Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUETefl-Waratha-Tarbia-part01imagesimage001.gif


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUETefl-Waratha-Tarbia-part01imagesrafed.png


Description: E:BOOKSBook-LibraryENDQUEUETefl-Waratha-Tarbia-part01imagesimage002.gif



كلمة المترجم

بسم الله الرحمن الرحيم

الطفل هو اللبنة الأولى في المجتمع . . . إن أَحسَنَ وضعُها بشكل سليم ، كان البناء العام مستقيماً مهما ارتفع وتعاظم ...

الطفل هو نواة الجيل الصاعد ، التي تتفرع منها أغصانه وفروعه ...

الطفل هو الرافد الذي يمدّ بركة المجتمع بالرصيد الاحتياطي دائماً .

وكما أن البناء يحتاج إلى هندسة وموازنة !

وكما أن النواة تفتقر إلى التربة والظروف المناسبة !

وكما أن الرافد يعوزه إصلاح وتنظيف مجارٍ !

كذلك الطفل فإنه يحتاج إلى هندسة وموازنة بين ميوله وطاقاته ، ويفتقر إلى تربة صالحة ينشأ فيها وتصقل مواهبه ، ويعوزه تنظيف لموارد الثقافة التي يتلقّاها ، والحضارة التي يتطبع عليها ، والتربية التي ينشأ عليها !!! .

إنه عالم قائم بنفسه . . . يحمل كل سمات الحياة بصورة مصغرة ، في صخبها وأمنها ، في سعادتها وشقائها ، في ذكائها وبلادتها ، في صفائها وحقدها ، في تفوقها وتأخرها ، في إيمانها وجحودها ، في حربها وسلمها ...

*  *  *


وهذا ما أشغل العلماء والباحثين ، فراحوا يعدّون البحوث ، ويلقون المحاضرات ، ويؤلفون الكتب ، ويوردون النظريات في مسألة ( تربية الطفل ) .

ونشأ من بينهم عدّة ترى أن سلوك الطفل مرتبط بالعوامل الوراثية التي يحملها بين جوانحه وفي ( كروموسوماته ) ...

ورأى عكس ذلك آخرون ، فأرجعوا كلّ أنماط السلوك الفردي والإِجتماعي إلى البيئة والمحيط ، والتربية والتنشئة . وأنكروا كلّ أثر إلى الوراثة يُنسب . . . حتى ادعى العالم النفساني الأمريكي (واتسون) دعواه التي لم يسندها بدليل حيث قال :

 « أعطني اثني عشر طفلاً ، وهيىء لي الظروف المناسبة ، أجعل ممّن أُريد منهم طبيباً حاذقاً ، أو أستاذاً قديراً ، أو مهندساً بارعاً ، أو رساماً . . . وحتى لو شئت لصاً أو شحاذاً . . . » .

وبلغ الخصام بين هاتين المدرستين في علم النفس والتربية إلى أنك ما تكاد تفتح كتاباً يتناول موضوع التربية إلا وجدته إلى إحدى المدرستين يميل ، وعن أحد الرأيين يدافع ، مفنّداً الرأي الآخر .

ولعلّك تسأل : أي الرأيين أصح ؟ وأي العاملين في سلوك الطفل أهم : الوراثة أم التربية ؟ ! .

فبدلاً من أن أجيبك على سؤالك هذا ، أسأل بدوري أيضاً :

أيهما أهم للسيّارة : المحرك ، أم الوقود ؟ ! .

* * *

تلك مسألة التربية ...

والأصح . . . مشكلة التربية ! ! .

فما هو رأي الاسلام فيها ؟ وكم هي درجة خطورة الموقف في النظام الإِسلامي الشامل ؟ ! .

*  *  *


الجواب عن ذلك تكفّل به الكتاب الذي بين يديك ، وهو معرّب عن الفارسية ، ولقد حاولت في التعريب أن أفِيَ بالمقصود أكثر من تقيدي بالتعبير ، ووجدت من الضروري أن أضيف إلى الأصل بعض التعليقات التي لا بد منها للكتاب في شكله العربي ، وربّما جاءت التعليقة ممزوجة بالأصل حيث يبدو تكثير الهوامش أمراً غير مستحسن .

وفي نهاية المطاف أرجو أن يسدّ هذا الكتاب فراغاً كانت تشكوه المكتبة الإِسلامية حول المنهج التربوي للإِسلام منذ أمد ...

كما نبتهل إلى العليّ القدير في ان يوفقنا لخدمة الأمة الإِسلامية ، ويأخذ بأيدينا إلى ما فيه الخير والصلاح . إنه سميع مجيب .

النجف الأشرف في ١ / ١٢ / ١٣٨٦

فاضل الحسيني الميلاني



المحاضرة الأولى

حول الذنب ـ حرية التعلم

قال الله تعالى في كتابه الكريم : ( . . كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

تمهيد : وسائل القرب المعنوي من الله :

اليوم هو أول يوم من شهر رمضان المبارك . . شهر الرّحمة ، شهر الغفران ، شهر الألطاف الإِلهية الخاصة . . يجتمع المؤمنون والمُقبلون على التعاليم الإِسلامية القيّمة في المساجد بشوقٍ ورغبةٍ شديدين ، ويقفون بين يدي الله تعالى وهم يؤدّون الفرائض والسُّنن الإِسلامية ويزدانون بطاعة الله والإِنقياد إليه ، وبذلك ليتقربوا إلى الله العظيم زلفى ، ويتنعّموا في هذا الشهر برحمته الواسعة التي وسعت كلَّ شيء .

ووسائل التقرّب إلى الله عزّ وجل كثيرة . . . كلّ عمل خيري يؤتى به لوجه الله يمكن أن يقربنا منه ، وكلما كانت قيمةُ ذلك العمَل أغلى ، والإِخلاص في نفس الشخص الذي يأتي به أكثر ، كانت دائرة التقرّبِ إلى الله أوسع .

____________________

(١) سورة البقرة ؛ الآية : ١٨٣ .


ربمَّا يرغب الكثير منكم أن يعرف أيَّ الأعمال أفضل في هذا الشَّهر العظيم كي يجدّ ساعياً في إتيانه والمواظبة عليه ، وبذلك ليُحرز رضى الله وليتقرّبَ منه زلفى .

إذا وجَّهنا هذا السؤال إلي الأفراد العاديّين من المسلمين ، سمعنا أجوبةً مختلفةً عليه . فأحدهم يقول : أفضل الأعمال في هذا الشهر قراءة القرآن ، والآخر يقول إنّه إفطار الصائم ، ويري آخرون : أفضل الأعمال هو صلة الرَّحم وعيادة المرض ، ويظن طائفةٌ : إنه تلاوة الأذكار والأدعية المأثورة . . . والخلاصة أن كلَّ شخص يتوسّل بنوع من الأنواع الخيّرة ويعتبره أفضل الأعمال في شهر رمضان .

ولننظر إلي ما يقولهُ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! ! .

التقوى :

في آخر جمعه من شعبان كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب في المسلمين ويبيّن لهم واجباتهم في شهر رمضان ...

 « قال علي : فقمت وقلت : يا رسولَ الله ما أفضل الأعمال في هذا الشَّهر ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الوَرَع عن محَارم الله » (١) .

لقد رأينا أن أكثر الناس يبحثون عن أفضل الأعمال في جدول الأعمال الخيّرة الإِيجابيّة بينما نجد الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُلفت أنظار المسلمين إلى الجانب السلبيّ ويعرّف أفضل الأعمال في شهر رمضان بالإِجتناب عن المعاصي ، ولا يخفى أن الملاك في التديّن هو نظرة الشرع المقدّس ، لا ما يظنُّه هذا ويراه ذاك . ولأجل أن نبيّن أهمية الإِجتناب عن المعاصي في تحقيق السعادة البشرية ويتضح مغزى كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى أفضل الأعمال في شهر رمضان نخصِّصُ محاضرتنا هذه بالذَّنب وآثاره الوضعيّة والشرعية .

إن التعاليم الإِسلاميّة القيمة بشأن السعادة الإِنسانية وبيان الخير والشرّ

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ص ١٦٤ طبعة إيران .


يطابق تماماً المنهج الطبيّ بشأن صحة النّاس وسلامتهم ، ولذا فإنَّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في تحقيق التكامل المعنوي للبشر كالطبيب الحاذِق الطّاهر القلب على رأس المريض . وفي هذا الصدد يصفه الإِمام علي عليه‌السلام بقوله :

 « طبيبٌ دوارٌ بطبِّه ، قد أحكمَ مراهمه وأحمى مواسمه ، يصنع ذلك حيث الحاجةِ إليه في قلوبٍ عُميٍ وآذانٍ صُمّ وألسنَةٍ بُكم » (١) .

فيصف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه كان طبيباً سيّاراً ، يحمل مَعه في حقيبته المعاجين اللّازمة للتَّضميد والمعالجة ، فإذا وجد قلوباً عمياء ، أو أرواحاً صمّاء ، قام بمعالجتها وأنقذ الناس من الموت المعنوي والإِنهيار الخُلُقي .

معالجة الانحراف :

للأطبّاء منهجان في معالجة المرض : أحدهما إيجابي ، والآخر سلبي .

فيقولون للمريض في المنهج الإِيجابي : إحتقن بهذه الإِبرة . إستعمل هذا الكبسول ، إشرب من هذا الشراب ملعقةً واحدةً كلّ ثلاث ساعات . أما في الجانب السلبيّ فيقولون للمريض : لا تأكل العنب ، لا تشرب الخلّ . لا تستعمل الأكلات الدسمة ، وهكذا .

والمنهج الديني يشابه المنهج الطبّي تماماً ، فيقول للمسلم من جهة : أقِم الصَّلاة ، أدّ الزَّكاة . ليكن كسبُك حَلالاً ، تزوَّج . . . إلخ . ويقول له من جهة أُخرى : لا تكذبْ ، لا تفحش ، لا تَغتَبْ . . . فالجانب الإِيجابي في الدين يسمى بالواجبات . بينما يُطلق إسم المحرَّمات على الجانب السَّلبي .

وإذا ألقينا نظرةً فاحصةً على المنهج الطبّي ، لوجدنا موضوع الوقاية من العدوى ، وترك القيام ببعض الأمور ( الحمْيَة ) مهمّاً إلى درجة أن المريض لو لم يواظب على التوصيات اللازمة فالمعالجات الإِيجابيّة لا تنفعه أصلاً . إنَّ أحسن عملية جراحية يقوم بها طبيب حاذق يمكن أن تصطدم بمشكلات جمة ـ وقد

____________________

(١) نهج البلاغة شرح محمد عبده ج ١ / ٢٠٦ .


تكون فاقدة للأثر ـ إذا تهاون المريض في العمل بتوصيات الطبيب ، فقام ببعض الحركات الزائدة أو لم يتحفظ على الجرح في التلوّث بالميكروبات مثلاً .

وحتى في الأمراض التي تنشأ من إنحراف المزاج ، نجد أنَّ عدم اعتناء المريض بما يجب أن يجتنب عنه ، يذهب بأثر معالجات طبيب حاذق ، وأمّا في بعض الأحيان ، حيث لا يتمكّن المريض من الوصول إلى الطبيب فإنَّه إذا احتَمى ولم يحمّل مزاجه فوق طاقته . نجد المناعة الذاتية قادرة على أنْ تنجي المريض من الانحراف وأن ترجعه إلى وضعه الإِعتيادي . وهناك حالات ينحصر العلاج فيها بالحمية فقط .

يقول الإِمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : « الحميَة رأس الدَّواء » (١) .

نستنتج مما تقدّم : أنَّ السلامة منوطةٌ بالمواظبة على توصيات الطبيب ـ الإِيجابيّة منها والسلبية ـ ولكن النظرة الثاقبة ترينا أنَّ أثر الجانب السلبي في العلاج أقوى من أثر الجانب الإِيجابي .

هدف القرآن :

وعلى هذا المنوال تنسج التعاليم الإِسلامية نسجَها في تحقيق السعادة المعنوية . فالإِنسان السَّعيد هو الذي يطبّق التعاليم الإِيجابيّة والسّلبية . . . يأتي بجميع الفرائض ويترك جميع المحرمات ، ومع ذلك فإنَّ كفّةَ الابتعاد عن الذنوب ( الجانب السلبي ) ترجحُ في ميزان السَّعادة البشرية على كفَّة الإِتيان بالواجبات ( الجانب الإِيجابي ) .

ومن هنا نجد أنَّ القرآن الكريم والروايات الواردة عن النبيّ وآل بيته عليهم الصلاة والسلام ، تعرّف ( التقوى ) أعظم رَصيد للسّعادة ، وترى أنَّ الغاية العظمىٰ من القرآن وتعليمه هي تربية النّاس على التقوى ، فالتقوى بمعنىٰ إجتناب المعاصي والإِبتعاد عنها ، و ( المتّقي ) هو المجتنب عن المعاصي .

____________________

(١) سفينة البحار ص ٢٤٥ ، مادة ( حمى ) .


فليس صيام رمضان ـ وهو من أهم الفرائض الإِسلامية ـ إلا مظهراً من مظاهر الاجتناب عن المفطرات بنيّةِ التقرّب إلى الله تعالى ، ولقد أوْجَبَ الله الصِّيامَ على الأمم السَّالِفَةِ ، وعلى الأمة الإِسلامية كي يتمرَّن الناس في هذا الشهر على الحصول على ملكةِ التقوى .

( . . كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) . وبهذا الصَّدد نورد بعض الروايات المروية عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام :

١ ـ عن الإِمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : « فيما ناجى الله عزَّ وجل به موسى ، ما تقرَّب إليَّ المتقربّون بمثل الورَع عن محارمي . . » (١) فلا يوجد عاملٌ يقرّب المتطهرين إلى الله مثل الاجتناب عن المعاصي .

٢ ـ وعن علي عليه‌السلام : « إجتناب السيِّئات أوْلى من إكتساب الحَسَنات »(٢) .

٣ ـ وعن الإِمام علي بن الحسين عليه‌السلام : « من اجتنب ما حرَّم الله عليه ، فهو من أعبد الناس » (٢) .

٤ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لَردُّ المؤمن حراماً يعدل عند الله سبعين حجّةً مبرورة » (٣) .

٥ ـ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « غَض الطَّرف عن محَارم الله أفضل عِبادة » (٤) .

٦ ـ ولقد سبق أن نقلنا جواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سؤال علي عليه‌السلام حين سأله عن أفضل الأعمال في شهر رمضان فقال : « الورع عن محارم الله » (٥) .

____________________

(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ / ٨٠ .

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٥٧ .

(٣) مستدرك الوسائل للنوري ج ٢ / ٣٠٢ .

(٤) المصدر السابق .

(٥) المصدر السابق .


إنهيار المجتمع :

إنَّ أغلب المآسي التي تصيب الفرد أو المجتمع ناشئة من التلوّث بالذنب والمعصية . والأمم التي أنهارت إنهياراً تاماً ، ولم يبق منها في التاريخ إلا اسمها ، كان السبب في ذلك عدم مبالاتها بالنسبة إلى الذنوب وهذا ما يؤكد عليه القرآن غير مرة :

( كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ) (١) .

( أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) (٢) .

( فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ) (٣) .

إنَّ المآسي المختلفة التي تعلق بأذيالنا ـ شيوخاً وشباباً ـ وليدة التلوث بأنواع الذنوب واللامبالاة في ارتكاب المعاصي والمحرمات . كما أن المريض الذي يخالف أوامر الطبيب ويترك الحميةَ يبتلى ويجازى بأنواع المصائب والمشاكل الدنيويّة والأخرويّة .

١ ـ ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ) (٤) .

٢ ـ ( لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٥) .

٣ ـ ( ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٦) .

ما هو الذنب :

الذنب عبارة عن مخالفة القوانين الإِلهية ، واتباع الأهواء والرغبات التي تلح عليها النفس ، من دون رادع أو مانع ، وكقاعدة أولية وأصلٍ ثابت يجب

____________________

(١) سورة الأنفال ؛ الآية : ٥٤ .

(٢) سورة الدخان ؛ الآية : ٣٧ .

(٣) سورة النساء ؛ الآية : ٦ .

(٤) سورة الروم ؛ الآية : ٤١ .

(٥) سورة البقرة ؛ الآية : ١١٤ .

(٦) سورة المائدة ؛ الآية : ٣٣ .


أن نقول : إنه مع غض النظر عن التعاليم الدينية ، فليس بإمكاننا متاعبة الشهوة والرغبات النفسانية ، وإطلاق العنان للإِرادة النفسية بحرية كاملة . فهناك الموانع العديدة والحواجز القوية التي لا يمكننا أن نخترقها. وعلى سبيل المثال نشير إلى بعض الموانع بنماذج واضحة وأمثلة ساذجة يصادفها كل الأفراد في حياتهم اليوميّة .

جزاء التخلف عن القوانين :

١ ـ حمامةٌ جائمة على سطح عمارة ذات أربعة طوابق من شارع وأنت واقف على سطح تلك العمارة أيضاً . . . الحمامة تحاول الطيران إلى الجانب الآخر من الشارع لتنزل على سطح عمارة مقابلة ، ففي لحظةٍ واحدةٍ تحرّك الحمامة جناحيها وتطير . . . وترغب أنت في ملاحقتها والطيران مثلها ، إلا أن رغبتك هذه تصطدم بمشكلة كبيرة ، هي أنك لا تملك وسائل الطيران ، ولا القدرة على مقاومةِ جاذبيّةِ الأرض ، فالقانون الطبيعي يمنعك من هذا التصميم . فإن لم تعتنِ إلى منع الطبيعة إياك عن الطيران وأردت أن تثور على قانون الطبيعة ، فبمجرد أن ترمي بنفسك من سطح هذه العمارة إلى جهة العمارة الأخرى ـ وقبل أن تبتعد من هذه العمارة بمقدار متر واحد ـ فإن جاذبيّة الأرض تسحبك إليها بأتم الخشونة والقوة وتريك جزاء تخلفك هذا . . . وتطرحك على الأرض في الوقت الذي يتحطم فيه رأسك ويتلاشى مخك ، وتنهي بحياتك وهي تنطق بلسانٍ فصيح يعبر عن القانون الكوني العام : هذا جزاء المذنب والمتخلف عن السنن الكونية .

يتساوى جميع الناس في هذا الأمر : المؤمن والكافر ، الصائم والمفطر ، الشيوعي والرأسمالي . فالعقلاء لأجل أن لا يتخلفوا عن قوانين الطبيعة ينزلون ستين درجة من سلالم العمارة ، ثم يصعدون في سلالم العمارة المقابلة حتى يصلوا إلى سطحها ، فيثبتون ـ عملياً ـ إطاعتهم للقانون الكوني العام .

والطفل يرغب في القيام بالفعاليات والحركات الحرة بفطرته يحب أن


يقبض بيده كل شيء ، يلمس كل شيء ، يعمل كما يريد . . . لكنه سرعان ما يلتفت إلى أنه ليس حراً مطلقاً ، إنه يرغب كثيراً في ثدي أمه وهو مصدر غذائه ، لكنه عندما تتركه أمُّه أثناء ارتضاعه لتذهب وراء أعمالها يفهم الطفل أن الثدي ليس في اختياره دائماً ، يجب أن يصيح ، أن يبكي . . . حتى تحنّ الأم إليه ويسترجع الثدي الضائع .

وعندما تتفتح أصابع الطفل فإنه يرغب بولع شديد أن يأخذ التفاحة ويأخذ الخبز ، ولكنه حيث لا يدرك الفواصل فقد يخرج يده من المهد ليأخذ المصباح من السقف أو القمر من السماء وقد يمدّ يده إلى النار ليأخذ جمراتها المتوقدة فيحترق ويبكي . . هنا يدرك الطفل أنه ليس حراً مطلقاً كما يظن ، فحريته محدودة .

ويتدرج الطفل في نموه ، ويأخذ في المشي ويقترب من الحوض فيرى الأسماك تسبح في الماء ، ويحكم طبعه الطفولي الحر يرغب في أن يسبح مثل تلك الأسماك ، فيلقي بنفسه في الماء . . ينقطع نَفَسه ويشرف على الموت ، فتصل إليه الأم وتخرج طفلها المتقطع الأنفاس . . وحين يثوب إليه رشده ينظر نظرة إلى الماء ويفهم أنه ليس حراً ولا يتمكن من أن يسبح كالسمك .

وعلى أيَّة حال فإن الإِنسان يلاقي موانع الطبيعة منذ طفولته في كل خطوة يخطوها ، وفي كل يوم يحس بتقلص حريته أكثر من ذي قبل . ويدرك أن رغباته تصطم بجدران حديديةٍ لا تخترق . ولا يتمكن أن يمارس إرادته بحريةٍ كاملةٍ .

٢ ـ والحاجز الثاني الذي يقف أمام الميول والرغبات الفردية ، هو القوانين الصحية التي تظهر في الحمية . . فإن المريض يشاهد الفواكه والحلويات والأطعمة المختلف ، فيرغب في أن يأكل منها ولكنه مصاب بمرض السكر ، فإن حاول إتباع ميوله بالتناول من الفواكه والحلويات التي تكثر فيها مادة السُكَّر فسوف يبتلى بأنواع الآلام .

أو أنه مصاب بمرض في الكبد فعليه أن يحتمي عن كثير من الأطعمة


الشهية ، لأن الطبيب منعه عنها . . وقد يكون المرض شديداً إلى درجة يضطر المريض معها إلى أن يقنع بشيء قليل من الخضروات والفواكه المطبوخة فقط ، ولا مفرّ له من ذلك فأما أن يترك ميوله وشهواته فيحفظ سلامته وصحته ، أو ينقاد لها ويترك توصيات الطبيب فيلاقي جزاءه في النهاية باشتداد المرض ، أو الموت أحياناً .

٣ ـ وتعد القوانين الوضعية من الحواجز المهمة التي تقف أمام الميول البشرية ، فإذا أرادت حكومة ما أن تظل قائمة وأن يكون لها مجتمع منظم ، فعليها أن تضع القوانين التي تحدد لكل فرد حقوقه وواجباته ، فتسمح ما هو ضمن القانون وتمنع ما سواه . وتعاقب المعتدي على حقوق الآخرين . . . وليس هذا في واقعه إلا تحديداً لحرية الإِنسان ، وعدم فسح المجال لممارسة أهوائه وشهواته كيفما يريد .

قد يستاء البعض لمحدودية حريته تجاه القانون ، فيطغى عليه ويحب أن يكون حراً ليفعل ما يريد ويقول ما يشاء ويذهب أنى يرغب لكن السلطة التنفيذية للقانون تجبره على الإِنقياد له .

يقول أحد الغربيين : القانون كاللجام الذي يوضع على فم الفرس الهائج فقد يطغى عليه ، مع فارق واحد هو أن اللجام الذي يوضع للفرس يضعه الإِنسان. بينما القانون يضعه الإِنسان على نفسه ، وقد يطغى عليه أيضاً .

لنتصور مستطرقاً جائعاً يرغب أشد الرغبة في أن يأكل من الحلويات والفواكه المنضدة في الحوانيت بحرية كاملة ليشبع بطنه ، أو شاباً متميعاً في أشد الميل لإِشباع نهمه الجنسي مع امرأة تسير في الشارع ، لكن القانون يراقبه ويعاقبه بشدة على ميوله غير القانونية .

*  *  *

هذه الأشكال الثلاثة من الحواجز والموانع عن حرية الإِنسان جارية في جميع نقاط العالم ، بغض النظر عن الدين والعنصر ، فالخروج عليها يعتبر ذنباً وإجراماً . ولقد اعتنى الإِسلام بها جميعاً وأوجب على اتباعه إتباعها ومراعاتها ،


فالجري وراء الميول النفسية التي تخالف القوانين الكونية والصحية والإِجتماعية ممنوع في القانون الإِسلامي . والجانب الأكبر من الذنوب في الإِسلام عبارة عن تنفيذ هذه الرغبات اللامشروعة .

يعتبر الانتحار بجميع صوره ذنباً في الإِسلام ، سواء كان برمي الإِنسان نفسه من شاهق ، أو الإِلقاء في الماء ، أو شرب السم ، أو غير ذلك . وكذا الإِضرار بالنفس والالقاء باليد إلى التهلكة يعتبر ذنباً ، والصوم الواجب إن كان مضراً بصحة الإِنسان فلا يسقط وجوبه فقط بل يعتبر محرماً . وهكذا الذنوب الإِجتماعية والإِخلال بالأمن والنظام والتجاوز على أموال الآخرين ونفوسهم وأعراضهم . . . وبصورة موجزة فإن كل الميول المنافية لسعادة المجتمع ممنوعة ، وارتكابها يعد ذنباً وإجراماً .

إنحطاط البشرية :

وهنا لا بد من الانتباه إلى نكتة مهمة ، وهي أن الذنب ـ بغض النظر عن الأخطار التي يتضمنها في الإِخلال بالنظام العام الاضرار بالمصالح الفردية والإِجتماعية ـ هو أهم عوامل إنحطاط البشرية وتقهقرها . فالمذنبون ليسوا متمتعين بالمزايا الإِنسانية الشريفة والكمالات المعنوية ، فإن ظلمة الذنب تصير حجاباً يخفي نورانية القلب وصفاء الباطن ، والمجرم قبل أن يلحق الضرر بالمجتمع أو بنفسه ، يعمل على إنهيار شخصيته ويكبت الروح الخيرة في أعماقه . فعلى من يرغب في الفضائل الإِنسانية ويحب الكمال والتعالي الروحي أن ينزه نفسه عن ظلمة الذنب والإِجرام .

يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « مَن أحب المكارم إجتنب المحارم » (١) . وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : « من ترك الشهوات كان حراً » (٢) .

التفكير في الذنب :

إن الإِسلام يخطو خطوة أوسع في هذا المجال ، ويقول بأن الإِنسان

____________________

(١) الإِرشاد للشيخ المفيد ص ١٤١ .

(٢) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج ١٧ / ٦٧ .


الواقعي هو الذي لا يكتفي بترك الذنوب فحسب ، بل لا يفسح مجالاً في ذهنه وفكره للتفكير في الذنب ، ولا يدع الفكرة المظلمة تمر بخاطره . . . فإن التفكير في الذنب حتى ولو لم يصل إلى مرحلة التطبيق ، يوجد ظلمة روحية في القلب ويمحو الصفاء الروحي من الإِنسان .

يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « صيام القلب عن الفكر في الآثام ، أفضل من صيام البطن عن الطعام » (١) .

ويقول إمامنا الصادق عليه‌السلام راوياً عن عيسىٰ بن مريم عليه‌السلام أنه كان يقول :  « إن موسى أمركم أن لا تزنوا ، وأنا أمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا ، فإن من حدَّث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوّق فأفسد التزاويقَ الدخانُ وإن لم يحترق البيت » (٢) . . أي أن فكرة الذنب توجد ظلمة في القلب ـ شاء الفرد أم أبىٰ ـ وتسلب صفاء النفس ، حتى ولو لم يرتكبه الإِنسان .

إن النكات الدقيقة التي أوردها الإِسلام في موضوع السعادة الإِنسانية في القرون السالفة وعلمها اتباعه ، تستجلب أنظار العلماء المعاصرين في العصر الحديث فنراهم يفطنون إلى تلك الحقائق في كتبهم ومؤلفاتهم :

« للأمل والإِيمان والإِرادة القوية أثر كبير على الجسم ، وهو يشبه أثر البخار على القاطرة . إن النشاطات الجسدية والروحية تتكامل بدافع الحب فتكسب الشخصية قوة ورصانة وكمالاً . وعلى العكس فإن الرذائل تحط من الشخصية وتسحقها . إن الكسل والتردد في الرأي مثلاً من أهم العوامل على جمود الفكر . وكذلك العجب بالنفس والغرور والحسد فأنها من عوامل التفرقة والتباعد بين الناس ، وهي جميعاً تمنع النفس البشرية من التكامل » (٣) .

____________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٢٠٣ طبعة دار الثقافة ـ النجف الأشرف .

(٢) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي ج ٥ / ٣٧ .

(٣) راه ورسم زندگى ص ٧٢ . وهو ترجمة لكتاب ألّفه بالفرنسية د . ألكسيس كارل . وترجمه إلى الفارسية د . پرويز دبيري.


« إن المعاصي ـ كما نعلم ـ تقلل من قيمة الحياة المعنوية . وإن تحمل العيوب والنواقص خطأ فظيع . فليس كل شخص حراً في تصرفاته ، وعلى هذا فالذي ينحرف عن الطريق المستقيم في الحياة ويبدو متكاسلاً مفترياً على الناس ولا يبالي بارتكاب مختلف الذنوب يجب أن يعتبر مجرماً عاماً . ولكل ذنب آثاره الوخيمة حيث يؤدي إلى الإِنحرافات العضوية والنفسية والإِجتماعية . فكما أن العض على أنامل الندم لا يتلافى العيوب الناشئة في جسد المدمن على الخمرة أو العيوب الوراثية في أطفالهم . . . وكذلك لا يمكن ترميم الإِنحرافات الناشئة عن الحسد والحقد والغيبة والأثرة والأنانية » (١) .

إن كل ما هو ممنوع في الشريعة المطهرة . وكل ما يعتبره الإِسلام ذنباً وإجراماً يتصل إما بضرر مباشر أو غير مباشر تجاه المصالح المادية أو المعنوية للإِنسانية حتماً . غاية الأمر أن البشر لم يطلعوا على جميع تلك الجوانب . ويرى البعض كثيراً من الذنوب كشرب الخمر والقمار والاتصالات اللامشروعة بين الجنسين رائجة في الدول الغربية فيظن أن الإِسلام قد حرمها عبثاً . . وهو في توهمه هذا غافل عن أن ذلك كله حسب حساب دقيق ، فقد يأتي يوم يفطن فيه الغرب إلى أضرارها فيمنعها أيضاً ! .

في رسالة من محمد بن سنان إلى الإِمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام يسأله فيها عن صحة ما يدعيه بعض المسلمين من عدم وجود حكمة للحلال والحرام في الإِسلام وأن المقصود من ذلك هو التعبد والإِنقياد إلى الله فقط فكتب عليه‌السلام في جوابه :

« . . . قد ضل من قال ذلك ضلالاً بعيداً » ثم يسترسل في ذكر تحريم المحرمات فيقول : « ووجدنا المحرم من الأشياء ، لا حاجة للعباد إليه ووجدناه

____________________

(١) راه ورسم زندكى ص ٨٠ .


مفسداً داعياً إلى الفناء والهلاك » (١) .

نتائج الذنوب :

وإذا تصفحنا أقوال أئمة الإِسلام وقادتنا الكرام عليه‌السلام ، نجد أنهم يعللون جميع المآسي والمشاكل والنكبات الفردية والإِجتماعية بالجرائم والذنوب التي يرتكبها الناس ، نتيجة تخلفهم عن القوانين الإِلهية ، فيلاقون جزاءهم على ذلك التخلف والخروج على أحكام الله .

فلكل من الذنوب أثر خاص في الأضرار بالإِنسان ، فالظلم والخيانة والكذب والتزوير ، هتك الأعراض والميوعة ، قول الزور والتجاوز على حقوق الآخرين ، الفتنة والنميمة . . كل هذه الذنوب تشبه الأمراض التي تصيب جسم الإِنسان . وهنا يجدر بنا الإِشارة إلى بعض النصوص الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام التي تبين العواقب المادية والمعنوية للذنوب والجرائم :

١ ـ يقول الإِمام الباقر عليه‌السلام : « ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب » (٢) .

٢ ـ وعن الإِمام الصادق عليه‌السلام : « تعوذّوا بالله من سطوات الله . بالليل والنهار ، قال ( أي الراوي ) : قلت له : وما سطوات الله ؟ قال : الأخذ على المعاصي » (٣) .

٣ ـ وعن الإِمام الصادق عليه‌السلام أيضاً : « إن الذنب يحرم الرزق » (٤) .

٤ ـ وعن الإِمام الباقر عليه‌السلام : « إن الله قضىٰ قضاء حتماً : ألا ينعم على العبد نعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة » (٥) .

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ٣ / ١١٨ .

(٢) الكافي للكليني ج ٢ / ٢٦٩ .

(٣) نفس المصدر . وسطوة الله : غضبه وأخذه بالشدة . كما في المصباح .

(٤) الكافي ج ٢ / ٢٧١ .

(٥) الكافي ج ٢ / ٢٧٣ . وفيه تلميح إلى قوله عز وجل : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) سورة الرعد ؛ الآية : ١٢ .


٥ ـ وعن الإِمام الرضا عليه‌السلام : « كلَّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون ، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون » (١) .

٦ ـ وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « وأيم الله ما كان قوم قط في خفض عيش فزال عنهم ، إلا بذنوب اقترفوها ، لأن الله ليس بظلام للعبيد » (٢) .

الجزاء الآجل :

لا شك في أن كل ذنب يترك أثراً سيئاً في الفرد والمجتمع على السواء والمذنب يلاقي جزاءه حتماً ، غاية الأمر أن بعض الذنوب تظهر نتائجها بسرعة ويلاقي المجرم جزاءه عاجلاً ، بينما لا تنعكس آثار بعض الذنوب على الفرد والمجتمع إلا بعد مدة طويلة . . وعليه فالمجرم لا يلقى جزاءه إلا بعد مدة من الزمن أو بصورة تدريجية .

فالذين يحبون الفضيلة والكمال ويريدون بلوغ الأوج في الفضائل والمثل الإِنسانية يتحاشون إرتكاب كل أنواع الذنوب والجرائم ، سواء كان جزاؤها مؤجلاً أو معجلاً . . أما بعض قصار النظر الذين لا يتمالكون من إقتراف الذنوب ولا يراعون الله والقيم العليا والمثل الإِنسانية ، فأنهم يظنون أن الخلاص يكمن في ترك الذنوب ذات الجزاء العاجل ، وحينئذ فهم لا يرون مندوحة في أن يمارسوا شهواتهم وأهواءهم بالنسبة إلى الجرائم التي يكون الجزاء فيها آجلاً .

إن أوضح مثال على ذلك نجده في التعاليم الصحيحة. فالطبيب يقول للمريض المصاب بالإِسهال : إمتنع عن تناول الأطعمة العسرة الهضم والفواكه النية ، والمريض يطيعه على ذلك . لأنه لو خالفه يصاب ـ بعد ساعة أو ساعتين مثلاً ـ بآلام شديدة ونزف معدي أو معوي وضعف عام في جسده ، بصورة موجزة

____________________

(١) المصدر السابق ج ٢ / ٢٧٥ .

(٢) المستطرف من كل فن مستظرف للابشيهي : ج ٢ / ٦١ . وخفض عيش : في سعة ولين من العيش .


بما أن الجزاء سريع وعاجل فالمريض يضطر إلى إطاعة الطبيب .

أما إذا نصح هذا الطبيب شاباً بالإِجتناب عن الخمر والحذر عن الوقوع في أسرها ، وسأله الشاب : وماذا سيحدث إن « شربتها ؟ فيجيبه الطبيب : إنك ستجد بعد عشر سنين الآثار الوخيمة للخمرة في جسدك وروحك . . . ستصاب بالعوارض القلبية والكلوية والكبدية ، وتقترن حياتك ببؤس وشقاء وانحلال . . . وما أشبه ذلك .

ففي هذه الصورة نجد الشاب يتماهل في العمل بنصائح الطبيب ويعاقر الخمر ليل نهار ، والسبب في ذلك هو أن جزاءه آجل غير عاجل. وهكذا فكل قانون يكون عامل التنفيذ فيه قوياً وسريعاً فإنه يطبق بأحسن صورة وكلما فُقد عامل التنفيذ أو كان الجزاء فيه آجلاً فإن تطبيقه لا يتم بصورة مرضية (١) .

الجزاء العاجل :

إن القوانين الطبيعية تمتاز بأن مخالفتها تؤدي إلى أن يلاقي الفرد جزاءه عاجلاً . ولذلك فإن الناس يخافون الخروج عليها . . . النار تحرق فوراً ، الغاز يخنق رأساً ، ولذلك فإن هذه القوانين تقابل بالإِطاعة التامة والإِنقياد الكامل ، ومعها يضطر المريض إلى إطاعة أوامر الطبيب حينما يصطدم بالآم شديدة وحمى قوية وضعف تام بعد مضي ساعة على مخالفتها .

وهكذا ، فالمجرمون الذين يخرجون على القوانين الإِجتماعية إذا وجدوا أنفسهم أمام عقوبات صارمة كالسجن مع الأعمال الشاقة أو الإِعدام مثلًا فأنهم يضطرون إلى إطاعة القانون واحترامه . ويحذرون من تجاوز حدودهم المقررة في إطار القانون .

إلا أنه توجد في القوانين السماوية ذنوباً وجرائم ، يكون الجزاء عليها في الدنيا بطيئاً وفي الآخرة أبطأ . ولهذا فإن كثيراً من الناس لا يرتدعون عن

____________________

(١) وهذا هو السر في الصرامة الشدة التي يفرضها الإِسلام في عقوباته ، مما جعل الجهال يتحاملون عليه بأنه ليس ديناً صالحاً للتطبيق . والحال أن التجارب تثبت عكس ذلك .


ارتكابها ـ أو لا يجدون في أنفسهم خوفاً من إرتكابها على الأقل ـ ظانين أنهم في حصن حصين عن الجزاء . ولقد رأينا كيف حدثنا التاريخ بالجريمة الكبرى التي ارتكبها عمر بن سعد في قتل الإِمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام حيث وقع أسير التفكير الخاطء الذي وجد نفسه ـ معه ـ في أمن من العقاب لكونه بطيئاً غير معجل ، ولذلك فقد سُمع يردد ـ « وهل عاقل باع الوجود بدين ؟ ! ! » . إذ أن إمارة ري كانت معجلة بينما جزاء يوم القيامة بعيد وآجل . . . وعليه فلا يجب ترك العاجل بالآجل .

بينما نجد القرآن الكريم يفند هذه الفكرة ، وينبِّه الناس إلى ضرورة توقي الجزاء الآجل ، كما لو كان عاجلاً بقوله تعالى : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) (١) .

يوم الجزاء :

إن يوم الجزاء بعيد جداً في نظر المذنبين والمجرمين ، لكن الله يرى ذلك اليوم قريباً جداً . إذ لا تمضي مدة طويلة حتى يلاقي هؤلاء المجرمون جزاء ما اقترفوه . وبالرغم من طول المدى فإنه لا بد من وجود يوم يعاقب فيه الخارجون على سنة الله وحكمه .

الآثار الوخيمة للذنوب :

إن جانباً من الأمراض الروحية والعصبية التي يصاب بها الناس ، ناتج من الإِنحرافات الخلقية وسوء القصد ، فالحسد مثلاً يفعل في بدن الحسود وروحه ما يفعله السرطان في الجسم ، والتكبر يولد في الإِنسان بعض الاختلالات الروحية وقد يؤدي إلى الجنون ، ولكنه قد لا تظهر هذه العوارض بسرعة بل تكون بطيئة وتدريجية .

وكثير من الشبان ينحطون إلى أسفل درك من الحضيض نتيجة الميوعة والتفسخ الخلقي . . . وأخيراً يؤدي بهم ذلك إلى الانتحار . وكم من رجل

____________________

(١) سورة المعارج ؛ الآيتان : ٦ ـ ٧.


أردى به الحرص والطمع وطلب الجاه والأنانية إلى هوة سحيقة وعيش أمض من الموت ومصير مؤلم فظيع ! ! .

فالعاقل هو الذي لا يلوث أذياله بأي ذنب ، ويظل متحفظاً من أي انحراف في سلوكه ، وهكذا فإن الرجال العظماء والذين كانوا ولا يزالون مفاخر الإِنسانية جمعاء في كل عصر ، لم يحصلوا على تلك المنزلة إلا لأنهم عاشوا عيشة طاهرة منزهة من الدنس ، فالفضائل والكمالات لايمكن أن تتفق مع الذنوب ، ومن يريد الوصول إلى أوج الكمال والعظمة الروحية ، عليه أن يتخلى عن ميوله اللامشروعة وشهواته وأهوائه التي تقف في طريق تكامله . يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « إنك لن تدرك ما تحب إلا بالصبر عما تشتهي » (١) .

قد يولد الإِعجاب بالشهرة وطلب الجاه أثراً شديداً في نفس الفرد ، بحيث يضطره إلى أن يرخي عنان الصبر من يده ، ويرتكب كل جريمة في سبيل هدفه . . . ومع ذلك فالمصيبة العظمى أنه لا يصل إلى ما يريد بالرغم من إتخاذه كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيقه .

البؤس والحرمان :

وتأكيداً لما سبق نورد هنا حديثاً عن الإِمام الحسين عليه‌السلام نأمل أن يقع موقع الإِهتمام والعناية من قبل المسلمين ، وخصوصاً : الشبان منهم ويضعوه نصب أعينهم في جميع مجالات نشاطهم مدى الحياة :

« من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لما يحذر » (٢) .

. . . إذا كانت في نفسك رغبة ملحة في جمع المال ، فاحرص على أن تجمعه من طريق مشروع وبأساليب صحيحة بعيدة عن الخيانة . . . والسرقة . . . وإن كنت ترغب في الحصول على شهرة قوية في المجتمع فلا

____________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ١٤٩ ط النجف الأشرف .

(٢) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج ١٧ / ١٤٩ .


تطلب ذلك من طريق الإِجرام ، لأن النهاية هي البؤس والحرمان.

إن أصدق شاهد على كلمة الإِمام الحسين عليه‌السلام الآنفة الذكر ، نجده في تاريخ ألطف بصورة جلية ، فإن عمر بن سعد بن أبي وقاص كان يميل بشدة للحصول على إمارة ( ري ) ، وكانت أوهام الرئاسة على تلك المدينة وقيادة زمامها قد عاشت في مخيلته ، حتى راح يضحي بكل شيء عنده للوصول إلى هدفه. وأخيراً لم يجد بداً من أن يسلك مسلكاً غير مشروع لتحقيق أمنيته هذه فارتكب أشنع الجرائم وأبشعها في تاريخ البشرية وهي قتل الحسين عليه‌السلام وأصحابه مع تلك الحالة المفجعة الممضة غير القابلة للوصف . كل ذلك أملا في الحصول على إمارة ( ري ) . . . وأخيراً ـ وبالرغم من إرتكابه تلك الجريمة العظمىٰ ـ لم يصل إلى هدفه ، وخاب ظنه وخسر الدنيا بعد خسرانه الآخرة . . . هذا غير الوخز المؤلم من الضمير له والإِيقاع به في شبكة من الأمراض الروحية والعصبية ، نتيجة لخيانته الكبرىٰ تلك . . . وكانت نهاية حياته أن وقع فريسة دسمة بأيدي الثوار الذين نهضوا يطالبون بدم الحسين بقيادة المختار الثقفي ، وتحققت فيه قولة الإِمام عليه‌السلام : « من حاول أمراً بمعصية الله ، كان أفوت لما يرجو وأسرع لما يحذر » .

هذه نبذة يسيرة عن الذنب وبعض نتائجه وآثاره ، تطرقنا إليها كتمهيد للبحث وذلك بمناسبة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جواب علي عليه‌السلام : « أفضل الأعمال في هذا الشهر ، الورع عن محارم الله » .

نسأل الله عز وجل أن يوفقنا في هذا الشهر ، وفي سائر أيام السنة للإِجتناب عن السيئات والجرائم . وبذلك نجلب رضى الله تعالى بالحصول على السعادة في الدنيا ، والنعيم في الآخرة .

وفي نهاية المطاف أود أن أشير إلى أن بحثنا في المحاضرات القادمة سيدور حول أساس السعادة في تربية الطفل . وعليه فلا بد ـ كتمهيد لفهم الموضوع ـ من ذكر بعض المقدمات المرتبطة به . . . فنبحث ـ أولاً ـ في أصل السعادة ، ودور الوالدين في تحقيق سعادة الطفل وشقائه ، والمقارنة بين التربية والوراثة . ثم ندخل إلى صلب الموضوع . ولا يخفى أننا في ضمن بحثنا عن


التعاليم القيمة التي جاء بها القرآن الكريم والنصوص الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام ، بشأن التربية وما يتعلق بها ، نستشهد بالبحوث العلمية الحديثة التي توصل إليها علماء الغرب. وغرضنا من ذلك أمران : ـ

أولهما : ـ إنه يجب الإِعتراف بأن للعلماء الغربيين مطالعات دقيقة وبحوثاً قيمة في كثير من الموضوعات . وعلى كل عاقل حر أن يستفيد من أفكار العلماء وتجاربهم الصحيحة المعقولة ليستخدمها في حياته العملية . والإِسلام دين العقل والمنطق ، ولذلك فقد أوصىٰ المسلمين بأن يجدّوا في طلب العلوم والحكم ويأخذوها من أي شخص كان وأينما وجدوها ، وإن كان الملقي بها منحرفاً من ناحية العقيدة أو مأسوراً لعبادة الأوثان والشرك بالله . وعلى سبيل المثال نذكر بعض النصوص الواردة بهذا الشأن : ـ

وراء طلب العلم :

١ ـ قال الإِمام علي عليه‌السلام : « خذ الحكمة ولو من المشركين » (١) .

٢ ـ وعنه عليه‌السلام أيضاً : « لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال » (٢) . ومعناها : أطلب الكلمة الحقة من أي شخص كان .

٣ ـ وعنه عليه‌السلام : « خذ الحكمة ولو من أهل الضلال » (٣) .

٤ ـ ويقول أيضاً : « الحكمة ضالة المؤمن ، فاطلبوها ولو من عند المشرك » (٤) .

٥ ـ وعنه عليه‌السلام أيضاً : « أعلم الناس : من جمع علم الناس » (٥) .

الاسلام دين العلم والمعرفة :

الإِسلام دين التكامل والتحقيق ، دين العلم والمعرفة ، يراعي موضوع

____________________

(١) إثبات الهداة للحر العاملي ج ١ / ٤٩ .

(٢) المصدر السابق ج ١ / ٤٦ .

(٣) المصدر نفسه ج ١ / ٤٦ .

(٤) المصدر نفسه ج ١ / ٤٧ .

(٥) المصدر نفسه ج ١ / ٤٧ .


حرية التعلم مراعاة كاملة ويصرح بوجوب تعلم العلم والحكمة من أي إنسان ولو كان ضالاً أو مشركاً .

إلا أنه يجب أن نعلم بأن الإِسلام يمنح الحرية لأصحابه في إستيعاب الحقائق العلمية الصحيحة ، لا لكل تقليد أعمىٰ وسلوك أهوج .

إن كثيراً من الناس في بلادنا بهرتهم المدنية الغربية وجمالها إلى درجة أنهم أخذوا يحسون بالحقارة والتصاغر في نفوسهم تجاهها ، ويتنكرون لتراثهم الخالد وتعاليمهم الدينية القيمة ، حتى ظنوا أنه لم يكن للمسلمين وجود إنساني فيما مضى أصلاً ، ولا قيمة لماضيهم المجيد وتراثهم الخالد . . . هؤلاء يظنون أن كل ما هو في أوروبا وأمريكا وكل ما يجري على الناس هناك حسن وصحيح وجدير بالتقليد ، ويبدو لهم أن الطريق الوحيد للسعادة منحصر في إتباعهم من دون تعقل أو روية ، غافلين تماماً عن أن هناك مساوء كثيرة في تلك البلدان في قبال بعض المحاسن التي يرونها . فالعاقل ـ إذن ـ هو الذي يقلد محاسن الأمم المتقدمة ويجتنب عن مساوئها .

حسن الاقتباس :

وبهذا الصدد يقول القرآن الكريم : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (١) .

وقد ورد في الحديث : « خذوا الحق من أهل الباطل ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق ، كونوا نقاد الكلام ، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموهة ، النظر إلى ذلك سواء ، والبصراء به خبراء » (١) .

فلو كان مجتمعنا الإِسلامي قد تمسك بتعاليم القرآن الكريم واختار حسنات المدينة الحديثة وتجنب سيئاتها ، لكان قد حصل على نجاح باهر في مجالات

____________________

(١) سورة الزمر ؛ الآية ١٨ .

(٢) إثبات الهداة ج ١ / ١٣٦ .


مختلفة إلى هذا الحين . . . ولكن المؤسف أن الأمر على عكس ما يريده لنا القرآن . فنجد تقليد المدنية الحديثة في علومها وتكاملها وفي مجالات البحث والإِختراع أقل ـ بكثير ـ من تقليدها في مجالات الإِنقياد للشهوات وشرب الخمر والميوعة والتحلل والفساد . فبينما نجد الشرقيين يسبقون الغرب في الجانب الثاني ، نجدهم في ركب متأخر عنهم في الجانب الأول ، ومع ذلك كله ، فالأمل لا يزال يحدونا إلى استعادة إستقامة سلوكنا والأخذ بمنهجنا القرآني الصحيح الكافل لسعادتنا ورقينا وازدهارنا ، والفرصة لا تزال سانحة للرجوع إلى اقتباس ما هو حسن وصالح من الغرب ، وترك ما هو مضر وفاسد فيه .

. . هذا فيما يخص الجهة الأولى من استشهادنا بأقوال العلماء الغربيين وبحوثهم في محاضراتنا هذه .

أما بالنسبة إلى الجهة الثانية ، فهي أن يتعرف المسلمون على حقيقة دينهم أكثر فأكثر ، ذلك لأننا نحاول ـ في محاضراتنا هذه ـ أن نستقصي الآيات القرآنية والنصوص الواردة بشأن ( تربية الطفل ) وما يتعلق به ، ونبحث عن الجوانب العلمية والنفسية التي أتت عليها ، ثم نستشهد ـ بالمناسبة ـ بنص العبارات الواردة في بحوث علماء النفس والتربية الغربيين وكتبهم ، وبذلك نقارن بين ما ورد في تعاليم الإِسلام وما ورد في بحوث أولئك العلماء ، فتتضح عظمة التعاليم الإِسلامية للملأ ، ويعرف المسلمون أن البحوث والتحقيقات التي يجريها علماء الغرب والجهود التي يبذلونها للوصول إلى الحقائق العلمية ليست أمراً جديداً للبشرية. بل جاء نبي الإِسلام وأوصياءه من بعده يشيرون إليها قبل أربعة عشر قرناً ، ويفيضون بها على الناس من منبع الإِلهام والوحي الإِلهي .

وبديهي أنه كلما ظهرت القيمة العلمية للإِسلام أكثر ، إزداد الناس ـ والطبقة المثقفة منهم بالخصوص ـ إذعاناً وإحتراماً لعظمة الإِسلام والقرآن . وأي هدف أعظم من توجيه عقول البشرية إلى نور الإِسلام وعظمته ؟ ! .


إتباع العقل :

يسأل يعقوب بن السكيت من الإِمام الرضا عليه‌السلام أسئلة حول معاجز الأنبياء ، وبعد أن يجيبه عن تلك الأسئلة ، يسأله عن الحجة القاطعة والدليل الساطع على نبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً : « فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال عليه‌السلام : العقل » (١) .

يشير الإِمام الرضا عليه‌السلام بكلامه هذا ، إلى أن الأفراد يجب أن ينظروا في تعاليم القرآن بنظر العقل والدقة ، ويوجهوا أفكارهم إلى حقيقة ساطعة هي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام في عالم مظلم ودور جاهلي أهوج ، في الحجاز . . . حيث مظاهر البداوة والتفرقة والحزازات ، حيث لا مدرسة ولا مكتبة ، ولا حديث عن العلم والعالم ، ولا أثر للمنطق والتفكير . . . قام في مثل ذلك الدور العصيب ـ وهو أُمي لم يدرس عند أحد ـ فأخذ يدعو الناس إلى الإِيمان ، بحماس وثبات شديدين ويهديهم إلى شاطىء الأمن والسعادة ، وأخذ يقول في كل شيء كلمته بمنطق صحيح ودليل قاطع ، ووضع القوانين لكل جانب من جوانب الحياة ، وأخذ بيد تلك الأمة المتأخرة إلى حيث العزة والكمال والعظمة . . . ولا تزال تعاليمه الرصينة تهب الحياة للبشرية من دون أن تفقد قيمتها العلمية والإِجتماعية . . . في مثل هذه الظروف وعلى مثل هذه الأوضاع يحكم العقل ـ بلا تردد ـ بأن البشر العادي ـ سواء في أمسه أو يومه ـ يستحيل عليه أن يقوم بعمل جبار كهذا ويترك هذه الآثار العظيمة في الجوانب المختلفة من الحياة . فليس ذلك النبوغ وتلك العظمة وهذه الرصانة في التعاليم إلا نتيجة الإِتصال الوثيق بخالق الكون عن طريق الوحي والإِلهام .

( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (١) .

وليس معنى الإِيمان بالنبي والنبوة إلا هذا الاعتقاد بالإِرتباط المعنوي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والله تعالى وكونه سفيراً له على وجه الأرض ، لهداية البشر إلى

____________________

(١) إثبات الهداة ج ١ / ٨٠ .

(٢) سورة الأحقاف الآية : ٩ .


الصراط ؟ المستقيم ، وهذا هو المائز الحقيقي الذي يفصل بين النبي وبين الفلاسفة والعلماء العاديين ، فالعلماء قد درسوا في فرع واحد أو عدة فروع من العلوم بصورة اعتيادية ، ومن طريق الكتاب والمدرسة والمعلم وما شاكل ذلك حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه . . . بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمي لم يدرس عند أحد ، لكنه تلقى الوحي والإِلهام من الله تعالى ، فكان هو مدرسة الأجيال كلها ، وكتاب العلماء كلهم ، وأستاذ المعلمين كافة .

وفي الختام نرجو أن نعمل على هدى النبي وأهل بيته الكرام عليهم الصلاة والسلام . متخذين من العقل الصحيح أقوىٰ دليل على الإِيمان والثبات على العقيدة .


المحاضرة الثانية

الآراء البشرية حول السعادة ـ الاسلام والسعادة

قال الله العظيم في كتابه الحكيم : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا . لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ . . ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

السعادة :

نشأ الإِنسان منذ نعومة أظفاره محباً للسعادة والهناء ، فاراً من البؤس والشقاء . . . فكل الناس يحبون أن يكونوا سعداء مرفهين ، ويصرفون كل جهودهم في سبيل تحقيق ذلك الهدف المقدس النير . . . السعادة .

ولكن المشكلة المهمة هي معرفة أساس السعادة وحقيقة الرفاه ، إذ لا يتسنى لمن لا يعرف حقيقة السعادة أن يطلبها ويسعى وراءها ، لأن السعي وراء أمر مجهول عبث وباطل .

وطوال القرون المتمادية والأعصار المنصرمة ، بحث العلماء عن السعادة البشرية وألفوا فيها وأوردوا نظريات مختلفة في هذا الموضوع . وكذلك الأمم والكتل البشرية اتخذت طرقاً معينة وأساليب خاصة للوصول إلى السعادة ، وإذا أردنا أن

____________________

(١) سورة الروم ؛ الآية : ٣٠ .


نستقصي جميع تلك النظريات والآراء والطرق والأساليب لاحتجنا إلى وقت أوسع من هذا ، إلا أننا سنكتفي بذكر أهم تلك الآراء والنظريات المعروفة الآن . ثم نشير إلى بعض الأحاديث الواردة بشأن السعادة . هذا ولا يخفى أن المدار في تلك النظريات والأقوال ومحل النزاع في البحث هو ما يعتبره كل طائفة أصلاً ثابتاً للوصل إلى السعادة وأساساً لتحقيقها.

المبدأ النفسي :

١ ـ ذهب بعض العلماء والفلاسفة اليونانيين الذين سبقوا ( أرسطو ) إلى أن سعادة البشرية تنحصر في الكمالات النفسية ، وهم يرون أن أساس السعادة الإِنسانية أربع صفات هي : الحكمة ، الشجاعة ، العفة ، العدالة . فمن كان واجداً لهذه الصفات كان سعيداً ، ومعها لا حاجة إلى الكمالات الجسدية وسلامة الجسم أو أمور خارجة عن البدن ، فهؤلاء يقولون : « إن الإِنسان إذا حصل تلك الفضائل لم يضره في سعادته أن يكون ناقص الأعضاء مبتلي بجميع أمراض البدن » (١) .

فالأمراض البدنية عندهم لا تضر بالسعادة إلا إذا أوردت نقصاً على الجانب المعنوي منه ، وأدت به إلى الجنون أو الحمق ، وكذلك الفقر والتردي الإِجتماعي فانهما لا يضران بسعادة الإِنسان إذا كان محرزاً للصفات النفسانية الأربع الآنفة الذكر .

٢ ـ ويعتقد المرتاضون بالمبدأ النفسي في السعادة البشرية ، فهم يقولون : ـ إن السعادة والكمال يرتبطان بكمال النفس والتعالي في الجوانب الروحية فقط . ويجب تحقيق تكامل الروح وإظهاره في الخارج عن طريق الرياضة النفسية ومجاهدة الأهواء والشهوات . ويفرط المرتاضون في عدم إعتنائهم إلى الجانب البدني كثيراً حتى أنهم أشد تفريطاً من اليونانيين الذين سبقوا ( أرسطو ) بالنسبة إلى أبدانهم . فبينما كان يرى حكماء اليونان أن السعادة تتعلق بكمال النفس ولا يضر معها نقصان البدن ـ وليس في منهجهم ما يوجب

____________________

(١) طهارة الأعراق لابن مسكويه ص ٧٨ .


الإِضرار بالبدن ـ نجد المرتاضين يعتقدون بأن كمال النفس يتناسب تناسباً طردياً مع حرمان البدن والإِضرار به . فكلما كانت درجة الحرمان عن اللذائذ والطيبات عندهم أكثر ، كانت درجة التكامل الروحي أكثر . ولهذا فإن السالكين في هذا الطريق يسعون بجد واجتهاد لحرمان الجسد من ميوله وأهوائه ، ويعذبون أجسادهم بالنوم على المسامير أو التعليق من غصن شجرة وما شابه ذلك من أساليب التعذيب أملاً في الحصول على السعادة المعنوية الكاملة .

٣ ـ وطائفة ثالثة تعتقد بالمبدأ النفسي في سعادة الإِنسان أيضاً ، ولكنها في نفس الوقت لا تغمط الجسد حقه . هؤلاء يقولون : إن السعادة الحقيقية تكمن في التكامل الروحي ويجب الاعتناء به كثيراً . ولكن لا ينبغي التغافل عن إرضاء الميول الجنسية الخارجة عن حريم السعادة . ويؤكدون على نقطة مهمة هي أن كل ما كان مشتركاً بين الإِنسان والحيوان من الصفات والميول والشهوات فهو خارج عن نطاق السعادة الإِنسانية ، ولذلك يقول قائلهم : « إن ما كان منها عاماً للإِنسان والبهائم فليست سعادة لنا » (١) .

إن نقطة الإِشتراك بين هذه العقائد الثلاث التي كان لها أنصار في الأزمنة الغابرة بين الفلاسفة والحكماء اليونانيين وغيرهم من الناس طوال القرون المتمادية ، هي أن الجانب النفسي فقط هو الذي يراعى فيه ويفقد الجانب البدني الاعتناء والمراعاة اللازمة ، فالجسد عندهم يفقد قيمته الحقيقية وليس له أي دخل في تحقيق السعادة البشرية . والميول والرغبات المادية تلاقي حرماناً وكبتاً شديدين في نظرهم ، حتى أنها لتقع تحت مطرقة الرياضة النفسية الثقيلة والتعذيب الشديد . . . ولا يخفى على من له مسكة من العقل أن هذا هو الشقاء والحرمان بعينه ، وليس موصلاً إلى السعادة ـ كما يظنون ـ أبداً .

السعادة في المدنية الحديثة :

وتعرف السعادة في العالم اليوم ـ وفي كنف المدنية الحديثة ـ بلون آخر ، وتفسر بتفسير مضاد لتفسير الأمم السالفة والعصور القديمة مضادة تامة . فبينما

____________________

(١) ترتيب السعادات لابن مسكويه ص ٢٥٩ .


كان أولئك يرون أن الأصل في الوصول إلى السعادة هو الكمال النفسي والتكامل الروحي ، يذهب هؤلاء إلى التمسك بالجانب المادي واعتبار الأهواء والرغبات المادية ملاكاً في معرفة السعادة . وعليه فالكمالات النفسية والسجايا الخلقية والفضائل تفقد أثرها على مذهب هؤلاء المتمدنين .

وبصورة موجزة ؛ فإن الإِفراط الشديد في الجانب الروحي ، والتفريط الشديد في الجانب المادي . . . اللذين كنا نشاهدهما عند فلاسفة العصور القديمة قد أنقلبا إلى العكس تماماً في المدينة الغربية المعاصرة . فأخذت بالافراط الشديد في الجانب المادي والتفريط الشديد في الجانب الروحي ، كرد فعل للنظرة السابقة . وهنا لا بأس بأن نتطرق إلى بعض تلك المبادىء بصورة إجمالية :

المبدأ الاقتصادي :

يعتقد العالم المتمدن اليوم ـ وفي المعسكر الشرقي منه بالخصوص ـ بأن السعادة منحصرة في التقدم الاقتصادي ، وإن مصير السعادة الإِنسانية مرتبط بمصير الوضع الإِقتصادي ، هؤلاء ينظرون إلى كل زوايا الحياة بمنظار الإِقتصاد ، ويعللون جميع المسائل الإِخلاقية والإِجتماعية والدينية والاعتقادية بعلل إقتصادية . . . فهم يقولون : ـ

« إن تغيُّر الأساس الإِقتصادي يزعزع كل البناء الفوقي والهائل علي صور مختلفة من السرعة أو البطء . . . هذا الانقلاب الذي يشاهد بالضبط الخاص بعلوم الطبيعة وبين الأشكال الحقوقية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة مختصرة ، الأشكال الفكرية التي يتصور فيها الناس هذا النزاع ويكافحونه . . . فينبغي تفسير هذا الوعي في المجتمع بالقوى المنتجة وعلاقات الإِنتاج . . . » (١)

وكما وجدنا المرتاضين والمنخرطين في سلك المبدأ النفسي ينكرون

____________________

(١) المادية الديالكتيكية والمادية التأريخية ، تأليف ستالين . ترجمة خالد بكداش ص ٦٢ .


كثيراً من الحقائق المادية والميول الجسدية ، نجد في الطرف المقابل أن المنخرطين في سلك المبدأ الإِقتصادي ينكرون كثيراً من الحقائق الروحية والاعتقادية والإِخلاقية ولم يعتبروا لها وجوداً أصلاً . . .

نحن لا ننكر أن الكمالات النفسية والسجايا الخلقية تشكل الأركان المهمة للسعادة ، ولكن لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الأخلاق والمثُل . كما أننا لا ننكر أن الإِقتصاد من الأسس القويمة للسعادة البشرية ، إذ بدونه لا تحصل السعادة الكاملة ، كما ورد في الحديث : « من لا معاش له لا معاد له » إلا أنه لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الإِقتصاد .

وهنا لا بأس بأن نستشهد بكلام لأحد العلماء الغربيين المعاصرين بهذا الصدد :

« نحن اليوم نسير في جادة الزمن مع التقدم التكنولوجي (١) من دون أن نعير أهمية إلى الاحتياجات الأصلية للجسد والروح . ومع أننا نتخبط في المادة نعتبر أنفسنا بمعزل عنها ولا نحاول أن نفهم بأنه يجب ـ لأجل الاستمرار في الحياة ـ السير بمقتضى طبيعة الأشياء وطبيعة أنفسنا لا على طبق الأهواء والرغبات. إن البشرية المتمدنة تتردى منذ قرون طويلة في هذه الهوة السحيقة . وإن تاريخ الإِنحطاط الخلقي والابتعاد عن الروح الدينية يتفق تماماً مع تاريخ الخروج على القوانين الأصلية للطبيعة . إنه لا يمكن حصر النشاطات البشرية كلها في الجوانب المادية فقط إلا بعد تحطيم شخصية الإِنسان لأن الإِنسان لم يخلق للأكل والتكاثر بل أقدم منذ نعومة أظفاره على ابتداء التكامل بحب الجمال ، والإِحساس الديني والنشاط الفكري ، والشعور بالتضحية والحياة البطولية . . . » (٢) . « وإذا حددنا الإِنسان بنشاطه الإِقتصادي فقط

____________________

(١) التكنولوجيا : هو العلم الذي يعني بدراسة الفنون وأنواعها وتاريخها .

(٢) راه ورسم زندگى ص ٣٤ .

فكأننا فصلنا جزءاً كبيراً منه . وعليه فإن الليبرالية والماركسية تسحقان الرغبات الأصلية والنوازع الفطرية في النفس الإِنسانية » (١) .

« إن الفضيلة من القيم الإِنسانية القديمة ، ويمكن العثور عليها في العالم المتمدن ، إلا أنه يندر العثور عليها في الجماعات التي ترزح تحت نير النظم المادية ، إن المجتمع الذي يقدس الإِقتصاد لا يعرف شيئاً عن الفضيلة . لأن الذي يريد الفضيلة لا بد وأن يبتغي إطاعة القوانين الحياتية . أما إذا قيد الإِنسان نفسه بالنشاط الإِقتصادي فقط فلا يطيع القوانين الكونية والاجتماعية أصلاً » (٢) .

مبدأ اللذة :

وتذهب طائفة كبيرة من المتمدنين اليوم إلى أن الأصل في السعادة الإِنسانية هو اللذة . وعليه فالسعادة عبارة عن تحقيق اللذائذ المادية ، والمثل الأعلىٰ للإِنسان السعيد هو الذي يستفيد من لذائذ الحياة أكثر من غيره .

ويمكن اعتبار العالم النفسي ( سيجموند فرويد ) ومن لف لفه ، رافعي راية هذا المبدأ . وكما رأينا أصحاب المبدأ الإِقتصادي ينظرون إلى كل شيء بمنظار الإِقتصاد ، فإن فرويد يعلل جميع ظواهر الحياة بمنظار الميول والدوافع الجنسية ، ولذلك فهو يقول في موضوع حقيقة السعادة :

« إنه لا يفوتني الإِدراك بأن الحب هو مركز الحياة ، وعليه فأن الناس يعللون كل فرح ونجاح بالحب والمحبوبية وهذا الوضع النفسي موجود عند الجميع . إن من المظاهر التي يظهر فيها الحب هو الحب الجنسي الذي يكسبنا حالة من الإِنجذاب والشعور باللذة . وفي النتيجة فإن هذه اللذة تكون قدوة ودليلاً لميلنا نحو السعادة . فأي شيء إذن أقوم من أن نسلك الطريق إلى السعادة

____________________

(١) نفس المصدر .

(٢) نفس المصدر ص ٧٧ .

في نفس الطريق الذي صادفناه أول مرة » (١) .

أرأيت كيف يعتبر فرويد ، اللذة والشهوة الجنسية مصدراً لكل شيء ؟ ! . حتى أنه يقول : إن الشهوة الجنسية هي التي تظهر بمظهر الأخلاق تارة وفي صور العقائد والأديان تارة أُخرى وهي نفسها التي تتشكل أحياناً بحنان الأم وعطف الأخ ، فهي الكل في الكل في هذه الحياة ؟ ! ! .

فمظاهر الحياة ـ عند فرويد ـ من أخلاقية وفنية ودينية وسياسية واقتصادية واجتماعية ، كلها وليدة الحب والجنس واللذة لا أكثر ، فالمظاهر وإن اختلفت إلا أنها متحدة في جوهرها ومآلها . واستمع إليه يقول :

« إن حنان الأم ، الحب الأبوي والأخوي ، الصداقة والصحبة مشتقة من الجنس عند فرويد . وجميع الروابط الاجتماعية بين الأشخاص كالعلاقة بين المعلم والتلميذ ، والعلاقة بين الأم والطفل وما شاكل ذلك إما أن تمتاز بطابع جنسي من ذاتها أو ترجع إلى أصل جنسي في النتيجة » (٢) .

ومع أن فرويد يقسِّم الغرائز الأولى عند الإِنسان إلى قسمين : الغرائز التي تتعلق بصيانة الذات ، والغريزة الجنسية ، نجده في المقام يغرق في الشهوة الجنسية حتى أنها تنسيه غريزة حب الذات ـ التي اعترف بها في بادىء الأمر ـ وكشاهد على ما نقول ، إليك العبارة الآتية :

« إن فرويد يثبت ـ بمعونة بعض الأمثلة ـ كيف أن الغريزة الجنسية التي هي أقوىٰ وأعمق القوى الروحية عند الإِنسان قد تكيفت بصورة مجهولة عبر الزمن ، وظهرت بمظاهر الميول المختلفة والأشكال المتباينة ، بحيث إذا واجه طبيب إختلالاً روحياً ـ مهما كان جزئياً ـ يتمكن من أن يحكم بصورة قطعية على أن حادثة غير

____________________

(١) أنديشه هاي فرويد ص ١١٢ .

(٢) المصدر السابق ٤٧ .


طبيعية قد طرأت على الجهاز الجنسي والرغبات الجنسية للمريض وعليه فانه يرجعه إلى حالته الأولى بصورة تدريجية حسب التعاليم النفسية الدقيقة ، ويقلص من إطار مسؤوليته شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى نقطة الإِختلال الباعثة على الإِنحراف في جهازه الجنسي هذا هي خلاصة نظرية ( فرويد ) في العلاج النفسي . . . » (٢) .

هذا هو موجز الاكتشاف العظيم الذي يراه فرويد والفرويديّون منشأ التحوّل في العلاج النفسي الحديث . أما كيف استدل فرويد على أن أي اختلال روحي يستند إلى حدوث شيء في الغريزة الجنسية ؟ ! أما كيف لا يكون التطور الحادث في الغريزة الجنسية هو المسبّب عن حدوث الاختلال الروحي ؟ . . فذلك ما لا يريد أن يفهمه فرويد واتباعه ، نعم ! إن كان فرويد يدعي أن أكثر الاختلالات الروحية تستند إلى الغريزة الجنسية فلربما كان يلاقي كلامه هذا قبولاً من القارىء ، وكان يؤدي به إلى أن يفكر في نفسه أن فرويد كان باحثاً عميقاً وأنه استند إلى الإِحصاءات الدقيقة للأمراض الروحية ووصل إلى هذه النتيجة ، أما حين يسمعه يقول :

« إذا واجه طبيب إختلالاً روحياً ـ مهما كان جزئياً ـ يمكن أن يحكم بصورة قطعية على أن حادثة غير طبيعية قد طرأت على الجهاز الجنسي والرغبات الجنسية للمريض . . . » .

هنا يقطع الإِنسان بأن القائل قد وقع تحت تأثير الغريزة الجنسية إلى درجة أنه لا يتمالك على نفسه من الهذيان والتطاول بالباطل .

لنفرض عاملاً فنياً قد قضى أربعين سنة في عمل ما ، أصيبت عينه في أثناء العمل فدخل المستشفى ، وصرف جميع ما يملك في هذا السبيل وفقد بصره في النهاية . إن التفكير في العمى والبطالة والفقر والبؤس يقض عليه مضجعه ، وأخيراً يؤدي به إلى الإِختلال الروحي ، وحين يفحصه الطبيب

____________________

(١) كتاب فرويد ص ٦٢ .


النفساني يتوصل إلى أن العلة الأصلية في ذلك الاختلال هو فقدان البصر وفقره . .

وهكذا فإن إنساناً محترماً قد أشرف على الشيخوخة يُتَّهم بالسرقة أو الإِرتشاء من قبل أُناس مغرضين . فيذهب ماء وجهه وذلك يؤدي به إلى الاختلالات الروحية ، فلا يمكن أن يوجد في العلاج النفساني أصل لهذا الاختلال غير الإِتهام بالسرقة . . . وهكذا فإن أمثال هذه القضايا كثيرة في المجتمع ، ولا ربط لها أصلاً بالأمور الجنسية كما يدعي فرويد .

ولولا أن فرويد نفسه قد اعتبر غريزة حب الذات مغايرة للغرائز الأُخرى كحنان الأم وغيره من الميول الطبيعية المتفرعة عن الغريزة الجنسية لكان يصح كلامه هذا وكان قابلاً للتصديق ! اما وأنه ينسب جميع الاختلالات الروحية إلى حدوث تغيرات في الغريزة الجنسية فليس معنى ذلك إلا اعتبار غريزة حب الذات فرعاً من فروع الغريزة الجنسية وهذا ينافي حبُّ الذات مستقلة عن غيرها من الغرائز الجنسية يا أُستاذ فرويد ! ! فلماذا لا تنسب بعض تلك الاختلالات الروحية التي ذكرتها إليها ؟ .

إنه لا ريب في أن الغريزة الجنسية تعتبر إحدى الغرائز القوية التي أودعها الله في النفس الإِنسانية إلا أن فرويد يفرط في هذا الموضوع ويغالي في حقها كثيراً .

ومن يطالع عقائد فرويد في الكتب المختلفة بدقة ، يصل إلى هذه النتيجة في نهاية المطاف ، وهي : إن الإِنسان مجموعة من اللحم الحي الذي يملك غريزتين إحداهما حب الذات والدفاع عنها . والأُخرى الشهوة الجنسية ، لكن جميع أوجه النشاط البشري في جميع المظاهر الحياتية ترتبط بالأخيرة وهي الغريزة الجنسية فقط .

إنه لم يوجد في تاريخ العلوم البشرية أحد قد تأثر بالغريزة الجنسية واهتم بها بقدر تأثر فرويد بها وإهتمامه لها ، ولا يوجد أحد ينظر إلى الإِنسان هذه النظرة الطفيفة الخسيسة . والعلماء اليوم بالرغم من اعتمادهم على طريقة


فرويد في معالجة الأمراض الروحية ، واتخاذهم أساليبه في التحليل النفسي . . . يصرحون بأن هذه الطريقة وحدها ليست مجدية . ويجب ألا تنحصر معالجة الأمراض النفسية فيها . . .

« إن كثيراً من العلاجات النفسية تكون ذات منظار ضيق ، وحتى التحليل النفساني الذي يؤدي إلى نتائج مرضية في كثير من الأحيان نجده يحصر بحثه على الغرائز فقط . هذه الطريقة توجه همها إلى أن ترضي الغرائز بصورة إتباع مبدأ اللذة . وهذا المبدأ لا يعني بالجانب الأخلاقي ولا يتحدث عن الهدف الأصلي للشخصية وعلاقاتها الخيرة والشريرة عند تفاعلها بالتكافؤ الإِجتماعي ولهذا السبب فلو غضضنا الطرف عن الفشل الذي يلاقيه التحليل النفساني بالنسبة إلى حرية بعض الرغبات والميول المتطرفة ، فإن العلاج النفسي الصحيح يجب أن يكون له هدف أسمى هو رفع شخصية الفرد ـ بعد ملاحظة أسس الشخصية ـ وتحقيق الرفاه للفرد والمجتمع على السواء . . . » (١) .

وبالرغم من أن نظرية فرويد لم تحصل على تأييد كثيرين من العلماء في العصر الحديث ، لإِفراطها بشأن الغريزة . . . فإن الكثير من الغربيين يقرون ( مبدأ اللذة ) بالنسبة إلى تحقيق السعادة البشرية . إن أساس البحث حول تحقيق السعادة في الدول الأوروبية والأمريكية يدور على العمل لحياة أفضل وعيشة ترفل بالاستفادة من اللذائذ . . . ولهذا فأن قسماً كبيراً من الجهود البشرية في العالم المتمدن قد خصص لجلب اللذائذ ، وإن الفضائل المعنوية والمثل العليا قد فقدت أهميتها بالنسبة إلى أكثر الناس حتى يذهب بعضهم إلى أنهم في غنىً عنها :

« ومنذ حل الخلق النفعي مكان الخلق الديني والنفسي ، فأن الفضيلة لا تعتبر أمراً ضرورياً في نظر المتمدنين ، بحيث يرى ( رومن ) أنه

____________________

(١) چه مدانم ؟ أمراض روحي وعصبي ص ٧٢ .

لا داعي لنا أصلاً لأن نكون أتقياء ، وإن اختيار الفضيلة سينحصر في علاقتها بالنفع واللذة الفرديين فقط . . . » (١) .

هذا الأُسلوب من التفكير بعد خطأ فظيعاً من المدنية الحديثة ، وهو أعدى أعداء الإِنسانية وقيمها ومثلها الرفيعة . . . وعلى أثر اللامبالاة تجاه الإِيمان والفضائل المعنوية ، فإن عالم الغرب تنتشر فيه الجرائم يوماً فيوماً والشبان ينجرفون إلى هوة سحيقة من التردي والتحلل والفساد وإن الإِحصائيات السنوية في الدول الأوروبية والأمريكية لتدل على ازدياد السرقة والخيانة ، والإِغتيال والإِنتحار إلى غير ذلك من أنواع الجرائم . وإن من المؤسف أن لا تكون بلادنا معدومة النصيب في هذه المشاكل والجرائم . وهنا يستطيع كل فرد أن يدرك أن المجتمع الذي يتمثل الهدف الأسمى من حياة أفراده في اللذائذ المادية ولا تزيد الفضائل فيه على أنها تعتبر في عداد الأوهام والخيالات ، فإن الفساد والتفسخ يسرعان كالسيل الجارف إلى غزو أُولئك الأفراد ويهددان حياتهم المادية والمعنوية بالفناء والدمار .

مبدأ الواقع :

إن الإِسلام يبني أساس لسعادة البشرية على مبدأ الواقع أو الفطرة . . . إنه ينظر إلى الإِنسان بنظرة السماء الدقيقة ويؤسس سعادته على فطرته الواقعية وجبلته التي جُبل عليها . . . إنه ينظر إلى اللإِنسان من جميع جوانبه المادية والمعنوية ، الروحية والجسدية ، ويحسب لكل جانب حسابه الخاص .

ومن هنا يظهر أن الذين كانوا يبحثون عن السعادة البشرية في الكمالات الروحية ومحق الغرائز الجسدية وكبتها ، وقعوا في خطأ فادح فقد أهملوا حق نصف من وجود الإِنسان .

وكذلك الذين يرون اليوم إنحصار سعادة البشر في تقويم الإِقتصاد أو اللذة والشهوة وإهمال الجانب المعنوي فيه . فانهم خاطئون جداً .

____________________

(١) راه ورسم زندكي للدكتور الكسيس كارل ترجمة پرويز دبيري ص ٧٩ .


إن الإِنسان يتكون من جسد وروح ، وعليه فهناك نوعان من الرغبات في داخله : الرغبات المادية والميول المعنوية. فمن أخل برغبة من الرغبات الفطرية عند الإِنسان ، فإنه يخل بالعادة الإِنسانية بنسبة ما أهمل من رغباته. إن السعادة البشرية شأنها شأن شجرة باسقة تحمل آلاف الأغصان ، فبعضها يرتبط بالجانب المعنوي والروحي من الإِنسان ، وبعضها يرتبط بالجانب المادي منه ، والسعادة الحقيقية إنما تكون لمن تظله هذه الشجرة الطيبة بجميع غصونها وفروعها ، وتحيا فيه جميع الرغبات الظاهرية والباطنية .

إن التعاليم الإِسلامية تستند إلى الفطرة . . . الفطرة المودعة من قبل الله في خلق كل فرد ، والتي لا تتغير ولا تتبدل أصلاً :

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

فالإِسلام هو الدين القيم . . . والمنهج الرصين الذي يماشي قانون الفطرة والخلقة . ولهذا فإن النجاح الأكيد سيكون للإِسلام ، وإنه سينتصر على المذاهب والمبادىء الأُخرى بحكم الجبرية التاريخية شاء أعداؤه أم أبوا :

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) .

حجر الأساس في السعادة :

ولكي نثبت نظرة الإِسلام الشاملة إلى الميول الفطرية عند الإِنسان ـ ماديها ومعنويها ـ في ما يخص السعادة البشرية نلفت أذهانكم إلى النقاط التالية :

الايمان والأخلاق :

إن الإِيمان بالله ، وتزكية النفس وتطهيرها من الجرائم والآثام ، والمواظبة

____________________

(١) سورة الروم ؛ الآية : ٣٠ .

(٢) سورة التوبة ؛ الآية : ٣٣ .


على التحلي بالفضائل الإِنسانية تشكل حجر الأساس في بناء سعادة البشر ، وتعد من المناهج المهمة التي يتخذها الإِسلام في هذا المجال .

وقد وردت في ذلك مئات الآيات والأحاديث .

يقسم الله تعالى في سورة العصر . بأن جميع الناس من أي عنصر كانوا ، وفي أي زمان عاشوا مبتلون بالخسران والبؤس ، إلا الذين أحرزوا بعض الصفات ، أولها الإِيمان بالله :

( وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) (١) وفي سورة الشمس يقسم بالشمس والقمر ، والليل والنهار ، والسماء والذي بناها ، والأرض والذي بسطها ، والنفس الإِنسانية والله الذي وازن بين عناصرها . وألهمها الخير والشر . . .

( ... قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (٢) .

قسماً بكل هذه الآيات الإِلهية على أن السعادة والفلاح إنما يكونان لمن طهر نفسه من الآثام ونزَّه روحه عن الجرائم . وإن الشقاء والخيبة إنما تكونان لمن تلوَّث بالآثام والجرائم .

يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « عنوان صحيفة المؤمن ، حسن خلقه » (٣) .

إن الآيات الكثيرة الواردة في القرآن حول السماء والأرض والأشجار والحيوانات ، والنطفة والجنين . . . إلى غير ذلك من مختلف جوانب الوجود ، كلها تهدف إلى أن يوجِّه الإِنسان نظره إلى الخالق الكبير فيشتد إيمانه بالله العظيم . وإن الآيات الواردة بشأن الملكات الفاضلة والمثل العليا أو التي تذكر الصفات الرذيلة وتفصل القول في ذمها ، إنما نزلت لدعوة الناس إلى اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل ، ولذلك فإن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن الواجب

____________________

(١) سورة العصر ؛ الآية : ٢ .

(٢) سورة الشمس ؛ الآية : ٩ .

(٣) سفينة البحار ص ٤١٠ مادة ( خلق ) .


الذي بُعث من أجله فيقول : « بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق » (٣) .

إن كل مسلم يعلم جيداً إهتمام الإِسلام البالغ بالروح والكمال والأخلاق لكن من الواضح لكل مسلم أيضاً أن الروح والكمال والأخلاق ليست هي الكل في الكل بالنسبة إلى سعادة الإِنسان في الإِسلام ، إن الإِسلام لا يحصر إتباعه في حلقة من المعنويات فقط ، بل أنه حين يدعوهم إلى تكميل الجانب الروحي يعني تمام العناية بالجانب المادي فيهم ولذائذهم الطبيعية . ولأجل أن نتبيَّن موقف الإِسلام الصريح في هذا الموضوع علينا أن نتحدث عن رأي القرآن والحديث في المبدأ الإِقتصادي ومبدأ اللذة ـ وهما المبدأن المتداولان في العالم المتمدن اليوم ـ .

لا شك في أن النشاط الاقتصادي واستغلال الجهود البشرية للانتفاع من الذخائر الطبيعية ، لهو من أقوم الإِرشادات الدينية . وقد وردت بهذا الصدد نصوص كثيرة . إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليه‌السلام يقدرون النشاط الإِقتصادي كثيراً ، وهو يبلغ درجة قد يبدو الحث عليه فيها غريباً . ولأجل معرفة قيمة الإِقتصاد في الإِسلام نورد هنا بعض النصوص :

الجهد البشري :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة » (١) .

فالسعي وراء المال الحلال لضمان المعيشة واستمرار الحياة واجب على كل فرد من المسلمين .

٢ ـ وقال أيضاً : « من أكل كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء ، ويأخذ ثواب الأنبياء » (٢) .

____________________

(١) المصدر نفسه .

(٢) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج ٢٣ / ٦ .

(٣) المصدر السابق .


وفي هذا الحديث يقارن بين من يكد ليحصل على قوت يومه ، والنبي الذي يكد لأحياء الناس .

٣ ـ وفي الحديث : « الكاد على عياله ، كالمجاهد في سبيل الله » (١) .

فهذا يجاهد لدفع الضرر المادي عن المسلمين ، وذاك يكافح لدفع الضرر المعنوي ، ودفع الضررين كليهما مطلوب .

٤ ـ وسئل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أي كسب الرجل أطيب ؟ فقال : عمل الرجل بيده » (٢) .

٥ ـ كما ورد في الأُسلوب الذي كان يعيشه الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :  « كان لما يفرغ من الجهاد يتفرَّغ لتعليم الناس والقضاء بينهم ، فإذا فرغ من ذلك إشتغل في حائط له يعمل فيه بيديه وهو مع ذلك ذاكرٌ الله تعالى . . . » (٣) .

٦ ـ عن عبد الله بن عباس : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نظر إلى الرجل فأعجبه ، قال : هل له حرفة ؟ فإن قالوا : لا ، قال : سقط من عيني » (٤) .

استغلال القوى الطبيعية :

وبعد أن أوردنا بعض الأحاديث حول الحث على الجهد البشري والانتفاع منه في شتى المجالات ، لنسرد بعض النصوص الواردة بشأن استغلال القوى الطبيعية والإِستفادة منها :

١ ـ في الحديث : « إن قامت الساعة ، وفي يد أحدكم الفسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها » (٥) . فمن خلال هذا

____________________

(١) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٢ / ٤٢٤ .

(٢) المصدر السابق ج ٢ / ٤١٧ .

(٣) المصدر السابق ج ٢ / ٤١٧ . والحائط : البستان .

(٤) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٢٣ / ٦ .

(٥) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٢ / ٥٠١ .


الحديث ندرك مدى اهتمام الإِسلام بتشغيل القوى العاملة لاستغلال كنوز الأرض والاستفادة من خيراتها وعدم التماهل بشأنها ، حتى أنه ليحث الإِنسان على أن يبادر إلى غرس الفسيلة ، ( أو أي جهد إنتاجي آخر ) وإن علم بأن القيامة ستقوم بعد لحظات .

٢ ـ قال الإِمام علي عليه‌السلام : « نعم المال النخل ، من باعها فلم يخلف مكانها فإن ثمنها بمنزلة رماد على رأس شاهقة أشتدت بها الريح في يوم عاصف » . ولا يخفى أن ذكر النخل ليس محصوراً فيه ، وإنما عبَّر به الإِمام لأن النخيل أكثر انتشاراً من غيرها من الأشجار في الجزيرة العربية فتراه ينهي عن بيع النخل من دون أن يكون قد زرع نخلاً في مكان آخر يستفيد منها في المستقبل .

٣ ـ وفي حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً ، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة ، إلا كانت له به صدقة » .

٤ ـ يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من وجد ماء وتراباً ثم افتقر ، أبعده الله » (١) .

فهنا نجده عليه‌السلام يندد بالذي يملك المواد الأولية للزراعة وهي الماء والتربة . وتتوفّر له الظروف الصالحة فلا يستغلها ويبقى فقيراً ، فانه يستحق غضب الله ولعنته .

وهكذا نجد الإِسلام يهتم بأمر العمل والإِنتاج وتشغيل دولاب الإِقتصاد الوطني إلى درجة لا تسمح بالتكاسل والتواني حتى في أحرج الظروف وأتعس الأوقات . فنجد الإِمام الصادق عليه‌السلام يقول لهشام : « يا هشام إن رأيت الصفين قد التقيا ، فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم » (٢) .

وبالرغم من هذا الحث الشديد وهذا الإِهتمام البالغ بشأن الاقتصاد

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ / ١٩ .

(٢) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ج ١٢ / ١٤ .


والتأكيد على العمل لتقويمه وتقويته في الإِسلام ، فإنه لا يعتبر الكل في الكل بالنسبة إلى تحقيق السعادة الإِنسانية ، ولا يعطى أكثر مما يستحقه .

إن النشاط الإِقتصادي وتشغيل القوى والجهود البشرية لاستغلال الذخائر الطبيعية ليس إلا فرعاً من فروع شجرة السعادة في الإِسلام . . . نعم لا بد لنا أن نعترف بأنه فرع مهم وحيوي في تلك الشجرة . إلا أن الذين يعتبرون الاقتصاد هو الأساس في السعادة ، فإن اعتبارهم هذا يكشف عن عدم معرفتهم بحقيقة الإِنسان . ولذلك فهم ينزلونه ـ بنظرتهم هذه ـ عن مقامه الرفيع إلى مستوى آلة صماء أو حيوان فاقد الشعور .

الرهبانية :

كان يظن كثير من الناس والفلاسفة في الماضي ـ ولا يزال الكثر منهم يظن ـ بأن الطريق إلى السعادة البشرية ينحصر في كبت الغرائز الحيوانية ، وإطفاء الميول الجنسية . وكانت هذه العقيدة حتى زمن قريب شائعة جداً في أوروبا وأمريكا . فقد وجد في العالم المسيحي نساء ورجال كثيرون يترهبون باسم الدين ويتركون الدنيا وملاذها ، ويعرضون عن قانون الخلقة المتقن ومنهج الفطرة السليمة أي الزواج الصحيح . وكان وقع هذا الترهب حسناً جداً في نفوس المسيحين . . . ظالين أنهم يتمكنون بهذا العمل أن يتخلصوا من قيود الحيوانية ويصلوا إلى الإِنسانية الحقيقية فيصبحوا كملائكة السماء في الطهارة والروحانية والتجرد :

« كان أكثر الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل فرويد ينبذون الغرائز ، أي أنهم كانوا يصرحون أحياناً ويلمحون أُخرى بأنها عوامل تجر الإِنسان إلى الخصائص الحيوانية وكانوا يؤكدون على أن التمدن الصحيح لا يمكن أن يتحقق في المجتمع إلا بالصراع العنيف مع تلك الغرائز التي كانوا يعتبرونها ( أرواحاً حيوانية ) . وبعبارة أُخرى فأن هؤلاء المفكرين كانوا يقولون بأن هذه الغرائز تمنع البشرية من التكامل ، ولو كان يمكن أن تفقد من المجتمع بالمرة ، كان من


السهل إيجاد حياة إجتماعية متكافئة ومتزنة » (١) .

إن الغرائز الحيوانية والميول الجنسية تلعب دوراً مهماً في كيان الإِنسان ووجوده . فإن الله خلق البشر مع هذه الغرائز . وكل ما أودعه الله الحكيم في خلق الإِنسان فلا بد وأن يكون لمصلحة معينة .

الاستجابة للغريزة الجنسية :

إن الإِسلام العظيم الذي لم يغفل جانباً من جوانب الحياة ، ولم يغمط الحقائق الفطرية المؤثرة في سعادة البشر حقها . . . ليوصي المسلمين بالاستجابة للغريزة الجنسية وممارسة ميولهم الغريزية حسب منهج سليم ، ولذلك فإنَّه يعتبر الإِمتناع عن الزوج عملاً غير مرغوب فيه . ويرى أن العزاب يشكلون خطراً مهماً على سلامة المجتمع ، فالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « شرار أمتي عزابها » (٢) .

ومن خلال سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاه العازفين عن الزواج في المدينة ندرك مدى إهتمام الإِسلام بهذه الناحية ، فقد كان هناك رجل يسمى ( عكاف ) قد أعرض عن الزواج ، وقد حضر مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة فسأله النبي عن إمكانياته وظروفه المالية والبدنية ، فأجاب بالإِيجاب فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينذاك بكل صراحة : « تزوج وإلا فأنت من المذنبين » (٣) .

إن الترهب والإِعراض عن الدنيا يعتبر عملاً حسناً ومرغوباً فيه من الوجهة الدينية في عالم الغرب بينما القضية على عكس ذلك تماماً في الإِسلام فالإِعراض عن الزواج في نظره لا يعد سيئة فحسب ، بل يعتبر إعراضاً عن طريق الفطرة المستقيم وانحرافاً عن سنة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو يقول : « النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني » .

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٥٠ .

(٢) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٢ / ٥٣١ .

(٣) المصدر السابق .


ومع أن الحث على الزواج والتأكيد على إرضاء النوازع الفطرية قد ورد بصورة كثيرة في القرآن الكريم والرويات العديدة ، فإن الشهوة لم تعرف أصلاً ثابتاً للسعادة ، بل يعتبرها الإِسلام فرعاً من فروع شجرة السعادة لا غير .

السعي وراء اللذة :

يدعي ( فرويد ) أن الشهوة الجنسية تظهر في الإِنسان بصور مختلفة واللذة عبارة عن الإِستجابة للميول الجنسية في مظاهرها المختلفة وصورها المتباينة . ويدعي آخرون : إن هناك ميولاً مستقلة ، وغرائز أُخرى غير الغريزة الجنسية . وعليه فيجب الإِستجابة لجميع تلك النوازع والغرائز . . . وعلى أي حال فالأمر الذي لا خلاف فيه ، هو أن الإِنسان يشعر بارتياح شديد عندما يستجيب لميوله . وهذا الشعور بالإِرتياح هو الذي يعبّر عنه باللذة ، والذي يبعث الحرارة والحيوية في المجتمعات البشرية ويهيج فيهم عواطفهم . ولذلك فأن المجتمعات الحديثة تعتبر جلب اللذة أسمىٰ الأهداف التي تهضهم في نفسها قسطاً كبيراً من نشاط العالم المتمدن حتى ظن البعض أنهم لم يخلقوا إلا لممارسة نشاطهم الجنسي وتحقيق اللذة .

ومن المؤسف أن الطبيعة قد ركبت بصورة نجد فيها إمتزاجاً تاماً بين الآمال والآلام ، واللذة والألم . وهذا ما يوجب محدودية البشر في سلوكهم :

« أنه لا ينكر أن الإِستجابة للميول الغريزية توجب الشعور باللذة عند الإِنسان ، ولكن في الغالب تصطدم هذه الإِستجابة بآلام وليدة ظلم الطبيعة . إذن فالحياة حتى لو شابهت حياة الحيوانات في الحرية فأنها لا توجب السعادة ولهذا فإن الفلاسفة وعلماء الأخلاق يرجحون أن يصرفوا بحوثهم في إيجاد الأساليب التي تهدىء الآلام وترفع المصاعب عن طريق الحياة ، فنراهم قد وصلوا إلى هذه النتيجة ، وهي : أن كل ألم معلول لإِدراك معين ، وعليه فيجب السعي لإِزالة أو تخفيف العلل الروحية والبدنية التي تؤدي إلى ذلك الإِدراك ولذلك فإن أول علاج يجده الإِنسان في هذا السبيل


هو استعمال المواد الكحولية والمخدرة الأُخرى » (١) .

وبالرغم من وجود المشاكل العديدة في طريق تحقيق اللذة . . . فإن البشر لا يقتنع ولا يقف عند حد في السعي وراء رغباته الغريزية .

إن الإِسلام لا يكتفي بالموافقة على الإِستجابة للرغبات الفطرية فحسب بل يعتبر ذلك من شؤون تحصيل السعادة البشرية . إلا أنه يحسب حساباً دقيقاً لذلك . فإن إرضاء الغرائز والإِستجابة لها مسموح في نظره إلى حيث لا يؤدي إلى الشقاء والفساد ، ولا يهودي بالمجتمع إلى هوة سحيقة من الإِجرام والدنس .

إن من المستحيل أن يحصل الفرد ـ في أي مجتمع كان ـ على حريته المطلقة في الإِستجابة لميوله وغزائزه . . . إذ بعد الفراغ من وجود الحواجز الطبيعية أمام ذلك . فإن الإِخلال بالنظام والأمن أو الحرية الإِجتماعية عامل قوي في إيقافه عند حده . ومن هنا نجد الإِسلام لا يكتفي بالمنع من بعض اللذات التي يمنع منها العالم المتحضِّر في القرن العشرين ، بل يستنكر أشد الاستنكار اللذات التي تهدم صرح الإِيمان والتقوى ، وتخالف الأسس الأخلاقية والإِنسانية . أما اللذات التي لا تؤدي إلى ضرر مادي أو معنوي كالزوجة الجميلة ، والطعام اللذيذ ، والملابس الأنيقة ، والدار الواسعة ، والمركب الحسن ، والرفاه في المال والمناظر الطبيعية الخلابة . . . وعشرات غيرها من الأمور التي تعد إرضاه للميول الغريزية بشكله المعقول فأن الإِسلام يعتبر ذلك جزء من منهجه القويم في تحقيق السعادة البشرية .

إرضاء الميول الغريزية :

وعلى سبيل المثال نستعرض بعض الشواهد من النصوص على ما ذهبنا إليه :

____________________

(١) مذكرات فرويد . وقد ترجمت إلى الفارسية تحت عنوان ( انديشه هاي فرويد ) ص ١٠٨ .


١ ـ قوله تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ ، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ، وَكُلُوا ، وَاشْرَبُوا ، وَلَا تُسْرِفُوا ، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (١) .

٢ ـ قوله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ؟ ! ) (٢) .

٣ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل نساء أُمتي أصبحهن وجهاً وأقلّهن مهراً » (٣) .

٤ ـ عن النبي أيضاً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن من سعادة المرء المسلم أن يشبهه ولده ، والمرأة الجملاء ذات دين ، والمركب الهني ، والمسكن الواسع » (٤) .

٥ ـ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « أربع من سعادة المرء : الخلفاء الصالحون ، والولد البار ، والمرأة المواتية ، وأن تكون معيشته في بلده » (٥) .

٦ ـ عن الإِمام الصادق عليه‌السلام « ثلاثة هي من السعادة : الزوجة المواتية ، والولد البار ، والرزق يرزق معيشته ، يغدو على صلاحها ويروح على عياله » (٦) .

٧ ـ وفي الحديث الشريف : « من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه » (١).

٨ ـ وعن الإِمام الصادق عليه‌السلام : « من السعادة سعة المنزل » (٨) .

____________________

(١) سورة الأعراف ؛ الآية : ٣١ .

(٢) سورة الأعراف ؛ الآية : ٣٢ .

(٣) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ / ٥٥ .

(٤) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ / ٥١ .

(٥) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ / ٥٥ . ومعنى ( أن تكون معيشته في بلده ) أن يكون في رفاه إقتصادي فلا يضطرُّ للخروج إلى غير بلده للتكسب وطلب العيش .

(٦) بحار الأنوار ج٢٣ / ٥٠ . والمرأة المواتية : المطيعة .

(٧) مكارم الأخلاق للطبرسي ص ١٣٨ . والدابة إذا توسعنا في معناها وقسنا الظروف أمكن شمولها للسيارة مثلاً في عصرنا الحاضر .

(٨) مكارم الأخلاق ص ٦٥ .


٩ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سعادة المرء : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والمركب البهي ، والولد الصالح » (١) .

تجاوز حدود الفطرة :

وهكذا يتبيّن لنا أن الإِسلام يعتبر إرضاء الميول الغريزية للبشر أمراً محبَّذاً ، ويهتم بذلك على أنه من فروع السعادة البشرية ، أما أن يعتبرها أصلاً في ذلك فلا ! . إذ أن الذي يغرق في الملاذ المادية ويحصر نفسه في سجن الشهوة والغرائز فقط يكون قد حاد عن الفطرة الإِنسانية السليمة التي تأبىٰ هذا النوع من الحياة . . . حياة البهائم . . . حياة الميوعة .

ومن هنا تأتي الكلمة القاطعة الصريحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن لم يَرَ الله عزَّ وجل عليه نعمةً إلّا في مطعمٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ ، فقد قصر عمله ودنىٰ عذابه » (٢) .

فالسعادة الحقة للبشر ـ في نظر المشرِّع الأعظم ـ هي في اكتمال جميع الجوانب المادية والمعنوية وإرضاء كل الميول الإِنسانية المشروعة وهكذا فمن يتخلى عن ميوله المادية بحجة الإِلتفات إلى الجهات المعنوية فهو مخطىء في نظر الإِسلام ، وكذلك من يتخلى عن كمالاته الروحية سعياً وراء إرواء ظمأ شهواته وغرائزه . يقول الإِمام الباقر عليه‌السلام : « ليس منا من ترك دنياه لآخرته ، ولا آخرته لدنياه » (٣) .

تعادل الروح والجسد :

إن حفظ التوازن بين الروح والجسد أهم عوامل النجاح والسعادة وأن أئمة الإِسلام عليه‌السلام كانوا إذا لاحظوا إفراطاً أو تفريطاً في سلوك أصحابهم في جانب

____________________

(١) مكارم الأخلاق ص ٦٥ . وفي هذا الحديث ( المركب البهي ) بينما كان في الحديث رقم (٤) : ( المركب الهني ) . والظاهر تقارب معنييهما . إذ الأول يدل على المركب الوقر اللائق بالراكب . والثاني يكتفي بذكر الارتياح به في ركوبه .

(٢) سفينة البحار مادة ( دنىٰ ) ص ٤٦٤ .

(٣) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي ج ٤ / ١٠٦ .


مادي أو معنوي ، إهتموا بتعديل ذلك الإِنحراف وتسوية ذلك الخطأ .

كان في البصرة أخوان ، أحدهما : علاء بن زياد الحارثي. والآخر عاصم . وكانا كلاهما من المخلصين لعلي عليه‌السلام ، وكانا مختلفين في السلوك فعلاء مفرط في حبه للدنيا وجمعه للمال . . . أما عاصم فكان على العكس منه مدبراً ظهره للدنيا ، صارفاً جل وقته في العبادة وتحصيل الكمالات الروحية . وفي الواقع كانا كلاهما قد تجاوزا الطريق المستقيم ، وانحرفا عن الصراط السوي . . .

وذات يوم مرض ( علاء ) فذهب علي عليه‌السلاملعيادته ، وما أن استقر به الجلوس حتى التفت الإِمام إلى سعة عيشه وإفراطه في سعيه وراء المادة ، فخاطبه قائلاً : وماذا تصنع يا علاء بهذه السعة المفرطة من العيش ؟ إنك إلى تحصيل وسائل سعادتك المعنوية أحوج ، فاسعُ في ذلك الجانب أيضاً . . . ثم قال عليه‌السلام : اللهم إلَّا أن تكون عملت ذلك كله لتمهيد طريق السعادة المعنوية ، لتتمكن من استقبال أكبر عدد ممكن من الضيوف في بيتك. وتستطيع من صلة أرحامك وأداء حقوق إخوانك بأكمل وجه [ ملاحظة : لمعرفة نصّ الكلام يراجع نهج البلاغة ] .

لقد أثر هذا الدرس البليغ ـ بأسلوبه الهادء المتين ـ في ( علاء ) كثيراً ، وجاشت به العواطف للشكوى من تفريط أخيه فقال : « أشكو إليك عاصم بن زياد قال : وما له ؟ قال : لبس العباء وتخلى من الدنيا قال : علي به ! » .

وبعد أن أحضر عاصم بين يدي الإِمام وبخه قائلاً : « يا عُديَّ نفسه (١) ، لقد إستهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك ؟ أترى الله أحل لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟ أنت أهون على الله من ذلك . . . » .

من خلال سرد هذه الحادثة التاريخية يتضح مدى إستقامة المنهج الإِسلامي الذي نطق به الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو يعبِّر عن نظرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكم الله عز وجل . . . لكن بقيت في نفس عاصم بن زياد مشكلة لم

____________________

(١) عُديّ : تصغير عدو .


يجد لها حلاً ، وهي كيفية التوفيق بين كلام الإِمام عليه‌السلام وعمله ، حيث قد زهد في الدنيا وترك الملاذ ، فجاشت عواطفه وما أسرع أن قال :

« . . . يا أمير المؤمنين : هذا أنت في خشونة ملبسك ، وجشوبة مأكلك ؟ ! قال : إني لست كأنت . . . إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس ؛ كي لا يتبيغ بالفقير فقره . . » (١) .

هذه هي خلاصة سريعة لعرض الآراء المختلفة ـ قديمها وحديثها ـ حول تحقيق سعادة الإِنسان وقياسها بتعاليم الإِسلام العظيمة وحلوله الشافية . . .

على أن من الضروري أن نعلم : إن الأسس الأولى لسعادة الإِنسان إنما تخطط في رحم الأم . وإن التحقيقات العلمية الدقيقة أثبتت : إن لعالم الرحم دوراً مهماً في تقرير سعادة الإِنسان أو شقائه . ولهذا فسنحاول أن نتكلم بشيء من التفصيل عن هذا الدور في المحاضرة القادمة إن شاء الله .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١١ / ٣٢ ، طبعة دار الإِحياء . وقوله ( يتبيغ ) أي يهيج به . كما يقال : ( تبيغ الدم بصاحبه ) أي : هاج به .


المحاضرة الثالثة

السعادة والشقاء في رحم الأم

قال الله تعالى في كتابه العظيم : ( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) (١) .

يتطلب هذا البحث دقة وتعمقاً من الجهتين : العلمية والدينية . وللتمهيد إلى صلب الموضوع لا بد من توضيح بعض الأمور التي تتعلق بالبحث . هذا ولا يغيب عن البال أن الإِكتشافات العلمية الحديثة ساعدت على فهم بعض الآيات والروايات كثيراً . ومن تلك الموارد موضوعنا اليوم ، حيث نأمل أن نتمكن من الإِستفادة من التجارب العلمية الحديثة للوصول إلى أسرار بعض الآيات ، ونكات بعض الروايات المتعلقة بالموضوع ، والآن لنبدأ بذكر المقدمات :

معنى السعادة والشقاء :

إن أول نقطة يجب فهمها من الروايات والأحاديث في موضوع السعادة والشقاء وعلاقتهما برحم الأم ، هو فهم معنى السعادة والشقاء .

____________________

(١) سورة نوح ؛الآية : ٢٦ .


السعادة : حسن الحظ . ويشمل كل ألوان الخير والراحة والرفاه والبركة . . .

والشقاء : سوء الحظ . ويشمل جميع صنوف الشر والقلق والضيق والشدة . . .

ومن هنا يظهر شمول كلتا الكلمتين وإتساع دائرتيهما لكثير من المعاني ولكن كثيراً من الناس ينتقلون من لفظة ( الشقاء ) إلى معنى فقدان الإِيمان والمعصية فقط . فالشقي عندهم هو المنغمس في الجرائم والمعاصي ، في حين أن الجريمة إحدى مراتب الشقاء فقط . وهناك كثير من الأمور لا تعد ذنوباً أو معاصي في عرف الشرع لكنها ـ مع ذلك ـ توجب الشقاء للإِنسان . كما تصرح بذلك بعض الروايات ، نكتفي بنقل واحدة منها :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أربع من السعادة وأربع من الشقاوة . فالأربع التي من السعادة : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والجار الصالح ، والمركب البهي . والأربع التي من الشقاوة : الجار السوء ، والمرأة السوء ، والمسكن الضيق ، والمركب السوء » (١) .

وبالرغم من أن المسكن الضيق والمركب السوء ليسا من الأمور التي توجب للإِنسان معصية أو جريمة . فأننا نجد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدهما من أسباب شقاء الإِنسان . وإذا كان المركب السوء والمسكن الضيق من شقاوة الرجل فيمكن إعتبار العمى والجنون منها بطريق أولى ، فإذا خُلق الطفل أعمىٰ في بطن أمه ، أو ولد مجنوناً لجنون في أبيه أو حمق في أمه . . . فيمكن القول بأنه كان شقياً في رحم أُمه .

قانون الوراثة :

أدرك الإِنسان منذ أمد بعيد ، أن الموجود الحي ينقل كثيراً من الصفات والخصائص إلى الأجيال التي تليه ، فالجيل اللاحق يكتسب صفات الجيل

____________________

(١) مكارم الأخلاق ص ٦٥ .


السابق . فبذرة الزهرة تحفظ في نفسها خصائص الساق والورقة والزهرة والألوان الطبيعية لها ، وبعد الانبات تأخذ بإظهار تلك الخصائص واحدة تلو الأُخرى .

إن بذرة المشمش تشتمل على جميع الصفات المائزة للشجرة التي وجدت منها ، فعندما تزرع هذه البذرة ، وتنبت ، وتأخذ بالنمو تظهر تلك الصفات تدريجياً . وهكذا فالقطة الصغيرة تشبه أبويها في هيكلها وشعرها ومخالبها . وترث صفات أسلافها . وكذلك الطفل الأفريقي فهو يشبه أبويه في سواد البشرة وتجعد الشعر ، ووضع الأنف ولون العيون في حين أن الطفل الأوروبي يرث المميزات التي يختص بها العنصر الذي ينتمي إليه أبواه في لون البشرة والعيون والشعر ووضع الأنف وما شاكل ذلك .

وبصورة موجزة نقول : إن قانون الوراثة من القوانين المهمة في حياة الموجودات الحية . وهذا القانون هو الذي يكفل للنبات والحيوان والإِنسان بقاء صورها النوعية الخاصة بها . . . وعلى هذا الأساس يكتسب الأبناء صفات الآباء من دون حاجة إلى أي نشاط إرادي منهم .

عامل الوراثة :

حققت العلوم التجريبية إنتصارات رائعة في مختلف مظاهر الطبيعة . وبذلك كشفت اللثام عن كثير من الحقائق التي كانت مجهولة لدى السابقين ولقد ساير ( علم الأجنة ) و ( البحث عن الخلية ) التقدم العلمي في المجالات  « الأُخرى في تكامله وتوسعه يوماً بعد يوم .

لقد إستطاع العلماء أن يفحصوا الموجودات الصغيرة بواسطة أجهزة قوية ومكرسكوبات ( مجاهر ) دقيقة ، توصلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هو وحدة صغيرة جداً تسمى ( الخلية ) ، وهذه تتكامل تحت شروط معيَّنة ، وتظهر بصورة حشرة أو حيوان أو إنسان . إن إكتشاف هذا السر الدفين عقدّ قانون الوراثة أكثر ، وأدى إلى توسع البحوث فيه والتساؤل عن أسرار هذه الخلية وكيفية تأثير عوامل الوراثة فيها وأين تكمن ؟ .

« لقد صرف علماء الحياة وقتاً كثيراً خلف الميكرسكوبات في


البحث عن أسرار الخلية . فإن المسألة كانت محاطة بمشاكل عديدة . فهم كانوا يواجهون الخلية من جهة وكيف أن هذا العضو المادي يحتفظ بخواصه الفيزياوية والكيمياوية ، ومن جهة أُخرى كانوا يصطدمون بقوانين الوراثة التي أخذت تتضح حسب معادلات رياضية دقيقة تبعاً لقانون ( مندل ) » .

« فأين يكمن عامل الوراثة ؟ وفي أي جزء من الخلية ؟ وعلى أي الأعضاء يقع عبء هذه الظاهرة ؟ أي جزء من ( البروتوبلازم ) وأي جانب من ( النواة ) يجعل الطفل يرث شكل أنف أمه وعيني أبيه ، والصفة الفلانية من أجدادة ؟! » (١) .

وبعد الجهود العظيمة والتتبع الدقيق توصل العلماء إلى أن في الخلية ( نواة ) بيضية الشكل ذات جدار مرن ، توجد في داخلها أجسام صغيرة تظهر عند إنقسام الخلية ، ولقد أسموها بـ ( الكروموسومات ).

« ولقد توصل كثير من علماء الحياة إلى معرفة أعدادها وأثبتوا أن كل خلية من خلايا جسم الإِنسان تحوي ٤٨ كروموسوماً ، وخلية الفأرة ٤٠ ، والذبابة ١٢ ، والحمص ١٢ ، والطماطم ٢٤ ، والنحلة ٣٢ . . ألخ » (٢) .

ولقد خطأ العلماء في تحقيقاتهم العلمية في هذا المضمار خطوة أُخرى ، فتوصلوا إلى أن في ( الكروموسومات ) أجساماً صغيرة جداً أطلقوا عليها إسم

____________________

(١) تاريخ علوم ص ٧٠٧ ، تأليف پي ييروسو ترجمة حسن صفاري وهو كتاب قيم طبع سنة ١٩٥٤ م للمرة الخامسة والستين باللغة الفرنسية عدا الترجمات إلى اللغات الأُخرى .

(٢) المصدر نفسه . وهنا يلاحظ أن عدد هذه الكروموسومات زوجي في كل خلية ، فكروموسومات خلية الإِنسان ٢٤ زوجاً ، والفأرة ٢٠ زوجاً ، والذبابة ٦ أزواج ، وهكذا . . . فهذه تنقسم عند تكوين الخلايا التناسلية في الأحياء إلى قسمين لكي لا يتعاظم عددها بل يبقى ثابتاً في كل نوع . لأن بقاءها على حالها يؤدي إلى تضاعف عددها لاجتماع الخلايا الذكرية والأنثية ، وهكذا تزداد في كل مرة إلا أن انقسامها يجعل عددها ثابتاً . وهذا الانقسام يسمى بالانقسام الخيطي .


( الجينات ) ، وأثبتوا أن هذه الأجسام هي الناقلة للصفات الوراثية في الحقيقة . فالجينات هي التي تؤثر في انتقال صفات الشعر والبشرة ووضع الأنف والشفتين وغير ذلك من الصفات من الآباء والأُمهات إلى الأولاد .

« لقد أثبت علم الوراثة الحديث ، أن الصفات الوراثية تنتقل بواسطة الكروموسومات وتتوزع توزيعاً خاصاً في الخلايا التناسلية وعليه فأن لهذه الكروموسومات أجزاء صغيرة جداً يبلغ عددها العشرات والمئات تسمى بـ ( الجينات ) وهي تكون العوامل الوراثية . لقد توصلوا إلى وضع هذه الجينات في نوع من الذباب اسمه ( دروزوفيل ) وعيّنوا مراكز تلك الجينات بالنسبة إلى الكروموسومات وعرفوا أبعادها . . . » (١) .

 « إن الصفات الوراثية ترتبط بعوامل معينة تسمى بـ ( الجينات ) ، وإن عددها كثير جداً . هذا ولا تخلو الجينات من تأثير على بعضها البعض . فقد يرتبط تأثير واحد بعدة جينات بمعنى أن كلا منها ينقل جزء معيناً من تلك الخواص والصفات . . . » (٢) .

الوراثة قبل تطورها :

لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضىٰ ، بل كانوا يجهلون خصوصياتها . إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة ونواة الشجرة ونطفة الإِنسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة .

إن ما إكتشفه علماء الوراثة اليوم ، وتوصلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية والتي أسموها ( الجينات ) ليس أمراً جديداً كل الجدة . فالرسول الأعظم والأئمة الطاهرون عليه‌السلام ، الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي والإِلهام لم يغفلوا

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بنياد أنواع ص ٦٩ .

(٢) چه ميدانيم ؟ سرطان ص ٤٢ .


أمر هذا القانون الدقيق . بل أشير إليه في بعض النصوص وأطلق على عامل الوراثة فيها اسم ( العِرق ) .

وبعبارة أوضح : فإن المعنى الذي يستفيده علماء الوراثة اليوم من كلمة ( الجينة ) هو نفس المعنى الذي استفادته الأخبار من كلمة ( العِرق ) وعلى سبيل المثال نذكر بعض تلك الروايات .

١ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنظر في أي شيء تضع ولدك ، فإن العرق دساس » (١) . وحينما نراجع المعاجم اللغوية في معنى كلمة ( دساس ) نجد أن بعضها ـ كالمنجد ـ يعلق على ذلك بالعبارة التالية : « العرق دساس أي : أن أخلاق الآباء تنتقل إلى الأبناء » (٢) .

فهذا الحديث يتحدث عن قانون الوراثة بصراحة . ويعبِّر عن العامل فيها بالعرق . فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوصي أصحابه بألا يغفلوا عن قانون الوراثة بل يفحصوا عن التربة الصالحة التي يريدون أن يبذروا فيها ، لكي لا يرث الأولاد الصفات الذميمة .

٢ ـ عن الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق » (٣) . وهذا الحديث يثبت إمكان إكتشاف الطهارة العائلية للفرد من السجايا الفاضلة عنده .

٣ ـ وهذا محمد بن الحنفية ابن الإِمام علي عليه‌السلام كان حامل اللواء في حرب الجمل ، فأمره علي بالهجوم ، فأجهز على العدو ، لكن ضربات الأسنة ورشقات السهام منعته من التقدم فتوقف قليلاً . . . وسرعان ما وصل إليه الإِمام وقال له : « إحمل بين الأسنة » فتقدم قليلاً ثم توقف ثانية ، فتأثر الإِمام من ضعف ابنه بشدة فاقترب منه و « . . . ضربه بقائم سيفه وقال : أدركك عرق من

____________________

(١) المستطرف من كل فن مستظرف ج ٢ / ٢١٨ .

(٢) المنجد ، مادة : دسَّ .

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ١٦٧ ط دار الثقافة في النجف الأشرف .


أُمك » (١) .

فهنا يثبت الإِمام عليه‌السلامأن الجبن الذي ظهر واضحاً في ابنه محمد ليس موروثاً منه عليه‌السلاملأنه لم يعرف للجبن معنى قط ، فلا بد وأن يكون من أُمه ، لأنها لم تكن من الفضيلة بدرجة تكون معها بمنزلة الصديقة الزهراء عليه‌السلام .

الشذوذ عن قانون الوراثة :

وبالرغم من أن قانون الوراثة قانون ثابت وعام . وأن إنتقال الصفات الوراثية من الآباء والأمهات إلى الأبناء أمر مسلم به عند علماء الوراثة فإن هناك ظواهر تثبت شذوذ الطبيعة عن هذا القانون ، ولقد أثبتت التحقيقات العلمية أنواعاً من هذا الشذوذ في كثير من الفطريات والأعشاب والأزهار والأشجار والحشرات والحيوانات البرية والمائية والطيور وحتى في البشر .

لقد أثبتت التجارب أن هذه الطفرة الحاصلة في بعض الصفات الوراثية قد تصبح وراثية فتنتقل إلى الأجيال اللاحقة ، بينما تبقى في بعض الحالات جامدة لا تتعدى الأجيال التي تأثرت بهذه الطفرة .

إن هذه الطفرة أو الشذوذ عن قانون الوراثة يمكن أن يعزى إلى سببين رئيسين : أحدهما : التغيرات الحاصلة في وضع ( الجينات ) و ( الكروموسومات ) الموجودة في الخلية الحية . وثانيهما : وراثة الصفات الموجودة في الأجداد والأسلاف البعيدين وظهور بعض الصفات التي كانت مضمرة في الآباء .

والآن لنستعرض هذين العاملين بشيء من الإِختصار :

١ ـ التغيرات الحاصلة في وضع الجينات :

« يجب أن لا يغيب عن البال أنه قد تظهر بعض الخواص الوراثية تبعاً للبيئة ، وعلى العكس فقد تختفي بعض الصفات في أحد الأجيال

____________________

(١) تتمة المنتهى ص ١٧ .


وتقف نهائياً ، وقد تستمر الصفات الحادثة في الانتقال من جيل إلى جيل . هذه العملية تسمى بالطفرة ، والتي لم يتوصل بعد إلى معرفة عللها الواقعية . وعليه فمن الخواص الأصلية للطفرة هي قابليتها للتوارث ، ويستنتج من هذا أنه عند حصول نقصان في بعض الجينات أو الكروموسومات في الخلايا التناسلية ، تحصل تغيرات مهمة في الأجيال اللاحقة من حيث بناء الجسم . ولقد بقي العلماء مقتصرين على ملاحظة الطفرة التلقائية ( الذاتية ) لمدة . ولكن مولر إستطاع في سنة ١٩٢٧ أن يحدث هذه الطفرة تجريبياً بواسطة توجيه بعض الأشعة على الخلايا التناسلية ثم جاء راديوم فاستطاع أن يجري تجارب دقيقة على تلك الخلايا بتأثير الأشعة السينية » (١) .

وكثيراً ما نشاهد طفلاً أشهب العينين ، أشقر الشعر ، أبيض البشرة ذا هيكل غربي تماماً في حين أن أبويه يملكان عيوناً سوداً ، وشعراً أسود ، وبشرة سمراء ، وهيكلاً شرقياً تماماً ، إن هذه التغيرات التي تخالف السير الطبيعي لقانون الوراثة يمكن أن نستند إلى التغيرات الأولية والفجائية للجينات . وهذا التغير يوجد في النبات والحيوان والإِنسان على السواء . وكثيراً ما يقع هذا التغير حيث يؤدي إلى اختلاف العناصر ومنشأ هذا كله راجع إلى الطفرة . ولكن العلوم البشرية لم تتوصل بعد إلى العلل الواقعية لأمثال هذه الطفرات الحاصلة ، اللهم إلا مجرد بعض النظريات والاحتمالات الفارعة .

« من المحتمل أن تكون الطفرات التلقائية التي تظهر من دون علة واضحة ناشئة من تأثير بعض الأشعة الطبيعية كاشعاعات الأرض المتصلة بالقوة الناقلة لأمواج الراديو في التربة ، أو إشعاعات الهواء الناشئة من الشمس أو إشعاعات ما وراء السدم والمجرات . . . » (٢) .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ سرطان ص ٤٢ .

(٢) نفس المصدر ص ١٠٢ .


١ ـ الوراثة عن الأجيال البعيدة :

كان الفرض الأول يتضمن ظهور علل في الطبيعة تبعث على التغيرات الابتدائية للجينات ، وظهور صفات جديدة من دون سابقة ما ، ولكن الفرض الثاني في الموضوع هو وجود الجينات الصانعة للصفات الجديدة في خلايا الأجيال السابقة بصورة مضمرة ، وظهورها عند حصول الشروط المساعدة لها .

« إذا أخذنا فأرتين إحداهما بيضاء والأُخرى رمادية وزاوجنا بينهما ، فالجيل الناشىء منهما يكون رمادي اللون هجيني . وهذا يدلنا على أن لبعض الألوان خاصية الغلبة ، ولبعضها خاصية المغلوبية . فإذا لقحنا الفئران الناتجة من الجيل الأول فيما بينها كان الجيل الثاني على ثلاثة أنواع : ـ رمادي نقي ( غالب ) في ربع الحالات ورمادي هجيني في نصف الحالات ، وأبيض نقي ( مغلوب ) في ربع الحالات ، ومن هنا نستنتج أن اللون الأبيض الذي إختفى في الجيل الأول لم يندثر تماماً بل ظهر في الجيل الثاني بنسبة ١ / ٣ عند تلقيح فأرتين رماديتين هجينتين » (١) .

 « يمكن تمييز المجرم الذي نشأ على الإِجرام من صغره عن غيره في علم النفس بأنه يشبه الإِنسان القديم في إختلال تركيب الوجه أو الجمجمة ، واندفاع الجبهة إلى الأعلىٰ وحدّة الأذن وعدم التصاقها تماماً . إن ظهور هذه العلامات ناتج من الوراثة والأخذ من الأجداد ، ولذلك فمن السهل ملاحظة غرائز الإِنسان القديم في هؤلاء الأفراد ، كما يمكن مشاهدة صفات الحيوانات القديمة المندثرة في بعض الحيوانات الحاضرة بلا فرق » (٢) .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ سرطان ص ٤٢ ، وتمسى الصفة الغالبة في علم الوراثة بالعامل الغالب والصفة المغلوبة بالعامل المتنحي .

(٢) چه ميدانيم ؟ جنايت ص ٣٦ . هذا هو رأي علماء القانون الذين ينتمون إلى ( المدرسة الوضعية ) ، إذ ترى هذه المدرسة في شخص المجرم والصفات الوراثية التي تلقاها من أسلافه العامل الحاسم في تقرير مصيره ، من هؤلاء ( لو مبروزو ) ، بينما تبرز ( النظرية


الصفات المختفية :

ومن السهولة بمكان أن نستنتج من هاتين الفقرتين : أن الحيوان أو الإِنسان قد يرث من أبويه أو أجداده البعيدين صفات كانت مختفية فيهم ولكن توفر بعض الشروط المناسبة والبيئة الخاصة أدىٰ إلى ظهور تلك الصفات في الأجيال اللاحقة . إن العلماء اليوم يربطون بين الإِنسان الحالي وأجداده الماضين بالجينات الناقلة للصفات الوراثية ربطاً دقيقاً ومعقداً في نفس الوقت .

« يمتد الإِنسان في الزمن مثلها يمتد في الفراغ إلى وراء حدود جسمه . . . وحدوده الزمنية ليست أكثر دقة ولا ثباتاً من حدوده الإِتساعية . فهو مرتبط بالماضي والمستقبل ، على الرغم من أن ذاته لا تمتد خارج الحاضر . . . وتأتي فرديتنا كما نعلم إلى الوجود حينما يدخل الحيمن في البويضة . ولكن عناصر الذات تكون موجودة ، قبل هذه اللحظة ، ومبعثرة في أنسجة أبوينا وأجدادنا وأسلافنا البعيدين جداً . لأننا مصنوعون من مواد آبائنا وأُمهاتنا الخلوية . وتتوقف في الماضي على حالة عضوية لا تتحلل . . . وتحمل في داخل أنفسنا قطعاً ضئيلة لا عداد لها من أجسام أسلافنا . . . وما صفاتنا ونقائصنا إلا إمتداد لنقائصهم وصفاتهم . . . » (١) . « إن أساس تكوين أنسجة الإِنسان مسألة يكتنفها الغموض ، إذ أننا لا نعرف كيف جمعت ( جينات ) أبويه وأجداده وأجداد أجداده في البويضة التي نشأ هو منها ، كما نجهل إذا كانت ذرات نووية معينة من أحد الأسلاف البعيدين المنسيين غير موجودة فيه . أو إذا كانت تغييرات إختيارية في ( الجينات ) قد لا تتسبب في ظهور بعض الصفات غير المتوقعة . فقد يحدث أحياناً أن يبدي أحد الأطفال الذين عرفت ميول أسلافهم لعدة

____________________

الإِجتماعية ) في هذه المدرسة أهمية الأسباب الإِجتماعية المتصلة ببيئة المجرم . ومن دعاتها ( فيري ) و ( جاروفالوا ).

(١) الإِنسان ذلك المجهول ، للدكتور الكسيس كارل ص ٢٠٣ .

أجيال ، إتجاهات جديدة وغير متوقعة » (١) .

الاعجاز العلمي للرسول الأعظم (ص) :

وبعد أن تطرقنا لذكر بعض الأسس الممهدة لقانون الوارثة وبالنظر إلى التحقيقات العلمية الدقيقة التي توصل إليها علماء الوراثة في العصر الحاضر ، يتضح جلياً مدى عمق بعض الأحاديث المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نكتفي بذكر حديثين يتعلقان بمورد واحد أو موردين متشابهين . وهذان الحديثان يعتبران من المعاجز العلمية للنبي الكريم ، ولولا الإِكتشافات الحديثة لما اتضح معناهما . لقد توصل علماء البشر طوال سنين عديدة وبعد جهود عظيمة صرفوها ليل نهار لإِدراك بعض الحقائق والوصول إلى أسرار دقيقة . لقد فتحت هذه التحقيقات العلمية باب فهم بعض الآيات والروايات الغامضة مما أدى إلى معرفة عظمة شخصية الرسول الأعظم الذي كان يتكلم بلسان الوحي ، ويرى بنور الإِلهام.

الحديث الأول :

« عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : أتى رجل من الأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : هذه ابنة عمي وامرأتي ، لا أعلم منها إلا خيراً ، وقد أتتني بولد شديد السواد ، منتشر المنخرين جعد قطط ، أفطس الأنف ، لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي . فقال لامرأته : ما تقولين ؟ قالت لا والذي بعثك بالحق نبياً ما أقعدت مقعده مني ـ منذ ملكني ـ أحداً غيره قال : فنكس رسول الله رأسه ملياً ، ثم رفع بصره إلى السماء ثم أقبل على الرجل فقال : يا هذا إنه ليس من أحد إلا بينه وبين آدم تسعة وتسعون عِرْقاً كلها تضرب في النسب ، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروق وتسأل الله الشبه لها . فهذا من تلك العروق التي لم يدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك خذي إليك إبنك . فقالت المرأة : فرَّجت عني يا رسول الله » (٢) .

____________________

(١) المصدر السابق / ١٩٧ .

(٢) وسائل الشيعة ج ٥ / ١٢٨ باب إن الولد يلحق بالزوج .


الحديث الثاني :

« عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي عليه‌السلام ، قال : أقبل رجل من الأنصار إلى رسول الله ، فقال : يا رسول الله هذه بنت عمي وأنا فلان ابن فلان . . . حتى عد عشرة أباء وهي بنت فلان . . . حتى عد عشرة آباء . ليس في حسبي ولا حسبها حبشي ، وإنها وضعت هذا الحبشي ، فأطرق رسول الله طويلاً ثم رفع رأسه ، فقال : إن لك تسعة وتسعين عِرقاً ولها تسعة وتسعين عِرقاً ، فإذا اشتملت إضطربت العروق وسأل الله عز وجل كل عرق منها أن يذهب الشبه إليه ، قم فإنه ولدك ولم يأتك إلا من عِرق منك أو عرق منها ، قال : فقام الرجل وأخذ بيد إمرأته وإزداد بها وبولدها عجباً » (١) .

إن خلاصة ما توصل إليه علماء الوراثة في العصر الحديث بالنسبة إلى إنتقال صفات الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة تنحصر في جملة أمور مذكورة كلها في هذين الحديثين .

١ ـ إن عوامل الوراثة ذرات صغيرة تسمى ( الجينات ) وهي توجد في الخلية التناسلية من الأبوين أو الأجداد السابقين .

ولقد سبق وأن أشرنا في المقدمة الرابعة من البحث إن الروايات تسمي عامل الوراثة بـ ( العِرق ) الذي ورد التصريح به في الحديثين كليهما .

٢ ـ يرى العلماء أن عدد الجينات في الخلية التناسلية كثير نوعاً ما ومن خلال نقلنا لبعض النصوص ظهر أنها تبلغ العشرات والمئات ومع ذلك فأنهم لم يتوصلوا إلى إثبات أعدادها بصورة قطعية .

بينما نجد الحديثين المنقولين يصرحان بأن عدد الأعراق هو ٩٩ ، فقد يكون المراد منها هو الأعراق الصانعة للصفات العنصرية فقط كلون البشرة ، ولون الشعر وتجعده ، ولون العين وغير ذلك من الصفات . وقد يكون التعبير عن الـ ٩٩ للدلالة على الكثرة من دون الإِلتفات إلى العدد نفسه ، كما ورد في

____________________

(١) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٢ / ٦٣١ .


القرآن الكريم بشأن عدم جدوى إستغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمنافقين : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ) (١) . فالمعنى : إن تستغفر لهم كثيراً ، لا عدد السبعين فقط كي يكون معناه أنك إذا إستغفرت لهم إحدى وسبعين مرة فإن الله يغفر لهم ! . فالخلاصة أن العلم الحديث وافق الحديث النبوي الشريف في كثرة عدد الأعراق .

٣ ـ لا يحصر علماء الوراثة اليوم قابلية الوراثة في الأبناء عن آبائهم القريبين فقط ، بل يرون أنه قد يرث الولد صفات أجداده البعيدين وحتى الإِنسان القديم .

وكذلك الحديث الذي نقلناه فإنه كان يرى قابلية الوراثة في الإِنسان عن أجداده السابقين وحتى الإِنسان الأول ( أبو البشر آدم ) كما ورد التصريح به في رواية عن الإِمام الصادق عليه‌السلام :

« إن الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كل صورة بينه وبين آدم . ثم خلقه على صورة إحداهن . فلا يقولن أحد لولده : هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً من آبائي » (٢) .

إن جميع الصور والصفات القابلة للتوارث في الآباء والأجداد حتى أبي البشر آدم يمكن أن تدخل في بناء صورة الإِنسان الذي ثبتت خليته التناسلية في الرحم . وبما أن البشر يجهلون المدى الواسع لقانون الوراثة وقد كان يصادف أن يخرج الولد على غير صورة أبويه فكان يؤدي ذلك إلى أن يشك الرجل في زوجته باحتمال أن الولد من غيره ، نجد الإِمام الصادق عليه‌السلام يحذر بعض الرجال من أن يقولوا : إن الولد لا يشبهني ولا يشبه آبائي لأنه قد يكون آخذاً صفاته من أجداده البعيدين جداً .

٤ ـ يرى علماء الوراثة أن الجينات الناقلة للصفات الوراثية توجد في نواة

____________________

(١) سورة التوبة ؛ الآية : ٨٠ .

(٢) مكارم الأخلاق ص ١١٤ .


الخلية الذكرية والأنثية على السواء . وقد يستند التغير الفجائي في تلك الصفات إلى أحدهما : وكذلك حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال للأنصاري : « ولم يأتك إلا من عرق منك أو عرق منها » .

إنه لم يمض على الإِكتشافات العلمية الحديثة في عالم الوراثة واكتناه الأسرار الدقيقة ، والرموز المعضلة للجينات والكروموسومات أكثر من قرن واحد ، بينما نجد أن كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الموضوع يطوي قرنه الرابع عشر . فنبي الإِسلام العظيم أخبر عن تلك الحقائق بنور الوحي المبين.

وهنا لا بأس من الإِلتفات إلى نكتة لطيفة ، وهي أن الأنصاري حين سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوابه قليلاً ولم يجب بسرعة ، فما السر في ذلك ؟ ! .

هناك حديث آخر يوضح الأمر جلياً ، ويجيب على هذا السؤال : « إن يهودياً سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسألة ، فمكث النبي ساعة ثم أجاب عنها ، فقال اليهودي : ولِمَ توقفت فيما علمت ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : توقيراً للحكمة » (١) . فكما أنه يجب توقير الحكماء والعلماء يجب توقير أقوالهم الحكمية أيضاً . وإن لأسلوب إلقاء الكلام دخلاً كبيراً في التأثير ( على نفس السمع ، فالكلام مهما كان عميقاً لو ألقي بسرعة وعجلة لا يؤثر التأثير المطلوب بعكس ما إذا ألقي بتأنٍ واتّزان ، وكذلك فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجواب على مشكلة الزوج والزوجة بالنسبة إلى ولدهما الذي لم يكن يشبههما إذْ سكت قليلاً توقيراً لتلك الحكمة العظيمة .

٥ ـ إن الصفات التي لها قابلية الإِنتقال من الآباء إلى الأبناء عديدة مثل : الجنون والحمق ، لون البشرة ، لون العين . بناء الوجه والأنف ، لون الشعر ، والخصائص المرتبطة به وغير ذلك . ولكن العلم الحديث لم يتوصل بعد إلى تحديدها تماماً .

العوامل المساعدة :

« . . . تتنقل أمراض معينة كالسرطان والسل . . . الخ من الآباء

____________________

(١) سفينة البحار للقمي ص ٤٣٩ مادة ( دبر ) .

إلى الأبناء ولكن كاستعداد فقط . وقد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها » (١) .

وكذلك السجايا الخلقية الصفات الحميدة أو الصفات الرذيلة للأباء والأمهات تهيىء استعداداً في الأولاد ، فالأباء والأمهات الذين يمتازون بصفات الشجاعة والكرم والتضحية والخدمة ، يخلفون أبناء ذوي فضيلة وإباء وكرم . وعلى العكس من ذلك . فإن الأسر المعروفة بالبخل والجبن والأنانية والحمق لا يخلفون في الأغلب إلا أولاداً حقراء لا وزن لهم في المجتمع .

ولا تقتصر هذه القاعدة التي ذكرناها على الإِنسان ، بل تسري في الحيوانات أيضاً ، فهناك عناصر معينة من الخيول تمتاز على غيرها بصفات خاصة . وكذلك الحمام فهناك بعض الفصائل المعينة فيه لها قابلية التربية والإِستعداد للقيام ببعض الأعمال والخدمات .

سأل المأمون العباسي بعض خواصه ومحارمه يوماً عن سبب ما يلاقيه من جفاء وخيانة وقلة إنصاف من بعض أصحابه وأقاربه الذين كان قد قلدهم مناصب عالية ورتب مهمة في الدولة ، في حين أن المفروض أن يقابلوا إحسانه بالإِحسان لا الإِساءة ، فقال له أحدهم : إن المعنيين بأمر الحمام الزاجل والمهتمين بتربيته يتحققون عن أصله وفصيله الذي ينتمي إليه وعندما يطمئنون إلى عراقة نسبه يهتمون بتربيته كثيراً ويجنون من ذلك فوائد كثيرة . . . « وأنت يا أمير المؤمنين تأخذ أقواماً من غير أصول ولا تدريج ، فتبلغ بهم الغايات فلا يكون منهم ما تؤثره » (٢) .

فمن الطبيعي أن لا يكون الأفراد المختارون لأشغال المناصب من دون إمتحان ولا نظر في أصولهم وأحسابهم وأنسابهم ، على حالة مرضية من حيث الإِخلاص والأمانة والوفاء . . .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ١٩٦ .

(٢) مجموعة ورام ج ٢ / ٢٨٦ .


إن الإِسلام يرى أن في سلوك الأباء والأمهات تأثيراً كبيراً على سلوك أبنائهم الذين يرثون صفاتهم الصالحة أو الطالحة ، ولذلك نجد القرآن الكريم يحكي على لسان نوح هذه الحقيقة الناصعة حيث يقول بعد أن يئس من هداية قومه طيلة ٩٠٠ عام :

( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) (١) .

ولقد رأينا قبل صفحات كيف أن الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يخاطب ابنه محمد بن الحنفية حينما جبن عن التقدم « أدركك عِرق من اُّمك » .

الشرف الموروث :

يقول الإِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام في الفضائل العائلية : « إذا كرم أصل الرجل كرم مغيبه ومحضره » (٢) .

فمن كان ينتمي إلى نسب عريق في الفضائل كان ملازماً للصفات الخيرة في حضوره وغيابه وذهابه وإيابه .

وكذلك قال عليه‌السلام : « عليكم في قضاء حوائجكم بكرام الأنفس والأُصول ، تنجح لكم عندهم من غير مطال ولا مّنٍ » (٣) . ومن هنا يعلم أن الشرف العائلي في الأفراد يجعلهم يقضون حوائج الناس من دون أن يحملوهم منا أو يتماهلوا في أدائها .

وروي عنه عليه‌السلام أيضاً : « عليكم في طلب الحوائج بشراف النفوس ذوي الأصول الطيبة ، فانها عندهم أقضى ، وهي لديهم أزكى » (٤) .

____________________

(١) سورة نوح ؛ الآية : ٢٦ . هذا وتشير الآية إلى عاملي الوراثة والمحيط في التأثير على سلوك المجتمع ، فإن الكافرين إما أن يفسدوا البيئة ، أو يخلفوا أولاداً صالحين.

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ١٤٤ طبعة النجف الأشرف .

(٣) المصدر السابق ص ٢١٤ طبعة النجف الأشرف .

(٤) المصدر السابق ص ٢١٤ طبعة النجف الأشرف .


كما يقول في مورد آخر : « حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق (١) فيستكشف عن حسن أخلاق الإِنسان شرافة طباع عائلته وكرم نفوسهم ».

وكقاعدة عامة يمكن أن نقول : إنه يجب البحث عن الأفراد الشرفاء من بين العوائل الشريفة والعريقة ، فالأسر التي عرفت طوال سنين متمادية بالطهارة والتقوى ، والتي خرجت من جميع الإِمتحانات في الحياة بنجاح باهر ، لا بد وأن يبرز من بينها رجال شجعان يجاهدون في الصفوف الأولى دائماً (٢) ، وكرام يمدون يد المعونة إلى الفقراء في أوقات الأزمة ، ويقدمون ثروتهم بكل خلوص وارتياح للمحتاجين ، فيُسلّون بذلك قلوب المصابين ويكونون آباء عطوفين لليتامى ، تملأ قلوبهم الرحمة والشفقة والخير والمحبة للناس .

الأسر المنحطة :

وعلى العكس من أُولئك نجد الأسر المنحطة التي لا تفهم معنى للشجاعة ، ولا توجد كلمة الكرم والعفو في قواميسهم ، والذين لا يفكرون في شيء غير شهواتهم الدنيئة وأغراضهم الشخصية ، تملأ قلوبهم الأنانية والأثرة ، ولا يخلفون إلا أولاداً سافلين منحطين .

ولهذا نجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحذر المسلمين ـ في موضوع الزواج ـ من اختيار الزوجة التي تنتمي إلى أسر منحطة سافلة مهما كانت جميلة فيقول : « إياكم وخضراء الدمن . قيل : يا رسول الله وما خضراء الدمن ؟ قال : المرأة الحسناء في منبت سوء » (٣) .

____________________

(١) المصدر السابق ص ١٦٧ طبعة النجف الأشرف .

(٢) يتضح هذا جلياً في إختيار الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لفاطمة الكلابية ( أم البنين ) بعد وفاة ابنة عمه الصديقة الزهراء ، إذ قال عليه‌السلام لأخيه عقيل ـ وكان عارفاً بالأنساب ـ : « أخطب لي امرأة ولدتها الفحولة من العرب لارزق منها ولداً يكون عوناً لولدي الحسين يوم عاشوراء . . . الخ » فإن الإِمام ينظر إلى شجاعة الأسرة التي يريد أن يخطب منها زوجته لتنجب له ولداً شجاعاً .

(٣) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج ٢٣ / ٥٤ . وخضراء الدمن عبارة عن الخضرة التي تنشأ من أنبات بعض الحشائش على قطعة من الأرض مليئة بالروث فيتراىء للناظر أنها


ومن خلال العهد الذي بعث به الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى مالك الأشتر النخعي (رض) حينما جعله والياً على مصر ، والذي يعتبر أحسن العهود من نوعه . . . نجد فقرات عديدة تشعر الإِهتمام بأصالة النسب ، كما في وصيته باختيار الأصحاب من العوائل الشريفة ، وذلك قوله عليه‌السلام :

 « ثم الصق بذوي الاحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسماحة ، فأنهم جماع من الكرم ، وشُعب من العرف » (١) .

إختيار الموظفين الأكفاء :

ولنستمع إليه عليه‌السلام يقرر لابن الأشتر كيفية إنتخاب الموظفين الأكفاء ، ومراعاة الشروط الدقيقة في توليتهم المناصب والمهمات : « وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإِسلام المتقدمة ، فأنهم أكرم أخلاقاً ، وأصح أعراضاً ، وأقل في المطامع إشرافاً وأبلغ في عواقب الأمور نظراً » (٢) .

فيشترط في الموظف الذي يقلد أمور الإِدارة « أن يكون عفيفاً منتمياً إلى عشيرة شريفة وأسرة عريقة في الإِسلام والتدين ، لما في ذلك من مصالح عظيمة ، ودرء لمخاطر كثيرة ، فهؤلاء يؤدون واجباتهم باخلاص ، لا يرتشون ولا يستغلون مناصبهم لأطماعهم وغاياتهم الشخصية .

يستفاد من مجموع البحوث السابقة : أن الطفل في رحم أمه يكون خلاصة لمجموعة من الصفات الظاهرية والمعنوية لآبائه وأجداده القريبين والبعيدين ، وهناك عشرات العوامل المختلفة ( الوراثية والطفرة ) تؤثر فيهم آثاراً صغيرة أو كبيرة ، مفيدة أو مضرة ، فإذا كانت هذه العوامل كلها صالحة

____________________

أعشاب طيبة الرائحة ، لكن النظر إلى أصول هذه الحشائش يكشف للناظر وجود الروث تحتها . فالمرأة الحسناء التي تنتمي إلى أُسرة منحطة شأنها شأن هذه الحشاش التي ظاهرها جميل وباطنها خبيث .

(١) نهج البلاغة شرح محمد عبده ج ٣ / ١٠١ ، طبعة المكتبة التجارية .

(٢) نهج البلاغة شرح محمد عبده ج ٣ / ١٠٥ .


ومحبذة وكانت نتائجها حسنة ومفيدة فذلك معنى سعادة الطفل في بطن أمه . أما إذا كانت العوامل ـ كلها أو بعضها ـ فاسدة وسيئة فيعتبر الطفل شقياً في بطن أُمه بنفس النسبة من فساد العوامل .

قد يتأثر الطفل ببعض الصفات ـ وهو في بطن أمه ـ كالجنون والحمق والعمى والشلل والصرع والتصاق التوأمين برأس واحد أو بدن واحد ، وعشرات غيرها من الإِنحرافات الأُخرى ، فمن البديهي حينئذ أن يكون الطفل شقياً وهو في بطن أُمه .

١ ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الشقي من شقى في بطن أمه ، والسعيد من سعد في بطن أُمه » (١) .

٢ ـ وفي حديث آخر : « الشقي شقي في بطن أُمه ، والسعيد سعيد في بطن أُمه » (٢).

٣ ـ وكذلك ورد عنه عليه‌السلام : « الشقي من شقي في بطن أُمه » (٣) .

ولكي يمنع الإِسلام من حدوث أولاد أشقياء وأجيال فاسدة وناقصة وضع تعاليم دقيقة وسلك أوضح السبل لإِلزام إتباعه بالعمل بها ، فوضع أصول التربية الإِسلامية الدقيقة التي تعدل من سلوك الأفراد ، فيمنع ذلك من ظهور الصفات الرذيلة في أعقابهم . وكذلك نجد قوانين الأمم المتحضرة اليوم تهتم بهذا الموضوع فوضعت قوانين لم تتعد دائرة الوضع والتقنين ولم تصل إلى حيز التنفيذ . وعلى سبيل الاستطراد نستعرض بعض التعاليم الإِسلامية بهذا الصدد باختصار :

الجنون :

الجنون من الصفات الخطرة التي تنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء . إن

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ٣ / ٤٤ .

(٢) المصدر السابق ج ٣ / ٤٣ .

(٣) تفسير روح البيان ج ١ / ١٠٤ . إلى هذه الأحاديث وأشبهها يستند القائلون بالجبر ، بحجة أن الله هو الذي يقدر السعادة والشقاء للإِنسان وهو في بطن أُمه . ولكن اتضح الرد على هذه الشبهة من تفسيرنا السعادة والشقاء بمعناهما الشامل لكل وجوه الخير والصلاح والراحة ، أو جميع أصناف الشر والضيق والقلق لا خصوص الإِيمان والكفر . ولقد أجبنا عن شبهة الجبر بالتفصيل في كتابنا ( دفاع عن العقيدة ) .

الأبوين المصابين بالجنون لا ينتجان إلا مجانين ، وهذا هو قانون طبيعي غير قابل للتبديل ، والمولود المجنون ليس شقياً لنفسه فحسب بل يسبب شقاوة المجتمع أيضاً .

ومن خلال النص التالي يتضح مدى إهتمام الإِسلام بهذا الموضوع فعن الإِمام الباقر عليه‌السلام : إنه « سأله بعض أصحابنا عن الرجل المسلم تعجبه المرأة الحسناء ، أيصلح له أن يتزوجها وهي مجنونة ؟ قال : لا ، ولكن إن كانت عنده أمةٌ مجنونة فلا بأس بأن يطأها ولا يطلب ولدها » (١) يستنتج من هذا الحديث مدى إهتمام الإِسلام بالسلامة العقلية للمجتمع ، فهو لا يرضى للمسلم بأن يتزوج مجنونة وإن كانت جميلة ، لأن ذلك يؤدي إلى إكثار المجانين في المجتمع .

لقد قرر الإِسلام تسهيلات قانونية لفسخ الزواج في بعض الموارد ومن تلك الموارد : الجنون ، فإذا تزوجت المرأة من رجل ظناً منها بأنه فرد عاقل ثم إنكشف لها جنونه فلها الحق في أن تفسخ عقد الزواج بنفسها من دون حاجة إلى القيود الموجودة في الطلاق ، وكذلك الرجل بالنسبة إلى زوجته المجنونة .

وهذا القانون مضافاً إلى أنه يحرر كلاً من الرجل والمرأة من القيود والأضرار الناشئة من جنون شريكته ( أو شريكها ) في الحياة ، يضع حداً فاصلاً دون إزدياد أفراد مصابين بالجنون في المجتمع .

الحمق والبلادة :

وكذلك الحمق والبلادة والبله فأنها تنتقل من الآباء والأمهات إلى الأبناء ، الأمر الذي يسبب أقسى أنواع شقاء المجتمع ، فالفرد الأحمق يظل طوال سنين

____________________

(١) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٥ / ١٠ . ويظهر من التفريق الذي ورد في الحديث ، بين الزوجة والأمة : إن الإِسلام يركز إهتمامه في منع التزوج من المجنونة إلى منع ظهور مجانين جدد ، ولذلك سمح للرجل بأن يشبع رغبته الجنسية مع جاريته ، لأن الجارية لا يراد منها الإِنجاب في الغالب بل يتخذ معها وسائل منع الحمل .


عمره أسيراً للحرمان العقلي وعدم النضج الفكري مما يسبب للأمة مشاكل عديدة .

ولقد توصل العلم الحديث بعد التجارب العديدة والإِحصائيات الدقيقة إلى خطر هذا النوع من الزواج ، ولذلك أخذ العلماء يحذرون الناس منه :

« يجب أن يعلم كل فرد أن التزوج من الأسرة المصابة بالجنون أو الحمق أو البلادة ، أو الإِدمان على الخمر يؤدي إلى تحطيم كيان المجتمع وهدم قانون التكاثر والتناسل ، مما يجر معه سلسلة من المعايب والجرائم التي لا تحمد عقباها » (١) .

لقد نظر منقذ البشرية العظيم بعين الوحي النافذة إلى الحقائق إلى هذا الموضوع وأدرك أخطاره فحذر المسلمين منه ولذا نرى الإِمام الصادق عليه‌السلام يروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إيّاكم وتزوج الحمقاء ، فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع » (٢) . وأحسن تعبير عن الأولاد الناتجين من آباء أو أُمهات مصابين بالحمق هو الضياع .

« لقد لاحظ ( كدار ) في إحصائياته الدقيقة التي أجراها على الأسرة التي كان آباؤها أو أمهاتها مصابين بضعف العقل وجود (٤٧٠) طفلاً ضعيفي العقل منهم و (٦) فقط سالمين وبديهي أن إيجاد جيل منحط ومجرم وأبله يعد خيانة كبيرة » (٣) .

شرب الخمر :

لقد إنتشر شرب الخمر في كثير من دول العالم ، وتكبلوا بهذا الداء الوبيل وأسراره . هذا السم الفاتك لا يكتفي بتوجيه ضربات قاسية إلى المدمنين عليه فقط ، بل يتعداهم إلى أطفالهم البريئين ويجعلهم يرزحون تحت

____________________

(١) راه ورسم زندگى ترجمة پرويز دبيري ص ٩١ .

(٢) الجعفريات ص ٩٢ .

(٣) راه ورسم زندگى ص ٧٤ .


كابوس الأمراض والعوارض المختلفة. تترك الخمرة آثاراً سيئة على أجسام المدمنين عليها . ومن تأثيرها فيهم ايجاد اختلالات في خلايا المخ والأعصاب مما تجعلهم أناساً غير اعتياديين ، ومما يبعث على الأسف إن هذا الاختلال ينتقل إلى أولادهم ، والنطف الحادثة من أُناس مأسورين للخمرة تنتج أطفالاً منحرفين وغير اعتياديين في سلوكهم وتفكيرهم . إن قسماً كبيراً من المجانين الذين يقضون حياتهم في ( مستشفيات المجانين ) يئنون من ويلات إنحرافات آبائهم .

« إن قلة الذكاء وإختلال القوة العاقلة تنشأ من المشروبات الروحية والسلوك الإِفراطي في جميع جوانب الحياة ، إنه لا ريب في وجود رابطة قوية بين إستعمال المشروبات الروحية والضعف العقلي في مجتمع ما . ومن بين الدول المتقدمة علمياً وصناعياً نجد فرنسا أكثرها استعمالاً للخمرة في حين أنها أقل تلك الدول حصولاً على جوائز نوبل » (١) .

لقد عرف الإِسلام جميع العوارض والويلات الناشئة من الخمرة ، ونظر نظرته الثاقبة إلى آثارها السيئة في المدمنين عليها وفي أولادهم ، فلم يكتف بتحريم عصرها والتعامل بها وتعاطيها على المسلمين من الجهة القانونية فقط ، بل منع من الإِتصال الجنسي والتناكح مع شاربي الخمر بكل صراحة وهناك بعض الشواهد على ذلك :

١ ـ عن الإِمام الصادق عليه‌السلام : « من زوج كريمته من شارب خمر ، فقد قطع رحمها » (٢) .

وبديهي أن يعتبر إنجاب أطفال مختلين ( بدنياً وعصبياً وروحياً ) قطعاً لرحم المرأة التي بإمكانها أن تنجب أولاداً سالمين من غيره .

٢ ـ وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « شارب الخمر لا يزوَّج إذا خطب » (٣) . وهناك

____________________

(١) المصدر السابق ص ١٢ .

(٢) وسائل الشعية للحر العاملي ج ٥ / ٩ .

(٣) المصدر نفسه .


العشرات من الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين عليه‌السلام في هذا الموضوع ، ولكن أشدها تحذيراً وأعظمها توبيخاً ما إذا حصل الإِتصال الجنسي في حالة السكر ، كما يتضح ذلك من الحديث الآتي :

٣ ـ عن الإِمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : « أيما امرأة أطاعت زوجها وهو شارب الخمر ، كان لها من الخطايا بعدد نجوم السماء ، وكل مولود يلد منه فهو نجس ، ولا يقبل الله منها صرفاً ولا عدلاً حتى يموت زوجها ، أو تخلع عنه نفسها » (١) .

وإليك نصاً لأحد علماء الغرب بهذا الصدد : ـ

« يقول الدكتور كاريل : إن سكر الزوج أو الزوجة حين الإِتصال الجنسي بينهما يعتبر جريمة عظيمة ، لأن الأطفال الذين ينشأون في ظروف كهذه يشكون في الغالب من عوارض عصبية ونفسية غير قابلة للعلاج » (٢) .

تعقيم المجانين الخمريين :

رأينا فيما مضىٰ كيف إتخذ الإِسلام العلاج الحاسم في منع التزوج بالأفراد المصابين بالجنون والخمرة . ولقد عمل العلماء اليوم في التأكيد على منع هذا النوع من الزواج كثيراً حتى إنه يوجد في بعض الولايات الأمريكية قانون خاص بشأن تطهير النسل . بموجب ذلك القانون . تجري عمليات للأولاد والبنات الذين أصيبوا بالجنون نتيجة إفراطهم في شرب الخمر لاخصائهم وإحالتهم على العقم الدائمي لمنع إنجابهم .

هذا وليست العوامل الباعثة على النواقص البدنية والنفسية للطفل في رحم أُمه مقتصرة على هذه الأمور المختصرة ، فهناك عوامل عديدة أُخرى لا تزال مجهولة للعلماء لحد الآن في حين أن لها تأثيراً في وضع الطفل في رحم

____________________

(١) لئالي الأخبار ص ٢٦٧ .

(٢) راه زندگى تأليف الكسيس كارل ترجمة پ دبيري ص ٩١ .


الأُم ، وموجدة لعيوب ونواقص أو باعثة على ظهور حسنات وفضائل فيهم .

فكثيراً ما يتفق وجود أولاد ناقصين ومختلين عصبياً وعقلياً في حين أن آبائهم وأمهاتهم لم يكونوا معتادين على المشروبات الروحية وغيرها ، وعلى العكس فقد يصادف ظهور أفراد عصاميين أذكياء من أسر حقيرة في المجتمع :

« ولكن نظراً لأن البشر ليسوا من أصل نقي فأنه ليس في الإِمكان التكهن بحالة النسل الذي ينشأ من زواج معين . ومع ذلك ، فأنه من المعروف أن الأطفال الذين يولدون في أسرات مكونة من أفراد متفوقين يكونون في الغالب من نوع أكثر تفوقاً من الأطفال الذين يولدون في أسرت أدنىٰ مرتبة . . . ونظراً للمصادفات التي تحدث في إتحادات النويات فقد يشمل أحفاد الرجل العظيم على أفراد متوسطين ، كما قد يولد رجل عظيم لأسرة خاملة مغمورة » (١) .

تأثير العوامل الجوية :

يستفاد من تحذير أئمة الإِسلام عليه‌السلام في بعض الروايات عن قسم من الحوادث الجوية حين إنعقاد النطفة ، كالزلزال والطوفان ومقابلة قرص الشمس وما شاكل ذلك ، وكذلك منع الحامل من بعض الأطعمة إن لذلك كله تأثيراً في إيجاد آثار مُرضية أو غير مرضية في الأطفال .

المصير :

وهنا نقطة مهمة يجب الإِلتفات إليها ، وهي أن السعادة والشقاء اللتان تصيبان الطفل في رحم الأم ، على نوعين : فقسم منها يكون قضاء حتمياً لا يقبل التبديل ، . فهذا النوع يلازم الطفل حتى نهاية حياته ، ومن هذا القسم : الجنون والعمىٰ المتأصل . وقسم آخر يكون الرحم بالنسبة إليه كتربة مساعدة فقط وحينئذ يكون بقاء تلك السعادات أو الشقاوات دائراً مدار الظروف التي تساعد على نموها .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ١٩٦.


إن القاعدة العامة للوراثة تقتضي أن ينجب الآباء المؤمنون والأمهات العفيفات أولاداً طيبين ، فهؤلاء يمكن أن يحرزوا السعادة في أرحام أُمهاتهم فلا توجد في سلوكهم عوامل الإِنحراف الموروثة . إلا أننا لا نستطيع الحكم على هؤلاء بأن ينموا وينشأوا ويعيشوا إلى الأبد كذلك إذ قد يصادفون بيئة فاسدة تعمل على إنحرافهم وتغيير سلوكهم وسجاياهم الموروثة وقلبها رأساً على عقب ، وأخيراً نجد هذا الطفل الذي كان سعيداً في بطن أُمه يعد في صفوف الأشقياء ويصير جرثومة للفساد والجنون والاستهتار .

وهكذا الطفل المولود من آباء وأُمهات لا يعرفون عن الإِيمان شيئاً فأنه يعتبر شقياً في رحم أُمه ـ تبعاً لقانون الوراثة ـ لكن قد يصادق بيئة صالحة وتربية جذرية تعمل على استئصال العوامل الشريرة من داخل نفسه وأخيراً يكون من الإِتقياء المؤمنين والأفراد الصالحين في المجتمع .

ولهذا نجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصرح : « السعيد قد يشقى ، والشقي قد يسعد » (١) .

وقد ورد عن الإِمام علي عليه‌السلام أنه قال : « السعيد من وُعظ بغيره والشقي من إنخدع لهواه وغروره » (٢) .

وبصورة موجزة نقول : إن السعادة تحصل للإِنسان من مجموعة عوامل طبيعية ( وراثية ) وتربوية . وكذلك الشقاء . . . ولقد أوضح الإِمام الصادق عليه‌السلام هذا المبدأ في عبارة مختصرة فقال : « إن حقيقة السعادة أن يختتم للمرء عمله بالسعادة . وإن حقيقة الشقاء أن يختتم للمرء عمله بالشقاء » (٣) .

إن هذه الرواية تدلنا على حقيقة واضحة ، هي انه يجب الإِحاطة بجيمع العوامل الوراثية والتربوية للفرد ، والنظر إلى نتيجة تفاعلاتها ثم الحكم عليه بالسعادة أو الشقاء .

____________________

(١) تفسير روح البيان ج ١ / ١٠٤ .

(٢) نهج البلاغة ج ١ / ١٤٩ .

(٣) معني الأخبار ص ٣٤٥ .


هذا ، وسنبحث في المحاضرة القادمة ، العلة في اعتبار رحم الأم ملاكاً لسعادة الجنين دون صلب الأب في الروايات ، موضحين ـ إن شاء الله ـ دور الأم في بناء الطفل .


المحاضرة الرابعة

دور الأم في بناء الطفل ـ النمو الناقص في أثناء الحمل

قال الله تعالى في كتابه العظيم : ( . . . وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ ، وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) (١) .

كان بحثنا في المحاضرة الماضية يدور حول مصدر السعادة والشقاء ، والعوامل التي تؤدي إلى حصول الطفل عليها في رحم أُمه . لقد أثبتنا ـ بالأدلة والشواهد ـ مدى تأثير الرحم في سلوك الفرد ، وقلنا : إن تلك التأثيرات الناتجة في السلوك يرجع شطر منها إلى دور الجنين في الرحم . والشطر الآخر إلى فن التربية والبيئة التي يعيش فيها الإِنسان .

أما بحثنا في هذه المحاضرة فيدور حول نقطتين : ـ

١ ـ العلة في جعل الملاك في سعادة الأطفال وشقائهم في الروايات رحم الأُم بالذات من دون أن يجري ذكر لصلب الأب .

٢ ـ النواقص والعوارض التي تعتري الجنين في رحم الأُم من دون سابقة .

____________________

(١) سورة مريم ؛ الآية : ٣٣ .


أما بالنسبة إلى النقطة الأولى من البحث . فإننا نرى أن بذور الورد تبذر في جوف تربة الأصيص ، وبعد مرور مدة من الزمن تنبت البذرة بصورة سويق صغير يشق سطح التربة ، وينمو تدريجياً ويأخذ بالتفريع والازهار . إن بذرة الورد تعتبر الخلية التناسلية الكاملة ، وتخزن في بطانها جميع الذخائر اللازمة لإِنبات نبتة جديدة . ولا يشكل الأصيص سوى المحيط الذي تنمو فيه النبتة والبيئة التي تعيش فيها .

الخلية التناسلية الكاملة :

صحيح أن رحم المرأة يكون بالنسبة إلى نطفة الرجل كالأصيص بالنسبة إلى البذرة ، إلا أن الأمر يختلف تماماً في موضوع تكوين الخلية التناسلية ، إذ ليست نطفة الرجل هي الخلية التناسلية الكاملة ـ كما كانت البذرة ـ وكذلك الرحم فأنه ليس مجرد وعاء يحفظ هذه الخلية ـ كما كانت الأصيص ـ بل إن رحم الأم يتحمل في المرحلة الأولى نصف مسؤولية عملية التلقيح ، ثم ينفرد في أنه يتحمل مسؤولية الإِحتفاظ بالنطفة لمدة تسعة أشهر كاملة في داخله حتى يصنع إنساناً كاملاً .

ولهذا ورد في القرآن الكريم : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) (١) . أي أننا خلقناه من نطفة مركبة وممزوجة من الرجل والمرأة كليهما .

« إن خلايا الخصية تفرز من غير توقف ، وخلايا الحياة كلها ، حيوانات ميكروسكوبية وهبت لها حركات نشيطة للغاية ، هي الحيوانات المنوية . وهذه الحيوانات تسبح في المخاط الذي يغطي المهبل من الرحم . وتقابل البويضة على سطح الغشاء المخاطي الرحمي . .

وتنتج البويضة من النضج البطىء لخلايا المبيض الجرثومية. ويوجد نحور ٣٠٠٠٠٠ بويضة في مبيض الفتاة وتبلغ نحو أربعمائة منها

____________________

(١) سورة الدهر ؛ الآية : ٢ .


فقط درجة النضج ، وفي وقت الحيض ينفجر الكيس المشتمل على البويضة . ثم تبرز البويضة فوق غشاء ( بوق فالوب ) ، فتنقلها السيليا ( الأهداب ) المتحركة للغشاء إلى داخل الرحم . وتكون نواتها قد تعرضت في تلك الأثناء لتغير هام ، ذلك أنها تكون قد قذفت بنصف مادتها . . . وبعبارة أُخرى بنصف كل ( كروموسوم ) . وحينئذ يخترق الحيوان المنوي سطح البويضة . وتتحد كروموسوماته التي تكون فقدت أيضاً نصف مادتها ، بكروموسومات البويضة . وهكذا يولد مخلوق جديد » (١) .

منشأ ظهور الطفل :

يستفاد من هذه الفقرة أمران : الأول ـ أن نطفة الرجل تتحد بنطفة المرأة ، ويحصل من إتحاد نصف خلية الرجل ونصف خلية المرأة ( الخلية التناسلية الكاملة ) التي هي العامل الأول في ظهور الطفل والثاني ـ أن بويضة المرأة عندما تقابل سيل الحيامن الذكرية ، إنما تتلقح بواحدة منها فقط ، أما البواقي فتندثر .

« حينما يقذف الرجل بالسائل المنوي إلى الخارج فانه يكون حليبي اللون ـ في الأشخاص السالمين ـ وبحجم ٣ سم٣ ، يوجد في كل سانتيمتر مكعب منه من ١٠٠ إلى ٢٠٠ مليون حيمن ».

 « إن الحيامن المنوية قادرة على الإِحتفاظ بقابليتها على التلقيح لمدة ٤٨ ساعة بعد الخروج من الرجل . وذلك في وسط قلوي ( قاعدي ) وتحت درجة حرارة ٣٧ مئوية . . . » (٢) .

لم يكن بإمكان البشر قبل أربعة عشر قرناً أن يتصوروا أن منشأ ظهور الإِنسان هو موجود صغير وضئيل يوجد منه في نطفة الرجل مئات الملايين في كل مرة . وهذه الذرة الصغيرة كافية في أن تلقح إمرأة . ومع ذلك فقد صرح

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول تأليف الدكتور الكسيس كارل تعريف عادل شفيق ص ٧٨ .

(٢) هرمونها . . . ص ٢٩ .


القرآن الكريم بهذه الحقيقة منذ ذلك الحين حيث قال الله تعالى : ( ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ) (٢) . أي أن الله جعل نسل الإِنسان من خلاصة ماء حقير وضعيف ، فليس العامل في إبقاء نسل الإِنسان هو هذا الماء الحقير الذي يخرج منه كله بل جزء منه ، وهو خلاصته ( سلالته ) .

ويتضح تنبّه الإِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام إلى هذه الحقيقة من خلال الفقرة التالية :

« جاء رجل إلى علي عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين كنت أعزل عن امرأتي ، وإنها جاءت بولد . فقال علي عليه‌السلام : ـ وأناشدك الله هل وطأتها ثم عاودتها قبل أن تبول ؟ قال : نعم . قال : فالولد لك . . . » (٣) .

من هذه الجملة ، يعلم أن الرجل كان يعزل ( يقذف السائل المنوي خارج مهبل زوجته ) لمنع الحمل ، ومع ذلك فقد حدث أن حملت المرأة فأدى الأمر إلى أن يشك الرجل في زوجته فجاء يسأل علياً عليه‌السلاموإلا فإنه لم يكن يرضى بأن يفشي سره . فنجد الإِمام عليه‌السلام حين يسمع بالقصة يسأله هل اتفق له أن جامع زوجته مرتين من دون أن يبول في الأثناء ، فأجابه بوقوع ذلك ، فصرح الإِمام بأن الولد له .

والسر في ذلك واضح ، لأنه عليه‌السلام كان يعلم أن ذرة صغيرة من النطفة كافية لأن تلقح بويضة المرأة فتحمل ، فبما أن الرجل جامع زوجته في المرة الأولى ثم قذف السائل خارجاً وبقي مدة لم يبل فيها فبقيت الحيامن في المجرى ، وحين جامعها للمرة الثانية خرجت إحدى تلك الحيامن ولقحت المرأة من دون أن يشعر ، وبالرغم من أنه قذف السائل خارجاً في المرة الثانية إلا أن الحيامن المتبقية في المجرى كانت قادرة على الإِحتفاظ بنشاطها لمدة ٤٨ ساعة وكذلك فعلت .

*  *  *

____________________

(١) سورة السجدة ؛ الآية : ٧ .

(٢) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ / ١٠٧ .


وبالرغم من أن الأب والأم كليهما يشتركان في صنع الخلية الأولى للطفل ويتساوى دورهما فيه ـ ولهذا نجد أن الأطفال يكتسبون بعض صفاتهم من آبائهم وبعضها من أُمهاتهم ـ لكن الرحم هو الذي يصنع الطفل ويخرج تلك الذرة الصغيرة بصورة إنسان كامل. وإن جميع الاستعدادات التي كانت كامنة في تلك الخلية الأولية تظهر إلى عالم الفعلية في رحم الأم إذن فالمقدرات التفصيلية للطفل من الصلاح والفساد ، والجمال والقبح والنواقص والكمالات ، الظاهرية والباطنية كلها تخطط في الرحم .

المرحلة الأخيرة للتكوين :

هناك مئات التفاعلات والتأثيرات الاختيارية والإِتفاقية تمر في طريق أصلاب الآباء وأرحام الأُمهات ، وتؤثر في الأطفال بصورة خفية حيث تظهر نتائجها جميعاً في الرحم . والرحم هو آخر مراحل التأثيرات المختلفة الطارئة على تكوين الطفل ، وعند عبوره هذه المرحلة يبدأ الحياة على الأرض إذن فالسعادة والشقاء التكوينيين للإِنسان يجب البحث عنهما في آخر المراحل وهو رحم الأم . ولهذا نجد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الطاهرين عليه‌السلام بالرغم من عنايتهم الشديدة بالتأثير المشترك لأصلاب الآباء وأرحام الأُمهات حول سعادة الطفل وشقائه يوجهون جل إهتمامهم إلى رحم الأُم فيقولون : « السعيد سعيد في بطن أُمه ، والشقي شقي في بطن أمه » (١) .

أثر غذاء الأم في الجنين :

هذا هو جواب السؤال الذي بدأنا به الحديث ، وهو أنه لماذا اعتبرت الروايات رحم الأم هو الملاك في السعادة والشقاء ، وأغفلت ذكر صلب الأب ؟ .

إنه لا مندوحة لنا من القول بأن دور الأم في بناء الطفل يفوق دور الأب

____________________

(١) مرّ تخريج الحديث بألفاظ متعددة وطرق مختلفة في الفصل السابق ( السعادة والشقاء في رحم الأم ) .


بكثير . نعم لو اكتفينا بملاحظة دور الأب والأم في تلقيح البويضة بواسطة الحيمن لإِيجاد الخلية الأولى للطفل لكانا متساويين في ذلك الدور ، إلا أن الواقع أن الأم تتحمل في دور الحمل مسؤولية كبيرة ، وبالخصوص فيما يتعلق بأسلوب تغذي الأم ونوعه .

إن دور الآباء في البناء الطبيعي للطفل ينتهي بعد إنعقاد النطفة وحصول التلقيح ، لكن دور الأم يستمر طيلة أيام الحمل ، فالطفل يتغذي من الأُم ، ويأخذ منها جميع ما يحتاجه في بنائه . ولهذا فإن لسلامة الأم ومرضها ، طهارتها ورذالتها ، سكرها وجنونها . . . أثراً مباشراً في الجنين :

« إن الأب والأم يساهمان بقدر متساو في تكوين نواة البويضة التي تولد كل خلية من خلايا الجسم الجديد ولكن الأم تهب علاوة على نصف المادة النووية كل البروتوبلازم المحيط بالنواة ، وهكذا تلعب دوراً أهم من دور الأب في تكوين الجنين » (١) .

« إن دور الرجل في التناسل قصير الأمد . أما دور المرأة فيطول إلى تسعة أشهر . وفي خلال هذه الفترة يغذى الجنين بمواد كيمياوية ترشح من دم الأم من خلال أغشية الخلاص » (٢) .

إن الطفل أشبه ما يكون بعضو من أعضاء الأم تماماً ، عندما يكون في بطنها . وجميع العوامل التي تؤثر في جسد الأم وروحها تؤثر في الطفل أيضاً . إذا ابتلي أب ـ بعد إنعقاد النطفة ـ بشرب الخمرة أو العوارض الأُخرى فأنها لا تؤثر في الطفل ، لأن صلة الطفل بأبيه إنما تكون ثابتة إلى حين إنعقاد النطفة فقط ، لكن صلة الأم تستمر لمدة تسعة أشهر ، وعليه فإذا أقدمت الأم ـ في أيام الحمل ـ على شرب الخمر فإن الجنين يسكر ويتسمم أيضاً .

إن أحد أسباب سلامة هيكل الطفل ورشاقة قوامه ، أو عدمها في أيام الحمل يتعلق بالغذاء الذي تتناوله الأم وهي حامل . وكذلك الغذاء الذي كان يتناوله الأب قبل إنعقاد النطفة .

____________________

(١) و (٢) الإِنسان ذلك المجهول ص ٧٩ .


« إذا كانت نطفة الأب مسمومة حين الاتصال الجنسي فإن الجنين يوجد ناقصاً وعليلاً . وهذا التسمم ينشأ من تناول الأطعمة الفاسدة ، أو معاقرة الخمرة . إذن يجب الإِجتناب عن الإِتصال الجنسي حين التسمم والسُكر بالخصوص » (١) .

« يجب أن يكون الطعام الذي يتناوله الإِنسان في الليلة التي يقصد فيها الإِتصال الجنسي للتكاثر كاملاً حاوياً لفتامين (A) بالخصوص » (٢) .

« لقد قام أحد الأطباء الحاذقين في أوربا بجمع إحصائيات دقيقة للنطف التي تنعقد في ليلة رأس السنة المسيحية فوجد أن ٨٠ % من الأطفال المتولدين من تلك النطف ناقصوا الخلقة وذلك لأن المسيحيين في هذه الليلة يقيمون أفراحاً عظيمة وينصرفون إلى العيش الرغيد والإِفراط في الأكل والشرب ويكثرون غالباً من تناول الخمرة إلى حد يجرهم إلى المرض . وبما أن المطاعم وحانات الخمور تستقبل أكبر كمية من الزبائن في هذه الليلة فإنه يتعذر على أصحابها أن يطعموهم الأطعمة السالمة تماماً ويهتموا بشأنها كغيرها من ليالي السنة » (١) « يصاب بعض الأطفال في الأيام الأولى من أعمارهم بقروح وجروح تسمى ( أكزما الأطفال ) وهذه القروح لا تزول إلا بعد أن تعذب الوالدين لمدة طويلة ، وهي ناتجة من سوء تغذي الأُمهات في أيام الحمل ، فإن الأم لو أكثرت في أيام الحمل من أكل التوابل والأطعمة الحارة كالخردل والدارسين وما شاكل ذلك فالطفل يصاب بالأكزما » (٢) .

____________________

(١) إعجاز خوراكيها ، تأليف الدكتور سيد غياث الدين الجزائري ص ١٥٣ .

(٢) المصدر السابق ص ١٥٤ .

(٣) المصدر السابق ص ١٥٤ .

(٤) المصدر نفسه ص ١٧٥ .


« إن الفواكه والخضروات التي تحتوي فيتامين (B) تعتبر العلاج القطعي للكنة اللسان . والأم التي تتناول من هذا الفيتامين أيام حملها ، فإن جنينها يأخذ بالتكلم مبكراً ولا يصاب باللكنة » (١) .

« إن المشروبات الروحية تعتبر خطة جداً للحوامل لأنها بغض النظر عن التسمم الذي توجده ، تهدم الفيتامينات التي تحتاجها الأم والجنين أيام الحمل ، فينشأ الطفل ناقصاً ومشوهاً » (٢) .

« إن تناول الأطعمة الفاسدة واللحوم بالخصوص ـ حيث تؤدي إلى التسمم يجعل لون الجنين داكناً مائلاً إلى الإِصفرار » (٣) .

الغذاء والجمال :

يرى العلم الحديث أن للأطعمة تأثيراً خاصاً في صباحة وجه الأطفال ورشاقة قوامهم ولون شعرهم وعيونهم ، وفي كل مظاهرهم . وكذلك الروايات والأحاديث فأنها لم تغفل شأن الإِشارة إلى أثر الأطعمة والفواكه والخضروات والبقول ، فورد في بعضها الإِرشاد إلى إستعمال أنواع خاصة منها للحامل :  « عن الصادق عليه‌السلام ، نظر إلى غلام جميل ، فقال : ينبغي أن يكون أبو هذا أكل سفرجلاً ليلة الجماع (٤) .

وهناك حديث آخر بشأن السفرجل : « . . . وأطعموه حبالاكم فأنه يحسن أولادكم » (٥) .

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « أطعموا المرأة في شهرها الذي تلد فيه التمر ، فإن ولدها يكون حليماً تقياً » (٦) .

____________________

(١) إعجاز خوراكيها ص ١٧٦ .

(٢) المصدر السابق ص ١٧٧ .

(٣) المصدر السابق ص ١٦٨ .

(٤) و(٥) مكارم الأخلاق ص ٨٨ .

(٦) المصدر السابق ص ٨٦ .


الحوادث غير المتوقعة :

يخضع الطفل في أيام الحمل لتأثيرات أُمه . وإن جميع الحوادث التي تقع للأبوين تؤثر فيه ، ويصنع الطفل بموجبها . فقد يصادف أن تقع بعض العوامل في أيام الحمل فتؤدي إلى سعادة الطفل . وقد يكون العكس حيث تؤدي إلى شقائه أو سقوطه وانعدام حياته تماماً .

لنتصور مسافراً يركب سيارة ويقصد منطقة نائية جداً بحيث يطول سفره تسعة أشهر فهناك العديد من المخاطر في طريقه ، فمن المحتمل في كل لحظة أن يقع في هوة سحيقة ، أو واد عميق أو تصطدم سيارته بجبل ، أو يقذف إلى نهر ، أو تكسر يده ، أو يجرح بدنه ، وقد يصادف أن يطوي ٩٩ % من مجموع المسافة ، ويبقى له ١ % فقط فتصادفه عقبة كأداء أو حادثة سيئة في ذلك الجزء الأخير ، فلا يمكن التأكد من وصول المسافر إلى مقصده بسلام إلا بعد أن يترك السيارة ويتجه إلى منزله الأخير .

وهكذا النطفة التي تنعقد في رحم الأم لأول لحظة ، فهي كالمسافر الذي إستقل واسطة النقل ، وعليه أن يقطع المراحل الطبيعية طيلة تسعة أشهر . فهناك المئات من العراقيل والمخاطر تقع في طريقها . وفي كل لحظة يمكن أن يقع حادثة تؤدي إلى سقوط الجنين وموته ، أو تحدث فيه نقصاً وإنحرافاً . وقد يصادف أن يقطع الجنين ثمانية أشهر من حياته بسلام ، وفي الشهر الأخير يصاب ببعض العوارض ، ولا يمكن القطع بسلامة الطفل وإجتيازه المراحل كلها ، وتولده سعيداً إلا بعد أن يتولد سالماً ، ويخرج إلى الدنيا الخارجية .

ولهذا فأن قسطاً كبيراً من النجاح الباهر الذي أحرزه بعض العظماء في العالم يرجع إلى ( طهارة المولد ) ، وكذلك الإِنتكاسات التي تحدث لبعض الأفراد فأنها ترجع إلى إنحرافات الدور الجنيني .

طهارة المولد :

إن القرآن الكريم يعبر عن رجلين من هؤلاء العظماء بطهارة المولد


( والسلام يوم الولادة ) وهما يحيىٰ بن زكريا ، وعيسىٰ ابن مريم ، يقول القرآن في حق يحيىٰ : ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ) (١) . ويقول على لسان المسيح ابن مريم : ( وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ ) (٢) . والسلام بمعنى : عموم العافية أي : الطهارة الكاملة للبدن والروح . وهذه الحقيقة أي طهارة المولد متساوية في حق جميع الرسل والأنبياء ، والنكتة الأُخرى التي يجب التنبيه لها هي : أن القرآن عبر عن السلامة في دور الرحم بسلامة يوم الولادة ، وذلك لأن السلامة في تمام ذلك الدور لا تعرف إلا بعد ولادة الطفل سالماً ، وإجتيازه تلك المراحل كلها بنجاح حيث تنقطع صلته تماماً برحم أُمه .

« كان علي بن الحسين عليه‌السلام إذا بُشر بولد ، لم يسأل : أذكر هو أم أُنثى ؟ بل يقول : أسوي ؟ . فإذا كان سوياً قال : الحمد الله الذي لم يخلقه مشوهاً » (٣) .

ولا ريب فلسلامـة المولد قيمتها ، إذ أنها هي السبب الأول في نشوء جيل مستو وخلق مجتمع فاضل تنتشر فيه روح السعادة والإِنسانية والصفاء .

مصدر السعادة والشقاء :

يتضح مما سبق مدى أهمية رحم الأم في سعادة الطفل وشقائه ، وكذلك أتضح السبب في عدم ذكر الروايات لإِهمية أصلاب الآباء ، إذ أن الرحم هو مصدر السعادة والشقاء ، وفيه يتقرر مصير الإِنسان وسلوكه بنسبة كبيرة .

فبعض الأطفال يبتلى بقسم من العيوب والنواقص العضوية في ناحية أو أكثر من البدن ، ويولد مع تلك العيوب . وهناك بعض الأطفال نجدهم سالمين من حيث القوام البدني ، ولكنهم مصابون ببعض الإِنحرافات والعوارض النفسية والروحية ، ولذلك فإن الشقاء قد لحق بهم وهم في بطون أُمهاتهم .

____________________

(١) سورة مريم ؛ الآية : ١٥ .

(٢) سورة مريم ؛ الآية : ٣٣ .

(٣) مكارم الأخلاق ص ١١٩ ط إيران .


إن الإِنحرافات البدنية والنفسية كثيرة . وهناك الكثير منها لا يزال مجهولاً لدى العلماء حتى اليوم . إلا أن قسماً كبيراً من تلك العاهات يمكن الإِتقاء منها إذا أحرزنا السلامة البدنية والنفسية للآباء والأُمهات .

وإذ جر البحث إلى هذه العاهات التي تسبب ولادة الطفل شقياً ، لا بأس بذكر بعضها وتعداد أنواعها ، لمناسبتها للبحث من جهة ، ولفوائدها للمستمعين الكرام من جهة أُخرى .

العاهات العضوية :

« ١ ـ بقاء الجدار الداخلي للبطن مفتوحاً ، وحينئذ يؤدي إلى خروج الأحشاء إلى الخارج ( خلف الجدار الخارجي ) وإيجاد إنتفاخ ظاهر » .

« ٢ ـ الفتق السري الناشء من عدم إنسداد الحبل السري قبل الولادة » .

« ٣ ـ عدم التحام جدار السرة وحصول شق في مقدم البطن إلى جهة الطحال » .

« ٤ ـ عدم التحام القفص الصدري بعظم القص وفي هذه الصورة يكون القلب سطحياً وواقعاً خلف الجلد مباشرة . وفي بعض الأحيان نجد بقاء قسم من الرئتين خارج القفص الصدري » (١) :

الوجه :

« ١ ـ شق الشفة ، وينشأ هذا العيب من عدم التصاق الأنسجة الرابطة بين أجزاء الفك أو الأنف . هذه العاهات قد تؤدي إلى ظهور أثر جرح ، أو كشق صغير على جانب واحد جانبين من الشفة » .

____________________

(١) جنين شناسى ص ٥٧ .


« ٢ ـ شق القحف : هذا الشق ينشأ من عدم إتصال الأنسجة بين عظام الجمجمة » .

« ٣ ـ عدم إنسداد الفتحة الواصلة بين العين والأنف هذه الفتحة التي تبدأ من الجفن الأسفل للعين وتمتد إلى جهة الفم ، قد تبقى مفتوحة أحياناً » .

« ٤ ـ إتساع فتحة الفم أكثر من المعتاد . وهو ناشء من عدم إلتيام الأخدود الواصل بين أنسجة الفك الأعلىٰ والأسفل » .

« ٥ ـ وقد يؤدي توقف أنسجة الوجه عن النمو إلى ظهور العاهات وبعض الحفر في الوجه » (١) .

الهندام :

« ١ ـ توقف بعض أجزاء الأطراف عن النمو ، وفي هذه الصورة قد نجد الأطراف ملتصقة بالجسد مباشرة من دون وجود الساعد أو الساق » .

« ٢ ـ ظهور أطراف زائدة ـ كاملة أو ناقصة ـ وهذا التشويه ينشأ في الغالب من إنقسام الأنسجة الأولية » .

« ٣ ـ عدم التناسق في إتصال مفاصل الرجلين وفي هذه الصورة تكون الأصابع في خلف القدم والكعب في الجانب الأمامي » (٢) .

الجهاز الهضمي :

« ١ ـ إنسداد المريء ، وعلامته تقيؤ الطفل للحليب في اليوم الأول فور إرتضاعه » .

« ٢ ـ ضيق فتحة المريء حيث يؤدي فيما بعد إلى مشاكل كثيرة

____________________

(١) جنين شناسى ص ٧١ .

(٢) المصدر السابق ص ٧٣ .


في بلع الأطعمة الصلبة ـ غير السائلة ـ » .

« ٣ ـ الضيق الناشء قبل الولادة لفتحة فم المعدة ، والنمو غير الإِعتيادي للعضلة التي تغلق هذه الفتحة » .

« ٤ ـ إنسداد ثقب المخرج ، أو أدائه إلى غيره من الحفر كالمثانة ونحوها » (١) .

هذه نماذج مختصرة للعاهات والنواقص التي تصيب جسم الطفل ، وهي كثيرة ، فجميع أجزاء البدن سواء الجهاز العظمي والجهاز التناسي والقلب والعروق الدموية والمخ والأعصاب خاضعة للتأثر بتلك العاهات ، وقد تكون خطرة جداً إلى درجة أنها تؤدي إلى نشوء رأسين على رقبة واحدة ، أو بدنين على ظهر واحد .

من قضاء الامام علي عليه‌السلام :

ولقد حدث مثل هذا الحادث في زمن الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ جاءته إمرأة ولدت من زوجها الشرعي طفلاً له بدنان ورأسان على حقو (٢) واحد ، فتحيروا في حصته من الارث ، هل يعطونه حصة واحدة أم حصتين ، فصاروا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام يسألونه عن ذلك ليعرفوا الحكم فيه ، فكان جواب الإِمام عليه‌السلام.

« إعتبروا إذا نام ثم انبهوا أحد البدنين والرأسين . فإن إنتبها معاً في حالة واحدة فهما إنسان واحد . وإن إستيقظ أحدهما والآخر نائم ، فهما إثنان وحقهما من الميراث حق إثنين » (٣) .

____________________

(١) جنين شناسى ص ١٠٩ ، وكما ورد في كتب التواريخ فإن الحجاج بن يوسف الثقفي كان مصاباً بهذه العاهة ، فقد كان فاقداً للدبر حين الولادة ، ثم ثقبوا له موضعه ( أُنظر تتمة المنتهى ص ٩٨ ) .

(٢) ورد ( الحقو ) بمعنى سطح الجبل في بعض كتب اللغة ، والظاهر أنه يستعمل بمعنى ( الظهر ) أيضاً ، كما تدل على ذلك القرينة في المقام .

(٣) بحار الأنوار للمجلسي ج ٩ ص ٤٨٥ الطبعة القديمة .


والسر في هذا القضاء العادل والحكم الدقيق واضح ، لأنه إعتبر ملاك الحكم هو المركز العصبي ، إذ عليه المعول في توجيه الإِنسان ، فإن كانت قيادة واحدة توجه البدنين والرأسين فهو شخص واحد . ولكن إذا كان يدير كل قسم جهاز عصبي مستقل عن الآخر ، فهما بدنان ، وأحسن طريقة لمعرفة أن الجهاز العصبي الذي يدير الجسم في هذا الإِنسان واحد أو إثنين هو إيقاظه من النوم .

فكما أن الشخص الواحد تدار عيناه بواسطة جهاز واحد ، وهما يشبهان مصباحين مربوطين بزر واحد يشتعلان ويطفأن معاً ، فلا يمكن أن تكون إحدى العينين يقظة والأُخرى نائمة . . . كذلك الرأسان والعيون الأربعة . فإن كانت تدار كلها بجهاز عصبي واحد ، فلا يمكن أن يكون أحد الرأسين في حالة يقظة والآخر في حالة نوم . فإن أيقظنا أحد الرأسين بهدوء ، وبقي الثاني نائماً ، فيدل هذا على أن لهما دماغين مختلفين يصدران إرادتين متباينتين ، ويستجيبان لأثرين متضادين ، فكأنهما طفلان نائمان في فراش واحد متشابكان تماماً . ومع ذلك فيستيقظ أحدهما قبل الآخر .

وبالرغم من خفاء كثير من أسباب هذه الإِنحرافات على البشر ، فإن لنا أن نقطع بأن حدوث أي عيب في الخلية التناسلية الأولى يؤدي إلى أن يصير الطفل في وضع غير إعتيادي ، كما ثبت ذلك في بعض الحيوانات حين أجريت تجارب عديدة عليها .

« لقد استطاع شابري أن يوجد أجنة غير اعتيادية بإيجاد خدوش في الخلايا الأولية وقد نال هذا الإِبداع بالخصوص إستحساناً بالغاً ، لأن إجراء الاختبارات على خلايا بيضة لا يتجاوز طولها ١ % ـ ٢ % المليمتر ليس أمراً سهلاً » (١) .

____________________

(١) تاريخ علوم ص ٧٠٦ .


الانحرافات الكامنة :

لا تنحصر العيوب والعاهات التي تصيب الطفل في رحم الأم بالنوع البدني منها فقط . فكثيراً ما يتفق إصابة الطفل بعوارض وإنحرافات روحية فهي ليست ظاهرة بل كامنة ، ولكن الأم هي التي أوجدت العوامل المساعدة لذلك الإِنحراف الكامن الذي لا يلبث ـ بعد الولادة ـ أن يظهر تدريجياً ، فيكشف الزمن عن أسرار عميقة كانت مكتومة في سلوك الفرد فجميع تلك الاستعدادات تأخذ بالظهور إلى عالم الفعلية واحدة تلو الأُخرى .

يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الأيام توضح السرائر الكامنة » (٢) .

وورد عن الإِمام جواد عليه‌السلام : « الأيام تهتك لك الأمر عن الأسرار الكامنة » (٣) .

وهكذا ، فكما أن الأم المصابة بالسل والسرطان تكون عاملاً مساعداً في إصابة طفلها بنفس المرض ، فالأم المأسورة للإِنحرافات الروحية والسيئات الخلقية والصفات الرذيلة تكون تربة مساعدة أيضاً لإِنحراف سلوك الطفل وتفكيره أيضاً . وتأخذ تلك الإِنحرافات الروحية بالظهور بالتدريج في الطفل .

« إن ولد السارق أو مصاص الدماء ، تكون قابليته على الإِرادة الصحيحة أقل من ولد المجنون . فإن الأفراد الذين يملكون إنحرافات وراثية موجودون في جميع طبقات المجتمع . ويمكن العثور عليهم بين الأغنياء والفقراء والمثقفين والعمال والفلاحين . . . كثيرون هم الذين ينهزمون أمام المشاكل لأبسط حادثة ، والمتلونون الذين لا يستقرون على حال ، ولا يقفون على تصميم ضعفاء الإِرادة التائهون في خضم الحياة ، والكسالى الذين يشبهون الجماد في خمولهم وجمودهم ، والحساد الذين

____________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٢٨ .

(٢) بحار الأنوار للمجلسي ج ١٧ / ٢١٤ .


يكتفون من الحياة بتوجيه الإِنتقاد إلى الآخرين ، وضعفاء العقول المصابون بالشذوذ العاطفي ، والخلاصة أولئك الذين لا يتجاوز عمرهم العقلي أكثر من ١٠ سنين أو ١٢ سنة . ومما لا ريب فيه أن هذا النقص منشؤه وراثي إلى حد بعيد ، ولكن ليس بمقدورنا أن نعين نسبة العوامل الوراثية إلى العوامل التربوية ( البيئية ) في توليد هذه العاهات . ومع ذلك فإن النماذج الإِفراطية من ضعف العقل والإِختلال الروحي والبكم والبلادة تدل بوضوح على وجود عيوب وراثية ـ بدنية وروحية ـ » (١) .

ومن هنا يتضح لنا السر في أن الدين الإِسلامي الحنيف يعتبر الصفات الرذيلة والملكات الذميمة والتمادي في الإِجرام في عداد الأمراض الخطرة . فالخلق السيء ليس سبباً للأمراض الروحية والعصبية فحسب ، بل يؤدي أحياناً إلى إختلالات بدنية عظيمة ، مما يؤدي إلى إصابة صاحب الأخلاق السيئة بأمراض جسدية ، وهكذا نجد الأمهات المصابات بالانحرافات الخلقية والأمراض المعنوية يلدن أطفالاً مصابين أيضاً .

وهنا نكتة مهمة : وهي أن الأمراض الجسدية يمكن أن تكشف بسرعة لظهور بوادرها كالحمىٰ وما شاكلها ، ولكن المصابين بالأمراض الروحية ومضاعفاتها ومخلفاتها ليس فيهم بوادر ومقدمات ، ولذلك فإن المصاب لا يلتفت إلى الخطر ، إلا عندما يتأصل فيه المرض ويستبد به الإِنحراف . . . حيث يكون أحياناً غير قابل للتدارك أصلاً .

ومن المؤسف له أن أكثر الناس في العالم ( ومن ذلك بلادنا أيضاً ) يصرفون جل اهتمامهم إلى الجهات المادية فقط ، غافلين عن الجهات المعنوية ولهذا السبب بالذات فأنهم يتلقون الفضائل الخلقية والمثل الإِنسانية والتقوى على أنها أمور حقيرة حتى أن البعض يفرضون أنفسهم في غنى منها :

____________________

(١) راه ورسم زندگى ص ١٥٦ .


الغفلة عن الانحرافات الروحية :

يرى الناس أن المرض منحصر بالنوع الجسماني منه ، فالسيئات الخلقية والملكات الرذيلة لا يعتبرونها أمراضاً ، المصاب بالسل والسرطان يعتبر مريضاً ، أما الحسود والحقود فليس مريضاً عندهم ، إنهم يرون قرحة المعدة أو الأثنى عشر مرضاً ، ولكن الإِفساد في الأرض والأنانية لا يرونهما كذلك .

وهكذا نجد الرجال حين الإِقدام على الزواج يعطفون جل إهتمامهم على جمال الوجه والهندام وسلامة الجسد للمرأة ، من أن يسألوا عن صفاتها الخلقية وملكاتها المعنوية ، وكذلك نظرة النساء إلى الرجال . فقصر القامة أو الحول في العين يعتبر عيباً في الزواج . ولكن الأنانية وبذاءة الأخلاق لا تعد من العيوب عندهم . وعليه فمن البديهي أن السيئات الخلقية تنتشر بسرعة في ظرف كهذا ، ويزداد عدد المصابين بها يوماً بعد يوم .

وبما إن السجايا الخلقية من الأركان المهمة في موضوع تربية الطفل وهي في نفس الوقت مفيدة لجميع الطبقات ، نرى من الضروري أن نفصل القول فيها .

إتصال الجسد بالروح :

إن الإِنسان مركب من روح وجسد ، وكل منهما يؤثر في الآخر ، فكما أن الجهود الجسمانية تترك آثاراً عميقة في الروح الإِنسانية ، كذلك الأفكار والمعنويات فأنها تؤثر على بدنه ، وهذه القاعدة كانت من جملة المسلمات عند الفلاسفة والعلماء في القرون الماضية.

لنفرض إنساناً لا يملك أبسط المعلومات عن الخط أو الرسم ، ومع ذلك يأخذ القلم أو الفرشاة بيده ويتمرن أشهراً وسنين طوالاً وبالتدريج نجد أن روحه تقع تحت تأثير هذا التمرين الجسماني حتى يصير فن الخط أو الرسم في النهاية ملكة نفسانية له . وما هي إلا أيام حتى يكون في عداد خطاطي أو رسامي العالم . هذا تأثير الجسم في الروح .


ولنفرض إنساناً يخجل أو يخاف من شيء ما . وبالرغم من أن الخوف أو الخجل شعور نفساني ومن الأمور المتعلقة بالروح ، نجد أن هذه الحالة النفسية تؤثر في بدنه ، فالمصاب بالخوف يصفر لونه ، أما المصاب بالخجل فيحمر وجهه ، وهذا تأثير الروح في الجسم .

ولم يفت العلم الحديث التنبه إلى هذه النكتة ، وهي تأثير كل من الروح والجسد في بعضهما البعض . بل أثبت العلماء ذلك ، وذكروا هذه القاعدة بأسلوب أوضح في كتبهم :

ولنستمع إلى ( الكسيس كارل ) يقول :

« من الواضح إن النشاط العقلي يتوقف على وجوه النشاط الفسيولوجي فقد لوحظ أن التعديلات العضوية تتصل بتعاقب حالات الشعور وعلى العكس من ذلك فإن حالات وظيفية معينة للأعضاء هي التي تقرر الظواهر السيكولوجية. وليدل الكل المكون من الجسم والشعور بالعوامل العضوية والعقلية أيضاً . . . فالعقل والجسم يشتركان معاً في الإِنسان » (١) .

تأثير الجسم في الروح :

 « وحقيقة الأمر ، أن المراكز المخية لا تتكون من المادة العصبية فحسب . إذ إنها تشتمل أيضاً على سوائل غطست فيها الخلايا وينظم تأليفها بواسطة مصل الدم . ويحتوى مصل الدم على إفرازات الغدة ، والنسيج التي تنتشر في الجسم كله ، ولما كان كل عضو موجوداً في النخاع الشوكي بوساطة الدم والليمفا ، فمن ثم فإن حالاتنا الشعورية مرتبطة بالتركيب الكيميائي لأخلاط العقل مثل ارتباطها بالحالة التركيبية لخلاياه . وحينما يحرم الوسيط العضوي من إفرازات غدد ( السوبر ارينال ) فأن المريض يسقط

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ١١٤ .


فريسة للإِنقباض الشديد ، ويشبه حيواناً شرساً ، وتؤدي الاضطرابات الوظيفية لغدة الثايارويد إما إلى الهياج العصبي والعقلي أو إلى البلادة وفقد الإِحساس ، وقد وجد معتوهون وضعاف عقول ومجرمون في أسر ، أصبح تغير تركيب هذه الغدة فيها بسبب إصابتها بجروح أو بأمراض ، مسألة وراثية » (١) .

« ولضياع أرقى التجليات الروحية . يكفي حرمان بلازما الدم من بعض المواد . فحين تتوقف غدة الثايارويد عن إفراز الثايروكسين في الدم مثلاً يضيع الشعور بالأخلاق وتذوق الجمال والإِحساس الديني . وكذا إزدياد أو نقصان نسبة الكالسيوم يؤدي إلى إختلالات روحية كثيرة . ولهذا فالشخصية الإِنسانية تأخذ طريقها إلى الاضمحلال في الإِنسان المدمن على الخمرة » .

« إن مما لا شك فيه أن الحالة النفسية ترتبط بالحالة الجسمانية تماماً ، وبصورة موجزة : فإن الجهود الفكرية والنشاط العاطفي ينشأ من العوامل الفيزياوية والكيمياوية والفسيولوجية المرتبطة بالبدن » (٢) .

من خلال هذه النصوص إتضح لنا تأثير الجسم والقوى البدنية في الأجهزة المعنوية والنفسية . والآن لنبحث عن كيفية تأثير الأفكار والعوامل النفسية في شؤون الإِنسان الجسدية .

تأثير الروح في الجسم :

« فالعواطف ـ كما هو معروف جيداً ـ هي التي تقرر تمدد أو تقلص الأوردة الصغيرة عن طريق الأعصاب المحركة ، فهي إذن تقترن بتغيرات في دورة الدم في الخلايا والأعضاء . فالفرح يجعل جلد الوجه يتوهج في حين يكسبه الغضب والخوف لوناً أبيض . . . وقد

____________________

(١) المصدر السابق ص ١١٥ .

(٢) راه ورسم زندگى ص ٢٦ .


تحدث الأنباء السيئة تقلصاً في الأوردة الجوفاء أو أنيميا القلب ، والموت المفاجء في أشخاص معينين ، كما أن الحالات العاطفية تؤثر في الغدد كلها ، وذلك بزيادة دورتها أو نقصها . . . إنها تنبه أو تقف الإِفرازات أو تحدث تعديلاً في تركيبها الكيميائي . . . فالرغبة في الطعام تثير اللعاب حتى ولو لم يكن هناك أي طعام . . . فكلاب بافلوف كان لعابها يسيل على أثر سماعها صوت جرس ، لأن جرساً دق قبل ذلك ، حينما كان الحيوانات تطعم . وقد تؤدي العاطفة إلى إثارة نشاط عمليات ميكانيكية معقدة . فبينما يثير الإِنسان عاطفة الخوف في قط ، كما فعل ( كانون ) في تجربته المشهورة ، فإن أوعية غدد ( السوبرارينال ) تتمدد ، وتفرز الغدد الادرينالين . ويزيد الادرينالين ضغط الدم وسرعة دورته ويهيء الجسم كله إما للهجوم أو للدفاع . . . إن العواطف تحدث تعديلات كبيرة في الأنسجة والاخلاط . وبالأخص في الأشخاص الشديدي الحساسية . . . فقد ابيضَّ شعر رأس امرأة بلجيكية كان الألمان قد حكموا عليها باللإِعدام في اللبلة السابقة لتنفيذ الحكم فيها . . . وثمة إمرأة أُخرى أصيبت بطفح جلدي في أثناء إحدى الغارات الجوية ، وكان هذا الطفح يزداد « إحمراراً وإتساعاً بعد إنفجار كل قنبلة ومثل هذه الظواهر بعيدة عن أن تكون استثنائية أو شاذة . فقد برهن ( جولترين ) على أن الصدمة الأدبية قد تحدث تغييرات ملحوظة في الدم . إذ حدث أن تعرض أحد المرضى لخوف عظيم فهبط ضغط دمه فنقص عدد كريات دمه البيضاء وكذلك الفترة التي استغرقها تخثر بلازما الدم » (١) .

« الاضطرابات الروحية التي توجب توقف المبيض عن العمل : أثبتت تجارب الحرب العالمية الأخيرة أن البقاء في المعسكرات

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول . ترجمة عادل شفيق ص ١١٦ .


الكبيرة لمدة طويلة يسبب إنقطاع النزيف الشهري الذي يتسبب من تغيرات دورية تحصل في المبيض في حين أن هذا الاضطراب يرجع إلى حالته الأولى بمجرد الرجوع إلى الحياة الاعتيادية من دون حاجة إلى علاج أصلاً » (١) .

« يقول في البحث عن العوارض البدنية الناتجة من مرض روحي خاص : إنه يسبب إختلال جميع العضلات والأعصاب ، يسبب زيادة التبوّل في بعض المراحل ، ونقصانه بشدة في مراحل أُخرى . يؤدي إلى الأرق أحياناً وإلى شدة النعاس أحياناً . وهكذا يضطرب النشاط الجنسي أيضاً فقد يشتد تارة وقد يقل ويخمد . وحتى البشرة لا تسلم من تغيرات هذا الإِختلال . حيث تظهر على الجلد بعض الدمامل التي لا تعالج بأي دواء أصلاً ، في حين تزول من تلقاء نفسها في بعض مراحل المرض . هذه هي العوارض العديدة لهذا الداء الفتاك » (٢) .

الأمراض النفسية :

إن الإِسلام يعتبر الإِنحرافات الخلقية والصفات الرذيلة أمراضاً . ولهذا وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تعبّر عنها بالأمراض . إنَّه يعتبر المكر والخداع مرضاً فيقول في وصف المنافقين :

( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا . . . فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) (٣) .

وكذلك عندما منع القرآن نساء النبي وحريمه من التكلم بالرقة واللين فإنه علل ذلك من ناحية الخوف من طمع المستهترين الذين لا يعرفون للعفة وزناً ولا يدركون للشرف معنى فنراه يقول : ( فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي

____________________

(١) هورمونها ص ٣٣ .

(٢) چه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص ١٣ .

(٤) سورة البقرة ؛ الآيتان : ٨ ـ ٩ .


قَلْبِهِ مَرَضٌ ) (١) .

وهكذا يصرح الإِمام علي عليه‌السلام بالنسبة إلى الحقد : « الحقد داء دويّ ومرض موبي » (٢) .

ويقول بالنسبة إلى متابعة هوى النفس : « الهوى داء دفين » (٣) .

وإليك نصاً عن أحد علماء الغرب بهذا الصدد :

« لا يقل خطر الحسد عن ميكروب الطاعون الرئوي لأنه يجعل صاحبه يعمل لأضرار الآخرين أكثر من العمل لجلب المنفعة لنفسه . وهكذا الحقد والبغضاء وغيرهما من الصفات الرذيلة تعتبر معاول هدامة لا أكثر » (٤) .

مظاهر الأمراض النفسية :

إن الأمراض الروحية والإِنحرافات النفسية يظهر أثرها على روح المريض نفسه قبل كل شيء ولكل منها مظاهر وعوارض خاصة . فالاضطراب ، والحيرة ، والاستيحاش ، والجمود ، واليأس ، والجبن ، ونحوها تعد من الحالات المرضية ، وقد يشتد أثر هذه الاضطرابات والإِنحرافات فيؤدي إلى الجنون .

« وهناك نوع من الجنون يظهر في الأشخاص السالمين والمعتدلين في سلوكهم ، إن تحليل أدمغة هؤلاء بأقوى الميكروسكوبات يثبت سلامة أدمغتهم ، وعدم وجود أي نقص في أنسجة المخ عندهم . فلماذا يا ترى يفقد هؤلاء عقولهم ؟ لقد ألقيت هذا السؤال على كبير الأطباء في إحدى المستشفيات العقلية عندنا . فأجاب ذلك العالم الذي كان له الكثير من التحقيقات الواسعة والتجارب الدقيقة

____________________

(١) سورة الأحزاب ؛ الآية : ٣٢ .

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٣٥ طبعة دار الثقافة النجف الأشرف .

(٣) المصدر السابق ص ١٧ .

(٤) راه ورسم زندگى ص ١١٤ .


في أحوال المجانين ، أجاب بصراحة بأنه لم يفهم بعد السبب في فقدان الناس عقولهم ولم يتوصل أحد إلى سر الموضوع بالضبط . ومع ذلك فهو كان يقول بأن كثيراً من هؤلاء المجانين الذين عالجتهم وجدت أن الجنون يرضي فيهم الشعور بالأنانية ، فكأنهم يجدون في عالم الخيال ما هم محرومون منه في حياتهم الاعتيادية . ثم نقل لي هذه القصة فقال : توجد هنا تحت العلاج سيدة أصيبت بحادث مزعج في حياتها الزوجية ، حيث كانت تأمل أن تحرز منزلة عالية في المجتمع بعد الزواج والحصول على الأولاد والعيش المرفه لكن حوادث الدهر هدمت قصر آمالها ، فهجرها زوجها إلى درجة أنه لم يرغب في أن يتناول الطعام معها ، فأجبرها على أن تسكن الغرفة الواقعة في الطابق السفلي من العمارة . هذا الحادث دفع بها إلى الجنون ، والآن ترى نفسها في عالم الخيال وكأنها تطلقت من زوجها السابق ، وتزوجت من مليونير إنكليزي ، وتصر على أن نسميها : الليدي سميث ، أضف إلى أنها تتصور في كل ليلة أنها ولدت طفلاً . فمتى ما تراني تقول لي : ( سيدي الدكتور لقد ولدت البارحة طفلاً ) » (١) .

وهكذا ، فإن الذين يعمرون نفوسهم بآمال طوال ، ويبقون في أسر الميول المفرطة يجب أن يعلموا أنهم مصابون بمرض خلقي وانحراف روحي . وكما قال الإِمام علي عليه‌السلام : « الهوى داء دفين » هذا الداء يؤدي إلى الجنون أحياناً ، وقد يجر في بعض الأحيان إلى الموت الحتمي ، يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « من جرى في عنان أمله عثر بأجله » (٢) .

وما أكثر الذين قتلوا حتف آمالهم الطويلة البعيدة ، وما أكثر الرجال والنساء المنتحرين لعدم تحقيق أُمنياتهم وعدم وصولهم إلى آمالهم غير الناضجة ! ! .

____________________

(١) آئين دوست يابى ص ٣٦ .

(٢) سفينة البحار للقمي مادة « أمل » ص ٣٠ .


تأثير السلوك في الجسم :

والأثر الثاني للأمراض الخلقية هو رد الفعل الحاصل منها في أجساد المصابين بها ، فالرجل السيء الخلق ليس مأسوراً للإِنحراف الروحي فقط ، بل إنَّ ذلك الإِنحراف يؤثر في جسمه فيصاب بعوارض مختلفة .

إن العلم الحديث يعتبر هذه القضية من المسائل القطعية المسلمة ، وسنبحث عنها بالتفصيل إن شاء الله في المحاضرات القادمة عند حديثنا عن أسلوب التربية الصحيحة . وهنا نكتفي بنقل نص بسيط إلى القارء الكريم :

« هناك بعض العادات التي تقلل من القدرة على الحياة ، كالأنانية والحسد والتعود على الإِنتقاد في كل شيء واحتقار الآخرين وعدم الأطمئنان بهم . لأن هذه العادات النفسية السلبية تؤثر على الجهاز السمبثاوي الكبير والغدد الداخلية . وبإمكانها أن تؤدي إلى إخلالات عملية وعضوية أيضاً » (١) .

إن الروايات المنقولة عن أهل البيت عليه‌السلام قد أكدت على هذه الناحية وصرحت بأن الأخلاق السيئة تجعل جسد صاحبها مريضاً وضعيفاً ، وعلى سبيل المثال نذكر بعض الروايات الواردة عن الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حول الحسد وتاثيره السيء في أبدان الحساد :

١ ـ « العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد » (٢) .

٢ ـ « الحسد يذيب الجسد » (٣) .

٣ ـ « الحسد يفني الجسد » (٤) .

٤ ـ « الحسود دائم السقم » (٥) .

____________________

(١) راه ورسم زندگى ص ٨٧ .

(٢) سفينة البحار مادة ( حسد ) ص ٢٥١ وغرر الحكم ص ٤٢ .

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٢٣ .

(٤) المصدر السابق ص ٢٢ .

(٥) المصدر نفسه ص ٨٥ .


٥ ـ « الحسود أبداً عليل » (١) .

نستنتج مما سبق عدة أمور :

١ ـ إن الروح والجسد مرتبطان ويؤثر كل منهما على الآخر .

٢ ـ تعتبر الأخلاق الرذيلة والصفات المذمومة أمراضاً في عرف الدين والعلم .

٣ ـ لهذه الأمراض ـ مضافاً إلى عوارضها الروحية ـ آثار على الجسد فتؤدي إلى إنحراف صحة المصابين بها أيضاً .

والآن وبعد أن أخذنا جولة واسعة في موضوع الأمراض الروحية وكيفية إنتقالها بالوراثة ، نرجع إلى صلب الموضوع وهو دور الأم في تحقيق سعادة الطفل وشقائه .

تأثير حالات الأم على الجنين :

إن جميع الحالات الجسدية والنفسية للأم تؤثر على الطفل . لأن الطفل في رحم الأم يعتبر عضواً منها . فكما أن الحالات الجسمانية للأم والمواد التي تتعذى منها تؤثر على الطفل ، كذلك أخلاق الأم فأنها تؤثر في روح الطفل وجسده كليهما . وقد يتأثر الطفل أكثر من أُمه بتلك الأخلاق . فإذا أصيبت الأم في أيام الحمل بخوف شديد ، فالأثر الذي تتركه تلك الحالة النفسية على بدن الأم لا يزيد على إصفرار الوجه ، أما بالنسبة إلى الجنين فانه يتعدى ذلك إلى صدمات عنيفة .

« إذا حدث للمرأة في أيام الحمل حادث مخيف فانه يتغيّر لونها ويقشعر بدنها ، لكن تظهر على جسم الجنين آثار امتقاع اللون تسمى بالخسوف » (٢) .

وهكذا فإن هموم الأم وغمومها ، غضب الأم واضطرابها ، تشأؤم الأم

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٢٠ طبعة دار الثقافة ـ النجف الأشرف .

(٢) إعجاز خوراكيها ص ١٧٢ .


وحقدها ، حسد الأم وأنانيتها ، خيانة الأم وجنايتها ، وبصورة موجزة جميع الصفات الرذيلة للأم . . . وكذلك إيمان الأم وتقواها ، طهارة قلب الأم وتفاؤلها ، صفاء الأم وحنانها ، مروءة الأم وإنسانيتها إطمئنان الأم وراحة بالها ، شجاعة الأم وشهامتها ، وبصورة موجزة جميع الصفات الحميدة للأم . . . جميع هذه الصفات خيرها وشرها تترك آثارها في الطفل ، وتبني أساس سعادة الجنين وشقائه . وهنا يتحقق قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي إستشهدنا به في المحاضرة الثالثة : « الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أُمه » .

وإليك النص الآتي كشاهد من العلم الحديث :

« إن الاضطرابات العصبية للأم توجه ضربات قاسية إلى مواهب الجنين قبل تولده ، إلى درجة إنها تحوله إلى موجود عصبي لا أكثر . ومن هنا يجب أن نتوصل إلى مدى أهمية التفات الأم في دور الحمل إلى الاتبعاد عن الأفكار المقلقة ، والهم والغم ، والإِحتفاظ بجو الهدوء والاستقرار » (١) .

إن الإِسلام قام بجميع الاحتياطات اللازمة في موضوع الزواج للإِهتمام بطهارة الأجيال الإِسلامية ، وأمر بتعاليم دقيقة في الزيجات حول الجهات الروحية والجسدية للرجال والنساء . ولقد رأينا فيما مضى كيف أن الإِسلام منع من التزوج من المصابين بالحمق والجنون والمدمنين على الخمرة ولكنه لم يكتف في سبيل ضمان النشء الإِسلامي بذلك الحد بل منع ـ في مقام الاستشارة ـ من تزويج الرجل سيء الخلق :

« عن الحسين بن بشار الواسطي قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‌السلام أن لي قرابة قد خطب إليّ وفي خلقه سوء ، قال : لا تزوجه إن كان سيء الخلق » (٢) .

____________________

(١) ما وفرزندان ما ص ٢٧ .

(٢) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٥ / ١٠ .


الأمراض الوراثية :

لسلوك الأم تأثير عميق في سعادة الأطفال وشقائهم . وعليه فالرجل الذي يأمل أن يحصل على ولد شريف وطاهر القلب لا بد له من أن يمتنع من التزوج من النساء البذيئات (١) .

« لقد أثبت أطباء الأمراض النفسية أن من بين الأطفال المصابين بتلك الأمراض يوجد ٢٦ % منهم وروثوها من أمهاتهم ، إذ لو كانت الأم ذات جهاز عصبي سالم ، فإن الطفل يكون سالماً أيضاً ، فلو كانت تفكر الأم في صحة طفلها وسلامة جهازة العقلي فلا بد وأن تفكر في سلامة نفسها قبل تولده » (٢) .

إن هناك سلسلة من القوانين المتقنة والقوية تحكم الكون ، وتلك القوانين هي التي أوجدت هذا النظام العظيم المحير للعقول في مختلف الكائنات والتي أخضعت جميع أجزاء العالم لحكمها . فكل موجود مضطر إلى الإِنقياد لها وإطاعتها .

السنن الالهية :

وهكذا يعمل قانون ( الحياة ) بدقة عجيبة ، ونظام متقن تحت سلسة من الشروط الدقيقة على إكساء المادة الجامدة لباس الوجود . وفي قباله قانون ( الموت ) يعمل على سلب الوجود من تلك الموجودات تحت شروط معينة أيضاً . وكذلك قانون ( الوراثة ) فأنه يعمل بدقة وحكمة على نقل صفات الجسم الحي ـ من نبات أو حيوان أو إنسان ـ وخصائصه إلى الأجيال اللاحقة .

إن القرآن الكريم يعبر عن قوانين الكون ( التي تعتبر قانون الحياة وقانون الوراثة من ضمنها ) بالسنن الإِلهية ويرى فيها أنها ثابتة غير خاضعة للتغير

____________________

(١) والسر في ذلك واضح لأن الفلاح الذي يريد الحصول على ثمرة صالحة لا بد له من أن يبذر بذرته في تربة صالحة . وإلا ففساد التربة يؤثر في الثمرة ، لأنها تحيط بها وهي مصدر غذائها .

(٣) صحيفة ( إطلاعات ) الإِيرانية العدد ١٠٣٥٥ .


والتبديل (١) : ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ، وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) (٢) .

ويعتبر الإِنسان جزءاً ضئيلاً جداً من هذا المنهاج العالمي العام ، وعليه أن يخضع ـ كسائر أجزاء الكون ـ للقوانين العامة والسنن الإِلهية .

الانقياد للقوانين والسنن :

والإِنسان يتأثر بتلك القوانين من اللحظة الأولى التي تنعقد نطفته في رحم أُمه إلى يوم الولادة ، وهكذا من دور الرضاعة إلى المراهقة إلى الكهولة إلى الشيخوخة إلى الموت . فالسنن الإلهية ترافقه خطوة خطوة ، وتصدر أوامرها غير القابلة للعصيان إليه . فإذا قرر أن يتخلف عن قانون الخلقة فأنه يجد عقابه على قدر عصيانه .

فعلى العاقل أن يطيع قوانين الخلقة ولا يتخلف عنها ، بل يعمل على التوفيق بين ميوله ورغباته وبين السنن الإِلهية . فيجتنب عما يخالف الموازين والتعاليم الصحيحة كيما يضمن لنفسه حياة سعيدة هانئة .

أما الجاهل فعلى العكس من ذلك يغض النظر عن تلك السنن ويطلق العنان لميوله ورغباته ويأمل في أن يخضع العالم كله له في شهواته وأهوائه وبما أن هذه الرغبة ليست قابلة للتطبيق فلا يمر زمن طويل حتى يلاقي حتفه عندما يصطدم بقوانين الخلقة .

يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « إن الله يجري الأمور على ما يقتضيه ، لا على ما نرتضيه » (٣) .

إن الخمر ـ السم المهلك ـ يترك آثاراً خطرة على أنسجة الجسم ، على المخ والأعصاب ، والكلية والكبد . . . وغيرها من الأعضاء ، وهذا هو أحد

____________________

(١) لإِيضاح الربط الدقيق بين الإِرادة الإِلهية والعلل المادية في تسير هذه القوانين وإيجاد هذه السنن الكونية يرجع شبهة ( إما الله أو السنن الطبيعية ) من كتاب ( دفاع عن العقيدة ) للمترجم .

(٢) سورة فاطر ؛ الآية : ٤٣ .

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٢١٩ .


قوانين الخلقة . فالرجل العاقل يجب أن يصون نفسه من التخلف عن هذا القانون فيجتنب عن الخمرة كي يبقى إلى آخر العمر في حصن منيع من عواقبها الوخيمة . ولكن الجاهل ظناً بالقدرة على المقاومة أو اعتماداً على تحقيق اللذة العاجلة يلوث نفسه بها فيتسمم تدريجياً . ولا تمضي مدة طويلة حتى يقضي أعزَّ أيام شبابه في زاوية المستشفى مع جسم نحيف وكبد ملتهب ومتورم ، وأعصاب مختلة ومرتعشة ، وبتلك الصورة يتجرع آخر لحظات حياته غصصا وهموماً لقاء تخلفه عن القانون الكوني .

يقول النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تعادوا الأيام فتعاديكم » (١) .

وكذا ورد عن الإِمام علي عليه‌السلام أنه قال : « من كابر الزمان غُلب » (٢) فالذي يعاند الزمان يهلك .

وعن الإِمام الجواد عليه‌السلام راوياً عن جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من عتب على الزمان طالت معتبته » (٣) . فالذي ينظر إلى الدنيا نظرة المتشائم المتنكر ويعاتب الدنيا سخطاً عليها ، فإن عتابه سيطول من دون جدوى .

ومن هنا يتحتم على الآباء والأمهات الذين يأملون أن ينشأ منهم أطفال عقلاء سالمون أن يراعوا جميع القوانين التكوينية من الجانبين الجسدي والروحي . فكل عيب أو إنحراف يظهر في سلوك الأطفال ـ مهما كان حقيراً ـ فإن العلة في ذلك هو التخلف عن بعض السنن الإِلهية في هذا الكون العظيم .

ومن خلال الحديث الذي أملاه الإِمام الصادق عليه‌السلام على تلميذه المفضل ابن عمر الجعفي في موضوع التوحيد ، نقتطف الفقرة التالية فقد كان الإِمام يتحدث عن بلوغ الأولاد وإنبات الشعر في وجوههم فسأله المفضل قائلاً : « يا مولاي ، فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ حال

____________________

(١) سفينة البحار مادة ( يوم ) ص ٧٤١ . وواضح أن العداء مع الأيام لا يعني إلا التخلف عن قوانينها وعدم الإِنقياد للسنن الكونية الصارمة .

(٢) تحف العقول ص ٨٥ .

(٣) بحار الأنوار للمجلسي ج ١٧ / ١٠١ الطبعة القديمة .


الكبر . فقال : ذلك بما قدمت أيديهم وإن الله ليس بظلام للعبيد » (١) . ومنه يتضح أن إنبات الشعر في وجه الرجال بعد البلوغ لما كان قانوناً من قوانين الخلقة ، فإن تخلفه في مورد ما ، لا بد وأن يكون معلولاً لعوامل بشرية .

الأطفال المنحرفون :

إنه بالرغم من وجود الوسائل العلمية والعملية التي يملكها الغربيون في أوربا وأمريكا نجد الأطفال المصابين بالعيوب والإِنحرافات يتولدون بنسبة هائلة . وإليك الخبر الآتي : ـ

« يولد في الولايات المتحدة الأمريكية ٤٢٠٠٠٠٠ طفل سنوياً . ولكن مئات الألوف منهم مصابون بنواقص وعيوب ناشئة قبل الولادة . وأكثرهم يشكون من الأمراض القلبية ، والشلل العصبي ، والصرع ، والعمى ، والصمم ، وغير ذلك . ومضافاً إلى ذلك فمن بين خمس نساء حوامل لا تفلح واحدة منهم في ولادة طفل حي والسبب في ذلك أمران : أحدهما الإِجهاض . والآخر موت الطفل حين الولادة . هذه الحقائق ولدت مشاكل شخصية وطيبة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهي تحتل جانباً مهماً من إهتمام الأطباء » (٢) .

إن الدول الأوروبية والولايات السوفياتية لا تقل إصابة بهذه المشاكل والمصائب من اخواتها الولايات المتحدة الأمريكية . فلو كان أُولئك يضعون إحصائياتهم تحت متناول من يشاء كما يفعل الأمريكان ، لعلمنا أنه ينشأ فيها سنوياً ما لا يقل عن مئات الألوف من المنحرفين والمصابين بالعيوب والنواقص .

والحق إن تولد مئات الألوف من الأطفال المنحرفين في السنة مصيبة

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٠ .

(٢) مجلة ( أخبار هفته ) الإِيرانية الصادرة بتاريخ ٢٨ / ٢ / ١٣٣٨ هجرية شمسية . وبعد مثل هذه الإِحصائيات نرجو أن يحكم القارء الكريم من هم التقدميون ؟ ! .


عظيمة ومشكلة عويصة لدولة . ومما لا شك فيه أن جرائم الأبوين وعدم رعايتهما للقوانين الأخلاقية والكونية والإِلهية وتماديهم في تناول المسكرات وتلبية نداء الشهوة من دونما رادع ، ومقامراتهم واضطراباتهم العصبية هي العوامل الأساسية لهذا الشقاء العظيم .


المحاضرة الخامسة

حول القضاء والقدر ـ الأطفال اللاشرعيون

قال الله تعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (١) .

ركنا السعادة :

سندخل من اليوم في بحث التربية والأدوار التي بعد الولادة . إن التربية أحد ركني السعادة ، فالسعادة البشرية ترتكز على ركنين مهمين هما : الوراثة والتربية . وفصلنا القول نوعاً ما في البحث عن الوراثة فيما مضىٰ . ولكن في هذه المحاضرة وما يليها من المحاضرات سنبحث عن أهمية العامل الثاني المؤثر في سلوك الفرد ، وهو التربية .

إن أهمية التربية قد تتجاوز أهمية الوراثة إلى درجة أن بإمكانها أن توقف قانون الوراثة إلى حد ما . فتتغلب عليه وتضطره إلى الإِنسحاب من الميدان حسب درجة قوتها وإصالتها إلا في الموارد التي تكون الصفات الوراثية ذات طابع حتمي ( أي لا يمكن أن تتغير في الطفل مهما كانت العوامل الأُخرى قوية ) .

____________________

(١)سورة الإِسراء ؛ الآية : ٢٤ .


ففي هذه الصور ، حيث تعتبر تلك الصفات الوراثية قضاء حتمياً وقدراً لازماً بالنسبة للطفل تقف التربية عن التأثير أيضاً .

ولأجل أن نلفت أذهان المستمعين الكرام إلى هذه الحقيقة بصورة أوضح لا بد من البحث بصورة موجزة عن القضاء والقدر والمصير ، ثم ندخل إلى صلب الموضوع.فهناك الكثيرون ممن يؤدي بهم الجحود أو الجهل إلى أن ينكروا تأثير القضاء والقدر إنكاراً تاماً زاعمين إنهما أمران وهميان لا أكثر . كما أن هناك طائفة أُخرى في قبال هذه الطائفة تخضع جميع الوقائع والأحداث ـ جهلاً بحقائق الدين والعلم ـ إلى القضاء والقدر الحتميين ، ويرون أن البشر عاجز عن مقابلتها أو حفظ نفسه عنها . ولكن الواقع أن العالم كله يدور على أساس القضاء والقدر وعلى أساس مقاييس وقوانين دقيقة.

معنى القدر :

يقول الله تعالى في القرآن الحكيم : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (١) فأصغر الذرات الأرضية وأكبر الأجرام السماوية قد خلقت كلها على أساس مقياس دقيق وتقدير صحيح ، كلٌ قد انتظم في مكانه الخاص به . . . وهذا هو معنى القدر . إن عالماً فلكياً يستفيد من هذا التقدير العظيم والحساب الدقيق فيتوصل بمحاسباته الرياضية إلى التنبؤ عن وقت خسوف القمر ومدة الخسوف ومقداره قبل أشهر عديدة . فإذا لم تكن وضع الشمس وحركة القمر على أساس نظام متين ثابت لا يتغيَّر ، فأنه يستحيل على الفلكي أن يصل إلى هذا التنبؤ . وبهذا الصدد يتحدث القران الكريم عن حركة الشمس والقمر فيقول : ( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (٢) .

وهكذا ، فإذا وجدنا الفضاء الفسيح بأجرامه العظيمة منظماً وثابتاً ، وإذا كانت قطعة من الحجر تنسحب من الفضاء إلى المركز بفعل جاذبية الأرض ، وإذا خرجت البذرة من تحت سطح الأرض بصورة نبتة ، وإذا وجدنا النطفة تنمو

____________________

(١) سورة القمر ؛ الآية : ٤٩ .

(٢) سورة الرحمٰن ؛ الآية : ٥ .


في رحم الحيوان أو الإِنسان فتتحول إلى موجود كامل . . . فذلك كله يسير طبق القوانين والسننن الإِلهية وكلها مظاهر لقضاء الله وقدره . . . إذن فالعالم يسير بموجب القضاء والقدر وكل يجري إلى مصيره المعين له بحسب التقدير الإِلهي .

الجبر والتفويض :

وأحد الموجودات في هذا العالم هو الإِنسان ، ترتبط كل قواه وأفعاله ، وجميع حركاته وسكناته بالقضاء والقدر الإِلهيين . فدقات القلب ودوران الدم ، والإِحساس في العصب ، والهضم في المعدة ، والتصفية في الكبد ، والأبصار بواسطة العين ، والسماع بواسطة الأذن . . . كل أُولئك يسير حسب قضاء الله وقدره . ولكن النقطة المهمة في البحث هي أن القضاء والقدر ينقسم بالنسبة إلى الإِنسان إلى قسمين : ـ

فقسم منه يتسم بطابع الحتمية والجبرية حيث يجري من غير إرادة الإِنسان واختياره ، وقسم آخر جعله الله تعالى طوع إرادتنا وخاضعاً لاختيارنا .

ولنأخذ مثلاً على ذلك : اللسان ، فهو عضو من أعضائنا وجزء من بدننا وله مقدرات كثيرة ، فأحد تلك المقدرات جريان الدم في عروقه . ومنها أيضاً تكلمه ، أما جريان الدم في عروق اللسان فهو خارج عن إرادتنا وإختيرانا ، فالدم يجري في الأوعية الدموية الموجودة في اللسان سواء شئنا أم أبينا . وهنا ( في دوران الدم في اللسان ) قضاءان : الأول جريان الدم في عروق اللسان بالتقدير الإِلهي . والثاني جبرية هذا الدوران وحتميته في اللسان بالتقدير الإِلهي أيضاً حيث لا مجال لإِرادتنا واختيارنا فيه .

هذا هو أحد المقدرات بالنسبة إلى اللسان ، وقد عرفنا التقدير الإِلهي فيه .

وأما المقدر الآخر فهو صدور التكلم منه . ولكن الواضح أن التكلم نفسه خاضع لإِرادتنا ، فبإمكاننا أن نتكلم ، وبإمكاننا أن نسكت . كما أننا نستطيع أن نصدق في كلامنا ، ونستطيع أن نكذب . فهنا أيضاً ( في تكلم اللسان )


قضاءان : الأول صدور التكلم من اللسان بالتقدير الإِلهي . والثاني إختيارية التكلم ، وإراديته أيضاً بالتقدير الإِلهي .

ومن هنا يتضح جلياً أن القضاء والقدر قد يجريان بصورة جبرية . وأحياناً يقع القضاء الحتمي بواسطة قدر إختياري لنا . فمثلاً نجد أن الموت أمر مسلم وحتمي على جميع البشر بحكم القضاء الإِلهي ، وهو صريح قوله تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) . ولكن هذا القضاء الحتمي قد يتم بنحو الموت الطبيعي وانقطاع النشاط الحيوي . كما يمكن أن يتم بإرادة واختيار من قبل شاب يملك من القوة وسلامة البدن ما تجعل باستطاعته أن يعيش سنين طوالاً فيقدم على الإِنتحار .

وهكذا فالشيخ الذي عمَّر مائة سنة حتى مات حتف أنفه ، والشاب الذي لم يعش أكثر من عشرين سنة حتى انتحر بإرادته وإختياره متساويان في أنهما ماتا بقضاء الله وقدره ، مع فارق واحد وهو إنه في الصورة الأولى كان القضاء والقدر حتميين غير إختياريين ، بينما في الصورة الثانية إستغل الشاب حرية الاختيار بالنسبة إلى القضاء والقدر وأنهى بذلك حياته .

وعلى هذا يجب أن لا نستغرب من قول الراوي عن الرضا عليه‌السلام حيث يقول : « سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : كان علي بن الحسين عليه‌السلام إذا ناجى ربه قال : اللهم إني قويت على معاصيك بنعمك » (١) . ومعنى هذه الرواية أن الذي يقدم على المعصية إنما يستغل نعمة الحرية والإِختيار التي وهبها الله له بالقضاء والقدر إستغلالاً سيئاً ، فيصاب بالإِنحراف .

إرادتنا واختيارنا :

النقطة التي تزلّ عليها الأقدام ـ غالباً ـ هي أن الناس متى سمعوا إسم القضاء والقدر ظنوا أنه حتمي وجبري . في حين أن الحق ليس كذلك ، فقد يتمثل القضاء والقدر الإِلهي في اختيار الناس وإرادتهم وهناك حديث عن الإِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام يؤيد هذا الموضوع بوضوح .

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ٣ ص ٣ .


« عن أمير المؤمنين إنه قال لرجل ـ سأله بعد إنصرافه من الشام ـ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أكان بقضاء وقدر ؟ قال عليه‌السلام : نعم يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم وادياً إلا بقضاء الله وقدره . . . » .

« فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين ؟ » أي : فليس لأتعابنا التي تحملناها في سفرنا هذا من أجر عند الله . . . ؟ فيجيب الإِمام عليه‌السلام :

« مَه يا شيخ ، فإن الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي إنصرافكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من أموركم مكرهين ولا إليه مضطرين ، لعلك ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم ؟! لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، ولسقط الوعد والوعيد » (١) .

فنجد الإِمام عليه‌السلام في هذا الحديث ينسب جميع الأفعال الإِرادية للبشر إلى القضاء والقدر الإِلهي . ولكنه مع ذلك يقول : إن هذا القضاء لم يكن حتمياً والقدر لم يكن لازماً . وبنفس المضمون ورد حديث آخر عن الإِمام الرضا عليه‌السلام يسئل فيه الراوي عن معنى الأمر بين الأمرين فيقول : « فما أمر بين أمرين ؟ فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما أمِروا وترك ما نُهوا عنه » (٢) .

الأمر بين الأمرين (٣) :

وهنا يسأل الراوي : « فقلت له : فهل لله عز وجل مشيّة وإرادة في

____________________

(١) تحف العقول ص ٤٦٨ .

(٢) بحار الأنوار ج ٣ ص ٥ .

(٣) تنقسم المذاهب الإِسلامية بالنسبة إلى موضوع ( حرية الإِرادة عند الإِنسان ) إلى ثلاث فرق : فطائفة ترى أن للإِنسان الحرية الكاملة في إتيان ما يريد وترك ما يشاء وهؤلاء هم ( المفوضة ) حيث يقولون بأن الله فوض إليهم الأمور . وطائفة ثانية ترى أن الإِنسان لا يملك أي حرية في أفعاله بل أفعاله في الحقيقة هي أفعال الله التي خلقها فيه ، وهؤلاء هم ( المجبرة ) حيث يقولون بأن الله أجبرهم على أفعالهم . والطائفة الثالثة تقف موقفاً


ذلك ؟ فقال : أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها : الأمر بها ، والرضا لها ، والمعاونة عليها . وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها ، والسخط لها ، والخذلان عليها » فهذه الفقرة تبين إرادة الله في أعمال البشر وكيفية التأثير عليها . . . « قلت : فللَّه عز وجل فيها القضاء ؟! قال : نعم ، ما من فعل يفعله العبد من خير وشر إلا ولله فيه قضاء . قلت : فما معنى هذا القضاء ؟ قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة » (١) .

فنجد أن الإِمام الرضا عليه‌السلام يسند جميع الأفعال الصالحة والطالحة للبشر إلى القضاء الإِلهي بكل صراحة فإن قضاء الله في أعمال البشر هو حريتهم . . . تلك الحرية ، وذلك الإِختيار اللذين يستحق بهما الثواب في الطاعة والعقاب في المعصية .

____________________

وسطاً بين الإِفراط في حق الإِرادة الإِنسانية والتفريط فيها وهي التي ترى أن ( لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ) وهؤلاء هم ( الإِمامية ) وأول من عبَّر عن هذا الإِصطلاح عندهم إمامهم السادس جعفر بن محمد الصادق ( رئيس المذهب الجعفري ) . ولقد كثر البحث والنقاش في الاستدلال على صحة أحد هذه المذاهب الثلاثة ، ولكن المثال الآتي يؤيد صحة إستناد أفعالنا إلى أرادتنا وحريتنا ، وفي حين كونها مسيرة بإرادة الله أيضاً ويثبت حقانية مذهب الإِمامية في الموضوع . لنفرض إنساناً كانت يده شلاء لا يستطيع تحريكها بنفسه . وقد استطاع الطبيب بأن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوة الكهرباء بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء وإذا انفصلت عن مصدر القوة لم يمكنه تحريكها أصلاً . فتحريك المريض يده والطبيب يمده بالقوة في كل آن يوضح الأمر بين الأمرين ، حيث لا تستند الحركة إلى الرجل مستقلاً لأنها موقوفة على إيصال القوة إلى يده ، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب ولا تستند إلى الطبيب مستقلاً ، لأن التحريك قد أصدره الرجل بإرادته ، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنه مريد ولم يفوض إليه الفعل لأن المدد من غيره ، وهكذا فالأفعال الصادرة منا بمشيئتنا ، ولكننا لا نشاء شيئاً إلا بمشيئة الله . ولتفصيل الموضوع يراجع كتب العقائد والكلام المفصلة . وكذلك تجد رد شبهة بالتفصيل في كتاب ( دفاع عن العقيدة ) ص ١٣٥ ـ ١٥١ : للمترجم .

(١) بحار الأنوار ج ٣ ص ٥ .


القضاء الالهي :

ولأجل أن يتضح الموضوع للمستمعين الكرام بصورة أحسن نضرب مثالاً على الإِنتحار . فلو أن شخصاً رمى بنفسه من فوق سطح العمارة إلى الأرض المبلطة بالرخام ، وقال في نفسه : لو كان المقدر لي أن أموت فأني ألاقي حتفي وإن لم أرم بنفسي من فوق السطح ، وإن كان المقدر أن أبقى حياً فإني سأستمر على الحياة وإن رميت نفسي من على السطح . . . ففي ذلك خطأ فظيع . لأن لله تعالى عدة مقدرات جبرية بهذا الشأن ، ومقدر إختياري واحد . أما المقدرات الجبرية فهي عبارة عن :

١ ـ إن القضاء والقدر الإِلهيين قد جعلا الرخام الذي يغطي ساحة هذه القاعة صلباً وقوياً .

٢ ـ خلقت جمجمة الإِنسان بموجب القضاء والقدر من عظم دقيق قابل للتهشم .

٣ ـ القضاء والقدر أكسب الأرض قوة الجاذبية ، حيث تجذب الأجسام التي في الفضاء إليها .

٤ ـ إن القضاء والقدر الإِلهيين يحكمان بأن كل من يرمي بنفسه من مكان شاهق إلى أرض صلبة تتكسر جمجمته ويتلاشي مخه .

٥ ـ القضاء والقدر الإِلهيان يقضيان بموت الإِنسان عند تلاشي مخه هذه هي الأقدار الإِلهية الحتمية والجبرية بالنسبة إلى حادثة الإِنتحار .

٦ ـ القضاء والقدر الإِلهيان يحكمان بأن للإِنسان الإِرادة والاختيار الكاملين ، فله أن يرمي بنفسه من السطح ويموت أو يمتنع عن ذلك فينزل من السلم درجة درجة .

إذن ، يجب أن نقول لذلك الشخص الواقف على السطح لغرض إلقاء نفسه إلى الأرض : إن القضاء الإِلهي بالنسبة إلى موتك وحياتك يتبع إرادتك واختيارك . فإن اخترت الإِلقاء بالنفس من السطح فالمقدر أن تموت . وإن


اخترت الهبوط على السلم فالمقدر لك أن تبقى حياً . وعلى كلتا الصورتين تجري القضية بموجب القضاء والقدر .

ومن خلال الحديث الثاني ، نتبين حرية الإِرادة الإِنسانية ، بالرغم من جريان القضاء والقدر على جميع الأمور ، لأن للإِنسان تمام الاختيار في سلوك الطريق المؤدي إلى الخير أو الشر . فإن سلك أحدهما وصل إلى النتيجة بلا شك ـ :

« عن ابن نباتة قال : إن أمير المؤمنين عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر . فقيل له يا أمير المؤمنين تفرّ من قضاء الله ؟ قال : أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل » (١) .

حرية البشر :

إن أهمَّ ما يمتاز به الإِنسان على غيره من الموجودات على وجه الأرض هو حريته التي وهبها الله تعالى إياه . فجميع الترقيات وأوجه التكامل التي حصل عليها البشر لحد الآن ترجع إلى هذه الميزة . تمر قرون مديدة على النحلة ولا تزال تبني بيتها على شكل سداسي وستستمر تبني بيتها على هذا الشكل في القرون المقبلة ، لأنها مجبرة في هذا العمل ولا تملك عقلاً أو تفكيراً . تقودها غريزتها التي أودعها الله تعالى فيها . ولكن الإِنسان الحر لا يزال يتكيف لبيئته وظروف حياته ، فقد انتقل من سكنى الكهوف إلى تكوين الأكواخ ، ومنها إلى إنشاء القصور الضخمة التي نراها اليوم . ومن المؤمل أن نفصل القول حول الحرية البشرية والاختيار الفطري للإِنسان في محاضرة خاصة إن شاء الله .

للانسان أن يقرر مصيره :

إن جانباً من القضاء والقدر يرجع إلى إرادتنا واختيارنا . وإن الرسالات السماوية تدور حول أفعالنا الإِرادية . ولهذا فإن الثواب والعقاب من قبل الله

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ ص ٣٣ .


نظير الجزاء والعقاب البشري في أنه يرجع إلى إرادة البشر واختيارهم .

وهكذا فإن لكل منا أن يقرر مصيره بيده . وما أكثر أولئك الذين يدفعهم الكسل وحب الذات إلى التقصير في أداء الواجبات الإِجتماعية اللازمة ، ثم ينسبون الشقاء الذي يلاقونه إلى القضاء والقدر ، في حين أنهم كانوا يملكون الحرية الكاملة ، ولم يستغلوا هذه الحرية استغلالاً حسناً بل أساؤا التصرف إليها وجلبوا الشقاء لأنفسهم ! ! .

إن الله تعالى يقرر في القرآن الكريم أن الذين يرثون الأرض ولهم الحق في أن يقودوا بزمامها هم الرجال الصالحون فقط :

( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (١) .

والعباد الصالحون هم الذين وصلوا إلى جميع مدارج الكمال المادي والمعنوي بفضل الإِيمان والعلم . وفي ظل الفضائل الخلقية والملكات الطاهرة ونتيجة الجهد والجد . . . وبذلك صاروا يستحقون إسم الإِنسان الحقيقي .

إن القضاء الحتمي والذي لا يقبل التخلف في هؤلاء الرجال الصالحين هو أن يرثوا حكومة الأرض ولكن الوصول إلى مقام الصلاح واستحقاق تلك الدرجة ( قدرَ ) إختياري يتعلق به ذلك القضاء الحتمي . . . وهؤلاء هم الذين يتمكنون أن يتبعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرادتهم واختيارهم ويصلوا إلى المقام الذين يستحقون معه وراثة الأرض . وهم الذين إن إستغلوا حريتهم التي وهبها الله إياهم استغلالاً سيئاً هووا إلى هوة سحيقة من الجهل والإِلحاد والفساد والكسل والأنانية .

نستنتج مما سبق أن العالم كله يدار بواسطة القضاء والقدر . أي أن السنن الإِلهية هي التي تحكم في هذا الكون . وكذلك الأمور التي ترتبط بالإِنسان. فإنها خاضعة للقضاء والقدر ، غاية ما هناك أن جانباً من القضاء

____________________

(١) سورة الأنبياء ؛ الآية : ١٠٥ .


والقدر المتعلق بالبشر يكون مصيراً حتمياً لا أثر لاختيارنا وإرادتنا فيه كدقات القلب ودوران الدم . . . وجانباً منه تابع لإِرادتنا واختيارنا ، ولنا أن نستغله إما إستغلالاً حسناً أو سيئاً .

الوراثة والتربية :

وبعد أن تطرقنا بصورة موجزة إلى القضاء والقدر وبيان علاقته بالإِرادة البشرية ، ندخل إلى صلب الموضوع .

إن الطفل يرث في رحم الأم صفات الآباء والأمهات ، وهذا الأمر خاضع للقضاء والقدر . والصفات التي تنتقل بالوراثة تكون على نحوين : فقسم منها يكون على نحو القضاء والقدر الحتمي والمصير القطعي الذي يبقى مدى الحياة ملازماً للطفل ، وفي هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( علة تامة ) لتلك الصفات والقسم الثاني ما يكون على نحو العوامل المساعدة في انتقالها إلى الأبناء ، فهي ليست مصيراً حتمياً وفي هذه الصورة تكون ظروف الرحم ( عاملاً مساعداً ) لها .

 « يتحدد مصير أفراد معينين بشكل قاطع في حين يتوقف مصير آخرين ـ إن كثيراً أو قليلاً ـ على أحوال نموهم » (١) .

 « من المعروف أن ضعف العقل والجنون والاستعداد الوراثي للنزف الدموي والصمم والبكم نقائص وراثية . . . كذلك تنتقل أمراض معينة كالسرطان والسل . . . الخ من الآباء إلى الأبناء ولكن كاستعداد فقط ، وقد تعوق أحوال النمو ظهور هذه الأمراض أو تساعد على تحققها . . . » (٢) .

وكما أن لون البشرة والعين أو قصر النظر في العين من الأمور الوارثية التي لا تقبل التغيير فإن الجنون الوراثي أيضاً من العيوب التي لا تقبل التغيير .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ١٩٧ .

(٢) المصدر السابق ص ١٩٦ .


فالطفل الذي يولد من أبوين مجنونين يظل مجنوناً مدى الحياة وهذا هو مصيره الحتمي .

المصير الحتمي :

هذا المصير الحتمي لا يمكن أن يتبدل بتعاليم الأنبياء الرصينة ، ولا بالوسائل الطبية والتربوية ، فهو مجبر على الجنون ، وهكذا الطفل الذي يولد في رحم الأم أحمقاً بليداً ، ويرث البله والبلادة من أبويه يستمر مدى العمر على ذلك الواضع ، ولن تؤثر الأساليب التربوية فيه .

« إن أحوال النمو لا تستطيع أن تحول الطفل الضعيف البليد الشعور ، المشتت العقل ، الجبان ، الخامل ، إلى رجل نشيط أو زعيم قوي شجاع » (١) .

وبهذا الصدد يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

 « الحمق داءٌ لا يداوى ومرضُ لا يبرأ » (٢) .

وهكذا فالطفل الذي يولد من أم مصابة بالسل يملك تربة مساعدة لنشوء هذا المرض فيه وقد ورث هذه التربة المساعدة من أُمه . ومع هذا فإن إصابته بالسل ليست قضاءاً حتمياً وقدراً جبرياً . فإن العوامل الصحية الظروف الحياتية الصالحة يمكن أن تضمن له سلامته من المرض . فإذا إنفصل عن أُمه بعد الولادة مباشرة وخضع لمراقبة دقيقة في بيئة صحية فبإمكانه أن يعيش سالماً مدى العمر . أما إذا تربى في حجر أُمه المصابة بالسل وارتضع من لبنها الملوث ، فبالإِمكان أن يصاب بالسل بسهولة .

وكما سبق فإن الحالات النفسية والملكات الصالحة والطالحة للآباء والأمهات تؤثر في الأطفال . وهكذا فالطهارة والرذالة ، والشجاعة والجبن والكرم والبخل ، وغيرها من الصفات المختلفة تكون تربة مساعدة للصلاح أو الفساد في سلوك الطفل . . . ولكن هذه الصفات ليست قدراً حتمياً بل يمكن

____________________

(١) المصدر السابق ص ١٩٧ .

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم ص ٧٢ ط إيران .


إصلاح الفاسد بالطرق التربوية الصالحة . . . وعلى العكس تبديل التربة المساعدة للصلاح إلى الفساد بالطريق التربوية الفاسدة .

التربية والبيئة :

إن الطفل المتولد من أبوين صالحين يملك تربة مساعدة لنشوء الصفات الخيرة في نفسه ولكن إذا ترك في بيئة فاسدة منذ الصغر ، أو سُلِّم إلى أفراد خبثاء بذيئي الأخلاق فإن النتيجة ستكشف عن فرد فاسد شرير ، لأن الصفات الموروثة والفضائل العائلية لا تستطيع المقاومة أمام قوة التربية (١) .

وعلى العكس من ذلك فإن الأطفال الذين يتولدون من أبوين فاسدين ويملكون التربة المساعدة لنشوء الآثار السيئة في سلوكهم ، لو تركوا في محيط مليء بالصلاح والخير وسلموا إلى مربّين صالحين فمن الممكن أن تختفي تلك الآثار السيئة عنهم وينشأوا أفراداً يتسمون بالفضيلة والإِيمان .

« وتؤثر العوامل السيكولوجية تأثيراً أكبر على الفرد ، فهي التي تكسب حياتنا شكلها العقلي والأدبي . إذ أنها تولد النظام أو التفرق . وهي التي تدفعنا إلى إهمال أنفسنا أو السيطرة عليها ، كما أنها تغيّر شكل تكوين الجسم ووجوه نشاطه بوساطة الدورة الدموية والتغييرات الغددية ، فأن لنظام العقل والإِستعداد الفسيولوجي تأثيراً قاطعاً ليس على حالة الفرد السيكولوجية فقط بل أيضاً على تكوينه العضوي والإِخلاطي ومع أننا لا نعلم إلى أي مدى تستطيع التأثيرات العقلية التي تنشأ من البيئة أن تحسِّن أو تقضي على الميول المستمدة من الأسلاف ، فأنه لا شك في أنها

____________________

(١) وأصدق شاهد على ذلك قصة ( ابن نوح ) حيث جالس الملحدين وخالط الفسّاد ، فاختفت معالم الفضائل التي ورثها عن أبيه في سلوكه وهكذا اتصف بصفات قرنائه ، وصار ملحداً مثلهم ، وحينما دعاه أبوه إلى أن يركب السفينة لينجو من السيل ولا يصيبه عذاب الله ، أجابه بما يحكي القرآن عنه ( سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ) وبالرغم من أن نوحاً قال له : « إنه لا عاصم اليوم من أمر الله » لم يلتفت إلى كلامه ، وكانت نتيجته الغرق .

تلعب دوراً رئيسياً في مصير الفرد ، فهي أحياناً تبدد أسمى الصفات العقيلة ، وتجعل أفراداً معينين ينمون بدرجة لم تكن متوقعة على الإِطلاق . . . وهي تساعد الضعيف وتجعل القوي أكثر قوة » .

« إنه مهما يكن من أمر ميول الأسلاف ، فإن كل فرد يدفع بتأثير أحوال النمو في طريق يقوده إما إلى العزلة في الجبال أو إلى جمال التلال أو إلى أوحال المستنقعات حيث يطيب للسواد الأعظم من الرجال المتحضرين أن يعيشوا » (١) .

الصفات القابلة للتغيير :

إن الإِمام محمد بن علي الباقر عليه‌السلام يعبر عن قابلية تغيير بعض الصفات الوراثية للطفل في رحم الأم بكلمة ( البداء ) ، في ضمن حديث طويل بهذا الصدد فيقول :

« ثم يوحي الله تعالى إلى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ، ونافذ أمري واشترطا لي البداء فيما تكتبان . . . » فهذا يدل على أن القضاء والقدر في حق الطفل ليس أمراً قطعياً ، بل قابل للتغيير والتبديل حسب بداء الله تعالى . . .

« . . . فيقولان : يا رب ، ما نكتب ؟ فيوحي الله عز وجل إليهما أن إرفعا رؤسكما إلى رأس أمه ، فيرفعان . . . فإذا اللوح يقرع جبهة أُمه . فينظران فيجدان في اللوح : صورته ، ورؤيته ، وأجله وميثاقه ، شقياً أو سعيداً ، وجميع شأنه . فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان » (٢) .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ١٩٨ .

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤ . وللتحقيق في معنى البداء وكيفية نسبته إلى الله تعالى نقول :  « البداء من الأوصاف التي ربما تتصف بها أفعالنا الاختيارية من حيث صدورها عنا بالعلم والاختيار ، فأنا لا نريد شيئاً من أفعالنا الإِختيارية إلا بمصلحة داعية إلى ذلك ، تعلق بها علمنا ، وربما تعلق العلم بمصلحة فقصدنا الفعل ثم تعلق العلم بمصلحة


المصير اللامحتوم :

نجد في هذا الحديث نكتتين لطيفتين : الأولى : إن اللوح ليس في ساعد الأم ولا في صدرها بل في جبينها . إن الجبهة بالرغم من أنها من الناحية الجسمية لا تزيد على أنها أحد أعضاء البدن ، إلا أن بالإِمكان أن تكون كناية عن الجهاز المعنوي وعن أفكار الدماغ عند الأم ، وعلى هذا فإن مجموعة المقررات التكوينية لجسم الأم وفكرها تكون ممهدة لبناء الطفل .

والنكتة الثانية : ورود كلمة ( البداء ) بالنسبة إلى الأمر الإِلهي ، والملائكة أيضاً يثبتون اللوح بشرط البداء ، وفي هذا دلالة صريحة على أن جميع الصفات الوراثية في رحم الأم ليست مصيراً حتمياً ، فإن هناك عوامل ( قد تكون البيئة والتربية منها ) تغيّر تلك الصفات.

____________________

أُخرى توجب خلاف المصلحة الأولى ، فحينئذ نريد خلاف ما كنا نريده قبلاً ، وهو الذي نقول : بدا لنا أن نفعل كذا ( أي ظهر لنا بعدما كان خفياً عنا كذا ) والبداء : الظهور ، فالبداء ظهور ما كان خفياً من الفعل ( بظهور ما كان خفياً من العلم بالمصلحة ) ثم توسع في الإِستعمال فأطلقنا البداء على ظهور كل فعل كان الظاهر خلافة ، فقال : بدا له أن يفعل كذا ( أي ظهر من فعله ما كان الظاهر منه خلافه ) .

ثم إن وجود كل موجود من الموجودات الخارجية له نسبة إلى مجموع ( علته التامة ) التي يستحيل معها عدم الشيء وعند ذلك يجب وجوده بالضرورة وله نسبة إلى ( مقتضيه ) الذي يحتاج الشيء في صدوره منه إلى ( شرط وعدم مانع ) ، فإذا وجدت الشرائط وعدمت الموانع تمت ( العلة التامة ) ووجب وجود الشيء وإذا لم يوجد الشرط أو وجد مانع لم يؤثر ( المقتضي ) أثره ، وكان التأثير للمانع . . . وحينئذ يصدق البداء . فإن هذا الحادث إذا نسب وجوده إلى مقتضيه الذي كان يظهر بوجوده خلاف هذا الحادث كان موجوداً ظهر من علته خلاف ما كان يظهر منها .

ومن المعلوم أن علم الله تعالى بالموجودات والحوادث مطابق لما هو في الواقع من وجودها ، فله تعالى علم بالأشياء من جهة عللها التامه ، وهو العلم الذي لا بداء فيه أصلاً . وله علم بالأشياء من جهة مقتضياتها وهذه خاضعة لوجود الشرائط وفقد الموانع . وفي هذا النوع يمكن أن يفقد شرط أو يوجد مانع في الأثناء فيظهر خلاف ما كان ظاهراً منه ويحصل فيه ( البداء ) فلا يكون حينئذ قضاءً حتمياً لا يتبدل ، بل هو قابل للتغيير ، ولهذا قال الله تعالى في القرآن الكريم : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ . . . الآية ) راجع تعليقة العلامة الفيلسوف البارع السيد محمد حسين الطباطبائي على الكافي ج ١ ص ١٤٦ .


إذا كانت جميع الصفات الوراثية حتمية غير قابلة للتغيير ، وإذا كانت جميع الصفات الرذيلة في الأبوين تنتقل إلى الأولاد تماماً شأنها شأن لون العيون أو الجنون والحماقة . . . لم يكن معنى لإِرسال الأنبياء من قبل الله تعالى ، وكانت الشرايع والتعاليم السماوية لغواً لا فائدة فيها ، كما أنه من العبث قيام المحاولات الإِصلاحية والمذاهب التربوية في المجتمعات البشرية ، لأنها لا تستطيع أن تؤثر في السلوك الموروث .

« ويميل نموّ الجسم في إتجاهات مختلفة إستجابة للوسط فتصبح صفاته الفطرية حقيقية أو تظل خاملة . فمن المحقق أن ميولاً وراثية معيّنة تتعدل تعديلاً كبيراً بظروف تكويننا » (١) .

تغلب التربية على الوراثة :

تبلغ العادات التربوية والتمارين الإِصلاحية المتواصلة درجة من القوة في التأثير بحيث تتغلب على الصفات الوراثية وتحدث وضعاً جديداً في الأفراد ، يقول الإِمام علي عليه‌السلام بهذا الصدد : « العادة طبع ثانٍ » (٢) .

إن الرئتين في الإِنسان خلقتا لاستنشاق الهواء ، والذي يدخن السيجارة لأول مرة ، ويرسل دخانها إلى أعماق رئتيه يحس باضطراب عجيب ، إذ يحس بدوار في رأسه ، يبدأ بالسعال ، تنتابه حالة التقيؤ تملأ الدموع عينيه وهكذا ينقلب حاله أثر الدخان . وهذا بديهي لأن الرئة لم تصنع للدخان بل للهواء النقي .

ولكن بتكرار التدخين تعتاد الرئة على الدخان وتتخلى عن طبعها الأولي الذي كان ينفر من الدخان . وهكذا ينقلب ما كان يبعث على النفور والاضطراب إلى أداة للتسلية والترويح عن النفس وهنا نقول بأن الرئة قد تربّت على استنشاق الدخان ، وعلى أثر التكرار حصلت على طبع ثانوي وتركت

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ١٩٧ .

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم ص ١٩ . طبعة دار الثقافة ـ النجف الأشرف ـ .


طبعها الأول . ولهذا السبب فأنها ترتاح لعملها غير الطبيعي وتستمر عليه .

إن الأنبياء لم يأتوا لأن يحولوا المجانين الوراثيين إلى عقلاء ، أو يجعلوا من البلداء الفطريين نوابغ ، لأن هذا ما لا يمكن أن يحدث . . . لأن الأنبياء يريدون أن يخضعوا البشر إلى مراقبة إيمانية وعملية في خصوص الصفات القابلة للتغير على ضوء التربية الصحيحة ، لإِيصالهم إلى السعادة والكمال الإِنساني .

أما بالنسبة إلى الذين ينتمون إلى أصول عائلية فينمون فيهم قابلياتهم ومواهبهم ويخرجون الفضائل الكامنة من مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعلية لكيلا ينحرفوا عن الصراط المستقيم مسير حياتهم . ويحفظوا ثروتهم الوراثية العظيمة من الملكات والفضائل ، لكيلا يقعوا في هوة الفساد والجهل والطيش على أثر مصاحبة الفساد والجهل والطائشين.

وأما بالنسبة إلى الذين ورثوا الصفات البذيئة من أبويهم فيعمل الأنبياء على إطفاء الإِستعدادات الكامنة نحو الفساد فيهم بالتربية الصحيحة التدريجية واتخاذ الأساليب الأخلاقية الدقيقة . وبذلك يخرجونهم من طبائعهم الأولى إلى طبائع جديدة حاصلة من إحياء قوى الخير والصلاح في نفوسهم وتكون النتيجة أن يحوز هؤلاء على درجة لا بأس بها من الكمال . . . هذا العمل أمر ممكن في نظر العلم والدين . فما أكثر أُولئك الذين كانوا متصفين بصفات رذيلة ثم زرع الإِسلام في نفوسهم بذور الخير والصلاح واقتلع جذور الشر والفساد ، فوصلوا بفضل التربية الإِسلامية الرصينة إلى أوج السعادة .

« لوحدانية الإِنسان أصل مزدوج . فهي تأتي في وقت واحد من تركيب البويضة التي ينشأ منها وكذلك من تطوره ونموه ومن تاريخه . . . إن الخصائص الوراثية في البويضة ليست إلا ميول أو إمكانيات وهذه الميول تصبح حقيقة أو تظل تقديرية تبعاً للظروف التي تواجهها النطفة ، فالطفل ، ثم المراهق ، أبان نموهم . . . وهكذا يتوقف أصل الإِنسان على الوراثة والنمو معاً . ولكننا لا


نعلم ما هو الدور الذي يلعبه كل منهما في تكويننا هل الوراثة أكثر أهمية من النمو . أو العكس بالعكس ؟ . . إن الملاحظات والتجارب تعلمنا أن الدور الذي تلعبه الوراثة والنمو يختلف في كل فرد . وإن قيمتها النسبية لا يمكن تحديدها عادة » (١) .

ظهور الاستعدادات الكامنة :

يرى العلماء أن التربية عامل قوي جداً حيث تقدر أحياناً على أن توقف عمل الخواص الوراثية السيئة وتعود بالأفراد إلى طريق السعادة والكمال وقد لا تعطي التربية نتيجة حتمية كاملة . . . وهذا يتبع الخصوصيات الفطرية للأفراد حيث أنها متفاوتة .

ولكن الثابت أننا يجب أن ننظر إلى جميع الأفراد بعين القابلية ونحتمل أن تؤثر فيهم الأساليب التربوية الصالحة ، فإن كانت هناك إستعدادت كامنة للخير والكمال فأنها تظهر بفضل التربية الصالحة وتخرج من مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل [ كما يقول المنطقيون ] .

« ولما كنا لا نعلم طبيعة هذا الاستعداد بالدقة ، فيجب علينا أن نفترض أنه مناسب وأن نتصرف تبعاً لذلك . فمن المحتم أن يتلقى كل فرد تعليماً يؤدي إلى نمو صفاته المحتملة إلى أن يتبين بصفة قاطعة أن هذه الصفات غير موجودة » (٢) .

التربية للجميع :

إن الإِسلام الذي لم تفته صغيرة ولا كبيرة ، من الوسائل المؤدية بالبشر إلى السعادة والكمال ، لم تفته هذه الناحية فركز تعاليمه الرصينة على أُسس التربية الصالحة . إن الإِسلام يدعو جميع الناس من أي طبقة كانوا إلى الإِيمان والطهارة ، ولذلك فهو يرى كل فرد ـ مهما كانت خصائصه العائلية الوراثية

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ١٩٤ .

(٢) الإِنسان ذلك المجهول ص ١٩٨ .


واستعدادته الفطرية ـ قابلاً لتلقي الإِيمان والخلق والفاضل . . . وهو لا يخيب أمل أي فرد ، بل يحاول البحث في أعماق فطرته للوصول إلى القيم الحية التي يمكن أن تنمي وتستخرج من بين زوايا النفس وتجلي فتبعث على الحياة من جديد .

ومن النماذج الحية لاعتناء الإِسلام بتربية الأفراد الذين يرثون الصفات الرذيلة عن أبويهم سلوكه المفضل مع الأطفال اللاشرعيين . إن مما لا شك فيه أن ولد الزنا يحمل في فطرته صفات شريرة ـ كما سنثبت ذلك إن شاء الله ـ ولكن الإِسلام يعتبره قابلاً للتربية بدليل أنه يدعوه لتلقي التعاليم الإِيمانية والخلقية والسلوك الخيَر المؤدي إلى السعادة .

ومن الواضح أنه لو كان منقذ البشرية ورسول الإِسلام العظيم يرى في الإِنحراف والشقاء مصيراً حتمياً لأولاد الزنا ويعاملهم معاملة المجانين الفطريين الذين لا يقبلون العلاج . . . لما كان يدعوهم إلى دين الله (١) .

لقد وضع الإِسلام وجميع الأديان السماوية قواعد وقوانين خاصة للزواج . ولذلك فقد اعتبرت الشرائع السماوية الخروج عن تلك القوانين أمراً غير مشروع ، فالزنا يعتبر جريمة شنيعة . وكثير من الملل التي لا تملك شريعة سماوية قد وضعت قوانين خاصة لمنع الإِختلاط غير المشروع ، وبصورة موجزة فإن العلاقة الزوجية الصحيحة في نظر العالم مقيدة بشروط وحدود خاصة .

والطفل الذي يولد من طريق مشروع يكون ولداً قانونياً أما أولاد الزنا فهم يعرفون بالأطفال اللاشرعيين . وفي الإِحصاءات الدولية للسكان يصرح بعدد الأطفال اللاشرعيين بعد إنتهاء تعداد السكان ، وفي هذا دلالة على إختلاف

____________________

(١) لقد رفع الإِسلام التكليف عن قسم من الناس ، منهم المجانين . وهذا دليل على أنه لا يراهم قابلين لتقبّل الدعوة إلى الله كونهم مجانين . ولكنه لم يرفع التكليف عن ولد الزنا حين يبلغ ولو كان الشقاء الحاصل في نفوس أولاد الزنا متأصلاً كالجنون لم يكن معنى لتكليفهم بالتكاليف الشرعية ، فتكلفهم يدل على إمكان إصلاحهم وتغيير سلوكهم .


أولاد الزنا والأولاد القانونيّين في نظر العالم .

« في قرار صدر أخيراً عن دائرة التحقيقات الإِجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية يحكي أن عدد الأطفال اللاشرعيين في العام الماضي كان ٢٠٨٧٠٠ شخصاً . وهذا الرقم يرينا نسبة عالية في الإِرتفاع عن السنوات العشر الماضية إذ يبلغ ٤٧ % من الزيادة . إن القرار الآنف الذكر يضيف بأن قسماً كبيراً من هؤلاء الأطفال اللاشرعيين نشأوا من الشبان الذين لم يتقدموا في السن كما أن ٤٠ % من هؤلاء قد أولدتهم فتيات لا تزيد أعمارهن على العشرين سنة » (١) .

« لندن ـ رويتر ـ وكالة الأنباء الفرنسية . . . ذكر الدكتور : ج . أ . أسكوت مدير صحة لندن في تقرير رفعه أنه كان من بين كل عشرة أطفال طفل واحد ناشء من العلاقات اللامشروعة في لندن في العام الماضي » .

« لقد أكد الدكتور أسكوت أن نسبة الأطفال اللاشرعيين آخذة في الازدياد . حيث كان عددهم في عام ١٩٥٧ لا يتجاوز ٣٣٨٣٨ بينما إرتفع إلى ٥٣٤٣٣ في السنة التالية » (٢) .

الأطفال المنحرفون :

يرى أئمة الإِسلام أن أولاد الزنا مصابون بالإِنحراف الروحي ، الأمر الذي يؤدي بهم إلى سوء الأخلاق ومخالفة القوانين والاستهانة بها . يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام :

« إنه يحن إلى الحرام ، والاستخفاف بالدين ، وسوء المحضر » (٣) .

____________________

(١) يونايتدپرس / جريدة إطلاعات الإِيرانية . العدد / ١٠٥٢٣ .

(٢) جريدة إطلاعات الإِيرانية العدد / ١٠٠٩٠ .

(٣) سفينة البحار مادة ( زنىٰ ) ص ٥٦٠ .


وهنا يمكن أن يخطر السؤال الآتي على أذهان البعض فيقولون : إن الأطفال يوجدون من نطفة الأبوين ، وإن الجهاز التناسلي في الرجل والمرأة يعمل عمله حسب نظام دقيق . وهذا العمل الطبيعي لا يختلف في العلاقة القانونية وغير القانونية ، فأي أثر لإِجراء صيغة الزواج أو صدور ورقة العقد في واقعية النطفة ؟ ولماذا يجب أن يكون ولد الزنا مصاباً بالإِنحراف ؟ .

وبالرغم من أن الجواب على هذا السؤال قد أتضح من البحوث السابقة حيث ذكرنا فيها تأثير الحالات النفسية على البدن ، وتأثير الروح بالأعمال الجسمانية . . . بالرغم من ذلك كله فإننا سنفصل القول في خصوص الاختلاط اللامشروع ذاكرين أسباب الإِنحراف في سلوك أولاد الزنا . . .

الاختلاط اللامشروع :

سئل الإِمام الصادق عليه‌السلام : « لِمَ حرّم الله الزنا ؟!

قال : لما فيه من الفساد ، وذهاب المواريث ، وانقطاع الأنساب . . لا تعلم المرأة في الزنا : مَن أحبَلَها ؟ ولا المولود يعلم : مَن أبوه ؟ . ولا أرحام موصولة ، ولا قرابة معروفة . . . » (١) .

هناك عشرات المسائل الأخلاقية والنفسية والإِجتماعية والتربوية والعائلية والاقتصادية والعاطفية سببت تحريم المشرعين الإِلهيين ( أي الأنبياء ) للزنا واعتباره أمراً مخالفاً للقانون .

الأطفال اللاشرعيون :

وهناك نكتة لطيفة هي أن العالم المتمدن يعتبر الزنا مشكلة وظهور الأطفال اللاشرعيين مشكلة أُخرى . كما أن الإِسلام يعتبر الإِختلاط اللامشروع بين الرجل والمرأة معصية وحمل المرأة عن طريق الزنا معصية أُخرى أفظع من الأولى . وإليك النصوص الآتية التي تثبت ذلك :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من ذنب أعظم عند الله تبارك وتعالى بعد

____________________

(١) سفينة البحار للشيخ عباس القمي . مادة ( زنىٰ ) ص ٥٦٠ .


الشرك من نطفة حرام وضعها أمرءٌ في رحم لا تحل له » (١) .

٢ ـ قال الرضا عليه‌السلام : « إن الدفق في الرحم إثم والعزل أهون له » (٢) .

٣ ـ عن الإِمام الصادق عليه‌السلام : « إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أقرَّ نطفته في رحم يحرم عليه » (٣) .

إنَّ الزاني والزانية إذا لم يولد منهما طفل ، فإنَّ جريمتهما أنهما تجاوزا حريم القانون الجنسي ، أما إذا حملت المرأة من الزنا ، فإن الجريمة تتضاعف لأنه سيظهر في المجتمع ولد جُبل على مخالفة القانون وإرتكاب الجرائم . ومن الواضح أن خطر هذا أشدّ من الجريمة الأولى .

ولتوضيح وضع الأطفال اللاشرعيين ، وبيان الفرق بينهم وبين الأطفال القانونيين علينا أن نبحث عن الحالات النفسية للمرأة التي حملت بصورة غير مشروعة لنقيسها بالحالات النفسية للنساء الشرعيات ونحلل الفروق بينهما تماماً . . . ولأجل أن يلتفت المستمع الكريم إلى الموضوع بجد نقصر بحثنا على الحالات النفسية للنساء المسلمات فقط .

هناك ملايين النساء والفتيات المسلمات يعشن في الدول الإِسلامية ، وهن يختلفن بحسب درجات إيمانهن . . . فالبعض منهم معتقدات بالإِسلام حقيقة ويعتبرن مخالفة التعاليم الإِسلامية ذنباً يستحقن العقاب عليه . . . فإذا صادف وأن زلت امرأة من هذا النوع في سلوكها وارتكبت الزنا فهي تواجه حالتين من الاضطراب النفسي والضغط الروحي : ـ

إحداهما : الإِحساس بالخوف الشديد من الله لإِرتكابها ذنباً .

____________________

(١) مستدرك الوسائل للنوري ج ٢ ص ٥٦٧ .

(٢) المصدر السابق ٢ / ٥٦٧ ويظهر من الحديث أن الزنا مع العزل ( قذف النطفة خارج الرحم ) أهون للزاني من الزنا مع قذف النطفة داخل الرحم لأنه يمنع إختلاط الأنساب على الأقل .

(٣) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٥ ص ٣٧ .


والثانية : الاضطراب والخوف من إنفضاح أمرها أمام أهلها والناس بصورة عامة . . .

أما النساء التي لا يملكن من الإِيمان والتدين ما كانت تملكه الطائفة الأولى ، فهؤلاء يمكن أن يرتكبن الزنا ويحسسن لذلك بخوف تجاه الله تعالى ولكنه ضعيف . ولكن إهتمامهن إلى الرأي العام أكبر . فهن يخشين تمام الخشية من نبذ الرأي العام ونفوره تجاههن ولا يرضين أبداً بأن يسميهن المجتمع ( زانيات ) أو ( فاحشات ) . وحتى الرجال الذين لا يتورعون من الزنا لا يرضون بالاختلاط مع النساء المعروفات بالزنا ، والمشهورات بهذا العمل الشنيع .

وهناك طائفة ثالثة من النساء ابتليت بترك العفة وإرتكاب الزنا ، إما إتباعاً للهوى أو للفقر والبؤس . هؤلاء النساء وإن كن يبدين الرضا بهذا العمل ، ولكن في ضمائرهن عقدة لا تقبل الإِنكار . ومتى ما وجدن من يحفظ سرهن إنطلق لسان الضمير فيهن يتحدث له عن الشقاء والبؤس الذي يلاقينه ، وأظهرن عدم رضاهن بهذا العمل الشنيع . ولهذا فإذا صادفن من لا يعرف عنهن الفحشاء والفساد ، ظهرن بمظهر العفيفة الطاهرة .

والخلاصة : إن التعاليم الدينية ، والعادات الاجتماعية والتقاليد العائلية قد أوجدت في نفوس جميع النساء والرجال المسلمين ، سواء كانوا عدولاً أو فساق ، متقين أو فاقدين للتقوى . . . أوجدت في ضمائرهم وجداناً لا يقبل الإِنكار من أن الزنا عمل قبيح ، وأن الفاحشة تكون منفورة دائمة بين الناس .

الزواج القانوني :

بعد أن تحدثنا عن بعض الحالات النفسية للمرأة التي تقوم باتصال غير مشروع لنتحدث عن العلاقات المشروعة التي تقوم على أساس إطاعة القانون .

فعندما يقيم الشاب والشابة زواجاً قانونياً ، يراعيان فيه جميع القوانين والمقررات ، لا نجد إضطراباً بسيطاً في ضمير الرجل والمرأة ولا يشعران في


باطنهما بوحشة أو خوف من الله أو الناس . يمارسان إتصالهما بفكر هادء وروح مطمئنة . وفي مثل هذه الظروف تنعقد النطفة بصورة طبيعية مائة في المائة . هذا مضافاً إلى أن المرأة في أيام الحمل ليست غير مضطربة فحسب بل إنها فرحة في ضميرها ومستبشرة بالحمل . لأنها تعلم أن ذلك القران الخير قد أنتج ثماره ، وما هي إلا أيام قلائل حتى يزيِّن حجرها مولود سعيد ، وعشرات أو مئات النساء والرجال سيأتون للتهنئة بولادته مستصحبين باقات الزهور والهدايا الكثيرة ! ! .

ارتياح البال :

لقد جلب إرتياح بال الأبوين وحالتهما الطبيعية من جهة التأثير في البناء البدني والروحي للطفل إنتباه العلماء في العصر الحديث . ولم يفت الأئمة عليه‌السلام هذا الأمر . بل أكدوا على أثر الإِطمئنان النفسي وإرتياح الضمير عند الأبوين في إيجاد الطفل . يقول الإِمام الحسن العسكري عليه‌السلام في موضوع الشبه بين الطفل وأبويه أو عدمه « فإن الرجل إذا أتى أهله بقلب ساكن وعروق هادئة ، وبدن غير مضطرب . استكنت تلك النطفة في الرحم ، فخرج الرجل يشبه أباه وأمه » (١) .

النطفة الطبيعية :

إذا كان قلب الأبوين حين إنعقاد النطفة منتظماً ، وجريان الدم طبيعياً والبدن خالياً من الاضطراب ، فالطفل يكون شبيهاً لأبويه حسب القاعدة . إن أصح الحالات الطبيعية للطفل هو أن يشبه أبويه . وأصح الحالات الطبيعية للأبوين هو الكفيل بظهور ذلك الشبه الطبيعي .

والنتيجة التي نستنتجها من هذا البحث ، هي : أن الرجل والمرأة اللذين يقيمان علاقة زوجية طاهرة مع مراعاة القوانين الدينية لا يحسان باضطراب وهلع حين الاتصال الجنسي فالنطفة التي توجد منهما في تلك الحالة وفقدان

____________________

(١) بحار الأنوار ج ١٤ ص ٣٧٩ .


الاضطراب إلى حين الولادة يضمن نشوء إنسان طبيعي خال من الإِنحراف الفطري والخلقي .

أما الشاب والشابة اللذان يتصلان بغير زواج قانوني ، فمما لا شك فيه أن حالتهما ليست هادئة وطبيعية مائة في المائة ، وإذا كانا يهتمان بالتعاليم الدينية ويخافان من إنفضاح الأمر أمام أبويهما فإن الاضطراب سيتضاعف أما إذا لم يكونا مرتبطين بالتعاليم الدينية فإن الخوف من الفضيحة أمام المجتمع كاف في إيجاد حالة من الهلع والاضطراب في الطرفين .

وإذا لم تنعقد نطفة من هذا الإِتصال اللامشروع ، ولم يستقر جنين في رحم المرأة ، فإن الطرفين قد إرتكبا بذلك ذنباً في السر . أما إذا حملت المرأة من تلك الإِتصال فإن إفشاء السر بين الناس وإنفضاح أمرهما سيعمل على ازدياد إضطرابهما .

الاضطراب أيام الحمل :

إن الفتاة التي تقدم على الزنا خفية عن أبويها ، بمجرد شعورها بالحمل تضطرب أشد الاضطراب ، وتنتابها رعشة تسري إلى فرائصها . ذلك لأن إنتفاخ بطنها في أقرب وقت سيفضح سرها . ولذلك فأنها تقضي لياليها بالأرق وتعيش أيامها غارقة في التفكير ، والدموع السائلة والندم المتواصل . . . وما أكثر أُولئك اللائي أدى بهن الأمر إلى الإِنتحار والتخلص من هذه الحياة أو تحمل المشاق العظيمة في سبيل إجهاض الجنين اللاقانوني . . . الأمر الذي يجر معه الأمراض والآلام الشديدة .

أما إذا لم تقدم هذه المرأة على الإِنتحار ، ولم تقم بإجهاض الجنين وبعد إنقضاء أيام الحمل تولد الطفل ، هل تتصورون بأن هذا الطفل يمكن أن يكون سالماً وطبيعياً ؟ فمضافاً إلى أن الأضطراب كان مستولياً على الأبوين حين إنعقاد النطفة ، ولم تنشأ النطفة الأولى لهذا الطفل بصورة طبيعية ، فإن كابوس الاضطراب والقلق كان مسيطراً على المرأة طيلة تسعة أشهر ( أيام الحمل ) فهناك الغصص والآلام والهموم التي حولت تلك المرأة إلى مخلوقة ضعيفة


عليلة . . . ولا يخفى أن الطفل كان شريكاً مع أُمه في تلك الآلام والمحن .

لقد ذكرنا في المحاضرة السابقة أن التجارب العلمية الدقيقة أثبتت نقطتين مهمتين : ـ

الأولى : أن المرأة إذا أصيبت في أيام الحمل بخوف شديد وإنتابتها رعدة من جراء خوفها تظهر بقع على جسم الطفل .

والثانية : أن الإِضطرابات العصبية للأم في أيام الحمل تؤدي إلى تولد الطفل عصبياً . . . فإذا كانت حادثة مخيفة بسيطة أو حالة عصبية في وقت قصير تخلف أثراً سيئاً في الطفل ، فالقلق الذي يستمر تسعة أشهر لا بد وأن يكون أثره أعظم ! ! .

النقل القانوني والتهريب :

إن الفرق بين الاتصال المشروع واللامشروع بين الرجل والمرأة مثل الفرق بين النقل القانوني والتهريب ، وبين السفر إلى الخارج مع الجواز وبدونه . . . فالمسافر عن كل من الطريقين يحتمل أن يعبر الحدود ويدخل الدولة الأُخرى ، ولكن مع فارق مهم هو أن حامل الجواز الذي يدخل الدولة الأجنبية بواسطة سمة الدخول يمتاز بإطمئنان وإرتياح بال ، يتنقل كيف يشاء ويتصل بمن يشاء ، من دون أن يحس في باطنه قلقاً أو اضطراباً . ولكن المسافر الذي لا يحمل جوازاً يرى نفسه معرضاً للخطر في كل لحظة ، فهو قلق مضطرب ، حركاته غير متزنة يصحبها إرتباك وتلفُّت إلى اليمين والشمال ، وحذر من مراقبة الأفراد له . إذا قابل فرداً ظن أنه يراقبه وسيرفع تقريراً عنه إلى الحكومة وما أسرع أن يلقى القبض عليه . . . وهكذا فهو يمتقع لونه مقابل سؤال بسيط ، وترتعد فرائصه ويفقد توازنه .

كل هذه الاضطرابات والحالات غير الإِعتيادية التي تنتابه ، لأجل أن هذا المسافر قد دخل دولة أجنبية بدون جواز أو سمة دخول . إن العقد وإجراء الصيغة في الزواج بمثابة الجواز والسمة للسفر إلى الخارج.


الخروج على القانون :

وتوجد بين النساء الملوثات بالإِنحرافات الجنسية ، طائفة لا تملك الإِيمان كي يراقبن الخوف من الله ولا تملك سمعة حسنة في المجتمع كي يخفن من إنفضاح الأمر ، ولذلك فيرتكبن الزنا من دون اكثرات ولا يرين فرقاً بين الاتصال القانوني وغير القانوني . فإذا حملت هذه المرأة من الزنا ، فبالرغم من إنها لم تصب بالاضطراب والقلق طيلة أيام الحمل ، ولكن في ضميرها نقص مهم ، وفي فكرها إنحراف أهم ، وهو الخروج على القانون . . . وهذه الصفة نفسها كسائر الصفات الرذيلة تخلق تربة مساعدة في الطفل للخروج على القانون . وفي كل مرة تحمل هذه المرأة من الزنا تؤثر حالتها النفسية في نفسية الطفل وتجر على المجتمع آثاراً سيئة .

يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام : « لا تزوجوا المرأة المستعلنة بالزنا ، ولا تزوجوا الرجل المستعلن بالزنا ، إلا أن تعرفوا منهما التوبة » (١) .

إن بعض النساء يتزوجن ولكن نفوسهن القذرة الدنيئة تميل إلى الرجال الأجانب ، ومن الممكن أن ترتكب الزنا بالرغم من أنها ذات زوج وتستفيد من ذلك لأنها تجعل الزوج حصناً منيعاً أمام التهم الإِجتماعية . إن ما لا شك فيه أن هذه المرأة مصابة بالإِنحراف النفسي . وحتى إذا حملت من زوجها القانوني ، فإن الطفل بالرغم من كونه قانونياً حسب المقررات الشرعية ولكنه من جهة الإِنحراف الروحي والفساد النفسي لا يقل عن ولد الزنا ، إذ أن الطفل يرث الصفات الرذيلة من أُمه فهو ينزع إلى الإِجرام والخروج على القانون دائماً ، يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« واشتد غضب الله على إمرأة ذات بعل ملأت عينها من غير زوجها ، أو ذي محرم منها . وإنها إن فعلت ذلك أحبط الله كل عمل لها فإن أوطأت فراشها غيره ، كان حقاً على الله أن يحرقها بالنار بعد أن يعذبها في

____________________

(١) مكارم الأخلاق للطبرسي ص ١٠٤ .


قبرها » (١) .

كان الحجاج بن يوسف الثقفي فرداً غير طبيعي ، وخطراً في نفس الوقت ، والتاريخ أحصىٰ له جرائم وجنايات عظيمة سودت وجه البشرية . إن مما لا شك فيه أن عوامل عديدة تدخلت في إنحراف سلوك هذا الإِنسان مما جعلته خطراً وشريراً إلى هذه الدرجة ، ومن الممكن أن قسطاً وافراً من ذلك يرجع إلى روح أُمه المنحرفة .

إن أم الحجاج ( فارغة ) كانت زوجة ( المغيرة بن شعبة ) قبل أن تتزوج يوسف الثقفي وكان عمر بن الخطاب يسير في أزقة المدينة في بعض الليالي . . . فسمع امرأة تغني في أحد البيوت وتنشد البيت الآتي : ـ

هل من سبيل إلى خمر فاشربها

أم من سبيل إلى نصر بن حجاج ؟

فتأثر عمر من هذا البيت ، وساءه أن تكون في عاصمة حكومته إمرأة تترنم بغرام شاب أجنبي بالرغم من أنها متزوجة ، فأحضر النصر بن الحجاج ـ وكان شاباً جميلاً ـ فحلق رأسه وسفَّره إلى البصرة » (٢) .

إن المرأة المحصنة التي تفكر في رجل أجنبي وتتمنى معاقرة الخمر والوصول بالنصر بن حجاج إذا حملت من زوجها القانوني نطفة ، فإن إنحرافها سيؤثر في نفس طفلها ، إن المرأة التي لا تفهم لاحترام القوانين الإِلهية والتعاليم الدينية معنى ، لا يستغرب منها أن تلد طفلاً مثل الحجاج في فساده وإنتهاكه حريم الناس وأرواحهم وأموالهم .

الأمهات العفيفات :

إن من سعادة الرجل وحسن حظه أن تكون أمه عفيفة ، متصفة بالأخلاق الفاضلة . يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام : « طوبى لمن كانت أمه عفيفة » (٣) .

____________________

(١) لئالي الأخبار ص ٤٩٦ .

(١) يراجع عن تفاصيل القصة : الكامل لابن الأثير ١ / ٣٤٤ ، وشرح ابن أبي الحديد ج ٢ ص ١٠٠ طبعة دار الكتب ، وعيون الأخبار ج ٤ ص ٢٤ .

(٣) بحار الأنوار ج ٢٣ ص ٧٩ .


نستنتج من البحوث السابقة : أن أولاد الزنا ليسوا طبيعيين مائة في في المائة . ومما لا شك فيه أن الأشخاص المجرمين قد ورثوا العوامل المساعدة على الإِنحراف من آبائهم . ولكن من الجهة العلمية ليست تلك الإِنحرافات حتمية في نفوسهم ، ولم تسلبهم الإِرادة والإِختيار . وبعبارة أُخرى فإن كون الطفل ابن زنا ليس علة تامة لشاقئه وانحرافه ، فإن ظروف المحيط والعوامل التربوية يمكن أن تعطل العوامل الوراثية وتبدلها بالصفات الحسنة وتهدي صاحبها إلى طريق الخير والصلاح .

المراقبة التربوية :

والإِسلام ينظر إلى أولاد الزنا من جهة القابلية التربوية بنفس هذه النظرة ويخضعهم للمراقبة التربوية والإِيمانية شأنهم في ذلك شأن الأولاد القانونيين ولذلك فهو يدعوهم كغيرهم إلى التعاليم الخلقية والملكات الطاهرة والإِيمان وعبادة الله ، ويقيدهم بالتكاليف الشرعية فيجازي ولد الزنا على أعماله كما يجازي غيره ويعاقب كما يعاقب ، سواءً بسواء . يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام :  « إن ولد الزنا يُستعمل ، إن عمل خيراً جزي به وإن عمل شراً جزي به » (١) .

يرى البعض أن أولاد الزنا محرومون عن الفيض الإِلهي والرحمة الربانية بسبب كونهم ناشئين من زنا ، وأن عليهم أن يحيوا بشقاء ومصيرهم إلى جهنم بلا ريب . . . لكن هذا ينافي العدل الإِلهي ، فالله تعالى لا يعذب شخصاً بما هو خارج عن إختياره . فإذا أسلم من وُلد من الزنا بإخلاص وعمل بوظائفه الشرعية فإنه يمارس الحقوق التي يحق لكل مسلم أن يتمتع بها في الدنيا ، ويشمله الفيض الإِلهي العظيم في الآخرة .

مراقبة أشد :

إن ولد الزنا يمكن أن يصل إلى درجات الكمال كغيره من أفراد المسلمين مع فارق واحد : هو أنه عليه أن يخضع لمراقبة أشد ، كي يتمكن بذلك من

____________________

(١) سفينة البحار مادة ( زنى ) ص ٥٦٠ .


مواجهة آثار الإِنحراف الوراثي ويؤمن نفسه من أخطاره الجسيمة .

ونظراً لأن الأساليب التربوية والظروف البيئية تختلف . وأن القوى الوراثية متفاوتة في الأفراد كما يقول الدكتور الكسيس في النص الذي نقلناه أنه يعامله معاملة غيره مع إضافة تشديد المراقبة عليه في تلقيه الدروس الإِيمانية والأخلاقية . . . فإنه يبقى في حيطة من أمره ومن مزاجه القائم على الإِنحراف . ولذلك فلا يرضى بأن يسلم زمام الحكم ومقدرات الأمة بيده .

إن ولد الزنا لو كان أعلم علماء عصره فانه لا يحق له أن يتقلد منصب مرجعية التقليد العام للمسلمين ، وقيادة الأمة الإِسلامية ، ومهما كان صاحب ذوق رفيع ونبوغ كامل في العلم ، فالإِسلام لا يرضى له أن يتقلد منصب القضاء بين المسلمين ، لأن من الممكن أن تظهر صفته الوراثية الرذيلة فجأة ، وتلتهب نار الفساد الكامنة تحت الرماد ، وتقطع بذلك القيود الدينية والتربوية ، وتجر بذلك الويل والثبور للذين يتقلد زمامهم .

*  *  *

وملخص ما مر أن بعض الصفات الوراثية تتصف بصفة الحتمية وهي من مصاديق القضاء والقدر الذي لا يقبل التغيير ، والبعض منها يسلك كعامل مساعد فقط في سلوك الطفل فهو ليس قضاء حتمياً وقدراً لازماً . . .

وإن الأساليب التربوية وعوامل المحيط إن اتفقت مع تلك الصفات الوراثية ظهرت بسرعة . وإن خالفتها فإن التربية تتغلب على الوراثة ، والمحيط يكون أقوىٰ من الصفات الموروثة .

ولهذا فإن الإِسلام يهتم بتربية الأفراد الذين يملكون تربة مساعدة للفساد والإِنحراف ويأمل وطيداً باحتمال إصلاحهم وسلوكهم سبل السعادة .

وحجر الأم هو المحيط الأول لتربية الطفل . فطوبى للأطفال الذين يولدون من آباء وأمهات طاهرين إهتموا بتربيتهم وتنشئتهم نشأه دينية صالحة . . .


والإِسلام يحترم هذا النوع من الآباء والأمهات . . . ويوصي الأطفال بأن يخضعوا لهم ويقوموا بواجب الأطاعة والإِحترام تجاههم ، جزاء على جهودهم ويأمرهم بأن يدعوا لهم بدعاء الخير .

( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . . . ) .

المحاضرة السادسة

النظام الطبيعي في الأحياء ـ التعليم والتربية في عالم الانسان

( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ . . . فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (١) .

للوصول إلى السعادة ، وتحقيق الكمال اللائق بالإِنسان من الناحية التربوية ، يجب الإِلتفات إلى أصلين مهمين :

( الأول ) : إحياء الاستعدادات الفطرية المفيدة .

و ( الثاني ) : إماتة الميول المنحرفة والاتجاهات الشريرة . وبعبارة أوضح فإن المربي الممتاز هو الذي يستطيع من أن ينمي القابليات والمواهب الفطرية التي يملكها الطفل بالأساليب التربوية الصالحة من جانب . ومن جانب آخر يعمل على دحر الصفات الوراثية الشريرة والاتجاهات التي لا تلائم السلوك الصحيح . ولأجل أن يتضح مدى أثر التربية وأهميتها بالنسبة إلى الوصول إلى الكمال الإِنساني اللائق به نرى لزاماً أن نبحث في هذه الجهات بحثاً مفصلاً . والظاهر أن هذا البحث مضافاً لما سيوضحه من ضرورة التربية بالنسبة للإِنسان سيرشدنا إلى إحدى آيات الله الدقيقة في هذا الكون ويدلنا على إرادته الحكيمة في تسييره .

____________________

(١) سورة التين ؛ الآيات : ٤ ، ٥ ، ٦ .


امتياز الانسان عن سائر الأحياء :

بالرغم من أن الإِنسان يعد أحد الموجودات الحية في العالم ، ويتركب وجوده من سائر العناصر المكونة للموجودات الأُخرى . . . لكنه يمتاز عنها بخصائص ومميزات تفصله عن سائر الأحياء . إن الإنسان يختلف عن الأشجار والأزهار ، وعن الحشرات والحيوانات في جهات متعددة . ومن جملة هذه الفروق : أن الحيوانات لا تحتاج في بلوغها الكمال المحدد لها إلى تعليم وتربية . إن الغرائز الفطرية التي أودعها الله تعالى فيها هي التي ترشدها بانتظام ، وفي جميع مراحل حياتها إلى مطاليبها ، وهي تسلك طريق تكاملها بصورة صحيحة . . . لكن الإِنسان يحتاج إلى التعاليم والتربية فأنه إن لم تكن تربيته مطابقة لأساليب علمية وعملية لا يصل إلى الكمال اللائق به ، ويستحيل أن تظهر إستعداداته الفطرية ومواهبه إلى حيز الخارج .

إن القرآن يحكي لنا قصة موسى وهارون حين توجها بأمر من الله إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى توحيد الله وعبادته ، ومن خلال تلك القصة يسأل فرعون عن الخالق الذي يدعو إليه قائلاً : « فمن ربكما يا موسى ؟! » فيجيبه موسى عليه‌السلام : « رَبُّنا الذي : اعطى كل شيء خلقه ثم هدى ! ! ! » .

الأعضاء اللازمة للحياة :

يتبين لنا من الآية السابقة إن الله تبارك وتعالى قد وهب لكل موجود ما يحتاجه ، وقرر له ما ينبغي له . ومن الواضح أن درجة إحتياج كل موجود إلى شيء ما تختلف . . . فالحيوانات مثلاً يختلف بناؤها الطبيعي ونوع الغذاء ، الذي تحتاجه ، وقد طورها الله على الشكل الملائم لها ، فأعطاها الأعضاء اللازمة لحياتها . أعطى الأسد مخالب قوية لتمزيق اللحوم ومنح الشاة أسناناً حادة لقضم الأعشاب . . . وهب البعض قوة الركض والجري السريع ، وأعطى للبعض الآخر القدرة على الطيران ، خلق في البعوضة الضعيفة خرطوماً للمص ، وجهز الطيور الداجنة بمنقار يختلف تماماً عن منقار الطيور القانصة .

إن أول دليل يقدمه موسى لفرعون على وجود الله تعالى هو أن : ربي هو


الذي نظم بناء الخلق العظيم بعلم وحكمة ، وأعطى لكل موجود ما يستحقه ويحتاجه في بلوغ مقاصده ، ولذلك فإن آثار قدرته تعالى ظاهرة في كل موجود . يقول الشاعر :

فانظره في حجر وانظره في شجر

وانظره في كل شيء . . . إنه الله

ويقول الآخر :

وفي كلِّ شيء له آيةٌ

تدلّ على أنَّه واحد

استخدام العضو :

إن الحصول على الأدوات والآلات أمر . . . وكيفية استخدام تلك الآلات أمر آخر ، فمكبرة الصوت عبارة عن جهاز لتوزيع الصوت وإيصاله إلى أبعد ما يمكن ، ولكن إستخدام هذا الجهاز والاستفادة منه يحتاج إلى علم وإطلاع بشؤونه . فمن الممكن أن توجد قاعة ما أجهزة فخمة لتكبير الصوت ولكن لا يوجد عامل فني واحد ، يعرف كيفية إستعمالها . وهكذا ، فوجود وسائل الفحص بالأشعة السينية وأدوات الجراحة في المستشفى يختلف عن كيفية إستخدامها . فإنه لا بد من طبيب ممارس كي يعرف كيفية التصوير بدقة ، وتشخيص حصى الكلية مثلاً ، ثم كيفية شق بطن المريض بالمباضع والسكاكين وإستخراج الحصىٰ ، وإعادة خياطة موضع الجرح بدقة . . . وفي النهاية برء المريض وخلاصه من الآلام .

ولهذا نجد أن الدليل الثاني الذي يقدمه موسى لفرعون على وجود الله تعالى هو أنه بعد الفراغ من تزويد الله تلك الموجودات بالوسائل والأدوات اللازمة ، علمها كيفية إستخدام تلك الأعضاء وطريقة الإِستفادة من تلك الآلات والأجهزة كلا على حدة . إن بعوضة ضعيفة تعرف كيف وأين تدخل مضخة الدم أي خرطومها الذي هو بمثابة المحقنة الطبية لتمص الدم بذلك ، وتحفظ حياتها بالتغذي عليه .

هذا النظام الدقيق ، وهذه الأساليب المتقنة لا يمكن أن تصدر من ناحية


الطبيعة العمياء ، وعلى نحو الصدفة التي لا تعي ولا تشعر . إن الذات التي تتمثل فيها القدرة الكاملة والعلم المحيط والإِرادة التامة التي أوجدت هذا الكون بحسب نظام دقيق منحصرة في الله تعالى .

التكامل البشري :

يتقدم الإِنسان دوماً نحو الرقي والتكامل . . . كثير من الحقائق كان يجهلها الناس أمس الأول وكُشف الحجاب عنها أمس ، وقسم من الحقائق كانت مجهولة أمس ، وإذا بالعلم يكشف عن أسرارها اليوم . . . وهكذا فإن هناك كثيراً من الحقائق يجهلها العالم اليوم ، ولكنها ستنكشف لعالم الغد . وعلى مرّ الأيام كلما إنكشفت زاوية مجهولة في هذا الكون الفسيح ورفع النقاب عن سر مكنون . . . إطلع العالم على النظام الحكيم الذي أودعه الله ، فيقف إجلالاً ويركع خضوعاً وخشوعاً حيال عظمته وحكمته .

وحين كان موسى يتكلم مع فرعون حول توحيد الله . . . وحين نزل حديث موسى بن عمران بصورة آية من القرآن على نبينا العظيم ، كانت معلومات البشر عن نظام الخلقة ، وأسرارها العجيبة محدودة وضئيلة جداً ولم يكن الناس ليتوصلوا إلا إلى ما تراه عيونهم المجردة القاصرة غافلين كل الغفلة عن أن الحقائق التي لا تدرك بالعين المجردة ، والأمواج التي لا تسمع بالأذن العادية أكثر بكثير من المبصرات والمسموعات العادية للبشر . لكن أئمة الإِسلام الهداة ، والقادة المعصومين الذين كانوا ينظرون بنور الوحي والإِلهام وبعين الحقيقة والواقع التي لا تحجبها الأستار المادية ، كانوا على علم بجميع تلك الحقائق .

يذكر الإِمام علي عليه‌السلام هذه الحقيقة في خطبة من خطبه ، ضمن حمد الله والثناء عليه قائلاً : « وما الذي نرى من خلقك ، ونعجب له من قدرتك ، ونَصِفه من عظيم سلطانك ؟ وما يغيب عنا منه وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت سواتر الغيوب بيننا وبينه . . . أعظم » (١) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لملا فتح الله ص ٢٧٦ .


الموجودات المجهرية :

لم يكن ليعرف الإِنسان قبل أربعة عشر قرناً شيئاً عن العالم المحير والعجيب للموجوادات المجهرية ، ولم يكن بالإِمكان للعلماء في عصر نزول القرآن أن يؤمنوا أن في القطرة الواحدة من نطفة الرجل تسبح ملايين الموجودات الحية . . . ولكننا نجد في ذلك العصر حينما يسأل ( الفتح بن يزيد الجرجاني ) من الإِمام الرضا عليه‌السلام عن سبب تسمية الله باللطيف يقول الإِمام في جوابه : « للخلق اللطيف ، ولعلمه بالشيء اللطيف . . . ومن الخلق اللطيف ، ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ، ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان ـ لصغره ـ الذكر من الأُنثى ، والحدث المولود من القديم » (١) .

هذا الحديث يرينا أن الإِمام الرضا عليه‌السلام كان مطلعاً في ذلك الزمان على وجود الحيوانات المجهرية ، ولذلك فهو يذكر السبب في تسمية الله باللطيف ، خلقه تعالى للأشياء الدقيقة الصغيرة بنظام متقن وإبداع عجيب ، حيث أنها لصغرها لا يمكن أن ترى بالعين المجردة .

المستقبل الوضاء :

وفي تلك الأيام التي كانت معلومات علماء البشر محدودة وكانوا لا يعرفون الكثير من الحقائق المكتشفة اليوم لعدم حصولهم على الوسائل والآلات العليمة . . . وفي تلك الأيام بالذات ظهر القرآن الكريم ببشارة سعيدة للبشرية ، وبعث في نفوس البشر الأمل الوطيد في وصولهم إلى حقائق خفية وأسرار مكنونة فقال : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (٢) .

فتنطلق هذه البشارة باعثة الأمل في نفوس الباحثين ليعلموا أن المستقبل

____________________

(١) الكافي للكليني ج ١ ص ١١٩ .

(٢) سورة السجدة ؛ الآية : ٥٣ .


سيظهر لهم الكثير من آيات الله في الآفاق الكونية ، وفي بناء البشر أنفسهم . . . ليصلوا إلى النتيجة المطلوبة وهي أن الله هو الحق والموجود .

. . . وكأن الله تعالى يقول للبشر في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ـ بالرغم من أنني أظهرت كثيراً من الآيات والحقائق للبشر ، ولكن الحقائق التي يمكن إكتشافها لهم هي أكثر بكثير من الحقائق المكتشفة لحد الآن . وفي المستقبل القريب ، سأظهر لهم من الآيات الجديدة والحقائق الكثيرة ما يكفل لهم إتضاح الحق والقدرة الإِلهية أكثر .

وكأن الأئمة عليهم‌السلام كانوا يتنبأون بالتقدم العلمي للبشر ، والتعمق الذي سيبذلونه في بحوثهم في العصور التالية ، ولذلك فكانوا يذكرون ذلك في الأوقات المناسبة . . .

« سئل علي بن الحسين عليه‌السلام عن التوحيد ، فقال : الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون ، فأنزل الله : ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) والآيات من « سورة الحديد » . . . » (١) .

إن مما لا شك فيه هو أن البشر اليوم قد إكتشفوا ـ بفضل التقدم العلمي ـ كثيراً من الحقائق والأسرار في الآفاق الكونية والنفس الإِنسانية مما لم يكن يحدث به أصحاب القرون السابقة ، فمثلاً كان السابقون يستفيدون من قوله تعالى : « ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » بمقدار ما كان يعرف البشر من أسرار العالم حينذاك ، فكانوا يعرفون مثلاً أن النحلة تملك الأدوات اللازمة لها في صنع غذائها وكذلك تعرف بفضل الهداية الفطرية كيفية إستخدامها . أو أن الحمامة تعرف ـ بالهداية الفطرية ـ كيف وأين تضع عشها ، وكيف تحافظ على فروخها .

أما العلماء اليوم فأنهم عبروا المراحل التي تدرك بالعين المجردة . وشاهدوا الموجودات الحية التي ليست قابلة للرؤية ، بواسطة العين المسلحة

____________________

(١) تفسير البرهان ص ١٢٢٨ .


( بسلاح المجهر ) ، وتمكنوا أن يراقبوا نشاط الخلية التي تعتبر الوحدة الأولى لجميع الأحياء في العالم . إن ما لا شك فيه هو أن هذه الاكتشافات العلمية قد كشفت الستار عن كثير من آيات الله الخفية وأرتنا قدرة الله العظيم في الهداية الفطرية التي أودعها في هذه الموجودات لمزاولة نشاطها بصورة أوسع مما مضىٰ .

عالم الخلية :

لقد قام الدكتور ( الكسيس كاريل ) (١) بتجارب دقيقة حول حياة الخلايا خارج محيط البدن وتوصل إلى كشف رموز دقيقة في إختباراته العلمية ، ومن خلال قراءة بعض الفقرات من عباراته يتضح لنا أن الخلية الصغيرة الدقيقة لم تحرم أيضاً من فيض الهداية الفطرية التي أودعها الله تعالى في هذا الكون ، إنه يقول :

« ولقد عرف علماء التشريح والفسيولوجيا الصفات المميزة للأنسجة والأعضاء أي جمعيات الخلايا ، منذ أمد بعيد ولكنهم نجحوا حديثاً فقط في تحليل صفات الخلايا نفسها ولقد أمكن دراسة الخلايا الحية في قنينة بسهولة كما يمكن دراسة النمل في الخلية . وذلك يسبب الطرق الحديثة المستخدمة في توزيع الأنسجة . ولقد كشفت هذه الخلايا عن نفسها وعما وُهبته من قوى لا يرقى إليها الشك ذات صفات مذهلة . . . ومع أن هذه الصفات تقديرية في أحوال الحياة الطبيعية ، فأنها تصبح حقيقة تحت تأثير المرض حينما يتعرض الوسط العضوي إلى تغييرات ( طبيعية ـ كيماوية ) معينة » (٢) .

____________________

(١) من العلماء المعروفين في علم الأجنة ، ومعرفة الأنسجة في العالم ، لقد كتب أحدهم عن شخصيته : « وأعظم هذه الاكتشافات هو معرفة الأجنة ( جمع جنين ) التي توصل إليها ألكسيس كارل . لقد تمكن من أن يعتني بتربية الأنسجة بصورة دقيقة ، حتى توصل إلى الإِحتفاظ بقطعة من قلب دجاجة لمدة ثلاثين سنة في معهد ( روكفلر ) بنيويورك » ! .

(٢) الإِنسان ذلك المجهول ص ٦٥ .


« والخلايا ، كالحيوانات ، تنتمي إلى أجناس مختلفة ، وهذه الأجناس أو الأنواع تعيَّن بصفات تكوينها ووظائفها المميزة لها » (١) .

« وحينما تربى مختلف هذه الأنواع من الخلايا في قنينة فإن صفاتها المميزة تصبح من الوضوح مثل الصفات المميزة لمختلف الجراثيم . فلكل نوع صفاته الفطرية الملازمة له والتي تظل محدودة حتى بعد أن تنقضي بضعة أعوام على انفصاله من الجسم . . . » (٢) .

« ويبدو أن الخلايا تتذكر وحدتها الأصلية حتى حينما تصبح عناصر مجهرة لا عدد لها . . . إنها تعرف ، من تلقاء ذاتها ، الوظائف المطلوب منها تأديتها في الجسم كوحدة . فلو أننا زرعنا خلايا أبثيلية عدة أشهر ، وهي بعيدة عن الحيوان الذي تنتسب إليه ، فأنها تنظم نفسها تنظيماً يشبه الفسيفساء كما لو كانت ستحمي سطحاً تاماً ومع ذلك فإن هذا السطح يكون غير موجود ، كذلك فأن كرات الدم البيضاء التي تعيش في قنينة تبذل قصارى جهدها للفتك بالجراثيم والكرات الحمراء على الرغم من عدم وجود جسم تتولى حمايته من غزو هذه الأعداء . وذلك لأن إلمامها الفطري بالدور الذي يجب عليها أن تلعبه في الجسم إن هو إلا وسيلة للبقاء تلتزمها جميع عناصر الجسم » .

« وتختص الخلايا المعزولة بقوة إعادة إنشاء التكوين الذي يتميز به كل عضو من غير إرشاد أو من غير غرض معين ، فلو أن عدة كرات حمراء إنسالت بفعل الجاذبية ، من قطرة من الدم وضعت في وسائل البلازما وكونت مجرى دقيقاً ، فأنها سرعان ما تنشىء له شاطئين ولن يلبث هذان الشاطئان أن يغطيا نفسهما بخويطات من

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٦٧ .

(٢) المصدر نفسه ص ٦٨ .


الليفين ويصبح المجرى أنبوية تنسال فيها الكرات الحمراء مثلما تنسال في وعاء دموي ، وتحيط نفسها بغشائها المتماوج . وفي هذه الأثناء يتخذ مجرى الدم مظهر وعاء شعري مغلف بطبقة من الخلايا القابضة وهكذا فإن كرات الدم الحمراء والبيضاء المعزولة تستطيع أن تنشىء قطاعاً صغيراً من جهاز الدورة الدموية على الرغم من عدم وجود قلب أو دورة دموية أو أنسجة لترويها » (١) .

القيام بالواجب في الخلية :

إن ما كان يعرفه علماء البشر بالأمس عن الهداية الفطرية للموجودات الحية كان مقتصراً مثلاً على أن القطة التي هي من الأحياء قد جهزت بالوسائل والأدوات اللازمة لإِدامة الحياة ، وجهزت بجهاز خاص لتربية صغارها لغرض بقاء النسل . . . أولاً ، وأنها تعرف كيف تستعمل تلك الأدوات والوسائل في حياتها والإِستفادة منها ، وكيف تحمل وتضع وبأي صورة تربي صغارها . . . ثانياً .

أما علماء اليوم فقد توصلوا إلى أن القطة تعني آلاف الملايين من الخلايا الحية التي تمتاز بخصائص معينة ، اجتمعت كل مجموعة منها لصنع عضو خاص والمهم أن كل واحدة من هذه الخلايا الحية التي لا ترى بالعين المجردة قد جهزت بلوازم إدامة الحياة وكل منها تعرف ـ بفضل الهداية الفطرية ـ الطريق إلى تكاملها والوصول إلى غايتها . وكما شرح لنا العالم الاختصاصي بمعرفة الخلايا فإن هذه الخلايا لا تنسى واجبها حتى في خارج بدن الموجود الحي ( أي في المختبرات العلمية ) بل تستمر في أداء وظيفتها بأحسن وجه قرره لها الله تعالى بقلم قضائه .

الجنين المختبري :

قبل سنتين نشرت الجرائد والصحف المحلية خبراً حول توصل البروفسور

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٩٠ .


الإِيطالي ( دانيل يتروجي ) إلى إيجاد طفل في المختبر من نطفة الرجل والمرأة . . .

« باريس / ١٤ كانون الثاني / وكالة الأنباء الفرنسية ، لقد أعلن اليوم أن البروفسور دانيل أحد علماء ـ الأحياء ـ الإِيطاليين إستطاع أن يلقح نطفة الرجل والمرأة في خارج رحم الأم وأن يوجد جنيناً يقوم بتربيته بصورة صناعية » (١) .

« لقد أكد العالم الإِيطالي أن الفيلم الذي صوره يوضح كيفية دخول ( الحيمن المنوي ) في ( البويضة ) داخل أنبوبة الاختبار . والنطفة التي إنعقدت بهذه الصورة استمرت في النمو لمدة ٢٩ يوماً » (٢) .

 « إن المحافل الكاثوليكية ومجلس الفاتيكان يرون أن هذه الإِختبارات تفسد روح البشرية وأخلاقها ويعتقدون بأن علماء العالم يجب أن يجتنبوا عن مثل هذه التجارب التي تؤدي إلى وجود موجود حي ثم قتله » (٣) .

الهداية الالهية في عالم الخلية :

إننا لا نريد أن نبحث عن أساس هذا العمل وحكم قتل هكذا طفل من الوجهة الشرعية ، ولكننا نقول : إنه من الجانب العلمي نجد أن هذا العمل مقتبس من أحد القوانين الكونية ، وهذا هو دليل الهداية الفطرية الإِلهية في عالم الخلية . إن ( الحيمن المنوي ) هو أحد مصاديق ( كل شيء ) الذي تحدث عنه موسى بن عمران بقوله « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » .

هذا الموجود المجهري مجهز بلوازم الحياة ، ومضافاً إلى ذلك فأن الله قد منحه جميع الهدايات اللازمة له ، والتي منها : العشق إلى بويضة المرأة .

____________________

(١) جريدة ( إطلاعات ) الإِيرانية ـ العدد / ١٠٤١٠ .

(٢) جريدة ( إطلاعات ) الإِيرانية ـ العدد / ١٠٤٢٩ .

(٣) المصدر نفسه ـ العدد / ١٠٤١١ .


إن الوضع الاعتيادي للبويضة هو في عنق الرحم ، والحيامن مأمورة ـ بحكم الهداية الإِلهية الفطرية ـ أن توصل أنفسها إلى البويضة ، وتظهر جميع النشاطات في سبيل الوصول إليها . . . وتكون النتيجة أن أحد تلك الحيامن يلقح البويضة ويصير سبباً لظهور الإِنسان .

وكما أشرنا سابقاً فأن تجارب العلماء قد أثبتت أن الخلايا تستمر في عملها حتى خارج البدن ، ولا تنسى واجبها ، ولهذا فإذا استطاع البروفسور الإِيطالي من أن يضع بويضة المرأة في أنبوبة الاختبار بدلاً من عنق الرحم وهيأ الظروف اللازمة لذلك . فإن الحيامن لاتقف عن أداء وظيفتها التي خلقت لأجلها ، بل تلقح البويضة هناك وتوجد طفلاً .

وهكذا فأن لكل مجموعة من الخلايا وظيفة معينة ، تؤديها في محيطها الإِعتيادي ، ولا تكف عن إتيانها في الظروف غير الاعتيادية أيضاً ، وهذا السر العظيم للخلقة دقيق إلى درجة أن العلماء لم يتوصلوا بعد إلى كثير من رموزه .

« تتميز أنواع الخلايا بطريقتها في الحركة ، وفي اتحاد إحداها مع الأُخرى وشكل مجموعاتها ، ودرجة نموها واستجابتها لمختلف الكيميائيات ، والمواد التي تفرزها والطعام الذي تحتاجه ، كما تتميز بشكلها وبنيانها . . إن قوانين تنظيم كل مجموعة خلايا ـ أي كل عضو ـ مستمدة من هذه الخصائص العنصرية . وإذا كانت خلايا النسيج تملك فقط الصفات التي ينسبها علم التشريح لها ، لما كان في استطاعتها أن تنشىء جسماً حياً . . إنها تملك قوى أُخرى ، تكون مخبأة عادة ولكنها تصبح فعالة حينما تستجيب لتغييرات معينة في الوسيط ، وهكذا تتاح لها فرصة علاج الحوادث غير المتوقعة أبان الحياة العادية أو في أثناء المرض . . . وتتحد الخلايا في جماهير كثيفة هي الأنسجة والأعضاء التي يتوقفها تنظيمها الهندسي على الإِحتياجات التكوينية والوظيفية للجسم في « مجموعته » (١) .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٦٨ .


« وجميع الخلايا الحية تعتمد كل الإِعتماد وبصفة خاصة على الوسيط الذي غاصت فيه وهي تعدل هذا الوسيط من غير توقف ، وتتعدل هي به من غير توقف أيضاً . بل الحقيقة أنها غير قابلة لإِنفصال عنه مثلما لا ينفصل جسمها عن نواته . وبنيانها يتبعان الأحول المادية (الطبيعية ـ الكيميائية) والكيميائية للسائل المحيط بها ... » (١).

وتملك الخلايا نشاطات مختلفة في الحالات الاعتيادية وغير الإِعتيادية وإن الظروف البيئية تؤثر فيها . وفي حالة المرض حيث يكون وضع البدن غير اعتيادي تقوم الخلايا بنشاطات خاصة دقيقة وغير واضحة تماماً لصالح البدن ولدفع المرض . وكذلك أيام الحمل تكوّن وضعاً لا اعتيادياً بالنسبة إلى المرأة . وبالرغم من أن الخلية التناسلية الأولى تنتج من تلقيح البويضة بالحمين ، ـ ولا يختلف محيط الرحم مع محيط المختبر من هذه الجهة ـ لكن ما لا شك فيه هو أن خلايا بدن الأم تقع تحت تأثير العوامل البيئية للحمل طيلة التسعة أشهر حيث يتم خلالها نمو الطفل في الرحم وتؤثر تلك التأثيرات في البناء الطبيعي للطفل بلا ريب ، ولهذا السبب فأن البروفسور الإِيطالي قد قطع التجربة في اليوم التاسع والعشرين بالنسبة إلى إيجاد الطفل في المختبر .

إن الجنين أخذ شكله اللازم له طيلة ( ٢٥ يوماً ) ، وتوقفت التجربة في اليوم (٢٩) عمداً . لقد أعلن العالم الإِيطالي أنه أوقف التجربة عمداً ، لأنه كان من المحتمل أن ينشأ من نمو هذا الجنين عملاق ضخم ، ويكون النمو التالي للجنين غير طبيعي » .

« هذا الأمر يدلنا على أن العلماء لم يستطيعوا بعد ، من إيجاد الظروف اللازمة لتربية النطفة وتحويلها إلى طفل جديد خارج بدن الإِنسان . ويبدو أن هناك أسراراً دقيقة حول تغيير أشكال الأنسجة ، ونفوذ الهورمونات بين نطفتين إنسانيتين لم تكشف لحد الآن » (٢) .

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٦٥ .

(٢) جريدة إطلاعات الإِيرانية ـ العدد / ١٠٤١١ ، تاريخ ٢٦ / ١٠ / ١٣٣٩ هجرية شمسية .


إن بعض الجهال والمنحرفين الذين يستغلون الفرص المناسبة لإِسداء الضربة القاضية إلى التعاليم الدينية ، قد استغلوا هذه المناسبة فراحوا يقولون إن البشر استطاع أن يخلق بشراً مثله ، وبهذا لا داعي لموافقة المتألهين حول حصر نسبة الخالقية إلى الله . ولتوضح الموضوع والرد على هذه الشبهة لا بد من تمهيد بعض المقدمات .

جهاز التفقيس :

إن الطريقة الطبيعية في تربية فروخ الدجاج هي أن يستقر البيض تحت جناحي الدجاجة وريشها ، ويفقس البيض بعد ثلاثة أسابيع . . . ولقد فكر البعض فيما مضى في إيجاد حرارة مشابهة لحرارة جسد الدجاجة في الدرجة في جهاز خاص وذلك لغرض التفقيس بلا دجاجة . ولقد تم هذا العمل فعلاً ، واليوم يفقس عدد كثير من البيض عن كتاكيت بواسطة الحاضنات الأوتوماتيكية . . . ولكن لم يظهر لحد الآن من يتمكن من صنع البيضة ـ التي هي بمنزلة خلية كبيرة لنطفة الكتكوت ـ وسوف لن يستطع من ذلك في المستقبل ، بل يجب عليه أن يحصل على البيض من نفس الطريق الذي قرره خالق الكون . أي عن طريق الدجاجة (١) .

واليوم نجد أن البروفسور الإِيطالي قد أخذ نطفة الرجل والمرأة ـ التي هي بمنزلة البيضة ـ من مجراها الطبيعي ، ولقحها في المختبر ـ الذي هو بمنزلة مكائن التفقيس ـ مع فارق واحد هو أن جهاز التفقيس يؤدي عملاً واحداً هو تنظيم درجة الحرارة وتقليب البيضات ظهراً لبطن يومياً لمنع الترسب . . . بينما يجب على البروفسور الإِيطالي أن يقوم بمائة عمل أو مئات الأفعال لتهيئة

____________________

(١) وهنا نضيف إلى عبارة الأستاذ الفلسفي نكتة مهمة . وهي أنهم على فرض صنعهم للبيضة أيضاً بطريقة ميكانيكية ، فلا يسمى عملهم ذلك خلقاً ، بل هو اقتباس لخلق الله . . . إذ لا يتم ذلك على فرض الإِمكان إلا بعد فحصهم لمكونات البيضة وعناصرها وتحليلها ومعرفة ظروف تركيبها من حرارة وضوء ورطوبة . . . الخ ، كي يتمكنوا من صنع بيضة مثلها ، وحينذاك لا يسمى عملهم هذا خلقاً بل هو تقليد لخلق الله .


الظروف المتنوعة من الحرارة والرطوبة والمحيط المساعد ، والمواد الغذائية الصالحة ، وتغذية الجنين . . . وغيرها من العوامل . نعم ! لا شك في أنه قام بعمل مهم من الناحية العلمية ، ولكنه لم يصنع الحيمن والبويضة ، بل إنه حصل على أساس الخلقة البشرية وخليته الأولى بواسطة الرجل والمرأة ، ومن بين أحضان الطبيعة والمجرى الطبيعي للقضاء والقدر الإِلهيين ، ولكنه قام بتلقيحهما وتربيتهما وتغذيتهما في داخل المختبر . وإذا أمكن القول بأن جهاز التفقيس أو المتصدي لتنظيم درجة حرارة الجهاز أو واضع الزيت فيه هو خالق الكتكوت ( الفرخ ) الذي يخرج منه ، أمكن القول هنا أيضاً بأن البروفسور والمختبر قد خلقا الجنين ! ! ! .

سر الحياة المجهول :

إن العالم لم يتوصل بعد إلى كشف رمز الحياة ، وحل سر الوجود على وجه الكرة الأرضية . فكيف بقدرته على صنع خلية حية تكون منشأ ظهور البشر أو الحيوان . إن علماء الحياة بعد القيام بجهود عظيمة في هذا الميدان يبعثون الأمل في نفوس الناس بإمكان معرفة كيفية ظهور الموجود الحي بعد ألف سنة . . .

 « وبعد ألف سنة ، يتوصل الإِنسان إلى كشف سر الحياة ولكن لا يدل هذا على أن باستطاعة البشر أن يوجد ذبابة أو حشرة أُخرى أو حتى خلية حية . لقد أعلن هذا الموضوع في مؤتمر إنعقد باسم ( داروين ) . وقد أعلن ( البروفسور هانز ) العالم الأمريكي أن العلماء سيبحثون عن سر الحياة خلال الألف سنة القادمة » (١) .

أما بالنسبة إلى تلقيح البيضة بالحيمن في المختبر . والتجربة الناقصة التي قام بها البروفسور الإِيطالي ، فلو فرض أن العلماء توصلوا إلى جميع الخصائص الخلوية المجهولة في بدن الأم ، وتفاعلاتها الكيميائية في أيام الحمل ، وإستطاعوا من إيجادها في محيط المختبر ، وأوجدوا طفلاً كاملاً

____________________

(١) جريدة إطلاعات الإِيرانية العدد / ١٠١٦٠ ، التاريخ ١٩ / ١٢ / ١٣٣٨ هجرية شمسية .


وسالماً . . . فليس هذا العمل غير مناف لأساس التوحيد فحسب ، بل يبقى سنداً قوياً على النظام الدقيق الذي يسود الكون ، ودليلاً بارزاً على وجود الخالق الحكيم العالم الذي أوجد حتى الذرات غير المرئية في هذا العالم حسب نظام دقيق وتقدير مطابق . وهنا يتبين قوله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) . إذ أنه لا شك في أن الطبيعة الجاهلة والصدفة العمياء لا يمكن أن يصدر منها هذا النظام العجيب .

نستنتج مما سبق أن الحيوانات والحشرات وحتى الخلايا تملك قسطاً وافراً من الهداية الفطرية الإِلهية ، ولا تحتاج في الوصول إلى كمالها اللائق بها إلى التعليم والتربية ، إن النحل والعناكب تعرف منهجها التكاملي على نحو الغريزة الفطرية ، وكذلك الحيامن والكريات البيض تعرف وظائفها عن طريق الهداية الإِلهية .

إن بعض النشاطات التي تظهر من الحيوانات والحشرات بإرشاد من هدايتها الغريزية دقيقة ومهمة إلى درجة أنها تبعث الإِنسان على التعجب والحيرة ! .

حشرة الآموفيل :

« إن حشرة الآموفيل لا تأكل الديدان ، بل هي تتغذى على الأعشاب ، لكن صغارها تحتاج إلى الديدان في تغذيتها في أولى أدوار حياتها ، ولهذا فأن هذه الحشرة تلسع الديدان وتخدرها بالسم المخصوص الذي تفرزه ولكن لا تقتلها . . . وذلك لكي تولد صغارها فتستطيع التغذي على هذه الديدان . إن حشرة الآموفيل تعلم أن الديدان لو قتلت قبل ولادة صغارها فأنها تتعفن ولا تصلح غذاء لها . إن هذه الحشرة قد اكتشفت أنه لو لم تخدر الديدان بالدرجة الكافية فأنها تستعيد نشاطها وتأخذ بالفرار . . . فتموت صغارها جوعاً ، لذلك فأنها تلسع الدودة بصورة غير قاتلة


بل مخدرة فقط » (١) .

إن الحيوانات والحشرات تسير بأحسن ما يكون من الانتظام في طريق حياتها وتكاملها ـ في كنف الهداية الفطرية ـ ولا تحتاج في ذلك إلى التربية والتعليم .

الخصائص المشتركة بين الانسان والحيوان :

أما البشر فإن جانباً من مناهجه الحياتية وقوانينه التكاملية تدار بواسطة الهداية الفطرية من قبل الله تعالى ، وفي ذلك يشبه الحيوانات والحشرات في أنه لا يحتاج إلى مرشد ومعلم . فالمعدة في هضمها للطعام ، والكبد في تصفية الغذاء وتحويله إلى دم ، يعرفان واجباتهما على أكمل وجه ولا يحتاجان في ذلك إلى من يرشدهما ويهديهما . وكذا مبيض المرأة فأنه يعمل بصورة تلقائية على صنع بيضة واحدة في كل شهر . وكذلك الرحم في صنع الجنين ، وغدد الثديين في صنع الحليب للطفل . فكل هذه الأعضاء قد تلقت دروسها في مدرسة الخلقة والإِبداع .

والإِنسان لا يحتاج في إحساسه بالجوع والعطش والتعب والرغبة في النوم وإدراك البلوغ والرغبة الجنسية إلى دراسة ومدرسة ، إذ أنه يدرك هذه الحقائق بصورة فطرية . لكن الأطفال يحتاجون إلى المربي والمعلم في موردين : الأول في صفات مشتركة بين الإِنسان والحيوان والثاني من خواص الإِنسان . وسنضرب لكل منهما بعض الأمثلة الموجزة .

أما الموارد التي يشترك فيها الإِنسان مع سائر الحيوانات ، فهي أن الحيوانات تعرف أعداءها وتهرب منها بلا حاجة إلى دراسة وتلقين ، ولكن الإِنسان يعرف أعداءه عن طريق التعلم والتجربة . الحيوانات تعرف مقدار حاجتها إلى الطعام من ناحية الكم والكيف ، وتعرف كيفية تربية أطفالها وتغذيتهم أيضاً بلا حاجة إلى معلم ، ولكن الإِنسان عرف إحتياجاته الغذائية

____________________

(١) آخرين تحول ص ٧٤ .


ونسب المواد الغذائية التي يجب أن يتناولها بعد تجارب عديدة ومحاولات طويلة ، أما تغذية الأطفال بالصورة الصحيحة فيخضع لنظر الطبيب .

إن صغار القط تدرك الفواصل تماماً وتعرف مقدرتها أيضاً ، فلا تقفز إلى الأماكن التي تكون الفاصلة نحوها بعيدة ولا تستطيع القفز نحوها ولكن الأطفال لا يفهمون هذه الأمور فما أكثر ما رأيناهم يسقطون من السطوح العالية ويموتون . وهكذا المهُر فأنه يفهم خطر الغرق في الماء ولا يرمي بنفسه ولم يسمع لحد الآن أن مهرة قد إختنقت في نهر القرية أو بركتها جهلاً ، لكن أطفال البشر هم الذين يسقطون في أحواض البيوت والمسابح فيغرقون ! .

والحيوانات لا تحتاج في الأمور الصحية وحفظ سلامتها وسلامة صغارها إلى التعليم والتربية ، ولكن البشر نراه ماداً يد الحاجة دائماً إلى العلم والعالم لحفظ سلامته وسلامة أطفاله على ضوء إرشاداته . هذه هي بعض الأمثلة البسيطة على المقارنة بين الصفات المشتركة بين الإِنسان وسائر الحيوانات .

خواص الانسان :

أما فيما يتعلق بالجانب الثاني . فإن في باطن الإِنسان قابليات ومواهب خاصة لا توجد في الحيوانات أصلاً . هذه المواهب والقابليات هي التي تبلغ بالإِنسان إلى أعلىٰ درجات الكمال الإِنساني في المدارج الإِيمانية والمراحل الأخلاقية مسيطراً على عالم طبيعة في المجال العلمي وإدراك نواحي الخلقة ، وبذلك تخضع له جميع القوى والطاقات الأرضية ، ثم تفسح له المجال للسيطرة على الأجرام السماوية وتسخيرها أيضاً .لكن هذه الثروة العظيمة التي ينحصر بها الإِنسان تكمن في الباطن بصورة استعدادت وقابليات ولا تظهر لوحدها أصلاً ، وفي ظل التربية والتعليم فقط يمكن إخراج تلك الذخائر العظيمة من القوة إلى الفعل ، ومن الإِستعداد إلى حيز التنفيذ والاستغلال .

إن أصوات الحيوانات التي تكون كل منها بمنزلة علامة خاصة ، لا تحتاج إلى تمرين وتربية ، ولكن التكلم الذي لا يعدو كونه أبسط الظواهر الإِنسانية لا يتم من دون مرشد ومربٍ ، إذ لو ترك الطفل من أول يوم ولادته


وحيداً لا يُتكلّم معه ، فلا شكّ في أن قابلية على التكلم تموت ولا تصل إلى عالم الفعلية ، وهكذا سائر الاستعدادات الفطرية في الإِنسان فأنها تظهر عن طريق التربية والتعليم فقط .

قيمة التربية :

لقد تبين ـ بما ذكر ـ ضرورة التربية وأهميتها في إظهار الكمالات الباطنية للبشر ، وإخراج الإِستعدادت الفطرية إلى حيز الفعلية . إن الإِنسان لا يصل إلى الكمال اللائق به بدون التعليم والتربية ، ولا يتمكن أن يسير بدونهما في الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه .

*  *  *

بعد أن اتضحت لدينا المقدمات السابقة ، لنرجع إلى بيان الأساسين اللذين ذكرناهما في مطلع الحديث . . . لقد كان الأساس الأول هو أن يتنبه المربي القدير إلى جميع الاستعدادات الكامنة في الطفل ، ويعمل على تنميتها مع مراعاة الموازنة بين ميوله والتوفيق بينها ، وإخراجها إلى حيز الفعلية . . . وهذا يتفرع على معرفة الإِنسان ومواهبه وملكاته الكامنة والبارزة . وبعبارة أوضح ، فإن التربية الصحيحة هي التي تكون مطابقة للفطرة الواقعية للإِنسان ، ولا يوفق المربي إلى ذلك إلا عندما يدرك جميع الميول والغرائز الطبيعية في الإِنسان أولاً والعمل على تنمية تلك الميول وإرضائها في مقام التربية ثانياً .

معرفة النفس :

إن الروايات الواردة عن أئمة الإِسلام عليه‌السلام في لزوم معرفة النفس كثيرة ، وهي ـ وإن اختلفت في ألفاظها وأساليبها ـ ترمي إلى اعتبارها أساس السعادة الإِنسانية . وهنا لا بأس بسرد بعض تلك الروايات :

١ ـ يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « أفضل المعرفة ، معرفة الإِنسان نفسه » (١) .

____________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم ص ٨٧ طبعة دار الثقافة ـ النجف الأشرف ـ .


٢ ـ وكذلك يقول عليه‌السلام : « أعظم الجهل ، جهل الإِنسان أمر نفسه » (١) .

٣ ـ وقد ورد عنه عليه‌السلام : « أفضل العقل معرفة المرء نفسه . فمن عرف نفسه عقل . ومن جهلها ضل » (٢) .

٤ ـ وكذلك يقول عليه‌السلام : « من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم » (٣) .

٥ ـ وقد ورد عنه : « من لم يعرف نفسه ، بعد عن سبيل النجاة وخبط في الضلال والجهالات » (٤) .

وهكذا نرى في هذه الروايات أن أساس السعادة قائم على معرفة النفس ، فمن لم يعرف نفسه ولم يدرك قيمتها الواقعية لا يصل إلى الكمال الإِنساني اللائق به أبداً ، والذين يجهلون كل شيء عن الثروات الفطرية المودعة في نفوسهم لا يتمكنون من العمل على إحيائها واستثمار المواهب الكامنة عندهم .

« روي عن كميل بن زياد ، قال : سألت مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قلت : يا أمير المؤمنين : أريد أن تعرفني نفسي ، فقال : يا كميل : أي النفس تريد أن أعرفك ؟ قلت : يا مولاي هل هي إلا نفس واحدة ؟ فقال : يا كميل إنما هي أربعة : النامية النباتية والحسية الحيوانية ، والناطقة القدسية ، والملكية الإِلهية . . . » (٥) .

إحياء الميول المعنوية :

إن الإِنسان يملك غير الطبع النباتي ، والشهوة الحيوانية ، ثروة عقلية

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٨٨ .

(٢) المصدر نفسه ص ٩٤ .

(٣) المصدر نفسه ص ٢٩٣ .

(٤) المصدر نفسه ص ٢٩٦ .

(٥) آداب النفس للسيد محمد العيتاني ج ١ ص ١١ ط . طهران . وللحديث تفصيل طويل مذكور في ( مجمع البحرين للطريحي ، مادة نفس ) .


بشرية وروحاً ملكوتية إلهية ، فالسعيد من إعتنى بجميع ذخائره وثرواته المادية والمعنوية ، وحاول استغلالها والإِستجابة لها حسب قياس صحيح وهكذا فالإِنسان في الوقت الذي يهتم بجلب اللذائذ الجسمانية ويستجيب للميول الحيوانية يجب أن يهتم بصفاء باطنه . وإحياء الميول المعنوية التي تعد جزءاً من فطرته ، ويحاول استخدام مواهبه كلها في سبيل الوصول إلى التكامل ، منقاداً في ذلك للفطرة بإخلاص تام ، لكي لا يلقى عقابه على يد الطبيعة التي تخلف عن قوانينها.

الانحراف عن طريق الفطرة :

إن من المؤسف أن الحياة العصرية قد إنحرفت بالبشر عن طريق الفطرة وقصرت إهتمامها على الجوانب المادية فقط . إن أكثر الأفراد اليوم يرون البشرية من خلف منظار اللذائذ والشهوات ، فيتناسون أهمية الجوانب المعنوية . وعلى هذا الأسلوب من التفكير يربون أبناءهم أيضاً فيعطفون جل إهتمامهم على العيش الرغيد والالتذاذ أكثر في حين أن إهتمامهم بتربية الإِيمان الفطري والسجايا الخلقية والواجبات الروحية . . . لا يبلغ الواحد في المائة من العناية بالجوانب المادية ، ولا شك في أن الإِنحراف عن طريق الفطرة لا يبقى بلا عقاب .

إن المدنية الحديثة تسيطر على العالم منذ مدة ، والعلماء يقفون كل يوم على حل رمز جديد من كتاب الكون ، ويخطون خطوة جديدة في طريق العلم ، ويحرزون إنتصارات عظيمة في هذا السبيل . ولذلك فإن أسلوب المعيشة قد تغير والحياة ملأت جمالاً ، وخضع البر والبحر والجو لسيطرة البشر فالأكواخ المرطوبة المظلمة قد استبدلت بالقصور الضخمة الفاخرة المجهزة بجميع وسائل الراحة . وهكذا حلت النفاثات الجميلة القوية محل الفرس والجمل حيث توصل المسافر في أتم الراحة وأسرع الوقت إلى مقصده . ولا غرابة إذا رأينا أن المغازل اليدوية للعجائز وأدوات الحياكة اليدوية للشيوخ تخلي مكانها لمعامل الغزل والنسيج الأوتوماتيكية ، وهكذا خرجت الزراعة عن شكلها القديم ، وبدأ المزارعون العمل في الحقول بأحدث المكائن الزراعية وفقاً


لأحدث النظريات العلمية . . . وبصورة موجزة : نرى أن العلم قد أخذ طريقه إلى جميع مظاهر الحياة ، مضيئاً ـ كالشمس ـ كل مكان ، ومنظماً وسائل الراحة المادية والرفاه في العيش .

المدنية والأمراض الروحية :

. . . ولكن هذه الانتصارات التي أحرزها الإِنسان في مختلف الميادين لم تقدر على إيجاد التضامن الفكري والارتياح الروحي للبشر ، بل نجد الأمر على عكس ذلك ، فبنفس النسبة التي تتقدم فيها المدنية وتهيء وسائل جلب اللذة والشهوات للبشر نجد أن إضطرابه وانزجاره ، شقاءه وبؤسه يزداد . إن الأمراض الروحية والعصبية والاختلالات العقلية والجنون أضحت مثل سحب سوداء وخطيرة قد سيطرت على أفق الدول المتمدنة بصورة فظيعة مخيفة .

« لقد كتبت الجرائد الرسمية الأمريكية ، في مطلع هذا العام أن في العام الماضي بلغ مصروف الأقراص المنومة والمهدئة للأعصاب ، والخاصة للأمراض الروحية المستعملة في أمريكا مائتي مليون دولار . هذا الرقم الهائل إنما هو للأدوية المستعملة في حالات ضعف الأعصاب والقلق الفكري ، أما الأقراص المسكنة للأوجاع أمثال الأسبرين فأنها تشمل مبالغ طائلة أُخرى من ميزانية الدولة » (١) .

إن الدول العظمىٰ في العالم تعمل على استئصال جذور الأمراض المختلفة بمختلف الوسائل العلمية والتطبيقية ، لتخلص شعوبها من شر التيفوئيد والهيضة والملاريا ونحوها . ولكنها بدلاً عن ذلك قد ملأت المستشفيات بالمصابين بالأمراض الروحية والعقلية ، وتزيد من عددهم الهائل يوماً بعد يوم .

« ومن العجيب أن الأمراض العقلية أكثر عدداً من جميع الأمراض الأُخرى مجتمعة . ولهذا فإن مستشفيات المجاذيب تعج بنزلائها

____________________

(١) جريدة (إطلاعات) الإِيرانية العدد ١٠١٦٣ .


وتعجز عن استقبال جميع الذين يجب حجزهم . . . ويقول س . و . بيرسي إن شخصاً من كل ٢٢ شخصاً من سكان نيويورك يجب إدخاله أحد مستشفيات الأمراض العقلية بين حين وحين ، وفي الولايات المتحدة تبدي المستشفيات عنايتها لعدد من ضعاف العقول يعادل أكثر من ثمانية أمثال عدد المصدورين. ففي كل عام يدخل مصحات الأمراض العقلية وما يماثلها من المؤسسات نحو ٨٦٠٠٠ حالة جديدة » .

« إن أمراض العقل خطر داهم . إنها أكثر خطورة من السل والسرطان وأمراض القلب والكلى ، بل التيفوس والطاعون والكوليرا . . . ولا شك في أن كثرة عدد مرضى الأعصاب والنفوس دليل حاسم على النقص الخطير الذي تعاني منه المدنية العصرية ، وعلى أن عادات الحياة الجديدة لم تؤد مطلقاً إلى تحسين صحتنا العقلية » (١) .

هذه النصوص ترينا أن حالات الجنون والأمراض الروحية تأخذ بالازدياد بسرعة هائلة في الدول العظمىٰ والمتمدنة ، فالدكتور كارل إنما يكتب هذه الفقرات عن الوضع الروحي في أمريكا قبل ٣٠ سنة تقريباً ولكن النشرة الإِحصائية الرسمية في أمريكا للعالم ١٩٦٠ ميلادية ، تشير إلى أرقام أعلىٰ من الأرقام السابقة . فمثلاً بينما نجد أن النشرة المذكورة تذكر عدد المصابين روحياً في المستشفيات العقلية الأمريكية ٣٤٠٠٠٠ سنة ١٩٣٢ ميلادية ، نجد أن هذا الرقم يرتفع إلى الضعف سنة ١٩٥٩ .

إزدياد الجرائم والجنايات :

تلك النشرة نفسها تذكر في ( ص ٣١١ ) أرقام الجرائم المختلفة التي تلقتها من محاضر محاكمات القضاة . وتكتب أرقام ثلاث سنوات بهذه الصورة :

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ١٢٣ .


عام ١٩٥٥

٢٢٦٢٤٥٠ جريمة

عام ١٩٥٦

٢٥٦٣١٥٠ جريمة

عام ١٩٥٧

٢٧٩٤٤٠٠ جريمة . . .

وهكذا تلاحظون أن الجرائم أيضاً في طريقها إلى الإِزدياد يوماً بعد يوم . والأن لنذكر بعض الإِحصائيات الطريفة حول الموضوع :

« الجناية في فرنسا ، إسم كتاب ألفه رجلان من علماء الإِجتماع في فرنسا أحدهما هو ( بول شولو ) ، والآخر ( جان سوزنين ) ، بعد أن استفادا من الإِحصائيات والملفات الجنائية بمعونة البوليس . لقد ورد في إحدى تلك الإِحصائيات ما يلي : ـ تقع في فرنسا سرقة واحدة في كل دقيقتين ، وعملية اختطاف واحدة في كل عشر دقائق ، وسرقة سيارة في كل ثلاثين دقيقة ، واتصال جنسي غير مشروع في كل ثلاث ساعات ، وجناية واحدة في كل أربع ساعات . . . . » (١) .

« لندن ـ أعلنت مؤسسة التحقيقات في الصحة النفسية : إن خمسة آلاف رجل وامرأة بريطانيين ينتحرون كل عام . وهذا العدد يساوي حالات الموت الناشئة من إصطدام السيارات في هذه البلاد . وفي مدينة لندن التي لا تزيد سكانها على التسع ملايين ، يكون معدل الإِنتحارات في كل يوم ٣ إنتحارات » (٢) .

إن ما لا شك فيه هو أن هذه المصائب هي وليدة التخلف عن قوانين الخلقة ، فالتمدن الحديث قد صرف كل جهوده في سبيل توسعة اللذائذ المادية وإيجاد الرفاه المعيشي للبشر ، وغفل ـ تمام الغفلة ـ عن الجوانب الروحية في النفس الإِنسانية .

____________________

(١) جريدة ( إطلاعات ) الإِيرانية العدد ١٠٢٢٣ .

(٢) جريدة ( كيهان ) الإِيرانية العدد ٥٦٤٥ .


الافراط في الشهوة :

والمدنية الحديثة قد سدت على الناس أبصارهم ومسامعهم وصورت لهم أن معنى ( الإِنسانية ) ليس إلا العمل على إيجاد حياة أفضل ، والانتفاع من اللذة أكثر وكأن ليس للإِنسان هدف غير ذاك ، فالكل يفكرون في كيفية الحصول على مسكن أحسن ، ومركب أجمل ، ومقام أرفع ، ويجدّون في أن يعرفوا أي السبل تدرّ عليهم ثروة أكثر كي يتمكنوا من ممارسة شهواتهم بصورة أوسع . . .

وتسعى شركات الأفلام السينمائية دوماً في سبيل إخراج أفلام أكثر تهييجاً ، ورقصات أشد إثارة ، لتتمكن من إرضاء شهوات الناس إلى أبعد مدى ممكن وبذلك لتحصل على أرباح أكثر . . .

واجتماعات المساجد والكنائس آخذة في الضعف والتأخر . أما حانات الخمور ودور السينما والمراقص والملاهي فأنها مليئة بالحاضرين ومكتظة بالشباب . . .

الرجل الثري يُحترم ويعتنى به عناية بالغة لثروته ، أما الفرد المؤمن التقي الذي يعتبر ثروته الإِيمان والفضيلة ، فلا يملك واحداً بالمائة من إحترام ذلك الرجل .

إن نجمة سينمائية تمكنت ـ بخروجها بجسد نصف عريان وإتيانها حركات مهيجة ـ من إرضاء ميول المتفرجين وعندما دخلت بلدة أخذ الآلاف من الناس يتنافسون في الخروج لاستقبالها معتبرين النظر إليها فوزاً عظيماً وسعادة كبرى ، ولكن إذا دخل عالم في الأخلاق والتربية أو رجل مؤمن ورع يكون كلامه وأفعاله قدوة للعفة والصلاح إلى تلك البلدة فلا يخرج لاستقباله سوى أفراد قليلين يعدون بالأصابع . . .

ومحنة الكتب أشد ، فالكتب التربوية المفيدة والعلمية الصالحة لا تلقى إقبالاً من القراء ، بينما نجد أن القصص المهيجة والأشعار المغرية تنفد في فترة قصيرة ويعاد طبعها عدة مرات .


اختلال التوازن :

هذه الشواهد وعشرات من أمثالها ترينا أن التوازن بين الروح والبدن قد إختل في المدنية الحديثة . فالميول المادية والشهوانية تراعى ويدافع عنها ولذلك فقد اتسعت دائرتها ، وفي قبال ذلك نجد أن العواطف الإِنسانية والميول الروحية مفقودة ولا يبحث عنها أصلاً . هذا العمل إنما هو حرب صريح مع الفطرة ، ومخالفة مباشرة لقانون خلقة البشر . . . ومن البديهي إن الخروج على قوانين الكون لا يبقى خالياً من عقاب.

« إننا فقدنا جميع مقرراتنا الداخلية كما فقدنا تعاليمنا الدينية ، والأجيال الحاضرة تجهل حتى وجود مثل هذه القيم في الماضي . وهكذا فالعدالة ، الشرف ، الإِستقامة ، المسؤولية ، الطهارة ، العطف على الناس ، الشهامة . . . قد أضحت عبارات فارغة لا معنى لها ، وكلمات تقابل بالسخرية من قبل الشباب ، وإذا اتفق وأن رأينا منهم شوقاً نحو العقائد الدينية فذلك كاحترامهم للأشياء النادرة في المتاحف . إن الإِنسان الحديث لا يعرف لغير اللذة أساساً آخر لحياته وسلوكه » (١) .

إن الإِنسان لا يستطيع الاستمرار في حياته من دون أن يؤمن وسائل الحياة المادية ، فهو محتاج إلى الطعام واللباس والمأوى ، وإرضاء الميول الجسدية بحكم القضاء القطعي الإِلهي ، وعليه أن يسعى في سبيلها . . ولكن يجب أن لا ينسى أن المطاليب الفطرية للبشر ليست منحصرة في ميوله المادية فقط ، فإن ما يسبب الفضيلة والكمال للإِنسان ويفصله عن سائر الحيوانات هو ثرواته المعنوية وفضائله الروحية فمن أهمل الذخائر الروحية المودعة لديه فهو ( حيوان ) في لباس ( إنسان ) .

« لا يستطيع أحد أن ينكر أن البشرية تخضع لقوى منبثقة من الفكر

____________________

(١) راه ورسم زندگى ص ٦ .


والعقائد . وكانت نتائج بعض الفكر المجردة أن غيرت محيطنا وقلبته رأساً على عقب ( وهي العلوم التجريبية والميكانيكية ) ، وتركت أثراً كبيراً في حياتنا الفردية والاجتماعية . ولكن يجب البحث عن العواطف الباطنية والإِلهامات الفطرية في ضمن الفكر التي يمكن تسميتها بـ ( الفكر العَتَليّة ) (١) كالعقائد الأولية للطموح وحب الكمال والعقائد الدينية . وكل نظرية تغفل النظر إلى هذه الفكر ، وتسعى في سبيل « إيجاد الراحة المادية للبشر كما تفعل بقطيع من الأغنام فإن تلك النظرية تكون ناقصة ومنحرفة » (٢) .

حيوان في لباس إنسان :

ومن هنا يتضح أن المبادىء التي تبشر بها المدنية الحديثة لا ترمي إلا إلى خلق قطيع من الأغنام المتلبسة بلباس الآدميين .

والإِمام علي عليه‌السلام يشير إلى هذه النكتة في ضمن حديث له مع كميل بن زياد حول بعض الناس المنحرفين ، فيقول « . . . أو منهوماً باللذة سلس القياد للشهوة ، أو مغرماً بالجمع والإِدخار . . . ليسا من رعاة الدين في شيء ، أقرب شيء شبهاً بهما : الأنعام السائمة » (٣) .

فنرى كيف يشبه الإِمام هاتين الطائفتين ( المطيعون للشهوات ـ والمفتونون

____________________

(١) هكذا ورد في تعبير المؤلف . ولعل ذلك يرجع إلى العتلة . والمراد بالعتلات في بحوث الميكانيك من علم الفيزياء ، هو الآلات التي تستعمل لرفع وتحريك أجسام عظيمة بصرف جهود بسيطة . كما لو رفعنا صخرة كبيرة بواسطة وضع قضيب حديدي تحت ركن من أركانها وأسندنا ذراع القضيب إلى صخرة صغيرة مثلاً . ويجري قانون العتلات في البكرات المتسلسلة التي تخفض ثقل الأجسام إلى النصف بعدد البكرات ، وكثيراً ما نشاهد أمثلة ذلك في الرافعات ( السلينكات ) التي ترفع أجساماً ثقالاً بصرف جهود بسيطة . وعلى أي حال فالمراد من ( الفكر العتلية ) هنا هو الفكر التي يستعان بها في تيسير الحياة الهانئة السعيدة والصفاء الفكري بمجهود بسيط .

(٢) سرنوشت بشر ص ١٤٧ .

(٣) شرح نهج البلاغة للملا فتح الله ص ٥٥٠ ـ


بجمع المال ) بالحيوانات والبهائم حيث لا تظهر لهم عواطف دينية والتزامات عقيدية .

« إن الرقي الحقيقي للإِنسان الذي يوصل إلى الكمال ينحصر في العمل على تكميل النفس الإِنسانية وصقلها وتهذيبها ، لا في تطوير الوسائل والأدوات التي يستخدمها في ضمان راحته المادية . هذا المذهب الأخير هو مذهب الماديين الذي يجلب الخزي والعار للإِنسانية ، لأنه يبعد عن نظره أشرف الصفات في الإِنسان . وهذه الصفات فقط بإمكانها أن تضمن سعادته التي هو أرقىٰ من سعادة الأبقار المجترة . . . » (١) .

إحياء الانسانية :

إن هدف الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تعاليمه الدينية العالية هو إحياء الإِنسانية . إن الإِسلام يريد أن يحرك المواهب الباطنية والميول الفطرية في البشر ، وفي الوقت الذي يضمن له اللذائذ الجسدية يرشده إلى الكمالات الروحية والإِيمانية . فالإِنسانية لا تكمن في رغد العيش وضمان اللذائذ الدنيوية ، والإِنسان الذي ينسى نفسه ، ويغفل عن إمتيازاته المعنوية ، ويحاول أن يحصر نفسه بين جدران الشهوات الحيوانية . . . لا شك في أنه آخذ طريقه نحو التسافل مهما كانت حياته رغيدة وعيشته مطمئنة والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة في ضمن الآية التي إفتتحنا بها البحث فيقول : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . . . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) .

ديوان الفطرة :

إن الإِنسان خلق بحسب هذه الآية على أحسن صوره من الكمال الطبيعي ، فمن اتبع كتاب الخلقة وديوان الفطرة وعاش بثروة الإِيمان وطهارة

____________________

(١) سرنوشت بشر ص ١٧٣ .


العمل فعاقبته أنه يصل إلى أعلىٰ درجات الإِنسانية ، ومن حاد عن طريق الفطرة السليمة يتردى إلى أسفل سافلين .

وما أكثر أولئك الذين لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً ، يعيشون في بيوت حقيرة ، ومع ذلك فإن حبَّ الله القدير يعمر قلوبهم وتحيا فيهم السجايا الخلقية ، ويعيشون مثل ملائكة الجنة في غاية الطمأنينة والرفاه والاستقرار الروحي . . . . هؤلاء هم البشر الواقعيون الذين لا يفكرون في شيء غير الطهارة والفضيلة .

وعلى العكس فما أكثر أُولئك الذين يعيشون في القصور الضخمة لكن فقدانهم لعنصر الإِيمان وإنشغالهم بالرذائل يجعل قصورهم تلك جحيماً لا يطاق ، حيث نار الحسد والحقد والتشاؤم والأنانية تحرق أرواحهم ، والحرص والطمع والخيانة والجناية ترديهم إلى هوة سحيقة من الفساد والشقاء والبؤس .

ملجأ البشرية :

في مد الحياة وجزرها ، وفي إضطراباتها الروحية . . . يعتبر الإِتجاه إلى الله والإِيمان بالتعاليم الدينية أحسن ملجأ للبشرية . ومما يؤسف له أن المدنية الحديثة لا تقيم وزناً لهذه القيم والمثل ، وكثير من الشبان والشابات يلجأون إلى الخمر في يوم إندحارهم ورسوبهم ؛ أو ينتحرون .

« عزلت المادة نهائياً عن الروح . وحينئذ إتخذت التركيبات العضوية والآليات الفسيولوجية حقيقة أكبر كثيراً من التفكير والسرور والحزن والجمال . ولقد دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدىٰ إلى فوز العلم وإنحلال الإِنسان » .

« فإذا كان على الحضارة العلمية أن تتخلى عن الطريق الذي سارت فيه منذ عصر النهضة وتعود إلى ملاحظة المادة الجامدة ببساطة فسوف تقع أحداث عجيبة على الفور ستفقد المادة سيادتها ، ويصبح النشاط العقلي مهما كالنشاط الفسيولوجي ، وسيبدو أن لا مفر من دراسة الوظائف الأدبية والجمالية والدينية كدراسة


الرياضيات والطبيعة والكيمياء . وسوف تبدو وسائل التعليم الراهنة سخيفة . وسيسأل علماء الصحة عن السبب الذي يحدوهم إلى الإِهتمام فقط بمنع الأمراض العضوية دون الأمراض العقلية والاضطرابات العصبية ، كما سيسألون عما يجعلهم لا يبذلون إهتماماً بالصحة الروحية ولماذا يعزلون المرضى بالأمراض المعدية ، ولا يعزلون أولئك الذين ينشرون الأمراض العقلية والأدبية ، ولماذا يعتبرون العادات المتولدة عن الأمراض العضوية عادات ضارة دون العادات التي قد تؤدي إلى الفساد والإِجرام والجنون ؟ ! » (١) .

جسد الطفل وروحه :

إن الإِنسان عبارة عن الجسد والروح ، والمادة والمعنى . فالتربية الصحيحة والتامة عبارة عن إحياء جميع الميول المادية والمعنوية ، والمربي القدير هو الذي يلاحظ التوازن بين مطاليب الجسد ومطاليب الروح . فكما يعتني بسلامة جسد الطفل ، يجب أن يعتني بسلامة نفسه أيضاً . فيحاول أن يبذر في نفسه بذور الفضيلة والإِيمان من أولى أدوار حياته ليتربى تربية طاهرة صحيحة .

فكثير من العوارض النفسية والمآسي التي تؤدي إلى الأمراض الروحية والعقلية ، وقد تجر إلى الجنون أو الإِنتحار أحياناً . . إنما هي معلومة للإِنحطاط الخلقي والإِنحراف عن السجايا الإِنسانية . ومن المؤمل أن نبحث ـ بتوفيق من الله ـ في قسم منها في المحاضرات القادمة .

قلنا : إن الأساس الثاني لبحثنا في هذه المحاضرة هو أن المربي القدير يجب أن يسعى لدحر الميول المنحرفة والصفات البذيئة التي ورثها الطفل من أبويه ( كتربة مساعدة ) ، فيعمل على قمعها وإخفاء آثارها ، ويزرع مكانها ، البذور الصالحة للسلوك المفضل . فبعض الأطفال قد ورثوا الجبن ، البخل ،

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .


الكسل ، الخسة ونحوها من الصفات من أبويهم ، وهذه الصفات ليست من قبيل القضاء الحتمي والمصير القطعي الذي لا يقبل التغيير ـ كما سبق آنفاً ـ بل بإمكان التربية الناجحة والبيئة الصالحة أن تبعد الطفل عن المفاسد ، وترشده إلى طريق الفضيلة والطهارة .

كانت الجزيرة العربية قبل الإِسلام مصابة بأنواع الإِنحرافات الروحية والخلقية طيلة قرون متمادية ، حيث الرذائل متأصلة في جذور ذلك المجتمع كالخيانة والسرقة ، والعصبية والإِفساد ، والجبن والحمق ، وما أشبه ذلك . ومن البديهي أن أطفالهم يتولدون مع إستعدادات للسلوك غير المرضي مضافاً إلى أن البيئة الفاسدة كانت تساعد على نمو تلك الصفات الرذيلة وظهور الإِستعدادات الفاسدة إلى عالم التنفيذ .

أعظم مربي للبشر :

. . . ومع ذلك فإن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمل بفضل أساليبه التربوية الصالحة وتعاليمه الدينية العظيمة على قمع الصفات الرذيلة في نفوس أولئك الذين خضعوا لتربيته ، وزرع مكانها الصفات الحميدة والملكات الفاضلة .

يروي لنا التاريخ قصة الجيش البسيط الذي قدم به أبرهة من الحبشة إلى مكة لهدم بيت الله الحرام . ورأينا كيف أن أهالي مكة الجبناء خرجوا منها من فرط خوفهم ووحشتهم ولجأوا إلى سفوح الجبال ، ولم يجرأوا على المقاومة يوماً واحداً . ولكن الأساليب التربوية الدقيقة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غيرت أسلوب حياتهم تماماً . . . فنفس أولئك الناس الذين كانوا ضعفاء قبل مجيء الإِسلام ، أظهروا من الشجاعة والإِقدام والشهامة في ظل إرشادات النبي وفي كنف مدرسته التربوية العظيمة حيث صمدوا لأقوى دول العالم آنذاك ، واستطاعوا من أن يخوضوا أعظم الحروب ويفتحوا البلدان العظيمة ويرجعوا إلى أوطانهم فاتحين غانمين . . . وهكذا شأن جميع الصفات الرذيلة فقد إختفت من نفوسهم بفضل تعاليم الإِسلام وحلت محلها الصفات الحميدة والسجايا الخلقية الفاضلة .


أجل ! فالمربي القدير ـ يستطيع بفضل الأساليب الدقيقة ـ من قمع الصفات الشريرة وإحلال الصفات الخيرة محلها .

ولا يخفى أن الطفل كالنبتة الصغيرة ، حيث يمكن تصحيح سلوكه حسب البرامج الصالحة ، ولكن الذين اعتادوا على السلوك الفاسد طيلة سنوات عديدة ، إصلاحهم صعب جداً ، ويجب أن يتحمل المربي في سبيل ذلك أساليب متقنة وجهوداً عظيمة .

يقول الإِمام الحسن العسكري عليه‌السلام : « رد المعتاد عن عادته كالمعجز » (١) .

فالذي إعتاد الكذب طيلة أربعين سنة مثلاً يكون إصلاحة أصعب بكثير من الطفل الذي لا يزيد عمره على ثلاث سنوات . . . وإذا استطاع النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إصلاح كبار العرب وهدايتهم إلى الطريق الصحيح فإن مقدرته ( ومقدرة تعاليمه الرصينة ) على تربية الأطفال الذين يملكون عوامل مساعدة للفساد ، قد ورثوها من أبويهم تكون أسهل ، ونجاح تلك الأساليب أضمن .

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ١٧ ص ١٧ . ط طهران .


المحاضرة السابعة

العقل والحرية ـ تنمية المشاعر

قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (١) .

لقد تعرضنا في المحاضرة السابقة إلى بيان أن جميع الموجودات الحية في العالم تسير في طريقها المرسوم لها على أكمل وجه ، وذلك بفضل الهداية الفطرية الغريزية التي أودعها الله تعالى فيها ، حتى أن الخلية الصغيرة قد شملها هذا الفيض الإِلهي العظيم . والحيوانات لا تحتاج في وصولها إلى الكمال اللائق بها إلى معلم مربّ ، فهي في غنى عن التعليم والتربية .

والإِنسان ، وإن كان شطر مهم من نشاطاته المختلفة ثابتاً على أساس الهداية الفطرية ويسلك طريقة في ظلها . . . لكنه في شطر آخر منها محروم من هذه الهداية ، بل يجب عليه إكتساب المعرفة . فلو سئلنا عما يقوم مقام الهداية الغريزية بالنسبة إلى الشطر الثاني من نشاطات الإِنسان وجهوده ، فيجب أن نقول في الجواب : « العقل ! » .

____________________

(١) سورة الأنفال الآية : ٢٤ .


العقل بدل الغريزة :

فالإِنسان وإن كان أقل نصيباً من الحيوانات بالنسبة إلى الهداية الفطرية لكنه بدلاً عن ذلك يملك عقلاً يرشده إلى سبل السعادة ويوصله إلى الكمال اللائق به .

١ ـ يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « كفاك من عقلك ما أوضح لك سبل غيّك من رشدك » (١) .

أي أنه يكفي في قيمة العقل وعظمته أنه يميز للإِنسان طريق الضلال والشقاء عن طريق النجاة والسعادة . فبينما نجد في عالم الحيوانات أن المرشد لها إلى طريق سعادتها وكمالها هو الغريزة . يكون المرشد عند الإِنسان هو العقل .

٢ ـ قيل له عليه‌السلام : « صف لنا العاقل » قال : « هو الذي يضع الشيء مواضعه » (٢) . إن الحيوانات تضع كل شيء يرتبط بحياتها في موضعه دون أن تخطىء . ولكنها تقوم بذلك بدافع الهداية الفطرية أما الإِنسان فيقوم بهذا العمل بهداية العقل .

٣ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لكل شيء مطية ، ومطية المرء : العقل » (٣) . والمراد من المطية هو المركب الذي يصل به الراكب إلى أهدافه . فالحيوانات تطوي طريق سعادته بمركب القدرة الغريزية وتصل إلى غايتها أي كمالها اللائق بها ، أما الإِنسان فأنه يطوي طريق سعادته بواسطة مركب العقل .

٤ ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قوام المرء عقله » . إن نظام حياة الإِنسان قائم على العقل . بينما نجد نظام الحيوانات قائماً على الغرائز .

____________________

(١) نهج البلاغة ص ٦٠٦ .

(٢) المصدر السابق ص ٥٦٥ .

(٣) بحار الأنوار للمجلسي ج ١ ص ٣٢ .


المقارنة بين العقل والغريزة :

يختلف العقل والغريزة من جهات عديدة . ولكننا سنقارن بين هاتين القوتين العظيمتين الإِلهيتين من جوانب أربعة فقط : المناهج العملية والأساليب الغريزية في كل من الحيوانات تكون على نمط واحد ولا يوجد بينها إختلاف في ذلك . أما الإِنسان فأنه يملك أساليب مختلفة ومناحي متعددة في أفكاره ونشاطاته . فمثلاً نجد النحلة تعيش في مناطق عديدة من الكرة الأرضية ، وتعتبر الخلية بمنزلة دولة مستقلة لها ، فيوجد في كل منها ما يوجد في دولة منظمة من تنظيمات وقوانين . ولكنها متشابهة من حيث أن الأساس في تلك التنظيمات قائم على الهداية الفطرية والغرائز التي أودعها الله تعالى فيها . تتعين الملكة في جميع المناطق حسب شروط معينة متساوية والواجبات المقدرة لكل طائفة من النحل معينة حسب قانون الغريزة ، وكذلك الغرف فانها تبنى في جميع الخلايا على شكل سداسي . أما الحكومات البشرية فانها تدار حسب أنظمة مختلفة ، ولها منظمات خاصة وقد وضعت كل حكومة قانوناً معيناً لها ، والسر في ذلك هو أن الإِنسان لا يستند إلى الغريزية في نشاطاته ، بل يعتمد على العقل والتفكير . ومعلوم أن لكل شخص أو أمة أسلوبها الخاص في التفكير .

الغريزة وإدراكها للواقع :

لما كانت الغريزة عبارة عن الهداية الفطرية التي أودعها الله العالم الحكيم في الإِحياء فأنها لا تخطىء أبداً ، بل تعمل بعين البصيرة النافذة . أما العقل فأنه يجب أن يستعين بالمقدمات لاستخراج النتائج فقد يخطىء في المقدمات وقد يخطىء في كيفية الاستنتاج منها . وهناك العشرات من المؤثرات التي تترك آثارها على العقل ، مثل : الغضب والشهوة والعادات الإِجتماعية التقاليد العائلية . . . وهذه تنحرف بالعقل عن طريقه المستقيم فيحرم من إدراك الواقع والحقيقة في النهاية .

فما أكثر السيئات الحقيقية التي تضر بالسعادة الإِنسانية ومع ذلك فهي محبذة ومحبوبة لدى بعض الأمم . وعلى العكس فما أكثر الحسنات التي تعين


الإِنسان في وصوله إلى السعادة والكمال ومع ذلك فهي مذمومة ومهجورة عند بعض الأمم . وإذا كان العقل وحده كافياً في معرفة الحقائق وأراءة طريق السعادة والشقاء لما كانت هناك حاجة لإِرسال الأنبياء لهداية البشر وتكليف الناس بإطاعتهم (١) .

يقول الإِمام موسى بن جعفر عليه‌السلام لهشام بن الحكم ضمن حديث طويل « يا هشام ، إن لله على الناس حجتين : حجة ظاهرة وحجة باطنة . فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأما الباطنة فالعقول . . . » (٢) .

اختلاف البشر :

إن عدم نضج العقل البشري طوال القرون المتمادية هو الذي سبب إختلاف الناس في كيفية تعيين مناهج حياتهم ومعرفة طريق سعادتهم . وقد تؤدي هذه الإِختلافات إلى مطاحنات ومشاحنات عظيمة . ومفاسد لا تجبر .

والعالم المتحضر ـ بالرغم من النجاحات العلمية والعملية الباهرة التي أحرزها ـ لم يكن بعيداً عن هذا البؤس ، فهو لا يزال يحترق في نار الاختلافات العقيدية وبذلك يعرض السلام العالمي والأمن العام إلى أعظم الأخطار في كل آن . ومن أبسط الأمثلة على ذلك أننا نرى اليوم أن الشيوعية قد صارت سبباً في أعظم وأخطر الانشقاقات الفكرية ، فهناك الملايين من العقلاء والمثقفين والجامعيين يعتقدون بأن طريق السعادة الإِنسانية منحصر في تطبق النظام الشيوعي ، وأنه إذا قدر لهذا النظام أن يسود العالم يوماً وتطبقه جميع الأمم والقوميات في العالم فإن البشرية ستصل إلى أوج عظمتها ، وستضمن لها سعادتها وكمالها اللائق بها . وللوصول إلى هذا الهدف يجب السعي بكل جهد لإِزالة الموانع ـ الواحدة بعد الأُخرى ـ وكذلك يجب العمل لبث الفكرة بمختلف وسائل الدعاية والإِعلان ، فلربما يشمل هذا الفيض العظيم العالم كله ، وتكون

____________________

(١) للتفصيل في هذا الموضوع يراجع فصل ( ما حاجتنا إلى الأنبياء مع وجود العقل ؟ ! ) من كتاب ( دفاع عن العقيدة ) للمترجم .

(٢) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ١ ص ١٦ ، ط طهران .


النتيجة تطبيق السعادة على الناس كلهم في أرجاء المعمورة ! ! ! .

. . . وفي قبال هؤلاء يوجد ملايين العقلاء والعلماء والمثقفين والجامعيين يعتقدون بأن الشقاء والبؤس والإِنحطاط يتمثل في النظام الشيوعي ، والنسبة طردية بين إنتشار هذا النظام في العالم وفقدان الراحة والسعادة من الإِنسانية ، فالشيوعية تعني دمار الإِنسانية كلّها ، والنظام الشيوعي معناه خنق الحرية وكبتها ، والمذهب الشيوعي يعني قتل الأخلاق والفضيلة . . ويجب العمل بكل الجهود لإِحباط مساعي الشيوعيين ولمحاربة هذا النظام الخبيث ، وقلع جذوره التي تعمل على هدم الإِنسانية وخنق الحرية وقتل الأخلاق . ويجب إستخدام جميع أجهزة الدعاية والإِعلان لمحو هذا المبدأ الهدام ، والداء الوبيل الذي يكمن الخطر فيه أكثر مما هو في الطاعون والهيضة ، وبذلك ينجو البشر من هذه الفكرة الفاسدة القذرة . . . وفي ذلك اليوم فقط يمكن الإِطمئنان إلى سعادة البشرية ! ! ! .

قصور العقل :

لا مجال للشك في وجود هذا الإِختلاف الفكري بين عقلاء البشر كماهو واضح لأدنىٰ متتبّع . . . ومرد ذلك كلّه إلى قصور العقل عن إدراك الواقع . فإذا كان العقل في الإِنسان ينفذ إلى الحقائق ويدرك الواقعيات كما هو الحال بالنسبة إلى الغريزة في الحيوانات ، كان يستحيل وقوع البشرية في أمثال هذه الإِختلافات والمطاحنات . . . وهذا هو السر في إرسال الأنبياء من قبل الله ، فأنهم جاؤا لجبران قصور العقل ، ليقولوا الكلمة الحقة في موارد الاختلاف ، ويثبتوا الحقيقة الساطعة في المنازعات وبذلك ليخلصوا البشرية من ورطة الجهل وحيرة الضلال :

( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . . . ) (١) .

____________________

(١) سورة البقرة ؛ الآية : ٢١٣ .


لقد رأينا كيف أن الحيوانات تدرك الواقعيات المرتبطة بها عن طريق الغرائز التي تمثل الهداية الفطرية لله تعالى إياها ، لكن الإِنسان لا يستطيع أن يدرك الواقعيات التي توصله إلى السعادة عن طريق العقل دائماً ، بل عليه أن يعتمد على الهداية التشريعية ـ التي تتمثل في تعاليم الأنبياء ـ ليتمكن من إدراك الطريق المستقيم والمنهج الحقيقي للسعادة . . .

هذا هو أول أوجه الفرق بين العقل والغريزة ! .

حرية العقل :

٢ ـ أما النقطة الثانية التي يختلف فيها العقل عن الغريزة فهي أن الغريزة تعمل بصورة جبرية ولا يملك صاحب الغريزة في الأفعال الغريزية أية إرادة أو إختيار ، فالنحلة مجبرة على أن تبني بيتها بشكل سداسي ، مستخدمة في ذلك الشمع كمادة إنشائية . ولا يحق لها أن تحدث أي تغيير في هذا العمل كما نجد أن الإِنسان ـ بحكم غريزته ـ يبلغ في وقت معين وتبدو الرغبة الجنسية فيه من دون إرادته وإختياره . . . لكن الأحكام العقلية تجري بإرادة الإِنسان وإختياره ، وهو حر في تنفيذ أوامر العقل أو عصيانها . وهذه الحرية هي أعظم مائز للبشر بالنسبة إلى جميع الموجودات في عالم الأحياء .

إن القرآن الكريم يشير إلى حرية الإِنسان في مواضع عديدة ويعتبرها من الودائع الفطرية في بناء الإِنسان . وهنا لا بأس من الإِستشهاد ببعض تلك الآيات في ضمن الفقرات التالية : ـ

الحرية الفطرية :

يقول تعالى : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ . . . ) (١) .

أي أننا خلقنا الإِنسان من نطفة خليطة من الرجل والمرأة ، ثم نمتحنه . . .

____________________

(١) سورة الدهر ؛ الآية : ٢ .


وإذا نظرنا إلى الحيوانات ، وجدنا أنها هي أيضاً تتكون من خليط من نطفة الذكر والأنثى . فالخلية الأولى للخروف أو الأرنب إنما هي خليطة ( أمشاج ) ، وبذلك تشبه الإِنسان . . . إلا أنه ألحق كلمة ( نبتليه ) بعد كلمة ( أمشاج ) بالنسبة إلى الإِنسان ، وهذه عبارة عن فصل مميز بين الإِنسان وسائر الحيوانات ، وذلك لأن الإِختبار إنما يصح عندما يكون الشخص المختبرَ مالكاً للحرية والاختيار . فمثلاً لا يمكن أن يقال بالنسبة إلى الشخص المسجون في سجن لوحده والمراقبة مشددة عليه : أنه يُمتحن ليرى هل يسرق أم لا ؟ . لأنه غير قادر على السرقة في محيط السجن فيجب أن يخرج من محيط السجن الضيق ويتجول بين المجتمع بحرية كي يعرف أنه سارق أم لا .

إن الخروف والأرنب وغيرهما من الحيوانات ، قد تكونوا من نطفة أمشاج أيضاً ، ولكن لا يوجد إمتحان بالنسبة إليهم ، لأنهم مسجونون في سجن الغرائز ، ولا يملكون إختياراً من أنفسهم ، والإِنسان هو الذي تخلق خليته الأولى ونطفته الأصلية منذ اللحظة الأولى على أساس قابليته للاختبار والحرية وأوجد مع ملاحظة إحتوائه على الإِرادة والاختيار .

وبهذا الصدد يقول الله تعالى : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) (١) .

فالإِنسان فقط هو الذي يستطيع أن يشكر نعمة الهداية الإِلٰهية بحرية ويؤدي واجبه على أحسن صورة أو يكفر بالنعمة وينحرف عن طريق الحق والإِستقامة .

وبالرغم من أن الحيوانات تملك أيضاً نصيباً وافراً من نعمة الهداية الإِلهية ، فلم يرد في حقها ( إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ) . . . وهي علامة الحرية وسمة الإِختيار . فأنها مجبرة على إتباع المنهج الفطري الإِلهي دون زيادة أو نقصان ، ولذلك يقول الله تعالى : ( مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي

____________________

(١) سورة الدهر ؛ الآية : ٣ .


عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١) .

الصراط المستقيم :

هذا الصراط المستقيم هو الذي شرعه الله في الكون ، وكل الدواب تسير على هذا الطريق السوي . . . والطريق الذي شرعه نبي الإِسلام العظيم هو صراط الله المستقيم أيضاً ، فلله هداية فطرية وهداية تشريعية ، وكلتاهما تمثلان الصراط المستقيم في هذا الكون ، مع فارق بسيط هو أن الحيوانات لا تملك إختياراً في سلوكها طريق الهداية الفطرية ، بينما البشر حر في إتباع الهداية الشريعية وعدم إتباعها : ( وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ) (٢) .

إن القرآن يقوم بنصيحة بني الإِنسان الأحرار في سلوك طريق السعادة ويخاطبهم بقوله : إن هذا هو صراطي المستقيم فاسلكوه ولا تتفرقوا في السبل التي تبعدكم عن جادة الحق وطريق الفطرة فتقعون في التيه .

إن للإِنسان والحيوان كليهما صراطاً مستقيماً في طريق تكاملهما الصراط المستقيم الذي يسلكه الحيوان تكويني ، والصراط المستقيم الذي يسلكه الإِنسان تشريعي . وكلا الطريقين معينان من قبل الله تعالى .

والفرق بينهما أن الحيوان مجبر في سلوكه طريقه التكويني ولكن الإِنسان مختار في ذلك . ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) (٣) .

في هذه الآية نجد أن الله تعالى يعبّر عن الهداية الغريزية للنحلة بالوحي . إن هذه الحشرة الصغيرة تلقت برنامج عملها عن طريق الوحي الإِلهي وفي مقام التنفيذ نجدها مجبرة على إتباع الإِلهام الإِلهي خطوة أثر خطوة دون أي تخلف .

____________________

(١) سورة هود ؛ الآية : ٥٦ .

(١) سورة الأنعام ؛ الآية : ١٥٣ .

(٢) سورة النحل ؛ الآية : ٦٨ .


الهام الخير والشر :

والإِنسان يتنعم من فيض الإِلهام الإِلهي ، فقد ألهمه الله الخير والشر . . . ( فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) ولكنه على العكس من النحلة حر في تنفيذ الإِلهام الإِلهي والجري على طبقة . فله الحرية الكاملة في أن يتبع قوانين الله وأحكامه فينال بذلك السعادة والكمال ، أو يتخلف عنها فيقع في ورطة الشقاء والفساد : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (٢) .

إن جميع الموجودات الأرضية والسماوية تقف ـ بحكم قانون الفطرة ـ وقفة الخضوع والعبودية أمام خالقها العظيم ، ولا يتخلف أحد منها عن هذا الواجب التكويني ، ولكن بعض أفراد البشر نجدهم يخرجون ـ بسوء إختيارهم وإساءة التصرف إلى حريتهم ـ عن هذا الواجب . . . فالبعض يؤدون هذا الواجب وهو الخضوع أمام خالقهم العظيم بحرية ، وآخرون يخرجون عليه بحرية أيضاً . ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ) (٣) .

فنجد تعبير القرآن الكريم هنا حيث يتحدث عن الموجودات الأرضية والسماوية وجميع ما في الطبيعة من نبات وجماد وحيوان يقول بأنهم جميعاً يسجدون لله ، لكنه حين يصل إلى الإِنسان فيقول إن كثيراً منهم يسجد وطائفة كثيرة أيضاً تستحق العذاب . . . .

حسن الاختيار :

للإِمام موسى بن جعفر عليه‌السلام حديث طويل حول العقل والعاقل مع هشام ابن الحكم ، وأول فضيلة يذكرها للإِنسان العاقل ، عبارة عن حريته وحسن إختياره . فهو يقول : « يا هشام : إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في

____________________

(١) سورة الشمس ؛ الآية : ٨ .

(٢) سورة الشمس ؛ الآية : ٩ .

(٣) سورة الحج ؛ الآية : ١٨ .


كتابه فقال : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (١) .

إن الحرية المطلقة والاختيار الكامل الذي لا يحده شرط أو قيد إنما يختصان بذات الله فقط : ( كَذَٰلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ) (٢) .

لقد أراد الله للحيوانات عند خلقها أن تكون فاقدة للإِرادة والاختيار وأن تطبق مراسيم الهداية التكوينية بدون أي اعتراض ، لكنه تعلقت إرادته في مورد خاص أن يخلق موجوداً مالكاً للإِرادة والاختيار ، ويمنحه شيئاً من الحرية والقدرة . . . فخلق الإِنسان ووهبه العقل ، وأبصره بطريق السعادة والشقاء ، وأعطاه الحرية في مقام العمل ، حتى يستطيع الذهاب إلى أي إتجاه أراد باختياره .

وهب أن بنية الإِنسان تتكون من نفس العناصر الأولية لهذا العالم وبالرغم من أنه يشترك مع عالم النبات والحيوان في صفات طبيعية كثيرة ولكنه يمتاز عنها بميزة تجعله لائقاً لتحمل مسؤولية الحرية والإِختيار . ففي الإِنسان توجد ثروة خاصة . وكنز إلهي دفين ، وشعلة نيرة ، وروح سماوية تجعله يرتقي على جميع الموجودات في الطبيعة .

يتحدث الله تعالى في القرآن الكريم للملائكة عن إرادته لخلق الإِنسان فيقول : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ، فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (٣) .

روح الله :

نعم هذه روح الله تعالى . . . فمتى تمت تسوية بناء هيكل الإِنسان ونفخ الله تعالى فيه من روحه وجب على الملائكة أن يسجدوا له . إن تسوية الهيكل ليست مختصة بالإِنسان ، بل هي موجودة في جميع الموجودات . إن الله تعالى

____________________

(١) الكافي ج ١ص ١٣ .

(٢) سورة آل عمران ؛ الآية : ٤٠ .

(٣) سورة الحجر ؛ الآية : ٢٩ .


يقول في خلق السماء : ( رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) (١) . وبالنسبة إلى نبات الأرض يقول : ( وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ) (٢) .

إذن : فالشيء الذي يختص به الإِنسان ، ويسبب له العظمة والرقي والكمال هو الحقيقة المجهولة التي يعبّر الله تعالى عنها بروحه .

« عن محمد بن مسلم ، قال : سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي ) قال : روح إختاره وإصطفاه وخلقه وأضافه إلى نفسه ، وفضله على جميع الأوامر فأمر فنفخ منه في آدم » (٣) .

« عن أبي بصير عن أبي جعفر في قول الله عز وجل : « ونفخت فيه من روحي قال : من قدرتي » (٤) . فنجد الإِمام الباقر عليه‌السلام يعبّر عن روح الله في هذا الحديث بالقدرة الإِلهية .

قابلية الائتمار والانتهاء :

لقد منح الإِنسان شيئاً من قدرته ومشيته المطلقة ، وبعد خلق آدم ظهرت أولى مظاهر القدرة والإِختيار والحرية في توجه الأمر والنهي إليه من قبل الله .

( وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ، وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) (٥) .

الأمر والنهي ، كل ولا تأكل ، إفعل ولاتفعل . . . كل ذلك يمكن تصوره في فرض الاختيار والإِرادة فقط . وإنما يقال للرجل ظالماً حيث يملك الحرية في العمل ويخرج على القانون بإرادته .

____________________

(١) سورة النازعات ؛ الآية ٢٨ .

(٢) سورة الحجر ؛ الآية ١٩ .

(٣) تفسير البرهان ص ٥٥٧ .

(٤) تفسير البرهان ص ٥٥٨ .

(٥) سورة البقرة ؛ الآية : ٣٥ .


ونستنتج من استعراض النماذج السابقة : إن الإِنسان يمتاز بمكانة خاصة من جهة الإِرادة والاختيار . فالحيوانات تنقاد للهداية التكوينية دون أي قيد أو شرط ، وتنفذ أوامر الغرائز الكامنة فيها بجبر ودون أي قدرة على الخروج . لكن الإِنسان حر في تنفيذ أوامر العقل . وهنا يجب أن لا نغفل نقطة مهمة هي : إن جسد الإِنسان وروحه ، صورته ومعناه ، عقله وإرادته ، وبصورة موجزة : ذاته وجميع صفاته في قبضة القدرة الإِلٰهية . إنه مخلوق وجد بإرادة الخالق القاهرة ، إنه موجود تمتع بالوجود بفضل إرادة موجده ، وإن وجوده قائم به . والحرية الحقيقية ، والإِختيار الكامل إنما يكونان للخالق العظيم الذي تكون ذاته المقدسة وصفاته الكمالية قائمة بذاته الأزلية ، والذي لا يحتاج إلى أحد ، في حين أن الجميع يحتاجونه ، وعلى هذا فإن الإِنسان ليس مجبراً ولا مكتوف اليدين في أعماله لأن أفعاله مستندة إلى العقل والإِرادة وليس أسيراً للغرائز كسائر الحيوانات ، ومن جهة أُخرى فليس الإِنسان مختاراً مطلقاً وحراً بلا قيد أو شرط لأنه هو وحياته وجميع صفاته قائمة بذات الله تعالى ، والمختار المطلق والقادر الحقيقي هو الله القائم بذاته ، والإِنسان واقع في مرحلة وسطى بين المختار المطلق والمجبر المطلق.

يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام : « لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمر بين أمرين » (١) .

« . . . عن أبي الحسن الرضا ، قال : قلت له : إن أصحابنا بعضهم يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة . فقال لي : أكتب ، قال الله تعالى : يا ابن آدم ، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوتي أديت إلي فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي » (٢) .

يستفاد من كلام الإِمام الرضا عليه‌السلام أن الإِنسان ليس مجبراً ، لأنه يعمل باختياره ولكن إختياره يستند إلى الإِفاضة الإِلهية ، فهو يملك إرادة بإرادة الله ويملك قدرة بقدرة الله ، والعبارة الجامعة في هذا المقام هي الجملة التي يقولها

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ٣ ص ٦ .

(٢) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٤٤ .


أكثر المصلين في صلاتهم . . . ( بحول الله وقوته أقوم وأقعد ) .

إذن فالنقطة الثانية التي يختلف فيها العقل عن الغريزة هي أن أوامر الغريزة تنفّذ بصورة جبرية ، بينما نجد أن الإِنسان حر في الإِنقياد إلى أوامر العقل .

التكامل اللامحدود :

٣ ـ هناك فرق كبير بين الغرائز والعقل ، وهو أن عدد الغرائز محدود وللتكامل الناشيء من الغرائز حد ثابت لا تتجاوزه ولكن الإِنسان يستطيع التدرج في مراتب الكمال ـ بفضل عقله وحريته ـ بدون أن يحد ترقيه حد معين ، وكلما يتقدم يجد مجال التقدم والتكامل أمامه مفتوحاً . ولهذا السبب فإن المجتمع الإِنساني كان ولا يزال يخطو الخطوات الواسعة في مجال التقدم في ظل عقله وتفكيره ، مبتكراً في كل فن آلاف التحولات والتطورات في شؤون الحياة المختلفة . أما الحيوانات السجينة في قلعة الغرائز فأنها باقية في نفس الحد الذي كانت عليه قبل عشرات القرون ولم ترفع خطوة واحدة في سبيل الترقي والتكامل الجديد .

وبالرغم من أن الحيوانات مصونة من التعرض للإِنحراف والخطأ بفضل غرائزها ، لكن الإِنسان معرض للخطأ والاشتباه مرة بعد أُخرى ، وهب أن الغرائز توجد أشد التنظيم وأدقه في حياة الحيوانات ، ولكن الإِنسان لم يصل ـ لحد الآن ـ إلى تنظيم حياته الاجتماعية والعقلية بشكل متشابه لما هو موجود في غرائزه . . . بالرغم من هذا كله فأن قيمة العقل لا يمكن أن تقاس مع الغريزة . إن الآلة الحاسبة تجيب على العمليات الحسابية بسرعه وانتظام وليس في مقدور أحد من بني الإِنسان أن يحل المسائل بتلك السعة والسرعة ، ولكن لا تستطيع الآلة الحاسبة أن تتعدي العمليات المحدودة الخاصة بها ، وكذللك الغرائز الحيوانية فشأنها شأن الآلة الحاسبة في السرعة والمحدودية. إن ميزة العقل البشري على الغرائز الحيوانية هي بقدر ميزة عقل المهندس المخترع للآلة الحاسبة على الآلة نفسها ، إن النتائج الحاصلة من الآلة الحاسبة ليست ناشئة من الفكر والتدبر ،


وكذلك الحيوانات فان أفعالها ليست على أساس الروية والتفكير :

« إن الحيوانات بالرغم من جهلها بنفسها وبيئتها ، تجد طريق الوصول إلى مسالك الحقيقة بدقة عجيبة ، أما الإِنسان فليس كذلك . وكأن الحياة إتخذت للتكامل في العالم طريقين مختلفين : أحدهما الغريزة والآخرة الذكاء والإِرادة » .

« إن جميع الموجودات ما عدا الإِنسان تملك شيئاً من العلم الفطري عن العالم وأنفسها . هذه الغرائز تقودها بشكل دقيق تماماً للوصول إلى الحقيقة . وعليه فلا تملك حرية خداعة . إن الموجودات التي تتميز بالعقل هي التي تخدع وتقبل التكامل في النتيجة . أما الحشرات فهي على عكس ذلك ، تتميز بنظام جماعي ثابت لم يطرأ عليها التغيير منذ عشرات الآلاف من السنين وحتى اليوم » .

« إن أنثى الكلب ـ على العكس من أنثى الإِنسان ـ لا تخطىء في مراقبة صغارها أبداً ، الطيور تعرف متى يجب أن تبني أعشاشها . والنحلة تعرف المواد الضرورية للملكة أو العمال أو الحرس . إن الحيوانات لا تملك حرية وذلك لأتوماتيكية الغريزة ، ولذلك فهي لا تستطيع أن تعيش كما يعيش الإِنسان متمتعاً في أسلوب حياته بإرادته وحريته . إن الإِنسان لا يعرف بعد كيفية إدارة نفسه ، ولم يوفق أبداً لبناء تمدّن معتدل وكأن الشعور الإِنساني لم يصل إلى تلك الدرجة من الكمال التي يستطيع بها أن ينظم حياته الإِجتماعية بنسبة الدقة الموجودة في تنظيم الغريزة لتجمع النحل . وعليه فأن جهودنا يجب أن تبذل بصورة رئيسية في دعم رصيدنا الروحي » (١) .

____________________

(١) راه ورسم زندكي ص ٢٨ .


أثر التربية في الحيوان :

هناك بعض الحيوانات مثل الخيل والكلاب والقردة تملك شيئاً من الذكاء . ويمكن إخضاعها للتربية إلى درجة ما . والمربي يستطيع أن يعلمها قسطاً من الصفات . ولكن العقل الذي هو منشأ الترقي والتكامل العلمي ورصيد التفكير يختص بالإِنسان . ولهذا السبب فأن التربية مؤثرة إلى درجة ما في الحيوانات الراقية . مما لا شك فيه أنه لا يمكن تربية الحصان بشكل يستطيع معه يوماً أن يشترك في المؤتمر الأعلىٰ للبحوث الذرية في الجامعة ويتحدث عن كيفية تحطيم النواة المركزية للذرة . والكلب مهما تربى بصورة فائقة فأنه لا يستطيع أن يبحث عن سرطان الدم وأساليب علاجه . فالحيوان مهما كان راقياً وذكياً يحذو حذو غريزته في الحياة دائماً ولا يملك أدنىٰ قدرة على التخلف عن الهداية التكوينية له .

« بالرغم من كون الغريزة عند الحيوانات الراقية كالقرود والفيلة والكلاب محاطة بهالة من الذكاء فإن الغريزة هي الحاكمة والمسيطرة في الأفعال الحيوية الرئيسية لها » (١) .

يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام في حديثه إلى المفضل : « تأمل خلق القرد وشبهه بالإِنسان في كثير من أعضائه أعني الرأس والوجه والمنكبين والصدر وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضاً بأحشاء الإِنسان ، وخص مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومىء إليه . . . أن يكون عبرة للإِنسان في نفسه ، فيعلم أنه من طينة البهائم وسنخها . إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب . ولولا فضله الله بها في الذهن والعقل والمنطق كان كبعض البهائم . والفصل الفاصل بينه وبين الإِنسان بالصحة هو : النقص في العقل والذهن والنطق » (٢) .

نعود فنقول إن الفرق الثالث بين العقل والغريزة هو أن الإِنسان يواصل سيره التكاملي في ظل العقل والتفكير ، بينما الحيوان محصور في قلعة الغرائز

____________________

(١) راه ورسم زندگى ص ٢٨ .

(٢) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢ ص ٣٠١ .


إن الحيوانات التي تملك شيئاً من الذكاء والفطنة تقبل التربية إلى درجة ما . ومع ذلك فأن حياتها قائمة على أساس الغرائز الفطرية .

تنمية الأفكار :

٤ ـ والفرق الرابع بين العقل والغريزة هو : أن الغرائز تصل إلى مرحلة الفعلية مع النمو الطبيعي للحيوان . ولا تحتاج في ذلك إلى التربية والتعليم . أما العقل فأنه ينمو على أثر التوجيهات الصحيحة في التعلم والتربية ويظهر كماله الباطني بصورة تدريجية ، وينتقل من القوة إلى الفعلية وبعبارة أُخرى : فأن العقل يصل إلى حياته اللائقة به في ظل التوجيهات اللازمة وإذا فقد التنمية الصحيحة ولم يقع في طريق التفكير السليم فأنه يموت ويفقد أثره . إن الهدف الأول للأنبياء ـ ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخصوص ـ هو إحياء العقل وتنمية أفكار الناس : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) .

فها هو القرآن يدعونا إلى تلبية أوامر الله والرسول وتطبيق تعاليمه . إن كل ما كان يحدث عند الجاهلية من شرك وعبادة للأصنام وإرتكاب للجرائم وَوأد البنات كان نتيجة قتل العقل وإطفاء نور التفكير .

يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إن للجسم ستة أحوال : الصحة والمرض والموت والحياة والنوم واليقظة . وكذلك الروح : فحياتها علمها وموتها جهلها ، ومرضها شكلها ، وصحتها يقينها ، ونومها غفلتها ، ويقظتها حفظها » (١) .

فالسعادة تكون لمن كانت روحه حية بالعلم ، وسالمة باليقين ، ويقظة بالتنبّه . إن الإِسلام يعتبر التفكير واستخدام العقل والتدبر في عوالم الطبيعة أعظم العبادات . وقد وردت بهذا الصدد آيات وروايات كثيرة ، كان الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يوصي ولده الحسن عليه‌السلام فيقول : « لا عبادة كالتفكر في صنعة الله عز وجل » (٢) .

____________________

(١) البحار ج ١٤ص ٣٩٨ .

(٢) سفينة البحار للقمي مادة ( فكر ) ص ٣٨٢.


لكي يصل الإِنسان إلى الكمال الإِنساني ، عليه أن يفكر ، يحيي عقله ، يتدبر في آثار خلق الله . . . ويصل عن هذا الطريق إلى أوج الرقي المقرر له .

*  *  *

نستنتج مما سبق : إن دليل الحيوان في حياته هو الغريزة ، ودليل الإِنسان هو العقل ، الكمال الناشيء من الغريزة ثابت دائماً ويسير على وتيرة واحدة . أما العقل فأنه يقود الإِنسان إلى كمالات وترقيات جديدة . الغرائز لا تحتاج إلى التعهد والتربية وتظهر لوحدها ، أما العقل فيجب أن يصل إلى مرحلة الفعلية عن طريق التربية الصحيحة .

العواطف والمشاعر :

يجب علينا أن لا نغفل حقيقة مهمة : وهي أن سعادة الإِنسان ليست مرتبطة بتكامل عقله فقط فهناك ثروة أُخرى في كمين الإِنسان بالإِضافة إلى العقل ألا وهو العاطفة . إن ما لا شك فيه هو أن الشعور العاطفي يجب أن تراقب رعايته بالصورة الصحيحة شأنه في ذلك شأن العقل . فالعقل والعاطفة يجب أن يسيرا في طريق الكمال المنشود كتفاً لكتف . وفي ظل هاتين القوتين العظيمتين يستطيع الإِنسان أن ينال مقامه اللائق به .

ومع أننا سنتطرق بالتفصيل إلى البحث عن العواطف وقيمة المشاعر في المراحل التربوية وجميع شؤون الحياة في البحوث القادمة ، لكننا هنا نذيّل بحثنا عن العقل ببعض الجمل عن العاطفة وأهميتها بصورة موجزة .

دور العقل والعاطفة :

يلعب العقل دور الدليل المرشد في ضمان سعادة الإِنسان ، ولكن الطاقة المحركة له هي العواطف والمشاعر . العقل في الحياة يشبه العدل في كونه ضرورياً للمجتمع . ولكن العقل والعدل كليهما أمران صارمان لا يملكان مرونة وحناناً . أما اللحام الذي يربط بين أجزاء المجتمع ويوجد الأخاء والحب بينها فهو العاطفة . لقد ورد ذكر العدل والإِحسان معاً في القرآن الكريم ، فهو يأمر


بهما معاً : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) (١) .

والمجتمع يحتاج في تحديد حقوق الأفراد ، وتعيينها إلى العدل ، ولكن بالعاطفة والإِحسان يروي ظمأ المجتمع من الحب والحنان ، إن غذاء العقل هو العلم ، وغذاء العواطف هو الأخلاق والفضيلة . ومما لا شك فيه أن العقل هو أساس السعادة الإِنسانية ، ولكن الإِنسان يبحث عن محبوب آخر يمنحه الطاقة الحرارية ويسبب له الحيوية والنشاط والرفاه ، ذلك هو العاطفة . إن جميع التضحيات ، ومظاهر الأيثار ، الحب والحنان ، الشفقة والمساعدة الحب والوفاء . . . كل ذلك ينبع من المشاعر العاطفية .

« لايوجد أحد يضحي بنفسه في سبيل الحقيقة العلمية تماماً . إن الجدران المرتفعة على أساس الجهل والتماهل والكسل لا تتحطم بالمنطق أبداً . إن ما يدفع الإِنسان إلى العمل هو العقيدة لا المنطق . إن العقل لا يستطيع أن يمنحنا قوة الحياة طبقاً لطبيعة الأشياء ، إنه يرشدنا إلى الطريق فقط ولا يدفعنا إلى الأمام أبداً . نحن لا نقدر على التغلب على العوائق التي في طريقنا ما لم تنبعث من أعماقنا موجة من العواطف ، والحب فقط هو الذي يستطيع تهديم الحواجز العالية الضخمة التي تخفي خلفها إثرتنا وأنانيتنا ، ويشعل فينا لهيب الشوق والعشق ويجرنا بأسارير مفتحة إلى طريق التضحية المؤلم . إن مطالعة كتاب في الحقوق لا يبعث فينا الشوق والرغبة » (١) .

تزكية النفس :

وكما يسعى الإِنسان في سبيل إحياء مواهبه الفكرية ، وإدراك الحقائق العلمية ويحرز تقدماً جديداً في كل يوم . . . عليه أن يسعى في سبيل تزكية نفسه وتطهيرها أيضاً . يحيي بذلك إنسانيته ، ويرضي عواطفه النبيلة بالفضائل

____________________

(١) سورة النحل ؛ الآية : ٩٠ .

(٢) راه ورسم زندگى ص ١١٣ .


الأخلاقية . إن المجتمع الذي يقوم على العلم فقط ويكون فاقداً للفضيلة والأخلاق لا يطاق . لأنه لا يوجد في ذلك المجتمع إطمئنان وإرتياح بال والناس يكونون كراكبي سفينة في وسط بحر هائج يشعرون بخطر الغرق والسقوط في كل آن . وبغض النظر عن الجانب الديني فإن الفضائل الخلقية والملكات الطاهرة من الضروريات الحيوية لمجتمع سعيد فاضل .

« عن علي عليه‌السلام أنه قال : لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطالب بمكارم الأخلاق ، فأنها مما تدل على سبيل النجاح » (١) .

إن شطراً مهماً من سعادة المجتمع مرتبط بالفضائل الخلقية ، كما أن شطراً مهماً من شقاء المجتمع وفساده له إرتباط وثيق بالإِنحطاط الخلقي والصفات البذيئة . يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « رُبَّ عزيز أذلَّه خلقه ، وذليل أعزه خُلقُه » (٢) .

وعن الإِمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : « حسن الخُلق يزيد في الرزق » (٣) . وعن الإِمام علي عليه‌السلام : « في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق » وعنه أيضاً : « حسن الخلق خير رفيق » .

إن من أهم الخصائص الكبرى التي يمتاز بها الأنبياء ، والتي كانت السبب المباشر في تأثيرهم في المجتمع ونفوذهم الى عقول الأفراد وأفكارهم هي ملكاتهم الطاهرة وسجاياهم العظيمة : « إن الله خص الأنبياء بمكارم الأخلاق » (٤) . وبهذا الصدد جاء الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذاكراً الهدف الأسمى من بعثته وظهوره بين ظهراني المجتمع الجاهلي آنذاك قائلاً : « بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » (٥) .

____________________

(١) آداب النفس للسيد محمد العيناثي ج ١ص ٢٦ .

(٢) سفينة البحار للمحدث القمي مادة (خلق) ص ٤١١ .

(٣) المصدر نفسه .

(٤) المصدر السابق ص ٤١٠ .

(٥) المصدر السابق .


« إن الخطأة الاجتماعية الكبيرة في عصرنا الحالي هي الإِعراض عن اتباع قانون التكامل الروحي . وحصر الروح بصورة إستبدادية عنيفة بالقوى العقلانية ، وتربية القوى الفكرية فقط ، ذلك أن الفكر يستطيع بمساعدة العلم أن يضمن السيطرة على جميع الأشياء لكنه تناسى النشاطات الروحية الأُخرى . إن الإِنسان المعاصر لم يفهم بعد خطر الخروج على قانون التكامل الروحي ، ويظن أن التنمية الفكرية تعادل التربية الروحية ، ولم يعلم بعد أن إلى جانب العقل توجد النشاطات المعنوية اللازمة للسير الصحيح في الحياة . إن السيطرة التدريجية للفساد وقلة الأدب والانحراف والإِدمان على الخمرة والكسل والحسد والحقد والتزوير والكذب والخيانة تحصل عندما يسحق قانون التكامل الروحي » (١) .

« إنه خطأ فظيع إرتكبه دعاة التمدن والتجدد في إهمالهم للتكامل الروحي. إن العمر الروحي للأغلبية العظمىٰ من الناس لا يتجاوز الـ ١٢ أو ١٣ عاماً » (٢) .

تنمية العقل والعاطفة :

يشكل العلم والأخلاق جناحين قويين لطيران الإِنسان إلى أوج الإِنسانية . إن المجتمع الذي يعمل على إحياء العقل والعاطفة معاً هو أسعد المجتمعات فبالعلم يتقدم نحو الترقي والتكامل ، وبالعواطف والأخلاق توجد البيئة الصالحة . . . البيئة التي يسودها جوّ من الحب والحنان والإِخلاص حيث يعيش الجميع في غاية المودة والأخاء .

حيث توجد الأخلاق والعواطف ولا يوجد علم فلا تكامل هناك ولا تقدم ، ينعدم الإِدراك لحقائق الحياة هناك ، الإِنسان يكون محروماً من الإِنتصارات العلمية الباهرة في تلك الصورة .

____________________

(١) راه ورسم زندگي ص ٦٧ .

(٢) المصدر السابق ٦٢ .


وحيث يوجد العلم ولا يوجد إيمان ولا فضائل ، وحيث يوجد العلم ولا يوجد شرف ولا تقوى وحيث يوجد العلم ولا يوجد أثر للفضائل الخلقية والإِنسانية . . . هناك تظهر الأنانية والأثرة ، وهناك يسيطر الجشع والحرص على الناس ، هناك يقع الأفراد في شرك الفساد والخيانة ، هناك تجد الاعتداء والتجاوز على حقوق الآخرين ، يعكر جوّ الصفاء والأمن . . .

إن المهندس الفني في صنع السيارة يراعي الموازنة بين قوة المحرك وقوة جهاز الإِيقاف ( البريك ) . فكلما يزداد المحرك إلى الجانب الإِيجابي أي الحركة ، يزيد على قدرة الإِيقاف وهو الجانب السلبي وذلك لكي يحمي السيارة ومسافريها في اللحظة الحرجة وعند الإِشراف على السقوط ويسيطر عليها فيوقفها .

والتقدم العلمي في العالم المعاصر بمنزلة التكامل المتزايد لقوة المحرك الإِجتماعي . أما الفضائل الخلقية فأنها بمنزلة ( البريك ) الذي يحفظ الناس في ساعة الخطر من الموت والسقوط . والإِنسان يكون سعيداً عندما يرفع من المستوى الإِيماني والأخلاقي في الوقت الذي يلاحظ فيه الترقيات العلمية في العالم . وذلك ليستخدم العلم في الطريق المفيد فقط . ومن المؤسف أن البشرية سالكة في الإِتجاه المخالف لهذا الطريق منذ مدة . . . وكأنَّه كلما تتقدم العلوم ، يأخذ الإِيمان والتقوى في التناقص والتقلص .

إن العالم اليوم أصبح ـ بضعف الجانب الإِيماني والأخلاقي فيه ـ أشبه بسيارة بلا ( بريك ) تستمر في سيرها بصورة قلقة ، والناس يقضون حياة مليئة بالاضطراب والقلق وهم خائفون من أن تصل بهم الحياة إلى رأس منزلق يؤدي بهم إلى الهاوية ، فيأمر الرؤساء باشعال النار وحينذاك يستغل التقدم العلمي للتخبط في النار والدم والقضاء على الكرة الأرضية في بضع ساعات .

« إذا بقي الذكاء حراً غير تابع للإِدراك المعقول أو الإِلهام بالقيم الأخلاقية فذلك أمر خطر جداً . فالذكاء ليس يجرنا إلى الماديات فحسب ، بل يجرنا إلى البهيمية . هذه الأسطر كتبت قبل إطلاع


العالم على إختراع القنبلة الذرية بفترة وجيزة ، وهذا الإِختراع يظهر معاني هذه الكلمات بصورة واضحة . فقد إنتبه الناس فجأة إلى أن انتصاراً عملياً عجيباً يهدد السلام العالمي بصورة فظيعة وفجأة رأت الدول التي نسميها بالمتمدنة أن إتحاداً أخلاقياً فقط هو القادر على حمايتهم تجاه هذا الخطر . الوقت ضيق إلى درجة أنه يمكن الحصول على النجاة المحتمل بواسطة المعاهدات المكتوبة فقط ، ولكن الكل يعلم أن الاعتماد والإِطمئنان إلى هذه المعاهدات لا يتجاوز إعتبار الشخص الموقع عليها إذا لم يكن هذا الشخص أمينأً ومخلصاً أو لم يكن ممثل أمة تكسب كلامه وشرفه رصيداً متيناً ، فلا يبقى معنى لتلك الإِتفاقيات . إنه لأول مرة في تاريخ البشرية نرى أن الصراع بين الذكاء والقيم الأخلاقية صار موضوعاً حيوياً يتوقف عليه الحياة أو الموت . نحن نأمل أن نستفيد من هذه العظة ، ولكن المؤسف إننا نشك في ذلك . . . » (١) .

لعلم في ظل الايمان :

لقد قامت الآيات الأولى التي نزلت لأول مرة على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بعثته على عمودي الإِيمان والعلم ، فلقد قال تعالى : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) (٢) فلقد قدم بذلك الإِيمان بالخالق العظيم ، ثم عقب عليه بذكر العلم : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (٣) .

من هنا نستنتج أن العلم الذي يكون في ظل الإِيمان ، يكون مصوناً من كل خطر ، ويسبب سعادة البشرية . أما إذا إنفصل العلم عن الإِيمان بالله فمن الممكن أن يعود بالأضرار الباهظة في بعض الحالات .

____________________

(١) سرنوشت ص ١٨٠ .

(٢) سورة العلق ؛ الآيتان : ١ ـ ٢ .

(٣) سورة العلق ؛ الآيات : ٣ ـ ٤ ـ ٥ .


التربية السليمة للطفل :

إن تعهد العقل والعاطفة بالتربية والتنمية ، والذي هو أساس سعادة الإِنسان يجب أن يبدأ من مرحلة الطفولة . فمرحلة الطفولة أحسن مراحل تعلم الأسلوب الصحيح في الحياة . فقدرة الإِقتباس والتقليد وحاسة التقبل عند الطفل شديدة ، فباستطاعته أن يتلقى جميع حركات المربي وسكناته ، وأقواله وأفعاله بدقة عجيبة أشبه بعدسة تصوير . وفي الوقت الذي يتكامل جسد الطفل وينمو يجب أن تسلك روحه في طريق التعالي والتكامل أيضاً وكما يعتني بسلامة جسد الطفل يجب أن يعتني بسلامة مشاعره ومعنوياته . يجب تعويد الطفل على النظافة ، الأدب ، الصدق ، المسؤولية ، العطف ، حب الخير ، وعشرات الصفات الفاضلة الأخرى فمن الصعوبة بمكان تغيير سلوك الأشخاص الذين لم يتعودوا في أيام طفولتهم على السلوك التربوي الصحيح . إن أسعد الناس هم أولئك الذين نشأوا على التربية السليمة والصفات العالية منذ حداثة السن حتى أصبحت جزء من كيانهم ، بحيث تظهر عليهم في الكبر دون أيما تكلف أو تصنع .

وهكذا يلعب الآباء والأمهات دوراً مهماً في بناء سعادة الأطفال ويتحملون مسؤولية كبيرة على عواتقهم . وفي الواقع أن المدرسة الأولى للتربية هي حجر الأم .

« من الصعوبة لفرد بالغ أن يقلع من نفسه جذور التربية الروحية والخلقية والفكرية الفاسدة . فالعادات البذيئة لا تقلع جذورها . إن الذين تعودوا منذ الصغر على إطاعة قوانين الحياة هم وحدهم الذين يستطيعون أن يسلكوا طريقاً صحيحاً . هذا هو واجب الأبوين ، فعليهما القيام به خصوصاً في الأعوام الأولى من عمر الطفل . وإذا كانا يجهلان الأساليب الفنية التربوية ـ الجسدية منها والروحية ـ والتي تختلف بحسب العمر والجنس والبيئة ، فلا يستطيعان القيام بهذه المهمة . فالأم بصورة خاصة محتاجة إلى هذه المعلومات » .


« ولأجل أن يقع التعليم والتربية مفيدين يجب التبكير في ذلك ، أي أنه يجب الاهتمام بالجوانب الفسيولوجية للطفل فقط منذ الأسابيع الأولى للولادة ، وبعد مضي عام واحد يجب أن يبدأ بالمسائل الروحية . إن قيمة الزمن ليست واحدة للطفل ولأبويه . إن يوماً واحداً في السنة الأولى أطول بكثير من يوم واحد في السن الثلاثين . وربما تبلغ الستة أضعاف بالنسبة لأكثر الحوادث الفسيولوجية والروحية . وعليه فيجب أن لا يهمل الدور الطفولي الخصب بلا إنبات . فمن المحتمل أن تكون نتيجة تنفيذ مقررات الحياة أكثر حتمية طوال الأعوام الستة الأولى من الحياة » (١) .

قلب الطفل صفحة بيضاء :

يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لولده الحسن : « إنما قلب الحدث كالأرض الخالية . ما ألقي فيها من شيء قبلته فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك » (٢) .

إن قلب الطفل صفحة بيضاء ، لا يوجد فيها فكرة صحيحة أو خاطئة . والأباء والأمهات الشاعرون بالمسؤولية هم الذين يستغلون ذلك أقصىٰ الاستغلال ويجعلون قلوب أطفالهم تتزين بالملكات الفاضلة والأخلاق الحميدة .

إن عواطف الطفل ومشاعره تظهر قبل عقله ، ويمكن الاستفادة من أحاسيسه قبل ذخائره العقلية بكثير . إن الأطفال في جميع أنحاء العالم يرسلون إلى المدارس بعد السنة السادسة ، ومن ذلك الحين تتفتح المواهب الفكرية للطفل ، في حين أحاسيسه ومشاعره تبدأ بالنشاط قبل ذلك بزمن طويل .

وفي الوقت الذي لا يفهم الطفل المسائل العلمية ولا يدركها ، يدرك القضايا العاطفية وتؤثر فيه كالحدة والغلظة ، اللين والرفق ، العطف

____________________

(١) راه ورسم زندكي ص ١١٨ .

(٢) نهج البلاغة ص ٤٤٢ .


والحنان ، الإِحترام وعدم الاعتناء وغير ذلك ، وبصورة موجزة فأن موضوع تنمية المشاعر والأحاسيس يشغل قسطاً مهماً من المسائل التربوية . ويقع عبء المسؤولية في أداء هذا الواجب على الأبوين بالدرجة الأولى . فرياض الأطفال عاجزة عن أن تحل محل العائلة والأم في أحياء جميع مشاعر الطفل الخفية بصورة لائقة ، وهداية الطفل إلى السير الطبيعي الفطري .

لقد بحثنا في هذه المحاضرة عن العواطف بصورة موجزة ، في ذيل البحث عن العقل . ونأمل أن نفصل القول فيها في المحاضرات القادمة لنتبين أهمية تنمية المشاعر من الناحيتين العلمية والدينية .


المحاضرة الثامنة

تغذية الجسد والروح

قال الله تعالى في كتابه : ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) (١) .

طول مرحلة الطفولة عند الانسان :

إن مرحلة الطفولة عند صغار الإِنسان أطول من جميع مراحل الطفولة عند اللبائن الأُخرى . والمقصود من مرحلة الطفولة هو : الفترة التي لا يستغني فيها الطفل تماماً عن أبويه ، بل هو محتاج إليهما فيها .

هناك بعض الحيوانات التي لا تملك دوراً طفولياً أصلاً كأغلب الأسماك والحشرات . إن السمكة تضع البيض في أحضان الطبيعة ، فيتكامل البيض على أثر العوامل الطبيعية ـ وبقلم القضاء الإِلهي ـ وفي اليوم الذي تخرج فيه صغار الأسماك من البيض تذهب نفسها وراء الحياة والطعام ولا تحتاج إلى رعاية الأبوين .

وهناك بعض الحيوانات التي تملك دوراً طفولياً كالسباع والطيور والدواب ، لأنها بعد الولادة حتى فترة من الزمن تحتاج في التغذية والرعاية إلى

____________________

(١) سورة عبس ؛ الآية : ٢٤ .


الأبوين . والبعض منه يحتاج إلى الأم فقط ، ولكنها بصورة عامة لا يتجاوز دور الطفولة عندها عن بضعة أسابيع أو أشهر فسرعان ما تنفصل عن الأبوين مستمرة في حياتها بصورة مستقلة . أما مرحلة الطفولة عند أطفال الإِنسان ( أي أيام إحتياجهم إلى الأبوين ) فهي تطول على مثيلاتها عند الحيوانات بكثير ، وتمتد إلى فترة بعيدة .

إن البنيان الجسدي لصغار الحيوانات ينمو بسرعة ، وبعد فترة قصيرة تكون جاهزة للإِنتفاع منها في طريق الحياة ، أما النمو الجسمي لأطفال الإِنسان فهو يحتاج إلى وقت طويل . . . فيجب أن تنقضي أشهر عديدة حتى يستطيع الطفل أن يفتح أصابعه ويمسك بها شيئاً ، ويستغرق سنة واحدة حتى يكون قادراً على المشي بعد الإِنكباب والنهوض ، ويحتاج إلى عامين أو أكثر لكي يتفتح لسانه تدريجياً للتكلم ، وتمر بعد ذلك أعوام كثيرة حتى يستطيع أن يدرك شيئاً عن العالم الخارجي بالنسبة إلى نفسه وأهله ، وأعوام أطول ضرورية له لتكسبه نوعاً من الاستقلال والشخصية كي يستطيع بهما من العيش لوحده في المجتمع .

اللبائن ترضع صغارها لعدة أسابيع أو أشهر وتلتزم برعايتها ، ثم تتركها ، لأن الصغير قد جُهز في هذه الفترة القصيرة بكل متطلبات الحياة ويقدر على إدارة نفسه بنفسه .

لكن المرأة ترضع طفلها عامين كامليين تلتزم برعايته طوال هذه المدة وتعتني بصحته ونظافته وحمايته عن الحوادث فتحافظ عليه من البرد والحر والحريق ، والغرق ، والسقوط ، وما شاكل ذلك . . . وعندما تفطمه ، فليس طفلها إنساناً كاملاً بل هو طفل عاجز ، يجب أن يخضع لرعاية الأبوين وتمر عليه السنين حتى يصبح إنساناً سوياً قادراً على الحياة المستقلة . على الرغم من أن سرعة النمو العضلي عند الحيوان وبطأه عند الإِنسان تعتبر من علل قصر أيام الطفولة عند الحيوان ، ولكن ما لا شك فيه أن أحد الأسباب المهمة لطول فترة الطفولة عند الإِنسان يرتبط بموضوع التربية والتعليم . إن صغار الحيوان تتلقى أسلوب


العيش والمعلومات الحياتية عن طريق الغريزة التي هي من نعم الله عليها بصورة تلقائية ولا تحتاج في ذلك إلى تعلم أو تربية . فالحيوان يحتاج إلى أُمه أياماً قليلة ليأخذ منها الغذاء المناسب وتشملها الرعاية اللازمة كي يخوض معركة الحياة بعد ذلك . . . أما أطفال الإِنسان فأنهم يجب أن يتلقوا من أمهاتهم بالإِضافة إلى التغذية والصحة ، مناهج مفصلة عن الحياة وفي الواقع إن الأطفال يتلقون من أُمهاتهم غذاءين : الغذاء المادي والغذاء الروحي . إن حجر الأم مضافاً إلى قيامه بالتغذية الجسدية ، يعتبر مدرسة لتربية الطفل وإن فترة هذه المدرسة طويلة . فما لم يتخرج الطفل من هذه المدرسة لا يزال طفلاً ، وهو يحتاج إلى الأم ، ولا يليق للإِنطلاق في الحياة .

التغذية السليمة :

كما أن جسم الطفل يحتاج إلى غذاء ، فإن روحه أيضاً تحتاج إلى غذاء . إن النمو الطبيعي والاعتيادي لجسم الطفل يكون نتيجة التغذية السليمة ، والنمو الكامل لروح الطفل يخضع أيضاً لأسلوب التغذية التربوية الصحيحة والتنمية النفسية السليمة . يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) .

بديهي أن الإِنسان يجب أن يهتم بطعامه وينظر إليه بعين الدقة والبصيرة والظاهر أن المراد من الطعام هنا هو المواد النباتية التي يتغذى منها الإِنسان بقرينة الآيات اللاحقة التي تتحدث حول نزول المطر ، وإخضرار الأعشاب ونمو الأشجار المثمرة . إن التفكر في المواد الغذائية والدقائق الموجودة في عالم النبات والحيوان يدفع الإِنسان إلى الإيمان بالله والمعاد ، كما أنها تعتبر من زاوية العلوم الطبيعية مجالاً واسعاً للبحوث العلمية والاستنتاجات المفيدة منها. لكن الإِمام الباقر والإِمام الصادق يفسران الطعام في هذه الآية بالعلم :

١ ـ « عن أبي جعفر في قوله تعالى : ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) قال : علمه الذي يأخذه ، عمن يأخذه فلينظر الإِنسان إلى طعامه » (١) .

٢ ـ « عن أبي عبد الله في قوله تعالى ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ )

____________________

(١) تفسير البرهان ص ١١٧٣ .


قلت : ما طعامه ؟ قال : علمه الذي يأخذه ، عمن يأخذه » (١) .

غذاء الروح :

بالإِضافة إلى الحديثين السابقين نجد الأئمة يعبّرون في موارد أُخرى عن التعاليم الروحية بـ ( الغذاء ) أو ( الطعام ) ، ويعتبرون التعلم غذاء للروح . وسيكون بحثنا معتمداً على هذين الحديثين لننطلق منهما إلى التعليم والتربية على أساس هذه التعبير ، أي باعتباره غذاء روحياً .

وعلى الرغم من أنه يمكن عقد المقارنه بين غذاء الروح والجسد من عدة جوانب والاستفادة من هذا التشبيه لأغراض مختلفة ، لكن بحثنا هذا سيدور حول نقطتين : الأولى : نظافة الغذاء وسلامته الثانية : كون الغذاء جامعاً ، وكاملاً . وقبل الخوض في الحديث لا بأس بتقديم مقدمة في أهمية الغذاء للجسد والروح ، ومجاري تغذية كل منهما .

يحتاج الإِنسان كسائر الأحياء إلى الغذاء ، فبالغذاء يستطيع أن يستمر في حياته ، وإذا لم يتناول طعاماً فأنه يموت . إن جميع الشهوات والميول الإِنسانية التي هي مصدر النشاطات المختلفة تستيقظ بعد تناول الطعام وتدفع الإِنسان إلى الحركة والعمل والسعي . وفي العصور المظلمة كان بعض الناس يتوهمون أن الأنبياء لا يحتاجون إلى الطعام لمنزلتهم السامية ، ولذلك فقد جاء القرآن الكريم مفنداً هذه النظرة بصراحة : ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) (٢) .

خطر الجوع :

الجوع من أخطر حالات الإِنسان وأدقها تأثيراً ، حتى كأن الجائع ينسى دينه وإيمانه ، ويغفل عن الحنان والعاطفة ، ومن أجل أن يملأ بطنه ينقلب إلى حيوان مفترس .

لقد حدث في البصرة في القرن الثالث من الهجرة إنقلاب عظيم . فقد

____________________

(١) نفس المصدر ص ١١٧٣ .

(٢) سورة لقمان ؛ الآية : ٨ .


قام ( صاحب الزنج ) في السنوات القليلة التي حكم فيها بأعمال إجرامية شديدة من إهراق الدماء البريئة وما شاكل ذلك حتى ذهب ضحية سيفه آلاف الرجال والنساء والأطفال . أما الذين قُدِّر لهم أن ينجوا بأرواحهم من طغيانه فقد كانوا يقضون النهار مختفين ، ويخرجون ليلاً بقلوب مليئة بالرعب والخوف للحصول على بعض الطعام . وقد عطلت الأعمال وتركت المزارع واستولى على الناس قحط شديد ، فاضطر الناس إلى أكل لحوم الكلاب والقطط وحتى أجساد الأموات فيما بعد . وكان يؤدي بهم الجوع أحياناً إلى أن يقتلوا الأشخاص المشرفين على الموت وأكل لحومهم والتاريخ يروي لنا قصه غريبة عن ذلك العصر . فقد وجدت إمرأة ماسكة رأساً مذبوحاً وهي تبكي ، فسألوها عن سبب بكائها . فأجابت أن الجياع كانوا مجتمعين حول أختها لتموت فيأكلوا لحمها ، وقبل أن تموت تماماً قطعوها وتقاسموا لحمها ، ولكنهم ظلموني فلم يشركوني في لحمها بل أعطوني رأسها فقط لأطعم منه . إن هذه المرأة كانت لفرط الجوع قد نسيت عواطفها فلم تفكر في قتل أختها ولم تتأثر لذلك . بل كان بكاؤها لعدم إشراكها في لحمها (١) .

وكذلك روح الإِنسان ، فهي حية بالغذاء الروحي ، فالإِنسان المحروم من التربية المعنوية والبعيد عن العلم لا يملك حياة انسانية أبداً . فهو في صورة إنسان لكنه في الواقع أخطر وأوطأ من أي حيوان مفترس .

طرق تغذي الجسم :

إن جسم الإِنسان يشبه قلعة محكمة الأسوار ، يحيط به الجلد كجدار يقوم حولها ، والعروق التي تعتبر بمثابة الطرق الرئيسية والفرعية في هذه القلعة لا ترتبط بالمحيط الخارجي ، أما المواد التي يحتاجها فأنها تدخل فيه بواسطة طريقين رئيسيين هما : الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي . إن البدن يتصل بالبيئة الخارجية عن هذين الطريقين فهو يتلقى بهما المواد الغذائية والعناصر الضرورية للحياة ويستمر في القيام بأعماله .

____________________

(١) تتمة المنتهى ص ٣٨٠ .


ومع أن الجسم يملك قوى دفاعية منظمة ، ويخضع الطريقان الآنفا الذكر لرقابة شديدة من جميع الجوانب ، فقد يصادف دخول المواد المضرة والخطرة من هذين الطريقين إلى الجسم ، فتؤدي إلى إضطراب الصحة وإحداث الأضرار العظيمة .

« تستمد المادة الغذائية التي يحملها الدم إلى الأنسجة من ثلاثة مصادر : من الهواء الخارجي عن طريق الرئتين ، ومن سطح الإِمعاء ، وأخيراً من غدد الأندوكرين . وجميع المواد التي يستعملها الجسم ، فيما عدا الأوكسجين تأتي عن طريق الإِمعاء سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . . . ويكاد الجدار المعوي يحمي الجسم حماية تامة من غزو ذرات تخص أنسجة كائنات أُخرى ، وذلك بمقاومة تسرب البروتينات الحيوانية أو النباتية إلى الدم . ومع ذلك فأنه قد يسمح أحياناً لمثل هذه البروتينات بالدخول . . . » (١) .

طرق تغذي الروح :

إن الجهاز الروحي للإِنسان ـ بما فيه من الروح ، والنفس ، والمخ والعقل ـ ليس متصلاً مع المحيط الخارجي بصورة مباشرة . فهناك طريقان رئيسيان تربطان من الجهة المعنوية بين البيئة الخارجية والجهاز الروحي للإِنسان ، هما : العين والأذن . فإن القسم الأكبر من الواردات الفكرية والتغذية المعنوية عند الإِنسان يحصل من هذين الطريقين . وكما وجدنا إمكان مرور المواد المضرة من حدود الإِمعاء وحويصلات الرئتين أحياناً بالرغم من وجود القوى الدفاعية التي تراقب الواردات الغذائية والتنفسية ، يشتد هذا الخطر بالنسبة إلى الواردات الفكرية والتربوية عن طريق العين والأذن بلا رقابة أو تمييز بين الصحيح والفاسد منها ، حيث تنفذ هذه الواردات بواسطة هذين الطريقين إلى النفس وتصل إلى أعماق الفكر وتؤثر آثارها الصالحة أو الفاسدة .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٧٥ ـ ٧٦ .


سلامة الطعام ونظافته :

بعد هذه المقدمة الوجيزة ننتقل إلى صلب الموضوع فنقول : إن النقطة الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا هي مسألة سلامة الطعام ونظافته . إن مما لا شك فيه أن بعض النباتات وكذلك لحوم بعض الحيوانات لا تلائم البناء الإِنساني ، وإذا تغذى شخص منها فأنها تسبب مسموميته أو حدوث أمراض أُخرى له . في العصور المتمادية كان الإِنسان ـ لقلة الموارد الغذائية من جهة ، وجهله بالغذاء المفيد والمضر من جهة أُخرى ـ يأكل كل حيوان يصطاده ، ويتغذى على لحم الكلب ، والقطة ، والحوت ، والفيل ، وغيرها من الحيوانات والحشرات وحتى من لحوم الإِنسان واللحوم العفنة والفاسدة . ومن جراء ذلك فقد لاقى ملايين الناس حتفهم لتسمم الطعام أو أنهم فقدوا الإِعتدال والسلامة في مزاجهم على الأقل . واليوم أيضاً توجد طوائف وشعوب تقتفي أثر ذلك السلوك الخاطىء ويأكلون من لحوم الحيوانات المفترسة والسباع وحتى من لحوم البشر ـ إذا قدر لهم ذلك ـ ولا يزالون يصابون بنفس العوارض والآلام .

« أثبتت البحوث الجغرافية للتغذية إن الإِنسان الذي يعيش في أحضان الطبيعة شأنه شأن الشعوب المتمدنة في العالم في عدم الإِلتزام بعقيدة معينة ، وهو يأكل أي موجود حي ، كالحية ، والحشرات ، والديدان ، واللحوم المتعفنة ، ولحم الكلب والفأر وما شاكل ذلك . . . هذا عندما لا يجدون لحوم أبناء جنسهم » (١) .

إن إحدى الخدمات المهمة التي أسداها الأنبياء لهداية البشر هي الإِهتمام بالمواد الغذائية . إن أُولئك القادة الروحانيين قد قسموا الأطعمة منذ أمد بعيد إلى الخبيث والطيب ، واعتبروا بعض الحيوانات محللة الأكل وبعضها محرمة الأكل ، وأجازوا لأتباعهم أن يتغذوا مما يحل أكل لحمه ومنعوهم عن أكل ما لا يحل أكل لحمه منعاً باتاً .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ تغذية إنسان ص ١١ .


الأطعمة المفيدة والمضرة :

لقد استطاع الإِنسان في عصرنا هذا أن يعرف ـ بفضل التقدم العلمي ـ الأطعمة المفيدة والمضرة ، إلى درجة ما . فالأمم المتمدنة تمتنع عن أكل اللحوم الفاسدة والحيوانات المريضة.

ولقد عرف العلماء المواد الغذائية والعناصر المعدنية وغير المعدنية الضرورية للإِنسان وتوصلوا إلى كمية المواد العضوية الموجودة في أنواع الخضروات واللحوم والزيوت الحيوانية والنباتية ، ولقد استطاعوا تعيين الكميات اللازمة من كل نوع لفرد واحد في الأعمار والحالات المختلفة في قوائم الإِعاشة والتموين ، فتوصلوا مثلاً إلى بيان نوعية الغذاء اللازم لطفل في السنة الثانية ، أو صبي في العاشرة ، أو عامل يبذل جهداً عضلياً ، أو أُستاذاً يصرف جهداً فكرياً ، أو شيخ عجوز يقضي وقته كله في الراحة .

إن معرفة الأطعمة المفيدة والمضرة من جهة ، وإزدياد إنتاج المواد الغذائية من جهة أُخرى ، عاملان رئيسيان في إنهاء الاضطراب الناجم من سوء التغذية في دول العالم المتمدن . فشعوب هذه الدول ليسوا مضطرين إلى أن يأكلوا من لحوم السباع والحيوانات المفترسة والميتة واللحوم المتعفنة أو أن يملأوا بطونهم من الأطعمة المسمومة والحيوانات المريضة والملوثة .

وعلى الرغم من الخطوات الواسعة التي قطعها علماء الغرب في هذا المضمار ، فأنهم لم يتوصلوا بعد إلى معرفة جميع الجوانب المفيدة والمضرة في الأطعمة ، فهناك جوانب كثيرة لم تصل إليها يد العلم .

« وبفضل التقدم العلمي في مجال صناعة الأدوية ومعرفة الأطعمة ، ظهرت فوائد وخصائص عديدة في المواد الغذائية وإزدادت أهمية الغذاء يوماً بعد يوم . وفي القرن الأخير قامت بحوث عميقة في المواد الغذائية وحصل الباحثون على نتائج ومعلومات دقيقة وقيمة ، ولكنه يمكن القول بأنهم لم يتوصلوا بعد إلى معرفة فوائد جزء من الألف جزء بل جزء من المائة ألف جزء


منها » (١) .

لقد حظر الإِسلام بعض الأطعمة ومنع من إستعمالها قبل أربعة عشر قرناً . واليوم نجد العالم المتحضر في أوروبا وأمريكا لا يرى مانعاً من أكلها . إن الشعوب الغربية تتغذى على دم البقر والغنم ، أما في الإِسلام فإن شرب الدم حرام . وكذلك يأكلون لحم الخنزير والأسماك المحرمة في الشريعة الإِسلامية . والدول الأوروبية والأمريكية تتناول الخمر بكل حرية ، أما في الشريعة الإِسلامية فإن الخمرة محرمة . . إن ما لا شك فيه أن تداول هذه الأطعمة عندهم نتيجة قصور العلم في دنيا الغرب ولو كان العلم الحديث متوصلاً إلى معرفة جميع جوانب الفائدة والضرر في الأطعمة لما كان يبيح تناول الدم أو شرب الخمرة أصلاً . وسوف لا تمضي مدة طويلة حتى بكشف العلم في تقدمه ، الحقائق العلمية المتينة التي جاءت بها التعاليم الإِسلامية فيعترف حينذاك بعظمة الإِسلام .

أثر الطعام في روح الانسان :

والطريف هنا أن أثر الطعام لا يقتصر على جسم الإِنسان منتجاً آثاره الصالحة أو الفاسدة ، بل أنه يترك من الجهة المعنوية آثاره الحسنة أو السيئة على روح الإِنسان ، وهذا الأمر متسالم عليه من قبل العلماء المعاصرين . وقد صرح الإِسلام بذلك في تعاليمه القيمة .

إن المختبرات العلمية في العصر الحديث قادرة على فحص المواد الغذائية من حيث العناصر الطبيعية المكونة لها وخواصها الكيمياوية إلى حد ما ، أما الآثار المعنوية والأخلاقية للأطعمة فأنها إما أن تكون غير قابلة للفحص المختبري أبداً ، أو أن الوسائل الحديثة لم توفق لهذا الموضوع لحد الآن على الأقل ، وعلى هذا فما أكثر الأطعمة التي تضر بسعادة الإِنسان من الجانب المعنوي والنفسي ، والعلم قاصر عن إدراك تلك الحقائق في العصر الحاضر .

____________________

(١) إعجاز خوراكيها ص ١٥ .


« إن تأثير المخلوطات الكيميائية التي يحتوى عليها الطعام على النشاط الفسيولوجي والعقلي لم يعرف معرفة تامة حتى الآن . . . فالرأي الطبي فيما يتعلق بهذه المسألة ليست له غير قيمة ضئيلة لأنه لم تجر تجارب ذات أمد كاف على البشر للتحقيق من تأثير طعام معين عليهم . وليس هناك شك في أن الشعور يتأثر بكمية الطعام وصفته » (١) .

« نحن نعرف كيف نغذي أطفالنا كي يصبحوا رشيقي القامة وعلى جانب كبير من الجمال وتقل وفياتهم . وذلك بمعونة علم معرفة الغذاء الحديث . لكن هذا العلم لم يعلمنا كيف نوجد جهازاً عصبياً متيناً ، فكراً معتدلاً وشجاعة ، وحسن خلق ، ومقدرة عقلية ، وكيف نحميهم من الإِنهيار النفسي » (٢) .

يقول الإِمام الرضا عليه‌السلام : « إن الله تبارك وتعالى لم يُبح أكلاً ولا شرباً إلا لما فيه من المنفعة والصلاح ولم يحرم إلا لما فيه الضرر والتلف والفساد » (٣) . فتحريم الأشياء إذن أو إباحتها عن أساس المصالح والمفاسد لا أكثر .

شرب الدم والقساوة :

إن نظرة أئمة الإِسلام إلى الأطعمة كانت تشمل جميع منافعها ومضارها الروحية والبدنية ، وقد صرحوا في بعض الموارد بالمفاسد الروحية والنفسية لها عند التعرض لذكر أضرارها البدنية . وها هو كلام الإِمام الرضا عليه‌السلام في علة حرمة شرب الدم بعد ذكر الأضرار البدنية لذلك : « ويُسيىء الخُلقَ ، ويورث القسوة للقلب ، وقلة الرأفة والرحمة ، ولا يُؤمن أن يقتل ولد ووالده » (٤) .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٢٣٢ .

(٢) راه ورسم زندگى ـ المقدمة ـ ص (ب) .

(٣) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٣ ص ٧١ .

(٤) بحار الأنوار للمجلسي ج ١٤ ص ٧٧٢ .


الخمرة والاجرام :

والإِمام الباقر عليه‌السلام حين يتطرق لعلة حرمة الخمر يقول : « إنَّ مُدمِن الخمر كعابد وَثَن ، ويورثه الإِرتعاش ، ويهدم مروءته ، ويحمله على التجسّر على المحارم ، من سفك الدماء ، وركوب الزنا » (١) .

إن العوارض التي تصيب البدن من جراء شرب الدم يمكن قياسها أما قساوة القلب فلا يمكن فحصها في المختبرات . وكذلك أثر الكحول على الأعصاب والإِبتلاء بالخرف فأنه غير مخفي على العلماء ، ولكن لا يمكن مشاهدة المروءة والقيم الأخلاقية في المختبر .

إن التغذية تلعب دوراً أساسياً في المسائل الإِجتماعية في العصر الحديث . فالمؤسسات المختصة بهذا الموضوع والمجهزة بالوسائل العلمية المختلفة تفحص جميع جوانب الغذاء ، بأن لا يكون فاسداً ، وأن يكون الباعة أو الطهاة سالمين ، وأن تكون المطاعم مطابقة للشروط الصحية من كل جانب . . . وبصورة موجزة فأنها تعمل جهدها مستعينة بالوسائل العلمية والقوى التنفيذية الصارمة لكي تقف أمام تلوث الغذاء وفساده . فقد يصادف تسمم البعض من جراء تناول ( الدوندرمة ) وحينئذ تعمل جميع المؤسسات ، والناس يعترضون ، والجرائد تتحدث حول الموضوع ، البائع يوقف ويتحقق معه : لماذا صنعت الدوندرمة من حليب فاسد وسببت تسمم مئات الأفراد ؟ ! ! .

وإذا لم تكن قيمة التغذية الروحية أعلىٰ من قيمة التغذية المادية فهي ليست أقل منها . فمن الضروري أن يبذل الإِهتمام للغذاء الروحي بنفس النسبة من الإِهتمام بالغذاء المادي ، والذي يرغب في أن يكون سعيداً يجب عليه أن يلتفت إلى سلامة غذائه الروحي كالتفاته إلى سلامة غذائه المادي . إن خطر التسمم الروحي أشد بكثير من خطر تسمم الجسم ، فإذا تسمم ألف شخص في مدينة من جراء تناول طعام فاسد ولم تنجح علاجات الأطباء معهم وماتوا جميعاً فقد مات من تلك المدينة ألف شخص فقط . أما إذا أصيب ألف فرد في

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ١٤ ص ٧٧١ .


تلك المدينة بالتسمم الفكري والروحي فمن المحتمل أن يتسبب هؤلاء في تسمم أهل المدينة كلهم ، وقد يؤدي وجود ألف فرد منحرف في دولة إلى إنهيار تلك الدولة بأجمعها .

من السهل إعادة الصحة والسلامة لمن أصيب بالتسمم الناشىء من تناول طعام فاسد بالعناية الصحية الدقيقة ، أما الفكر المسموم والمشبع بالأفكار الخاطئة والمنحرفة فإعادة السلامة إليه من الأمور الصعبة جداً . إن خطر إناء من الدوندرمة الفاسدة في محل أقل بكثير من خطر فلم مسموم وهدام . وحين يقدم أبو الاسرة على شراء طعام لأطفاله يحاول التأكد من سلامة ذلك الطعام ، أما حين يقدم على شراء كتاب أو مجلة ليضعها في متناول أيدي أطفاله فهو لا ينتبه إلى أن هذه المجلة إنما هي غذاء أرواحهم فإن كان فاسداً أُصيبت الأسرة بأجمعها بذلك التسمم الفكري .

« عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : ما لي أرى الناس إذا قرب إليهم الطعام ليلاً تكلفوا إنارة المصابيح ليبصروا ما يدخلون بطونهم ، ولا يهتمون بغذاء النفس بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم ، ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب في إعتقاداتهم وأعمالهم » (١) .

« قال الحسن بن علي عليه‌السلام : عجبت لمن يتفكر في مأكوله ، كيف لا يتفكر في معقوله ، فيجنب بطنه ما يؤذيه ، ويردع صدره ما يريده » (٢) .

إن الذي يهتم بصحته لا يتناول طعاماً من يد شخص مصاب بالسل أو الجدري لأنه لا يطمئن إلى سلامة الطعام ونظافته . هناك أفراد مصابون بالأمراض الروحية والخلقية ولذلك فإن أقوالهم وكتاباتهم التي تعبر بمثابة غذاء روحي للناس ليست مأمونة ، وذلك لأن من الممكن أن يلوث فساد الفكر ألسنتهم وأقلامهم أيضاً ويؤدي ذلك إلى إنتشار الإِنحراف والفساد في المجتمع . إلى هذا يشير الإِمام الباقر والإِمام الصادق في تفسير الآية موضوع البحث : ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) قال عليه‌السلام : علمه الذي يأخذه عمن يأخذه

____________________

(١) سفينة البحار للقمي ص ٨٤ ـ مادة طعم .

(٢) نفس المصدر ، والصفحة .


فعلى الإِنسان أن ينتبه إلى علمه الذي هو غذاء روحه عمن يأخذه . فإن كان المعلم منحرفاً وفاسداً فلا يمكن الإِطمئنان إلى سلامة أقواله وتعاليمه .

أهمية التغذية في الطفل :

على الرغم من أن الإِهتمام بسلامة الغذاء ـ بنوعيه ـ ضروري في جميع مراحل الحياة ويجب أن يخضع لرقابة شديدة دائماً ، لكن ما لا شك فيه إن سلامة التغذية الروحية والمادية بالنسبة إلى الطفل أهم منها بالنسبة إلى الشاب أو الشيخ ، لأن مرحلة الطفولة هي المتعهدة ببناء كيان الطفل روحياً وجسدياً ، وإن خطأة واحدة يمكن أن تؤدي إلى إنحراف الطفل عن طريق السعادة وبقاء آثارها السيئة طوال أيام حياته . . . ذلك أن اللبنة الأولى في بناء البيت إذا وضعت بصورة منحرفة إستمر البناء في إنحرافه مهما علا في السماء .

« إن كثيراً من الأفراد بالرغم من أنهم يملكون أُسساً وراثية جيدة يعجزون عن إدارة حياتهم يسبب العيوب المكتسبة التي لا يقل تأثيرها من العيوب الموروثة » .

« يحتمل أن يكون ٢٥ % من حالات البلاهة نتيجة الإِختلالات الحادثة على نمو المخ طوال الحياة الجنينية أو عند الولادة ، أو في المرحلة الأولى من حياة الطفل . إن إتزان الجهاز العصبي وسلامة التفكير يرتبطان إلى حد بعيد بتركيب المواد الغذائية في مراحل تكون المخ والنتوءات العصبية . من البديهي إن الجهاز العصبي والبنيان العام وشعور الأطفال الذين تغذوا من القهوة والخبز الأبيض والسكريات ، والكحول أحياناً . . . يكون مصاباً وغير سليم » (١) .

« لقد علمنا علم التغذية الحديث : أن التغذية الفاسدة يمكن أن تؤثر في الطفل ، فتوجد فيه نقائص بدنية وروحية غير قابلة للعلاج » (٢) .

____________________

(١) راه ورسم زندکى ص ١٥٨ .

(٢) المصدر السابق ص ٧٤ .


يمتاز المتقدمون في السن عن الأطفال في أنهم بفضل وجود العقل يملكون قوة دفاعية ، فمن الممكن أن يقيسوا الأشياء التي يسمعونها أو يقرأونها في الكتب بعقولهم ، فإن لم تكن صحيحة رفضوها . . . وبعبارة أُخرى يستطيعون طرد الغذاء العقلي الفاسد من المخ ويمتنعون عن هضمه . أما الطفل فلضعف إدراكه لا يملك قوة دفاعية تجاه المستوردات الفكرية الفاسدة ، فهو يتقبل كل كلام فارغ ، وكل عقيدة باطلة ، وكل أسطورة مسمومة ، وكل قول هدام . . . ويثبت ذلك في تفكيره وتستمر آثاره الفاسدة إلى مدى الحياة .

الانحرافات الخلقية عند الطفل :

كثيراً ما تتأثر نفوس الأطفال بالإِيحاءات الجاهلة التي تصدر من الأبوين تجاه الطفل فينشأون ضعفاء جبناء ، أو كاذبين خونة . إن للإِعتقاد بنحوسة العدد (١٣) والتشاؤم من صوت البوم وما شاكل ذلك أصولاً ثابتة في أفكار بعض الناس ، وقد تظهر أحياناً بصورة عقدة نفسية تجعل الحياة جحيماً لا يطاق . أكثر هذه الأفكار الخاطئة يرجع إلى أيام الطفولة ومنشؤها التربية الفاسدة والتغذية الروحية المنحرفة .

يقول المسيح عليه‌السلام في هذا الصدد : « بحقٍ أقول لكم : إنه كما ينظر المريض إلى طيب الطعام فلا يلتذه مع ما يجده من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبارة ، ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب المال » (١) .

فالأطفال الناشئون على الأساليب التربوية الفاسدة لا يلتذون بحلاوة الفضلية التي هي الطعام اللذيذ لروح الإِنسان ، ذلك أن أرواحهم مريضة والمريض لا يلتذ بالطعام اللذيذ .

*  *  *

إلى هنا نكون قد إنتهينا من النقطة الأولى في الموضوع ، وهي البحث عن سلامة الغذاء ونظافته بكلا نوعية . والآن لننتقل إلى النقطة الثانية في

____________________

(١) تحف العقول ص ٥٠٧ .


البحث ، وهي : الغذاء الكامل .

الغذاء الكمال :

الغذاء يجب أن يكون جامعاً وكاملاً ، فالبحوث العلمية الحديثة لفتت أنظار الناس إلى هذه النقطة وهي أن البدن يحتاج لاستمرار حياته إلى المواد الغذائية المتنوعة . فلا يكفي نوع واحد أو نوعان لحفظ حياة الإِنسان وسلامته . فاللحم وحده أو المواد الدهنية وحدها ، أو المواد السكرية فقط لا تشكل غذاء كاملا . إن نقصان المواد الغذائية يؤدي إلى عوارض مختلفة كان يجهلها الإِنسان فيما مضىٰ ، فإن جانباً كبيراً من الأمراض والوفيات التي كانت تحدث في الماضي كان سببه نقصان المواد الغذائية الضرورية .

لقد ألف العلماء في موضوع الغذاء وتركيباته المختلفة كتباً عديدة وجرت بحوث حوله في نقاط مختلفة من العالم . وهنا لا بأس من إقتباس بعض العبارات من تلك الكتب لزيادة الإِطلاع .

« هناك ترابط وثيق بين النشاط الخلقي والفكري والغدي فإن المواد التي تفرزها الغدد الواقعة فوق الكلية والتي تصنع ( الهيبوفيزوثايروكسيد ) هي التي أعدت دماغ باستور للإِكتشافات التي تعتبر فاتحة للعصر الحديث في تاريخ البشرية . إن الذكاء وصلابة الإِيمان التي تجعل الإِنسان يتحمل المشاق العظيمة التي تعترض طريقه ، وفي نفس الوقت ناتجة من الغدد الداخلية ، وعدد الخلايا المخية . . . إن أبسط تغيير في مقدار الحديد والكالسيوم والفلزات من الدم يؤدي إلى فقدان الأتزان العضوي والنفسي عند الإِنسان » (١) .

« إن الإِختلالات التي توجد طوال مرحلة الطفولة أو الشباب في بناء الغدد الداخلية والجهاز العصبي ، تنعكس على الشعور دائماً .

____________________

(١) راه ورسم زندگى ص ١٦٧ .


فانعدام اليود في المناطق المسكونة من مرتفعات الألب وهمالايا يوقف نمو غدة الثايروكسيد ويصاب الأطفال بالبلادة الثايروكسيدية » (١) .

« يلاحظ إنتشار إنحناء العظام عند أطفال الفقراء خصوصاً في المدن الكبيرة ، ويظهر ذلك بتكلس عظام البدن وعدم إنتظام ونزاكة الأسنان . وهذا المرض إنما هو نتيجة عدم كفاية الفيتامين d وعدم التوازن بين الكالسيوم والفسفور في البدن » (٢) .

« إن خروج العينين من الحدقة مرض يمكن أن يؤدي إلى العمى ؛ وسبب ذلك نقصان الفيتامين A في الطعام ( المادة الصفراء التي توجد في الجزر والخضروات تتحول في البدن إلى فيتامين A ) »(٣) .

« أحياناً يكون فقر الدم مرتبطاً بالغذاء ؛ إن عدم كفاية الحديد في الكريات يؤدي إلى نقصان المادة الملونة التنفسية في الدم أي الهيموغلوبين » (٤) .

« وربما كان بطء نمو الأطفال والمراهقين وانحراف مزاج البالغين ناشئاً من قلة الحوامض العضوية في البدن » (٥) .

التغذية السليمة :

تشكل الروايات المتعلقة بالأطعمة والأشربة وإرشاد الناس إلى التغذية السليمة ، جانباً واسعاً من التعاليم الإِسلامية العظيمة ، فهناك نصوص كثيرة حول اللحوم المفيدة والمضرة والتوازن في إستعمالها ، وكذلك الذهنيات

____________________

(١) المصدر نفسه ص ١٥٨ .

(٢) چه ميدانيم ؟ تغذيه إنسان ٢٤ .

(٣) نفس المصدر ، والصفحة .

(٤) المصدر نفسه ص ٢٥ .

(٥) نفس المصدر ، والصفحة .


والسكريات والفواكه والحبوب والخضروات .

إن الحقائق التي توصل إليها علماء البشر عن طرق التجارب العلمية في هذا المضمار ، سبقهم إلى كشفها أئمة الإِسلام عن طريق الوحي والإِلهام ولقد طبقوها على أنفسهم وأرشدوا أتباعهم إلى العمل بها أيضاً وهنا نشير إلى زاويتين منها فقط على سبيل المثال .

أ ـ النخالة :

« تشكل نخالة الغلات كالقمح والشعير والرز وما شاكل ذلك مصدراً مهماً من مصادر الفيتامين B (١) .

« يظهر مرض الكساح مصحوباً بالإِختلالات العصبية والمعدية والقلبية ويمكن أن يؤدي إلى الموت . لقد أثبت العالمان ( إيكمان ) و ( كريتسن ) أن هذا المرض يحدث من فقدان نوع من الفيتامين B١ في الطعام . إن حبة الرز الكاملة ( مع القشرة ) واجدة للفيتامين B١ .لكن الحبة المهبوشة لا تحتوي على هذا الفيتامين » (٢) .

والآن لننتقل إلى سيرة أئمتنا عليهم‌السلام : في الأطعمة ، وبالنسبة إلى النخالة بالخصوص :

« يقول سويد بن غفلة : دخلت على الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يوماً وقد حان وقت تناول الغذاء فرأيته جالساً على جانب مائدة ، وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه ، فذهبت إلى خادمته وقلت لها : يا فضة ألا تتقين الله في هذا الشيخ ؟ ! ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة ؟ فقالت : قد تقدم إلينا أن لا ننخل له طعاماً . . . فرجع سويد إلى الإِمام ثانية وذكر قصته مع فضة ، فتبين أن الإِمام عليه‌السلام قد تعلم هذا الأسلوب من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . . . ثم تذكر عظمة النبي قائلاً : بأبي وأمي من لم ينخل له طعام » (٣) .

____________________

(١) إعجاز خوراكيها ص ٩٥ .

(٢) چه ميدانيم ؟ تغذيه إنسان ص ٢٣ .

(٣) بحار الأنوار للمجلسي ج ٩ ص ٥٠١ .


وها هو الإِمام الصادق عليه‌السلام يتحدث عن طعام سليمان فيقول : « ويأكل هو الشعير غير منخول » (١) .

ب ـ الخضروات :

« كان البحارة والمكتشفون والجنود المرابطون في الأماكن القاحلة يصابون ـ لعدم وجود الفيتامين C في طعامهم ـ بمرض خطير يمسىٰ بـ ( رقة الدم ) . إن حالة المصاب مؤلمة جداً ، فالدم يجري من لثته ، وأسنانه تسقط ، يجري الدم من مؤخرته . تلتهب رئتاه ، تتفكك عظامه ويصاب بالإِغماء الشديد والإِعياء المذهل ، ويموت بعد شهرين أو ثلاثة من معاناة الآلام الشديدة . إن الخضروات الطرية تعالج هذا المرض أو تمنع ظهوره . إن كيفية هذه المسألة قد اتضحت بفضل الإِكتشافات الجديدة نسبياً في موضوع الفيتامينات » (٢) .

وإذا ما تصفحنا سيرة أئمتنا عليهم‌السلام بهذا الصدد ، نجد التأكيد الشديد على إستعمال الخضروات مع الطعام . « عن أحمد بن هارون ، قال : دخلت على الرضا عليه‌السلام فدعا بالمائدة ، فلم يكن عليها بقل ، فأمسك يده ثم قال : يا غلام أما علمت أني لا آكل على مائدة ليس عليها خضراء ؟ فأت بها ، قال : فذهب وأتى بالبقل ، فمد يده فأكل وأكلت معه » (٣) .

فهنا نجد الإِمام الرضا عليه‌السلام يمتنع عن أن يمد يده إلى مائدة ليس فيها شيء من الخضروات حتى تخضر له .

« إن جميع الأمرض ترتبط بسوء التغذية إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، وإن علاج جميع الأمرض متوفر في المواد الغذائية . إن الغذاء الجيد لا يقتصر أثره على إشباع الإِنسان ووقايته من أشد

____________________

(١) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٣ ص ١٠٣ .

(٢) چه ميدانيم ؟ تغذيه إنسان ص ٢٢ .

(٣) مكارم الأخلاق للطبرسي ص ٩٠ .


الأمراض فقط ، بل يمنحه عمراً طويلاً ، ويجعله وسيماً ورشيقاً ، وينشط دماغه ويقوي مواهبه » (١) .

العلاج بالغذاء :

تعالج بعض الأمراض في العصر الحديث بواسطة الغذاء ، وبذلك تعود للأفراد قوتهم وصحتهم ، وعن طريق الغذاء الكامل المناسب نجد أنهم يحولون الوجوه الشاحبة إلى وجوه نضرة ، والعيون الغائرة إلى براقة ، ولقد راعى الإِسلام في العصور الماضية هذه النكتة تماماً ، فمن بين الروايات العديدة التي وردت في موضوع الأطعمة على إختلاف أنواعها نجد الرسول الأعظم والأئمة الكرام عليهم‌السلام قد عالجوا المرضى والعجزة بالإِرشادات الغذائية ، وتجاوزوا ذلك إلى إرشادات حول تقوية الذكاء والحافظة عن طريق بعض الأطعمة . إن العسل من الأطعمة اللذيذة ، ولقد تحدث القرآن عنه : ( فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ) (٢) .

إن العالم الحديث يمتنع ـ قدر المستطاع ـ عن استعمال الدواء . ذلك إن الدواء في نفس الوقت الذي يقع مفيداً من جهة يكون مضراً من جهة أُخرى . . . يقول الإِمام الرضا عليه‌السلام بهذا الصدد : « ليس من دواء إلا ويهيج داء » (٣) . فأحسن طرق العلاج وآمنها ، هو الاستفادة من المواد الغذائية المختلفة التي أودعها الخالق العظيم بين أحضان الطبيعة لفائدة البشر .

« الكل يعلمون أن العامل الوحيد في إنتشار الأمراض التي تنتقل بالعدوى موجودات صغيرة جداً تسمى بـ (الميكروبات) وبعد أن اكتشف باستور وجود هذه الميكروبات ، تصور الناس جميعاً أنهم يستطيعون إقتلاع جذور الأمراض بمقاومة إنتشار الميكروبات ، ولذلك فقد إنتشر في أنحاء أوروبا طريقة شرب

____________________

(١) إعجاز خوراكيها لغياث الدين الجزائري ص ١٤ .

(٢) سورة النحل ؛ الآية : ٦٩ .

(٣) روضة الكافي ص ٢٧٣ .


الماء المغلي والأطعمة المطبوخة تماماً » .

« كان الجميع يتوقعون هبوط نسبة الوفيات والإِصابات بالأمراض يوماً بعد يوم ، ولكن المؤسف أنه لم يتوقف فشل هذا التوقع عند عدم إنتاج هذه الطريقة في تقليل الإِصابات . بل إن أكثر من نصف سكان أوروبا ـ والأشخاص الواعون منهم بالخصوص ، الذين كانوا مراقبين أكثر من غيرهم وكانوا يخافون من المكروبات ويطعون أوامر الأطباء بصورة عمياء ـ قد أصيبوا بأمراض عديدة . وبديهي أن أمراض هؤلاء لم تكن من نوع الأمراض المعدية التي تنتقل بالجراثيم بل كانت نتيجة الفرار من الأطعمة النيئة ، وغلي الأطعمة التي تموت فيتاميناتها بالغليان » (١) .

تعادل المواد الغذائية :

يستنتج مما مر : أن سلامة الإِنسان منوط بالتغذية الصحيحة والكاملة . إن الطعام يجب أن يكون حاوياً لجميع المواد اللازمة التي تحتاجها الأقسام المختلفة من الجسم . إن الإِستفادة السليمة من النعم الإِلهية والإِنتفاع الجامع والمعتدل من الأطعمة المطبوخة والنية ، من اللحوم المحللة والمواد الدهنية والسكرية والفواكه والخضروات كفيل يجعل الإِنسان قوياً وسليماً طيلة عمره .

وكذلك سلامة الروح وسعادتها . فهي منوطة بالتغذية الروحية الكاملة والسليمة . فالذين يريدون أن يحصلوا على روح سليمة ونفس طاهرة يجب عليهم الإِهتمام بجميع ميولهم الروحية وعواطفهم المعنوية وإشباعها عن طريق التغذية الكاملة .

إنه يجب البحث عن الغذاء الروحي الكامل في مجموعة الإِيمان والعلم والفكر والأخلاق والعواطف الإِنسانية وغير ذلك من المزايا الروحية .

إن من الأطعمة الضرورية والمفيدة للبدن ، اللحوم على إختلاف أنواعها ( من لحوم الطيور والأنعام والأسماك ) . وتبعاً للتعاليم الدينية والعلمية يجب

____________________

(١) إعجاز خوراكيها ص ٢٥ .


على الإِنسان أن يستفيد لحفظ حياته وسلامته من هذه المادة الحياتية المهمة ، ولكننا على يقين من أن اللحم وحده لا يكون غذاء كاملاً ، ولا يستطيع أن يحفظ للإِنسان حياته وصحته إلى الأبد .

والفروع العلمية المختلفة من طبيعية ورياضية وأدبية تشبه أنواع اللحوم الضرورية ، ولكن لا تشكل هذه العلوم وحدها غذاء روحياً كاملاً للإِنسان ولا تستطيع أن تحفظ للروح الإِنسانية حياتها وسلامتها إلى الابد .

وما أكثر البحارة الذين كانوا يملكون في بواخرهم المقادير الكافية من اللحوم والمواد الدهنية والسكرية ، ولكن حيث أنهم كانوا فاقدين للخضروات ، فقد خلت أطعمتهم من الفيتامين Cu ، فأصيبوا بنزف اللثة والمخرج والتهاب الرئة ، وماتوا أخيراً بأفظع صورة وأشد الآلام ، ، وكذلك ما أكثر الأشخاص المطلعين على المقدار الكافي من مسائل العلوم الطبيعية والرياضية ، ولكنهم عند هجوم المصائب عليهم ، أصيبوا بالأمراض النفسية أو الروحية أو أقدموا على الإِنتحار لعدم وجود الرصيد الإِيماني والأخلاقي عندهم .

إن إصابة أولئك وموتهم كان لنقص المواد الغذائية البدنية ، وإصابة هؤلاء وإنتحارهم لنقص المواد الغذائية الروحية ، ونتيجة كل منهما الشقاء والموت . فكما أن غذاء الجسد يتشكل من مجموعة من العناصر المختلفة : الدسم ، السكر ، الفسفور ، الكالسيوم ، الحديد ، اليود ، الفيتامين ، ونظائرها ، وأن فقدان أي عنصر منها يؤدي إلى عوارض خاصة كذلك غذاء الروح يتشكل من مجموعة من الثروات المختلفة : العلم ، الإِيمان ، العفة ، الأمانة ، الشجاعة ، التقوى ، وأمثالها . وإن فقدان أي واحد منها يتضمن عواقب وخيمة .

« وبصورة كلية فإن نظام التغذية الفاسدة عبارة عن فقدان بعض العناصر وعدم تعادلها ، من دون أن تظهر علائم بعضها في مقابل البعض الآخر . فحينذاك يصبح الجسم ضعيفاً ومستعداً لتقبل الأمراض المختلفة . وكما تقول ( مادام راندوان ) فأنه يمكن


الوصول إلى الأسباب الرئيسية لبعض الأمراض القاضية كالسل والسكر والسرطان في سلسلة من الأخطاء التي ترتكب بالنسبة إلى كيفية صنع الأطعمة طيلة أجيال عديدة . أن الجسم يستطيع أن يعيش مع وجود التغذية الناقصة وغير المتعادلة لفترة ما ، ولكن سرعان ما تظهر الإِختلالات وحينذاك فالألم يكون شديداً جداً . وقد يؤدي ذلك إلى إنهيار الصحة تماماً . إذا ظهر مرض سار فانا نقاوم الجراثيم الناقلة لذلك المرض ونكافحها ، ولكننا لكشف العلة الأصلية في نشوء الألم ما نحتاج إلى دقة شديدة ، وعلى أي حال فإن تشخيص المرض أصعب من إزالته « بكثير » (١) .

الروح الضعيفة :

لقد وجدنا إن الجسم يستطيع أن يعيش مع التغذية الناقصة وينمو قليلاً . ولكن عندما يصاب بمرض سار فلا يستطيع مكافحته إذ يواجه إختلالات عديدة ، فالآلام الشديدة تقض عليه مضجعه وقد تؤدي به إلى الموت .

وكذلك الروح فانها تستطيع أن تستمر على الحياة مع التغذية الروحية الناقصة ، ويكون الفرد حينذاك فرداً إعتيادياً في المجتمع ظاهراً ولكن في المواقف الحرجة ، وأمام الحوادث المؤلمة ، لا تملك قدرة المقاومة وأخيراً يفشل في المعركة وينسحب بعد أن فقد شخصيته .

قد نجد شاباً مؤدباً ، وقراً ، يبدو إعتيادياً جداً ، ولا يشاهد منه أي إنحراف ، يقضي الأيام في الذهاب إلى الثانوية ، وحين يحين موعد الإِمتحان يستعد لذلك ، ويجيب على الأسئلة ، ولكنه يرسب في ثلاثة دروس فيتألم لهذه الحادثة كثيراً ، ولا ينام ليله ، تسوء أخلاقه ويتشاءم من النظر إلى أي انسان في الحياة . . . وبدلاً من أن يتصرف بتعقل ويصمم على أن يجتهد أكثر ويعد نفسه لإِمتحانات السنة القادمة ، يختلي بنفسه وينهي حياته بتناول شيء من السم . . .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ تغذية إنسان ص ٢٥ .


هذا الشاب لا بد وأن تكون تغذيته الروحية ناقصة ، فلم يعلَّم في طفولته على التحمل والصلابة والصبر ، فسقوطه أحدث إختلالات كبيرة في فكره وقضى عليه أخيراً .

وكما يعجز الجسم الذي نشأ على التغذية الناقصة من مكافحة الأمراض السارية ، تعجز الروح التي ترتّب على التغذية الروحية الناقصة عن مجابهة الحوادث المؤلمة في الحياة .

إن من يصل إلى منزلة إجتماعية لائقة ولا يقدر على أن يتمالك على نفسه من الظلم والتعدي ، ومن يخسر شخصيته في مقابل الرشوة ويحكم على خلاف الحق والإِنصاف ، ومن يسحق جميع مظاهر الشرف والأخلاق في سبيل إرضاء ميوله الجنسية ، ومن يؤدي به الغنى والثروة إلى التكبر والأنانية . . . وبصورة موجزة : من ينحرف عن طريق الفضيلة والأخلاق في مقابل عامل روحي واحد . . . فذلك لأن روحه قد نشأت على التغذية الناقصة ولم تتغذ من جميع المواد الغذائية الروحية بصورة كاملة وسليمة .

قابلية المقاومة :

إن قابلية مقاومة الجسم تظهر في هجوم الأمراض السارية ، وقابلية كمقاومة الروح تظهر في الحوادث والمصائب التي تلاقي البشر في مختلف مراحل حياتهم . يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال » (١) .

وعلى سبيل الشاهد ، ننقل القصة التالية :

« . . . بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته ، إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع ، فرأى جيوش المسلمين من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله قد ملأوا السهل والجبل . فالتفت إلى مقدم العسكر وهو رجل يعرف بابن المضجعي ، فقال له : كيف ترى هذا العسكر أيها الوزير ؟ قال : أرى

____________________

(١) نهج البلاغة ص ٥٦٢ .


جمعاً كبيراً وجيشاً واسعاً كبيراً ، فقال له المنصور : ترى هل يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والنجدة والبسالة ؟ فسكت ابن المضجعي فقال له المنصور : ما سكوتك أليس في هذا الجيش ألف مقاتل ؟ قال : لا ، فتعجب المنصور . ثم قال : فهل خمسمائة مقاتل من الأبطال المعدودين ؟ قال : لا فحنق المنصور ثم قال : أفيهم مائة رجل من الأبطال ؟ قال : لا ، قال : أفيهم خمسون رجلاً من الأبطال ؟ قال : لا ، فسبه المنصور وأغلظ عليه وأمر به ، فأخرج على أسوأ حال . فلما توسطوا بلاد الروم إجتمعت الروم وتصادف الجمعان ، فبرز علج من الروم بين الصفين شاكي السلاح وجعل يكر ويفر ويقول : هل من مبارز ؟ ! فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة ، فقتله العلج . ففرح المشركون وصاحوا واضطرب المسلمون لها . ثم جعل العلج يموج بين الصفين وينادي : هل من مبارز ؟ ! إثنين لواحد فبرز إليه رجل من المسلمين فتجاولا ساعة فقتله العلج ، وجعل يكر ويحمل وينادي ويقول : هل من مبارز ؟ ! ثلاثة لواحد ! ! . فبرز إليه رجل من المسلمين فقتله العلج ، فصاح المشركون وذل المسلمون وكادت أن تكون كسرة فقيل للمنصور : ما لها إلا ابن المضجعي . فبعث إليه فحضر فقال له المنصور : ألا ترى ما صنع هذا العلج الكلب منذ هذا اليوم فقال : لقد رأيته فما الذي تريد ؟ قال : أن تكفي المسلمين شره . قال : الآن يكفي المسلمون شره إن شاء الله تعالى . ثم قصد إلى رجال يعرفهم ، فاستقبله رجل من أهل الثغور على فرس قد تهرت أوراكها هزالاً وهو حامل قربة ماء بين يديه على الفرس والرجل في حليته ونفسه غير متصنع فقال له ابن المضجعي : ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم . قال : قد رأيته فما الذي تريد ؟ . . . أن تكفي المسلمين شره ؟ قال : حباً وكرامة . ثم أنه وضع القربة الأرض وبرز إليه غير مكترث به فتجاولا ساعة فلم ير الناس إلا المسلم خارجاً إليهم يركض ولا يدرون ما هناك ، وإذا برأس العلج يلعب بها في يده . ثم ألقى الرأس بين يدي المنصور فقال له ابن المضجعي : عن هؤلاء الرجال أخبرتك . . . ثم رد إلى ابن المضجعي منزلته وأكرمه ونصر الله جيوش المسلمين وعساكر


الموحدين » (١) .

والخلاصة : إن كلا من الروح والجسد يحتاج في تأمين سعادته ووصوله إلى كماله اللائق به إلى الغذاء الكامل والجامع وإن فقدان أي عنصر من الغذاء يهيىء تربة مساعدة للإِنحراف أو الضعف في الروح أو الجسد .

النمو السريع للطفل :

وبالرغم من ضرورة المراقبة الغذائية اللازمة في جميع مراحل الحياة ، لكن مرحلة الطفولة تحتاج إلى مراقبة أشد ، ذلك أن الطفل ينمو في الأعوام الأولى من حياته بصورة أسرع ، ويتكامل بناؤه الفكري أكثر سرعة .

« إن الجزء الوحيد من البدن الذي يستثنى من قانون التكاثر بالانشطار هو الجهاز العصبي أي المخ وشبكة الأعصاب ، ذلك أن الوليد يأتي إلى الحياة مع الخلايا العصبية الكاملة ، ولا يصنع الجهاز طيلة أيام حياته حتى خلية مخية أو عصبية واحدة ، ولذلك فإن إنعدام هذه الخلايا نتيجة لصدمة أو مرض لا يمكن أن يجبر . ومع هذا كله فإن المخ ينمو على الرغم من ثبات عدد خلاياه وهذا النمو يحصل في الأعوام الثلاثة الأولى بسرعة عجيبة بحيث يمكن إرجاع ٩٥ % من نمو الدماغ عند الإِنسان إلى تلك الأعوام الثلاثة » (٢) .

مسؤولية الوالدين :

إن عبء مسؤولية الوالدين في هذه المراحل ثقيل جداً . فإن الغفلة عن سلامة الغذاء المادي والروحي للطفل وكمالهما تؤدي إلى عوارض غير قابلة

____________________

(١) المستطرف من كل فن مستظرف للابشيهي ج ١ ص ٢١٨ .

(٢) هورمونها ص ١١ .


للتدارك . فالطفل يكتمل بناؤه في الأعوام الأولى من حياته ، ولا بد من الاعتناء بجميع جوانبه المادية والمعنوية . إن نقص التغذية الروحية أو الجسدية في هذه الأيام تتضمن نتائج وخيمة ، إن خطأة صغيرة يمكن أن تؤدي إلى مشكلة عظيمة يستمر الطفل يئن منها إلى نهاية عمره .

« قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته . فالأمير على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع عن أهل بيته وهو مسؤول عنهم ، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » (١) .

فعلى الوالدين المسلمين أن يتنبها إلى المسؤولية الدينية العظيمة عليهما في تربية أطفالها . وليعلما أن الأطفال ودائع الله في أيديهما فالوالدان اللذان يؤديان واجبهما الديني في تربية الأولاد بصورة صحيحة يكونان قد أديا الأمانة كاملاً . ويستحقان الأجر والثواب عند الله على ذلك . أما الوالدان اللذان يتخلفان عن ذلك فهما خائنان . . . لأنفسهما ولأطفالهما ، وللمجتمع الذي يعيشون فيه ، وهما يستحقان العقاب والحساب العسير أمام الله تعالى.

ليست المسؤولية العظمى للآباء في أن يجمعوا في حياتهم ثروة ضخمة يورثوها إلى أولادهم . ذلك أن الولد إذا لم يحصل على تربية صحيحة فإن الثروة تبعثه على الفساد والشقاء . . . إن مسؤولية الوالد تعني أن يربي ابنه على الملكات الفاضلة والقيم العليا والإِيمان الصحيح وإعداده لخوض معركة الحياة بطهارة ونبل . . . وولد كهذا يستطيع أن يحيا حياة عزيزة وسعيدة وفي نفس الوقت يستطيع أن يكتسب ثروة كبيرة عن طريق مشروع .

يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « خير ما ورَّث الآباءُ الأبناءَ الأدب » (٢) .

ونعمة كبيرة يمتاز بها الأولاد الذين تحدروا عن آباء مؤمنين قاموا بتربيتهم تربية صحيحة ومن نتائج تلك التربية أنهم يعيشون حياة مطمئنة محبوبين لدى

____________________

(١) مجموعة ورام ج ١ ص ٦ .

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم ص ١٧٣ طبعة دار الثقافة .


الجميع . . . إنهم يجب أن يشكروا الله تعالى على تلك النعمة ويترحموا على والديهم ، ويحافظوا على الملكات الفاضلة التي تربوا عليها ، فلا يفقدوها بمعاشرة الفساد ومجالسة الأشرار .

أما الأولاد الذين لم يتلقوا تربية صحيحة من آبائهم ، فإن عليهم أن يبادروا إلى إصلاح أنفسهم ، ليكونوا واثقين من أنهم قادرون على تدارك تقصير والديهم بحقهم إذا تمسكوا بالأساليب العلمية والدينية الصحيحة ، وبذلك يستطيعون أن يسلكوا الطريق إلى السعادة والطهارة والعفة .


المحاضرة التاسعة

دور الأسرة في التربية

قال الله تعالى : ( مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) (١) .

تكون الميول المودعة في باطن الإِنسان رصيد سعادته وأساس تقدمه . . . فإن كل تلك الميول والمتطلبات قد أوجدت حسب نظام دقيق ، وبمقادير صحيحة : ( وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ) (٢) .

والسعيد هو الذي يتبع قوانين الخلقة المتقنة ، ويستجيب لجميع ميوله الروحية والجسدية باتزان وتعقل . فمن يفرط في الإِستجابة لنداء أحد ميوله أكثر من الحد اللازم ، أو على العكس من ذلك يكبت في نفسه بعض ميوله الطبيعية ولا يفسح المجال لاروائها يكون خارجاً على المنهج الفطري ومصاباً بالإِنحراف والشقاء بنفس النسبة .

ميول الروح والجسد :

إن الميول والرغبات الموجودة عند الإِنسان تكون تارة : واضحة وظاهرة

____________________

(١) سورة نوح ؛ الآيتان : ١٣ ـ ١٤ ـ.

(٢) سورة الرعد ؛ الآية : ٨ .


ويسعى جميع الناس في سبيل إرضائها . . . فمثلاً ليست حاجة الإِنسان إلى الطعام والهواء والماء والنوم ، والميل الطبيعي للّعب عند الأطفال والغريزة الجنسية عند الشبان والشابات أمراً خافياً على أحد . هذا النوع من الميول يدركها جميع الناس . . . وبديهي أن مدى الإِستجابة لهذه الميول يرتبط بالإِرشادات الدينية والعلمية ، ولكن توجد في الإِنسان ميول أُخرى تكون مستترة وغير ظاهرة وحيث أنها كذلك فقلما يلتفت إليها . إن جميع الناس يعلمون أن الطفل يحتاج إلى الماء والغذاء ، ولكن القليل منهم يدرك ضرورة تنمية شخصية الطفل . إن الوالدين يدركان حاجة الطفل إلى اللعب والنوم ، ولكن قلما يدرك الوالدان حاجة الطفل إلى العطف والحنان إلى درجة ما أيضاً . إن أولياء الأطفال يتنبهون إلى سلامة القلب والكبد والكلية وسائر أعضاء جسد الطفل تنبهاً كاملاً ، ولكنهم لا يهتمون إلى السلامة الروحية والأخلاقية للأطفال بنفس الدرجة .

إن العناية بالميول الباطنية والرغبات النفسية للطفل وتوجيهها الوجهة الصحيحة تعد من المسائل الاساسية في التربية ، وإن رصيد القائمين على تربية الأطفال في هذا السبيل هو التعاليم الدينية والأساليب العلمية الصحيحة وإن إندحار وكبت أي واحد من هذه الميول الفطرية يؤدي إلى إيجاد عقدة في روح الطفل ، يظهر رد فعلها طيلة العمر في جميع مجالات الحياة ، ويسبب مئات الإِنحرافات والمآسي .

*  *  *

ونظراً لأهمية الميول الباطنية للطفل في موضوع التربية فسنحاول أن نفصل القول فيها في المحاضرات القادمة مع تضمين ذلك بذكر التعاليم الإِسلامية العظيمة في هذا الصدد ، وبيان دور الوالدين في القيام بهذه المهمة .

أما بحثنا في هذه المحاضرة فينحصر في بيان أن الإِرضاء الكامل للميول الباطنية عند الطفل ، والإِهتمام بجميع جوانب شخصيته لا يحصل إلا في


محيط الأسرة . فإن حجر الأم وحضن الأب فقط قادران على أداء هذا الدور الفعال في حياة الطفل.

إرضاء جميع الميول :

إن دار الحضانة عاجزة عن أن تحل محل الأسرة ، وإن مرشدة الأطفال لا تستطيع أن تقوم مقام الأم في إرضاء عواطف الطفل ومشاعره . إن حنان الأم قوي في الإِنسان والحيوان إلى درجة أنه لا يوجد بعد غريزة حب الذات عاطفة أُخرى تعادل عاطفة الأمومة . إن قلب الأم يطفح بحب الطفل ، ولذلك فهي لا تتوانى عن القيام بأكبر التضحية في سبيل رشده ونموه . وحين تبتسم الأم بوجه الطفل وحين تضمه إلى صدرها ، وحين تشمه وتقبله من فرط الحنان والعطف . . . تسري موجة من النشاط واللذة في أعماق روح الطفل وتبدو على ملامحه وعينيه آثار الفرح والرضا . وقد يبكي الطفل أحياناً من دون أن يشكو ألماً أو جوعاً لكن بكاءه لكي يناغي ، إنه جائع إلى الحنان والعطف ، يبكي لغذائه النفسي ، فبمجرد أن الأم تحتضنه وتضمه إلى صدرها ، أو تمرر يدها على رأسه فهو يهدأ ، إن ملاطفة الطفل ومناغاته غذاء نفسي للطفل ، ويجب أن يتغذى من هذا الغذاء النفسي بالمقدار اللازم .

دقات قلب الأم :

من القضايا المشاهدة لدى الجميع إرتياح الطفل وهدوءه عندما تضمه الأم إلى صدرها ، لقد أثبتت التجارب العلمية الحديثة : أن دقات قلب الأم أوقع في نفس الطفل وآنس له من أي لحن آخر ، ولذلك فإن دور الحضانة تسجل صوت هذه الدقات على شريط ، وعندما يبكي الطفل يفتح الشريط بالقرب من أذنه ويهدأ بهذه الصورة .

فالفتاة التي قد تلقت قدراً كافياً من الحنان من محيط الأسرة في أيام طفولتها ، وتغذت روحها من عطف الوالدين ، لا تحتاج في دور المراهقة إلى الحنان ولا تلين بسماع بضع كلمات دافئة معسولة من هذا وذاك ، ولا تستجيب لتلك الإِنفعالات بسرعة .


وعلى العكس فإن الفتاة التي لن تتلق قدراً كافياً من الحنان في طفولتها ولم تشبع غريزتها الباطنية بحب الوالدين ، تملك روحاً ضعيفة جداً ، وبإمكان شاب مراوغ لبق أن يحرفها عن الطريق بإهدائه إليها باقة من الزهور ، وببضع كلمات دافئة . . . وبذلك يجني على عفتها وطهارتها وتسقط الفتاة إلى الأبد في هوة سحيقة من الفساد والإِنحراف ، أو تغسل العار بالإِنتحار .

نقص التربية في رياض الأطفال :

لقد إنتشرت رياض الأطفال في المدن الأوروبية منذ عهد قريب ، وتقوم تلك المؤسسات برعاية الأطفال ، فالأمهات الموظفات وكذلك النساء اللاهيات اللاتي لا يردن أن يجدن مزاحمة من أطفالهن في مجالس الرقص والقمار والفساد ، يستغللن هذه الفرصة ، ويودعن أطفالهن في ( رياض الأطفال ) .

إن حياة الطفل في روضة الأطفال جميلة جداً بحسب الظاهر ، فهو يلبس الملابس النظيفة والأنيقة ويمشط شعره ، وقوامه رشيق ، إن روضة الأطفال تجهز بالوسائل الصحية اللازمة بالغرف مبنية على الأساليب الفنية والأسرّة مغطاة بالشراشف والطعام يحضر حسب المناهج الصحيحة ، والطفل يلعب بالمقدار الكافي ، وينام في الوقت المقرر ، وبصورة موجزة فإن جانباً مهماً من ميول الطفل ورغباته الروحية والجسدية يكون مضموناً.

لكنه توجد في أعماق الطفل عواطف ومشاعر لا تشبع في المحيط الإِجتماعي لروضة الأطفال ، فهناك فرق كبير بين علاقة إمرأة واحدة تشرف على مائة طفل ـ لغرض الإِنتفاع المادي فقط ـ بالطفل ، ولهيب الحب السماوي المودع في قلب الأم ، فلا توجد المناغاة الحارة التي تبعث الطفل على الرضا والإِنشراح إلا في حجر الأم ، أما في روضة الأطفال فلا .

إن الطفل الذي يعيش بين مائة طفل حياة غير مستقلة ، لا يدرك معنى للشخصية والاستقلال الفردي ، وهما من أبرز الخصائص الإِنسانية (١) إن

____________________

(١) ومن المناسب أن ندرج هنا ما أوردته مجلة ( العربي ) في فصل ( دردشة ) تحت عنوان :


حركات الطفل وسكناته يمكن أن تراعى بدقة في الأسرة بينما تضيع أفعاله وسط أفعال مائة طفل كموجة بين مئات الأمواج في البحر حيث تصطدم بعضها ببعض ، وتزول كلها .

« يجب ألا يكون التعليم مانعاً من التوجيه الصائب . . . مثل هذا التوجيه يعود إلى الوالدين ، فهما وحدهما وبصفة أخص الأم ، قد لاحظا منذ شبّا الصفات الفسيولوجية والعقلية التي يهدف التعليم إلى تنظيمها وتوجيهها . . . . لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة حينما استبدل المدرسة بتدريب الأسرة إستبدالاً تاماً . . . ولهذا تترك الأمهات أطفالهم لدور الحضانة حتى يستطعن الأنصراف إلى أعمالهن ، أو مطامعهن الإِجتماعية ، أو مباذلهن ، أو هوايتهن الأدبية أو الفنية أو للعب البريدج ، أو إرتياد دور السينما ، وهكذا يضيعن أوقاتهن في الكسل . . . إنهن مسؤولات عن إختفاء وحدة الأسرة واجتماعاتها التي يتصل فيها الطفل بالكبار فيتعلم منهم أموراً كثيرة . . . إن الكلاب الصغيرة التي تنشأ مع كلاب أُخرى من عمرها نفسه في حظيرة واحدة لا تنمو نمواً مكتملاً كالكلاب الحرة التي تستطيع أن تمشي في أثر والديها . . . والحال كذلك بالنسبة للأطفال الذين يعيشون وسط جمهرة من الأطفال الآخرين ، وأُولئك الذين يعيشون بصحبة راشدين أذكياء لأن الطفل يشكل

____________________

( الأم هي المعلمة الأولى ) : « تستطيع الأم الفاضلة أن تؤدي مهمة مائة أُستاذ من أساتذة المدارس . هذا ما قاله الشاعر الإِنجليزي جورج هربرت وهذا ما أثبته التاريخ .فجورج واشنطون أول رئيس للجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية . كان قد فقد أباه وهو في الحادية عشرة من عمره ، وما كان ليشب على نحو ما شب عليه من رصانة الخلق وقوة الشخصية لو تكن أمه على جانب كبير من الحكمة والإِقتدار . وقد تولت تربيته ، منفردة ، بعد وفاة أبيه . ويصدق ذلك كثيراً أو قليلاً على عدد من أعلام الأدب والعلم والشعر عبر التاريخ نذكر منهم على سبيل المثال : جوته ، وجري ، وشيللر ، وبيكون ، وأرسكني . فلولا تربية أمهاتهم لهم لما احتل هؤلاء مكانتهم بين الأعلام المبدعين » .

عن مجلة العربي العدد ٩٥ ص : ٥٩ .


نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي طبقاً للقوالب الموجودة في محيطه . . إذ أنه لا يتعلم إلا قليلاً من الأطفال الذين هم في مثل سنه . وحينما يكون وحده فقط في المدرسة فإنه يظل غير متكمل . . . . »

« إن إهمال مؤسساتنا الإِجتماعية للفردية مسؤول أيضاً عن تقمص الراشدين . . . كما أن الإِنسان وحيد وكأنما هو يضيع في المدن العصرية الضخمه . . . إنه خلاصة اقتصادية . . . وحدة في القطيع ، إنه يتخلى عن فرديته » (١) .

تربية اليتيم :

وعلى أننا سنبحث عن أهمية الأسرة في مناغاة الطفل في محاضرة خاصة ونبيّن وجهة نظر الإِسلام فيها . . . سنعرض هنا لقضية تربية اليتيم وموقف التعاليم الإِسلامية العظيمة منه ، لكي يتضح موضوعنا في هذا اليوم ، ثم ننتقل إلى دور الأسرة في تربية الطفل.

كثيراً ما يصادف أن يموت الآباء أو الأمهات في أيام الحروب أو في الحالات الاعتيادية ، ويخلفون أطفالاً صغاراً يجب أن يحافظ عليهم في المجتمع وليصيروا رجال الغد بفضل التربية الصحيحة ، وإن الدول وضعت للأيتام نظماً معينة تكفل لهم حقوقهم .

والإِسلام أيضاً يتضمن التعاليم القانونية والخلقية الخاصة به في حل هذه المشكلة . فإذا كان الطفل اليتيم قد ورث من أبويه مالاً فإن القيم ( وهو الشخص الذي يعين من قبل الحاكم الإِسلامي العادل لإِدارة شؤون اليتيم ) يقوم بتهيئة ما يحتاج إليه من طعام ولباس ومسكن من ماله الخاص أما إذا لم يملك اليتيم مالاً ، فإن بيت المال هو المسؤول عن مصارفه فحياة اليتيم إذن مؤمنَّة طبقاً للنظام المالي في الإِسلام . ولكن النكتة الجديرة بالدقة هي : إن الإِسلام لا يرى

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٢٠٨ .


إنحصار سعادة اليتيم في توفير وسائل الحياة المادية من الطعام واللباس والمسكن فقط .

اليتيم إنسان قبل كل شيء ، ويجب أن تحيى فيه جميع الجوانب المعنوية والفردية ، وله الحق في الاستفادة من الحنان والعطف والأدب والتوجيه ، وكل ما يستفيد منه الطفل في حجر أبويه . اليتيم ليس مثل شاة في القطيع يذهب صباحاً إلى المرعى معهم ويرجع في المساء . إنه إنسان ويجب الإِهتمام بميوله الروحية وغذائه النفسي مضافاً إلى الرعاية الجسدية والغذاء البدني .

اليتيم في أحضان الأسرة :

إن الرويات الكثيرة تصر على معاملة اليتيم معاملة بقية الأطفال في الأسرة ، وأن يقوم الرجال والنساء مقام الوالدين في رعاية اليتيم . لقد كان بإمكان الحكومة الإِسلامية في عصر الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناحية المادية أن تنشىء في كل مدينة داراً لرعاية الأيتام وتصرف عليهم من بيت المال ، ولكن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفعل ذلك . لأن هذه المؤسسات والدور ناقصة من وجهة نظر التربية الكاملة من الناحيتين الروحية والمادية . فالأسرة فقط هي التي تستطيع أن تلبي نداء عواطف الطفل ، ولذلك فقد ظل يوصي الآباء والأمهات وأولياء الأسر بمنطق الدين والإِيمان بالمحافظة على اليتيم ، وأخذه إلى بيوتهم وإجلاسه على موائدهم ، ومعاملته كأحد أولادهم ، والسعي في تأديبه وإدخال السرور على قلبه بالعطف والحنان والمحبة .

لا شك أن تأسيس دور للأيتام وإكسائهم وإشباعهم ، عبادة إسلامية كبيرة ، ولكن مناغاة اليتيم والعطف عليه ، وتأديبه وتربيته عبادة أُخرى وقد خص الله لذلك أجراً وثواباً خاصاً .

وها نحن نعرض النصوص الواردة في حق اليتيم :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « خير بيوتكم بيت فيه يتيم يُحسَنُ إليه ، وشرّ بيوتكم بيت يُساء إليه » (١) .

____________________

(١) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ١ ص ١٤٨ .


٢ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من عال يتيماً حتى يستغني ، أوجب الله له بذلك الجنة » (١) .

٣ ـ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من كفل يتيماً من المسلمين ، فأدخله إلى طعامه وشرابه ، أدخله الله الجنة البتة ، إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر » (٢) .

٤ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : « من مسح رأس يتيم ، كانت له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات » (٣) .

٥ ـ « من أقعد اليتيم على خوانه ، ويمسح رأسه يلين قلبه » (٤) .

٦ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من أنكر منكم قساوة قلبه ، فليُدْنِ يتيماً فيلاطفه وليمسح رأسه يلين قلبه بإذن الله ، فإن لليتيم حقاً » (٥) .

٧ ـ عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال : « جيىء بمقدار من العسل إلى بيت المال ، فأمر الإِمام علي عليه‌السلام بإحضار الأيتام ، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقين كان بنفسه يطعم الأيتام من العسل ، فقيل له يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها ؟ فقال : إن الإِمام أبو اليتامى وإنما ألعقتهم هذا برعاية الآباء » (٦) .

٨ ـ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أدِّب اليتيم مما تؤدب منه ولدك واضربه مما تضرب منه ولدك » (٧) .

٩ ـ من وصية الإِمام أمير المؤمنين إلى أولاده : « الله الله في الأيتام فلا تغبوا أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم » (٨) .

____________________

(١) تحف العقول ص ١٩٨ .

(٢) مستندرك الوسائل ج ١ ص ١٤٨ .

(٣) المصدر السابق ج ٢ ص ٦١٦ .

(٤) سفينة البحار مادة ( يتم ) ص ٧٣١ .

(٥) الوسائل ج ١ ص ١٥٧ .

(٦) البحار ج ٩ ص ٥٣٦ .

(٧) الوسائل ج ٥ ص ١٢٥ .

(٨) نهج البلاغة ص ٤٧٠ .


١٠ ـ عن فقه الرضا عليه‌السلام : « وإن كان المعزّى يتيماً فامسح يديك على رأسه » (١) .

١١ ـ « لما أصيب جعفر بن أبي طالب ، أتىٰ رسول الله أسماء فقال لها : أخرجي لي ولد جعفر فاخرجوا إليه فضمهم وشمهم ، قال عبد الله بن جعفر : أحفظ حين دخل رسول الله على أمي ، فنعى لها أبي ونظرت إليه وهو يمسح على رأسي ، ورأس أخي » (٢) .

*  *  *

يستفاد من مجموع النصوص الإِسلامية ضرورة تربية الأيتام كسائر الأطفال في المجتمع ، ولهم الحق في الإِستفادة من جميع المزايا والعواطف الإِنسانية ، إن الأيتام في الدول الإِسلامية يمتازون برعاية كاملة من حيث الطعام واللباس والحنان والأدب بحيث لا يحسون بأي فرق بينهم وبين سائر الأطفال . وطبيعي أن تربية كهذه تكون مصونة من الإِنحراف والخطأ . وإن طفلاً كهذا لا يصاب بعقدة الحقارة والذلة ، فينمو بصورة معتدلة وتشبع رغباته الباطنية جميعها بشكل صحيح ، ولكن القيام بمثل هذا الواجب المقدس والعبء الثقيل يتطلب إيماناً قوياً وعقيدة مستقيمة .

لقد إهتم الإِسلام بتعليم أتباعه هذا الدرس المقدس والآن حيث يطوي هذا الدين السماوي قرنه الرابع عشر نجد في أطراف العالم الإِسلامي الرجال والنساء الكثيرين الذين يفتحون صدورهم ـ بكل رضى واعتزاز ـ للقيام بهذه المهمة ، ويتوروعون عن إتيان أصغر عمل يسبب الأذى لليتيم وجرح عواطفه .

« وحين يحرم الموت المبكر طفلاً من ملجئه الطبيعي يشدد الآخرون في رعايتهم له والإِستجابة لاحتياجاته لكن هذا العمل لا بد وأنه منبثق من كنز عظيم يفيض بالحنان والعاطفة . وإن كنزاً كهذا لا يوجد إلا في باطن ثلة قليلة من البشر الممتازين » (٣) .

____________________

(١) مستدرك الوسائل ج ١ ص ١٤٧ .

(٢) بحار الأنوار ج ١٨ ص ٢١٢ .

(٣) ما وفرزندان ما ص ٣ .


وإذا كان قائد الإِسلام العظيم يوصي الأسرة الخيرة باحتضان الأطفال اليتامى لتربيتهم التربية الصحيحة ومعاملتهم كأطفالهم كي يحصلوا على المقدار الكافي من الحب والحنان ، ويتلقوا الأدب والسلوك المستقيم ، ويصبحوا أفراداً كاملين ، فهل يمكن أن يرضى الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمهات أن يتركن أطفالهن لأعذار يعرفنها ويحرمهم من التربية الصحيحة ، والفوائد المهمة التي يستطيعون أن يحصلوا عليها في محيط الأسرة فقط ؟ !

« إن حرارة الأسرة تسبب تفتح جميع المشاعر والعواطف الراقية الكامنة في نفس الطفل بنفسها ، وبذلك يتطبع الطفل منذ حداثته على الصدق والأمانة والشهامة . إن الأسرة هي الميدان العملي لتطبيق تعاليم الشعور بالمسؤولية والوجدان ، وإظهار ذلك كله بصورة بارزة ظاهرة أمام عين الطفل » .

« إن الأسرة التي ينتشر فيها الوفاء والتضحية ، الصدق والشهامة في الأقوال والأفعال ، والأمانة والشجاعة في العمل ، الإِيثار والتواضع . . . ترسم نموذجاً صالحاً للأطفال » .

« إن جميع هذه العوامل تتجلى لعيني الطفل بالتدريج خلال حياته ، وفي الحين الذي يتلقاها بصورة تلقائية يتطبع عليها بدوره » (١) .

المدرسة الأولى :

إن محيط الأسرة مدرسة تستطيع أن تنمي المواهب الكامنة في نفس الطفل ، وتعلمه دروساً في العزة والشخصية ، الشهامة والنبل ، التسامح والسخاء . . . . وغير ذلك من القيم الإِنسانية العليا ، لروضة الأطفال .

كان الإِمام علي عليه‌السلام ـ دون أية مبالغة ـ إنساناً كاملاً ، وشخصية مثالية في العالم كله ، فلقد ظهرت جميع الصفات الإِنسانية والملكات الفاضلة على

____________________

(١) المصدر السابق ص ٤ .


أكمل وجه في هذا الرجل الإِلهي . إنه معلم مدرسة الإِنسانية ومثلها الأعلى . فلقد خضع له الصديق ، والعدو المسلم وغير المسلم ، وكل من أطلع على تاريخه المشرق النير .

هذه الشخصية الإِلهية الكبيرة نجده يفخر بكل صراحة بالتربية التي تلقاها في أيام طفولته ويتحدث لنا عن الثروة المعنوية الضخمة التي حصل عليها في تلك المرحلة من حياته الشريفة ، ويتباهى بمربيه العظيم نبي الإِسلام القدير فيقول : « وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة ، ووضعي في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه » (١) .

. . . ثم يستطرد فيقول : « يرفع لي في كل يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالإِقتداء به » (٢) .

لقد تشبعت جميع الميول العقلية والعاطفية للإِمام علي عليه‌السلام في فترة الطفولة في حجر النبي الحنون ، فلقد أروى عواطفه بالمقدار الكافي من ينبوع محبته وعطفه من جهة ولقد أعطاه دروساً في الأخلاق وأمره باتباعها من جهة أُخرى .

ومن كان في طفولته واجداً لأثمن الذخائر الروحية والمادية من الوجهة الوارثية ، ومن ناحية التربية قد تلقى المثل في أطهر أسرة وكان مربيه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدير بأن يكون في الكبر قائد السعادة البشرية وأمير جيش الإِيمان والتقوى . . .

إن الأساليب التربوية العميقة الحكيمة التي إتخذها الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع علي عليه‌السلام قد أحيت جميع مواهبه الكامنة وأوصلته في مدة قصيرة إلى أعلى مدارج الكمال ، فلقد تقبل الإِسلام في العاشرة من عمره عن وعي وإدراك

____________________

(١) نهج البلاغة ص ٤٠٦ .

(١) نهج البلاغة ص ٤٠٦ .


وعمل على نشر تعاليمه متبعاً في ذلك سيرة النبي ولم ينحرف عن الصراط المستقيم قدر شعرة إلى آخر حياته .

ونموذج آخر للتربية الصالحة نجده في التاريخ المشرق للإِمام الحسين ابن علي (ع) فهو غير خفي على أحد . فلقد خلدت القرون المتمادية شهامة الحسين وتضحيته ، إيثاره وعظمته في إعلان كلمة الحق والعدالة ، ولم يغب ذلك كله عن أذهان البشرية على مر الأجيال . ولقد تباهى ذلك الإِمام العظيم كوالده بطهارة أسرته العريقة في أحرج المواقف ، وتحدث عن تربية عائلته له آنذاك قائلاً : « ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين إثنتين : بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت » (١) .

أجل ! فلقد قال الله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (٢) والإِمام الحسين عليه‌السلام هو نفسه من المؤمنين وهو قائد المؤمنين وعليه يجب أن لا ينصاع لقوى الظلم والبغي . وأما دليله الثاني فهو أنه من أسرة أنفت الذل وأبت الضيم . وكأنه يقول : إني تربيت في حجر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي بن أبي طالب والصديقة الزهراء ، لقد نشأت على الشرف والإِباء . . . كان بيتنا الصغير منبع الفضيلة والشهامة ، ولم تجد الحقارة طريقاً لها إلى أُسرتنا . . . لقد تربيت في أحضان من عاشوا حياة ملؤها العز والحرية ، فكيف أرضىٰ بالذلة والخضوع متناسياً ثروتي العائلية ؟ ! هذا مستحيل ، فلن أُبايع يزيد أبداً ولا أخضع لأوامره . . .

هذه الشهامة والعزة ، وهذا الإِباء والشرف . . . نتيجة التربية الأصيلة في الأسرة ، التربية النابعة من حنان الوالدين وحبهما ، ذلك الحب الممزوج بالإِيمان ، التربية التي ملؤها الصفاء والإِخلاص والطهارة والواقعية .

. . . إن رياض الأطفال أعجز من أن تربي أولاداً كهؤلاء . فهي مؤسسة

____________________

(١) نفس المهموم ص ٤٩ ـ ١٤٩ .

(٢) سورة المنافقين ؛ الآية : ٨ .


تجارية قبل أن تكون مركزاً ثقافياً وتربوياً ، فإن مؤسسي رياض الأطفال يهدفون في الدرجة الأولى إلى الحصول على مال من وراء الأجور الشهرية للأطفال ؛ ويهتمون بالتربية في الدرجة الثانية ، مع أن التربية أيضاً سطحية وبسيطة . إن الآباء والأمهات الذين لا يملكون هدفاً بغير التربية يجدون لذتهم في أن يربوا أولادهم تربية صحيحة ويجعلوهم أفراداً جديرين أكفاء في المجتمع ، وإن مركز هذا النشاط هو الأسرة فقط .

ثم إن الميزة الأُخرى التي تضفي أهمية كبيرة على قيمة الأسرة هي إحياء الخصائص الفردية . فالأفراد ليسوا متفاوتين فيما بينهم من ناحية المنظر والبناء الخارجي فقط ، بل يختلفون من حيث معنوياتهم ونفسياتهم أيضاً . وهذا نفسه أحد مظاهر القدرة الإِلهية . . . « ما لكم لا ترجون لله وقاراً ، وقد خلقكم أطواراً » .

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الناس معادن ، كمعادن الذهب والفضة » (١) .

الأطفال الممتازون :

وهكذا نجد أن بعض الأطفال يولدون مع صفات وخصائص معينة لا توجد عند الأفراد الإِعتياديين . فربما يوجد العقل والإِدراك والذكاء والفطنة ، الحافظة وسرعة الإِنتقال ، الشهامة والسيطرة على النفس وقسم آخر من الصفات في بعض الأفراد بصورة أكثر من المعتاد . ويختلف العظماء والنوابغ في العالم من حيث البناء الطبيعي عن بقية الأفراد . وإن النجاح الذي أحرزه كل منهم في ميدانه في أثناء حياته يعزى إلى الدقة المعمولة في خلقهم وبنائهم . وعلى سبيل الشاهد ننقل قصة أبي زكريا التبريزي تلميذ أبي العلاء المعري وقد تلمذ على يده سنوات عديدة . ولما كان أبو العلاء مكفوف البصر فلقد كان لا يستطيع القراءة . وفي أحد الأيام كان أبو زكريا يقرأ لأبي العلاء كتاباً له في مسجد المعرة وفي الأثناء حضر مسافر من تبريز إلى الجامع ليصلي ، فسر أبو زكريا لرؤيته كثيراً وتوقف عن قراءة الكتاب لعدة لحظات فسأله الأستاذ عن

____________________

(١) البحار ج ١٤ ص ٤٠٥ .


السبب ، فأخبره بمجيىء صاحبه . فأمره أبو العلاء بأن يذهب إليه ويتحدث معه فقال له : أمهلني أكمل الصفحة ، فقال : لا وسأنتظرك حتى تنهي حديثك . فجلس أبو زكريا مع صاحبه على بعد خطوات من أبي العلاء وأخذ يتحدث معه باللغة المحلية ويسأله عن بعض القضايا فيجيبه . وعندما رجع إلى أُستاذه سأله : أي لغة هذه ؟ قال : لغة آذربايجان ! فقال : إني لم أفهم ما تداول بينكما من حديث ، ولكني حفظت ما قلتماه ، وأعاد جميع الألفاظ بلا زيادة أو نقصان . فتعجب صاحب أبي زكريا من حافظة أُستاذه بشدة ، وكيف أنه حفظ تلك الألفاظ بسرعة دون أن يفهم معانيها (١) .

نوابغ العالم :

لقد وجد على مر القرون المتصرمة نوابغ عظماء لا يقاسون مع سائر الأفراد من حيث إدراك الحقائق العلمية ، والذكاء ، الخارق . وإن الترقيات التي نالت البشر في الحياة المادية مدينة إلى مواهب هؤلاء الرجال البارزين فهم الذين أدركوا الحقائق العلمية بفضل مواهبهم الخاصة ، وقادوا ركب الإِنسانية إلى الإِمام .

« إننا نختار من بين الملايين أفراداً معدودين في تلك الدولة حيث خدموا التقدم العام ، واستطاعوا بفضل مواهبهم أو دهائهم أن يجعلوا لأنفسهم فوق مستوى الآخرين ، وأن يكونوا قائدي زمام التمدن » .

« إننا نلاحظ الإِنسانية على أنها مجموعة حية في حالة دائمة من التغيّر والذكاء ، ونعلم أن تطورات هذه المجموعة تبدأ بواسطة أُناس نادرين ومتفردين في الغالب ! » .

« هذه الأدمغة البارزة هي مركز الأمواج التي تشبه الأمواج الحادثة عند سقوط قطعة من الحجر في الماء . هؤلاء يمكن أن يوجدوا في

____________________

(١) ينقل القصة بكاملها صاحب ( قاموس دهخدا ) الفارسي عند ترجمة ( أبي العلاء المعري ) ص ٦٣٦ .


آسيا ، أو أمريكا ، أو أي طبقة أُخرى من البشر . هؤلاء ليسوا صينيين ، أو أمريكان ، أو إنكليز ، أو فرنسيين ، أو هنود . . . انهم بشر » (١) .

رسل السماء :

إن تكامل الإِنسان في المدارج المعنوية ، وخلاصة من عبادة الأصنام والنار ، ونجاته من الأوهام والخرافات مدين لجهود الأنبياء والرسل . فلقد كانوا أناساً غير إعتياديين في بنائهم ومواهبهم الباطنية . وبالرغم من أن تعاليم الأنبياء والقوانين التي يسنها الرسل إنما هي من السماء وهو يقومون بإيصالها إلى البشر فقط ، يجب أن لا ننسى أن هذه المنزلة لا يستطيع إحرازها كل فرد ، وليس بإمكان كل فرد أن يصير نبياً . ( اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (٢) .

لم يكن نبوغ نبي الإِسلام العظيم قبل نزول الوحي عليه ، وكمال عقله وذكائه الخارق أمراً مخفياً على الناس ، فإنه كان فريداً في بابه قبل أن يختاره الله لهذا المنصب العظيم . فالأفكار العالية والقريحة الفريدة التي كان يمتاز بها كانت قد رشحته لأن يكون أوحدياً ، وقدوة للبشرية أجمع ، ذلك الرجل العظيم ، والشخصية المثالية كان جديراً بمقام النبوة ، ولذلك فقد إختاره الله تعالى لهذه المهمة .

الخصائص الفردية :

الخلاصة : إنه يوجد في باطن بعض الأطفال من المواهب الخاصة ما ليست موجودة عند باقي الأفراد . وإن ظهور تلك الخصائص يسبب تقدم البشرية ورقيها ، فأنهم يجب أن يخضعوا منذ الصغر إلى رقابة تربوية صحيحة ، وتهيج لهم ظروف وبيئة صالحة ، وإن البيئة الوحيدة التي تستطيع أن تنمي القابليات الخاصة وتستغل الطاقات الكامنة وتخرجها إلى حيز الوجود هي الأسرة .

____________________

(١) سرنوشت بشر ص ١٩٠ .

(٢) سورة الأنعام ؛ الآية : ١٢٤ .


« وبدلاً من أن يشبه الآلة التي تنتج في مجموعات ، يجب على الإِنسان ـ بعكس ذلك ـ أن يؤكد وحدانيته ولكي نعيد تكوين الشخصية يجب أن نحطم هيكل المدرسة والمصنع والمكتب . . . إننا نعلم أنه من المستحيل أن ننشىء أفراداً بالجملة ، وأنه لا يمكن إعتبار المدرسة بديلاً من التعليم الفردي . . . إن المدرسين غالباً ما يؤدون عملهم التهذيبي كما يجب ، ولكن النشاط العاطفي والجمالي والديني يحتاج أيضاً إلى أن ينمي ، فيجب أن يدرك الوالدان بوضوح أن دورهما حيوي ويجب أن يعدا لتأديته . . . ».

« حينما إعترف المجتمع العصري بالشخصية كان عليه أن يقبل عدم مساواتها ، فكل فرد يجب أن يستخدم تبعاً لصفاته الخاصة . . . وفي محاولتنا توطيد المساواة بين الناس ألغينا الصفات الفردية الخاصة التي كانت أكثر نفعاً ، إذ أن السعادة تتوقف على ملاءمة الفرد ملاءمة تامة لطبيعة العمل الذي يؤديه . . . ولذلك يجب أن ينوع البشر بدلاً من أن يصبحوا جميعاً على نسق واحد كذلك يجب أن تستبدل هذه الإِختلافات التي حفظتها وهولتها طريقة التعليم وعادات الحياة . . . . » (١) .

ولقد تلقى الإِمام علي عليه‌السلام الإِختلافات الطبيعية بين الأفراد باهتمام بالغ ، وربط مصير سعادة الناس وخيرهم بالمحافظة على تلك الإِختلافات كما ربط شقاءهم وهلاكهم بإزالة تلك الفوارق الطبيعية .

« قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا فإذا استووا هلكوا » (٢) .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٢٣٩ ـ ٢٤٠ .

(٢) البحار للمجلسي ج ١٧ ص ١٠١ .


مسايرة التربية للفطرة :

من الضروري أن يستفاد من الإِختلافات الطبيعية للبشر في موضوع التربية ، وتربية كل فرد حسب المواهب والقابليات المودعة في بنائه الفطري لكي يستفيد المجتمع أقصىٰ الفائدة من جميع الذخائر الفطرية المودعة في باطن الأفراد .

وإذا أغفلنا هذه النقطة التي أقرها الله بحكمته البالغة ولم تنسجم تربية كل فرد مع غرائزه الفطرية فإن الفرد سيبقى محروماً من الكمال اللائق به ، ويكون مصاباً بالإِنحراف بنفس النسبة .

يتولد بعض الأطفال مع خصائص غير مرغوب فيها ، قد ضربت جذورها فيهم كسوء الخلق أو التلذذ بإيذاء الآخرين .

« حيث يقع سلوك الإِنسان وخلقه تحت تأثير التحريكات الداخلية يمكن إعتبار الغضب خاصة أصيلة فيه فالطفل لا يعلم ما يصنع ، أو أنه لا يدرك الموقف كما ينبغي أن يدركه ، إن هذا الغضب شديد وخطر » .

« نرى الطفل يتدحرج على الأرض ، يضرب رأسه بالجدار ، يقتلع شعر رأسه ، يضرب ، يعض من حوله ، يحطم الأثاث ، يكسر زجاج النوافذ ، وبما يرتكب جريمة قتل . . . » .

« وبعد هذه الفورة من الغضب يهدأ الطفل ، وحين يستولي عليه التعب تماماً يحس من نفسه بحاجة شديدة إلى النوم » (١) .

. . . لقد أثرت ظروف خاصة على بنية أطفال كهؤلاء ، فجعلتهم ينشأون على هذه الخصائص ، ويجب أن لا نلومهم على ذلك ، يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام بهذا الصدد : « لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق ،

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ ( أطفال دشوار ) ص ٤٨ .


لم يلم أحدٌ أحداً » (١) .

هؤلاء الأطفال يجب أن يوضعوا منذ البداية تحت رقابة تربوية صحيحة وأن يهتم المربي بجميع خصائصهم النفسية ويستخدم تلك الميول الفاسدة في المجاري الصحيحة ، وإرضائها بهذه الصورة .

« يستطيع الشخص المصاب بعقدة الإِيذاء إرضاء رغبته هذه في طريق آخر حسب مستواه الثقافي وظروف حياته أي أنه إذا كان مستواه العلمي واطئاً يختار مهنة القصابة ويصبح قصاباً وإذا كان حائزاً على درجة علمية راقية فيستطيع أن يشتغل جراحاً ، وبهذه الصورة تشبع رغبته في إيذاء الآخرين بطريقة تلقائية » (٢) .

والنتيجة التي توصلنا إليها ضمن بحوثنا المتقدمة هي : أن الأسرة تستطيع أن تتعهد ثلاثة أمور مهمة مضافاً إلى المحافظة على الطفل وتربيته الإِعتيادية ـ هذه الأمور هي :

١ ـ تهتم بجميع الميول الداخلية والمثل الإِنسانية للطفل وتعمل على إرضاء كل منها في مورده وبالمقدار المناسب له . وبذلك يكتسب الطفل شخصية كاملة متزنة .

٢ ـ تهتم بالأطفال البارزين الذي يملكون قابليات ومواهب عالية بصورة خاصة وتهيىء الوسائل اللازمة لظهور تلك المواهب والقابليات وتقويتها لتعطي ثمارها بعد حين .

٣ ـ إذا كان الطفل يملك بعض الخصائص السيئة فإن من الممكن أن يخضع في ظل الأسرة لرقابة صحيحة ، وبالتالي تعديل تلك التصرفات غير المرغوب فيها وهدايتها إلى الطريق الصحيح .

____________________

(١) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٤ ص ٧١ .

(٢) أنديشه هاى فرويد ص ٢٥٨ .


هذه هي الوظائف الرئيسية التي يمكن للأسرة أن تقوم بها بينما تعجز روضة الأطفال عن القيام بها .

الأسر الشريفة والأسر المنحطة :

وفي نهاية المطاف يجب أن نتنبه إلى نكتة مهمة ، وهي أنه ليس باستطاعة أي أسرة أن تقوم بالتربية الصحيحة وليس بإمكان حجر كل أب أو أم أن يصبح أحسن مدرسة للطفل . فالشرط الأساسي هو أن يكون جو الأسرة نزيهاً مبرءاً من الفساد والإِجرام والخيانة وإرتكاب الخطأ بل يشترط أن يكون الوالدان حائزين على صفات وملكات فاضلة . فالوالدان المنحرفان لا يستطيعان أن يربيا في أحضانهما أطفالاً صالحين فإن ( فاقد الشيء لا يعطيه ) .

ولقد قال الشاعر :

يـا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسـك كان ذا التعليم

إبدأ بنفسك فأنهها عن غيها

فإذا إنتهت عنه فأنـت حكيم

لقد أدىٰ إسراف المدنية الحديثة في الجوانب المادية والشهوات الحيوانية إلى إضعاف الجوانب المعنوية والروحية . فإن كثيراً من الأسر فقدت معنوياتها على أثر التلوث بأنواع الجرائم والذنوب ، وانتجوا في النهاية أولاداً مجرمين ومنحطين ، فاسدين ومنحرفين ! !

« في كثير من الأسر لا يواجه الطفل إلا أساليب فاسدة وبعيدة عن الأخلاق ، ولا يتجلى أمام ناظريه الثاقبين إلا أمثولة السلوك الأهوج والإِهمال والكسل . من المؤسف أن هذه الحقيقة غير قابلة للإِنكار ، وأن عدداً كبيراً من حوادث السقوط والإِنهيار في المجتمع ينبع من هذه النقطة . وإذا لم يقدر طفل أن يظهر بصورة إنسان كامل في أمثال هذه الأسرة المنحطة ، وسببت إرادته المهملة التائهة نوعاً من الفوضى والاضطراب في المجتمع فيجب أن نقول : إن أسرة واحدة قد قصرت في أداء واجبها الطبيعي . لقد كتب الدكتور ( آدفرير ) بهذا الصدد : إن مسألة التربية في الأسرة


تصطدم بهذه النقطة وهي أن الوالدين يجب أن يكونا غنيين بالعواطف الراقية والأفكار الممتازة ، حتى تشع هذه الصفات منهما إلى الخارج ، وتنير الطريق لطفلهما وتحثه على السير في الطريق الصحيح » (١) .

« لقد أصبحت الأسرة جواً مخزياً للتربية بصورة عامة لأن الآباء والأمهات في العصر الحديث قد تجاوزوا الحد المقرر في السذاجة أو العصبية ، أو الضعف ، أو الشدة وربما يعلم أكثرهم بعض العيوب لأطفالهم . فما أكثر الأطفال الذين يجدون صوراً مختلفة عن سوء الأخلاق والفساد ، والمشاكسة ، والسكر في البيت والأسرة ، والكثيرون منهم إن لم يجدوا مثل هذه القضايا في البيت فلا بد وأنهم تعلموها من أصدقائهم . فيمكن القول بلا مبالغة أن كثيراً من الآباء والأمهات في العصر الحديث يجهلون تربية أطفالهم مهما كانت الطبقة التي ينحدرون عنها . والمدارس أيضاً لا تستطيع بعد أن تؤدي واجبها لأن الأساتذة لا يختلف سلوكهم عن سلوك الأبوين كثيراً . . . » .

« والخلاصة أنه ليس بإمكان المدرسة ولا الأسرة أن تعلم الطفل أسلوب الحياة الأمثل . ولهذا السبب فإننا نجد في سحنات وجوه الشباب مرآة صافية قد انطبعت عليها صورة عدم كفاءة القائمين على تربيتهم » (٢) .

« إن التناسل في أكثر الشعوب تحدراً آخذ في التناقص كما أنه لا ينجب إلا نسلاً وضيعاً . . . قد أتلفت النساء أنفسهن إختياراً بشرب الخمر والتدخين ، كما أنهن يعرضن أنفسهن لخطر ( الرجيم ) رغبة منهن في نحافة أجسامهن ، وعلاوة على ذلك فأنهن يرفضن

____________________

(١) ما وفرزندان ما ص ٥ .

(٢) راه ورسم زندگى ص ١٦٤


الحمل . . . ويعزى هذا النقص إلى تعليمهن وأنانيتهن . . . » (١) .

إنهيار الأسر الشريفة :

تستطيع أسرة شريفة أن تربي في حجرها أولاداً أبراراً متى كانوا الرجال والنساء في تلك الأسرة غير منحرفين أو منحطين ، بل كانوا محافظين على الرصيد المعنوي الذي ورثوه عائلياً ، ليسلموه إلى من يخلفهم جيلاً بعد جيل ، أما إذا وجد الإِجرام والفساد والذنب طريقه إلى تلك الأسرة فستخلي الفضائل والمثل الحميدة مكانها للرذائل ، وتتبدل الأسرة الأصيلة التي إعتادت الشرف والمجد عدة مئات من السنين إلى أسرة منحطة خلال قرن أو نصف قرن .

ولقد إهتم علماء الغرب بهذا الموضوع ، وتحدثوا كثيراً عن عيوب الأسر وتلوث الآباء والأمهات في بلدانهم ، وانتقدوا الأوضاع بشدة ، وهم يبدون قلقهم على مستقبل بلدانهم من تربية أولادهم الفاسدة وإيجاد الجيل المجرم المنحل . أما في بلادنا حيث المستوى الثقافي العام أوطأ منه في الغرب وحيث الإِنحطاط الخلقي ينتشر بسرعة أكثر في الأسر والعوائل وبين الشباب فإن الأمر يدعو إلى القلق أكثر .

فضعف الأسس الدينية والخلقية من جهة ، والإِفراط الشديد في العلاقات غير الشرعية بين الشباب والفتيات من جهة أُخرى ، قد أخذا ينخران في أجساد بعض الأسر العريقة كداء السرطان ، ويعملان بأشد ما يمكن لإِقتلاع جذور الفضائل واحدة بعد الأُخرى .

بالأمس كان بعض الآباء يملكون أرواحاً قوية بفضل الرصيد الإِيماني والمعنوي ، ولم يكونوا ليقتربوا في سلوكهم من الدنس والإِجرام ، وكانوا مستقيمين في معاملاتهم ، ويتغلبون على مشاكل الحياة بقوة الإِيمان والثبات . . . واليوم نجد أبناءهم ذوي نفسيات ضعيفة جداً وذلك لابتعادهم عن الإِيمان والإِهمال في الواجب ، ونجدهم مصابين بأنواع الجرائم ، ولا يستطيعون الوقوف

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٢٢٨ .


أمام مصاعب الحياة أبداً ، بل أن الملجأ الأخير لهم هو الإِنتحار ! ! .

بالأمس كان أُولئك الآباء يجالسون الفضلاء والأشراف في المجالس العلمية ومجالس الترفيه والتسلية . . . واليوم أصبح أبناؤهم يجالسون المنحرفين والنساء الباغيات اللاهيات في مراكز الفساد ! ! .

بالأمس كان أُولئك الآباء يقضون ساعات فراغهم في جو الأسرة الملىء بالدفء والحنان والسكينة ، مع أعصاب هادئة وروح مطمئنة . . . أما اليوم فأن أبناءهم يقضون أوقاتهم الثمينة في محلات القمار بأعصاب محطمة وأرواح مضطربة .

ما أكثر الأمهات العفيفات اللاتي كن بالأمس ينظمن شؤون عوائلهن ويربين في أحضانهن أحسن الأولاد وأليقهم وأسعدهم . . واليوم نجد بناتهن اللاهيات قد تركن البيت والأسرة ، ورأين سعادتهن في الإِجهاض وإقامة العلاقات اللامشروعة مع الشباب المنحرفين وعباد الشهوة في دور السينما ومراكز الفساد الأُخرى ! ! .

لقد اختفى الإِيمان والتوحيد ، الصلاة والعبادة ، صفاء القلب والمناجاة في السحَر ، التقوى والورع ، مساعدة الضعفاء وخدمة الناس ، في بعض الأسر تماماً ، وأخذ الفتيان والفتيات لا يفكرون بغير الشهوة واللذة ولسوء الحظ لا يجدون لذتهم إلا في ذلك السم الزعاف . . . الخمرة والحشيشة . لقد تحولت موائد الإِحسان والإِطعام في بعض العوائل إلى موائد القمار ، وتبدلت مجالس الفضيلة والموعظة إلى مجالس اللهو والطرب . . . لم يبق للقيم الإِنسانية والمثل العليا إسم ولا رسم ، وقد تركت الشجاعة وعزة النفس مكانها إلى الذلة والإِنحطاط والحقارة ، وحل التملق محل الشخصية وعلو الهمة . . . ولقد ضرب الحقد والحسد ، الأنانية والأثرة ، التهمة والخيانة وعشرات العادات الرذيلة الأُخرى ـ التي يعد كل منها داء خطيراً في نفسه ـ بجوذرها في أعماق القلوب ، وتعمل على إحراق القلوب والأجساد باستمرار ! .

والخلاصة : أن أخلاف بعض الأسر العريقة والشريفة نجدهم بصور


رجال ونساء ضعيفي العقول ، عليلي الأمزجة ، منحرفين وسيئي الأخلاق ، قد عملت العادات الخطيرة في إضعاف أجسادهم ، وعملت الأفكار الهدامة والسيئات الخلقية على إنحراف نفوسهم فهم يقدمون على كل رذيلة ، لا يتهيبون للكذب والتملق ، ولا يقيمون وزناً للسرقة والإِرتشاء ، الإِفساد وإيجاد الفتن ، الغيبة والتهمة ، بل إن ذلك كله أمور اعتيادية في نظرهم !

إن الآباء والأمهات المصابين بهذه الإِنحرافات ، والساقطين في هوة الرذيلة لا يستطيعون أبداً أن يربوا في أحضانهم أولاداً شرفاء ، إن الأطفال الذين يتلقون تربيتهم في أمثال هذه الأسرة المنحطة يكونون ـ بلا شك ـ عناصر خبيثة في المجتمع .

فبديهي ـ حينئذ ـ إن روضة أطفال منظمة تملك مشرفين مهذبين شاعرين بالمسؤولية ، تفوق هذه الأسر بكثير . ذلك أنها أن لم تستطع إحياء الخصائص الفردية للطفل ، فلا أقل من أنها لا تعلمه على الكذب والدجل والإِجرام والسباب ، وإن لم تقدر على تلقينه دروساً في الشهامة والتضحية فلا أقل من أنها لا تمد أمامه موائد الخمر والقمار ، ولا تفتح عينيه على الرذائل والذنوب الكبيرة .

ومن المؤسف أن هذه الإِنحرافات لم تقتصر على تلويث أذيال بعض الأسر المنحطة وإسداء ضربة قاصمة إلى الأمة وروح الوطنية فيها بذلك فقط بل أنها شملت حتى الأجواء الساذجة في الأرياف . . . وانتشر الإِجرام والإِنحطاط في كل مكان كداء الطاعون والهيضة . . . لكن الذي يبعث على الأمل هو أن الفرصة لم تفت بعد ، ولم ينقض وقت الكفاح ، فلا يزال يوجد في هذه البلاد أسر شريفة كثيرة ورجال ونساء مؤمنون ومسلمون يتحصنون بالإِيمان ضد الإِنحراف . . . يجب أن نستغل هذه الفرصة ونتخذ التدابير اللازمة لمكافحة المآسي في مجتمعنا .


المحاضرة العاشرة

المعرفة الفطرية

قال الله تعالى : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (١) .

يوجد في باطن كل فرد ميول كامنة لكل منها دور مستقل في تحقيق سعادة الإِنسان . إن تنمية كل واحد من الميول الطبيعية بالصورة العادلة والصحيحة بمنزلة نمو فرع من فروع شجرة السعادة ، وإن خنق كل واحدة من الغرائز وكبتها معناه القيام بخطوة في سبيل الشقاء والإِنحراف فعلى القائمين بالتربية ترتيب المناهج التربوية منذ البداية على أساس الغرائز الطبيعية والإِدراكات الفطرية للأطفال ، فإن التربية التي تعتمد على أساس الفطرة تكون ثابتة ورصينة .

وسنحاول إن شاء الله أن نبحث من هذه المحاضرة فصاعداً في الإِدراكات الباطنية والغرائز الإِنسانية التي هي الأسس الثابتة السليمة والتي تسمى بـ ( الوجدان الفطري ) .

الوجدان :

الوجدان عبارة عن القوة المدركة في النفس الإِنسانية ، والوجدانيات هي

____________________

(١) سورة الشمس ؛ الآيتان : ٧ ـ ٨.


الحقائق التي يدركها الوجدان . ولا بد من الإِستفادة من القوتين الفطريتين ( الوجدانين الطبيعيين ) في عمليات التربية الإِيمانية والأخلاقية وهما : فطرة المعرفة . والأُخرى : فطرة تمييز الخير من الشر ، وتسمى الأول بالوجدان التوحيدي ، والثانية بالوجدان الأخلاقي .

الوجدان التوحيدي : هو إدراك جميع الشعوب والأمم ـ من أي طبقة كانوا ـ بفطرتهم الطبيعية ووجدانهم الباطني إن هناك قوة لا محدودة وقدرة عظيمة غير خاضعة للتغيرات تسيطر على هذا الكون . تلك الحقيقة المجهولة التي يدركها كل إنسان هي الله تعالى ، وتلك القوة المدركة الموجودة في باطن كل فرد ، والتي تدلنا على هذه الحقيقة هي الوجدان التوحيدي .

أما الوجدان الأخلاقي : فهو عبارة عن القوة المدركة المودعة في باطن كل فرد ، والتي تميز الخير من الشر . وبعبارة أُخرى : يوجد في باطن جميع الأفراد من مختلف الشعوب والأقوام ( الآسيويين ، والأوربيين ، الأفريقيين والأمريكان ، البيض ، والسود ، الرجال والنساء ، المؤمنين والملحدين ) قوة مدركة مستترة يستطيعون بها إدراك كثير الأمور الصالحة والفاسدة من دون حاجة إلى معلم أو مرب ، أو كتاب أو مدرسة . . . هذه القوة المدركة تسمى عند علماء النفس بالوجدان الأخلاقي .

محكمة الوجدان :

يمكن تمثيل الوجدان الأخلاقي بقاض حاذق وقوي يحاكم صاحبه عند إرتكابه جريمة ويحكمه ، ويجازيه على أعماله السيئة بالضربات المؤلمة التي يوجهها على روحه وأعصابه .

لا توجد في العالم محكمة تضاهي محكمة الوجدان في قوتها وحريتها فالمجرم مهما كان قوياً فأنه ضعيف وعاجز أمام قاضي الوجدان ، ولا يستطيع أن يهرب من عقوبات محكمة الوجدان بأية وسيلة أصلاً .

للجنون أو الأمراض النفسية والعصبية عوامل مختلفة ، وإن مما لا شك


فيه إن من تلك العوامل الضربات الداخلية والضغط الشديد للوجدان . إن الوجدان الأخلاقي يسلب المجرم إستقراره وراحته ، ويقض عليه مضجعه ويجعل الحياة أمام عينيه سجناً لا يطاق ، فالأحساس بالخيانة والإِجرام يلتهب في باطن المجرم كشعلة متوهجة تحرق روحه وجسمه .

وقد يكون أثر العقوبات الوجدانية في إيجاد الإِختلالات النفسية شديداً ومعقداً إلى درجة أنه لا يستطيع أي طبيب نفساني مهما كان حاذقاً أن يعالجه ويعيد للمريض حالته الاعتيادية السابقة . إن المحكومين أمام قاضي الوجدان والمصابين ببعض الأمراض النفسية ، أو الجنون من جراء الضغط الداخلي ، يكونون في حالة خطرة جداً فقد يقومون ببعض الجرائم الكبيرة ويقودون المجتمع إلى مجموعة هائلة من المآسي والمشاكل.

« من الإِختلافات الجوهرية بين الإِنسان والحيوان المفترس إن الحيوان المفترس يستولي على فريسته بهدوء ويأكلها ثم يرتاح لهذا العلمل ويتلذذ به . في حين أن الإِنسان إذا قتل أحد أبناء جنسه يقع في خوف وألم شديدين . وحيث لا يستطيع أن يطرد هذا الخوف والألم من نفسه يتشبث لإِثبات حقانيته بالتهم الكاذبة فيلصقها بضحيته ومن دون أن يحس أنه قد صار بصورة متهم يدافع عن نفسه باستمرار ، ويتحامل على الأفراد الآخرين الذين يحتمل أن يلوموه على أفعاله ، وبهذه الصورة فإن الخطأة الأولى لا يقف أثرها على إيجاد الإِختلالات العظيمة في مرتكبها ، بل أنها تجر وراءها سلسلة من الجرائم الجديدة والفظيعة التي ترتبط بتألم الوجدان الأخلاقي والإِحساس بالحقارة ».

« ولأجل الوجدان الأخلاقي هذا ، الذي لا مفر من لومه وعذابه ، يكون الإِنسان أكثر توحشاً من الحيوان المفترس . هذه المخاوف ليست من آثار غريزة الهجوم بل أنها دليل صادق على قوة الوجدان الأخلاقي عند الإِنسان ، تلك القوة التي لا تقبل الإِنكسار


والغلبة » (١) .

قد يمكن أن تطوى أسرار جريمة ما ، ولا تفتح إضبارة للمجرم في المحاكم القضائية ، أو يغفل المجرم القاضي ويمسخ القضية ، أو يتهم شخصاً بريئاً في مكانه ويحفظ نفسه عن العقاب . . ولكن لا يمكن إغفال قاضي الوجدان ولا يستطيع المجرم بأي حيلة أن يبرىء نفسه في محكمة الوجدان على خلاف الواقع.

إن الوجدان الأخلاقي يحاكم المجرم بأشد ما لديه من قوة ودقة ويتغلب عليه ، فهو في الغرفة التي يختلي فيها ، والفراش الذي يأوي إليه ، وفي المكان الذي لا يراقبه أحد يتلوى كالسليم ، ويجد عقابه على أعماله السيئة من هذا الطريق .

الدين والفطرة :

يكوّن الوجدان التوحيدي والوجدان الأخلاقي ـ من وجهة نظر الدين والعلم ـ دعامتين أساسيتين للتربية الإِنسانية السليمة ، فإن دعوات الأنبياء إعتمدت على هذين الأساسين القويين بمعونة العقل . فالدين يستند إلى الفطرة في باطن الإِنسان. وإن ( العرض ) الديني الذي كان يصدر من قبل الأنبياء كان في مقابل ( الطلب ) الطبيعي عند الناس . ولهذا السبب فأن الدين إستقام وأرسى قواعده على الرغم من جميع الموانع والمشاكل التي لاقاها في طريقه .

تمر اليوم قرون طويلة على ظهور رسل السماء ، ولا تزال شعلة الإِيمان متوهجة في قلوب الناس ، لأن المصدر الأصيل لهذه الشعلة المتوقدة هو : فطرة الإِنسان ، فما دام على وجه الأرض إنساناً ، وما دامت هناك فطرة ، فإن هذا المشعل الوهاج لا ينطفىء بل هو مستمر في إشعاعه .

وهنا يجب أن نبين أن الوجدان التوحيدي والأخلاقي . . . هذه الحقيقة التي نجدها في كمين كل إنسان ، ليس ظاهرة متصنعة ، ولم يوجد على أثر الوراثة

____________________

(١) جه مدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص ٦٥ .


الإِجتماعية طيلة قرون ، وبفضل التعاليم الدينية والتربوية بل إنه أمر غريزي ونداء فطري منبعث من باطن الإِنسان ، وجد مع وجود الإِنسان ، وسيبقى إلى الأبد معه .

قد يمكن للبعض أن يكافحوا بعض ميولهم الفطرية في ظروف خاصة ويكتبوا تلك الغرائز في نفوسهم ، ولكن كفاحهم ذاك وكبتهم هذا لا يمكن أن يذيل الحقيقة الفطرية ، ويمحو الغريزة الإِنسانية التي جبل عليها جميع البشر .

فالغريزة الجنسية ـ مثلاً ـ أمر فطري غير قابل للإِنكار ، ولكن وجد على مر الأجيال ملايين الأفراد من تاركي الدنيا في أروبا والمرتاضين في القارة الهندية ، كافحوا هذه الغريزة وخنقوها في نفوسهم بالضغط والإِكراه إلى درجة أن بعضهم أخذ لا يحس في نفسه أي ميل جنسي أصلاً ، أفيستطيع هؤلاء أن يسحقوا الحقيقة الفطرية للغريزة الجنسية بهذا العمل ؟ ! هل يحق لهؤلاء أن ينكروا وجود الميل الجنسي في البشر ؟ ! .

وكذلك أمر الذين يتجاهلون الفطرة الإِيمانية والأخلاقية في أنفسهم ويكافحون غريزة التدين حياة طويلة ويعيشون ملحدين ، فأنهم لا يستطيعون أن ينكروا وجود فطرة الإِيمان والأخلاق في الإِنسان ، فلا صلة بين إنحرافهم عن صراط المستقيم وبين حقيقة الوجدان الطبيعي والبناء الفطري القائم على الإِيمان والأخلاق .

إن الإِسلام يعتبر الأسس الرصينة للإِيمان والأخلاق من الثروات الفطرية الإِنسانية ، ويرى أن التوصل إلى وجود الله ، ومعرفة الخير والشر إنما هو جزء من تكوين الإِنسان .

إحياء الفطرة :

إن أهم واجبات الأنبياء هو إيقاظ الجوانب الفطرية عند الإِنسان واستغلال الثروات الإِلهامية فيه ، يقول الإِمام علي عليه‌السلام في هذا الصدد : « فبعث الله فيهم رسله ، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته


ويجتمعوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول » (١) .

الفرق بين التذكير والتعليم :

ربما تكون قد حفظت قصيدة قبل عشرين سنة ، ونسيتها على أثر الإِهمال والغفلة ، وليست لديك أية إلتفاتة إلى شيء منها أصلاً ، ويصادف أن يقرأ شخص تلك القصيدة أمامك فبمجرد أنه يبدأ بقراءة البيت الأول تحس بأنس وقرب إلى تلك القصيدة فتعمل حافظتك وتجتهد لتذكر الأبيات التي نسيتها . . . وفي الواقع فإن الذي قرأ لك الأشعار نبهك إلى حقيقة موجودة في ضميرك لكنها منسية . هذا الشخص يسمى بـ ( المذكر ) ، ويسمى عمله ( تذكيراً ) . أما إذا نظم شخص قصيدة حديثة وقرأها لك وعلمها إياك بيتاً بيتاً ، فيقال له ( المعلم ) ويسمى عمله ( تعليماً ) .

من هنا ندرك السر في تسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن الكريم باسم المذكر أحياناً ، وباسم المعلم أحياناً أُخرى . إذ أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمله الديني والتهذيبي يقوم بكلا الدورين ، فعندما يوقظ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجوانب الفطرية في النفس الإِنسانية ، وينبه الناس إلى ضمائرهم الباطنة ، يعبر عنه القرآن الكريم بالمذكر : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ) (٢) . وعندما يأتي بتعاليم جديدة ونظم غير موجودة في الفطرة الإِنسانية يسمى عمله تعليماً : ( وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (٣) .

الأساس الرصين للفطرة :

إن أولى الأمور الفطرية عند الإِنسان في نظر الإِسلام هو معرفة الله فلقد جاء في القرآن الكريم والنصوص المتواترة عن المعصومين عليه‌السلام إعتبار معرفة الله أوضح البديهيات في فطرة البشر .

____________________

(١) نهج البلاغة ص ٣٧ .

(٢) سورة الغاشية ؛ الآية : ٢٠ .

(٣) سورة البقرة ؛ الآية : ١٥١ .


وإن وجود المذاهب المختلفة والعقائد المتضاربة في جميع العصور بين جميع الشعوب والأقوام دليل واضح على وجود غريزة التدين في فطرة الإِنسان والكل يبحثون عن ضالتهم المنشودة :

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (١) .

هذا هو الأساس الرصين للفطرة ، ويظهر في الميل الغريزي للتدين ومعرفة الله جل وعلا ، وعلى سبيل الاستشهاد نورد النصوص التالية :

١ ـ عن زرارة قال : « سألت أبا جعفر عليه‌السلام : ما الحنيفية ؟ قال : هي الفطرة التي فطر الناس عليها . . . فطرهم على معرفته » (٢) .

٢ ـ عن الإِمام الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) قال : « فطرهم على التوحيد » (٣) .

٣ ـ عن الرسول الأعظم عليه‌السلام : « كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه » (٤) .

يستفاد من هذا الحديث أنه يوجد الأساس الأول لتقبل الدين في فطرة جميع الأطفال ، ويستغل الأبوان ـ وهما القائمان على تربية الطفل ـ هذه الثروة الفطرية ويربيان الطفل على الدين الذي يريدانه . فإن لم تكن غريزة التدين موجودة في فطرة الإِنسان لم يكن معنى لتأثير توجيه الوالدين في اعتناق الطفل لدين معين طيلة حياته .

٤ ـ عن الإِمام الصادق عليه‌السلام : « ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع : المعرفة ، والجهل ، والرضا ، والغضب ، والنوم ، واليقظة » (٥) .

____________________

(١) سورة الروم ؛ الآية : ٣٠ .

(٢) البحار للمجلسي ج ٢ ص ٨٧ .

(٣) المصدر السابق ج ٢ ص ٨٨ .

(٤) المصدر السابق ج ٢ ص ٨٨ .

(٥) إثبات الهداة بالبراهين والمعجزات للشيخ الحر العاملي ج ١ ص ٨٥ .


فحين يولد الطفل تكون صفحة خاطره بيضاء صافية لا يوجد فيها أي معرفة : ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ) (١).لكن الله تعالى قد جهز الطفل بالغرائز كالشهوة والغضب والنوم واليقظة لاستمرار حياته ، ففي هذا الحديث يرى الإِمام الصادق عليه‌السلام أنه لما كان الطفل فارغاً من أي علم أو معرفة فإن فطرة المعرفة تعتبر من الإِفاضات الإِلهية في الطفل ، ولذلك قد ذكرها في عداد الغرائز الفطرية .

٥ ـ عن محمد بن حكيم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « المعرفة من صنع من هي ؟ قال : من صنع الله ، ليس للعباد فيها صنع » (٢) .

٦ ـ عن أبي ربيحة ، قال : « سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام : « بما عرفت ربك ؟ قال : بما عرفني نفسه ! » (٣) .

٧ ـ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه « سئل عن المعرفة أمكتسبة هي ؟ قال : لا ، فقيل له : فمن صنع الله وعطائه هي ؟ قال : نعم ، وليس للعباد فيها صنع » (٤) .

يستفاد من النصوص المتقدمة ، والروايات الأُخرى الواردة في الباب إن الإِسلام يعتبر ـ بكل صراحة ـ معرفة الله أمراً فطرياً عند الإِنسان ، ويرى أنها من الثروات الطبيعية فيه ، شأنها في ذلك شأن بقية الغرائز .

مطالعة كتاب الخلقة :

يسلك الأنبياء بين الناس بالنسبة إلى المعرفة الإِلهية دور المذكر لا المعلم فانهم يقومون بإزاحة أستار الغفلة عن الضمير الباطن والفطرة الإِنسانية إنهم جاؤا ليوصلوا المعرفة الفطرية الإِجمالية إلى مرحلة الإِيمان الإِستدلالي

____________________

(١) سورة النحل ؛ الآية : ٧٨ .

(٢) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ١ ص ١٦٣ .

(٣) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ١ ص ١٦٣ .

(٤) المصدر السابق ج ١ ص ٨٥ .


العقلي التفصيلي عن طريق الإِرشاد إلى التفكير والتدبير في الآيات ، وعن طريق مطالعة كتاب الخلقة ، حيث تتجلى مظاهر الدقة والإِتقان في كل ذرة من موجودات هذا الكون الفسيح ، وبذلك ليؤمن الناس بعظمة خالقهم ويخضعوا له في مقام العبودية ويطيعوا أوامره .

إن المعرفة الفطرية قابلة للتوضيح بأسلوبين :

١ إدراك القدرة اللامتناهية :

يدرك كل فرد من أفراد البشر من أي طبقة كان ، وإلى أي عنصر إنتمى بوجود قدرة لا متناهية وقوة عظيمة مسيطرة على الكون كله ، وذلك بفضل وجدانه الفطري . . . قدرة عظيمة لا توصف وقوة ثابتة لا تتغير ، قدرة فوق جميع القدرات ، وقوة يرجع إليها كل فرد عند اليأس من السنن الطبيعية والعادية للأشياء ، فعندما تغلق بوجهه جميع أبواب الأمل والرجاء يجد باب تلك القدرة مفتوحاً ويستعين بتلك القدرة اللامتناهية ، يدرك بوجدانه أن تلك الذات المجهولة ، تلك الحقيقة المستترة ، تلك القدرة اللامتناهية إذا أرادت حلت المشكلة وفتحت جميع الأبواب . هذا الإِدراك ليس ناشئاً من العقل والبرهان ، بل إنه ناشىء من الوجدان والفطرة وهو موجود في باطن كل فرد ، ويكون جزئاً أساسياً من كيانه ، هذا الإِدراك الفطري هو الأساس الأول للتدين . . . ولقد عرف الأنبياء هذه الحقيقة المجهولة باسم ( الله ) .

« قال رجل للصادق عليه‌السلام : ـ يابن رسول الله ، دلني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيروني . . . فقال له : يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟

قال : نعم ! .

قال : وهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ، ولا سباحة تغنيك ؟ ! .

قال : نعم .

قال : فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك ؟ قال : نعم !


قال الصادق عليه‌السلام : فذلك الشيء هو ( الله ) القادر على الإِنجاء حيث لا منجي ، وعلى الإِغاثة حيث لا مغيث » (١) .

ولقد أشار علماء العصر الحديث إلى هذه الحقيقة بألفاظ وكلمات مختلفة :

يقول ( ماكس مولر ) : « إن الإِحساس اللامتناهي يوجب نشوء العقيدة والدين » (٢) .

ويقول ( أنيشتين ) : « إن عقيدتي هي عبارة عن الحمد المتواضع الضئيل لروح فائقة لا حدية » (٣) .

أما ( جان جاك روسو ) فيقول : « ليس طريق الإِيمان بالله منحصراً في العقل وشكوكه وأوهامه ، بل إن الشعور الفطري هو أفضل طريق لإِثبات هذا الموضوع » (٤) .

والذين لهم أدنىٰ معرفة بأسلوب تفكير ( فرويد ) وأتباعه يعلمون أنهم كانوا مصرين على إنكار الفطريات الإِيمانية والأخلاقية ، وأنهم يعتبرون الدين والمذهب أمراً من صنع البشر . أما في مقام المعرفة الفطرية فقد وقعوا في مأزق حرج واضطروا إلى التراجع قليلاً والتحدث بأسلوب أهدأ وأقل إثارة . . .

« لا يمكن الإِنكار أنه يوجد بعض الأشخاص يقولون أنهم يحسون في أنفسهم إحساساً لا يستطيعون وصفه بصورة جيدة . هؤلاء يتحدثون عن إحساس يتصل بالأبدية » .

« هذا التصور الذهني ينعكس من إحساس أبدي معروف عند

____________________

(١) معاني الأخبار للشيخ الصدوق ص ٤ .

(٢) إرتباط إنسان وجهان ج ١ ص ٦٩ .

(٣) المصدر نفسه ، والصفحة نفسها .

(٤) المصدر السابق ج ٣ ص ١٧٥ .


العرفاء الكبار ، وفي التفكير الديني الهندي . ويحتمل أن يكون أساس الشعور الديني الذي يظهر بصورة العقائد والمذاهب المختلفة » .

« إن فرويد يتردد في هذا الموضوع ، ويقر بأنه لم يستطيع بتحليلاته النفسية أبداً أن يجد أثراً لمثل هذه الإِحساسات في نفسه . ولكنه يضيف رأساً وبصراحة كاملة أن هذا لا يسمح له بإنكار هذا الإِحساس بالنسبة إلى الآخرين » (١) .

٢ ـ ربط المعلول بالعلة :

يستطيع كل فرد أن يدرك بواسطة وجدانه الفطري ومن دون حاجة إلى معلم أو مرب ، أن كل معلول يحتاج إلى علة ، ولا يوجد أثر بلا مؤثر المصنوع يحتاج إلى صانع ، والبناء يحتاج إلى بناء ، ان الوجدان الفطري الذي يربط بين الأثر والمؤثر طبيعي إلى درجة إن الطفل بمجرد أن يصبح قادراً على التكلم يسأل أمه باستمرار عن علل الحوادث المختلفة ، هذه الأسئلة ليست ذات صلة بالتفكير ولا ناجمة من المحاسبة العقلية ، لأنه لا يدرك المسائل العقلية بعد . وهكذا فإن أكثر القبائل البشرية الوحشية تملك هذا الوجدان الفطري . يقول الشريف الرضي (ره) عند شرحه لبعض روايات الفطرة :

« وهذا يدلك على أن فطرة ابن آدم ملهمة معلمة من الله بأن الأثر دال دلالة بديهية على مؤثره بغير إرتياب » (٢) .

ما أكثر الأفراد الذين استفادوا من كنز المعرفة الفطرية عندهم بفضل إيمانهم ووعيهم ، وتوصلوا إلى وجود الله الخالق الحكيم عن طريق التفكير والتدقيق في آية أو عدة آيات إلهية ، ووقفوا خاضعين له في مقام العبودية مطيعين أوامره ونواهيه . . . وعلى العكس فما أكثر الأفراد الذين لم يلتفتوا لنداء الفطرة المنبعث من أعماقهم وتجاهلوا الحقيقة ، ولم يتوفقوا لعبودية الله والخضوع له

____________________

(١) أنديشه هاي فرويد ص ٨٩ .

(٢) إثبات الهداة ج ١ ص ١٠٣ .


حتى يوماً واحداً ، طيلة حياتهم ، وكذلك ما أكثر الأفراد الذين حاولوا إحياء المعرفة الفطرية في نفوسهم ، ولكنهم ضلوا عن الطريق المستقيم ، وعبدوا الجماد والنبات والحيوان ، أو الشمس والقمر والنجوم بدلاً من خالق الكون .

ولأجل أن يتضح معنى المعرفة الفطرية للسامعين الكرام أكثر نعقد مقارنة بين صنع الله وصنع البشر من حيث الدلالة على وجود الصانع ونتوصل ضمن المقارنة إلى بعض النتائج المفيدة .

إن القرآن الكريم يرى في الكون والموجودات كلها أنها صنع الله وتنظيمه . . . ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (١) . إذن فالله تعالى هو صانع العالم وجميع الموجودات مصنوعة له .

ولقد استعمل القرآن الكريم مادة ( الصنع ) بالنسبة إلى أعمال البشر أيضاً في عدة مواضع ، فقال في موضوع سفينة نوح : ( وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ . . . ) (٢) . وفي قصور فرعون والفراعنة يقول : ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ) (٣) . وفي الأشياء السحرية التي صنعها سحرة مصر لمعاندة موسى ( وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ) (٤) . وفي صنع داوُد للدروع : ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ ) (٥) .

إذن فإن جميع الطائرات والسيارات والمعامل والآلات والآدوات وجميع ما كونه البشر يكون من صنع الإِنسان كما أن جميع ما في العالم صنع الله ، مع فارق واحد هو : إن الله يخلق المادة والصورة معاً ، بينما الإِنسان يصنع المادة التي خلقها الله بالصورة التي يريدها .

____________________

(١) سورة النمل ؛ الآية : ٨٨ .

(٢) سورة هود ؛ الآية : ٣٨ .

(٣) سورة الأعراف ؛ الآية : ١٣٧ .

(٤) سورة طه ؛ الآية : ٦٩ .

(٥) سورة الأنبياء ؛ الآية : ٨٠ .


ومن هذه المقارنة بين صنع الله وصنع الإِنسان نصل إلى بعض النكات التي تتعلق بموضوع بحثنا وهي : ـ

١ ـ الأثر يدل على المؤثر :

يدرك الإِنسان بصورة فطرية أن لكل مصنوع صانعاً ، كما يدرك كل فرد ـ مثقفاً كان أو أمياً ، وحشياً أو متمدناً ـ إن للطائرة والسيارة صانعاً صنعهما ، وإن للعمارات الصغيرة والضخمة بانياً بناها ، ولقد كانت القبائل الوحشية تدرك هذا الموضوع أيضاً ، فعندما كان أحد يرى آثار أقدام إنسان أو حيوان في صحراء واسعة مغطاة بالثلوج ، كان يقطع بأن إنسان أو حيوان قد عبر من تلك المنطقة . وإذا صادف كوخاً صغيراً وسط صحراء قاحلة قائماً على بعض قطع الأخشاب والأشواك كان يحكم بوجود صانع لذلك الكوخ ، وبالنسبة إلى الكون الذي هو صنع الله تعالى يوجد في فطرة كل إنسان هذا النوع من الإِدراك . فعندما يشاهد شروق الشمس والقمر وغروبهما ، وعندما يرى الربيع واخضرار الأشجار أو الخريف واصفرار أوراقها ، وعندما يلتفت إلى الرعد والبرق والمطر يحس في وجدانه الباطني أن قوة عظيمة وثابتة هي التي أوجدت هذا النظام فيميل إلى البحث عن مصدر هذه القوة . هذا الإِدراك الطبيعي الموجود في باطن جميع الأفراد بقلم القضاء الإِلهي هو تلك المعرفة الفطرية التي يعبر عنها الإِمام عليه‌السلام بأنها ليست إكتسابية وأنها مخلوقة من قبل الله في باطن كل فرد .

٢ ـ المعرفة الاجمالية والايمان التفصيلي :

إن كل فرد يدرك بفطرته أن للطائرة النفاثة صانعاً ، وكل فرد يدرك بصورة طبيعية أن للقاح الخناق الذي يخلص آلاف الأطفال من الموت الحتمي مخترعاً ، ولكن هذا لا يكفي في نظر جميع العقلاء والعلماء في الإِشادة بفضل مهندس مخترع أو طبيب مكتشف . فلو أرادت دولة أو أمة أن تحترم جهود هؤلاء الذين خدموا البشرية يجب عليهم أن يتجاوزوا دور المعرفة الجزئية إلى مرحلة أرقىٰ ، وهي ذكر أسماء المخترعين وهوياتهم وتشجيعهم عن طريق تقديم الهدايا والجوائز إليهم.


وهكذا يدرك كل فرد بفطرته أن لهذا العالم الفسيح خالقاً وأن لهذا الأثر العظيم والعجيب مؤثراً ، ولكن لا يكفي هذا في مقام الشكر لله تعالى وتعظيمه . بل يجب أن يخطو الإِنسان خطوة أوسع ويطلع على آثار قدرة الله ويؤمن به ، ويشكره للنعم الكثيرة التي لا تحد ولا تحصر ، وإن الفطرة الأولى لا تحتاج إلى معلم ، والأنبياء جاؤا لهداية البشر في المرحلة الثانية.

٣ ـ عدم تقدير الجهود :

وبالرغم من أن الناس يستفيدون من مصنوعات بني جنسهم بصور شتى لكن القليل منهم يقدر جهود العلماء والمهندسين الذين صنعوا تلك المصنوعات إن باستطاعة المريض المشرف على الهلاك أن يركب طائرة ويصل في ظرف بضع ساعات إلى أرقىٰ المستشفيات في العالم وتجري له عملية جراحية وينجو من الموت الألم . هذا المريض يعلم أنه لو لم تكن الطائرة ، ولو لم يكن العقار المخدر ، ولو لم تكن العقاقير المطهرة للجراثيم . . . ولو لم تكن عشرات الإِختراعات العلمية فأنه يموت . . . إن المريض يدرك بفطرته أن لكل من هذه المخترعات مخترعاً ، ولكنه في سبيل العلاج والتطبيب لا يفكر إلا في نفسه والمنافع التي يحصل عليها من تلك الإِختراعات غافلاً عن المهندسين العظماء والمخترعين الكبار الذين أوجدوا تلك الصنائع ، ولا يتذكرهم في مقام تقدير جهودهم .

قد يقف الخطيب في قاعة ضخمة ويلقي محاضرة على عشرات الألوف من المستمعين موصلاً صوته إليهم بواسطة جهاز تكبير الصوت وهو يدرك بفطرته أن لهذا الجهاز صانعاً ولولاه لما استطاع أن يوصل صوته إلى هذا العدد الضخم من الناس ، ولكنه غافل عن معرفته الفطرية ولا يتنبه إلى مخترع هذا الجهاز أصلاً ، بل يفكر في رغبته فقط ويتنبه إلى وصول صوته إلى أكبر عدد ممكن من الناس فحسب .

هذا وإن الجميع يعلمون أن هذه الغفلة وعدم تقدير جهود المخترعين والمنشئين لا يغيران من الواقع شيئاً : فَلِكُلِّ مَصنُوعٍ صانِع ولِكلِّ أثرٍ مؤثِّر .


إن موقف البشر تجاه صنع الله تعالى وتجاه عظمته في تدبير شؤون الكون يشبه الموقف السابق . فجميع الناس يستفيدون من نعمه التي لا تعد ولا تحصىٰ كل يوم ، وكلهم يدركون أن لهذا الخلق خالقاً ، ولكل مصنوع صانعاً فبعضهم يقدرون عظمة الخالق ويشكرونه على نعمه ولكن البعض الآخر يتنكرون له ولا يعترفون له بالجميل والفضل والأنعام . . .

العالم الإِلهي والعالم المادي كلاهما يلاحظان النظام الدقيق في الكون وكلاهما يدركان أسرار الحكمة والعظمة في العالم . . . مع فارق كبير بينهما هو أن العالم المادي يرى النظام فقط ، أما العالم الإِلهي فأنه يرى النظام والمنظم معاً ـ. وفي نفس الوقت الذي يهتم فيه بدقائق صنعه ، وشواهد عظمته يتجه إلى عظمة الخالق ويقف خاضعاً تجاه مقامه المنيع مقدماً مراسيم الشكر والثناء والاعتراف بالجميل .

٤ ـ المهندس القدير والصدفة العمياء :

لنفرض أنه يوجد في مخزن ما مليونا طن من الأحجار والطابوق والأسمنت والحديد والجص والأخشاب والزجاج واللوالب والمقابض والأسلاك والأنابيب وغير ذلك من المواد الإِنشائية . وكان مليون طن من هذه المواد تحت إختيار مهندس معمار ، فإنه يخرج تلك الكمية من المخزن وينشىء على أرض مسطحة عمارة ذات ثلاث طوابق . . . وبعد مدة يأتي سيل جارف ويخرج المليون طن من المواد الإِنشائية . الباقية في المخزن إلى الخارج ويكومها على بعد بضع كيلومترات مكوناً تلاً من ذلك الخليط . العمارة ذات الثلاث طوابق إنما هي إنتاج ذلك المهندس القدير ، والتل المتراكم عمل طبيعي للسيل .

إن العقلاء من كل أُمة وفي أي عصر حينما يدخلون العمارة التي أنشأها المهندس يجدون أن كل شيء قد وضع في محله حسب نظام دقيق ومحاسبة أساسية : فالطابوق في داخل البناء والرخام فوقه والأعمدة الحديدية ذات القياسات الخاصة تحفظ السقف ، والأبواب مرتبة في أماكنها والأسلاك مربوطة بالأزرار والمصابيح الكهربائية ، وحنفيات الماء البارد والحار متصلة بالأنابيب


ومعدة للعمل في الحمام والمغسلات ، والسلالم تربط طوابق العمارة ببعضها حسب هندسة دقيقة . . . وبصورة موجزة فإن كل شيء في ذلك البناء موضوع في محله والنظام يسيطر على جميع أجزاء البيت .

أما حين يذهب العقلاء إلى التل الذي صنعه السيل ، فلا يجدون نظاماً هناك . فأحجار الرخام قد ركدت تحت الطين وأعمدة الحديد مبعثرة هنا وهناك ، والأسلاك متشابكة فيما بينها وملتفة بصورة مشوشة حول الأعمدة والأحجار ، والأبواب مكسرة وشبه مكسرة ، البعض منها بصورة أفقية والآخر بصورة عمودية ، وبصورة موجزة : فإن الشيء الذي يفتقد في نتاج السيل هذا ، هو النظام والقياس الصحيح .

يتضح للناظر العاقل من مقارنة هذين النموذجين أن صانع العمارة كان عالماً ، وأن صانع التل كان فاقداً للعلم والشعور ، ولقد وضع المهندس كل شيء في محله حسب قياسات محاسبات دقيقة أما السيل فلم يكن نتاجه صادراً عن وعي وإرادة بل إن إندفاع الماء قد بعثر كل شيء في مكان ما من دون نظم أو ترتيب .

إن بناء الكون الفسيح ونظامه العظيم مركب من آلاف الملايين من الأجرام الكونية الصغيرة ، والكبيرة ، وإن الكرة الأرضية التي نعيش على ظهرها إنما هي جزء صغير من تلك الأجرام التي لا تعد ولا تحصىٰ ، وأن الأحياء على ظهر هذا الكوكب من نبات وحيوان وإنسان كل منها ذرة صغيرة جداً بالنسبة إلى الكرة الأرضية نفسها . إن فطرة كل فرد ترشده إلى أن لهذا الصنع العظيم صانعاً وأن لهذا البناء المحير وهذا الأثر العجيب مؤثراً . وإن الإِلهيين والماديين ويتفقون في هذا الأمر الفطري لكنهم يختلفون في معرفة هذا الصانع وتعيين هذا المؤثر .

يرى الماديون ـ أي المنكرون لله ـ إن الكون العظيم نتيجة الصدفة فقط فهناك ملايين الحوادث غير الإختيارية والعوامل غير الإِرادية طوال آلاف الملايين من السنين إجتمعت لتوجد هذا الأثر وتنشىء هذا البناء وبعبارة أوضح .


انهم يقولون أن العالم يشبه ذلك التل المبعثر والقائم على غير قياس ونظام . . . الموجود نتيجة جرف السيل لتلك المواد الإِنشائية .

أما الإِلهيون فانهم يرون أن مظاهر النظام والترتيب الدقيق تبدو في كل زوايا الوجود ، وإن الصدفة العمياء والطبيعة الفاقدة للإِرادة والوعي غير قادر على أن توجد هذا الأثر الحكيم والمليء إدراكاً ووعياً . إن الله العالم القادر الحكيم هو الذي أقام نظام الكون على أساس المحاسبة الدقيقة والنظام المتقن ، وبعبارة أوضح : فإن هذا الكون أشبه بتلك العمارة المنظمة الجميلة التي أنشأها تفكير المهندس القدير وعلمه ، حيث نجد كل شيء مستقراً في محله حسب قياس صحيح ـ

لقد استدل العالم الشهير ( داروين ) على عقيدته بالنسبة إلى الله تعالى في رسالة له إلى عالم ألماني عام ١٨٧٣ م بهذه الصورة :

« إن العقل الرشيد والفكر السليم لا يشك أبداً في إن من المستحيل أن يوجد هذا الكون الفسيح مع هذه الآيات الواضحة والشواهد المتقنة ، مع هذه النفوس الناطقة والعقول المفكرة نتيجة للصدفة العمياء الجاهلة . ذلك إن الصدفة العمياء لا تستطيع أن توجد نظاماً دقيقاً وبناء قويماً . وهذا في نظري أكبر شاهد على وجود الله . أنا لا أبحث عن بقية البراهين والأدلة التي تثبت وجود الله ، لأن باستطاعة هذا البرهان وحده أن يقنع كثيراً من الباحثين والمتتبعين » (١) .

« يقول العالم الذائع الصيت ( أنيشتين ) : يندر أن نجد شخصاً لا يملك بين أفكاره العلمية العميقة شعوراً دينياً . لكن ذلك الشعور الديني يختلف عن شعور البسطاء . إن شعوره الديني يكون في الغالب بصورة حيرة مجذوبة نحو الإِنسجام الدقيق المشاهد في

____________________

(١) أصل الأنواع ـ مقدمة الترجمة الفارسية ـ ص ٢٦ .


الطبيعة هذا الإِنسجام يحكي عن عقل عظيم إذا قسنا التفكير البشري والنشاط الإِنساني معه كانا لا شيء تماماً » (١) .

« سئل ( باستور ) بعد إكتشاف أسرار عالم الميكروبات عن رأيه في أصول الديانة فقال : إن عقيدتي بالدين قد ترسخت أكثر من السابق » (٢) .

« ولكن في الاستطاعة أن نشير إلى شيء حدث منذ زمن بعيد ، عند بدء الحياة على الأرض ، وكان له شأن عظيم ، ذلك : أن خلية واحدة قد نمت عندها القدرة المدهشة على إستخدام ضوء الشمس في حل مركب كيماوي ، وإصطناع غذاء لها ولأخواتها من الخلايا . ولا بد وأن لدات أخريات لخلية أصلية أُخرى قد عاشت على الغذاء الذي أنتجته الخلية الأولى ، وأصبحت حيواناً ، في حين صارت الخلية الأولى نباتاً والنباتات التي هي نسل هذه الخلية هي التي تغذي جميع الكائنات الحية الآن ، فهل يمكننا أن نعتقد أن كون خلية قد أصبحت حيواناً ، وأُخرى قد أصبحت نباتاً إنما حدث بطريق المصادفة ؟ » (٣) .

*  *  *

لقد إتضح من البحوث السابقة إن للمعرفة الإِلهية أساساً فطرياً في باطن كل فرد ، وأن هذه المعرفة الفطرية تتحول إلى إيمان تفصيلي بمعونة العقل والتدبير في الآيات الكونية ، وأن أساس الإِيمان والمذهب قائم على الفطرة والعقل ، وبالرغم من أن القرآن الكريم يستند في المعرفة إلى الفطرة ويعبّر عن ندائها بـ ( الدين القيم ) فانه يدعو الناس إلى التدبر في أسرار الخلق ويأمرهم بالتعقل والتفكير .

____________________

(١) إرتباط إنسان وجهان ج ١ ص ٦٩ .

(٢) إرتباط إنسان وجهان ج ١ ص ٢١٩ .

(٣) العلم يدعو للإِيمان ، تأليف إ .كريسي موريسون . ترجمة : محمود صالح الفلكي .


إن الذين إتبعوا الأنبياء وإهتموا بتربية بذور الفطرة في تربة العقل آمنوا بالله تعالى ، ووقفوا خاضعين أمام عظمته وقدرته . أما الذين لم يصغوا لنداء العقل ، ولن يوجهوا الفطرة بالتدبر والتعقل إلى الوجهة الصحيحة فانهم إنحرفوا عن الطريق المستقيم وسار بعضهم في طريق المادية والاعتقاد بالصدفة بينما سار آخرون في طريق الوثنية وما شاكل ذلك .

الانحراف عن طريق الفطرة :

لقد وجه الشيوعيون ـ الذين يتبعون المبدء الاقتصادي وينظرون كل شيء بمنظار الاقتصاد ـ حملات شعواء ضد الدين والعقيدة .

« يقول لينين : إن الدين أحد وسائل الضغط الروحي على الطبقة الكادحة التي تكد لغيرها دائماً ، وتعيش في الحرمان المستمر . . . إن الماركسية تعتبر جميع المذاهب الحديثة ، والتنظيمات الدينية لعبة بيد الطبقة البرجوازية والهدف من ذلك كله هو استغلال الطبقة العاملة والحط من قدرها . . . » (١) .

هؤلاء يوجهون للتعاليم الدينية إتهامات في كتبهم لا يمكن أن تغفر . وكنموذج على محاولاتهم الهدامة والمخالفة للحقيقة نتعرض لموضوع الصبر في الإِسلام وكيفية تفسير الشيوعيين له ، بالرغم من أن الموضوع خارج عن دائرة بحثنا :

التفسير الخاطىء للصبر في الاسلام :

كان رؤساء العشائر قبل ظهور الإِسلام يحكمون بالظلم والقسوة جماعة من المساكين والضعفاء ، وكانوا يستولون على أموالهم ، ويذيقونهم شر العذاب . ولقد جاء الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر الله ليقيم العدل وينهي ذلك

____________________

(١) المادية التاريخية ص ٩٠ .


الوضع المخزي وليحفظ للضعفاء حقوقهم ، ويضرب على أيدي الطغاة والظالمين .

ولقد إرتبك الجائرون من موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقاموا لمناهضته واتفقوا للوقوف بوجهه . . . وكان على المسلمين الضعفاء أن يقفوا صفاً واحداً أمام جبهة الظلم والجور ، وهذا عمل صعب يتطلب جهداً كبيراً . فأخذ القرآن الكريم في تشجيع معنويات المسلمين وحثهم على المقاومة ، وأمرهم بالصبر في قبال السيوف والرماح ، وطلب منهم مجابهة المصائب بصدر رحب مطمئناً لهم بأن الباطل سيندحر وأن النصر محتم لهم . . .

١ ـ ( فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (١) .

٢ ـ ( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ، وَحِينَ الْبَأْسِ ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (٢) .

٣ ـ ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (٣) .

٤ ـ ( وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا ، لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ) (٤) .

٥ ـ ( فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَا ضَعُفُوا ، وَمَا اسْتَكَانُوا ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (٥) .

فنجد أن القرآن الكريم يحث المسلمين على الصبر والثبات في مواجهة صفوف الجائرين ودعاة الباطل ، ويدعوهم إلى عدم الرضوخ للباطل وعدم الإِستكانة للظلم ، وحمل راية التوحيد والحق ، والعدل والحرية لطرد العدو .

____________________

(١) سورة الأنفال ؛ الآية : ٦٦ .

(٢) سورة البقرة ؛ الآية : ١٧٧ .

(٣) سورة محمد ؛ الآية : ٣١ .

(٤) سورة آل عمران ؛ الآية : ١٢٠ .

(٥) سورة آل عمران ؛ الآية : ١٤٦.


أما الشيوعيون فانهم حين يصلون إلى هذه النقطة يقومون بخيانة كبيرة ويعملون ـ على خلاف الإِنصاف والإِنسانية ـ على تشويه الحقيقة وتفسير أمر الإِسلام بالصبر تفسيراً يخالف الواقع فيقولون :

« لقد جاء الدين يؤيد مصالح الطبقة الحاكمة ، ويحث العامل على الجد والتعب والتحمل ، وفي قبال ذلك يعده بالجنة ، ويقول إن الله يحب الذين يتحملون الآلام والمصائب ( إن الله يحب الصابرين ) » (٣) .

يا للوقاحة ! إنهم يعملون على نشر هذه التلفيقات والتحريفات ضد الدين لجرف شباب المسلمين الفارغي الأذهان . . . وليحكم رجال العلم والفضيلة في حق هؤلاء ! ! .

فرويد والفطرة :

يمكن إعتبار فرويد وأتباعه ممن إنصاعوا لكلماته دون وعي أو إدراك من جملة الماديين المنحرفين عن الفطرة ، ولكنهم يسدلون ستار التحليل النفسي والبحث العلمي على إنحرافهم ذاك .

وبما أن موضوعنا يدور حول الفطرة الإِيمانية والوجدان الأخلاقي لا بد من توضيح بعض النقاط عن موقف فرويد من هذه المسألة :

١ ـ إنه لا شك في أن فرويد كان محللاً نفسياً حاذقاً . ولكن علم التحليل النفسي يختلف عن علم معرفة الإِنسان . وكما أن الطبيب يعرف مزاج الإِنسان وليس هو مزاج الإِنسان ، فإن فرويد طبيب نفسي وليس تمام النفس الإِنسانية . وإذا حصر أحد البشرية كلها في علم النفس فقد ظلم الإِنسانية .

« ولن تكون رئاسة السيكولوجيا أقل خطراً من الفسيولوجيا والطبيعة والكيمياء . . . فقد أحدث ( فرويد ) أضراراً أكثر من التي أحدثها أكثر علماء الميكانيكا تطرفاً فان من الكوارث أن نختزل الإِنسان

____________________

(١) المادية التاريخية ص ٩١ .


إلى جانبه العقلي مثل إختزاله إلى آلياته الطبيعية الكيميائية » (١) .

٢ ـ لقد إعتنى فرويد في معرفة الإِنسان بالشهوة الجنسية قبل كل شيء . وبدلاً من أن يجعل بحثه يدور حول الإِنسان أخذ يبحث عن الجنس ونظر إلى الإِنسان من زاوية الميل الجنسي فقط . إن فرويد يرى أن الإِنسان السعيد هو الذي يروي ظمأه الجنسي بأي طريق شاء . إنه لا يلتفت إلى السجايا الإِنسانية والملكات الفاضلة ، ولذلك فهو ينتقد الأوضاع والتعاليم الدينية وقوانين العالم المتمدن في عدم فسح المجال وعدم إعطاء الحرية الكاملة للناس في إرضاء ميولهم الجنسية ، ولم يرض بهذا الظلم بالنسبة إلى الغريزية الجنسية :

« إن إنتخاب أي موضوع من قبل فرد مراهق ينحصر في الجنس المخالف ، وفي الغالب تمنع الميول الجنسية التي تحصل في الخارج من التوالد والتناسل وذلك بعلة الفساد والإِنحراف . إن هذا العمل يؤثر بنسبة كبيرة في جماعة من الناس ويبعث على تقليل لذتهم الشهوانية وبذلك يسبب إجحافاً شديداً » .

« إن الشيء الوحيد الذي بقي لحد الآن حراً ولم يمنع منه هو الميل نحو الجنس المخالف والتناسل ، وذلك في ضمن قيود خاصة أيضاً ، لأن العلاقة مع الجنس المخالف يجب أن تكون مشروعة أولاً ، ويجب أن يكتفي كل فرد بفرد واحد من الجنس المخالف فقط » (٢) .

إن فرويد يدافع عن الشهوة الجنسية لسحقه للمثل الإِنسانية ، ويعمل من أجل فسح المجال التام أمام ممارستها ! إن إتباع مذهب فرويد في إرضاء الميول الجنسية معناه الإِنحراف إلى طريق الدعارة والفحشاء والشقاء . والأسلوب الفكري الفرويدي يسدد ضربة قاصمة إلى أساس تكوين الأسرة

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٢١٦ .

(٢) أنديشه هاى فرويد ص ١٢٩ .


والحنان العائلي وتربية الطفل . إن تحليل كلمات فرويد في الغريزة الجنسية يجر وراءه سلسلة من النتائج الوخيمة التي ننزه اللسان عنها .

٣ ـ إن عقدة الحقارة في مدرسة التحليل النفسي الفرويدي مسألة قابلة للانتباه ، فإن المصابين بهذه العقدة والذين يحسون بالحقارة في نفوسهم تظهر فيهم ردود الفعل المختلفة . فما أكثر سكون الناس وانزواءهم وتكبرهم وتواضعهم ، ونصائحهم ، واستدلالاتهم التي تنبع من عقدة الحقارة . لكن تظهر بالمظاهر الآنفة الذكر .

منشأ عقدة الحقارة عند فرويد :

لقد كان ( فرويد ) معرضاً للإِستهزاء والسخرية في أيام شبابه نظراً لاعتناقه اليهودية ، وإن جميع المترجمين له يصرحون بهذه النكتة :

« ولد سيجموند فرويد في ٦ مايس ١٨٥٦ في مدينة صغيرة ( فرايبرك ) واقعة في ولاية ( مراوي ) ، لقد كان أبوه وأقاربه ينحدرون من عائلة يهودية قديمة ، كانت على أثر الإِضطهاد الذي كان يلاقيه اليهود في تلك العصور قد رحلت من ( بالاتينا ) الواقعة في ( باوير ) وسكنت في ( مراوي ) . والنكتة التي يجدر ذكرها هي أن فرويد كان معرضاً لإِستهزاء وإزدراء زملائه دائماً بالنسبة لمذهبه وعنصره . وإن رد الفعل الذي أوجدته تلك السخرية في نفسه ، يظهر في ميله إلى التطرف والإِنزواء » (١) .

لقد أدى إعتناق فرويد اليهودية أن يعرض للتحقير والإِستهزاء منذ الصغر ، وبذلك سحقت شخصيته وعزة نفسه . هذا الأمر جعله ينظر نظرة تشاؤمية تجاه الدين الذي سبب له السخرية والإِزدراء . فقد كان التفكير في الدين يشوش عليه ويقض عليه مضجعه ، وكان يعجز منه .

« لقد لخص فرويد بحثه في الإِتجاه الديني في هذه الجملة : إني

____________________

(١) انديشه هاى فرويد ص ١٠ .


أجد نفسي مضطرباً وقلقاً عند البحث في أمثال هذه المسائل التافهة ، وإني أعترف بذلك دائماً » (١) .

يرى فرويد : أن الميول المكبوتة في أيام الطفولة لا تنمحي ، بل تنتقل إلى الضمير الباطن وتنشىء ردودها المختلفة طيلة الحياة ، ومن المناسب أن نستفيد من هذه الجملة ونتحقق عن ضميره الباطن لنجد المظاهر التي أدت إليها شخصية فرويد المندحرة وعقدة الحقارة التي كانت ناشئة في ضميره الباطن من جراء السخرية الدينية .

رد الفعل لعقدة الحقارة :

لم يقف رد الفعل الذي أدت إليه عقدة الحقارة في نفس فرويد عند حد الانزواء والإِبتعاد عن المؤثرات الدينية بل راح يثأر لكرامته وينتقم من الإِستهزاءات التي حصل عليها تحت ظل إعتناقه اليهودية . ولقد إستغل البحث النفسي لمناهضة الدين وأعمل جهده في إجتثاث أصول العقيدة وإذ كان هدفه على خلاف الحق والواقع ، فقد أتىٰ بقضايا واهية وكلمات لا أساس لها من الصحة أصلاً .

إنكار الفطرة :

لما كان الإِيمان بالله الأساس الأول للدين في عالم الإِنسان ، ولما كان الإِلهيون والعلماء مستجيبين لنداء فطرتهم وتوجيه عقولهم إلى الإِيمان بخالق الكون الذي أودع فيه هذا النظام الدقيق وهذا الإِنسجام الكامل ، فقد بدأ فرويد في إنكار الفطرة التوحيدية وكانت الخطوة الثانية التي أعقبها في هذا المجال ، التغافل عن المنطق الإِستدلالي والعقلي للعلماء وتعريف الدين بسلسلة من العوامل النفسية تحت ستار من التحليل النفسي .

إن نظرية فرويد بالنسبة إلى الأديان معروفة في جميع الكتب التي

____________________

(١) المصدر السابق ص ٩٢ .


تعرضت لبيان نظرياته ، وللاستشهاد ننقل هنا بعض البعارات من كتابين بهذا الصدد :

« لا يتفق أي دين مع دليل تام ، فالدين توهم يتخذ قوته من نتيجة تلقي الميول الغريزية عندنا » (١) .

« لا يقوم الدين بأصوله وتعاليمه بعمل من وجهة نظر البحث النفسي غير إيضاح القلق والاضطراب عند الأشخاص . وبعبارة أُخرى فإن فرويد يعتقد أن سبب ظهور الدين يرجع إلى ظاهرتين : أ ـ القلق والاضطراب الإِنساني في قبال الميول الغريزية . ب ـ خوف الإِنسان من الطاقات المتغلبة في الطبيعة » .

« وعلى هذا فإن فرويد على خلاف ( روناك ) لا يرى دخلاً للعقل في تكوين المذهب ، ويعتبره أمراً نفسانياً فقط » (٢) .

« يرى مذهب التحليل النفسي أن الإِستنتاج الديني من الموجودات يرجع إلى حالتنا الطفولية ، إن الطفل يجد نفسه أمام عالم عظيم ، وعلى الأم أن تؤمن مخاوف الطفل تجاه العالم كله وحمايته من الاضطرابات . وبعد ذلك يلقى عبء هذه المهمة على الآباء ، فيجب عليهم القيام بدورهم طوال مدة الطفولة » .

« إن الخوف الناشىء في الطفولة يمتد حتى البلوغ أيضاً وإن الفرد البالغ يستأنس بجميع الأخطار التي تهدد حياته إنه يحتاج ـ كالطفل ـ إلى حماية شبيهة للتي يحتاجها في الأعوام الأولى من حياته في قبال أخطار العالم ومشاكله ولذلك فهو يبدأ ينظر إلى تلك القوة التي فوق البشر وتلك الألوهية كشيء ذي حقيقة » (٣) .

هل كان فرويد جاهلاً في الواقع ، أو أنه تجاهل بسبب عقدة الحقارة

____________________

 (١) فرويد وفرويديسم ص ١٥٠ .

(٢) انديشه هاى فرويد ص ٨٦ .

(٣) فرويد وفرويديسم ص ١٤٨ .


التي يحسن بها ضد الدين ، لأخذ الثأر ؟ ! .

هل إن آلاف العلماء الإِلهيين الذين آمنوا في الماضي والحاضر بالله كان اعتقادهم مبنياً على أساس البحوث النفسية لفرويد ؟ ! .

أفهل كان السبب في إعتقاد حملة راية العلوم ، وقادة التقدم العلمي بالله في العصر الحديث هو الخوف من قوى الطبيعة الظالمة ـ كما يقول فرويد ؟ !

هل آمن ( أنشتاين ) ذلك العالم الذائع الصيت لأجل القلق والاضطراب من الميول الغريزية أو الخوف من الزلازل ؟.! .

هل إن إعتقاد ( داروين ) بالله كان خوفاً من رعيد السماء وبرقها ليلقي نفسه ـ كالطفل ـ في أحضان السماء ؟ ! .

هل كان منشأ إيمان ( بركسن ) و ( باستور ) العالمين الفرنسيين هو الخوف من أمواج البحر ، أو المواد البركانية التي ألقت بها فوهة بركان ؟ ! .

هل كان إيمان العلماء الإِلهيين في أوروبا وأمريكا في العصر الحديث والذين نالوا جوائز ( نوبل ) ناشئاً عن الخوف من الحوادث الطبيعية ، وهل أن أساسهم النفسي هو الضعف في أيام الطفولة واللجوء إلى الأب السماوي الموهوم ؟ ! .

بأي جرأة علمية يقول فرويد وأتباعه : « لا ينطبق الدين مع أي دليل » ؟ ! .

كيف يدعي هؤلاء إن العقل لا يتدخل في البحث عن الدين ؟ ! .

لماذا يعتبرون إيمان الألوف من العلماء كان خوفاً من القوى الطبيعية الظالمة ويستسهلون هذه التهمة تجاههم ؟ ! .

لماذا هذه المغالطات تجاه الدين من رائد التحليل النفسي الذي يدعي الإِستجابة لنداء الواقع دائماً ؟ ! .

هذه أسئلة يجب أن يجيب عليها الأُناس المثقفون الواعون .

وسنختم بذلك هذه المحاضرة على أن نبحث عن الوجدان الأخلاقي في المحاضرة القادمة .


المحاضرة الحادية عشرة

الوجدان الأخلاقي

قال الله تعالى في كتابه الكريم : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (١) .

فطرية الوجدان الأخلاقي :

وجدنا في المحاضرة السابقة كيف يُنكر ( فرويد ) إستناد الوجدان الأخلاقي إلى الفطرة . فلقد صرّح بأن الوجدان الأخلاقي عبارة عن مجموعة النواهي الإِجتماعية والغرائز المكبوتة في مختلف مراحل الحياة تعارف المجتمع على تسميتها بالوجدان .

لكن طائفة كبيرة من العلماء في الماضي والحاضر ترى أن للوجدان الأخلاقي أساساً فطرياً ، وأنه داخل في بنيان الإِنسان وكيانه . ولما لم تكن عقول العلماء وأفكارهم مصونة من الخطأ والإِنحراف ، ولأجل الوصول إلى مقياس صحيح يمكن بواسطته معرفة صحة أقوال شخص عالم أو خطئها يجب أن نعرض نظرياته العلمية على آيات القرآن الكريم والنصوص الصحيحة الواردة عن المعصومين عليه‌السلام . فإنْ كان فيها مخالفة صريحة لتلك الأسس الإِسلامية

____________________

(١) سورة القيامة ؛ الآيتان : ١ ـ ٢ .


الثابتة فيجب أن نقول ـ بلا ريب ـ أن ذلك العالِم إنحرف عن جادة الحق ، وأن تفكيره كان خاطئاً .

ولأجل أن يتضح موضوع الوجدان الأخلاقي للمستمعين الكرام لا بد من الإِبتداء بذكر الآيات الواردة في المقام ، ثم التعرض للنظريات الحديثة لمقايستها معها ، وذلك للوصول إلى معرفة صحتها أو سقمها .

الاسلام والوجدان الأخلاقي :

يرى الإِسلام أن الوجدان الأخلاقي ( أي القوة المدركة الباطنية التي تميز الخير من الشر ) جزء من البناء التام للإِنسان ، وفطرته ، على أنه وإن لم يرد تسمية تلك القوة الفطرية باسم الوجدان الأخلاقي ، في القرآن والأحاديث لكن قد ورد التصريح بها بعبارات أُخرى :

١ ـ قوله تعالى ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) وبصدد تفسير معنى النفس اللوامة ، ينقل صاحب تفسير البرهان هذا الحديث عن علي بن إبراهيم « . . . نفس آدم التي عَصَت خالقها » (١) .

فالإِنسان حين يرتكب ذنباً يسمع نداء اللوم والعتاب من باطنه ، ذلك النداء يقض مضجعه ، إن علماء النفس يسمون هذه القوة التي تلوم الإِنسان بالوجدان الأخلاقي (٢) . والقرآن يسميها بالنفس اللوامة . إن استعمال كلمة ( النفس ) هنا يشير إلى أن القوة اللائمة هي روح الإِنسان نفسه وجزء من هيكله . والحديث أيضاً يؤكد على أن هذه القوة النفسية كانت موجودة عند الإِنسان الأول ( آدم ) أيضاً .

٢ ـ قوله تعالى : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (٣) . ولقد ورد عن الصادق عليه‌السلام في تفسير هذه الآية قوله : « بيَّن لها ما تأتي وما

____________________

(١) تفسير البرهان ص ١١٦٠ .

(٢) جرى علماء النفس على تسمية هذه القوة بالضمير الباطن ، والنفس العليا . . . الخ .

(٣) سورة الشمس ؛ الآيتان : ٧ ـ ٨ .


تترك » (١) .

يستفاد من استعمال كلمة الإِلهام بالنسبة إلى خلق النفس الإِنسانية أن القوة المدركة للخير والشر هي من الإِفاضات الإِلهية وجزء من خلقة الإِنسان وهيكله .

٣ ـ قوله تعالى : ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) (٢) .

٤ ـ « عن حمزة بن محمد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله عز وجل : ( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) قال : نجد الخير والشر » (٣) . يستفاد من ذكر الله تعالى للهداية إلى الخير والشر عند بيان تكوين الإِنسان وبعد ذكر نعمة العين واللسان والشفة ، ان إدراك الخير والشر أمر فطري في الإِنسان ويكون جزءاً من بنائه حيث يقول : ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) .

نستنتج من هذه النصوص ونصوص أُخرى في الباب ، أن الإِسلام يعتبر إدراك الخير والشر فطرياً عند الإِنسان ، لكن يجب أن نعلم أنه لا يتسنى للإِنسان إدراك جميع أوجه الخير والشر بصورة فطرية ، وإلا فأي ضرورة في إرسال الأنبياء ؟ ذلك إن الجانب الفطري من هذه الإِدراكات منحصر في المسلمات الأولية للخير والشر أو الفضائل والرذائل ، ويبقى جانب من هذه الإِدراكات يحتاج فيها الإِنسان إلى التعليم والاقتباس .

وبعبارة أوضح نقول : هناك طائفة من الأفعال تكون ضرورية لسعادة الإِنسان وطائفة أُخرى مضرة بسعادته وكماله فنسمي الطائفة الأولى ( خيراً ) والطائفة الثانية ( شراً ) .

الوجدان الفطري والتربوي :

يستطيع الإِنسان أن يصل إلى معرفة الخير والشر من طريقين : الفطرة

____________________

(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ١ ص ١٦٣ .

(٢) سورة البلد ؛ الآية : ١٠ .

(٣) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ١ ص ١٦٣ .


والتربية . فهناك طائفة من الأمور الخيرة والشريرة تذكرها جميع الأمم والشعوب في العالم ، ولا تحتاج في فهمها إلى معلم ، بل إنها من الأمور الفطرية عندهم . ويمكن تسمية هذا القسم باسم ( الوجدان الأخلاقي الفطري ) .

وهناك طائفة من الخيرات والشرور ، لا يدركها الإِنسان بفطرته بل إن الأنبياء ـ القائمين على تربية البشرية ـ هم الذين علمونا حسنها أو قبحها ، وقد أصبحت لها على مرّ العصور جذور عميقة في نفوس الناس ، هذه الطائفة غير فطرية ويمكن تسميتها باسم ( الوجدان الأخلاقي التربوي ) .

إن خيانة الأمانة والتزوج بالأم يشتركان في القبح في نظر الوجدان الأخلاقي للناس ، ولكن الفرق بينهما أن قبح الخيانة ناشىء من طريق الإِدراك الفطري ، أما قبح التزوج بالأم فانه ناشىء من تعليم وتربية الرجال العظماء في العالم . ولهذا فيجب أن نقول : إن الخيانة قبيحة بحكم الوجدان الأخلاقي الفطري . وأن التزوّج بالأم مذموم بحكم الوجدان الأخلاقي التربوي .

نظرية فرويد واتباعه :

« إن الطفل يرغب في الحركة والنشاط بحرية ، ولكن هذه الرغبة تصطدم منذ البداية بمقتضيات الحياة الإِجتماعية إنه يرغب في أن يرفع إحتياجاته الطبيعية كما يشاء ولكنه يُلزم بمراعاة النظام والنظافة ، فلا يُترك الطفل في أن يعتدي على رفيقه كما يشاء أو أن يعضّ أمه ، أو يحطم دماه ووسائل لعبه ، وأخيراً فانهم يقفون حجر عثرة أمام إرضاء ميوله الناشئة من الأنانية والإِعجاب بالنفس » .

« لما كان كل ميلٍ يتعين بهدف خاص ، فعلى الطفل أخيراً أن ينصرف عن هدفه في هذه الموارد . إن ما يهم لبحوثنا وتحقيقاتنا هو أن نعلم ماذا سيؤدي إليه هذا ( الإِنصراف ) ؟ » .

« يجب أن نبحث عن أن جميع مظاهر الميول المكبوتة في الوجدان الباطني ، معلولة لعدم ملائمتها مع الظروف الإِجتماعية » .


« توجد الرغبات المكبوتة في الشعور الباطني ، ولكن يجب أن نتذكَّر أن هذه الميول تحتل جزءاً من الشعور الباطن فقط . فالشعور الباطن يحتوي على عناصر أُخرى منها بعض العوامل النفسية الموروثة عند الإِنسان . وما يتسرب إلى الشعور الباطن للطفل في مراحل تكامله من طاقات لم تجد لها مجالاً للإِستغلال » (١) .

« يرى فرويد أن الوجدان الأخلاقي ليس إلا ردّ فعل . وليس عملاً ذاتياً أو عميقاً يرتبط بالروح الإِنسانية بل إنه تأمل ساذج في المحرمات الإِجتماعية » (٢) . يرى فرويد أنه لا يوجد تصور للخير أو الشر لا في تاريخ البشرية ولافي تاريخ الفرد ، هذه التصورات تتفرع من المحيط الإِجتماعي فقط » (٣) .

من هذه الجمل القصيرة نصل إلى أن ( فرويد ) لا يرى للوجدان الأخلاقي أساساً فطرياً أصلاً . بل يرى أنه كما يوضع اللجام في فم الحصان الشموس للسيطرة عليه ، كذلك يفعل الوجدان الأخلاقي ـ الذي هو حصيلة النواهي الإِجتماعية ـ في تهدئة السلوك الإِجتماعية والمحافظة على النظام فيه . بينما نجد أن طائفة كبيرة من العلماء في العصر الحديث يخطئون نظريات فرويد ويرون أن الوجدان الأخلاقي يستند إلى أساس فطري عميق في النفس الإِنسانية ، وله جذور ثابتة في طبيعة الإِنسان . وإن نداءه الطاهر والسماوي يُسمع من الأعماق في جميع مراحل الحياة ، وفي الحالات المختلفة.

« يقول روسو في كتابه ( أميل ) بهذا الصدد : إن الوجدان هو الغريزة التي تتحدى الفناء بقوة السماء . وهو المرشد الباعث على الإِطمئنان عند الأفراد البسطاء والمحدودين لكن الأذكياء والأحرار ،

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٣٣ .

(٢) بيماريهاى روحى وعصبى ص ٦٤ .

(٣) أنديشه هاى فرويد ص ١٠٥ .


وهو الحكم المستقيم في سلوكه والمميز بين الخير والشر » (١) .

« إن مشاهدة الأمراض الروحية من جانب ، والقوى الروحية الطبيعية من جانب آخر ترينا بعض القضايا التي تشهد على الأهمية العظمىٰ للوجدان الأخلاقي في البحوث النفسية ، وفرق ذلك مع ( ردّ الفعل ) » (٢) .

« ليس الوجدان الأخلاقي في طاقة مفتعلة بل إنه أعمق العوامل في الطبيعة الإِنسانية ، ليس في وسع الأفراد إطفاء أو دحر هذا الوجدان بالتظاهر بالأمور المختلفة . ومضافاً إلى ذلك فإن ثبات الوجدان الأخلاقي العجيب حتى في أشد الحالات المرضية . وفي حالة الجنون والإِنحطاط الروحي ، وبقاءه بعد خفوت شعاع العقل والذكاء يزيد على أهمية ذلك في الروح الإِنسانية . يتساءل بعض العلماء : أليس الوجدان الأخلاقي حصيلة التعليم والتربية والدين ؟ ولكن يجب أن نتذكر أنهم قد حصلوا في الأدوار الأولى على آثار واضحة لهذا الوجدان . إن إستغفار القبائل البدائية واستيحاشها يدل على قدم الوجدان منذ تلك العصور . وإن إنكار هذه الحقيقة بمثابة أن لا نفهم من الشخصية الإِنسانية أي شيء » (٣) .

عدم نضج كلمات فرويد :

ونظراً للتطرف الشديد الملحوظ في كلمات فرويد ، فقد صرح كثير من العلماء المعاصرين ببطلانها ، وأوردوا الأدلة المفصلة في ردها .

فقد إستعمل فرويد أُسلوب الأساطير بدل البحث العلمي البحت والتحليل الواقعي في موضوع الوجدان الأخلاقي والدين . إنه يبني أصول المذهب

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ جنايت ص ١٥ .

(٢) بيماريهاى روحى وعصبى ص ٦٤ .

(٣) المصدر السابق ص ٧٦ .


والوجدان على قبيلة خيالية إصطنعها في ذهنه . واستمر بحثه ، ومتى إصطدم بالحواجز تخلى عن البحث .

إن قسماً من علماء النفس الغربيين الذين سايروا نظريات فرويد تقريباً لم يستطيعوا السكوت على عدم نضج كلماته بصدد المذهب : ـ

« إن الذي يطالع آثار فرويد يصل إلى هذه النتيجة وهي أنه لم يجب على إستفسارات وأسئلة القراء في القضايا المذهبية وما شكال ذلك . ولكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن فرويد لم يدع أبداً أنه قدم توضيحاً كافياً في المسائل الدينية » (١) .

ونظراً لأن التحليل النفسي يعرض إلى الأسواق الفكرية في بلادنا كمتاع جديد ، ولا بد من إقتران اسم فرويد معه ، فمن الممكن أن يستغل البعض كلماته ـ عمداً أو جهلاً ـ لالقائها كقواعد مسلم بها وبحوث ثابتة في أذهان الشباب الساذجين والمؤمنين ، وبذلك يتسببون في إنحرافهم العلمي والديني ، أو يروجون سوق الدعارة والتحلّل والتفسخ ، ويجرون جيلنا الجديد إلى هوة سحيقة لا تحمد عقباها . . ـ فنرى لزاماً أن نناقش بعض كلمات فرويد بصورة علمية ونضعها على طاولة التشريح ، عسى أن تقع مفيدة لشبابنا الأعزاء والمثقفين منهم بالخصوص .

إنكار الوجدان الفطري :

من المغالطات المهمة التي يذهب إليها فرويد ، إنكاره للوجدان الفطري . فالوجدان الفطري في نظره ليس إلا رد فعل . ولو كان فرويد يقسم الأمور الوجدانية عند الإِنسان إلى طائفتين : إحداهما فطرية ، والأُخرى ناتجة من النواهي والمراقبات الإِجتماعية فانا كنّا نوافقه على ذلك ولكنّه يعتبر جميع الأمور الوجدانية وليدة الرقابات الإِجتماعية والميول المكبوتة ويصرّح بأنه لا يوجد في الإِنسان تصورات أوليّة للخير وللشر ، ويتطرق في كلماته إلى موضوع القتل ويجعل بحثه يحوم حوله .

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٨٦ .


ولأجل إتضاح الوجدان الأخلاقي الفطري ، وللتمهيد إلى الحديث عن كيفية الإِدراك الفطري لقتل النفس وطائفة من الصفات الخلقية الأُخرى لا بد من ذكر مقدمة :

إن لفوهة البندقية حركتين : إحداهما ناشئة من إحتراق المواد الداخلية للطلقة ، والثانية الحركة الطبيعية . ففي الصورة الأولى إذا حركنا زناد البندقية ووجهنا الفوهة إلى أي جانب فإن الطلقة تندفع إلى ذلك الجانب ، وفي الصورة الثانية إذا تركنا فوهة البندقية حرّة في الفضاء ودون حركة . فإن الطلقة تندفع إلى جانب واحد وهو جهة الجاذبية الطبيعية للأرض .

فإذا أردنا قياس الحركة الطبيعية للرصاصة فيجب أن نتركها حرة في الفضاء تماماً ، ولا نخضعها لتأثير أي عامل مخالف .

إن الوجدان الأخلاقي والميول الباطنية للإِنسان تشبه الحركة الطبيعية للرصاصة . فإذا أردنا أن نعرف الإِدراك الخلقي والوجدان الفطري للإِنسان يجب علينا أن نبحث على إنسان طبيعي مائة في المائة . . الإِنسان الذي لم يخضع لأي تأثير مخالف . فمثلاً إذا أردنا أن نعرف مدى قبح قتل النفس في الوجدان الفطري عند الإِنسان ، يجب أن نبحث على إنسان لم تلوث فطرته ولم يتغلب على إدراكه الباطني عارض من العوامل المختلفة . فإن من يرتكب جريمة قتل لوقوعه تحت تأثير الشهوة أو الغضب ، أو أن من يقتل الناس في ساحة الحرب على أساس التعصب وطلباً للشهرة ، أو أن يرتكب جريمة شنيعة حصولاً على المال أو وصولاً إلى الجاه . . . هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مجالاً مناسباً للبحث عن الإِدراك الفطري للوجدان الأخلاقي عند الإِنسان ، لأن حركة هؤلاء تشبه الرصاصة المندفعة تحت تأثير الإِحتراق الداخلي للبارود ، إذا أن حركتها غير طبيعية .

ولأجل أن يسلب فرويد قبح قتل النفس من إدراك الوجدان الأخلاقي وينسبه إلى ندامة القاتل من عواقب الجريمة الوخيمة ، يفترض قبيلة خيالية في فكره ، ثم يصنع من الشهوة الجنسية بطلاً للأسطورة حيث يقدم على قتل الأب


الخيالي . ثم يستند إلى هذه القبيلة الإِفتراضية ويأتي بسلسلة من النظريات الباطلة التي لا أساس لها من الصحة أصلاً بالنسبة إلى الله والدين والأخلاق والوجدان ! ! .

« يرى فرويد أن الأب أو رئيس القبيلة كان يحتفظ لنفسه بالملكية الجنسية لجميع النساء ، أي أنه كان يتصرف في النساء والبنات ، وكان يسلك بشدة وخشونة تجاه أبنائه الذين كان يعتبرهم الرقباء الجنسيين والمزاحمين لقدرته » .

« كان هذا الأسلوب مستمراً مدة من الزمن حتى فقد الأب قوته بالتدريج إلى أن إنهزم من الميدان تحت ضربات قاضية وجهها نحوه أحد أو جماعة من أولاده » (١) .

« ولم يكن مقدوراً لأحد من الأولاد أن يحقّق أمنيّته ويستحلّ منزلة أبيه ، إذ أنه على ذلك كان يلاقي نفس مصير أبيه وكما نعلم فإن ردود الفعل الروحية والمعنوية لليأس والفشل أعظم أثراً من ردود فعل الإِنتصار » (٢) .

« ولقد أدى قتل الأب في القبيلة الأولى وردوده الروحية الناتجة عنه إلى ظهور الأمر الصادر من النفس فيما بعد والقائل : إنك سوف لا تقدم على القتل » (٣) .

« ربما لو لم تقع جريمة قتل الأب في تلك القبيلة ولم تظهر نتائجه الوخيمة المؤلمة فما بعد ، فإن أحفاد الإِنسان الأول كانوا يستمرون في قتل بعضهم البعض ذلك أن هذا القتل هو الذي سبب صدور الأمر النفسي بصورة : إنك سوف لا تقدم على القتل ـ ثم إنتقل

____________________

(١) أندهشه هاى فرويد ص ٧١ .

(٢) المصدر السابق ص ٨٠ .

(٣) المصدر السابق ص ٨٢ .


إلى جميع أفراد البشر » (١) .

لما كان فرويد قد آلى على نفسه أن ينظر إلى الإِنسان من زاوية الغريزة الجنسية فقط ، وإغفال بقية الجوانب فيه ، يرى في العامل الجنسي للآباء في هذه الأسطورة المزعومة سبباً لقتل الأب .

لقد قام فرويد بذكر مجموعة من المغالطات وسلسلة من الكلمات الباطلة على أساس هذه القبيلة الوهيمة والقتل الخيالي ، ولا يهمنا التطرق إليها جميعاً في بحثنا هذا ، غير أن محل شاهدنا منها هو موضوع قتل النفس.

تلخّص آراء فرويد في هذا الصدد : أنه لما كان ينكر وجود الجذور العميقة للوجدان الأخلاقي في روح الإِنسان ، ويتجاهل وجود التصور البدائي للخير والشر في أعماقه ، فإنه يفسر قضية قتل الأب بجهل الإِنسان بقبح قتل النفس وإن أبناء القبيلة كانوا واقعين تحت ضغط جنسي ، وكانوا يريدون الوصول إلى نساء القبيلة ، وكان وجود الأب مانعاً من ذلك . ولأجل تحقيق أغراضهم الجنسية أزاحوا المانع عن طريقهم وقتلوا الأب ثم انتبهوا إلى وجود موانع أُخرى في طريقهم وعرفوا أنهم لا يستطيعون الوصول إلى أمانيهم . فندموا على فعلتهم وصدر الأمر الذي مضمونه : « إنك سوف لا تقدم على القتل » . . . هذا الأمر انتقل إلى جميع أفراد البشر وتلقى الناس جميعاً موضوع القتل على أساس أنه فعل قبيح . فالحقيقة ـ في نظر فرويد ـ أن جذور قبح قتل النفس في عالم الإِنسان إستمدت من إعلان الأبناء المولعين بالجنس ، الذين قتلوا أباهم ثم ندموا على ما فعلوا .

تحليل أسطورة قتل الأب :

ولنبدأ بتحليل أسطورة القبيلة وقتل الأب وأفعال الأبناء ، ليتضح صحة أقوال فرويد أو سقمها .

*  *  *

____________________

(١) المصدر السابق ص ٨٨ .


الفطرة وراء ستار الشهوة :

لقد أسلفنا في مقدمة البحث أنه لتشخيص الفطرة يجب أن نجعل بحثنا على إنسان حر طليق من جميع الجوانب ، ولم يكن واقعاً تحت ضغط الشهوة أو الغضب ، أو حب المال والجاه وما شاكل ذلك .

أما أبناء القبيلة الذين يحترقون في نار الشهوة ، ويقتلون أباهم بصورة جنونية لغرض الوصول إلى النساء فليسوا أفراداً أحراراً وطبيعيين ، وإن حالتهم النفسية لا يمكن أن تكون مقياساً لتشخيص الفطرة الأخلاقية ، وكما أن النار تدفع البارود الموجود في الطلقة من فوهة البندقية وترميها بسرعة فائقة إلى إتجاه غير طبيعي ، فكذلك نار الشهوة ـ وهي أكثر دفعاً من البارود ـ حيث دفعت أبناء القبيلة إلى إتجاه مخالف للفطرة الإِنسانية وأدت بهم إلى قتل الأب . فإذا لم يحس الأبناء حين ارتكابهم للقتل بقبح ذلك ، فلأجل شدة نار الشهوة ، لا لفقدان الفطرة .

لا يقتصر الأمر على العصور القديمة أو القبائل المتوحشة ، وإنما القضية تسير على هذا المنوال حتى في عصرنا المتمدن هذا ، في عالمنا الذي يمر عليه ـ على حد قول فرويد ـ قرون عديدة على إيجاد إعلان الأبناء الذين قتلوا أباهم ، الإِستهجان من تلك الجريمة في الضمير الباطن للأفراد . فما أكثر الشبان الذين يرتكبون القتل على أثر الشهوة الجنسية أو إثارة قوة الغضب والإِنتقام ، ولا يشعرون بأنفسهم ساعة الجريمة ولا يتذكرون إعلان الأبناء الذين قتلوا أباهم .

الندم على القتل :

يقول فرويد : إن ردود الفعل الناتجة من إقدام الأبناء على قتل أبيهم هي التي سببت الندم على جريمتهم . إنه يعترف بالندم بعد القتل ولكنه يرى أن السبب في ذلك هو ردود الفعل الروحية المرتبطة بالشهوة أو الحياة . لِمَ لا يحتمل الأستاذ فرويد أن الندم حصل على أساس ردود الفطرة أي نداء الوجدان الأخلاقي ، الوجدان الذي كان موجوداً في الإِنسان وسيبقى موجوداً فيه ؟ ! ! .


في حين نجد أن بعض علماء النفس الأوروبيين التابعين لمدرسة فرويد قد احتملوا هذا الوجه :

« وعلى أية حال ، فيجب الأعتراف إما بوجود إحساس ووجدان أخلاقيين مشابه لما هو موجود في الأمم المتمدنة أو على فرض فقدان هذا الوجدان ، فإن الروابط النفسية بين الأب والأولاد كانت شديدة لدرجة كافية لإِيجاد الضربات الروحية ، والندم المتواصل » (١) .

لقد وجدنا أن نار البارود قد وجهت الطلقة في الفضاء إلى جانب غير طبيعي بشدة ، وبمجرد إنتهاء استمرارية الإِنطلاق تتحرر الطلقة من الضغط وتسلك جهتها الطبيعية وترجع إلى الأرض بسرعة وكذلك الشهوة أو الغضب فانهما يخرجان الإِنسان عن طوره الطبيعي ويوجهانه إلى حركة غير طبيعية فيرتكب قتلاً أو جناية . وبعد أن تطفى نائرة الشهوة أو الغضب ويتخلص الإِنسان من الضغط الذي كان يعانيه يثوب إلى رشده ويعود إلى طريقه الطبيعي ، فيقوم وجدانه بتوجيه اللوم إليه على الجرائم التي قام بها ويجعله تحت كابوس روحي شديد .

إن التفسير الطبيعي لسبب الندم في أبناء أسطورة قتل الأب هو نداء الوجدان .

الحالات غير الطبيعية :

يجب أن نعترف سلفاً أن للقبائل البدائية حالات غير طبيعية كثيرة كالقبائل المتحضرة ، وهي يجب أن تستبعد من البحث العلمي . فمثلاً لا يمكن الإِستناد في البحث عن الوجدانيات إلى حالة أبناء القبيلة الذين صمموا على قتل أبيهم لثورتهم الجنسية العارمة ، وقتلوه . ولا إلى أفراد القبيلة التي يهاجم بعضهم بعضاً لسبب الجوع وعدم الوصول إلى صيد الحيوانات أو الأعشاب .

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٨٩ .


أو إلى أسرة سرقت صيد أسرة أُخرى وأكلته ووقع الخصام بين الأسرتين ، وهجم بعضهم على بعض لعامل الغضب والتأثر . . . إلى غير ذلك من الحالات غير الطبيعية .

إننا يجب أن نبحث عن القبيلة الخيالية التي إفترضها فرويد في حالة يكون رجالها ونساؤها ، شيبها وشبابها في حالة طبيعية تماماً ، ولم يكن أبسط عامل مهيج في سلوكهم ومزاجهم باعثاً على إنحرافهم عن طريق الفطرة .

ولنفرض أنه اتفق خروج جميع أفراد القبيلة في جو لطيف إلى التنزه في قطعة أرض خضراء ، واجتمعوا على ضفاف نهر صغير وبالقرب من حقل واسع وانسجموا في أتم المحبة والوئام . . فالصغار أخذوا يلعبون هنا وهناك ، والشبان مولعون كل بعمله ، فقسم منهم يتأرجحون بين أغصان الأشجار ، والقسم الآخر يرمون بأنفسهم في النهر مفضلين السباحة ، وطائفة تقفز على الأرض وتلعب وبأيدي طائفة أُخرى عصي خاصة يقفزون بواسطتها . . . وفي هذه الأثناء إذا أهوى أحد الشبان بعصاه المدببة على رأس شاب آخر بلا سبب أصلاً وفي تمام الإِنتباه والإِرادة ، وقتله بتلك الضربة ألا يوجد هذا العمل إستياء في نفوس أفراد القبيلة ؟ ألا يعتبر هذا العمل في أنظارهم قبيحاً ؟ هل إن شج رأس إنسان مع العلم والعمد مساوٍ لكسر حجارة ؟ ألا يلومونه على عمله ؟ ألا يحس في نفسه بالاضطراب والقلق من فعله ؟ . وإذا كان شاب آخر جالساً على الأرض ويقلع الحصى منها بواسطة العصا المدببة التي في يده ، وفجأة إتجه إلى طفل صغير وطرحه أرضاً وأخرج عينيه من حدقتيه ألا يسأله أفراد القبيلة عن سبب إقتلاع عيني الطفل ؟ ألا يعتبرون هذا العمل قبيحاً ؟ ألا يعاقبون المرتكب لتلك الجريمة أو يلومنه على الأقل ؟ هل إن إقتلاع عيني طفل بريء مساوٍ في أنظار أفراد القبيلة مع إقتلاع الحصى من الأرض ؟ .

يدعي فرويد أنه يتساوى كسر الحجارة وشج رأس الإِنسان وقتله في نظر أفراد القبيلة من حيث الحسن والقبح . وكذلك يتساوى عندهم إقتلاع الحصى من الأرض وإقتلاع العين من الحدقة . . ذلك أن الإِنسان لا يملك وجداناً


أخلاقياً فطرياً ، ولا يدرك الخير والشر بذاته .

إن نظرية فرويد في موضوع نفي الوجدان الأخلاقي تافهة عند علماء النفس إلى درجة أن تلاميذه وأتباع مدرسته لم يستطيعوا السكوت عن سفسطاته .

« وطبيعي أننا يجب أن لا نتلقى جميع نظريات فرويد على أنها صحيحة ومنطبقة مع الواقع تماماً ، فمثلاً لا تخلو نظريته في الوجدان الباطن من عيوب ونواقص » (١) .

تراجع فرويد عن عقيدته :

وألطف من ذلك أن فرويد نفسه قد غير عقيدته تجاه الوجدان الأخلاقي في أواخر أيام حياته ، واضطر إلى الإِقرار بمحكمة الوجدان الباطن .

« يقول فرويد في أحد آثاره الأخيرة باسم ( المؤتمرات الحديثة في التحليل النفسي ) إننا مضطرون للإِذعان بوجود محكمة قضائية خاصة في الحياة النفسية ، والتي تلعب دور الإِنتقاد والإِمتناع » (٢) .

يفسر فرويد عامل إرتكاب جريمة القتل في القبيلة الخيالية ـ شأنه في كل قضية ـ بالغريزة الجنسية للأبناء ، في حين وجود عوامل أُخرى يمكن أن تكون منشأ للفعاليات والنشاطات المفيدة والمضرة التي تصدر من الإِنسان .

« إن فرويد لا يتحدث عن المؤسسات الإِجتماعية المختلفة أو الظروف والأحوال الإِقتصادية للمجتمعات المختلفة بحيث يكون أُفق منظاره من الجانب الإِجتماعي ضيقاً جداً » .

« إنه يظهر نظرية مبتورة عن الحياة الإِجتماعية ، ويعتبر محيط

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٦٦ .

(٢) فرويد وفرويديسم ص ٦٧ .


الأسرة مستقلاً عن العوامل الإِقتصادية والسياسية ومرتبطاً بعقدة أو ديب بصورة منحصرة » .

« وبالنتيجة فإن فرويد يغفل أهمية الصراع الطبقي في داخل المجتمع ، في حين أن الصراع الطبقي يقوم بدور مهم بآثاره الإِيجابية والسلبية التي تترتب عليه » (١) .

حادثة القتل الأولى في تاريخ الانسان :

إن أول حادثة للقتل وقعت في تاريخ الإِنسان ، هي أن أخاً قتل أخاه ، ولم يكن الدافع إلى ذلك ـ حسب النصوص الإِسلامية ـ هو الغريزة الجنسية ، بل خلافة الأب أو حب الرئاسة الممزوج بالغضب ! .

يسأل سليمان بن خالد من الإِمام الصادق عليه‌السلام عن سبب أول حادثة للقتل في أسرة آدم ، فيجيبه الإِمام عليه‌السلام : « يا سليمان إن الله تبارك وتعالى أوحىٰ إلى آدم : أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل وكان قابيل أكبر منه ، فبلغ ذلك قابيل فغضب ، فقال : أنا أولى بالكرامة والوصية » (٢) .

تقول المدرسة الإِسلامية : إن أول حادثة للقتل في تاريخ البشرية قد وقعت بسبب حب الرئاسة وثورة القوة الغضبية . أما المدرسة الفرويدية فانها تصورت أن القتل في القبيلة البدائية الموهوبة كان بسبب الغريزة الجنسية والقدر الجامع بين المدرستين أن القتل كان في ظرف غير عادي وحالة غير طبيعية .

انطفاء الوجدان :

إن أنصار الوجدان الفطري يشرحون حالة الإِنسان النفسية بالصورة التالية : إن الإِنسان يدرك في الحالة الطبيعية قبح القتل بواسطة الوجدان الأخلاقي والإِلهام الإِلهي ، ولا يزاحم حرية الأفراد الآخرين . وعندما تثور إحدى الغرائز ويقع الإِنسان تحت تأثير عوامل الغضب ، والجنس والجوع ،

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ٨٣ .

(٢) تفسير البرهان ص ٢٨٢ .


والحسد ، وحب الذات والمال والجاه ، وما شاكل ذلك ، فإن شعلة الفطرة تنطفىء ، ولا يسمع الإِنسان نداء الوجدان وحينذاك يرتكب جريمة القتل بصورة جنونية .

هذا الوضع الثابت كان موجوداً في باطن الإِنسان منذ البداية ، ولا يزال يوجد في جميع نقاط العالم على نفس المنوال . ولقد إعترف المؤمنون بتعاليم الأنبياء وأكثر العلماء في العالم بهذا المنطق الطبيعي الذي يسمع من لسان الفطرة في كل زمان ومكان .

أما فرويد وأتباع مدرسته فقد شرحوا قصة القتل من زاوية التحليل النفسي بالنحو الآتي : ـ

« ربما لو لم يقع جريمة قتل الأب في تلك القبيلة ، ولم تظهر نتائجها الوخيمة المؤلمة فيما بعد ، فإن أحفاد الإِنسان الأول كانوا يستمرون في قتلهم بعضهم البعض ذلك أن هذا القتل هو الذي سبب صدور الأمر النفسي بصورة : إنك سوف لا تقدم على القتل . ثم انتقل إلى جميع أفراد البشر » (١) .

١ ـ لقد استعمل في البداية لفظة ( ربما ) . وهذا يدل على أن إتباع مدرسة فرويد لا يؤمنون بهذه النظرية مائة في المائة . بل أنهم يواجهونها على أساس الترديد والشك .

٢ ـ يستفاد من هذه العبارة أن أبناء البشر كانوا يستمرون في قتل بعضهم البعض بلا رادع أو مانع ، وإن حادثة قتل الأب الوهمي والندم الناشىء من ذلك ، الذي أدى إلى صدور الإِعلان الخيالي كانت السبب في إيقاف جرائم القتل .

إذا كان فرويد وأتباعه يرون أن توسع جرائم القتل قبل صدور الإعلان كان ناشئاً من ثورة غريزة من الغرائز كالذي حدث في قتل الأب ، فيجب أن

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٨٨ .


نقول لهم ، إن الإِعلان لم يترك أصغر الأثر في الإِنسانية لاستمرار جرائم القتل حتى بعد صدوره . ففي حالة السلم يُقتل يومياً مئات الأفراد في العالم لسبب الجنس والغضب والحسد ، وأما في حالة الحرب فلا تعدّ الضحايا ! ! .

فإن قالوا : إن أفراد البشر كانوا قبل صدور ذلك الإِعلان يقتل بعضهم بعضاً دون أي ثورة من الغرائز بل وفي الحالات الإِعتيادية وجاء الإِعلان ليمنع حدوث مثل تلك الجرائم . . . فبديهي أنهم خالفوا الواقع في ذلك . ذلك أن الكلاب ، الذئاب ، النمور وكذلك الطيور حين تصطرع فيما بينها فليس إلا بهيجان غريزة الجوع أو الجنس وما شاكل ذلك ، أما في الحالات الإِعتيادية فلا يزاحم بعضها بعضاً . اللهم إلا أن تدعي المدرسة الفرويدية أن الإِنسان أحط من الكلاب وأشد توحشاً من الذئاب . ونتيجة ذلك إن الذئاب لا تتنافس ولا تتزاحم في الحالات الطبيعية ، أما أفراد الإِنسان فانهم يقتل بعضهم بعضاً في الحالات الطبيعية وفي مثل هذه العبارات السخيفة فليحكم النقاد والباحثون ! .

قبح الخيانة :

لقد سبق أن قلنا : إن الوجدان الأخلاقي يدرك كثيراً من أمهات الفضائل والرذائل ، ولا ينحصر ذلك الإِدراك بقبح القتل ، الذي حللناه تحليلاً مفصلاً ، وتعرفنا فيه إلى عبارات فرويد ونظرياته وكنموذج آخر نستعرض قبح الخيانة في نظر الوجدان .

لنفرض طفلاً يملك تفاحة ، ويودع تفاحته عند آخر ليذهب إلى غسل يديه ويرجع . إنه يتوقع ـ طبيعياً ـ وينتظر ـ فطرياً ـ أن يسترجع أمانته . فإذا جاء ووجد أن الطفل الآخر قد أكل التفاحة فانه يتألم ويلومه ويدينه بفعل قبيح . وأما الطفل الذي أكل التفاحة فانه هو الآخر يحس بالتألم . ويضطرب ، يصفّر وجهه ، يحاول الفرار والإِبتعاد عن ساحة الخطيئة . وكذلك الأطفال المتفرجون فانهم يعتبرون هذا الفعل خطأ ، ويدركون بأن الذي أكل التفاحة قد ارتكب فعلاً قبيحاً ، هذا الإِحساس أو الشعور لا يرتبط بالتعليم والتربية وإنما هو إدراك ينبع من أعماق الفطرة وموجود عند جميع الأطفال .


أما فرويد فانه ينكر القبح الفطري للخيانة ، شأنه في سائر الأمور الفطرية الوجدانية ، ويعتقد أن الإِنسان الأول كان لا يفهم شيئاً من الحسنات والسيئات الخلقية . وهنا نجد من المناسب أن نرجع إلى القبيلة الوهمية التي تصورها فرويد لنجعل بحثنا يدور حولها .

إذا كان فرويد يدّعي أن أفراد القبيلة كانوا كقطيع من الأغنام لا يدركون معنى الأمانة أصلاً . فمن البديهي أن البحث عن قبح الخيانة يكون لغواً مع هذه الدعوى . إذ يجب أن لا نتحدث عن قبح الخيانة مع الأغنام التي لا تدرك الأمانة كي تدرك عكسها . ولكن المفروض أن فرويد لا يستطيع أن يدعي مثل ذلك ، لأنه قال عند التحدث عن أبناء القبيلة الذين قتلوا أباهم :

« ولم يكن مقدوراً لأحد الأولاد أن يحقق أمنيته ويستحل منزلة أبيه إذ أنه على ذلك كان يلاقي نفس مصير أبيه ».

يستفاد من هذه العبارة أن أفراد القبيلة الوهمية كانوا عقلاء مفكرين متعمقين إلى درجة أنهم كانوا يشاهدون الستار الذي يكمن وراء ستار الرئاسة ، وكانوا يعلمون أنهم بقبولهم الرئاسة سيلاقون نفس المصير المؤلم الذي لاقاه أبوهم من قبل ، وبديهي إن إدراكاً كهذا يكون نتيجة التعقل والتفكير ، ومن الواضح أن القبيلة الخيالية لم تكن تحت سيطرة حكومة الغرائز العمياء الصماء مثل الأغنام ، بل كانوا يدركون معنى الأمانة بكل وضوح .

لنفرض أن إحدى نساء القبيلة خرجت في الصباح إلى الغابة واستطاعت بعد عناء شديد أن تنظف بعض الفواكه لطعامها وطعام أطفالها ، وقد جرحت بالأشواك . . . وفي أواخر النهار تحمل الفواكه إلى حيث تسكن القبيلة . وبما أن طفلها يضيع في أثناء الطريق ، فانها تودع الثمار عند أحد أفراد القبيلة الذي كان بالقرب من تلك المنطقة ، وتعود إلى الغابة للبحث عن طفلها ، وعندما ترجع تجد أن الشخص الذي أودعت الثمار عنده قد وزعها بين أفراد أسرته وأكلوها جميعاً . . . أليس هذا العمل مخالفاً لما كانت تتوقعه المرأة بفطرتها ؟ ألا تحس المرأة أن عملاً قبيحاً قد وقع ؟ . ألا يحق لها أن تصيح وتولول


وتضرب الخائن ؟ . وإذا إجتمع أفراد القبيلة وأطلعوا على القضية ألا يسألون الخائن عن قبح فعله ؟ ألا يسمحون لتلك المرأة أن تأخذ حقها من الخائن ؟ ألا تدل هذه الردود الروحية على القبح الفطري للخيانة ؟ ! إن جواب فرويد على هذه الأسئلة كلها بالنفي . إنه يقول : إن الخيانة ليست من الناحية الفطرية فعلاً حسنا أو قبيحاً . ذلك لأن الإِنسان الأول لم يكن يدرك الحسن والقبح .

أما أتباع الرسالات السماوية ، وكثير من العلماء في الماضي والحاضر فانهم يرون أن قبح الخيانة ـ كسائر الوجدانيات ـ أصيل في بناء الإِنسان . إن الله تعالى وهب الإِنسان ثروة فطرية عظيمة لهدايته إلى الحياة السعيدة ، وليصل عن هذا الطريق إلى الكمال الإِنساني اللائق به . ولكن الإِنسان الحر والطليق من تلويثات الغرائز فقط هو الذي يستطيع أن يسمع نداء الفطرة . ويدرك الخير والشر .

يقول الإِمام عليه‌السلام بهذا الصدد : « إن الله إذا أراد بعبد خيراً طيب روحه فلا يسمع معروفاً إلا عرفه ، ولا منكراً إلا أنكره » (١) .

الدعوة على أساس الفطرة :

لقد وجه الأنبياء إهتمامهم إلى الفضائل الأخلاقية التي لها جذور إلهامية وتكوينية في النفس الإِنسانية ، ولقد دعوا الناس في مناهجهم التشريعية إلى إحياء الفطرة الأخلاقية ، يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام : « إن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة » (٢) . وفي حديث آخر : « لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، فان ذلك شيء قد إعتاده ، فلو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته » (٣) .

هذا الحديث يرشدنا إلى البحث عن إنسانية الرجل في حياة وجدانه الأخلاقي ، فإن من يطفىء جذوة الفطرة في باطنه وينحرف عن الصراط

____________________

(١) إثبات الهداة ج ١ ص ٨٧ .

(٢) و (٣) سفينة البحار ، مادة ( صدق ) ـ ص ١٨ .


المستقيم يكون قد إنسلخ عن الإِنسانية ، وإن بدا صلاحه وكان يطيل الركوع والسجود . إن الوجدان الأخلاقي إذا كان حراً ولم تعصف به عواصف الجبن والغضب يدرك الخير والشر بالإِلهام الإِلهي ، ويستطيع أن يكتشف طريق سعادته من شقائه : « ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها » .

عدالة الوجدان :

إن الوجدان الأخلاقي يعتبر من أهم وأعظم العوامل التنفيذية للوقاية من الجرائم . فانه الذي يوجه اللوم والتقريع إلى المجرم ، ويوجه نحوه بذلك أشد الضربات . إن الوجدان الأخلاقي أطهر وأقدس محكمة قضائية لمعالجة الجرائم والجنايات . وإن عدالة محكمة الوجدان تضارع عدالة المحكمة الإِلهية في القيامة . . . فكما أن الله تعالى يحكم بين الناس بالحق في ذلك اليوم ، كذلك الوجدان الأخلاقي فانه يحاسب المجرم ويجازيه ، ولهذه المناسبة بينهما فإن الله تبارك وتعالى قد قرن النفس اللوامة بيوم القيامة في القرآن الكريم حين قال : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ  ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) .

« الأخلاق الصحيحة هي التي تستند على أساس إحترام الوجدان . وإن الوجدان الأخلاقي يعمل دائماً للإِرتباط بالدين لأنه سر نشوء الإِطمئنان والإِعتماد . ولهذا فإن الوجدان الأخلاقي يحكم في الأفعال بصورة عادلة وصحيحة بصورة كلية ، وذلك بخلاف العقيدة التي يمكن أن تؤثر فيها الدعايات بسهولة » .

« إن إحترام الوجدان الأخلاقي ليس منشأ الحرية والرفاه الإِجتماعي فحسب ، بل إنه منشأ الهدوء النفسي أيضاً . والآن حيث لا يمكن الخروج على إطاعة الوجدان الأخلاقي ، فالأجدر أن نتقبل أوامره بكل إرتياح وشوق ونخضع لحكمه وعدالته . هذه الطاعة النفسية توجد سلوكاً حميداً ومفضلاً » (١) .

____________________

(١) بيماريهاى روحى وعصبي ص ٦٩ .


« لا بد من الإِهتمام الناشىء من عدم إرضاء الوجدان الأخلاقي . فالندم ، والغضب ، والتحمس للتبرئة ، والحقد ، هذه كلها من نتائج تعذيب الوجدان الأخلاقي . هذا التعذيب يمكن أن يوجد بعض الأمراض الروحية الخفيفة » (١) .

الميثاق الفطري :

لقد ورد التعبير عن الوجدان الأخلاقي في بعض الرويات بالميثاق الإِلهي . فعندما خلق الله الإِنسان علمه الخير والشر ، وكأنه عقد معه ميثاقاً وأخذ منه عهداً تكوينياً في أن يلتزم بالتعاليم الفطرية ، ولا ينحرف عن صراط الفطرة المستقيم .

فالذين يخرجون على الميثاق الفطري ويخالفون أوامر الإِلهام التكويني والوجدان الأخلاقي يعيشون في هذه الحياة بقلق واضطراب تماماً ويحسون بملامة دائماً ، وأما في القيامة فانهم يبتلون بعذاب الله .

وعلى العكس فإن الذين يوفون للميثاق الفطري حقه ويستمعون لنداء الإِلهام الإِلهي المتمثل في أوامر الوجدان الأخلاقي فانهم يعيشون حياة ملؤها الاطمئنان والهدوء ، وينصرفون من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى مع نداء : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) .

يتطرق الإِمام عليه‌السلام في ضمن حديث له إلى أوصاف المؤمن الكامل فيقول : « صدق بعهد الله ، وفي بشرطه ، وذلك قوله عز وجل : ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) فذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة » (٢) .

وفي حديث آخر : « وفى لله بالشروط التي إشترطها عليه ، فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، وذلك ممن يشفع

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٧٠ .

(٢) بحار الأنوار ج ١٥ ص ٥٠ .


ولا يشفع له ، وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة » (١) .

إطاعة الوجدان الأخلاقي :

إن نتيجة إتباع الميثاق الفطري الأخلاقي هو الهدوء النفسي والسكينة والإِطمئنان . إن اتباع الوجدان الأخلاقي يورث الفضيلة والتجلي الروحي وإن الإِنحراف عن الفطرة يسبب الضلال والفساد ، ولقد كان الأنبياء يبذلون الجهود العظيمة التي لا تعرف الملل ولا الكلل ليعرفوا الناس بفطرتهم ويزيحوا الأستار المظلمة للغرائز والشهوات عنها وليُحيوا الفضائل الإِنسانية فيهم . ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ) (٢) .

إن أيام الله هي أيام الخلقة والفطرة ، أيام الإِيمان والفضيلة ، فكان على النبي موسى عليه‌السلام أن يذكّر الناس بتلك الأيام ويعلمهم نعمة الهداية الإِلٰهية التي كانت موجودة فيهم منذ اليوم الأول . فأنتم الذين تسعدون إن إتبعتم أوامر الإِلهام الألهي ، وتشقون وتعذبون إن خالفتم تلك الأوامر .

إن الوجدان الأخلاقي ثروة إنسانية كبيرة لتحقيق السعادة . فبالإِمكان وقاية الناس من الجرائم والمخالفات بإحياء الوجدان الأخلاقي فيهم ، وبذلك يمكن هدايتهم إلى الطريق المستقيم.

ولأجل التأكيد على ما نقول ، نسوق الحادثة التاريخية التالية شاهداً على ذلك :

« قال : سمعت غلاماً بالمدينة وهو يقول : يا أحكم الحاكمين ، أحكم بيني وبين أُمي. فقال له عمر بن الخطاب : يا غلام لِم تدعُ على أُمك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين انها حملتني في بطنها تسعاً وأرضعتني حولين كاملين فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر ، ويميني عن شمالي طردتني وانتفت مني

____________________

(١) المصدر نفسه ج ١٥ ص ٥١ .

(٢) سورة إبراهيم ؛ الآية : ٥ .


وزعمت إنها لا تعرفني . فقال عمر : أين تكون الوالدة ؟ قال : في سقيفة بني فلان . فقال عمر : علي بأم الغلام . فأتوا بها مع أربعة أخوة لها ، وأربعين قسامة يشهدون لها أنها لا تعرف الصبي ، وإن هذا الغلام مدع ظلوم غشوم يريد أن يفضحها في عشيرتها ، وإن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط ، لأنها بختام ربها ، فقال عمر : يا غلام ما تقول ؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذه والله أُمي ، حملتني في بطنها تسعاً وأرضعتني حولين كاملين ، فلما ترعرعت وعرفت الخير والشر ، ويميني من شمالي طردتني وانتفت مني وزعمت إنها لا تعرفني ، فقال عمر : يا هذه ما يقول الغلام ؟ فقالت : يا أمير المؤمنين والذي إحتجب بالنور فلا عين تراه ، وحق محمد وما ولد ما أعرفه ولا أدري من أي الناس هو ، وإنه غلام يريد أن يفضحني في عشيرتي وأنا جارية من قريش ولم أتزوج قط وإني بخاتم ربي . فقال عمر : ألك شهود ؟ فقالت : نعم هؤلاء . فتقدم الأربعون قسامة وشهدوا عند عمر أن الغلام مدع يريد أن يفضحها في عشيرتها وإن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط . وإنها بخاتم ربها . فقال عمر : خذوا بيد الغلام وانطلقوا به إلى السجن حتى نسأل عن الشهود ، فإن عدلت شهادتهم جلدته حد المفتري . فأخذوا بيد الغلام وانطلقوا به إلى السجن . فتلقاهم أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض الطريق فنادى الغلام : يا بن عم رسول الله . إني غلام مظلوم فأعاد عليه الكلام الذي تكلم به عمر ثم قال : وهذا عمر قد أمر بي إلى السجن . فقال علي عليه‌السلام : ردوه إلى عمر ، فلما ردوه قال لهم عمر : أمرت به إلى السجن فرددتموه إلي فقالوا : يا أمير المؤمنين أمرنا علي بن أبي طالب أن نردّه إليك وسمعناك وأنت تقول : أن لا تعصو لعلي أمراً . فبينا هم كذلك إذ أقبل علي عليه‌السلام فقال : عليَّ بأم الغلام ، فأتوا بها فقال علي عليه‌السلام : يا غلام ما تقول : ؟ فأعاد الكلام على علي عليه‌السلام فقال علي لعمر أتأذن لي أن أقضي بينهم ؟ فقال عمر : سبحان الله وكيف لا وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أعلمكم علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثم قال للمرأة : يا هذه المرأة ألك شهود ؟ قالت : نعم . فتقدم الأربعون قسامة فشهدوا بالشهادة الأولى ، فقال علي عليه‌السلام : لأقضين اليوم بينكم بقضية هي مرضاة الرب من فوق عرشه .
علمني إياها حبيبي رسول الله
صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها : ألك ولي ؟ قالت : نعم ، هؤلاء إخوتي . فقال لأخوتها : أمري فيكم وفي أختكم جائز ؟ قالوا : نعم يا بن عم محمد ، أمرك فينا وفي أختنا جائز . فقال علي عليه‌السلام : أشهد الله وأشهد من حضر من المسلمين إني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم والنقد من مالي . يا قنبر : عليَّ بالدراهم . فأتاه قنبر . فصبَّها في يد الغلام فقال : خذها وصبها في حجر إمرأتك ولا تأتنا إلا وبك أثر العرس ـ يعني الغسل ـ فقام الغلام : فصب الدراهم في حجر المرأة . ثم تلببها ، وقال لها : قومي . فنادت المرأة : النار النار يا بن عم محمد أتريد أن تزوجني من ولدي ؟ هذا والله ولدي ، زوجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا . فلما ترعرع وشب أمروني أن أنتفي منه وأطرده هذا والله ولدي ، وفؤادي يتغلى أسفاً على ولدي ، قال . . . ثم أخذت بيد الغلام وانطلقت ، ونادى عمر : واعمراه لولا علي لهلك عمر » (١) .

الاستفادة من الوجدان :

إن التزوج بالأم قبيح ومذموم في الضمير الباطن ، وفي الوجدان الأخلاقي التربوي للناس ، ولقد استفاد الإِمام علي عليه‌السلام في مقام القضاء ولكشف الواقع من قوة الوجدان ، واكتشف ضمير المرأة ، وحملها على الإِعتراف بالواقع الذي حاولت إخفاءه ، وإذا كان الوجدان الأخلاقي التربوي مؤثراً لهذه الدرجة في الوقاية من الإِنحراف فمن البديهي أن تأثير الوجدان الأخلاقي الفطري الذي هو جزء من الفطرة الإِنسانية في إصلاح المجتمع أشد وأعمق .

فمن الضروري أن يستفيد القائم على تربية الطفل من الوجدان الفطري له منذ البداية ويحيي الميول الإِلهامية فيه ويقيم التربية على أساس الفطرة . وطبيعي أن تربية كهذه ستبقى ثابتة على أساس الفضيلة والطهارة .

____________________

(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٤٠ ص ٣٠٤ ـ ٣٠٦ .


المحاضرة الثانية عشرة

الاختبار النفسي

قال الله تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (١) .

لقد تطرقنا في المحاضرة السابقة إلى قصة الأم التي أنكرت ولدها الحقيقي ، وقد إستند الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى قوة الوجدان الأخلاقي في مقام القضاء ، واكتشف الضمير الباطن للمرأة وجعلها تقر بأمومتها ولما للاختبار النفسي والوصول إلى الأسرار الباطنية من أهمية كبيرة في البحوث النفسية والتربوية فاننا نخصص بحثنا في هذه المحاضرة لذلك .

العقدة النفسية :

هناك بعض الأسرار التي توجد عقدة في باطن الأَشخاص حيث لا يمكن إكتشافها من جهة ، وإن كتمانها يسبب القلق والاضطراب من جهة أُخرى وهي تجعل الحياة أحياناً مُرة وجحيماً لا يطاق ، وأحياناً تسبب أمراضاً نفسية . إن السبيل الوحيد للعلاج منحصر في إكتشاف ذلك السر المكتوم وحل تلك العقدة وهذه مهمة شاقة جداً .

____________________

(١) سورة القيامة ؛ الآيتان : ١ ـ ٢ .


الضمير الباطن والظاهر :

ولإِيضاح معنى الضمير الباطن ، والضمير الظاهر من زاوية علم النفس نجد من الضروري أن نمثل لهما بمثال : تصوروا أسرة متوسطة مسلمة عاشت حياتها في طهارة وشرف ، فالزنا والاستهتار يعدان عملاً شنيعاً في أنظار أفراد الأسرة . ولم يسبق لهم أن دنسوا أذيالهم بتلك الجريمة . تتعارف فتاة من هذه الأسرة مع شاب بصورة سرية ، وبعد عدة لقاءات عادية يتفقان على أن يقضيا نهاراً كاملاً معاً ، تخرج الفتاة بحجة التذاكر في الدروس والذهاب إلى بيت إحدى زميلاتها وتذهب مع رفيقها للنزهة إلى ( سد كرج ) ، يتنزهان لساعتين أو ثلاث ، ويتلذذان بمشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة . . . وعند الظهر يذهبان إلى بيت ما للاستراحة وتناول طعام الغذاء . المحيط الهادىء وإنعدام الرقيب عليهما يهيجان عواطف الشباب و ـ بصورة موجزة ـ ينال وطره من الفتاة . وبالرغم من أن الفتاة لم تكن تملك فكراً هادئاً من أول الصباح وكانت تحس بالقلق في باطنها ، لكن فقدان بكارتها سبب لها إنهياراً شديداً ، ولكن الأوان قد فات ، وقد وقع ما كان واجباً أن لا يقع . وعند المغرب يرجعان إلى المدينة . كان غياب الفتاة هذا اليوم للمطالعة والتذاكر العلمي في الظاهر ، ولكن قد وقع في الباطن إتصال غير مشروع . إن الفتاة تحس باضطراب شديد من جراء عملها هذا ، وتشعر بأن شرفها مهدد بالخطر ، فإن أُفشي سرها فإن ذلك سيجر لها فضيحة عظيمة . إنها تفكر ، وتخطط ، وتصمم في النهاية ـ خلاصاً من الفضيحة ـ أن لا تتزوج مدى العمر وتحتفظ بهذا السر وتصحبه معها إلى القبر ، ولتنفيذ خطتها هذه تبدأ بالتمهيد للموضوع ، تتحدث عن مشاكل الزواج أحياناً . ثم لا يمضي بضعة أشهر حتى يجيء إليها من يطلب يدها . الفتاة تختفي عن الخاطبات ، وتخبر أبويها وأفراد أسرتها عن إمتناعها عن الزواج وتتحدث عن تصميمها دائماً : لا أتزوج ، الرجال غير أوفياء ، لا يوجد رجل في مجتمعنا ، لماذا أتزوج ؟ لماذا أرمي بنفسي في دوامة المشاكل والآلام ؟ ما أكثر الفتيات اللاتي تزوجن ورجعن ، بعد عدة أشهر إلى بيوت آبائهن ، حوامل ، وقضين حياة ملؤها الكدر والأسى . إني لا أرمي بنفسي في


هوة الشقاء والتعاسة أبداً ! وتكثر من الحديث عن أمثال هذه القضايا وتستشهد ضمناً بحياة بعض الفتيات ، ولكنه يوجد في باطن الفتاة ضمير مستتر آخر تكتمه عن كل أحد . ولكنها حين تختلي بنفسها أو تذهب إلى الفراش تتحدث إلى نفسها : ما أشأم ذلك اليوم ! لماذا ألقيت بنفسي في هذه المخاطر ؟ كيف أديت بنفسي إلى الشقاء والتهلكة كيف أعيش عمري وحيدة محرومة من لذة الحياة الزوجية ؟ تتحدث مع نفسها عن الماضي دائماً وتظهر الندم والأسف باستمرار ، وقد تهمي الدموع لذلك ! ! ! .

يوجد في باطن هذه الفتاة ضميران : أحدهما ظاهر . والآخر ضمير باطن . لقد رتبت الأحاديث في ضميرها الظاهر وأينما جلست تتحدث قائلة : لا أتزوج ، الرجال غير أوفياء ، لا يوجد رجل في مجتمعنا أصلاً ، لا أُسبب الشقاء لنفسي ، وما شاكل ذلك من الأحاديث . . أما في ضميرها الباطن فتوجد أشياء لا ترضىٰ بأن تخبر عنها أحداً . وهي المطلعة عليها فحسب . لماذا خرجت للنزهة ؟ لماذا عاشرت رفيق السوء ؟ لماذا أشقيت نفسي مدى العمر ؟ وما شاكل ذلك .

رقابة الضمير الباطن :

ولأجل ألا يطلع شخص على أسرار ضميرها الباطن ، فإن الفتاة تراقب حركاتها وألفاظها تماماً ، وتتكلم بكل حيطة وحذر ، وتنفر من الكلمات التي ترتبط بسرها ، وتحاول أن لا تستعملها في أحاديثها أصلاً ومثلاً على ذلك فانها تتألم وتتنفر من كلمات : السد ، كرج ، البحيرة ، المحركات ، الجسر ، البساتين ، وتتجنب ذكرها دائماً ، وعلى ما يقول علماء النفس فإن ضميرها الظاهر يضع ضميرها الباطن تحت رقابة شديدة .

تمر سنة أو سنتان على هذا الوضع ، ولكن القضية تكسب لوناً جديداً بالتدريج . فمن جهة تصاب الفتاة ـ على أثر الضغط الروحي الدائم ، والألم الباطن ، والاضطراب والأرق ـ بالاضطراب الفكري ، والانزجار النفسي ، وتفقد طاقتها بالتدريج ، ومن جهة أُخرى فان والديها وأسرتها يرون هذا الوضع


الشاذ نتيجة عدم الزواج ، ويلحون عليها في أن تتزوج وتنهي كلماتها الباطلة . وهكذا تؤدي هذه المجموعة من العوامل الداخلية والخارجية إلى أن تصاب الفتاة بمرض روحي وتصاب بالجنون في النهاية . يراجع أهلها الطبيب ، ولكن المرض يشتد يوماً فيوماً ، وإن الطريق الوحيد للعلاج هو إكتشاف السر الذي تعرفه الفتاة فقط ، وهي غير مستعدة لإِفشاء ذلك السر بأي ثمن كان .

إن إكتشاف الضمير الباطن للفتاة ، والوصول إلى سرها الذي يقع تحت رقابة شديدة مهمة شاقة جداً ، ويجب الاستفادة من بعض الآثار والعلامات التي تنبع من أعماق روحها في حالات خاصة .

« يجب لهذا العمل التصدي لإِكتشاف الشواهد والإِمارات وكما يمكن أن نتوصل إلى وجود حيوان عظيم يسبح تحت ماء المحيط المظلم المتراكم ، من بعض حركات الماء أو الإِرتفاع الموقت في سطح الماء ، فلا بد من ممارسة ودقة كثيرتين للإِستفادة من بعض الظواهر المؤقتة في كشف بعض الأسرار ، وأخيراً فبالإِمكان أن يترصدوا ـ بكل صبر وتحمل ـ اللحظة الخاطفة التي يفقد المصاب وعيه ويكشف عن السر عندما لا يحس بأي رقابة عليه » (١) .

طرق اكتشاف السر الباطن :

يمكن الاستفادة من بعض الوسائل العديدة في الوصول إلى إكتشاف الأسرار الباطنية للأشخاص ما عدا التعذيب فانه عمل غير إنساني ، وإليك بعض النماذج :

١ ـ لقد وجدنا ـ في المحاضرة السابقة ـ كيف استفاد الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوة الوجدان وقبح التزوج مع الابن ، في اكتشاف سر المرأة ، إذ أجبرها على أن تعترف بإمومتها بصراحة وتعلن الأساليب الشاذة التي إرتكبتها لإِنكار ذلك .

____________________

(١) فرويد ص ٣٤ .


٢ ـ القصة المعروفة التي جرت بين ( ابن سينا ) والمريض بمرض العشق : لقد حضر ابن سينا عند مريض كان يخفي في ضميره عشقاً شديداً لا يستطيع إظهاره ، أخذ نبضه في يده وطلب ممن كان يعرف اسماء محلات المدينة أن يذكرها واحدة بعد الأُخرى ، وعندما وصل إلى إسم إحدى المحلات أخذ نبض المريض يدق بسرعة شديدة . فأمر ( ابن سينا ) أن يذكر أسماء أزقة تلك المحلة . ولقد أدى ذكر اسم أحد الأزقة إلى الإِسراع في نبض المريض . وأخيراً طلب أن يذكر له أسماء البيوت التي في ذلك الزقاق ، وأسماء الساكنين في تلك البيوت ، حتى جاء ذكر فتاة ، فاشتد نبض المريض بصورة فائقة . . . وهناك توجه ( ابن سينا ) إلى الحاضرين وقال لهم : إن هذا المريض يعشق فتاة ذلك البيت وأغرم بها . لقد توصّل ( ابن سينا ) إلى إكتشاف سر المريض عن طريق دقات نبضه واكتشف عشقه وغرامه لتلك الفتاة (١) .

٣ ـ يمكن إخضاع المريض للتنويم الإِصطناعي ، وإجباره على إفشاء أسراره الباطنية بعد سلب إرادته وإختياره .

٤ ـ تغيّر سحنات الوجه : فمن الممكن التوصل إلى الأسرار الباطنية عن طريق ملاحظة التغيّرات الطارئة على سحنات الوجه والحركات غير الإِعتيادية التي تصدر منهم في بعض الأحيان . فمثلاً يقرأ أحد أفراد الأسرة صحيفة بصوت عال والكل يصغون إليه ، ويصل في الأثناء إلى حادثة فتاة أغفلها شاب وفعل معها كذا وكذا . إن جميع أفراد الأسرة يتلقون الحادثة بصورة إعتيادية تماماً ويتعجبون منها أو يتأثرون بالمقدار العادي ، ولكن الفتاة الآنفة الذكر التي أغفلت وفقدت شرفها وعفافها تضطرب عند سماع القصة المشابهة لقصتها ، ويمتقع لونها ، وتصاب بالقلق والذهول ، لا ترغب في سماع القصة ، ولكيلا يطلع الآخرون على قلقها واضطرابها تظهر بمظهر الغافلة عن الحادثة ، وتشغل نفسها بشغل آخر في ذلك الوقت ، أو تنادي طفلة جيرانهم بصوت عال ، وبصورة موجزة فانها تحاول أن تتظاهر بأنها غير مصغية للصحيفة وتتشاغل

____________________

(١) دائرة المعارف دهخدا الفارسية ـ مادة ( أبو علي ) ص ٦٤٤ .


بمشغل آخر ، وهي غافلة عن أن هذه الأعمال إنما هي علائم وضعها الشاذ ، وهي تكشف بذلك قلقها الباطن .

الخلاصة : إن تغير سحنات الوجه والقيام بالحركات غير الطبيعية والمرتبكة ، من أهم وسائل إكتشاف أسرار الأشخاص وضمائرهم الباطنة .

أما فرويد :

لقد استند فرويد لاكتشاف أسرار الأشخاص ، إلى طريقين أكثر من غيرهما ، وهما : الكلمات أو الأفعال التي تصدر في غير محلها ، والتي تقع سهواً ومن دون إرادة ، والأحلام وتفسيرها .

لقد ظن بعض علماء الغرب أن فرويد أول من استند إلى فلتات اللسان ، وتفسير الأحلام في الوصول إلى الضمير الباطن وربما يقع بعض الباحثين في بلادنا أيضاً في نفس الخطأ ، في حين أن الإِسلام سبق فرويد إلى العمل بهما ، وقد ذكرت تطبيقات عليهما في بعض الكتب الدينية . هذا مضافاً إلى أن نظرية فرويد حول تفسير الأحلام ناقصة وغير ناضجة . أما نحن فسنحاول أن نتكلم في هذه المحاضرة بشيء من الإِسهاب والوضوح حول الموضوع .

فلتات اللسان :

ولأجل أن يتضح دور فلتة اللسان في فضح أسرار الإِنسان ، نستشهد بنفس قصة الفتاة . لما كانت الفتاة تحمل في داخلها خاطرة سوداء وذكريات مرة من حادثة ( كرج ) وتخاف من إنفضاح أمرها بشدة ، فهي تصمم على أن لا تتحدث عن ( كرج ) ولا عما شاهدته هناك . وتلاقي لذلك عنتاً شديداً وتراقب نفسها دائماً . ويصادف أن تذهب إلى زيارة عمها بصحبة أبويها ، وذلك بمناسبة عودته من زيارة الإِمام الرضا عليه‌السلام بخراسان . وتذهب العشيرة كلها بصورة تدريجية لزيارته ، الغرفة مكتظة بالزائرين ، والكل يباركون قدوم الزائر الجديد . وعلى الفتاة أن تتكلم بكلمة أو كلمتين وتحيي عمها بذلك ، وفي اللحظة المناسبة ، وعندما يلتفت عمها نحوها ترفع صوتها وتقول مع كمال


الأدب : لقد شرفت يا عمي العزيز ، أهلاً وسهلاً بك ، قرت الأعين بك ، تقبل الله الزيارة أرجو أن تكون قد استأنست كثيراً بزيارة ( كرج ) . العم يبتسم ، ثم يتشكر منها ولكنه يقول : أنا لم أذهب إلى كرج بل كنت ذاهباً إلى مشهد ، وهنا تضطرب الفتاة وتحس بإرتباك شديد ، وتعتذر من خطأتها.

إن الإِتيان بكلمة ( كرج ) بدلاً من ( مشهد ) يمكن أن يعد أمراً إعتيادياً جداً في أنظار الناس ، وربما يحمل الأمر عندهم على خطأة لفظية ، ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى عالم نفساني ، فإن لكلمة ( كرج ) التي فلتت من لسان الفتاة جذوراً في نفسها . فيجب البحث عن منشأ هذه الكلمة ، خصوصاً وأن الفتاة قد تغير لونها وارتبكت بعد أن عرفت أنها أخطأت فإن عينيها المضطربتين ووضعها المرتبك يكشفان عن بركان ثائر في باطنها .

قد تنبعث من النار المستورة بالرماد شرارة ترشدنا إلى أن في قلب الرماد ناراً ، وإن فلتات اللسان والحركات غير الإِرادية تشبه الشرارة المنبعثة من باطن الرماد والتي يمكن الإِستناد إليها في الوصول إلى الضمير الباطن.

« من المتاهات التي أخضعها فرويد لبحوثه في بدء إختراعاته هي الأفعال الساهية ، إن المراد من الأفعال الساهية في إصطلاح النفسيين ، هو الأفعال التي تصدر من الإِنسان وهي فاقدة للأهمية في بداية الأمر ، كالإِشتباه في استعمال الألفاظ أو العبارات . إن علم النفس القديم كان يعزو ـ عبثاً ـ هذه الإِشتباهات وهذا النوع من السهو في الكلام إلى الصدفة والتعب الفكري . والذهول وعدم الدقة ، أما فرويد فلم يكتف بهذه الإِيضاحات وأخذ يبحث بدقة أكثر ، لماذا ينفضح الذهول ؟ وما معنى الذهول أصلاً ، أليس سوى ظهور الأفكار والتوجيهات التي لا يراد لها الظهور في وقت ما ؟ لماذا لا يقع عمل إرادي ، ويقع بدلاً منه عمل من دون أن يريده شخص ؟ نحن نفكر ، نريد أن نتكلم وفجأة نعبر بعبارة أُخرى غير التي كنا قد أعددنا لها في أذهاننا لماذا ؟ لا بد من


ميكانيكية تجعلنا نتفوه بكلمة بعيدة عن ذهننا تماماً بدل الكلمة التي نريد إستعمالها كقطعة النقد الزائفة . لا بد من وجود ميكانيكية خاصة توجد إنحرافاً في خواطرنا في نفس اللحظة التي نريد أداء الكلمة المقصودة » .

« إن العمل العابث ليس كما تظن الغالبية عملاً ناشئاً من الذهول والإِرتباك في التفكير . بل إنه أحد الموارد التي تظهر فيها الفكرة المكبوتة من أعماق عالم اللاشعور . هذه الأخطاء إنما هي نماذج مما تحاول الإِرادة الشعورية إخفاءه بصورة دائمة » .

« من هنا يستنتج : أن العمل العابث والساهي يفضح أمر صاحبه دائماً تقريباً » (١) .

إن الفتاة كانت تريد أن تقول ( مشهد ) ولكن فلتت على لسانها كلمة ( كرج ) . ومع الإِنتباه إلى سوابق الفتاة وأنها تعيش حياتها في إضطراب وتشويش بال لفترة غير قصيرة ، وأنها مصابة بمرض نفسي وتبتعد عن الزواج وعن ذكره فإن الإِتيان بتلك الكلمة أمر يسترعي الانتباه فباستطاعة الوالدين أن يكتشفا ضميرها الباطن ويطلعا على سرها المكتوم . ولقد ظن البعض أن فرويد هو أول من إلتفت إلى هذه النكتة مستعيناً بفلتات اللسان في الوصول إلى كشف الأسرار. يقول ( فليسين شاله ) في موضوع السهو ، والإِشتباه ، ما يلي :

« إن فرويد ينسب إلى جميع هذه الأفعال التي تعتبر لأول وهلة مجرد مصادفة واعتيادية ، طابعاً لم يتوصل إليه فكر أحد ، ويكتشف في وراء تلك الأفعال عن قضايا مخبوءة أو استياء ، أو ميل نحو أمر مضاد » (٢) .

____________________

(١) فرويد ص ٣٥ .

(٢) فرويد وفرويديسم ص ٤٨ .


لقد صرح الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الحقيقة النفسية في كمال الوضوح حين قال : « ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه » (١) .

يمثل فرويد للكلام الساهي العابث بمثال ننقله نصاً :

« يقف معلم في حصة الإِنشاء بالنسبة إلى موضوع إنشائي أعده أحد تلاميذه ، على سبيل التمجيد به ، ويقول خطأ : ( لا أعلم كيف أذم ! ) إن المعلم بحسب فحواه الإِرادية وأفكاره الشعورية لما كان في مقام التمجيد فلا بد أنه كان يريد أن يقول : ( أمدح ) . ولكنه لما كان عالماً بتفاهة الموضوع الإِنشائي الذي كتبه التلميذ فكان مقصوده متوجهاً نحو ( المذمة ) نفسها . وعلى هذا فإن فلتة المعلم في كلامه كشفت عن نيته الأصلية والباطنية تلك النية التي كان يريد أن يسترها بإرادته الشعورية لمبررات خاصة ويظهرها في صورة المدح والتمجيد . وفي الحقيقة فانه في حين إرتكاب تلك الخطأة قد عبر عن عقيدته التي كان يبطنها ، ولكنه كان يتفادى ظهورها » (٢) .

وإذا حاول أحد أن يختصر هذه العبارة ، ويوجز هذا النص فلن يستطيع أن يأتي بأجمع وأشمل من كلام الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام . فسلام على روح طاهرة من إمام كشف كثيراً من الحقائق العلمية قبل أربعة عشر قرناً في عبارات قصيرة وجمل مفيدة .

لقد أخطأ ( فليسين شاله ) حين ادعى أن هذا الموضوع لم يخطر ببال أحد حتى زمان فرويد ، وإن حديثه لا يستند إلى بحث علمي متين فليس ( فرويد ) أول من تنبه إلى فلتات اللسان . لقد سبقه إليها قائد الإِسلام العظيم في عبارة قصيرة جداً بكل صراحة ، وأوضح دورها في كشف الأسرار المخبؤة .

____________________

(١) نهج البلاغة ص ٥١٨ .

(٢) فرويد ص ٣٧ .


هناك أحاديث أُخرى في الكتب الدينية في هذا الموضوع . وبالرغم من أنه لم يصرح فيها بالكلمات الساهية وفلتات اللسان ، إلا أنه يمكن إستفادة هذا الموضوع منها ، يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إن أحببت سلامة نفسك وستر معايبك ، فأقلل كلامك ، وأكثر صمتك » (١) إن الإِنسان لا يكشف عن عيوبه الباطنية مع إرادته وإختياره أبداً ، ولكنه حين يثرثر فقد تفلت من بين كلامه ـ ودون إختيار أو قصد ـ بعض أسراره وعيوبه ، وكذلك ورد عنه عليه‌السلام : « قلة الكلام تستر العوار ، وتؤمن العثار » (٢) . ويقول الإِمام الجواد عليه‌السلام راوياً عن جده : « المرء مخبوء تحت لسانه » (٣) . أي أن اللسان يستطيع أن يكشف سر الإِنسان إما عمداً أو سهواً .

وعن الإِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « إياك وفضول الكلام فانه يظهر من عيوبك ما بطن ، ويحرك عليك من أعدائك ما سكن » (٤) .

الأحلام وتفسيرها :

إن الطريقة الثانية التي اعتمد عليها فرويد كثيراً في إكتشاف الضمير الباطن هي تفسير الأحلام . ولقد كانت توجد ـ ولا تزال ـ عقائد مختلفة في الماضي والحاضر حول الأحلام ، ولقد تطرق فرويد نفسه في كتابه ( تفسير الأحلام ) ، وكذلك كل من كتب عن نظريات فرويد ، إلى بيان آراء العلماء الآخرين ونظرياتهم في هذا الموضوع بإسهاب . ولأجل أن يتضح الموضوع للمستمعين الكرام ، نرى لزاماً أن ننقل بعض العبارات من تلك النظريات المختلفة هنا :

« كان المعروف فيما مضى أن الأحلام تُلهم إلى النفوس بواسطة قوة فوق طاقة الإِنسان . كانوا يعتبرون منشأ الإِلهام وجوداً غير أرضي ،

____________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم طبعة دار الثقافة . النجف الأشرف ص ٢٧٤ .

(٢) المصدر السابق ص ٥٣٧ .

(٣) بحار الأنوار ج ١٧ ص ١٠١ .

(٤) غرر الحكم ودرر الكلم ص ١٥٥ .


وخارجاً عن طاقة الإِنسان ، وحيث كانوا يعتبرون المظهر لكل إرادة خارجة عن قدرة الإِنسان الخارجة عن الأرض متمثلاً في الآلهة ، اضطروا لإِعتبار الأحلام نوعاً من الظهور الجسماني لإِرادتهم ، حيث كانوا يبشرون الأفراد بالخير والأمل أو يتنبأون لهم بوقع المآسي والحوادث المؤلمة . وبالتدريج فقد برز الكهنة في تأويل إشارات الحلم الغامضة ، وتفسير أسراره الدقيقة ، ومن هنا صار علم تفسير الأحلام من العلوم البدائية في المجتمع الإِنساني ، علماً له أهمية في الحياة اليومية للناس : لأن الكهنة على خلاف علماء النفس المعاصرين الذين يسعون في تفسير الأحلام إلى البحث عن حياة الإِنسان الماضية ، كانوا يعملون في تفسير الأحلام على اصطناع أخبار عن المستقبل على لسان الآلهة ونشرها » (١) .

« إن بعض الفلاسفة لم يبتعدوا كثيراً عن طريق الكهنة في تفسير الحلم على ضوء عالم ما وراء الطبيعة ، ويقولون بأن منشأ الحلم هو نشاط خاص للروح التي تصعد إلى العالم الأعلى كما يقول ( شوبر : إن النوم عبارة عن إنطلاق الخاطر عن قيد العالم الخارجي وخلاص الروح من أسر المادة ) (١) .

« أما الأطباء الذين يكتبون حول الأحلام فانهم ـ بخلاف الفلاسفة ـ لا يعتبرون الحلم عملاً روحياً . بل يرون أن صور الأحلام هي نتاج حركات الجسم والحواس التي تصل من العالم أو من إختلاج الأعضاء الباطنية إلى النائم وعلى هذا يجب إعتبار النوم أمراً تافهاً شبيهاً بلحن يخرجه إنسان لا يجيد الضرب على الآلة الموسيقية ، كما يقول ( بينز ) : إن النوم عمل جسماني ، تافه دائماً ، وناشىء من المرض في الغالب . يقولون : إن العوالم الخاصة بالأحلام

____________________

(١) فرويد ص ٣٨ .

(٢) تفسير الأحلام تأليف فرويد ص ٤ .


هي نتاج النشاط المشوش للأفكار اليقظة في دماغ الشخص النائم ، والمتحركة على أثر الحركات الجسمانية » (١) .

« ويرى فرويد أن النوم برزخ بين حياتنا المخفية وحياتنا المعقولة والمنطقية . ولهذا فأننا إذا دققنا البحث ونظرنا إلى الموضوع من قريب أمكننا أن نصل إلى نتائج مهمة » .

« ويرى فرويد أنه لا يمكن إعتبار أي حلم عبثاً وباطلاً وبغير معنى ، بل وعلى العكس من ذلك لما كان نتيجة عمل روحي فلا بد أن يكون له معنى ومفهوم خاص . وفي النهاية فليس الحلم مظهراً من إرادة فوق طاقة البشر بل انه نموذج عن الإِرادة المخفية للإِنسان » (٢) .

الاسلام والأحلام :

إن الروايات الإِسلامية لا تنظر إلى جميع الأحلام نظرة واحدة ، بل إنها تقسم الأحلام إلى ثلاثة أقسام . قسم منها عبارة عن الأفكار العادية أو الأسرار المخفية للإِنسان ، التي تظهر بنفسها أحياناً ، أو تظهر بصورة أُخرى أحياناً لعلل خاصة . هذا النوع من الأحلام فقط هي التي لها قيمة علمية عظيمة في نظر التحليل النفسي وعلماء النفس ، وبواسطتها يمكن الوصول إلى الضمير الباطن للأشخاص ، وتعيين الجذور الأصلية للأمراض الروحية .

والقسم الثاني من الأحلام ، عبارة عن الأفكار المشتتة والمضطربة التي تتطرق إلى ذهن الإِنسان في اليقظة أحياناً ، وخصوصاً في حالات المرض ولا قيمة علمية ونفسية لها ، وقد عبر عنها بـ ( أضغاث أحلام ) أو الأفكار الشيطانية .

والقسم الثالث هو الأحلام التي لها جانب إلهامي ، والتي ينكشف بواسطتها بعض الحقائق المجهولة من كل جهة .

____________________

(١) المصدر السابق ص ٥ .

(٢) فرويد ص ٣٩ .


يقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الرؤيا ثلاثة : بشرى من الله ، وتحزين من الشيطان ، والذي يحدث به الإِنسان نفسه فيراه في منامه » (١) .

التحليل النفسي قبل فرويد :

ليس مقصودنا من هذا البحث ، الحديث عن الرؤيا وتفسيرها ، بل إن مرادنا هو بيان ان قسماً من الأحلام هي التي تكشف أسرار الإِنسان وتفضح الضمير الباطن للأفراد ، ولنثبت أن هذا الموضوع ليس من إختراعات فرويد ، بل إن أولياء الإِسلام وبعض علماء المسلمين قد سبقوه إلى ذلك :

ولأجل أن يتنبه المستمعون الكرام في بداية الحديث إلى هدف البحث نستشهد بمثال من قصة الفتاة المخدوعة :

لقد أوردت الحادثة المزعجة والمكتومة ضربة قاضية نحو شرف الفتاة وعفتها ، فقد أغفلها شاب في ( كرج ) وأزال بكارتها والفتاة لم تذكر هذا السر لأحد بل احتفظت به في ضميرها الباطن ، وفي عالم الرؤيا يريد ذلك السر أن ينكشف ولكن الفتاة لم تكن في حال اليقظة مستعدة لأن تكشف ذلك السر لأحد ، وكان ضميرها الظاهر مخضعاً ضميرها الباطن للرقابة الشديدة ، فهي في حالة النوم كأنها تدرك تلك الفضيحة ، لكن قوة مجهولة لا تسمح بأن تنكشف المخزاة بلا ستار لذلك فان صورة الحقيقة المرة تتبدل ، وتظهر بمظهر غير مخز تماماً .

« إن حلم الشخص البالغ مخفي خلف آلاف الأستار من الكذب والتزوير والأخلاق والقوانين والأنظمة الإِجتماعية وإن هناك نوعاً من ( فوق الأنا ) تراقب أفعال الشخص ولو في عالم الرؤيا . لهذا فإن الإِنسان يرتكب جريمته في الحلم خلف ستار من ( فوق الأنا ) فيخفي نفسه عن نفسه ، وفي عالم كهذا حيث يتم كل شيء بالكناية والإِستعارة وإخفاء الحقائق وراء أقنعة عديدة فان التعبير

____________________

(١) بحار الأنوار ج ١٤ ص ٤٤١ .


الصحيح والبسيط والمجرد عن الأقنعة لا يمكن أن يظهر أصلاً في الضمير الإِنساني » .

« في أحلام الشخص البالغ تريد بعض الأحاسيس أن تخرج إلى الوجود ، ولكنها لا تملك الجرأة على الخروج بذلك المظهر بصورة صريحة حرة ، بل إنها تراقب ( فوق الأنا ) الأخلاقية والإِجتماعية ، وتضطر إلى أن ترسل التنبؤات المختلفة والصور الخداعة والمتباينة إلى ضميرنا » (١) .

ولهذا فإن منتزه ( كرج ) وغرفة الدار ، وصورة الشاب الذي خدعها والعمل المنافي للشرف والعفة ، وبصورة موجزة فان القصة الحقيقية للجريمة لا تأتي إلى خاطر الفتاة في الحلم . وعلى فرض أنها رأت حلماً كذلك فانها لا تخبر أحداً به ، ولكنها ترى في الحلم أنها في بستان كبير متعلقة بغصن شجرة ، وتحت قدميها هوة سحيقة ومظلمة مليئة بالوحل والطين ، وهي مضطربة لأجل ذلك وتخاف من ان يفلت الغصن من يدها وتسقط في الهوة ولكنها تقع في ما كانت تحذر منه ويفلت الغصن من يدها فجأة وتسقط في تلك الحفرة المظلمة وتتحطم وسط الأوحال ! .

تحرير الضمير الباطن :

هذا الحلم هو مظهر الضمير الباطن ، وإنعكاس لتلك القصة الواقعية التي كانت تخشى الفتاة من إظهارها ، مع فارق بسيط هو ان القصة نفسها لما كانت مخزية وقبيحة فان لباسها يتغير ، وتبدل صورة الإِتصال الجنسي بشاب أجنبي إلى شكل التعلق بغصن شجرة ، ويبدو التردي الإِجتماعي الناشىء من ذلك الإِتصال في إطار السقوط في الوحل .

« هناك رابطة العلية والمعلولية بين ظلمة صور الأحلام وحالة الكبت النفسي . والنتيجة أنه إذا كان الحلم مظلماً فذلك لأن طائفة من

____________________

(١) فرويد ص ٤٣ .


الأفكار الباطنة والمكبوتة قد منع الوجدان من ظهورها »(١) .

هذا الحلم يبدو ـ في نظر الأفراد العاديين ـ تافهاً لا قيمة له ، ولكن الذي يستطيع تفسير الأحلام وتحليلها يرى في هذا الحلم مفتاحاً لمخزن أسرار الفتاة ، وبذلك يتمكن من إكتشاف الضمير الباطن لها .

لقد أعطى فرويد أهمية كبيرة للحلم وتفسيره من حيث الوصول إلى الضمير الباطن ، وإن قسماً كبيراً من مدرسته في التحليل النفسي أشغله هذا الفصل . وقد قوبل هذا الموضوع بأهمية بالغة في أنظار طائفة من الغربيين وكتبوا حوله البحوث المطولة ، ظانين أن ( فرويد ) هو أول من تنبه إلى هذا الأمر . وإليكم بعض النماذج :

« إن تفسير الأحلام هو الطريق الصحيح للوصول إلى الضمير الباطن في الحياة النفسانية ، ويمكن ملاحظة هذه المعادلة الغامضة في أول أثر لفرويد حول الحلم . إنه ربط ظهور الأحلام في إحدى كتاباته التي انتشرت في الشطر الثاني من حياته بالتحليل النفسي . هذا العلم الحديث لم يوجد قاعدة أساسية أو أدق قابلية للقياس مع أُصول الأحلام . إنه أرض مجهولة تنشأ من العقائد العمومية والتصرف » (٢) .

« إن الحلم عبارة عن نوع من الإِعتراف ، لكنه إعتراف مصحوب بلحن مناسب ، وعلى هذا يجب تصحيحه . هذه الأفكار المختفية تسلط ـ فور إكتشافها ـ أضواء ساطعة على جميع أجزاء الحلم . وتكمل النقائص الموجودة بين تلك الأجزاء وتجعل المجموعة اللا إعتيادية منها قابلة للفهم . هذا هو الأسلوب الذي يتبعه فرويد في تفسير الأحلام » (٣) .

____________________

(١) تفسير الأحلام ، تأليف فرويد ص ٧١ .

(٢) فرويد وفرويديسم ص ٥٨ .

(٣) المصدر السابق ص ٦١ .


« أما الموضوع الأساسي فهو : أنه كيف نستطيع أن نرسو في هذا البحر الخضم المتلاطم ؟ كيف نبسط شيئاً لا يرى بصورة واضحة تماماً ؟ كيف يستطيع البصيص الضعيف الذي يظهر على صفحة الحلم المظلمة لبضع لحظات أن يكشف عن حقيقة خفية وغامضة تماماً ؟ إن اكتشاف هذه الرموز والوصول إلى هذه الأسرار الخفية والمبهمة تحتاج إلى فراسة وذكاء من شخص ساحر ماهر ، أو مخبر عن الغيب ، فريد في نوعه » .

« أما فرويد فبدون أن يتشبث بالسحر أو يعرف نفسه كمطلع على الغيوب ، يوجد في أعماله رمز لا يقف في سبيله رادع أو مانع . إن سر نجاح فرويد يكمن في أنه يبدأ في حل أغمض الأسرار من أبسط المقدمات » (١) .

يستفاد من هذه العبارات مدى إهتمام الغربيين بفرويد وأساليبه في تفسير الأحلام . . . ومدى تأثرهم بوجهات نظره .

التحليل النفسي في الاسلام :

لقد وجد في الإِسلام بالإِضافة إلى التفسيرات التي أدلى بها الأئمة عن بعض الأحلام أحياناً ، أفراد عاديون كانوا يستطيعون إكتشاف الضمير الباطن للأشخاص ، والوصول إلى أسرارهم عن طريق تفسير أحلامهم . هؤلاء لم يكونوا ساحرين ، ولا مدعين للعلم بالغيب ، بل انهم كانوا أشخاصاً عاديين تماماً ، ولكن أذكياء في نفس الوقت . وإن بعض نماذج تفسيرهم للأحلام مهمة وراقية إلى درجة أنه قلما نجد لها مثيلاً في جميع كتب علم النفس في العصر الحديث .

من الأشخاص الذين اشتهروا في تفسير أحلامهم ( ابن سيرين ) لقد بدأ التحليل النفسي عن طريق الحلم قبل ثلاثة عشر قرناً ، وأوضح الحقائق الغامضة

____________________

(١) فرويد ص ٤١ .


الكثيرة عن هذا الطريق « إسمه محمد ، وكان معاصراً للحسن البصري . وكان أبوه ( سيرين ) صفاراً » (١) .

وقبل أن نعرض لبعض النماذج عن تفسير الأحلام في الإِسلام من وجهة التحليل النفسي ، لا بد من أن نتطرق إلى نكتتين :

أ ـ ربط الحلم بالعواطف :

إن العواطف الدينية والثقافة العامة تختلف في كل أمة عن غيرها من الأُمم ، فهناك فرق شاسع بين مشاعر فرد مسلم متعرف على تعاليم القرآن الكريم ، وبين ياباني بوذي . . . وطبيعي أن تكون أحلام المسلم ممتزجة بالعواطف الإِسلامية والمشاعر القومية له ، وأن تظهر أحلام الياباني البوذي في صور متناسبة مع اعتقاداته القومية والدينية .

والشخص المفسر للأحلام يستطيع أن يقوم بمهمته بصورة جيدة ، متى ما كان عارفاً بالعواطف الدينية والثقافة القومية للشخص الحالم . ولهذا فإن المفسرين الإِسلاميين للأحلام ، يستندون إلى الآيات القرآنية والأحاديث الدينية التي تستند إليها عواطف الناس ومشاعرهم .

« يعتقد فرويد أن الذين يكونون على مستوى واحد من الثقافة يستعملون إشارات وعلائم متشابهة في معالم الوجدان الباطن لهم ، ويجب إكتشاف هذه الإِشارات والرموز من خلال أحلامهم » (٢) .

ب ـ الرموز والكنايات في الحلم :

غالباً ما لا يسمح الإِدراك الوجداني للقبح ، والنفور الإِجتماعي ، أو الأخلاق والآداب العامة في ظهور محتويات الضمير الباطن بالصورة الحقيقية في الحلم ، لذلك فأن الأفكار المخيفة تظهر في صورة المظاهر المختلفة وعلى

____________________

(١) قاموس دهخدا الفارسي ص ٣٢١ ـ ابن سيرين .

(٢) انديشه هاى فرويد ص ٣٨ .


شكل رموزاً أو كنايات . فعلى المفسر أن يكون على جانب كبير من الفراسة والذكاء لكي يستطيع أن يكتشف من الصورة الظاهرية للحلم والتي ملئت رموزاً وكنايات ، الحقيقة التي تكمن وراءها ، ويفسر الحلم بذلك تفسيراً كاملاً .

« إن أسلوب الحديث في هذا العالم اللاشعوري لا بد وأن يختلف عن أُسلوب الحديث في الحياة الظاهرية التي تعودناها إختلافاً بيناً ، واننا لا نستطيع في بادىء الأمر أن ندرك المقصود من تلك الأحاديث فيجب في الوهلة الأولى أن نسعى لتفسير وتوجيه مظاهرها بحسب الآلف باء المصطلحة عندنا ، لأن لغة الأحلام تشبه اللغات البدائية كالمصرية ، والكلدانية ، والمكسيكية ، في أنها مكونة من رموز وعلائم ، ولا بد من تفسير هذه الرموز في كل مرة حسب الإِصطلاح الجاري والمعمول به عندنا » (١) .

وقد جاء في الحديث : « للرؤيا كنىً وأسماء ، فكنوها واعتبروها بأسمائها » (٢) .

« إن تبدل الشكل الباطن إلى الصورة الظاهرة نسميه بالحلم . والعمل المعاكس له أي تبديل الصورة الظاهرة بالباطن نسميه بالتحليل » (٣) .

والآن نعرض لبعض نماذج من الأحلام المعبرة من حيث التحليل النفسي في الإِسلام :

١ ـ « قال رجل لعلي بن الحسين عليه‌السلام : رأيت كأني أبول في يدي . قال : تحتك محرم . فنظروا فإذا بينه وبين إمرأته رضاع » (٤) . في هذا الحلم نجد أن اليد ـ وهي عضو من أعضاء البدن ـ كناية عن الأخت ـ وهي عضو الأسرة ـ والبول رمز للمني . والإِمام عليه‌السلام فسر البول في اليد بنكاح المحرم . فإن كان

____________________

(١) فرويد ص ٣٩ .

(٢) بحار الأنوار ج ١٤ ص ٤٣٦ .

(٣) تفسير الأحلام ص ١٨ .

(٤) المستطرف من كل فن مستظرف ج ٢ ص ٨٩ .


الرجل يعرف أن زوجته هي أخته في الحقيقة ، فان تفسير الحلم يعتبر إختباراً نفسياً واكتشافاً للضمير الباطن للرجل . وإن لم يكن يعرف ذلك ، فهو الإِلهام .

٢ ـ « أتى إلى أبي عبد الله عليه‌السلام رجل فقال : يابن رسول الله رأيت في منامي كأني خارج عن مدينة الكوفة في موضع أعرفه ، وكأن شيخاً من خشب أو رجلاً منحوتاً من خشب على فرس من خشب يلوح بسيفه ، وأنا أُشاهده فزعاً مرعوباً . فقال له عليه‌السلام : أنت رجل تريد إغتيال رجل في معيشته . فاتق الله الذي خلقك ثم يميتك . فقال الرجل : أشهد إنك قد أوتيت علماً واستنبطته من معدنه . أخبرك يا بن رسول الله عما قد فسرت لي . إن رجلاً من جيراني جاءني وعرض علي ضيعة ، فهممتُ أن أملكها بوكس كثير لما عرفت أنه ليس لها طالب غيري » (١) .

٣ ـ « جاءت إمرأة إلى ابن سيرين فقالت له : رأيت كأني أضع البيض تحت الخشب فتخرج فراريج . فقال ابن سيرين : ويلك إتقي الله فانك امرأة توفقين بين الرجال والنساء فيما لا يحبه الله عز وجل ، فقيل له من أين أخذت ذلك ؟ قال : من قوله تعالى في النساء : ( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ) وشبه المنافقين بالخشب : « كأنهم خشب مسندة ». فالبيض النساء ، والخشب : هم المفسدون ، والفراريج : هم أولاد الزنا » (٢) .

وكان الأمر كما ذكره ابن سيرين ، وانكشف سر المرأة بتلك الرؤيا .

٤ ـ « روي عن ابن سيرين أنه أتاه رجل فقال : رأيت كأني أقشر بيضة وأرمي صفارها وآكل بياضها . فقال ابن سيرين : هذا رجل نباش للقبور ، فقيل له : من أين أخذت هذا ؟ فقال : البيضة : القبر . والصفار : الجسد . والبياض : الكفن . فيلقي الميت ويأكل ثمن الكفن وهو البياض » (٣) .

____________________

(١) روضة الكافي ص ٢٩٣ . والإِغتيال هما بمعنى : الخديعة .

(٢) حياة الحيوان للدميري ج ١ ص ٢٣٤ ـ دجاج .

(٣) حياة الحيوان للدميري ج ١ ص ٢٣٤ ـ دجاج .


لقد ظهرت الخيانة الخفية للرجل الذي كان يشق القبور ليلاً ويسرق الأكفان بصورة حلم ، مع تغيير شكل الضمير الباطن . ولقد إستطاع ( ابن سيرين ) العالم الحاذق ، أن يفسر تلك الرؤيا ويكتشف ذلك السر .

٥ ـ « جاء رجل إلى ( ابن سيرين ) ومعه جراب ، فقال له : رأيت في النوم ، كأني أسد الزقاق سداً وثيقاً شديداً فقال له : أنت رأيت هذا قال : نعم ، فقال لمن حضره : ينبغي أن يكون هذا الرجل يخنق الصبيان وربما يكون في جرابه آلة الخنق ، فوثبوا عليه ، وفتشوا الجراب ، فوجدوا فيه أوتاراً وحلقاً فسلموه إلى السلطان » (١) .

٦ ـ « جاء رجل إلى ( ابن سيرين ) قائلاً : رأيت فيما يرى النائم أني أجامع فأرة ، ويخرج من فرجها تمرة . فقال له ابن سيرين : هكذا أفهم أنك متزوج بامرأة زانية . قال : نعم . قال له : إنها حامل . وأبشرك بأنها تلد لك ولداً طاهراً شريفاً » (٢) .

٧ ـ « وجاءه رجل فقال له : رأيت كأني أسقي شجرة زيتون زيتاً ، فاستوى جالساً ، فقال : ما التي تحتك ؟ قال : علجة إشتريتها . وفي رواية جارية وأنا أطؤها ، فقال : أخاف أن تكون أُمك ، فكشف عنها فوجدها أُمه » (٣) .

يتضح من استعراضنا لهذه النماذج القليلة من تفسير الأحلام أن الإِختبار النفسي والوصول إلى الضمائر الخفية للأفراد عن طريق تفسير أحلامهم ليس أمراً جديداً حتى يتصور أن فرويد أول من ابتكرها وتختص بمدرسته . . . وأن في الإِسلام أفراداً أذكياء ونوابغ طرقوا هذا الباب قبله . ومنهم مفسر الأحلام الشرقي ( ابن سيرين ) حيث بدأ تجاربه وأعماله الرائعة قبل ١٣ قرناً .

____________________

(١) المستطرف ج ٢ ص ٨٨ مطبعة الإِستقامة القاهرة ١٣٨٣ هجري .

(٢) نامه دانشوران ج ٢ ص ١٧٦ .

(٣) المستطرف ج ٢ ص ٨٨ .


نصيحة في نقل الحلم :

للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصيحة دقيقة في الرؤيا . إنه يقول : « لا تقصها إلا على وادٍ ، أو ذي رأي » (١) . أما بالنسبة إلى الواد ( الصديق ) فانه إن لم يكن يعرف طريقة تفسير الحلم ، فلا أقل من أنه لا يعجل للإِنسان بفكرة مشؤومة ، وخاطرة سيئة . « وإن لم يكن عالماً بالعبارة ، لم يعجل بما يغمك » . . . ثم يتطرق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيان فوائد ذكر الحلم لمن يجيد تفسيره فيقول : « ولعله أن يكون في تفسيرها موعظة يردعك عن قبيح ما أنت عليه » .

فرويد ونظريته البتراء :

إن الموضوع الجدير بالإِنتباه هو أن نظرية فرويد حول الأحلام بتراء وغير ناضجة . لقد نظر فرويد كغيره من الماديين إلى جميع الأمور نظرةً مادية فقط . وكما انحرف عن الطريق السوي في موضوع الخالق والدين ، فقد إنحرف ـ لاتجاهه المادي البحت ـ في موضوع الأحلام أيضاً ، ولم يستطع أن يدرك الواقع من جميع جهاته . إنه يرى الأحلام مظهراً للأفكار الباطنة فقط .

« يمكن وصف الحلم بأنه تحوير الأفكار المخفية إلى الشكل الظاهر . والخلاصة أن الحلم ليس موجداً ، لا يخلق شيئاً من نفسه ولا يحكم أو يستنتج » .

« إن عمل الحلم عبارة عن التلخيص أو الإِيجاز ، التبديل أو التحوير ، تغيير الصورة أو التمثيل . . . ومن ثم فهو التنظيم والطلي بالشكل الذي إنتهينا من شرحه قبل قليل » .

« والذي يبدو لي أن قسماً من محتويات الحلم يكون نتيجة للنشاط الذهني في النوم ، ولكن الذي يتضح من تحليل الحلم أن هذه التعقلات كانت موجودة في الأفكار الباطنة للشخص الحالم . وظهرت بعينها في النوم » .

____________________

(١) البحار ج ١٤ ص ٤٣٧ .


« كل قصة منطقية واستنتاجية تشاهد في الحلم هي نفسها التي كانت موجودة في الأفكار الباطنة » (١) .

وكما أن الكهنة كانوا يفسرون الأحلام بالتنبؤات عن الوقائع المستقبلة وكان تفسيرهم خاطئاً . . .

وكما أن طائفة من علماء القرن السادس عشر والسابع عشر كانوا يرونها معلولة لسلسلة من الأعمال العضوية ونشاطات بعض الأنسجة العصبية ، وكانت نظرتهم هذه خاطئة . . .

كذلك نظرية فرويد في حصر جميع الأحلام بخصيصة نفسية واحدة وهي أنها مظهر للوجدان الباطن . . . فانها غير صحيحة ، إن ما لا شك فيه أن طائفة من الأحلام عبارة عن تجليات الضمير الباطن وهذا القسم منها يعتبر سلماً يربط وادي النفس الخفية بوادي النفس الظاهرة . وهذا ما قال عنه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي يحدّث به الإِنسان نفسه ، فيراه في منامه » .

وهذه الطائفة هي التي قام بتفسيرها على أحسن وجه ( ابن سيرين ) في عدة موارد . لقد توهم فرويد أن جميع الأحلام يجب أن تفسَّر وتُعبّر بنفس اللغة ، وإن منشأ خطأه هو حصره هذا .

الحقائق المجهولة :

ما أكثر الأشخاص الذين توصلوا إلى اكتشاف حقائق مجهولة في الماضي والحاضر عن طريق الأحلام ، ولطالما كان الحلم مخبراً بصورة صريحة أو مع شيء من التحوير ـ وبمساعدة التفسير ـ عن بعض الحقائق التي لم تكن تخطر على بال الحالم أو ضميره الباطن ! ! وإن هذه الطائفة من الأحلام من الكثرة بمقدار انها لا تقبل الإِنكار والتكذيب . وهناك في الأسر الشرقية والغربية أفراد عديدون تقع لهم أمثال هذه الأحلام .

____________________

(١) تفسير الأحلام . تأليف فرويد ص ٦٢ .


لقد توفيت زوجة أحد العلماء القديرين المعاصرين ، وكانت تطلب في أيام حياتها مبلغاً مهماً من المال من شخص ما ، ويوجد عندها سند يثبت الدين ، والمدين طالبهم بالسند الرسمي ، ولقد قامت إبنة المتوفاة بالبحث عن السند في البيت كله ، وفي أي مكان تحتمل وجوده فيه من دون أن تصل إلى نتيجة . ولم يكن المدين مستعداً لدفع دينه دون أن يقبض السند الرسمي . فيئس الورثة من استحصال الدين . وفجأة رأت الخادمة في الحلم أنها رأت سيدتها المتوفاة تأمرها بأن تخبر ابنتها بأن السند في جيب الثوب الفلاني ، فذهبت البنت إلى مكان ذلك الثوب ووجدت السند فيه كما أخبرت به الخادمة . هذه الرؤيا لا يمكن تفسيرها حسب أُصول التحليل النفسي لفرويد . فليست ظهوراً لمكنونات الضمير الباطن للخادمة . فان الخادمة لم تكن تعرف عن موضوع الدين والسند أي شيء أصلاً ، حتى تعرف محله ! .

لهذا النوع من الأحلام حساب خاص ، أوضحه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « . . . بشرى من الله » كما مر ، وهي نوع من الإِلهام الإِلهي ، وهي كثيرة إلى درجة أنها لو جمعت من كل عصر لأصبحت بصورة كتاب كبير . لم يتحدث فرويد عن هذا النوع من الأحلام أصلاً ، ولا يستطيع أن يقول شيئاً عنها ، ذلك أن فرويد رجل مادي ، وإن الإِعتراف بهذا النوع من الأحلام والإِذعان لها ( وهي تكشف عن حقائق مجهولة تماماً ) لازمة إعتراف بالمبادىء الروحية ، والتصديق بعالم ما فوق المادة ، والإِعراض عن المذهب المادي ، وفرويد غير مستعد للإِعتراف بهذا الأمر . هب أن امتناعه عن الإِعتراف بالحقيقة ، لا يغير من الواقع شيئاً ، ولا تستطيع أفكاره الهوجاء إخفاء حقيقة مسلمة تملك آلاف الشواهد الحية عند شعوب العالم المتحضر .

*  *  *

وإتماماً للفائدة ، نعرض لبعض النماذج من هذا النوع من الأحلام أيضاً :

١ ـ حلم ملك مصر : لقد رأى ملك مصر ـ كما يحدثنا القرآن ـ سبع بقرات ضعاف تأكل سبع بقرات سمان ، وسبع سنابل يابسة ومعها سبع سنابل


خضراء . . . « فقال الملك : إني أري سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون » (١) .

فعرض رؤياه على رجال بلاطه وعلماء بلاده ، فعجزوا عن تعبيرها ، وسموها بأضغاث أحلام . . .

أما يوسف الصديق ، فقد كان حاذقاً في تعبير الرؤيا ، وفسر الحلم الذي رآه الملك بالشكل التالي : جدوا في أمر الزراعة لسبع سنين ، وادخروا في كل عام ما يفضل من قمحكم ، واخزنوا الزائد عن الإِستعمال في سنابله فبعد هذه الأعوام السبع يجتاح البلاد قحط عظيم ويستمر هذا القحط لسبع سنوات ، ويقع الناس في حرج وشدة . وفي هذه الفترة يجب الإِستفادة من القمح المخزون . ولقد تحقق كلام يوسف تماماً واستفادوا في « أعوام القحط من ذخائر السنوات السابقة ونجت البلاد في ظل دراية يوسف من السقوط الحتمي والموت المحتم ، وعلى أثر هذا التفسير العلمي الدقيق والخدمة العظيمة التي أسداها يوسف إلى الشعب المصري فقد صار محبوباً من قبل الناس ، وأدى ذلك إلى أن يصل يوسف ـ بمساندة الرأي العالم ـ إلى زمام الحكم لسنوات طوال .

لم يكن حلم ملك مصر تلخيصاً لمكنونات الضمير الباطن ، ولم يكن التفسير العجيب الذي أدلىٰ به يوسف مستنداً إلى الإِختبار النفسي ، والتوصل إلى الوجدان المكنون للملك . فقد كشف هذا الحلم عن مستقبل مجهول تماماً ، وأعلن عن حادثة خفية .

٢ ـ رأى عبد الملك بن مروان في المنام : أنه يبول في محراب مسجد الرسول الأعظم أربع مرات . فسأل ابن سيرين عن تفسير رؤياه . فقال له ابن سيرين : أربعة من أولادك يصلون إلى مقام الخلافة ، ويقفون للإِمامة في محراب الرسول الأعظم ، ويتعهدون قيادة شؤون المسلمين . وكان كما قال . فقد تنزى كل من وليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك وهشام بن عبد

____________________

 (١) سورة يوسف ؛ الآية : ٤٣ .


الملك ويزيد بن عبد الملك فترات قصيرة واحداً تلو الآخر على منصب الخلافة . لقد كشف هذا الحلم عن مستقبل مجهول لم يكن ليعرفه أحد أصلاً (١) .

٣ ـ ينقل عن المهدي العباسي ، أنه رأى في المنام أن وجهه قد أسود ، فسأل المعبرين عن تعبير ذلك فعجزوا إلا إبراهيم الكرماني ، فانه قال : توجد لك بنت . قالوا : من أين علمت ذلك ؟ قال : لقوله تعالى : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ) فأعطاه المهدي ألف درهم ولما حصل له بنت زاد عليه ألف درهم آخر(٢) .

هذه الرؤيا كشفت عن مستقبل مجهول لم يكن أمره بيد أحد : فالخليفة يحلم بشيء ، ثم يتحقق حلمه بعد أشهر عندما تلد زوجته بنتاً له .

٤ ـ جاء رجل إلى ( ابن سيرين ) وقال له : رأيت في المنام إن ديكاً قد دخل إلى منزلي وقطف بضع حبات شعير فقال له ابن سيرين إذا سرق من بيتك شيء فراجعني . وجاء بعد أيام . وقال : لقد سرق سجاد من بيتي . فقال له ابن سيرين : لقد سرقه المؤذن فذهب الرجل إلى المؤذن وطالبه بسجاده ، وتنازع معه حتى استرد ماله » (٣) .

وهكذا نجد أن هذا الحلم أخبر عن أمرين خفيين : وقوع السرقة وتعيين السارق .

وعلى أية حال فإن طائفة من الأحلام لا يمكن أن تفسر حسب أُصول التحليل النفسي والمدرسة المادية ، وهي قابلة للتفسير على مبنى الإِلهيين والمعتقدين بما وراء الطبيعة والمادة .

إن الجانب المعنوي والإِلهام الروحاني لبعض الأحلام مهم إلى درجة

____________________

(١) تتمة المنتهى ص ٨٠ .

(٢) الكنى والألقاب ج ١ ص ٣١٤ .

(٣) نامه دانشوران ج ٢ ص ١٧٦ .


أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول عنها : « إن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبوة » (١) .

____________________

(١) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج ١٤ ص ٤٣٥ .


المحاضرة الثالثة عشرة

تعديل الميول ـ الفرار من تعذيب الضمير

قال الله تعالى : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ ، أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) (١) .

اتضح لنا مما ذكرناه في المحاضرات السابقة أن في الضمير الإِنساني قوة تسمى بالوجدان الأخلاقي . وفي الموارد التي يرتكب الإِنسان جريمة يقع فريسة اللوم والتقريع من تلك القوة الباطنية . إن الوجدان الأخلاقي من القوة والقدرة بحيث أنه لا يترك المجرم ونفسه حتى في عالم النوم . يستعرض أمام عينه جرائمه بصورة الرؤيا ، وبذلك يلومه عليها . .

إن قوة الوجدان الأخلاقي وإدراك قبح الإِجرام هو الذي يحور صورة الحلم ولا يسمح بأن يظهر المجرم على صورته الواقعية من جهة ويجعل المجرم من جهة أُخرى يشاهد جرائمه في الرؤيا برعب وقلق وأن الإِنقياد لأوامر الوجدان وإطاعة مقرراته وظيفة حتمية لكل إنسان . . فإن مخالفته تتضمن مصائب ومآسي لا تجبر . وسيدور بحثنا في هذه المحاضرة حول الإِستفادة من الوجدان الأخلاقي ، وتنفيذ قوانينه والنتائج الوخيمة التي تترتب على مخالفته والخروج عليه .

____________________

(١) سورة الفرقان ؛ الآية : ٤٣ .


قوتان باطنيتان :

هناك قوتان في طريق إرضاء الميول أو ضبطها وعدم الإِستجابة لها في باطن كل إنسان : إحداهما إيجابية ، والأُخرى سلبيية . أما القوة الإِيجابية فهدفها جلب اللذائذ وإرضاء الغرائز فقط ، وتميل إلى إشباع جميع الميول الطبيعية بدون قيد وشرط وأن تحقق جميع الرغبات . هذه القوة لا تفهم الخير والشر ، أو الصالح والفاسد ، إنها تنادي باللذة فقط وليس لها هدف غير ذلك . ولقد عبّر القرآن الكريم عن هذه القوة الباطنية بـ ( النفس الأمارة ) . . حيث يقول عزّ من قائل : ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ) (١) .

وأما القوة السلبية في باطن الإِنسان ، فهي تتمثل في القوة التي تمنع الإِنسان في جلب اللذائذ عن إرتكاب الجرائم والوقوع في الدنس ، وتلطف من حدة الميول ، وتلجم النفس الأمارة الشَّموس . إنها تسمح بإرضاء الغرائز والإِستجابة للميول بالمقدار الذي لا يتصادم مع المقررات العقلية والعرفية والشرعية ، أما ما عدا ذلك فانها لا تسمح به . ولقد عبر القرآن الكريم عن هذه القوة المعدلة للميول بـ ( النفس اللوامة ) . . . حيث يقول تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (٢) .

قيادة الغرائز :

مما لا شك فيه أن الحياة البشرية مدينة إلى الميول والغرائز التي أودعها الله تعالى في مزاج الإِنسان ، ذلك أن الغرائز والرغبات النفسانية هي القوة المحركة العظمىٰ التي تدبر دولب الحياة الإِنسانية ، ولا توجد أي قوة في الإِنسان تبعثه على النشاط والحيوية كالغرائز . ولكن النقطة الجديرة بالملاحظة والانتباه أن هذه الغرائز إذا نفذت واستجيب لها بالصورة الصحيحة وبالشكل المعقول فانها تبعث على الخير والسعادة ، أما إذا لم يلتزم العقل قيادتها وكان

____________________

(١) سورة يونس ؛ الآية : ٥٣ .

(٢) سورة القيامة ؛ الآيتان : ١ ـ ٢ .


إرواؤها على غير نظام أو ترتيب ، فلا شك في أنها تتضمن مئات المآسي وتؤدي بالإِنسان إلى عاقبة سيئة .

عشرات الأرياف يمكن أن توجد على ضفاف نهر ، ومئات الأسر تستطيع أن تعيش فيها على أتم الرفاه والراحة . . . إن جميع المزارع والحقول والمراعي وبصورة موجزة جميع مظاهر العمران هناك وجدت من ماء ذلك النهر . وإذا لم يكن ذلك النهر موجوداً ، لم يكن أثر للعمران ولم تكن توجد الأرياف ، ولكن قد يصادف أن ينحدر السيل من الجبال ويؤدي فيضان النهر إلى أن يتجاوز النهر مجراه ، ويهجم على المزارع والمساكن بصورة جنونية ، ويؤدي إلى خسائر عظيمة في الأرواح والأموال وتنسف الأتعاب والجهود التي بذلها الريفيون المساكين طيلة سنوات عديدة ! ! .

إنه لا يمكن الإِستغناء عن النهر ، لأن النهر يعتبر الشريان الرئيسي لحياة هؤلاء الناس في الأرياف ، وإن مظاهر العمران ظهرت بفضل وجود النهر ـ ولأجل أن نستفيد من فوائد النهر ، ولا ترد علينا خسارة أو ضرر من جراء الفيضان ، علينا أن نبني سداً محكماً عليه ، ونمنع من طغيانه ومن الواضح أن بناء السد يجعلنا ننتفع من فوائد النهر باستمرار ، ونكون في مأمن من أضراره وخسائره .

طغيان الغرائز :

إن الغرائز والميول البشرية تشبه النهر الذي تقوم عليه الحياة الفردية والإِجتماعية . فإن كانت الإِستجابة لها بصورة معقولة وحسب مقاييس ثابتة فانها تمنح الحياة نشاطاً وحيوية ، أما إذا أرضيت بالصورة الفوضوية العارمة ومن دون نظام أو ترتيب فلا شك في أنها تؤدي إلى الشقاء والإِنهيار . وبعبارة أُخرى : فكما أن النهر كان مسخراً لصالح الناس تارة وكان الناس مسخرين لتأثير النهر تارة أُخرى ، كذلك الغرائز فانها قد تخضع لقيادة العقل ، وقد يخضع العقل لقيادة الغرائز . إن السعادة تتحقق متى خضعت الميول جميعها لسيطرة العقل ، وكانت منقادة لأوامره ومقرراته .


هذا الكلام مقبول لدى جميع الماديين والمتألهين في العالم ، فقد أقر العقلاء والعلماء جميعهم بأن الإِنقياد للغرائز وإرضاءها بلا قيد أو شرط يتنافى مع التمدن والسعادة البشرية .

« تقضي الحياة ، وخصوصاً الحياة الإِجتماعية للإِنسان ، أن تهدى الغرائز الأولى منذ البداية ، وتوجه نحو الأهداف الإِجتماعية ، وبصورة أوضح نقول : كما أنه يجب إقامة سد أمام مجرى الماء لإِدارة محرك من المحركات المعتمدة على قوة الماء فإن التمدن يجب أن يخضع الغرائز لسيطرة دقيقة ، وذلك ليبلغ بالإِنسان إلى الرقي والتكامل » (١) .

إن أول نكتة يجب أن تسترعي إنتباهنا في هذا المقام ، هي أن إرضاء جميع الميول النفسانية بصورة حرة وبلا قيد أو شرط أمر مستحيل ، ذلك لأن تحقيق بعض الرغبات يتنافى مع إتيان الرغبات الأُخرى ، وفي الواقع يوجد تناقض واضح بين كثير من ميول الإِنسان . لقد أوضح الإِمام علي عليه‌السلام التناقض القائم بين بعض الميول والرغبات بعبارة قصيرة وحكيمة إنه يقول :

« ما أعجب أمر الإِنسان ، إن سنح له الرجاء أذله الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس قتله الأسف ، وإن سعد نسي التحفظ ، وإن ناله خوف حيره الحذر ، وإن اتسع له الأمن أسلمته الغيرة ، وإن جددت له النعمة أخذته العزة ، وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته فاقة شمله البلاء ، وإن جهده الجوع قعد به الضعف ، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة ، فكل تقصير به مضر ، وكل إفراط به مفسد ، وكل خير معه شر ، وكل شيء له آفة » (٢) .

فما أكثر الرغبات النفسية التي تدفع الإِنسان إلى الإِفراط في الإِستجابة

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٥١ .

(٢) آداب النفس للعيناثي ج ٢ ص ١١١ ، نقلاً عن إرشاد المفيد ص ١٤٢ .


للغريزة الجنسية ، أو الطعام في حين أنه يتنافى مع الرغبة في الصحة ، وما أكثر اللذائذ التي يتطلبها الإِنسان من قبيل الخمرة والحشيشة ، في حين أنها تتضمن عوارض مختلفة ونتائج وخيمة تهدد حياة الإِنسان .

الوجدان والغرائز :

هناك نكتة أُخرى يجب أن نتنبه لها ، وهي أن الحرية المطلقة للغرائز بلا قيد أو شرط تتنافى والوجدان الأخلاقي للبشر . فإن الذي يريد إرضاء جميع الميول بكل حرية ، ويحاول الإِستجابة لرغباته وتحقيقها ، لا بد أن يكون منقاداً لغرائزه ، معرضاً بوجهه عن النداء السماوي والمقررات القيمة الصادرة من الوجدان الأخلاقي الذي هو وديعة إلهية عند الإِنسان ، مستهتراً بالكرامة والشرف والنبل ! ! .

« لا بد للإِنسان أن يختار من بين آمرين أحدهما : الآمر الأول أجنبي وأعمى وطاغية حيث لا يراقب إلا التنفيذ دون النظر إلى القصد والنية . أما الآمر الثاني فانه أليف ومحبوب . صحيح أنه متعب ولا يرتضي بسرعة لكنه يعرف آمالكم الخفية ويطلع على كيفية شخصيتكم . إنه يجب التوفيق بين الغرائز والوجدان الأخلاقي . وإيجاد هذا التوافق أمر ممكن ، ذلك أن الوجدان الأخلاقي الواقعي لا يريد كبت الغرائز مرة واحدة ، بل يحاول أن يخضعها للنظام والسيطرة ، ويوجهها نحو هدف أعلىٰ وأليق . وهذا العمل أحسن وأهم لغريزة من إطلاق عنانها أيضاً ، كما يرى فرويد ، لأن هذه الحرية تتضمن فساداً وإنهياراً في النهاية » (١) .

إن مخالفة أوامر الوجدان الأخلاقي قد تؤدي إلى بعض الأمراض النفسية والجنون . والإِستجابة المعقولة للميول والغرائز أساس الحياة وركن السعادة الإِنسانية ، وهذا الأمر ضروري ومحبوب شرعاً وعقلاً . . . لكن المذموم

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحى وعصبى ص ٧٠ .


والقبيح من وجهة النظر الدينية والعلمية هو إطلاق العنان لجميع الميول والرغبات .

لقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة أحسن تعبير حيث يقول : ( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ ، أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ) .

عبادة الهوى :

إن الذي يقع في أسر عبادة هوى النفس ، ويكون عبداً مطيعاً لغرائزه وميوله . . يصاب بأخطر الأمراض النفسية ، ويكون معرضاً للإِنهيار والشقاء في كل لحظة . . .

١ ـ يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان : إتباع الهوى وطول الأمل » (١) .

٢ ـ ويقول الإِمام الصادق عليه‌السلام : « إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فليس شيء أعدى للرجال من إتباع أهوائهم ، وحصائد ألسنتهم » (٢) .

٣ ـ وعنه عليه‌السلام أيضاً : « لا تدع النفس وهواها ، فإن هواها رداها » (٣) .

٤ ـ وعن الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أشجع الناس من غلب هواه » (٤) .

٥ ـ وعن الإِمام الجواد عليه‌السلام : « من أطاع هواه ، أعطى عدوه مناه » (٥) .

٦ ـ يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إن أطعت هواك أصمّك وأعماك » (٦) .

____________________

(١) نهج البلاغة ص ١٠٥ .

(٢) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ ص ٣٣٥ .

(٣) الكافي ج ٢ ص ٣٣٦ .

(٤) سفينة البحار للقمي ص ٧٢٨ مادة هوى .

(٥) المصدر السابق ص ٧٢٨ .

(٦) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٢٨٧ ط إيران .


٧ ـ ويقول في مورد آخر . « فاز من غلب هواه ، وملك دواعي نفسه » (١) .

٨ ـ وورد عنه أيضاً : « قاتل هواك بعقلك » (٢) .

إن عبادة الأهواء والإِنقياد التام للميول النفسانية لهو أقصىٰ درجات الشقاء والهلاك للإِنسان ، فإذا وقع شخص في أسره فسرعان ما ينجرف إلى هوة الإِنهيار والسقوط .

« الإِنسان مختار مطلق ، لكنه مع ذلك لا يستطيع أن ينتفع من حريته خارج المناطق المحددة له بلا مخاطرة أو مغامرة . إن الحرية تشبه الديناميت في أنها وسيلة مهمة وخطرة في نفس الوقت ، فلا بد من الإِلمام بكيفية إستعمالها . لحسن الحظ فإن الذي يستطيع أن يستعملها بصورة صحيحة هو الذي يكون ذا عقل وارادة » .

« إن التضارب الموجود بين الحرية الإِنسانية والقوانين الطبيعية الملزمة يوجب التدريب على تزكية النفس . ولأجل أن نحافظ على أنفسنا من أخطار الحوادث يجب علينا أن نقاوم كثيراً من الميول والرغبات » .

« في كل مرة إستطاع الإِنسان أن ينتفع من كامل حريته يكون قد سحق القوانين الطبيعية ، ولا بد أن يلاقي جزاءه . إن الموفقية في الحياة تستلزم التضحية ، وبواسطة التخلي عن قسم من الحرية يستطيع الإِنسان أن يعيش على طبق نظام الأشياء » (٣) .

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٢٢٧ ط النجف الأشرف .

(٢) المصدر نفسه ص ٢٣٤ ـ ط النجف .

(٣) راه ورسم زندگى تأليف الكسيس كارل ص ٣٩ .


الوجدان وتعديل الهوى :

يستطيع الراغبون في السعادة والساعون من أجلها ، أن يستفيدوا من عوامل عديدة لتعديل ميولهم . من تلك العوامل . العقل : والوجدان ، والتعاليم الدينية . وحيث كنا نتحدث عن الوجدان الأخلاقي ، فيدور بحثنا هنا حول طرق الإِستفادة منه في تعديل الغرائز والرغبات النفسانية .

إن الوجدان الأخلاقي هو الدليل الطاهر والنافذ إلى الواقع المودع في باطن الإِنسان . وهو قوة قاهرة ، يدرك ـ بالفطرة ـ جميع أوجه الخير والشر ، ويهدي إلى الصراط المستقيم ، ويوصلهم إلى دار السعادة والسلام .

قال الإِمام الصادق عليه‌السلام لرجل : « إنك قد جعلت طبيب نفسك ، وبُيِّن لك الداء وعرّفت آية الصحة ودللت على الدواء . فانظر كيف قيامك على نفسك » (١) .

فبواسطة الوجدان الأخلاقي والفطرة الإِنسانية يهتدي الإِنسان إلى معرفة أمراض نفسه وعلاجها كالطبيب ، ويستطيع الوصول إلى سلامة روحه .

وفي غريزتي الشهوة والغضب القويتين ، وميل الإِنسان إلى المال والجاه تكمن نقطة إنزلاق البشرية نحو الهاوية ، إن هوى النفس تدفع الإِنسان بأشد ما يمكن من القوة لتنفيذ رغباته ومتطلباته الغريزية ، وألا يجتنب في سبيل الوصول إلى هدفه من كل نشاط هدام ، في حين أن الوصول إلى الهدف يتطلب في بعض الأحيان الإِتيان ببعض الأعمال اللانسانية وإرتكاب الجرائم والجنايات . إن من القوى التي تستطيع التعديل من الغرائز ، وتقدر على وقاية الإِنسان من الإِنحراف والإِنزلاق في الهاوية وحفظ أذيال الفرد من التلوث بالجرائم : قوة الوجدان الأخلاقي . فمن حافظ على هذه الوديعة الإِلٰهية في باطنه وأبقى سراج السعادة مضيئاً ، يستطيع الإِنتفاع من هداية الوجدان ويقي نفسه من كثير من الخيانات والجرائم .

____________________

(١) الكافي للكليني ج ٢ ص ٤٥٤ .


لقد أعار الإِسلام أهمية عظيمة إلى هذه القاعدة الأساسية ، واستفاد من الوجدان الأخلاقي في مجال الإِصلاح الإِجتماعي كثيراً .

التعامل على أساس الوجدان :

لقد ورد عن الإِمام الصادق عليه‌السلام أنه كان يقول : لقد أوصىٰ الله تعالى موسى بن عمران بأربعة أشياء :

« . . . وأما التي بينك وبين الناس ، فترضى للناس ما ترضى لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك » (١) .

وهناك موقف آخر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان واضعاً رجله في رحل جواده قاصداً إحدى الغزوات ، فاستوقفه رجل وطلب منه أن يعلمه عملاً فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أحببت أن يأتيه الناس إليك ، فأته إليهم ، وما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم » (٢) .

. . . وهكذا يتضح جلياً موقف الإِسلام من التعالم مع الناس وأُصول المعاشرة فيما بينهم ، وهذه وصية الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى ولده الحسن : « واجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لنفسك ، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم ، وأحسِن كما تحب أن يُحسن إليك ، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك » (٣) .

وقد ورد عن الإِمام الصادق عليه‌السلام : « أحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم ، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره » (٤) . وعن الإِمام الباقر عليه‌السلام في قول الله عز وجل : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) قال : « قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم » (٥) .

____________________

(١) المحجة البيضاء في احياء الاحياء للفيض الكاشاني ج ٣ ص ٣٧١ .

(٢) المصدر نفسه ج ٣ص ٣٧١ .

(٣) تحف العقول ص ٧٤ .

(٤) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٣ ص ٢٠٢ .

(٥) أمالي الصدوق ص ١٥٣ .


سعادة المجتمع :

لقد وجدنا في الأحاديث المتقدمة ان الفطرة الأخلاقية والإِدراك الباطني عند الناس قد اعتبرتا مقياساً للروابط الإِجتماعية . فان ما لا شك فيه أنه لو كانت الروابط الإِجتماعية في بلد ما قائمة على أساس الوجدان الأخلاقي وكان كل عضو في المجتمع يراعي الحسنات والسيئات الفطرية بالنسبة إلى باقي الأعضاء . . ، لكان يغمر ذلك البلد بالسعادة والهناء ولم يكن للغرائز والميول النفسية أية سلطة أو تجاوز على الآخرين .

إن القادرين على إتباع نداء الوجدان هم الذين يملكون زمام غرائزهم وميولهم . أما الأشخاص المستعبدون لشهواتهم والذين ينقادون لأهوائهم فلا ينالون هذه المفخرة أبداً .

جزاء مخالفة الوجدان :

إن من النتائج الوخيمة لمخالفة الوجدان ، الإِضطرابات الروحية والإِختلالات النفسية ، فإن من يمتنع عن سماع نداء الوجدان الأخلاقي ويقدم على الجرائم إرضاءً لرغباته النفسية مخالفاً في ذلك فطرته الإِنسانية لا بد وأن يلاقي جزاءه الشديد من قِبَل الوجدان ، بغض النظر عن العقاب الدنيوي والأخروي . وإن تعذيب الضمير وتقريع الوجدان من القوة في أعماق الروح الإِنسانية بحيث تسلب المجرم راحته وتتركه في دوامة من الإِختلالات والأمراض الروحية أو الجنون .

« لقد أسند فرويد منظومته الفلسفية إلى الغرائز ، ومن الواضح أنه أوضح بعضاً من نشاطاتها ولكنه أهمل البحث عن الوجدان أو الضمير واعتبره منفذاً إجتماعياً فحسب . أما الواقع فيرشدنا إلى أن قضاء الخير والشر عمل أساسي يغلب على الشخصية ويبلورها وينسقها ويلائم بنها وبين الحياة الإِجتماعية . . . من الممكن أن يبتلي الوجدان بآفات معينة فيسبب حدوث بعض الأمراض الروحية الحقيقية . فمثلاً نجد الأمر كذلك في الهستيريا المصحوبة


بيقظة الضمير والتي تظهر على صورة الندم القاتل وإتهام النفس ، والإِحساس بالإِجرام ، لقد أشرنا إلى بعض الآثار المباشرة وغير المباشرة للإِحساس بالإِجرام في سلسلة من التحقيقات . هذه الآثار عبارة عن التعذيب الأليم والتقريع الشديد » (١) .

بإمكان المجرم أن يهرب من وجه العدالة وحكم القانون في المحاكم القضائية العالمية بطرق مختلفة وينجو من العقاب في النهاية ، وباستطاعته إغفال بعض الحكام عن طريق التهديد أو التطميع ، أو عن طريق اليمين الكاذبة وشهود الزور . . . أما حاكم محكمة الوجدان البصير الحاذق فلا يغفل .

قد يتخلص المجرم من العقاب بواسطة الفرار من قاعة المحكمة ، أو الفرار من أرض الوطن ، أما محكمة الوجدان فانها تخضع المجرم لسيطرتها دائماً ، فأينما يذهب تصحبه وتلاحقه . . . ذلك أن محكمة الوجدان عبارة عن ضميره الباطن ولا ينفصل عنه ضميره أبداً .

في بعض الأحيان تكون مظاهر تعذيب الضمير ، وملاحقة محكمة الوجدان للمجرم ، والضغط الروحي الشديد الذي يلاقيه منها واللوم القارع الذي يراه في أحكامها . . . مؤلمة إلى درجة أنها تبعث كل من يشاهده عن القلق والاضطراب . وعلى سبيل المثال نذكر قصة حياة الشاب الضابط الذي دمر ( هيروشيما ) بالقنبلة الذرية في الحرب العالمية الماضية .

جنون ضابط شاب :

إن الوضع المؤلم لهذا الشاب الضابط الذي سبب الفناء والدمار لعشرات الآلاف من الرجال والنساء ، والشيوخ والشباب والأطفال الرضع في لحظات قليلة أصدق شاهد على ما ذهبنا إليه قبل قليل . وإليك بعض الأخبار عن أيامه الأخيرة مقتطفة من الصحف الإِيرانية نقلاً عن وكالات الأنباء العاليمة .

« وكالة الأنباء الفرنسية . لقد أعلن اليوم إختفاء الضابط الأمريكي

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص ٩٢ .


الطيار ( كلودإيترلي ) الذي دمر مدينتي هيروشيما وناغازاكي عام ١٩٤٥ بأول قنبلة ذرية ، منذ اليوم الثالث والعشرين من شهر تشرين الأول . لقد كان هذا الضابط الطيار مصاباً ببعض الإِختلالات العصبية منذ مدة . وكان خاضعاً للمعالجة في مستشفى ( فالوا ) . لقد وجد ( كلود ) نفسه بعد إنتهاء الحرب أمام الضربات الروحية القاصمة وذلك بعد إطلاعه على الخسائر التي تسبب فيها بقنبلته ، إنه كان يجد نفسه المسؤول الأول عن قتل أهالي مدينة ( هيروشيما ) . إن معالجة الأطباء كانت عقيمة له ، وأخيراً اضطر إلى أن يعيش في مستشفى الأمراض العقيلة » (١) .

« لقد نشرت الصحف الأمريكية الصادرة صباح اليوم في صفحاتها الأولى صورة ومشخصات ( كلود إيترلي ) ولقد طلب البوليس من الملايين من أبناء الشعب الأمريكي في التعاون معه للقبض على كلود إيترلي . والآن يقضي عشرات الملايين من الأمريكان أوقاتهم في البحث عنه حيث أنه أصيب بالجنون تماماً . إن أكثر العوائل الأمريكية لا تهنأ بالنوم طوال الليل خوفاً من كلود إيترلي لأن أصحاب العيادات النفسية قد أعلنوا عن : أن كلود إيترلي يرى نفسه السبب في مقتل عشرات الآلاف من أبناء الشعب الياباني ولذلك فهو يحاول أن يقوم بعمل خطير كعقاب لنفسه . أعظم وسام حربي : ـ لقد فاز كلود إيترلي بعد تدميره لمدينتي هيروشيما وناغازاكي بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا . وإن كلود إيترلي الذي انتخب من بين آلاف الطيارين يوماً ما لمهارته في قيادة الطائرة ، ولأعصابه الفولاذية ، والذي عهد إليه بإلقاء أول قنبلة ذرية . . . قد أصيب الآن بالجنون » .

« إن عمر كلود إيترلي اليوم ٤٠ عاماً . لقد قام في غضون السنوات

____________________

(١) جريدة إطلاعات الإِيرانية العدد ١٠٣٧٧ .


الأخيرة بأعمال السرقة ومخالفة القانون عدة مرات ، لكنه كان يعفى في كل مرة ، نظراً لكونه في عداد أبطال القوة الجوية الأمريكية في يوم ما » (١) .

« لقد إستعانت سلطات البوليس الأمريكي بأبناء الشعب في إجراء التحقيق مع كلود إيترلي ، ذلك أن أطباء الأمراض النفسية كانوا قد أعلنوا : أنه لما كان الطيار الأمريكي السابق مصاباً بمرض روحي شديد ، فمن الممكن أن يقوم بأعمال خطيرة تهدد الأمن العام ، إن الطيار الذي دمر عام ١٩٤٥ مدينتين يابانيتين كان يردد هذه الجملة منذ مدة : أنا قاتل الـ ١٥٠ ألف من الناس ولا أغفر لنفسي خطيئتي الكبيرة هذه . لقد مات في التدمير الذري من المدن اليابانية ١٥٠ ألف شخص على الأقل وكلود إيترلي يرى نفسه مسؤولاً عن قتل هؤلاء جميعاً . لقد عثر أحد رجال البوليس على كلود إيترلي في مدينة دالاس من ولاية تكساس عندما كانت سيارته واقفة عند أحد فروع شوارع تلك المدينة ، وذلك لإِشارة المرور الحمراء على الطريق . . . » (٢) .

لقد كان الضابط الأمريكي الشاب ذا أعصاب فولاذية عند القيام بإلقاء القنبلة الذرية . وكان سليماً من حيث المقدرة البدنية . لقد فاز الضابط الشاب بنيل أعظم وسام حربي في أمريكا بعد التفجير الذري . وإن من المحتم أنه لاقى النجاح في مهمته تشجيعاً وتقديراً فائقين من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية . . . ولكن هذه العوامل كلها لم تستطع أن تنقذه من السقوط ، وأخيراً أصيب بالجنون . إن إفناء ١٥٠ ألف شخص بين رجل وامرأة ، وطفل وشاب . . . مخالفة صريحة للوجدان . إن الأعصاب الفولاذية ، والطاقات الحيوية ، أعظم وسام حربي ، وتشجيع واستحسان حكومة الولايات المتحدة

____________________

(١) جريدة إطلاعات الإِيرانية العدد ١٠٣٨٢ .

(٢) جريدة إطلاعات الإِيرانية العدد ١٠٣٩٢ .


وشعبها . . . كلها لم تستطع الوقوف أمام قوة الوجدان ، فقد إنتصر الأخير عليها جميعاً ، وأصيب الشاب المسكين بالجنون وظهر بصورة موجود مفترس وخطير .

لقد كان البركان الثائر في نفس الشاب من جراء ردود الفعل الناشئة من وجدانه قوياً إلى درجة أن جميع المتخصصين بالعلاجات الروحية عجزوا عن معالجته ، فلقد أخذ الضغط الشديد من قبل الضمير يقض عليه مضجعه يقظة ونوماً ، وليس من البعيد أن يؤدي إلى موته .

الرشيد وغادر :

وهناك نموذج آخر لمخالفة الوجدان يظهر في قصة هارون الرشيد مع جارية أخيه الهادي ، ننقلها هنا لما فيها من فائدة : ـ

« . . . يحكى أن هارون الرشيد حج ماشياً ، وإن سبب ذلك أن أخاه موسى الهادي كانت له جارية تسمى ( غادر ) وكانت أحظىٰ الناس عنده ، وكانت من أحسن النساء وجهاً وغناء ، فغنت يوماً وهو مع جلسائه على الشراب ، إذ عرض له سهو وفكر وتغير لونه وقطع الشراب ، فقال الجلساء : ما شأنك يا أمير المؤمنين ؟ .

قال : لقد وقع في قلبي أن جاريتي ( غادر ) يتزوجها أخي هارون بعدي .

فقالوا : يطيل الله بقاء أمير المؤمنين ، وكلنا فداؤه .

فقال : ما يزيل هذا ما في نفسي . . .

وأمر بإحضار هارون وعرفه ما خطر بباله ، فاستعطفه وتكلم بما ينبغي أن يتكلم به في تطييب نفسه ، فلم يقنع بذلك وقال : لا بد أن تحلف لي ! .

قال : لا أفعل ، وحلف له بكل يمين يحلف بها الناس من طلاق وعتاق وحج وصدقة وأشياء مؤكدة ، فسكن . ثم قام ، فدخل على الجارية فأحلفها بمثل ذلك ، ولم يلبث شهراً ثم مات .

فلما أفضت الخلافة إلى هارون ، أرسل إلى الجارية يخطبها . . .


فقالت : يا سيدي كيف بأيمانك وأيماني ! ! .

فقال : أحلف بكل شيء حلفت به من الصدقة والعتق وغيرهما إلا تزوجتك ، فتزوجها وحج ماشياً ليمينه ، وشغف بها أكثر من أخيه حتى كانت تنام فيضجع رأسها في حجره ولا يتحرك حتى تتنبّه ، فبينما هي ذات ليلة إذ انتبهت فزعة . . .

فقال لها : مالك ؟ ! ! .

فقالت : رأيت أخاك في المنام الساعة وهو يقول :

أخلفتِ وعدك بعدما

جاورتُ سكان المقابر

ونسيتني ، وحنثت في

أيمانك الكذب الفواجر

فظللت في أهل البلاد

وغدوت في الحور الغرائر

ونكحت غادرة أخي !

صدق الذي سماك غادر

لا يهنك الإِلف الجديد

ولا تدر عنك الدوائر

ولحقت بي قبل الصباح

وصرت حيث غدوت صائر

. . والله يا أمير المؤمنين ، فكأنها مكتوبة في قلبي ، ما نسيت منها كلمة . فقال الرشيد : هذه أضغاث أحلام .

فقالت : كلا والله ما أملك نفسي . . . وما زالت ترتعد حتى ماتت بعد ساعة » (١) .

هذه الجارية كانت قد أخلفت وعدها مع الهادي ، وبسبب مخالفتها لنداء الفطرة والوجدان كانت تحس بالاضطراب والقلق دائماً . إن تعذيب الضمير لم يتركها لوحدها ، بل كان يوجّه الضربات القاسية نحوها ليلاً ونهاراً ، في اليقظة والحلم . إلى أن لقيت حتفها على أفظع شكل .

إن الإِنسان معرض في كل مرحلة ومنزلة إلى الخطر من ناحية ميوله

____________________

(١) ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ج ٢ ص ١٠٦ . هامش المستطرف المطبعة الميمنية القاهرة ١٣١٤ هـج .


وأهوائه . وإن الغفلة عن دناء الضمير ، والإِنقياد التام للرغبات النفسية يمكن أن يؤدي في اللحظة الحاسمة إلى قلب حياة الإِنسان رأساً على عقب ويبعث على الإِنهيار والسقوط الذي لا يمكن أن يعالج بأية قوة .

وبهذا الصدد يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « كما من شهوة ساعة ، أورثت حزناً طويلاً » (١) .

على مفترق الطرق :

قد يحتدم النزاع في باطن الإِنسان بين الميول النفسانية والوجدان الأخلاقي ، فان الشهوات والغرائز تهيج الإِنسان من جانب ، وتحثه على تحقيق رغباته اللامشروعة . بينما يقف الوجدان ـ من الجانب الآخر ـ في أتم القوة والفعالية مكافحاً ومعلناً معارضته الصريحة لارتكاب الجريمة .

أما عبّاد الشهوة والأفراد الحقراء الذين لا يهتمون بارتكاب الجرائم ، فانهم يصممون بسرعة ، ويحققون رغباتهم اللامشروعة مهملين نداء الوجدان .

وأما المؤمنون والعقلاء فانهم يسعون للتخفيف من ضراوة الميول اللامشروعة . ومن دون أي تردد يختارون الطريق الصحيح منزهين أذيالهم من التلوث بالجريمة والفساد ، ملبين نداء الوجدان .

ويقف على مفترق الطريقين طائفة تهتم بشؤونها الدينية والوجدانية بمقدار ما ، ولكن رصيدها الإِيماني ليس بالمقدار الكافي لمواجهة الميول اللامشروعة . فهؤلاء يقفون مترددين تتملكهم الحيرة ، فلا يستطيعون أن يغضوا الطرف عن الميول المتطرفة ويتخلوا عن اللذائذ المنافية للدين والوجدان شأنهم في ذلك شأن المؤمنين ، كما لا يستطيعون أن يصمموا بصورة حتمية على ارتكاب الجريمة شأنهم في ذلك شأن المنحرفين .

هؤلاء يتذرعون ببعض المبررات ، وبعض الأدلة الواهية لإِسكات ضمائرهم ، وهم يأملون أن يحققوا رغباتهم النفسانية من دون أي إضطراب

____________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٤٥١ .


داخلي أو قلق باطني . . . ولكنهم غافلون عن يقظة الوجدان ، وأنه من الذكاء والفطنة بحيث تنطلي عليه التلفيقات ولا تغيير مظهر الذنب بمظهر آخر ، ولا يكف عن واجبه المقدس ، وهو توجيه اللوم إلى المجرم .

« إذا كنا نقضي من هذه الظواهر بانطفاء جذوة الوجدان فقد وقعنا في خطأ كبير . إن الوجدان لا يزال حياً حتى في حالات الموت الروحي ، ويستمر في القيام بعمله بكل هدوء ويستطيع أن يكشف عن وجوده فجأة بإشراقة خلابة وغير متوقعة . فهناك إلى جانب الوجدان الذي يقوم بإظهار ميوله وعقائده وأفكاره ، يوجد وجدان مستتر يحكي عن حالة روحية غير مرئية . إنه يمكن الإِستعانة ببعض التعابير التي يستعملها المريض والتي تعد فاقدة للمعنى وجنونية في الظاهر ، كدليل على وجود هذا الثبات . هذه التعابير ترينا أن الوجدان يستطيع أن يبقى حياً تحت خرائب الذكاء والعقل » .

« إن الوجدان يؤثر حتى في حياة الأنسجة وفي وضعية الأعمال الجسدية التي تملك شخصية حية بنفسها أيضاً » (١) .

وفي قضية عمر بن سعد ، وقيامه بتلك المعركة الدامية على صعيد كربلاء أملاً في الحصول على حكومة الري ، أجلى شاهد على ما ذهبنا إليه . فمن جهة نجد أن قتل الحسين بن علي عليه‌السلام وثلة من أصحابه الأبرار والأبرياء عمل مخالف للوجدان والدين والعقل . ومن جهة أُخرى كان يرغب في الحصول على حكومة الري وفي ذلك لذة الرئاسة ، والرغبة النفسية التي تلح عليها نفسه الأمارة . فعندما إقترح عبيد الله بن زياد حكومة الري عليه بشرط قتل الإِمام الحسين عليه‌السلام إضطرب عمر لذلك وتحير في أمره ، فلو كان فرداً مؤمناً ومتديناً لكان يرد ذلك الإِقتراح بسرعة ولم يكن يقوم بتلك الجريمة الشنيعة لقاء حكومة لا تدوم أياماً . وإذا كان إنساناً منحرفاً وبعيداً عن الدين بتمام معنى

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص ٦٣ .


الكلمة لا يقيم وزناً للوجدان والإِيمان والعقل والرأي العام ، فانه كان يوافق على الإِقتراح بدون ترديد ولا يقول شيئاً أبداً . ولكن الذي يظهر من وضعه أنه كان يحس بالاضطراب وعدم الإِرتياح لعمله هذا في ضميره الباطن ، ولكن لم يكن إحساسه هذا بالدرجة التي تجعله يغض الطرف عن لذة الرئاسة والجاه . فاستمهل عبيد الله ليأتيه بالجواب النهائي . وحين أقبل عليه المساء تنحى زاوية خلية ، وجسد أمام ناظريه معسكرين متعارضين يقف في أحدهما الله والرسول ، والعقل والشرف ، والوجدان والإِنسانية . . . أما في المعسكر الأخر ، فيقف حب الجاه والرئاسة ، اللذة والشهوة ، الحكومة وعبادة الذات . فبقي متحيراً بين هذين المعسكرين فعندما كان ينظر إلى الله والوجدان والعقل كان يقول : يجب ألا ارتكب هذه الجريمة الشنيعة ، أن لا أشرك في دم الحسين عليه‌السلام أما حين يلتفت نحو الشهوة والرئاسة كان يقول : يجب ألا أترك الفرصة تفوتني ، فإن مقاماً مع هذه العظمة لا يتيسر دائماً . . . وأخيراً تذرع ببعض المغالطات الباطلة لإِقناع الوجدان الذي يوجد في باطن كل إنسان متدين وملحد . وأخيراً حلل القضايا من الوجهة الدينية ، وكان أن قال :

يقولون إن الله خالق جنة

ونار ، وتعذيب ، وغل يدين

فان صدقوا فيما يقولون ، إنني

أتوب إلى الرحمان من سنتين

وإن كذبوا فزنا بدنيا عظيمة

وملك عقيم دائم الحجلين

فأوجد هذه المسرحية الخيالية في ذهنه وجعلها ملجأ لجنايته ، وتبريراً لخيانته ، ظاناً أنه يستطيع إقناع وجدانه بهذا العمل ، وأنه يستطيع أن يخفيه خلف أستار المغالطات الموهومة ، ويحفظ نفسه من تعذيب الضمير إلى الأبد غافلاً عن أن الوجدان الأخلاقي الفطري ينظر بنور الواقع ، وأنه لا يسكت بالتبريرات الباطلة ، فالوجدان مشعل وضّاء موجود في باطن الإِنسان . بأمر من الله ، ولا يمكن إطفاؤه بهذه الكلمات . إن الوجدان الأخلاقي لا ينسى واجبه السماوي ، ولا يدع المجرم لوحده ، ولا يفسح المجال له ليتخلص من تعذيبه ولومه وتقريعه .


ولقد صمم ابن سعد على ألا يستمع لنداء الوجدان ، ويتجاهل وجوده تماماً ، ولكن تجاهل الحقيقة لا يقدر على إزالة الحقيقة .

« إن ما لا شك فيه أن هذه الحالات ناتجة عن أن الإِنسان يمتنع عن سماع نداء الوجدان ، هذا الإِمتناع هو الذي يولد هذا التصور الخادع القائل بأنه لا يوجد وجدان . في حين أن الوجدان اليقظ قد لاذ بالوجدان المغفول » (١) .

وأخيراً فقد صمم على إرتكاب الجريمة ، وأقدم على أعظم الذنوب أملاً في الحصول على حكومة الري . . . ولكن أسفرت النتيجة عن حرمانه من تلك الأمنية ، وهنا تناوشته الضربات القاضية من قبل الوجدان من جهة وحزَّ في نفسه إنهياره السياسي وفشله الإِجتماعي من جهة أُخرى . . . فوقع في أسر الأمراض الروحية والاضطراب النفسية وسلبت من راحته فأمر أن يمد فراشه طوال الليل والنهار ، فكان يستلقي في الفراش تارة ، ويتمشى في البيت أُخرى ويتخطى في الأزقة بلا إرادة ثالثة . . . وكانت عاقبته أن لاقى حتفه على يد أحد الضباط الثوار في ذلك الفراش ، وأنهىٰ حياته المشؤومة بهذا الوضع المزري .

*  *  *

الهدوء النفسي :

إن أسعد الناس هو الذي يملك نفسه ويسيطر على رغباته ، لا يحوم حول الذنب ، يستمع إلى النداء الواقعي للوجدان بأذن الذكاء ، يعيش حياة ملؤها الهدوء والإِرتياح ، ويغادر الحياة بروح مطمئنة ونفس هادئة . . . ولكن المؤسف أن هؤلاء الأفراد هم الأقلية في كل مجتمع وأمة . . . فإن الأكثرية يقعون تحت أسر الأهواء والميول النفسانية ، ونجد أن الغرائز والشهوات تسيطر بقوتها القاهرة ، على أكثر طبقات المجتمع وتبعثهم على الإِجرام والدنس ! .

لقد فتح الأنبياء عليه‌السلام أبواب الاستغفار والتوبة والكفارات على هؤلاء لإِنقاذ

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص ٦٦ .


المجرمين من الإِنهيار التام ، ولإِرجاعهم مرة أُخرى إلى طريق السعادة والفضيلة وتخليصهم من تعذيب الضمير . . . ولذلك نجد أن رسل السماء كانوا يبشرون الناس على مر العصور بالعفو والمغفرة والرحمة من الله العظيم ، ولهذا الإِرشاد السماوي العظيم أهمية كبيرة في أنظار علماء النفس المعاصرين ، حيث يعتبرونه من المسائل الأساسية في علاج الأمراض الروحية .

« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية ، ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظيمة في الأديان السماوية » (١) .

إن على المجرمين إما أن يستمروا في إنحرافهم ويتمادوا في طغيانهم يعمهون ، ويزجوا بأنفسهم والمجتمع في النتائج الخطيرة والوخيمة ، والنفسية لها والإِجتماعية ، أو يرجعوا عن الطريق المنحرف ويتوبوا إلى الله تعالى أملاً في العفو والمغفرة . ويكفّوا عن الذنوب فيصبحوا أُناساً طيبين طاهرين تماماً .

في الصورة الأولى نجد عوارض وأخطاراً تنتاب الفرد وتعم غيره من جراء الاستمرار في إجرامه نستعرض على سبيل المثال بعضاً منها :

١ ـ خطر اليأس :

إن المجرم الذي يستلذ طعم الإِجرام ، ويرى أن القيام به متأصل في نفسه وغير قابل للزوال ، ولا يملك أي أمل في تطهير نفسه ومغفرة الله له يستمر في إرتكاب الجرائم بجسارة وجرأة كبيرتين لا يتورع من القيام بأي عمل مخالف ، وبديهي أن إنساناً كهذا يصبح فرداً خطراً في المجتمع بدلاً من أن يكون عضواً نافعاً فيه ، ذلك لفقدانه الأمل في المغفرة ، واليأس من العودة إلى الصواب ، ولجرأته في الذنوب . . . وهكذا يكون خطراً شديداً على مجتمعه .

٢ ـ إتهام الأبرياء :

إن المجرم يحاول ـ لتبرئة نفسه ، وبسبب ا لآلام الوجدانيه التي يلاقيها ـ

____________________

(١) المصدر السابق ص ٦٦ .


أن يتهم الأبرياء ، وينسب جرائمه إليهم . . . وهذا العمل بنفسه يُعدّ جريمة أكبر من إرتكاب الجريمة ذاتها ، إذ من الممكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى نشوء الإِختلالات الإِجتماعية ، والمفاسد التي لا تدرأ ، أو أن يعرّض أرواح الناس وأموالهم إلى أخطار شديدة .

« إن الجرائم تتضمن أخطاراً كبيرة للمجتمع ، والإِحساس بالإِجرام ، يمكن أن يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض النفسيه التي منشؤها حب البراءة والتي تنتهي إلى تحطيم الكيان الإِجتماعي ، وإذا دققنا في الموضوع وجدنا أن هذه الأعراض الناشئة من حب البراءة ، تقود الإِنسان إلى إتهام الآخرين ، الأبرياء الذين يرمون بالتهم الكاذبة يقفون بدورهم موقفاً دفاعياً ضد تلك الإِتهامات وهكذا تولد موجة من التهم والمواقف الدفاعية التي لاحظنا بعض النماذج الحية منها . . . وأخيراً تنتهي هذه الحالات بهدم العنصر الأخلاقي والقيم المثلى في المجتمع الذي تحدث فيه » (١) .

غفران الذنوب :

عندما تكون نوعية الذنب مهمة جداً ، ولا يملك المذنب أملاً في المغفرة والعفو الإِلهي فان الضغط الشديد الذي يلاقيه من الوجدان الأخلاقي يؤدي به إلى الجنون ويبعث به إلى إرتكاب الجرائم الخطيرة ، ويفقد مجتمع بأسره راحته وهدوءه من جراء جرائمه التي لا تعد ولا تحصر . أما في الصورة الثانية عندما يندم المذنب على ما ارتكبه بفضل إرشادات الأنبياء ، ويطمئن إلى المغفرة والعفو ، ويُظهر ندمه وتوبته بلسان الاعتذار إلى المقام الإِلهي . . . حينذاك تحل عقدته الباطنية ، ويهدأ وجدانه ، ويتخلص من اللوم الباطني ويستمر حياته بروح مطمئنة هادئة وبهذه الصورة يمكن الوقوف أمام سقوط عضو من أعضاء المجتمع .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي وعصبى ص ٦٦ .


« عندما تمد الأيدي إلى أحضان الوجدان ، وعندما يقر المجرم بذنبه ، ويستعد لإِصلاح نفسه . . . فإن الأمل في الرحمة والمغفرة يطفىء الإِحساس بالجريمة ، ويولد فيه الهدوء والسكينة حيث يستطيع بها أن يخرج رأسه بفخار من كابوس الإِجرام الفظيع ، وينسى بذلك ماضية » (١) .

*  *  *

على أن التوبة الحقيقية والمغفرة للذنوب والفرار من الضغط الوجداني تستلزم بعض القواعد والأسس المعنوية والنفسية ، وبدونها لا يمكن الحصول على الإِطمئنان النفسي ، والفرار من دنس الجريمة . وهي :

١ ـ الاقرار بالذنب :

على المذنب أن يقر ويعترف بذنبه تجاه المقام الإِلهي بصراحة ، ويطلب منه العفو والمغفرة ، إن الإِقرار بالذنب يستطيع أن يزيل دون الذنب ، ويجلب رحمة الله الواسعة ، ويقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع ، ويحلّ العقدة الباطنية ، ويخلص الإِنسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة .

أما الذين يرتكبون الذنوب ، ولا يعترفون بإجرامهم بسبب الأنانية والكبرياء لا يتوفقون للتوبة الحقيقية ، ويكونون مشمولين للعذاب الإِلهي ومصابين بمضايقة الوجدان ، واللوم والتقريع المستمرين منه .

« عن أبي جعفر عليه‌السلام : « والله ما ينجو من الذنب إلا من أقرَّ به » (٢) . وقد ورد عنه ( أي الإِمام الباقر ـ عليه‌السلام ـ ) أيضاً : « ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين : أن يقروا له بالنعم فيزيدهم ، وبالذنوب فيغفرها لهم » (٣) .

يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « حسن الإِعتراف يهدم الإِقتراف » (٤) .

____________________

(١) بيماريهاى روحى وعصبى ص ٦٧ .

(٢) الكافي ج ٢ ص ٤٢٦ .

(٣) المصدر نفسه ج ٢ ص ٤٢٦ .

(٤) الإِرشاد للمفيد ص ١٤٢ .


٢ ـ رجاء المغفرة :

يجب على المذنب أن يكون مطمئناً إلى رحمة الله الواسعة وراجياً لعفوه ومغفرته ، لأنه لو لم تكن فيه هذه الحالة النفسية والاعتقاد الواقعي لا يستطيع أن يزيل وصمة الإِجرام بالتوبة والإِعتذار ، ولا يتسنى له التخلص من تأنيب الضمير .

لقد وضع الإِسلام الناس في مركز وسط بين الخوف والرجاء فحث المستقيمين في سلوكهم على عدم الإِعتداء والعجب بالنفس ، وان لا يروا أنفسهم بمأمنٍ من عذاب الله لحظة واحدة ، وأوصى المذنبين أيضاً بأن لا ييأسوا ، بل يعمروا قلوبهم بالرحمة من الله دائماً .

يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام بهذا الصدد : « إن من الكبائر عقوق الوالدين ، واليأس من روح الله ، والأمن لمكر الله » (١) .

إن ميدان الخوف والرجاء في الروايات الإِسلامية واسع جداً ، فمهما كان المذنبون غارقين في المعاصي يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله . يقول الإِمام أمير المؤمنين لولده عليه‌السلام مذكراً إياه برحمة الله التي لا تتناهى ومغفرته التي لا تقف عند حدّ . . . « وأرجُ الله رجاءً إنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك » (٢) .

فليس للمسلم المذنب أن ييأس من فيض رحمة الله ، مهما عظمت ذنوبه . . . ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ، لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (٣) .

٣ ـ الندم وطلب المغفرة :

إن على المذنب بعد الإِقرار بالذنب ، ورجاء المغفرة ، أن يطلب العفو والغفران في كمال الصدق مظهراً ندمه الواقعي على أفعاله السيئة . وطبيعي أن

____________________

(١) الكافي للكليني ج ٢ ص ٢٧٧ .

(٢) مجموعة ورام ج ١ ص ٥٠ .

(٣) سورة الزمر ؛ الآية : ٥٣ .


يغفر الله الذنوب مهما كان عظيماً في ظروف مثل تلك ، وهذا هو معنى التوبة الحقيقية . فإذا أظهر شخص الإِستغفار بلسانه ولم يكن نادماً في قلبه على أعماله البذيئة ، فانه لم يتب توبة حقيقية ولا تطهر نفسه.

يقول الإِمام الرضا عليه‌السلام بهذا الصدد : « من استغفر الله بلسانه ولم يندم بقلبه ، فقد استهزأ بنفسه » (١) .

إن المذنبين الذين يتوفقون للتوبة الحقيقية ويخلصون أنفسهم بذلك ـ وفي ظل العنايات الإِلٰهية ـ من دنس الذنوب ، يحزون على ضمائر هادئة وأرواح مطمئنة ، فلا يحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم بعد ذلك ولا يسمعون تأنيباً من الضمير ، ويبلغ بهم التنزه عن الذنوب إلى درجة أنهم يصبحون كأن لم يقترفوا ذنباً أصلاً ، يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » (٢) .

*  *  *

الايمان وتدارك الخطأ :

لا بد من التنبيه إلى هذه النقطة ، وهي أن الشرط الأول للتوبة الحقيقية وغفران الذنب هو الإِيمان بالله . إن الذي لا يملك رصيداً قوياً من الإِيمان أو أنه مادي ومنكر لله أساساً ، لا يوفق لتطهير نفسه عن طريق التوبة وغفران الذنوب ، فهو يلاقي الجزاء الصارم من تأنيب الضمير وكابوس الوجدان حتى آخر عمره ، إن السبب في الإِختلالات الروحية أو الجنون الذي يحصل للبعض من جراء تعذيب الضمير إنما هو فقدان عنصر الإِيمان عندهم ، وعدم إحساسهم بوجود ملجأ معنوي . ولذلك فانهم لا يستطيعون حل العقدة النفسية المتفاقمة في نفوسهم عن طريق التوبة والإِستغفار . ولقد شاهدنا كثيراً من هؤلاء في عصرنا الحاضر ، كما أنهم كانوا موجودين في العصور السابقة أيضاً .

كيف يستطيع عمر بن سعد ( وهو الذي يظهر تزلزل العقيدة في كلماته ،

____________________

(١) مجموعة ورام ج ٢ ص ١١٠ .

(٢) سفينة البحار للقمي / مادة غفر ص ٣٢٢ .


ويبدو تردده في الأُصول الإسلامية المسلم بها ) أن يطهر نفسه عن طريق التوبة الحقيقية ؟ ! .

وعلى العكس من ذلك . فإن الذين تتألق في نفوسهم جذوة من الإِيمان والإِعتقاد بالله ، إذا ارتكبوا ذنوباً كبيرة فإن أدنىٰ إلتفاتة نحو الله والإِستغفار منه كاف في تخليصهم من ورطة المعصية ، وإذا كان يأسهم من رحمة الله على أثر الغفلة أو الجهل فبمجرد أن يطلعهم على ذلك مرشد ديني عظيم نجدهم يرفعون أكف التضرع نحو الله تائبين نادمين ، والله يتقبل توبتهم ، ويغفر لهم ذنوبهم .

إن في القصة الآتية أجلى شاهد على ذلك : ـ

« كان علي بن الحسين عليه‌السلام في الطواف ، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة ، فقال : ما هذه الجماعة ؟ قالوا : هذا محمد بن شهاب الزهري ، اختلط عقله فليس يتكلم فأخرجه أهله لعله إذا رأى الناس أن يتكلم فلما قضى عليه‌السلام طوافه خرج حتى دنا منه ، فلما رآه محمد بن شهاب عرفه . فقال له علي ابن الحسين عليه‌السلام : ما لك ؟ قال : ولّيت ولاية فأصبت دماً فدخلني ما ترى . فقال له علي بن الحسين : لأنا عليك من يأسك من رحمة الله أشد خوفاً مني عليك مما أتيت . ثم قال له : أعطهم الدية . فقال : فعلت فأبوا . قال : اجعلها صرراً ، ثم انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم » (١) .

فنجد إن الإِمام عليه‌السلام يحل مشكلة اليأس عند ذلك الوالي الذي قتل شخصاً بغير حق فأصيب بالجنون ، بعلاج نفسي بسيط . . . ولذا نجد أن الغربيين يهتمون بهذه العلاجات . وفي ذلك يقول الأُستاذ ( هنري باروك ) فيما مضى من حديث :

« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية . ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظمية في الأديان السماوية » .

____________________

(١) مجموعة ورام ج ٢ ص ٤ .


المحاضرة الرابعة عشرة

التربية على أساس الايمان

قال الله تعالى : ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

لقد تعرضنا في محاضرة سابقة إلى ضرورة إستناد تربية الطفل إلى الإِدراكات الطبيعية والميول الفطرية للإِنسان ، فأساليب التربية التي تبنى على هذا الأساس تكون هي الصحيحة ، وهي الطريق الواقعي للسعادة الإِنسانية . وجرّنا هذا الحديث إلى البحث في الوجدان الفطري بصنفيه : العقيدي والأخلاقي بإسهاب ضمن ثلاث محاضرات . ولهذا فسيدور بحثنا من اليوم فصاعداً حول كيفية الإِستفادة من الفطريات في تربية الطفل.

الأساس الأول للتربية :

إن الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطفل في سبيل التربية الصحيحة إشعاره بوجود الله والإِيمان به بلسان ساذج متيسر الفهم . لقد سبق أن بينا في المحاضرة العاشرة إن الحاجة للإِيمان بالله موجودة في باطن كل إنسان بفطرته الطبيعية . فعندما يبدأ جهاز الإِدراك عند الطفل بالنشاط والعمل ، ويستيقظ

____________________

(١) سورة البقرة ؛ الآية : ٢٥٦ .


حس التتبع فيه ، ويأخذ في السؤال عن علل الأشياء ومنشأ كل منها ، فإن نفسه الطاهرة وغير المشوبة تكون مستعدة تماماً لتلقي الإِيمان بخالق العالم ، وهذه الحالة هي أشد الحالات طبيعية في بناء الطفل .

وعلى القائم بالتربية أن يستفيد من هذه الثورة الفطرية ، ويفهمه أن الذي خلقنا ، والذي يرزقنا ، والذي خلق جميع النباتات والحيوانات والجمادات ، والذي خلق العالم ، وأوجد الليل والنهار ، هو الله تعالى . . . إنه يراقب أعمالنا في جميع اللحظات فيثيبنا على الحساب ويعاقبنا على السيئات .

هذا الحديث سهل جداً وقابل للإِذعان بالنسبة إلى الطفل ونفسه فنراه يؤمن بوجود الله في مدة قصيرة ويعتقد به . بهذا الأُسلوب نستطيع أن نخلق في نفس الطفل حب النظام والإِلتزام ونحثه على الإِستقامة في السلوك وتعلم الفضائل الخلقية والملكات العليا بالتدريج .

إن للإِيمان بالله ـ وهو إحياء لأعظم قوة وجدانية عند الإِنسان ـ آثاراً ونتائج مهمة في « احياء سائر الفطريات الخلقية والمثل العليا ، وبإمكانه أن يخرج تلك الفطريات جميعها من مرحلة القوة إلى الفعلية بأحسن صورة وبعبارة أوضح نقول إن للإِيمان بالله أثرين مهمين : ( الأول ) : انه يعمل على احياء أعظم واقعية روحانية أي الفطرة العقيدية ، ويصب ركائز السعادة الواقعية للإِنسان . ( الثاني ) : إن جميع الفطريات الروحية والفضائل الخلقية تستيقظ في ظل القوة التنفيذية للإِيمان ، وتتحقق في الخارج :

ومهما بلغت قيمة الوجدان الأخلاقي ، ومهما خطر دوره في تحقق سعادة الإِنسان ، لكنه إذا لم يكن مستنداً إلى الإِيمان فلا يقوى على حفظ البشرية من التردي والسقوط . وكذلك سائر الصفات الصالحة إن لم يكن لها سند إيماني فانها تندحر أمام الغرائز والميول اللامشروعة في الصراع بينها .

القوانين الطبيعية من سنن الله :

لا شك في أن العالم ثابت على أساس من العلم والنظام الدقيق ،


والحكمة المتناهية ، فكل جزء من أجزاء الكون قد استقر في الموضع المخصص له حسب نظام دقيق وقياس كامل . وهذه الظاهرة بنفسها تعتبر في نظر العلماء سنداً ثابتاً ودليلاً متقناً على وجود المبدأ القادر للعالم . إن الصدفة ( التي يستند إليها الماديون في نظريتهم ) لا علم لها ، ولا قدرة ، ولا حافظة ، ولا وجدان . . . وهي تعجز عن أن توجد هذا النظام العجيب والمحير للعقول .

يشرح الإِمام الصادق عليه‌السلام بعض آثار عظمة الله وقدرته في عالم المخلوقات لتلميذه المفضل الجعفي ، ويستدل بها على وجود الله تعالى ، وفي الأثناء يسأل المفضل من الإِمام عليه‌السلام قائلاً : « يا مولاي ، إن قوماً يزعمون إن هذا من فعل الطبيعة . فقال : سلهم عن هذه الطبيعة ، أي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك ؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق ؟ فإن هذه صنعته . وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد ، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة فاعلم ان هذا الفعل للخالق الحكيم وان الذي سموه طبيعة هو سنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه » (١) .

إن النظام الدقيق والإِنسجام الشامل لإِرجاء الكون ، هو معلول القوانين والسنن المتينة للكون . وهذه النواميس والسنن الكونية تحكم جميع الموجودات ، فهناك القوانين الفلكية التي تنظم آلاف الملايين من الأجرام السماوية ، وتجعل كلاً منها في المدار الخاص به ، أما قوانين الحياة فهي تنظم عالم النباتات والحيوانات والبشر بالدقة المتناهية . لكن هذه القوانين لا تملك أقل إطلاع عن الأعمال العظيمة والمحيرة التي تقوم بها . إن مثل القوانين الطبيعية في النظام والترتيب والجهل بالنشاط الصادر منها مثل الآلة الحاسبة : ففي نفس الوقت الذي تؤدي الآلة الحاسبة عملها مجيبة على المسائل الرياضية لا تعرف شيئاً عن عملها ، إن الآلة الحاسبة لا تعرف أنها تشتغل في

____________________

(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٢ ص ٢١ .


المصرف ، إنها لا تعلم بمدى ضخامة الأعداد التي تجيب عليها بسرعة . إن الآلة الحاسبة تؤدي عملها هذا تبعاً لقاعدة الجبر ، ولا تملك أي إرادة أو إختيار في ذلك . لكن تركيبها الدقيق والنظم يعد أكبر سند متقن وصريح على وجود مهندس عالم كون تلك الآلة بعلمه وقدرته ، وسيرها لأداء هذه المهمة .

كذلك القوانين الطبيعية في العالم التي لا تملك علماً أو إختياراً . وهي تكون دليلاً واضحاً وشاهداً على وجود الخالق الحكيم الذي أوجدها وعين لكل منها واجباً خاصاً .

ولقد رأينا كيف أن الإِمام الصادق عليه‌السلام إستدل عن طريق القوانين الطبيعية على وجود الله تعالى واعتبر ذلك سنداً محكماً على إثباته .

العالم في نظر الالهيين والماديين :

إن الأثر الأول الذي يظهر من إحياء المعرفة الفطرية والإِيمان بالله والذي يقسم الناس إلى صنفين : مؤلهين وماديين ، هو نظرتهم إلى الكون فالإِلهيون يرون أن هذا الكون عبارة عن هيكل عظيم وضخم أسس بعلم الله تعالى وإرادته على أساس المصلحة والحكمة ، أما الماديون فيرون أن الكون عبارة عن مجموعة أوجدتها الصدفة العمياء الصماء ، بلا علم أو إختيار .

الإِلهيون يرون أن الإِنسان موجود ممتاز خلقه الله مع قابلية التعالي والتكامل الذي لا يقف عند حد وسوىّ له طريق التقدم في ظل العقل . أما الماديون فيرون أن الإِنسان وجد على أثر طائفة من العوامل الإِتفاقية وحصل على العقل عن طريق الصدفة ، وصار بهذه الصورة الحاضرة .

الإِلهيون يرون أن الوجدان الخلقي ثروة ثمينة أودعها الله تعالى في باطن الإِنسان لضمان سعادته ، وأن الخالق الحكيم الذي هيأ لكل موجود ما يساعده في التكيف لظروف الحياة هو الذي منح للإِنسان هذه الطاقة الجبارة ( الوجدان ) ليميز في ظلها بين الخير والشر ، ويسير في طريق التعالي النفسي ، والتكامل


الروحي . أما الماديون فانهم يرون أن الوجدان الإِنساني يشبه الإِنسان نفسه في كونه وليداً للصدفة ، وواقعاً على سبيل الإِتفاق .

الإِلهيون يرون أن الإِنقياد إلى أوامر الوجدان إنما هو إنقياد للهداية التكوينية التي أوجدها الله الذي يحب الخير والسعادة للإِنسان ، وهم يرون أن الوجدان الأخلاقي قوة مقدسة ، ومشعل وضاء ، أشعله الخالق العظيم في باطن كل إنسان . ولذلك فانهم ينظرون إلى هذه الثروة العظمية التي هي منحة الله تعالى بعين التكريم والإِحترام . ويرون طريق الساعدة والفلاح منحصراً في تنفيذ أوامرها . أما الماديون فيرون أن الوجدان ـ وهو معلول للصدفة العمياء الصماء ـ لا يتصور له أي إحترام أو تقديس ولا ضرورة في تنفيذ أوامره أصلاً لأنه لم يوجد تبعاً للعلم والمصلحة .

الايمان وإحياء الفطريات :

إن ما لا شك فيه أن إحياء المعرفة الفطرية وسيلة لحسن تنفيذ سائر الفطريات . فالذين يؤمنون بالله إيماناً واقعياً ويعملون على إيقاظ الفطرة التوحيدية في باطنهم ، يصغون إلى نداء الوجدان الأخلاقي بدقة وينفذون أوامره ، لأنهم يرون فيه إلهاماً إلهياً ، وهداية نحو السعادة .

« إن أفراد البشر في أي سن كانوا ، يستجيبون للإِحساس في نشاطهم أكثر من إستجابتهم للمنطق ، وبذلك يطيعون قوانين الحياة الصارمة إذا وجدوها مظهراً لإِرادة الله تعالى لا قوة عمياء . . . برغبة أكثر . ولقد ثبت بالتجربة أن الإِنقياد إلى شخص واحد يكون أفضل بكثير من الإِنقياد إلى قاعدة . إن القوانين الطبيعية التي تخص حفظ الحياة ودوام التكاثر ، والتعالي النفسي تلقى سنداً ونفوذاً أكثر إذا استمدت إلى المشيئة الإِلٰهية » (١) .

____________________

(١) راه ورسم زندكي ص ١٦٩ .


لقد شرحنا في محاضرات سابقة أن الغرائز والهدايات التكوينية في عالم الحيوانات هي التي تخطط لها طريق تكاملها وتقدمها ، وهي مجبرة على الإِنقياد لها ولا توجد هناك رقابة لتنفيذ تلك الخطط من قبل الحيوانات ، أما الإِنسان العاقل والحر في إطاعة الإِلهام الإِلهي ومخالفته ، يستطيع أن ينقاد لتلك الهداية ويسعد بها أو يخالف فيشقى . إن الإِيمان وإحياء المعرفة الفطرية هو الرقيب الصارم لتنفيذ الهدايات التكوينية والفطريات الخلقية . إن القوة الإِيمانية تستطيع أن تحفظ الإِنسان في مزالق الغرائز . وتحثه على إطاعة أوامر الوجدان الأخلاقي والإِلهام الإِلهي .

إن جميع الناس يملكون وجداناً فطرياً . . كلهم يعلمون أن الظلم قبيح ويدركون أن الخيانة سيئة . . الكل يرتاحون للصدق ، ويميلون فطرياً إلى الأمانة والوفاء بالوعد ، كل الناس يستاءون من الخيانة والكذب وبصورة موجزة : فإن الناس جميعاً يدركون حسن وقبح أصول الفضائل والرذائل بوحي من فطرتهم . ولكنهم في مقام العمل قلما يلتفتون إلى نداء الفطرة ، ذلك أن الإِنسان حر في إطاعة أوامر الوجدان أو الخروج عليها فعندما لا يوجد تعارض أو تصادم بين الوجدان والميول النفسانية فان الإِنقياد للوجدان أمر هين . ولكن عندما تستلزم إطاعة الوجدان الأخلاقي التخلي عن بعض الميول الغريزية فهناك تشتد العقدة ، وفي الغالب تنتصر الغريزة ويندحر الوجدان ، إلا إذا كان الوجدان مستنداً إلى الإِيمان وكان الإِعتقاد الحقيقي بخالق الكون يدعم الصفات الإِنسانية .

لقد تعرض الصدّيق يوسف في ريعان شبابه واحرج مراحل نضجه الجنسي ، إلى أخطر مشكلة منافية للعفة والشرف : فقد وقعت امرأة متزوجة في غرامه ، وعرضت عليه الإِتصال الجنسي به . كانا ـ كلاهما ـ بشرين ولكل منهما رصيد ضخم من الميول الجنسية . . . ولكن قوة الغريزة غلبت على عفة المرأة وجعلتها تطاوع رجلاً غريباً في نفسها فاستلمت إلى ميولها بينما نجد أن للقوة الإِيمانية والبرهان الإِلهي الأثر الفعال في الدفاع عن عفة يوسف وصد تيار الغريزة الجارف . وبذلك حفظ شرفه ، واحتفظ على نقاوة ذيله من دنس


الإِنحراف ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (١) .

طغيان الغرائز واندحار الوجدان :

كان عبد الملك بن مروان يعيش حياة هادئة في شبابه ، وكان إنساناً رحيماً وشفوقاً ، يعطف على الناس ، ولا يحاول إيذاءهم ولا يتحدث عن أحد بشرّ ، وكانت رغباته النفسية وميوله الغريزية مخفية ، وذلك لعدم وجود ميدان لظهورها . . . ولم يكن يتصور أنه سيمسك بزمام الحكم في الدولة الإِسلامية الواسعة ويتصرف في مقدرات ملايين الناس في يوم من الأيام .

ومرت الأيام بالتدريج ، حتى ظهرت الأوضاع والتحولات المفاجئة التي أدارت سير الزمن لصالحه . فقد تربع أبوه ( الذي كان والياً في يوم ما على المدينة ثم عزل من ولايته عليها ) على دست الخلافة ، على أثر التطورات السياسية المعروفة ، ونصب ( عبد الملك ) ذلك الشاب العطوف ولياً للعهد . . .

ولم تمض أشهر قليلة حتى دُس السم إلى مروان ومات . . فجلس عبد الملك على كرسي الخلافة بعده . . وهنا استيقظت ميوله وشهواته ووجدت لها مجالاً واسعاً للمبارزة والكفاح .

لقد كان الوجدان يحكم إلى الأمس القريب في سلوك عبد الملك دون معارض أو معاند ، ولذلك كان يجتنب من الظلم والأفعال اللاإنسانية أما اليوم فقد استيقظت غرائزه ، وتعالت ألسنة نيرانها ، حتى اضطر وجدانه إلى الإِنسحاب والإِندحار أمام تلك الأوضاع ، وكأن لم يكن في باطن عبد الملك وارتكبوا الجرائم الفظيعة التي لا حد لها ولا حصر .

يذكر لنا المؤرخون أنه لما أرسل ( يزيد ) جيشاً إلى مكة لقتل ( عبد الله بن الزبير ) كان عبد الملك يقول : ألعياذ بالله أفهل يجهّز أحد جيشاً لمحاربة بيت الله الحرام ؟ ! أما عندما تولى الخلافة بنفسه فقد أرسل جيشاً أعظم بقيادة

____________________

(١) سورة يوسف ؛ الآية ٢٤ .


الحجاج بن يوسف ( المجرم المعروف ) إلى مكة ، وقتل في سبيل ذلك كثيراً من الناس في حرم الله ليقبض على عبد الله بن الزبير وأخيراً فقد حزّ رأسه وأرسله إلى عبد الملك في الشام وعلق جثته على عود المشنقة .

حينئذ يقول عبد الملك : إني كنت أتمانع من قتل نملة ضعيفة أما الآن فعندما يخبرني الحجاج عن قتل الناس لا أجد أي قلق أو تأثر في نفسي ! لقد قال أحد العلماء اسمه ( الزهري ) يوماً لعبد الملك : سمعت أنك تشرب الخمر ! فأجابه نعم والله ، أشرب الخمر وأشرب دماء الناس أيضاً (١) .

ما أكثر الناس من أمثال عبد الملك على مر التاريخ ، وحتى في عصرنا الحاضر ! إن الغالبية العظمى من الناس يتبعون ضمائرهم في الحالات الإِعتيادية ولكنهم عندما تثور غريزة من غرائزهم يسحقون الوجدان بأقدامهم ، ويطلقون العنان لميولهم النفسية ، إلا إذا استكانوا بالإِيمان وتسلحوا به ضد طغيان الغرائز ! . . . ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ، إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ) (٢) .

العقل والغرائز :

والعقل هو الآخر عامل مهم في التلطيف من حدة الغرائز ، وتعديل الميول النفسانية ، فعندما يكون طغيان الغرائز خفيفاً يستطيع العقل إلى حد ما من تخفيف حدتها ، أما عندما يشتد هيجانها ، وتظهر الغرائز بصورة سيل عارم يقتلع كل ما يجد في طريقه فإن سد العقل يتحطم وبذلك يفقد العقل الإِنساني قدرته على المقاومة ، وتندفع نيران الرغبات النفسية كمخزن مشتعل من البارود ، وحينذاك يكون زمام الأمور بيد الشهوة ، تسيطر على الإِنسان وتوجهه كيف تشاء .

وعن أمثال هؤلاء الأفراد يتحدث الإِمام علي عليه‌السلام فيقول : « قد أحرقت الشهوات عقله ، وأماتت قبله ، وأولهت عليها نفسه » (٣) .

____________________

(١) تتمة المنتهى ص ٨٤ .

(٢) سورة يوسف ؛ الآية : ٥٣ .

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٥٣٢ ط إيران .


العلم والغرائز :

يتصور البعض إن إرتفاع المستوى الثقافي ، والتقدم في المدنية قادر على التخفيف من حدة الغرائز الثائرة ، والأخذ بيد الإِنسان إلى الفضيلة والكمال . . . غافلين عن أن قوة التمدن المادية ( أي العلم الفاقد للإِيمان ) عاجزة عن الوقوف أمام تيار الغرائز ، شأنها في ذلك شأن العقل والوجدان ذلك أن الغرائز والشهوات من القوة في سلوك الإِنسان بحيث إنها عندما تثور ، ويشتد ضرامها وتندفع كسيل منحدر من قمة جبل ، تدع العقل والعلم والوجدان كقطع الخشب والأحجار التي تنقلع لأول صدمة ، ثم تتقلب وسط الأوحال إلى أعماق الوادي .

غلبة الغريزة على العلم :

ما أكثر المثقفين والعلماء الذين لا يملكون قوة الوقوف أمام تيار الميول الغريزية والرغبات اللاإنسانية ، ولا يستطيعون ضبط نفوسهم في تلك المواقف ! .

ما أكثر المثقفين الذين يستطيعون تأليف كتاب حول قبح الإِرتشاء وأكل أموال الناس بالباطل ، وإثبات فساد ذلك من الناحية الإِجتماعية والقضائية والإِقتصادية والسياسية والوطنية وغير ذلك من النواحي ، ولكنهم في مقام العمل وفي مرحلة التطبيق ، لا يتورعون من أخذ الرشوة ، ولا ينصرفون عن الدرهم الواحد ! .

ما أكثر المتمدنين الذين يعرفون أضرار الخمرة عن طريق العلم ويعرفون عوارضها المختلفة على الكبد والكلية والأعصاب والجهاز الهضمي ولكنهم لا يستطيعون الإِمتناع عن شربها حتى ليلة واحدة ! .

ولهذا فقد وردت أحاديث كثيرة في ذم العلماء لا يطبقون علمهم وينقادون لأهوائهم . . . منها :

١ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « العلماء عالمان : عالم عمل بعلمه فهو ناج ، وعالم


تارك لعلمه فقد هلك » (١) .

٢ ـ وقد ورد أيضاً : « أوحى الله إلى داوُد : لا تسألني عن عالم قد أسكره حب الدنيا ، فأولئك قطاع الطريق على عبادي » (٢) .

٣ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا أبا ذر ، إن شر الناس عند الله يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه » (٣) .

٤ ـ وفي حديث آخر : « أشد الناس عذاباً في القيامة ، عالم لم يعمل بعلمه ، ولم ينفعه علمه » (٤) .

إن نسبة الجرائم والجنايات تزداد يوماً بعد يوم في الأمم المتمدنة في العالم بالرغم من الرقابات البوليسية الشديدة والعقوبات القانونية . . . وهذا هو أجلى شاهد على أن التمدن والرقي وارتَفاع مستوى الثقافة عاجز بوحده من مقاومة طغيان الغرائز ودفع الإِنسان إلى التمسك بالفضائل والمثل الإِنسانية ولحسن الحظ فإن علماء الغرب أنفسهم يعترفون بهذا ! .

« إن الأعمال التخريبية التي يرتكبها كثير من الناس بمجرد إضمحلال بعض القيود والموانع الإِجتماعية تثبت أنه ان كان الأفراد يعيشون في المجتمع ويجدون المدنيات المختلفة ، لكنهم ليسوا متمدنين ».

« هذه الأكثرية بهذا المعنى ليست متمدنة ، حيث تحترم مظاهر المدنية تحت ضغط الرقابة الإِجتماعية فقط » (٥) .

الهمجية في لباس التمدن :

لقد كان العالم المتمدن يرفع عقائر السلام والرخاء والإِنسانية قبل الحرب

____________________

(١) لئالي الأخبار ص ١٩٢ .

(٢) المصدر السابق ص ١٩٢ .

(٣) نفس المصدر .

(٤) مجموعة ورام ج ١ ص ٢٢٠ .

(٥) انديشه هاي فرويد ص ١١٦ .


العالمية . ولكنه عندما إندلعت نيران الحرب إنفجرت القنابل واضطرمت نيران المعارك الدموية وتحطمت الهياكل الجوفاء للمدنية وفقدت زينتها الظاهرة . . . وحينذاك ظهر العالم المتمدن في ثوب الهمجية والفوضوية ـ أي لباسه الواقعي ـ فقد استولت سحب الإِجرام وسفك الدماء على سماء العالم وحل الحقد والإِنتقام محل الضحكات المتصنعة في وجوه الجماهير المتمدنة ! .

« التبعيد ، والقتل العام للمدنيين ، ومعسكرات العمل الإِجباري ( التي لم يكن ينتشر فيها الجوع والأمراض السارية فحسب ، بل كانت تستعمل فيها مختلف وسائل التعذيب والقمع والإِرهاب ) ، والتدمير الشامل اللامعقول بالقنابل . . . كل هذه الوسائل كانت تستعمل كأساليب طبيعية واعتيادية في الحرب . ولذلك فقد كان الخوف والاضطراب مستولياً على العالم أجمع في الحرب العالمية الثانية ، وهكذا اختفت مظاهر إحترام الحياة والمثل الإِنسانية ، والقيم الأخلاقية في كل مكان » (١) .

لقد كان فرويد ( وهو الذي يبدي مخالفته الصريحة للتعاليم الدينية والعقائد الإِلٰهية ) قبل الحرب يأمل إنتشار التعليم والقوانين التربوية وأصول المدنية الحديثة حتى تستطيع أن تحل محل الدين في أفكار العامة وبذلك يوصل البشرية إلى الكمال المنشود لها . . . إنه يقول :

« إن ما لا شك فيه أن الدين قد قدم خدمات مهمة إلى الإِنسانية والمدنية نظراً للدور الكبير الذي لعبه في تهدئة الغرائز غير الإِجتماعية ، ولكنه لم يستطع أن يتقدم في هذا المجال بالمقدار الكافي » (٢) .

إن فرويد يوصي بما يلي : ـ

« من المستحسن أن نختبر منهاجاً تربوياً غير ديني ، فيعوَّد الناس

____________________

(١) المصدر السابق ص ١١٧ .

(٢) المصدر السابق ص٩٦ .


على غض النظر عن هذه التسلية ، ولأجل أن يثبتوا أمام الأخطار والصدمات معتمدين على أنفسهم فقط ، عليهم أن يهجروا هذا الملجأ » .

إنه يعتقد بأن :

« الفرد يستطيع في هذه الصورة فقط أن يكون إنساناً راشداً ، وسيبدأ الكفاح مع القوى الشريرة في الطبيعة » (١) .

أوهام فرويدية :

كان فرويد يعتقد قبل بدء الحرب العالمية بارتفاع المستوى الأخلاقي للأمة في ظل المدنية ، إنه كان يتصور أن الإِنسان يستطيع في ظل المدنية الحديثة وأصول التربية المادية أن يصل إلى طريق الفضيلة القيم العليا ، لكن إندلاع نيران الحرب والجرائم التي وقعت فيه هزت أفكار فرويد ، وقلبت تفكيره رأساً على عقب ، فاعترف بأوهامه السابقة وتفكيره الخاطىء . . . وراح يقول :

« ولقد أدت مشاهدة الأعمال التي نتصورها غير مطابقة للمدنية ، وما نتج من هذه الأعمال الوحشية من نظرتنا إلى البشر على أنهم مجرمون إلى أن نغرق في الألم والتأثر واليأس . ولكن هذا اليأس والألم ليسا وجيهين في الحقيقة ، وذلك أنا نعتبر سكان العالم لهذه الجهة منحطين وقد كنا مخطئين في نظرتنا إليهم قبل الحرب على أنهم في مستوى أخلاقي ومعنوي أعلى مما هم عليه » (٢) .

« بعد سرد هذا البيان الموجز الذي يوضح فرويد فيه ضرورة وقوف المدنية أمام الإِعتداءات البشرية يستنتج أن الجهود والمحاولات المبذولة في هذا السبيل لحد الآن لم تكن مثمرة كما ينبغي ، ولا تزال الإِعتداءات موجودة خلف أستار المجتمع » .

____________________

(١) نفس المصدر ص ٩٧ .

(٢) انديشه هاى فرويد ص ١١٧ .


« هناك كثير من المتمدنين الذين يستاؤن من تصور إرتكاب القتل أو الإِتصال الجنسي مع المحارم ولكن هؤلاء أنفسهم لا يعرضون عن إرضاء جشعهم وحرصهم واعتدائهم واطماعهم الجنسية » .

« إنهم إذا استطاعوا الفرار من العقاب ، فسيلحقون الأذى بالأفراد الآخرين عن طريق الكذب ، والخداع ، والإفتراء ، وما شاكل ذلك . . . » (١) .

« إن الحكومة تعتبر جميع الأمور المخالفة للعادة والإِعتداءات الأُخرى التي لا يسمح بها في الأوقات الإِعتيادية مباحة في حال الحرب . « ولذلك فإن الحكومة لا تكتفي بالإِستعانة بالمكر والحيلة لمواجهة العدو فقط ، بل لا تتمانع من الكذب العمد . ولقد لوحظ أن الكذب والتزوير كانا رائجين في الحرب العالمية بصورة غير مألوفة قبلاً » (٢) .

التمدن الفاقد للايمان :

إن المدنية المادية وأساليب التعليم والتربية التي لا تستند إلى الإِيمان تعجز عن أن تقاوم الغرائز عند طغيانها وتحمي البشرية من السقوط والإِنهيار.

إن الحرب العالمية كشفت اللثام عن الوجه الحقيقي للمدنية بجرائمها التي تضمنتها والإِعتداءات التي ارتكبت في أثنائها . وأثبتت أن وراء ستار المدنية الزائفة هيكل موحش سفاك تهتز الإِنسانية من تصوره ، وتخجل أشد أمم العالم وحشية من سماعه .

إن أقوى وأسلم قوة تستطيع صد هجمات الغرائز والسيطرة عليها ، وتتمكن من تلطيف حدة المشاعر . . هي قوة الإِيمان بالله . فالإِيمان قادر على أن يقاوم كل الميول والرغبات اللامشروعة وينتصر عليها . . . القوة الإِيمانية

____________________

(١) المصدر نفسه ص ١٢٣ .

(٢) المصدر نفسه ص ١٢٥ .


تحفظ الإِنسان في أخطر لحظات الإِنحراف والإِنزلاق في الحياة وتمنع من سقوطه . الإِيمان بالله قوة لا تغلب ولا تدحر ، وملجأ لا يتحطم ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ) .

إن أهم طابع يميز مدرسة التربية الإِسلامية عن غيرها من الأساليب التربوية البشرية هو ( الإِيمان بالله ) .

يشترك الإِسلام وعلماء الأخلاق في دعوة الناس إلى الصلاح والاستقامة لكن الفارق بينهما هو أن العلماء والقائمين على شؤون التربية يهتمون قبل كل شيء بالسلوك الظاهري للأفراد ، ويحاولون أن يربوا أفراداً مطيعين للقانون ، ولا شأن لهم أو دخل في أسلوب تفكيرهم . أما الهدف من التربية في الإِسلام فهو أن يتربى الأفراد ، مضافاً إلى إستقامة سلوكهم على التفكير السليم ، وأن لا يحاولوا إلا الصلاح والخير .

النوايا الصالحة :

تهتم الدول المتمدنة والمدارس التربوية في العالم بالسلوك الصحيح للإِنسان فقط . أما المذهب التربوي للإِسلام فهو يهتم بالنوايا الصالحة والطاهرة للأفراد أكثر من أفعالهم الصالحة .

يقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نية المؤمن خير من عمله » (١) .

وعن الإِمام الصادق عليه‌السلام ضمن حديث طويل : « والنية أفضل من العمل . ألا وان النية هو العمل ، ثم تلا قوله عز وجل : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ ) يعني : على نيته » (٢) .

إن الفرد المنقاد للقانون والمطبق للتعاليم الأخلاقية يعد في الدول المتمدنة فرداً صالحاً ومواطناً شاعراً بمسؤوليته ولو كان شعوره الباطن منحرفاً وسيئاً ، أما المذهب الإِسلامي فيرى أن المسلم الواقعي

____________________

(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ ص ٨٤ .

(٢) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ١ ص ٦ .


والشاعر بمسؤوليته هو الذي يعتقد بأساس الإِسلام وتعاليمه القانونية والأخلاقية بالدرجة الأولى ، ويعتبر ذلك كله دستوراً إلهياً ، ومنهجاً قويماً لسعادته ونجاته ، ثم يطبق تلك التعاليم وينفذ تلك الأوامر بالدرجة الثانية .

يتحدث المدعي العام للمحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية ـ الذي يعد من الشخصيات العلمية البارزة هناك ـ عن هذا الموضوع فيقول :

« للقانون الأمريكي صلة محدودة بتطبيق الواجبات الأخلاقية . ففي الحقيقة يمكن أن يكون المواطن الأمريكي إنساناً منحطاً وفاسداً من الناحية الخلقية . في نفس الوقت يمكن أن يكون فرداً مطيعاً للقانون . ولكن الحال على عكس ذلك في القوانين الإِسلامية التي تنبع من إرادة الله ، الإِرادة التي كشفت لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا القانون وهذه الإِرادة الإِلٰهية يعتبران جميع المؤمنين مجتمعاً واحداً حتى لو كانوا من قبائل وعشائر مختلفة وموجودين في بلدان متباعدة ومتفرقة . إن المؤمن ينظر إلى هذا العالم على أنه ممر يوصله إلى عالم أرقىٰ وأفضل وإن القرآن قد نظم القواعد والقوانين وأساليب سلوك الأفراد بالنسبة إلى بعضهم البعض وبالنسبة إلى المجتمع بصورة عامة كي يضمن ذلك التحول السليم من هذا العالم إلى العالم الآخر » (١) .

العمل المستند إلى الايمان :

يستند أساس السعادة الإِنسانية في الإِسلام إلى دعامتين ، الأولى : الإِيمان ، والأُخرى : العمل الصالح . ولقد ورد التصريح بهذا الموضوع في القرآن الكريم في موارد عديدة بصورة : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ونظائرها . والنكتة التي تجلب الإِنتباه هنا هي إن الإِيمان مقدم على العمل الصالح دائماً ، ذلك أن الإِسلام يرى أن الأعمال الصالحة يجب أن تستند إلى

____________________

(١) مقدمة كتاب ( حقوق دار إسلام ) ص ج .


الإِعتقاد الحقيقي ، وتنبع من منبع الإِيمان وهذا بنفسه هو أجلى صورة للمذهب الإِسلامي بهذا الصدد فيما ذكرناه .

إن الأعمال الصالحة التي يكون لها منشأ روحاني وأساس إيماني ثابت في أعماق قلب صاحبها تشبه الشجرة النضرة التي تمتد جذورها في أعماق التربة ، وتستمد حيويتها وطراوتها من الغذاء الذي تتناوله عن طريقها .

الرياء والتظاهر :

أما الأعمال الصالحة التي لا تملك أساساً إيماناً ثابتاً ، بل يكون منشؤها هو الرياء والتظاهر أمام الناس ، أو العادة الإِجتماعية . . . لا تبقى ثابتة أبداً ، بل هي معرضة للزوال أمام أبسط عامل مخالف .

إن الإِحسان إلى الناس وإعانة الضعفاء من الأعمال الصالحة فمن يقوم بهذا العمل المقدس امتثالاً لأمر الله واحتراماً للإِيمان ، يعمل في كل مكان وبلا أي منة بل يكون رائده الاخلاص وجلب رضى الله دون النظر إلى مدح الناس وإطرائهم أما الذي لا ينبع له إحسانه من رصيد إيماني بل يكون دافعه إلى ذلك ظروف المحيط ، والتظاهر أمام الناس ، وانتشار أمره في الصحف والمجلات ، فبمجرد أن تنتفي ظواهر الإِطراء والمدح وتنقطع المجلات عن الحديث عنه ، أو يجهل الناس إحسانه نجد أنه يتقاعس عن الإِحسان ، أو يتخلى عنه تماماً :

يقول بعض الملحدين الذين يتميزون بصبغة أخلاقية : لما كانت المشكلة الأساسية هي إطاعة القوانين الأخلاقية فاننا لو استطعنا تنفيذ هذه القوانين لأصبحنا في غنى عن الدين . هذا التفكير إنما هو علامة الجهل السيكولوجي ذلك أن الإِنسان يشكك دائماً في قيمة القواعد التي لا يعرف منشأها ، مضافاً إلى أن سلوكها كهذا دليل على عدم فهم المشكلة نفسها . لأن المقصود أن يتكامل الإِنسان في باطنه أولاً كي يستطيع التفكير بصورة أخلاقية ، ليس الهدف ان نحث الإِنسان على أن يؤدي حركات أخلاقية . فما لم يكن سلوك كل فرد مرآة تعكس تكامله العميق الداخلي ، فإن عملياته تعد سلسلة من التحديدات المتصنعة والموقتة التي تزول بأبسط مبرر ، إن القواعد الأخلاقية إذا


فرضت على الإِنسان فرضاً فمهما كانت قيمتها العملية عالية ، لكنها لا تستطيع أن تكافح الميول الحيوانية بصورة موفقة » (١) .

« يرى بعض الكتاب أنهم أجلّ من أن يحتاجوا إلى المقررات والأنظمة الدينية والأخلاقية ، ولا يعتقدون بقيمتها المطلقة . إن سيطرة هؤلاء الأشخاص وانتشار آثارهم يمكن أن تكون هدامة . ولكن الغالبية منهم يغفلون عن هذه الحقيقة . إنهم يسندون أفكارهم إلى كلمات بعض الفلاسفة الكبار التي قرأوها بصورة سطحية أو لم يقرأوها أصلاً ، فيرون أن ( فولتير ) و ( داروين ) كانا ملحدين والحال أن هذا مخالف للحقيقة . ولإِثبات هذا الإِدعاء ننقل نصاً لفولتير في موسوعته الفلسفية . . . » .

« ما الذي نستنتجه مما مر ؟ ! إن الإِنسان الملحد وحش كاسر ! » .

« إن بعض المهندسين الجاهلين للفلسفة ينكرون العلل الغائية ، ولكن الفلاسفة الحقيقين يذعنون لها . وكما يقول كاتب معروف : إن كتاب الدعاء هو الذي يعرف الله للأطفال ، بينما يثبت ( نيوتن ) وجود الله للمثقفين » .

« إن الإِلحاد هو العيب المهم في عدة قليلة من الأذكياء والخرافة عيب الحمقى » (٢) .

الايمان والقيام بالواجب :

إن المؤمنين بالله العظيم ، والذين يعمر قلوبهم العشق الإِلهي ، يسعون في القيام بواجباتهم ، والأعمال الصالحة بشوق ونشاط لا يتطرق الملل والكلل

____________________

(١) سرنوشت بشر ص ٢١٦ .

(٢) المصدر السابق ص ١٥٦ .


إليهما . . . ولا يتسرب إلى نفوسهم الرياء . . . إنهم يعملون لله وحده ولا ينتظرون الجزاء إلا من عظمته.

« عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) . قال : ليس يعني أكثر عملاً ، ولكن أصوبكم عملاً ، وإنما الإِصابة خشية الله ، والنية الصادقة والحسنة ثم قال الإِبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل . والعمل الخالص : الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل » (١) .

الايمان وتعديل الغرائز :

إن من أهم نتائج الإِيمان الواقعي بالله ، السيطرة على زمام الغرائز الثائرة ، وضبط الرغبات اللامشروعة ، فعندما يتحطم سد العقل والعلم والوجدان ، ويفقد مقاومته أمام الضربات القاصمة للغرائز ، يثبت الإِيمان بالله في قوته رصيناً وطيد الأركان . . . ويمنع من إسراف الغرائز ، ويحفظ صاحبه من السقوط الحتمي ، وقد اعتبر ذلك من علائم المؤمن في الروايات الإِسلامية .

« عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنما المؤمن ، الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل ، وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحق ، والذي إذا قدر لم يخرجه قدرته إلى التعدي إلى ما ليس له بحق » (٢) .

لقد أشار هذا الحديث إلى ثلاثة ميول غريزية يعد كل منها مهواة سحيقة للإِنسان . فما أكثر الناس الذين يرتكبون جنايات عظيمة إستجابة لإِحدى الرغبات النفسية . أما الرجال المؤمنون فانهم يستطيعون في المواقع الحساسة بمساندة القوى المعنوية أن يحفظوا أنفسهم من التلوث والدنس .

يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ضمن حديث طويل في بيان علائم

____________________

(١) الكافي للكليني ج ٢ ص ١٦ .

(٢) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ١٥ ص ٩٤ .


المؤمن : « لا يحيف في حكمه ولا يجوز في عمله ، نفسه أصلب من الصلد ، حياؤه يعلو شهوته ، ووده يعلو حسده ، وعفو يعلو حقده » (١) .

الايمان والعزم :

يشير الإِمام علي عليه‌السلام في هذه الجمل بعد الإِشارة إلى الروح الصلبة والعزم الحديدي للمؤمنين إلى أن غريزة الشهوة والحسد والإِنتقام مكبوتة في نفوس الأشخاص المؤمنين . وأن القوة الإِيمانية تمنع من إسراف الرغبات المضطربة وهيجانها أكثر من الحد المقرر .

« عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب : رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه أن يحيف على من تحت يده ، ورجل مشى بين إثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة . ورجل قال بالحق في ما له عليه » (٢) .

في هذا الحديث يبين الإِمام الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبة الإِيمان على الميول النفسانية في ثلاثة أفراد .

وللرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان آخر يتضمن بعض صفات المؤمن فيقول : « . . مشمولاً بحفظ الله ، مؤيداً بتوفيق الله ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم في من يحب ، لا يجور ولا يعتدي ، لا يقبل الباطل من صديقه ، ولا يرد الحق على عدوه » (٣) .

إن المؤمنين بخالق الكون هم الرجال الأحرار في العالم وليس للميول النفسانية والحقد والبغضاء طريق إلى نفسوهم ، أو مكنة في الإِنحراف بهم عن السلوك الصحيح والطريق المستقيم .

____________________

(١) المصدر السابق ج ١٥ ص ٩٧ .

(٢) وسائل الشيعة للحر العاملي ج ٤ ص ٣٨ .

(٣) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ١٥ ص ٨٢ .


الايمان والهدوء النفسي :

إن الأثر الثاني للإِيمان بالله يظهر الهدوء النفسي . إن المؤمنين الحقيقيين مضافاً إلى قدرتهم على تعديل غرائزهم وشهواتهم بفضل الإِيمان يقدرون على الإِحتفاظ بشخصيتهم أمام هجوم الحوادث ، وقبال الضربات الشديدة التي توردها المصائب وآلام الحياة عليهم . فلا يصابون بأي إضطراب أو قلق تجاهها .

لقد حاصرت الحوادث والمفاجئات الطبيعية في العالم مثل الموت والمرض والزلزال والفيضان ، وما شاكل ذلك ، البشر من جهة ، والإِخفاقات وحالات الفشل والإِنهيار في الحياة من جهة أُخرى . . . بحيث تلاقي جميع الطبقات الإِجتماعية الأمرّين من تلك المصائب والويلات .

وكما تخطو البشرية في مجالات المدنية ، وتزداد مباهج الحياة يوماً بعد يوم وتفتح العلوم الطبيعية أبواباً جديدة للذة على العالم كلما تتعقد المشاكل الإِجتماعية وتتحرك حوافز الحرص والجشع وتثور دوافع حب المال والجاه ويطول الأمل ، ويشتد السعي وراء اللذة ، وتكثر الرغبات النفسانية . ومن الطبيعي في حالة كهذه ان تزداد الإِخفاقات والإِنهيارات الروحية ويسود القلق والاضطراب على العالم .

مرض القلق :

لقد أدى القلق والاضطراب النفسي إلى تحويل ثلة كبيرة من المتمدنين المعاصرين في العالم إلى مرضى ، وهذا المرض المؤلم قد سلب راحة المصابين به من الرجال والنساء .

فنجد البعض منهم يستعينون للحصول على نوم بضع ساعات والاستراحة بأقراص مخدرة ومنومة ، أما في اليقظة فصراع دائب مع الآلام الباطنية والقلق المستمر ! .

والبعض الآخر يلجأون لنسيان أنفسهم لبعض الوقت ، والتخلص من شر


القلق الداخلي إلى إستعمال المشروبات الروحية والحشيشة وبعملهم هذا يهدمون صرح سعادتهم وسلامتهم .

أما القسم الآخر فانهم قد فقدوا القدرة على المقاومة بالتدريج على أثر الضغط الروحي المتواصل والقلق المستمر إلى حيث الإِصابة بالأمراض النفسية أو الجنون ، وقضاء ما تبقى من العمر في مستشفيات المجانين بأسوأ حال وأشنع صورة ! .

وهناك طائفة تأزمت حالتها تجاه المضايقات الروحية المستمرة إلى درجة أنها أفلتت عنان الإِختيار من يدها ، وأقدمت على الإِنتحار هرباً من القلق والألم ، وبهذا الوضع المزري ينهون تلك السلسلة من الإِضطرابات .

لقد إهتم قسم كبير من علماء النفس في الآونة الأخيرة بمعالجة مرض القلق الهدام ، وألفوا في ذلك انكتب المختلفة ، وتوصلوا إلى معالجة المصابين به عن طريق الإِيحاء ، والتحليل النفسي ، وحل العقد النفسية . . . إن ما لا شك فيه أنهم تحملوا جهوداً كبيرة في هذا السبيل وتوصلوا إلى نتائج مفيدة . . . ولكن تلك النتائج ضئيلة ، ولا يزال يتضاعف عدد المصابين بالأمراض النفسية يوماً بعد يوم .

إن الغارق في بحر القلق والاضطراب الشديد لا يجد من نفسه حافزاً لقراءة الكتب العلمية النفسية ، ولا يملك القدرة على فهم تلك القواعد المجردة ، كي يستطيع تنفيذ تلك الوصايا ، وتخليص نفسه من القلق والاضطراب .

الايمان وعلاج القلق :

هنا يظهر دور الإِيمان الكبير في علاج مرض القلق . فإن المؤمنين يستندون إلى الله تعالى في مد الحياة وجزرها ، ويستعينون بألطافه وعناياته باستمرار ، ولذلك فهم يملكون أرواحاً قوية ، ونفوساً تتحدى التحطيم ، ولا يفشلون أمام تقلبات الحياة .


. . . ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا : رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ، فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (١) . إن المؤمن لا يشعر بالصغار والذلة أبداً لأنه يجد أنه يستند إلى أعظم قوة في الوجود ذلك هو الله تعالى ( أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) (٢) .

وقد ورد عن الإِمام الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : ( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ) قوله عليه‌السلام : « هي الإِيمان بالله وحده لا شريك له » (٣) .

كما أن حديثاً آخر يسند هذا الموضوع ، ذلك أن الراوي يقول : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله عز وجل : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال : هو الإِيمان . قال : قلت ( وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ) ؟ قال : هو الإِيمان . وعن قوله : ( وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ ) ؟ قال : هو الإِيمان » (٤) .

لقد ورد التعبير عن الهدوء النفسي ، والإِرتياح الباطني عند المؤمنين في القرآن الكريم بعبارات مختلفة . ولقد قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة بتفسير ذلك كله بالإِيمان . . . فالإِيمان هو القوة الرصينة والقدرة التي لا تزلزل والتي إذا حلت في كل قلب ، لم يُصب ذلك القلب بقلق أصلاً ، بل يستطيع أن يثبت في أحرج المواقف .

« يقول ويليام جيمس أبو علم النفس الحديث وأُستاذ الفلسفة في جامعة ( هارفرد ) : إن أشد العقاقير تأثيراً في رفع القلق هو الإِيمان بالله والإِعتقاد الديني » (٥) .

« إن الإِيمان هو أحد القوى البشرية التي يحيا الإِنسان بمددها ، وإن فقدانها الكامل يعني سقوط الإِنسانية » (٦) .

____________________

(١) سورة الأحقاف ؛ الآية : ١٣ .

(٢) سورة الرعد ؛ الآية : ٢٨ .

(٣) الكافي ج ٢ ص ١٤ .

(٤) المصدر السابق ج ٢ ص ١٥ .

(٥) دع القلق وابدأ الحياة ص ١٥٩ .

(٦) نفس المصدر ١٥٥ .


تشكل القيمة المعنوية للإِيمان ، وآثاره العجيبة في قلوب المؤمنين ، فصلاً مستقلاً من فصول علم النفس الحديث في العالم ، ذلك أن كثيراً من الأطباء النفسانيين يستفيدون من قوة الإِيمان في حل أعقد العقد النفسية عند المصابين ! .

الالحاد والقلق :

يعترف العلماء المعاصرين بأن قسماً مهماً من الإِضطرابات الباطنية والأمراض النفسية والانتحارات منشؤها فقدان الإِيمان .

« في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ معدل الإِنتحار عملية إنتحار واحدة كل (٣٥) دقيقة ، ويصاب في كل دقيقتين شخص بالجنون ، وإذا كان لهؤلاء نصيب من الهدوء والإِطمئنان اللذين يبعثهما الدين والعبادة للإِنسان كان من الممكن أن يمنع ذلك من حدوث أكثر هذه الإِنتحارات والإِصابات بالجنون » .

« يقول الدكتور ( كارل جونك ) أشهر الأطباء النفسانيين في أحد كتبه : لقد راجعني في طي الثلاثين عاماً الأخيرة أُناس من جميع الدول المتمدنة في العالم . وقد عالجت مئات المرضى ، ولم يوجد بين جميع هؤلاء المرضى الذين كانوا يقضون النصف الثاني من حياتهم أي الذين تزيد أعمارهم على الخمس والثلاثين سنة ، لم يوجد بينهم واحد لم ترتبط مشكلته بوجدان عقيدة دينية في الحياة في نهاية الأمر . ولذا استطيع القول بكل تأكيد أن كلاً منهم كان قد تمرض لفقدانه ما تهبه الأديان الحية في كل عصر لاتباعها . وإن الذين لم يسترجعوا عقائدهم الدينية لم يوفقوا للعلاج أصلاً » (١) .

____________________

(١) دع القلق وابدأ الحياة ص ١٥٤ .


إيمان الأنبياء :

إن أجلى مثال للإِيمان وآثاره العجيبة يمكن مشاهدته في تاريخ الأنبياء إنهم قاموا في ظروف شديدة ومعقدة جداً ، مليئة بالأخطار والمشاكل ، وكانوا يتعرضون للموت في كل لحظة ، ولكنهم استمروا على بث دعوتهم بلا أي اضطراب أو قلق ، ذلك أنهم كانوا مؤمنين بالله وكانوا يرون أنفسهم في حماه وتحت كنفه .

ولقد تعلم إتباع الأنبياء دروس الهدوء النفسي من قادتهم فراحوا في ظل إيمانهم بالله أقوياء إلى درجة أنهم لم يتزعزعوا أمام الحوادث والمصائب التي يلاقونها ، فلا يقعون فريسة القلق والاضطراب . . . كان نظرهم متجهاً في الحرب والسلم ، في الفقر والغنى ، في الموت والمرض . . . وفي كل الحالات إلى الله تعالى ، متطلعين إلى رحمته وكرمه . وعلى سبيل المثال نذكر قصة هذه الإِمرأة المسلمة : ـ

« خرجت مع صديق لي بالبادية فأضللنا الطريق ، فإذا رأينا في يمين الطريق خيمة فقصدناها فسلمنا ، فإذا امرأة ردت علينا السلام ، فقالت : من أنتم ؟ قلنا : ضالين قصدناكم لنأنس بكم . فقالت : أديروا وجوهكم حتى أعمل من حقكم شيئاً . ففعلنا ، فبسطت لنا مسحاً ، وقالت : إجلسوا حتى يجيء ابني وكانت ترفع طرف الخيمة وتنظر فرفعتها مرة ، فقالت : أسأل الله بركة المقبل ، وقالت : أما الناقة فناقة ابني ، وأما الراكب فليس هو . فلما ورد الراكب عليها قال : يا أم عقيل عظم الله أجرك بسبب عقيل قالت : ويحك مات عقيل ؟ ! قال : نعم . قالت : بما مات ؟ قال : ازدحمته الناقة وألقته في البئر ، فقالت له : إنزل وخذ زمام القوم . فقربت إليه كبشاً فذبحه وصنعت لنا طعاماً ، فشرعنا في أكل الطعام ونتعجب من صبرها فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت : أيها القوم أفيكم من يحسن في كتاب الله شيئاً ؟ قلت : بلى ! « قالت : إقرأ علي آيات أتسلى بها من موت الولد قلت : الله عز وجل يقول : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ . . . الْمُهْتَدُونَ ) قالت : الله هذه


الآية في كتاب الله هكذا ؟ قلت : أي والله إن هذه الآية في كتاب الله هكذا فقالت : السلام عليكم فقامت وصلت ركعات ثم قالت : أللهم إني فعلت ما أمرتني به ، فانجز لي ما وعدتني به » (١) .

أي قوة غير الإِيمان بالله قادرة على تهدئة خاطر امرأة ثكلى بهذه السرعة والسلامة ؟ ! .

أي قدرة غير الإِعتقاد الديني تستطيع إطفاء لهب الحزن والويل من روح أم أصيبت بموت ولدها الشاب ، بهذه الفورية ؟ ! ! .

إحياء الفطرة الأولى :

نعود فنلخص ما ذكرناه فيما سبق ، وهو أن الإِيمان بالله إحياء لأولى القوى الفطرية عند الإِنسان . . . إن الإِيمان بالله كفيل بتنفيذ أوامر الوجدان الأخلاقي . . . وهو أعظم ملجأ للإِنسان ، وأكبر عامل للهدوء النفسي وإطمئنان الخاطر . . . وبصورة موجزة ، فهو أهم أسس السعادة البشرية وأولى المواضيع التي اهتم بها الأنبياء في دعوتهم .

إن المربي الكفء والقدير هو الذي يلفت نظر الطفل منذ الصغر نحو الله تعالى ، ويلقنه درس الإِيمان به بلسان ساذج بسيط . إن على المربي القدير أن يتحدث إلى الطفل عن رحمة الله الواسعة إتباعاً لمنهج القرآن الكريم ويبذر في نفسه بذور الأمل ، ويفهمه أن اليأس من روح الله ذنب عظيم .

يجب أن يعرف الطفل منذ الصغر أن لا ييأس أمام حوادث الزمان ، فالله قادر على حل مشاكله وتيسير أموره ، فإن رفعنا يد الحاجة نحوه ساعدنا على مهمتنا .

على المربي أن يفهم الطفل أن أعظم الواجبات الإِنسانية هو جلب رضى

____________________

(١) لئالي الأخبار ص ٣٠٥ الطبعة الحديثة .


الله ، وإن رضى الله يكمن في إطاعة أوامره التي بعثها إلينا ، عن طريق نبيه العظيم ، إن الصدق والأمانة يسببان رضى الله ، والخيانة تسبب غضبه .

يجب على المربي أن يوقظ الإِحساس بالمسؤولية أما الله في الطفل منذ الطفوله ويحثه على الشعور بواجبه ، وإشعاره بالأسلوب البسيط إن الله يراقبك في كل حال ويطلع على أفعالك الصالحة والطالحة ، ولا يخفى شيء على الله . . . إنه يجازيك على حسناتك ويعاقبك على سيئاتك .

إن الآباء والأمهات الذين يحيون الفطرة الإِيمانية عند الطفل ، ويربونه مؤمناً منذ الصغر ، فانهم يصبون ركائز سعادته بذلك من جهة ، ويكونون قد قاموا بأول واجباتهم في التربية من جهة أُخرى .


المحاضرة الخامسة عشرة

التربية في ظل العدل والحرية

قال الله تعالى : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ، وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (١) .

حب الكمال :

من الأُمور الفطرية عند الإِنسان ، والتي يمكن أن تكون أساساً ثابتاً لتربية الطفل : غريزة التفوق ، وحب الكمال . إن الرغبة في الترقي والتعالي تعتبر من فروع حب الذات المودع في فطرة كل إنسان . وعلى المربي القدير أن يستغل هذه الثروة النفسية ، ويقيم شطراً من الأساليب التربوية الصحيحة على هذا الأساس ، فيسوق الطفل إلى طريق الترقي والتعالي .

لقد ورد بهذا الصدد حديث عن الإِمام الحسن عليه‌السلام . . . « إنه دعا بنيه وبني أخيه ، فقال : إنكم صغار قوم ، ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين ، فتعلموا العلم . . . فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته » (٢) .

____________________

(١) سورة آل عمران ؛ الآية : ١٥٧ .

(٢) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ١ ص ١١٠ .


في هذا الحديث نجد أن الإِمام الحسن عليه‌السلام ، لأجل أن يحث أبناءه وأبناء أخيه على إكتساب العلوم ويشجعهم على ذلك يستفيد من حب الذات والترقي عندهم ـ وهو أمر فطري ـ من دون أن يتوسل إلى الزجر والأساليب المخيفة ، ويفهمهم أن تحصيل العلم في اليوم ، سبيل الوصول إلى العزة والعظمة في الغد .

إن الأسلوب المستعمل في هذا الحديث يعد من أعظم الأساليب في مجال التعليم والتربية في العصر الحديث ، فكل أسرة تستطيع أن تشجع أبنائها على تحصيل العلوم بهذا الأُسلوب ، وتدفعهم منذ البداية إلى التعالي والترقي فإن الأطفال يسعون وراء العلم بدافع ذاتي في ما بعد ، ولا يحتاجون إلى التهديد والتعقيب .

التكامل في ظل الحرية :

والنكتة الجديرة بالملاحظة هي أن الإِرضاء الصحيح لغريزة حب التفوق والوصول إلى الكمال الحقيقي يمكن أن يتحقق في ظل الحرية والعوامل المساعدة فقط ، وبدونها لا يكون نيل الكمال الواقعي ميسراً وبعبارة أوضح : إن الإِنسان يستطيع السعي وراء الكمال وإرضاء الميول الباطنية بالنسبة إلى بلوغ طريق التعالي في الصورة التي يكون طريق التقدم مفتوحاً أمامه ، ولا تعتاقه العوارض والموانع ، فما أكثر الثروات النفسية التي ظلت عاطلة وفاقدة للأثر ، لعدم حصولها على العوامل المساعدة ، وما أكثر الأشخاص الذين يصطدمون في طريق إحياء إستعداداتهم الفطرية بالموانع الطبيعية أو الشخصية أو الإِجتماعية أو السياسية ويقفون عندها محرومين من السير في مدارج الكمال والرقي .

إن زهرة صغيرة إذا لاقت عوامل مساعدة ، وجواً طليقاً وغذاء كافياً تتفتح أكمامها ويفوح عطرها . . . وكذلك تكون الإِستعدادات الداخلية عند الإِنسان فانها تزدهر وتنمو في الظروف المساعدة ، وتعود عليه بالفوائد العديدة .

إن من أهم شروط التعالي والتكامل للأطفال والكبار هو كون الجو الذي


يعيشون فيه حراً ، ذلك أنه عندما يكفهر وجه المجتمع بالظلم والتجاوز ويسود الاستبداد والضغط الشديد . . . وحين يحل اليأس محل الأمل ، والظلم محل العدل ، والإِستهتار والفوضى بدل القانون ، والخوف بدل الهدوء . . . فمن المحتم أن ينقطع السبيل إلى التكامل في ذلك المجتمع .

والذين يعيشون في أمثال هذه المجتمعات لا يقدرون على إخراج استعداداتهم الخفية وذخائرهم المعنوية من مرحلة القوة إلى حيز الوجود والفعلية بالشكل المناسب . ولا ينالون الترقي والتكامل الذين يصبون إليهما .

الأسرة هي مهد تربية الأطفال ، والوطن الواسع هو البيئة التربوية للكبار . وإن مالا شك فيه هو أن الشرط الأول للتربية الصحيحة وإحياء الاستعدادات المختلفة هو الجو المناسب والعوامل المساعدة . فلا تستطيع كل أسرة من تطبيق المنهج التربوي الذي خطه لنا الإِمام الحسن عليه‌السلام بالنسبة إلى أولاده . ولا يقدر كل الآباء على أن يتحدثوا مع الأطفال بنفس الحديث الذي تحدث به الإِمام عليه‌السلام ، ذلك الأسلوب من الحديث إنما يختص بالأسرة التي يقوم أساسها على الفضيلة والحرية .

ولأجل أن يتضح معنى سلامة جو الأسرة وفساده بصورة جيدة ولكي يتبين أهمية الحرية في مجال التربية والتعليم نخصص بحثنا في هذه المحاضرة بهذا الموضوع .

المقارنة بين الأسرة والدولة :

الدولة تشبه أسرة كبيرة واسعة ، وإن جميع أفراد تلك الدولة من رجال ونساء وأطفال ، إنما هم أعضاء في تلك الأسرة الكبيرة . . . كما إن كل أُسرة تشبه دولة صغيرة قليلة الأفراد . وإن أعضاء الأسرة إنما هم أفراد تلك الدولة . . . والأبوان في هذه الدولة الصغيرة يسلكان دور الهيئة الحاكمة فيها .

قد يتسلط على زمام الحكم في الدولة مستبد ، وتدار أموره حسب نظرياته اللامنطقية لمحض إرادته ، ويساس الشعب بالخوف والإِضطهاد ، ويحمل على إطاعة الأنظمة والقوانين بالحديد والنار . . . وأحياناً يكون العكس


حيث القوانين العادلة القائمة على أساس الحق والفضيلة والحرية والمحبة .

كذلك في الأسرة ، فقد يحكمها أب حاد المزاج فاقد الإِيمان ، وأم متهاونة سيئة الأخلاق . . . ويفرض كل منها إرادته على أعضاء الأسرة عن طريق الشدة والخشونة التي لا تطاق . ويحملون على القيام بواجباتهم بالتهديد والتخويف . . . وقد يكون الأمر على العكس ، ذلك إذ تتعاضد الفضيلة الأخلاقية والإِيمان للأب مع الحب والحنان العقلائيين للأم في إيجاد جو مقدس وسعيد للأسرة ، مما يحتفظ لأعضاء الأسرة بطراوتهم وحيويتهم ويؤدي كل منهم واجبه برغبة نفسية ووازع ذاتي .

الاستبداد والتعنت :

لقد اعتبر الإِسلام قبل أربعة عشر قرناً ، والعلماء المحققون في العصر الحاضر إدارة الدولة عن طريق الإِستبداد والتعنت والركون إلى وسائل القمع والإِرهاب ، أسلوباً فاشلاً تماماً وحكموا بأن الحياة في ظل نظام كهذا تصبح جحيماً لا يطاق .

وكذلك إدارة الأسرة عن طريق الظلم والتعدي وبواسطة الخشونة والشدة في الأخلاق تعتبر فاشلة وعاجزة عن أن تصبح أساساً للسعادة مهداً لتربية الأطفال الشرفاء .

إن لأسلوب حكومة الهيئة الحاكمة دخلاً كبيراً في الشؤون الأخلاقية والإِجتماعية والاقتصادية والتربوية ( وجميع الجهات المادية والمعنوية بعبارة موجزة ) بصورة مباشرة . . بحيث يمكن معرفة الأوضاع الظاهرية والمعنوية لأمة عن طريق سلوك الهيئة الحاكمة وفي هذا يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم » (١) .

يخضع أفراد كل دولة إلى عاملين أساسيين ، ويقعون تحت تأثير قوتين منفصلتين : ١ ـ محيط الأسرة وقدرة الآباء على تربية أبنائهم . ٢ ـ محيط

____________________

(١) بحار الأنوار ج ١٧ ص ١٢٩ .


الدولة وسلوك الهيئة الحاكمة . ولكن الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يرى أن تأثير الهيئة الحاكم في بناء المجتمع أبلغ من تأثير الأسرة والقدرة التربوية عند الآباء .

الفرق بين الحرية والاستبداد :

تختلف الدولة التي تدار على أساس العدل والقانون وفي ظلل الحرية والمحبة عن الدولة التي يحكمها الاستبداد والتعنت ويسودها الإِرهاب والقمع إختلافاً كبيراً . وسنحاول في هذه المحاضرة أن نتعرض لذكر بعض موارد الاختلاف ونتائجها بين هذين النوعين من الدول ، ثم نقارن ذلك بكيفية إدارة الأسرة . ومن هذه المقارنة نستطيع أن نسلط الأضواء إلى حد بعيد على مقياس سلامة جو الأسرة أو فساده ومن المؤمل أن يدرك الآباء ـ وهم أبناء الأسرة الكبيرة ( الدولة ) ـ أُسس هذه المقارنة كي يتفهموا مسؤوليتهم تجاه أبنائهم بصورة أوضح ، ويقيموا إدارة الأسرة على أساس أقوى ، ويراعوا واجباتهم الثقيلة في تربية أطفالهم سائرين على منهج الشرع الحنيف .

١ ـ الحرية والهدوء النفسي :

يعد الهدوء النفسي والأمن من الخوف ، الشرط الأول لسعادة الإِنسان . ففي المجتمع الذي لا يأمن أفراده على آرائهم وتكون حياتهم مقترنة بالاضطراب والقلق ، لا مجال للسعادة الحقيقية والكمال الواقعي إليه ، فالعدالة الإِجتماعية هي القوة الوحيدة التي تستطيع أن تبعث الإِطمئنان والهدوء إلى النفوس وتهب الأشخاص الأمن والسكينة .

البيئة الصحيحة للإِنسانية تكون في الدولة التي يسودها القانون والعدالة ، الدولة التي رُسمت حدود إختصاصات المسؤولين والشعب فيها بموجب القوانين العادلة ، في الدولة التي يكون المسؤولون أنفسهم مطيعين للقانون ، ويسلكون سبيل العدالة في أحكامهم ولا يسمحون لأنفسهم بأقل إنحراف أو تجاوز على حقوق الآخرين . . . هناك يحس جميع الأفراد في داخل أنفسهم بالهدوء والأمان ، فلا وحشة ولا قلق ، ولا ظلم يصيب المواطنين


من المسؤولين والمسيطرين على زمام الحكم . في دولة كهذه يكون طريق التكامل والتعالي مفتوحاً أمام جميع الناس ، وباستطاعة كل فرد أن يعمل لسعادته بارتياح وإطمئنان ، ويستفيد من نتائجها المهمة .

أما الدولة التي يسيطر عليها الإِستبداد والتعنت ، ولا يحترم فيها القانون والعدالة أصلاً ويفقد الحق والإِنصاف معناهما فيها . . . فلا حرية هناك . بل يسود سماء الأمة قلق واضطراب ويفقد الأفراد هدوءهم ، يقضون ليلهم ونهارهم في الخوف أو يكونون عبيداً لا إرادة لهم قبال أسيادهم ، وفي كل لحظة يمكن أن يسيء الحاكم إلى شخص أو أشخاص من أفراده ويحمل كالحيوان المفترس عليهم ويهجم على كرامتهم ووجودهم بلا قيد أو شرط . . . فينهي بذلك حياتهم .

الحياة في دولة كهذه لا تعني إلا الشقاء والحرمان ، وهناك يستحيل على الأفراد الوصول إلى الكمال اللائق بهم كبشر ، وينغلق الطريق أمامهم نحو السعادة . . في مثل هذه الدولة يحترم الأفراد حاكميهم بدافع من الخوف والأمن من الضرر ، ويطيعون أوامرهم صوناً لدمائهم . . . ولكنهم في الواقع يصبون سيل اللعنات عليهم .

الانقياد بسبب الخوف :

إن نظرة الإِسلام إلى هؤلاء الحكام الظالمين . . إلى هؤلاء الثلة الحقيرة التي تحكم الناس بقوة الحديد والنار . . نظرة ملؤها الريبة والإِحتقار ويعرفهم بأنهم أحقر الناس وشرهم في مقام الحكم الإِلٰهي .

عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « شر الناس يوم القيامة الذين يكرمون إتقاء شرهم » (١) .

كما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث آخر : « ويل لمن تزكيه الناس مخافة شره ، ويل لمن أطيع مخافة جوره ، ويل لمن أكرم مخافة شره » (٢) .

____________________

(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ ص ٣٢٧ .

(٢) مجموعة ورام ج ٢ ص ١١٥ .


وفي حديث ثالث : « ألا إن شرار أُمتي : الذين يكرَمون مخافة شرهم ، ألا من أكرمه الناس إتقاء شره فليس مني » (٢) .

الانقياد في ظل الحرية :

في ظل الحرية والعدالة ، تكون إطاعة الناس للقوانين والأنظمة ناشئة من الشعور بالواجب ، والميل للحصول على السعادة إما في الحكومة الإِستبدادية والتي تساس بالعنف والقسوة ، فإن منشأ إطاعة الناس للأنظمة هو غريزة حفظ الذات ، لأنهم يعلمون أنهم عند إرتكابهم أبسط مخالفة فسيكون عقابهم عليها شديداً جداً :

« يكون أفراد الشعب عبيداً للحاكم في الحكومات الإِستبدادية ، ولا يكون لأحد إمتياز على الآخرين ، إن الحاكم المستبد لا يلتزم بأية قاعدة أو قانون فإرادته وشهواته فوق القانون والأنظمة ، إنه يحاول أن يمحو الآخرين من صفحة الوجود » (٢) .

« تتطلب طبيعة الحكومة في النظام الإِستبدادي نوعاً من الإِطاعة اللامحدودة . ولا يوجد في هذه الحكومات ما يتعرض للأوامر الصادرة من تغيير ، أو إمهال ، أو موعد أو بدلية ، أو مفاوضات ، أو إنتقادات ، أو وساطة »

« في هذه الحكومات يعد الإِنسان مخلوقاً خاضعاً لإِرادة مخلوق آخر . ويجب أن لا يحتمل إظهار القلق أو الاضطراب من وقوع بعض الحوادث الفجائية » .

« يعيش الإِنسان في ظل الحكومة الإِستبدادية كالحيوانات لا نصيب له بغير الغريزة الطبيعية والإِطاعة والعقاب » (٣) .

____________________

(١) سفينة البحار للقمي ص ٦٩٥ .

(٢) روح القوانين لمونتسكيو ص ٣٢ .

(٣) المصدر السابق ص ٣٣ .


« رد الحكومة الإِستبدادية على قاعدة الخوف ، وفي الأمم الجبانة والجاهلة والمندحرة لا ضرورة للقوانين الكثيرة فكل شيء هناك يقوم على فكر شخصين أو ثلاثة . وعليه فلا حاجة للأفكار الجديدة ، ذلك أنكم عندما تقومون بتربية حيوان تلاحظون فقط أن لا يأخذ الحيوانَ منكم أحد ، وان يعرف صاحبه ولا يغير سلوكه » .

« عندما كان شارل الثاني عشر في مدينة ( بندر ) لا حظ أن خلافاً نشب تجاهه في مجلس الشيوخ السويدي ، فكتب إلى المجلس : إنه سيرسل إحدى جزمتيه لتحكم عليهم » (١) .

إن أوطأ الأمم وأشقى الناس ، هم المحرومون من نعمة العدالة والقانون والحرية والفضيلة . . . إن الحياة في جو الإِضطهاد والاضطراب والتعنت والقسوة ، أوطأ وأحط من حياة حيوان بكثير ، بلا شك . . .

العدالة في الأسرة :

يحكم الآباء في الدولة الصغيرة للأسرة أفراد أُسرهم بأساليب مختلفة فبعض الآباء العقلاء والمؤمنين يطيعون الأوامر الإِلهية والأسس العقلية يديرون شؤون الأسرة حسب العدالة والإِنصاف والإِحترام للحق والفضيلة فأعضاء هذه الأسرة يعيشون في ظل الأمن والهدوء الفكري ، وكل منهم يؤدي واجباته بكل سرور وإرتياح أملاً في الحصول على السعادة في غد ، وتشع أشعة الحنان والحب في جميع زوايا ذلك البيت وتلك الأسرة .

وعلى العكس من ذلك : فهناك من الآباء الجاهلين والمنحرفين من لا يتقيد بالواجبات الدينية ولا يطيع الأنظمة العلمية والعقلية ، ولأجل أن يكون الحاكم المطلق في جو الأسرة وتنفذ أوامره بلا استفسار أو إنتقاد ، يتوسل بالإِستبداد والتعنت ويثبت قدرته ويفرض إرادته بالفحش والعربدة والكلمات الركيكة ، ويعامل زوجته وأطفاله معاملة أشد من معاملة الحيوانات فيذيقهم

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٤٧


الأمّرين من السوط والعصا والتعذيب والضرب والتجويع ، محولاً جو الأسرة إلى سجن رهيب لا يطاق ! .

. . . حين ينعكس صوته الغليظ في محيط البيت يفر الأطفال الأبرياء بوجوه شاحبة إلى هنا وهناك ، وترتعد فرائصهم كنعاج هجم عليها الذئب ثم يلجأون إلى الفراش بأرواح ملؤها العُقَد والتأزمات ، وحين يستيقظون في الصباح ويتذكرون أباهم المجنون وتصرفاته البذيئة يسيطر عليهم الجزع والإِنكماش حتى كأنهم لا حراك بهم .

نتيجة الاستبداد :

في أسرة كهذه تنعدم السعادة ، ولا يوجد الهدوء الفكري وإطمئنان الخاطر ، حيث يسيطر الخوف والقلق على جميع أنحاء البيت ، ويرى أعضاء الأسرة أنفسهم معرضين في كل لحظة لخطر التعذيب والقسوة ـ في هذه الأسر لا تقف آثار الاستبداد السيئة عند حد إيقاف الرشد المعنوي للأطفال فقط ، بل تمنع أبدانهم عن الرشد الطبيعي من جراء الاضطراب والقسوة .

هؤلاء الآباء يجرون على أنفسهم وعوائلهم والمجتمع الذي يربي الأطفال له نتائج وخيمة لا تنجبر . . . هؤلاء مسؤولون ـ طبق الموازين الإِسلامية ـ أمام كل ضربة أو كلمة بذيئة صادرة منهم تجاه عوائلهم . . . وإذا كانت طاعة الزوجة والأولاد معلولة للخوف من الشدة والقسوة والظلم ، فإن هؤلاء الآباء مشمولون للأحاديث السابقة التي ترى إن من يطاع خشية شره لهو شر الناس .

على هؤلاء الآباء أن يحكموا وجدانهم ، وأن يكرهوا لغيرهم ما يكرهونه لأنفسهم ـ فكما أنهم ـ أنفسهم ـ ينفرون من الحياة في ظل الإِستبداد والتعنت ، والظلم ، والقسوة عليهم أن لا يرضوا ذلك لعوائلهم ، ولا يعاملوا أزواجهم وأطفالهم معاملة الأسرى المحكوم عليهم بالإِعدام ! .

٢ ـ الخوف من العقاب :

لا شك في ضرورة الأنظمة والقوانين لكل دولة لإِيجاد النظام والضبط


والمنع من الفوضى والمخالفات . . . ولا بد من معاقبة الخارجين على تلك الأنظمة لضمان حسن تنفيذها ، فالخوف من العقاب هو الذي يحث الناس على الإِطاعة . والنكتة الجديرة بالملاحظة إنه لا حساب ولا مقياس للعقاب في الحكومة الإِستبدادية ، فمن الممكن أن يؤدي إستياء بسيط للحاكم إلى إعدام مئات الناس الأبرياء هناك ليس العقاب على أساس الإِجرام أو الأحكام القضائية . بل الموضوع يقوم على طبق هوى النفس والميل الشخصي للحاكم . أما في حكومة العدالة والقانون ، حيث تحدد صلاحيات الحكام وأبناء الشعب حسب الأنظمة العادلة ، فلا مجال للأهواء والميول الشخصية للحكام في الأحكام الصادرة . . . هناك لا يخاف احد من شخص معين ، غاية ما هناك أن الشخص الذي يرتكب جرماً يعاقب على أسس قضائية صحيحة وعادلة متناسبة مع جريمته .

وبعبارة أُخرى : إن منشأ الخوف عند الناس في الحكومة الإِستبدادية هو الظلم والتعسف والإِضطهاد ، أما في حكومة العدل والقانون فإن منشأ الخوف هو الجرم الذي ارتكبه الإِنسان واستحق العقاب عليه .

الاسلام والأمن :

إن أحسن وأرقى الحكومات العالمية المعاصرة هي الحكومة التي تسيطر على القوانين العادلة على جميع شؤونها ، ويعيش جميع أفراد تلك الدولة ـ من أي طبقة أو منزلة كانوا ـ آمنين في ظل العدالة والقانون بأرواح ملؤها الرفاه والسعادة والهدوء .

ولقد عمل قائد الإِسلام العظيم ، قبل أربعة عشر قرناً ، على إرساء قواعد النظام الإِجتماعي في حكومته على هذا الأساس ، فقد منح العدل الأمن الروحي والهدوء النفسي لجميع الناس ، وزال الخوف والاضطراب اللذين كانا يحكمان العصر الجاهلي من جراء إستبداد الحكام واضطهادهم فأصبح الفرد المسلم يخاف من ذنبه فقط . ولأجل أن يتجلى هذا الدور الذي يسلكه الإِسلام في ضمان الأمن والهدوء للمجتمع نبسّط بعض الشيء مسألة الخوف .


هناك حافزان للخوف في تطبيق الواجبات الدينية من قبل كل فرد مسلم : ( الأول ) : الخوف من الله والجزاء الأخروي . ( والآخر ) : الخوف من الحكومة والعقاب الدنيوي . . . وفي كلا الموردين يكون منشأ الخوف هو الذنب الذي ارتكبه الإِنسان نفسه .

أ ـ الخوف من الله :

على كل فرد مسلم أن يطمئن إلى رحمة الله الواسعة ، خائفاً من عقابه . ولكن الخوف من الخالق الرحيم والعادل لا يكون كالخوف من حاكم مستبد ظالم . إن الحاكم المستبد يستند في قدرته إلى التعسف وأما في الحريم الإِلٰهي المقدس فلا يتصور الظلم والجور . إن الله يعاقب المذنب على أساس الحق والعدل ، والخوف من الله يعني الخوف من العقاب على الذنب لا أكثر . ولهذا فقد ورد التعبير في القرآن الكريم عن خوف الناس بنسبته إلى المقام الإِلهي ، فقال تعالى ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) (١) وقال أيضاً : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ . . . ) (٢) . إن ( مقام الله ) هو علمه بإجرام المجرمين ، وقدرته على مجازاة المذنب وحماية المظلوم بالإِنتقام له من الظالم . . . وبصورة موجزة فإن ( مقام الله ) هو إقامة الحق والعدل فالذي يخاف من مقام الله لا يحوم حول الذنب .

« عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : من علم أن الله يراه ، ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير وشر ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى » (٢) .

إن مقام المدعي العام في الحكومات القانونية هو مقام عقاب الجاني ومجازاة القاتل . . المدعي العام هو الذي يجر المجرم إلى المحكمة ويلزمه

____________________

(١) سورة الرحمن ؛ الآية : ٤٦ .

(٢) سورة النازعات ؛ الآية : ٤٠ .

(٣) تفسير البرهان ؛ ص : ١٠٧١ .


بالإِدانة . إن مقام المدعي العام هو إقامة العدالة والقانون ، فمن يهرق دماً باطلاً يخاف من مقام الإِدعاء العام ولكن هذا الخوف ناشىء من جنايته هو . . .

« إن علياً عليه‌السلام قال لرجل ـ وهو يوصيه ـ : خذ مني خمساً : لا يرجونّ أحدكم إلا ربه ، ولا يخاف إلا ذنبه » (١) .

ب ـ الخوف من الحكومة :

الخوف من الحكومة في الإِسلام يعني : الخوف من العقاب القانوني فقط . إن فرداً مسلماً لا يخاف من رئيس الدولة أو الهيئة الحاكمة أصلاً ، ولا ينبغي أن يخاف منه ، ذلك أنه ليس للحاكم الحق في إضطهاد أحد أو أخذه بالباطل ، فالهيئة الحاكمة في الإِسلام لا تمتاز على باقي أفراد الأمة في شيء غير ثقل عبء المسؤولية أمام الله تعالى . فعلى المسؤولين مضافاً إلى تطبيق الحق والعدالة أن يعاملوا الناس بالعطف والمحبة ، وإحترام الأُسس الأخلاقية . وفي هذا يكتب الإِمام علي عليه‌السلام إلى مالك الأشتر في العهد الشهير :

« فا ملك هواك ، وشحَّ بنفسك عما لا يحل لك ، فإن الشح بالنفس : الإِنصاف منها فيما أحبت وكرهت . وأشعر قلبك الرحمة للرعبة والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم » (٢) .

إن الحكام المستبدين والمتزمتين هم عبيد أهوائهم ورغباتهم اللامشروعة أما الحكام العدول فهم مخالفون لأهوائهم ويتبعون الإِنصاف والفضيلة ويحبون الخير والصلاح للرعية .

النبي العطوف :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاداً تماماً في مقام تنفيذ القوانين وعقاب المجرمين ولهذا فقد كان الناس يخافون من إرتكاب الجرائم ، ولكنه في المعاشرات

____________________

(١) بحار الأنوار ج ١٧ ص ١٠٥ .

(٢) نهج البلاغة ص ٤٧٥ .


الإِجتماعية كان أباً عطوفاً ، لا يخافه أحد وإذا صادف أن أحداً كانت تأخذه الهيبة من محادثته ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحطم ذلك الشعور في نفس المخاطب . « عن ابن مسعود ، قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل يكلمه فارعد . فقال : هوّن عليك فلست بملك » (١) .

لقد كانت صلات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المسلمين لينة هادئة إلى درجة أن بعض الأشخاص كانوا يتمازحون معه بالمزاح الذي يصعب قبوله من قبل الأفراد العاديين . نهى عليه‌السلام أبا هريرة عن مزاح العرب فسرق نعل النبي ورهنه بالتمر ، وجلس بحذائه يأكل . . . فقال عليه‌السلام يا أبا هريرة ما تأكل ؟ فقال : نعل رسول الله » (٢) .

أي حاكم يجرأ على ممازحته فرد عادي ، فيرهن حذاءه عند بقال لقاء شيء من التمر ؟ لقد عد الله هذه الفضيلة الخلقية للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مراتب رحمته وعنايته : « فبما رحمة من الله لنت لهم . . . » .

لقد كان شديد التأكيد على صفاء قلبه بالنسبة إلى أصحابه إلى درجة أنه قال : « لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً ، فاني أُحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » (٣) .

الحكومة الحرة للامام علي عليه‌السلام :

أما الإِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام فهو أعظم تلميذ من تلامذة الإِسلام ، تعلم درس الحرية والإِنسانية من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذلك فقد كانت علاقاته مع الناس متصفة بالعطف والرحمة ، أما في مقام إقامة العدالة فكان صريحاً وجدياً . ومن هنا وصفه عدي بن حاتم في مجلس معاوية ضمن أحاديثه عنه عليه‌السلام فقال : « وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا ، لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته .

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٦ ص ١٥٢ .

(٢) المصدر السابق ج ٦ ص ١٦٦ .

(٣) المصدر نفسه ج ٦ ص ١٥٢ .


فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم . . . يعظم أهل الدين ويتحبب إلى المساكين . . . لا يخاف القوي ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله » (١) .

خوف الطفل من الذنب :

في الدولة الصغيرة للأسرة يكون خوف أفراد الأسرة على قسمين : فبعضهم يخاف من الذنب ، والبعض الآخر يخاف من الأب . عندما يكون الخوف من الذنب موجوداً فإن المخاوف الباطلة الواهية تنعدم ، وهنا يكون المهد الصحيح للتربية . وتتفتح أزهار الشعور بالمسؤولية في نفوس الأطفال واحدة بعد الأخرى ، ويتعود الصغار على الإِستقامة منذ البداية . إن أعضاء هذه الأسرة يطمئنون إلى أنهم إذا لم يتجاوزوا على حقوق الآخرين ولم يتلوثوا بالذنب والإِنحراف ، فال ينالهم شيء بل يكونون مقربين عند الأبوين تماماً .

في مثل هذه الظروف يكون الأب في محيط الأسرة حائزاً على الشخصية والعطف معاً ، والأطفال يخافون من مؤاخذته الصحيحة والمنصفة فلا يمارسون الذنوب ولا ينحرفون .

« ويجب على الذي يقوم بإجراء العقوبة أن يعتقد ببعض القواعد ويستمع إلى نداء الوجدان ، ولا يحكم بدافع التعصب . وعليه ـ في نفس الوقت ـ أن يكون حميداً في سلوكه وعطوفاً ، لا بأن يظهر ضعفه وحقارته ، بل يكون ذا شفقة عامة وإنسانية تظهر في حدود القوانين المحدودة والقابلة للإِحترام الإِجتماعي والدولي » (٢) .

« إن المربي سيتظاهر بأنه سوف لا يعاقب ، بل أنه يجري قوانين العدالة كموظف مختص مجبر على ذلك ، وسيفهم الطفل هذه النكتة بصورة حسنة . ولما كان التوبيخ ذا جانب عاطفي تماماً هنا فيجب أن لا يخرج عن حدود الإِنسانية ، وبهذا تكون عقوبة كهذه

____________________

(١) سفينة البحار مادة ( عدا ) ص ١٧٠ .

(٢) جه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص ٩٣ .


غير إنحيازية » (١) .

خوف الطفل من الأب :

عندما يكون الخوف من الأب السيء الخلق والقاسي ، الأب الذي يتحجج ويتعنت ، الأب الذي يفحش في القول ويضرب أبناءه بلا سبب فيجازي أبسط الزلات بأكبر العقوبات ، الأب الذي يثأر لاتعابه الخارجية فينتقم من أطفاله الأبرياء ، والذي يحل عقدة الفشل التجاري أو الإِداري أو الإِجتماعي عنده بإيذائهم . . ففي الأسرة التي يحكمها مثل هذا الأب لا تحترم الأمانة والإِستقامة ، ولا تعرف الفضيلة والأخلاق ، إنما المهم في نظر الأطفال إرضاء أبيهم المستبد ، وإتقاء شره ! .

إن العصر الحديث يخطىء من الناحية العلمية والتربوية ، طريقة ضرب الأطفال وإيذائهم بغية التأديب ، ويكاد يمنع الضرب في جميع الدول الحية فيحذر الآباء والأمهات في البيت ، والمعلمون في المدرسة ، عن ضرب الأطفال بصورة أكيدة .

قد يتصور البعض إن هذه النظرية مبتكرة في عصرنا الحاضر ، وإن الإِنتباه إلى أهمية هذا الموضوع حصل في العصر الحديث فقط . بينما نرى من الضروري أن نرفع هذا الوهم عن أذهان أولئك ونقول بصراحة : إن الإِسلام سبقهم إلى ذلك . . فعلاوة على الروايات في المنع من ضرب الأطفال ؛ أفتى الفقهاء المسلمون في القرون الماضية بحرمة ذلك في رسائلهم العملية التي تعد المناهج اليومية لعمل المسلمين .

« قال بعضهم : شكوت إلى أبي الحسن عليه‌السلامإبناً لي ، فقال : لا تضربه واهجره . . . ولا « تطل » (٢) .

____________________

(١) المصدر السابق ص ٩٥ .

(٢) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ ص ١١٤ . ومعنى الهجر : إظهار عدم الرضا بأعماله وعدم الإِعتناء إليه .


ففي هذا الحديث نجد أن الإِمام يمنع من ضرب الطفل بصراحة ، مستفيداً من العقوبة العاطفية بدلاً من العقوبة البدنية . فالأب هو الملجأ الوحيد للطفل ومعقد آماله ، وإن هجره للولد أكبر عقوبة روحية ومعنوية انه عليه‌السلام يطلب من الوالد ان يهجر الولد ولكنه سرعان ما يوصيه بعدم طول مدة الهجرة ، ذلك أنه إذا كان لهجر الوالد أثر عميق في روح الطفل فإن طول مدته يبعث على تحطيم روحيته وإذا كان أثر هذا الهجر ضعيفاً فإن شخصية الوالد ستصغر في نظر الطفل لطول مدة الهجر وسوف لا يكون لتألم الوالد أثر أصلاً .

« إن للعقوبات التي ترجح فيها الوسائل العاطفية والأخلاقية على الوسائل المادية تأثيراً كبيراً ، ففي مثل هذه العقوبات بدلاً من أن يحرم الطفل من الماديات يجب السعي للتأثير في قلبه ونفسه ووجدانه وعزته وغروره ، فإن لم ترتبط المحروميات المادية مع مشاعره وعواطفه فانها تفقد طابع العقوبة » (١) .

وفي هذا الصدد يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « إن العقل يتعظ بالأدب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب » (٢) .

دية اللطم والعقوبة البدنية :

وهنا لا بأس بذكر الفتوى المتعلقة بالبحث من الرسالة العلمية ( توضيح المسائل ) لآية الله الفقيد السيد حسن الطباطبائي البروجردي التي هي في متناول يد الجميع :

« مسألة ٢٨١٦ ـ إذا لطم على وجه أحد باليد أو بشيء آخر فاحمر وجهه ، فديته مثقال ونصف من الذهب ( كل مثقال ١٨ حبة ) وإن اخضر لونه فثلاثة مثاقيل وإن أسود لونه فستة مثاقيل ، ولئن تغير لون سائر البدن على أثر الضرب ، فاحمرّ أو اخضرّ أو إسودّ ، فديته نصف ما ذكر » .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص ٩٤ .

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ١٠٨ طبعة النجف الأشرف .


« مسألة ٢٨٢٠ ـ إذا ارتكب الصبي إحدى المعاصي الكبيرة جاز للولي أو المعلم ضربه بمقدار التأديب ما لم يصل حد الدية » .

« مسألة ٢٨٢١ ـ إذا ضرب صبياً إلى حد وجوب الدية كانت الدية للصبي ، فلو مات الصبي فعلى الضارب أن يدفع ديته إلى ورثته ولو ضرب الوالد ولده حتى مات كانت ديته لسائر الورثة ، وليس له شيء من الدية » .

يستفاد من هذه الأحكام الدينية الثلاثة أنه لا يجوز ضرب الطفل فإذا ضرب أحد الوالدين أو المعلم طفلاً على وجهه وسبب تغير لونه فعليه أن يدفع ديته ، وعند ارتكاب الطفل إحدى المعاصي يجوز ضربه بحيث لا يصل حد وجوب الدية .

إن الآباء والأمهات الذين يضربون أبناءهم إلى حد وجوب الدية مدينون إليهم بقيمة الدية . فأما عليهم أن يرضوهم أو يحصلوا على العفو منهم . وكذلك حكم المعلمين الذين يضربون تلامذتهم .

جزاء الوالد السيء الخلق :

على الآباء المسلمين الذين لا يفحشون في المنزل ، ولا يصدر منهم أذىً ولا يضربون أزواجهم وأطفالهم . . . ولكنهم سيئون الخلق معهم أن يدققوا في هذا الحديث :

كان ( سعد بن معاذ ) أحد صحابة الرسول الأعظم المحترمين . وعند وفاته مشى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه في جنازته ، حتى إنه حملها على كتفه عدة مرات ، وحفر القبر بنفسه ، وشق له اللحد ودفنه فيه . . . فلما وجدت أم سعد ذلك غبطته على تلك المنزلة فقالت :

يا سعد هنيئاً لك الجنة . فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا أم سعد ، مه لا تجزمي على ربك ، فإن سعداً قد أصابته ضمة . . . (١) .

____________________

(١) الضمة : الضغط والعصر ، ويقصد عصرة القبر . فقد ورد في الروايات أن سوء الخلق مع العيال يوجب الضيق في القبر .


وعندما سئل عن سبب ذلك ، قال : إنه كان في خلقه مع أهله سوء .

٣ ـ الدوام في ظل العدل :

إن بقاء عمارة مؤسسة من مئات الأطنان من الحديد والجص والصخر مرتبط بالتوازن والتعادل الكائن بين ركائزها ، وعدم خروج اعمدتها وجدرانها عن حدود الهندسة التي أنشئت على أساسها .

فإذا كانت العمارة منشأة منذ البداية على أساس غير موزون وبلا مقياس صحيح ، أو أن العوامل المختلفة أدت إلى اختلال توازنها فلا تكون قابلة للبقاء والاستمرار ، وسيؤول أمرها إلى التهدم والخراب . . . فما أكثر العمارت التي لا زالت تحتفظ بمتانتها وقوتها بالرغم من مرور السنين الطوال على إنشائها ، وذلك لمحافظتها على التعادل الهندسي المنشأة على أساسه ، ولكن ما أسرع أن تتهدم العمارة عندما لا تؤسس على توازن صحيح أو تفقد توازنها فيما بعد .

إن كل دولة تشبه عمارة ضخمة ، متكونة من ملايين الأفراد ويجب أن تقوم على أساس التوازن والتعادل.

فالدول التي تدار بالقانون والعدالة ، وتكون الحدود كلها مرسومة بين الطبقات المختلفة على أساس الحق والإِنصاف ، يعيش أفرادها في هدوء فكري وإطمئنان تام ، فلا يستغل الحكام سلطانهم لاضطهاد الناس . . . هذه الدول تستمر ثابتة وقوية محتفظة بحياتها الوطنية على الرغم من مر القرون وفي هذا يقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « العدل جُنة واقية ، وجنة باقية » (١) .

الحكام الجائرون :

أما في الحكومة الجائرة التي يحرم فيها الأفراد من نعمة القانون والعدالة والحق والفضيلة . . . فالحكام يفرضون إرادتهم بإراقة الدماء والتجاوز على حقوق الآخرين ، واضطهاد الشعب وإيذائهم . ولذلك فالمواطنون يسكتون

____________________

(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ١٧ ص ٤٧ .


خوفاً ، ولا ينطقون بحديث عن السلطة الحاكمة ولكنهم لا يملكون هدوءاً روحياً ، فالقلوب تمتلىء بالغيظ والحقد ، وينتظرون الفرصة المناسبة التي يثورون فيها وينتقمون من حكامهم.

والحكام أنفسهم قلقون دائماً ، خائفون على مناصبهم .

في مثل هذه الدولة يتمادى الحكام في الظلم والقسوة ، وكل ظلم يصدر منهم يولد إثارة جديد في الرأي العام . فإن إعترض المواطنون على حكامهم لقيامهم باعتداء ، جنحوا لاسكاتهم إلى إعتداء جديد ، وهكذا كلما يتقدمون خطوة يضطهدون أكثر ، حفظاً على مقامهم وشوكتهم وكلما يزداد الإِضطهاد تشتد العداوة والفجوة بينهم وبين أبناء الشعب وتتراكم الأحقاد إلى أن يحين اليوم الذي تنفجر العقد وتلتهب نتائجها الوخيمة عن نار لا تبقي للظالمين ولا تذر . وفي ذلك يقول الصادق عليه‌السلام « من زرع العداوة حصد ما بذر » (١) .

بنو أمية واعتداءاتهم :

إنَّ تاريخ بني أمية وجرائمهم أصدق شاهد على ما ذكر . فقد قام يزيد لتثبيت قدرته وتحكيم أساس حكومته بقتل الإِمام الحسين عليه‌السلام ، وإحداث فاجعة كربلاء بذلك الوضع المزري الذي بعث على الاشمئزاز في جميع أرجاء الدولة الإِسلامية ، وقام الناس في المدينة طالبين عزل ( يزيد ) عن الخلافة بكل صراحة . فكان رد الفعل منه أن أقدم على جريمة جديدة فولغ في دماء أهل المدينة وأعراضهم بواسطة الجيش الجرار الذي بعث به من الشام ففعلوا ما فعلوا مما يندى له جبين الإِنسانية .

يذكر لنا المؤرخون أن أحد الجنود الشاميين دخل إلى بيت امرأة قريبة عهد بوضع حملها حيث كانت ترقد في فراش الإِستراحة ، فطلب منها مالاً فأقسمت المرأة التي كانت قد فقدت كل وجودها في غارة أهل الشام على المدينة بأنها لا تملك شيئاً ، ثم خاطبت وليدها قائلة والله لو كنت أملك من حطام الدنيا شيئاً لافتديت به عنك ، وحقنت به دمك ، وهنا وجم الجندي

____________________

(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ ص ٣٠٢ .


القاسي البعيد عن الإِيمان إذ يئس من الحصول على المال ثم اختطف الطفل من أمه وهي ترضعه ، ورمى به إلى الجدار بشدة حيث تحطم مخه . . . (١) .

وانقشعت الغيوم عن إنفجار المسلمين ضد بني أمية وحكمهم ، وأثمرت بذور الحقد والعداوة التي زرعوها في قلوب الناس ، فصاروا ينتقمون منهم . وحينئذ لم يرحموا امرأة أو رجلاً ، شيخاً ، أو شاباً ، حتى أنهم بعد قتلهم لهم كانوا لا يدفنون جثث القتلى بل يتركونها في الخرائب طعمة للكلاب السائبة والطيور الجارحة .

بقاء الأسرة في ظل العدل :

عندما يحكم الآباء والأمهات في الدولة الصغيرة للأسرة بقوة الحق والفضيلة ، وعلى أساس العقل والعدالة فإن تلك الأسرة تبقى قوية ونشيطة على مدى الأجيال ولا تستطيع القرون المتمادية أن تحطم تلك العائلة وتهدم بناءها ، ذلك أن الفضائل الخلقية والعدل والإِنصاف تضمن دوام تلك الأسرة .

وعلى العكس من ذلك فإن الآباء الذين يديرون الأسرة بالضغط والاضطهاد والتهديد ، وبدلاً من قيامهم بالتربية الصحيحة والعقلانية يعذبونهم ، فانهم يبذرون بذور العداوة في قلوبهم ، ويسقون أشجار البغض والحقد بأعمالهم الفاسدة ، فيهيئون بذلك وسائل الشقاء لأنفسهم ولأطفالهم فعندما يتحطم سد التهديد في يوم ما بموت الأب أو سفره أو عجزه ، فتنفجر العقدة النفسية للأطفال وتؤدي إلى سيل من الإِنتقام والثأر الذي يمكن أن يتضمن نتائج وخيمة .

« هناك آباء وأمهات مستبدون لا يتمالكون على أنفسهم من الإِساءة والضرب . وفي هذه الصورة لا تكون بعض العقوبات البدنية مضرة بمقدار ضرر بعض التشديدات بالنسبة إلى القلب . إن الحبس في غرفة ، أو النظر إلى الجدار من دون أن يجرأ على القيام بحركة

____________________

(١) تتمة المنتهى للشيخ عباس القمي ص ٦١ .


صغيرة تحطم القابلية على التحمل عند الطفل » .

« هناك بعض الأولياء يصبون طعام الطفل في أناء يشبه أناء طعام الحيوانات : وحتى في بعض الأحيان يقوم هذا الأب أو الأم غير العاديين بتقديم الطعام إلى الطفل في وعاء القاذورات ، أو يبصق الأب في وجه الطفل أو يعريه في الشارع وأمثال ذلك مشاهدة بكثرة ! » .

« هؤلاء الأطفال تتحطم أعصابهم ، وتصبح أفعالهم خالية من التروي والتفكير ، وغالباً يؤدي بهم النفور نحو الإِنحراف وظهور ذلك في مظهر الجريمة ، ذلك أن هؤلاء الأطفال يريدون أن ينتقموا ممن يعذبهم بواسطة نوع من الإِنتحار الخلقي ، ولذلك فانهم لا يهتمون كثيراً بالترحم الذي يمكن أن يصيبهم ، كما أنهم لا يتأثرون بكل عقوبة » (١) .

فمن الضروري أن تكون إدارة الأسرة قائمة على العقل والدراية والإِنصاف والعدالة ، وفي هذا يقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة ، إلا كان خراباً » (٢) .

٤ ـ تقسيم العمل والكفاءة :

يشبه المجتمع جسد الإِنسان إلى حد كبير ، فكما أن أعضاء الجسد الواحد تتقاسم الوظائف فيما بينها ، كذلك المجتمع ، إذ يجب أن تقسم فيه الواجبات بين الأفراد ، ويختص كل فرد بقسم معين منها .

إذا دققنا النظر وجدنا أن في بناء البدن تتناسب لياقة كل عضو مع الوظيفة المعهودة بها إليه ، فقد خلق الله تعالى أعضاء بدن الإِنسان حسب الوظائف التي يجب أن تقوم بها ، فمثلاً يقوم القلب بالعمل طيلة العمر وهو أنشط عضلات البدن من حيث الفعالية ، وقد خلقه الله تعالى قوياً متيناً يتناسب ذلك

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص ٣٠ .

(٢) تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج ١ ص ٣٨٢ .


مع ثقل العمل المفروض عليه . كذلك المجتمع فانه يجب أن يفوض كل عمل فيه إلى من توجد عنده الكفاءة والقابلية على القيام بواجبه . . . وهذا هو أهم المسائل الإِجتماعية في كل دولة وسر ترقي الناس وسعادتهم .

العمل في الدولة الاستبدادية :

إن الأعمال لا تقسم بين الناس في الدول الإِستبدادية حسب الكفاءات والقابليات ، وليس الوصول إلى المراكز الحساسة في تلك الدول منوطاً بالصلاحية والقابلية . . . فلا قيمة للخبرة والعلم هناك ، بل العامل الوحيد للتقدم هو إرضاء الحاكم والتقرب منه فحسب ! . إنه يستطيع تفويض أخطر الوظائف الحساسة في الدولة إلى أقل الأفراد كفاءة في ذلك المجال ، وهو الذي يقدر على حرمان أعظم الأفراد كفاءة من أبسط الأعمال الإِجتماعية ، وجرهم إلى أحط المنازل والمراتب .

على الناس في مثل هذه الدول أن يتعلموا درس التملق والمراء بدل إكتساب العلم والمعرفة . . . فمن كان أمهر في مدح الحكام والتزلف إليهم وكان أشد إخلاصاً لتنفيذ أوامرهم من غيره فهو الذي ينال الوظيفة المهمة والمقامات العظيمة .

وبديهي أن أسلوباً كهذا يجر وراءه سلسلة من الفساد والإِجرام والإِنحطاط والتأخر . ففي مجتمع كهذا تعطل كفاءات ثلة من العلماء والمحققين والخبراء من جهة . ويعجز المتربعون على زمام الحكم من الفاقدين للأهلية والقابلية عن إدارة شؤون الدولة بالشكل اللائق . . وتكون النتيجة أن يخطو المجتمع في كل يوم خطوة إلى الوراء ! ! ! .

العمل في الحكومة القانونية :

أما في ظل العدل والإِنصاف ، وتحت سماء الحرية والقانون . . . في الدولة التي تقسم فيها الأعمال حسب الكفاءات فيكون الجو الكامل للعلم والعمل ، والمحيط الصالح لتنمية الإِستعدادات الإِنسانية ، يملأ نور الأمل قلوب الكل ، ويكون طريق التقدم والترقي مفتوحاً أمام الجميع . هناك يكون


الأفراد أحرار في الحصول على الكفاءات ، فمن يكون نتاجه أفضل ينال صلاحيات أوسع . هذه الدولة تكون من النظرة المادية والمعنوية مهداً للفضيلة ، ومنشأ للسعادة والراحة .

الأسرة والحرية :

تخضع نفسيات الأفراد في الأسرة إلى وضع حكومة الآباء . فالأب الذي يتحدث إلى أبنائه بلسان التهديد والعقاب فقط ويكون إطاعته له قائمة على أساس الخوف منه ، ينعدم حب التعالي والترقي من نفوس الأطفال ، ولا تظهر إستعدادتهم الخفية ولا يفكرون في تحصيل الكفاءات لأنفسهم . وبصورة أساسية فإن الأطفال في أمثال هذه الأسر لا يدركون أنفسهم ، ولا يلتفتون إلى وجودهم بين ظهراني المجتمع ، لأنهم لم يسمعوا كلاماً من رب الأسرة حول إظهار شخصياتهم ، إنه كان يتحدث معهم بلغة السوط والعصا فقط ! .

أما في الأسر التي تقوم على أساس التعالي النفسي وحب الكمال ، الأسر التي تهدف التربية فيها إلى إيجاد الكفاءة والفضيلة والصلاحية في نفوس الأفراد ، تنعدم لغة التهديد والعقوبة ، بل يستند المربي حينئذ إلى شخصية الأطفال ويستفيد من غريزة حبهم للكمال في تشجيعهم على العمل المثمر الحر .

إن الحديث الذي بدأنا به المحاضرة يستند إلى هذا الأساس . فالإِمام الحسن عليه‌السلام لم يتحدث عن نفسه مع أطفاله ولم يهددهم بقوته ، بل أشعرهم بأنهم صغار اليوم ، وربما كانوا كبار الغد ، وإن العظمة وذيوع الصيت في المجتمع يستلزم الكفاءة ، فأخذ يحثهم على التعلم وتحصيل المعرفة .

*  *  *

تجانس الدولة والأسرة :

من هذه النقاط التي تقدمت ندرك مدى التشابه بين جو الأسرة ومحيط الدولة ، نتوصل إلى أن الحكومة الإِسلامية والنظام الإِجتماعي فيها يقوم على الحرية والعدالة .


« إن القوانين التربوية هي أولى القوانين التي تحكم فينا ، ولما كانت هذه القوانين تعدنا لنكون مواطنين صالحين فعلى كل أُسرة أن تدار وفق المنهج العام الذي يدار به المجتمع . ولذلك فإن قوانين التربية تختلف بالنسبة إلى أقسام الحكومات » (١) .

« تكون كل أسرة حكومة مستقلة في النظم الإِستبدادية وإن التربية ( والغرض الأصلي منها الحياة مع الآخرين ) تكون محدودة في ظل هذه النظم . فالتربية في الحكومة الإِستبدادية عبارة عن تمكين الخوف في القلوب » .

« إذن فالتربية في هذه الدول بمنزلة الصفر واللاشيء . لأنه إن لم تزل تربية الأفراد تماماً فلا توجد الحكومة الإِستبدادية . والأفضل أن أقول : إنه لا بد من وجود رعية منحطة حتى تكون عبداً جيداً . . . » (٢) .

إن التربية في ظل النظام الإِسلامي تقوم على العدل والحرية ، وتنمية حب التعالي والتكامل في نفوس الأطفال .

يقول الإِمام علي عليه‌السلام لولده الحسن : « ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً » (٣) .بهذه الجملة القصيرة يزرع الأب العظيم أعظم ثورة للشخصية في نفس ولده ، ويعوّده على الحرية الفكرية .

وبالنسبة إلى تعلم الأطفال قال عليه‌السلام : « من لم يتعلم في الصغر ، لم يتقدم في الكبر » (٤) .

إن المربي القدير هو الذي يستفيد من غريزة حب الكمال والتعالي عند الطفل ويقيم قسماً كبيراً من أساليبه التربوية على هذا الأساس .

____________________

(١) روح القوانين لمونتسكيو ص ٣٨ .

(٢) المصدر السابق ص ٤٢ .

(٣) نهج البلاغة ص ٤٥٠ .

(٤) غرر الحكم ودرر الكلم ص ٦٩٧ .


فهرس تفصيلي

كلمة المترجم .......................  ٥

المحاضرة الأولى

حول الذنب ـ حرية التعاليم ............  ٩

وسائل القرب المعنوي من الله ..........  ٩

التقوى ...........................  ١٠

معالجة الإِنحراف ...................  ١١

هدف القرآن ......................  ١٢

إنهيار المجتمع ......................  ١٤

ما هو الذنب .....................  ١٤

جزاء التخلف عن القوانين ...........  ١٥

إنحطاط البشرية ....................  ١٨

التفكير في الذنب ..................  ١٨

نتائج الذنوب .....................  ٢١

الجزاء الآجل ......................  ٢٢

الجزاء العاجل .....................  ٢٣

يوم الجزاء .........................  ٢٤

الآثار الوخيمة للذنوب .............  ٢٤

البؤس والحرمان ....................  ٢٥

وراء طلب العلم ...................  ٢٧

الإِسلام دين العلم والمعرفة ...........  ٢٧

حسن الإِقتباس ....................  ٢٨

إتباع العقل .......................  ٣٠

المحاضرة الثانية

الآراء البشرية حول السعادة .........  ٣٢

السعادة ..........................  ٣٢

المبدأ النفسي ......................  ٣٣

السعادة في المدنية الحديثة ...........  ٣٤

المبدأ الإِقتصادي ...................  ٣٥

مبدأ اللذة ........................  ٣٧

مبدأ الواقع ........................  ٤٢

حجر الأساس في السعادة ...........  ٤٣

الأمان والأخلاق ...................  ٤٣


الجهد البشري .....................  ٤٥

إستغلال القوي الطبيعية .............  ٤٦

الرهبانية ..........................  ٤٨

الإِستجابة للغريزة الجنسية ...........  ٤٩

السعي وراء اللذة ..................  ٥٠

إرضاء الميول الغريزية ................  ٥١

تجاوز حدود الفطرة .................  ٥٣

تعادل الروح والجسد ................  ٥٣

المحاضرة الثالثة

السعادة والشقاء في رحم الأم .......  ٥٦

معنى السعادة والشقاء ...............  ٥٦

قانون الوراثة ......................  ٥٧

عامل الوراثة ......................  ٥٨

الوراثة قبل تطورها ..................  ٦٠

الشذوذ عن قانون الوراثة ............  ٦٢

التغيرات الحاصلة في وضع الجينات ...  ٦٤

الوراثة عن الأجيال البعيدة ..........  ٦٤

الصفات المختفية ..................  ٦٥

الإِعجاز العلمي للرسول الأعظم .....  ٦٦

الحديث الأول .....................  ٦٦

الحديث الثاني .....................  ٦٧

العوامل المساعدة ...................  ٦٩

الشرف الموروث ...................  ٧١

الأسرة المنحطة ....................  ٧٢

إختيار الموظفين الأكفاء ............  ٧٣

الجنون ...........................  ٧٤

الحمق والبلادة .....................  ٧٥

شرب الخمر ......................  ٧٦

تعقيم المجانين .....................  ٧٨

تأثير العوامل الجوية .................  ٧٩

المصير ............................  ٧٩

المحاضرة الرابعة

دور الأم في بناء الطفل ـ النمو الناقص في أثناء الحمل ..............  ٨٢

الخلية التناسلية الكاملة .............  ٨٣

منشأ ظهور الطفل .................  ٨٤

المرحلة الأخيرة للتكوين .............  ٨٦

أثر غذاء الأم في الجنين .............  ٨٦

الغذاء والجمال ....................  ٨٩

الحوادث غير المتوقعة ................  ٩٠

طهارة المولد .......................  ٩٠

مصدر السعادة والشقاء .............  ٩١

العاهات العضوية ..................  ٩٢

الوجه ............................  ٩٢

الهندام ...........................  ٩٣

الجهاز الهضمي ....................  ٩٣

من قضاء الإِمام علي عليه‌السلام ..........  ٩٤

الإِنحرافات الكامنة .................  ٩٦

الغفلة عن الإِنحرافات الروحية ........  ٩٨

إتصال الجسد بالروح ...............  ٩٨

تأثير الجسم في الروح ...............  ٩٩

تأثير الروح في الجسم ..............  ١٠٠


الأمراض النفسية .................  ١٠٢

مظاهر الأمراض النفسية ...........  ١٠٣

تأثير السلوك في الجسم ............  ١٠٥

تأثير حالات الأم على الجنين .......  ١٠٦

الأمراض الوراثية ..................  ١٠٨

السنن الإِلهية ....................  ١٠٨

الإِنقياد للقوانين والسنن ...........  ١٠٩

الأطفال المنحرفون ................  ١١١

المحاضرة الخامسة

حول القضاء والقدر ـ الأطفال اللاشرعيون .........................  ١١٣

ركنا السعادة .....................  ١١٣

معنى القدر ......................  ١١٤

الجبر والتفويض ..................  ١١٥

إرادتنا واختيارنا ..................  ١١٦

الأمر بين الأمرين .................  ١١٧

القضاء الإِلهي ....................  ١١٩

حرية البشر ......................  ١٢٠

للإِنسان أن يقرر مصيره ...........  ١٢٠

الوراثة والتربية ....................  ١٢٢

المصير الحتمي ...................  ١٢٣

التربية والبيئة .....................  ١٢٤

الصفات القابلة للتغيير ............  ١٢٥

المصير اللامحتوم ..................  ١٢٦

تغلب التربية على الوراثة ...........  ١٢٧

ظهور الاستعدادات الكامنة ........  ١٢٩

التربية للجميع ...................  ١٢٩

الأطفال المنحرفون ................  ١٣١

الاختلاط اللامشروع ..............  ١٣٢

الأطفال اللاشرعيون ..............  ١٣٢

الزواج القانوني ....................  ١٣٤

إرتياح البال .....................  ١٣٥

النطفة الطبيعة ...................  ١٣٥

الاضطراب أيام الحمل ............  ١٣٦

النقل القانوني والتهريب ............  ١٣٧

الخروج على القانون ...............  ١٣٨

الأمهات العفيفات ...............  ١٣٩

المراقبة التربوية ....................  ١٤٠

مراقبة أشد ......................  ١٤٠

المحاضرة السادسة

النظام الطبيعي في الأحياء ـ التعليم والتربية في عالم الإِنسان ...........  ١٤٣

إمتياز الإِنسان عن سائر الأحياء ....  ١٤٤

الأعضاء اللازمة للحياة ............  ١٤٤

إستخدام العضو .................  ١٤٥

التكامل البشري ..................  ١٤٦

الموجودات المجهرية ................  ١٤٧

المستقبل الوضاء ..................  ١٤٧

عالم الخلية ......................  ١٤٩

القيام بالواجب في الخلية ...........  ١٥١

الجنين المختبري ..................  ١٥١


الهداية الإِلٰهية عالم الخلية ...........  ١٥٢

جهاز التفقيس ...................  ١٥٥

سر الحياة المجهول ................  ١٥٦

حشرة الآموفيل ...................  ١٥٧

الخصائص المشتركة بين الإِنسان والحيوان ........................  ١٥٨

خواص الإِنسان ..................  ١٥٩

قيمة التربية ......................  ١٦٠

معرفة النفس .....................  ١٦٠

إحياء الميول المعنوية ...............  ١٦١

الإِنحراف عن طريق الفطرة .........  ١٦٢

المدنية والأمراض الروحية ...........  ١٦٣

إزدياد الجرائم والجنايات ...........  ١٦٤

الإِفراط في الشهوة ................  ١٦٦

إختلال التوازن ...................  ١٦٧

حيوان في لباس إنسان ............  ١٦٩

احياء الإِنسانية ..................  ١٦٩

ديوان الفطرة .....................  ١٦٩

ملجأ البشرية ....................  ١٧٠

جسد الطفل وروحه ..............  ١٧١

أعظم مربي البشر .................  ١٧٢

المحاضرة السابعة

العقل والحرية ـ تنمية المشاعر .....  ١٧٤

العقل بدل الغريزة .................  ١٧٥

المقارنة بين العقل والغريزة ..........  ١٧٦

الغريزة وإدراكها الواقع .............  ١٧٦

اختلاف البشر ...................  ١٧٧

قصور العقل .....................  ١٧٨

حرية العقل ......................  ١٧٩

الحرية الفطرية ....................  ١٧٩

الصراط المستقيم .................  ١٨١

إلهام الخير والشر ..................  ١٨٢

حسن الاختيار ..................  ١٨٢

روح الله ........................  ١٨٣

قابلية الائتمار والانتهاء ...........  ١٨٤

التكامل اللامحدود ................  ١٨٦

أثر التربية في الحيوان ..............  ١٨٨

تنمية الأفكار ....................  ١٨٩

العواطف والمشاعر ................  ١٩٠

دور العقل والعاطفة ...............  ١٩٠

تزكية النفس .....................  ١٩١

تنمية العقل والعاطفة .............  ١٩٣

العلم في ظل الإِيمان ..............  ١٩٥

التربية السليمة للطفل .............  ١٩٦

قلب الطفل صفحة بيضاء .........  ١٩٧

المحاضرة الثامنة

تغذية الروح والجسد ..............  ١٩٩

طول مرحلة الطفولة عند الإِنسان ...  ١٩٩

التغذية السليمة ..................  ٢٠١

غذاء الروح ......................  ٢٠٢

خطر الجوع ......................  ٢٠٢

طرق تغذي الجسم ...............  ٢٠٣


طرق تغذي الروح ................  ٢٠٤

سلامة الطعام ونظافته .............  ٢٠٥

الأطعمة المفيدة والمضرة ............  ٢٠٦

أثر الطعام في روح الإِنسان .........  ٢٠٧

شرب الدم والقساوة ..............  ٢٠٨

الخمرة والاجرام ...................  ٢٠٩

أهمية التغذية في الطفل ............  ٢١١

الإِنحرافات الخلقية عند الطفل ......  ٢١٢

الغذاء الكامل ...................  ٢١٣

التغذية السليمة ..................  ٢١٤

أ ـ النخالة .......................  ٢١٥

ب ـ الخضروات ..................  ٢١٦

العلاج بالغذاء ...................  ٢١٧

تعادل المواد الغذائية ...............  ٢١٨

الروح الضعيفة ...................  ٢٢٠

قابلية المقاومة ....................  ٢٢١

النمو السريع للطفل ...............  ٢٢٣

مسؤولية الوالدين .................  ٢٢٣

المحاضرة التاسعة

دور الأسرة في التربية ..............  ٢٢٦

ميول الروح والجسد ...............  ٢٢٦

إرضاء جميع الميول ................  ٢٢٨

دقات قلب الأم ..................  ٢٢٨

نقص التربية في رياض الأطفال .....  ٢٢٩

تربية اليتيم ......................  ٢٣١

اليتيم في أحضان الأسرة ...........  ٢٣٢

المدرسة الأولى ...................  ٢٣٥

الأطفال الممتازون ................  ٢٣٨

نوابغ العالم ......................  ٢٣٩

رسل السماء ....................  ٢٤٠

الخصائص الفردية ................  ٢٤٠

مسايرة التربية للفطرة ..............  ٢٤٢

الأسر الشريفة والأسر المنحطة ......  ٢٤٤

إنهيار الأسر الشريفة ..............  ٢٤٦

المحاضرة العاشرة

المعرفة الفطرية .....................  ٢٤٩

الوجدان ........................  ٢٤٩

محكمة الوجدان ..................  ٢٥٠

الدين والفطرة ....................  ٢٥٢

إحياء الفطرة .....................  ٢٥٣

الفرق بين التذكير والتعليم ..........  ٢٥٤

الأساس الرصين للفطرة ............  ٢٥٤

مطالعة كتاب الخلقة ..............  ٢٥٦

١ ـ إدراك القدرة اللامتناهية ........  ٢٥٧

٢ ـ ربط المعلول بالعلة .............  ٢٥٩

١ ـ الأثر يدل على المؤثر ..........  ٢٦١

٢ ـ المعرفة الإِجمالية والإِيمان التفصيلي .......................  ٢٦١

٣ ـ عدم تقدير الجهود ............  ٢٦٢

المهندس القدير والصدفة العمياء ....  ٢٦٣

الإِنحراف عن طريق الفطرة .........  ٢٦٧

التفسير الخاطىء للصبر في الإِسلام ..  ٢٦٧


فرويد والفطرة ....................  ٢٦٩

منشأ عقدة الحقارة عند فرويد ......  ٢٧١

رد الفعل لعقدة الحقارة ............  ٢٧٢

إنكار الفطرة .....................  ٢٧٢

المحاضرة الحادية عشرة

الوجدان الأخلاقي ..................  ٢٧٥

فطرية الوجدان الأخلاقي ..........  ٢٧٥

الإِسلام والوجدان الأخلاقي ........  ٢٧٦

الوجدان الفطري والتربوي ..........  ٢٧٧

نظرية فرويد واتباعه ...............  ٢٧٨

عدم نضج كلمات فرويد ..........  ٢٨٠

إنكار الوجدان الفطري ............  ٢٨١

تحليل أسطورة قتل الأب ...........  ٢٨٤

الفطرة وراء ستار الشهوة ...........  ٢٨٥

الندم على القتل ..................  ٢٨٥

الحالات غير الطبيعية .............  ٢٨٦

تراجع فرويد عن عقيدته ...........  ٢٨٨

حادثة القتل الأولى في تاريخ الإِنسان ........................  ٢٨٩

إنطفاء الوجدان ..................  ٢٨٩

قبح الخيانة ......................  ٢٩١

الدعوة على أساس الفطرة ..........  ٢٩٣

عدالة الوجدان ...................  ٢٩٤

الميثاق الفطري ...................  ٢٩٥

إطاعة الوجدان الأخلاقي ..........  ٢٩٦

الإِستفادة من الوجدان ............  ٢٩٨

المحاضرة الثانية عشرة

الاختبار النفسي ....................  ٢٩٩

العقدة النفسية ...................  ٢٩٩

الضمير الباطن والظاهر ............  ٣٠٠

رقابة الضمير الباطن ..............  ٣٠١

طرق إكتشاف السر الباطن ........  ٣٠٢

أما فرويد ........................  ٣٠٤

فلتات اللسان ....................  ٣٠٤

الأحلام وتفسيرها ................  ٣٠٨

الإِسلام والأحلام .................  ٣١٠

التحليل النفسي قبل فرويد .........  ٣١١

تحوير الضمير الباطن ..............  ٣١٢

التحليل النفسي في الإِسلام ........  ٣١٤

أ ـ ربط الحلم بالعواطف ...........  ٣١٥

ب ـ الرموز والكنايات في الحلم .....  ٣١٩

نصيحة في نقل الحلم .............  ٣١٩

فرويد ونظريته البتراء ..............  ٣١٩

الحقائق المجهولة ..................  ٣٢٠

المحاضرة الثالثة عشرة

تعديل الميول ـ الفرار من تعذيب الضمير .............................  ٣٢٥

قوتان باطنيتان ...................  ٣٢٦

قيادة الغرائز .....................  ٣٢٦

طغيان الغرائز ....................  ٣٢٧

الوجدان والغرائز ..................  ٣٢٩

عبادة الهوى .....................  ٣٣٠


الوجدان وتعديل الهوى ............  ٣٣٢

التعامل على أساس الوجدان .......  ٣٣٣

سعادة المجتمع ...................  ٣٣٤

جزاء مخالفة الوجدان ..............  ٣٣٤

جنون ضابط شاب ...............  ٣٣٥

الرشيد وغادر ....................  ٣٣٨

على مفترق الطرق ................  ٣٤٠

الهدوء النفسي ...................  ٣٤٣

١ ـ خطر اليأس ..................  ٣٤٤

٢ ـ إتهام الأبرياء ..................  ٣٤٤

٣ ـ غفران الذنوب ................  ٣٤٥

الاقرار بالذنب ...................  ٣٤٦

رجاء المغفرة .....................  ٣٤٧

الندم وطلب المغفرة ...............  ٣٤٧

الإِيمان وتدارك الخطأ ..............  ٣٤٨

المحاضرة الرابعة عشرة

التربية على أساس الإِيمان ..........  ٣٥٠

الأساس الأول للتربية ..............  ٣٥٠

القوانين الطبيعية من سنن الله ......  ٣٥١

العالم في نظر الإِلٰهيين والماديين ......  ٣٥٣

الإِيمان وإحياء الفطريات ...........  ٣٥٤

طغيان الغرائز واندحار الوجدان .....  ٣٥٦

العقل والغرائز ....................  ٣٥٧

العلم والغرائز ....................  ٣٥٨

غلبة الغريزة على العلم .............  ٣٥٨

الهمجية في لباس التمدن ..........  ٣٥٩

أوهام فرويدية ....................  ٣٦١

التمدن الفاقد للإِيمان .............  ٣٦٢

النوايا الصالحة ...................  ٣٦٣

العمل المستند إلى الإِيمان ..........  ٣٦٤

الرياء والتظاهر ...................  ٣٦٥

الإِيمان والقيام بالواجب ............  ٣٦٦

الإِيمان وتعديل الغرائز .............  ٣٦٧

الإِيمان والعزم ....................  ٣٦٨

الإِيمان والهدوء النفسي ............  ٣٦٩

مرض القلق ......................  ٣٦٩

الإِيمان وعلاج القلق ..............  ٣٧٠

الإِلحاد والقلق ....................  ٣٧٢

إيمان الأنبياء .....................  ٣٧٣

إحياء الفطرة الأولى ...............  ٣٧٤

المحاضرة الخامسة عشرة

التربية في ظل العدل والحرية ......  ٣٧٦

حب الكمال ....................  ٣٧٦

التكامل في ظل الحرية .............  ٣٧٧

المقارنة بين الأسرة والدولة ..........  ٣٧٨

الإِستبداد والتعنت ................  ٣٧٩

الفرق بين الحرية والإِستبداد ........  ٣٨٠

١ ـ الحرية والهدوء النفسي ..........  ٣٨٠

الإِنقياد بسبب الخوف ............  ٣٨١

الإِنقياد في ظل الحرية .............  ٣٨٢

العدالة في الأسرة .................  ٣٨٣


نتيجة الإِستبداد .................  ٣٨٤

٢ ـ الخوف من العقاب ............  ٣٨٤

الإِسلام والأمن ..................  ٣٨٥

أ ـ الخوف من الله ................  ٣٨٦

ب ـ الخوف من الحكومة ..........  ٣٨٧

النبي العطوف ....................  ٣٨٧

الحكومة الحرة للإِمام علي عليه‌السلام .....  ٣٨٨

خوف الطفل من الذنب ..........  ٣٨٩

خوف الطفل من الأب ...........  ٣٩٠

دية اللطم والعقوبة البدنية .........  ٣٩١

جزاء الولد السيء الخلق ...........  ٣٩٢

٣ ـ الدوام في ظل العدل ...........  ٣٩٣

الحكام الجائرون ..................  ٣٩٣

بنو أُمية واعتداءاتهم ..............  ٣٩٤

بقاء الأسرة في ظل العدل ..........  ٣٩٥

٤ ـ تقسيم العمل والكفاءة .........  ٣٩٦

العمل في الدولة الإِستبدادية .......  ٣٩٧

العمل في الحكومة القانونية ........  ٣٩٧

الأسرة والحرية ....................  ٣٩٨

تجانس الدولة والأسرة .............  ٣٩٨

فهرس تفصيلي ...................  ٣٩٩

الطفل بين الوراثة والتربية - ١

المؤلف: الشيخ محمد تقي فلسفي
الصفحات: 407
ISBN: 964-94553-6-1