

*في هذه المجموعة*
١ ـ تذكرة الوداد في
حكم رفع اليدين حال القنوت............................. ٩
٢ ـ رسالة في شرح
حديث الطلاق بيد من أخذ بالساق......................... ٢٧
٣ ـ رسالة في حرمة
النظر إلى وجه الأجنبية..................................... ٣٣
٤ ـ رسالة خمسية............................................................ ٦٧
٥ ـ رسالة في أقل
المدة بين العمرتين......................................... ١٢٣
٦ ـ رسالة في الرضاع...................................................... ١٥٥
٧ ـ رسالة في
التعويل على أذان الغير في دخول الوقت........................ ٢١٥
٨ ـ رسالة في حكم
الاستيجار للحج من غير بلد الميت........................ ٢٢٧
٩ ـ رسالة في حكم
الاسراج عند الميت إن مات ليلا.......................... ٢٣٣
١٠ ـ رسالة في شرح
حديث توضؤوا مما غيرت النار......................... ٢٣٩
١١ ـ رسالة في حكم
الغسل في الأرض الباردة ومع الماء الباردة............... ٢٤٩
١٢ ـ رسالة في
أفضلية التسبيح على القراءة في الركعتين الأخيرتين............. ٢٥٥
١٣ ـ رسالة في تحقيق
وجوب غسل مس الميت............................... ٢٦٩
١٤ ـ رسالة في حكم
شراء ما يعتبر فيه التذكية............................... ٢٧٩
١٥ ـ رسالة في حكم
ليس الحرير للرجال في الصلاة وغيرها................... ٢٨٩
١٦ ـ رسالة في حكم
الغسل قبل الاستبراء................................... ٣١٩
١٧ ـ الفصول الأربعة
في عدم سقوط دعوى المدعي بيمين المنكر.............. ٣٥١
١٨ ـ رسالة في وجوب
الزكاة بعد اخراج المؤونة............................ ٤٠٥
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(٩)
|
|
تذكرة الوداد
في حكم رفع اليدين حال
القنوت
للعلامة المحقق العارف
محمد اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا المازندراني
الخاجوئي
المتفى سنة ١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيد مهدي الرجائي
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي
قنتت له القانتات ، وخضعت له القانتون ، وذلت له السماوات ودانت له الأرضون ،
والصلاة والسلام على خير خلقه ومظهر لطفه محمد المتبع لدينه المسلمون ، وعلى آله
الشفعاء الذين يرجوا شفاعتهم المؤمنات المجرمات والمؤمنون المجرمون.
وبعد : فقد
سألني بعض الأخلاء الأجلاء أيده الله تعالى عما اشتهر بين علمائنا الإمامية
وفقهائنا الاثنا عشرية رحم الله السلف منهم والخلف من استحباب رفع اليدين حال
القنوت في الصلاة الخمس موازياً بوجهه بطونهما الى السماء مضمومة الأصابع إلا
الإبهامين ، وقال : انه ليس لهم على ذلك دليل يعول عليه أو حديث يركن اليه الا في
صلاة الوتر.
لما روي في
الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : تدعو في الوتر على العدو ، وان شئت سميتهم
وتستغفر ، وترفع يديك في الوتر حيال وجهك ، وان شئت تحت ثوبك .
__________________
وان ما لا نص
فيه على التعيين يجب حمله على ما يقتضيه الأصل المفيد لليقين ، والأصل هاهنا يقتضي
عدم استحباب رفعهما حال القنوت ، سواء فيه كل المصلين لانه تكليف والأصل عدمه ، مع
ما يتراءى من كونه بدعة وتشريعاً في الدين لعدم ورود نص صحيح يعتمد به فيه على
اليقين.
قال : وأيضاً
فلخصومنا أن يشنعوا علينا ويقولوا : انكم أحدثتم في دينكم ما ليس بمروي عن أئمتكم
، فإنكم ترفعون أيديكم بالقنوت في صلواتكم الخمس وهو ليس بمنقول عنهم بحديث
تعتمدون عليه ، أو بأصل آخر ترجعون اليه. وهذا مما يقدح في صحة دينكم ، بل يدل على
أنكم تفعلون ما تشتهون.
وذكر أن الأمر
إذا كان كذلك ، فالاشتغال بتأليف رسالة محتوية على الدليل الدال على ذلك المدعى لا
يخلو من فائدة دينية ، مع ما فيه من التقرب والزلفى.
ثم اني لما
أمعنت النظر وجدته صادقاً في دعواه ، مصيباً فيما اجتهد فيه وأنشأه ، لخلو الكتب
الاخبارية والزبر الاستدلالية على ما تصفحناه من حديث صحيح صريح في ذلك المطلب
بخصوص ، بل لم نقف فيه على رواية تدل بمنطوقها عليه بعمومه.
فأجبناه الى
مسئوله ، وأسعفناه الى مأموله ، لوجوب قضاء حاجة المؤمن مهما أمكن ، ولا سيما إذا
كان موصوفاً بالصداقة والخلة ، ومنعوتاً بالمحبة والمودة ولذلك سمّيتها بـ « تذكرة
الوداد » راجياً من الله أن ينفعنا بها في يوم المعاد.
فأقول ، وأنا
العبد الراجي إلى رحمة ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا بن علاء الدين محمد
الشهير بإسماعيل : القنوت دعاء وكل دعاء يستحب فيه رفع اليدين.
أما الأولى ،
فلما ذكر ابن الأثير في النهاية من قوله : فيه « تفكر ساعة خير من قنوت ليلة » وقد
تكرر ذكر القنوت في الحديث ، ويرد بمعان متعددة ،
كالطاعة ، والخشوع ، والصلاة ، والدعاء ، والعبادة ، والقيام ،
وطول القيام ، والسكوت ، فيصرف في كل واحد من هذه المعاني الى ما يحتمله لفظ
الحديث الوارد فيه.
وفي حديث زيد
بن أرقم « كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل : ( وَقُومُوا لِلّهِ
قانِتِينَ ) ، فأمسكنا عن الكلام » أراد به السكوت. وقال ابن
الأنباري : القنوت على أربعة أقسام : الصلاة ، وطول القيام ، واقامة الطاعة ،
والسكوت انتهى .
وقال في
القاموس : القنوت الطاعة والسكوت والدعاء والقيام في الصلاة والإمساك عن الكلام ،
وأقنت دعا على عدوه ، وأطال القيام في صلاته ، وأدام الحج ، وأطال الغزو تواضع لله
.
وقال في الصحاح
: القنوت الطاعة ، هذا هو الأصل ، ثم سمي القيام في الصلاة قنوتاً. وفي الحديث «
أفضل الصلاة طول القنوت » ومنه قنوت الوتر انتهى .
ولا ريب في أن
المراد من لفظ القنوت فيما نحن فيه ـ أعني : في الأحاديث التي دلت على وجوبه أو استحبابه
على اختلاف القولين فيه من هذه المعاني ـ هو الدعاء لا غير بقرينة المقام.
وقال ابن عباس
في قوله تعالى ( وَقُومُوا لِلّهِ
قانِتِينَ ) معناه : داعين ،
__________________
والقنوت هو الدعاء في الصلاة حال القيام ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد
الله عليهماالسلام. وكذلك فسره محمد بن بابويه بقوله : داعين. وقيل :
طائعين.
وقيل : خاشعين .
وقال في الكشاف
: هو الركود وكف الأيدي والبصر .
وقيل : الاولى
أن يفسر القنوت بذكر الله قائماً أنسب من الدعاء فإنه أعم ، والأصحاب لا يشترطون
الدعاء في القنوت ، فإنهم يجعلون كلمات الفرج أفضله وليس فيها دعاء.
وكل ذلك تفسير
في مقابل النص ، فهو غير مسموع ، فتأمل.
وأما الثانية ،
فلما روى ابن فهد في عدة الداعي عنه صلىاللهعليهوآله أنه كان يرفع يديه إذا ابتهل ودعا
كما يستطعم المسكين ، وفيما أوحى الله الى موسى عليهالسلام : ألق كفيك ذلا بين يدي كفعل العبد المستصرخ الى سيده ،
فإذا فعلت ذلك رحمت وأنا أكرم الأكرمين الحديث .
وروي في الفقيه
عن صفوان بن مهران الجمال قال : رأيت أبا عبد الله عليهالسلام إذا صلى وفرغ من صلاته رفع يديه فوق رأسه .
وقال أبو جعفر عليهالسلام : ما بسط عبد يديه الى الله عزوجل الا واستحي الله أن
__________________
يردها صفراً حتى يجعل فيها من فضله ورحمته ما يشاء ، فإذا دعا أحدكم فلا
يرد يديه حتى يمسح بهما على رأسه ووجهه.
وفي خبر آخر :
على وجهه وصدره .
وقال أمير
المؤمنين عليهالسلام إذا فرغ أحدكم من الصلاة فليرفع يديه الى السماء ولينصب
في الدعاء. فقال ابن سبإ : يا أمير المؤمنين أليس الله بكل مكان؟ قال بلى. قال :
فلم يرفع يديه الى السماء؟ فقال : أو ما تقرأ ( وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ ) فمن أين يطلب الرزق الأمن موضعه ، وموضع الرزق وما وعد
الله عزوجل السماء .
وسأل أبو بصير
الصادق عليهالسلام عن الدعاء ورفع اليدين ، قال : على خمسة أوجه : أما
التعود فتستقبل القبلة بباطن كفيك. وأما الدعاء في الرزق فتبسط كفيك وتفضي
بباطنهما الى السماء. وأما التبتل فايماؤك بإصبعك السبابة ، وأما الابتهال فترفع
بيديك تجاوز بهما رأسك. وأما التضرع فأن تحرك إصبعك السبابة تجاه وجهك وهو دعاء
الخيفة .
وقال عليهالسلام : الرغبة تبسط يديك وتظهر باطنهما ، والرهبة تبسط يديك
وتظهر ظهرهما ، والتضرع تحرك السبابة اليمنى يميناً وشمالا ، والتبتل تحرك السبابة
اليسرى ترفعهما الى السماء رسلا وتضعها رسلا. والابتهال تبسط يديك وذراعيك الى
السماء ، والابتهال حين ترى أسباب البكاء .
وعن سعيد بن
يسار قال قال الصادق عليهالسلام : هكذا الرغبة وأبرز باطن راحتيه
__________________
إلى السماء ، وهكذا الرهبة وجعل ظهر كفيه الى السماء ، وهكذا التضرع وحرك
أصابعه يميناً وشمالا ، وهكذا التبتل يرفع إصبعه مرة ويضعها اخرى ، وهكذا الابتهال
مد يديه تلقاء وجهه. وقال : لا تبتهل حتى ترى الدمعة .
وعن محمد بن
مسلم قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : مر بي رجل وأنا أدعو في صلاتي بيساري ، فقال :
يا أبا عبد الله بيمينك ، فقلت : يا عبد الله ان لله تبارك وتعالى حقاً على هذه
كحقه على هذه .
وأيضاً لما كان
القنوت دعاءً ورغبة وسؤالا ، فكان ينبغي للعبد أن يبسط كفيه رافعاً بين يديه تعالى
، لكونه أقرب الى حاله في بسط ماله وحسن ظنه بافضاله ورجائه له ، فكأنه بذلك يسأل
الأمان فيبسط كفيه لما يقع فيهما من الإحسان ، ولأنه أقرب الى العبودية والاحتقار
والذلة ، فكأنه كالغريق الرافع يديه الحاسر عن ذراعيه المتشبث بأذيال رحمته ،
والمتعلق بذوائب رحمته التي نجت الهالكين وأغاثه المكروبين ، مع ما فيه من الاشعار
بوقوفه موقف العبد الذليل واشتغاله بخالقه الجليل عن طلب الآمال والتعرض للسوء.
وروي ركن الملة
والدين ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني سقى الله ضريحه في كتاب الكافي ، وروي
أيضاً آية الله في العالمين طاب ثراه في التذكرة ومنتهى المطلب عن الإمام أبي جعفر
محمد بن علي الباقر عليهالسلام قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا أهل هلال شهر رمضان استقبل القبلة ورفع يديه قال :
اللهم أهله علينا بالأمن والايمان الدعاء .
وروي الشيخ
الصدوق طاب ثراه في كتاب من لا يحضره الفقيه نقلا عن
__________________
أبيه رضياللهعنه في الرسالة. وذكر السيد الجليل الطاهر ذو المناقب
والمفاخر رضي الدين علي بن طاوس قدس الله نفسه ونور رمسه انه مروي عن الصادق عليهالسلام قال : فإذا رأيت هلال شهر رمضان فلا تشر اليه ولكن
استقبل القبلة وارفع يديك الى الله عزوجل وخاطب الهلال وقل ربي وربك الدعاء .
وقال شيخنا
البهائي طاب ثراه في حديقته بعد نقل هذين الحديثين وغيرهما يستفاد من هذه الروايات
بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها حال قراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، منها :
استقبال القبلة حال الدعاء ، كما تضمنه الحديث المروي عن رسول الله صلىاللهعليهوآله من انه كان يفعل ذلك ومنها : رفع اليدين الى الله عزوجل وقت قراءة الدعاء كما تضمنه الحديثان المذكوران ولا
خصوصية لهذين الأمرين بهلال شهر رمضان ، وان تضمن الخبران أن فعل النبي صلىاللهعليهوآله ذلك كان في هلاله ، وكذلك أمر الصادق عليهالسلام بذلك بل لا خصوصية لهما بدعاء الهلال ، فإنهما يعمان كل
دعاء الى آخر ما ذكره .
لا يقال حديث
محمد بن مسلم السابق ذكره يدل على أنه عليهالسلام قد رفع يده اليسرى في صلاته. وقوله عليهالسلام في جواب الرجل « ان لله تبارك وتعالى حقاً على هذه كحقه
على هذه » يدل على استحباب رفع اليمنى أيضاً فبمجموع هذا الحديث يثبت استحباب رفع
اليدين في الصلاة ، وهذا هو المطلوب.
لأنا نقول :
ليس المدعى كما سبق مطلق الصلاة ، بل انما هو الصلوات الخمس بخصوصها. وهذا الحديث
لا يدل عليه بخصوصه ، لجواز أن تكون الصلاة المذكورة فيه هي النافلة بل الوتر
بخصوصها ، وهو الظاهر لما مر في صحيحة محمد بن سنان.
ولما روى محمد
بن بابويه رحمة الله عليه في الفقيه بإسناده عن عبد الله بن
__________________
أبي يعفور عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : استغفر الله في الوتر سبعين مرة تنصب يدلك اليسرى
وتعد باليمنى الاستغفار الحديث . وهو كما ترى نص بالباب والله أعلم بالصواب.
فان قيل : يمكن
أن يستدل على استحباب رفع اليدين حال القنوت في الصلاة بما روى الشيخ في التهذيب
والاستبصار بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : التكبير في صلاة الفرض في الخمس الصلوات خمس
وتسعون تكبيرة ، منها تكبيرة القنوت خمس .
وعنه عن علي بن
إبراهيم عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة ، وفسرهن في الظهر احدى وعشرون تكبيرة ،
وفي العصر احدى وعشرون تكبيرة ، وفي المغرب ستة عشر تكبيرة ، وفي العشاء الآخرة
احدى وعشرون تكبيرة ، وفي الفجر إحدى عشرة تكبيرة ، وخمس تكبيرات في القنوت في خمس
صلوات .
وعن أبي الصباح
المزني قال قال أمير المؤمنين عليهالسلام : خمس وتسعون تكبيرة في اليوم والليلة للصلوات الخمس.
منها تكبيرة القنوت .
قلت : غاية ما
تدل عليه تلك الاخبار على تقدير التسليم استحباب رفع اليدين بالتكبير في الصلوات
الخمس إذا كان المصلي مريداً للقنوت ، وأما أنها تدل على استحبابه حال القنوت فلا ، إذ
دلالة فيها عليه بشيء من الدلالات ، فان استحباب
__________________
رفعهما بالتكبير للقنوت لا يستلزم استحبابه وقت قراءة القنوت الذي كلامنا
فيه ، كما لا يخفى على الناقد البصير.
ثم ان الشيخ رحمهالله بعد نقل تلك الأخبار التي أسلفناها قال : ينبغي أن يكون
العمل عليها وبها كان يفتي شيخنا المفيد قديماً ثم عن له في آخر عمره ترك العمل
بها والعمل على رفع اليدين بغير تكبير. والقول الأول أولى لوجود الروايات بها ،
وما عداه لست أرى به حديثاً أصلا.
وليس لأحد أن
يتأول هذه الاخبار بأن يقول : ما زاد على التسعين تكبيرة أحمله على أنه إذا نهض من
التشهد الأول إلى الثالثة يقوم بتكبيرة لأمور :
أحدها أنه انما
تتأول الاخبار وتترك ظواهرها إذا تعارضت وكان ينافي بعضها بعضاً ، وليس هاهنا ما
ينافي هذه الروايات ، فلا يجوز العدول عن ظواهرها بضرب من التأويل.
وثانيها : أنّه
ليس كل الصلوات فيها نهوض من الثانية إلى الثالثة ، وانما هو موجود في أربع صلوات
، فلو كان المراد ذلك لكان يقول أربع وتسعون تكبيرة.
وثالثها : أن
الحديث المفصل تضمن ذكر احدى عشر تكبيرة في صلاة الغداة وتكبيرة بعد ذلك للقنوت
مضافاً إليها ، فلو كان الأمر على ما يأول عليه لكان التكبير فيها إحدى عشرة
تكبيرة فقط.
ورابعها : أنه
قد وردت روايات منفردة بأنه ينبغي أن يقوم الإنسان من التشهد الأول إلى الثالثة
ويقول : بحول الله وقوته أقوم وأقعد. ولم يذكر التكبير ، فلو كان يجب القيام
بالتكبير لكان يقول : ثم يكبر ويقوم إلى الثالثة ، كما أنهم لما ذكروا الركوع
والسجود قالوا : ثم يكبر ويركع ويكبر ويسجد ويرفع رأسه من السجود ويكبر ، فلو كان
هاهنا تكبيراً كان يقول مثل ذلك.
وقد روي ذلك عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : إذا جلست في الركعتين الأولتين فتشهدت ثم قمت ،
فقل : بحول الله وقوته أقوم وأقعد ، ثم ذكر حديثين آخرين بهذا المضمون انتهى.
فان قلت : ما
تقول في حديث روى محمد بن يعقوب في الروضة بإسناده عن معاوية بن عمار ، قال : سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : كان في وصية النبي صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام أن قال : يا علي أوصيك في نفسك بخصال فاحفظها عني ، ثم
ساق الكلام عليهالسلام الى أن قال : وعليك بصلاة الليل ، وعليك بصلاة الزوال ،
قال ذلك ثلاثاً ، ثم قال : وعليك بتلاوة القرآن على كل حال ، وعليك برفع يديك في
صلاتك وتقليبهما الحديث .
فإنه صريح
الدلالة على استحباب رفع اليدين حال القنوت.
قلت : لا صراحة
فيه بذلك المطلب ، بل لا دلالة له عليه أصلا ، لاحتمال أن يكون المراد وعليك برفع
يديك في صلاتك وقت تكبيرة الإحرام ، أو وقت سائر التكبيرات ، سواء كانت للركوع أو
السجود أو غيرهما ، فإنه يستحب للمصلي أن يرفع بها يديه إلى أذنيه ، ويكون معنى
قوله عليهالسلام « وتقليبهما » ترديدهما وتوجيههما إلى جهة السماء ، بأن
يجعل باطن كفيه في حال رفع اليدين بالتكبير الى جانب السماء ، أو الى جهة القبلة.
ويدل على ما
ذكرناه روايات منها : ما روى الشيخ رحمهالله في الصحيح عن معاوية بن عمار قال : رأيت أبا عبد الله عليهالسلام يرفع يديه إذا ركع ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وإذا
سجد ، وإذا رفع رأسه من السجود ، وإذا أراد أن يسجد
__________________
الثانية .
ومنها : ما روي
في الصحيح أيضاً عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : في الرجل يرفع يده كلما أهوى للركوع أو السجود ،
وكلما رفع رأسه من ركوع أو سجود ، قال : هي العبودية .
وفي الصحيح
أيضاً عن صفوان بن مهران الجمال ، قال : رأيت أبا عبد الله عليهالسلام إذا كبر في الصلاة يرفع يديه حتى تكاد تبلغ أذنيه .
وفي صحيحة ابن
سنان قال : رأيت أبا عبد الله عليهالسلام يصلي يرفع يديه حيال وجهه حين استفتح .
وعنه عن أبي
عبد الله عليهالسلام في حديث صحيح في قول الله عزوجل ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ ) قال : هو رفع يديك حذاء وجهك .
وفي صحيحة
منصور بن حازم قال : رأيت أبا عبد الله عليهالسلام افتتح الصلاة ، فرفع يديه حيال وجهه ، واستقبل القبلة
ببطن كفيه .
وفي حسنة
الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إذا افتتحت الصلاة فارفع كفيك ثم ابسطها بسطاً
الحديث .
مع أنا نقول :
وعلى تقدير أن يكون المراد وعليك برفع يديك في صلاتك حال القنوت لا دلالة لهذا
الحديث على ذلك المطلب أيضاً ، لأن كلامنا في خصوص
__________________
الصلوات الخمس المفروضات ، وهذا الحديث أعم منه ، ولا دلالة للعام على
الخاص بشيء من الدلالة نعم لو كان في المقام نص صريح على المدعى لأمكن أن يجعل
هذا الحديث بعمومه مؤيداً له وليس فليس.
فان قلت : يمكن
أن يستدل على ذلك المطلب بما رواه الشيخ رحمهالله في التهذيب في باب طويل يذكر فيه الصلاة وصفتها
والمفروض منها والمسنون في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهماالسلام قال قال : على الامام أن يرفع يده في الصلاة ليس على
غيره أن يرفع يده في الصلاة .
بأن يحمل
الامام على المعصوم ، ويقال : المراد رفع اليد في القنوت لعدم التقية في شأنه عليهالسلام ، لان المعلوم من مذهبه ذلك بخلاف غيره عليهالسلام ، فان عليه أن يتقي ولا يرفع يديه للقنوت ، بل يقنت غير
مرفوع اليدين ، فيدل على أن غير الامام عليهالسلام إذا كان في حال غير التقية يستحب له أن يرفع يديه
للقنوت ، وبذلك يثبت المطلوب.
قلت : فيه أولا
: ان التقية كما يجب على غيره عليهالسلام كذلك يجب عليه أيضاً بل في شأنه العزيز أشد وآكد ، كما
يرشدك اليه قوله عليهالسلام « التقية ديني ودين آبائي » .
اللهم الا أن
يأول بتقية لا يكون فيها إلا مشقة يسيرة لا تبلغ الى حد الخوف على النفس أو المال
، فان تركها حينئذ جائز ، لكن على هذا يكون نسبته الى غيره عليهالسلام كنسبته الى نفسه في أنه لا ينبغي التقية فيه ، وحينئذ
فليس للتخصيص به وجه ، وهو ظاهر.
وثانيا : أنه
ليس فيه تصريح بالمطلوب ، لان رفع اليد مطلق في الحديث
__________________
فكما يمكن حمله على ما ذكرتم مع ما فيه من التكلف والتعسف ، كذلك يمكن أن
يحمل على رفعها بالتكبير للإحرام أو الركوع أو غيرهما ، وبذلك يبطل الاستدلال به
عليه.
بل نقول : هذا
الحمل أقرب وأولى ، كما حمل عليه الشيخ رحمهالله حيث قال : المعنى في هذا الخبر أن فعل الإمام أكثر فضلا
وأشد تأكيداً من فعل المأموم وان كان فعل المأموم أيضاً فيه فضل على ما بيناه فيما
مضى .
وهو منه رحمهالله إشارة الى ما قال فيما سبق منه من استحباب رفع اليدين
للتكبير مطلقا اماماً كان أو مأموماً.
وثالثاً : أنه
ليست في المقام قرينة تدل على أن المراد بالإمام هو المعصوم ، فكيف يحمل عليه في
مقام الاستدلال ، بل الظاهر أن المراد به امام الصلاة دون المعصوم ، وقد أومأ إليه
الشيخ فيما نقلنا عنه آنفاً ، فتأمل.
فإن قيل : يمكن
استفادة استحباب رفع اليد في القنوت مما روى الشيخ في التهذيب في الباب المذكور
بإسناده عن علي بن محمد بن سليمان ، قال كتبت الى الفقيه أسأله عن القنوت ، فكتب :
إذا كانت ضرورة شديدة ، فلا ترفع اليدين وقل ثلاث مرات بسم الله الرحمن الرحيم .
وعن الحكم بن
مسكين عن عمار بن موسى الساباطي قال قلت لأبي عبد الله عليهالسلام أخاف أن أقنت وخلفي مخالفون ، فقال : رفعك يديك يجزئ
يعني رفعهما كأنك تركع .
قلت : هذان
حديثان مجهولان ، أما الأول ، فبعلي بن محمد بن سليمان ، على
__________________
أن فيه ضعف من وجه آخر ، وقد اتفقوا على ان الحديث الضعيف لا يثبت به الأحكام
الشرعية ، والاستحباب حكم شرعي فلا يثبت به ، وذلك لان الحرمة في الفعل الذي تضمن
الحديث الضعيف استحبابه حاصل ، فهو مردد بين كونه سنة ورد بها الحديث في الجملة ،
وبين كونه تشريعاً وحراماً لما ليس من الدين فيه ، ولا ريب أن ترك السنة أولى من
الوقوع في البدعة ، فان تاركها متيقن للسلامة وفاعلها متعرض للندامة.
وأما قولهم
باستحباب بعض الأعمال التي وردت بها أخبار ضعيفة وحكمهم بترتب الثواب عليها ، فليس
مستنداً في الحقيقة إلى تلك الاخبار ، بل الى قوله عليهالسلام « من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره
وان لم يكن على ما بلغه » وهو كما قيل : حديث حسن الطريق متلقى بالقبول متأيد
بأخبار أخر.
ومن الأصحاب من
لم يعمل بالحسان أيضاً وان اشتهرت واعتضدت بغيرها بل اقتصر على العمل بالصحاح فقط
، بل ومنهم من لم يعمل بالاخبار الآحاد مطلقاً ، فكيف يستدل بتلك الأخبار الضعيفة
الغير الناطقة باستحباب المعهود عليه ، فتأمل.
ومع قطع النظر
عن ذلك يمكن أن يكون المراد فلا ترفع اليدين بالتكبير للقنوت ، وذلك بحسب مفهومه
المخالف لا يستلزم استحباب رفع اليدين حال القنوت في غير وقت القنوت ، بل غاية
استحباب رفعهما في وقت التكبير للقنوت إذا لم يكن هناك تقية ، وقد عرفت فيما سبق
منا أن ذلك غير مستلزم للمطلوب ، فتأمل.
على أنا نقول :
في كون مفهوم المخالفة دليلا خلاف بين الأصوليين ، ولذلك
__________________
اختلف العلماء في قوله عليهالسلام « في سائمة الغنم الزكاة » هل هذا
بمفهومه الخطاب تدل على انتفاء الزكاة عن المعلوفة أم لا؟
وأما الثاني
فبالحكم بن مسكين مع ما فيه من المخالفة ، لما رواه محمد بن يعقوب الكليني في
أوائل كتاب الروضة عن أبي عبد الله عليهالسلام في حديث طويل نأخذ منه موضع الحاجة قال عليهالسلام : دعوا رفع أيديكم في الصلاة إلا مرة واحدة حين تفتتح
الصلاة ، فإن الناس قد شهروكم بذلك ، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله
الحديث .
وبعد اللتيا
والتي لا تصريح فيهما على ذلك المطلب على الوجه الذي قد سبق ذكره ، وهو استحباب
رفع اليدين حال القنوت موازياً بوجهه بطونهما الى السماء مضمومة الأصابع إلا الإبهامين
، كما صرح به الأصحاب ، والغرض من تلك المسألة بيان ذلك ولم يبين منهما ، وحينئذ
فالاعتماد في إثباته على ما ذكرناه أولا.
ثم ان صاحب
المدارك لما لم يعثر على ذلك المطلب بدليل قال فيه بعد نقل كلام المصنف قدس الله
روحهما « الرابع شغل اليدين بأن تكونا في حال قيامه على فخذيه بحذاء ركبتيه ، وفي
حال القنوت تلقاء وجهه » : وأما استحباب جعلهما في حال القنوت تلقاء وجهه ، فربما
كان مستنده قوله عليهالسلام في صحيحة ابن سنان الواردة في قنوت الوتر « وترفع يديك
في الوتر حيال وجهك وان شئت تحت ثوبك » ثم قال : ويستحب أن تكونا مبسوطتين يستقبل
بهما ببطونهما السماء وظهورهما الأرض. وحكى المصنف في المعتبر قولا بجعل باطنهما
إلى الأرض
__________________
ثم قال : وكلا الأمرين جائز انتهى كلامه رفع مقامه.
وقال في الذكرى
: الثامنة يستحب رفع اليدين به تلقاء وجهه مبسوطتين ، يستقبل ببطونهما السماء
وظهورهما الأرض قاله الأصحاب. وروى عبد الله بن سنان عن الصادق عليهالسلام وترفع يديك حيال وجهك وان شئت تحت ثوبك وتتلقى بباطنهما
السماء. وقال المفيد : يرفع يديه حيال صدره ، وحكى في المعتبر قولا بجعل باطنهما
إلى الأرض ويفرق الإبهام عن الأصابع قاله ابن إدريس.
ويستحب نظره
الى بطونهما ذكره الجماعة ، ويجوز ترك الرفع للتقية ، لرواية علي بن محمد أنه كتب
الى الفقيه يسأله عن القنوت ، فكتب إذا كانت ضرورة شديدة فلا ترفع اليدين وقل ثلاث
مرات بسم الله الرحمن الرحيم ويمسح وجهه بيديه ويمرهما على لحيته وصدره قاله
الجعفي ، وهو مذهب بعض العامّة انتهى كلامه طاب منامه.
وأنت بعد خبرك
بما زبرنا في تضاعيف البحث تعرف ما يرد عليهما ان كنت من المتأملين.
نعم يمكن أن
يستدل على إثبات هذا المطلب بما رواه الشيخ رحمهالله في التهذيب بسند موثق عن سماعة عن أبي بصير قال قال أبو
عبد الله عليهالسلام : إذا دخلت المسجد فاحمد الله وأثن عليه ، وصل على
النبيّ صلىاللهعليهوآله ، فإذا افتتحت الصلاة فكبرت فلا تجاوز أذنيك ولا ترفع
يديك بالدعاء في المكتوبة تجاوز بهما رأسك .
فإن فيه دلالة
بحسب مفهومه المخالف على جواز رفع اليدين بالدعاء في المكتوبة ، ولكن لا يجوز أن
يتجاوز بهما رأسه.
__________________
وفيه مع ما
عرفت سابقاً أن الغرض المسوق له الكلام بيان استحباب رفعهما حال القنوت في الصلاة
المكتوبة ، وهو غير لازم منه ، لا مجرد الجواز والإباحة كما يلزم منه على تقدير
التسليم ، مع أنه ليس بصريح في القنوت لجواز أن يراد بالدعاء الدعاء الذي يدعى به
بين الأذان والإقامة فتدبر.
والأظهر عندي
أن مستند الأصحاب في ذلك الباب ما مر في صدر تلك الرسالة من العمومات الدالة على
استحباب رفع اليدين في الدعاء مطلقاً ، وتلك الأخبار المذكورة على تقدير ثبوتها
وصحتها مؤيدة لها وكاشفة عن صحة مضمونها.
هذا ويمكن أن
يستدل على إثبات ذلك المطلب بفتاوي الأصحاب ، فإن جمعاً كثيراً من العلماء وجماً
غفيراً من الفقهاء من السلف الى الخلف رحمهمالله قد ذكروا ذلك في كتبهم الفقهية ، وحكموا باستحبابه من
غير نكير ، فان التتبع يشهد بعدم الخلاف في ذلك بينهم. والظاهر أن ذلك وان لم يبلغ
مبلغ الإجمال لكنه حجة.
قال في الذكرى
: إذا أفتى جماعة من الأصحاب ولم يعلم لهم مخالف فليس إجماعاً قطعاً ، وخصوصاً مع
علم العين للجزم بعدم دخول الإمام حينئذ ، ومع عدم علم العين لا يعلم أن الباقي
موافقون ، ولا يكفي عدم علم خلافهم ، فإن الإجماع هو الوفاق لا عدم علم الخلاف.
وهل هو حجّة مع
عدم متمسك ظاهر من حجة نقلية أو عقلية؟ الظاهر ذلك لان عدالتهم تمنع من الاقتحام
على الفتوى بغير علم ، ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل ، خصوصاً وقد
تطرق الدروس الى كثير من الأحاديث لمعارضة الدول المخالفة ومباينة الفرق المنافية
، وعدم تطرق الباقين الى الرد له ، مع أن الظاهر وقوفهم عليه ، وانهم لا يقرون ما
يعلمون خلافه.
فان قلت : لعل
سكوتهم لعدم الظفر بمستند من الجانبين.
قلت : فيبقى
قول أولئك سليماً من المعارض ، ولا فرق بين كثرة القائل بذلك أو قلته مع عدم معارض
، وقد كان الأصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرائع الشيخ أبي الحسن ابن بابويه رحمة
الله عليه عند إعواز النصوص لحسن ظنهم به ، وان فتواه كروايته.
وبالجملة ينزل
فتاويهم منزلة رواياتهم ، هذا مع ندور هذا الفرض ، إذ الغالب وجود دليل دال على
ذلك القول عند التأمل انتهى.
أقول : ويمكن
القول بأن ما نحن فيه ليس من جملة هذا الفرض النادر ، لما عرفت من الدليل الدال
عليه عند التأمل ، وعلى تقدير كونه منها لا بأس به أيضاً ، لأنه مما يمكن أن يتمسك
به عند الحاجة كما عرفت ، ولعل في قول صاحب الذكرى قاله الأصحاب إيماء الى ذلك
فتبصر.
هذا ما عندنا
في جواب مسألتك هذه على سبيل الاستعجال والله ورسوله والأئمة من بعده أعلم بحقيقة
الحال ، وصلى الله على خير خلقه ومظهر لطفه سيدنا محمد وآله خير آل.
وتم استنساخ
وتصحيح الرسالة في (٢٩) ذي القعدة سنة (١٤١٠) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئى
(١٠)
|
|
رسالة
في
شرح حديث الطلاق بيد من أخذ بالساق
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد إسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهديّ الرّجائي
بسم
الله الرحمن الرحيم
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : الطلاق بيد من أخذ بالساق .
الطلاق مشتق من
الإطلاق ، يقال : أطلق قيده إذا أحله ، ثم نقل الى إزالة قيد النكاح من غير عوض
بصيغة طالق.
والمراد به
فيما ورد في الطلاق من الآيات والروايات ، مثل ( إِذا طَلَّقْتُمُ
النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) « المتعة تبين بغير طلاق » وأمثال ذلك هو
هذا المعنى ، لانه المتبادر من إطلاق الطلاق في عرف الشرع.
وقد تقرر في
الأصول أنه إذا صدر من الشارع ماله محمل لغوي ومحمل شرعي ، كالطواف بالبيت صلاة ،
فمثل هذا لا يكون مجملا ، بل يحمل على المحمل الشرعي ، لأن عرف الشارع أن يعرف
الأحكام الشرعية ولذلك بعث ، ولم يبعث لتعريف الموضوعات اللغوية ، فكانت ذلك قرينة
موضحة للدلالة فلا إجمال.
__________________
ثم لما كان
المبتدأ معرفاً بلام الجنس كان مفيداً للحصر ، فالمستفاد من الخبر حصر المبتدأ في
خبره ، وهو يقتضي انحصار وقوع الطلاق المعتبر في الزوج المستحق للوصف. هذا غاية ما
يمكن أن يستفاد من هذا الخبر.
وفيه أن دلالته
على الحصر ضعيفة لعدم إرادته ، على أن المراد باليد هاهنا القدرة ، كما صرح به في
التنقيح ، والا لم يجز طلاق الوكيل مع أنه جائز ، لأن يده
مستفادة من يده ، فليجز من الولي أيضاً ، لأن الشارع نصبه ليقوم بمصالح المولى
عليه.
واليد بالمعنى
المذكور كما تشمل الوكالة فكذلك تشمل الولاية ، فقول بعض الأصحاب بعدم جواز طلاق
الولي عن المجنون مستدلا بهذا الخبر محل نظر.
نعم يمكن القول
بعدم وقوع طلاق الولي عن الصبي ، لأن له أمداً يترقب ويزول نقصه فيه ، فيمكن أن
يقع الطلاق بيده بلا واسطة ان أراد ذلك ، بخلاف المجنون المطبق.
هذا وإذ تقرر
أن المراد بالطلاق المذكور في الخبر هو المعنى الشرعي ، فظاهر أنه لا يشمل نكاح
المتعة ، إذ لا تقع بها طلاق بل تبين بانقضاء المدة أو بهبته إياها ، كما هو مذهب
أصحابنا القائلين بالمتعة ، ولذلك اعتبروا في عقد المطلقة الدوام ، وفرعوا عليه عدم
وقوع الطلاق بالمتمتع بها.
وفي رواية محمد
بن إسماعيل عن الرضا عليهالسلام قلت : وتبين بغير طلاق يعني المتعة؟ قال : نعم. كذا في
الاستبصار .
وفيه عن محمد
بن مسلم عن الباقر عليهالسلام في المتعة ، قال : ليست من الأربع ،
__________________
لأنها لا تطلق ولا ترث ولا تورث وانما هي مستأجرة .
وفي الفقيه عن
موسى بن بكر عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : عدة المتعة خمسة وأربعون يوماً ، فإذا جاء لأجل
كانت فرقة بغير طلاق .
وقد نفى كثير
من الأصحاب إيلاء المتعة بقولهم « ولا يقع بها إيلاء » لقوله تعالى في قصة الإيلاء
( وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلاقَ ) وليس في المتعة طلاق.
وقال في
المسالك : اقامة الهبة مقام الطلاق قياس.
وقال الشيخ علي
رحمهالله في حواشيه : جعل الهبة عوض الطلاق إدخال لها في باب القياس.
وأيضاً فإن الأصحاب لم يعدوا الهبة من أقسام الطلاق.
وبما قررنا ظهر
فساد ما توهمه بعض المعاصرين من عدم جواز هبة الأب المدة المضروبة في نكاح متعة
ولده الصغير ، مستدلا بأنها طلاق ، والخبر المذكور يدل على عدم جواز طلاقه عنه.
وذلك لأنه ان
أراد أن الهبة المذكورة طلاق شرعي ففيه ما عرفته ، وان أراد أنها طلاق لغوي ففيه
أن المراد بالطلاق المذكور في الخبر هو الطلاق الشرعي.
وبالجملة دلالة
الخبر على عدم جواز هبة الولي المدة انما تثبت أن لو كان المراد بالطلاق المذكور
فيه هو الطلاق بالمعنى اللغوي ، ودون ثبوته خرط القتاد.
وكيف لا؟
والأصحاب مصرحون بأن المتعة لا يقع بها طلاق كما مر. وهذا منهم صريح في أنهم حملوا
الطلاق المذكور فيه على معناه الشرعي ، والا فلا وجه لتخصيصهم الطلاق بغير المتعة
، واعتبارهم في المطلقة الدوام على أن قول الرضا والباقر عليهماالسلام المتعة تبين بغير طلاق صريحان في أن هبة المدة لا تسمى
__________________
طلاقاً شرعياً ، والا لكاد بينونتها في صورة الهبة بالطلاق لا بغيره.
فالأقرب صحة
هبة الولي ، لثبوت ولايته المجوزة للتصرف في أمور المولى عليه مع رعاية الغبطة
والمصلحة وتخلفه في الطلاق لدليل خارج لا يوجب إلحاقها به ، لانه قياس لا نقول به
، على أن كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، كما قال الصادق عليهالسلام ، وقد رواه الصدوق رحمهالله في الفقيه .
وهبة الولي
المدة مما لم يرد فيه نهي ، وخصوصاً إذا كانت المدة قليلة غير واصلة إلى زمان بلوغ
الصبي ، فان في هذه الصورة لا يتصور له أمد يترقب ويزول فيه نقصه ليقع الطلاق بيده
على كون الهبة طلاقاً شرعياً.
والحاصل أن كون
الولي ممنوعاً من الهبة المذكورة غير منصوص ولا مفهوم من الخبر ، ومساواتها للطلاق
المنصوص في المعنى المقتضي للمنع مع أنه قياس ومخالف للأصل ممنوعة ، لأن لكل منهما
حدوداً ولوازم مختلفة ، واختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزوم.
فلعل غرض
الشارع من نهي الولي عن الطلاق دون الهبة تعلق بما هو معتبر في أحدهما دون الأخر ،
فهذا القياس على القول به باطل ، لانتفاء الجهة الجامعة.
فنقول : كما جاز للولي
العقد أو البناء على أصالة الجواز وثبوت ولايته الشرعية فليجز له الهبة آخراً
بناءً على ذلك الأصل السالم عن المعارض ، وانما خرج عنه الطلاق عن العقد الدائم
للدليل من الخارج ، وهو على تقدير تسليمه انما دل على كونه ممنوعاً من الطلاق ولم
يدل على كونه ممنوعاً من غيره ، فليقتصر عليه فيما خالف الأصل ، وبالله التوفيق.
وتم استنساخ
وتصحيح الرسالة في (١) ذي الحجة سنة (١٤١٠) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئى
(١١)
|
|
رسالة
في
حرمة النظر الى وجه الأجنبية
للعلامة المحقق
العارف
محمد إسماعيل
بن الحسين بن محمد رضا المازندراني الخاجوئى
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيد
مهدي الرجائي
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد له ،
والصلاة عليه ، وعلى آله ، وخصوصاً على زبدة أوصيائه ، ونخبة أوليائه.
وبعد : فيقول
الفقير الحقير الذليل محمد بن الحسين الشهير بـ « إسماعيل » اختلفت الأقوال
والروايات في جواز النظر الى وجه الأجنبية وعدمه ، والأظهر عندي العدم.
لما في الصحيح
من مكاتبة محمد بن الحسن الصفار رضياللهعنه الى أبي محمد الحسن بن علي عليهالسلام في رجل أراد أن يشهد على امرأة ليس لها بمحرم ، هل يجوز
له أن يشهد عليها من وراء الستر ويستمع كلامها إذا شهد عدلان أنها فلانة بنت فلان
التي تشهدك وهذا كلامها ، أو لا تجوز الشهادة عليها حتى تبرز وتثبتها بعينها؟ فوقع
عليهالسلام : تتنقب وتظهر للشهود إن شاء الله. قال الصدوق رحمهالله : وهذا التوقيع عندي بخطه .
ولما فيه أيضاً
عن علي بن يقطين عن أبي الحسن الأول عليهالسلام ، قال : لا بأس
__________________
بالشهادة على إقرار المرأة وليست بمسفرة إذا عرفت عينها ، أو يحضر من عرفها
ولا يجوز عندهم أن يشهد الشهود على إقرارها دون أن تسفر فينظر إليها .
قوله « ليست
بمسفرة » أي : بمكشوفة الوجه بل كانت متنقبة ، أو من وراء الستر ولا ينظر إليها.
في الصحاح :
سفرت المرأة كشفت عن وجهها فهي سافرة .
فالمسفرة بمعنى
السافر. ويظهر من هذين الحديثين إن إشهاد المرأة على إقرارها ليس من الضرورات التي
توجب إباحة كشف وجهها ونظر الشهود إليها والى وجهها مكشوفاً ، بل ذلك حرام عليها
وعليهم.
فليكن ذلك في
خاطرك عسى أن ينفعك في بعض المباحث الآتية إن شاء الله تعالى ، فهما صحيحان صريحان
في عدم جواز النظر وان كان وقت تحمل الشهادة هذا ما رواه الصدوق محمد بن بابويه في
الفقيه.
وروى محمد بن
الحسن الطوسي في التهذيب بسند مجهول عن ابن يقطين عن أبي الحسن الأول عليهالسلام قال : لا بأس بالشهادة على إقرار المرأة وليست بمسفرة
إذا عرفت بعينها ، أو حضر من يعرفها ، فأما ان كان لا تعرف بعينها ولا يحضر من
يعرفها فلا يجوز المشهود أن يشهدوا عليها وعلى إقرارها دون أن تسفر وينظرون إليها .
وهذا أيضاً يدل
على عدم جواز النظر إليها إلا في حالة الضرورة والشهادة مع الحاجة الى النظر ،
وسيجيء لذلك زيادة توضيح إن شاء الله تعالى.
ويدل عليه أيضاً ما رواه
في الكافي بطريقين أحدهما فيه إرسال ، والثاني
__________________
فيه أبو جميلة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : ما من أحد الا وهو يصيب حقاً من الزنا فزنا
العينين النظر ، وزنا الفم القبلة ، وزنا اليدين اللمس ، صدق الفرج ذلك أم كذب .
وما في كتاب
الخصال وفي الفقيه عن الأصبغ بن نباته عن علي عليهالسلام قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : يا علي لك أول نظرة ، والثانية عليك ولا لك .
ويظهر منه أن
النظرة الاولى ان وقعت فلتة ومن غير قصد وارادة لذة معفوة فلا يجوز للناظر اعادة
النظر وتكرارها لقوله « والثانية عليك » وفي رواية : والثالثة فيها الهلاك. وليكن
ذلك أيضاً في ذكرك لما قلناه آنفاً.
وعن هشام بن
سالم عن عقبة قال قال أبو عبد الله عليهالسلام : النظرة سهم من سهام إبليس مسموم من تركها لله عزوجل لا لغيره أعقبه الله ايماناً يجد طعمه ، هكذا رواه
الصدوق في الفقيه .
وروي في الكافي
عن علي بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال :
سمعته يقول : النظرة سهم من سهام إبليس مسموم ، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة .
يفهم منه أن
النظرة الأولى أيضاً إذا كانت بقصد وارادة لذة وانقضاء شهوة محرمة وناشئة من إضلال
الشيطان وإغوائه. ولا شك أن ترك الحرام لله عزوجل لا لقصد الرياء والسمعة ونحو ذلك موجب لزيادة الايمان
وكماله بل هو هو ، وهذا معنى قوله « أعقبه الله ايماناً يجد طعمه ».
__________________
وروى في جامع
الاخبار عن النبي المختار صلىاللهعليهوآله الأخيار أنه قال : النظر سهم مسموم من سهام إبليس .
وعن ابن أبي
عمير عن الكاهلي قال قال أبو عبد الله عليهالسلام النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة ، وكفى بها
لصاحبه فتنة .
فيه إشارة إلى
سبب منع النظر الى وجوه الأجنبيات وتكريره وعلة تحريمه وهو أنه موجب لهيجان الشهوة
المؤدية إلى ثوران الفتنة وهي الزنا.
وأيضاً فإن
النظر يهيج الوساوس وربما يتعلق القلب ويتعذر الوصول ، فيفضي إلى التعب الشديد وهو
ضرر ودفعه واجب إذا كان ممكناً مقدوراً ، كما ثبت في محله ، وها هنا لا يمكن دفعه
الا بكف النفس عن النظر ، فيكون واجباً وتركه حراماً وهو المطلوب.
وفي جامع
الاخبار عن علي عليهالسلام قال : من أطلق ناظرة أتعب خاطره ، من تتابعت لحظاته
دامت حسراته .
ثم لا يذهب
عليك أن حرمة النظر إلى الامرأة بقصد لذة وارادة وانقضاء شهوة أشد ، والأمر في
مقاساة التعب ومعاناة النصب بالإضافة إليه أوكد ، لامتناع الوصول إليه في الشريعة
المطهرة على صادعها وآله السلام بوجه.
وعن النبي صلىاللهعليهوآله : يا أيها الناس انما النظرة من الشيطان ، فمن وجد من
ذلك شيئاً فليأت أهله .
__________________
وهذا صريح في
أن النظرة إذا كانت بإرادة لذة انما نشأته من الشيطان وخطواته وهو سبب لتحريك
الشهوة المنجرة إلى الفتنة. ويمكن دفعها بإتيان الحليلة ، فإنه يدفع الشهوة
ويقلعها.
ويفهم منه
أيضاً فضل المزوج على العزب ، كما يدل عليه أخبار كثيرة فتأمل.
وفي الخصال
فيما علم أمير المؤمنين عليهالسلام أصحابه : ليس في البدن شيء أقل شكراً من العين ، فلا
تعطوها سؤلها ، فتشغلكم عن ذكر الله ، إذا تعرى الرجل نظر الشيطان اليه وطمع فيه ،
فاستتروا ، ليس للرجل أن يكشف ثيابه عن فخذيه ويجلس بين قوم ، لكم أول نظرة الى
المرأة ، فلا تتبعوها بنظرة اخرى ، واحذروا الفتنة ، إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه
فليأت أهله ، فإن عند أهله مثل ما رأى ، ولا يجعلن للشيطان على قلبه سبيلا ليصرف
بصره عنها الحديث .
وهو غني عن
البيان بعد ما أحطت علماً بما ذكرناه ، ويؤيد ذلك قوله تعالى ( وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً
فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ
) إذ لا اعتبار بسبب النزول مع كون اللفظ عاماً ، وذلك
مبين في محله.
وما روي في
الكافي عن هشام بن سالم ، وحماد بن عثمان ، وحفص بن البختري كلهم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لا بأس بأن ينظر الرجل الى وجهها ومعاصمها إذا
أراد أن يتزوجها .
__________________
فان نفي البأس
مقيد بإرادة التزويج ، ومفهوم الشرط حجة كما بين في موضعه.
وما روي أيضاً
فيه عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليهالسلام قال : استقبل شاب من الأنصار امرأة بالمدينة ، وكان
النساء يتقنعن خلف آذانهن ، فنظر إليها وهي مقبلة ، فلما جازت نظر إليها ودخل في
زقاق قد سماه ببني فلان ، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشق
وجهه ، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على ثوبه وصدره. فقال : والله لآتين
رسول الله صلىاللهعليهوآله ولأخبرنه قال : فأتاه فلما رآه رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : ما هذا؟ فأخبره فهبط جبرئيل عليهالسلام بهذه الآية ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ
اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ) .
وانما ذكرنا
هذه الآية مع هذه الرواية من باب التأييد ، لأن الاستدلال بهذه الآية على ذلك
المطلب موقوف على مقدمات يمكن أن يمنع بعضها :
الاولى أن
اللام مقدر التقدير ليغضوا ، ويبعد أن يكون بتقدير غضوا يغضوا إذ المناسب الفاء مع
أن حذف المقصود وذكر غير المقصود غير موجه. وأيضاً الخبر غير
مناسب إذ مضمونه قد لا يقع.
الثانية : أن
الأمر للوجوب.
والثالثة : أن
الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده.
__________________
الرابعة : أن
النهي للتحريم. وهذه المقدمات بثلاثتها مقررة في الأصول.
الخامسة : أن
المراد غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل ، وهو انما يتمشى على تقدير
كون « من » مزيدة كما جوزه الأخفش ، وهو الاولى بحسب المعنى ، إذ كونها هاهنا
للتبعيض على ما ذهب اليه صاحب الكشاف ومن تبعه يفيد تحريم غض بعض البصر دون البعض
لا بعض المبصر ، وهو المطلوب والمعقول كما أومأنا إليه ، فتأمل.
السادسة : ان
وجه الأجنبية من المبصرات التي وجب غض البصر عنها ، ولا يجوز النظر إليها ، كما
يظهر من الرواية التي وردت في سبب نزول تلك الآية وقد سبقت ، وسيجيء في كلام صاحب
الكشاف في ذيل تفسيرها ما يؤيد ذلك إن شاء الله تعالى. وهذه المقدمة يمكن المناقشة
فيها فتأمل.
ولنا أيضاً
قوله تعالى ( وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها ) .
ففي الكافي عن
زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام في قوله تعالى ( إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها
) قال : الزينة الظاهر الكحل والخاتم .
وعن أبي بصير
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن قول الله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ
مِنْها ) قال : الخاتم والمسكة وهي القلب .
وفي جوامع
الجامع : فالظاهرة لا تجب سترها وهي الثياب الى قوله وعنهم عليهمالسلام : الكفان والأصابع .
__________________
وفي مجمع
البيان : وفي تفسير علي بن إبراهيم الكفان والأصابع .
وفي تفسير علي
بن إبراهيم : وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليهالسلام في قوله « وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها
» فهي الثياب والكحل
والخاتم وخضاب الكف والسوار ، والزينة ثلاث : زينة للناس ، وزينة للمحرم ، وزينة
للزوج ، فأما زينة الناس فقد ذكرناها ، وأما زينة المحرم فوضع القلادة فما فوقها
والدملج وما دونه والخلخال وما أسفل منه ، وأما زينة الزوج فالجسد كله .
ويؤيد ذلك ما
في الفقيه عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليهالسلام قال :
لا ينبغي للمرأة أن
تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن .
فإذا لم يجز
الانكشاف بين أيديهن للعلة المذكورة ، فعدم جوازه بين أيدي الأجانب من الرجال أولى
، ولاشتراك العلة وهي تهييج الميل وتحريك الشهوة وثوران الفتنة.
وفي علل
الشرائع عن محمد بن سنان أن الرضا عليهالسلام كتب فيما كتب من جواب مسائله حرم النظر الى شعور النساء
المحجوبات بالأزواج وغيرهن من النساء لما فيه من تهييج الرجال وما يدعو التهييج
الى الفساد والدخول فيما لا يحل ولا يحمد وكذلك ما أشبه الشعور إلا الذي قال الله عزوجل ( وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ اللّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ
يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ ) غير الجلباب ، ولا بأس
__________________
بالنظر الى شعور مثلهن .
وفي تفسير البيضاوي
( وَقُلْ
لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ ) فلا ينظرن الى ما لا يحل لهن النظر اليه من الرجال
« وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ » بالتستر أو التحفظ عن الزنا ، وتقديم الغض لان النظر
يربد الزنا « وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
» كالحلي والثياب والأصباغ
فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدي له « إِلّا ما ظَهَرَ
مِنْها » عند مزاولة الأشياء كالثياب والخاتم ، فان في سترها
حرجاً.
وقيل : المراد
بالزينة مواضعها على حذف المضاف ، أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية ،
والمستثنى هو الوجه والكفان ، لأنها ليست بعورة ، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في
النظر ، فان كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج ، والمحرم النظر إلى شيء منها
الا لضرورة ، كالمعالجة وتحمل الشهادة انتهى كلامه.
وهو حق كله لا
شبهة فيه ولا مرية تعتريه الا قوله « وتحمل الشهادة » إذ لا ضرورة فيه الى النظر
كما عرفت ، وستعرف إن شاء الله تعالى.
وأما ما ذكره
في الكشاف في تفسير هذه الآية بقوله : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو
خضاب ، فما كان ظاهراً منها كالخاتم والفتخة وهي الحلقة من فضة لا فص لها ، والكحل
والخضاب ، فلا بأس بإبدائه للأجانب.
ثم قال : ان
المراد من الزينة مواقعها ، والصحيح أن العضو كله لا المقدار الذي تلابسه الزينة
منه ، كما فسرت مواقع الزينة الخفية وكذلك مواقع الزينة
__________________
الظاهرة ، الوجه موقع الكحل في عينيه ، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيه
والغمرة في خديه والكف والقدم موقعا الخاتم والفتخة والخضاب بالحناء.
وانما تسومح في
هذه المواضع لان سترها فيه حرج ، لأن المرأة لا تجد بداً في مزاولة الأشياء بيديها
، ومن الحاجة الى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي
في الطرقات ، وظهور قدميها وخصوصاً الفقيرات منهن ، وهذا معنى قوله
« إِلّا ما
ظَهَرَ مِنْها » يعني إلا ما جرت العادة على ظهوره والأصل فيه الظهور .
ففي أكثره بعد
منع ، إذ لا ضرورة داعية الى كشف وجهها في الشهادة والنكاح أما في الشهادة فلما
عرفت.
وأما في النكاح
، فلما رواه في الكافي عن سعيدة قالت : بعثني أبو الحسن عليهالسلام الى امرأة من آل زبير لأنظر إليها أراد أن يتزوجها ،
فلما دخلت عليها حدثتني هنيئة ثم قالت : أدني الصباح فأدنيته لها.
قالت سعيدة :
فنظرت إليها وكان مع سعيدة غيرها ، فقالت : أرضيتن ، قال :
فتزوجها أبو الحسن عليهالسلام وكانت عنده حتى مات عنها ، فلما بلغ ذلك جواريه جعلن
يأخذن بلحيته وثيابه وهو ساكت يضحك لا يقول لهن شيئاً ، فذكر أنه قال :
ما شيء مثل الحرائر .
ولان المدار
بالعلم ، وهو قد يحصل بدون ذلك ، نعم ما ذكره صحيح على مذهبهم ، لما عرفت من قول
أبي الحسن الأول عليهالسلام حيث قال : ولا يجوز عندهم
__________________
أن يشهد الشهود على إقرارها دون أن تسفر فينظر إليها .
وأيضاً لا شبهة
بعد كون الوجه موقع الكحل والوسمة وكونها في شاربيها مع أنا نقول في حالة الضرورة
والحاجة يجوز إبداء الزينة الباطنة فضلا عن الزينة الظاهرة ، كالعلاج للطبيب
والمحاكمة وغير ذلك مما سيجيء ، فان الضرورات تبيح المحذورات ، وانما كلامنا في
حالة الاختيار دون الاضطرار.
وأيضاً ان نظر
الى العادة والظاهر خصوصاً الفقيرات فالعادة ظهور الرقبة بل الصدر والعضدين
والساقين وغير ذلك ، فكلامه كما ترى في أكثر هذه المواضع خارج عن محل النزاع ،
فتأمل.
وبالجملة يظهر
منه أن الأجنبية وان كانت شابة جميلة عيناه صبيحة الوجه ، يسوغ لها أن تكتحل في
عينيها وتتوسم في حاجبيها وشاربيها ، كما هو عادة نساء العرب ، وتغتمر في خديها
ووجنتيها ، وتتخضب في يديها ورجليها ، وتتختم في اصبعيها وتنفتخ بفتخة لابسة
الثياب الفاخرة ، ثم تبرز مع هذه الهيئات والحالات المشوقة والمعشقة للأجانب ،
كاشفة الوجه واليدين بارزة الثياب والرجلين ، كأنها تساق من بيت الى بيت بعلها
ليبني عليها.
ان هذا لشيء
عجيب ، وصدور مثله عن مثله أمر غريب ، فان العقل السليم يأباه ، والطبع المستقيم
لا يرضاه ، فأين غيرة الله مع كونه أغير من رسوله ، ومن غيرته حرم المحرمات ، كما
ورد في الخبر .
وقد روي أن
طلحة بن عبد الله قال : أنهى أن نتكلم بنات عمنا الا من وراء الحجاب لئن مات محمد
لا تزوجن عائشة ، فنزلت « وَما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُؤْذُوا رَسُولَ
__________________
اللهِ
» الآية .
مع أن صاحب
الكشاف قد ذكر في تفسير كريمة « قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ » ان الأجنبية ينظر الى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى
الروايتين وهو كما ترى ينادي بأعلى صوته أن في طريقهم أيضاً رواية
تدل على عدم جواز النظر الى وجهها ، الا أن الجواز فيما بينهم أكثر وأشهر ، وميلهم
إليه أشد وأظهر كما يظهر بالتتبع. وهذا أيضاً مما استظهر به على صحة دعوانا ، كما
ستطلع عليه عن قريب إن شاء الله تعالى.
وقال شيخنا
المقداد في كنز العرفان : وانما قدم غض الطرف على حفظ الفرج لكونه مقدماً عليه
وداعياً الى الجماع. وأما إبداء الزينة ، فقيل : المراد مواقعها على حذف المضاف لا
نفس الزينة ، لأن ذلك يحل النظر إليه ، كالحلي والثياب والأصباغ.
وقيل : المراد
نفسها ، وانما حرم النظر إليها إذ لو أبيح لكان وسيلة إلى النظر الى مواضعها. وأما
ما ظهر منها فليس بمحرم للزوم الحرج المنفي في الدين.
ثم قال وقيل :
المراد بالظاهرة الثياب فقط. وهو الأصح عندي ، لإطباق الفقهاء على أن بدن المرأة
كله عورة الا على الزوج والمحارم ، فعلى هذا المراد بالباطنة الخلخال والسوار
والقرط وجميع ما هو مباشر للبدن ويستلزم نظره نظر البدن.
وأما باقي
الأقوال في ذلك ، فهي أنه الوجه والكفان والكحل والخضاب والخاتم ، وانما سومح فيها
للحاجة إلى كشفها. فضعيفة لا تحقق لها ، فإنه ان
__________________
حصل ضرورة لزم حرج ، فذلك هو المبيح لا الآية ، والا فلا وجه لذلك انتهى كلامه
زيد إكرامه.
والأصح عندي
أيضاً ما هو الأصح عنده وعند القاضي البيضاوي وقد عرفته ويؤيده ما رواه في جامع
الاخبار عن النبي المختار صلىاللهعليهوآله الأخيار أنه قال :
من اطلع في بيت جاره ، فنظر الى عورة رجل ، أو شعر امرأة ، أو شيئاً من جسدها ،
كان حقيقاً على الله أن يدخله النار مع المنافقين الذين كانوا يتجسسون عورات
المسلمين في الدنيا ، ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله ، ويبدي عوراته للناظرين
في الآخرة .
اعلم أن
أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم قد استثنوا من هذه القاعدة مواضع وعللوها بأن
الحاجة قد تقوم سبباً مبيحاً في المحرم لولاها كالمشقة.
منها : النظر
إلى المخطوبة ، ومحله : الوجه والكفان والجسد من وراء الثياب.
ومنها النظر
إلى الإماء ، فينظر الى ما يرى من العبيد. وقيل : ينظر الى ما يبدئ حال الغيبة.
وقيل : يقتصر على الوجه والكفين كالحرة.
ومنها : النظر
إلى المرأة للشهادة عليها والمعاملة إذا احتاج الى معرفتها ، ويقتصر الى الوجه ، قالوا
: والفرق بينه وبين النظر المباح على الإطلاق من وجهين ، أحدهما : تحريم التكرار
في ذلك بخلافه هنا ، فإنه ينظر حتى عرفت ويحرم الزائد. والثاني : أن ذلك قد يصدر
من غير قصد ، حتى قيل بتحريمه مع القصد بخلافه هنا ، فلو خاف الفتنة حرم مطلقاً.
ومنها : نظر
الطبيب والفاصد الى ما يحتاج اليه ، بحيث لا يعد المنكشف
__________________
فيه هتكا للحرمة ويعذر فيه لأجل هذا السبب عادة ، وهو مطرد في جميع الأعضاء
نعم في السوأتين مزيد تأكيد في مراعاة الضرورة.
والظاهر جواز
نظر الشهود الى العورتين ليتحملوا الشهادة على الزنا ، والى فرج المرأة لتحمل
الولادة ، والى الندى لتحمل الإرضاع.
قال في اللمعة
الدمشقية : لا ينظر الرجل إلى الأجنبية إلا مرة من غير معاودة إلا لضرورة ،
كالمعاملة والعلاج والشهادة عليها إذا دعي إليها ، أو لتحقيق الوطء في الزنا وان
لم يدع .
ثم اعلم أنه
يشترط في جواز النظر إلى المخطوبة العلم بصلاحيتها للتزويج بخلوها من البعل والعدة
والتحريم ، وتجويز إجابتها ومباشرة المريد بنفسه ، فلا نجوز الاستنابة وان كان
أعمى ، وأن لا يكون بريبة ولا تلذذ ، والأحوط أن يبعث إليها امرأة لتنظر إليها ثم
تخبر بما رآه منها ، كما فعل أبو الحسن عليهالسلام ، وقد سبق في حديث سعيدة فتذكر.
وشرط بعضهم أن
يستفيد بالنظر فائدة ، فلو كان عالماً بحالها قبله لم يصح ، وهو حسن لكن النص
مطلق. وأن يكون الباعث على النظر ارادة التزويج دون العكس ، بأن يكون النظر باعثاً
لإرادة التزويج. وليس بجيد لان المعتبر قصد التزويج قبل النظر كيف كان الباعث ،
وكأننا قدمنا ما يدل على الموضع الأول من هذه المواضع ، ويزيده بياناً ما في
التهذيب عن يونس بن يعقوب قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة وأحب أن ينظر إليها قال
: تحتجر ثم لتقعد وليدخل فلينظر قال قلت : تقوم حتى ينظر إليها؟ قال : نعم.
__________________
قلت : فتمشي بين يديه؟ قال : ما أحب أن تفعل .
وما في الكافي
عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب الخزاز عن محمد بن مسلم
قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الرجل يريد أن يتزوج المرأة أينظر إليها؟ قال : نعم
انما يشتريها بأغلى الثمن .
وفيه عن ابن
مسكان عن الحسن بن علي السري قال قلت لأبي عبد الله عليهالسلام الرجل يريد أن يتزوج المرأة يتأملها وينظر الى خلفها
والى وجهها ، قال : لا بأس بأن ينظر الرجل إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ينظر
الى خلفها والى وجهها . وسيجيء ما يدل عليه أيضاً.
ويدل على
الموضع الثاني منها ما روي عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يعترض الأمة ليشتريها ، قال : لا بأس أن ينظر
الى محاسنها ويمسها ما لم ينظر الى ما لا ينبغي له النظر إليها .
وأما الموضع
الثالث منها ، فقد عرفت حاله.
وأما الرابع ،
فالضرورات تبيح المحذورات كما سبق ، ويؤيده رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليهالسلام المذكورة في الكافي في باب أن المرأة يصيبها البلاء في
جسدها فيعالجها الرجال ، حيث قال : ويكون الرجال أرفق بعلاجه من النساء ، أيصلح له
أن ينظر إليها؟ قال : إذا اضطرت اليه فليعالجها ان شاءت .
__________________
تأييد
فيه تأكيد
روي أبو بصير
عن الصادق عليهالسلام الرجل تمر به المرأة فينظر الى خلفها ، قال : أيسر
أحدكم أن ينظر إلى أهله وذات قرابته؟ قلت : لا. قال : فارض للناس ما ترضاه لنفسك .
وروى حماد بن
عثمان عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه قال : ما يأمن الذين ينظرون في أدبار النساء أن
ينظر بذلك في نسائهم. هذا ما رواه الصدوق في الفقيه .
وروي في الكافي
في باب ان من عف عن حرم الناس عف حرمه ، في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : أما يخشى الذين ينظرون في أدبار النساء أن يبتلوا
بذلك في نسائهم .
وروي صفوان بن
يحيى عن أبي الحسن عليهالسلام في قول الله عزوجل ( يا أَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ) قال قال لها شعيب : يا بنية هذا قوي قد عرفتيه بدفع
الصخرة ، الأمين من أين عرفتيه؟ قالت : يا أبت إني مشيت قدامه ، فقال : امشي من
خلفي ، فإن ضللت فأرشديني إلى الطريق ، فانا قوم لا ننظر في أدبار النساء .
وفي هذا دلالة
على أن استماع صوت الأجنبيات في حالة الضرورة والحاجة
__________________
أقرب الى الاحتياط من النظر في أدبارهن ، فإذا كان النظر في أدبارهن مكروهة
أو محرمة مع كونها مستورة بأستار وجلابيب شيء ، على ما روي عن النبي صلىاللهعليهوآله قال للزوج ما تحت الدرع ، وللابن والأخ ما فوق الدرع ،
ولغير ذي محرم أربعة أثواب : درع ، وخمار ، وجلباب ، وإزار.
ويدل عليه
أيضاً قوله تعالى ( يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) .
مع ما روي في
وجه نزوله أن رجلا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله خرج من عند أهله فإذا جارية عليها ثياب وهيئة فجلس
عندها فقامت فأهوى بيده الى عارضها فمضت ، فاتبعها بصره ومضى خلفه فلقيه حائط فخمش
وجهه ، فعلم أنه أصيب بذنبه.
فأتى رسول الله
صلىاللهعليهوآله فذكر له ذلك ، فقال : أنت رجل عجل الله عقوبة ذنبك في
الدنيا ، ان الله تعالى إذا أراد بعبد شراً أمسك عنه عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم
القيامة ، وإذا أراد به خيراً عجل له عقوبة ذنبه في الدنيا ونزلت آية الحجاب.
فكيف يجوز
النظر الى وجوههن حال كونها مكشوفة؟ مع ان العرف والعادة شاهدا عدل على ان الشهوة
والرغبة والميل انما تحدث في أغلب أفراد الناس بمجرد النظر الى وجوه الأجنبيات ،
كما دلت عليه بعض الأقوال والاخبار السالفة أيضاً ، وخصوص المبيحات والوجيهات فيهن
، بل بمحض استماع الصوت.
كما روي أن
علياً عليهالسلام كان يكره أن يسلم على الشابة منهن وكان يقول : أتخوف أن
تعجبني صوتها ، فيدخل من الإثم علي أكثر مما أطلب من الأجر. ولا شك
__________________
ان مراده عليهالسلام غيره وان أسند إلى نفسه.
ونهى النبي صلىاللهعليهوآله أن تتكلم المرأة عند غير زوجها وغير ذي محرم لها أكثر
من خمس كلمات مما لا بد لها. وعنهم عليهمالسلام : النساء عي وعورة ، فاستروا العورة بالبيوت واستروا
العي بالسكوت.
وعن علي عليهالسلام أنه قال : للمرأة عشر عورات ، إذا تزوجت استترت عورة
وإذا ماتت استترت عوراتها كلها.
وحكي أن
أعرابياً ماتت ابنته فدفنها ، وقال : الحمد لله الذي سترك بجلوسي على قبرك ، ولم
يهتك سترك بجلوسك على قبري.
فهذه جملة
تأييدية ان نظرت إليها بعين بصيرة وأخذتها بيد غير قصيرة توصلك الى المراد ، ومن
الله التوفيق وبه السداد.
فصل
[
المناقشة في الاخبار الدالة على جواز النظر ]
وأما الاخبار
الواردة في طريقنا الدالة على جواز النظر الى وجه الأجنبية ، فجلها بل كلها مقدوح
سنداً بل بعضها متناً.
مثل ما روي في
كتاب الخصال عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال قلت له : ما للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن له
بمحرم؟ قال : الوجه والكفين والقدمين .
وما روي في
الكافي عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن مروك بن عبيد ، عن بعض
أصحابنا عن أبي عبد الله عليهالسلام قال قلت له :
__________________
ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم تكن محرماً؟ قال : الوجه والكفان
والقدمان .
فهذان الخبران
كما ترى مرسلان ، ولا اعتبار بالمراسيل مطلقاً حتى بمراسيل محمد بن أبي عمير ،
وذلك ثابت في محله من كتب الأصول.
ومثل ما في قرب
الاسناد للحميري عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : سألت الرضا عليهالسلام عن الرجل أيحل له أن ينظر الى شعر أخت امرأته؟ فقال : لا
، الا أن يكون من القواعد. قلت له : أخت امرأته والغريبة سواء؟ قال : نعم قلت :
فما لي النظر اليه منها ، فقال : شعرها وذراعها.
وقال : ان أبا
جعفر مر بامرأة محرمة وقد سترت بمروحة على وجهها ، فأماط المروحة بقضيبه عن وجهها .
قول الراوي «
منها » أي : من المرأة الغريبة.
وقوله عليهالسلام « شعرها » هكذا كان في نسخة عندنا ، والظاهر أنه غلط من
قلم الناسخ ، والأمثل « سوارها » والا كان منافياً لما سبق منه عليهالسلام حيث قال : لا ، الا أن تكون من القواعد ، فتدبر.
ومع ذلك فهذا
الحديث لا يخلو من اشكال ، لمنافاته ما رواه في الكافي عن جميل عن الفضيل قال :
سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الذراعين من المرأة هما من الزينة التي قال الله عزوجل ( وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ ) قال : نعم وما دون الخمار من الزينة وما دون السوارين فتأمل.
ثم اعلم ان
اماطته عليهالسلام المروحة بقضيبه عن وجهها لا تدل على جواز النظر
__________________
إليه ، لأن استتار المرأة وجهها في الإحرام حرام.
قال شيخنا
البهائي في رسالته الاثنا عشرية المعمولة لبيان مناسك الحج في فصل يعد محرمات
الإحرام : الرابع ما يتعلق باللباس والزينة ، وساق الكلام الى أن قال : ولبس
المرأة ما لم تعتد من الحلي ومطلقا للزينة ، وإظهار معتادها للزوج أو المحارم ،
وتغطيتها الوجه ولو بعضه بنقاب ونحوه ، والحناء للزينة ، والاكتحال بالسواد ، وكذا
الرجل فيهما انتهى.
وبالجملة فهو
شيء مخصوص بحالة الإحرام وقد حرم فيها كثير من المباحات وحلل فيها كثير من
المكروهات والمحرمات ، فهو نوع آخر من التكليف ، فتأمل وما فيه أيضاً بإسناده عن
علي بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام قال : سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر اليه من
المرأة التي لا تحل له؟ قال : الوجه والكف وموضع السوار . مع أن تلك
الاخبار يمكن أن تكون واردة مورد التقية ، لموافقتها لفرقة من العامة ، كما سبق.
قال في المعالم
: إذا كان أحد الخبرين مخالفاً للعامة والأخر موافقاً ، يرجح المخالف لاحتمال
التقية في الموافق ، ونقل عن الشيخ أنه إذا تساوت الروايتان في العدالة والعدد عمل
بأبعدهما من قول العامة .
وفي مقبولة عمر
بن حنظلة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات
عنكم ، قال : ينظر فيما وافق حكمه حكم
__________________
الكتاب والسنة وخالف العامة أخذ به قال : جعلت فداك وجدت أحد الخبرين
موافقاً للعامة والأخر مخالفاً لها بأي الخبرين يؤخذ؟ قال : يؤخذ بما يخالف العامة
فإن فيه الرشاد. قلت : جعلت فداك فان وافقهما الخبران جميعاً؟ قال : ينظر الى ما
هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم ، فيترك ويؤخذ بالآخر .
ولا شك أن ميل
هؤلاء العامة إلى جواز النظر الى وجه الأجنبية أشد منه الى عدمه. فهذا وجه يمكن أن
يجمع بين الاخبار الواردة في هذا الباب.
على أنا نقول :
على تقدير التنزل وتسليم صحة بعض الاخبار الدالة على جواز النظر وعدم كونه وارداً
مورد التقية ، نقول : فالأمر دائر بين الإباحة والحرمة ، لتعارض الاخبار بعضها
بعضاً ، فيرجح جانب الحرمة احتياطاً وخروجاً عن عهدة التكليف يقيناً ، وذلك ظاهر
ومبين في محله.
وقد ورد عنهم عليهمالسلام : دع ما يريبك الى ما لا يريبك . وليس بناكب
عن الصراط من سلك طريق الاحتياط. وأمثال ذلك لا يحصى ، وقد أجمع العلماء كلهم على
أنه طريق منج ، ووافق العقل على ذلك أيضاً.
وأيضاً يحتمل
أن يكون المراد بجواز النظر في هذه الاخبار النظر الأول لا التكرار ، كما قال به
بعض الأخيار ، ويدل عليه أيضاً بعض الاخبار ، وقد مر الإشارة إليهما جميعاً.
وقيل : لا يحرم
النظر الى الوجه وغيره الا مع اللذة أو الفتنة أو الريبة ، ويدل عليه ما في الكافي
في مرسلة عبد الله بن الفضل عن أبيه عن رجل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال قلت له : أينظر الرجل إلى المرأة يريد تزويجها
فينظر الى شعرها ومحاسنها؟
__________________
قال : لا بأس بذلك إذا لم يكن متلذذاً .
وهي مردودة
بالإرسال وغيره.
وما روى فيه
أيضاً في صحيحة علي بن سويد قال قلت لأبي الحسن عليهالسلام اني مبتلى بالنظر الى المرأة الجميلة فيعجبني النظر
إليها ، فقال لي : يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيتك الصدق ، وإياك والزنا فإنه
يمحق البركة ويهلك الدين .
ولكنها ليست
بصريحة في جواز النظر الى وجهها وقائله للتأويل على تقديرها وقد مر تأويل نظائرها
، فتذكر.
وما روى فيه
أيضاً عن عبد الله بن ميمون القداح عن أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهمالسلام قال : كان بالمدينة رجلان يسمى أحدهما هيت ، والأخر
مانع ، فقالا لرجل ورسول الله صلىاللهعليهوآله يسمع : إذا افتتحتم الطائف إن شاء الله فعليكم بابنة غيلان
الثقفية ، فإنها شموع بخلاء مبتلة هيفاء شنباء ، إذا جلست تثنت ، وإذا تكلمت غنت ،
تقبل بأربع ، وتدبر بثمان بين رجليها مثل القدح.
فقال النبي صلىاللهعليهوآله : لا أريكما من أولي الإربة من الرجال ، فأمر بهما رسول
الله فغرب بهما الى مكان يقال له : العرايا وكانا يتسوقان في كل جمعة .
وقيل : يحتمل
جواز تكرار النظر للعموم لو لا خلاف الإجماع للصدق عرفاً فتأمل ، وعندي الاجتناب
مطلقاً أولى وأحوط الا من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحاً وهن اللاتي بلغن أسناناً
آيسن من الجماع وآيس الناس أيضاً عنهن ، بمعنى أن لا يكون لهم مطمعاً ولا يكون لهن
مطمعاً أيضاً عادة وعرفاً.
__________________
لكن العلم بذلك
مشكل ، فان الرجال والنساء يتفاوتون في ذلك تفاوتاً كثيراً جداً ، فان بعض الناس
يفعلون بأيديهم بل بالأرض والخشب وأيّة نقبة كانت فليست لقاعد أقل من ذلك. وعلى كل
فلا شك ان الستر والعفاف لهن خير أيضاً لاحتمال ذلك ، وهو ظاهر غير خفي.
وفي مجمع
البيان : هن الشيبات من النساء اللاتي قعدن من التزويج ، لانه لا يرغب في
تزويجهن. وقيل : هن اللاتي ارتفع حيضهن ولا يطمع نكاحهن
« فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ
» يعني الجلباب فوق
الخمار. وقيل : الخمار والرداء. وقيل : ما فوق الخمار من المقانع وغيرها أبيح لهن
القعود بين يدي الأجانب مكشوفة اليد والوجه .
هذا فأما ما
رواه في الكافي عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله عن إسماعيل بن مهران
، عن عبيد بن معاوية بن شريح ، عن سيف بن عميرة ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن
أبي جعفر عليهالسلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : خرج رسول الله صلىاللهعليهوآله يريد فاطمة عليهاالسلام وأنا معه ، فلما انتهينا الى الباب وضع يده عليه فدفعه
، ثم قال : السلام عليكم ، فقالت فاطمة : وعليك السلام يا رسول الله ، قال : أدخل؟
قالت : أدخل يا رسول الله قال : أدخل أنا ومن معي؟ قالت يا رسول الله ليس علي
قناع.
فقال : يا
فاطمة خذي فضل ملحفتك فاقنعي به رأسك ففعلت ، ثم قال : السلام عليكم ، فقالت :
وعليك السلام يا رسول الله ، قال : أدخل؟ قالت : نعم يا رسول الله. قال : أنا ومن
معي؟ قالت : ومن معك.
قال جابر :
فدخل رسول الله ودخلت فإذا وجه فاطمة أصفر كأنه بطن جرادة
__________________
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : مالي أرى وجهك أصفر؟ قالت : يا رسول الله الجوع. فقال
صلىاللهعليهوآله : اللهم مشبع الجوعة ودافع الضيعة أشبع فاطمة بنت محمد.
قال جابر : فو
الله لنظرت الى الدم ينحدر من قصاصها حتى عاد وجهها أحمر فما جاعت بعد ذلك اليوم .
فهو ضعيف بعمرو
بن شمر. قال مولانا ميرزا محمد رحمهالله في الأوسط : عمرو بن شمر ، قرين شمر بن يزيد ، أبو عبد
الله الجعفي الكوفي ، يقال روى عن أبي عبد الله عليهالسلام وعن جابر ضعيف جداً زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب
بعضها اليه والأمر ملتبس « صه » « جش » فلا أعتمد على شيء مما يرويه انتهى.
ومما يدل على
ضعفه وسقوطه عن درجة الاعتبار انا نقول : على تقدير جواز نظر الأجنبي إلى وجه
الأجنبية ، فليس لها أن ينظر إلى الأجانب بوجه لقوله تعالى ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصارِهِنَّ ) فكيف يجوز لفاطمة صلوات الله عليها أن تنظر الى جابر مع
كونه أجنبياً وكونها معصومة وكون الرسول صلىاللهعليهوآله واسطة بينهما في هذا الأمر.
مع ما روى في
الكافي عن أحمد بن أبي عبد الله قال : استأذن ابن أم مكتوم على النبي صلىاللهعليهوآله وعنده عائشة وحفصة ، فقال لهما : قوما فادخلا البيت ،
فقالتا : إنه أعمى. فقال : ان لم يركما فإنكما تريانه .
__________________
وما روى عن أم
سلمة رضياللهعنها في جوامع الجامع وغيره انها قالت كنت عند النبي صلىاللهعليهوآله وعنده ميمونة ، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا
بالحجاب فقال : احتجبا ، فقلنا : يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ، فقال : أفعمياوان
أنتما ألستما تبصرانه .
قال في اللمعة
: يحرم على المرأة أن تنظر إلى الأجنبي أو تسمع صوته إلا لضرورة وان كان الأجنبي
أعمى ، لتناول النهي له ، ولقول النبي صلىاللهعليهوآله لأم سلمة وميمونة لما أمرهما بالاحتجاب من ابن أم مكتوم
وقولهما انه أعمى : أعمياوان ألستما تبصرانه .
الا أن يقال :
ان قضية فاطمة عليهاالسلام كانت قبل نزول الحجاب ، وحينئذ فلا يمكن الاستدلال بهذا
الخبر على ذلك المطلب أصلا فهو لا يضرنا.
وبما ذكرنا
يظهر أن ما روي عن سلمان المحمدي رضياللهعنه وغيره أنهم كانوا يرونها صلوات الله عليها على أحوال
مختلفة وأوضاع متشتتة ، ككونها مشغولة بأمر الاطحان والإرضاع وغيرهما ، كما هو
المشهور بين الأصحاب والمسطور في الصحف والكتاب ، فاما : أن يكون محمولا على ما
قبل الحجاب أو ضعف الأخبار الواردة في هذا الباب ، أو نسبة بينهما مصححة لذلك ،
والله أعلم بالصواب.
فان قيل : هذا
الخبر مجروح من وجه آخر أيضاً ، وهو أنه عليهالسلام مع كونه
__________________
اماماً محدثاً عالماً بعلوم الأولين والآخرين خبيراً بأحوال الماضين
والآتين ، كيف يسوغ له أن يروي عن جابر؟ مع أنه أعلم منه بما رواه عنه ، فهذا
أيضاً مما يوهن به هذا الخبر من هذا الوجه أيضاً ، لأنه يشعر بصدوره عنه عليهالسلام من باب التقية ، والا لكان الاستناد الى نفسه أو الى
أحد من آبائه عليهمالسلام أولى وأليق.
فالجواب عنه :
أن روايته عليهالسلام بعض الأحاديث عن جابر كان لمصلحة وتقية عن أهل المدينة.
لما روي في
مجمع الرجال عن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن حريز ، عن أبان بن تغلب ، قال
: حدثني أبو عبد الله عليهالسلام قال : ان جابر بن عبد الله كان آخر من بقي من أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وكان رجلا منقطعاً إلينا أهل البيت ، وكان يقعد في
مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو معتم بعمامة سوداء ، وكان ينادي يا باقر العلم يا
باقر العلم.
فكان أهل
المدينة يقولون : جابر يهجر. وكان يقول : لا والله ما أهجر ولكن سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : انك ستدرك رجل من أهل بيتي اسمه اسمي ، وشمائله
شمائلي ، يبقر العلم بقراً ، فذاك الذي دعاني الى ما أقول.
قال فبينا جابر
يتردد ذات يوم في بعض طرق المدينة إذ هو بطريق في ذلك الطريق كتاب فيه محمد بن علي
بن الحسين عليهمالسلام ، فلما نظر اليه قال : يا غلام أقبل فأقبل ، ثم قال :
أدبر فأدبر ، فقال : شمائل رسول الله والذي نفس جابر بيده ، يا غلام ما اسمك؟ فقال
: اسمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهمالسلام ، فأقبل عليه يقبل رأسه وقال : بأبي أنت وأمي رسول الله
يقرئك السلام ويقول لك ويقول لك.
قال : فرجع
محمد بن علي عليهماالسلام الى أبيه علي بن الحسين عليهماالسلام وهو ذعر فأخبره الخبر ، فقال له : يا بني قد فعلها جابر؟
قال : نعم. قال : يا بني ألزم بيتك
فكان جابر يأتيه طرفي النهار ، وكان أهل المدينة يقولون : وا عجباه لجابر
يأتي هذا الغلام طرفي النهار ، وهو آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله.
قال : فلم يلبث
أن مضى علي بن الحسين عليهماالسلام فكان محمد بن علي عليهماالسلام يأتيه على وجه الكرامة لصحبته لرسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال : فجلس فحدثهم عن أبيه عليهماالسلام فقال أهل المدينة : ما رأينا أحداً قط أجرأ من ذا ، قال
: فلما رأى ما يقولون حدثهم عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال فقال أهل المدينة : ما رأينا أحداً قط أكذب من ذا
يحدث عمن لم يره ، فلما رأى ما يقولون حدثهم عن جابر بن عبد الله فصدقوه وكان جابر
والله يأتيه يتعلم منه .
فصل
[
حكم نظر المملوك والخصى إلى المرأة ]
ان قيل : ما
معنى قول أصحابنا « ان المرأة لا يجوز أن ينظر إليها مملوكها » وقد قال الله عزوجل ( أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ ) فإن كانوا يتأولون الى الإماء ففيه إشكال ، لأن الإماء
بل النساء على الإطلاق حرائرهن وإمائهن يجوز لبعضهن النظر الى بعض ، فأية فائدة في
الآية على قولهم. وما معنى قوله « ( أَوْ نِسائِهِنَّ ) مع جواز نظر النساء بعضهن الى بعض مطلقاً؟
قلنا : كلام
الشيخ رحمهالله في التبيان يدل على أن المراد بما ملكت أيمانهن الأمة ، وحمل قوله
« أو نسائهن » على نساء المؤمنين. وقال الجبائي : أراد بما
__________________
ملكت أيمانهن مملوكاً لم يبلغ مبلغ الرجال.
وقال في
المبسوط : ان الخصي لا يجوز له النظر الى مالكته ، ونقل عن أصحابنا أن المراد
بالاية الإماء .
وقال محمد بن
مكي في اللمعة : وفي جواز نظر المرأة إلى الخصي المملوك لها أو بالعكس خلاف. قال
الشارح : منشؤه ظاهر قوله تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ ) المتناول بعمومه لموضع النزاع. وما قيل من اختصاصه
بالإماء جمعاً بينه وبين الأمر بغض البصر وحفظ الفرج مطلقاً ، ولا يرد دخولهن في
نسائهن لاختصاصهن بالمسلمات وعموم ملك اليمين بالكافرات. ولا يخفى أن هذا كله خلاف
ظاهر الآية من غير وجه للتخصيص ظاهراً .
وفي الفقيه
والكافي عن محمد بن إسحاق قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام قلت يكون للرجل الخصي يدخل على نسائه يناولهن الوضوء
فيرى من شعورهن قال : لا .
وفي الكافي عن
يونس بن عمار ويونس بن يعقوب جميعاً عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : لا يحل للمرأة أن ينظر عبدها إلى شيء من جسدها
الا الى شعرها غير متعمد لذلك.
وفي رواية أخرى
: لا بأس أن ينظر الى شعرها إذا كان مأمونا .
والأحوط عندي
التحريم مطلقاً ، وتخصيص نسائهن بما قاله الشيخ في التبيان
__________________
من أنه لا يجوز أن ينظر نساء المشركين إلى المرأة المسلمة حتى الوجه
والكفين ، ويجب عليها أن تستر وجهها وكفيها وجميع بدنها عن نظرهن ، كما يجب عليها
سترها من الأجانب.
لما روي عن أبي
عبد الله عليهالسلام أنه قال : لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية
والنصرانية ، فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن .
ونقل في الكشاف
عن ابن عباس أنه هن المؤمنات ، لأن ليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية.
ثم قال : والظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن من في صحبتهن وخدمتهن من
الحرائر والإماء والنساء ، كلهن سواء في حل نظر بعضهم الى بعض وقيل : أو ما ملكت
أيمانهن هم الذكور والإناث جميعاً. وعن عائشة أنها أباحت النظر إليها لعبدها. ثم
قال : المراد بها الإماء ، وهذا هو الصحيح ، لان عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها ،
خصياً كان أو فحلاً .
هذا هو المشهور
والصحيح عندنا أيضاً.
قال سيدنا
الداماد في رسالته الفارسية المسماة بشارع النجاة : الأصح أن الخصي مطلقا مجبوباً
كان أو ممسوحاً لا يجوز له أن ينظر الى مالكته ، ولا لمالكته أن تنظر اليه ، ثم
قال : فلا يجوز له أن يدخل الحمام مع مالكته وان كانا مستوري العورية انتهى.
ولكن في بعض
الاخبار ما يدل على خلاف ذلك ، مثل ما روى في الكافي عن عبد الرحمن بن أبي عبد
الله قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن المملوك يرى شعر مولاته ، قال : لا بأس .
__________________
وما روى عن
معاوية بن عمار قال : كنا عند أبي عبد الله عليهالسلام نحواً من ثلاثين رجلا إذ دخل أبي ، فرحب أبو عبد الله عليهالسلام وأجلسه الى جنبه فأقبل عليه طويلا ، ثم قال أبو عبد
الله عليهالسلام ان لأبي معاوية حاجة فلم خففتم ، فقمنا جميعاً فقال لي
أبي : ارجع يا معاوية ، فرجعت فقال أبو عبد الله عليهالسلام : هذا ابنك؟ قال : نعم وهو يزعم أن أهل المدينة يصنعون
شيئاً لا يحل لهم ، قال : وما هو؟ قلت : ان المرأة القرشية والهاشمية تركب وتضع
يدها على رأس الأسود وذراعيها على عنقه.
فقال أبو عبد
الله عليهالسلام : يا بني أما تقرأ القرآن؟ قلت : بلى. قال : اقرأ هذه
الآية ( لا جُناحَ
عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ ) ـ حتى بلغ ـ ( وَلا ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ ) .
ثم قال : يا
بني لا بأس أن يرى المملوك الشعر والساق .
وما روي عنه
أيضاً قال قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : المملوك يرى شعر مولاته وساقها ، قال : لا بأس .
وما روي عن
محمد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن قناع الحرائر من الخصيان ، قال : كانوا يدخلون على
بنات أبي الحسن عليهالسلام ولا يتقنعن ، قلت : فكانوا أحراراً؟ قال : لا ، قلت :
فالأحرار يتقنع منهم؟ قال : لا .
وهذه الاخبار
بعضها غير نقي الرجال ، فان من رجالها محمد بن إسماعيل ، وهو مشترك بين أربعة عشر
رجلا ، بعضهم موثق وبعضهم لا وثوق به ، ومع الاحتمال فالجرح مقدم على التعديل كما
لا يخفى.
__________________
ومع ذلك فكلها
محمولة على التقية ، لميل خلفاء بني العباس وسائر سلاطين الجور وحكامهم وقضاتهم الى ذلك ، كما هو
المعمول والمتداول بينهم الان أيضاً ، فتأمل.
فائدة
قال سيدنا
الداماد قدس الله روحه في الرسالة المذكورة : الخنثى المشكل لا يجوز له أن ينظر
إلى أجنبي ولا إلى أجنبية ، وكذلك لا يجوز لهما أن ينظر إليه إجماعاً ، ثم قال :
فلا يجوز له أن يجتمع في الحمام مع الأجانب ولا الأجنبيات انتهى.
والوجه في ذلك
مع قطع النظر عن الإجماع ظاهر مكشوف فتأمل.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (٥) ذي الحجة سنة (١٤١٠) هـ ـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(١٢)
|
|
رسالة
خمسية
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد إسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهديّ الرّجائي
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي
جعل إخراج الخمس مفتاحاً للرزق ، وتمحيصاً للذنوب ، والصلاة على رسوله الذي أكرمه
وقبيله به محمد محبوب القلوب ، وعلى آله الطيبين الطاهرين من دنس الخطايا والعيوب.
وبعد : فلما
كانت مسألة الخمس وحكمه حال غيبة الإمام عليهالسلام من المطالب الجليلة ، ومن مهمات المسائل الفقهية ، وقد
اختلف فيها كلام الأصحاب ، فذهب كل فريق منهم الى مذهب :
فمنهم : من ذهب
الى سقوط فرضه ، لما ورد من الرخص فيه ، فزعم عمومه أنواعاً وأزماناً ، الا أنه
يرى صلة الذرية وفقراء الشيعة على وجه الاستحباب.
وذهب بعضهم الى
ثبوته ووجوب دفنه ، وعليه نزل خبراً ورد أن الأرض تظهر كنوزها عند ظهور الامام . وأنه عليهالسلام إذا قام دله الله تعالى على الكنوز فيأخذه من كل مكان .
__________________
ومنهم : من ذهب
الى وجوب حفظه ، ثم الوصية به حين ظهور امارة الموت وهكذا وصية بعد وصية الى أن
يصل الحق إلى مستحقه ، واحتج عليه : بأنه حق وجب لصاحب لم يرسم فيه قبل غيبته حتى
يجب الانتهاء اليه ، فوجب حفظه عليه الى وقت إيابه والتمكن من إيصاله اليه ، أو
وجود من انتقل الحق إليه.
قال : ويجري
ذلك مجرى الزكاة التي يعدم عند حلولها مستحقها ، فلا يجب عند عدم ذلك سقوطها ، ولا
يحل التصرف فيها على حسب التصرف في الاملاك ويجب حفظها بالنفس أو الوصية بها الى
من يقوم بإيصالها إلى مستحقها من أهل الزكاة من الأصناف ، وهذا قياس معه فارق
سيأتي.
ولعل هؤلاء
ذهبوا الى أن الخمس كله حق الامام عليهالسلام ، ولم يدروا أن خصوص خمس الأرباح حقه ، كما يشعر به بعض
أخبار يأتي إن شاء الله تعالى ذكره.
ومنهم : من ذهب
الى وجوب صرف نصفه إلى الأصناف وحفظ ما يختص به عليهالسلام بالوصاية أو الدفن.
واليه أشار
العلامة في المختلف بقوله : والقول بإبقاء الجميع الى من يوثق به عند إدراك المنية
لا يخلو من ضعف ، لما فيه من منع الهاشميين من نصيبهم مع شدة حاجتهم وكثرة فاقتهم
، وعدم ما يتعوضون به من الخمس ، والأقرب قسمة الخمس نصفين ، فالمختص باليتامى
والمساكين وأبناء السبيل من آل محمد يفرق فيهم على حسب حاجتهم ، والمختص بالإمام عليهالسلام يحفظ له الى أن يظهر فيسلم اليه : اما بإدراكه ، أو
بايصاء من ثقة إلى ثقة الى أن يصل اليه عليهالسلام ، الى هنا كلامه.
والذي عليه
المتأخرون صرف الكل إلى الأصناف الموجودين مع احتياجهم
إليه ، لرواية مرفوعة ، واخرى مرسلة وردتا بوجوب إتمام كفايتهم عليه عليهالسلام.
حيث قال في
الأولى : فهو يعطيهم على قدر كفايتهم ، فان فضل شيء فهو له ، وان نقص عنهم ولم
يكفهم أتمه لهم من عنده ، كما صار له الفضل كذلك [ يلزمه ] النقصان .
وقال في
الثانية : ونصف الخمس الباقي بين أهل بيته : سهم لأيتامهم ، وسهم لمساكينهم ، وسهم
لأبناء سبيلهم ، يقسم بينهم على الكفاف والسعة ما يستغنون به في سنتهم ، فان فضل
عنهم شيء [ يستغنون عنه ] فهو للوالي ، وان عجز أو نقص عن استغنائهم كان على
الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به ، وانما صار عليه أن يمونهم لان له ما
فضل عنهم .
قالوا : وإذا
كان هذا ، أي : وجوب إتمام المحتاجين اليه من حصته مع ظهوره لازماً له حال حضوره ،
كان لازماً له حال غيبته ، لأن الحق الواجب لا يسقط بغيبة من يلزمه ذلك ، ويتولاه
المأذون له على سبيل العموم ، وهو الفقيه المأمون من فقهاء أهل البيت عليهمالسلام.
وهذا القول لما
كان مبنياً على أصل غير ثابت لما في سنده من الضعف فهو ضعيف ، كيف لا؟ ومستنده
خبران مرسلان ، وخبر الواحد لو كان مسنداً لكان في كونه حجة خلاف ، فكيف إذا كان
مرسلا ، فإنه ليس حجة قطعاً.
وذهب صاحب
المدارك فيه الى إباحة حصة الامام وما يختص به عليهالسلام ، وتبعه في ذلك صاحب مفاتيح الشرائع فيه ، وسيأتي
مفصلا إن شاء الله العزيز.
__________________
أردت الإشارة الى
ما هو الأظهر والأقوى عندي.
فأقول وأنا
أحوج العباد إلى رحمة ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر بإسماعيل عفى
الله عن جرائمهم بمحمد وآله وقائمهم : هذه رسالة خمسية محتوية على مقدمة وفصول
أربعة وخاتمة :
أما المقدمة ،
ففي تعريف الخمس ، ومنه يتبين من يستحقه.
وأما الفصل
الأول ، ففي إثبات وجوب الخمس في هذا الزمان فيما يوجد عند الشيعة من أرباح
تجاراتهم ومكاسبهم ومعادنهم وما يستفيدونه من الفوائد.
وأما الفصل الثاني
، ففي بيان أن القول بسقوط الخمس مطلقاً أو سقوط خصوص حق الامام عليهالسلام ضعيف.
وأما الفصل
الثالث ، ففي بيان أن القول بوجوب الوصية به وبدفنه أيضاً ضعيف.
وأما الفصل
الرابع ، ففي تعيين من له الولاية في تقسيم الخمس في المحاويج وأما الخاتمة ، ففي
بيان ضعف القول بتحريم تفريقه مطلقا على المحتاجين وغيره.
المقدمة
[
تعريف الخمس ]
قال الشيخ
الجليل صاحب كنز العرفان فيه : الخمس اسم لحق يجب في المال يستحقه بنو هاشم .
__________________
وهو غير مانع
لصدقه على ما لو نذر لهم ناذر مالا مثلا ، فإنه حق يجب في المال يستحقه بنو هاشم
ولا يسمى خمساً ، وان لاحظ فيه الناذر كونه عوضاً عن الزكاة التي لا تحل لهم. فلا
بد لإخراجه من قيد بالأصالة.
كما في الدروس
: الخمس حق يثبت في الغنائم لبني هاشم بالأصالة عوضاً عن الزكاة .
وشرح الشرائع :
هو حق مالي يثبت لبني هاشم في مال مخصوص بالأصالة عوضاً عن الزكاة.
فالحق بمنزلة
الجنس يشمل الزكاة وغيرها ، وخرج بـ « المال » غيره كالولاية الثابتة للإمام على
رعيته ، وفيه أنه مستدرك لا حاجة إليه في إخراجها ، لأنها ليست حقاً يثبت في مال
مخصوص عوضاً عن الزكاة ، فذكرهما مغن عن ذكره ، ولعله لذلك لم يذكره في الدروس.
وبالجملة فهذا
القيد ان كان محتاجاً إليه في التعريف ، فما في الدروس مختل ، والا فهو مستدرك ،
نعم لو لا قوله « في مال مخصوص » كما في المدارك :
الخمس حق مالي يثبت
لبني هاشم بالأصل عوض الزكاة لاحتاج إليه في إخراجها وليس فليس.
وخرج بـ « بني
هاشم » حق الزكاة وخرج بنو المطلب ، فقد قيل باستحقاقهم له ، منهم ابن الجنيد
والمفيد في الرسالة الغرية : بنو المطلب يعطون من الخمس.
والأكثر على
منعه ، وهو الأقوى ، كما أشار بقيد العوضية الى أن الله سبحانه فرض الخمس للرسول
وقبيلة إكراماً لهم وتعويضاً عن الزكاة التي هي أوساخ الناس.
وظهر مما
ذكرناه أن تعريف المدارك أجود من غيره. أما من الأول والثالث
__________________
فظاهر. وأما من الثاني فلان الغنيمة مشتركة بين معان : منها الفائدة والنفل
هذا أصلها ، وفي اصطلاح جماعة : المأخوذ من الكفار ان كان من غير قتال فهو فيء ،
وان كان معه فهو غنيمة ، وهو مذهب أصحابنا والشافعي ومروي عن الباقرين عليهماالسلام وقيل : هما بمعنى.
ثم ان أصحابنا
عمموا موضعها بأنه جميع ما يستفاد من أرباح التجارات ، والزراعات ، والصناعات
زائداً عن مئونة السنة ، والكنوز ، والمعادن ، والغوص والحلال المختلط بالحرام ولا
يتميز المالك ولا القدر من الحرام ، وأرض الذمي إذا اشتراها من مسلم وما يغنم من
دار الحرب.
وعند فقهاء
العامة : الغنيمة ما أخذ من دار الحرب لا غير.
ومن المقرر ترك
استعمال الألفاظ المشتركة والمجازية في التعريف ، وارادة المعنى اللغوي الأعم من
غنائم دار الحرب وغيرها لا قرينة عليها واضحة.
وإذ قد عرفت
هذا فنقول : لا خلاف في من أبوه هاشمي وان كانت أمه غير هاشمية أنه يستحق الخمس
وتحرم عليه الزكاة.
إنما الخلاف في
من أمه هاشمية وأبوه غير هاشمي ، فاختار الشيخ في المبسوط والنهاية المنع من
الخمس وجوز له أن يأخذ الزكاة ، واختاره ابن إدريس وابن حمزة .
__________________
وذهب السيد
المرتضى الى أن ابن البنت ابن حقيقة ، ومن أوصى بمال لولد فاطمة دخل فيه أولاد بنيها وأولاد
بناتها حقيقة. وكذا لو وقف على ولدها دخل فيه ولد البنت ، لدخول البنت تحت الولد.
واحتج عليه
بأنه لا خلاف بين الأمة في أن بظاهر قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ) حرم علينا بنات أولادنا ، فلو لم تكن بنت البنت بنتاً
على الحقيقة لما دخلت تحت هذه الآية.
وهو احتجاج
متين لا يتوجه عليه ما قيل من أن الاستعمال كما يوجد في الحقيقة كذا يوجد مع
المجاز ، فلا دلالة له على أحدهما بخصوصه ، وقولهم « ان الأصل في الاستعمال
الحقيقة » انما هو إذا لم يستلزم ذلك الاشتراك ، والا فالمجاز خير منه.
لان حاصل
الاحتجاج أن ولد الولد لو لم يكن ولداً حقيقة بل كان ولداً مجازاً لما اقتضت الآية
تحريم بنت البنت على جدها ، لان الولد المجازي ليس بولد حتى يكون حراماً ، وهو
خلاف إجماع الأمة ، فالقول بأن إطلاق اسم الولد على ولد الولد ليس على الحقيقة بل
هو مجاز ، مخالف لما دل عليه ظاهر الآية وإجماع الأمة وقد جاء في أخبار كثيرة «
فقلت يا بن رسول الله ».
__________________
قال بعض
الأفاضل : ظاهره أن ولد البنت ولد حقيقة ، لأنه إنما يقال في مقام المدح والتعظيم
والتفضيل ، ولا فضيلة ولا تعظيم ولا مدح في وصف مجاز مستعار ، كوصف زيد بحسن غلامه
وغنا جاره ، وجالس السفينة بحركتها.
وبالجملة مذهب
السيد سديد جديد متين مكين عليه من الشواهد والآيات والروايات كثيرة ، قد ذكرنا
طرفاً صالحاً منها في رسالة لنا مفردة في ترجيح مذهبه ، فمن أراده فليطلبه من هناك.
وأما مذهب
الشيخ فلا دليل عليه غير ما رواه حماد بن عيسى عن بعض أصحابه عن العبد الصالح أبي
الحسن عليهالسلام أنه قال : ومن كانت امه من بني هاشم وأبوه من سائر قريش
، فإن الصدقة تحل له وليس له من الخمس شيء ، لأن الله يقول ( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) .
وهو كما ترى
مرسلة ، والمراسيل مطلقاً وان كانت من مراسيل محمد بن أبي عمير لا يسوغ العمل بها
، كما فصله الشهيد الثاني في دراية الحديث ، فهي لا تقاوم الأخبار الكثيرة الدالة على أن ابن
البنت ابن حقيقة ، خصوصاً خبر موسى بن جعفر وابنه الرضا عليهمالسلام واستدلالهما بالآيات.
ومنها : ما
رواه ثقة الإسلام محمد بن يعقوب في الروضة عن عدة من أصحابه عن أحمد بن محمد بن
خالد عن الحسن بن طريف عن عبد الصمد بن بشير عن أبي الجارود.
وابنا طريف
وبشير موثقان ، وأما أبو الجارود فقال ابن الغضائري : حديثه في أصحابنا أكثر منه
في الزيدية ، وأصحابنا يكرهون ما رواه محمد بن سنان عنه
__________________
ويعتمدون ما رواه محمد بن بكر الارجني .
ويظهر منه أن
زياد بن المنذر أبا الجارود في نفسه معتمد عليه عند الأصحاب ، وانما لا يعتمدون
على بعض أحاديثه باعتبار من رواه عنه ، وهو ابن سنان بناءً على المشهور من ضعفه.
والحق أنه ثقة
صحيح لا بأس برواياته إذا لم يكن في الطريق قادح من غير جهته ، كما صرح به بعض
أرباب الرجال ، وفصلناه في بعض رسائلنا على أن ضعفه لا يضر هنا ، إذ ليس هو من
رجال السند.
ومنه يظهر أن
الراوي عن أبي الجارود غير منحصر في محمدين المذكورين كما يفيده ظاهر كلام ابن
الغضائري. نعم في أحمد بن خالد البرقي كلام كما سيأتي.
قال أبو
الجارود قال أبو جعفر عليهالسلام : يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين؟ قلت
: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله ، قال : فأي شيء احتججتم عليهم؟ قلت :
احتججنا عليهم بقول الله عزوجل في عيسى بن مريم ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ
داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيى وَعِيسى ) جعل عيسى بن مريم من ذرية نوح عليهالسلام.
أقول : نظير
هذا الاحتجاج احتجاج السيد السند المرتضى بقوله : ولا خلاف بين الأمة في أن عيسى
من بني آدم وولده ، وانما ينسب إليه بالأم دون الأب. وهذا أيضاً احتجاج متين ، إذ
لا معنى للقول بأن عيسى ليس من بني آدم حقيقة بل هو من بنيه مجازاً ، والخطاب في
قوله تعالى( يا أَيُّهَا النّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ
__________________
الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) يعم عيسى وغيره ، فكما أنهم من بني آدم وولده فكذلك هو.
ولنرجع الى نقل
تتمة الحديث ، قال : فأي شيء قالوا لكم؟ قلت : قالوا قد يكون ولد الابنة من الولد
ولا يكون من الصلب. قال : فأي شيء احتججتم عليهم؟ قلت : احتججنا بقول الله تعالى
لرسول الله ( فَقُلْ تَعالَوْا
نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا
وَأَنْفُسَكُمْ ) قال : فأي شيء قالوا؟ قلت قالوا : قد يكون في كلام
العرب أبناء رجل وآخر يقول أبناؤنا.
قال فقال أبو
جعفر عليهالسلام : يا أبا الجارود لأعطينكها من كتاب الله عزوجل انهما من صلب رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يردهما الا كافر ، قلت : وأين ذلك جعلت فداك؟ قال :
من حيث قال الله عزوجل ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ ) الآية الى أن ينتهي إلى قوله تبارك وتعالى ( وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ ) فاسألهم يا أبا الجارود هل يحل لرسول الله نكاح
حليلتهما ، فان قالوا نعم كذبوا وان قالوا لا ، فهما ابناه لصلبه . انتهى
الحديث.
وهو مما يدل
على أن ولد البنت ولد حقيقة. وبمعناه من الأحاديث كثير ، وهو غير بعيد.
وقال بعض
الأفاضل : لا بعد في كون ولد الولد ولداً حقيقة لغة وان خالفه العرف ، فما يقع في
الوقف وغيره مما هو بلفظ « ولدي » لا يتناول ولد الولد حكمه ، إذ العرف يحكم في
مثله دون اللغة.
__________________
أقول : لا حاجة
بنا الى هذا وأمثاله فإنا نقول : بعد ما ثبت بالآيات والروايات الكثيرة أن ولد
البنت ولد حقيقة ويكون ابناً لصلبه ، فمن أمه هاشمية فهو هاشمي وان لم يكن أبوه
هاشمياً ، لانه ولد جده الأمي لصلبه وهو هاشمي ، فهو أيضاً هاشمي لأن ولد الهاشمي
من صلبه هاشمي بلا شبهة ، وكل هاشمي يستحق الخمس وتحرم عليه الزكاة سمي هاشمياً
عرفاً أم لا ، لان الشرع مقدم على العرف ، كما أن العرف مقدم على اللغة ، فإذا ثبت
أنه هاشمي شرعاً فهو هاشمي يحل له الخمس ويترتب عليه سائر أحكام الهاشميين.
وانما ألحق في
ذلك بالأم دون الأب ، لأن الولد تابع لا شرف أبويه ، كما يقال في العرف شاهزاده
لمن تكون امه من الشاة وان لم يكن أبوه منه.
ولما ذكره
الأطباء ان قلنا ان مني الذكر لا يصير جزءاً من الجنين ، فحينئذ يكون بدن المولود
متكوناً بكليته من مني الام ودم الطمث ، وان قلنا انه يصير جزءاً منه الا أنه يكون
كالإنفحة ومني الام يكون كاللبن ، فلا شك أن مادة الأم أكثر ، ثم ذلك المتكون انما
ينمي بالدم الذي ينفصل عن الام ، فعلى جميع التقادير أكثر الأجزاء التي منها يتولد
الجنين منفصلة عن الام ، وذلك يقتضي أن تكون مشابهة الولد للأم أكثر من مشابهته
للأب.
ولهذا قال عليهالسلام : تخيروا لنطفكم فان الولد أكثر ما يشبه من الأخوال .
ثم انهم اتفقوا
على أن مني الذكر فيه قوة عاقدة ، واختلفوا في أنه هل فيه قوة منعقدة حتى يصير
جزءاً من بدن الجنين أو لا حتى لا يصير جزءاً منه؟ فالحكماء أنكروه مستدلين عليه
بأن مني الرجل فيه قوة عاقدة ، فلا يكون فاعلا وقابلا ، كذا في شرح القطبي.
وبما قررناه
سابقاً يندفع ما احتجوا به على إثبات مذهب الشيخ من أن
__________________
الانتساب حقيقة إنما يصدق إذا كان من جهة الأب عرفاً ، فلا يقال تميمي إلا
لمن انتسب الى تميم بالأب ، ثم أيدوه بقول الشاعر :
بنونا بنو
أبنائنا وبناتنا
|
|
بنوهن أبناء
الرجال الأباعد
|
مع أن بني
أبنائهم ليسوا ببنيهم حقيقة على زعمهم ، وما الكلام الا فيها.
وذلك أن المفيد
وابن البراج وأبا الصلاح لما قالوا بشمول اسم الولد لولد الصلب وولد الولد ، بدليل
قوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) فإن أولاد الأولاد داخلون قطعاً ، وكذا قوله تعالى ( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) وكذا قوله ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ) الى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة منعوه بأن الولد
حقيقة في ولد الصلب المتكون من النطفة المتولد منها ومجاز في ولد الولد ، بدليل
أنه يصح سلبه ، فيقال انه ليس بولدي بل ولد ولدي ، وصحة النفي دليل المجاز ،
ولظاهر قوله تعالى ( وَوَصّى بِها
إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ) في قراءة من نصب.
ولا يرد أنه من
عطف الخاص على العام ، لان الكلام إذا دار بين التأسيس والتأكيد فالتأسيس خير.
وضعفوه أيضاً
بأنهم إن ادعوا شمول هذه لولد الولد بطريق الحقيقة ، فهو مردود بما بيناه من صحة
السلب ، ولانه لو كان حقيقة في هذا المعنى أيضاً لزم الاشتراك والمجاز خير منه.
وان أرادوا أنه بطريق المجاز لم يثبت مدعاهم.
أقول : فكيف
أيدوه بقول الشاعر؟ وهو صريح في أن ولد الولد ولد ، إلا
__________________
أنه فرق بين ولد الابن والبنت ، فجعل الأول من الأولاد دون الثاني ، وهو
فرق بارد ، إذ كما يصح في الثاني سلبه ، فيقال : انه ليس بولدي بل ولد ولدي فكذا
في الأول ، وكما أن الثاني حاصل من الولد ومن غيره ، فكذا الأول من غير فرق ، على
أن من يقول بأن ولد الولد ولد حقيقة لا يسلم صحة السلب. والقول بأنه ليس بولدي فإن
ولد الولد ولد عنده حقيقة ويكون لصلبه ، فلا يصح النفي عنده حتى يكون دليل المجاز.
قيل : ويمكن
الاستدلال على كون الإطلاق هنا على سبيل الحقيقة شرعاً أو لغة بما رواه الشيخ في
الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام أنه قال : لو لم يحرم على الناس أزواج النبي صلىاللهعليهوآله لقوله عزوجل ( ما كانَ لَكُمْ أَنْ
تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ ) حرم على الحسن والحسين عليهماالسلام لقوله عزوجل ( وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) .
دلت الرواية
على أن أب الأم أب حقيقة ، إذ لو لا ذلك لما اقتضت الآية تحريم زوجة الجد على ولد
البنت ، فيكون ولد البنت ولداً حقيقة للتضايف بينهما كما هو واضح ، مع أنك قد عرفت
في حديث أبي الجارود من استدلال الباقر عليهالسلام أن ولد الولد ولد لصلبه فيكون ولداً حقيقة ، فلا يصح
سلبه ولا يلزم الاشتراك.
واعلم أن
القراءة المشهورة هي رفع يعقوب عطفاً على إبراهيم يعني أنه أيضاً وصى بها بنيه ،
وهو الظاهر. على أن المشهور بين الطلبة أنه إذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال. هذا
وان شئت مزيد معرفة بذلك ، فعليك بما فصلناه في الرسالة ،
__________________
والله الموفق والمعين.
الفصل
الأول
[
إثبات وجوب الخمس في هذا الزمان مطلقا ]
قال صاحب
مفاتيح الشرائع فيه : المستفاد من الاخبار الواردة في باب الخمس أنهم عليهمالسلام جعلوا شيعتهم منه في حل .
ونقل عن ابن
الجنيد أنه قال : لا يصح التحليل الا لصاحب الحق في زمانه ، إذ لا يسوغ تحليله ما
يملكه غيره.
وقال المحقق في
المعتبر : وهذا ليس بشيء لأن الإمام لا يحل الا ما يعلم أن له الولاية في تحليله
، ولو لم يكن له ذلك لاقتصر في التحليل على زمانه ولم يقيده بالدوام .
أقول : ظاهر
كلام ابن الجنيد يفيد الرد على الفريقين : من قال بإباحة الخمس كله في هذا الزمان
، ومن قال بإباحة نصيب الامام عليهالسلام.
وهو الظاهر مما
نقله العلامة في المختلف بقوله وقال ابن الجنيد : وتحليل ما لا يملك جميعه عندي
غير مبرئ من وجب عليه حق منه لغير المحلل ، لان التحليل انما هو مما يملكه المحلل
لا مما لا ملك له ، وانما إليه ولاية قبضه وتفريقه في الذين سماه الله لهم.
أقول : وهذا
يدل على أن الامام عليهالسلام لا يصح له تحليل نصيب الأصناف الذين في زمانه أيضاً
فضلا عن غيرهم والأئمة من بعده عليهمالسلام ، لاشتراك الكل في الدليل ،
__________________
كما أشار إليه بقوله : واحتج ابن الجنيد بأن التحليل انما يكون بما يختص
بالمحلل ، إذ لا يسوغ تحليل ما ليس بمملوك له ، إذ هو تصرف في ملك الغير بغير
اذنه.
وأجاب عنه
العلامة بأن الامام عندنا معصوم ، وقد ثبت إباحة ما أباحوه مطلقا ، وهو لا يفعل
غير السائغ ، فوجب أن يكون سائغاً ، ولا نسلم أن باقي الأصناف يملكون النصيب من
الخمس ملكاً مستقراً ، وانما الآية سيقت لبيان المصرف ، فله التصرف فيه بحسب ما
يراه من المصالح.
أقول : لا شك
أن الأئمة من بعد المحلل يملكون نصيبهم من الخمس كهو ، لعدم الفرق في ذلك بينهما ،
فوجب أن لا يسوغ له تحليل نصيبهم بغير إذنهم.
ثم أية مصلحة
في تحليل نصيب الشركاء الهاشميين لغيرهم مع شدة حاجتهم وكثرة فاقتهم وعدم ما
يتعوضون به من الخمس؟ وقد سبق أن الله سبحانه فرض الخمس للرسول وقبيلة إكراماً لهم
وتعويضاً عن الزكاة التي هي أوساخ الناس.
ثم ظاهر الآية
يفيد أنهم يملكون نصيبهم ملكاً مستقراً ، وكونه لبيان المصرف خلاف الظاهر فلا يصار
اليه ، وانما صير إليه في آية الزكاة للدليل ، وهو هنا منتف ، ولا كلام في أن
الامام معصوم لا يفعل غير السائغ.
وانما الكلام
في أنه هل فعل ذلك ـ أي : إباحة كله ، أو خصوص نصيب من بعده من الأئمة ـ كلا أو
بعضاً؟ الظاهر لا إلا في شيء أو شيئين ، لدلالة الأخبار الكثيرة عليه كما تأتي.
وليس فيها فيما
علمناه ما يدل على دوام التحليل ، الا خبر عمر بن يزيد عن أبي سيار عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : وكل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم منه
محللون يحل لهم ذلك الى أن يقوم قائمنا. وهذا ورد في خصوص الأرض والمدعى
أعم من ذلك .
ومثله رواية
أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال ، وفيه كلام يأتي ، فإنها وان صرح فيها بتحليل ما فيها
الى يوم القيامة الا أنها دلت على إباحة أن نتصرف في أرباح تجارات المخالفين
وعطيتهم وفي مهر الزوجة والميراث ، وعلى إباحة جارية نشتريها ممن لا يرى وجوب
الخمس ، وهذا كله خارج عما نحن بصدده من وجوب الخمس فيما يوجد عند الشيعة من أرباح
تجاراتهم ومكاسبهم ومعادنهم وما يستفيدونه من الفوائد.
ومما يدل
بظاهره على أن التحليل مقصور على زمان المحلل موثقة يونس ابن يعقوب وستأتي.
قال الفاضل
العلامة في المختلف : هذه رواية موثقة.
قال الفاضل
الأردبيلي في شرح الإرشاد : وليست بظاهرة لوجود محمد بن سنان أو محمد بن سالم على
اختلاف النسخ ، والأصح الأول .
أقول : محمد بن
سنان وان كان على المشهور ضعيفاً الا أنه على ما تقرر عندنا وصرح به بعض الأفاضل
وله قدم صدق في الرجال ثقة إمامي.
والسند في
التهذيب هكذا : سعد عن أبي جعفر عن محمد بن سالم ، وفي نسخة سنان عن يونس بن يعقوب
.
وفي مشيخة
الفقيه هكذا : وما كان فيه عن يونس بن يعقوب ، فقد رويته عن
__________________
أبي رضياللهعنه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن
الحكم بن مسكين عن يونس بن يعقوب البجلي .
قال ملا عناية
الله القهبائي في مجمع الرجال بعد نقله السند : موثق .
والظاهر أن نظر
الفاضل في المختلف كان على ما في الفقيه ، وذهل عنه الفاضل الأردبيلي ، أو كان ابن
سنان عنده موثقاً ، كما يظهر من نقله في الخلاصة عن الشيخ المفيد أنه ثقة فالسند عنده
على الكتابين موثق.
هذا على تقدير
وجود ابن سنان في طريق التهذيب ، وأما على نسخة ابن سالم فالسند موثق بالاتفاق ،
لانه وان كان فطحياً كيونس بن يعقوب الا أنه من أجلة العلماء والفقهاء والعدول.
نعم في أحمد بن
محمد بن عيسى ، وهو المراد بأبي جعفر المذكور في طريق التهذيب ، كما صرح به ملا
ميرزا محمد في الأوسط في الفائدة الثانية بقوله : ذكر الشيخ وغيره في كثير من
الاخبار سعد بن عبد الله عن أبي جعفر ، والمراد بأبي جعفر هذا هو أحمد بن محمد بن
عيسى كلام ، وسيأتي إليه إشارة إجمالية.
ولكن عدم كونه
موثقاً في التهذيب لا يضر ، لكونه موثقاً في الفقيه كما صرح به ، وذلك أن ابن
مسكين المكفوف صاحب أصل وكتب رواهما عنه جماعة من الثقات ، وهو من أصحاب سيدنا أبي
عبد الله الصادق عليهالسلام وروى عنه جماعة.
وقد تقرر أن
الرجل إذا كان صاحب أصل أو كتاب أو راوياً عن أحد منهم عليهمالسلام أو عن معتبر ، أو يروي عنه المعتبر مع عدم التصريح بذم
فيه ، فهو معتبر ممدوح وقد جمع كل ذلك في ابن المسكين ، فيكون ممدوحاً مدحاً كلياً
معتبراً عندهم
__________________
ولذلك حكم صاحب مجمع الرجال بكون السند المذكور موثقاً.
وقال ملا مراد
التفرشي قدسسره في تعليقاته على مشيخة التهذيب : وظني أن من تحقق كونه
من أهل المعرفة ولم يقدح فيه أحد وأكثر العلماء الرواية عنه يظن صدقه في الرواية
ظناً غالبا ، وأنه لا يكذب على الأئمة عليهمالسلام ، وهذا القدر كاف في وجوب العمل بروايته ، ولا يحتاج
الى أن يظن عدالته ، بل يكفى أن لا يظن فسقه ، لاستلزامه ظن وجوب التثبت في خبره.
لا يقال فحينئذ
يشك في عدم فسقه ، وهو شرط العمل بقوله ، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط.
لأنا نقول :
المستفاد من الآية الشريفة أن الفسق شرط التثبت والتوقف في العمل ، وعدم الشرط لا
يجب أن يكون شرطاً لعدم المشروط وان فرضنا استلزامه له.
ثم ان شرط وجوب
التثبت حقيقة هو اعتقاد الفسق دون الفسق في نفس الأمر أو احتماله ، فإذا ارتفع
اعتقاد الفسق لم يبق سبب لوجوب التثبت بالأصل ، والمقتضي لوجوب العمل به متحقق ،
وهو صدقه المستلزم للظن بالحكم. الى هنا كلامه.
وفيه نظر
فصلناه في رسالة عدلية لنا فليطلب من هناك.
قال يونس بن
يعقوب : كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام فدخل عليه رجل من القماطين ، فقال : جعلت فداك يقع في
أيدينا الأرباح والأموال وتجارات نعرف أن حقك فيها ثابت وانا عن ذلك مقصرون ، فقال
: ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم .
أي : ما عملنا
معكم بالعدل ان كلفناكم ذلك ، أي : إعطاء حقنا إيانا اليوم الذي أنتم في التقية
وأيدي الظلمة.
__________________
فإنه يدل على
اختصاص التحليل بهذه الأزمان والأيام ، إذ لو كان تحليله لهم على الدوام لزم منه
لغوية تقييده بقوله « اليوم » وانما أسقط تكليف ذلك عنهم في ذلك اليوم ، لأن هؤلاء
الظلمة كانوا يأخذون منهم الخمس والزكاة قهراً.
كما يدل عليه
ما في الفقيه عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه سئل عن الرجل يأخذ منه هؤلاء زكاة ماله أو خمس
غنيمته ، أو خمس ما يخرج من المعادن ، أيحسب ذلك له في زكاته وخمسه؟ فقال : نعم .
فلو كلفوا عليهمالسلام إياهم مرة أخرى بالزكاة والخمس كان ذلك على خلاف العدل
والانصاف ، فحسبوا لهم ذلك من خمسهم وزكاتهم ترحماً عليهم ، ولان ذلك كان بمنزلة
أخذ مال الغير عنهم بالجبر بل نفسه ، فكان محسوباً عنهم.
وعلى هذا فهذا
الحديث بمفهومه يدل على وجوب الخمس في أرباح التجارات والمكاسب في زماننا هذا ،
كما يظهر عند التأمل.
وأقوى منه
رواية الريان بن الصلت الثقة من أصحاب الرضا والهادي عليهماالسلام قال : كتبت الى أبي محمد ـ والمراد به هنا الحسن بن علي
الزكي العسكري عليهماالسلام ـ ما الذي يجب علي يا مولاي في غلة رحى في أرض قطيعة لي وفي ثمن سمك وبردي وقصب أبيعه من
أجمة هذه القطيعة؟ فكتب : يجب عليك فيه الخمس إن شاء الله تعالى .
فلو لم تكن
الإباحة مقصورة على زمان المبيح بل كانت مقيدة بالدوام لما وجب عليه فيه الخمس ،
وقد أباحه له قبل من له الولاية في الإباحة ، لأن إباحته له مع وجوبه عليه
متنافيان متناقضان.
__________________
هذا والظاهر أن
هذا الحديث المذكور في التهذيب بحذف السند نقله شيخ الطائفة عن كتاب ابن الصلت ،
وطريقه إليه في الفهرست صحيح ، حيث قال فيه : الريان بن الصلت له كتاب ، أخبرنا به
الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان والحسين بن عبيد الله عن محمد بن علي
بن الحسين بن بابويه عن أبيه وحمزة بن محمد ومحمد بن علي ، عن علي بن إبراهيم عن
أبيه عن الريان بن الصلت .
والظاهر أنه رحمهالله لذلك لم يذكر في مشيخة التهذيب طريقه اليه على ما يشهد
له قوله في آخر الأسانيد من المشيخة : قد أوردت حملا من الطرق الى هذه المصنفات
والأصول ، ولتفصيل ذلك شرح يطول هو مذكور في الفهارس المصنفة في هذا الباب للشيوخ
من أراده أخذه من هناك ، ونحن قد ذكرناه مستوفى في كتاب فهرست الشيعة .
وقوله في أوائل
المشيخة واقتصرنا من إيراد الخبر على الابتداء بذكر المصنف الذي أخذنا الخبر من
كتابه ، أو صاحب الأصل الذي أخذنا الحديث من أصله .
وعلى هذا فلا
يضر ضعف الطريق الى صاحب الكتاب أو الأصل ، لاشتهارهما عند نقله عنهما ، نعم لا بد
من صحة طريق الكتاب والأصل الى الامام عليهالسلام. وهنا صاحب الكتاب هو ابن الصلت البغدادي الصدوق الثقة
، وقد كاتب أبا محمد عليهالسلام بما سبق ، وأجيب بوجوب الخمس عليه فيه.
__________________
ومثله صحيحة علي بن مهزيار
عن أبي جعفر عليهالسلام في كتاب له الى بعض مواليه نأخذ منه محل الحاجة قال عليهالسلام : وانما أوجب عليهم الخمس في سنتي هذه في الذهب والفضة التي قد حال
عليها الحول ، ولم أوجب ذلك عليهم في متاع ولا آنية ولا دواب ولا خدم ولا ربح ربحه
في تجارة ولا ضيعة إلا ضيعة سأفسر لك أمرها ، تخفيفاً مني على موالي ومناً مني
عليهم ، لما يغتال السلطان من أموالهم ولما ينوبهم في ذواتهم.
وأما الغنائم
والفوائد ، فهي واجبة عليهم في كل عام ، والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة
يغنمها المرء والفوائد يفيدها ، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر ،
والميراث الذي لا يحتسب من غير أب ولا ابن ، ومثل عدو يصطلم فيؤخذ ماله ،
ومثل مال يؤخذ لا يعرف له صاحب ، ومن ضرب ما صار الى قوم من موالي من أموال
الخرمية الفسقة ، فقد علمت ان أموالا عظاماً صارت الى قوم من
موالي ، فمن كان عنده شيء من ذلك فليوصل إلى وكيلي ، ومن كان نائياً بعيد الشقة
فليتعمل لإيصاله ولو بعد حين ، فإن نية المؤمن خير من عمله.
فأما الذي أوجب
من الضياع والغلات في كل عام ، فهو نصف السدس ممن كانت ضيعته تقوم بمئونته ، ومن
كانت ضيعته لا تقوم بمئونته فليس عليه نصف
__________________
سدس ولا غير ذلك .
فإنها صريحة في
وجوب الخمس وبقائه إلى زمان الجواد عليهالسلام وعدم إباحته للشيعة إلا ما أباحه لهم في سنته ووقته
تخفيفاً منه ومناً عليهم ، وذلك لان سلاطين الجور كانوا يأخذون من أموالهم ،
فخففوا ذلك عنهم ترحماً منهم عليهم.
فلو كان تحليل
السابقين من آبائه عليهمالسلام محللا له مطلقاً إلى الأبد والدوام بحيث كان ساقطاً
عنهم بالكلية أو بقدر حصة الإمام ، لما جاز للجواد عليهالسلام أن يوجب شيئاً منه عليهم ، لسقوطه عنهم بتحليل آبائه عليهمالسلام ، وصريح الخبر الصحيح ينفيه.
فلا بد في
التوفيق بين الاخبار : اما من قصر الإباحة على زمان المبيح ، أو من تخصيصها
بالمناكح ونحوها ، أو بما ينتقل إلينا ممن لا يرى وجوب الخمس الى غير ذلك.
كما أشار إليه
ملا عبد الله قدسسره في بعض حواشيه على التهذيب بقوله ولا يبعد أن يقال في
الجمع بحمل ما دل على الإباحة على إباحة حق المبيح في الأيام التي يبيحه ، وحمل ما
دل على التحريم على تحريم حق المحرم ، فان حقهم عليهمالسلام ينتقل من بعضهم الى بعض بسبب انتقال الإمامة.
أو يقال : ان
المراد ما أبيح لنا ، وهو الأشياء التي تنتقل إلينا ممن لا يرى الخمس ، أو نعرف
انه لا يخرجه كالمخالفين مثلا بأن نشتري منهم الجواري ، أو نتصرف في أرباح
تجاراتهم ، أو نشتري من المعادن التي لا تحصل الا من عندهم وانا نعرف أنهم لا يرون
وجوب الخمس فيها ، لا الأشياء التي توجد عند الشيعة فيجب في معادنهم الخمس ، وكذا
في أرباح تجاراتهم ، وفيما يغنمونه من الغنائم والفوائد.
أو يقال :
بإباحة ما يحصل ممن لا يرى الخمس دائماً ، وتخصيص غيره في
__________________
حق المبيح ، وهو أظهر لعموم ما دل على الإباحة والتحريم ، فينبغي ملاحظة
العموم على قدر الإمكان. وبما قلناه يشعر بعض الأحاديث فتنبه.
وقال الشيخ في
الاستبصار : الوجه في الجمع بين الروايات الدالة على التحريم والروايات الدالة على
الحل ما كان يذهب اليه شيخنا رحمهالله ، وهو أن ما ورد من الرخصة في تناول الخمس والتصرف فيه
انما ورد في المناكح خاصة لتطيب ولادة شيعتهم ، ولم برد في الأموال ، وما ورد من
التشدد في الخمس والاستبداد به فهو يختص بالأموال .
أقول : ويؤيده
صحيحة الفضيل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : من وجد برد حبنا في كبده فليحمد الله على أول
النعم ، قلت : جعلت فداك ما أول النعم؟ قال : طيب الولادة. ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام : قال أمير المؤمنين لفاطمة عليهاالسلام : أحلي نصيبك من الفيء لإباء شيعتنا ليطيبوا ، ثم قال
أبو عبد الله عليهالسلام : انا أحللنا أمهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا .
وموثقة عبد
الله بن بكير عن أبي عبد الله عليهالسلام انه قال : اني لأخذ من أحدكم الدرهم واني لمن أكثر أهل
المدينة مالا ، ما أريد بذلك الا أن تطهروا .
وهذه فيها عموم
المأخوذ منه ، فيعم التجارات والزراعات والصناعات والكنوز والمعادن والغوص والحلال
المختلط بالحرام وأرض الذمي وما يغنم من دار الحرب ، إذ لو كان قد أباح لهم الخمس
كله وحلله لهم على الدوام ما كان ليأخذ منهم الدرهم ارادة تطهيرهم أنفسهم ، أو
تطهير أموالهم ، وقد سبقه في ذلك التحليل والده الماجد.
__________________
فيظهر من ذلك
أن المحلل لهم : اما المناكح خاصة دون الأموال ، كما أفاده المفيد رحمهالله ، أو هي مع المتاجر والمساكن ، كما عليه الشيخ الطوسي. ويستفاد
من هذا الحديث الفرق بينه وبين فريقه في الخمس ، إذ لا يعتبر فيه الفقر بخلافهم.
ثم أقول : ولو
كان الامام عليهالسلام لا يحل الا ما يعلم أن له الولاية في تحليله وقد أحله
على الدوام كما ظنوه ، لزم منه عدم حله لإمام بعده ، لسقوط حقه بتحليل من كان قبله
وقد كانت له الولاية في تحليله ، والا فلا معنى لتحليله ، فلا يسوغ لمن بعده أن
يطالبه ، أو يأخذه من حيث أنه خمسه ومن حقوقه اللازمة على من عليه الخمس ، واللازم
كما تشهد له الاخبار باطل ، فالملزوم مثله.
روى في التهذيب
في الصحيح عن علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لأبي جعفر عليهالسلام من رجل يسأله أن يجعله في حل من مأكله ومشربه من الخمس
، فكتب بخطه : من أعوزه شيء من حقي فهو في حل .
فهذا حديث صحيح
صريح بعدم سقوط حقه عليهالسلام بتحليل من كان قبله ، والا فأي حق له بعد الإباحة حتى
يصح له أن يحله لمن أعوزه شيء من حقه ، بل كان عليه أن يكتب في الجواب مالي في
الخمس من حق ، بل هو حلال لشيعتنا بتحليل آبائي لهم ذلك ، وقد كانت لهم الولاية في
التحليل.
فيظهر من
أمثاله أن ما دل على الإباحة محمول على إباحة حق المبيح في الإمام التي يبيحه ،
ويؤيده قوله « من حقي » حيث أضاف الحق إلى نفسه ، ولم يقل من أعوزه شيء من الخمس
فهو في حل منه ، مع أنه انما أحل حقه لمن عجز عن أداء حقه لا مطلقا ، لان العوز
بالفتح العدم وسوء الحال ، كما في نهاية
__________________
ابن الأثير .
وفي الصحاح :
أعوزه الشيء إذا احتاج اليه فلم يقدر عليه .
ولعل معنى
الإعواز هنا الاحتياج الشديدة ، أي : أحوجه شيء من حقي اليه ، فالإسناد مجازي.
واعلم أن هذا
الحديث كما أنه صحيح في التهذيب كذلك في الفقيه ، لان للصدوق
الى علي بن مهزيار الأهوازي ثلاث طرق ، أحدها مجهول والآخران صحيحان ، وهما روايته
عن أبيه عن سعد بن عبد الله والحميري جميعاً عن إبراهيم بن مهزيار عن أخيه علي بن
مهزيار. وروايته عن محمد بن الحسن عن الصفار عن العباس بن معروف عن علي بن مهزيار.
وفي الكافي
والتهذيب : عن محمد بن زيد الطبري ، أصله كوفي لا قدح فيه ولا مدح ، غير أنه من
أصحاب الرضا عليهالسلام قال : كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن
الرضا عليهالسلام يسأله الاذن في الخمس.
فكتب اليه :
بسم الله الرحمن الرحيم ان الله واسع كريم ، ضمن على العمل الثواب ، وعلى الخلاف
العقاب ، لا يحل مال الا من وجه أحله الله ، ان الخمس عوننا
على ديننا وعلى عيالاتنا وعلى موالينا ، وما نبذل ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته
، فلا تزووه عنا ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه ، فان إخراجه مفتاح رزقكم
، وتمحيص ذنوبكم ، وما تمهدون لأنفسكم ليوم فاقتكم ، والمسلم من يفي لله بما عاهد
عليه الله ، وليس المسلم من أجاب باللسان وخالف
__________________
بالقلب والسلام .
أقول : معنى
الإباحة والتحليل عدم وجوبه عليهم وسقوط تكليفه عنهم ، فلو كان يفيد الاستمرار
والدوام بحيث يعم جميع الأزمنة والأيام ، لما كان لمن بعد المحلل من الأئمة عليهمالسلام أن يكلفهم بذلك ، مع ذلك الوعد والوعيد وذلك التأكيد
والتشديد ، ويقول : إخراجه ثواب وخلافه عقاب ، ولا يحل مال الا من وجه أحله الله ،
وليس هذا منه فلا تزووه عنا ، ثم يقول في آخر كتابه : ومن لم يخرجه فليس بمسلم ،
بل هو منافق حيث أجاب باللسان وخالف بالقلب.
فلو كان حقه عليهالسلام محللا لهم بتحليل من له الولاية في تحليله وقد أحله لهم
كما ظن ، لما كان لهذا الحديث وأمثاله معنى. وحمله على غير الشيعة ، أو غير محل
الضرورة ، أو رده بعدم الصحة ، محل نظر.
كيف لا؟ وفي
الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه قال : كنت عند أبي جعفر الثاني عليهالسلام إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل وكان يتولى له الوقف
بقم ، فقال : يا سيدي اجعلني من عشرة آلاف في حل ، فإني أنفقتها ، فقال : أنت في
حل.
فلما خرج صالح
قال أبو جعفر عليهالسلام : أحدهم يثب على أموال حق آل محمد وأيتامهم ومساكينهم
وفقرائهم وأبناء سبيلهم ، فيأخذه ثم يجيء فيقول اجعلني في حل ، أتراه ظن أني أقول
لا أفعل ، والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثاً .
وهذا السند
صحيح على مذهب الراد أيضاً ، كما صرح به في آيات أحكامه ، حيث قال في كتاب الصوم
بعد ما روى عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم
__________________
عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد عن حريز عن محمد بن مسلم : انه حسن لوجود
أبي علي إبراهيم بن هاشم. وكذا سماه في المختلف والمنتهى. وقال الشيخ زين الدين في
شرح الشرائع : ولصحيحة محمد بن مسلم. وما وجدت في كتب الاخبار غير ما ذكرته عن
محمد بن مسلم ، فالظاهر أنه انما عنى ذلك ، فاشتبه عليه الأمر ، أو تعمد وثبت
توثيقه عنده. والظاهر أنه يفهم توثيقه من بعض الضوابط .
وهو منه رحمهالله إشارة الى أن اعتبار مشايخ القميين له وأخذ الحديث عنه
ونشر الرواية منه ، على ما في الفهرست والنجاشي يعطي أنه ثقة عندهم في الرواية والنقل ، لأن أهل قم
كانوا يخرجون الراوي منه ويؤذونه لمجرد توهم شائبة ما فيه ، فكيف يجتمعون عليه
ويقبلون حديثه لو لا وثوقهم به واعتمادهم عليه ، فيصير حديثه صحيحاً لذلك.
والظاهر أنه رحمهالله انما حكم بعدم صحته في شرح الإرشاد ، لأن نظره
وقتئذ كان على ما في الاستبصار وهو فيه مجهول ، والدليل عليه أنه نقل متن الحديث في
الشرح هكذا قال أبو جعفر عليهالسلام : أحدهم يثب على أموال محمد وأيتامهم. وهو
متن مختل موافق لما في الاستبصار مخالف لما في الكافي.
ويحتمل أن يكون
الوجه في الحكم بعدم الصحة أن توثيقه وقت كتابة الشرح لم يثبت عنده ، وانما ثبت
وقت كتابة آيات الاحكام ومؤخر عنه زماناً.
__________________
ثم الظاهر أنه
لفظة « آل » قد سقط من الإستبصار. اما من الشيخ ، أو من الناسخ ، لان قوله « على
أيتامهم » بضمير الجمع لا يستقيم الا به ، ولعله رحمهالله حمله على حذف المضاف وأرجع الضمير اليه ، وهو الظاهر من
كلامه كما سيأتي نقله.
والسند في
الاستبصار هكذا : وروى إبراهيم بن سهل بن هاشم . وهذا الرجل مجهول غير مذكور في الرجال.
وفي التهذيب
هكذا : روى إبراهيم بن راشد . وهو وان كان مجهولا غير مذكور في الرجال أيضاً ، الا
أن نظر الفاضل الأردبيلي رحمهالله وقت كتابة الشرح ما كان عليه ، لأن الآل في قوله « يثب
على أموال آل محمد » مذكور في التهذيب كما في الكافي ، والشارح لم ينقله في الشرح
كما هو كذلك في الاستبصار فيظهر منه أن نظره وقتئذ كان عليه لا على ما في
الكتابين.
أقول : ومما
قررناه وضح لك أن هذا حديث صحيح قريب الاسناد صريح في صحة ما أفاده ابن الجنيد ،
وفساد ما أراده المحقق بقوله ان الامام وهو الباقر والصادق عليهماالسلام مثلا لا يحل الا ما يعلم أن له الولاية في تحليله من
إثبات إباحة الخمس مطلقا من زمان المبيح الى يوم القيامة.
ولذلك قال :
ولو لم يكن له ذلك لاقتصر في التحليل على زمانه ولم يقيده بالدوام ، إذ لو كان له
ذلك وقد أحله لشيعته بقيد الدوام على ما ظنه لكانت تلك العشرة الآلاف حلالا مباحاً
لصالح بن محمد من غير حاجة له الى تحليل الجواد عليهالسلام إذ قد أباحها من كان قبله وقد كانت له الولاية في
إباحتها له.
وصريح الخبر
ناطق بخلافه وبقاء حق الجواد عليهالسلام من الخمس ، ولذلك قال : أنت في حل ، فلو لم يكن له فيه
حق لما صح له ذلك ، ولا أن يقول أحدهم
__________________
يثب على أموال حق آل محمد ، كيف؟ وأموالهم هذه قد صارت حلالا لهم بتحليل من
له الولاية في تحليلها.
ثم كيف يصح لله
تعالى أن يسألهم يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثاً وهم لم يتصرفوا الا فيما أحل لهم
وأبيح. وهل يكون في تناول المباحات وإنفاقها سؤال وعقاب في الآخرة ومذمة وتوبيخ في
الأولى؟
فهذا الحديث مع
صحته وصراحته بثبوت حقه عليهالسلام من الخمس صريح في حرمته على الشيعة واحتياجهم في التصرف
فيه الى الاذن منه عليهالسلام ولذلك استحله منه صالح بن محمد بن سهل وكان من شيعته ،
والا لم يجعله متولياً على الوقف.
وهو وان كان
كذاباً وضاعاً غالياً قائلا في أبي عبد الله عليهالسلام بالربوبية الا أنه أدرك صحبة أبي جعفر الأول وبقي إلى
زمان أبي جعفر الثاني عليهماالسلام فأحل له ، وبعد خروجه من عنده ذمه بما ترى ، ولعله لذلك
وما سبق عده شيخ الطائفة في كتاب الغيبة من المذمومين.
فقول الفاضل
الأردبيلي رحمه لله في شرح الإرشاد ، وهذه الرواية مع كونها في الوقف ومال آل محمد
ليست بصريحة في منع الشيعة . محل تأمل ، لأن الظاهر أن هذه الأموال كانت من الخمس
من الموقوفات كما ظنه.
والدليل على
كون هذه الرواية في الخمس دون الوقف ان أبا الصلاح الحلبي لما منع من الرخصة في
تناول الخمس والتصرف فيه مطلقاً حتى من المناكح والمتاجر والمساكن استدل عليه بهذه
الرواية ، فدل هذا منه على كونها في الخمس وفي منع الشيعة منه.
ولم يقل أحد من
العلماء في جوابها أنها في الوقف ، أو ليست بصريحة في
__________________
منع الشيعة ، أو هي ضعيفة السند الى غير ذلك ، بل أجابوا عنه بحملها على
غير صورة النزاع ، وهي المناكح على قول ، والمناكح والمتاجر والمساكن على قول ،
جمعاً بين الأدلة.
وقال المولى
الفاضل الصالح المازندراني قدسسره في شرح هذا الحديث دل ذلك ظاهراً على ان الخمس كله حق
الامام عليهالسلام الا أنه يصرف بعضه في الوجوه المذكورة.
ثم قال :
ويحتمل أن يكون بعضه حقاً للأصناف المذكورة الا أن الامام أولى بهم من أنفسهم ،
فلذلك كان له أن يحل المتصرف في حقوقهم أيضاً .
أقول : ويؤيد
الاحتمال الأول ما يشعر به بعض الاخبار ، من أن اختصاص خمس الأرباح كله بالإمام عليهالسلام مثل ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن مهزيار قال قال
لي أبو علي بن راشد قلت له : أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقك فأعلمت مواليك ، فقال
لي بعضهم : وأي شيء حقه؟ فلم أدر ما أجيبه ، فقال : يجب عليهم الخمس.
فقلت : ففي أي
شيء؟ فقال : في أمتعتهم وضياعهم ، قال : والتاجر عليه والصانع بيده وذلك إذا
أمكنهم بعد مؤونتهم. وفي بعض النسخ فقلت : فالتاجر عليه والصانع بيده ، فقال : ذلك
إذا أمكنهم بعد مؤونتهم .
فهذا حديث صحيح
صريح في وجوب الخمس على الأرباح والمكاسب.
أما الثاني
فظاهر ، لأن الضيعة العقار والأرض المغلة وحرفة الرجل وصناعته
__________________
وتجارته ، كذا في القاموس . ومنه يظهر أن حمل ما دل على وجوب الخمس وعدم سقوطه على
غير الشيعة ، كما حمله عليه شارح الإرشاد مولانا أحمد ، وقد سبق ، مما لا مساغ له
، كيف؟
وهذا حديث صحيح
صريح في وجوبه عليهم ، لقوله عليهالسلام بعد قول ابن راشد أمرتني بأخذ حقك فأعلمت مواليك بذلك ،
فقيل : ما حقه يجب عليهم؟ أي : على موالي الخمس ، فإنه صريح في وجوبه على الشيعة
وعدم سقوطه عنهم ، فكيف يحمل ما دل على وجوبه على غيرهم.
وغريب منه رحمهالله أنه مع نقله هذا الحديث في الشرح كما غفل عن دلالته على
الوجوب عليهم مع صراحته فيه ، حتى حمله في مقام التوفيق بين الاخبار على غيرهم ،
فنعوذ بالله من سنة الغفلة.
وأما الأول ،
فقال ميرزا محمد في الأوسط : الحسن بن راشد أبو علي بغدادي « دي » مولى مهلب ثقة ،
روى عن أبي جعفر الجواد عليهالسلام « صه » « جخ ».
ونقل صاحب مجمع
الرجال فيه عن الكشي انه قال : الحسن بن راشد يكنى أبا علي من أصحاب الرضا عليهالسلام وساق الكلام الى أن قال : انه من أصحاب الجواد والهادي عليهماالسلام بغدادي ثقة .
وفي ترجمة ابن
بند : ان أبا الحسن الثالث عليهالسلام كتب في جواب محمد بن الفرج عن سؤاله عن ابن بند هكذا :
وأما ابن راشد رحمهالله فإنه عاش سعيداً ومات شهيداً وهذا من
الامام عليهالسلام تصريح بما فوق التوثيق.
__________________
فقول الفاضل
الأردبيلي رحمهالله في شرح الإرشاد : ابن راشد غير مصرح بتوثيقه ، بل قيل :
انه وكيل مشكور وكأنه لذلك ما سميت بالصحة ولكن كونها حسنة فتأمل . محل تأمل كما
أمر به ، وكأن نظره رحمهالله وقتئذ كان على ما ذكروه في الكنى ، ولم يراجع الى ما هو
المذكور في ذيل اسمه ، فلما رأى ان العلامة في المختلف لم يصرح بصحة هذا السند جزم
بعدمها ، وهو مع ذلك منه رحمهالله غريب.
وفي الخلاصة في
باب الكنى : أبو علي بن راشد اسمه الحسن ، وقد تقدم كان وكيلا مقام الحسين بن عبد
ربه مع ثناء وشكر له .
وقال الشيخ في
كتاب الغيبة من الممدوحين أبو علي ابن راشد .
هذا وأنت خبير
بأن حمل ما دل على وجوب الخمس وعدم سقوطه على غير محل الضرورة ، بأن لا يكون
المخمس مضطراً اليه ، كما حمله رحمهالله عليه لا ينافي وجوبه في أرباح التجارات والزراعات
والصناعات ، فإنه انما يجب فيها بعد مئونة السنة ، فإذا وضعت فلا ضرورة لمن عليه
الخمس اليه فيجب عليه.
أقول : وإذا
كان هذا حال مولانا أحمد رحمهالله مع عدله وتقواه واحتياطه في فتواه ، فما ظنك بمن دونه ،
وحينئذ فالانكال على فتاويهم والاعتماد على دعاويهم مشكل ، الا أن تكون مطابقة
لمقتضى النظر الصحيح ، وحينئذ فالاعتماد عليه لا عليها.
وليس الغرض من
هذا الكلام القدح فيه أو فيهم ، كلا وحاشا ، ثم كلا وحاشا
__________________
بل الغرض منه الحث على بذل الجهد وإفراغ الوسع وعدم الاتكال على الغير
والاطلاع على أسانيد الاخبار ، ثم استنباط الاحكام منها.
وبالجملة
أصحابنا القائلون بعدم وجوب الخمس وسقوطه رأساً ، أو سقوط حصة الإمام عليهالسلام لم يمنعوا النظر فيما دل على وجوبه وعدم سقوطه سنداً
ومتناً ، والا فبعد إمعان النظر فيهما يظهر للناظر فيها أن جلها صحاح صراح في
وجوبه الا ما أخرجه الدليل.
وكذلك لم
يمعنوا النظر فيما دل على إباحته من زمن المبيح الى زمن القائم أو الى يوم القيامة
، فإنهما غير صحيحي السند ، بل ما جعلوه ظاهر الدلالة على الدوام وسموه صحيحاً ،
بل صحيحة الفضلاء غير نقي السند أيضاً ، كما سنشير اليه مع إمكان الجمع بينهما بما
سبق ، وهو اولى من رد بعضها ، ولا سيما إذا كان ذلك البعض صحيحاً صريحاً في وجوبه
مطابقاً للأصل من عدم سقوطه بعد وجوبه ، موافقاً للاحتياط الذي هو طريق منج ،
والاحتياج إليه في هذه الأزمان لفقد المجتهد فيها ظاهراً أكثر.
هذا ثم انه رحمهالله بناءً على ما فهمه من الاخبار سنداً ومتناً ، قال بعد
كلام واعلم ان عموم الاخبار يدل على السقوط بالكلية زمان الغيبة والحضور ، بمعنى
عدم الوجوب الحتمي ، فكأنهم عليهمالسلام أخبروا بذلك ، فعلم عدم الوجوب الحتمي فلا يرد أنه لا
يجوز الإباحة لما بعد موتهم ، فإنه مال الغير مع التصريح في البعض بالسقوط إلى
القائم ويوم القيامة ، بل ظاهرها سقوط الخمس بالكلية حتى حصة الفقراء أيضاً وإباحة
أكله مطلقاً ، سواء أكله من في ماله ذلك أو غيره.
وهذه الاخبار
هي التي دلت على السقوط حال الغيبة ، وكون الإيصال مستحباً كما هو مذهب البعض مع
ما مر من عدم تحقق محل الوجوب الا قليلا ، لعدم دليل قوي على الأرباح والمكاسب الى
آخر ما أفاده.
وتبعه في بعض
ذلك تلميذه صاحب المدارك ، وقد عرفت ما فيه فلا نعيده فتأمل ، فإن ما رواه أبو علي
بن راشد والريان بن الصلت وعبد الله بن بكير وعلي ابن مهزيار وغيرهم أدلة قوية على
وجوب الخمس في الأرباح والمكاسب وعدم سقوطه أصلا.
ومراده عليهالسلام بالامتعة : اما السلعة والمنفعة ، أو المعادن.
قال
الفيروزآبادي : المتاع المنفعة والسلعة والجمع أمتعة ، وقوله تعالى ( ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ ) أي : ذهب وفضة
« أَوْ
مَتاعٍ » أي : حديد وصفر ونحاس ورصاص .
وفي صحيحة عبيد
الله بن علي الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الكنز كم فيه؟ فقال : الخمس ، وعن المعادن كم فيها؟
فقال : الخمس ، وعن الرصاص والصفر والحديد وما كان من المعادن كم فيها؟ فقال :
يؤخذ منها كما يؤخذ من معادن الذهب والفضة .
فقول الفاضل
الأردبيلي رحمهالله : وفي قوله « وفي أمتعتهم » أيضاً تأمل محل تأمل.
ولا يذهب عليك
أن هذا الحديث الصحيح أيضاً صريح في صحة ما أفاده ابن الجنيد ، وبطلان ما أراده
المحقق بتقريب قد مر.
أقول : ويؤيد
الاحتمال الثاني ما قال صاحب المفاتيح فيه : من أن معنى كون الخمس كله للإمام عليهالسلام أن له التصرف فيه في زمن حضوره ، بأن يضعه في من شاء
كيف شاء دون غيره .
أقول : هذا
المعنى لا اختصاص له بالخمس ، فإن للإمام عليهالسلام أن يتصرف
__________________
في الدنيا وما فيها ، بأن يضعها في من شاء كيف شاء دون غيره.
كما يدل عليه
ما في الفقيه عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما على الامام من الزكاة؟ فقال : يا أبا محمد أما
علمت أن الدنيا للإمام يضعها حيث شاء ويدفعها الى من شاء ، جائز من الله عزوجل له ذلك ، ان الامام لا يبيت ليلة أبداً ولله عزوجل في عنقه حق يسأله عنه .
أقول : ولعل
الوجه فيه ما أفاده محمد بن يعقوب في الكافي في باب الفيء بقوله : ان الله تبارك
وتعالى جعل الدنيا كلها بأسرها لخليفته ، حيث يقول للملائكة
« إِنِّي
جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
» فكانت الدنيا بأسرها
لادم وصارت بعده لأبرار ولده وخلفائه وهم الأنبياء والأوصياء عليهمالسلام .
أقول : وفي
الحديث المذكور احتمال آخر ، وهو أن يقال : ان تلك العشرة الآلاف كانت من حصته عليهالسلام دون حصص الباقين ، أو كان بعضها حقاً لهم ولكنه عليهالسلام عوضهم من عين ماله ، ولذلك كان له أن يحلها للمتصرف
فيها ، فتأمل.
ثم قال الفاضل
الشارح المازندراني رحمهالله : ثم قوله عليهالسلام « والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثاً
» دل ظاهراً على أن من أحل له الإمام أيضاً مسئول ، وهو بعيد جداً ، ولا يبعد
تخصيص السؤال بمن عداه ، والله يعلم .
أقول : لا يحل
مال امرء مسلم الا عن طيب نفس منه ، وتحليله عليهالسلام له لم يكن كذلك ولذلك ذمه بعد خروجه ، بأنه أخذ حق آل
محمد ثم جاء يقول اجعلني في حل ، فلا بعد في كون كل من على شاكلته مسئولا فتأمل.
هذا وفي الكافي
والتهذيب عن محمد بن زيد قال : قدم قوم من خراسان على أبي الحسن الرضا عليهالسلام فسألوه أن يجعلهم في حل من الخمس ، فقال : ما
__________________
أمحل هذا تمحضونا بالمودة بألسنتكم وتزوون عنا حقاً جعله الله لنا وجعلنا
له [ وهو الخمس ] لا نجعل لأحد منكم في حل .
فلو كان لمن
قبله الولاية في تحليله وقد أحله لهم لما صح له عليهالسلام أن يطلبه منهم من حيث أنه خمسه ومن حقوقه اللازمة ،
وأنه عون على ديونهم وعيالاتهم ومواليهم الى غير ذلك.
وذلك لانه بذلك
التحليل صار مباحاً لهم بقيد الدوام على ما ظنوه ، فكان لهم أن يمتنعوا من أدائه
كذلك ، فمن أين كان يدخل عليهم العقاب ، لتحليلهم ما لم يحله الله لهم ، كما هو
صريح الرواية الماضية.
ثم كيف كان له عليهالسلام أن يقول : لا نجعل لأحد منكم في حل وقد حلله لهم من
قبله وكانت له الولاية في تحليله ، كما ظنه صاحب المعتبر.
فظهر مما
نقلناه من الاخبار وفيها ما هو صحيح ، كصحيحة علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبي جعفر
الثاني عليهالسلام ، وصحيحة علي بن مهزيار عن أبي علي بن راشد ، وصحيحتين
أخراوين له عن أبي جعفر عليهالسلام ، ومكاتبة الريان بن الصلت الى أبي محمد العسكري عليهالسلام.
والعجب أن
الفاضل الأردبيلي رحمهالله مع وجود هذه الصحاح الصراح في ثبوت الخمس رد الأخبار
الدالة على ثبوته بعدم الصحة.
أن القول بثبوت
الخمس مطلقا الا ما أخرجه الدليل وقد مرت إليه الإشارة هو الأظهر والأقوى. نعم لو
صح وثبت عن صاحب هذا العصر والزمان عليهالسلام أنه أحل حقه من الخمس مطلقاً لمن عليه الخمس من شيعته
لأمكن التعويل عليه ، لكنه ليس بثابت كما اعترف به شيخ الطائفة بقوله : انه حق
لصاحب لم يرسم
__________________
فيه قبل غيبته حتى يجب الانتهاء اليه.
وقال في محل
آخر : وانما اختلف أصحابنا في هذا الباب لعدم ما يلجأ إليه فيه من صريح الألفاظ ،
وإذا لم يرد فيه منه عليهالسلام شيء وقد ثبت أن الخمس كان ثابتاً قبل غيبته وجب الحكم
ببقائه في هذا الزمان ، وهو المطلوب.
تنبيه
الأخبار
السالفة دلت على عدم جواز التصرف في المال الذي يجب فيه الخمس
وانه سبب لتحريم
الولادة والنكاح ، وهو صريح فيما رواه ثقة الإسلام محمد بن يعقوب في الروضة بسند
مجهول عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليهالسلام قال قلت له : ان بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم
، فقال لي : الكف عنهم أجمل.
ثم قال : والله
يا أبا حمزة ان الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا ، قلت : كيف لي بالمخرج من
هذا؟ فقال لي : يا أبا حمزة كتاب الله المنزل يدل عليه ، ان الله تبارك وتعالى جعل
لنا أهل البيت سهاماً ثلاثة في جميع الفيء ، ثم قال الله عزوجل ( وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى
وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) فنحن أصحاب الخمس والفيء وقد حرمنا على جميع الناس ما
خلا شيعتنا.
والله يا أبا
حمزة ما من أرض تفتح ولا خمس يخمس فيضرب على شيء منه الا كان حراماً على من يصيبه
، فرجاً كان أو مالا ، ولو قد ظهر الحق لقد بيع الرجل الكريمة عليه نفسه في من لا
يريد ، حتى ان الرجل منهم ليفتدي بجميع ماله ويطلب النجاة لنفسه فلا يصل الى شيء
من ذلك ، وقد أخرجونا وشيعتنا من حقنا ذلك
__________________
بلا عذر ولا حق ولا حجة الحديث .
وهو صريح في أن
مخالفينا أولاد الزنا ، وقد ورد في غير واحد من الاخبار أن ولد الزنا مبغض لأهل
البيت عليهمالسلام وكل مبغض لهم غير ناج ، ولكن في أصل الحديث وما يستفاد
منه اشكال ، وان خص الناس بأهل السنة والجماعة.
الفصل
الثاني
[
ضعف القول بسقوط الخمس مطلقاً ]
قد ظهر أن
القول بسقوط الخمس مطلقاً ، وعليه جماعة منهم الفاضل الأردبيلي أو سقوط حقه عليهالسلام بخصوصه ، وعليه صاحب المدارك.
واليه أشار
صاحب المفاتيح فيه بقوله : والأصح عندي سقوط ما يختص به عليهالسلام لتحليلهم ذلك لشيعتهم ، ووجوب صرف حصص الباقين إلى
أهلها لعدم مانع منه ، ولو صرف الكل إليهم لكان أحوط وأحسن ، ولكن يتولى ذلك
الفقيه المأمون بحق النيابة كما يتولى عن الغائب . ضعيف .
وقد شائع فيه
صاحب المدارك ، لانه قال فيه : والأصح إباحة ما يتعلق بالإمام من ذلك خاصة ،
للأخبار الكثيرة الدالة عليه ، ثم نقل ما سبق من المحقق واستشكله بأن أكثر الأخبار
المعتبرة خالية من التقييد بالدوام ، لكنها ظاهرة في ذلك.
__________________
كما يرشد اليه
التعليل المستفاد من صحيحة الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال قلت له : ان لنا أموالا من غلات وتجارات ونحو ذلك ،
وقد علمت أن لك فيها حقاً ، قال : فلم أحللنا إذاً لشيعتنا الا لتطيب ولادتهم ،
وكل من والا آبائي فهم في حل مما في أيديهم من حقنا ، فليبلغ الشاهد الغائب .
وفي صحيحة
الفضلاء عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام انه قال قال أمير المؤمنين عليهالسلام : هلك الناس في بطونهم وفروجهم ، لأنهم لا يردون إلينا
حقنا ، ألا وان شيعتنا من ذلك وآبائهم في حل .
أقول : رواية
ابن المغيرة النضري ليست بصحيحة ، لان من رجالها أحمد بن محمد ، والمراد به هنا :
اما ابن خالد البرقي ، أو ابن عيسى القمي ، بقرينة رواية سعد ابن عبد الله عن أحمد
هذا ، فإنه يروي عن أحمدين المذكورين ، ولا قرينة هنا معينة لاتحاد الطبقة
والطرفين.
وهما وان كان
ثقتين على المشهور ، إلا أنهما ما مقدوحان على ما تقرر عندنا وفصلناه بما لا مزيد
عليه في أوائل بعض رسائلنا ، وخاصة ابن خالد البرقي ، وذلك للحيرة المنقولة فيه
بصحيح الخبر.
ففي الكافي في
باب النص على الأئمة الاثنا عشر عليهمالسلام في آخر حديث طويل هكذا : وحدثني محمد بن يحيى عن محمد
بن الحسن الصفار عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبي هاشم مثله. قال محمد بن
يحيى فقلت لمحمد بن الحسن : يا أبا جعفر وددت أن هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن
أبي عبد الله
__________________
قال فقال : لقد حدثني قبل الحيرة بعشر سنين .
ولا يخفى أنه
دال على الذم الكلي وعدم اعتبار الرجل في أقواله الا بتاريخ يميزها وليس ، ومنه
يظهر أن ما سماه صاحب المدارك بصحيحة الفضلاء ليست كذلك ، لان من رجاله أبو جعفر
الأشعري أحمد بن محمد بن عيسى القمي.
وهو وان كان
على المشهور ثقة غير مدافع ، الا أن قول أبي عمرو الكشي في ترجمة يونس بن عبد
الرحمن بعد نقله عن أحمد هذا نبذة من أخبار دالة على ذم يونس : فلينظر الناظر
فيعجب من هذه الاخبار التي رواها القميون في يونس وليعلم أنها لا تصح في العقل ،
وذلك أن أحمد بن محمد بن عيسى قد ذكر الفضل من رجوعه في الوقيعة في يونس ، ولعل
هذه الروايات كانت من أحمد قبل رجوعه .
يدفعه ويدل على
ذمه كلياً ، وعدم اعتباره في رواياته.
والأقوى عندي
التوقف فيه وفيما يرويه ، لانه نقل عنه أشياء تفيد عدم تثبته في الأمور ، بل تدل
على سخافة عقله ، مثل ما نقل عن الفضل قال : أحمد بن محمد هذا تاب واستغفر من
وقيعته في يونس لرؤيا رآها.
فان مستنده في
تلك الوقيعة ان كان دليلاً شرعياً يفيد العلم أو الظن المتآخم له ، فكيف يصح له
الرجوع عنه والاعتماد على ما رآه في المنام ، ولعله كان من أضغاث الأحلام ،
والعدول عما يقتضيه العلم الى ما يقتضيه الرؤيا مع احتمال كونها كاذبة غير مسوغ.
وان لم يكن له
عليه مستند شرعي ، كان ذلك منه بهتاناً قادحاً في عدالته بل ايمانه.
__________________
ومثله ما نقل
عنه في أحمد بن محمد بن خالد البرقي من ابعاده عن قم ، ثم إعادته إليها واعتذاره
اليه ومشيه بعد وفاته في جنازته حافياً حاسراً ليبرئ نفسه عما قذفه به ، فإنه يدل
على أنه رماه فيما رماه وهو شاك ، وكان عليه أن يتثبت في أمره ، فتركه وقذفه ثم
نفيه يقدح فيه.
وفي الكافي في
باب الإشارة والنص على أبي الحسن الثالث عليهالسلام حديث طويل وفيه ما يدل على ذم أبي جعفر هذا من وجهين ، كما بيناه في بعض حواشينا
عليه.
وبالجملة كلام
أبي عمرو الكشي في ترجمة يونس يفيد أن أحمد هذا قبل رجوعه عن الوقيعة في يونس كان
يضع روايات وحكايات تدل على ذمه بل كفره ، وهذا منه قدح عظيم في أحمد هذا ، يوجب
عدم الاعتماد على رواياته رأساً ، فإذا انضم اليه ما ذكرناه مما يدل على سخافة
عقله وعدم تثبته في الأمور يصير القدح فيه أجلى ، والتوقف في رواياته أحرى.
ثم أقول :
تحليل ماله مدخل في طيب الولادة انما هو الجارية التي نشتريها ممن لا يرى وجوب
الخمس ، أو نسبيها من بلاد الشرك ، فان فيها الخمس ، وهو حقهم عليهمالسلام فأحلوه لنا لتطيب ولادتنا ، وهو المراد بحقهم في أمثال
هذه الاخبار كما تدل عليه صحيحة الفضيل السابقة : انا أحللنا أمهات شيعتنا لآبائهم
ليطيبوا وأما ثمن الجارية ومهر الزوجة ، فداخلان في مئونة السنة
ولا خمس فيها ، فلا مدخل له في طيب الولادة ، ولا يتصور هنا غير ما ذكرناه شيء
يكون له مدخل في طيبها.
فأما ما قيل من
أن إباحة المناكح والمتاجر والمساكن يقتضي إباحة غيرها ، لاشتراكهما في المعنى
المطلوب شرعاً ، وهو تطيب الولادة ، بل في باقي الأموال
__________________
هذا المعنى فيه آكد ، فان الاغتذاء بالمال الحرام يقتضي أن يكون الولد من
النطفة المستفصلة من الأغذية المحرمة ، وذلك يوجب دخول الفساد في جوهر الولد
وماهيته ، بخلاف المناكح فإن الام كالوعاء والمسكن ، فإنه أبعد من ذلك.
ففيه نظر ، إذ
ليس في الشريعة المطهرة على صادعها وآله السلام أن من أكل حراماً وتكونت منه نطفة
يكون الولد الحاصل منها فاسد الجوهر خبيث الماهية مبغضاً لآل محمد عليهمالسلام ، والا يلزم أن يكون الناس كلهم إلا الشيعة فواسد
الجواهر خبائث الماهيات.
وهذا وان ورد
في بعض الاخبار المجهول سنداً ، الا أن التزامه مشكل ، بل يلزم أن يكون جل الشيعة
كذلك ، فإن أكثرهم وخاصة أرباب الدول منهم وأبناء الدنيا يغتذون بالمال الحرام ،
إذ الحرام غير منحصر في الخمس ، والمفروض أنه يقتضي أن يكون الولد من النطفة
المستفصلة من الأغذية المحرمة ، فيكون فاسد الجوهر خبيث الماهية ، ولا يلتزمه
المستدل.
وذلك بخلاف من
نكح امرأة محرمة عليه شرعاً ، فان الولد الحاصل منهما يكون فاسد الجوهر خبيث
الماهية مبغضاً لأهل البيت عليهمالسلام ، كما ورد في روايات بلغت أو كادت أن تبلغ حد التواتر ،
وان كان إيجاب ذلك لذلك إيجاب لا حق لا سابق ، والا لزمت صحة مذهب المجبرة ،
ولتحقيقه محل آخر قد فصلناه فيه.
ولأجل ما قلناه
خصوا عليهمالسلام الكلام في هذا المقام بالأمهات ، فقالوا : انا أحللنا
أمهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا. فقياس غير المناكح عليها قياس معه فارق ، فاباحتها
لا يقتضي إباحته لفقد جهة جامعة بينهما ، مع أن القياس في شرعنا مردود.
ثم ان رحم الأم
انما تكون كالوعاء والمسكن بالنسبة إلى الماءين الخبيثين والفساد في جوهر الولد
وماهيته انما يترتب عليهما لا عليها ، كما أشار إليه آية الله العلامة في جواب
مسألة بقوله : شر الكافر عرضي ممكن زواله مستند الى فعله
وهو اعتقاده وقوله ، وأما ولد الزنا فان شره ذاتي لا يمكن تغييره ولا
تبديله ، ولا يسلبه القدرة ولا اختيار الايمان ، والا لبطل تكليفه.
ولو فرض منه
وقوع الطاعات ، وانه عرف واعتقد ما يجب عليه كان من أهل النجاة ، لكن السيد
المرتضى ادعى خلافه ، لرواية ان ولد الزنا لا ينجب ، وانه لا يدخل الجنة فإن صحت هذه
الرواية فالوجه فيها أنه لخبث أصله وفساد طبيعته لا يقبل الألطاف الإلهية ، ولا
يصح منه اعتقاد الحق ، لتقصيره عن النظر الواجب عليه شرعاً المتمكن منه عقلا ولا
عذر له ، لان الواجب على الله تعالى بعثة الرسل وخلق القدرة والآلات والألطاف وقد
فعلها له ، فالتقصير منه . الى هنا كلامه رفع مقامه.
ولنا معه في
هذه المسألة مباحثات دقيقة ومناظرات لطيفة مذكورة في تعليقاتنا.
هذا ثم أقول :
لو كان الخمس ساقطاً بالكلية ، أو بقدر حصة الإمام عليهالسلام مقيداً بالأبد والدوام بإسقاط الباقر والصادق عليهماالسلام ، لما جاز للإمام بعدهما أن يأمر وكيله بالقيام بأمره
وأخذ حقه من الخمس ، ولا أن يقول في جواب من سأله عن حقه أي شيء هو يجب عليهم
الخمس؟ وأي خمس يجب عليهم؟ وهو ساقط عنهم بالكلية أو بقدر حقه عليهالسلام.
فهذان القولان
يستلزمان رد الصحاح الصراح في وجوب الخمس على الذين كانوا في عهد الرضا والجواد
والهادي والعسكري عليهمالسلام ، لان وجوبه عليهم في هذه الأزمان مع سقوطه عنهم فيها
لا يجتمعان.
فقول الفاضل
الأردبيلي رحمهالله في شرح الإرشاد بعد نقل رواية أبي خديجة سالم بن مكرم
وستأتي : وهذه فيها عموم الأخذ والمأخوذ منه ، فليس المخصوص
__________________
بالمناكح وقسيميه ولا بزمان دون آخر . وقوله وقد سبق مع التصريح في البعض بالسقوط إلى القائم
ويوم القيامة ، ورام بذلك أن يستدل به على سقوط الخمس بالكلية على الدوام من زمن
الباقرين عليهماالسلام الى يوم القيام.
محل نظر ، لان
ما دل على السقوط إلى القائم عليهالسلام انما ورد في خصوص الأرض ولا فيه الكلام ، ومثله ما دل
على السقوط الى يوم القيام كما أشرنا اليه ، على أنهما غير صحيحي السند ، لأن أبا
خديجة في رواية إلى يوم القيامة مختلف فيه ، وقد رجح بعض أرباب الرجال التوقف فيما
يرويه. ومسمع بن عبد الملك في رواية السقوط إلى القائم غير مصرح بتوثيقه ، كما صرح
به قدسسره في شرح الإرشاد.
وذلك بخلاف
رواية علي بن مهزيار وغيرها الدالة على وجوب الخمس وبقائه ، فإنها كما سبقت صحيحة
صريحة في الوجوب والثبوت ، فوجب أن يكون بناء العمل عليها لا عليهما.
فظهر أن الأمر
على خلاف ما ظنه قدسسره ، فإنه رد الأخبار الدالة على ثبوته بعدم الصحة ، ولا
كذلك الأمر ، بل الدالة على سقوطه دائماً غير صحيحة ، والدالة على ثبوته كذلك صحاح
صراح فيه.
وبالجملة ما من
عام الا وقد خص حتى هذا ، فإذا دلت أخبار صحيحة على عدم سقوط حق من بعد المحلل
بتحليله ، والأصل أيضاً عدمه بعد ثبوته ، فهي مع صحتها مطابقة للأصل ، فلا بد :
اما من تخصيص الحق بحقه في زمانه ، أو من تخصيص ما دل على الإباحة والرخصة في
تناول الخمس والتصرف فيه دائماً بالمناكح
__________________
وقسميها من المتاجر والمساكن ، أو بما ينتقل إلينا ممن لا يرى وجوب الخمس أو بغير
ذلك كما مر مفصلا.
إذا الجمع بين
الاخبار مهما أمكن أولى من اطراح بعضها رأساً ، وخاصة إذا كان ذلك البعض مما تلقاه
بالقبول جم غفير من الفحول وجمع كثير من اولي الألباب والعقول.
ويشيد أركان
بعض ما قلناه أن ظاهر بعض الاخبار أن أصحابهم عليهمالسلام كانوا يسألونهم عن إباحة الجارية المشتراة من المخالفين
ومهر الزوجة والميراث وأرباح تجارات ، أو هبة أو هدية كانت تصيبهم من أهل الخلاف ،
فأباحوا لهم ذلك ، لا ما يوجد عند الشيعة مما يجب عليهم فيه الخمس.
روى سالم بن
مكرم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال قال رجل وأنا حاضر : حلل لي الفروج ، ففزع أبو عبد
الله عليهالسلام فقال له رجل : ليس يسألك أن يعترض الطريق انما يسألك
خادماً يشتريها ، أو امرأة يتزوجها ، أو ميراثاً يصيبه ، أو تجارة ، أو شيئاً
أعطيته فقال : هذا لشيعتنا حلال الشاهد منهم والغائب والميت
منهم والحي ، وما يولد منهم الى يوم القيامة فهو لهم حلال ، أما والله لا يحل الا
لمن أحللنا له ، لا والله ما أعطينا أحداً ذمة ، وما عندنا لأحد عهد ولا لأحد
عندنا ميثاق .
أقول : سالم بن
مكرم مختلف فيه ، وثقة النجاشي ، وضعفه البرقي ، وقال الشيخ الطوسي : انه ضعيف جداً ، وقال
في موضع آخر انه ثقة.
__________________
قال ملا ميرزا
محمد في الأوسط : الوجه التوقف فيما يرويه لتعارض الأقوال فيه.
أقول : فلا يصح
الاحتجاج بروايته هذه على دوام إباحة الخمس ، ولا برواية أبي سيار المتقدمة ،
فإنها حسنة لا صحيحة ، كما اعترف به الأردبيلي رحمهالله حيث قال : قال في المختلف : انها صحيحة الا أن مسمع بن
عبد الملك أبا سيار ما صرح بتوثيقه بل مدح .
أقول : وفيه ان
الكشي نقل عن محمد بن مسعود أنه قال : سألت علي بن الحسن بن فضال عن مسمع هذا ،
فقال : انه من أهل البصرة وكان ثقة . فهذا تصريح بتوثيقه ، ولعله رحمهالله لم يعتبر توثيق ابن فضال ، وهو مشكل.
الفصل
الثالث
[
ضعف القول بالوصية بالخمس ودفنه ]
وكذلك القول
بالوصية به وبدفنه ضعيفان ، إذا التأخير فيه آفات ، وهو عليهالسلام غني عن مثل هذا المال وشيعته محتاجون اليه ، ولا ضرر في
صرفه فيهم عليه ، فهو أولى من تأخيره إلى زمان حضوره.
كما أشار إليه صاحب
المفاتيح فيه في حاشيته المعلقة على قوله « ولو صرف الكل إليهم لكان أحوط وأحسن »
بقوله : وربما يؤيد ذلك على تقدير ثبوت حقه عليهالسلام بأنه لا ضرر في مثل هذا التصرف عليه بوجه ، فينتفى
المانع منه ، بل يعلم رضاه إذا كان المدفوع اليه من أهل الاضطرار والتقوى ، وكان
المال في معرض التلف
__________________
مع التأخير ، كما هو الغالب في مثل هذا الزمان ، فيكون دفعه إليهم إحساناً
محضاً و ( ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ).
أقول : إلى هنا
مذكور في المدارك ، ثم قال السيد السند : وهو حسن لو لا ما تلوناه سابقاً من
الاخبار المتضمنة لتحليلهم عليهمالسلام لشيعتهم من ذلك ، وطريق الاحتياط بالنسبة إلى المالك
واضح.
أقول : وفيه ما
عرفته.
ثم قال صاحب
المفاتيح : ولو صحت الرواية الواردة بوجوب إتمام كفايتهم عليه عليهالسلام لكان القول به متعيناً ، لكن في سنده ضعف ، وأنكره
الحلي محتجاً بأن الله سبحانه جعل للإمام قسطاً وللباقين قسطاً ، فلو أخذ الفاضل
وأتم الناقص لم يبق للتقدير فائدة ، ولا يخلو من قوة .
أقول : وعلى
هذا فلا يجب صرف حقه عليهالسلام في الأصناف الباقين ، بل يجوز صرفه فيهم وفي غيرهم من
أهل ولايته وفقراء شيعته إذا كانوا مضطرين اليه ومن أهل التقوى ، إذ لا دليل على
وجوب صرفه في باقي الأصناف على سبيل تتمة مؤونتهم ومعوز نفقتهم ، الا ما ورد أنه عليهالسلام لو كان ظاهراً ، أو كان هؤلاء محتاجين الى نصيبه لصرفه
فيهم حتى يستغنوا به عن غيره ، لان الناقص عليه كما أن الزائد له ، وقد عرفت ما
فيه.
وإذا سقط هذا
فيجوز صرفه في الفريقين ، لما في التأخير بالدفن أو الوصية به من الآفات مع غناه عليهالسلام عنه بما جعله الله من مفاتيح كنوز الأرض وغيرها ، وهذا
هو الفارق بين الخمس والزكاة إذا عدم مستحقها.
واليه أشار ابن
حمزة بقوله : وإذا لم يكن الامام حاضراً فقد ذكر فيه أشياء
__________________
والصحيح عندي أنه يقسم نصيبه الى مواليه العارفين بحقه من أهل الفقه
والصلاح والسداد .
أقول : ويؤيد
ما قلناه من ضعف القول بالوصية ، لأن المال بالتأخير في عرضة التلف ، ما نقل من أن
محمد بن أحمد بن جنيد الإسكافي الثقة الفاضل المشهور المذكور سابقاً كان عنده مال
للصاحب عليهالسلام وسيف أيضاً ، وأنه أوصى به الى جاريته فهلك ذلك ، كذا
في رجال النجاشي ، قال : سمعت بعض شيوخنا يذكر ذلك والعلم عند
الله.
الفصل
الرابع
في
تعيين من له الولاية لتفريق ما يخصه عليهالسلام في المحاويج
قال الفاضل
العلامة في جواب من سأله بهذه العبارة : ما يقول سيدنا الإمام في نصيب صاحب الزمان
من الخمس؟ هل يذهب مولانا الى صرفه الى المحتاجين من بني عبد المطلب أم لا؟ فان
كان سيدنا أيده الله يذهب الى ذلك ، فهل يكون حكم ماله عليهالسلام من غير الخمس كميراث من لا وارث له وغيره مما هو مختص
به حكم نصيبه من الخمس في جواز صرفه الى المحتاجين من بني عبد المطلب أم لا؟
قال : في هذه
المسألة خلاف بين أصحابنا ، والمعتمد : اما حفظ نصيبه عليهالسلام الى حين ظهوره ، أو تفريقه في المحاويج من باقي الأصناف
على سبيل تتمة مؤونتهم ومعوز نفقتهم بإذن حاكم الشرع .
__________________
ظاهره ثبوت حقه
عليهالسلام ووجوب إخراجه على المالك وصرفه في المحتاجين من باقي
الأصناف. ويفهم منه اعتبار الحاجة في اليتيم منهم أيضاً ، والتسوية بين حفظ نصيبه
: اما بالدفن ، أو الوصاية به الى حضوره ، وبين صرفه في المحتاجين منهم من باب تتمة
المئونة.
وقد عرفت ضعف
القول بهما ، وان الأقوى جواز صرفه فيهم وفي غيرهم من مواليه وشيعته. ومنه يظهر أن
توقفه في المختلف فيه ، أي : في جواز صرفه في فقراء الشيعة غير الهاشميين ، كما
يقتضيه كلام المفيد وابن حمزة في غير موقفه ، إذ لا دليل على وجوب صرفه فيهم الا
ما سبق ، وقد عرفت ضعفه ، وعدم الفرق بين الخمس وغيره مما هو مختص به عليهالسلام في جواز صرفه في المحاويج ولكن المتولي بذلك هو الفقيه
العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى ، لانه المنصوب من قبله عليهالسلام على وجه العموم ، وهو المراد بحاكم الشرع ، فلو تولى
ذلك غيره كان ضامناً عند كل من أوجب صرفه إلى الأصناف. كذا قال الشهيد الثاني في
شرح الشرائع ، وهو المأخوذ مما في المختلف.
وهل يجوز قسمة
المختص بالإمام عليهالسلام في المحاويج من الذرية؟ كما ذهب إليه جماعة من علمائنا
، الأقرب ذلك ، لما ثبت بما تقدم من الأحاديث إباحة البعض للشيعة حال ظهورهم ،
فإنه يقتضي أولوية إباحة أنسابهم عليهمالسلام مع الحاجة حال غيبة الإمام عليهالسلام لاستغنائه وحاجتهم.
ثم قال : إذا
ثبت هذا فإن المتولي لنفريق ما يخصه في محاويج الذرية من اليه الحكم على الغائب ،
لأنه قضاء حق عليه كما يقضى على الغائب ، وهو الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى
والحكم ، فان تولى ذلك غيره كان ضامناً.
ثم قال : وهل
يجوز التفريق في فقراء الشيعة غير الهاشميين؟ كلام المفيد وابن حمزة يقتضي ذلك ،
ونحن فيه من المتوقفين.
أقول : كل من
قال بوجوب إتمام كفاية باقي الأصناف عليه عليهالسلام وان الحق الواجب لا يسقط بغيبة من يلزمه ذلك ، فلا يجوز
له أن يصرفه في غيرهم ما دام فيهم محتاج.
ومن لم يقل
بذلك أو قال بسقوط فرضه بالكلية ، أو بسقوط حقه عليهالسلام خاصة ، أو بثبوته وعدم وجوب الإتمام عليه ، فله أن
يصرفه في غيرهم وان كان فيهم محتاج إذ لا دليل حينئذ على وجوب صرفه فيهم ، بل ولا
على استحبابه أيضاً ، بل ربما كان الواجب صرفه في غيرهم إذا كان ذلك الغير أشد
منهم حاجة ، وكان من أهل الفقه والصلاح والسداد ولم يكن فيهم عارف بحقه عليهالسلام ، أو كان ولم يكن من أهل الصلاح ، أو كان ولم يكن بتلك
المرتبة من الحاجة ، فرب عبد حبشي خبر من سيد قرشي.
ثم ان المجتهد
وان لم يكن عدلا إذا رجح في نظره ثبوت حقه عليهالسلام وانه لا ضرر عليه في صرفه في فقراء الشيعة من أهل
الاضطرار والتقوى وأيتامهم وأبناء سبيلهم ، وكان المال في معرض التلف مع التأخير ،
يكون في دفعه إليهم محسناً محضاً ، و ( ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) ، فمن أين يلحقه الضمان والحال هذه؟
ولم يدل دليل
على وجوب كونه عدلا منصوباً من قبله عليهالسلام ، وخاصة إذا كان حقه عليهالسلام في ذمة هذا المجتهد وأراد تبرئتها منه ، فلا عليه أن
يدفعه إليهم من غير اذن الحاكم ، فان القدر الضروري المحتاج إليه في هذه المسألة
هو العلم بحقيقتها وصورتها ثم العمل بمقتضاه.
وأما ملكة
العدالة فشرط في جواز العمل بقوله لا في صحة عمله ، فإذا اجتهد في مسألة وعلم
حكمها وجب عليه العمل بمقتضاه ، ولا يجوز له الرجوع فيها الى الغير.
بل ظاهر كلام
المفيد في المسائل الغربة يفيد جواز تولي المالك ذلك بنفسه
وان كان لا يخلو من اشكال ، كما سنشير اليه حيث قال : إذا فقد إمام الحق
ووصل الى إنسان ما يجب فيه الخمس ، فليخرجه الى يتامى آل محمد ومساكينهم وأبناء
سبيلهم ، وليوفر قسط ولد أبي طالب لعدول الجمهور عن صلتهم ، ولمجيء الرواية عن
الأئمة الهدى بتوفير ما يستحقونه من الخمس في هذا الوقت على فقراء أهلهم وأيتامهم
وأبناء سبيلهم.
ويمكن أن يكون
مراده أن ذلك الإنسان يجوز له أن يخرج إليهم نصيبهم لا نصيبه عليهالسلام أيضاً ، كما تشعر به الرواية المذكورة ، فإنهم إنما
يستحقون من الخمس نصيبهم لا نصيبه ، فليتأمل.
وبالجملة كل من
كانت له ملكة الاجتهاد وان لم تكن له ملكة العدالة ، إذا رجح في نظره ثبوت حقه عليهالسلام وجواز صرفه في المحاويج ، فإذا أخذه من الغير أو كانت
ذمته مشغولة به ، وصرفه فيهم من باب الإحسان إليهم ، برأت ذمته وخرج عن عهدة
التكليف ولا ضمان عليه ، لانه محسن و ( ما عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ).
نعم في دفع غير
هذا المجتهد حقه عليهالسلام اليه ليصرفه في المصارف ، اشكال بالنسبة الى ذلك الغير
لا بالنسبة اليه ، الا أن يعلم أنه يصرفه فيها ، فحينئذ يرتفع الإشكال بالإضافة
إليه أيضاً.
فقول المحقق
الثاني الشيخ علي في حواشيه على الشرائع : لما كان صرف حصة الإمام عليهالسلام الى الأصناف انما هو بطريق النيابة عنه مع ما يحتاج
اليه ذلك من الاحتياط والاجتهاد ، لكونه تصرفاً على غائب لم يجز لغير من له
النيابة صرفه فلو استقل من عليه الخمس بصرف حصة الإمام عليهالسلام الى الأصناف على الوجه المذكور ، أو دفعه الى من ليس له
أهلية الحكم ، فكل منهما ضامن لتعديهما. محل نظر.
وكذا قول
الفاضل الأردبيلي في شرح الإرشاد : لا شك أن صرف حصته عليهالسلام الى الفقيه المأمون الجامع لشرائط الفتوى هو الاولى ،
كما في الزكاة مع الإمكان. والظاهر أنه لا ينبغي النزاع وقت التعذر بل التعسر
أيضاً.
وبالجملة
الاحتياط في الصرف اليه مع الوجود والإمكان ، والا فبمصلحة بعض الطلبة المأمونين
مع الاقتصار بالإعطاء على سبيل التتمة ، والأحوط الاختصار على قدر الحاجة يوماً
فيوماً ، أو قضاء ديونهم ، أو اشتراء كسوتهم ومسكنهم على تقدير الاحتياج التام ،
خصوصاً في الشتاء وكسوة الليل والنهار ، ولا يبعد الإعطاء لمئونة السنة التي يحتاج
اليه ، كما يفعله عليهالسلام من إعطاء مئونة كما في الروايات.
وينبغي التعميم
وملاحظة الأحوج والأعجز ، وتقديمهم على غيرهم ، ومراعاة النساء والأيتام أكثر من
جميع أقسام الاحتياج ، من المسكن والملبس والمأكل والمشرب ، بل المنكح أيضاً على
تقدير الضرورة .
أيضاً محل نظر
، وهما على طرفي إفراط وتفريط ، لان هذه المسألة من متشابهات هذا الفن كما صرحوا
به ، فمن لم يكن مجتهداً ولم يرجح في نظره ثبوت حقه عليهالسلام وجواز صرفه في فقراء شيعته عليهالسلام ، أو في الأصناف الباقين على سبيل تتمة المئونة ، كيف
يسوغ له صرفه فيهم؟ مع القول بوجوب الدفن أو الوصية به ، اما بجميعه أو ببعضه على
اختلاف القولين.
وقد أوجب ابن
إدريس حفظ ما يستحقه عليهالسلام الى أن يظهر ، فإن أدركته الوفاة قبل ظهوره أوجب أن
يوصي به ، ومنع من دفنه ، وحرم تفريقه على غيره من بني هاشم وغيرهم ، ومنع من ذلك
كل المنع ، وادعى تطابق الأدلة العقلية والنقلية وفتاوي المحصلين من أصحابنا ،
فبعض الطلبة ان كان مجتهداً ، والا فلا يجوز له
__________________
التصرف في حقه عليهالسلام ، بل في مطلق الخمس ، لاحتمال أن يكون كله حق الامام عليهالسلام ووجوب الدفن أو الوصية به الى زمان حضوره.
ومنه يعلم أن
الأحوط للمالك بل الواجب عليه أن لا يصرف حصص الباقين فيهم الا بإذن من له الاذن ،
فلعله يأمره بدفن الجميع أو الوصية به ، ولعله رحمهالله نظر الى ما يفيده ظاهر كلام المفيد.
وفيه أن هذه
مسألة مختلف فيها ، وكل مسألة كذلك لا بد في العمل بها من الرجوع الى من اليه
الرجوع. وهذا على ما تقرر عندهم من أن المكلف في هذا الزمان : اما مقلد ، أو مجتهد
، والأول يجب عليه الرجوع في أخذ الأحكام الى الثاني ظاهر ، وكيف يسوغ له إذا لم
يكن مجتهداً ، أو مأذوناً منه أن يتولى ذلك بنفسه؟ وهو لا يعلم أن هذا حلال له أو
حرام عليه ، فلعل الواجب عليه في هذا الوقت دفنه ، أو الوصاية به ، أو صرفه في
المحتاجين من الشيعة ، أو في خصوص الباقين من الأصناف الى غير ذلك. فاختياره بعض
ذلك دون بعض من غير مرجح ترجيح بلا مرجح ، ومعه فهو مجتهد وهو خلاف المقرر .
ومما قررناه
علم أن الواجب على كل من وجب عليه الخمس وأراد أن يخرج من عهدة التكليف يقيناً
صرفه الى من اليه الحكم ، أو الاستئذان منه في صرفه الى مصارفه ، والا لم تبرأ
ذمته بإخراجه إلى الأصناف ، لاحتمال أن يكون في هذا الوقت مكلفاً بدفنه مثلا على
رأي فقيه زمانه ، وحينئذ فلا يخرج عن عهدة التكليف بإخراجه إليهم ، فليتأمل.
__________________
الخاتمة
[
في جواز تفريق الخمس على المحتاجين ]
لما ثبت أن حقه
عليهالسلام ثابت ، ولم يرد فيه منه شيء ، ولم يمكن في هذه الأزمان
إيصاله اليه ، وكان في تأخيره بالدفن أو الوصية به الى زمان حضوره خطر عظيم وآفة ،
وكان فقراء شيعته محتاجين اليه ولا ضرر عليه في صرفه إليهم وتفريقه فيهم يعلم منه
بالضرورة العادية رضاه بذلك.
ومنه يعلم وهن
ما حرمه ابن إدريس من تفريقه مطلقاً على بني هاشم وغيرهم إذ مسلم أن العقل والنقل
من الإجماع والنصوص القرآنية وفتاوي المحصلين من أصحابنا متطابقة على تحريم التصرف
في مال الغير بغير اذنه ، ولكن إذا كان ذلك الغير يتضرر بمثل هذا التصرف ، وقد سبق
أن لا ضرر عليه فيه ، فينتفي المانع منه ، ولذلك جاز الاستظلال بجداره والاصطلاء
بناره ، لعدم تضرره به ، مع أن دفنه أبعد من التلف من حفظه بالوصية ، فالمنع من
دفنه كوجوب الإيصاء به ساقط ويؤيد ذلك أن أحدنا إذا كان غائباً وكان له مال في
معرض التلف ، ولم يمكن حفظه وضبطه إلى أوان رجوعه ، وكان له أولياء متقون مضطرون
اليه ، يعلم بالضرورة أن رضاه في دفعه إليهم وصرفه فيهم ، وأنه بعد إيابه إليهم لا
يؤاخذ الدافع ولا المدفوع اليه ، بل يسر ويستحسن ذلك منهم ، والا لكان سفيهاً لئيماً
ممن لا يعبأ به ولا بماله ، وسيدنا عجل الله فرجه وسهل مخرجه وجعلنا من الذين تقر
أعينهم غداً برؤيته في امارته ودولته منزه عن ذلك.
والحمد لله
أهله والصلاة على محمد وخيرة رحله. تمت بعون الله وحسن توفيقه.
وتم استنساخ
وتصحيح الرسالة في (١٦) ذي الحجة سنة (١٤١٠) في مشهد الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئى
(١٣)
|
|
رسالة
في
أقل المدة بين العمرتين
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد إسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهديّ الرّجائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي
ندب الى الحج والعمرة ، والصلاة على رسوله سيدنا محمد وآله كاشفي الغمرة.
وبعد : فلما
أراد بعض إخواني في الدين أن يجاور بيت الله تعالى بعض تلك السنين ، وكان في نيته
أن يكون أيام المجاورة من المعتمرين ، وكان أقل المدة بين العمرتين مختلفاً فيه
بين أرباب اليقين ، التمس مني أن أشير الى ما هو الراجح عندي ليكون عليه مدار
العمل ، حفظه الله تعالى وإيانا عن الخطأ والزلل فأجبته الى ذلك مستعيناً بالله
ومتوكلا عليه ، ومفوضاً أموري كلها قليلها وجليلها اليه.
فأقول ، وأنا
العبد الراجي رحمة ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا الشهير بإسماعيل : اختلف
أصحابنا رضوان الله عليهم في أقل مدة ينبغي أن يكون بين العمرتين ، فقيل : هو عشرة
أيام ، فيكره أن يأتي بعمرتين بينهما أقل منها. وقيل : يحرم. وقيل : لا يكون في
الشهر إلا عمرة واحدة. وقيل : لا تكون في سنة عمرتان.
وقيل : الأصح
جواز تواليهما على كراهية ، والأفضل أن يكون بينهما شهر وأقله عشرة أيام. والى هذا
القول يشير قول من قال : لا حد للمدة بين العمرتين وحسنه بعض متأخريهم ، لأن فيه
جمعاً بين الاخبار الدال بعضها على الشهر ، وبعضها على السنة ، وبعضها على عشرة
أيام ، بتنزيل ذلك على مراتب الاستحباب فالأفضل بينهما بعشرة أيام ، وأكمل منه
بشهر ، وأكثر ما ينبغي أن يكون بينهما السنة.
وقال سيدنا
الإمام في مدارك الاحكام : ذهب السيد المرتضى وابن إدريس والمحقق وجماعة إلى جواز
الاتباع بين العمرتين مطلقا ، لإطلاق الأمر بالاعتمار. وقال ابن أبي عقيل : لا
نجوز عمرتان في عام واحد. وقال الشيخ في المبسوط : أقل ما بين العمرتين عشرة أيام.
وقال أبو الصلاح وابن حمزة والمحقق في المنافع والعلامة في المختلف : أقله شهر .
وأنا أذكر
الأخبار الواردة في هذا الباب بعون الله الملك الوهاب ، ثم أشير الى ما هو الراجح
عندي من هذه الأقوال ، مستعيناً بالله ومتوسلا برسوله وآله خير آل ، وذلك بالدليل
والبيان ، لا بالتقليد أو ميل الطبع والاستحسان ، كما هو دأب أهل هذا الزمان
والمكان ، وهو بلدتنا هذه المسماة بأصفهان.
والى الله
المشتكى ثم الى رسوله وآله ، وسيما صاحب هذا العصر والزمان عليه وعلى آبائه
المعصومين صلوات الله الملك المنان ، اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه ، واهدنا به لما
اختلف فيه من الحق بإذنك انك تهدي من تشاء الى صراط مستقيم.
__________________
فصل
[
الأخبار الواردة في أقل المدة بين العمرتين ]
في الكافي : في
باب العمرة المبتولة في موثقة يونس بن يعقوب قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : ان علياً عليهالسلام كان يقول في كل شهر عمرة .
وفيه : في
صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : في كتاب علي عليهالسلام في كل شهر عمرة .
وفيه : في
رواية علي بن أبي حمزة قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجل يدخل في السنة المرة أو المرتين أو الأربعة كيف
يصنع؟ قال : إذا دخل فليدخل ملبياً ، وإذا خرج فليخرج محلا ، قال : ولكل شهر عمرة
، فقلت : يكون أقل؟ قال : لكل عشرة أيام عمرة ، ثم قال : وحقك لقد كان في عامي هذه
السنة ست عمر. قلت : لم ذاك؟ فقال : كنت مع محمد بن إبراهيم بالطائف ، فكان كلما
دخل دخلت معه .
وفي الفقيه :
في باب العمرة في كل شهر وفي أقل ما يكون ، عن إسحاق ابن عمار قال قال أبو عبد
الله عليهالسلام : السنة اثنا عشر شهراً يعتمر لكل شهر عمرة .
أقول : اختلف
كلام أصحابنا المتأخرين في سند هذه الرواية.
فقال ملا ميرزا
محمد في أواخر رجاله الأوسط : طريق الصدوق إلى إسحاق ابن عمار صحيح ، الا أن في
إسحاق قولا كما في الخلاصة .
__________________
وقال مولانا
الفاضل عناية الله القهبائي في أواخر كتابه المسمى بمجمع الرجال بعد نقل السند عن
مشيخة الفقيه هكذا : وما كان فيه عن إسحاق بن عمار فقد رويته عن أبي رضياللهعنه عن عبد الله بن جعفر الحميري عن علي بن إسماعيل عن
صفوان بن يحيى عن إسحاق بن عمار ، السند حسن.
وقال في
الحاشية : لعل المراد بعلي بن إسماعيل ابن أخي إسحاق بن عمار ابن حيان .
والظاهر أنه
انما حكم بكونه حسناً لاشتماله على علي هذا ، وأشار بقوله « عمار بن حيان » الى
الرد على العلامة في الخلاصة حيث جعل اسحاقين : إسحاق ابن عمار بن حيان الثقة
الإمامي الراوي عن المعصوم ، وإسحاق بن عمار بن موسى الساباطي الفطحي الغير الراوي
عنه متحداً واشتبه الأمر عليه واضطرب كلامه فيهما ، كما لا يخفى على الناظر اليه.
والحق أن
المراد به هنا ابن حيان الصيرفي ، كما أشار إليه هذا الفاضل زيد أجره ، والسند كما
أفاد حسن لا صحيح.
وفي الفقيه
أيضاً : عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى عليهالسلام قال : لكل شهر عمرة ، قال فقلت له : أتكون أقل من ذلك؟
قال : لكل عشرة أيام عمرة .
قال الشارح
الفاضل التقي المتقي قدسسره في شرحه على الفقيه بعد نقل قوله عليهالسلام « ولكل شهر عمرة » أي : لا أقل ولا أكثر كما فهمه
الراوي ، ولهذا قال : فقلت له أتكون أقل من ذلك .
__________________
أقول : لا يخفى
أن قوله هذا لا يدل على أنه فهم من قوله عليهالسلام هذا نفي الأكثر بل فهمه منه في غاية البعد ، لأنه إذا
جازت لكل شهر عمرة ، فجوازها لأكثر منه كهو ونصفه وثلثه وربعه الى غير ذلك أولى ،
نعم تخصيص الشهر لما كان موهماً لنفي جواز إيقاعها في أقل منه سأله عنه ، فقال : أتكون
لأقل من شهر عمرة ، قال عليهالسلام في جوابه : نعم لكل عشرة أيام عمرة. فيكون الوجه في
تخصيص الشهر تأكد استحباب إيقاعها في كل شهر ، لا عدم جواز إيقاعها في أقل منه كما
فهموا منه ، كيف؟ ولو كان الأمر كذلك لكان بين الحكمين تناقض ولا يخفى.
ومن هذا الخبر
يستفاد وجه التوفيق بين أخباره وأخبار دلت على استحباب إيقاعها في أقل منه ، فإن
الأولى محمولة على تأكد الاستحباب والثانية على أصله.
ولا يذهب عليك
أن ظاهر الكليني والصدوق يفيد أنهما كانا يعملان برواية العشرة أيضاً ، لأن كلا
منهما شهد في أول كتابه بأن ما يرويه فيه هو الحجة التي عليها العمل ، وبها يؤدي
فرض الله عزوجل.
هذا وروى الشيخ
في الاستبصار في باب أنه تجوز في كل شهر عمرة بل في عشرة أيام ، عن معاوية بن عمار
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : كان علي عليهالسلام يقول : لكل شهر عمرة .
وفي التهذيب عن
يونس بن يعقوب قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : كان علي عليهالسلام يقول : لكل شهر عمرة .
وسند الروايتين
فيه صحيح.
وفيه : عن
الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : العمرة في كل سنة مرة .
__________________
وفيه : عن حريز
عن أبي عبد الله عليهالسلام وجميل عن زرارة عن أعين عن أبي جعفر عليهالسلام قال : لا تكون عمرتان في سنة .
فصل
[
الجمع بين الاخبار الواردة ]
قال الشيخ في
الكتابين : المراد بهذين الخبرين أنه لا يكون في السنة عمرة يتمتع بها الى الحج
الا دفعة واحدة. وأما العمرة المبتولة التي لا يتمتع بها الى الحج ، فهي جائزة في
كل شهر . وفي الاستبصار : بل في عشرة أيام . وقد سبق لهما
محمل آخر.
والحاصل أن
العمرة في هذين الخبرين مطلقة ، فاما أن تقيد بالمرتبطة بالحج وحينئذ فلا إشكال.
أو يقال : المراد بها المبتولة ، ولكنها منزلة على مرتبة من مراتب الاستحباب كما
سبق ، وسيأتي أيضاً أن أكثر ما ينبغي أن يكون بين العمرتين المبتولتين من الفصل
والزمان هو السنة ، ولعل الأول أولى فتأمل.
وأما حمله على
التقية ، كما حمله عليها صاحب الوافي فيه بعد نسبته ما حمله عليه شيخ الطائفة إلى
البعد ، ففي غاية البعد ، بل هو خلاف الواقع والعيان ، لان المعروف من مخالفينا في
هذا العصر والزمان هو أنه تكون في كل يوم عمرة بل عمرتان ، كما نقل عن فعل بعضهم
بعض من نثق بقوله من أصحابنا أنه رآه أتى بعمرتين في يوم من أيام شهر رمضان ، فإذا
كان مذهبهم هذا فكيف يصح
__________________
حمل رواية السنة على التقية؟ وهو قدسسره أعرف بما قال ، والله أعلم بحقيقة الحال.
وقد علم مما
نقلناه عن الشيخ أنه كما قال في المبسوط بأن أقل مدة بين العمرتين عشرة أيام ، كذلك قال بها في الاستبصار
، وعلم منه ومما سبق جواب ما قال به ابن أبي عقيل من عدم جواز العمرتين في
عام واحد مستدلا بهذين الخبرين.
والسبب المقدم
لنا على هذا التأويل أن روايات السنة بدونه تدل على عدم جواز العمرة مطلقاً في كل
سنة الا مرة ، وروايات الشهر تدل على استحبابها في كل شهر ، وهما صحيحتا الأسانيد
، فإذا تعارضتا تساقطتا ، فيبقى دليل القول بجواز التوالي سالماً عن المعارض ،
لضعف سند رواية عشرة أيام.
فإذا أردنا
التوفيق بينهما ، فلا بد لنا من حمل الاولى على ما حملها عليه شيخ الطائفة ، من أن
العمرة المرتبطة بالحج لا تكون في كل سنة إلا مرة ولا تكون مرتين إذ لا حج في كل
سنة إلا مرة. وحملها على مرتبة من مراتب الاستحباب كما مضى وسيأتي أيضاً ، وان كان
جامعاً بين الاخبار أيضاً الا أنه بعيد عند التأمل.
وأما الجواب عن
قول من قال بأن أقل الفصل بين العمرتين هو الشهر مستدلا بالاخبار السالفة ، فهو أن
هذه الاخبار غير صريحة في المنع من تكرار العمرة في الشهر الواحد ، إذ من الجائز
أن يكون الوجه في تخصيص الشهر تأكد استحباب إيقاعها في كل شهر ، ولا يلزم من ذلك
عدم مشروعية تكرارها في الشهر الواحد ، الا أن إثبات المشروعية يتوقف على ورود
الأمر بذلك خصوصاً أو عموماً ولم أقف في ذلك على نص يعتد به ، والمسألة محل تردد ،
وان كان اعتبار الشهر
__________________
لا يخلو من قوة ، كذا ذكره السيد الإمام في مدارك الاحكام .
وحاصله أن
العبادات الشرعية توقيفية لا بد وأن تكون متلقاة من الشارع ، وتكرار العمرة في
الشهر الواحد مما لم يرد فيه منه أمر لا خصوصاً ولا عموماً.
وأما ما ورد
فيه عن ابن أبي حمزة من جواز تكرارها في الشهر الواحد ، فهو ضعيف السند فلا يعتد
به. وفيه أن إطلاق الأمر بالاعتمار ، وعموم قول سيد الأبرار صلوات الله عليه وآله
الأطهار : العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما حيث لم يفصل . يدلان على
مشروعية تكرارها في الشهر الواحد.
ومثله صحيحة
ابن عمار عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام : المعتمر يعتمر في أي شهور السنة شاء . حيث أطلق ولم
يفصل ، فيفيد العموم ومشروعية تكرارها في الشهر الواحد. فيبقى القول بالعشرة ،
ودليله وان كان ضعيفاً لا يعتد به ، سالماً عن المعارض ، متأيداً بما ذكرناه من
الإطلاق والعموم ، وكذا القول بجواز الاتباع.
وبالجملة عدم
الدليل على عدم الجواز مع الإطلاق والعموم المذكورين دليل على الجواز ، والأول
مسلم عنده كما سبق ، والثاني ظاهر مما سبق.
ومما قررناه
ونقلناه ظهر وجه التوفيق بين تلك الاخبار ، وجواز الإتيان بعمرتين بينهما أقل من
عشرة أيام من غير كراهية فيه ، لأن تأكد استحبابها في كل شهر لا يستلزم مفضولية
إيقاعها في أقل منه.
والحاصل أن
العمرة لما كانت من العبادات المرغب فيها لقوله صلىاللهعليهوآله « العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما » و « المعتمر
يعتمر في أي شهور السنة شاء » فتكرارها
__________________
مطلوب ، فكلما كان تكرارها أكثر كان ثوابها وآثارها المطلوبة منها كذلك ،
فإذا لم يقدر المكلف على الإتيان بها ولاءً ، فعليه أن يأتي بها في كل عشرة أيام ،
فإذا لم يقدر عليه فالإتيان بها في كل شهر مما لا بد منه ، فعليه أن لا يتركه.
والأظهر في
الجواب أن يقال : غاية ما يمكن فهمه من قوله « في كل شهر » أو « لكل شهر عمرة » هو
التأكيد والترغيب في إيقاعها في كل شهر.
وأما أن الفصل
بين العمرتين لا بد وأن يكون بشهر ، فمما لا يمكن فهمه منه ، بل لا يصح هو في نفسه
، فان من الجائز أن يعتمر في كل شهر من شهور السنة الاثنا عشر من أبعد المواقيت ،
فان في هذا الفرض لا يتحقق الفصل بينهما بشهر كما لا يخفى.
وبالجملة فمثل
هذا عند من تأمل فيه أوضح من أن يحتاج الى بيان ، ولكن وقوع الالتباس فيه على جم
غفير من السلف يدعو إلى زيادة توضيح الحال مخافة سريان الوهم الى الخلف.
فصل
[
الأقوال في أقل المدة بين العمرتين ]
قال الفاضل
العلامة في القواعد : ويستحب تكرار العمرة ، واختلف في الزمان بين العمرتين ، فقيل
: سنة. وقيل : شهر. وقيل : عشرة أيام. وقيل بالتوالي.
قال في الإيضاح
: الأول لابن أبي عقيل ، لقوله صلىاللهعليهوآله : العمرة في كل سنة مرة. ولقول الصادق عليهالسلام : لا تكون عمرتان في سنة واحدة.
والثاني قول
أبي الصلاح.
والثالث قول
الشيخ لقول أبي الحسن عليهالسلام : ولكل شهر عمرة ، فسأله علي
ابن أبي حمزة أنكون أقل؟ فقال : تكون لكل عشرة أيام عمرة.
والرابع قول
السيد المرتضى وابن إدريس ، لقول النبي صلىاللهعليهوآله : العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما ولم يفصل. والأصح
عندي جواز التوالي ، والجواب عن الروايات الأول بمنع صحة السند والدلالة انتهى .
وفيه إيماء
لطيف إلى صحة سند الرواية الأخيرة ووضوح دلالتها ، ولكن لا وجه لمنع صحة سند
الروايات الدالة على الشهر ، وان كان لمنع دلالتها وجه كما عرفت ، لما عرفت من صحة
سند رواية عبد الرحمن بن الحجاج ومعاوية بن عمار ويونس بن يعقوب.
نعم ما نقله من
الرواية غير صحيحة ، ولكنه لا ينفعه ولا يضر المستدل ، مع أن روايتي السنة في
التهذيب صحيحتان ، لانه رواهما عن موسى بن القاسم عن ابن أبي عمير عن حماد عن
الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : العمرة في كل سنة مرة .
قال : وما رواه
أيضاً عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله عليهالسلام وجميل عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليهالسلام قال : لا تكون عمرتان في سنة .
وطريق الشيخ
الى موسى هذا صحيح ، كما يظهر من مشيخته ، قال قدس الله ضريحه فيها : وما ذكرته عن
موسى بن القاسم بن معاوية بن وهب ، فقد أخبرني الشيخ أبو عبد الله ، عن أبي جعفر
محمد بن علي بن الحسين بن بابويه ، عن محمد بن الحسن بن الوليد ، عن محمد بن الحسن
الصفار ، وسعد بن عبد الله ،
__________________
عن الفضل بن عامر ، وأحمد بن محمد ، عن موسى بن القاسم انتهى.
والطريق كما
ترى صحيح على الظاهر ، نعم جوابه بمنع الدلالة موجه ، ولا حاجة له الى منع صحة
السند ، إذ لا دلالة لشيء من الاخبار الدالة على الشهر على مقصود من تمسك بها ،
وهو وجوب الفصل بين العمرتين أو استحبابه بشهر بل غاية ما دلت عليه استحباب إيقاع
العمرة في كل شهر.
وأما أن الفصل
بينهما يجب أو يستحب أن يكون بشهر حتى يحرم أو يكره إيقاعها في أقل منه ، فلا
دلالة له عليه بشيء من الدلالات ، كيف وصريح قول سيدنا الصادق عليهالسلام في رواية إسحاق بن عمار السابقة الحسنة أو الصحيحة : السنة
اثنا عشر شهراً يعتمر لكل شهر عمرة . يقتضي أن لا يكون الفصل بينهما بشهر.
فان من البين
أن لكل عمرة زماناً ، فلنفرضه يوما مثلا وهو أقل ما يمكن أن تقع فيه عمرة ، فإذا
وضعنا من السنة اثنا عشر يوماً كل يوم بإزاء عمرة ، يلزم منه أن لا يكون الزمان
الواقع بين كل عمرتين شهراً ، وهو واضح.
فان قلت : يمكن
توجيه كلامه قدسسره بأن روايات الشهر وان كانت صحيحة السند الا أنها قاصرة
الدلالة ، ورواية العشرة وان دلت على المدعى الا أنها ضعيفة السند.
قلت : هذا عن
سياق كلامه بعيد ، لانه ذكر لقولي الشهر والعشرة رواية علي بن أبي حمزة ، وهي كما
أنها ضعيفة السند ، كذلك قاصرة الدلالة ، فيظهر منه أن مراده منع مجموع الأمرين ،
وهما الصحة والدلالة بالنسبة إلى روايات
__________________
كل من الأقوال الثلاثة ، كما هو الظاهر أيضاً من قوله بمنع صحة السند
والدلالة بالواو ، لا منع الصحة بالنسبة الى بعض والدلالة بالنسبة إلى آخر ،
فتأمل.
فصل
[
حول الرواية الدالة على التوالي بين العمرتين ]
لا يذهب عليك
أن استدلال السيد وابن إدريس بقوله صلىاللهعليهوآله « العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما » يفيد أنه كان
متواتراً عندهما ، لان من المشهور الذي لا يدفعه أحد أنهما كانا لا يعملان بأخبار
الآحاد ، قائلين بأنها لا تفيد علماً ولا عملا.
قال الشيخ زين
الدين في شرح دراية الحديث : الشيخ المحقق ابن إدريس كان لا يجيز العمل بخبر
الواحد مطلقا. وقد قال قبيل ذلك : ان المرتضى والأكثر على ما نقله جماعة كانوا
مانعين من العمل بخبر الواحد مطلقا .
فلو لم يكن في
الباب خبر الا هذا لكفى في إثبات هذا المطلب ، لان ترك الاستفصال كما أشير إليه
يفيد عموم المقال ، فيعم العشرة وما دونها وما فوقها من الشهر والسنة.
وحينئذ فروايات
الشهر : اما محمولة على تأكد الاستحباب كما سلف ، أو على مرتبة من مراتب الاستحباب
، جمعاً بين الاخبار ، وسيما إذا كان الخبر متواتراً عند بعضهم.
ولعل هذا مراد
الشيخ زين الدين في شرح الشرائع حيث قال بعد نقل قول المصنف قدسسرهما « ويستحب المفردة في كل شهر ، وأقله عشرة أيام ، ويكره
__________________
أن يأتي بعمرتين بينهما أقل من عشرة ، وقيل : يحرم ، والأول أشبه » : قد
اختلفت الاخبار وأقوال الأصحاب في أقل ما يجب أن يكون بين العمرتين ، فقيل : لا
تكون في السنة إلا عمرة واحدة. وقيل : في الشهر ، وبه أصح الروايات.
وقيل : أقله عشرة أيام.
ولم يجعل
المرتضى بين العمرتين حداً ، واختاره المصنف وجماعة ، وهو أقوى ، والاخبار منزلة
على مراتب الاستحباب لئلا تتنافى ، فالأفضل الفصل بينهما بعشرة أيام ، وأكمل منه
شهر ، وأكثر ما ينبغي أن يكون بينهما سنة ، والا ففيه نظر لان ما ذكره من حديث
التنزيل لا يدل على أقوائية ما اختاره المصنف وجماعة من جواز التوالي وعدم حد بين
العمرتين.
بل نقول :
إثبات مشروعية أصل التوالي يتوقف على ورود الأمر بذلك خصوصاً أو عموماً لما مر من
توقيفية العبادات الشرعية ، فكيف إثبات أقوائيته؟ فما لم يتمسك بما ذكرناه من عموم
مضمون حديث سيد الأبرار وإطلاق الأمر بالاعتمار لا يثبت هذا المطلب.
والظاهر أنه
أراد ـ كما أومأنا اليه ـ أن مختار المصنف أقوى دليلا ، الا أنه لم يذكر دليله ،
بل بادر الى تنزيل الاخبار لكونه أهم عنده. وفيه ما عرفته ، لانه مبني على أن
الفصل بين العمرتين بسنة أفضل من الفصل بينهما بشهر ، والفصل به أفضل من الفصل
بعشرة أيام ، وليس الأمر كذلك ، بل الوجه في تخصيص الشهر تأكد استحباب إيقاع
العمرة في كل شهر ، وهذا لا يستلزم مفضولية إيقاعها في أقل منه كما عرفته.
وبالجملة فرق
بين حمل روايات الشهر على تأكد الاستحباب ، وبين حملها على مراتب الاستحباب ، إذ
الأول لا يستلزم مفضولية إيقاع العمرة في أقل من
__________________
الشهر ، بخلاف الثاني. والظاهر من الروايات هو الأول ، على أن رواية الفصل
بعشرة أيام ضعيفة السند بعلي بن أبي حمزة ، فلا يثبت بها الاستحباب ، لانه حكم من
الاحكام ، وقد أطبقوا على أن الخبر الضعيف لا يثبت به حكم.
فان قلت : هذا
الاستدلال يحتمل أن يكون من صاحب الإيضاح ذكره دليلا لهم ، وعلى هذا فلا يثبت كون
هذا الخبر متواتراً عندهم.
قلت : هذا
احتمال بعيد بل باطل ، إذ لا إجماع هنا ولا آية ولا رواية ولا دليل اجتهادي سوى
إطلاق الأمر بالاعتمار ، فلو لم يكن هذا الخبر دليلهم على هذا المطلب ، لكان قولهم
هذا مجرد دعوى بلا دليل ، وهذا ينافي عدالتهم المتفق عليها بين أرباب الرجال.
ويدل على كون
هذا الاستدلال من السيد ما نقل عنه أنه استدل في المسائل الناصرية على ما ذهب اليه
بقوله صلىاللهعليهوآله « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما » حيث قال : ولم
يفصل عليهالسلام بين أن يكون ذلك في سنة أو سنتين وشهر أو شهرين .
وقال ابن إدريس
بعد نقل اختلاف الأصحاب في أقل ما يكون بين العمرتين ، وان بعضهم قال : لا أوقت
وقتاً ولا أجعل بينهما مدة ، وتصح في كل يوم عمرة : وهذا القول يقوى في نفسي وبه
أفتي ، واليه ذهب السيد في الناصريات ، ثم قال : وما روي في مقدار ما يكون بين
العمرتين بأخبار آحاد لا يوجب علماً ولا عملا .
أقول : وأما ما
أفاده العلامة في المختلف بقوله : واستدلاله ـ أي : السيد ـ غير ناهض ، إذ حكمه عليهالسلام بكون العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما لا دلالة فيه
على التقدير ولا على عدمه.
ففيه أن الأصل
عدم التقدير ، والعمرة مشروعة بالاتفاق ، فلا اختصاص لها
__________________
بوقت دون آخر ، فإذا انتفت دلالة الاخبار على التقدير ، لان بعضها كأخبار
الشهر لا دلالة عليه ، وبعضها ضعيف السند ، وبعضها مأول توفيقاً بين الاخبار ،
يثبت أن العمرة لا وقت لها ولا مدة لما بينهما ، بل تصح في كل يوم عمرة ، مع أن
السيد قد بين طريق دلالته على عدم التقدير بقوله « ولم يفصل » وحاصله أن ترك
الاستفصال دليل عموم المقال ، فيعم عمرتين بينهما فصل بشهر وعشرة أيام وغيرهما.
وأيضاً يمكن أن
يقال : انهم لما لم يكونوا عاملين باخبار الآحاد ، فأخبار السنة والشهر وعشرة أيام
ليست بمعتبرة عندهم ، وعلى هذا فلا دليل هنا يدل على تحديد ما بين العمرتين ،
ولذلك لم يجعلوا للمدة بينهما حداً لعدم الدليل عليه ، فجوزوا الاتباع بينهما
مطلقا لإطلاق الأمر بالاعتمار.
أقول : وبمثل
هذا يمكن أن يستدل من قبل العامل بأخبار الآحاد أيضاً ، لأن بعد انتفاء دلالة
روايات الشهر على الفصل بشهر وضعف رواية عشرة أيام ، يظهر أن لا دليل هنا على
تحديد ما بين العمرتين ، والتحديد بحد بدونه ترجيح لا مرجح معه ، وبه يثبت أن لا
حد للمدة بينهما ، ويؤيده أصالة عدم الحد ، فهذا الاستدلال مشترك بين الفريقين ،
وعلى التقريرين يثبت أصل المدعى ، فتأمل.
فإن قلت : ان
المحقق في المعتبر بعد أن استدل على طهارة سؤر الجلال بروايتي علي بن أبي حمزة
وعمار قال : لا يقال علي بن أبي حمزة واقفي وعمار فطحي فلا يعمل بروايتهما. لأنا
نقول : الوجه الذي لأجله عمل برواية الثقة قبول الأصحاب وانضمام القرائن ، لأنه لو
لا ذلك لمنع العقل من العمل بخبر الثقة ، إذ لا قطع بقوله ، وهذا المعنى موجود هنا
، فإن الأصحاب عملوا برواية هؤلاء هنا كما عملوا هناك انتهى. ولعله
لذلك حكم هنا باستحباب المفردة في كل عشرة أيام.
__________________
قلت : ان جماعة
من الأصحاب ومنهم المحقق لم يعملوا برواية ابن أبي حمزة هنا ، كما صرح به الشارح
الفاضل من اختيارهم القول بالتوالي ، وكذا كل من قال بروايات الشهر والسنة ووجوب
العمل بها ، نعم شر ذمة قليلة منهم عملوا بروايته وبهذا لا ينجبر ضعفه. وبالجملة
رواية العشرة ضعيفة السند.
وأما روايات
الشهر ، فهي وان كان فيها ما هو صحيح السند ، الا أنه لا ينافي القول بالتوالي
ودليله ، بل تجمع معه كما مر غير مرة ، فينبغي أن يكون مدار العمل عليه ، لركون النفس
بقوة دليله اليه ، مع أن العمل به كما عرفت لا يوجب طرح شيء من الاخبار ، بخلاف
العمل بغيره ، والجمع بين الاخبار مهما أمكن أولى من اطراح بعضها رأساً ، وخاصة
إذا كان ذلك البعض مما تلقاه بالقبول جم غفير من الفحول ، وجمع كثير من ذوي
الأحلام والعقول.
هذا وقد استبان
مما حررناه ضعف قول صاحب المدارك ، وان كان اعتبار الشهر لا يخلو من قوة ، وقوة
قول صاحب المسالك وهو أقوى.
أما الأول ،
فلما عرفته من عدم دلالة روايات الشهر على أن الفصل بين العمرتين لا بد وأن يكون
بشهر.
وأما الثاني ،
فلان بعد انتفاء دلالة روايات الشهر على الفصل بشهر وضعف رواية العشرة ، ووجوب
تأويل روايات السنة تخلصاً عن التناقض بين الاخبار ، مع إطلاق الأمر بالاعتمار ،
وعموم قول سيد الأبرار : العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما ، وقول سيدنا الصادق عليهالسلام : المعتمر يعتمر في أي شهور السنة شاء ، تثبت قوة القول
بالتوالي وعدم حد ما بين العمرتين ، فلو بدل الأقوى بالقوي لكان في محله ، إذ لا
قوة لشيء من الأقوال الثلاثة السابقة ، كما يظهر من التأمل في أطراف ما حررناه ،
فتأمل.
فصل
[
تأييد القول بالتوالي بين العمرتين ]
فان قلت : لعل
معنى « لكل شهر عمرة » أن المعتمر إذا فرغ من عمرته ومر عليه شهر عددي أو هلالي ،
فله أن يعتمر بعمرة أخرى ، فزمان تلك العمرة لا بد وأن يكون خارجاً عن ذلك الشهر ،
لانه قبل تمامه لا يكون شهراً حتى يكون له أي : لأجله عمرة ، والمستفاد من قوله «
لكل شهر عمرة » هذا ، كما أن المستفاد من قوله « لكل عشرة أيام عمرة » مثل ذلك.
يعني : انه إذا
فرغ من عمرته ومرت عليه عشرة أيام ، فله أن يعتمر بعمرة أخرى ، فزمان تلك العمرة
أيضاً لا بد وأن يكون خارجاً عن تلك الأيام ، لأن العشرة قبل تمامها ليست بعشرة
لتكون لها عمرة.
والظاهر أن
مراد من قال بأن الفصل بين العمرتين لا بد وأن يكون بشهر أو عشرة أيام ، واستدل
عليه بهذه الاخبار هذا ، فلا يرد عليه أن المفهوم منها تأكد إيقاع العمرة في كل
شهر ، وذلك يتحقق بأن يأتي المعتمر في آخر شهر بعمرة ويتبعها بأخرى في أول شهر
يليه من غير أن يكون بينهما فصل ، فضلا عن أن يكون بينهما شهر.
ويدل عليه ما
ورد في بعض الاخبار من لفظة « في » حيث قال : في كل شهر عمرة فإنه يفيد أن
تلك العمرة إذا وقعت في طرف الشهر في أي جزء من أجزائه لا على التعيين ، بأن تقع
في العشر الأول والأخر أو الوسط في أول كل منه أو آخره أو وسطه كانت مجزية ، إذ الظاهر
أنه جعل كلمة « في » تعليلية ، بقرينة ما في خبر
__________________
آخر من الامام.
قلت : هذا غاية
توجيه كلامهم ، وهو بعد محل نظر وتأمل كما مر لما مر ، وكيف يصح هذا التوجيه مع
قوله عليهالسلام « السنة اثنا عشر شهراً يعتمر لكل شهر عمرة » فإنه
ينافيه كما سبق.
وبالجملة
دليلهم على وجوب الفصل أو استحبابه بشهر أو عشرة أيام مما لا ينتهض حجة عليه ،
فيبقى القول بالتوالي ودليله سالماً عن المعارض ، وهو المطلوب.
فصل
[
مبدأ الشهر الفاصل بين العمرتين ]
ومن غريب ما
بلغني بواسطة عادلة عن بعض المعاصرين ، وهو سيدنا الفاضل السيد رضي الدين القاطن
بمكة شرفها الله ، أنه لما نبه أو تنبه لان روايات الشهر لا تقوم حجة لمقصود من
تمسك بها ، وكان هو دام فضله منهم على ما نقل عنه جماعة ورام ترميمه وتتميمه جعل
مبدأ الشهر الفاصل بين العمرتين أول زمان الشروع في العمرة.
وهذا منه زيد
قدره عجيب ، لان كلام الأصحاب على ما نقلنا عنهم في غير موضع من الكتاب صريح في أن
محل الخلاف انما هو الزمان الواقع بين العمرتين.
ألا ترى قول
الفاضل العلامة : ويستحب تكرار العمرة ، واختلف في الزمان بين العمرتين. ومثله قول
الشيخ زين الدين : قد اختلفت الاخبار وأقوال الأصحاب في أقل ما يجب أن يكون بين
العمرتين.
والعمرة قبل
تمامها لا تكون عمرة حتى يكون لها بين بالإضافة إلى غيرها ،
فيظهر منه أن زمان تلك العمرة بأسرها لا بد وأن يكون خارجاً عن ذلك الزمان
المتخلل بين العمرتين ، فكيف يجعل منه؟ ويصح به هذا القول ، وهل يصلح
العطار ما أفسد الدهر.
أقول : وفي
كلام الأصحاب هنا نوع من الاضطراب ، لان بعض كلماتهم صريح في أن محل الخلاف انما
هو الزمان الواقع بين العمرتين ، كما سبق والظاهر من قول صاحب المدارك : ويمكن
المناقشة في هذه الروايات بعدم الصراحة في المنع من تكرار العمرة في الشهر الواحد
الى قوله : ولا يلزم من ذلك عدم مشروعية تكرارها في الشهر الواحد ، أن محل الخلاف
هو هذا ، وهما غير متحدين ولا متلازمين ، فان عدم مشروعية تكرارها في الشهر الواحد
لا يستلزم أن يكون الفصل بين العمرتين بشهر ، فتأمل.
والحق أن شيئاً
من تلك الاخبار لا يدل على أن الفصل بينهما يجب أو يستحب أن يكون بشهر ، فجعل هذا
محل الخلاف كأنه مما لا ينبغي.
نعم يمكن أن
يذهب منها الوهم الى عدم جواز تكرار العمرة في الشهر الواحد ، ولكنك قد عرفت أنها
غير صريحة فيه ، فإذا دل خبر آخر بعمومه على جواز تكرارها فيه بل وعلى جواز
الاتباع بين العمرتين وتواليهما ، فالأخذ به ما لم يعارضه ما هو أقوى منه أولى ،
إذ فيه جمع بين الاخبار ، وهو مهما أمكن أولى من اطراح بعضها ، أو تخصيصه من غير
مخصص يعتد به.
وأما رواية
العشرة ، فقد عرفت أنها ضعيفة السند ، فلا يثبت بها حكم ، فصح
__________________
وثبت قول من قال : لا حد للمدة بين العمرتين ، فيجوز الاتباع بينهما مطلقا
للإطلاق والعموم.
فصل
[
تحقيق حول كلام صاحب مجمع الفائدة ]
قال الفاضل
الأردبيلي قدس الله روحه في شرحه على الإرشاد بعد نقل قول المصنف « ويستحب المفردة
في كل شهر وأقله عشرة أيام » : اشترط بعض في جواز العمرة ثانية مضي الشهر من
العمرة الاولى ، وبعض السنة ، وبعض عشرة أيام. وقال بعض : لا حد له فيجوز العمرة
في كل زمان ما لم يمنعه مانع ، مثل أن يزاحم واجباً ، فهو من جهة المزاحمة لا من
جهة عدم صلاحية الزمان ، وأن يحرم بعد إحرام [ العمرة ] التمتع قبل
خروج الشهر وغير ذلك ، فتأمل.
أقول : والحاصل
أن الأصل عدم التحديد والتقدير ، فيجوز الإتيان بعمرة بعد التحلل من الاولى من غير
فصل بينهما الا ما أخرجه الدليل ، فما أخرجه فهو خارج ويبقى الباقي تحت هذا الأصل.
ثم قال رحمهالله : وأما أدلة المذاهب ، فلعل دليل الأخير هو عموم
الأخبار الواردة في الترغيب بالعمرة ، مثل ما في صحيحة ابن عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام : المعتمر يعتمر في أي شهور السنة شاء ، وهي أعم من مرة
بعد أخرى فلا فصل وغيره.
أقول : وذلك
لانه عليهالسلام أطلق جواز الاعتمار في تلك الشهور ، ولم يقيده بمرة أو
مرتين وغيرهما ، كقوله صلىاللهعليهوآله : العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما حيث
__________________
لم يفصل ، واليه أشار بقوله وغيره « فيعم مرة بعد أخرى » لأن ترك الاستفصال
دليل عموم المقال ، واليه يشير قول صاحب المدارك فيما نقلناه عنه ، وذهب السيد
المرتضى وابن إدريس والمحقق وجماعة إلى جواز الاتباع بين العمرتين مطلقاً ، لإطلاق
الأمر بالاعتمار.
وبالجملة
يستفاد منه ان كل شهر من شهور السنة صالح للاعتمار فيه ، فمن أراد الاعتمار وهو
معنى قوله « المعتمر يعتمر فيه مرة أو مرتين أو أكثر » كما يفيده عموم الخبر ،
فتخصيصه بمرة يحتاج الى مخصص يعتد به ، وليس كما عرفت وستعرف أيضاً.
ثم قال قدسسره متصلا بما سبق : وانها مشروعة فلا اختصاص لها بوقت دون
آخر ، وكأن القائل به منحصر في من لم يعمل بالخبر الواحد ، كالسيد قدس الله سره ،
وإلا خصص بالوقت للاخبار ، كما ستطلع.
أقول : قد عرفت
ان هذه الاخبار غير صريحة في اختصاصها بالوقت ، فان من الجائز كما سبق أن يكون
الوجه في تخصيص الشهر تأكد استحباب إيقاعها في كل شهر لا اختصاصها بشهر شهر.
وأما أخبار السنة
وعشرة أيام ، فالأولى مأولة تخلصاً عن التناقض بين الاخبار والثانية ضعيفة السند
فلا يعتد بها. وعلى هذا فلا وجه للقول بانحصار قائله في من لم يعمل بخبر الواحد ،
بل هو صالح لان يكون دليلا لغيره أيضاً ، ممن عمل به وقال بجواز الاتباع بين
العمرتين ، فتأمل.
والحاصل ان
العمرة من العبادات المشروعة المرغبة الغير الموقتة بوقت دون آخر ، لعدم دليل على
توقيتها يعتد به ، والأصل أيضاً عدمه فيجوز الإتيان بها في كل وقت الا ما يمنع منه
فيه مانع كان يفوت به واجب ، فحينئذ لا يجوز الإتيان بها لا من حيث أن ذلك الوقت
غير صالح له بل من حيث أنه صار ظرفاً لذلك
الواجب ، فلولاه لكان صالحاً للإتيان بها.
ثم قال رحمهالله : ودليل اشتراط العشرة ما في رواية علي بن أبي حمزة عن
أبي الحسن عليهالسلام قال : ولكل شهر عمرة ، فقلت : يكون أقل؟ قال : لكل عشرة
أيام عمرة. لكن سندها غير واضح الصحة لعلي بن أبي حمزة ، لأن الظاهر انه البطائني
الواقفي الضعيف.
أقول : سند هذه
الرواية بين مجهول وضعيف. أما الأول فلوجود إسماعيل ابن مرار فيه. وأما الثاني
فلان ابن أبي حمزة لا شك أن المراد به في هذا السند هو البطائني الواقفي لعنه الله
، بقرينة رواية يونس بن عبد الرحمن عنه ، والبطائني ضعيف كذاب متهم ملعون ، ورد
فيه ما ورد من الطعن واللعن.
روي عن يونس بن
عبد الرحمن أنه قال : دخلت على الرضا عليهالسلام فقال لي مات علي بن أبي حمزة؟ قلت : نعم ، قال : قد دخل
النار ، قال : ففزعت من ذلك ، قال : أما أنه سئل عن الامام بعد موسى عليهالسلام أبي ، فقال : اني لا أعرف اماماً بعده فقيل لا ، فضرب
في قبره ضربة اشتعل قبره ناراً .
ثم قال قدسسره متصلا بما سبق : فيرد بغيرها من أدلة من لا يشترط ومن
يشترط غيرها.
أقول : كما جاز
رد دليل بدليل أقوى ، فليجز رد دليلين إذا تقاوما وتناقضا ، وقد عرفت أن روايات
السنة تدل على عدم جواز العمرة في كل سنة إلا مرة ، وروايات الشهر تدل على
استحبابها في كل شهر ، وهما صحيحتا السند ، فإذا تعارضتا تساقطتا ، فيبقى دليل
القول بجواز الاتباع بين العمرتين سالماً.
فان قلت : لا
تناقض بينهما لجواز حمل روايات السنة على عمرة يتمتع بها الى الحج.
__________________
قلت : كذلك قد
حمل روايات الشهر على تأكد استحبابها في كل شهر ، وقد عرفت أنه لا يلزم منه عدم
مشروعية تكرارها في الشهر الواحد.
ثم قال رحمهالله : ودليل اشتراط الشهر مثل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج
ونقلها ، وصحيحة يونس بن يعقوب ونقلها ، ثم قال : ولا يضر القول في يونس.
أقول : وذلك
لان هذا القول وهو كونه فطحياً غير ثابت ، لان حمدويه ذكره عن بعض أصحابه وهو
مجهول ، والظاهر ان أبا جعفر بن بابويه أخذه من هنا ، ومع ذلك فقد قيل : انه رجع عنه
وكان من خاصة أصحاب الصادق والكاظم عليهماالسلام ، وكان وكيلا له ، ومات بالمدينة أيام الرضا عليهالسلام ، فتولى أمره وكفنه ودفنه بالبقيع.
وفي الخلاصة
روى الكشي أحاديث حسنة تدل على صحة عقيدة هذا الرجل والذي أعتمد عليه قبول روايته .
ثم قال رحمهالله : وصحيحة إسحاق بن عمار في الفقيه ، ولا يضر القول في
إسحاق.
قد عرفت أن هذا
اشتباه نشأ من الفاضل وتبعه فيه غيره ، إذ لا قول في ابن حيان الصيرفي هذا ، انما
القول في ابن موسى الساباطي ، كما فصله ملا عناية الله القهبائي في بعض حواشيه على
كتابه المسمى بمجمع الرجال ، ولو لا مخافة الاطناب لنقلناه بعباراته في هذا
الكتاب.
قال رحمهالله متصلا بما سبق : وما يدل على أن من يخرج من مكة بعد
عمرة التمتع قبل الشهر لا يحرم وبعده يحرم.
__________________
أقول : حكمهم
بعدم حاجة من يخرج من مكة بعد عمرة التمتع إذا أراد الدخول قبل مضي الشهر إلى
الإحرام ، واحتياجه اليه بعد مضيه لا يدل على عدم جواز الإحرام قبل مضي الشهر من
العمرة الاولى في غير هذه الصورة المخصوصة المنصوصة إلا بطريق قياس غير مسوغ.
ومن الغريب أنه
رحمهالله استثنى هذه الصورة في كلامه السابق عن محل النزاع وقال
: انها خرجت لمانع لا لعدم صلاحية الزمان ، وهنا جعلها دليل اشتراط الشهر ، ولعله قدسسره ذهل عنه ، وكان وقتئذ نظره على ما ذكره الفاضل في
المختلف في مقام الاستدلال على أنه لا يكون بين العمرتين أقل من شهر.
حيث قال :
وأيضاً حكموا على الخارج من مكة بعد الاعتمار ، بأنه إذا دخل مكة في ذلك الشهر
اجتزأ بعمرته ، ولو دخل في غيره وجب عليه عمرة أخرى ويتمتع بالأخيرة ، وذلك يدل
على اعتبار الشهرين للعمرتين.
وفيه ما عرفته
من أن دلالته عليه في غير هذه الصورة المخصوصة ممنوعة وفيها مسلمة ، ولكنه لا يجدي
نفعاً لأنها مما أخرجه الدليل.
وأما قوله فيه
أيضاً : ان أصحابنا نصوا على أن المفسد للعمرة يجب عليه الكفارة وقضاؤها في الشهر
الداخل ، ولو كان كل وقت صالحاً للعمرة لما انتظر في القضاء الشهر الداخل.
ففيه أن وجوب
قضائها في الشهر الداخل لا يدل على عدم كون كل وقت صالحاً لغير هذه العمرة ، فلعل
ذلك كان لخصوص نص كان في نظرهم لم يصل إلينا ، لاندراس كثير من النصوص بتصادم
الدول الباطلة والأهواء العاطلة ، على أن هؤلاء الناصين بذلك لعلهم كانوا ممن قال
بعدم جواز الإتيان بعمرتين لا يكون بينهما شهر فالتمسك بقولهم تمسك بقول المدعى.
ثم قال قدسسره : والظاهر من هذه الروايات عدم الزيادة على ذلك ، كما
قيل في قوله عليهالسلام « لكل سورة ركعة ».
أقول : عدم
الزيادة على ذلك ليس بمحل النزاع ، وانما محله وجوب الفصل بين العمرتين بشهر ، كما
صرح به في أول كلامه في مقام تحرير محل النزاع.
حيث قال :
اشترط بعض في جواز العمرة ثانية مضي الشهر من العمرة الاولى وهذه الروايات لا
دلالة لها عليه ، بل لا دلالة لها على عدم الزيادة على ذلك أيضاً لما عرفت من جواز
أن يكون الوجه في تخصيص الشهر تأكد استحباب إيقاعها في كل شهر ، لا عدم جواز
الزيادة على ذلك في شهر.
ثم لا يخفى أن
قوله « لكل سورة ركعة » انما يكون نظير قوله « لكل شهر عمرة » إذا كان المراد به
عدم جواز تكرار الركعة في سورة واحدة ، لا عدم جواز تعدد السورة في ركعة ، لأنه ظن
أن قوله « لكل شهر عمرة » يدل على عدم جواز تكرار العمرة في شهر ، فقوله « لكل
سورة ركعة » إنما يشهد له أن لو كان المراد به النهي عن التبعيض ، وأما إذا كان
المراد به النهي عن الاقتران بين السورتين في ركعة كما هو المشهور ، فلا.
ويصير حاصل
المعنى على ما أفاده هكذا : كما لا تجوز ركعتان في سورة على ما قيل في معنى قوله «
لكل سورة ركعة » كذلك لا تجوز عمرتان في شهر ، لقوله « لكل شهر عمرة » واليه أشار
بقوله والظاهر من هذه الروايات عدم الزيادة على ذلك.
وأنت خبير بأن
مفاد الخبرين غير ذلك ، فان ظاهر الأول يفيد أن كل سورة علة للركعة ، فلا يجوز
الاقتران بين السورتين ، كما أن كل شهر علة للعمرة ، فلا يجوز الاقتران بين
الشهرين فيها ، فيكون تأكيداً على استحباب إيقاعها في كل شهر ، كما أن الأول تأكيد
على استحباب إيقاع الركعة في كل سورة ، إذ الأصح
أن الاقتران بين السورتين مطلقاً مكروه لإحرام ، فتأمل.
ثم قال :
وأيضاً الظاهر منها وقوع كل عمرة بتمام أجزائها في شهر شهر ، فيدل بظاهرها على
اعتبار الفصل ان احتاج اليه من زمان التحلل من الاولى لا من الإحرام ليصدق لكل شهر
عمرة ، والا يكون لكل شهر إحرام وهو ظاهر ، فتأمل.
أقول : قد
قررنا هذا فيما سبق بتقرير أوضح ، ولم يكن هذا وقتئذ في نظرنا وتوضيحه : أن من أحرم
بعمرة مثلا في سلخ شهر وأحل منها في غرة شهر يليه وهكذا في سائر الشهور ، لا يصدق
عليه أنه أتى في كل شهر بعمرة ، لأن كل واحدة من تلك العمر لم تقع بتمام أجزائها
في شهر شهر ، بل يصدق عليه أنه أتى في كل شهر بإحرام لوقوعه بتمام أجزائه فيه هذا
في الشهور الهلالية ، وعليها فقس الشهور العددية.
ثم أقول : وعلى
هذا الظاهر يشكل الاستدلال بها على وجوب الفصل بين العمرتين بشهر ، لأن السنة اثنا
عشر شهراً ، فإذا اعتمر لكل شهر عمرة ، كما في صحيحة ابن عمار ، واعتبر الفصل بين
العمرتين من زمان التحلل من الاولى ، لا يكون الفصل بينهما بشهر كما لا يخفى ،
فكيف يستدل بها على إثبات القول باشتراط الشهر.
والظاهر أن
السيد السند الفاضل المعاصر أدام الله عزه كان ذاهلا عما أفاده مولانا أحمد قدسسره ، والا فكيف كان يصح له أن يعتبر الفصل من أول زمان
الإحرام لا من زمان التحلل من الاولى وهو شاعر بما أفاده وإجادة رحمهالله.
ثم قال : ويأول
ما يدل على السنة بالعمرة التي تكون مع الحج جزء له مطلقاً ، أو عمرة الإسلام ،
فإنها لا تصح في سنة الا واحدة كالحج ، للجمع بين الأدلة والتبادر الى الفهم في
الجملة ، وهو صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام
وصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام ، وحملهما الشيخ على عمرة التمتع ، والظاهر أنه لا
يحتاج كما عرفت ، ويؤيده الشهرة.
قال في المختلف
: أجمعت الإمامية على جواز العمرة في كل شهر الا ابن أبي عقيل ، فيجب المصير إليه
أخذاً بالمتيقن ، فتأمل فيه.
أقول : وجه التأمل
فيه واضح ، إذ يمكن قلب هذا الدليل عليه ، بأن يقال لنا : ان هذه أحكام شرعية
متلقاة عن الشارع ، فيجب اعتبار ما وقع الاتفاق عليه وقد أجمعت الإمامية كلهم من
غير استثناء منهم على جواز العمرة في كل سنة ، فيجب المصير إليه أخذاً بالمتيقن
وخروجاً عن خلاف ابن أبي عقيل ، بل هذا أولى من الأول ، لأن فيه خلافاً بخلاف هذا.
ثم قال :
وبالجملة القول بالسنة بعيد نادر ، ينافيه بعض الاخبار في الجملة.
أقول : لا بعد
فيه بعد ما دل عليه الدليل. وأما أنه ينافيه بعض الاخبار فدليله وهو بعض الاخبار
أيضاً ينافيه ، فكيف يصح الأخذ بهذا دون ذاك من غير مرجح وأما أنه لا بد من تأويله
تخلصاً عن التناقض بين الأدلة ، فكذا لا بد من تأويل غيره لذلك. وأما أنه نادر ،
فلا يضره ندوره ، إذ الذاهب الى مذهب إنما يسأل عن دلالته وحجته القائدة إليه لا
عمن وافقه أو خالفه عليه.
ثم قال رحمهالله : والعشر ضعيف يرده الاعتبار والاخبار.
أقول : لعل
مراده بالاعتبار ما سبق من أن العمرة مشروعة ، فلا اختصاص لها بوقت دون آخر
وبالاخبار ما سبق أيضاً من صحيحة ابن عمار ، وقول سيد الأبرار ولا يخفى أنهما كما
يردان دليل اشتراط العشر ، كذا يردان دليل اشتراط الشهر ، الا أن يراد بالأخبار
أخبار اشتراط الشهر ، ولكنه يخدشه اعتبار الاعتبار معه ، فتأمل.
ثم قال :
والشهر لا يخلو عن قوة ، وعدم التحديد محتمل ، مثل ما روى
__________________
كأنهم عن طرقهم « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما » فتأمل فيه. وعدم
صريح في التحديد لإمكان تأويل ما ورد في ذلك ، فتأمل .
أقول : عدم
التحديد متيقن ومتعين لا محتمل لعدم الدليل عليه ، لضعف دليل العشرة وعدم دلالة
دليل الشهر عليه ووجوب تأويل دليل السنة توفيقاً ، مع أصالة عدم التحديد وكون
العمرة مشروعة مرغوبة ، فلا اختصاص لها بوقت ، فإذا دل دليل بعمومه على عدم
الاختصاص والتحديد وجب الأخذ به والعمل بمقتضاه لعدم المعارض.
ثم استدلال
السيد السند في الناصريات بقوله صلىاللهعليهوآله ، وكذا ظاهر كلام صاحب الإيضاح حيث جعله حجة له ولابن
إدريس ، وهما لا يعملان بخبر الواحد الصحيح الوارد في طريقنا ، فكيف بالخبر الغير
الصحيح الوارد في طرقهم ، يفيد أنه خبر صحيح بل متواتر وارد في طريقنا ، فتأمل
والله ورسوله ومن يحذو حذوه أعلم.
وليكن هذا آخر
ما أردناه في شرح هذه المسألة وإيضاحها لأخينا المذكور وقاه الله وإيانا وسائر
إخواننا المؤمنين من الآفات والعاهات والشرور ، والمأمول منه بل المسئول أن لا
ينساني عقيب الصلوات ومظان إجابة الدعوات ، وأن يسأل الله قاضي الحاجات ومنجح
الطلبات عند المشعر الحرام والمسجد الحرام ومنى وعرفات أن يوفقني للحج والعمرة
بخلوص النيات ، وأن يتصدق علي بالعمرة والزيارات في السنة الاولى من مجاورته بل
وفي سائر السنوات ما دام قاطناً بمكة بشرط الحياة.
وفقه الله
وإيانا وسائر المؤمنين والمؤمنات لذلك ولسائر وجوه الطاعات
__________________
والخيرات والمبرات ما دام الحياة بمحمد وآله سادات السادات وقادات القادات
عليهم أفضل الصلوات وأكمل التحيات ما سكنت الأرضون وتحركت السماوات.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (١٩) ذي الحجة سنة (١٤١٠) هـ ـ ق في مشهد الامام الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفى عنه.
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(١٤)
|
|
رسالة
في
الرضاع
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهديّ الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيم
الحمد لله الذي
جعل الرضا ع لحمة كلحمة النسب ، والصلاة على الدليل اليه سيدنا محمد
الناصع الحسب ، وعلى آله الاخيار وعترته الاطهار سادات العجم والعرب.
وبعد : فقد
ساءلني من هو من أكرم أحبابي وأقدم أصحابي ، في دار ضيافة كنت في صحبة جمع من
الاحباب وطائفة من الاصحاب عن مسألة رضاعية ، هي أن امرأة لو أرضعت ابناً لقوم
وبنتاً لآخرين ، هل لاخوة وأخوات أحد هذين المرتضعين أن ينكح في اخوة وأخوات الاخر؟
قلت : الظاهر
جوازه اذ لا نسب بينهم ولا رضاع ولا مصاهرة. ثم استنظرته في الحكم به والعمل
بمقتضاه الى أوان الرجوع الى أصول الاصحاب وكتبهم ،
__________________
كما كان ذلك من دأبي في جل المسائل بل كلها ، فلما رجعت وجدتهم مصرحين بذلك
في كتبهم وفي أصولهم ما هو كالنص الجلي فيه ، فأعلمته بأن الحال على ذلك المنوال.
فقال : إن
فلاناً وسماه قد سئل عن ذلك ، فمنع منه وأسنده الى رسالة كتبها بعض الطلبة ، فلما
حصلناها ونظرنا فيها وجدناه صادقاً فيه ، بيد أنه لما كان قاصر التتبع والنظر أخذه
من باب التسليم وقنع به ، فعمل به وأعمل بمقتضاه ، كما هو دأب أكثر أهل دهره.
وغفل وأغفل أن
ذلك ليس من وظيفة أمثاله ، لان تقليد الميت على القول بجوازه ، وسيما اذا كان بناء
الافتاء عليه ، انما يجوز على تقدير فقد المجتهد الحي ، لا مع وجوده وحضوره وقوله
بأن المسألة الفلانية حكمها كذا.
ومع قطع النظر
عن هذا فاذا بني الامر على التقليد ، فتقليد هؤلاء الفحول الجامعين بين المعقول
والمنقول الكثيرين الغير المحصورين في عدد يمكن هنا
__________________
عده واحصاؤه أولى من تقليد واحد أو اثنين في غابر الدهر لا قدم لهم راسخة
في هذا الشأن.
فأردت تنبيهه
على ذلك بالاشارة الاجمالية الى ضعف ما قواه وأصله صاحب الرسالة فيها ، وجعله
معيار التحريم وميزان التفريع وآلة الملاحظة في سائر ما يتعلق بهذا المبحث ، لئلا
يغير المقلد بقول من يدعي شيئاً لا يقدر على بيان ما يدعيه ، وإن بذل فيه تمام
جهده وكمال مساعيه.
فهذا هو السبب
المقدم لنا على ذلك ، وإلا قلنا من عيوب أنفسنا وازاحتها عنها واماطتها عن أمثال
ذلك لشغل شاغل ، وإن كان هذا أيضاً من الواجبات الا أن ذلك أوجب.
والملتمس من
اخواننا الناظرين في هذه الجملة أن لا يتلقوها ابتداء بالرد أو القبول ، فان
النظرة الاولى كما وردت في الاخبار المروية عن الصادقين الاخيار صلوات الله عليهم
ما دامت الليل والنهار حمقاء.
وحينئذ فاللازم
عليهم أن يتأملوا فيها تأملا وافياً ، فان وجدوها حقاً فهو من الحق ، وإلا فهم
باصلاح الفساد أولى وترويج الكساد أخرى ، والله تعالى يعصمنا من الخطإ والزلل ،
كائناً ما كان منهما في القول والعمل أنه بذلك جدير وعلى كل ما يشاء قدير.
قال ضاعف الله
أجره في مقدمة الرسالة بعد نقل الخبر المنقول عن النبي والأئمة عليهمالسلام بطرق مستفيضة بل بالغة ، أو كادت أن تبلغ حد التواتر
على ما ظنه وهو « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » وفي معناه « ان الله حرم من
__________________
الرضاع ما حرم من النسب » وصحيحة ابن سنان : يحرم من الرضاع ما يحرم من
القرابة » وغيرها من الاخبار الواردة في ذلك الباب عن الأئمة
الاطياب عليهمالسلام.
لا شك كما لا
خلاف في أن كلمة « ما » هاهنا تفيد العموم ، لوضوح أن لا معنى لتحريم فرد لا على
التعيين ، ينادي بذلك قول أبي عبد الله عليهالسلام في الخبر الذي رواه عنه أبو بصير وأبو العباس وعبيد
جميعاً ، على ما سيأتي في محله : كل ما يحرم من النسب فانه يحرم من الرضاع .
وكذا تعليق
الحكم على محض الرضاع من دون ذكر المحرم عليه ، حيث قال : يحرم من الرضاع ولم يقل
يحرم على فلان يفيد العموم.
فحينئذ حاصل
المعنى أن علاقة الرضاعة مساوية لعلاقة القرابة في ايجاب التحريم ، أي : كل تحريم
يترتب على الثانية يترتب على الاولى أيضاً من غير فرق.
فكما أن
المولودين من ماء رجل وامرأته تحصل علاقة الاخوة بينهما ، فيصير كل واحد منهما
أخاً حقيقياً للاخر ، وآباؤه آباءه وأمهاته أمهاته واخوته اخوته ، وهكذا في سائر
القرابات ، ويتحقق بذلك أنواع التحريم بينهم ، فكذلك في المرتضعين من لبن امرأة
وزوجها تحصل تلك العلاقة ويترتب عليها ما يترتب عليها.
وبالجملة علاقة
الاخوة الرضاعية مثل علاقة الاخوة النسبية يحرم فيها ما يحرم
__________________
فيها ، وحكم الاخوين رضاعاً كحكم الاخوين أباً وأماً. هذا أساس ما بنى عليه
الكلام وأصل ما فرع عليه الاحكام ، ولنا بعون الله الملك العلام على نقض بنيانه من
أصله وأساسه ليعلم منه انتقاض ما فرع عليه بقياسه.
فأقول ، وأنا
العبد الآنس بربه الجليل محمد بن الحسين المشتهر باسماعيل إن هذا الذي استفاد منها
وبنى عليه الكلام ، ثم فرع عليه ما في رسالته هذه من الاحكام ، انما نشأ
من الذهول عن بعض الآثار المناقض لما فهمه من تلك الاخبار ، مع قلة التدبر وضعف
التفكر.
اذ لا يخفى على
ذي مسكة ، أن هذا الخبر المروي عن سيد البشر ، وهو قوله صلىاللهعليهوآله « إن الله عزوجل حرم من الرضاع ما حرم من النسب » وما في معناه ، وإن
كان من العام في جميع الاحكام وجملة المحرمات بالرضاع كعمومه بالنسب إلا أنه لا
عموم له على وجه رام المستدل بيانه ، بل ليس مفاده على هذا الوجه.
غير أن التحريم
الرضاعي انما يتعلق بالمرتضع وحده لا غير ، وذلك أن عدم ذكر المحرم عليه لو سلم
أنه كان لافادة العموم ، كان حاصل المعنى أنه يحرم على كل أحد ، أو على كل مرتضع
من الرضاع ما يحرم عليه بالنسب ، لا أنه يحرم على المرتضع وأقربائه من الرضاع ما
يحرم عليهم من النسب ، أو يحرم على الاخوين رضاعاً ما يحرم على الاخوين نسباً ،
لان حكمهما حكمهما ، كما هو مقتضى بيانه رحمهالله.
كيف ويحرم على
كل واحد من الاخوين نسباً بنت أخ أخيه من أمه وأبيه ، ولا يحرم على واحد من
الاخوين رضاعاً بنت أخ أخيه من أمه وأبيه ، كما هو صريح الخبر التي.
ويحتمل أن يكون
عدم ذكر المحرم عليه لا لافادة العموم ، بل للاحتراز عن
__________________
العبث ، لوجود القرينة الدالة على تعينه وهي الرضاع ، فانه يشعر بأن غير
المذكور هو المرتضع ، ومن المشهور بين الطلبة اذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال ،
سيما اذا كان احتمالا تتبادر اليه الافهام وتتلقاه بالقبول الفحول الاعلام ، كما
ستقف عليه إن شاء الله العزيز العلام.
وبالجملة قوله عليهالسلام لا يشك من له وجدان صحيح في أنه يستدعي تقدير المحرم
عليه ، فاما : أن يقدر له ذلك ، أولا. وعلى الثاني يكون الغرض مجرد الاخبار بأن
الرضاع سبب التحريم ، كما أن النسب كذلك ، ويكون مفاد الخبر أن كل ما يحرم من النسب
فانه يحرم من الرضاع.
وهذا على
المشهور بين العلماء مما لا نزاع فيه ، اذ لا كلام لاحد يعتد بكلامه في أن كل ما
يحرم بسبب النسب باحدى الوجوه السبعة المذكورة في الآية ، فانه يحرم بالرضاع اذا
وجد ذلك النسب بعينه فيه.
قال مولانا
الفاضل الاردبيلي قدس الله رمسه في آيات أحكامه : معنى يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب أن كل من يحرم ويكون سبب تحريمه النسبية واحد أسبابه السبعة المذكورة يحرم
ذلك بالرضاع اذا وجد ذلك السبب بعينه فيه ، مثل الام الرضاعية والاخت كذلك .
وسيأتي تفصيل
كل ذلك في محله. وانما الكلام في من يحرم ذلك عليه برضاع المرتضع ، ومنه يتبين حال
ما ذكره في الباب الثاني في الفصل الثاني من رسالته بعد كلام الحق ، أن المراد في
الحديث المستفيض أنه كما يحصل بسبب الولادة التحريم وتوجد المحارم النسبية ويتحقق
المحرمية بينهم بها ، كذلك تحصل بسبب الرضاعة تلك المحرمية ، فانها نسب ثان كما
فصلناه سابقاً ، اذ لا كلام في أن الرضاعة كالولادة سبب التحريم ووجود المحارم
وتحقق
__________________
المحرمية بينهم بها.
وانما الكلام
في نشر ذلك التحريم المتحقق بالنسبة الى المرتضع منه الى اخوته واخواته وأبويه وسائر
أقربائه نسباً ورضاعاً ، فلا بد من تقدير المحرم عليه في الخبر ، ليصلح أن يكون
شاهداً لما فيه النزاع ، فاما أن يقدر كل أحدكما سبق ، أو خصوص المرتضع بقرينة ذكر
الرضاع ، أو الاخوان رضاعاً ، أو المرتضع وأقرباؤه من الطرفين والاولان وهما
متحدان مآلا لنا لا علينا. والآخران باطلان.
أما أولا ،
فلما سبق.
وأما ثانياً ،
فلان عدم ذكر المحرم عليه كما يحتمل أن يكون لافادة العموم ، كذلك يحتمل أن يكون
للاحتراز عن العبث والعدول الى أقوى الدليلين ، بناء على وجود القرينة المعينة ،
فلا بد في ترجيح أحد الاحتمالين على الاخر من مرجح ، وهو موجود في الثاني دون
الاول ، لان هذا القدر من التحريم المتحقق بالنسبة الى المرتضع متفق عليه ، وغيره
مختلف فيه مع كونه مخالفاً لاصالة الحلية والاباحة والبراءة والاستصحاب ، وعموم
بعض الآيات وخصوص بعض الروايات ، فتقدر المرتضع اولى من تقدير غيره المفيد للعموم
المخالف لجميع ما ذكر مع كونه مختلفاً فيه.
وأما ثالثاً ،
فلان الحذف لما كان على خلاف الاصل ومقتضى الظاهر وما هو متقرر في الاذهان ، وهو
الذكر كما صرحوا ، وكل ما كان المحذوف أقل كان الكلام الى الاصل ومقتضى
الظاهر وما هو متقرر في الاذهان أقرب.
وهذا كما قلناه
يقتضي أن يكون المحذوف وهو المحرم عليه هو المرتضع فقط ، كما هو ظاهر العلماء كلهم
، وبه يشعر ذكر الرضاع لا الاخوين رضاعاً ،
__________________
أو المرتضع ومن في طبقته من أقربائه ، كما يقتضيه تقريره وبيانه قدسسره ، فيكون من هذه الجهة أيضاً مرجوحاً مخالفاً لقواعد
الادب بعيداً عن الاذهان ، وعلى خلاف مقتضى الظاهر وما تقرر في اصول الاعيان.
وأما رابعاً ،
فلان مدارهم في المقامات الاستدلالية على الظاهر المتبادر ، لا على خلافه البعيد
الخطور على الخواطر ، فانهم يمنعون أن يخاطب الحكيم بشيء يريد خلاف ظاهره من دون
البيان ، وإلا لزم الاغراء بالجهل ، لان المخاطب العالم يوضع اللفظ يعتقد أنه يريد
ظاهره ، فاذا لم يرده مع اعتقاده ارادته له كان ذلك اغراء له على ذلك الاعتقاد
الجهل.
قالوا : والقول
بأن النبي صلىاللهعليهوآله قد يحكم حكماً ظاهرياً وهو لا يريده قول المرجئة فانهم
يجوزون أن يعني من النصوص خلاف الظاهر من غير بيان ، ومذهبهم قريب من مذهب الحشوية
، وهم طائفة يجوزون أن يخاطبنا الله بالمهمل ، لان اللفظ بالنسبة الى خلاف الظاهر
من غير بيان مهمل ، كذا في حواشي الكشاف ، ولعله لذلك لم يحمله أحد من السلف الى
الخلف على هذا المعنى الذي حمله عليه صاحب الرسالة.
وبه يندفع ما
يمكن أن يقال لعله يقول : إن هذا المعنى هو الظاهر من هذا الخبر ، كما أشار اليه
في كلامه المنقول عنه آنفاً بقوله : الحق أن المراد في هذا الحديث المستفيض الى
آخر ما قاله هناك.
لأنا نقول : لو
كان هذا المعنى هو الظاهر منه لكان جلهم بل كلهم يحمله عليه لعين ما نقلناه عنهم
آنفاً ، والحال انا لم نجد الى الآن أحداً منهم حمله عليه ، أو مال ميلا ما اليه ،
فكيف يمكنه ادعاء ظهوره فيه والحال هذه؟
وأما خامساً ،
فلان هذا المعنى الذي ادعى فهمه منه على هذا التقدير على تقدير تسليمه وثبوته
معارض بعموم الآيات وخصوص بعض الروايات الآتية ، وبأصالة
الحلية والاباحة والبراءة واستصحاب الحل السابق ، فان الاول يدل على عموم
التحريم ، والثاني يدل على عموم التحليل ، فاذا تعارضا تساقطاً ، فينتفي التحريم
قطعاً لانتفاء سببه ، ويلزم من انتفائه ثبوت الاباحة ، اذ لا يعقل ارتفاع النقيضين
وسيرد عليه كلام أبسط.
تنبيه
المتنازع
المشهور ليس هو
المحرمات من الرضاع ، فانها وإن كانت بنص القرآن العزيز هي الاخت والام ، لقوله
تعالى ( وَأُمَّهاتُكُمُ
اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ) إلا أن ذكر الشيء لما لم يكن نافي ما عداه وظاهر
القرآن لم يفد الحصر ، انعقد الاجماع من المسلمين قاطبة على أن كل ما يحرم بالنسب
من السبع المذكورات في الآية الكريمة يحرم أمثالهن من الرضاعة ، للخبر المذكور
المشهور بين الفريقين عن النبي صلىاللهعليهوآله ، وقول سيدنا الصادق عليهالسلام كل ما يحرم من النسب فانه يحرم من الرضاع .
نعم أضيف الى
شرذمة من العامة أنهم قالوا باختصاص التحريم بالاخت والام لظاهر الآية ، وهو لكونه
مخالفاً للاجماع والاخبار منا ، ومنهم مما لا يعبأ به ولا بقائله.
وعلى هذا فليس
في التعرض لعموم كلمة « ما » هاهنا كثير فائدة ، اذ لا نزاع في الحقيقة إلا في
المحرم عليه ، ولا مدخل فيه لعمومها ولا عمومها ، بل لا طائل تحت التعرض ، لعدم
ذكر المحرم عليه أيضاً ، فان عدمه إن كان للاحتراز عن العبث والعدول الى أقوى
الدليلين كما أومأنا اليه فظاهر ، وإن كان ليفيد العموم كما
__________________
زعمه فكذلك ، اذ الظاهر أن المحذوف حينئذ هو كل أحد أو كل مرتضع ، وتقديره
كما عرفت مما ينافي ما قصده المستدل ، فتأمل.
فصل
[
الاستدلال بالخبر على المدعى ]
كما ينافيه هذا
، كذلك ينافيه من جهة الخبر ما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن الحسن ، عن محمد
بن الوليد ، عن العباس بن عامر ، عن يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن امرأة أرضعتني وأرضعت صبياً معي ولذلك الصبي أخ من
أبيه وأمه ، فيحل لي أن أتزوج ابنته؟ قال : لا بأس .
فانه حديث موثق
كالصحيح ، متأيد بأصالة الحلية والاباحة والبراءة واستصحاب الحل السابق ، وفيه
دلالة واضحة على أن هذين المرتضعين ، أعني : السائل والصبي قد ارتضعا من لبن امرأة
وزوجها ، كما هو صريح قوله : « وأرضعت صبياً معي » فحصلت بينهما علاقة الاخوة
الرضاعية ، كما حصلت بينهما وبين رضيعهما أيضاً ، اذ لا فرق في ذلك بينهم أصلا ،
لارتضاعهم جميعاً من لبن واحد ، فحكمهم فيما يترتب على ذلك من التحريم والتحليل
حكم واحد.
فلو كانت تلك
العلاقة مثل علاقة الاخوة النسبية يحرم فيها ما يحرم فيها ، وكان حكم الاخوين
رضاعاً حكم الاخوين أباً وأماً ، كما ظنه وحمل الخبر عليه ، لكانت ابنة أخ الصبي
من أبيه وامه ابنة أخ السائل من أبيه وامه من غير فرق ، كما ادعاه في كلامه
المنقول عنه ، ومثله في ذلك الرضيع كما سبق. وابنة الاخ النسبي اذا كان
__________________
من أبيه وامه محرمة عليه أبداً من غير خلاف.
وقوله عليهالسلام « لا بأس » أي : عليك في تزويجها ، صريح في خلافه. ويدل
على أن هذا المرتضع يجوز له النكاح في أولاد اخوة المرتضع الاخر ، فهذا الحديث
مادة نقض لما ادعاه المستدل من أن كل تحريم يترتب على علاقة القرابة يترتب على
علاقة الرضاعة أيضاً من غير فرق ، فان ابنة أخ الاخ من القرابة حرام ، بخلاف ابنة
أخ الاخ من الرضاعة ، كما هو صريح الخبر. ومنه يظهر ما يظهر للفطن اللبيب بعد تأمله
الصادق وأخذه فطانته بيده ، فتأمل فيه.
وانما قيد الاخ
بالاب والام ليحترز به عن أخيه من امه فقط ، اذ لو كان له أخ منها لجاز لاخيه من
أبيه ، أي : لاخيه من النسب أن يتزوج ابنة أخيه من امه فبأن يجوز ذلك لاخيه من
الرضاع أولى ، فلما كان جوازه معلوماً له بطريق أولى أعرض عنه وخص ذلك بالسؤال.
والوجه فيه أن
أخوة الاخ من حيث هم اخوة أخ لا يحرمون على الاخ ، وانما يحرمون عليه من حيث هم
اخوة له ، لان الانسان اذا كان له أخ من أبيه واخت من امه ، جاز لاخيه المذكور
نكاح اخته ، اذ لا نسب بينهما محرم ، وظاهر أن هذا المرتضع وهو السائل كما لا نسب
بينه وبين اخوة المرتضع الاخر وهو الصبي ، كذلك لا رضاع بينهم ، وحينئذ لا وجه
للتحريم أصلا.
فهذا قرينة
واضحة دلت على أن مقصودهم عليهمالسلام من هذا الخبر المستفيض ليس ما فهمه منه وحمله عليه من
أن حكم الاخوين رضاعاً حكم الاخوين أباً واماً في ترتب التحريم ، والا لم يصرحوا
بما ينافيه ويناقضه ، لان التناقض في كلامهم لعصمتهم عليهمالسلام غير مسوغ.
ويستفاد منه ان
أخ الاخ من الرضاع لا يلزم أن يكون أخاً له منه ، كما أن أخ الاخ من النسب كذلك ،
أي : لا يلزم أن يكون أخاً له منه ، وكذا اخت الاخ
واخت الاخت وأخ الاخت وبنت أخ الاخ وبنت اخت الاخت وبنت اخت الاخ وهكذا في
سائر المراتب. ولو كان حاصل معنى الخبر ما استفاده منه وبنى الامر عليه لكان ذلك
كله من اللوازم ولا يخفى.
أقول : واذا
جاز النكاح لاحد هذين المرتضعين في اخوة المرتضع الاخر ، فبأن يجوز لاخوة أحدهما
في اخوة الاخر أولى.
ويستفاد منه أن
التحريم في هذه الصورة لا ينشر من المرتضع ، ولا تصير أقاربه واخوته نسباً بمنزلة
أقارب المرتضع الاخر واخوته ، فضلا عن أن يصيروا بمنزلة اخوة اخوته وأقاربهم.
ويظهر منه وجه
قول أصحابنا لو أرضعت امرأة ابناً لقوم وبنتاً لاخرين ، فانه يجوز أن ينكح اخوة كل
واحد منهما في اخوة الاخر ، اذ لا نسب بينهم ولا رضاع.
قال الشيخ في
النهاية : فاذا أرضعت المرأة صبيين ولكل واحد منهما اخوة وأخوات ولادة ورضاعاً من
غير الرجل الذي رضعا من لبنه ، جاز التناكح بين اخوة وأخوات هذا واخوة وأخوات ذاك ،
ولا يجوز التناكح بينهما أنفسهما .
وأنت خبير بأن
رواية يونس بن يعقوب دليل واضح عليه.
وقال الشيخ زين
الدين في شرح الشرائع : عدم التحريم هنا واضح ، لان اخوة أحد المرتضعين هنا
بالنسبة الى اخوة الاخر لا رابطة بينهم بالمحرمية أصلا فانهم ليسوا بمنزلة اخوة
الاخوين الذين يحتمل فيهم التحريم ، وانما هم اخوة اخوة الاخوة.
وهذا منه صريح
في عدم احتمال التحريم هنا ، وهو كذلك.
__________________
والاولى أن
يستدل عليه برواية يونس السابقة ، فانها أدل دليل عليه ، ومنها يستبين أن علاقة
الرضاعة ليست بمساوية لعلاقة القرابة في ايجاب التحريم الكلي بأن يكون كل تحريم
يترتب على الثانية يترتب على الاولى أيضاً من غير فرق ، كما ظنه وزعمه أنه يفهم من
الخبر المشهور.
والحل أن اخوة
أحد المولودين من ماء رجل وامرأته انما تصير اخوة المولود الاخر ، لتحقق النسب
بينهم كما في الاول ، وهذا بخلاف اخوة أحد المرتضعين من لبن امرأة وزوجها ، فانها
انما لا تصير اخوة المرتضع الاخر واخوة اخوته وأخواته ، لعدم تحقق الرضاع بينهم ،
كما هو متحقق بين المرتضعين.
واذا لم يصر
نفس أحد المرتضعين أخاً لاخ المرتضع الاخر ، كما هو صريح رواية ابن يعقوب ، وذلك
لعدم تحقق الرضاع بينهما ، فبأن لا يصير أخوه أخاً لاخيه أولى ، لان هناك واسطة
وهنا واسطتان فافهم.
فكما لا بد في
تحقق الاخوة النسبية من تحقق النسب بين الاخوين النسبيين ، فكذا لا بد في تحقق
الاخوة الرضاعية من تحقق الرضاع بين الاخوين الرضاعيين فحيثما تحقق تحققت ، وحيثما
لم يتحقق لم يتحقق ، فالفرق في ذلك بينهما بين ، فقياس أحدهما على الاخر وجعلهما
واحداً في ايجاب التحريم الكلي قياس معه فارق بالعقل والنقل كما عرفت.
وعجبي أنه
اعترف في الرسالة بأن قول الشيخ في النهاية مما يجب التمسك به ، لكونه مبنياً على
التمسك بالرواية والشهرة بين الطائفة ومخالفة العامة وان لم يطابق القواعد والاصول
، وغفل أن فهمه من الخبر المشهور ما فهم وبنى عليه ما بنى ينافيان ما في النهاية ،
اذ لا يجوز بناءاً عليه التناكح بين اخوة وأخوات هذا واخوة وأخوات ذاك ، كما هو
واضح.
هذا ومما
قررناه في خبر يونس السابق ذكره ، ظهر أن ما قالوه في بيان
تحليل اخوة المرتضع ولادة على اخوته رضاعاً أن أخت الاخ لا تحرم على
الانسان الا اذا كانت أختاً له من أبيه أو من أمه ، فان أخت الانسان من الام تحل
على أخيه من الاب ، لعدم كونها أختاً له لا من أبيه ولا من أمه ، وهؤلاء بعضهم على
بعض ، هكذا على ما في الرسالة.
ليس مجرد وجه
اجتهادي وخيال اعتباري من غير نص في خبر ولا ذكر في أثر كما ظنه فيها ، ونسبه الى
عين القياس الباطل عند علمائنا أجمع ، بل هو كالمنصوص في هذا الخبر والمذكور في
هذا الاثر.
كما يشير اليه
ما أفاده وأجاده التقي المتقي المجلسى قدسسره في حاشية له معلقة على هذا الخبر بقوله قوله ابنته ، أي
: ابنة الاخ ويدل على أن كل منزلة ليست محرمة كما في النسب ، فانه لا يلزم أن يكون
أخ الاخ أخاً ، ولا شك في أن الرضاع أضعف منه ، فأخت الرضاعة امرأة رضعت معك من
امرأة ، وأما أختها فليست باختك من الرضاعة ولا بنتها بنت أختك. الى هنا كلامه رفع
مقامه.
وعلى ما أصله
صاحب الرسالة فيها تكون اختها اختك وبنتها بنت اختك ، ولا يكون الرضاع أضعف من
النسب بل هو مساو له ، يحرم فيه ما يحرم فيه ، كما صرح به بقوله : وعلاقة الرضاعة
مساوية لعلاقة القرابة في ايجاب التحريم الكلي يترتب عليها ما يترتب عليها من
التحريم من غير فرق ، وصريح الخبر يدفعه.
فهو وما شاكله
يدل على بطلان ما فهمه منه وجعله معيار التحريم وميزان التفريع وآلة الملاحظة في
سائر ما يتعلق بهذا المبحث ، لان بطلان الاصل بطلان الفرع.
وبالجملة لو
كان حاصل معنى الخبر ما استفاده منه وحمله عليه ، لكان بين قول سيدنا الصادق عليهالسلام في رواية أبي بصير كل ما يحرم من النسب ، فانه يحرم من
الرضاع. وقوله في رواية يونس بن يعقوب لا بأس ، أي : عليك في تزويج ابنة
الاخ تناف وتناقض.
فان الاول وما
في معناه على ما فهمه منه يفيد ان تلك الابنة محرم عليه تزويجها فانها في حكم ابنة
أخيه النسبي وابنته محرمة عليه. والثاني صريح في أنها غير محرمة عليه ، بل يجوز له
نكاحها بخلاف ما ذكرناه من معنى الخبر ، فانه لا منافاة بينهما على هذا الوجه بوجه
كما هو واضح.
تنبيه
قد استبان مما
قررناه ونقلناه أن هذا الحديث وهو قوله عليهالسلام « كل ما يحرم من النسب فانه يحرم من الرضاع » ليس
باقياً على عمومه ، اذ قد يحرم من النسب ما لا يحرم من الرضاع ، فان ابنة أخ الاخ
من النسب اذا كان من أبيه وامه محرمة عليه ، بخلاف ابنة أخ الاخ من الرضاع فانها
ليست بمحرمة ، كما هو صريح الخبر.
وأيضاً فان
الاخت النسبية من قبل الام النسبية محرمة بلا خلاف ، وليست الاخت الرضاعية من قبل
الام الرضاعية كذلك ، على القول باشتراط اتحاد الفحل في حصول نشر الحرمة بين
المرتضعين.
نعم هو باق على
عمومه في هذه الصورة على قول أبي علي الطبرسي صاحب التفسير ، فانه لم يشترط في نشر
الحرمة اتحاده ، بل اكتفى باتحاد المرضعة ، مستدلا عليه بعموم الاخبار الدالة على
اتحاد الرضاع والنسب في حكم التحريم.
وأجيب بأنه
متجه لو لا ورود النصوص الدالة على اشتراط اتحاد الفحل في حصول النشر ، فتكون تلك
النصوص مخصصة لعموم تلك الاخبار ، كما لا يخفى على ذوي الابصار.
أقول : واذا
ثبت أن هذا الذي ادعاه غير منظور من الخبر ، وثبت أن علاقة
الاخوة الرضاعية ليست كعلاقة الاخوة النسبية ، ثبت أن ما يحرم فيها ليس
بلازم أن يحرم فيها ، فاثبات التحريم لكونه خلاف الاصل في المواضع التي ادعى ثبوته
فيها يحتاج الى دليل.
فكل موضع دل
الدليل على ثبوته فيه وجب اتباعه ، وحيث لا دليل فيه على التحريم كما في أولاد
المرضعة والفحل وأولاد أب المرتضع الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن وجب القول فيه بالاباحة
، لانه يلزم من انتفاء دليل التحريم ثبوت الاباحة ، اذ لا يعقل ارتفاع النقيضين ،
ولانها كانت ثابتة قبل الرضاع والاصل بقاؤها ، ولان الاصل في الاشياء الاباحة الى
أن يمنع الشرع بالنهي عنه ، ولم يثبت هنا منعه منه.
ولان كلما فيه
نفع ولم يقع في الشرع على تحريمه دليل ، فلا ريب في اباحته لقوله تعالى ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) وقولهم عليهمالسلام : كل شيء مطلق ـ أي : مباح ـ حتى يرد فيه نهي فحيث لا رضاع
ولا منزلة ، فالاصل والبراءة والاستصحاب يقتضي فيه الحل والاباحة.
فصل
[
تحكيم المرام من الخبر والاثر ]
الظاهر أن هذا
الحديث الشريف لم يكن في نظره وقت التأليف ، أو كان ولم يتفطن بمنافاته لما رام
اثباته من التحريم الكلي ، ولعل الثاني أظهر ، لانه حديث معروف مشهور مذكور في
التهذيب وفي الرسائل المعمولة لبيان مسائل
__________________
الرضاع ، فبعيد أن يكون بصره قد زاغ عنه.
ويدل على ما
قلناه ما سيأتي في كلام له بعد أن أورد ايراداً على نفسه ، بأن ورود أكثر الاخبار
في خصوص المرتضع بالنسبة الى الفحل والمرضعة وأقربائهما يؤيد القول باختصاص
التحريم به بالنسبة اليهم.
ثم أجاب عنه
وساق الكلام الى أن قال : نعم لو ورد خبر دال على عدم النشر من المرتضع ، أو في
تحليل بعض محارمه نسباً على رضيعه ومن هو بحكمه لامكن التشبث به ، لكنه مفقود
رأساً بل لا اشعار بذلك في الاخبار أصلا.
فانه صريح في
أن هذا الحديث الدال على عدم النشر من المرتضع وتحليل بعض محارمه نسباً على رضيعه
ومن هو بحكمه ما كان في نظره وقتئذ ، أو كان ولم يتفطن بما دل عليه ، والا لقال به
بل بذلك الاختصاص أيضاً ، ولم يكن يقول بذلك العموم والتحريم الكلي.
اذ المسلم عنده
في قوله « نعم » الى آخره أن هذا القدر من الدلالة يكفي في اثبات القول بالاختصاص
ونفي القول بالعموم والتحريم الكلي ، لكنه لما زعم أنه ليس بذلك في الاخبار عين
ولا أثر وفهم من الخبر المستفيض ما فهم ، صار ذلك سبباً لاقدامه على ما أقدم عليه.
وانما قلنا بأن
هذا الحديث دل على تحليل بعض محارمه نسباً على رضيعه ومن هو بحكمه ، لانه لا فرق
بناءاً على ما فهمه من الخبر بين هذين المرتضعين من لبن امرأة وزوجها ، وبين
رضيعهما في الاخوة الرضاعية وما يترتب عليها ، فحكم كل منهم في تحريم شيء عليه
وعدمه حكم الاخر.
فاذا دل خبر
على تحليل بعض محارم أحدهم نسباً على الاخر ، فقد دل على تحليله على ذلك الاخر
أيضاً ، لانه بحكمه مع أنه قدسسره قد صرح في مواضع
من رسالته بعدم الفرق بين المرتضع ورضيعه في صدق الولدية بالرضاع وتحريم
محارم كل منهما نسباً على الاخر.
وقال : ان هذا
هو الذي يظهر من أخبار الائمة الابرار وأقوال قدماء علمائنا الاخيار ، فاذا ثبت
تحليل بعض محارم أحد المرتضعين نسباً على الاخر ولا فرق بينه وبين رضيعه في ذلك
ثبت تحليله عليه أيضاً ، فظهر أن هذا الحديث قد دل على تحليل بعض محارم المرتضع
نسباً على رضيعه ومن هو بحكمه وهو المرتضع الاخر.
وهو قدسسره قد اعترف في كلامه المنقول عنه بأن ذلك مثبت لما نحن
بصدده من الاختصاص ، واعتراف الخصم حجة عليه ، فلو لم يكن لنا على بطلان ما فهمه
من الخبر المستفيض دليل الا هذا لكفى.
فكيف؟ وقد دلت
عليه أدلة وامارات منها أن أحداً من علماء الاسلام والفقهاء العظام لم يحمله من
زمن وروده الى زماننا هذا على ما حمله عليه ، أما من لم يقل منهم بتحريم أولاد
المرضعة والفحل على اخوة المرتضع وأخواته فظاهر.
وأما من قال
منهم به ، فلانه لم يستنده الى هذا الخبر ، وانما استنده الى أخبار المنزلة
الواردة في أب المرتضع ، كالشيخ في الخلاف والنهاية ، وتبعه في ذلك بعضهم كما
سنوضحه إن شاء الله العزيز.
فلو كان معناه
ما فهمه منه لكان تمسكهم به فيه أولى من تمسكهم بأحاديث المنزلة ، لان تعديتها من
أب المرتضع الى أولاده الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن قياس غير مسوغ ، ولذلك لم
يقل به عامتهم.
ومنهم من قال
بالاجتناب عن أولاده من باب النزاهة ، كصاحب النخبة قدسسره ، فانه قال فيها : وان اجتنب أولاد أب المرتضع الذين لم
يرتضعوا من
هذا اللبن أولاد الفحل ولادة ورضاعاً ، فقد بالغوا في النزاهة.
وفيه أن أحداً
منهم لم يقل بالتنزه عن نكاح أخت الاخ من النسب اذا لم تكن أختاً له من أبيه أو
أمه ، بأن يكون له أخ من الاب وأخت من الام ، فانه يجوز للاخ من الاب نكاح الاخت
من الام كما سبق.
فاذا لم يكن
الاجتناب عن نكاح أخت الاخ من النسب تنزهاً ، وقد علم أن النبي صلىاللهعليهوآله جعل النسب أصلا للرضاع ، فيكون أضعف منه تنزيهاً
وتحريماً ، فبأن لا يكون الاجتناب عن نكاح أخت الاخ من الرضاع تنزهاً أولى.
وبالجملة ما
فهمه صاحب الرسالة من الخبر وحمله عليه لما كان مخالفاً للظاهر منافياً لعموم
الايات ، مبايناً لصريح بعض الروايات ، بعيداً عن الافهام حتى لم يفهمه منه في تلك
الاعصار المتطاولة والقرون الخالية ذو فهم من ذوي الافهام ، ولا أحد من العلماء
الاعلام ، وأذهانهم الثاقبة وأفكارهم الصائبة : اما لبعده ، أو لكونه خلاف الامر
نفسه.
وقد تقرر عندهم
أن مدار الاستدلال بالايات والروايات من السلف الى الخلف على الظاهر المتبادر لا
على خلافه البعيد عن الخواطر ، وسيما اذا كان مصادماً لاصالة الحلية والاباحة
والبراءة واستصحاب الحل السابق ، بل صريح الخبر الموثق كالصحيح ، ولذا تردد هو
نفسه في كونه صحيحاً ومراداً ، وفي بيانه حتى بنى الامر فيه على الاستخارة ، كما
هو المذكور في ديباجة الرسالة ، وهو غريب لا يصار اليه ولا يكون حجة الا عليه بل لا حجية
فيه أصلا ، لان خلاف الظاهر هو الاحتمال المرجوح من احتمالي اللفظ.
ومن البين أن
الاحتمال المرجوح على تقدير تسليم كونه من محتملات الخبر في جنب الاحتمال الراجح
مما لا يلتفت في مقام الاستدلال اليه الا بدليل يدل
__________________
عليه ، فكيف اذا كان هناك ما يمانعه من الخبر والاباحة والبراءة وغيرها مما
سبق.
ومنها أن ظاهر
الخبر يفيد أن النبي صلىاللهعليهوآله جعل النسب أصلا للرضاع في التحريم ، كما صرح به بعض
الاصحاب وسيأتي ، فكما أن في التحريم النسبي يعتبر أن يكون بين المحرمين نسب محرم
حتى يصير أحدهما على الاخر محرماً ، فكذا لا بد وأن يعتبر في التحريم الرضاعي
أيضاً أن يكون بينهما رضاع محرم حتى يصير أحدهما محرماً على الاخر.
وعلى ما حمل
الخبر عليه يلزم منه أن لا يكون بينهما رضاع أصلا ، ومع ذلك يكون أحدهما على الاخر
حراماً رضاعاً ، فان اخوة المرتضع الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن لا رضاع بينهم
وبين أولاد الفحل ، ولا يجري فيهم أخبار المنزلة الا قياساً ، سيما اذا أرضعت
امرأة ابناً لقوم وبنتاً لاخرين ، فان اخوة أحد المرتضعين هنا بالنسبة الى الاخر
لا رابطة بينهم بالمحرمية أصلا لا رضاعاً ولا منزلة ، ومع ذلك يلزم من حمله هذا أن
يكون بينهم تحريم رضاعي مع عدم تحقق الرضاع بينهم بوجه كما هو واضح.
وهذا ما لا
ينبغي أن يقول به فقيه ، اذ لا يصح هو في نفسه ولا يستفاد من الخبر المستدل به
عليه ، فان كلمة « ما » مسلم أنها تفيد العموم ، ولكن معناه أن الرضاع مثل النسب
في جميع ما يحرم بالنسب من الامهات والبنات والاخوات والعمات والخالات وبنات الاخ
وبنات الاخت ، والجمع في النكاح بين المرأة وعمتها وخالتها وأختها من الرضاع
وتحريم ملك الاقارب وبيعهم وثمنهم الى غير ذلك.
وبالجملة معناه
كما سبق أنه كلما يحرم بسبب النسب باحدى الوجوه السبعة المذكورة في الآية ، فانه
يحرم بالرضاع اذا وجد ذلك النسب بعينه فيه ، مثل الام الرضاعية والاخت الرضاعية
وهكذا.
وليس معناه أن
علاقة الرضاعة مساوية لعلاقة القرابة ويكون حكم الاخوين
رضاعاً حكم الاخوين أباً وأماً ، فان ذلك مع أنه غير مفهوم من الخبر غير
مقصود منه كما عرفت ، بل المقصود منه بيان أن الرضاع كالنسب علة للتحريم ، ولذلك
علق الحكم على محض الرضاع وأتى بـ « من » التعليلية ليشعر بأنه علته ، فحيثما تحقق
تحقق ، وحيثما انتفى انتفى. فهذا دليل الخصوص لا قرينة العموم.
اللهم الا أن
يدل دليل بخصوصه على التحريم حيث لا رضاع ، فحينئذ يجب اتباعه فيه واقتصاره عليه
كما سيأتي ، وانما لم يذكر المحرم عليه لا ليفيد العموم بل للاحتراز عن العبث
والعدول الى أقوى الدليلين ، اذ القرينة على تعيينه قائمة فكأن ذكره معها كأنه
ضايع عبث.
ولذلك قال شيخ
الطائفة في المبسوط أن التحريم متعلق بالرضاع وحده ومن كان من نسله دون من كان من
طبقته فأشعر ، حيث قال : انه متعلق بالمرتضع .
ولم يقل أنه
مخصص به بأن عدم ذكر المحرم عليه لتعينه لا ليفيد العموم ، وهذا كأنه واضح
والمنازع كأنه مكابر.
نقل
كلام لتقرير مرام
اعلم أن أصل
براءة الذمة مما لم يخالف فيه أحد ، على ما صرح به الشيخ حسين بن عبد الصمد
الحارثي في العقد الطهماسبي ، قال : وفرع العلماء عليه ما لا يتناهى من المسائل ،
بل مدار أكثر فروع الفقيه عليه ، وهذا هو الذي يعبر عنه العلماء بالدليل العقلي.
ثم قال بعد
كلام : والحاصل انا اذا حكمنا بتحريم شيء بغير دليل شرعي
__________________
وقعنا في الاثم ، لان ذلك بدعة وادخال في الدين ما ليس منه ، وقد نهى
الله ورسوله والائمة المعصومون عليهمالسلام عنه ـ الى هنا كلامه طاب منامه.
ولا يذهب عليك
أن أكثر ما أفاده صاحب الرسالة فيها من تحريم ما حرمه من هذا القبيل ، اذ ليس له
عليه دليل شرعي يعتمد عليه ، أو تركن النفس شيئاً قليلا اليه ، بل هو مجرد شكوك
وشبهات ضعيفة واحتمالات بعيدة مخالفة لعموم الايات وصريح بعض الروايات ، وسيما ما
فهمه من الخبر المشهور وجعله معيار التحريم وميزان التفريع ، فانه لا يصلح أن يكون
دليلا على تحريم شيء ، كما لا يخفى على الناقد البصير الناظر في الرسالة.
ومن الغريب أنه
جعل في مقام ذكر أدلة الاصحاب التي استندوا اليها في اثبات مطلبهم مرجع الاباحة
الاصلية والبراءة الاصلية والاستصحاب الذي يجري مجرى الاصل واحداً.
ثم قال : انها
لا تنفع فيما نحن فيه ، اذ الحق ـ كما بين في موضعه ـ أنها على القول بحجيتها
ليست دليلا يقوى على معارضة غيرها من الادلة الشرعية ، فحينئذ فما وجد في الشريعة
ما يتضمن خلافها لزم للمتدين تركها.
وعلى هذا فاذا
ثبت في موضع تحقق الرضاع الشرعي المحرم ، وقد دل ظاهر الخبر المستفيض على النشر
مطلقاً والعموم الذي ذكرناه سيما مع التأييد بما قلناه ، لزم علينا أن نحكم فيه
بالتحريم على الاطلاق من غير استثناء لاحد مما يشمله العموم ، ولا تخصيص ببعض
كالمرتضع ونسله ما لم يقم دليل شرعي مثبت للاستثناء ومخصص لهذا العموم ، فلا مدخل
لاصالة الاباحة هاهنا ، بل الحق أن
__________________
الاصل في هذا المقام التحريم لا الاباحة.
أقول : وهل
الكلام الا في ثبوت هذا العموم ، وكونه مراداً من هذا الخبر المستفيض ، فان القوم
لم يقولوا بثبوته وكونه مراداً منه ، ولذلك لم يحكموا بالتحريم على الاطلاق في
موضع ثبت فيه تحقق الرضاع الشرعي المحرم ، فان الخبر لم يفد العموم ولم يدل على
النشر مطلقاً ، بل أفاد التحريم المتعلق بخصوص المرتضع ونسله.
وحينئذ فلا
تخصيص ولا استثناء حتى يحتاج الى اقامة دليل شرعي مخصص ومثبت ، لانهما فرعا العموم
ولا عموم هنا كما مر لما مر ، والكلام في كون الاصل هنا التحريم ، وفي وجدان ما
يتضمن في الشريعة خلاف الاباحة والبراءة و
الاستصحاب ،
وفي كون مرجعها جميعاً واحداً هذا الكلام ، فانهم لم يقولوا بشيء من ذلك ، وخاصة
بكون مرجع الثلاثة واحداً ، فان أصل براءة الذمة وكونها حجة مما لم يخالف فيه أحد
كما سبق.
وأما الاباحة
الاصلية والدليل على حجيتها أن تكليف الحكيم بالاجتناب وعدم البيان عند الحاجة شيء
لا يجوز العقل نسبته اليه ، فما لم يظهر حرمة أمر بخصوصه أو باندراجه في وصف جعله
الشارع علامة للحرمة فالظاهر فيه الحلية ، وهذا هو المراد بكون الاصل في الاشياء
الاباحة. فللامامية فيه ثلاثة أقوال ، فكيف يكون مرجعهما واحداً ، وأحدهما
وفاقي والاخر خلافي.
فجماعة منهم
المرتضى على أن الاشياء الغير الضرورية مما لا يدرك العقل قبحها كشم الورد غير
محرمة عقلا ، اذ هي منافع بلا مفسدة والاذن في التصرف معلوم عقلا ، كالاستظلال
بجدار الغير ، وبعضهم كالمفيد على التوقف ، وبعضهم على التحريم.
__________________
هذا كله قبل
ورود الشرع. وأما بعد وروده فكلما فيه نفع ولم يقم على تحريمه دليل ، فلا ريب في
اباحته لقولهم عليهمالسلام : كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي وقوله تعالى ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ). .
قال في الكشاف
: وقد استدل به على أن الاشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المخطورات في
العقل خلقت في الاصل مباحة مطلقاً لكل أحد أن يتناولها وينتفع بها .
وقال البيضاوي
ما حاصله : ان الآية تقتضي اباحة الاشياء النافعة قبل ورود الشرع ، فما أخرجه فهو
خارج ، وما سواه على الاباحة الاصلية .
واليه أشار في
جوامع الجامع بقوله : وفي هذا دلالة على أن الاصل في الاشياء الاباحة الى أن يمنع
الشرع بالنهي عنه وجائز لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها .
ومما يدل على
أصل الاباحة من طريق الخبر زائداً على ما مر ما رواه الشيخ في باب الزيادات من
التهذيب عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : كل شيء يكون منه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً
حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه .
وهذا حديث صحيح
صريح في تغليب الحلال على الحرام ، بناءاً على أن الاصل في الاشياء الحل ، كما صرح
به الشيخ حسين بن عبد الصمد الحارثي في
__________________
العقد الطهماسبي حيث قال بعد كلام : نعم اختلف الاصوليون في ان الاصل الحل
أو الحرمة ، وأكثر العلماء على أن الاصل الحل ، والدليل بحمد الله قائم عليه ،
فقول صاحب الرسالة فيها بعد كلام.
وبالجملة كلام
الاصحاب في كثير من المواضع صريح في أنه اذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام كما
ترى ، وكيف يكون هذا على اطلاقه صحيحاً؟
وفي التهذيب في
الباب المذكور متصلا بالحديث السابق ذكره عن مسعدة ابن صدقة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه
حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ،
أو المملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي
أختك أو رضيعتك ، والاشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة .
فصرح عليهالسلام بأن كل شيء لنا حلال حتى يظهر لنا خلافه وهو حرمته ،
أو تقوم علينا على خلافه بينة عادلة ، ومن البين أن تحريم نكاح اخوة المرتضع الذين
لم يرتضعوا من هذا اللبن في أولاد الفحل ولادة ورضاعاً مما لم يقم عليه بينة ، فهو
على أصل الحل حتى يستبين لنا غيره ولم يستبن بعد.
وبعبارة أخرى :
نكاح أولاد الفحل والمرضعة كان حلالا على أولاد أب المرتضع قبل الرضاع ، ولم يقم
دليل قاطع على حظره بعد ذلك ، فينبغي أن يكون حلالا على ما كان حتى يقوم دليل ،
ولا دليل في الشرع يدل على ذلك.
فقول صاحب
الرسالة فيها أنه مخالف للاحتياط ، اذ لو فرض مع قطع النظر عن جميع ما ذكر لكان
ينبغي الاحتياط لقيام الشبهة ، اذ لا أقل من احتمال الخبر المستفيض عموم التحريم
والانتشار ، واحتمال قول الشيخ في كتابي النهاية
__________________
والخلاف الصحة.
محل نظر ، لان
الاحتياط مع أنه ليس بدليل شرعي انما يكون منبغياً فيما يحتمل فيه التحريم لكونه
محل شبهة ، مثل ما رواه الشيخ عن مسعدة بن زياد عن أبي جعفر عن آبائه عليهمالسلام أن النبي صلىاللهعليهوآله قال : لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند
الشبهة ، يقول : اذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك ، فان
الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة.
وما نحن فيه
ليس من هذا القبيل لعدم احتماله التحريم فلا شبهة فيه ، اذ الخبر المستفيض لا
يحتمل عموم التحريم والانتشار كما فصل سابقاً ، وقول الشيخ في كتابيه مبني على
تعديته أحاديث المنزلة الواردة في أب المرتضع منه الى أولاده. وهو قياس محض لا
يقول به الامامية ، فقوله هذا لا يحتمل الصحة ، وعليه فلا محل هنا للاحتياط والحمد
لله.
بل لا يبعد
القول بأن الاحتياط في جانب خلافه ، لما مر من أنا اذا حكمنا بتحريم شيء بغير
دليل شرعي وقعنا في الاثم ، لانه بدعة وادخال في الدين ما ليس منه وهو منهي عنه.
وعلى تقدير
احتمال التحريم نقول : لما ثبت بالادلة العقلية والنقلية أن الاصل في الاشياء الاباحة
، وان كل شيء حلال أبداً حتى يعلم أنه حرام بعينه ، فما لم يقم دليل على تحريم شيء
يفيد العلم به ، أو الظن المتآخم له ، لا يجوز الحكم بتحريمه ، لانه بدعة ومخالف
لما ثبت بالدليل ، فاحتمال كون الشيء حراماً لا يسوغ الحكم بحرمته ولا الاحتياط
فيه لذلك الاحتمال ، كما هو صريح صحيح ابن سنان : كل شيء يكون منه حرام وحلال فهو
لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه .
__________________
فان كل فرد من
أفراد ذلك الشيء ، أو كل بعض من أبعاضه ، على هذا الفرض يحتمل أن يكون حراماً ،
ومع ذلك قد حكم الامام عليهالسلام بأنه حلال أبداً الى أن تعرف الحرام منه بعينه. ومثله
قوله في رواية ابن صدقة وقد سبق : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام.
فقوله في
الرسالة لا يقال : أليس احتياطكم بالتحريم مستلزماً لجواز النظر ونحو ذلك ، وذلك
ربما يكون حراماً لاحتمال صحة القول بالتحليل وان بعد ، ففي احتياطكم أيضاً احتمال
ارتكاب حرام.
لانا نقول :
بعد الاغماض عن كمال بعد هذا الاحتمال شرعاً كما بينا لا شك أن هذا التجويز أقل
مفسدة بكثير بالنسبة الى تحليل الفروج سيما من المحارم.
محل نظر ، لانا
نقول : بعد الاغماض عن كمال قرب هذا الاحتمال ووضوحه شرعاً حتى كاد أن يكون يقيناً
مجزوماً به لعدم قيام دليل شرعي على خلافه مع كونه أصلا في كل شيء ، وقد ورد الحث
على العمل بمقتضاه حتى يستبين خلافه لا يبعد أن يقال ان هذا التجويز أكثر مفسدة
بكثير ، لان فيه مع تحريم ما أحل الله بغير دليل شرعي تحليل ما حرم الله كذلك ، وليس في
مقابله الا تحليل ما يحتمل التحريم احتمالاً بعيداً ، وقد سبق أن احتمال كون الشيء
حراماً لا يوجب الحكم بتحريمه ولا الاحتياط فيه فتأمل هذا.
وأما الاستصحاب
، فحقيقته ـ كما صرح به بعض الاصحاب ـ ترجع الى أن الاصل بقاء الشيء على ما كأن
كان نقول : أخت كل من المرتضعين قبل أن يتحقق بينهما رضاع كانت حلالا على اخوة
الاخر ، والاصل بقاؤها على ما كانت عليه من الحلية حتى يعلم أنها محرمة عليهم ،
فعلم أن كلا منها دليل بحياله من
__________________
غير أن يتحد مع الاخر مرجعاً ومآلا ، وان ما نحن فيه مما فيه نفع ولم يقم
على تحريمه بعد دليل فهو على اباحته الاصلية ، لان العمومات التي ادعى دلالتها على
ما ادعاه مما لا أصل له.
فان أحاديث المنزلة
لا تجري في أولاد أب المرتضع الا بطريق القياس ، والحديث المستفيض لا دلالة له
عليه الا بعد أن يثبت عمومه ، ودون ثبوته خرط القتاد ، على أن هذا العموم على
تقدير كونه مفاداً من الخبر انما يمكن التعلق به اذا لم يكن هناك صارف عنه. وهذا
الخبر الموثق الذي نقلناه صارف عنه ، لانه يدل صريحاً على أن حكم الاخوين رضاعاً ،
كحكم الاخوين أباً واماً.
وأما في
التحريم الكلي والانتشار ، فينبغي أن يكون العمل عليه لانه خاص صريح في أن هذا
العموم الذي ادعاه غير منظور من الخبر ، فاذا بطل عمومه من هذا الوجه بطل ما بنى
عليه من ايجاب التحريم الكلي وما فرع عليه من الاحكام.
واذا ثبت أن
هذا العموم غير مقصود منه ، يثبت منه ومن دليل حجيته الاباحة الاصلية ، وهو أن
تكليف الحكيم بالاجتناب وعدم البيان عند الحاجة ما لا يجوز العقل نسبته اليه ، فما
لم يظهر حرمة أمر بخصوصه أو باندراجه في وصف جعله الشارع علامة للحرمة ، فالظاهر
فيه الحلية. حلية التناكح وجوازه بين اخوة وأخوات هذا المرتضع واخوة
وأخوات ذاك ، اذ لم يظهر تحريم هذا التناكح بخصوصه ولا باندراجه في وصف جعله
الشارع علامة للحرمة ، لان الوصف الذي جعله هنا علامة لها انما هو تحقق الرضاع المحرم
، وقد عرفت أنه غير متحقق بينهم ، فلا وجه حينئذ لتحريم هذا التناكح ، كيف وكل شيء
مطلق حتى يرد فيه نهي ، ولم يرد هنا لا خصوصاً ولا عموماً ، بل القول بهذا التحريم
لما
__________________
كان بغير دليل شرعي يعتمد عليه أو تركن النفس اليه ، كان بدعة وادخالا في
الدين ما ليس منه.
وأما الاحتياط
، فلا محل له فيما سألنا عنه ، وانما كان له فيه محل على تقدير احتمال التحريم
واشتباه الامر فيه ، وقد عرفت عدمه كما أشار اليه الشهيد الثاني فيما نقلنا عنه من
شرح الشرائع ، وكيف يحتمل التحريم وقد ورد في خصوصه خبر متأيد بأصالة الحلية
والاباحة والبراءة واستصحاب الحل السابق كما سبق.
فظهر أن ما
سئلنا عنه وأجبنا بجوازه وصحته مما هو منصوص بالخصوص مع تأيده بما ذكر فلا ينبغي
أن يكون لاحد فيه كلام ، حتى أن صاحب الرسالة وهو أخباري المسلك لا بد له من القول
بجوازه ، وان كان منافياً لما أصله وفرع عليه الفروع ، لان عموم الخبر ودلالته على
ما رام اثباته لو سلم له ذلك انما يصار اليه ويصح العمل بمقتضاه والاعتماد عليه ما
لم يكن له معارض من الايات كما سيأتي ، ولا مخصص من الروايات كما سبق.
وأما بعد
وجدانه ، فلا شك في تقدم مدلوله على ما دل عليه لو ثبت عمومه.
وهذا ما لا
خلاف كما لا شك فيه ، وبدلك صح وثبت ما قلناه والحمد لله وحده. وانما لم يقل به
صاحب الرسالة لغفلته عما نقلناه وقررناه ، كما سبق وسيأتي إن شاء الله العزيز.
فصل
فيه وصل
[
المناقشة فى أدلة المتنازع ]
قد استبان مما
قررناه ونقلناه أن قوله في الرسالة : اصالة الاباحة وأمثالها ـ وأراد بها البراءة
والاستصحاب واصالة الحلية ـ لا تنفع في هذا المقام ، والاخبار وان لم تعارضها لم
تؤيدها ، كما هو غير خفي على المتتبع قول من لا تتبع له أصلا.
ثم قال : لا
يقال لعل لهم أن يتمسكوا بتأييد الاخبار لهم من حيث ورود أكثرها في خصوص المرتضع
بالنسبة الى الفحل والمرضعة وأقربائهما.
لانا نقول :
هذا كلام سخيف وشك ضعيف ، اذ لا شبهة أن مدار جواب الامام عليهالسلام في كل موضع على وفق مسؤول السائل ، فحينئذ كما سأله عن
خصوص حال المرتضع أجابه فيها ، كما أنه لما سأله عن حكم أبيه أجابه عنه ، ولما
سأله عن حكم اخت الاخ وكذا غيرها مجملا ، فلو سأله عن غير ذلك أيضاً لاجابه عنه
وعدم سؤال السائل لا يدل على عدم اجراء الحكم ، سيما مع وجود العمومات الدالة على
الاجراء المؤيدة بدعوى الاجماع وغيره.
نعم لو ورد خبر
دال على عدم النشر من المرتضع ، أو في تحليل بعض محارمه نسباً على رضيعه ومن هو
بحكمه ، لامكن التشبث به ، لكنه مفقود رأساً بل لا اشعار بذلك في الاخبار أصلا ،
فتدبر ولا تغفل ، والله الموفق والهادي ـ الى هنا كلامه.
وفيه أن غرض
القائل من هذا القول أن حال اخوة المرتضع وأخواته وسائر أقربائه بالنسبة الى الفحل
والمرضعة وأقربائهما لما كانت ظاهرة ، لعدم تحقق الرضاع المحرم بينهم الموجب
للتحليل ، لم تكن محل سؤال ، ولذلك لم يتعرضوا لها وخصوا السؤال في الاكثر بخصوص
المرتضع بالنسبة اليهما والى أقربائهما ، وهذا كما ترى كلام متين لا يقابله جوابه
هذا كما هو واضح.
ثم قد علم مما
نقلناه ورود خبر دال على عدم النشر من المرتضع صريح في تحليل بعض محارمه نسباً على
المرتضع الاخر ، وقد سبق أنه لا فرق في ذلك بين المرتضعين ورضيعهما ومن هو بحكمه
بناءاً على ما فهمه من الخبر ، فان حكم هؤلاء الاخوة الرضاعية بثلاثتهم بناءاً على
فهمه هذا كحكم الاخوة النسبية المنسوبة الى أب وأم.
ولما ثبت
بطلانه بالخبر المذكور حيث دل على تحليل بعض محارم أحد المرتضعين نسباً ، وهو ابنة
أخيه الامي الابي على المرتضع الاخر ، ثبت تحليله على رضيعهما أيضاً ، لعدم الفرق
فيهم في عدم الرضاع والنسب والمصاهرة بينهم.
ويعلم من كلامه
هذا أن ارتكابه ما ارتكبه انما نشأ من غفلته عن هذا وما شاكله ، والا فهو أخباري
المسلك لا يجترئ على ارتكابه وعلمه بوجود ما مر ، وقد مر فيه ما مر.
ثم أقول : ولما
كان مدار جميع استدلالاته في رسالته هذه على عموم الخبر المستفيض ، وقد ظهر مما
حررناه أن عمومه على الوجه الذي قصده ، مع أنه مخالف لقواعد الادب وبعيد عن
الافهام حتى لم يفهمه منه واحد من علماء الاسلام غير منظور للشارع ، وان ما استدل
به على اثبات ذلك العموم من عدم ذكر المحرم عليه وعموم كلمة « ما » لا يثبته ، بل
يفيد أن يكون معناه يحرم على كل أحد من الرضاع ما يحرم من النسب.
وهذا كما ترى
دليل الخصوص ، كما أشار اليه شيخ الطائفة بقوله ان التحريم متعلق بالمرتضع وحده
ومن كان من نسله دون من كان من طبقته لا قرينة العموم ، كما ظنه عفى الله عنه ،
كان تطويل الكلام بعد ذلك في هذا المقام كأنه مما لا طائل تحته كثيراً ، ولكني
أشير اشارة اجمالية الى بعض افاداته وفتاويه ، منبهاً بعون الله تعالى على بعض ما
عليه وما فيه ، لتطمئن به قلوب مقلديه ، فلعلهم يرجعون عما هم فيه.
فنقول : قال قدسسره في الرسالة متصلا بما نقلناه عنه في أوائل الكتاب ، وهو
قوله : وحكم الاخوين رضاعاً كحكم الاخوين أباً وأماً.
فان قلت : أي
مانع من أن يجعل المعيار وآلة الملاحظة المرتضع وحده ، فيعبر حينئذ عن التفسير
هكذا ، فكما أن من الولادة تحصل علاقة القرابة والنسب ،
فيصير الولد ابناً والوالدان أباً وأماً ، وهكذا في سائر الاقارب وينتشر
التحريم ، فكذلك اذا ارتضع ولد من اللبن تحصل مثل تلك العلاقة ، ويترتب عليها ما
يترتب عليها ، كما قال الشهيد الثاني : ان الضابط تنزيل الولد من الرضاعة منزلة
الولد من النسب ، وأمه بمنزلة الام ، وأبيه بمنزلة الاب الى آخر المحرمات.
قلت : ان أردت
بهذا محض بيان عدم لزوم ملاحظة الرضيعين ، بأن تدعي أن فرض المرتضع وحده كاف في
اثبات نشر الحرمة على الاطلاق الشامل للطرفين ، بأن يقال بعد تحقق علاقة الرضاع
وصيرورة المرضعة اما للمرتضع والفحل أباً وهو ابناً يتحقق النسبي أيضاً ، فيحرم
على المرتضع كل من هو حرام على ولديهما المولودي النسبي ويحرم عليهما كل من هو
حرام على والديه النسبي ، وكذا باقي الاقارب على ما هو مفاد العموم.
فلا يخفى اذاً
أن مرجعه الى ما ذكرناه ، وليس بينهما بون بعيد ، الا أن المطلب يكون بهذا التقرير
أخفى اثباتاً وتصديقاً ، وأقرب الى تطرق الشبهة والجدال ، بخلاف تقريرنا فان فيه
فوائد متعددة لا تخفى وسنشير الى كثير.
وان أردت به
بيان ما هو المشهور بين متأخرينا وكل الجمهور من اختصاص التحريم بالمرتضع ونسله
وعدم النشر الى سائر أقاربه ، أي : يحرم عليه وعلى نسله فقط المرضعة وفحلها
وأقاربهما الذين كانوا حرموا عليه وعلى نسله لو فرض ولادته منهما ، استناداً الى
ما اعتمدوا عليه وجعلوه أصلا رتبوا عليه الاحكام ، كما سنبين من أن الرضاع الذي هو
علة التحريم حاصل من تربية المرتضع وحده بلبنهما المخلوق من مائهما ، فلا مدخل
للغير هاهنا ، فالمانع حينئذ أشياء :
الاول : أن فيه
تخصيصاً للعموم الذي هو مفاد الخبر بدون مخصص يوثق به شرعاً مع وجود مقويات للعموم
، اذ التعليلات العقلية الظنية لا مدخل لها في الشرع على ما هو الحق ، والروايات
ترشد الى العموم ، كما سيظهر على أن تلك التعليلات
مع كونها من ملايمات مصطلحات العامة ومستنداتهم مدخولة ، كما سنذكر فانتظر.
أقول : قد سبق
أن هذا الخبر لا عموم له حتى يكون ما ذكروه تخصيصاً لعمومه ، بل ليس مفاده الا أن
التحريم الرضاعي متعلق بالمرتضع وحده ، وقد سبق أيضاً في موثقة يونس بن يعقوب أن
بعد تحقق علاقة الرضاعة وصيرورة المرضعة أما للمرتضع والفحل أباً وهو ابناً لا
يتحقق التحريم النسبي.
فلا يحرم على
المرتضع كل من هو حرام على ولديهما المولودي النسبي ، فان ابنة أخ الاخ المولودي
النسبي محرمة على ذلك الاخ ، وموثقة يونس صريحة في أن ابنة أخ الاخ الرضاعي غير
محرمة على ذلك الاخ وهو المرتضع ، فان ابنة أخ الصبي من أبيه وأمه كانت ابنة أخ
الاخ الرضاعي ليونس ، ومع ذلك قد نفى الامام عليهالسلام البأس من تزويج يونس وهو المرتضع لها.
ومنه يظهر أن
الرضاع لا ينشر الحرمة على الاطلاق الشامل للطرفين ، فليس بلازم أن يكون كل من كان
حراماً على والدي المرتضع النسبي يكون حراماً على والديه الرضاعي ، أي : المرضعة
والفحل. وأما أن الروايات ترشد الى العموم فلا كذلك ، بل بعضها كرواية يونس صريح
في عدم العموم.
نعم أنه زعم أن
في أخبار المنزلة الواردة في أب المرتضع دلالة على أن عموم الخبر منظور للشارع
وليس كذلك.
أما أولا :
فلانه لا عموم له فكيف يكون منظوراً له ، ونعم ما قيل : ثبت العرش ثم انقش.
وأما ثانياً :
فلان رواية يونس صريحة في أن عمومه على تقدير تسليم عمومه غير منظور للشارع ، كما
سبق آنفاً مجملا وسالفاً مفصلا.
وأما ما نقله
عنهم وسماه بالتعليلات العقلية ، فليس هو بمخصص عندهم لهذا الخبر ، ولا كلامهم
مبني عليه بل هو نكتة ولم ذكروه لتحريم ما حرم على المرتضع
وحده دون سائر أقربائه.
على أنا نقول :
عموم هذا الخبر على تقدير ثبوته كما يمكن أن يكون مخصصاً لعموم الايات على ما
سيأتي ، كذلك عموم هذه الايات مع خصوص بعض الروايات وأصالة الحلية والبراءة
والاباحة واستصحاب الحل السابق وغيرهما مما سبق يمكن أن يكون مخصصة لعمومه بما ذكر
، بل هذا أولى كما لا يخفى.
وعلى تقدير
التقابل والتكافؤ يلزم منه التساقط ، فينتفي التحريم قطعاً لانتفاء سببه ، ويلزم
من انتفائه ثبوت الاباحة ، اذ لا يعقل ارتفاع النقيضين ، وسيأتيك في ذلك كلام أوضح
فانتظره.
قال قدسسره متصلا بما سبق نقله : الثاني أنه خلاف ما ادعي عليه
الاجماع اذ الشيخ رحمهالله في كتابيه النهاية والخلاف حيث ذكر نشر الحرمة من طرف
المرتضع ، فبين تحريم الفحل وأولاده على اخوة المرتضع وأخواته ، قال : من دلائلنا
اجماع الفرقة.
ويؤيده كلام
العلامة في التذكرة حيث قال بعد نقله مذهب المخالفين على ما سيجيء : وقال علماؤنا
: ان جميع أولاد المرضعة وجميع أولاد الفحل يحرمون على المرتضع وعلى أبيه وجميع
اخوته وأخواته ، وانهم صاروا بمنزلة الاخوة والاخوات ، وخالف جميع العامة في ذلك
انتهى.
ومن الغرائب أن
الشيخ علي رحمهالله ادعى الاجماع على التحليل في بعض المواضع استناداً الى
سكوت الاكثر عن ذكره أو بيان تحريمه في كتبهم ، ولم ينقل مثل هذا الاجماع المؤيد
بالاخبار وغيرها.
أقول : ان
الاجماع مطلقا وخصوصاً ما يدعيه الشيخ في كتاب الخلاف مما لا عبرة به أصلا.
قال زين
المحققين في بعض رسائله بعد كلام طويل : وأما ما اتفق لكثير من
الاصحاب خصوصاً للمرتضى في الانتصار وللشيخ في الخلاف ، مع أنهما اماما
الطائفة ومقتدياها في دعوى الاجماع على مسائل كثيرة مع اختصاصهما بذلك القول من
بين الاصحاب أو شذوذ الموافق لهما ، فهو كثير لا يقتضي الحال ذكره ، ومن أعجبه
دعوى المرتضى في الكتاب المذكور اجماع الامامية وجعله حجة على المخالفين على وجوب
التكبيرات الخمس في كل ركعة للركوع والسجود والقيام منهما ، ووجوب رفع اليدين لها.
الى أن قال :
وفي دعوى الشيخ في كتبه ما هو أعجب من ذلك وأكثر لا يقتضي الحال ذكره ، وساق
الكلام الى أن قال : وفي هذا القدر كفاية ، فاذا أضفت هذا الى ما قررناه سابقاً ،
كفاك في الدلالة على حال هذا الاجماع ونقله بخبر الواحد.
أقول : وكفاك
في عدم العبرة بمثل هذا الاجماع دعوى الشيخ علي رحمهالله الاجماع على التحليل ، مع أنه مسبوق بدعوى الشيخ رحمهالله الاجماع على التحريم ، وقد خالف نفسه في ذلك في كتابه
المبسوط ، ولذلك لم ينقل الشيخ علي مثل هذا الاجماع ، لانه مع عدم العبرة به لا
يؤيده شيء من الاخبار والاجماع لا بد له من مستند نقلي.
وأما ما أفاده
الفاضل العلامة في التذكرة ، فهو مبني على تعديته قدسسره كالشيخ أخبار المنزلة الواردة في أب المرتضع منه الى
أولاده الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن. ومثله كلام ابن حمزة في كتاب الوسيلة على ما نقله
في الرسالة ، فانه أيضاً مبني على تلك التعدية ، ولا اشعار فيه ولا في كلام الشيخ
في كتابيه بفهم المتقدمين العموم من الخبر كما ظنه.
كيف؟ وكلامه في
النهاية بعد كلامه المنقول عنه آنفاً صريح في نقيض ذلك
__________________
حيث قال : فاذا أرضعت المرأة صبيين ، ولكل واحد منهما اخوة وأخوات ولادة ورضاعاً
من غير الرجل الذي رضعا من لبنه ، جاز التناكح بين اخوة وأخوات هذا واخوة وأخوات
ذاك ، ولا يجوز التناكح بينهما أنفسهما .
فانه صريح في
أن هذا الخبر ليس محمولا على العموم الذي هو منظور صاحب الرسالة ، والا لما جاز
التناكح بين اخوة واخوات هذا واخوة وأخوات ذاك ، كما هو واضح ، وقد مرت اليه
الاشارة.
قال قدسسره متصلا بما سبق : الثالث أنه خلاف أقوال أكثر أصحابنا
المتقدمين وظواهر أرباب النصوص ، فان الكليني في الكافي والصدوق في الفقيه رويا ما
يدل على النشر من المرتضع من غير ذكر معارض ، مع أن كلا منهما شهد في أول كتابه
بأن ما يرويه فيه هو الحجة التي عليها العمل وبها يؤدى فرض الله عزوجل ، وكذلك الشيخ في كتابي الاخبار نقل الروايات المتضمنة
للنشر من غير تعرض لتأويلها ، وهو دليل اعتماده عليها ، كما نقل أنه صرح بذلك في
كتاب العدة. هذا.
أقول : ليس في
الايات والروايات الواردة في باب الرضاع فيما علمناه ما يدل صريحاً على تحريم
الزائد على الفحل والمرضعة وأقربائهما على المرتضع وأبيه وتحريمه عليهما وعلى
أقربائهما ، والمحمدون الثلاثة رحمهمالله وان رووا في كتبهم أخباراً متعلقة بأحكام الرضاع ، الا
أنه ليس فيها ما يدل بعمومه على ما قصده صاحب الرسالة ، بل فيها كما عرفت ما يدل
على خلاف مقصوده ، مثل ما رواه الشيخ في التهذيب عن يونس بن يعقوب وقد سبق.
فقوله من غير
ذكر معارض ، وقوله من غير تعرض لتأويلها ، وهو دليل اعتماده
__________________
عليها كما ترى ، فان خبر يونس معارض لما يدل على النشر من المرتضع على
الوجه الذي قصده ، وعدم تأويل الشيخ كما اعترف به يدل على اعتماده بمضمون هذا
الخبر ، فلا يمكنه أن يقول بمضمون ما دل على النشر على زعمه على النحو الذي زعمه.
وقد سبق أن
كلامه في النهاية صريح فيما ينافي النشر وعموم الخبر الذي هو منظور صاحب الرسالة ،
وان الاجماع الذي ادعاه في هذا المقام مما لا يعتمد عليه وان كلام العلامة في
التذكرة ، وقول ابن حمزة في الوسيلة وغيرهما مما لا دلالة فيه على أن المتقدمين
فهموا العموم من الخبر.
وبالجملة فبما
أسلفناه يظهر لك حال ما أفاده متصلا بما نقلناه عنه آنفاً بقوله مع أنه صرح بالنشر
في كتابيه النهاية والخلاف ، كما مرت الاشارة اليه آنفاً ، وسيجيء في موضعه
مفصلا. ثم استدل عليه بعد ادعاء الاجماع بعموم ما نحن فيه من الخبر وبسائر الاخبار
الاتية وبالاحتياط.
هذا وقد نقل
عنه العلامة رحمهالله أنه قال بمثل فتوى كتابيه في كتاب الاقتصاد أيضاً ،
وكذلك ابن حمزة في كتاب الوسيلة صرح مفصلا بتحريم أقربائه رضاعاً. ولقد كفى في اثبات
كونه مذهب أكثر المتقدمين ادعاء الشيخ اجماعهم ، وقول العلامة انه من مذهب علمائنا
مع عدم ظهور مخالف منهم ، بل الخلاف انما ظهر ممن تأخر عنهم ، عملا بالاصول
والقواعد المشتهرة عندهم المتداولة عند العامة أيضاً ، فتأمل.
ولا يذهب عليك
تأييد هذا لصحة الاجماع الذي ادعاه الشيخ واشعاره بفهم المتقدمين العموم من الخبر
، بل كلام الشيخ في النهاية والخلاف صريح فيه كما تبين آنفاً.
__________________
أقول : انه قال
آنفاً ان الشيخ صرح بالنشر وعموم الخبر في كتابيه النهاية والخلاف ، ووعد أنه سيجيء
، وهنا يقول ان كلام الشيخ في الخلاف والنهاية صريح فيه ، أي : في العموم كما تبين
آنفاً ، وقد عرفت أن بناء كلام الشيخ وكل من قال بالنشر على تعدية أخبار المنزلة
لا على فهمهم العموم من الخبر ، كما صرح به جماعة من أصحابنا.
منهم حسام
الدين الطريحي النجفي رحمهالله في رسالة له في الرضاع ، حيث قال بعد ايراد مسألة هل
يحل لاولاد أب المرتضع الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن أن ينكحوا في أولاد المرضعة
ولادة وفي أولاد فحلها ولادة ورضاعاً أم لا يحل؟ قولان فالشيخ في الخلاف والنهاية
لا ، وابن ادريس والمحقق وجمع من الاصحاب نعم وتوقف العلامة في المختلف.
وهذه المسألة
متفرعة على مسألة تحريم نكاح أب المرتضع في أولاد المرضعة فان قلنا ان أولاد
المرضعة لا يحرمون على أب المرتضع ، فكذا لا يحرمون على اخوته بطريق أولى.
وان قلنا
بتحريمهم عليه ، كما هو الاقوى والمختار عند الاكثر لدلالة النص عليه ، ففي
تحريمهم على اخوته الذين لم يرتضعوا من لبن ذلك الفحل القولان المذكوران.
احتج الشيخ على
التحريم بأحاديث المنزلة ، ووجه الاحتجاج بها أنها ناطقة بتحريم أولاد المرضعة على
أب المرتضع ، معللة بانهم قد صاروا بمنزلة أولاده وبناته في التحريم ، فيلزم من
ذلك تحريمهم على أولاده لصيرورتهم اخوة لهم ، وذلك موجب لنشر الحرمة بينهم ، اذ
العلة منصوصة فتتعدى.
وأجيب بأن
تعديتها مشروطة بوجودها في المعدى اليه ، وهاهنا ليس كذلك لان كونهن بمنزلة اخوة
ولد الاب ليس موجوداً في محل النزاع كما لا يخفى ،
ومع عدم وجودها فيه يكون الحكم بالتحريم فيه قياساً محضاً لا نقول به.
وكذا الكلام في
أولاد أب المرتضع بالنسبة الى أولاد الفحل أيضاً من غير فرق ، فانه لا يحرم نكاحهم
فيهم ، لان اخوة الاخ من الرضاع اذا لم يكونوا اخوة لاخوته من النسب لا يحرمون
عليهم ، كالاخ من الاب اذا كان لاخيه اخت من الام ، فانها لا تحرم عليه قطعاً
لانتفاء القرابة بينهما كما لا يخفى.
ومن هنا قال
ابن ادريس : قول شيخنا في ذلك غير واضح ، وأي تحريم حصل بين أخت هذا المولود
المرتضع وبين أولاد الفحل ، وليست هي اختهم لا من امهم ولا أبيهم ، والنبي صلىاللهعليهوآله جعل النسب أصلا للرضاع في التحريم ، فقال : يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب ، وفي النسب لا يحرم على الانسان أخت أخيه التي ليست من
امه ولا من أبيه انتهى.
وهذا القول لا
بأس فيه ، لان النظر والاعتبار يقتضيه فيكون العمل عليه ، وهو الذي ذهب اليه الشيخ
في المبسوط محتجاً بما أصله من أن التحريم متعلق بالمرتضع وحده ومن
كان من نسله دون من كان من طبقته ، لانه لا نسب بينه وبين اخت أخيه ولا رضاع كما
هو واضح ، وتوقف العلامة في المختلف ليس في محله مع اختياره لقول ابن ادريس في
سائر كتبه ، والله أعلم بأحكامه ـ الى هذا كلام الطريحي قدسسره.
أقول : لو كان
مفاد الخبر ما استفاده منه ونسبه الى الشيخ وابن حمزة وجمع المتقدمين ، فأية حاجة
لهم في اثبات النشر والتحريم من الطرفين الى الاحتجاج بأحاديث المنزلة حتى يجابوا
بأنه قياس محض ويقول ابن ادريس في الرد عليهم وأي تحريم حصل بين اخت هذا المولود
والمرتضع وبين أولاد الفحل.
__________________
فلو كان الشيخ
ومن سبقه أو لحقه فهموا العموم من الخبر وكانوا قائلين به ، لكان لهم أن يقولوا في
جوابه انها اختهم من امهم وأبيهم ، فان علاقة الرضاعة كعلاقة القرابة ، وكيف يصح
القول بأن الشيخ كان قائلا بعمومه على الوجه الذي قال به صاحب الرسالة؟ مع قوله
بأن التحريم متعلق بالمرتضع وحده ، وتصريحه في النهاية بما ينافي عمومه على هذا
الوجه واستدلاله على التحريم والنشر بأحاديث المنزلة وروايته في التهذيب رواية
تنافي عمومه المذكور من غير تأويل ، وقد قال صاحب الرسالة : انه دليل اعتماده
عليها ، الى غير ذلك من التصريحات والتلويحات الدالة على عدم قوله بعمومه على هذا
الوجه.
وبالجملة ما
وجدنا لهذا العموم الذي ادعاه عيناً ولا أثراً في كلام أحد من المتقدمين
والمتأخرين بل وفي كلامهم ما يشعر بخلافه كما نبهناك عليه ، وكفاك في هذا شاهداً
ورود هذا الخبر الموثق الصريح في خلافه ، ومثله كلام الشيخ في النهاية ، كما مرت
اليه الاشارة.
أقول : ومما
قررناه ونقلناه آنفاً وسالفاً يظهر لك حال ما أفاده في الرسالة بقوله الرابع أنه
مخالف للاخبار التي تنبئ وتبتني على ابقاء الخبر المتقدم على عمومه من غير معارض
شرعي.
كصحيحة علي بن
مهزيار قال : سأل عيسى بن جعفر بن عيسى أبا جعفر الثاني عليهالسلام عن امرأة أرضعت لي صبياً ، فهل بحل لي أن أنزوج بنت
زوجها؟ فقال لي : ما أجود ما سألت ، من هنا يؤتى أن يقول الناس حرمت عليه امرأته
من قبل لبن الفحل هذا هو لبن الفحل لا غيره ، فقلت له : ان الجارية ليست بنت
المرأة التي أرضعت هي بنت غيرها ، فقال عليهالسلام : لو كن عشراً متفرقات ما حل لك منهن شيء هن بمنزلة
بناتك .
__________________
وكصحيحة أيوب
بن نوح قال : كتب علي بن شعيب الى أبي الحسن عليهالسلام امرأة أرضعت بعض ولدي هل يجوز أن أتزوج بعض ولدها؟ فكتب
: لا يجوز ذلك ، لان ولدها قد صار بمنزلة ولدك .
وكصحيحة عبد
الله بن جعفر الحميري أنه كتب الى أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهالسلام امرأة أرضعت ولد الرجل أيحل لذلك الرجل أن يتزوج ابنة
هذه المرضعة أم لا؟ فوقع عليهالسلام : لا يحل ذلك له .
فهذه الاخبار
الصحيحة التي رواها الكليني والشيخ وروى الصدوق الاخيرة منها ناطقة بنشر التحريم
من طرف المرتضع ، وبأنه كما أن المرتضع بصير بالرضاع بمنزلة الولد المولودي
للمرضعة والفحل كذلك يصير رضيعه أيضاً بمنزلة الولد المولودي لوالدي المرتضع.
بل ناطقة بأن
باقي اخوة الرضيع كذلك تبعاً للرضيع ، ففيها دلالة على أن عموم الخبر منظور للشارع
، وانه كما يحرم لتحريم الفحل والمرضعة على المرتضع أولادهما وباقي أقربائهما
المحرمة على ولدهما النسبي ، كذلك يحرم لتحريم والدي المرتضع على رضيع المرتضع أولادهما
وباقي أقربائهما المحرمة على المرتضع بلا تفاوت ، بناءاً على عموم الخبر المؤيد
بهذه الاخبار وغيرها مما تقدم وما سيجيء من غير وجود معارض من الاخبار.
أقول : لا يلزم
من ثبوت التحريم في هذا الفرد المعين مع خروجه عن حكم الاصل وظاهر القواعد المقررة
لورود النص عليه بخصوصه تعدية الحكم الى ما أشبهه ، فانه قياس لا نقول به.
وبالجملة قد
تقرر بما تكرر أن هذه الاخبار وردت مخالفة لاصالة الحل
__________________
والاباحة والبراءة واستصحاب الحل السابق ، فوجب اقتصارها على محل ورودها
فان تعديتها منه الى غيره قياس غير مسوغ.
واليه يشير قول
من قال : أحاديث المنزلة تقتصر على موضع النص لا يتجاوز بها الى غيره ، لان ذلك
عين القياس المتفق على بطلانه عند الطائفة المحقة. وعليه فلا تأييد فيها لعموم الخبر لو سلم له ذلك ، كيف وله كما عرفت معارض من
الاخبار ، فليست فيها دلالة على أن عموم الخبر منظور للشارع ، وقد سبق فيه ما هو
مغني اللبيب.
ثم قال قدسسره في الرسالة : اعلم ان قوماً في هذا المقام قالوا : ان
الاستدلال بالتحريم المتضمن له هذه الاخبار على نشر الحرمة من المرتضع ونسله
ووالده الى سائر محارمه وتحريمهم على رضيع المرتضع وأقربائه ، كما في المرتضع
بالنسبة الى أقربائه الرضاعية قياس ، وان العلة التي فيها من صيرورة بنات المرضعة
والفحل بمنزلة بنات والد المرتضع وان كانت منصوصة الا أن تعديتها مشروطة بوجودها
في المعدى اليه ، وهي ليست موجودة في المواضع المتنازع فيها.
والحق أنه ناش
من قلة تدبرهم وعدم تفكرهم في دلالة الاخبار وملاحظة بعضها مع بعض ، بناءاً على
رسوخ تلك المقدمات الاجتهادية الاعتبارية في أذهانهم ، وإلا فقد ظهر أن مناط هذا
الاستدلال ليس الا على العموم المستفاد من الخبر المستفيض المؤيد بهذه الاخبار
وغيرها مما ذكر ومما سيذكر.
بأن يقال : كما
أنكم تقولون بتحريم محارم رضيع المرتضع على المرتضع لصيرورته بمنزلة أخيه الحقيقي
وولد والديه ، أي : الفحل والمرضعة بناءاً على دلالة الخبر المستفيض ، فلتقولوا
بناءاً على عموم ذلك الخبر أيضاً بتحريم محارم المرتضع أيضاً على رضيعه ، بل على
سائر اخوته الابوية والامية أيضاً ،
لصيرورتهم أيضاً اخوة للمرتضع وأبناء لوالديه ، كما هو يصرح به في تلك
الاخبار.
بل ينبغي أن
تقولوا في نسبه سائر الاقرباء بعضهم مع بعض بذلك أيضاً بناءاً على العموم وثبوت
القرابة من الطرفين ، كما لا يخفى بعد التأمل الصادق.
والفرق بين
المرتضع والرضيع بما ذكرتم من الوجوه العقلية غير مسموع في مقابل الاخبار ، سيما
مع تأييدها بالمؤبدات القوية فافهم.
أقول : وأنت
بعد احاطتك بما أسلفناه في المواضع وخبرتك بحقيقة الحال لعلك لا نحتاج الى التنبيه
على ما في هذا المقال ، ولكنا نشير الى نبذة مما فيه.
فنقول : هذا
الخبر المستفيض لما كانت له دلالة على تحريم محارم رضيع المرتضع على المرتضع ، لان
معناه أنه كلما يحرم بسبب النسب باحدى الوجوه السبعة المذكورة في الآية ، فانه
يحرم بالرضاع اذا وجد ذلك النسب بعينه فيه ، مثل الام الرضاعية والاخت الرضاعية
والعمة الرضاعية وهكذا قلنا بتحريمهن عليه ولما لم تكن له دلالة على تحريم محارم
المرتضع على رضيعه فضلا عن سائر اخوته الابوية والامية ، اذ لا رضاع هنا ، والاصل
في كل شيء كما تقرر بما تكرر الحلية والاباحة لم نقل بتحريمهم عليه.
ثم لما وردت
أخبار على خلاف الاصل دلت على تحريم أولاد المرضعة والفحل على أب المرتضع ، معللة
بأنهم قد صاروا بمنزلة أولاده وبناته في التحريم ولم تكن تلك العلة ـ وهي صيرورتهم
بمنزلة اخوة أولاد أب المرتضع الذين لم يرتضعوا من هذا اللبن ـ موجودة هنا ، ومع
عدم وجودها فيه كان الحكم بالتحريم فيه مع كونه مخالفاً لاصالة الحلية والاباحة
والبراءة واستصحاب الحل السابق وعموم بعض الايات والروايات قياساً محضاً ، قلنا
بالتحريم هناك واقتصرنا عليه ، كما مر لما مر ، ولم نقل به هنا لما سبق.
وأما أن هنا أخباراً
متأيدة بالمؤبدات القوية منافية لما ذكرناه ، فمجرد دعوى غير مسموع في مقابل ما
حررناه فافهم.
ثم لما كان
مناط هذا الاستدلال على العموم المستفاد من الخبر على زعمه وقد مضى أن لا عموم له
بهذا الوجه ، سقط ما نيط عليه.
وعلى تقدير
ثبوت العموم ، فهو معارض بعموم الايات المؤيد بخصوص بعض الروايات والاصالات ،
كأصالة الحلية والاباحة والبراءة ونحوها ، وقد تقرر بما تكرر أن بعد التعارض
والتساقط ينتفي التحريم ، وبانتفائه تثبت الاباحة ، ضرورة امتناع ارتفاع النقيضين.
فللخصم أن يقول
والحق أن ما ذكره ناش من قلة تدبره وعدم تفكره في دلالة الايات والروايات وملاحظة
بعضها مع بعض ، بناءاً على رسوخ تلك المقدمة ـ وهي عموم الخبر ـ في ذهنه ، والا
فقد ظهر مما حررناه أن لا عموم له فضلا عن أن يكون مؤيداً بهذه الاخبار وغيرها ،
وهذا ما قيل : كما تدين تدان.
فلما أصبح الشر فأمسى
وهو عريان
|
|
فلم يبق سوى
العدوان دناهم كما دانوا
|
ومن أقواله في
هذه الرسالة قوله : ومن جملة أدلتهم المعتمدة أيضاً قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) وقوله تعالى بعدد تعدد المحرمات من النساء ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) وقوله تعالى ( وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ ) الاية ، حيث دلت كلمة « ما » وكذا الجمع المحلى باللام
وكذا سياق الكلام على العموم.
وجوابه في غاية
الظهور ، اذ ارتكاب التخصيص فيها لازم من جهات شتى بالاجماع ، وأقل ما في الباب ما
تضمنه قوله صلىاللهعليهوآله المسلم الثابت المتفق عليه
__________________
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. من تحريم غير الاخوة والام من سائر
المحرمات الرضاعية.
لا يقال : لا
تخصص الآية الا بالمجمع عليه ، وهو ليس هاهنا الا حرمة أقرباء الفحل والمرضعة على
المرتضع ونسله ، وذلك لنا لا علينا.
لانا نقول :
بعد تسليم انحصار التخصيص بالمجمع عليه أن المجمع عليه هاهنا هو الخبر المذكور ،
ولا يخفى أن مضمونه عام شامل لما نحن فيه ، ولم يتحقق اجماع على تخصيصه بما ذكرتم
، فالاستدلال بالايات حينئذ مصادرة ، كما هو ظاهر على المتأمل.
أقول : وفيه
نظر ظاهر لا يخفى ، لان هذا الخبر وان كان مجمعاً عليه الا أنه لم يتحقق اجماع على
عموم مضمونه وشموله لما هو فيه من ايجاب التحريم الكلي بحيث يترتب على علاقة
الرضاعة كل تحريم يترتب على علاقة القرابة من غير فرق ، كما هو المذكور في رسالته
، بل لم يقل بعموم مضمونه الكذائي أحد غيره كما نبهناك عليه ، فكيف يكون عمومه هذا
مخصصاً لعموم الآية ، وانما يكون كذلك أن لو كان عمومه مجمعاً عليه ، لانه سلم
انحصار التخصص به.
ومع قطع النظر
عن ذلك والبناء على القول بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد نقول : لا دلالة لهذا
الخبر على ما ادعاه بوجه كما مر غير مرة. وعلى تقدير دلالته عليه ليس بمثابة يعارض
ما نقلناه من الخبر الموثق ويخص عموم القرآن به ، اذ لا بد لتخصيص القرآن بالخبر
من كون الخبر نصاً في الدلالة على ما يخرج القرآن به عن ظاهره.
وبالجملة ينبغي
في تخصيص قطعي المتن بظني المتن من كون دلالة المخصص الظني قطعية لتجبر به قطعية
العام ، فلا بد وأن يكون دلالة الخاص على الفرد المخرج المخصص عن العام القطعي
أقوى وأتم من دلالة العام ، وهو ظاهر
ومبين في الاصول ، فلا تغفل عن هذه اللطيفة ، كذا أفاد وأجاد مولانا الفاضل
الاردبيلي في آيات أحكامه.
أقول : ولا
يخفى على أحد أن هذا الخبر ليس بنص في الدلالة على ما يخرج به القرآن عن ظاهره ،
بل لا دلالة له عليه أصلا ، فضلا عن كونها قطعية أو أقوى وأتم من دلالة العام عليه
، فكيف يجعله مخصصاً له ويدعى عليه الاجماع ، فالاستدلال بهذا الخبر حينئذ مصادرة
، كما هو ظاهر على المتأمل.
بيانه : ان
المستدل لما استدل بعموم الايات على عموم التحليل أجاب عنه بأن عمومها أول المسألة
، وانما تكون عامة لو لا تخصصها بعموم مضمون هذا الخبر المستفيض الدال على عموم
التحريم ، فله أن يعود ويقول : عموم مضمونه انما يكون حجة ومخصصاً لعمومها أن لو
كان عمومه بهذا المعنى مجمعاً عليه ، وهو أول المسألة بل لم يقل به سواك ، فظهر أن
المحتاج الى الاجماع ليكون حجة ومخصصاً لعموم الايات انما هو عموم مضمونه الكذائي
لا تخصصه بما ذكروه.
ثم قد سبق أن
عموم مضمون هذا الخبر على تقدير تسليمه وثبوته ، كما يمكن أن يكون مخصصاً لعموم
الايات ، كذلك عموم هذه الايات مع خصوص بعض الروايات وأصالة الحلية والبراءة
والاباحة واستصحاب الحل السابق وغيرها يمكن أن يكون مخصصة لعمومه بما ذكروه ، بل
هذا أولى كما لا يخفى.
وعلى تقدير
التقابل والتكافؤ يلزم منه التساقط ، فينتفي التحريم قطعاً لانتفاء سببه ، ويلزم
منه ثبوت الاباحة.
وبالجملة فظهر
مما قررناه أن عموم الايات على حاله ، وانما خرج منه ما أجمع على خروجه من الفحل
والمرضعة وأقربائهما بالنسبة الى المرتضع ونسله وأبيه ، لدلالة الاخبار الصحيحة
الصريحة في تحريم أولاد الفحل والمرضعة على أب المرتضع.
وهذا بناء على
القول بجواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد الصحيح الصريح ، فهذا القدر من التخصيص
المستند الى الاجماع والاخبار الصحيحة الصريحة لازم فيها ، ويبقى الباقي تحت عمومها
الى أن يخرج بالدليل وليس ، اذ ليس في الايات والروايات الواردة في باب الرضاع
فيما علمناه ما يدل صريحاً على تحريم الزائد على الفحل والمرضعة وأقربائهما على
المرتضع وأبيه وتحريمه عليهما وعلى أقربائهما ، والاصل والاباحة والبراءة
والاستصحاب وعموم بعض الايات والروايات السالفة وغيرها تفيد الحل والاباحة فيما
عداه.
فمن ادعى
تحريمه المنافي لمفاد المذكورات ، فعليه اقامة دليل أو ذكر آية أو رواية تدل
بصراحتها عليها ، فان غيره الصريح منها لا يصلح لمقاومة المذكورات ومقابلتها. وعلى
تقدير التقابل والتساقط يلزم منه انتفاء التحريم لما مر مراراً.
وأما قوله
متصلا بما نقلناه عنه : وعجبي ممن نظر الى عموم كلمة « ما » في قوله تعالى ( ما طابَ لَكُمْ ) ولم يتأمل في طاب ، فتأمل.
ففيه أنه تأمل
فيه فأداه تأمله الى الحكم بأنه طيب حلال مباح ، لعدم ما يدل على حرمته بخصوصه ،
أو باندراجه في وصف جعله الشارع علامة للحرمة ، فجزم بحليته كما هي الاصل في
الاشياء.
هذا مع ورود كل
شيء مطلق ـ أي : مباح ـ حتى يرد فيه نهي ، وكل شيء حلال حتى يعلم أنه حرام ، ولم
يرد هنا نهي ، ولم يعلم حرمته بوجه شرعي يمكن أن يعتمد عليه ، أو تركن النفس اليه
، على أن كون الشيء حلالا لا حاجة فيه الى تأمل ودليل ، لأنه الاصل فيه ، وانما
يحتاج الى التأمل والدليل كونه حراماً لانه على خلاف أصله ، ولا دليل هنا على حرمة
أقرباء المرضعة والفحل على أولاد أب المرتضع الا عموم هذا الخبر على ظنه ، وقد
عرفت ما فيه.
واعلم أن الطيب
في اللغة جاء بمعنى اللذيذ وبمعنى الحلال ، كما في القاموس والاخير هو
المراد هنا ، أي : ما حل لكم من النساء ، بأن لا يكون هناك رضاع ولا نسب ولا
مصاهرة وغيرها من أسباب التحريم.
قال قدسسره في الرسالة : ثم ان من جملة أدلتهم ولعله هو الاصل
الاصيل عندهم والمنوط عليه عملهم ، كما ينادي به كلامهم انتفاء ما جعلوه مقتضى
التحريم فيما قالوا فيه بالتحليل.
وملخصه : أن
الرضاع هو الشرب عن اللبن ، واللبن مخلوق من ماء المرأة وزوجها ، فمن شرب منه صار
كالمخلوق من مائهما دون من لم يشرب ، فعلى هذا المرتضع بسبب شربه من لبن الفحل والمرضعة
يشارك أولادهما المخلوقين من مائهما أو ماء واحد منهما ، وبذلك يحرم عليهم ويحرمون
عليه ، ويحرم كل من الفحل والمرضعة ومحارمهما عليه وهو يحرم عليه وبحكمه أولاده
كما هو ظاهر.
بخلاف اخوة
المرتضع ولادة بالنسبة الى هؤلاء واخوته رضاعاً بالنسبة الى والديه وسائر محارمه
نسباً ، اذ لا شرب هناك ولا ولادة ، فلا مشاركة ولا تحريم ، ولاجل هذا خصصوا الخبر
المستفيض بالمرتضع ونسله ، وتركوا قول من قال بالنشر منه الى غيره كما مر مفصلا.
أقول : قد عرفت
أن هذا الخبر عندهم ليس بعام يعم المرتضع وغيره من أقربائه من الطرفين حتى يحتاجوا
في تخصيصه به الى نكتة ودليل ، ولذلك قالوا : ان التحريم متعلق بالمرتضع ، ولم
يقولوا انه مخصص به ، كما سبق في كلام شيخ الطائفة ، فافهمه.
وأما هذا الذي
نقله عنهم ، فليس هو عندهم بمخصص لهذا الخبر ولا كلامهم
__________________
مبني عليه كما ظنه ، كيف ولم يقل واحد منهم بعمومه على الوجه الذي قال به ،
فكيف يجعلونه مخصصاً لهذا العموم ، بل هو نكتة ولم بينوه لتحريم ما حرم على
المرتضع وحده دون سائر أقربائه فافهمه ، ومن هنا فهم أن ما بنى عليه كلامهم ليس هو
بمبني عليه.
قال قدسسره متصلا بما سبق نقله : وبناءاً عليه أيضاً قالوا في بيان
تحليل اخوة المرتضع على الفحل وما يشبه هذا : ان أخت الابن انما تحرم لو كانت
بنتاً للانسان أو بنتاً لزوجته المدخول بها ، والامران معاً هنا منتفيان ، ولو سلم
لكان من قبيل الثاني دون الاول فلا يحرم ، لان النبي صلىاللهعليهوآله قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. يعني ما كان من
النوع الاول ولم يقل من المصاهرة التي ما نحن فيه من قبيلها.
وقالوا في بيان
تحليل اخوة المرتضع ولادة على اخوته رضاعاً : ان أخت الاخ لا تحرم على الانسان ،
الا اذا كانت أختاً له من أبيه أو من أمه ، فان أخت الانسان من الام تحل على أخيه
من الاب ، لعدم كونها أختاً له لا من أبيه ولا من أمه ، وهؤلاء بعضهم على بعض هكذا
، وعلى هذا القياس سائر ما ذكروه في المواضع التي قالوا فيها بالتحليل.
أقول : وذلك أن
هذا القول منهم ليس مبنياً على أن هذا الخبر يعم تحريم أخوات المرتضع بالنسبة الى
الفحل ، لكنه مخصص بما ذكروه في بيان تحليلهن عليه ، بل هو مبني على عدم شموله
لتحريمهن عليه ، فانهن أخوات الابن الرضاعي لا بنات له ، وأخت الابن انما تحرم لو
كانت بنتاً للانسان الى آخر ما قالوه.
ويؤكد ما قلناه
ما نقله في الرسالة عن فرقة من المخالفين أنهم قالوا باختصاص التحريم بالمرتضع
ونسله ، استناداً الى تلك الوجوه التي استعملها وقبلها من تبعهم من أصحابنا في ذلك
المذهب قال الشيخ وكذا العلامة وغيرهما نقلا عنهم
أنهم قالوا : الحكم فيما عدا المرتضع وعدا من تناسل منه بمنزلة ما لم يكن
هناك رضاع ، فيحل للفحل نكاح أخت هذا المولود ونكاح أمهاته وجداته ، وان كان لهذا
المرتضع أخ حل له نكاح هذه المرضعة ونكاح أمهاتها وأخواتها كأنه لا رضاع هناك.
وهكذا أقول ،
وذلك أن هذا المنقول عنهم أيضاً صريح في أن أحداً منهم أيضاً لم يقل بعموم هذا
الخبر على هذا الوجه ولم يفهمه منه ، لان المقدر فيه لا يحتمل غير ما قدرنا فيه ،
وهو كما عرفته يفيد اختصاص الحكم بالمرتضع ، ولما لم تكن أخبار المنزلة الواردة في
المرتضع وأبيه واردة في طرقهم أعرضوا عنها ولم يعملوا بمضمونها وخاصة بالنسبة الى
الفحل ، فانه قياس محض.
وكذلك من أصحابنا
من لم يكن عاملا بخبر الواحد ، وهم الاكثر على ما في الدراية الشهيدية ، أو كان
ولم يسوغ مثل هذا القياس لم يعملوا بمضمونها ، فحكموا بما نقل عنهم صاحب الرسالة ،
مع أن جواز نكاح الفحل بأم المرتضع ونكاح والده بالتي أرضعته واضح لا خفى ولا خلاف
فيه.
وقال العلامة
في القواعد والتحرير : للفحل نكاح ام المرتضع وأخته وجدته ، والقول بالتحريم
للشيخ في الخلاف ، قال : اذا حصل الرضاع المحرم لم يحل للفحل نكاح أخت المرتضع
بلبنه ولا لاحد من أولاده من غير المرضعة ومنها ، لان اخوته وأخواته صاروا بمنزلة
أولاده. والظاهر أن تعدية أحاديث المنزلة الواردة في أب المرتضع بالنسبة الى أولاد
الفحل اليه بالنسبة الى أولاد أب المرتضع قياس محض فتأمل.
ثم أنت قد عرفت
مما قررناه سابقاً أن الاصل في الاشياء هو الاباحة والحلية
__________________
كما دلت عليه الادلة العقلية متأيدة بالاخبار وتصريح الاخيار ، ففي كل موضع
لم يقم فيه دليل يقتضي التحريم وجب فيه الحكم بالتحليل ، لانه أصله ومقتضاه
والتحريم طار ولانتفاء سبب التحريم ، فيلزم منه ثبوت الاباحة ، لما مر غير مرة أن
ارتفاع النقيضين الا في المرتبة غير معقول.
وكذلك قد عرفت
مما أسلفناه أن المستفاد من الخبر المستفيض هو أن الرضاع علة التحريم ومقتضيه ،
فحيثما تحقق تحقق وحيثما انتفي انتفى ، وحينئذ وجب فيه القول بالحلية والاباحة.
اللهم الا أن يمنع منه مانع ، فان تخلف المقتضي عن المقتضى لمانع غير عزيز عقلا ونقلا.
واذ قد عرفت
هذا عرفت أن القول باحتمال أن يكون هنا مقتضي التحريم ونحن لا نعلمه ، أو أن
المقتضي لعله محض تحقق كذا مجرد وسواس ناش من القريحة السودائية ، ومحض احتمال
شبيه بما نقل عن السوفسطائية. والى مثل هذا الاحتمال أشار صاحب الرسالة فيها متصلا
بما نقلناه عنه ، أعني بقوله قالوا فيها بالتحليل بقوله : وفيه نظر.
أما أولا فلان
من انتفاء المقتضي الخاص لا يلزم انتفاء مطلق المقتضي ، وعدم الوجدان لا يدل على
عدم الوجود ، على أن هنا أشياء يمكن دعوى كونها المقتضي هاهنا ، كأن يقال مثلا لعل
المقتضي هو محض تحقق علاقة الاخوة الحاصلة من ارتضاع المرتضع من لبن رضيعه ، كما
أشرنا اليه في أول المبحث.
أقول : من تتبع
مدارك الاحكام ولم يجد فيها ما يدل على تحريم الشيء الفلاني فلا بد له من القول
بتحليله ، والا لزم أن لا يمكنه القول بحلية الاشياء التي لا دليل له على تحريمها
بعين تلك المقدمة القائلة بأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، اذ لقائل أن
يقول : لعلها تكون حراماً وعلى تحريمها دليل ونحن لم نجده.
وقد تقرر أن
عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، وصريح قوله عليهالسلام : كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه . ينفيه
لصراحته في أن تحصيل العلم بكونه حلالا مما لا حاجة فيه اليه ، بل يكفي فيه مجرد
عدم العلم بكونه حراماً الى أن يحصل العلم بأنه حرام ، وأصرح منه قوله في صحيحة
ابن سنان : كل شيء يكون منه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام بعينه
فتدعه . وكذا ينفيه قولهم : ما لم يظهر حرمة أمر بخصوصه ، أو باندراجه في وصف
جعله الشارع علامة للحرمة ، فالظاهر فيه الحلية.
فالقول
بالتحريم هنا مع أنه خلاف الاصل والاباحة والبراءة والاستصحاب وظاهر عموم الايات
ومفهوم بعض الروايات بمحض ليت ولعل ، كما ترى ضعيف وفي نفسه سخيف.
ثم قال متصلا
بما سبق : وأما ثانياً فلانه وجه اجتهادي وخيال اعتباري في مقابل الادلة التي
ذكرناه ، والمحدث الملازم لطريقة أهل البيت عليهمالسلام لا يلتفت اليه ولا يعتمد عليه ، بل الحق أن هذا هو عين
القياس الباطل عند علمائنا قاطبة فان ما جعلوه مقتضى التحريم وعلة تامة في ذلك
بحيث أداروا عليه دائرة التحليل والتحريم وحصروا العلة فيه محض استنباط من غير نص
في خبر ولا ذكر في أثر كما هو ظاهر. وامكان الاستفادة من بعض الظواهر غير كاف سيما
مع قيام المعارض وهل القياس الا مثل هذا؟
أقول : وفيه مع
ما عرفته آنفاً وسالفاً في بيان خبر يونس بن يعقوب ، من أن ما قالوه في بيان تحليل
اخوة المرتضع ولادة على اخوته رضاعاً ليس مجرد وجه اجتهادي وخيال اعتباري ، كما
ظنه ونسبه الى عين القياس الباطل ، بل هو
__________________
كالمنصوص في ذاك الخبر والمذكور في هذا الاثر ، كما أشار اليه آخوندنا
التقي المتقي قدسسره على ما سبق ، ولا معارض له أصلا.
فتأمل بعد
التذكر أو المراجعة أن الحكم بحلية شيء لا حاجة فيه الى نص ولا أثر سوى ما سبق من
النصوص والاثار العامة الدالة على أن الاصل في الاشياء هو الاباحة والحلية ، وانما
يحتاج اليه الحكم بحرمته ، لانه خلاف أصله ولا نص ولا دليل هنا على تحريم ما حرمه
في الرسالة ، لان أدلته التي بها يصول على الخصوم على العموم لا دلالة لها على ما
ادعاه ، لا من حيث المنطوق ولا من حيث المفهوم.
اللهم الا أن
يقال : ان بعضها يدل على بعض المدعى من باب القياس الغير المسوغ ، لما عرفت من
حديث تعدية أحاديث المنزلة ، ويظهر منه أن القائل بالقياس والعامل به هو في
الحقيقة لا خصومه ، وان دعواه ملازمة طريقة أهل البيت عليهمالسلام ، غير مقرونة بالصحة والصدق ، كما يظهر عند التأمل
الصادق ، فتأمل.
ثم قال : وأما
ثالثاً فلانه منقوض بما تقدم من الاخبار الصحيحة الدالة صريحاً على تحريم أولاد
الفحل ، وكذا أولاد المرضعة على أب المرتضع ، مع أنه لا شك في عدم وجود ما جعلوه
علة للتحريم ومناطه هناك ، والتزام طرح تلك الاخبار مع عمل معظم الاصحاب بها ، بل
بدون ذلك أيضاً بعيد عن جادة متابعة الال صلوات الله عليهم أجمعين ، بل هو عين
طريق أهل الضلال.
أقول : لا بعد
فيه كثيراً ، لانها أخبار آحاد مخالفة لعموم الايات ، وما يقتضيه بعض الادلة
الاجتهادية القوية ، فمن لم يعمل بخبر الواحد معللا بأنه لا يفيد علماً ولا عملا
كالمرتضى والاكثر على ما في دراية الحديث للشهيد الثاني ، ومنه يظهر وهن قوله مع
عمل معظم الاصحاب بها ، ولعله لذلك أضرب عنه بقوله « بل بدون ذلك أيضا » فلا عليهم
طرحها والعمل بعموم الايات السالفة وما تقتضيه الاصالة
والاباحة والبراءة والاستصحاب وغيرها من الاصول والقواعد ، وكذا من عمل
بخبر الواحد ، ولكنه لم يجعله لكونه ظني المتن مخصصاً لما هو قطعي المتن ، وهم
الاكثرون أيضاً كما هو المذكور في الاصول ، فلا عليهم أيضاً طرحها.
ومن البين أن
العلة المذكورة تطرد وتدور وجوداً وعدماً على هذين الرأيين بقي من يعمل به وبجعله
مخصصاً ، فهو يقول هذه أخبار وردت مخالفة لاصالة الحل والاباحة وغيرهما مما سبق ،
فوجب قصرها وحصرها على محل ورودها كما قالوا نظيره في سائر المسائل الفقهية ،
فليست هذه بأول قارورة كسرت في الاسلام ، وخصوصاً اذا كانت تعديتها منه الى غيره
قياساً محضاً.
والعلة
المذكورة وان لم تكن مطردة دائرة وجوداً وعدماً على هذا الرأي ، الا أن صاحبه لم
يستدل على تحليل ما حرمه صاحب الرسالة فيها بهذا الدليل حتى يرد عليه ذلك.
بل قال : ان
المحرمات بنص القرآن وان كانت ثلاث عشر امرأة ، سبع بالنسب واثنتان بالرضاع وأربع بالمصاهرة
، الا أن الاجماع من المسلمين قاطبة انعقد على أن كل ما يحرم بالنسب من السبع
المذكورات في الآية يحرم أمثالهن من الرضاعة للخبر المشهور ، فمن دخل في احدى من
ذكر نحكم بتحريمه والا فلا ، الا أن يقوم دليل من خارج على التحريم ، كما في
أحاديث المنزلة.
فلا يرد عليه
ما أورده متصلا بما سبق بقوله : وكذا القول بخروج ذلك وحده بالنص ، كما صدر
اضطراراً عن بعض المتدينين الراسخة في قلبه قواعد الاصوليين خارج عن حد الانصاف ،
بل هو محض الاعتساف ، سيما مع ذكر العلة فيها وقيام قرائن عدم الاختصاص كما
حققناه.
على أن لنا أن
نقول : تلك الاخبار كافية في الدلالة على عدم اطراد تلك العلة عدماً ، فلا يمكن
تخصيص عموم ما مضى بها ، ولا يوثق بالحكم بالتحليل
بمحض انتفائها ، سيما مع قيام الادلة المتقدمة الدالة على ما ينافيها ، ولا
أقل على وجود الخلاف فيها.
وبالجملة دوران
تلك العلة وجوداً وعدماً معاً ممنوع ، لا بد في المصير اليه من دليل مثبت ، ودونه
سيما مع قيام تلك المعارضات خرط القتاد ، فتدبر.
أقول : قد مضى
أن ما مضى لا عموم له ، وان الغرض من ايراد تلك العلة ليس هو تخصيصه بها ، وان
الحكم بالتحليل ليس بمحض انتفائها ، بل هو وما استفيد من الخبر الموثق وأصالة
الاباحة والبراءة والاستصحاب وعموم الايات ونحوها ، ولو كان بمحض انتفائها لكان
موثوقاً به ، لاطرادها عدماً كاطرادها وجوداً على مذهب من تمسك بها ، ولا حاجة له
في اثباتها الى دليل ، اذ لا معارض لها على مذهبه.
فان الادلة
المتقدمة : اما لا دلالة لها على ما ينافيها ، أو هي مطروحة عند من تمسك بها ، فهي
لدورانها عنده وجوداً وعدماً مع انتفاء ما يصلح أن يعارضها في غاية القوة والمتانة
، فكذا ما رتبه عليها من الاحكام التي منها ما أشار اليه في الرسالة بقوله : ولا
تغفل عما يترتب على استضعاف هذه المقدمة من ضعف ما رتبوه عليها نحو قولهم مثلا
يكون انتساب أولاد الفحل وأولاد المرضعة الى أب المرتضع واخوته الولادية ، وكذا
نسبة اخوته ولادة الى الفحل والمرضعة من باب المصاهرة لا النسب ، اذ من لم يعتمد
على العلة المذكورة ولم يقل بدورانها وجوداً وعدماً له أن يلحق نسبة هؤلاء بالنسب
، كما أنهم ألحقوا به نسبة المرتضع الى الفحل وأولاده.
أقول : عدم
اعتماده عليها لكونه عاملا بأخبار الاحاد وقائلا بصلاحيتها لتخصيص الكتاب ، فتصير
أحاديث المنزلة عنده مادة لنقضها على تقدير استدلاله بها على تحليل هؤلاء بعضهم
لبعض لا يقدح في صحتها ودورانها وجوداً وعدماً
عند من لم يعمل بها ، أو عمل ولم يقل بصلاحيتها لتخصيص الكتاب.
فظهر أن
الاخبار المتقدمة ليست بمادة النقض لهذه المقدمة عند من قال بها ولم يقل بها ،
وانما هي مادة النقض لها عند من لم يقل بها وقال بها ، وقد سبق أنها عنده وان لم
تكن دائرة وجوداً وعدماً ، الا أنه لم يستدل بها على تحليل ما حرمه صاحب الرسالة
حتى يرد عليه ذلك ، ففي الحقيقة لا نقض هنا على أحد ، كما لا يخفى على العارف
بمعنى النقض.
فظهر أن ترتب
ما رتبوه على العلة المذكورة ليس بضعيف ، وان الحاق نسبة هؤلاء بالنسب لا وجه له ،
اذ لا رضاع هنا فلا شرب فلا شركة ، بخلاف الحاق نسبة المرتضع به ، فانه بسبب شربه
من لبن المرأة وزوجها صار بمنزلة أولادهما ، فسرى الحرمة من الجانبين.
واعلم أن
المذكور في كتب الفقيه أن النسب هو الاتصال بالولادة بانتهاء أحدهما الى الاخر
كالاب والابن ، أو بانتهائهما الى ثالث مع صدق اسم النسب عرفاً على الوجه الشرعي ،
والمصاهرة علاقة تحدث بين الزوجين وأقرباء كل منهما بسبب النكاح توجب الحرمة ،
وعلى هذا فالنسب والسبب وهو المصاهرة متقابلان لا يشمل أحدهما الاخر ، وهو الظاهر
من قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ
مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً ) أي : قسمه قسمين ذو نسب وصهر.
قال في مجمع
البيان في فصل اللغة : النسب ما يرجع الى ولادة قريبة ، والصهر خلطة تشبه القرابة
، والمصاهرة في النكاح المقاربة .
ونقل في بعض
التفاسير عن علي عليهالسلام النسب ما لا يحل نكاحه من القرائب ، والصهر ما يحل
نكاحه من القرابة وغيرها. وقيل : الصهر حرمة الختونة.
__________________
وقال المفسرون
: النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ ) الى قوله ( وَأُمَّهاتُ
نِسائِكُمْ ) ومن هنا الى قوله ( وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) تحريم بالصهر ، وهو الخلطة التي تشبه القرابة ، وهو
السبب المحرم للنكاح كالنسب المحرم ، حرم الله سبعة أصناف من النسب ، وسبعة من جهة
الصهر ، ستة في الآية التي ذكرت فيها المحرمات ، والسابعة في قوله ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) .
أقول : وبهذا
انكشف حال ما أفاده في الرسالة بقوله : واعلم أن استدلالهم أيضاً بالخبر المستفيض
على عدم تحريم نسبة من قبيل المصاهرة محل مناقشة وكلام اذ يحتمل بعيداً أن يكون
المراد بالنسب فيه مطلق القرابة سببية كانت أو ولادية ، ولعله يرشد الى هذا
الاحتمال ورود لفظة القرابة في بعض الروايات بدل النسب وان كان الاظهر أن المراد
بها النسب.
أقول : ومن
الغرائب أن نحكم بتحريم شيء بمحض احتمال بعيد لا يحتمله اللفظ ، مع أصالة الحلية
والاباحة والبراءة والاستصحاب ، وقوله عليهالسلام : كل شيء هو لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه فتدعه.
كل شيء مطلق ـ أي : مباح ـ حتى يرد فيه نهي.
وأغرب منه أن
يراد من الخاص الوارد في أخبار كثيرة المعنى العام ، لوروده في خبر مع أن حمل
العام على الخاص وجعله حاكماً عليه من الواجبات عند الخواص والمسلمات التي لا كلام
فيها.
الا أنه قدسسره بنى كلامه في تحريمه ما حرمه في رسالته مخالفاً للاصحاب
على اعتباره ما لا يحتمله اللفظ والاحتمالات البعيدة الغير المعتبرة عندهم ، لان
__________________
بناء استدلالهم بالايات والروايات من السلف الى الخلف على الظاهر المتبادر
لا على الاحتمالات البعيد الخطور على الخواطر ، كما سبق آنفاً وأمثاله الكثيرة.
فانه قد ورد في
أخبار كثيرة يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، ووردت في رواية لفظة القرابة بدل
النسب فأوله اليها وجعلها شاملة للسببية والنسبية ، وهذا كما ترى ما لا يقول به
سفيه ، فضلا عن أن يقول به فقيه.
أقول هذا
وأستغفر الله ، ثم أقول : ولما استبان مما قررناه ضعف ما أصله وفرع عليه الاحكام
ونقض ما أسسه وبنى عليه الاحكام ، وكان هذا هو القصد الاول وغاية المرام والغرض
الذي يساق له الكلام في هذا المقام.
وبان منه أن
التحريم متعلق بالمرتضع وحده ، اذ لا دليل على تعديته منه الى غيره ، الا ما ورد
في خصوص أبيه من أحاديث المنزلة ، فانها صحيحة صريحة في أن أولاد المرضعة والفحل
ولادة ورضاعاً قد صاروا بمنزلة أولاده ، فيجب اعتبارها فيه واقتصارها عليه ، لوجوب
الاقتصار على مورد النص فيما خالف الاصل.
كان الحري بنا
أن نترك النعرض لسائر ما أفاده مع ما فيه ، فان من حسن اسلام المرء ترك ما لا يعنيه ،
حامدين لله على الاتمام ، وشاكرين له على حصول المرام ، ومصلين على رسوله وآله الكرام
عليهمالسلام الى يوم القيامة.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (٣٠) ذي الحجة سنة (١٤١٠) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق الخاجوئي
(١٥)
|
|
رسالة
فى
التعويل على أذان الغير فى دخول الوقت
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدىّ الرّجائيّ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيمِ
قال الفاضل
العلامة قدسسره في جواب من سأله عن الصلاة بأذان الجمهور والافطار به
من غير مراعاة الوقت ، بل لغلبة الظن بصدقهم ، هل يصح ذلك ويجوز التعويل عليه؟
لا يجوز الدخول
في الصلاة والافطار بقول المؤذن أو بأذانه ، بل يجب عليه المراعاة ، سواء كان
المؤذن من الجمهور أو غيرهم .
أقول : ظاهره
يفيد عدم الفرق بين الثقة وغيره والواحد والمتعدد ومن هو عارف بالوقت وجرب صدقه ،
بل يفيد أن كل من هو قادر على مراعاة الوقت وجب عليه مراعاته ، ولا يجوز له
الاعتماد على الغير وان غلب على ظنه صدقه ، بل يدل على أن الواحد وان كان عدلا لا
يجوز العمل بخبره ، بل يفيد أن خبر العدلين بل العدول كذلك.
ولعل الوجه فيه
أن هذا الخبر وان كان محفوفاً بالقرائن لا يفيد الا ظناً. والظن بدخول الوقت مع
عدم المانع والقدرة على المراعاة لا يكفي في الافطار والدخول في الصلاة لاصالة
بقاء ما كان على ما كان ولان اليقين لا يزول الا باليقين.
__________________
ولعل الفائدة
في وضع الاذان الاشعاري ، اشعار الناس بدخول الوقت وحضور الجماعة ، لكن لا يجوز
لهم الدخول في الصلاة والافطار به الا بعد المراعاة وتحصيل اليقين بالدخول.
ولكن في رواية
سعيد الاعرج حيث قال : دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام وهو مغضب وعنده نفر من أصحابه وهو يقول : تصلون قبل أن
تزول الشمس؟ قال وهم سكوت فقلت : أصلحك الله ما نصلي حتى يؤذن مؤذن مكة ، قال :
فلا بأس أما أنه اذا أذن فقد زالت الشمس .
دلالة على جواز
الاعتماد على المؤذنين في دخول الوقت وان كانوا مخالفين بل ربما يستدل بها على
العمل بخبر الموثق ، وحمله على ما اذا حصل العلم باتفاق جماعة من المؤذنين على
الاذان ، بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب بعيد.
وظاهر المعتبر
جواز التعويل على أذان الثقة الذي يعرف منه الاستظهار عند التمكن من العلم ، لقوله
صلىاللهعليهوآله : المؤذنون أمناء .
أقول : ويؤيده
اباحته صلىاللهعليهوآله الاكل والشرب في آخر الليل في شهر رمضان وان أذن ام
مكتوم ، ومنعه عنهما بأذان بلال .
وفي رواية ذريح
قال قال لي أبو عبد الله عليهالسلام : صل الجمعة بأذان هؤلاء ،
__________________
فانهم أشد مواظبة على الوقت .
والاكثر على
جواز الاعتماد على شهادة العدلين ، وأما الواحد فلا.
أقول : وهذا
منهم يدل على جواز الاكتفاء بالظن في دخول الوقت مطلقاً ، متمكناً كان من العلم به
أم لا ، اذ غاية ما يفيده شهادتهما هو الظن لا اليقين ، والشارع قد جعل شهادتهما
حجة ، فينبغي أن يكون الظن بدخول الوقت مطلقاً كافياً في ايقاع العبادات الموقتة
بذلك الوقت.
وقال المحقق
الثاني الشيخ علي رحمهالله : لو شهد بالغروب عدلان ثم بان كذبهما ، فلا شيء على
المفطر وان كان ممن لا يجوز له التقليد ، لان شهادتهما حجة شرعية.
وهذا منه رحمهالله يدل على أن من يمكنه تحصيل اليقين في موضع يعتبر فيه
اليقين يجوز له الاعتماد على ما غايته افادة الظن ، وهو مشكل.
وظاهر المبسوط عدم جواز
التعويل على الغير مع عدم المانع ، وهذا أشكل من سابقه ، فان كثيراً ما يحصل لنا
العلم بدخول الوقت وجهة القبلة بمجرد اخبار من لا وثوق به ولا عدالة له ، بل
المعلوم عدم عدالته كالصبي المميز وان لم يكن مراهقاً.
والتزام عدم
جواز التعويل على خبره وقد أفاد العلم التزام سوفسطائي ، فانا اذا دخلنا على أهل
بيت وكانت جهة القبلة غير معلومة لنا وأردنا القيام الى الصلاة وجاء الصبي المذكور
وطرح الشاذكونة الى جهة حصل لنا العلم بأنها جهة القبلة ، وكذا اذا كان آخر الليل
ودخل علينا بعض أطفالنا وقال : يا أبت قد أضاء الصبح وأسفر يحصل لنا العلم بدخول
الوقت ، فمناط الحكم اذا هو حصول العلم بأي طريق كان.
__________________
وقال الفاضل
المازندراني قدسسره في شرحه على روضة الكافي بعد نقل رواية محمد بن الفضيل
عن أبي جعفر عليهالسلام قال : ان لله عزوجل ديكاً رجلاه في الارض السابعة وعنقه مثنية تحت العرش
وجناحاه في الهواء ، اذا كان في نصف الليل أو الثلث الثاني من آخر الليل ضرب
بجناحيه وصاح « سبوح قدوس ربنا الله الملك الحق المبين ، فلا اله غيره رب الملائكة
والروح » فتضرب الديكة باجنحتها وتصيح .
دل على جواز
الاعتماد بهذه الصحيحة في معرفة انتصاف الليل ، وقد روي مثل ذلك في معرفة الزوال ،
والحق جوازه عند عدم امكان المعرفة بأدلة أقوى منها ، خصوصاً مع تجربة صدقها انتهى كلامه
رفع مقامه.
وهذا منه رحمهالله دل على عدم جواز العدول عما يفيد يقيناً أو ظناً قوياً
الى ما يفيد ظناً ضعيفاً ، وعلى جواز الاعتماد بما يفيد ظناً بدخول الوقت وان كان
ضعيفاً ، والعمل بمقتضاه اذا لم يكن هناك دليل أقوى منه.
وفيه وفي أصل
الرواية تأمل ، فانها ضعيفة سنداً ومتناً ، فيشكل الاعتماد على مدلولها وبناء
العمل عليه.
أما سنداً ،
فلان فيه معلى بن محمد وهو ضعيف ومحمد بن الفضيل الراوي ، وهو بين مجهول وضعيف.
وأما متناً ،
فلان نصف الليل بناءاً على ما ثبت من كرية الارض وعليه فقهاؤنا يختلف باختلاف
البقاع والبلدان شرقية وغربية ، كما أن رؤية الهلال كذلك.
لذلك قال
الفاضل العلامة في التذكرة : ان الارض كرة ، فجاز أن يرى
__________________
الهلال في بلد ولا يظهر في آخر ، لان حدبة الارض مانعة لرؤيته ، وقد رصد
ذلك أهل المعرفة ، وشوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب الغربية لمن جد في السير نحو
المشرق وبالعكس.
وقال ولده فخر
المحققين قدسسرهما في الايضاح : الاقرب أن الارض كروية ، لان الكواكب تطلع
في المساكن الشرقية قبل طلوعها في المساكن الغربية ، وكذا في الغروب ، فكل بلد
غربي بعد عن الشرقي بألف ميل يتأخر غروبه عن غروب الشرقي بساعة واحدة.
وانما عرفنا
ذلك بارصاد الكسوفات القمرية ، حيث ابتدأت في ساعات أقل من ساعات بلدنا في المساكن
الغربية وأكثر من ساعات بلدنا في المساكن الشرقية ، فعرفنا أن غروب الشمس في
المساكن الشرقية قبل غروبها في بلدنا وغروبها في المساكن الغربية بعد غروبها في
بلدنا.
ولو كانت الارض
مسطحة لكان الطلوع والغروب في جميع المواضع في وقت واحد ، ولان السائر على خط نصف
النهار على الجانب الشمالي يزداد عليه ارتفاع القطب الشمالي وانخفاض الجنوبي
وبالعكس .
أقول : فيختلف
بذلك ، أي : باختلاف البلدان في طلوع الكواكب وغروبها اختلافها في انتصاف الليل ،
فرب بلد انتصف فيه الليل وهو في بلد آخر لا ينتصف الا بعد مضي ساعة أو ساعتين وهكذا.
فصيحة هذا
الديك الاعظم تكون في أي نصف من تلك الانصاف؟ وبالنسبة الى أهل أي بلد من تلك
البلدان؟ حتى تتبعه هذه الديوك في الصحيحة ويعلم منها انتصاف الليل.
ومع قطع النظر
عن ذلك ، فتلك الصحيحة من تلك الديكة لا تدل على انتصاف
__________________
الليل بخصوصه ، لاحتمال أن تكون في أول الثلث الثاني وهو قبل انتصافه على
أن قوله من آخر الليل مما لا يتصور له معنى صحيح ظاهراً ، فكيف يصح الاستدلال بها
على معرفة انتصافه والاعتماد عليه؟ وهو ضعيف سنداً ومتناً.
وأما التجربة
فعلى تقدير كونها حجة شرعية في معرفة الاوقات ليست عملا بالرواية ، ولا اختصاص لها
بصحيحة الديكة ، بل قد تحصل بغيرها ، كوقت الساعة والكتابة ونحوها من الصناعات.
والعجب من
مولانا الفاضل أنه ـ مع غزارة علمه وثقوب فهمه ـ لم يتفطن بهذا ولم يشر اليه ولا
الى دفعه أصلا ، بل اقتصر على مجرد جواز الاعتماد على هذه الصحيحة في معرفة انتصاف
الليل وجعلها حقاً على تقدير عدم وجدان دليل أقوى منها.
ويمكن دفعه بأن
يقال : ان هذا الترديد ليس من الراوي ، بل هو من الامام عليهالسلام ، وهو اشارة الى أن هذه الصيحة من هذا الديك الاعظم
بالنسبة الى بعض البلدان تكون في نصف الليل ، وبالنسبة الى آخر في الثلث الثاني من
آخر الليل ، وله عرض عريض يختلف باختلاف البلدان ، فبالنسبة الى بعضها تقع تلك
الصيحة في الجزء الاول من ذلك الثلث الثاني ، وبالنسبة الى آخر في الجزء الثاني
منه وهكذا ، فتأمل فيه.
ومثله يرد فيما
روي في معرفة الزوال ، وان كان بعضه حسن السند بل صحيحة كرواية الحسين بن المختار
عن الصادق عليهالسلام أنه قال قلت له : اني مؤذن ، فاذا كان يوم غيم لم أعرف
الوقت ، فقال له : اذا صاح الديك ثلاثة أصوات ولاءاً فقد زالت الشمس ودخل وقت
الصلاة .
وفي رواية أبي
عبد الله الفراء عنه عليهالسلام أنه قال له رجل من أصحابنا : انه
__________________
ربما اشتبه علينا الوقت في يوم غيم ، فقال : تعرف هذه الطيور التي تكون
عندكم بالعراق يقال لها الديوك ، فقال : نعم ، فقال : اذا ارتفعت أصواتها وتجاوبت
فعند ذلك فصل .
ويمكن دفعه بأن
ديوك كل بلد من تلك البلدان تصيح على النحو المذكور عند زوال الشمس في ذلك البلد ،
ولا تصيح كذلك عند زوالها في بلد آخر ، فيجوز الاعتماد على صيحتها في معرفة الزوال
فتأمل.
وقال الفاضل
التقي المتقي قدسسره في شرحه بعد كلام : وعلى ما فهمه الصدوق وغيره أنه اذا
حصل له الظن بدخول الوقت أيضاً يصلي ، ويحمل على عدم امكان تحصيل العلم أو خوف
خروج الوقت بالتأخير ، والا فتحصيل العلم بدخوله واجب لاجل الصلاة ، ولا يمكنه نية
الوجوب ولا الصلاة بدون العلم ، وهو الاحوط .
وفيه أن الشارع
لما جعل ظن المكلف بدخول الوقت حجة عليه كما عليه الاكثر على ما ظهر من كلامهم
المنقول صحت له نية الوجوب بعد حصول ذلك الظن وصحت صلاته به كما في جهة القبلة ،
فانه يكفي فيها الظن ، والاحتياط ليس بحجة شرعية يعتمد عليها ، وخاصة اذا خاف خروج
وقت الفضيلة والنافلة والاعمال الموقتة بذلك الوقت ، وسيما اذا وجب عليه بطريق
النذر وشبهه ، فان الواجب عليه حينئذ هو العمل بمقتضى ذلك الظن.
ويؤيد جواز
العمل به ما روي عن سيدنا أبي جعفر عليهالسلام أنه قال : لئن أصلي بعد ما مضى الوقت أحب الي من أن
أصلي وأنا في شك من الوقت وقبل
__________________
الوقت .
فانه يفهم من
عدم صحة الصلاة في صورة الشك في دخول الوقت وقبله صحتها في صورة الظن بدخوله ،
والا فلا وجه لتخصيص هاتين الصورتين بالذكر وارادة خلاف اليقين من الشك ، فيشمل
الظن أيضاً خلاف ما عليه أهل الشرع ، فانهم يريدون بالشك ما يتساوى طرفاه ، وبالظن
ما هو الراجح من الطرفين ، وعليه مبنى أكثر مسائلهم.
ثم قال قدسسره بعد نقل رواية أبي عبد الله الفراء والحسين بن المختار
: هذا يدل على أنه يجوز العمل بصوت الديوك مع الاشتباه اذا ارتفعت أصواتها وتجاوبت
أو صاحت ثلاثة أصوات ولاءاً ، أو هما معاً ، ويمكن العمل به مع التجربة بصدقها ،
والمشهور عدم العمل به خصوصاً مع تجربة عدم الصدق ، فانا جربناها أنها تكذب غالباً
والاحتياط في الصبر حتى يحصل العلم بدخول الوقت .
وفيه ما عرفته.
ثم مورد النص
هو يوم غيم يشتبه فيه الوقت ، ولعلها في ذلك اليوم لا تكذب كما أخبر عنه الامام عليهالسلام وأمر أصحابه بالعمل به ، والسند صحيح ، فاذا جاز العمل
بصحيح الخبر فليجز العمل بذلك أيضاً.
والحق أن
المكلف ان أمكنه تحصيل العلم بدخول الوقت وجب عليه تحصيله على كل حال ، والا
فيكفيه الظن بدخوله بامارات كانت هناك ، كأذان مؤذن ، وصيحة ديكة ، ووقت ساعة ،
ونحوها مع تجربة صدقها ، فان بقي ظنه على حاله ولم يظهر خلافه ، والا أعاد الصلاة
وقضى الصوم.
__________________
أقول : ومثل ما
سبق في الاشكال بل أشكل منه ما ورد من ركود الشمس عند الزوال ، فان زوال كل بلد
غربي بعد عن الشرقي بألف ميل يتأخر عن زوال الشرقي بساعة واحدة ، كما يلزم مما
أفاده فخر المحققين ، وقد سبق نقله.
فيلزم أن يكون
لها ركود متعدد بحسب تعدد البلدان الشرقية والغربية وبعد بعضها عن بعض ، فتكون في
أكثر أوقات النهار راكدة ، وتخصيصه ببعض البلدان دون بعض غير معلوم ولا مفهوم من
الاخبار ، فان المذكور فيها أنها تركد ساعة من قبل أن تزول ولا يكون لها يوم
الجمعة ركود.
روي عن حريز بن
عبد الله أنه قال : كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام فسأله رجل فقال له : جعلت فداك ان الشمس تنقض ثم تركد
ساعة من قبل أن تزول ، فقال انها تؤامر أتزول أو لا تزول .
وفي رواية أخرى
عنه عليهالسلام وسئل عن الشمس كيف تركد كل يوم ولا يكون لها يوم الجمعة
ركود ، قال : لان الله عزوجل جعل يوم الجمعة أضيق الايام ، فقيل له : ولم جعله أضيق
الايام؟ قال : لانه لا يعذب المشركين في ذلك اليوم لحرمته عنده .
وأنا الى الان
لم أجد أحداً تعرض له ولدفعه.
وأما ما أفاده
الفاضل التقي المتقي في شرحه بقوله : ولا استبعاد في أن يحصل ركود ولا نعلم ولا
نفهمه باعتبار قصور وقت الركود ولا يحصل يوم الجمعة .
ففيه أن هذا
الركود الواقع قبل الزوال في زوال أي بلد يحصل؟ وهل هو واحد مخصوص بزوال بلد معين
أو متعدد بتعدد زوال تلك البلدان الشرقية
__________________
والغربية؟
وبالجملة لا
اشكال في أصل الركود على قواعد الاسلام ، انما الاشكال في ان هذا الركود بالنسبة
الى زوال أي بلد يحصل ، فرب بلد شرقي زالت فيه الشمس وهي في بلد غربي بعد عنه لا
تزول الا بعد انقضاء ساعة أو أكثر ، فتأمل.
وتم استنساخ وتصحيح
هذه الرسالة في (٣) محرم سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئى
(١٦)
|
|
رسالة
فى
حكم الاستيجار للحج من غير بلد الميت
للعلامة المحقق
العارف
محمد اسماعيل
بن الحسين بن محمد رضا المازندرانى الخاجوئي
المتوفى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيد
مهدى الرجائى
بسم الله الرحمن الرحيم
في التهذيب عن
حريز بن عبد الله قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أعطى رجلا حجة يحج بها عنه من الكوفة ، فحج عنه
من البصرة ، قال : لا بأس اذا قضى جميع المناسك فقد تم حجه .
هذا خبر صحيح
صريح في صحة حج الاجير من غير بلد استوجر فيه أن يحج عنه منه وهو يعلم بلد الموت
وغيره ، ومن المعلوم صحة حجه عنه من البلد.
فيظهر منه أن
النائب له أن يحج عن المنوب من بلده ومن موضع موته ومن غيرهما ، ولا يتعين عليه
موضع دون موضع وان عينه عليه المستأجر.
اذ لا شبهة في
أن مناط السؤال انما هو مخالفة الاجير ما عين عليه المستأجر من البلد ليحج عنه منه
، فأجاب عليهالسلام بأن تلك المخالفة لا يقدح في صحة حجه واستحقاقه الاجرة.
وهذا موافق لما
قيل من أن الاقوى القضاء عنه من الميقات خاصة ، لاصالة البراءة من الزائد ، ولان
الواجب الحج ، والطريق لا دخل لها في حقيقته ، كما يستفاد من هذا الخبر ، ووجوب
سلوكها من باب المقدمة ، وتوقف الحج على
__________________
مئونة ، فتجب قضاء المقدمة عنه.
يندفع بأن
مقدمة الواجب اذا لم تكن مقصودة بالذات لا تجب وهو هنا كذلك ، ومن ثم لو سافر الى
الحج لا بنيته أو بنية غيره ، ثم بدا له بعد الوصول الى الميقات الحج أجزأ ، وكذلك
لو سافر ذاهلا أو مجنوناً ثم كمل قبل الاحرام أو آجر نفسه في الطريق لغيره ، أو حج
متسكعاً بدون الغرامة ، أو في نفقة غيره أو غير ذلك من الصوارف عن جعل الطريق
مقدمة للواجب.
وكثير من
الاخبار ورد مطلقاً في وجوب الحج عنه ، وهو لا يقتضي زيادة على أفعاله المخصوصة ،
كما يفيده ظاهر هذا الخبر.
فان المفهوم
منه أن القدر المعتبر في صحة حج الاجير هو قضاء جميع المناسك من أي بلد حج عنه ،
ولا يتعين عليه بلد بخصوصه ، بل يستفاد منه أن المستأجر اذا شرط عليه أن يحج عنه
من موضع معين وان تعلق به غرض جاز له مخالفته ، ولا يقدح ذلك في صحة حجه واستحقاقه
الاجرة كملا.
وذلك لان
احتمال كون قوله « من الكوفة » صفة لرجل كما قيل بعيد. أما أولا ، فلان قوله « من
البصرة » لا شك أنه متعلق بقوله « فحج » وصلة له ، فهذا قرينة على أن قوله « من
الكوفة » متعلق بقوله « يحج » وصلة له لا صفة لرجل.
وأما ثانياً ،
فلاحتياجه الى القول بحذف المضاف ومتعلق الظرف ، أي :
عن رجل يكون من أهل الكوفة ، والاصل عدمه ، فهو مخالف له يرتكب من غير ضرورة.
وأما ثالثاً ،
فلان الامر لو كان كذلك لكان الظاهر أن يقول عن رجل من الكوفة أعطى رجلا ، لان هذا
مع سلامته عن توهم خلاف المقصود سالم عن الفصل بالاجنبي بين الصفة والموصوف وهو
قوله « يحج عنه ».
ومدار
الاستدلال من السلف الى الخلف بالايات والروايات على الظاهر
المتبادر ، لا على الاحتمالات البعيدة عن الاذهان ، كما هو المقرر في أصول
الاعيان.
فقول سيدنا في
المدارك : وهي لا تدل صريحاً على جواز المخالفة لاحتمال أن يكون قوله « من الكوفة
» صفة لرجل لا صلة ليحج كما ترى.
وبالجملة
يستفاد منه أن النائب له أن يحج عن المنوب من بلد استطاعته ، ومن مسقط رأسه ، ومن
موضع موته ، ومن غيرها من المواضع والبلدان.
ولا يتفاوت
الحال في ذلك بين أن يكون قوله « من الكوفة » صفة لرجل ، أو صلة ليحج ، بل يستفاد
منه أن شرط المستأجر وان تعلق به غرض يجوز مخالفته ومع ذلك يستحق الاجير الاجرة
المسماة ، لانه عليهالسلام لم يحكم برد شيء من الحجة ، بل قال : ان حجه الذي آجر
نفسه لقضاه قد تم ، فيستحق به الاجرة.
وظاهر الكليني
يفيد أنه يعمل بمضمون هذا الخبر ، لانه أورده في باب من يعطى حجة فيخرج من غير
الموضع الذي يشترط . ولم يأوله مع ما سبق منه في صدر الكتاب من أنه لا يورد
فيه الا ما يعمل به ، فتأمل.
وقال الشهيد في
الدروس : ولو شرط سلوك طريق معين وجب مع الفائدة ، فلو سلك غيره رجع عليه بالتفاوت
، وقال الشيخ : لا يرجع لاطلاق رواية حريز في من استوجر للحج من الكوفة فحج من
البصرة ، قال : لا بأس. وفيها دليل على أنه لا يتعين المسير من نفس بلد الميت انتهى كلامه
رفع مقامه.
فقول الشيخ ابن
ادريس بوجوب القضاء من عين البلد وفسر ببلد الموت مما لا دليل له عليه ، وان ادعى
تواتر الاخبار عليه ، بل هذا الخبر حجة عليه.
وأما ما رواه
احمد بن محمد بن أبي نصر عن محمد بن عبد الله قال : سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن الرجل يموت فيوصي بالحج ، من أين يحج عنه؟ قال :
__________________
على قدر ماله ان وسعه ماله فمن منزله ، وان لم يسعه ماله من منزله فمن
الكوفة ، فان لم يسعه من الكوفة فمن المدينة .
فمع أنه غير
نقي السند ، لان محمد بن عبد الله غير معروف ، وتوسطه بين ابن أبي نصر وأبي الحسن
الرضا عليهالسلام غير معهود ، بل المعهود عدم الواسطة ، محمول : اما على
الاستحباب ، أو على ما اذا عين قدراً يسع من منزله.
ومع ذلك فالقول
بوجوب القضاء من عين البلد محل نظر ، لانه خلاف ما دلت عليه صحيحة حريز ، حيث أن
الرجل قد أعطى قدراً وسع الحج من الكوفة وهو لم يحج عنه منها بل حج من البصرة ،
وهو عليهالسلام قد نفى عنه البأس وحكم بكونه تاماً بشرط قضاء جميع
المناسك ، فتأمل.
قيل : ان
الخلاف فيما لو أطلق الوصية ، أو علم أن عليه حجة الاسلام ولم يوص بها ، وأما اذا
عين قدراً وسع الحج من منزله ولم يكن الزائد عن أجرته من الميقات زائداً عن ثلث
التركة ، فتعين الوفاء به اجماعاً فيقضي من بلده ، فان ثبت الاجماع فهو المتبع
والا ففيه ما مر.
تم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (١٣) محرم سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(١٧)
|
|
رسالة
في
حكم الاسراج عند الميت ان مات ليلا
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيمِ
قال سيدنا في
المدارك بعد نقل قول المصنف قدسسرهما « ويكون عنده مصباح ان مات ليلا » : ذكره الشيخان واستدل عليه
في التهذيب بما روي أنه لما قبض أبو جعفر عليهالسلام أمر أبو عبد الله عليهالسلام بالسراج في البيت الذي كان يسكنه حتى قبض أبو عبد الله عليهالسلام .
واعترض المحقق
الشيخ علي بأن ما دل عليه الحديث غير المدعى ، قال : الا أن اشتهار الحكم بينهم
كاف في ثبوته للتسامح في أدلة السنن .
وقد يقال : ان
ما تضمنه الحديث يندرج فيه المدعى. أو يقال : ان استحباب ذلك يقتضي استحباب
الاسراج عند الميت بطريق أولى ، فالدلالة واضحة لكن السند ضعيف جداً .
أقول : ولا
يخفى أن لفظة « كان يسكنه » تفيد أن أمره عليهالسلام بالسراج في هذا
__________________
البيت انما وقع في ليلة دفنه عليهالسلام وما بعدها لا ليلة قبضه والمدعى هو هذا لا الاول ولهذا
قال المحقق الثاني : ما دل عليه الحديث غير المدعى ، فالقول بأن ما تضمنه الحديث
يندرج فيه المدعى محل نظر.
وكيف يندرج فيه
ولا يفهم منه أن أبا جعفر عليهالسلام قبض ليلا أم نهاراً ، وعلى الاول لا يفهم منه أنه كان
عنده مصباح في تلك الليلة أم لا. والمذكور في الدروس أنه عليهالسلام قبض بالمدينة يوم الاثنين سابع ذي الحجة سنة أربع عشر
ومائة .
وعليه فلا وجه
لهذا القول ولا لاندراج المدعى فيما تضمنه الحديث ، وهو ظاهر.
وأما ما ادعاه
من الاولوية فممنوعة ، اذ لعل في الاول حكمة خفية لا تصل اليها عقولنا الناقصة
ليست في الثاني ، والا فيرد عليه أن هذا اسراف محض ليس فيه غرض صحيح بحسب ما تدركه
عقولنا ، بل هو عين اضاعة المال المنهي عنها عقلا ونقلا.
لان ظاهر
الحديث يفيد أن هذا الاسراج في هذا البيت كان لمجرد أنه عليهالسلام كان يسكنه ، لا لانه كان يسكنه بعد قبضه انسان ، بل
يظهر منه أن هذا البيت لم يسكنه بعده عليهالسلام أحد حتى قبض أبو عبد الله عليهالسلام ، والا لكان الاسراج فيه له لا لانه كان يسكنه ، وظاهر
الحديث خلافه.
وهذا أيضاً مما
لا وجه له ظاهراً ، بل هو تعطيل محض يحكم العقل بخلافه الا أن يقال : ان هذا
وأمثاله مما يعد احتراماً عرفاً.
فاني حين ما
أردت أن أحرم لزيارة الكاظمين عليهماالسلام ودخلت حماماً كان في تلك البقعة الشريفة لغسل الزيارة ،
وجدت في المسلخ صفة خالية ، فأردتها لنزع الثياب فمنعني الحمامي وزبرني ، فسألته
عن وجهه ، فقال : ان الشاه عباس أنار الله برهانه
__________________
لما وصل الى تلك البقعة ودخل هذا الحمام نزع ثيابه في هذه الصفة ، فهي الى
الان كما ترى خالية لا ينزع فيها أحد ثيابه احتراماً للشاه.
ويظهر منه أن
أمثال ذلك مما يعده أهل العرف احتراماً ، ولذلك فعل أبو ـ عبد الله عليهالسلام ما فعل احتراماً لابيه عليهماالسلام.
ومن غريب ما
رأيناه في بعض بلاد الشيعة أن أهله يسرجون عند قبور موتاهم في مقبرتهم ليالي لها
شرف ومزية ، كليالي الجمعات والاعياد ونحوها ، ولعلهم أخذوه مما نقل اليهم من فعل
الصادق عليهالسلام.
ومما قررناه ظهر
أن ما يفهم من الحديث من احترام المؤمن بالاسراج عنده ان مات ليلا من قبيل القياس
المستنبطة علته والامامية لا يقولون به ، لاحتمال أن تكون له علة أخرى ونحن لا
نعلمها.
ولذلك جعل
المحقق الثاني الدليل عليه الشهرة بينهم ، ولم يعتبر الاقتضاء المذكور ومنع دلالة
الخبر عليه ، فاستدلال الشيخ به عليه غريب.
وأغرب منه ما
أفاده السيد في مقام نصرته بقوله « فالدلالة واضحة » فتأمل.
تم استنساخ
وتصحيح الرسالة في (١٢) محرم سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئى
(١٨)
|
|
رسالة
في
شرح حديث توضؤوا مما غيرت النار
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهديّ الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيْمِ
الحمد لله الذي
أباح لنا الوضوء مما غيرت النار ، والصلاة على رسوله محمد سيد الابرار ، وعلى
عترته المعصومين أسانيد الاخيار.
وبعد : فهذا
حديث اختلفوا في معناه ، فأردت نقل ما قالوه وتفصيل ما أجملوه ثم ترجيح ما هو أرجح
عندي.
فأقول : وأنا
العبد الانس بربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل عفي عنه ،
روي عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : توضؤوا مما غيرت النار .
يمكن أن يكون
هذا منه عليهالسلام اباحة لهم في الوضوء من ماء سخنته النار وغيرت برودته ،
فانه عليهالسلام لما نهى عن استعمال ماء أسخن بالشمس ، وعلله بأنه يورث
البرص.
كما في رواية
ابراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن عليهالسلام قال : دخل رسول الله صلىاللهعليهوآله على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس ، فقال : يا
حميراء ما هذا؟ فقالت : أغسل رأسي وجسدي ، فقال : لا تعودي فانه يورث البرص .
__________________
أوهم ذلك أن كل
ماء مسخن حكمه ذلك ، فدفعه باباحة الوضوء من ماء غيرته النار ، فالامر فيه للاباحة
، كقوله ( كُلُوا وَاشْرَبُوا ) كأن المخاطبين توهموا أن ليس لهم أن يتوضؤوا من ماء
سخنته النار فأباح لهم ذلك وقال : توضؤوا منه.
فالوضوء فيه
بمعناه الشرعي ، كما هو المتبادر من الاطلاقات الشرعية ، والعائد الى الموصول
محذوف.
وكلمة « من »
فيه : اما مرادفة للباء ، نحو « يَنْظُرُونَ مِنْ
طَرْفٍ خَفِيٍّ » على ما قاله
يونس ، أو لبيان الجنس فانك اذا قلت توضأت ، يقال : من أي ماء؟ تقول من ماء حار ،
تأمل في هذا تعرف.
وهذا لو لم يكن
أجود مما حمله عليه السيد السند المرتضى فليس بأدون منه فان فيما حمله عليه
تكلفات.
أما أولا ،
فلانه حمل الوضوء فيه على معناه اللغوي ، وهو اذا كان الكلام من
صاحب الشرع بعيد.
وأما ثانياً ،
فلانه لا بد فيه من القول بحذف المضاف في قوله « مما » أي : توضؤوا من مس ما غيرته
النار ، والحذف خلاف الاصل ، وانما يصار اليه اذا كانت هناك قرينة واضحة ، أو لم
يصح الكلام بدونه ، وهما هنا ممنوعان. وأما حذف العائد ، فمشترك بين الوجهين ، وهو
شائع.
وأما ثالثاً ،
فلانه يلزم من حمله هذا رجحان غسل اليد بمجرد مس الخبز
__________________
ونحوه مما مسته النار ، وتخصيصه بماله زهومة وغمر كأنه غير سديد ، فتأمل.
قال قدسسره في الغرر والدرر : تأويل خبر ان سأل سائل عن الخبر الذي
يروي عن زيد بن ثابت ، عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : توضؤوا مما غيرت النار.
فقال : ما
المراد بالوضوء ها هنا ومذهبكم أن مس ما غيرته النار لا يوجب وضوءاً؟ الجواب : أن
معنى توضؤوا أي نظفوا أيديكم من الزهومة ، لانه روي أن جماعة من الاعراب كانوا لا
يغسلون أيديهم من الزهومة ، فيقولون : فقدها أشد من ريحها ، فأمر عليهالسلام بتنظيف الايدي لذلك.
فان قيل : كيف
يصح أن تحملوا الخبر على اللفظ اللغوي؟ مع انتقاله بالعرف الشرعي الى الافعال
المخصوصة ، بدلالة أن من غسل يده أو وجهه لا يقول بالاطلاق توضأت ، ومتى سلم لكم
أن الوضوء أصله من النظافة ، لم ينفعكم مع الانتقال الذي ذكرناه ، وكلامه صلىاللهعليهوآله أخص بالعرف الشرعي ، وحمله عليه أولى من حمله على
اللغة.
أقول : حاصل
السؤال يرجع الى ما تقرر في أصول الاصحاب من أن الشارع اذا أمرنا بأمر أو حكم
علينا حكماً وخاطبنا بلفظ.
فان كان له
حقيقة شرعية حملناه عليها ، كما اذا قال : توضؤوا فان الوضوء في اللغة النظافة ،
وفي الشرع الافعال المخصوصة ، فنحمله على حقيقته الشرعية وكذا الصلاة والزكاة
والصوم والحج ونحو ذلك.
وان لم تكن له
حقيقة شرعية ، وجب حمله على الحقيقة العرفية ان كان له في العرف حقيقة ، والا
رجعنا فيه الى الحقيقة اللغوية ، فجعلوا الرجوع اليها بعد أن لم يكن له حقيقة في
الشرع ولا في العرف ، وهنا له حقيقة شرعية ، فحمله عليها أولى من حمله على الحقيقة
اللغوية.
فما أجاب عنه
به السيد السند بقوله قلنا : ليس ننكر أن يكون اطلاق الوضوء
هو المنتقل من اللغة الى عرف الشرع والمختص بالافعال المعينة ، وكذلك
المضاف منه الى الحدث أو الصلاة وما أشبههما. فأما المضاف الى الطعام وما يجري
مجراه فباق على أصله.
ألا ترى أنهم
لو قالوا : توضأت من الطعام ومن الغمرة ، أو توضأت للطعام لم يفهم منه الا الغسل
والتنظيف ، فاذا قال : توضأت اطلاقاً ، وتوضأت من الحدث أو للصلاة ، فهم منه
الافعال الشرعية ، فليس ينكر ما ذكرنا من اختصاص النقل ، لانه كما يجوز انتقال
اللفظة من فائدة في اللغة الى فائدة في الشرع على كل وجه ، فكذلك يجوز أن ينتقل
على وجه ويبقى من الوجوه التي لم تنتقل منه على ما كان عليه في اللغة.
محل تأمل ، مع
أن هذا الخبر ليس من قبيل قولهم « توضأت من الطعام » فان الوضوء فيه لم يضف الى
الطعام وما يجري مجراه ، بل هو من قبيل قولهم « توضأت » اطلاقاً ، ولذلك ذهب قوم
من الفقهاء الى أن المراد به وضوء الصلاة وذلك لان كلمة « ما » كما يصح حملها على
الطعام ونحوه يصح حملها على الماء الحار ، بل حملها عليه أولى ليكون الوضوء على
معناه الشرعي من غير مزاحمة شبهة ، مع غنائه عن الحذف كما سبق فتأمل.
ثم قال قدسسره متصلا بما نقلناه عنه آنفاً : وقد ذهب كثير من الناس
الى أن اطلاق لفظة « مؤمن » منتقل من اللغة الى عرف الدين ومختص باستحقاق الثواب ،
وان كان مقيدها باقياً على ما كان عليه في اللغة.
ويبين ذلك
أيضاً ما روي عن الحسن أنه قال : الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم.
وانما أراد غسل اليد بغير شك.
وروى عن قتادة
أنه قال : غسل اليد وضوء. وروى عكرش أن رسول الله صلىاللهعليهوآله أكل وغسل يده ومسح ببل يده وجهه وذراعيه ورأسه وقال :
هكذا الوضوء مما
مست النار.
على أنه لو
كانت هذه اللفظة منتقلة على كل حال الى الافعال الشرعية المخصوصة لصح أن نحملها في
الخبر على خلاف ذلك ، ونردها الى أصلها بالادلة ، وان كان الاولى لو لا الادلة أن
نحمل على مقتضى الشرع.
فمن الادلة ما
رواه ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوآله أكل كتف شاة وقام وصلى ولم يتوضأ.
وروى عطاء عن
أم سلمة قالت : قربت جنباً مشوياً الى رسول الله صلىاللهعليهوآله فأكل منه وصلى ولم يتوض.
وروى محمد بن
المنكدر عن جابر أنه قال : كان آخر أمري من رسول الله صلىاللهعليهوآله ترك الوضوء مما مست النار.
وكل هذه
الاخبار يوجب العدول عن ظاهر الخبر الاول لو كان له ظاهر ، فكيف وقد بينا أنه لا
ظاهر له ، ثم طول الكلام في اشتقاق الوضوء بما لا طائل هنا تحته .
أقول : غاية ما
دلت عليه هذه الادلة أن الوضوء في اللغة أو في عرف الشرع قد يطلق ويراد به النظافة
وغسل اليد مع القرينة ، وهذا يؤذن بأن اطلاقه عليها مجاز في هذا العرف ، فيكون
بدون القرينة كما فيما نحن فيه حقيقة في الافعال المخصوصة.
فهذه الادلة
لنا لا علينا. فكيف توجب العدول عن ظاهر الخبر ، وقد عرفت أن له ظاهراً ، على أن
خبر جابر ليس بنص فيما رامه ، بل لا دلالة لشيء من هذه الاخبار عليه ، فان أكل
الطعام كما يصح أن يكون قرينة على المعنى اللغوي ، كذلك القيام الى الصلاة يصح أن
يكون قرينة على المعنى الشرعي ، والقرينتان متعارضتان
__________________
متكافئتان ، فاذا تعارضتا تساقطنا.
فلا يصح
الاستدلال بشيء من هذه الاخبار ، على أن المراد بالوضوء المذكور فيها فضلا عن
المذكور في غيرها هو المعنى اللغوي ، فما جعله دليلا على وجوب العدول عن ظاهر
الخبر الاول غير صالح له ، بل هو باق على ظاهره ، كما ستطلع عليه إن شاء الله.
قال ابن الاثير
في النهاية : الوضوء بالفتح الماء الذي يتوضأ به ، كالفطور والسحور لما يفطر عليه
ويتسحر به ، والوضوء بالضم : التوضؤ والفعل نفسه ، يقال : توضأت أتوضأ توضؤاً
ووضوءاً ، وقد أثبت سيبويه الوضوء والطهور والوقود بالفتح في المصادر ، فهي تقع
على الاسم والمصدر ، وأصل الكلمة من الوضاءة وهي الحسن ، ووضوء الصلاة معروف ، وقد
يراد به غسل بعض الاعضاء.
ومنه الحديث «
توضؤوا مما غيرت النار » أراد به غسل الايدي والافواه من الزهومة. وقيل : أراد به
وضوء الصلاة ، وقد ذهب اليه قوم من الفقهاء ، ومنه حديث الحسن « الوضوء بعد الطعام
ينفي الفقر وقبله ينفي اللمم ».
كذا في نسخة
عندنا ، والصواب ما نقله عنه السيد فيما مضى أنه قال : الوضوء قبل الطعام ينفي
الفقر وبعده ينفي اللمم ، وقد ورد مثله في أخبارنا أيضاً.
ثم قال ابن
الاثير : ومنه حديث قتادة « من غسل يده فقد توضأ » .
ويمكن أن
يستفاد من تضاعيف البحث أن الخبر الاول كان محكماً في برهة من الزمان ، ثم نسخ
بفعله صلىاللهعليهوآله ، واليه يشير خبر ابن عباس وأم سلمة وجابر ابن عبد الله
الانصاري ، اذ الوضوء فيها محمول على معناه الشرعي ، ويدل على أنه صلىاللهعليهوآله كان يتوضأ وضوء الصلاة من مس ما غيرته النار ، ثم ترك
الوضوء منه في أواخر عمره.
__________________
فان من البعيد
أن يأكل كتف شاة وجنباً مشوياً منها ولم يغسل يده منه ، مع نظافته ونزاهته
المشهورة ومبالغته في غسل الايدي والافواه من الزهومة ، وسيما حال الصلاة ومناجاة
رب العزة.
فقول بعض
الفقهاء أنه أراد به وضوء الصلاة حق ، ولكن ذهابهم اليه بعد نسخه بفعله ، فانه
كقوله حجة لقوله : صلوا كما رأيتموني أصلي . وقد صلى بعد أكل ما غيرته النار من غير وضوء باطل ،
ولعلهم عثروا على المنسوخ ولم يعثروا على الناسخ ، أو لم يتفطنوا أنه ناسخ له
كغيرهم ، فأبقوه الان على ما عليه كان ، وهذا خطأ منهم ، وهم فيه معذورون لو كان
الامر كما سبق ، فتأمل.
ومنه يعلم وجه
قول السائل في مقام السؤال ، ومذهبكم أن مس ما غيرته النار لا يوجب وضوءاً ، فان
الامامية وأكثر أهل السنة لا يوجبون ذلك مطلقاً لا وجوباً ولا استحباباً ، كما
يفيده تنكير الوضوء الواقع في سياق النفي : اما لكونه منسوخاً ، أو لما ذكرناه ،
أو ذكره السيد السند وابن الاثير ، مع أصالة عدم وجوب الوضوء بل استحبابه بذلك.
وهذا ـ أي :
جواب من استدل به على وجوب وضوء الصلاة ، أو استحبابه مما غيرته النار بكونه
منسوخاً ـ هو الاولى ، لا ما أجاب به عنه السيد تبعاً للاخرين فانه كما عرفته
مشتمل على تكلفات مستغن عنها بما ذكرناه ، فتأمل.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (١٤) محرم الحرام سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(١٩)
|
|
رسالة
في
حكم الغسل في الارض الباردة ومع الماء الباردة
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيْمِ
في التهذيب
بثلاث طرق صحيحة عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه سئل عن رجل كان في أرض باردة ، فيتخوف ان هو اغتسل
أن يصيبه عنت من الغسل كيف يصنع؟ قال : يغتسل وان أصابه ما أصابه.
قال : وذكر أنه
كان وجعا شديد الوجع ، فأصابته جنابة وهو في مكان بارد وكانت ليلة شديدة الريح
باردة ، فدعوت الغلمة فقلت لهم : احملوني فاغسلوني فقالوا : انا نخاف عليك ، فقلت
: ليس بد ، فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا علي الماء فغسلوني .
وفيه عن الحسين
بن سعيد عن حماد عن حريز عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل تصيبه الجنابة في أرض باردة ولا يجد الماء وعسى
أن يكون الماء جامداً ، قال : يغتسل على ما كان ، حدثه رجل أنه فعل ذلك فمرض شهراً
، فقال : اغتسل على ما كان ، فانه لا بد من الغسل. وذكر أبو عبد الله عليهالسلام أنه اضطر اليه وهو مريض فأتوا به متسخناً فاغتسل وقال :
لا بد
__________________
من الغسل .
وحمل الشيخ في
الاستبصار هذا الخبر على من تعمد الجنابة ، وقال : ان من فعل ذلك ففرضه الغسل على
أي حال كان .
أقول : هذا حمل
بعيد لا يتمشى في الخبر المتقدم ، فان عاقلا لا يتعمد الجنابة وهو مريض مرضاً
شديداً لا يقدر معه على حركة أصلا ، كما يصرح به قوله « فحملوني ووضعوني على خشبات
ثم صبوا علي الماء ».
وخاصة اذا كان
في أرض باردة وليلة شديدة الريح والبرد ، وكان يتخوف ان هو اغتسل أن يصيبه عنت
ومشقة من الغسل أيضاً ، وهو يعلم أنه ليس له بد من الغسل على أي حال وان أصابه منه
ما أصابه ، وكيف يتعمد الجنابة ويقصد الجماع وهو لشدة الوجع لا يقدر عليه؟
فحمل هذا الخبر
وما شاكله على من تعمد الجنابة يأباه سوق الكلام.
وفي الخبر
الثاني اشكال من وجه آخر ، وهو أنه لا سبيل للقول باحتلام المعصوم ليضطر الى الغسل
وتعمد جنابته وهو مريض يعلم أنه لا بد له من الغسل بعيد ، وكيف يفعل المعصوم
باختياره ما يصير به مضطراً.
الا أن يقال :
ان تلك الجنابة كانت نافعة لدفع مرضه أو تخفيفه ، ففعل ذلك لذلك فاضطر اليه ، وهذا
ينافي الغرض المسوق له الكلام ، اذ حينئذ يستفاد منه أن دفع الضرر البدني بما أمكن
ومهما أمكن شرعاً ضروري ، فكيف يأمر بما يورث المرض المديد ويوجب الضرر الشديد.
هذا وأورد في
التهذيب في الاستدلال على ما ذهب اليه المفيد من وجوب الغسل على متعمد الجنابة وان
خاف على نفسه حديثين ضعيفين صريحين في ذلك
__________________
وأورد بعدهما هذا الحديث وما قبله .
أقول : ويؤيده
ما في الفقيه وسئل الصادق عليهالسلام عن مجدور أصابته جنابة ، فقال : ان كان أجنب هو فليغتسل
، وان كان احتلم فليتيمم .
فانه صريح في
أن من تعمد الجنابة وجب عليه الغسل ، لايجاده السبب وان تضرر وخاف على نفسه.
والمتأخرون
خالفوا في ذلك وأوجبوا عليه التيمم ، لعموم قوله تعالى ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ ) ( وَلا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) .
واستدل بعضهم
على ذلك بأن دفع الضرر المظنون واجب عقلا ، وبأن الجماع جائز اجماعاً ، فلا يترتب
على فاعله مثل هذه العقوبة.
وحمل بعضهم هذين
الحديثين على ما اذا كان الضرر المتوقع يسيراً.
وقال شيخنا
البهائي قدسسره : وللمنتصر للشيخين أن يقول : ان الحمل على الضرر
اليسير يأباه سوق الكلام في الحديثين ، والتكليف بتحمل ضرر الغسل مع جواز الوطي
غير مستبعد ، كتكليف المحرم بالكفارة عند تغطية رأسه لمرض ، على أن انعقاد الاجماع
على اباحة الوطي مع العلم بعدم الماء محل كلام ، وسيما بعد دخول الوقت ، ووجوب
الالقاء الى التهلكة بعد أمر الشارع غير قليل ، كوجوب تمكين القاتل ولي الدم من
القود ، وتمكين المقذوف من استيفاء الحد ، والله أعلم .
أقول : فرق بين
الضرر المالي المقدور الممكن تحمله لدفع ضرر بدني
__________________
والضرر البدني المظنون أنه يؤدي الى الهلاكة ، أو الوجع الشديد ، والمرض
المديد المانع من كثير من الطاعات والعبادات وتحصيل الكمالات النفسانية والبدنية ،
فان تحمله غير واجب ، بل الواجب عقلا ونقلا دفعه مهما أمكن.
ولذلك رخص
الشارع تغطئة الرأس وأمر بالكفارة ، لان دفع الضرر البدني عنده أهم من دفع الضرر
المالي ، فقياس أحدهما على الاخر قياس معه فارق. ثم من الظاهر أن أحداً من علماء
الامة لم يقل بتحريم الوطي عند العلم بعدم الماء ، وخاصة اذا كان الوطي لدفع ضرر
بدني ، أو غلبة شهوة مشوشة مخرجة عن حد الحضور في العبادات.
قال الصدوق في
الفقيه : وأتى أبو ذر رحمهالله النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله هلكت جامعت على غير ماء ، قال :
فأمر النبي صلىاللهعليهوآله بمحمل فاستترنا به وبماء فاغتسلت أنا وهي ، ثم قال : يا
أبا ذر يكفيك الصعيد عشر سنين .
وهذا صريح في
اباحة الوطي مع العلم بعدم الماء ، وفي الاكتفاء بالتيمم وان طال الزمان كما قال
به المتأخرون.
وأما وجوب
تمكين القاتل والقاذف ، فليس من باب الالقاء الى التهلكة بل هو من باب النجاة منها
، بخلاف ترك التيمم والاتيان بالغسل في الصورة المفروضة ، فانه القاء الى التهلكة
المنهي عنه عقلا ونقلا ، ولا أقل من أن يكون داخلا في باب العسر المنفي بقوله
تعالى ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) .
نمقه بيمناه
الجانية الفانية العبد الجاني محمد بن الحسين المشتهر باسماعيل المازندراني.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (٢٥) محرم الحرام سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(٢٠)
|
|
رسالة
في
أفضلية التسبيح على القراءة في الركعتين الاخيرتين
للعلّامة المحقّق
العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيمِ
الحمد لله الذي
فضل التسبيح على فاتحة الكتاب ، والصلاة على نبيه الذي أوتي فصل الخطاب ، وعلى آله
المعصومين وعترته الممتازين في كل باب.
وبعد : فان
السبب المقدم لنا على تأليف هذه العجالة وترتيب هذه الرسالة أني كنت ليلة من شهر
الله الاعظم في صحبة بعض الاصحاب في دار ضيافة.
فانجر كلامنا
مع بعض الاحباب الى المفاضلة بين القراءة والتسبيح ، فقال : اني كنت منذ مدة كذا
وكذا متحيراً فيه ومتردداً الى أن استخرت بالله ربنا في اختيار أحدهما ، فاستبان
لي أن القراءة أفضل من التسبيح.
قلت : ان
المراد بالافضل هنا الاكثر ثواباً ، وهذا أمر لا يحصل العلم به الا باخبار من
أخبره الله ورسوله بذلك ، وحينئذ فلا بد في زماننا هذا من الرجوع الى الاخبار
المنقولة عن الاخيار ، فما دلت عليه في باب المفاضلة فهو المتبع.
فشرعت في نقلها
وترجيح بعضها على بعض سنداً ومتناً ، مستعيناً بالله ومتوكلا عليه ومفوضاً أموري
كلها اليه.
فأقول وأنا
العبد الضعيف النحيف الفاني الجاني محمد بن الحسين المشتهر باسماعيل المازندراني
عفي الله عنهما : اختلف الاصحاب باختلاف الاخبار في أن القراءة في ثالثة المغرب
والاخيرتين من الظهرين والعشاء الآخرة ، هل هي
أفضل مطلقا من التسبيح ، أو التسبيح أفضل مطلقا منها ، أو هما متساويان في
الفضيلة ، أو القراءة أفضل للامام وللمنفرد التسبيح؟ فذهب الى كل ذاهب منا.
فالاول ذهب
اليه التقي ، لرواية محمد بن حكيم ، وهو وان كان صاحب كتاب ومن
متكلمي أصحابنا ، الا أنهم لم ينصوا فيه بتوثيق ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام أيما أفضل القراءة في الركعتين الاخيرتين أو التسبيح؟
فقال : القراءة أفضل .
والثاني ذهب
اليه ابن ادريس وابن بابويه ، لرواية محمد بن عمران ، قال التقي المتقي في شرحه
على الفقيه : طريق الصدوق اليه حسن وكتابه معتمد .
والظاهر أنه
كان في نسخته قدسسره محمد بن حمران بالحاء المهملة ، فان للصدوق اليه ثلاث
طرق كلها حسن ، وله كتاب معتمد ، ولكن المذكور في نسخ الفقيه هنا محمد بن عمران
بالعين المهملة ، وطريق الصدوق اليه ضعيف ، وهو نفسه مجهول ، ولا كتاب له أصلا ،
معتمداً أم غير معتمد.
قال : سألت أبا
عبد الله عليهالسلام فقلت لاي علة صار التسبيح في الركعتين الاخيرتين أفضل
من القراءة؟ فقال : لان النبي صلىاللهعليهوآله لما كان في الاخيرتين ذكر ما رأى من عظمة الله عزوجل فدهش ، فقال : سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله
والله أكبر ، فلذلك صار التسبيح أفضل من القراءة .
وقال ابن أبي
عقيل : التسبيح أفضل ولو نسي القراءة في الاولتين ، لرواية معاوية بن عمار عن
الصادق عليهالسلام في ناسي القراءة في الاولتين فيذكر في الاخيرتين ،
__________________
قال : اني أكره أن أجعل آخر صلاتى أولها .
وذهب الشيخ في
الاستبصار الى أن الامام الافضل له القراءة ، وهذا هو القول بالتفصيل ، وهو أن القراءة أفضل للامام
وللمنفرد التسبيح ، واستحسنه العلامة في التذكرة ولم يعلله بشيء.
وفي صحيحة
منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : اذا كنت اماماً فاقرأ في الركعتين الاخيرتين
بفاتحة الكتاب ، وان كنت وحدك فيسعك فعلت أو لم تفعل .
وفي رواية جميل
بن دراج قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عما يقرأ الامام في الركعتين في آخر الصلاة ، فقال :
بفاتحة الكتاب ولا يقرأ الذين خلفه ويقرأ الرجل فيهما اذا صلى وحده بفاتحة الكتاب .
وقال ابن
الجنيد : يستحب للامام التسبيح اذا تيقن أنه ليس معه مسبوق ، وان علم دخول المسبوق
أو جوزه قرأ ليكون ابتداء الصلاة للداخل بقراءة والمأموم يقرأ فيهما ، والمنفرد
يجزيه ما فعل.
وذهب الشيخ في
أكثر كتبه الى أنهما متساويان في الفضيلة ، لموثقة علي ابن حنظلة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن الركعتين الاخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال
: ان شئت فاقرأ فاتحة الكتاب ، وان شئت فاذكر الله فهو سواء ، قال قلت : فأي ذلك
أفضل؟ فقال : هما والله سواء ان شئت سبحت وان شئت قرأت .
أقول : علي بن
حنظلة لا قدح فيه ولا مدح ، سوى أنه كان من رواة الباقرين
__________________
عليهماالسلام. ولا يخفى أن سؤاله عن أفضلية أحدهما على الاخر بعد
حكمه عليهالسلام بأنهما متساويان في الفضيلة مما لا محل له ، بل هو مما
يدل على سوء فهمه ، أو عدم اذعانه بما قال الامام عليهالسلام ، ولذلك أكده بالقسم في قوله « هما والله سواء » ومن
هذا شأنه فالاعتماد على روايته مشكل ، فروايته هذه مما يقدح فيه ، فتأمل.
فصل
ظاهر الصدوق
يفيد تعين التسبيح مطلقا للامام والمنفرد ، واستشهد عليه بما رواه باسناده المعتبر
عن الفضل بن شاذان في جملة العلل التي ذكرها عن الرضا عليهالسلام أنه قال : انما جعل القراءة في الركعتين الاولتين
والتسبيح في الاخيرتين للفرق بين ما فرض الله عزوجل من عنده وبين ما فرض الله من عند رسول الله صلىاللهعليهوآله . قيل : ولما كانت الاخبار المتواترة مع الاجماع دالتين على
التخيير بينهما ، فيحمل الخبر على أنه يتعين الحمد فيما فرضه الله ويجوز التسبيح فيما
فرضه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وهذا القدر كاف للفرق .
أقول : وفيه
تكلف ، لان صريح الخبر كما يدل على تعين الحمد فيما فرضه الله يدل على تعين
التسبيح فيما فرضه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فحمل أحدهما على الجواز والاخر على الوجوب لا يخلو من
تعسف ، ودعوى التواتر والاجماع مع مخالفه مثل الصدوق غير مسموعة.
كيف؟ وقد قيل :
لم يتحقق الى الان خبر خاص بلغ حد التواتر الا واحد
__________________
أو اثنين ، حتى قال أبو الصلاح من سئل عن ابراز مثال لذلك أعياه طلبه.
ولا شك أن
الاحوط في مثل هذا الزمان هو العمل بما عليه الصدوق ، لان مثل هذا التكلف لا يجري
في مثل صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام أنه قال : لا تقرأ في الركعتين الاخيرتين من الاربع الركعات
المفروضات شيئاً اماماً كنت أو غير امام ، قلت : فما أقول فيهما؟ قال : ان كنت
اماماً أو وحدك فقل سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله ثلاث مرات تكمل تسع
تسبيحات ثم تكبر وتركع .
الا أن يحمل
النهي فيه على التنزيهي ، ومع ذلك فما نحن بصدد اثباته وهو مرجوحية القراءة
وراجحية التسبيح في الاخيرتين من الاربع وثالثة المغرب ثابت ، وهو ظاهر.
فصل
خبر محمد بن
عمران ، وكذا الفضل بن شاذان معلل ، والخبر المعلل مقدم على غيره ، كما تقرر في
الاصول ، فيلزم اطراح روايتي ابن حنظلة ومحمد بن حكيم ، حيث لا يمكن التوفيق بينهما
وبينهما.
ومنه يظهر وهن
القول بأفضلية القراءة والمساواة.
وأما القول
بالتفصيل ، فان رجح على القول بأفضلية التسبيح مطلقا ، بأن العمل بالدليلين
والتوفيق بينهما يقتضي حمل رواية أفضلية القراءة على الامام وأفضلية التسبيح على
المنفرد ، رجح القول بأفضلية التسبيح مطلقا.
بما في الفقيه
والتهذيب والاستبصار عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن زرارة عن
أبي جعفر عليهالسلام قال : اذا أدرك الرجل بعض الصلاة وفاته بعض خلف امام
يحتسب الصلاة خلفه ، جعل أول ما أدرك أول صلاته ،
__________________
ان أدرك من الظهر أو العصر أو العشاء الركعتين وفاتته ركعتان قرأ في كل
ركعة مما أدرك خلف الامام في نفسه بام الكتاب وسورة ، فان لم يدرك السورة تامة
أجزأته أم الكتاب.
فاذا سلم
الامام قام فصلى ركعتين لا يقرأ فيهما ، لان الصلاة ، انما يقرأ فيها في الاولتين
في كل ركعة بام الكتاب وسورة ، وفي الاخيرتين لا يقرأ فيهما ، انما هو تسبيح
وتكبير وتهليل ودعاء ليس فيهما قراءة ، فان أدرك ركعة قرأ فيها خلف الامام فاذا
سلم الامام قام فقرأ أم الكتاب وسورة ثم قعد فتشهد ، ثم قام فصلى ركعتين ليس فيهما
قراءة .
فانه حديث صحيح
صريح في عدم جواز القراءة ، أو مرجوحيتها في الاخيرتين مطلقاً للامام وللمنفرد.
فان قلت :
المشهور أنه مخير في الاخيرتين بين التسبيح والقراءة ، بل ادعى العلامة في المختلف
اجماع علمائنا عليه ، وهذا يفيد أن القراءة فيهما لا كراهة فيها.
قلت : ليس كذلك
الامر ، لان التخيير بين الافضل والمفضول جائز ، كالتخيير بين الجمعة والظهر على
القول به ، مع كون الاولى أفضل الواجبين ، فتكون الثانية مكروهة ، بمعنى أنها أقل
ثواباً كما فيما نحن فيه ، فان التسبيح أفضل من القراءة مطلقاً ، كما دل عليه كثير
من الاخبار ، فتكون القراءة مكروهة بهذا المعنى.
وأما قول بعض الافاضل
المتأخرين ان القراءة للامام أفضل ، لاحتمال لحوق بعض المأمومين ، والامام في
الحقيقة يقرأ بدل المأموم ، فاذا قرأ فاتحة الكتاب
__________________
فكأنه قرأ المأموم ، ولو لم يقرء فكأنما لم يقرأ المأموم الفاتحة ولا صلاة
الا بها وان كانت قراءة الامام في الاولتين قائمة مقام قراءة المأموم مطلقاً ،
لكنه ان قرأ في الاخيرتين أيضاً كان أتم وأظهر.
وما ورد من نفي
القراءة أو النهي عنها فيهما ، فمحمول على عدم وجوب العيني أو التنزيهي بالنسبة
الى المنفرد ، وبالنسبة الى الامام على عدم وجوب العيني.
فهو مع أنه
مأخوذ من كلام ابن الجنيد وقد سبق محل نظر ، لان خلو صلاة المأموم عن قراءته مما لا
محذور فيه ولا مانع منه ، بل هو كذلك بالنسبة الى من أدرك أول الصلاة فضلا عن
غيره.
وأما قوله عليهالسلام « لا صلاة الا بفاتحة الكتاب » فانما هو في
صورة الانفراد ، وبالنظر الى القادر عليها لا في الجماعة ، مع أن قراءة الامام لما
كانت قائمة مقام قراءة المأموم ، صدق أن صلاته أيضاً مقرونة بقراءة الفاتحة ،
فالحديث على عمومه ، فتأمل.
ولعله قدسسره رام بآخر كلامه أن يجمع بين الاخبار الواردة في المسألة
فتكلف بما ترى ، ودون جمعه خرط القتاد ، كما أشار اليه زين المحققين في
شرحه على اللمعة بعد الايماء الى الروايات الدالة بعضها على أولوية الحمد من
التسبيح مطلقاً ، وبعضها على أفضلية التسبيح مطلقاً ، وبعضها على أفضليته لغير
الامام ، وبعضها على تساويهما.
ثم قال :
وبحسبها اختلفت الاقوال واختلف اختيار المصنف رحمهالله ، فهنا رجح القراءة مطلقا ، وفي الدروس للامام والتسبيح
للمنفرد ، وفي البيان
__________________
جعلهما له سواء ، وتردد في الذكرى بقوله : والجمع بين الاخبار هنا لا يخلو من
تعسف .
وهو كذلك بل لا
بد من رد بعضها وقبول بعض آخر ، كما أشرنا اليه ، فتأمل فيه حقه.
فصل
[
ما يدل من الاخبار على رجحان التسبيح ]
ومما يدل على
رجحان التسبيح خبر رجاء الذي كان مع أبي الحسن الرضا عليهالسلام في طريق خراسان ، قال : وكان يسبح في الاخراوين ، يقول
: سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ثلاث مرات .
وحكم الصدوق بصحته ، فان
مداومته عليهالسلام عليه في الاخراوين دليل على رجحانه ، ولعله عليهالسلام كان يجهر به ، ولذلك سمعه منه الراوي وعد عدده ، فهو
يؤيد القول بعدم وجوب الاخفات فيه.
قال في الذكرى
: هل يجب الاخفات فيه؟ الاقرب نعم تسوية بينه وبين المبدل ونفاه ابن ادريس للاصل
وعدم النص. قلنا : عموم الاخفات في الفريضة كالنص مع اعتضاده بالاحتياط .
__________________
وفيه أن
التسوية بينهما غير لازمة ، ولذلك جوزوا الجهر في صلاة الاحتياط وهي بدل عما يجب
فيه الاخفات. وأما أن عموم الاخفات في الفريضة كالنص ، فغير واضح ، والاحتياط ليس
بدليل شرعي فكيف يعضده؟ بخلاف الاصل فانه دليل شرعي وحجة بالاتفاق.
ويدل على
رجحانه أيضاً مع جواز الجهر فيه صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام قال : كان أمير المؤمنين عليهالسلام اذا صلى يقرأ في الاوليين من صلاة الظهر سراً ويسبح في
الاخيرتين على نحو من صلاته العشاء ، وكان يقرأ في الاوليين من صلاة العصر سراً
ويسبح في الاخيرتين على نحو من صلاته العشاء ، وكان يقول : أول صلاة أحدكم الركوع . والتقريب ما
مر.
وقال التقي
المتقي في شرحه : الظاهر أن المماثلة في الجهر ، فيدل على جواز الجهر في التسبيح ،
كما ذهب اليه جماعة.
أقول : ويدل
على رجحان التسبيح أيضاً صحيحة عبيد الله بن علي الحلبى عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : اذا قمت في الركعتين لا تقرأ فيهما ، فقل الحمد
لله وسبحان الله والله أكبر .
ويظهر منه عدم
وجوب الترتيب وجواز الاكتفاء بثلاث تسبيحات ، والاول استقر به صاحب المعتبر للاصل
، واختلاف الرواية في تعيينه.
وقيل : يجب فيه
الترتيب ، كما صوره في رواية زرارة أخذاً بالمتيقن ، وما في المعتبر لا يخلو من
اعتبار ، وان كان الترتيب على ما ورد به النقل بخصوصه أحوط.
__________________
وصحيحة عبيد بن
زرارة قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الركعتين الاخيرتين من الظهر ، قال : تسبح وتحمد
وتستغفر لذنبك ، وان شئت فاتحة الكتاب فانها تحميد ودعاء .
فانها أيضاً
تدل على رجحان التسبيح ، وجواز الاكتفاء به وبالتحميد والاستغفار كما يدل عليه
وعلى جواز الاكتفاء بتسبيحة واحدة ما رواه العامة عن سيدنا أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال : اقرأ في الاولتين وسبح في الاخيرتين . وهذه الاخبار
يعم الامام والمنفرد ، فلا تغفل.
فصل
[
ما يجزي من التسبيح فى الركعتين الاخيرتين ]
اتفقوا على أنه
يجزئ التسبيح بدل الحمد في ثالثة المغرب والاخيرتين من الظهرين والعشاء الآخرة ،
واختلفوا في قدره :
فالمفيد في
المقنعة أربع تسبيحات ، لصحيحة زرارة عن الباقر عليهالسلام يجزيء في الركعتين الاخيرتين أن تقول : سبحان الله
والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر وتكبر وتركع .
والشيخ في
النهاية والاقتصاد يكرر ذلك ثلاثاً ، فيكون اثنتا عشرة
__________________
تسبيحة. والظاهر أن مستنده خبر رجاء الذي حكم الصدوق بصحته ، وقد سبق في
أول الفصل السابق.
فقول السيد في
المدارك : ولم نقف على مستند لهذا القول لا يقدح فيه ، لان عدم وقوفه عليه ولعله كان لقصوره في
التتبع لا يدل على عدم وجوده.
نعم ليس للقول
بالعشرة باسقاط التكبير في غير الثالثة مستند صريح ، ولعله كان له عليه مستند ولم
يصل الينا ، لتصادم الدول الباطلة وتباين الاهواء العاطلة واندراس بعض الاصول ،
فان من المستبعد أن يحكم بحكم فقيه من فقهائنا عادل ولم يكن له عليه دليل شرعي
يعتمد عليه ، أو تركن نفسه اليه ، فان عدالته مانعة من ذلك.
هذا وقال ابن
بابويه وأبو الصلاح : انه تسع تسبيحات ، لصحيحة زرارة وقد سبقت.
وقال ابن أبي
عقيل : يقول سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر سبعاً أو خمساً ،
وأدناه ثلاث في كل ركعة ، ولم نجد له عليه مستنداً.
ولكن ذكر في
الذكرى أنه لا بأس باتباع هذا الشيخ العظيم الشأن في استحباب تكرار ذكر الله تعالى
، ولعل الوجه فيه ما أومأنا اليه ، والا فالعبادات توقيفية لا بد وأن تكون متلقاة
من الشارع ، ولا يكفي فيها مجرد اتباع الشيخ وان كان عظيم الشأن ، الا أن يكون له
على ما ذهب اليه مستند شرعي.
وعلى أي حال
فالاجود هو الاتيان بالاثني عشر تسبيحة على قصد الوجوب ، وان انضم اليه الاستغفار
، لصحيحة عبيد عن الصادق عليهالسلام : وتستغفر لذنبك . كان أجمل.
__________________
وبالجملة
الواجب هنا أمر كلي يتأدى بالفرد الاضعف والاقوى ، اذ قد تقرر في مقره أن وجود
الكلي في الخارج وتحققه في ضمن جزئياته لا يلزم أن يكون على وجه واحد ، بل قد
يتفاوت بالقوة والضعف.
وأقوى الافراد
هنا الاثنا عشرة ، ثم العشرة ، ثم التسعة ، ثم الاربعة ، بل يظهر من الاخبار أن
مطلق التسبيح كاف ، وانه يجوز الاكتفاء بالتسبيح والتحميد والاستغفار ، بل ثلاث
تسبيحات ، بل تسبيحه واحدة ، الا أن الاحوط هو التسبيحات الاربع مع الاستغفار ،
وان أتى بالتسع مع الاستغفار كان أتم ، وأكمل منه الاثنا عشرة مع الاستغفار ،
والعلم عند الله وعند أهله المصطفين الاخيار صلوات الله عليهم ما بقيت الليل
والنهار.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (٢٦) محرم الحرام سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(٢١)
|
|
رسالة
في
تحقيق وجوب غسل مس الميت
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال صاحب
المدارك فيه بعد نقل قول المصنف قدسسرهما « والواجب من الغسل ما كان لصلاة واجبة ، أو طواف ، أو
لمس كتابة القرآن ان وجب ، أو لدخول المساجد ، أو لقراءة العزائم ان وجبا » : ربما
ظهر من اطلاق العبارة وجوب الغسل لهذه الامور الخمسة في جميع الاحداث الموجبة له ،
وهو مشكل.
ثم فصل المسألة
الى أن قال : وأما غسل المس ، فلم أقف على ما يقتضي اشتراطه في شيء من العبادات ،
ولا مانع من أن يكون واجباً لنفسه ، كغسل الجمعة والاحرام عند من أوجبهما. نعم ان
ثبت كون المس ناقضاً للوضوء اتجه وجوبه للامور الثلاثة المتقدمة ، الا أنه غير
واضح.
وقد استدل عليه
بعموم قوله عليهالسلام : كل غسل قبله وضوء الا غسل الجنابة.
وهو مع عدم صحة
سنده غير صريح في الوجوب ، كما اعترف به جماعة من الاصحاب ومعارض بما هو أصح منه .
أقول : على
القول بوجوب غسل المس ، كما هو ظاهر غير واحد من
__________________
الاخبار ، فكما يحتمل أن يكون واجباً لنفسه ، يحتمل أن يكون واجباً لغيره
من العبادات التي منها الصلاة.
والاحتمالان
هنا متكافئان ، لعدم ما يدل على خصوص أحدهما ، فكما لا مانع من أن يكون واجباً
لنفسه لا مانع من أن يكون واجباً لغيره.
فاذا توضأ
المكلف وضوء الصلاة ، ثم اغتسل غسل المس ، ثم صلى ما وجب عليه من الصلاة مثلا ،
فقد حصل اليقين ببراءة الذمة والخروج عن عهدة التكليف على قول جميع الاصحاب ،
بخلاف ما اذا لم يفعل واحداً منهما ، فانه حينئذ ليس على يقين منهما ، وهو مكلف
بتحصيل البراءة اليقينية اذا كان قادراً عليه ، فيشبه أن يكون هذا منظور المحقق من
اطلاق عبارته ، ولا شك أنه الاحوط ، فخذ الحائط لدينك لتكون في العمل على يقينك.
وقال في الدروس
: ولا يمنع هذا الحدث من الصوم ولا من دخول المساجد على الاقرب ، نعم لو لم يغسل
العضو اللامس وخيف سريان النجاسة الى المسجد حرم الدخول والا فلا .
ويظهر منه أنه
يمنع من الصلاة والطواف ومس كتابة القرآن ومن قراءة العزائم.
وفيه أنه ان
كان كالحدث الاصغر ، فكما لا يمنع من دخول المساجد ، لا يمنع من قراءة العزائم
أيضاً وان كان كالحدث الاكبر ، فكما يمنع من قراءة العزائم يمنع من دخول المساجد
أيضاً ، ولعل المراد أنه لا يمنع من الاجتياز فيها ، وان كان يمنع من اللبث فيها.
ولكن ظاهر قوله
« ولا يمنع من الصوم » يفيد أنه كالحدث الاصغر ، فلا يمنع من اللبث في المساجد ومن
قراءة العزائم ، كما أشار اليه صاحب الرسالة
__________________
الجعفرية بقوله : والواجب من الغسل ما كان لواجب الصلاة والطواف ومس كتابة
القرآن ، أو لدخول المساجد مع اللبث في غير المسجدين ، أو قراءة العزائم ان وجبا
إلا غسل المس.
قال الشارح :
ولما كان مس الميت لا يمنع من دخول المساجد وقراءة العزائم استثني غسل المس من
الحكم المذكور ، لانه كالحدث الاصغر ، فكل عبادة غير مشروطة بالوضوء فهي تقع من
الماس ويجوز له الاتيان بها انتهى.
ويظهر منه أن
مس الميت ينقض الوضوء ويوجب الغسل ، وان الماس لا يجوز له الاتيان بأحد الامور
الثلاثة الاولة الا بعد الاتيان بغسل المس.
وقال الشيخ زين
الدين في شرح الشرائع : ووجوب الغسل لدخول المساجد ثابت في جميع الاحداث الموجبة
له عدا مس الميت ، فانه لا يمنع دخول المسجد قبل الغسل ، ومقتضاه أنه يمنع من دخول
الصلاة والطواف ومن مس كتابة القرآن وقراءة العزائم قبل الغسل ، وهو صريح في كونه
واجباً لغيره ، كما هو أحد احتمالي الاخبار الدالة على وجوبه.
كصحيحة محمد بن
مسلم عن أحدهما عليهماالسلام قال قلت : الرجل يغمض الميت أعليه غسل؟ قال : اذا مسه
بجرارته فلا ، ولكن اذا مسه بعد ما يبرد فليغتسل قلت : فالذي يغسله يغتسل؟ قال :
نعم .
وصحيحة عاصم بن
حميد قال : سألته عن الميت اذا مسه الانسان أفيه غسل؟ قال فقال : اذا مسست جسده
حين يبرد فاغتسل .
وصحيحة اسماعيل
بن جابر قال : دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام حين مات
__________________
ابنه اسماعيل الاكبر ، فجعل يقبله وهو ميت ، قلت : جعلت فداك أليس لا ينبغي
أن يمس الميت بعد ما يموت ومن مسه فعليه الغسل؟ فقال : أما بحرارته فلا بأس انما
ذاك اذا برد .
وصحيحة حريز عن
أبي عبد الله عليهالسلام من غسل ميتاً فليغتسل ، قلت : فان مسه قال : فليغتسل ،
قلت : ان أدخله القبر ، قال : لا غسل عليه .
وصحيحة معاوية
عنه عليهالسلام الذي يغسل الميت عليه غسل؟ قال : نعم ، قلت : فاذا مسه وهو
سخن ، قال : لا غسل عليه فاذا برد فعليه الغسل ، قلت : البهائم والطير اذا مسها
عليه غسل؟ قال : لا ليس هذا كالانسان .
وصحيحة محمد بن
الحسن الصفار كتب اليه رجل أصاب يديه أو بدنه ثوب الميت الذي بلى جلده قبل أن يغسل
، هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع اذا أصاب يدك جسد الميت قبل أن يغسل فقد يجب
عليك الغسل فان هذا الوجوب كما يحتمل أن يكون لنفسه يحتمل أن يكون
لغيره ، مع أن الاول لا ينافي الثاني فقد يجتمع الوجوبان كما في الوضوء عند من قال
بوجوبه لنفسه ، فانه وان كان واجباً في نفسه موسعاً لا يتضيق الا بظن الوفاة ، أو
ضيق العبادة المشروط فيها.
الا أنه قد
يعرض له الوجوب حين ارادة الصلاة باعتبار التوصل به اليها
__________________
وكونه من مصالحها ، كما هو ظاهر الآية ، فان من البين أن هذا القائل لا ينفي عنه هذا الوجوب ،
فليكن الامر فيما نحن فيه كذلك.
بل نقول : لا
يبعد أن يستفاد من قوله عليهالسلام « فقد يجب عليك الغسل » وجوبه لغيره ، اذ لو كان وجوبه
لنفسه لم يدخل عليه قد وقد ، بأن يكون واجباً في وقت دون وقت ، وانما ذلك اذا كان
واجباً لغيره.
لان مسه في غير
وقت العبادة المشروط فيها لا يوجب الغسل في ذلك الوقت وانما يوجبه اذا كان في
وقتها ، أو دخل عليه الوقت ولما يغتسل ، فان المس قبل دخول الوقت كالحدث قبله ،
وهو وان كان من أسباب الغسل الا أنه لا يجب الا بعد دخوله.
والحاصل أنه عليهالسلام أشار بـ « قد » الدالة على التقليل في هذا المحل الى أن
غسل المس انما يجب وقت وجوب العبادة المشروط فيها ، ومقتضاه أنه لو قدمه على ذلك
الوقت لا يكون واجباً لتلك العبادة ، فان كانت الذمة بريئة مع ذلك من عبادة اخرى
واجبة نوى الندب ، وبذلك يثبت ما عليه جل الاصحاب بل كلهم من وجوب غسل المس لغيره
، فتأمل.
والاحوط أن
يكتفي المغتسل هذا في نيته اذا وقع الغسل خارج وقت العبادة المشروط فيها بالقربة ، ليكون
صحيحاً على المذهبين ، فتأمل.
__________________
تتمة
مهمة
المشهور بين
الاصحاب وجوب غسل المس ، وهو الظاهر من الاخبار المذكورة وغيرها ، فانها واضحة
الدلالات على وجوبه ، وخاصة قوله عليهالسلام في صحيحة محمد بن الحسن الصفار « فقد يجب عليك الغسل »
فانه صريح في وجوبه.
فهذا مع قطع
النظر عن الاوامر المذكورة في تلك الاخبار وما في معناها من قولهم عليهمالسلام فعليه الغسل ونحوه كاف في اثبات الوجوب ، فان حمل لفظ
الوجوب على خلاف ظاهره كتأكد الاستحباب من غير قرينة واضحة ولا ضرورة داعية ، تكلف
صرف ، وتعسف بحت ، وخروج عن القاعدة المقررة عندهم ، فان مدار الاستدلال بالايات
والروايات من السلف الى الخلف على الظاهر المتبادر.
قالوا : والقول
بأنهم عليهمالسلام قد يحكمون حكماً ظاهرياً وهم لا يريدونه قول المرجئة ،
فانهم يجوزون أن يعني من النصوص خلاف الظاهر من غير بيان ، ومذهبهم قريب من مذهب
الحشوية ، وهم طائفة يجوزون أن يخاطبنا الله بالمهمل ، لان اللفظ بالنسبة الى خلاف
الظاهر من غير بيان مهمل ، كما تقرر في مقرره ، وصرح به السيد في حواشيه على
الكشاف.
فقول بعض الافاضل
المتأخرين في مقام نصرة مذهب السيد المرتضى ، حيث ذهب الى استحباب هذا الغسل بعد
أن نقل نبذة من تلك الاخبار ، ولا يخفى أن الامر وما في معناه في أخبارنا غير واضح
الدلالة على الوجوب.
فالاستناد الى
هذه الاخبار في اثبات الوجوب لا يخلو عن اشكال الا أن يصار الى ما قيل من أن اطلاق
الواجب على المستحب والنهي على المكروه والحرام
__________________
عليه ، والمكروه على الحرام ، واستعمال ينبغي في الواجب ، ولا يجوز في
المكروه في الاخبار واقع ، والاستبعاد باعتبار الانس باصطلاح الفقهاء والاصوليين
ولكل قوم اصطلاح ، وفيه أيضاً اشكال ، فتأمل فيه ليرفع عنك الاشكال ويظهر لك
الاشكال.
كتبه بيمناه
الجانية الفانية العبد الجاني محمد بن الحسين المشتهر باسماعيل المازندراني عفى
الله عنهما.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (٢٧) محرم الحرام سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد الفقير السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(٢٢)
|
|
رسالة
في
حكم شراء ما يعتبر فيه التذكية
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة ١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيمِ
في التهذيب عن
الحسين بن سعيد عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الفراء أشتريه من الرجل الذي لعلي لا أثق به ،
فيبيعني على أنها ذكية ، أبيعها على ذلك ، فقال : ان كنت لا تثق به فلا تبعها على
أنها ذكية ، الا أن تقول قد قيل لي انها ذكية .
أقول : هذا
حديث صحيح صريح في أن الاصل عدم التذكية ، كما هو المشهور بين الاصحاب ، والا لكان
جائزاً له أن يبيعها على أنها ذكية ، للاصل وسيما اذا انضم اليه اخبار البائع
المسلم ، كما يشمله ترك الاستفصال فانه دليل عموم المقال بأنها ذكية وان كان ممن
لا يثق به ، فانه مؤيد للاصل الذي هو دليل عقلي وحجة بالاجماع.
بل نقول : وفيه
دليل على أن مجرد عدم العلم بعدم التذكية غير كاف في ذلك ، وان انضم اليه اخبار من
لا وثوق به بالتذكية ، وان اخبار الموثوق به كاف في حصول العلم الشرعي بالتذكية
وجواز الاخبار بها من نفسه وان لم يسنده الى غيره ، وذلك بحسب مفهوم الشرط ، وهو
حجة كما ثبت في محله.
ومنه يستنبط أن
خبر الواحد الثقة حجة ، وحينئذ فيجوز له أن يبيعها على
__________________
أنها ذكية من غير أن يقول قد قيل لي انها ذكية. ويؤيد هذا المفهوم ما تقرر
في الاصول أن خبر الواحد العدل حجة في النقليات ، وحينئذ فيجوز للمشتري أن يبيعها
على أنها ذكية كما قلناه.
ولكنه يناقشه
ما تقرر عندهم من أن الاصل في أفعال المسلمين الصحة ، قالوا : وهذه قاعدة ورد بها
النص عن الائمة عليهمالسلام وأجمع عليه العلماء الاعلام ، وعليها مدار تفاريع
الاحكام.
منها : أن
أحداً من المسلمين لو أخبر عن شيء كان نجساً أنه طهره قبل قوله ، لان الاصل في
أقواله الصحة ، اذ القول فعل لساني ، وقد سبق أن الاصل في أفعالهم الصحة.
فان على هذا
الاصل كان ينبغي قبول قوله في اخباره بالتذكية ، ثقة كان أم غير ثقة ، لان ما تقرر
عندهم من القاعدة الوارد بها النص لا اختصاص له بالثقة كما هو واضح ، ومع ذلك لا
فرق بين الإخبارين ، فلم قبل منه الاول دون الثاني؟
لا يقال : لعل
الفرق بينهما أن الاصل في الاشياء هو الطهارة ، فيقبل قوله في الاخبار عنها ،
بخلاف التذكية ، فانها على خلاف الاصل ، فلا يقبل قوله في الاخبار عنها ، وان كان
الاصل في قوله هو الصحة.
لانا نقول :
ولا كذلك الامر ، لان هذا الشيء لما فرض أنه كان نجساً فالاصل بحكم الاستصحاب
بقاؤه على نجاسته حتى يعلم طهره ولم يعلم الا باخباره ، فكما يقبل قوله هنا في
الاخبار عنه ، فليقبل قوله هناك في الاخبار عن التذكية من غير فرق فمن ادعاه فعليه
البيان.
وما في فروع الكافي
في باب نوادر عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام أن أمير المؤمنين عليهالسلام سئل عن سفرة
__________________
وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها وجبنها وفيها سكين ، فقال
أمير المؤمنين عليهالسلام : يقوم ما فيها ويؤكل لانه يفسد وليس له بقاء ، فان جاء
طالبها أغرموا له الثمن. قيل : يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أو مجوسي ،
فقال : هم في سعة حتى يعلموا .
أي : انها سفرة
مجوسي ، فحينئذ يجب عليهم الكف عما فيها.
قال صاحب
البحار قدسسره في حاشيته المعلقة عليه : انه يدل على أن الاصل التذكية
فيما تشترط فيه ، وقد دلت عليه أخبار كثيرة ، والمشهور بين الاصحاب خلافه .
أقول : هذا
الخبر الضعيف دل على أن العلم بالتذكية والطهارة بل الحلية والاباحة
في أمثال ذلك مما لا حاجة اليه ، بل يكفي فيه مجرد عدم العلم بعدم التذكية
والنجاسة والحرمة حتى يعلم أنه غير مذك أو نجس أو حرام ، ويؤيده حديث : الناس في
سعة ما لم يعلموا.
وأما أصالة
التذكية فالاخبار فيها متعارضة ، فبعضها يدل عليها وبعضها على خلافها ، وهو صحيح
كما عرفت ، فاذا تعارضت وتساقطت وجب الرجوع فيه الى ما يقال من أن الاصل في
الحوادث العدم والتذكية منها ، فالاصل فيها العدم ، ولذا اشتهر فيهم مع كثرة
الاخبار الدالة على أصالة التذكية خلافها.
ومنه يظهر أن
الاصل والظاهر وهو ما يفيده اخبار المسلم بأنها ذكية اذا تعارضا قدم الاصل عليه ،
لانه دليل وحجة بالاتفاق ، والظاهر كثيراً ما يخرج الامر بخلافه.
__________________
نعم اذا أخذ
ذلك من يد مسلم وغلب على ظنه التذكية جاز له استعمالها ، بناءً على غلبة الظن
القائم مقام العلم في العبادات.
وعليه يحمل ما
روي عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن شراء اللحم من السوق ولا ندري ما يصنع القصابون ،
فقال : اذا كان في سوق المسلمين فكل ولا تسأل عنه .
وعن الحسن بن الجهم
قال قلت لابي الحسن الرضا عليهالسلام أعترض السوق فأشتري الخف لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال :
صل فيه ، قلت : والنعل ، قال : مثل ذلك. قلت : اني أضيق من هذا ، قال : أترغب عنا
كان أبو الحسن عليهالسلام يفعله .
وعن أحمد بن
أبي نصر قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فرو لا يدري أذكية هي أم غير
ذكية أيصلي فيها؟ فقال : نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر عليهالسلام كان يقول : ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم ان الدين أوسع
من ذلك.
وذلك أن ما
يشترى من أسواق المسلمين من اللحوم والجلود وغيرهما يغلب على الظن أنها ذكية. كما
يدل عليه قوله عليهالسلام في حديث زرارة : اذا كان في سوق المسلمين فكل ولا تسأل
عنه. لان غلبة الظن بكونها ذكية تقوم مقام العلم بها.
وحينئذ فلا
حاجة الى البحث والفحص من أحوالها ، وتجوز الصلاة فيها واستعمالها ، لانا ما رأينا
ولا سمعنا أن أحداً منهم يستعمل جلد ميتة وخاصة جلود الغنم ، فغلبة الظن هنا قائمة
مقام العلم. نعم لو تجرد عن الظن لم يجز له بيعها على أنها ذكية ، بل ولا يجوز له
استعمالها.
__________________
ولذلك قال
الشيخ زين الدين قدسسره في جواب من سأله بهذه العبارة : ما قوله في مثل القربة
والركوة اذا وجد مطروحاً في بلاد المسلمين هل يحكم بطهارته أم يحكم بالنجاسة؟ : ما
لم تثبت التذكية يحكم بنجاستهما ما لم يعلم التذكية.
وعلى هذا
فاستعمال الجلود الجالبة من بلاد المشركين والمخالفين وسيما المستحلين جلود الميتة
بعد دبغها وما يعمل منها من الفروة والفراش والسرج والدلو والقرابة والراوية
والرسن والكتب المجلدة وغيرها مما لا يحصى اذا لم يغلب على ظنه التذكية مشكل.
وليس بناء هذه
الاخبار على أصالة التذكية كما ظن ، ولا على أن مجرد عدم العلم بعدم التذكية يكفي
في ذلك ، كما توهمه ظواهر هذه الاخبار ، بل هي مبنية على ما قدمناه من أن غلبة
الظن بكونها ذكية تقوم مقام العلم بالتذكية ، فيجوز الاخذ بها في العبادات.
فما قيل من أنا
نحكم بطهارة كل ما في أيدي المسلمين وان لم نسألهم ، لان الاصل الطهارة واستنده
برواية زرارة ، ثم قال : وكذا ما في أيديهم من الجلود نحكم بأنها ذكية طاهرة وان
لم نسألهم واستنده بروايتي ابن الجهم وابن أبي نصر محل تأمل ، اذ لا دلالة لهما
على ما ادعاه.
أما الاولى
فلان غاية ما دلت عليه هو أن ما يشترى من اللحم في سوق المسلمين فهو حلال مباح أكله
، ولا حاجة الى السؤال عن حاله هل هي ذكية أم لا؟ بناءاً على غلبة الظن بأنه ذكية.
وأما الثانية
فالكلام فيها كالكلام في الاولى ، لان جواز الصلاة في مثل هذا الخف والفروة
المشتراة من سوق المسلمين وعدم الحاجة الى المسألة عن حالها مبني على غلبة الظن
بكونها ذكية لكونها مشتراة من سوق المسلمين ، فان أراد
ذلك فهو كذلك ، وان أراد دلالتها على أن الاصل فيما يشترط فيه التذكية هو
التذكية فهو ممنوع.
واعلم أن
الظاهر من خبر السكوني عدم الحاجة الى تعريفها بعد تقويمها وأكل ما فيها ، بل غاية
ما دل أن طالبها ان اتفق ان جاء أغرم له الثمن والا فلا ، وان التصرف في مال الغير
بغير اذنه اذا كان في عرضة الفساد والتلف جائز.
والمشهور بين
الاصحاب أن كل عين لا بقاء لها كالطعام ، فانه يتخير بين دفعها الى الحاكم
وتقويمها على نفسه ثم تعريفها ، ويمكن حمل الخبر عليه ، فتأمل.
ثم اعلم أن
الاصل يقال لكون الشيء أولى ما لم يعارضه شيء يقتضي العدول عنه ، ويعبر عنه بما
لا يصار عنه الا بالدليل ، كذا ذكره المحقق في القديمة. وقد يقال على القاعدة
والضابطة ، وعلى الكثير الراجح في نفسه في الاعتبار ، كما يقال الاصل في الكلام هو
الحقيقة.
وعلى هذه
المعاني فالاصل في بلاد الاسلام في الجلود واللحوم السوقية والمطروحة في الطريق هو
التذكية ، الا أن يكون هناك صارف عنها ، كما اذا كان في بلد يستحل أهله جلود
الميتة بعد دبغها ، وفي بلاد الكفر عدمها.
لان قاعدة أهل
الاسلام وضابطتهم وكذا الكثير فيهم والاولى بهم هو التذكية ، لانها المعهود منهم ،
فيغلب على الظن أنها ذكية ، فلا يصار عنه الا بدليل.
ولذا نظن بل
نتيقن اذا رأينا دلواً أو قربة أو راوية أو رسناً ونحوها من الجلود مطروحة في
الطريق أنها ذكية ، الا أن يصرف عنها صارف. وأما في بلاد الكفر وبلد يستحلون جلود
الميتة بدبغها ، فالامر فيها بالعكس.
قال الفاضل
العلامة في جواب من سأله بهذه العبارة : ما يقول سيدنا العلامة في أهل بلد يقولون
بطهارة جلد الميتة بالدباغ هل يجوز شراء الجلود وما يعمل
منها من أسواقهم والصلاة فيها اذا لم يعلم أنه جلد ميتة أم لا؟ : شرط جواز
استعمال الجلد العلم بالتذكية أو أخذه ممن لا يستحل استعمال جلد الميتة بالدبغ
وبغيره من المسلمين انتهى كلامه طاب منامه.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في أول محرم سنة (١٤١١) هـ ق في مشهد مولانا الرضا عليهالسلام على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(٢٣)
|
|
رسالة
في
حكم لبس الحرير للرجال في الصلاة وغيرها
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على
ما أخرج من الزينة ، وأحلها لامائه وعباده ، وشدد النكير على من حرمها عليهم في عتوه وعناده ،
والصلاة على أشرف من نصبه حجة في أرضه وبلاده محمد وأوصيائه المرضيين من أحفاده
وتلاده.
وبعد : فهذه
جملة وافية فيما يتعلق بهذه المسألة التي اختلفت فيها آراء الاصحاب باختلاف ما نقل
اليهم من الاخبار المروية عن ساداتهم المعصومين الاطياب ، حررتها اجابة لبعض
اخواني في الدين ، وشركائي في طلب الحق واليقين ، فان أصبت فيها فمن الله ، وان
أخطأت فمن عند نفسي ، عصمنا الله من الخطأ والزلل كائنا ما كان منهما في القول
والعمل ، انه ملهم العقل وملقن الصواب ، ومنه المبدأ واليه المآب.
قال الحضرة
العالمية العاملية صدر المحققين وبدر المدققين مولانا الفاضل آخوندنا أحمد
الاردبيلي المجاور بالمشهد المقدس الغروي على مشرفه السلام ومجاوره رحمة الله
وبركاته الى يوم القيام في شرحه على الارشاد ، بعد قول مصنفه العلامة قدس رمسه : «
ويحرم الحرير المحض على الرجال الا التكة والقلنسوة » ثم قال :
__________________
« ويجوز الكف به ».
الظاهر أن عدم
جواز الصلاة للرجال بل عدم اللبس الا في الحرب والضرورة مما لا خلاف فيه ، وعليه
الاخبار أيضاً ، مثل صحيحة اسماعيل بن سعد الاشعري الثقة ، قال : سألته عن الثوب
الابريسم هل يصلى فيه الرجال؟ قال : لا . ولا يضر الاضمار كما مر.
ومكاتبة محمد
بن عبد الجبار الثقة في الصحيح قال : كتبت الى أبي محمد عليهالسلام أسأله هل يصلى في قلنسوة حرير محض وديباج ، فكتب : لا
تحل الصلاة في حرير محض . ولا تضر الكتابة لما مر ، وغيرهما من الاخبار.
فيحمل صحيحة
محمد بن اسماعيل بن بزيع ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن الصلاة في ثوب ديباج ، فقال : ما لم تكن فيه
التماثيل لا بأس . على الممتزج أو الضرورة أو الحرب ، بحمل المطلق على
المقيد الوارد في الاخبار والاجماع ، مع أنه قد يكون الديباج غير الحرير ، كما كان
في الخبر السابق اشارة اليه من حيث العطف عليه.
وأما استثناء
التكة والقلنسوة ونحوهما مما لا تتم الصلاة فيه ، فلا يظهر وجهه بل ظاهر الاخبار
هو التحريم ، والمكاتبة صريحة في تحرم القلنسوة ، وهي العمدة في الاخبار في هذه
المسألة.
وكذا صحيحة
محمد بن عبد الجبار الثقة ، قال : كتبت الى أبي محمد عليهالسلام أسأله هل يصلى في قلنسوة عليها وبر ما لا يؤكل لحمه أو
تكة من حرير محض أو تكة من وبر الارانب. فكتب : لا تحل الصلاة في الحرير المحض ،
وان كان
__________________
الوبر ذكياً حلت الصلاة فيه .
وفي هاتين
المكاتبتين دلالة واضحة على عدم الجواز في مثل التكة والقلنسوة مما لا تتم الصلاة
فيه.
فلا تعارضهما
مشافهة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : كلما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة
فيه ، مثل التكة الابريسم والقلنسوة والجورب والزنار يكون في السراويل يصلى فيه .
لصحتهما ،
وعموم صحيحة مشافهة اسماعيل المتقدمة ، وضعف سند هذه بأحمد ابن هلال ووحدتها ،
واطلاقها فيحمل على المقيد بالممتزج أو الضرورة أو الحرب وما مر من الاصل وغيره لا
ينفع ، فالتحريم أوضح ، وهو مذهب البعض .
أقول : وبالله
التوفيق ظاهر كلام المصنف العلامة يفيد حرمة الحرير المحض على الرجال مطلقاً من
غير اعتبار حال دون حال ووقت دون وقت ، فيعم أوقات الصلاة وغيرها وحال الحرب
والضرورة وغيرهما.
ولعله مقيد
بقولنا « الا ما أخرجه الدليل » فلا ينافي جواز لبسه حال الحرب والضرورة ، لما روي
أن رجلا من الصحابة يقال له عبد الرحمن بن عوف كان قملا فرخصه رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يلبسه .
ولعله قدسسره أشار باستثناء ما استثناه الى أن النهي الوارد في الاخبار
عن لبسه على الرجال انما هو محمول على الكراهة دون الحرمة لما ستعرفه ، وانما يدل
على حرمة لبسه عليهم اجماع الاصحاب ، وهو لا يعم تلك المستثنيات ونحوها
__________________
مما لا تتم الصلاة فيه وحده ، فهو باق على اباحته الاصلية السالمة عن
المعارض.
أو الى أن
هاتين المكاتبتين وان دلا على حلية الصلاة في التكة والقلنسوة الحريرين ، والظاهر
من نفي الحلية ثبوت الحرمة ، الا أنهم كثيراً ما يعبرون عن الكراهة بالحرمة كما
سيأتي ، فلا تعارض بينهما وبين مشافهة الحلبي ، وقد صرح بذلك في التذكرة ، فانه
بعد ذكر مشافهة الحلبي جمع بينها وبينهما بحملهما على الكراهة.
حيث قال :
الاقوى جواز مثل التكة والقلنسوة من الحرير ، لقول الصادق عليهالسلام : كل ما لا يجوز الصلاة فيه وحده لا بأس بالصلاة فيه ،
مثل التكة والقلنسوة والخف والزنار يكون في السراويل ويصلى فيه .
وفي رواية محمد
بن عبد الجبار وقد كتب الى أبي محمد عليهالسلام هل يصلى في قلنسوة حرير محض أو قلنسوة ديباج ، فكتب :
لا تحل الصلاة في حرير محض يحمل على الكراهة انتهى كلامه رفع مقامه.
وفوق هذا كلام
مسبوق بمقدمة هي أن اجتماع الضدين وان كان محال الا أن ارتفاعهما ليس بمحال.
وبعد تمهيدها
نقول : ان الحلال والحرام لما كانا ضدين ، كما صرح به أهل اللغة ، كصاحب القاموس وصاحب النهاية
.
وهذا مما يساعده
قانون العقل أيضاً ، اذ الخلاف الذي بين الحلال والحرام ليس فيما بين سائر الاقسام
، فان المكروه لا يعاند الحرام معاندة الحلال ، كما لا يعاند الحلال معاندة الحرام
، فنفي أحدهما لا يستلزم ثبوت الاخر ، لجواز الواسطة
__________________
بينهما ، فيجوز أن لا تكون الصلاة في التكة والقلنسوة الحريرين حلالا ولا
حراماً بل تكون مكروهة لا بد لنفيه من دليل.
فقوله رحمهالله والمكاتبة صريحة في تحريم القلنسوة ، وكذا صحيحة محمد
ابن عبد الجبار الثقة ممنوع ، وكذا قوله في هاتين المكاتبتين دلالة واضحة على عدم
الجواز في مثل التكة والقلنسوة مما لا تجوز الصلاة فيه ممنوع ، والسند ما سبق.
وبهذا التوجيه
أيضاً يرتفع التعارض بينهما وبين مشافهة الحلبي ، فهذا جملة من الكلام وافية في
المرام ، وهو وجه استثناه ما استثناه فقهاؤنا الكرام رفع الله درجاتهم في دار
المقام.
وان اشتهيت
تفصيل هذه الجملة ، فاستمع ما ذا أقول لك أيها الاخ العلام : ان الذي يقتضيه قانون
العمل بالاخبار والتوفيق بينها اذا تعارضت ، كما هو طريقة العلماء الاخيار ، اباحة
لبس الحرير المحض مطلقاً ، والصلاة فيه كذلك على كراهة بحمل ما دل على النهي عنه ،
وعدم حل الصلاة فيه عليها.
فان وروده بهذا
المعنى كثير شائع ذائع في أخبار الصادقين سلام الله عليهم أجمعين ، حتى كأنه صار
حقيقة عرفية فيه ، ومجازاً في الحرمة.
وانما وجب حمله
عليه لانه معارض بأقوى منه ، فان صحيحة ابن بزيع المشافهة كما ترى قد دلت على
اباحة الصلاة في ثوب ديباج على كراهة ، كما يشعر بها قوله عليهالسلام « لا بأس » اذ المشهور أن نفي البأس يوهم البأس ، كما
صرح به الشهيد الثاني رحمهالله في الدراية .
والديباج هو
ثوب متخذ من الابريسم على ما في النهاية الاثيرية .
__________________
وفي شرح مولانا
التقي النقي المجلسي على من لا يحضره الفقيه : الديباج معرب ديبا ، وهو الحرير
الدقيق ويقال له : والا . انتهى كلامه رفع في عليين مقامه.
وأما الذي دل
على عدم الاباحة ظاهراً ، فهو وان كان صحيحاً أيضاً ، الا أنه بين مضمر ومكاتبة ،
وحالهما عند المشافهة ظاهرة ، فان المكاتبة على تقدير حجيتها أنزل من
المشافهة ، حتى أنهم يرجحون ما روي بالسماع على ما روي بالمكاتبة ، مع تساويهما في
الصحة وغيرها من المرجحات ، فمقتضى قانون العمل بالاخبار أن يأول أضعف الخبرين
المتنافيين في الدلالة الى ما يوافق الاقوى منهما ، لا أن يعكس الامر كما فعلوه.
فان قلت : لعل
الباعث لهم على ذلك هو اجماع الطائفة الناجية.
قلنا : كلامنا
الان في دلالة الاخبار ومقتضاها ، والتوفيق بينها على قواعدهم مع قطع النظر عن
الاجماع ومقتضاه ، فانه على تقدير ثبوته انما انعقد على حرمة ما عدا تلك
المستثنيات ، كما ستقف عليه إن شاء الله العزيز.
وانما قلنا
ظاهراً لان دلالته عليه ليست بصريحة ، لما سبق أن نفي الحلية لا يستلزم ثبوت
الحرمة ، بل غايته الكراهة.
ولئن سلمنا ذلك
، ولكن لا نسلم أن المراد بالحرام هنا ما يلزم فاعله ويعاقب كما هو المعروف بين
الاصوليين ، بل المراد به المكروه.
__________________
قال العالم
الرباني مولانا أحمد الاردبيلي رحمهالله في شرحه على الارشاد : بالغ ابن الجنيد وحرم في ظاهر
كلامه الصلاة في ثوب علمه حرير ، بل حرم الدبج أيضاً ، ثم قال : الا أن يكون
المراد الكراهة ، فانهم كثيراً يعبرون عنها بالتحريم .
أقول : فأي
مانع أن يكون مراده بتحريم الصلاة في التكة الابريسم والقلنسوة والجورب ونحوها مما
لا تتم الصلاة منفرداً أيضاً الكراهة ، فيكون موافقاً لسائر الاصحاب ونعم الوفاق.
والمفيد في
المقنعة وان لم يستثن في ظاهر كلامه شيئاً مما استثناه غيره ، لكنه لم يصرح فيه
بتحريم الصلاة في شيء منه ، بل أبهم الامر وأجمله. فكلامه كما يحتمل هذا كذلك
يحتمل ذاك ، بل ربما يشعر بتوقفه فيه.
فينحصر المخالف
في هذه المسألة على الظاهر في محمد بن بابويه ، وهو قدسسره لكونه أخبارياً بل ظاهرياً قد يفرط في الحكم ، فتارة
يحكم بوجوب ما ليس بواجب ، كما في القنوت وسورة الجمعة والمنافقين وما شاكلها ،
واخرى يحكم بحرمة ما ليس حرام ، كما في مسألتنا هذه وفي ثوب محشو بالابريسم وما
شابهها كما سيأتي هذه الجملة مفصلا بعون الله تعالى وحسن توفيقه.
ثم حمل صحيحة
ابن بزيع على الضرورة أو الحرب ، كما حملها عليهما الشيخ في التهذيب ، وتبعه
الفاضل الاردبيلي قدس أسرارهما وقال كما قال ونعم ما قال من قال : لم يبق للامامية
مفت على التحقيق بل كلهم حاك.
بعيد ، ينافره
قوله « ما لم تكن فيه التماثيل » فان بالضرورة كالبرد الشديد المسقط للتكليف كما
يباح الحرمة ، فبطريق أولى أن يباح به الكراهة ، والصلاة
__________________
في الثوب الذي فيه التماثيل مكروهة من غير فرق بين صورة الحيوان وغيره ،
كصور الاشجار وغيرها.
والحرب على ما
يفيده ظاهر المعتبر يجري مجرى الضرورة ، وأبعد منه حملها على الممتزج كما حملها
عليه الشيخ في التهذيب أيضاً ، لان الديباج كما عرفته لا يطلق عليه ، وابن بزيع لا
يسأل عنه ، لانه فاضل له كتب ، فكيف يكون هذا منه موضع سؤال ، وجواز الصلاة في
الحرير الممتزج اجماعي.
وأيضاً فان نفي
البأس عن الصلاة في ثوب ديباج مطلقا مع كونه مشروطاً بشرط لا يدل عليه اللفظ بعيد
جداً ، بل ربما كان قبيحاً ، فيمتنع صدوره من الحكيم وكيف يصح منه تقييده بنفي ما
لا مدخل له في صحة الصلاة ، بل غايته الكراهة وعدم تقييده بما له مدخل فيها ، وهو
شرط لصحتها ، فان الامتزاج أو الضرورة أو الحرب على هذا الجمع والتوفيق شرط لصحة الصلاة
في هذا الثوب ، واللفظ لا يدل عليه بوجه.
ونظير هذا يرد
على ما حمل رحمهالله مشافهة الحلبي عليه ، فتأمل فيه تعرف.
وبوجه آخر : لو
سلمنا أن الاضمار غير مضر ، بناءاً على أن اسماعيل بن سعد بن الاحوص الاشعري القمي
الثقة من أصحاب سيدنا أبي الحسن الرضا عليهالسلام فالظاهر أنه المسؤول لا غيره.
ولكن لا نسلم
دلالته على عدم جواز صلاة الرجل في الثوب الابريسم ، بمعنى بطلانها فيه ، لان
النهي في العبادات انما يفسدها اذا كان للتحريم ، والظاهر أن النهي هنا للتنزيه ،
كما يدل عليه قوله عليهالسلام في صحيحة ابن بزيع : لا بأس بالصلاة في الثوب الديباج
ما لم تكن فيه التماثيل .
وبذلك يحصل
التلاؤم بين هاتين الصحيحتين المشافهتين كلتيهما من مولانا
__________________
أبي الحسن الرضا عليهالسلام لا بما تكلفه رحمهالله تبعاً للاخرين.
وأما حديث المطلق
والمقيد ، فنحن نقول به ونعمل بمقتضاه ، لانا نقول في صورة ثبوت هذا القيد ، وهو
الضرورة ، أو الحرب ، أو الامتزاج ، تزول الكراهة بالكلية ، وفي صورة انتفائه
تثبت.
ومما يؤيد جواز
الصلاة في الحرير المحض ، اطلاق القول في قوله تعالى ( خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) وعدم الزينة المفهوم من قوله تعالى ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبادِهِ ) .
والقول بتقييد
اطلاق الاوامر وتخصيص الزينة بالاخبار المتقدمة ، مجاب بأن هذه الاخبار غير منافية
له ، لكونها محمولة على الكراهة توفيقاً بينها وبين ما ينافيها. نعم لو ثبت
الاجماع على منعه ، فهو المتبع ، وهو المقيد والمخصص ، لكنه لا يعم تلك المستثنيات
كما ستعرفه.
وأما ما ذكره
من مغايرة الديباج الحرير مستدلا عليه بأنها مما يقتضيه عطفه عليه في الخبر السابق
، ففيه ما عرفته ، أولا : أنه يجوز أن يكون ديباج عطفاً على قلنسوة لا على حرير ،
فيكون المسؤول عنه أولا هو الصلاة في قلنسوة حرير محض.
وثانياً : هو
الصلاة في ديباج أعم من أن يكون قلنسوة أو ثوباً أو غيرهما ، ولما سبق السؤال عن
القلنسوة ، تعين أن يكون المراد هنا هو الثوب ونحوه ، فيندفع ما ذكره من دلالة
العطف على مغايرة الديباج الحرير.
وثالثاً : أنه
من باب عطف الخاص على العام يبثها على موضع الاهتمام ، يدل عليه ما قال آخوندنا
الفاضل التقي رحمهالله في شرحه على الفقيه بعد قول مصنفه « وقال أبي في رسالته
الي : ولا تصل في ديباج » : وهذا تعميم بعد
__________________
التخصيص .
فانه صريح فيما
قلناه ، ولكنه تخصيص بعد التعميم ، هذا شائع في محاورات الفصحاء ، ذائع في كلمات
البلغاء ، مع أن مطلق العطف لا يدل على المغايرة ، فان من أقسامه عطف الشيء على
مرادفه ، كما في ( إِنَّما أَشْكُوا
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ) و ( لا تَرى فِيها
عِوَجاً وَلا أَمْتاً ) وما شاكل ذلك.
ورابعاً : أن
الديباج لو كان غير الحرير ، كما استفاده قدسسره من العطف لزم منه أن لا يكون قوله « لا نحل الصلاة في
حرير محض » جواباً عنه ، فيكون هذا السؤال غير مجاب عنه من غير وجه ، وهو عليهالسلام كان مسؤولا عنه.
وخامساً : أنه
يلزم منه أن لا يكون لتخصيص السائل خصوص الديباج وهو غير حرير بالذكر وجه ظاهر ،
وهو رجل فاضل معمر أدرك من الائمة ثلاثة أو ستة ، مع أنه لا
يتصور لسؤاله عنه منشأ غير كونه حرير ، ولذلك أجاب عنه الامام عليهالسلام بجواب واحد.
واعلم أن
المكاتبة الاولى موجودة في نسخ شرحه بدون لفظة قلنسوة قبل
__________________
ديباج كما سبق ، والشيخ الطوسي في التهذيب ، ومحمد بن
يعقوب الكليني في فروعه ، والعلامة الحلي في التذكرة وغيرهم ، رووها بزيادة
كلمة قلنسوة قبله ، وعلى هذا فلا نحتمل ما احتملناه أولا. وأما البواقي فبحالها ،
وما علمت الى الان أنه رحمهالله من أي أصل أو كتاب نقلها ، وبعيد أن يكون هذا التصرف
منه رحمهالله ، فانه مخل بالمقصود كما عرفت.
وقد عرفت أن
هذه المكاتبة التي هي العمدة في الاخبار في هذه المسألة كما اعترف به قدسسره لا صراحة فيها بتحريم القلنسوة من الحرير ، بل هي بين
الحرمة والكراهة ، والكراهة أولى بها لما في رواية أخرى من جواز لبس هذه القلنسوة
، فليحمل هذه المكاتبة على الكراهة توفيقاً بينهما.
وكذا الكلام في
المكاتبة الثانية ، فانه ذكر في التهذيب فيها مكان أو يكون من حرير محض « أو تكة
حرير » وهو الموجود في غيره أيضاً ، وعلى هذا ففيها دلالة على
كراهة الصلاة في تكة من الحرير لا في قلنسوة منه على ما هو الموجود في نسخ شرحه رحمهالله.
فان قلت :
اللازم من نفي الحلية ثبوت الحرمة دون الكراهة.
قلت : هذا
اللازم ممنوع ، كما عرفت من ثبوت الواسطة بين المتضادين ، وانما يلزم ذلك فيما اذا
كان الحلال أو الحرام على طرفي النقيض ، وليس كذلك ، بل لو صرح بالحرمة بخصوصها
وقيل : تحرم الصلاة في حرير محض لكان من الواجب حملها على الكراهة جمعاً بين
الاخبار.
فان كون المراد
بها هنا ما هو مصطلح الاصوليين غير مسلم ، وان استعمال
__________________
الحرمة في الاخبار في الكراهة شايع ، منه « محاش النساء على أمتي حرام » وله نظائر.
ومنه يعلم أن
حمل كراهة لبس الحرير الواردة في الاخبار كخبر جراح المدائني عن أبي عبد الله
الصادق عليهالسلام أنه كان يكره أن يلبس القميص المكفوف بالديباج ، ويكره
لباس الحرير على الحرمة ، كما فعله صاحب المدارك تبعاً للاخرين ، مع أن
الكراهة لا نستلزم الحرمة بخلاف العكس ليس بأولى من حمل الحرمة المذكورة فيها ،
كقوله : حرام على ذكور أمتي ، على الكراهة ، بل هذا أولى منه لما عرفته.
ثم القول بعموم
صحيحة اسماعيل وشمولها نحو التكة والقلنسوة والازار والاعلام وغيرها مما لا تتم
الصلاة فيه منفرداً ، ممنوع لعدم صدق ثوب الابريسم عليه ، وهو المنهي عنه في هذه
الصحيحة أن يصلي فيه الرجال.
فان قلت :
الثوب في اللغة اللباس كما في القاموس وغيره ، واللباس صادق على أمثال ذلك.
قلت : صدق
اللباس على مثل التكة والزر والكف ونحوها ممنوع اذ لا يقال فلان لبس التكة أو الزر
أو الكف وما شاكله ، والعرف كما تقرر عندهم مقدم في فهم الحديث على اللغة لو سلم
له أن اللباس فيها صادق على ذلك المذكور ، نعم يمكن أن يقال : ان في العرف يطلق
اللباس على مثل القلنسوة ، ولكن القول
__________________
باطلاقهم الثوب عليه سمح.
هذا على تقدير
وجود ما يدل على عموم تحريم اللبس ، وهو ممنوع بل لا دليل عليه من جهة الخبر كما
تعرفت ، والاجماع عليه غير ظاهر ، كيف وأكثر الاصحاب على اباحته.
والظاهر أن
المراد بالثوب في صحيحة اسماعيل ما هو المذكور في التهذيب في باب ما تجوز الصلاة
فيه من اللباس وما لا تجوز الصلاة فيه من ذلك في رواية صفوان بن يحيى عن يوسف بن
ابراهيم عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام قال : لا بأس بالثوب أن يكون سداه وزره وعلمه حريرا ،
وانما كره الحرير البهم للرجال .
ثم رواية
الحلبي وان كان في طريقها أحمد بن هلال العبرتائي ، وهو غال الا أن العصابة عمل
بروايته فيما يرويه عن ابن أبي عمير أو الحسن بن محبوب على ما ذكره العلامة في
المختلف ، فهي اذن صالحة لتأسيس الحكم فضلا عن تأكيده.
والعمل بها
مشهور في الجملة ، ولكنه انما يتم لو ثبت أن شهرة كانت قبل زمن الشيخ الطوسي ، وهو
مشكل ، فان من قبله كان بين مانع من العمل بخبر الواحد مطلقاً وجامع للاخبار من
غير الثقات الى تصحيح ما يصح ورد ما يرد ، فالعمل بمضمون الخبر الضعيف على وجه
يجبر ضعفه كأنه غير متحقق ، ولكن الشيخ في الفهرست صرح بأن
الاخبار الضعيفة ما هو معتمد بين الطائفة ، وعد منه خبر أحمد بن هلال ، وهذا عذر
واضح لهم في العمل بها.
ثم من الغريب
قولهم باطلاق هذه الرواية ، ثم بحملها على المقيد بالممتزج وكيف يصير هذا الحكم ،
وهو جواز الصلاة فيما لا تجوز الصلاة فيه وحده
__________________
اذا كان من الابريسم الممتزج موضع افادة من المعصوم ، وما تجوز الصلاة فيه
وحده أيضاً اذا كان منه تجوز الصلاة فيه بلا خلاف؟ فأي اختصاص لهذا الحكم بهذا
المحكوم عليه.
وبالجملة كما
لا معنى لقول القائل ما لا تتم الصلاة فيه وحده اذا كان من الابريسم الممتزج تجوز
الصلاة فيه ، فان ما تتم الصلاة فيه وحده أيضاً كذلك ، كذلك لا معنى لهذا القول ،
بل هو هو هذا.
وقال صاحب
المدارك فيه بعد نقل قول المحقق رحمهالله « وفيما لا تتم الصلاة فيه منفرداً كالتكة والقلنسوة
تردد ، والاظهر الكراهة » : هذا قول الشيخ في النهاية والمبسوط وابن ادريس وأبي
الصلاح ، ومستنده رواية الحلبي ، وفي الطريق ضعف ونقل عن المفيد وابن الجنيد وابن
بابويه أنهم لم يستثنوا شيئاً ، وبالغ الصدوق في الفقيه ، فقال : ولا تجوز الصلاة
في تكة رأسها من إبريسم.
ثم قال : ويدل
عليه عموم الاخبار المانعة من الصلاة في الحرير ، وصحيحتا محمد بن عبد الجبار.
وأجيب عنه بأن
هذا خبر عام وخبر الحلبي خاص والخاص مقيد ، وهو غير جيد لان ابتناء العام على
السبب الخاص يجعله كالخاص في الدلالة على ذلك السبب ، وحينئذ فيتحقق التعارض ويصار
الى الترجيح ، وهو مع الرواية المانعة ، لسلامة سندها وضعف الرواية المنافية .
وفيه ما سبق
أنه لا تعارض بينهما حتى يصار الى الترجيح ، ثم يطرح المرجوح ويؤخذ الراجح ، لان
صحيحتي محمد الخاصتين في الدلالة على ذلك السبب محمولتان على الكراهة ، فلا ينافيهما
رواية الحلبي كما يفيده ظاهر المحقق رحمهالله أيضاً ، وذلك لان خبر الحلبى بخصوصه لا يمكن أن يكون
مستند الكراهة ، ولا منشأ التردد ، اذ لا
__________________
دلالة فيها على الكراهة ، بل التوفيق بينها وبين الصحيحتين وأمثالهما مما
ينشأ منذ ذلك ، فهو رحمهالله أيضاً حملهما على الكراهة لذلك.
ثم لا يبعد أن
يقال أن مشافهة الحلبي أرجح من مكاتبة محمد بن عبد الجبار من وجوه :
منها : أن
العمل بها أخف وأيسر ، واليه مراد الله.
ومنها : أن مع
العمل بها يمكن العمل بمكاتبة محمد بتنزيلها على الكراهة ولو عمل برواية محمد لم
يكن لرواية الحلبي محل ، وفي حملها على الممتزج أو الضرورة أو الحرب ما عرفته.
ومنها :
مطابقتها لمقتضى الاصل والعمومات الدالة على عدم تحريم الزينة ، وموافقتها لاطلاق
الاوامر القرآنية.
ومنها : أن
المكاتبة على تقدير صحتها وحجيتها وكونها مجزوماً بها أنزل من المشافهة فلا
تعارضها ، كما مر اليه الايماء.
ومنها : أن
الحلبي أشهر في العلم والعدالة من محمد ، والاعدل مقدم.
وأما ضعف
روايته بأحمد بن هلال اذ السند تابع لاخس الرجال ، فمنجبر بعمل ابن الغضائري
بروايته ، وبتوثيق النجاشي له ، وبأنها معتمدة بين الطائفة والعمل بها مشهور فيهم
في الجملة ، ومع قطع النظر عن ذلك كله ، والقول بتساويهما فغايته التعارض والتساقط
، فتبقى لنا الاباحة الاصلية السالمة عن المعارض فعليك بالتفكر والتدبر في المقام
بعد احاطتك بأطراف الكلام ، والله الموفق والمعين على تحصيل المرام.
هذا ومن الغريب
أن بعض من عاصرناه وهو من الفحول قد تلقى ما ذكره صاحب المدارك بالقبول وذهب عنه
ما قد قال قبيل ذلك في مقام الرد على من قال الظاهر جواز الصلاة في ثوب ازراره
واعلامه حرير وجواز لبسه ، وقد توقف
في ذلك كثير من الاعلام ، بل حكم بعض بعدم صحة الصلاة أو اعادتها ويلزمه
حرمة لبسه مطلقاً ، وبالغ بعض واحتاط في خياطة الثياب بالابريسم ، ولا وجه لذلك
كله على الظاهر.
لنا : الاصل
الخالي عن المعارض المؤيد برواية الحلبي ، وانما قلنا بخالي عن المعارض مع أنه قد
ورد صحيحاً أنه لا تحل الصلاة في حرير محض ، والظاهر من نفي الحلية كالجواز
والاباحة الحرمة دون الاعم منها ومن الكراهة. لانا لا نسلم شمول الخبر ما نحن فيه
، كما شمل القلنسوة والتكة الى آخر ما قاله في رسالته.
وغرضه أن هذه
الصحيحة وان عمت الا أنه شملت على سبب خاص وهو السؤال عن الصلاة في قلنسوة حرير
وتكة حرير ، فهي كالخاص بذلك السبب.
ولذلك لما قال
الصدوق بالنهي عن الصلاة في الحرير مطلق ، فيتناول المرأة باطلاقه ، وأشار بذلك
الى رواية محمد المتقدمة.
أجيب بأنها وان
كانت باطلاقها تتناول لها ، الا أن ابتنائها على السبب الخاص وهو القلنسوة التي هي
من ملابس الرجال يضعف هذا التناول ، فاذا كانت كالخاص بذلك السبب ، فلا تعم الزر
والعلم ونحوهما ، فيجوز لبس ثوب زره وعلمه حرير والصلاة فيه.
والحاصل أن هذا
الخبر ، أعني : مكاتبة محمد بن عبد الجبار ان كان عاماً ، فالخاص مقدم عليه ،
وحينئذ فلا يتحقق التعارض بينهما ، ولا يحتاج الى أن يصار الى الترجيح ، وبه يثبت
أعم مما ادعاه صاحب الرسالة فضلا عما ادعاه.
وان كان خاصاً
بما هو المذكور في السؤال فعلى تقدير تسليم تحقق التعارض بحمل النهي المذكور فيه
على التحريم وترجيحه على رواية الحلبي لا يشمل مثل الزر والعلم وأمثالهما ،
فالمقصود حاصل على التقديرين ، والنزاع مرتفع من البين
فانه انما نشأ من الغفلة عن تنصيصه بأحد هذين. ونعم ما قيل : ما من عام الا
وقد خص حتى هذا.
قوله أيده الله
لانا لا نسلم شمول الخبر ما نحن فيه شيء عجاب ، لان هذه الصحيحة تفيد العموم
قطعاً ، كما يعرفه العارف بأسلوب الكلام ، بل الانس بأقوال المعصومين عليهمالسلام ، فانه لو كان مقصوده عليهالسلام نفي حل الصلاة في التكة والقلنسوة الحريرين فقط لوجب أن
يقول في الجواب لا ، أو لا يجوز ، أو لا تحل وأمثال ذلك حذراً عن التطويل بغير
حائل ، فانه مذموم قبيح جداً لا يرتكبه من له قليل ربط بسوق الكلام واطلاع باقتضاء
المقام ، وهم عليهمالسلام أبلغ الانام وأعرفهم بايراد الكلام واقتضاء المقام ،
فكيف ينسب اليهم ما لا يليق نسبته الى غيرهم. هذا كلامه أيده الله تعالى.
وكان المناسب
له أن يكتفي في مقام رد رواية الحلبي بضعف سندها بأحمد مع أنك قد عرفت أن أحمد هذا
ممن عمل بروايته ابن الغضائري ، وهو وان كان واحداً الا أنه كالالف ، لطول يده في
معرفة الرجال وثبات قدمه في هذا الشأن على كل حال.
قال العلامة في
الخلاصة : ابن الغضائري توقف في حديثه الا فيما يرويه عن الحسن بن محبوب من كتاب
المشيخة ، وعن محمد بن أبي عمير من نوادره ، وقد سمع هذين الكتابين جل أصحاب
الحديث .
وقال النجاشي :
أحمد بن هلال أبو جعفر العبرتائي صالح الرواية يعرف منها وينكر .
أقول : وهذا
منه قدسسره يدل على أنه ثقة عنده أو حسن ، لان الضعيف
__________________
لا يوصف بأنه صالح الرواية ، نعم الصلاح على ما تقرر في علم الدراية وصرح
به الشهيد الثاني في درايته أمر اضافي ، فالموثق بالنسبة الى الصحيح صالح ، وان لم
يكن صالحاً بالنسبة الى الحسن والصحيح ، وكذا الحسن بالنسبة الى ما فوقه وما دونه.
ثم أقول :
ولعله لذلك عمل بروايته هذه أكثر الاصحاب ، لانها مما يعرف ولا ينكر ، لموافقتها
الاصل كما ستعرفه.
وبالجملة بقاء
المكاتبتين على عمومهما الشامل للزر والعلم غير مسلم ، كما أشير اليه ، مع أن
المكاتبة الثانية لا عموم فيها ، لان قوله عليهالسلام « لا تحل الصلاة في الحرير المحض » بالالف واللام اما
اشارة الى قول السائل ، أو تكون أي القلنسوة من حرير محض على ما في نسخ شرح الفاضل
الاردبيلي. أو الى قوله « أو تكة حرير » كما في نسخ التهذيب وغيره ، وعلى
التقديرين فشمولهما مثل الزر والعلم ونحوهما ممنوع.
وصاحب الرسالة
المردودة مانع هنا ، مستظهر من المقامين. ومن هنا علم أن الاصل المذكور غير معارض
، وان ما يؤيده لا يخلو من قوة ، وان القول ببطلان الصلاة في كل ما لا تتم الصلاة
فيه وحده من الحرير المحض كفاً كان أو زراً أو زيجاً وهو ما يخاط على زيق القميص. وقال
الاصمعي : لا أدري أعربي هو أم معرب ، قول مرجوح لشرذمة قليلة من الاصحاب مخالف
للاصل ، وما يقتضيه قاعدة الجمع بين الاخبار والعمل بها.
هذا وقال صاحب
المدارك فيه : قد قطع المصنف بتحريم ثوب محشو بالابريسم لعموم المنع. واستقرب
الشهيد رحمهالله في الذكرى الجواز بما رواه الحسين بن سعيد ، قال : قرأت
في كتاب محمد بن ابراهيم الى أبي الحسن الرضا
__________________
عليهالسلام عن الصلاة في ثوب حشوه قز ، فكتب اليه وقرأته : لا بأس
بالصلاة فيه .
وضعفها المصنف
في المعتبر باستناد الراوي الى ما وجد في كتاب لا يسمعه من محدث ، وهو مشكل ، لان
المكاتبة المجزوم في قوة المشافهة. وحملها الصدوق في من لا يحضره الفقيه على قز
الماعز دون قز الابريسم ، وهو بعيد ، والجواز محتمل لصحة الرواية ولمطابقتها
لمقتضى الاصل ، وتعلق النهي في أكثر الروايات بالثوب الابريسم ، وهو لا يصدق على
الابريسم المحشو قطعاً.
وقال أيضاً بعد
نقل قول المحقق رحمهالله « ويجوز الركوب عليه وافتراشه على الاصح » : هذا هو
المعروف من مذهب الاصحاب ، ويدل عليه مضافاً الى الاصل السالم من المعارض صحيحة
علي بن جعفر ونقلها.
ثم قال : وحكى
المصنف في المختلف عن بعض المتأخرين القول بالمنع وهو مجهول القائل والدليل ،
وعلله في المعتبر بعموم تحريمه على الرجال. وهو ضعيف ، فان النهي انما تعلق بلبسه
، ومنع اللبس لا يقتضي منع الافتراش ، لافتراقهما في المعنى ، وفي حكم الافتراش
التوسد عليه والالتحاف به. وأما التدثر ، فالاظهر تحريمه لصدق اسم اللبس عليه .
وقال آية الله
العلامة في المختلف : قال ابن البراج : الثوب اذا كان له زيج ديباج أو حرير محض ،
لم تجز الصلاة فيه ، والشيخ رحمهالله جوز الصلاة في مثل ذلك ، وهو الوجه. لنا : الاصل ولان
الزيج مثل ما تتم الصلاة فيه منفرداً فيكون سائغاً.
احتج ابن
البراج بعموم النهي عن الصلاة في الحرير المحض ، وهو يتناول
__________________
صورة النزاع.
والجواب المنع
من ارادة تناوله ، وان تناوله لغة ، اذ المفهوم منه اللباس.
قال الفاضل
الاردبيلي رحمهالله في شرحه : وأما الالتحاف والتدثر به ، فيحتمل التحريم
لانه لبس ، وهو لبس اللحاف ، فعلى تقدير وجود ما يدل على عموم تحريم اللبس يحرم ،
وليس بواضح مع ما مر ، والاجماع غير ظاهر ولعل دليل استثناء الكف على ما هو
المشهور من الحرير بمقدار أربع أصابع عدم صدق لبس الحرير والصلاة في الحرير ، فلا
يتناوله الاخبار المتقدمة. وفيه تأمل ، لان الظاهر أنه لبس وصلاة فيه كالتكة
والقلنسوة .
هذا وأمثاله
الكثيرة من عبارات العلماء العظام والفقهاء الكرام صريحة المناطيق بأن مناط النهي
انما هو صدق الثوب واللباس ، فالقول بعدم كون ذلك مناطه ، ثم الاستدلال عليه بعموم
الصحيحتين وبموثقة عمار عن الصادق عليهالسلام في ثوب يكون علمه ديباجاً ، قال : لا يصلي فيه الحديث .
فان العلم ليس
بثوب ولا لباس سمج ، والتعليل عليه لان النهي في هذه الموثقة انما علق بالثوب
المشتمل على علم ديباج لا بالعلم ، حيث قال : لا يصلي فيه ، أي : في ذلك الثوب ،
فمناط النهي حقيقه هو صدق الثوب واللباس لا مجرد العلم ، فافهم.
واعلم أن هذه
الموثقة غير محمولة عند الاصحاب على ظاهرها ، ولذلك لما بالغ ابن الجنيد وحرم في
ظاهر كلامه الصلاة في ثوب علمه حرير أوله الفاضل الاردبيلي رحمهالله بأن المراد بها الكراهة ، فانهم كثيراً ما يعبرون عنها
بالتحريم فلا تدافع بينها وبين رواية يوسف بن ابراهيم عن الصادق عليهالسلام الدالة على جواز
__________________
الصلاة في ثوب علمه حرير حتى لا يصفو متنها من شوب شبهة كما ظنه دام عزه.
وأنت خبير بأن
ما ذكره في توجيه كلمة « في » في هذه الاخبار وأمثالها وهو أنها للمصاحبة لو تم
لزم منه بطلان صلاة من حمل معه شيئاً من الابريسم ولو كان قليلا كالخيط في المخيط
، لصدق المعية والمصاحبة عليه ، وظاهر أن هذا وأمثاله من تكاذيب الوهم الظلماني
وتلاعيبه وتصاوير القريحة السودائية وتخايلها.
فان الممنوع من
الابريسم للرجال لو سلم ذلك ما يصدق عليه اسم الثوب واللباس كما تعرفت. واذا
ثبت أن مناط النهي انما هو صدقه ، وهو لا يصدق على مثل الزر والعلم والكف والتكة
والزيج والزيق وما شاكلها ، لانها جزء اللباس وجزء الشيء من حيث هو ليس هو ، ثبت
بمجرد ذلك ما ادعاه صاحب الرسالة المردودة ، بل أعم منه من غير حاجة به الى تجشم
استدلال زائد على ذلك.
فما استدل به
عليه من الاصل والروايات مما لا حاجة به اليه ، بل هو نفضل وتأكيد منه شيد به أساس
ما ادعاه ، وأيد به أركان حكمه وفتياه.
ولعل الراد
أيده الله تعالى غفل عن تصريحات الاصحاب وتلويحات في أخبار الائمة الاطياب ، بل
ربما يوهم ذلك منه أنه تغافل عن ذلك ، وان كانت ساحة صلاحه واحتياطه في فتواه
منزهة عن ذلك.
وذلك أنه نقل
في رسالته الشريفة عن صاحب المدارك كلاماً متصلا بتصريحه بأن متعلق النهي انما هو
صدق الثوب واللباس ، وهذا يشعر بأنه وقتئذ كان في نظره ، وليس مما زاغ عنه البصر
أو طار عنه طائر الفكر ، بل الظاهر أنه تعذر بعموم المكاتبتين ، وبما فهمه من
موثقة عمار ، وأعانه على ذلك كمال حرصه في الرد على صاحب الرسالة ، والعلم عند
الله وعند أهله محمد وآله النبالة.
__________________
ولنعد الى ما
كنا فيه ، فنقول : ولو لا دعواهم الاجماع على حرمة لبس الحرير على الرجال مطلقا في
الصلاة وغيرها الا حال الضرورة والحرب ، لكان القول بالاباحة مطلقاً على وجه
الكراهة كما يقتضيه قانون التوفيق بين الاخبار في غاية القوة.
ولكن اجماعهم
هذا على تقدير ثبوته لا يعم مثل التكة والقلنسوة وازرار الثياب واعلامها وما شابه
ذلك مما لا تتم الصلاة فيه وحده ، وكيف يكون شاملا له وقد استثناه عن حكم الحرمة
أكثر الاصحاب ، كما أومأ اليه ايماءً لطيفاً الفاضل الاردبيلي رحمهالله في الكتاب بقوله : وهو ـ أي : التحريم ـ مذهب البعض ،
وعنى به المفيد وابن الجنيد ومحمد بن بابويه ، فانهم كما مر لم يستثنوا شيئاً ،
فالظاهر من مذهبهم حينئذ عموم المنع.
واذا لم يكن
اجماعهم هذا شاملا له كان مقتضى الجمع بين الاخبار كما تعرفت اباحة لبس الحرير
مطلقاً على كراهة ، فهو باق على اباحته الاصلية السالمة عن المعارض المؤيدة برواية
الحلبي وغيرها.
ومما قررناه
ظهر أن ما يروى عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه نهى عن الحرير الا في موضع اصبعين أو ثلاث أو أربع
، مما لا يمنع من العمل به مانع من الاجماع والاخبار ، فهو داخل تحت الاباحة
الاصلية ، فكون سنده عامياً لا يضر ، ولذا عمل به أكثر الاصحاب.
كما أشار اليه
الشهيد الثاني في شرحه على اللمعة بعد قول الشهيد الثاني روح الله روحهما ويجب كون
الساتر غير الحرير المحض للرجل والخنثى بقوله : واستثني منه ما لا تتم الصلاة فيه
، كالتكة والقلنسوة وما يجعل منه في أطراف الثوب ونحوها مما لا يزيد على أربع
أصابع مضمومة .
__________________
وصاحب المدارك
بعد قول المحقق « ويجوز الصلاة في ثوب مكفوف به » بأن يجعل في رؤوس الاكمام والذيل
وحول الزيق ، وألحق به اللبه وهي الجيب وقدر نهاية عرض ذلك بأربع أصابع مضمومة من
مستوي الخلقة.
واعلم أن هذا
الحكم مقطوع به في كلام المتأخرين ، واستدل عليه في المنع بما رواه العامة عن عمر
أن النبي صلىاللهعليهوآله نهى عن الحرير الحديث وقد سبق. ومن طريق الاصحاب ما
رواه جراح المدائني وذكر الحديث كما سبق.
ثم قال : وهذه
الرواية مع قصور سندها غير دالة على الجواز نصاً ، لان الكراهة كثيراً ما يستعمل
في الاخبار بمعنى التحريم ، وربما ظهر من عبارة ابن البراج المنع من ذلك ،
والمسألة محل تردد ، لعموم قوله عليهالسلام : لا تحل الصلاة في حرير محض ، الشامل للتكة والقلنسوة
نصاً ، والاحتياط للعبادة يقتضي اجتناب ذلك كله انتهى كلامه.
أقول : وفي
كلامه هذا ما عرفته فلا نعيده. ثم شمول قوله عليهالسلام عدم حل الصلاة في التكة والقلنسوة الحريرين لو سلم له
ذلك لا يضر بجواز الصلاة في ثوب مكفوف به الا بقياس بعيد لا نقول به.
ثم لا يذهب
عليك ما في كلام الشهيد السابق ذكره من التصريح بأن الصلاة في الحرير المحض انما
تبطل اذا كان ساتراً للعورة ، وأما اذا كانت العورة مستورة بغيره فلا. وقيل : لا
فرق بين أن يكون ساتراً وغيره.
أما الاول وهو
بطلان الصلاة فيه على تقدير كونه ساتراً ، فلاجماع الخاصة واستحالة اجتماع الواجب
والحرام في شيء واحد.
وأما الثاني
وهو بطلانها فيه اذا كانت العورة مستورة بغيره ، فللنهي عن الصلاة فيه ، وهو يقتضي
الفساد.
__________________
وأما الثانية ،
فلاستحالة كون الفعل الواحد مأموراً به ومنهياً عنه ، فمتى كانت منهياً عنه لا
يكون مأموراً به ، وهو معنى الفساد.
وأما الاولى ،
فلقوله عليهالسلام في صحيحة محمد بن عبد الجبار : لا تحل الصلاة في حرير
محض ، كذا في المدارك وفيه ما سبق من أن النهي في العبادات انما يقتضي فسادها اذا
كان للتحريم ، وقد عرفت أن النهي في صحيحة محمد وما شابهها للتنزيه ، ولقوله عليهالسلام في صحيحة ابن بزيع : لا بأس بالصلاة في الثوب الديباج
ما لم تكن فيه التماثيل. وقد مر الكلام فيه مستوفى.
والاجماع هنا ـ
أي : في الثاني ـ غير متحقق ، بل نقول : لو لا دعواهم الاجماع على بطلان الصلاة في
الاول ، لكان الحكم بصحتها فيه أيضاً قوياً ، اذ لا نسلم أنه يجتمع فيه الواجب
والحرام في شيء واحد ، بل المجتمع فيه انما هو الواجب والمكروه ، وهو لا يقتضي
بطلان الصلاة فيه.
وأيضاً فان
النهي في العبادة انما يقتضي الفساد اذا توجه الى عينها أو جزئها أو شرطها ،
والحرير اذا لم يكن ساتراً للعورة لا يتوجه النهي المتعلق به الى شيء من ذلك ، بل
انما يتوجه الى أمر خارج عن العبادة ، فلا يقتضي فسادها.
وعلى هذا فلو
كانت عورته وهي القبل والدبر مستورة بغير الحرير ، ثم صلى في ألبسته كلها من
الحرير صحت صلاته ، ولا يضرها تحريم لبسه مطلقاً في الصلاة وغيرها ، لانه أمر خارج
عنها.
هذا فان قلت :
لما كانت الاخبار في هذه المسألة كالمتعارضة بعضها صريح في صحة الصلاة فيما لا تتم
الصلاة فيه منفرداً من الحرير ، وهو المشهور بين الاصحاب ، وبعضها ظاهر في عدم
صحتها فيه ، فالاحتياط في الدين وما يقتضيها براءة الذمة على اليقين ترجيح جانب
المنع ، خذ الحائط من دينك ، وليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط.
قلت : الاحتياط
انما شرع فيما ثبت وجوبه ، كالصلاة المنسية ، أو كان ثبوت الوجوب هو الاصل ، كصوم ثلاثين من رمضان
اذا غم الهلال اذ الاصل بقاء رمضان. وأما ما لا وجوب فيه ولا أصل ، فلا يجب فيه
احتياط ، والاحتياط عن الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه وحده من الحرير المحض لم
يثبت وجوبه ، وليس ثبوته هو الاصل ، بل الاصل اباحة الصلاة فيه الى أن يثبت وجود
مانع منه ولم يثبت بعد ، فالاحتياط هنا لا يصلح دليلا ، بل هو محتاج الى الدليل.
والقول بأن
الاباحة الاصلية انما تعتبر ما لم تعارضها أصالة أخرى ، وهنا قد عارضتها وهي المنع
من لبس الحرير ، مجاب بما سبق أن هذا منع تنزيه تجامعه الاباحة لا منع تحريم الا
قدر ما أخرجه الدليل وهو الاجماع ، فبقي الباقي تحت الاباحة الى أن يخرجه الدليل
وليس.
بل لا يبعد أن
يقال : ان الاجماع منعقد على اباحة ذلك ، فان المخالف فيه شرذمة قليلون منحصر في
الثلاثة بل واحد منهم ، فان كلام ابن الجنيد كما سبق في أوائل الرسالة قابل
للتأويل ، والمفيد في المقنعة لم يصرح بالمنع من ذلك ، بل ظاهر كلامه يفيد عموم
المنع ، حيث أنه لم يستثن ما استثناه غيره بل سكت عنه وأهمله ، ولعله كان متوقفاً
فيه ، فالقول بالاباحة على الكراهة قوي.
ولذلك قال
الشيخ : تكره الصلاة في التكة والقلنسوة اذا عملا من حرير محض ، واختاره ابن ادريس
، وقال أبو الصلاح : ومعفو عن الصلاة في القلنسوة والتكة والجورب والنعلين والخفين
وان كان نجساً أو حرير ، والتنزه أفضل.
وهذا الكلام من
شيخنا العلام ومن سايحه من العلماء الاعلام والفقهاء الكرام
__________________
صريح في أنهم حملوا النهي في المكاتبتين المذكورتين على الكراهة ، وبه
وفقوا بينهما وبين رواية الحلبي ، فلا تعارض بينهما بهذا الوجه ليصار الى ترجيحهما
عليها واطراحها بالكلية.
اذ التوفيق بين
الاخبار مهما أمكن خير من اطراح بعضها رأساً ، وخاصة اذا كان ذلك البعض مما تلقاه
بالقبول جم غفير من الفحول وجمع كثير من ذوي الاحلام والعقول.
وانما حمله
الشيخ في التهذيب على الحرمة ، لانه كان هناك بصدد توجيه كلام المفيد ، فحمله على
ما يوافق ظاهر كلامه ، فأخذ ذلك بعض من تأخر عنه مذهباً ، وظن أن لبس التكة
والقلنسوة اذا عملنا من الحرير المحض حرام مطلقاً في الصلاة وغيرها ، قال : فلا
وجه لاستثنائهما ونحوهما مما لا تتم الصلاة فيه منفرداً ، وزعم أنهم يستثنون أمثال
ذلك من غير وجه.
وهذا زعم فاسد
بما حررناه ، وذلك أن الذي يتخلص مما قررناه هو أن المفهوم من جملة الاخبار
والتوفيق بينها اباحة لبس الحرير مطلقا على كراهة للرجال والنساء في الصلاة وغيرها
الا أن اجماعهم قد انعقد على تحريم لبس ما عدا المستثنيات على الرجال مطلقاً الا
في ضرورة أو حرب ، فهي باقية على اباحتها الاصلية ، وهو المطلوب.
تنبيه
نبيه :
بما أسلفناه
ظهرت اباحة لبس الحرير المحض للنساء والصبيان والخناثي مطلقاً في الضرورة
والاختيار وفي الصلاة وغيرها ، للاصل السالم عن المعارض واطلاق الاوامر القرآنية
بالصلاة ، فلا تتقيد الا بدليل ، وعدم تحريم الزينة المفهوم من الآية وقوله صلىاللهعليهوآله حرام على ذكور أمتي. وقول سيدنا أبي عبد الله
الصادق عليهالسلام النساء تلبس الحرير والديباج الا في الاحرام .
واختصاص
التحريم في الروايات بالرجال والصبي وكذا الخنثى ليس برجل ، ولان الصبي مرفوع عنه
القلم ، ولا دليل على تحريم تمكين الولي له من لبسه.
وأما قول
الصدوق في الفقيه النهي عن الصلاة في الحرير مطلق فيتناول المرأة
باطلاقه فقد عرفت ما فيه. وكذا رواية زرارة عن الباقر عليهالسلام انه نهى عن لباس الحرير للرجال والنساء الا ما كان من
حرير مخلوط بخز لحمته أو سداه خز أو كتان أو قطن ، وانما يكره الحرير للرجال
والنساء .
مع أنها ضعيفة
السند ومعارضة بما سبق من قول سيدنا الصادق عليهالسلام تدل على كراهة لبسه ، والكراهة لا تستلزم الحرمة ، ولا
تنافي الاباحة كما مر غير مرة والرجال انما خرجوا بالاجماع ، والا لكانوا داخلين
فيه كما عرفت ، وقد عرفت أن الاحتياط لا محل له في أمثال هذه المواضع.
هذا ما عندنا
والعلم عند الله وعند أهله ساداتنا محمد وآله خيرة رحله عليهم منه الصلوات أفضلها
ومن التسليمات أكملها.
كتبه في أويقات
عديدة وسويعات غير مديدة بعد صحبة الاصحاب ومذاكرة الطلاب أصيلة أيام من خمس عشر
أيام خلون من جمادي الاولى من سنة ست وخمسين ومائة فوق الالف من الهجرة النبوية
المصطفوية على هاجرها وآله السلام الى يوم القيامة بيمناه الجانية الفانية العبد
الجاني محمد بن الحسين بن محمد رضا المدعو باسماعيل المازندراني ستر الله عيوبه
وغفر ذنوبه بمحمد وآله
__________________
الكرام عليهمالسلام.
وجاء في آخر
الرسالة : قد تشرفت بتسويد هذه الاوراق وتسعدت بتتميمه قبل ضحوة الاثنين رابع شهر
ربيع المولود على مولوده وآله الوف الوف الصلاة والسلام الى يوم الورود من سنة
السابع عشر بعد مائتين بعد الالف مقدساً مصلياً مسلماً شاكراً.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (١٤) ربيع الاول سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد
العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئى
(٢٤)
|
|
رسالة
فى
حكم الغسل قبل الاستبراء
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيمِ
الحمد لله ولي
النعماء ، والصلاة على رسوله أشرف الأنبياء ، وعلى آله المعصومين ، ولا سيما على
ابن عمه سيد الأوصياء ، ما سكنت في قرارها الأرض وتحركت في مدارها الكواكب
والسماء.
وبعد : فلما
اختلف أصحابنا في وجوب اعادة الغسل وعدمه على من اغتسل بعد جنابته بدون البول
والاستبراء ، ثم خرج من احليله بلل ، وكان ترتب على ذلك الخلاف أحكاماً كثيرة
جليلة مهمة عامة البلوى ، قصدت الإشارة الى ما هو الراجح منهما بحسب الدليل
واستفادته من قانون العمل بالأخبار ذهني الكليل.
فأقول وأنا
العبد الضعيف النحيف العليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل وبالله
التوفيق : لا خلاف في وجوب الغسل على من علم أن البلل الخارج بعده مني ، وكذا لا
خلاف في عدم وجوبه ووجوب الوضوء ان علم أنه بول.
وان علم أنه
غيرهما كوذي أو ودي أو مذي ، فلا خلاف في عدم وجوب شيء منهما عليه.
وانما الخلاف
فيما إذا اشتبه عليه حاله هل هو بول أو مني أو ماء نزل من
الحبائل ، فانه قد ينزل منها إذا تعصرت؟ هل يجب عليه الغسل أو الوضوء أو
يستحب والحال هذه؟
وليس حكم هذه
الصورة بخصوصه مصرحاً به في الأخبار فيما علمناه ، والقوم قسموها الى صور :
منها : أن يكون
الغسل بعد البول والاجتهاد ، وادعوا فيها الاتفاق على عدم وجوب شيء منهما.
ومنها : أن
يكون بدونهما ، والمشهور فيها وجوب الغسل ، وظاهر الصدوق في الفقيه يفيد الاكتفاء
فيها بالوضوء ، لانه بعد ايراده الخبر الدال على اعادة الغسل قال : في خبر آخر ان
كان قد رأى بللا ولم يكن قد بال فليتوضأ ولا يغتسل انما ذلك من الحبائل. ثم قال :
اعادة الغسل أصل ، والخبر الثاني رخصة .
ولكن هذا الذي
رواه غير معلوم السند ، فلا يكون حجة علينا ، وان كان حجة عليه لو ثبت عنده سنداً
أو متناً. والظاهر أنه كذلك ، لانه تعهد في صدر كتابه وهو صدوق أن لا يذكر فيه الا
ما هو حجة بينه وبين الله.
نعم ان قلنا :
ان الخبر الواحد الصحيح حجة ، كما هو مذهب أكثر المتأخرين فالظاهر أنه يجوز لنا أن
نحكم بصحته ، ويكون حجة علينا كما كان حجة عليه ، فان تصحيحه له وفتواه لا يقصر عن
توثيق الرواة من واحد من علماء الرجال ، فان الظاهر من تصحيحهم الحديث القول بأنه
قال المعصوم يقيناً أو ظناً ، مع أنه لا يحصل من توثيق واحد منهم سوى الظن.
والحق أن
المرسل لا يجوز الاعتماد عليه ، وان كان المرسل مثل الصدوق وافتاه وحكمه بصحته
وانه حجة بينه وبين ربه تقدس ذكره لا يجدينا نفعاً ، لما تبين من كثرة وقوع الخطأ
في الاجتهاد ، وان مبنى الأمر على الظن لا على القطع
__________________
فالموافقة له في فتواه تقليد لا يسوغ.
مع أن المذكور
في صحيحة الفضلاء عن أبي عبد الله عليهالسلام : ان سال من ذكرك شيء من مذي أو وذي ، فلا تغسله ولا
تقطع له الصلاة ، ولا تنقض له الوضوء ، انما ذلك بمنزلة النخامة ، كل شيء خرج منك
بعد الوضوء فانه من الحبائل . يفيد أن ما نزل منها لا يوجب الوضوء ، فكيف صار هنا
علة له؟ فليتأمل.
ومنها : أن
يكون بدون البول فقط أما مع امكانه ، وأوجبوا عليه الغسل حينئذ ، وظاهر الشرائع والنافع عدمه. أو مع
عدم امكانه ، وظاهر الأكثر عدم وجوب شيء منهما حينئذ.
ومنها : أن
يكون بدون الاجتهاد فقط ، والمعروف اعادة الوضوء خاصة.
والذي يظهر من
التوفيق بين الأخبار عدم وجوبهما في شيء من هذه الصور بل غايته استحباب اعادة
الغسل ، بحمل ما دل على الإعادة عليه ، لمعارضته مما يدل على خلافه ، وهو أقوى منه
، ستقف عليه إن شاء الله العزيز.
وأنا أذكر أولا
ما دل على الأول ، وأشير الى تصحيح ما يصح منه ورد ما يرد ، ثم أتبعه بما يدل على
خلافه ، وذلك في فصلين ، ثم أبين ما يقتضيه قانون العمل بالأخبار على طريقة
الأصحاب ، والله الموفق للسداد والصواب ومنه المبدأ واليه المآب.
الفصل
الأول
[
ما دل من الأخبار على اعادة الغسل
في التهذيب :
عن أحمد بن محمد ، عن عثمان بن عيسى ، عن عبد الله بن
__________________
مسكان ، عن سليمان بن خالد.
والسند على
المشهور موثق ، لان ابن عيسى هذا كان واقفياً ، واضطرب فيه العلامة ، فحسن طريق
الصدوق الى سماعة وفيه ابن عيسى هذا ، وفي الخلاصة : الوجه عندي التوقف فيما ينفرد
به . وفي كتب الاستدلال جزم بضعفه ، كل ذلك في الأوسط لملا ميرزا محمد.
والقول بأن
الشيخ صرح في العدة بأن الأصحاب يعملون برواياته ، كما في الذخيرة ، على اطلاقه
غير صحيح.
لانه قال فيه :
وإذا كان الراوي من الواقفة نظر فيما يرويه ، فان كان هناك خبر يخالفه من طريق
الموثوقين وجب اطراحه ، والعمل بما رواه الثقة وان لم يكن ما يخالفه ولا يعرف من
الأصحاب العمل بخلافه ، وجب العمل به إذا كان متحرجاً في روايته موثوقاً به في
أمانته ، ولذلك عمل الأصحاب بأخبار الواقفة ، مثل عثمان بن عيسى .
وقد عرفت أن
الصدوق عمل بخلاف ما رواه لو أبقي على اطلاقه ، بحيث يشمل صورة الاشتباه مع القول
بوجوب الإعادة. ولو خص بما علم أو ظن أن الخارج مني ، فلا يكون دليلا على المدعى ،
وستعرف أن هنا من طريق الموثوق به خبر يخالفه ، وليس على وفقه خبر صحيح يؤكده ،
فوجب اطراحه ، ومنه يعلم ضعف ما في المدارك صحيحة سليمان بن خالد .
عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : سألته عن رجل أجنب فاغتسل قبل أن يبول ، فخرج منه
شيء ، قال : يعيد الغسل ، قلت : فالمرأة يخرج منها شيء بعد الغسل
__________________
قال : لا تعيد ، قلت : فما الفرق بينهما؟ قال : لان ما يخرج من المرأة انما
هو من ماء الرجل .
وهو محمول على
ما إذا لم تعلم أو تظن المرأة أن الخارج ماءها.
قال الفاضل
المجلسي قدسسره في حاشيته على فروع الكافي المتعلقة بهذا الحديث : لا
خلاف بين الأصحاب ظاهراً في أنه إذا خلط ماء الرجل والمرأة وخرج وعلم أن الخارج
مشتمل على ماء المرأة يجب عليها الغسل وأما إذا شكت فقرب في الدروس الوجوب ، وهو
مشكل بعد ورود هذا الخبر وتأيده بأخبار يقين الطهارة والشك في الحدث .
وقال السيد
السند صاحب المدارك فيه بعد قول المصنف قدسسره « أو الاستبراء كيفيته أن يمسح من المقعدة الى أصل
القضيب ثلاثاً ، ومنه الى رأس الحشفة ثلاثاً ، وينثره ثلاثاً » : في استحباب
الاستبراء للمرأة قولان ، أظهرهما : العدم. وما تجده من البلل المشتبه فلا يترتب
عليه وضوء ولا غسل ، لان اليقين لا يرتفع بالشك ، ولاختصاص الروايات المتضمنة
لإعادة الغسل أو الوضوء بذلك بالرجل .
ولا يذهب عليك
أن الدليل الأول مشترك بين المرأة والرجل ، وحينئذ فلا بد من حمل الروايات
المتضمنة لاحدهما المختصة بالرجل : اما على الاستحباب ، أو على ما إذا علم أو ظن
أن الخارج مني أو بول ، وبه يجمع بين الأخبار من غير تكلف ولا طرح ، كما سيأتي إن
شاء الله العزيز.
ولعل نظر السيد
السند صاحب المدارك قدسسره كان على ما نقل عن الكشي
__________________
أنه نقل قولا بأن عثمان بن عيسى ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه
لكن القائل غير معلوم حاله ، والجرح مقدم على التعديل ، وخاصة إذا كان الجارح مثل
العلامة ، فلا يثبت صحة ما رواه ، بل هو ضعيف على ما حكم به في كتبه الاستدلالية.
وقال صاحب
الذخيرة فيه : وهذه الرواية جعلها بعضهم من الصحاح.
وهذا منه قدسسره إشارة الى ما في المدارك.
ثم قال :
وطريقها في الكافي والتهذيب عثمان بن عيسى ، وهو واقفي الا أنه نقل الكشي قولا
بأنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه.
أقول : هذا مما
ذكره ملا ميرزا محمد في رجاله الأوسط في ترجمة عثمان هذا ، وهو منه رحمهالله غلط في الفهم ، وتبعه فيه غيره من غير تأمل صحيح أو فكر
عميق فيما في الكشي.
فان المذكور
فيه هكذا : ذكر نصر بن الصباح أن عثمان بن عيسى كان واقفياً وكان وكيل موسى أبي
الحسن عليهالسلام ، وفي يده مال فسخط عليه الرضا عليهالسلام ثم تاب عثمان وبعث اليه بالمال ، وكان شيخاً عمر ستين
سنة ، وكان يروي عن أبي حمزة الثمالي ولا يتهمونه في رواياته مطلقا فعبر
عنه بقوله.
ونقل الكشي
قولا بأنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. وليس هذا معناه ، بل معناه
أنهم لا يتهمونه في روايته عن أبي حمزة الثمالي ، فانه أدركه حين امكان روايته عنه
، بخلاف رواية الحسن بن محبوب عنه ، فان فيها الإرسال البتة زيادة على تهمته ، لما
يعلم من تاريخهما المذكور في الكشي والنجاشي. قال الكشي : مات الحسن بن محبوب في
آخر سنة أربع وعشرين
__________________
ومائتين ، وكان من أبناء خمس وسبعين سنة .
وقال النجاشي :
مات أبو حمزة الثمالي في سنة خمسين ومائة .
فكيف يمكن
رواية ابن محبوب عنه بلا واسطة؟ وهو حين وفاته كانت له سنة واحدة ، ولذلك قال
الكشي في ترجمة ابن محبوب وأصحابنا يتهمونه في روايته عنه .
فمعنى قوله هنا
« وكان يروي عن أبي حمزة الثمالي ولا يتهمونه » ما ذكرنا لا ما فهموه ، فتأمل.
ومما قررنا ظهر
وجه تضعيف العلامة هذه الرواية في كتبه الاستدلالية ، وان توقفه فيها في الخلاصة
في غير موقفه ، وان تحسينه طريق الصدوق الى سماعة وفيه ابن عيسى غير حسن ، وبالله
التوفيق.
وفيه عن أحمد
بن محمد ، عن أبيه ، عن الحسين بن الحسن بن أبان ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة ،
عن الحسين بن عثمان ، وذكر الحديث كما سبق .
وابن أبان
المذكور في السند مهمل لا مدح فيه ولا قدح ، فما رواه غير محكوم عليه بالصحة على
قانون الرواية ، فقول صاحب الذخيرة فيه : ويدل عليه ما رواه الشيخ عن منصور بن
حازم في الصحيح. محل نظر.
فان قلت : لعل
نظره على ما في كتاب ابن داود في باب محمد بن اورمة ،
__________________
فانه وثق ابن أبان هناك ، وكثيراً ما يسمى العلامة الحديث صحيحاً وهو في
طريقه.
قلت : في شرح
الفاضل الأردبيلي على الإرشاد ، والفاضل المجلسي على الفقيه ، وفي حواشي مولانا
عبد الله التستري على أوائل التهذيب واللفظ له : انا لا نعتمد على ما ذكره ابن داود
من توثيقه ، لان كتابه مما لم نجده صالحاً للاعتماد عليه ، لما ظفرنا عليه من
الخلل الكثير في النقل عن المتقدمين ، وفي نقد الرجال والتمييز بينهم ، الى هنا
كلامه .
اللهم الا أن
يقال : ان ابن أبان من مشايخ الإجازة ، فجهالته لا تضر في الحكم بصحة روايته ، ولعل
العلامة لذلك سمى الحديث صحيحاً وهو في طريقه فتأمل فيه.
وفيه في موثقة
سماعة قال : سألته عن الرجل يجنب ، ثم يغتسل قبل أن يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل ،
قال : يعيد الغسل ، فان كان قد بال قبل أن يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجي
.
وفيه عن أحمد
بن محمد ، عن أبيه ، عن سعد بن عبد الله ، ومحمد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن
محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد ، عن حريز ، عن محمد.
والسند على
المشهور صحيح وضعيف على ما تقرر عندنا ، لان أحمد بن محمد مشترك بين ابن خالد
البرقي وابن عيسى الأشعري ، ولا قرينة هنا معينة ، لا من جهة من رويا عنه وهو ابن
سعيد ، ولا من جهة من روى عنهما وهو ابن عبد الله وابن الصفار.
__________________
وفي ابن عيسى
كلام أوردناه في بعض حواشينا على أصول الكافي.
وابن خالد
البرقي ضعيف ، كما يظهر مما في الكافي في باب النص على الأئمة الاثنا عشر عليهمالسلام في حديث طويل هكذا : وحدثني محمد بن يحيى ، عن محمد بن
الحسن الصفار ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبي هاشم مثله سواء ، قال محمد بن
يحيى فقلت لمحمد بن الحسن : يا أبا جعفر وددت أن جاء هذا الخبر من غير جهة أحمد بن
أبي عبد الله ، قال فقال : حدثني قبل الحيرة بعشر سنين .
والطريق صحيح ،
وفيه دلالة على ذمه ، وعدم اعتباره في أقواله الا بتاريخ يميزها ، وهو هنا غير
معلوم.
فقول صاحب
المدارك ، ومثله صاحب الذخيرة والعبارة له : عن محمد بن مسلم في الصحيح ، قال :
سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يخرج من احليله بعد ما اغتسل شيء ، قال :
يغتسل ويعيد الصلاة ، الا أن يكون بال قبل أن يغتسل فانه لا يعيد غسله ، قال محمد
وقال أبو جعفر عليهالسلام : من اغتسل وهو جنب قبل أن يبول ثم يجد بللا ، فقد
انتقض غسله. وان كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا ، فليس ينقض غسله ، ولكن عليه
الوضوء لان البول لم يدع شيئا محلا نظر.
وفي متن هذا
الحديث أيضاً نظر لو أبقى على اطلاقه ، إذ لا وجه لإعادة الصلاة الواقعة قبل خروج
البلل من احليله ، فلا بد من تقييده بما وقع بعد الخروج لو علم أو غلب على ظنه أن
الخارج مني أو بول. وأما في صورة الاشتباه ، فيستحب اعادة الغسل أو الوضوء والصلاة
بعد أحدهما ، لما سنبينه إن شاء الله العزيز.
وبالإسناد
المذكور آنفاً عن فضالة ، عن معاوية بن ميسرة ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول في رجل رأى بعد الغسل شيئاً ، قال : ان كان بال
بعد جماعة
__________________
قبل الغسل فليتوضأ ، وان لم يبل حتى اغتسل ثم وجد بللا فليعد الغسل .
وقد عرفت ضعف
هذا الإسناد ، ويزيده ضعفاً هنا جهالة ابن ميسرة ، فانه مهمل لا قدح فيه ولا مدح ،
غير أن له كتاباً.
هذا جملة ما
استدلوا به على وجوب الإعادة. وقد علم مما قررناه أن لا رواية فيها يحكم بصحتها
على قانون الرواية ، فالعمل بها على اطلاقها مع كونه مخالفاً للأصول المقررة عندهم
كما ستقف عليه ، وخاصة بعد ورود أخبار فيها ما هو صحيح على خلافها ، مشكل ، ولنذكر
الآن ما ورد على خلافها.
الفصل
الثانى
[
ما يدل من الأخبار على عدم وجوب الإعادة ]
في التهذيب عن
محمد بن علي بن محبوب ، عن علي بن السندي ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ،
قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل تصيبه الجنابة ، فينسي أن يبول حتى يغتسل ، ثم
يرى بعد الغسل شيئاً أيغتسل أيضاً؟ قال : لا قد تعصرت ونزل من الحبائل .
ظاهره يفيد عدم
الفرق بين العامد والناسي في عدم وجوب شيء ، فان قوله عليهالسلام « قد تعصرت ونزل من الحبائل » تعليل لما قد نفاه ، وقد
تقرر أن الحديث المعلل ، وخاصة إذا كان صحيحاً وغيره غيره مقدم عليه.
والتفرقة
بينهما كما فعله الشيخ في التهذيب ، ولعله أراد به التوفيق بين الأخبار فأتى بما
هو خلاف الأصل وهو التخصيص ، ولا حاجة فيه اليه كما ستعرفه ، غير
__________________
جيد ، إذ لا فرق بينهما بوجه ، لان الخارج من الإحليل ان ثبت شرعاً أنه مني
وجبت عليه اعادة الغسل ، ناسياً كان في ترك البول قبله أم عامداً ، والا فلا وجه
لالزام وجوبه عليه.
والأصل مع
اليقين بحصول ما برأت به الذمة وهو الغسل ، والشك في حدوث ما ينقضه بعد ورود هذا
الخبر الصحيح. وقيل : حسن كالصحيح ينفيه ، لان علي ابن اسماعيل السندي من أصحاب
الرضا عليهالسلام وثقه نصر بن صباح ، وقال : علي ابن اسماعيل يقال علي بن
السندي ، فلقب اسماعيل بالسندي.
والفاضل
العلامة لما اشتبه عليه الأمر ، أو كان في نسخته ابن السري ، أورده في علي بن
السري الكرخي ، وهو مذكور على حدة في رجال الصادق عليهالسلام ، وهذا في رجال الرضا عليهالسلام.
قال ملا ميرزا
محمد في رجاله الأوسط : جميع ما وصل الينا من نسخ أخبار الشيخ من الكشي يتضمن أنه
علي بن اسماعيل ، وقد نقله العلامة في الخلاصة علي بن السري ، قال : ويؤيده ما
ذكرناه أنه أورد ذلك على حدة في رجال الكاظم والرضا عليهماالسلام ، وابن السري من رجال الصادق عليهالسلام ثم قال : وفي كتب الأحاديث في مواضع شتى علي بن السندي
في مرتبة رجال الرضا عليهالسلام .
أقول : هذا حق
لا شبهة فيه ، فان ابن أبي عمير في طبقة رجال الكاظم والرضا عليهماالسلام ، بل قال الشيخ في الفهرست : انه لم يرو عن الكاظم عليهالسلام وان كان الواقع خلافه ، لانه روى عنه روايات كنى في
بعضها ، فقال : يا أبا أحمد.
نعم انه لم
يدرك من الصادق عليهالسلام ولم يرو عنه بلا واسطة باتفاق أئمة الرجال فرواية ابن
السندي قرينة واضحة على أنه في هذه الطبقة ، وقد علم أن ابن السري في طبقة رجال
الصادق عليهالسلام ، فأين هذا من ذاك؟!
__________________
ثم الظاهر أن
من هنا ، أي : مما ذكره العلامة في الخلاصة سرى الوهم الى غيره ، كصاحب المدارك
فيه ، حيث حكم فيه بضعف السند وعلله باشتماله على علي بن السندي ، قال : وهو مجهول
.
فان قلت : لعله
حكم بذلك ، لان نصر بن الصباح أبا القاسم البلخي كان غالي المذهب ، فلا يعتبر قوله
في الجرح والتعديل.
قلت : هو وان
كان كذلك ، الا أنه كان عارفاً بالرجال والأحوال غاية المعرفة كما صرح به بعض
متأخري أرباب الرجال ، ويظهر ذلك أيضاً لمن له أدنى قدم في هذا الشأن ، وهو قد لقى
جلة من كان في عصره من المشايخ وروى عنهم ، كما في الكشي ، وكان من مشايخ العياشي
فانه يروي عنه.
ويظهر من ترجمة
محمد بن عبد الرحمن بن قبة من النجاشي أنه كان من الفضلاء والأكابر ، فيعتبر قوله في أمثال
هذه الأمور ، ولا سيما إذا لم يكن على خلاف قوله قول ، إذ لم يقدح في ابن السندي
هذا أحد من أئمة الرجال ، فإذا صرح بتوثيقه من هو عارف بالرجال والأحوال قبل قوله
فيه ، وان كان فاسد الاعتقاد ، كما يقبل روايات كثير من الرواة وهم على عقيدة
باطلة.
ألا ترى أنهم
يعتبرون قول أهل اللغة وغيرهم من أرباب الصنائع ، وأكثرهم فاسدون في اعتقاداتهم ،
وذلك أن أهل كل صفة يسعون في تصحيح مصنوعاتهم وصيانتها عن مواضع الفساد بحسب كدهم
وجدهم وجهدهم وقدر طاقتهم ومعرفتهم بصنعهم ، لئلا يسقط محلهم عندهم ، ولا يشهروا
بقلة الوقوف والمعرفة في أمرهم ، وان كان فاسقاً في بعض الأفعال.
نعم صحة المراجعة
اليهم يحتاج الى اختبارهم والاطلاع على حسن صنعتهم
__________________
وجودة معرفتهم والثقة بقولهم ، وذلك يظهر بالنظر وتصديق
المشاركين.
وقد عرفت أن
الكشي والعياشي وجلالة قدرهما في هذا الشأن وغيرهما من أئمة الرجال وأرباب الوقوف
بالاحوال كثيراً ما ينقلون عنه ، ويعتمدون عليه في قوله ونقله وجرحه وتعديله ،
فهذا وما شاكله ينهيك أنه كان ثقة عندهم في قوله ، معتمداً عليه في نقله ، والا
يلزم أن يكون كثيراً من كتاب رجال الكشي عبثاً بلا نفع وفائدة ، فانه قد أكثر النقل
عنه في كتابه في أبواب من يروي ومن لم يرو ، كما لا يخفى على الناظر في كتابه.
ثم كيف يصح
القول بأنهم لا يعتبرون قوله في الجرح والتعديل؟ وهم قد اعتبروه ، حيث حكموا بصحة
رواية عثمان بن عيسى بناءً على ما فهموه من قوله « وكان يروي عن أبي حمزة الثمالي
ولا يتهمونه » فقالوا : انه وان كان واقفياً ، الا أنه نقل الكشي قولا بأنه ممن
أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، ومرادهم بهذا القائل هو نصر بن الصباح ، كما
أشرنا اليه آنفاً فتذكر.
تبيان
:
يدل على صحة
مضمون الخبر المذكور أمور :
منها : أن كون
هذا البلل المشتبه الخارج من الإحليل منياً أو بولا موجباً لإعادة الغسل أو الوضوء
غير معلوم ، كما هو المفروض ، والأصل عدمه وعدم وجوب هذا التكليف ، وبقاء الغسل
المبيح للعبادة ، على ما كان عليه الى أن يعلم زواله ولم يعلم ، لانه بعد الغسل
مثلا وقبل خروج المني كان على يقين منه ، فإذا خرج منه مشتبهاً فغايته حصول الشك
في نقضه ، واليقين لا ينقض أبداً بالشك.
قال بعض متأخري
أصحابنا : اليقين أقوى من الشك فلا يتعارضان ، بل متى
__________________
تيقنا شيئاً ثم شككنا في زواله وجب الحكم ببقائه واطراح الشك ، طهارة كان
أو نجاسة ، حلا كان أو حرمة ، وقد استفاض النقل عن الأئمة عليهمالسلام بذلك ، وأجمع عليه جميع فرق الإسلام.
وساق الكلام
الى أن قال : وهذا في الحقيقة راجع الى أصل بقاء الشيء على ما كان عليه وهو
الاستصحاب. ويتفرع على ذلك كثير من مسائل الفقه ، كمن تيقن الطهارة وشك في الحدث
لا يلتفت ، وبالعكس تجب الطهارة ، ومن تيقن طهارة بدنه أو ثوبه وشك في عروض
النجاسة لا يلتفت ، وبالعكس يجب التطهير. هذا وأمثاله مما لا خلاف فيه.
أما تخيل خروج
بول أو مني من غير أن يجد رطوبة ، فهذا وهم فاسد وخيال ردي شيطاني ، يتحتم الإعراض
عنه ، بل وان وجد رطوبة ما لم يعلم أنه مني أو بول.
ثم قال : ورويت
بسندي الى عنبسة بن مصعب قال قلت لابي عبد الله عليهالسلام : رجل احتلم ، فلما قام وجد بللا قليلا على ما ذكره ،
قال : ليس عليه شيء ان علياً عليهالسلام كان يقول : انما الغسل من الماء الأكبر .
ومنها : ما روى
الشيخ في التهذيب عن عبد الله بن هلال في القوي ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يجامع أهله ، ثم يغتسل قبل أن يبول ، ثم يخرج
منه شيء بعد الغسل ، قال : لا شيء عليه ان ذلك مما وضعه الله عنه .
ومنها : ما
رواه عن زيد الشحام عنه عليهالسلام قال : سألته عن رجل أجنب ، ثم اغتسل قبل أن يبول ثم رأى
شيئاً ، قال : لا يعيد الغسل ليس ذلك الذي رأى شيئاً .
__________________
ومنها : ما في
الفقيه : سئل عن الرجل ينام ثم يستيقظ فيمس ذكره فيرى بللا ولم ير في منامه شيئاً
أيغتسل؟ قال : لا انما الغسل من الماء الأكبر .
فانه أيضاً يدل
على عدم وجوب الغسل بالبلل ، لتوقفه على العلم بكون ذلك من الماء الأكبر ،
والمفروض أنه غير معلوم.
فان قلت : ما ذكرته
أولا اجتهاد في مقابلة النص.
قلت : ليس كذلك
، بل هو مضمون رواية صحيحة صريحة في ذلك ، فيدل على أن الأخبار المطلقة الدالة على
الإعادة محمولة : اما على الاستحباب ، كما مر في صورة الاشتباه ، أو على الوجوب لا
مطلقاً ، بل إذا حصل له العلم أو الظن بكون الخارج مني ، وبه يوفق بين الأخبار.
فأما إذا حملنا
قوله عليهالسلام « فليعد الغسل » ونحوه على الاستحباب يكون المراد بقوله
« لا » أي : لا يعيد الغسل قد تعصرت ونزل من الحبائل ، نفي الوجوب ، فيكونان
متوافقين غير مختلفين.
ويستفاد من ذلك
استحباب الوضوء أيضاً ، لان موجبه البول دون ما يخرج من الحبائل ، فوجه استحباب
الوضوء احتمال كونه بالبول ، وفي الغسل احتمال كونه مخلوطاً بالمني.
فقول من قال
حمل الأخبار الدالة على الإعادة على الاستحباب غير لازم ، لعدم صلاحية المعارض
للمعارضة ضعيف ، لانا لو قطعنا النظر عن صحيحة جميل وقلنا بكون علي بن السندي
الواقع في طريقها غير موثق ، لكفانا في مقام المعارضة هذا الحديث الصحيح الذي
أشرنا اليه ، مع براءة الذمة عن وجوب الإعادة الى أن يقوم على خلافه نص صحيح صريح
أو دليل آخر ولم يقم.
أما الثاني ،
فظاهر. وأما الأول ، فلما عرفت من عدم صحة الأخبار الدالة عليه ،
__________________
وأيضاً فان الشك في حصول الحدث مع اليقين بالطهارة لا يوجب الطهارة ، فإذا
انضم هذا الى ما دل على عدم الإعادة من الأخبار وفيها ما هو صحيح وبعضها قوي ، صار
المعارض قوياً في كمال القوة.
وبالجملة ان
الحكم بوجوب الإعادة في صورة الاشتباه بعد ورود هذه الأخبار الدالة على العدم
وتأيدها بأخبار يقين الطهارة والشك في الحدث ، وبقوله عليهالسلام في صحيحة زرارة : اليقين لا ينقض أبداً بالشك ولكن
ينقضه يقين آخر . وبأصالة عدم كونه منياً ، وبراءة الذمة وجوب هذا
التكليف ، وهو اعادة الغسل ، ولا خبر صحيح ولا دليل آخر يدل على وجوبه ، مشكل.
فان قلت : ان
الاحتياط اعادة الغسل والوضوء في صورة الاشتباه ، قلت : ان الاحتياط ليس بدليل
شرعي ، وانما كلامنا فيه وفي من لم يعد الغسل أو الوضوء في هذه الصورة ، وصلى بهما
صلوات كثيرة ، أو حج بذلك الغسل حجة أو عمرة وصلى بهما صلاة الطواف الى غير ذلك ،
ثم راجع الفقيه في ذلك أو راجعه في أول الأمر ، هل يجوز له الزامه باعادة الغسل
والوضوء ، أو اعادة تلك الصلوات الكثيرة ، أو قضاءها ، أو قضاء الحجة أو العمرة ،
ولا دليل له عليه شرعاً.
وإذا لم يمكنه
اعادة الغسل لمانع شرعي ، هل يحكم بكونه جنباً وما يتبعه من الأحكام الكثيرة؟ وهل
يلزمه التيمم بدلا عن الغسل ، أو يجوز له الوضوء أو التيمم بدلا منه؟ الى غير ذلك
من الأحكام المترتبة على هذا الخلاف.
وبمثل ما ذكرنا
يمكن نفي وجوب الوضوء إذا خرج منه البلل بعد البول بدون الاستبراء ، لأنه بعد
الوضوء وقبل خروجه كان على يقين منه ، فإذا خرج مشتبهاً عليه ، فغايته حصول الشك
في نقضه ، وقد عرفت أن اليقين لا ينقض أبداً بالشك.
__________________
وأيضاً فان هذا
البلل الخارج من الإحليل مما لم يعلم كونه بولا ، وكل ما لم يعلم كونه بولا ، وجب
الحكم بطهارته وعدم كونه بولا ، فلا يكون ناقضاً للوضوء ولا تجب اعادته به.
أما الأولى ،
فظاهرة على هذا الفرض.
وأما الثانية ،
فلما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال : ما أبالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم . فأرشد الى
عدم مبالاته بغير المعلوم ، والمشتبه داخل فيه ، وعليه يحمل الأخبار الدالة على
عدم اعادة الوضوء بوجدان البلل بعده.
كصحيحة عبد
الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليهالسلام في رجل بال ثم توضأ وقام الى الصلاة فوجد بللا ، قال :
لا شيء عليه ولا يتوضأ .
ويخصصه بصورة
الاستبراء ، وليس بأولى من حمل ما دل بمفهومه على وجوب الوضوء على من بال ولم
يستبرء.
كصحيحة ابن
البختري عن أبي عبد الله عليهالسلام في الرجل يبول ، قال : ينتره ثلاثاً ثم ان سال حتى يبلغ
السوق فلا يبالي .
وحسنة محمد بن
مسلم قال قلت لابي جعفر عليهالسلام : رجل بال ولم يكن معه ماء قال : يعصر أصل ذكره الى طرف
ذكره ثلاث عصرات وينتر طرفه ، فان خرج بعد ذلك شيء فليس من البول ولكنه من
الحبائل .
ورواية عبد
الملك بن عمرو عن أبي عبد الله عليهالسلام في الرجل يبول ثم يستنجي
__________________
ثم يجد بعد ذلك بللا ، قال : إذا بال فخرط بعد ما بين المقعدة والأنثيين
ثلاث مرات وغمز ما بينهما ثم استنجى ، فان سال حتى يبلغ السوق فلا يبالي .
على ما إذا علم
أو ظن أن الخارج هو البول ، بل هذا أولى لتأيده بأخبار يقين الطهارة والشك في
الحدث ، وصحيحة زرارة السابقة ، وبأصالة براءة الذمة ، وبهذه الأخبار الدالة على
العدم.
وبعضهم جمع بين
صحيحة ابن أبي يعفور وهذه الأخبار بالحمل على الاستحباب ، خصوصاً إذا انقطعت درة
البول ، كما يظهر من الأخبار الصحيحة كقول الصادق عليهالسلام : والمستنجي يصب الماء إذا انقطعت درة البول . مع الأصل عدم
كونه بولا.
مع قوله عليهالسلام في الموثق : إذا استيقنت أنك قد توضأت فاياك أن تحدث
وضوءاً أبداً حتى تستيقن أنك قد أحدثت .
وأما ما روي من
اعادة الوضوء بالخارج بعد الاستبراء ، مثل رواية الصفار عن محمد بن عيسى ، قال :
كتب اليه رجل هل يجب الوضوء مما خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ فكتب : نعم .
فمحمول على
التقية ، كما حمله عليها الشيخ في الإستبصار ، لان العامة يوجبون الوضوء عما يخرج
من الذكر غير المني ، وكيف لا يكون محمولا عليها؟ وابن ادريس ادعى الإجماع على عدم
انتقاض الوضوء لو استبرأ ثم رأى البلل.
__________________
تذنيب
:
اني حين ما
شرعت في كتابة هذه المسألة كنت ذاهلا عما أشار اليه الفاضل الأردبيلي في شرحه على
الإرشاد ، والفاضل التفرشي في حواشيه على الفقيه.
وكنت أظن
بتفردي بذلك ومخالفته المشهور ، بل الإجماع الذي ادعى بعضهم كمن يقدم رجلا ويؤخر
أخرى ، فبعد ما أسست أساسها ، وشيدت أركانها ، وأحكمت قواعدها وبنيانها. فلما
راجعتهما وجدتهما موافقين لي في بعض ما خطر بخاطري الفاتر وذهني القاصر ، فكأني
كنت معقولا فحل عقالي ، فنقلت موضع الحاجة من كلامهما تيمناً وتبركاً.
قال آخوندنا
مراد التفرشي قدسسره بعد كلام : والذي بقتضيه النظر مع قطع النظر عما فيه من
الروايات أن البلل الخارج من الإحليل إذا لم يعلم كونه ما ذا؟ لا يوجب غسلا ولا
وضوءاً ، لان الأصل أن لا يكون منياً ولا بولا ، مؤيداً بأصل آخر ، وهو براءة
الذمة.
لا يقال :
وقوعه بعد خروج المني من دون توسط بول أو استبراء امارة كونه بقية ذلك المني ، ومع
توسط أحدهما امارة كونه بولا ، الحاقاً للفرد بالغالب.
لانا نقول :
الغالب في مثله أن لا يكون بولا ، لندوره من غير أن يجتمع قدر يعتد به منه في محله
ثم يقصد دفعه ، ولا منياً لندوره أن يفارقه الدفع والشهوة وأن يبقى منه بقية في
الطريق زماناً يسع الغسل ومقدماته ، بل قد يتوسط بين الجنابة والغسل زمان كثير
جداً ، مع أنهم لم يفرقوا بين توسط زمان قليل وكثير بينهما فالأصل المذكور مؤيد
بهذا الظاهر أيضاً.
ثم امكان البول
لا دخل له في كون الخارج منياً ، بل ربما كان له مدخل في
كونه بولا ، لان امكانه يدل على وجوده في محله ، فخروجه أقرب من خروجه بعد
الحدوث.
ويؤيد ذلك ما
في خبر جميل بن دراج ولعله صحيح ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل تصيبه الجنابة فنسي أن يبول حتى يغتسل ، ثم
يرى بعد الغسل شيئاً أيغتسل أيضاً؟ قال : قد تعصرت ونزل من الحبائل. فان ظاهر
النسيان كونه ممكناً قبل الغسل بحيث لو لا النسيان لفعله ، ويتأيد به الأصل
المذكور أيضاً وبرواية عبد الله بن هلال ، ورواية زيد الشحام ، ونقلهما كما سبقا.
ثم قال : وترك
الاستفصال يفيد شموله لمن لم يستبرء ولم يبل. والاستدلال على وجوب الإعادة بخبر
سليمان بن خالد بعد ما عد صحيحاً وفي طريقه عثمان بن عيسى وفيه قول ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام وبصحيحة محمد ونقلهما كما سبقا.
ثم قال : وحمل
أمثال تلك الأحاديث على الاستحباب واضح ، وحينئذ فالمراد بانتقاض الغسل ، كما هو
المذكور في رواية محمد بن مسلم انتقاض كماله ، اذ لا مجال لحمله على انتقاض نفس
الغسل وهو ظاهر ، ولا على انتقاض أثره مطلقاً لصحة الصلاة المتقدمة على البلل
قطعاً ، بل على انتقاض أثره بالنسبة الى ما بعد البلل ، فكما يمكن حمله على
الانتقاض رأساً ، يمكن حمله على الانتقاض كمالا.
ويمكن حمل شيء
وبللا في خبري سليمان ومحمد على ما يظن كونه من النواقض جمعاً بين الأخبار ،
واثبات الإجماع فيه دونه خرط القتاد ، وطريق الاحتياط أسلم ، انتهى كلامه
طاب منامه.
أقول : حكمه
بصحة خبر جميل وعدم صحة خبر سليمان حق. وأما حكمه بصحة خبر محمد وان طريق الاحتياط
أسلم ، ففيهما ما عرفته فتذكر.
وقال مولانا
أحمد الأردبيلي طاب رمسه بعد كلام : وأما ايجاب الغسل على
__________________
تقدير الاشتباه بالمني والبول وعدمهما ، فهو المذكور في أكثر الكتب ، وعليه
يدل بعض الأخبار بالمفهوم وبعضها بالصريح ، ولكن معارض ببعض الأخبار.
هذا منه نور
الله مرقده يدل على أن هذا البعض من الأخبار بعضها صحيح عنده أيضاً ، كما أومأ
اليه الفاضل التفرشي في كلامه المنقول عنه سابقاً ، وقد سبق منا مبسوطاً ، والا
فكيف يمكنه الحكم بالمعارضة بين الصحيح على ظنه كما سيأتي منه الإشارة اليه وغير
الصحيح ، وكأنه ظاهر بأدنى توجه من النفس السليمة والطبيعة المستقيمة.
ثم قال بيض
الله وجهه متصلا بما نقل عنه : والأصل أيضاً ينفيه ، وكذا الأخبار التي يدل على
عدم بطلان اليقين بالظن ، وكذا أن الشك في الحدث لا يوجب الطهارة ، وكذا دليل حصر
الموجب وغير ذلك ، فحمل الأخبار الأول على ما هو غالب الظن أنه المني لترجيح
الظاهر على الأصل ، كما قد يوجد عند تعارضهما وللجمع غير بعيد ، مع احتمال
الاستحباب سيما مع عدم ظن الغالب.
أقول : هذا منه
رحمهالله اشارة الى ما تقرر عندهم من أن الأصل والظاهر إذا
تعارضا قدم الأصل الا في مواضع يسيرة ، لان الأصل دليل عقلي وحجة بالإجماع والظاهر
كثيراً ما يخرج بخلافه وليس حجة.
وعلى ذلك فرع
العلماء مسائل كثيرة ، منها : طهارة طين الطريق ، وثياب الصبيان والمجانين ،
والقصابين ، ومن لا يجتنب النجاسة ، وثياب الكفار وأوانيهم حتى يعلم عروض النجاسة
لذلك ، وأكد في أكثر ذلك النص عن الأئمة عليهمالسلام.
كرواية المعلى
بن خنيس ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا بأس بالصلاة في الثياب التي يعملها المجوسي
والنصراني واليهودي .
ورواية معاوية
بن عمار عنه عليهالسلام قال : سألته عن الثياب السابرية التي يعملها
__________________
المجوسي وهم أخباث وهم يشربون الخمر ، ونساؤهم على تلك الحالة ، ألبسها ولا
أغسلها وأصلي فيها؟ قال : نعم. قال معاوية : فقطعت قميصاً وخطته وفتلت له ازاراً
ورداءً من السابري ثم بعثت بها اليه في يوم الجمعة حين ارتفاع النهار ، فكأنه عرف
ما أريد فخرج فيها الى الجمعة .
وهذا من ابن
عمار غريب ، لأنه مع جهله بأن الأصل في الأشياء هو الطهارة الى أن يعلم نجاستها ،
وانه مقدم على الظاهر ، وغاية ما يظن بما يعمله المجوسي من الثياب هو ظهور نجاستها
لا اليقين بها ، ولذلك لو كلف مدعي نجاستها باليمين فنكل لم يحكم لما أخبر به
الصادق عليهالسلام ، وكأنه حمل قوله على التقية ، بناءً على أن العامة لا
ينجسون أهل الكتاب ومن في حكمهم ، فأراد بمثل هذا الامتحان أن يحصل له الاطمئنان.
وهذا أيضاً
غريب ، لأنه عليهالسلام ان كان متقياً في ذلك ، فكما كان يتقي في قوله ، فكذا
كان يتقي في فعله ، فمن أين يعلم أن فعله هذا مطابق لاعتقاده وموافق للشرع
والواقع.
واعلم أن الأصل
يقال لكون الشيء أولى ما لم يعارضه شيء يقتضي العدول عنه ، وقد يعبر عنه بما لا
يصار عنه الا بدليل ، كما في الحاشية القديمة.
وقد يقال على
القاعدة والضابطة ، وعلى الكثير الراجح في نفسه السابق في الاعتبار ، كما يقال :
الأصل في الكلام الحقيقة.
هذا. وأما موارد
تقديم الظاهر على الأصل ، فمنها أنه إذا شك في شيء بعد تجاوز محله ، أو بعد خروج
وقته ، فان الظاهر أنه فعله ، إذا الغالب من حال المؤمن فعل الشيء في محله ،
والأصل عدم فعله ، فيقدم الظاهر على الأصل ، ولكن
__________________
لا طريق لهم في ذلك الا النص ، لان الأصل دليل قوي لا يجوز العدول عنه الا
بدليل أقوى منه وهو النص.
فهنا إذا غلب
على ظنه أن الخارج من احليله مني وجبت اعادة الغسل ، وان كان الأصل عدم كونه منياً
وعدم وجوب الغسل عليه الى أن يتيقن كونه منياً ، ترجيحاً للظاهر على الأصل بدليل
هو أقوى منه ، وهو النص المذكور سابقاً ، ان قلنا بجواز العمل بغير الصحيح منه
وكونه أقوى من الأصل وترجيحه عليه.
والكل في حيز
المنع ، لان كثيراً من أصحابنا اقتصروا على العمل بالصحاح ولم يعملوا بالحسان
والموثقات ، وان اشتهرت واعتضدت بغيرها ، فكيف إذا كانت معارضة بالأصلين وأخبار
يقين الطهارة والشك في الحدث ، والأخبار التي تدل على عدم زوال اليقين بالشك والظن
أيضاً ، لأنه عليهالسلام قال : ولكن ينقضه بيقين آخر والظن ليس بيقين ، والأخبار
التي وردت على خلافها وفيها ما هو صحيح وغير ذلك مما أومأنا اليه في تضاعيف البحث.
والظاهر أنهم
انما عملوا بها لظنهم بأن منها صحيح ، مع ذهولهم عن كونها معارضة بأمثال ما ذكرناه
، وقد وضح الصبح لذي العينين والحمد لله.
هذا ثم قال رحمهالله متصلا بما نقلناه عنه : وكذا ينبغي الحال في الاشتباه
بالبول بعده وقبل الاستبراء ، بل هكذا ينبغي الحال فيما رأى بعد الاستبراء فقط ،
سيما مع امكان البول ، الا أن الاستحباب هنا أقوى من الأول.
واعلم أن
الأخبار الصحيحة وغيرها ليس فيها تصريح بأن البلل مشتبه ، فيمكن حملها على المتحقق
للجمع وعلى الظاهر أنه المني ، لأنه على ما يرى قليلا ينقطع البول ، فغير بعيد
ادخاله أيضاً في الحكم ، ويكون مراد الأصحاب بالمشتبه ذلك.
__________________
أقول : ظاهر
المذكور في الأخبار السابقة ، وهو لفظة « شيء » و « بلل » ونحوهما يفيد أنه كان
مشتبهاً ، لان ما لا اشتباه فيه له اسم خاص ، كالمني والبول والوذي والمذي ونحوها
، فالتعبير عنه بالعبارات المذكورة للاشارة الى أن هذا الخارج من احليله أمر مشتبه
، فتأمل.
وأما قوله «
وعلى الظاهر أنه المني » لأنه على ما يرى قليلا ما ينقطع قبل البول فيرد عليه ما
أفاده الفاضل التفرشي ، وقد سبق بقوله : الغالب في مثله أن لا يكون منياً لندور أن
يفارقه الدفع والشهوة ، وأن يبقى منه بقية في الطريق زماناً يسع الغسل ومقدماته ،
بل قد يتوسط بين الجنابة والغسل زمان كثير جداً ، وهم لم يفرقوا بين توسط زمان
قليل وكثير بينهما ، فالأصل المذكور مؤيد بهذا الظاهر أيضاً.
ثم ان كلامه
المنقول يفيد أن هنا أخبار صحيحة ، وقد عرفت أنها بأسرها غير صحيحة ، والظاهر أنه
كغيره كان ذاهلا وقت كتابته هذا الشرح عما نقلناه عن الكافي بطريق صحيح دال على ذم
أحمد بن محمد ، وعدم اعتباره في أقواله الا بتاريخ يميزها ، أو ثبت عنده من جهة ما
ذكره ابن داود ، أو من جهة أخرى توثيق ابن أبان. والأول يخدشه ما أشرنا اليه من
عدم اعتماده على رجاله ، فتذكر.
وظني أنه رحمهالله كغيره تبع في ذلك العلامة والشهيد في تصحيحهما روايات
في طريقها ابن أبان ، ولا وجه له ، فان غاية ما يستفاد مما نقلوه فيه أصالة وتبعاً
كون رواياته إذا لم يكن في الطريق قادح من غير جهة قوية ، وأما أنها صحيحة فلا ،
لأنه مهمل غير موثق ، لم ينصوا بما يدل على مدحه ، فكيف على توثيقه فعليك
بالمراجعة الى ما ذكروه فيه ، والتأمل في ذلك ليظهر لك حقيقة ما قلناه ، لان الحق
أحق بالاتباع.
فان قلت : لعله
رحمهالله أراد بأحمد هذا ابن عيسى الأشعري لقرائن عنت له لا ابن
خالد البرقي.
قلت : قد عرفت
أنه لا قرينة هنا معتبرة ، وعلى تقديرها نقول : ابن عيسى وان كان في المشهور ثقة ،
الا أنه يظهر مع التتبع التام خلافه.
روى في الكافي
في باب الإشارة والنص على أبي الحسن عليهالسلام عن الحسين ابن محمد ، عن الخيراني ، عن أبيه أنه كان
يلزم باب أبي جعفر عليهالسلام للخدمة التي كان وكل بها ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى
يجيء في السحر في كل ليلة ليعرف علة أبي جعفر عليهالسلام ، وكان الرسول الذي يختلف بين أبي جعفر عليهالسلام وبين أبي ، إذا حضر قام أحمد وخلا به أبي.
فخرجت ذات ليلة
وقام أحمد عن المجلس وخلا أبي بالرسول ، واستدار أحمد فوقف يسمع الكلام ، فقال
الرسول لابي : ان مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك : اني ماض والأمر صائر الى ابني
علي وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي.
ثم مضى الرسول
ورجع أحمد الى موضعه ، وقال لابي : ما الذي قد قال لك؟ قال خيراً ، قال : قد سمعت
ما قال فلم تكتمه؟! وأعاد ما سمع ، فقال له أبي : قد حرم الله عليك ما فعلت ، لان
الله تعالى يقول ( وَلا تَجَسَّسُوا ) فاحفظ الشهادة لعلنا نحتاج اليها يوماً ، واياك أن
تظهرها الى وقتها.
فلما أصبح أبي
كتب نسخة الرسالة في عشر رقاع وختمها ودفعها الى عشرة من وجوه العصابة ، وقال : ان
حدث بي حدث الموت قبل أن أطالبكم بها فافتحوها واعملوا بما فيها ، فلما مضى أبو
جعفر عليهالسلام ذكر أبي أنه لم يخرج من منزله حتى قطع على يديه نحو من
أربعمائة انسان ، واجتمع رؤساء العصابة عند محمد بن
__________________
الفرج يتفاوضون هذا الأمر.
فكتب محمد بن
الفرج الى أبي يعلمه باجتماعهم عنده ، وأنه لو لا مخافة الشهرة لصار معهم اليه
ويسأله أن يأتيه ، فركب أبي وصار اليه ، فوجد القوم مجتمعين عنده ، فقالوا لابي :
ما تقول في هذا الأمر ، فقال أبي لمن عنده الرقاع : أحضروا الرقاع ، فأحضروها ،
فقال لهم : هذا ما أمرت به.
فقال بعضهم :
قد كنا نحب أن يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر ، فقال لهم : قد آتاكم الله تعالى
به هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة وسأله أن يشهد بما عنده ،
فأنكر أحمد أن يكون سمع من هذا شيئاً ، فدعاه أبي الى المباهلة ، فقال لما حقق
عليه قال : قد سمعت ذلك وهذه مكرمة كنت أحب أن تكون لرجل من العرب لا لرجل من
العجم ، فلم يبرح القوم حتى قالوا بالحق جميعاً .
أقول : هذا
الخبر كما ترى قد دل على ذم ابن عيسى من وجهين : ارتكابه ما حرمه الله عليه من
التجسس ، وانكاره النص على أبي الحسن الثالث عليهالسلام بعد سماعه من رسول أبيه عليهالسلام على وجه يفيده اليقين بذلك ، معللا بأن هذه مكرمة كنت
أحب أن يكون لرجل من العرب لا لرجل من العجم ، وهذه منه كان حسداً على خيران
الخادم العجمي القراطيسي ، وما كان له من المنزلة والزلفى عند أبي جعفر الثاني رحمهالله ، وعدم رضا منه بما فعله عليهالسلام من الرسالة اليه ، وكل ذلك قادح في العدالة.
والظاهر أن عدم
ذكرهم هذا في ترجمته كان ناشئاً من ذهولهم عنه ، أو من كون سنده مجهولا بولد خيران
الخادم الثقة مولى الرضا عليهالسلام ، وهو المراد بالخيراني ، فخبره غير صالح لاثبات ذمه ،
ولذلك لم يجعلوه دليلا عليه ، حتى
__________________
أن الشيخ في الفهرست ، والنجاشي في كتابه ، صرحا بأنه
شيخ القميين ورئيسهم غير مدافع ، أي : لا يدفعه أحد من أئمة الرجال.
وفيه أن قول
أبي عمرو الكشي في ترجمة يونس بن عبد الرحمن بعد نقله عن أحمد هذا نبذة من أخبار
دالة على ذم يونس.
منها : ما رواه
عنه عبد الله بن محمد الحجال قال : كنت عند أبي الحسن الرضا عليهالسلام اذ ورد عليه كتاب يقرأه فقرأه ، ثم ضرب به الأرض ، فقال
: هذا كتاب ابن زان لزانية ، هذا كتاب زنديق لغير رشده ، فنظرت فإذا كتاب يونس.
فلينظر الناظر
فيتعجب من هذه الأخبار التي رواها القميون في يونس ، وليعلم أنها لا يصح في العقل
، وذلك أن أحمد بن محمد بن عيسى قد ذكر الفضل من رجوعه في الوقيعة في يونس ، ولعل
هذه الروايات كانت من أحمد قبل رجوعه.
وأما حديث
الحجال الذي يرويه أحمد بن محمد ، فان أبا الحسن عليهالسلام أجل خطراً وأعظم قدراً من أن يسب أحداً صراحاً ، وكذلك
آباؤه عليهمالسلام من قبله وولده صلوات الله عليهم من بعده ، لان الرواية
عنهم عليهمالسلام بخلاف هذا ، اذ كانوا قد نهوا عن مثله وحثوا على غيره
مما فيه للدين والدنيا.
وروى علي بن
جعفر ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن الحسين عليهمالسلام أنه كان يقول لبنيه : جالسوا أهل الدين والمعرفة ، فان
لم تقدروا فالوحدة آنس وأسلم ، فان ابيتم الا مجالسة الناس ، فجالسوا أهل المروات
، فانهم لا يرفثون في مجالسهم.
فما حكاه هذا
الرجل عن الإمام عليهالسلام في باب الكتاب لا يليق به ، اذ كانوا
__________________
عليهمالسلام منزهين عن البذاء والرفث والسفه والتكلم على الأحاديث
الاخر بما يشاكل هذا .
يدفعه ويدل على
ذمه كلياً وعدم اعتباره في رواياته ، فانها يدل على جهله بما يجب تنزيه الإمام عليهالسلام عن مثله ، وهو يرويه ويذعن به ويجعله وسيلة للوقيعة في
مثل يونس بن عبد الرحمن الذي كان في زمانه كسلمان الفارسي في زمانه ، ولا يعقل أنه
مما لا يصدر الا عن أراذل الناس فكيف عن أفاضلهم.
والأقوى عندي
التوقف فيه ، فانه نقل عنه أشياء تفيد عدم تثبته في الأمور بل بعضها يدل على سخافة
عقله ، مثل ما مر وما نقل عن الفضل بن شاذان ، قال : كان أحمد بن محمد بن عيسى تاب
واستغفر من وقيعته في يونس لرؤيا رآها .
فان مستنده في
تلك الوقيعة ان كان دليلا شرعياً يفيد العلم ، أو الظن المتاخم له كالشياع
والاستفاضة ، أو شهادة عدلين ونحوها ، فكيف يصح له الرجوع عنه والاعتماد على ما
رآه في المنام ، ولعله كان من أضغاث الأحلام والعدول عما يقتضيه الدليل الى ما
يقتضيه الرؤيا ، مع احتمال كونها كاذبة غير مسوغ في شريعة العقل والنقل. وان لم
يكن له عليه مستند شرعي ، كان ذلك منه بهتاناً قادحاً في عدالته بل ايمانه.
ومثله ما نقل
عنه في أحمد بن محمد بن خالد البرقي من ابعاده من قم ، ثم اعادته اليها واعتذاره
اليه ومشيه بعد وفاته في جنازته حافياً حاسراً ليبرىء نفسه عما قذفه به ، فانه
يدل على أنه رماه فيما رماه فيه وهو شاك ، وكان عليه أن يتثبت فتركه وقذفه ثم نفيه
يقدح فيه ، فليتأمل في هذه الجملة.
__________________
ثم قال رحمهالله متصلا بكلامه المنقول : وأما لو كان الظن بخلافه ، أو
يكون الأمر مشتبهاً ، فالقول بايجاب شيء من الوضوء أو الغسل على التفصيل المذكور
بعيد لا يخلو عن جرأة لما مر ، ولهذا لو وجد بللا في غير هذا الفرض مشتبهاً بالمني
وغيره ، أو بالبول وغيره ، لم يوجبوا هذا الحكم على ما يظهر لنا من كلامهم.
أقول : لعله
اشارة الى مثل ما نقلناه عن الفقيه أن الصادق عليهالسلام سئل عن الرجل ينام ثم يستيقظ ، فيمس ذكره فيرى بللا ولم
يرفي منامه شيئاً أيغتسل؟ قال : لا انما الغسل من الماء الأكبر .
ولعل الوجه فيه
أن الأصل عدم كونه منياً ، بل الظاهر أنه ماء نزل من الحبائل وقد سبق أنهم نفوا
استحباب استبراء المرأة ، ثم قالوا : وما يجده من البلل المشتبه لا يترتب عليه غسل
ولا وضوء ، لان اليقين لا يرتفع بالشك.
ثم قال قدسسره : وأيضاً أن هذا الحكم لا يبعد في الوضوء إذا كان وجدان
البلل بعد البول وقبل الاستبراء ، للظاهر الذي قلناه وما أذكر الان قولهم هنا . الى هنا
كلامه رفع في عليين مقامه.
وبه يختم
الكلام حامداً على الإتمام ومصلياً على الرسول سيد الأنام وعلى آله الطاهرين
البررة العظام عليهمالسلام.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (٥) ربيع الثاني سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد
العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(٢٥)
|
|
الفصول
الأربعة
في
عدم سقوط دعوى المدعى بيمين المنكر
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيمْ
الحمد لله الذي
هدانا طريق الصواب ، والصلاة على نبيه محمد الذي أوتي فصل الخطاب ، وعلى آله
المعصومين الأطياب ، وعترته الكاملين في معرفة الكتاب وبعد يقول العبد الحقير الى
رحمة ربه الجليل محمد بن الحسين بن محمد رضا المشتهر باسماعيل سقاهم الله برحمته
من السلسبيل : لما وجب على كل مجتهد أن يظهر علمه ويعمل بما أداه اليه بذله وجهده
، وحرم عليه كتمان ما ظهر له في اجتهاده ، على ما يقتضيه صريح خبر المروي عن سيد
الأبرار صلوات الله عليه وآله المصطفين الأخيار : من علم علماً وكتمه ألجمه الله
بلجام من النار وجب علينا اظهار ما ظهر لنا في هذا السبيل ، والعمل بما
أدانا اليه الدليل ، وان كان مخالفاً لما عليه الأصحاب ، كما سنتلوه عليك في ذلك
الكتاب ، بعون الملك الوهاب ، وعلى هذا فلا شناعة علينا ان تفردنا به من هذه
المسائل ، لما سبقتم عليها من البينات والحجج والدلائل.
وانما الشناعة
فيما لا دليل عليه ولا حجة لقائل تفرد اليه ، فان الباطل ما عاطل عن الحجج
والدلالات ، وعرى من الشواهد والبينات. فأما ما عليه دليل يعضده
__________________
وحجة تعمده ، فهو الحق اليقين ، ولا يضره خلاف المخالفين ، اذ الذاهب الى
مذهب انما يسأل عن دلالته على صحته وحجته العائدة اليه ، لا عمن وافقه أو خالفه
عليه. فها أنا ذا نشرع في المقصود بعون الله الملك المعبود.
فنقول : قد
اشتهر بين أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم أن المنكر إذا حلف على الوجه المعتبر
، سقطت عنه الدعوى ، وحرمت مقاصه في الدنيا ، الا أن يكذب نفسه بعده ، قالوا : ولا
يسمع البينة من المدعي بعد التحليف مطلقا.
واستندوها الى
أخبار عن لنا بعد التتبع والتصفح أنها كلها غير صحيحة ولا صريحة ، الا خبر منها
يدل بظاهره على عدم جواز المقاصة بعد الاستحلاف لو سلم ذلك لهم ، وهو معارض بمثله
في الصحة والدلالة ، بل هو أصح منه ، مع صراحته في الدلالة على الجواز ، وله
مؤيدات ومؤكدات ، كما سننبهك عليه.
ويمكن التوفيق
بينهما بما سنشير اليه ، فيبقى عموم أدلة المقاصة ، وأصالة جوازها بعد التحليف ،
كما كانت جائزة قبله ، وكذلك وجوب سماع البينة : اما مطلقا ، أو في صورة نسيانها
ونحوه وقت التحليف على حالها.
ونحن نورد بعون
الله وحسن توفيقه أولا ما ورد في هذا الباب من الأخبار ، ثم نأتي بجملة ما أتاه
أولئك الأخيار ، مستعيناً بالله وبرسوله وآله الأطهار سلام الله عليهم ما تعاقبه
الليل والنهار. ولما كان بيان ذلك مقصوراً على فصول أربعة ناسب تسميتها بها.
الفصل
الأول
[
الأخبار الدالة على بطلان حق المدعى بتحليف المنكر ]
في الفقيه في
باب بطلان حق المدعي بالتحليف وان كانت له بينة ، عن عبد الله بن أبي يعفور ، عن
أبي عبد الله عليهالسلام ، قال : إذا رضي صاحب الحق بيمين
المنكر لحقه فاستحلفه ، فحلف أن لا حق له قبله ذهبت اليمين بحق المدعي ولا
دعوى له.
قلت : وكانت له
بينة عادلة؟
قال : نعم وان
أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له حق ، فان اليمين قد أبطلت كلما
ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه. قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من حلف لكم فصدقوه ، ومن سألكم بالله فاعطوه ، ذهبت
اليمين بدعوى المدعي ولا دعوى له .
أقول : هذا
أقوى ما تمسكوا به في هذا الباب ، ظانين أنها صحيحة السند صريحة الدلالة على ما
ادعوه من الأحكام السالفة في الكتاب.
وأول من سماها
صحيحة فيما علمناه هو الفاضل العلامة في المختلف ، حيث قال فيه بعد مسألة : قال
المفيد : إذا التمس المدعي يمين المنكر ، فحلف له وافترقا ، فجاء بعد ذلك ببينة
تشهد له بحقه الذي حلف له عليه خصمه ، ألزمه الحاكم الخروج منه اليه ، اللهم الا
أن يكون المدعي قد اشترط للمدعى عليه أن يمحو كتابه عليه ، أو يرضي بيمينه في
اسقاط دعواه ، فان اشترط له ذلك لم تسمع بينته من بعد ، وان لم يشترط له ذلك سمعت
على ما ذكرناه.
وقال الشيخ في
الخلاف : إذا حلف المدعى عليه ، ثم أقام المدعي البينة بالحق لم بحكم له بها ، وبه
قال في النهاية والمبسوط ، وهو قول ابن الجنيد ، ونقله عن الباقر والصادق عليهماالسلام.
وللشيخ في
المبسوط قول آخر أنه ان كان أقام البينة على حقه غيره ، وتولى ذلك الغير الإشهاد
عليه ولم يعلم هو ، أو تولى هو اقامة البينة ونسي ، فانه يقوى في نفسي أنه يقبل ،
فأما علمه ببينته فلا يقبل بحاله ، وبه قال أبو الصلاح وابن ادريس
__________________
وقال ابن البراج في الكامل بما ذهب اليه المفيد ، وبه قال ابن حمزة أيضاً ،
والمعتمد ما قاله الشيخ في النهاية.
لنا : ما رواه
الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن أبي يعفور عن الصادق عليهالسلام ونقله كما سبق .
ثم تبعه في ذلك
غيره ، كالشهيد الثاني في شرحه على اللمعة الدمشقية . والشارح
الأردبيلي في شرحه على الإرشاد ، وغيرهما ممن جاء بعده.
الا مولانا
الفاضل عناية الله القهپائي في مجمع الرجال بعد نقل سندها عن مشيخة الفقيه هكذا :
وما كان فيه عن عبد الله بن أبي يعفور ، فقد رويته عن أحمد ابن محمد بن يحيى
العطار رضياللهعنه ، عن سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي
، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان ، عن عبد الله ابن أبي يعفور.
السند ضعيف .
ونعم ما فعل
كذلك يفعل الرجل البصير ، وذلك أن أحمد بن محمد بن خالد البرقي وأباه محمداً
كليهما ضعيفان.
أما الأول ،
فلما في الكافي في باب النص على الأئمة الاثنا عشر عليهمالسلام في آخر حديث طويل هكذا : وحدثني محمد بن يحيى ، عن محمد
بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبي هاشم مثله ، قال محمد بن
يحيى فقلت لمحمد ابن الحسن : يا أبا جعفر وددت أن هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد
بن أبي عبد الله قال فقال : لقد حدثني قبل الحيرة بعشر سنين انتهى.
__________________
ولا يخفى أنه
دال على الذم الكلي وعدم اعتبار الرجل في أقواله الا بتاريخ يميزها ، وليس فليس.
وقال الفاضل
المذكور قدسسره في مشيخة التهذيب بعد نقل طرق الشيخ الى أحمد بن أبي
عبد الله البرقي : الطريق فيها ـ أي : في هذه المشيخة ـ لا يخلو من ضعف ووهن به ـ
أي : بأحمد ـ وذلك للحيرة المنقولة فيه بصحيح الخبر ، وقد رسمناه على هامش ترجمته .
وقال في مشيخة
الفقيه بعد أن نقل قوله : وما كان فيه عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، فقد رويته
عن أبي ومحمد بن الحسن رضياللهعنهما ، عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ،
ورويته عن أبي ومحمد بن موسى بن المتوكل رضياللهعنهما ، عن علي بن الحسين السعد آبادي ، عن أحمد بن أبي عبد
الله البرقي. السندان لا يخلو عن ضعف به ، أي : بأحمد .
أقول : لعل
جزمه قدسسره بضعف السند المذكور في الفقيه المنقول عنه آنفاً دون
هذا السند ، باعتبار وجود أبي أحمد محمد هناك دون هنا ، والا فلا مائز بينهما
باعتبار ضعف أحمد المستند الى حيرته ، يدل على ما قلناه أنه جزم بضعف السند
المشتمل على محمد بن خالد البرقي في مشيخة الفقيه ، بعد أن نقل قوله : وما كان فيه
عن محمد بن خالد البرقي ، فقد رويته عن محمد بن الحسن رضياللهعنه ، عن محمد بن الحسن الصفار ، عن محمد بن خالد البرقي ،
بقوله : السند ضعيف .
وقال ملا ميرزا
محمد في حاشية رجاله الأوسط بعد نقل نبذة من أحوال
__________________
أحمد هذا في أصل الكتاب في الكافي : في حديث صحيح في باب النص على الأئمة
الاثنا عشر يقتضي نوع سوء ظن عن محمد بن يحيى به.
أقول : انه لم
يجعله مما يقدح في أحمد هذا ، ولذلك عد سند الحديث المذكور عن الفقيه بعد نقله في
رجاله المذكور صحيحاً تبعاً للاخرين.
وفيه أن جواب
محمد بن الحسن لقد حدثني قبل الحيرة يقتضي أن يكون فيه برهة من الزمان ما يمنع من
قبول روايته ، وكان ذلك فيهم أمراً محققاً لا مظنوناً ، ولذلك ورخ حديثه ليمتاز به
ما يقبل منه عما لا يقبل عنه ، ليتلقاه محمد ابن يحيى بالقبول ، لكونه واقعاً قبل
زمن حيرته الذي يقبل فيه حديثه ، وذلك ظاهر لا غمرة فيه.
فان قلت : فلم
حكموا بصحة هذا السند؟ مع اشتماله على أحمد هذا ، وهو على ما دل عليه ما نقلته ،
وهو صحيح السند غير معتبر قوله الا بتاريخ يعلم منه أنه صدر منه قبل حيرته.
قلت : انهم لما
ذهلوا عن هذا ورجعوا الى أصول الأصحاب ووجدوهم مصرحين بتوثيقه حكموا بذلك. ومنه
يعلم أن قصر النظر على ما في أصولهم مما لا يليق مجال الفقيه ، بل من المتحتم عليه
أن يكون متتبعاً متصفحاً في أبواب الفقه وما يتعلق به ، ليكون على بصيرة فيما يعمل
ويفتي به.
ألا ينظر الى
هؤلاء المتفقهة الماهرين ، وهم أئمة الأصول والدين ، كيف أطبقوا على توثيق أحمد
هذا وتلقوا رواياته مطلقا بالقبول ، إذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهته ، وهو
ممن لا يسوغ العمل بمروياته أصولا وفروعاً ، الا بتاريخ مائز ما قبل حيرته عما
بعدها.
__________________
فهذا شيخ
الطائفة في الفهرست ، ومثله الشيخ الجليل النجاشي في كتابه يصرحان بأن
أحمد بن أبي عبد الله البرقي كان ثقة في نفسه ، الا أنه أكثر الرواية عن الضعفاء
واعتمد المراسيل.
وهو الظاهر من
الشيخ ابن الغضائري ، حيث قال : وطعن القميون عليه ، وليس الطعن فيه ، انما الطعن
في من يروي عنه ، فانه كان لا يبالي عمن يأخذ على طريقة أهل الأخبار ، وكان أحمد
بن محمد بن عيسى أبعده عن قم ، ثم أعاده اليها واعتذر اليه .
أقول : قد ظهر
من المنقول آنفاً أن طعن القميين عليه كان في محله وموقعه لحيرته وتردده في المذهب
والدين ، وانحرافه عن مسلك الصواب واليقين.
وذكر في
الخلاصة : وجدت كتاباً فيه وساطة ـ أي : تلائم وتعاطف وتحاسن ـ بين أحمد بن محمد
بن عيسى وأحمد بن محمد بن خالد ، وقال : انه لما توفى ابن خالد مشى ابن عيسى في
جنازته حافياً حاسراً ليبرئ نفسه مما قذفه به . على ما نقل في « غض » عنهما.
وصرح الشهيد
الثاني في دراية الحديث بتوثيقه ، حيث أن أحمد بن محمد مشترك بين جماعة ، منهم
أحمد بن محمد بن عيسى ، وأحمد بن محمد بن خالد ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر ، وأحمد
بن محمد بن الوليد ، وجماعة أخرى من أفاضل أصحابنا في تلك الأعصار ، ويتميز عند
الإطلاق بقرائن الزمان ، ويحتاج في ذلك الى فضل قوة وتميز واطلاع على الرجال
ومراتبهم ، ولكنه مع الجهل
__________________
لا يضر ، لان جميعهم ثقات ، فالامر بالاحتجاج بالرواية سهل. وظاهر الكشي
أيضاً يفيد كونه ثقة.
ولكن لا يخفى
أن قول محمد بن يحيى وددت أن هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله ،
وجواب محمد بن الحسن لقد حدثني قبل الحيرة بعشر سنين صريحان في ذمه ، وعدم اعتباره
في أقواله الصادرة منه في زمن الحيرة.
فان الظاهر
المتبادر من حيرته الحيرة في المذهب ، كما صرح به مولانا الفاضل محمد صالح
المازندراني في شرح أصول الكافي ، ثم قال قدس الله روحه : ويحتمل أن يكون المراد
به خرافته في آخر سنه ، أو تحيره بعد اخراج ابن عيسى اياه .
وعلى أي تقدير
فروايته غير معتبرة ، الا أن يعلم تاريخها وانها كانت قبل الحيرة.
فان قلت :
اعادة ابن عيسى اياه بعد ابعاده عنها ، واعتذاره اليه ، ومشيه في جنازته حافياً
حاسراً ليبرئ نفسه مما قذفه به ، يدل على كذب ما قيل فيه وبراءة ساحته عما نسب
اليه.
قلت : هذا نقل
غير معلوم الصحة للجهل بناقله ، ومع ذلك لم يعلم ما كان سبب ابعاده وجهة اعادته ،
فلعله كان له سبب آخر غير حيرته.
وكيف كان يصح
لمثل ابن عيسى اخراجه عن قم لامر لم يتحققه حتى يحتاج إلى الإعادة والاعتذار ،
وانه فائدة كانت تعود الى ابن خالد في مشيه حافياً في جنازته : اما كان هذا منه
توبة ، أو طلباً لمغفرته ، أو تسلياً لخاطره ، أو استرضاءً منه بعد وفاته.
__________________
وكيف كان يكون
هذا مبرأة لذمته عما فعل بالنسبة اليه في حياته من اخراجه عن البلد وافضاحه على
رءوس الأشهاد ، على أن صحيح الخبر السابق ذكره ينافي هذا النقل ، اذ لو كان الأمر
على ما نقل لما قال محمد بن يحيى : يا أبا جعفر وددت أن هذا الخبر جاء من غير جهة
أحمد بن أبي عبد الله ، ولما قال هو في جوابه : لقد حدثني قبل الحيرة بعشر سنين.
وعلى تقدير أن
يكون سبب ابعاده ما قيل فيه من حيرته ، فاعادته اياه لا تدل على كذبه ، فلعله كان
قد تاب ورجع عنها الى الحق ، ولكنه غير صالح للحكم بصحة رواياته على الإطلاق ، لان
روايته زمن حيرته غير مقبولة بصحيح الخبر فإذا اشتبه الأمر وفقد التميز للجهل
بالتاريخ لم يجز العمل برواياته ، لان الشك في وقت أدائها توجب الشك في صحتها ،
والحديث المشكوك الصحة لا يوجب علماً ولا عملا.
ونعم ما أفاده
الشيخ البهائي قدسسره في بعض فوائده ، من أن كثيراً من الرجال والرواة ينقل
عنه أنه كان على خلاف المذهب ، ثم رجع وحسن ايمانه والقوم يجعلون روايته من الصحاح
، مع أنهم غير عالمين بأن أداء الرواية متى وقع منه أبعد التوبة أم قبلها.
وأنا أقول :
أحمد بن محمد هذا كان على المذهب الحق في أوائل عمره ، ثم رجع عنه وتحير فيه في
أواخره ، ولم يعلم أنه رجع عنه أو بقي عليه الى أوان موته ، فكيف يجعلون روايته
وهم لا يعلمون بأن أداء الرواية متى وقع منه أبعد الحيرة أم قبلها من الصحاح؟
وروايته بعد حيرته كما فهم من صريح السؤال والجواب غير مقبولة.
قال الشهيد
الثاني في دراية الحديث : من خلط بعد استقامته بخرق وهو الحمق وضعف العقل وفسق ،
وغيرهما من القوادح ، يقبل ما روي عنه قبل الاختلاط
لاجتماع الشرائط وارتفاع الموانع ، ويرد ما روي عنه بعده وما شك فيه هل وقع
قبله أو بعده ، للشك في الشرط وهو العدالة عند الشك في التقدم والتأخر ، وانما
يعلم ذلك بالتاريخ ، أو بقول الراوي عنه حدثني قبل اختلاطه ونحو ذلك ، ومع الإطلاق
وعدم التاريخ يقع الشك فيرد الحديث . إلى هنا كلامه رفع في عليين مقامه.
وهو كما ترى
صريح فيما أسلفناه ، والحمد لله.
فان قلت : كيف
خفي هذا؟ مع وضوحه وظهور صحته على هؤلاء الإعلام والفقهاء الأجلاء العظام العارفين
بالأحوال الناقدين للرجال في تلك المدة المديدة والأزمنة الطويلة ، ولم يتفطنوا به
مع صراحته في ذمه.
قلت : هذا محض
استبعاد منك ، كأنك لم يقرع سمعك قولهم المشهور « كم ترك الأول للاخر » فهذا منه ،
وليس هو بأول قارورة كسرت في الإسلام ، فانك بعد تتبعك التام تعثر على أمثاله
كثيراً.
هذا وأما
الثاني ، فلقول النجاشي : وكان محمد ضعيفاً في الحديث .
وقول ابن
الغضائري : محمد بن خالد البرقي أبو عبد الله حديثه يعرف وينكر ويروي عن الضعفاء
كثيراً .
وهذا مما ينبهك
أن من تأخر عن الفاضل العلامة قلده في تسمية هذا السند صحيحاً من غير أن يراجع
أصول الأصحاب ، والا فكيف كان يسوغ له الحكم بصحته جزماً من غير تردد منه؟ مع قول
النجاشي : وكان محمد ضعيفاً في الحديث.
وأما الفاضل
العلامة ، فانما حكم بصحته لذهوله عما ورد في أحمد هذا من
__________________
حديث حيرته ، ولذلك وثقه في الخلاصة وقال بعد كلام نقلناه عنه سابقاً :
وعندي أن روايته مقبولة . وكان أبوه محمد عنده ثقة ، كما صرح به في الخلاصة ولعله في ذلك
اعتمد على قول الشيخ أبو جعفر الطوسي رضياللهعنه من تعديله في كتاب رجاله.
ولا شك أن قول
النجاشي أنه كان ضعيف الحديث مقدم عليه ، لوجوب تقديم قول الجارح على المعدل ،
وخاصة إذا كان الجارح مثل الشيخ الجليل النجاشي وطول يده وثبات قدمه في هذا الشأن.
وأما الشيخ
الطوسي قدس الله روحه القدوسي ، فكثيراً ما يخلط في نقد الرجال وقلب الاحوال ، كما
سنشير الى نبذة منه إن شاء الله العزيز.
هذا ولا يذهب
عليك أن بين حكم العلامة في الخلاصة بكون رواية أحمد هذا مقبولة ، وحكمه في
المختلف بكونها صحيحة ، نوع منافرة ، لان المقبول من الرواية ما يقبل ويعمل
بمضمونه من غير التفات الى صحتها وعدمها. وبهذا الاعتبار يدخل في القسم المشترك
بين الصحيح وغيره. ويمكن جعله من أنواع الضعيف ، لان الصحيح مقبول مطلقاً الا
لعارض ، بخلاف الضعيف فان منه المقبول وغيره.
ومما يرجح
دخوله في القسم الأول أنه يشمل الحسن والموثق عند من لا يعمل بهما مطلقاً ، فقد
يعمل بالمقبول منهما ، حيث يعمل بالمقبول من الضعيف بطريق أولى ، فيكون حينئذ من
القسم العام وان لم يشمل الصحيح ، اذ ليس ثم قسم ثالث ، كذا في دراية الحديث ،
فتأمل فيه.
ثم من الغريب
أن الشارح المجلسي قدسسره في شرحه على من لا يحضره
__________________
الفقيه خالف المشهور ، وحكم بأن هذا السند حسن كالصحيح .
ولا يعرف له
وجه ، لانه ان كان كغيره ذاهلا عما نقلناه في أحمد وكان أبوه محمد ثقة عنده ،
فالسند كان ينبغي أن يكون صحيحاً ، كما هو المشهور عندهم ، والا فهو المنقول آنفاً
ضعيف لا حسن كالصحيح.
فان قلت : فما
حال أحمد بن محمد بن يحيى العطار المذكور في السند؟ فلعله سماه حسناً باعتباره.
قلت : هو من
مشايخ الاجازة ، فلا يضر الجهل بحاله ، مع أن ظاهر الشهيد الثاني كما سبق تفيد
توثيقه ، لانه داخل في عموم قوله « وجماعة اخرى من أفاضل أصحابنا » فحكمه بعد ذلك
بأن جميعهم ثقات يشمله أيضاً لانه منهم. وكذا ظاهر الصدوق يفيد توثيقه ، فان
الترضية عندهم عديل التوثيق كما قيل.
قيل : وتصحيح
بعض طرق الشيخ ، كطريقه الى الحسين بن سعيد ، وطريقه الى محمد بن علي بن محبوب
وغيره ، يقتضي توثيقه ، كذا في أوسط ملا ميرزا محمد أصلا وهامشاً ، ومثله تصحيحهم
طريقها اليه لعله كان باعتبار أنه من مشايخ الاجازة ، فلا دلالة فيه على توثيقه ،
تأمل.
أقول : فبان
مما قررناه أن هذا الخبر الذي هو عمدتهم في هذه المسألة لظنهم أنه صحيح ، ضعيف ،
ومع ذلك لا يدل دلالة صريحة على عدم جواز المقاصة بعد التحليف وسقوط حق المدعي في
الدنيا مطلقاً ، بل غاية ما دل عليه سقوط حق الدعوى وعدم جواز المطالبة عند الحاكم
، لقوله عليهالسلام « ذهبت اليمين بدعوى المدعي ولا دعوى له » اللهم الا أن
يقال : لا فرق بين الدعوى والتقاص ، كما قال به الشارح المجلسي .
__________________
وفيه أن مبنى
الدعوى على الظاهر لا على الواقع ، والتقاص بالعكس فانه مبني على كون ذمة المنكر
مشغولة بحق المدعي في الواقع ، فهو يأخذ من ماله إذا ظفر به استخلاصاً لحقه الواقع
، فاسقاط يمين أحدهما لا يستتبع اسقاطها الاخر ، فتدبر.
وعلى ما قلناه
فقوله عليهالسلام « ذهبت اليمين بحق المدعي » أراد به حق الدعوى لما سبق
، وقوله بعده « ولا دعوى له » لانه كالتفسير له ، والا لكان مقتضى الظاهر أن نقول
: فلا حق له ، وإذا كان حقه باقياً في ذمته واقعاً فله مقاصه بعد التحليف كما كان
له ذلك قبله من غير فرق.
والفارق على
تقدير تسليم دلالته عليه ضعيف ، لا يعتمد عليه ولا تركن النفس شيئاً قليلا اليه ،
لمخالفته مقتضى الأصل والاستصحاب السالمين عن المعارض ، فافهمه.
وكذا قوله عليهالسلام « وان أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة » أي :
بينة ما كان له حق ، على ما يوجد في بعض النسخ ، أراد به حق الدعوى ، لقوله عليهالسلام قبل هذا الكلام « نعم » فان معناه : نعم لا دعوى له ،
فانه تصديق لقوله « قلت : وان كانت له بينة » أي قلت : لا دعوى له وان كانت له
بينة.
ويحتمل أن يكون
المراد به أنه لا يثبت بتلك البينة الواقعة بعد الاستحلاف حق ، لانها فرع صحة
دعواه ، واليمين قد أبطلت دعواه ، فلا يثبت له حق بتلك البينة المبنية على تلك
الدعوى الباطلة ، على أن كلمة « حق » غير موجودة هنا في بعض النسخ ، وفيما رواه
الشيخ في التهذيب كما سيأتي.
وعلى تقدير
وجودها فلا دلالة لها على سقوط حقه الدنيوي مطلقاً حتى لا يجوز له المقاصة ، كيف؟
وهم مصرحون بأن المنكر لو أكذب نفسه بعد الحلف وجاء بالحق بعده يحل له أخذه منه ،
بل يجوز له مطالبته ومقاصته أيضاً على ذلك التقدير
لو امتنع عن أداء الحق ، لعموم دليل المقاصة ، فعموم أدلة السقوط مخصوصة
بالعقل والنقل ، وإذا جاز تخصيصه بهذا جاز تخصيصه بصورة الامانة ، وعدم القول
المذكور في رواية الحضرمي الاتية.
والأولى
ابقاؤها على عمومها ، وحمل السقوط على سقوط الدعوى ، أو على كراهة المقاصة بعد
الاستحلاف ، توفيقاً بينها وبين صحيحة الحضرمي الموافقة لأصالة بقاء الحق بعد
التحليف على ما كان عليه قبله.
والحق أن ضعفه
يغني عن أمثال هذه التوفيقات ، للاتفاق على أن الضعيف من الأخبار لا يثبت به حكم.
وانما طولنا
الكلام في هذا المقام ليظهر حال الخبر الذي هو العمدة في اثبات هذه المسألة ،
وأقوى ما تمسك به فيه أولئك الاعلام ، والعلم عند الله الملك العلام وعند أهله
محمد وآله العلماء العظام الكرام عليهمالسلام.
ومن أدلتهم على
هذه المسألة ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد ، عن أبي
عبد الله الجاموراني ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن عبد الله بن وضاح. والسند
كما ترى في غاية الضعف.
قال النجاشي في
كتابه : محمد بن أحمد كان ثقة في الحديث ، الا أن أصحابنا قالوا : كان يروي عن
الضعفاء ويعتمد المراسيل ولا يبالي عمن أخذ ، وما عليه في نفسه مطعن في شيء ،
وكان محمد بن الحسن بن الوليد يستثني من رواية محمد ابن أحمد ما رواه عن أبي عبد
الله الرازي الجاموراني .
وبمثل ذلك قال
الشيخ في الفهرست . فدل على ضعف الجاموراني وعدم اعتبار روايته.
__________________
وقال الشيخ ابن
الغضائري : محمد بن أحمد الجاموراني أبو عبد الله الرازي ضعفه القميون ، واستثنوا
من كتاب نوادر الحكمة ما رواه ، وفي مذهبه ارتفاع .
وقال محمد بن
مسعود : سألت علي بن الحسن بن فضال عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني ، فقال :
كتاب ملعون رويت عنه أحاديث كثيرة ، وكتبت عنه تفسير القرآن كله من أوله الى آخره
، الا أني لا استحل أن أروي عنه حديثاً واحداً .
وقال ابن
الغضائري : الحسن بن علي بن أبي حمزة واقف ابن واقف ، ضعيف في نفسه ، وأبوه أوثق
منه. ثم قال وقال علي بن الحسن بن فضال : اني لأستحي من الله أن أروي عن الحسن بن
علي . وفيه ذموم أخر تركناه مخافة التطويل.
ومن الغريب أن
الشارح المجلسي قدسسره عد هذا السند في شرحه على الفقيه قوياً. ولا يعرف له
وجه ، فان القوي في اصطلاح القوم يطلق على الموثق لقوة الظن بجانبه بسبب توثيق
راويه وان كان مخالفاً ، وقد يطلق على مروي الامامي الغير الممدوح ولا المذموم ،
كذا في الدراية وشرحها للشهيد الثاني.
وقد علم أن
الحسن بن علي مع أنه واقف كذاب ملعون أضعف من أبيه ، وقد ورد فيه ما فيه. ومثله
أبو عبد الله الجاموراني ضعفه القميون ، حيث لم يعتبروا مروياته في كتاب نوادر
الحكمة. فإذا كان هذا شأن الراوي ، فكيف يعتمد على روايته ونقله في اثبات حكم شرعي
، فلعله كان كاذباً في روايته عن عبد الله بن
__________________
وضاح الثقة.
قال : كانت
بيني وبين رجل من اليهود معاملة ، فخانني بألف درهم ، فقدمته الى الوالي ، فأحلفته
فحلف وقد علمت أنه حلف يميناً فاجرة ، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة ،
فأردت أن أقبض الالف درهم التي كانت لي عنده وأحلف عليها.
فكتبت الى أبي
الحسن عليهالسلام فأخبرته أني قد حلفته فحلف وقد وقع له عندي ، فان
أمرتني أن آخذ منها الالف درهم التي حلف عليها فعلت.
فكتب عليهالسلام : لا تأخذ منه شيئاً ، ان كان ظلمك فلا تظلمه ، ولو لا
أنك رضيت بيمينه فحلفته لامرتك أن تأخذ من تحت يدك ، ولكنك رضيت بيمينه ، فقد مضت
اليمين بما فيها ، فلم آخذ منه شيئاً ، وانتهيت الى كتاب أبي الحسن عليهالسلام .
ان قلت : ضعف
هذه الأخبار منجبر بالشهرة بين الأصحاب وعملهم بها.
قلت : جوابه
يعلم مما أفاده الشهيد الثاني في شرح الدراية ، وهو انا نمنع من كون هذه الشهرة
مؤثرة في خبر الضعيف ، فان هذا انما يتم لو كانت الشهرة متحققة قبل زمن الشيخ ،
والامر ليس كذلك ، فان من قبله من العلماء كانوا بين مانع من خبر الواحد مطلقاً
كالمرتضى والاكثر على ما نقله جماعة ، وبين جامع للاحاديث من غير التفات الى تصحيح
ما يصح ورد ما يرد.
وكان البحث عن
الفتوى مجرده بين الفريقين قليلا جداً ، كما لا يخفى على من اطلع على حالهم ،
فالعمل بمضمون الخبر الضعيف قبل زمن الشيخ على وجه يجبر ضعفه ليس بمتحقق ، ولما
عمل الشيخ بمضمونه في كتبه الفقهية جاء من بعده من الفقهاء واتبعه منهم عليه
الاكثر تقليداً له منهم الا من شذ منهم.
ولم يكن منهم
من يسبر الاحاديث وبعنت على الأدلة بنفسه ، سوى الشيخ
__________________
المحقق ابن ادريس ، وقد كان لا يجيز العمل بخبر الواحد مطلقا ، فجاء
المتأخرون بعد ذلك ووجدوا الشيخ ومن تبعه قد عملوا بمضمون ذلك الخبر الضعيف لامر
ما رواه في ذلك لعل الله تعالى يقدرهم فيه ، فحسبوا العمل به مشهوراً ، وجعلوا هذه
الشهرة جابرة لضعفه ، ولو تأمل المنصف وحرر المنقب لوجد مرجع ذلك كله الى الشيخ
ومثل هذه الشهرة لا يكفي في خبر الضعيف.
قيل : وفيه نظر
ظاهر ، فان الشيخ صرح في الفهرست بأن في الأخبار الضعيفة ما هو معتمد بين الطائفة ، وكذا
الصدوق في من لا يحضره الفقيه ، وهذا أمر واضح لهم في العمل بها ، وان كان لا
يجدينا نفعاً ، لما تبيناه من كثرة وقوع الخطأ في الاجتهاد ، وان مبنى الامر على
الظن لا على القطع ، فالموافقة لهم على ما قالوه تقليد لا يسوغ.
وبما أفاده في
آخر كلامه يندفع ما ربما يقال : ان رواية ابن أبي يعفور السابقة وان كانت ضعيفة
السند ، الا أن الشيخ الصدوق قال بكونها حجة بينه وبين الله ، ولذا أوردها في
الفقيه في باب بطلان حق المدعي بالتحليف ، مع التزامه في صدر الكتاب أن لا يروي
فيه الا ما يعمل به ، فدل على أنها معتمد عليها بين الطائفة.
وجه الاندفاع :
أن عملهم بها لا يجدينا ، لانه كان مبنياً على الظن والاجتهاد فالموافقة لهم عليه
تقليد وهو غير جائز ، بل لا بد لكل فقيه في كل مسألة ترد عليه من اجتهاد فيها.
أقول : ومما
ينبهك وقوع الخطأ في الاجتهاد وعدم جواز تقليدهم على ما قالوه أنهم أطبقوا على صحة
رواية ابن أبي يعفور ، وكان مدار عملهم عليها ، لظنهم أنها صحيحة صريحة في حرمة
المقاصة ، ووجوب رد البينة بعد التحليف ، وقد تبين
__________________
مما قررناه أنها ضعيفة لا يسوغ العمل بها على حال ، فافهمه.
واعلم أن الشيخ
تارة يشترط في قبول الرواية الايمان والعدالة ، كما قطع به في كتبه الأصولية ،
وهذا منه يقتضي أن لا يعمل بالأخبار الحسنة والموثقة. واخرى يكتفي في العدالة
بظاهر الاسلام ولم يشترط ظهورها ، ومقتضاها العمل بها مطلقا كالصحيح.
ووقع له في كتب
الحديث غرائب ، فتارة يعمل بالخبر الضعيف مطلقا ، حتى أنه يخصص به أخباراً كثيرة
صحيحة حيث يعارضه باطلاقها. وتارة يصرح برد الحديث لضعفه وأخرى يرد الصحيح معللا
بأنه خبر واحد لا يوجب علماً ولا عملا ، كما عليه المرتضى وأكثر المتقدمين.
ومن اضطرابه في
معرفة الاحوال ونقد الرجال ، فانه يقول في موضع ان الرجل ثقة ، وفي آخر أنه ضعيف ،
كما في سالم بن مكرم الجمال ، وسهل بن زياد الادمي الرازي. وقال في الرجال محمد بن
علي بن بلال ثقة . وفي كتاب الغيبة انه من المذمومين .
وفي عبد الله
بن بكير أنه ممن عملت الطائفة بخبره بلا خلاف ، كذا في العدة وفي الإستبصار
في أواخر الباب الأول من أبواب الطلاق صرح بما يدل على فسقه وكذبه وأنه يقول برأيه
.
وفي عمار
الساباطي انه ضعيف لا يعمل بروايته كذا في الإستبصار ، وفي العدة أن الطائفة لم
تزل تعمل بما يرويه. وأمثال ذلك منه كثير جداً.
ومن هذا
اضطرابه كيف يسوغ تقليده في معرفة أحوال الرجال؟ أم كيف
__________________
يفيد اخباره بأن في الأخبار الضعيفة ما هو معتمد بين الطائفة ظناً على حال
من الاحوال.
والظاهر أن
صدور أمثال ذلك منه قدسسره كان للعجلة الدينية اللازمة له رحمهالله ، مع عدم وفاء الوقت للمراجعة والمعاودة ، تجاوز الله
عنا وعنهم بمنه وكرمه انه جواد كريم ، ولما صدر عن عباده غفور رحيم.
الفصل
الثانى
[
التحقيق في أخبار المسألة سنداً ومتناً ]
أبو بكر
الحضرمي مشترك بين محمد بن شريح وعبد الله بن محمد ، والأول ثقة كما نص عليه
النجاشي . وأما الثاني ، فكوفي تابعي سمع من أبي الطفيل عامر بن
واثلة ، روي عن الباقر والصادق عليهماالسلام ، حسن العقيدة صحيح المذهب.
روى الشيخ في
باب المحتضرين من التهذيب بطريق صحيح عن أبي بكر هذا أنه قال : مرض رجل من أهل
بيتي فأنيته عائداً له ، فقلت : يا بن أخي ان لك عندي نصيحة أتقبلها؟ فقال : نعم ،
فقلت : قل أشهد أن لا اله الا الله فشهد بذلك ، فقلت : وقل ان محمداً رسول الله صلىاللهعليهوآله فشهد بذلك ، فقلت : هذا لا تنتفع به الا أن يكون على
يقين منك ، فذكر أنه منه على يقين.
فقلت : قل أشهد
أن علياً وصيه وهو الخليفة من بعده والامام المفترض الطاعة من بعده فشهد بذلك ،
فقلت : انك لن تنتفع بذلك حتى يكون منك على يقين ، فذكر أنه منه على يقين ، ثم
سميت له الأئمة عليهمالسلام رجلا رجلا ، فأقر بذلك وذكر أنه منه على يقين.
__________________
فلم يلبث الرجل
أن توفي ، فجزع عليه أهله جزعاً شديداً ، قال : فغبت عنهم ثم أتيتهم بعد ذلك ،
فرأيت عزاءً حسناً ، فقلت : كيف عزاؤك أيتها المرأة؟ فقال : والله لقد أصبنا
بمصيبة عظيمة بوفاة فلان رحمهالله ، وكان مما سخى بنفسي لرؤيا رأيتها الليلة ، قلت : وما
تلك الرؤيا؟ قالت : رأيت فلاناً تعني الميت حياً سليماً ، فقلت : فلاناً؟ قال :
نعم ، فقلت : انك ميت ، فقال لي : ولكني نجوت بكلمات لقنيهن أبو بكر ، ولو لا ذلك
كدت أهلك .
وعن عمرو بن
إلياس قال : دخلت أنا وأبي إلياس بن عمرو على أبي بكر الحضرمي وهو يجود بنفسه ،
فقال : يا أبا عمرو ليست هذه بساعة الكذب ، أشهد على جعفر بن محمد عليهماالسلام أني سمعته يقول : لا تمس النار من مات وهو يقول بهذا
الامر .
هذا ونحوه يشهد
بحسن اعتقاده ومدحه ، ولذلك عدوا حديثه حسناً إذا لم يكن في الطريق قادح من غير
جهته.
والحق أن تتبع
حاله يعطي أنه كان ثقة عندهم ، كما أشار اليه الفاضل القهپائي في حاشية كتابه
الموسوم بمجمع الرجال عند ترجمة عبد الله هذا ناقلا عن الكشي وتقدم في البراء بن
عازب بقوله فيه : ان عبد الله هذا من أصحابنا الجليل القدر العظام والصفي منهم حتى
يرتقى حاله الى سنام التوثيق .
وفي الكشي في
ترجمة البراء بن عازم قال الكشي : روى جماعة من أصحابنا منهم أبو بكر الحضرمي ،
وأبان بن تغلب ، والحسين بن أبي العلاء ، وصباح المزني ، عن أبي جعفر وأبي عبد
الله عليهماالسلام أن أمير المؤمنين عليهالسلام
__________________
الحديث .
قال الفاضل
المذكور في حاشيته على هذا الموضع : فيه ذكر عبد الله بن محمد أبي بكر الحضرمي
وفلان وفلان وعدهم على وجه يظهر اعتبارهم جداً حتى يرتقى الى ذروة التوثيق ، فتأمل
حتى يظهر لك وجه ذلك فتذعن .
أقول : وجهه
ظاهر ، فان تخصيص الكشي هؤلاء المذكورين من بين جماعة من أصحابنا بالذكر يفيد أنهم
من مشاهيرهم المعتمدين عليهم ، ومن أعيانهم المعروفين بالصدق والثقة والصلاح ،
الذين يقبل قولهم ونقلهم ، ولا يقدح فيهم قادح ، ولا ينكر نقلهم منكر ، والا لكان
تخصيصهم من بينهم بالذكر لغواً لا وجه له ، وهو خلاف المتعارف ، فيدل على جلالة
قدرهم وكمال اعتبارهم في أبواب الروايات والنقول حتى يرتقى حالهم الى سنام التوثيق
، كما أفاد وأجاد ، وهو كذلك.
نظيره أن
فقيهاً إذا قال : قال بالمسألة الفلانية جماعة من أصحابنا منهم الصدوق والشيخان
والمرتضى ، يفهم منه أنهم من أعيان الفقهاء المعتمدين على فقههم واجتهادهم في
أبواب الفقه ، وذلك كأنه ظاهر بأدنى تأمل.
فبان أن أبا
بكر هذا من أفاضل الرواة المعتمدين عليهم والموثوقين بهم ، بل يستفاد بحسب العرف
من تقديمه ذكراً في مثل هذا الموضع على جماعة الموثقين المنتجبين من بين جماعة من
أصحابنا أنه أوثقهم وأورعهم وأصدقهم في الرواية ، وأشهرهم في الاعتماد على قوله
ونقله.
وقد عد آية
الله العلامة في المختلف في مسألة العقد على الاختين روايته من الصحاح ، حيث قال :
احتج ابن الجنيد بما رواه أبو بكر الحضرمي في
__________________
الصحيح ، قال قلت لابي جعفر عليهالسلام الحديث . فلا يضر عدم التصريح بتوثيقه.
واليه أشار
الشارح الأردبيلي قدسسره في شرحه على الارشاد ، بعد نقل رواية ابن مسكان عن أبي
بكر ، قال قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي ان وقع له
قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقي؟ قال فقال : نعم ولكن لهذا كلام ، قلت : وما هو؟
قال : تقول اللهم اني لم آخذه ظلماً ولا خيانة وإنما أخذته مكان مالي الذي أخذ مني
لم أزدد شيئا عليه . بقوله : ولا يضر عدم التصريح بالامام وعدم التصريح
بتوثيق أبي بكر ، ثم قال : ومثلها رواية سيف ابن عميرة عن أبي عبد الله عليهالسلام .
أقول : أما عدم
اضرار الأول ، فلما في السند الثاني من التصريح بالامام عليهالسلام فيعلم منه أن المراد بالمضمر في السند الأول هو عليهالسلام ، على أن عدم العلم به فيه غير مضر ، لان المتن في
السندين والراوي فيهما واحد ، فإذا صرح في أحدهما بالامام كفى ذلك حجة.
وأما عدم اضرار
الثاني ، فلما عرفته من حال أبي بكر هذا وجلالة قدره.
وبالجملة هذا
الحديث منقول في التهذيب ، وكذا في الإستبصار بسندين صحيحين : أحدهما عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان ،
عن ابن مسكان ، عن أبي بكر ، لان ابن مسكان وان كان مشتركاً بين عمران وعبد الله
ومحمد والحسين.
والاولان ثقتان
جليلان ، دون الاخيرين فانهما مجهولان ، ولا سيما للأول
__________________
منهما فانه مجهول مطلق ، الا أنهم ذكروا في باب الالقاب بالابن أن أكثر
اطلاق ابن مسكان انما هو على عبد الله الثقة.
ثم ان الحسين
بن سعيد من تلامذة صفوان بن يحيى البجلي ويروي عنه كثيراً ، وصفوان هذا من تلامذة
عبد الله بن مسكان ويروي عنه ، كل ذلك مع ظهوره بأدنى تتبع مستفاد من الفهرست
أيضاً.
فهذا ونحوه
قرائن بها يقطع المشتركة ، ويتعين أن المراد بابن مسكان في أمثال هذا السند هو عبد
الله لا غير ، لان عمران بن مسكان الثقة يروي عنه حميد ، والحسين بن مسكان المجهول
يروي عنه جعفر بن محمد بن مالك أحاديث فاسدة كما صرحوا به.
وأما رواية
صفوان عنهما ، أو عن محمد بن مسكان ، فغير معهودة في كتب الأخبار والمطلق ينصرف
الى المشهور المعروف فيهم ، وهو عبد الله الثقة ، فتوقف الشارح الأردبيلي رحمهالله في شرحه على الارشاد في أمثال هذا السند ، لاشتراك ابن
مسكان ، ليس في موقفه. والظاهر أنه لما ذكرناه من القرائن اشتهر بين الأصحاب في
أمثال هذا السند أنها صحيحة ، فتأمل.
والثاني : عن
الحسن بن محبوب ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي بكر ، عن أبي عبد الله عليهالسلام.
قيل : في مثل
هذا السند انه صحيح على الظاهر ، مع احتمال توثيقه بابن عميرة. وفيه أن المشهور
بين أصحابنا أن روايات سيف هذا صحيحة إذا لم يكن في الطريق مانع من غير جهته ،
ولذلك روى الشهيد الثاني روايته صحيحة في غير موضع من شرحه على اللمعة ، ووثقه
الشيخ في الفهرست ، والنجاشي
__________________
في كتابه .
وقال الشهيد في
شرح الارشاد في نكاح الامة باذن المولى : وربما ضعف بعضهم سيفا.
والعجب منه في
هذا كثيراً ، فانه ثقة مجمع عليه الشيخان ، وكأن هذا منه اشارة الى ما في كتاب ابن
شهر آشوب من أن سيف بن عميرة من أصحاب الكاظم عليهالسلام واقفي . ومنه يظهر وجه قوله « مع احتمال توثيقه بابن عميرة ».
واعلم أن طريق
الشيخ في التهذيب الى كل منهما ، أعني : ابن سعيد وابن محبوب صحيح ، كما يظهر من
النظر في مشيخته .
ثم قال الشارح
الأردبيلي رحمهالله متصلا بما نقلنا عنه آنفاً : وهذه ـ أي : رواية أبي بكر
الحضرمي ـ قد دلت على جواز الاخذ وان حلف ، فكأنه محمولة على أنه حلف من غير أن
يحلفه صاحب الحق عند الوالي ، فانه لو أحلفه يسقط حقه في الدنيا ، وليس له أن
يدعيه ويأخذه على المشهور ، لصحيحة عبد الله بن أبي يعفور في الفقيه عن أبي عبد
الله عليهالسلام ونقلها كما سبقت.
ثم قال :
ولصحيحة سليمان بن خالد قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ، ثم وقع له
عندي مال أفآخذه مكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع هو؟ فقال : ان خانك
فلا تخنه ، فلا تدخل فيما عبته عليه .
__________________
وحملت على
الاستحلاف ، لما تقدم من صحيحة عبد الله بن أبي يعفور ، ولرواية ابراهيم بن عبد
الحميد عن خضر بن عمرو النخعي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده ، قال : ان
استحلفه فليس له أن يأخذ بعد اليمين شيئاً وان حبسه فليس له أن يأخذ منه شيئاً ،
وان تركه ولم يستحلفه فهو على حقه .
ونقل مثلها
بعينه في لفظ عن الشيخ في الحسن عن ابراهيم بن عبد الحميد النخعي ، وهو غلط ،
فانه ليس بالنخعي بل هو خضر ، وهو موجود في الكافي والفقيه وفي
نسختي من التهذيب أيضاً ، وفي أكثر النسخ عن النخعي ، فكأن « عن » ساقط عن نسخته.
ولخضر هذا
نوادر روى عنه النجاشي باسناده عن ابراهيم المذكور فهو تلميذه ، فحسن الخبر
غير ظاهر ، اذ لم يعلم من حال خضر غير ذلك ، ومع قطع النظر عنه ابراهيم قيل : ثقة
، وقيل : واقفي ، ذكره المصنف في الخلاصة ، وعلى تقدير توثيقه فالخبر صحيح ، وحسن في الكافي ،
نعم هو حسن في التهذيب لابراهيم بن هاشم ، الا أن يراد أن سبب حسنه ابراهيم بن عبد
الحميد ، كما أشار اليه عند ذكره عيسى بن أبي منصور في الخلاصة.
أقول : صحيحة
سليمان بن خالد مثل صحيحة أبي بكر الحضرمي من غير مائز ، فحمل احداهما على
الاستحلاف دون الاخرى تحكم بحت وتعسف صرف
__________________
اذ المتبادر من قولهم « فلان أنكر حق فلان وحلف عليه » أنه حلف باستحلاف
صاحب الحق عند الوالي وبأمره.
يدل على ذلك
صريحاً ما سبق في كلام الشيخ في أوائل الرسالة من قوله « إذا حلف المدعى عليه ثم
أقام المدعي البينة بالحق لم يحكم له بها » اذ لا شك أن المراد به كما هو المتبادر
منه أيضاً إذا حلف المدعى عليه باستحلاف المدعي كما يفهم من هذا هذا ، فكذا يفهم
من ذاك ذاك من غير فرق.
ولذلك أوله رحمهالله الى ما أوله اليه ، وجعل الباعث عليه قولهم المشهور
المستند الى رواية ابن أبي يعفور ، والباعث على ذلك كما عرف ضعيف ، وطريق التوثيق
بينهما غير منحصر فيما ذكره ، لجواز حمل الثانية على الكراهة والأولى على الجواز ،
أو بالحمل على جواز المقاصة مع القول المذكور في صحيحة الحضرمي ، وعدمه مع عدمه.
على انا نقول :
فدلالة صحيحة سليمان بن خالد على عدم جواز المقاصة بعد التحليف مطلقا ممنوعة ،
وانما دلت عليه في صورة كون مال الغريم عنده أمانة كما يدل عليه قوله عليهالسلام « ان خانك فلا تخنه » فهذا قرينة أن المالين كانا عند
الرجلين بطريق الامانة ، فتدل على عدم جواز الخيانة في الامانة ، ولو في صورة
التقاص ، لا على عدم جواز المقاصة بعد الاحلاف ، كما هو المطلوب.
ونحن نقول
بالأول ، لدلالة أخبار كثيرة صحيحة عليه. منها : صحيحة معاوية ابن عمار عن أبي عبد
الله عليهالسلام ودخلت عليه امرأة وكنت أقرب القوم اليها ، فقالت لي
مسألة ، فقلت : عما ذا؟ فقالت : ان ابني مات وترك ما لا في يد أخي فأتلفه ، ثم
أفاد مالا فأودعنيه ، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شيء؟ فأخبرته بذلك ، فقال :
لا ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : أد الامانة الى من ائتمنك ولا تخن من خانك » كذا
__________________
في شرح الارشاد للاردبيلي.
ولعله رحمهالله نقلها عن غريب ، فانها فيه في كتاب المكاسب بسند مجهول
هكذا : الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن ابي أخي الفضيل بن يسار قال : كنت
عند أبي عبد الله عليهالسلام ودخلت امرأة وكنت أقرب القوم اليها الحديث من غير تفاوت
في المتن ، والابن المذكور مجهول غير مذكور في الرجال في باب الالقاب بالابن. وهذا
أيضاً غريب ، وكونه في وقتين وبالنسبة الى امرأتين أغرب.
ولنرجع الى ما
كنا فيه فنقول : إذا لم يجز المقاصة من الامانة في غير صورة التحليف ، ففي صورته
أولى. وأما رواية ابراهيم بن عبد الحميد ، فمع اضطرابها في السند وجهالتها في
التهذيب ، سواء كان الراوي خضر بن عمر النخعي كما في الكافي ، أو النخعي كما في
التهذيب ، أو ابراهيم بن عبد الحميد كما نقله العلامة في المختلف عن الشيخ وحسنه ،
وذلك أن خضر النخعي على ما فهمه رحمهالله مهمل فالسند مجهول.
وقد عرفت فيما
سبق أن ابراهيم هذا مختلف فيه ، فذكره الكشي في ثلاث مواضع من كتابه من غير توثيق
ووثقه الشيخ في الفهرست ، وأثبت له أصلا ثم أسنده بسنده اليه. وسكت عن قدحه ومدحه
النجاشي ، الا أنه قال : له كتاب نوادر يرويه عنه جماعة ، ثم أسنده باسناده اليه.
وأنت تعرف أن
الجرح مقدم على التعديل ، وخاصة إذا كان الجارح مثل الكشي وثبات قدمه ومعرفته
الاحوال ونقد الرجال ، والشيخ كثيراً ما يضطرب في قبولهم ونقدهم ، كما أومأنا الى
جملة منه في بعض رسائلنا ، وقد سبق ما فيه كفاية لللبيب فلا عليه كثير اعتماد في
هذا الباب ، والله أعلم بالصواب.
__________________
لا تدل دلالة
صريحة على عدم جواز المقاصة بعد التحليف ، لان قوله عليهالسلام « فليس له أن يأخذ منه بعد اليمين شيئاً » يعني : بطريق
الدعوى إذا لم تكن له بينة على ما ادعاه نسيها وقت التحليف ، لانه ذهبت اليمين
بدعوى المدعي ، فلا دعوى له.
ثم لا يذهب
عليك أن حكمه رحمهالله بصحة هذه الرواية على تقدير توثيق ابراهيم ، مع أنهم لم
ينصوا على توثيق خضر ، كما اعترف به فيما تقدم منه وهو من رجال هذا السند ، مبني
على أنه أراد بصحته فيما عداه ، فانهم كثيراً ما يوصفون الخبر بالصحة بهذا المعنى
، كما صرح رحمهالله به في غير موضع من شرحه على الارشاد. ومثله الشهيد
الثاني في شرحه على اللمعة في أوائل القول في شرائط القصاص.
والظاهر أن هذا
مراد الشارح المجلسي في شرحه على الفقيه ، حيث قال : وروى الشيخ والكليني في
الصحيح عن ابن أبي عمير ، عن ابراهيم بن عبد الحميد عن خضر النخعي ، عن أبي عبد
الله عليهالسلام ، ونقل الحديث كما سلف. ويظهر منه أن خضر كان موجوداً
في نسخته من التهذيب ، كما كان موجوداً في نسخة الشارح الأردبيلي على ما مر ، وسقط
هو وكلمة « عن » كلاهما عن نسخة الفاضل الحلي ولذلك حكم بحسن الخبر لابراهيم بن
هاشم ، لان ابراهيم بن عبد الحميد وقتئذ كان ثقة عنده كما مر في كلام الشيخ.
والسند في
التهذيب هكذا : علي بن ابراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير عن ابراهيم بن عبد
الحميد عن النخعي ، عن أبي عبد الله عليهالسلام .
أقول : وفوق
هذا كلام ، وهو أن خضر بن عمرو لما كان امامياً لا قدح
__________________
فيه ، وله كتاب نوادر يروي أحاديثه عن الباقر والصادق عليهماالسلام ، كما صرح به النجاشي .
ومنه يظهر أنه
كان من رواتهما ، فهو ممدوح وحديثه حسن ، كما يظهر ذلك من بعض أصحابنا في مقام
بيان أقسام الحديث ، حيث قال : وإذا كان الرجل راوياً عن أحدهم عليهمالسلام بأن يذكر في رواية ولو حديثاً واحداً ولا يذكر ذمه ،
فهو معتبر ممدوح.
ثم قال : ولو
لم يكن الرجل صاحب أصل وكتاب وتأليف ورواية مع عدم التصريح بذم فيه ، وفيه مدحاً
كلياً معتبراً شرعاً ، لكان ذكر ما ذكر في محل العبث كما في كتاب رجال الشيخ كما
لا يخفى ، قال : وفي خطب كتاب رجاله وفهرسته وكتاب النجاشي تصريح بما ذكر.
أقول : وبما
ذكرناه فحسن الخبر ظاهر لا سترة فيه.
هذا وفي مرسلة
ابراهيم بن عبد الحميد عن بعض أصحابه في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده
اياه فيحلف يمين صبر أله عليه شيء؟ قال : ليس له أن يطلب منه ، وكذلك ان احتسبه
عند الله ، فليس له أن يطلبه منه .
وهذه مع
ارسالها ـ والمراسيل مطلقا وان كان المرسل مثل محمد بن أبي عمير لا اعتماد عليها ،
كما أوضحناه في بعض رسائلنا ـ مجهولة أيضاً ، لان في طريقها عبد الرحمن بن حماد ،
وهو لا قدح فيه ولا مدح ، سوى أن له كتاباً رواه عنه الشيخ في الفهرست بسنده اليه ،
ولعله لذلك سماه الشارح المجلسي في شرحه على الفقيه قوياً كالموثق . وفيه ما فيه.
__________________
وبعد اللتيا
والتي فهي مضمرة غير مصرح فيها بالامام ، فلعله كان عن غيره بطريق الفتوى ، مع أن
عدم جواز الطلب المستلزم للدعوى الساقطة باليمين لا يدل على عدم جواز المقاصة ،
فتأمل فيه.
الفصل
الثالث
[
تحقيق حول المسألة ]
ظني أن أكثر
المتأخرين من أصحابنا تبعوا الشيخ ، وظنهم بصحة رواية ابن أبي يعفور المؤيدة
بغيرها من الحسان والموثقات ، مع ظنهم بصراحتها في المطلب.
قال الشيخ في
التهذيب بعد نقل جملة من تلك الأخبار : لا تنافي بينها ، لان لكل منها وجهاً ،
فالذي أقوله أنه من كان له على رجل مال ، فأنكره فاستحلفه على ذلك وحلف ، فلا يجوز
له أن يأخذ من ماله شيئاً على حال.
لما روي عن
النبي عليه وآله السلام أنه قال : من حلف بالله فليصدق ، ومن حلف له فليرض ، ومن
لم يرض فليس من الله في شيء.
وأما إذا أنكر
المال ولم يستحلفه عليه ، ثم وقع له عنده مال ، جاز له أن يأخذ منه بقدر ماله بعد
أن يقول الكلمات التي ذكرناها .
وأشار بها الى
ما في رواية الحضرمي السابقة. والظاهر أنه رحمهالله حمل هذه الرواية على أن المنكر حلف من غير أن يستحلفه
المدعي ، كما سبق في كلام الشارح الأردبيلي ، ولذلك أدرجها في هذا الشق ، وأشار
اليها بقوله بعد أن يقول الى آخره ، بل الظاهر أن هذا الشارح رحمهالله استفاد ما أفاد في كلام
__________________
السابق من كلام الشيخ هذا ، كما يشير اليه قوله « وكأنه محمولة » وقد عرفت
ما في هذا الحمل والذي بعثهم عليه.
فان قلت : هل
واجب هذا الدعاء الذي أشار اليه الشيخ أم هو مستحب؟
قلت : ظاهر
كلامه يفيد أنه واجب. قيل : ويؤيد عدم الوجوب عدم ذكره في بعض الأخبار وعدم ذكر
الأصحاب ، فبعد تسليمه ألا حجية فيه مع أن الشيخ ذكره هنا والصدوق في الفقيه ، حيث
قال : فجائز له أن يأخذ منه حقه بعد أن يقول ما أمرته بما قد ذكرته.
فان قلت : على
تقدير وجوبه هل يجب بما ورد في الرواية أم يكفي بما يفيد مفاده عن أية لغة كانت؟ قلت
: لا شك في أن مراعاة المأثور إذا كان ميسوراً أحسن وأولى. وأما إذا لم يكن مقدوراً
، فيكفي ما يفيد مفاده من أية لغة كانت ، ويؤيده اختلاف ما ورد فيه من الكلمات
المأثورة.
ففي رواية يقول
: اللهم اني انما آخذ هذا مكان مالي الذي أخذه مني. وفي أخرى يقول : اللهم اني لم
آخذه ظلماً ولا خيانة وانما أخذته مكان مالي الذي أخذه مني لم أزدد شيئاً عليه .
ثم قال رحمهالله : ومتى كان له مال فجحده ، ثم استودعه الجاحد مالا ،
كره له أن يأخذ منه ، لان هذا يجري مجرى الخيانة ، ولا يجوز له الخيانة على حال .
وفيه أن المروي
عن النبي صلىاللهعليهوآله مع كونه غير معلوم الصحة لا يدل دلالة صريحة على حرمة المقاصة
بعد التحليف ، بل لا يفهم منه أن حلفه كان بتحليف
__________________
صاحب الحق له أم كان ابتداءً منه ، لحق مالي ، أم لامر ديني أو دنيوي ، من
أبواب المعاملات أو المعاشرات أو غيرها.
وحمله على
الاستحلاف ، كما في شرح الارشاد للشارح الأردبيلي بعد نقله حيث قال : فان الظاهر
أن المراد مع الاستحلاف ، فتأمل. بعيد.
ولعله استفاده
من اللام في حلف له بجعلها اللام الاجل ، أي : من حلف لاجله بأن يكون هو سبباً
للحلف ولولاه لما حلف ، فتأمل.
سلمنا أنه كان
بتحليف صاحب الحق ، ولكن وجوب الرضاء بالحلف معناه ترك الدعوى بعده إذا لم يكن له
بينة على الحق نسيها وقت التحليف ، لا وجوب الرضاء بأن يكون المال للحالف وترك
مقاصة الدنيوية مطلقا ، فانه لا يدل ، فمن يدعيه فعليه البيان.
أقول : وقريب
مما رواه الشيخ هنا ما رواه الكليني عن أبي حمزة عن علي بن الحسين عليهماالسلام قال قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا تحلفوا الا بالله ، ومن حلف بالله فليصدق ، ومن
حلف له بالله فليرض ، ومن حلف له بالله فلم يرض فليس من الله عزوجل .
وعن أبي أيوب
الخزاز عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : من حلف بالله فليصدق ، ومن لم يصدق فليس من الله
، ومن حلف له بالله فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله .
والظاهر أن في
شيء مراد هنا ، كما ذكر فيما رواه الشيخ ، فيدل على غاية حقارته وهو انه على الله
تعالى ، حيث أنه لا يعده شيئاً لعدم احترامه وتعظيمه اسمه المحترم المعظم ، أو
المراد أنه اسمه تعالى لا يعده منه ، أي : من عبادة اذ لو كان منهم لعظم اسمه
المعظم وبجله ، فكان لا يحلف به الا صادقاً ، وإذا حلف له كان
__________________
راضياً بحلفه له باسمه ، فان من أدب العبيد أن يعظموا أسماء مواليهم ، حتى
لو حلف لهم بها رضوا بذلك هذا ، فهو يؤول الى الأول وان لم يذكر فيه لفظ في شيء
فتأمل.
ثم أقول : وإذا
جاز حمل النهي للأخبار الواردة في النهي عن المقاصة من الامانة على الكراهة ،
فليجز ذلك في الأخبار الواردة في النهي عن المقاصة بعد الاحلاف ، والا فما المائز
بينهما مع عموم دليل المقاصة ، وخصوص خبر دل بظاهره على جواز الاخذ من مال الحالف
بعد حلفه ، بشرط أن يقول الكلمات السالفة.
فلم حملوه على
التحريم؟ مع وجود الأصل والاستصحاب المقتضيين لبقاء اباحة المقاصة بعد التحليف على
ما كان عليه قبله ، وأي فرق بين قوله في صحيحة معاوية : أد الامانة الى من ائتمنك
ولا تخن من خانك ، وقوله في صحيحة سليمان ابن خالد : ان خانك فلا تخنه ولا تدخل
فيما عبته عليه. حيث حملوا هذا على التحريم والأول على الكراهة من غير مائز.
ثم لا يذهب
عليك أن دليله على كراهة المقاصة في صورة الوديعة ، وهو قوله « لان هذا يجري مجرى
الخيانة ولا يجوز له الخيانة على حال » تفيد حرمتها ، كما هو الظاهر أيضاً من قوله
عليهالسلام : أد الامانة الى من ائتمنك ولا تخن من خانك ، وقوله :
ان خانك فلا تخنه ، وقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ ) مع أن هذا خيانة نفسها لا أنه يجري مجراها تأمل.
بل نقول :
الادلة الدالة على تحريم المقاصة من الامانة مطلقا أكثر وأقوى بل هو اجماعي ، فكيف
يدعى كراهتها وتحريم المقاصة بعد التحليف ، لا دليل عليه
__________________
بعد التأمل والنظر ، كما لا يخفى على أهل البصر.
وقال الشارح
الأردبيلي قدس رمسه في شرحه على الارشاد بعد نقله قول المصنف « ولو كان المال
وديعة كره على رأي » : إذا كان المال عند صاحب الحق وديعة ، هل يجوز له الاخذ منه
أم لا؟ قيل : لا ، وهو مذهب الشيخ في النهاية وجماعة وادعي عليه الإجماع.
ويدل عليه عموم
أدلة عدم جواز الخيانة في الوديعة ، مثل قوله تعالى ( إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) وغيره سنة وهي أخبار كثيرة دالة على المبالغة في أداء
الامانة واعطائها الى أهلها.
مثل صحيحة أبي
ولاد عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : كان أبي عليهالسلام يقول : أربع من كن فيه كمل ايمانه ، ولو كان ما بين
قرنه الى قدمه ذنوب لم ينقصه ذلك ، قال : هي الصدق ، وأداء الامانة ، والحياء ،
وحسن الخلق .
ورواية الحسين
بن مصعب قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : ثلاثة لا عذر فيها لاحد ، أداء الامانة الى البر
والفاجر ، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين ، والوفاء بالعهد للبر والفاجر . ولا يضر جهل
الحسين.
ورواية عمار بن
مروان قال قال أبو عبد الله عليهالسلام في وصية له : اعلم ان ضارب أبي بالسيف وقاتله لو ائتمني
على سيف أو استشارني ثم قبلت ذلك منه لاديت اليه الامانة .
ورواية عمر بن
أبي حفص قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : اتقوا الله
__________________
وعليكم بأداء الامانة الى من ائتمنكم ، فلو أن قاتل أبي ائتمني على أداء
الامانة لاديتها اليه .
وغيرها فانه
كثيرة وخصوصاً صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام ودخلت عليه امرأة ونقلها كما سبقت ، وصحيح سليمان بن
خالد المتقدمة ، فافهم.
وقيل : نعم كأنه مع الكراهة ، وهو مذهب الاستبصار بل والتهذيب أيضاً مع التأمل
والمصنف والمحقّق وابن ادريس ، وهو بعيد عنه فتأمل.
أقول : فيما
نقلناه عن دراية الحديث أن الشيخ محمد بن ادريس كان لا يجيز العمل بخبر الواحد
مطلقا ، صحيحاً كان أم سقيماً ، فكيف عمل هنا بهذه الأخبار الاتية ، وجعلها مخصصة
لعموم أدلة عدم جواز الخيانة والامانة كتاباً وسنة ، بل واجماعاً كما مر ، فهذا
وجه يبعد هذا القول عنه ، لانه لم ينعقد عليه اجماع ولا دل عليه كتاباً وسنة
متواترة وهو لا يعمل بخبر الواحد ، والأصل عدم جواز الخيانة في الامانة ، وخاصة
إذا دل عليه الكتاب والسنة ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ ) .
ثم قال رحمهالله متصلا بما نقلناه عنه : لرواية علي بن سليمان الثقة قال
: كتب اليه رجل غصب رجلا مالا أو جارية ، ثم وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل
ما خانه أو غصبه ، أيحل له حبسه عليه أم لا؟ فكتب عليهالسلام نعم يحل له ذلك ان كان بقدر حقه ، وان كان أكثر منه
فيأخذ منه ما كان عليه ويسلم الباقي اليه.
فيها جواز
الاخذ من غير الجنس ومن الوديعة أيضاً ، ولكن في سند هذه تأمل ، لانه نقل في
التهذيب عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن عيسى
__________________
عن علي بن سليمان . وفي الإستبصار بدل عيسى يحيى .
وفي هذا اشكال
، لان علي بن سليمان ليس الا واحد ، وهو ممن له اتصال بصاحب الأمر عليهالسلام ، فنقل محمد بن عيسى عنه غير معقول ، لانه من رجال
الصادق عليهالسلام ، وكذا نقل محمد بن الحسن عن محمد بن يحيى. والظاهر صحة
ما في رواية الخثعمي ، ولكن توثيقه غير ظاهر ، لاشتراكه على الظاهر ، فتأمل.
أقول : علي بن
سليمان مشترك بين ثلاثة : علي بن سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكر بن أعين أبو
الحسن الرازي ، وعلي بن سليمان بن داود الرقي ، وعلي بن سليمان بن رشيد البغدادي.
والأول هو الذي
كان له اتصال بصاحب الأمر عليهالسلام ، وخرجت اليه توقيعات ، وكانت له منزلة في أصحابنا ،
وكان ورعاً ثقة ، ففيه لا يطعن عليه في شيء.
وأما الثاني
والثالث ، فهما مهملان من أصحاب العسكري عليهالسلام ، والمراد في هذا السند بعلي بن سليمان هو أحدهما لا
الأول الثقة.
ثم ان محمد بن
الحسن بن الوليد روى عن محمد بن الحسن الصفار ، ومحمد بن الحسن روى عن محمد بن
عيسى الطلحي ، فرواية محمد بن الحسن الصفار عنه غير بعيدة ، فالمراد بمحمد بن عيسى
في السند هو هذا الطلحي الذي له دعوات الأيام التي ينسب اليه ، لا محمد بن عيسى
الذي هو في طبقة رجال الصادق عليهالسلام ليكون نقله عن علي بن سليمان غير معقول.
فظهر أن لا
اشكال ولا تأمل في سند هذه الرواية ، لان ابن الصفار وابن عيسى وابن سليمان ، أعني
: أحد الأخيرين كلهم في طبقة واحدة من أصحاب العسكري عليهالسلام ، ورواية جماعة في طبقة بعضهم عن بعض مما لا مانع منه.
__________________
وأما ما في
الاستبصار من بدل عيسى يحيى ، فالظاهر أنه غلط ، لان محمد ابن يحيى روى عن محمد بن
الحسن فهو تلميذه ، فكيف يروي هو عنه؟ وفيه أيضاً نظر ، اذ لا مانع منه ، كما لا
يخفى فتأمل.
ثم قال رحمهالله متصلا بما نقلنا عنه : ولعموم رواية جميل بن دراج ، قال
: سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيجحده ، فيظفر من
ماله بقدر الذي جحده أيأخذه وان لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال : نعم. ولا يضر وجود
علي بن حديد الضعيف.
أقول : ابن
حديد وان ضعفه الشيخ في كتابي الحديث ، وقال : لا يعتنون على ما ينفرد بنقله ، الا
أنه يظهر من ترجمة يونس بن عبد الرحمن نهاية اعتباره بقوله وفعله ، وانه عاقل
عارف ذو دين ، وهذا بطريق صحيح ، فلا بد من اعتباره قولا وفعلا.
وفي ترجمة هشام
بن الحكم أن أبا جعفر عليهالسلام أمر الحسن بن راشد أن يأخذ بقول علي بن حديد في الصلاة
خلف هشام بن الحكم . فدل على جلالة قدر الرجل لكن بطريق غير معلوم الصحة.
وأما الفهرست والنجاشي فلم يزدا على
أن له كتاباً ، ثم أسنداه بسنديهما اليه.
نعم قال قدسسره : انه كان فطحياً من أهل الكوفة ، ولكن نقل في ترجمة
__________________
محمد بن ميسر ما يظهر منه اعتقاده بالحق ، وظني أن روايته قوية أو حسنة إذا
لم يكن في الطريق مانع من غير جهته.
ثم قال طاب
ثراه متصلا بما مر : ولروايتي أبي بكر الحضرمي المتقدمتين.
أقول : صحيحتي
أبي بكر وان لم يكونا صريحتين في أنه أخذ الحق من الأمانة الا أنه رحمهالله استفاده من قوله في مقام الدعاء ، ولا خيانة ولا بعد
فيه كثيراً.
ثم قال نور
الله مرقده : ولرواية أبي العباس البقباق ـ كأنه صحيحة ، ولا يضر اشتراك ابن مسكان
فافهم ـ ان شهاباً ما رآه في رجل ذهب له ألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم ، قال
أبو العباس : فقلت له : خذها مكان الالف الذي أخذ منك ، فأبى شهاب ، قال : فدخل
شهاب على أبي عبد الله عليهالسلام فذكر له ذلك ، فقال : أما أنا فاحب أن تأخذ وتحلف .
أي : الأولى له
أن يأخذ ، فان جاء المستودع طلبه منه أنكر وحلف على العدم ولكن يوري فيها بما يكون
صادقاً.
وفي المتن ضعف
، بل السند أيضاً لاشتراك ابن مسكان ، والاكثر في الاطلاق هو عبد الله الثقة ، كما
صرحوا به في باب الالقاب بالابن ، وهنا قرينة أخرى تدل عليه ، وهي رواية صفوان بن
يحيى عنه ، فان روايته عنه كما يظهر من الفهرست.
والسند في
التهذيب هكذا : عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن ابن مسكان ، عن أبي العباس
البقباق شهابا ما رآه الحديث .
وأما أبو
العباس الفضل بن عبد الملك ، فالمشهور أنه ثقة عين ، كما نص عليه
__________________
الشيخ الجليل النجاشي ، ولكنه رحمهالله لما وقع نظره الدقيق ما في ترجمة حذيفة بن منصور من سوء
أدب البقباق للامام عليهالسلام صار ذلك منشأ تأمله فيه.
روى الكشي
بسنده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : سأل أبو العباس فضل ابن عبد الملك البقباق
لحريز الاذن على أبي عبد الله عليهالسلام فلم يأذن له ، فعاوده فلم يأذن له ، فقال : أي شيء
للرجل أن يبلغ من عقوبة غلامه؟ قال قال : على قدر ذنوبه ، فقال : فقد والله عاقبت
حريزاً باعظم مما صنع ، قال : ويحك اني فعلت ذلك ، ان حريزاً جرد السيف ، ثم قال :
أما لو كان حذيفة بن منصور ما عاودني فيه بعد أن قلت لا .
وفي رواية أخرى
عن عبيد بن زرارة ، قال : دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام وعنده البقباق ، فقلت له : جعلت فداك رجل أحب بني أمية
أهو معهم؟ قال : نعم ، قال قلت : رجل أحبكم أهو معكم؟ قال : نعم ، قلت : وان زنا
وان سرق ، قال : فنظر الى البقباق فوجد منه غفلة ، ثم أومى برأسه نعم .
وهذا أيضاً
يمكن أن يكون من حي وتأمل فيه ، ولكن أمثال هذا لا يقدح في ثقته المشهورة
بين الأصحاب ، فتأمل.
ثم قال زيد
أجره متصلا بما نقلنا عنه : فيمكن القول به مع القول بالكراهة كما في المتن ،
للجمع بين الادلة التي ذكرناها ، بحمل ما يدل على التحريم على الكراهة ، فان خصوص
روايتي أبي العباس وعلي بن سليمان المتقدمين تدلان على الجواز ، لا لما ذكره في
الشرح من عموم الاذن في الاختصاص ، وضعيفة
__________________
جميل المتقدمة ، وقريب منه رواية أبي بكر ، فترك الاستفصال يدل على العموم
، لوجوب حمل العام على الخاص مع الصحة ، وهنا ليس كذلك.
لما عرفت من أن
روايتي جميل وأبي بكر أيضاً داخلتان في العموم ، ولهذا قال : فترك الاستفصال الى
آخره ، ومع أنه قال : ان رواية أبي العباس صحيحة ، وما نقل للقول بالجواز غيرها ،
مثل رواية علي بن سليمان ، وما نقل لتحريم أكثر الأصحاب بصحيحة ، بل رواية ابن أخي
فضيل ورواية سليمان بن خالد ، وردها بعدم الدلالة ، لكونها في الحلف لا في الوديعة
، مع أنه يمكن استخراجها من قوله « ان خانك فلا تخنه » فتأمل.
فانه لا شك في
أن الاحوط والأولى عدم الاخذ من الوديعة للاية والسنة الكثيرة ، للتأمل في رواية
أبي العباس ، وكذا علي بن سليمان على ما مر ، وكأنه لذلك ما استدلوا بها.
الفصل
الرابع
[
المناقشة في كلام الأصحاب في المسألة ]
ومما قررناه
ظهر لك حال ما في اللمعة الدمشقية وشرحها ، حيث قال : ( فان حلف ) المنكر على
الوجه المعتبر ( سقطت الدعوى عنه ) وان بقي الحق في ذمته ( وحرم مقاصته به ) لو
ظفر المدعى له بمال وان كان مماثلا لحقه ، الا أن يكذب المنكر نفسه بعد ذلك ( و )
كذا ( لا تسمع البينة ) من المدعي ( بعده ) أي : بعد حلف المنكر على أصح الاقوال ،
لصحيحة ابن أبي يعفور عن الصادق عليهالسلام وغيرها من الأخبار. وقيل : تسمع بينته مطلقا. وقيل : مع
عدم علمه بالبينة وقت
تحليفه ولو بنسيانها ، والأخبار حجة عليهما .
وفيه أن
الأخبار الدالة على عدم سماع بينته بعد التحليف ضعيفة الاسناد ، فلا تقوم حجة عليه
، اذ الأخبار الضعيفة لا يثبت حكم بالاتفاق. فالقول بسماع البينة مطلقا ، كما عليه
شيخنا السعيد المفيد ، لا يخلو من قوة ، اذ لا فرق بين الصورتين فكما يسمع قبل
التحليف كذلك بعده.
نعم لو كانت
الأخبار صحيحة كانت هي الحجة والفارق ، وليست فليست. وحينئذ فلا حاجة الى ما احتج
به المفيد عليه ، من أن كل حالف يجب عليه الحق باقراره وكذا يجب عليه بالبينة كما
قبل اليمين ، ليرد عليه أن الاقرار أقوى من البينة ، فلا يلزم التساوي بينهما في
الحكم.
أقول : والظاهر
أن شيخنا المفيد لم يصحح خبر ابن أبي يعفور ، والا لم يكن يخالفه بمثل هذا الدليل
، لانه اجتهاد في مقابل النص على تقدير صحته ، واحتمال عدم تذكيره وقت الفتوى
بعيد.
وقوله « كما
قبل اليمين » اشارة الى عدم الفرق فيما قبلها وما بعدها في أن الحق كما يثبت عليه
باقراره في الصورتين ، كذلك يثبت عليه بالبينة فيهما من غير فرق ، اذ الفارق
بينهما ليس الا النص بعد ثبوت ضعفه لا يصح الفارقية ، فيلزم التساوي في الحكم.
والحاصل أن
البينة العادلة بعد يمين المنكر كاشف عن كذبه وثبوت الحق في ذمته بظاهر الشرع ،
فوجب الحكم بمقتضاها ، كما قبل اليمين الا أن يمنع منه مانع ، وليس هو الا الأخبار
، فان كان صحيحاً فهو الحجة والفارق ، والا فالأصل عدم الفرق في ما قبلها وما
بعدها ، وانما فائدتها قطع النزاع والخصومة
__________________
في صورة عدم البينة ، وأما مع وجودها فلا فائدة لها ، شرط الحالف سقوط
البينة أم لا.
وأما أن
الاقرار أقوى من البينة ، فانما يفيد على تقدير الفرق ، والا فهو منقوض بما قبل
اليمين ، مع أن الحق يثبت فيما قبلها بالاقرار والبينة بلا خلاف ، فتأمل. والقول
بالتفصيل للشيخ في المبسوط ، واستحسنه العلامة في المختلف ، حيث قال : وقواه الشيخ
في المبسوط ، ولا يخلو من وجه حسن.
وأما ما أفاده
الشارح الأردبيلي في شرح الارشاد بقوله : وأنت تعلم أن الروايات وخصوصاً صحيحة ابن
أبي يعفور لا يبقى له قوة ولا وجه حسن يستحسنه العقل.
ففيه ما عرفته
من ضعف تلك الروايات ، وخاصة رواية ابن أبي يعفور ، فلا يصح الاحتجاج بها على حكم
شرعي.
نعم ما أفاده
وارد على من قال بصحة رواية ابن أبي يعفور ، كالعلامة ومن شايعة. ويمكن الاعتذار
لهم بتخصيصها بمن كان ناسياً بالبينة وقت التحليف ، وان الناسي مرفوعة عنه تلك المؤاخذة
، لقوله « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان » فان عدم سماع بينة الناسي مؤاخذة عليه ،
وفي حكمه من خفي أن له بينة ، أو أنهما شهدا من حيث لا يعلم.
واعلم أن هذه
الرواية مذكورة في التهذيب بسند موثق مع تفاوت ونقصان في المتن ، هكذا : عن علي بن
ابراهيم ، عن أبيه ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن موسى بن أكيل النميري ، عن
ابن أبي يعفور ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه
فحلف أن لا حق له قبله ، ذهب اليمين بحق المدعي فلا حق له ، قلت له : وان كانت
عليه بينة عادلة؟ قال : نعم وان أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له
، فكان اليمين قد
أبطل كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه عليه انتهى.
وانما قلنا انه
موثق ، لان السند تابع لاخس الرجال ، والموثق أخس من الحسن على الأصح ، هذا على
المشهور ، والا فأبو علي ابراهيم بن هاشم امامي ثقة عدل روايته صحيحة ، الا أن
يكون في الطريق مانع من غير جهته ، كما فصلناه في بعض رسائلنا ، وعليه فالحكم
بتوثيقه ظاهر.
واعلم أنهم
اختلفوا في العمل بالحسن والموثق ، فمنهم من عمل بهما مطلقا ، ومنهم من ردهما وهم
الاكثر ، من حيث اشترطوا في قبول الرواية الايمان والعدالة ، كما عليه العلامة في
كتبه الأصولية.
وكأنه لذلك عدل
في المختلف عما في التهذيب الى ما في الفقيه ، ظناً منه أنها فيه صحيحة دونها في
التهذيب ، فتكون مردودة والاحتجاج بها على حكم لا يصح كالضعيفة ، وانتظر لذلك
زيادة بيان وتوضيح.
وفصل آخرون
كالمحقق في المعتبر والشهيد في الذكرى فقبلوا الحسن بل الموثق إذا كان العمل
بمضمونهما مشتهراً بين الأصحاب. وفيه نظير ما سبق من الكلام في الخبر الضعيف
وانجباره بالشهرة بينهم.
ثم اعلم أن
الشهيد الثاني قدسسره نسج في شرح الشرائع على منوال نسجه في شرح اللمعة مع
ايضاح ما وبيان.
قال بعد نقل
قول المصنف « فان حلف سقطت الدعوى ، ولو ظفر المدعي بعد ذلك بمال الغريم لم تحل له
المقاصة ، ولو عاود المطالبة أثم ولا تسمع دعواه » : من فوائد
اليمين انقطاع الخصومة في الحال ، لا براءة الذمة في نفس الامر ، بل يجب على
الحالف فيما بينه وبين الله تعالى أن يتخلص من حق
__________________
المدعى ، كما كان عليه له ذلك قبل الحلف.
وأما المدعي
فان لم يكن له بينة بقي حقه في ذمته الى يوم القيامة ، ولم يكن له أن يطالبه به ،
ولا أن يأخذ مقاصة ، كما كان له ذلك قبل التحليف ولا معاودة المحاكمة ، ولا تسمع
دعواه لو فعل ، هذا هو المشهور بين الأصحاب ، لا يظهر فيه مخالف ، ومستنده أخبار
كثيرة ، منها قوله صلىاللهعليهوآله « من حلف لكم فصدقوه » وقوله « من حلف له فليرض »
ورواية ابن أبي يعفور ونقلها كما في التهذيب ، ثم نقل رواية ابراهيم بن عبد الحميد
، وضعيفة عبد الله بن وضاح المتقدمتين .
أقول : قد مر
الكلام مستوفى في قوله « من حلف له فليرض » فلا يفيده ، ولا قوله « من حلف لكم
فصدقوه » فهو من أجزاء رواية ابن أبي يعفور على ما في الفقيه كما سبق ، وقد عرفت
ما في سندها.
ومع قطع النظر
عنه فيفهم منه أن من حلف بغيره يلزمه أن يصدقه عليه ، أي : يجعله صادقاً بظاهر
الشرع ، وان كان كاذباً في علمه ، أو في نفس الامر ، استحلفه أم لا ، كما إذا أخبر
عن واقع وحلف عليه بدون استحلاف ، فضلا عن أن يكون عند حاكم أو بأمره ، وذلك لوجوب
احترام اسم الله المحترم الذي حلف به له ، وهي يكون حكم غير هذا الحكم الظاهر ،
لقوله صلىاللهعليهوآله : لا تحلفوا الا بالله. أي : بالجلالة لا بغيرها ،
فتأمل.
وأما أنه يدل
على حرمة المقاصة بعد التحليف إذا ظفر له بمال وعدم سماع دعواه بعده إذا كانت له
بينة مطلقا ، أو نسيها وما في معناه وقت التحليف ، فلا دلالة عليه بدلالة من
الدلالات ، فمن ادعاه فعليه البيان.
وأما سائر
الأخبار المنقولة ، فقد عرفت ما فيها.
__________________
ثم أنت تعرف أن
المسألة غير اجماعية ، ولهذا نسبها رجال الى الشهرة وان تلك الأخبار الغير الصحيحة الغير
الصريحة في المدعى المعارضة لصحيحة الخضرمي الموافقة للأصل ، وبقوله تعالى ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) وقوله تعالى ( فَعاقِبُوا بِمِثْلِ
ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) .
ولعموم قوله «
الواجد يحل عقوبته وعرضه » وهي مشهورة بين العامة والخاصة في الأصول والفروع ،
والمدعي إذا ظفر بمال الغريم بعد تحليفه يصدق عليه أنه واجد ، فتحل عقوبته
بالمقاصة ، بل بالمعاودة الى المطالبة من غير اثم ، فانه لا يقوم حجة على اثبات المدعي
، ولا مخصصة لعموم دليل المقاصة ، وخاصة ما سبق من الايتين الشريفتين.
وذلك أن تخصيص
العام القطعي المتن إذا كان ظني الدلالة بالخاص على القول به انما يكون إذا كان
ذلك الخاص ظني المتن قطعي الدلالة ، وهنا كلاهما منتفيان. أما الأول ، فلعدم صحة
تلك الأخبار ، فلا يحصل بها الظن بصدوره منها عن المعصوم.
ان قلت : رواية
ابن أبي يعفور وان كانت ضعيفة في الفقيه ، الا أنها موثقة في التهذيب ، فمجموعها
مع ضعيفة عبد الله بن وضاح وغيرها يحصل الظن بصدور هذا المضمون عن المعصوم ، فيصلح
للتخصيص ويجب العمل بمقتضاه.
قلت : أما الضعيف
منها ، فمعلوم حاله. وأما الموثق ، فقوله تعالى ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) يوجب عدم اعتباره ، اذ لا فسق أعظم من عدم الايمان.
__________________
قال الكشي :
قال محمد بن مسعود حدثني علي بن الحسن قال : ان ابن عثمان من الناووسية ، ثم قال : ان
العصابة أجمعت على تصحيح ما يصح عن أبان والاقرار له بالفقه . والاقرب عندي
قبول روايته ، وان كان فاسد المذهب للإجماع المذكور انتهى.
ومع ذلك نقل عن
فخر المحققين أنه قال : سألت والدي عنه ، فقال : الاقرب عدم قبول روايته ، لقوله
« إِنْ
جاءَكُمْ فاسِقٌ » ولا فسق أعظم من عدم الايمان ، فإذا كان هذا حاله فما
ظنك بغيره.
والظاهر أن
العلامة انما لم يسمع دعوى الإجماع منه ، لانه ليس من الإجماع الذي هو أحد أقسام
الادلة الشرعية ، فمع ظهور فسقه بكونه من الناووسية لا عبرة بمثل هذا الإجماع.
نعم يمكن أن
يقال : كونه ناووسياً غير ثابت ، لانه لم يعلم الا من جهة علي بن الحسن بن فضال ،
وهو فطحي ، فلا يلتفت الى قوله لما مر ، فتأمل.
لا يقال :
المانع من قبول خبر الفاسق هو فسقه للاية المذكورة ، فمتى لم يعلم الفسق لا يجب
التثبت عند خبر المخبر مع الجهل بحاله ، فكيف مع توثيقه ومدحه وان لم يبلغ حد
التعديل ، وبهذا احتج من قبل المراسيل.
لانا نقول : ان
المخبر هنا ليس بمجهول الحال ، بل هو معلوم الفسق لعدم ايمانه ، وبعد العلم بفسقه
وجب التثبت عند خبره بالاتفاق ، ولا يجديه مدحه وتوثيقه نفعاً ، مع أن مجهول الفسق
لما كان عليه التثبت ، وجب العلم بنفيه حتى يعلم انتفاء التثبت ، فيجب الفحص عن
الفسق ليعلم حاله ، أو عدمه حتى يعلم التثبت أو عدمه. والقول بأن الفسق هو الخروج
عن طاعة الله مع اعتقاد الفاسق
__________________
ذلك ، ومثل هذا ليس كذلك ، فان هذا الاعتقاد عند معتقده طاعة لا غير ، وان
الأصل عدم وجود المانع في المسلم ، وان مجهول الحال لا يمكن الحكم عليه بالفسق.
والمراد في
الآية المحكوم عليه بالفسق مجابة كلها بما فصلناه في رسالتنا الموسومة بالعدلية ،
وليس هنا محل ذكرها. وعلى تسليم أن مجهول الحال لا يمكن الحكم عليه بالفسق ، وان
المراد في الآية المحكوم عليه بالفسق ، لقول أن المخبر هنا كما سبق ليس بمجهول
الحال ، بل هو معلوم الفسق ، فيكون داخلا في المراد من الآية ويكون محكوماً عليه
بالفسق فتأمل ، فانه مع وضوحه خفي على مثل الشهيد الثاني في شرح دراية الحديث ،
ولنا معه ايجاب أوردناه في الرسالة المذكورة ، فليطلب من هناك.
ان قلت : ابن
فضال وان كان فطحياً مشهوراً به غمزة ، الا أنه لما حضره الموت مات وقد قال بالحق
، كما جزم به الشيخ الجليل النجاشي ، وظهر من الرواية الصحيحة مضمونها ، فرفع
المانع.
قلت : قد سبق
في أوائل الرسالة من الشيخ البهائي قدسسره ما يعلم منه جوابه ، وهو أن كثيراً من الرجال والرواة
ينقل عنه أنه كان على خلاف المذهب ثم رجع وحسن ايمانه ، والقوم يجعلون روايته من
الصحاح ، مع أنهم غير عالمين بأن أداء الرواية متى وقع منه أبعد التوبة أم قبلها ،
فكيف يقبل مع العلم بأن أداء الرواية قد وقع منه قبلها ، كما علم من أصل السؤال
أنه كان فطحياً مشهوراً به غمزة وقال بالحق حين حضره الموت ، فهذا الايمان لا يفيد
روايته صحة ، ولا قوله اعتباراً ، فالمانع منا الان كما عليه كان.
وعجب من بعض
غفلته عما ذكرناه في الجواب حتى قال بما نقلناه في السؤال والجواب ، بأن الثقة
يلزمه اظهار ما صدر عنه في سابق أحواله لو يكون مما فيه
مخالفة الشرع إذا ظن أنه يعتبر عند غيره ، حيث سئل به في بعض المسائل
الدينية الا أن يظهر حاله ، وهو أيضاً أظهر بنفسه بأنه روى عن الضعفاء ، كما في
الحسن ابن محبوب ، وأحمد بن محمد بن خالد. وان روايته مجوزة لامكان تأييد المدعى
الثابت بغيرها بها ، وان المكذوب قد يصدق على تقدير تمامه وجريانه في غير هذا
المحل لا يجري في مثل هذا الموضع ولا يخفى.
وأما الثاني ،
فلعدم صراحتها بحرمة المقاصة بعد التحليف مع شيوع النهي في كلامهم عليهمالسلام في الكراهة ، حتى قيل : انه حقيقة فيه.
نعم ظاهر رواية
ابن وضاح ذلك ، ولكنك عرفت ما في سندها ، فاذن لا يصح الاستناد اليها ولا بناء
العمل عليها ، وهذا مع أصالة اباحة المقاصة بعد التحليف كما كانت مباحة قبله الى
أن يثبت ما يرفعه ولم يثبت بعد.
والحاصل أن
المدعي كان له أن يطالبه به ويأخذه مقاصة قبل التحليف ، فالأصل والاستصحاب وهما
على ما اعترفوا به دليلان قويان يقضيان أن يكون له ذلك بعده أيضاً الى أن يمنعه
مانع شرعي من كتاب أو سنة أو اجماع.
ولا هنا واحد
منها ، اما الأول والاخر ، فظاهران. وأما الثاني ، فلضعف ما دل منه عليه مع عدم
صراحته في التحريم ، فلا يقاوم الأصل والاستصحاب ، وهو بقاء الشيء على ما كان ،
فيبقيان مع ما سبق من عموم دليل المقاصة وغيره من الكتاب والسنة سالماً عن المعارض
العقلي والنقلي ، فيفيد الظن بجوازه وهو المطلوب.
وكذا الكلام في
معاودة المحاكمة وسماع دعواه إذا كانت له بينة على الحق لان البينة حجة المدعي ،
كما أن اليمين حجة المدعى عليه ، فإذا نسيها وقت التحليف ، أو خفي عنه أن له بينة
، بأن يتولى الاشهاد وكيله إذا اتفق أنهما شهدا من غير شعور منه بذلك ، فالاقوى
سماعها ، اذ لا مانع منه في الشريعة المطهرة
على صادعها وآله السلام.
وأما قولهم «
ان الروايات وخاصة رواية ابن أبي يعفور لا تبقى له قوة » ففيه ما عرفته ، وحينئذ
فمخالفة الأصحاب الى ما أدى اليه الدليل هو الصواب ، والحق لا يعرف بالرجال ، بل
الرجال يعرفون بالحق فالحق أحق أن يتبع ، فاستمع القول واتبع الحق ولا تكن من
الغافلين.
ثم الذي يستفاد
لنا من التوفيق بين الأخبار المروية عن الائمة الاطهار عليهمالسلام ما بقيت الليل والنهار ، أن الشارع جعل اليمين حاسمة
مادة الدعوى في صورة عدم البينة ، ولم يجعلها مسقطة لحق في الدنيا مطلقا فإذا كان
الحق باقياً في ذمته فلصاحب الحق أن يأخذه من ماله إذا ظفر له بمال لا يكون أمانة
، بعد أن يقول الكلمات السالفة ، الى أن يقوم عليه دليل يمنعه عنه ولم يقم ، فمن
يدعيه فعليه البيان ، ومن الله الهداية وعليه التكلان ، والصلاة على رسوله وآله
صواحب العدل والاحسان وجوامع علوم القرآن بالهام الله الملك المنان.
سودتها في أوان
وزمان كنت مختل الحال ، مشوي البال ، مضيق المجال ، مضطرباً اضطراب الارشية في
ديار بعيدة أعماقها ، لشدة الفتن وكثرة المحن من جور سلطان الزمان ، وعدم مساعدة
الدهر الخوان ، والى الله المشتكى ثم الى رسوله المصطفى وآله الائمة الهدى.
فان عثرتم فيها
على زلل واضح أو خلل فاضح ، فاصفحوا الصفح الجميل وجاوزوا عما فيها من الكثير
والقليل ، تجاوز الله عنا وعنكم انه جواد كريم غفور رحيم.
قال سيدنا امام
المشارق والمغارب مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه اسلام :
عجبت لجازع
باك مصاب
|
|
بأهل أو حميم
ذي اكتئاب
|
يشق الجيب
يدعو الويل جهلا
|
|
كأن الموت
بالشيء العجاب
|
وساوى الله
فيه الخلق حتى
|
|
نبي الله منه
لم يحاب
|
له ملك ينادي
كل يوم
|
|
لدوا للموت
وابنوا للخراب
|
الغرض منه نهي
المصاب عن جزعه في مصيبة الاهل والاولاد ، وشقه الجيب في موت الاقارب والاحفاد
وقوله « وا ويلا » وقت فنائهم وزوالهم ، فان عاقبتهم الموت والفناء.
فينبغي للعاقل
أن لا يجزع على فنائهم ، فانه أمر ضروري لا بد من وقوعه ، ومع هذا أمر لا يختص
بشخص دون شخص ، بل كل نفس ذائقة الموت ، حتى الانبياء ولا سيما من لاجله خلق
الانسان والسماء ( إِنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقد تقرر أن البلية إذا عمت طابت ، فاذن لا وجه للجزع
والبكاء والكآبة وقوله وا ويلا.
فان قلت : هذا
النداء من الملك المنادي انما يتصور فائدته على تقدير سماعهم منه ، وأكثرهم لا
يسمعونه منه.
قلت : ليس
السماع الا الاطلاع الحضوري ، وهذا كما يحصل بغير واسطة وهو الاكثر ، فقد يحصل بها
، ولذلك يقال : سمعت منه بواسطة ، فالانبياء والاوصياء وغيرهم من الكاملين
والاولياء لتعلقهم بعالم المثال ، وتصرفهم في أبدانهم المثالية حال تعلقهم بعالم
الملك ، وتصرفهم في هذه الابدان الجسمية أيضاً يسمعونه من الملك المنادي بغير واسطة
، وغيرهم يسمعونه بواسطتهم.
وذلك أن تلك
الابدان المثالية كالابدان الجسمية لها جميع الحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة ،
والمدرك فيهما النفس ، الا أنها تدرك في هذا العالم بآلات جسمانية ، وفي عالم
المثال بآلات سبحانية ، فسماعهم عليهمالسلام له كان باعتبار وجود
__________________
المثالي السبحاني ، لا باعتباره الوجود الحسي الجسماني ، ولذلك لم يكن يسمع
ما سمعوه من له أذن سامعة على تقدير كونه قريباً منهم ، ولعله من هذا القبيل كان
سماع النبي صلىاللهعليهوآله صوت عذاب الميت في القبر دون غيره.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة عن النسخة المخطوطة المغلوطة جداً في (١١) ربيع الثاني سنة (١٤١١)
هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
سلسلة
آثار المحقق الخاجوئي
(٢٦)
|
|
رسالة
في
وجوب الزكاة بعد اخراج المئونة
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد إسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحيم
سبحان من زكى
من زكى ، قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ، على نبيه خير الورى ، وعترته
مصابيح الدجى ، صلاة زاكية تترى ، ثم ان هذا النور الهدي يجلي العمى عما أبهم على
أمته من أولي النهى من معضلات تعم بها البلوى من ايضاحها ربنا الأعلى أحببت به من
صدق بالحسنى ، وان الآخرة خير وأبقى.
فصل
[
الاستدلال على وجوب الزكاة بعد اخراج المئونة ]
المعروف من
مذهب علمائنا الإماميين أن الزكاة انما تجب في الغلاة الأربع على ما يحصل في أيدي
أربابها من النماء والفائدة ، بعد وضع جميع المئونات واخراج حق السلطان ، وقد أطبق
عليه السلف ، وممن ذهب اليه المفيد والمرتضى وابن بابويه والفاضلان وابن ادريس
والشهيد وغيرهم شكر الله تعالى مساعيهم.
قال في المعتبر
: زكاة الزرع بعد المئونة ، كاجرة السقي والعمارة والحافظ
والمساعد في حصاد وجذاذ ، وبه قال الشيخان وابن بابويه وأكثر الأصحاب ، وهو
مذهب عطا .
وأسنده العلامة
في المنتهى أيضا الى الأكثر . ونصره من المتأخرين المحقق الأردبيلي قدسسره .
ورجحه بعض من
عاصرناه من الفضلاء ، فقال : والأظهر عندي الاستثناء ، وهو مختار الشيخ في النهاية
والمصباح والاقتصاد والإستبصار ، وارتضاه في التهذيب.
وقال في
المبسوط : النصاب ما بلغ خمسة أو ساق بعد اخراج حق السلطان والمؤن كلها .
وفي موضع آخر
منه : على المتقبل بعد اخراج مال القبالة والمؤن فيما يحصل في حصة العشر أو نصف
العشر. وقال أيضاً : كان على المتقبل بعد اخراج حق القبالة ومئونة الأرض اذا أبقى
معه النصاب العشر ونصف العشر .
وخلافه في
الخلاف ضعيف كغيره ، ولم يدع عليه اجماع الفرقة المحقة على ما توهم ، وحكاية
الخلاف عن المبسوط مردودة ، كما ستعرفه إن شاء الله سبحانه ، والأقوى ما هو
المشهور الجاري مجرى المجمع عليه.
ولنا عليه وجوه
: منها : قوله تبارك ذكره في سورة محمد ( وَلا يَسْئَلْكُمْ
أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ
أَضْغانَكُمْ ) فانه صريح في أنه
__________________
لم يقع التكليف ببذل عامة الأموال وان الاحفاء والمبالغة فيه يفضي الى تعذر
الامتثال وانتفاء الانقياد ، فمقتضى الحكمة الاقتصار على جزء يسير منها ، كالعشر
ونصف العشر وربع العشر ، على ما اختاره جماعة من المفسرين وغيرهم من العامة
والخاصة.
قال في مجمع
البيان : ان يسألكم جميع ما في أيديكم تبخلوا ، ويظهر بغضكم وعداوتكم لله ولرسوله
، ولكنه فرض عليكم ربع العشر .
وفي جوامع
الجامع : أي لا يسألكم جميعها في الصدقة ، وان أوجب عليكم الزكاة في بعضها واقتصر
منه على القليل .
وقال في الكشاف
: الاحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء ، يقال : أحفاء في المسألة اذا لم
يترك شيئاً من الإلحاح ، وأحفى شاربه اذا استأصله .
فيدل على نفي
احتساب المئونات على أرباب الأموال اذا أدى الى اجحاف واحفاء ، كما وقع في ما تكثر
مئوناته من السقي بالقنوات مع ايجاب العشر فيه ، واذا انتفى في بعض الصور ثبت
مطلقا ، اذ لا قائل بالفرق.
وبوجه آخر لطيف
: لو قلنا بعدم استثناء المؤن مطلقا لزم احتسابها عليهم وان أجحف بجميع المال أو
أكثره ، وهو مناف لما نطق به الكتاب العزيز ، فيكون باطلا فيبطل ملزومه. وعلى هذا
لا حاجة الى تجشم مئونة انتفاء القول بالفصل.
وبطريق ثالث :
هو أن الظاهر منه عدم تعلق الطلب بالأموال مطلقا ، فيقتصر على ما يقطع بوقوع
التكليف به ، وهو العشر أو نصفه فيما يبقى ، ويتوقف الزائد
__________________
عليه على دليل.
قال السيد
المرتضى في الإنتصار : المعنى أنه لا يوجب حقوقاً في أموالكم ، لانه تعالى لا
يسألنا أموالنا الا على هذا الوجه ، وهذا الظاهر يمنع من وجوب حق في الأموال ، فما
أخرجناه عنه فهو بالدليل القاطع .
وفي الناصريات
: ظاهر هذه الآية يقتضي أنه لا حق في المال على العموم وانما أوجبنا ما أوجبناه من
ذلك بدليل اضطررنا الى تخصيص العموم ، هذا كلامه طاب ثراه. وستعرف أن عمومات ايجاب العشر
ونصف العشر غير وافية به إن شاء الله تعالى.
وهاهنا تقرير
رابع : هو أنه يستفاد منه بمعونة المقام أنه لا يطلب الا النذر اليسير ، وهو ينافي
نفي الاستثناء. ويمكن أن يقال : مطلق احتساب المئونة على المالك احفاء واجحاف به ،
كما قال في المختلف : ان المئونة تخرج وسطاً ، ثم يزكي الباقي والا لزم الضرر.
وبعبارة أخرى
أوردها في المعتبر هي أن الزام المالك من دون الشركاء حيف عليه واضرار به ، فيكون
منفياً لقوله تعالى ( وَلا يَسْئَلْكُمْ
أَمْوالَكُمْ ) .
وحاصله أنه
يفهم منه نفي الإضرار في التكليف المالي المحض بخصوصه ، فيترتب عليه الحكم بصحة
الاستثناء ، وعليه يحمل أيضاً ما تمسك به في المنتهى من أن الزام المالك بالمئونة
كلها حيف عليه واضرار به ، فيكون منفياً على معنى أن الاجحاف في طلب الأموال
بالحيف على المالك منفي بهذه الآية وما يجري مجراها أو بأن الإضرار في خصوص الزكاة
منفي ، الا أن مبناها على المسامحة ، فانها مؤاساة
__________________
فلا تتعقب الضرر كما صرح به.
فاندفع ما أجاب
به عنه صاحب المدارك وحكاه في الذخيرة ، من أن مثل هذه الإضرار غير ملتفت اليه في
نظر الشرع ، والا سقطت التكاليف كلها ، فانه ان أراد بهذا الإضرار خصوص الإضرار
المالي المحض ، فالالتفات الى مثله لا يوجب سقوط التكاليف البدنية ، كالطهارة
والصلاة والصيام ، لا ما يشوبه المال كالحج والجهاد مما ينفق فيه على أربابه ،
ويجعل ذريعة لتحصيله ولا يتكرر كل عام.
وأما الخمس ،
فمثل هذا الإضرار فيه منتف أيضاً ، لانه بعد المئونة. واذا أريد نفي الإضرار في
خصوص الزكاة فأظهر ، وان أراد به الاعم من المالي فلا نقض ، اذ الاستدلال خاص ،
على أنه لا ينتقض بالتكاليف وان احتج بالعام حيث أطلق ، بمعنى أن مطلق الإضرار
منفي بما ثبت في الشريعة السمحة السهلة من انتفاء العسر والحرج والضيق والضرر ،
لانه يعتبر في الضرر المنفي كونه بحيث لا يتحمله الجمهور عادة ، وظاهر أنه لا يجزئ
في سائر التكاليف ، بخلاف الاجحاف في الأموال المؤدي الى البغضاء ، وكراهة الدين
المنجر الى الانكار.
قال في الكشاف
في تفسير قوله تعالى ( وَيُخْرِجْ
أَضْغانَكُمْ ) أي : تضطغنون على رسول الله صلىاللهعليهوآله وتضيق صدوركم لذلك ، وأظهرتم كراهتكم ومقتكم لدين يذهب
بأموالكم .
وقال قتادة :
علم الله أن في مسألة الأموال خروج الاضغان وهي الاحقاد التي في القلوب والعداوة
الباطنة ، كذا في المجمع .
وفيه تنبيه على
أن مقتضى اللطف وهو ما يقرب الى الطاعة ويبعد عن المعصية الاعراض عن هذا التكليف
المقتضي للعصيان ، والا اختل أمر الفلاحة كما هو
__________________
المشاهد ، فلا يصدر من اللطيف الرءوف العليم ما يؤدي الى اختلال نظم المعاش
والمعاد. ألا يرى أنه جل سلطانه سامح أرباب الأموال وأمر بالعفو والتخفيف وتفويض
الامر اليهم ، وعلى المصدق أن يصدقهم في مواضع شتى ، فكيف يشدد عليهم بايجاب ما
يذهب بها.
لا يقال : قد
حكى الطبرسي رحمهالله عن أبي مسلم تفسير الاحفاء باللطف ، قال : أي فيلطف في
السؤال بأن يعد عليه الثواب الجزيل. وعن بعضهم أن المعنى لا يسألكم الرسول على
أداء الرسالة أموالكم. وفسره آخر بأنه لا يسألكم أموالكم لان الأموال كلها له ،
فهو أملك بها وهو المنعم باعطائها.
لانا نقول :
يستفاد منها نفي طلب جميع الأموال على كل حال ، قضية للجمع المضاف ، كما في قوله عزوجل ( خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) فالمعنى أنه لا يسأل جميع أمواله التي عندكم ، ومن ثم
سماها أموالهم وان سألها مع اللطف ووعد الثواب الجزيل ، كما قال عز من قائل ( وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ ) بخلتم بها وأظهرتم الحقد فكيف بدونه.
وبالجملة
فجميعها غير مسئول ، سواء كان على أداء الرسالة أو مطلقا ، وانما المسئول والمأخوذ
والمأمور باتيانه واعطائه البعض ، كما أفاده « من » التبعيضية أيضاً ، على أن تلك
التفاسير كلها خلاف الظاهر ، كالقول بأن المعنى أن الله جل سلطانه لا يسألكم
أموالكم ، وانما يوجب عليكم ايتاء بعضكم بعضاً ، مع أنه لا يلائم ذلك ما بعده ،
ولهذا لم يرتضها المحققون ، كالطبرسي وعلم الهدى والمحقق وصاحب الصافي والزمخشري
والبيضاوي والجبائي وغيرهم.
ومنها : ما
رواه الصدوق في المقنع بحذف الاسناد ، فقال : ليس على الحنطة
__________________
والشعير شيء حتى يبلغ خمسة أو ساق ، فاذا بلغ ذلك وحصل بعد اخراج السلطان
ومئونة القرية أخرج منه العشر ، ان كان سقي بماء المطر أو كان سيحاً ، وان سقي
بالدلاء والغرب ففيه نصف العشر .
وقد قال في أول
هذا الكتاب : وحذفت الاسناد منه لئلا يثقل حمله ولا يصعب حفظه ولا يمل قاريه ، اذا
كان ما أثبته فيه في الكتب الأصولية مثبتاً عن المشائخ العلماء والفقهاء الثقات رحمهمالله .
وأورد في من لا
يحضره الفقيه أن العشر ونصف العشر بعد اخراج السلطان ومئونة القرية.
مع أنه ذكر في أوله أنه قصد ايراد ما يفتي به ويحكم بصحته ويعتقد فيه أنه حجة فيما
بينه وبين ربه تقدس ذكره وتعالت قدرته ، وقال : ان جميع ما فيه مستخرج من كتب
مشهورة عليها المعول واليها المرجع ، وادعى أنه بالغ في ذلك جهده ، فاياك أن
تتهم الصدوق ، وتنكر وجود النص على استثناء المؤن.
ولهذا ذكر
شيخنا البهائي طاب ثراه أن الاعتماد على مراسيله ينبغي أن لا يقصر عن الاعتماد على
مسانيده ، حيث حكم بصحة الكل. وناهيك بالشهادة على استخراج الجميع بصيغة التأكيد ،
ودعوى بذل الجهد على وجود هذا الخبر في الكتب المعتبرة.
وتصديق ذلك ما
في فقه الرضا عليهالسلام من أن الحنطة والشعير اذا بلغ النصاب وحصل بغير اخراج
السلطان ومئونة العمارة ومئونة للقرية ، أخرج منه العشر
__________________
ان كان سقى بماء المطر أو كان بعلا ، وان كان سقى بالدلاء والغرب ففيه نصف
العشر .
قال الفاضل
التقي المتقي روح الله تعالى روحه : ان السيد الثقة الفاضل المعظم القاضي مير
حسين طاب ثراه كان مجاوراً في مكة المعظمة سنين ، وبعد ذلك جاء الى اصفهان ، وذكر
لي اني جئت بهدية نفيسة اليك ، وهو الكتاب الذي كان عند القميين وجاءوا به الي عند
ما كنت مجاوراً ، وكان على ظهره أنه يسمى بالفقه الرضوي ، وكان فيه بعد الحمد
والثناء أما بعد خطه صلوات الله وسلامه عليه ، وذكر القاضي أن كان عنده هذا الكتاب
من تصنيف الإمام صلوات الله عليه ، وكانت نسخة قديمة مصححة.
وفي ذلك اشعار
بتواتر انتسابه اليه صلوات الله وسلامه عليه ، ولا أقل من الاستفاضة ، وبذلك يخرج
عن حيز الوجادة ويدخل في حد الحسان من المسانيد برواية من مدحهم القاضي من الشيعة
القميين وان جهل حالهم بالتفصيل.
وفي بحار
الانوار : ان كتاب فقه الرضا عليهالسلام أخبرني به السيد العالم الفاضل المحدث القاضي أمير حسين
طاب ثراه بعد ما ورد اصفهان ، قال : قد اتفق في بعض سني مجاورتي بيت الله الحرام
أن أتاني جماعة من أهل قم حاجين وكان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا عليهالسلام ، وسمعت الوالد رحمهالله أنه قال : سمعت السيد يقول : كان عليه خطه صلوات الله
عليه ، وكان عليه اجازات جماعة كثيرة من الفضلاء. وقال السيد : حصل لي العلم بتلك
القرائن أنه تأليف الإمام عليهالسلام ، وأكثر عباراته موافق لما يذكره أبو جعفر بن بابويه في
كتاب من لا يحضره الفقيه من غير سند ، وما يذكره والده في رسالته اليه ، وكثير من
الأحكام
__________________
التي ذكرها أصحابنا ولا يعلم مستندها مذكور فيه .
وقد عرفت
مطابقة ما في المقنع لذلك الكتاب الشريف ، وهي أيضاً من القرائن على صحته ، مع ما
سمعت من شهادة الصدوق على وجود ما فيه في كتب الأصول ، واذا انضم الى ما في الفقيه
واعتضد بسائر الاخبار مما اشتهر العمل به في الاعصار ، قوي الاعتماد عليه ، سيما
اذا وافق ظاهر التنزيل الحكيم ، وخالف ما اتفق عليه الفقهاء الأربعة ، فيزول عند
هذا الشك والارتياب ، فان في خلافهم الرشد والصواب ، ولا يفتقر الى اليقين بصحة
الانتساب ، والله تعالى كبرياؤه هو العالم في كل باب.
ومنها : ما
أورده الشيخ في كتاب الاخبار لبيان أن الزكاة بعد اخراج المئونة ومئونة السلطان ،
في الحسن كالصحيح عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام أنهما قالا له : هذه الأرض التي يزارع أهلها ما ترى
فيها؟ فقال : كل أرض دفعها اليك سلطان فما حرثته فيها فعليك فيما أخرج الله منها
العشر ، انما العشر عليك فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك .
ولا يخفى أن
المعهود اعتبار المقاسمة بعد وضع البذر وسائر ما يعرفه الحارث على الغلة ،
والمعتاد فيما عهدناه اخراج كثير من المئونات من أعيان الغلاة قبل وقوعها في الكيل
ودخولها في الوزن ، كأجرة الحصاد وما شاكلها ، ودعوى اختلاف العادات في ذلك لا
يخلو عن مكابرة ، والمقاسمة انما تكون بعد التصفية والتذرئة ، واخراج ما يتعلق
بذلك من المؤن ، ويلزم من ذلك أن يكون العشر بعد اخراج مئونات كثيرة.
وفي قوله عليهالسلام « فيما يحصل في يدك » تنبيه على أنها تتعلق بالنماء والفائدة
__________________
الحاصلة في يد الزارع وما حصل في يد الغير ليس من ذلك في شيء ، كما يتعلق
الخمس بالارباح وغيرها بعد وضع المئونة.
وبهذا الاعتبار
تمسك بها الشيخ على ما ذكره ، أو باعتبار عدم القول بالفرق بين ما يتأخر المقاسمة
عنه وغيره.
قال المحقق
الاردبيلي قدسسره : هذه مع اعتبار سندها صريحة في عدم وجوب الزكاة في
الخراج ، وظاهرة في عدم حسابه بل سائر المؤن أيضاً من النصاب ، فتأمل هذا كلامه طاب
ثراه.
وسيأتي منه
التنصيص على صراحتها في عدم تعلق الزكاة بالمؤن كله كالخراج ونحوه فترصد.
والعجب من بعض
الفضلاء حيث قال : هذه الرواية لا دلالة لها على ما ذكره الشيخ ، من أن الزكاة
انما تجب بعد اخراج المئونة ، بل هي دالة على خلافه ، والمستفاد من قوله عليهالسلام « انما العشر عليك فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك »
وجوب الزكاة في كل ما يحفظ في يد المالك بعد المقاسمة ، فلا يكون ما قبل المئونة
مستثنى من ذلك.
وهو من الضعف
بمكان ، ومن أنى له أن ما قابل المئونة يحصل في يد المالك بعد المقاسمة ، مع أنها
متأخرة عن المئونة ومترتبة عليها غالباً ، بل لا يستقيم المقاسمة قبل اخراج المؤن
، لما فيه من الضرر والاجحاف. ويبعد القول بتأخر كل المئونات عنها ، كما يبعد
اثبات تأخر الجميع عن المقاسمة ، فلا محالة تكون المقاسمة بعد ذلك ، ولا نعرف
بخلافه قائلا ، فلا يحمل الخبر عليه.
وبذلك يضعف ما
في المدارك أيضاً ، من أن هذه الرواية كالصريحة في عدم استثناء شيء مما يخرج من
الأرض سوى المقاسمة ، اذ المقام مقام بيان ، واستثني
__________________
ما عسى أن يتوهم اندراجه في العموم ، وذلك لما عرفت من أن استثناء حصة
المقاسمة يقتضي استثناء المئونات كلها ، ولا أقل من المتقدمة عليها عادة ، وهو
ملزوم لاستثناء ما يفرض تأخره عنها من المؤن ، لعدم القائل بالفصل ، ولعله ترك
التصريح بذلك مع اغناء الاعتياد عنه وعدم سوق الكلام له مراعاة للتقية ونحوها من المصالح.
وأمثال ذلك كثيرة في روايات الأصحاب ، وهو ظاهر للمتدرب من أولي الألباب.
وكيف كان ينتفى
معه القول بنفي استثناء شيء من المؤن واحتسابها جميعاً على أرباب الأموال ، فلا
يكون ذلك من الاحتياط في شيء ، على أنه لا يبعد أن يراد بالاخراج الافادة
والأرباح ، لما فيه من الاظهار والابرار.
قال في مجمع
البحرين : الخرج والخراج بفتح المعجمة فيها ما يحصل من غلة الأرض ، أي فائدتها .
قال في القاموس
: الغلة الدخل من كراء دار وأجر غلام وفائدة أرض .
والمعنى :
فعليك فيما أفاد الله منها ، وأربح ، أي : أخرج وأظهر من النماء والفائدة بعد
المقاسمة العشر أو نصفه ، كما يقال : يخرج من العمل الفلاني ألف درهم ، ومن
المعاملة الفلانية ألف دينار ، والمراد أنه يربح ويحصل منه ذلك ، فيفهم منه أن
المقاسمة بعد وضع المؤن ثم العشر ، على ما نبهناك عليه فلا تغفل.
ومنها : ما
رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى عن البزنطي ، قال ذكرت
لابي الحسن الرضا عليهالسلام الخراج وما ساربه أهل بيته ، فقال : العشر ونصف العشر
على من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ونصف العشر فيما عمر منها وما
لم يعمر منها أخذه الوالي فقبله ممن
__________________
يعمره وكان للمسلمين ، وليس فيما كان أقل من خمسة أو ساق وما أخذ بالسيف ،
فذلك للإمام يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول الله صلىاللهعليهوآله بخيبر قبل أرضها ونخلها والناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض
والنخل اذا كان البياض أكثر من السواد وقد قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله وعليهم في حصصهم العشر ونصف العشر .
وروى الكليني
عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن أحمد بن أشيم عن صفوان بن يحيى والبزنطي قالا
: ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما سار فيها أهل بيته ، فقال : من
أسلم طوعاً تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر مما سقت السماء والأنهار ، ونصف العشر
مما كان بالرشا فيما عمروه منها وما لم يعمروه منها ، أخذ الإمام فقبله ممن يعمره
وكان للمسلمين ، وعلى المتقلبين في حصصهم العشر أو نصف العشر ، الى أن قال : وقد
قبل رسول الله صلىاللهعليهوآله خيبر وعلى المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر
في حصصهم .
قال المحقق
الأردبيلي رحمهالله : هذه فيها علي بن أحمد بن أشيم المجهول مع كونها مضمرة
، فسندها غير جيد ، الا أنها مؤيدة للعمومات الخاصة المتقدمة يعني بها ما
تقدم من حسنة أبي بصير ومحمد بن مسلم ، وقد عرفت أنها في التهذيب مسندة الى أبي
الحسن الرضا عليهالسلام وسندها فيه صحيح ، وفي الكافي يمكن أن يكون البزنطي
عطفاً على ابن أحمد ، كما هو المعروف من رواية أحمد عن أحمد على ما وقع في التهذيب
، كما جوزه التقي المتقي طاب ثراه.
وعلى أي حال
فسندها جيد جداً ، وافادته للمقصود ظاهرة ، فان الحصة
__________________
لا تتعين ولا تتحصص الا بعد التصفية واخراج مؤن كثيرة ، واضافة الحصص اليهم
يعطي اختصاصها بمنع من تناولها لحصص الحارث والساقي والحارس والحاصد وغيرهم. ويلزم
من ذلك أن يختص العشر بما يبقى في أيديهم من حصصهم بعد وضع المئونات وحصة السلطان
، وذلك ما أردناه.
وقد عرفت أنه
لا وجه لحمل الرواية على استثناء خصوص حصة القبالة ، والا لزم أن يعتبر قبل وضع ما
غرمه المتقبلون على الغلة من البذر وغيره ، وهو خلاف المعهود.
ومنها : ما
رواه الكليني والشيخ في الحسن كالصحيح ، عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا عبد
الله عليهالسلام عن التمر والزبيب ما أقل ما تجب فيه الزكاة؟ فقال : خمسة
أوسق ويترك معا فارة وأم جعرور لا يزكيان وان كثرا ، ويترك للحارس العذق والعذقان
والحارس يكون في النخل ينظره فيترك ذلك لعياله .
وفي الكافي عنه
عليهالسلام في زكاة التمر والزبيب ، الى أن قال : للحارس العذق
والعذقان والحارس يكون في النخل ينظره فيترك ذلك لعياله .
قال في المنتهى
: واذا اثبت ذلك في الحارس يثبت في غيره ، ضرورة عدم القائل بالفرق . وكذلك ثبوته
في التمر والزبيب يستلزم ثبوته في الحنطة والشعير.
وفي الحسن
كالصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام قال : يترك للحارس أجراً معلوماً ، ويترك من النخل معا
فارة وأم جعرور ، ويترك للحارس يكون في الحائط العذق والعذقان والثلاثة لحفظه اياه
.
__________________
وهذا الخبر
صريح في أن ذلك أجرة للحارس وليس مجاناً ، وان لم تكن الجملة الثانية بياناً
للاولى. وظاهر في أن المراد ترك النخلة والنخلتين والثلاث ، أو ما هو بمنزلة ذلك ،
اذ الكباسة والكباستان من نخلة واحدة والقتو والقتوان منها ليس يعد أجراً معلوماً
، بناءً على ما هو الظاهر من أن الجملة الأخيرة بيان للاولى ، على ما اعترف به في
روضة المتقين .
فاندفع ما يقال
من أنه لا يظهر من الخبر أنه أجرته أو مجاناً ، كما لا يظهر أن المتروك له كل ثمرة
النخلة من النخلتين أو الكباسة والكباستين ، اذ العذق بالفتح النخلة بحملها ،
وبالكسر الكباسة وهي بمنزلة العنقود من العنب ، مع أنه يظهر من التذكرة أن الرواية
بالفتح ، حيث قال : العذق والعذقين والثلاثة لحفيظه له ، أي : لمن يحافظه لاجل
الحفظ وبازاء أجرته ، كما في قوله عليهالسلام « لحفظه اياه » فانه نص في كونه لاجل الحفظ.
والظاهر أنه
الأجرة مستثناة ، سواء كانت نخلة أو نخلات أو كباسة وكباستين من كل نخلة أو من
نخلة واحدة. واذا ثبت استثناء تلك الأجرة من المئونة ثبت مطلقاً ، اذ لم يفرق
بينها وبين غيرها أحد من علمائنا وغيرهم.
قال في المدارك
: الرواية نقول بموجبها ونمنع التعدي من غير المنصوص ، وقوله « انه لا قائل بالفرق
» غير جيد ، فان ذلك ثابت عند الجميع ، وقد صرح به من لا يعتبر المئونة ، كما حكاه
في التذكرة والمنتهى ، ويتوجه عليه أنه ان اريد التصريح بذلك ممن لا يعتبر المئونة
من الخاصة ، فهو خلاف الواقع ، لانه منحصر في الشيخ في الخلاف والفاضل يحيى بن
سعيد ، والفرق غير محكي عنهما لا في التذكرة والمنتهى ولا في غيرهما ، وكذا ان
أريد من لا يعتبرها من الفريقين يجديه نفعاً ، مع أن ما حكاه في التذكرة عن
الشافعي في القديم من أنه
__________________
يترك للمالك نخلة أو نخلات يأكل منها هو وأهله ، غير مرضي عند أصحابه.
حكى في شرح
الموجز عن التقريب أن للشافعي قولا في القديم أنه يترك للمالك نخلة أو نخلات يأكل
منها أهله ، ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل في قلة عياله وكثرتهم ، وذلك في مقابلة
قيامه بتربية الثمار الى الجداد وتعبه في التجفيف.
قال : والصحيح
المشهور ادخال الكل ، لاطلاق النصوص المقتضية لوجوب العشر. أما مئونة الجداد
والتجفيف فمن خالص مال المالك ، وكذا مئونة التنقية في الحبوب ، لما سبق أن
المستحق لهم هو اليابس. وأما ما ورد بترك الثلث والربع لهم ، فهو محمول على ترك بعض
الزكاة لرب المال ، ليفرقه بنفسه على أقاربه وجيرانه ، أي : لا يؤاخذ بدفع جميع ما
خرص عليه أولا انتهى .
وأيضاً ترك
النخلة والنخلات للمالك غير تركها للحارس ، وأجرة الحفظ تباين أجرة تربية الثمار
والتجفيف ، فاين هذا من ذاك ، كما أن ترك ما يحتاج اليه المالك من أكل أضيافه
واطعام جيرانه وأصدقائه وسؤال المستحقين للزكاة وما يجيبه منها وما يتناثر منها
ويتساقط ويتناوبه الطير ويأكل منها المارة ، ليس مما نحن بصدده في شيء.
فما ذكره في
التذكرة والمنتهى من أن على الخارص أن يتركها ولو استوفى الكل أضر بالمالك ، خارج
عن موضع البحث ، وكذلك ما ذكره فيها من أنه روي عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : حفظوا على الناس ، فان في المال العرية
والواطئة والاكلة قال : والعرية النخلة والنخلات يهب انساناً ثمرتها وقد قال عليهالسلام : ليس في العرايا صدقة. والواطئة السائلة سموا به لوطئهم
بلاد الثمار مجتازين.
والاكلة أرباب
الثمار وأهليهم ، فان ذلك كله غير المتنازع فيه ، وهو ترك
__________________
النخلة والنخلات لاجرة الناطور ، وهو ظاهر جداً ، وذكره بعض الفضلاء في
تعليقاته على شرح اللمعة ، ان عدم القائل بالفرق غير معلوم ، غير مفيد قطعاً لما
علم من اهتمامهم بنقل الخلاف وحكاية الأقوال ، فلو كان ثمة من يقول به لاطلعنا
عليه ، وعدمه دليل على نفيه ، على أن انتفاء ظهور القائل بالفرق كاف ، فتدبر.
ومنها : ما
رواه في الكافي باسناد لا يخلو عن اعتبار عن أبي عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل ( وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ ) قال : يعطي المسكين يوم حصادك الضغث ، ثم اذا وقع في
البيدر ، ثم اذا وقع في الصاع العشر ونصف العشر .
ويظهر منه أن
اخراج الزكاة بعد بعض المئونات الموضوعة مما يتقدم على وقوع الغلة في الصاع ، كما
يدل عليه أيضاً اعتبار الأوساق.
قال في المبسوط
: وقت اخراج الزكاة عند التصفية والنذرية ، لان النبي صلىاللهعليهوآله قال : اذا بلغ خمسة أوسق ولا يمكن الكيل الا بعد
التصفية . ويلزم منه أن يكون أجرة الكيال والوزان أيضاً من المؤن
المستثناة على ما هو ظاهر من استثناء كلها.
ومنها : ما
استند اليه العلامة في المنتهى ، وهو أنه مال مشترك بين المالك والفقراء ، فلا
يختص أحدهم بالخسارة عليه ، كغيره من الأموال المشتركة .
وفي المعتبر
وغيره أن المئونة سبب زيادة المال ، فيكون على الجميع ، كالخرج على غيره من
الأموال المشتركة .
__________________
واعترض عليه
صاحب المدارك بأن اشتراك النصاب بين المالك والفقراء ليس على حد سائر الأموال
المشتركة ، لتكون الخسارة على الجميع ، ولهذا جاز للمالك الاخراج من غير النصاب
والتصرف فيه بمجرد الضمان .
والجواب : أنه
مبني على ما تقرر عندنا من وجوب الزكاة في العين لا في الذمة.
قال في المنتهى
: ذهب اليه علماؤنا أجمع ، سواء كان المال حيواناً أو غلة أو أثماناً ، وبه قال
أكثر أهل العلم. وفي التذكرة انها تجب في العين عند علمائنا وبه قال أبو حنيفة
ومالك والشافعي في الجديد وأحمد في أظهر الروايتين ، الا أن أبا حنيفة قال : لا
يستحق بها جزء منها ، وانما يتعلق بها كتعلق الجناية بالعبد الجاني ، وهو احدى
الروايتين عن أحمد.
ويفهم منه أن
من قال منا بتعلقها بالعين ، ذهب الى أنه على سبيل اشاعة الشركة والاستحقاق ، لا
من قبيل الرهن وغيره على وجه الاستيثاق ، وقد صرح هذا المعترض أيضاً بأن مقتضى
الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في العين كون التعلق على طريق الاستحقاق ، وهو
الظاهر من كلام الأصحاب ، حيث أطلقوا وجوبها في العين ، ولا ينافي ذلك جواز
الاخراج من مال آخر ، وجواز التصرف في النصاب اذا ضمن الزكاة بدليل خارج هذا كلامه
رحمهالله.
وبه ينهدم
بنيان ما شيد به الاعتراض ، فان فيه اعترافاً بأن سلب بعض أحكام الشركة لدليل خاص
لا يوجب نفيها ، ولا يصح أن يقاس على البعض المنفي سائر الأحكام ، فيبقى الجميع
الى أن يقوم دليل على خلافه ، ومنه اشتراك الخسارة ، اذ لا دليل على استثنائه.
فان أراد نفي
استحقاق جزء من أعيان الغلاة من حيث استثناء بعض أوصافه
__________________
وأعراضه وانتفاء شيء من لوازمه وأحكامه ، نظراً الى ما في التذكرة
والقواعد والبيان من التردد في الاشتراك ، واحتمال كونه كالرهن يباع بعض النصاب
عليه اذا امتنع ، كما يباع المرهون في الدين ، أو كونه كتعلق الأرش برقبة الجاني ،
فانها تسقط بهلال النصاب ، كما تسقط الأرش بهلال الجاني ، فذلك لا ينفعه كما
قررناه ، مع أن ذلك من آراء المخالفين ، كما يظهر من الوجيز.
وان أراد نفي
وجوبها في العين ، بناءً على وجوب الزكاة في الذمة مستنداً الى ما ذكر ، فمع قصوره
حيث لا ينافي سلب بعض خواص الاستحقاق تعلقها بالعين على وجه الاستثناء ، يتوجه
عليه أنه مصادم لما سبق من الاجتماع.
وأما ما حكاه
ابن حمزة عن بعض الأصحاب من وجوبها في الذمة ، على ما أورده الشهيد في البيان ،
فقد نسبه في المعتبر كما مر الى أحد قولي الشافعي وأحمد محتجاً على ذلك بأنها لو
وجبت في العين لكان للمستحق الزام المالك بالاداء من العين ومنع المالك من التصرف
في النصاب الا مع اخراج الفرض.
ثم أجاب عن
الأول بالمنع من الملازمة ، فان الزكاة وجبت جبراً ارفاقاً للفقير ، فجاز أن يكون
العدول عن العين تخفيفاً عن المالك ليسهل عليه دفعها ، وكذا الجواب عن جواز التصرف
اذا ضمن الزكاة ، وهو حسن ، كذا في المدارك.
وهو كما ترى
يستحسن تارة أن الوجوب في العين لا في الذمة ، ويعترف أخرى بأنه على سبيل
الاستحقاق دون الاستيثاق. ومع ذلك يعترض على الفاضل بما احتج به المخالف في ذينك
المقامين ، بناءً على انتصار هذين المذهبين.
والعجب من صاحب
الذخيرة حيث تبعه في الاعترافين ، ثم ارتضى ما أورده في هذا المقام مما ينصر ما
أنكره من القولين ، ولعل له عذراً هو به أعرف فان وجه الاعتراض على ما قرره في
الذخيرة بأن اشتراك النصاب ليس على حد
سائر الأموال المشتركة ليحتسب حكمها فيه كلية ، ولهذا يجري فيه ما لم يجر
في سائر الأموال المشتركة ، فيجوز للمالك الاخراج من غير النصاب والتصرف فيه بمجرد
الضمان ، ووجب عليه كلما يتوقف عليه الدفع الى المستحق من أجرة الكيال والوزان
لتوقف الواجب عليه.
فجوابه أن مجرد
امتياز بوجه ما عن سائر المشتركات لا يمنع من اشتراكه معها في سائر الأحكام
المشتركة بعد تسليم الاشتراك وثبوته ، وهو ظاهر مما تقدم.
وقال في
الذخيرة : ان انتفاء بعض الأوصاف الثابتة لتعلق الحق بالعين غالباً لدليل من خارج
، لا يقتضي انتفاء وصف التعلق بالعين بالكلية ، وفي وجوب اجرة الكيل والوزن على
المالك خلاف مشهور ، وقد قال الشيخ في المبسوط : يعطى الحاسب والوزان والكاتب من
سهم العاملين.
والفرق بين ما
يتوقف عليه الغلة وما يحتاج اليه الدفع بين ، فلا يجري ذلك بعينه في أجرة الحصاد
والتصفية على ما زعمه صاحب المدارك ، على أن الأوساق لا يحصل الا بعد ذلك ، فيكون
الجميع مشتركا بين الجميع. وعدم ظهور القائل به بخصوصه لا يضر ، لتناول المؤن كله
في اطلاقاتهم له ، ووجوب شيء من ذلك على أرباب الأموال لا دليل عليه ، ودون اثبات
وجوب ما يتوقف عليه الدفع عليهم خرط القتاد ، مع ما في دعوى التوقف من تطرق المنع.
والمراد بجواز
التصرف بمجرد الضمان ان كان هو الانتقال الى ذمة المالك بالتضمين كما هو المتبادر
، فتوقف جواز التصرف عليه ينافي وجوب الزكاة في الذمة ، وبه يثبت مشاركة المستحقين
في عين النصاب.
واختار في
العزيز أن حق المساكين ينقطع بالتضمين عن عين الثمرة ، وينتقل الى ذمة رب المال ،
لان الخرص يسلطه على التصرف في الجميع ، وذلك يدل على انقطاع حقهم عنها وعدم
الاحتياج الى الاستئذان منهم لتعذره ،
وانما ينوب الساعي عنهم مقام اذنه مقامه حيث لم يتعين المصرف حينئذ.
وان أريد
الضمان الغرم على الأداء من غيرها ، كما أفاده المحقق الشيخ علي ، فالتضمين يتضمن
الاذن لهم فيه ، وكأنه ينتقل بذلك حق المساكين اليهم ، ولذلك يجوز للساعي أن يضمن
لارباب الأموال حقهم بانتقاله اليه.
قال في المعتبر
كغيره : خيرهم بين تركه امانة في يدهم ، وبين تضمينهم حق الفقراء ، أو يضمن لهم
حقهم ، فان اختاروا الضمان كان لهم التصرف بالاكل والبيع والهبة ، وإن أبوا جعله
أمانة ولم يجز لهم التصرف بالاكل والبيع والهبة فيها حق المساكين.
وفي البيان :
ليس له التصرف الا بعد ضمان ما يتصرف فيه أو الخرص فيضمن ، أو يضمن له الساعي ،
فلو تركها امانة جاز الخرص وغيره .
وعلل الاشتراك
في المدارك بما رواه ابن بابويه ، يعني في علل الشرائع عن أبي المعزا عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : ان الله عزوجل أشرك بين الاغنياء والفقراء في الأموال ، فليس لهم أن
يصرفوها الى غير شركائهم .
وبالجملة
النصوص المعتضدة بالشهرة العظيمة البالغة حد الاجماع من الفرقة المحقة ناهضة
باثبات الشركة الاستحقاقية المخالفة لمذاهب العامة ، كما اعترف به في المدارك
والذخيرة ، ولا ينهض أمثال ذلك بنفيها ، فالقول بها هو الوجه ، وما يبتنى عليها من
الوجوه لا يخلو عن وجه ، فلا وجه للاعتراض عليه بهذا الوجه.
وأما الايراد
بأنه ان تم لدل على استثناء المئونة المتأخرة عن وقت تعلق الوجوب بالنصاب ، لحصول
الاشتراك في ذلك الوقت ، والمدعى أكثر من ذلك وأعم منه. فدفعه ظاهر ، لانتفاء
القول بالفرق في هذه المسألة ، وان فرق بين
__________________
المؤن اللاحقة والسابقة في اعتبار النصاب باحتساب المتقدمة دون المتأخرة عكس
ما يراد هنا ، فافهم.
على أنه يصح أن
يقال بالنظر الى ما في المعتبر أن المئونات وان كانت مقدمة سبب لزيادة ما يحصل من
المال المشترك والخراج على الأموال المشتركة وان لم يزد فيها مشترك ، فما يزيد منه
بسببه أولى بالاشتراك ، وبهذا يمكن الاعتذار عما ارتكبه العلامة في المنتهى ، حيث
قال : لنا أنه مشترك بين المالك والفقراء ، فلا يختص أحدهم بالخسارة عليه كغيره من
الأموال المشتركة ، ولان المئونة سبب في الزيادة ، فيكون على الجميع .
فانه جعل ذلك
وجهاً آخر كما ترى ، اشارة الى ما بينهما من الفرقان ، لبعد كون المجموع دليلا
واحداً على مجموع المؤن المتأخرة والمتقدمة ، ولعله أعرض عن التشبيه بغيره من
المشتركات لئلا يتوهم فيه القياس على ما اعتبره عطا ، فان هذه الحجة محكية في
التذكرة بهذا الوجه المبتنى عليه تنبيهاً على أنه يتم التقريب من باب اتحاد طريق
المسألتين ، وأورد المحقق على ذلك الوجه ، بناءً على الاحتجاج بالقياس بالطريق
الأولى.
وبما قررنا ظهر
ضعف ما في الذخيرة من أنه في قوة المدعى ، وأضعف منه ما في المدارك من منع
الملازمة ، بناءً على أنه لا يلزم من كون المئونة سبباً في الزيادة وجوبها على
الجميع ، ومن أن ذلك نفس المدعى ، فكيف يجعل دليلا؟! ضرورة أن هذا المنع مكابرة ،
والاستدلال باعتبار وصف كونه سبباً في الزيادة وهو غير المدعى قطعاً ، وبهذا
الاعتبار كان دليلا ، كما في سائر الأقيسة الاقترانية والاستثنائية.
ومنها : ما نبه
عليه المحقق في المعتبر ، واحتج به في المنتهى ، من أن الزكاة
__________________
في الغلاة انما تجب في النماء واسقاط حق الفقراء من المئونة مناف ، وقرره
في المدارك بأن الزكاة في الغلاة تجب في النماء والفائدة وهو لا يتناول المئونة
وحكم عليه بالبطلان ، ولعله ناظر الى ما هو المفهوم من الغلة ، فانها فائدة الأرض
، كما صرح به الفيروز آبادي وغيره ، وكذا لفظ الزكاة ، ذهاباً الى معناه الأصلي
وهو النمو.
قال في القاموس
: زكا يزكو زكاءً وزكواً نما .
وزاد فانها اسم
على فعلة كالصدقة ، وأكثر ما يكون اطلاقه على المال المخرج فلا يلائم ذلك اخراجه
من غير النماء.
وقال الفاضل
الأردبيلي : لا يبعد عدم تعلق الزكاة بالمؤن كله كالخراج ونحوه متمسكاً بدليل
الإجماع لو كان ، ونحوه من لزوم الضيق والحرج على المالك وتبادر أن الغرض وصول ما
يصل اليه الى النصاب لا ما يأخذه الغير ، خصوصاً ما كان موقوفاً عليه الزرع ،
لحسنة محمد بن مسلم وأبي بصير الصريحة في ذلك ، والأخبار التي تدل على احتساب ما
يأخذه الظالم زكاة ، والتي تدل على كون الخمس بعد المؤن وغيرها فتأمل . كذا في شرح
الارشاد للمحقق المذكور.
وبهذه الوجوه
على ما تمسك به العلامة في المنتهى من الوجوه الست التي مرت الاشارة اليها في
تضاعيف الكلام ، ويتضح بهذه الأدلة المتعاضدة بعضها ببعض من الأخبار المعتبرة
المتأيدة بعمل مشاهير المحققين من الأصحاب ، المطابقة لظاهر ما نزل به الكتاب ،
المخالفة لما اتفق عليه جمهور ذوي الأذناب ، وغير ذلك من الشواهد والاعتبارات ما
أردناه من ترجيح تعلق الزكاة بالغلات بعد وضع ما يغرمه عليه رب المال من المئونات.
__________________
ويؤيده ما عهد
في الشرع من التخفيف عنه باصوله عن التمرد والخلاف ، من حيث كونها مؤاساة يشق
تحملها شرعت معونة للفقراء من أجل قوتهم ، ليحصن بها أموال الأغنياء ، ولهذا اقتصر
فيما يعالج بالرشا والنفح والدلاء على نصف العشر ، مع أنه يحتسب ما يلزم ذلك من
المؤن وسطاً على القبول بالاستثناء على ما صرح به في البيان وغيره ، باعتبار ما
يعاينه من الاشتغال بالسقي واستعمال الأجزاء زائداً على بذل المئونة ، بخلاف ما
سقت السماء وما يجري مجراه من الأودية والسيول.
ولان غلة ما
يسقى بالنواضح والدوالي أكثر ما يكون أقل مما يستقى بالماء الجاري ونحوه ، كما هو
المعهود المعتاد ، مع أن ما يغرمه المالك معجلا لا يجبر بما يصل اليه بعد.
وأيضاً فان
منفعة المالك هي ما يبقى بعد اخراج المئونة ، وظاهر أنه اذا كثرت المئونة يكون ما
سقى له بعد المئونة أقل مما يبقى له فيما قلت المئونة ، فناسب ذلك التخفيف له.
وبذلك ينحل ما
استشكل في المقام ، من أن الزكاة اذا كانت لا تجب الا بعد المئونة ، فأي فارق بين
ما كثرت مئونته وقلت ، على أنه قال المحقق : ان الأحكام متلقاة من الشرع المطهر ،
وكثير من علل الشرع غير معلوم لنا ، فلا حاجة الى ما احتمله الشهيد من سقوط مئونة
السقي لاجل نصف العشر واعتبار ما عداها ، مع أنه ذكر أنا لا نعلم به قائلا.
ولا ينحسم به
الاشكال أيضاً ، لان نصف العشر ربما زاد عليها ، فلا بد من الرجوع الى ما ذكرناه ،
ويقع بازاء ما يزاوله من الكلفة الزائدة على بذل الأجرة وما ينقص من ماله ، وليس
في هذه التفرقة شهادة قوية على عدم الاستثناء كما افتهمه صاحب المدارك ، ولا تصريح
لهم بأن اسقاط نصف العشر لاجل المئونة
خاصة على ما في البيان ، نعم ربما كان لبعضهم اشعار به ، والأمر فيه بعد ما
بيناه سهل.
وكيف كان ففي
ذلك وأمثاله مما يبتنى على رعاية حال أرباب الأموال من الشهادة على العفو
والمسامحة ما لا يخفى على اللبيب ، وقد قال أمير المؤمنين عليهالسلام فانا أمرنا أن نأخذ منهم العفو ، ولذلك عفى رسول الله صلىاللهعليهوآله عما سوى الأجناس التسعة ووضعت الزكاة عن المعلوفة
والسخال وغيرهما ، وعلى المصدق أن يقرض الى ذي المال ويجيزه ويصدقه ويقبل قوله ،
وأجاز لهم الخرص والتخمين واخراج القيمة ، ونهى أن يحشر من ماء الى ماء ، وأن يجمع
بين متفرق ، وأن يفرق بين مجتمع.
الى غير ذلك
مما يفيد التقوية والتأييد ، لما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار ،
فاعتبروا معاشر أولي الأبصار ، مع أنه لا دليل على خلافه بحسب النقل والعقل يعارض
ما فصلناه ، ولا قائل بذلك من قدماء علمائنا ، ولم يتحقق من متأخريهم القول به
أيضاً والخلاف فيه.
مع أن الظاهر
أنه قد سبقه الإجماع ولحقه غير مستقر ومن جنح اليه تراه يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، مع
ما فيما تثبت به من الضعف والقصور ، فان الخلاف منسوب الى الشيخ في المبسوط
والخلاف والفاضل يحيى بن سعيد. ويظهر من الشهيد الثاني في المسالك والروضة نوع
توقف فيه ، وان نسب اليه اختياره في فوائد القواعد ، ومشى على أثره صاحب المدارك ،
وتبعه في الذخيرة ، وهو الظاهر من الحر العاملي في البداية حيث سكت عنه ، وتردد
فيه الفاضل العلامة المجلسي ووالده التقي المتقي كصاحب المفاتيح وان جعله أحوط
وأولى.
فأما الشيخ ،
فقد عرفت أنه تكرر منه في المبسوط التصريح بالاستثناء ، كما قطع به في سائر كتبه
ويوجد في موضع منه في غير موضعه أنه لا زكاة في شيء
من الحبوب من الحنطة والشعير ، والسلت شعير فيه مثل ما فيه ، وكل مئونة
يلحق الغلاة الى وقت اخراج الزكاة على رب المال دون المساكين. والعلس نوع من
الحنطة الى آخر ما قال.
والظاهر من
تخلل هذا الحكم بين كون السلت شعيراً والعلس حنطة بدون مناسبة أنه من الحاقات
الناسخين ، اذ لا وجه لتوسط حكم المؤن بين ذينك الحكمين المتناسبين ، ولو لم يكن
حاشية ألحقت بالاصل لزم التكرار والتناقض ويجب الاحتراز عن أمثال ذلك في كلام
الأجلاء مهما أمكن ، اذ يبعد حمله على المؤن اللاحقة لوقت الوجوب ، أو على اعتبار
النصاب قبلها ، وأبعد منه الحمل على أنه يجب على رب المال أن يؤدي المؤن الى وقت
الاخراج ، ثم يحتسب ما غرمه وسطاً على المساكين.
وقال في الخلاف
: كل مئونة تلحق بالغلاة الى وقت اخراج الزكاة على رب المال وبه قال جميع الفقهاء
إلا عطاء ، فانه قال : المئونة على رب المال والمساكين بالحصة. دليلنا : قوله عليهالسلام « فيما سقت السماء العشر أو نصف العشر » فلو ألزمناه
المؤن لبقى أقل من العشر أو نصف العشر .
ولو كان مراده
وفاق جميع فقهاء الخاصة ، أو اتفاق كل علماء الأمة لاحتج به عليه ، كما هو دأبه في
ذلك الكتاب. ألا ترى أنه حيث أعوزه الدليل اضطر الى التمسك بالعمومات ، ولم يحتج
عليه بالإجماع منا ومن العامة على ما سمعت. فما قطع به في شرح اللمعة من أنه قول
الشيخ محتجاً عليه بالإجماع منا ومن العامة محل التعجب ، وكيف يدعي الإجماع من
الأمة ويخالفه في سائر كتبه وفتاويه ، ولو كان كذلك لزم عليه القول بخلاف ما ادعى
عليه الإجماع ، ويلزم أيضاً مخالفته لاكثر اجماع الطائفة ، بل لما عليه علماء
الإسلام ، وهذا مع أنه مما لا يرتضه
__________________
ذو جحى يستلزم سقوط الاعتماد عن الإجماعات التي يدعيها العلماء الأعلام ولا
سيما الشيخ ، كما شنع عليه كثير من الأخباريين والقاصرين من الأصوليين.
والحق أن
المراد جميع فقهاء العامة على ما هو المعتاد في عبارات القدماء خصوصاً الشيخ في
كتاب الخلاف. واذا أراد التعبير عن اتفاق علماء الخاصة ، قال في مقام التعليل عليه
اجماع الفرقة ، وهذا ظاهر لكل من نظر فيه ، فقد تكرر فيه ذلك ، والمراد به ما
ذكرناه.
كما قال : يجب
في المال حق سوى الزكاة المفروضة ، وهو ما يخرج يوم الحصاد من الضغث بعد الضغث
والحضنة بعد الحضنة يوم الجذاذ ، وبه قال الشافعي والنخعي ، وخالف جميع الفقهاء في
ذلك. دليلنا : اجماع الفرقة وأخبارهم . وهو صريح في أن المراد فقهاؤهم ، حيث قابل بهم اجماع
الفرقة.
وأصرح منه قوله
: لا زكاة في سبائك الذهب والفضة ، ومتى اجتمع معه دراهم أو دنانير ومعه سبائك أو
نقار أخرج الزكاة من الدراهم والدنانير اذا بلغا النصاب ، ولم يضم السبائك والنقار
اليها. وقال جميع الفقهاء : يضم بعضها الى بعض ، وعندنا أن ذلك يلزمه اذا قصد
الفرار من الزكاة.
وكذلك من كان
له سيوف مجراة فضة أو ذهب أو أواني ، مستهلكاً كان أو غير مستهلك لا تجب فيه
الزكاة. وقال الشافعي وباقي الفقهاء : ان كان ذلك مستهلكاً بحيث اذا جرد وأخذ وسبك
لم يحصل منه شيء ، فلا زكاة فيه لانه مستهلك. وان لم يكن مستهلكاً وكان اذا جمع
وسبك يحصل منه شيء يبلغ النصاب ، أو بالاضافة الى ما معه نصاباً ففيه الزكاة .
وقال : الحلي
عندنا لا زكاة فيه ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ، وقالوا
__________________
في غير المباح منه زكاة. وأما المباح فللشافعي فيه قولان ، وحكي عن جماعة
من الصحابة القول بالانتفاء. ثم ذكر أنهم قالوا : زكاته اعارته كما يقول أصحابنا ،
وفي الفقهاء مالك وأحمد واسحاق وعليه أصحابه وبه يفتون .
ويبين ذلك
أيضاً ما قاله من أن الخمس يجب في جميع المستفاد من أرباح التجارات والغلات
والثمار على اختلاف أجناسها بعد اخراج حقوقها ومؤنها واخراج مئونة الرجل لنفسه
ومئونة عياله منه ، ولم يوافقنا على ذلك أحد من الفقهاء. دليلنا : اجماع الفرقة
وأخبارهم وطريقة الاحتياط .
وقال : على
الإمام اذا أخذ الزكاة أن يدعو لصاحبها ، وبه قال داود ، وقال جميع الفقهاء : ان
ذلك مستحب غير واجب فانه أطلق الفقهاء عليهم ، وأراد بجميع الفقهاء من عدا
علمائنا ، وذلك كثير في جميع الكتب وسائر الأبواب.
منها قوله : ان
موضع مسح الرأس مقدمه ، وعليه اجماع الفرقة. وقال جميع الفقهاء : انه غير واجب أي
مكان شاء مسح مقدار الواجب. وحكى عن جميع الفقهاء أن مسح جميع الرأس مستحب ، ثم
قال : أجمعت الفرقة أن ذلك بدعة .
ومنها قوله :
ان أواخر فصول الأذان موقوفة غير معربة ، وقال جميع الفقهاء يستحب بيان الإعراب
فيها. دليلنا : اجماع الفرقة وقد بينا أن اجماعها حجة .
ومنها : أن من
أجنب نفسه مختاراً اغتسل على كل حال ، وان خاف التلف
__________________
أو الزيادة في المرض ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك دليلنا : اجماع الفرقة
المحقة.
ومنها : أنه
يجوز صلاة الفريضة على الراحلة عند الضرورة ، وقال جميع الفقهاء : لا يجوز ذلك ،
لإجماع الفرقة .
ومنها : أنه
ذكر أن الفرض في الطهارة الصغرى المسح على الرجلين ، وقال جميع الفقهاء : الفرض هو
الغسل ، وروي عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال : ما نزل القرآن الا بالمسح وعليه اجماع الفرقة
.
ومنها : قوله
ان المذي والودي لا ينقضان الوضوء ولا يغسل منهما الثوب ، وخالف جميع الفقهاء في
ذلك وأوجبوا منهما الوضوء وغسل الثوب ، دليلنا : اجماع الفرقة .
الى غير ذلك من
المواضع المتكررة المتكثرة في جميع أبواب ذلك الكتاب وفصوله مما لا حاجة الى
التطويل بذكره ، وفيما أوردناه كفاية للمسترشد.
ولهذا بعد ما
حكى المحقق الخلاف عن الشيخ نسبه الى الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد. وفي المنتهى
أن زكاة الزرع والثمار بعد المئونة ، كاجر السقي والعمارة والحصاد والجذاذ والحافظ
وبعد حصرته ، وبه قال أكثر أصحابنا واختاره الشيخ أيضاً في النهاية ، وذهب اليه
عطاء. وقال في المبسوط والخلاف : المئونة على رب المال دون الفقراء ، وهو قول
الفقهاء الأربعة .
فان قلت : انه
ربما يطلق الفقهاء على ما يتناول العامة والخاصة ، فانه قال :
__________________
زكاة الابل والبقر والغنم والدرهم والدنانير لا تجب حتى يحول على المال
الحول وبه قال جميع الفقهاء ، دليلنا : اجماع الفرقة .
قلنا : مجرد
وفاقهم معنا لا يقتضي أن يريد به الفقهاء من الفريقين ، ولو حمل على ذلك بالنظر
الى القرينة ، فالفرق بينه وبين ما نحن فيه من مسألة الاستثناء بين ، ألا ترى أنه
استدل في هذا الموضع باجماع الفرقة. ولو كان المراد في تلك المسألة جميع الأمة ،
لاستدل لنفي الاستثناء باجماعهم كما أشرنا اليه.
والظاهر أن
المراد هنا جميع الفقهاء منهم أيضاً ، كسائر المواضع المتكررة ويشهد له أنه بين
النصب في الغنم ، ثم قال : وبهذا التفصيل قال النخعي والحسن ابن صالح بن حي ، وقال
جميع الفقهاء أبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم مثل ذلك ، الا أنهم لم يجعلوا بعد
المائتين وواحدة أكثر من ثلاثة الى أربعمائة ولم يجعلوا في الثلاثمائة وواحدة
أربعاً كما جعلناه ، وفي أصحابنا من ذهب الى هذا ، وهو اختيار المرتضى ، دليلنا :
اجماع الفرقة .
فانه فسر
الفقهاء بهم ، ومعه لا يبقى ارتياب على أنه لو أراد الجميع لم يحتج الى ذكر
المرتضى آخراً ، وكيف يريده؟ مع وقوع الخلاف من الشيخ وغيره من الأصحاب كالمفيد ،
وبعد اللتيا والتي احتجاجه باجماع الفرقة فيما اتفق فيه الفريقان دون ما نحن فيه
أدل دليل على نفي الاتفاق فيه.
وكذلك ما قال :
ان السخال لا تتبع الأمهات ، وبه قال النخعي والحسن البصري ، وخالف باقي الفقهاء
في ذلك على اختلاف بينهم سنذكره ، دليلنا : اجماع الفرقة .
__________________
ثم قال : من
أوجب فيها الزكاة اختلفوا ، وفصل أقوال الشافعي وأبي حنيفة ومالك .
وفيه تنبيه على
أن الفقهاء أولئك المذكورون. وبما فصلناه يصح حال الإجماع الذي به يصولون وعليه
يعولون.
ومنه يظهر ما
في قول صاحب الجامع : ان المئونة على رب المال دون المساكين اجماعاً إلا عطاء. لان
الظاهر أنه أخذ ذلك من الخلاف ، واستثناء عطاء شاهد عليه ، فلعله أراد به اتفاق
العامة وهو أعرف ، وكيف كان فلا تعويل على هذا الإجماع ، كما لا عبرة بقول ناقله
به لانه يبتنى عليه. واذا علم ضعف المبني عليه يعلم فساد المبنى قطعاً.
والعجب من
الجماعة المتفقهة المتأخرين حيث اعترفوا بدعوى اجماع الكل غير عطاء مع ما عرفت أنه
خلاف ما أطبق عليه المحصلون من الفقهاء.
وحيث ظهر أن
فقهاء العامة عن آخرهم على أن فيما سقت السماء العشر وفي غيره نصف العشر ، من غير
تقييد باستثناء المؤن ، علمت أن ما احتج به الشيخ وغيره من الأخبار المتكثرة
المطلقة أو العامة محمول على المماشاة معهم ، والإجماع فيها لمصالح لا يخفى على
ذوي الأفهام.
ثم انه لو
اعتبر العشر مثلا بعد المؤن ، لم يبق من العشر مطلقا ، وانما يبقى أقل من العشر الكل
، ولا نص على وجوب عشر ما سقت السماء ، وانما المنصوص أن نية العشر في الجملة ،
واخراج مطلق العشر متحقق مطلقا ، ووجوب عشر الجميع أول المسألة وعين المتنازع فيه.
فاندفع ما علله
به في الخلاف ، وكذا ما حكاه في المعتبر عن الفقهاء الأربعة من أنه لو لزم الفقراء
منها نصيب لقصر نصيبهم عن الفرض ، لان ادعاء أن الفرض.
__________________
عشر الجميع يشتمل على المصادرة.
ولا يتم ما في
المدارك أيضاً ، من أن لفظ « ما » من صيغ العموم ، فيتناول ما قابل المئونة وغيره
، اذ لم يثبت العشر الى ما يفيد العموم ، مع احتمال ارادة المعهود من الموصول ،
وهو النماء والفائدة. وكذا الحال فيما روي من أن العشر مما سقت السماء ونصف العشر
مما سقي بالدوالي. وما ورد أن صدقة ما سقي بالغرب نصف الصدقة وما سقت السماء
والأنهار ، أو كان بعلا ، فالصدقة هو العشر ، وما سقي بالدوالي وبالغرب فنصف
العشر. لان ما قدمناه يجري في ذلك كله.
ولا ينافي أن
يخرج عشر ما يحصل في يد المالك مما سقت السماء ، وصدقة ذلك عشر النماء والفائدة ،
ضرورة أنها ليست نصاً في خلافه ، وظهور ما فيه غير ظاهر ، فانها بالنظر الى
الشرائط والأحكام مطلقة يحتاج الى التقييد ، أو مجملة يفتقر الى بيان ، فيجوز أن
يكون استثناء المؤن أيضاً كذلك ، اذ لم يتعلق بتفصيلها الغرض المسوق له الكلام في
هذا المقام ، ولا حجر في السكوت عن حكمها كالاعراض عن اشتراط النصاب والتملك
بالزراعة وما شاكل ذلك.
على أن العموم
بالقياس الى ما يتناوله اللفظ ، كالحبوب والثمار من الحنطة والشعير والتمر والزبيب
، ففي كل جنس منها العشر في الجملة ، وهذا غير ما قصد اثباته بالعموم ، من أن كل
جنس فيما قابل المئونة منه وغيره العشر ، وهذا قيد زائد.
اللهم الا أن
يتكلف ويقاس العموم بالنسبة الى كل جزء ، وهو كما ترى. ألا ترى أن قولك من ضربته
فاكرمه ، وان عم المسلم والكافر والصغير والكبير والزنجي والرومي ، لكنه مطلق
بالنظر الى المضروب بالسوط أو العصا أو السيف أو المضروب في الدار أو في المسجد ،
فلا يمنع العموم أن يراد به ضرب مخصوص.
فان قيل :
هاهنا ما ينص على الاخراج من الجميع وان لم يظفروا به ، ففي كتاب الحجة من الكافي
عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليهالسلام في حديث طويل ، موضع الحاجة منه قوله عليهالسلام : والأرضون التي أخذت عنوة بخيل وركاب ، فهي موقوفة
متروكة في يدي من يعمرها أو يحييها ويقوم عليها على ما يصالحهم الوالي على قدر
طاقتهم من الحق النصف أو الثلثين وعلى قدر ما يكون لهم صلاحاً ولا يضرهم ، فاذا
أخرج منها ما أخرج بدأ ، فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو يسقى سيحاً
، ونصف العشر مما سقي بالدوالي والنواضح ، فأخذه الوالي فوجهه في الجهة التي وجهها
الله تعالى على ثمانية أسهم.
الى قوله عليهالسلام : ويؤخذ بعد ما بقي من العشر ، فيقسم بين الوالي وبين
شركائه الذين هم عمال الأرض واكرتها ، فيدفع اليهم أنصباؤهم على ما صالحهم عليه
ويؤخذ الباقي ، فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه من
تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس
لنفسه من ذلك قليل ولا كثير .
فالجواب : أنه
مع الاغماض عن اختلاف النسخ في محل الاحتجاج المورث لارتفاع الوثوق به والركون
اليه وقطع النظر عما في اسناده وغيره لا يتضح دلالته ، الا أن يراد بالإخراج
الإنبات ، وهذا غير ظاهر. والأولى أن نحمل على اخراج المئونة ، اذ الظاهر أن
الفعلين على ما لم يسم فاعله ، على ما صححه بعض الأفاضل ، والمعنى : فاذا أخرج من
غلتها ما أخرج من المئونات.
ويحتمل البناء
للفاعل ، والمعنى : اذا أخرج المالك منها ما أخرجه من المؤن ، فاذا وضع منها وأخرج
على ما لم يسم فاعله ما أخرجه رب المال من
__________________
المئونات واغترمه عليها.
وقد ذكر الفاضل
القزويني أن ما أخرج عبارة عن مئونات الاحياء ، كاجرة الجذاذ
والنجار وقيمة العوامل ، وفسر قوله صلوات الله عليه « فأخرج منه العشر من الجميع »
بأنه أخرج مما بقي من الحاصل العشر من الجميع ، أي : قبل ما صالح عليه الوالي ،
هذا كلامه رحمهالله. وحينئذ يكون الى خلاف المقصود أقرب.
وفي النسخ
المصححة من التهذيب : فاذا أخرج منها فابتدأ فأخرج منه العشر فيدل على تعلق
العشر بما يبقى من النماء والفائدة ، وقد تقدم احتمال الخروج والاخراج لظهور الربح
وابرازه ، أي : فاذا أظهر الله تعالى منها ما أبرز من الفائدة والنماء وهي الخروج
والغلة ، كما يفهم من اللغة على ما علمت. وكيف كان فلا ظهور له في اعتبار العشر من
الجميع بدون وضع المئونة ، وانما يلزم عشر غلة الأرض وفائدتها.
وبهذا الاعتبار
أجاب العلامة في المنتهى عن الاحتجاج بقوله عليهالسلام « فيما سقت السماء العشر » وبقوله عليهالسلام « ليس فيما دون خمسة أو ساق زكاة » بأن العشر انما يجب
في النماء والفائدة ، وذلك لا يتناول المئونة ، وكأنه أعرض عن هذه الرواية من بالغ
في التشبث بالوجوه الضعيفة لذلك.
وفي المعتبر أن
حجتهم لا يتناول موضع النزاع ، لان العشر مما يكون نماء وفائدة. والحاصل أنه ان
اريد وجوب عشر جميع ما ينبت من الأرض ، فذلك غير لازم. وان اريد به وجوبه في
الجملة ، فيجوز أن يكون عشر النماء والفائدة
__________________
لانه القدر المسلم مع اشعار المفهوم من الزكاة به ، وتبادر أن الفرض
اخراجها من الأرباح كالخمس كما مر.
على أنه لا بد
من ارتكاب التخصيص في النصوص البتة ان تم العموم ، لما فصل من الدلائل ، كما يخص
قوله عليهالسلام « يزكي ما خرج منه قليلا كان أو كثيراً من كل عشرة واحد
، أو من كل عشرة نصف واحد » وقد حمله الشيخ على الاستحباب أو على ما زاد على خمسة
أو سق ، لانه ليس بعد ذلك نصاب ينتظر بلوغه اليه ، مع أنه موافق لما ذهب اليه أبو
حنيفة وغيره من العامة ، وقد علمت احتمال الخروج لظهور الربح وبروز النماء وحصول
الفائدة ، فالمعنى يزكي ما حصل منه من النفع ويحال اشتراط النصاب على الإجماع
وغيره.
فصل
[
اعتبار النصاب بعد اخراج المؤن ]
الظاهر أنه
يعتبر النصاب بعد اخراج المؤن كلها ، فان قصر الباقي عن النصاب فلا زكاة ،
اقتصاراً على موضع الوفاق ، وفاقاً للمشهور ، عملا بما تضمنه النص من أنه ان بلغ
النصاب بعد خراج السلطان ومئونة القرية ومئونة العمارة أخرج منه العشر أو نصفه ،
ويؤيده أنه أنسب بما يرآى فيها من التخفيف والتسهيل ، وبه قطع العلامة في جملة من
كتبه ، كالتحرير والمنتهى.
خلافاً لما جنح
اليه في التذكرة ، حيث قال : الأقرب أن المئونة لا تؤثر في نقصان النصاب ، وان
أثرت في نقصان الفرض ، فلو بلغ الزرع خمسة أوسق مع المئونة ، فاذا سقطت المئونة
منه بقي على النصاب ووجبت الزكاة ، لكن لا في المئونة بل في الباقي ، ومال اليه في
المدارك ، ولم يذكر عليه دليل. ولهذا قال في الشرائع : انه أحوط.
وفصل الشهيد
تبعاً لما في حواشي الشرائع من أن الأصح أن المؤن المتقدمة على بدو الصلاح كالحرث
والسقي ، يعتبر بلوغ النصاب بعدها ، لأن قدرها مستثنى للمالك ، فلا يصلح تعلق
الزكاة به ، بخلاف المتأخرة عنه كالحصاد والجذاذ ، لانها بمنزلة المؤن اللازمة في
المال المشترك ، فيكون من الشريكين.
ولعله مبني على
اتحاد وقت تعلق الزكاة وزمان الإخراج ، كما يفهم من شرح القواعد ، فانه أورد
التدافع على قول العلامة ، ويتعلق الزكاة عند بدو صلاحها واعتبار النصاب عند
الجفاف حالة كونها تمراً أو زبيباً ، وفي الغلة بعد التصفية من التبن والقشر ،
فقال : هذا الحكم كالمتدافع نظراً الى الدليل. وقد عرفت ما في اختصاص الاشتراك
بالمؤن اللاحقة ، فتذكر.
وما أفاده من
أن المئونة السابقة على بدو الصلاح يشترط بقاء النصاب ، وهو ما يتعلق به الزكاة ،
والمتأخرة لا يخل استثناؤها بسقوط الزكاة عن الباقي ، كما لو تلف البعض ، لا يسمن
ولا يغني من جوع ، لانه مجرد دعوى ، وقياسه على التلف فاسد. وقد سمعت أن ايجاب
الحقوق في الأموال مخالف لظاهر التنزيل المجيد فلا بد من قصره على موضع اليقين.
هذا كله فيما عدا خراج السلطان من المئونات.
وفي المعتبر :
خراج الأرض يخرج وسطاً وتؤدي زكاة ما بقي اذا بلغ نصاباً لمسلم ، وعليه فقهاؤنا
وأكثر علماء الإسلام .
وقال في
المنتهى : خراج الأرض يخرج وسطاً ثم يزكى ما بقي ان بلغ نصاباً اذا كان المالك
مسلماً ، وهو مذهب علمائنا وأكثر الجمهور .
ويلوح من
الشهيد الثاني أنه كالمؤن المتأخرة ، فيعتبر النصاب قبلها ، وكأنه
__________________
مسبوق بالإجماع ، وقد أفيد أنه ليس من مال الزارع ، فلا وجه لاستثنائه بعد
النصاب.
تنبيه
:
المئونة بفتح
الميم وضم الهمزة قبل الواو الساكنة على فعولة : القوت والكفاية ، على ما في
القاموس وغيره ، من مأنه كمنعه اذا تحمل مئونته وقام بكفايته.
أو من مأنه يمونه كصانه يصونه ، فأصلها مئونة بواوين قلبت المضمومة المتوسطة همزة.
وقال المطرزي :
المئونة الثقل من مأنت القوم اذا احتملت مئونتهم ، وقيل : العدة ، من قولهم «
أتاني هذا الأمر وما مأنت له مأناً » اذا لم تستعد له. وقال الفراء : هي مفعلة
بزيادة الميم من الأين ، بمعنى التعب والشدة. وقيل : هي من الأون ، بمعنى أحد
جانبي الخرج ، وهو الوعاء المعروف لثقلها على الانسان المتحمل لها ، كثقل أحد شطري
الوتر على الحيوان الذي يحمله ، على ما في الصحاح ، وأصلها
مأونة بضم الواو على مفعلة أيضاً ، فنقلت ضمها الى الهمزة الساكنة ، كما نقلت من
الياء اليها على قول الفراء ، فانقلبت الياء واواً لسكونها وانضمام ما قبلها.
والمراد بها
هاهنا ما يغرمه المالك على كل ما يحتاج اليه الغلة ، سواء تقدم على الزرع ، كالحرث
والحفر وعمل الناضح ونحو ذلك ، أو قارنه كالسقي والحصاد والجذاذ وتنقية مواضع
المياه مما يحتاج اليه كل سنة ، لا أعيان الدولاب والالات ونحو ذلك.
نعم يحسب نقصها
لو نقصت ، ومما يحسب أجرة مصفى الغلة وقاطع الثمرة ،
__________________
وأجرة الأرض المستأجرة للزراعة ، كذا في حواشي الشرائع للمحقق الشيخ علي ،
قال : والبذر من المئونة فيستثنى ، لكن اذا كان مزكى سابقاً. ولو اشتراه لم يبعد
أن يقال : يحسب أكثر الأمرين من ثمنه وقدر قيمته. ولا يذهب عليك أن ما يأخذه
الجائر مطلقاً مما يحتاج اليه الاشتغال بالزرع ولا يتأنى بدونه.
قال المحقق
الأردبيلي : فانه لو لم يعط ما يمكن الزرع لانهم ما يخلون ، سواء كان ظلماً أو
حقاً ، قال : وكذا حصة العاملين فيه ، وكذا البذر وغير ذلك من مئونة الأخشاب
والحديد وأجرة صانعهما ومصلحهما وأجرة العوامل والدواب وغيرها انتهى.
فلا يتجه ما
ذكره المحقق الثاني من أن المراد بحصة السلطان ما يستحق في الأرض الخراجية من
الخراج ، سواء أخذه العادل أم الجائر ، لكن بشرط أن لا يتجاوز مقدار الخراج
المعتبر شرعاً ، فلو أخذ زيادة لم تكن مستثناة. وقال : ان أخذها قهراً من غير
تقصير من المالك في المدافعة ولا في اخراج حصة الفقراء ، لم يكن عليه ضمان ، والا
ضمن حصة الفقراء.
وكذا لا يتم ما
ذكره الشهيد الثاني في شرح الشرائع : من أن المراد بالمؤن ما يغرمه المالك على
الغلة مما يتكرر كل سنة عادة وان كان قبل عامه ، كاجرة الفلاحة والحرث والسقي
والحفظ وأجرة الأرض ، ومئونة الأجير وما نقص بسببه من الالات والعوامل حتى ثياب
المالك وعين البذر ، وان كان من ماله المزكى. ولو اشتراه تخير بين استثناء ثمنه
وعينه ، وكذا مئونة العامل المثلية. وأما القيمة ، فقيمتها يوم التلف ، ولو عمل
معه متبرع لم يحتسب أجرته ، اذ لا تعد المنة مئونة عرفاً .
__________________
وذلك لان مطلق
المئونات وان لم تكن مكررة في كل عام مما يتوقف عليه الزرع ويحتاج اليه الغلة ،
ويطلق عليه المئونة بالمعنى اللغوي ، كما يفهم مما أفاده المحقق الشيخ علي ، فان
الظاهر أن قوله ما يحتاج اليه كل سنة قيل لما قارن الزرع وأما المتقدم عليه ، فمطلق
على ما يشهد به التمثيل ، اللهم الا أن يكون مراد الشهيد الثاني رحمهالله أنه لا يعد غير المتكرر مئونة عرفاً ، كما صرح به في
عمل المتبرع ، وفيه ما فيه.
نعم يمكن أن
يقال : ان الغالب أن المتحمل لحفر الابار والأنهار وتنقيتها ، واصلاحها وتسوية
الأراضي ، واعدادها للزرع والغرس ، وما يجري مجرى الاحياء مما لا يتكرر ، انما هو
من أرباب الأرضين دون الفلاحين ، فأغنى عن اعتبارها ذكر أجرة الأرض لتناوله لذلك
كله. ألا ترى أنه أدخل ما يأخذه السلطان تحت الأجرة أيضاً.
فانه قال في
المسالك : المراد بحصة السلطان ما يأخذه على الأرض على وجه الخراج أو الأجرة ولو
بالمقاسمة ، سواء في ذلك العادل والجائر ، الا أن يأخذ الجائر ما يزيد على ما يصلح
كونه اجرة عادة فلا يستثنى الزائد ، قال : ولا يحتسب المصادرة الزائدة على ذلك .
فان الظاهر من
انكار استثناء الزائد وعدم احتساب المصادرات الزائدة على قدر الأجرة أن الوجه في
استثناء حصة السلطان انه من المئونات. ويحتمل أن يكون نظره الى ما ذكره الشيخ علي
من اشتراط أن لا يتجاوز مقدار الخراج المعتبر شرعاً ، بناءً على أنه لا يزيد على
ما يصلح أجرة للارض عادة.
قال في
الخراجية : الخراج هو ما يضرب على الأرض كالاجرة لها ، وفي
__________________
معناه المقاسمة ، غير أن المقاسمة تكون جزءاً من حاصل الزرع ، والخراج
مقدار من النقد يضرب عليها ، وهذا هو المراد بالقبالة والطسق في كلام الفقهاء
انتهى.
ويشكل بأنه فسر
الخراج بمقدار من المال يضربه الحاكم بحسب ما يراه على الأرض أو الشجر. ولا ريب في
اختلافه بحسب تغائر الحكام واختلاف الأحوال والأزمان ، ويتعسر انضباط ذلك جداً ،
فكل ما يراه الحاكم يكون خراجاً ، مع أن ما يدل على استثناء حصة السلطان لا يتقيد
بأمثال هذه الاعتبارات.
وقد مر أن على
المنقين سوى قبالة الأرض العشر ونصف العشر ، فانه يفيد استثناء المأخوذ على وجه
القبالة بقول مطلق ، وكذا ما سبق من قوله عليه الصلاة والسلام « انما العشر عليك
فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك » يدل على استثناء حصة المقاسمة مطلقا ، سواء كان
بحسب المعتاد في أجرة الأرض ، أو زائداً على ذلك ، وكذا ما في المقنع والفقيه وفقه
الرضا عليهالسلام من استثناء خراج السلطان.
ولعله طاب ثراه
اقتصر على المتيقن ، حملا له على المتعارف في أعصار الأئمة سلام الله عليهم أجمعين
، مع أنه لا بد أن يعلل العموم بما يفيد استثناء المئونة كما ارتكبه طاب ثراه
لانتفاء النص العام.
وصرح في البيان
بأن الخراج من المؤن ، وجعل من الشروط اخراج المؤن كلها من المبدء الى المنتهى ،
وقال : ومنها البذر وحصة السلطان والعامل وحينئذ يقتصر على ما لا يزيد على أجرة الأرض بحسب عادة
ذلك الزمان.
لكن لا يلائمه
ما في شرح اللمعة من أنه ورد استثناء حصة السلطان ، وهو أمر خارج عن المئونة ، وان
ذكرت منها في بعض العبارات تجوزاً ، فان أراد بذلك ما قدمناه من استثناء الخراج
والمقاسمة والقبالة ، فلا يجدي نفعاً لاثبات
__________________
استثناء مطلق حصة السلطان ، اذ لا يتناول ذلك ما يأخذه باسم الزكاة وغيرها.
وان أراد الأعم من ذلك ، فقد عرفت أن النصوص خالية عنه.
نعم هاهنا نصوص
دالة على سقوط الزكاة عمن أخذها من السلطان وعما يؤخذ منه الخراج ، وهي متروكة
الظاهر لمعارضتها بما هو أقوى منها مما اشتهر العمل بها بين الأصحاب ، فتحمل على
نفي الزكاة عن خصوص هذا القدر المأخوذ ولا بعد في حمل كثير منها على ذلك.
كصحيحة رفاعة
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن الرجل يرث الأرض أو يشتريها ، فيؤدي
خراجها الى السلطان هل عليه عشره؟ قال : لا . فان الظاهر أن المراد عشر الخراج ، والا كان المناسب
أن يقال : هل عليه عشرها كما قال أو يشتريها ، فافهم.
وفي الصحيح عن
محمد بن مسلم قال : سألته عن الرجل يتكاري الأرض من السلطان بالثلث والنصف ، هل
عليه في حصته زكاة؟ قال : لا . أي : في حصة السلطان ، كما في الوافي.
وروى الشيخ في
التهذيب عنه في الصحيح ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل له الضيعة ، فيؤدي خراجها ، هل عليه فيها عشر؟
قال : لا .
وفي المنتهى : ان حاصل
المعنى أن العشر لا يثبت في غلة الضيعة بكمالها قال : ولا بأس بهذا الحمل ، اذ هو
خير من الاطراح ، فان ما دل على ثبوت الزكاة في مثله كصحيحة البزنطي ظاهر الرجحان
غير قابل للتأويل.
__________________
وعن سهل بن
اليسع انه حيث أنشأ سهل آباد وسأل أبا الحسن عليهالسلام عما يخرج منها ما عليه ، فقال : ان كان السلطان يأخذ
خراجه ، فليس عليك شيء ، وان لم يأخذ السلطان منك شيء ، فعليك اخراج عشر ما يكون
فيها .
وروى الشيخ عن
أبي كهمس عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : من أخذ منه السلطان الخراج ، فلا زكاة عليه .
وظاهر هاتين الروايتين
موافق لما ذهب اليه بعض العامة ، من أنه لا عشر في الأرض الخراجية ، وهو خلاف
الإجماع.
قال في التذكرة
: لا تسقط الزكاة بالخراج عند علمائنا أجمع. وفي التهذيب أنه مقصور على الأرضين
الخراجية ، وذكر أن على أهلها سوى القبالة العشر ، قال : فيكون المعنى لا زكاة
عليه لجميع ما أخرجته الأرض ، وان كان يلزمه فيما يبقى في يده.
ومن هنا يظهر
أنه لا يفهم منه قول الشيخ بعدم وجوب الزكاة في الأرضين الخراجية ، كأبي حنيفة ،
على ما جزم به بعض المحققين ، قال : فاجماع العلامة في محل المنع ، لان الشيخ
أيضاً وافق الأصحاب ، كما صرح به في تهذيب الأحكام.
ويرشد اليه
أيضاً ما في الإستبصار من أن الوجه فيما يتضمن نفي الزكاة عمن يأخذ السلطان منه
الخراج أن يحمل على أنه لا زكاة عليه عن جميع ما يخرج من الأرض ، وان كان يلزمه
فيما يبقى في يده اذا بلغ الحد الذي فيه الزكاة ، جمعاً بين الأخبار .
__________________
وفي الخلاف :
أن مذهب أبي حنيفة أنه اذا أسلم من وضع عليه الجزية من أهل السواد اخذت تلك الجزية
منه باسم الخراج عن رقبة الأرض ولا عشر في غلتها ، وعندنا يجب العشر عن غلتها
ويسقط الخراج ، ولا يجتمع العشر والخراج أبداً اجماعاً ، قال : واعتقد أصحابنا أن
أبا حنيفة يقول : ان العشر والخراج الذي هو الثمن هو الأجرة لا يجتمعون وتكلموا
عليه ، واعتقد أصحاب أبي حنيفة انا نقول : العشر والخراج الذي هو الجزية يجتمعان
وتكلموا عليه. وقد بينا الغلط فيه هذا كلامه. وعليه يحمل ما احتج به أصحاب الرأي من قوله عليهالسلام « لا يجمع العشر والخراج في أرض مسلم ».
قال الشهيد في
البيان : ويتصور هذا الخراج في موضعين : في المفتوحة عنوة ، وفي أرض صالح الإمام
أهلها الكفار على أن يكون للمسلمين وعلى رقابهم الجزية ، ثم رد الأرض عليهم مخرجة
ثم يسلمون ، فانه يبقى الخراج ، ولا تسقط الزكاة ، بخلاف ما لو ضرب على أرضهم
المملوكة خراجاً وأسلموا فانه يسقط ، والفرق أن الأول أجرة والثاني جزية .
ويحتمل على بعد
أن يحمل العشر على حصة المقاسمة ، ويقربه الاقتصار عليه وحيث اريد به الزكاة ردت
بنصف العشر ، لئلا يلزم تأخير البيان ، فالمعنى أن من أخذ منه المال المضروب على
الأرض ، فليس عليه قسط من حاصلتها ، فانهما لا يجتمعان.
وبالجملة
فالظاهر أنه لا خلاف في أن الخراج لا يغني عن الزكاة ، على ما يظهر من التذكرة والمعتبر
والمنتهى. وأما الزكاة التي يأخذها السلطان ، فالمشهور الذي يكاد يكون اجماعاً
أنها لا تغني أيضاً ، للاخبار المستفيضة البالغة حد التواتر ،
__________________
أن موضعها أهل الولاية ، ولا يجزئ ان أعطيت غيرهم وان كانوا ذوي قرابة ،
وانه تجب اعادتها بعد الاستبصار اذا دفع الى غيرهم في زمان الضلالة.
وفي صحيحة أبي
أسامة قال قلت لابي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك ان هؤلاء المصدقين يأتونا فيأخذون منا
الصدقة فنعطيهم اياها ، أتجزئ عنا؟ فقال : لا ، انما هؤلاء قوم غصبوكم أو قال :
ظلموكم أموالكم ، وانما الصدقة لاهلها . فلا محيص عن ارتكاب التأويل فيما ظاهره خلاف ذلك.
مثل ما رواه
الشيخان في الصحيح ، وما يجري مجراه عن سليمان بن خالد قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : ان أصحاب أبي أتوه فسألوه عما يأخذ السلطان فرق
لهم ، وانه ليعلم أن الزكاة لا تحل الا لاهلها ، فأمرهم أن يحتسبوا به ، فجال فكري
والله لهم ، فقلت : يا أبة انهم ان سمعوا ذا لم يزك أحد ، فقال : يا بني حق أحب
الله أن يظهره .
وعن عيص بن
القاسم في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام في الزكاة ، فقال : ما أخذ منكم بنو أمية فاحتسبوا به ،
ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم ، فان المال لا يبقى على هذا أن يزكيه مرتين .
وفي صحيحة
الحلبي قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن صدقة الأموال يأخذه السلطان ، فقال : لا آمرك أن
تعيد .
وفي رواية ابن
بكير : ليس على أهل الأرض اليوم زكاة الا من كان في يده شيء مما أقطعه الرسول صلىاللهعليهوآله.
__________________
وفي قرب
الاسناد أن علياً عليهالسلام كان يقول : اعتد في زكاتك بما أخذ العشار منك ، واخفها
عنه ما استطعت .
ومثله صحيحة
يعقوب بن شعيب قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن العشور التي تؤخذ من الرجل أيحتسب بها من زكاته؟ قال
: نعم ان شاء .
قال سلطان
العلماء : لعل المراد ما أخذ باسم الزكاة. والظاهر من الاحتساب جعله من الزكاة ،
يحتمل أن المراد بالاحتساب الاحتساب من المئونة ، فيزكي المال بعد وضعه ، وهو
بعيد.
وفي معناها
رواية السكوني على ما في الكافي والفقيه عن علي عليهالسلام قال : ما أخذ منك العاشر فطرحه في كوزة فهو من زكاتك ،
وما لم يطرح في الكوز تحتسبه من زكاتك .
والظاهر أنه
العاشر من قبل السلطان العادل ، وعدم احتساب الخارج عن الكوز ، لعدم وصوله الى بيت
المال. والأشهر أن هذه الروايات أيضاً محمولة على أنه لا نخرج الزكاة عما أخذوه ،
وان وجب اخراجها عما بقي ، على ما في روضة المتقين وغيرها ، جمعاً بينها وبين ما
سبق. وربما يحمل على التقية ، لئلا يشتهر عنهم عليهمالسلام أنهم لا يجوزون أداء الزكاة اليهم ، ويأمرون شيعتهم
بالاعادة مرة اخرى.
قال الفاضل
التقي المتقي : ظاهرها جواز الاحتساب واستحباب الاعادة ، والفرق بينهما ظاهر ، فان
ظاهر الأخبار الأولة أداء الزكاة اختياراً الى غير المستحق بخلافه هنا ، فانهم
يأخذون جبراً ، فلا استعاد في السقوط ، سيما اذا أخرج الزكاة
__________________
لان يؤدي الى المستحق ، فأخذها الظالم جوراً ، فانه بمنزلة التلف .
وفي شرح
الارشاد للمحقق الأردبيلي قدسسره : يمكن الجمع بأنه ان أخذ الظالم الخراج على وجه الزكاة
قهراً يحتسب وتبرأ ذمة المالك وتبقى في ذمتهم فكانهم أخذوا مال الفقراء المودوع
عند المالك قهراً ومن غير تفريط .
ويحتمل أن يكون
المراد لا يجزئ عن غير ذلك المال ، لانهم اذا اخذوا زكاة الغلاة أكثر مما يستحق ،
فلا يجوز له أن يحتسب الزائد من زكاة الذهب والفضة ، بل يجب اخراجها على حدة.
وفي الفقيه سئل
أبو الحسن عليهالسلام عن الرجل الذي يأخذ منه هؤلاء زكاة ماله ، أو خمس
غنيمته أو خمس ما يخرج له من المعادن ، أيحسب له ذلك في زكاته وخمسه؟ فقال : نعم .
وعلله في
التعليقة السجادية بأن ذلك بمنزلة أخذ مال الغير عنهم بالجبر بل نفسه. ولا يبعد أن
يوجبه ذلك ، بأنه يثاب الرجل عليه ثواب الزكاة والخمس ، ويحسب ذلك له في زكاته
وخمسه عند الله سبحانه.
قال في البيان
: لو أخذ الظالم العشر أو نصفه باسم الزكاة ، ففي الاجتزاء بها روايتان ، والأقوى
عدمه ، ويزكي حينئذ الباقي وان نقص عن النصاب بالمخرج وذكر الشيخ في قوله عليهالسلام « وليس على أهل الأرض اليوم زكاة » أنه قد رخص اليوم
لمن وجب عليه الزكاة وأخذه السلطان الجائر أن يحتسب به من الزكاة ، وان كان من
الأفضل اخراجه ثانياً ، لان ذلك ظلم به.
هذا ما ظفرنا
به من افادات القوم رحمهمالله ، ولا يذهب على الفطن أن المفهوم
__________________
من كثير منها اختصاص الرخصة بالمخاطبين ومن يجري مجراهم ، فيشكل التمسك بها
على عموم الأشخاص والأحوال بمجرد ما جوزه الشيخ في مقام الجمع.
وكذا ما في شرح
الشرائع ، فانه بعد ما أجاز بيع ما يأخذه الجائر باسم المقاسمة أو الخراج تبعاً
للمحقق ونفى عنه الخلاف ، وان كان ظالماً في أخذه ، وعلله باستلزام تركه والقول
بتحريمه الضرر والحرج العظيم على هذه الطائفة ، قال : وكذا القول فيما يأخذه باسم
الزكاة ، ولا يختص ذلك بالأنعام ، بل حكم زكاة الغلاة والأموال كذلك.
ثم قال : وهل
تبرأ ذمة المالك من اخراج الزكاة مرة أخرى؟ يحتمله ، كما في الخراج والمقاسمة.
والأقوى عدم الاجتزاء بذلك ، بل غايته سقوط الزكاة عما يأخذه اذا لم يفرط ، ووجوب
دفعه اليه أعم من كونه على وجه الزكاة أو المضي معهم في أحكامهم والتحرز عن الضرر
بمباينتهم انتهى.
ويظهر منه
انتفاء القائل به عنده ، والا لاستنده اليه ، والظاهر من التعليل أنه لا فرق في
الجائر بين الامامي والمخالف ، ضرورة استلزام التحرج منه أعظم ما يكون من الطرح في
هذه الأعصار ، مع ما عرفت أنه مما يتوقف عليه الزرع والفلاحة.
ولعل ما ذكره
الشهيد الثاني من اختصاص ذلك بالمخالف ، متمسكا باصالة المنع الا ما أخرجه الدليل
، وشهادة القرائن بأن المسئول عنه الأئمة عليهمالسلام انما كان مخالفاً للحق ، فيبقى الباقي ، مختص بما شاهده
في عصره من عدم التضرر بالتحرج منه ، مع أنك قد علمت ما في أصالة المنع من الضعف ،
فان الأصل براءة الذمة عن الحقوق المالية ، حتى يثبت خلافه ، على ما نبه عليه
السيد المرتضى
__________________
في الإنتصار ، مضافاً الى ما مر من ظاهر القرآن.
فيشكل الحكم
بوجوب اخراج الزكاة عن غير ما يبقى من النماء والفائدة بعد وضع المؤن كلها ،
واخراج جميع ما يأخذه الظلمة على الغلة مطلقا ، لانتفاء ما تطمئن به من الأدلة
عليه ، ولعل الاقتصار على استثناء ما يحتمل أن يكون خراجاً أو زكاة ، أو يجوز أن
يكون مقاسمة وقبالة ، أقرب دون ما يقطع بخروجه عنها من المصادرات الزائدة ، لعدم الظفر
بالقائل بالتعميم صريحاً ، والتردد في الاكتفاء في مثله بمجرد ما تضمنه استثناء
المئونة ونحوها من الإطلاقات.
تنبيه
:
أطلق الأكثر
وجوب العشر فيما يبقى من الغلات بالجاري وما يجري مجراه مما ليس له مئونة ، كالثلج
والمطر وما يشرب بالعروق من غير سقي ، ونصفه فيما يتوقف السقي به الى المئونة
والكلفة ، مثل السقي بالرشا والقرب والدالية التي يديرها البقر وما أشبه ذلك ، ولم
ينص أحد على حكم المسقى بالمياه الجارية من القنوات ، وهو لا يخلو عن اشكال ، لما
فيها من الافتقار الى كلفة زائدة ومئونات كثيرة ، مع ما تقدم من أصالة نفي ايجاب
الحقوق في الأموال وغير ذلك مما ينبه ، على أنه لا يجب فيه الا نصف العشر ، كما
ذهب اليه بعض العامة.
وصرح الفاضل
البقي المتقي رحمهالله في حديقة المتقين ، بأنها كالمطر والجاري والناعور الذي
يديره الماء بنفسه كالدولاب ، وذكر جماعة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة أن
الضابط في التنصيف احتياج ترقية الماء الى الأرض الى آلة من دولاب أو دالية أو نحو
ذلك.
وأنت خبير بأن
ما ورد في النصوص انما هو تعلق العشر بشيء مما يفتقر الى
المئونة للترقية ، ونصف العشر بما لا كلفة فيه كذلك ، فكيف يقاس عليه ما
يشترك معه في تلك العلة المستنبطة ، وهي الافتقار الى الزرع على ما يسقى بالدوالي
والنواضح والرشا والقرب ، لافتراقه عنه في جميع تلك الأوصاف.
وكذا الحال
فيما لو كان الماء يجري من النهر في ساقية الى الأرض ويستوى في مكان قريب من وجهها
، لا يصعد الا بدولاب وشبهه ، فانه يشكل القطع بأنه من الكلفة المسقطة لنصف الزكاة
، بناءً على أن مقدار الكلفة وبعد الماء وقربه لا يعتبر ، كما في التذكرة ، لما
عرفت من انتفاء النص العام على تلك الضابطة.
وما ادعاه من
عدم اعتبار مقدار الكلفة وبعد الماء وقربه أول المسألة ، ولا يكتفى في مثله بمجرد الدعوى
وفي المعتبر من الاشعار بكونه اتفاقياً غير مفيد.
والأظهر عدم
التعدي عن المنصوص ، فما يصدق عليه السقي بالنهر والسيح والغيل والعين والجاري
يكون عشرياً ، ولا يعتبر الاحتياج الى المئونات الكثيرة والكلفة الزائدة في بعض
القنوات أو جميعها ، مع أن كثيراً منها من قبيل احياء الأرض ، لانها مما لا يتكرر
وناشئة من حفر الأنهار الصغار من النهر العظيم والسواقي الى حيث يسوق الماء اليه.
على ما نبه
عليه العلامة رحمهالله ، قال : ولا يؤثر حفر الأنهار والسواقي واحتياجها الى
ساق يسقيها ويحول المال من موضع الى آخر في نقصان الزكاة لان الحرث من جملة احياء
الأرض ولا يتكرر كل عام ، والساقي لا بد منه في كل سقي ، فجرى مجرى الحارث.
وفي صحيح زرارة
وبكير عن الباقر عليهالسلام قال : في الزكاة ما كان يعالج بالرشا والدوالي والنواضح
، ففيه نصف العشر وان كان يسقى من غير علاج بنهر أو
عين أو بعل أو سماء ففيه العشر كاملا .
وفي رواية أخرى
عنه عليهالسلام : فاذا كان يعالج بالرشا والنضح والدلاء ففيه نصف العشر
، وان كان السقي بغير علاج بنهر أو عين أو سماء ففيه العشر .
فان الظاهر منه
أنه يجب العشر في كل ما يسقى بالنهر ونحوه من غير علاج بالرشا وغيره ، وفي الفرق
بين القناة والناعور في ذلك نظر ، لان العلاج ان خص بما يكون بالرشا والنضح
والدوالي نظراً الى صدر الرواية ، فلا يتناول الناعور ، كما لا يشمل ما يتكلف في
اجراء مياه القنوات.
وان اعتبر
التعدي عن موضع النص ، فيعم جميع ما يتعمل لاجراء المياه من العلاجات ، ولعله
اقتصر في الترقي عنه على ما يختص بالترقية دون غيرها ، لكون ذلك أقرب اليه. ولا
يذهب عليك اشتراكه مع الا بعد في انتفاء الدلالة.
هذا وقد قال
صاحب مجمع البحرين في القنا انها الابار التي تحفر في الأرض متتابعة ليستخرج ماؤها
ويسيح على الأرض ، ويجمع أيضاً على قنوات قال : ومنه الحديث « فيما سقت السماء
والقني العشر » هذا كلامه .
وكأنه من
روايات العامة ، لانه لم نطلع عليه في كتب الأصحاب ، لكنه لا يخلو من تأييد لما
ذكرنا فتدبر.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة عن النسخة المغلوطة جداً في (١٣) ربيع الثاني سنة (١٤١١) هـ ق
في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
سلسلة آثار المحقق
الخاجوئي
(٢٧)
|
|
رسالة
في
صلاة الجمعة
للعلّامة
المحقّق العارف
محمّد اسماعيل
بن الحسين بن محمّد رضا المازندراني الخاجوئي
المتوفّى سنة
١١٧٣ هـ ق
تحقيق
السيّد
مهدي الرّجائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ
الرَّحيم
الحمد لله الذي
جعل الصلاة ذريعة للتقرب ، ومعراجاً للمؤمنين ، وأمر بفعلها وحث عليها ، ووعد
بالجنة ، وبشر بنعيمها الفاعلين ، ونهى عن تركها وبالغ فيه ، وأوعد على النار ،
وأنذر بأليمها التاركين ، وأوضح سبيلها ، وكشف عنها الغطاء فأظهر أمرها بالادلة
والبراهين.
ثم أرسل رسوله
ونصب حججه ليكونوا لها ولغيرها مبينين ومفسرين ، فطوبى ثم طوبى لمن كان لاخبار
نبيه وآثار وصيه ، ثم أوصيائه من المقتفين ، صلىاللهعليهوآله مقاليد السماء ، ومصابيح الدجى ، لمن تبعهم ملا
السماوات وزنة الارضين.
أما بعد :
فيقول العبد الذنيب الكئيب الضعيف الذليل الجاني اسماعيل بن الحسين بن محمد رضا بن
علاء الدين محمد المازندرانى ، حوسبوا حساباً يسيراً ، وصيروا الى الجنة والمغفرة
مصيراً :
اني لما رأيت
الايات والروايات التي استدلوا بها على عينية وجوب الجمعة في زمن الغيبة مبالغين
فيه ، حتى كاد أن يقولوا بحتميتها مع أهل الضلالة والخيبة غير دالة على دعواهم ،
بل كلها فضلا عن جلها صريح بخلاف مدعاهم.
أردت أن أشير
اشارة اجمالية الى طريق الحق والانصاف ، ساعياً في اظهار
حقيقة الحال في تلك المسألة من غير اعتساف ، لئلا يغير المقلد بقول من يدعي
أشياء لا يقدر على بيان ما يدعيه ، وان بذل فيه كمال جهده وتمام مساعيه ، والله
يعصمنا من الخطإ والزلل ، كائناً ما كان منهما في القول والعمل ، انه ملهم العقل
وملقن الصواب ، ومنه المبدأ واليه المآب.
فوجدت الرسالة التي ألفها
محمد بن المرتضى المدعو بمحسن قدسسره وأحسن اليه في كل موطن ، أشمل وأكمل من غيرها ، فتعرضت
لاقانيم ما فيها وملاكه وأصوله من كلام الله تعالى وتقدس ، وأمنائه المعصومين عليهمالسلام ورسوله صلىاللهعليهوآله ، مقتصراً عليها غير متجاوز عنها ، سوى ما يقتضي ذكره
التقريب أو يكون مما يوجب للناظر فيه التعجيب ، لان باقي كلامه تطويل بلا طائل ،
ومع ذلك ليس هو قدسسره به بقائل ، فحري بنا أن نتركه جملة واحدة مع ما فيه ،
لان من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
فأقول : وبالله
الهداية والرشاد ، ومنه التوفيق والسداد ، وبه تسهل صعاب الامور والشداد ، قال قدسسره في آخر المقدمة :
ونبدأ أولا
بكلام الله تعالى ، ثم نورد كلام رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ثم كلام الائمة المعصومين عليهمالسلام ، والادلة الشرعية منحصرة عندنا في هذه الثلاثة ، ثم
ننقل كلام الفقهاء المشتهرين من القدماء والمتأخرين ، ونثبت به الاجماع المعتبر
عند القائلين به على الوجوب العيني ، ثم نأتي بالوجوه العقلية المعتبرة عند أهل
الرأي على ذلك ، والادلة الشرعية منحصرة [ عندهم ] في هذه الخمسة .
__________________
أقول : وبالله
التوفيق وبيده أزمة التحقيق والتدقيق ، فيه نظر ظاهر ، لان المراد بالوجوه العقلية
ان كان هو القياس ، فيخرج الاستدلال وان كان هو الاستدلال فيخرج القياس.
وان كان هما
معاً ، فليسا بدليل واحد يصح الحصر ، اذ كل منهما دليل بحياله فلا يصح عدهما
واحداً على قواعدهم ، فان الادلة الشرعية عندهم عبارة عن الكتاب والسنة والاجماع
والقياس والاستدلال.
فأخبار أئمتنا
المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين : اما غير معدودة
عندهم في عداد الادلة ، واما مندرجة تحت السنة. وعلى أي تقدير فالحصر غير حاصر على
ما اعتبره قدسسره ، حيث عد كلامهم عليهمالسلام دليل آخر من الادلة الشرعية.
فان قلت : انه
أراد بأهل الرأي المجتهدين من أصحابنا الامامية ، وهم لا يقولون بالقياس ، وان
كانوا يستنبطون الاحكام بالوجوه العقلية المنحصرة عندهم في أحد عشر وجهاً ، وما
أراد بهم الفقهاء الاربعة ومن شائعهم من القائلين بالقياس ، فالحصر حاصر اذ الادلة
حينئذ منحصرة في الثلاثة المختارة عنده وفي الاجماع ودليل العقل.
قلت : الادلة
عند فقهائنا المجتهدين منحصرة في أربعة لا في خمسة ، كما صرح به جماعة ، منهم
الشهيد في الذكرى ، حيث قال : الاشارة السادسة في قول وجيز في الاصول وهي أربعة ،
ثم فصلها بالكتاب والسنة والاجماع ودليل العقل وقسمه على قسمين : ما لا يتوقف على
الخطاب وهو خمسة ثم عدها ، وما يتوقف
__________________
عليه وهو ستة ثم عدها .
وقال البهائي
نور الله مرقده في زبدة الاصول : الادلة الشرعية عندنا أربعة : الكتاب ، والسنة ،
والاجماع ، ودليل العقل. وقال في الحاشية : ولا خامس للادلة عندنا ، وأما عندهم ـ
وعنى بهم العامة ـ فخمسة.
وقال الفاضل
الحلي طاب مثواه في بعض فوائده أدلة الاحكام عندنا منحصرة في كتاب الله العزيز وسنة
رسول الله صلىاللهعليهوآله المتواترة المنقولة عنه ، أو عن أحد من الائمة
المعصومين عليهمالسلام ، بالاحاد مع سلامة السند ، والاجماع ، ودليل العقل
كالبراءة الاصلية والاستصحاب والاحتياط.
ولما اشترك
الكتاب والسنة والخبر في كونها دالة بمنطوقها تارة وبمفهومها أخرى ، انقسمت الادلة
السمعية الى هذين القسمين ، والمفهوم قسمان : مفهوم موافقة ، ومفهوم مخالفة. وكانت
هذه الادلة كافية في استنباط الاحكام.
ودل العقل
والنقل على امتناع العمل بالقياس ، على ما بين في كتب الاصول ونعني بالقياس اثبات
الحكم في صورة لاجل ثبوته في صورة أخرى.
ويعتمد على
أربعة أركان : الاصل ، وهو الذي يثبت فيه الحكم بدليل من نص أو غيره. والفرع ، وهو
الذي يطلب اثبات مثل ذلك الحكم فيه ، والحكم الذي يدعى ثبوته في الفرع لثبوته في
الاصل. والعلة ، وهي الجامع بين الاصل والفرع لمناسبة الحكم ، كما تقول : الخمر
حرام ، فالنبيذ حرام بالقياس اليه ، والجامع هو الاسكار ، فالخمر هو الاصل والنبيذ
هو الفرع والحكم هو التحريم والجامع هو الاسكار وهو العلة المقتضية لثبوت الحكم
فيهما.
__________________
اذا عرفت ذلك
فنقول : هذا القياس ان كان منصوص العلة ، وجب العمل به ولا يكون قياساً في الحقيقة
، بل اثبات الحكم في الفرع بالنص ، كما في قوله عليهالسلام لما سئل عن بيع الرطب بالتمر أينقص اذا جف؟ قالوا : نعم
، قال : فلا اذن ، دل على أن المقتضى للمنع هو اليبوسة الموجبة للنقص ، فيعم الحكم
الرطب بالتمر والعنب والتين الرطب باليابس ، وغير ذلك من النظائر.
فالاحكام التي
ليست منصوصة عندنا بالخصوصية ، قد يثبت فيها الحكم : اما بطريق مفهوم الموافقة ،
وهو أبلغ في الدلالة من المنطوق ، كما في قوله تعالى ( فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ ) فانه يدل على الضرب بطريق أولى ، وقيل : هذا يكون
مقطوعاً به.
أو بطريق مفهوم
المخالفة ، كما في قوله عليهالسلام « في سائمة الغنم الزكاة » دل بمفهوم الخطاب على انتفاء
الزكاة عن المعلوفة ، وفي كونه دليلا خلاف ، أو بطريق القياس المنصوص العلة ، كما
قلنا في الرطب.
وليس شيئاً من
هذه الانواع بقياس ، فلا يتوهم أنا نعدي الحكم من صورة الى أخرى الا على أحد من
هذه الانواع ، فلا ينسب الينا العمل بالقياس انتهى كلامه طاب منامه.
فظهر أن هذا
الكلام من ذلك العلام قدسسره لا ينطبق على مذهب من مذهبي العامة والخاصة ، ولا يطابق
ما عليه القوم ، فهو اصطلاح جديد ليس له وجه سديد.
فان منصب
الامام عليهالسلام ووظيفته على ما صرح به الاقوام أن يحفظ الشريعة القويمة
، وترويج الكتاب والسنة ، على ما كانا عليه في عهد صاحب الشريعة
__________________
صلوات الله على شارعها والمستحفظين لها بايضاح المبهمات ، وافصاح المجملات
وتبيين المتشابهات ، وتعيين المنسوخات والناسخات ، وتعليم التأويل ، وتعريف
التنزيل ، والاخبار عن مراد الله عزوجل ، الى غير ذلك من الاحكام والحدود والضوابط الشرعية
والروابط الدينية والقوانين الملية.
فهم عليهمالسلام في الحقيقة حافظون لحجج الله وبيناته ، ليهلك من هلك عن
بينة ويحيى من حي عن بينة ، وهذا معنى قوله صلىاللهعليهوآله « وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » لان معنى عدم
افتراقهما هو أن علم الكتاب عندهم عليهمالسلام ، فهم قائمون مقامه ، والمبينون كلامه ، فهذا وجه ما
اصطلح عليه الاقوام.
وأما وجه ما
ذهب اليه ذلك العلام ، فغير معلوم ولا مفهوم ، غير أن لا مشاحة في الاصطلاح ، مع
أن اللازم من مذهب الاخباريين وهو قدسسره منهم انحصار الادلة في اثنين : الكتاب والسنة ، فبعد
انضمام الإجماع ودليل العقل اليهما تصير أربعة ، مطابقة لما عليه القوم ، وهو
ظاهر.
فهذا ما نعرف
من ظاهر الحال ، وهو روح الله روحه أعرف بما قال ، ولكن الظاهر أنه أراد بالوجوه
العقلية ما يسميه القوم بدليل العقل والعامة بالاستدلال ، المراد به ما ليس بنص
ولا اجماع ولا قياس.
وقد يطلق في
العرف على اقامة الدليل مطلقا ، من نص أو اجماع أو غيرهما ، ولكنه اصطلح من عنده
وعد كلامهم عليهمالسلام دليلا آخر من الادلة ، فزاد على كلا الاصطلاحين قسماً
آخر.
فالحصر في
طريقة العامة غير حاصر. وأما على قواعد القوم ، فيلزم منه أن يكون قسم الشيء
قسيمه ، لانهم ذكروا في وجه الحصر أن الدليل على الحكم الشرعي : اما وحي أولا ،
الاول : اما نوع لفظه معجز أولا ، الاول الكتاب ، والثاني
__________________
السنة. وغير الوحي اما كاشف عن تحقيق وحي أولا ، الاول الإجماع والثاني
دليل العقل.
وقال مخالفونا
: الوحي اما متلو وهو الكتاب ، أولا وهو السنة. وغير الوحي ان كان قول الكل فاجماع
، أو مشاركة فرع لاصل فقياس ، والا فاستدلال ، فظهر بذلك ما في كلامه قدسسره من الخبط والخروج عن القانون ، فلينظر الى ما فيه.
[
المناقشة في الايات الدالة على وجوب صلاة الجمعة عيناً ]
قال قدسسره : الباب الاول في الدليل على عينية وجوب الجمعة من كلام
الله ، قال الله تعالى في محكم كتابه ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
) اتفق المفسرون على أن المراد بالذكر المأمور بالسعي
اليه في الآية ، صلاة الجمعة ، أو خطبتها ، أو هما معاً ، كما نقله غير واحد من
العلماء.
فكل من تناوله
اسم الايمان مأمور بالسعي اليها واستماع خطبتها وتعلمها وترك كل ما
يشغل عنها ، فمن ادعى خروج بعض المؤمنين من هذا الامر في بعض الاوقات فعليه الدليل
، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين. وفي الآية مع الامر الدال على الوجوب ضروب
التأكيد وأنواع الحث ما لا يخفى.
قال زين
المحققين الشهيد الثاني في رسالته التي ألفها في تحقيق هذه المسألة واثبات الوجوب
العيني في زمان الغيبة ، وبسط القول فيه بما ملخصه : ان تعليق الامر في الآية انما
هو على النداء الثابت شرعيته لفريضة الوقت ، أربعاً كانت أو اثنتين ، وحيث ينادى
لها يجب السعي الى ذكر الله ، وهو صلاة الجمعة ركعتين
__________________
واستماع خطبتها ، وكأنه قال : اذا نودي للصلاة عند الزوال يوم الجمعة فصلوا
الجمعة ، أو فاسعوا الى صلاة الجمعة وصلوها.
قال : وهذا
واضح الدلالة لا اشكال فيه ، ولعله السر في قوله تعالى ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) ولم يقل فاسعوا اليها ، وانما علقه على الاذان حثاً على
فعله لها حتى ذهب بعضهم الى وجوبه لها لذلك ، وكذا القول في
تعليق الامر بالسعي ، فانه أمر بمقدماتها على أبلغ وجه ، واذا وجب السعي اليها
وجبت هي أيضاً بطريق الاولى ، ولا معنى لايجاب السعي اليها مع عدم ايجابها ، كما
هو ظاهر انتهى كلامه .
أقول : وبالله
التوفيق « اذا » الشرطية ليست بناصة في العموم لغة ، لكونها من سور المهملة ،
ودعواهم أن المستعملة في الايات الاحكامية تكون بمعنى « متى » و « كلما » فتفيد العموم
عرفاً ، نحو ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا
__________________
وُجُوهَكُمْ
) ( فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ ) ( وَإِذا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا ) غير مسلمة ، وعموم الاوقات في الايات ليس لدلالتها عليه
، بل للإجماع والاخبار.
والمراد
بالنداء الاذان ، يعني : اذا أذن في يوم الجمعة للصلاة. واللام فيها للعهد ،
والمعهود صلاة الظهر المذكورة في قوله ( أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) وأمثالها ، وهي ـ أي : الظهر ـ أول صلاة صلاها رسول
الله صلىاللهعليهوآله ، وهي الصلاة الوسطى التي خصها الله من بين الصلوات
اليومية بالامر بالمحافظة عليها ، بعد الامر بالمحافظة على الجميع ، كما دلت عليه
الاخبار وصرحت به الاخبار وسيأتي مفصلا.
وذلك لان اللام
منها لا يحتمل أن يكون للجنس ولا للاستغراق ، وهو ظاهر ولا للعهد الذهني لانه
موضوع للحقيقة المتجددة في الذهن ، وارادة الفرد المنتشر منه محتاجة الى القرينة ،
وليست فليست ، مع أنه غير مستلزم للمطلوب ، فتعين كونه للعهد الخارجي ، ولا عهد في
موضع من القرآن بصلاة الجمعة.
فان قلت :
العهد الخارجي على ثلاثة أقسام : الذكري ، وهو الذي تقدم لمصحوبه ذكر ، نحو ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) والعلمي ، وهو الذي تقدم لمدخوله علم ، نحو ( بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) ( إِذْ يُبايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) لان ذلك كان معلوماً عندهم. والحضوري ،
__________________
نحو ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ ) فيجوز أن يكون المراد هنا الثاني ، اذ لا مانع له دون
الاول.
قلت : هذا مع
أنه خارج عن موضع استدلالهم انما يصح أن لو ثبت بطريق صحيح أن نزول الآية انما كان
بعد علمهم بوجوب صلاة الجمعة ، واشتهارها وشيوعها فيما بينهم ، ودون ثبوتها خرط
القتاد ، وكيف لا؟ وهم انما يثبتون أصل وجوبها بالاية ، فكيف يصح هذا الاحتمال
والحال هذه؟ بل صرح بعض مثبتي وجوبها بأنها ما كانت معهودة ولا مشروعة قبل نزولها.
هذا و « من »
اما للابتداء وعلامته صحة ايراد « الى » أو ما يفيد معناه في مقابلتها أي : اذا
نودي نداءً ناشئاً من مؤذني يوم الجمعة الى الصلاة ، فعليكم السعي الى ذكر الله.
فاللام هنا مفيدة لمعنى الانتهاء ، كالباء في قولنا « أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم » واما بمعنى « في » كما أومأنا اليه ، فانه في الظروف كثيراً ما يقع
بمعناه ، نحو « من بيننا وبينك حجاب ، وكنت من قدامكم » ولعله من أظهر الوجوه فان
المراد بالنداء هنا ما يقع في وسط يوم الجمعة وعرضه ، لا ما يقع في أوله وابتدائه
تأمل فيه.
واما للتعليل
مثله ( مِمّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
واما للتبيين ،
وهو اظهار المقصود من أمر مبهم ، فهو هنا بيان لـ « اذا » لان قولك وقت نداء
الصلاة « وجب عليكم السعي اليها » مبهم ، فاذا قلت : الذي هو يوم الجمعة ، ظهر
المقصود ورفع الابهام.
__________________
واما للتبعيض ،
ومعناه : اذا نودي بعض يوم الجمعة. واما زائدة على القول بجوازها في الايات.
وفي الآية صنوف
التأكيد وضروب الحث والمبالغة في طلب الخير والاستباقة اليه ، حيث عبر عن الذهاب
الى ذكر الله بالسعي المفيد للاسراع في المشي والمبالغة فيه ، ثم أمر بترك البيع ،
ثم قال : السعي والترك أنفع لكم عاقبة ان كنتم من أهل العلم ، وهو مشعر بأن من لم
يفعلهما فهو ليس من أهله ، بل هو ممن لم يميز بين الخير والشر والصلاح والفساد ،
ولم يفرق بين الضار والنافع.
ولعل الوجه فيه
أن يوم الجمعة يوم مبارك مضيق على المسلمين ، وهو يوم العمل والتعجيل ، وفيه ساعة
مباركة لا يسأل الله عبد مؤمن فيها شيئاً الا أعطاه ، وفيه يضاعف العمل ، ويغفر
للعباد ، وينزل عليهم الرحمة ، من وافق منكم يوم الجمعة فلا يشتغلن بشيء غير
العبادة ، ولكن الناس لما لم يحيطوا به علماً وكانوا فيه من الزاهدين ، ومنه ومن
فضائله من الغافلين ، حثهم عليه وأمرهم بترك جميع أسباب المعاش في ذلك الوقت ،
وقال « هو خير لكم » لان ما عندكم ينفد وما عند الله باق والعاقل لا يؤثر الفاني
على الباقي.
هذا والاضافة
في ذكر الله للعهد ، لان تعريفها باعتباره ، لا تقول غلام زيد الا لغلام معهود
باعتبار تلك النسبة ، لا لغلام من غلمانه ، والا لم يبق فرق بين النكرة والمعرفة ،
والمعهود هو الصلاة ، لانه لم يسبق غيرها.
ولذلك قال
المستدل قدسسره بعد ما بلغ الى درجة الفهم والانصاف ، وتخلى عن التعصب
والاعتساف في تفسير الصافي وهو كاسمه : فان الاسماء تنزل من السماء ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ) يعني : الى الصلاة كما يستفاد مما قبله ومما بعده ولم
يقيدها بالجمعة ، ولا استدل بها على وجوبها ، بل اكتفى بذكر نبذ من الاخبار كما هو
دأبه في هذا التفسير ، ولذلك وضعه ثم قال : والاخبار في وجوب الجمعة
أكثر من أن تحصى .
وقد عرفت أن
المراد بالصلاة في الآية هو الظهر ، فمن ادعى أن المراد بالذكر صلاة الجمعة أو
خطبتها أو هما معاً فعليه الدليل ( قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ).
اللهم الا أن
يقولوا انا وجدنا آبائنا على أمة وانا على آثارهم مقتدون ، وقول المفسرين على تقدير
اتفاقهم ليس بحجة ، اذ الادلة الشرعية منحصرة في أربعة أو خمسة ، وقد مرت
اليه الاشارة ، وما عد قولهم منها ، مع أنهم أخذوا بعضهم من بعض تقليداً من غير
نظر دقيق ، أو فكر عميق ، وليس في الاخبار ما يدل على المراد به الصلاة أو خطبتها
أو هما معاً ، كما ادعاه القائلون بالوجوب العيني.
__________________
وكيف يكون
قولهم حجة؟ مع ما هو المشهور بين الطلبة أنه لا يجوز تفسير القرآن بغير نص وأثر.
وقد نقل في
مجمع البيان أنه قد صح عن النبي وعن الائمة عليهمالسلام أن تفسير القرآن لا يجوز الا بالاثر الصحيح والنص
الصريح. وروت العامة عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ .
وفي طريق
الخاصة عنه صلىاللهعليهوآله : ليس شيء بأبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن .
وفي ذلك تحير
الخلائق أجمعون الا من شاء الله ، وانما أراد الله لنعمته في ذلك أن ينتهوا الى
بابه وصراطه وأن يعبدوه وينتهوا في قوله الى طاعته بكتابه ، والناطقين عن أمره وأن
يستنبطونه منهم. فأما غيرهم فليس يعلم ذلك أبداً ، واياك واياك وتلاوة القرآن
برأيك ، فان الناس غير مشتركين في علمه ، كاشتراكهم فيما سواه من الامور ، ولا
قادرين عليه ولا على تأويله الا من حده ، وبابه الذي جعله الله له ، فافهم واطلب
الامر من مكانه تجده انشاء الله.
وفي حديث سليم
بن قيس الهلالي قال قلت لامير المؤمنين عليهالسلام : اني سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئاً في تفسير
القرآن وأحاديث عن النبي صلىاللهعليهوآله غير ما في أيدي الناس ، ثم سمعت منك تصديق ما سمعته
منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الاحاديث عن النبي صلىاللهعليهوآله ، ثم تخالفونهم وتزعمون أن ذلك كله باطل ، أفترى الناس
يكذبون على رسول الله صلىاللهعليهوآله متعمدين ، ويفسرون القرآن بآرائهم.
قال عليهالسلام : ان في أيدي الناس حقاً وباطلا وصدقاً وكذباً وناسخاً
ومنسوخاً
__________________
وعاماً وخاصاً ومحكماً ومتشابهاً وحفظاً ووهماً ، وقد كذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله في عهده حتى قام خطيباً ، فقال : أيها الناس قد كثرت
علي الكذابة ، فمن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ، ثم كذب عليه من بعده
الحديث .
ويستفاد منه أن
لا اعتماد على شيء من تفاسير العامة اذا لم يكن على طبقه في طريقنا خبر صحيح ولا
سيما في المتشابهات.
وبالجملة
الاستدلال بالاية على وجوبها العيني موقوف على اثبات تلك المقدمات الممنوعة ، ودون
اثباتها خرط القتاد. وعلى تقدير دلالتها عليه ، فهو مخصوص بأهل زمانه صلىاللهعليهوآله.
لما تقرر في
الاصول من أن الخطابات العامة المشافهة الواردة على لسان الرسول ليست خطابات لمن
بعدهم ، وانما يثبت حكمها لهم بدليل آخر من نص أو اجماع أو غيرهما ، وأما بمجرد
الصيغة فلا ، وسيأتي تفصيله.
فالاية
بانفرادها لا تدل على وجوبها العيني في هذا الزمان ، بل لا بد في الدلالة عليه من
انضمام أمر آخر من نص أو اجماع ، وهما غير ظاهرين.
أما الثاني
فظاهر ، بل المشهور أن الإجماع منعقد على خلافه كما سيأتي.
وأما الاول
فتعرف حاله ، ومنه يظهر أن الاستدلال بهذه الآية وتاليها على تلك المسألة لا يجدي
نفعاً ، بل العمدة فيها هي الاخبار ، فان تمت دلالتها يثبت المدعى والا فلا.
وهم
وتنبيه :
جعل بعضهم من
باب الاضطرار حديث أبي أيوب الخزاز فيما سأل أبا عبد الله عليهالسلام عن قول الله عزوجل ( فَإِذا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا
__________________
مِنْ
فَضْلِ اللهِ ) قال : الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت . مؤيداً
ومفسراً للاية.
وأنت وكل سليم
العقل خبير بأنه ليس فيه عين ولا أثر لما ادعاه ، بل الوجه فيه ما روى المعلى بن
خنيس عنه عليهالسلام أيضاً أنه قال : من وافق منكم يوم الجمعة فلا يشتغلن
بشيء غير العبادة ، فان فيه يغفر للعباد ، وتنزل عليهم الرحمة .
فكان ينبغي
للعاقل أن يصرف تمام وقته في ذلك اليوم في الطاعة والعبادة ، وبعد انقضائه فله
الانتشار من الارض والابتغاء من فضل الله.
يؤيده ما في
خطبة علي عليهالسلام الا أن هذا اليوم يوم جعل الله لكم عيداً ، وهو سيد
أيامكم ، وأفضل أعيادكم ، وقد أمركم الله في كتابه بالسعي فيه الى ذكره فلتعظم
رغبتكم فيه ، ولتخلص نيتكم فيه ، وأكثروا فيه التضرع والدعاء ومسألة الرحمة
والغفران ، فان الله عزوجل يستجيب لكل من دعاه ويورد النار من عصاه وكل مستكبر عن
عبادته ، قال الله عزوجل ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
داخِرِينَ ) وفيه ساعة مباركة لا يسأل الله عبد مؤمن فيها شيئاً الا
أعطاه .
وهو كما ترى
ناص بالباب ، والله يهدي من يشاء الى الصراط السوي والطريق الصواب ، فانه صريح في
أن المراد بالذكر في آية الدعاء والتضرع ومسألة الرحمة والغفران والاستكانة عند
الرحمن.
نعم يمكن أن
يجعل مؤيداً لقول المفسرين ما في علل الشرائع عن الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال : اذا قمت الى الصلاة انشاء الله فأتها سعياً ،
وليكن عليك
__________________
السكينة والوقار ، فما أدركت فصل وما سبقت به فأتمه ، فان الله عزوجل يقول : ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ ) قال : ومعنى فاسعوا هو الانكفاء ، فتأمل.
واعلم أن الامر
اذا علق على علة ثابتة عليتها بالدليل ، مثل ان زنا فاجلدوه ، فالاتفاق على أنه
يجب تكرر الفعل بتكرر العلة ، للإجماع على وجوب اتباع العلة واثبات الحكم بثبوتها.
وان علق على
غيرها ، أي : على أمر لم يثبت عليته ، نحو اذا دخل الشهر فاعتق عبداً من عبيدك.
فالمختار عند المحققين أنه لا يقتضي تكرر الفعل بتكرر ما علق به ، لان السيد اذا
قال لعبده : اذا دخلت السوق فاشتر كذا ، مقتصراً عليها غير مكرر لها بتكرار دخول
السوق ، عد ممتثلا ، وذلك معلوم قطعاً. ولو وجب تكرر الفعل بتكرر ما علق به لما
كان كذلك.
فنقول : لا ريب
في أن النداء ليس بعلة ثابتة عليتها بالدليل لوجوب السعي لانه ليس بواجب ، فتعليقه
عليه يدل على أنه ليس بواجب أيضاً ، لان تعليق الواجب على المندوب ينافي وجوبه.
وبهذا ينهدم
أساس ما بني من أن الامر للوجوب ، وانه اذا وجب السعي اليها وجبت هي أيضاً ، الا
أن يقول : لما كان السعي واجباً ، فتعليقه عليه يوجب وجوبه أيضاً.
وفيه أنه قال :
تعليق السعي عليه يستلزم وجوبه ، فاذا قال بوجوب النداء لتعليق السعي عليه جاء
الدور ، مع أنه مناف للقاعدة المذكورة آنفاً. وأيضاً لو كان النداء علة لوجوبه ،
كما ينادى به قوله : وحيث ينادى لها يجب السعي ، فاذا لم بتحقق النداء لم يجب
السعي بل يحرم ، كما أنه اذا لم يتحقق الزنا لم
__________________
يجب الجلد بل يحرم.
اللهم الا أن
يقول : وجوب السعي فرع النداء ، فاذا نودي وجب ، واذا لم يناد لم يجب ، فاذن ترك
النداء المندوب يستلزم ترك السعي الواجب ، ضرورة استلزام انتفاء العلة انتفاء
المعلول.
ويمكن الجواب
بأن مفهوم الشرط ليس بمعتبر عند بعضهم. وعلى تقدير اعتباره انما يعتبر اذا لم يكن
للتقييد به وجه آخر سوى عدم الحكم في المسكوت وهنا يمكن أن يكون السبب في تعليقه
عليه الحث على فعله والترغيب به ، كما أشار اليه المستدل ، فتأمل.
ولكن يمكن أن
يكون المراد به نداءً خاصاً ، كما أشار اليه الشهيد في شرح الارشاد ، حيث قال بعد
الاستدلال بالاية على الوجوب التخييري : ويشكل بارادة نداء خاص قيد فيه الامر
بالسعي .
واعلم أيضاً أن
المقرر في الاصول أن الواجب اذا كان مقيداً بمقدمة ، أي : بما يتوقف ذلك الواجب
عليه ، فتلك المقدمة أيضاً واجبة ، لا أنه اذا كانت مقدمة الشيء واجبة فذلك الشيء
أيضاً واجب ، كما هو المفهوم من كلامه.
وبالجملة فهو
كما ترى كلام مضطرب مشوش ، لا يلائم أوله آخره ، فتأمل فيه.
وهم
وتنبيه :
أنت خبير بأن
مقتضى ظاهر سياق الآية الكريمة أن يقال : فاسعوا اليها الا أنها عبر عنها بالذكر
اشارة الى أنها ذكر الله ، وانه ينبغي القصد بفعلها أنها ذكر الله ، لا لان يكون
اشارة الى أن المراد به صلاة الجمعة والسعي اليها ،
__________________
كما فهمه زين المحققين ، وجعله سراً ونكتة لخلاف مقتضى الظاهر ، وما يفهم
هذا المعنى من الآية الا باستعانة الرمل ، لابل بالوحي ونزول جبرئيل عليهالسلام.
ولعمر الحبيب
أنه بهذا التفسير ألحقها بالالغاز والمعميات ، وما هذا الا التفسير بالرأي الممنوع
شرعاً ، وهذا ظاهر لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام ثم أخذ فطانته بيده ولا حظ
المقام.
والحاصل أن
ارادة صلاة الجمعة من ذكر الله خلاف ظاهر الآية ، ومن المقررات والمسلمات في
الاصول امتناع أن يخاطب الله بشيء يريد خلاف ظاهره من دون البيان
، والا لزم الاغراء بالجهل ، لان اطلاق اللفظ الظاهر الدلالة على معنى يوجب اعتقاد
سامعه العالم بوضعه ارادة لافظه منه ذلك المعنى ، وذلك معلوم بالوجدان الصحيح.
فاذا لم يكن
ذلك المعنى مراد اللافظ ، كان اعتقاد السامع ارادته له جهلا ، فاطلاقه مع عدم
ارادته معناه الظاهر اغراء للسامع بذلك الاعتقاد الجهل ، ولانه بالنسبة الى غير
ظاهره مهمل ، ولذلك كان مدار الاستدلال والاحتجاج بالايات والروايات من السلف الى
الخلف على الظاهر المتبادر.
وقد عرفت أنهم عليهمالسلام ما بينوا الذكر في الآية بصلاة الجمعة في شيء من
الاخبار المذكورة في الاصول المتداولة بين الاصحاب ، والا لكان الاستدلال به أولى
من الاستدلال بقول المفسرين ، وخصوصاً على طريقة المستدل ، بل الظاهر المتبادر من
أغلب الروايات الواردة في ذلك الباب أنه باق على عمومه ، وقد
__________________
مرت اليه اشارة اجمالية ، فذكر وتفكر.
نعم طريقة
الاستدلال وضوابط العربية تخصانه بالصلاة المذكور قبله ، وقد علم أن المتبادر منها
هو الصلاة المذكورة في سائر الايات.
نعم لو كان ورد
نص في أن المخالفين في عهده صلىاللهعليهوآله كانوا متثاقلين في ذهابهم الى صلاة الجمعة ، فنزلت حثاً
لهم على ذلك وترغيباً ، لكان لما ذكروه وجه ، وليس فليس ، هذا ما عندنا والعلم عند
الله وعند أهله.
قال قدسسره : وقال سبحانه ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ
اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) وقد فسر الذكر هنا أيضاً بصلاة الجمعة ، فسماها الله تعالى
ذكراً في السورتين ، وأمر بها في احداهما ، ونهى عن تركها والاهمال بها والاشتغال
عنها في الاخرى. وندب الى قراءتهما فيها : اما وجوباً ، أو استحباباً ليتذكر
السامعون مواقع الامر والنهي ، وموارد الفضل والخسران ، حثاً عليها وتأكيداً
للتذكر بها ، ومثل هذا لا يوجد في غيره من الفروض ، فان
الاوامر بها مطلقة مجملة غالباً ، خالية عن هذا التأكيد والتصريح بالخصوص .
أقول : وبالله
التوفيق هذه الآية كاختها السابقة واللاحقة ، بل لا دلالة فيها على ما رامه
المستدل أصلا. وأما ما ذكره في ذيلها ، فهو من قبيل الموعظة والنصيحة اللتين هما
من دأب هؤلاء القائلين بالوجوب العيني ، وليس فيه ما يصلح للاستدلال أو يطمئن به
البال ، بل لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولا يأمن من خوف.
مع أنه كلام
قلد فيه الشيخ الحسين بن عبد الصمد الحارثي ، فانه قال في
__________________
رسالة له مسماة بالعقد الطهماسبي : ما أكد الله ولا رسوله ولا أهل بيته عليهمالسلام على أمر أكثر من التأكيد على الصلاة ، ووقع النص
والإجماع على أنها أفضل الاعمال وصلاة الجمعة داخلة في ذلك. ثم قال : وذهب كثير من
العلماء الى أنها هي الصلاة التي أمر الله بالمحافظة عليها.
وهذا الرجل
الحارثي أيضاً قد قلد في كلامه هذا ـ أعني في قوله وذهب كثير من العلماء رحمهمالله ـ زين المحققين ، كما سيأتي مع ما فيه.
ثم ذكر كلاماً
خطابياً أو شعرياً لا يؤول الى طائل ، وحاصله ما ذكره المستدل ملخصاً ، الا أنه
قال في آخر كلامه : وهل شيء أحسن من أن يأمر الشاه بها في أيام دولته ، فيكون
ثوابها وثواب من يصليها في صحائفه الى يوم القيامة ، ولعل توفيقات الالهية اقتضت
كون هذه السنة العظيمة مكتوبة في صحائفه ، لا زال مسدداً مؤيداً الى يوم الدين.
وأمثال هذه
الكلمات والتملقات في رسالته هذه أكثر من أن يحصى ، والغرض مفهوم ، والمدعى معلوم
على الفطن العارف.
تنبيه
نبيه :
اعلم أنهم لم
يفسروا الذكر هاهنا بصلاة الجمعة ، قال في الكشاف بعد أن أبقى الذكر في مقام
التفسير على عمومه ولم يفسره بشيء : قيل : ذكر الله الصلوات الخمس ، وعن الحسن
جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله. وقيل : القرآن ، وعن الكلبي الجهاد مع
رسول الله صلىاللهعليهوآله .
وزاد في مجمع
البيان قوله وقيل : ذكره شكره على نعمائه ، والصبر على بلائه ، والرضا بقضائه. ثم
قال : وهو اشارة الى أنه لا ينبغي أن يغفل المؤمن
__________________
عن ذكر الله في بؤس كان أو نعمة ، فان احسانه في جميع الحالات لا ينقطع .
وقد نسج على
منوالهم المستدل في تفسيره الصافي ، حيث قال : أي : لا يشغلكم تدبيرها والاهتمام
بها عن ذكره ، كالصلاة وسائر العبادات .
وهو دليل على
عدم عثوره في ذلك على خبر ولا أثر ، لانه وضع تفسيره هذا على ذلك.
ويدل عليه
أيضاً أنه ما فسر هذه الآية عبد علي بن جمعة الحويزي في تفسيره المسمى بنور
الثقلين بشيء ، بل لم يتعرض لها أصلا ، فانه كان قد تعهد في تفسيره هذا أن يذكر
في بيان الايات ما يعثر عليه من الاخبار والروايات ، فكل ما خصصه به هؤلاء تفسير
بالرأي.
والحق مع
الزمخشري عليه من الرحمن ما يستحقه ، حيث أبقاه على حاله ولم يفسره بشيء ، ونعم
ما فعل « كذلك يفعل الرجل البصير » لان الذكر يعم الثناء والدعاء والصلاة وقراءة القرآن
والحديث وذكر الحلال والحرام ، وأخبار الانبياء والاوصياء عليهمالسلام والصالحين ، وهو أعم من أن يكون باللسان أو الجنان أو
الاركان.
وبالجملة كلما
كان لله سبحانه ، وهو غايته من الاعمال والتروك فهو ذكر ،
__________________
حتى المباحات لو قصد فيها لله تعالى وفعل توصلا الى عبادته انسلك سلك
الذكر.
ولما كان لله
تعالى مدخلية في كل الاشياء جواهرها وأعراضها التي من فعل الله ، أو من فعل العباد
، من حيث الخلق أو الاقدار والتمكين والحكم والامر والنهي ، كان كل شيء صالحاً
لان يقع موقعاً لذكر الله ، فالاعتبار اذن بالقصد والملاحظة لله سبحانه أو لغيره ،
فتأمل واعتبر ولا تكن من الغافلين.
فكيف يمكن
تخصيص الذكر بصلاة الجمعة في مقام الاستدلال؟ مع عدم النص والقرينة ، وهل هذا الا
مجرد دعوى خال عن البينة والبرهان « قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
» وبما ذكرناه ظهر فساد
قوله قال الله تعالى في محكم كتابه .
وأما قوله قدسسره « وندب الى قراءتهما » فأقول : في أي موضع من القرآن
ندب اليها ، وانه لا عين له ولا أثر في موطن من مواطنه ، ولا في باطن من بواطنه.
نعم ورد ذلك في بعض الاخبار المأثورة عن الائمة الاطهار صلوات الله عليهم ما بقي
الليل والنهار.
اللهم الا أن
يقرأ ندب على هيئة المفعول ، وهو عن سياق كلامه قدسسره بعيد غاية البعد ، ومع ذلك يلزم منه التفكيك وهو أيضاً
قبيح.
واعلم أن
القائل بوجوب قراءة الجمعتين في ظهر يوم الجمعة والصدوق في الفقيه قال فيه : اقرأ
في صلاة الظهر سورة الجمعة والمنافقين ، فان نسيتهما أو واحدة منهما وقرأت غيرهما
ثم ذكرت فارجع اليهما ما لم تتعد نصف السورة ،
__________________
فان قرأت نصفها فتمم السورة واجعلها ركعتين نافلة وسلم فيهما وأعد صلاتك
بسورة الجمعتين.
ثم قال : وما
روي من الرخص في قراءة غيرهما في صلاة الظهر يوم الجمعة ، فهي للمريض والمستعجل
والمسافر . وأكده بروايات ذكرها.
والمشهور
استحباب قراءتهما فيها ، والاحوط اختيارهما في الظهر لرواية رواها الصدوق في ثواب
الاعمال ونقلها في مجمع البيان ، وان كانت
مجهولة بمحمد بن حسان ، وللخروج عن الخلاف.
قال قدسسره : وقال عزوجل ( حافِظُوا عَلَى
الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) خص الصلاة الوسطى بالامر بالمحافظة عليها من بين
الصلوات بعد الامر بالمحافظة على الجميع ، والذي عليه المحققون أنها صلاة الظهر في
غير يوم الجمعة ، وفيها هي الجمعة ، وقال جماعة من العلماء : انها هي الجمعة لا
غير ، كذا قال زين المحققين طاب ثراه في بعض فوائده .
أقول : وبالله
التوفيق في الفقيه في رواية زرارة بن أعين الطويلة نأخذ منها موضع الحاجة ، قال
قلت لابي جعفر عليهالسلام : أخبرني عما فرض الله من الصلوات؟
__________________
فقال : خمس صلوات في الليل والنهار ، الى أن قال الامام عليهالسلام وقال : « حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى » وهي أول
صلاة صلاها رسول الله صلىاللهعليهوآله وهي وسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة وصلاة العصر .
وفي آيات
الاحكام للراوندي عن زيد بن ثابت أن النبي صلىاللهعليهوآله كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، فلا
يكون وراءه الا الصف والصفان فقال : لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة
بيوتهم فنزلت هذه الآية .
وفيه دلالة ما
على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر ، وقد اختلف فيها فذهب الى كل صلاة سوى صلاة
العشاء طائفة ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنها صلاة العشاء. وذكر بعض المتأخرين
أنها هي لانها بين صلاتين لا تقصران ، كذا ذكره چلبي في حاشيته على المطول.
وقيل : هي احدى
الخمس لا بعينها ، أبهمها الله تحريصاً للعباد على المحافظة على جميعها ، كما في
ليلة القدر وساعة الجمعة.
وقال الصدوق في
الفقيه : وقيل أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ورسول الله صلىاللهعليهوآله في السفر فقنت فيها ، وتركها على حالها في السفر والحضر
، وأضاف للمقيم ركعتين ، وانما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي صلىاللهعليهوآله يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الامام ، فمن صلى
يوم الجمعة في غير جماعة فليصلها أربعاً ، كصلاة الظهر في سائر الايام .
وفي الكشاف :
هي صلاة العصر. وعن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال يوم الاحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة
العصر ملا الله بيوتهم ناراً. وقال عليهالسلام : انها
__________________
الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب. وعن حفصة أنها
قالت لمن كتب لها المصحف اذا بلغت هذه الآية ، فلا تكتبها حتى أمليها عليك ، كما
سمعت رسول الله يقرؤها فأملت عليه : والصلاة الوسطى صلاة العصر. وعن عائشة وابن
عباس والصلاة الوسطى وصلاة العصر بالواو.
فعلى هذه
القراءة يكون التخصيص بصلاتين احداهما الصلاة الوسطى اما الظهر واما الفجر واما
المغرب على اختلاف الروايات فيها والثانية العصر. وعن ابن عمر هي صلاة الظهر. وعن
مجاهد هي الفجر ، وعن قبيصة هي المغرب .
ومشى على أثره
البيضاوي.
وقال مولانا
أحمد الاردبيلي رحمهالله في آيات أحكامه بعد ذكر الآية : كان الامر بمحافظة
الصلوات بالاداء لوقتها ، والمداومة عليها ، بعد بيان أحكام الازواج والاولاد لئلا
يليهم الاشتغال بهم عنها ، وخصها بعد العموم للاهتمام بحفظها لافضليتها.
ثم قال وقيل :
هي مخفية كساعة الاجابة واسم الله الاعظم ، لان يهتموا بالكل غاية الاهتمام ،
ويدركوا الفضيلة في الكل ، فهي تدل على جواز العمل المبين لوقت من غير جزم بوجوده
، مثل عمل ليلة القدر والعيد وأول رجب وغيرها مع عدم ثبوت الهلال ، وقد صرح بذلك
في الاخبار.
ثم قال بعد
كلام : فدلت الآية على وجوب محافظة الصلوات ، خرج ما ليس بواجبة منها اجماعاً ،
بقي الباقي منها تحت العموم ، فلا يبعد الاستدلال بها على وجوب الجمعة والعيدين
والايات أيضاً .
أقول : قوله «
اجماعاً » قيد للسلب ، أي : خرج صلوات عدم وجوبها اجماعي
__________________
من كونها داخلة في كونها مأمورة بالمحافظة ، وبقيت الصلوات المعلوم وجوبها
، ومشكوكة مندرجة في عموم الآية بعدم الدليل على التخصيص.
فحينئذ يمكن
الاستدلال بالاية على وجوب الصلوات المشكوك وجوبها ، بظهور الامر في الوجوب ،
خصوصاً الاوامر القرآنية ، وخصوصاً عند ملاحظة وجوب محافظة الصلوات المعلوم وجوبها
، ومشاركة الصلوات المشكوك وجوبها معها في كونها متعلقة للامر بالمحافظة.
وفيه أن الآية
ظاهرها وجوب محافظة الصلوات الثابت وجوبها ، فلو ثبت أن الجمعة وغيرها في هذا
الزمان من تلك الصلوات وجبت محافظتها ، والا فلا.
فان ما ليس
بثابت وجوبه من الصلوات لا يجب محافظتها ولا فعلها ، اذ الاصل عدم الوجوب وبراءة
الذمة الى أن يقوم دليل يفيد اليقين أو الظن بخلافه ، ولم يقم بعد دليل كذائي على
وجوب الجمعة في هذا الزمان ، والا لم تكن من الصلوات المشكوك وجوبها.
مع أن الآية
على ما نقله الراوندي في آيات أحكامه عن زيد بن ثابت وقد مر ، انما نزلت في الامر
بمحافظة الصلوات المفروضة اليومية ، وكون الجمعة منها لم يثبت بعد.
وبالجملة اما
أن يحمل الآية على الامر بمحافظة الصلوات المفروضة اليومية ، أو مطلق الفريضة ، أو
مطلق الصلاة اليومية ، فريضة كانت أو نافلة ، أو مطلق الصلاة المأمور بها ، يومية
كانت أو غير يومية.
فعلى
الاحتمالين الاولين لا وجه للاستدلال بها على وجوب ما لم يعلم وجوبه ، لان كونه
مندرجاً في الامر بالمحافظة حينئذ غير ظاهر.
وعلى
الاحتمالين الاخيرين أيضاً لا يصح الاستدلال بها على وجوب الصلوات المشكوك وجوبها
، لكون المحافظة المأمور بها حينئذ مطلقة جارية في
النوافل أيضاً. فظهر أن ظاهر الآية أحد الاحتمالين الاولين ، لكون ظاهرها
وجوب المحافظة.
فان قلت : يمكن
ترجيح الاحتمال الثاني ، بأن ما ذكرته انما يدل على تخصيص الصلوات بالفرائض ، وأما
تخصيصها باليومية فلا دليل عليه ، فحينئذ نقول : الصلوات المشكوك وجوبها التي ثبت
وجوبها في زمان رسول الله صلىاللهعليهوآله مثل الجمعة والعيدين يمكن اثبات وجوبها في زمانها بما
يدل على عموم الحكم الا زمان ، وان ادى بخطاب المشافهة ما لم يدل دليل على خصوصه.
قلت : يمكن
الاستدلال على العموم ان دل ضرورة الدين أو المذهب أو الإجماع على حرف الخطاب عن
ظاهره ، وهو فيما نحن فيه منتف.
ثم الكلام في
الاستدلال بها على وجوب الجمعة على تقدير ترجيح الاحتمال الاول بالتبادر وكون
الجمعة من اليومية وما عليه ، ظاهر بما ذكرته من غير حاجة الى التفصيل.
هذا وفي الفقيه
عن النبي صلىاللهعليهوآله في جواب نفر من اليهود عن علة وجوب خمس صلوات وعن كونها
في المواقيت المخصوصة ، قال : وأما صلاة العصر فهي الساعة التي أكل آدم عليهالسلام فيها من الشجرة فأخرجه الله من الجنة ، فأمر الله عزوجل ذريته بهذه الصلاة الى يوم القيامة واختارها لامتي ،
فهي من أحب الصلوات الى الله عزوجل وأوصاني أن أحفظها من بين الصلوات .
وفي رواية أبي
جعفر عليهالسلام أنه قال في بعض القراءات
« حافِظُوا
عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى
» صلاة العصر
« وَقُومُوا
لِلّهِ قانِتِينَ » في صلاة الوسطى .
__________________
وفي جوامع
الجامع : روى عنهم عليهمالسلام أنها صلاة الظهر ، وقيل : هي صلاة العصر ، وروي ذلك
أيضاً مرفوعاً ، وقيل : صلاة الفجر ، يدل عليه قوله
« وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً
» .
وفي مجمع البيان
: قيل هي صلاة الظهر لتوسطه في النهار ، وقيل : العصر لتوسطه بين صلاة النهارية
والليلية ، وقيل : هي المغرب لتوسطه في الطول والقصر ، وقيل : هي العشاء الآخرة
لتوسطه بين صلاتين غير مقصورتين. وقيل : هي الصبح لتوسطه بين الضياء والظلام .
وقال الراوندي
في آيات أحكامه : هي العصر فيما روي عن النبي صلىاللهعليهوآله ، وعن علي عليهالسلام وعن ابن عباس والحسين ، وقال الحسين بن علي المغربي :
هي صلاة الجماعة ، لان الوسط العدل ، فلما كانت صلاة الجماعة أفضلها خصت بالذكر.
ثم قال : وهذا وجه مليح ، غير أنه لم يذهب اليه غيره.
وقال في فصل
آخر : وذكر أنها الجمعة يوم الجمعة والظهر سائر الايام ، ثم ذكر أقوالا كثيرة سبقت
ووجوهاً عديدة سبق بعضها وسيأتي بعض آخر.
وفي القاموس :
والصلاة الوسطى المذكورة في التنزيل الصبح ، أو الظهر ، أو العصر ، أو المغرب ، أو
العشاء ، أو الوتر ، أو الفطر ، أو الاضحى ، أو الضحى ، أو الجماعة ، أو جميع
الصلوات المفروضات ، أو الصبح والظهر معاً ، أو صلاة غير معينة ، أو العشاء والصبح معاً ، أو
صلاة الخوف ، أو الجمعة في يومها وفي سائر الايام الظهر ، أو المتوسطة بين الطول
والقصر ، أو كل من الخمس ، لان قبلها صلاتين وبعدها صلاتين.
__________________
ابن سيدة من
قال : انها غير صلاة الجمعة فقد أخطأ ، الا أن يقوله برواية مستندة الى النبي صلىاللهعليهوآله قيل : لا يرد عليه شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر
لانه ليس المراد بها في الحديث المذكور في التنزيل الى هنا
كلامه.
وجميع ما
احتمله من الصلوات محتمل الا صلاة الضحى ، فانها بدعة عندنا فهذا ما وصل الينا من
الاقوال في الصلاة الوسطى.
ثم العجب
العجيب والامر الغريب من الفاضلين المشهورين المذكورين أنهما راما أن يستدلا
بالاية على وجوب الجمعة وعينيتها في هذا الزمان ، ثم استندا في ذلك الى قول
المحققين.
فيا ليت شعري
منهم أولئك المحققين الذين تمسكا بقولهم على اثبات مرامهما فلعلهما تشبثا فيه بما
نقله الصدوق بلفظ القيل وقد مر ، أو بما احتمله صاحب القاموس وأخذ منه غيره ، أو
بما قاله ابن سيدة.
ولا بأس به ،
اذا الغريق يتشبث بكل حشيش ، ولكنه مناف لقوله في المقدمة : والادلة الشرعية
منحصرة عندنا في هذه الثلاثة ، فكيف يستدل بقول المحققين؟ مع عدم تحققه ومخالفته
لكثير من الاخبار.
فانظروا يا
أولي الابصار الى أولئك الاخيار ، كيف يموهون الاحكام على الابرار؟ ولا يبالون بما
فيه من الاخطار والانذار ومن مؤاخذة الملك الجبار المدعو بالقهار ، فنعوذ بالله من
شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .
اعلم أن
المستدل قدسسره نقل في آخر رسالته هذه عن زين المحققين أنه قال في آخر
رسالته : قد وردت الاخبار بأن الصلاة اليومية من بين العبادات بعد
__________________
الايمان أفضل مطلقا ، وورد أيضاً أفضل الصلوات اليومية الصلاة الوسطى التي
خصها الله تعالى من بينها بالامر بالمحافظة عليها ، وأصح الاقوال أن الصلاة الوسطى
هي صلاة الظهر وصلاة الظهر يوم الجمعة هي صلاة الجمعة على ما تحقق أو هي أفضل
فرديها على ما تقرر .
أقول : هذا
القول منه مناف لما نقله عنه المستدل في هذا الموضع لتصريحه بأن أصح الاقوال أنها
صلاة الظهر ، الا أنه لما زعم أن صلاة الظهر يوم الجمعة هي صلاة الجمعة يلزم منه بناءً
عما زعمه هذا كون الصلاة الوسطى يوم الجمعة صلاة الجمعة ، لكنه لا يعطي أن الصلاة
الوسطى عند المحققين هي صلاة الجمعة أو أنها صلاة الظهر في غير يوم الجمعة وفيها
هي الجمعة ، وذلك ظاهر.
ثم مما لا يقضي
منه العجب أن المستدل كيف نقل عنه هذا في أول رسالته وذلك في آخرها من غير تعرض
للجمع بينهما وأنى له ذلك؟ مع ما بينهما من التهافت والتساقط ، وهل هذا منه قدسسره الا خبط بعد خبط ، أعاذنا الله واياكم عنه وعن أمثاله.
[
المناقشة في الروايات النبوية الدالة على وجوب
صلاة
الجمعة عيناً ]
قال قدسسره : الباب الثاني في الدليل على عينية وجوب الجمعة من
كلام رسول الله صلىاللهعليهوآله ، روى العامة والخاصة في كتبهم الفقهية وغيرها أحاديث
عن النبي صلىاللهعليهوآله بعضها صريح في الوجوب العيني المستمر ، وبعضها ظاهر في
ذلك حيث لا اشعار فيه بالتخيير بينها وبين غيرها ، ولا يتوقفها على شرط من اذن
وغيره فمن ادعى شيئاً من ذلك فعليه الدليل.
__________________
منها : قوله «
الجمعة واجبة على كل مسلم الا أربعة عبد مملوك ، أو امرأة ، أو مريض ، أو صبي ».
ومنها : قوله
في خطبة طويلة حث فيها على صلاة الجمعة « ان الله تعالى فرض عليكم الجمعة ، فمن
تركها في حياتي أو بعد موتي وله امام عادل استخفافاً بها أو جحوداً لها ، فلا جمع
الله شمله ولا بارك له في أمره ، ألا ولا صلاة له ، ألا ولا زكاة له ، ألا ولا حج
له ، ألا ولا صوم له ، ألا ولا بر له حتى يتوب ».
وظاهر أن لفظ الامام
في مثل هذا الموضع انما يطلق على امام الصلاة دون امام المعصوم أو المنصوب من قبله
عليهالسلام ، وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معارفة بالاخبار ،
مع أن قوله صلىاللهعليهوآله « امام عادل » على أن في بعض الروايات ورواه العامة
هكذا : وله امام عادل أو فاجر.
ومنها : قوله صلىاللهعليهوآله « من ترك ثلاث جمع متعمداً من غير علة ختم الله على
قلبه بخاتم النفاق ».
ومنها : قوله «
لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين
» ولو كان الوجوب تخييرياً لما توعد على تركها بالنفاق أو الطبع على القلب والختم
عليه اللذين هما علامتا الكفر والعياذ بالله ، فان ترك أحد الواجبين التخيريين لا
يوجب ذلك .
أقول : وبالله
التوفيق ، الحديث الاول مجمل ، حيث سكت فيه عن بيان العدد المعتبر ، وعن ذكر
الامام والخطبة ، والقعدة بين الخطبتين ، والجهر بالقراءة وجوباً أو استحباباً ،
وعن ذكر القنوت وغيرها من الشروط المعتبرة اتفاقاً.
مع أن
الاستثناء الواقع فيه بظاهره غير مستقيم ، اذ الجمعة موضوعة عن
__________________
تسعة : الصغير ، والكبير ، والمجنون ، والمسافر ، والعبد ، والمرأة ،
والمريض ، والاعمى ومن كان على رأس فرسخين ، لا عن أربعة ، وسيأتي بهذا التفصيل في
خبر زرارة. فان قلت : الجمعة فيه معرفة وهو للعهد ، فالمراد أنها واجبة بشروطها.
قلنا : ومن تلك
الشروط الامام العادل ، فيرجع الى الثاني ، فنسوق الكلام اليه. فنقول : هو مفصل بالاضافة
اليه ، فهو حاكم عليه ومفسر له ، وقد ذكر فيه الامام ووصف بالعدالة.
ومن المقرر في
مقره أن تعليق الشيء على الوصف دليل علية ذلك الوصف لذلك الشيء ، مع ما اشتهر
بين المحصلين من أن الحكم الواقع في كلام مقيد موجباً كان الكلام أو منفياً ، انما
هو راجع الى القيد.
فعلى هذا لا بد
في وجوبها من حضور امام عادل ، ولا أقل من حضور نائبه المنصوب من قبله لفعلها أو
الاعم ، فهذا الحديث دليل تام على نقيض مدعاه ، فايراده له في هذا الباب من قبيل
اهداء السلاح الى الخصم حال الجدال ، فهو لنا لا علينا ، وليس له بل عليه ، لانه قد
انتصب لاثبات وجوبها العيني من غير توقفه على شرط ، وما سمعناه منه في هذا المقام
دليلا على ذلك المرام الا قوله ، وظاهر أن لفظ الامام في مثل هذا المقام انما يطلق على امام
الصلاة دون المعصوم.
فيا ليت شعري
بأي دليل عن له أن المراد به في هذا الاطلاق امام الصلاة دونه ، أهذا اطلاق لغوي
أم عرفي عام أو خاص.
بل نقول :
المتبادر من اطلاق الامام في عرف الشرع هو المعصوم عليهالسلام ،
__________________
كما يدل عليه من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية. وقوله صلىاللهعليهوآله : ابني هذا امام ابن امام أخو امام أبو أئمة تسعة
تاسعهم قائمهم. وقوله تعالى ( يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) .
وفي صحيحة بريد
عن الباقر عليهالسلام قال : سألته عن مؤمن قتل رجلا ناصبياً معروفاً بالنصب
على دينه غضباً لله أيقتل به؟ فقال : أما هؤلاء فيقتلونه ولو رفع الى امام عادل
ظاهر لم يقتله ، قلت : فيبطل دمه؟ قال : لا ، ولكن ان كان له ورثة فعلى الامام أن
يعطيهم الدية من بيت المال .
فهذا وأمثاله
صريحة في أن المراد بامام عادل في الاخبار هو المعصوم من آل الرسول لا امام الصلاة
، الا أن تكون هناك قرينة مخصصة بغيره ، وأما بدونها فالتبادر منه هو امام الاصل.
ونقل في الكشاف
عن بعضهم في قوله تعالى ( وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً ) ان الآية تدل على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب
ويرغب فيها والتبادر من أقوى امارات الحقيقة ، فتكون حقيقة شرعية
فيه.
وقد تقرر في
الاصول أنه اذا صدر من الشارع ماله محمل لغوي ومحمل شرعي ، كالطواف بالبيت صلاة ، فمثل هذا لا
يكون مجملا بل يحمل على المحمل الشرعي ، لان عرف الشارع أن يعرف الاحكام الشرعية ،
ولذلك بعث ولم يبعث لتعريف الموضوعات اللغوية ، فكان ذلك قرينة موضحة للدلالة ،
فلا اجمال.
__________________
ولذلك حمل
المستدل قدسسره في الوافي في باب من يصلي على الميت الامام المطلق عليه
، حيث قال في بيان حديث رواه طلحة بن زيد عن الصادق عليهالسلام قال : اذا حضر الامام الجنازة فهو أحق الناس بالصلاة
عليها . أن المراد بالامام المعصوم عليهالسلام.
وكذا قال في
بيان خبر آخر رواه النوفلي عن السكوني عن أبي جعفر عن أبيه عن آبائه عليهمالسلام قال قال أمير المؤمنين عليهالسلام : اذا حضر سلطان من سلطان الله جنازة فهو أحق بالصلاة
عليها ان قدمه الولي ، والا فهو غاصب ان المراد بسلطان الله الامام المعصوم ، فان سلطنته من
قبل الله عزوجل على عباده سلطنة ذاتية حقيقية.
وقال في مجمع
البيان في ذيل كريمة ( إِنِّي جاعِلُكَ
لِلنّاسِ إِماماً ) الامام المقتدى به في أفعاله وأقواله .
وفي الكشاف :
هو اسم من يؤتم به كالازار لما يؤتزر به ، يعني يأتمون بك في دينهم .
فالمراد
بالامام في هذا المقام من له رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلىاللهعليهوآله ، والتقييد بالعادل احتراز عن أئمة الجور ونوابهم ،
نظير ذلك ما وقع في عبارات أصحابنا من أن الجمعة لا تنعقد أو لا تجب الا بالامام
العادل أو نائبه ، وفي بعضها بالسلطان العادل.
__________________
قال في مجمع
البيان : فرض الجمعة لازم جميع المكلفين الا أصحاب الاعذار وعند الشرائط لا تجب
الا عند حضور السلطان العادل ، أو من نصبه السلطان للصلاة .
وقال المرتضى
علم الهدى في أجوبة المسائل الميافارقيات : لا جمعة الا مع امام عادل أو من نصبه
الامام . وفي كلام آخر له في الفقه الملكي والاحوط أن لا يصلي
الجمعة الا باذن السلطان وامام الزمان.
وقال العلامة
في التذكرة : ويشترط في وجوب الجمعة عدالة السلطان وهو الامام المعصوم ، أو من
يأمره بذلك ، عند علمائنا أجمع.
وقال الراوندي
في آيات أحكامه : وعند اجتماع شروطها لا تجب الا عند حضور سلطان عادل أو من نصبه ،
على أن قوله صلىاللهعليهوآله في مقام الخطبة والموعظة والنصيحة لاصحابه أو بعد موتى
وله امام عادل كالنص على المعصوم ، لانه صلىاللهعليهوآله لما كان عالماً بأن بعد انقضاء مدته الشريفة وأيامه
المنيفة ، تظهر في أمر الدين والدنيا نزغات ، وتبدو بين أمته نزاعات في أمر
الخلافة والامامة.
وبالاخرة ينجر
المآل لما غلبته الرجال نبه في خطبه الشريفة وأومأ فيها ايماءً لطيفاً الى ما هو
الحق من أمر الامامة ، وان الاقتداء بهؤلاء الكفرة الفجرة في صلاة الجمعة غير مسوغ
، فيجب ترك حضور جمعاتهم مهما أمكن ، وهو لا يوجب ما يوجبه مع امام عادل من الامور
التي ذكرها ، وهذا أمر جلي لمن له أدنى فطانة وأخذها بيده وأنصف من نفسه. ولذلك ما
حمله الزمخشري في هذا
__________________
الحديث على امام الصلاة ، بل حمله على ما حملناه عليه كما سيأتي.
وقال الشهيد في
الذكرى في فصل صلاة الجمعة بعد نقل هذا الحديث : وشروطها سبعة : الاول السلطان
العادل وهو الامام أو نائبه اجماعاً منا لما مر .
وأشار بقوله «
لما مر » الى قوله صلىاللهعليهوآله « وله امام عادل » فجعل الحديث سند اجماع الطائفة
الناجية ، وهو صريح في أنهم باجمعهم حملوا الامام المذكور فيه على المعصوم دون
امام الصلاة ، فحمله عليه ودعوى الظهور فيه ثم القول بأن هذا مما لا يخفى على من
له أدنى معارفة بالاخبار ، تعريضاً عليهم بأنهم غير عارفين بها سمج ركيك لا وقع له
بل غير مسموع ولا يلتفت اليه.
كيف لا وقد بلغ
الشهيد في تدربه بالاخبار ومعرفته بها الى أن صنف اللمعة في بلاد المخالف مدة سبعة
أيام لا غير ، وهذا منه قدسسره كاد يكون من الكرامات ، فكيف يمكن القول بعدم معرفته
بالاخبار والحال هذه؟
فالقول قوله
اذا قالت حذام
|
|
فصدقوها فان
القول ما قالت حذام
|
فهذا الحديث
كما اعترف به المستدل وهو الحق حديث شائع ذائع مستفيض وارد في طرق الخاصة والعامة
، وقد فهم منه علماؤهما اشتراط الامام أو نائبه في وجوبها العيني ، فلو لم يكن في
تلك المسألة خبر غيره لكان كافياً ، فما ظنك مع وجود غيره؟
فمنه ما رواه
في الفقيه عن محمد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام قال : تجب الجمعة على سبعة نفر من المؤمنين ، ولا تجب
على أقل منهم : الامام وقاضيه ، ومدعيا حق وشاهدان ، والذي يضرب الحدود بين يدي
الامام .
فهذا حديث مفصل
مصرح فيه بأن المراد بالامام هو المعصوم عليهالسلام وبقاضيه
__________________
نائبه المنصوب من قبله ، والحديث المجمل يحكم عليه المفصل ، مع ما فيه من
الدلالة الصريحة الواضحة الغير الخفية المؤيد بالرواية الاتية وغيرها.
على أن الجمعة
لا تجب الا حيث يقام فيه الحدود وتنفذ فيه الاحكام ، ومن شروطها الامام أو من يقوم
مقامه عليهالسلام ، وهو ظاهر غير خفي « الا على آكه لا يبصر القمر ».
وقال في الذكرى
بعد نقله : وفيه اشارة الى أن الاجتماع المدني لا يتم الا بهؤلاء ، والجمعة تتبع
التمدن ، لانها انما تجب على المستوطنين .
ومنه ما رواه
في التهذيب في باب العمل في ليلة الجمعة ويومها عن علي عليهالسلام قال : لا جمعة الا في مصر تقام فيه الحدود .
وهو كما ترى
كسابقه صريح في أن وجوبها بل صحتها منوطة بزمان حضور الامام المفترض الطاعة
المبسوط اليد المتمكن القادر على اقامة الحدود بأسرها حتى ارش الخدش على وجه
السلطنة والاستيلاء ، لان في غير هذا الزمان لا يمكن اقامتها كما ينبغي ، على ما
يرشد اليه خبر : ولا أقيم في هذا الخلق حد منذ قبض الله أمير المؤمنين عليهالسلام.
ومنه ما في عيون
أخبار الرضا عليهالسلام حيث قال : فان قال فلم جعلت الخطبة؟ قيل : لان الجمعة
مشهد عام. فأراد أن يكون الامام سبباً لموعظتهم وترغيبهم في الطاعة ، وترهيبهم من
المعصية ، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم ويخبرهم بما ورد عليه من
الافاق ، ومن الاهوال التي لهم فيها المضرة والمنفعة.
فان قال : فلم
جعلت خطبتين؟ قيل : لان تكون واحدة للثناء والتحميد
__________________
والتقديس لله عزوجل ، والاخرى للحوائج والاعذار والانذار والدعاء ، وما
يريد أن يعلمهم من أمره ونهيه وما فيه الصلاح والفساد .
وهو أيضاً صريح
في أن الامام لا بد وأن يكون مفترض الطاعة عالماً بجميع الاحكام والامور المتعلقة
بانتظام المملكة والسلطنة وما فيه صلاح أحوال الرعية وفسادها ، خبيراً بما فيه
مضارهم ومنافعهم في معاشهم ومعادهم ليأخذوا منه في كل أسبوع كل ما يحتاجون اليه من
الاحكام الدينية والامور الدنيوية ، وهو ظاهر. فاما أن يجعله عليهالسلام لنفسه ، أو يأذن فيه لمن يراه أهلا لذلك.
فبهذه الاخبار
ونظائرها مثل ما سننقل من الصحيفة الكاملة ومن الأمالي وغيرهما يمكن تخصيص
العمومات وتقييد الاطلاقات ، اذ الجمع بين الاخبار اذا تناقضت وتدافعت مهما أمكن
خير من اطراح بعضها رأساً ، مع أن الخاص والمقيد مقدمان على العام والمطلق ،
فالعمل بهما متعين.
وبذلك يظهر
بطلان ما استدلوا به من الاستصحاب على وجوبها العيني على تقدير كونه حجة ، حيث
قالوا : وجوبها حال حضور الامام أو نائبه ثابت ، فيستصحب الى أن يحصل الدليل
الناقل ، مع أنا لا نسلم أن اللازم منه مطلق الوجوب ، بل الوجوب المقيد بحال
الحضور ، فلا يتم استصحابه حال الغيبة.
وأما ما أجابوا
به عن هذا المنع بأنا لا نسلم أن الوجوب الثابت حال الحضور مقيد به ، بل هو ثابت
مطلقاً من غير أن يتقيد به ، ومن قال بالتقييد فعليه الدليل ، فهو خارج عن قانون
المناظرة ، لكونه منعاً على منع ، فهو غير مسموع ، اذ المانع يكفيه الاحتمال ولا
يطالب بالدليل ، مع أنه يستند في ذلك الى البراءة الاصلية الى أن يثبت خلافها ،
ولم يثبت بعد.
وأيضاً فانهم
في الحقيقة يقيمون وجوبها في هذا الزمان على وجوبها في الزمان
__________________
السابق ، فله أن يقول : لعل علة الحكم في الاصل الوصف الكذائي ، وهو كونها
واقعة حال حضوره أو حضور نائبه ، فعليهم أن يبطلوا هذا الاحتمال ، فهو أحق أن
يطالبهم بالدليل ، بل له أن يقول : جواز العمل بالاستصحاب انما هو عند فقد النص
والدليل الشرعي لا مطلقا ، ولو مع دلالة دليل شرعي على خلافه كما هنا ، فالعمل
بالاستصحاب هنا رد للنص والإجماع به ، ومثله غير جائز عند القائلين بجواز العمل به
أيضاً.
وأما سائر
الاستصحابات فان كان عليه دليل من اجماع أو نص يدل على بقاء ما كان على ما كان فهو
حجة ، والا فلا.
وبذلك أيضاً
يظهر بطلان ما استدلوا به من التأسي على وجوبها العيني ، لاحتمال أن يكون الوجوب
مقيداً بشرط حاصل بالنسبة الى النبي ومن يقوم مقامه عليهالسلام غير حاصل بالنسبة الينا ، ومجرد الاحتمال كاف لنا في
هذا المقام ، ولا نحتاج الى اثباته ، مع أنا قد أثبتناه بالادلة السابقة ، فظهر
بطلان كل ما ذكره المستدل في الباب الخامس من رسالته هذه الاشبهة زين المحققين
وسيأتي بما يدفعها في آخر الرسالة ان شاء الله تعالى.
قال أستاد
أستادنا المحقق المدقق رفع الله درجتهما في شرح الدروس : اعلم أن القوم ذكروا أن
الاستصحاب اثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم الى قسمين
باعتبار انقسام المأخوذ فيه الى شرعي وغيره ، فالاول مثل ما اذا ثبت الحكم الشرعي
بنجاسة ثوب أو بدن مثلا في زمان ، فيقولون بعد ذلك الزمان أيضاً يجب الحكم
بالنجاسة اذا لم يحصل اليقين بما يرفعها ، والثانى مثل ما اذا ثبت رطوبة ثوب في
زمان ، فبعد ذلك الزمان أيضاً يحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف.
وذهب بعضهم الى
حجيته بقسميه ، وبعضهم الى حجية القسم الاول ، واستدل
كل من الفريقين بدلائل مذكورة في محلها ، كلها قاصرة عن افادة المرام ، كما
يظهر عند التأمل فيها ، ولم نتعرض لذكرها هنا ، بل نشير الى ما هو الظاهر عندنا في
هذا الباب.
فنقول : الظاهر
أن الاستصحاب بهذا المعنى لا حجية فيه أصلا بكلا قسميه ، اذ لا دليل عليه تاماً لا
عقلا ولا نقلا. نعم الظاهر حجية الاستصحاب بمعنى آخر ، وهو أن يكون دليل شرعي على
أن الحكم الفلاني بعد تحققه ثابت الى حدوث حال كذا ووقت كذا مثلا ، معين في الواقع
بلا اشتراطه بشيء أصلا.
فحينئذ اذا حصل
ذلك الحكم ، فيلزم الحكم باستمراره الى أن يعلم وجود جعل مزيلا له ، ولا يحكم
بنفيه بمجرد الشك في وجوده ، والدليل على حجيته أمران :
الاول : أن ذلك
الحكم : اما وضعي ، أو اقتضائي ، أو تخييري ، ولما كان الاول أيضاً عند التحقيق
يرجع اليهما فينحصر في الاخيرين ، وعلى التقديرين يثبت ما ذكرنا.
أما على الاول
، فلأنه اذا كان أمر أو نهي بفعل الى غاية مثلا ، فعند الشك بحدوث تلك الغاية لو
لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظن بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل
الظن لم يحصل الامتثال ، فلا بد من بقاء ذلك التكليف عند الشك أيضاً وهو المطلوب.
وأما على
الثاني ، فالامر كما لا يخفى.
والثاني ما ورد
في الروايات من أن اليقين لا ينقض بالشك.
فان قلت : هذا
كما يدل على حجية المعنى الذي ذكرته ، كذلك يدل على حجية ما ذكره القوم ، لانه اذا
حصل اليقين في زمان ، فينبغي أن لا ينقض في زمان آخر بالشك ، نظراً الى الرواية ،
وهو بعينه ما ذكروه.
قلت : الظاهر
أن المراد من عدم نقض اليقين بالشك أنه عند التعارض لا ينتقض به ، والمراد
بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشك ، وفيما ذكروه ليس كذلك ، لان
اليقين بحكم في زمان ليس مما يوجب حصوله في زمان آخر لو لا عروض الشك ، وهو ظاهر
انتهى كلامه طاب منامه.
وأنت خبير بأن
الدليل الشرعي لم يدل على أن الجمعة الواجبة في الزمان السابق ثابت وجوبها بلا
اشتراط بشيء أصلا الى أن يثبت المزيل ، ومع ذلك فقد ثبت بدلالة اجماع الطائفة
والاخبار السابقة وغيرها على أنها مشروطة بحضور الامام أو نائبه.
على أن
المتحققة في الزمان السابق غير ممكن ان تحقق في هذا الزمان ، لان تحققها في ذلك
الزمان كان بتحقيق الامام أو نائبه ، وهو غير ممكن في هذا الزمان ، فلا تكون هي هي
، فكيف يدل الدليل على بقاء ما كان على ما كان.
هذا ولنرجع الى
ما كنا فيه ، فنقول : وأيضاً فان من المقررات والمسلمات في الاصول أن الخطابات
العامة للمشافهة الواردة على لسان الرسول ليست بخطابات لمن بعدهم ، وانما يثبت
حكمها لهم بدليل آخر من نص أو اجماع أو غيرهما.
وأما بمجرد
الصيغة فلا ، لان الخطاب توجيه الكلام الى الغير لتفهيمه ، واذا امتنع توجيهه الى
الجمادات بل الى المجانين والصبيان الغير القابلين للفهم ، فتوجيهه الى المعدوم
أجدر بالامتناع لكونه من الفهم أبعد ، فقوله « فرض عليكم الجمعة » مختص بالموجودين
في عهده صلىاللهعليهوآله ، وتعدية حكمه الى غيرهم محتاجة الى دليل آخر ، فأما
بمجرده فلا.
فان قلت : فمن
تركها في حياتي أو بعد موتى ، دليل على التعدية.
قلت : غير مسلم
، فان معناه فمن تركها منكم ، وهو الظاهر من السياق. نعم
لو كان سياق الحديث هكذا : ان الله قد فرض على أمتي الجمعة لكان قوله « فمن
تركها » الى آخره قرينة التعدية ، وعلى تقدير التسليم فهو مقيد بالامام العادل ،
وليس فليس ، وبذلك ينكشف حكم تلك الاحاديث المطلقة العامة بثلاثتها ، فان ما من
عام الاوقد خص ، جمعاً بين الاخبار.
مع أن المتبادر
من قوله صلىاللهعليهوآله « لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات » الى آخره أنه تعريض
لبعض السامعين التاركين وتهديد لهم ، أو تخويف للغائبين الموجودين في عهده
التاركين لها ، وتحريص لهم على فعلها والحضور لها.
على أن في متنه
شيء يبعد صدوره عمن هو أفصح العرب ، وقد أوتي جوامع الكلم ، وهو قوله « عن ودعهم
» فانهم متفقون على أن يدع لم يسمع من العرب ماضيه ولا فاعله ولا مصدره ، ولذلك
جعلوا حذف الفاء دليلا على أنه واو ، اذ لو كان واحد منها مسموعاً مستعملا عندهم
لما كان لهذا الدليل وجه ولا وقع ، فتأمل وأما قوله « مع أن قوله امام عادل ليس في
بعض الروايات العامية » فهو كذلك كما في الكشاف ، ولا يقام الجمعة عند أبي حنيفة
الا في مصر جامع ، لقوله عليهالسلام « لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى الا في مصر جامع
» والمصر الجامع ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الاحكام ، ومن شروطها الامام ، أو
من يقوم مقامه ، لقوله عليهالسلام « فمن تركها وله امام عادل أو جائر » الحديث.
وقوله « أربع
الى الولاة : الفيء ، والصدقات ، والحدود ، والجمعات » فان أم رجل بغير اذن
الامام ، أو من ولاه من قاض ، أو صاحب شرطة لم يجز .
وأنت وكل من هو
قابل للخطاب خبيران بأنه حمل الامام في الحديث المذكور في الكتاب على من له رئاسة
عامة في أمر الدين والدنيا ، عادلا كان أو جائراً ، كما هو مذهبه ، لا على امام
الصلاة كما فهمه المستدل قدسسره ، وادعى
__________________
فيه الظهور مع خفائه على مثله على غزارة علمه وثقوب فهمه ، فكيف ظنك بالغير؟!
نعم الجواد قد يكبو والصارم قد ينبو ، وحبك للشيء يعمي ويصم.
ولكن هذه العلاوة
والتأييد وان كان يخرج الخبر عن التقييد ، الا أنه يفسده ويسقطه عن درجة الاعتبار
عند أولي الألباب والابصار ، فان الروايات الخاصية مع كثرتها الغير المحصورة صحيحة
المناطيق متفقة الدلالات على اعتبار العدالة في الامام مطلقا.
فاذا كان هذا
الخبر بهذا الطريق منافياً لها ومناقضاً ، فهو غير معمول به عند الاصحاب وغير
مقبول عندهم ، لتصادمه كثيراً من الاخبار الصحيحة المقبولة مع اتفاق كلمتهم على
وجوب كون الامام عادلا مطلقا ، امام جماعة أو جمعة ، كما هو صريح الاخبار ، وسنتلو
عليك طرفاً منها في رسالة مفردة معمولة فيه إن شاء الله.
والمستدل رام
بذلك اصلاح ما ظن فساده « وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر » مع أن هذه
الرواية العامية الواردة في طريق العامة مناقضة لما رووه بطريق جابر عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : لا تؤمن امرأة رجلا ، ولا فاجراً مؤمناً ،
الا أن يقهره سلطان ، أو يخاف سيفه أو سوطه.
فلا يمكنهم
أيضاً أن يعمموا في الامام ، بل لا بد لهم أن يعتبروا فيه العدالة مطلقا ، كما
عليه اجماع الاصحاب هنا وفي الجماعة المطلقة ، لظاهر قوله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) .
__________________
ولا شك أن
الاقتداء ركون ، فتعميمهم يستلزم رد الكتاب والسنة ، وتعميمنا يستلزم مع ذلك رد
الإجماع أيضاً.
وبعد اللتيا
والتي كيف يستقيم عند الطبائع السليمة والعقول المستقيمة الاقتداء بالفاجر
والاهتداء بالعاهر ، وتفويض الامور الدينية اليه ، ولا سيما أمر الصلاة التي هي
معراج المؤمن ونور عينيه ، وهي من أكمل أركان الدين وأفضل أعمال المسلمين ، حتى
أنها اذا قبلت قبل سائر الاعمال ، ولو ردت ردت بواقيها.
وقل لي لو حكمت
نفسك وجعلتها قاضية في ذلك الامر الجسيم والخطر العظيم هل ترضى بذلك من شيء؟! لا
أظنك أن تكون ترضى عنه منه ، فكن الحاكم دوني.
على أن الإجماع
منعقد على عدم وجوبها العيني ، كما نقله جماعة منهم الشهيد الثاني والعلامة الحلي
، بل قاطبة المتأخرين ، فانهم ذهبوا الى التخيير ، كما صرح به الشيخ الحسين بن عبد
الصمد الحارثي في عقد الطهماسبي.
وأما قوله قدسسره « لو كان الوجوب تخييرياً لما كان كذا وكذا » فهو كلام
قلد فيه زين المحققين ، والجواب عنه من قبل القائلين بالتخيير :
أما أولا ،
فبأنه محمول على المبالغة ، ونظيره في الاخبار كثير ، مثل ما ورد أن من الملعونين
من يأكل زاده وحده ، مع أن أكل الزاد وحده مكروه ، فذلك اللعن للمبالغة كالنائم
وحده.
وأما ثانياً ،
فبأنها لما كانت أفضل الواجبين ، وهو معنى الاستحباب ، بمعنى أنها واجبة تخييراً أو مستحبة
عيناً ، كما في جميع افراد الواجب المخير اذا
__________________
كان بعضها راجحاً على الباقي وكان المكلف قد تركها تهاوناً واستخفافاً
وجحوداً لفضلها ترتب على اعتقاده ، هذا ما ترتب من النفاق والطبع والختم ، فالسبب
الاصلي فيه ذلك لا أصل الترك.
فان التهاون
بالسنن والرغبة عنها تال للكفر ، كما يستفاد من قوله صلىاللهعليهوآله : النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني . ومما روي عن
علي عليهالسلام : الاغلف لا يؤم القوم وان كان أقرأهم ، لانه ضيع من
السنن أعظمها ولا يقبل له شهادة ولا يصلى عليه ، الا أن يكون ترك ذلك خوفاً على
نفسه .
حيث يظهر منه
أن التهاون بها قادح في العدالة وموجب لعدم قبول الشهادة بل يدل على كفر المتهاون
بها ، لقوله عليهالسلام « ولا يصلى عليه ».
ولعل الوجه فيه
أن الايمان هو التصديق بكل ما جاء به النبي وهذا منه ، ولذلك نفى صلىاللهعليهوآله في خطبته المذكورة عنه الصلاة والزكاة والحج والصوم
والبر والدين ، كما هو الموجود في رواية الشهيد في الذكرى ، لان من شرائط قبول
العبادات الايمان بالله وبجميع ما جاء به النبي صلىاللهعليهوآله ، وهذا المستخف الجاحد مرتد كافر غير مؤمن به ، ولذلك
قال صلىاللهعليهوآله حتى يتوب. وفيه دلالة على قبول توبة المرتد بينه وبين
الله ، كما هو الصحيح.
وأما ثالثاً ،
فبأن هؤلاء لا ينكرون دلالتها على الوجوب العيني ، بل يقرون بها ويذكرونها في
كتبهم الاستدلالية في هذا المقام ، كما في الذكرى وغيرها ، لكنهم يخصونها بزمن
حضور الامام العادل ، كما هو منطوق هذه الرواية وغيرها ، كما مر وسيأتي.
__________________
ومن العجب أنهم
يستدلون بهذه الرواية على وجوبها التخييري في هذه الزمان ، كما أومأ اليه
الشهيد ، والمستدل جعلها دليلا على وجوبها العيني في هذا الزمان « وللناس فما
يعشقون مذاهب » .
وأما رابعاً ،
فبأن لهم أن يقولوا وجوبها لو كان عينياً لوجب أن يصير بتركه جمعة واحدة متعمداً
أو متهاوناً كافراً ، فما الوجه في توقفه على تركه ثلاث جمع وفي بعض الروايات
متوالية كما سيأتي.
قال الصادق عليهالسلام : كل من ترك الصلاة قاصداً لتركها ، فليس يكون قصده
لتركها اللذة ، فاذا نفيت اللذة وقع الاستخفاف ، واذا وقع الاستخفاف وقع الكفر .
تنبيه
:
الوجوب العيني
في زمن الغيبة : اما أمر بين رشده ، وهو بعيد ، لخلاف جم غفير من السلف وجمع كثير
من الخلف ، مع ثقوب فهمهم ووصوب علمهم ، وتصلبهم في الدين ، وتتبعهم لاثار أئمة
المعصومين عليهمالسلام. أو أمر بين غيه ، وهو أيضاً بعيد لمثل ما مر ، أو أمر
مشتبهة ، فيجب تركه واجتنابه ورد علمه الى الله والى الرسول صلىاللهعليهوآله وأولي الامر.
وقد ورد عنه صلىاللهعليهوآله ما لا يدفعه مخالف ولا مؤالف من قوله صلىاللهعليهوآله : حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات
نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم .
__________________
فعند تعادل
الامارات على فرض التسليم وجب التوقف ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في
المهلكات ، هذا ما عندنا والعلم عند الله وعند أهله.
هداية
فيها دراية
القائلون
بالوجوب العيني على الاطلاق قدحوا في رواية محمد بن مسلم السابقة ذكرها ، أولا بأن
من رجالها الحكم بن مسكين ، وهو من المجاهيل ، فلا يسوغ العمل بروايته ، كذا قال
المستدل في الباب السادس من رسالته هذه .
وهو كلام مأخوذ
من كلام الفاضل الحلي رحمهالله في المختلف ، لكنه قال فيه في طريق رواية محمد بن مسلم
الحكم بن مسكين ، ولا يحضرني الان حاله فنحن نمنع صحة السند .
وأجاب عنه
الشهيد في الذكرى ، بأن الحكم ذكره الكشي ولم يتعرض له بذم ، والرواية مشهورة جداً
بين الاصحاب لا يطعن فيها كون الراوي مجهولا عند بعض الناس انتهى كلامه
طاب منامه.
وتوضيحه : ان
من المدح وكماله كون الرجل راوياً عن أحد من النبي أو الائمة عليهمالسلام ، ومذكوراً في كتب جماعة من أصحابنا قدس الله أسرارهم ،
لان الظاهر من الذكر وعدم التعرض له بأن مذهبه أو اعتقاده باطل أو أنه مجهول ، أنه
من الامامية بدليل تصريحهم في من لا يكون كذلك بأحواله المذمومة واعتقاده الغير
الصحيح ، كما لا يخفى مع أدنى تتبع.
__________________
فان أئمة
الرجال الامامية رضياللهعنهم وجزاهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء يذكرون في كتبهم
الراوين بعد تفتيشهم عن أحوالهم ، بحيث يظهر ويعرف مالهم تمام المعرفة والظهور ،
سواء كانوا امامياً أو غيره من الشيعة وغيرها ، وسواء كانوا من أصحاب الحجج عليهمالسلام أو لا ، لكن اذا كانوا مخالفين أو مجهولين أو مذمومين
اعتقاداً أو عملا بجهة من الجهات صرحوا به ، كما اذا كانوا ممدوحين أو موثقين.
فاذا لم يصرحوا
بمدحهم ولا بذمهم ولا بجهالتهم ، فالظاهر عندهم أنه صحيح الاعتقاد امامي ، كما
يظهر ذلك أيضاً من كتب أئمة الرجال من المخالفين فانهم اذا ذكروا مثله صرحوا بأنه
رافضي أو شيعي أو خبيث أو ردي وأمثاله ، وأصحابنا رضي الله تعالى عنهم لا يحتاجون
في بيان أصل اعتقاد كل رجل رجل من الامامية بارتكاب ذكر زيادة هذا المعنى فيه ،
الا أن يكون ممن يتوهم خلافه فيه ، فيقولون فيه ما يرفع الوهم ، مثل أنه امامي
متقدم ، أو له حظ في الامر ، أو قريب الامر ، كما اذا كان حاله ظاهراً في الذم ،
مثل عبيد الله بن زياد وبسر بن أرطاة وأمثالهما.
والى ما ذكرناه
مبسوطاً أشار بقوله « ذكره الكشي » ولم يتعرض له بذم ، وذلك ظاهر لمن له أدنى
تتبع.
ثم انا نوضح
المقام ونفصل الكلام ليظهر ما نحن فيه من المرام ، فنقول : وبالله التوفيق ، قال
الكشي : حكم بن مسكين المكفوف مولى ثقيف ، وسيذكر إن شاء الله في خالد بن ماد
القلانسي ، ثم قال فيه : ان الحكم هذا يروي عن خالد ذاك .
وقال الشيخ في
الفهرست : حكم بن مسكين الاعمى ، له أصل رويناه عن
__________________
عدة من أصحابنا ، عن أبي المفضل ، عن ابن بطه ، عن الصفار ، عن أحمد بن
محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسن بن محبوب ، عن حكم الاعمى .
وقال النجاشي :
حكم بن مسكين أبو محمد كوفي ، مولى ثقيف المكفوف روي عن أبي عبد الله عليهالسلام ، ذكره أبو العباس ، له كتاب الوصايا ، كتاب الطلاق
كتاب الظهار ، أخبرنا الحسين بن عبيد الله ، قال : حدثنا حميد بن زياد ، قال : حدثنا
الحسن بن موسى الخشاب عن الحكم بكتاب الطلاق والظهار .
وسيذكر إن شاء
الله في سعد بن عبد الله ثم قال فيه : ان عبد الله والد سعد ذاك روى عن الحكم هذا.
فهؤلاء الائمة
رضوان الله عليهم ذكروه ولم يتعرضوا له بذم ، فهو أول دليل على وجاهته ومدحه
وتوثيقه عندهم لما مر ، ولان من المدح أيضاً كون الرجل صاحب أصل من عبارات الحجج عليهمالسلام ، أو صاحب كتاب في الامور الدينية وما قرب منها ، أو
أنه تردد في جميع الروايات والاصول في دفتر ، مثل ابن الزبير والحسين بن الحسن بن
أبان ، واسماعيل بن مرار وغيرهم.
فاذا كان الرجل
الامامي اجتهد وبلغ مجهوده في الدهور والمتطاولة والازمان المتكاثرة ليلا ونهاراً
في تصنيف ما ذكرنا أو تأليف ، أو اجتهد في أحاديث الائمة عليهمالسلام وجمعها وجعلها أصلا محفوظاً عن الاندراس والغلط ، أو
أخذ الروايات من العلماء الكبار ، أو روى عنه علماؤنا كذلك ، فلا ريب أنه ممدوح في
الشرع وعند أهله ، ولا يخفى على أحد ، كما في زماننا أيضاً.
ولذلك ترى أئمة
الرجال قدس الله ضرائحهم يذكر ممن الرجال ويعدون
__________________
لهم كذا وكذا كتباً حتى يذكرون له كتاب المشيخة ، وان فلاناً بوبه كما في
ترجمة بشير وداود بن كوره وغيرهما ، ويتطرقون اليهم والى كتبهم بطرق متعددة وغير
متعددة ، وكانوا يتلذون عند الشيوخ المتفرقين في أقاصي البلاد وأدانيها شرقاً
وغرباً ، ويحصلون ذلك العلم في الدهور المتطاولة والازمان الخالية مع تعب عظيم
واملاق كثير ، وخوف زائد من المخالفين تقية.
وترى أيضاً
أنهم يدققون ويفتشون في أن هذا الكتاب له أو الرواية ، كما في ترجمة محمد بن قيس
البجلي وغيره ، ولو لم يكن كون الرجل صاحب أصل وكتاب وتأليف ورواية ، مع عدم
التصريح بذم فيه مدحاً كلياً معتبراً شرعاً على ما ذكرنا ، لكان ذكر ما ذكر في محل
العبث ، كما في كتاب رجال الشيخ رحمهالله كما لا يخفى.
وفي خطب كتاب
رجال الشيخ وفهرسته وكتاب النجاشي رحمهالله تصريح بما ذكرنا ، حيث قال : اما بعد فإني وقفت على ما
ذكره السيد الشريف أطال الله بقاءه وأدام توفيقه من تعيير قوم من مخالفينا أنه لا
سلف لكم ولا مصنف ـ الخطبة .
ويظهر منها أن
مدح الرجل بأن له مصنفاً وكتاباً أزيد وأكثر اعتباراً من مدحه بأن له أصلا ، اذ
بالاول يدفع تعيير المخالفين علينا لا بالثاني ، فانه يتضمن العلو في العلم مع تعب
صاحبه واجتهاده في الدين ، وتقضي عمره في تحصيل ما يعنيه ويجب عليه ، ويعتبر في
الدنيا والآخرة.
والاصل على ما
يظهر هو مجمع عبارات الحجة عليهالسلام بعينها فقط ، من غير أن يكون معنا اجتهاد واستنباط وغير
ذلك. والكتاب والمصنف يشتمل مع ما ذكر على الاستدلالات والاستنباطات وعقلا.
__________________
فظهر مما تلونا
عليك أن الرجل اذا صنف كتاباً ، أو ألفه ، أو يكون صاحب أصل ، أو يكون راوياً عن
معتبر ، أو يروي عنه المعتبر أيضاً ولا يذكر ذمه ، فهو معتبر ممدوح.
ويوضح المطلوب
أنه لو لم يكن كون الرجل كذلك مدحاً كلياً له ، لصار كتاب الرجال للشيخ قدسسره عبثاً ، وكذلك كثير من كتاب فهرسته وكتاب النجاشي ، بلا
نفع وفائدة ، فانه لا يذكر في أكثر كتاب الرجال في أبواب من يروي عنهم عليهمالسلام وفي أبواب من لم يرو الا الرجل ووالده وموضعه وصنعته
فقط بلا اشارة الى توثيقه أو مدحه. وكذا الحال في الصور الأخر. ولا يخفى جميع ما
ذكرنا على من له التتبع التام ، فعليك به حتى تذعن بما سمعت ، والحمد لله وحده.
فظهر وثبت أن
الرجل ثقة جليل معتبر عظيم ، لكونه صاحب أصل وكتاب تصنيف ورواية ، وقد روي عنه
جماعة من المعتبرين والموثقين ، كالحسن بن محبوب ، والحسن بن موسى الخشاب وعبد
الله وغيرهم ، من غير أن يقدح فيه أو في أصله وكتابه أو روايته أو تصنيفه وتأليفه أحد من
السلف والخلف ، فهو موثوق به عندهم ، وهو أظهر من الشمس في رائعة النهار ، وان
تقليد المستدل للفاضل مع أنه قال : ولا يحضرني الان حاله ولم يقدح فيه بذم لا
ينفعه بل يضره.
ثم أقول : وهذه
الرواية كما مرت رواها الصدوق في الفقيه ، وقد قال في صدر الكتاب : ولم أقصد فيه
قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه ، بل قصدت
__________________
الى ايراد ما أفتي به وأحكم بصحته ، واعتقد فيه أنه حجة فيما بيني وبين ربي
تقدس ذكره وتعالت قدرته .
ومع ذلك فقد
قال في رجال مشيخته : وما كان فيه عن محمد بن مسلم الثقفي فقد رويته عن علي بن
أحمد بن عبد الله بن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن جده أحمد بن أبي عبد
الله البرقي ، عن أبيه محمد بن خالد ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم .
وهو كما ترى
ليس فيه الحكم ، مجهولا كان أو معلوماً ومعلولا. نعم هو مذكور في طريق الشيخ في
التهذيب ، حيث روي عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن الحكم بن
مسكين ، عن العلاء ، عن محمد بن مسلم لكنك قد عرفت جلالة قدر الرجل وعظمته عندهم.
ومن العجب أن
أكثر من تأخر عن العلامة قلدوه في حكمهم بمجهوليته ، مع أنه لم يحكم بها فيه ، بل
قال : ولا يحضرني الان حاله. وهو لا يعطي كونه مجهولا عنده. وعلى تقديره فقول
الشهيد : والرواية مشهورة جداً بين الاصحاب لا يطعن فيها كون الراوي مجهولا عند
بعض الناس. متوجه متين ، لما عرفت.
واعلم أن لمحمد
بن مسلم كتاباً سمي أربعمائة مسألة في أبواب الحلال والحرام ، وكان ذلك الكتاب عند
الصدوق رحمهالله ، كما يظهر مما ذكره في صدر الكتاب ، فلا يضر ضعف طريقه
اليه ولا جهالته.
ومن الغريب أن
الفاضل الملقب بالمجلسي رحمهالله بعد اعترافه بمثل ذلك في أوائل شرحه على الفقيه ، حيث
قال : طريق الصدوق الى كتابه وان كان فيه جهالة ، لكنه لا يضر لما ذكر مراراً أنه
من كتابه المعروف.
__________________
وهذا منه اشارة
الى ما ذكره قبله بقوله : فان كان صاحب الكتاب ثقة بكون الخبر صحيحاً ، لان الظاهر
من نقل السند الى الكتاب المشهور المتواتر مجرد التيمن والتبرك ، سيما اذا كان من
الجماعة المشهورين ، كالفضيل بن يسار ومحمد بن مسلم ، فان الظاهر أنه لا يضر جهالة
سنديهما.
وقال في موضع
آخر : كان المتعارف بين قدمائنا اطلاق الصحيح على كل حديث اعتضد بما يقتضي
اعتمادهم عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به والركون اليه وذلك بأمور وعدها ، الى
أن قال : ومنها وجوده في أصل معروف الانتساب الى أحد من الجماعة الذين أجمعوا على
تصديقهم ، كزرارة ومحمد بن مسلم والفضيل بن يسار.
قال في باب وجوب
الجمعة في مقام القدح في رواية محمد بن مسلم المذكورة : ان الخبر لا يخلو من ضعف
سنداً.
أقول : هذا هو
الحق ، لان طريق الصدوق الى محمد هذا ضعيف باصطلاح المتأخرين لا مجهول ، كما أفاده
أولا. ولكنك قد عرفت أنه لا يضر ، فبين كلاميه قدسسره تناقض من الجهتين ، فتأمل ثم اذعن بما سمعت ، وكن من
المحققين الذين يعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال ، ولا تكن من المبتدئين الذين
يعرفون حال الاقوال بمراتب الرجال. ونعم ما قال : لا تنظر الى من قال وانظر الى ما
قال.
هذا وثانياً :
بأنها متروكة الظاهر ، وقد قلدوا فيه ما قال المحقق في المعتبر من أن محمد بن مسلم
في روايته أحصى السبعة بمن ليس حضورهم شرطاً ، فسقط اعتبارها. قالوا : وأيضاً فان
العمل بظاهرها يقتضي أن نائبه عليهالسلام يقوم مقامه ، وهو خلاف اجماع المسلمين.
__________________
أقول : ظاهر أن
المراد منها بيان وجه الحكمة في الاحتياج الى السبعة ، كما ذكره غير واحد من
الاصحاب ، منهم الشهيد في الذكرى ، حيث قال في مقام الرد على المحقق : وأما احصاء
العدد بالسبعة ، فلبيان الحكمة في اعتبار الاستيطان في الجمعة ، لا لانه شرط في انعقادها.
وتوضيحه : ان الاجتماع مظنة التنازع ، وكل اجتماع فيه تنازع لا بد فيه من المدعي
والمدعى عليه ومن امام يرفع اليه ومن شاهدين على الحق ولو عرض للامام عذر ، فلا بد
من نائبه. ولو تعدى أحد المدعيين على الآخر واستوجب الحد أو التعزير ، فلا بد ممن
يضرب الحدود.
وثالثاً :
بأنها معارضة بالاخبار الدالة على عدم اعتبار الامام عليهالسلام ، كذا قال المستدل في الباب المذكور .
وأنت وكل من له
أدنى دربة بالرواية والدراية خبيران بأنه لا تعارض بينها ولا بين أضرابها مما يدل
صريحاً على اعتباره عليهالسلام أو نائبه خاصاً ، كما مر وسيأتي. وبين شيء من الاخبار
الواردة في الباب ، فانها كما ستطلع على نبذ آخر منها إن شاء الله تعالى مطلقات
عامات.
ولا تعارض بين
العام والخاص ، ولا بين المطلق والمقيد ، لامكان تخصيص الاول بالثاني ، وتقييد
الثالث بالرابع ، بل يجب ذلك بناءً على قواعدهم ، فان من المقررات عندهم أنه اذا
ورد عام وخاص متنافيا الظاهر يجب بناء العام على الخاص مطلقا ، كما سيأتي تفصيله.
والعجب كل
العجب من هؤلاء القوم كيف طعنوا على هذه الرواية بهذا الوجه ولم يتفطنوا بذلك ،
فان احتمال تفطنهم واغماضهم عنه بعيد غير مناسب بحالهم.
__________________
هذا مع أن
الرواية مؤيدة بأخبار أخر كما مر وسيأتي ، ومعتضدة بعمل الاصحاب ، ومشتهرة فيما
بينهم غاية الاشتهار ، فلا وجه لعدم العمل بها وطرحها.
وكيف يمكن
طرحها والقدح فيها؟ وقد صرح الشهيد في الذكرى بأنها مروية بعدة أسانيد ، وهو منه رحمهالله صريح في افاضتها.
هذا وتحقيق هذا
المقام ثم تنقيح هذا الكلام على هذا الوجه مما تفطنت وتفردت به بعون الله الملك
الجليل ، والله يهدي من يشاء الى سواء السبيل ، وهو حسبي ونعم الوكيل.
[
المناقشة في الاخبار الدالة على وجوب الصلاة عينا ]
قال قدسسره : الباب الثالث ، في الدليل على عينية وجوب الجمعة من
كلام أئمة الهدى من أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم أجمعين.
روى المحمدون
الثلاثة المكنون بأبي جعفر ، أعني : ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ، ورئيس
المحدثين محمد بن علي بن بابويه القمي ، وشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي رحمهمالله ، عن أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق عليهماالسلام أخباراً كثيرة معتبرة دالة على حتمية وجوب الجمعة بلا
اشتراط حضور امام أو اذن منه أو فقيه ولا تجويز ترك ، كما ادعاه القوم ، بعضها
صريح في ذلك ، وبعضها ظاهر.
منها : صحيحة
زرارة عن الباقر عليهالسلام قال : فرض الله على الناس من الجمعة الى الجمعة خمساً
وثلاثين صلاة ، منها صلاة واحدة فرضها الله في جماعة وهي الجمعة ، ووضعها عن تسعة
: عن الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والاعمى ومن كان
على رأس فرسخين .
__________________
ولا شبهة أن
غير الجمعة من الفرائض وجوبه عيني ، فلو حمل وجوب الجمعة على التخيير على بعض
الوجوه لزم تهافت الكلام ، واختلال حكم الفرائض بغير مائز ، كذا قال زين المحققين.
أقول : وأيضاً
لو كان وجوبها تخييرياً على بعض الوجوه لاستثنى ذلك الوجه ، كما استثنى
المملوك والمسافر وغيرهما ، فان استثناء هؤلاء انما هو من الوجوب العيني لا مطلق
الوجوب لوجوبها عليهم لو حضروا ، وانما لهم الخيرة في الحضور ، كما تقرر عندهم ،
فالوجوب التخييري ثابت لهم ، فلا وجه لاستثنائهم دون شركائهم. وأما تخصيص الوجوب
بزمان حضور الامام عليهالسلام ، فغير جائز.
أما أولا ،
فلانه خلاف الظاهر ، فيحتاج الى دليل ولا دليل يصلح لذلك ، فانك ستعلم أن الذين
خصوا بأي متمسك يتمسكون.
وأما ثانياً ،
فلانه ان أريد بزمان حضور الامام زمان ظهوره على وجه السلطنة والاستيلاء ، كما نقل
من جماعة منهم التصريح ، فيستلزم خروج أكثر الجمعات وأكثر الناس عن الحكم ، لان
أيام ظهور المعصوم عليهالسلام على وجه السلطنة والاستيلاء قليلة جداً بالنسبة الى
غيرها ، ويلزم منه خروج أكثر أفراد العام ، وهو غير جائز عند المحققين.
وهل يستقيم عند
الطبائع المستقيمة تجويز أن يكون المعصوم عليهالسلام في مقام بيان الحكم الشرعي وافادته ، ويبالغ في وجوب شيء
ويقول : انه واجب في كل أسبوع على كل مسلم الا جماعة خاصة ، ومع ذلك لا يثبت ذلك
الحكم لاحد من أهل عصره ولا لمعظم المسلمين ، بل انما ثبت لقليل مضوا في زمن النبي
صلىاللهعليهوآله وزمن خلافة أمير المؤمنين عليهالسلام ، وسوف يثبت لجماعة آخر في آخر الزمان عند ظهور القائم عليهالسلام ليس لا.
__________________
وان أريد بزمان
الحضور ما هو أعم من السلطنة والاستيلاء ، فلا وجه للتخصيص المذكور ، اذ لا فرق
بين حضوره مع الخوف وبين غيبته في عدم تمكنه من الصلاة بنفسه ، ولا بتعين النائب
الذي هو مناط الوجوب العيني عند من نفاه في زمن الغيبة .
أقول : وبالله
التوفيق ، فيه أولا أن هذا الخبر غير معمول به عند جماعة منهم من رويته عنه ، وهو
محمد بن بابويه ، حيث قال بعد نقله تتمة الخبر ، وهي قوله عليهالسلام : والقراءة فيها بالجهر ، والغسل فيها واجب ، وعلى
الامام فيها قنوتان قنوت في الركعة الاولى قبل الركوع ، وفي الركعة الثانية
بعد الركوع ، ومن صلاها وحده فعليه قنوت واحد في الركعة الاولى قبل الركوع.
وتفرد بهذه
الرواية حريز عن زرارة ، والذي استعمله وأفتي به ومضى عليه مشايخي رحمهمالله هو أن القنوت في جميع الصلوات في الجمعة وغيرها في
الركعة الثانية بعد القراءة وقبل الركوع. .
والعجب أن
المستدل قال في الباب الرابع من رسالته هذه : ان ذكر الصدوق هذه الرواية في كتابه
من لا يحضره الفقيه دليل صريح على أن مذهبه وما كان يفتي به ويعمل عليه انما هو
الوجوب العيني من دون شرط وتخيير .
وهذا كلام يضحك
الصبيان ويعجب المجانين ، فانه رحمهالله كما ترى صرح بأنه لا يعمل عليها ولا يفتي بها ، وكذلك
جميع مشايخه ، فكيف يمكن
__________________
جعلها دليلا صريحا على أن مذهبه الوجوب العيني. وأما توهم كونه عاملا بأولها وتاركاً لاخرها
فمردود ، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.
واعلم أنه رام
في الباب المذكور أن يدل على أن السلف كانوا قائلين بالوجوب العيني ، فذكر فيه ما
حاصله أنهم ردوا في كتبهم روايات في هذا المعنى ولم يقدحوا فيها ، مع أن بعضهم ذكر
في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه ويفتي به ويحكم بصحته ويعتقد فيه أنه حجة
بينه وبين ربه.
وأنت خبير بأنهم
كما رووا روايات في هذا المعنى من غير قدح فيها ، كذلك رووا روايات أخر في معنى
آخر من غير طعن عليها. مثل ما رواه الصدوق في الفقيه عن محمد بن مسلم وقد سبق ،
ومثل ما رواه في الامالي عن الصادق عليهالسلام وسيأتي ، فمجرد ذلك لا يمكن دعوى الظهور في أحد الطرفين
، الا أن يظهر منهم التصريح به.
وأيضاً فانهم
كثيرا ما يوردون في كتبهم الروايات المختلفة والاخبار المتعارضة والاحاديث
المتضادة مع ضعف طريق بعضها ، فكيف يحكمون بصحتها؟ وكيف يكون كل واحد منها حجة؟
وكيف يفتون به؟ فعلى ما ذكره المستدل يلزم أن يكونوا معتقدين بالمتناقضين عاملين
بالمتضادين ، فمعنى قولهم « انها حجة
__________________
عندهم » ان من شأنها أن يفتي بها ، وهو لا ينافي ترك الاقطار والعمل بها
لوجود معارض مساو أو أقوى ، كما هو شأن الادلة الظنية ، وهذه جملة معترضة ذكرت
بتقريب ما ذكر.
ولنرجع الى ما
كنا فيه فنقول : وثانياً أن المثبت في قوله عليهالسلام « فرض من الجمعة الى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة » مطلق
الوجوب الذي هو الطبيعة من حيث هي أعم من العيني والتخييري ، ففي بعضها يتحقق
الاول ، وفي بعض آخر الاخر ، وفي قوله « منها صلاة واحدة » الى قوله « وهي الجمعة
» الوجوب التخييري ، كما سنقول نظير ذلك في توجيه رواية زرارة الاتية ، فما هو
جوابكم عن هذا فهو جوابهم عن ذاك من غير فرق ، فاذن لا يلزم تهافت الكلام وتساقط ،
ولا يتوجه عليهم الالزام والشناعة.
على أن لهم أن
يقولوا : على تقدير التنزل والتسليم أن ما استدل به زين المحققين وأفاد ، فهو حق
وصدق وهو المعلوم ، الا أنه لا بد في وجوبها من حضور المعصوم عليهالسلام.
قولك وأما
تخصيص الوجوب بزمان حضوره ، فخلاف الظاهر ، فيحتاج الى دليل يصلح لذلك ، فلهم أن
يقولوا بل هو الظاهر ، وقد عرفت دليله ، وسيأتي له زيادة تأييد إن شاء الله تعالى.
ولذلك قال
المحقق في المعتبر : السلطان العادل أو نائبه شرط في وجوب الجمعة ، وهو قول
علمائنا ، ومعتمدنا فعل النبي صلىاللهعليهوآله فانه كان يعين لامامة الجمعة ، وكذا الخلفاء بعده ،
فكما لا يصح أن ينصب الانسان نفسه قاضياً من دون اذن الامام ، فكذا امامة الجمعة ،
وليس هذا قياساً بل استدلالا بالعمل المستمر في
__________________
الاعصار ، فمخالفته خرق الإجماع .
ثم أكده وأيده
برواية محمد بن مسلم وقد سبق ذكرها ، مع أن في كون الجمعة واجبة تخييرية بالنسبة
الى المريض الذي يتضرر بالحضور ، والشيخ الفاني الذي لا يستطيع الجلوس الا بمشقة
شديدة ، والمسافر اذا تكلفوا الحضور خلاف ، وأكثر الاصحاب على عدم وجوبها عليهم ،
وكذا القول في انعقادها بهم وكونهم من جملة العدد المعتبر.
وأما المرأة
ومن خرج عن التكليف ، أعني : الصغير والمجنون ، فلا خلاف بينهم في عدم وجوبها
عليهم وان حضروا. وأما العبد ، فانها لا تجب عليه اجماعاً كما تقرر والخنثى هاهنا
كالمرأة. والعرج اذا كان بحيث يشق معه الحضور كان مسقطاً للوجوب ، فلاستثنائهم دون
شركائهم وجه.
وثالثاً : أنا
نختار أول شقي الترديد ونقول : لا بعد فيه أصلا ، نظيره جهاد المشركين ابتداءً
لدعائهم الى الإسلام ، فانه قد ورد من الاوامر والتأكيدات والتحريصات في كلام الله
تعالى ، حيث أوجبه أقل مرة في كل عام مرة في قوله ( فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) أوجب بعد انسلاخها الجهاد وجعله شرطاً ، فيجب كلما وجد
الشرط.
وفي آية اخرى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ
لَكُمْ ) وفي اخرى ( فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) وفي أخرى ( وَقاتِلُوهُمْ حَتّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ) وفي
__________________
أخرى ( وَجاهِدُوا فِي اللهِ
حَقَّ جِهادِهِ ) وفي أخرى ( وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ) وفي أخرى ( وَما لَكُمْ لا
تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) وقوله ( فَلْيُقاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللهِ ) ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ ) الاية ( يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً ) ( يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ) وفي أخرى ( جاهِدِ الْكُفّارَ ) الى غير ذلك ، وهو أكثر من أن يحصى.
وكذا في كلام
رسول الله صلىاللهعليهوآله والائمة المعصومين عليهمالسلام حيث بالغوا فيه ما بالغوا ، ولا سيما أمير المؤمنين
صلوات الله عليه ، فان نهج البلاغة وغيرها مشحونة بذلك.
وكفى فيه قوله عليهالسلام : أما بعد فان الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله
لخاصة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجنته الوثيقة ، فمن تركه
رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل ، وشمله البلاء ، وديث بالصغار ، وضرب على قلبه
بالاسهاب ، وأديل الحف منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف ومنع النصف الخطبة .
ومع ذلك فهو
مشروط بحضور الامام العادل أو من نصبه للجهاد ، أو لما
__________________
هو الاعم. وأما الفقيه ، فلا يجوز له حال الغيبة اتفاقاً ، ومع ذلك لا يثبت
لاحد من أهل عصره ولا لمعظم المسلمين ، بل انما ثبت لقليل مضوا في زمن النبي صلىاللهعليهوآله وزمن خلافة أمير المؤمنين عليهالسلام ، وسوف يثبت بجماعة أخر في آخر الزمان عند ظهور القائم عليهالسلام ليس الا ، فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابهم عن ذاك حرفاً بحرف
وقذة بقذة.
والحل أن السبب
في الحرمان عن هذا النصيب الاعلى ، والمانع عن الفوز بهذا القدح المعلى ، سوء
منيعتنا ، وشناعة سيرتنا ، وقباحة سريرتنا ، ولذلك صرنا حائلين بيننا وبين صواحبنا
صلوات الله عليهم ، فلم يظهروا لنا على وجه السلطنة والاستيلاء ، فصرنا خائبين عن
أمثال هذه الآلاء ، فاذا رفعت الموانع من البين وطهرت الالسنة من المين ، وتخلصت
القلوب عن الشين ، واتصفت الظواهر بالزين ، يظهر من الفيوضات ما يملا الخافقين.
ورابعاً : أنا
نختار ثاني شقيه ونقول : الفرق ظاهر ، وهو أنه يمكن أن يعين عليهالسلام نائباً من قبله في بعض البقاع والاصقاع التي ليست
فريقته ولا خوف فيكون هو اماماً لصلاة الجمعة ، فيتحقق الشرط الذي هو مناط الوجوب
العيني عند من نفاه في زمن الغيبة ، وقد فعلوا عليهمالسلام أمثال ذلك كثيراً ، كما هو الموجود في كثير من
التوقيعات ، وخصوصاً في عهد صاحب الامر عليهالسلام في غيبته الصغرى التي كانت سفراؤه موجودين وأبوابه
معروفين.
فروي عن أبي
محمد الحسن بن أحمد المكتب أنه قال : كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي علي بن
محمد السمري ، فحضرته قبل وفاته بأيام ، فأخرج الى الناس توقيعاً نسخته :
__________________
بسم الله
الرحمن الرحيم ، يا علي بن محمد السمري أعظم الله أمر اخوانك فيك ، فانك ميت
فانبئك وهي ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا توص الى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد
وقعت الغيبة التامة ، فلا ظهور الا بعد اذن الله تعالى ذكره وذلك بعد طول الأمد
وقسوة القلب وامتلاء الارض جوراً ، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة ، ألا فمن
يدعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ، ولا حول ولا قوة الا
بالله العلي العظيم ، كذا في مجمع الرجال ناقلا عن ابن طاوس رحمهالله في ربيع الشيعة .
واعلم أنهم
اختلفوا في منتهى التخصيص ، فالاكثر على أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول
العام. وقيل : يجوز الى ثلاثة. وقيل : الى اثنين. وقيل : الى واحد. والمختار عند
المحققين أنه ان كان باستثناء ، أو بدل جاز الى واحد ، نحو عشرة الا تسعة ،
واشتريت العشرة أحدها والا ، فان كان بمتصل غيرهما كالصفة والشرط جاز الى اثنين ،
نحو أكرم الناس العلماء أو ان كانوا علماء. وان كان بمنفصل ، فان كان في غير محصور
أو عدد كثير ، فالمذهب الاول ، لانك لو قلت أكلت كل رمانة في البستان ولم تأكل الا
ثلاثة عدت لاغياً.
فنقول : حاصل
الخبر أنه تعالى فرض الجمعة على الناس الا على ذوي الاعذار منهم ، وهذا المخصص
يسمى بالاستثناء المتصل ، نحو أكرم الناس الا الجهال منهم ، وقد مر أنه جاز الى
واحد ، هذا اذا كان مراده بالعام لفظ الناس.
وأما اذا أراد
به الاوقات والجمعات ، فالتقدير كهذا : ان الله فرض الجمعة على الناس في كل أسبوع
ان كانت بشرائطها ، وهذا يسمى التخصيص بالشرط ، وقد مر أنه جاز الى اثنين.
__________________
وعلى التقديرين
يظهر فساد قوله وهو غير جائز عند المحققين ، مع أنه لو خص وجوبها بزمان حضور
الامام عليهالسلام لا يلزم منه خروج أكثر أفراد الناس ، بل لا يلزم منه
الا خروج ما استثناه في الحديث.
وانما قال ما
قال ، لانه اشتبه عليه عمومية العام في زمان معين بعموميته في جميع الازمنة ، وليس
الامر كذلك ، فانك اذا قلت أكلت كل رمانة في البستان فانما تريد كل رمانة موجودة
فيه في تلك السنة ، لا كل ما فيه فيها والتي ستوجد في السنوات.
فالناس يعم
الافراد الموجودة في عصره عليهالسلام ، بل الحاضرة في بلدة اقامته التي بينها وبين الموضع
الذي يصلى فيه الجمعة أقل من فرسخين ، اذ لا شبهة في أن وجوبها انما يتحقق بالنسبة
الى الذين تحققت لهم شرائطها ، وانما استثنى منه ما هو المذكور في الحديث ، وهو
أقل قليل ، فمن أين يلزم خروج أكثر أفراد العام ، وكذا الكلام في الجمعة.
على أن الظاهر
أن الناس هاهنا ليس بعام ، بل هو البعض الخارجي المطابق للمعهود الذهني ، وهم
الموجودون في عهده عليهالسلام لانهم الذين يجب عليهم في كل أسبوع خمس وثلاثون صلاة
منها الجمعة ، ولذلك ذهب المانعون من شرعيتها في هذا الزمان الى أن الاذن الموجود
في عصر الائمة عليهمالسلام على من سمع منهم ذلك الاذن وقالوا : وهو ليس حجة على من
يأتي من المكلفين.
ونظير ما قلناه
قولك أكلت الخبز وشربت الماء ، فانك تريد الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل
ويشرب وهو مقدار ما معلوم.
واذا كان كذلك
فليس بعام خصص ولا تعلق له بمسألة الخصوص والعموم أصلا ، انما هو معهود يتناول عدة
من المعينات قيد ببعض منها ، كالمطلق يقيد ببعض ما يوجد في ضمنه من غير صرف عن
ظهور وعموم ، وذلك يظهر بعد
التأمل ، فتأمل.
قال قدسسره : ومنها صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم ، عن الصادق عليهالسلام قال : ان الله تعالى فرض في كل سبعة أيام خمساً وثلاثين
صلاة منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدها الا خمسة : المريض ، والمملوك ،
والمسافر ، والمرأة ، والصبي .
وفي هذا الخبر
مع ما فيه من المبالغة والتأكيد والاتيان بلفظ الفرض الدال على تأكد الوجوب كالخبر
السابق التصريح بلفظ « كل » الذي هو أوضح الالفاظ في العموم في الموضعين مع
الاستثناء الموجب لزيادة التأكيد في العموم والشمول لسائر الازمنة ، كالصلوات
الاخر التي جمع بينها وبين الجمعة في الحكم .
أقول : الوجوب
الثبوت والسقوط اذا وجب المريض فلا يبكين باكية ، فاذا وجبت جنوبها فكلوا منها.
وفي الاصطلاح : خطاب لطلب فعل غير كف ينتهض تركه في جميع وقته سبباً للعقاب ، ومن
أسمائه الفرض ، وهما مترادفان عند الجمهور.
وقد يفرق
بينهما بأن الواجب هو ما يتعلق غرض الشارع بايقاعه لا من حيث شخص بعينه ، وتجوز
النيابة فيه اختياراً كالزكاة ونحوها ، والفرض ما يتعلق غرض الشارع بايقاعه عن شخص
بعينه ولا تجوز فيه النيابة ، كالصلاة والصوم.
والمنقول عن
المحقق الشيخ علي في بعض الحواشي في الفرق بينهما أن الواجب ما لا يسقط عن المكلف
أصلا ، مثل معرفة الله تعالى ، والفرض ما يسقط مع العذر كالصلاة وباقي العبادات.
فعلى صحة هذا النقل يكون الواجب آكد
__________________
من الفرض ، على عكس ما قاله المستدل.
وفي النهاية
الاثيرية : في حديث الزكاة « هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلىاللهعليهوآله على المسلمين » أي : أوجبها عليهم بأمر الله تعالى ،
وأصل الفرض القطع وقد فرضه يفرضه فرضاً وافترضه افتراضاً ، وهو والواجب سيان عند
الشافعي. والفرض آكد من الواجب عند أبي حنيفة. وقيل : الفرض هاهنا بمعنى التقدير ،
أي : قدر صدقة كل شيء وبينه عن أمر الله تعالى انتهى.
وبالجملة
الواجب يرادف اللازم والمحتوم والفرض خلافاً للحنفية ، فانهم خصوا الفرض بما يثبت
بدليل قطعي ، والواجب بما يثبت بدليل ظني ، قالوا : لان الفرض التقدير ، قال الله
تعالى ( فَنِصْفُ ما
فَرَضْتُمْ ) قدرتم ، والوجوب السقوط فخصصنا الفرض بما عرف وجوبه
بدليل قطعي ، لانه الذي علم منه تعالى أنه قدره علينا.
وأما الذي عرف
وجوبه بدليل ظني ، فانه الواجب الساقط علينا ولا نسميه فرضاً لعدم علمنا بأنه
تعالى قدره علينا.
وهذا كلام لا
يخفى ضعفه ، لان الفرض التقدير ، سواء كان طريق معرفته علماً أو ظناً ، كما أن
الساقط الواجب من غير اعتبار طريق ثبوته ، لكن لا مشاحة في الاصطلاح ، وآثر
المستدل مذهب الحنفية.
ويرد عليه مع
كونه مخالفاً لما ذهب اليه الجمهور أن اطلاق الفرض على الجمعة لعله من باب التغليب
، لان أدلة وجوب سائر الصلوات لما كانت قطعية وقد ذكرت هي معها أطلق عليها الفرض.
أو يقال : هي
أيضاً فريضة ، لكن اذا تحققت شرائطها ، مع أن الفرض وكذا الواجب كثيراً ما يطلق في
الاخبار على ما ينبغي أن يهتم الانسان ويلازمه ،
__________________
وهو المعنى بتأكد الاستحباب.
كما في رواية
الكرخي عن الصادق عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام قال قال الحسن ابن علي عليهماالسلام : في المائدة اثنتا عشر خصلة يجب على كل مسلم أن يعرفها
: أربع منها فرض ، وأربع منها سنة ، وأربع منها تأديب. فأما الفرض : فالمعرفة ،
والرضا ، والتسمية ، والشكر. وأما السنة : فالوضوء قبل الطعام ، والجلوس على
الجانب الايسر ، والاكل بثلاث أصابع ، ولعق الاصابع. وأما التأديب : فالاكل مما
يليك ، وتصغير اللقمة ، وتجويد المضغ ، وقلة النظر في وجوه الناس. كذا في الفقيه
في باب الاكل والشرب .
وظاهر أن معرفة
هذه الاشياء ليست بواجبة بالمعنى المصطلح المشهور المذكور ، وكذا التسمية والشكر
وغيرها ليست بفرض بهذا المعنى. فلعل المراد بهما في الاخبار الواردة في هذا الباب
هو هذا المعنى المذكور في هذا الخبر لا بد لنفيه من دليل.
ثم من المقررات
عندهم أن الاستثناء الواقع في الكلام الموجب انما تفيد العموم اذا استقام المعنى ،
بأن يكون الحكم مما يصح أن يثبت على العموم ، نحو كل حيوان يحرك فكه الاسفل عند
المضغ الا التمساح ، وهو هاهنا غير مستقيم ، وإلا لزم كونها واجبة في كل أسبوع على
كل مسلم الا جماعة خاصة ، تحقق شرطها من العدد والخطبة وغيرهما أم لم يتحقق.
فالمعنى أنها
واجبة ان تحقق شرائطها التي منها الامام أو من نصبه ، والتخصيص ان كان بالشرط جاز
الى اثنين ، فمن أين يلزم شموله لسائر الازمنة والاوقات كسائر الصلوات؟
وأما وجه الجمع
بينهما في الحكم ، فقد علم سابقاً ، وهو الفرق بين
__________________
الوجوبين في الموضعين ، فتذكر وتفكر ، مع أن لاحداهما شرائط ليست للاخرى ،
فليس حكمها في العموم وغيره حكمها ، وذلك كما ان الصلوات الاخر اذا لم يتحقق شرطها
بالنسبة الى بعض المكلفين يسقط وجوبها في حقه ، كالمسافر بالقياس الى الرباعيات
مثلا.
قال قدسسره : ومنها صحيحة زرارة ، قال قلت لابي جعفر عليهالسلام : على من تجب الجمعة؟ قال : على سبعة نفر من المسلمين ،
ولا جمعة لاقل من خمسة أحدهم الامام ، فاذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم
وخطبهم .
وهذا نص في عدم
اشتراط الاذن الذي ادعوه ، وان مرادهم بالامام في مثل هذا الموضع امام الصلاة لا
المعصوم. فان سموا مثل هذا اذناً من الامام واكتفوا به ، فهو ثابت الى يوم القيامة
لكل من يصلح لان يخطب ويأم.
والمنفي في
قوله « لا جمعة لاقل من خمسة » مطلق الوجوب ، والثابت مع السبعة الوجوب العيني ،
كما يرشد اليه اتيانه باللام المستعملة في الاستحباب والتخيير في الخمسة وبعلى
المستعملة في الوجوب والحتم في السبعة ، وبهذا يجمع بين الاخبار المختلفة في هذا
المعنى ظاهراً .
أقول : فيها
دلالة على وجوب كون الخطيب هو الامام ، لوجوب اتحاد فاعل الفعلين ، ويدل عليه
أيضاً ما روي عن علي عليهالسلام : لا كلام والامام يخطب ولا التفات الا كما يحل في
الصلاة ، وانما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين ، جعلتا مكان الركعتين
الاخيرتين ، فهما صلاة حتى ينزل الامام .
__________________
وقد عرفت أن
خطبة الجمعة من وظائف الامام عليهالسلام أو من يراه أهلا لذلك. وقد مر أيضاً في رواية محمد بن
مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام أنه قال : تجب الجمعة على سبعة نفر من المؤمنين ، ولا
تجب على أقل منهم : الامام ، وقاضيه ، والمدعي حق والمدعى عليه ، وشاهدان ، والذي
يضرب الحدود بين الامام. .
وهذا حديث مفصل
مصرح فيه بأن المراد بالامام هو المعصوم عليهالسلام ، ورواية زرارة مجملة ، حيث ذكر فيها السبعة ولم يفصلهم
، والحديث المجمل يحكم عليه المفصل ، وبظهر منه أن العدد المعتبر في انعقاد الجمعة
هو السبعة الموصوفة بالإيمان ، فالمراد بالمسلمين في رواية زرارة وغيرها هم
المؤمنون ، وهم الاخصون منهم ، فهي مخصوصة بها من هذه الجهة أيضاً.
وهذا أيضاً مما
يرجح العمل بها وتقديمها عليها مع ما فيها من التفصيل بعد الإجمال الدال على كونها
أفصح منها متناً وأوضح ، وهذا كله من المرجحات والمقويات عندهم.
ثم الذي جمع به
الاخبار ، فهو مأخوذ من كلام الشيخ في بعض فتاويه ، فأنه جمع بينهما بأن السبعة في
الوجوب العيني والخمسة في الوجوب التخييري بين الظهر والجمعة. وأما ما أفاد بقوله
« والمنفي مطلق الوجوب والثابت الوجوب العيني » فهو مأخوذ من كلام الشهيد في
الذكرى.
وقال مولانا
أحمد الاردبيلي في آيات أحكامه : أكثر الروايات الموجودة الآن في الكتب أصحاب
وأصرحها أن العدد المشترط في وجوبها هو الخمسة ، وهو قول أكثر الفقهاء المعروفين
الآن.
ثم قال وقال في
مجمع البيان : والعدد يتكامل عند أهل البيت عليهمالسلام بسبعة ، وهو في بعض الروايات وبعض الاقوال للشيخ ، مع
أنه يقول بالوجوب التخييري
__________________
بالجمعة والحتمي بالسبعة جمعاً للاخبار وهو أعلم انتهى كلامه
طاب منامه.
هذا وأما ما
جعله قدسسره مرشداً اليه ودليلا عليه من قوله باللام وبعلى ، فترده
حسنة زرارة كما تأتي ، فتأمل.
ثم أقول :
ويمكن أن يقال ان معنى الرواية الدالة على السبعة أن الجمعة انما تجب اذا حصل
الاجتماع لا أي اجتماع اتفق ، بل الاجتماع الذي يحتاج فيه الى حاكم وأقل مراتبه
حصول سبعة موصوفين بهذه الصفات التي ذكرها ، ولا يجب أن يكون هؤلاء السبعة مختلفين
بالذات ، بل يجوز الاختلاف بالاعتبار فيكون الذي يضرب الحدود مثلا أحد الشاهدين أو
المدعي أو المدعى عليه.
فاذن يصح تحقق
هذه الصفات السبعة في أقل من سبعة أفراد ، وقد نصت الرواية الاخرى على أن أقل من
الخمسة لا يجزيء ولم يذكر فيها ما ذكر في هذه ، فيذكر فيها ما ذكر فيها ، وحينئذ
فيحصل الجمع بهذا الطريق ، ويزول ما يتوهم من التنافي ، ولا يضر كون هذا المعنى
خلاف الظاهر ، لانه كثيراً ما يصار الى غير الظاهر اذا دل الدليل عليه وقد دل هنا
فلا ضير.
قال قدسسره : وفي حسنة زرارة عن الباقر عليهالسلام : لا تكون الخطبة والجمعة وصلاة ركعتين على أقل من خمسة
رهط : الامام وأربعة .
أقول : لا
دلالة فيها بزعمه على الوجوب العيني ، لكونه على اعتقاده مشروطاً بالسبعة كما مر ،
فذكره في الباب لا يفيد الا تطويل الكتاب ، بل لا دلالة فيها على الوجوب مطلقا الا
بطريق مفهوم المخالفة ، وهو دليل الخطاب ، وفي كونه دليلا خلاف كما مر ، مع ما
عرفت في الباب الثاني من وجوب تخصيص العام وتقييد اطلاق لفظ الامام ، وانصرافه الى
المعصوم عليهالسلام.
__________________
قال قدسسره : وفي موثقة أبي العباس ، عن الصادق عليهالسلام : أدنى ما يجزئ في الجمعة سبعة أو خمسة أدناه .
أقول : طريقة
الاستدلال بها على حقيقة مذهب من المذاهب الثلاثة المشهورة غير واضحة ، نعم يستفاد
منها أن أقل عدد تنعقد به الجمعة سبعة ، وهو الافضل بمعنى أكثر ثواباً ، أو خمسة
وهو المفضول. وأما أنها مستحبة أو واجبة وخصوصاً وعيناً ولا سيما في هذا الزمان ،
أو متى تجب وبأي شرط يتحقق غير هذا ، فلا دلالة لها عليه أصلا.
فلو جعل اللام
فيها للعهد ، فلكل ذي مذهب أن يجعل المعهود موافقاً لمذهبه ، ويحمله على ما يطابق
رأيه ، فذكرها في الباب كذكر سابقتها في الكتاب ، بل هي أولى بأن لا يدخل في
الحساب ، كما هو ظاهر على أولي الالباب.
وبالجملة من
الاخبار الواردة في الباب الذي يدل بصريحه على وجوب الجمعة وبقائه الى هذا الزمان
على ما فهم منه هؤلاء الاصحاب واعترفوا به حديثان ، وهما كما عرفت مجابان ومعارضان
بما مر مراراً فتذكر.
قال قدسسره : ومنها صحيحة منصور بن حازم ، عن الصادق ، قال : يجمع
القوم اذا كانوا خمسة فما زادوا ، وان كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم ، والجمعة
واجبة على كل أحد لا يعذر الناس فيها الا خمسة : المرأة ، والمملوك ، والمسافر ،
والمريض ، والصبي . قوله « يجمع » بتشديد الميم ، أي : يصلون الجمعة .
أقول : فيها
أولا أنها غير دالة على عينية وجوب الجمعة على ما ذهب اليه
__________________
المستدل واعترف به في مقام الجمع بين الاخبار.
وثانياً : أن
الحصر الواقع فيها غير مستقيم بظاهره بالاتفاق ، وهو ظاهر.
وثالثاً : أن
اللام في « القوم » للعهد ، وهم الذين تحققت لهم شرائطها ، بأن كان فيهم من يصح
معه التجمع ، فاذا كانوا خمسة فما زاد جمعوا ، لما مر من أن بأمثال هذه الاخبار
المطلقة العامة لا يمكن الاستدلال على وجوبها عيناً في هذا الزمان.
بل يجب تخصيصها
بمثل ما مر ، وبما في الصحيفة الكاملة من دعاء كان له عليهالسلام ليوم الجمعة والاضحى : اللهم ان هذا المقام لخلفائك
وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها.
فان هذا المقام
اشارة الى مقام صلاة الجمعة أو العيد ، يعني : هم المستحقون لذلك المقام ، وهم
المختصون بتلك الدرجة الرفيعة ، فاما يجعلونها لانفسهم كما في زمن حضورهم وشهادتهم
وأمنهم من الضرر ، أو يأذنون لمن يرونه أهلا لذلك ، كما في زمن تقيتهم وفي غير
بلدة حضورهم وشهادتهم.
ولا ريب أن تلك
الاخبار الاحاد ظنية المتون ، ظنية الدلالات على تقدير التسليم ، والصحيفة الكاملة
قطعية المتن اتفاقاً منا لتواترها ، حتى أنهم لقبوها بزبور آل محمد وانجيل أهل
البيت ، وتلك الفقرات قطعية الدلالات على المراد ، فهي مقدمة عليها ومخصصة لها ،
كما هو المقرر في الاصول ، وهو بنا حري أن نتلقاه بالقبول.
قال قدسسره : ومنها صحيحة عمر بن يزيد عنه عليهالسلام قال : اذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة ،
وليلبس البرد والعمامة ، وليتوكئوا على قوس أو عصى ، وليقعد قعدة بين الخطبتين ،
ويجهر بالقراءة ، ويقنت في الركعة الاولى
منها قبل الركوع .
أقول : الامر
فيها للندب ، كما هو الشائع في أخبار أئمتنا عليهمالسلام ، حتى ذهب جماعة من الاصحاب منهم الفاضل السبزواري في
مواضع من ذخيرة المعاد في شرحه على الارشاد الى أنه حقيقة فيه في أخبارهم عليهمالسلام ، ومجاز في الوجوب ويحتاج فيه الى القرينة ، ويدل على
ذلك أيضاً أن كثيراً من الاوامر المذكورة في هذا الخبر محمول عليه بالاتفاق.
ومع هذا نقول :
هذا بيان لما يجب أو يستحب أن يفعله الامام اذا كان صالحاً للامامة ، كما اذا كان
منصوباً من قبله للصلاة. وقال المستدل في حاشيته المتعلقة بهذا الموضع : لعل سكوته
عليهالسلام عن القنوت الثاني للتقية.
فكيف يستدل
بهذا الخبر الوارد على التقية على جواز الجمعة أو وجوبها ، ولا سيما على وجوبها
العيني ، على أن كونه وارداً على التقية محل تأمل ، اذ اعتبار السبعة في تكامل
العدد ليس مذهباً لاحد من المخالفين ، فان أبا حنيفة يكتفي في انعقادها اذا وقعت
في مصر جامع يقام فيه الحدود وتنفذ فيه الاحكام بالامام عادلا أو جائراً أو باذنه
، أو اذن من ولاه من قاض ، أو صاحب شرطة بثلاثة سوى الامام. والشافعي بأربعين رجلا
أحراراً بالغين مقيمين ، وأبا يوسف باثنين سوى الامام ، والحسن بواحد كسائر
الجماعات ، فليتأمل.
قال قدسسره : ومنها صحيحة عبد الملك ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : اذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات ،
فان كان لهم من يخطب جمعوا اذا كانوا خمسة نفر ، وانما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين
. وهذا أيضاً نص في عدم اشتراط حضور الامام أو اذنه الامثل هذا الاذن العام
الثابت
__________________
الى يوم القيامة .
أقول : فيها
أولا أنها لا تدل على وجوبها مطلقا فضلا على وجوبها عيناً ، بل غاية ما يفهم منها
أن فعلها جائز اذا اجتمع هذا العدد وتحقق هذا الشرط وهو وجود من يخطب.
نعم يمكن جعلها
دليلا على التخيير بانضمام مقدمة خارجية ، بأن يقال : دلالتها على جواز فعلها دليل
على استحبابها ، فان الجواز بمعنى الاباحة المحضة غير ثابت في العبادات ، لانها لا
تكون متساوية الطرفين ، بل لا بد فيها من الرجحان ، وهو معنى أفضل الفردين
الواجبين ، فليتأمل. والمستدل في صدد اثبات وجوبها العيني ، فذكرها في الباب خارج
عن وضع الكتاب.
وثانياً : ما
قد ظهر مما نقلناه عن العيون ان خطبة الجمعة من وظائف الامام المفترض الطاعة ،
العالم بجميع الامور المتعلقة بنظام أحوال الرعية في معاشهم ومعادهم وقد مر
مشروطاً. فاما أن يجعله لنفسه ، أو باذن لمن يراه أهلا لذلك.
فهذا الخبر
العام مخصوص به ، لانه اذا ورد عام وخاص متنافيا الظاهر ، فاما أن يعلم تاريخهما
أولا ، والاول اما مقترنان أولا ، والثاني : اما يتقدم العام أو الخاص ، فهذه
أقسام أربعة ، وفي الكل يجب بناء العام على الخاص ، كما هو المقرر عندهم ، فالمراد
بمن يخطب هو الامام عليهالسلام أو من يأذنه للخطبة ، مع أن اجتماع الخمسة غير مفيد
للوجوب العيني على ما هو رأي المستدل ، فذكره في هذا الباب غير مناسب من هذا الوجه
أيضاً.
قال قدسسره : ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهمالسلام قال : سألته عن أناس في قرية هل يصلون جماعة؟ قال : نعم
يصلون أربعاً اذا لم يكن لهم
__________________
من يخطب . وهذه مثل سابقتها في الدلالة .
أقول : وقد سبق
أيضاً ما فيه كفاية ، مع أنها لا تدل على المدعى الا بطريق مفهوم المخالفة ، وقد
عرفت ما فيه.
قال قدسسره : ومنها صحيحة زرارة قال قال أبو جعفر عليهالسلام : الجمعة واجبة على من ان صلى الغداة في أهله أدرك
الجمعة ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله انما كان يصلي العصر في وقت الظهر في سائر الايام كي اذ
قضوا الصلاة مع رسول الله صلىاللهعليهوآله يرجعوا الى رحالهم قبل الليل ، وذلك سنة الى يوم القيامة
.
أقول : هذا
بيان لاكثر المسافة ، وفيها دلالة على وجه الحكمة في وقوع صلاة عصر يوم الجمعة وقت
صلاة الظهر من سائر الايام. وقوله « ذلك » أي : وقوع صلاة العصر وقت الظهر في سائر
الايام سنة الى يوم القيامة ، حيث يكون الوقوع صحيحاً ، كما أن الجهاد مع المشركين
سنة الى يوم القيامة اذا تحققت شرائطه.
وشرح ذلك : أن
وقت الظهر أول الزوال وتأخيره في سائر الايام لمكان النافلة قبله ، وهي في يوم
الجمعة قبل الزوال ، فليخص الزوال للظهر ، ولما كان العصر بعد الظهر من دون أن
يتقدم عليه نافلة أيضاً ، فلا جرم يصير وقت الظهر في سائر الايام.
قال أبو جعفر عليهالسلام : وقت صلاة الجمعة في يوم الجمعة ساعة تزول الشمس ،
ووقتها في السفر والحضر واحد وهو من المضيق ، وصلاة العصر يوم الجمعة في
__________________
وقت الاولى في سائر الايام .
قال قدسسره : ومنها صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام قال : من ترك ثلاث جمع متواليات طبع الله على قلبه . وفي رواية
اخرى عنه : فان ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ، ولا يدع ثلاث
فرائض من غير علة الا منافق .
أقول : ما ذكر
المستدل صدر هذا الحديث الشريف ، ولعله لكونه منافياً لما هو بصدد اثباته ، وهو
مذكور في عقاب الاعمال لابن بابويه رحمهالله عليه ، قال عليهالسلام : صلاة الجمعة فريضة ، والاجتماع اليها فريضة مع الامام
، فان تركه رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض الحديث .
وهو كما ترى
صريح في وجوبها مع الامام عليهالسلام وقد دريت وجهها. ومع قطع النظر عن ذلك ، فقد عرفت وجه
ما في صحيحة أبي بصير ومحمد في صدر الباب الثاني في ذيل الاخبار النبوية ، فتذكر
وتفكر.
قال : ومنها
صحيحة زرارة قال : حثنا أبو عبد الله عليهالسلام على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه يريد أن نأتيه ، فقلت :
نغدو عليك ، فقال : لا انما عنيت عندكم .
أقول : لا
دلالة فيها على ما رامه المستدل من حتمية وجوبها بلا اشتراط حضور امام أو أذن منه
أو فقيه ولا تجويز ترك ، فان هذا اذن منه عليهالسلام لزرارة ورخصة له لفعلها ، وهو من أفقه فقهاء أصحابه عليهالسلام.
__________________
وأما ما قيل :
ان ظاهر هذا الخبر أنهم كانوا بحضرته عليهالسلام جماعة ولم يعين أحداً منهم للامامة ولا خصه بالامر
والحث. فمدفوع ، بأن الظاهر منه أن المخاطب بهذا الكلام انما كان زرارة ، لانه كان
من أجلاء أصحابه عليهالسلام وفقهائهم ، وهو الذي قال فيه عليهالسلام : لو لا زرارة لظننت أن أحاديث أبي ستذهب.
وانما أنى
بصيغة الجمع وأشرك غيره في الحث ، لانهم أيضاً كانوا محثوثين بفعلها بأن يأتموا به
، لان فعلها لا يتم الا جماعة ، يدل على ذلك قوله « فقلت نغدو عليك » وهذا مثل ما
اذا أراد واحد منا أن يحث جماعة على فعل ، فيحض واحداً منهم اذا كان له عنده قدر
ومرتبة بالخطاب ، فيقول : افعلوا كذا وكذا ، وانما يريد أن يكون المخاطب باعثهم
على ذلك واماماً لهم فيه ، ويكون غيره معيناً له عليه ومقتدياً به فيه ، وهذا أمر
بين متداول معروف في المحاورات والمتعارفات.
سلمنا ذلك لكن
أي مانع من كون كل واحد من المخاطبين صالحاً لان يكون نائباً من قبله عليهالسلام ، ومنصوباً لان يكون اماماً لصلاة الجمعة ، فانهم كانوا
صلحاء فقهاء فضلاء علماء حلماء أتقياء أصدقاء صواحب سره عليهالسلام ، لا بد لنفيه من دليل ، مع أنه يحتمل أن يكون معنى
قوله عليهالسلام « انما عنيت عندكم » أنه أنا آتيكم غداً ، لانه بمعنى
ما قصدت الا عندكم ، وهو كما يحتمل أن يكون المراد منه أنه عليهالسلام قد فوض فعلها اليه ، كذلك يحتمل أن يكون المراد منه أنه
عليهالسلام يباشره بنفسه النفيسة ، لكن عندهم لعلة باعثة على ذلك ،
وهو عليهالسلام أعلم بما هو الاصلح بحاله وحال رعيته وشيعته ، فيفعل
بهم ما يشاء ويأمرهم ما يريد.
على أنها
بظاهرها تدل على جواز تركها أحياناً ، فان الظاهر من قوله « حثنا حتى ظننت أنه
يريد أن نأتيه » أنهم يأتونه عليهالسلام لفعلها ولا يفعلونها فيما بينهم أيضاً ، فتدل على
التخيير.
الا أن يقال :
انه كان للتقية ، وهو خلاف الظاهر ، كيف لا؟ وحثه عليهالسلام اياهم على فعلها ينافي التقية ، لان الحث على ترك
الواجب وهو التقية وفعل الحرام وهو الجمعة على هذا التقدير حرام قبيح ينافي منصب
الامامة والعصمة ، والقول بأنه عليهالسلام حثهم عليه مهما أمكن خلاف الظاهر ، بل ليس له عين ولا
أثر في هذا الخبر.
وكيف يمكن
القول بالتقية في موثقة عبد الملك الاتية ، فانها لو كانت محمولة عليها لكان له أن
يقول في جواب عتابه عليهالسلام انما لم أصلها للتقية والخوف من المخالفين ، مع أن
التقية غير مناسب لقوله عليهالسلام في جوابه لما قال كيف أصنع؟ : صلوا جماعة ، وهو ظاهر.
وظاهر أن هذا
اذن صريح منه عليهالسلام لعبد الملك بخصوصه على فعلها اماماً ، حيث لم يكن له
شريك في هذا العتاب ، بقرينة قوله « مثلك يهلك » وانما أتى بخطاب الجمع تغليباً
للحاضر على الغائب ، وتصريحاً بأن فعلها انما يتم جماعة ، كما مر نظير ذلك في
توجيه رواية زرارة.
وأما القول
بأنه لا خلاف في وجوبها وقت حضوره عليهالسلام ، فمدفوع بأن ذلك انما يكون اذا كان على وجه السلطنة
والاستيلاء والا فلا.
وبالجملة
الظاهر من الخبرين الاذن أو التخيير على الاحتمالين عند
__________________
الانصاف. وأما ما حملوهما عليه جبراً ، فأنت خبير بأنه لا يخلو من الاعتساف
، فتأمل.
واعلم أن مما
هو كالنص في التخيير ما رواه الصدوق في أماليه باسناده عن الصادق عليهالسلام أنه قال : أحب للمؤمن أن لا يخرج من الدنيا حتى يتمتع
ولو مرة ، ويصلي الجمعة ولو مرة.
والعجب من
المستدل أنه نقله في آخر رسالته هذه ، ثم قال : ولا دلالة فيه على التخيير ، لانهم
كانوا في زمن التقية ولم يتيسر لهم المواظبة عليها ، فكانوا يغتنمون الفرصة في
ادراكها اذا تيسرت ، فالتخيير عارض .
وغفل أن المؤمن
مفرد محلى باللام ، فهو يفيد الاستغراق الحقيقي ، لكون المقام خطابياً على قياس
قوله عليهالسلام « المؤمن عز كريم والمنافق خب لئيم » فهو شامل بجميع
أفراد المؤمنين الموجودين في عهده عليهالسلام وغيرهم من الموجودين في سائر الازمنة ، فاذا خصصه
بالموجودين في عصره عليهالسلام فقد نقض بنيان كل ما بناه في هذه الابواب ، وصار كالتي
نقضت غزلها من بعد قوة.
وأيضاً فانه عليهالسلام نظم المتعة والجمعة في سلك واحد ، ولا شبهة في أن
استحباب المتعة ثابت لكل مؤمن يصلح لان يتمتع الى يوم القيامة ، فلو حمل استحباب
الجمعة على بعض الوجوه لزم تهافت الكلام واختلاف حكم السنن بغير مائز ، الى غير
ذلك مما قالوا نظيره سابقاً ، فما هو جوابهم عن هذا فهو جوابنا عن ذاك.
ثم لا يذهب
عليك أن هذا الخبر وأمثاله صريح في أن وجوبها العيني انما يتعين في زمان حضور
الامام عليهالسلام اذا كان على وجه السلطنة والاستيلاء ، كما ذهب اليه
جماعة من الاصحاب ، والحق معهم لما دريت في الابواب ، فتذكر وتأمل.
قال : ومنها
موثقة عبد الملك عن الباقر عليهالسلام قال : مثلك يهلك ولم يصل فريضة
__________________
فرضها الله ، قال قلت : كيف أصنع؟ قال : صلوا جماعة ، يعني صلاة الجمعة .
أقول : هذه مثل
سابقتها في الدلالة وقد عرفتها ، والاولى تركهما وترك نظائرهما في هذا الباب ، فان
في ذكرها ليس الا تطويل الكتاب.
قال : ومنها
حسنة محمد بن مسلم عن الصادق عليهالسلام قال : تجب الجمعة على من كان على رأس فرسخين ، فان زاد
على ذلك فليس عليه شيء .
أقول : هذا
تعيين منه عليهالسلام لاكثر المسافة التي تجب معها الجمعة ، وأما أنها متى
تجب وبأي شرط تحقق من العدد والخطبة والنيابة خاصاً أو عاماً أو غيرهما فلا دلالة
لها عليه أصلا ، وهذا مثل أن يقول : يجب الجهاد على من كان قادراً عليه فان لم يكن
قادراً على ذلك فليس عليه شيء.
قال : ومنها
حسنته عنه عليهالسلام أيضاً قال : اذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال فلا بأس
أن يجمع هؤلاء ويجمع هؤلاء وفي رواية : بين القريتين.
أقول : بناؤها
على تعدد الثواب للامام عليهالسلام في بلدة واحدة أو بلدتين ، ويتصور ذلك أيضاً بالامام عليهالسلام ونائبه.
قال : ومنها
حسنة الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عمن لم يدرك الخطبة يوم الجمعة ، قال : يصلي ركعتين ،
فان فاتته الصلاة فلم يدركها فليصل أربعاً وقال : اذا أدركت الامام قبل أن يركع
الركعة الاخيرة فقد أدركت الصلاة ، فان أنت أدركته بعد ما ركع فهي الظهر أربع .
أقول : فيها
دلالة على ادراك الجمعة بادراك الركعة الاخيرة ، وعلى كونها
__________________
أفضل الواجبين ظاهراً ، وعلى أنها الاصل ، لامره عليهالسلام بالظهر على تقدير فواتها الا أن يقال : هذا فيما اذا
كانت واجبة عينية ، كما في صورة حضوره عليهالسلام أو من منصبه للصلاة.
قال : ومنها
غير ذلك من الاخبار المستفيضة بل المتواترة معنى ، فانها كثيرة جداً ، وفيما ذكرنا
من المعتبرة كفاية لمن تدبرها إن شاء الله تعالى .
أقول : هذه
ونظائرها مما تركنا التعرض لها قد علم حكمها إن شاء الله تعالى مما أسلفنا ملخصاً
، وقد ظهر منه أن القول بوجوبها العيني في هذا الزمان غير ثابت ، بل الامر بين
التخيير والحرمة ، فان قاطبة المتأخرين من زمان الشيخ الطوسي الى زمان الشيخ زين
الدين نفوا عنها الوجوب العيني وصرحوا فيها بالتخيير ، وادعوا فيه الإجماع ،
وأيدوه ببعض الروايات السالفة.
وأما القدماء
منهم ، فبين تخيير وتحريم ، فمنهم من صرح بالحرمة كسلار وابن إدريس والسيد المرتضى
، كما صرح به الشهيد في الذكرى ، حيث قال : وبالغ بعضهم فنفى الشرعية أصلا ورأساً
، وهو ظاهر كلام المرتضى ، وصريح سلار وابن إدريس ، وهو القول الثاني من القولين ،
بناءً على أن اذن الامام شرط في الصحة ، وهو مفقود ، ويحملون الاذن الموجود في عصر
الائمة عليهمالسلام على من سمع ذلك الاذن ، وليس حجة على من يأتي من
المكلفين.
ثم قال : وهذا
القول متوجه ، والا لزم الوجوب العيني ، وأصحاب القول الاول ـ يعني بهم القائلين
بالتخيير ـ لا يقولون به انتهى.
وأما ما أجاب
به المستدل عن هذا الدليل في الباب السادس من رسالته هذه بقوله : نمنع انتفاء
الوجوب العيني ، فان الادلة قامت عليه ، وعبارات الاصحاب
__________________
دلت عليه ، ولو سلم فالدلائل المذكورة انما دلت على الوجوب في الجملة ،
أعني : الوجوب الكلي المحتمل للعيني والتخييري ، فاذا انتفى الاول لعدم القائل به
على زعمكم بقي الآخر .
ففيه أن الادلة
لم تقم عليه ، والعبارات لم تدل عليه كما عرفت ، ومنه يظهر أن دلالتها على الوجوب
الكلي الشامل للعيني غير ثابت.
وعلى تقدير
دلالتها عليه نقول : لما كان تحقق تلك الطبيعة الكلية في الخارج في ضمن أي فرد من
فرديها مشروطاً بالشرط ، فاذا لم يتحقق لم تتحقق. فبعد تسليم الشرط وتوقف تحقق
الطبيعة عليه مع انتفائه لا يتصور القول بتحققها ، والا يلزم تحقق الموقوف من غير
تحقق الموقوف عليه ، وهو غير معقول ، والمجيب لم يمعن النظر في الدليل ، وهو متين.
وحاصله : أن
اذن الامام لما كان شرطاً لصحتها ، فالحال لا يخلو من أن يكون متحققاً في هذا
الزمان أولا ، فعلى الاول يلزم القول بالوجوب العيني وهم لا يقولون به. وعلى
الثاني لا تقع صحيحة ، لانتفاء الشرط وهو ظاهر.
اللهم الا أن
يقولوا بعدم اشتراط الاذن مطلقا ، أو يخصوه بزمان حضوره عليهالسلام ، أو يقولوا : ان الاذن الحاصل عنهم عليهمالسلام في الاخبار السابقة يجري مجراه ، أو أن الفقيه منصوب من
قبلهم عليهمالسلام فهو نائب على العموم ، ومع ذلك كله يتوجه عليهم الإلزام
وهو القول بوجوبها العيني في هذا الزمان مع عدم قولهم به ، مستنداً فيه الى
الإجماع والاخبار كما دريت.
فظهر منه أن
احتجاج ابن إدريس بهذه الحجة على اشتراط الامام أو نائبه على الخصوص في صحتها في
غاية القوة والمتانة ، وليس في غاية الضعف والوهانة كما يتوهم في بادي النظر ، لان
كلامه مع القوم وهو متوجه عليهم.
وأما القول بأن
الاذن شرط في الوجوب العيني دون التخييري ، والاعتماد
__________________
في ذلك على أصالة الجواز وعدم دليل مانع ، فلا يعبأ به ولا يقابله ، لان
التعبد بالشيء توقيفي ، فلا يكفي عدم دليل المنع ، بل لا بد من المجوز ، ولذلك
قال المرتضى : الاحوط أن لا يصلي الجمعة الا باذن السلطان وامام الزمان.
مع أن دليل
المنع ثابت ، كقوله عليهالسلام « لا جمعة الا في مصر يقام فيه الحدود » وقد عرفت
دلالته. وقوله عليهالسلام « اللهم ان هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك
في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزوها » وقد دريت دلالته أيضاً.
فالجواب بأن
التوقيف عليها بخصوصها متحقق في الكتاب والسنة ، وانما وقع الاشتباه في بقاء
شرعيتها الى الان ، فأصالة الجواز نافعة ، غير نافع.
وبالجملة
فدليلهم هذا على نفي شرعيتها لا يخلو من قوة ، مع أن هؤلاء القائلين بوجوبها
العيني بأسرهم متفقون على أن السلف كانوا تاركين لها برهة من الزمان مع وجود
الفقيه الجامع للشرائط فيهم ، لكنهم يعللونه بالتقية وعدم امكان الاجتماع عليه ،
وهذا مجرد دعوى ، بل انما تركوها مع وجوده فيهم ، لانه لما لم يكن بخصوصه منصوباً
من قبلهم عليهمالسلام ، لم يكن صالحاً لامامتها. فبعد الاتفاق على تركهم معه
التعلل بالتقية لا يجدي نفعاً.
والحاصل أن
الترك اتفاقي والتقية احتمال ، وعدم كفاية الفقيه احتمال آخر ، ولا ترجيح لاحدهما
على الاخر ، فمن ادعاه فعليه الدليل.
هذا ومنهم من
كلامه مبهم مجمل ذو وجهين ، وليس فيه التصريح بوجوبها العيني من غير اشتراط. نعم
فهم الشيخ زين الدين من بعض كلماتهم واشاراتهم الوجوب العيني ، وأول بعضاً آخر الى
ما يطابق فهمه ، فهو أول من قال بوجوبها العيني صريحاً في هذا الزمان ، ومنه سرى
الوهم الى بعض من تأخر عنه الى الان والا فما كان هذا القول شائعاً فيما بين من
تقدمه.
ولذلك قال
الشهيد في عبارته السابقة : وهو القول الثاني من القولين ، مع أنه كان أولا على
منهاج من تقدمه ، ثم عدل عنها لما عرض له من الشك ، ولذلك قال في شرحه على اللمعة
: ولو لا دعواهم الإجماع على عدم الوجوب العيني لكان القول به في غاية القوة ولا
أقل من التخييري مع رجحان الجمعة.
وبالجملة ليس
اجتهاده هذا حجة شرعية ، مع ما عرفت من حال الاخبار ، ولذلك عدل جم غفير وجمع كثير
ممن تأخر عنه عن قوله هذا ، فمال بعضهم الى الحرمة ، وبعضهم الى التخيير ،
وبقي بعض آخر متردداً في تيه الحيرة مذبذباً بين ذلك لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء.
فهذا سيدنا
الفاضل الداماد يقول في جواب من استفتاه في أمر صلاة الجمعة : فاعلمن أن ما اليه
يؤول قويم السبيل ، وعليه تدور رحى التعويل ، هو أن فريضة الجمعة في زمننا هذا ،
وهو زمان غيبة مولانا الامام القائم بالامر الحاكم بالقسط عليهالسلام أفضل الواجبين على التخيير مع وجود من له النيابة
العامة ، وهو المجتهد ، أعني : الفقيه المأمون المستجمع لعلوم الاجتهاد وشرائط
الافتاء ، فالسلطان العادل هو الامام المعصوم ، أو من يكون منصوباً من قبله صلوات
الله عليه على الخصوص ومن له استحقاق أن ينوي عنه عليهالسلام على العموم من شروط انعقاد الجمع والاعياد ، ومع فقد
ذلك كله لا جمعة رأساً ولا عيد على الوجوب أصلا.
على أن من
تقدمه كان أكثر منه علماً وأثقب منه فهماً ، وأدق منه طبعاً ، وأشد منه اطلاعاً
على أحوال السلف والائمة الماضين ، فلو كان بناء الامر على التقليد ، فهؤلاء أولى
به منه ، أولئك آبائي فجئني بمثلهم اذا جمعتنا يا جرير
__________________
المجامع.
فالاحوط تركها الى
زمان ظهور صاحبنا وصاحب العصر والزمان عليه وعلى آبائه المعصومين صلوات الله الملك
المنان ، اللهم عجل فرجه ، وسهل مخرجه ، واجعلنا من الذين يدخلون تحت سرادقات
دولته ، وينخرطون في سلك أحبته ، ويقاتلون فيه فيقتلون ويقتلون لاعلاء كلمته ،
بمحمد سيد الابرار وسند الاخيار وآله وعترته.
ومن هنا قبض
عنان القلم حامداً لله وشاكراً على النعم ، ومسلماً ومصلياً على رسوله المكرم
المعظم ، وعلى آله وذريته الذين هم بعده أعلم.
وجاء في آخر
النسخة : حسب الفرموده عالى جناب مقدس القاب فضائل ومطوف اكتساب علامى فهامى الفاضل الكامل ذي الشرف الانور ظهير المذهب المرتضوية مزين المحراب والمنبر سيدنا ومولانا مير محمد صادق حفظه الله تعالى ودام ظله على رءوس الانام امام وواعظ مسجد جديد
عباسي در سحور شب شنبه بيست وششم شهر شوال المكرم قلم شد ، وأنا الخاطي الفقير الحقير المسكين ابن محمد تقي محمد رفيع من شهور سنة ١٢٢٥ هـ ق.
وتم استنساخ
وتصحيح هذه الرسالة في (٤) جمادي الاول سنة (١٤١١) هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد
العبد السيد مهدي الرجائي عفي عنه.
__________________
فهرس الكتاب
تذكرة
الوداد................................................................... ٧
سبب
تأليفات الرسالة......................................................... ٩
معنى
القنوت لغة............................................................. ١١
الاخبار
الدالة على استحباب رفع اليدين في القنوت............................. ١٢
غاية
ما تدل عليه هذه الاخبار المذكورة........................................ ١٦
الاخبار
الدالة على استحباب رفع اليدين حال التكبير............................ ١٨
مستند
الأصحاب في استحباب رفع اليدين في القنوت............................ ٢٥
رسالة في شرح حديث
الطلاق بيد من أخذ بالساق.............................. ٢٧
معنى
الطلاق لغة واصطلاحا.................................................. ٢٩
العقود
التي لا تقع بها طلاق................................................... ٣٠
رسالة في حرمة النظر
إلى وجه الأجنبية.......................................... ٣٣
الاخبار
الدالة على حرمة النظر................................................ ٣٥
ما
يستفاد من أخبار النظر.................................................... ٣٩
تفسير
آية غض البصر عن النظر إلى النساء..................................... ٤٠
الدليل
العقلي على حرمة النظر................................................ ٤٥
ما
استثني من حرمة النظر..................................................... ٤٧
جواز
النظر عند التزويج والعلاج الضروري.................................... ٤٩
الاخبار
الدالة على عدم النظر في أدبار النساء................................... ٥٠
المناقشة
في الاخبار الدالة على جواز النظر...................................... ٥٢
حكم
تعارض الاخبار........................................................ ٥٤
علة
رواية الإمام الباقر عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري................ ٦٠
حكم
نظر المملوك والخصي إلى المرأة........................................... ٦١
حكم
الخنثى المشكل......................................................... ٦٥
رسالة خمسية.................................................................. ٦٧
الأقوال في مسألة
الخمس...................................................... ٦٩
تعريف
الخمس.............................................................. ٧٢
ابن
البنت ابن حقيقة واستحقاقه الخمس........................................ ٧٥
احتجاج
السيد على ذلك..................................................... ٧٧
اثبات
وجوب الخمس في هذا الزمان........................................... ٨٢
توثيق
الريان بن الصلت...................................................... ٨٨
التوفيق
بين أخبار المسألة..................................................... ٩٠
ما
يستفاد من مكاتبة علي بن مهزيار في وجوب الخمس.......................... ٩٣
توثيق
الحسن بن راشد البغدادي............................................... ٩٩
ضعف
القول بسقوط الخمس مطلقا.......................................... ١٠٦
ضعف
القول بالوصية بالخمس ودفنه......................................... ١١٤
تعيين
من له الولاية لتفريق ما يخصه عليه السلام في المحاويج..................... ١١٦
جواز
تفريق الخمس على المحتاجين........................................... ١٢٢
رسالة في أقل المدة
بين العمرتين............................................... ١٢٣
سبب
تأليف الرسالة....................................................... ١٢٥
الاخبار
الواردة في أقل المدة بين العمرتين..................................... ١٢٧
التوفيق
بين أخبار المسألة.................................................... ١٢٩
الجمع
بين الاخبار الواردة في أقل المدة بين العمرتين............................ ١٣٠
الأقوال
في أقل المدة بين العمرتين............................................ ١٣٣
حول
الرواية الدالة على التوالي بين العمرتين.................................. ١٣٦
تأييد
القول بالتوالي بين العمرتين............................................. ١٤١
مبدء
الشهر الفاصل بين العمرتين............................................ ١٤٢
تحقيق
حول كلام صاحب مجمع الفائدة....................................... ١٤٤
رسالة في الرضاع............................................................ ١٥٥
سبب
تأليف الرسالة....................................................... ١٥٧
تحقيق
حول ما يتحقق به الرضاع المحرم....................................... ١٦٠
ما
ينشر الحرمة من الرضاع................................................. ١٦٥
الاستدلال
بالخبر على المدعي................................................ ١٦٦
تحقيق
حول قوله عليه السلا كل ما يحرم من النسب فإنه يحرم من الرضاع........ ١٧١
تحكيم
المرام من الخبر والأثر................................................. ١٧٢
نقل
كلام لتقرير مرام...................................................... ١٧٧
المناقشة
في أدلة المتنازع..................................................... ١٨٥
مذهب
الشيخ في المسألة.................................................... ١٩٣
الاخبار
الدالة على نشر الحرمة.............................................. ١٩٦
تزييف
كلام المخالف...................................................... ٢٠٧
المناقشة
في أدلة المتنازع..................................................... ٢٠٩
رسالة في التعويل
على أذان الغير في دخول الوقت.............................. ٢١٥
الاخبار
الدالة على جواز الاعتماد على المؤذنين في دخول الوقت................ ٢١٨
تحقيق
حول حديث صيحة الديوك في دخول الوقت............................ ٢٢٠
معرفة
دخول الوقت........................................................ ٢٢٥
رسالة في حكم
الاستيجار للحج من غير بلد الميت............................. ٢٢٧
تحقيق
حول حديث المسألة.................................................. ٢٢٩
الاستدلال
على المسألة..................................................... ٢٣١
رسالة في حكم
الاسراج عند الميت إن مات ليلا................................ ٢٣٣
تحقيق
حول كلام صاحب المدارك في المسألة.................................. ٢٣٥
مسافرة
المؤلف إلى العتبات العاليات.......................................... ٢٣٦
رسالة في شرح حديث
توضؤوا مما غيرت النار................................. ٢٣٩
تحقيق
حول الحديث المذكور................................................ ٢٤١
المناقشة
في كلام السيد حول الحديث المذكور................................. ٢٤٢
ما
يستفاد من الاخبار الواردة حول المسألة.................................... ٢٤٥
رسالة في حكم الغسل
في الأرض الباردة ومع الماء الباردة....................... ٢٤٩
تحقيق
حول حديث المسألة.................................................. ٢٥١
المناقشة
في روايات المسألة................................................... ٢٥٣
رسالة في أفضلية
التسبيح على القراءة في الركعتين الأخيرتين.................... ٢٥٥
سبب
تأليف الرسالة....................................................... ٢٥٧
أقوال
المسألة.............................................................. ٢٦٠
ما
يدل من الاخبار على رجحان التسبيح..................................... ٢٦٤
ما
يجزئ من التسبيح في الركعتين الأخيرتين................................... ٢٦٦
رسالة في تحقيق وجوب
غسل مس الميت....................................... ٢٦٩
تحقيق
حول كلام صاحب المدارك في المسألة.................................. ٢٧١
الاخبار
الدالة على وجوب الغسل............................................ ٢٧٣
رسالة في حكم شراء
ما يعتبر فيه التذكية...................................... ٢٧٩
تحقيق
حول حديث المسألة.................................................. ٢٨١
عدم
وجوب البحث والفحص عن أحوال الجلود عند شرائها.................... ٢٨٤
أصالة
التذكية والطهارة..................................................... ٢٨٥
رسالة في حكم لبس
الحرير للرجال في الصلاة وغيرها.......................... ٢٨٩
التوفيق
بين أخبار المسألة.................................................... ٢٩٥
المناقشة
في أدلة المتنازع..................................................... ٢٩٧
الكلام
حول المكاتبة في المسألة............................................... ٣٠١
اثبات
كراهة لبس الحرير للرجال............................................ ٣٠٣
الاستدلال
على المسألة والمدعى.............................................. ٣٠٥
كلام
الأصحاب في المسألة.................................................. ٣٠٩
تزييف
كلام المخالف...................................................... ٣١١
خاتمة
الرسالة وملخص الكلام............................................... ٣١٦
رسالة في حكم الغسل
قبل الاستبراء.......................................... ٣١٩
تنقيح
المسألة.............................................................. ٣٢١
الاخبار
الدالة على إعادة الغسل............................................. ٣٢٣
الاخبار
الدالة على عدم وجوب الإعادة...................................... ٣٣٠
التوفيق
بين الاخبار المتعارضة................................................ ٣٣٧
كلام
بعض الاعلام في المسألة............................................... ٣٣٩
تحقيق
كلام صاحب مجمع الفائدة في المسألة................................... ٣٤١
تضعيف
ابن عيسى الأشعري................................................ ٣٤٥
الفصول الأربعة في
عدم سقوط دعوى المدعى بيمين المنكر...................... ٣٥١
الاخبار
الدالة على بطلان حق المدعي بتحليف المنكر........................... ٣٥٤
حول
أحمد بن محمد البرقي.................................................. ٣٥٦
تحقيق
حول خبر ابن أبي يعفور............................................... ٣٦٤
التحقيق
في أخبار المسألة سندا ومتينا......................................... ٣٧١
تحقيق
حال أبي بكر الحضرمي............................................... ٣٧٢
تحقيق
حول المسألة......................................................... ٣٨٢
توثيق
أبي العباس البقباق.................................................... ٣٩٠
المناقشة
في كلام الأصحاب في المسألة........................................ ٣٩٢
التوفيق
بين أخبار المسألة.................................................... ٤٠١
رسالة في وجوب
الزكاة بعد اخراج المؤونة.................................... ٤٠٥
الاستدلال
على وجوب الزكاة بعد اخراج المؤونة.............................. ٤٠٧
كلام
القدماء في المسألة..................................................... ٤١٣
حال
كتاب فقه الرضا عليه السلام........................................... ٤١٤
كلام
الشيخ في المسألة...................................................... ٤٣٠
المراد
من اجماعات الشيخ في الخلاف......................................... ٤٣٣
تنقيح
المسألة.............................................................. ٤٣٧
اعتبار
النصاب بعد اخراج المؤن............................................. ٤٤٠
معنى
المؤونة لغة واصطلاحا.................................................. ٤٤٢
الاخبار
الدالة على الاستثناء................................................. ٤٤٩
كلام
الأصحاب في المسألة.................................................. ٤٥١
ما
يجب من الغلات فيه العشر............................................... ٤٥٣
رسالة في صلاة
الجمعة....................................................... ٤٥٧
سبب
تأليف الرسالة....................................................... ٤٥٩
حصر
الأدلة............................................................... ٤٦١
المناقشة
في الآيات الدالة على وجوب صلاة الجمعة عينا........................ ٤٦٥
حول
الآية الشريفة في سورة الجمعة.......................................... ٤٦٧
عدم
جواز تفسير القرآن بالرأي............................................. ٤٧١
ما
ورد في فضل يوم الجمعة................................................. ٤٧٣
حول
الآية الشريفة في سورة المنافقين......................................... ٤٧٧
المراد
من الذكر في الآية الشريفة............................................. ٤٧٩
المراد
من الصلاة الوسطى في الآية والروايات.................................. ٤٨٢
وهن
الاستدلال المخالف.................................................... ٤٨٧
المناقشة
في الروايات النبوية الدالة على وجوب صلاة الجمعة عينا................ ٤٨٨
ما
يشترط في إقامة الجمعة.................................................. ٤٩٣
بطلان
التمسك بالاستصحاب على الوجوب.................................. ٤٩٦
الخطابات
الواردة على لسان الشارع......................................... ٤٩٩
المناقشة
في الرواية العامية.................................................... ٥٠١
تحقيق
حول حال حكم بن مسكين الأعمى................................... ٥٠٦
المناقشة
في الاخبار الدالة على وجوب صلاة الجمعة عينا........................ ٥١٣
العدد
المعتبر في صلاة الجمعة................................................. ٥٢١
تسريد
اخبار المسألة والمناقشة فيها........................................... ٥٢٨
فهرس
الكتاب............................................................. ٥٤٥
|