤره طاهر ، فإن كان لحمه مكروها كان سؤره كذلك ، كالفرس والحمار والبغل ، وغير المأكول إمّا أن يكون نجس العين

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٢٧ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٧ / ٦٥٥.

(٢) كذا في الأصل ، والصواب : « العيص بن القاسم » بدل « العيص عن القاسم ».

(٣) الوسائل ١ : ٢٣٤ ب ٧ من أبواب الأسآر ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٢٢ / ٦٣٣ ـ الكافي ٣ : ١٠ / ٢ ـ مع اختلاف في بعض العبارات.

(٤) السرائر ١ : ٨٥. (٥) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٦.

(٦) المهذّب ١ : ٢٥.

(٧) روض الجنان : ١٥٧.

(٨) مسالك الأفهام ١ : ٢٣.

(٩) المقنعة : ٦٥.


كالكلب والخنزير أو لا ، والأوّل سؤره نجس ، والثاني سؤره طاهر » ـ ثمّ قال ـ : « هذا على القول المشهور لأصحابنا » (١) انتهى.

ولقد أجاد الشهيد رحمه‌الله (٢) وغيره (٣) ـ على ما نقل ـ حيث أخذوا بمجامع الفتاوى والجهات المستفادة من الأخبار وكلام العلماء الأخيار ، فقالوا في تعريفه الاصطلاحي : « أنّه ماء قليل باشره جسم حيوان » (٤).

لكن يبقى المناقشة فيه من حيث كون جنسه الماء ، وقد عرفت أنّ المستفاد من الأخبار وغيرها ما يعمّ غير الماء أيضا.

وأجود منه ما تقدّم نقله عن بعضهم ، وفي معناه ما نقله في المجمع من : « أنّه ما باشره جسم حيوان » (٥) بناء على أنّ المراد بالتعريف هنا ما هو كذلك بحسب الاصطلاح ، فما في المدارك (٦) من الاعتراض على ما سمعت عن الشهيد وغيره بأنّه غير جيّد ، بعد ما ذكر أنّ الأظهر في تعريفه في هذا الباب : « أنّه ماء قليل لاقاه فم حيوان » ، ليس في محلّه ، لما عرفت من أنّ المستفاد من بعض الروايات ما يعمّ مباشرة الفم وغيره ، هذا مع وضوح فساد ما ذكره في تعليله من الوجهين.

أحدهما : أنّه مخالف لما نصّ عليه أهل اللغة ، ودلّ عليه العرف العامّ بل الخاصّ أيضا ، كما يظهر لمن تتبّع الأخبار وكلام الأصحاب.

وجه الضعف : ما عرفت من أنّ كلّا من الأخبار وكلام الأصحاب شاهد بخلاف ما ذكره.

وثانيهما : أنّ الوجه الّذي جعل لأجله السؤر قسيما للمطلق مع كونه قسما منه بحسب الحقيقة وقوع الخلاف في نجاسة بعضه من طاهر العين وكراهة بعض آخر ، وليس في كلام القائلين بذلك دلالة على اعتبار مطلق المباشرة ، بل كلامهم ودليلهم كالصريح في أنّ مرادهم بالسؤر المعنى الّذي ذكرناه خاصّة.

وجه الضعف : صراحة كلامهم في خلاف ما ذكره ، مع أنّ منشأ جعله قسيما

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٨.

(٢) البيان : ٤٦.

(٣) منهم الشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٤٦.

(٤) كما في حاشية البهبهاني على مدارك الأحكام ١ : ١٩٤.

(٥) مجمع البحرين ؛ مادّة « سأر ».

(٦) مدارك الأحكام ١ : ١٢٨.


للمطلق إن كان وقوع الخلاف في الطهارة والنجاسة فالأنسب له جعل البحث في مطلق المباشرة ، لأنّ ملاقاة الحيوان إذا قضت بنجاسة ملاقيه فلا يعقل اختصاصه بعضو منه دون عضو ، إن اريد بالنجاسة الصفة المقتضية لأحكامها دون نفس الأحكام المقرّرة لها ، لجواز كون ذلك تعبّدا من الشارع ، مختصّا ببعض الفروض ، حسبما استفيد من دليل التعبّد إن كان ، وستعرف خلافه.

وربّما يحكى التعريف المتقدّم عن الشهيد وجملة ممّن تأخّر عنه ـ كما في الحدائق ـ (١) على وجه تضمّن اعتبار طهارة الحيوان ، فيقال : « أنّه ماء قليل باشره جسم حيوان طاهر » وهو كما ترى لا يوافق شيئا ممّا تقدّم ، وعلى فرض ورود الاشتراط في كلام بعضهم ، يدفعه : بعض ما تقدّم ممّا يقضي بكون العنوان ملحوظا على الوجه الأعمّ كما في عبارة المنتهى (٢) ، مضافا إلى ما في أكثر كتبهم من التعرّض لسؤر الكلب والخنزير وغيرهما ممّا يحكم عليه بنجاسة العين ، كبعض فرق الإسلام من الخوارج والغلاة.

ثمّ إنّ المعنى المذكور على ما في كلام غير واحد من تقييده بالاصطلاح ، أو التنبيه على كونه مرادا من اللفظ في خصوص المقام ، اصطلاح من المصنّفين مأخوذ من الأخبار المتفرّقة ، وفتاوى الفرقة المتفقّهة من باب الأخذ بالقدر الجامع ، حسبما أشرنا إليه ، وقد يحتمل كونه معنى شرعيّا تعويلا على تعريف جمع له : « بأنّه « شرعا ماء قليل باشره جسم حيوان ».

وفيه : منع واضح ، لإمكان أن يراد به ما عند المتشرّعة ، أو ما عند حفظة الشريعة ، كيف ولم يثبت في كلام الشارع أصل الاستعمال على الوجه الأعمّ ولا أخبار الأئمّة عليهم‌السلام ، ولو فرض وجوده أيضا فهو ليس إلّا استعمالا غير صالح للاستناد إليه في إثبات الوضع الشرعي ، على ما هو مقرّر في محلّه.

ثمّ تمام البحث في أحكام هذا المعنى العامّ يقع في طيّ مسائل :

المسألة الاولى : لا خلاف عند أصحابنا في نجاسة سؤر ما حكم بنجاسته شرعا آدميّا كان كالكافر والخوارج وهم أهل النهروان ومن دان بمقالتهم ، والغلاة وهم

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٤١٨ ليس فيه ما يقتضي طهارة الحيوان فلاحظ.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٤٨.


القائلون بإلهيّة عليّ عليه‌السلام أو أحد من الأئمّة ، والنواصب وهم المبغضون لأهل البيت عليهم‌السلام كما في المدارك (١) ، أو المعلنون لعداوتهم عليهم‌السلام كما في حاشية الشرائع للشيخ عليّ ، أو غير آدميّ كالكلب والخنزير ، بل إجماعاتهم المنقولة على ذلك مستفيضة ، ومصنّفاتهم من نفي الخلاف والإشكال مشحونة ، ولو وجد خلاف في سؤر بعض ما حكم بنجاسته في الجملة من أفراد موضوع تلك القاعدة فهو راجع إلى الصغرى ، وهي نجاسة ذي السؤر أو طهارته من آدميّ كاليهود والنصارى والمجسّمة والمجبّرة وولد الزنا وكلّ مخالف للحقّ ، أو غير آدميّ كالمسوخ من القرد والذئب والثعلب والأرنب ، فإنّ المنقول عن المفيد (٢) في أحد قوليه طهارة اليهود والنصارى ، وهو مذهب ابن الجنيد (٣) في مطلق أهل الكتاب ، والباقون على النجاسة ، وعن الشيخ في المبسوط (٤) نجاسة المجسّمة والمجبّرة ، ووافقه جماعة (٥) على نجاسة المجسّمة ، وعن المرتضى (٦) وابن إدريس (٧) القول بكفر ولد الزنا ، وعن جماعة كفر المخالفين ، بل هو المشهور بين المتقدّمين كما في الحدائق (٨) ، وعن الشيخ (٩) نجاسة المسوخ ، والكلام في جميع هذه الأقسام موكول إلى محلّه فيأتي إن شاء الله.

المسألة الثانية : المشهور المدّعى عليه الإجماع أنّ كلّما حكم عليه بالطهارة شرعا من الحيوانات فسؤره طاهر ، على عكس القاعدة المتقدّمة ، وعزى ذلك إلى عامّة من تأخّر ، بل عن الغنية (١٠) والخلاف (١١) الإجماع عليه ، وهو صريح السرائر ـ في عبارة محكيّة له ـ في باب الأطعمة والأشربة قائلا : « فأمّا ما حرم شرعا فجملته إنّ الحيوان ضربان : طاهر ونجس ، فالنجس الكلب والخنزير ، وما عداهما كلّه طاهر في حال حياته ، بدلالة إجماع أصحابنا ، المنعقد على أنّهم أجازوا شرب سؤرها في حال الوضوء منه ، ولم يجوّزوا في الكلب والخنزير » (١٢).

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٢٩.

(٢) حكى عنه في المعتبر : ٢٤.

(٣) حكى عنه في فقه المعالم ٢ : ٥٢٥.

(٤) المبسوط ١ : ١٤.

(٥) كما في منتهى المطلب ٣ : ٢٢٤ ؛ والدروس الشرعيّة ١ : ١٢٤ ؛ والبيان : ٣٩.

(٦) الانتصار : ٢٧٣ حيث قال : « إنّ ولد الزنا لا يكون قطّ طاهرا ولا مؤمنا بإيثاره واختياره ، وإن أظهر الإيمان ». (٧) السرائر ١ : ٣٥٧.

(٨) الحدائق الناضرة ٥ : ١٧٥. (٩) الخلاف ٣ : ١٨٤ المسألة ٣٠٦.

(١٠) غنية النزوع : ٤٥. (١١) الخلاف ١ : ١٨٧ ـ ١٨٨ المسألة ١٤٤.

(١٢) السرائر ٣ : ١١٨.


وعليه العلّامة في جملة من كتبه (١) ، وعزاه في الحدائق (٢) إلى جمهور المتأخّرين ، بل لا يوجد خلاف في المسألة إلّا ما عن نهاية العلّامة (٣) من استثناء سؤر آكل الجيف من الطير ، وما عن المرتضى (٤) وابن الجنيد (٥) من استثناء الجلّال ، وما عن الشيخ في التهذيبين من المنع من الوضوء والشرب من سؤر غير مأكول اللحم عدا السنّور والطير كما في التهذيب (٦) ، أو غير الفأرة والطيور من البازي والصقر والعقاب وغيرها كما في الاستبصار (٧) ، معلّلا له فيه بمشقّة الاحتراز عنها.

وعنه أيضا في المبسوط (٨) المنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الغير الآدميّ والطيور إلّا ما لا يمكن التحرّز عنه ، كالهرّة والفأرة ، وربّما نقل ذلك عن المهذّب (٩) أيضا.

وعن ابن إدريس أنّه حكم بنجاسة سؤر ما أمكن التحرّز عنه ممّا لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الطيور ، قائلا بأنّه : « لا بأس بأسآر الفأر والحيّات وجميع حشرات الأرض » (١٠).

ولا يخفى ما في هذا القول من السقوط لضعفه ، ومخالفته الاصول المحكمة المجمع عليها ، والقواعد المتقنة السليمة عمّا يصلح لمعارضتها ، وخصوصا ما تقدّم من الإجماع الّذي ادّعاه في الأطعمة والأشربة الحاصر للنجاسة المانعة عن الاستعمال في سؤر الكلب والخنزير ، ولعلّه هنا وقع منه خطأ فالتفت إليه في الباب المذكور فعدل عنه مدّعيا على خلافه الإجماع ، كيف لا ونجاسة السؤر تتبع نجاسة ذيه ، ولا يظنّ أنّه قائل بنجاسة ما عدا الكلب والخنزير من أنواع الحيوانات والطيور ـ لكونه في غير ما وقع الخلاف في نجاسته ممّا تقدّم الإشارة إليه ـ على خلاف الطريقة المستمرّة بين المسلمين المعلومة

__________________

(١) كما في تذكرة الفقهاء ١ : ٣٩ ؛ ونهاية الإحكام ؛ ١ : ٢٣٨ ومختلف الشيعة ١ : ٢٢٩.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٤٢٩.

(٣) والظاهر أنّه سهو منه رحمه‌الله ، لأنّ الّذي استثنى سؤر آكل الجيف هو الشيخ رحمه‌الله في النهاية ١ / ٢٠٣ وأمّا العلّامة رحمه‌الله فهو من القائلين بكراهته سؤره كما في نهاية الإحكام ١ : ٢٣٩.

(٤) قال المحقّق في المعتبر ـ بعد نسبة القول بالكراهة إليه في جمل العلم والعمل ـ : « واستثناه من المباح في المصباح » انظر المعتبر : ٢٤.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٩.

(٦) التهذيب ١ : ٢٢٤.

(٧) الاستبصار ١ : ٢٥.

(٨) المبسوط ١ : ١٠.

(٩) المهذّب ١ : ٢٥.

(١٠) السرائر ١ : ٨٥.


من صاحب الشريعة ، ولو ادّعاه هو أو غيره لم يكن له عليه دلالة من كتاب ولا سنّة.

نعم ، في مرسلة وشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام « أنّه كان يكره سؤر كلّ شي‌ء لا يؤكل لحمه » (١) ما يوهم ذلك ، غير أنّها ـ مع ما فيها من الضعف بالإرسال ، وعدم فهم الأصحاب منها إلّا الكراهة المصطلحة الّتي هي في الجملة مسلّمة ، وتوجّه القدح إلى متنها من حيث إنّ الكراهة المأخوذة فيها لفظ الراوي دون الإمام عليه‌السلام ـ من أخبار الآحاد الّتي لا عمل بها عنده ، مع معارضتها بأقوى منها سندا وأظهر دلالة وأصحّ متنا وهي صحيحة البقباق (٢) ، المعتضدة بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، مضافا إلى دعواه حسبما تقدّم ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة ، والإبل والحمار والخيل ، والبغال والوحش والسباع ، فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه؟ ، فقال : « لا بأس [به] حتّى انتهيت إلى الكلب »؟ فقال : « رجس نجس ، لا تتوضّأ بفضله ، إلى آخره » (٣).

وفي معناها حسنة معاوية بن شريح قال : سأل عذافر أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن سؤر السنّور والشاة والبقرة ، والبعير والحمار والفرس ، والبغل والسباع ، يشرب منه أو يتوضّأ منه؟ فقال : « نعم اشرب منه وتوضّأ ». قال : قلت له : الكلب؟ قال : لا. « قلت : أليس هو سبع؟ قال : « لا والله أنّه نجس ، لا والله أنّه نجس » (٤).

وصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام ـ في حديث ـ قال : سألته عن العظاية (٥) والحيّة ، والوزغ ، يقع في الماء فلا يموت ، أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : « لا بأس به » (٦).

مع أنّها لو صلحت مستندة لهذا الحكم المخالف للأصول فهي دالّة عليه على جهة العموم فما وجه تخصيصه بما خصّ به ، ولو فرضنا ، أنّه قال بنجاسة السؤر مع الاعتراف بطهارة ذيه فهو أشدّ ضعفا ، بل هو عند التحقيق ممّا لا يكاد يعقل ، سيّما مع ملاحظة

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ الكافي ٣ : ١٠ / ٧.

(٢) وهو الفضل أبو العبّاس البقباق.

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦ و ٦٤٧.

(٥) العظاية : وهي دويبة معروفة ، وقيل : هو السام الأبرص (النهاية ـ لابن أثير ـ ٣ : ٢٦٠).

(٦) الوسائل ١ : ٢٣٨ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦.


استصحاب الطهارة وأصلها المستفاد من عمومات الآيات والروايات مع فقد ما يوجب الخروج عنهما.

إلّا أن يراد بالنجاسة ما هو من أحكامها الّتي منها منع الشرب والوضوء لا نفس الصفة المقتضية لتلك الأحكام ، حتّى يقال : بأنّها عرضيّة لا بدّ لها من منشأ وليس إلّا نجاسة ذي السؤر وقد فرض خلافه ، فيردّه : الأصلان المذكوران السليمان عمّا يصلح للمعارضة ، والمرسلة المتقدّم إليها الإشارة قد تبيّن حالها.

واحتمال كون ذلك كاغتسال الجنب في البئر المحكوم عليه كونه سببا للنزح ولا سبب له إلّا النجاسة وإن فرض خلوّ بدنه عنها ، مردود من جهات شتّى ، من منع الحكم في المقيس عليه ، لابتناء أحكام البئر على الندب والاستحباب بناء على التحقيق.

ولو سلّم الحتم فهو ليس إلّا تعبّدا صرفا كما عليه جماعة ، فلا فرق فيه بين وقوع النجس أو الطاهر ، لكون الحكم حينئذ منوطا بمجرّد التعبّد لا لعروض صفة النجاسة لماء البئر.

ولو سلّم كون بدن الجنب مع فرض طهارته موجبا لنجاسة الماء فهي نجاسة حكميّة لا حقيقيّة ، ومع ذلك لا يلزم من ثبوتها ثمّة ثبوتها هنا إلّا قياسا وهو باطل.

وبجميع ما ذكر تبيّن ضعف ما عرفته عن الشيخ في كتبه (١) ، وعن المهذّب (٢) أيضا ، سواء أراد بالمنع ما هو كذلك تعبّدا ، أو ملزومه من النجاسة كما هو الأظهر ، بملاحظة ما في كلامه في الاستبصار (٣) من جعله الجواز فيما استثناه من باب العفو ، لأجل كون التحرّز عن ذلك ممّا يشقّ على الإنسان.

هذا مع ضعف مستنده الّذي هو موثّقة عمّار الساباطي (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن ماء يشرب منه الحمام؟ فقال : « كلّ ما اكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب » ، وعن ماء يشرب منه باز ، أو صقر ، أو عقاب؟ فقال : « كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه ، إلّا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره شيئا فلا تتوضّأ منه ولا تشرب » (٥).

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٠.

(٢) المهذّب ١ : ٢٥.

(٣) الاستبصار ١ : ٢٥.

(٤) وهو عمّار بن موسى الساباطي.

(٥) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٨ / ٦٦٠.


وجه الدلالة ـ على ما بيّنه في التهذيب ـ : أنّ قوله : « كلّما يؤكل لحمه يتوضّأ بسؤره ويشرب » يدلّ على أنّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضّؤ به والشرب منه ، لأنّه إذا اشترط في استباحة سؤره أن يؤكل لحمه دلّ على أنّ ما عداه بخلافه ، ويجري هذا المجرى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « في سائمة الغنم زكاة » في أنّه يدلّ على أنّ المعلوفة ليس فيها زكاة (١).

قال في الاستبصار ـ بعد إيراد الرواية ـ : « وهذا خبر عامّ في جواز استعمال سؤر كلّ ما يؤكل لحمه من سائر الحيوان ، وأنّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز استعمال سؤره ـ إلى أن قال ـ : وما يتضمّن هذا الخبر من جواز سؤر طيور لا يؤكل لحمها مثل البازي والصقر إذا عرا منقارهما من الدم مخصوص من بين ما لا يؤكل لحمه في جواز استعمال سؤره ، وكذلك ما رواه إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : « لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه وتتوضّأ منه ».

الوجه فيه : أن نخصّه من بين ما لا يؤكل لحمه من حيث لا يمكن التحرّز من الفأرة ويشقّ ذلك على الإنسان ، فعفي لأجل ذلك عن سؤره » (٢) انتهى.

وجه الضعف ـ على ما بيّنه ـ : ابتناؤه على ثبوت مفهوم الوصف ، ومن المقرّر في محلّه المنع من ذلك ، ولو سلّم ثبوته في أصل المسألة فقد يمنع ثبوته هنا بالخصوص ، كما يرشد إليه فرض السؤال ثانيا عمّا شرب منه باز أو صقر أو عقاب ، فإنّه كاشف عن عدم انفهام الانتفاء عن المسكوت عنه وإلّا لم يحتج إلى السؤال.

ولو سلّم أنّه فهم الانتفاء في الجملة ـ أي على سبيل القضيّة الجزئيّة لا القضيّة الكلّيّة ـ فلا يجدي في ثبوت الدلالة على تمام المدّعى ، إذ الجزئيّة صادقة في ضمن بعض ما لا يؤكل لحمه من الكلب والخنزير وغيره من نجس العين.

وملخّص هذا الكلام : أنّ الاستدلال لا يتمّ إلّا بإثبات مقدّمتين.

إحداهما : ثبوت اعتبار المفهوم هنا ، واخراهما : ثبوت كونه معتبرا على سبيل الكلّيّة ، على معنى ثبوت الحكم المفهومي لجميع أفراد ما لا يؤكل لحمه.

ولا ريب أنّ سؤال الراوي عقيب استماع المنطوق مع جواب الإمام عليه‌السلام في مورد السؤال الّذي هو بعض أفراد المسكوت عنه على طبق المنطوق يكشفان عن عدم

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٢٤.

(٢) الاستبصار ١ : ٢٦.


اعتبار المفهوم هنا رأسا ، أو عن كونه معتبرا هنا على سبيل الجزئيّة الصادقة في بعض أفراد المسكوت عنه كالكلب والخنزير ، وأيّا ما كان فالاستدلال ساقط جزما.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فدلالة المفهوم لا تقاوم دلالة المنطوق ، وقد تقدّم من المناطيق ما يقضي بخلاف ذلك المفهوم ، كما أنّ السند الموثّق لا يقاوم السند الصحيح ، ولا سيّما إذا اعتضد الصحيح بما تقدّم ذكره من الشهرة العظيمة الّتي كادت تكون إجماعا.

وكيف كان فالعمل على الصحيح وفاقا للمعظم ، لكون مفاده هو الصحيح ، مع ما فيه من العمل على الاصول والقواعد.

المسألة الثالثة : لا فرق فيما حقّقناه من طهارة سؤر الحيوان الطاهر العين لطهارة ذيه بين كون الحيوان مأكول اللحم أو غيره ، ولا بين كونه آكل الجيف أو غيره ، سواء اريد من أكل الجيف ما من شأنه ذلك كما في صريح المدارك (١) ، أو ما برز منه الأكل في الخارج كما نقل التصريح به في الحدائق (٢) عن المنتهى (٣).

لنا على ذلك : مضافا إلى الاصول والقواعد المتقدّم إليهما الإشارة ، الموثّقة المتقدّمة في عبارة الاستبصار السائلة عن ماء يشرب منه باز أو صقر أو عقاب ، المصرّحة : « بأنّ كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه » إلى آخره ، مضافة إلى الصحيحة والحسنة المتقدّمتين (٤) المبيحتين لسؤر السباع ، الّتي لا تكاد تنفكّ عن أكل الجيف في الغالب ، وإطلاق هذه الأحاديث كما ترى يشمل كلتا صورتي بروز المبدأ في الخارج وعدمه ، ومن هنا يمكن أن يؤخذ الأخبار الواردة في طهارة سؤر الهرّة ـ بل في فضله الّتي يأتي إليها الإشارة ـ دليلا على هذا المطلب ، بل المستفاد منها دلالة اخرى عليه من حيث تضمّنها إعطاء قاعدة كلّيّة في السباع كما سيظهر وجهه.

فما عرفته عن النهاية (٥) من استثناء سؤر آكل الجيف إمّا لمنعه عنه كما في بعض العبائر الناقلة ، أو لحكمه عليه بالنجاسة كما في الحدائق (٦) ، ومثله ما عن كشف اللثام

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٣٠.

(٢) وفي الأصل : (ئق) ولكن لم نجده في الحدائق ، ولكنّه يوجد الاحتمالين في جواهر الكلام ١ : ٦٧٢.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٦١.

(٤) أي صحيحة البقباق وحسنة معاوية بن شريح المتقدّمتان في المسألة الثانية من مسائل هذا الباب آنفا.

(٥) النهاية ١ : ٢٠٣.

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٠.


من « أنّ كلام القاضي (١) يعطي نجاسة السؤرين » (٢) ـ يعني : هذا السؤر مع سؤر الجلّال ـ ممّا لا يصغى إليه ، لمخالفته الاصول المعتبرة والأخبار المصرّحة من جهات عديدة ، كيف ولا مستند لشي‌ء من المنع ولا الحكم بالنجاسة إلّا ما نقل من الاستدلال عليه بالمفهوم المتقدّم في موثّقة عمّار المتضمّنة لقوله عليه‌السلام : « كلّ ما أكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب منه » (٣) وقد تبيّن ما فيه من وجوه المنع.

وقد يجاب عنه : بعدم شموله لجميع أفراد المقام ، لأنّ آكل الجيف قد يكون مأكول اللحم فلا يجري فيه المفهوم ، ضرورة امتناع وقوع شي‌ء واحد موردا للمنطوق والمفهوم معا ، ولعلّه مبنيّ على حمل آكل الجيف على ثاني المعنيين المتقدّم إليهما الإشارة ، وإلّا فعلى أوّلهما كان في غير محلّه ، إذ لم يعهد إلى الآن من أفراد ما يؤكل لحمه ما من شأنه أكل الجيف كما لا يخفى.

وأمّا ما يجاب عنه أيضا : من أنّ الحكم معلّق على عدم مأكوليّة اللحم ولا مدخل لأكل الجيف فيه ، فممّا لا يرجع إلى محصّل ، إذ لو اريد به منع جريان الحكم فيما يؤكل لحمه إذا أكل الجيف بالعرض فمرجعه إلى الجواب السابق ، ولو اريد به منع جريانه في غير مأكول اللحم إذا أكل الجيف فغير مفيد ، لأنّ الحيثيّتين مجتمعتان ، بل الحيثيّة الاولى لا تكاد تنفكّ عن الثانية ، فالمنع ثابت على أيّ تقدير.

والعجب عن الحدائق (٤) وتبعه غيره حيث جمع بين الجوابين ، إلّا أن يرجع الثاني إلى منع انطباق الدليل على موضوع البحث وإن كان قد يجامع مورده.

المسألة الرابعة : بالنظر في بعض ما تقدّم يعلم الحكم في سؤر الجلّال أيضا ، وهو على ما في كلام غير واحد المتغذّي بعذرة الإنسان محضا إلى أن ينبت عليه لحمه ويشتدّ عظمه ، وزاد في المدارك قوله : « بحيث يسمّى في العرف جلّالا قبل أن يستبرأ بما يزيل الجلل » (٥) والظاهر أنّ الأخير قيد يرجع إلى الحكم لا أنّه من قيود الموضوع ، وفيه التصريح بدعوى الشهرة على طهارة هذا السؤر (٦) ، ولا فرق في ذلك بين كون

__________________

(١) المهذّب ١ : ٢٥.

(٢) كشف اللثام ١ : ٢٨٥.

(٣) التهذيب ١ : ٢٢٤ / ٦٤٢.

(٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣١.

(٥) مدارك الأحكام ١ : ١٣٠.

(٦) حيث قال : « والحكم بطهارة سؤر هذين النوعين ـ أي الجلّال وآكل الجيف ـ بالقيد المذكور وكراهة مباشرته هو المشهور بين الأصحاب » ـ لاحظ مدارك الأحكام ١ : ١٣٠.


الحيوان مأكول اللحم فصار جلّالا أو غير مأكول اللحم من الطيور أو غيرها ، والقول بالمنع عن هذا السؤر مع طهارة ذيه كما عرفته عن المرتضى (١) كالقول بنجاسته كما عرفت نقله عن القاضي (٢) ـ فيما حكي عن كاشف اللثام ـ (٣) كالمحكيّ عن الإصباح (٤) من نجاسة سؤر جلّال الطيور ، ممّا لا يعرف له وجه ، كما اعترف به غير واحد وحكي أيضا عن جمع.

وربّما نقل الاستدلال عليه : بأنّ رطوبة أفواهها تنشأ من غذاء نجس فيجب الحكم بالنجاسة.

وقد يحتمل الاستدلال عليه أيضا بما دلّ من الأخبار على نجاسة عرق الجلّالة ، كخبر هشام بن سالم عن أبي عبد الله قال : « لا تأكلوا لحوم الجلّالات ، فإن أصابك من عرقها فاغسل » (٥) بناء على ما في حاشية الوسائل من مصنّفه (٦) ـ على ما حكي ـ « من أنّهم أجمعوا على تساوي حكم العرق والسؤر هنا ، بل في جميع الأفراد ، والفرق إحداث قول ثالث ».

وبملاحظة ما ذكر في الخبر من المنع عن أكل لحوم الجلّالات أمكن الاستدلال عليه أيضا بأخبار ما لا يؤكل لحمه ـ ولو من جهة المفهوم ـ كما علم من طريقة الشيخ في غير مأكول اللحم (٧) ، بناء على أنّ المراد في مورد المفهوم المذكور ما يعمّ المنع العرضي.

وفي جميع هذه الوجوه ما لا يخفى من الضعف والاعتساف المخرج عن الإنصاف ، فإنّ الاستحالة المغيّرة للعنوان رافعة لحكم النجاسة كما في غير المقام ، مع ما فيه من

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق رحمه‌الله في المعتبر : ٢٤.

(٢) المهذّب ١ : ٢٥.

(٣) كشف اللثام ١ : ٢٨٥.

(٤) إصباح الشيعة : ٥.

(٥) الوسائل ١ : ٢٣٣ ب ٦ من أبواب الأسآر ح ١ ـ الكافي ٦ : ٢٥٠ / ١.

(٦) هكذا في هامش الوسائل ١ : ٢٣٣ عن مصنّفه : « استدلّ علماؤنا على كراهة سؤر الجلّال بحديث هشام وأحاديث ما لا يؤكل لحمه ، ودلالة الثاني ظاهرة واضحة ودلالة الأوّل مبنيّة على أنّهم أجمعوا على تساوي حكم العرق والسؤر هنا ، بل في جميع الأفراد ، والفرق إحداث قول ثالث ، وأيضا فإنّ بدن الحيوان لا يخلو أبدا من العرق إمّا رطبا وإمّا جافّا ، فيتّصل السؤر به ، فحكمه حكمه ، وعلى كلّ حال فضعف الدلالة منجبر بأحاديث ما لا يؤكل لحمه » انتهى.

(٧) التهذيب ١ : ٢٢٤ ذيل الحديث ٦٤٢ ، حيث قال : « قوله : « كلّ ما اكل لحمه يتوضّأ بسؤره ويشرب » يدلّ على أنّ كلّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضّؤ به والشرب منه الخ ».


النقض ـ على ما في كلام غير واحد ـ (١) بما لو تغذّى بغير العذرة من النجاسات العينيّة من دم ونحوه ، وبما لو تغذّى بالمتنجّس من العذرة ، وبما لو تغذّى بها وبغيرها من النجاسات أو غيرها على جهة الانضمام ، وبآكل الجيف محضا ، وببصاق شارب الخمر إذا لم يتغيّر به.

وإحداث القول الثالث عن مستند شرعي ـ ولو كان من الاصول المعتبر ـ ليس بباطل ما لم يثبت الإجماع على نفيه وبطلانه ، وهو غير ثابت بل الثابت خلافه ، كيف وقد عرفت نقل الشهرة هنا على الطهارة.

والمفهوم ـ مع ما فيه ممّا تقدّم ـ ظاهر في المنع الذاتي ، فلا يصرف إلى المنع العرضي إلّا بدليل وليس ، وبالجملة الاصول الموجودة في المقام ممّا لا سبيل إلى رفع اليد عنها ، وهذا هو مستند الحكم هنا.

وإن كان قد يستدلّ عليه أيضا بعموم الروايات الحاكمة بطهارة سؤر الطيور والسنّور والدوابّ والسباع ، الّتي منها : موثّقة عمّار « كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضّأ منه ولا تشرب » (٢) المشتملة على العموم اللغوي الّذي قيل فيه إنّه يتناول الأفراد النادرة أيضا ، فلا يقدح لو قيل بكون الجلّال من الأفراد النادرة.

ومنها : صحيحة البقباق (٣) وحسنة معاوية بن شريح (٤) المتقدّمتان.

وظنّي أنّ هذا في غير محلّه نظرا إلى أنّ النجاسة المبحوث عنها في تلك المسألة ما يكون عرضيّا ناشئا عن أمر عرضيّ للحيوان المأكول لحمه وغيره ، ولعلّ الروايات المذكورة أو أكثرها مسوقة لبيان الطهارة الذاتيّة المنافية للنجاسة الذاتيّة ، فلا تنافي النجاسة العرضيّة الناشئة عن الجلل ، والعموم اللغوي في الموثّقة لا يجدي إلّا في تعميم الحكم الأوّل بالقياس إلى جميع أنواع الطيور ، فيبقى الحكم الثاني مسكوتا عنه ، ولا يمكن إثباته بتوهّم [كونه] بالقياس إلى الأحوال ، بعد ملاحظة عدم كونه مسوقا لبيان ما

__________________

(١) كما في المعتبر : ٢٤.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ الكافي ٣ : ٩ / ٥.

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ و ٦.


عدا الطهارة الذاتيّة.

إلّا أن يستكشف الانسياق لبيان الطهارة على الوجه الأعمّ عن الاستثناء الوارد في الموثّقة لصورة وجود الدم في المنقار ، نظرا إلى أنّه إثبات للنجاسة الفعليّة الغير المنافية للطهارة الذاتيّة ، فيكون المراد من المستثنى منه إثبات الطهارة الفعليّة الّتي هي أمر زائد على الطهارة الذاتيّة ، فحينئذ يبقى المناقشة في الاستدلال بعمومات اخر ممّا ورد في السنّور والدوابّ والسباع كالصحيحة والحسنة المتقدّمتين ، وغيرهما ممّا سيأتي ذكرها في بحث الهرّة ، فإنّ الظاهر المنساق منها كونها لبيان الطهارة الذاتيّة ، وستسمع زيادة بيان في ذلك ، فلا ينبغي أخذها مستندة لنفي النجاسة العرضيّة.

وبالجملة فرق واضح بين النجاسة الّتي هي من مقتضيات ذات الحيوان وطبعه والنجاسة الطارئة له لعارض ، والكلام في المسائل السابقة نفيا وإثباتا كان راجعا إلى النجاسة المستندة إلى الذات ، وفي هذه المسألة راجع إلى النجاسة المستندة إلى ما هو خارج عن الذات ، فما انتهض دليلا على نفي النجاسة في المقام الأوّل على جهة الاختصاص لا ينبغي أخذه دليلا على نفيها في المقام الثاني ، وإن كان ما انتهض دليلا على نفيها في المقام الثاني صالحا لأن يؤخذ دليلا عليه في المقام الأوّل ، والظاهر أنّ الأخبار المشتملة على استثناء صورة وجود النجاسة من قبيل القسم الثاني ، بخلاف الأخبار المتضمّنة لنفي البأس عن سؤر الهرّة والدوابّ والسباع ، فإنّها لا تنطبق إلّا على المقام الأوّل فتكون من قبيل القسم الأوّل.

المسألة الخامسة : والظاهر أنّه لا خلاف عندهم في كراهة سؤر الجلّال وآكل الجيف ، بل نسب القول بالكراهة في كلام غير واحد (١) إلى جمهور أصحابنا في كلّ حيوان غير مأكول اللحم عدا السنّور ، ولعلّه لا ضير فيه لرواية الوشّاء المتقدّمة (٢) تسامحا في أدلّة السنن ، ويمكن الاستناد في ذلك أيضا إلى مستند الكراهة في الأنعام الثلاثة من الخيل والبغال والحمير من جهة الأولويّة كما لا يخفى ؛ وقد شاع في كلامهم التعليل لذلك أيضا بالخروج عن شبهة المنع والتحريم ، وليس على ما ينبغي عند التأمّل ،

__________________

(١) كما في الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ الكافي ٣ : ١٠ / ٧.


إذ الخروج عن الشبهة يقتضي المصير إلى ما يلازم الترك وليس إلّا الاحتياط ، والكراهة ليست منه وإلّا كانت تحريما.

نعم ، على الاكتفاء في قاعدة التسامح بمجرّد فتوى الفقيه ـ خصوصا إذا صدرت عن الجمهور ـ اتّضح حكم المسألة من حيث الكراهة غاية الوضوح كما لا يخفى.

وأمّا السنّور فمقتضى فتوى غير واحد من الأصحاب مع ملاحظة ما ورد فيها من الأخبار الكثيرة النافية للبأس عن سؤره ، الحاكمة عليه بكونه من أهل البيت ، الآمرة باستعمال سؤره شربا ووضوءا وغيره مع أنواع التأكيدات انتفاء الكراهة عن سؤره ، بل قد يستظهر من الأخبار فضل ذلك السؤر ، ففي الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الهرّة أنّها من أهل البيت ويتوضّأ من سؤرها » (١) وفي آخر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال في كتاب عليّ عليه‌السلام « أنّ الهرّ سبع ، ولا بأس بسؤره ، وإنّي لأستحيي من الله أن أدع طعاما لأنّ الهرّ أكل منه » (٢).

وفي ثالث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الكلب يشرب من الماء؟ قال : « اغسل الإناء ». وعن السنّور؟ قال : « لا بأس أن تتوضّأ من فضلها ، إنّما هي من السبع » (٣).

وفي رواية أبي الصباح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان عليّ عليه‌السلام يقول : لا تدع فضل السنّور أن تتوضّأ [منه] ، إنّما هي سبع » (٤) ويستفاد منها مع سابقتيها ما أشرنا إليها من القاعدة الكلّيّة في السباع ، وفي الخبر قال : الصادق عليه‌السلام « إنّي لا أمتنع من طعام طعم منه لسنّور ، ولا من شراب شرب منه » (٥) وفي رواية سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، « إنّ عليا عليه‌السلام قال : إنّما هي من أهل البيت » (٦).

المسألة السادسة : في كلام غير واحد كالمحقّق والعلّامة والشهيد تقييد كراهة سؤر الجلّال آكل الجيف المتضمّنة لطهارته بصورة خلوّ موضع الملاقاة عن عين النجاسة.

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ٢٢٧ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ١ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ و ٢٢٧ / ٦٥٢ و ٦٥٥.

(٣) الوسائل ١ : ٢٢٧ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٣ ـ وفيه : « يشرب من الإناء » بدل « يشرب من الماء »

(٤) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٢٧ / ٦٥٣.

(٥) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٧ ـ الفقيه ١ : ٨ / ١١.

(٦) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٥ ـ التهذيب ١ : ٢٢٧ / ٦٥٤.


قال في الشرائع : « ويكره سؤر الجلّال ، وكذا ما أكل الجيف إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة » (١) وفي معناه عبارة النافع (٢).

وقال في المنتهى : « يكره سؤر ما أكل الجيف من الطير إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة ، وهو قول السيّد [المرتضى] ـ إلى أن قال ـ : وهكذا سؤر الهرّة وإن أكلت الميتة ثمّ شربت ، قلّ الماء أو كثر ، غابت عن العين أو لم تغب » (٣).

وقال في الدروس : « ويكره سؤر الجلّال وآكل الجيف مع الخلوّ عن النجاسة » (٤) وعن العلّامة في التذكرة (٥) والمحقّق في المعتبر (٦) نظير ما ذكره في الهرّة ، وفهم جماعة كصاحبي المدارك والحدائق وغيرهما من تلك العبارة أنّ المراد بها طهارة الهرّة بمجرّد زوال العين ، بل في الحدائق : « أنّه المشهور بين الأصحاب » (٧).

وجزم به في المدارك قائلا : « وهنا شي‌ء ينبغي التنبيه له ، وهو أنّ مقتضى الأخبار المتضمّنة لنفي البأس عن سؤر الهرّة وغيرها من السباع طهارتها بمجرّد زوال العين ، لأنّها لا تكاد تنفكّ عن النجاسات خصوصا الهرّة ، فإنّ العلم بمباشرتها للنجاسة متحقّق في أكثر الأوقات ، ولو لا ذلك للزم صرف اللفظ الظاهر إلى الفرد النادر ، بل تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأنّه ممتنع عقلا ، وبذلك صرّح المصنّف في المعتبر (٨) والعلّامة في التذكرة (٩) والمنتهى (١٠) ، فإنّهما قالا : إنّ الهرّة لو أكلت ميتة ثمّ شربت من الماء القليل لم ينجّس بذلك ، سواء غابت أو لم تغب » (١١) انتهى.

أقول : ما سمعته من الاستدلال على الطهارة بمجرّد زوال العين موافق لما ذكره العلّامة في المنتهى ، فإنّه بعد قوله : « وهو قول السيّد المرتضى في العبارة المتقدّمة قال : « لنا : ما أوردناه من الأحاديث العامّة في استعمال سؤر الطيور والسباع ، وهي لا تنفكّ عن تناول ذلك عادة ، فلو كان ذلك مانعا لوجب التنصيص عليه ، وإلّا لزم صرف الطهارة (١٢)

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٢) المختصر النافع : ٤٤.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٦١.

(٤) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٥) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٢.

(٦) المعتبر : ٢٥. (٧) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٣.

(٨) المعتبر : ٢٥. (٩) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٢.

(١٠) منتهى المطلب ١ : ١٦١. (١١) مدارك الأحكام ١ : ١٣٣.

(١٢) هكذا في الأصل ، وفي منتهى المطلب المطبوعة : « الظاهر » بدل « الطهارة ».


إلى نادر لا دلالة للفظ السائل (١) عليه ، وذلك بعيد ومحال من حيث إنّه تأخير البيان عن وقت الحاجة » انتهى (٢).

ومحصّل مراده : أنّ الغالب في الهرّة وغيرها من السباع إنّما هو مباشرة النجاسات من الجيف وغيرها ، وما لم يباشرها منها أصلا ليس إلّا فردا نادرا ، والنصوص قد تضمّنت نفي البأس عن أسئارها فتكون دالّة على طهارتها ، فإمّا أن يراد بها بيان الحكم للفرد النادر وهو الّذي لم يباشر النجاسات أصلا ، أو للأفراد الغالبة الّتي لا تنفكّ عن مباشرة النجاسات ، ولا سبيل إلى الأوّل لانصراف اللفظ المجرّد إلى الغالب ، فلو كان المراد به بيان الحكم للفرد النادر لوجب التنصيص عليه بنصب قرينة توجب انفهامه لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، من حيث إنّ السائل لا دلالة للفظه على إرادة ذلك الفرد بل هو ظاهر في إرادة الغالب ، ومن الواجب انطباق الواجب عليه حذرا عن المحذور فتعيّن الثاني.

لكن يبقى الإشكال في وجه تقييدهم الطهارة بصورة زوال عين النجاسة عن موضع الملاقاة ، نظرا إلى إطلاق النصوص بالقياس إلى تلك الصورة أيضا ، وكأنّه نشأ عن غلبة اخرى في مورد الغلبة الاولى ، إذ كما أنّ الغالب في الهرّة وغيرها من السباع مباشرة النجاسات ، فكذلك الغالب فيما يباشرها وروده على الماء بعد زوال عين النجاسة عن موضع ملاقاة الماء ، إذ لا ملازمة بين غلبة مباشرة النجاسة وغلبة ملاقاة الماء مع النجاسة ، بل الغالب عند الملاقاة عدم وجود النجاسة ، فيكون الفرد النادر ـ وهو ملاقاة الماء مع وجود النجاسة ـ خارجا عن النصوص المنصرفة إلى الغالب.

وقضيّة ذلك اندراج تلك الصورة في قاعدة انفعال القليل بملاقاة النجاسة ، فاشتراط الخلوّ عن عين النجاسة عمل بتلك القاعدة حيث لا معارض لها حينئذ لا أنّه مستفاد من النصوص.

ويمكن القول بأنّ ذلك جمع بين تلك النصوص وأدلّة القاعدة المذكورة ، من حيث

__________________

(١) هكذا في الأصل ، وفي النسخة المطبوعة : « الشامل » بدل « السائل » ، ولا يبعد صحّة ما في الأصل ، بناء على ما سيجي‌ء منه قدس‌سره في بيان معنى العبارة.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٦١.


إنّ بين كلّ مع الآخر عموم من وجه كما يظهر بالتأمّل ، لكن في كلّ من الوجهين شي‌ء يظهر للمتأمّل أيضا.

وكيف كان فللعلّامة قول آخر في النهاية ـ حكاه جماعة ـ وهو « أنّه لو نجس فم الهرّة بسبب كأكل الفأرة وشبهه ، ثمّ وقعت في ماء قليل ، ونحن نتيقّن نجاسة فمها ، فالأقوى النجاسة ، لأنّه ماء قليل لاقى نجاسة ، والاحتراز يعسر عن مطلق الولوغ ، لا عن الولوغ بعد تيقّن النجاسة ، ولو غابت من العين واحتمل ولوغها في كثير أو جار لم ينجّس ، لأنّ الإناء معلوم الطهارة ، فلا يحكم بنجاسته بالشكّ » (١).

ونتيجة كلامه ـ على ما فهمه جماعة ـ إناطة الطهارة بالغيبة مع احتمال الولوغ في الكثير أو الجاري لا بمجرّد زوال عين النجاسة ، وفي المدارك بعد ما نقل هذا القول عن النهاية قال : « وهو مشكل ، وقد قطع جمع من المتأخّرين بطهارة الحيوان غير الآدمي بمجرّد زوال العين ، وهو حسن ، للأصل وعدم ثبوت التعبّد بغسل النجاسة عنه » (٢).

وإلى هذا أشار في الحدائق بقوله : « وألحق جملة من المتأخّرين بها ـ يعني بالهرّة ـ كلّ حيوان غير آدمي » (٣).

وفيه (٤) أيضا قول بالنجاسة وأصالة البقاء عليها نقله من دون تعيين قائله ، ثمّ نقل القول بالطهارة بالغيبة عن نهاية العلّامة ، والتأمّل في العبارة المتقدّمة للنهاية يعطي أنّه لا يريد الحكم بطهارة الهرّة بسبب الغيبة ولو مع الاحتمال المتقدّم ، بل مراده الحكم بطهارة الماء الملاقي لها عملا بالأصل فيه الّذي لا يرتفع بالشكّ ، وذلك لا ينافي بقاء الهرّة أيضا على وصف النجاسة ولو بحكم الأصل الموجود فيه.

نعم ، مبنى كلامه على عدم تحكيم استصحاب النجاسة على استصحاب طهارة الملاقي ، وهو خلاف طريقة الأصحاب الّتي قضت بها أخبار الاستصحاب ، وعلى أيّ حال كان فقد تبيّن أنّ في الحيوانات المباشرة للنجاسات أقوالا.

أحدها : طهارتها بمجرّد زوال عين النجاسة.

وثانيها : النجاسة مطلقا عملا بأصالة البقاء.

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٩ مع اختلاف يسير في بعض الفقرات.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٣٤.

(٣ و ٤) الحدائق الناضرة ١ : ٤٣٣.


وثالثها : الطهارة بالغيبة مع الاحتمال لا غير.

وتمكّن أخذ الطهارة بالغيبة المطلقة أيضا قولا في المسألة وإن لم يكن نقله أحد ، ويمكن اعتبار الغيبة توصّلا إلى إبداء الاحتمال المحرز لموضوع الاستصحاب في الماء لا للتوصّل إلى طهارة الحيوان كما هو ظاهر عبارة النهاية.

ثمّ إنّ لقولهم بالطهارة لمجرّد الزوال معنيين :

أحدهما : كون زوال العين موجبا لارتفاع أثرها الحاصل في جسم الحيوان الغير الآدمي ، بناء على أنّه كجسم الآدمي تقبل النجاسة ، وهي الأثر الحاصل فيه بعروض العين له ، فعليه يكون الزوال من جملة المطهّرات.

وثانيهما : كونه موجبا لبروز الطهارة الأصليّة الّتي كانت للحيوان قبل عروض العين له ، بناء على أنّه ليس كجسم الآدمي في قبول النجاسة ، بل هو قبل عروض العين وحاله باق على وصف الطهارة ، غاية الأمر أنّ العين ما دامت موجودة مانعة عن ترتيب أحكام الطهارة على المحلّ ، فإذا زالت بقيت الطهارة الموجودة في المحلّ حال وجودها بلا مانع عن ترتيب أحكامها عليه.

فالعين على أوّل المعنيين رافعة لطهارة المحلّ ، وعلى ثانيهما مانعة عن ترتّب أحكامها عليه ، وهذا هو الّذي مال إليه بعض مشايخنا (١) ، بل في كلامه ما يقضي برجوع قولهم : « أنّ الحيوانات تطهر بزوال العين » إلى هذا المعنى.

ومحصّل هذا المعنى : « أنّه لا يحكم بتنجيس هذه النجاسات ، لأبدان الحيوانات ، بل تكون من قبيل البواطن ، فلا تنفعل بملاقاة النجاسات ، بل إن كانت عين النجاسة موجودة كان الحكم مستند إليها ، وإلّا فلا ».

إلى أن قال : « ولعلّه إلى ما ذكرنا أشار السيّد مهدي في منظومته :

و اجعل زوال العين في الحيوان

طهرا كذا بواطن الإنسان » (٢)

فعلم من جميع ما ذكر : أنّ في كون أجسام سائر الحيوانات كسائر المتنجّسات في افتقارها إلى مطهّر خارجي ومزيل شرعي وعدمه خلافا.

__________________

(١) وهو صاحب الجواهر رحمه‌الله لاحظ جواهر الكلام ١ : ٦٧٦.

(٢) الجواهر ١ : ٦٧٦ ـ لاحظ الدرّة النجفيّة : ٥٤.


فما يقال : من أنّ الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في أنّ جسم الحيوانات لا يعامل معها معاملة غيرها من كفاية العلم بنجاستها في زمان في وجوب الاجتناب عنها إلى أن يعلم طهارتها بمطهّر غيرها ، ليس على ما ينبغي ، إلّا أن يرجع إلى إنكار وجود القول بالنجاسة المطلقة ، الّذي مرجعه إلى القول باعتبار مطهّر خارجي حسبما نقله في الحدائق (١).

وكيف كان فهاهنا صور :

إحداها : ملاحظة جسم الحيوان قبل العلم بمباشرة النجس ، وهذا ممّا لا إشكال لأحد في الحكم عليه بالطهارة عملا بأصالة الطهارة.

وثانيتها : ملاحظته بعد حصول مطهّر شرعي له ، بوروده على الكثير أو الجاري بعد مباشرة النجاسة ، وهذا أيضا ممّا لا إشكال لأحد في الحكم عليه بالطهارة.

وثالثتها : ملاحظته حال وجود النجاسة العينيّة ، وهذا أيضا ممّا لا إشكال لأحد في عدم ترتيب أحكام الطهارة عليه ، إمّا لوجود الرافع أو لوجود المانع.

ورابعتها : ملاحظته بعد زوال عين النجاسة قبل العلم بحصول المطهّر الخارجي ، فهذا هو محلّ الخلاف في أنّه هل يكفي مجرّد ذلك في الحكم عليه بالطهارة ، أو يتوقّف على الغيبة ، مع احتمال حصول المزيل الشرعي بوروده على كرّ أو جار ، أو لا يكفي شي‌ء من ذلك ، بل يتوقّف الحكم بالطهارة على حصول المزيل؟

والأقوى وفاقا للأكثر هو الأوّل ، لكن لا على معنى كون الزوال مطهّرا ، بل على معنى كونه من باب ارتفاع المانع ، فالطهارة الموجودة بعده هي الطهارة الأصليّة الّتي صادفها المانع في زمان فارتفع ذلك المانع بفرض زوال العين ، من غير فرق في ذلك بين الهرّة وغيرها من سائر أنواع الحيوانات ، أكلت لحمها أو لا ، لكن لا للأخبار النافية للبأس عن سؤرها كما عرفت الاستناد إليها في الجملة عن العلّامة وصاحب المدارك (٢) ، فإنّ جملة من تلك الأخبار قد عرفت سابقا أنّه لا تعلّق لها بمقام البحث ، كأخبار الهرّة والصحيحة مع الحسنة المتقدّمتين فيها وفي الدوابّ والسباع ، لما عرفت

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٣٤٣.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٣٣ ـ تذكرة الفقهاء ١ : ٤٢ ـ المعتبر : ٢٥.


من عدم تعرّض فيها إلّا لبيان الطهارة الذاتيّة ، ولا سيّما الصحيحة والحسنة ، لما فيهما من تعليل المنع عن سؤر الكلب بنجاسته الّتي هي بالقياس إليه ذاتيّة ، فيكون الرخصة في سؤر ما عداه من الأنواع المذكورة فيهما لطهارتها الذاتيّة ، فلا ينافيها المنع لنجاسة عرضيّة ، فلا تعرّض في تلك الأخبار لبيان الطهارة الفعليّة فضلا عن تعرّضها لبيان كيفيّة تلك الطهارة وبيان حال الحيوان بعد زوال عين النجاسة العرضيّة ، فالتمسّك بها في هذه المقامات ليس إلّا من الخرافات الناشئة عن سوء الفهم وقلّة التدبّر.

وأمّا جملة اخرى من أخبار الباب كما في موثّقة عمّار من قوله : وعن ماء يشرب منه باز ، أو صقر ، أو عقاب ، فقال : « كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه ، إلّا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت شيئا في منقاره فلا تتوضّأ منه ولا تشرب ».

وسأل عن ماء شربت منه الدجاجة ، قال : « إن كان في منقارها قذر لا تشرب ولا تتوضّأ منه ، وإن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ واشرب » (١) وإن كانت متعرّضة لبيان الطهارة الفعليّة بقرينة الاستثناء القاضي بالنجاسة الفعليّة ، غير أنّه لا يستفاد منها أيضا ما يتعلّق بالمقام من كفاية زوال عين النجاسة في الحكم على الحيوان بالطهارة وعدمها ، لما في المستثنى من الإجمال ، حيث لا يعلم أنّه حالة وجود عين النجاسة بخصوصها حتّى يفارق سائر أنواع الحيوان من الإنسان من جهته ، أو هي مع ما بعدها إلى أن يعلم بحصول المزيل الشرعي ، حتّى يشارك الحيوان الإنسان في أنّه لا يحكم عليه بالطهارة إلّا إذا لم يعلم بطروّ عين النجاسة ، أو علم معه بحصول المزيل ، فيكون النظر في تلك الأخبار على هذا الاحتمال ـ كالأخبار الواردة في طهارة ثياب المشركين وأوانيهم ـ إلى أصالة الطهارة.

فالقول : بأنّ الأخبار الواردة في أسآر ما يعلم بطهارته من الحيوانات كالحمام والدجاجة وغيرها لم يستثن فيها إلّا صورة وجود النجاسة على جسم الحيوان ، والمناسب على تقدير إناطة الحكم بأصالة الطهارة استثناء صورة العلم بتنجيس نفس الجسم ، بإطلاقه ليس على ما ينبغي ، لما عرفت من أنّ مقتضى الاحتمال الثاني الجاري في تلك الأخبار مساويا للاحتمال الأوّل هو إناطة الحكم في هذه الحيوانات أيضا بأصالة الطهارة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٢ و ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٢٨ / ٦٦٠ ـ الكافي ٣ : ٩ / ٥.


وكيف كان فقضيّة الإجمال الناشئ عن تساوي الاحتمالين سقوط الاستدلال بتلك الأخبار أيضا على حكم المسألة ، بل المستند في الحقيقة في عموم المسألة ممّا اخذ عنوانا في الأخبار وما لم يؤخذ هو الأصل ، فإنّ فتوى الفقهاء بطهارة الحيوان بمجرّد زوال العين مع ملاحظة ما تقدّم من المعنيين في شرح هذه العبارة ومصير بعضهم إلى ثانيهما يوجب الشكّ في عروض صفة النجاسة ـ وهو الأثر الحاصل من عين النجس الجسم الحيوان ، الملازم لزوال طهارته الأصليّة الموجودة فيه قبل وجود العين عليه ـ وعدمه ، ومن البيّن أنّ الأصل عدم عروض ذلك الأثر ، كما أنّ الأصل بقاء الطهارة الأصليّة ، ولا ينافيه عدم ترتّب آثار الطهارة على الجسم ما دامت العين موجودة عليه ، لجواز استناد ذلك إلى وجود المانع ـ حسبما فصّلناه ـ لا إلى فقد المقتضي ، ولا ريب أنّ مجرّد الاحتمال كاف في جريان الأصل وصحّة الاستناد إليه.

لا يقال : هذا الأصل قد انقطع بعموم قاعدة تنجيس النجاسات العينيّة لما يلاقيها من الأجسام وغيرها ، المستفادة من عمومات النجاسات ، ضرورة أنّ القاعدة إذا استفيدت من الدليل دليل بالقياس إلى مورد الأصل رافع لموضوعه ، فلا أصل حينئذ ، بل الأصل بعد زوال عين النجاسة عن جسم الحيوان يقتضي الحكم عليه بالنجاسة إلى أن يعلم المزيل ، ومعه كيف يحكم بالطهارة لمجرّد زوال العين.

لأنّا نمنع ثبوت هذه القاعدة على جهة العموم حتّى بالقياس إلى جسم الحيوان غير الإنسان ، فإنّها ليست لفظا عامّا ، ولا ثابتة بلفظ عامّ شامل لمثل المقام ، بل هي أمر معنوي مستفاد عن الإجماع والأخبار الجزئيّة الواردة في أبواب النجاسات الآمرة بغسل ما يلاقيها من أنواع المتنجّسات.

ولا ريب أنّ ملاحظة كلام الفقهاء ـ حسبما تقدّم ـ مع ما علم من سيرة قاطبة المسلمين من عدم التزامهم بغسل الحيوانات عند ملاقاتها للنجاسات ، بل ملاحظة ما يرد من الحكم بالسفه على من التزم ذلك ، يوجب الشكّ في انعقاد هذه القاعدة على جهة العموم ، بل التتبّع في النصوص وآثار الأئمّة عليهم‌السلام في تفاصيل أحكام النجاسات يعطي عدم انعقاد القاعدة إلّا في الإنسان ، وما يتعلّق به من الأواني والثياب ، حيث لا يوجد فيها ما يأمر بغسل الحيوانات أيضا مع عموم البلوى بأكثرها ، كالآمرة منها بغسل الإنسان وأوانيه وثيابه.


وكأنّه إلى ذلك ينظر ما تقدّم عن المدارك (١) من الاستناد إلى عدم ثبوت التعبّد بغسل النجاسة عنه ، لما استحسنه من طهارة الحيوان غير الآدمي بمجرّد زوال العين ، كما أنّ الأصل الّذي اعتمد عليه ـ مع ما ذكر ـ أمكن رجوعه إلى ما قرّرناه.

ويوافقه في منع ثبوت التعبّد بالغسل ما نقل عن المعالم من أنّه « لو فرضنا عدم دلالة الأخبار على العموم ، فلا ريب أنّ الحكم بتوقّف الطهارة في مثلها على التطهير المعهود شرعا منفيّ قطعا ، والواسطة بين ذلك وبين زوال العين يتوقّف على الدليل ، ولا دليل » (٢)

فإنّ مراده بالعموم في فرض عدم دلالة الأخبار عليه عموم الحكم بالطهارة لمجرّد زوال العين في سائر الحيوانات ، وما نفاه من الدليل على وجود الواسطة مرجعه إلى إنكار ثبوت القاعدة المشار إليها على جهة العموم.

فما يقال في دفعه : من أنّ النظر في أخبار النجاسات يقضي بثبوت قاعدتين.

الاولى : أنّها تنجّس كلّ ما تلاقيه ، ومثلها المتنجّسات.

والثانية : أنّ كلّ متنجّس لا يطهّر إلّا بالغسل بالماء ، بل يكفي في الثانية الاستصحاب ، ولو لا هما لثبت الإشكال في كثير من المقامات ، ليس على ما ينبغي ، فإنّ ثبوت القاعدة الاولى على الإطلاق في حيّز المنع ، ومعه دعوى عدم ثبوت التعبّد بالغسل وعدم ثبوت الواسطة بين طهارة الحيوانات وبين زوال عين النجاسات عنها متّجهة ، كما أنّ التمسّك بالأصل ـ حسبما قرّرناه ـ ممّا لا مانع عنه من معارض اجتهادي أو فقاهي ، فلا يكون الحكم بالطهارة لمجرّد الزوال بالمعنى المتقدّم واردا على خلاف أصل ولا قاعدة.

فاندفع بذلك ما قيل أيضا : « من أنّ هذا الحكم مخالف لإحدى قواعد اقتضتها العمومات.

إحداها : قاعدة تنجيس النجاسات [العينيّة] لما يلاقيها حتّى أجسام الحيوانات.

الثانية : عدم زوال نجاسة المتنجّس ولو كان جسم حيوان بمجرّد زوال عين النجاسة عنه.

الثالثة : تنجيس المتنجّس ولو كان جسم حيوان لما يلاقيه من المياه وغيرها.

الرابعة : أنّ النجاسة إذا ثبتت في محلّ فهي مستصحبة.

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٣٤.

(٢) فقه المعالم ١ : ٣٦٨.


الخامسة : أنّ استصحاب نجاسة الشي‌ء حاكم على استصحاب طهارة ملاقيه.

إلى أن قيل : ثمّ الأولى إخراج المقام من القاعدة الثانية (١) لأصالة بقاء الأوّلين على عمومهما ، ولا يرد ذلك في الثالثة لأنّ مستندها راجع إلى الاستصحاب ، فيصلح أخبار الباب للورود عليه بجعل زوال العين من جملة المطهّرات ، فلا يلزم من ذلك طرح الاستصحاب كما لا يخفى » (٢).

فإنّ القاعدة الاولى إذا لم تكن متناولة للمقام فالقواعد الاخر كلّها مسلّمة في مجاريها والمقام ليست منها ، فلا مخالفة فيه لشي‌ء منها ، وأخبار الباب لو صلحت دليلا على المقام لم تكن مخرجة عن شي‌ء من تلك القواعد ، ولا مخصّصة لقاعدة انفعال القليل بملاقاة كلّ من النجس والمتنجّس.

ومن هنا يعلم الوجه في استثناء صورة وجود عين النجاسة ، فإنّه في الحقيقة عمل على عموم قاعدة الانفعال ، لاستناد الانفعال حينئذ إلى عين النجاسة ، فإذا زالت العين خرج المقام من جهة الأصل المذكور عن كونه من موارد تلك القاعدة ، إذ لا نجس حينئذ بحكم الفرض ولا متنجّس بحكم الأصل ، ثمّ إنّ في بعض فقرات الكلام المذكور أيضا نظرا يظهر بالتأمّل.

وبجميع ما ذكر انقدح أنّ الزوال في محلّ الكلام الموجب لطهارة المحلّ ـ بالمعنى المختار ـ أعمّ من الجفاف ، فيما إذا كانت النجاسة من قبيل الماء وإن أفادت خشونة أو ثخنا لما كانت عليه ، فإنّ مرجع الزوال ـ على ما بيّنّاه ـ إلى ارتفاع المانع ، وهذا يتحقّق مع الجفاف في المائع الخالي عن العين الّتي يبقى بعد الجفاف ، كما في الدم والمنيّ ، إلّا أن لا يصدق الزوال عرفا مع ما فرض حدوثه من الخشونة أو الثخونة.

فما عن الشهيد في الذكرى من الاعتراض على الشيخ والمحقّق فيما حكى عنهما في مسألة ما لو طارت الذبابة عن النجاسة إلى الثوب أو الماء ـ من : « أنّه عند الشيخ

__________________

(١) وفي النسخة المطبوعة من طهارة الشيخ : « الثالثة » بدل « الثانية » ، ولا يخفى أنّ ما في المتن هو الصواب بالنظر إلى مقتضى التعليل الّذي ذكره ، ولكن لا يناسبه قوله بعدها : « لأصالة بقاء الأوّلين على عمومهما » اللهم إلّا أن يقال : بحصول التقدّم والتأخّر فيما تقدّم فلاحظ وتأمّل.

(٢) القائل هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ انظر كتاب الطهارة ١ : ٣٧٧.


عفو ، واختاره نجم الدين المحقّق في الفتاوي ، لعسر الاحتراز ، ولعدم الجزم ببقائها ، لجفافها بالهواء » ـ بأنّه : « إنّما يتمّ في الثوب دون الماء » (١) ، لم يصادف محلّه ما لم يرجع الفرض إلى ما بقى عينه بعد الجفاف كما لا يخفى.

وبجميع ما ذكر تبيّن الحال في بواطن الإنسان المحكوم عليها بالطهارة بزوال العين ، فإنّ الّذي ينبغي أن يراد منه هنا أيضا إنّما هو عدم انفعال الباطن بما لاقته من النجاسة ، بل العين ما دامت موجودة فأحكام النجاسة مستندة لها ، وإلّا بقيت الطهارة الأوّليّة بلا مقارنة المانع.

وإلى هذا المعنى ينبغي أن ينزّل ما يقتضيه ظاهر كلماتهم من عدّ زوال العين من المطهّرات في البواطن والحيوان غير الآدمي.

وأمّا الغيبة فلا أثر لها في الحيوان غير الإنسان ، وأمّا هو فكونها بالنسبة إليه من المطهّرات مطلقا أو بشروط آخر مقرّرة عندهم ، فيأتي تحقيق البحث عنه في بحث المطهّرات إن شاء الله تعالى.

ثمّ لا ملازمة بين كون زوال العين من المطهّرات وكون الغيبة منها ولو من جهة استلزامها الزوال ، لأنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، فقد يزول العين بدون الغيبة ، وقد يغيب مع عدم زوال العين إلى أن حصل معه مباشرة الماء ونحوه ممّا ينفعل ، فحينئذ لو غاب بعد مباشرة النجاسة فباشر الماء قبل العلم بزوال العين ، فإن كان ذلك مع العلم بعدمه فالمتّجه انفعال ذلك ، وإن كان مع الشكّ في تحقّق الزوال وعدمه فالأوجه أيضا الحكم عليه بالانفعال ، تحكيما لاستصحاب بقاء العين على استصحاب الطهارة الماء.

المسألة السابعة : المشهور محصّلا ومحكيّا ـ كما صرّح به غير واحد ـ كراهة سؤر البغال والحمير ، كما في الشرائع (٢) واللمعة (٣) وعن التحرير (٤) والإرشاد (٥) والذكرى (٦).

أو « سؤر البغال والحمير والخيل » كما عن نهاية الأحكام (٧) وعن المنتهى

__________________

(١) ذكرى الشيعة ١ : ٨٣.

(٢) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٣) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٤٧.

(٤) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٥) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٦) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٧.

(٧) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٠ وفي النسخة المطبوعة : « الدوابّ » بدل « الخيل ».


أيضا (١) لكن مع تبديل « الخيل » بـ « الفرس ».

أو « سؤر البغال والحمير الأهليّة » كما عن جامع المقاصد (٢) مصرّحا بعدم كراهة سؤر الوحشيّة ، بل قيّد « الأهليّة » معتبر في الحمير ، وإن أطلقها جماعة كما صرّح به في المدارك (٣) ونقل التصريح به عن الميسي (٤) كما عرفته عن الكركي ، وفي المدارك : « إذ الوحشيّة لا كراهة في سؤرها » (٥) كما عرفته عن المقاصد أيضا.

وربّما يعمّم الحكم بالقياس إلى كلّ ما يكره لحمه كما يقتضيه صريح الدروس في قوله : « السؤر يتبع الحيوان طهارة ونجاسة وكراهة » (٦) وظاهر تعليلهم في البغال والحمير كما عن الذكرى (٧) ، وجامع المقاصد (٨) ، والروضة (٩) ، بأنّ : « السؤر لا يخلو عن فضلات الفم ، وهي تابعة للّحم ، وهو مكروه فكانت مكروهة ، فكان السؤر مكروها ».

وهذا التعليل كما ترى يستدعي كون الملازمة بين كراهة اللحم وكراهة السؤر من الامور المسلّمة.

وكيف كان فالعمدة بيان مستند الحكم ، ولو لا الكراهة من الامور الّتي يتسامح فيها وفي دليلها أمكن المناقشة فيها هنا ، حيث لم يذكر لها مستند إلّا ما ذكر في التعليل الّذي قد يمنع فيه الكبرى ، وهي دعوى التبعيّة في الكراهة ، لوجوب كونها عن دليل شرعي ، وليس فليس.

واستدلّ جماعة بمفهوم مضمرة سماعة الّذي قيل فيه : « أنّه لا يروي إلّا عن الإمام عليه‌السلام » (١٠) فلا يضرّ إضماره ، كما لا يقدح جهالة السند بأبي داود لمكان التسامح في دليل الكراهة.

قال : سألته هل يشرب سؤر شي‌ء من الدوابّ أو يتوضّأ؟ فقال : « أمّا الإبل والبقر والغنم فلا بأس » (١١).

وكأنّ إثبات المفهوم هنا ـ مع أنّه من باب اللقب ـ لورودها في مقام البيان

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٤٨.

(٢) جامع المقاصد ١ : ١٢٤.

(٣ و ٥) مدارك الأحكام ١ : ١٣٦.

(٤) نقل عنه في مفتاح الكرامة ١ : ٨٤.

(٦) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٧) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٧.

(٨) جامع المقاصد ١ : ١٢٤. (٩) الروضة البهيّة ١ : ٤٧.

(١٠ و ١١) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٣ ـ الكافي ٣ : ٩ / ٣.


والتفصيل ، وحمل البأس الثابت بالمفهوم هنا على الكراهة ، مع أنّه أعمّ من الحرمة كما اعترف به جماعة ، جمعا بينها وبين الأخبار النافية للبأس الّتي يأتي إليها الإشارة ، نظرا إلى أنّ نفي البأس يراد به الرخصة الغير المنافية للكراهة.

وقد يستدلّ أيضا بالمرسلة المتقدّمة [عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إنّه] كان يكره سؤر كلّما لا يؤكل لحمه » (١) بناء على حمل « ما لا يؤكل لحمه » على إرادة الأعمّ ممّا لا يعتاد أكله وما لم يخلق لأجل الأكل.

واستدلّ أيضا بخبر ابن مسكان عن الصادق عليه‌السلام سألته : عن الوضوء بما ولغ فيه الكلب والسنّور ، أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك ، أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال : « نعم ، إلّا أن تجد غيره فتنزّه [عنه] » (٢).

ولا قائل هنا بالفصل بين الوضوء وغيره ، ولعلّه مبنيّ على أنّ خروج بعض مدلول الخبر عنه لدليل لا يقدح في العمل عليه للبعض الآخر من مدلوله ، وإلّا فلا إشكال في المنع عن سؤر الكلب ، كما لا كلام في عدم كراهة سؤر السنّور كما تقدّم.

لكن قد يعارض الجميع بصحيحة أبي العبّاس البقباق المتقدّمة (٣) النافية للبأس عن سؤر البقر والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع ، ورواية معاوية بن شريح (٤) المرخّصة بكلمة الإيجاب في سؤر السنّور والشاة والبقرة والبعير والفرس والبغل والسباع.

لكنّ الإنصاف عدم ظهور شي‌ء من ذلك في المعارضة لما تقدّم ، لورود نفي البأس والإيجاب فيهما في مقابل سؤر الكلب ، فيراد بهما مجرّد نفي المنع ، وهو لا ينافي الكراهة.

نعم ، إنّما يحسن المعارضة بصحيحة جميل بن درّاج قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن سؤر الدوابّ والغنم والبقر ، أيتوضّأ منه ويشرب؟ فقال : « لا بأس » (٥).

وصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام قال : « لا بأس بأن تتوضّأ ممّا يشرب

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٦ / ٦٤٩.

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤ و ٦.

(٥) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٢٧ / ٦٥٧.


منه ما يؤكل لحمه (١).

وموثّقة عمّار المتضمّنة لقوله عليه‌السلام « كلّما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب » (٢).

ولعلّه لأجل هذه الأخبار صار بعض المتأخّرين ـ كما حكي ـ إلى عدم الكراهة ، بل هو صريح الحدائق حيث أنّه بعد ما ذكر هذه الأخبار عقيب ما ذكره من مستند القول بالكراهة قال : « والحقّ تقديم العمل بهذه الأخبار ، لاستفاضتها وصراحتها ، وصحّة أكثرها ، وضعف ما عارضتها سندا ودلالة » (٣).

هذا مع ملاحظة ما قيل : من ظهور كلمة « لا بأس » في نفي جميع أفراد البأس منها الكراهة ، لمكان كونها نكرة في سياق النفي ، لا أنّها تفيد نفي العذاب خاصّة ، ولعلّه إلى ذلك ينظر ما ادّعاه الحدائق من قوّة هذه الأخبار دلالة.

لكنّ الإنصاف عدم صلاحية ذلك لمعارضة ما تقدّم بعد مراعاة قاعدة المسامحة ثمّة ، ودعوى ظهور نفي البأس فيما ذكر غير مسموعة ، بل الإنصاف بملاحظة الانسباق العرفي أنّها في نظائر المقام ظاهرة في رفع توهّم النجاسة أو الحرمة ، فلا يراد منها ما ينافي الكراهة ، ولذا يقال : بظهورها في إرادة الإذن الغير المنافية لها ، والأمر بالتوضّؤ والشرب في الخبر الأخير لا يراد منه في نظائر المقام إلّا الإرشاد إلى انتفاء النجاسة أو غيرها من جهات المنع ، مع ظهور قوله : « ما يؤكل لحمه » فيه وفي سابقه فيما يكون أكل لحمه بعد الجواز الشرعي الغير المنافي للكراهة معتادا ومتعارفا بين الناس.

مع أنّه قد يقال : إنّ البقر بمفهومه يشمل الجاموس أيضا الّذي يكون لحمه مكروها ، فينبغي أن يراد بنفي البأس عن سؤره الوارد في الصحيحة ما لا ينافي الكراهة ، فتأمّل ، فإنّ ذلك لعلّه مبنيّ على الملازمة المدّعاة بين كراهة لحم الحيوان وكراهة سؤره ، وقد سمعت المناقشة فيه.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فلعلّ الشهرة الموجودة في المقام بكلا قسميها كافية في إثبات هذا الحكم لقاعدة التسامح ، على أنّه لا مخالف في المسألة ظاهرا عدا ما عرفت

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣١ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ١.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٢٤ / ٦٤٢.

(٣) الحدائق الناضرة ١ : ٤٢٨.


نقله عن بعض المتأخّرين ، ولعلّ المراد به صاحب الحدائق الّذي سمعت كلامه ، المتضمّن لترجيح عدم الكراهة.

وربّما يستظهر ذلك أيضا من المفيد من قدماء أصحابنا لقوله في المقنعة : « ولا بأس بالوضوء من فضلة الخيل ، والبغال ، والحمير ، والإبل ، والبقر ، والغنم ، وما شرب منه سائر الطير إلّا ما أكل الجيف ، فإنّه يكره الوضوء بفضلة ما [قد] شرب منه » انتهى (١).

فإنّ استثناءه يقضي بأن يكون مراده بالبأس المنفيّ ما يعمّ الكراهة ، لكون الحكم الثابت في المستثنى هو الكراهة ، كما صرّح به في العبارة أيضا.

ولك أن تمنع مخالفة المفيد تعويلا على هذه العبارة ، لما يقال : من أنّ الكراهة في أخبار الأئمّة المعصومين وكلام علمائنا المتقدّمين كان كثير الاستعمال في الحرمة ، بل ربّما يدّعي ظهورها فيها ، وكونها بما يقابل الحرمة اصطلاح محدث من الفقهاء ، فلا ينزّل عليه إطلاقات الأخبار والعلماء الأخيار ، فهذه هو الحكم الثابت في المستثنى ، لجواز أن يكون المفيد ممّن يمنع عن سؤر أكل الجيف أو ينجّسه كما تقدّم القول به فيما بين الأصحاب ، فيكون الحكم المأخوذ في المستثنى المفاد بكلمة « لا بأس » نفي الحرمة ، فلا ينافي الكراهة ولو في بعض ما ذكر من الامور المفصّلة.

المسألة الثامنة : المعروف من المذهب ـ كما حكي ـ كراهة سؤر الفأرة ، وهو مقتضى ما تقدّم من عموم الكراهة فيما لا يؤكل لحمه ، فهي تتضمّن أمرين.

الأوّل : عدم المنع عن هذا السؤر.

والثاني : كون الإذن فيه على جهة الكراهة دون الندب والإباحة.

ودليل الأوّل ـ مضافا إلى ما تقدّم ذكرها في المسائل السابقة من الروايات العامّة أو المطلقة الشاملة لمثل المقام جزما ، بل الشهرة المحكيّة ـ : الأخبار المستفيضة النافية للبأس عنه والآمرة باستعماله ، كالصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام في حديث قال : وسألته عن الفأرة وقعت في جبّ دهن ، واخرجت قبل أن تموت ، أيبيعه من مسلم؟ قال : « نعم ، ويدهّن منه » (٢).

__________________

(١) المقنعة : ٦٥.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٨ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ١ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦.


وخبر إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : « لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء ، أن تشرب منه وتتوضّأ منه » (١) والمرويّ عن الحميري في قرب الاسناد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه‌السلام « أنّ عليّا عليه‌السلام قال : « لا بأس بسؤر الفأر أن يشرب منه ويتوضّأ » (٢).

وخبر هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الفأرة ، والعقرب ، وأشباه ذلك ، يقع في الماء فيخرج حيّا ، هل يشرب من ذلك الماء ويتوضّأ به؟ قال : « يسكب منه ثلاث مرّات ، وقليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثمّ تشرب منه ويتوضّأ منه ، غير الوزغ ، فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه » (٣).

وخبر سعيد الأعرج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في السمن أو الزيت ، ثمّ تخرج منه حيّا؟ قال : لا بأس به » وفي بعض النسخ : « لا بأس بأكله ».

وبجميع ذلك يندفع ما عن الشيخ في النهاية في باب أحكام النجاسات (٤) وكذلك المبسوط في باب تطهير الثياب (٥) من أنّه « إذا أصاب ثوب الإنسان كلب ، أو خنزير ، أو ثعلب ، أو أرنب ، أو فأرة ، أو وزغة ، وكان رطبا وجب غسل الموضع الّذي أصابه » وهو المحكيّ عن المقنعة (٦) ، بل الفقيه (٧) أيضا ، فإنّ ذلك إمّا لنجاستها فالأخبار العامّة والخاصّة قائمة بخلافها ، أو تعبّد من الشارع ـ فمع أنّه في غاية البعد ـ خارج عمّا نحن فيه ، مع أنّ كلماته الاخر في غير المقام نافية للنجاسة لما حكي عنه في باب المياه من النهاية أنّه قال : « إذا وقعت الفأرة والحيّة في الإناء وشربتا منها ، ثمّ خرجتا [حيّا] لم يكن به بأس ، والأفضل ترك استعمالها » (٨).

وعنه أيضا في المبسوط (٩) في مقام البحث أنّه لا بأس فيما لا يمكن التحرّز منه من حيوان الحضر مثل الهرّة والفأرة والحيّة.

ودليل الثاني ـ مضافا إلى ما مرّ من عموم القاعدة فيما لا يؤكل لحمه عدا ما

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٩ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٣.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤١ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٨ ـ قرب الاسناد : ٧٠.

(٣) الوسائل ١ : ٢٤٠ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٩٠.

(٤) النهاية ١ : ٢٦٧.

(٥) المبسوط ١ : ٣٧.

(٦) المقنعة : ٧٠.

(٧) الفقيه ١ : ٧٤. (٨) النهاية ١ : ٢٠٥.

(٩) المبسوط ١ : ١٠.


استثنى وهو السنّور ، وعموم خبر الوشّاء : « أنّه كان يكره سؤر كلّما لا يؤكل لحمه » ـ (١) : ما ورد في حديث المناهي : « أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن أكل سؤر الفأرة » (٢) ، فإنّ حمل النهي هنا مع ظهوره في التحريم على التنزيه طريق جمع بين الأخبار المستفيضة المتقدّمة وبينه ، وكذا الكلام بينها وبين صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه قال : سألته عن الفأرة والكلب إذا أكلا من الخبز ، أو شمّاه [أيؤكل]؟ قال : « يطرح ما شمّاه ، ويؤكل ما بقي » (٣) وصحيحة الاخرى عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء فتمشي على الثياب ، أيصلّي فيها؟ قال : « اغسل ما رأيت من أثرها » (٤) بناء على ما نزّل الأمر فيهما على الاستحباب.

فما عن المعتبر والمنتهى (٥) من أنّه يظهر منهما نفي الكراهة ، مع ما قيل : (٦) من أنّ ظاهر كلامهما نفي الرجحان لا نفي المرجوحيّة ، ممّا لا يلتفت إليه ، ومع الغضّ عن جميع ما ذكر فشهرة الكراهة كافية في المصير إليها.

المسألة التاسعة : عن المعتبر أنّه حكي عن الشيخ أنّه قال : « يكره سؤر الدجاج على كلّ حال » (٧) ثمّ قال بعد الحكاية : « وهو حسن إن قصد المهملة ، لأنّها [لا] تنفكّ عن الاغتذاء بالنجاسة » (٨).

وعن المعالم (٩) أيضا أنّه استحسن ما استحسنه المحقّق.

وعن العلّامة وغيره (١٠) إطلاق القول بكراهة هذا السؤر تعليلا بعدم انفكاك منقارها

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٤ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٧ ـ الفقيه ٤ : ٢ / ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٥ ب ٣٦ من أبواب النجاسات ح ١ ـ التهذيب ١ : ٢٢٩ / ٦٦٣.

(٤) الوسائل ٣ : ٤٦٠ ب ٣٣ من أبواب النجاسات ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٦١.

(٥) كما في مشارق الشموس : ٢٧٤ ، حيث قال : « ويفهم من المعتبر أنّه لا يكرهه » ـ وكذا في جواهر ١ : ٦٩١ حيث قال : « خلافا لما يظهر من المعتبر والمنتهى من نفي الكراهة الخ » ـ لاحظ المعتبر : ٢٥ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٦٣.

(٦) القائل هو صاحب الجواهر رحمه‌الله ، لاحظ جواهر الكلام ١ : ٦٩٢.

(٧) المبسوط ١ : ١٠ وفيه : « يكره سؤر ما شرب منه الدجاج خاصّة على كلّ حال ».

(٨) المعتبر : ٢٥.

(٩) المعالم ١ : ٣٦٩ وقال فيه : « وما شرطه في الحسن هو الحسن ».

(١٠) حكاه عنه في المعالم ١ : ٣٦٩ ـ لاحظ منتهى المطلب ١ : ١٦٣ ـ ذكرى الشيعة ١ : ١٠٧.


عن النجاسة غالبا ، ونحن قد هدمنا في المسائل السابقة بنيان هذا الكلام ، وحقّقنا أنّ مجرّد الاغتذاء بالنجاسات لا يقتضي منعا ـ ولو بنحو الكراهة ـ ما لم يحصل الملاقاة حال وجود النجاسة في المنقار ونحوه ، فيمتنع الاستعمال حينئذ لا أنّه يكره.

وبالجملة هذا القول لضعف مستنده ممّا لا ينبغي المصير إليه ، كيف والنصوص الواردة عن أمناء الشرع عموما وخصوصا قاضية بخلافه ، ألا تنظر إلى ما تقدّم من العمومات النافية للبأس عن سؤر ما يؤكل لحمه ، وخصوص رواية أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام قال : « فضل الحمامة والدجاجة لا بأس به ، والطير » (١).

وموثّقة عمّار المتقدّمة أنّه سئل عن ماء شربت منه الدجاجة؟ « قال : إن كان في منقارها قذر لم يتوضّأ منه ولم يشرب ، وإن لم تعلم أنّ في منقارها قذرا توضّأ منه واشرب » (٢).

وعن التهذيب أنّه ذكر ذلك وزاد : « وكلّما يؤكل لحمه فليتوضّأ منه » (٣).

لكنّ الإنصاف بضابطة ما ذكرنا سابقا من أنّ نفي البأس في نظائر المقام لا يفيد إلّا نفي الحرج من نجاسة أو حرمة ، كما أنّ الأمر بالشرب والتوضّؤ لا يفيد إلّا الإرشاد إلى انتفاء الماهيّة المقتضية للمنع من نجاسة ونحوها ، لا يمكن التعويل في نفي الكراهة على هذه الأخبار.

فالأولى أن يستند إلى الأصل ، مع ضميمة ضعف مستند القول بالكراهة إن كان هو الاعتبار المتقدّم ، فتأمّل جدّا.

المسألة العاشرة : نصّ المحقّق في الشرائع (٤) والشهيد في الدروس (٥) بكراهية سؤر الحيّة ، كما عن التحرير (٦) ، والقواعد (٧) ، والإرشاد (٨) ، وظاهر الذكرى (٩) ، وعن البيان (١٠) ،

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٣٠ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ١ ـ الكافي ٣ : ٩ / ٢.

(٢ و ٣) الوسائل ١ : ٢٣١ ب ٤ من أبواب الأسآر ح ٣ و ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٨٤ / ٨٣٢.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٥) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٦) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٧) قواعد الأحكام ١ : ١٨٥.

(٨) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٩) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٧.

(١٠) البيان : ١٠١.


والروض (١) أيضا ، وفي المدارك : « القول بكراهة سؤر الحيّة للشيخ في النهاية وأتباعه » (٢) ، لكنّ المنقول من عبارته في النهاية لعلّه ليس صريحا في إرادة الكراهة بالمعنى المصطلح عليه ، فإنّه قال : « إذا وقعت الفأرة والحيّة في الآنية ، أو شربتا منها ، ثمّ خرجتا [حيّا] لم يكن به بأس ، والأفضل ترك استعماله على كلّ حال » (٣).

فإنّ التعبير بأفضليّة الاجتناب يقتضي إرادة المرجوحيّة بالإضافة إلى الغير ، لا المرجوحيّة الذاتيّة على حدّ ما يراد من الكراهة حيثما تضاف إلى العبارات على بعض الوجوه المذكورة فيها ، ولك أن تأخذ قوله أوّلا : « لم يكن به بأس » مؤيّدا له ، بناء على بعض الوجوه المتقدّمة من ظهوره لكونه نكرة في سياق النفي في نفي جميع أفراد البأس الّتي منها الكراهة المصطلحة.

وكيف كان. فعن ظاهر المعتبر (٤) والمنتهى (٥) إنكار الكراهة هنا ، بل هو صريح المدارك (٦) قائلا : والأظهر انتفاء الكراهة كما اختاره في المعتبر ، لصحيحة عليّ ابن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الغطاية ، والحيّة ، والوزغ تقع في الماء فلا تموت؟ أيتوضّأ للصلاة؟ فقال : « لا بأس به » (٧).

وأنت بملاحظة ما مرّ مرارا تقدر على دفع هذا الاستدلال.

نعم ، العمدة في المقام ملاحظة ما يكون مستندا للقول بالكراهة الّذي صار إليه من الأساطين من عرفتهم ، فإنّه مشهور جدّا ، حتّى أنّه في شرح الدروس : « إنّي لم أجد نقل خلاف في الحيّة » (٨) فلك أن تعتمد على ما تقدّم من عموم مرسلة وشّاء (٩) ، بناء على أنّ الحكم ممّا يتسامح فيه ، وعلى خبر أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن حيّة دخلت حبّا فيه ماء ، وخرجت منه؟ قال : « إن وجد ماء غيره فليهرقه » (١٠) بناء على حمل الأمر بالإهراق على إرادة الندب ، لعدم قائل فيه بالوجوب ، أو على كونه مبالغة

__________________

(١) روض الجنان : ١٦٢.

(٢) مدارك الأحكام ١ : ١٣٧.

(٣) النهاية ١ : ٢٠٦. (٤) المعتبر : ٢٥.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٦٣.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ١٣٧.

(٧) الوسائل ١ : ٢٣٨ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ١.

(٨) مشارق الشموس : ٢٧٧.

(٩) الوسائل ١ : ٢٣٢ ب ٥ من أبواب الأسآر ح ٢.

(١٠) الوسائل ١ : ٢٣٩ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٤١٣ / ١٣٠٢.


الكراهة ، وإلّا فلا فائدة في الإهراق نفسه ، لجواز الانتفاع بهذا الماء في غير جهة الشرب والتطهير به.

لا يقال : لعلّه كناية عن المنع تحريما ، وإنّما علّق على وجدان ماء غيره لأنّه لا تكليف مع الانحصار ، كما هو لازم قولكم : بكونه مبالغة في الكراهة ، إذ لا كراهة مع الانحصار ، لأنّ احتمال التحريم إن كان لمجرّد التعبّد ينفيه الاتّفاق على انتفائه.

نعم ، هذا احتمال ربّما يقال : بدخوله في كلام من منع من سؤر ما لا يؤكل لحمه.

لكن يزيّفه : أن لا مانع عن سؤر ما لا يؤكل لحمه إلّا الشيخ (١) ، وقد صرّح هنا بنفي البأس ، والحلّي في السرائر (٢) ، وقد عرفت سابقا أنّه أدرج المقام فيما لا يمكن التحرّز عنه ، وإن كان لأمر يرجع إلى الطبّ ، وهو تأثير السمّية في الماء.

ففيه : أنّ التأثير إن كان محقّقا لا محالة فهو يقضي بالمنع مطلقا ، فلا وجه للتفصيل.

ومن هنا يمكن أن يؤخذ الرواية دليلا على انتفاء النجاسة عن هذا السؤر كما تنبّه عليه بعضهم ، وإن كان محتملا فهو لا يقتضي إلّا رجحان الاجتناب احتياطا ، ولعلّه لأجل ذلك عبّر الشيخ عن الكراهة بأفضليّة الاجتناب ، كما فهم المعالم قائلا ـ بعد نقل عبارة النهاية المتقدّمة ـ : « يتوجّه عليه المطالبة بدليل ما ذكره من أفضليّة ترك الاستعمال ، ولعلّه نظر في الفأرة إلى ما سيأتي في باب النجاسات ـ إن شاء الله ـ من دلالة بعض الأخبار على رجحان الغسل ممّا لاقته برطوبة ، وفي الحيّة إلى ما يخشى من تأثير سمّها في الماء ، فإنّ ذلك ونحوه كاف في أفضليّة العدول عن هذا الماء إلى غيره » (٣) انتهى.

وبالجملة الكراهة هنا ممّا لا إشكال فيه ولو من جهة الاعتماد على مجرّد الشهرة وذهاب أساطين الفرقة.

المسألة الحادية عشرة : اختلفت كلمتهم في الوزغة ، فالمنسوب إلى ابن إدريس (٤) والفاضلين (٥) ووالد العلّامة (٦) وجمهور المتأخّرين طهارة سؤرها ، وعن

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٢٤ ـ الاستبصار ١ : ٢٥.

(٢) السرائر ١ : ٨٥.

(٣) المعالم ١ : ٣٧٠.

(٤) السرائر ١ : ٨٣ حيث قال في آخر بحث منزوحات البئر : « فأمّا إذا مات فيها عقرب أو وزغة ، فلا ينجّس » الخ ـ قريب منه ما في بحث الأسآر لاحظ (السرائر ١ : ٨٥).

(٥) وهما العلّامة في منتهى المطلب ١ : ١٦٩ ؛ وفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد ١ : ٢٨.

(٦) حكاه عنه ولده العلّامة في مختلف الشيعة ١ : ٤٦٥.


المحقّق (١) أنّه الظاهر من كلام المرتضى في بعض كتبه ، وهو صريح الدروس (٢) ، ومختار المدارك على ظاهر كلامه ، بل فيه : « هو المشهور بين الأصحاب » (٣) ، وعليه الشرائع أيضا ، لكن عبّر فيه بالموت فقال : « ويكره ما مات فيه الوزغ والعقرب » (٤) ولعلّ الحكم يتعدّى إلى ما عدا صورة الموت من باب الفحوى.

وفيه : أنّه يستقيم إذا كان منظور العبارة نفي النجاسة خاصّة ردّا على من توهّمها ، وأمّا إذا اريد بها إفادة الكراهة مع ذلك فلا يحصل تمام المقصود ، إذ لا ملازمة بين الكراهة بالموت فيه والكراهة بالوقوع فيه ، فضلا عن الفحوى ، بل الفحوى إنّما تحصل لو عبّر بالوقوع أو مطلق الملاقاة.

فالعبارة المذكورة لا تخلو عن قصور ، وكأنّه في هذا التعبير أخذ بمفهوم الدليل المقام على كراهة هذا السؤر الثابت في المقام من حيث الفحوى كما عرفت.

وكيف كان فعن التذكرة : « أنّ الكراهة هنا من حيث الطبّ لا لنجاسة الماء » (٥) واستحسنه المدارك (٦).

والمخالفة هنا بالمصير إلى النجاسة لم يثبت إلّا عن المقنعة وموضع من النهاية والمبسوط ، وعبارة المقنعة ـ على ما حكي ـ أنّه بعد ذكر الكلب والخنزير قال : « وكذلك الحكم في الفأرة والوزغة يرشّ الموضع الّذي مسّاه بالماء من الثوب إذا لم يؤثّرا فيه ، وإن رطّباه وأثّرا فيه غسل بالماء ، وكذلك إن مسّ واحد ممّا ذكرناه جسد الإنسان ، أو وقعت يده عليه وكان رطبا غسل ما أصابه منه ، وإن كان يابسا مسحه بالتراب » (٧).

وأمّا عبارة النهاية فقد سمعتها في مسألة سؤر الفأرة (٨) ، وأمّا عبارة المبسوط

__________________

(١) المعتبر : ١١٨ ، حيث قال : « فقال علم الهدى : لا بأس بأسآر جميع حشرات الأرض وسباع ذرات الأربع الّا أن يكون كلبا أو خنزيرا ، وهذا يدلّ على طهارة ما عدا هذين ويدخل فيه الثعلب والأرنب والفأرة والوزغة »

(٢) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ١٣٨.

(٤) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٥) التذكرة ١ : ٤٤ وفيه : « والوجه الكراهة من حيث الطبّ » وقريب منه ما في منتهى المطلب ١ : ١٦٩.

(٦) مدارك الأحكام ١ : ١٣٨.

(٧) المقنعة : ٧١.

(٨) النهاية ١ : ٢٦٧ حيث قال : « وإذا أصاب ثوب الإنسان كلب أو خنزير أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة وكان رطبا وجب غسل الموضع الّذي أصابه ... الخ ».


ـ فعلى ما حكي ـ من أنّه في باب تطهير الثياب قال : « فما مسّ الكلب والخنزير والثعلب والأرنب والفأرة والوزغة بسائر أبدانها إذا كانت رطبة ، أو أدخلت أيديها وأرجلها في الماء وجب غسل الموضع وإراقة ذلك الماء ، ولا يراعى في غسل ذلك العدد ، لأنّ العدد يختصّ بالولوغ ، وإن كان يابسا يرشّ الموضع بالماء ، فإن لم يتعيّن الموضع غسل الثوب كلّه أو رشّ ، وكذلك إن مسّ هذه (١) شيئا من ذلك وكان واحد منهما رطبا وجب غسل يده ، وإن كان يابسا مسحه بالتراب ، وقد رويت رخصة في استعمال ما يشرب منه سائر الحيوانات في البراري سوى الكلب والخنزير ، وما شربت منه الفأرة في البيوت والوزغ أو وقعا فيه وخرجا حيّين ، لأنّه لا يمكن التحرّز من ذلك » (٢) انتهى.

ولا يذهب عليك أنّ ملاحظة هذه العبارة صدرا وذيلا تقضي باختياره التفصيل بين المقامين ، أي مقام ملاقاة ما يجب غسله في النجاسة من الثوب والجسد ، ومقام شرب الماء أو الوقوع فيه ثمّ الخروج حيّا ، ففي الأوّل يجب الاجتناب بالغسل والرشّ ، وفي الثاني لا يجب الاجتناب رخصة لعدم إمكان التحرّز ، غير أنّه بملاحظة هذا التعليل ليس بظاهر في القول بطهارة الماء حينئذ ، بل غايته الرخصة في استعماله من باب العفو الغير المنافي للنجاسة ، نظير ما قيل في ماء الاستنجاء.

وبذلك ارتفع المنافاة بين عبارته المذكورة في هذا الموضع وعبارته في بحث السؤر (٣) ، حيث إنّه بعد ما حكم بعدم جواز استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الإنسي استثنى منه الفأرة ونحوها ممّا يشقّ التحرّز عنه.

وبذلك يحصل الجمع أيضا بين عبارتيه في النهاية حسبما تقدّم ذكرهما في سؤر الفأرة ، فما في كلام غير واحد (٤) من استبعاد كون الاختلاف بين كلاميه في الكتابين مبنيّا على الفرق بين المقامين ليس في محلّه ، وكأنّه نشأ عن عدم الاطّلاع على ذيل العبارة المذكورة ، أو عدم إعمال النظر في فهمها صدرا وذيلا على ما ينبغي.

وعلى أيّ حال كان ، فالمنقول من حجّة هذا القول وجوه من الروايات.

__________________

(١) وفي النسخة المطبوعة : « بيده » بدل « هذه ».

(٢ و ٣) المبسوط ١ : ٣٧ و ١٠.

(٤) كما في جواهر الكلام ١ : ٦٩٠ حيث قال : بعد نقل كلاميه في النهاية والمبسوط ـ : « واحتمال الفرق بين الموضعين في غاية البعد ».


منها : صحيحة معاوية بن عمّار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة والوزغة تقع في البئر؟ قال : « ينزح منها ثلاث دلاء » (١) وجه الاستدلال ـ على ما وجّهه العلّامة في المختلف ـ : أنّه لو لا نجاسة الوزغة لما وجب لها النزح بالموت ، فإنّ الموت إنّما يقتضي التنجيس في محلّ له نفس سائلة لا مطلقا » (٢).

وكأنّ ذكر الموت مع خلوّ الرواية عنه لظهور « الوقوع » عرفا فيه ، أو لقرينة ذكر الفأرة في موضوع هذا الحكم الّذي لا توجبه إلّا بالموت ، لأنّها لا تنجّس إلّا بالموت لما فيها من النفس السائلة ، فما لم يفرض موتها لم يعقل لها نجاسة لكونها طاهرة العين ، فإذا كان الحكم معلّقا على موتها كان بالقياس إلى الوزغة أيضا مفروضا حال الموت ، ولا يمكن أن يكون ذلك لنجاستها الحاصلة بالموت ، إذ ليس لها نفس سائلة ، فيجب أن يكون لنجاستها العينيّة الثابتة لها في جميع الأحوال ، وقضيّة ذلك نجاسة سؤرها أيضا ، لكونه ماء قليلا أو مضافا لاقية النجاسة.

وملخّصه بالتقريب الّذي ذكرناه : أنّ وجوب النزح لا يكون إلّا لنجاسة ما يقع في البئر ، والنجاسة في الحيوان إمّا ذاتيّة كما في الكلب ، أو عرضيّة تحصل بالموت كما في الفأرة ، وحيث إنّ الوزغة لا يفرض لها نجاسة عرضيّة حاصلة بالموت لعدم كونها من ذوات الأنفس فلا بدّ وأن يكون نجاستها ذاتيّة كالكلب ، فحينئذ لا يتفاوت الحال في انفعال القليل أو المضاف بملاقاتها بين حياتها وموتها.

وجوابه : حينئذ منع بطلان التالي أوّلا ، فإنّ النزح في جميع موارد ثبوته مبنيّ على الاستحباب كما سبق تحقيقه ، فالوزغة حينئذ ليس نجسة ، والنزح لموتها أيضا ليس بواجب ، فتأمّل جيّدا.

ومنع الملازمة ثانيا : إذ ليس ثبوت وجوب النزح مع انتفاء النجاسة في سببه بعادم النظير فيما بين المنزوحات ، ألا ترى أنّ النزح لاغتسال الجنب ـ على القول بوجوبه ـ واجب ولو مع خلوّ بدنه عن النجاسة ، ولو سلّم فالرواية لا تقاوم لمعارضة ما سيأتي من الأخبار الخاصّة القاضية بالطهارة.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٨٧ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٨٨.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٤٦٦.


ومنها : ما في موثّقة عمّار عن الصادق عليه‌السلام من أنّه سئل عن العظاية (١) تقع في اللبن؟ قال : « يحرم اللبن ، وقال : إنّ فيها السمّ » (٢).

وفيه : ما لا يخفى من عدم انطباق ذلك على البحث ، فإنّ المطلوب هو النجاسة ، والتعليل بالسمّية يأباها فتأمّل.

ولو سلّم فالكلام إنّما هو في الوزغة وليست العظاية بنصّ أهل اللغة منها ، قال الفيّومي في المصباح المنير : « أنّها دويبة على خلقة سام أبرص » (٣) قال ـ في مادّة « برص » ـ : « سام أبرص كبار الوزغ » (٤) ومثله المجمع (٥) في « سام أبرص » ، كما في شرح « العظاء » قال : « العظاء ممدود دويبة أكبر من الوزغة الواحدة عظاءة وعظاية ، وجمع الاولى عظاء ، والثانية عظايات » (٦).

وفيه أيضا في شرح الوزغ : أنّه « بالتحريك واحد الأوزاغ والوزغان وهي الّتي يقال لها سام أبرص ، وهي حيوان صغير أصغر من العظاية » (٧).

وعن القاموس : الوزغة محرّكة سام أبرص والجمع وزغ (٨).

كما أنّه في المصباح : « الوزغ معروف والانثى وزغة وقيل : الوزغ جمع وزغة مثل قصب وقصبة ، فيقع الوزغة على الذكر والانثى ، والجمع أوزاغ ، ووزغان بالضمّ والكسر والفتح ، حكاه الأزهري ، وقال : الوزغ سام أبرص (٩).

وفي المدارك : « الوزغ جمع وزغة به أيضا دابّة معروفة ، وسام أبرص من أصنافه » (١٠). وبالجملة المستفاد من كلام أهل اللغة وغيرهم أنّ العظاية مغايرة للوزغة ، فتخرج الرواية عن محلّ الكلام بالمرّة ، مع أنّ هذا الحكم في العظاية أيضا ممّا لم يثبت

__________________

(١) بتقديم العين المهملة على الظاء المعجمة على وزن كفاية (في هامش الأصل بخط مصنّفه رحمه‌الله) ـ وهي دويبة ملساء أصغر من الحرذون ، تمشي مشيا سريعا ثمّ تقف ، يقال له بالفارسية : « بزمجه » أو « مارمولك ».

(٢) التهذيب ١ : ٢٨٤ ذيل الحديث ١١٩.

(٣) المصباح المنير ؛ مادّة « العظاءة » : ٤١٧.

(٤) المصباح المنير ؛ مادّة « برص » : ٤٤.

(٥) مجمع البحرين ؛ مادّة « برص ».

(٦) مجمع البحرين ؛ مادّة « عظا ».

(٧) مجمع البحرين ؛ مادّة « وزغ ».

(٨) القاموس المحيط ؛ مادّة « الوزغة ».

(٩) المصباح المنير ؛ مادّة « الوزغ » : ٦٥٧ وفيه : « وزغان بالكسر والضمّ حكاه الأزهري الخ ».

(١٠) مدارك الأحكام ١ : ١٣٧.


به قائل عدا المقنع (١) ، لما قيل : من أنّه أفتى بمضمونها ، فلعلّها تسقط عن الحجّيّة من هذه الجهة ، هذا مع عدم صلوحها لمعارضة ما يأتي في حجج القول بالطهارة.

ومنها : حسنة هارون بن حمزة الغنوي المتقدّمة المذيّلة بقوله عليه‌السلام : « غير الوزغ ، فإنّه لا ينتفع بما يقع فيه » (٢).

وفيه : أنّ عدم الانتفاع بما يقع فيه مبالغة في الكراهة ، وتأكيد في استحباب التنزّه بملاحظة الأخبار المبيحة الآتية ، مع أنّه لا ملازمة بينه وبين النجاسة كما هو محلّ النزاع ، فلعلّه من جهة السمّية أيضا كما عرفت القول به عن التذكرة (٣) واستحسنه المدارك (٤).

ومع هذا كلّه فهي غير صالحة لمعارضة الأخبار المشار إليها ، فإنّها عموما وخصوصا كثيرة جدّا ، فمن الأخبار العامّة صحيحة أبي العبّاس البقباق المتقدّمة (٥) المشتملة على نفي البأس عن فضل أشياء ، منها : الوحش.

ورواية ابن مسكان المتقدّمة (٦) عن الوضوء ممّا ولغ فيه الكلب والسنّور ، أو شرب منه جمل أو دابّة أو غير ذلك ، أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال : « نعم ، إلّا أن تجد غيره فتنزّه عنه » بالتقريب المتقدّم ، مع عدم قادحيّة خروج الكلب عن مدلولها بدليل ، وحمل الماء على الكرّ ـ مع أنّه مطلق ـ بقرينة ولوغ الكلب بعيد ، فتأمّل.

ومنها : الموثّق عن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث طويل ـ قال : سئل عن الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك ، يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه؟ قال : « كلّ ما ليس له دم فلا بأس به » (٧).

ورواية حفص بن غياث عن جعفر بن محمّد عليه‌السلام قال : « لا يفسد الماء إلّا ما كانت له نفس سائلة » (٨).

ورواية محمّد بن يحيى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا تفسد الماء إلّا ما كانت له

__________________

(١) المقنع : ٣٥.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٠ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٩٠.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٤.

(٤) مدارك الأحكام ١ : ١٣٧.

(٥) الوسائل ١ : ٢٢٦ ب ١ من أبواب الأسآر ح ٤.

(٦) الوسائل ١ : ٢٢٨ ب ٢ من أبواب الأسآر ح ٦.

(٧ و ٨) الوسائل ٣ : ٤٦٣ و ٣٦٤ ب ٣٥ من أبواب النجاسات ح ١ و ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٠ و ٢٣١ / ٦٦٥ و ٦٦٩.


نفس سائلة » (١).

والتقريب في هذه واضح ، بعد ملاحظة تسالمهم في أنّ الوزغة ليست من ذوات الأنفس ، كما تبيّن عن تقريب الاستدلال على النجاسة بصحيحة معاوية بن عمّار (٢). ومن الأخبار الخاصّة الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام ـ في أثناء حديث ـ قال : وسألته عن العظاية ، والحيّة ، والوزغ يقع في الماء ، فلا يموت ، أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : « لا بأس » (٣).

وهذا الحديث كما ترى يصلح لأن يخرج ـ مضافا إلى ما مرّ ـ دليلا على مغايرة العظاية للوزغ ، كما أنّه يصلح لأن يؤخذ قرينة على أنّ الحرمة في الموثّقة المتقدّمة ليست على معناها الظاهر المصطلح عليه شرعا ، ثمّ إذا انضمّ إليه ـ بعد استفادة الطهارة وجواز الاستعمال منه ـ عموم رواية الوشّاء المتقدّمة ، مضافة إلى الشهرة محقّقة ومحكيّة ، مع ضميمة قاعدة المسامحة ثمّ أمر الكراهة ، فهو الأقوى في المسألة إن شاء الله.

المسألة الثانية عشرة : ذهب من عدا الشيخ في النهاية وابن البرّاج وأبي الصلاح إلى طهارة ما مات فيه العقرب ، وجواز استعماله على كراهية.

فإنّ الشيخ قال : « وكلّ ما وقع في الماء ، فمات فيه ممّا ليس له نفس سائلة ، فلا بأس باستعمال ذلك الماء ، إلّا الوزغ والعقرب خاصّة ، فإنّه يجب إهراق ما وقع فيه وغسل الإناء » (٤).

وابن البرّاج حكم بنجاسته (٥) ، وأبو الصلاح أوجب النزح لها من البئر ثلاث دلاء (٦) ، وذلك آية كونه ينجّسها.

وعن المختلف : « قال ابن البرّاج : إذا أصاب شيئا وزغ أو عقرب فهو نجس ،

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٤ ب ٣٥ من أبواب النجاسات ح ٥ ـ الكافي ٣ : ٥ / ٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٨٧ ب ١٩ من أبواب الماء المطلق ح ٢ ـ التهذيب ١ : ٢٣٨ / ٦٨٨.

(٣) الوسائل ١ : ٢٣٩ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٩ ـ التهذيب ١ : ٤١٩ / ١٣٢٦.

(٤) النهاية ١ : ٢٠٤.

(٥) المهذّب ١ : ٢٦ حيث قال : « وليس ينجّس الماء ممّا يقع فيه من الحيوان إلّا أن تكون له نفس سائلة ، وأمّا ما يقع فيه ممّا ليس له نفس سائلة ـ غير العقرب والوزغ ـ فإنّه لا ينجّسه ».

(٦) الكافي في الفقه : ١٣٠.


وأطلق ، وأوجب أبو الصلاح النزح لها من البئر ثلاث دلاء.

والوجه عندي : الطهارة ، وهو اختيار ابن إدريس ، وهو الظاهر من كلام السيّد المرتضى ، فإنّه حكم بأنّ كلّ ما لا نفس له سائلة كالذباب والجراد والزنابير وما أشبهها لا ينجّس بالموت ، ولا ينجّس الماء إذا وقع فيه قليلا كان أو كثيرا.

وكذا عليّ بن بابويه فإنّه قال : إن وقعت فيه عقرب أو شي‌ء من الحيّات (١) وبنات وردان ، والجراد ، وكلّ ما ليس له دم فلا بأس باستعماله والوضوء منه ، مات أو لم يمت » (٢) انتهى.

والأقوى ما صار إليه الجماعة المدّعى عليه الشهرة من الطهارة ، لنا على ذلك : بعد الأصل ، وعموم موثّقة عمّار ، ورواية حفص ، ومرفوعة محمّد بن يحيى المتقدّمة ، الحاصرة لإفساد الماء في ما له نفس سائلة ، خصوص المرويّ عن قرب الأسناد في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن الكاظم عليه‌السلام قال : سألته عن العقرب والخنفساء وأشباههما ، يموت في الجرّة أو الدّن ، يتوضّأ منه للصلاة؟ قال : « لا بأس به » (٣) وحسنة هارون بن حمزة الغنوي قال : سألته عن الفأرة والعقرب وأشباه ذلك ، يقع في الماء ويخرج حيّا ، هل يشرب من ذلك الماء ويتوضّأ؟ قال : « يسكب منه ثلاث سكبات ، قليله وكثيره بمنزلة واحدة ، ثمّ يشرب منه ويتوضّأ » (٤) إلى آخره.

وهذا الحديث وإن اختصّ بحالة الحياة ، غير أنّ الظاهر بملاحظة ما سبق في تقريب استدلال العلّامة (٥) على نجاسة الوزغة بصحيحة معاوية بن عمّار عدم اختصاص حكمه بها ، فإنّ نجاسة الحيوان إمّا ذاتيّة فلا يتفاوت الحال في تنجيس الغير بين حياته ومماته ، أو حاصلة بالموت فلا يوجب تنجّس الغير إلّا بعد الموت ، والثاني منفيّ هنا بفرض انتفاء النفس السائلة ، كما أنّ الثاني منفيّ بنصّ الحديث ، وعن مختلف العلّامة (٦) الاستدلال على الحكم هنا بما وصفه بالصحّة من رواية ابن مسكان قال :

__________________

(١) وفي مختلف الشيعة : « الخنافس » بدل « الحيّات ».

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٤٦٧.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٦٥ ب ٣٥ من أبواب النجاسات ح ٦.

(٤) الوسائل ١ : ٢٤٠ ب ٩ من أبواب الأسآر ح ٤ ـ وفيه : « ثلاث مرّات » بدل « ثلاث سكبات ».

(٥ و ٦) لاحظ مختلف الشيعة ١ : ٤٦٦ و ٤٦٨.


سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمّا يقع في الآبار ـ إلى أن قال ـ : « وكلّ شي‌ء يسقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك ، فلا بأس » (١).

ويشكل التعويل عليه : بأنّ البئر لا يقاس عليها غيره في الأحكام الثابتة لها ، خصوصا على مذهبه فيها وهو عدم انفعالها بالملاقاة وإن أوجب النزح تعبّدا.

حجّة القول بالنجاسة : موثّقة سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن جرّة وجد فيها خنفساء قد ماتت؟ ، قال : « ألقها وتوضّأ منه ، وإن كان عقربا فأرق الماء وتوضّأ من ماء غيره » (٢).

وموثّقة أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الخنفساء يقع في الماء أيتوضّأ منه؟ قال : « نعم لا بأس به » ، قلت : فالعقرب؟ قال : « أرقه » (٣).

والتقريب في ذلك ـ مع ظهوره في المباشرة عن حياة ـ ما تقدّم.

والجواب عن الكلّ : أنّ ما تقدّم في دليل الطهارة لاجتماعه جميع جهات الاعتبار والوثوق ينهض قرينة على [أنّ] الأمر فيهما مرادا به الاستحباب ، فمقتضاهما استحباب التنزّه عن هذا الماء ، وهو ليس بنكير ، مع ما فيهما من قوّة احتمال كون الجهة الداعية إلى ذلك وجود السمّية ، فلم يلزم من ذلك ثبوت النجاسة على ما هو المتنازع.

وبالجملة : العدول عن الطهارة إلى النجاسة مع ملاحظة ما ذكر ، لأجل ما ذكر ، خلاف الإنصاف.

وأمّا الكراهة : وإن استدلّ عليها في شرح الدروس (٤) بمرسلة الوشّاء ، ورواية ابن مسكان ، ومضمرة سماعة المتقدّمة ، لكن ليس شي‌ء منها بشي‌ء هنا.

أمّا الأولى : فلورودها فيما له لحم ، والعقرب ليست من ذوات اللحم.

أمّا الثانية : فلورودها في شرب الدابّة فلا يتعدّى منه إلى المباشرة ميّتا ، إذ ليس حكم الكراهة كحكم النجاسة ، بحيث إذا ثبت في حال الحياة ـ بتقريب ما ذكرنا ـ لكان ثابتا في حال الممات أيضا كما لا يخفى ، فلا يلزم من رجحان التنزّه عن سؤر العقرب رجحانه عن [ما] ماتت فيه ، هذا مع إمكان المناقشة في انصراف « الدابّة » إليها ، ويجري

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٤ ب ٣٥ من أبواب النجاسات ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٢٣٠ / ٦٦٦.

(٢) الوسائل ٣ : ٤٦٤ ب ٣٥ من أبواب النجاسات ح ٤ ـ الكافي ٣ : ١٠ / ٦.

(٣) التهذيب ١ : ٢٣٠ / ٦٦٤.

(٤) مشارق الشموس : ٢٨٠.


هذا الكلام بعينه في الثالثة أيضا.

فالإنصاف : أنّ إثبات الكراهة هنا من جهة السند في غاية الإشكال ، وإن أمكن إثباتها بملاحظة الشهرة.

المسألة الثالثة عشر : في سؤر الحائض الّذي اختلفت كلمتهم فيه حكما وإطلاقا ، وتقييدا وقيدا ، فعن ظاهر المقنع (١) ، والشيخ في كتابي الحديث (٢) المنع عن التوضّؤ به مطلقا ، كما عن الأوّل قائلا بأنّه : « لا تتوضّأ بسؤر الحائض » ، أو « إذا لم تكن مأمونة » (٣) كما عن الثاني قائلا ـ عند رفع التنافي عمّا بين الأخبار الآتية ـ : « فالوجه في هذه الأخبار ما فصّله في الأخبار الأوّلة ، وهو أنّه إذا لم تكن المرأة مأمونة فإنّه لا يجوز التوضّؤ بسؤرها »

ثمّ قال : « ويجوز أن يكون المراد بها ضربا من الاستحباب » (٤).

وأمّا الآخرون فقد أطبقوا على القول بالكراهة في استعماله مطلقا ، غير أنّه عن مصباح علم الهدى (٥) ومبسوط الشيخ (٦) القول بها في مطلق الحائض ، وعن المعظم القول بها في المقيّدة بغير المأمونة (٧) ، أو بالمتّهمة (٨) ، على الخلاف الآتي في ذلك أيضا.

وقد يمنع مخالفة القولين الأوّلين للأخيرين ، بمنع ظهور لفظ المقنع في الخلاف ، فإنّه وإن كان بنفسه يفيد التحريم ، غير أنّ الصدوق في الغالب يعبّر عن الحكم بلفظ الرواية ، والشيخ إنّما ذكر ذلك لمجرّد الجمع بين الأخبار المتنافية كما هو دأبه في غير المقام ، لا أنّه ذكره عن اعتقاد ، ولذا صرّح عقيب ذلك بإبداء احتمال آخر ، وهو : « كون المراد بالأخبار الناهية عن التوضّؤ بفضل الحائض مطلقا ضربا من الاستحباب » (٩).

ومن هنا ترى صاحب المدارك أنّه بعد ما نقل الكراهة المطلقة عن مبسوط الشيخ ، قال : « وجمع في كتابي الحديث بين الأخبار تارة بالمنع من الوضوء بسؤر غير المأمونة ،

__________________

(١) المقنع : ١٧ و ٤١.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٢ ـ الاستبصار ١ : ١٧.

(٣) الاستبصار ١ : ١٧.

(٤) التهذيب ١ : ٢٢٢ / ذيل الحديث ٦٣٦.

(٥) حكاه عنه في المعتبر : ٢٥.

(٦) المبسوط ١ : ١٠.

(٧) كما في المقنعة : ٥٨٤ ـ والمراسم العلويّة : ٣٧ ـ والجامع للشرائع : ٢٠.

(٨) كما في النهاية ١ : ٢٠٣ ـ والوسيلة : ٧٦ ـ والسرائر ١ : ٦٢.

(٩) لاحظ التهذيب ١ : ٢٢٢.


واخرى بالاستحباب » (١).

وهذا الاختلاف في كلماتهم كما ترى إنّما نشأ عن الاختلاف الواقع في أخبار الباب ، فإنّ منها ما يظهر منه المنع المطلق عن التوضّؤ ، ومنها ما يظهر منه المنع المقيّد عن التوضّؤ أيضا ، ومنها ما يظهر منه الكراهة المطلقة عن التوضّؤ أيضا ، ومنها ما يتردّد بين المنع المطلق عن التوضّؤ وبين جواز التوضّؤ مطلقا وجوازه مقيّدا.

فمن القسم الأوّل : رواية عنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سؤر الحائض يشرب منه ولا يتوضّأ » (٢).

ورواية ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام أيتوضّأ الرجل من فضل المرأة؟

قال : « إذا كانت تعرف الوضوء يتوضّأ ، ولا يتوضّأ من سؤر الحائض » (٣).

ورواية الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الحائض : « يشرب من سؤرها ولا يتوضّأ منه » (٤).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته هل يتوضّأ عن فضل الحائض؟ قال : « لا » (٥).

ومن القسم الثاني : رواية عليّ بن يقطين عن أبي الحسن عليه‌السلام في الرجل يتوضّأ بفضل الحائض؟ قال : « إذا كانت مأمونة فلا بأس » (٦).

ومن القسم الثالث : رواية أبي هلال قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « المرأة الطامث أشرب من فضل شرابها ، ولا أحبّ أن أتوضّأ منه » (٧) بناء على أنّه يدلّ على نفي المحبوبيّة وهو أعمّ من المبغوضيّة ، فلا يستفاد منه ما زاد على الكراهة ، وربّما يقال : بظهور هذه اللفظة فيها.

ومن القسم الرابع : رواية عيص بن القاسم المرويّة في الكافي والتهذيبين ـ فعلى ما

__________________

(١) مدارك الأحكام ١ : ١٣٤.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٧ ب ٨ من أبواب الأسآر ح ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٢ / ٦٣٤ وفيه : « تشرب منه ولا توضّأ ».

(٣ و ٤) الوسائل ١ : ٢٣٦ ب ٨ من أبواب الأسآر ح ٣ و ٢ ـ الكافي ٣ : ١١ و ١٠ / ٤ و ٣.

(٥ و ٦) الوسائل ١ : ٢٣٧ ب ٨ من أبواب الأسآر ح ٧ و ٦ ـ التهذيب ١ : ٢٢٢ / ٦٣٦ و ٦٣٤.

(٧) الوسائل ١ : ٢٣٨ ب ٨ من أبواب الأسآر ح ٩.


في الكافي ـ « قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام هل يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد؟ فقال : « نعم ، يفرغان على أيديهما قبل أن يضعا أيديهما في الإناء ».

قال : وسألته عن سؤر الحائض؟ فقال : « لا توضّأ منه ، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة ، ثمّ تغسل يديها قبل أن تدخلهما في الإناء ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغتسل هو وعائشة في إناء واحد ، [و] يغتسلان جميعا » (١).

وعلى ما في التهذيبين قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر الحائض؟ قال : « توضّأ منه ، وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة » (٢) إلى آخره.

والجنب هنا مراد بها المرأة ، على ما قيل : من أنّه لفظ يستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، وقوله : « إذا كانت مأمونة » على نسخة الكافي لا يتحمّل قيدا لما حكم به لسؤر الحائض من قوله : « لا يتوضّأ منه » كما هو واضح ، فعليه يكون مفاد ذلك المنع المطلق على طبق القسم الأوّل من الروايات.

وعلى نسخة التهذيبين يحتمل كونه قيدا للجنب فقط ، فيكون مفاد الرواية حينئذ بالقياس إلى سؤر الحائض الجواز المطلق ، كما يحتمل كونه قيدا لها ولما قبلها على إرادة كلّ واحدة ، فيكون مفادها حينئذ الجواز المقيّد.

وكيف كان ففيما بين تلك الأخبار من التنافي ما لا يخفى ، ومعه لا يمكن العمل بالجميع إلّا بنوع من التصرّف يوجب الجمع بينها ، وهو يتصوّر من وجوه :

أوّلها : أن يحمل « لا يتوضّأ » في روايات القسم الأوّل ، وفي رواية القسم الرابع ـ على نسخة الكافي ـ على المنع ، مع حمل إطلاقه على المنع المقيّد المستفاد من مفهوم رواية القسم الثاني وكذلك رواية القسم الرابع على نسخة التهذيبين ، مع رجوع القيد إلى سؤر الحائض أيضا ، بناء على كون كلمة « لا بأس » مرادا بها نفي الحرمة خاصّة. ويحمل قوله : « لا احبّ » في رواية القسم الثالث على إرادة المبغوضيّة مع حمل إطلاقه على المنع المقيّد المذكور ، ليكون مفاد المجموع حينئذ المنع من سؤر الغير المأمونة خاصّة ، وهذا هو الّذي عزي إلى ظاهر التهذيبين ، واقتضاه ما ذكره أوّلا من وجه الجمع كما لا يخفى.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٠ / ٢.

(٢) التهذيب ١ : ٢٢٢ / ٦٣٣.


وثانيها : أن يؤخذ بظاهر قوله : « لا أحبّ » في رواية القسم الثالث من إرادة الكراهة ، ثمّ يجعل قرينة على كون المراد بقوله : « لا يتوضّأ » في روايات القسم الأوّل وكذلك ما في رواية القسم الرابع ـ على نسخة الكافي ـ إنّما هو الكراهة ، مع حمل قوله : « لا بأس » في رواية القسم الثاني على نفي الحرمة الغير المنافي لثبوت الكراهة لمحلّ النطق وإلغاء المفهوم عن المسكوت عنه ، وحمل قوله : « يتوضّأ » في رواية القسم الرابع ـ على نسخة التهذيبين ـ على الإذن الموجودة في ضمن الكراهة مع عدم رجوع القيد إليه ، فيكون مفاد الجميع حينئذ الكراهة المطلقة ، وهذا هو الّذي نقل عن السيّد والشيخ في المصباح والمبسوط.

وثالثها : أن يحمل لفظة « لا بأس » في رواية القسم الثاني على إرادة نفي المرجوحيّة المطلقة ، حتّى الكراهة الغير المنافي لثبوتها في جانب المفهوم ، ثمّ يؤخذ بظاهر قوله : « لا احبّ » في رواية القسم الثالث ويجعل أيضا قرينة على إرادة الكراهة من قوله : « لا يتوضّأ » في الروايات الاخر ، لكن مع تقييد الجميع بغير المأمونة عملا بمنطوق رواية القسم الثاني ، وحمل « يتوضّأ » في رواية القسم الرابع ـ على نسخة التهذيبين ـ على الإذن المطلق الّذي هو القدر المشترك بين الكراهة والإباحة الخاصّة ، فيكون مفاد الجميع كراهة سؤر الغير المأمونة مع انتفائها عن سؤر المأمونة ، وهذا هو المشهور الّذي صار إليه المعظم.

وهاهنا احتمالات اخر يظهر بالتأمّل ، ولا ريب أنّ المصير إلى بعض ما ذكر من الوجوه الثلاث بعينه لا بدّ له من مرجّح عرفي يرجّح أحدها بعينه ، وظاهر أنّ مناط الترجيح هو الظهور والأظهريّة ، على ما هو مقرّر في المرجّحات الراجعة إلى الدلالة.

ولا يبعد أن يقال : بترجيح الوجه الأخير ، بل هو الأقوى ، وإن استلزم ذلك ارتكاب خلاف ظاهر في لفظة « لا بأس » ، بحملها على نفي المرجوحيّة المطلقة ، مع ظهورها عرفا في نفي الجهة المقتضية للمنع من نجاسة أو غيرها ، وفي لفظة « لا يتوضّأ » بحملها على الكراهة مع ظهورها في الحرمة ، وفيها مع لفظة « لا احبّ » بإلحاق التقييد بهما مع ظهورهما في الإطلاق.

لكنّ الإنصاف : أنّ لفظة « لا احبّ » أظهر في إفادة الكراهة ، والجملة الشرطيّة أظهر


في إفادة المفهوم من جميع الامور المذكورة في إفادة ظواهرها ، ومن البيّن وجوب تقديم الأظهر على غيره في مقام التعارض ، فلا يصار معه إلى الوجه الأوّل لاستلزامه العدول عن ظاهر لفظة « لا احبّ » ، مع مشاركته للوجه الأخير في اقتضاء التقييد ، ولا إلى الوجه الثاني لأدائه إلى إلغاء المفهوم عن الجملة الشرطيّة ، مع مشاركته للوجه الأخير في اقتضاء حمل « لا يتوضّأ » على إرادة الكراهة ، مع إمكان المنع من ظهورها في التحريم ، لأنّها جملة خبريّة وهي عند تعذّر الحقيقة ظاهرة في الإنشاء المطلق ومنه الكراهة.

ولو سلّم ظهورها فيه بالنوع فيتوهّن ذلك الظهور بمصير المعظم إلى خلافه ، إن لم نقل بكون فهمهم الكراهة موجبا لظهورها ، وبمثل ذلك أمكن منع ظهور لفظة « لا بأس » فيما ذكر.

بل قد يقال : « إنّ ظاهر نفي البأس في المقيّدات بعد العلم بعدم الحرمة في غير المأمونة نفي الكراهة رأسا » (١) ، فإنّ العلم بانتفاء الحرمة ـ لو فرض ـ يصلح قرينة على كون النظر في روايات الباب نفيا وإثباتا منطوقا ومفهوما إلى الكراهة خاصّة ، ومن هنا أمكن أيضا استظهار الكراهة من لفظتي « يتوضّأ » و « لا يتوضّأ ».

ثمّ يبقى ممّا يتعلّق بالمسألة امور :

الأوّل : قد عرفت أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار اختصاص الكراهة بالحائض الغير المأمونة ، على ما هو صريح رواية عليّ بن يقطين ، ورواية عيص بن القاسم على نسخة التهذيبين في أحد الوجهين ، وقد ورد التقييد به في كلام جماعة من المقيّدين كالشرائع (٢) وعن الذكرى (٣) ، والمراسم (٤) ، والجامع (٥) ، والمهذّب (٦). لكن في الدروس (٧) تبديل الغير المأمونة بالمتّهمة ، كما عن السرائر (٨) والمعتبر (٩) ، والمنتهى (١٠) ، والمختلف (١١) ، والتحرير (١٢) ،

__________________

(١) القائل هو الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في كتاب الطهارة ١ : ٣٨٢.

(٢) شرائع الإسلام ١ : ١٦.

(٣) ذكرى الشيعة ١ : ١٠٧.

(٤) المراسم العلويّة : ٣٦.

(٥) الجامع للشرائع : ٢٠.

(٦) المهذّب ٢ : ٤٣٠. (٧) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٣.

(٨) السرائر ١ : ٦٢. (٩) المعتبر : ٢٥.

(١٠) منتهى المطلب ١ : ١٦٢. (١١) مختلف الشيعة ١ : ٢٣٢.

(١٢) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.


والقواعد (١) ، والإرشاد (٢) ، واللمعة (٣) ، والجعفريّة (٤).

وفي كلام غير واحد أنّ الثمرة تظهر في الحائض المجهولة الحال ، فإنّ سؤرها مكروه على الأوّل دون الثاني ، لأنّ المتّهمة أخصّ من غير المأمونة ، حيث إنّها تشمل المجهولة دون المتّهمة ، ولعلّه كذلك بملاحظة مضمونها لغة ، فإنّ « المأمون » مأخوذ من الأمن أو الأمانة وهو : الوثوق والاطمئنان ، فالمأمونة : هي المرأة الّتي يوثق بطهارتها ويطمئنّ على تحفّظها عن النجاسة ، ولا ريب أنّ الوثوق والاطمئنان منحصر في صورة العلم أو الظنّ بالتحفّظ ، فغير المأمونة حينئذ من لم يعلم ولا يظنّ تحفّظها عن النجاسة ، سواء علم أو ظنّ بالعدم كما في المتّهمة ـ على تقدير الظنّ بالعدم ، نظرا إلى أنّ الاتّهام عبارة عن سوء الظنّ ، فالمتّهمة : من ظنّ بسوء تحفّظها عن النجاسة ـ أو لم يعلم ولا يظنّ كالمجهولة.

ومن هنا حكم في المدارك بأولويّة إناطة الكراهة بغير المأمونة من المتّهمة ، تعليلا : « بأنّ النصّ إنّما يقتضي انتفاء المرجوحيّة إذا كانت مأمونة ، وهو أخصّ من كونها غير متّهمة ، لتحقّق الثاني في ضمن من لا يعلم حالها دون الأوّل » (٥).

لكن قد يقال : باتّحادهما عرفا ، على معنى أنّ المتبادر عرفا من المأمونة هي الّتي لا تتّهم ، وكأنّه إلى ذلك يرجع ما عن بعض المحقّقين من أنّ غير المأمونة هي المتّهمة ، إذ لا واسطة بين المأمونة ومن لا أمانة لها ، والّتي لا أمانة لها هي المتّهمة. وعليه فلا يتوجّه إليه ما في المدارك من الاعتراض عليه بأنّ : « المتبادر من المأمونة من ظنّ تحفّظها من النجاسات ، ونقيضها من لم يظنّ بها ذلك ، وهو أعمّ من المتّهمة والمجهولة » (٦).

ومرجع ما ذكر إلى منع كون غير المأمونة أعمّ من المتّهمة ، بل هما متساويان في العرف ، وكما أنّ من لم يعلم حالها لا تدخل في مفهوم « المتّهمة » فكذلك لا تدخل في مفهوم « الغير المأمونة » ، فعلى التعبيرين لا يحكم عليها بشي‌ء من الكراهة والعدم واقعا ، وإن كان مقتضى استحباب الحالة السابقة الثابتة للماء هو عدم الكراهة في الحكم الظاهري.

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٨٥.

(٢) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٣) اللمعة الدمشقيّة ١ : ٤٧.

(٤) الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي ١ : ٨٦).

(٥ و ٦) مدارك الأحكام ١ : ١٣٦.


لكن يبقى الكلام في صحّة دعوى التبادر العرفي ولعلّها غير ثابتة.

وبالجملة مبنى الإشكال على دخول الظنّ في مفهومي « المأمونة » و « المتّهمة » لغة ، وقضيّة ذلك كون نقيض كلّ ـ وهو ما لا ظنّ فيه ـ أعمّ من عين الآخر.

نعم ، لو قدرت « المأمونة » الواردة في الروايات مأخوذة من « الأمن » بمعنى السلامة والحفظ والخلوص عن النجاسة ليكون أمرا واقعيّا من غير مدخليّة للعلم أو الظنّ فيه إلّا من باب الطريقيّة ، أمكن القول بدخول المجهولة بحسب الواقع إمّا في « المأمونة » أو في نقيضها ، فلا يحكم عليها بحسب الواقع بشي‌ء من الكراهة والعدم ، وإن وجب الحكم في الظاهر بعدمها استصحابا للحالة السابقة.

ولعلّه إلى ذلك يرجع ما قيل : من أنّا نمنع أخذ الظنّ في المأمونة ، بل المراد منها المتحفّظة عن النجاسة واقعا ، فتارة يظنّ وتارة يقطع ، وغير المأمونة غير المتحفظة في الواقع ، وعلى كلّ حال فمجهولة الحال لا يحكم عليها بشي‌ء وإن كان الواقع لا يخلو منهما ، كما يرشد إليه قول ابن إدريس في السرائر : « أنّ المتّهمة الّتي لا تتوقّى عن النجاسات » (١) وقول أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّ سؤر الحائض لا بأس [به] أن يتوضّأ منه إذا كانت تغسل يديها » (٢).

لكنّه كما ترى لا يجدي نفعا في إصلاح التعبير بالمتّهمة عن غير المأمونة ، بل قضيّة هذا التوجيه إناطة الكراهة وجودا وعدما بموضع القطع بالتحفّظ والخلوص عن النجاسة وعدمه ، لا لأنّ القطع له مدخليّة في موضوع الحكمين ، بل لأنّه هو الطريق الموصل إلى الواقع على حدّ ما هو في سائر الموضوعات ، فيلزم أن لا يحكم في الّتي ظنّ تحفّظها والّتي ظنّ عدم تحفّظها ـ وهي المتّهمة ـ والّتي شكّ في حالها بشي‌ء من الكراهة والعدم في الواقع ، وإن قضى الظاهر بالحكم بعدمها حتّى في المتّهمة أيضا.

لكن هذا بناء على الاقتصار في العمل على الروايات المقيّدة بالمأمونة ، وأمّا بناء على العمل بالروايات الناهية على الإطلاق وأخذ الروايات المقيّدة مخصّصة لها ـ على ما هو مبنى الجمع بينهما ـ اتّجه الحكم بالكراهة في جميع الأقسام الثلاث المذكورة ، إذ لم يعلم بملاحظة المخصّص إلّا خروج المأمونة عنها ، وهي الّتي علم أمانتها في الواقع.

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٣٨ ب ٨ من أبواب الأسآر ح ٩.


ومن هنا ربّما قيل : إنّ الروايات قد نهت عن الوضوء بسؤر الحائض مطلقا ، أقصى ما هناك أنّه خرجت المأمونة عن هذا الإطلاق فيبقى الباقي.

وعلى كلّ تقدير فالتعبير بالمتّهمة مع الاقتصار عليها ليس على ما ينبغي ، إذ النظر في الحكم بالكراهة هنا إن كان إلى إطلاق الروايات المطلقة في غير ما خرج بالدليل ، فهي مقتضية للكراهة فيما يعمّ المتّهمة وغيرها كالمجهولة إذا لم يؤخذ المتّهمة فيها عنوان الحكم بل العنوان هو الحائض ، غاية الأمر أنّه خرج عنها المأمونة هي الّتي يوثق بطهارتها ـ ولو ظنّا ـ أو الّتي يقطع بتحفّظها عن النجاسة بالخصوص ، وإن كان إلى مفهوم الروايات المقيّدة ، فهو على تقدير يوجب الحكم فيما يعمّ غير المتّهمة أيضا ، وعلى تقدير آخر لا يوجبه في المتّهمة أيضا.

وبملاحظة جميع ما ذكر آل الكلام إلى دعوى : أنّ الأقوى بملاحظة إطلاق الأخبار الناهية عن سؤر الحائض كراهة سؤر جميع أفرادها عدا المأمونة ، وهي المحفوظة عن النجاسة في الواقع ، فلا يحكم بها إلّا مع العلم بالحفظ ، بل ينبغي أن يستثنى من هذا الإطلاق الّتي علم بعدم سلامتها عن النجاسة الشخصيّة لثبوت المنع هنا بملاحظة أدلّة اخر ، وأمّا الّتي ظنّ بعدم سلامتها عن شخص النجاسة فاستثناؤها والعدم يدور على القول بالظنّ في ثبوت النجاسات وعدمه.

الأمر الثاني : قد عرفت بملاحظة ما تقدّم أنّ المأخوذ في موضوع حكم الكراهة إنّما هو الوضوء بسؤر الحائض مطلقة أو مقيّدة ، بل قد عرفت أنّها فارقة في النهي والترخيص بين الوضوء والشرب ، حتّى أنّه قد خرجت أكثرها مصرّحة بالشرب مع النهي عن الوضوء المحمول على إرادة الكراهة ، ومن هنا استشكل بعضهم في حكم الشرب ، لكن المعروف من مذهبهم عدم الفرق بينهما ، بل عن المحقّق البهبهاني : « أنّ الاقتصار على الوضوء لم نقل به فقيه » (١) ولعلّه من جهة التسامح ، وعليه يحمل النهي الوارد في الأخبار بالقياس إلى الوضوء على شدّة الكراهة لا على اختصاصها به ، ولا يخلو عن إشكال.

__________________

(١) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ١ : ٨٤ حيث قال : « وقال الاستاذ إنّ الاقتصار على الوضوء لم يقل به فقيه ، فالظاهر أنّ التعميم محلّ وفاق » انتهى.


الأمر الثالث : مقتضى بعض الروايات المتقدّمة كون سؤر الجنب أيضا في حكم سؤر الحائض ، فيكون مكروها مع عدم المأمونيّة ، وقد يلحق بهما سؤر المستحاضة أيضا والنفساء ، بل عن غير واحد كالشهيدين في البيان (١) والروضة (٢) ، وظاهر الشيخين (٣) والحلّي (٤) والمحقّق (٥) إلحاق سؤر كلّ متّهم بها ، وعن المحقّق الشيخ عليّ المناقشة فيه بكونه تصرّفا في النصّ ، بل عنه بعين عبارته : « أنّه تصرّف في التصرّف » (٦) ولا يخلو عن قوّة ، وربّما يؤيّد ذلك بما يظهر من الأخبار من استحباب التنزّه عمّن لا يتنزّه ، بل قد يستظهر ذلك من رواية ابن أبي يعفور : أيتوضّأ الرجل من فضل المرأة؟ قال : « إذا كانت تعرف الوضوء يتوضّأ » (٧) بناء على أنّ الظاهر من الوضوء الاستنجاء أو إزالة مطلق الخبث.

* * *

__________________

(١) البيان : ١٠١.

(٢) الروضة البهيّة ١ : ٤٧.

(٣) وهما الشيخ المفيد في المقنعة : ٥٨٤ ؛ والشيخ الطوسي في النهاية ٣ : ١٠٦.

(٤) السرائر ٣ : ١٢٣.

(٥) المعتبر : ٢٥.

(٦) جامع المقاصد ١ : ١٢٤ العبارة الموجودة فيه هكذا : « وتعدية الحكم إلى كلّ متّهم تصرّف في النصّ » ولكنّه نقل العبارة في الحدائق عن بعض فضلاء المتأخرين بما في المتن. راجع الحدائق الناضرة ١ : ٤٢٤.

(٧) الوسائل ١ : ٢٣٦ ب ٨ من أبواب الأسآر ح ٣.


ينبوع

وممّا حكم عليه بكراهة استعماله مطلقا ، أو في الطهارة مطلقا ، أو في الوضوء خاصّة ، الماء الّذي سخّنته الشمس ، نصّ عليه غير واحد من الأصحاب ، وعن الذخيرة : « أنّه مشهور بين الأصحاب » (١) بل عن الخلاف (٢) الإجماع على كراهة الوضوء بالمسخّن بالشمس إن قصد به ذلك.

والأصل فيه رواية إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس ، فقال : يا حميرا ، ما هذا؟ قالت : أغسل رأسي وجسدي ، قال : لا تعودي ، فإنّه يورث البرص » (٣).

ورواية إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الماء الّذي تسخّنه الشمس لا تتوضّئوا به ، ولا تغسلوا به ، ولا تعجنوا به ، فإنّه يورث البرص » (٤).

وما في الخصال عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله : خمس خصال تورث البرص : النورة يوم الجمعة ويوم الأربعاء ، والتوضّؤ والاغتسال بالماء الّذي تسخّنه الشمس ، والأكل على الجنابة ، وغشيان المرأة في أيّام حيضها ، والأكل على الشبع » (٥) وإنّما حمل النهي في الروايتين الاوليين على الكراهة مع ظهوره في الحرمة لما في سنديهما من الضعف ، الموجب لعدم صلاحيتهما لإثبات الحرمة ، فحمل النهي على الكراهة مسامحة في دليلها.

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١٤٤.

(٢) الخلاف ١ : ٥٥ ، المسألة ٤.

(٣) الوسائل ١ : ٢٠٧ ب ٦ من أبواب الماء المضاف ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٦٦ / ١١١٣.

(٤) الوسائل ١ : ٢٠٧ ب ٦ من أبواب الماء المضاف ح ٢ ـ الكافي ٣ : ١٥ / ٥.

(٥) الخصال : باب الخمسة ، ص ٢٧٠.


ويؤيّده الشهرة والإجماع المنقولان ، مضافا إلى أنّه مقتضى الجمع بين الروايات المذكورة وبين مرسلة محمّد بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا بأس بأن يتوضّأ [الإنسان] بالماء الّذي يوضع في الشمس » (١).

لا يقال : مقتضى الرواية الثالثة كالتعليل في الاوليين حرمة استعمال الماء لأنّ البرص ضرر أخبر به المعصوم ، ومن أحكام الضرر أن يجب دفعه ولو كان ممّا يرجع إلى الدنيا ، إذ لا يستفاد منها كونه علّة تامّة لإيراث البرص ، بل غاية ما يستفاد أنّه ممّا من شأنه ذلك ، فحين شخص الاستعمال لا يقطع ولا يظنّ بأنّه يؤثّر لا محالة ، بل قصارى ما هنالك الاحتمال ، وهو لا يقضي إلّا باستحباب التجنّب والاحتياط.

ثمّ في المقام فروع ينبغي التعرّض لها.

الأوّل : أنّه يستفاد من المحقّق في ظاهر الشرائع ـ حيث عبّر عن المسألة بأنّه : « تكره الطهارة بماء اسخن بالشمس في آنية » ـ (٢) اعتبار قصد التسخين في موضوع حكم الكراهة ، بل هو صريح الخلاف على ما تقدّم عنه من نقل الإجماع ، المذيّل بقوله : « إن قصد به ذلك » (٣) وصريح المحكيّ عن السرائر من : « أنّ ما أسخنته الشمس بجعل جاعل له في إناء ، وتعمّده لذلك ، فإنّه مكروه في الطهارتين معا فحسب » (٤) وحكي عن ظاهر غير واحد أيضا.

لكن يدفعه : إطلاق الروايات الشاملة لما لا قصد إلى تسخينه ، وليس فيها ما يخصّصها عدا ما يوهم الرواية الاولى ، المشتملة على قوله : « قد وضعت قمقمتها في الشمس » ، وفيه : ما لا يخفى.

وأضعف منه الاعتذار لهم بأنّه : من جهة الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقّن ، فإنّ ذلك إنّما يستقيم في موضع الإجمال الّذي هو منتف هنا جزما فالإطلاق لا صارف عنه هنا قطعا.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٨ ب ٦ من أبواب الماء المضاف ح ٣ ـ التهذيب ١ : ٣٦٦ / ١١١٤.

(٢) لشرائع الإسلام ١ : ١٥.

(٣) الخلاف ١ : ٥٤ المسألة ٤ وفيه : « وأمّا المسخّن بالشمس إذا اريد به ذلك ، فهو مكروه إجماعا ».

(٤) السرائر ١ : ٩٥.


فالأقرب : عموم الكراهة بالقياس إلى صورتي القصد وعدمه ، عملا بالإطلاق المنجبر ضعفه بعمل المعظم كما قيل ، مضافا إلى أنّ التعليل : بإيراث البرص أيضا ممّا ينفي هذا التوهّم ، لأنّ ذلك إنّما يترتّب عليه من باب الخاصّيّة ، فليس للقصد فيها مدخليّة.

الثاني : وممّا يستفاد من عبارة الخلاف المتقدّمة (١) اختصاص الكراهة بالوضوء ، كما أنّ المستفاد من عبارة الشرائع (٢) المتقدّمة اختصاصها بالطهارة ، ومن صريح ما تقدّم عن التحرير (٣) قصر الحكم على الطهارتين فحسب ، وعن الشهيد في الذكرى (٤) تخصيص الحكم بالطهارة مع العجين.

والأولى وفاقا لغير واحد من الأجلّة عدم الفرق بين سائر الاستعمالات أيضا ، لإطلاق الرواية الاولى المحفوف بترك الاستفصال ، وليس في المقام ما يوهم الخروج عنه إلّا ما في الرواية الثانية والثالثة.

وفيه : أنّ الأخذ به أخذ بمفهوم اللقب ، وهو من أصله فاسد ، ومعه فلا يقاوم إطلاق منطوق الرواية الاولى ، ومع الغضّ عن ذلك فثبوت المفهوم عند القائلين به في جميع موارده منوط بعدم ورود المنطوق مورد الغالب.

ولعلّ النكتة في عدم التعرّض لذكر سائر الاستعمالات الّتي منها الشرب أنّه قلّما يتّفق من سائر الاستعمالات ـ ولا سيّما الشرب ـ بما سخّنته الشمس ، بل النفوس تراها كارهة عن شرب هذا الماء.

نعم ، إنّما يغلب فيه الاستعمال في الطهارتين والعجين ، ولا سيّما في أوقات الشتاء ، بل الناس تراهم متعمّدين في تسخين الماء لهذه الاستعمالات خصوصا العجين ، فوردت الروايتان على طبق ما يغلب في عملهم ، ولا ينافي مثل ذلك ثبوت الحكم للمسكوت عنه أيضا.

والثالث : المستفاد من عبارة السرائر (٥) والشرائع (٦) المتقدّمتين ، وكذلك النافع (٧)

__________________

(١) الخلاف ١ : ٥٤ المسألة ٤.

(٢) شرائع الإسلام ١ : ١٥.

(٣) تحرير الأحكام ـ كتاب الطهارة ـ (الطبعة الحجريّة) : ٥.

(٤) ذكرى الشيعة ١ : ٧٨.

(٥) السرائر ١ : ٩٥.

(٦) شرائع الإسلام ١ : ١٥.

(٧) المختصر النافع : ٤٤.


والمنتهى (١) وكلام الشيخ عليّ في حاشية الشرائع (٢) اختصاص الحكم بالآنية وانتفاؤه عن غيرها ، بل عن التذكرة (٣) ونهاية الإحكام (٤) الإجماع على نفيها عن غيرها من الأنهار والحياض والمصانع ، وكأنّهم استفادوه عن الرواية الاولى المشتملة على ذكر القمقمة ، وإلّا فالنصوص الاخر مطلقة ، مع توجّه المنع إلى استفادته من الرواية المذكورة أيضا ، فإن ثبت ذلك إجماعا وإلّا فللمناقشة فيه مجال واسع ، إلّا أن تدفع بتعسّر الاجتناب عمّا أسخنته في غير الآنية. فتأمّل.

ثمّ على تقدير الاختصاص بالآنية ظاهرهم بل صريح غير واحد عموم الحكم للأواني المنطبعة ـ وهي المصنوعة من الصفر والحديد والرصاص والنحاس ونحوها ـ ولغيرها ، وعدم الفرق أيضا بين البلاد الحارّة وغيرها من البلاد المعتدلة ، وكلّ ذلك لعموم النصّ والفتاوي ، ونقل الإجماع أيضا وعن التذكرة (٥) القطع به ، خلافا لما عن النهاية من دعوى التخصيص ، قائلا : « بأنّ التعليل بكونه يورث البرص يقتضي قصر الحكم على الأواني المنطبعة غير الذهب والفضّة في البلاد الحارّة ، لأنّ الشمس إذا أثّرت في تلك الأواني استخرجت منها زهومة (٦) تعلو الماء ، ومنها يتولّد المحذور » (٧) ولا يخفى ما فيه من الاعتبار في مقابل النصّ.

الرابع : في كلام غير واحد بقاء الكراهية وإن زالت السخونة والحرارة الحادثة من الشمس ، وعلّل بالاستصحاب.

وعن بعضهم الاحتجاج عليه : بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ.

وفيه أوّلا : فساد المبنى ، لما قرّر في محلّه.

وثانيا : فساد الابتناء ، إذ ليس الحكم في نصوص الباب معلّقا على المشتقّ ليترتّب عليه ما ذكر.

نعم ، التمسّك بالاستصحاب لا ضير فيه ، بناء على أنّ المستفاد من النصوص بملاحظة صيغة « تسخّنه » ليس إلّا سببيّة حدوث السخونة لحدوث الكراهة ، وأمّا كون

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ٢٤.

(٢) حاشية شرائع الإسلام ـ كتاب الطهارة ـ (مخطوط) الورقة : ٦.

(٣ و ٥) تذكرة الفقهاء ١ : ١٣.

(٤) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٦.

(٦) رسومة (منه).

(٧) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٦ نقلا بالمعنى.


بقائها سببا للبقاء أيضا فلا ، غاية الأمر وقوع الشكّ في البقاء فيجري فيه الاستصحاب. ثمّ في اشتراط القلّة هنا في موضوع الكراهة وعدمه وجهان ، بل قولان ـ على ما قيل ـ أقواهما : العدم ، عملا بالإطلاق.

ثمّ ما تقدّم من كراهة مطلق الاستعمال إنّما هو فيما استلزم المباشرة بالجسد أو عضو منه ، وأمّا مع عدم المباشرة كما لو أزال به نجاسته أو سقى به دابّة أو نحو ذلك فالظاهر انتفاء الكراهة ، نظرا إلى التعليل بإيراث البرص ، وعلى قياس ذلك في انتفاء الكراهة ما لو سخّنت الشمس آنية خالية ، ثمّ وضع فيها ماء وهي حارّة ، فأفادت فيه سخونة وحرارة من غير أن يستند ذلك حينئذ إلى تأثير من الشمس ، فإنّ ذلك غير معلوم الاندراج في دليل الكراهة ولا فتاوى الطائفة إن لم ندّع العلم بعدم اندراجه ، بل نظيره ما لو تسخّن ماء الآنية بتأثير من الشمس والنار على نحو الشركة بحيث لو لا أحدهما لم يكن الآخر كافيا في تسخينه ، فإنّ المستفاد من النصوص كون الشمس علّة تامّة للسخونة ، ومثله ما لو وجد الماء متسخّنا في موضع صالح لأن يستند سخونته إلى الشمس أو النار من غير أن يتبيّن عنده أحد الأمرين ، سواء بقي شاكّا أو ظانّا ما لم يكن الظنّ مستندا إلى دليل شرعي ، فإنّ الأصل في كلّ من هاتين الصورتين سليم عن معارضة الغير.

ولنختم الكتاب بذكر امور اخر تلحق بهذا الباب.

أحدها : أنّه يكره استعمال ما اسخن بالنار في تغسيل الموتى ما دام الغاسل متمكّنا من استعمال الماء البارد ، أو لم يكن على بدن الميّت ما لا يقلعه إلّا الماء الحارّ من نجاسة أو وسخ أو نحو ذلك ، من غير خلاف يحكى في المقام ، بل في كلام غير واحد (١) نفي الخلاف ، بل عن خلاف الشيخ (٢) إجماع الفرقة وأخبارهم عليه ، وفي المدارك : « هذا الحكم مجمع عليه بين الأصحاب ، حكاه في المنتهى » (٣).

والأصل فيه صحيحة زرارة قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « لا يسخّن الماء للميّت » (٤) ومرسلة

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ١ : ٦٠٤ ؛ ومدارك الأحكام ١ : ١١٨.

(٢) الخلاف ١ : ٦٩٢ المسألة ٤٧٠.

(٣) مدارك الأحكام ١ : ١١٨ ـ لاحظ منتهى المطلب ٧ : ١٦٠.

(٤) الوسائل ٢ : ٤٩٨ ب ١٠ من أبواب غسل الميّت ح ١ ـ التهذيب ١ : ٣٢٢ / ٩٣٨.


عبد الله بن المغيرة عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يقرب الميّت ماء حميما » (١).

ورواية يعقوب بن يزيد عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يسخّن للميّت الماء ، لا تعجل له النار » (٢) ورواية محمّد بن عليّ بن الحسين قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « لا يسخّن الماء للميّت ، قال وروي ـ في حديث آخر ـ : إلّا أن يكون شتاء باردا فتوفّي الميّت ممّا توقّي منه نفسك » (٣).

وعن كاشف اللثام : وروى عن الرضا عليه‌السلام « ولا تسخّن له ماء إلّا أن يكون ماء باردا جدّا فتوقّي الميّت ممّا توقّي منه نفسك » (٤).

وكأنّه إشارة إلى الرضوي المذكور في الرياض (٥) قال في المدارك : « والنهي وإن كان حقيقة في التحريم لكنّه محمول على الكراهة ، لاتّفاق الأصحاب على أنّ ذلك غير محرّم » (٦) انتهى.

فبذلك علم وجه الاستدلال بتلك الأخبار ، كما علم بما ذكر فيها وجه الاستثناء المتقدّم ، ولذا قال الشيخ ـ على ما حكاه في الكتاب المشار إليه (٧) ، واستحسنه ـ : « ولو خشي الغاسل من البرد انتفت الكراهة » (٨) ووافقه على ذلك كلّ من أفتى هنا بالكراهة فيما نعلم.

نعم ، ينبغي الاقتصار على ما تندفع به الضرورة كما نصّ عليه جماعة ، وممّا يلحق بالضرورة إسخانه لتليين أعضائه وأصابعه ، وهو حسن في موضع توقّف الغسل على التليين وتوقّف التليين على حرارة الماء.

لكن عن بعضهم تجويز ذلك ولو مع عدم الضرورة ، تعليلا بخروجه عن الغسل ، وهو فاسد لعدم إناطة الكراهة بالغسل كما يظهر بملاحظة الأخبار المطلقة المتقدّمة ، إلّا أن يدّعى انصراف إطلاقها إلى الغسل ، ولعلّه في حيّز المنع كما يرشد إليه النهي عن تعجيل النار له.

وثانيها : لا يكره استعمال الماء المتسخّن بالنار في غير تغسيل الأموات ، للأصل ، والسيرة المعلومة.

قال في المنتهى : « الماء المسخّن بالنار لا بأس باستعماله ، لبقاء الاسم ، خلافا

__________________

(١ و ٢) الوسائل ٢ : ٤٩٩ ب ١٠ من أبواب غسل الميّت ح ٢ و ٣.

(٣) الوسائل ٢ : ٤٩٩ ب ١٠ من أبواب غسل الميّت ح ٤ و ٥ ـ الفقيه ١ : ٨٦ / ٣٩٧.

(٤) كشف اللثام ١ : ٣٠٥ ـ لاحظ فقه الرضا عليه‌السلام : ١٦٧. (٥) رياض المسائل ١ : ١٨٦.

(٦ و ٧) مدارك الأحكام ١ : ١١٨. (٨) المبسوط ١ : ١٧٧ ـ النهاية ونكتها ١ : ٢٤٦.


لمجاهد ـ إلى أن قال ـ : بل يكره تغسيل الميّت منه » (١).

وعن السرائر : « الماء الّذي يسخّن بالنار لا يكره استعماله في حال » (٢) ، بل عن الخلاف : « أنّه ممّا قال به جميع الفقهاء إلّا مجاهد فإنّه كرهه » (٣).

لكنّ العلّامة في المنتهى (٤) احتجّ عليه من طريق العامّة بما رواه الجمهور عن شريك قال : أجنبت وأنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجمعت حطبا وأحميت الماء فاغتسلت ، فأخبرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم ينكر (٥).

ومن طريق الخاصّة بما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه اضطرّ إليه وهو مريض فأتوه به مسخّنا فاغتسل ، وقال : « لا بدّ من الغسل » (٦).

وأنت خبير بعدم صلاحية شي‌ء من ذلك دليلا على نفي الكراهة ، نعم ينبغي أن يعلم أنّ الثاني لا يدلّ على الكراهة أيضا ، وإن كان قد يوهمها بملاحظة قوله : « أنّه اضطرّ إليه » لجواز عود الضمير إلى الغسل كما قيل ، أو إلى الماء ، لا إلى تسخينه.

ولو سلّم عوده إليه فعدم الاضطرار إلى التسخين أعمّ من كونه بنفسه مرجوحا كما لا يخفى.

وثالثها : في المنتهى ـ عن ابن بابويه رحمه‌الله ـ : « ويكره التداوي بالمياه الحارّة من الجبال الّتي يشمّ منها رائحة الكبريت ، لأنّها من فوح جهنّم » (٧).

أقول : يدلّ عليه ما رواه في الوسائل عن محمّد بن عليّ بن الحسين قال : أمّا ماء الحمات (٨) ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما نهى أن يستشفى بها ولم ينه عن التوضّؤ بها ، قال : وهي المياه الحارّة الّتي يكون في الجبال يشمّ منها رائحة الكبريت. قال : وقال عليه‌السلام : إنّها من فوح جهنّم (٩).

ورواية مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « نهى رسول الله الاستشفاء

__________________

(١ و ٤) منتهى المطلب ١ : ٣٦ و ٢٦. (٢) السرائر ١ : ٩٥.

(٣) الخلاف ١ : ٥٤ المسألة ٤.

(٥) سنن البيهقي ١ : ٥ ـ الإصابة ١ : ٣٦ مع اختلاف يسير في اللفظ.

(٦) التهذيب ١ : ١٩٨ / ٥٧٦ ـ الوسائل ١ : ٢٠٩ ب ٧ من أبواب الماء المضاف ح ٢. وصدر الحديث هكذا : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ، ولا يجد الماء ـ إلى أن قال : ـ وذكر أبو عبد الله عليه‌السلام : ...

(٧) منتهى المطلب ١ : ٢٧.

(٨) الحمة : العين الحارّة يستشفي بها المرضى. الصحاح ٥ : ١٩٠٤.

(٩) الوسائل ١ : ٢٢٠ ب ١٢ من أبواب الماء المضاف ح ١ و ٢ ـ الفقيه ١ : ١٣ / ٢٤ و ١٤ / ٢٥.


بالحمات ، وهي : العيون الجارية الّتي تكون في الجبال توجد منها رائحة الكبريت ، فإنّها من فوح جهنّم » (١).

ورواية مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن آبائه قال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يستشفى بالحمات الّتي توجد في الجبال » (٢) فالكراهة أيضا ممّا لا إشكال فيه ، لكن بعد ملاحظة السيرة النافية للحرمة عن ذلك.

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ الكراهة في جميع ما حكم عليه بالكراهة من أوّل الكتاب إلى هذه الأبواب إنّما تثبت ما لم يتعيّن استعمال هذا الماء ، كما في موضع الانحصار مع الضرورة إليه ، ومع تعيّنه زالت الكراهة ، ضرورة امتناع اجتماعها مع الوجوب في شي‌ء واحد ، فيخصّص به دليل الكراهة ، تقديما لأقوى المصلحتين على الاخرى دون العكس.

وأمّا معنى الكراهة حيثما تضاف إلى الطهارات ـ مع أنّها من العبادات ـ فهو على ما تقرّر في الاصول ، ولا حاجة إلى التعرّض له هنا.

هذا آخر ما أوردناه في كتاب المياه ، ويتلوه الجزء الثاني من الكتاب بعون الله الملك الوهّاب ، الّذي له الحمد أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

قد فرغ من تسويده مؤلّفه الفقير إلى الله الغنيّ عليّ محمّد بن إسماعيل المرحوم الموسوي ، عند طلوع الفجر من يوم الثلاثاء الاثنى عشر من شهر الرجب المرجّب من شهور سنة ١٢٧٢ هـ *.

__________________

(١ و ٢) الوسائل ١ : ٢٢١ ب ١٢ من أبواب الماء المضاف ح ٣ و ٤.

(*) لقد بذلنا غاية الجهد في تحقيقه وتصحيحه طبقا للنسخة الفريدة بخطّ المؤلّف قدّس الله تعالى نفسه الزكيّة. وقد تمّ بحمد الله تعالى الجزء الأوّل من هذا التراث الفقهي ، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني ، أوّله : « وبعد فهذا الجزء الثاني من كتاب ينابيع الأحكام في تحرير الحلال والحرام المتكفّل لما يتعلّق بالطهارات الثلاث وتوابعها ».

نسأل الله أن يجعله ممّا ينتفع به الباحثون ، فيصير ذخرا ليوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم. وكان الفراغ من تصحيحه ليلة الغدير من شهور سنة اثنين وعشرين وأربعمائة بعد الألف (١٤٢٢) من الهجرة النبوية ، على هاجرها ألف سلام وتحية.

حفيد المؤلّف

السيّد عليّ العلوي القزويني


الفهرس

کتاب الطهارة

ينبوع : في أقسام الماء............................................................ ٢٢

ينبوع : تعريف الماء المطلق........................................................ ٢٤

ينبوع : طهارة الماء المطلق في نفسه ومطهّريته لغيره.................................. ٢٧

ينبوع : في التغيّر................................................................ ٥٦

المطلب الأوّل : تنجّس الماء بسبب تغيّره بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة............... ٥٧

المطلب الثاني : في نبذة من الفروع المتعلّقة بالباب.................................... ٦٩

المطلب الثالث : في التغيّر التقديري................................................ ٨٠

ينبوع : الجهة الاُولى : في تقدير الكثير........................................... ١٠٢

الجهة الثانية : عدم الفرق بين أفراد الكرّ في عدم الانفعال بملاقاة النجاسة............ ١٠٦

الجهة الثالثة : في اشتراط القلّة للانفعال........................................... ١١٢

الجهة الرابعة : المقام الأوّل : في عدم اعتبار تساوي السطوح في الكرّ................. ١١٩

المقام الثاني : في تقوّي الأعلى بالأسفل وبالعكس.................................. ١٢٤

الختام : في بعض الفروع المرتبطة بالمقام........................................... ١٣٣

الجهة الخامسة : في تحديد الكرّ

الطريق الأوّل : تحديد الكرّ وزناً................................................. ١٣٦

الطريق الثاني : تحديد الكرّ مساحةً............................................... ١٤٧

ينبوع : في انفعال القليل وعدمه................................................. ١٧٠

المقام الأوّل : في معمّمات قاعدة الانفعال......................................... ٢٢٧

المقام الثاني : في مستثنيات قاعدة الانفعال. الأوّل : القليل الوارد على النجاسة........ ٢٤٤

الثاني : في ماء الاستنجاء........................................................ ٢٥٥

في شروط طهارة ماء الاستنجاء.................................................. ٢٨٥


طهوريّة ماء الاستنجاء.......................................................... ٢٩٣

الثالث : في ماء الغسالة......................................................... ٢٩٩

بقي في المقام اُمور

الأوّل : غسل الثوب في الاجّانة.................................................. ٣٥٤

الثاني : في حكم غسالة الحمّام................................................... ٣٥٨

الثالث : الماء المستعمل في الوضوء................................................ ٣٦٨

الرابع : الماء المستعمل في الغسل.................................................. ٣٧٤

ينبوع : في الماء الجاري......................................................... ٤١٠

ينبوع : في ماء الحمّام.......................................................... ٤٣٦

بعض الفروع المتعلّقة بماء الحمّام................................................. ٤٥٨

في اعتبار العلم في النجاسة...................................................... ٤٦١

في ثبوت النجاسة بإخبار ذي اليد................................................ ٤٦٩

عدم ثبوت النجاسة بالظن....................................................... ٤٧١

ثبوت النجاسة بإخبار العدل والبيّنة............................................... ٤٧٦

تعارض الأمارات بالقياس إلى الطهارة والنجاسة.................................... ٤٧٩

تعارض البيّنتان في الطهارة والنجاسة............................................. ٤٨٢

معنى قيام الأمارة على النجاسة................................................... ٤٨٤

ينبوع : في ماء الغيث.......................................................... ٤٨٦

ينبوع : في ماء البئر............................................................ ٥٠٢

ينبوع : المقصد الأوّل : عدم جواز استعمال الماء النجس في الطهارة.................. ٥٣٨

المقصد الثاني : في عدم جواز استعمال الماء النجس في الشرب وغيره................. ٥٤٤

المقصد الثالث : في تطهير المياه المتنجّسة.......................................... ٥٤٦

المرحلة الاُولى : في تطهير الماء القليل.............................................. ٥٤٨

عدم اشتراط علوّ المطهّر ولا مساواته في السطح.................................... ٥٥٧

في اعتبار الدفعة................................................................ ٥٥٩

في اعتبار الامتزاج وعدمه....................................................... ٥٦٧


في اتمام القليل كرّاً.............................................................. ٥٩١

المرحلة الثانية : في تطهير الكرّ والجاري

المسألة الاُولى : في تطهير الكرّ................................................... ٥٩٨

المسألة الثانية : في تطهير الجاري................................................. ٦١٢

المرحلة الثالثة : في تطهير البئر................................................... ٦١٥

المسألة الاُولى : في ما يوجب نزح الجميع......................................... ٦٣١

حكم ما لا نصّ فيه............................................................ ٦٤٠

مسألة التراوح وبعض الفروع المرتبطة بها......................................... ٦٤٢

المسألة الثانية : في ما يوجب نزح الكرّ........................................... ٦٤٨

المسألة الثالثة : نزح سبعين دلواً لموت الانسان.................................... ٦٥٣

المسألة الرابعة : أحدهما : نزح خمسين دلواً لوقوع العذرة.......................... ٦٥٩

ثانيهما : نزح خمسين دلواً لوقوع الدم الكثير..................................... ٦٦٤

المسألة الخامسة : في ما ينزح له أربعون دلواً...................................... ٦٦٨

المسألة السادسة : في ما ينزح له ثلاثون دلواً...................................... ٦٧٨

المسألة السابعة : في ما ينزح له عشرة دلاء........................................ ٦٨٠

المسألة الثامنة : في ما ينزح له سبع دلاء.......................................... ٦٨٢

المسألة التاسعة : في ما ينزح له خمس دلاء........................................ ٧٠٥

المسألة العاشرة : في ما ينزح له ثلاث دلاء........................................ ٧٠٧

المسألة الحادية عشرة : في ما ينزح له دلوٌ واحد................................... ٧١٣

الختام : تفريعات :

المبحث الأوّل : في ما يتعلّق بالدلو المعتبر في النزح وما يلحق بها وما لا يلحق.......... ٧١٧

المبحث الثاني : في ما يتعلّق بالنزح وآلاته والنازح.................................. ٧٢٦

العفو عن المتساقط............................................................. ٧٢٩

المبحث الثالث : فيما يتعلّق بما ينزح له من النجاسات الموجبة له..................... ٧٣٤

ينبوع : في مسألة البئر والبالوعة................................................. ٧٥٤

ينبوع : في الماء المضاف......................................................... ٧٦٨


المبحث الأوّل : عدم رفع الحدث بالماء المضاف مطلقاً.............................. ٧٧٢

المبحث الثاني : عدم إزالة الخبث بالماء المضاف.................................... ٧٧٥

المبحث الثالث : انفعال المضاف بملاقاة النجاسة................................... ٧٨٣

المبحث الرابع : في تطهير المضاف المتنجّس........................................ ٧٨٩

المبحث الخامس : في اختلاط المضاف بالمطلق...................................... ٨٠١

المبحث السادس : تتميم المطلق بالمضاف الطاهر................................... ٨٠٨

ينبوع : الماء الطاهر المشتبه بالنجس أو المغصوب أو المباح

المقام الأوّل : في الماء المشتبه بالنجس............................................. ٨١٢

المقام الثاني : في الماء المشتبه بالمغصوب............................................ ٨٣٧

المقام الثالث : في الماء المشتبه بالمضاف............................................ ٨٣٨

ينبوع : في الأسئار............................................................. ٨٤٣

المسألة الاُولى : في نجاسة سؤر ما حكم بنجاسة شرعاً.............................. ٨٤٩

المسألة الثانية : في طهارة سؤر ما حكم بطهارته شرعاً............................. ٨٥٠

المسألة الثالثة : طهارة سؤر أصناف الحيوان الطاهر العين........................... ٨٥٥

المسألة الرابعة : في تعريف الجلاّل................................................ ٨٥٦

المسألة الخامسة : كراهة سؤر الجلاّل وآكل الجيف ما عدا السنّور................... ٨٥٩

المسألة السادسة : تقييد الكراهة سؤر الجلاّل وآكل الجيف بخلوّ موضع الملاقاة عن عين النجاسة  ٨٦٠

المسألة السابعة : كراهة سؤر البغال والحمير...................................... ٨٧٠

المسألة الثامنة : كراهة سؤر الفأرة............................................... ٨٧٤

المسألة التاسعة : سؤر الدجاج................................................... ٨٧٦

المسألة العاشرة : كراهة سؤر الحيّة............................................... ٨٧٧

المسألة الحادية عشرة : في سؤر الوزغة........................................... ٨٧٩

المسألة الثانية عشرة : طهارة ما مات فيه العقرب وجواز استعماله على كراهة........ ٨٨٥

المسألة الثالثة عشرة : في سؤر الحائض........................................... ٨٨٨

ينبوع : الماء المسخّن بالشمس................................................... ٨٩٨

ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام - ١

المؤلف:
الصفحات: 908