مقدِّمة
المركز
الحمد
لله رب العالمين.. وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله الهداة الميامين الطاهرين..
وبعد
:
إن
دراسة سيرة أئمة أهل البيت عليهمالسلام تعدّ إحدى الركائز
الأساسية في البناء العقائدي والفكري والسلوكي لديننا القويم، ذلك لأنهم عدل القرآن الكريم والامتداد الرسالي لمنهج النبوة، والحارس الأمين للقيم والمفاهيم الإسلامية في وجه التشويه والتحريف والضلال.
إنها
سيرة معصومة تكشف عن سلوك القدوة الحسنة بكل تجلياتها، وتربط المرء بالمفاهيم الإسلامية في أصالتها، وتفتح له آفاقاً جديدة في مجالات العلم والعمل والفكر والتربية والسلوك.
ومن
هنا فإن الكتابة عنها لا تنتهي، مهما تعددت الدراسات وتنوعت أساليبها، ذلك مما يجده الباحثون من حالة التواصل مع دلالاتها التي تتسع بسعة الحياة وتستغرق كل مفرداتها، وتسير بها باتجاه حركة التكامل المطلوب على صعيد الفرد والاُمّة.
وعلى
هذه الصفحات نسير في رحلة جميلة مع سيرة وصي النبي وابن عمه وباب مدينة علمه، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام، منذ مولده الشريف في الكعبة المعظمة، حتىٰ لقي الله مخضباً بدمه في محراب العبادة بمسجد الكوفة، شهيداً وشاهداً على الاُمّة بعد سنواتٍ من المحنة والجهاد.
إن
سيرته عليهالسلام صفحة خالدة من صفحات
المجد والسمو، نقرأ فيها عالم المثل العادلة ومبادئ العظمة والاستقامة والخصائص الفريدة، نقرأ سيرة رجل عاش لله، وليس فيه شيء لغيره، يغضب لغضبه، ويرضىٰ لرضاه، ويحب فيه، ويبغض فيه،
أعظم
الناس جهاداً في سبيله وأكثرهم معرفة بشريعته وعملاً باحكامها وإحياءً لمعالمها.. فجاءت سيرته تجسيداً لرسالة الإسلام، بل كانت إسلاماً يتحرك على الأرض.. انه الكتاب الناطق والسنة الحية.
لقد
كان علي عليهالسلام قمةً في كلّ شيء، ينحدر
عنه السيل، ولا يرقى إليه الطير، استغنى عن الكل، واحتاج الكل إليه، لكنه عاش في مجتمعٍ عزّ وجود من يفهمه فيه، فكان يقودهم إلى مبادئ الحق ومعارج الكمال، وكانوا يريدونه لدنياهم وشهواتهم ولذاتهم، قال عليهالسلام : « ليس أمري وأمركم
واحداً، انني اُريدكم لله، وتريدونني لأنفسكم » وكان يتفجّر علماً لم يجد له حملة، قال عليهالسلام : « إن ها هنا لعلماً جماً لو أصبت له حملة ».
ورغم
هذا وذاك، فقد أضحى عليٌ عليهالسلام مناراً أبدياً وراية
خالدة ترفعها البشرية على اختلاف ألوانها وأديانها، لأنه إمام الإنسانية الذي يقول : « الناس صنفان : أخ
لك في الدين، ونظير لك في الخلق ».
إن
مسؤولية الانتماء إلى علي عليهالسلام تدعونا إلى الاجتهاد
في طاعة الله والتواصل على خط العفة والورع والسداد، والاقتداء ببعض جوانب سيرته، ذلك لأن تجسيد شخصيته الموسوعية الهائلة بكل أبعادها أمرٌ دونه خرط القتاد، فهو القائل عليهالسلام : « ألا وان لكل مأموم إماماً، يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقرصيه، ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد ».
ومن
هنا فإن اصدارنا هذا تكفل بتغطية بعض مفردات تلك السيرة العطرة، باسلوب واضح يتبع المنهج العلمي الدقيق، موثقاً بالمصادر المعتبرة.
ندعو
من الله العزيز أن ينفع به الأخوة المؤمنين، وهو تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
مركز
الرسالة
المُقدَّمةُ
إنه
قد لا يخفى على قارئ ما يعانيه كاتب وهو يحاول الاقتراب من مقامٍ عليٍّ، كَمَقام عليّ.. ذلك المقام الذي طالما أدهش العقول، وأذهل البصائر، وحيّر الألباب.. فليس لأحد بعد النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم من مقام يشبه مقام
رجل اقترنت حياته كلها بحياة ذلك النبي العظيم، منذ ولادته وعلى امتداد أيام نشأته، ومنذ فجر الإسلام ومبعث النبي وعلى امتداد ايام دعوته وفصول جهاده وحتى لحظاته الأخيرة بل حتىٰ توديع جثمانه الطاهر، بل بعد ذلك إلى يوم الدين إذ به قد
امتد نسل النبي من ابنته الوحيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام، بل حتىٰ في يوم الدين وبعده في مقام الخلود تقترن الشخصيتان في أعظم مقام عند الله تعالى، فلواء الحمد لخاتم النبيين محمد، وحامله علي، وحوض الكوثر تحفة الله لنبيه محمد، والساقي عليه عليّ، والمقام المحمود في الجنان لسيد الخلق محمد، وصاحبه فيه عليّ.. فمهما أفاض القلم بالمداد، ومهما أبدع الكاتب وأجاد، فإن الذي بينه وبين حقيقة مقام علي مسافات شاسعة ودنيا واسعة.. ويبقى جهد المقل في صفحات معدودات أن يستعيد العناوين الرئيسية التي تستوعبها الكتابات التقليدية عن رجل له هذا المقام الكبير.
وغاية
هذا الكتاب هي الوقوف عند مثل هذه العناوين، إسهاماً في تأكيد الحق العلوي الذي لا يحجب اشراقه كل ما وضعه جبابرة التاريخ من حُجب، ولا يعلو عليه كل ما راكموه من باطل...
تناولنا
ذلك معتمدين التركيز والاختصار، مع التوثيق المناسب.
وقد
جاء هذا الكتاب في ثلاثة أبواب :
تناول
الباب الأول : حياة علي عليهالسلام مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في فصلين
الفصل
الأول : علي عليهالسلام مع الرسول قبل
البعثة.
الفصل
الثاني علي عليهالسلام مع الرسول بعد
البعثة والذي يقسم إلى مبحثين :
المبحث
الأول : في مكة.
المبحث
الثاني : في المدينة.
وتناول
الباب الثاني : علي عليهالسلام قبل تولي الخلافة، على
النحو الاتي :
مدخل
في خصائصه والادلة على امامته.
الفصل
الأول : قصة السقيفة.
الفصل
الثاني : مع أبي بكر وعمر وعثمان.
والباب
الثالث : خلافة أمير المؤمنين عليهالسلام وهو في فصلين :
الأول
: تولي الخلافة وسياسته عليهالسلام في الإصلاح
الثاني
: علي عليهالسلام في العراق.
راجين
أن نكون قد وفينا بهذا الجهد المتواضع بعض الحق الذي في أعناقنا لهذا الامام الكبير، آملين الفوز بشفاعته.. والله من وراء القصد.
الباب
الأول عليٌّ عليهالسلام مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
الفصل
الأول : علي عليهالسلام
مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل البعثة
وهو فصل تمهيدي نتناول فيه شخصية أمير
المؤمنين عليهالسلام
من حيث نسبه وصفته وأسمائه وألقابه ومولده ونشأته في بيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
نسبه :
هو سيِّد العرب، يعسوب المؤمنين، مولىٰ
الموحّدين، أسد الله الغالب عليُّ بن أبي طالب بن عبدالمطَّلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي بن كلاب بن مرَّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
القرشي، الهاشمي، المكِّي، المدني.
قيل : « هو أول هاشمي ولد من أبوين
قرشيين هاشميين »
وفي عبارة الكليني : « وهو أول هاشمي ولده هاشم مرَّتين » .
ولا يصحُّ ذلك، لأنَّ اُمَّه ولدت قبله
طالباً وعقيلاً وجعفراً من أبوين هاشميين!!
_______________________
والصحيح أن يقال : «وأمُّه أول هاشمية
ولدت هاشمياً» ..
وهو والد ابنين هاشميين، لأبوين وجدَّين
كلِّهم من بني هاشم.
كنيته : أبو الحسن.
ابن عم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخوه، آخاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
مرَّتين ؛ فإنَّ رسول الله آخىٰ بين المهاجرين، ثُم آخىٰ بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، وقال لعليٍّ في كلِّ واحدة منها : « أنت أخي في الدنيا والآخرة »
.
وهو وزير رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووصيُّه وخليفته في أُمَّته، وجامع فضائله وشمائله، ووارث علمه وحكمه، وختنه علىٰ ابنته فاطمة الزهراء عليهاالسلام.
وأول خليفة من بني هاشم، هاجر الهجرتين،
ماشياً حافياً، وشهد بدراً وأُحداً والخندق وبيعة الرضوان والمشاهد كلَّها، إلَّا معركة تبوك، فقد خلَّفه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
علىٰ المدينة، كان ذلك أحد مواضع قوله له : « أنت منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ إلّا أنه لا نبي بعدي »
وأبلىٰ في
جميع المعارك بلاءً عظيماً، وكان اللواء في أكثر المواضع بيده.
جدُّه وأبوه :
جدّه عبدالمطَّلب، الملقَّب بشيبة الحمد
؛ لشيبة كانت في رأسه ،
وقيل : « اسمه شيبة » ،
وكنيته : أبو البطحاء، لأنَّهم استسقوا به سقياً فكنَّوه
_______________________
به ..
وقد بلغ من الشرف في قومه ما لم يبلغه أحد من قبل.
وكان عبدالمطَّلب جدُّ رسول الله يكفله،
وعبدالمطَّلب يومئذٍ سيِّد قريش غير مدافَع، قد أعطاه الله من الشرف ما لم يعطِ أحداً، وسقاه زمزم وذا الهُدُم، وحكَّمته قريش في أموالها، وأطعم في الُمحل حتىٰ أطعم الطير والوحوش في الجبال.
قال أبو طالب :
ونُطعمُ حتىٰ تأكُلَ الطيرُ
فضلَنا
|
|
|
إذا جَعَلَتْ أيدي المُفيضينَ
تَرْعَدُ
|
|
|
|
وكان علىٰ ملَّة إبراهيم الخليل ؛
فرفض عبادة الأصنام ووحَّد الله عزَّوجلَّ، وسنَّ سنناً نزل القرآن بأكثرها، وجاءت السُنَّة من رسول الله بها وهي : الوفاء بالنذور، ومائة من الإبل في الديّة، وألَّا تنكح ذات محرم، ولاتؤتىٰ البيوت من ظهورها، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموؤدة، والمباهلة، وتحريم الخمر، وتحريم الزنا، والحدُّ عليه، والقرعة، وألَّا يطوف أحدٌ بالبيت عرياناً، وإضافة الضيف، وألَّا ينفقوا إذا حجَّوا إلَّا من طيِّب أموالهم، وتعظيم الأشهر الحُرم، ونفي ذوات الرايات .
هكذا كان مجاهراً بدينه، داعياً إلىٰ
الخلق الكريم والمبادئ السامية التي جاءت بها الاديان، وكان له في هذه الخصال دور لا يشاركه فيه أحد، حتىٰ أنَّ قريشاً كانت تسميه إبراهيم الثاني.
_______________________
وكان يفرش له بفناء الكعبة والناس من
حوله يهابونه، فلا يقرب فراشه أحد، إلَّا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد كان يتخطَّىٰ رقاب عمومته، ويجلس علىٰ فراش جدِّه، ولما حاولوا منعه قال لهم : دعوا ابني، إنَّ لابني هذا شأناً..
وتوفِّي عبدالمطَّلب ولرسول الله ثماني
سنين، وكانت قد أتت علىٰ عبدالمطَّلب مائة وعشرون سنة، وقيل : مائة وأربعون سنة .
وعن أمِّ أيمن قالت : أنا رأيت رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم
يمشي تحت سريره وهو يبكي، وقيل : كان لعبدالمطَّلب يوم مات ثمانون سنة .
وأعظمت قريش موته، وغُسل بالماء والسدر
ودُفن بالحجون، وقيل : إنَّه حُمل علىٰ أيدي الرجال عدَّة أيَّام إعظاماً وإكراماً وإكباراً
لتغييبه في التراب.
وروي عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنَّه قال : «
إنَّ الله يبعث جدِّي عبدالمطَّلب أُمَّة واحدة في هيئة الأنبياء وزيِّ الملوك »
.
وورث أبو طالب ـ والد عليٍّ أمير
المؤمنين عليهالسلام
ـ زعامة أبيه عبدالمطَّلب، وكفالته رسول الله، فكان خير كافل ومعين، وقد كان كأبيه سيِّداً شريفاً مهيباً.
قال عليُّ بن أبي طالب : « أبي ساد فقيراً، وما
ساد فقيرٌ قبله » ،
_______________________
وخرج برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلىٰ بُصرىٰ من أرض الشام وهو ابن تسع سنين، وقال : «والله لا أكِلك إلىٰ غيري» .
وتولَّىٰ العناية برسول الله
والقيام بشؤونه من سنة ثمان من مولده الشريف، وحتىٰ العاشرة من النبوَّة، وذلك اثنان وأربعون سنة، وظل يدافع عن النبي ورسالته حتىٰ آخر نفس من حياته، وقد انعكست هذه الحقيقة وتجلَّى موقفه هذا في كثير من أشعاره، منها قوله :
ليعلم خيار الناس أنَّ محمداً
|
|
نبيٌّ كموسىٰ والمسيح ابن مريم
|
وقوله :
ألم تعلموا أنَّا وجدنا محمداً
|
|
رسولاً كموسىٰ خطَّ في أوَّل
الكتبِ
|
وقوله في لاميَّته الشهيرة :
لقد علموا أنَّ ابننا لا مكذَّبٌ
|
|
لدينا ولا يُعنَىٰ بقولِ
الأباطلِ
|
فأصبح فينا أحمد في اُرومةٍ
|
|
تُقصِّر عنه سَورَة المتطاوِلِ
|
حَدِبْتُ بنفسي دونه وحميتُه
|
|
ودافعت عنه بالذُّرا والكلاكلِ
|
فأيَّده ربُّ العباد بنصره
|
|
وأظهرَ ديناً حَقُّهُ غيرُ باطلِ
|
وتوفِّي أبو طالب بعد وفاة خديجة بثلاثة
أيَّام ـ أي قبل هجرة الرسول من مكَّة إلىٰ المدينة بثلاث سنين ـ في شوال أو في ذي القعدة، وله ست وثمانون سنة، وقيل بل تسعون ،
وسمَّىٰ النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
هذا العام بعام
_______________________
الحزن، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتىٰ مات أبو طالب »
.
وقال السدي : مات أبو طالب وهو ابن بضع
وثمانين سنة، ودُفن بالحجون عند عبدالمطَّلب.
ولمَّا قيل لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: إنَّ أبا طالب قد مات، عظُم ذلك في قلبه، واشتدَّ له جزعه، ثُمَّ دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرَّات، وجبينه الأيسر ثلاث مرَّات، ثُمَّ قال : «
يا عم ربّيت صغيراً، وكفلت يتيماً، ونصرت كبيراً، فجزاك الله عنِّي خيراً »
ومشىٰ بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول : «
وصلتك رحم وجُزيتَ خيراً »،
وقال : «
اجتمعت علىٰ هذه الأُمَّة في هذه الأيَّام مصيبتان لا أدري بأيِّهما أنا أشدُّ جزعاً »
يعني : مصيبة خديجة وأبي طالب رضي الله عنهما .
وسُئل الإمام السجَّاد عليهالسلام عن إيمان أبي طالب، فقال
: «
واعجباً، إنَّ الله نهىٰ رسوله أن يقرَّ مسلمة علىٰ نكاح كافر ؛ وقد كانت فاطمة بنت أسد
من السابقات إلىٰ الإسلام، ولم تزل تحت أبي طالب حتَّىٰ مات »
.
وهو من أوضح البراهين علىٰ إيمان
أبي طالب رضي الله عنه.
أُمُّه :
فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم ـ جدُّ
النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ بن عبد مناف بن قصي الهاشمية القرشية، وأُمُّها فاطمة بنت قيس بن هرم بن رواحة بن
_______________________
حجر بن عبد بن بغيض
بن عامر بن لؤي
بنت عم أبي طالب.
وقال أهل السير : «هي أول هاشمية تزوّجت
هاشمياً وولدت خليفة هاشمياً»
وهي من سابقات المؤمنات إلىٰ الإيمان، وكانت قبل ذلك علىٰ ملَّة إبراهيم الخليل عليهالسلام،
هاجرت مع رسول الله في جملة المهاجرين إلىٰ المدينة المنوَّرة ـ علىٰ ساكنها السلام ـ ماشية، حافية، وهي أوَّل امرأةٍ بايعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بمكَّة بعد خديجة زوج الرسول..
وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يعاملها كما يعامل ابنٌ برَ أمَّه حتىٰ يوم وفاتها. حيث توفِّيت في المدينة المنوَّرة سنة أربع من الهجرة، وأنَّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال :
« اليوم ماتت أمِّي » ،
وشهد جنازتها فصلَّىٰ عليها وكفَّنها قميصه ليدرأ عنها هوامَّ القبر، ونزل في قبرها لتأمن ضغطته .
وروي أنها سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : «
يُحشر الناس يوم القيامة عراة » فقالت : واسوأتاه، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
فإنِّي أسأل الله أن يبعثك كاسية » .
وسمعته يذكر عذاب القبر فقالت : واضعفاه،
فقال : «
إنِّي أسأل الله أن يكفيك ذلك » ..
وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل ذلك يزورها ويقيل عندها في بيتها، وقال ابن عبَّاس : «وفيها نزلت ( يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ
_______________________
يُبَايِعْنَكَ...
)
»
وإنَّها كانت من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بمنزلة الأمِّ، تفضِّله علىٰ أبنائها وتغدقه من حنانها وكان شاكراً لبرِّها.. وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنَّها كانت أمِّي، إنها كانت لتجيع صبيانها وتُشبعني، وتشعثهم وتدهنني، وكانت أمِّي » .
إخوته :
وله عليهالسلام
خمس إخوة كلُّهم من أمِّه فاطمة بنت أسد : ثلاثة ذكور وبنتان، فالذكور : طالب، وعقيل، وجعفر، وبين كلِّ واحد وآخر عشر سنين والبنتان : أم هاني، وجمانة. وفي ما يلي نذكر موجزاً عن أحوالهم :
١
ـ طالب : وهو أكبر ولد أبي طالب، وبه كان يكنَّىٰ،
أخرجه المشركون يوم بدر لقتال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
كرهاً؛ فقال :
اللَّهمّ إمّا يغزون طالب
|
|
في منقبٍ من هذه المناقب
|
وليكن المغلوب غير غالب
|
|
وليكن المسلوب غير السالب
|
فلمَّا انهزم المشركون يوم بدر لم يوجد
في القتلىٰ، ولا في الأسرىٰ، ولا رجع إلىٰ مكَّة، ولا يُدرىٰ ما حاله، وليس له عقب .
٢
ـ عقيل :
وهو أكبر من جعفر بعشر سنين كذلك، ويكنَّىٰ أبا يزيد.
_______________________
قال له النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنِّي أحبُّك حبَّين، حبَّاً لقرابتك، وحبَّاً لما كنتُ أعلم من حبِّ عمِّي إيَّاك »
.
وكان عقيل ممَّن خرج مع المشركين إلىٰ
بدر مكرهاً، فأُسر يومئذٍ ولم يكن له مال ؛ ففداه عمُّه العبَّاس. ثمَّ أتىٰ مسلماً يوم الحديبية، وهاجر
إلىٰ النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
سنة ثمانٍ، وشهد غزوة مؤتة.
قال الواقدي : «أصاب عقيل يوم مؤتة
خاتماً عليه تماثيل، فنفله إيَّاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فكان في يده» .
وكان سريع الجواب المسكت للخصم، وله فيه
أشياء حسنة يطول ذكرها، وكان أعلم قريش بالنسب، وأعلمهم بأيَّامها، ولكنَّه كان مبغَّضاً إليهم، لأنَّه كان يَعدُّ مساوئهم.
وكان علىٰ رأس ثلاثة اعتمدهم عمر
بن الخطَّاب في تثبيت أسماء العرب وأنسابهم في الديوان الذي أقامه، ويعدُّ هذا الديوان أوَّل كتاب في الأنساب يكتبه المسلمون، وقد كان عقيل رأساً فيه.
وكانت له طنفسة ـ بساط ـ تطرح له في
مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
ويجتمع الناس إليه في علم النسب وأيَّام العرب، وكان يكثر ذكر مثالب قريش، فعادوه لذلك، وقالوا فيه بالباطل، ونسبوه إلىٰ الحمق، واختلقوا عليه أحاديث مزوَّرة.
وكان ممَّا أعانهم عليه مفارقته أخاه
عليَّاً عليهالسلام،
ومسيره إلىٰ معاوية
_______________________
بالشام، فقيل : «إنَّ
معاوية قال له يوماً : هذا أبو يزيد، لولا علمه بأنِّي خير له من أخيه، لما أقام عندنا، فقال عقيل : أخي خير لي في ديني، وأنت خير لي في دنياي، وقد آثرت دُنياي، وأسأل الله خاتمة خيرٍ بمنِّه » .
وكانت زوجته فاطمة بنت عُتبة بن ربيعة
خالة معاوية، وعاش عقيل إلىٰ سنة خمسين من الهجرة وتوفِّي بعدما ذهب بصره.
ومن أولاده : يزيد، وبه كان يكنَّىٰ،
وسعيد، وأمُّهما أمُّ سعيد بنت عمرو من بني صعصعة.
وجعفر الأكبر وأبو سعيد ـ وهو اسمه ـ
وأمُّهما أمُّ البنين كلابية.
ومسلم وهو الذي بعثه الحسين عليهالسلام إلىٰ الكوفة
وبها استشهد وقبره هناك يزار.
وعبدالرحمن وعلي وجعفر وحمزة ومحمد ورملة
وأم هاني وفاطمة وأم القاسم وزينب وأم النعمان وجعفر الأصغر، أولاد لأمَّهات شتَّىٰ.
٣
ـ جعفر :
وهو المعروف بـ (جعفر الطيَّار) فقد كان أشبه الناس برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
خلقاً وخُلُقاً ،
أسلم بعد إسلام أخيه عليٍّ بقليل.
وكان لجعفر من الولد عبدالله، وبه كان
يُكنَّىٰ، وله العقب من ولد جعفر، ومحمَّد وعون لا عقب لهما، وُلدوا جميعاً لجعفر بأرض الحبشة في المهاجرة إليها، وأمُّهم أسماء بنت عُميس بن معبد بن تيم.
_______________________
وقد كان من السابقين الأوَّلين إلىٰ
الإسلام.. فقد روي أنَّ أبا طالب رأى النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعليَّاً عليهالسلام
يصلِّيان، وعليٌّ عن يمينه، فقال لجعفر رضي الله عنه : «صِلْ جناح ابن عمِّك، وصَلِّ عن يساره» .
وقيل : أسلم بعد واحد وثلاثين إنساناً، وكان
هو الثاني والثلاثين، قاله ابن إسحاق، وله هجرتان : هجرة إلىٰ الحبشة، وهجرة إلىٰ المدينة..
وكان رسول الله يسمِّيه : أبا المساكين...
ولمَّا هاجر إلىٰ الحبشة أقام بها عند النجاشي، إلىٰ أن قدم علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
حين فتح خيبر، فتلقَّاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
واعتنقه، وقبَّل بين عينيه، وقال : « ما أدري بأيِّها أنا أشدُّ فرحاً ؛ بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر »؟
وأنزله رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلىٰ جنب المسجد .
٤
ـ أمُّ هاني : قال ابن سعد : «
اسمها جعدة، وقيل : فاخته، وقيل : هند، وهي التي أجارت زوجها وقوماً من المشركين يوم فتح مكة، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
قد أجرنا من أجرت ».. وهاجرت إلىٰ
المدينة » .
٥
ـ جُمانة : تزوَّجها أبو سفيان
بن الحارث بن عبدالمطَّلب، وهاجرت إلىٰ المدينة، وتوفِّيت في حياة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم..
وذكر ابن سعد لأبي طالب ابنة أُخرىٰ
وقال : اسمها ريطة وقيل : أسماء، وذكر أيضاً لأبي طالب أبناً آخر، وقال : اسمه : طليق، واسم أمِّه وعلة، والله أعلم بالصواب .
_______________________
وليد الكعبة :
من العجائب التي أضافت صوتاً ضارباً في
التاريخ وأحداثه الفريدة التي تفتح الأعين علىٰ ما تخفيه من أسرار، أن يصطفي الله لعبد اصطفاه، حتىٰ موضع مولده، ليجمع له ـ مع طهارة مولده ـ شرف المحل، محل الولادة، ويخصّه بمكرمةٍ ميَّزه بها منذ ساعة مولده عن سائر البشر.
هكذا كان مولد عليِّ بن أبي طالب سلام
الله عليه، في البيت العتيق في الكعبة الشريفة.
وكان ذلك يوم الجمعة، الثالث عشر من شهر
الله الأصمّ رجب، بعد عام الفيل بثلاثين سنة .
قبل البعثة بعشر سنين .
حوالي عام ٦٠٠م (٢٣ قبل الهجرة)، وقيل : «ولد سنة ثمان وعشرين من عام الفيل» .
ولعلّه في مثل هذا اليوم الذي وُلِد فيه
أمير المؤمنين، قد وُلِد الألوف من البشر، لكنَّ ولادته مثَّلت حدثاً عجيباً تجلَّت به الأسرار، وتلبَّست بالحكمة الربَّانية.
كانت مثاراً للدهشة الأبدية، فقد وضعت
فاطمة وليدها في البيت العتيق! في مكان عبادة لا ولادة، أليس ذلك بالشيء العظيم ؟!
ويسجل التاريخ ذاك الفخر الذي ظهر فيه
عليٌّ عليهالسلام
مديراً ظهره للأصنام التي كانت الكعبة الشريفة تضجُّ بها، وعن قريب سينهض هذا
_______________________
الوليد علىٰ كتف
رسول الله ليلقي بها أرضاً، تحت بطون الأقدام!!
تلك ولادة أكرمه الله بها، فشاركته
أمُّه الكريمة في فخرها..
إنَّ أُمَّه فاطمة بنت أسد لمَّا ضربها
الطلق، جاءت متعلِّقة بأستار الكعبة الشريفة، من شدة المخاض، مستجيرة بالله وَجِلةً، خشية أن يراها أحد من الذين اعتادوا الاجتماع في أُمسياتهم في أروقة البيت أو في داخله، فانحازت ناحية وتوارت عن العيون خلف أستار البيت، واهِنةً مرتعشة أضنتها آلام المخاض؛ فألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول :
«يا ربِّ، إنِّي مؤمنة بك وبما جاء من
عندك من رسل وكتب، وإنِّي مصدِّقة بكلام جدِّي إبراهيم وأنَّه بنىٰ البيت العتيق، فبحقِّ الذي بنىٰ
هذا البيت وبحقِّ المولود الذي في بطني إلَّا ما يسرت عليَّ ولادتي».
قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد
انشقَّ عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد إلىٰ حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنَّ ذلك من أمر الله تعالىٰ، ثُمَّ خرجت في اليوم الرابع وعلىٰ يدها أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام .
وهو حديث جدير كذلك أن يخلّده الشعراء :
أنشد الحميري (ت ١٧٣ هـ) :
وَلدَتْهُ في حرم الإله وأمنه
|
|
والبيت حيث فناؤه والمسجد
|
بيضاء طاهرة الثياب كريمة
|
|
طابت وطاب وليدها والمولد
|
ما لُفَّ في خِرَقِ القوابِل مِثلُه
|
|
إلّا ابن آمنةَ النبيِ محمّد
|
_______________________
وله أيضاً في أمير المؤمنين عليهالسلام :
طبتَ كهلاً وغلاماً
|
|
ورضيعاً وجنينا
|
ولدىٰ الميثاق طيناً
|
|
يوم كان الخلقُ طينا
|
وببطن البيت مولوداً
|
|
وفي الرمل دفينا
|
وقال عبدالباقي العمري في عينيته
الشهيرة :
أنت العليّ الذي فوق العُلىٰ رُفعا
|
|
ببطن مكة عند البيت إذ وُضعا
|
وعقّب عليه أبو الثناء الآلوسي في شرحه
هذه القصيدة ـ شرح عينية عبدالباقي العمري ـ ما نصه : «وفي كون الأمير كرّم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا، وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة ... ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه كما اشتهر وضعه، بل لم تتفق الكلمة عليه، وأحرىٰ بإمام الأئمّة أن يكون وضعه في ما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من يصنع الأشياء، وهو أحكم الحاكمين» .
صفته :
نشأ عليهالسلام
مكين البنيان، شاباً وكهلاً، حافظاً لتكوينه المكين حتىٰ ناهز الستين من عمره الشريف، كان قوي البنية، ممتلىء الجسم، كثير الشعر، ربعة في الرجال لا هو بالطويل ولا بالقصير، عريض المنكبين، له مشاش كمشاش السبع الضاري، يغلظ من أعضائه ما استغلظ من أعضاء الأسد ويدقُّ منها ما استدقّ ..
_______________________
هذا وتدلُّ أخباره ـ كما تدلُّ صفاته ـ علىٰ
قوَّة جسدية، فربَّما رفع فارساً بيده فجلد به الأرض غير جاهد، وما صارع أحداً إلَّا وصرعه..
يتكفَّأ في مشيته علىٰ نحو ما
يقارب مشية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، الذي جعله أُسوته وقدوته منذ أن نشأ وحتَّىٰ مات.
وذكر بعضهم أنَّه كان آدمَ ـ أي أسمر ـ شديد
الأدمة، عظيم العينين غليظ الساعدين أقرب إلىٰ القصر من الطول، عريض اللحية..
ولم يصفه أحد بالخضاب، سوىٰ سواد
بن حنظلة، قال ابن سعد : والصحيح أنَّه لم يخضب، وروي أنَّه كان يصفِّر لحيته بالحنَّاء ثُمَّ ترك .
أسماؤه وألقابه :
كثيرة أسماؤه وألقابه عليهالسلام ومختلف في بعضها بين
العلماء، فقال مجاهد : « إنَّ أُمُّه سمَّته عليَّاً عند ولادته.
وقال عطاء : إنَّما سمَّته أُمُّه حيدرة،
بدليل قوله يوم خيبر : «
أنا الذي سمَّتني أمِّي حيدرة »، فلمَّا علا علىٰ
كتفي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وكسَّر الأصنام سُمِّي عليَّاً من العلو والرفعة والشرف» .
وليس هذا بالمعتمد، فقد عُرف باسم
«عليٍّ» منذ الصغر.
وعن ابن عبَّاس : «كانت أُمُّه إذا دخلت
علىٰ هُبل لتسجد له وهي حامل به علىٰ بطنها فيتقوَّس فيمنعها من السجود فسُمِّي عليَّاً » .
ولا يصحُّ؛ لأنَّ أُمَّه فاطمة بنت أسد كانت تتعبَّد علىٰ ملَّة إبراهيم
الخليل،
_______________________
كما ذكرنا ذلك سابقاً.
وقال سبط ابن الجوزي : «وقول مجاهد
أظهر؛ لأنَّه ثبت المستفيض بهِ، ولايمنعها من تسميته عليَّاً أن تسمِّيه حيدرة، لأنَّ حيدرة اسم من أسامي الأسد لغلظ عنقه وذراعه، وكذلك كان أمير المؤمنين عليهالسلام
، فيكون عليٌّ اسمه الأصلي، وحيدرة وصفاً له» .
وعنه أيضاً : «وقد سمَّاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
«ذا القرنين» ذكر ذلك بإسناده المتَّصل إلىٰ سلمة بن الطفيل، عن عليٍّ عليهالسلام
، قال : «
قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إنَّ لك في الجنَّة قصراً، وإنَّك ذو قرنيها »
» .
قال : «وهذا حديث أخرجه أحمد بن حنبل في
المسند، وأخرجه أحمد أيضاً في كتاب جمع فيه فضائل أمير المؤمنين، ورواه النسائي مسنداً».
وقد عُرف عليهالسلام
بألقاب كثيرة، جاء كثير منها في حديث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
منها : «
يعسوب المؤمنين » وأصل اليعسوب هو ملك
النحل، ومنه قيل للسيِّد : يعسوب، والمؤمنون يتشبَّهون بالنحل؛ لأنَّ النحل تأكل طيباً.
ويلقَّب أيضاً : الولي، والوصي، والتقي،
وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وشبيه هارون، وصاحب اللوىٰ، وخاصف النعل، وكاشف الكرب، وأبو الريحانتين، وبيضة البلد، وغيرها كثير .
وكنَّاه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأبي تراب لمَّا رآه ساجداً معفِّراً وجهه في التراب، فكان ذلك من أحبِّ ألقابه إليه.
_______________________
وجاء في سبب تسميته ـ كما نقله ابن
إسحاق عن عمَّار بن ياسر ـ أنَّه قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، فلمَّا نزلها رسول الله وأقام بها، رأينا ناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم، فقال لي عليٌّ عليهالسلام
: «
يا أبا اليقظان، هل لك في أن نأتي هؤلاء القوم لننظر كيف يعملون! » قلت : إن شئت، فجئناهم ونظرنا إلىٰ
عملهم ساعة ثُمَّ غشينا النوم، فانطلقت أنا وعليٌّ واضطجعنا في صور من النخل علىٰ التراب اللين ونمنا، والله ما أيقظنا إلَّا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يُحرِّكنا برجله، وقد تترَّبنا من تلك البقعة التي نمنا فيها، ففي ذلك اليوم قال الرسول لعليٍّ عليهالسلام : « ما لك يا أبا تراب »!
رواه أيضاً ابن جرير الطبري
في تاريخه، ثُمَّ ذكر سبباً آخر في هذه التسمية، خلاصته أنَّه قيل لسهل بن سعد الساعدي : إنَّ بعض أمراء المدينة يريد أن يبعث إليك لتسبَّ عليَّ بن أبي طالب علىٰ المنبر، وتقول له : يا أبا
تراب، قال : والله ما سمَّاه بذلك إلَّا رسول الله. قلت : وكيف ذاك؟ قال : دخل عليٌّ عليهالسلام
علىٰ فاطمة الزهراء، ثُمَّ خرج من الدار، وذهب إلىٰ المسجد واضطجع في فيئه، ثُمَّ دخل رسول الله علىٰ فاطمة وسألها عن عليٍّ عليهالسلام ، فقالت له : «
هو ذاك مضطجع في المسجد »،
فجاءه رسول الله فوجده وقد سقط رداؤه عن ظهره؛ فقال له : «
اجلس أبا تراب » فوالله ما سمَّاه
بذلك إلَّا رسول الله، وكان أحبَّ أسمائه إليه.
_______________________
وأخرجه أحمد بن حنبل من وجه آخر، قال :
حدَّثنا ابن نمير، عن عبدالملك الكندي، عن أبي حازم، قال : جاء رجل إلىٰ سهل بن سعد؛ فقال : هذا فلان يذكر علي بن أبي طالب عند المنبر، فقال : ما يقول ؟ قال : يقول : أبو تراب، ويلعن أبا تراب، فغضب سهل وقال : والله ما كنَّاه به إلَّا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما كان اسم أحبَّ إليه منه.
وقال الزهري : والذي سبَّ عليَّاً في
تلك الحالة مروان بن الحكم ؛ لأنَّه كان أميراً في المدينة من قبل معاوية، وذكر ذلك الحاكم أبو عبدالله النيسابوري أيضاً .
ولقَّبه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أيضاً بأمير المؤمنين، حتَّىٰ قال فيه : « سلِّموا علىٰ عليٍّ بإمرة المؤمنين »
.
ومن ألقابه
أيضاً : المرتضىٰ، ونفس الرسول، وأخوه، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، وأمير البررة، وقاتل الفجرة، وقسيم النار، وصاحب اللواء، وسيِّد العرب، وكشَّاف الكرب، والصدِّيق الأكبر، والهادي، والفاروق، والداعي، والشاهد، وباب المدينة ـ أي مدينة العلم ـ وغرَّة المهاجرين، والكرَّار غير الفرَّار، والفقَّار، وبيضة البلد.
واجتمعت في عليِّ بن أبي طالب خلاصة
الصفات التي اشتهرت بها أُسرته الهاشمية من النبل والشجاعة .. وممَّا قاله القائلون عن شجاعته : إنَّه
_______________________
ما عُرف عن بطل في
العالم إلَّا كان مغلوباً حيناً، وغالباً حيناً، إلَّا عليٌّ عليهالسلام فهو الغالب أبداً ودائماً، ومن هنا كان العرب يفخرون بأنَّ قريبهم قُتل بسيف عليٍّ، ويجعلون من هذا دليلاً علىٰ أنَّ صاحبهم بارز عليَّاً، وهو الموت الذي لابدَّ منه.
وعُرف أيضاً بالمروءة والعلم والذكاء، وقد
كان يقول : «
لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب »
. وهو أعلم أصحاب رسول الله قاطبة بلا منازع، وفي هذا أحاديث كثيرة تشهد له، ووقائع كثيرة تصدّقه.
نشأته :
كلُّ مولود يولد تتعاقبه وراثة الأجيال،
فيأخذ من الأب والأمِّ ما يكوِّن به شخصيَّته النفسية والروحية والأخلاقية، والإمام عليٌّ عليهالسلام معروف النسب، فهو ابن سادة العرب، أهل المروءة والشجاعة والكرم، توارثوا السيادة وخصالها أباً عن جدٍّ، عن أبيهم إبراهيم خليل الرحمن.
كما هيَّأ الله سبحانه الأسباب لعليٍّ
ليكون أكثر الناس قرباً من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخصِّهم به.. بل ليكون النبيُّ أقرب إليه من أبيه وأخوته، ففي الثامنة من عمر علي عليهالسلام
ـ وربما كان حوالي عام ٦٠٦ م ـ دخلت قريش أزمة شديدة طاحنة، وسنة مجدبة منهكة، شحَّت فيها موارد العيش، وكان وقعها علىٰ أبي طالب شديداً، إذ كان ذا عيال كثير وقلَّة من المال لا يفي
_______________________
بنفقة رجل مثله، فعند
ذاك قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعمَّيه الحمزة والعبَّاس : «
ألا نحمل ثقل أبي طالب، ونخفِّف عنه عياله ؟ »
فجاءوا إليه وسألوه أن يسلِّمهم وِلده
ليكفوه أمرهم، فقال لهم : دعوا لي عقيلاً وخُذوا من شئتم، فأخذ العبَّاس طالباً، وحمزة جعفراً، وأخذ محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليَّاً عليهالسلام
.
وانتقل عليٌّ عليهالسلام وهو في مطلع صباه إلىٰ
كفيله محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فرُبِّي في حجر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولم يفارقه، وكانت فاطمة بنت أسد كالأُمِّ للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وكذلك كانت خديجة بنت خويلد كالأُمِّ لعليٍّ عليهالسلام.
فنشأ عليٌّ عليهالسلام في بيت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يرعاه وينفق عليه، فحاز بذلك من الشرف ما لم يحزه غيره.. فقد نشأ يستلهم من معلِّمه معالم الأخلاق والتربية الروحية والفكرية، وكذا دقائق الحكمة والمعرفة، حتَّىٰ أدرك من الحقائق ما لم يدركه بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أحد غيره، حتىٰ تطبّع بصفات كافله، ولم تكن فيه صفة إلَّا وهي مشدودة بصفات معلِّمه الأول والأخير، وما من شيء أنكره قلب محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلَّا وأنكره قلب عليٍّ عليهالسلام
، وكان هذا قبل مبعث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأدرك التلميذ من معلِّمه العظيم حقائق
الكون ونواميس الطبيعة، بل وأسرار الوجود، وأصبح المثل الأعلىٰ في جميع شمائله وأفعاله، وتحلَّىٰ
بأعلىٰ ذروة من ذرىٰ الكمال الروحي والأخلاقي.
_______________________
ووصف عليهالسلام
تلك الأيام القيِّمة مبيّنا فضلها واختصاصه بها على من سواه، فقال :
«
وقد علمتم موضعي من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة
الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمُّني إلىٰ صدره.. وكان يمضغُ الشيء ثُمَّ يُلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلة في فعل.. ولقد كنت أتَّبعه اتباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلِّ سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرىٰ نور الوحي والرسالة، وأشمُّ ريح النبوَّة. ولقد سمعت رنَّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقلت : يا رسول الله
ما هذه الرَّنَّة ؟ فقال : هذا الشيطان قد أيِسَ من عبادَتِهِ. إنَّك تسمعُ ما أسمعُ، وترى
ما أرى، إلّا أنَّكَ لَسْت بِنَبِيٍّ، ولكنَّكَ لَوزيرٌ وإنَّك لَعَلَىٰ خيرٍ...
» .
_______________________
الفصل
الثاني : علي عليهالسلام
مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد البعثة
المبحث
الأول : بعد البعثة في مكة
١ ـ أوَّل الناس إسلاماً :
أجمعت الروايات علىٰ أنَّه لم
يتقدّم من عليٍّ شرك أبداً، ولم يسجد لصنم قط، وتكرَّم وجهه منذ أول وهلة، فلا طاف حول صنم ولا سجد له، فكانت نفسه خالصة لله تعالىٰ، وكان عنواناً للشرف والاستقامة، لقد صاحبته منذ الصبا صراحة الإيمان، والثقة العالية بالنفس، والشجاعة الضرورية لكل إرادة حقة، فكان إيمانه هو الحاكم المطلق، والمسيطر الأوحد علىٰ جميع حركاته وسكناته. فلا مجال لأن يتوهّم من عبارة أنه أول الناس اسلاماً كونه علىٰ خلاف ذلك قبل البعثة.
والحقُّ أنَّه كان أوفر الناس حظاً، بل
هو الاصطفاء بحق، حيث منَّ الله عليه بصحبة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
منذ صباه حتَّىٰ نشأ علىٰ يديه، لم يفارقه في سلم أو حرب، وفي حل أو سفر، إلىٰ أن لحق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالرفيق الأعلىٰ وهو علىٰ، صدر عليّ..
إنّه ربيب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
الذي كان يغذِّيه معنوياً وروحياً ويؤدّبه ويعلّمه.
ثم أسلمت السيدة خديجة أم المؤمنين
فكانت، ثالثة أهل هذا البيت، إنّها أجابت وأسرعت الاجابة، فكان هؤلاء الثلاثة يعبدون الله على هذا الدين الجديد قبل أن يعرفه بعد أحد غيرهم.
ففي الصحيح : أنَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يخرج إلىٰ البيت الحرام ليصلِّي فيه، فيصحبه عليٌّ وخديجة فيصلِّيان خلفه، علىٰ مرأىٰ من الناس، ولم يكن علىٰ الأرض من يصلِّي تلك الصلاة غيرهم .
وعن عفيف بن قيس، قال : كنتُ جالساً مع
العبَّاس بن عبدالمطَّلب رضي الله عنه بمكة قبل أن يظهر أمرُ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
فجاء شاب فنظر إلىٰ السماء حيث تحلَّقت الشمس، ثم استقبلَ الكعبة فقام يصلي، ثم جاء غلامٌ فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأةٌ فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم رفع الشاب فرفعا، ثم سجد الشاب فسجدا، فقلت : يا عبَّاس، أمر عظيم، فقال العبَّاس : أمر عظيم، فقال : أتدري من هذا الشاب؟ هذا محمَّد بن عبدالله ـ ابن أخي ـ أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب ـ ابن أخي ـ أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إنَّ ابن أخي هذا حدَّثني أنَّ ربَّه ربُّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما علىٰ ظهر الأرض علىٰ هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة، قال عفيف : ليتني كنتُ رابعاً .
وبقي هؤلاء الثلاثة علىٰ هذا
الدين، يتكتمون من الناس أياماً طوالاً، رجع في بعضها علي إلىٰ أبيه بعد عودته من بعض الشعاب، حيث كان يتعبَّد مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
ـ يا بني : ما هذا الدين الذي أنت عليه؟
_______________________
ـ أجاب : يا أبه! آمنت بالله وبرسوله
وصلَّيتُ معه.
فقال أبوه : أمَّا إنَّه لا يدعونا إلَّا
إلىٰ الخير فالزمه .
فكان علي أول من أسلم، هكذا أثبت سائر
أهل العلم، وهذا ما تؤكّده الأحاديث النبوية الشريفة.
ففي كلام أهل العلم : قال اليعقوبي في
تاريخه : «كان أول من أسلم : خديجة بنت خويلد من النساء، وعليٌّ بن أبي طالب من الرجال، ثُمَّ زيد بن حارثة، ثُمَّ أبو ذرٍّ، وقيل : أبو بكر قبل أبي ذرٍّ، ثُمَّ عمرو بن عبسة السلمي، ثُمَّ خالد بن سعيد بن العاص، ثُمَّ سعد بن أبي وقَّاص، ثُمَّ عتبة بن غزوان، ثُمَّ خبَّاب بن الأرت، ثُمَّ مصعب بن عمير» .
وممَّن قال بأنَّ علياً أولهم إسلاماً :
ابن عبَّاس، وأنس بن مالك، وزيد ابن أرقم. رواه الترمذي ورواه الطبراني عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، وروي عن محمَّد بن كعب القرظي، وقال بريدة : أولهم اسلاماً خديجة، ثُمَّ عليٌّ عليهالسلام وحكي مثله عن أبي ذرٍّ، والمقداد وخباب، وجابر، وأبي سعيد الخدري، والحسن البصري وغيرهم
: أنَّ عليَّاً أول من أسلم بعد خديجة، وفضّله هؤلاء علىٰ غيره .
وعن أنس بن مالك، قال : «بعُث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم الأثنين، وأسلم عليٌّ
_______________________
يوم الثلاثاء» .
وجاء في خبر محمَّد بن المنذر، وربيع بن
أبي عبدالرحمن، وأبي حازم المدني والكلبي : أوَّل من أسلم عليٌّ.
قال الكلبي : كان عمره تسع سنين، وكذا
قول الحسن بن زيد بن الحسن، وقيل : إحدىٰ عشرة سنة، وقيل غير ذلك .
وقال ابن اسحاق : «أول من أسلم علي
وعمره إحدىٰ عشرة سنة» .
ومن قال : «أسلم عليٌّ وهو ابن عشر سنين»
مجاهد برواية يونس عن ابن اسحاق، عن عبدالله بن أبي نجيح .
وقال عروة : أسلم وهو ابن ثمان، وقال
المغيرة : أسلم وله أربع عشرة سنة، رواه جرير عنه .
وعن سعد بن أبي وقَّاص، وقد سمع رجلاً
يشتم أمير المؤمنين عليهالسلام
فوقف عليه وقرَّره بقوله : يا هذا، علامَ تشتم عليَّ بن أبي طالب؟ ألم يكن أول من أسلم؟ ألم يكن أول من صلَّىٰ مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
؟ ألم يكن أعلم الناس؟... إلىٰ آخره .
_______________________
قال الشيخ المفيد : «والأخبار في كونه
أول من اسلم كثيرة وشواهدها جمَّة، فمن ذلك : قول خُزيمة بن ثابت الأنصاري ذي الشهادتين رحمهالله فيما أخبرني به أبو عبيدالله محمَّد بن عمران المرزباني، عن محمَّد بن العباس، قال : أنشدنا محمَّد بن يزيد النحوي، عن ابن عائشة لخزيمة بن ثابت رضياللهعنه :
ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفاً
|
|
عن هاشم ثُمَّ منها عن أبي حسنِ
|
أليس أول من صلَّىٰ لقبلتهم
|
|
وأعرف الناس بالآثار والسننِ»
|
أما الأحاديث النبوية الشريفة فإنَّ
الواحد منها يكفي هنا لقطع النزاع وردّ أيّ ادعاء في تقديم أحد على عليّ عليهالسلام
في إسلامه، والحق أن معظم الذين أدعوا أسبقية أبي بكر لم يقولوا بأنه أسلم قبل علي أو خديجة أو زيد بن حارثة، بل وضعوا تصنيفاً من عند أنفسهم يجعل لأبي بكر أولوية بحسب هذا التصنيف، فقالوا : أول من أسلم من النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال، ومن الرجال أبو بكر !
هذا مع أن أبا ذر ـ على الأقل ـ كان قد سبق أبا بكر، وكان رابعاً.
ولنقف الآن علىٰ بعض الأحاديث
النبوية الشريفة التي قطعت كل نزاع وردّت كل ادعاء :
فمما ورد عن النبي الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بسند صحيح قوله : «
أوَّلكم وروداً عليَّ الحوض، أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب »
.
_______________________
وعن سلمان الفارسي : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
أول هذه الأُمَّة وروداً علىٰ نبيِّها أولها اسلاماً عليٌّ بن أبي طالب ».
رواه الدَبَري عن عبدالرزاق، عن الثوري، عن قيس بن مسلم، قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات .
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لفاطمة الزهراء عليهاالسلام،
كما رواه أنس : «
قد زوَّجتك أعظمهم حلماً، وأقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً ».
وروىٰ نحوه جابر الجعفي وغيره .
وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول لعليٍّ عليهالسلام
: «
أنت أول من آمن بي، وأنت أول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصدِّيق الأكبر، وأنت الفاروق تفرِّق بين الحقِّ والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين » .
وأخيراً فقد كان علي عليهالسلام يصرِّح في كثير من
المناسبات بذلك، فيقول عن نفسه : «
أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصدِّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلَّا كاذب مفتر، ولقد صلَّيت قبل الناس سبع سنين »
.
_______________________
ويقول عليهالسلام
: «
أنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر »
.
وأمّا أبو بكر، فقد أخرج الطبري في
تاريخه بسندٍ صحيح أنه أسلم بعد خمسين رجلاً، وهذا نصّ روايته : «حدّثنا ابن حُميد، قال حدّثنا كنانة بن جبلة، عن إبراهيم بن طَهمان، عن الحجّاج بن الحجّاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي سالم بن أبي الجَعْد، عن محمد بن سعد، قال : قلت لأبي : أكان أبو بكر أوَّلكم إسلاماً ؟ فقال : لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين» .
٢ ـ الدعوة الخاصة :
عليٌّ يوم الإنذار
الأول :
بُعثَ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو يضع في حسابه أنَّ دعوته ستجابه بالرفض والتحدِّي دون أدنىٰ شكٍّ، فعرب الجاهلية تشرَّبت قلوبهم بعبادة الأوثان، ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
تشغله هموم التبليغ، وخاصة انَّه كان يتمنَّىٰ أن يسارع في الاستجابة له أهله وعشيرته، وكلُّ من يتَّصل به بنسب أو سبب، لأنَّهم آله وعشيرته الذين يشكِّلون قوة مكينة، لمكانتهم المرموقة في داخل مكَّة وخارجها، فسيعود عليه إسلامهم بالنصر حتماً، فيصبح مرهوب الجانب وفي منعةٍ من الأعداء الألدَّاء، وهذه وسيلة متينة لتثبيت دعائم دعوته.
ومع كلِّ تمنِّياته تلك كان يخشىٰ
أيضاً أن يرفضوا دعوته إذا دعاهم
_______________________
لدين التوحيد، فينضمُّوا
إلىٰ غيرهم من الأعداء والمكذِّبين والمستهزئين ببعثته صلوات الله وسلامه عليه..
في تلك اللحظات الحاسمة دوّىٰ صوت
جبرئيل ليملأ أُذني النبي بالنذارة، مبلِّغاً عن الله عزَّ اسمه قوله : ( وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ *
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ )
. ألقاها علىٰ عاتقه
الشريف، وليس له مناصر ومعين غير نفر قليل مستخفّين بإيمانهم، وكان هذا الحدث بعد مبعثه الشريف بثلاث سنين.
قال جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم : «لمَّا
أنزل الله علىٰ رسوله ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )
اشتدَّ ذلك عليه وضاق به ذرعاً، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عمَّاته يعُدنه، فقال : « ما اشتكيتُ شيئاً، ولكن الله أمرني أن
أنذر عشيرتي الأقربين »» ..
بعد ذلك عزم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
امتثالاً لأوامر الله تعالىٰ علىٰ إنذار آله وعشيرته ودعوتهم إلىٰ الله، فجمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب، وكانوا أربعين رجلاً ـ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً ـ وكان قد قال لعلي عليهالسلام
: «
اصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن »، قال علي عليهالسلام
وهو ينقل هذا الحديث واصفاً قومه : « وإنَّ منهم من
_______________________
يأكل
الجذعة ويشرب الفرق » ،
وأراد عليهالسلام
بإعداد قليل من الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبعهم وريِّهم ممَّا كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه .
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي ؟ » قالوا : بلى، أنت
عندنا غير متهم، وما جرَّبنا عليك كذباً، فقال : «
أني نذير لكم من بين يدي عذاب شديد »
فقطع كلامه عمه أبو لهب، وقال : تباً لك! ألهذا جمعتنا؟! ثم عاد فجمعهم ثانية، فأعاد أبو لهب مثل قولته الاولى، فتفرّقوا، فأنزل الله تعالى عليه (
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ )
الى آخر السورة
المباركة.
ثم جمعهم مرَّةً أُخرىٰ ليكلِّمهم،
وفيهم أعمامه : أبو طالب والحمزة والعبَّاس وأبو لهب، وغيرهم من أعمامه وبني عمومته، فأحضر عليٌّ عليهالسلام لهم الطعام ووضعه بين أيديهم، وكان بإمكان الرجل الواحد أن يأكله بكامله، فتهامسوا وتبادلوا النظرات الساخرة من تلك المائدة التي لا تقوم حسب العادة لأكثر من رجلين أو ثلاثة رجال، ثم مدُّوا أيديهم إليها وجعلوا يأكلون، ولا يبدو عليها النقص حتَّىٰ شبعوا، وبقي من الطعام ما يكفي لغيرهم.
فلمَّا أكلوا وشربوا قال لهم النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
يا بني عبدالمطَّلب، والله
_______________________
ما
أعلم شابَّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به، إنِّي جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالىٰ أن أدعوكم إليه »
ثمَّ عرض عليهم أصول الإسلام وقال : «
فأيُّكم يؤازرني علىٰ هذا الأمر، علىٰ أن يكون أخي ووصيِّي، وخليفتي فيكم من بعدي »؟.
فلم يجب أحد منهم، فأعاد عليهم الحديث
ثانياً وثالثاً، وفي كلِّ مرَّةٍ لا يجيبه أحد غير عليٍّ عليهالسلام،
قال عليٌّ : ـ والرواية عنه ـ «
فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت ـ وأنا لأحدثهم سناً ـ : أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثُمَّ قال : إنَّ هذا أخي، ووصيِّي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا ».
قال : « فقام القوم يضحكون، ويقولون
لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع » .
فقال أبو لهب : خذوا علىٰ يَدَي صاحبكم قبل أن يأخذ علىٰ يده غيركم، فإن منعتموه قُتلتم، وإن تركتموه ذللتم.
فقال أبو طالب : يا عورة، والله
لننصرنَّه ثُمَّ لنعيننَّه، يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلىٰ ربِّك فأعلمنا حتَّىٰ نخرج معك بالسلاح .
ومن بين جميع الأهل والأقارب كان محمَّد
صلىاللهعليهوآلهوسلم
شديد الحزن والمرارة، فقد كان وحيداً، وكان يتمنَّىٰ مناصرة قومه له علىٰ قوىٰ
الشرك المدجَّجة بالمال والسلاح، لكنَّ عليَّاً عليهالسلام
كان قوماً له رغم صغر سنه،
_______________________
وشاءت الأقدار أن
ينصر أخاه بسلاحه «
فأنا حربٌ علىٰ من حاربت »،
بهذه التلبية أثمر الاصطفاء، وأُرسيت دعائم الإسلام فوق جماجم الشرك..
وهذا البيان الصريح في علي عليهالسلام : « أخي، ووصي، وخليفتي
من بعدي » لابد أن يجد من يبذل كل جهد للالتفاف
عليه إما بالتغييب، وإما بالتكذيب، واما بالتأويل...
ذكر الشيخ محمَّد جواد مغنية في كتابه
(فلسفة التوحيد والولاية) ـ بعد أن ذكر المصادر الأساسية لهذه الواقعة ـ : أنَّ من الذين رووا نصَّ النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
علىٰ عليٍّ عليهالسلام
بالخلافة ـ عندما دعا عشيرته وبلَّغهم رسالة ربِّه ـ : محمَّد حسين هيكل في الطبعة الأولىٰ من كتابه (حياة محمَّد)، ومحمَّد
عبدالله عنان في كتابه (تاريخ الجمعيات)، ولكنَّ هيكل ـ في الطبعة الثانية وما بعدها من الطبعات ـ قد مسخ الحديث المذكور وحرَّف منه كلمة «
خليفتي من بعدي » في مقابل خمسمائة
جنيه، أخذها من جماعة ثمناً لهذا التحريف .
أمَّا ابن كثير فقد ذكر القصَّة
بتفاصيلها ـ ولكن بقصد تكذيبها ـ إلىٰ أن قال : فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
أيُّكم يؤازرني علىٰ هذا الأمر، علىٰ أن يكون أخي »
وكذا وكذا؟.
قال عليٌّ ـ عليهالسلام ـ : « فأحجم القوم جميعاً،
وقلت ـ وإنِّي لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً ـ : أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك
_______________________
عليه،
فأخذ برقبتي، فقال : إنَّ هذا أخي ـ وكذا وكذا ـ فاسمعوا له وأطيعوا » .
ثم قال : « تفرّد به عبدالغفَّار بن
القاسم أبو مريم، وهو كذَّاب شيعي، اتهمه عليُّ بن المديني بوضع الحديث وضعَّفه الباقون » .
ثمَّ يضيف ـ في الصفحة ذاتها ـ قائلاً :
«ولكن روىٰ ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه، عن الحسين بن عيسىٰ بن ميسرة الحارثي، عن عبدالله بن عبدالقدُّوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، وعن عبدالله بن الحارث قال : قال عليٌّ عليهالسلام
: «
لمَّا نزلت هذه الآية : ( وَأَنذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إصنع لي شاةً بصاع من طعام، وإناء لبناً، وادعُ لي بني هاشم ؛ فدعوتهم وإنَّهم يومئذٍ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل » فذكر القصَّة إلىٰ
قوله : «
فبدرهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الكلام، فقال : أيُّكم يقضي عنِّي دَيني، ويكون خليفتي في أهلي »؟
فسكتوا
وسكت العبَّاس، خشية أن يحيط ذلك بماله، وسكتُّ أنا لسنِّ العبَّاس.
ثمَّ
قالها مرَّةً أُخرىٰ، فسكت العبَّاس، فلمَّا رأيت ذلك، قلت : أنا يا رسول الله.
قال
: أنت؟!
قال
: وإنِّي يومئذٍ لأسوأهم هيئةً، وإنِّي لأعمش العينين، ضخم البطن،
_______________________
حمش
الساقين!»»
فلنتناول هذا الكلام من جميع وجوهه، لنعرف
أين محله :
١ ـ فأمَّا عبدالغفَّار بن القاسم أبو
مريم، الذي طعن عليه، فقد وصفه ابن حجر العسقلاني، فقال : كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال ـ قال ـ وقال شعبة : لم أرَ أحفظ منه، وقال ابن عدي : سمعت ابن عقدة يثني علىٰ أبي
مريم ويطريه وتجاوز الحدَّ في مدحه، حتىٰ قال : لو ظهر علىٰ أبي مريم ما
اجتمع الناس إلىٰ شعبة.
أمَّا تضعيفهم له فإنَّما جاء من وصفه
بالتشيُّع، قال ابن حجر
ـ في ترجمته ذاتها ـ : قال البخاري : عبدالغفَّار بن القاسم ليس بالقويِّ عندهم، حدَّثنا أحمد بن صالح حدَّثنا محمَّد بن مرزوق، حدَّثنا الحسين بن الحسن الفزاري، عن عبدالغفَّار بن القاسم، عن عَدي بن ثابت، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس، قال حدَّثني بُريدة : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
عليٌّ مولىٰ من كنت مولاه »!! ـ فمن هنا جاء
طعنهم عليه.
٢ ـ وأمَّا قوله : إنَّ الحديث فيه
عبدالغفَّار بن القاسم، فقد ورد الحديث من طرق أُخرىٰ ليس فيها عبدالغفَّار كما في (مسند أحمد) و(الخصائص) للنسائي، و(تاريخ الطبري) و(تاريخ دمشق) و(شواهد التنزيل) .
_______________________
٣ ـ شعب أبي طالب :
اتخذت قريش شتىٰ الأساليب لردع
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأتباعه من المسلمين، ولمَّا أنّ رأت أنّ الإسلام يفشو ويزيد، اتفقوا بعد تفكير طويل علىٰ قتل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وأجمع مَلَؤُها علىٰ ذلك، وبلغ أبا طالب فقال :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
|
|
حتَّىٰ أُغيَّب في التراب دفينا
|
ودعوتني وزعمت أنَّك ناصِحٌ
|
|
ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أميناً
|
وعرضت ديناً قد علمتُ بأنَّه
|
|
من خير أديان البرية دينا
|
ولمَّا علمت أنَّها لا تقدر علىٰ قتله،
وأنَّ أبا طالب لا يسلّمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة التي تنصُّ علىٰ مقاطعة بني هاشم واتباعهم وحصرهم في مكان واحد، وقطع جميع وسائل العيش عنهم، وألّا يناكحوهم حتَّىٰ يدفعوا إليهم محمَّداً صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيقتلوه، وإلَّا يموتوا جوعاً وعطشاً، وختموا علىٰ الصحيفة بثمانين خاتماً.
وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر
بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار، فشلَّت يده
وقيل. وقَّعها أربعون من زعماء مكَّة، ثُمَّ علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة وحصروهم في شعب أبي طالب ست سنين ،
وذلك في أول المحرم من السنة السابعة لمبعث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقيل : استمر نحواً
_______________________
من سنتين أو ثلاث ،
حتَّىٰ أنفق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ماله وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلىٰ حدِّ الضرِّ والفاقة، واشتدت بهم الضائقة، حتىٰ اضطرتهم إلىٰ أكل الأعشاب وورق الأشجار، ومع ذلك فلم يضع أبو طالب وولده علي عليهالسلام
وأخوه الحمزة شيئاً في حسابهم غير النبيّ محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورعايته، حتَّىٰ لا يتسلَّل أحد من المكِّيين ليلاً لاغتياله، وكانت هذه الخاطرة لا تفارق أبا طالب في الليل والنهار.
جاء في تاريخ ابن كثير
: أنَّ أبا طالب قد بلغ من حرصه علىٰ حياة محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنَّه كان اذا أخذ الناس مضاجعهم في جوف الليل، يأمر النبي أن يضطجع علىٰ فراشه مع النيّام، فإذا غلبهم النوم أمر أحد بنيه أو اخوته فأضجعهم علىٰ فراش الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأمر الرسول أن يضطجع علىٰ فراشهم حرصاً منه عليه، حتَّىٰ لو قدِّر لأحد أن يتسلَّل إلىٰ الشعب
ليلاً لاغتياله يكون ولده فداءً لابن أخيه.
وفي رواية ابن أبي الحديد أنَّه قرأ في
أمالي أبي جعفر محمَّد بن حبيب : أنَّ أبا طالب كان إذا رأىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أحياناً يبكي، ويقول : إذا رأيته ذكرت أخي عبدالله، وكان عبدالله أخاه لأمِّه وأبيه.
وأضاف إلىٰ ذلك أنَّه كثيراً ما
كان يخاف عليه البيات ليلاً، فكان يقيمه ليلاً من فراشه ويضجع ابنه علياً مكانه، ومضىٰ علىٰ ذلك أيام الحصار وغيرها، وأحسَّ عليٌّ عليهالسلام
بالخطر علىٰ حياته، ولكنَّه كان طيِّب النفس
_______________________
بالموت في سبيل
محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقال لأبيه يوماً : «يا أبت أني مقتول»،
فأوصاه بالصبر، وأنشد :
أصبرن يا بني فالصبر أحجىٰ
|
|
كلُّ حيٍّ مصيره لشعوب
|
قدّر الله والبلاء شديد
|
|
لفداء الحبيب وابن الحبيب
|
إن تصبك المنون فالنبل تبرىٰ
|
|
فمصيب منها وغير مصيب
|
كلُّ شيءٍ وإن تملَّىٰ بعمر
|
|
آخذ من مذاقها بنصيب
|
وهذه الأبيات تؤكِّد إيمانه العميق
برسالة محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
واستعداده لأن يضحّي بولده في سبيلها، ولقد أجابه ولده أمير المؤمنين عليهالسلام بأبيات يرويها شارح النهج عنه تحمل نفس الروح التي كان يحملها أبوه، حيث يرىٰ أنَّ وجوده وحياته متمِّمان لحياة محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ورسالته، لذلك لم يكن غريباً عليه أن يضحّي ويبذل حتىٰ نفسه ليسلم محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
لرسالته، تلك التّضحية التي لم يعرف التاريخ أروع وأجمل منها.
يقول عليهالسلام
:
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد
|
|
ووالله ما قلت الذي قلت جازعا
|
ولكنَّني أحببت أن ترىٰ نصرتي
|
|
وتعلم أنِّي لم أزل لك طائعا
|
سأسعىٰ لوجه الله في نصر أحمد
|
|
نبي الهدىٰ المحمود طفلاً
ويافعا
|
فنزل جبريل علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخبره أنَّ الله سبحانه وتعالىٰ أرسل علىٰ صحيفة المقاطعة دودة الأرضة أكلت ما فيها من ظلم وقطيعة
_______________________
رحم، وتركت ما فيها
من أسماء الله تعالىٰ. فقال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعمِّه أبي طالب وكلِّ من في الشعب، حتَّىٰ صاروا إلىٰ الكعبة الشريفة، واجتمع الملأ
من قريش من كلِّ أوب فقالوا : قد آن لك أن تذكر العهد وتدع «اللجاج في ابن أخيك»!
وقال لهم : إنَّ ابن أخي أخبرني أنَّ
الله تعالىٰ أرسل علىٰ صحيفتكم الأرضة، فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم، وتركت اسم الله تعالىٰ، فإن كان كاذباً سلَّمته إليكم لتقتلوه، وعلمنا أنَّكم علىٰ حقٍّ، ونحن علىٰ
باطل، وإن كان صادقاً علمتم أنَّكم ظالمون لنا، قاطعون لأرحامنا. فقالوا : قد أنصفتنا.
وقاموا سراعاً وأحضروها وإذا الأمر كما
قال أبو طالب، فبهتوا ونكسوا رؤوسهم ثُمَّ قالوا : إنَّ هذا لسحر وبهتان !!
فقويت نفس أبي طالب واشتدَّ صوته، وقال
: «قد
تبيَّن لكم أنَّكم أولىٰ بالظلم والقطيعة» .
٤ ـ مؤامرة قريش في دار الندوة :
ضاق الأمر بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتراكمت عليه الأحداث بعد خروجه من محنة الحصار في شعب أبي طالب، ولم تكن سوىٰ أيام قلائل حتىٰ توفِّي عمُّه أبو طالب، ناصره ومعينه علىٰ أمره، أقبلت قريش المذعورة علىٰ إيذائه بشتَّىٰ الأساليب ـ بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله ـ فقد
مات
_______________________
أبو طالب، ولم يعد
بمكَّة من تهابه قريش وترعىٰ له حرمة.. فخرج صلوات الله عليه إلىٰ الطائف، وهذه أول رحلة قام بها من مكَّة للدعوة إلىٰ الإسلام، فعمد إلىٰ ثقيف يطلب منها النصر، لكنَّها رفضت أن تسمع له، ولم تكتفِ بذلك، بل أرسلت صبيانها يرشقوه بالحجارة، حتىٰ أُدميت قدماه الشريفتان، كما أُصيب علي وزيد بن حارثة، حيث كانا معه في تلك الرحلة، وعليٌّ يتلقَّىٰ الأحجار بيديه وصدره حتَّىٰ أُثخن
بالجراح، فكان رسول الله يقول : «
ما كنت أرفع قدماً ولا أضعها إلَّا علىٰ حجر » !
وبذلك قرَّروا الرجوع إلىٰ مكَّة؛
فكلابها أهون من وحوش البراري! رجع يائساً من ثقيف وأحلافها، واستطاع الدخول إلىٰ مكَّة بإجارة المطعم بن عدي له.
وحينما خافت قريش أن يقوىٰ ساعده ـ
ويصبح له أنصاراً جدداً، وحذروا من خروجه سيّما بعد أن أذن لأصحابه بالهجرة إلىٰ يثرب ـ اجتمعت في دار الندوة، وتشاوروا في أمره وأعدُّوا العدَّة للقضاء عليه قبل فوات الأوان، فقالوا : ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات عمُّه!
وكان اجتماعهم هذا قبيل شهر ربيع الأول
عام ٦٣٣ م، عام الهجرة، وبعد أن أعطىٰ كلُّ واحد منهم رأيه، قال أبو جهل : أرىٰ أن نأخذ من
كلِّ قبيلة فتىً نسيباً ونعطي كلَّ فتىً منهم سيفاً، ثُمَّ يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، كي لا يتحمَّل قتله فرد ولا قبيلة وحدها، بل يتفرق دمه في
_______________________
القبائل كلِّها، فلم
يقدر آله وعشيرته علىٰ حرب قومهم جميعاً، فيصعب الثأر له.. فتفرَّقوا علىٰ ذلك بعد أن اتَّفقوا علىٰ الليلة التي يهاجمونه
فيها وهو في فراشه.
فأتىٰ جبرائيل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخبره بمكيدة قريش وأحلافها، كما تشير إلىٰ ذلك الآية : ( وَإِذْ يَمْكُرُ
بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) .
ومكر الله في الآية يعني : أنَّه سبحانه
قد فوَّت عليهم مكرهم وتخطيطهم بما أخبر به نبيَّه، وبما أمره به من الخروج في تلك الليلة، ومبيت علي عليهالسلام
علىٰ فراشه ليفوّت عليهم تدبيرهم الذي أجمعوا عليه.
ولما علم عليٌّ عليهالسلام بتخطيط قريش لاغتيال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بكىٰ، ورحَّب بالمبيت في فراشه فداءً له وللإسلام وقال له : « أو تَسْلَم أنت يارسول الله إن فديتك بنفسي »؟
قال له صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
نعم، بذلك وعدني ربِّي »
فانشرح صدره لسلامة أخيه رسول الله.
وشاءت الأقدار أن يفتح عليُّ بن أبي
طالب عليهالسلام
صفحةً مشرقةً من بطولاته لأنَّه تلميذ الرسالة الحقَّة وربيب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وسليل بني هاشم، وتقدّم مطمئن النفس، رابط الجأش، متَّشحاً ببرد الرسول الحضرمي، ونام ثابت الفؤاد لا يخاف في الله لومة لائم.
وكان ذلك سبباً لنجاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحفظ دمه، ولولا فداء أمير المؤمنين نفسه للرسول لما تمَّ تبليغ الرسالة والصدع بأمر الله تعالىٰ.
_______________________
فلمَّا كانت العتمة اجتمعوا علىٰ بابه
يرصدونه، وودَّع رسول الله عليَّ ابن أبي طالب عليهالسلام
، وأمره أن يؤدِّي ما عنده من وديعة وأمانة إلىٰ أهلها ويلحق به.
وفي بعض الروايات : أنَّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
خرج فأخذ حفنةً من تراب، فجعله علىٰ رؤوسهم، وهو يتلو هذه الآيات من ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) إلىٰ قوله : ( فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) .
ثمَّ انصرف فلم يروه .
هكذا، فإنّ القوم أحاطوا بالدار، وهم من
فتيان قريش الاشداء، وجعلوا يرصدونه ليتأكَّدوا من وجوده، فرأوا رجلاً قد نام في فراشه التحف ببرد له أخضر.
أمَّا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقد خرج في الثلث الأخير من الليل من الدار، وكان قد اختبأ في مكان منها، وانطلق جنوباً إلىٰ غار ثور، وكمن فيه ومعه أبو بكر، فأقاما فيه ثلاثاً.
ولمَّا حان الوقت الذي عيَّنوه لهجومهم
علىٰ الدار، هجموا عليها، فوثب عليٌّ عليهالسلام
من فراشه، ففرُّوا بين يديه حين عرفوه..
وفي بعض الروايات أنَّهم قبل هجومهم
عليه جعلوا يقذفونه بالحجارة وهو ساكن لا يتحرَّك ولا يبالي بما يصيبه من الأذىٰ، ثُمَّ هجموا عليه بسيوفهم وخالد بن الوليد في مقدمهم، فوثب علي عليهالسلام
من فراشه وهمزه بيده، ففرَّ خالد واستطاع علي عليهالسلام
أنَّ يأخذ السيف منه، فشدَّ عليهم
_______________________
وانهزموا أمامه إلىٰ
الخارج .
وسأل الرهط عليَّاً : أين ابن عمِّك؟
قال : « أمرتموه بالخروج فخرج عنكم »
، وقيل : إنَّه قال :
«
لا علم لي به » .
وأخرج اليعقوبي وابن الأثير وغيرهما :
أنَّ الله عزَّ وجلَّ أوحىٰ في تلك الليلة إلىٰ جبرئيل وميكائيل أنِّي قضيت علىٰ أحدكما بالموت، فأيِّكما
يواسي صاحبه؟ فاختار الحياة كلاهما، فأوحىٰ الله إليهما : هلَّا كنتما
كعليِّ بن أبي طالب... آخيت بينه وبين محمَّد، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر، فاختار عليٌّ الموت وآثر محمَّداً بالبقاء وقام في مضجعه، اهبطا فاحفظاه من عدوِّه. فهبط جبرئيل وميكائيل فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوِّه، ويصرفان عنه الحجارة، وجبريل يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب مَن مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سموات! .
ولم يشرك أمير المؤمنين عليهالسلام في هذه المنقبة أحد
من أهل الإسلام، ولا اختصَّ بنظير لها علىٰ حال، وفيه نزل قوله تعالىٰ في هذه المناسبة : (
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ
بِالْعِبَادِ )
.
وعقَّب الأستاذ عبدالكريم الخطيب في
كتابه (علي بن أبي طالب) ـ
_______________________
على تضحيته عليهالسلام ومبيته علىٰ فراش
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليلة تآمرت قريش علىٰ قتله ـ بقوله : وهذا الذي كان من عليٍّ عليهالسلام
ليلة الهجرة، إذا نظر إليه في مجرىٰ الأحداث التي عرضت للإمام عليٍّ عليهالسلام
في حياته بعد تلك الليلة، فإنَّه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة، وإشارات دالّة علىٰ أنَّ هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً بالإضافة إلىٰ عليٍّ عليهالسلام بل هو عن حكمة لها آثارها ومعقباتها، فلنا أن نتساءل : أكان لإلباس الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
شخصيَّته لعليٍّ عليهالسلام
تلك الليلة ما يوحي بأنَّ هناك جامعة، تجمع بين الرسول وعليٍّ أكثر من جامعة القرابة القريبة التي بينهما؟ وهل لنا أن نستشفَّ من ذلك، أنَّه اذا غاب شخص الرسول كان عليٌّ عليهالسلام هو الشخصية المهيَّأة لأن تخلفه وتمثل شخصه وتقوم مقامه.
وأحسب أنَّنا لم نتعسَّف كثيراً حين
نظرنا إلىٰ عليٍّ عليهالسلام
وهو في برد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وفي مثوىٰ منامه الذي اعتاد أن ينام فيه، وقلنا : هذا خليفة رسول الله والقائم مقامه.
وأضاف : إنَّ هذا الذي كان من عليٍّ عليهالسلام ليلة الهجرة، في
تحدِّيه لقريش هذا التحدِّي السافر، وفي استخفافه بها، وقيامه بينها ثلاثة أيام يغدو ويروح، إنَّ ذلك لا تنساه قريش لعليٍّ عليهالسلام
أبداً، ولولا أنَّها وجدت في قتله يومئذٍ إثارة فتنة تمزِّق وحدتها وتشتِّت شملها، دون أن يكون في ذلك ما يبلغ بها غايتها في محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم،
لقتلته وشفت ما بصدرها منه، ولكنَّها تركته وانتظرت الأيام لتسوّي حسابها معه.
ألا يبدو من هذه الموافقات، ما نستشفُّ
منه أنَّ لعليِّ بن أبي طالب
شأناً في رسالة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
ودوراً في دعوة الإسلام، ليس لأحد غيره من صحابة الرسول؟
وأخرج الحاكم النيسابوري : أنَّ الإمام
زين العابدين كان يقول : «
إنَّ أول من شرىٰ نفسه ابتغاء رضوان الله عليُّ بن أبي طالب، قال علي عند مبيته علىٰ فراش رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
وقيتُ بنفسي خير من وطأ الحصىٰ
|
|
ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
|
رسول إله خاف أن يمكروا به
|
|
فنجَّاه ذو الطول الإله من المكر
|
وبات رسول الله في الغار آمناً
|
|
موقىٰ وفي حفظ الإله وفي ستر
|
وبتُّ أراعيهم ولم يتهمونني
|
|
وقد وطنت نفسي علىٰ القتل
والأسر »
|
٥ ـ عليٌّ والركب الفاطمي إلىٰ
المدينة :
بقي عليٌّ عليهالسلام
في مكَّة ثلاث ليال، أدَّىٰ خلالهنّ ـ بطل التأريخ ـ ما عهد إليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
من ردِّ الأمانات والودائع التي كان يحتفظ بها النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأهل مكَّة، ليلحق بعدها برسول الله..
في هذه الأثناء كان النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد وصل إلىٰ يثرب، بعد أن قطعوا الجبال والأودية علىٰ مقربة من المدينة ـ علىٰ ساكنها السلام ـ قال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لمن معه : «
من يدلنا علىٰ الطريق إلىٰ بني عمرو بن عوف »؟
ولمَّا بلغ منازلهم نزل ضيفاً عليهم لإحدىٰ عشرة أو لاثنتي عشرة ليلة خلت
_______________________
من ربيع الأول، وكان
قد استقبله منهم نحو من خمسمائة .
وكتب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلىٰ عليٍّ عليهالسلام
مع أبي واقد الليثي، يحثُّه بالمسير إليه بعد أداء ما أوصاه به، ولمَّا وصله الكتاب تهيَّأ للخروج، وردَّ كلَّ وديعةٍ إلىٰ أهلها، وأمر من كان قد بقي من ضعفاء المؤمنين أن يتسلَّلوا إلىٰ ذي
طول ليلاً..
وخرج هو بالركب الفاطمي : فاطمة بنت
رسول الله، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطَّلب، وفاطمة بنت حمزة، وأم أيمن، وأبو واقد الذي أخذ يسوق الرواحل سوقاً حثيثاً، فقال له عليٌّ : «
ارفق بالنسوة يا أبا واقد »
ثُمَّ جعل يسوق بهنَّ ويقول :
ليـس الا الله فارفع ظنَّكا
|
|
يكفيك ربُّ الخلق ما أهمَّكا
|
وكان يسير ليلاً، ويكمن نهاراً وكان
ماشياً غير راكب حتَّىٰ تفطَّرت قدماه ، ولقد ظلَّ في رحلته
تلك ليالٍ أربع عشرة ،
يحوطهم من الاعداء ويكلؤهم من الخصماء، فلمَّا قارب ضَجَنان أدركه الطلب وكانوا ثمانية فرسان ملثمين، معهم مولىٰ لحرب بن أُميَّة يُدعىٰ : جناح ؛
فقال عليٌّ عليهالسلام
لأيمن وأبي واقد : «
أنيخا الإبل واعقلاها » وتقدَّم هو فأنزل
النسوة
_______________________
واستقبل القوم بسيفه،
فقالوا : أظننت يا غُدر أنَّك ناجٍ بالنسوة؟! ارجع بهن لا أبا لك!! فقال : «
فإن لم أفعل ؟! »، فقالوا : لترجعنَّ
راغماً!!
ودنوا من المطايا، فحال عليٌّ عليهالسلام بينهم، وأهوىٰ
له جناح بسيفه، فراغ عن ضربته، وضرب جناحاً علىٰ عاتقه فقدَّه نصفين، حتَّىٰ وصل السيف إلىٰ كتف فرسه، ثُمَّ شدَّ علىٰ أصحابه، وهو علىٰ قدميه وأنشد :
خلُّوا سبيل الجاهد المجاهد
|
|
آليت لا أعبد إلَّا الواحد
|
فتفرَّق القوم عنه، وقالوا : إحبس نفسك
عنَّا يابن أبي طالب، ثُمَّ قال لهم : «
إنِّي منطلق إلىٰ أخي وابن عمِّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، فمن سرَّه أن أفري لحمه وأُريق دمه فليدنُ منِّي »
ثُمَّ أقبل علىٰ أيمن وأبي واقد، وقال لهما : أطلقا مطاياكما، وسار الركب حتَّىٰ نزل ضجنان، فلبث بها يوماً وليلة حتَّىٰ لحق به نفر من المستضعفين، فلمَّا بزغ الفجر سار بهم حتَّىٰ قدموا
قباء .
وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد مكث فيها هذه المدة، ولم يغادرها بعد إلىٰ المدينة، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
ادعوا لي عليَّاً »، قيل : لا يقدر أن
يمشي، فأتاه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم،
واعتنقه وبكىٰ، رحمةً لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرَّهما علىٰ قدميه، فلم يشتكهما بعدُ حتَّىٰ قُتل .
_______________________
المبحث
الثاني : في المدينة المنوَّرة
المدخل :
في شهر ربيع الأول ،
وصل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
المدينة ليباشر في وقت مبكر توطيد الأوضاع الجديدة فيها، حيث سيعيش المهاجرون الجدد مع سكان المدينة الأصليين، فكانت أولىٰ الخطوات التي قام بها النبيُّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هي بناء المسجد، الذي عمل فيه مع سائر أصحابه، في جوٍّ مفعم بالمحبَّة والإيمان، وهناك أثنىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
علىٰ أصحابه ثناءً عامَّاً في لحمتهم وحماسهم، وفي أجواء الحماس تلك كان عمّار بن ياسر يسابق غيره في العمل والبناء، الأمر الذي شدَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
فكشف عن سرٍّ خطير، ينتظر عمَّاراً وينتظره عمَّار، ذلك قوله في تلك الأثناء : «
ويهاً ابن سُميَّة تقتلك الفئة الباغية »
، هذه الكلمة التي
ستكون لها دلالتها الكبيرة في مستقبل غير بعيد.
١ ـ المؤاخاة بين
المهاجرين والأنصار :
من الأعمال التي قام بها رسول الله بعد
بناء المسجد الشريف : المؤاخاة ولقد سبق منه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن آخىٰ بين المهاجرين بعضهم ببعض قبل الهجرة،
_______________________
وآخىٰ بين
المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، هكذا رواه الترمذي والبغوي والحاكم
وفي كلِّ مرَّة كان يقول لعليٍّ عليهالسلام
: «
أنت أخي في الدنيا والآخرة ». ورواه أحمد في
مسنده بنصِّ : «
أنت أخي وأنا أخوك » .
ورواه أصحاب السير والتاريخ من أمثال :
ابن اسحاق، وابن هشام، وابن سعد، وابن حجر العسقلاني، وابن حبَّان، وابن عبدالبرِّ، وابن الأثير، وابن أبي الحديد، وابن كثير، والسيوطي ،
وغيرهم من أصحاب الجوامع .
جاء في سيرة ابن إسحاق، وسيرة ابن هشام
: آخىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بين المهاجرين والأنصار فقال : «
تآخوا في الله أخوين أخوين »
ثُمَّ أخذ بيد
_______________________
عليِّ بن أبي طالب
فقال : «
هذا أخي » فكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
سيِّد المرسلين وإمام المتَّقين ورسول ربِّ العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعليُّ ابن أبي طالب رضي الله عنه أخوين .
أمَّا ابن حجر العسقلاني فذكر حديث
المؤاخاة بنصِّ : « لمَّا آخىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بين أصحابه قال له [لعليِّ بن أبي طالب] : « أنت أخي »
.
وعن عباد بن عبدالله، عن عليٍّ عليهالسلام قال : « أنا عبدالله وأخو
رسوله، وأنا الصدِّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلَّا كذَّاب »
.
وعندما آخىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بينه وبين عليٍّ عليهالسلام،
آخىٰ بين حمزة وزيد ابن حارثة، وبين أبي بكر وخارجة الخزرجي، وبين عمر وعتبان بن مالك الخزرجي، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين الزبير وعبدالله بن مسعود، وبين عمَّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وبين طلحة وكعب بن مالك، وبين أبي ذرٍّ والمنذر بن عمر الخزرجي وهكذا.
هذا أول ما عمله رسول الله بالمدينة
المنوَّرة «المؤاخاة الخاصة» غير الأخوة العامة التي جعلها الإسلام بين المسلمين إخوّةً في الله عزَّ وجلَّ.
وتهدف قصة المؤاخاة إلىٰ تمتين
عُرىٰ الروابط بين المسلمين وتأكيدها، واستئصال جذور الجاهلية والتعصُّب، وهي رابطة تقوم علىٰ أساس الإيمان بالله عزَّ وجلَّ وباليوم الآخر ووحدة الهدف والغاية.
_______________________
قبل ذلك «كان الصراع داخل المدينة
متوتراً بين الأوس والخزرج، ولكنَّ الإسلام جعلهم موحَّدين أنصاراً، وبمؤاخاتهم مع المهاجرين تحقَّقت للإسلام أرضية جديدة، كان مقدَّراً لها أن تغيِّر تأريخ المدينة أولاً، وجزيرة العرب فيما بعد ثانياً» .
هنا عند المؤاخاة رفع النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
يد عليٍّ عليهالسلام،
قائلاً : «
عليٌّ أخي ».
وتستمر صلات المودَّة والإخاء بين
محمَّد وعليٍّ عليهالسلام
من أجل إنجاح الرسالة الإسلامية، وتوفير قدر أكبر من الضمان لمستقبلها.
٢ ـ زواج عليٍّ من فاطمة الزهراء عليهاالسلام :
في حدود السنة الثانية من الهجرة اجتمع
عليٌّ عليهالسلام
مع الزهراء عليهاالسلام
في بيت الزوجية، وكان جماعة من المهاجرين قد خطبوها قبله، لكنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ردَّهم ردَّاً جميلاً، فكان ينتظر بها القضاء. كما صرَّحت بذلك عدَّة روايات نأتي علىٰ بعضها :
أخرج ابن سعد : أنَّ أبا بكر خطب فاطمة
إلىٰ النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فقال : «
يا أبا بكر انتظر بها القضاء » فذكر ذلك أبو بكر
لعمر، فقال له عمر : ردَّك يا أبا بكر. ثُمَّ إنَّ أبا بكر قال لعمر : أخطب فاطمة إلىٰ النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فخطبها؛ فقال له مثل ما قال لأبي بكر : «
أنتظر بها القضاء »، أو قال : « انَّها صغيرة » .
_______________________
بل إن الآتي من خبر زواجها عليهاالسلام يؤكد النصّ الأول « أنتظر بها القضاء »
إذ لم يكن زواجها إلّا بأمر من الله تعالى :
عن أنس بن مالك، قال : كنت عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فغشيه الوحي، فلمّا سري عنه قال : «
يا أنس، أتدري ما جاءني به جبرئيل من عند صاحب العرش؟ » قال : الله ورسوله
أعلم، قال : «
إن الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ » .
وعن عبدالله بن مسعود، قال : سمعت رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : «
إن الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ، ففعلت »
.
وعن أبي أيوب الانصاري، قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعلي عليهالسلام
: «
أمرت بتزويجك من السماء » .
أمَّا عليُّ بن أبي طالب فهو أخو رسول
الله وربيبه الذي ما قام ركن الإسلام إلَّا بسيفه، وهو وزير الرسول ووصيُّه، فكَّر مراراً بفاطمة، لكنَّه خالي اليدين ليس لديه ما يقدِّمه مهراً لاجتماعهما الميمون، في هذه الاثناء تذكَّر صلته بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
فتقدَّم، ولنقرأ قصته في سطور التاريخ :
قال نفر من الأنصار لعليٍّ عليهالسلام : عندك فاطمة. فأتىٰ
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فسلَّم عليه، فقال : «
ما حاجة ابن أبي طالب »؟
[أجاب بكلِّ ثبات] :
«
ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ».
_______________________
قال : « مرحباً وأهلاً ».
لم يزده عليهما.
فخرج عليٌّ علىٰ أولئك الرهط من
الأنصار ينظرونه. قالوا : ما وراءك؟ قال : «
ما أدري غير أنَّه قال لي : مرحباً وأهلاً ».
قالوا : يكفيك من رسول الله إحداهما، أعطاك
الأهل أعطاك المرحب .
ثمَّ إنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
عرض «خطبة عليٍّ» علىٰ فاطمة، فقال لها : « إنَّ عليَّاً يذكرك » ،
فسكتت، فخرج يقول : «
سكوتها إقرارها ».
وحين وجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
القبول من كلا الطرفين، سأل عليَّاً عليهالسلام
: «
هل عندك شيء؟ » وكان لا يملك غير
سيفه ودرعه وناضحه.
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
فأمَّا سيفك فلا غنىٰ بك عنه، تجاهد في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحك تنضح به علىٰ نخلك وأهلك، وتحمل عليه حلَّك في سفرك، ولكنِّي رضيتُ منه بالدرع »
.
فباعها وباع أشياء غيرها كانت عنده، فاجتمع
له منها أربعمائة درهم، فكان هذا مهر فاطمة.
ولمَّا جاء عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام بالدراهم، وضعها بين
يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فأمره أن يجعل ثلثي الدراهم في الطيب، والثلث الآخر في المتاع، ففعل .
_______________________
وأرجح الأقوال أنَّ زواجهما كان بعد
الهجرة، وقال اليعقوبي : بعد قدوم عليٍّ بالفواطم بشهرين ،
وأرَّخه ابن الأثير في أحداث السنة الثانية من الهجرة في صفر، وقبل غزوة بدر .
ووقّته آخرون في شهر ذي الحجة من السنة الثانية .
أمَّا ابن سعد في طبقاته فقال : تزوَّج
عليُّ بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في رجب بعد مقدم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
المدينة بخمسة أشهر، وبنىٰ بها مرجعه من بدر ..
وجهزّت فاطمة
بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وما كان لها غير سرير من جريد النخل، وسادة من آدم حشوها ليف، ومنخل ومنشفة، ورحىٰ للطحن، وجرّتان وقميص، وخمار لغطاء الرأس، وثوب له زغب، وعباءة قصيرة بيضاء، وجلد كبش..
أمَّا عليٌّ عليهالسلام قد رشَّ أرض الدار
برمل ناعم، ونصب في البيت خشبة من الحائط إلىٰ الحائط، لتعليق الثياب، إذ لا خزانة ولا صندوق لثياب العروس.
عن عليِّ بن أبي طالب عليهالسلام قال : « لقد تزوَّجت فاطمة
وما لي ولها
_______________________
فراش
غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها » .
خطبة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في التزويج :
عن أنس بن مالك أنَّ النبيَّ، قال له : « انطلق وادع لي أبا
بكر وعمر وعُثمان وطلحة والزبير، وبعدَّتهم من الأنصار »،
قال فانطلقت فدعوتهم، فلمَّا أخذوا مجالسهم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
الحمد لله المحمود بنعمته، المعبود بقدرته، المطاع لسلطانه، المهروب إليه من عذابه، النافذ أمره في أرضه وسمائه، الذي خلق الخلق بقدرته، ونيرهم بأحكامه، وأعزَّهم بدينه، وأكرمهم بنبيِّه محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم. إنَّ الله عزَّ وجلَّ
جعل المصاهرة نسباً لاحقاً، وأمراً مفترضاً، وحكماً عادلاً، وخيراً جامعاً، أوشج بها الأرحام، وألزمها الأنام. فقال الله عزَّ وجلَّ : ( وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ) ، وأمر الله يجري إلىٰ
قضائه، وقضاؤه يجري إلىٰ قدره، ولكلِّ أجلٍ كتاب ( يَمْحُو اللَّهُ مَا
يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ثُمَّ إنَّ الله
تعالىٰ أمرني أن أُزوِّج فاطمة من عليٍّ، وأُشهدكم أنِّي زوَّجت فاطمة من عليٍّ علىٰ أربعمائة مثقال فضة، إن رضي بذلك علىٰ السنة القائمة والفريضة الواجبة، فجمع الله شملهما وبارك لهما وأطاب نسلهما، وجعل نسلهما مفاتيح الرحمة ومعادن الحكمة وأمن الأُمَّة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ».
_______________________
قال أنس : وكان عليٌّ عليهالسلام غائباً في حاجةٍ
لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد بعثه فيها.. ثُمَّ أمر لنا بطبق فيه تمر، فوضع بين أيدينا، فقال : «انتبهوا»، فبينما نحن كذلك إذ أقبل عليٌّ، فتبسَّم إليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقال : «
يا علي! إنَّ الله أمرني أن أُزوِّجك فاطمة، وإنِّي زوَّجتكما علىٰ أربعمائة مثقال فضَّة »،
فقال عليٌّ عليهالسلام
: «
رضيت يا رسول الله »! ثُمَّ إنَّ عليَّاً
عليهالسلام
خرَّ ساجداً شكراً لله، فلمَّا رفع رأسه قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
بارك الله لكما وعليكما وأسعد جدكما وأخرج منكما الكثير الطيِّب ».
قال أنس : والله لقد أخرج منهما الكثير
الطيِّب .
وتمَّ عقد القران بين عليٍّ وفاطمة، وكتب
لهما أن يعيشا حياةً مفعمةً بالإيمان، وكان اجتماعهما يحمل الكثير من المعاني التي ظهر نورها في حياتهما، وامتدَّ بعدهما في الآفاق من نسلهما المبارك، سادة بني الإنسان!
ورحَّب النبيُّ الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بهذا الزواج الميمون وباركه وأسبغ عليه أنبل المشاعر وأقام حفلة الزفاف، ومشىٰ خلفهما، معه حمزة وعقيل وجعفر، ونساء النبي يرتجزن فرحات مستبشرات، وهنَّ يمشين قدَّامها..
وأُدخلت فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلىٰ بيت عليٍّ عليهالسلام
يتجلَّلها الحياء، متعثِّرةً بأذيالها وقال أبوها صلوات الله وسلامه عليه : « يا عليُّ لا تحدث شيئاً حتَّىٰ تلقاني ».
فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بإناء فتوضَّأ فيه، ثُمَّ أفرغه علىٰ عليٍّ عليهالسلام
ثُمَّ
_______________________
قال : « اللَّهمَّ بارك
فيهما، وبارك عليهما، وبارك لهما في نسلهما »
.
وقد روي أنَّ فاطمة عليهالسلام
بكت تلك الليلة، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
مهدّئاً من روعها : «
لقد زوَّجتك سيِّداً في الدنيا والآخرة، وإنَّه أوَّل أصحابي إسلاماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً »
.
وحقٌّ للزهراء أن تجهش بالبكاء في هذه
الليلة الفريدة من العمر، ليلة تحتاج فيها الفتاة إلىٰ أن تكون بالقرب من أُمِّها، وعلى الرغم من أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أغدق علىٰ ابنته بالمحبة والحنان حتَّىٰ فاضا! ولكن لابدَّ من وجود الأمِّ في هذه الليلة الفريدة!
قالت أسماء بنت عميس : فرمقتُ رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم،
حين اجتمعا يدعو لهما، لا يشركهما في دعائه أحد، ودعا له كما دعا لها .
في هذا الحديث الشريف : « لقد زوّجتك سيداً
في الدنيا والآخرة... » جملة من المعاني السامية والدرجات العالية المنطوية علىٰ دلالات كبيرة، فهو :
١) سيِّد في الدنيا والآخرة.
٢) أوَّل الناس إسلاماً.
٣) أكثرهم علماً.
٤) أعظمهم حلماً.
_______________________
هذه الخصال التي اجتمعت في هذا الرجل «عليٍّ»
الذي تنتظره غداً مسؤوليات كبيرة في حفظ الدين وصيانة الأُمَّة.
٣ ـ غزواته مع الرسول :
كانت هجرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بداية عهد جديد للدعوة إلىٰ الله عزَّ وجلَّ، وقد دخل الاسلام القسم الأعظم من أهل المدينة المنوَّرة، فيما أصرَّ بعضهم بادئ الأمر علىٰ الشرك.
أمَّا قريش فقد بدأت بالتحرُّك السريع
لإرهاب المسلمين.. وكان من الطبيعي أن لا يقف النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من تلك التحدِّيات والتحرُّشات موقف المتخاذل الضعيف، فجعل يرسل السرايا لمطاردتهم، أو لقطع الطريق علىٰ تجارتهم.. وظلَّ علىٰ تلك الحال حتَّىٰ أمر الله سبحانه
وتعالىٰ نبيَّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
بقتال المشركين، وليكون لهم بالمرصاد، فكانت حروب وغزوات كثيرة، بلغت في حياة النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
نحو ثمانين غزوة، وليس في كلِّها كانت تقع حروب أو مناوشات، لأنَّ الكثير منها كان عبارة عن سرايا استطلاعية يبعثها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في أطراف المدينة أو بعض النواحي التي يحتمل تسلُّل الأعداء منها.
وكان عدد الغزوات التي خرج فيها الرسول
بنفسه ٢٧ غزوة، وقع القتال في ٩ منها، وهذه الغزوات هي التي اشتهرت في تاريخ الإسلام دون سواها.
وفي كلِّ الغزوات التي خرج فيها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان عليٌّ عليهالسلام
معه، لم يفارقه في واحدة، إلَّا في غزوة تبوك، لأمر أراده الله ورسوله، سيأتي
تفصيله في محلِّه، وفي
كلِّ تلك الغزوات كان لواء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيد عليٍّ عليهالسلام
.
فلنقف بإيجاز علىٰ بعض مواقف
وأدوار الإمام عليٍّ عليهالسلام
في الغزوات والحروب :
غزوة بدر الكبرىٰ
:
وهي أول معركة يحارب فيها الإمام عليٌّ عليهالسلام كما أنَّ معركة بدر
هي أول حروب نبيُّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وبدر اسم بئر كانت لرجل يدعىٰ بدراً،
وتقع في مكان بين مكَّة والمدينة وتبعد عنها ١٦٠ كم علىٰ التقريب .
وقيل : بين بدر والمدينة ثمانية بُرُد
وميلان .
وكانت هذه الوقعة يوم الجمعة، لثلاث
عشرة بقين من شهر رمضان ،
أي في السابع عشر منه، وقيل : يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت منه علىٰ رأس تسعة عشر شهراً من مهاجره ،
وقيل : في التاسع عشر من شهر رمضان المبارك السنة الثانية من الهجرة .
وجاء في سبب هذه الغزوة : أنَّ أبا
سفيان قدم من الشام بقافلة قريش، تحمل أموالاً طائلة، فخرج الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
ليقطع الطريق عليها ردَّاً
_______________________
علىٰ تحدِّياتها
وتحرُّشاتها التي كانت تقوم بها بين الفينة والأُخرىٰ، وشاءت الأقدار أن يعرف أبو سفيان بأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فغيَّر طريق القافلة ونجا بها، وأرسل إلىٰ قريش يعلمها بالأمر..
فاستبشرت لقتال محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخرجت بجيش قوامه ألف رجل ـ علىٰ أصحِّ التقادير ـ وأخرجوا معهم القيان والدفوف، وبلغت النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أخبارها واستعدادها للقتال، فاستشار أصحابه في الأمر وأحبَّ أن يكونوا علىٰ بصيرة من أمرهم، فوقف عمر بن الخطَّاب يحذِّره من قريش، إذ يقول : والله إنَّها ما ذلَّت منذ عزَّت، ولا آمنت منذ كفرت، والله لا تسلِّم عزَّها أبداً ولتقاتلك، فتأهَّب لذلك أهبته وأعدَّ له عدَّته.
ووقف بعده المقداد فقال : يا رسول الله
امضِ لأمر الله فنحن معك، ولا نقول لك، كما قالت بنو اسرائيل لموسىٰ : ( فَاذْهَبْ أنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلأ إنَّا هَا هُنَا قَاعِدُون )،
بل نقول لك : اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكم مقاتلون، والذي بعثك بالحقِّ لو سرت بنا إلىٰ برك الغماد
لسرنا معك، فدعا له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومضىٰ نبيُّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في طريقه إلىٰ بدر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وقيل بأقل من ذلك، منهم من المهاجرين واحد وثمانون، ومن الأنصار مائتان واثنان وثلاثون رجلاً ،
وكان معهم فرسان وسبعون بعيراً، فبعث عليَّاً عليهالسلام
وسعد بن أبي وقَّاص وبسبس بن عمرو يتجسَّسون له الأخبار،
_______________________
وقال : « أرجو أن تجدوا
الخبر عند القليب التي تلي هذا الضريب »
فاندفعوا باتجاهه فوجدوا علىٰ القليب روايا قريش، فأسروا ثلاثة منهم، واستطاع الفرار رجل اسمه عجير فأخبر قريشاً، بخبر محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأصحابه..
وقبل أن يقع القتال أنزل الله علىٰ
نبيِّه : ( وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَهَا )
فوقف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بين الطرفين يخاطب قريشاً بأُسلوب يلهب المشاعر : «
ارجعوا، فلأن يلي هذا الأمر منِّي غيركم أحبُّ إليَّ من أن تلوه أنتم ».
فأصاب كلامه مكاناً في نفس عتبة بن
ربيعة، أحد قادتهم وأبطالهم، فقال لقريش : ما ردَّ هذا قومٌ قط وأفلحوا، يا معشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، إنَّ محمَّداً له آل وذمَّة وهو ابن عمِّكم فخلُّوه والعرب، فإن يك صادقاً فأنتم أعلىٰ عيناً به، وإن يك كاذباً كفتكم ذؤبان العرب أمره. لكنَّ أبا جهل أبىٰ إلَّا القتال، ووصف موقف عتبة بالجبن والخوف، وظلَّ يلاحق عتبة حتَّىٰ استفزَّه.
ودفع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
رايته إلىٰ عليٍّ، وكان عمره يوم ذاك ٢٥ سنة، وبرز عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة بن ربيعة، ودعوا المسلمين إلىٰ البراز، فبرز إليهم ثلاثة من فتيان الأنصار : وهم من بني عفراء : معاذ ومعوذ وعوف ،
فلمَّا وقفوا في مقابل عتبة وأخيه وولده، ترفَّعوا عن مقاتلتهم، وطلب عتبة من النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يرسل له الأكفَّاء من قريش.
فالتفت نبيُّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلىٰ بني عمومته، وأحبَّ أن تكون الشوكة ببني
_______________________
عمِّه وقومه وقال : « قم يا عبيدة بن
الحارث، قم يا حمزة بن عبدالمطَّلب، قم يا عليَّ بن أبي طالب »
فقاموا مسرعين، يهرولون بين الجيشين علىٰ أقدامهم، بقلوب ثابتة، عامرة بالإيمان، ووقفوا أمام القوم، فقال عتبة : تكلَّموا نعرفكم، وكان عليهم البيض، فقال حمزة : أنا حمزة بن عبدالمطَّلب : أسد الله، وأسد رسوله، فقال عتبة : كُفءٌ كريم، وأنا أسد الحلفاء، من هذا معك؟ قال : عليُّ بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، قال : كُفآن كريمان .
فبرز عبيدة بن الحارث ـ وكان عمره سبعين
سنة ـ إلىٰ عتبة بن ربيعة ـ وقيل شيبة
ـ فضربه علىٰ رأسه وضرب عتبة عبيدة علىٰ ساقه فقطعها، وسقطا معاً، وحمل عليٌّ عليهالسلام
علىٰ الوليد ـ وكانا أصغر القوم سنَّاً ـ فضربه عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام
علىٰ حبل عاتقه، فخرج السيف من أبطه، وحمل حمزة علىٰ شيبة فتضاربا بالسيف حتىٰ انثلما، فاعتنق كلُّ واحد صاحبه، وكان حمزة أطول من شيبة، فصاح المسلمون : يا علي، أما ترىٰ الكلب قد بهر عمَّك، فأقبل عليهما، فقال عليٌّ : « طأطأ رأسك يا عم »
فأدخل حمزة رأسه في صدر شيبة، فضربه الإمام علىٰ عنقه فقطعها، ثُمَّ كرَّ عليٌّ عليهالسلام
وحمزة علىٰ عتبة فأجهزا عليه، وحملا عبيدة فألقياه بين يدي ابن عمِّه الرسول، فاستعبر وقال : «
ألستُ شهيداً يا رسول الله؟ »
قال : «
نعم ».
قال : « لو رآني أبو طالب لعلم أنَّنا أحقُّ
منه بقوله :
ونُسْلمه حتَّىٰ نصرَّع حولهُ
|
|
ونذهل عن أبنائنا والحلائلِ»
|
_______________________
ولم يلبث بعدها إلّا يسيراً، وهو أول
شهيد من المسلمين في تلك المعركة.
وبرز بعدهما حنظلة بن أبي سفيان إلىٰ
عليِّ بن أبي طالب عليهالسلام،
فلمَّا دنا منه ضربه عليٌّ بالسيف، فسالت عيناه، وسقط كالذبيح علىٰ رمال بدر، ثُمَّ أقبل العاص بن سعيد بن العاص يطلب البراز، فبرز إليه عليٌّ عليهالسلام وقتله.
ولمَّا رأت مخزوم كثرة القتلىٰ من
المشركين، أحاطوا بأبي جهل خوفاً عليه، وألبسوا لأمة حربه عبدالله بن المنذر، فصمد له عليٌّ عليهالسلام
وقتله، ثُمَّ ألبسوها الفاكه بن المغيرة، فقتله حمزة وهو يظنُّه أبا جهل، وألبسوها بعدهما حرملة بن عمرو فقتله عليٌّ عليهالسلام
أيضاً، وأبىٰ أن يلبسها أحد بعدما رأوا صنيع عليٍّ وحمزة..
ثمَّ التحم الجيشان، ودار بينهما أعنف
قتال، فتساقطت الرؤوس وتهاوت الأجسام.
وقَتَلَ عليٌّ عليهالسلام ـ فيمن قتله يوم ذاك
ـ نوفل بن خويلد، وكان من شياطين قريش، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد قال فيه : «
اللَّهمَّ اكفني ابن العدوية »
وخرج نبيُّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
من العريش، ولم يبقَ فيه غير أبي بكر، ولم يرد له ولعمر بن الخطَّاب ذكر مع الذين اشتركوا في القتال..
واشترك النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع المسلمين، وكبرياء مشركي قريش تتهاوىٰ تحت الأقدام، ثمَّ أخذ كفَّاً من التراب ورمىٰ به إلىٰ جهة المشركين
قائلاً : «
شاهت الوجوه، اللَّهمَّ ارعب قلوبهم »
فانهزموا تاركين أمتعتهم وأسلحتهم، وانجلت المعركة عن مقتل سبعين رجلاً من مشركي قريش، وكانوا سادات قريش وأبطالها، وأُسر منهم سبعون رجلاً، وفقد المسلمون أربعة عشر شهيداً.. ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار.
وانطوت صفحة التاريخ معربة عن أول
انتصار حقَّقه المسلمون علىٰ صعيد المعارك، وتجلَّت هذه الانتصارات ببطولات بني هاشم لا سيَّما الإمام علي عليهالسلام،
الذي كان متعطِّشاً لحصد أشواك الشرك وإلقائها تحت الأقدام..
أحصت بعض مصادر التاريخ من قتلهم عليٌّ
٣٥ رجلاً، ذكرتهم بعض المصادر بأسمائهم .
ومن كلام الإمام عليهالسلام لمعاوية : « وعندي السيف الذي
اعضضته بجدك وخالك وأخيك في مقام واحد »
!
غزوة أُحد :
أخذ المشركون يعدُّون العدَّة للثأر، واستطاعوا
أن يؤلِّفوا جيشاً كبيراً، يضمُّ ما يقارب ثلاثة آلاف مقاتل! وتبرَّع أبو سفيان بأموال طائلة لتجهيز هذا الجيش الذي قاده بنفسه، وقبل أن تخرج قريش إلىٰ أُحد بعث العبَّاس بن عبدالمطَّلب إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يخبره بكيد قريش واستعدادها.
وبدأ النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من ساعة وصول الرسالة يستعدُّ لملاقاة الجيش الزاحف نحوهم، وكان ذلك في شوال، في السنة التالية لمعركة بدر.
خرج الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ألف رجل أو يزيدون قليلاً، وكان الإمام عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام
حامل لوائه، ووزَّع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
الرايات علىٰ وجوه المهاجرين والأنصار، ولمَّا كان بين المدينة وأُحد، عاد عبدالله بن أُبي
_______________________
ـ رأس النفاق ـ بثلث
الجيش قائلاً : علامَ نقتل أنفسنا؟! ارجعوا أيُّها الناس، فرجع وبقيَ مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
سبعمائة.
ومضىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بجيشه البالغ سبعمائة رجلٍ حتىٰ بلغ أُحداً، فأعدَّ أصحابه للقتال، ووضع تخطيطاً سليماً للمعركة ليضمن لهم النصر بإذن الله، ثُم جعل أُحداً خلف ظهره، فجعل الرماة علىٰ جبل خلف عسكر المسلمين وهم خمسون رجلاً، وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير، وقال لهم : «
احموا ظهورنا ولا تفارقوا مكانكم، فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشاركونا، فإنَّما نؤتىٰ من موضعكم هذا »
.
ولمَّا التحمت المعركة تقدَّم طلحة بن
أبي طلحة ـ وكان يدعىٰ كبش الكتيبة ـ وصاح : من يبارز؛ فخرج إليه عليٌّ عليهالسلام،
وبرزا بين الصفَّين، ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
جالس في عريش أُعدَّ له يشرف علىٰ المعركة ويراقب سيرها، فقال طلحة : مَنْ أنت؟ قال : «
أنا عليُّ بن أبي طالب »
فقال : لقد علمت أنَّه لا يجرؤ عليَّ أحدٌ غيرك، فالتحمت سيوفهم، فضرب عليٌّ عليهالسلام رأس عتبة ضربة فلق فيها هامته، فبدرت عيناه وصاح صيحة لم يُسمع مثلها، وسقط اللواء من يده، ووقع يخور في دمه كالثور، وقيل : ضربه فقطع رجله، فسقط وانكشفت عورته، فناشده الله والرحم فتركه .
فكبَّر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
والمسلمون، وتقدَّم بعده أخوه عُثمان بن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة بن عبدالمطَّلب، فضربه بسيفه ضربةً كانت بها نهايته، ورجع عنه يقول : أنا ابن ساقي الحجيج.
_______________________
وأخذ اللواء بعدهما أخوهما أبو سعيد بن
أبي طلحة، فحمل عليه عليٌّ عليهالسلام
فقتله، ثُمَّ أخذ اللواء أرطأة بن شرحبيل، فقتله عليٌّ عليهالسلام أيضاً، وأخذ اللواء بعد ذلك غلام لبني عبدالدار، فقتله عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام.
وذكر المفيد في إرشاده : أنَّ أصحاب
اللواء كانوا تسعة، قتلهم عليُّ بن أبي طالب عن آخرهم، وانهزم القوم .
وتؤكِّد أكثر الروايات أنَّه بعد أن قُتل
أصحاب الألوية والتحم الجيشان، لم يتقدَّم أحد من عليٍّ عليهالسلام
إلَّا بعجه بسيفه أو ضربه علىٰ رأسه، ففلق هامته وأرداه قتيلاً، وانكشف المشركون لا يلوون علىٰ شيء، حتىٰ أحاط المسلمون بنسائهم، ودبَّ الرعب في قلوبهم، ولو أراد المسلمون أن يأسروا هنداً ومن معها ما وجدوا من يمنعهم من ذلك.
وإنَّ النصر الذي تهيَّأ للنبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في أُحد لم يتهيَّأ له في موطنٍ قطّ، وظلَّ النصر إلىٰ جانب المسلمين، حتَّىٰ عصوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وانصرفوا إلىٰ الغنائم.
فقد أُصيب المسلمون من قبل الرماة الذين
وضعهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
من ورائهم، ليحموا ظهورهم بالنبال إن هجم المشركون من جهة الجبل، لكن لمَّا انهزم المشركون لا يلوون علىٰ شيء، نزل الرماة من علىٰ الجبل، بعد
أن نظروا إلىٰ اخوانهم المسلمين ينتهبون الغنائم، وردعهم أميرهم عبدالله بن جبير، فأبوا الرجوع، ثُمَّ انطلقوا للسلب والنهب، ولم يبقَ مع ابن جبير إلَّا عشرة رجال.
_______________________
ولمَّا رأىٰ خالد بن الوليد أنَّ
ظهر المسلمين قد خلا، كرَّ في مئتي فارس، علىٰ من بقي مع ابن جبير فأبادهم، وقُتل ابن جبير بعد أن قاتل قتال المستميت، وتجمَّع المشركون من جديد، وأحاطوا بالمسلمين من خلفهم، وهم غافلون لنهب الغنائم، واستدارت رحاهم وحالت الريح فصارت دبوراً، وما أحسَّ المسلمون إلَّا والعدو قد أحاط بهم واختلط بينهم، وأصبحوا كالمدهوشين، يتعرَّضون لضرب السيوف وطعن الرماح من كلِّ جانب، وأوجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، واشتدَّ عليهم الأمر حتَّىٰ قتل بعضهم بعضاً من حيث لا يقصدون.
وفرَّ المسلمون عن نبيِّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
ولم يكن عليٌّ عليهالسلام
يفكِّر في تلك اللحظات الحاسمة إلَّا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا سيَّما وقد رأىٰ المشركين يتَّجهون نحوه، وأصبح هدفهم الأول، بعد أن أصبحت المعركة لصالحهم، فأحاط به هو وجماعة من المسلمين، وقد استماتوا في الدفاع عن النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وحمزة يهذُّ الناس بسيفه هذَّاً، وعليٌّ عليهالسلام
يفرِّق جمعهم كالصقر الجائع حينما ينقضّ علىٰ فريسته، فيشتِّتهم إرباً إرباً بسيفه البتَّار، وهو راجل وهم علىٰ متون الخيل، فدفعهم عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
حتَّىٰ انقطع سيفه.
وقاتل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قتالاً شديداً، وقد تجمَّع عليه المشركون وحاولوا قتله بكلِّ سبيل، ورماه ابن قمئة فكسر أنفه ورباعيته السفلىٰ، وشقَّت شفته، وأصابته ضربة في جبهته الشريفة، وسال الدم علىٰ وجهه الشريف. وغلب عليه الضعف.
روىٰ عكرمة قال : سمعت عليَّاً عليهالسلام، يقول : « لمَّا انهزم الناس
يوم أُحد
عن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لحقني من الجزع عليه
ما لم أملك نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه، فرجعت أطلبه فلم أره فقلت : ما كان رسول الله ليفرَّ، وما رأيته في القتلىٰ، فأظنُّه رُفع من بيننا، فكسَّرت
جفن سيفي وقلت في نفسي : لأقاتلنَّ به عنه حتَّىٰ أُقتل، وحملت علىٰ القوم
فأفرجوا، فإذا أنا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، وقد وقع علىٰ
الأرض مغشيَّاً عليه، فقمت علىٰ رأسه، فنظر إليَّ فقال : ما صنع الناس، يا عليُّ؟ فقلت : كفروا يا رسول الله وولَّوا الدبر وأسلموك، فنظر إلىٰ كتيبة قد أقبلت فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : ردَّ عنِّي يا عليُّ هذه الكتيبة، فحملت عليها بسيفي أضربها يميناً وشمالاً حتَّىٰ ولَّوا الأدبار، فقال لي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : أما تسمع مديحك في السماء، إنَّ ملكاً يقال له : رضوان ينادي : لا سيف إلَّا ذو الفقار ولا فتىٰ إلَّا
عليُّ، فبكيتُ سروراً وحمدت الله علىٰ نعمه »
.
نقل ابن الأثير : لقد أصابت عليَّاً يوم
أحد ستُّ عشرة ضربة، كلُّ ضربةٍ تلزمه الأرض، فما كان يرفعه إلَّا جبريل عليهالسلام
.
وفي هذه الوقعة قُتل حمزة بن
عبدالمطَّلب، رماه وحشي ـ وهو عبد لجبير بن مطعم ـ بحربة، فسقط شهيداً، ومثَّلت به هند بنت عتبة بن ربيعة، وشقَّت عن كبده فأخذت منها قطعة فلاكتها، وجدعت أنفه، فجزع عليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
جزعاً شديداً، وقال : «
لن أُصاب بمثلك »..
ولمّا يئس المشركون من قتل النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
برغم جميع المحاولات، فترت
_______________________
همَّتهم وقفلوا
راجعين، بعد أن قُتل من المسلمين ثمانية وستُّون رجلاً، ومن المشركين اثنان وعشرون رجلاً، وكفىٰ الله المؤمنين القتال بأمير المؤمنين عليهالسلام.
وقفل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومن معه راجعين إلىٰ المدينة يوم السبت؛ فاستقبلته فاطمة عليهاالسلام
ومعها إناء فيه ماء، فغسل وجهه، ولحقه الإمام وقد خضَّب الدم يده إلىٰ كتفه ومعه ذو الفقار، فناوله فاطمة عليهالسلام فقال : «
خذي السيف فقد صدقني اليوم »
وقال :
«أفاطمُ هاكِ السيف غير ذميم
|
|
وقال فلستُ برعديد ولا بمليمِ
|
لعمري لقد أعذرت في نصر أحمدٍ
|
|
وطاعة ربٍّ بالعباد عليمِ»
|
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
خذيه يا فاطمة، فقد أدَّىٰ بعلك ما عليه، وقد قتل الله بسيفه صناديد قريش »
.
وقعة بني النضير :
غزا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بني النضير في شهر ربيع الأول سنة أربع علىٰ رأس سبعة وثلاثين شهراً من مهاجره .
وبني النضير هم فخذٌ من جذام إلَّا أنَّهم تهوَّدوا، ونزلوا بجبل يقال له : النضير، فسُمُّوا به.
وجاء في سبب هذه الغزوة : أنَّ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
مشىٰ إلىٰ كعب بن الأشرف ووجهاء بني النضير، يستقرضهم في دية الكلابيين اللذين قتلهما عمرو بن أُمية الضمري، فقالوا : نعم، نعينك علىٰ ما أحببت، ثُمَّ خلا بعضهم
_______________________
ببعض وتآمروا علىٰ
قتله، فنزل جبرئيل عليهالسلام
وأخبره بما همَّ به القوم من الغدر، وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أصحابه الخبر، وأمر المسلمين بحربهم، ونزل بهم، وكانت رايته مع عليِّ بن أبي طالب عليهالسلام
، فتحصَّن اليهود في الحصون، وأرسل إليهم عبدالله بن أُبي وجماعة معه أن اثبتوا وتمنَّعوا، فإنَّا لن نسلمكم..
وروي أنَّ الإمام عليَّاً عليهالسلام فقد في احدىٰ ليالي
حصار بني النضير، فقال رسول الله : «
إنَّه في بعض شأنكم » وبعد قليل جاء عليٌّ
برأس «عزوك» أحد أبطال بني النضير، وقد كمن له الإمام حتىٰ خرج في نفر من يهود يطلبون غرَّة من المسلمين، وكان شجاعاً رامياً، فكمن له عليٌّ عليهالسلام
فقتله، وفرَّ اليهود، فأرسل نبيُّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أبا دجانة وسهل بن حنيف، في عشرة من رجالات المسلمين، فأدركوا اليهود الفارِّين من سيف الإمام عليٍّ عليهالسلام،
وطرحت رؤوسهم في الآبار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا النبيَّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يُجليهم ويكفَّ عن دمائهم ـ بعد أن خذلهم ابن أُبي ـ فبعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
محمَّد بن مسلمة إليهم : أن يخرجوا من بلادهم ولهم ما حملت الإبل من خُرثي متاعهم، ولا يخرجون معهم بذهب ولا فضة ولا سلاح .
وأجّلهم في الجلاء ثلاث ليال .
_______________________
وقعة الأحزاب :
وتسمَّىٰ أيضاً «غزوة الخندق»
وكانت في ذي القعدة، سنة خمس من الهجرة
٦٢٧ م، وقيل : في شوال ،
وقيل : في السنة السادسة، بعد مقدم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالمدينة بخمسة وخمسين شهراً .
وكان سببها : لمَّا أجلىٰ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بني النضير ساروا إلىٰ خيبر، وحزَّبوا الأحزاب علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فقدموا علىٰ قريش بمكَّة، وألَّبوها علىٰ حرب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وقالوا : نكون معكم حتَّىٰ نستأصله، وما كان من أمر قريش إلَّا أن تستجيب لضالَّتها المنشودة في القضاء علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأعوانه.
وتجهَّزت قريش وجمعوا أحابيشهم ومن
تبعهم من العرب، فكان جميع القوم الذين وافوا الخندق، ممن ذُكر من القبائل، عشرة آلاف، وهم الأحزاب، وكانوا ثلاثة عساكر بقيادة أبي سفيان بن حرب.
فلمَّا بلغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
خبرهم جمع المسلمين، وحثَّهم علىٰ الجهاد والصبر والاستعداد لمقابلة الغزاة وشاورهم في الأمر، فأشار عليه سلمان الفارسي بالخندق، فأعجب ذلك المسلمين، لأنَّ عملاً من هذ النوع لابدَّ وأن يعرقل تقدُّم الغزاة، ويخفِّف من أخطار المجابهة بين الفريقين.
وأقبل المسلمون جميعاً يحفرون خندقاً
حول المدينة، وجعل رسول الله
_______________________
لكلِّ عشرة أربعين
ذراعاً ،
ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
معهم يحفر وينقل التراب، وفرغوا من حفره في ستة أيام، وكان سائر المدينة مشبك بالبنيان، فهي كالحصن، وكان المسلمون يومئذٍ ثلاثة آلاف مقاتل.
وخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لقتال قريش وأحباشها، وهنا كانت الصدمة الكبيرة علىٰ قريش، وهي تحسب أنَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
وصحبه لا يثبتون لها ساعات قلائل بهذا العدد الضخم، وإذا بها تجد بينها وبين المسلمين حاجزاً لا يمكن اجتيازه إلَّا بعد جهود شاقة، لاسيَّما وأنَّ أبطال المسلمين وقفوا بالمرصاد لكل من تحدِّثه نفسه باجتياز ذلك الحاجز، فأُذهلت بعد أن كانت مغرورة بقوتها الجبَّارة!
وأنكروا أمر الخندق، وقالوا : ما كانت
العرب تعرف هذا، وأقاموا علىٰ هذه الحال ـ الرشق بالنبل والحجارة ـ مدَّة خمسة أيام
دون قتال..
فلمَّا كان اليوم الخامس خرج عمرو بن
عبد ودٍّ العامري ـ وكان يعدّ بألف فارس ـ وأربعة نفر من المشركين : نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومي، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطَّاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، واقتحموا الخندق من مكان ضيِّق، وركز عمرو رمحه في الأرض ـ وهو ابن تسعين سنة
ـ وأخذ يجول، ويدعو إلىٰ البراز ويرتجز :
_______________________
ولقد بححتُ من الندا
|
|
ءِ بجمعهم هل من مبارز؟
|
انِّي كذلك لم أزل
|
|
متسرِّعاً نحو الهزاهز
|
إنَّ الشجاعة في الفتىٰ
|
|
والجود من خير الغرائز
|
وكأنَّ هذه الكلمات نداء إلىٰ الموت،
فلم يجبه أحد من المسلمين، وفي كلِّ مرّة يكرّر فيها نداءه كان يقوم له عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام من بينهم ليبارزه، فيأمره رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالجلوس، انتظاراً منه ليتحرَّك غيره، ولكن لم ينهض أحد؛ لمكان عمرو بن عبد ودٍّ ومن معه.
ومضىٰ عمرو يكرِّر النداء
والتحدِّي للمسلمين، فقام عليٌّ عليهالسلام
مرَّةً أُخرىٰ، فأجلسه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقال له : «
إنَّه عمرو »، ونادىٰ مرَّةً
أُخرىٰ، فقام عليٌّ عليهالسلام،
فأذن له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فقال له : «
ادنُ منِّي » فدنا منه، فنزع عمامته عن رأسه وعمَّمه بها وأعطاه سيفه ذا الفقار، وقال له : «
امضِ لشأنك » ثُمَّ رفع يديه وقال
: «
اللَّهمَّ إنَّك أخذت منِّي حمزة يوم أُحد، وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليَّاً، ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ».
وقال نبيُّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لمَّا دنا عليٌّ عليهالسلام
من عمرو : «
خرج الإيمان سائره إلىٰ الكفر سائره »..
فبرز إليه عليٌّ، وهو يقول :
«لا تعجلنَّ فقد أتاك
|
|
مجيب صوتك غير عاجز
|
ذو نيَّةٍ وبصيرة والـ
|
|
صدق منجي كلَّ فائز
|
_______________________
إنِّي لأرجو أن أُقيم
|
|
عليك نائحة الجنائز
|
من ضربة نجلاء يبقىٰ
|
|
صيتها بعد الهزاهز»
|
فلمَّا انتهىٰ إليه قال : « يا عمرو إنَّك في
الجاهلية تقول : لا يدعوني أحدٌ إلىٰ ثلاث إلَّا قبلتها، أو واحدة منها ».
قال : أجل. قال : «
فإنِّي أدعوك إلىٰ شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وأن تُسلم لربِّ العالمين
». قال : يا ابن أخ، أخِّر هذه عنِّي. فقال له عليٌّ : « أمَّا إنَّها خيرٌ لك لو أخذتها ».
ثُمَّ قال : « فها هنا أُخرىٰ
» قال : ما هي ؟ قال : « ترجع من حيث جئت ». قال : لا تَحدَّث نساء قريش بهذا
أبداً.
قال : « فها هنا أُخرىٰ ».
قال : ما هي ؟ قال : «
تنزل تقاتلني » فضحك عمرو وقال : إنَّ هذه الخصلة ما كنت أظنَّ أنَّ أحداً من العرب يرومني مثلها، إنِّي لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك لي نديماً .
قال عليٌّ عليهالسلام
: «
ولكنِّي أُحبُّ أن أقتلك، فانزل إن شئت ».
فغضب عمرو ونزل فضرب وجه فرسه حتىٰ
رجع ، وحمل علىٰ عليٍّ عليهالسلام
وضربه علىٰ رأسه فاتَّقاها بالدرقة، فقدَّها السيف ونفذ منها إلىٰ رأسه فشجَّه، وبقي محتفظاً بثباته، وتوالت عليه الضربات وهو يحيد عنها، ثُمَّ كرَّ عليه عليٌّ عليهالسلام
فضربه علىٰ حبل عاتقه ضربةً كان دويُّها كالصاعقة،
_______________________
ارتجَّ له العسكران، فسقط
يخور بدمه كالثور، وارتفعت غبرة حالت بينهما وبين الجيشين.
علىٰ أنَّ هناك رواية أُخرىٰ
تذهب إلىٰ أن
الامام ضرب عمراً علىٰ ساقيه فقطعهما جميعاً، فسقط الى الأرض، فأخذ عليٌّ عليهالسلام
بلحيته وذبحه، وأخذ رأسه بيده هدية إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وأقبل والدماء تسيل علىٰ وجهه من ضربة عمرو، ورأس عمرو بيده يقطر دماً، وكان وجه علي عليهالسلام يتهلَّل فرحاً، فألقاها بين يدي الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فقام أبو بكر وعمر فقبّلا رأس عليٍّ عليهالسلام،
فعانقه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم،
ودعا له، فقال عمر بن الخطَّاب لعليٍّ عليهالسلام
: هلا استلبت درعه، فليس للعرب درع خير منها؛ فقال عليٌّ : «
ضربته فاتَّقاني بسوأته فاستحييت أن أسلبه ».
وعلىٰ أيِّ حال فقد علت أصوات
المسلمين بالتكبير، بعد أن أصابهم الخوف في بادئ الأمر، وانهزم الذين كانوا مع عمرو بن عبد ودٍّ، واقتحمت خيولهم الخندق، وكبا بنوفل بن عبدالله بن المغيرة فرسه، فجعلوا يرمونه بالحجارة، فقال لهم : قتلة أجمل من هذه، ينزل إليَّ بعضكم أقاتله، فنزل إليه عليٌّ عليهالسلام
فضربه حتَّىٰ قتله، وبعث الله عليهم ريحاً في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فانصرفوا هاربين لا يلوون علىٰ شيء، حتَّىٰ ركب أبو سفيان ناقته وهي معقوله! فلمَّا بلغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
الله ذلك : قال : «
عوجل الشيخ ».
وعن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال في قتل عليٍّ عليهالسلام
لعمرو : «
لضربة عليٍّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ».
_______________________
قال جابر : «فما شبهت قتل عليٍّ عمراً إلَّا
بما قصَّ الله تعالىٰ من قصة داود وجالوت، حيث قال : ( فَهَزَمُوهُم
بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ )
» .
نعم لقد قلبت ضربة عليٍّ عليهالسلام لعمرو الوضع تماماً،
بعدما كان النصر حليف قريش بقوَّتها الجبَّارة، وصدق سبحانه حيث قال : ( كَم مِّن فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً )
.
بسيف عليٍّ عليهالسلام كان النصر حليف
المسلمين وهنا يسكت القلم، ولا يدري ماذا يكتب عن شجاعة ابن أبي طالب عليهالسلام
فقد كفىٰ الله المؤمنين القتال به عليهالسلام.
ولمَّا نُعي عمرو بن عبد ودٍّ إلىٰ
أخته عمرة، قالت : مَن قتله؟ ومن الذي اجترأ عليه؟ فقيل لها : قتله عليُّ بن أبي طالب. فقالت : لقد قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت ميتته علىٰ يد كفءٍ كريم من قومه، وأنشأت تقول :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
|
|
لكنت أبكي عليه دائم الأبد
|
لكنَّ قاتله من لا يعاب به
|
|
قد كان يدعىٰ أبوه بيضة البلد
|
من هاشم في ذراها وهي صاعدة
|
|
إلىٰ السماء تميت الناس بالحسد
|
قوم أبى الله إلَّا أن تكون لهم
|
|
كرامة الدين والدنيا بلا لدد
|
يا أم كلثوم ابكيه ولا تدعي
|
|
بكاء معولة حرّىٰ علىٰ ولد
|
هكذا اكتسح عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام فرسان المعارك
وشجعان الفلا..
_______________________
حتَّىٰ لم يعد
له مثيل بين أبطال العرب، يسابق الأسود، ويقطع الرؤوس، ولا يخاف في الله لومة لائم، فهو الوحيد الذي بدَّد آمال الأحزاب في الخندق، وبثَّ في صفوفهم الرعب، وهنا أنزل الله تعالىٰ علىٰ رسوله الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا )
.
وقعة بني قريظة :
بنو قريظة : هي فخذ من جذام اخوة النضير،
ويقال : إنَّ تهوُّدهم كان في أيام عاديا أبي السموأل، ثُمَّ نزلوا بجبل يقال له : قريظة، فنُسبوا إليه، وقد قيل : إنَّ قريظة اسم جدِّهم بعقب الخندق .
وكانت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة خمس
من الهجرة، وكان بين بني قريظة ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
صلح فنقضوه، ومالوا مع قريش، فوجَّه إليهم سعد بن معاذ وعبدالله بن رواحه وخوَّات بن جُبير، فذكَّرهم العهد وأساءوا الإجابة، فلمَّا انهزمت قريش يوم الخندق دعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليَّاً عليهالسلام،
فقال له : «
قدِّم راية المهاجرين إلىٰ بني قريظة »
وقال : «
عزمت عليكم ألَّا تصلُّوا العصر إلَّا في بني قريظة »
ثُمَّ سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرساً، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.
_______________________
وحاصر المسلمون بني قريظة شهراً أو
خمساً وعشرين ليلة
أشدَّ الحصار.. فدنا منهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلقيه عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام
فقال : «
يارسول الله لا تدنُ »، فقال : « أحسب أنَّ القوم
أساءوا القول »، فقال : «
نعم يا رسول الله »، فيقال : إنَّه قال
بيده كذا وكذا، فانفرج الجبل حين رأوه، وقال : «
يا عبدة الطاغوت، يا وجوه القردة والخنازير، فعل الله بكم وفعل ».. فحاصرهم رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم
أياماً حتَّىٰ نزلوا علىٰ حكم سعد بن معاذ الأنصاري، وقد حكم انَّه تقتل مقاتلتهم، وتُسبىٰ ذراريهم، وتجعل أموالهم للمهاجرين دون الأنصار، فقال رسول الله : «
لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ـ
سماوات ـ
».
ومن مواقف أمير المؤمنين عليهالسلام وهي التي تعنينا
بالبحث : انَّه ضرب أعناق رؤوساء اليهود أعداء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
منهم : حُيي بن أخطب، وكعب بن أسد، بأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
.
عمرة الحديبية :
خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
للعمرة في ذي القعدة سنة ست للهجرة ،
ومعه ألف وأربعمئة
من أصحابه، وساقَ من الهدي سبعين بدنة ،
كما ساق أصحابه أيضاً. ومعهم السيوف في أغمادها، وأعلن في أكثر أنحاء
_______________________
الجزيرة بأنَّه لا
يريد حرباً ولا قتالاً، وبلغ المشركين خروجه، فأجمع رأيهم علىٰ صدِّه عن المسجد الحرام..
فسار رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
بأصحابه حتَّىٰ دنا من الحديبية، وهي علىٰ تسعة أميال من مكَّة، وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
رأىٰ في المنام أنَّه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح .
أرسلت إليه قريش مِكرز بن حفص، فأبىٰ
أن يكلِّمه، وقال : «
هذا رجل فاجر »، فبعثوا إليه الحُليس بن علقمة من بني
الحارث بن عبد مناة، وكان من قوم يتألَّهون، فلمَّا رأىٰ الهدي قد أكلت أوبارها، رجع؛ فقال : يا معاشر قريش إنِّي قد رأيت ما لا يحلُّ صدُّه عن البيت..
وكان آخر من بعثوا سهيل بن عمرو ليصالحه
علىٰ أن يرجع عنهم عامه ذلك، فأقبل إلىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
فكلَّم رسول الله وأرفقه، ثُمَّ جرىٰ بينهم الصلح، فدعا رسول الله عليَّ بن أبي طالب عليهالسلام
فقال : «
أكتب بسم الله الرحمن الرحيم » ،
فقال سهيل : لا نعرف هذا ولكن اكتب.. باسمك اللَّهمَّ، فكتبها. وقيل : قال عليهالسلام
: «
لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت ».
ثُمَّ قـال : « اكتب : هذا ما صالح
عليه محمَّد رسول الله سهيل بن عمرو »
فقال سهيل : لو نعلم أنَّك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعليٍّ : «
امحُ رسول الله » فقال : « لا أمحوك
_______________________
أبداً
» ،
فمحاها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وقال له موضع رسول الله : محمَّد بن عبدالله، وقال لعليٍّ : «
لتبلينَّ بمثلها » ،
واصطلحا علىٰ وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وانَّه من أتىٰ منهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بغير إذن وليِّه ردَّه إليهم، ومن جاء قريشاً ممَّن مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يردُّوه عليه، ومن أحبَّ أن يدخل في عهد رسول الله دخل ...
روىٰ ربعي بن خراش عن أمير
المؤمنين عليهالسلام،
أنَّه قال :
«
أقبل سهيل بن عمرو ورجلان ـ أو ثلاثة ـ معه إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحديبية، فقالوا له : إنَّه يأتيك قوم من سلفنا وعبداننا فارددهم علينا، فغضب حتَّىٰ احمارَّ وجهه، وكان إذا غضب عليهالسلام يحمارُّ وجهه، ثُمَّ قال : لتنتهنَّ يا معشر قريش، أو ليبعثن الله عليكم رجلاً امتحن الله قلبه للإيمان، يضرب رقابكم وأنتم مجفلون عن الدين. فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : لا، قال عمر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : لا، ولكنَّه ذلكم خاصف النعل في الحُجرة. وأنا خاصف نعل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحُجرة ».
ثمَّ قال عليٌّ عليهالسلام : « أما انَّه قد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : من كذب عليَّ متعمَّداً فليتبوَّأ مقعده من النار » .
_______________________
وقعة خيبر :
غزا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
خيبر في جمادىٰ الأولىٰ سنة سبع من مهاجره، وهي علىٰ ثمانية بُرُد من المدينة ،
أي أربعة ليال ـ علىٰ التقريب ـ ،
وأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أصحابه بالتهيُّؤ لغزوة خيبر، وخرج معه ألف واربعمائة رجل، معهم مائتا فارس، وأعطىٰ لواءه لعليِّ بن أبي طالب عليهالسلام
.
ومضىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
يجدُّ السير باتِّجاه خيبر، ونزل عليها ليلاً، ولم يعلم أهلها، فخرجوا عند الصباح إلىٰ عملهم بمساحيهم، فلمَّا رأوه عادوا، وقالوا : محمَّد والخميس، يعنون الجيش، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
الله أكبر خربت خيبر، إنَّا إذا نزلنا بساحة قوم ( فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ
) ! »
.
وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد سلَّم أبابكر راية الجيش، ولكنَّ أبابكر عاد بالراية دون أن يصنع شيئاً فرجع، ثُمَّ جعل القيادة لعمر بن الخطَّاب بعده، قال الطبري والحاكم : فعاد يجبّن أصحابه ويجبنونه ،
فأخبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال : «
والله لأعطينَّها غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله ،
_______________________
يأخذها
عنوةً » .
وفي رواية أخرى : «
لأُعطينَّ الرآية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله علىٰ يديه ليس بفرّار »
.
فتطاولت لذلك الأعناق ورجا كلُّ واحد أن
يكون المقصود بهذا القول.
وفيها جاء عن عمر بن الخطَّاب انَّه قال
: فما أحببت الإمارة قبل يومئذٍ، فتطاولت لها واستشرفت رجاء أن يدفعها إليَّ، فلمَّا كان الغد دعا عليَّاً فدفعها إليه، فقال : «
قاتل ولا تلتفت، حتىٰ يفتح الله عليك »
.
وفي تفصيل الخبر أن علياً عليهالسلام كان قد أُصيب بالرمد،
فبصق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في عينيه، ثم أعطاه الراية ،
فما شكا وجعاً حتَّىٰ مضىٰ لسبيله، فنهض بالراية وعليه حلَّة حمراء ،
إنطلق مهرولاً، فركز رايته بين حجرين أمام الحصن، فأشرف عليه رجل من يهود يخطر بسيفه، فقال له : مَن أنت؟ قال : «
أنا عليُّ بن أبي طالب »،
فقال اليهودي : غُلبتم يا معشر يهود، وخرج مرحب اليهودي، صاحب الحصن، وعليه مغفر يماني، قد نقبه مثل البيضة علىٰ رأسه، وكان مزهوّاً بشجاعته وبطولاته، خرج يتبختر في
_______________________
مشيته، وهو يقول :
قد علمت خيبرُ أنِّي مرحبُ
|
|
شاكي السلاح بطلٌ مجرَّبُ
|
|
اذا الحروبُ أقبلتْ تلهَّبُ
|
|
|
|
|
|
|
فقال عليٌّ صلوات
الله عليه وبركاته :
« أنا الذي سمَّتني أُمِّي حيدرة
|
|
أكيلكم بالسيف كيل السندرة
|
|
ليثُ بغاباتٍ شديدٌ قسورة»
|
|
|
|
|
|
|
فاختلفا ضربتين، فبدره عليٌّ عليهالسلام فضربه فقدَّ الجحفة
والمغفر ورأسه، وشقَّه نصفين حتىٰ وصل السيف إلىٰ أضراسه، فوقع علىٰ الأرض، وكان لضربته عليهالسلام
دويٌّ كدوي الصاعقة، فلمَّا رأىٰ اليهود صنيع عليٍّ عليهالسلام بفارسهم مرحب ولَّوا هاربين، وكان الفتح علىٰ يديه عليهالسلام.
قال أبو رافع مولىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «خرجنا مع عليٍّ عليهالسلام
حين بعثه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
برايته إلىٰ خيبر، فلمَّا دنا من الحصن خرج إليه أهله، فقاتلهم، فضربه يهوديٌّ فطرح ترسه من يده، فتناول عليٌّ عليهالسلام باباً كان عند الحصن فتترَّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل، حتىٰ فتح الله عليه، ثُمَّ ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر سبعة، أنا ثامنهم، نجهد علىٰ أن
نقلب ذلك الباب فما نقلبه» .
وقيل : «إنَّ الباب كان حجارة طوله أربع
أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمىٰ به عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام
خلفه ودخل الحصن ودخله
_______________________
المسلمون» .
ومهما يكن الحال فإن دلَّت هذه الروايات
علىٰ شيءٍ، فإنَّما تدلُّ علىٰ شجاعة الإمام وقدرته الخارقة العجيبة في بدنه، مع قوة إلهيّة معنوية عالية، وعليٌّ عليهالسلام
نفسه يقول عن هذا الحادث : «
والله ما قلعت باب الحصن بقوَّة جسدية، ولكن بقوَّة ربَّانية »
.
وعن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : «لمَّا
قدم عليٌّ عليهالسلام
علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بفتح خيبر قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
لولا أن يقول فيك طوائف من أُمَّتي ما قالت النصارىٰ في عيسىٰ بن مريم، لقلت فيك اليوم قولاً
لا تمرُّ بملأ إلَّا أخذوا من تراب رجليك ومن فضل طهورك فيستشفون به، ولكن حسبك أن تكون منِّي وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنَّك منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي، وأنَّك تؤدِّي ذمَّتي، وتقاتل علىٰ سُنَّتي،
وأنَّك في الآخرة غداً أقرب الناس منِّي، وأنَّك غداً علىٰ الحوض خليفتي... إلى آخره ».
فخرَّ عليٌّ عليهالسلام ساجداً، ثُمَّ قال :
«
الحمد لله الذي منَّ عليَّ بالإسلام، وعلَّمني القرآن، وحبَّبني إلىٰ خير البريَّة، خاتم النبيِّين وسيِّد
المرسلين، إحساناً منه إليَّ، وفضلاً منه عليَّ ».
فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
عند ذلك : «
لولا أنت يا عليُّ لم يُعرف المؤمنون بعدي »» .
_______________________
وقعة ذات السلاسل :
وتسمَّىٰ أيضاً وقعة وادي الرمل.
وكان سببها أنَّ عدداً من الأعراب قد اجتمعوا لغزو المدينة ـ في وادي الرمل ـ علىٰ حين غفلة من أهلها، فوفد أعرابي علىٰ نبيِّ الله وأخبره بالأمر، وخرج أمير المؤمنين ومعه لواء النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد أن خرج غيره إليهم، ورجع عنهم خائباً، ثُمَّ خرج صاحبه وعاد بما عاد به الأول ،
ثُمَّ أرسل عمرو بن العاص ،
فعاد كما عاد صاحباه، فمضىٰ عليهالسلام
نحو القوم، يكمن النهار ويسير الليل، حتىٰ وافىٰ القوم بسحر، وصلَّىٰ بأصحابه صلاة الغداة، وصفَّهم صفوفاً واتَّكأ علىٰ سيفه
وانقضَّ بمن معه علىٰ القوم علىٰ حين غفلة منهم، وقال : « يا هؤلاء، أنا رسولُ رسولِ الله، أن تقولوا : لا إله إلَّا الله محمَّد رسول الله، وإلَّا ضربتكم
بالسيف ».
فقالوا له : إرجع كما رجع صاحباك.
قال : « أنا أرجع! لا والله حتَّىٰ تسلموا،
أو لأضربنَّكم بسيفي هذا، أنا عليُّ بن أبي طالب بن عبدالمطَّلب »
.
فاضطرب القوم، وأمعنوا بهم قتلاً وأسراً،
حتَّىٰ استسلموا له، وتمَّ الفتح علىٰ يده.
_______________________
وعن أمُّ سلمة قالت : كان نبيُّ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قائلاً في بيتي ؛ إذ انتبه فزعاً من منامه، فقلت : الله جارك، قال : «
صدقت، الله جاري، ولكن هذا جبرئيل يخبرني أنَّ عليَّاً قادم ».
ثمَّ خرج إلىٰ الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليَّاً، وقام المسلمون صفَّين مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فلمَّا بصر به عليٌّ عليهالسلام
ترجَّل عن فرسه، وأقبل عليه يقبِّله. فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إركب، فإنَّ الله ورسوله عنك راضيان » فبكىٰ عليٌّ عليهالسلام فرحاً وانصرف إلىٰ
منزله.
ونزلت علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
سورة العاديات لهذه المناسبة .
فتح مكَّة :
كان الفتح في شهر رمضان، سنة ثمان من
مهاجر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
. وكان سبب هذه الوقعة : أنَّ قريشاً نقضت الوثيقة التي وقعتها مع النبي في الحديبية، وتمادت في ذلك، حتى ذهبت إلى تحريض حلفائها بني الدؤل من بني بكر علىٰ خزاعة حلفاء النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم،
واستطاع هؤلاء أن يتغلَّبوا علىٰ خزاعة بمساعدة قريش، فلمَّا وصل الخبر إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
عزم علىٰ أن ينصر خزاعة..
فجهّز جيشه وأكد رغبته في التكتيم علىٰ
هذا الأمر، لمداهمة قريش في مكة قبل أن تتجهز لحرب، وكان يقول : « اللَّهمَّ خُذ علىٰ أبصارهم فلا
يروني إلَّا بغتةً »! ،
لكن الأمر تسرّب إلىٰ حاطب بن أبي بلتعة، فكتب كتاباً إلىٰ أهل مكَّة يطلعهم فيه علىٰ سرِّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في المسير إليهم،
_______________________
وأعطىٰ الكتاب
أمرأة سوداء وأمرها أن تأخذ علىٰ غير الطريق، فنزل بذلك الوحي.
فدعا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
علياً عليهالسلام
وقال : «
إنَّ بعض أصحابي قد كتب إلىٰ أهل مكَّة يخبرهم بخبرنا وقد سألت الله أن يعمّي اخبارنا عليهم، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت علىٰ غير الطريق، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها » وبعث معه الزبير بن
العوَّام.
فمضيا علىٰ غير الطريق، فأدركا
المرأة، فسبق إليها الزبير وسألها عن الكتاب فأنكرته، وحلفت أنَّه لا شيء معها، وبكت، فقال الزبير : يا أبا الحسن، ما أرىٰ معها كتاباً. فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « يخبرني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنَّ معها كتاباً
ويأمرني بأخذه منها وتقول : إنَّه لا كتاب معها »!
ثمَّ اخترط السيف وقال : « أما والله لئن لم
تخرجي الكتاب لأكشفنَّك ثُمَّ لأضربنّ عنقك ».
فقالت له : اذا كان لابدَّ من ذلك، فأعرض
يا ابن أبي طالب عنِّي بوجهك. فأعرض عنها، فكشفت قناعها فأخرجت الكتاب من عقيصتها، فأخذه أمير المؤمنين عليهالسلام
وصار به إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
.
ثمَّ مضى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لفتح مكَّة في عشرة آلاف مقاتل، وأعطىٰ الراية سعد بن عبادة، وأمره أن يدخل بها مكَّة، فأخذها سعد وجعل يقول :
اليوم يوم المَلحمَه
|
|
اليوم تسبىٰ الحُرُمَه
|
_______________________
فسمعها رجل من المهاجرين، فأعلم رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال : «
اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمىٰ الحرمة »
لعليِّ بن أبي طالب : «
أدركه فخذ الراية منه، وكن أنت الذي تدخل بها »
.
ومضىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقطع الطريق باتجاه مكَّة ودخلها عنوةً بهذا الجيش الهائل، الذي لم تعرف له مكَّة نظيراً في تاريخها من قبل، وأعلن العفو وهو علىٰ أبواب مكَّة، وقال لهم : « اذهبوا فأنتم الطلقاء ».
وأباح دم ستة رجال، ولو كانوا متعلِّقين
بأستار الكعبة، وأربع نسوة، هم : عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، ومِقيس بن صُبابة الليثي، والحويرث بن نُقيذ، وعبدالله بن هلال بن خطل الادرمي، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وقينتان كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
.
فمضىٰ عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام يجدُّ في طلب أولئك
الذين أهدر النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
دماءهم فقتل منهم اثنين هم : الحويرث بن نقيذ، وسارة.
وأجارت أمُّ هانئ بنت أبي طالب حموين
لها : الحارث بن هشام، وعبدالله بن ربيعة، فأراد عليٌّ عليهالسلام
قتلهما. فقال رسول الله : «
يا عليُّ قد أجرنا من أجارت أمُّ هانئ »
وتفرّق الباقون، ثم
وفد بعضهم على النبي بعد أن أخذ الأمان.
ولم يترك رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
صنماً داخل الكعبة وخارجها إلَّا وحطَّمه
_______________________
تحت قدميه أمام قريش..
وبعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ـ وهو بمكَّة ـ خالد بن الوليد إلىٰ بني جذيمة بن عامر، فقال لهم خالد : ضعوا السلاح. فقالوا : إنَّا لا نأخذ السلاح علىٰ الله
ولا علىٰ رسوله ونحن مسلمون، قال : ضعوا السلاح، قالوا : إنَّا نخاف أن تأخذنا بإحنة الجاهلية، فانصرف عنهم وأذَّن القوم وصلَّوا، فلمَّا كان في السحر شنَّ عليهم الخيل فقتل منهم ما قتل وسبىٰ الذرية.
فبلغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فقال : «
اللَّهمَّ إنِّي أبرأ إليك ممَّا صنع خالد »!
وبعث عليَّ بن أبي طالب عليهالسلام
فأدَّىٰ إليهم ما أخذ منهم حتَّىٰ العقال وميلغة الكلب، وبعث معه بمال ورد من اليمن فودىٰ القتلىٰ، وبقيت معه منه بقية،
فدفعها عليٌّ عليهالسلام
إليهم علىٰ أن يحلِّلوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ممَّا علم وممَّا لا يعلم. فقال رسول الله : «
لما فعلت أحبُّ إليَّ من حمر النعم »
ويومئذٍ قال لعليٍّ : «
فداك أبواي » ،
فتمَّ بذلك موادُّ الصلاح، وانقطعت أسباب الفساد.
وقعة حنين :
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثمان من
الهجرة، وحنين وادي بينه وبين مكَّة ثلاث ليال .
وقد بلغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنَّ هوازن قد جمعت بحنين جمعاً كبيراً تريد غزو المسلمين وقتالهم، فخرج إليهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في جيش عظيم عدَّتهم اثنا عشر ألفاً، فقال بعضهم : ما نُؤتىٰ من قلَّة، فكره رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
_______________________
ذلك من قولهم.
وكان لواء المهاجرين مع عليِّ بن أبي
طالب عليهالسلام
، ووزَّع بقية الرايات علىٰ قوَّاد الجيش وزعماء القبائل.
ويروىٰ عن جابر بن عبدالله
الأنصاري، أنَّه قال : « لمَّا استقبلنا وادي حُنين، انحدرنا في وادٍ أجوف حَطُوطٍ، إنما ننحدر فيه انحداراً في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلىٰ الوادي، فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطُّون إلَّا والكتائب قد شدَّت علينا شدَّة رجل واحد، فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد علىٰ أحد.. إلَّا أنَّه قد بقي مع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته » .
وعلىٰ أيِّ الأحوال فلقد اتَّفق
المؤرِّخون علىٰ أنَّ عليَّاً عليهالسلام
وأكثر بني هاشم ثبتوا مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
في تلك الأزمة ،
وعليُّ بن أبي طالب عليهالسلام
يذبُّ الناس بسيفه ويفرِّقهم عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
كما كانت أكثر مواقفه في الحروب التي مضت، فلم يستطع أحد أن يدنو من النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلَّا جدله بسيفه.
وكان رجل من هوازن علىٰ جمل أحمر
بيده راية سوداء أمام الناس، فإذا أدرك رجلاً طعنه، ثُمَّ رفع رايته لمن وراءه فاتَّبعوه، فحمل عليه عليٌّ عليهالسلام
فقتله ، فكانت الهزيمة، فقال
رسول الله للعبَّاس : «
صِحْ
_______________________
للأنصار
» وكان صيِّتاً، فنادىٰ : يا معشر
الأنصار، يا أصحاب السمُرة، يا أصحاب سورة البقرة! فأقبلوا كأنَّهم الإبل إذا حنَّت علىٰ أولادها، يقولون : يا لبَّيك يا لبَّيك! فحملوا علىٰ المشركين، فأشرف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فنظر إلىٰ قتالهم فقال : «
الآن حمي الوطيس »! وهو أول من قالها، ثُمَّ
قال :
« أنا النبيُّ لا كذبْ
|
|
أنا ابن عبدالمطَّلب »
|
واقتتل الناس قتالاً شديداً.
وقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
لبغلته دُلدُل : «
البِدي دلدل » فوضعت بطنها علىٰ
الأرض، فأخذ حفنة من تراب فرمىٰ بها في وجوههم، فكانت الهزيمة ،
وقيل : إنَّ أمير المؤمنين عليهالسلام
قد قتل منهم أربعين رجلاً ،
واستشهد من المسلمين أيمن ابن أمِّ أيمن، ويزيد بن زَمعَة بن الأسود بن المطَّلب بن عبدالعُزَّىٰ وغيرهما .
تبوك والاستخلاف :
ثمَّ كانت غزوة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلىٰ تبوك في رجب سنة تسع من مُهاجره .
لمَّا بلغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنَّ الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام؛ لغزو المسلمين في ديارهم، لم يتردَّد في مواجهة تلك الجيوش، فأمر الناس
_______________________
بالتجهُّز لغزو الروم،
وأعلم الناس مقصدهم، لبعد الطريق وشدَّة الحرَّ وقوَّة العدو.. لذلك يسمىٰ بجيش العسرة، وهي آخر غزوات الرسول.
ومضىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يسير في أصحابه، حتىٰ قدم تبوك في ثلاثين ألفاً من الناس، والخيل عشرة آلاف. واستعمل علىٰ المدينة علياً عليهالسلام وقال له : (تقيم أو أقيم) «إنَّه
لابدَّ للمدينة منِّي أو منك»
، « إن المدينة لا تصلح
إلّا بي أو بك » .
وهذه هي الغزوة الوحيدة من الغزوات التي
لم يشترك فيها عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام
مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم...
وكان بقاؤه عليهالسلام
في المدينة أمر تفرضه مصلحة الإسلام، بعدما ظهر للنبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
من أمر المنافقين، فإنَّ بقاءهم بالمدينة يشكِّل خطراً علىٰ الدعوة.
فأرجف المنافقون بعلي عليهالسلام وقالوا : ما خلَّفه إلَّا
استثقالاً له ! فلمَّا سمع عليٌّ عليهالسلام
ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فأخبره ما قال المنافقون، فقال : «
كذبوا، وإنَّما خلفتك لما ورائي، أما ترضىٰ أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ ؟ إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي »
. فقال : « قد رضيت، قد رضيت » .
ثُمَّ رجع إلىٰ المدينة وسار رسول الله بجيشه.
وفي رواية الشيخ المفيد ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قال له : «
ارجع يا أخي
_______________________
إلى
مكانك، فإن المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضىٰ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسىٰ، إلّا إنّه لا نبيّ بعدي »
.
وجاء في طبقات ابن سعد
انَّه قال : أخبرنا الفضل بن دُكين، قال : أخبرنا فضل بن مرزوق عن عطية، حدَّثني أبو سعيد، قال : غزا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
غزوة تبوك وخلَّف عليَّاً في أهله، فقال بعض الناس : ما منعه أن يخرج به إلَّا أنَّه كَرِهَ صحبته، فبلغ ذلك عليَّاً فذكره للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فقال : «
يا ابن أبي طالب، أما ترضىٰ أن تنزل منَّي بمنزلة هارون من موسىٰ ».
وفي احدىٰ الروايات : قال : فأدبر
عليٌّ مسرعاً، كأنِّي أنظر إلىٰ غبار قدميه يسطع.. وبلا شكٍّ لقد قال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعليٍّ عليهالسلام
هذه المقالة، وقد استخلفه في المدينة وكشف عن منزلته منه، وعن منزلته بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم..
أمّا لماذا راجع عليٌّ عليهالسلام
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في أمر استخلافه في المدينة فالأصح والأنسب «أن يكون عليٌّ عليهالسلام
قد عزَّ عليه أن تفوته معركة من معارك الإسلام، لاسيما وأنَّه يتَّجه إلىٰ عدوٍّ يفوق المسلمين بعدده وعتاده عشرات
المرَّات، فكان يتمنَّىٰ أن يبقىٰ إلىٰ جانبه يفديه بنفسه وروحه،
كما كان يصنع في بقية المعارك، وعندما أشعر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك أجابه بتلك الكلمات التي اتَّفق عليها المؤرِّخون والمحدِّثون» .
_______________________
هذا، ولم يكن قوله له : « أما ترضىٰ أن
تنزل منَّي بمنزلة هارون من موسىٰ الا انه لا نبي بعدي »
مختصّاً بهذا الموقف، فقد قال له ذلك مرات عديدة سجّل التاريخ وكان هذا الحديث من أوضح الأدلة علىٰ استخلافه من بعده على عموم المسلمين في بحوث مفصّلة مذكورة في كتب العقائد .
٤ ـ عليٌّ يبلّغ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
قصة تبليغ سورة براءة في السنة التاسعة
للهجرة من القصص المشهورة، والمنقولة في كتب السير والحديث، نوردها كما أخرجها أحمد بن حنبل في مسنده من حديث أبي بكر : أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعثه ببراءة إلى أهل مكة : «
لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف في البيت عريان، ولا يدخل في الجنة إلّا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم مدّة فأجله إلىٰ مدّته، والله بريء من المشركين، ورسوله »
قال : فسار بها ثلاثاً، ثم قال النبي لعلي : «
إلحقه، فردَّ عليَّ أبا بكر، وبلّغها أنت »
قال : ففعل.
فبينا أبو بكر في بعض الطريق؛ إذ سمع
رغاء ناقة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
القصوىٰ، فخرج أبو بكر فزعاً، فظنّ أنّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فإذا هو عليّ عليهالسلام،
فدفع إليه كتاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وأخذها منه وسار، ورجع أبو بكر.. فلمّا قدم علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
بكىٰ، وقال : يا رسول الله، أحَدَثَ فيَّ شيء؟
قال : « لا، ولكن اُمرتُ أن لا يبلّغها إلّا أنا
أو رجل منّي » .
_______________________
وفي بعض رواياتها : « لا يبلّغ عني إلّا أنا
أو رجل مني » .
ولهذه القصة دلالة كبيرة نأتي عليها في
محلّها.
٥ ـ علي عليهالسلام في اليمن :
وفي السنة العاشرة للهجرة بعثه رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلىٰ اليمن جامعاً لصدقات أهلها، وجزية أهل نجران وسفيراً وقاضياً.. قال عليّ عليهالسلام : «
ولمّا بعثني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الى اليمن، قلت :
تبعثني وأنا رجل حديث السن، وليس لي علم بكثير من القضاء ؟ قال : فضرب صدري رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : اذهب، فإن
الله عزّ وجلّ سيثبت لسانك ويهدي قلبك.. » قال : « فما أعياني قضاء بين اثنين »
وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد بعث قبله خالد بن الوليد في بضع مئات من الجند، قال البراء بن عازب : كنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلىٰ الإسلام فلم يجيبوه ـ يعني قبيلة همدان ـ ثم بعث علي بن أبي طالب، وأمره أن يقفل خالداً ومن معه، إلّا من أحب أن يعقب مع علي فليعقب معه، فكنت فيمن عقب مع عليّ، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، ثم تقدم علي فصلّى بنا ثم صفنا صفاً واحداً ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فأسلمت همدان جميعاً.
فكتب علي إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
_______________________
الكتاب خرّ ساجداً، ثم
رفع رأسه فقال : «
السلام علىٰ همدان، السلام علىٰ همدان » .
٦ ـ عليٌّ في حجَّة الوداع :
خرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
من المدينة متوجِّها إلىٰ الحجِّ في السنة العاشرة من الهجرة، لخمس بقين من ذي القعدة، وهي حجَّة الإسلام، وكان ابن عبَّاس يكره أن يقال : حجَّة الوداع، ويقول « حجَّة الإسلام » .
وأذَّن صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الناس بالحجِّ، فتجهَّز الناس للخروج مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وحضر المدينة ـ من ضواحيها ومن جوانبها ـ خلق كثير.
وحجَّ عليٌّ عليهالسلام من اليمن، حيث قد
بعثه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في ثلاثمائة فارس، فأسلم القوم علىٰ يديه.. ولمَّا قارب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
مكَّة من طريق المدينة، قاربها أمير المؤمنين عليهالسلام
من طريق اليمن، فتقدَّم الجيش إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فسرَّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بذلك، وقال له : «
بم أهللت يا عليُّ »؟ فقال : «
يا رسول الله، إنَّك لم تكتب إليَّ بإهلالك، فعقدت نيتي بنيِّتك، وقلت : اللَّهمَّ اهلالاً كإهلال نبيِّك ».
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
فأنت شريكي في حجِّي ومناسكي وهديي، فأقم علىٰ إحرامك، وعد علىٰ جيشك وعجِّل بهم إليَّ حتَّىٰ نجتمع بمكَّة »
.
_______________________
ولمَّا أكملوا مناسك الحجِّ، نحر رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بيده ستِّين بدنة، وقيل : اربعاً وستِّين، وأعطىٰ عليَّاً عليهالسلام
سائرها، فنحرها وأخذ من كلِّ ناقةٍ بضعة، فجمعت في قدر واحد فطبخت بالماء والملح، ثُمَّ أكل هو وعلي عليهالسلام .
وخطب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالناس، وأراهم مناسكهم وعلَّمهم حجَّهم، إلىٰ أن قال :
«
لا ترجعوا بعدي كفَّاراً مضلِّين يملك بعضكم رقاب بعض، إنِّي قد خلَّفت فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ألا هل بلَّغت »؟ قالوا : نعم. قال :
«
اللَّهمَّ اشهد ».
ثمَّ قال : « إنَّكم مسؤولون، فليبلِّغ
الشاهد منكم الغائب » .
ثمَّ ودَّعهم وقفل راجعاً إلىٰ المدينة.
غدير خُمٍّ :
لمَّا قضىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
نسكه وقفل إلىٰ المدينة، وانتهىٰ إلىٰ الموضع المعروف بغدير خُمٍّ نزل عليه جبريل عليهالسلام
وأمره أن يقيم عليَّاً عليهالسلام
وينصِّبه إماماً للناس؛ فقال : «
ربِّ إنَّ أُمَّتي حديثو عهد بالجاهلية »
فنزل عليه : إنَّها عزيمة لا رخصة منها، فنزلت الآية : ( يَا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن
_______________________
رَّبِّكَ
وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ ) .
فلمّا نزل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بغدير خُمٍّ، ونزل المسلمون حوله، أمر بدوحات فقُمِمْنَ، وكان يوماً شديد الحرِّ، حتَّىٰ قيل : إنَّ أكثرهم ليلفُّ
رداءه علىٰ قدميه من شدَّة الرمضاء، وصعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
علىٰ مكان مرتفع، فردّ من سبقه، ولحقه من تخلَّف، وقام خطيباً، ثُمَّ قال : « ألست أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم؟ » قالوا : بلىٰ يا
رسول الله. فأخذ بيد عليٍّ فرفعها، حتَّىٰ بان بياض ابطيه، وقال : « من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللَّهمَّ
والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله ».
وقد ورد هذا الحديث في الكثير من كتب
السيرة والتاريخ وكتب الحديث ايضاً وغيرها
بصيغ متعدِّدة، تثبت أحقِّية الإمام عليٍّ عليهالسلام
بالإمامة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وهو من أشهر النصوص علىٰ خلافته رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وبعد أن نزل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
صلَّىٰ ركعتين، ثُمَّ زالت الشمس فأذَّن مؤذنه لصلاة الظهر، فصلَّىٰ بالناس وجلس في خيمته، وأمر عليَّاً عليهالسلام أن يجلس في خيمة له بإزائه، ثُمَّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً
_______________________
فيهنِّئوه بالإمامة، ويسلِّموا
عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك اليوم كلُّهم، ثُمَّ أمر أزواجه وجميع نساء المؤمنين أن يدخلن معه ويسلِّمن عليه بإمرة المؤمنين، ففعلن ذلك، وكان ممَّن أطنب في تهنئته بذلك المقام عمر بن الخطَّاب، وقال فيما قال : «بخٍ بخٍ لك يا عليُّ، أصبحت مولاي ومولىٰ كلِّ مؤمن ومؤمنة».
وأخرج أحمد وغيره ان أبا بكر وعمر قالا
له : أمسيت يبن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة .
وأنشد حسَّان بن ثابت :
يناديهم يومَ الغدير نبيُّهم
|
|
بخُمٍّ وأسمع بالنبيِّ مناديا
|
بأنِّي مولاكم نعمْ ووليُّكم
|
|
فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
|
إلهك مولانا وأنتَ وليُّنا
|
|
ولاتجدن في الخلق للأمر عاصيا
|
فقال له قم يا عليُّ فإنَّني
|
|
رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
|
فمن كنت مولاه فهذا وليُّه
|
|
فكونوا له أنصارَ صدقٍ مواليا
|
هناك دعا : اللَّهمَّ والِ وليَّه
|
|
وكُن للذي عادىٰ عليَّاً معاديا
|
إذن فحديث الغدير حديث صحيح بلغ حدَّ
التواتر، جمع كثير من
_______________________
العلماء طرقه ـ كما
رأينا سابقاً ـ لكنَّه لاقىٰ من التأويل والكتمان ما لم يبلغه خبر قبله ولا بعده!
فصاحب (البداية والنهاية) علىٰ سبيل
المثال ـ مع كل ما جمعه من طرق هذا الحديث ومصادره ـ يصرّ علىٰ اختزال دلالته إلىٰ ردّ شكاوىٰ
نفر من الصحابة، وفدوا معه من اليمن، وكانوا علىٰ خطأ، وهو على الصواب، فيقول ابن كثير عن هذا الحديث : «فبيّن فيه فضل علي وبراءة عرضه ممّا كان تكلّم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه إليهم» إلىٰ قوله : «وذكر من فضل علي وامانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثيرة من الناس منه» .
والالتواء والتحميل واضحان جداً في ما
ذهب إليه ابن كثير وغيره هنا ، فشكاوىٰ هؤلاء
النفر كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد ردّها في محلّها وأمام شهودها، وبيّن فيها ما يمكن أن يبيّنه، وقد أوردها ابن كثير كلّها. فأمرها لا يستدعي جمع كلّ الحجيج الذين بلغوا مئة ألف أو يزيدون !! ولا يستدعي أيضاً التأخير كل هذا الوقت، منذ أول وفودهم مكة، وحتى انقضاء الحج وعودتهم من مكة صوب أوطانهم! إنه تحميل كبير لا يرتضيه ناقد له فقه بالأخبار والسيرة، لكنها مشكلة الركون لما استقر في أذهانهم، بفعل الواقع السياسي الذي جانب هذا الحديث الشريف ودلالاته الناصعة.
وأقل ما يقال في تأويل ابن كثير ومن ذهب
مذهبه إنهم خلطوا، إن لم
_______________________
يكونوا عامدين
فغافلين، بين قضيتين منفصلتين، قضية الشكوىٰ الخاصة، وقضية خطبة الغدير العامة على الملأ من المسلمين.
٥ ـ عليٌّ عليهالسلام مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في ساعات الوداع :
مرض النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبعثة أُسامة :
لمَّا قدم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
المدينة المنوَّرة، من حجِّ الوداع، أقام أيَّاماً وعقد لأُسامة بن زيد، علىٰ جُلَّة من المهاجرين والأنصار ـ منهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يقصد حيث قُتل أبوه، وقال له : « أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الروم »، فتكلَّم المنافقون
في إمارته، وقالوا : أمَّر غلاماً علىٰ جلَّة المهاجرين والأنصار! فاشتكىٰ إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك، فغضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وقال : «
إن تطعنوا في إمارته، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وإنَّه لخليق للإمارة، وكان أبوه خليقاً لها »
.
واشتدَّ برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجعه، فتأخَّر مسير أُسامة لمرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وثقل رسول الله، ولم يشغله شدّة مرضه عن إنفاذ أمر الله، فقال : «
أنفذوا جيش أُسامة »! قالها مراراً، وإنَّما
فعل عليهالسلام
ذلك لئلا يبقىٰ في المدينة عند وفاته من يختلف في الإمامة، ويطمع في الإمارة، فيستوسق الأمر لأهله .
وروى بعضهم أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
لما أحس منهم التباطؤ، كان يكرر قوله :
_______________________
«
أنفذوا بعثة أُسامة » ثم يقول : « لعن الله من تخلّف
عنه » .
وقد أثبتت المصادر التاريخية أنّ في هذا
الجيش أُناساً من كبار الصحابة، منهم أبو بكر وعمر .
الرزية كلُّ الرزية :
لم يكن موقف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
من خلافة الإمام عليٍّ عليهالسلام
يوم غدير خُمٍّ آخر المواقف التي صرَّح فيها بأنَّه الوصي من بعده، بل حينما اشتدَّ به مرضه وعلم بما ستقع به أُمَّته من الاختلاف من بعده، أراد أن يصرِّح بها؛ فقال : «
ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضُّلون بعده أبداً »
ثُمَّ أُغمي عليه، وقام أحدهم ليلتمس الدواة والكتف، فقال عمر : ارجع فإنَّه يهجر ـ أو غلبه الوجع ـ حسبنا كتاب الله!!
فمازال يمنع منها حتىٰ كثر
التنازع؛ فغضب النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخرجهم من عنده، فقال ـ بعد أن عرضوا عليه الدواة والكتف ـ : « دعوني، فالذي أنا فيه خير ».
هنا كان يتوجَّع ابن عبَّاس ويقول : «يوم
الخميس، وما يوم الخميس!» ثُمَّ بكىٰ حتَّىٰ بلَّ دمعه الحصىٰ. فقيل له ـ والرواية
عن سعيد بن جُبير ـ : يا ابن عبَّاس، وما يوم الخميس؟
قال : «اشتدَّ برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجعه، فقال : «
ائتوني أكتب لكم كتاباً لا
_______________________
تضلُّون
بعدي » فتنازعوا، وما ينبغي عند نبيٍّ تنازع، وقالوا
: ما شأنه، أهَجَر؟ استفهموه! قال : «
دعوني، فالذي أنا فيه خير »».
فكان ابن عبَّاس يقول : «إنَّ الرزية كلَّ الرزية ما حال بين رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم» .
عليٌّ عليهالسلام وآخر لحظات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
لمَّا كثر التنازع عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
كما رأينا سابقاً بشأن الكتاب، وخرجوا من عنده، قال : «
رُدُّوا عَلَيَّ أخي عَلِيَّ بن أبي طالب ».
ولمَّا حضر قال : «
ادنُ منِّي » فدنا منه فضمَّه
إليه، ونزع خاتمه من يده، فقال له : «
خُذ هذا فضعه في يدك » ودعا بسيفه ودرعه
ولامته، فدفع جميع ذلك إليه، وقال له : «
اقبض هذا في حياتي » ودفع إليه بغلته
وسرجها وقال : «
امضِ علىٰ اسم الله إلىٰ منزلك »
.
وكان عليٌّ عليهالسلام لا يفارقه إلَّا
لضرورة، ولمَّا خرج لبعض شأنه قال لهم : «
أُدعوا لي أخي وصاحبي » وفي رواية : « ادعو لي حبيبي »
فدعوا له أبا بكر، فنظر إليه، ثم وضع رأسه، ثم قال : « ادعو لي حبيبي »
فدعوا له عمر، فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال : « ادعو لي حبيبي »
فقالت أُمُّ سلمة : أُدعوا له عليَّاً، فدُعي أمير المؤمنين عليهالسلام،
فلمَّا دنا منه أومأ إليه فأكبَّ
_______________________
عليه، فناجاه رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
طويلاً ،
ولمَّا سُئل عن ذلك قال : «
علَّمَني ألف باب من العلم، فتح لي من كلِّ باب ألف باب ، ووصَّاني بما أنا
قائمٌ به إن شاء الله » .
ولمَّا قرب خروج تلك النفس الطيِّبة إلىٰ
جنان الخلد وسدرة المنتهىٰ قال له : «
ضع رأسي يا عليُّ في حجرك، فقد جاء أمر الله عزَّ وجلَّ فإذا فاضت نفسي، فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثُمَّ وجِّهني إلىٰ القبلة وتولَّ
أمري، وصلِّ عليَّ أوَّل الناس، ولا تفارقني حتَّىٰ تواريني في رمسي، واستعن بالله عزَّ وجلَّ ».
ثمَّ قضىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
ويد أمير المؤمنين اليمنىٰ تحت حنكه، ففاضت نفسه، فرفعها إلىٰ وجهه فمسحه بها، ثُمَّ وجَّهه وغمَّضه ومدَّ عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره..
ولمَّا أراد عليٌّ عليهالسلام غسله استدعىٰ الفضل
بن العبَّاس، فأمره أن يناوله الماء، بعد أن عصَّب عينيه، فشقَّ قميصه من قبل جيبه، حتىٰ بلغ به إلىٰ
سرَّته، وتولَّىٰ غسله وتحنيطه وتكفينه، والفضل يناوله الماء، فلمَّا فرغ من
غسله وتجهيزه تقدَّم فصلَّىٰ عليه .
_______________________
هذه خاتمة ثلاثين عاماً من الجهاد مع
هذا الإنسان العظيم المسجَّىٰ اليوم بين يدي عليِّ بن أبي طالب، فكانت النهاية أن وارىٰ جسده التراب وما أصعبها من نهاية!!
أمَّا البداية فقد احتضن محمَّد بن عبدالله
عليَّاً في حجره وهو وليد، وها هو عليٌّ يحتضن محمَّداً علىٰ صدره في آخر رمق من حياته! آه فطبت حيَّا وميِّتاً..
ولنقرأ ما قاله عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام وهو يصفُ هذه
الخاتمة المؤلمة : «
ولقد قُبِض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، وإنَّ رأسه لعلىٰ
صدري، ولقد سالت نفسه في كفِّي، فأمررتُها علىٰ وجهي، ولقد وُلِّيتُ غسله صلىاللهعليهوآلهوسلم والملائكة أعواني، فضجَّت الدار والأفنية : ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقتْ سمعي هينمةٌ منهم، يصلُّون عليه، حتَّىٰ واريناه ضريحه »
.
وبعد هذه النهاية المفجعة تتساقطُ قطرات
الدمع من عليٍّ عليهالسلام
حزناً منه علىٰ فراق أخيه محمَّد بن عبدالله، الرسول، الأمين صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فيضجُّ صدره بالآلام والمحن، ويقف علىٰ شفير قبر أخيه مطأطأ رأسه، والدمع يجري كحبَّات لؤلؤ تناثرت علىٰ خدَّيه، وهو يقول : « بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء، خصَّصت حتى صرت مسلِّياً عمّن سواك، وعمَّمت حتى صار الناس فيك سواء. ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع؛ لانفدنا عليك ماء الشؤون » .
_______________________
الباب الثاني
علي عليهالسلام قبل تولي الخلافة
مدخل
في خصائصه والأدلَّة علىٰ إمامته
في القرآن الكريم له أوفر نصيب، وفي
حديث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
له الحظُّ الأوفر والذكر الأكثر والشأن الأكبر، وفي أيام الإسلام كلها، منذ ابتداء الإسلام، وعلىٰ امتداد أكثر من نصف قرن من عمر الإسلام، له المناقب والمواقف والمفاخر، التي لا تعرفها هذه الأُمَّة لرجل عاش معه أو جاء بعده، بل وقبل الإسلام أيضاً، حظي بما لم يحظَ به أحدٌ من البشر.
فهو أقرب الناس إلىٰ النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأخصُّهم به، نشأ في حجره، يتَّبعه اتِّباع الصبي لأمِّه وأبيه، يتلقىٰ منه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ومفاتح
العلوم وأسرار الحياة وفلسفتها.
فإذا قال أهل العلم بالحديث كأحمد بن
حنبل وغيره : «إنَّه لم يرد في الصحاح والحسان لأحد من الصحابة ما ورد لعليٍّ» ،
فإنَّما يقرِّون حقيقة شاهدها تأريخ صدر الإسلام كلِّه، من هنا حقَّ لبعض أهل العلم القول : إنَّ
_______________________
الحديث عن مناقب
عليٍّ لا يعدو أن يكون نافلة وفضولاً، تماماً كالحديث عن نور الشمس .
وهذا هو الذي يفسّر لنا تكاثر الكتب
الصغيرة والكبيرة في فضائله ومناقبه في ألوان متعددة ومن جوانب مختلفة، اجتمع فيها لرجل واحد ما لم يجتمع لعشرات الرجال في تاريخ الإسلام، فماذا عسانا ذاكرين من ذلك كلِّه؟!
سنقصر مادة هذا الفصل علىٰ باقة
صغيرة ممَّا جاء في حقِّه، نوزِّعها علىٰ محورين :
الأول
: في ما اختصَّ به من مناقب لم يشركه
فيها أحد، إلَّا أن يكون من أهل بيته خاصةً.
الثاني
: في ما دلَّ علىٰ إمامته العظمىٰ
وخلافته المباشرة لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
المحور الأول : خصائصه الخاصة
لقد تفرَّد عليٌّ عليهالسلام بخصائص تستحق أن
يفرد فيها كتاب لعظمتها وكثرتها، وإنَّها لتؤلِّف كتاباً جيداً، لا تكرار فيه ولا تشابه.
ولقد جرىٰ، قبل عهود التصنيف، علىٰ
ألسنة الصحابة، أشياء من ذلك لم تجرِ بحقِّ غيره، فمنهم من ذكر جملة منها تذكيراً بحقِّه، وإنكاراً علىٰ أُناس
جهلوه أو تجاهلوه، ومنهم من ذكر له خصالاً يتمنىٰ لو كانت له واحدة منها، وبعض هذا الذي ورد علىٰ ألسنة الصحابة سنجعله مدخلاً لهذا
_______________________
الفصل، لننتقل بعده
إلىٰ فضائل وخصائص مفردة :
١ ـ تمنّى عمر بن الخطَّاب لنفسه واحدة
من خصال ثلاث اجتمعن في عليٍّ ٧، فقال : لقد أُعطي عليُّ بن أبي طالب ثلاث خصال، لأن تكون لي خصلة منها أحبُّ إليَّ من أن أُعطىٰ حُمر النعم!
قيل : وما هنَّ يا أمير المؤمنين؟
قال : تزوُّجه فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وسكناه المسجد مع رسول الله، يحلُّ له فيه ما يحلُّ له، والراية يوم خيبر .
٢ ـ وسعد بن أبي وقَّاص يتمنَّىٰ لنفسه
واحدة من ثلاث أُخر اجتمعن في عليٍّ عليهالسلام
ويردُّ بها علىٰ معاوية اللعين، وهو يراوده علىٰ سبِّ أمير المؤمنين عليهالسلام!
قال معاوية لسعد : ما يمنعك أن تسبَّ
ابن أبي طالب؟
قال سعد : لا أسبُّه ما ذكرت ثلاثاً
قالهنَّ له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأن تكون لي واحدة منهن أحبُّ إليَّ من حُمر النعم!
قال معاوية : ما هنَّ يا أبا إسحاق؟
قال : لا أسبُّه ما ذكرت حين نزل عليه
الوحى ؛ فأخذ عليَّاً وابنيه وفاطمة فأدخلهم تحت ثوبه، ثُمَّ قال : « ربِّ إنَّ هؤلاء أهل بيتي ».
ولا أسبُّه ما ذكرت حين خلَّفه في غزوة
تبوك، غزاها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فقال له علي : «
خلَّفتني علىٰ الصبيان والنساء! »
قال :
« ألا ترضىٰ أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ ؟ إلَّا أنَّه لا
نبيَّ بعدي ».
_______________________
ولا أسبُّه ما ذكرت يوم خيبر، قال رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
لأُعطينَّ هذه الراية رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويفتح الله علىٰ يديه »
فتطاولنا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فقال : «
أين عليٌّ »؟ قالوا : هو أرمد.
فقال : « ادعوه »
فدعوه، فمسح عينيه بريقه، ثُمَّ أعطاه الراية ففتح الله عليه .
٣ ـ وسعد أيضاً يذكر ثلاث خصال أُخر
لعليٍّ عليهالسلام
يتمنَّىٰ إحداهنَّ، ويشهد منهن بفضل عليٍّ وحقِّه، رغم أنَّه قد تخلَّف عنه في حروبه..
قيل لسعد : إنَّ عليَّاً يقع فيك أنَّك
تخلَّفت عنه.
فقال سعد : والله إنَّه لرأي رأيته، وأخطأ
رأيي! إنَّ عليَّ بن أبي طالب أُعطي ثلاثاً لأن أكون أُعطيت إحداهنَّ أحبُّ إليَّ من الدنيا وما فيها :
لقد قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم غدير خُمٍّ، بعد حمد الله والثناء عليه : «
هل تعلمون أنِّي أولىٰ بالمؤمنين؟ »
قلنا : نعم. قال : «
اللَّهمَّ من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، والِ من والاه وعادِ من عاداه ».
وجيء به يوم خيبر وهو أرمد ما يبصر، فقال
: «
يا رسول الله إنِّي أرمد ». فتفل في عينيه ودعا له فلم يرمد حتىٰ
قُتل، وفتح عليه خيبر.
وأخرج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
عمَّه العبَّاس وغيره من المسجد، فقال له العبَّاس : تخرجنا ونحن عصبتك وعمومتك، وتسكن عليَّاً؟!
فقال : « ما أنا أخرجتكم وأسكنته، ولكنَّ الله
أخرجكم وأسكنه » .
٤ ـ وعبدالله بن عبَّاس، في حديث أكثر جمعاً،
يردُّ علىٰ نفر ينتقصون
_______________________
من عليٍّ عليهالسلام في أيَّام معاوية، فيقول
: أُفٍّ، وتُفٍّ !! وقعوا في رجل له بضع عشرة فضائل ليست لأحد غيره!
ثُمَّ ينطلق ابن عبَّاس يذكر نماذج من
هذه الفضائل، فيبدأ بحديث راية خيبر، ثُمَّ يقول : ثُمَّ بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فلاناً بسورة التوبة، فبعث عليَّاً خلفه فأخذها منه، وقال : «
لا يذهب بها إلَّا رجل هو منِّي وأنا منه ».
ثُمَّ يذكر قول النبيِّ له : «
أنت وليِّي في الدنيا والآخرة »..
وأنَّ عليَّاً أول من آمن.. وحديث الكساء وآية التطهير.. وحديث مبيت عليٍّ في فراش النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في الهجرة.. وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
أما ترضىٰ أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ إلَّا أنَّه ليس بعدي نبي، إنَّه لا ينبغي أن أذهب إلَّا
وأنت خليفتي ».. وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
أنت وليُّ كلِّ مؤمن بعدي ومؤمنة »..
وحديث سدِّ الأبواب إلَّا باب عليٍّ، وحديث الغدير : « من كنت مولاه... »
الحديث .
ونظائر هذا ممَّا ورد علىٰ ألسنة
الصحابة فيه عليهالسلام
كثير وكثير، نكتفي بهذا القدر منه، لننتقل إلىٰ إفراد بعض خصائصه عليهالسلام،
ممَّا نزل فيه من القرآن الكريم، وممَّا جاء فيه في الحديث الشريف :
أولاً : في القرآن
الكريم :
١ ـ نفس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
عليٌّ أحد المدعوين في مباهلة وفد نصارىٰ
نجران، إذ قال عزَّ من قائل : ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ
_______________________
عَلَى
الْكَاذِبِينَ )
، أولئك هم الذين
اصطفاهم الله وانتخبهم رسول الله : عليٌّ وفاطمة والحسنان عليهماالسلام،
بهم خلَّد التأريخ حدثاً عظيماً يعدُّ من احدىٰ معاجز حضرة الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأجمع المفسِّرون علىٰ أنَّ
المقصود من ( أَنفُسَنَا ) نفس محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
ونفس عليٍّ عليهالسلام
.
٢ ـ عليٌّ عليهالسلام من أهل بيت رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وخاصَّته :
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعليٌّ وفاطمة والحسنان عليهماالسلام
هم المدعوون بأصحاب الكساء الخمسة، والمشار إليهم بقوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) .
نزل الروح الأمين بهذه الآية المباركة، حينما
جلَّل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً : بكساءٍ حبري، وغشَّاهم به، ثُمَّ أخرج يديه المباركتين فألوىٰ بهما إلىٰ السماء، ثُمَّ قال : « اللَّهمَّ هؤلاء
أهل بيتي وخاصَّتي، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً »
.
_______________________
٣ ـ القرآن الكريم
يأمر بالصلاة علىٰ آل بيت النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
:
ولمَّا كان الإمام عليٌّ عليهالسلام من أهل بيت محمدٍ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فله شأن في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
وممَّا لاريب فيه
كانت هذه «الصلاة» من الواجبات في حال التشهد؛ لما ثبت بالتواتر حينما سألوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: كيف نصلِّي عليك يا رسول الله؟
فقال : « قولوا : اللَّهمَّ صلِّ علىٰ محمدٍ
وآل محمدٍ، كما صلَّيت علىٰ إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك علىٰ محمدٍ وآل محمدٍ كما باركت علىٰ إبراهيم
وآل إبراهيم ».
وفي هذا الشأن أنشد الشافعي أبياته
الشهيرة :
يا أهل بيت رسول الله حبُّكمُ
|
|
فرضٌ من الله في القرآن أنزله
|
كفاكمُ من عظيم الشأن أنَّكمُ
|
|
مَنْ لم يُصلِّ عليكم لا صلاة له
|
٤ ـ علي عليهالسلام يشري نفسه ابتغاء
مرضاة الله :
تخلَّف عليٌّ عليهالسلام يوم الهجرة ليبيت في
فراش رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ويصرف الأعداء عنه، ويؤدِّي الأمانات إلىٰ أهلها، حتىٰ تكتمل رسالة الإسلام المحمَّدية، فنزل فيه قوله تعالىٰ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) .
_______________________
٥ ـ عليٌّ عليهالسلام وسورة الدهر :
لم يختلف أهل التفسير علىٰ أنَّ
سورة «الانسان» أو «هل أتىٰ» نزلت خاصَّةً في عليٍّ وأهل بيته عليهمالسلام
، في قصَّة التصدُّق
علىٰ المسكين واليتيم والأسير، ( فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ
ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ... إِنَّ هَٰذَا
كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) .
٦ ـ في بيوت أذن الله
أن ترفع :
لمَّا تلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قوله تعالىٰ : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) ،
قيل له : أي بيوت هذه؟!
قال عليه أفضل الصلاة وأتمُّ السلام : « بيوت الأنبياء »،
ثُمَّ قيل له : هذا البيت منها ـ إشارة إلىٰ بيت عليٍّ وفاطمة ٣ ـ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
نعم، من أفاضلها » .
٧ ـ بعليٍّ كفىٰ
الله المؤمنين القتال :
في استبساله يوم وقعة الأحزاب قيل :
إنَّ الآية المباركة : ( وَرَدَّ اللَّهُ
_______________________
الَّذِينَ
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتَالَ )
نزلت في الإمام عليٍّ عليهالسلام.
حتىٰ أنَّ ابن مسعود كان يقرأ الآية : ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ )
بعليٍّ بن أبي طالب .
٨ ـ ليس أفضل من
إيمان عليٍّ عليهالسلام
وجهاده في سبيل الله :
والآية الكريمة تشهد بجهاد عليٍّ
وبطولاته : ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً
عِندَ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )
، عند تفاخر
«العبَّاس وطلحة» بالسقاية وسدانة الكعبة .
ثانياً : في الحديث الشريف :
١ ـ أوَّلهم إسلاماً
:
ومَنْ أصدق من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذ قال لعليٍّ : «
أنت أوَّل مَنْ آمن بي، وأنت أول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصدِّيق الأكبر، وأنت الفاروق تفرِّق بين الحقِّ والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين »
.
_______________________
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
السُّبَّق ثلاثة : السابق إلىٰ موسىٰ : يوشع بن نون، والسابق إلىٰ عيسىٰ : صاحب ياسين، والسابق إلىٰ محمَّدٍ : عليُّ
بن أبي طالب » .
وحينما اختصَّه بمصاهرته في فاطمة
سيِّدة النساء، قال لها : «
لقد زوَّجتك أعظمهم حلماً، وأقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً »
.
لو لم تكن لعليٍّ عليهالسلام سوىٰ هذه
الخصال لكفاه ذلك فخراً، وفضلاً، وعزَّاً علىٰ غيره من العالمين!
٢ ـ أخو رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
دون غيره :
من يجهل حديث المؤاخاة، وقول رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
أنا أخوك وأنت أخي » ؟!
فرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يأخِّره حينما آخىٰ بين المهاجرين والأنصار إلَّا لنفسه، ليكون أخاه ووارثه، يرث منه ما ورّثت الأنبياء من قبله.. فرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
الذي لم يكن له خطير ولا نظير من العباد وعليُّ بن أبي طالب أخوان في الدنيا والآخرة ( إخْوَاناً علىٰ
سُرُرٍ مُتَقابِلِين )
.
_______________________
٣ ـ وأحبُّ الخلق إلىٰ
الله :
ذات ليلة أُهدي لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
طير مشوي، فلم تطب نفسه أن يأكله لوحده، فدعا ربَّه قائلاً : « اللَّهمّ.. ائتني بأحبِّ الخلق إليك ليأكل معي هذا الطير » كان يتمنَّىٰ أن
يأكل معه أحبُّ الخلق إلىٰ الله عزَّ وجلَّ لتتمَّ البركة ويعمَّ الفضل، وإذا طارق يحوم حول الباب، وكان هناك من يمنعه، يرجع ويعود يطرق الباب، حتىٰ أذن له في الثالثة أو الرابعة، وإذا به عليُّ بن أبي طالب، ولمَّا رآه رسول الله قال : « ما حبسك عنِّي »؟!
قال عليهالسلام
: «
والذي بعثك بالحقِّ نبيَّاً إنِّي لأضربُ الباب ثلاث مرَّات ويردَّني أنس » .
هكذا التقىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع أحبِّ الخلق إليه والىٰ الله علىٰ مائدة النور.
٤ ـ إلَّا باب عليٍّ
:
لمّا كان لنفر من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أبواب شارعة في المسجد النبوي الشريف، أمرهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بسدِّ الأبواب إلَّا باب عليٍّ عليهالسلام
فتكلَّم الناس في ذلك، فلمَّا بلغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قولهم، قام وخطب فيهم فقال : «
أمَّا بعد.. فإنِّي أُمرتُ بسدِّ هذه الأبواب إلَّا باب عليٍّ، وقال فيه
_______________________
قائلكم،
والله ما سددته ولا فتحته، ولكنِّي أُمرتُ فاتبعته »
.
ومثله حديث «المناجاة» يوم الطائف، حيث قال
الناس : لقد أطال نجواه مع ابن عمِّه! فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
ما أنا انتجيته، ولكنَّ الله انتجاه » .
٥ ـ الذائد عن الحوض
:
إنَّه صاحب حوض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يوم القيامة، يثبته قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
كأنِّي أنظر إلىٰ تدافع مناكب أُمَّتي علىٰ الحوض، فيقول الوارد
للصادر : هل شربت؟ فيقول : نعم، والله لقد شربت، ويقول بعضهم : لا والله ما شربت فيا طول عطشاه » .
وقال لعليٍّ عليهالسلام : « والذي نبَّأ
محمَّداً وأكرمه، إنَّك لذائد عن حوضي، تذود عنه رجالاً، كما يذاد البعير الصادي عن الماء، بيدك عصا من عوسج كأنِّي أنظر إلىٰ مقامك من حوضي »
.
وفي رواية عن عليٍّ عليهالسلام قال : « والذي فلق الحبَّة
وبرأ النسمة، لأقمعنَّ
_______________________
بيدي
هاتين عن الحوض أعداءنا، ولأوردنَّ أحبَّاءنا »
.
٦ ـ ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ )
:
خصَّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
دون غيره بساعة من السحر، يأتيه فيها كلَّ ليلة، يطرق الباب ـ وذلك عند نزول الآية ـ ويقول : « الصلاة، رحمكم الله، إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً »
.
٧ ـ علي عليهالسلام يبلِّغ عن رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأمرٍ من السماء :
لمَّا بعث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أبا بكر بتبليغ سورة براءة أميراً علىٰ الحج.. بعث خلفه عليَّاً عليهالسلام
ليأخذها منه! فيعود أبو بكر ويسأل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: أحدث فيَّ شيء، يا رسول الله؟ فيقول صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
لا، ولكنِّي أُمرت ألَّا يبلِّغ عنِّي إلَّا أنا أو رجل منِّي »
.
٨ ـ كرَّار وليس
بفرَّار :
تقدّمت قصة خيبر، ورجوع صاحب الراية
الأول، ثم الثاني يجبّن أصحابه ويجبّنونه.
وإذا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقسم ـ والرواية عن عليٍّ عليهالسلام
ـ ويقول : «
والذي نفسي بيده، لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، كراراً ليس بفرَّار، يفتح الله علىٰ يديه، فأرسل إليَّ وأنا أرمد؛ فتفل في
عينيَّ
_______________________
وقال
: اللَّهمَّ اكفه أذىٰ الحرّ والبرد، فما وجدتُ حرَّاً بعدُ ولا برداً »
.
هذه بعض الخصائص التي ذكرها أهل المناقب
والسير، في حقِّ أخي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
ووصيِّه، ووزيره، وأمينه، وخليفته من بعده علىٰ أُمَّته فلولاه «لم تثبت الملَّة، ولا استقرت الشريعة، ولا ظهرت الدعوة، فهو عليهالسلام
ناصر الإسلام ووزير الداعي إليه، من قبل الله عزَّ وجلَّ، وبضمانه لنبيِّ الهدىٰ عليهالسلام
النصرة، تمَّ له في النبوَّة ما أراد، وفي ذلك من الفضل ما لا توازنه الجبال فضلاً، ولا تعادله الفضائل كلُّها محلَّاً وقدراً» .
المحور الثاني : النصوص الدالَّة علىٰ إمامته
عليهالسلام :
قال تعالى : (
وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )
.
قال المفسِّرون : إنَّ معناها لنجعلنَّ
من أُمِّتك أئمةً يهدون مثل تلك الهداية، لما صبروا عليه من نصرة الدين وثبتوا عليه من اليقين .
فهذه الآية الكريمة ـ وغيرها من الآيات ـ
تفيد وجوب الإمام في كلِّ زمان،
_______________________
ولمَّا كان الإمام
موجوداً بأمر من الله عزَّ وجلَّ فوجب علينا حقُّ طاعته ونصرته، كما قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ )
.
وكذا السُنَّة المطهَّرة فرضت علينا
معرفة الإمام والاقتداء به، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
من مات وليس عليه إمام فإنَّ موتته موتة جاهلية »
، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام بوجوب طاعة الإمام وموالاته : « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية »
.
إذن فالرسول الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم يترك أُمَّته دون إمام يقود زمامها من بعده، وذلك بأمرٍ من السماء، إذ قال عزَّ من قائل : ( وَإِن لَّمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )
فما هو جواب الرسول الذي سيملأ هذا الفراغ؟ سيتَّضح ذلك من خلال الأسطر التالية التي تكشف عن حقيقة أنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان يمارس إعداد الخليفة من بعده عملياً ونظرياً :
١ ـ اسمعوا لعليٍّ
وأطيعوا :
لمَّا نزل قوله تعالىٰ : (
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )
رفع شأن عليٍّ عليهالسلام
علىٰ آله وعشيرته أجمعين، وخصَّه بمنزلة لا يشركه فيها أحد، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام بشأنه يوم الانذار : « إنَّ هذا أخي، ووصيي،
_______________________
وخليفتي
فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا »
.
٢ ـ وأولىٰ بالناس
من أنفسهم :
بشأنه عليهالسلام
نزل قول الله عزَّ وعلا : ( إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ )
حينما تصدَّق بخاتمه حال الصلاة .
وأثبت الآلوسي في تفسيره، من شعر حسَّان
بن ثابت في هذه الحادثة، قال : فأنشد حسَّان :
أبا حسنٍ تفديك نفسي ومهجتي
|
|
وكلُّ بطيءٍ في الهدىٰ ومسارعِ
|
فأنت الذي أعطيتَ إذ كنت راكعاً
|
|
زكاةً، فدتك النفس يا خير راكعِ
|
فأنزلَ فيك اللهُ خيرَ ولايةٍ
|
|
وبيَّنها في محكماتِ الشرائعِ
|
وإذ كان أمير المؤمنين عليهالسلام ـ بحكم القرآن ـ أولىٰ
بالناس من أنفسهم، لكونه وليَّهم بالنصِّ في التبيان، وجبت طاعته علىٰ كافتهم بجليِّ البيان، كما
وجبت طاعة الله وطاعة رسوله عليه وآله السلام، بما تضمَّنه الخبر عن
_______________________
ولايتهما للخلق في
هذه الآية بواضح البرهان .
٣ ـ إنَّ عليَّاً مولىٰ
المؤمنين :
قُمَّت شجيرات الغدير، وتجمَّع الحشد
الهائل من حجَّاج بيت الله الحرام، وإذا بالصمت يخطف الوجوه، فماذا عسىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يبلغ في حرِّ الرمضاء وساعة الظهيرة؟
وإذا بجبرئيل الأمين يكفي علىٰ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
الأمر بما فيه إكمال الدين وإتمام النعمة علىٰ المسلمين، بقوله تعالى : (
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )
.
ثمَّ فرض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ولاية عليٍّ عليهالسلام
علىٰ الشاهد والغائب؛ فقال : «
من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره »،
وبعد فرض الولاية نزل قوله تعالىٰ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )
.
فكبَّر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وحمدالله علىٰ إكمال الدين ورضا الربِّ برسالته وولاية عليٍّ عليهالسلام
من بعده، فأصبح عليُّ بن أبي طالب عليهالسلام
مولىٰ كلِّ مؤمن ومؤمنة.
_______________________
وحديث الغدير هذا حديث صحيح ،
قد بلَّغ حدَّ التواتر عند جميع المسلمين
كما مرَّ بنا سابقاً.
٤ ـ الوزارة والخلافة
:
في نصّ حديث المنزلة يتفرّد عليّ بمنزلة
لا يشاركه في مثلها أحد من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
يا عليُّ : «
أنت منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ، إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي » استثنىٰ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
النبوَّة، وأوجب له ما دون ذلك من الخصائص، فهو الوزير بعده والخليفة علىٰ أُمَّته.
وحديث المنزلة هذا حديث متواتر لا خلاف
فيه .
وأنَّ القول بمنزلة هارون من موسىٰ
عليهما السلام يقتضي حصول جميع منازل هارون من موسىٰ لأمير المؤمنين عليهالسلام
من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلّا ما خصّه الاستثناء المنطوق به في الخبر من النبوة. وإن من منازل هارون من موسىٰ عليهماالسلام
هي : الشركة في النبوَّة، والأخوة، والتقدُّم عنده في الفضل والمحبَّة والاختصاص علىٰ جميع قومه، والخلافة له في حال غيبته علىٰ أُمَّته،
وغيرها من المنازل، فوجدنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
استثنىٰ ما لم يرده من المنازل
_______________________
بعده بقوله : « إلَّا أنَّه لا
نبيَّ بعدي » فدلَّ هذا الاستثناء
علىٰ أنَّ ما لم يستثنه حاصل لأمير المؤمنين عليهالسلام
بعده، وإذا كان من جملة المنازل الخلافة في الحياة، وثبتت بعده، فقد تبيَّن صحَّة النصِّ عليه بالإمامة .
٥ ـ لن يخرجكم من هدىٰ
ولن يُدخلكم في ضلالة :
وذلك من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأُمَّته : «
من أحبَّ أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنَّة عدنٍ غرسها ربِّي، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب، فإنَّه لن يُخرجكم من هدىٰ، ولن يُدخلكم في ضلالة »
.
وفي هذا دلالة واضحة علىٰ فرض
ولاية الإمام عليٍّ عليهالسلام،
كما يصرِّح مرَّة أُخرىٰ عليه أفضل السلام بقوله : « يا عليُّ، أنت تبيِّن لأُمَّتي ما
اختلفوا فيه من بعدي » .
٦ ـ لا، لكنَّه علي!
:
عليٌّ عليهالسلام
هو الذي قال عنه رسول الله : «
إنَّ منكم من يقاتل علىٰ تأويل القرآن كما قاتلت علىٰ تنزيله »
فتطاولت لذلك الأعناق كلٌّ يقول : أنا هو! وفيهم أبو بكر وعمر، فيقول عليه الصلاة والسلام : « لا، لا، لكنَّه عليٌّ » .
_______________________
٧ ـ كلُّهم من قريش :
وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم
يمارس تعيين الخلفاء من بعده؛ فصرَّح بأنَّهم « اثنا عشر خليفة » لكن خصَّص المنبع الأصيل لهذه الخلافة « كلُّهم من قريش »!
وهذا حديث متواتر أيضاً رواه أصحاب
الصحاح والسنن وغيرهم .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بشأن عليٍّ عليهالسلام
: «
إنَّه منِّي وأنا منه، وهو وليُّكم بعدي... إنَّه منِّي وأنا منه وهو وليُّكم بعدي »
يكرِّرها ،
يحدّد أنه هو أول الخلفاء الأثني عشر القرشيين.
٨ ـ قاتل الفَجَرة :
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
عليٌّ أمير البررة، قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله » .
٩ ـ حقُّه لازم لنا، وفضله
مبرَّز :
من رسالة معاوية بن أبي سفيان إلىٰ
محمد بن أبي بكر، وهي الرسالة التي أشار إليها الطبري، ثُمَّ قال : كرهت ذكرها لأمور لا تحتملها العامَّة !
_______________________
قال فيها معاوية مخاطباً
محمَّد بن أبي بكر : «قد كنَّا وأبوك معنا في حياة نبيِّنا نرىٰ حقَّ ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا» .
ومن قول محمَّد بن أبي بكر في رسالته إلىٰ
معاوية، يصف فيها عليَّاً عليهالسلام
: «وهو وارث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ووصيُّه، وأبو ولده، أوَّل الناس له اتِّباعاً، وأقربهم به عهداً، يخبره بسرِّه ويطلعه علىٰ أمره» .
١٠ ـ لن تضلّوا بعده
:
إضافة إلىٰ هذا الاجراء النظري
الصريح بخلافة عليٍّ عليهالسلام
وولايته، أراد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن ينفِّذ إجراءً عملياً بحقِّه عليهالسلام
مرّة بعد أخرى قبيل رحيله.. ففي الأولى أمر بدواة وكتف ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده، لكنَّها كانت الرزية التي أبكت ابن عبَّاس، حتىٰ بلَّ دمعه الحصىٰ!
قد حالوا دون كتابة الكتاب الذي سيكون
آخر شهادة حقٍّ ناطقة بولاية عليٍّ عليهالسلام
وإذا بقول أحدهم : «حسبنا كتاب الله» لكنّ كتاب الله يقول : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ )
! ومن عصىٰ الرسول
فقد عصىٰ الله..
وفي الثانية عزم صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يخلي المدينة المنورة ممّن يعلم منهم الخلاف علىٰ علي عليهالسلام
والمنازعة في الخلافة، فعقد الراية لأسامة وأمرهم بالانقياد
_______________________
له والامتثال لأمره، ليبلغ
أمته بابلغ خطاب ان هؤلاء إنما هم جنود لهذا القائد الشاب ابن السابعة عشرة فلا ينازعوا غداً على زعامة الأمة وإمامة المسلمين! لكنّهم تخلّفوا عنها أيضاً بعذر أو بآخر، رغم ردّه كل تلك الأعذار، وتأكيده البليغ «انفذوا
بعثة اسامة» «لعن الله من تخلف
عنها»!!
الفصل
الأول : قصة السقيفة
أعقب وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمور خطيرة، جرَّت وراءها فتناً عديدة غيَّرت مسار الإسلام الذي أراده الله تعالىٰ وأراده رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام. تمخَّضت هذه الأحداث عن تعيين الناس الخليفة، وجثمان النبيِّ العظيم لم يوارَ في التراب بعد، والإمام عليٌّ عليهالسلام وبنو هاشم ـ وجمع من
المهاجرين والأنصار ـ منهمكون بجثمان النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
حافِّين به يودِّعونه في آخر ساعات وجوده علىٰ أرض المعمورة. لقد انقطع الوحي، ورحل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وينتظرُ أمته من بعده أمرٌ خطير..
في هذه اللحظات المؤلمة الشديدة، وبعد
ساعة من انقطاع الوحي، استغلَّ عمر بن الخطَّاب فرصة الخلاف بين الأوس والخزرج ونبأ اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، يتداولون فيها أمر الخلافة بعد رسول الله، خوفاً علىٰ مستقبل الأنصار، فيما لو كانت الخلافة بيد قريش! فأخذ عمر بن الخطَّاب بيد أبي بكر وانخرطا من بين الجموع الحاشدة بجثمان النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فيصحبهما أبو عبيدة إلىٰ سقيفة بني ساعدة، ليتمَّ تنفيذ «البيعة الفلتة»! لخليفة رسول
الله علىٰ أُمَّته.
على أي حال انضم الثلاثة إلىٰ تجمُّع
الأنصار، وبعد أن دار جدل عنيف، غلبهم المهاجرون ؛ لأنَّهم «أوَّل من عبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقُّ الناس بهذا الأمر بعده، ولا ينازعهم ذلك إلَّا ظالم.. وأنتم يا معشر الأنصار لا يُنكر فضلكم في
الدين ولا سابقتكم
العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله.. فنحن الأمراء وأنتم الوزراء » ! علىٰ حدِّ تعبير أبي بكر .
ولمَّا عارض أحد الأنصار بذكر فضائلهم
ونصرتهم للنبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وعدم تسليم الأمر للمهاجرين، ردَّ عليه عمر بقوله : «هيهات لا يجتمع سيفان في غمد، والله لا ترضىٰ العرب أن تؤمِّركم والنبيُّ من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولِّي أمرها من كانت النبوَّة فيهم، ولنا بذلك الحجَّة الظاهرة، من نازعنا سلطان محمَّد ونحن أولياؤه وعشيرته إلَّا مدلٍ بباطلٍ، أو متجانفٍ لإثمٍ، أو متورِّطٍ في هلكة»!!
هذه حجَّتهم الظاهرة : قوم محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم،
أولياؤه وعشيرته لا ينازعهم علىٰ سلطان محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلَّا ظالم، متجاهلين عليَّ بن أبي طالب عليهالسلام
الذي بايعوه وبايعه مئة ألف أو يزيدون في غدير خمٍّ، وبعد فهو أقرب الناس إلىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
في العلم والزهد وسائر الصفات المستلزمة للإمامة والولاية العامة وأخصُّهم به، وهو ابن عمِّه الذي نشأ في بيته، كما نشأ النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
في بيت أبيه أبي طالب!
فقال بشير بن سعد ـ أحد زعماء الأنصار ـ
: «يا معشر الأنصار، إنَّا والله وإن كنَّا أولي فضيلة وسابقة في الدين، إلَّا أنَّ محمَّداً من قريش وقومه أولىٰ به، وأيمُ الله لا يراني الله أُنازعهم هذا الأمر أبداً».
فقال أبو بكر : هذا عمر، وهذا أبو عبيدة،
فأيُّهما شئتم فبايعوا.. فأدار عمر ظهره لأبي بكر، وقال لأبي عبيدة : ابسط يدك أُبايعك، فأنت أمين
_______________________
هذه الأُمَّة!!
ولمَّا امتنع أبو عبيدة، أدار عمر إلىٰ أبي بكر، فبسط يده وصفق عليها ليكون خليفة المسلمين بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فبويع أبو بكر، بايعه أبو عبيدة وبشير بن سعد الخزرجي، ثُمَّ بايعه الأوس. وتمَّت مسرحية «السقيفة» وقد مثَّل دور البطولة فيها أبو بكر وعمر!
وما أن انتصف نهار اليوم حتىٰ تمَّت
بيعة أبي بكر بهذا النحو، الذي كان مفاجأة لأكثر الناس، وأخذوا يزفُّون عبدالله بن عُثمان التيمي ـ أبو بكر بن أبي قحافة ـ إلىٰ مسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لتكون بيعته علىٰ نطاق أوسع!
تسرَّب نبأ السقيفة والبيعة في أرجاء
المدينة المنوَّرة، علىٰ ساكنها السلام، كلُّهم علموا بخبر البيعة، إلَّا عليٌّ وبنو هاشم ومن معهم، حيث كانوا مع مصيبة وداع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم!
فانطلق البراء بن عازب وجاء يضرب باب
بني هاشم قائلاً : يا معشر بني هاشم، قد بويع أبو بكر!
سادت لحظة هدوء، متسائلين : ما كان
المسلمون يُحدثون حدثاً نغيب عنه، ونحن أولىٰ بمحمَّد، لكنَّ العبَّاس بن عبد المطَّلب لم يستغرب هذا
الفعل منهم، فقال : فعلوها وربِّ الكعبة!!
ولمَّا كان اليوم الثاني، وبعد أن واروا
جثمان النبي الطاهر، انحاز مع عليِّ بن أبي طالب عليهالسلام
بنو هاشم جميعاً، ومعهم طائفة من المهاجرين والأنصار، اعتقاداً منهم بحقِّ عليٍّ في الخلافة .
_______________________
فقال الأنصار : لا نبايع إلَّا عليَّاً،
وقال الزبير : لا أغمد سيفاً حتىٰ يُبايع علي، وانظم وانحاز في بيت عليٍّ وفاطمة عليهماالسلام
: المقداد بن عمرو، وخالد بن سعيد، وسلمان الفارسي، وأبو ذرٍّ الغفاري، وعمَّار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأُبي بن كعب، وحذيفة بن اليمان، وابن التيهان، وعبادة بن الصامت ،
كلُّهم يرفضون البيعة لابن أبي قحافة، للسبب الآنف ذكره..
إضافةً إلىٰ ذلك فقد اعتصم جماعة
من الأنصار في أحيائهم، فجاء عبدالرحمن بن عوف يعاتبهم علىٰ تخلُّفهم عن بيعة الخليفة، ويذكر لهم حقَّه بقرابته من رسول الله، وما شابه ذلك من الحجج التي يتشبَّثون بها، من أجل إثبات حق أبي بكر بالخلافة، وأنَّه أولىٰ بها من غيره، فردَّ عليه جماعة الأنصار : «إنَّ ممَّن سمَّيت من قريش، مَنْ إذا طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد : عليُّ بن أبي طالب»!
هذا أحد المواقف ضد الاتجاه الذي نال
خلافة رسول الله بالغلبة! وموقف آخر يمكن أن نقتبس منه بعض الأقوال، كقول الفضل بن عبَّاس، الذي قام خطيباً وأجاد حيث قال : «يا معشر قريش : إنَّه ما حقَّت لكم الخلافة بالتمويه! ونحن أهلها دونكم وصاحبنا أولىٰ بها منكم» ،
ويقصد بصاحبنا عليَّ بن أبي طالب عليهالسلام.
وأنشد عتبة بن أبي لهب، معرباً عن
أولوية علي عليهالسلام
برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
_______________________
وبأمر الخلافة ؛ إذ
يقول :
ما كنتُ أحسبُ أنَّ الأمرَ منصرفٌ
|
|
عن هاشمٍ ثُمَّ منها عن أبي الحسنِ
|
عن أوَّل الناس إيماناً وسابقةً
|
|
وأعلم الناس بالقرآن والسننِ
|
وكان المهاجرون والأنصار لا يشكُّون في
عليٍّ عليهالسلام
.
وما كان من أبي بكر إلَّا أن ينتظر
عليَّاً عليهالسلام
وأصحابه أن يبايعوه! ولمَّا تأخَّرت بيعتهم أرسل عمر بن الخطَّاب إلىٰ بيت عليٍّ عليهالسلام، فنادىٰ عليَّاً
وأصحابه وهم في الدار فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب ليحرق البيت ومن فيه، فقيل له : إنَّ فيه فاطمة!
قال : وإن !!
لكنَّهم اقتحموا بيت عليٍّ عليهالسلام.. وقد ثبت عن أبي
بكر قوله، حين حضرته الوفاة : «وددت أنِّي لم أكشف عن بيت فاطمة، وتركته ولو أُغلق علىٰ حرب» .
أتىٰ قنفذ ـ رسول الخليفة الجديد ـ
عليَّ بن أبي طالب عليهالسلام
فقال : يدعوك خليفة رسول الله. فقال عليهالسلام
: «
لسريع ما كذَّبتم علىٰ رسول الله »!
فرجع فأبلغ أبا بكر قوله، فبكىٰ أبو
بكر طويلاً! فبعثه مرَّةً أُخرىٰ بتحريض من عمر، فقال : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع، فقال عليهالسلام
_______________________
بصوت مرتفع : « سبحان الله! لقد
ادَّعىٰ ما ليس له ».
فرجع قنفذ وأبلغه كلام عليٍّ فبكىٰ أبو بكر طويلاً..
أمَّا عمر فتعجَّل الأمر، وأتىٰ بيت
عليٍّ مع جماعة وطرقه بشدَّة، فلمَّا سمعت فاطمة أصواتهم نادت : «
يا أبتِ يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطَّاب وابن أبي قحافة »؟!
فانصرف القوم باكين لبكائها ومناجاتها
أباها، إلَّا عمر لم يتصدَّع قلبه لبكاء ابنة رسول الله وبضعته، فبقي معه جماعة، حتىٰ أخرجوا عليَّاً ٧ فمضوا به إلىٰ أبي بكر، وعرضوا عليه البيعة فأجابهم بكلِّ ثبات وعزيمة : «
أنا أحقُّ بهذا الأمر منكم، لا أُبايعكم وأنتم أولىٰ بالبيعة لي ».
فقالوا : نضرب عنقك!!
فقال عليهالسلام
: «
إذن تقتلون عبدالله وأخا رسوله »!
فقال عمر : أمَّا عبدالله فنعم، وأمَّا
أخو رسوله فلا!
وأبو بكر ساكت! ثُمَّ قال عمر لأبي بكر
: ألا تأمر فيه بأمرك؟!
فأجابه الخليفة : لا أُكرهه علىٰ شيء
مادامت فاطمة إلىٰ جنبه!
فلحق عليٌّ عليهالسلام بقبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
يصيح ويبكي وينادي : «
يا ابن أمِّ إنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني »
.
وهكذا وقع سريعاً تأويل ما أخبر به رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليّاً عليهالسلام
:
_______________________
قال الإمام علي عليهالسلام : « إنَّ ممَّا عهد
إليَّ النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أنَّ الأُمَّة ستغدر
بي بعده » .
وفي رواية أُخرىٰ قال عليهالسلام : « بينما كنَّا نمشي
أنا ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم آخذ بيدي.. فلمَّا خلا له الطريق اعتنقني ثُمَّ أجهش باكياً، قلت : يا رسول الله، ما يبكيك؟
قال
: ضغائن في صدور أقوام، لا يبدونها لك إلَّا من بعدي »
.
موقف فاطمة عليهاالسلام من البيعة :
لقد كان موقف عمر وأبي بكر من بضعة رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في منتهىٰ الجفاء والتحدِّي، متجاهلين مقامها الرفيع الشأن من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لاسيَّما وأنَّهما قد سمعا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنَّ الله يغضب لغضبكِ ويرضىٰ لرضاكِ ».
ثمَّ جاء عمر وأبو بكر إليها يلتمسان
رضاها فقالت لهما : «
نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : رضا فاطمة من
رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبَّ فاطمة ابنتي فقد أحبَّني، ومن أرضىٰ فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني!؟ »
فقالا : نعم، سمعناه من رسول الله.
فقالت : « فإنِّي أُشهد الله وملائكته أنَّكما
أسخطتماني، وما أرضيتماني،
_______________________
ولئن
لقيتُ النبيَّ لأشكونَّكما إليه »
. فمازالت غضبىٰ
عليهما حتىٰ توفِّيت .
وعن ابن قتيبة قال : وخرج عليٌّ ـ كرَّم
الله وجهه ـ يحمل فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
علىٰ دابَّة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة. فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنَّ زوجك وابن عمِّك سبق إليها قبل أبي بكر ما عدلنا به.
فيقول عليٌّ كرَّم الله وجهه : « أفكنت أدعُ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في بيته لم أدفنه، وأخرج أُنازع الناس سلطانه »؟!
فقالت فاطمة : « ما صنع أبو الحسن إلَّا
ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم »
.
أمَّا عليٌّ عليهالسلام،
فقد خاصمهم بقوله : «
الله الله يا معشر المهاجرين، لا تُخرجوا سلطان محمَّد عن داره وقعر بيته إلىٰ دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقِّه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحنُ أحقُّ الناس به، لأنَّا أهل البيت، ونحنُ أحقُّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا : القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعيَّة، القاسم بينهم بالسويَّة، ووالله إنَّه لفينا، فلا تتَّبعوا الهوىٰ
فتضلُّوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحقِّ بعداً ».
فلمَّا سمعوا منه هذا الكلام قال بشير
بن سعد الأنصاري ـ الذي أقرَّ
_______________________
بنود السقيفة ـ : لو
كان هذا الكلام سِمِعتْه الأنصارُ منك قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان .
وأنشد عليهالسلام
معرِّضاً بأبي بكر :
فإن كنتَ بالشورىٰ ملكتَ
أمورَهم
|
|
فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ
|
وإن كنتَ بالقُربىٰ حججتَ
خصيمهم
|
|
فغيرُك أولىٰ بالنبيِّ وأقربُ
|
وله عليهالسلام
كلام واسع وخطب عدَّة يصف فيها أمر الخلافة والتفضيل، محفوظ في كتاب نهج البلاغة، وقد اقتطفنا من احدىٰ خطبه المعروفة بالشقشقية مقاطع منها :
«
أما والله لقد تقمَّصها فلان، وانَّه ليعلم أنَّ محلِّي منها محلَّ القطب من الرَّحَا، ينحدر عنِّي السيل، ولا يرقىٰ إليَّ الطير »...
«
فيا عجباً، بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته!! لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها.. فصبرتُ علىٰ طول المدَّة وشدَّة المحنة.. حتىٰ
إذا مضىٰ لسبيله جعلها في جماعة زعم أنِّي أحدُهم! فيا لله وللشورىٰ، متىٰ
اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتىٰ صرت أُقرن إلىٰ هذه النظائر! »
.
ولمَّا بلغه عليهالسلام احتجاج قريش بأنَّهم
قوم النبيِّ وأولىٰ الناس به، قال : «
احتجَّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة »
.
_______________________
الفصل الثاني : عليٌّ مع أبي بكر وعمر وعُثمان
بيعته لأبي بكر :
رأينا فيما سبق كيف وقف أمير المؤمنين عليهالسلام من أحداث السقيفة، خلال
الأشهر الأولىٰ من وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
مع جماعة من المهاجرين والأنصار، موقفاً يتَّسم بالشدَّة والصلابة، محتجَّاً عليهم بالمنطق الذي احتجوا فيه علىٰ
الأنصار يوم السقيفة، إضافةً إلىٰ أنَّه عليهالسلام
قد ذكَّرهم بالنصوص التي صرَّح بها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بحقِّه، والتي لا يجهلها أحد منهم، واستطاع عليهالسلام
بتلك المواقف الحكيمة أن يستميل إلىٰ جانبه عدداً من المسلمين.
ولكن ظهرت في هذه الفترة بوادر ارتداد
بعض الأعراب، قال : «
فأمسكتُ يدي، حتىٰ رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلىٰ محق دين محمَّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فخشيت إن لم أنصر
الإسلام وأهله، أن أرىٰ فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنَّما هي متاعُ أيَّامٍ قلائل... »
.
لله وللإسلام سكت وصبر على كلَّ ما سلف
من هؤلاء الذين تآمروا عليه، وأساءوا إلىٰ بضعة رسول الله زوجته، وقنع من الدنيا أن يجمع القرآن ويحفظه، ويشتغل بتفقيه الناس والقضاء بينهم..
وبعد أن بويع لأبي بكر بالخلافة تميَّز
في مجتمع المدينة ومكَّة، عن سائر الناس، فريقان :
_______________________
الفريق
الأول : فريق أظهر كلَّ ما كان يخفيه من نفاق
وسعىٰ إلىٰ إثارة الفتنة، يقابله فريق آخر لم يظهر الحقَّ بكلِّ ما يملك من قدرة..
فأمَّا الفريق الأول فهم الكائدون
للإسلام، أولهم وعلىٰ رأسهم أبو سفيان الذي قدم علىٰ أمير المؤمنين عليهالسلام
يحرِّضه من مناجزة القوم الذين كانوا مع أبي بكر، فيقول له : والله لئن شئت لأملأنَّها عليه خيلاً ورَجِلاً. فردَّه عليهالسلام
: «
والله إنَّك ما أردت بهذه إلَّا الفتنة، وإنَّك والله طالما بغيت للإسلام شرَّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك »
.
ومن هذا القسم أيضاً مسلمو الفتح : ـ الطلقاء،
والمؤلَّفة قلوبهم ـ وكان في طليعتهم : سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، سعوا في الفتنة أيضاً، يحرِّضون قريشاً علىٰ الأنصار لهتافهم باسم عليٍّ، يريدون إلزامهم بتجديد البيعة وإلَّا
فليقتلوهم!
وظهر أبو سفيان مرَّة أُخرىٰ قائلاً
: يا معشر قريش، إنَّه ليس للأنصار أن يتفضَّلوا علىٰ الناس، حتىٰ يُقرُّوا بفضلنا عليهم.. وأيم الله لئن
بطروا المعيشة، وكفروا النعمة، لنضربنّهم علىٰ الإسلام كما ضربونا عليه!
ولم يذكر لنا التاريخ في هذه الحوادث
موقفاً إيجابياً واحداً لأبي بكر أو عمر لردع الفتن!
هؤلاء هم الذين طالما كادوا للإسلام
بسيوفهم عشرين عاماً أو تزيد فدخلوا الإسلام عنوةً، فلمَّا لم يجدوا بدَّاً من الكيد بأيديهم كادوه بألسنتهم.
_______________________
وما أجمل قول حسَّان بن ثابت :
تنادىٰ سهيلٌ، وابن حربٍ وحارثٌ
|
|
وعكرمة الشاني لنا ابنُ أبي جهلِ
|
أولئك رهطٌ من قريشٍ تبايعوا
|
|
علىٰ خطَّةٍ ليست من الخططِ
الفضلِ
|
وكلُّهم ثانٍ عن الحقِّ عطفه
|
|
يقول اقتلوا الأنصار، يا بئس من فعلِ
|
وأعجب منهم، قابلوا ذاك منهم
|
|
كأنَّا اشتملنا من قريش علىٰ ذحلِ
|
أمَّا
الفريق الآخر فهم المناصرون
لعليٍّ عليهالسلام،
الداعون إلىٰ حقِّه بالإمامة، ويلحق بهذه الطائفة المهاجرون والأنصار الذين مالوا عن مبايعة أبي بكر، حيث كانوا لا يشكُّون أنَّ الأمر صائر إلىٰ عليٍّ عليهالسلام، وكان شعارهم الذي رفعوه بأصواتهم : «لا نبايع إلَّا عليَّاً» ومنهم : عتبة بن أبي لهب بن عبدالمطلب الذي أنشد يقول :
ما كنتُ أحسبُ أنَّ الأمرَ منصرفٌ
|
|
عن هاشمٍ، ثُمَّ منها عن أبي الحسنِ
|
عن أوَّل الناس إيماناً وسابقةً
|
|
وأعلمِ الناس بالقرآنِ والسُننِ
|
وآخر الناس عهداً بالنبيِّ ومَنْ
|
|
جبريلُ عونٌ له في الغسل والكفنِ
|
مَنْ فيه ما فيهم لا يمترون به
|
|
وليس في القوم ما فيه من الحسنِ
|
ومنهم
: المقداد وعمَّار وسلمان وأبو ذرٍّ
وحذيفة بن اليمان وخالد بن سعيد بن العاص وأبو أيوب الأنصاري، وسائر بني هاشم.
ولا ننسىٰ موقف الحسن السبط من
أبي بكر، حين رآه يرقىٰ منبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهو مايزال في الثامنة من عمره، يناديه : « إنزل عن منبر
_______________________
أبي،
واذهب الىٰ منبر أبيك »
!
ومنهم
: ابن عباس في حديثه مع عمر، حين سأله
عمر عن عليٍّ عليهالسلام،
فقال : أيزعمُ أنَّ رسول الله نصَّ عليه؟!
قال ابن عباس : نعم، وأزيدك : سألت أبي
عن ذلك، فقال : صدق .
وغيرها من المواقف التي سنأتي عليها في موضوع لاحق.
ومنهم
: قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، إذ ذكر ـ
سعد بن عبادة ـ عليَّاً عليهالسلام،
فذكر من أمره نصَّاً بوجوب ولايته، فقال له ابنه : أنت سمعت من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول هذا الكلام في عليِّ بن أبي طالب، ثُمَّ تطلب الخلافة، ويقول أصحابك : منَّا أمير ومنكم أمير؟! لا كلَّمتك والله من رأسي بعد هذا كلمةً أبداً .
وفي ما وراء المدينة ومكة هناك قبائل من
المسلمين، لم يرضوا بالبيعة لأبي بكر، فامتنعوا عن أداء الزكاة له، لا جحوداً بالزكاة، ولكن إنكاراً لزعامته ،
فعزم أبو بكر علىٰ مقاتلتهم بحجَّة أنَّ هذا الأمر تعطيل لفريضة الزكاة التي أوجبها الله علىٰ المسلمين، غاضَّاً بصره عن السبب الأصلي الذي دعاهم إلىٰ هذا الموقف الصلب، وهو اعتراضهم علىٰ الخلافة!
فمع أحد شيوخ كندة في حضرموت، الحارث بن
سراقة يقول : «نحن إنَّما أطعنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذ كان حيَّاً، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه،
_______________________
وأمَّا ابن أبي قحافة
فلا والله، ما له في رقابنا طاعة ولا بيعة»!
ثمَّ أنشد أبياتاً، كان أوَّلها :
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
|
|
فيا عجباً ممَّن يطيع أبا بكرِ
|
ومنهم
: زعيم كندة الأشعث بن قيس، الذي أمر
قومه بمنع الزكاة، وأن يلزموا بلادهم، ويتَّحدوا علىٰ كلمة واحدة، «فإنِّي أعلم أنَّ العرب لا
تقرُّ بطاعة بني تيم بن مرَّة، وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلىٰ غيرهم..» .
والأنكىٰ من ذلك كان الأمر مع
مالك بن نويرة، الذي استعمله رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
علىٰ صدقات قومه، فلمَّا نُعي له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قام بتوزيع الصدقات علىٰ فقراء قومه، ولم يبعثها إلىٰ الخليفة الجديد..
وأنشد يقول :
فقلتُ خذوا أموالكم غير خائفٍ
|
|
ولا نظرٍ فيما يجيء من الغدِ
|
فإن قام بالدين المحوَّق قائمٌ
|
|
أطعنا، وقلنا الدين دينُ محمَّدِ
|
إذن هؤلاء لم تطمئن قلوبهم للخليفة
الجديد، هذه هي مشكلتهم التي من أجلها ارتكب خالد بن الوليد أبشع مجزرة في ظلَّ الخلافة الجديدة، فضرب أعناقهم صبراً واحداً بعد الآخر وارتكب أيضاً أقبح كبيرة، إذ واقع زوجة مالك في ليلة قتله .
_______________________
وهناك حروب داخلية ـ دينية وسياسية ـ غير
هذه التي ذكرناها، لابدَّ من الوقوف عليها ولو بشيء من الاختصار، تلك التي جرت مع المرتدّين حقَّاً، الذين أعلنوا ارتدادهم عن الإسلام جهرةً، ومالوا إلىٰ أديان
أُخرىٰ، وبعض رؤوساء هذه القبائل ادَّعىٰ النبوَّة، وكان علىٰ رأسهم
: مسيلمة الكذَّاب، الذي كان علىٰ قبيلة بني حنيفة، ادَّعىٰ النبوَّة، قبل
وفاة النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم،
ثُمَّ الأسود العنسي بصنعاء، ثُمَّ ادَّعىٰ النبوَّة طليحة بن خويلد الأسدي في بلاد بني أسد، في مرض النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
الذي توفِّي فيه.
ثمَّ ادَّعت النبوة سجاح بنت الحارث
التميمية، بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وكان رجل من أصحابها ينشد :
أمستْ نبيَّتنا أنثىٰ نطيفُ بها
|
|
وأصبحت أنبياء الناس ذُكرانا
|
وانتهىٰ أمرها أن تزوَّجها مسيلمة
.
فكانت هذه الحروب حروب المرتدِّين
الحقيقيين، أهمَّ دواعي توحيد الصفِّ في المدينة المنوَّرة، إذ كانت هذه الحروب طويلة وكثيرة، وقد اتَّفقوا كلّهم علىٰ مقاتلتهم يداً واحدة.
أبو بكر يستشير الإمام علي عليهالسلام في حرب الروم :
في مطلع سنة ١٣هـ عزم أبو بكر علىٰ
محاربة الروم، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فقدَّموا وأخَّروا، فاستشار عليَّ بن أبي طالب عليهالسلام،
فأشار عليه أن يفعل، وقال له : «
إن فعلتَ ظفرت »
_______________________
فقال : « بُشِّرت
بخير » .
لكنَّ الناس تباطؤوا عن تلبية أمر أبي
بكر، فقال عمر : لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتَّبعتموه!
فاختار أبو بكر خالد بن سعيد علىٰ
قيادة الجيش وعقد له اللواء، لكنَّ عمر ـ وكعادته ـ اعترض، بحجَّة أنَّه تباطأ في بيعته للخليفة؛ فقال : أتولِّي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما بلغك؟! فحلَّ لواءه وجعل الجيش تحت إمرة يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبي عبيدة الجرَّاح، وعمرو بن العاص، بالإضافة إلىٰ خالد وجنده.
فحقَّق المسلمون انتصارات عظيمة
ومتوالية، افتتحوا خلالها عدَّة مدن، وهذه كانت بشارة أمير المؤمنين عليهالسلام.
ولكن سنرىٰ قريباً كيف كانت سياسة
أبي بكر في تعيين الولاة والامراء قد حقَّقت مطامع بني أُميَّة، وفتحت أمامهم أبواب الخلافة الواسعة، حتىٰ تربَّع أوغاد بني أُميَّة وغيرهم من الطلقاء علىٰ رؤوس المسلمين، وجرت وراءها فتن وبحور من الدماء العظيمة!!
رجوع أبي بكر إليه في الأحكام الشرعية
ومن جملة موارد الرجوع إليه في الأحكام
الشرعية والقضايا الدينيّة في عهد أبي بكر، وكما جاء الخبر به عن رجال من العامَّة والخاصَّة : أنَّ رجلاً رُفع إلىٰ أبي بكر وقد شرب الخمر، فأراد أن يقيم عليه الحدَّ، فقال له : إنَّني شربتها ولا علمَ لي بتحريمها، لأنَّي نشأت بين قومٍ يستحلُّونها، ولم
_______________________
أعلم بتحريمها حتىٰ
الآن.. فأُرتج
علىٰ أبي بكر، ولم يعلم وجه القضاء فيه، فأشار عليه بعضُ من حضره أن يستخبر أمير المؤمنين عليهالسلام عن الحكم في ذلك، فأرسل إليه من سأله عنه، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
مُرْ ثقتين من رجال المسلمين يطوفان به علىٰ مجالس المهاجرين والأنصار، ويُناشدانهم الله هل فيهم أحدٌ تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحدَّ عليه، وإن لم يشهد عليه أحدٌ بذلك فاستتبه وخلِّ سبيله » ففعل أبو بكر ذلك، فلم
يشهد عليه أحدٌ من المهاجرين والأنصار أنَّه تلا عليه آية التحريم، ولا أخبره عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بذلك، فاستتابه أبو بكر وخلَّا سبيله، وسلَّم لعليٍّ عليهالسلام
فيما حكم به .
جمع القرآن الكريم وتفسيره :
إنَّ الإمام عليَّاً عليهالسلام وفي مدَّة اعتزاله
الطويل تفرَّغ لعدَّة مهام، كان أهمُّها وأوَّلها مهمَّة جمع القرآن الكريم، فقد ثبت تاريخياً أنَّ عليَّاً عليهالسلام أخذ علىٰ عاتقه الشريف مهمة جمع آيات الذكر الحكيم، وكان ذلك مبكِّراً جدَّاً من بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
فلم يخرج من بيته، إلَّا للصلاة حتىٰ جمعه عنده.
وكان هذا أوَّل مصحف يجمع، مرتَّباً
بحسب ترتيب نزول السور القرآنية، وكتب في حواشيه أشياء من الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، واختصَّ به لنفسه..
_______________________
قال ابن سيرين : طلبت ذلك الكتاب، وكتبت
فيه إلىٰ المدينة، فلم أقدر عليه .
وكان الإمام عليٌّ عليهالسلام في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
من أبرز كتَّاب الوحي، ولمَّا توفِّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
أمر علياً عليهالسلام
يجمع القرآن الكريم في مصحفٍ واحدٍ، لذلك باشر عليهالسلام
بجمع القرآن وترتيبه، ولمَّا تولَّىٰ أبو بكر الخلافة أمر من جهته بجمع القرآن الكريم، وقد أسند هذه المهمَّة إلىٰ الصحابي زيد بن ثابت الأنصاري.
ولمَّا كان الإمام عليٌّ عليهالسلام أكثر الصحابة ملازمة
لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
واختصاصاً به، فقد كان أكثر من عُرف عنه تفسير القرآن الكريم، ألم يقل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بشأنه : إنَّه أكثرهم علماً؟
وذكر القرطبي في تفسيره : «فأمَّا صدر
المفسِّرين والمؤيَّد فيهم، فعليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتلوه عبدالله بن عبَّاس، وهو تجرَّد للأمر وكمّله، وقال
ابن عبَّاس : ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليِّ بن أبي طالب» .
وروي عن عليٍّ عليهالسلام أنَّه قال : « سلوني، فوالله لا
تسألوني عن شيءٍ إلَّا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آيةٍ إلَّا وأنا أعلم أبليل نزلت، أم بنهار، أم في سهل، أم في جبل »
.
وفي عهد أبي بكر واجه ـ وهو الخليفة ـ مشكلة
في معنىٰ بعض مفردات القرآن أحرجته كثيراً، فقال في التخلُّص منها قولاً عجيباً، فبلغ
_______________________
ذلك أمير المؤمنين
فعجب لتوقف أبي بكر في هذه المفردة، ثُمَّ لكلامه في التخلُّص منها.
سُئل أبو بكر عن معنىٰ «الأبِّ»
في قوله تعالىٰ : ( وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا )
، فتحيَّر في معناها، فقال : أيُّ سماء تظلُّني أو أيُّ أرضٍ تقلُّني : أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله تعالىٰ بما لا أعلم؟! أمَّا الفاكهة فنعرفها، وأمَّا
الأبُّ فالله أعلم به!
فبلغ مقاله هذا أمير المؤمنين عليهالسلام، فقال : « يا سبحان الله! أما
علم أنَّ الأبَّ هو الكلأ والمرعىٰ؟! وأمَّا قوله عزَّ اسمه : (
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) اعتدادٌ من الله سبحانه بإنعامه علىٰ خلقه فيما غذَّاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم، مما تحيىٰ به أنفسهم وتقوم به أجسادهم »
.
ونحو هذا في جوابه عليهالسلام في معنىٰ الكلالة،
بعد أن تحيَّر فيها أبو بكر وتردَّد في معناها .
قصَّة الاستخلاف :
في اللحظات الأخيرة من عمر أبي بكر، عزم
علىٰ أن يعهد بالخلافة من بعده إلىٰ عمر بن الخطَّاب، كذا وبكلِّ جرأة أنكر هو وأصحابه حديث الوصاية لعليٍّ عليهالسلام
ويوم غدير خُمٍّ، وكأنَّ خلافة المسلمين ورثٌ ورثه من أبي قحافة، وعليٌّ عليهالسلام
شهد كلَّ ذلك فكضم غيضه وأغمض عينيه، وهو صاحب الحقِّ الأوَّل والأخير.
_______________________
وعلىٰ أيِّ حالٍ فقد تجاهل ابن
أبي قحافة ذلك الحقَّ الذي كان حبلاً في رقابنا، وتجاهل حقَّ الأُمَّة المسلمة، وأصرّ علىٰ استخلاف عمر، فقيل له وهو علىٰ فراش الموت : ما كنت قائلاً لربِّك إذا ولَّيته مع غلظته؟!
وكان من قول طلحة بن عبيدالله : استخلفت
علىٰ الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيف به إذا خلا بهم ؟ وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك!
وقد أغضبه كثرة تذمر الصحابة من
استخلافه عمر، فقال : إنّي ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلّكم ورِمَ أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولمّا تُقبِل، وهي مقبلة، حتىٰ تتّخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع علىٰ الصوف الأذريّ كما يألم أحدكم أن ينام علىٰ حَسَك السَعدان... وأنتم أوّل ضالّ بالناس غداً، فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً...
وقبل هذا وذاك استدعىٰ عُثمان ليكتب
له كتاب الوصية حتىٰ لا يضلُّوا بعده!
روىٰ ابن الأثير : أنَّ أبا بكر
أمر عُثمان بن عفَّان ليكتب عهد عمر، فقال له : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عَهِد به أبو بكر بن أبي قحافة إلىٰ المسلمين، أمَّا بعد.. ثُمَّ أُغمي عليه، فكتب عُثمان : فإنِّي
قد استخلفت عليكم عمر بن الخطَّاب، ولم آلكم خيراً.
ثمَّ أفاق أبو بكر، فقال : أقرأ عليَّ.
فقرأ عليه : فكبَّر أبو بكر، وقال :
_______________________
أراك خفت أن يختلف
المسلمون إن متُّ في غشيتي؟! قال : نعم. قال : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.
فلمَّا كتب العهد أمر أن يُقرأ علىٰ
الناس، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولىً له، ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس : أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله، فإنَّه لم يألكم نُصحاً! فسكت الناس .
بالأمس القريب ادَّعىٰ أبو بكر
أنَّ الخلافة حقٌّ من حقوق المسلمين، يولُّون من يجمع أمرهم عليه، لكنَّه اليوم أوصىٰ لعمر بن الخطَّاب، دون أن يجمع المسلمين علىٰ كلمة واحدة!
ولنرىٰ بعد ذلك قول الأستاذ
عبدالفتاح عبد المقصود في كتابه «عليُّ بن أبي طالب» وهو يتحدَّث عن موقفه من أبي بكر، بعد أن أوصىٰ لعمر بن الخطَّاب من بعده، قائلاً : «وكان حريَّاً بأن يفصم الغضب قلب عليٍّ عليهالسلام لأنَّه إصرار علىٰ الحيف بعد الحيف، ولكنَّه كظم وصبر، ولم يضرَّه أن يأخذ مقعده في ذيل الناس، مادام أصحاب الرسول قد بيَّتوا علىٰ نزع سلطان محمد من آله والخروج به ثانية من عقر بيته، ولم يكن هذا بمستغرب من قريش، ولكنَّه كان عجباً غاية العجب من الشيخ، بعد أن استوت بينه وبين عليٍّ الأمور، ولم تعد خافية علىٰ أبي بكر مكانة الشابِّ وأثره في حياة الجماعة الإسلامية، من تضحيات وبذل عند ولادة الدين ومن حكمة وفضل، ودولة الإسلام تشقُّ طريقها إلىٰ الأمام...» .
وتوفِّي أبو بكر في٢١ ـ ٢٢ جمادىٰ
الآخرة سنة ١٣هـ أواخر آب ٦٣٤م.
_______________________
ثانياً : في عهد عمر بن الخطَّاب :
«
فواعجباً، بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها، فصيَّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسُّها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها»
!!
نعم عجباً، فبالأمس كان «الشيخ» يرجع إلىٰ
علي عليهالسلام
في شتَّىٰ الأمور ليلتمس منه الصواب، حتىٰ كان يقول له : «لازلت موفَّقاً يا ابن أبي طالب» وكان يستقيل الخلافة في حياته إذ كان يقول : «أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم» فكيف ـ والحال هذه ـ يعقدها لعمر بعد وفاته...!
وبلا شكٍّ فأنَّ هناك سابق اتِّفاق
بينهما ـ بين الخليفة والوزير! ـ فقد كرهوا أن تجتمع النبوَّة والخلافة في بيت واحد! هذا القول قد نطق به أحدهم بأعلىٰ صوت وأصرح بيان!
وأخيراً ـ وكما هو منتظر ـ عهد أبو بكر
بالخلافة من بعده إلىٰ عمر بن الخطَّاب وكان عُثمان بن عفَّان من أشد أنصار هذا الاتِّجاه؛ لأنَّه شريك الدرب القيادي كما سيتَّضح قريباً!!
وبهذا الحال تمَّت الخلافة لعمر بن
الخطَّاب، وتحقَّقت ضالَّة قريش المنشودة في إبعاد أهل بيت النبوَّة الذين ظهر منهم شعاع الإسلام.. ويا ليتهم لم ينبسوا بكلمة واحدة تدين غصبهم لحقِّ أهل بيت النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم،
لكنَّهم وللأسف الشديد اعترفوا بكلِّ نواياهم المبيّتة..
مضىٰ عمر بن الخطَّاب في سياسته
علىٰ نفس الخطِّ الذي مشىٰ به
_______________________
أبو بكر، حذراً كما
أوصاه صاحبه : «إحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله الذين انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم» وكأنِّي أراه لا يقصد إلَّا عليَّ بن أبي طالب!
وشدَّد عمر علىٰ هؤلاء النفر، حسب
ما أوصىٰ إليه ابن أبي قحافة، فأوَّل ما بادر إلىٰ فعله : حبس هؤلاء الثَّلة المؤمنة في المدينة ولا يسمح
لهم أيضاً أن يقاتلوا الكفَّار مع المسلمين كي لا تنتفخ أوداجهم! ويقول لمن يلتمس منه الجهاد : لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يكفيك، نعم ما يكفيه من الثواب والشرف!! عجباً وألف عجب!!
نرجع القول مرَّة أُخرىٰ : قد
اعترفوا بحقِّ عليٍّ عليهالسلام
في الخلافة، فهذا عمر بن الخطَّاب، في حوار مع ابن عبَّاس دار بينهما، يعترف بظلامة ابن أبي طالب.. وفي الحقيقة نلتمس من جواب ابن الخطَّاب علىٰ أسئلة ابن عبَّاس تبريرات عديدة في إقصاء عليٍّ عليهالسلام
عن حقِّه في خلافة الرسول.
يقول عمر أمام ابن عبَّاس : «لقد كان من
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في أمره ذروٌ من قول، لا يُثبت حجَّةً ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربعُ في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه، فمنعتُ من ذلك..» وكذا أيضاً في حديث ابن عبادة .
وفي عدَّة مواضع مع ابن عبَّاس :
قال ابن عبَّاس : إنِّي لأُماشي عمر في
المدينة، إذ قال لي : يا ابن عبَّاس، ما أرىٰ صاحبك إلَّا مظلوماً.
_______________________
فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها.
فقلت له : يا أمير المؤمنين، فاردد إليه ظلامته! فانتزع يده من يدي، ومضىٰ يهمهم ساعةً، ثُمَّ وقف فلحقته، فقال : يا ابن عبَّاس، ما أظنُّهم منعهم عنه إلَّا أن استصغره قومه!
فقلت في نفسي : هذه شرٌّ من الأولىٰ،
فقلت : والله، ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك .
وفي مرَّةٍ أُخرىٰ يقول لابن
عبَّاس : أتدري ما منع الناس منكم؟
قال ابن عبَّاس : لا.
قال عمر : لكنِّي أدري.
قال ابن عبَّاس : وما هو، يا أمير
المؤمنين؟
قال : كرهت قريش أن تجتمع فيكم النبوَّة
والخلافة فتجخفوا جخفاً ، فنظرت قريش لنفسها
فاختارت فأصابت!
قال ابن عبَّاس : أيُميط عنِّي أمير
المؤمنين غضبه، فيسمع؟
قال : قل ما تشاء.
قال : أمَّا قولك : إنَّ قريشاً كرهت، فإنَّ
الله تعالىٰ قال لقوم : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) وأمَّا قولك : إنَّا كنَّا نجخف، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة، ولكنَّا قوم أخلاقنا مشتقَّة من أخلاق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
الذي قال فيه الله تعالىٰ : ( وَإِنَّكَ
لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ )
وقال له : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ).
_______________________
وأمَّا قولك : فإنَّ قريشاً اختارت، فإنَّ
الله تعالى يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) وقد علمت يا أمير المؤمنين أنَّ الله اختار من خلقِه لذلك مَنْ اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفِّقت وأصابت.
ثُمَّ قال : وأمير المؤمنين يعلم صاحب
الحقِّ من هو، ألم تحتجَّ العرب علىٰ العجم بحقِّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
واحتجَّت قريش علىٰ سائر العرب بحقِّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟!
فنحن أحقُّ برسول الله من سائر قريش .
وأمثال ذلك من الأعذار التي كان يلتمس
منها ابن الخطَّاب سبباً يبرِّر موقفهم من الإمام عليٍّ عليهالسلام،
وهي كثيرة يطول بذكرها المقام، وقد عدَّها سبباً في إقصاء الإمام عليٍّ من الخلافة .
وبعد مدَّةٍ وجيزة واصل عمر حروب الفتوح،
فبعث المثنىٰ بن حارثة الشيباني في مواصلة تلك الحروب في نواحي العراق، فهزمهم الفرس ففرُّوا إلىٰ الأطراف، فوقف عمر من أمره حائراً، وأخذ يستشير الصحابة في أن يخرج هو بنفسه في مواصلة الحرب..
ولمَّا استشار عليَّاً عليهالسلام نهاه عن الخروج
قائلاً : «
نحن علىٰ موعدٍ من الله، والله منجزُ وعده، وناصر جنده، ومكان القيِّم بالأمر مكانُ النظَام من الخرز، يجمعه ويضمُّه، فإذا انقطع النظام تفرَّق الخرز وذهب، ثُمَّ لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام،
_______________________
عزيزون
بالإجتماع، فكن قُطباً، واستدر الرحا بالعرب.
إنَّك
إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتىٰ يكون ما تدع وراءك من العورات أهمُّ إليك ممَّا بين يديك. إنَّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدُّ لَكَلِبهم عليك، وطمعهم فيك »
.
وبحقٍّ إنَّ كلَّ كلمة من كلمات هذه
الخطبة تعكس لنا عظمة علم الإمام عليهالسلام..
وتنمُّ عن شخصيته المجلَّلة بالكمال والحكمة والصدق، وبحقٍّ إنَّه كما قيل : «هو القرآن الناطق، وما بين الدفَّتين القرآن الصامت» فهو عليهالسلام لم يأخذ إلَّا
عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فهو معلِّمه الأوَّل والأخير الذي يستقي كماله من الله عزَّ وجلّ..
فاستبشر عمر بهذه النصيحة العظيمة وعمل
بها، وكان باباً للفتوح وقنطرة لانتصارات عدَّة..
أمَّا أمير المؤمنين عليهالسلام فقد قنع من الدنيا
أن لا يتكلَّم إلَّا بلسان البررة الأطهار، ليقدِّم للمسلمين، ويحافظ علىٰ الشريعة المطهرة، ويمنع من مخالفتها قولاً أو فعلاً، في أكثر الموارد التي أوضح فيها المشكلات على عمر وحال دون تطبيق أحكام منها على خلاف الكتاب والسنة، بحيث لو سكت لكانت أحكاماً تتّبع، حتىٰ قال فيه عمر : «لولا عليٌّ لهلك عمر»، «أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن».
كذا رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس، متجاهلاً
حقَّه، من أجل
_______________________
حفظ بيضة الإسلام، وقد
ساهم الإمام عليهالسلام
بكلِّ ما بوسعه، وادَّىٰ ما عليه من البلاغ، من تعليم وتفقيه، بل وقضاء أيضاً..
ومن الأمور التي أشار الإمام علىٰ
ابن الخطَّاب هو أن يدوِّن التاريخ الإسلامي، وأن يجعل أول عام في تاريخ المسلمين هو عام الهجرة، حيث لم يكن للناس تاريخ خاص يؤرِّخون فيه، فبعضهم كان يؤرِّخ بعام الفيل، وآخرون يعتمدون في تاريخهم تأريخ الدول المجاورة لهم.. ممّا سبَّب الكثير من المشاكل والخلافات، لذلك عزم ابن الخطَّاب علىٰ أن يضع للمسلمين تاريخاً يعتمدونه في أمورهم.
ولمَّا رأىٰ اختلاف الصحابة
توجَّه إلىٰ الإمام عليهالسلام
ـ كعادته ـ بعد أن خاف أن يتفرَّق أصحابه؛ لأنَّهم وقعوا في اختلاف شديد.. لمَّا أقبل علىٰ عليِّ بن أبي طالب عليهالسلام
اتَّجه إليه يسأله، فقال عليهالسلام
: «
نؤرِّخ بهجرة الرسول من مكَّة إلىٰ المدينة »
فأعجب ذلك الخليفة وكلُّ الصحابة، وهتف عمر يقول : «لازلت موفَّقاً يا أبا الحسن»، فأرَّخ بأهمَّ حدثٍ تاريخي عظيم، هجرة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبداية عهد جديد في انتصارات عديدة، كما مرَّ سابقاً..
وفي هذه الفترة ظهر من الإمام عليٍّ
أمور كثيرة وتعلّم الناس منه الفقه والحديث والتفسير، وكان مرجع المسلمين والمحافظ على الاحكام وسبباً للنجاة من القتل والخلاص من الموت، فمثلاً :
روي أنَّه أُتي عمر بن الخطَّاب بحاملٍ
قد زنت، فأمر برجمها، فقال له أمير المؤمنين عليهالسلام
: «
هَبْ لك سبيلٌ عليها، أيُّ سبيل لك علىٰ ما في بطنها!؟ والله تعالىٰ يقول : ( وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) »،
فقال عمر : لا عشتُ
لمعضلةٍ لا يكون لها
أبو حسن، ثُمَّ قال : فما أصنع بها؟ قال : « احتط عليها حتىٰ تلد، فإذا ولدت ووجدت لولدها من يكفله فأقم الحدَّ عليها »
فسُرِّي بذلك عن عمر، وعوَّل في الحكم به علىٰ أمير المؤمنين عليهالسلام .
وتوفِّي عمر في ليلة الأربعاء، لثلاثٍ
بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين، طعنه أبو لؤلؤة، مولىٰ المغيرة بن شعبة، بخنجرٍ مسموم، فمات علىٰ أثرها .
قصَّة الشورىٰ
:
لمَّا طُعنَ عمر بن الخطاب، أُخذ ودماؤه
تسيل منه، قيل له وهو واهن القوىٰ : لو استخلفت علىٰ الناس، يا أمير المؤمنين! فقال : إن أستخلف،
فقد استخلف مَنْ هو خيرٌ منِّي، وإن أترك فقد ترك مَنْ هو خيرٌ منِّي ـ يشير إلىٰ
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأبي بكر ـ وأراد من ذلك أن يكون الأمر للمسلمين شورىٰ، فظهر مبدأ الشورىٰ لأوَّل مرَّة علىٰ لسانه في خطبته الشهيرة التي قال
فيها : «فمن بايع رجلاً من غير مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرَّة أن يُقتلا» .
ثُمَّ لم يلبث مليَّاً حتىٰ نقض
قوله، بقوله : «لو كان أبو عبيدة حيَّاً لولَّيته!
_______________________
لو كان معاذ بن جبل
حيَّاً لولَّيته! لو كان سالم مولىٰ أبي حذيفة حيَّاً لولَّيته »!
ذلك لأن تمسكه بالشورى كان له سبب مثير!!
ففي موسم الحج من تلك السنة جاء
عبدالرحمن بن عوف إلىٰ ابن عباس، فقال له : لو سمعت ما قاله أمير المؤمنين ـ يعني عمر بن الخطاب ـ إذ بلغه أن فلاناً «قال : لو قد مات عمر لبايعت فلاناً» فما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة.. فهمّ عمر أن يخطب الناس رداً علىٰ هذا القول فنهيته لاجتماع
الناس كلهم في الحج وقلت له : إذا عدت المدينة فقل هناك ما تريد، فإنه أبعد عن إثارة الشغب.
فلما رجعوا من الحج إلىٰ المدينة
قام عمر في خطبته المذكورة.
قال ابن حجر العسقلاني : وجدته في
الأنساب للبلاذري بإسناد قوي من رواية هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري، بالإسناد المذكور في الأصل، ولفظه قال عمر : بلغني أن الزبير قال : لو قد مات عمر لبايعنا علياً.. الحديث
اختار عمر ستة من الصحابة، زعم : «أنَّ
رسول الله كان راضياً عن هؤلاء الستَّة» وهم : عُثمان بن عفَّان وعليُّ بن أبي طالب، وطلحة وسعد بن أبي وقَّاص والزبير وعبدالرحمٰن بن عوف قال : «وقد رأيت أن أجعلها شورىٰ بينهم ليختاروا لأنفسهم».
_______________________
واستدعىٰ إليه أبا طلحة الأنصاري
فقال له : يا أبا طلحة، إنَّ الله طالما أعزَّ بكم الإسلام، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار حاملي سيوفكم، وخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر وتعجيله، واجمعهم في بيتٍ واحد، وقم علىٰ رؤوسهم، فإنَّ اجتمع خمسة وأبىٰ واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتَّفق أربعة وأبىٰ اثنان فاضرب رؤوسهما، وإن رضي ثلاثة فانظر الثلاثة الذين فيهم عبدالرحمٰن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عمَّا اجتمع فيه الناس، وإن مضىٰ الستَّة ولم يتَّفقوا علىٰ أمر، فاضرب أعناق الستَّة، ودع
المسلمين يختاروا لأنفسهم..
هذا هو مبدأ الشورىٰ الذي أراده
عمر، ولنرىٰ كيف تمَّ الإتِّفاق..
ولمَّا خرج عليٌّ عليهالسلام والجماعة من البيت
بانتظار الموعد المعيَّن، ما لبث أن جاءه عمُّه العبَّاس يسأله عمَّا جرىٰ، فقال : « عدلتْ عنَّا »!
فقال : وما علمك؟
قال : « قرن بي عُثمان، وقال : كونوا مع
الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبدالرحمٰن، فسعد لا يخالف ابن عمِّه، وعبدالرحمٰن صهر عُثمان لا يختلفون، فيولِّيها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني »..
ومضىٰ يقصُّ علىٰ عمِّه أحداث الشورىٰ وتفاصيلها، حتىٰ ملكته الدهشة لما سمع.. فقال له العبَّاس : إحذر هؤلاء الرهط، فإنَّهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتىٰ يقوم به غيرنا، وأيم الله لا يناله إلَّا بشرٌ لا ينفع معه خير! فقال عليٌّ عليهالسلام : « أمّا لئن بقي
عُثمان لأذكِّرنَّه ما أتىٰ، ولئن مات ليتداولُنَّها بينهم، ولئن فعلوا لتجدنِّي
حيث
ولمَّا اجتمعوا تكلَّم أمير المؤمنين عليهالسلام، فقال : « الحمد لله الذي بعث
محمَّداً منَّا نبيَّاً، وبعثه إلينا رسولاً، فنحن بيت النبوَّة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حقٌّ إن نُعْطَه نأخذه، وإن نُمْنَعْه نركبْ أعجاز الإبل ولو طال السُّرىٰ، لو عهد إلينا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
عهداً
لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتىٰ نموت، لن يسرع أحد قبلي إلىٰ
دعوة حقٍّ وصلة رحم، لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، اسمعوا كلامي وعوا منطقي، عسىٰ أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجمع تُنتضىٰ فيه السيوف، وتُخان فيه العهود، حتىٰ تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة » ثُمَّ قال :
فإن تكُ جاسمٌ هلكتْ فإنِّي
|
|
بما فعلتْ بنو عبد بن ضخمِ
|
مطيعٌ في الهواجرِ كلَّ عيٍّ
|
|
بصيرٌ بالنَّوىٰ من كلِّ نجمِ
|
ومهما كان الحال، فقد جاء في سائر
التواريخ أنَّ أوَّل عمل قام به طلحة أن أخرج نفسه منها، ووهب حقَّه فيها لعثمان بن عفَّان، كرهاً منه لعليِّ بن أبي طالب عليهالسلام،
وأدرك الزبير النوايا المبيتة من طلحة، فثارت في نفسه نزعة القرابة التي تشدُّه إلىٰ عليٍّ عليهالسلام،
فقال : وأنا أُشهدكم نفسي أنِّي قد وهبت حقِّي في الخلافة لعليِّ بن أبي طالب، فوقف سعد بن أبي وقَّاص وقال : لقد وهبت حقِّي لعبد الرحمٰن بن عوف، «وبقي في الساحة ثلاثة كلُّ واحدٍ منهم يمثِّل اثنين» فقال عبدالرحمٰن لعثمان وعليٍّ عليهالسلام
: أيُّكما يخرج منها للآخر؟ فلمَّا
_______________________
لم يجد منهما جواباً،
أخرج نفسه منها علىٰ أن يجعلها في أفضلهما.
وعرض علىٰ كلٍّ منهما أن يتولَّىٰ
الأمر من يؤثر الحقَّ ولا يتَّبع الهوىٰ، ولا يخصُّ ذا رحمِ ولا يألو الأُمَّة نصحاً، فوافق كلٌّ منهما علىٰ هذه الشروط.. لكنَّه ـ وبعد أن أحرجه الإمام بقبول الشروط ـ خلا عبدالرحمٰن بسعد بن أبي وقَّاص، فأدرك عليٌّ عليهالسلام
أنَّهما إنَّما يريدان مخرجاً يسهِّل لهما أن يُعطوا الخلافة لعثمان ؛ فقال أمير المؤمنين لسعد : « (
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ )
، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، وبرحم عمِّي حمزة
منك أن لا تكون ظهيراً لعبد الرحمٰن »..
ويبدو من هذا الاتِّفاق أنَّهم خرجوا
بشرط جديد يُحرِج عليَّاً عليهالسلام،
ولا يمكن له أن يقبله، وبذلك تكون البيعة لعثمان بن عفَّان، فقال عبدالرحمٰن لعليٍّ عليهالسلام
: عليك عهد الله وميثاقه، لتعملن بكتاب الله وسُنَّة رسوله وسيرة الشيخين من بعده، قال الإمام : «
أعمل بكتاب الله وسُنَّة نبيِّه وبرأيي، فيما لا نصَّ فيه من كتابٍ أو سُنَّة »،
ودعا عُثمان فقال له مثل ما قال لعليٍّ عليهالسلام
فوافق عليها، وقال : نعمل نعمل، فرفع رأسه إلىٰ سقف المسجد، ويده في يد عُثمان فقال : اللَّهمَّ اسمع واشهد، اللَّهمَّ إنِّي قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة
عُثمان، فبايعه، وبهذا النحو الذي شهدناه تمَّت البيعة لعثمان، وحسب التخطيط الذي أراده عمر بن الخطَّاب.
وعقّب الأُستاذ هاشم معروف الحسني علىٰ
قصَّة الشورىٰ هذه بقوله : «أقول ذلك وأنا علىٰ يقين بأنَّ عليَّاً لو وافقهما علىٰ الشرط الأخير،
لوضعا
_______________________
له شرطاً آخر، وهكذا
حتىٰ ينسحب منها، وتتمَّ لابن عفَّان بلا منازع».
حتماً، فهذه ليست أوَّل مؤامرة تظاهروا
بها علىٰ آل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
كما قال أمير المؤمنين عليهالسلام
حينها : «
ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ )،
والله ما وليتَ عُثمان إلَّا ليردَّ الأمر إليك، والله كلُّ يومٍ في شأن »!
فقال عبدالرحمٰن : يا عليُّ، لا تجعل علىٰ نفسك حجَّةً وسبيلاً، فخرج عليٌّ عليهالسلام وهو يقول : «
سيبلغ الكتاب أجله »، فقال المقداد : يا
عبدالرحمٰن، أما والله لقد تركته، وإنَّه من الذين يقضون بالحقِّ وبه يعدلون، فقال : يا مقداد، والله لقد اجتهدتُ للمسلمين. قال : إن كنتَ أردتَ الله فأثابك الله ثواب المحسنين.
ثم قال المقداد : ما رأيتُ مثل ما أتىٰ
إلىٰ هذا أهل البيت بعد نبيِّهم، إنِّي لأعجب من قريش أنَّهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أنَّ رجلاً أقضىٰ بالعدل ولا أعلم منه، أما والله لو أجد أعواناً عليه!
فقال عبدالرحمن : يا مقداد، اتِّق الله،
فإنِّي خائفٌ عليك الفتنة.
فقال رجل للمقداد : رحمك الله، مَن أهل
هذا البيت، ومن هذا الرجل؟
قال : أهل البيت بنو عبدالمطَّلب، والرجل
عليُّ بن أبي طالب.
فقال عليٌّ عليهالسلام : « إنَّ الناس ينظرون
إلىٰ قريش، وقريش تنظر بينها فتقول : إن وُلِّيَ عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وما كانت في غيرهم تداولتموها بينكم ».
وقد شهد أبو الطفيل رضياللهعنه حادثة الشورىٰ
بما شهده وسمعه، فقال : كنت علىٰ الباب يوم الشورىٰ، فارتفعت الأصوات بينهم، فسمعت عليَّاً عليهالسلام
يقول : « بايع الناس لأبي
بكر، وأنا والله أولىٰ بالأمر منه وأحقُّ به منه، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجع الناس كفَّاراً يضرب بعضهم رقاب بعضٍ بالسيف، ثُمَّ بايع الناس عمر وأنا والله أولىٰ بالأمر منه، وأحقُّ به منه، فسمعتُ وأطعتُ مخافة أن يرجع الناس كفَّاراً يضرب بعضم رقاب بعضٍ بالسيف، ثُمَّ أنتم تريدون أن تبايعوا عُثمان! إذاً أسمع وأُطيع »
.
ولمَّا عزموا علىٰ البيعة لعثمان،
قال الإمام عليٌّ عليهالسلام
: «
أُنشدكم الله، أفيكم أحد آخىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بينه وبين نفسه غيري؟
» قالوا : لا. قال : « أفيكم أحدٌ قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من كنتُ مولاه
فهذا مولاه، غيري؟ » قالوا : لا.
قال : « أفيكم أحدٌ قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أنت منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ غيري؟ » قالوا : لا.
قال : « أفيكم من أؤتمن علىٰ سورة براءة،
وقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنَّه لا يؤدِّي عنِّي إلَّا أنا أو رجل منِّي، غيري؟ »
قالوا : لا.
قال : « ألا تعلمون أنَّ أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فرُّوا عنه في مأقطِ الحرب في غير موطن، وما فررتُ قطُّ؟ »
قالوا : بلىٰ.
قال : « ألا تعلمون أنِّي أوَّل الناس إسلاماً؟
» قالوا : بلىٰ.
قال : « فأيُّنا أقرب إلىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نسباً؟ »
قالوا : أنت.
فقطع عليه عبدالرحمٰن بن عوف
كلامه، وقال : يا عليُّ، قد أبىٰ الناس إلَّا عُثمان، فلا تجعلنَّ علىٰ نفسك سبيلاً!
ثُمَّ توجَّه عبدالرحمٰن إلىٰ
أبي طلحة الأنصاري، فقال له : يا أبا طلحة،
_______________________
ما الذي أمرك عمر؟
قال : أن أقتل من شقَّ عصا الجماعة!
فقال عبدالرحمٰن لعليٍّ : بايع
إذن، وإلَّا كنتَ متَّبعاً غير سبيل المؤمنين!! وأنفذنا فيك ما أُمرنا به!!
فقال عليٌّ عليهالسلام كلمته الشهيرة : « لقد علمتم أنِّي
أحقُّ بها من غيري، ووالله لأُسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلَّا عليَّ خاصَّةً؛ إلتماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً في ما تنافستموه من زخرفه وزبرجه »
.
كان هذا آخر ما قاله الإمام عليٌّ عليهالسلام يوم الشورىٰ، فهل
تسمَّىٰ هذه شورىٰ؟ أم غلبة بالسيف؟!
وختاماً من المناسب أن نذكر هذا المقطع
من الخطبة المعروفة بالشقشقية والذي يصف فيه موقفه من هذه الشورىٰ، فيقول : « فصبرتُ علىٰ طول المدَّة، وشدَّة المحنة.. حتىٰ إذا مضىٰ لسبيله، جعلها
في جماعة زَعَم أنِّي أحدهم، فيا لله وللشورىٰ، متىٰ اعترض الريبُ فيَّ مع
الأوَّل منهم حتىٰ صرتُ أُقرنُ إلىٰ هذه النظائر! »
.
ثالثاً : في عهد عُثمان :
دُفن عمر وتمَّت قصَّة الشورىٰ، وزُفَّ
عُثمان كما زُفَّ صاحباه من قبل، وبايعه الناس، وتصدَّر المنبر، منبر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
ليخطب فيهم خطبته التي سيعلن فيها تعهده بالتزام سيرة الشيخين، وسنرىٰ فيما بعد كيف أنَّه خالف ما تعهد التزامه، حتى سيرة الشيخين في عدَّة أمور، وعطَّل بعض
_______________________
الواجبات حتىٰ أصبح
عهده عهد الفتن..
ومن أهمِّ الأمور التي انتهجها عُثمان
في سياسته، والتي فتحت أبواباً من الفتن واسعة :
١ ـ أحاط نفسه بأزلام بني أُميَّة، وتربَّع
علىٰ العرش يهب أموال المسلمين لرجالات عمومته بني أُميَّة، فكانوا المقرَّبين منه، بحيث ترك مشورة كبار الصحابة، ولم يستعمل أحدهم علىٰ أمر من أمور المسلمين واستغنىٰ برأيه ورأي مروان، والأنكىٰ من كلِّ ذلك أنَّه ألحق الضرر والضرب ـ وحتىٰ الموت ـ بكبار صحابة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وسجن آخرين. فضرب عمَّاراً وفتق بطنه، وسيَّر أبا ذرٍّ إلىٰ الربذة، وسيَّر عامر بن قيس
من البصرة إلىٰ الشام! وغير ذلك من الأمور الشنيعة، حتىٰ غلب علىٰ عهده
التسلُّط والاثرة وجمع الأموال، واكتفىٰ برأي أصحاب الحيلة والدهاء، من ذوي قرباه.
٢ ـ استبدال الولاة الذين عيَّنهم عمر، بولاة
جدد من بني أُميَّة من أصحاب المطامع، وليس لأحدهم دين وازع أو سلطان رادع، ولم يكن همُّ أحدهم سوىٰ جمع الأموال والتربُّع علىٰ عرش الملك!
فجمع الشام كلَّه لابن عمِّه معاوية، وعبدالله
بن أبي سرح ـ المرتدُّ، الذي أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بقتله ولو وجد متعلِّقاً بأستار الكعبة! ـ علىٰ مصر، وهو أخوه من الرضاع، وفي الكوفة ـ أخوه لاُمِّه ـ الوليد بن عقبة، وفي البصرة ابن عمِّه سعيد بن العاص، وولَّىٰ ابن خاله عبدالله بن عامر علىٰ خراسان، وفي المدينة المنوَّرة «مقرُّ الخلافة» كان مروان بن الحكم
ـ طريد رسول الله
ولعينه ـ وزير الخليفة ومستشاره، فهو ابن عمِّه وكاتبه.
وكلُّهم من طغمة بني أُميَّة خاصَّة من
مسلمة الفتح «الطلقاء، والمؤلَّفة قلوبهم» حتىٰ أصبحت أموال الدولة والمسلمين متاعاً خاصاً لهم، وظنُّوا أنَّ الخلافة وراثةً لهم، كما قال أبو سفيان : «يا بني أُميَّة تلقَّفوها تلقُّف الكرة،
فوالذي يحلف به أبو سفيان مازلت أرجوها لكم، ولتصيرنَ إلىٰ صبيانكم وراثةً »!
فهؤلاء هم عمال عُثمان الذين لا يريد
أحدهم سوىٰ أن يصبح جبَّاراً في الأرض أو ملكاً يُطاع أو يُسجد له!!
وقد كانت هذه المفارقات وغيرها السبّب
لثورة الناس ضدّه، فسعى الأمام عليهالسلام
للإصلاح وإخماد الفتنة، وكم ذكّره بالله والدين، وبحقوق المسلمين، وكان مما قال له مرةً : « والله لو ظلم عامل من عمّالك حيث تغرب
الشمس لكان اثمه شركاً بينه وبينك »
.
مهَّدت إلىٰ ظهور فتن وأزمات وكم
سعى الامام عليهالسلام
ومن معه من الصحابة في الإصلاح ولم يستجب عثمان ومن حوله لدعوته، حتى فلت الأمر من يده، لا سيّما وأنّ بعض أكابر الصحابة كانوا يساندون الثائرين علىٰ عثمان والمعترضين بشدة ويؤلّبون الجماهير ضده منهم عائشة التي كانت تقول : اقتلوا نعثلاً فقد كفر. وطلحة الذي كان يكاتب أهل البصرة يحرِّضهم علىٰ النهوض لقتل عُثمان .
وعبدالرحمٰن بن عوف الذي قال
_______________________
لعثمان : «لِمَ فررتَ
يوم أُحد، وتخلَّفت عن بدر، وخالفت سُنَّة عمر؟» .
ولمَّا طالبت الجماهير المنتفضة عُثمان
بعزل الولاة الفاسدين، واستبدالهم بولاةٍ صالحين، أبىٰ ذلك، فعزل أهل الكوفة سعيد بن العاص الأموي ورشحوا أبا موسى الأشعري، لكن عثمان أقرّ سعيداً ولم يعزله، وهكذا كان الأمر في بعض الولايات الاسلامية الاخرى بسبب ما لاقاه الناس من الولاة من جورٍ وفساد، وحينئذٍ عادوا وطلبوا من عثمان، أن يعزل نفسه، حينها قال عُثمان : «ما كنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله» ،
فجعل أمر الخلافة هبةً من الله تعالىٰ، ولا يمكن له أن ينزعها، وليس من حقِّ الأُمَّة
أيضاً أن تثور عليه وتنزع الخلافة منه!
رأىٰ عُثمان أنَّ الأُمَّة كلَّها
ضدَّه وسوف لا تتركه حتى يستجيب لارادتها، ولم يرَ ناصحاً في هذه الأيَّام الشديدة من حياته غير الإمام عليِّ بن أبي طالب عليهالسلام،
حينها أجتمع الناس إلىٰ الإمام عليهالسلام
وبيَّنوا له فساد الأمر بيد عُثمان، فنهض الإمام عليهالسلام
ليكلِّم الخليفة وينصحه، فقال له : « إنَّ الناس ورائي، وقد استسفروني بينك وبينهم، ووالله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلُّك علىٰ أمرٍ لا تعرفه، إنَّك تعلم ما نعلم، وما
سبقناك إلىٰ شيءٍ فنُخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلِّغكه، وقد رأيتَ كما رأينا، وسمعتَ كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كما صحبنا..
وما
ابن أبي قحافة ولا ابن الخطَّاب بأولىٰ بعمل الحقِّ منك، وأنت
_______________________
أقرب
إلىٰ أبي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وشيجة رحمٍ منهما، وقد
نلتَ من صهره ما لم ينالا، فالله الله في نفسك، فإنَّك والله ما تُبصَّر من عمىً، ولا تُعلَّم من جهلٍ،
وإنَّ الطرق لواضحة، وإنَّ أعلام الدين لقائمة..
فاعلم
أنَّ أفضل عباد الله عند الله إمامٌ عادل، هُدِي وهدىٰ، فأقام سُنَّةً معلومة، وأمات بدعةً مجهولة، وإنَّ السنن لنيِّرةٌ لها أعلام، وإنَّ البدع لظاهرةٌ لها أعلام. وإنَّ شرَّ الناس عند الله إمامٌ جائرٌ، ضلَّ وضُلَّ به، فأمات
سُنَّةً مأخوذةً، وأحيا بدعةً متروكة، وإنِّي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : يؤتىٰ يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيُلقىٰ في
نار جهنَّم فيدور فيها كما تدور الرحىٰ، ثُمَّ يرتبط في قعرها..
وإنِّي
أُنشدك الله ألَّا تكون إمام هذه الأُمَّة المقتول! فإنَّه كان يُقال : يُقتل في هذه الأُمَّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلىٰ يوم القيامة، ويلبس
أمورها عليها، ويبثُّ الفتن فيها، فلا يُبصرن الحقَّ من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً، فلا تكوننَّ لمروان سيِّقةً يسوقك حيث شاء بعد جلال السنِّ وتقضِّي العمر »!
فقال له عُثمان : «كلِّم الناس فيّ أن
يؤجِّلوني حتىٰ أخرج إليهم من مظالمهم».
فقال عليهالسلام
: «
ما كان بالمدينة فلا أجل فيه، وما غاب فأجله وصول أمرك إليه » .
فكلَّمهم عليٌّ، فرجع المصريون إلىٰ
مصر، ولكنَّ تأخَّر عُثمان عن
_______________________
تنفيذ ما وعدهم به، وكان
الذي صرفه عن ذلك مروان بن الحكم، إذ قال لعثمان : تكلَّم وأعلِمِ الناس أنَّ أهل مصر قد رجعوا، وأنَّ ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً، قبل أن يجيء الناس إليك من أمصارهم، ويأتيك ما لا تستطيع دفعه! ففعل عُثمان ذلك .
فثارت الفتنة من جديد، وانتفضت الجموع
الغاضبة، فتشبَّث عُثمان مرَّةً أُخرىٰ بعليٍّ عليهالسلام
بعد أن رجع المصريون وحاصروه، فقال له : «يا ابن عمِّ، إنَّ قرابتي قريبة، ولي عليك حقٌّ عظيم، وقد جاء ما ترىٰ من هؤلاء القوم، وهم مُصبِّحيَّ، ولك عند الناس قدر وهم يسمعون منك، وأُحبُّ أن تركب إليهم فتردَّهم عنِّي».
فقال له عليٌّ عليهالسلام : « علىٰ أيِّ
شيءٍ أردُّهم عنك »؟
قال : «علىٰ أن أصير إلىٰ ما
أشرت إليه ورأيته لي».
فقال عليٌّ : « إنِّي قد كلَّمتك
مرَّةً بعد أُخرىٰ، فكلُّ ذلك نخرج ونقول، ثُمَّ ترجع عنه، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبدالله بن سعد، فإنَّك أطعتهم وعصيتني ».
قال عُثمان : «فأنا أعصيهم وأُطيعك».
فأمر الناس، فركب معه من المهاجرين
والأنصار ثلاثون رجلاً، فأتىٰ المصريِّين فكلَّمهم، فذكر لهم ما وعد به عُثمان من العمل بالحق وإرضائهم .
_______________________
ولمَّا عاد الإمام عليٌّ عليهالسلام من مهمَّته في تبليغ
الوعود، قال لعثمان : «
تكلَّم كلاماً يسمعه الناس منك، ويشهدون عليك، ويشهد الله علىٰ ما في قلبك من النزوع والإنابة، فإنَّ البلاد قد تمخَّضت عليك، فلا آمن أن يجيء ركب آخرين من الكوفة، فتقول : يا عليُّ اركب إليهم، ولا أقدر أن أركب إليهم ولا أسمع عذراً، ويقدم ركب من البصرة، فتقول : يا عليُّ اركب إليهم، فإن لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقِّك ».
فخرج عُثمان فخطب الناس، فقال بعد الحمد
والثناء : أمَّا بعد أيُّها الناس، فوالله ما عاب من عاب منكم شيئاً أجهله، وما جئت شيئاً إلَّا وأنا أعرفه، ولكنِّي فتنتني نفسي وكذَّبتني وضلَّ عنِّي رشدي، ولقد سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقول : «
من زلَّ فليتب، ومن أخطأ فليتب، ولا يتمادَّ في الهلكة، إنَّ من تمادىٰ في الجور كان أبعد من الطريق »،
فأنا أوَّل من اتَّعظ، واستغفر الله ممَّا فعلت وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم، فوالله لئن ردَّني الحقُّ عبداً لأستنَّ بسُنَّة العبد، ولأذلَّنَّ ذلَّ العبد، ولأكوننَّ كالمرقوق، إن مُلِكَ صبر، وإن عُتِقَ شكر، وما عن الله مذهب إلَّا إليه، فلا يعجزنَّ عنكم خياركم أن يدنوا إليَّ، لئن أبت يميني لتتابعني شمالي ،
فوالله لأعطينَّكم الرضا، ولأُنحينَّ مروان وذويه ولا أحتجب عنكم .
فرقَّ الناس له، وبكوا، وبكىٰ هو
أيضاً..
_______________________
ولمَّا نزل عُثمان وعاد إلىٰ بيته
عاب عليه مروان إقراره بالخطأ، وما أعطاهم من الوعد بالإصلاح والصلاح، ولم يكن من عُثمان إلَّا أن يركن إلىٰ كلامه ويقول : أُخرج إلىٰ الناس فكلِّمهم، فإنِّي أستحي أن أُكلِّمهم! وخرج مروان إلىٰ الناس فقال لهم : ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنَّكم جئتم لنهب! شاهت الوجوه! جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! أُخرجوا عنَّا.. ارجعوا إلىٰ منازلكم، فإنَّا والله ما نحن بمغلوبين علىٰ ما في أيدينا
.
ولمَّا بلغ عليَّاً عليهالسلام هذا الكلام، وأنّ
عُثمان أصرَّ علىٰ سياسته التي اختطَّها مروان وغيره، ولم يستطع أن يغيِّر من موقفهم، قال : « أي عباد الله، يا للمسلمين! إنِّي إن قعدت في بيتي قال لي : تركتني وقرابتي وحقِّي، وإنِّي إن تكلَّمت فجاء ما يريد يلعب به مروان »..
وقام مغضباً حتىٰ دخل علىٰ عُثمان فقال له : «
أما رضيت من مروان ولا رضي منك، إلَّا بتحريفك عن دينك وعن عقلك.. والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه، وأيمُ الله إنِّي لأراه يوردك ولا يُصدرك! وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغُلبت علىٰ رأيك »
.
وندم عُثمان علىٰ فعله، فبعث إلىٰ
عليٍّ عليهالسلام
يستصلحه، فقال عليٌّ عليهالسلام
: «
أخبرته إنِّي غير عائد »..
أمَّا الناس فقد حاصروا عُثمان في بيته ومنعوا عنه الماء.. فاشتدَّ عليه الأمر، وضلَّ حائراً لا يلوي فعل شيء، إلَّا أن يغلق عليه بابه وينتظر ما سيحدث!
_______________________
لكنَّ أمير المؤمنين عليهالسلام أمر ولديه الحسن
والحسين عليهماالسلام
بحمل سيفيهما والذود عن عُثمان يمنعان الناس عنه..
وذهب عليهالسلام
إلىٰ طلحة ـ وكان هو الذي قد منع الماء عن عُثمان مع جماعة حوله ـ متناسياً كلَّ ما حدث من عُثمان، فقال له : « يا طلحة، ما هذا الأمر منك الذي وقعت فيه »؟!
قال : «يا أبا الحسن، بعد ما مسَّ
الحزام الطُّبْيَين» .
فقدم الإمام عليهالسلام بيت المال، وكسر
الباب وأعطىٰ الناس، فانصرفوا عن طلحة حتىٰ بقي وحده! فسُرَّ عُثمان بذلك ودخلت عليه الروايا بالماء.
ونقل الطبري وابن الأثير في تاريخيهما ،
قول عُثمان بشأن طلحة : «هذا ما أمر به طلحة بن عبدالله، اللَّهمَّ اكفني طلحة، فإنَّه حمل عليَّ هؤلاء وألَّبهم عليَّ، والله إنِّي لأرجو أن يكون منها صفراً، وإنَّ يُسفك دمه! إنَّه انتهك منِّي ما لا يحلُّ له!».
أمَّا المصريون الذين كلَّمهم عليٌّ عليهالسلام ورجعوا، فبينما هم
في بعض الطريق رأوا راكباً أمره مريب، فأخذوه وفتَّشوه، فإذا هو غلام عُثمان يحمل كتاباً بختم عُثمان الىٰ عبدالله بن سعد أن يفعل بهم ويفعل! وكان مروان هو الذي زوَّر هذا الكتاب .
فرجعوا وشدَّدوا الحصار علىٰ عُثمان،
بعد أن خيَّروه بين ثلاث : أن
_______________________
يخلع عمَّاله الذين
شكتهم الناس، أو يخلع نفسه، أو يقتلوه!
وكأنَّه اختار لنفسه القتل، حيث قال : «ما
كنت لأخلع سربالاً سربلنيه الله عزَّ وجلَّ».
الباب
الثالث
خلافة أمير المؤمنين عليهالسلام
الفصل
الأول : تولِّي الخلافة وسياسته في الإصلاح :
قتل عُثمان، ولم يكن ثمة فرصة لتعيين من
يقوم بعده بالخلافة، فلا سقيفة ولا شورىٰٰ! فكان من حقِّ الجماهير، ولأوَّل مرَّة في تأريخها، أن
تطلق صوتها وترجع إلى رشدها.
فنهضت الجماهير عطشىٰ تتسابق سباق
الإبل إلىٰ الماء، جاءوا دار الإمام عليٍّ عليهالسلام
حيث اعتزل قبل هلاك عُثمان، ولم يخرج من بيته، يطالبون أن يخرج إليهم ليبايعوه..
حتىٰ وصف أمير المؤمنين عليهالسلام هذا السيل العارم
وإصرارهم علىٰ البيعة بقوله : «
فما راعني من الناس إلَّا وهم رسلٌ إلي كعُرف الضبع، يسألونني أن أُبايعهم، وانثالوا عليَّ حتىٰ لقد وُطئ الحسنان، وشُقَّ عطفاي ».
ومضىٰ يصف في خطبته هذه موقفه من
الخلافة : «
أما والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر ولزوم الحجَّة بوجود الناصر، وما أخذ الله علىٰ أولياء الأمر ألَّا يقرُّوا علىٰ كظَّة ظالم أو سغب
مظلومٍ، لألقيت حبلها علىٰ غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوَّلها، ولألفوا دنياهم أزهد عندي من عفطة عنزٍ » .
وتمَّت بيعته في الخلافة في يوم الجمعة
الخامس والعشرين من ذي
_______________________
الحجَّة عام ٣٥هـ، وقال
عليهالسلام
يصف ذلك الأمر : «
وبسطتهم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثُمَّ تداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم علىٰ حياضها يوم
وردها، حتىٰ انقطعت النعل وسقط الرداء ووُطئ الضعيف.. »
.
وعن أبي ثور ـ كما جاء في (الإمامة
والسياسة) ـ أنَّه قال : «لمَّا كانت البيعة بعد مصرع عثمان خرجت في اثر عليٍّ عليهالسلام
والناس حوله يبايعونه، فدخل حائطاً من حيطان بني مازن، فألجأوه إلىٰ نخلة وحالوا بيني وبينه، فنظرت إليهم وقد أخذت أيدي الناس ذراع الإمام، تختلف أيديهم علىٰ يده، ثُمَّ أقبلوا به إلىٰ المسجد الشريف، فكان أوَّل من صعد المنبر في المسجد طلحة وبايعه بيده، وكانت أصابعه شلاء، فتطيَّر منها عليٌّ عليهالسلام وقال : «
ما أخلقها أن تنكث »، ثُمَّ بايعه الزبير
وأصحاب النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
وجميع من في المدينة من المسلمين» .
بهذه اللهفة تمَّت أوَّل بيعة علىٰ
صعيد واسع، وصعد الخليفة الأول الحق بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
المنبر الشريف بقبول الناس ورضاهم، لكنَّ الإمام عليَّاً عليهالسلام
لم يكن من أصحاب السلطة.. فلم يقبل بالخلافة إلَّا بعد أن رأىٰ أنْ لا مفرَّ من ذلك، وأنَّ مصلحة الإسلام والمسلمين تقتضي أن يمدَّ
يده لتختلف عليه أيدي الناس المبايعة..
في هذا الجو المشحون بالفتن والحوادث
بعد مقتل الخليفة وما خلَّف قتله من آثار ـ سنمرُّ عليها لاحقاً ـ في هذه الأجواء تمَّت البيعة للإمام عليهالسلام
_______________________
فقال ابن عبدالبر : «بويع
لعليٍّ رضياللهعنه
بالخلافة يوم قُتل عُثمان، فاجتمع علىٰ بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلَّف عن بيعته نفرٌ منهم، فلم يهجهم ولم يُكرههم..» .
وكان ممَّن تخلَّف عن بيعته يوم ذاك :
حسَّان بن ثابت، وكعب بن مالك، وزيد بن ثابت، ومروان بن الحكم، وسعد بن أبي وقَّاص، وعبدالله بن عمر، ومعاوية ومن معه في جماعة أهل الشام وآخرون ،
وعائشة بنت أبي بكر، زوج الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
حيث وقفت من الإمام عليٍّ أشدَّ المواقف العدائية التي سنقف عليها لاحقاً.
علىٰ أي حال قد تمَّت البيعة
المثالية، التي لم يشهد التأريخ مثلها علىٰ جوانب صفحاته، بيعة ليس لها نظيرٌ قطُّ، اندفع كلُّ الناس يتسابقون أيُّهم يحوز الفضل قبل صاحبه.. ولم يفد معهم كلام ولا حجَّة، فكانوا مصرِّين علىٰ بيعته حتىٰ «
وبلغ من سرور الناس بيعتهم إيَّاي أن ابتهج بها الصغير، وهَدَجَ إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب.. »
. لا يرتضون له بديلاً حتىٰ وإن أعلمهم بحقيقة الأمر وسياسته التي قد لا تُرضي الجمهور!
قد وضعهم أمام السياسة الواضحة؛ إذ قال
لهم : «
دعوني والتمسوا غيري، فإنَّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول.. وإنَّ الآفاق قد أغامت، والمحجَّة قد تنكَّرت.. ».
_______________________
وأضاف قائلاً : « واعلموا أنِّي إن
أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلىٰ قول القائل وعتب العاتب »
.
فاستجاب الناس طائعين إلىٰ عرض
أبواب السياسة التي سينتهجها، ووجد المسلمون أنفسهم أمام واقعٍ جديد وأحداث جديدة لا عهد لهم بها من قبل.
ذكر الشيخ المفيد خبراً عن أبي الطفيل
عامر بن واثلة، قال : «جمع أمير المؤمنين عليهالسلام
الناس للبيعة، فجاء عبدالرحمٰن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ فردَّه مرَّتين أو ثلاثاً ثُمَّ بايعه، وقال عند بيعته له : « ما يحبس أشقاها! فوالذي نفسي بيده لتُخضبن هذه من هذا »
ووضع يده علىٰ لحيته ورأسه عليهالسلام،
فلمَّا أدبر ابن ملجم عنه منصرفاً قال عليهالسلام
متمثِّلاً :
« أشدد حيازيمك للموت
|
|
فإنَّ الموت لاقيك
|
ولا تجزع من الموت
|
|
إذا حلَّ بواديك
|
كما أضحكك الدهر
|
|
كذاك الدهر يبكيك » »
|
سياسته الإصلاحية :
لمَّا آلت إليه خلافة المسلمين انصرف
منذ اليوم الأوَّل لمشروع الإصلاح، إصلاح ما نخره المتقدمون عليه وعُثمان وعمَّاله علىٰ صعيد
الاتِّجاه السياسي والاجتماعي، وحتىٰ الثقافي، في دولة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومن جلائل خطبه ومشهوراتها، تلك التي
وصف فيها حال الأُمَّة،
_______________________
حالهم الجديدة، فيصفها
في يوم بيعته : «
.. ألا وإنَّ بليَّتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيَّه صلىاللهعليهوآلهوسلم والذي بعثه بالحقِّ
لتُبَلْبَلُنَّ بلبلةً ولتُغربلُنَّ غربلةً، ولَتُساطُنَّ سوط القدر، حتىٰ يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم، وليسبقَنَّ سابقون كانوا قصَّروا، وليُقصِّرنَّ سبَّاقون كانوا سبقوا..
والله
ما كتمتُ وشمةً، ولا كذبت كذبةً، ولقد نُبِّئتُ بهذا المقام وهذا اليوم... حقٌّ وباطل، ولكلٍّ أهل، فلئن أمِرَ الباطل لقديماً فعل! ولئن قلَّ الحقُّ، فلربَّما ولعلَّ! ولقلَّما أدبر شيءٌ فأقبل »
! كما أنبأه رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومرَّةً أُخرىٰ يضع النقاط
الأساسية لواجبات الخلافة الجديدة : « اللَّهمَّ إنَّك تعلم أنَّه لم يكن الذي كان منَّا منافسةً في سلطان، ولا التماس شيءٍ من الحطام، ولكن لنردَّ المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطَّلة من حدودك.. »
.
ردُّ المعالم الضائعة المغيَّبة من
الدنيا، وردُّ الحقِّ المنتهك من عباد الله، وإقامة الحدود المعطَّلة، كأنجح وأعدل سياسة في الحكم الإسلامي، هذه هي أهمُّ أوجه السياسة في الخلافة الجديدة.
لأوَّل مرَّة سيُقام العدل ويُركل الظلم
في أشدِّ حالات القتال! القتال علىٰ التأويل كما قاتل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
علىٰ التنزيل : «
إنَّ منكم من يقاتل علىٰ تأويل القرآن » قال أبو بكر : أنا هو؟ وقال عمر : أنا هو؟ قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا، لكنَّه عليٌّ »! .
_______________________
هذا هو مشروع الإصلاح، حسبما اختصره
الإمام في خطبته السابقة، وكان هذا إصلاح الساحة السياسة.
أمَّا التغيير الاجتماعي والديني
والثقافي فتجسَّد في بيانه للناس عامَّةً، وعمَّاله خاصَّةً، بقوله : «
إنَّ الله سبحانه أنزل كتاباً هادياً بيَّن فيه الخير والشرَّ، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدِفوا عن سمت الشرِّ تقصدوا..
الفرائض،
الفرائض! أدُّوها إلىٰ الله، تؤدِّكم إلىٰ الجنَّة.. »
ديناً.
أمَّا علىٰ الصعيد الاجتماعي
والثقافي فيمكن أن نراه واضحاً في قوله : «
إنَّ الله حرَّم حراماً غير مجهول، وأحلَّ حلالاً غير مدخول، وفضَّل حُرمة المسلم علىٰ الحُرم كلِّها، وشدَّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها.. ».
ولعمَّاله خاصَّةً قوله : « بادروا أمر
العامَّة، وخاصَّة أحدكم وهو الموت.. » وقوله : « اتَّقوا الله في عباده وبلاده، فإنَّكم
مسؤولون حتىٰ عن البقاع والبهائم..» .
بهذا الإخلاص الرفيع والحكمة المتعالية
والسياسة الحكيمة، يضعنا أمام الأمر الواقع، فقد أعاد عليهالسلام
إلىٰ الأذهان الدين الحقَّ المنزَّل علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
والذي تزيَّف في عهود من سبقه!!
أوَّلاً
: باشر الإمام في تنفيذ العدل والمساواة
بين الرعية..
وثانياً
: مراقبة العمَّال والأُمراء. وله كتب
عدَّة في هذه الأُمور، جمعها صاحب نهج البلاغة، بما يقارب ٣٢ كتاباً، في الشؤون الإدارية والسياسية
_______________________
ووصايا إلىٰ الأمراء
والأجناد، فلا يسعنا الحديث عن كلِّ كتبه هذه!
ثالثاً
: القتال علىٰ تأويل القرآن!!
خطوات مشروعه الاصلاحي
والآن مع خطواته في مشروع التنفيذ
الإصلاحي :
أولاً : إلغاء
التمايز الطبقي :
ساد في عهد «عمر» و«عُثمان» تمايز طبقي
في توزيع الثروة من بيت المال، حتىٰ أصبح الناس قسمين، قسم في عداد الأثرياء وما فوق ذلك، وآخرون لا يرتفعون عن مستوىٰ الفقر كثيراً! حتىٰ تسبَّبت هذه السياسة الظالمة في استثراء تفاوت طبقي خطير..
فأعلن الإمام عليٌّ عليهالسلام إلغاء التمايز
الطبقي بكلِّ أسبابه، وعهد إلىٰ التسوية بين الناس في العطاء، فالناس عنده سواسية كأسنان المشط، وانقطعت آمال الطبقة الغنية التي لم تنظر للدنيا إلَّا في منظار مادِّي.
فقال عليه أفضل الصلاة والسلام : « ألا لا يقولنَّ
رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتَّخذوا العقار وفجَّروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتَّخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلىٰ حقوقهم التي يعلمون، فينتقمون ذلك ويستنكرون، ويقولون : حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! »
.
ولمَّا نودي لقبض الحقوق، قال الإمام
عليٌّ عليهالسلام
لعبيدالله بن أبي رافع
_______________________
ـ كاتبه ـ : « إبدأ بالمهاجرين
فناديهم، وأعطِ كلَّ رجلٍ ممَّن حضر ثلاثة دنانير، ثُمَّ ثنِّ بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن حضر من الناس كلُّهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك »!
وتخلَّف يومذاك رجال منهم : طلحة، والزبير،
وعبدالله بن عمر، وسعد بن العاص، ومروان بن الحكم، قد عزَّ عليهم أن يكونوا كغيرهم من الموالي والعبيد!
هناك خطب الإمام عليٌّ عليهالسلام مرَّةً أُخرىٰ
قال فيه : «
هذا كتاب الله بين أظهرنا، وعهد رسول الله وسيرته فينا، لا يجهل ذلك إلَّا جاهل عانَدَ عن الحقِّ، منكر، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )
» ثُمَّ صاح بأعلىٰ صوته «
( أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن
تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )! أتمنُّون علىٰ
الله ورسوله بإسلامكم؟! ( بَلِ اللَّهُ
يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )
أنا أبو الحسن، ألا إنَّ هذه الدنيا التي أصبحتم تمنُّونها وترغبون فيها، وأصبحت تُغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خُلقتم له، فلا تغرَّنكم فقد حذَّرتكموها..
فأمَّا
هذا الفيء فليس لأحدٍ علىٰ أحدٍ فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون.. وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبيِّنا بين أظهرنا، فمن لم يرضَ به فليتولَّ كيف يشاء! فإنَّ العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه »
.
_______________________
وقال عليهالسلام
: «
أتأمرونِّي أن أطلب النصر بالجور فيمن وُليِّتُ عليه! والله لاأطور به ما سَمَرَ سَميرٌ ، وما أمَّ نجمٌ في
السماء نجماً! لو كان المال لي لسوِّيت بينهم، فكيف وإنَّما المال مال الله؟! »
.
وكان ذلك أبلغ وأروع خطاب يهزُّ المشاعر،
فهنيئاً لمن عاش في ظل النبوَّة والإمامة الحقَّة!
ثُمَّ بعث أمير المؤمنين عليهالسلام إلىٰ طلحة
والزبير، يعاتبهما علىٰ ما فعلاه من الصدِّ والإكراه، فقال ـ بعدما ذكَّرهما ببيعتهما له، وهو كاره ـ : « ما دعاكما بعد إلىٰ ما أرىٰ؟ ما الذي كرهتما من أمري حتىٰ رأيتما خلافي؟!
».
قالا : أعطيناك بيعتنا، علىٰ أن
لا تقضي الأُمور ولا تقطعها دوننا، وأن تستشيرنا في كلِّ أمرٍ ولا تستبدَّ بذلك علينا.. إنَّك جعلت حقَّنا كحقِّ غيرنا ما قد علمت، فأنت تقسم القَسْم وتقطع الأمر، وتُمضي الحكم بغير مشاورتنا ولا علمنا.
فقال : « فوالله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولكنكم
دعوتموني إليها، وجعلتموني عيها فخفت أن اردّكم فتختلف الأمة، فلمّا أفضتْ إليَّ نظرتُ إلىٰ كتاب الله وسنّة رسوله فأمضيت ما دّلاني عليه واتبعته ولم احتج في ذلك إلى آرائكما فيه، ولا رأي غيركما، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولافي السنّة برهانه، واحتيج إلىٰ المشاورة فيه لشاورتكما فيه. وأما القسم
والأُسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم فيه باديء بدء، قد وجدت أنا وأنتما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
_______________________
يحكم
بذلك، ... أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلىٰ الحق وألهمنا وإياكم الصبر ».
ثم قال عليهالسلام
: «
رحم الله امرءاً رأى حقاً فأعان عليه، ورأىٰ جوراً فردّه، وكان عوناً للحق علىٰ من خالفه »
.
وكان موقف عليٌّ عليهالسلام من أمثال هؤلاء، هو
اتباع لغة القرآن الكريم وسُنَّة الرسول العظيم، عليه أفضل الصلاة وأزكىٰ السلام، فلم يبدل حكماً ويستبدل بآخر، غير الذي رآه أنَّه جادَّة الصواب المستقيمة، وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً!
هذه هي الثورة الاجتماعية التي أحدثها
الإمام عليهالسلام،
والتي كانت من أشدِّ الصعوبات التي واجهها في ذاك المجتمع الشائب بأدران الآلهة والأوثان! هذه هي التسوية بين الفقراء والمساكين والأغنياء الذين طغوا بالأموال.. وسنرىٰ قريباً نتائج هذه التسوية في خروج الناكثين والقاسطين علىٰ الخليفة الحق، تحت شعارٍ زائفٍ وحجَّةٍ داحضةٍ وهي «دم عُثمان»!
ومن مظاهر العدل والمساواة انتزاع
الأموال والثروات التي تصرَّف بها عُثمان، وكأنَّها ملكٌ له لا للمسلمين، والتي أغدقها علىٰ ذويه وخاصَّته من أزلام بني أُميَّة من هدايا ضخمة والىٰ ما شابه ذلك.
فقام الإمام عليٌّ بانتزاعها منهم، ليعيدها
إلىٰ وضعها الطبيعي، لينتفع بها الفقراء والمساكين الذين «لاكو الصخر خبزاً»! فقال عليهالسلام بهذا الموضع : «
والله لو وجدتُه قد تُزوِّج به النساءُ، ومُلِكَ به الإماءُ لرددته، فإنَّ في
العدل
_______________________
سَعَة،
ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق »
.
فما كان من بني أُميَّة، الذين هالهم
هذا العدل، إلَّا أن يحرِّض بعضهم البعض الآخر، فكتب عمرو بن العاص إلىٰ معاوية بن أبي سفيان يقول : «ما كنت صانعاً فاصنع! إذ قَشَرك ابن أبي طالب كلَّ مالٍ تملكه، كما تُقشر من العصا لحاها»!
حتىٰ تمخَّضت هذه الأحداث عن
معركتين الجمل وصفِّين، حيث لم يطيقوا عدل الإسلام الذي طبَّقه عليهم ابنُ أبي طالب عليهالسلام!
وفي أصحاب الحزبين جاء قوله عليهالسلام : « فلمَّا نهضتُ
بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرىٰ وقسط آخرون، كأنَّهم لم يسمعوا كلام الله تعالىٰ يقول : (
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي
الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ».
ثانياً
: سياسته في الحكم، حيث وضع دستوراً
إسلامياً شرعياً تسير عليه السياسة الجديدة، فخطب الملأ قائلاً :
«
قد جعل الله سبحانه لي عليكم حقاً بولاية أمركم، ولكم عليَّ من الحق مثل الذي عليكم..
جعل
سبحانه من حقوقه حقوقاً، افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها..
وأعظم
ما افترض سبحانه من تلك الحقوق : حقّ الوالي علىٰ الرعية،
_______________________
وحقُ
الرعية علىٰ الوالي، فريضةٌ فرضها الله سبحانه لكلٍّ على كلٍّ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم، وعزّاً لدينهم.
فليست
تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية، فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّىٰ الوالي إليها حقّها، عزّ
الحقّ بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلُح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء...
وإذا
غلبت الرعية واليها، وأجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور وكثُر الإدغال في الدين، وتُركتْ محاجُّ السنن، فعمل بالهوىٰ وعطّلت الأحكام وكثرت علل النفوس، فلا يستوحَش لعظيم حقٍّ عُطِّل، ولا لعظيم باطلٍ فُعل، فهنالك تذلّ الأبرار، وتعِزُّ الأشرار.
فعليكم
بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه، فليس أحد ـ وإن أشتدّ علىٰ رضى الله حرصه، وطال في العمل اجتهاده ـ ببالغ حقيقة ما الله أهلّه من الطاعة.. وليس أمرؤٌ ـ وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدّمت في الدين فضيلته ـ بفوق أن يعان على ما حمّله الله من حقّه، ولا امرؤٌ ـ وإن صغّرته النفوس واقتحمته العيون ـ بدون أن يعين علىٰ ذلك أو يعان عليه » ..
وهكذا تتكامل المسؤوليات، وتتعاضد
الأدوار، ويستوي الناس أمام
_______________________
الحق والعدل، ويأخذ
مبداً التكافل الاجتماعي طريقه إلىٰ الواقع.. إنها مباديء السياسة النموذجية التي تتوخىٰ صناعة المجتمع النموذجي.
ثالثاً : استبدال
الولاة :
انتخب الإمام عليٌّ عليهالسلام رجالاً من الذين
أُبعدوا في عهد سابقيه دون أدنىٰ سبب، جعلهم مكان الولاة الذين ضجَّت الأُمَّة من سياستهم المنحرفة، كالوليد بن أبي معيط ـ الذي سمَّاه القرآن فاسقاً ـ وعبدالله بن أبي سرح، الذي انتفضت عليه مصر، وعبدالله بن عامر، ومعاوية الرجل المتجبِّر!
وأمَّا البدائل، فهم : قيس بن سعد بن
عبادة الأنصاري، والأنصاريان الجليلان : سهل بن حنيف وعُثمان بن حنيف، بدائل عن ابن أبي سرح وابن عامر ومعاوية، علىٰ مصر والبصرة والشام .
وجعل عبيدالله بن عبَّاس علىٰ اليمن،
وقثم بن عبَّاس علىٰ مكَّة.
لكنَّ عقبة استبدال معاوية كانت هي
الأشدُّ، حيث تربَّع علىٰ العرش، يذبح شيعة الإمام عليٍّ عليهالسلام
ويستنُّ السنن لأهل الشام، الذين لا يعرفون من الإسلام إلَّا ما يعرِّفهم به معاوية، فعمل علىٰ أن لا يبقي في الشام
صحابياً، فأخرج منها أبا ذرٍّ، وعبادة بن الصامت وغيرهم، لتخلو له أرض الشام فلا يعرفوا غيره!
وجاءت وصايا الإمام عليهالسلام إلىٰ الولاة، فكتب
يقول لأحدهم : «
واعلم أنَّ الرعيَّة طبقات، لا يصلح بعضها إلَّا ببعض، ولا غنىٰ ببعضها عن بعض،
_______________________
فمنها
جنود الله، ومنها كُتَّاب العامَّة والخاصَّة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمَّال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمَّة ومسلمة الناس، ومنها التجَّار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلىٰ من ذوي الحاجة والمسكنة.
وكلٌّ
قد سمَّىٰ الله سهمه، ووضع علىٰ حدِّه فريضته في كتابه أو سُنَّة نبيِّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عهداً من عندنا
محفوظاً :
فالجنود
بإذن الله، حصون الرعيَّة، وزين الولاة، وعزُّ الدين، وسُبل الأمن، وليست تقوم الرعيَّة إلَّا بهم، ثُمَّ لا قوام للجنود إلَّا بما يُخرج الله
لهم من الخراج..
ثُمَّ
لا قِوام لهذين الصنفين إلَّا بالصنف الثالث من القضاة والعمَّال والكتَّاب، لِما يُحكِمونَ من المعاقِد، ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصِّ الأُمور وعوامِّها.
ولا
قوام لهم جميعاً إلَّا بالتجَّار وذوي الصناعات..
ثُمَّ
الطبقة السفلىٰ من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحقُّ رفدهم ومعونتهم، وفي الله لكُلّ سَعة، ولكلٍّ علىٰ الوالي حقٌّ بقدر ما يُصلحه.. »
.
بلا شكٍّ لو أنَّ الإمام عليهالسلام قد تولَّىٰ خلافة
المسلمين بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
مباشرة؛ لظهر الإسلام للعالم بوجهه الصحيح، ولم تكن أُمور الغدر والجور والتزوير والفتن، وإلىٰ ما شابه ذلك من الأُمور التي نعيشها اليوم، وتعيش فينا إلىٰ آخر يوم..
_______________________
فقد ترك «الحكَّام» غير الشرعيين صوراً
تحفل بالآلام والمخازي، شوَّهت الإسلام في أذهان الذين لا يعرفون عنه شيئاً إلَّا اسمه.. لكن الذي وقع هو أنَّ خلافة الإمام عليهالسلام
قصيرة جدَّاً، بسبب تلك الأُمور التي أحاطت به، ولم تترك له مجال يمكِّنه من الإصلاح الشامل، وبناء دولة إسلامية ذات أُسس رصينة، كما أراد ذلك الله ورسوله..
لم يكن الإمام عليَّاً عليهالسلام طالب ملك.. فهو لا
يرىٰ السلطة إلَّا وسيلةً للحقِّ والعدالة.. لذلك نراه يصرُّ علىٰ عزل معاوية؛ لأنَّ إبقاءه ولو يوم واحد يعني إقرار الظلم والجور، وأجاب من أشار عليه بترك معاوية وشأنه بقوله : ( وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُدًا )!
فهو لا يرىٰ معاوية إلَّا ضالَّاً مضلَّاً، لذلك كرَّس كلَّ قوَّاته لاجتياح الظلم من أرض الشام، كما أجتاحها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
من أرض الحجاز!
وقال الأستاذ عبدالفتاح، حول سياسة
عليٍّ عليهالسلام
من أنصار عُثمان وولاته : «إنَّ الناظر إلىٰ سياسة عليٍّ عليهالسلام
حيال ولاة عُثمان، ليعلم مدىٰ صوابه حين أبىٰ إلَّا خلعهم وتولية سواهم، ممَّن يؤمنون بمبادئه ومثله، ويعلم أيضاً أنَّه كان نافذ البصيرة مؤمناً باستجابة البلاد كلِّها له، لأنَّه لم يعمل إلَّا ما أملاه عليه شعور أهل الأمصار نحو أولئك الولاة، وها هو الزمن قد أثبت فراسته فجاءته الطاعة من كلِّ الأقاليم.
أمَّا الشام فلها وحدها شأن تنفرد به في
قبضة رجل مفتون بالسلطان إقراره عليها وعدم إقراره سواء بسواء لن يسفر إلَّا عن تمرُّد؛ لأنَّه لا يرضىٰ
بغير احتلاب السلطان الذي وقع في كفِّ غريمه القديم».
ومضىٰ يقول : «ولعلَّه لو أثبته
الإمام في حكم الشام، لوسعه أن يبدو
في أنظار الجماهير
أقوىٰ منه في حال العزل، لأنَّه لا يستطيع أن يقول للناس : إنَّه يأبىٰ البيعة لمن ولَّاه، ولا يعتبرها إلَّا ثمناً يشتري أمير
المؤمنين صمته عن اتهامه بمقتل عُثمان» .
الفصل
الثاني : مسير الإمام إلىٰ البصرة ووقعة الجمل :
بينما كان الإمام عليٌّ يجهِّز جيشاً إلىٰ
الشام بقيادته ؛ لكسح معاوية وبطانته الفاسدة، أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مكَّة بما عزموا عليه، فاستعدَّ لحرب الناكثين «وسار عليٌّ من المدينة في تعبئته التي تعبَّاها لأهل الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ستٍّ وثلاثين» .
رسم الإمام في سياسته الجديدة خطوط
الحكم العريضة، وكان وسامها : «لا فضل لعربي علىٰ أعجمي»، أثارت هذه السياسة غضب المتمرِّدين علىٰ الحكم، وكان منهم ما كان من الخروج عليه، فلمَّا أدرك طلحة والزبير برفض الإمام أن يجعل لهما ميزة علىٰ غيرهما، فلا ينالان إلَّا ما ينال المسكين والفقير بعطاء متساوٍ..
بعد أن أدركا كلَّ هذا سكتا علىٰ مضضٍ،
وأخذا يعملان للثورة ضدَّه، ضدَّ الحكم الجديد، فانضمَّا إلىٰ الحزب الأُموي..
لقد كان قرار التسوية «هو السبب الخفي
والحقيقي لخروج من خرج علىٰ عليٍّ، ولنكوث من نكث بيعته، وإن توارىٰ ذلك تحت دعوىٰ مفتعلة
اسمها دم عُثمان» !
_______________________
واستغلَّ هذا الجانب سخط عائشة علىٰ
الإمام عليٍّ عليهالسلام
ومواقفها العدائية منه.. فلمَّا كانت بمكَّة، وقد خرجت إليها قبل أن يُقتل عُثمان، فلمَّا كانت في بعض طريقها راجعةً إلىٰ المدينة لقيها ابن أمِّ كلاب، فقالت له : ما
فعل عُثمان؟
قال : قُتل!
قالت : بُعداً وسحقاً، فمن بايع الناس؟
قال : طلحة.
قالت : إيهاً ذو الإصبع.
ثمَّ لقيها آخر، فقالت : ما فعل الناس؟
قال : بايعوا عليَّاً.
قالت : والله ما كنت أُبالي أن تقع هذه
علىٰ هذه، ثُمَّ رجعت إلىٰ مكَّة .
فانصرفت إلىٰ مكَّة وهي تقول :
قُتل والله عُثمان مظلوماً، والله لأطلبنَّ بدمه!
قيل لها : ولِمَ؟ والله إنَّ أوَّل من
أمال حَرْفَه لأنتِ، ولقد كنتِ تقولين : اقتلوا نعثلاً فقد كفر.
قالت : إنَّهم استتابوه، ثُمَّ قتلوه، وقد
قلتُ وقالوا، وقولي الأخير خيرٌ من قولي الأوَّل.
فقال لها ابن أمِّ كلاب :
_______________________
فمنكِ البداءُ ومنكِ الغِيرْ
|
|
ومنكِ الرياحُ ومنكِ المطرْ
|
وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام
|
|
وقلتِ لنا : إنَّه قد كفرْ
|
فَهَبْنا أطعناك في قتلِه
|
|
وقاتِلُه عندنا مَنْ أمرْ
|
ولم يسقطِ السقفُ من فوقنا
|
|
ولم ينكسف شمسنا والقمرْ
|
وقد بايع الناس ذا تُدرءٍ
|
|
يزيلُ الشبا ويُقيم الصعرْ
|
ويلبسُ للحربِ أثوابها
|
|
وما مَنْ وفىٰ مثلُ من قد غدرْ
|
وقبل أن يخرج موكب عائشة ويدلو بدلوه، كان
الإمام عليهالسلام
يقول : «
أمرتُ بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين »
، فما مضت الأيَّام
حتىٰ قاتلهم، وهذه من جملة الآيات الدالَّة عليه، وقوله عليهالسلام
لطلحة والزبير لمَّا استأذناه في الخروج إلىٰ العمرة، قال : « والله والله ما تريدان العمرة وإنَّما
تريدان البصرة » !
وكان من نتائج هذا التمرُّد ـ كما سنأتي
عليه ـ معركة البصرة، أوَّل نكث لبيعة الإمام عليهالسلام
التي انتهت بفشل موكب عائشة وقتل طلحة والزبير وعشرات الألوف من المسلمين!
تهيَّأت عائشة للخروج إلىٰ البصرة،
وأتت أُمُّ سلمة فكلَّمتها في الخروج معهم، فردَّت عليها أُمُّ سلمة قائلةً :
أفأُذكِّرك؟
_______________________
قالت : نعم.
قالت أُمُّ سلمة : أتذكرين إذ أقبل رسول
الله ونحن معه، فخلا بعليٍّ يناجيه، فأطال فأردتِ أن تهجمي عليهما، فنهيتك فعصيتيني، فهجمتِ عليهما، فما لبثت أن رجعتِ باكية، فقلتُ : ما شأنك؟ فقلت : إنِّي هجمت عليهما وهما يتناجيان، فقلتُ لعليٍّ : ليس لي من رسول الله إلَّا يوم من تسعة أيَّام، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي! فأقبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليَّ وهو غضبان محمرُّ الوجه، فقال : «
ارجعي وراءك، والله لا يبغضه أحد من أهل بيتي ولا من غيرهم من الناس إلَّا وهو خارج من الإيمان »؟
قالت عائشة : نعم أذكر .
لكن لم يردعها كلام ولا رادع، فلم تنثنِ
عن عزمها، ولم ترجع إلىٰ عقلها، فتجهَّزت ومن معها إلىٰ البصرة لتؤلِّب الناس علىٰ الإمام
عليٍّ عليهالسلام
فكانت أحداث معركة الجمل.
تحرَّك موكب الناكثين بقيادة عائشة
وطلحة والزبير نحو البصرة، وقد حفَّ به الحاقدون علىٰ الإمام عليٍّ عليهالسلام
تحت شعار : «الثأر لعثمان»، فلمَّا بلغوا «ذات عرق» لقيهم سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وأصحابه، فقال لهم : أين تذهبون وتتركون ثأركم علىٰ أعجاز الإبل وراءكم؟ ـ يعني عائشة وطلحة والزبير ـ اقتلوهم ثُمَّ ارجعوا إلىٰ منازلكم.
_______________________
فقالوا : نسير لعلَّنا نقتل قتلة عُثمان
جميعاً .
ومرَّ القوم ليلاً بماء يُقال له :
الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة : ما هذا الماء؟
قال بعضهم : ماء الحوأب.
فقالت : إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، هذا
الماء الذي قال لي رسول الله : «
لا تكوني التي تنبحكِ كلاب الحوأب ».
ثمَّ صرخت بهم : ردُّوني ردُّوني!!
فأتاها القوم بأربعين رجلاً، فأقسموا
بالله أنَّه ليس بماء الحوأب! وأتىٰ عبدالله بن الزبير، فحلف لها بالله لقد خلَّفتهِ أوَّل الليل، وأتاها ببيِّنة زور من الأعراب فشهدوا بذلك .
فكان ذلك أوَّل شهادة زور أُقيمت في الإسلام.
وبلغوا البصرة، وعامل الإمام عليها
الصحابي عُثمان بن حُنيف الأنصاري، فمنعهم من الدخول، وقاتلهم، ثُمَّ توادعوا ألَّا يحدثوا حدثاً حتىٰ
يقدم عليٌّ عليهالسلام،
ثُمَّ كانت ليلة ذات ريح وظلمة، فأقبل أصحاب طلحة فقتلوا حرس عُثمان بن حنيف، ودخلوا عليه، فنتفوا لحيته وجفون عينيه ومثَّلوا به، وقالوا : لولا العهد لقتلناك، وأخذوا بيت المال .
_______________________
وأمّا الإمام علي فلما بلغه نبأ مسيرهم
إلىٰ البصرة، حمد الله وأثنىٰ عليه، ثُمَّ قال : «
قد سارت عائشة وطلحة والزبير، كلُّ واحدٍ منهما يدَّعي الخلافة دون صاحبه، فلا يدَّعي طلحة الخلافة إلَّا أنَّه ابن عمِّ عائشة، ولا يدَّعيها الزبير إلَّا أنَّه صهر أبيها. والله لئن ظفرا بما يريدان ليضربنَّ
الزبير عنق طلحة، وليضربنَّ طلحة عنق الزبير، يُنازع هذا علىٰ الملك هذا.
وقد
ـ والله ـ علمتُ أنَّها الراكبة الجمل، لا تحلُّ عقدةً ولا تسيرُ عقبةً، ولا تنزلُ منزلاً إلَّا إلىٰ معصيةٍ، حتىٰ تورد نفسها ومن معها مورداً،
يُقتل ثلثهم ويهرب ثلثهم ويرجعُ ثلثهم.
والله
إنَّ طلحة والزبير ليعلمان أنَّهما مُخطئان وما يحملان، ولربَّما عالم قتله جهلُهُ وعلمه معه لا ينفعه. والله لينبحها كلاب الحوأب، فهل يعتبر معتبرٌ أو يتفكَّر متفكِّرٌ »!
ثمَّ قال : « قد قامت الفئة
الباغية فأين المحسنون »؟
ثمَّ دعا علىٰ طلحة والزبير أمام
مسلمي الكوفة، فقال : «
قد علمتم ـ معاشر المسلمين ـ أنَّ طلحة والزبير بايعاني طائعين راغبين، ثُمَّ استأذناني في العمرة فأذنتُ لهما، فسارا إلىٰ البصرة فقتلا المسلمين وفعلا المنكر.
اللَّهمَّ
إنَّهما قطعاني وظلماني ونكثا بيعتي وألَّبا الناس عليَّ، فاحلُل ماعقدا، ولا تُحكمْ ما أبرما، وأرهما المساءة فيما عملا »
.
_______________________
معركة الجمل :
سُمِّيت بذلك لأنَّ «قائدة الجيش»
فضَّلت ركوب الجمل علىٰ البغال والحمير، وكانت الواقعة في ٤ كانون الأوَّل سنة ٦٤٦م ،
يوم الخميس لعشر خلون من جمادىٰ الآخرة سنة ٣٦هـ .
وكانت الوقعة خارج البصرة، عند قصر
عبيدالله بن زياد
وكان عسكر الإمام عشرين ألفاً، وعسكر عائشة ثلاثين ألفاً .
ولمَّا التقىٰ الجمعان قال الإمام
لأصحابه : «
لا تبدأوا القوم بقتال، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا علىٰ جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتَّبعوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثِّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلىٰ رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً.. ولا تهيجوا امرأةً بأذىٰ وإن شتمن أعراضكم، وسَبَبنَ أمراءكم وصلحاءكم »
.
وقيل : إنَّ أوَّل قتيل كان يومئذٍ مسلم
الجُهني، أمره عليٌّ عليهالسلام
فحمل مصحفاً، فطاف به علىٰ القوم يدعوهم إلىٰ كتاب الله، فقُتل .
ثمَّ أخذ أصحاب الجمل يرمون عسكر الإمام
بالنبال، حتىٰ قُتل منهم جماعة، فقال أصحاب الإمام : عقرتنا سهامهم، وهذه القتلىٰ بين يديك..
_______________________
عند ذلك استرجع الإمام
وقال : «
اللَّهمَّ اشهد »، ثُمَّ لبس درع رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وتقلَّد سيفه ورفع راية رسول الله السوداء المسمَّاة بالعقاب؛ فدفعها إلىٰ ولده محمَّد بن الحنفية.
وتقابل الفريقان للقتال، فخرج الزبير، وخرج
طلحة بين الصفَّين، فخرج إليهما عليٌّ، حتىٰ اختلفت أعناق دوابِّهم، فقال عليٌّ عليهالسلام : « لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتَّقيا الله، ولا تكونا ( كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) .
ألم
أكن أخاكما في دينكما، تُحرِّمان دمي، وأُحرِّم دمكما، فهل من حدثٍ أحلَّ لكما دمي »؟!
قال طلحة : ألَّبت علىٰ عُثمان.
قال عليٌّ : « (
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ )،
يا طلحة، تطلب بدم عُثمان؟! فلعن الله قتلة عُثمان، يا طلحة، أجئت بِعرس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم تقاتل بها، وخبَّأتَ عرسك في البيت! أما بايعتني؟! ».
قال : بايعتك والسيف علىٰ عنقي!
فقال عليٌّ عليهالسلام للزبير : « يا زبير، ما أخرجك؟
قد كنَّا نعدُّك من بني عبدالمطَّلب حتىٰ بلغ ابنك ابن السوء ، ففرَّق بيننا »
وذكَّره أشياء، فقال : «
أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في بني غنم، فنظر
إليَّ، فضحك، وضحكت إليه، فقلتَ له : لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك : ليس به
_______________________
زهوٌ،
لتقاتلنَّه وأنت ظالم له؟ ».
قال : اللَّهمَّ نعم، ولو ذكرت ما سرتُ
مسيري هذا، والله لا أُقاتلك أبداً.
فانصرف الزبير إلىٰ عائشة، فقال
لها : ما كنتُ في موطن منذ عقلت إلَّا وأنا أعرف فيه أمري، غير موطني هذا.
قالت : فما تريد أن تصنع؟
قال : أُريد أن أدعهم وأذهب.
قال له ابنه عبدالله : جمعت بين هذين
الغارين، حتىٰ إذا حدَّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب؟! لكنَّك خشيت رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنَّها تحملها فتيةٌ أنجاد، وأنَّ تحتها الموت الأحمر، فجبنت!
فاحفظه ـ أي : أغضبه ـ ذلك، وقال :
إنِّي حلفتُ ألَّا أُقاتله.
قال : كفِّر عن يمينك، وقاتله.
فأعتق غلامه (مكحولاً)، وقيل : سرجيس.
فقال عبدالرحمن بن سلمان التميميُّ :
لم أرَ كاليوم أخا إخوانِ
|
|
أعْجَبَ من مُكَفِّرِ الأَيمانِ
|
|
بالعتق في معصية الرحمٰن
|
|
|
|
|
|
|
وقيل : إنَّه عاد ولم يقاتل الإمام عليهالسلام .
واحتدمت المعركة بين الفريقين، وتقاتلوا
قتالاً لم يشهد تاريخ البصرة
_______________________
أشدَّ منه، ثُمَّ
إنَّ مروان بن الحكم رمىٰ طلحة بسهمٍ وهو يقاتل معه ضدَّ عليٍّ عليهالسلام!
يرميه فيرديه ويقول : لا أطلب بثأري بعد اليوم .
واستمرَّ الحال في أشدِّ صراعٍ، لم يرَ
سوىٰ الغبرة وتناثر الرؤوس والأيدي، فتتهاوىٰ أجساد المسلمين علىٰ الأرض.
ولمَّا رأىٰ الإمام هذا الموقف
الرهيب من كلا الطرفين، وعلم أنَّ المعركة لا تنتهي أبداً مادام الجمل واقفاً علىٰ قوائمه قال : « إرشقوا الجمل
بالنبل، واعقروه وإلَّا فنيت العرب، ولايزال السيف قائماً حتىٰ يهوي هذا البعير إلىٰ
الأرض ». فقطعوا قوائمه، ثُمَّ ضربوا عجز الجمل
بالسيف، فهوىٰ إلىٰ الأرض وعجَّ عجيجاً لم يُسمع بأشدِّ منه. فتفرَّق من كان حوله كالجراد المبثوث، وبقيت قائدة المعركة لوحدها في ميدان الحرب! وانتهت المعركة بهزيمة المتمرِّدين من أصحاب الجمل.
أمَّا الإمام عليهالسلام فقد هاله موقف
المسلمين منه، حتىٰ ساقهم هذا العصيان والتمرُّد علىٰ الحقِّ إلىٰ مثل هذا المصير، فوقف بين قتلاه وقتلىٰ
المتمرِّدين، تحيط به هالة القلق والتمزُّق فقال : « هذه قريشٌ، جَدَعْتُ أنفي وشفيتُ نفسي، لقد تقدَّمت إليكم أُحذِّركم عضَّ السيوف، وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون، ولكنَّه الحَين ، وسوء المصرع، فأعوذ
بالله من سوء المصرع » .
ثمَّ أمر عليٌّ عليهالسلام نفراً أن يحملوا
هودج عائشة من بين القتلىٰ، وأمر
_______________________
أخاها محمَّد بن أبي
بكر أن يضرب عليها قُبَّةً، وقال : « انظر هل وصل إليها شيء من جراحة »؟ فأدخل رأسه في
هودجها، فقالت : من أنت؟ قال : أبغض أهلك إليك. قالت : ابن الخثعمية؟ قال : نعم. قالت : يا بأبي، الحمد لله الذي عافاك !
فلمَّا كان الليل أدخلها أخوها محمَّد
بن أبي بكر البصرة، في دار صفية بنت الحارث، ثمَّ دخل الإمام عليهالسلام
البصرة فبايعه أهلها علىٰ راياتهم حتىٰ الجرحىٰ والمستأمنة..
ثمَّ جهَّز عليٌّ عليهالسلام عائشة بكلِّ ما
ينبغي لها من مركبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلك، وبعث معها كلَّ من نجا، ممَّن خرج معها، إلَّا من أحبَّ المقام، واختار لها أربعين امرأةً من نساء البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمَّد بن أبي بكر .
وقيل : إنَّه لمَّا أُخذ مروان بن الحكم
أسيراً يوم الجمل، فتكلَّم فيه الحسن والحسين عليهماالسلام
فخلَّىٰ سبيله فقالا له : «
يبايعك، يا أمير المؤمنين؟ »
فقال : «
ألم يبايعني بعد قتل عُثمان، لا حاجة لي في بيعته، أما إنَّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقىٰ الأُمَّة منه ومن ولده موتاً أحمر ». فكان كما قال عليهالسلام .
ورُبَّ سائل يسأل : ما هي الآثار التي
تركتها فتنة الجمل؟
فيُجيب الأستاذ محمَّد جواد مغنية بقوله
: «لولا حرب الجمل لما كانت
_______________________
حرب صفِّين والنهروان،
ولا مذبحة كربلاء، ووقعة الحرّة، ولا رُميت الكعبة المكرَّمة بالمنجنيق أكثر من مرَّة، ولا كانت الحرب بين الزبيريِّين والأُمويِّين، ولا بين الأُمويِّين والعباسيِّين، ولما افترق المسلمون إلىٰ سُنَّة
وشيعة، ولما وجد بينهم جواسيس وعملاء يعملون علىٰ التفريق والشتات، ولما صارت الخلافة الإسلامية ملكاً يتوارثها الصبيان، ويتلاعب بها الخدم والنسوان.
لقد جمعت حرب الجمل جميع الرذائل
والنقائص، لأنَّها السبب لضعف المسلمين وإذلالهم، واستعبادهم وغصب بلادهم، فلقد كانت أوَّل فتنةٍ ألقت بأس المسلمين بينهم، يقتل بعضهم بعضاً، بعد أن كانوا قوَّةً علىٰ أعدائهم، كما فسحت المجال لما تلاها من الفتن والحروب الداخلية التي أودت بكيان المسلمين ووحدتهم، ومهَّدت لحكم الترك والديلم والصليبيِّين وغيرهم. وباختصار لولا فتنة الجمل لاجتمع أهل الأرض علىٰ الإسلام، لأنَّ رحمته تشمل الناس أجمعين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )
وقال النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «
إنَّما أنا رحمة مهداة »
» .
عليٌّ في طريقه إلىٰ الشام، وحرب صفِّين
:
لمَّا انتهت فتنة الجمل استعدَّ الإمام
إلىٰ حرب معاوية، فوجد حماساً وتجاوباً من أهل الكوفة، فقد كان قسم كبير منهم قد اشتركوا معه في معركة الجمل، وهم الآن يريدون أن يضيفوا نصراً جديدا للإسلام.
ثمَّ إنَّ الإمام وقبل حرب صفِّين قد
أرسل إلىٰ معاوية السفراء والكتب
_______________________
يدعوه إلىٰ الطاعة
والدخول فيما دخل المسلمون من قبله، لكنَّه لم يستجب لطلبه، بل أظهر الشدَّة والصلافة في ردِّه علىٰ رسائل الإمام، واختار القتال
علىٰ الصلح والمسالمة.
في هذه الأثناء تجهَّز معاوية بجيشٍ
ضخمٍ واتَّجه به صوب العراق، ولمَّا بلغ أمير المؤمنين خبره جهَّز جيشه، واتَّجه نحو الزحف، ليقطع عليهم الدخول إلىٰ أرض العراق، لما في ذلك من قتل ونهب وفساد كبير.. فكان من ذلك حرب صفِّين، وبالشعار السابق نفسه : « دم عُثمان »!
فتمرَّدوا وأعدُّوا العدَّة لمحاربة
إمام المتَّقين.. فهم لم يخرجوا في طلب الثأر لعثمان، بل كان خروجهم ضدَّ الإمام، وضدَّ الإسلام كلِّه، والثأر لأنفسهم، ونرىٰ ذلك واضحاً من كلام ابن العاص مع معاوية علىٰ الشعار المزيَّف، حيث قال عمرو بن العاص لمعاوية :
واسوأتاه! إنَّ أحقَّ الناس ألَّا يذكر
عُثمان لا أنا ولا أنت!
قال معاوية : ولِمَ ويحك؟!
قال : أمَّا أنت فخذلته ومعك أهل الشام!
وأمَّا أنا فتركته عياناً وهربتُ إلىٰ فلسطين!
وقال له : أما والله، إن قاتلنا معك
نطلب دم الخليفة، إنَّ في النفس ما فيها، حيث نقاتل مَنْ تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنَّنا أردنا هذه الدنيا !!
فأيُّ مكرٍ هذا الذي رأيناه من كلامهما؟!
علىٰ مثل ذلك أعدُّوا العدَّة
_______________________
لمحاربة الخليفة
الجديد، فهؤلاء هم القاسطون الذين كرهوا خلافة الإمام عليٍّ عليهالسلام.
ووصل الإمام إلىٰ صفِّين في ذي
القعدة، وابتدأت الحرب في أوَّل ذي الحجَّة سنة ٣٦هـ، وحصلت الهدنة في المحرم سنة ٣٧ هـ، واستؤنف القتال في أوَّل صفر، وانتهىٰ في ١٣ منه ،
وعسكر الإمام بالنُخيلة، وعقد لواءه لغلامه قنبر.
ونزل معاوية بمن معه في وادي صفِّين، وأخذ
شريعة الفرات، وجعلها في حيِّزه، وبعث عليها أبا الأعور السُّلمي يحميها ويمنعها.. وبعث أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان إلىٰ معاوية، يسأله أن يخلِّي بين الناس والماء، فقال معاوية لأصحابه : ما ترون؟ فبعضهم قال : امنعهم الماء، كما منعوه ابن عفَّان، اقتلهم عطشاً قتلهم الله، لكنَّ عمرو بن العاص حاول أن يقنع معاوية بأن يخلِّي بين القوم وبين الماء، فرجع صعصعة فأخبره بما كان، وأنَّ معاوية قال : سيأتيكم رأيي، فسرَّب الخيل إلىٰ أبي الأعور ليمنعهم الماء.
ولمَّا سمع عليٌّ عليهالسلام ذلك قال : « قاتلوهم علىٰ
الماء »، فأرسل كتائب من عسكره، فتقاتلوا واشتدَّ القتال، واستبسل أصحاب الإمام أشدَّ استبسالٍ، حتىٰ خلَّوا بينهم وبين الماء، وصار في أيدي أصحاب عليٍّ عليهالسلام.
فقالوا : والله لا نسقيه أهل الشام!
فأرسل عليٌّ عليهالسلام إلىٰ أصحابه
أن : «
خذوا من الماء حاجتكم وخلُّوا عنهم، فإنَّ الله نصركم بغيِّهم وظلمهم »
.
_______________________
بهذا الخُلق الكريم عامل أمير المؤمنين عليهالسلام أشدَّ مناوئيه..
ثمّ دعا عليّ عليهالسلام جماعة من قادة جنده،
فقال لهم : «
ائتوا هذا الرجل وادعوه إلىٰ الله والىٰ الطاعة والجماعة ».
ففعلوا ما أمرهم به، لكنَّ معاوية قال
لهم بعد أن سمع كلامهم : انصرفوا من عندي، فليس بيني وبينكم إلَّا السيف، وغضب القوم، وخرجوا، فأتوا عليَّاً عليهالسلام
فأخبروه بذلك..
واحتدم القتال بين الطرفين، فاقتتلوا
يومهم كلَّه قتالاً شديداً لم يشهد له تاريخ الحروب مثيلاً، ثُمَّ تقدَّم الإمام عليٌّ عليهالسلام
بمن معه يتقدَّمهم عمَّار بن ياسر، ولمَّا برز لعمر بن العاص قال عمَّار : «لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ثلاث مرّات، وهذه الرابعة ما هي بأبرَّ وأنقىٰ»
يعني : راية معاوية.
وقال حبَّة بن جُوَين العُرَني : قلتُ
لحذيفة بن اليمان : حدِّثنا فإنَّا نخاف الفتن.
فقال : عليكم بالفئة التي فيها ابن
سُميَّة، فإنَّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
قال : «
تقتله الفئة الباغية الناكبة (الناكثة) عن الطريق، وإنَّ آخر رزقه ضَياح من لبن »، وهو الممزوج بالماء من اللبن، قال
حبَّة : فشهدته يوم قُتل وهو يقول : ائتوني بآخر رزقٍ لي في الدنيا، فأُتي بضياحٍ من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء ـ فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة ـ فقال :
اليوم ألقىٰ الأحبَّة
|
|
محمَّداً وحزبه
|
_______________________
والله لو ضربونا حتىٰ يبلغوا بنا
سعفات هجر؛ لعلمت أنَّنا علىٰ الحقِّ وأنَّهم علىٰ الباطل، ثم قُتل
رضي الله عنه وأرضاه..
وقد تضعضع الكثيرون من أتباع ابن أبي
سفيان لموقف عمَّار، لأنَّ مقولة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
فيه لم تكن خافيةً علىٰ أحدٍ من الناس : « فطوبىٰ لعمَّار تقتله الفئة الباغية، عمَّار مع الحقِّ يدور معه كيفما دار »
وهذا كلُّه من دلائل نبوَّة محمَّدٍ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وكان ذو الكلاع قد سمع عمرو بن العاص
يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعمَّار بن ياسر : «
تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربةٍ تشربها ضَياح من لبن »،
فكان ذو الكلاع يقول لعمرو : ما هذا ويحك يا عمرو؟ فيقول عمرو : إنَّه سيرجع إلينا.
فقُتل ذو الكلاع قبل عمَّار مع معاوية، وأُصيب
عمَّار بعده مع عليٍّ عليهالسلام.
فقال عمرو لمعاوية : ما أدري بقتل
أيُّهما أنا أشدُّ فرحاً، بقتل عمَّار أو بقتل ذي الكلاع؟ والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمَّار لمال بعامَّة أهل الشام إلىٰ عليٍّ ،
فأشرق وجه معاوية لذلك!
ولمَّا قُتل عمَّار، قال عليٌّ لربيعة
وهمدان : «
أنتم درعي ورمحي » فانتدب له نحو من اثني عشر عليهالسلام
وتقدَّمهم عليٌّ علىٰ بغلة، فحملوا معه حملة رجلٍ واحدٍ، فلم يبقَ لأهل الشام صفٌّ إلَّا انتقض، وقتلوا كلَّ من انتهوا إليه.. حتىٰ رأوا الظفر.
_______________________
واستمرَّ القتال ليلةً كاملة حتىٰ
الصباح. فتطاعنوا حتىٰ تقصَّفت الرماح، وتراموا حتىٰ نفد النبل، وكان الأشتر في الميمنة وابن عبَّاس في الميسرة وعليٌّ عليهالسلام
في القلب، والناس يقتتلون من كلِّ جانبٍ، حتىٰ أصبحوا والمعركة خلف أظهرهم.
رفع المصاحف.. «كلمة
حقٍّ يُراد بها باطل» :
لمَّا رأىٰ عمرو أنَّ أمر أهل
العراق قد اشتدَّ وخاف الهلاك، قال لمعاوية : هل لك في أمرٍ أعرضه عليك، لا يزيدنا إلَّا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلَّا فرقةً؟
قال : نعم.
قال : نرفع المصاحف، ثُمَّ نقول : هذا
حكم بيننا وبينكم.
فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا
كتاب الله عزَّ وجلَّ بيننا وبينكم، مَنْ لثغور الشام بعد أهله؟ مَنْ لثغور العراق بعد أهله؟
فلمَّا رآها الناس قالوا : نجيب إلىٰ
كتاب الله.
فقال لهم عليٌّ عليهالسلام : « عباد الله امضوا علىٰ
حقِّكم وصدقكم وقتال عدوِّكم، فإنَّ معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحَّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرَف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثُمَّ رجالاً، فكانوا شرَّ أطفال وشرَّ رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلَّا خديعةً ووهناً ومكيدة ».
فقالوا له : لا يسعنا أن نُدعىٰ إلىٰ
كتاب الله فنأبىٰ أن نقبله!
فقال لهم عليٌّ عليهالسلام : « فإنِّي إنَّما
أُقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب، فإنَّهم قد عصو الله فيما أمره ونسوا عهده ونبذوا كتابه ».
فقال له جماعة من المسلمين، الذين صاروا
خوارج بعد ذلك : يا عليُّ، أجب إلىٰ كتاب الله عزَّ وجلَّ إذا دُعيت إليه، وإلَّا دفعناك برمَّتك إلىٰ
القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفَّان!
قال : « فاحفظوا عنِّي نهيي إيَّاكم، واحفظوا
مقالتكم لي، فإن تطيعوا فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم »
.
لم تكن بينهم وبين معاوية إلَّا بضعة
أمتار، فلولا وقوع هؤلاء في الفخ الذي نصبه معاوية لاستطاع الإمام عليهالسلام
أن يسيطر علىٰ الموقف ويستأصل رأس الفتن، ولكنَّ مسألة التحكيم غيَّرت مجرىٰ الأُمور إلىٰ أسوأ حال،
فحالت دون تحقيق الهدف المنشود، وقُدِّر لهذه المؤامرة أن تنجح وأن تجرَّ وراءها المصائب والويلات!
ثمَّ قالوا للإمام : ابعث إلىٰ الأشتر
فليأتكَ، فرجع الأشتر مغضباً بعدما أوشك علىٰ النصر، فأقبل إليهم الأشتر، وقال : يا أهل العراق! يا أهل الذلِّ والوهن! أحين علوتم القومَ وظنُّوا أنَّكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلىٰ ما فيها، وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسُنَّة مَنْ
أُنزلت عليه؟ فأمهلوني فواقاً، فإنِّي قد أحسستُ الفتح .
لكنَّهم أبوا إلَّا التحكيم!
وجعل أهل الشام عمرو بن العاص علىٰ
التحكيم، وأراد الإمام عليهالسلام
أن يجعل عبدالله بن عبَّاس، لكنَّهم أبوا إلَّا أبا موسىٰ الأشعري، ولمَّا رأىٰ
أنه لا تنفع معهم حجَّة حكَّمه علىٰ مضض!
_______________________
وحضر عمرو بن العاص عند عليٍّ عليهالسلام ليكتب القضية بحضوره،
فكتبوا :
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضا
عليه أمير المؤمنين، فقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وأمَّا أميرنا فلا. فقال الأحنف : لا تمحُ اسم إمارة أمير المؤمنين، فإنِّي أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليه أبداً، فلا تمحُها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً، فأبىٰ ذلك عليٌّ عليهالسلام ملياً من النهار.
ثُمَّ إنَّ الأشعث بن قيس قال : امحُ
هذا الاسم، فمُحي، فقال عليٌّ : «
الله أكبر! سُنَّة بسُنَّة، والله إنِّي لكاتب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم، يوم الحديبية فكتبتُ : محمَّد رسول الله، وقالوا : لستَ برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بمحوه، فقلتُ : لا
أستطيع، فقال : أرنيه، فأريته، فمحاها بيده، وقال : إنَّك ستُدعىٰ إلىٰ مثلها فتجيب ».
فقال عمرو : سبحان الله! أتشبِّهنا
بالكفَّار ونحن مؤمنون!
فقال عليٌّ عليهالسلام : « يا ابن النابغة، ومتىٰ
لم تكن للفاسقين ولياً، وللمؤمنين عدوّاً؟ »
فقال عمرو : والله، لا يجمع بيني وبينك
مجلس بعد هذا اليوم أبداً.
فقال عليٌّ عليهالسلام : « إنِّي لأرجو أن
يطهِّر الله مجلسي منك ومن أشباهك » ..
وتمّت كتابة الكتاب بجعل كتاب الله
الحاكم في كلِّ الأُمور، وما لم يجد في كتاب الله فالسُنَّة العادلة الجامعة غير المفرِّقة.. واُجِّل القضاء إلىٰ
رمضان.
_______________________
ولمَّا انتهت مسألة التحكيم، قال نفرٌ
من أصحاب الإمام : كيف تُحكِّمون الرجال في دين الله؟! لا حكم إلَّا لله، وكانوا يعترضون الإمام في خطبته بشعارهم «لا حكم إلَّا لله» لذلك سُمُّوا بالمحكِّمة. فكانوا ما يقارب اثني عشر ألفاً.. فنزلوا في ناحية يُقال لها : «حروراء» لأجلها سُمُّوا بالحرورية..
فحاججهم الإمام عليهالسلام بقوله الأوَّل قبل
التحكيم، ثُمَّ قال لهم : «
قد اشترطتُ علىٰ الحكمين أن يُحييا ما أحيا القرآن، ويُميتا ما أمات القرآن، فإن
حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن عن حكمهما براء ».
قالوا : أتراه عدلاً تحكيم الرجال في
الدماء؟
قال : « إنَّا لسنا حكَّمنا الرجال، إنَّما
حكَّمنا القرآن، وهذا القرآن إنَّما هو خطٌّ مسطور بين دفَّتين لا ينطق، إنَّما يتكلَّم به الرجال »
ثمَّ رجعوا مع الإمام عليهالسلام.
فلمَّا التقىٰ الحكمان : أبو موسىٰ
الأشعري وعمرو بن العاص، وخُدِع أبو موسىٰ؛ إذ مكر به عمرو، قال له : أنت صاحب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وأسنُّ منِّي فتكلَّم، وأراد عمرو بذلك كلِّه أن يقدِّمه في خلع عليٍّ، قال له : نخلع عليَّاً ومعاوية معاً، ونجعل الأمر شورىٰ، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبُّوا.
فتقدَّم أبو موسىٰ فأعلن علىٰ
الملأ الحاضرين أنَّه قد خلع عليَّاً من الخلافة ثُمَّ تنحَّىٰ. وأقبل عمرو فقام، وقال : إنَّ هذا قد قال ما سمعتموه
_______________________
وخلع صاحبه، وأنا
أخلع صاحبه كما خلعه، وأُثبت صاحبي معاوية!
فدُهش أبو موسىٰ وشتم عمرو وشتمه عمرو، وانفضَّ التحكيم عن هذه النتيجة!
والتمس المسلمون أبا موسىٰ فهرب
إلىٰ مكَّة، ثُمَّ انصرف عمرو وأهل الشام الىٰ معاوية فسلَّموا عليه بالخلافة.
مع هذه النتيجة عاد عليّ عليهالسلام يعمل علىٰ إعادة
نظم جيشه، استعداداً لمرحلة جديدة من الحروب مع أهل الغدر، ولكن فتناً جديدة نجمت بين أصحابه ستمنع من انطلاقته صوب أهدافه..
قام يوماً خطيباً بين أصحابه، فقام إليه
رجل من اُولئك «المحكمّة» فقال : لا حكم إلَّا لله! ثُمَّ توالىٰ عدَّة رجال يحكِّمون. فقال عليٌّ عليهالسلام : « الله أكبر، كلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل! أما إنَّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم في أيدينا، ولا نقاتلكم حتىٰ تبدأوا، وإنَّما نتّبع فيكم أمر الله »
..
بهذه الأخلاق النبيلة تعامل الإمام مع
المارقين، ورغم ذلك فقد مضوا على غيّهم، فاعتزلوا بقيادة عبدالرحمٰن بن وهب الراسبي، ثمَّ خرجوا من الكوفة.
فبايع المسلمون الإمام عليَّاً عليهالسلام وقالوا : «نحن
أولياء من واليت، وأعداء من عاديت » فشرط فيهم سُنَّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم،
وجاء دور صاحب راية
_______________________
خثعم، ربيعة بن أبي
شداد فقال له : «
بايع علىٰ كتاب الله وسُنَّة رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم »،
فأبىٰ بأن يبايع إلَّا علىٰ سُنَّة أبي بكر وعمر! فقال له عليٌّ عليهالسلام حين ألحَّ عليه : تبايع؟ قال : لا، إلَّا علىٰ ما ذكرتُ لك.
فقال له الإمام : « أما والله، لكأنِّي
بك قد نفرت في هذه الفتنة، وكأنِّي بحوافر خيلي قد شدخت وجهك »!
قال قبيصة : فرأيته يوم النهروان قتيلاً قد وطأت الخيل وجهه وشدخت رأسه ومثَّلت به، فذكرت قول عليٍّ، وقلت : لله درُّ أبي الحسن، ما حرَّك شفتيه قط بشيءٍ إلَّا كان كذلك! .
وكان همُّ الإمام عليهالسلام في العود إلىٰ
محاربة معاوية، فعبَّأ جنده، لكنَّه وبعد ذلك كلِّه لم يترك «المحكِّمة» فكتب إليهم كتاباً جاء فيه : « بسم الله الرحمٰن الرحيم، من عبدالله عليٍّ أمير المؤمنين إلىٰ عبدالله بن وهب الراسبي ويزيد بن الحصين ومن قبلهما : سلام عليكم، وبعد، فإنَّ الرجلين اللذين ارتضيتماهما للحكومة خالفا كتاب الله واتَّبعا هواهما بغير هدىً من الله، فلمَّا لم يعملا بالسُنَّة ولم يحكما بالقرآن تبرَّأنا من حكمهما، ونحن علىٰ
أمرنا الأوَّل، فأقبلوا إليَّ رحمكم الله، فإنَّا سائرون إلىٰ عدوِّنا
وعدوِّكم لنعود لمحاربتهم، حتىٰ يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين »
.
وردُّوا علىٰ هذا الخطاب الحكيم
المتَّزن بخطابٍ ينمُّ عن شدَّة تعسُّفهم وردِّهم المارق، فكتبوا إليه : « فإن شهدت علىٰ نفسك أنَّك كفرت في ما كان من تحكيمك الحكمين، واستأنفت التوبة والإيمان، نظرنا في مسألتنا من
_______________________
الرجوع إليك، وإن تكن
الأُخرىٰ فإنَّنا ننابذك علىٰ سواء، إنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين » !
فلمّا يئس منهم تحرَّك بجيشه صوب الشام،
حتىٰ بلغ منطقةً في أعالي الفرات تُدعىٰ «عانات» فأتته أخبار فضيعة عن الخوارج، إذ أصبحوا يعترضون الناس فيقتلونهم دون أدنىٰ ذنبٍ، إلَّا لأنَّهم لم يتبرَّأوا من
عليٍّ ولم يكفِّروه لما حدث! حتىٰ أنَّهم أقبلوا أخيراً إلىٰ قتل عبدالله بن
خباب بن الأرت الصحابي الشهير، وقتلوا معه امرأته وبقروا بطنها وهي حامل، وقتلوا عدَّة نساءٍ، وبثُّوا الرعب في الناس.
فبعث إليهم أمير المؤمنين الحارث بن
مرَّة العبدي ليأتيه بخبرهم، فأخذوه فقتلوه .
فتمخَّضت تلك الأحداث عن معركة النهروان الشهيرة..
حرب النهروان :
المعروفة بوقعة الخوارج، وحصلت الوقعة
سنة ٣٧هـ.
لمَّا بلغ عليَّاً عليهالسلام قتل «المحكِّمة»
لعبدالله بن خباب بن الأرت واعتراضهم الناس، وقتلهم مبعوث الإمام إليهم، قال المسلمون الذين معه : يا أمير المؤمنين علامَ ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلىٰ القوم، فإذا فرغنا منهم سرنا إلىٰ عدوِّنا من أهل الشام.
فرجع عليهالسلام
بجنده الذين ذعروا علىٰ أهليهم من خطر الخوارج، والتقت
_______________________
الفئتان في النهروان،
فلم يبدأهم الإمام عليهالسلام
بحرب، حتىٰ دعاهم إلىٰ الحجَّة والبرهان، فبعث إليهم ابن عبَّاس أمامه، فناظرهم بالحجَّة والمنطق السليم، لكنَّهم أصرُّوا علىٰ العمىٰ والطغيان! ثُمَّ تقدَّم الإمام عليهالسلام، وذكَّرهم نهيه عن قبول التحكيم وإصرارهم عليه، حتىٰ لم يبقَ لديهم حجَّة، وحتىٰ رجع أكثرهم وتاب، وممَّن رجع يومذاك إلىٰ رشده : عبدالله بن الكوَّا أمير الصلاة
فيهم . وأبىٰ بعضهم إلَّا
القتال!!
وتعبأ الفريقان، ثمَّ جاءت الأنباء أنَّ
الخوارج قد عبروا الجسر، فقال عليهالسلام
: «
والله ما عبروا، ولا يقطعونه، وإنَّ مصارعهم لدون الجسر »،
ثُمَّ ترادفت الأخبار بعبورهم وهو عليهالسلام
يحلف أنَّهم لن يعبروه وأنَّه «
والله لا يفلتُ منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة »!
فكان كلُّ ذلك كما أخبر به الإمام عليٌّ عليهالسلام،
فأدركوهم دون النهر، فكبَّروا، فقال الإمام عليهالسلام
: «
والله ما كذبتُ ولا كُذبت » .
وكان عليٌّ عليهالسلام قد قال لأصحابه :
كُفُّوا عنهم حتىٰ يبدأوكم، فتنادوا : الرواح إلىٰ الجنَّة! وحملوا علىٰ الناس .
واستعرت الحرب، واستبسل أصحاب الإمام عليهالسلام
استبسالاً ليس له نظير، فلم ينجُ من الخوارج إلَّا ثمانية فرُّوا هنا وهناك، ولم يُقتل من أصحاب الإمام عليهالسلام
غير تسعة، وقيل : سبعة .
_______________________
وانجلت الحرب بانجلاء الخوارج وهلاكهم، وقد
روىٰ جماعة أنَّ عليَّاً عليهالسلام
كان يحدِّث أصحابه قبل ظهور الخوارج، أنَّ قوماً يخرجون ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، علامتهم رجل مُخدَج اليد، سمعوا ذلك منه مراراً .
فقال الإمام عليهالسلام : « اطلبوا ذي
الثُديَّة »، فقال بعضهم : ما
نجده، وقال آخرون : ما هو فيهم، وهو يقول : «
والله إنَّه لفيهم! والله ما كذبتُ ولا كُذبتُ » وانطلق معهم يفتِّشون عنه بين القتلىٰ
حتىٰ عثروا عليه، ورأوه كما وصفه لهم، قال : «
الله أكبر، ما كذبتُ ولا كُذبت، لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قصَّ الله علىٰ لسان نبيِّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لمن قاتلهم، مستبصراً في قتالهم، عارفاً للحقِّ الذي نحن عليه
» .
وقال عليهالسلام
حين مرَّ بهم وهم صرعىٰ : «
بؤساً لكم! لقد ضرَّكم من غرَّكم »!
قالوا : يا أمير المؤمنين مَنْ غرَّهم؟
قال : « الشيطان وأنفسٌ أمَّارة بالسوء، غرَّتهم
بالأماني، وزيَّنت لهم المعاصي، ونبَّأتهم أنَّهم ظاهرون »
.
فقالوا : الحمد لله ـ يا أمير المؤمنين ـ
الذي قطع دابرهم، فقال عليهالسلام
: «
كلا والله، إنَّهم نطف في أصلاب الرجال، وقرارات النساء »
!
_______________________
قصَّة استشهاده :
قال أنس بن مالك : مرض عليٌّ فدخلت عليه،
وعنده أبو بكر وعمر، فجلست عنده، فأتاه النبيٌّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
فنظر في وجهه، فقال له أبو بكر وعمر : يا نبيَّ الله ما نراه إلَّا ميِّتاً. فقال : « لن يموت هذا الآن، ولن يموت حتىٰ
يُملأ غيضاً، ولن يموت إلَّا مقتولاً »
.
وممَّا رواه أبو زيدٍ الأحول عن الأجلح،
عن أشياخ كندة، قال : سمعتهم أكثر من عشرين مرَّةً يقولون : سمعنا عليَّاً عليهالسلام
علىٰ المنبر يقول : «
ما يمنع أشقاها أن يخضّبها من فوقها بدمٍ »؟
ويضع يده علىٰ لحيته عليهالسلام
.
واشتهرت الرواية عن عُثمان بن المغيرة، قال
: كان عليٌّ عليهالسلام
لمَّا دخل رمضان يتعشَّىٰ ليلةً عند الحسن، وليلةً عند الحسين، وليلةً عند عبدالله بن جعفر، زوج زينب بنت أمير المؤمنين عليهالسلام،
وكان لا يزيد علىٰ ثلاث لُقم، فقيل له في ليلةٍ من تلك الليالي في ذلك، فقال : « يأتيني أمر الله وأنا خميصٌ، إنَّما هي ليلةٌ أو ليلتان ».
فلم تمضِ ليلة حتىٰ قُتل .
سبب قتله :
وكان سبب قتله أنَّ نفراً من الخوارج
اجتمعوا بمكَّة، فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم، ثُمَّ ذكروا أهل النهر فترحَّموا عليهم، وقالوا : ما نصنع
_______________________
بالبقاء بعدهم؟ فلو
شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلالة وأرحنا منهم البلاد!
وقال عبدالرحمٰن بن ملجم المرادي ـ
لعنه الله ـ : أنا أكفيكم عليَّاً، وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبدالله التميمي الصُريمي : أنا أكفيكم معاوية. أمَّا عمرو بن بكر التميمي، فقال : أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وتعاهدوا علىٰ ذلك وأخذوا سيوفهم فسمُّوها، واتَّعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كلٌّ منهم الجهة التي يريد.
فأتىٰ ابن مُلجم الكوفة كاتماً
أمره، فبينما هو هناك إذ زار أحداً من أصحابه من تيم الرباب، فصادف عندهُ قطام بنت الأخضر التيميَّة.. وكان أمير المؤمنين عليهالسلام
قتل أباها وأخاها بالنهروان، فلمَّا رآها أخذت قلبه فخطبها، فأجابته إلىٰ ذلك علىٰ أن يُصدِقها : ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً، وقتل
عليٍّ!!
فقال لها : والله، ما جاء بي إلَّا قتل
عليٍّ، فلكِ ما سألتِ!
قالت : سأطلب لك من يشدُّ ظهرك ويساعدك،
وبعثت إلىٰ رجلٍ من قومها اسمه : وردان وكلَّمته فأجابها..
وروي أنَّ الإمام عليهالسلام سهر في تلك الليلة
التي قُتل فيها، وكان يكثر الخروج والنظر إلىٰ السماء، وهو يقول : « والله ما كذبتُ ولا كُذبت، وإنَّها الليلة التي وُعدتُ بها »
ثُمَّ يعاود مضجعه، فلمَّا طلع الفجر شدَّ إزاره وخرج وهو يقول :
« أُشدد حيازيمك للموت
|
|
فإنَّ الموت آتيك
|
ولا تجزع من الموت
|
|
إذا حلَّ بواديك »
|
_______________________
وأخذ ابن ملجم سيفه ومعه شبيب بن بَجَرة
ووردان، وجلسوا مقابل السدَّة التي يخرج منها عليٌّ عليهالسلام
للصلاة.. فضربه ابن ملجم أشقىٰ الآخرين لعنه الله، ليلة تسعة عشر من شهر رمضان، سنة أربعين من الهجرة، في المسجد الأعظم بالكوفة، ضربه بالسيف المسموم علىٰ أُمِّ رأسه.
فمكث عليهالسلام
يوم التاسع عشر وليلة العشرين ويومها، وليلة الحادي والعشرين إلىٰ نحو الثلث من الليل ثُمَّ قضىٰ نحبه شهيداً محتسباً
صابراً وقد مُلئ قلبه غيضاً..
بتلك الضربة الشرسة التي ارتجَّ لها
المسجد الأعظم، دوىٰ صوت الإمام المظلوم بنداء : «
فزت وربِّ الكعبة » لم يتلكَّأ ولم يتلعثم
في تلك اللحظات التي امتُحن قلبه، وهو القائل « والله لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً » هذا الإمام العظيم الذي طوىٰ صفحات
ماضيه القاسية بدمائه الزكية الطاهرة، أدرك في لحظاته الأخيرة أنَّه أنهىٰ خطَّ الجهاد والمحنة، وكان أسعد المخلوقين في هذه اللحظات الأخيرة، حيث سيغادر الكفر والنفاق والغشَّ والتعسُّف.. سيترك الدنيا لمن يطلبها؛ ليلحق بأخيه وابن عمِّه ورفيق دربه في الجهاد في سبيل الله صابراً مظلوماً، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون..
اللَّهمَ احشرنا معهم واجعلنا من
أتباعهم والمتوسِّمين خطاهم.. آمين.
وقيل : كان عمره يوم استشهد ثلاثاً
وستِّين سنةً، وتولَّىٰ غسله وتكفينه ابناه الحسن والحسين بأمره، وحملاه إلىٰ الغريَّين من نجف الكوفة، ودفناه هناك ليلاً، وعمَّيا موضع قبره بوصيته إليهما في ذلك، لما كان يعلم
من دولة بني أُميَّة
من بعده، وإنَّهم لا ينتهون عمَّا يقدرون عليه من قبيح الأفعال ولئيم الخلال، فلم يزل قبره مخفيَّاً حتىٰ دلَّ عليه الصادق عليهالسلام في الدولة العبَّاسية، وزاره عند وروده إلىٰ أبي جعفر وهو بالحيرة .
إلى هنا انتهى الكتاب، راجين أن نكون قد
وفينا ببعض سيرة أمير المؤمنين وسيٰد الموحدين وأخي رسول رب العالمين، وصاحبه في المواطن كلها، وحامل رايته في سوح الوغىٰ، وصاحب لوائه يوم الدين، وصهره علىٰ بضعته البتول سيدة نساء العالمين، وأبي ريحانتيه سيدي شباب أهل الجنة، الحسن والحسين، وخليفته بالحق ومولى المؤمنين من بعده علي بن أبي طالب عليهالسلام..
والوفاء ببعض ذلك ليس بالأمر اليسير.. إنه علي عليهالسلام
تجفّ الأقلام دون ذكر خصاله ولا تصل إلىٰ منتهاها.. بل الاحاطة بواحدة من مفردات سيرته عليهالسلام
أو خصائصه تتطلب بحثاً بحجم ما كتبناه عن كل سيرته وتاريخه، ذلك أنها تفتح أمام الباحث آفاقاً رحبة في مجالات العلم والعمل والفكر والتربية والسلوك، بما يتصل بواقع الحياة في جميع مفاصلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وعزاؤنا أنّا ذكرناه في هذا الجهد
اليسير، راجين أن يكون ذلك لنا ذخراً في اليوم العسير.
_______________________
محتويات
الكتاب
مقدِّمة المركز ................................................................. ٥
المقدمة ...................................................................... ٧
الباب الأول : عليٌّ عليهالسلام مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم .................................. ٩
الفصل الأول : علي عليهالسلام مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
قبل البعثة ..................... ٩
نسبه ................................................................. ٩
كنيته ............................................................... ١٠
جدُّه وأبوه ........................................................... ١٠
أُمُّه ................................................................. ١٤
إخوته .............................................................. ١٦
وليد الكعبة .......................................................... ٢٠
صفته ............................................................... ٢٢
أسماؤه وألقابه ......................................................... ٢٣
نشأته ............................................................... ٢٧
الفصل الثاني : علي عليهالسلام مع الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد البعثة ...................... ٣٠
المبحث الأول : بعد البعثة في مكة ........................................ ٣٠
١ ـ أوَّل الناس
إسلاماً ................................................. ٣٠
٢ ـ الدعوة الخاصة .................................................... ٣٦
عليٌّ يوم الإنذار
الأول ......................................... ٣٦
٣ ـ شعب أبي طالب .................................................. ٤٣
٤ ـ مؤامرة قريش في
دار الندوة .......................................... ٤٦
٥ ـ عليٌّ والركب
الفاطمي إلىٰ المدينة ..................................... ٥٢
المبحث الثاني في
المدينة المنوَّرة ............................................. ٥٥
المدخل ............................................................. ٥٥
١ ـ المؤاخاة بين
المهاجرين والأنصار ...................................... ٥٥
٢ ـ زواج عليٍّ من
فاطمة الزهراء عليهاالسلام .................................... ٥٨
خطبة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في التزويج ................................... ٦٢
٣ ـ غزواته مع الرسول ................................................. ٦٥
غزوة بدر الكبرىٰ
.............................................. ٦٦
غزوة أُحد .................................................... ٧١
وقعة بني النضير ............................................... ٧٦
وقعة الأحزاب ................................................. ٧٨
وقعة بني قريظة ................................................ ٨٤
عمرة الحديبية ................................................. ٨٥
وقعة خيبر .................................................... ٨٨
وقعة ذات السلاسل ............................................ ٩٢
فتح مكَّة ..................................................... ٩٣
وقعة حنين .................................................... ٩٦
تبوك والاستخلاف ............................................ ٩٨
٤ ـ عليٌّ يبلّغ عن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ................................... ١٠١
٥ ـ علي عليهالسلام في
اليمن .............................................. ١٠٢
٦ ـ عليٌّ في حجَّة
الوداع ............................................. ١٠٣
غدير خُمٍّ ................................................... ١٠٤
٥ ـ عليٌّ عليهالسلام مع
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في ساعات الوداع ...................... ١٠٨
مرض النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعثة أُسامة ................................ ١٠٨
الرزية كلُّ الرزية .............................................. ١٠٩
عليٌّ عليهالسلام
وآخر لحظات الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ......................... ١١٠
الباب الثاني : علي عليهالسلام قبل تولي الخلافة .................................. ١١٣
مدخل في خصائصه والأدلَّة علىٰ إمامته ................................... ١١٣
المحور الأول : خصائصه
الخاصة .......................................... ١١٤
أولاً : في القرآن
الكريم ............................................... ١١٧
١ ـ نفس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ................................... ١١٧
٢ ـ عليٌّ عليهالسلام من
أهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وخاصَّته ............ ١١٨
٣ ـ القرآن الكريم
يأمر بالصلاة علىٰ آل بيت النبيِّ صلىاللهعليهوآلهوسلم .......... ١١٩
٤ ـ علي عليهالسلام
يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ...................... ١١٩
٥ ـ عليٌّ عليهالسلام
وسورة الدهر .................................... ١٢٠
٦ ـ في بيوت أذن الله
أن ترفع .................................. ١٢٠
٧ ـ بعليٍّ كفىٰ
الله المؤمنين القتال ............................... ١٢٠
٨ ـ ليس أفضل من إيمان
عليٍّ عليهالسلام وجهاده في سبيل الله ........... ١٢١
ثانياً : في الحديث
الشريف ........................................... ١٢١
١ ـ أوَّلهم إسلاماً ............................................. ١٢١
٢ ـ أخو رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم دون غيره ............................ ١٢٢
٣ ـ وأحبُّ الخلق إلىٰ
الله ....................................... ١٢٣
٤ ـ إلَّا باب عليٍّ ............................................. ١٢٣
٥ ـ الذائد عن الحوض ........................................ ١٢٤
٦ ـ (
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ ) ................................. ١٢٥
٧ ـ علي عليهالسلام
يبلِّغ عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بأمرٍ من السماء ......... ١٢٥
٨ ـ كرَّار وليس
بفرَّار .......................................... ١٢٥
المحور الثاني :
النصوص الدالَّة علىٰ إمامته عليهالسلام .............................. ١٢٦
١ ـ اسمعوا لعليٍّ
وأطيعوا ....................................... ١٢٧
٢ ـ وأولىٰ بالناس
من أنفسهم ................................... ١٢٨
٣ ـ إنَّ عليَّاً مولىٰ
المؤمنين ...................................... ١٢٩
٤ ـ الوزارة والخلافة ............................................ ١٣٠
٥ ـ لن يخرجكم من هدىٰ
ولن يُدخلكم في ضلالة ................. ١٣١
٦ ـ لا، لكنَّه علي! ........................................... ١٣١
٧ ـ كلُّهم من قريش ........................................... ١٣٢
٨ ـ قاتل الفَجَرة .............................................. ١٣٢
٩ ـ حقُّه لازم لنا، وفضله
مبرَّز ................................. ١٣٢
١٠ ـ لن تضلّوا بعده .......................................... ١٣٣
الفصل الأول : قصة السقيفة ............................................ ١٣٥
موقف فاطمة عليهاالسلام من
البيعة ............................................ ١٤١
الفصل الثاني : عليٌّ مع أبي بكر وعمر وعُثمان ........................... ١٤٤
بيعته لأبي بكر ........................................................ ١٤٤
أبو بكر يستشير الإمام
علي عليهالسلام في حرب الروم ........................... ١٤٩
رجوع أبي بكر إليه في
الأحكام الشرعية .................................... ١٥٠
جمع القرآن الكريم
وتفسيره .............................................. ١٥١
قصَّة الاستخلاف ...................................................... ١٥٣
ثانياً : في عهد عمر
بن الخطَّاب ......................................... ١٥٦
قصَّة الشورىٰ ....................................................... ١٦٢
ثالثاً : في عهد
عُثمان .................................................. ١٦٩
الباب الثالث : خلافة أمير المؤمنين عليهالسلام .................................... ١٧٩
الفصل الأول : تولِّي الخلافة وسياسته في الإصلاح ........................ ١٧٩
سياسته الإصلاحية .................................................... ١٨٢
خطوات مشروعه الاصلاحي
............................................ ١٨٥
أولاً : إلغاء التمايز
الطبقي ............................................ ١٨٥
ثالثاً : استبدال
الولاة ................................................ ١٩١
الفصل الثاني : مسير الإمام إلىٰ البصرة ووقعة الجمل ...................... ١٩٤
معركة الجمل .......................................................... ٢٠٠
عليٌّ في طريقه إلىٰ
الشام، وحرب صفِّين ................................... ٢٠٥
رفع المصاحف.. «كلمة
حقٍّ يُراد بها باطل» ............................ ٢١٠
حرب النهروان ......................................................... ٢١٦
قصَّة استشهاده ........................................................ ٢١٩
سبب قتله ............................................................ ٢١٩
محتويات الكتاب ...................................................... ٢٢٣
|