بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المركز

الحمد لله رب العالمين.. وصلى الله علىٰ سيدنا محمد وآله الطاهرين..

وبعد..

إنّ دراسة سيرة أهل البيت عليهم‌السلام تُعدُّ إحدىٰ اللبنات الأساسية لسلّم البناء العقائدي والفكري والسياسي والاجتماعي الذي ارتضاه الاسلام منهجاً لتقويم العقيدة وتنظيم السلوك والسير باتجاه حركة التكامل الانساني المطلوب علىٰ صعيد الفرد والمجتمع. ذلك أنّ ما خُصّوا به من فضل عظيم وما أحرزوه من مكانة متميزة في تاريخ الإسلام ، يدفعنا نحو استجلاء معالم تلك السيرة ، والتعاطي مع دلالتها المتواصلة مع مسيرة الحياة بما تحمله من متطلبات ومستجدات ، لأنّها تحدد الرؤية الأسلم والصيغة الأكمل لفهم الإسلام وتجسيده بأصوله وأركانه وفروعه وعلىٰ كافة المستويات. والزهراء عليها‌السلام سيدة نساء العالمين ، وبضعة المصطفىٰ الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيدة أهل البيت المعصومين عليهم‌السلام تمثّل النموذج الأكمل والمثل الأعلىٰ الذي أرادته الرسالة الإلهية للمرأة المسلمة سلوكاً ومنهجاً ، سواء علىٰ صعيد حياتها الشخصية بما تحمله من أسرار العظمة المتجسِّدة في روحانيتها وعفَّتها وعبادتها وزهدها وعلمها ، أو علىٰ صعيد حركتها في واقع الحياة ، وما تشتمل عليه من جهاد مرير ، وصبر مستمدٍّ من قوة الإيمان وشدَّة الإخلاص ، ومواقف صلبة في الحفاظ علىٰ المفهوم الأصيل لقيادة الأمّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

إنّ موقف الزهراء عليها‌السلام بعد وفاة أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله يشتمل علىٰ دلالاتٍ وأبعادٍ سياسية خطيرة حرية بالبحث والدراسة ، لأنّها تستوعب قسماً مهماً من الأحداث والملابسات السياسية والاجتماعية التي تفاعلت في داخل الساحة الاسلامية في أخطر مراحل المسيرة التاريخية للأمّة ، والتي شكَّلت


المخاض العسير الذي أنجب أخطر المعطيات السياسية والاجتماعية بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ رحمة ربِّه ورضوانه.

كان الدور الذي اضطلعت به الزهراء عليها‌السلام بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله يتمثل في الحفاظ علىٰ الصيغة الاسلامية الأصيلة علىٰ مستوىٰ العقيدة والسياسة والتشريع ، ويمثل حجر الزاوية في تأصيل خط الإمامة بكل ما يحمله من مفاهيم وأفكار وأهداف وتوجّهات وخصائص ومميزات ، ويعكس الموقف السليم من التغيرات الطارئة المستجدة في حياة الأمّة علىٰ صعيد العقيدة وفهم الكتاب وإقامة السُنّة.

ومن هنا فإنّ دراسة حياة الزهراء عليها‌السلام تعني دراسة حياة امرأة كل سيرتها للهداية والصلاح والرشاد ، لأنّها سيدة النساء ، العالمة المعصومة المتفانية في سبيل الله ، والقدوة الصالحة لنساء الأمّة ، والمثل الأعلىٰ لكلِّ قيم العزِّ والعظمة والشرف والطهارة ، رغم المعاناة وقسوة ظروف الزمان وشدَّتها ، فلابد إذن من استلهام الدروس واستجلاء العبر من سيرة الزهراء عليها‌السلام لتسهم في إعداد المرأة وتربيتها ومعرفة حقوقها وواجباتها وبناء كيانها ورقيها ، ودفعها باتجاه تربية جيل تتمثل به القيم الأخلاقية ومبادئ العقيدة الحقَّة.

وإصدارنا هذا تكفَّل بتغطية مفردات تلك السيرة العطرة منذ الولادة في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ الوفاة في بيت الوصي عليه‌السلام بشكل وافٍ وأسلوبٍ علمي واضح موثَّقٍ بالمصادر المعتبرة ، ندعو الله العزيز أن ينفع به الاخوة المؤمنين ، ومنه تعالىٰ نستمد العون والسداد ، وهو الهادي الىٰ سبيل الرشاد.

مركز الرسالة


المقدِّمة

الحمدُ لله ربِّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم علىٰ الحبيب المصطفىٰ الأمين وآله الهداة الميامين سيّما قرة عين النبي ، وبهجة قلب الوصي ، ثمرة النبوة ، ووعاء الإمامة ، أُمّ الحسنين ، وسيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها‌السلام هالة النور والجلال وسليلة العزّ والعظمة والشرف الذي لا تنازع فيه.

وبعد :

فالزهراء... المثل الأعلىٰ الذي قدّمته الرسالة الإلهية للمرأة ، فقد صاغتها يد العناية الربانية أيّة صياغة لتكون قدوةً للحياة الكريمة ، واُسوةً للفضائل والقيم الإنسانية ، فهي نسخة ناطقة بتعاليم الوحي الالهي ، صدّيقة لا تفعل غير الحق ، ولا تتبع سوىٰ الهدىٰ.

فحريٌّ بنا أن ندرس سيرة الزهراء البتول عليها‌السلام ، ونسلط الضوء علىٰ مراحل حياتها ، كي نجعل نصب أعيننا المثل الإسلامية العليا التي تجسدت في الزهراء ، فكراً ونهجاً وسلوكاً.

فزواج الزهراء عليها‌السلام مثلاً بما فيه من تواضع المهر ، وبساطة المراسيم ، وسمو الخلق والمثل ومبادىء الدين علىٰ مظاهر البذخ والترف ، وما يتبعه من حسن التبعّل وطيب المعاشرة مع ابن عمها الوصيّ المرتضى أمير المؤمنين عليه‌السلام وتربيتها سبطي النبي الأكرم وإمامي الرحمة الحسن والحسين عليهما‌السلام ، كلّ ذلك يعكس لنا أبعاد الرسالة الإسلامية السمحة التي رسمها الإسلام للزواج الذي ارتضاه خالق الوجود ، ويرسم لنا صورة عن


حقوق المرأة وواجباتها ومدىٰ فاعليتها في الاسهام ببناء المجتمع وتطويره.

أما مواقف الحوراء عليها‌السلام بعد وفاة أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعلىٰ الرغم مما تثيره فينا وفي وجدان كلّ مسلم حرّ من أشجان ولوعة ، لما فيها من أحداث تزلزل الجبال وتهدّ الصمّ الصلاب ، فإننا نلمس من خلالها الشجاعة والثبات ورباطة الجأش وقوة النفس التي تحلّت بها ابنة النبوة الزهراء الطاهرة عليها‌السلام في الدفاع عن مبادىء الإسلام ومثله وإثبات العقيدة الحقّة ، حينما لاثت خمارها علىٰ رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخلت علىٰ أُمّةٍ انقلبت علىٰ أعقابها ، ورسولها لمّا يجف تراب رمسه ، فاغتصبت بالأمس مجداً سجّلته السماء لأهل بيت النبوة ، واهتضمت اليوم نحلتها في فدك ، ولم ترعَ وصية أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها : « فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما يؤذيها » وكأنها ما سمعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول : « إنّ الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضىٰ لرضاها » !

فاتخذت الزهراء عليها‌السلام من الكلمة سيفاً ومن الحجة سناناً ، لتلقي الحجة وتنبه علىٰ الفتنة وتعرّي أساس السلطة ، وتقوّض أركانها بخطابها الذي كان آيةً في البلاغة وغايةً في الفصاحة ، لتقول : « أيُّها الناس ، اعلموا أني فاطمة ، وأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوىٰ أصفيائه ، ظهر فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين... فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة ( أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) ... ألا وقد قلت ما قلت علىٰ معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها


قلوبكم ، ولكنها فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وخور القنا ، وبثّة الصدر ، وتقدمة الحجة.. ».

وفي موقف الزهراء عليها‌السلام من أحداث السقيفة ومما جرىٰ عليها من الظلم والعدوان ، نستلهم دروساً من العظمة والإباء في التصدي للانحراف والطغيان والدفاع عن مبادىء الحقّ وإقامة السُنّة وإماتة البدعة.

وهكذا عندما نقف علىٰ الجوانب الاُخر من حياة الزهراء عليها‌السلام فإنّما نقف علىٰ أوسع مدىٰ لمثل الإسلام وكل صفات الفضيلة والكمال وقيم الشرف والجلال وسبل الهداية والصلاح والرشاد.

يقول الاستاذ العقاد : في كلِّ دين صورة للانوثة الكاملة المقدسة ، يتخشع بتقديسها المؤمنون ، كأنما هي آية الله فيما خلق من ذكرٍ وأنثىٰ ، فإذا تقدست في المسيحية صورة مريم العذراء ، ففي الإسلام لا جَرَم تتقدّس صورة فاطمة البتول (١).

ولا ريب أنّ الزهراء عليها‌السلام صورة للانوثة الكاملة لبنات حواء ، لأنّها سيدة نساء العالمين بنصّ أبيها الرسول المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما أحوجنا ونحن نعيش في عالمٍ يغرق بالمادة وتتساقط فيه المثل والقيم العليا أن تتعرف نساؤنا المسلمات علىٰ القدوة المثلىٰ والاُسوة الحسنة للنساء في الإسلام ، وأن يقتدين بسيرتها ، ويستلهمن منها دروس الحياة لتربية الأجيال وتوجيهها لما فيه الصلاح والهداية ، مما سينير مستقبل البشرية ، ويسهم في بناء انسانٍ تحيا فيه المثل الاخلاقية والعقيدة الحقّة.

وقد التفت المحدثون والمؤرخون والباحثون ومنذ القدم الىٰ أسرار العظمة في حياة الزهراء عليها‌السلام فأفردوا لها مصنفات خاصّة كابن شاهين والبغوي والحاكم النيسابوري والطبري والمناوي والسيوطي وابن دينار

_______________________

١) أهل البيت عليهم‌السلام / توفيق أبو علم : ١٢٨ مطبعة السعادة ـ مصر.


والجلودي وأبي مخنف وابن عقدة وغيرهم ، ناهيك عن مصنفات المتأخرين التي تجاوزت المئتين وناهيك عن التراجم التي جاءت في كتب السير والتواريخ والحديث.

وحاولنا في هذا البحث الموجز أن نقدّم إلمامةً عن بعض جوانب حياة سيدة النساء ، آملين أن تسهم في الكشف عن أسرار عظمتها والتعرّف علىٰ فضائلها ومكارم أخلاقها.

ومن الله التوفيق


الفصل الأول

الزهراء عليها‌السلام في حياة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

المبحث الأول : في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

إنّ ركائز الفرد الروحية والأخلاقية تستند الىٰ بوادر تربيته وبيئته وبيته الذي نشأ فيه ، وكان منبت الصديقة الزهراء عليها‌السلام في أول بيت حمل لواء الإسلام ونشر راية التوحيد ونادىٰ بمكارم الأخلاق ، وهو البيت الذي وصفه أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته القاصعة : « ولم يجمع بيت واحد يومئذٍ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ، أرىٰ نور الوحي والرسالة ، وأشمّ ريح النبوة... » (١).

فعميد البيت هو النبي العربي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو القاسم محمد بن عبدالله ابن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي ، الذي وصفه تعالىٰ بقوله : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) ونعته قومه وهم في غياهب جاهليتهم بالصادق الأمين ، واختصه الله تعالىٰ بالوحي والكتاب الكريم ، وشرّفه بشرف الرسالة ، وشرح صدره بأنوار المحبة واللطف والكرامة.

هو الحبيب الذي ترجىٰ شفاعته

لكلِّ هول من الأهوال مقتحمِ

دعا إلىٰ الله فالمستمسكون به

مستمسكون بحبلٍ غير منفصمِ

فاق النبيين فـي خَلْــق وفي خُلُق

ولم يدانوه في علمٍ ولا كرمِ

_______________________

١) نهج البلاغة / ضبط صبحي الصالح : ٣٠٠ الخطبة (١٩٢).

٢) سورة القلم : ٦٨ / ٤.


وكلّهم من رسول الله ملتمس

غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ

فهو الذي تمّ معناه وصورته

ثـم اصطفاه حبيباً بارىء النسمِ

منزّه عن شريك في محاسنه

فجوهر الحسن فيه غير منقسمِ (١)

أما سيدة البيت أُمّ الزهراء عليها‌السلام فهي أُمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزىٰ بن قصي جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوسط نساء قريش نسباً ، وأعظمهن شرفاً ، وكانت تدعىٰ في الجاهلية الطاهرة (٢) لشرفها وعفّتها ، وقد نشأت في بيت معروف بالمكانة واليسار والنفوذ والشرف في قريش.

كان جدها أسد بن عبد العزّىٰ واحداً من أعضاء حلف الفضول ومؤسسيه والدعاة إليه ، وهو الحلف الذي بموجبه تعاقدت قبائل من قريش وتعاهدت علىٰ أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلّا نصروه ، وكانوا علىٰ من ظلمه حتىٰ تردّ مظلمته ، وهو الحلف الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحبُّ أن لي به حمر النعم ، ولو أُدعىٰ به في الإسلام لأجبت » (٣).

وكان ابن عمّها ورقة بن نوفل بن أسد من الأربعة الذي تنسكوا واعتزلوا عبادة الأوثان ، وهجروا قومهم فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم عليه‌السلام (٤).

وقد تزوج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام قبل البعثة بنحو خمسة

_______________________

١) الأبيات من قصيدة البردة للبوصيري ، المتوفىٰ سنة ٦٩٦ ، راجع المجموعة النبهانية / النبهاني ٤ : ٥ ، دار المعرفة.

٢) أُسد الغابة / ابن الأثير ٥ : ٤٣٤ ، دار إحياء التراث العربي.

٣) سيرة ابن هشام ١ : ١٤١ ، مطبعة البابي الحلبي ـ مصر.

٤) سيرة ابن هشام ١ : ٢٣٧.


عشر عاماً ، فلمّا بُعِث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاها إلىٰ الإسلام ، فكانت أول امرأة آمنت بدعوته ، وبذلت كل ما بوسعها من أجل أهدافه المقدسة ، فكانت أموال خديجة ثالث أثافي دعوة الإسلام بعد تسديد العناية الإلهية لشخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحماية أبي طالب عليه‌السلام عم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصرته ومؤازرته.

ثم انها قد اجتباها الله تعالىٰ لكرامة لا توصف نالت بها سعادة الأبد ، وذلك بأن منّ الله تعالىٰ علىٰ الإسلام بأن حفظ في نسلها ذرية الرسول المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهي أُمّ آل البيت الكبرىٰ ، الذين كانوا نفحةً من عطر شذاه ، وقبساً من سنا نوره ، إذ انحصرت في ابنتها الزهراء عليها‌السلام نسبة كل منتسب إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأعظم بها من مفخرة !

وتوفيت خديجة عليها‌السلام في السنة العاشرة من المبعث الشريف بعد خروج بني هاشم من الشعب (١) ، أي قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين ، وذلك بعد أن عاشت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو ربع قرن كانت فيها أُمّ عياله وربة بيته ومؤازرته علىٰ دعوته ، ولم يتزوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امرأة في حياتها قط إكراماً لها وتعظيماً لشأنها بخلاف ما كان منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاتها.

وقد جاء في فضلها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « سيدات نساء أهل الجنة أربع : مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية امرأة فرعون » (٢).

ولم ينس ذكرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ في أواخر حياته كما في قول عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتىٰ يذكر خديجة ، فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوماً من الأيام ، فأخذتني الغيرة ، فقلت : هل

_______________________

١) الإصابة / ابن حجر ٤ : ٢٨٣ ، دار إحياء التراث العربي.

٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١٨٥ حيدر آباد ـ الهند. وكنز العمال / المتقي الهندي ١٢ : ١٤٤ / ٣٤٤٠٦ ، مؤسسة الرسالة.


كانت إلّا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها ، فغضب حتىٰ اهتزّ مقدم شعره من الغضب ، ثم قال : « لا والله ما أبدلني خيراً منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، وصدّقتني إذ كذّبني الناس ، وواستني في مالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها أولاداً دون غيرها من النساء » قالت عائشة : فقلت في نفسي : لا أذكرها بعدها بسبّة أبداً (١).

وفي هذا النص دليل واضح علىٰ أفضليتها عليها‌السلام علىٰ سائر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكونها أحبهن الىٰ قلبه الشريف.

ففي هذا البيت الذي اختاره الله سبحانه مهبطاً للوحي ومقراً للنبوة لتبليغ رسالته والانذار بدعوته ، ولدت ونشأت وترعرت الزهراء عليها‌السلام بين أقدس زوجين في ذلك العالم الذي يلفّه الظلام والضلال ، فكان البيت بما يحتويه من عميده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوجته خديجة الكبرىٰ ، وابن عمه الوصي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وابنته الطاهرة الصديقة ( سلام الله عليهم أجمعين ) هالةً من النور وبيرقاً للهداية ، وماهي إلّا سنين قلائل حتىٰ تبدّدت سحب الضلال بنور الإيمان ، وشملت راية التوحيد أمُّ القرىٰ وماحولها.

قال الشاعر :

شبت بحجر رسول الله فاطمة

كما تحـبّ المعالي أن تلاقيها

وفي حمى ربّة العليا خديجة قد

نشت كما الطهر والآداب تشهيها

ونفسها انبثقت من نفس والدها

وأُمّها فهـي تحكيـه ويحكيها (٢)

تاريخ الولادة :

اختلف المحدثون والمؤرخون عند الفريقين في تاريخ ولادة

_______________________

١) الاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٢٨٧ بهامش الاصابة. الاصابة ٤ : ٢٨٣.

٢) الأبيات من القصيدة العلوية للشاعر عبدالمسيح الأنطاكي : ٩٥ ـ مصر.


الزهراء عليها‌السلام ، والمشهور بين علماء الإمامية أنّه في يوم الجمعة العشرين من شهر جمادى الثانية من السنة الخامسة بعد البعثة النبوية ، وبعد الاسراء بثلاث سنين (١).

وعمدتهم في ذلك ما روي عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام فقد روي بالاسناد عن حبيب السجستاني ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : « ولدت فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمس سنين » (٢).

وعن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ولدت فاطمة في جمادىٰ الآخرة يوم العشرين منه ، سنة خمس وأربعين من مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٣).

وروىٰ نصر بن علي الجهضمي ، عن الإمام علي بن موسىٰ الرضا عليه‌السلام ، قال : « ولدت فاطمة بعدما أظهر الله نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمس سنين » (٤).

وقيل أيضاً : كان مولد السيدة الزهراء عليها‌السلام في العشرين من جمادىٰ الآخرة سنة اثنتين من المبعث (٥).

وقال أكثر علماء العامة : إنّها عليها‌السلام ولدت قبل البعثة ، واختلفوا في عدد السنوات ، فقيل : ولدت وقريش تبني البيت الحرام قبل النبوة بخمس سنين ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن خمس وثلاثين سنة ، أخرجه سبط ابن الجوزي عن علماء السير (٦) ، والمحبّ الطبري عن الدولابي (٧) ، وابن حجر عن الواقدي

_______________________

١) راجع : الكافي / الكليني ١ : ٤٥٨ ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران. كشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٤٩ ـ تبريز. ودلائل الإمامة / الطبري : ٧٩ ، مؤسسة البعثة ـ قم. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧ ، دار الأضواء.

٢) الكافي ١ : ٤٥٧ / ١٠.

٣) دلائل الإمامة : ٧٩ / ١٨. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩ / ١٦.

٤) تاريخ الأئمة / ابن أبي الثلج : ٦ ـ ضمن مجموعة نفيسة ـ مكتبة السيد المرعشي ـ قم.

٥) المصباح / الكفعمي : ٥١٢ ، دار الكتب العلمية ـ قم.

٦) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣٠٦ ، مكتبة نينوى. واتحاف السائل / المناوي : ٢٣ ، مكتبة


والمدائني (١).

وعن محمد بن إسحاق ، كان مولدها حين بنت قريش الكعبة قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبع سنين وستة أشهر (٢).

وروى الحاكم وابن عبدالبرّ عن عبدالله بن محمد بن سليمان بن جعفر الهاشمي ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : ولدت فاطمة عليها‌السلام سنة إحدىٰ وأربعين من مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي بعد المبعث بسنة (٣).

هذا هو معظم ماقيل في تاريخ ولادتها عليها‌السلام ومنه يتضح أنه مورد اختلاف بين علماء الإسلام ، ونحن نرجّح ما روي عن أبناء الزهراء عليها‌السلام الأئمة المعصومين عليهم‌السلام لأنّهم أعرف بتاريخ أُمّهم ، والمروي عنهم كما تقدم أنها ولدت لخمس سنين بعد البعثة ، وقولهم مقدم علىٰ أقوال غيرهم.

ويؤيده عدّة قرائن :

منها : ما أخرجه المحبّ الطبري عن الملّاء في سيرته قال : إنّ خديجة لمّا أرادت أن تضع فاطمة عليها‌السلام بعثت الىٰ نساء قريش ليأتينها ، فيلين منها ما يلي النساء ممّن تلد ، فلم يفعلن وقلن : لانأتيك وقد صرت زوجة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) ، وإنّما قاطعن خديجة عليها‌السلام بعد ظهور الرسالة ونزول الوحي.

ومنها : ما أخرجه سبط ابن الجوزي عن أحمد في (الفضائل ) عن عبدالله

_______________________

القرآن ـ القاهرة.

١) ذخائر العقبىٰ / المحب الطبري : ٥٣ ، دار المعرفة ـ بيروت.

٢) الإصابة ٤ : ٣٧٧.

٣) الثغور الباسمة / السيوطي : ١٥٨ ، مركز الدراسات والبحوث العلمية ـ بيروت.

٤) مستدرك الحاكم ٣ : ١٦١. والاستيعاب ٤ : ٣٧٤.

٥) ذخائر العقبىٰ : ٤٤. ونحوه في أمالي الصدوق : ٦٩٠ / ٩٤٧ ، تحقيق مؤسسة البعثة ـ قم.


ابن بريدة ، قال : خطب أبو بكر فاطمة عليها‌السلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّها صغيرة ، وإنّي انتظر بها القضاء » (١) ، ورواه الحاكم والنسائي (٢) ، ولا يصح الاعتذار بصغر سنها لو كانت ولادتها قبل المبعث بخمس سنين ؛ لأنّ أبا بكر تعرّض لخطبتها عليها‌السلام بعد الهجرة ، وعمرها علىٰ هذا الحساب ثماني عشرة سنة أو أكثر.

ويدلُّ علىٰ أن ولادتها عليها‌السلام كانت بعد البعثة الأحاديث الكثيرة التي تنصُّ علىٰ أن تسميتها كانت بأمر الله تعالىٰ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ذلك ما رواه ابن عباس عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « وإنّما سمّاها فاطمة ، لأنّ الله عزَّ وجلّ فطمها ومحبيها عن النار » (٣).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : لما ولدت فاطمة عليها‌السلام أوحىٰ الله تعالىٰ إلىٰ ملك فأنطق به لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمّاها فاطمة (٤).

وهذا التاريخ يناسب ما روي عن عائشة وسعد بن مالك وابن عباس وغيرهم ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لما أُسري بي إلىٰ السماء أدخلت الجنة ، فوقعت علىٰ شجرةٍ من أشجار الجنة ، لم أرَ في الجنة أحسن منها ، ولا أبيض ورقا ً ، ولا أطيب ثمراً ، فتناولت ثمرة من ثمراتها فأكلتها ، فصارت نطفة ، فإذا أنا اشتقت إلىٰ ريح الجنة شممت ريح فاطمة » (٥) ، وفي لفظ آخر : « فهي

_______________________

١) تذكرة الخواص : ٣٠٦.

٢) مستدرك الحاكم ٢ : ١٦٧. وسنن النسائي ٦ : ٦٢ ، دار الكتاب العربي ـ بيروت.

٣) ذخائر العقبىٰ : ٢٦.

٤) علل الشرائع / الشيخ الصدوق : ١٧٩ / ٤ ، مكتبة الداوري ـ قم. والكافي ١ : ٤٦٠ / ٦.

٥) الدر المنثور / السيوطي ٥ : ٢١٨ ، دار الفكر ـ بيروت. والمعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤٠٠ / ١٠٠٠ ، دار إحياء التراث العربي. ونحوه في مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٦. وذخائر العقبىٰ : ٣٦. وعلل الشرائع ١ : ١٨٣. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٣ و ٦٨ ، مكتبة المفيد ـ قم.


حوراء إنسية ، كلّما اشتقت إلىٰ الجنة قبلتها » (١).

ومناسبة هذا الحديث للتاريخ المذكور عن أهل البيت عليهم‌السلام في ولادتها ، تأتي لكون الاسراء وقع بعد البعثة بنحو ثلاث سنين بلا خلاف ، فهذا الحديث حاكم علىٰ بطلان الأقوال المصرحة بالولادة قبل البعثة.

قد يقال : إنّ عمر خديجة عليها‌السلام حين الزواج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعون سنة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن خمس وعشرين سنة ، ونزل عليه الوحي في سنّ الأربعين ، فإذا ولدت الزهراء عليها‌السلام بعد مضي خمس سنين من نزول الوحي ، يكون عمر أُمّها عند الحمل بها ستين سنة ، وذلك أمر مستبعد للعادة.

وفيه : أنّ المنقول عن ابن عباس وابن حمّاد ، أنّ عمر خديجة عليها‌السلام حين تزوجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ثماني وعشرين سنة (٢).

وقد أيّد هذا بعض المؤرخين وعلماء الأنساب (٣).

ولهذا قال ابن العماد الحنبلي : « رجّح كثيرون أنّها عند الزواج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت ابنة ثماني وعشرين سنة » (٤).

ولا يخفىٰ بأنّ القول بصحة الرأي الأخير يسقط أصل الإشكال ، إذ سيكون عمر خديجة عليها‌السلام حين البعثة المشرّفة ثلاث وأربعين سنة ، وحين

_______________________

وفرائد السمطين / الجويني ٢ : ٦١ / ٣٨٦ ، مؤسسة المحمودي. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٩ : ٢٠٢ ، دار الكتاب العربي ـ بيروت. والمناقب / ابن المغازلي : ٣٥٧ ـ ٣٥٩ / ٤٠٦ ـ ٤٠٧ ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران. ومسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام / السيوطي : ٥١ ، حيدر آباد ـ الهند.

١) تاريخ بغداد / الخطيب ٥ : ٨٧ ، دار الكتب العلمية.

٢) كشف الغمة / الاربلي ٢ : ٥١٠ و ٥١٣.

٣) أنساب الأشراف / البلاذري ١ : ١٠٨ ، دار الفكر ـ بيروت. والمحبر / ابن حبيب : ٧٩ ، دار الآفاق الجديدة ـ بيروت.

٤) شذرات الذهب / ابن العماد الحنبلي ١ : ١٤ في حوادث سنة ١١ ه‌ ، دار احياء التراث العربي ـ بيروت.


ولادة سيدة نساء العالمين عليها‌السلام ثماني وأربعين سنة ، وحمل القرشية في هذه السن من المتعارف عليه ولا نقاش فيه ، وله مصاديق جمّة قديماً وحديثاً.

وعلىٰ القول بأنّ عمر خديجة عليها‌السلام عند الحمل بها ستون سنةً ، فإنّ حمل المرأة في مثل هذه السنّ ، وإن كان متعذّراً في غالب النساء ، إلّا أنّ إمكان أن ترىٰ القرشية والنبطية دم الحيض في هذه السنّ غير مستبعد ، بل هو من المشهور في فقه الفريقين (١).

نعم ، هو أقصىٰ مدة ليأس القرشية والنبطية عندهم ، وقد أكدته بعض الروايات المعتبرة المسندة إلىٰ أهل البيت عليهم‌السلام (٢).

وأمّ المؤمنين خديجة الكبرىٰ عليها‌السلام قرشية بالاتفاق ، وبهذا تكون من مصاديق فتاوىٰ الفقهاء وروايات أهل البيت عليهم‌السلام.

من الولادة حتىٰ الهجرة :

حينما قربت ولادة السيدة فاطمة الزهراء عليها‌السلام قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسيدة أُمّ المؤمنين خديجة : « يا خديجة ، هذا جبرئيل يبشرني أنّها أُنثىٰ ، وأنّها النسمة الطاهرة الميمونة ، وأنّ الله سيجعل نسلي منها ، وسيجعل من نسلها أئمة في الاُمّة ، ويجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه ، ووضعت خديجة فاطمة عليها‌السلام طاهرة مطهرّة ... » (٣).

وخديجة الكبرىٰ عليها‌السلام لم تسترضع لفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، فقد ألقمتها ثديها فدرّ عليها وشربت (٤) ، وهو صريح خبرٍ عن ابن عباس أيضاً (٥).

_______________________

١) تذكرة الفقهاء / العلامة الحلي ١ : ٢٥٢. والمغني / ابن قدامة ١ : ٤٠٦. والشرح الكبير ١ : ٣٥٢.

٢) الكافي / الكليني ٣ : ١٠٧ / ٢ و ٣ و ٤. وتهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي ٧ : ٤٦٩ / ١٨٨١.

٣) أمالي الصدوق : ٦٩١ / ٩٤٧. والعدد القوية / رضي الدين الحلي : ٢٢٣ / ١٥. وبحار الأنوار ١٦ : ٨٠ ، و ٤٣ : ٢.

٤) دلائل الإمامة : ٧٨ / ١٧.

٥) البداية والنهاية / ابن كثير ٥ : ٢٦٧ ، دار الكتب العلمية ـ بيروت.


ولاريب أن أفضل غذاء للطفل هو حليب الاُمّ ، وقد أثبتت التجارب العلمية أثره في بناء الطفل الجسدي والنفسي ، وجاء في الحديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّه قال : « ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أُمّه » (٦) وتوالت علىٰ الزهراء عليها‌السلام بعد نشأتها المشاهد القاسية التي كانت أليمة الوقع علىٰ نفسها الطاهرة وقلبها العطوف منذ نعومة أظفارها ، فقد فتحت عينها عليها‌السلام علىٰ المحن التي قاساها أبوها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبيل الدعوة ، وما رافقها من التعذيب والتنكيل بالمستضعفين من أتباعه ، وهجرتهم إلىٰ الحبشة ، وحصار بني هاشم في شعب أبي طالب نحو ثلاث سنين قضتها الزهراء عليها‌السلام مع أمّها وأبيها ( صلوات الله عليهم ) بحرمان وفاقة وانقطاع عن الناس.

ولم تهنأ الزهراء عليها‌السلام بالعيش الرغيد مع أُمّها وأبيها ( صلوات الله عليها ) بعد خروجهم من مخمصة الشعب إلّا نحو عام واحد ، حيث فجعت بوفاة أُمّها الرؤوم التي كانت تمنحها الدفء والحنان ، وتضفي عليها الحبّ والأمان ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « فجعلت تلوذ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدور حوله وتسأله : يا أبتاه اين أُمّي ؟ فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجيبها ، فجعلت تدور وتسأله : يا أبتاه أين أُمّي ؟ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدري ما يقول ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : إنّ ربك يأمرك أن تقرأ علىٰ فاطمة السلام وتقول لها : إنّ أُمّك في بيت من قصب ، كعابه من ذهب ، وعمده ياقوت أحمر ، بين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : إنّ الله هو السلام ، ومنه السلام ، وإليه السلام » (٧).

_______________________

٦) الكافي ٦ : ٤٠ / ١.

٧) الخرائج والجرائح / القطب الراوندي ٢ : ٥٢٩ / ٤ ، مؤسسة الإمام المهدي عليه‌السلام ـ قم ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥.


وفي العام نفسه والزهراء عليها‌السلام لمّا تبلغ الخامسة من العمر ، فُجِعت رسالة الإسلام بموت كفيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وناصره وحامي رسالته عمه أبي طالب عليه‌السلام فكان عام الحزن وفراق الأحبّة ، واشتداد شوكة المشركين علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المستضعفين ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتىٰ مات أبو طالب » (١) وقد وصلوا من أذاه إلىٰ مالم يكونوا يصلون إليه في حياة أبي طالب عليه‌السلام حتىٰ نثر بعضهم التراب علىٰ رأسه الكريم ، وكانت الزهراء عليها‌السلام ترىٰ بعينيها ما يفعله المستهزئون ويقوله المتآمرون من أجلاف قريش ، فكانت تحنو علىٰ أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالاُمّ الرؤوم ، وتغمره بحنانها وتفديه بروحها وتميط عنه الأذىٰ ، وتخفّف من آلامه ، وتهب لنصرته وتقوم علىٰ خدمته فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حياتها كلّها ، تبتسم لابتسامته ، وتصب الدمع الهتون إذا ما مسّه لغب ولو من عذب النسيم ! ، وكان ذلك أحد الوجوه المذكورة في سبب تكنيتها بأُمِّ أبيها من والدها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروىٰ مسلم في الصحيح عن ابن مسعود قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، وقد نحرت جزور بالأمس ، فقال أبو جهل : أيكم يقوم إلىٰ سَلَى جزور بني فلان فيأخذه ، فيضعه في كتفي محمد إذا سجد ؟ فانبعث أشقىٰ القوم فأخذه ، فلمّا سجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضعه بين كتفيه ، قال : فاستضحكوا ، وجعل بعضهم يميل علىٰ بعض ، وأنا قائم أنظر لو كانت لي مَنَعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجد ما يرفع رأسه ، حتىٰ انطلق إنسانٌ فأخبر فاطمة ، فجاءت وهي جُوَيريّة (٢) فطرحته عنه ، ثم أقبلت عليهم تشتمهم ، فلمّا قضىٰ

_______________________

١) تاريخ الطبري ٢ : ٣٤٤ ، دار التراث العربي ـ بيروت.

٢) ولفظ جويرية يشهد بكونها مولودة بعد البعثة لا قبلها.


النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلاته رفع صوته ، ثم دعا عليهم (١).

وروى مسلم والبخاري في الصحيح عن عبدالله ، قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجد وحوله ناس من قريش ، إذ جاء عُقبة بن أبي مُعيط بسَلَى جزور ، فقذفه علىٰ ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يرفع رأسه حتىٰ جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ، ودعت علىٰ من صنع ذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللهمَّ عليك الملأ من قريش ؛ أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وشيبة بن ربيعة ، وأُميّة بن خلف ـ أو أُبي بن خلف ـ » قال عبدالله : فلقد رأيتهم قُتِلوا يوم بدر ، فاُلقوا في القليب (٢).

وروىٰ البيهقي بالاسناد عن ابن عباس عن فاطمة عليها‌السلام قالت : « اجتمع مشركو قريش في الحجر ، فقالوا : إذا مرّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم ضربه كل واحد منّا ضربة ، فسَمِعته ( فاطمة ) فدخلت علىٰ أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : يا بنية اسكني ، ثم خرج فدخل عليهم المسجد ، فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا ، فأخذ قبضةً من تراب فرمىٰ بها نحوهم ثم قال : شاهت الوجوه ، فما أصاب رجلاً منهم إلّا قتل يوم بدر كافراً » (٣).

وهذه النصوص تكشف لنا عن أداء الزهراء عليها‌السلام لدورها الرسالي في الوقوف إلىٰ جنب أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ مطلع الدعوة ، والذبّ عنه وحمايته

_______________________

١) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٨ / ١٠٧ ، كتاب الجهاد والسير ـ دار الفكر ـ بيروت. ودلائل النبوة / البيهقي ٢ : ٢٧٩ ، دار الكتب العلمية.

٢) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٩ / ١٠٨ ، كتاب الجهاد والسير. وصحيح البخاري ٤ : ٢٢٠ / ٢٦ ، كتاب الجزية والموادعة ، باب طرح جيف المشركين في البئر ، عالم الكتب ـ بيروت. ودلائل النبوة / البيهقي ٢ : ٢٧٨.

٣) دلائل النبوة / البيهقي ٢ : ٢٧٦. ومجمع الزوائد ٨ : ٢٢٨. ومسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام / السيوطي : ١١٨.


ونصرة دعوته ، في مواقع تنكص فيها الشجعان عن المواجهة وتتردّد فيها الرجال عن المنازلة ، هذا علىٰ الرغم من صغر سنها.

ومن هنا نعلم أن فاطمة عليها‌السلام بعد فقد أُمّها لم تكن تلك اليتيمة التي تشكّل عبئاً علىٰ أبيها ، بل وقفت موقف العالمة بظروف أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الداركة لخطر الرسالة التي يدعو لها ، وما يحيط به من شدائد وأهوال وعداوات ، فصارت ربّة بيته التي تكفيه التفكير بمشاغل البيت ، ووقفت إلىٰ جنبه موقف المرأة البطلة المكافحة والمضحية براحتها ورفاهيتها ، وليس ثمّة كلمة تعبّر عن تقديره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما لقي من ابنته الصغيرة في مواقفها المختلفة ، أفضل من ( أُمّ أبيها ) في أحد معاني هذه الكنية العظيمة.

وإذا كانت فاطمة الزهراء عليها‌السلام قد فُجعت بأمّها وهي بأمسّ الحاجة إليها ، فقد صارت أشدّ لصوقاً بأبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتنهل من سجايا نفسه الزكية ومكارم خلقه الرفيع ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفيض عليها بحبّه وعطفه وشفقته ليعوضها عن شعورها بالحرمان من أُمّها.

وقد قيل : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جعل فاطمة عليها‌السلام عند ابنة عمّه أمّ هانىء بنت أبي طالب بعد وفاة خديجة عليها‌السلام لرعايتها والقيام بشأنها ، أخرجه السيوطي في حديثٍ عن عبدالرزاق عن ابن جريج (١).

ولعلَّ ذلك كان في بعض الأحيان التي ينشغل فيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأداء مهام الرسالة والقيام بأعباء الدعوة إلىٰ الله تعالىٰ.

الهجرة :

بعد أن اتفقت كلمة قريش علىٰ قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعاهدت قبائلها علىٰ ذلك ، ولم يبق له في مكة ناصر ولا مكان يأوي إليه ، أُذن له بالهجرة إلىٰ المدينة ، وتمت الهجرة بسلام علىٰ الرغم من ملاحقة قريش ومطاردتها له

_______________________

١) مسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام / السيوطي : ١١٩.


وبذلها الجوائز السنية لكلِّ من يرشدها إلىٰ مكانه أو يقبض عليه.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل هجرته أمر عليّاً عليه‌السلام أن يبيت علىٰ فراشه وأوصاه بما أهمّه وأن يلتحق به مع الفواطم وهنّ : فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وفاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت حمزة ، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب ( رضي الله عنهن ) وكان عمر الزهراء عليها‌السلام عند الهجرة ثمان سنين.

وبعد أن نفّذ علي عليه‌السلام وصايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّم وأدّىٰ الودائع والأمانات لأهلها ، هيّأ للفواطم الرواحل وأخرجهن من مكة في طريقه إلىٰ يثرب ، وأشار علىٰ من بقي في مكة من المؤمنين أن يتسلّلوا ليلاً إلىٰ ذي طوىٰ حيث يسير الركب منها باتجاه المدينة ، وخرج هو في وضح النهار بالفواطم ، ومعه أيمن ابن أمّ أيمن وأبو واقد الليثي ، فجعل أبو واقد يجدّ السير مخافة أن تلحقهم قريش وتحول بينهم وبين إتمام مسيرة الهجرة ، فقال له علي عليه‌السلام : « ارفق بالنسوة يا أبا واقد ، وارتجز يقول :

ليس إلّا الله فارفع ظنّكا

يكفيك ربّ الخلق ما أهمّكا »

 

ولما شارف ضجنان أدركه طلب قريش ، وكانوا ثمانية من فرسانهم ، فاستقبلهم أمير المؤمنين عليه‌السلام بسيفه وشدّ عليهم حتىٰ فرّقهم عن ركب الفواطم ، وقتل منهم جناح مولى حرب بن أُميّة ، ولاذ الباقون بالفرار ، ومكث أمير المؤمنين عليه‌السلام في ضجنان قدر يومه وليلته ، ولحق به نفرٌ من المستضعفين من المؤمنين ، وفيهم أُمّ أيمن مولاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فظلَّ ليلته تلك هو والفواطم طوراً يصلّون وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلىٰ جنوبهم ، فلم يزالوا كذلك حتىٰ طلع الفجر ، فصلّىٰ علي عليه‌السلام بهم صلاة الفجر ، ثم سار لوجهه ، فجعل يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله ، والفواطم كذلك وغيرهنّ ممّن صحبه عليه‌السلام حتىٰ قدموا المدينة ، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالىٰ : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ


اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) إلىٰ قوله سبحانه : ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ) (١) الذكر : علي عليه‌السلام ، والاُنثىٰ : الفواطم المتقدّم ذكرهنّ (٢).

وعن ابن عباس : هاجرت فاطمة مع أمير المؤمنين عليهما‌السلام فقدمت المدينة ، فأنزلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ أمّ أيوب الأنصاري ، وخطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النساء ، وتزوج سودة أول دخوله المدينة فنقل فاطمة عليها‌السلام إليها ، ثم تزوج أُمّ سلمة فقالت أُمّ سلمة : تزوجني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفوّض أمر ابنته إليّ ، فكنت أدلّها وأؤدّبها ، وكانت والله آدب مني ، وأعرف بالأشياء كلّها ، وكيف لا تكون كذلك وهي سلالة الأنبياء (٣).

المبحث الثاني : أسماؤها وألقابها وشمائلها عليها‌السلام :

عرفت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجملة من الأسماء والألقاب ، وطبيعي أنّه كلّما كان الإنسان من ذوي المنزلة والمكانة تعددت أسماؤه.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « لفاطمة عليها‌السلام تسعة أسماء عند الله عزَّ وجلَّ : فاطمة ، والصديقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والراضية ، والمرضية ، والمحُدَّثة ،

_______________________

١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩١ ـ ١٩٥.

٢) أمالي الطوسي : ٤٦٣ ـ ٤٧٢ / ١٠٣١ ، طبع مؤسسة البعثة ـ قم ، مسنداً بعدة طرق عن عمار بن ياسر وأبي رافع مولىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهند بن أبي هالة ربيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخي الزهراء عليها‌السلام من أُمّها خديجة ( رضي الله عنهم أجمعين ).

٣) دلائل الإمامة : ٨١ / ٢١.


والزهراء » (١).

وأضاف ابن شهرآشوب عن أبي جعفر القمي رضي‌الله‌عنه : البتول ، الحرّة ، السيدة ، العذراء ، مريم الكبرىٰ ، الصديقة الكبرىٰ (٢). وفيما يلي نورد دلالات بعض هذه الأسماء والألقاب التي تشير إلىٰ خصائصها الفريدة ومناقبها الفذّة ، وما اتسمت به من الصدق والبركة والطهارة والرضا والفضل العميم علىٰ سائر النساء.

١ ـ فاطمة :

تقدّم في ولادتها عليها‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سمّاها فاطمة بأمر الله تعالىٰ ، وهذا الاسم مشتق من الفطم بمعنىٰ القطع ، يقال : فطمت الاُمّ صبيها ، وفطمت الرجل عن عادته ، والفاعل منه فاطم وفاطمة.

وسبب التسمية هو أن الله تعالىٰ فطمها وفطم ذريتها ومحبيها عن النار علىٰ ما جاء في الحديث الشريف ، فجعلها سبحانه سيدة نساء أهل الجنة ، وجعل من ذريتها الحسن والحسين عليهما‌السلام سيدي شباب أهل الجنّة ، وجعل محبتها منجية من النار ، لأنّها محبّة لقيم العفاف ومبادىء الشرف ، وتعلّق بمكارم الأخلاق التي تتحلّىٰ بها سيدة النساء عليها‌السلام.

روىٰ جابر بن عبدالله وابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « إنّما سميت ابنتي فاطمة ، لأنّ الله عزَّ وجلَّ فطمها وفطم محبيها عن النار » (٣).

_______________________

١) أمالي الصدوق : ٦٨٨ / ٩٤٥. وعلل الشرائع ١ : ١٧٨ / ٣.

٢) المناقب ٣ : ٣٥٧ ، دار الأضواء.

٣) الفردوس / الديلمي ١ : ٣٤٦ / ١٣٨٥ ، دار الكتب العلمية. والمناقب / ابن المغازلي : ٦٥ / ٩٢.


وقال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي سميت ابنتي فاطمة لأنّ الله فطمها وذريتها من النار » (١).

ومحبة الزهراء عليها‌السلام المنجية من النار لابدّ أن تقترن بحبّ خصال الخير وعقائد الحقّ التي كان ينطوي عليها قلبها الطاهر ، مع الانقطاع عن كل ما يمتّ إلىٰ الشرّ بصلة من الظلم والبغي والعدوان.

وواضح بأن ( فاطمة ) علىٰ صيغة ( فاعل ) ولكنها وردت في الحديثين الشريفين بمعنىٰ صيغة ( مفعول ) ؛ لكونها ( مفطومة ). ولهذا نظائر في القرآن الكريم ولغة العرب ، قال تعالىٰ : ( عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ) (٢) قيل : أي مرضية ، وقوله تعالىٰ : ( مَّاءٍ دَافِقٍ ) (٣) قيل : أي مدفوق. وكقولهم : سرّ كاتم ، أي مكتوم وغيرها كثير.

ولكن هذا الاسم الشريف ( فاطمة ) جاء في حديث آخر علىٰ صيغة ( فاعل ) تعبيراً عن وصفه ولم يصرف إلىٰ معنىٰ ( مفعول ).

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سمّيت فاطمة لأنّها فطمت شيعتها من النار ، وفُطم أعداؤها عن حبّها » (٤).

_______________________

وإسعاف الراغبين / الصبّان : ١١٨ ، دار الكتب العلمية. ومسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام / السيوطي : ٥٠ ـ ٥١. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٥١. وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٦ / ١٧٤. وعلل الشرائع ١ : ١٧٨ / ١. وأمالي الطوسي : ٢٩٤ / ٥٧١. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٢٩. وكشف الغمة ١ : ٤٦٣.

١) أمالي الطوسي : ٥٧٠ / ١١٧٩. وذخائر العقبىٰ : ٢٦.

٢) سورة الطارق : ٨٦ / ٦.

٣) سورة الحاقة : ٦٩ / ٢١.

٤) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ٣٩٦ / ٥٣ ، طبع جماعة المدرسين ـ قم.


٢ ـ الزهراء :

ويستفاد من جملة الأحاديث والأخبار أنّ فاطمة عليها‌السلام عرفت بالزهراء لجمال هيئتها والنور الساطع في غرّتها ، فهي مزهرة كالشمس الضاحية ، ومشرقة كالقمر المنير.

وسُئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن فاطمة عليها‌السلام لِمَ سمّيت الزهراء ؟ فقال عليه‌السلام : « لأنّها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء ، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض » (١).

وسأل أبو هاشم الجعفري رضي‌الله‌عنه صاحب العسكر عليه‌السلام لِمَ سميت فاطمة عليها‌السلام الزهراء ؟ فقال : « كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين عليه‌السلام من أول النهار كالشمس الضاحية ، وعند الزوال كالقمر المنير ، وعند غروب الشمس كالكوكب الدرّي » (٢).

قال ابن الأثير : الزهراء : تأنيث الأزهر ، وهو النيّر المُشرق من الألوان ، ويراد به إشراق نور إيمانها ، وإضاءته علىٰ إيمان غيرها (٣).

وقال المناوي : سميت بالزهراء لأنها زهرة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

وارتجزت بعض أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زفاف الزهراء عليها‌السلام قائلة :

_______________________

١) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ٦٤ / ١٥. وعلل الشرائع / الشيخ الصدوق ١ : ١٨١ / ٣. ودلائل الإمامة : ١٤٩ / ٥٩. وبحار الانوار ٤٣ : ١٢ / ٦.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٦.

٣) منال الطالب / ابن الأثير : ٥٠٨ ـ القاهرة.

٤) اتحاف السائل / المناوي : ٢٤ ، مكتبة القرآن ـ القاهرة.


فاطمة خير نساء البشر

ومن لها وجه كوجه القمر

فضلّك الله علىٰ كلِّ الورىٰ

بفضل من خصّ بآي الزمر (١)

وقال الشاعر :

أضاءت بها الأكوان والأرض والسما

قديماً وفـي الدنيا وفـي النشأة الاُخرىٰ

ومازال فـي الأدوار يشرق نورهـا

ومـن أجل ذاك النور سميت الزهرا (٢)

وقال آخر :

شعّت فلا الشمس تحكيها ولا القمر

زهـراء من نورها الأكوان تزدهر (٣)

٣ ـ البتول :

البتل في اللغة : القطع ، وهو يرادف الفطم من حيث المعنىٰ ، وقد عرفت الزهراء عليها‌السلام بهذا الاسم لتفرّدها عن سائر نساء العالمين بخصائص تميزت بها ، كما تدل عليه الأحاديث وأقوال أهل اللغة.

أما في الأحاديث : فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سُئِلَ ما البتول ؟ فإنّا سمعناك يا رسول الله تقول : إنّ مريم بتول وفاطمة بتول.

_______________________

١) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٥.

٢) من قصيدة للشيخ علي الجشي في ديوانه ١ : ٧٦ ، مطبعة النجف ١٣٨٣ هـ.

٣) من قصيدة للسيد محمد جمال الهاشمي في ديوانه ( مع النبي وآله عليهم‌السلام ) : ٣٤ ، الطبعة الاُولىٰ.


فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البتول التي لم تر حمرةً قط ـ أي لم تحض ـ فإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء » (١) ، وتنزيهها عن الحيض باعتباره أذىً يشير إلىٰ علوّ مقامها وإلىٰ خصوصية تفردت بها عن سواها ، لأنّها من أهل البيت الذين طهرهم ربهم من الرجس تطهيراً ، وهو أمر غير مستبعد لكثرة المؤيدات له في الأحاديث والآثار.

منها : ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « حرّم الله النساء علىٰ علي عليه‌السلام ما دامت فاطمة عليها‌السلام حية » قال : قلت : كيف ؟ قال : « لأنّها طاهرة لا تحيض » (٢).

ومنها : ما أخرجه الطبراني وغيره بالاسناد عن عائشة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّ فاطمة ليست كنساء الآدميين ولا تعتلّ كما يعتللن » (٣).

ومنها : ما أخرجه النسائي والخطيب والمحب الطبري بالاسناد عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ ابنتي فاطمة حوراء آدمية ، لم تحض ولم تطمث » (٤).

ومنها : ما رواه ابن المغازلي وغيره بالاسناد عن أسماء بنت عميس ، قالت : شهدتُ فاطمة عليها‌السلام وقد ولدت بعض ولدها فلم يُرَ لها دم ، فقال

_______________________

١) معاني الأخبار : ٦٤ / ١٧. وعلل الشرائع : ١٨١ / ١. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠. ودلائل الإمامة : ١٤٩ / ٦٧.

٢) تهذيب الأحكام / الطوسي ٧ : ٤٧٥ / ١١٦. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠.

٣) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤٠٠ / ١٠٠٠. واعلام الورىٰ / الطبرسي ١ : ٢٩١. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٦٤.

٤) تاريخ بغداد ١٢ : ٣٣١. وذخائر العقبىٰ : ٢٦. ومسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام / السيوطي : ٥٠.


النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا أسماء ، إنّ فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية » (١). وفي رواية : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لها : « أما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة لا يرىٰ لها دم في طمث ولا ولادة » (٢).

وأمّا أهل اللغة : فقد أضافوا عدة دلالات اُخرىٰ تحكي عن منزلة الزهراء عليها‌السلام التي لا يدانيها أحد من نساء الاُمّة ، وفيما يلي بعضها.

قال الزبيدي : روي عن الزمخشري ، أنّه قال : لقبت فاطمة بنت سيد المرسلين عليها‌السلام بالبتول تشبيهاً بمريم عليها‌السلام في المنزلة عند الله تعالى.

وقال ثعلب : لانقطاعها عن نساء زمانها وعن نساء الاُمّة فضلاً وديناً وحسباً وعفافاً ، وهي سيدة نساء العالمين ، وأُمّ أولاده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورضي الله عنها وعنهم.

وقيل : البتول من النساء : المنقطعة عن الدنيا إلىٰ الله تعالىٰ ، وبه لقّبت فاطمة أيضاً ( رضي الله عنها ) (٣).

وقال الجزري بنحو قول ثعلب ، وأضاف في آخره : وقيل : لانقطاعها عن الدنيا إلىٰ الله (٤).

وقال به أيضاً أحمد بن يحيىٰ علىٰ ما نقله عنه ابن منظور. وأضاف ابن منظور : امرأة متبتلة الخلق : أي منقطعة الخلق عن النساء ، لها عليهنّ فضل. وقيل : التامة الخلق. وقيل : تبتيل خلقها : انفراد كلّ شيء منها بحسنه ، لا

_______________________

١) المناقب / ابن المغازلي : ٣٦٩ / ٤١٦. وكشف الغمة ١ : ٤٦٣. ودلائل الامامة : ١٤٨ / ٥٦.

٢) ذخائر العقبىٰ : ٤٤.

٣) تاج العروس / الزبيدي ٧ : ٣٣٠ ـ بتل ـ.

٤) النهاية ١ : ٩٤ ـ بتل ـ.


يتكل بعضه علىٰ بعض (١).

وعن الهروي في ( الغريبين ) ، قال : سميت فاطمة عليها‌السلام بتولاً ؛ لأنّها بتلت عن النظير (٢).

٤ ـ المُحَدَّثة :

المُحَدَّث : من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يُلهم له ويلقىٰ في روعه شيء من العلم علىٰ وجه الالهام والمكاشفة من المبدأ الأعلىٰ ، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفىٰ علىٰ غيره (٣).

وهذه كرامة يكرم الله بها من شاء من صالح عباده ، ومنزلة جليلة من منازل الأولياء ، حضيت بها الزهراء بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ ما جاء في كثير من الروايات ، منها ما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « إنّما سميت فاطمة عليها‌السلام محدّثة ، لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران ، فتقول : يافاطمة ، إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك علىٰ نساء العالمين. يا فاطمة ، اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، فتحدّثهم ويحدّثونها. فقالت لهم ذات ليلة : أليست المفضّلة علىٰ نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا : إنّ مريم كانت سيدة نساء عالمها ، وإنّ الله عزَّ وجلَّ جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها ، وسيدة نساء الأولين والآخرين » (٤).

وقد اتضح من التعريف المتقدم أنّ المحدَّث غير النبي ، وأنّه ليس كلّ

_______________________

١) لسان العرب ١١ : ٤٣ ـ بتل ـ.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠.

٣) الغدير / الأميني ٥ : ٤٢ ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران.

٤) علل الشرائع ١ : ١٨٢ / ١. ودلائل الإمامة : ٨٠ / ٢٠. وبحار الأنوار ٤٣ : ٧٨ / ٦٥.


محدّث نبي ، ولكن قد يتصور البعض أنّ الملائكة لا تحدّث إلّا الأنبياء ، وهو تصور غير صحيح ومنافٍ للكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة ، فمريم بنت عمران عليها‌السلام كانت محدثة ولم تكن نبية ، قال تعالىٰ : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ ) (١) وأُمّ موسىٰ كانت محدثة ولم تكن نبية ، قال تعالىٰ : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) (٢) وقال سبحانه مخاطباً موسىٰ عليه‌السلام : ( إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ ) (٣) وسارة امرأة نبي الله إبراهيم عليه‌السلام قد بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (٤) ، ولم تكن نبية ، ونفي النبوة عن النساء المتقدمات وعن غيرهن ثابت بقوله تعالىٰ : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ ) (٥) ولم يقل نساءً ، وعليه فالمُحدَّثون ليسوا برُسل ولا أنبياء ، وقد كانت الملائكة تحدّثهم ، والزهراء عليها‌السلام كانت مُحدَّثة ولم تكن نبية ، كما يحلو للبعض أن يقوله ويقذف به الفرقة الناجية (٦).

٥ ـ الصدّيقة :

وهي صيغة مبالغة في الصدق والتصديق ، وقد عرفت الزهراء عليها‌السلام بالصديقة ، والصديقة الكبرىٰ ، أي كانت كثيرة التصديق لما جاء به أبوها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقويّة الإيمان به ، كما انّها كانت صادقة في جميع أقوالها

_______________________

١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٢.

٢) سورة القصص : ٢٨ / ٧.

٣) سورة طه : ٢٠ / ٣٨.

٤) راجع الآيات من ٧١ ـ ٧٣ من سورة هود.

٥) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧.

٦) أمثال عبدالله القصيمي في كتابه « الصراع بين الإسلام والوثنية ».


بأفعالها (١).

روىٰ الشيخ الكليني باسناده عن علي بن جعفر ، عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : « إنّ فاطمة عليها‌السلام صديقة شهيدة » (٢).

وأخرج المحبُّ الطبري في ( الرياض النضرة ) أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للإمام علي عليه‌السلام : « أوتيت ثلاثاً لم يؤتهنّ أحد ولا أنا : أوتيتَ صهراً (٣) مثلي ، ولم أوت أنا مثلك ، وأوتيت زوجة صديقة مثل ابنتي ولم أُوت مثلها زوجة ، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما ، ولكنكم مني وأنا منكم » (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام علي عليه‌السلام : « يا علي ، إني قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء ، وأمرتها أن تلقيها إليك فأنفذها ، فهي الصادقة الصدوقة » (٥).

وأخرج الحاكم وغيره عن عائشة : أنها إذا ذكرت فاطمة بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : ما رأيت أحداً كان أصدق لهجةً منها إلّا أن يكون الذي ولدها (٦).

كناها :

كانت عليها‌السلام تُكَنىٰ بأسماء أبنائها عليهم‌السلام فهي أُمّ الحسن ، وأُمّ الحسين ، وأُمّ

_______________________

١) مرآة العقول / العلّامة المجلسي ٥ : ٣١٥ دار الكتب الإسلامية ـ طهران.

٢) الكافي ١ : ٤٥٨ / ٢.

٣) الصهر في اللغة : هو زوج بنت الرجل ، وأبو زوجة الرجل أيضاً. اُنظر لسان العرب ـ صهر ـ ٤ : ٤٧١.

٤) الرياض النضرة / المحب الطبري ٣ : ١٧٢ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

٥) بحار الأنوار ٢٢ : ٤٩١ عن كتاب الطرف للسيد ابن طاووس.

٦) مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٠ وصحّحه علىٰ شرط مسلم. والاستيعاب ٤ : ٣٧٧. وذخائر العقبىٰ : ٤٤.


المحسن ، وأُمّ الأئمة (١).

وعن الإمام الصادق عن أبيه عليهما‌السلام : « أنّ فاطمة عليها‌السلام كانت تُكنىٰ أُمّ أبيها » (٢). وروي ذلك عن مصعب بن عبدالله الزبيري ، ومحمد بن علي المديني وابن الأثير (٣).

أُمّ أبيها :

ومن الاوسمة الرفيعة الخالدة التي لم تمنح لبنت نبيّ قط غير الزهراء عليها‌السلام ما منحه أشرف الرسل والأنبياء لسيدة النساء : ( أم أبيها ) صلوات الله عليها.

إنّها كنية ما أجلّها وأعظمها ! فهي تعبر عن عمق الارتباط الروحي الضخم بين المانح العظيم المقدس وبين الممنوحة الطاهرة المطهرة بحكم التنزيه من كل رجس ودنس.

نعم ، هذه الكنية جديرة بالتأمل والتدبر ، فهي هتاف ملأ الكون بصداه ، ونداء لكلِّ جيل يتدبر معناه ، وتنبيه للاُمّة بما ينبغي عليها من توقير البتول وحفظ مقامها الشامخ من قلب الرسول.

لقد تبوّأت الزهراء عليها‌السلام هذا المقام العظيم من قلب أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا لكونها ابنته ، وإنّما أراد الله عزَّ وجلّ لها ذلك المقام المحمود زيادة علىٰ مواقفها

_______________________

١) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧. والهداية الكبرىٰ / الخصيبي : ١٧٦ مؤسسة البلاغ ـ بيروت. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٦ / ١٥.

٢) مقاتل الطالبيين / أبي الفرج : ٢٩ ـ النجف الأشرف. والمناقب / ابن المغازلي : ٣٤٠ / ٣٩٢. والاستيعاب ٤ : ٣٨٠ عن الإمام الصادق عليه‌السلام. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩ / ١٩.

٣) المعجم الكبير ٢٢ : ٣٩٧ / ٩٨٥ و ٩٨٨. وأُسد الغابة ٥ : ٥٢٠. ومجمع الزوائد ٩ : ٢١١. واتحاف السائل : ٢٥.


الفريدة والتي سنذكر طرقاً منها فنقول :

كانت الزهراء عليها‌السلام أحب الناس الىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، وهي بهجة قلبه وبضعة منه ، يغضب لغضبها ، ويرضىٰ لرضاها ، ويغضبه ما يغضبها ، ويبسطه ما يبسطها ، ويؤذيه ما يؤذيها ، ويسرّه ما يسرّها (٢).

وكانت إذا دخلت علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها (٣).

وإذا أراد سفراً أو غزاة كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر الناس عهداً بفاطمة عليها‌السلام ، وإذا قدم كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أول الناس عهداً بفاطمة عليها‌السلام (٤) ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينام حتىٰ يقبّل عرض وجهها ، ... ويدعو لها (٥).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكثر من زيارتها وتعهدها ويقول لها : « فداك أبي وأُمّي » (٦) ويقبّل رأسها فيقول : « فداك أبوك » (٧) وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعينها علىٰ الجاروش

_______________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٣٩٧ / ٩٨٦.

٢) راجع : صحيح مسلم ٤ : ١٩٠٣ / ٩٤. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٤. ومسند أحمد ٤ : ٥ دار الفكر ـ بيروت.

٣) سنن الترمذي ٥ : ٧٠٠ / ٣٨٧٢ دار احياء التراث العربي ـ بيروت. وجامع الاُصول / الجزري ١٠ : ٨٦ دار احياء التراث العربي ـ بيروت. ومستدرك الحاكم ٤ : ٢٧٢.

٤) مستدرك الحاكم ١ : ٤٨٩ و ٣ : ١٦٥. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٥٦. وذخائر العقبىٰ : ٣٧. ومسند أحمد ٥ : ٢٧٥.

٥) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٤. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٦.

٦) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٦.

٧) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٦. وذخائر العقبىٰ : ١٣٠.


والرحىٰ (١).

وحينما استشهد حمزة بن عبدالمطلب عليه‌السلام في أُحد بكت فاطمة الزهراء عليها‌السلام فانهلت دموع المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبكائها (٢) ، وحينما ماتت رقية قعدت علىٰ شفير قبرها إلىٰ جنب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تبكي ، فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح الدموع عن عينيها بطرف ثوبه رحمةً لها (٣).

أما تعامل الزهراء عليها‌السلام مع أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كانت تهتم به اهتمام الاُمّ بولدها (٤) ، فمنذ أيام طفولتها كانت تدفع عنه أذىٰ المشركين (٥) ، وتخفّف آلامه وتضمد جروحه (٦) ، وتمسح الدم عن وجهه في الحرب (٧) ، وإذا عاد من سفرٍ بادرت إلىٰ استقباله واعتنقته وقبّلت بين عينيه ، وكانت تتأثر لحاله وتحنو عليه.

أخرج الطبراني والحاكم وغيرهما عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قدم من سفر ، صلّىٰ في المسجد ركعتين ، ثمّ أتىٰ فاطمة فتلقته علىٰ باب البيت ، فجعلت تلثم فاه وعينيه وتبكي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما يبكيك ؟ » فقالت : « أراك شعثا ًنصباً ، قد أخلولقت ثيابك » فقال لها : « لاتبكي ، فإنّ الله قد بعث أباك بأمرٍ لا يبقىٰ علىٰ وجه الأرض بيت ولا مدر ولا حجر ولا

_______________________

١) بحار الأنوار / المجلسي ٤٣ : ٥٠ / ٤٧ عن ابن شاذان.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٥ : ١٧ دار احياء الكتب العربية.

٣) مسند أحمد ١ : ٣٣٥. وتاريخ المدينة المنورة / ابن شبة ١ : ١٠٣ دار الفكر ـ بيروت.

٤) البدء والتاريخ / المقدسي ٥ : ٢٠ مكتبة الثقافة الدينية.

٥) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٨ / ١٠٧ كتاب الجهاد والسير.

٦) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٦ / ١٠١ كتاب الجهاد والسير.

٧) المغازي / الواقدي ١ : ٢٤٩ عالم الكتب ـ بيروت.


وبر ولا شعر إلّا أدخله الله به عزّاً أو ذلاً حتىٰ يبلغ حيث بلغ الليل » (١).

وكانت « سلام الله عليها » تؤثره بما عندها من طعام كالاُمّ المشفقة علىٰ ولدها ، فعن أنس ، قال : جاءت فاطمة عليها‌السلام بكسرة خبز لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « ما هذه الكسرة ؟ » قالت : « قرص خبزته ولم تطب نفسي حتىٰ أتيتك بهذه الكسرة .. » (٢).

وعن عبدالله بن الحسن قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ فاطمة عليها‌السلام فقدّمت إليه كسرة يابسة من خبز شعير ، فأفطر عليها ، ثم قال : « يابنية ، هذا أول خبزٍ أكل أبوك منذ ثلاثة أيام » ، فجعلت فاطمة عليها‌السلام تبكي ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح وجهها بيده (٣).

ولمّا اختار الله سبحانه لنبيه دار رضوانه ومأوىٰ أصفيائه ، كانت الزهراء عليها‌السلام كالاُمّ التي فقدت وحيدها ، فما رؤيت عليها‌السلام ضاحكة قطّ منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ قبضت (٤) ، ومازالت بعده معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة (٥) ، تشمّ قميصه فيغشىٰ عليها (٦) ، وسمعت بلالاً يؤذّن حتىٰ إذا بلغ :

_______________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٢٢٥ / ٥٩٥ و ٥٩٦. ومستدرك الحاكم ١ : ٤٨٨ و ٣ : ١٥٥. وحلية الأولياء / أبو نعيم ٣ : ٣٠ و ٦ : ١٢٣ دار الكتب العلمية. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٣. وذخائر العقبىٰ : ٣٧.

٢) مجمع الزوائد ١٠ : ٣١٢.

٣) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٤٠.

٤) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٣٩٨ / ٩٨٩ و ٩٩٠ و ٩٩٣ و ٩٩٤. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٩. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٦.

٥) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨١.

٦) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٧٧. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٥٧ / ٦.


أشهد أن محمداً رسول الله ، شهقت وسقطت لوجهها وغشي عليها حتىٰ ظنّ بأنّها عليها‌السلام قد فارقت الحياة (١).

وكانت تقول :

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت

منّا العيون بتهمالٍ له سكبُ (٢)

هذه هي بعض الموارد التي تحكي لنا طبيعة العلاقة بين الرسول المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحبّ الناس إليه فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، ولو أتينا علىٰ جميع ما ورد في إكرامه لها وإلطافه بها وشفقته عليها ، لخرجنا عن شرط الاختصار في هذا البحث ، وعلىٰ العموم كانت عليها‌السلام بمثابة الاُمّ لأبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو يعظّمها ويبرّها ويحنو عليها ، ويجد فيها كل ما يجد الولد في أُمّه من العطف والرقة والحنان والوفاء ، فما أجدرها إذن بتلك الكنية الرفيعة : أمّ أبيها !

فانظر إلىٰ كرامة البنات وعزّتهن بالإسلام ، فالبنت التي كانت مصدر شؤمٍ وعارٍ في أعراف الجاهلية ، أصبحت في رحاب الإسلام أُمّاً للنبي الخاتم سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الشاعر :

_______________________

١) الفقيه / الشيخ الصدوق ١ : ١٩٤ / ٩٠٦ دار الكتب الاسلامية. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٥٧ / ٧.

٢) أمالي الشيخ المفيد : ٤١ / ٨ طبع جماعة المدرسين ـ قم. والبيتان من قصيدة مروية في عدة مصادر. راجع فاطمة الزهراء في ديوان الشعر العربي : ١٦ مؤسسة البعثة ـ قم.


بضعة من أبٍ عظيم يراها

نور عينيه مشرقاً في رداءِ (١)

فهي أحلىٰ في جفنه من لذيذ ال‍

‍حُلمِ غِبّ الهجـود والإعيـاءِ

وهي قطبُ الحنان في صدر طه

واختصار البنات والأبناءِ

غيّب الموت مـن خديجة وجهاً

فإذا فـاطم معين العزاءِ

تحسب الكون بسمةً من أبيها

فهي أُمّ تذوب في الإرضاءِ (٢)

وشيء آخر يمكن استخلاصه من هذه الكنية التي تشرفت بها الزهراء عليها‌السلام وهو أن الاُمّ في اللغة بمعنىٰ الأصل ، وفاطمة عليها‌السلام هي الفرع الفذّ النامي من الشجرة المحمدية الذي حافظ علىٰ بقاء الأصل وديمومته ، فأخرج للناس ثمار تلك الشجرة الباسقة.

عن عبدالرحمن بن عوف قال : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « أنا الشجرة ، وفاطمة فرعها ، وعلي لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها ، وشيعتنا ورقها ، وأصل الشجرة في جنة عدن ، وسائر ذلك في سائر الجنة » (٣).

_______________________

١) أي في حسن ونضارة.

٢) من قصيدة لبولس سلامة بعنوان عيد الغدير : ٨٠ الطبعة الرابعة ـ طهران.

٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٠. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي : ٦١.


وقد استلهم بعضهم هذا المعنىٰ فأنشد :

كما الله سمّاها بفاطم إذ قضىٰ

بفطم محبيها من النار في الاُخرىٰ

بأُمّ أبيها كنّيت إذ بفـاطم

بقى ذكره في الناس والملّة الغرّا (١)

حليتها وشمائلها :

كانت الزهراء عليها‌السلام تشبه أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلقاً وأخلاقاً ومنطقاً ، وقد وصفها الصحابة المعاصرون لها بأنّها كانت كأبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مشيته وجلسته وسمته وهديه ما تخطي منه شيئاً.

عن أنس بن مالك ، قال : لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحسن ابن علي وفاطمة عليهما‌السلام (٢).

وعن عائشة ، قالت : ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلّاً وهدياً وحديثاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قيامه وقعوده من فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وقالت : أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

وعن جابر بن عبدالله ، قال : ما رأيت فاطمة تمشي إلّا ذكرت رسول

_______________________

١) البيتان للشيخ علي الجشي من ديوانه ١ : ٧٦ مطبعة النجف ١٣٨٣ هـ.

٢) مسند أحمد ٣ : ١٦٤.

٣) سنن الترمذي ٥ : ٧٠٠ / ٣٨٧٢. وجامع الاُصول ١٠ : ٨٦. ومستدرك الحاكم ٤ : ٢٧٢.

٤) مسند أحمد ٦ : ٢٨٢.


الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تميل علىٰ جانبها الأيمن مرّة ، وعلىٰ جانبها الأيسر مرة (١).

وعن أُمّ سلمة ، قالت : كانت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشبه الناس وجهاً وشبهاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وكانت الزهراء عليها‌السلام المثل الأعلىٰ في خَلقِها وخُلُقِها وسموها وتفوقها في كل الفضائل والصفات الإنسانية العليا علىٰ جميع نساء أهل الدنيا ، حتىٰ بلغ من كمالها أن وصفها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مراراً وتكراراً بالحورية ، فسبحان من خصّها بما خصّها وفضّلها علىٰ نساء العالمين.

المبحث الثالث : زواجها عليها‌السلام :

إنّ المتأمل لمفردات زواج الزهراء عليها‌السلام يلمس فيه أعلىٰ معاني الكمال الإنساني والشرف الخلقي ، ويجد فيه أكثر من سنّة نبوية مباركة ، ويستلهم منه المزيد من العظات والعبر التي تسهم في حلِّ الصعوبات التي تعترض الحياة الزوجية في كلِّ زمان ومكان ، وقبل البحث في بعض هذه المفردات ، لابدّ من بيان تاريخ زواجها وعمرها عند الزواج.

تاريخ زواجها :

اختلف المحدثون والمؤرخون في السنة التي تزوّج فيها أمير المؤمنين عليه‌السلام بالزهراء عليها‌السلام ، فقيل : تزوجها بعد هجرتها إلىٰ المدينة بسنة ، وبنىٰ بها بعد سنة (٣). وقيل : بنىٰ بها في ذي الحجة من السنة الثانية

_______________________

١) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٦٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٦ / ٧.

٢) كشف الغمة ١ : ٤٧١. وبحار الأنوار ٤٣ : ٥٥.

٣) البدء والتاريخ ٥ : ٢٠. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٨٣. والهداية الكبرىٰ : ٣.


للهجرة (١). وقيل كان زفافها سنة ثلاث من الهجرة (٢) ، ومهما اختلفت الأقوال ، فإنّ المتعين أن زفافها كان بعد غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة.

وكذلك اختلف في يوم زواجها عليها‌السلام فقيل : تزوجها في أول ذي الحجة (٣). وقيل : في السادس منه يوم الثلاثاء ، وروي أيضاً لأيام خلت من شوال بعد وفاة أُختها رقية (٤). وقيل : كان تزويجها في صفر بعد الهجرة ، وبنىٰ بها بعد رجوعه من غزاة بدر (٥). وقيل : تزوجها في شهر رمضان ، وبنىٰ بها في ذي الحجة (٦). وقيل : كان زفافها ليلة الخميس إحدىٰ وعشرين من المحرم (٧). وأخيراً قيل : تزوجها في رجب بعد مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ المدينة بخمسة أشهر ، وبنىٰ بها بعد رجوعه من بدر (٨). والمشهور الأول أي الأول من ذي الحجة.

عمرها عند الزواج :

تختلف الروايات في مقدار عمرها عليها‌السلام عند الزواج بحسب الاختلاف الحاصل في تاريخ ولادتها وزواجها ، فإن قلنا : إنّ ولادتها بعد المبعث

_______________________

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٦.

٢) إقبال الأعمال / السيد ابن طاووس : ٥٨٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٢ / ١.

٣) مصباح المتهجد / الشيخ الطوسي : ٦٧١ مؤسسة فقه الشيعة ـ بيروت. ومصباح الكفعمي : ٥١٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٢ / ٢.

٤) أمالي الطوسي : ٤٣ / ١٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٧ / ٧.

٥) مقاتل الطالبيين : ٣٠.

٦) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٦.

٧) اقبال الأعمال / السيد ابن طاووس : ٥٨٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٢ / ١.

٨) طبقات ابن سعد ٨ : ٢٢ دار صادر ـ بيروت. الثغور الباسمة : ٢٧.


بخمس سنين ، يكون عمرها عند الزواج تسع سنين أو عشر أو إحدىٰ عشرة سنة ، وفق اختلاف الرواية في تزويجها بعد الهجرة بسنة أو سنتين أو ثلاث ، والمشهور الأول.

وقيل أيضاً : كان عمرها عند الزواج اثنتي عشرة سنة ، أو ثلاث عشرة ، أو أربع عشرة ، ولم يروِ أصحابنا في مبلغ عمرها يوم تزويجها أكثر من ذلك (١).

وفي الاستيعاب : كان سنّها يوم تزويجها خمس عشرة سنة وخمسة أشهر ، وكان سنّ علي عليه‌السلام إحدى وعشرين سنة (٢).

وفي رواية أبي الفرج وابن سعد وابن حجر : أنّه كان لها يوم تزويجها ثماني عشرة سنة (٣).

ولا ريب أن ذلك سنها يوم وفاتها عليها‌السلام وفقاً للرواية التي رجّحناها في مولدها عليها‌السلام ، فإن كان ذلك مبنياً علىٰ أنّ ولادتها قبل البعثة بخمس سنين ، فينبغي أن يكون عمرها عند الزواج تسع عشرة سنة أو عشرين سنة أو إحدىٰ وعشرين ، علىٰ اختلاف الروايات في تزويجها بعد الهجرة بسنة أو بسنتين أو ثلاث ، والله العالم بحقيقة الحال.

الخطبة :

تعرّض خطبة الزهراء عليها‌السلام أكابر قريش ، وكلّما ذكرها أحد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدّ عنه ، عن أنس بن مالك ، قال : جاء أبو بكر إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقعد بين يديه ، فقال : يا رسول الله ، قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام وإنّي وإنّي ، قال : « وما ذلك ؟ » قال : تزوجني فاطمة ، فأعرض عنه. وأتىٰ عمر إلىٰ

_______________________

١) المجالس السنية / السيد محسن الأمين ٥ : ٤٥ الطبعة الخامسة.

٢) الاستيعاب ٤ : ٣٧٤. وراجع : ذخائر العقبىٰ : ٢٦. والثغور الباسمة : ٦. وأعلام النساء ٣ : ١١٩٩.

٣) مقاتل الطالبيين : ٣٠. والإصابة ٤ : ٣٧٧. وطبقات ابن سعد ٨ : ٢٢.


النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له مثل ذلك فأعرض عنه (١) ، وخطبها عبد الرحمن بن عوف فلم يجبه (٢) ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينتظر بها القضاء.

روىٰ ابن شاهين وغيره عن عبدالله بن بريدة ، قال : إنّ أبا بكر خطب إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة ، فقال : « انتظر بها القضاء » ، ثم خطب إليه عمر ، فقال : « انتظر بها القضاء » ثمّ خطب إليه علي فزوجها منه (٣).

وعن أبي أيوب الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : « أُمرت بتزويجك من السماء » (٤).

وعن عبدالله بن مسعود ، قال : سمعتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « إنّ الله أمرني أن أُزوج فاطمة من علي ، ففعلت » (٥).

وعن أنس ، قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغشيه الوحي ، فلمّا سُرّي عنه قال : « يا أنس ، أتدري ما جاءني به جبرئيل من عند صاحب العرش ؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : إنّ الله أمرني أن أُزوّج فاطمة من علي » (٦).

قال الحرّ العاملي رضي‌الله‌عنه في منظومته :

_______________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٩ / ١٠٢١. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٦. والمناقب / ابن المغازلي : ٣٤٧ / ٣٩٩.

٢) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٥. وكشف الغمة ١ : ٣٦٨. وبحار الانوار ٤٣ : ١٠٨ و ١٤٠.

٣) فضائل فاطمة عليها‌السلام / ابن شاهين : ٥٠ / ٣٦ مؤسسة الوفاء ـ بيروت. وتذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٨. مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ١٨٢.

٤) فضائل فاطمة عليها‌السلام / ابن شاهين : ٥٠ / ٣٧.

٥) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٧ / ١٠٢٠. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٤. وكنز العمال ١١ : ٦٠٠ / ٣٢٨٩١. ودلائل النبوة / البيهقي : ١٤٢ / ٥٠. وترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ : ٢٥٩ / ٣٠٢. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٧٦.

٦) كنز العمال ١١ : ٦٠٦ / ٣٢٩٢٩. وذخائر العقبىٰ : ٣٠. والرياض النضرة ٣ : ١٤٥.


لم يتولّ الله تزويج أحد

من الأنام إلّا ثلاثة فقد

زوّج آدم بحـوا أمتـه

وزينب من النبي خيرته

وفـاطم الزهـراء بـالإمام

خير الأنام كاسر الأصنام (١)

وقال آخر :

وكم خاطب قد رُدّ فيها ولم يُجَب

وكم طالبٍ صهراً وما كان بالأهلِ

ولولا علي ما استجيب لخاطبٍ

ولا كانت الزهرا تزفّ إلىٰ بعلِ (٢)

الكفاءة :

تبين أن إجابة أمير المؤمنين عليه‌السلام في الزواج من الزهراء عليها‌السلام وردّ سواه كانا بأمر الله سبحانه ، وفي ذلك دليل علىٰ فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام وكرامته ومنزلته عند الله تعالىٰ.

والزهراء عليها‌السلام سيدة نساء العالمين لابدّ أن يكون كفؤها سيد رجال الاُمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن هنا جاءت مقاييس الاختيار والترجيح علىٰ لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يبين لابنته البتول عليها‌السلام فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « زوجتك سيداً في الدنيا والآخرة ، وإنه لأول أصحابي إسلاماً ، وأكثرهم علماً

_______________________

١) تراجم أعلام النساء / الأعلمي ٢ : ٣١٣ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.

٢) مستدركات أعيان الشيعة ٢ : ٣٣١ دار التعارف ـ بيروت.


وأعظمهم حلماً » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أما ترضين أن زوجتك أول المسلمين إسلاماً ، وأعلمهم علماً ، وإنّك سيدة نساء أُمتي كما سادت مريم نساء قومها » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي زوجتك أقدم أُمتي سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً » (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد أصبت لك خير أهلي ، وأيم الذي نفسي بيده لقد زوجتك سعيداً في الدنيا ، وإنّه في الآخرة لمن الصالحين » (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا فاطمة ، إنّي زوجتك سيداً في الدنيا ، وإنّه في الآخرة من الصالحين » (٥).

قال العبدي :

صدّيقة خُلِقت لصدّ

يقٍ شريف في المناسب

اختاره واخـتارها

طهرين من دنس المعايب

كان الإله وليها

وأمينه جبريل خاطب (٦)

_______________________

١) الاستيعاب ٣ : ٣٦.

٢) المعجم الكبير ٢٢ : ٤١٧ / ١٠٣٠.

٣) مسند أحمد ٥ : ٢٦. والرياض النضرة ٣ : ١٦٠. وذخائر العقبىٰ : ٧٨. ومجمع الزوائد ٩ : ١٠١ و ١١٤.

٤) المعجم الكبير ٢٢ : ٤١١ / ١٠٢٢. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٧. وحلية الأولياء ٢ : ٧٥.

٥) تاريخ بغداد ٤ : ١٢٨.

٦) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٢.


وقال آخر :

هي الجديرة بالكفء الكريم لها

من بالمفاخر والعليا يحاكيها

فمن يليق ببنت المصطفىٰ حسباً

ومن من العرب العرباء كافيها

ومن يناسب طه كي يصاهره

وهي المصاهرة المسعود ملفيها

غير العلي ربيب المصطفىٰ وله

سبق الهداية مذ نادىٰ مناديها

فإنّه بعد طه خير من ولدت

قريش مذ برا الباري ذراريها

لذلك اختاره ربّ السماء لها

بعلاً وأمست به الدنيا تهنّيها (١)

فكفاءة الإمام علي لفاطمة عليهما‌السلام كفاءة تقوم علىٰ ضوء موازين الحكمة الالهية ، فالله تعالىٰ هو الذي اختار الكفء للزهراء عليها‌السلام فكان عليّاً عليه‌السلام دون غيره.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو لم يُخلَق علي ما كان لفاطمة كفؤ » (٢).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « لولا أنّ الله تعالىٰ خلق أمير المؤمنين لم يكن

_______________________

١) الأبيات من القصيدة العلوية / الشاعر عبدالمسيح الانطاكي : ٩٧.

٢) الفردوس / الديلمي ٣ : ١٧٠. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٦. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٧٢.


لفاطمة كفؤ علىٰ وجه الأرض ، آدم فمن دونه » (١).

فلم تكن بين أهل الكساء امرأة قط غير فاطمة عليها‌السلام ، ولم يطهّر الله امرأة من نساء العالمين من الرجس غير فاطمة عليها‌السلام ، ولم يخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمسلمة إلىٰ مباهلة وفد نصارىٰ نجران غير فاطمة عليها‌السلام ، ولم تكنىٰ بنت نبي بأُمّ أبيها غير فاطمة عليها‌السلام ، ولم يكن لامرأة اجتمعت فيها هذه الخصال من كفءٍ غير يعسوب المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهكذا حكمت السماء.

وعليه فالكفاءة هنا ليست نَسَبِيّة حيث إننا قد نجد كفوءاً نسبياً للزهراء عليها‌السلام كأمير المؤمنين عليه‌السلام من سائر أبناء أبي طالب ، وليس المراد الكفاءة بالمال والغنىٰ ، ففي رجالات العرب من هو أغنىٰ من أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي تقدم إلىٰ الزهراء عليها‌السلام وما كان يملك غير سيفه ودرعه وناضحه ، ولكن أنّىٰ لنا أن نجد كفوءاً لها يوازيها في الحكمة والهدىٰ والرحمة وميراث النبوة وافتراض الولاء والطاعة علىٰ الناس أجمعين غير علي عليه‌السلام ؟

هذا ، وقد يقال : ما تقول بزواج عثمان ببنتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

قلنا : هذا قياس مع الفارق الكبير إذ لم تكن بضعة للنبي من بناته سوىٰ الزهراء عليها‌السلام ، ولم تختص واحدة من بناته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما اختصّت به البتول كما بيناه ، علىٰ أن زوجتي عثمان قد زوجهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كافرين قبله ، كما أن في زواج عثمان اختلافاً كثيراً كما يقول ابن شهرآشوب (٢).

_______________________

١) المناقب / ابن شهرآشوب ٢ : ١٨١. والكافي ١ : ٤٦١ / ١٠. والتهذيب ٧ : ٤٧٠ / ٩٠. والفقيه ٣ : ٢٤٩ / ١١٨٣. وأمالي الصدوق : ٦٨٨ / ٩٤٥. وعلل الشرائع ١ : ١٧٨ / ٣. والخصال / الشيخ الصدوق : ٤١٤ / ٣ طبع جماعة المدرسين ـ قم.

٢) مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ١٨٢.


وقد حقّق جملة من الباحثين في الموضوع ، وخلصوا إلىٰ القول بأن زوجتي عثمان هما بنتا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبنّي ، وليس من صُلبه الشريف (١) ، وعلىٰ هذا يسقط الاعتراض من الأساس.

الاستئذان والمشاورة :

ودرس آخر نتعلّمه من زواج الزهراء عليها‌السلام هو الاستئذان من الفتاة البكر ومشاورتها واستئمارها لكسب رضاها قبل الزواج ، وهو من الحقوق المهمة التي أولاها الإسلام للمرأة إظهاراً لكرامتها ، وعلىٰ الرغم من أن زواج الزهراء عليها‌السلام كان بأمر الله تعالىٰ ، فقد عمل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنة وتأديباً للاُمّة.

روىٰ الشيخ الطوسي بالاسناد عن الضحاك بن مزاحم قال : سمعت علي ابن أبي طالب يقول : « أتاني أبو بكر وعمر فقالا : لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت له فاطمة. قال : فأتيته ، فلما رآني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضحك ثم قال : ما جاء بك يا أبا الحسن ، وما حاجتك ؟ قال : فذكرت له قرابتي وقدمي في الإسلام ونصرتي له وجهادي فقال : يا علي ، صدقت ، فأنت أفضل مما تذكر. فقلت : يا رسول الله ، فاطمة تزوجنيها ؟ فقال : يا علي ، إنّه قد ذكرها قبلك رجال ، فذكرت ذلك لها ، فرأيت الكراهة في وجهها ، ولكن علىٰ رسلك حتىٰ أخرج إليك فدخل إليها ... فقال لها : يا فاطمة. فقالت : لبيك لبيك ، حاجتك يارسول الله ؟ قال : إنّ علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه ، وإني سألت ربي أن يزوجك خير خلقه وأحبّهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين ؟ فسكتت ولم تولّ وجهها ، ولم ير فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كراهة ، فقام وهو يقول : الله أكبر ، سكوتها إقرارها ، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد ،

_______________________

١) راجع كتاب بنات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / السيد جعفر مرتضىٰ العاملي.


زوّجها علي بن أبي طالب ، فإنّ الله قد رضيها له ورضيه لها » (١).

وعن عطاء بن أبي رباح ، قال : لمّا خطب علي فاطمة عليهما‌السلام أتاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « إنّ عليّاً قد ذكرك » فسكتت ، فخرج فزوجها (٢).

وهذا لا يعارض ما تقدم من إيكال أمر زواجها بيد الله تعالىٰ بداهةً ، ما دام علم الله وقضاؤه وقدره قد أحاط بالاشياء قبل إيجادها.

خطبة العقد :

وهي من السنن المستفادة من زواج الزهراء عليها‌السلام فقد روىٰ ابن شهرآشوب عن ابن مردويه ، قال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام : « تكلم خطيباً لنفسك » فقال : « الحمدُ لله الذي قرب من حامديه ، ودنا من سائليه ، ووعد الجنة من يتقيه ، وأنذر بالنار من يعصيه ، نحمده علىٰ قديم إحسانه وأياديه ، حمد من يعلم أنه خالقه وباريه ، ومميته ومحييه ، ومسائله عن مساويه ، ونستعينه ونستهديه ، ونؤمن به ونستكفيه ، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، شهادة تبلغه وترضيه ، وأن محمداً عبده ورسوله ، الىٰ أن قال : وهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوجني ابنته فاطمة علىٰ خمسمائة درهم وقد رضيت ، فاسألوه واشهدوا ».

فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وقد زوجتك ابنتي فاطمة علىٰ ما زوجك الرحمن ، وقد رضيت بما رضي الله لها ، فدونك أهلك فانك أحقّ بها مني ».

وفي خبر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فنعم الأخ أنت ، ونعم الختن أنت ، ونعم الصاحب أنت ، وكفاك برضا الله رضاً » فخرّ علي عليه‌السلام ساجداً شكراً لله تعالىٰ

_______________________

١) أمالي الطوسي : ٣٩ / ٤٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٣ / ٤.

٢) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٥. والثغور الباسمة / السيوطي : ٣١. وذخائر العقبىٰ : ٢٩ و٣٣. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٢٠. وتذكرة الخواص : ٣٠٨.


وهو يقول : ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ) (١). فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « آمين » فلمّا رفع رأسه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بارك الله عليكما ، وبارك فيكما ، وأسعد جدكما ، وجمع بينكما ، وأخرج منكما الكثير الطيب » ثم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطبق بُسرٍ وأمر بنهبه ، ودخل حجرة النساء ، وأمر بضرب الدف (٢).

وفي حديث علي عليه‌السلام وأُمّ سلمة وسلمان ( رضي الله عنهما ) قالوا : فقال المسلمون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زوجته يا رسول الله ؟ فقال : « نعم » فقالوا : بارك الله لهما وعليهما ، وجمع شملهما ، وانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ أزواجه ، فأمرهن أن يدففن لفاطمة عليها‌السلام ، فضربن بالدفوف (٣).

المهر :

كان مهر الزهراء عليها‌السلام خمسمائة درهم ، وهو الذي جرت به السُنّة ، وقد تقدّم ذكر ذلك في خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام المتقدمة ، وقيل : أربعمائة مثقال فضة ، وهو المروي عن أنس بن مالك ، في خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين العقد ، قال أنس : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغشيه الوحي ، فلما أفاق قال لي : « يا أنس ، أتدري ما جاءني به جبرئيل من عند صاحب العرش ؟ » قال : قلت : الله ورسوله أعلم. قال : « أمرني أن أزوّج فاطمة من علي ، فانطلق فادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعليّاً وطلحة والزبير ، وبعددهم من الأنصار ».

قال : فانطلقت فدعوتهم له ، فلمّا أن أخذوا مجالسهم قال رسول

_______________________

١) سورة النمل : ٢٧ / ١٩.

٢) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥١. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١١.

٣) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٥٨.


الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وأورد خطبته ـ إلىٰ أن قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ثم إني أُشهدكم أني قد زوجت فاطمة من علي علىٰ أربعمائة مثقال فضة ، إن رضي بذلك عليّ » وكان علي عليه‌السلام غائباً ، قد بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حاجة ، ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطبق فيه بُسر فوضع بين أيدينا ، ثم قال : « انتهبوا » فبينا نحن كذلك ، إذ أقبل علي عليه‌السلام فتبسم إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : « يا علي ، إنّ الله أمرني أن أزوجك فاطمة ، وقد زوجتكها علىٰ أربعمائة مثقال فضة ، أرضيت ؟ ». قال : « رضيت يا رسول الله » ثم قام علي عليه‌السلام فخرّ لله ساجداً ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « جعل الله فيكما الخير الكثير الطيب ، وبارك فيكما ».

قال أنس : والله لقد أخرج منهما الكثير الطيب (١).

والمشهور في مقدار المهر هو الأول ، وقال ابن شهرآشوب : وهو الأصح (٢) ، ولعلّ الأربعمائة مثقال فضة كانت تعادل خمسمائة درهم في عصرهم ، وقد ورد في جملةٍ من الروايات أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قد باع درعه بأربعمائة وثمانين درهماً وكانت هي مهر الزهراء عليها‌السلام.

روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام ـ في حديث تزويج فاطمة عليها‌السلام ـ قال : « ثم إنّ عليّاً اغتسل ولبس كساءً قطرياً وصلّىٰ ركعتين ، ثم أتىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا رسول الله زوّجني فاطمة. قال : إذا زوجتكها فما تصدقها ؟ قال : أصدقها سيفي وفرسي ودرعي وناضحي ، قال : أما ناضحك وسيفك وفرسك فلا غنىٰ بك عنها ، تقاتل المشركين ، وأما درعك فشأنك بها.

فانطلق علي عليه‌السلام وباع درعه بأربعمائة وثمانين درهماً قطرية ، فصبّها بين

_______________________

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٤٩. وذخائر العقبىٰ : ٣٠. والرياض النضرة ٣ : ١٤٥. وكفاية الطالب / الكنجي : ٣٠٢ الطبعة الثالثة ـ طهران.

٢) المناقب ٣ : ٣٥١.


يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يسأله عن عددها ، ولا هو أخبره عنها ... » (١).

وعن الحسين بن علي عليهما‌السلام قال : « زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليّاً علىٰ أربعمائة وثمانين درهماً » (٢).

وعن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : « كان صداق فاطمة عليها‌السلام جرد برد حبرة ودرع حطمية ، وكان فراشها إهاب كبش » (٣).

قيل : إنّ الاربعمائة وثمانين درهماً ، كانت ثمن الدرع لاتمام المهر ، كما يدل عليه بعض الأخبار ، وان الدرع والبرد لم يكونا مهراً ، بل بيعا ، لذلك فثمن الدرع أربعمائة وثمانون ، وثمن البرد عشرون ، والله أعلم (٤).

درس توجيهي :

لقد كانت عادة الأشراف من قريش إذا تزوج أحدهم أن يبذلوا المهور العالية ، وأن يكون الزواج مفعماً بمظاهر التكلف والاسراف ، وفي زواج الزهراء عليها‌السلام قدّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درساً عملياً للزواج النموذجي في الإسلام مغيراً معايير الجاهلية غير عابىء بلائمة قريش وعذلهم.

عن جابر بن عبدالله قال : لمّا زوّج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً من فاطمة عليها‌السلام أتت قريش فقالوا : يا رسول الله ، زوجت فاطمة بمهر خسيس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

_______________________

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٨. وكفاية الطالب : ٣٠٢. ونحوه عن أنس بن مالك. ورواه الطبراني في المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٩ / ١٠٢١. وابن المغازلي في المناقب : ٣٤٧ / ٣٩٩. والمحب الطبري في الرياض النضرة ٣ : ١٤٢. وابن حجر الهيثمي في المجمع ٩ : ٢٠٥ وغيرهم. ونحوه عن ابن عباس. ورواه البيهقي في السنن ٧ : ٢٣٤. وأحمد في المسند ١ : ٨٠. والمناوي في إتحاف السائل : ٣٥ و ٤٦.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥١.

٣) الكافي ٥ : ٣٧٧ / ٥. ونحوه عن الإمام الصادق عليه‌السلام في الكافي ٥ : ٣٧٧ / ١.

٤) المجالس السنية / السيد محسن الأمين ٥ : ٧٧.


« ما زوجت فاطمة من علي ، ولكن الله زوجها » (١) فليس هو إلّا حكم الله ، وقد شاء تحكمته أن تكون مهور النساء متواضعة ، وأجرىٰ ذلك علىٰ لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : « أفضل نساء أُمتي أصبحهن وجهاً وأقلهنّ مهراً » (٢).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « خلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابنته في صبيحة اليوم الرابع ، وقال لها : كيف أنت يا بنية ، وكيف رأيت زوجك ؟ فقالت له : يا أبه ، خير زوج ، إلّا أنه دخل عليَّ نساء من قريش ، وقلن لي : زوجك رسول الله من فقير لا مال له ، فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بنية ، ما ألوتك نصحاً أن زوجتك أقدمهم سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً. يا بنية ، إنّ الله عزَّ وجلَّ اطلع إلىٰ الأرض إطلاعة فاختار منها رجلين ، فجعل أحدهما أباك والآخر بعلك. يا بنية ، نعم الزوج زوجك لا تعصي له أمراً. ثم صاح بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ، فقلت : لبيك يا رسول الله. فقال : ادخل بيتك والطف بزوجتك وارفق بها ، فان فاطمة بضعة مني ، يؤلمني ما يؤلمها ، ويسرني ما يسرها ، استودعكما الله واستخلفه عليكما » (٣).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام عن آبائه : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا زوج فاطمة عليها‌السلام ، دخل النساء عليها ، فقلن : يا بنت رسول الله ، خطبك فلان وفلان ، فردّهم عنك ، وزوّجك فقيراً لا مال له ، فلمّا دخل عليها أبوها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأىٰ ذلك في وجهها ، فسألها فذكرت له ذلك ، فقال : يا فاطمة ، إنّ الله أمرني فانكحتك أقدمهم سلماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً ، وما زوجتك إلّا بأمرٍ من

_______________________

١) المناقب / ابن المغازلي : ٣٤٣ / ٣٩٥. وأمالي الطوسي : ٢٦٦ / ٤٦٤. والفقيه ٣ : ٢٥٣ / ١٢٠٢.

٢) الكافي ٥ : ٣٢٤ / ٤.

٣) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٣.


السماء ، أما علمت أنه أخي في الدنيا والآخرة » (١).

وعن ابن عباس ، قال : لما زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام من فاطمة عليها‌السلام تحدثت نساء قريش وغيرهن وعيّرنها وقلن : زوجك رسول الله من عائل لا مال له ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا فاطمة ، أما ترضين إنّ الله تبارك وتعالىٰ اطلع اطلاعة إلىٰ الأرض ، فاختار منها رجلين : أحدهما أبوك ، والآخر بعلك » (٢).

فمعيار التفاضل لابدّ أن يكون قائماً علىٰ أساس التقوىٰ والدين والخلق القويم ، لا علىٰ أساس الثروة والمال والحطام الزائل ، وعلىٰ الرغم من تواضع مهر الزهراء عليها‌السلام وبساطة المراسيم فقد وصف عرسها : بأنّه أحسن عرس وأطيبه.

عن جابر ، قال : حضرنا عرس علي وفاطمة عليهما‌السلام فما رأينا عرساً كان أطيب منه ، حشونا الفراش الليف ، وأُوتينا بتمرٍ وزبيب فأكلنا ، وكان فراشها ليلة عرسها إهاب كبش (٣).

وروىٰ ابن ماجة عن عائشة وأُمّ سلمة ، قالتا : ما رأينا عرساً أحسن من عرس فاطمة (٤).

ففي مهر الزهراء عليها‌السلام درس توجيهي لنا ، فقد زوّج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحب الخلق إليه بمهر متواضع كي يفهّم الاُمّة عمليّاً أن المهور العالية ليست في صالحها لما تسببه من تعكير لصفو المحبة والعلاقة بين الزوجين وزلزلة

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٣ : ٢٢٧.

٢) اليقين / السيد ابن طاووس : ١٥٨ ـ النجف الأشرف. وبحار الأنوار ٤٠ : ١٨ / ٣٦.

٣) مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٩. والثغور الباسمة : ٣٣. واتحاف السائل : ٤٢. وذخائر العقبىٰ : ٣٤. والرياض النضرة ٣ : ١٤٤.

٤) سنن ابن ماجة ١ : ٦١٦ / ١٩١١ كتاب النكاح ، باب الوليمة ، دار الفكر ـ بيروت.


الوضع الاقتصادي للعائلة ، فضلاً عن أنها تؤدي إلىٰ عزوف الشباب عن الزواج وما يعقبه من مفاسد اجتماعية وأمراض روحية.

الجهاز وأثاث البيت :

إنّ جهاز الزهراء عليها‌السلام وأثاث بيتها يعكس مظاهر الزهد والتواضع وسمو المبادىء وعظمة القيم الإسلامية العليا علىٰ مظاهر البذخ والترف الزائلة.

روىٰ الشيخ الطوسي مسنداً عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبض من ثمن الدرع قبضةً ودعا بلالاً فأعطاه ، وقال : ابتع لفاطمة طيباً ، ثم قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدراهم بكلتا يديه فأعطاه أبا بكر ، وقال : ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت وأردفه بعمار بن ياسر وبعدّة من أصحابه وحضروا السوق...

فكان مما اشتروه : قميص بسبعة دراهم ، وخمار بأربعة دراهم ، قطيفة سوداء خيبرية ، وسرير مزمّل بشريط ، وفراشين من خيش مصر حشو أحدهما ليف ، وحشو الآخر من جزّ الغنم ، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر ، وستر من صوف ، وحصير هجري ، ورحىٰ لليد ، ومخضب من نحاس ، وسقاء من أدم ، وقعب للبن ، وشنّ للماء ، ومطهرة مزفّتة ، وجرّة خضراء ، وكيزان خزف.

فلما عرض المتاع علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل يقلّبه بيده ويقول : بارك الله لأهل البيت » (١).

واقتصرت كثير من الروايات علىٰ بعض ما جاء في هذه الرواية من الجهاز (٢).

_______________________

١) أمالي الطوسي : ٤٠ / ٤٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٤ / ٥.

٢) راجع : مستدرك الحاكم ٢ : ١٨٥. ومسند أحمد ١ : ٨٤. و٣ : ١٠٤ و ١٠٨. والطبقات الكبرىٰ ٨ :


وروي عن أُمّ سلمة وسلمان الفارسي وعلي عليه‌السلام أنهم قالوا : وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبضةً من الدراهم ، ودعا بأبي بكر فدفعها إليه ، وقال : « يا أبا بكر ، اشترِ بهذه الدراهم لابنتي ما يصلح لها في بيتها » وبعث معه سلمان وبلالاً ليعيناه علىٰ حمل ما يشتريه ، قال أبو بكر : وكانت الدراهم التي أعطانيها ثلاثة وستين درهماً ، فانطلقت واشتريت فراشاً من خيش مصر محشوّاً بالصوف ، ونطعاً من أدم ، ووسادة من أدم حشوها من ليف النخل وعباءة خيبرية ، وقربة للماء ، وكيزاناً ، وجراراً ، ومطهرة للماء ، وستر صوف رقيقاً ، وحملناه جميعاً حتىٰ وضعناه بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا نظر إليه بكىٰ وجرت دموعه ، ثمّ رفع رأسه إلىٰ السماء وقال : « اللهمَّ بارك لقومٍ جلّ آنيتهم الخزف » (١).

وأخرج أبو يعلى عن علي عليه‌السلام ، قال : « أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل ثلثين في الطيب ، وثلثاً في الثياب » (٢).

وروىٰ ابن شهرآشوب عن الصادق عليه‌السلام قال : « أعطىٰ منها قبضة كانت ثلاث وستين أو ستة وستين إلىٰ أُمّ أيمن لمتاع البيت ، وقبضة إلىٰ أسماء للطيب ، وقبضة إلىٰ أُمّ سلمة للطعام ، وأنفذ عماراً وأبا بكر وبلالاً لابتياع مايصلحها » (٣).

أما بيت علي عليه‌السلام الذي زفّت إليه الزهراء عليها‌السلام فكان بمنتهىٰ البساطة والتواضع ، روىٰ ابن شهرآشوب عن وهب بن وهب القرشي ، قال : وكان

_______________________

٢٠ ـ ٢١. والثغور الباسمة : ٣٥. واتحاف السائل : ٥١.

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٥٩. ومناقب الخوارزمي : ٢٥٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٠.

٢) اتحاف السائل : ٤٤.

٣) المناقب ٣ : ٣٥٢.


من تجهيز علي عليه‌السلام داره انتشار رمل لين ، ونصب خشبة من حائط إلىٰ حائط للثياب ، وبسط إهاب كبش ، ومخدّة ليف (١).

وأخرج ابن ماجة عن عائشة وأُمّ سلمة ، قالتا : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نجهز فاطمة عليها‌السلام حتىٰ ندخلها علىٰ علي عليه‌السلام فعمدنا إلىٰ البيت ، ففرشناه تراباً ليناً من أعراض البطحاء ، ثم حشونا مرفقتين ليفاً ، فنفشناه بأيدينا... وعمدنا إلىٰ عود فعرضناه في جانب البيت ليلقىٰ عليه الثوب ويعلّق عليه السقاء (٢).

وروىٰ أحمد بالاسناد عن عكرمة وأبي يزيد المديني ، قال : لمّا أُهديت فاطمة إلىٰ علي عليه‌السلام لم تجد عنده إلّا رملاً مبسوطاً ووسادة وجرة وكوزاً (٣).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : « كان فراش علي وفاطمة عليها‌السلام حين دخلت عليه إهاب كبش ، إذا أرادا أن يناما عليه ، قلباه فناما علىٰ صوفه ، وكانت وسادتها أدماً حشوها ليف ، وكان صداقها درعاً من حديد » (٤).

وأخرج ابن سعد عن علي عليه‌السلام قال : « تزوجت فاطمة عليها‌السلام ومالي ولها فراش غير جلد كبش ، ننام عليه بالليل ، ونعلف عليه الناضح بالنهار ، ومالي ولها خادم غيرها » (٥).

وأخرج أحمد بن حنبل ، عن علي عليه‌السلام قال : « ما كان لنا إلّا إهاب كبش ،

_______________________

١) المناقب ٣ : ٣٥٣.

٢) سنن ابن ماجة ١ : ٦١٦ / ١٩١١.

٣) فضائل أحمد ٢ : ٥٦٧ / ٩٥٦ مؤسسة الرسالة. وتذكرة الخواص : ٣٠٧. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٩ عن أسماء بنت عميس.

٤) قرب الاسناد / الحميري : ٥٣ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ـ قم. والطبقات الكبرىٰ ٨ : ٢٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٠٤ / ١٤.

٥) الطبقات الكبرىٰ ٨ : ٢٢. وذخائر العقبىٰ : ٣٥. والثغور الباسمة : ٣٣. وتذكرة الخواص : ٣٠٧.


ننام علىٰ ناحيته ، وتعجن فاطمة علىٰ ناحيته » (١).

قال الشاعر :

رفرف السعدُ فوق كوخٍ صغيرٍ

لم يُدنّس بقسوة الأغنياء

إن تكن قسمةُ الغنيّ متـاعاً

فالإله الرحمن للاأتقياء (٢)

بيت الزهراء عليها‌السلام:

هذا هو ما ورد في وصف بيت الزهراء عليها‌السلام بأثاثه البسيط وجهازه المتواضع ، فلتتعلم منه الاُمّة درس التضحية والإيثار ومظاهر العزّ والعظمة ، فإنّه الحلّ الحاسم لكثير من المشكلات الاجتماعية التي كانت ولا زالت تهدد المجتمعات الإنسانية ويضجّ العالم تحت وطأتها.

فلو زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة من بعض رجالات العرب الذين تقدموا لخطبتها وحاشاه أن يفعل ، لكانت ترفل بحلل الحرير والديباج ، وتزدهي بقلائد الذهب والفضة ، ولسكنت القصور والعلالي ، ولكان لها الخدم والحشم ، بدل القربة التي استقت بها فأنهكتها ، والرحىٰ التي طحنت بها حتىٰ مجلت يدها ، والمكنسة التي قمّت بها حتىٰ اغبرت ثيابها ، لكن السعادة والسكينة والرحمة ليس في القصور الضخمة ، ولا في اقتناء الذهب والفضة ، بل حيث يكون ابن عمها الكفء ، أمير المؤمنين وإمام المتقين وأبو الأئمة الميامين ، أول الناس إسلاماً ، وأكثرهم علماً ، وأعظمهم حلماً.

( في هذا المكان ، وهذا البيت المتواضع الذي كان جُلّ أثاثه من الخزف ،

_______________________

١) الثغور الباسمة : ٣٥. وإتحاف السائل : ٥١.

٢) البيتان لبولس سلامة من قصيدة عيد الغدير : ٨٠ الطبعة الرابعة ـ طهران.


كان يبتهج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويغتبط ، ويجد لنفسه السكينة والسعادة والهناء ، ويفيض من قلبه الحبّ الأبوي والحنان علىٰ بضعته فاطمة عليها‌السلام ، وريحانتيه من الدنيا الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وعلي عليه‌السلام أخيه وصهره ووارث علمه وحكمته وشريكه في خصائصه ماعدا النبوة.

في هذا البيت الذي ضمّ آل الرسول ، ودرج فيه الحسنان ، كان يجلس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينعم برؤية الأهل والأولاد ، ويلقي عن كاهله الاتعاب والأوصاب ، وما لاقاه من الأذىٰ في سبيل دعوته.

في هذا البيت كان يجلس ربّ العائلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عائلته ؛ علي عليه‌السلام عن يمينه ، وفاطمة عليها‌السلام عن يساره ، والحسن والحسين عليهما‌السلام في حجره ، يقبّل هذا مرّة وذاك اُخرىٰ ، يباركهم ويدعو لهم ، ويسأل الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً.

ومن هذا البيت كان يخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ السفر ، وبه يبدأ إذا عاد ، وفي هذا البيت نزل الروح الأمين بالوحي من الله علىٰ قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخدم الملائكة فيه سيدي شباب أهل الجنة.

ومن هذا البيت المتواضع شعّ نور الهداية والإسلام علىٰ الناس مدىٰ الأجيال ، وفي هذا البيت الفقير سبّحت الزهراء وبعلها وبنوها عليهم‌السلام بالغدوّ والآصال.

قال أنس وبريدة : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) (١) ، فقام إليه رجل فقال : أي بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال : « بيوت الأنبياء » فقام إليه أبو بكر وقال : يا رسول الله ، هذا البيت منها ؟ وأشار إلىٰ بيت علي وفاطمة عليهما‌السلام ، فقال

_______________________

١) سورة النور : ٢٤ / ٣٦.


الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نعم من أفاضلها » (١) ) (٢).

وعلىٰ باب هذا البيت كان يمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج إلىٰ صلاة الصبح ويقول : « الصلاة ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٣).

ولكرامة هذا البيت الطاهر ومن فيه من شموس الهداية ومنارات التقىٰ وأعلام اليقين ، فقد استثناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما أمر بسدّ الأبواب الشارعة إلىٰ المسجد دونه ، وكان ذلك بأمر من الله تعالىٰ ، ليبين بذلك عظيم منزلتهم ومنتهىٰ درجتهم.

الزفاف والتكبير :

إنّ ذكر اسم الله تعالىٰ في مقدمات الزواج يضفي قيمة معنوية عليه ، ويربطه بخالق الوجود الأكبر ، مما يسهم في استمرار العلاقة الزوجية لاستنادها إلىٰ ركن قويم وتربية روحية صالحة.

وزواج الزهراء عليها‌السلام باركت له السماء قبل الأرض ، وكبرت له الملائكة قبل البشر ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبر الصحابة ، ووقع التكبير علىٰ العرائس من يوم زفافها ، وجرت السُنّة به إلىٰ يوم القيامة.

روىٰ الشيخ الطوسي وغيره بالاسناد عن الإمام موسىٰ بن جعفر عن أبيه عن جده عليه‌السلام عن جابر بن عبدالله ، قال : لما كانت ليلة زفاف فاطمة عليها‌السلام أتىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببغلته الشهباء ، وثنىٰ عليها قطيفة ، وقال لفاطمة : « اركبي » ، وأمر

_______________________

١) الدر المنثور / السيوطي ٦ : ٢٠٣. وروح المعاني / الالوسي ١٨ : ١٧٤.

٢) فضائل الإمام علي عليه‌السلام / الشيخ محمد جواد مغنية : ٢٦ ـ ٢٧ مكتبة الهلال ـ بيروت.

٣) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٢ / ١٠٠٢. ومسند أحمد ٣ : ٢٥٩ و ٢٨٥. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٨. وسنن الترمذي ٥ : ٣٥٢ / ٣٢٠٦.


سلمان أن يقودها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسوقها ، فبينا هو في بعض الطريق إذ سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبةً ، فإذا هو بجبرئيل في سبعين ألفاً ، وميكائيل في سبعين ألفاً. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أهبطكم إلىٰ الأرض ؟ » قالوا : جئنا نزفُّ فاطمة إلىٰ علي بن أبي طالب فكبّر جبرائيل ، وكبّر ميكائيل ، وكبّرت الملائكة ، وكبّر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوقع التكبير علىٰ العرائس من تلك الليلة (١).

وروى ابن شهرآشوب عن الخطيب في تاريخه وابن مردويه وابن المؤذن وشيرويه الديلمي بأسانيدهم عن ابن عباس وجابر ، قالا : لمّا كانت الليلة التي زفت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ علي عليه‌السلام كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك من خلفها ، يسبّحون الله ويقدسونه حتىٰ طلع الفجر (٢).

وعن كتاب ( مولد فاطمة ) عن ابن بابويه ـ في خبر ـ قال : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة ، وأن يفرحن ويرجزن ويكبّرن ويحمدن ، ولا يقلن ما لا يرضي الله ، فارتجزت أُمّ سلمة وعائشة وحفصة ومعاذة أُمّ سعد بن معاذ ، وكانت النسوة يرجعن أوّل بيت من كل رجز ، ثم يكبّرن ، ودخلن الدار ، ثم أنفذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ علي ودعاه إلىٰ المسجد ، ثم دعا فاطمة عليها‌السلام فأخذ بيدها ووضعها في يده ، وقال : « بارك الله في ابنة رسول الله » (٣).

وفي حديث أُمّ سلمة : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ عليّاً بيمينه ، وفاطمة بشماله ،

_______________________

١) أمالي الطوسي : ٢٥٨ / ٤٦٤. والفقيه ٣ : ٢٥٣ / ١٢٠٢. ومناقب ابن المغازلي : ٣٤٣ / ٣٩٥. وترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ : ٢٣٤ / ٢٩٩. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٠٤ / ١٥.

٢) المناقب ٣ : ٣٥٤. وتاريخ بغداد ٥ : ٧. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٦. وذخائر العقبىٰ : ٣٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١٥.

٣) المناقب ٣ : ٣٥٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١٥.


وجمعهما إلىٰ صدره ، فقبّل بين أعينهما ، ودفع فاطمة عليها‌السلام إلىٰ علي عليه‌السلام وقال : « ياعلي ، نعم الزوجة زوجتك » ثم أقبل علىٰ فاطمة عليها‌السلام وقال : « يافاطمة ، نعم البعل بعلك » ، ثم قام معهما يمشي بينهما حتىٰ أدخلهما بيتهما الذي هيّىء لهما ، ثم خرج من عندهما ، فأخذ بعضادتي الباب. فقال : « طهركما الله وطهّر نسلكما ، أنا سلمٌ لمن سالمكما ، أنا حربٌ لمن حاربكما ، أستودعكما الله واستخلفه عليكما » (١).

الوليمة :

وفي زواج الزهراء عليها‌السلام دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام لاَن يصنع طعاماً ويدعو الناس عامة لتكون سنة في أُمّته ، روىٰ الشيخ الطوسي بالاسناد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ، اصنع لأهلك طعاماً فاضلاً ، ثم قال : من عندنا اللحم والخبز ، وعليك التمر والسمن ، فاشتريت تمراً وسمناً ، فحسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذراعه ، وجعل يشدخ التمر في السمن حتىٰ اتخذه حيساً ، وبعث إلينا كبشاً سميناً فذبح ، وخُبز لنا خبز كثير ، ثم قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادعُ من أحببت » ... الحديث (٢).

وروىٰ الاربلي عن أُمّ سلمة وسلمان الفارسي وعلي عليه‌السلام أنهم قالوا : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدراهم التي سلّمها إلىٰ أُمّ سلمة عشرة دراهم ، فدفعها إلىٰ علي عليه‌السلام وقال : « اشتر سمناً وتمراً وأقطاً ، قال علي عليه‌السلام : فاشتريت وأقبلت به إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسر عن ذراعيه ، ودعا بسفرة من أدم ، وجعل يشدخ التمر والسمن ويخلطهما بالأقط حتىٰ اتخذه حيساً ، ثم قال : يا علي ، ادعُ من

_______________________

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦١.

٢) أمالي الطوسي : ٤٢ / ٤٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٥ / ٥.


أحببت .. » إلىٰ آخر الرواية (١).

وروىٰ الطبراني بالاسناد عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا بلالاً ، فقال : « يا بلال ، إنّي قد زوجّت ابنتي ابن عمي ، وأنا أحبُّ أن تكون سُنّة أُمتي الطعام عند النكاح ، فائت الغنم فخذ شاة وأربعة أمداد أو خمسة ، واجعل لي قصعة ، لعلّي أجمع عليها المهاجرين والأنصار ، فإذا فرغت منها فآذني بها » فانطلق ففعل ما أمره به ، ثم أتاه بقصعة فوضعها بين يديه ، فطعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رأسها ، ثم قال : « أدخل عليّ الناس زُفّة زُفّة » (٢).

ولا تعارض بين هذه الأخبار ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرط في الأول أن يكون التمر والسمن علىٰ علي عليه‌السلام ، وهو ما يفسره الخبر الثاني ، وشرط أيضاً أن يكون اللحم والخبز علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ما يفسره الخبر الأخير.

وحسبك من وليمة تجتمع علىٰ أطرافها البركة والخير والنماء ، فهي تصنع بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيده ، وهو الذي يدعو لها ويبارك فيها ، فلابدّ أن تكون أفضل وليمة علىٰ رغم بساطتها وتواضعها.

أخرج ابن سعد عن أسماء بنت عميس (٣) ، قالت : جهزت فاطمة إلىٰ علي ، وما كان حشو فراشهما ووسائدهما إلّا الليف ، ولقد أولم علي علىٰ فاطمة ، فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته (٤).

_______________________

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦١. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٢. والمناقب / الخوارزمي : ٢٥٤.

٢) المعجم الكبير ٢٢ : ٤١١ / ١٠٢٢. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٩. وإتحاف السائل : ٣٩.

٣) احتمل الاربلي أن تكون أسماء التي حضرت عرس الزهراء عليها‌السلام هي سلمىٰ بنت عميس زوجة حمزة بن عبدالمطلب عليه‌السلام لأنّ أسماء بنت عميس كانت بأرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام وقال غيره : هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.

٤) الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٤. وذخائر العقبىٰ : ٣٣. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٦ عن الدولابي. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٨ / ٣٤.


الدعاء للعريسين :

وحظي زواج الزهراء عليها‌السلام بدعاء خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجرت السُنّة بذلك لتأكيد القيم الروحية والمعنوية في الزواج ، وتأصيلها في العلاقة الزوجية من يومها الأول.

روىٰ أنس بن مالك عن أُمّ أيمن ، قالت : إنّه لما كانت ليلة البناء ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : « إذا أتتك فلا تحدث شيئاً حتىٰ آتيك » فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لفاطمة عليها‌السلام : « ائتيني بماء » فقامت إلىٰ قعب في البيت فجعلت فيه ماء فأتته به ، فمجّ فيه ثم قال لها : « قومي » فنضح بين ثدييها وعلى رأسها ، ثم قال : « اللهمَّ أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ثم قال لها : « أدبري » فأدبرت ، فنضح بين كتفيها ، ثم قال : « اللهمَّ إني أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ثم قال : « ائتيني بماء » فأتته ، فأخذ منه بفيه ، ثم مجّه فيه ، ثم صبّ علىٰ رأس علي وبين يديه ، ثم قال : « اللهمَّ إني أعيذه وذريته من الشيطان الرجيم » ثم قال : « ادخل علىٰ أهلك باسم الله والبركة » (١).

وزارهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صبيحة العرس ـ وقيل : في صبيحة اليوم الرابع (٢) ـ فسأل عليّاً عليه‌السلام : « كيف وجدت أهلك ؟ » فقال : « نعم العون علىٰ طاعة الله » وسأل فاطمة عليها‌السلام فقالت : « خير بعل » فقال : « اللهمَّ اجمع شملهما ، وألّف بين قلوبهما ، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم ، وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة ، واجعل في ذريتهما البركة ، واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلىٰ طاعتك ، ويأمرون بما يرضيك » (٣).

_______________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٩ / ١٠٢١. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٦. واتحاف السائل : ٣٥ و ٤٧.

٢) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٢.

٣) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١٧.


وكان من عادة العرب في الجاهلية أن يقولوا للمتزوجين : بالرفاء والبنين ، فنهىٰ عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زواج الزهراء عليها‌السلام وسنّ فيه غيره ، روىٰ ثقة الإسلام الكليني عن أبي عبدالله البرقي رفعه ، قال : « لمّا زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة قالوا : بالرفاء والبنين. قال : لا ، بل علىٰ الخيروالبركة » (١).

المبحث الرابع : دورها في داخل الاُسرة وخارجها :

انتقلت الزهراء عليها‌السلام من بيت أبيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ بيت بعلها الوصي عليه‌السلام ، ذلك البيت الذي تحفّه الرحمة ويغمره الايمان ، فتشكلت الاُسرة الطاهرة من سيدين معصومين درجا في أحضان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهلا من نمير علمه وخلقه العظيم ومكارم أخلاقه وكمالات نفسه الكريمة ، فكان علي عليه‌السلام سيد الوصيين النموذج الكامل والقدوة الصالحة للرجل في الإسلام ، وكانت الزهراء عليها‌السلام سيدة نساء العالمين النموذج الكامل للمرأة في الإسلام.

وقد وجدت الزهراء عليها‌السلام نفسها وهي في بيت الإمام عليه‌السلام أمام وظائف جسيمة ، ومسؤوليات عظيمة ، فباعتبارها القدوة الحسنة والاُسوة المثلىٰ للمرأة المسلمة ، كان عليها أن ترسم الطريق لمعالم البيت الإسلامي الأمثل في الإسلام ، وقد استطاعت وبكل جدارة أن تضرب أروع الأمثلة في طاعة الزوج ومراعاة حقوقه والاخلاص له ، والصبر علىٰ شظف العيش وقلة ذات اليد ، وفي القيام بمسؤوليات البيت وأداء واجبات الاُسرة في جوّ من المودة والصفاء والتعاون والوفاء ، وفي تربية الأولاد الصالحين ، بما ليس له نظير ،

_______________________

١) الكافي ٥ : ٥٦٨ / ٥٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٤٤ / ٤٦.


وفي ما يلي بعض معالم تلك الاُسرة الفريدة التي أنعم الله عليها بما يشاء.

١ ـ الطاعة وحسن المعاشرة :

كانت الزهراء عليها‌السلام نعم الزوجة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ما عصت له أمراً وما خالفته في شيء ولا خرجت بغير إذنه ، وكانت تعينه علىٰ طاعة الله تعالىٰ ، وتؤثره علىٰ نفسها ، وتدخل عليه البهجة والسرور ، حتىٰ إنّه إذا نظر إليها انكشفت عنه الهموم والأحزان.

جاء في روضة الواعظين أن الزهراء عليها‌السلام قالت في مرض موتها لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « يا بن عم ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني » فقال عليه‌السلام : « معاذ الله ! أنتِ أعلم بالله ، وأبرّ وأتقىٰ وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أوبخك بمخالفتي » (١).

وبالمقابل كان أمير المؤمنين عليه‌السلام نعم البعل للزهراء عليها‌السلام يغدق عليها من فيض حبّه وعطفه ، ويشعرها باخلاصه وودّه لها ، وما كان يغضبها ولا يكرهها علىٰ شيء قطّ ، وإن أرجف المرجفون علىٰ هذا البيت الطاهر بأراجيف شتىٰ.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « والله ما أغضبتها ولا أكرهتها علىٰ أمرٍ حتىٰ قبضها الله عزَّ وجلَّ. ولا أغضبتني ، ولا عصيت لي أمراً ، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان » (٢).

وضربت الزهراء عليها‌السلام أروع الأمثلة في الصبر علىٰ ألم المعاناة من العمل في داخل المنزل حتىٰ إنّها كانت تغزل جزة الصوف بثلاثة آصع من شعير.

عن تفسير الثعلبي : أن عليّاً عليه‌السلام انطلق إلىٰ يهودي يعالج الصوف ، فقال له :

_______________________

١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩١ / ٢٠.

٢) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٤. ومناقب الخوارزمي : ٢٤٧.


« هل لك أن تعطيني جزةً من صوف تغزلها لك بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاثة آصع من شعير ؟ » قال : نعم. فأعطاه الصوف والشعير. فقبلت فاطمة عليها‌السلام وأطاعت ، وقامت إلىٰ صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص (١).

وعن أنس ، قال : إنّ بلالاً أبطأ عن صلاة الصبح ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ماحبسك ؟ » فقال : مررت بفاطمة وهي تطحن والصبي يبكي ، فقلت لها : إن شئت كفيتك الرحا وكفيتني الصبي ، وان شئت كفيتك الصبي وكفيتني الرحال. فقالت : « أنا أرفق بابني منك » فذاك حبسني. قال : « رحمتها رحمك الله » (٢).

وفي مثل هذه الظروف القاهرة كانت عليها‌السلام لا تخرج منها غير كلمة الطاعة ، فحينما سألها أمير المؤمنين عليه‌السلام إطعام المسكين الذي طرق بيت الزهراء عليها‌السلام قالت :

« أمرك سمعٌ يابن عمّ وطاعة

ما بي من لؤمٍ ولا وضاعة » (٣)

ولا تتوانىٰ ابنة الرسالة عن أداء مهامها في البيت طاعةً لزوجها علىٰ الرغم من حالة الفقر التي كانت تلفّ حياتها في بيت الزوجية ، حتىٰ أن أمير المؤمنين عليه‌السلام رقّ لحالها من شدّة ما تعانيه من أتعاب منزلية.

أخرج السيوطي في مسند فاطمة عليها‌السلام عن هبيرة ، عن علي عليه‌السلام ، قال :

_______________________

١) إحقاق الحق / الشهيد التستري ١٠ : ٢٦٤ مكتبة السيد المرعشي ـ قم ، عن تفسير الثعلبي.

٢) مسند أحمد ٣ : ١٥٠. ومجمع الزوائد ١٠ : ٣١٦. وتاريخ دمشق ١٠ : ٣٣٢ ـ دمشق. ومجموعة ورّام ٢ : ٢٣٠.

٣) تفسير فرات : ٥٢١ ـ طهران ١٤١٠ هـ. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٧٤. وتذكرة الخواص ٣١٤. وتفسير القرطبي ١٩ : ١٣٢. واتحاف السائل : ١٠٥.


« قلت لفاطمة عليها‌السلام : لو أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأليه خادماً ، فإنّه قد جهدك الطحن والعمل .. ؟ » (١).

وعن الحسين بن علي ، عن أبيه علي عليهما‌السلام ، أنّه قال لفاطمة عليها‌السلام : « اذهبي إلىٰ أبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسليه يعطيك خادماً ، يقيك الرحىٰ وحرّ التنور .. » (٢).

وعن علي بن أعبد ، قال : قال لي علي عليه‌السلام : « ألا أُحدّثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت من أحبّ أهله إليه ؟ » قلت : بلىٰ.

قال عليه‌السلام : « إنّها جرّت بالرحىٰ حتىٰ أثّرت في يدها ، واستقت بالقربة حتىٰ أثرت في نحرها ، وكنست البيت حتىٰ اغبرت ثيابها ، وأوقدت القدر حتىٰ دكنت ثيابها ، وأصابها من ذلك ضرّ ، فأتىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خدمٌ ، فقلت : لو أتيت أباك فسألتيه خادماً ، فأتته فوجدت عنده حُدّاثاً فاستحيت فرجعت ، فأتاها من الغد ، فقال : ما كان حاجتك ؟ فسكتت ، فقلت : أُحدّثك يا رسول الله ، جرّت ندي عندي بالرحىٰ حتىٰ أثّرت في يدها ، وحملت بالقربة حتىٰ أثّرت في نحرها ، وكسحت البيت حتىٰ أغبرّت ثيابها ، وأوقدت القدر حتىٰ دكنت ثيابها ، فلمّا جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادماً يقيها حرّ ما هي فيه.

قال : اتقي الله يا فاطمة ، وأدّي فريضة ربك ، وأعملي عمل أهلك ، إن أخذت مضجعك فسبحي ثلاثاً وثلاثين ، وأحمدي ثلاثاً وثلاثين ، وكبّري أربعاً وثلاثين ، فتلك مائة ، فهي خير لك من خادم. فقالت : رضيت عن الله وعن رسوله ، ولم يُخدمها » (٣).

_______________________

١) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٢ عن ابن جرير.

٢) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٣ عن أبي نعيم.

٣) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١١٠ عن أبي داود ، والعسكري في المواعظ ، وأبي نعيم ، وعبدالله بن أحمد بن حنبل.


٢ ـ التعاون وتقسيم العمل :

ومن مظاهرالعظمة في بيت الزهراء عليها‌السلام والتي تستحق أن تكون قدوة لنا في حياتنا وأُسوة في تعاملنا داخل بيوتنا ، هو التعاون بوئامٍ وإخلاص بين الزوج والزوجة علىٰ إدارة شؤون البيت وتقسيم العمل في داخله وخارجه.

روىٰ العياشي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ فاطمة عليها‌السلام ضمنت لعلي عليه‌السلام عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت ، وضمن لها علي عليه‌السلام ما كان خلف الباب : نقل الحطب وأن يجيء بالطعام .. » (١).

وعن هشام بن سالم ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يحتطب ويستقي ويكنس ، وكانت فاطمة عليها‌السلام تطحن وتعجن وتخبز » (٢).

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يشاطرها الخدمة في أعمال المنزل الخاصة بها ، فقد جاء عن ابن شاذان أنه دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ علي عليه‌السلام فوجده هو وفاطمة عليها‌السلام يطحنان في الجاروش ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أيكما أعيىٰ ؟ » فقال علي عليه‌السلام : « فاطمة يا رسول الله » فقال لها : « قومي يابنية » فقامت وجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضعها مع علي عليه‌السلام فواساه في طحن الحبّ (٣).

ومن مظاهر التواضع والعدل في بيت الزهراء عليها‌السلام أنّ تقسيم العمل لا يقتصر علىٰ أفراد الاُسرة وحسب ، بل كانت تتناوب بالعمل مع الخادمة يوماً بيوم ، حيث أخدمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جارية أسمها فضّة بعد أن كثرت الفتوح والمغانم وارتفع الفقر عن أهل الصفّة وسائر ضعفاء المدينة.

_______________________

١) تفسير العياشي ١ : ١٧١ / ٤١ المكتبة العلمية ـ طهران. وبحار الأنوار ٤٣ : ٣١ / ٣٨.

٢) الكافي ٥ : ٨٦ / ١. وأمالي الطوسي : ٦٦٠ / ١٣٦٩. والفقيه ٣ : ١٦٩. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٥١ / ٧.

٣) بحار الأنوار ٤٣ : ٥٠ / ٤٧. وروىٰ نحوه ورّام في تنبيه الخواطر ٢ : ٢٣٠ ، مكتبة الفقيه ـ قم.


روىٰ الخوارزمي بالاسناد عن الإمام الباقر عليه‌السلام عن أبيه علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه ذكر تزويج فاطمة عليها‌السلام ثم قال : « إنّ فاطمة عليها‌السلام سألت من رسول الله خادماً ـ إلىٰ أن قال : ـ ثم غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساحل البحر ، فأصاب سبياً فقسمه ، فأمسك امرأتين إحداهما شابة ، والاُخرىٰ قد دخلت في السنّ ليست بشابة ، فبعث إلىٰ فاطمة عليها‌السلام وأخذ بيد المرأة فوضعها في يد فاطمة عليها‌السلام وقال : يا فاطمة ، هذه لك ولا تضربيها ، فإنّي رأيتها تصلي ، وإن جبرئيل نهاني أن أضرب المصلين ، وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوصيها بها ، فلمّا رأت فاطمة عليها‌السلام ما يوصيها بها التفتت إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : يا رسول الله ، عليّ يوم وعليها يوم ، ففاضت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبكاء وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) » (١).

وفي الاصابة عن ابن صخر في فوائده وابن بشكوال في كتاب المستغيثين ، بالاسناد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخدم فاطمة ابنته جارية اسمها فضّة النوبية ، وكانت تشاطرها الخدمة... فقالت لها فاطمة عليها‌السلام : أتعجنين أو تخبزين ؟ » فقالت : بل أعجن يا سيدتي وأحتطب.. » (٢).

وروىٰ الطبري والراوندي بالاسناد عن سلمان رضي‌الله‌عنه قال : كانت فاطمة عليها‌السلام جالسة قدامها رحىٰ تطحن بها الشعير وعلىٰ عمود الرحىٰ دم سائل ، والحسين في ناحية الدار يبكي من الجوع. فقلت : يا بنت رسول الله ، دبرت كفاك وهذه فضّة ؟

فقالت : « أوصاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون الخدمة لها يوماً ، فكان أمس

_______________________

١) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٩.

٢) الاصابة / ابن حجر ٤ : ٣٨٧.


يوم خدمتها .. » (١).

٣ ـ تربية الأولاد :

اضطلعت الزهراء عليها‌السلام بمهمة اُخرىٰ لا تقل عن مهمة مباشرتها لأعمال المنزل ، تلك هي تربية الأولاد ، فقد وهبها الله كرامة أُمومة الأوصياء ، وأعطاها شرف الربط بين النبوة والإمامة ، وقد استطاعت أن تجني من نتاج تربيتها أقدس الثمار ، فكان الحسن السبط عليه‌السلام أول مولود لفاطمة عليها‌السلام حيث ولد في النصف من شهر رمضان عام ثلاثة من الهجرة ، ثم الحسين السبط الشهيد عليه‌السلام الذي ولد في الثالث من شهر شعبان عام أربعة من الهجرة ، وهما سيدا شباب أهل الجنة ، والإمامان إن قاما وإن قعدا.

وكان المولود الثالث زينب العقيلة عليها‌السلام بطلة كربلاء ، وكان مولدها في السنة الخامسة من الهجرة ، ثم ابنتها الثانية وهي السيدة أُمّ كلثوم عليها‌السلام وقد ولدت بعد اختها بعام واحد وقيل : بعامين (٢) ، وابنها الأخير حملت به في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّاه قبل أن يولد محسناً ، لكنه أُسقط قبل ولادته عليه‌السلام فاستشهد مظلوماً بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأيام علىٰ إثر حوادث السقيفة والتي سنتعرض لبعضها في الفصل الأخير من هذا البحث.

لقد غرست الزهراء عليها‌السلام في نفوس أولادها خصال الخير ومكارم الأخلاق ومعالي الفضيلة ، وأرضعتهم مبادىء التوحيد والدفاع عن الحقِّ ، فقد روي أنها عليها‌السلام كانت ترقّص الحسن عليه‌السلام وهي تقول :

_______________________

١) دلائل الإمامة : ١٤٠ / ٤٨. والخرائج والجرائح ٢ : ٥٣٠ / ٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٨ / ٣٣.

٢) وقد ذهب بعض الباحثين كالسيد عبدالرزاق المقرم الموسوي الىٰ أن أم كلثوم هي نفسها زينب العقيلة. وأن ( أُمّ كلثوم ) لقب من ألقابها ، بخلاف ما ذهب إليه الشيخ المفيد وغيره بأنّ أم كلثوم غير زينب عليهما‌السلام. راجع : مقتل الحسين عليه‌السلام / السيد عبدالرزاق المقرم.


أشبه أباك يا حسن

واخلع عن الحقّ الرَّسن

واعبد إلهاً ذا منن

ولا تُوالِ ذا الإحن (١)

ونشأ أولاد الزهراء عليها‌السلام في ظل رعاية الاُمّ سيدة النساء والأب وصي المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحيطهم أشرف الأنبياء والرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحنانه وعطفه وتربيته ، فكانوا خيرة البشرية وقدوة الإنسانية.

وحظي الحسن والحسين عليهما‌السلام بمساحة واسعة من حب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحنانه وعطفه ، فهما ريحانتاه يشمهما ويكثر من تقبيلهما ، ويحملهما علىٰ عاتقه ، ويضمهما إليه ، ويعوّذهما ، ويعلمهما القرآن ، ويلقنهما العلم والفصاحة والشجاعة والزهد والورع ، فاستوحيا رساليته وروحانيته وأخلاقيته ، وتجسدت فيهما شخصيته ، فكانا اختصاراً لجميع عناصرها الأخلاقية والروحية والإنسانية ، فصارا رمز الفضيلة والمروءة وقدوةً صالحة وخلقاً كريماً ، عملا بوصاياه وتعاليمه ، وجاهدا في سبيل دينه ومبادئه ، ونهضا من أجل إقامة الاصلاح في أُمته ، فكانا عليهما‌السلام مشعل نور وهداية في حياة الاُمّة.

ولقد حرّم الله سبحانه أولادها علىٰ النار كرامة لعفّتها وحصانتها ، وبياناً لمنزلتهم عند الله تعالىٰ ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها الله وذريتها علىٰ النار » (٢).

_______________________

١) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٨٩. وأعيان الشيعة ١ : ٥٦٣.

٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٢. والمعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٧ / ١٠١٨. وحلية الأولياء / أبي نعيم ٤ : ١٨٨ ـ دار الكتب العلمية. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٢. وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٣ / ٢٦٤.


قال الصبان : أخرج الطبراني بسند رجاله ثقات أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفاطمة عليها‌السلام : « إنّ الله غير معذّبك ولا أحداً من ولدك » (١).

وجاء في كثير من الروايات والأخبار أنّ ذلك خاص بأولادها دون سائر ذريتها ، منها ماروي بالاسناد عن محمد بن مروان ، قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : هل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها علىٰ النار » ؟ قال عليه‌السلام : « نعم ، عنىٰ بذلك الحسن والحسين وزينب وأُمّ كلثوم » (٢).

قال حسّان بن ثابت :

وإن مريم أحصنت فرجها

وجاءت بعيسىٰ كبدر الدجىٰ

فقد أحصنت فاطمُ بعدها

وجاءت بسبطي نبيّ الهدىٰ (٣)

دورها في خارج المنزل :

إذا تجاوزنا دور الزهراء عليها‌السلام في إدارة أعمال المنزل وتربية الأولاد ، نرىٰ أن سيدة النساء قد سجّلت عناوين مهمة وآفاق جديدة لدور المرأة المسلمة في مجمل النشاطات الاجتماعية والسياسية والحربية وغيرها ، ممّا يتناسب مع واقع وحاجات وظروف ذلك العصر.

فقد كانت تعلّم النساء ما يشكل عليهنّ من الأحكام الشرعية والمعارف

_______________________

١) إسعاف الراغبين : ١٨١ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

٢) معاني الأخبار : ١٠٦ / ٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٣١ / ٣.

٣) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٠.


الإلهية الضرورية ، وكان يغشاها نساء المدينة وجيران بيتها (١) ، ويبدو أن بيتها كان المدرسة النسائية الاُولىٰ في الإسلام ، حيث تقبل عليها النساء طالبات للعلم ، فيجدن فاطمة العالمة وهي تستقبلهنّ بصدر رحب لا يعرف الملالة والسأم.

عن الإمام العسكري عليه‌السلام قال : « حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة ، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء ، وقد بعثتني إليك اسألك ، فأجابتها فاطمة عليها‌السلام عن ذلك ، فثنّت فأجابت ، ثم ثلّثت إلىٰ أن عشّرت فأجابت ، ثم خجلت من الكثرة ، فقالت : لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله. فقالت عليها‌السلام : هاتي وسلي عمّا بدا لك... إنّي سمعت أبي يقول : إنّ علماء أُمّتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات علىٰ قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله ، حتىٰ يخلع علىٰ الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور ... » (٢).

وعنه عليه‌السلام قال : « قالت فاطمة عليها‌السلام وقد اختصمت إليها امرأتان ، فتنازعتا في شيء من أمر الدين ، إحداهما معاندة ، والاُخرىٰ مؤمنة ، ففتحت علىٰ المؤمنة حجتها ، فاستظهرت علىٰ المعاندة ، ففرحت فرحاً شديداً ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : إنّ فرح الملائكة باستظهارك عليها أشدّ من فرحك ، وإنّ حزن الشيطان ومردته أشدّ من حزنها ... » (٣).

ومما وصل إلينا من خطبها للنساء ، خطبتها بنساء المدينة في مرض موتها ، وهي غاية في الفصاحة والمعرفة ، وسنوردها في آخر هذا البحث إن

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٩٣.

٢) بحار الأنوار ٢ : ٣ / ٣.

٣) بحار الأنوار ٢ : ٨ / ١٥.


شاء الله تعالىٰ.

ولم تقتصر في تعليمها علىٰ النساء ، بل كانت عليها‌السلام تطرف القاصدين إليها بما عندها من العلم والمعرفة ، فعن ابن مسعود ، قال : جاء رجل إلىٰ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا ابنة رسول الله ، هل ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندك شيئاً تطرفينيه ، فقالت : « يا جارية ، هاتي تلك الحريرة » فطلبتها فلم تجدها ، فقالت : « ويحك اطلبيها ، فانها تعدل عندي حسناً وحسيناً » فطلبتها فإذا هي قد قمّتها في قمامتها ، فإذا فيها : « قال محمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت. إنّ الله يحبّ الخيّر الحليم المتعفّف ، ويبغض الفاحش الضنين السَّئآل الملحف. إنّ الحياء من الإيمان ، والايمان في الجنة ، وإن الفحش من البذاء ، والبذاء في النار » (١).

وكان للزهراء عليها‌السلام مشاركة فعّالة ومؤثّرة في الدعوة إلىٰ الله تعالىٰ في مواقع مختلفة أهمها المباهلة مع النصارىٰ ، ونزل فيها قرآن يتلىٰ إلىٰ يوم القيامة ( وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ) (٢) فكانت سيدة النساء عليها‌السلام هي المختصة بهذا الفضل ولم يشركها فيه أحد من نساء الاُمّة.

وكانت الزهراء عليها‌السلام معيناً للمحتاجين من أبناء المجتمع الإسلامي آنذاك ، تنفق في سبيل الله وتعتق الرقاب وتعين الضعفاء ، فقد توافق أغلب المفسرين علىٰ نزول قوله تعالىٰ : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا

_______________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٤١٣ / ١٠٢٤. ودلائل الإمامة : ٦٥ / ١. وقطعة من حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحيح البخاري ٨ : ١٩ / ٤٨ و ٤٩. وصحيح مسلم ١ : ٦٨ / ٧٥ و ٧٧. ومصابيح السُنة / البغوي ٣ : ١٦٩ دار المعرفة ـ بيروت. والكافي ٢ : ٦٦٧ / ٦. والزهد / الحسين بن سعيد : ٦ / ١٠ ، و ١٠ / ٢٠ عن الإمام الصادق عليه‌السلام المطبعة العلمية ـ قم.

٢) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.


وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ) (١) في أهل البيت عليهم‌السلام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام حينما تصدقوا رغم خصاصتهم علىٰ المسكين واليتيم والأسير (٢).

أخرج ابن شهرآشوب عن ابن شاهين في ( مناقب فاطمة عليها‌السلام ) وأحمد في مسند الأنصار عن أبي هريرة وثوبان أنّها عليها‌السلام نزعت قلادتها وقرطيها ومسكتيها ـ أي سواريها ـ ونزعت ستر بيتها ، فبعثت به إلىٰ أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : « اجعل هذا في سبيل الله » فلمّا أتاه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد فعلت فداها أبوها ـ ثلاث مرات ـ ما لآل محمد وللدنيا ، فإنّهم خلقوا للآخرة ، وخلقت الدنيا لغيرهم » وفي رواية أحمد : « فإنّ هؤلاء أهل بيتي ، ولا أُحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا » (٣).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذينك السوارين فكسّرا فجعلهما قطعاً ، ثمّ دعا أهل الصُّفّة ـ وهم قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال ـ فقسّمه بينهم قطعاً ، ثم جعل يدعو الرجل منهم العاري الذي لا يستتر بشيء ، وكان ذلك الستر طويلاً ، ليس له عرض ، فجعل يؤزّر الرجل ، فإذا التقيا عليه قطعه حتىٰ قسّمه بينهم أُزراً... ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله فاطمة ، ليكسونّها الله بهذا الستر من كسوة الجنة ، وليحلّينها بهذين السوارين من حلية الجنة » (٤).

_______________________

١) سورة الإنسان : ٧٦ / ٨ و ٩.

٢) الكشاف / الزمخشري ٤ : ٦٧٠. وتفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٣ دار احياء التراث العربي. ومعالم التنزيل / البغوي ٥ : ٤٩٨ دار الفكر.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣. ومسند أحمد ٥ : ٢٧٥. وذخائر العقبىٰ : ٥٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٦. وأمالي الصدوق : ٣٠٥ / ٣٤٨. وبحار الأنوار ٤٣ : ٨٦.

٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ٩٤ الشريف الرضي ـ قم. وبحار الأنوار ٤٣ : ٨٢ / ٦.


وفي صحيفة الإمام الرضا عليه‌السلام عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام قال : « حدثتني أسماء بنت عميس ، قالت : كنت عند فاطمة جدتك ، إذ دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي عنقها قلادة من ذهب ، كان علي بن أبي طالب عليه‌السلام اشتراها لها من فيءٍ له ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يغرّنك الناس أن يقولوا : بنت محمد ، وعليك لباس الجبابرة ؛ فقطعتها وباعتها ، واشترت بها رقبة فاعتقتها ، فسُرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك » (١).

وفوق ذلك فالمتصفح للسيرة والتاريخ يجد أنّها كانت إلىٰ جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض غزوات الإسلام الكبرىٰ تمسح الدم عن وجهه الكريم وتضمد جراحه.

أخرج البخاري ومسلم في الصحيح عن عبدالعزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، أنّه سمع سهل بن سعد يُسأل عن جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أُحد ، فقال : جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسرت رباعيته وهشمت بيضته علىٰ رأسه ، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغسل الدم ، وكان علي بن أبي طالب عليه‌السلام يسكب عليها بالمجَنّ ، فلمّا رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلّا كثرة ، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتىٰ صار رماداً ، ثم ألصقته بالجرح ، فاستمسك الدم (٢).

وقال الواقدي في حديثه عن معركة أُحد : خرجت فاطمة عليها‌السلام في نساء ، وقد رأت الذي بوجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتنقته ، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ،

_______________________

١) صحيفة الإمام الرضا عليه‌السلام : ٢٥٦ / ١٨٥ طبع مؤسسة الإمام المهدي عليه‌السلام ـ قم. وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٤ / ٦١. وذخائر العقبى : ٥١. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٦ / ٢٨.

٢) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٦ / ١٠١ كتاب الجهاد والسير ـ باب غزوة أُحد. وصحيح البخاري ٥ : ٢٢٦ / ١١٣ كتاب المغازي ـ باب ما أصاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الجراح يوم أُحد. ومغازي الواقدي ١ : ٢٥٠ عالم الكتب ـ بيروت.


ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « اشتدّ غضب الله علىٰ قومٍ أدموا وجه رسول الله » وذهب علي عليه‌السلام يأتي بماءٍ من المهراس ، وقال لفاطمة عليها‌السلام : « أمسكي هذا السيف غير ذميم » فأتىٰ بماءٍ في مِجَنّهِ ... فمضمض منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاه للدم الذي في فيه ، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها (١).

وجاء في أغلب التواريخ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناول سيفه ابنته فاطمة عليها‌السلام بعد غزاة أُحد ، وقال لها : « اغسلي عن هذا دَمَهُ يا بنية » وناولها علي عليه‌السلام سيفه وقال :

« أفاطم هاك السيف غير ذميمِ

فلست بـرعديد ولا بلئيـمِ

أفاطم قد أبليت في نصر أحمدٍ

ومرضاة ربّ بـالعباد رحيمِ

أميطي دماء القوم عنه فانّه

سقى آل عبدالدار كأس حميم » (٢)

وكانت لها إسهامات في حروب الإسلام المصيرية تناسب شخصيتها وقدراتها ، ففي وقعة أُحد كانت قد جاءت مع أربع عشرة امرأة يحملن الطعام والشراب علىٰ ظهورهن ، ويسقين الجرحىٰ ويداوينهم (٣).

وعندما أُصيب سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب عليه‌السلام كانت الزهراء عليها‌السلام من المبادرات إلىٰ مصرعه مع صفية بنت عبدالمطلب ، وكانت تبكي وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي لبكائها (٤).

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، لم تنس ابنة الرسالة دور الشهداء في بناء صرح الإسلام وتشييد عزّته واكتساب ديمومته وسرّ بقائه ، قال الإمام

_______________________

١) مغازي الواقدي ٢ : ٢٤٩.

٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢٧ دار التراث ـ بيروت. ومستدرك الحاكم ٣ : ٢٤. وتذكرة الخواص : ١٦٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٥ : ٣٥. ومجمع الزوائد ٦ : ١٢٢. وأمالي الطوسي : ١٤٣ / ٢٣٢.

٣) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٩.

٤) مغازي الواقدي ١ : ٢٩٠.


الصادق عليه‌السلام : « إنّ فاطمة عليها‌السلام كانت تأتي قبور الشهداء في كل غداة سبت ، فتأتي قبر حمزة وتترحم عليه وتستغفر له » (١).

وفي مغازي الواقدي : كانت الزهراء عليها‌السلام تأتي قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة ، فتبكي عندهم وتدعو (٢) ، واتخذت من تربة حمزة عليه‌السلام مسبحة علىٰ عدد التكبيرات تديرها بيدها فتكبّر وتسبّح بها ، وعملت بعدها التسابيح فاستعملها الناس (٣).

ولمّا استشهد جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام في مؤتة أمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تتخذ لأسماء بنت عميس طعاماً ثلاثة أيام ، فجرت بذلك السُنّة ، وأمرها أن تقيم عندها ثلاثة أيام هي ونساؤها لتسليها عن المصيبة (٤).

وخرجت مع أبيها وبعلها يوم فتح مكة ، وقد ضُرِبَ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خِباء بالبطحاء ، وجلس فيه يغتسل وكانت فاطمة عليها‌السلام تستره ، وقيل : أمرها فسكبت له غسلاً فاغتسل (٥).

ولم تنس الزهراء عليها‌السلام دورها الاجتماعي حتىٰ في عبادتها ، فقد كانت تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها ، متحلية بالخلق النبوي والأدب الإسلامي الرفيع.

عن الإمام الحسن عليه‌السلام قال : « رأيت أُمي فاطمة عليها‌السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها ، فلم تزل راكعة ساجدة حتىٰ اتضح عمود الصبح ، وسمعتها تدعو

_______________________

١) تهذيب الأحكام ١ : ٤٦٥ / ١٦٨.

٢) مغازي الواقدي ١ : ٣١٣.

٣) مزار المفيد : ١٣٢ / ١ مؤسسة الإمام المهدي عليه‌السلام ـ قم. وبحار الأنوار ١٠١ : ١٣٣ / ٦٤.

٤) المحاسن / البرقي : ٤١٩ / ١٩١ و ١٩٢.

٥) راجع : أخبار مكة / الأزرقي ١ : ١٦١ الشريف الرضي ـ قم. ومغازي الذهبي : ٥٥٥ دار الكتاب العربي ـ بيروت.


للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم ، وتكثر الدعاء لهم ، ولا تدعو لنفسها بشيء ، فقلت لها : يا أُمّاه ، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت : يا بني ، الجار ثمّ الدار » (١).

وكان للزهراء عليها‌السلام دور رائد في الدفاع عن قضايا الإسلام المصيرية بعد رحلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ عالم الخلود ورضوان ربه ، فقد جهرت بالحق ودافعت عن الإمامة ، وخطبت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبة بليغة أعادت إلىٰ الأذهان الخطوط العريضة التي رسمها الإسلام لقيادة الاُمّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظ الدعوة وتأصيل مفاهيمها ، وقد كادت خطبتها أن تؤتي أُكلها لولا تسلّط الظالمين وبطش الجبارين. وسنأتي علىٰ بعض فقرات هذه الخطبة في آخر هذا البحث.

وعلىٰ رغم المأساة التي تعرضت لها الزهراء عليها‌السلام بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد استطاعت أن تؤدي دورها في إلقاء الحجة علىٰ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان الحقائق الناصعة التي طالما نوّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها في حياته.

جاء في خصال الشيخ الصدوق : أن فاطمة الزهراء عليها‌السلام لمّا منعت فدكاً وخاطبت الأنصار ، فقالوا : يا بنت محمد ، لو سمعنا هذا الكلام قبل بيعتنا لأبي بكر ماعدلنا بعلي أحداً. فقالت : « وهل ترك أبي يوم غدير خمّ لأحد عذراً » (٢).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : « أنّ عليّاً عليه‌السلام حمل فاطمة عليها‌السلام علىٰ حمارٍ وسار بها ليلاً إلىٰ بيوت الأنصار يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة عليها‌السلام الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمك سبق

_______________________

١) علل الشرائع / الشيخ الصدوق : ١٨١ / ١. ودلائل الإمامة : ١٥١ / ٦٥.

٢) الخصال : ١٧٣.


إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي عليه‌السلام أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أُجهزه ، وأخرج إلىٰ الناس أُنازعهم في سلطانه ! وقالت فاطمة عليها‌السلام : ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه » (١).

_______________________

١) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٢ مكتبة مصطفىٰ بابي الحلبي ـ مصر. وشرح ابن أبي الحديد ٦ : ١٣.



الفصل الثاني

خصائصها الفذّة ومكارم أخلاقها عليها‌السلام

إنّ حياة سيدة النساء عليها‌السلام تعدّ صفحة خالدة علىٰ طول التاريخ ، نقرأ فيها الذروة العليا من مبادىء العفاف والطهارة والاستقامة والعظمة ، ما لا يمكن لأيّة أُنثىٰ في صفحات الوجود أن تبلغه ، فهي غرس النبوة وشجرة الإمامة الباسقة التي نمت علىٰ أنغام كلمات الوحي من فم الصادق الأمين ، الذي كان يحنو عليها ويبذل الوسع في إعدادها لتكون ابنة الرسالة المثلىٰ والقدوة الكبرىٰ لنساء العالمين.

ولقد تجلّت تلك العناية النبوية في الخصائص الفريدة التي تحلّت بها الزهراء عليها‌السلام ، فكانت سيدة النساء وأفضلهن في العلم والأدب والفصاحة والبيان والخلق الرفيع والعبادة ومكارم الأخلاق.

قالت عائشة : ما رأيت قطّ أفضل من فاطمة غير أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ولم تنل فاطمة عليها‌السلام مرتبة السيادة السامية لأنّها بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسب ، ولكن الله تعالىٰ اختارها وفضّلها علىٰ نساء العالمين ، وأكرمها بما جاء علىٰ لسان الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوىٰ من الأحاديث الجمّة

_______________________

١) المعجم الأوسط / الطبراني ٣ : ٣٤٩ / ٢٧٤٢. والإصابة ٤ : ٣٧٨ أخرجه عن المعجم الأوسط ، وقال : سنده صحيح علىٰ شرط الشيخين. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠١. وقال : رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى ، ورجالهما رجال الصحيح. وإتحاف السائل : ٢٨.


في بيان خصائصها ومكارم أخلاقها عليها‌السلام ، كما أنّها أجهدت نفسها في مرضاة الله عزّ وجلّ واستحقّت شرف الحصول علىٰ هذه المرتبة بفضل زهدها وإخلاصها ويقينها وعبادتها وإنفاقها وجهادها وصبرها وتحملها في سبيل الله ، فكانت رمزاً وقدوة للمرأة في المجتمع الإسلامي.

ومن هنا حظيت بمناقب فذّة ومزايا عجيبة ، فكان زواجها بأمر الله تعالىٰ ، وكانت من الخمسة أهل الكساء عترة النبي المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وفرض مودتهم علىٰ جميع الخلق ، وأوجب التمسك بهم والاقتداء بهديهم بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واختصها الله تعالىٰ بقوله في آية المباهلة : ( وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ) فتفرّدت بنيل ذلك الشرف من دون نساء الاُمّة ، وجعل الله تعالىٰ في نسلها الذرية الطاهرة من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي ذلك شرف لا يضاهىٰ وفضل لا يدانىٰ.

قال الشاعر :

تفرّدت بالذكا والعلم واتخذت

من الخلائق والآداب ساميها

والله كمّل تكميلاً محاسنها ال‍

‍زهرا فسافرها زاهٍ وخافيها

وإنّها فذّة بين النساء فلا

بنت لحوّاء تدنو من معاليها (١)

وفي هذا الفصل سنورد بعض الأخبار الدالة علىٰ خصوصيتها بشرف المنزلة وتفرّدها بعلو الدرجة ، من خلال مبحثين :

الأول : في مناقب الزهراء عليها‌السلام وخصائصها.

الثاني : في مكارم أخلاقها.

_______________________

١) من القصيدة العلوية / عبد المسيح الانطاكي : ٩٥.


المبحث الأول : مناقب الزهراء عليها‌السلام وخصائصها :

١ ـ عصمتها من الأرجاس :

أخرج مسلم في الصحيح عن عائشة ، قالت : خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداةً وعليه مرط مرحّل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فدخل معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء عليّ فأدخله ، ثم قال : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١). وأخرج الترمذي وغيره عن أُم سلمة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جلّل علىٰ الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ، وقال : « اللهمّ أهل بيتي وحامتي اذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ». قالت أُمّ سلمة : وأنا معهم يا رسول الله ؟ فقال : « إنّكِ علىٰ خير » (٢). ولا ريب أن إذهاب الرجس عن أهل البيت الذين عنوا بالخطاب يوجب عصمتهم.

٢ ـ فرض مودّتها :

روي أنه لمّا نزل قوله تعالىٰ : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (٣).

قيل : يا رسول الله ، من هم قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم ؟

_______________________

١) صحيح مسلم ٤ : ١٨٨٣ / ٢٤٢٤. وتفسير الرازي ٨ : ٨٠. والآية من سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.

٢) سنن الترمذي ٥ : ٣٥١ / ٣٢٠٥ و ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٧ وص ٦٦٩ / ٣٨٧١. وروي حديث الكساء في مسند أحمد ٤ : ١٠٧ و ٦ : ٢٩٢ و ٣٠٤. ومصابيح السنة ٤ : ١٨٣. ومستدرك الحاكم ٢ : ٤١٦ و ٣ : ١٤٨. وتفسير الطبري ٢٢ : ٦ و ٧. وتاريخ بغداد ٩ : ١٢٦ و ١٠ : ٢٧٨. وأُسد الغابة ٢ : ١٢ و٤ : ٢٩. والمعجم الكبير / الطبراني ٩ : ٢٥ / ٨٢٩٥ ، ٢٣ : ٢٤٩ و ٢٨١ و ٣٢٧ و ٣٣٤ و ٣٣٣ و ٣٣٧ و ٣٩٦.

٣) سورة الشورىٰ : ٢١ / ٢٣.


قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليّ وفاطمة وابناهما » (١).

٣ ـ المباهلة بها :

أجمع المفسرون والمحدّثون وكتّاب السيرة أنّ فاطمة وبعلها وبنيها عليهم‌السلام كانوا المعنيين في قوله تعالىٰ : ( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) (٢) الذي نزل علىٰ أثر مناظرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفد نصارىٰ نجران ؛ إذ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام للمباهلة بهم ، وقال : « اللهمّ هؤلاء أهل بيتي » (٣) فـ ( أبناءنا ) الحسن والحسين و ( نساءنا ) فاطمة و ( أنفسنا ) رسول الله وعلي عليهم‌السلام ، فكانت بضعة الرسول هي التي تفرّدت من بين نساء الاُمّة بشرف الاصطفاء الإلهي لهذه المنزلة العظيمة.

٤ ـ إنّها مع الحقّ أبداً :

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة : إنّ الله يغضب لغضبك ويرضىٰ لرضاك » (٤). فإذا كان غضبها موافقاً لغضب الله في جميع

_______________________

١) الكشاف / الزمخشري ٤ : ٢١٩. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٧٢. وتفسير الرازي ٢٧ : ١٦٦.

٢) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

٣) راجع : صحيح مسلم ٤ : ١٨٧١. وسنن الترمذي ٥ : ٢٢٥ / ٢٩٩٩. ومصابيح السُنّة : ٤ : ١٨٣ / ٤٧٩٥. وتفسير الرازي ٨ / ٨١. وتفسير الزمخشري ١ : ٣٦٨. وتفسير القرطبي ٤ : ١٠٤. والكامل في التاريخ ٢ : ٢٩٣. ومسند أحمد ا : ١٨٥. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٠. والدر المنثور / السيوطي ٢ : ٢٣٢ ـ دار الفكر.

٤) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠١ / ١٠٠١. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٤ وقال : هذا صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وأُسد الغابة ٥ : ٥٢٢. وذخائر العقبىٰ : ٣٩. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٥٢. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٣ ، وقال : رواه الطبراني وإسناده حسن. والصواعق المحرقة : ١٧٥ ـ باب ١١ ـ فصل ١ ـ المقصد ٣. وصحيفة الإمام الرضا عليه‌السلام ٩٠ / ٢٣. وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ :


الأحوال وكذلك رضاها ، فهذا يعني أن رضاها وغضبها يوافق الموازين الشرعية في جميع الأحوال ، وأنها لا تعدو الحق في حالتي الغضب والرضا ، وفي ذلك دليل ساطع علىٰ عصمتها عليها‌السلام يضاف لما تقدّم في آية التطهير.

٥ ـ بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشجنة منه :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما ابنتي فاطمة بضعة مني ، يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما آذاها » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فاطمة بضعة مني ، فمن أغضبها أغضبني » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما فاطمة شجنة مني ، يبسطني ما يبسطها ، ويقبضني ما يقبضها » (٣).

هذه الأحاديث وغيرها التي وردت بألفاظ مختلفة ومعانٍ متقاربة ، فيها دليل آخر علىٰ عصمة فاطمة عليها‌السلام ، ذلك لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم عن الذنب والخطأ والهوىٰ ، ولا يرضىٰ أو يغضب إلّا لرضا الله سبحانه وغضبه ، وعليه

_______________________

٤٦ / ٧٦. ومعاني الأخبار : ٣٠٢ / ٢. وأمالي المفيد : ٩٤ / ٤. وإتحاف السائل / المناوي : ٦٥ وقال : رواه الطبراني باسناد حسن.

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٤ / ١٠١٠ و ١٠١١. وسنن البيهقي ٧ : ٦٤ و ١٠ : ٢٠١. ومشكاة المصابيح / التبريزي ٣ : ١٧٣٢. وفيض القدير ٤ : ٢٤١. وحيلة الأولياء ٢ : ٤٠. والصواعق المحرقة : ١٩٠. والاصابة ٤ : ٣٧٨. ومصابيح السُنّة ٤ : ٨٥. ورواه ابن شاهين في فضائل فاطمة عليها‌السلام : ٤٢ / ٢١. والكنجي في كفاية الطالب : ٣٦٥ ولفظه : « إنما فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما آذاها ، ويغضبني ما أغضبها ».

٢) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٤ / ١٠١٢. وصحيح البخاري ـ كتاب المناقب ٥ : ٩٢ / ٢٠٩. ومصابيح السنة ٤ : ١٨٥ / ٤٧٩٩. وإتحاف السائل ٥٧. والجامع الصغير ٢ : ٢٠٨.

٣) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٤ / ١٠١٤ ، وفيه : « يغضبني ما أغضبها ، ويبسطني ما يبسطها ». ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٤. وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٣. وإتحاف السائل : ٥٨.


فلا يمكن القول بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغضب لغضب بضعته ، إلّا إذا قلنا بعصمتها عن الذنب والخطأ.

وقد استدلّ أعلام الإمامية بهذا الحديث علىٰ عصمة فاطمة عليها‌السلام ، قال الشيخ المفيد رحمه‌الله : ( فلولا أنّ فاطمة عليها‌السلام كانت معصومة من الخطأ ، مبرّأة من الزلل ، لجاز منها وقوع مايجب أذاها به بالأدب والعقوبة ، ولو وجب ذلك لوجب أذاها ، ولو جاز وجوب أذاها ، لجاز أذىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأذىٰ لله عزّ وجل ، فلمّا بطل ذلك ، دلّ علىٰ أنّها كانت معصومة ) (١).

وقال السيد المرتضىٰ رحمه‌الله : ( هذا يدلّ علىٰ عصمتها ؛ لأنّها لو كانت ممن يقارف الذنوب ، لم يكن من يؤذيها مؤذياً له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ كلّ حال ، بل كان متىٰ فعل المستحقّ من ذمّها وإقامة الحدّ عليها ـ إن كان الفعل يقتضيه ـ ساراً له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومطيعاً ) (٢).

حكاية موضوعة :

لقد اقترن حديث البضعة المتقدم بحكاية موضوعة لا تتناسب مع جلالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدسية أهل بيته عليهم‌السلام ، افتعلها أعداؤهم للنيل منهم والحطّ من منزلتهم العظيمة في نفوس المسلمين بغضاً وحسداً لما آتاهم الله تعالىٰ من فضله الكريم ، وفيما يلي نورد بعض ألفاظ تلك الحكاية الموضوعة والمتناقضة.

روىٰ البخاري ومسلم باسنادهما عن المسور بن مخرمة ، قال : إنّ علياً عليه‌السلام خطب بنت أبي جهل ، فسمعت بذلك فاطمة ، فأتت رسول

_______________________

١) الفصول المختارة : ٥٦ ـ دار الأضواء.

٢) الشافي / السيد المرتضىٰ ٤ : ٩٥ ـ مؤسسة الصادق ـ طهران. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٢٣. وشرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٧٢.


الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : « يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك ، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل ». فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته حيث تشهّد يقول : « أما بعد ، أنكحت أبا العاص بن الربيع ، فحدثني وصدقني ، وأنّ فاطمة بضعة مني ، وإنّي أكره أن يسوءها (١) ، والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجلٍ واحد » فترك عليّ الخطبة (٢).

وفي حديث آخر عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ فاطمة منيّ ، وإنّي أتخوف أن تفتن في دينها » ، قال : ثم ذكر صهراً له من بني عبد شمس ـ يعني أبا العاص ـ فأثنىٰ عليه في مصاهرته إياه فأحسن ، قال : « حدثني فصدقني ، ووعدني فأوفىٰ لي ، وإنّي لست أُحرم حلالاً ولا أُحلّ حراماً ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله أبداً » (٣).

رأي أهل البيت عليهم‌السلام :

وقد أنكر أهل البيت عليهم‌السلام أصل هذه الحكاية ، ونسبوها إلىٰ وضع أعدائهم ، ومن ذلك ما رواه الشيخ الصدوق رحمه‌الله بالاسناد عن علقمة ، عن الصادق عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال علقمة : يا بن رسول الله ، إنّ الناس ينسبوننا إلىٰ عظائم الاُمور ، وقد ضاقت صدورنا.

فقال عليه‌السلام : « يا علقمة ، إنّ رضا الناس لا يملك ، وألسنتهم لا تضبط ، فكيف تسلمون ممّا لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحججه عليهم‌السلام ... وما قالوا في الأوصياء أكثر من ذلك ... ألم ينسبوا سيد الأوصياء عليه‌السلام إلىٰ أنّه أراد أن يتزوّج

_______________________

١) في صحيح مسلم : يفتنوها.

٢) صحيح البخاري ٥ : ٩٥ / ٢٢٢ ـ كتاب المناقب. وصحيح مسلم ٤ : ١٩٠٣ / ٩٦ ـ كتاب فضائل الصحابة.

٣) صحيح البخاري ٤ : ١٨٥ / ١٩ ـ كتاب الجهاد والسير. وصحيح مسلم ٤ : ١٩٠٣ / ٩٥ ـ كتاب فضائل الصحابة.


ابنة أبي جهل علىٰ فاطمة عليها‌السلام ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شكاه علىٰ المنبر إلىٰ المسلمين ، فقال : إنّ عليّاً يريد أن يتزوج ابنة عدوّ الله علىٰ ابنة نبي الله ، ألا إنّ فاطمة بضعة منّي ، فمن أذاها فقد آذاني ، ومن سرّها فقد سرّني ، ومن غاظها فقد غاظني » (١).

وذكر الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث آخر قصة هذا الحديث ، مبيّناً كيفية وضعه واختلاقه ، كونه سعاية من أحد الأشقياء المبغضين لأهل البيت عليهم‌السلام ليؤذي فاطمة عليها‌السلام ويوقع بزعمه بين الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام ، وقد رواه الشيخ الصدوق مسنداً في ( العلل ) (٢).

آراء أعلام الطائفة وغيرهم :

وأثبت كثير من أعلام الطائفة وغيرهم بطلان هذه الحكاية من وجوه عديدة ، ومخالفتها لصحيح النقل وقطعي السُنّة وحكم العقل وثوابت العلاقة الالهية بين النبي ووصيه وبضعته الزهراء ( صلوات الله عليهم أجمعين ) ، وفيما يلي نذكر بعض ما جاء عنهم :

أولاً : قال السيد المرتضىٰ رحمه‌الله : هذا خبر باطل موضوع.. ذكره الكرابيسي (٣) » طاعناً به علىٰ أمير المؤمنين « صلوات الله عليه » ، ومعارضاً

_______________________

١) أمالي الصدوق : ١٦٥ / ١٦٣ المجلس ٢٢.

٢) علل الشرائع ١ : ١٨٥ ـ باب ١٤٨ / ٢.

٣) هو أبو علي الحسين بن علي بن يزيد الكرابيسي ، المتوفىٰ سنة ٢٤٨ هـ ، من أصحاب الشافعي والرواة عنه ، ويقال إنه من جملة مشايخ البخاري صاحب الصحيح. قال الأزدي : ساقط لا يراجع إلىٰ قوله ، وقال ابن حبان : كان ممن يحسن الفقه والحديث ، ولكن أفسده قلّة عقله.

ونقل ابن أبي حاتم عن الخولاني قال : إنّ أحمد بن حنبل رمىٰ الكرابيسي بالجهمية ، وعن مسلم بن قاسم في ( الصلة ) ، قال : كان الكرابيسي غير ثقة في الرواية.


بذكره لبعض ما يذكره شيعته من الأخبار في أعدائه ، وهيهات أن يشتبه الحق بالباطل ، ولو لم يكن في ضعفه إلّا رواية الكرابيسي له واعتماده عليه ، وهو من العداوة لأهل البيت عليهم‌السلام والمناصبة لهم والازراء علىٰ فضائلهم ومآثرهم علىٰ ما هو مشهور ، لكفىٰ.

على أنّ هذا الخبر قد تضمّن ما يشهد ببطلانه ويقضي بكذبه ، من حيث ادعي فيه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذمّ هذا الفعل وخطب بانكاره علىٰ المنابر ، ومعلوم أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لو كان فعل ذلك علىٰ ما حكي ، لما كان فاعلاً لمحظور في الشريعة ؛ لأنّ نكاح الأربع علىٰ لسان نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباح ، والمباح لا ينكره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصرّح بذمّه ، وبأنّه متأذٍ به ، وقد رفعه الله عن هذه المنزلة ، وأعلاه عن كل منقصة ومذمّة ، ولو كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نافراً من الجمع بين بنته وبين غيرها بالطباع التي تنفر من الحسن والقبيح ، لما جاز أن ينكره بلسانه ، ثمّ ما جاز أن يبالغ في الانكار ، ويعلن به علىٰ المنابر وفوق رؤوس الأشهاد ، ولو بلغ من إيلامه لقلبه كل مبلغ ، فما اختص به من الحلم والكظم ، ووصفه الله به من جميل الأخلاق وكريم الآداب ، ينافي ذلك ويحيله ويمنع من إضافته إليه وتصديقه عليه ، وأكثر ما يفعله مثله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الأمر ، إذا ثقل عليه ، أن يعاتب سرّاً ، ويتكلم في العدول عنه خفياً ، علىٰ وجه جميل ،

_______________________

وقال ابن النديم : كان الكرابيسي من المجبرة .. وله من الكتب كتاب الإمامة ، فيه غمز علىٰ علي عليه‌السلام.

وروىٰ الخطيب بالاسناد عن أبي البختري قال : سمعت الكرابيسي يقول : ما خصّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً بفضيلة إلّا وقد شركه فيها فلان وفلان وجُليبيب ، قال : فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم ، فسمعته يقول : كذب ، ما هو كهم ، ولا محله كمحلهم ، ولا منزلته كمنزلتهم. راجع تاريخ بغداد ٨ : ٦٦. وميزان الاعتدال ١ : ٥٤٤. ولسان الميزان ٢ : ٣٠٣. وأنساب السمعاني ٥ : ٤٢. وفهرست ابن النديم : ٢٧٠.


وبقول لطيف...

فو الله إنّ الطعن علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما تضمّنه هذا الخبر الخبيث أعظم من الطعن علىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وما صنع هذا الخبر إلّا ملحد قاصد للطعن عليهما ، أو ناصب معاند لا يبالي أن يشفي غيظه بما يرجع علىٰ أصوله بالقدح والهدم.

علىٰ أنّ لا خلاف بين أهل النقل أنّ الله تعالىٰ هو الذي اختار أمير المؤمنين عليه‌السلام لنكاح سيدة النساء ( صلوات الله وسلامه عليها ) وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ منها جلّة أصحابه وقد خطبوها ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي لم أزوّج فاطمة علياً حتىٰ زوجها الله إياه في سمائه » ونحن نعلم أنّ الله سبحانه لا يختار لها من بين الخلائق من يغيرها ويؤذيها ويغمّها ، فإنّ ذلك من أدلّ دليل علىٰ كذب الراوي لهذا الخبر.

وبعد فإنّ الشيء إنما يحمل علىٰ نضائره ، ويلحق بأمثاله ، وقد علم كلّ من سمع الأخبار أنّه لم يعهد من أمير المؤمنين عليه‌السلام خلاف علىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا كان قطّ بحيث يكره ، علىٰ اختلاف الأحوال وتقلّب الأزمان وطول الصحبة ، ولا عاتبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ شيءٍ من أفعاله ، مع أنّ أحداً من أصحابه لم يخل من عتاب علىٰ هفوة ونكير ، لأجل زلّة ، فكيف خرق بهذا الفعل عادته ، وفارق سجيّته وسنته ، لولا تخرّص الأعداء وتعدّيهم (١).

ثانياً : ذكر ابن أبي الحديد هذا الخبر ضمن الأحاديث الموضوعة في ذمّ علي أمير المؤمنين عليه‌السلام من قبل المنحرفين عنه ، حيث نقل عن شيخه أبي جعفر الأسكافي أنه قال : إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من

_______________________

١) تنزيه الأنبياء / السيد المرتضىٰ : ١٦٧ ـ ١٦٩ ، منشورات الرضي ـ قم ، ونقله الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي ٢ : ٢٧٦ ـ ٢٧٩ ، منشورات عزيزي ـ قم.


التابعين علىٰ رواية أخبار قبيحة في علي عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم علىٰ ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين عروة ابن الزبير ، وأما أبو هريرة فروىٰ الحديث الذي معناه أنّ علياً عليه‌السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله... والحديث مشهور في رواية الكرابيسي.

قال ابن أبي الحديد : وعندي أنّ هذا الخبر ـ لو صحّ ـ لم يكن علىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام فيه غضاضة ولا قدح ؛ لأنّ الاُمّة مجمعة علىٰ أنه لو نكح ابنة أبي جهل مضافاً إلىٰ نكاح فاطمة عليها‌السلام لجاز ؛ لاَنّه داخل تحت عموم الآية المبيحة للنساء الأربع ، فابنة أبي جهل المشار إليها كانت مسلمة ؛ لأنّ هذه القصة كانت بعد فتح مكة وإسلام أهلها طوعاً وكرهاً ، ورواة الخبر موافقون علىٰ ذلك (١).

ثالثاً : وأتمّ ما جاء في ردّ هذا الخبر الباطل بالأدلة القطعية ، هو ما حققه السيد علي الميلاني في دراسته الخاصة بخطبة علي عليه‌السلام لابنة أبي جهل ، حيث ذكر أولاً أغلب مظانّ الخبر ومتونه ، وناقش في طرقه وأسانيده وأحوال رواته علىٰ ضوء كلمات أعلام الجرح والتعديل ، فأسقط طرقه المرسلة ، ففي رواته من لم يلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يدركه ، كسويد بن غفلة وعروة بن الزبير وعامر الشعبي ، كما أسقط طرقه الضعيفة بالمدلسين والوضاعين والضعفاء كعبيد الله بن تمام ، وزكريا بن أبي زائدة ، ويزيد بن هارون وغيرهم.

ثم بين أنّ سنده المتصل والمعتمد في كتب الصحاح ، هو خبر المسور ابن مخرمة ، قد وقع فيه المعاندون لأهل البيت عليهم‌السلام ممن كانوا يناصبونهم

_______________________

١) شرح نهج البلاغة ٤ : ٦٤.


العداء ، أمثال الزهري الذي يعدّ من أشهر المنحرفين عن علي وأهل بيته عليهم‌السلام ، فقد كان يجالس عروة بن الزبير وينالان من أمير المؤمنين عليه‌السلام (١) فضلاً عن أنّه من عمال بني أُمية ومشيّدي سلطانهم ، وفيه أيضاً ابن أبي مليكة ، وهو قاضي عبدالله بن الزبير ومؤذّنه.

أما راوي الخبر وهو المسور بن مخرمة ، فكان أيضاً من مبغضي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو من أعوان عبدالله بن الزبير ، وكان الأخير لا يقطع دونه أمراً ، وقُتِل المسور معه في رمي الكعبة بالمنجنيق ، وتولّىٰ ابن الزبير غسله ، فضلاً عن أنه كان إذا ذكر معاوية صلّىٰ عليه ، وكانت الخوارج تغشاه وتعظّمه ، وأمثال هؤلاء لا تقبل روايتهم مطلقاً ولا كرامة ، فكيف لو كانت في القدح بأمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومن جانب آخر أنّ المسور بن مخرمة قد ولد بعد الهجرة بسنتين ، وتوفّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمره ثمان سنين ، فإن كان سمعه بعد الفتح ، فان عمره عند الحادثة ست أو سبع سنين ، مما يزيد الأمر وضوحاً في اختلاق الخبر.

أمّا من حيث متن الخبر وألفاظه ودلالاته ، فقد ناقشها علىٰ ضوء القواعد المقررة في علم الحديث ، وما ذكره المحققون من شرّاح الأخبار ، فكشف عن تناقض ألفاظه بشكل يتعذّر معه الجمع بينها (٢) ، كما بيّن الاختلاف في معاني تلك الألفاظ وتحيّر شُرّاح الخبر واضطراب كلماتهم في بيانها ،

_______________________

١) شرح نهج البلاغة ٤ : ١٠٢.

٢) راجع في هذه الحكاية صحيح البخاري ٧ : ٦٥ / ١٥٩. وصحيح مسلم ٤ : ١٩٠٢ / ٢٤٤٩. وسنن الترمذي ٥ : ٦٩٨ / ٣٨٦٩. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٨. ومسند أحمد ٤ : ٥ و ٣٢٦ و ٣٢٨. والمصنف / ابن أبي شيبة ١٢ : ١٢٨. وفتح الباري ٦ : ١٦١ و ٧ : ٦٨ و ٨ : ١٥٢ و ٩ : ٢٦٨ ـ ٢٧٠. وكنز العمال ١٣ : ٦٧٧. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٣. وإتحاف السائل : ٥٨ ـ ٥٩. وشرح ابن أبي الحديد ٤ : ٦٥ لترىٰ مدىٰ الاختلاف والتفاوت في ألفاظها والتناقض في مدلولها.


وعدم توفقهم إلىٰ تقديم وجه معقول للجمع بين دلالاتها المختلفة مع شدة حرصهم وتمحّلهم في ذلك ، وعليه لمّا كانت الحال هذه والقضية واحدة دلّ هذا علىٰ تهافت الخبر وتناقضه ، وحمق واضعه وسخف المروجين له وانحرافهم.

ثمّ خرج أخيراً بعدة نتائج علىٰ صعيد استقراء سند الحديث ودلالته ، منها تناقض مدلول الخبر مع قطعي السُنّة وواقع الحال ، وعدم تناسبه وشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ( صلوات الله عليهم ) من عدّة وجوه ، ومنها أن الخبر موضوع من قبل آل الزبير المعروفين بعدائهم السافر لأهل البيت عليهم‌السلام ، فقد كان من رواته عبدالله بن الزبير ، وهو الذي قال فيه أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ما زال الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتىٰ نشأ ابنه المشؤوم عبدالله » (١).

قال ابن أبي الحديد : كان عبدالله بن الزبير يبغض عليّاً وينتقصه ، وينال من عرضه (٢). وقال أيضاً : كان عبدالله بن الزبير من المنحرفين عن علي المبغضين له... وكان سبّاباً فاحشاً ، يبغض بني هاشم ، ويلعن ويسبّ علي ابن أبي طالب (٣).

ومنهم أخوه عروة بن الزبير وجماعة من المحيطين بآل الزبير من أعوانهم وأنصارهم ممن قدّمنا ذكرهم آنفاً (٤).

ثم إنّه لابدّ من الاشارة إلىٰ أنّ حديث البضعة مخرّج من طرق صحيحة دون ذكر لهذه الحكاية المختلقة ، كما قدّمناه أولاً ، ممّا يدلّ علىٰ أن لواضعي

_______________________

١) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٥٥٥ / ٤٥٣.

٢) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٦١.

٣) شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٧٩.

٤) خطبة علي عليه‌السلام ابنة أبي جهل / السيد علي الميلاني : ٥ ـ ٨٠ ـ مركز الغدير ـ قم.


هذا الخبر الزائف مقترناً بحديث البضعة المتّفق عليه ، أغراضاً خبيثة وباطلة ، تستهدف الطعن في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام ، وصرف الانظار عن اُولئك الذين أغضبوا فاطمة عليها‌السلام بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظلموها حقّها واغتصبوا نحلتها ، وهجموا علىٰ دارها واسقطوا محسنها ، فآذوا بذلك قلب المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يحفظوه في ذريته ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (١) فودّعت فاطمة عليها‌السلام الحياة وهي غضبىٰ عليهم ، فباءوا بغضب من الله تعالىٰ ورسوله ، واستحقوا شديد العقاب.

ولقد صفّق أعداء أهل البيت عليهم‌السلام لهذا الخبر الباطل ، وأبانوا عن أغراضهم المريضة التي لا تنطلي علىٰ ذي حجىٰ ، منذ عهد شاعر البلاط العباسي ابن أبي حفصة وحتىٰ شرّاح الحديث المتأخرين مروراً بابن تيمية (٢) مجدّد مذاهب النصب والعداء لآل المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فهذا ابن أبي حفصة يقول في قصيدته التي يمدح بها الرشيد ويبالغ في ذمّ أمير المؤمنين عليه‌السلام والنيل من ولد فاطمة عليها‌السلام :

علي أبوكم كان أفضل منكم

أباهُ ذوو الشورىٰ وكانوا ذوي الفضلِ

وساء رسول الله إذ ساء بنته

بخطبته بنت اللعين أبي جهلِ (٣)

فردّ عليه كثير من أعلام الشعراء ، منهم السيد مهدي بحرالعلوم رحمه‌الله في قصيدة طويلة منها :

وقد جاء تحريم النكاح لحيدرٍ

على فاطم فذا الرواة له تملي

_______________________

١) سورة التوبة : ٩ / ٦١.

٢) راجع : منهاج السنة ٢ : ١٧٠.

٣) راجع القصيدة في شرح ابن أبي الحديد ٤ : ٦٥.


فإن كان حقّاً فالوصيّ أحقّ من

تجنّب محظوراً من القول والفعل

وإن لم يكن حقاً وكان محلّلاً

له كلّ ما قد حلّ من ذاك للكل

فما كانت الزهراء ليسخطها الذي

به الله راضٍ حاكم فيه بالعدل

ولا كان خير الخلق من لا يهيجه

سوىٰ غضب لله يغضب من جهلِ (١)

وقال بعض شرّاح الحديث : أصحّ ما تحمل عليه هذه القصة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم علىٰ علي أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل ؛ لأنّه علّل بأن ذلك يؤذيه ، وأذيته حرام بالاتفاق (٢).

وليت شعري هل إنّ عليّاً عليه‌السلام ما كان يعلم بتلك الحرمة وهو باب مدينة العلم ؟! أو إنّه يعلم بها فارتكب محرماً ؟! وقد أبىٰ الله تعالىٰ إلّا أن يطهّر أهل هذا البيت ويعصمهم من كلِّ رجس وذنب.

صورة أُخرىٰ للخبر :

وروي هذا الخبر بصورة اُخرىٰ في مصادر العامة ، قال السيوطي : أخرج الشيخان عن المسور بن مخرمة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول وهو علىٰ المنبر : « إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب ، فلا آذن ، ثم لا آذن ، إلّا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي وينكح ابنتهم ، وإنّي لست أحرّم حلالاً ، ولا أُحلّل حراماً ، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبنت عدو الله أبداً ».

وفي رواية : « فإنّما فاطمة بضعة مني ، يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها ،

_______________________

١) نقلها السيد جعفر بحر العلوم في تحفة العالم ١ : ٢٤١ ـ ٢٥٠ ، طهران ، وهي تقع في ٣٠٠ بيت. وراجع هامش تلخيص الشافي ٢ : ٢٧٨.

٢) راجع : فتح الباري ٩ : ٢٦٨.


وأنا أتخوف أن تُفتَن في دينها » (١).

وعلىٰ تقدير صحة هذا الخبر ، فليس فيه أدنىٰ قدح في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولو تأذّت الزهراء عليها‌السلام فإنّما كان ذلك بسبب بني هشام بن المغيرة الذين استأذنوا في نكاح ابنتهم لأغراض في أنفسهم ؛ لأنّهم كانوا أشدّ الناس عداوةً لأهل البيت عليهم‌السلام ، فقد روي عن أبي سعيد : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « أشدّ قومنا لنا بغضاً بنو أُميّة ، وبنو المغيرة ، وبنو مخزوم » (٢).

ولعلّ المسألة لا تعدو كونها استئذان بني هشام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الأمر ، فأسخطه ذلك ولم يأذن لهم ، فتوهّم البعض أنه كان ذلك الاستئذان بسبب الخطبة لها من علي عليه‌السلام ، ثم أضاف إليه بعض المغرضين والمبغضين أشياء اُخرى ، ويؤيد ذلك حديث الإمام الصادق عليه‌السلام الذي أشرنا إليه بعد ذكر الصورة الاُولىٰ من الخبر (٣).

وأخيراً نُذكّر بما مرّ من أقوال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي القول الفصل في ذلك ، كقوله عليه‌السلام : « والله ما أغضبتها ولا أكرهتها علىٰ أمرٍ حتىٰ قبضها الله عزَّوجلّ » (٤).

٦ ـ سيدة نساء العالمين :

عن عائشة قالت ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا فاطمة ، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء هذه الاُمّة ، وسيدة نساء المؤمنين » (٥).

_______________________

١) الثغور الباسمة : ٣٦. وصحيح البخاري ٧ : ٦٥ / ١٥٩ ـ كتاب النكاح. وصحيح مسلم ٤ : ١٩٠٢ / ٩٣. وسنن الترمذي ٥ : ٦٩٨.

٢) كنز العمال ١١ : ١٦٩ / ٣١٠٧٤.

٣) راجع : علل الشرائع / الصدوق ١ : ١٨٥ ـ باب ١٤٨ / ٢.

٤) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٣. ومناقب الخوارزمي : ٢٤٧.

٥) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٦ وقال : هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه هكذا ، إتحاف السائل : ٧١.


وعن جابر بن عبدالله ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حسبك من النساء أربع سيدات نساء العالمين : فاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران » (١).

وعن ابن عباس : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، أهي سيدة نساء عالمها ؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ذاك لمريم بنت عمران ، فأمّا ابنتي فاطمة ، فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ... » (٢).

وعن المفضل ، قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : أخبرني عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فاطمة : « إنّها سيدة نساء العالمين » أهي سيدة نساء عالمها ؟ فقال عليه‌السلام : « ذاك لمريم ، كانت سيدة نساء عالمها ، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين » (٣).

٧ ـ سيدة نساء أهل الجنة :

عن حذيفة رضي‌الله‌عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ هذا ملك نزل ، لم ينزل الأرض قطّ قبل هذه الليلة ، استأذن ربّه أن يسلّم عليّ ويبشّرني بأنّ فاطمة

_______________________

١) الإصابة ٤ : ٣٧٨. وتهذيب التهذيب ١٢ : ٤٤١. والبداية والنهاية ٢ : ٥٥. وروي عن أنس بلفظ « حسبك من نساء العالمين أربع ... » في المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٢ / ١٠٠٣. والبداية والنهاية ٢ : ٥٥. ومصابيح السُنّة ٤ : ٢٠٢ / ٤٨٥٠. ومسند أحمد ٣ : ١٣٥. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٧ و ١٥٨. وسنن الترمذي ٥ : ٧٠٣ / ٣٨٧٨ ـ كتاب المناقب. وروي عن أنس أيضاً بلفظ « خير نساء العالمين ... » في المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٢ / ١٠٠٤. وتاريخ بغداد ٧ : ١٨٤ و ٩ : ٤٠٤. وتفسير الطبري ٣ : ١٨٠. واُسد الغابة ٥ : ٤٣٧. وتهذيب التهذيب ١٢ : ٤٤١. والاستيعاب ٤ : ٣٧٧. والبداية والنهاية ٢ : ٥٥.

٢) أمالي الصدوق : ٥٧٥ / ٧٨٧.

٣) معاني الأخبار : ١٠٧ / ١.


سيدة نساء أهل الجنة ، وأنّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » (١).

وعن ابن عباس ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « أفضل نساء أهل الجنة : مريم بنت عمران ، وفاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون » (٢).

وعن الحسن بن زياد العطار ، قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فاطمة سيدة نساء أهل الجنة » أسيدة نساء عالمها ؟ قال عليه‌السلام : « ذاك لمريم ، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين » (٣).

٨ ـ أحبّ الناس إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

عن عبدالله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان أحبّ النساء إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة ، ومن الرجال علي بن أبي طالب (٤).

وعن أُسامة بن زيد ـ في حديث ـ قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي أهل

_______________________

١) سنن الترمذي ٥ : ٦٦٠ / ٧٣٨١. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥١ ، رواه بطريقين ، وقال في الثاني منهما : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وجامع الاصول ١٠ : ٨٢ / ٦٦٦١. وذخائر العقبىٰ : ١٢٩. ومسند أحمد ٥ : ٣٩١. وكنز العمال ١٢ : ٩٦ / ٣٤١٥٨ و ١٠٢ / ٣٤١٩٢ و ١٣ : ٦٤٠ / ٣٧٦١٧. وحلية الأولياء ٤ : ١٩٠. والمعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٣ / ١٠٠٦. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠١. والخصائص : ٣٤ ـ مطبعة التقدم ـ القاهرة. وإتحاف السائل : ٢٨. والصواعق المحرقة : ١٩١ الباب ١١ الفصل ٣.

٢) البداية والنهاية ٢ : ٥٥. والمعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٧ / ١٠١٩. ومسند أحمد ١ : ٢٩٣ و ٣١٦ و ٣٢٢. ومستدرك الحاكم ٢ : ٤٩٧. وقال : صحيح الاسناد ولم يخرجاه بهذا اللفظ ، و ٣ : ١٦٠ و ١٨٥. والإصابة ٤ : ٣٧٨. والاستيعاب ٤ : ٣٧٦. واُسد الغابة ٥ : ٤٣٧. وروي عن عائشة وبلفظ « سيدات نساء أهل الجنة... » في مستدرك الحاكم ٣ : ١٨٥. وكنز العمال ١٢ : ١٤٤ / ٣٤٤٠٦.

٣) أمالي الصدوق : ١٨٧ / ١٩٦.

٤) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٥. وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وسنن الترمذي ٥ : ٦٩٨ / ٣٨٦٨. والاستيعاب ٤ : ٣٧٨. وذخائر العقبىٰ : ٣٥.


بيتك أحبّ إليك ؟ قال : « أحبّ أهلي إليّ فاطمة » (١).

وعن جميع بن عمير ، قال : دخلت مع عمتي علىٰ عائشة ، فسألت : أي الناس كان أحبّ إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قالت : فاطمة. فقيل : ومن الرجال ؟ قالت : زوجها ، إن كان ما علمت صوّاماً قوّاماً (٢).

وعنه ، قال : دخلت مع أُمّي علىٰ عائشة ، فسمعتها من وراء الحجاب وهي تسألها عن علي عليه‌السلام فقالت : تسألني عن رجلٍ والله ما أعلم رجلاً كان أحبّ إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علي ، ولا في الأرض امرأة كانت أحبّ إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من امرأته (٣).

٩ ـ أول من يدخل الجنّة :

عن علي عليه‌السلام ، قال : « أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أول من يدخل الجنة أنا وفاطمة والحسن والحسين. قلت : يا رسول الله ، فمحبّونا ؟ قال : من ورائكم » (٤).

وعن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أول شخص يدخل الجنة

_______________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٣ / ١٠٠٧. ونحوه في سنن الترمذي ٥ : ٦٧٨ / ٣٨١٩. والصواعق المحرقة : ١٩١ باب ١١ فصل ٣. وتاريخ بغداد ٩ : ٦٢. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٥٦.

٢) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٣ / ١٠٠٨. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٧. وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه وسنن الترمذي ٥ : ٧٠١ / ٣٨٧٤. واُسد الغابة ٥ : ٥٢٢. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٥٧. وذخائر العقبىٰ : ٣٥. والاستيعاب ٤ : ٣٧٨.

٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٤ وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

٤) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥١. وقال : صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وذخائر العقبىٰ : ١٢٣. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٤٥ ـ ٤٦.


فاطمة ، مثلها في هذه الاُمّة كمثل مريم بنت عمران في بني إسرائيل » (١).

١٠ ـ غضّ الأبصار لمرورها علىٰ الصراط :

عن علي عليه‌السلام قال : « قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان يوم القيامة قيل : يا أهل الجمع ، غضّوا أبصاركم حتىٰ تمرّ فاطمة بنت محمد ، فتمرّ وعليها ريطتان خضراوان ، أو حمراوان » (٢).

وعن أبي أيوب الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا كان يوم القيامة نادىٰ منادٍ من بطنان العرش : يا أهل الجمع نكّسوا رؤوسكم وغضّوا أبصاركم حتىٰ تمرُّ فاطمة بنت محمد علىٰ الصراط » قال : « فتمرُّ ومعها سبعون ألف جارية من الحور العين كالبرق اللامع » (٣).

قال البشنوي الكردي :

وقف الندا في موضع عبرت

فيه البتول عيونكم غضّوا

فتمرّ والأبصار خاشعة

وعلى بنان الظالم العضُّ

تسودُّ حينئذٍ وجـوههم

ووجوه أهل الحقّ تبيضُّ (٤)

١١ ـ جلالة بعثتها عليها‌السلام يوم القيامة :

عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « تبعث الأنبياء يوم القيامة علىٰ

_______________________

١) الفردوس / الديليمي ١ : ٣٨ / ٨١. وكنز العمال ١٢ : ١١٠ / ٣٤٢٣٤. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٧٦.

٢) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٠ / ٩٩٩. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٣ نحوه وقال : هذا حديث صحيح الإسناد علىٰ شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وص ١٦١ مثله وقال : هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وإتحاف السائل / المناوي : ٧٢. وكفاية الطالب / الكنجي : ٣٦٤.

٣) الصواعق المحرقة : ١٩٠ باب ١١ فصل ٣. وإتحاف السائل / المناوي : ٧٣. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٢٦. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٥٧.

٤) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٢٧.


الدوابّ ، ليوافوا بالمؤمنين من قومهم المحشر ، ويبعث صالح علىٰ ناقته ، وأُبعث علىٰ البراق ، خطوها عند أقصىٰ طرفها ، وتبعث فاطمة أمامي » (١).

وعنه أيضاً ، في حديث آخر بنحو ما تقدم إلّا أن فيه : « ... وتبعث فاطمة والحسن والحسين علىٰ ناقتين من نوق الجنة ، وعلي بن أبي طالب علىٰ ناقتي ، وأنا علىٰ البراق » (٢).

وعن علي عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا كان يوم القيامة حُملتُ علىٰ البراق ، وحملت فاطمة علىٰ ناقتي القصواء » (٣).

وعن بريدة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا أُبعث علىٰ البراق ، يخصّني الله به من بين الأنبياء ، وفاطمة علىٰ العضباء » (٤).

١٢ ـ تكثير الطعام في بيتها عليها‌السلام

ومن كرامات الزهراء عليها‌السلام التي تدلُّ علىٰ فضلها ومنزلتها عند الله تعالىٰ ، تكثير الطعام في بيتها ، وقد رواه جابر وحذيفة بن اليمان وأبي سعيد بألفاظ مختصرة ومطولة (٥).

_______________________

١) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٢ ، وقال : هذا حديث صحيح علىٰ شرط مسلم ولم يخرجاه. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٥٥.

٢) كنز العمال ١١ : ٧٥٨ / ٣٣٦٨٩. وتاريخ بغداد ٣ : ١٤١.

٣) كنز العمال ١١ : ٦٥٤ / ٣٣١٦٤. وميزان الاعتدال ٣ : ٣١٥. ولسان الميزان ٤ : ٣٩٩.

٤) تاريخ دمشق / ابن عساكر ١٠ : ٣٢٧.

٥) راجع : تفسير البيضاوي ١ : ١٥٨ ـ دار الكتب العلمية. والبداية والنهاية / ابن كثير ٦ : ١١٥. وفضائل فاطمة عليها‌السلام / ابن شاهين : ٣٦ / ١٤. وذخائر العقبىٰ : ٤٥. وكفاية الطالب : ٣٦٧. وتفسير فرات : ٨٣ ـ طهران. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٦٩. أمالي الطوسي : ٦١٤ ـ ٦١٥ / ١٢٧١ و ١٢٧٢. والثاقب في المناقب / ابن حمزة الطوسي : ٢٩٦ / ٢٥٢. والخرائج والجرائح / الراوندي ٢ : ٥٣٣. ومهج الدعوات / ابن طاووس : ٦.


ومن ذلك ما أخرجه أبو يعلىٰ عن جابر ، قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً حتىٰ شقّ ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه ، فلم يجد عند واحدة منهنّ شيئاً فأتىٰ فاطمة عليها‌السلام فقال : « يا بنية ، هل عندك شيء آكله فإنّي جائع ؟ » فقالت : « لا والله » فلمّا خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : « والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ نفسي ومن عندي » وكانوا جميعاً محتاجين إلىٰ شبعة طعام ، فبعثت حسناً أو حسيناً إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرجع إليها فقالت له : « بأبي أنت وأُمّي ، قد أتىٰ الله بشيءٍ قد خبأته لك » فقال : « هلمي يابنية بالجفنة » ، فكشفت عن الجفنة ، فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً ، فلمّا نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله ، فحمدت الله تعالىٰ ، وقدمته إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما رآه حمد الله وقال : « من أين لك هذا يا بنية ؟ » قالت : « يا أبتِ هو من عند الله ، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب » فحمد الله ، ثم قال : « الحمدُ لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ، فإنّها كانت إذا رزقها الله رزقاً فسئلت عنه قالت : هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب » (١).

١٣ ـ إنحصار ذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنسلها عليها‌السلام

إنحصرت ذرية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفاطمة عليها‌السلام ، فقد تزوج خديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وأنجبت له القاسم وعبدالله وهو الطيّب أو الطاهر ، وفاطمة ، وفي غيرهم خلاف. وتزوج بعد خديجة أربع عشرة امرأة ، دخل باثنتي عشرة منهنّ ، وتوفي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده تسع ، ولم يولد له منهنّ ، إلّا مارية القبطية ، فقد ولدت له إبراهيم ومات طفلاً ، أما أولاد

_______________________

١) الدر المنثور / السيوطي ٢ : ١٨٦. والبداية والنهاية ٦ : ١١٥.


خديجة فماتوا صغاراً.

وبناءً علىٰ أنّ زينب ورقية وأم كلثوم ، بنات خديجة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ زينب تزوجها أبو العاص بن الربيع قبل الإسلام ، وولدت له بنتاً ، وهي أُمامة ، تزوجها الإمام علي عليه‌السلام بعد فاطمة عليها‌السلام بوصية منها ، ولم ترزق أولاداً ، وتزوج رقية ابن عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عتبة بن أبي لهب ، وتزوّج أمّ كلثوم أخوه عتيق بن أبي لهب ، وطلّقهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الإسلام من عتبة وعتيق ، فتزوج عثمان ابن عفان رقية ، وولدت منه ذكراً ، وهو عبدالله ، ومات في السنة السادسة من عمره ، فتزوج بعدها اختها أم كلثوم ولا عقب لها ، وتوفيت زينب ورقية وأم كلثوم في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يبق له من الولد إلّا فاطمة ، ولا عقب له إلّا منها.

وعليه فإنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عقب له من الصلب ، لكنّه لم يحرم من الذرية والنسل ، بل لقد دلّ القرآن الكريم علىٰ أنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام هما ابناه حقيقة ، فقد اتفقت كلمة المفسرين علىٰ أنّ المراد بقوله تعالىٰ في آية المباهلة : ( أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) الحسن والحسين عليهما‌السلام (١).

قال الرازي : هذه الآية دالة علىٰ أنّ الحسن والحسين كانا ابني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وَعَدَ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو أبناءه ، فدعا الحسن والحسين ، فوجب أن يكونا ابنيه ، وممّا يؤكّد هذا قوله تعالىٰ في سورة الأنعام : ( وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ) إلىٰ قوله : ( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ ) (٢) ومعلوم أنّ عيسى عليه‌السلام إنّما انتسب إلىٰ إبراهيم عليه‌السلام بالاُمّ لا بالأب ، فثبت أنّ ابن البنت قد

_______________________

١) تقدّمت تخريجاته في أول هذا الفصل.

٢) سورة الأنعام : ٦ / ٨٤.


يسمّىٰ ابناً (١).

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « ابناي هذان إمامان ، قاما أو قعدا » (٢) مشيراً إلىٰ الحسن والحسين عليهما‌السلام.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله عزَّ وجل جعل ذرية كلّ نبي في صلبه ، وإنّ الله عزَّ وجل جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب » (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لكلِّ بني أب عصبة ينتمون إليها إلّا ولد فاطمة ، فأنا وليهم ، وأنا عصبتهم ، وهم عترتي خلقوا من طينتي » (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كل بني آدم ينتمون إلىٰ عصبتهم إلّا ولد فاطمة ، فإنّي أنا أبوهم ، وأنا عصبتهم » (٥).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لمحمد بن الحنفية : « يا بني أنت ابني ، وهذان ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٦). مشيراً إلىٰ الحسن والحسين عليهما‌السلام.

ولا يتنافىٰ ذلك مع قوله تعالىٰ : ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ) (٧) ذلك لأنّه أراد البالغين من الرجال في ذلك الوقت (٨) ، ولقد كان له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاد ذكور ، وهم إبراهيم والقاسم وعبدالله ، ولم يبلغ أحد منهم مبلغ

_______________________

١) تفسير الرازي ٨ : ٨١.

٢) مجمع البيان / الطبرسي ٢ : ٧٦٣ عند تفسير الآية ٦١ من سورة آل عمران و ٨ : ٥٦٦ عند تفسير الآية ٤٠ من سورة الأحزاب. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٩٤.

٣) المعجم الكبير ٣ : ٤٤ / ٢٦٣٠. وتاريخ بغداد ٣ : ٣١٧.

٤) كنز العمال ١٢ : ٩٨ / ٣٤١٦٨.

٥) تاريخ بغداد ١١ : ٢٨٥.

٦) بحار الأنوار ٤٥ : ٣٤٩.

٧) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٠.

٨) راجع : مجمع البيان / الطبرسي ٨ : ٥٦٦.


الرجال ، وكذلك شأن أولاد فاطمة عليها‌السلام.

ونلمس من خلال انحصار ذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفاطمة عليها‌السلام مسألتين مهمتين :

الاُولىٰ : إذا لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبناء ولا أبناء أبناء ولا نسل ولا ذرية إلّا من فاطمة عليها‌السلام ، كان من المحتّم وبحكم الطبيعة البشرية أن تنحصر عاطفته الأبوية بأولاد فاطمة عليها‌السلام ، وأن يهتمّ بتربيتهم وتعليمهم ، وقد شاءت الارادة الربانية أن يستأثر الحسن والحسين عليهما‌السلام بذلك الاهتمام ، وأن يكونا بمثابة ابنيه ، وقد عبّر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تلك الاُبوة وهذه البنوّة بعبارات شتّىٰ غير ما قدّمنا ، منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحسن والحسين ابناي ، من أحبّهما أحبّني ، ومن أحبّني أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله الجنة » (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ابناي هذان سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما خير منهما » (٢) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هذان ابناي وابنا ابنتي ، اللهمّ إنّي أحبّهما فأحبّهما وأحبّ من يحبّهما » (٣) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ ابنيّ هذين ريحانتاي من الدنيا » (٤).

وكان من ثمار اهتمام الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحسن والحسين عليهما‌السلام وتربيتهما ، أن تكون أخلاقهما وشمائلهما وسيرتهما تعبيراً صريحاً ومصداقاً حقيقياً لأخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشمائله وسيرته ومكارم أخلاقه ، وأن يكون لهما من علمه وحلمه وشجاعته وكرمه وزهده وصبره ما لم يكن لأحد بعد أبيهما أمير المؤمنين عليه‌السلام.

_______________________

١) مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٦ وصححه علىٰ شرط الشيخين.

٢) الصواعق المحرقة / الهيتمي : ١٩١ باب ١١ فصل ٣.

٣) الصواعق المحرقة / الهيتمي : ١٩١ / باب ١١ فصل ٣.

٤) الصواعق المحرقة / الهيتمي : ١٩١ باب ١١ فصل ٣. وصحيح البخاري ٥ : ١٠٢ / ٢٤١.


روىٰ الطبراني بالاسناد عن علي عليه‌السلام ، قال : « من أراد أن ينظر إلىٰ وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من رأسه إلىٰ عنقه فلينظر إلىٰ الحسن ، ومن أراد أن ينظر إلىٰ ما دون عنقه إلىٰ رجله فلينظر إلىٰ الحسين ، اقتسماه » (١).

وعن زينب بنت أبي رافع : أتت فاطمة عليها‌السلام بالحسن والحسين إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شكواه التي توفي فيها فقالت : « يا رسول الله ، هذان ابناك ، ورّثهما شيئاً ». فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أما الحسن فإنّ له هديي وسؤددي ، وأمّا الحسين فإنّ له جودي وشجاعتي » (٢).

ولا ريب أن حبّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسن والحسين عليهما‌السلام واهتمامه بهما والحثّ علىٰ محبتهما ، ليس هو وليد التعلّق العاطفي والعلاقة الأبوية وحسب ، بل لما أتاهما الله من فضله وحباهما من كرامته ، ومن هنا أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس بالتمسك بهما كقادة رساليين للاُمّة من بعد أبيهما علي المرتضىٰ عليه‌السلام ، تماماً كما أمرهم بالتمسك بالكتاب الكريم بنصّ حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ، ونصّ علىٰ إمامتهما صراحة بقوله : « ابناي هذان إمامان ، قاما أو قعدا » وجعلهما حجّة علىٰ الناس أجمعين.

وعليه يجب أن نخصّهما بالولاء ، وأن نؤمن إيماناً صادقاً أنّ عداءهما أو جحود فضلهما هو عداء وجحود لرسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسُنّته ، وأن حبّهما والتمسك بهما يضمن سعادة الدارين ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربّي ، فليوالِ عليّاً من بعدي ، وليوالِ وليه ، وليقتدِ بأهل بيتي من بعدي ، فإنّهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا

_______________________

١) المعجم الكبير ٣ : ٩٥ / ٢٧٦٩ و ٢٧٧٠.

٢) الاصابة ٤ : ٣١٦. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ١٠٥. وكفاية الطالب / الكنجي : ٤٢٤. والارشاد / المفيد ٢ : ٧. والخصال / الصدوق : ٧٧ / ١٢٢.


فهماً وعلماً ، فويلٌ للمكذّبين بفضلهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي » (١).

الثانية : إنّ إنحصار ذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابنته فاطمة عليها‌السلام فيه إشارة واضحة إلىٰ كرامة المرأة في تعاليم الإسلام السامية ، وردّ علىٰ المفاهيم الجاهلية التي كانت تحطّ من قيمتها ، وتقلّل من شأنها ، وتهضم حقوقها ، فكان بعضهم يئد البنات وهنّ في المهد ، وقد عبّر القرآن الكريم عن رفضه لهذه العادة المقيتة بقوله : ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ) (٢). وكانوا لا يورّثون المرأة ، ويتشاءمون إذا ولد لهم الإناث ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) (٣) ، وكانوا يقولون إنّ أولاد البنات لا يكونوا ذرية ، وشاعرهم يقول :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ

فكان انحصار نسب سيد الكونين المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابنته فاطمة عليها‌السلام إيذاناً بإبطال ذلك المفهوم الجاهلي البغيض.

ويستفاد من كلام بعض المفسرين في تفسير قوله تعالىٰ : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (٤) أن المراد بالكوثر ذرية الزهراء عليها‌السلام فهي الوسيلة لكثرة أولاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبقاء نسله ، وهو من أعظم بركاتها.

قال الرازي في القول الثالث من تفسير الآية : الكوثر أولاده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالوا :

_______________________

١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٩ : ١٧٠ / ١٢. وحلية الأولياء / أبو نعيم ١ : ٨٦.

٢) سورة التكوير : ٨١ / ٨ ـ ٩.

٣) سورة النحل : ١٦ / ٥٨.

٤) سورة الكوثر : ١٠٨ / ١.


لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً علىٰ من عابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم الأولاد ، فالمعنىٰ أنه يعطيه نسلاً يبقون علىٰ مرّ الزمان ، فانظر كم قُتِل من أهل البيت ، ثمّ العالم ممتلئ منهم ، ولم يبقىٰ من بني أُمية في الدنيا أحد يُعبا به ، ثم اُنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والرضا والنفس الزكية وأمثالهم (١).

وقال الآلوسي : ( إِنَّ شَانِئَكَ ) أي مبغضك .. ( هُوَ الْأَبْتَرُ ) الذي لا عقب له ، حيث لا يبقىٰ منه نسل ولا حسن ذكر ، وأمّا أنت فتبقىٰ ذريتك ، وحسن صيتك ، وآثار فضلك إلىٰ يوم القيامة... وفيها دلالة علىٰ أنّ أولاد البنات من الذرية (٢).

وقال ابن حجر الهيتمي في الآيات الواردة في أهل البيت عليهم‌السلام : الآية الثانية عشرة : قوله تعالىٰ : ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ ) (٣) قال مقاتل بن سليمان ومن تبعه من المفسرين : إنّ هذه الآية نزلت في المهدي. وستأتي الأحاديث المصرّحة بأنّه من أهل البيت النبوي ، وحينئذٍ في الآية دلالة علىٰ البركة في نسل فاطمة وعلي عليهما‌السلام ، وأن الله ليخرج منهما طيباً ، وأن يجعل نسلهما مفاتيح الحكمة ومعادن الرحمة.

ثم قال معقّباً علىٰ دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام حين زوّجه فاطمة عليها‌السلام : « اللهمّ إني أُعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم » ما نصّه : وقد ظهرت بركة دعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نسليهما ، فكان منه من مضىٰ ومن يأتي ، ولو لم يكن في

_______________________

١) تفسير الرازي ٣٢ : ١٢٤.

٢) روح المعاني / الآلوسي ٣٠ : ٢٤٧.

٣) سورة الزخرف : ٤٣ / ٦١.


الآتين إلّا الإمام المهدي لكفىٰ (١).

المبحث الثاني : مكارم أخلاقها :

١ ـ العبادة :

كانت فاطمة عليها‌السلام أعبد نساء زمانها ، وقد ضربت المثل الأعلىٰ بعبادتها وإيمانها وطاعتها وانقطاعها إلىٰ الله سبحانه.

عن الإمام الباقر عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً ويقيناً إلىٰ مشاشها ، ففرغت لطاعة الله » (٢).

وسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام : « كيف وجدت أهلك ؟ » فقال عليه‌السلام : « نعم العون علىٰ طاعة الله » (٣).

وعن الطبرسي ، قال : سُمّيت فاطمة عليها‌السلام بالبتول لانقطاعها إلىٰ عبادة الله (٤).

ومن مظاهر عبادتها عليها‌السلام طول قيامها في الصلاة وكثرة خشوعها ، فقد روي عن الحسن البصري أنه قال : ما كان في هذه الاُمّة أعبد من فاطمة ، كانت تقوم حتىٰ تتورّم قدماها (٥).

_______________________

١) الصواعق المحرقة / ابن حجر : ١٦٢ ـ ١٦٣ ، الفصل الأول ، الباب (١١).

٢) دلائل الإمامة / الطبري : ١٣٩ / ٤٧. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٧. والثاقب في المناقب / ابن حمزة الطوسي : ٢٩١. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٩ عن الخرائج والجرائح للقطب الراوندي.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٦.

٤) مجمع البيان / الطبرسي ١٠ : ٥٦٨. والمصباح / الكفعمي : ٦٥٩ ـ منشورات اسماعيليان ـ قم.

٥) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤١. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٨٠. وربيع الأبرار / الزمخشري ٢ : ١٠٤ وزارة الأوقاف ـ الجمهورية العراقية.


وقال الديلمي وابن فهد : روي أنّ فاطمة عليها‌السلام كانت تنهج في صلاتها من خيفة الله تعالىٰ (١).

ومن المظاهر البارزة في عبادتها عليها‌السلام كثرة الصلوات والأدعية والأذكار التي خصّها بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت تواظب علىٰ أدائها في محرابها رغم أنها كانت تباشر شؤون المنزل وتربية الأولاد بنفسها.

فعن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنّ أُمّه الزهراء عليها‌السلام كانت تصلي للأمر المخوف العظيم ركعتين ، تقرأ في الاُولىٰ الحمد و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) خمسين مرة ، وفي الثانية مثل ذلك ، فإذا سلّمت ، صلّت علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ ترفع يديها بالدعاء : « اللهمَّ إنّي أتوجّه بهم إليك ، وأتوسّل إليك بحقّهم العظيم الذي لايعلم كنهه سواك ، وبحقّ من حقّه عندك عظيم ، وبأسمائك الحسنىٰ ، وكلماتك التامات التي أمرتني أن أدعوك بها... » إلىٰ آخر الدعاء (٢).

وعنه عليه‌السلام : أنّها كانت إذا أصبحت يوم الجمعة تغتسل وتصفّ قدميها وتصلي أربع ركعات مثنىً مثنىً ، تقرأ في أول ركعة فاتحة الكتاب و ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) خمسين مرة ، وفي الثانية فاتحة الكتاب والعاديات خمسين مرة ، وفي الثالثة فاتحة الكتاب و( إِذَا زُلْزِلَتِ ) خمسين مرة ، وفي الرابعة فاتحة الكتاب وإذا جاء نصر الله خمسين مرة ، فإذا فرغت منها قالت : « إلهي وسيدي ، من تهيّأ أو تعبّأ أو أعدّ أو استعدّ لوفادة مخلوق رجاء رفده وفوائده ونائله وفواضله وجوائزه... ، فإليك يا إلهي كانت تهيئتي وتعبيتي وإعدادي واستعدادي ، رجاء رفدك ومعروفك ، ونائلك وجوائزك ، فلا تخيبني من ذلك ،

_______________________

١) ارشاد القلوب / الديلمي : ١٠٥ منشورات الرضي ـ قم. وأعلام الدين / الديلمي : ٢٤٧ ـ مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ـ قم. وعدة الداعي / ابن فهد : ١٥١ ـ دار المرتضىٰ ـ بيروت.

٢) مصباح المتهجد / الطوسي : ٣٠٢ ـ مؤسسة فقه الشيعة ـ بيروت.


يا من لا يخيّب مسألة سائل ، ولا تنقصه عطية نائل... » إلىٰ آخر الدعاء ، وذلك مما علّمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وعنه عليه‌السلام : أنّها كانت تصلّي صلاة الأوابين ، وهي أربع ركعات ، تقرأ في كلِّ ركعة خمسين مرة ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) (٢).

وروي عنه عليه‌السلام أنّه قال : « كانت لاُمّي فاطمة عليها‌السلام ركعتان تصليهما... تقرأ في الاُولىٰ الحمد مرة ، و ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) مائة مرة ، وفي الثانية الحمد مرة ، ومائة مرة ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) ، فإذا سلّمت سبّحت تسبيح الزهراء عليها‌السلام ، ثمّ تقول : سبحان ذي العزّ الشامخ المنيف ، سبحان ذي الجلال الباذخ العظيم ، سبحان ذي الملك الفاخر القديم ، سبحان من لبس البهجة والجمال ، سبحان من تردّىٰ بالنور والوقار... » إلىٰ آخر التسبيح (٣).

أمّا الأدعية التي خصّها بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تلك المروية عنها فهي كثيرة وذات أغراض مختلفة كالتعقيبات عقيب الصلوات والتسبيحات والأحراز ، ودعائها عند رؤية هلال شهر رمضان ، وعندما تأوي إلىٰ النوم ، وأدعيتها في أيام الاسبوع ، وغيرها مما تضيق بذكرها أوراق هذا البحث ، لذا نكتفي بالاشارة إلىٰ مظانّها (٤).

_______________________

١) مصباح المتهجد / الطوسي : ٣١٨. وجمال الأسبوع / ابن طاووس : ١٣٢ ـ الرضي ـ قم.

٢) الفقيه / الصدوق ١ : ٣٥٦ / ١٥٦٠. وتفسير العياشي ٢ : ٢٨٦ / ٤٤.

٣) جمال الاُسبوع / ابن طاووس : ٢٦٣ و ٢٦٦. ومصباح المتهجد / الطوسي : ٣٠١.

٤) المعجم الكبير / الطبراني ٢٣ : ٣٣٩ / ٧٨٧. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٧. ومسند أحمد ٦ : ٢٩٨. ومجمع الزوائد ١٠ : ١٠٨ و١٢٢. وذخائر العقبىٰ : ٥٠. وكنز العمال ١٥ : ٥٠١ / ٤١٩٧٥ و ٥٠٩ / ٤١٩٨٦ و ٥١٣ / ٤٢٠٠٠. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٣ / ٤ و ٢٥ / ٣٤ و ٩٧ / ٢٣١ و ١٠٣ / ٢٤٥. وفضائل شهر رمضان / الشيخ الصدوق : ٩٨ / ٨٤. ومصباح المتهجد / الطوسي :


وعلّمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذكاراً تقولها عند النوم وفي دبر كل صلاة ، وهي معروفة بتسبيح فاطمة عليها‌السلام ، وكان السبب في تشريعها علىٰ ما أخرجه الشيخ الصدوق وغيره عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال لرجلٍ من بني سعد : « ألاأُحدّثك عنّي وعن فاطمة عليها‌السلام ، أنّها كانت عندي فاستقت بالقربة حتىٰ أثّرت في صدرها ، وطحنت بالرحىٰ حتىٰ مجلت يداها ، وكسحت البيت حتىٰ اغبرت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتىٰ دكنت ثيابها ، فأصابها من ذلك ضرر شديد ، فقلت لها : لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوجدت عنده حدّاثاً ، فاستحيت فانصرفت ، فعلم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنها عليها‌السلام قد جاءت لحاجة فغدا علينا... فقال : يا فاطمة ، ما كانت حاجتك أمسِ عند محمد ؟ ... فقلت : أنا والله أُخبرك يا رسول الله ، إنّها استقت بالقربة حتىٰ أثّرت في صدرها ، وجرّت بالرحىٰ حتىٰ مجلت يداها ، وكسحت البيت حتىٰ اغبرّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتىٰ دكنت ثيابها ، فقلت لها : لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أفلا أُعلّمكما ماهو خير لكما من الخادم ؟ إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة ، وسبّحا ثلاث وثلاثين تسبيحة ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدة ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : رضيت عن الله وعن رسوله ، رضيت عن الله وعن رسوله » (١).

_______________________

٢٢٠. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٧٢ / ١٢ و ١٠٨ / ٣٥. والدعوات / الراوندي : ٩١. وفلاح السائل / ابن طاووس : ١٧٣ و ٢٠٢ و ٢٣٨ و ٢٥٠ ـ دفتر تبليغات ـ قم. ومهج الدعوات / ابن طاووس : ٥ و ٧ و ١٣٩ و ١٤١ و ١٤٢ ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت. والمصباح / الكفعمي : ٧٢ و ١٧٩. والبلد الأمين / الكفعمي : ٥٥. وبحار الأنوار ٨٦ : ٦٦ / ٤ و ١٦٥ ـ ١٧٢ / ٤٤ ، ٩٠ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ / ٤٨ ، ٩٤ : ٢٢٥ / ١.

١) الفقيه / الصدوق ١ : ٢١١ / ٩٤٧. وعلل الشرائع ٢ : ٣٦٦ / ١. ونحوه في صحيح البخاري ٧ :


وجاء في رواية اُخرىٰ عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنه قال : « فو الله ما تركتهنّ منذ علّمنيهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » فقال له ابن الكوّاء : ولا ليلة صفّين ؟ قال عليه‌السلام : « نعم ، ولا ليلة صفّين » (١).

وجاء في بعض الروايات أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرها بعمل تلك التسبيحات عند الرقاد وبعد كلّ صلاة (٢) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فذلك خير لك من الذي أردت ، ومن الدنيا وما فيها » (٣).

وفي خبر آخر : « فذلك مائة علىٰ اللسان ، وألف في الميزان » (٤).

أما كيفية تسبيح فاطمة عليها‌السلام فإنّ المروي عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وعليه عمل الإمامية ، هو أربع وثلاثون تكبيرة ، ثمّ ثلاث وثلاثون تحميدة ، ثمّ

_______________________

١٢٦ / ١٤ ـ كتاب الدعوات. وصحيح مسلم ٤ : ٢٠٩١ / ٢٧٢٧ ـ كتاب الذكر والدعاء. ومسند أحمد ٦ : ٢٩٨. والمعجم الكبير / الطبراني ٢٣ : ٣٣٩ / ٧٨٧. وحلية الأولياء ١ : ٦٩. والسنن الكبرىٰ / البيهقي ٧ : ٢٩٣. وكنز العمال ١٥ : ٤٩٦ ـ ٥٠٩ بعدّة طرق. وذخائر العقبىٰ : ٤٩ ـ ٥٠. واسعاف الراغبين / الصبّان : ١٨٩ ـ دار الكتب العلمية. والثغور الباسمة / السيوطي : ٢٢ ، وقال : هذا حديث صحيح مشهور ، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من طرق كثيرة بألفاظ مطولة ومختصرة.

١) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٢. ومسند أحمد ١ : ١٠٦. وتاريخ بغداد ٣ : ٢٣ / ٩٤٥ و ١٢ : ٢٢ / ٦٣٨٦. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٢٥. وصفة الصفوة / ابن الجوزي ٢ : ١٠ ـ ١١ ، دار المعرفة ـ بيروت. وذخائر العقبىٰ : ١٠٥ ـ ١٠٦. وتذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٢. ومجمع الزوائد ١٠ : ٣٢٨. وكنز العمال ١٥ : ٥٠٤ / ٤١٩٨١ و ٥٠٥ / ٤١٩٨٢.

٢) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١١. ومسند فاطمة / السيوطي : ٨. ودعائم الإسلام / النعمان ١ : ١٦٨.

٣) كنز العمال ١٥ : ٥٠٠ / ٤١٩٧٤ و ٥٠٧ / ٤١٩٨٣. ودعائم الإسلام / النعمان ١ : ١٦٩.

٤) كنز العمال ١٥ : ٥٠٧ / ٤١٩٨٤.


ثلاث وثلاثون تسبيحة بعد الصلوات (١).

وقد استفاضت الأخبار في فضله والحثّ عليه ، قال الإمام الباقر عليه‌السلام : « ماعُبد الله بشيءٍ من التحميد أفضل من تسبيح فاطمة عليها‌السلام ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليها‌السلام » (٢).

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « تسبيح فاطمة عليها‌السلام في كل يومٍ دبر كلّ صلاة أحبّ إليَّ من صلاة ألف ركعة في كل يوم » (٣).

وعن أبي هارون المكفوف ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : « يا أبا هارون ، إنّا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة عليها‌السلام كما نأمرهم بالصلاة ، فالزمه فإنّه لم يلزمه عبد فشقي » (٤).

٢ ـ العلم :

الزهراء عليها‌السلام العالمة المعلمة ، تلقّت العلم منذ طفولتها عن أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما كانت تأتيه لبعض شؤونها إلّا وأتحفها بشيء من العلم أو الدعاء أو الصلوات والأذكار.

روىٰ الشيخ الكليني بالإسناد عن زرارة ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « جاءت فاطمة عليها‌السلام تشكو إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض أمرها ، فأعطاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كُريسة ، وقال : تعلّمي ما فيها ، فإذا فيها : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ، ومن

_______________________

١) راجع : الكافي / الكليني ٢ : ٥٣٦ / ٦ و ٣ : ٣٤٢ / ٨ و ٩. والتهذيب / الطوسي ٢ : ١٠٥ / ٤٠٠ و١٠٦ / ٤٠١. و٣ : ٦٧ / ٢١٨. وجواهر الكلام ١٠ : ٣٩٩ دار الكتب الإسلامية.

٢) الكافي / الكليني ٣ : ٣٤٣ / ١٤. والتهذيب / الطوسي ٢ : ١٠٥ / ٣٩٨.

٣) الكافي / الكليني ٣ : ٣٤٣ / ١٥. والتهذيب / الطوسي ٢ : ١٠٥ / ٣٩٩.

٤) الكافي / الكليني ٣ : ٣٤٣ / ١٣. والتهذيب / الطوسي ٢ : ١٠٥ / ٣٩٧.


كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت » (١).

ومما يدلُّ علىٰ كمال فهمها وفطنتها ، أنّها كانت تجيب عن بعض المشكلات التي يعجز عن حلّها علماء الصحابة في زمانها.

فقد روي عن علي عليه‌السلام : « أنّه كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أيّ شيء خير للمرأة ؟ فسكتوا ، فلما رجع ، قال لفاطمة ، أي شيء خير للنساء ؟ قالت : لا يراهن الرجال. فذكر ذلك للمصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّما فاطمة بضعة مني ».

قال المنّاوي : رواه البزار ، وفيه دليل علىٰ فرط ذكائها ، وكمال فطنتها ، وقوة فهمها ، وعجيب إدراكها (٢).

وروىٰ الراوندي في النوادر مسنداً عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، قال : « سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه عن المرأة ماهي ؟ قالوا : عورة. قال : فمتىٰ تكون أدنىٰ من ربها ؟ فلم يدروا ، فلمّا سمعت فاطمة عليها‌السلام ذلك قالت : أدنىٰ ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّ فاطمة بضعة مني » (٣).

وكان بيت الزهراء عليها‌السلام بمثابة المدرسة الاُولىٰ لتعليم النساء في الإسلام حيث كن يقصدنها عليها‌السلام لينهلن من معارفها ، ويقتبسن من أنوارها ، ويستلهمن من روحانيتها ومكارمها ، وقد أشرنا إلىٰ دورها العلمي في تعليم النساء معالم الدين والعبادة وما يشكل عليهن في أواخر الفصل المتقدم.

وممّا يدلّ علىٰ أنّها عليها‌السلام كانت محوراً يستقطب حوله نساء المدينة ، أنّها

_______________________

١) الكافي ٢ : ٦٦٧ / ٦.

٢) إتحاف السائل : ٣٠. ونحوه في المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤١ وفيه : « أن لا ترىٰ رجلاً ولا يراها رجل ». فضمّها إليه وقال : « ذرية بعضها من بعض ».

٣) بحار الأنوار ٤٣ : ٩٢. عن النوادر / الراوندي : ١٤ الطبعة الاُولىٰ.


لما جاءت إلىٰ مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطبت خطبتها المعروفة ، أقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها ، وألقت خطبة أُخرىٰ بليغة بنساء المهاجرين والأنصار حينما جئن لعيادتها وهي في مرض الموت (١).

وللزهراء عليها‌السلام دور في حفظ السُنّة النبوية ، علىٰ الرغم من تقدم وفاتها ، حيث ودّعت الدنيا وهي في عمر الورد ، فقد روىٰ عنها جمع من الصحابة ، منهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والإمام الحسين عليه‌السلام ، وعبدالله بن مسعود ، وعبدالله ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وعائشة ، وأُمّ سلمة ، وأسماء بنت عميس ، وزينب بنت أبي رافع وغيرهم.

وأخرج الطبراني والحافظ ابن كثير أحاديثهم مسندة عن الزهراء عليها‌السلام فبلغت تسعة عشر حديثاً (٢) ، وأخرج أبو جعفر الطبري الإمامي في أول الدلائل ثمانية عشر حديثاً مسنداً عنها غير الأحاديث المتقدمة (٣).

وجمع الحافظ جلال الدين السيوطي حديث الزهراء عليها‌السلام المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ( مسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام ) فكان فيه ٢٨٢ حديثاً في مجمل أحوالها وتاريخها وما روي عنها ، وقد جمعه من كتب العامّة المعتبرة (٤).

وجمع الشيخ عزيز الله العطاردي في ( مسند فاطمة الزهراء ) ١١٢ حديثاً

_______________________

١) ستأتي الخطبتان في الفصل اللاحق.

٢) راجع : المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤١٣ ـ ٤٢٤. وجامع المسانيد والسنن / ابن كثير ١٦ : ٣٤ ـ ٥٠ ، دار الفكر ـ بيروت.

٣) دلائل الإمامة / الطبري : ٦٥ ـ ٧٩.

٤) طبع بتصحيح الحافظ عزيز بيك ، مدير لجنة أنوار المعارف بحيدرآباد الهند ، في حيدرآباد الهند ـ المطبعة العزيزية سنة ١٤٠٦ هـ ، ويقع في ١٢٠ صفحة.


مروياً عنها من مصادر الشيعة وبعض مصادر العامّة ، موزعة علىٰ ١٦ باباً من أبواب القرآن والفقه والدعاء والعقائد والاحتجاج والحكم والمواعظ وغيرها (١) ، وعدّ في آخر المسند تسعة وعشرين صحابياً ممن روىٰ عنها عليها‌السلام.

وفي آخر عوالم الزهراء عليها‌السلام للشيخ عبدالله البحراني ، جمع محققو الكتاب مسند الزهراء عليها‌السلام من كتب الفريقين في أواخر الجزء الثاني منه ، تحت عنوان ( الأحاديث الغراء من مسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام ) فبلغ ٢١٩ حديثاً في عناوين مختلفة (٢).

وممّا تقدّم يتبين أن ما قاله السيوطي في ( الثغور الباسمة ) : جميع ما روته فاطمة عليها‌السلام من الحديث لا يبلغ عشرة أحاديث لتقدم وفاتها (٣) ، لا يجانب الصواب ، بل ويناقضه ما أخرجه السيوطي نفسه في ( مسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام ) من حديثها الذي بلغ أضعاف هذا العدد.

وقال سبط ابن الجوزي : قالوا : وقد روت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمانية عشر حديثاً ، وقيل : ثمانين حديثاً ، وإنّها يسيرة بالنسبة إليها (٤) ، ولا ريب في ذلك فهي سيدة العترة النبوية الذين أوصىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاُمّة بالتمسك بهم بعد كتاب الله في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين.

ومن العلم الذي خصّت به فاطمة عليها‌السلام ما كان مودعاً في مصحفها عليها‌السلام وتداوله الأئمة الاثني عشر من أبنائها عليهم‌السلام بعدها ، وقد وصفوه صلوات الله

_______________________

١) مسند فاطمة عليها‌السلام / العطاردي : ٤٧١ ـ ٥٨٦ ، منشورات عطارد.

٢) عوالم الزهراء عليها‌السلام / البحراني ٢ : ٨٥٥ ـ ٩٣٤ تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عج) ـ قم.

٣) الثغور الباسمة / السيوطي : ٥١ ، ونقل عن الحافظ البدخشاني في ص٥٢ أنه قال : كل ما روي عنها ثمانية عشر حديثاً.

٤) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٠.


عليهم بأنه مثل القرآن ثلاث مرات ، وأنّه مافيه آية من كتاب الله ، بل هو كتاب غير القرآن الكريم يتضمّن خبر ما كان وخبر ما يكون إلىٰ يوم القيامة ، وأنّه ممّا حدثتها به الملائكة ، وهو بخطّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفي بعض الأخبار : أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّ علي عليه‌السلام (١).

وكان عندها لوح أو صحيفة فيها أسماء الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام بروايتها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد رآها جابر بن عبدالله الأنصاري رضي‌الله‌عنه ، وهذا اللوح هو بشارة لها عليها‌السلام من السماء ، وقد روي بطرق عديدة ومعتبرة (٢).

ولقد أُوتيت الزهراء عليها‌السلام كسائر أهل البيت عليهم‌السلام حظاً عظيماً من الفصاحة والبلاغة ، قال توفيق أبو علم : كلامها متناسب الفقر ، متشاكل الأطراف ، تملك القلوب بمعانيه ، وتجذب النفوس بمحكم أدائه ومبانيه ، فهي في البيان من أغزر القوم مادة ، وأطولهم باعاً ، وأمضاهم سليقة ، وأسرعهم خاطراً (٣).

وقد رويت لها خطبتان تعدّان من أهم خطب الصدر الأول ، لأنّها ضمّنتهما أخطر التحولات التي شهدها تاريخ الإسلام بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفضلاً عن ذلك فقد نسبت للزهراء عليها‌السلام بعض القصائد الشعرية البليغة ، ممّا يدل علىٰ تمكّنها من ناصية اللغة ومعرفتها لهذا الفن.

قال ابن رشيق القيرواني : وكانت فاطمة عليها‌السلام تقول الشعر ، ورويت لها

_______________________

١) راجع الكافي / الكليني ١ : ٢٣٨ ـ ٢٤٢. وبصائر الدرجات / الصفار : ١٧٣ ـ ١٧٩ الأعلمي ـ طهران. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٠٤ / ٣٤.

٢) راجع طرقه في عوالم الزهراء عليها‌السلام / البحراني ٢ : ٨٤٣ ـ ٨٥٢.

٣) أهل البيت : ١٥٧.


أشياء كثيرة (١).

وقد جمع الشعر المنسوب إليها في ديوان ، فبلغ (١٨) بين مقطوعة وقصيدة ، وأغلبه في رثاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

٣ ـ العفّة والحجاب :

لقد أعطىٰ الإسلام للمرأة حقوقها ، وشرّع القوانين لحمايتها ورعاية مصالحها ، ومنحها الحرية ضمن تعاليمه السامية في طلب العلم والحصول علىٰ الملكية والارث والعمل ، ولكن بشرط أن لا تكون علىٰ نمط الحرية الإباحية التي تعرض فيها المرأة نفسها بالمجان ، وتكون سبباً في إفساد بنية الاُسرة وانحراف المجتمع ، كما هو الحال في المجتمعات الغربية.

ولقد ضربت الزهراء عليها‌السلام أروع الأمثلة في ما يجب أن تكون عليه المرأة المسلمة من حصانة وعفّة مع أدائها لدورها في داخل المنزل وخارجه علىٰ أتمّ وجه ، فهي النموذج الأمثل الذي قدّمه الإسلام للمرأة ، فمن الحقّ أن يقتدىٰ بها في كل ما أُثر عنها من مبادئ العفّة والحجاب ، فقد روي عنها عليها‌السلام أنّها قالت : « خير للمرأة أن لا ترىٰ رجلاً ولا يراها رجل » (٣).

فمن حيث خمار رأسها فقد وصف أنّه يصل إلىٰ نصف عضدها ، كما جاء بالاسناد عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : « فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، وما كان خمارها إلّا هكذا » وأومأ بيده إلىٰ وسط عضده (٤).

ومن عجائب أمرها عليها‌السلام أنّها كانت تتحرج من رؤية الرجل الأعمىٰ ،

_______________________

١) العمدة / ابن رشيق ١ : ١٠٣ ، دار المعرفة ، وروىٰ لها قصيدة في رثاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ٢ : ٨١٦ من العمدة.

٢) جمع في أول كتاب ( فاطمة في ديوان الشعر العربي : ١٥ ـ ٢٤ ) مؤسسة البعثة ـ بيروت.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤١.

٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ٩٣ ، منشورات الرضي ـ قم.


فكيف بالبصير حينئذ ؟!

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استأذن عليها أعمىٰ فحجبته ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لِمَ حجبتيه وهو لا يراك ، فقالت : يارسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه ، وهو يشمّ الريح. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشهد أنك بضعة مني » (١).

وروىٰ الشيخ الكليني بالاسناد عن أبي جعفر عليه‌السلام ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد فاطمة عليها‌السلام وأنا معه ، فلمّا انتهيت إلىٰ الباب وضع يده عليه ، ثم قال : « السلام عليكم ». فقالت فاطمة عليها‌السلام : « عليك السلام يا رسول الله » قال : « أدخل ؟ » قالت : « ادخل يا رسول الله ». قال : « أدخل أنا ومن معي ؟ » فقالت : « يارسول الله ليس عليَّ قناع ». فقال : « يافاطمة ، خذي فضل ملحفتك ، فقنّعي به رأسك » ففعلت ، ثم قال : « السلام عليكم ». فقالت فاطمة : « وعليك السلام يا رسول الله » ، قال : « أدخل » قالت : « نعم يا رسول الله » قال : « أنا ومن معي ؟ » قالت : « أنت ومن معك » الحديث (٢).

وروىٰ أبو نعيم بالاسناد عن جابر بن سمرة ، قال : جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلس فقال : « إنّ فاطمة وجعة » فقال القوم : لو عدناها. فقام فمشىٰ حتىٰ انتهىٰ إلىٰ الباب ، والباب عليها مصفق ، قال : فنادىٰ : « شدّي عليك ثيابك ، فإنّ القوم جاءوا يعودونك » فقالت : « يا نبي الله ، ما عليَّ إلّا عباءة » قال : فأخذ رداءً فرمىٰ به إليها من وراء الباب ، فقال : « شدّي بهذا رأسك » فدخل ودخل

_______________________

١) المناقب / ابن المغازلي : ٣٨٠ / ٤٢٨. والنوادر / الراوندي : ١٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩١ ـ ٩٢ / ١٦.

٢) الكافي ٥ : ٥٢٨ / ٥.


القوم ، فقعد ساعة فخرجوا ، فقال القوم : تالله بنت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ هذا الحال ! قال : فالتفت فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أما إنّها سيدة النساء يوم القيامة » (١).

والتزام الزهراء عليها‌السلام بالحجاب الإسلامي لم يمنعها من أداء دورها الرسالي في الدفاع عن عقائد الإسلام وسُنّة أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسترجاع حقّها السليب ، فقد وصفها الرواة حينما جاءت إلىٰ مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم : لمّا بلغ فاطمة عليها‌السلام إجماع أبي بكر علىٰ منعها فدك ، لاثت خمارها علىٰ رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ... فدخلت عليه وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها مُلاءة ... (٢).

ومن مظاهر العفة والحشمة التي سجلتها الزهراء عليها‌السلام سُنّة تُقتدىٰ إلىٰ اليوم ، هي أنّها عندما اشتكت شكوتها التي قبضت فيها ، قالت لأسماء بنت عميس : « ألا تجعلي لي شيئاً يسترني ، فإنّي استقبح ما يصنع بالنساء ، يطرح علىٰ المرأة الثوب فيصفها » ، فقالت أسماء : إني رأيت شيئاً يصنع بالحبشة ، فصنعت لها هيئة النعش ، فقالت عليها‌السلام : « اصنعي لي مثله ، استريني سترك الله من النار ».

فكان نعشها أول نعش أُحدث في الإسلام ، واتخذ بعد ذلك سُنّة (٣).

٤ ـ الكرم والسخاء :

وسجّلت الزهراء عليها‌السلام دوراً بارزاً في الانفاق في سبيل الله وعتق الرقاب

_______________________

١) حلية الأولياء / أبو نعيم ٢ : ٤٢ ، دار الكتب العلمية ، وروىٰ نحوه ابن شاهين في فضائل فاطمة عليها‌السلام : ٣٤ ـ ٣٥ بالاسناد عن عمران بن حصين.

٢) ستأتي الخطبة مع تخريجها في الفصل الثالث.

٣) راجع : التهذيب / الطوسي ١ : ٤٦٩ / ١٥٤٠. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٣. وتاريخ المدينة / ابن شبّة ١ : ١٠٨. وسير أعلام النبلاء / الذهبي ٢ : ١٢٨.


وإعانة الضعفاء والمعوزين من أبناء المجتمع الإسلامي علىٰ الرغم من شظف العيش وشدّة الزمان.

ولقد عرضنا في أواخر الفصل المتقدم بعض النماذج الناطقة بتحلّيها بهذا الخلق النبوي الكريم ، من ذلك تصدّقها بقوتها ثلاثة أيام علىٰ المسكين واليتيم والأسير في جملة زوجها علي وولديها الحسن والحسين عليهم‌السلام ، فأنزل الله تعالىٰ فيهم قرآناً يتلى وهو سورة الدهر ، وتصدّقت بسواريها وقرطيها وقلادتها في سبيل الله (١).

ونضيف هنا ما روي عن ابن عباس في قوله تعالىٰ : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (٢) قال : نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (٣).

وعن أبي هريرة : أنّ رجلاً جاء إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه الجوع ، فبعث إلىٰ بيوت أزواجه ، فقلن : ما عندنا إلّا الماء ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من لهذه الليلة ؟ » فقال علي عليه‌السلام : « أنا يا رسول الله » فأتىٰ فاطمة عليها‌السلام فأعلمها ، فقالت : « ما عندنا إلّا قوت الصبية ، ولكنّا نؤثر به ضيفنا ». فقال علي عليه‌السلام : « نوّمي الصبية ، وأنا أُطفىء للضيف السراج » ففعلت وعشّىٰ الضيف ، فلما أصبح أنزل الله عليهم هذه الآية : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (٤).

ومن نماذج الإيثار والسخاء الاُخرىٰ ما ذكره الصفوري عن ابن الجوزي أنّها عليها‌السلام أهدت قميصها في ليلة زفافها إلىٰ سائل بالباب (٥).

_______________________

١) أمالي الصدوق : ٣٠٥ / ٣٤٨.

٢) سورة الحشر : ٥٩ / ٩.

٣) شواهد التنزيل / الحسكاني ٢ : ٢٤٧ / ٩٧١.

٤) شواهد التنزيل / الحسكاني ٢ : ٢٤٦ / ٩٧٠. وأمالي الطوسي : ١٨٥ / ٣٠٩.

٥) إحقاق الحق ١٠ : ٤٠١ عن نزهة المجالس / الصفوري ٢ : ٢٢٦ ـ طبع القاهرة.


وجاء في ( بحار الأنوار ) أنها عليها‌السلام أهدت عقدها وجلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسين عليهما‌السلام إلىٰ شيخ مسكين من مهاجرة العرب (١).

وليس ذلك ببعيد عن آل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين طبعوا علىٰ السخاء والكرم اقتداءً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد روي عن فاطمة عليها‌السلام أنها قالت : « قال لي أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إياك والبخل فإنّه عاهة لا تكون في كريم ، إياك والبخل فإنّه شجرة في النار ، وأغصانها في الدنيا ، فمن تعلّق بغصنٍ من أغصانها أدخله النار ، والسخاء شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا ، فمن تعلّق بغصنٍ من أغصانها أدخله الجنة » (٢).

٥ ـ صبرها علىٰ المعاناة :

ونختم هذا الفصل ببيان بعض الصور من معاناة الزهراء عليها‌السلام وصبرها علىٰ الشدائد بقوة الايمان وعزيمة الاخلاص احتساباً لأجر الآخرة.

لقد تعرّضت الزهراء عليها‌السلام إلىٰ مزيد من الصعاب والأزمات في جميع مراحل حياتها ؛ ذلك لأنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون فاطمة عليها‌السلام رمزاً لفضيلة المرأة وقدوةً لكمالها الإنساني في مجتمع يسوم المرأة أنواع الظلم والكبت والقهر ، فالقدوة التي خلقها الله تعالىٰ للآخرة لا للدنيا ، لابد أن تكون محطة للمصائب والمحن والمعاناة ، وإلّا فكيف تعلّم غيرها درس المقاومة والصبر وتجاوز المصاعب والعقبات ؟ ومن هنا نجد أنّ الأنبياء والأوصياء والأئمة المعصومين ، كانوا أشدّ الناس محنةً وبلاءً ، لا امتحاناً وابتلاءً كما يفهمه البعض ، فإنّهم خارج دائرة التجربة والاختبار ؛ لأنّ الله

_______________________

١) بحار الأنوار ٤٣ : ٥٦ ـ ٥٧.

٢) دلائل الإمامة / الطبري : ٧٠ / ٩.


تعالىٰ اصطفاهم وفضلهم علىٰ العالمين.

ولقد أخبرها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّها أكثر نساء المسلمين معاناة ورزية حيث روي عن عائشة : أنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة : « إنّ جبرئيل أخبرني أنّه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم رزية منك ، فلا تكوني أدنىٰ امرأة منهن صبراً » (١).

وعانت الزهراء عليها‌السلام منذ صباها حيث فقدت أُمّها ، وما تلا ذلك من الأحداث القاسية والمصاعب الجمّة التي أشرنا إلىٰ بعضها في الفصل الأول ، وكان من أفدح المصائب التي منيت بها حبيبة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي فقدها لأبيها ، فهي البنت الوحيدة التي بقيت بعده ، وتحملت مرارة فراقه مع صنوف الاضطهاد والبلوىٰ ، فواجهت ذلك بعزم لا يلين صابرة محتسبة ، ثم كانت أول أهله لحوقاً به.

أمّا علىٰ صعيد حياتها الشخصية ، فقد عانت فاطمة عليها‌السلام صنوف المشاق والأذىٰ وقلّة ذات اليد وجشوبة العيش ، علىٰ الرغم من أنّها كانت علىٰ مرأىٰ ومسمع من أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان بامكانه أن يجعل لها بيتاً مرموقاً وحياة مرفّهة وعيشاً رغيداً ، لكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبىٰ إلّا أن يكون القائد الرسالي الذي يفضّل سدّ حاجات أهل الصفّة وفقراء المسلمين علىٰ أن يعطي ابنته الوحيدة جارية تخدمها أو شيئاً من الحطام الزائل ، وذلك لكي تكون مثالاً كاملاً لشخصه العظيم في الزهد عن الدنيا وتحمل المشاق ورفض الملاذ ، وتكون المرأة النموذج في الإسلام ، تعاني ما يعانين من ألم التنور ومشقة الطحن بالرحىٰ وقمّ البيت وتربية الأولاد وغيرها ، فضلاً عن قيامها بمسؤولياتها العبادية وأدائها لدورها الرسالي في داخل البيت وخارجه باعتبارها سيدة نساء

_______________________

١) فتح الباري / ابن حجر ٨ : ١١١.


العالمين وقدوتهنّ.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ فاطمة كانت حاملاً ، فكانت إذا خبزت أصاب حرف التنور بطنها ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأله خادماً فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أعطيك وأدع أهل الصفّة تطوىٰ بطونهم من الجوع. وعلّمها التسبيحات » (١).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتسب لها في ذلك مزيداً من الفضل والزلفىٰ في الآخرة ، فهو القائل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما لآل محمد وللدنيا فإنّهم خلقوا للآخرة ، وخلقت الدنيا لغيرهم » (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أُحبُّ أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا » (٣).

ولذلك روي أنّها عليها‌السلام لما مضت إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكرت حالها ، وسألت الجارية ، بكىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « يا فاطمة ، والذي بعثني بالحق ، إنّ في المسجد أربعمائة رجل مالهم طعام ولا ثياب ، ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت.

يا فاطمة ، إنّي لا أُريد أن ينفكّ عنك أجرك إلىٰ الجارية ، وإنّي أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب يوم القيامة بين يدي الله إذا طلب حقّه منك » ثم علّمها التسبيح. فقال علي عليه‌السلام : « مضيت تريدين من رسول الله الدنيا ، فأعطانا الله ثواب الآخرة » (٤).

وكلّما ازدادت معاناة الزهراء عليها‌السلام فإنّها تحمد الله علىٰ نعمائه وتقيم الشكر علىٰ آلائه ، عن جابر الأنصاري رضي‌الله‌عنه أنّه قال : رأىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة

_______________________

١) حلية الأولياء / أبو نعيم ٢ : ٤١. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٥.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣.

٣) مسند أحمد ٥ : ٢٧٥. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٥١. وذخائر العقبى : ٥٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٦.

٤) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤١.


وعليها كساء من أوبار الإبل ، وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « يا بنتاه ، تعجّلي ـ أو تجرّعي ـ مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة » ـ وفي حديث : « اصبري علىٰ مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً » ـ فقالت : « يا رسول الله ، الحمد لله علىٰ نعمائه ، والشكر لله علىٰ آلائه » ، فأنزل الله تعالىٰ : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (١).

وعندما تكون الزهراء عليها‌السلام في موقع الخيار بين الدنيا والآخرة ، فإنّها لا تتوانىٰ في اختيار ما عند الله سبحانه علىٰ حطام الدنيا الفانية علىٰ الرغم من الخصاصة وشدة الحاجة ، وضيق العيش.

عن سويد بن غفلة ، قال : أصابت عليّاً عليه‌السلام خصاصة ، فقال لفاطمة عليها‌السلام : « لو أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألتيه ؟ فأتته... فقالت : يا رسول الله ، هذه الملائكة طعامها التهليل والتسبيح والتحميد ، فما طعامنا ؟ » قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي بعثني بالحقّ ، ما اقتبس في بيت آل محمد نار منذ ثلاثين يوماً ، ولقد أتتنا أعنز ، فإن شئت أمرنا لك بخمسة أعنز ، وإن شئت علمتك خمس كلمات علمنيهن جبرئيل » فقالت : « بل علمني الخمس كلمات التي علمكهنّ جبرئيل ». قال : « قولي : يا أول الأولين ، ويا آخر الآخرين ، ويا ذا القوة المتين ، ويا راحم المساكين ، ويا أرحم الراحمين » فانصرفت فدخلت علىٰ عليّ عليه‌السلام فقال : « ما وراءك ؟ » فقالت : « ذهبت من عندك للدنيا ، وأتيتك بالآخرة » فقال : « خير أيامك » (٢).

_______________________

١) سورة الضحىٰ : ٥. والحديث في الدر المنثور / السيوطي ٨ : ٥٤٣. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٥٨ عن ابن النجار وابن مردويه والديلمي. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٤. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٢. وكنز العمال ١٢ : ٤٢٢ / ٣٥٤٧٥. ومجموعة ورّام ٢ : ٢٣٠ ، مكتبة الفقيه ـ قم.

٢) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٤ و ٢٤. ودعوات الراوندي : ٤٧ / ١١٦.


قال الحرّ العاملي رحمه‌الله في منظومته :

طلّقت الدنيا كفعل بعلها

واشتغلت عنها بحسن فعلها

لا تعرف اللذات والتنعّما

والحلي واللبس عُلاً وكرما (١)

ولقوة صبر الزهراء عليها‌السلام المستمدّ من قوة إيمانها وتعلّقها العجيب بالله عزّ وجلّ ، لم يشكّل بيتها الطاهر بأثاثه البسيط جداً جزءاً من المعاناة النفسية التي تترك آثارها السيئة في نفوس النساء عادة ، بل كانت تفيض حبّاً وحناناً وبشاشةً تغمر فيها عليّاً والسبطين عليهم‌السلام بما يجعل من فراشهم وهو جلد كبش أرقّ من الحرير ، وأما المعاناة الجسدية فهي معاناة طبيعية كانت تبثها الزهراء عليها‌السلام إلىٰ أبيها العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحيلها إلىٰ الصبر زاداً ووقاءً.

عن أنس ، قال : جاءت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : « يا رسول الله ، إنّي وابن عمي مالنا فراش إلّا جلد كبش ننام عليه ، ونعلف عليه ناضحنا بالنهار ». فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بنية اصبري ، فإنّ موسىٰ بن عمران أقام مع امرأته عشر سنين مالها فراش إلّا عباءة قطوانية » (٢).

وعن علي عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولاً خرجت منها جنوبنا ، وإذا لبسناها عرضاً خرجت رؤوسنا وأقدامنا » (٣).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : « أنّهما كانا يتغطيان في قطيفة ، إذا غطيا رؤوسهما انكشفت أقدامهما ، وإذا غطيا أقدامهما انكشفت رؤوسهما » (٤).

وجاء في كتاب ( زهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لابن بابويه أنّ سلمان رضي‌الله‌عنه بكىٰ حينما

_______________________

١) تراجم أعلام النساء / الأعلمي ٢ : ٣١٣ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.

٢) إحقاق الحقّ ١٠ : ٤٠٠ عن السيرة النبوية / دحلان ٢ : ١٠ ـ القاهرة.

٣) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٢.

٤) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٨.


رأىٰ فاطمة عليها‌السلام قد خرجت إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشملة لها خلقة ، قد خيطت في عدّة مواضع ، فلما دخلت علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : « يا رسول الله ، إنّ سلمان تعجب من لباسي ، فو الذي بعثك بالحق مالي ولعليّ منذ خمس سنين إلّا مسك كبش نعلف عليه بالنهار بعيرنا ، فإذا كان الليل افترشناه ، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف ». فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا سلمان ، إنّ ابنتي لفي الخيل السوابق » (١).

وصبرت الزهراء عليها‌السلام علىٰ الجوع الذي نال منها حتىٰ غارت عيناها وغلبت الصفرة علىٰ وجهها ، ولصق بطنها بظهرها ، فحظيت بعناية الله سبحانه حيث كثّر الطعام في بيتها ، وأنزل عليها رزقاً من السماء كما قدّمنا ، وحظيت بعناية أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث دعا لها بإذهاب الجوع عنها.

عن عمران بن حصين ، قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالساً إذ أقبلت فاطمة عليها‌السلام فوقفت بين يديه ، فنظر إليها وقد غلبت الصفرة علىٰ وجهها ، وذهب الدم من شدة الجوع ، فقال : « ادني يا فاطمة » فدنت ، ثم قال : « ادني يا فاطمة » فدنت حتىٰ وقفت بين يديه ، فوضع يده علىٰ صدرها في موضع القلادة ، وفرّج بين أصابعه ، ثم قال : « اللهمّ مشبع الجاعة ورافع الوضعة ، لاتجع فاطمة بنت محمد » فغلب الدم علىٰ وجهها ، وذهبت تلك الصفرة (٢).

وجاء في ( تذكرة الخواص ) لسبط ابن الجوزي أنّه حينما تصدّقت عليها‌السلام علىٰ المسكين واليتيم والأسير ، دخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي قائمة في محرابها ، ولقد لصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها من شدة الجوع. فقال

_______________________

١) الدروع الواقية / ابن طاووس : ٢٧٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ٨٨ / ٩.

٢) نظم درر السمطين / الزرندي : ١٩١ مطبعة القضاء ـ النجف. وأخرج الشيخ الكليني عن جابر بن عبدالله الأنصاري نحوه في الكافي ٥ : ٥٢٨ ـ ٥٢٩ / ٥.


النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « واغوثاه بالله ، آل محمد يموتون جوعاً ! » فهبط جبرئيل عليه‌السلام وهو يقرأ ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) الآية (١).

وعن عمران بن حصين ، قال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد فاطمة عليها‌السلام وهي مريضة ، فقال : « كيف تجدينك يا بنية ؟ » قالت : « إنّي لوجعة ، وإنّه ليزيدني وجعاً ، أنه ليس لي طعام آكله » فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بنية ، أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين ؟ » (٢).

ولم تجزع الزهراء عليها‌السلام يوماً قطّ مما تعانيه من أُمور الدنيا ، ولم تتذمّر يوماً قط بوجه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، ولم تكلّفه فوق طاقته حياءً من الله سبحانه ، بل كانت تؤثره علىٰ نفسها وعلىٰ ابنيها ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يبادلها المثل ، وربما أرسلها ـ رأفةً بحالها ـ إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تستطعمه.

عن أبي سعيد ، قال : أصبح علي عليه‌السلام ذات يوم فقال : « يا فاطمة ، هل عندك شيء تغدّينيه ؟ » قالت : « لا والذي أكرم أبي بالنبوة ما عندي شيء أغدّيكم ، ولا كان لنا بعدك شيء منذ يومين نطعمه ، إلّا شيء أُوثرك به علىٰ بطني وعلىٰ ابني هذين ».

قال : « يا فاطمة ، ألا أعلمتني حتىٰ أبغيك شيئاً ! » قالت : « إنّي استحي من الله أن أُكلفك ما لا تقدر عليه » فخرج من عندها واثقاً بالله وحسن الظنّ به واستقرض ديناراً... الحديث (٣) ، وفيه تكثير الطعام لأهل البيت عليهم‌السلام في بيت الزهراء عليها‌السلام بفضل من الله تعالىٰ ورحمته.

_______________________

١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٥.

٢) الاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٣٧٥. والمناقب / ابن المغازلي : ٣٩٨ / ٤٥٢. وحلية الأولياء ٢ : ٤٢. ونظم درر السمطين / الزرندي : ١٧٩. وإتحاف السائل / المناوي : ٧٧.

٣) فضائل فاطمة عليها‌السلام / ابن شاهين : ٣٦. وتفسير فرات الكوفي : ٨٣ ـ طهران. وكشف الغمة ١ : ٤٦٩. وأمالي الطوسي : ٦١٥ / ١٢٧٢. وذخائر العقبىٰ : ٤٥ ـ ٤٦. وكفاية الطالب : ٣٦٧.


وعن محمد بن كعب القرظي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في خطبةٍ له بأهل العراق ـ قال : « قد رأيتني مكثت ثلاثة أيام من الدهر ما أجد شيئاً آكله حتىٰ خشيت أن يقتلني الجوع ، فأرسلت فاطمة إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تستطعمه لي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بنية ، والله ما في البيت طعام يأكله ذو كبد إلّا ماترين ـ لشيء قليل بين يديه ـ ولكن ارجعي فسيرزقكم الله ، فلمّا جاءتني فأخبرتني انفلتّ وذهبت حتىٰ آتي بني قريظة ، فإذا يهودي علىٰ شقّة بئر ، فقال : يا عربي هل لك أن تستقي لي نخلي كلّ دلو بتمرة ، فجعلت أنزع ، فكلّما نزعت دلواً أعطاني تمرةً ، حتىٰ إذا امتلأَت يدي من التمر قعدت فأكلت وشربت من الماء ، ثم قلت : يالك بطناً ، لقد لقيت اليوم ضراً ! ثمّ نزعت مثله لابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ انفلتّ راجعاً... » (١) الحديث.

وعن أسماء بنت عميس ، عن فاطمة عليها‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاها يوماً فقال : أين ابناي ـ يعني حسناً وحسيناً ـ. قالت : أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق ، فقال علي عليه‌السلام : أذهب بهما ، فإني أتخوف أن يبكيا عليك ، وليس عندك شيء » (٢).

_______________________

١) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٩٦.

٢) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤٢٢ / ١٠٤٠. وذخائر العقبىٰ : ٤٩ / ٥١٠٤.


الفصل الثالث

الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ ما تعرّضت له وحيدة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبيبته وأعزّ الناس عليه بعد رحيله إلىٰ رضوان ربه ورحمته ، يعتبر الحلقة الاُولىٰ من مسلسل التآمر علىٰ عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتمثل في اغتصاب حقّهم ـ الذي سطّرته السماء لهم ، باعتبارهم ورثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصياءه وولاة الأمر من بعده ـ والاستغناء عنهم في المشورة ، مع شدّة الوطأة عليهم في أمر البيعة ، واهتضام حقوقهم سواءً كانت نحلةً أو إرثاً أو فيئاً أو خمساً ، وسوقهم مع سائر الرعايا بعصا واحدة ، هذا والجرح لمّا يندمل والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا يجفّ تراب رمسه الشريف المطهّر.

ولم تنته تلك المؤامرة بقتل الحسن والحسين عليهما‌السلام سيدي شباب أهل الجنة ، وقتل أولادهم وسبي ذراريهم ، وتتبّع شيعتهم ومحبيهم وأتباعهم تحت كل حجر ومدر ، بل لازالت متواصلة الفصول تفعل فعلتها في استهداف الخطّ الرسالي الأصيل وعزله عن أداء دوره في بناء الإنسان والمجتمع.

ولقد أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحصول كلّ هذا من بعده فقال : « إن أهل بيتي


سيلقون من بعدي من أُمّتي قتلاً وتشريداً » (١) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّكم المقهورون والمستضعفون من بعدي » (٢) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابنته الزهراء عليها‌السلام وهو في مرض الموت « إنّ جبرئيل أخبرني أنّه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم رزية منك » (٣).

فليته يرىٰ بضعته الصديقة الطاهرة وسيدة عترته ، كيف تعرضت لموت بطيء وهي مكلومة الفؤاد قريحة العين منهدّة القوىٰ ، قد أغار أصحابه علىٰ منزلها يحشّون الحطب ويذكون النار في بابها ، وهي تبكي وتستغيث : « يا أبتِ يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » (٤).

ولم يقف الأمر إلىٰ هذا الحدّ ، بل إنّهم سلبوها نحلتها ومنعوها إرثها وإرث عميد بيتها أمير المؤمنين عليه‌السلام وارث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيه وولي المؤمنين من بعده ، حتىٰ ودّعت الحياة وهي غضبىٰ علىٰ أُمّة تكالبت علىٰ تراث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المحتضر ، متجاهلة كلّ نصّ ووصية ، متنكرةً لتعاليم السماء ووحيها ووصايا نبيها. وهكذا انقلبت علىٰ عقبيها كما يرشدنا إلىٰ ذلك قول الله العظيم : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ) (٥).

ولاريب أنّ موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس موتاً لمبادئه ووصاياه ، فمن ينقلب

_______________________

١) كنز العمال ١١ : ١٦٩ / ٣١٠٧٤ عن أبي سعيد الخدري.

٢) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٢٧٨. ومسند أحمد ٦ : ٣٣٩.

٣) فتح الباري / ابن حجر ٨ : ١١١. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٩ : ٢٣.

٤) الإمامة والسياسة : ١٣. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٥.

٤) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٤.


علىٰ تلك المبادىء والوصايا بمجرد موته ، فهو بمثابة من أنكر نبوته وكذّب وحيه.

ولقد سجّل بعض الصحابة أرقاماً فاقت حدّ التصور في الإحداث والانقلاب بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا مصاديق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليردنّ عليّ الحوض رجالٌ ممّن صحبني ورآني ، حتىٰ إذا رفعوا إليّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولنّ : ربّ أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، انهم ارتدوا علىٰ أعقابهم القهقري » ، وفي لفظ آخر : « فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين علىٰ أعقابهم منذ فارقتهم » (١).

ويؤكد انقلابهم علىٰ أعقابهم ما أخرجه الواقدي ومالك من حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين صلّىٰ علىٰ شهداء أُحد فقال : « أنا علىٰ هؤلاء شهيد ». فقال أبو بكر : ألسنا يا رسول الله بإخوانهم ، أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بلىٰ ، ولكن لا أدري ما تُحدِثون بعدي » (٢).

وهكذا كان عميد البيت النبوي وسيدته سيدة نساء العالمين عليهما‌السلام الضحية الاُولىٰ لاُولئك المُحدِثين والمنقلبين ، لأنّهما القطب الذي تدور عليه المعارضة والوجه الذي يحاكي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خُلقاً وأخلاقاً ومنطقاً وهدياً ، ويذكّر الاُمّة بسنته وكتاب ربّه ، فضلاً عن أنّ الزهراء عليها‌السلام تمثل أحد الجناحين اللذين يطير بهما وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام وأحد

_______________________

١) مسند أحمد ٣ : ١٤٠ و ٢٨١ و٥ : ٤٨ و ٥٠ و ٣٣٣ و ٣٨٨ و ٤٠٠. وراجع صحيح البخاري ٦ : ١٠٨ / ١٤٧ و ١٧٩ / ٢٦١ ـ كتاب التفسير و ٨ : ١٩٦ / ١١٣ و ٢١٤ / ١٥٧ و ٢١٦ / ١٦٣ ـ ١٦٦ ـ كتاب الرقاق و ٩ : ٨٣ / ٢ ـ كتاب الفتن. وصحيح مسلم ٤ : ١٧٩٤ / ٢٨ و ١٧٩٥ / ٢٩ و ١٧٩٦ / ٣٢ و ١٨٠٠ / ٤٠ ـ كتاب الفضائل.

٢) المغازي / الواقدي ١ : ٣١٠. والموطأ / مالك ٢ : ٤٦٢ / ٣٢ ـ كتاب الجهاد.


الركنين اللذين يستند إليهما ، فركن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وركن فاطمة الصديقة الطاهرة عليها‌السلام.

عن جابر ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي عليه‌السلام قبل موته بثلاث : « سلام الله عليك يا أبا الريحانتين ، أوصيك بريحانتي من الدنيا خيراً ، فعن قليل ينهدّ ركناك ، والله خليفتي عليك ».

قال : فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال علي عليه‌السلام : « هذا أحد ركني الذي قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » فلمّا ماتت فاطمة عليها‌السلام قال علي عليه‌السلام : « هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

ومن هنا نجد في الروايات أنّه ما بايع أمير المؤمنين عليه‌السلام حتىٰ ماتت فاطمة عليها‌السلام ، وكان له وجه في الناس طيلة حياتها ، روىٰ الزهري عن عائشة ، أنها قالت : كان لعلي عليه‌السلام من الناس وجه في حياة فاطمة عليها‌السلام ، فلمّا توفيت فاطمة عليها‌السلام انصرفت وجوه الناس عنه عند ذلك.

وقيل للزهري : فلم يبايعه عليّ حتىٰ ماتت فاطمة عليها‌السلام ؟ قال : ولا أحد من بني هاشم حتىٰ بايعه علي عليه‌السلام (٢).

ولقد شاءت الارادة الالهية أن تكون مظلومية الزهراء عليها‌السلام مصداقاً حيّاً وناطقاً إلىٰ الأبد لذلك الانقلاب الخطير الذي تغشّىٰ الاُمّة بعد وفاة

_______________________

١) فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل ٢ : ٦٢٣ / ١٠٦٧. وحلية الأولياء / أبو نعيم ٣ : ٢٠١. والمناقب / الخوارزمي : ٨٥. ومقتل الحسين / الخوارزمي ١ : ٦٣. وذخائر العقبىٰ : ٥٦. وكنز العمال ١١ : ٦٢٥ / ٣٣٠٤٤.

٢) سنن البيهقي ٦ : ٣٠٠. وشرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٦. وراجع صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨ / ٢٥٦ ـ كتاب المغازي ـ باب غزوة خيبر. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٠ / ٥٢ ـ كتاب الجهاد والسير.


نبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة ، فكلّما قرأت الأجيال المتعاقبة عن المصائب التي جرت علىٰ بضعة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحبّ الناس إليه بعين الانصاف تتجلّىٰ لها كثير من الحقائق المؤلمة التي تعتصر لها القلوب أسىً وحزناً ، وتفيض لها العيون دماً !!

قالت عليها‌السلام وهي تندب أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

قل للمغيب تحت أطباق الثرىٰ

إن كنت تسمع صرختي وندائيا

صُبّت عليّ مصائب لو أنّها

صُبّت علىٰ الأيام صِرن لياليا

قد كنت ذات حمىً بظلِّ محمدٍ

لا أختشأي ضيماً وكان جماليا

فـاليوم أخشع للذليل وأتقي

ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا

فلأجعلنّ الحزن بعدك مؤنسي

ولأجعلنّ الدمع فيك وشاحيا (١)

وفي ما يلي ثلاثة مباحث تعكس لنا صوراً من حياة الزهراء عليها‌السلام ومواقفها منذ وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ وفاتها سلام الله عليها :

المبحث الأول : انقلاب الاُمّة ومنع حقوق الزهراء عليها‌السلام.

المبحث الثاني : مواقف الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

المبحث الثالث : وفاتها عليها‌السلام ومدّة بقائها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

_______________________

١) المناقب / ابن شهرآشوب ١ : ٢٤٢. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٨٠. ونور الأبصار / الشبلنجي : ٥٣. والسيرة النبوية / دحلان ٣ : ٣٦٥. واتحاف السائل : ١٠٣. وأعيان الشيعة ١ : ٣٢٣. والغدير ٥ : ١٤٧ و ٦ : ١٦٥. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٣.


المبحث الأول : انقلاب الاُمّة ومنع حقوق الزهراء عليها‌السلام:

أول بوادر الانقلاب :

لقد سجّل بعض الصحابة أول بادرة للانقلاب في حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يوم الخميس ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجّىً قد اشتدّ به الوجع ، فكانت الرزية ، قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : لمّا اشتد بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرضه الذي مات فيه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتوني بدواةٍ وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي ». فقال عمر : إنّ رسول الله قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله ـ وفي لفظ آخر : ما شأنه أهجر ، استفهموه ! ـ فاختلف القوم واختصموا ، فمنهم من يقول : القول ما قال رسول الله ، ومنهم من يقول : القول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لهم : « قوموا عني ، لا ينبغي عندي التنازع ».

قال ابن عباس : الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم (١).

فقدموا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (٢) وأكثروا اللغط في حضرته وقد قال

_______________________

١) صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ / ١٦٣٧ و١٢٥٩ / ٢٢ ـ كتاب الوصية. وصحيح البخاري ١ : ٦٥ / ٥٥ ـ كتاب العلم ، و ٦ : ٢٩ / ٤٢٢ و ٤٢٣ ـ كتاب المغازي ، و ٧ : ٢١٩ / ٣٠ ـ كتاب المرض ، و٩ : ٢٠٠ / ١٣٤ ـ كتاب التوحيد. ومسند أحمد ١ : ٢٢٢ و ٣٢٤ و ٣ : ٣٤٦. ومسند أبي يعلىٰ ٤ : ٢٩٨ / ٢٤٠٩. والبداية والنهاية ٥ : ٢٠٠. وتاريخ الطبري ٣ : ١٩٣. وتاريخ ابن خلدون ٢ : ٤٨٥. والملل والنحل / الشهرستاني ١ : ١٤ ـ المقدمة الرابعة. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٥ و ٦ : ٥١ ، وقال : اتفق المحدثون كافة علىٰ روايته.

٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ١.


تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ) (١).

وعصوا الله تعالىٰ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهرة ، والله تعالىٰ يقول : ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (٢).

وهكذا انشغلت الاُمّة عن نبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمجرد إحساسها بفقده ، لتدخل في صراعات كان بامكانهم تجنبها لو استمعوا لما يكتب لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المحتضر ، وكان ذلك الانقلاب يمثل حجر الزاوية لكلِّ مظلمة حدثت علىٰ طول التاريخ.

الابتسامة الأخيرة :

في محتضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أحنت الزهراء عليها‌السلام علىٰ أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ارتسمت علىٰ شفتيها ابتسامة عقيب بكاءٍ هزّ كيانها ، ممّا أثار الدهشة والتساؤل عند البعض حتىٰ فسّرت لهم سرّ ذلك بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روي عن ابن عباس وعائشة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا فاطمة عليها‌السلام في شكواه التي قُبض فيها ، فسارّها بشيءٍ فبكت ، ثمّ دعاها فسارّها فضحكت ، فسئلت عن ذلك ، فقالت بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سارّني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرني أنّه يُقبض في وجعه الذي تُوفّي فيه فبكيت ، ثم سارّني فأخبرني أنّي أول من يتبعه من أهل بيته فضحكت » (٣).

_______________________

١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٢.

٢) سورة الاحزاب : ٣٣ / ٣٦.

٣) صحيح البخاري ٥ : ٩٢ ـ كتاب المناقب. وصحيح مسلم ٤ : ١٩٠٤ / ٩٧ ـ كتاب فضائل


إذن كانت تلك الابتسامة تعبّر عن فرحة سرعة اللحاق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدار الآخرة ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) (١) وكانت الأخيرة في حياة سيدة النساء عليها‌السلام إذ أعقبها الألم والحزن والبكاء ، فهي عليها‌السلام بعد فقد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تهدأ لها حسرة ولم ترقأ لها عبرة.

قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : « مكثت فاطمة عليها‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أشهر ، وما رؤيت ضاحكة بعده » (٢).

وكانت عليها‌السلام تعبّر بتلك الدموع عن مرارة الألم لفراق أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشدة الحزن لفقده ، وتحكي مظلوميتها واغتصاب حقّ الوصيّ وحقّها ، وما يعتلج بصدرها من معاناة لم تجد إلىٰ بثّها سبيلاً إلّا بالدموع.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد أن نفض يديه من تراب قبرها عليها‌السلام وهو يناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وستنبئك ابنتك بتضافر أُمّتك علىٰ هضمها ، فأحِفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليلٍ معتلج بصدرها لم تجد إلىٰ بثّه سبيلاً » (٣).

الهجوم علىٰ دار الزهراء عليها‌السلام وما ترتب عليه :

مضىٰ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلىٰ سقيفة بني ساعدة ، ولم يبق حول

_______________________

الصحابة. وحلية الأولياء ٢ : ٤٠. ومسند أحمد ٦ : ٧٧ ، ٢٤٠ ، ٢٨٢. والمعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤١٥ / ١٠٢٧ و ٤١٩ ـ ٤٢١ / ١٠٣٤ ـ ١٠٣٧. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٨٠ و١٢٠. وفضائل فاطمة / ابن شاهين : ٢٨ ـ ٣٢.

١) سورة القمر : ٥٤ / ٥٥.

٢) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٣٩٩ / ٩٩٥.

٣) الكافي ١ : ٤٥٩ / ٣.


جثمان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أقاربه ومواليه ، وهم الذين تولوا غسله وتكفينه وإدخاله قبره ومواراته ، وهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وعمه العباس رضي‌الله‌عنه وابناه الفضل وقثم ، واُسامة بن زيد مولاه ، وقيل : شقران ، أو صالح مولاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

فارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللغط بين المهاجرين والأنصار ، ثم إن عمر بن الخطاب ضرب علىٰ يد أبي بكر فبايعه الناس ، ثم أتوا به المسجد يبايعونه ، فسمع العباس وعلي عليهما‌السلام التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وكان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّاً عليه‌السلام هو صاحب الأمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، فتخلّف قوم من المهاجرين والأنصار وجمهور الهاشميين عن بيعة أبي بكر ، وكان منهم : العباس بن عبدالمطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبرّاء بن عازب ، وأُبي بن كعب ، وعتبة بن أبي لهب ، وغيرهم (٤) ، وروي أنّهم اجتمعوا علىٰ أن يبايعوا عليّاً عليه‌السلام (٥).

_______________________

١) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨. والعقد الفريد / ابن عبد ربه ٣ : ٢٩٦ ، المكتبة التجارية ـ مصر. وتاريخ الإسلام / الذهبي ١ : ٥٧٥ ـ ٥٧٦. وتاريخ الطبري ٣ : ٢١٣.

٢) العقد الفريد / ابن عبد ربه ٥ : ١٠ ـ ١١.

٣) الموفقيات / الزبير بن بكار : ٥٨٠ / ٣٨٠ عن محمد بن اسحاق. وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤. وشرح ابن أبي الحديد ٦ : ٢١.

٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤. وتاريخ أبي الفداء ٢ : ٦٣. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٩.

٥) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦.


وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام قد اعتزل الناس بعد أن فرغ من جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعكف علىٰ جمع القرآن الكريم بعهدٍ من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وروي أنّه عليه‌السلام قال : « لا أرتدي حتىٰ أجمعه » ، وقالوا : إنّه لم يرتدِ إلّا للصلاة حتىٰ جمعه (١).

وفي تلك الاثناء بلغ أبو بكر أن جماعة منهم العباس قد اجتمعوا مع علي ابن أبي طالب عليه‌السلام في منزل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعث إليهم عمر بن الخطاب ، وخالد بن الوليد في رجالٍ من الأنصار ونفرٍ من المهاجرين أرسلهم أبو بكر رِدءاً لهما ، كزياد بن لبيد الأنصاري ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأُسيد بن حُضير ، ومسلمة بن سلامة بن وقش ، ومحمد بن مسلمة ، وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي ، وسلمة بن أسلم (٢) ، والمغيرة بن شعبة ، وسالم مولىٰ أبي حذيفة (٣).

فجاء عمر بن الخطاب فناداهم وهم في دار علي عليه‌السلام : لتخرجنّ إلىٰ البيعة أو لاُحرقنّها علىٰ من فيها ! فقيل له : يا أبا حفص ؟ إنّ فيها فاطمة ! فقال : وإن (٤) !!.

فلمّا سمعت فاطمة عليها‌السلام أصواتهم نادت بأعلىٰ صوتها : « يا أبتِ يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ؟! » فلمّا سمع القوم

_______________________

١) اُنظر : الاتقان / السيوطي ١ : ٢٠٤. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٣٣٨. ومناهل العرفان ١ : ٢٤٧. وكنز العمال ٢ : ٥٨٨ / ٤٧٩٢. وشرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٧ و ٢ : ٥٦.

٢) راجع : مستدرك الحاكم ٣ : ٦٦. وسنن البيهقي ٨ : ١٥٢. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٠ و ٥١ و ٥٦ و ٥٧ ، و ٦ : ١١ و ٤٧ و ٤٨.

٣) الجمل / الشيخ المفيد : ١١٧.

٤) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٢.


صوتها وبكائها انصرفوا باكين ، وكادت قلوبهم وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم (١) ، فاقتحموا الدار ، فصاحت فاطمة عليها‌السلام وناشدتهم الله (٢) ، وجعلت تبكي وتصيح (٣).

وخرج إليهم الزبير مصلتاً سيفه ، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر ، فندر السيف من يده ، فضرب به عمر الحجر فكسره (٤) ، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقاً عنيفاً (٥).

وروي أنّهم قالوا : ليس عندنا معصية ولا خلاف.. وإنما اجتمعنا لنؤلف القرآن في مصحف واحد ، ثم بايعوا أبا بكر (٦).

واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال ، ورأت فاطمة عليها‌السلام ما صنع عمر ، فصرخت وولولت ، واجتمع معها نساء كثيرة من الهاشميات وغيرهنّ ، فخرجت إلىٰ بابها ، وقالت : « يا أبا بكر ، ما أسرع ما أغرتم علىٰ أهل بيت رسول الله ! والله لا أُكلّم عمر حتىٰ ألقىٰ الله » (٧).

_______________________

١) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٣. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٤ ـ ١١٥.

٢) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٠ ، و ٦ : ٤٧.

٣) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦.

٤) وفي رواية الطبري ٣ : ٢٠٢ أنّ الزبير عثر فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه. وروي أنّ الذي أخذ سيف الزبير وكسره هو محمد بن مسلمة. راجع مستدرك الحاكم ٣ : ٦٦. وسنن البيهقي ٨ : ١٥٢. وكنز العمال ٥ : ٥٩٧. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥١ ، و ٦ : ٤٨. وفي ج٦ ص١١ منه أنّه سلمة بن أسلم.

٥) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦ ، و ٦ : ٤٨.

٦) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦.

٧) السقيفة وفدك / الجوهري : ٧٣. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٧ ، و ٦ : ٤٩.


وقالت عليها‌السلام : « لا عهد لي بقومٍ حضروا أسوأ محضرٍ منكم ، تركتم رسول الله جنازةً بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم تروا (١) لنا حقاً (٢) ، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خمّ ، والله لقد عقد له يومئذ الولاء ، ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيكم ، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة » (٣).

وأخرجوا عليّاً عليه‌السلام ومضوا به إلىٰ أبي بكر ، فقال له عمر : بايع. فقال عليه‌السلام : « إن أنا لم أفعل فمه ؟ » قال عمر : إذن والله الذي لا إله إلّا هو نضرب عنقك !

فقال : « إذن تقتلون عبد الله وأخو رسوله ». قال عمر : أما عبدالله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا (٤) ، وأبو بكر ساكت. فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك ؟ فقال : لا أُكرهه علىٰ شيءٍ ما كانت فاطمة إلىٰ جنبه (٥).

ولم يبايع عليٌّ أبا بكر حتىٰ ماتت فاطمة عليها‌السلام بعد ستة أشهر ، فلمّا ماتت عليها‌السلام ضرع إلىٰ صلح أبي بكر (٦).

_______________________

١) في الإمامة والسياسة : ولم تردّوا.

٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٣. والأمالي / الشيخ المفيد : ٤٩ / ٩. والاحتجاج / الطبرسي : ٨٠.

٣) الاحتجاج / الطبرسي : ٨٠.

٤) وهو ردّ علىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعلي عليه‌السلام : « أنت أخي في الدنيا والآخرة » ، راجع : سنن الترمذي ٥ : ٦٣٦ / ٣٧٢٠. ومسند أحمد ١ : ٢٣٠. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنت أخي وأنا أخوك ، فإن ذاكرك أحد فقل : أنا عبدالله وأخو رسوله ، لايدّعيها بعدك إلّا كاذب » ، راجع : فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل ٢ : ٦١٧ / ١٠٥٥. وتذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٢٢.

٥) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٣. والآية من سورة الأعراف : ٧ / ١٥٠.

٦) أنساب الأشراف / البلاذري ٢ : ٢٦٨ ، دار الفكر ـ بيروت.


آثار الهجوم وما ترتب عليه :

اندفع القوم إلىٰ بيت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يرعوا لها حرمة ، ولا لأبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذمّة ، وقد رافق الهجوم علىٰ الدار بعض الأحداث المخالفة للشرع والدين والضمير والوجدان والأعراف والسجايا الانسانية ، وكلّها مصاديق تحكي قصة الانقلاب علىٰ الأعقاب والإحداث بعد غياب الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن تلك الأحداث :

١ ـ إحراق البيت :

ثبت إحراق البيت المقدس من طريق الفريقين ، فقد روي أنّهم جمعوا الحطب الجزل حول بيت الزهراء عليها‌السلام ، وأضرموا النار في بابه ، حتىٰ أخذت النار في خشب الباب (١).

وروىٰ الثقفي بالاسناد عن حمران بن أعين ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « والله ما بايع علي حتىٰ رأىٰ الدخان قد دخل بيته » (٢).

وقال المسعودي : فأقام أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوجّهوا إلىٰ منزله ، فهجموا عليه وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كُرهاً (٣).

وقد بلغ من اشتهار هذا الأمر أن سجّله كثير من الشعراء منذ القرون الأولىٰ وإلىٰ اليوم ، ومنهم عبدالله بن عمار البرقي ت ٢٤٥ هـ حيث قال :

_______________________

١) الهداية الكبرىٰ / الخصيبي : ٤٠٧. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٧ / ٢٩ ، و ٥٣ : ١٨.

٢) تلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ٧٦. وبحار الأنوار ٢٨ : ٣٩٠.

٣) إثبات الوصية / المسعودي : ١٢٤ ، المطبعة الحيدرية ـ النجف. وبحار الأنوار ٢٨ : ٣٠٨ / ٥٠.


وكلّلا النار من نبتٍ ومن حطبٍ

والمضرمان لمن فيه يسبّانِ

وليس في البيت إلّا كلّ طاهرةٍ

من النساء وصدّيق وسبطانِ (١)

وقال علاء الدين الحلي المقتول سنة ٧٨٦ هـ :

وأجمعوا الأمر فيما بينهم غوت

لهم أمـانيهم والجهل والأملُ

أن يحرقوا منزل الزهراء فاطمة

فياله حادث مستصعب جَلَلُ

بيت به خمسة جبريل سادسهم

من غير ما سبب بالنار يشتعلُ (٢)

ووردت الأخبار بهذا المضمون من طرق العامة أيضاً ، فقد ذكر السيد المرتضىٰ رضي‌الله‌عنه أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة ممن لايتهم علىٰ القوم (٣) ، وفي ما يلي بعض رواياتهم :

روى البلاذري عن سليمان التيمي وعبدالله بن عون أنهما قالا : إنّ أبا بكر أرسل إلىٰ علي عليه‌السلام يريد البيعة ، فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة ، فتلقّته فاطمة عليها‌السلام علىٰ الباب. فقالت فاطمة عليها‌السلام : يابن الخطاب ، أتراك محرقاً عليّ بابي ؟ قال : نعم ، وذلك أقوىٰ فيما جاء به أبوك (٤).

وذكر ابن عبدربه الذين تخلفوا عن البيعة لأبي بكر : علي عليه‌السلام والعباس ، والزبير ، وسعد بن عبادة ، قال : فأمّا علي عليه‌السلام والعباس والزبير ، فقعدوا في

_______________________

١) الصراط المستقيم / البياضي ٣ : ١٣.

٢) الغدير ٦ : ٣٩١.

٣) الشافي / السيد المرتضىٰ ٤ : ١١٩.

٤) أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٨ ، دار الفكر ـ بيروت. والشافي / السيد المرتضىٰ ٣ : ٢٤١. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ٦٧.


بيت فاطمة حتىٰ بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة عليها‌السلام ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم. فأقبل بقبسٍ من نار علىٰ أن يضرم عليهم الدار ، فلقيته فاطمة عليها‌السلام فقالت : يابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟ قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الاُمّة (١).

وقد سجّل شاعر النيل حافظ إبراهيم هذه المكرمة لعمر بن الخطاب حيث قال :

وقـولةٍ لعلي قالها عمرُ

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقتُ دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفىٰ فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها

أمام فارس عدنـان وحـاميها (٢)

وليته لم يَفُه بها ، فإنّها كانت سُبّة له وموبقة عظيمة لا تفارقه أبداً ، حتّىٰ يلقىٰ الله تعالىٰ وبنت المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غضبىٰ عليه ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرب عليه ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حربٌ لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم (٣).

وظنّ شاعر النيل أنّ ذلك كان من شجاعة عمر ، وفات عنه أنّه لم تثبت لعمر قدم في المقامات المشهورة كما لم تروَ له صولة ولم تعرف عنه جولة ،

_______________________

١) العقد الفريد / ابن عبد ربه ٥ : ١٢. والمختصر في أخبار البشر / أبو الفداء ٢ : ٦٤.

٢) الديوان ١ : ٧٥ ، دار الكتب المصرية ـ القاهرة.

٣) سنن الترمذي ٥ : ٦٩٩ / ٣٨٧٠. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٤٩. ومسند أحمد ٢ : ٤٤٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٤٤.


فهو الذي عاد في خيبر يُجبّن أصحابه ويجبّنونه (١) ، فما كانت الراية والفتح وقتل صناديد الكفر لتليق إلّا بمن يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، الكرار غير الفرار ، علي أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

كما فات عنه أنّ صبر أمير المؤمنين عليه‌السلام علىٰ القوم ما كان إلّا بعهدٍ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بالصبر عند خذلان الاُمّة (٣) ، وأنّه عليه‌السلام كان يقول واصفاً حاله بعد البيعة : « فنظرتُ فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي ، فضننتُ بهم عن الموت ، وأغضيتُ علىٰ القذىٰ ، وشربت علىٰ الشجا ، وصبرت علىٰ أخذ الكظم وعلى أمرّ من طعم العلقم » (٤).

وقال عليه‌السلام : « وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء ، أو أصبر علىٰ طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتىٰ يلقىٰ ربه ، فرأيت أنّ الصبر علىٰ هاتا أحجىٰ ، فصبرتُ وفي العين قذىً ، وفي الحلق شجىً ، أرىٰ تراثي نهباً... » (٥).

وخلاصة القول إنّه عليه‌السلام آثر بقاء الإسلام الذي نذر حياته وخاض الغمرات لأجله ، فنراه في أحرج المواقف التي واجهته بعد البيعة كان يقول :

_______________________

١) مستدرك الحاكم ٣ : ٣٧. وتاريخ الطبري ٣ : ١٢.

٢) صحيح البخاري ٥ : ٨٧ / ١٩٧ و ١٩٨ ـ كتاب الفضائل ، و٥ : ٢٧٩ / ٢٣١ ـ كتاب المغازي. وصحيح مسلم ٤ : ١٨٧١ / ٣٢ ـ ٣٤ ـ كتاب الفضائل. ومسند أحمد ١ : ١٨٥ ، و٥ : ٣٥٨. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩.

٣) راجع : الاحتجاج / الطبرسي : ٧٥.

٤) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٦٨ الخطبة ٢٦.

٥) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٤٨ الخطبة ٣.


« سلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره »(١).

الاحراق ذريعة للظلم :

إنّ إحضار الحطب حول بيت القدس والطهارة من قبل رجال الخلافة وإذكاء النار في بابه لانتزاع البيعة من أمير المؤمنين عليه‌السلام قد صار ذريعة للظالمين وسُنّة لطواغيت الاُمّة علىٰ طول التاريخ ، فقد روىٰ المؤرخون أنّ عروة بن الزبير كان يعذر أخاه عبدالله في حصر بني هاشم في الشعب ، وجمعه الحطب ليحرقهم ، وكان يقول : إنّما أراد بذلك إلّا تنتشر الكلمة ، ولا يختلف المسلمون ، وأن يدخلوا في الطاعة ، فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر ، فانّه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار (٢).

٢ ـ إيذاء الزهراء عليها‌السلام بالضرب والاسقاط :

وكان من امتدادات ذلك الهجوم أن تعرّض القوم لفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالضرب ممّا أدىٰ إلىٰ إسقاط جنينها ، فشكت من أثر ذلك الضرب حتىٰ التحقت بربها شهيدة مظلومة ، وقد استفاضت الروايات بذلك وثبت عند أعلام الطائفة.

قال الشيخ الطوسي رضي‌الله‌عنه : وقد روي أنّهم ضربوها بالسياط ، والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة أن عمر ضرب علىٰ بطنها حتىٰ أسقطت ،

_______________________

١) الموفقيات / الزبير بن بكار : ٥٨١ عن محمد بن إسحاق. وشرح ابن أبي الحديد ٦ : ٢١.

٢) مروج الذهب / المسعودي ٣ : ٧٧. وشرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ١٤٧. ومقاتل الطالبيين / أبو الفرج : ٣١٥.


فسمّي السقط محسناً (١) ، والرواية بذلك مشهورة عندهم (٢) ، وقد نقلها عنهم المخالفون أيضاً (٣).

ونقل الشيخ ابن شهرآشوب عن ( المعارف ) لابن قتيبة أنّ المحسن سقط من زخم (٤) قنفذ العدوي (٥) الذي أمره عمر بضرب الزهراء عليها‌السلام.

وكان من آثار ذلك الضرب أن مرضت الزهراء عليها‌السلام ولازمت فراشها حتىٰ التحقت بربها ، كما أخبر بذلك أولاد الزهراء عليهم‌السلام (٦) ، وقد أطبقت كلمتهم

_______________________

١) وهو الابن الثالث لاَمير المؤمنين عليه‌السلام من الزهراء عليها‌السلام ، وقد جاء في الروايات والأخبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر بتسميته محسناً وهو حمل في بطن أُمّه. راجع : الكافي / الكليني ٦ : ١٨ / ٢. والخصال / الصدوق : ٦٣٤. والإرشاد ١ : ٣٥٥.

وذكره العامّة أيضاً وقالوا : انّه مات صغيراً. راجع : تاريخ الطبري ٥ : ١٥٣. والكامل / ابن الأثير ٣ : ٣٩٧. وأنساب الأشراف / البلاذري ٢ : ٤١١. والإصابة ٣ : ٤٧١. وميزان الاعتدال / الذهبي ١ : ١٣٩. ولسان الميزان / ابن حجر ١ : ٢٦٨.

٢) تلخيص الشافي ٣ : ١٥٦. وراجع أيضاً الاختصاص : ٨٥. وكتاب سليم : ٣٧. والهداية الكبرىٰ / الخصيبي : ١٧٩. وبحار الأنوار ٣٠ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، و٤٣ : ١٩٧ / ٢٩.

٣) البدء والتاريخ / المقدسي ٥ : ٢٠. وشرح ابن أبي الحديد الحنفي المعتزلي ٢ : ٦٠.

٤) الزخم : الدفع الشديد.

٥) المناقب ٣ : ٣٥٨. وقنفذ هو ابن عمير التيمي ، ذكره ابن الأثير وابن حجر وقالا : له صحبة ، وولاه عمر مكّة ثمّ صرفه. راجع : أُسد الغابة ٤ : ٢٠٨. والإصابة ٣ : ٢٤١. والذي في المعارف المطبوع في دار الكتب المصرية سنة ١٣٧٩ هـ ص ٢١١ : وأما محسن بن علي فهلك وهو صغير ، وقد جاء في كثير من الروايات أنّه تعرّض للزهراء عليها‌السلام بالضرب عندما أحالت بين القوم وبين أمير المؤمنين عليه‌السلام. راجع : الاحتجاج / الطبرسي : ٨٣. وكتاب سُليم : ٣٨ و ٤٠. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٣٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٧٠ و ١٩٨ / ٢٩.

٦) راجع : الاحتجاج / الطبرسي : ٨٣. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٣٤. وكتاب سُليم : ٤٠. ودعائم الإسلام ١ : ٢٣٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٧٠ / ١١ و ١٩٨ / ٢٩.


علىٰ أنّها ماتت شهيدةً مظلومة ، فعن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : « إنّ فاطمة صدّيقة شهيدة » (١) ، وجاء في زيارتها عليها‌السلام : السلام عليكِ أيتها البتول الشهيدة الطاهرة (٢). والسلام عليكِ أيتها الصديقة الشهيدة (٣).

ومما يدلّ علىٰ شيوع هذا الأمر وشهرته هو أن تناوله الشعراء مندّدين به مزرين علىٰ فاعله ، وذلك منذ القرون الاُولىٰ وإلىٰ اليوم ، قال السيد الحميري المتوفى ١٧٣ هـ :

ضربت واهتضمت من حقّها

واُذيقت بعده طعم السَّلع (٤)

قطع الله يدي ضـاربها

ويد الراضي بذاك المتّبع (٥)

وقال القاضي النعمان المتوفىٰ سنة ٣٦٣ هـ في أرجوزته المختارة :

حتىٰ أتوا باب البتول فاطمهْ

وهي لهم قالية مصارمهْ

فوقفت من دونه تعذلهم

فكسر الباب لهم أوّلهم

فاقتحموا حجابها فأعولتْ

فضربوها بينهم فأسقطتْ

_______________________

١) الكافي ١ : ٤٥٨ / ٢.

٢) المزار / المفيد : ١٥٦. والمقنعة / المفيد : ٤٥٩. وبحار الأنوار ١٠٠ : ١٩٧ / ١٤ ، و١٩٨ / ١٦.

٣) التهذيب / الطوسي ٦ : ١٠ / ١٢. والبلد الأمين / الكفعمي : ١٧٨.

٤) السَّلع : شجر مرّ ، ويقال : أمرّ من السَّلع.

٥) الصراط المستقيم ٣ : ١٣.


إلىٰ أن قال :

وقتلهم فاطمة الزهراءِ

أضرم حرّ النار في أحشائي

لأنّ في المشهور عند الناسِ

بأنَّها ماتت من النفاسِ (١)

وقال الأمير علي بن مقرب الاحسائي المتوفّىٰ سنة ٦٢٩ هـ :

ياليت شعري فمن أنوح منهم

ومن له ينهلّ فيض أدمعي

أللوصي حين في محرابه

عمّم بالسيف ولمّا يركعِ

أم للبتول فـاطم إذ منعت

عن إرثها الحق بأمر مجمعِ

إلىٰ أن قال

ولم تزل مهضومة مظلومة

بردّ دعواها ورضِّ الأضلعِ (٢)

ونقل ذلك من غير طرق الشيعة ، فعن محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ ، في ترجمة أحمد بن محمد السري بن يحيىٰ بن السري ابن أبي دارم ، قال : كان مستقيم الأمر عامة دهره ، ثمّ في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب ، حضرته ورجل يقرأ عليه أنّ عمر رفس فاطمة عليها‌السلام حتىٰ أسقطت محسناً (٣).

وعن إبراهيم بن سيار النظام ، قال : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة

_______________________

١) الارجوزة المختارة : ٨٨ / ٩٢ ـ طبع سنة ١٩٧٠ م ـ معهد الدراسات الإسلامية ـ كندا.

٢) إثبات الهداة / الحر العاملي ٤ : ١٤١٢. وأدب الطف ٤ : ٣٢.

٣) سير أعلام النبلاء / الذهبي ١٥ : ٥٧٨. وميزان الاعتدال / الذهبي ١ : ١٣٩ / ٥٥٢. ولسان الميزان / ابن حجر ١ : ٢٦٨ / ٨٢٤.


حتىٰ ألقت الجنين من بطنها (١) ، وكان يصيح : احرقوا دارها بمن فيها ، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (٢).

ونقل البغدادي والمقريزي عن النظام أنه قال : إنّ عمر ضرب فاطمة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنع ميراث العترة (٣).

ولا ندري كيف يجعل مرتكب مثل هذه الاُمور الفضيعة نفسه إماماً للاُمّة ، وفي موقع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويؤتمن علىٰ الدين والإنسان والأخلاق وأموال الناس وأعراضهم ، ويوفّر لهم الكرامة والعزّة ، ويربّي الناس علىٰ الفضيلة والدين والأخلاق ؟!

ثم إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحبّ من يبغض فاطمة ، ولو بكلمة واحدة ، فلماذا يُلام محبّو فاطمة عليها‌السلام علىٰ بغض قاتلها ؟

اعتراف أبي بكر بالهجوم :

إنّ التجاوز علىٰ حرمة بيت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإدخال الرجال فيه ، وهتك حرمته المقدسة ، قد صرّح به أبو بكر في لحظاته الأخيرة ، وفي ذلك دلالة قاطعة علىٰ حدوث هذا الهجوم وما رافقه من أحداث أليمة ، وعلى خطأ أبي بكر في الايعاز إلىٰ جنده بقيادة ابن الخطاب للقيام بذلك العمل المنافي لأبسط حقوق الزهراء ، والمؤدي إلىٰ غضب الله تعالىٰ ورسوله الكريم وصالح المؤمنين.

_______________________

١) الوافي بالوفيات / الصفدي ٦ : ١٧.

٢) الملل والنحل / الشهرستاني ١ : ٥٧.

٣) الفرق بين الفرق / البغدادي : ١٤٨ ، دار المعرفة. والخطط / المقريزي ٢ : ٣٤٦ ـ دار صادر.


عن عبدالرحمن بن عوف : أنّه سمع أبا بكر يقول في مرضه الذي توفي فيه : وددت أني لم أكن فتّشت بيت فاطمة وأدخلته الرجال ، ولو كان أُغلق علىٰ حرب. وفي رواية : ليتني لم أكن كشفت بيت فاطمة عن شيءٍ ، وتركته ولو أُغلق علىٰ حرب (١).

البيعة تأصيل للغدر وذريعة للظلم :

إنّ البيعة التي لأجلها كان الهجوم علىٰ دار الزهراء عليها‌السلام مغرس الإسلام ومهبط الوحي ، هي مصداق للانقلاب والإحداث في الإسلام وتجسيد لنزعة الغدر والعدوان في هذه الاُمّة ، وهذا ما أعلم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيَّه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد روىٰ الجوهري بالاسناد عن حبيب بن ثعلبة ، قال : سمعت عليّاً عليه‌السلام يقول : « أما وربّ السماء والأرض ـ ثلاثاً ـ إنّه لعهد النبي الاُمي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليّ : لتغدرنّ بك الاُمّة من بعدي » (٢).

فالبيعة لا تمتلك أدنىٰ المقومات الشرعية ، ولم تتحصّن بأيّ سبب معقول أو منقول ، بل كانت كما وصفها أبو بكر (٣) وعمر (٤) : فلتةً وقىٰ الله شرّها ، والحقّ أنّ شرها كان مستطيراً ، فهي حجر الزاوية لكلِّ مظلمة حدثت

_______________________

١) المعجم الكبير / الطبراني ١ : ٦٢ / ٤٣. وتاريخ الطبري ٣ : ٤٣٠ حوادث سنة ( ١٣ هـ ). ومروج الذهب / المسعودي ٢ : ٣٠١. وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٧. والعقد الفريد ٥ : ١٩. وكنز العمال ٥ : ٦٣٢ / ١٤١١٣. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٦ ـ ٤٧ ، و ٦ : ٥١. ومجمع الزوائد ٥ : ٢٠٣. وميزان الاعتدال / الذهبي ٣ : ١٠٩ / ٥٧٦٣. ولسان الميزان ٤ : ١٨٩ / ٥٠٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام السيوطي : ١٧ ، ٣٤ ، ٣٥.

٢) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٥.

٣) أنساب الأشراف / البلاذري ٢ : ٢٦٤.

٤) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٧.


في التاريخ ، والذريعة لكلِّ من ظلم أهل البيت عليهم‌السلام من طواغيت الاُمّة وجبابرتها ، ويتضح ذلك جلياً في كتاب معاوية إلىٰ محمد بن أبي بكر قبل حرب صفين حيث جاء فيه : فقد كنّا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا (١) فلما اختار الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عنده ، وأتمّ وعده ، وأظهر دعوته ، وأفلج حجّته ، وقبضه الله إليه ، كان أبوك والفاروق أول من ابتزّه حقّه ، وخالفه علىٰ أمره ، علىٰ ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثم إنّهما دعواه إلىٰ بيعتهما ، فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، وأرادا به العظيم... فان يكن ما نحن فيه صواباً ، فأبوك أوله ، وإن يكن جوراً ، فأبوك أُسّه ، ونحن شركاؤه ، فبهديه أخذنا ، وبفعله اقتدينا ، ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب وأسلمنا له ، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك ، فاحتذينا بمثاله ، وأقتدينا بفعاله (٢).

فالبيعة إذن كانت اتفاقاً سرياً ، فعلىٰ الرغم من أنهم كانوا يعرفون فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام وحقه لازماً عليهم ، لكنهم اتفقوا واتسقوا علىٰ أن يبتزّوه حقه ويخالفوه علىٰ أمره.

روىٰ الجوهري عن ابن عباس أن عمر قال له ليلة الجابية : إنّ أول من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر ، إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة. قال : قلت : لمَ ذاك يا أمير المؤمنين ؟ ألم نُنِلهُم خيراً ؟! قال : بلىٰ ،

_______________________

١) وكان عمر بن الخطاب يعلم أيضاً يقيناً بمقام علي عليه‌السلام ، فقد روىٰ الجوهري عن ابن عباس ، قال : إنّ عمر يشهد أن عليّاً عليه‌السلام أولىٰ الناس بالأمر بعد رسول الله. شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٧ و٦ : ٥٠.

٢) وقعة صفين / نصر بن مزاحم : ١٢٠. وشرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٩٠. ومروج الذهب ٣ : ١٢.


ولكنّهم لو فعلوا لكنتم عليهم جَحْفاً جَحْفاً (١).

وذلك الاتفاق يهدف إلىٰ إقصاء عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أداء دورهم الرسالي ، وهضم حقوقهم ، والاستيلاء علىٰ الملك ، مهما كانت الوسائل ، وحتىٰ لو انتهت بقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ( وأرادا به العظيم ) (٢) كما قتلوا سعد ابن عبادة ، الذي ذهب إلىٰ الشام مهاجراً ومغاضباً لأصحاب السقيفة بعد أن هتف عمر أمام المهاجرين والأنصار : اقتلوه قتله الله ، فإنّه صاحب فتنة (٣) ، ثم بعث رجلاً إلىٰ الشام ، فرماه بسهم فقتله (٤).

وما كان اهتمام عمر بانتزاع البيعة بشتىٰ الوسائل ، وإن أدىٰ إلىٰ القتل والتحريق ، إلّا إمضاءً لذلك الاتفاق وحرصاً علىٰ تحقيق كامل أهدافه.

عن ابن عباس ، قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلىٰ علي عليه‌السلام حين قعد في بيته ، وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلمّا أتاه جرىٰ بينهما كلام ، فقال علي عليه‌السلام : احلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك علىٰ إمارته اليوم إلّا ليؤمّرك غداً (٥). وفي رواية : أشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غداً (٦).

ولهذا كشفت الزهراء عليها‌السلام عن موقفها من سلطة السقيفة أمام الملأ حينما

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٨. وقوله : جحفاً جحفاً : أي فخراً وشرفاً.

٢) وقد مرّ بك قول عمر له عليه‌السلام : إذن والله نقتلك ، وقول أبي بكر لعمر : إن أبوا فقاتلهم وكذا في شورىٰ عثمان ، هدّده عبدالرحمن بن عوف بالقتل إن لم يبايع.

٣) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٦. وأنساب الأشراف ٢ : ٢٦٣.

٤) العقد الفريد ٥ : ١٣.

٥)أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٩.

٦)شرح ابن أبي الحديد ٦ : ١١.


توفّرت لها فرصة المطالبة بحقوقها المالية المترتبة لها من الموروث النبوي ، وسنأتي علىٰ بيانه في المبحث الثاني.

منع الحقوق المالية للزهراء عليها‌السلام

أولاً : اغتصاب نحلة الزهراء عليها‌السلام :

ثم كان بعد انتهاك حرمة بيت الزهراء عليها‌السلام وإيذائها ، والاعتداء علىٰ وصيّ المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أن وضعت السلطة يدها علىٰ نحلة الزهراء في فدك ، لتصبح من مصادر بيت المال وموارد ثروة الدولة ، أو طعمةً لمن ولي الأمر بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفدك قرية بناحية الحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، فيها عين فوّارة ونخل كثير ، قد غرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضه بيده ، وهي أرض كانت لليهود ، فأفاءها الله علىٰ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلحاً سنة ٧ هـ ، وذلك لمّا فرغ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فتح خيبر ، قذف الله تعالىٰ الرعب في قلوب أهل فدك ، فبعثوا إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصالحوه علىٰ النصف ، وروي أنّهم صالحوه عليها كلها ، فكانت خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّه لم يوجف عليها المسلمون بخيلٍ ولا ركاب (١).

أدلّة النحلة :

١ ـ ثبت من طرق الشيعة والعامّة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد منح فدك إلىٰ ابنته الزهراء عليها‌السلام في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روي عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن

_______________________

١) راجع : تاريخ الطبري ٣ : ١٥. والكامل في التاريخ / ابن الأثير ٢ : ٢٢١. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٠. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٣ / ٢٩٧١ ـ باب في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأموال. وفتوح البلدان / البلاذري : ٤٣. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧١.


عباس وأبي سعيد الخدري في تفسير قوله تعالىٰ : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) (١) أنهم قالوا : لمّا نزلت هذه الآية ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليها‌السلام فأعطاها فدك (٢).

وروي ذلك عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام (٣).

٢ ـ وممّا يدلُّ علىٰ أنّ فدك كانت بأيدي أهل البيت عليهم‌السلام ما جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلىٰ عثمان بن حنيف ، وكان عامله علىٰ البصرة ، قال عليه‌السلام : « بلىٰ كانت في أيدينا فدك ، من كلّ ما أظلّته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، ونعم الحكم الله ، وما أصنع بفدك وغير فدك ،

_______________________

١) سورة الإسراء ١٧ / ٢٦.

٢) الدر المنثور / السيوطي ٥ : ٢٧٢. وشواهد التنزيل / الحسكاني ١ : ٣٣٨ / ٤٦٧ ـ ٤٧٣. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٧ : ٤٩ ـ عن الطبراني. وكنز العمال ٣ : ٧٦٧ / ٨٦٩٦. وميزان الاعتدال ٣ : ١٣٥ / ٥٨٧٢. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٧١. ولسان العرب / ابن منظور ـ فدك ـ ١٠ : ٤٧٣ عن علي عليه‌السلام دون ذكر الأية. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٦٨ و ٢٧٥. وكشف الغمة / الاربلي : ٤٧٦. ومجمع البيان / الطبرسي ٦ : ٦٣٤. وتفسير فرات الكوفي : ٣٢٢ / ٤٣٧. وتفسير العياشي ٢ : ٢٨٧ / ٥٠. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ٩٠ و ٩٨. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٢١.

٣) الكافي / الكليني ١ : ٥٤٣ / ٥. وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام / الصدوق ١ : ٢٣٢ / ١. وتفسير فرات الكوفي : ٢٣٩ / ٣٢٢ و ٣٢٣ / ٤٣٩ و ٤٤٠. وتفسير العياشي ٢ : ٢٨٧ / ٤٦ ـ ٤٩. وتفسير القمي ٢ : ١٨. والأحتجاج / الطبرسي ١ : ٩٠ ـ ٩١. والاختصاص / المفيد : ١٨٤. والمناقب / ابن شهرآشوب ١ : ١٤٢. وسعد السعود / ابن طاووس : ١٠١ ـ ١٠٢. والخرائج والجرائح / القطب الراوندي ١ : ١١٢ / ١٨٧. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٧٦. والتبيان / الطوسي ٦ : ٤٦٨ و ٨ : ٢٥٣. ومجمع البيان / الطبرسي ٨ : ٤٧٨ عن سورة الروم آية (٣٨). وإعلام الورىٰ / الطبرسي : ١ : ٢٠٩.


والنفس مظانّها في غدٍ جدث ، تنقطع في ظلمته آثارها ، وتغيب أخبارها ... » (١).

٣ ـ وممّا يدلّ علىٰ ذلك قول الصديقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أعطاها فدك مع شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام وأُمّ أيمن لها عليها‌السلام ، وذلك بعد أن وضعت السلطة يدها علىٰ الأرض ، وأخرجت وكيلها منها ، ومطالبة الزهراء عليها‌السلام بالنحلة وشهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام لها ، أمرٌ متواتر يعرفه الخاص والعام ، سنأتي علىٰ بيانه لاحقاً.

٤ ـ ومما يدلّ علىٰ أنّ ذلك كان أمراً معروفاً شائعاً ، هو موقف عمر بن عبدالعزيز والمأمون في ردّهما فدك علىٰ ولد الزهراء عليها‌السلام لمّا تبيّن لهما أنّ الحقّ كان معها عليها‌السلام وأنّها عليها‌السلام كانت صادقة في دعواها.

أمّا عمر بن عبدالعزيز ، فقد كتب إلىٰ عامله علىٰ المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم : إذا ورد عليك كتابي هذا ، فاقسمها في ولد علي من فاطمة عليهما‌السلام والسلام. فنقمت بنو أُمية علىٰ عمر بن عبدالعزيز عمله هذا وعاتبوه فيه ، فقال لهم : انكم جهلتم وعلمتُ ، ونسيتم وذكرتُ ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « فاطمة بضعة مني ، يسخطني ما أسخطها ، ويرضيني ما أرضاها » قالوا : فأن أبيت إلّا هذا فأمسك الأصل ، وأقسم الغلّة ، ففعل (٢).

وفي رواية الجوهري أنّه قال لهم : قد صحّ عندي وعندكم أنّ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدعت فدك ، وكانت في يدها ، وما كانت لتكذب علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع شهادة علي عليه‌السلام وأُمّ أيمن وأُمّ سلمة ، وفاطمة عندي صادقة فيما تدّعي وإن لم تقم البيّنة ، وهي سيدة نساء أهل الجنة ، فأنا اليوم

_______________________

١) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٤١٧ / الكتاب ٤٥. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٨.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٧٨. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٢٨.


أردّها علىٰ ورثتها... ولو كنت بدل أبي بكر وادّعت فاطمة كنت أصدّقها علىٰ دعواتها. فسلّمها إلىٰ محمد بن علي الباقر عليه‌السلام وعبد الله بن الحسن (١).

أما المأمون فقد جلس مجلساً مشهوراً ونصب فيه وكيلاً لفاطمة عليها‌السلام وآخر لأبي بكر ، وجلس هو لسماع المناظرة والقضاء ، وحكم بردّ فدك إلىٰ أولاد فاطمة عليها‌السلام بعد قيام الحجة ووضوح الأمر (٢).

وكتب كتاباً في الثاني من ذي القعدة سنة ٢١٠ هـ إلىٰ عامله علىٰ المدينة قثم بن جعفر أمره فيه بتسليمها إلىٰ محمد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، ومحمد بن عبدالله بن الحسين بن علي بن الحسين عليه‌السلام ، ومما جاء في الكتاب : قد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطىٰ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدك وتصدّق بها عليها ، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فرأىٰ أمير المؤمنين أن يردّها إلىٰ ورثتها ويسلّمها إليهم ، تقرباً إلىٰ الله تعالىٰ بإقامة حقّه ، وإلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتنفيذ أمره وصدقته (٣).

مطالبة الزهراء عليها‌السلام بالنحلة وموقف السلطة :

لما انتزعت السلطة حقّ الزهراء عليها‌السلام في فدك ظلماً وأخرجت وكيلها

_______________________

١) السقيفة وفدك / الجوهري : ١٤٦. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٩٥.

٢) الشافي / المرتضىٰ ٤ : ١٠٢. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٢٧. والسقيفة وفدك / الجوهري : ١٠٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٧. والطرائف / ابن طاووس : ٢٤٨.

٣) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٦. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧٢. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ١٠٢.


منها قهراً (١) ، اندفعت مَن يغضب الله لغضبها ويرضىٰ لرضاها ، للمطالبة بحقها ، وقد ذكر كثير من المؤرخين أنّ فاطمة عليها‌السلام صرّحت بوجه أبي بكر بأنّ فدكَ ملك لها ، فردّ أبو بكر قولها ، وطلب منها البينة !! ، فأتت بأمير المؤمنين علي عليه‌السلام وأُمّ أيمن فشهدا لها ، واعتبر شهادتهما غير كافية فقال : قد علمت أنّه لا يجوز إلّا شهادة رجلين أو رجل وأمرأتين (٢).

وعن هشام بن محمد الكلبي ، عن أبيه ، أنّ أبا بكر قال لفاطمة عليها‌السلام : إنّ هذا المال لم يكن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما كان مالاً من أموال المسلمين ، يحمل به الرجال ، وينفقه في سبيل الله (٣) ، فأنكر كون فدك خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قدمناه.

وروي من عدّة طرق أنّ أبا بكر أذعن أولاً لحقّ الزهراء عليها‌السلام في فدك بعد سماعه الشهود ، وقال لفاطمة عليها‌السلام : ما كنت لتقولين علىٰ أبيك إلّا الحقّ ، فكتب لها فيها ، فخرجت فلقيت عمر ، فأخذ الكتاب وجاء إلىٰ أبي بكر فقال : أعطيت فاطمة فدك وكتبت لها ؟! قال : نعم. قال عمر : علي يجرُّ إلىٰ نفسه ، وأُمّ أيمن امرأة ، فمزّق عمر الكتاب بعد أن بصق فيه ومحاه. فدعت

_______________________

١) راجع : الكافي / الكليني ١ : ٥٤٣ / ٥. وعلل الشرائع / الصدوق : ١٩١ / ١ ـ باب (١٥١). والاختصاص : ١٨٣.

٢) راجع : السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧٢. والصواعق المحرقة / الهيتمي : ٣٧ ـ الشبهة السابعة. وسنن النسائي ٢ : ١٧٩. وفتوح البلدان / البلاذري : ٤٤. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٩٩. والملل والنحل / الشهرستاني ١ : ١٧ ـ المقدمة الرابعة. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٠. وكشف الغمة ١ : ٤٧٨.

٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٤ و ٢٢٥.


فاطمة عليها‌السلام وقالت : « بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي » (١).

وفي رواية سبط ابن الجوزي : أن عمر قال لأبي بكر : ممّاذا تنفق علىٰ المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترىٰ (٢) ؟

ولا تعارض بين هذه الرواية وبين ما تقدم من أنّ أبا بكر منع الزهراء عليها‌السلام وطلب منها إكمال البيّنة ، ذلك لأنّه كتب لفاطمة عليها‌السلام بفدك وعمر غير حاضر ، فلمّا حضر عمر وطعن بالشهود ، طالبها أبو بكر بالشاهد الآخر.

كما أنّ هذه الرواية لا تعارض خبر أبي بكر في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، لأنّه كتب لفاطمة عليها‌السلام بفدك عندما طالبت بالنحلة لا بالميراث ، فلمّا طالبت بالميراث روىٰ الخبر القاضي بمنع الميراث علىٰ ما سيأتي بيانه.

ولم يكتفِ عمر بالطعن في شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام وأُمّ أيمن في ردّه لدعوىٰ الزهراء عليها‌السلام ، بل إنّه زعم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقسمها ، فقد روىٰ الثقفي باسناده عن ابن عائشة ، قال : حدثني أبي ، عن عمّه ، قال : قالت فاطمة عليها‌السلام لأبي بكر : إنّ فدك وهبها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : فمن يشهد بذلك ؟ فجاء علي بن أبي طالب عليه‌السلام فشهد ، وجاءت أُمّ أيمن فشهدت أيضاً ، فجاء عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف ، فشهدا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقسمها.

_______________________

١) راجع : شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٤ و ٢٧٤. وتفسير القمي ٢ : ١٥٥ و ٣٢٦. وتفسير العياشي ٢ : ٢٨٧ / ٤٩. والكافي / الكليني ١ : ٥٤٣ / ٥. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ٩٧. وتلخيص الشافي ٣ : ١٢٤ ـ ١٢٥. والاحتجاج / الطبرسي : ٩١. والاختصاص / المفيد : ١٨٥. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٨. والتتمة في تواريخ الأئمة عليهم‌السلام / تاج الدين العاملي : ٤٣.

٢) السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢ ، المكتبة الإسلامية ـ بيروت.


فقال أبو بكر : صدقت يا بنة رسول الله ، وصدق علي ، وصدقت أُمّ أيمن ، وصدق عمر ، وصدق عبدالرحمن بن عوف ! وذلك أنّ مالك لأبيك ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأخذ من فدك قوتكم ، ويقسم الباقي ، ويحمل منه في سبيل الله ، فما تصنعين بها ؟ قالت : « أصنع بها كما يصنع بها أبي ». قال : فلك عليَّ أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك. قالت : « الله لتفعلنّ ؟ ». قال : الله لأفعلنّ. قالت : « اللهمَّ اشهد » (١).

وهكذا صدّق جميع الشهود مع تباين الشهادتين ، وهو شيء عجيب !! ، في محاولة لاتخلو من المناورة السياسية ، ورجّح جانب عمر بن الخطاب ، ذلك لأنّه لم يفِ للزهراء عليها‌السلام بشيءٍ ممّا قاله ، ولو كان فعل لما سخطت عليه حتىٰ أنّها أوصت أن لا يحضر جنازتها ولا يصلي عليها ، وقد ارتحلت عليها‌السلام إلىٰ جوار ربّها العزيز وهي غاضبة عليه وعلى صاحبه.

نحلة الزهراء عليها‌السلام في الميزان :

هناك عدة شواهد تدلُّ علىٰ مظلومية الزهراء عليها‌السلام في هذه المسألة وجور الحاكم وتماديه في ظلمها واغتصاب حقها ، وقد كان اللازم علىٰ سائر المسلمين أن يقفوا بوجه الظلم ، ولا يدعو ابنة نبيّهم تضطر للخروج أمام الصحابة للمطالبة بحقّها ، مما جرّ هذا الاغتصاب وظلم آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ متابعة هضم حقوقهم من لدن السياسات المتعاقبة في الإسلام.

وسوف نقتصر علىٰ جملة من الشواهد الدالة علىٰ مظلومية الزهراء عليها‌السلام في شأن فدك :

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦.


١ ـ بالرغم من أن فَدَكَ كانت في حيازة الزهراء عليها‌السلام وهي صاحبة اليد عليها ، فقد استولت السلطة عليها وأخرجت وكيلها وعمّالها منها ظلماً (١).

٢ ـ لقد شهد الله تعالىٰ للزهراء عليها‌السلام بإذهاب الرجس عنها ، والطهارة من الدنس ، وقامت الدلالة علىٰ أنّها كانت صدّيقة ومعصومة من الغلط ، ومأموناً منها فعل القبيح ، ومن كانت هذه صفته لا يحتاج إلىٰ بيّنة فيما يدعيه.

هذا مع أنّ أبا بكر كان يعلم أنّ لسانها يتجافىٰ عن قول الباطل ، فقد شهد لها بالصدق (٢) ، وأنّها لا تقول علىٰ أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا الحقّ (٣) والمسلمون جميعاً يشهدون بذلك ، لكن أبا بكر بقي مصرّاً علىٰ مطالبة الزهراء عليها‌السلام بالشهود حتىٰ بعد أن احتجّ عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام بمحضر المهاجرين والأنصار وأكّد له أنّ الله تعالىٰ شهد لفاطمة عليها‌السلام بالطهارة ، وأن ردّ شهادتها ردّ علىٰ الله (٤) ، ولا يخلو ذلك من العنت والعدول عن جادة الصواب.

٣ ـ لقد ثبت أنّ أبا بكر كان قد أعطىٰ بعض الصحابة بمجرد الدعوىٰ بالدَّين أو العِدَة ، دون أن يطلب منهم البيّنة ، ومن ذلك ما رواه البخاري في كتاب الشهادات ، بالإسناد عن جابر بن عبدالله رضي‌الله‌عنه ، قال : لمّا مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمي ، فقال أبو بكر : من كان له علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دَين ، أو كانت له قبله عِدَةٌ فليأتنا.

_______________________

١) راجع : الكافي / الكليني ١ : ٥٤٣ / ٥. وعلل الشرائع : ١٩١ / ١ ـ باب (١٥١). والاختصاص : ١٨٣.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦.

٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٧٤. وتلخيص الشافي ٣ : ١٢٤.

٤) علل الشرائع : ١٩١ / ١ ـ باب (١٥١). وتفسير القمي ٣ : ١٥٦. وكتاب سُليم : ١٠٠. والاحتجاج / الطبرسي : ٩٢.


قال جابر : فقلت : وعدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا ، فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر : فعدّ في يدي خمسمائة ، ثمّ خمسمائة ، ثمّ خمسمائة (١).

وروىٰ ابن سعد في ( الطبقات ) عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت منادي أبي بكر ينادي بالمدينة حين قدم عليه مال البحرين : من كانت له عِدة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليأتِ ، فيأتيه رجال فيعطيهم ، فجاء أبو بشير المازني ، فقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا أبا بشير ، إذا جاءنا شيءٌ فأتنا ، فأعطاه أبو بكر حفنتين أو ثلاثاً ، فوجدها ألفاً وأربعمائة درهم (٢).

فلماذا إذن يطلب البينة من ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيدة نساء أهل الجنة ، بل ويردّ دعواها مع قيام البيّنة علىٰ أنّ أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أعطاها فدك خلال حياته ، وليس هي من قبيل العِدَة التي لا يلزم أداؤها ؟ ولماذا يصدّق جابر بن عبدالله وأبا بشير المازني في دعواهما دون أن يقدّما شاهداً واحداً يثبت صحة مدّعاهما ؟ وهل إنّ جابراً وأبا بشير أتقىٰ وأبرّ وأصدق في دعواهما من الصديقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام أم هي السياسة التي تجعل الحقّ باطلاً والباطل حقاً.

٤ ـ لو سلّمنا أنّ الزهراء عليها‌السلام تحتاج كسائر المؤمنات الصالحات إلىٰ بينة في إثبات دعواها ، فقد شهد لها أمير المؤمنين عليه‌السلام وحسبها أخو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّه وصدّيق الاُمّة الأكبر (٣) وصالح المؤمنين (٤) ومن قال فيه رسول

_______________________

١) صحيح البخاري ٤ : ١٤ / ٤٦ ـ باب من أقام البينة بعد اليمين. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٢.

٢) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٣١٨. وكنز العمال ٥ : ٦٢٦ / ١٤١٠٢.

٣) راجع : سنن ابن ماجة ١ : ٤٤. والاستيعاب ٤ : ١٧٠. وأُسد الغابة ٥ : ٢٨٧. وفضائل الصحابة /


الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليٌ مع الحقّ والحقُّ مع علي ، يدور معه حيثما دار » (١).

فكيف تردّ شهادته مع قيام البينة علىٰ عصمته عن الذنب وطهارته من الرجس ؟

وشهدت لها مع أمير المؤمنين عليه‌السلام أُمّ أيمن ، وهي حاضنة رسول الله ومولاته ، وقد شهد لها بالجنة (٢) ، وقال فيها : « أُمّ أيمن أُمّي بعد أُمّي» (٣) وردّ شهادتها أيضاً ، فإذا كان مثل هؤلاء يجوز ردّ شهادتهم فعلىٰ الإسلام السلام.

٥ ـ لو سلّمنا أنّ شهادة علي عليه‌السلام كشهادة رجلٍ واحدٍ من عدول المؤمنين ، وأنّ أبا بكر وجد نقصاً في البينة ، فلم يتيقّن له الحقّ ، فهلّا استحلف فاطمة عليها‌السلام ليكمل النصاب باليمين مع الشاهد ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل هذه المسائل (٤) ، بدلاً من أن يردّ دعواها ملغياً شهادة علي عليه‌السلام وأمُ أيمن.

وخلاصة القول : لقد أُخذت فدك من أهل البيت قسراً وعنوة وظلماً وجوراً ، ودليل ذلك فضلاً عما قدمناه ، ما جاء في شرح كتاب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلىٰ عثمان بن حنيف الذي ذكرناه آنفاً ، قال عليه‌السلام : « فشحّت عليها نفوس قومٍ ، وسخت عنها نفوس آخرين ».

قال ابن أبي الحديد في شرحه : فشحّت ، أي بخلت ، وسخت : أي

_______________________

ابن حنبل ٢ : ٥٨٦ / ٩٩٣. والرياض النضرة ٣ : ١٠٦ و ١١٠. وخصائص النسائي : ٦ / ٦٣.

٤) راجع : الدر المنثور / السيوطي ٨ : ٢٢٤. وتفسير القرطبي ١٨ : ١٨٩.

١) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٣ / ٣٧١٤. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤. وتاريخ بغداد ١٤ : ٣٢١.

٢) كنز العمال ١٢ : ١٤٦ / ٣٤٤١٦.

٣) كنز العمال ١٢ : ١٤٦ / ٣٤٤١٧.

٤) راجع : مجمع الزوائد ٤ : ٢٠٢. وكنز العمال ٥ : ح ١٤٤٩٨ ، و٧ : ح ١٧٧٥٣.


سامحت وأغضت ، وليس يعني هاهنا بالسخاء إلّا هذا ، لا السخاء الحقيقي ، لأنّه عليه‌السلام وأهله لم يسمحوا بفدك إلّا غصباً وقسراً ، ثم قال عليه‌السلام : « ونعم الحكم الله » الحكم : الحاكم ، وهذا الكلام كلام شاكٍ متظلّم (١).

ويدلّ علىٰ ذلك أيضاً كلامه عليه‌السلام وهو ينفض غبار قبرها عليها‌السلام كالمناجي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وستنبئك ابنتك بتضافر أُمّتك علىٰ هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، هذا ولم يطل العهد ، ولم يخلُ منك الذكر » (٢).

ولو كان أبو بكر قد استولىٰ علىٰ فدك عن حسن نية أو علىٰ اشتباه عرض له ، لكانت فاطمة عليها‌السلام قد أقنعته بالحجة والدليل ، ولما غضبت عليه وقاطعته حتىٰ لقيت ربها ، وأوصت أن لا يحضر جنازتها ولا يصلي عليها ، وفي هذا دليل واضح علىٰ اعتقاد بضعة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتقاد عليّ المرتضىٰ عليه‌السلام بأنّهم لم يشتبهوا بفدك قطّ ، وإنّما سوّلت لهم أنفسهم أمراً ، والله المستعان علىٰ ما يصفون.

أخيراً إنّ فاطمة عليها‌السلام لو أتت بقسامة من الشهود لردّ دعواها وعارضها بعشرات الشهود ، كما عارض شهادة علي عليه‌السلام وأُمّ أيمن بشهادة عمر وعبدالرحمن بن عوف ، وعارض دعواها بالارث بحديث ( لا نورث ) وأشهد عليه عمر بن الخطاب وأوس بن الحدثان وعائشة وحفصة (٣) ، ذلك لأنّ السلطة كانت مصرّة علىٰ انتزاع كامل حقوق عترة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٠٨.

٢) نهج البلاغة / صبحي الصالح ـ الخطبة (٢٠٢). والكافي / الكليني ١ : ٤٥٩. وشرح ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٦٥.

٣) قرب الاسناد / الحميري : ٩٩٠ / ٣٣٥. وتفسير القمي ٢ : ١٥٦. والاختصاص / المفيد : ١٨٣. وبحار الأنوار ٢٩ : ١٥٦ / ٣١.


لأهداف تبتغيها سنأتي علىٰ بيانها لاحقاً.

أخرج الهيثمي عن الطبراني في ( الأوسط ) ، عن عمر بن الخطاب ، قال : لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جئت أنا وأبو بكر إلىٰ علي عليه‌السلام فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : « نحن أحقّ الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ». قال : فقلت : والذي بخيبر ؟ قال : « والذي بخيبر ». قلت : والذي بفدك ؟ قال : « والذي بفدك ». فقلت : أما والله حتىٰ تحزّوا رقابنا بالمناشير فلا (١).

وهذا في الواقع من جملة الأسباب التي أدّت بالحزب السياسي القرشي إلىٰ تخوّفه من وصول الوصيّ إلىٰ الخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحاولوا إبعاده وإضعافه بكلِّ وسيلة ومنها فدك.

ثانياً : حرمان الزهراء عليها‌السلام من الإرث :

لما دفعت الزهراء عليها‌السلام عن نيل حقّها في أرضها بفدك ، طالبت بها عن طريق الإرث ، فكان ميراث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من موارد النزاع بينها وبين أبي بكر ، فقد ذكرت كتب التاريخ والسيرة أنّ فاطمة عليها‌السلام أتت أبا بكر تطالبه بحقها من ميراث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتذر إليها زاعماً بأنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث » وأبىٰ أن يدفع لها شيئاً.

روىٰ البخاري ومسلم وغيرهما بالاسناد عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، أنها أخبرته : أن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلت إلىٰ أبي بكر ، تسأله ميراثها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك ، وما بقي من خمس خيبر ، فقال أبو بكر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا نورث ما تركنا

_______________________

١) مجمع الزوائد ٩ : ٣٩.


صدقة ، إنّما يأكل آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المال ». وإنّي والله لا أُغيِّرُ شيئاً من صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن حالها التي كانت عليها ، في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأعملنَّ فيها بما عمل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فأبىٰ أبو بكر أن يدفع إلىٰ فاطمة شيئاً. فوجدت فاطمة علىٰ أبي بكر في ذلك.

قال : فهجرته فلم تكلمه حتىٰ توفيت ، وعاشت بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستة أشهر ، فلمّا توفيت دفنها زوجها عليُّ بن أبي طالب ليلاً ، ولم يؤذن بها أبابكر ، وصلَّىٰ عليها علي (١).

فسمّىٰ تركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقةً ، وإذا كانت فدك وخيبر وفيء المدينة صدقة منذ زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس ثمة محلّ لروايته أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، إذ لا ميراث حتىٰ يحتاج إلىٰ رواية مثل هذا الخبر.

أما قوله : ( لأعملنّ فيها بما عمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) فيريد به أنه سيجعلها لشؤونه الشخصيّة وحوائجه الخاصة ، يدلّ علىٰ ذلك حديث عائشة المروي في الصحاح ، قالت : أمّا صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ، فدفعها عمر إلىٰ علي والعباس ، وأمّا خيبر وفدك ، فأمسكهما عمر وقال : هما صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلىٰ من ولي الأمر بعده ، فهما علىٰ ذلك إلىٰ اليوم » (٢).

_______________________

١) صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨ / ٢٥٦ ـ كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٠ / ١٧٥٩ ـ كتاب الجهاد والسير ، باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نورث ». وسنن أبي داود ٣ : ١٤٢ / ٢٩٦٨ ـ باب صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢) صحيح البخاري ٦ : ١٧٨ / ٢ ـ كتاب الخمس. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٢ / ٥٤ ـ كتاب الجهاد والسير. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٣ / ٢٩٧٠ ـ باب في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأموال. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠١. ومسند أحمد ١ : ٦.


ويدلّ عليه ما رواه أبو داود عن أبي الطفيل ، قال : جاءت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ أبي بكر تطلب ميراثها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ الله عزَّ وجلَّ إذا أطعم نبياً طعمة ثم قبضه ، فهي للذي يقوم من بعده (١).

وفي حديث أُمّ هانىء : أنّ أبا بكر قال لفاطمة عليها‌السلام : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّما هي طعمة أطعمنيها الله حياتي ، فإذا متُّ فهي بين المسلمين (٢).

بقي أنّ حديث البخاري المتقدم يذكر أنّ الزهراء عليها‌السلام قد ودّعت الدنيا وهي ساخطة علىٰ أبي بكر ، ومعلوم أنّ فعل الزهراء عليها‌السلام وقولها لا يتجافىٰ عن الحقّ ، لأنّ الله تعالىٰ يغضب لغضبها ويرضىٰ لرضاها ، ولم تغضب فاطمة عليها‌السلام علىٰ أبي بكر بمجرد سماعها حديثه ، بل سخطت عليه بعد نزاع واحتجاج طويلين (٣) ، حيث عارضت حديثه بالآيات العامة المشرّعة للتوارث بين المسلمين بما فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ ذكرت الآيات الدالة علىٰ توريث الأنبياء ، كعيسىٰ وداود وزكريا عليهم‌السلام ، وسيأتي ذلك في المبحث الثاني عند ذكر خطبتها عليها‌السلام.

_______________________

١) سنن أبي داود ٣ : ١٤٤ / ٢٩٧٣ ـ باب في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأموال. والرياض النضرة / المحب الطبري ١ : ١٩١. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٣. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٥. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩.

٢) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٣. ونحوه في شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٢. والسقيفة وفدك / الجوهري : ١١٧ عن مولىٰ أُمّ هانيء.

٣) راجع طرفاً من احتجاجاتها ومطالبتها عليها‌السلام بالارث في كشف الغمة / الأربلي ١ : ٤٧٨. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩. وفتوح البلدان / البلاذري : ٤٤.


حجيّة حديث لا نورث :

الملاحظ أنّ حديث عدم توريث الأنبياء الذي زعمه أبو بكر لا حجيّة له وأنّه مردود من عدة وجوه :

الأول : الحديث مخالف لصريح القرآن الكريم ، الذي نصّ علىٰ توريث الأنبياء عليهم‌السلام لعموم قوله تعالىٰ : ( لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا ) (١) وغيرها من آيات المواريث المطلقة (٢) التي تشمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن دونه من سائر البشر.

ونصّ القرآن الكريم علىٰ خصوص توريث الأنبياء بقوله تعالىٰ حكاية عن زكريا عليه‌السلام : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ) (٣) ولا ريب أنّ الميراث في الاستخدام اللغوي يطلق علىٰ ما يصحّ أن ينتقل من الموروث إلىٰ الوارث علىٰ الحقيقة كالأموال وما يجري مجراها ، ولا يستعمل في غيرها إلّا مجازاً وتوسعاً ، وليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام بغير قرينة قطعية ودلالة واضحة.

ومنه قوله تعالىٰ : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (٤) وهي ظاهرة في الدلالة علىٰ المراد ، إذ إنّ اطلاق لفظ الميراث يقتضي أن يراد منه الأموال ومافي معناها.

_______________________

١) سورة النساء : ٤ / ٧.

٢) راجع : سورة النساء : ٤ / ١١. وسورة الأنفال : ٧ / ٧٥.

٣) سورة مريم : ١٩ / ٥ ـ ٦.

٤) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.


وسيأتي في خطبة الزهراء عليها‌السلام أنّها احتجت علىٰ أبي بكر بهذه الآيات التي لا تردّ ولا تكابر ، وكذلك احتجّ بها أمير المؤمنين عليه‌السلام لكن أبا بكر أبىٰ إلّا اللجاج والعناد والمكابرة وعدم الانصات لصوت الحقّ والعدل.

أخرج السيوطي عن ابن سعد ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « جاءت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ أبي بكر تطلب ميراثها وجاء العباس بن عبدالمطلب يطلب ميراثه ، وجاء معهما علي عليه‌السلام ، فقال أبو بكر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نورث ما تركنا صدقة » وما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعول فعليّ. فقال علي عليه‌السلام : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ )(١) وقال زكريا : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢) فقال أبو بكر : هو هكذا ، وأنت والله تعلم مثل ما أعلم. فقال علي عليه‌السلام : « هذا كتاب الله ينطق ! » فسكتوا وانصرفوا » (٣).

الثاني : أنّه علىٰ تقدير صحته وعدم اختلاقه ، فهو من أخبار الآحاد ، فلا يجوز الأخذ بعموم ظاهره لمخالفته للكتاب الكريم ، وحاشا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول بما يخالف كلام الله عزَّ وجلّ.

هذا زيادة علىٰ رفض باب مدينة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيدة نساء العالمين عليها‌السلام لما زعمه أبو بكر ، ولو كان صادقاً بزعمه ، لكانا عليهما‌السلام أولىٰ الخلق بحقيقة ذلك الحديث ، مما يكشف عن اختلاقه ووضعه.

ولكن أنصاره حاولوا الكذب علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنسبوه إلىٰ آخرين أيضاً ، مع أنّ الثابت هو اختصاص أبي بكر به وتفرّده بنقله.

_______________________

١) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.

٢) سورة مريم : ١٩ / ٦.

٣) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٧.


قالت عائشة : إنّ الناس اختلفوا في ميراث رسول الله ، فما وجدوا عند أحدٍ من ذلك علماً ، فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة (١).

قال ابن أبي الحديد : إنّ أكثر الروايات أنّه لم يروِ هذا الخبر إلّا أبو بكر وحده ، ذكر ذلك معظم المحدثين ، حتىٰ إنّ الفقهاء في اصول الفقه أطبقوا علىٰ ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد. وقال شيخنا أبو علي : لا تقبل في الرواية إلّا رواية اثنين كالشهادة (٢).

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه : إنّ الخبر علىٰ كلِّ حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم ، وهو في حكم أخبار الآحاد ، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرىٰ ، لأنّ المعلوم لا يُخَصّ إلّا بمعلوم ، وإذا كانت دلالة الظاهر معلومة لم يجز أن يرجع عنها بأمر مظنون (٣).

وقال الشيخ الطوسي رحمه‌الله : إنّ هذا الخبر خبر واحد ، لم يروه إلّا أبو بكر ، وخبر الواحد لا يجوز قبوله عندنا في موضع من المواضع ، ولو قبلناه لما قبلناه في تخصيص القرآن وترك عمومه (٤).

ولا ندري كيف تُقبل رواية الخصم متفرداً بحديث يناقض كتاب الله ويعارض النقل ، ولا تقبل شهادة فاطمة عليها‌السلام التي توافق الكتاب الكريم ولا تعارض النقل ، وهي الصديقة المطهّرة من الرجس ؟! إلّا أن يكون الخصم هو الحاكم ، وللحاكم أن يحكم بما يشاء ، والحقّ معه علىٰ أيّ حال.

الثالث : والذي يدلّ علىٰ ما تقدّم في الوجه الثاني أيضاً ، وهو يفضي إلىٰ

_______________________

١) الصواعق المحرقة : ٣٤ ، كنز العمال ٧ : ٢٢٦ و٢٣٥ و٢٣٦ و٢٣٧ ، ١١ : ٤٧٥ و٤٧٩ ، ١٢ : ٤٨٨ ، منتخب كنز العمال ٤ : ٣٦٤.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٧.

٣) الشافي / المرتضىٰ ٤ : ٦٦.

٤) تلخيص الشافي ٣ : ١٣٧ ـ ١٣٨.


نتيجة واحدة هي بطلان الحديث ، أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام والعباس عمّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأُمّهات المؤمنين لم يسمعوا بهذا الحديث ، حيث طالبوا بالارث حتىٰ بعد وفاة أبي بكر ووفاة الزهراء عليها‌السلام.

فقد روي أنّ العباس رضي‌الله‌عنه وعليّاً عليه‌السلام جاءا عمر بن الخطاب يطلبان ميراثهما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، وأنّ أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلن عثمان بن عفان إلىٰ أبي بكر يسألن ميراثهن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وردّتهن عائشة (٢).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام ، قال : « جاءت عائشة إلىٰ عثمان فقالت : أعطني ميراثي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال لها : أولم تجيئي ومالك بن أوس النصري ، فشهدتما أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، حتىٰ منعتما فاطمة ميراثها ، وأبطلتما حقّها ، فكيف تطلبين اليوم ميراثاً من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

فتركته وأنصرفت ، وكان عثمان إذا خرج إلىٰ الصلاة ، أخذت عائشة قميص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قالت : إنّ عثمان قد خالف صاحب هذا القميص وترك سنّته » (٣).

فهل يصح مع ذلك ماروي من أن عمر بن الخطاب ناشد عليّاً عليه‌السلام والعباس رضي‌الله‌عنه : هل تعلمان ذلك ؟ ـ أي حديث منع الارث ـ فقالا : قد قال

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٩.

٢) صحيح البخاري ٧ : ٢٦٨ / ٧ كتاب الفرائض ـ باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نورث ». وسنن أبي داود ٣ : ٤٥ / ٢٩٧٦ ـ كتاب الخراج والامارة والفيء. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠١. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٣.

٣) الأمالي / المفيد : ١٢٥ / ٣. وكشف الغمة ١ : ٤٧٩.


ذلك (١) فإذا كانا يعلمانه ، فكيف جاء العباس وفاطمة عليها‌السلام إلىٰ أبي بكر يطلبان الميراث (٢) ؟ وكيف جاء علي عليه‌السلام والعباس إلىٰ عمر بن الخطاب يطلبان الميراث ؟

فهل يصح أن يقال : إنّهما كانا يعلمان الحديث ، ثمّ جاءا يطلبان الارث الذي لا يستحقانه ؟ أو أن عليّاً عليه‌السلام كان يعلم ذلك ثمّ يمكّن فاطمة عليها‌السلام أن تخالف قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتطلب مالا تستحقه ، وأن تخرج من دارها وتنازع أبا بكر ، وتكلمه بما كلمته دفاعاً عن حقها ؟ مع ما لعلي عليه‌السلام من الزهد والعصمة والطهارة والذوبان في ذات الله والحبّ الشديد لاجراء أحكامه وسُنّة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ أهل البيت عليهم‌السلام أورع وأبرّ وأتقىٰ من أن يطلبوا دنيا فانية أو عرضاً زائلاً ، خصوصاً وأن أمير المؤمنين قد ضرب أروع أمثلة الزهد في هذه الدنيا التي طلّقها ثلاثاً لا رجعة له فيها.

فهل يتصور عاقل بأنّه عليه‌السلام جاء ينازع المسلمين حقّهم وهو الذي عرف عنه تصلّبه في الحق إلىٰ الدرجات القصوىٰ حتىٰ أن الحق لم يترك له صديقاً !!

وفي حديث مسلم عن مالك بن أوس بن الحدثان : أنّ عمر قال للعباس وعلي عليه‌السلام حينما جاءا يطلبان ميراثهما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فرأيتماه ـ أي أبابكر ـ كاذباً آثماً غادراً خائناً ، ثمّ قال لمّا ذكر نفسه : فرأيتماني كاذباً آثماً

_______________________

١) صحيح البخاري ٧ : ٢٦٧ / ٥ ، كتاب الفرائض ـ باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نورث ». وسنن البيهقي ٦ : ٢٩٩. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٢.

٢) صحيح البخاري ٧ : ٢٦٦ / ٣ كتاب الفرائض ـ باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا نورث ». وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٠. ومسند أحمد ١ : ١٠. وتاريخ الطبري ٣ : ٢٠٨. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٤٦ و ١٦ : ٢١٨. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٧.


غادراً خائناً (١). ورواه ابن أبي الحديد عن الجوهري بألفاظ أخرىٰ (٢).

فكيف يران هذا الرأي ، ويحكمان هذا الحكم علىٰ أبي بكر وعمر في عملهما بأمر فدك وسائر إرث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهما يعلمان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا نورث » ؟! وعليه فلا تستقيم مطالبة الزهراء عليها‌السلام وأمير المؤمنين عليه‌السلام بإرث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا لعلمهما بكذب الخبر المانع للإرث.

الرابع : لو صحّ صدور الحديث لوجب علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبين لورثته أن تركته صدقة لكلِّ المسلمين ، وليس لهم حقّ المطالبة بالإرث بعده ، لئلا يتعرضوا لمواضع التهمة في المطالبة بما لا يستحقونه ، وليقطع دابر الفرقة والاختلاف.

وكيف يمكن أن نتصور أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشرّع حكماً يخالف نصوص القرآن الكريم ويخفيه عن جميع المسلمين حتىٰ عن ألصق الناس به من ورثته الذين يتعلق بهم الحكم ، ولا يبلغه إلّا لأبي بكر وهو غير وارث ؟ بل كيف يمكن أن نتصور أنّ أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام وباب مدينة علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجهل هذا الحكم ، وهو أقضىٰ الاُمّة وأعلمها بالكتاب والسُنّة ؟!

فهل يمكن أن يقال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعلم أن ورثته سيقسمون تركته من بعده وفقاً لأحكام الشريعة ؟ أو إنّه كان يعلم ذلك ولكن قصّر في تبليغ الأحكام والعياذ بالله ؟! وتلك علامات استفهام جوابها أنّ الحديث موضوع

_______________________

١) صحيح مسلم ٣ : ١٣٧٩ / ٤٩ ، ورواه البخاري في الصحيح ٧ : ٢٦٧ / ٥ وأبو داود في السنن ٣ : ١٣٩ ، والبيهقي في السنن ٦ : ٢٩٩ بدون ذكر الألفاظ.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٢٢ و ٢٢٧ و ٢٢٩.


علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الخامس : ولو صحّ حديث أبي بكر ، لكان عليه أن يحرم جميع الورثة من أموال الرسول الخاصة به ، لكنّه ترك أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجرهن من غير بينة ولا شهادة تدلّ علىٰ الهبة أو التمليك ، ولم يُدخِل بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأثاثها في الأموال العامة ، فهل الحكم بعدم التوريث مختصاً بالزهراء عليها‌السلام ؟ أم هناك آية خصّت عائشة وحفصة وغيرهما وأخرجت بنت المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإرث ؟ وليس ثمة آية إلّا السياسة التي تجعل الحقّ باطلاً والباطل حقاً.

ولقد أوصىٰ أبو بكر حينما حضرته الوفاة أن يُدفَن إلىٰ جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي حجرته ، واستأذن لذلك من عائشة ، فلو كانت أمواله صدقه ، فإنّ حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأموال العامّة ، وينبغي لأبي بكر أن يستأذن من جميع المسلمين في ذلك ، فكأنه لم يصدق روايته.

وكان من استئثار عائشة ببيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير دفن أبي بكر وعمر في حجرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّها منعت الإمام الحسين عليه‌السلام أن يدفن أخاه الحسن عليه‌السلام إلىٰ جانب جدّه وركبت بغلة ، وخرجت تنادي : لا تدفنوا في بيتي من لا أُحبّ ، واصطفّ بنو هاشم وبنو أُميّة للحرب ، ولكن الإمام الحسين عليه‌السلام قال لها : « إنّه سيطوف بأخيه عليه‌السلام علىٰ قبر جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يدفنه في البقيع ، ذلك لأنّ الإمام الحسن عليه‌السلام أوصاه أن لا يهرق من أجله ولو محجمةً من دم ».

فقال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : واسوأتاه يوماً علىٰ بغل ، ويوماً علىٰ جمل ؟ وفي رواية : يوماً تجمّلت ، ويوماً تبغّلت ، وإن عشت تفيّلت.

فأخذه من الشعراء ابن الحجاج البغدادي مشيراً إلىٰ استئثار عائشة بكل


بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون باقي نسائه ، فقال :

لكِ التسع من الثمن

وبـالكلِّ تملكتِ

تجمّلتِ تـبغّلتِ

وإن شئت تفيّلتِ (١)

وقال الصقر البصري :

ويوم الحسن الهادي

على بغلك أسرعتِ

ومـايست ومانعتِ

وخـاصمتِ وقاتلتِ

وفي بيت رسول اللـ

ـه بـالظلم تحكّمتِ

هل الزوجة أولىٰ بالـ

ـمواريث من البنتِ

لك التسع من الثمن

فبـالكلِّ تـحكّمتِ

تـجمّلتِ تـبغّلـتِ

ولو عشت تفيّلتِ (٢)

السادس : لو صحّ الحديث لانصرفت الصديقة الطاهرة فاطمة عليها‌السلام عن مطالبتها راضية مخبتة ، لكن المحقّق أنّ الزهراء عليها‌السلام غضبت علىٰ أبي بكر وعمر وهجرتهما بعد سماعها الحديث المفترىٰ علىٰ أبيها العظيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وماتت وهي ساخطة عليهما (٣) ، وأوصت أن تدفن ليلاً ، وأن

_______________________

١) الخرائج والجرائح / القطب الراوندي ١ : ٢٤٣.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٤٥.

٣) صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨ / ٢٥٦ ـ كتاب المغازي. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٠ / ١٧٥٩ ـ كتاب الجهاد والسير. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٢ / ٢٩٦٨ ـ باب صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومسند أحمد ١ : ٦ و ٩. ومشكل الآثار / الطحاوي ١ : ٤٨. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٠ ـ ٣٠١. والبداية والنهاية


لا يحضرا جنازتها ، ولا يصليا عليها ، وأن يعفىٰ موضع قبرها ، فدفنها علي عليه‌السلام ليلاً ، وغيّب قبرها ، ولم يعلم بها أحداً منهما (١).

وروي أن عليّاً عليه‌السلام سوّىٰ حول قبرها سبعة قبور مزوّرة ، ورشّ أربعين قبراً كي لا يهتدوا إلىٰ قبرها (٢). وذلك تعبير واضح كالشمس عن مظلوميتها عليها‌السلام وأنّها مدفوعة عن حقّها مسلوبة نحلتها ظلماً وعدواناً.

ومثل هذا لا تفعله الزهراء عليها‌السلام بمن هو مصيب في قوله وفعله لأنّها عليها‌السلام لا تغضب لغير الحقّ ، وأن الله يغضب لغضبها ويرضىٰ لرضاها ، فلا يصحّ أن يقال إنّ الزهراء عليها‌السلام غضبت لحكمٍ صدع به من لا ينطق عن الهوىٰ أبوها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس ثمّة أمرٌ أوجب موقفها ذلك ووصيتها إلّا اتهام الراوي للخبر ، إذ لو كان مصيباً وصادقاً في دعواه ، لزم أن يكون غضبها لغير الحقّ والعياذ بالله.

السابع : لو صحّ صدور الخبر لما ناقض عمر بن الخطاب عمل صاحبه ، فقسم ميراث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ أزواجه ودفع صدقته بالمدينة إلىٰ علي عليه‌السلام والعباس.

روىٰ البخاري في كتاب المزارعة عن نافع ، قال : إنّ عبدالله بن عمر قال :

_______________________

٥ : ٢٤٩. وتاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢. وجامع الاُصول ٤ : ٤٨٢. وتاريخ المدينة / ابن شبّة ١ : ١١٠.

١) راجع : مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٢. والعمدة / ابن البطريق : ٣٩٠ ـ ٣٩١. وروضة الواعظين / الفتال : ١٥١. وعلل الشرائع / الصدوق : ١٨٥ و ١٨٨ و ١٨٩. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٩٤. والكافي / الكليني ١ : ٤٥٨. ومعاني الأخبار : ٣٥٦.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٣. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ١١٥. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٣٠. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٣٦.


قسّم عمر خيبر ، فخيّر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُقطَع لهنّ من الماء والأرض ، أو يُمضىٰ لهنّ ، فمنهنّ من اختار الأرض ، ومنهنّ من اختار الوسق ، وكانت عائشة اختارت الأرض (١).

فهذه خيبر التي طالبت الزهراء عليها‌السلام بنصيبها منها كميراثٍ لها من أبيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّها أبو بكر ، جاء عمر فقسّمها في أيام خلافته علىٰ أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! فإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، فلماذا ترث الأزواج ولا ترث البنت ؟

وعن عائشة ، قالت : أمّا صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ، فدفعها عمر إلىٰ علي والعباس (٢) ، فلو صحّ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، وأنّ ما تركه صدقة للمسلمين ، فكيف يدفع عمر ذلك إلىٰ علي عليه‌السلام والعباس ؟ ولماذا لم يدفع رجال السلطة هذه الأموال في حياة الزهراء عليها‌السلام ، إنّها السياسة التي تطلبت أن يمنعوا حيث توجب المصالح تثبيت ركائز الدولة وتدعيم أركانها ، وأن يعطوا في وقت الرخاء والاستقرار وبسطة الفتوح.

الثامن : رويت بعض الأخبار التي تعارض حديث منع الإرث ، منها ما جاء في ( السيرة الحلبية ) عن سبط ابن الجوزي ، قال : إنّ أبا بكر كتب لفاطمة عليها‌السلام بفدك ، ودخل عليه عمر ، فقال : ما هذا ؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال : ممّاذا تنفق علىٰ المسلمين وقد حاربتك

_______________________

١) صحيح البخاري ٣ : ٢١١ ـ باب المزارعة ـ بالشطر ونحوه.

٢) صحيح البخاري ٦ : ١٧٨ / ٢ ـ كتاب الخمس. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٢ / ٥٤ ـ كتاب الجهاد والسير. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٣ / ٢٩٧٠ ـ باب في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأموال. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠١. ومسند أحمد ١ : ٦.


العرب كما ترىٰ ؟ ثم أخذ عمر الكتاب فشقّه (١).

وواضح من الخبر أنّه كتب بفدك لفاطمة عليها‌السلام علىٰ أنها إرث من أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يخالف رواية أبي بكر المانعة لتوريث الأنبياء.

ومنها ما رواه أبو الطفيل قال : أرسلت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ أبي بكر : أنت ورثت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم أهله ؟ قال : لا ، بل أهله (٢) ، إلىٰ آخر الحديث وسيأتي.

قال ابن أبي الحديد : في هذا الحديث عجب ، لأنّها قالت له : أنت ورثت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم أهله ؟ قال : بل أهله ، وهذا تصريح بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موروث يرثه أهله ، وهو خلاف قوله : ( لا نورث ) (٣).

التاسع : لو صحّ الخبر لما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام متظلّماً : « اللهمَّ إنّي استعديك علىٰ قريش ، فإنّهم ظلموني حقّي ، وغصبوني إرثي » (٤).

ولما قالت الزهراء عليها‌السلام في قصيدتها المشهورة :

تجهّمتنا رجالٌ واستخفّ بنا

لمّا فُقِدت وكلُّ الإرث مغتصبُ (٥)

أخيراً فإنّ أرض فدك هي حقّ خالص لفاطمة عليها‌السلام لا يمكن المماراة فيه

_______________________

١) السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢.

٢) الرياض النضرة / المحب الطبري ١ : ١٩١. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٣. ومسند أحمد ١ : ٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٥ عن مسلم وأحمد وأبي داود وابن جرير.

٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩.

٤) شرح ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٨٦.

٥) سيأتي تخريجها في المبحث الثاني من هذا الفصل.


سواء كان نحلة أو ميراثاً ، وأن الخبر الذي تفرّد به أبو بكر قد جرّ علىٰ الاُمّة ولا يزال مزيداً من المحن والإحن ، وفتح عليها باب العداء علىٰ مصراعيه ، وأجّج البغضاء والشحناء ، وشقّ عصا المسلمين إلىٰ اليوم.

ثالثاً : اسقاط سهم ذوي القربىٰ :

لقد نصّ الكتاب الكريم علىٰ سهم ذوي القربىٰ في قوله تعالىٰ : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (١) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يختص بسهمٍ من الخمس ، ويخصّ أقاربه بسهمٍ آخر منه ، فلمّا ولي أبو بكر تأوّل الآية ، فأسقط سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسهم ذوي القربىٰ ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كسائر يتامىٰ المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم (٢).

عن سعيد بن المسيب ، قال أخبرني جبير بن مطعم أنّه جاء هو وعثمان ابن عفان يكلمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب ، فقلت : يا رسول الله ، قسمت لإخواننا بني المطلب ، ولم تعطنا شيئاً ، وقرابتنا وقرابتهم منك واحدة ؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّما بنو هاشمٍ وبنو المُطَّلب شيءٌ واحد ».

قال جبير : ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس ، كما قسّم لبني هاشم وبني المطلب ، قال : وكان أبو بكر يقسّم الخمس نحو

_______________________

١) سورة الأنفال : ٨ / ٤١.

٢) راجع : الكشاف ٢ : ٢٢١. وفتح القدير / الشوكاني ٢ : ٣١٠ ـ ٣١٣. وتفسير القرطبي ٨ : ٩ ـ ١٥. وتفسير الطبري ١٠ : ٤ و ٥ و ٧.


قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أنّه لم يكن يُعطي قربىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطيهم ، قال : وكان عمر بن الخطاب يعطيهم منه (١).

ولم يقبل بنو هاشم ما عرضه عمر عليهم لأنّه دون حقّهم ، فقد رووا عن علي عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ عمر قال : لكم حقّ ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كلّه ، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرىٰ لكم ، فأبينا عليه إلّا كلّه ، فأبىٰ أن يعطينا » (٢).

وعن يزيد بن هرمز : أن نجدة الحروري حين حجَّ في فتنة ابن الزبير ، أرسل إلىٰ ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربىٰ ، ويقول : لمن تراه ؟ قال ابن عباس : لقربىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّمه لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقّنا ، فرددناه عليه ، وأبينا أن نقبله (٣).

وقد نازعت الزهراء عليها‌السلام أبا بكر في سهم ذوي القربىٰ ، كما نازعته في النحلة والإرث ، لكنها لم تجد أُذناً صاغية منه ، حيث تمادىٰ في إصراره علىٰ سلب هذا الحقّ الذي فرضه الله تعالىٰ في كتابه وعمل به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روىٰ الجوهري بالاسناد عن عروة بن الزبير ، قال : أرادت فاطمة عليها‌السلام أبا

_______________________

١) سنن أبي داود ٣ : ٤٥ / ٢٩٧٨ ـ باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربىٰ. ومسند أحمد ٤ : ٨٣. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٥ : ٣٤١.

٢) سنن البيهقي ٦ : ٣٤٤. ومسند الشافعي : ١٨٧.

٣) سنن أبي داود ٣ : ١٤٥ / ٢٩٨٢ ـ باب في بيان مواضع قسم الخمس. ومسند أحمد ١ : ٣٢٠ و ٣٢٤. وسنن البيهقي ٦ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥. وفتح القدير / الشوكاني ٢ : ٣١٢.


بكر علىٰ فدك وسهم ذوي القربىٰ ، فأبىٰ عليها ، وجعلهما في مال الله (١).

وعن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : إنّ أبا بكر منع فاطمة عليها‌السلام وبني هاشم سهم ذوي القربىٰ ، وجعله في سبيل الله ، في السلاح والكراع (٢).

وعن أنس بن مالك ، قال : إنّ فاطمة عليها‌السلام أتت أبا بكر ، فقالت : لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات ، وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربىٰ ! ثمّ قرأت عليه قوله تعالىٰ : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) الآية.

فقال لها أبو بكر : بأبي أنت وأُمّي ووالد ولدك ! السمع والطاعة لكتاب الله ولحقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقّ قرابته ، وأنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرأين منه ، ولم يبلغ علمي منه أنّ هذا السهم من الخمس يسلّم إليكم كاملاً.

قالت عليها‌السلام : « أفلك هو ولأقربائك ؟ » قال : لا ، بل أُنفق عليكم منه ، وأصرف الباقي في مصالح المسلمين. قالت عليها‌السلام : « ليس هذا حكم الله تعالىٰ ». قال : هذا حكم الله !! إلىٰ أن قال : وهذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، فاسأليهما عن ذلك ، وانظري هو يوافقك علىٰ ما طلبت أحدٌ منهما ، فانصرفت إلىٰ عمر ، فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر ، فقال لها مثل ما قال أبوبكر ، فعجبت فاطمة عليها‌السلام من ذلك ، وتظنّت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه (٣).

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣١.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣١.

٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣١.


أقول : ليس هو ظنّاً ، وإنّما اليقين ، إذ كيف يتّفق فعل أولئك علىٰ خلاف كتاب الله عزّ وجلّ ، لو لم يكن ثمة اتفاق من قبل ؟!

وعن أُمّ هانيء ، قالت : دخلت فاطمة عليها‌السلام علىٰ أبي بكر بعدما استخلف ، فسألته ميراثها من أبيها فمنعها ، فقالت له : « لئن متّ اليوم من يرثك ؟ » قال : ولدي وأهلي. قالت : « فلِمَ ورثت أنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون ولده وأهله ؟ » قال : فما فعلت يا بنت رسول الله ؟ قالت عليها‌السلام : « بلىٰ ، إنّك عمدت إلىٰ فدك ، وكانت صافية لرسول الله فأخذتها ، وعمدت إلىٰ ما أنزل الله من السماء فرفعته عنّا » (١).

وفي رواية اُخرىٰ عن أُمّ هانيء : قال أبو بكر لفاطمة عليها‌السلام : يا بنة رسول الله ، ما ورث أبوك داراً ولا مالاً ولا ذهباً ولا فضة. قالت عليها‌السلام : « بلىٰ سهم الله الذي جعله لنا ، وصافيتنا التي بيدك ؟ » فقال : انّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطعم أهله ما دام حيّاً ، فإذا مات رفع ذلك عنهم. وفي لفظ آخر : سمعته يقول : إنّما هي طعمة أطعمنيها الله حياتي ، فإذا متّ كانت بين المسلمين (٢).

وعن أبي الطفيل ، قال : قالت فاطمة عليها‌السلام لأبي بكر : « أنت ورثت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم أهله ؟ قال : لا ، بل أهله. قالت : فما بال الخمس ؟ » فقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا أطعم الله نبيّاً طعمة ثمّ قبضه ، كانت للذي

_______________________

١) شرح ابن أبي حديد ١٦ : ٢٣٢. والسقيفة وفدك / الجوهري : ١١٦.

٢) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٤ ـ ٤٥. والسقيفة وفدك. الجوهري : ١١٧. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام السيوطي : ١٣.


يليه بعده ، فلمّا وليت رأيت أن أردّه علىٰ المسلمين (١).

التكرم وشرع الإحسان :

لقد ثبت ممّا تقدّم أنّ الزهراء عليها‌السلام طالبت أبا بكر بالنحلة والإرث وسهم ذي القربىٰ ، وأنه لم يعطها شيئاً مما طلبت ، فلو فرضنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، وأن جميع متروكاته بما فيها فدك وسهم ذي القربىٰ هي طعمة لولي الأمر بعده ، وليتصرف بها حيثما يشاء ، أو أنها من الأموال العامّة ومن حقّ الحاكم أن يتصرف بها وفقاً لمقتضيات المصلحة الإسلامية العامة.

إذن أليس من الحكمة والتدبير وشرع التكرم والاحسان أن يعطي فاطمة عليها‌السلام شيئاً مما طلبت ولا يردّها خائبة ؟! وهي ابنة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي لم يخلف بينهم غيرها ، تطييباً لخاطرها ، وحفظاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المرءُ يحفظ في ولده » ، وقطعاً لدابر الفرقة والاختلاف التي حكمت حياة المسلمين سنين متمادية.

ولو فعل ذلك لم يكن بدعاً منه ، فقد أقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض أراضي بني النضير لأبي بكر وعبدالرحمن بن عوف وأبي دجانة (٢) ، وأقطع أرضاً من أرض بني النضير ذات نخلٍ للزبير بن العوّام (٣).

_______________________

١) سنن البيهقي ٦ : ٣٠٣. والرياض النضرة / المحب الطبري ١ : ١٩١. ومسند أحمد ١ : ٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٥ عن مسلم وأحمد وأبي داود وابن جرير.

٢) فتوح البلدان / البلاذري : ٣١.

٣) فتوح البلدان / البلاذري : ٣٤.


وتنبّه كثير من المحقّقين القدامىٰ والمحدثين لهذه المسألة ، فقد نقل عن القاضي عبدالجبار المعتزلي أنّه قال : قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا منها ، فضلاً عن الدين.

قال ابن أبي الحديد معلقاً : وهذا الكلام لا جواب عنه ، ولقد كان التكرم ورعاية حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظ عهده يقتضي أن تعوّض ابنته بشيء يرضيها ، وإن لم يستنزل المسلمون عن فدك ، وتسلّم إليها تطييباً لقلبها ، وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأىٰ المصلحة فيه (١).

وقال الاُستاذ محمود أبو رية : بقي أمر لابدّ أن نقول فيه كلمة صريحة ، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما فعل معها في ميراث أبيها ، لأنّا إذا سلّمنا بأن خبر الآحاد الظنّي يخصّص الكتاب القطعي ، وأنه قد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال : إنّه لا يورث ، وأنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر ، فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة عليها‌السلام بعض تركة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كأنّ يخصّها بفدك ، وهذا من حقّه الذي لا يعارضه فيه أحد ، إذ يجوز للخليفة أن يخصّ من يشاء بما يشاء ، وقد خصّ هو نفسه الزبير بن العوّام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، علىٰ أنّ فدك هذه التي منعها أبو بكر لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان (٢).

إذن فالزهراء عليها‌السلام تستحق بمقتضىٰ التكرم والاحسان أن تأخذ شيئاً مما

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٦.

٢) مجلة الرسالة المصرية ، العدد (٥١٨) السنة (١١) الصحفة (٤٥٧) ، ونحوه في شيخ المضيرة أبو هريرة : ١٦٩ ، الطبعة الثالثة. والنص والاجتهاد / شرف الدين : ٧٠.


ترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّ أبا بكر منعها وسدّ جميع السبل المؤدية إلىٰ استحقاقها ، حتىٰ ولو كان إحساناً وتكرماً ، فلماذا إذن اتخذ هذا الموقف من بضعة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

هذا السؤال الذي توقّف ابن أبي الحديد عن الإجابة عليه آنفاً ، يحمل أكثر من إجابة تتضح في بيان أهداف السلطة من الاستيلاء علىٰ الإرث النبوي.

أهداف السلطة :

أقدمت السلطة علىٰ إلغاء امتياز البيت الهاشمي بالموروث النبوي ، وذلك لتقوية مركزها السياسي ، والاستعانة به في دعم الكيان السياسي للسلطة ، ولذا قال عمر لأبي بكر لمّا كتب بفدك لفاطمة عليها‌السلام : ممّاذا تنفق علىٰ المسلمين وقد حاربتك العرب (١) ؟ ولسلب القدرة الاقتصادية من أهل البيت عليهم‌السلام التي قد تمكّنهم من استعادة سلطانهم المسلوب ، وذلك بقطع الشريان الاقتصادي الذي يغذّي الخلافة الشرعية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمعارضة المتوقعة من بيت الزهراء عليها‌السلام ، والاطمئنان من أي حركة تستهدف الحكم.

ولو أغضينا عن تركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خيبر وبني النضير والمدينة وسهم ذي القربىٰ ، فإنّ فدك وحدها كان دخلها أربعة وعشرين ألف دينار في كلِّ سنة ، في رواية الشيخ عبدالله بن حماد الأنصاري ، وفي رواية غيره : سبعين ألف دينار (٢) ، وإنّها كانت تغلّ في أيام عمر بن عبدالعزيز عشرة آلاف

_______________________

١) السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢.

٢) كشف المحجة / ابن طاووس : ١٨٢.


دينار (١). وقيل : أربعون ألف دينار (٢).

ونقل ابن أبي الحديد عن علي بن تقي من بلدة النيل (٣) أنه قال : كانت فدك جليلة جداً ، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل ، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عليها‌السلام عنها إلّا ألّا يتقوىٰ علي بحاصلها وغلّتها علىٰ المنازعة في الخلافة ، ولهذا أتبَعَا ذلك بمنع فاطمة عليها‌السلام وسائر بني هاشم وبني المطلب حقّهم في الخمس ، فانّ الفقير الذي لا مال له تضعف همّته ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولاً بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرياسة (٤).

وكانت السلطة تدرك البعد السياسي لمطالبة الزهراء عليها‌السلام بالحقوق المالية لأهل البيت عليهم‌السلام وعامة بني هاشم ، وأنّها عليها‌السلام اتخذت من تلك المطالبة عنواناً لثورتها علىٰ السلطة التي لا تستمد بقاءها بغير منطق القوة والسطوة ، والزهراء عليها‌السلام إنّما طالبت كي تبيّن الحق وتعرّي السلطة ، وتلقي الحجة علىٰ الاُمّة التي انقلبت علىٰ تعاليم السماء ، وتنكرت لنهج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصاياه.

ولهذا اجتمع رأي رجال السلطة علىٰ منع الزهراء عليها‌السلام من جميع حقوقها المترتبة لها بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتىٰ ولو كان إحساناً أو تكرماً ، وبقي أبو بكر لا يحير جواباً أمام منطق الزهراء عليها‌السلام القائم علىٰ الكتاب المبين وسُنّة

_______________________

١) صبح الأعشىٰ ٤ : ٢٩١.

٢) سنن أبي داود ٣ : ١٤٤ / ٢٩٧٢ ـ باب في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣) بلدة تقع في سواد الكوفة قرب الحلة.

٤) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.


النبي الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أن يقول لفاطمة عليها‌السلام : ما كان لك أن تسأليني ، وما كان لي أن أعطيك (١).

فلو تنازلت السلطة أمام مطالب الزهراء عليها‌السلام وأذعنت لحجّتها البالغة ودليلها الساطع ، كان ذلك بمثابة اعتراف لما بعد فدك من الموروث النبوي الذي منه الخلافة لأمير المؤمنين عليه‌السلام وعترة النبي المعصومين عليهم‌السلام ، وهذا ما صرّحت به الزهراء عليها‌السلام في خطبتها المشهورة ، وإزاء هذا كان علىٰ السلطة أن تبيّن لعامة المسلمين أنّ فاطمة عليها‌السلام تدّعي ماليس لها بنحلة ، وتطالب ماليس لها بميراث ، وتريد لعلي عليه‌السلام الملك وليس له بحقّ !

قال ابن أبي الحديد : سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم. قلت : فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة ؟ فتبسّم ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته : لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها ، لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيءٍ ، لأنّه يكون قد سجّل علىٰ نفسه أنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلىٰ بينة ولا شهود ، وهذا كلام صحيح ، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (٢).

ولهذا استباح أبو بكر ردّ دعوىٰ الزهراء عليها‌السلام في النحلة ، ورفض شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام لها ، وادّعىٰ حديث منع الإرث ، ومنع سهم ذي القربىٰ عن

_______________________

١) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧٣. والعقد الفريد / ابن عبد ربه ٦ : ١٧١.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٤.


مستحقيه.

ومن هنا فقد اكتسبت نحلة الزهراء عليها‌السلام بعداً سياسياً ومعنىً رمزياً ، وهو الخلافة المغتصبة ، وتجاوزت كونها أرضاً وادعة في أطراف الحجاز قدّمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدية لابنته الزهراء عليها‌السلام بأمرٍ إلهي ، لتصبح غاية سياسية تستهدف استرداد حق مسلوبٍ ، وفضح سلطان متجبر غاشم ، وتنبيه أُمّة رجعت علىٰ أعقابها القهقهرىٰ ، فوردت غير مشربها ، وسقطت في الفتنة تاركة الكتاب والعترة النبوية وأضواء السُنّة المحمدية.

ويتضح المعنىٰ الرمزي لنحلة الزهراء عليها‌السلام في حديث الإمام الكاظم عليه‌السلام مع هارون الرشيد الذي نقله الزمخشري في ( ربيع الأبرار ) قال : كان الرشيد يقول لموسىٰ الكاظم بن جعفر عليه‌السلام : يا أبا الحسن ، حدُّ فَدَكَ حتىٰ أردّها عليك ، فيأبىٰ حتىٰ ألحّ عليه ، فقال : « لا آخذها إلّا بحدودها ، قال : وما حدودها ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن حددتها لم تردّها. قال : بحقّ جدّك إلّا فعلت. قال : أما الحدّ الأول : فعدن ، فتغير وجه الرشيد ، وقال : هيه ! قال : والحدّ الثاني : سمرقند ، فاربدّ وجهه ، قال : والحدّ الثالث : أفريقية ، فاسودّ وجهه ، وقال : هيه ! قال : والرابع سِيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينية.

قال الرشيد : فلم يبقَ لنا شيء ، فتحوّل في مجلسي. قال موسىٰ عليه‌السلام : قد أعلمتك أنّي إن حددتها لم تردّها » (١). فهي إذن رمز لحقّ مغتصب وخلافة مسلوبة.

ويتضح الهدف السياسي جليّاً في اختلاف وجهة النظر السياسية فيها

_______________________

١) ربيع الأبرار / الزمخشري ١ : ٣١٦. والمناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٢٠. وبحار الأنوار ٤٨ : ١٤٤ / ٢٠.


علىٰ مسار التاريخ : « فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين » فتاريخها لا يستقيم علىٰ نحو واحد ، وإنّما كان يجري علىٰ وفق أهواء السلطات السياسية ، ومطامع الحكام الشخصية ، ومواقفهم من أهل البيت عليهم‌السلام.

فقد أقطعها عثمان بن عفان لمروان بن الحكم (١) ، ولا ندري ما وجه تخصيص مروان بفدك ، فان كانت ميراثاً ففاطمة عليها‌السلام وأولادها أحقّ بها ، وإن كانت فيئاً ، فما وجه تخصيص مروان بها وهو طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن طريده ؟! هذا مع ما عرف عنه من مكرٍ وخداعٍ وانحرافٍ وعداءٍ لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

وروىٰ الجوهري بالاسناد عن ابن عائشة ، قال : حدثني أبي ، عن عمّه ، قال : لما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلث فدك ، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها ، وأقطع يزيد بن معاوية ، ثلثها ، وذلك بعد موت الحسن بن علي عليه‌السلام ، فلم يزالوا يتداولونها حتىٰ خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيام خلافته ، فوهبها لعبد العزيز ابنه ، فوهبها عبدالعزيز لابنه عمر بن عبدالعزيز ، فلمّا ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة ، كانت أول ظلامة ردّها ، دعا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وقيل : بل دعا علي بن الحسين عليه‌السلام فردّها عليه.

وكانت بيد أولاد فاطمة عليها‌السلام مدّة ولاية عمر بن عبدالعزيز ، فلمّا ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم. فصارت في أيدي بني مروان ، كما كانت يتداولونها ، حتىٰ انتقلت الخلافة عنهم ، فلما ولي أبو العباس السفاح ردّها

_______________________

١) السيرة الحلبية ٣ : ٥٠ ، شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦. العقد الفريد ٥ : ٣٣. وتاريخ أبي الفداء ٢ : ٧٩. والسنن الكبرىٰ / البيهقي ٦ : ٣٠١.


علىٰ عبدالله بن الحسن بن الحسن ، ثمّ قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث ، ثمّ ردها المهدي ابنه علىٰ ولد فاطمة عليها‌السلام ، ثمّ قبضها موسىٰ ابن المهدي وهارون أخوه ، فلم تزل في أيديهم حتىٰ ولي المأمون ، فردّها علىٰ الفاطميين ، وأنشد دعبل الأبيات التي أولها :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمونِ هاشمٍ فَدَكا

فلم تزل في أيديهم حتىٰ كان في أيام المتوكل ، فأقطعها عبدالله بن عمر البازيار ، وكان فيها إحدىٰ عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده ، فكان بنو فاطمة عليها‌السلام يأخذون تمرها ، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم ، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل ، فصرم عبدالله بن عمر البازيار ذلك التمر ، ووجّه رجلاً يقال له بشران بن أبي أُميّة الثقفي إلىٰ المدينة فصرمه ، ثمّ عاد إلىٰ البصرة ففلج (١).

وجميع هذه التقلّبات التي مرّ بها تاريخ فدك ، تحكي لنا البعد السياسي لمسألة فدك في التاريخ ، وتلقي الأضواء الكاشفة علىٰ قيمة الحديث الذي جاء به أبو بكر مضاداً لكتاب الله تعالىٰ وسُنّة رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. هذا فضلاً عمّا اثبتته الزهراء عليها‌السلام من استحواذ السلطة علىٰ ميراثها ولو بالكذب علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

المبحث الثاني : حال الزهراء عليها‌السلام ومواقفها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

كان الحزن هو المظهر البارز في حياة الزهراء عليها‌السلام بعد فقدها أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦ ـ ٢١٧. والسقيفة وفدك / الجواهري : ١٠٣. وراجع : فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥ ـ ٤٦. ومعجم البلدان / ياقوت ٤ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣. والطرائف / ابن طاووس : ٢٥٢ ـ ٢٥٣. والكامل في التاريخ ٣ : ٣٤٨ و ٤٥٧ و ٤٩٧ ، و ٥ : ٦٣ ، و ٧ : ١١٦.


فهي ابنته الوحيدة التي اُصيبت به ، فكانت أشدّ الناس تأثراً بهذا الخطب الجلل ، وتتّضح لنا سحابة الوجد والحزن التي جلّلت حياة الزهراء عليها‌السلام من ندبتها لاَبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تقول :

اغبرّ آفاق السماء وكوّرت

شمس النهار وأظلم العصرانِ

فالأرض من بعد النبي كئيبةٌ

أسفاً عليه كثيرة الرجفانِ

فليبكه شرق البلاد وغربها

ولتبكه مضرٌ وكلّ يمانِ (١)

قال الامام الصادق عليه‌السلام : « عاشت فاطمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كلّ جمعة مرتين : الاثنين والخميس ، فتقول : هاهنا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهاهنا كان المشركون ».

وفي رواية عنه عليه‌السلام : « أنّها كانت تصلّي هناك وتدعو حتىٰ ماتت » (٢).

وروي أن عليّاً عليه‌السلام بنىٰ لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة ، يسمىٰ بيت الأحزان ، أو بيت الحزن ، وهو باقٍ الىٰ هذا الزمان ، وهو الموضع المعروف بمسجد فاطمة عليها‌السلام في جهة قبة مشهد الحسن عليه‌السلام والعباس رضي‌الله‌عنه ، وإليه أشار الرحّالة ابن جبير بقوله : ويلي القبة العباسية بيت يُنسب لفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه هو الذي آوت إليه والتزمت فيه الحزن علىٰ موت أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكره الغزالي وغيره في زيارة

_______________________

١) العمدة / ابن رشيق ٢ : ٨١٦ ، إتحاف السائل / المناوي : ١٠٢ ، الثغور الباسمة / السيوطي : ٥٤ ، أعيان الشيعة ١ : ٢٢٣ ، أعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٣.

٢) الكافي / الكليني ٤ : ٥٦١ / ٤ و ٣ : ٢٢٨ / ٣ ، وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٥ / ٢٤.


البقيع ، وقال : ويصلّىٰ في مسجد فاطمة عليها‌السلام (١).

وقد اتخذت الزهراء عليها‌السلام من هذا المسجد محراباً للعبادة والدعاء كما تقدم ، وموضعاً للحزن والبكاء علىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال الامام الصادق عليه‌السلام : « أما فاطمة عليها‌السلام فبكت علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ تأذىٰ بها أهل المدينة ، فكانت تخرج الىٰ مقابر الشهداء فتبكي حتىٰ تقضي حاجتها ثمّ تنصرف » (٢).

إن دموع الزهراء عليها‌السلام تجسّد عمق المأساة التي حلّت بالاسلام بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلاريب أن موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب جليل ، انقطع به وحي السماء ، وذهب به معلّم الخير والرحمة ، وتكون المصيبة أعظم اذا انقلبت اُمّته علىٰ تعاليم السماء ووحيها ووصايا نبيّها ، وكان المتصدّون لمقامه علىٰ غير هدىً من نهجه ورسالته ، فذلك هو الموت الأخطر والمرارة الكبرىٰ التي ما انفكّت ترافق حياة الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقوّضت بقايا قوّتها ، وهدّت أركانها ، وجعلتها تذوب حتىٰ الممات.

عن أم سلمة : أنها سألت فاطمة عليها‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أصبحت يابنت رسول الله؟ قالت : « أصبحت بين كمد وكرب : فقد النبي ، وظلم الوصيّ » (٣).

عاشت الزهراء عليها‌السلام في سبيل الاسلام قبل أن تعيش لنفسها منذ عهد طفولتها حيث كانت تذبّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام طغام قريش وطغاتها ،

_______________________

١) راجع رحلة ابن جبير : ١٧٤ ، وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٧ و ٩١٨ ، أهل البيت / توفيق أبو علم : ١٦٧ ، بحار الانوار ٤٣ : ١٧٧.

٢) الخصال / الصدوق : ٢٧٢ / ١٥. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٩٨. وبحار الانوار ٤٣ : ١٥٥ / ١.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٢ : ٢٠٥ ، بحار الانوار ٤٣ : ١٥٦ / ٥.


وتجشّمت في هذا السبيل صنوف المصاعب والمعاناة ، وكان رائدها الصبر والتحمل في أحلك الظروف وأشدها قسوة ، وكان لها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مواقف سجلت فيها مواقع الريادة والقدوة في بيان الحق ، والدفاع عن المبادئ الاسلامية العليا ، والدعوة إلىٰ التمسك بالمسار الصحيح لامتداد النبوة المتمثل في خط الامامة الأصيل الذي خصّه الله تعالىٰ بعترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنبيه الأمة علىٰ شبح الانحراف الذي تنبأت بوقوعه في خطبتها عليها‌السلام ، هذا فضلاً عن بيان مظلوميتها وسخطها علىٰ من ظلمها ، وفيما يلي نذكر بعض هذه المواقف ونذكر في آخرها خطبتي الزهراء عليها‌السلام :

١ ـ المطالبة بحقوقها وبيان مظلوميتها :

انبرت الزهراء عليها‌السلام للمطالبة بالحقوق المالية المترتبة لها بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطالبت أيضاً بحقوق بني هاشم عامة ، وذلك حق طبيعي لكل مظلوم أن يدافع عن حقوقه المغتصبة ، وقد ذكرنا جملةً من هذه المطالبات في المبحث الاول.

والذي نودّ الإشارة إليه هنا ، هو هدف الزهراء عليها‌السلام من هذه المطالبات التي أدّت الىٰ مقاطعة رجال السلطة حتىٰ الممات وبعد الممات حسب وصيتها عليها‌السلام ، فهل كانت عليها‌السلام بحاجة ماسة الىٰ الأموال التي تجبىٰ من فدك ، أو هل اندفعت من أجل هدف مادي رخيص وحطام زائل ، وهي أول الناس لحاقاً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ ما أخبرها ؟!

هذا فضلاً عن أن الزهراء عليها‌السلام كان لديها من الأموال ما يغنيها عن المنازعة في فدك وغير فدك ، فقد أوقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوائط السبعة علىٰ


فاطمة عليها‌السلام (١) وذلك بعد أن بسط الاسلام نفوذه علىٰ سائر أنحاء الجزيرة وعمّت المسلمين حالة من الرخاء.

وقد جاء في وصيتها عليها‌السلام ما يدل علىٰ امتلاكها لتلك الحوائط وأموال أخرىٰ ، فقد روي عن الامام الباقر عليه‌السلام أنّه أخرج حُقاً أو سفطاً ، فأخرج منه كتاباً فقرأه ، وكان فيه : « بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... أوصت بحوائطها السبعة إلىٰ علي بن أبي طالب ، فان مضىٰ فإلىٰ الحسن ، فان مضىٰ فإلىٰ الحسين ، فان مضىٰ فإلىٰ الأكابر من ولدي ، شهد المقداد بن الاسود والزبير بن العوام ، وكتب علي بن أبي طالب ». وروي نحو ذلك عن الامام الصادق عليه‌السلام (٢).

وعليه فالزهراء عليها‌السلام أجلّ قدراً وأعلىٰ شأناً من أن تحرص علىٰ دنيا فانية أو حطام زائل ، فلابدّ إذن من أن تكون هناك أهداف اُخرىٰ تبتغيها من وراء تلك المطالبة ، وتتجلىٰ تلك الأهداف لمن تمعّن في قراءة خطبة الزهراء عليها‌السلام في المسجد النبوي وأمام الملأ من قريش والأنصار ، فلقد تهيأت لها عليها‌السلام الفرصة السانحة والمجال الرحب من خلال تلك المطالبات أن تدلي برأيها وتقوم بالمسؤولية الملقاة علىٰ عاتقها ، وتؤدي دورها الرسالي علىٰ أحسن مايرام وأمام الملأ ، فبيّنت أحقية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في قيادة الاُمة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكشفت عن اجتهاد السلطة في موضع النصّ ، فأظهرت حال السلطة أمام الملأ ، وألقت الحجة علىٰ الاُمة لتؤدي

_______________________

١) الكافي ٧ : ٤٧ / ١.

٢) الكافي / الكليني ٧ : ٤٨ ـ ٤٩ / ٥ ـ ٦ ، التهذيب / الطوسي ٩ : ١٤٤ / ٥٠ ، وراجع وصيتها في أموالها الاخرىٰ في دلائل الامامة للطبري : ١٢٩ ـ ١٣١ / ٣٩ ـ ٤١. وأوصت عليها‌السلام إلىٰ غير أولادها من بني هاشم وبني المطلب. راجع سنن البيهقي ٦ : ١٦١ و ١٨٣.


مسؤوليتها ، وكادت تلك المطالبة أن تؤدي اُكلها فتصفّي الحساب مع السلطة ، لولا أنهم سدّوا جميع الطرق التي تستحقّ بها تلك الحقوق ، لادراكهم بأنهم لو صدّقوا الزهراء عليها‌السلام في هذه القضية فانها ستبدأ جولة جديدة تطالب فيها بالخلافة.

ثم إن الزهراء عليها‌السلام لو سكتت عن مظلوميتها ولم تطالب بحقها لصار السكوت علىٰ الظالمين والتغاضي عن الحق سُنة ، ذلك لأنها عليها‌السلام قدوة واُسوة ، وإن فعلها لايتجافىٰ عن الحق لذلك اندفعت الىٰ ميدان الصراع ، وسلكت معترك الطريق ، ووقفت بكل مالديها من قوة بوجه الظلم لاسترداد حقها السليب ، مع ما بها من الضعف والانكسار والحزن والألم ، فأثبتت أن المرأة قادرة علىٰ الدفاع عن حقّها بل وحقّ غيرها ، وصارت فاطمة الزهراء عليها‌السلام راية المقاومة للظلم والدفاع عن المظلوم في كلّ زمان ومكان.

٢ ـ سخطها علىٰ ظالميها :

بعد أن دُفعت الزهراء عليها‌السلام عن جميع حقوقها المالية في نحلتها وإرثها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسهمها من الخمس ، اتخذت موقفاً حاسماً من الشيخين ، يدلّ علىٰ ظلامتها وكونها مخاصمة غير راضية عنهما حتىٰ لقيت ربّها وهي في ريعان الشباب وزهرة الصبا.

وقد قدّمنا أن الرواة اتفقوا علىٰ أن فاطمة عليها‌السلام غضبت علىٰ أبي بكر وعمر وهجرتهما ولم تكلمهما حتىٰ توفيت وهي ساخطة عليهما ، وأوصت أمير المؤمنين عليه‌السلام أن لايحضرا جنازتها ، ولا يصليا عليها ، وأن يُعفّىٰ قبرها ، فلمّا توفيت دفنها أمير المؤمنين ليلاً ، ولم يؤذن بها أحداً ممن ظلمها.


قال ابن قُريعة :

ولأي حــالٍ لحّدت

باليل فاطمة الشريفه

ولما حمت شيخيكم

عن وطأ حجرتها المنيفه

أوّه لبنت مـحمدٍ

ماتت بغصّتها أسيفه (١)

وهكذا جعلت عليها‌السلام من موتها وتشييع جنازتها ودفنها وسيلة جهادٍ وكفاحٍ ، تثير التساؤل عبر الأجيال في نفس كلّ مسلم غيور علىٰ الدين ومبادئه الحقّة ، كي يتوصل الىٰ الحقائق المثيرة من تاريخ تلك الحقبة المهمة ، لقد أرادت سلام الله عليها أن تقول إنها غاضبة علىٰ كل من لايعرف الحق ، ويتنكر لكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وحاول الشيخان إرضاء الزهراء عليها‌السلام فقال عمر لأبي بكر : انطلق بنا الىٰ فاطمة فانا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعاً ، فاستأذنا علىٰ فاطمة عليها‌السلام فلم تأذن لهما ، فأتيا علياً عليه‌السلام فكلماه ، فالتمسها فأذنت لهما ، فلمّا قعدا عندها ، حولت وجهها إلىٰ الحائط ، فقالت : « أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرفانه وتفعلان به ؟ » قالا : نعم.

فقالت : « نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ، ومن أرضىٰ فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ » قالا : نعم سمعناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قالت : « فاني اُشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن

_______________________

١) كشف الغمة / الاربلي ٢ : ١٣١.


لقيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأشكونكما اليه ».

فقال أبو بكر : أنا عائذ إلىٰ الله من سخطه وسخطك يافاطمة ، ثم انتحب أبو بكر يبكي حتىٰ كادت نفسه أن تزهق وهي تقول : « والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها » ، ثم خرج باكياً ، فاجتمع إليه الناس فقال لهم : يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي (١).

وروي أنه لما خرجا قالت عليها‌السلام لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « هل صنعت ما أردت ؟ » قال : « نعم ». قالت : « فهل أنت صانع ما آمرك به ؟ » قال : « نعم ». قالت : « فاني أنشدك الله إلّا يصليا علىٰ جنازتي ، ولا يقوما علىٰ قبري » (٢).

إنّ غضب الزهراء عليها‌السلام لم يكن ثأراً لنفسها ، أو لمسائل شخصية بينها وبين الشيخين ، ولو كان كذلك لرضيت عنهما ، إنها غضبت للتجاوز علىٰ حرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والانقلاب علىٰ الأعقاب ونبذ الكتاب ، ولهذا فقد أنفت ابنة الرسول أن تذكر ما حدث لها شخصياً من حرق بيتها وضربها وإسقاط محسنها في خطبتها الشهيرة ، وركزت علىٰ المسائل الأساسية التي أثارت في نفسها الوجد والسخط والغضب.

ولو لمست عليها‌السلام تغييراً في موقف الشيخين ممّا ارتكباه ، أو تصحيحاً للمسار الذي انتهجاه ، لسارعت الىٰ الاذن لهما والرضا عنهما.

وقد تواتر عن أبناء الزهراء عليها‌السلام ـ معصومين وغيرهم ـ غضبها علىٰ

_______________________

١) الامامة والسياسة : ١٣ ـ ١٤ ، أعلام النساء / كحالة ٤ : ١٢٣ ـ ١٢٤ ، وراجع دلائل الإمامة / الطبري : ١٣٤ ، بحار الانوار ٤٣ : ١٧٠ و ١٨٩ ـ ١٩٩.

٢) شرح ابن ابي الحديد ١٦ : ٢٨١ ، الشافي / المرتضىٰ ٤ : ١١٥.


الشيخين وسخطها عليهما لسوء صنيعهما المتعمّد معها حتىٰ قضت نحبها وهي علىٰ هذا الحال.

عن الامام الرضا عليه‌السلام قال : « كانت لنا اُمٌّ صالحة ، وهي عليهما ساخطة ، ولم يأتنا بعد موتها خبر أنها رضيت عنهما » (١).

وعن داود بن المبارك ، قال : أتينا عبدالله بن موسىٰ بن عبدالله بن الحسن ابن الحسن ، ونحن راجعون من الحج في جماعة ، فسألناه عن مسائل ، وكنت أحد من سأله ، فسألته عن أبي بكر وعمر ، فقال : أجيبك بما أجاب به جدي عبدالله بن الحسن ، فانه سُئل عنهما فقال : كانت اُمّنا صدّيقة ابنة نبي مرسل وماتت وهي غضبىٰ علىٰ قومٍ ، فنحن غضاب لغضبها.

وقد أخذ هذا المعنىٰ أحد شعراء الطالبيين من أهل الحجاز ، فقال :

يا أبا حفص الهوينىٰ وما كنت

ملياً بذاك لولا الحمام (٢)

أتموت البتول غضبىٰ ونرضىٰ

ما كذا يصنع البنون الكرام (٣)

وسيبقىٰ موقف الزهراء عليها‌السلام درساً يعلم الأجيال الاستبسال في الدفاع عن الحق والوقوف بوجه الظلم وعدم الركون إلىٰ القهر والاستبداد.

_______________________

١) الطرائف / ابن طاووس : ٢٥٢ / ٣٥١.

٢) أي ما كنت قادراً علىٰ أن تلج بيت فاطمة عليها‌السلام علىٰ الوجه الذي ولجت فيه ، لولا موت أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٩. والسقيفة وفدك : ١١٦.


٣ ـ الدفاع عن الولاية والإمامة :

تقدّم أنّ أهمّ الأهداف التي توخّتها الزهراء عليها‌السلام في مطالباتها المالية ، هو الدفاع عن ولاية أهل البيت عليهم‌السلام وإثبات أحقيتهم في قيادة الاُمّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتضح ذلك من خلال خطبة الزهراء عليها‌السلام في المسجد النبوي ، وخطبتها الاُخرىٰ بنساء المدينة ، وفي مواقف اُخرىٰ متعددة ، أدّت فيها واجبها الرسالي في الدفاع عن إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ففي خطبتها الاُولىٰ ذكرت ولاية أهل البيت عليهم‌السلام كفرض إلهي لا يختلف عن سائر الواجبات والفروض التي عدّدتها في الخطبة وبينت العلة من إيجابها ، قالت عليها‌السلام : « فجعل الله طاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامتنا أماناً من الفرقة ».

وأكّدت عليها‌السلام علىٰ ذكر فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وتقدّمه علىٰ سواه بالعلم والشجاعة ، فقالت عليها‌السلام : « أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي » وقالت عليها‌السلام : « كلّما فغرت فاغرة المشركين ، قذف أخاه عليّاً في لهواتها ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون ، فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال ». وقالت عليها‌السلام في خطبتها الثانية : « وما الذي نقموا من أبي الحسن ، نقموا منه والله نكير سيفه ، وقلّة مبالاته بحتفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله ».

وأشارت عليها‌السلام إلىٰ أحقية أمير المؤمنين عليه‌السلام في خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفضله علىٰ غيره ، فقالت عليها‌السلام في خطبتها الاُولىٰ : « وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ». وقالت عليها‌السلام في خطبتها الثانية : « ويحهم أنّىٰ زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والدلالة ، ومهبط الروح الأمين ، والطّبين بأمور الدنيا والدين ».


وذكرت عليها‌السلام النصّ علىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام بالتلميح الذي هو أقوىٰ من التصريح حيث قالت عليها‌السلام في خطبتها الثانية : « وتالله لو تكافّوا عن زمامٍ نبذه إليه رسول الله لاعتقله ، ثمّ لسار بهم سيراً سجحاً ».

ونبّهت عليها‌السلام علىٰ أنّ الاختيار غير صحيح بقولها في خطبتها الاُولىٰ : « فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لمّا يقبر ، بداراً زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ».

وقالت عليها‌السلام في خطبتها الثانية : « استبدلوا والله الذنابىٰ بالقوادم ، والعجز بالكاهل » وقالت عليها‌السلام فيها أيضاً : « ليت شعري إلىٰ أي لجأ لجأوا ، وإلىٰ أي سنادٍ استندوا ، وعلى أيّ عمادٍ اعتمدوا ، وبأيّ عروةٍ تمسّكوا ، وعلىٰ أيّ ذريةٍ قدّموا واحتنكوا ؟! ».

وللزهراء عليها‌السلام مواقف اُخرىٰ في الدفاع عن الإمامة ، منها مارواه الجوهري عن الإمام محمد بن علي الباقر عليه‌السلام قال : « إنّ عليّاً عليه‌السلام حمل فاطمة عليها‌السلام علىٰ حمارٍ ، وسار بها ليلاً إلىٰ بيوت الأنصار ، يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة عليها‌السلام الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به. فقال علي عليه‌السلام أكنت أترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ميتاً في بيته لا أُجهزه ، وأخرج إلىٰ الناس أُنازعهم سلطانه ! وقالت فاطمة عليها‌السلام : ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه » (١).

وخروج الزهراء عليها‌السلام ليلاً مع شدة اللوعة التي تنتابها لفقد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ١٣. والإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٢.


وضعف حالها ، وقوة السلطة في ملاحقة من يعارضها ، إنّما هو أداء لدورٍ رسالي يقتضيه الواجب الاسلامي المقدس في حفظ العقيدة الحقّة من الضياع والانحراف ، وفي ذلك درس بليغ لنا حقيق بالاقتداء وخليق بالاحتذاء.

وكان للأنصار موقف من السلطة أقلّه الندم علىٰ البيعة ، وأعلاه الهتاف باسم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأنّىٰ يكون ذلك لولا خروج الزهراء عليها‌السلام تطلب نصرتهم ، وخطبتها عليها‌السلام التي ذكّرت فيها وحذّرت.

عن عبدالرحمن بن عوف ، قال : لما بويع أبو بكر واستقرّ أمره ، ندم قومٌ كثيرٌ من الأنصار علىٰ بيعته ولام بعضهم بعضاً ، وذكروا علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهتفوا باسمه (١).

٤ ـ خطبتا فاطمة عليها‌السلام :

الخطبة الاُولىٰ : كانت بعد عشرة أيام من وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي خطبة طويلة غاية في الفصاحة والبلاغة والمتانة والشهرة ، قال الاربلي رضي‌الله‌عنه : إنّها من محاسن الخطب وبدائعها ، عليها مسحة من نور النبوة ، وفيها عبقة من أرج الرسالة (٢).

وكلام الزهراء عليها‌السلام في هذه الخطبة قد تناقله المؤرخون والرواة وأرباب الأدب والبلاغة خلفاً عن سلف ، ناهيك عن أن أهل البيت عليهم‌السلام وعموم آل أبي طالب كانوا يتناقلونه ويعلمونه أولادهم ، عن زيد بن علي بن الحسين

_______________________

١) الموفقيات / الزبير بن بكار : ٥٨٣ / ٣٨٢.

٢) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٧٩.


ابن زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن علي عليه‌السلام ، وهو زيد الأصغر ، من أصحاب الإمام الهادي عليه‌السلام ، قال : رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ، ويعلمونه أولادهم ، وقد حدثني به أبي عن جدّي يبلغ به فاطمة عليها‌السلام (١).

لقد اندفعت فاطمة عليها‌السلام في مظاهرة نسائية من بيتها إلىٰ المسجد النبوي ، وهو حاشد بالمهاجرين والأنصار ، فاختارت الكلمة بما تحمله من حجة بالغة وبرهان ساطع سلاحاً للمواجهة وشحذ الهمم ، كي تعرّي أُسس السقيفة وتزعزع كيانها ، فكانت أذكىٰ من نار عمر ، إذ أقرحت العيون ، وأثارت العواطف ، وكسبت الرأي العام حتىٰ هتف الأنصار بذكر علي عليه‌السلام ، مما أثار حفيظة أبي بكر ، خوفاً من اضطراب الأمر عليه ، فبالغ في نهيهم (٢) معرّضاً بأمير المؤمنين عليه‌السلام مبدياً ما كان يكتم علىٰ ما سيأتي بيانه في محلّه.

والخطبة ذات مضامين عالية وسبك لغوي لا يصدر إلّا عن أهل البيت الذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب ، وأهمّ مضامينها هو تنبيه الاُمّة علىٰ غفلاتها عن حالة الانقلاب علىٰ الاعقاب والإحداث بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتنازعت سلطانه تاركة أولياءه وعترته وكتابه وسنته « فلمّا اختار الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دار أنبيائه ومأوىٰ أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ».

« أنّىٰ تؤفكون وهذا كتاب الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة... قد خلّفتموه وراء ظهوركم »

_______________________

١) الشافي / المرتضىٰ ٤ : ٧٦. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٥٢.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٥.


« تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء نور الدين الجلي ، وإهماد سنن النبي الصفي » ثم ذكرت عليها‌السلام الاستيلاء علىٰ إرث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمصداق للاجتهاد في موضع النص ، وقالت عليها‌السلام : « أفعلىٰ عمدٍ تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ ».

وتحدّت رأس السلطة « فدونكها مخطومة مرحولة ، تكون معك في قبرك ، وتلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، ونعم الزعيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ».

وألقت الحجة علىٰ الاُمّة ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيي منهم عن بينة « ألا وقد قلت ما قلت ، علىٰ معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم... ولكنها فيضة النفس... وتقدمة الحجة ».

« وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنّا منتظرون ».

والخطبة الثانية : كانت في الأيام التي اشتدّت فيها علّة الزهراء عليها‌السلام وقبل أن تودّع الحياة ، وهي كلمة بليغة تهزّ القلوب والمشاعر ، ألقتها علىٰ مسامع نساء المدينة اللواتي هرعن لعيادتها ، ألقت فيها الحجة البالغة علىٰ نساء اولئك الرجال الذين استصرختهم بالأمس في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم تجد منهم ناصراً ولا مغيثاً لانتزاع حقوق عترة المصطفىٰ المغتصبة ، والتي علىٰ رأسها حق علي عليه‌السلام في الخلافة ، حيث تناولت في هذه الخطبة عتاباً وتقريعاً لهم لعزوفهم عن ولاية علي عليه‌السلام ، وأقامت الأدلة والشواهد علىٰ حق أمير المؤمنين عليه‌السلام وعظم شأنه وأهليته ، وأخيراً أشرفت علىٰ المستقبل الذي ينتظرهم بما يحمل من ذلٍّ وهوانٍ واستبدادٍ من الظالمين لما قدّمت


أيديهم ، وفيما يلي نصّ الخطبتين.

أولاً : خطبة الزهراء عليها‌السلام في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

روىٰ خطبة الزهراء عليها‌السلام في المسجد النبوي جمع من أعلام الشيعة والعامّة بطرق متعدّدة تنتهي بالاسناد عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده عليهم‌السلام ، وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام عن أبيه الباقر عليه‌السلام ، وعن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، وعن عبدالله بن الحسن ، عن أبيه ، وعن زيد بن علي ، عن زينب بنت الحسين عليه‌السلام ، وعن رجالٍ من بني هاشم ، عن زينب بنت علي عليها‌السلام ، وعن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالوا : لمّا بلغ فاطمة عليها‌السلام اجماع أبي بكر علىٰ منعها فَدَكَ ، وانصرف عاملها منها ، لاثت خمارها علىٰ رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمّةٍ من حفدتها (١) ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم (٢) مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدخلت عليه وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة (٣) ، فجلست ثمّ أنّت أنّةً أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت هنيهة ، حتىٰ إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة علىٰ رسوله أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعاد القوم في بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها ، فقالت كلاماً طويلاً في الحمد والثناء والتمجيد ، والصلاة علىٰ الرسول المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم التفتت إلىٰ أهل المجلس وقالت : « أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ،

_______________________

١) أعوانها وخدمها.

٢) ما تترك ولا تنقص.

٣) إزار.


وحماة دينه ووحيه ، وأُمناء الله علىٰ أنفسكم ، وبلغاؤه إلىٰ الاُمم ، وزعيم حقّ له فيكم ، وعهد قدّمه إليكم ، وبقية استخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بيّنة بصائره ، منكشفة سرائره ، متجلّية ظواهره ، مغتبطة به أشياعه ، قائد إلىٰ الرضوان أتباعه ، مؤدٍّ إلىٰ النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنوّرة ، وعزائمه المفسّرة ، ومحارمه المحذّرة ، وبيّناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة.

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ، ونماءً في الرزق ، والصيام تثبيتاً للاخلاص ، والحج تشييداً للدين ، والعدل تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامتنا أماناً من الفرقة ، والجهاد عزّاً للإسلام ، وذلاً لأهل الكفر والنفاق ، والصبر معونةً علىٰ استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحةً للعامّة ، وبرّ الوالدين وقايةً من السخط ، وصلة الأرحام منسأةً في العمر ، والقصاص حقناً للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة (١) ، وترك السرقة إيجاباً للعفّة ، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية فـ ( اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (٢) وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فـ ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) (٣).

ثم قالت : أيُّها الناس أعلموا أني فاطمة وأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أقولها عوداً

_______________________

١) إشارة إلىٰ قوله تعالىٰ في حقّ من يرمون المحصنات : ( لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ )

٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٢.

٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٨.


على بدءٍ ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (١) فإن تَعزُوه (٢) تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المَعزيّ إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فبلّغ الرسالة ، صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن مدرجة المشركين ، ضارباً ثَبَجَهم (٣) ، آخذاً بكظمهم ، داعياً إلىٰ سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يجذّ (٤) الأصنام ، وينكت الهام ، حتىٰ انهزم الجمع وولّوا الدبر ، وحتّىٰ تفرّىٰ الليل عن صُبحه ، وأسفر الحقّ عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وانحلّت عقدة الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص ، في نفرٍ من البيض الخماص.

وكنتم علىٰ شفا حفرةٍ من النار ، مَذقة الشارب ، ونُهزة (٥) الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطىء الأقدام ، تشربون الطَّرق (٦) ، وتقتاتون القِدّ (٧) ، أذلّةً خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالىٰ بأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد اللُّتيا والتي (٨) ، وبعد أن مُني ببُهم (٩) الرجال ، وذؤبان (١٠)

_______________________

١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٨.

٢) تنسبوه.

٣) الثَبَج : وسط الشيء ومعظمه ، وما بين الكاهل إلىٰ الظهر من الإنسان.

٤) يكسر.

٥) فرصة.

٦) الماء تخوض فيه الإبل وتبول وتبعر.

٧) السير من الجلد.

٨) أي الدواهي الصغيرة والكبيرة.

٩) شجعان.

١٠) لصوص وصعاليك.


العرب ، ومردة أهل الكتاب ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ) (١) أو نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرةٌ من المشركين ، قذف أخاه عليّاً في لهواتها ، فلا ينكفىء حتىٰ يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سيّداً في أولياء الله ، مشمّراً ناصحاً ، مجّداً كادحاً ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفّون (٢) الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال.

فلمّا اختار الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دار أنبيائه ومأوىٰ أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة (٣) النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم (٤) فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يُقبَر ، بداراً زعمتم خوف الفتنة ( أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) (٥).

_______________________

١) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.

٢) تتوقعون أخبار السوء.

٣) عداوة وضغينة.

٤) أغضبكم.

٥) سورة التوبة : ٧ / ٤٩. وفي هذا المقطع من الخطبة إشارة إلىٰ قول أبي بكر في خطبته : ( والله ما كنت حريصاً علىٰ الإمارة يوماً ... ولكني أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، ولكنّي


فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنّىٰ تؤفكون ، وهذا كتاب الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، قد خلّفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تدبرون ، أم بغيره تحكمون ؟ ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) (١) ، ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (٢).

ثمّ لم تلبثوا إلّا ريثما تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثمّ أخذتم توردون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء نور الدين الجلي ، وإهماد سنن النبي الصفي ، تسرّون حَسواً في ارتغاء (٣) ، ونصبر منكم علىٰ مثل حَزّ المُدىٰ ، ووخز السنان في الحشا.

وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي من أبي ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٤) أفلا تعلمون ؟ بلىٰ قد تجلّىٰ لكم كالشمس الضاحية أني ابنته.

أيهاً (٥) أيُّها المسلمون ، أأُغلب علىٰ إرثي ؟! يا ابن أبي قحافة ، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئاً فرياً ، أفعلىٰ عمدٍ تركتم كتاب

_______________________

قلّدت أمراً عظيماً مالي به طاقة ولا يد ) راجع مستدرك الحاكم ٣ : ٦٦. وكنز العمال ٥ : ١٩٧. البيهقي ٨ : ١٥٢.

١) سورة الكهف : ١٨ / ٥٠.

٢) سورة آل عمران : ٣ / ٨٥.

٣) مثل يضرب لمن يظهر أمراً ويريد غيره.

٤) سورة المائدة : ٥ / ٥٠.

٥) اسم فعل يراد به الحثّ والتحريض ، وبكسر أوله الكفّ والاسكات.


الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم ؟! إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ ) (١) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيىٰ بن زكريا عليه‌السلام إذ يقول : ( فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢) ، وقال : ( وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ) (٣) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ) (٤) ، وقال : ( إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ )(٥).

وزعمتم أن لاحظوة لي ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! أم تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان ؟! أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟!

فدونكها مخطومة مرحولة ، تكون معك في قبرك ، وتلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، ونعم الزعيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون و ( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) (٦) ، ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (٧) ».

_______________________

١) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.

٢) سورة مريم : ١٩ / ٤ ـ ٦.

٣) سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.

٤) سورة النساء : ٤ / ١١.

٥) سورة البقرة : ٢ / ١٨٠.

٦) سورة الأنعام : ٦ / ٦٧.

٧) سورة هود : ١١ / ٣٩. وسورة الزمر : ٣٩ / ٣٩ ـ ٤٠.


مخاطبة الأنصار :

ثمّ رمت بطرفها نحو الأنصار ، فقالت : « يا معشر الفتية ، وأعضاد الملّة ، وحَضَنة الإسلام ، ما هذه الغَميزة (١) في حقّي ، والسِّنة عن ظلامتي ؟! أما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبي يقول : المرء يحفظ في ولده ؟ سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة (٢) ولكم طاقة بما أُحاول ، وقوة علىٰ ما أطلب وأُزاول.

أتقولون مات محمد ، لعمري فخطب جليل ، استوسع وهيه (٣) ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، وكسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، وأكدت (٤) الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأُذيلت (٥) الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرىٰ ، والمصيبة العظمىٰ التي لا مثلها نازلة ، ولا بائقة (٦) عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جلّ ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم ، هتافاً وصراخاً ، وتلاوةً وألحاناً (٧) ، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله ، حكم فصل ، وقضاء حتم ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) (٨).

أيهاً بني قَيْلة (٩) ، أأهضم تراث أبي ؟! وأنتم بمرأىٰ مني ومسمع ، ومنتدىٰ

_______________________

١) ضعف العمل.

٢) مثل يراد به ما أسرع ما كان هذا الأمر !

٣) شقّه وخرقه.

٤) أخفقت.

٥) اُهينت ، ويروىٰ : أُزيلت ، بالزاي.

٦) داهية.

٧) فتح الهمزة أي غناءً ، أو بكسرها بمعنىٰ الإفهام.

٨) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٤.

٩) الأنصار من الأوس والخزرج ، وقَيْلة بنت كاهل : أمّهم.


ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والعدّة ، والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجُنّة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنُّخبة التي انتُخبت ، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت.

قاتلتم العرب ، وتحمّلتم الكدّ والتعب ، وناطحتم الاُمم ، وكافحتم البُهم ، فلا نبرح ولا تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتىٰ إذا دارت بنا رحىٰ الإسلام ، ودرّ حَلَب الأيام ، وخضعت نُعَرة (١) الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهَرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّىٰ جرتم بعد البيان ، وأسررتم بعد الاعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان ( أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )(٢).

ألا قد أرىٰ أن قد أخلدتم إلىٰ الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وركنتم إلىٰ الدَّعَة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ، ودسعتم (٣) الذي تسوّغتم ( إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ )(٤).

ألا وقد قلت ما قلت علىٰ معرفةٍ مني بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنّها فيضة النفس ونفثة الغيظ ، وخور القَنَا ، وبثّة الصدر ،

_______________________

١) الكِبَر.

٢) سورة التوبة : ٩ / ١٢.

٣) تقيأتم.

٤) سورة إبراهيم : ١٤ / ٨.


وتَقدِمة الحُجّة.

فدونكموها فاحتقبوها دَبِرة الظهر ، نَقِبة الخُفّ ، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار (١) الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة ، التي تطّلع علىٰ الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) وأنا ابنة نذيرٍ لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا إنا عاملون ، وانتظروا إنا منتظرون ».

جواب أبي بكر :

يا ابنة رسول الله ، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً ، رؤوفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً ، وعقاباً عظيماً ، فان عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخاً لبعلك دون الأخلّاء ، آثره علىٰ كلّ حميم ، وساعده في كلّ أمرٍ جسيم ، لا يحبّكم إلّا كل سعيد ، ولا يبغضكم إلّا كلّ شقيّ ، فأنتم عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الطيبون ، والخيرة المنتجبون ، علىٰ الخير أدلّتنا ، وإلىٰ الجنة مسالكنا ، وأنتِ يا خيرة النساء ، وابنة خير الأنبياء ، صادقةٌ في قولك ، سابقةٌ في وفور عقلك ، غير مردودةٍ عن حقّك ، ولا مصدودة عن دقك.

والله ما عدوت رأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا عملت إلّا بإذنه ، وإن الرائد لا يكذب أهله ، فإنّي أُشهد الله ، وكفىٰ به شهيداً أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ، ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة ، وما لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه ».

_______________________

١) عيب وعار.

٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٢٧.


وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح ، يقاتل به المسلمون ، ويجاهدون الكفار ، ويجالدون المَرَدَة الفُجّار ، وذلك باجماع من المسلمين ، لم أتفرد به وحدي ، ولم استبدّ بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك ، لا تزوىٰ عنك ، ولا تُدّخر دونك ، وأنت سيدة أُمّة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا يدفع ما لكِ من فضلك ، ولا يوضع من فرعك وأصلك ، وحكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين أني أُخالف في ذلك أباك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

جواب الزهراء عليها‌السلام :

« سبحان الله ! ما كان أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتاب الله صادفاً ، ولا لأحكامه مخالفاً ، بل كان يتّبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون علىٰ الغدر اعتلالاً عليه بالزور ؟! وهذا بعد وفاته ، شبيه بما بُغي له من الغوائل في حياته.

هذا كتاب الله حَكَماً عدلاً ، وناطقاً فصلاً ، يقول : ( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (١) ويقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ )(٢) فبيّن عزّ وجل فيما وزّع من الأقساط ، وشرّع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظّ الذُّكران والإناث ، ما أزاح علّة المبطلين ، وأزال التظنّي (٣) والشُّبهات في الغابرين ، كلا ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ) (٧) ».

_______________________

١) سورة مريم : ١٩ / ٩.

٢) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.

٣) إعمال الظنّ.

٤) سورة يوسف : ١٢ / ١٨.


جواب أبي بكر :

صدق الله ، وصدق رسوله ، وصدقت ابنته ، أنتِ معدن الحكمة ، وموطن الهدىٰ والرحمة ، وركن الدين ، لا أُبعد صوابك ، ولا أُنكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك ، قلّدوني ما تقلّدت ، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت ، غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود.

خطاب الزهراء عليها‌السلام لعامّة الناس :

فالتفتت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ الناس وقالت : « معاشر الناس المسرعة إلىٰ قيل الباطل ، المغضية علىٰ الفعل القبيح الخاسر ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )(١) كلا بل ران علىٰ قلوبهم ، ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ، لبئس ما تأوّلتم ، وساء ما به أشرتم ، وشرّ ما منه اعتضتم ، لتجدنّ والله محمله ثقيلاً ، وغبّه (٢) وبيلاً ، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ما وراء الضَّراء (٣) وبدا لكم من ربّكم مالم تكونوا تحتسبون ، وخسر هنالك المبطلون » (٤).

_______________________

١) سورة محمد : ٤٧ / ٢٤.

٢) عاقبته.

٣) الشجر الملتفّ ، وهو كناية عمّا يبدو لهم بعد الموت من سوء ما قدمت أيديهم.

٤) روىٰ خطبة الزهراء عليها‌السلام ابن طيفور في بلاغات النساء : ٢١. والسيد المرتضىٰ في الشافي ٤ : ٦٩ ـ ٧٧. والشيخ الطوسي في تلخيص الشافي ٣ : ١٣٩ ـ ١٤٣ عن المرزباني بطريقين ، والطبري في الدلائل : ١٠٩ / ٣٦ بتسعة طرق. والخوارزمي في مقتل الحسين عليه‌السلام ١ : ٧٧ عن الحافظ أبي بكر أحمد بن مردويه. وابن الأثير في منال الطالب في شرح طوال الغرائب : ٥٠١ ـ ٥٠٧. والسيد ابن طاووس في الطرائف : ٢٦٣ / ٢٦٨ عن كتاب الفائق عن الأربعين للشيخ أسعد ابن


ندبتها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ثمّ عطفت علىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت :

قـد كـان بعدك أنباء وهنبثة (١)

لو كنت شاهدها لـم تكثر الخطبُ

إنـا فقدناك فقـد الأرضِ وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا (٢)

أبدى رجالٌ لنا نجوى صدورهم

لمّا مضيتَ وحـالت دونك التُّربُ

تجهّمتنـا رجـالٌ واستخفّ بنـا

لمّا فقدت وكـلّ الإرث مـغتصبُ

وكنتَ بدراً ونوراً يُستضاء بـه

عـليك تنزل من ذي العزّة الكتبُ

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا

فقد فقـدت وكـلّ الخيـر مـحتجبُ

فليت قبلك كان الموت صادفنـا

لمّا مضيت وحـالت دونك الكُثبُ

إنا رُزئنا بما لم يُرزَ ذو شجـنٍ

من البرية لا عُجم ولا عَربُ (٣)

_______________________

سقروة ، عن الحافظ ابن مردويه في كتاب المناقب ، والاربلي في كشف الغمة ١ : ٤٨٠ عن كتاب السقيفة للجوهري من نسخة قديمة مقروءة علىٰ مؤلفها في ربيع الآخر من سنة ٣٢٢ هـ. والطبرسي في الاحتجاج : ٩٧. وابن أبي الحديد في شرح النهج ١٦ : ٢١١ ـ ٢١٣ و ٢٤٩ و ٢٥٢ بعدة طرق. والمجلسي في بحار الأنوار ٢٩ : ٢٢٠ / ٨ بعدة طرق. وكحالة في أعلام النساء : ٣ : ١٢٠٨. وروى بعض مقاطعها الشيخ الصدوق في علل الشرائع : ٢٤٨ / ٢ و ٣ و ٤ بعدة طرق ، وأشار لها المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٠٤.

١) الاختلاط في القول ، والامور الشدائد.

٢) عدلوا ومالوا.

٣) رويت في أغلب المصار المتقدمة مع اختلاف في بعض ألفاظها وعدد أبياتها ، وراجعها أيضاً في أمالي المفيد : ٤١ / ٨. والسقيفة وفدك / الجوهري : ٩٩. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٣٣٢.


قال الراوي : ثمّ ذهبت فتبعها رافع بن رفاعة الزرقي ، فقال لها : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن تكلّم في هذا الأمر ، وذكر للناس قبل أن يجري هذا العقد ، ما عدلنا به أحداً. فقالت عليها‌السلام : « إليك عنّي ، فما جعل الله لاَحدٍ بعد غدير خمٍّ من حجّة ولا عذر ».

قال : فما رأينا يوماً كان أكثر باكياً ولا باكية من ذلك اليوم (١) ، وارتجّت المدينة ، وهاج الناس ، وارتفعت الأصوات (٢).

علىٰ أثر الخطبة :

كان لخطبة الزهراء عليها‌السلام أثر بالغ ومحرّك لنفوس الناس ، سيّما الأنصار منهم ، لما تحمله تلك الخطبة من الواقعية والصدق والاستناد إلىٰ أُسس متينة قوامها الكتاب الكريم والسُنّة النبوية المباركة ، في بيان مظلوميتها وفي إشادتها بفضل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وأحقيته في خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا جعل الأنصار يهتفون باسم علي عليه‌السلام ، فاستشعر رجال السقيفة الخطر من هذه البادرة ، فنادىٰ أبوبكر الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فأرعد وأبرق.

روىٰ الجوهري عن جعفر بن محمد بن عمارة بعدة طرق ، قال : لما سمع أبو بكر خطبتها شقّ عليه مقالتها ، فصعد المنبر وقال : أيُّها الناس ، ما هذه

_______________________

وغريب الحديث / ابن قتيبة ٢ : ٢٦٧ / ٣٥٥ دار الكتب العلمية. والكافي ٨ : ٣٧٥ / ٥٦٤. والمناقب / ابن شهرآشوب ٢ : ٢٠٨. والبدء والتاريخ / المقدسي ٥ : ٦٨. والطرائف / ابن طاووس : ٢٦٥. ومنال الطالب / ابن الأثير : ٥٠٧.

١) بلاغات النساء : ٢٣. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٥٣.

٢) دلائل الإمامة : ١٢٢.


الرِّعة (١) إلىٰ كلِّ قالة ؟! ومع كلّ قالة أُمنية ، أين كانت هذه الأماني في عهد نبيكم ؟! ألا من سمع فليقل ، ومن شهد فليتكلم ، إنّما هو ثُعالة شهيده ذنبه ، مربّ لكلِّ فتنةٍ ، هو الذي يقول : كرّوهاً جذعةً بعدما هرمت ، يستعينون بالضعفة ، ويستنصرون بالنساء ، كأُمّ طِحال (٢) أحبّ أهلها إليها البغيّ !!!

ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت ، ولو قلت لبحت ، وإنّي ساكت ما تُركِت.

ثم التفت إلىٰ الأنصار فقال : قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم ، فو الله إنّ أحقّ الناس بلزوم عهد رسول الله أنتم ، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم ، وأنتم اليوم أحقُّ من لزم عهده ، ومع ذلك فاغدوا علىٰ أُعطياتكم ، فإنّي لست كاشفاً قناعاً ، ولا باسطاً ذراعاً ولا لساناً إلّا علىٰ من استحقّ ذلك والسلام ؛ ثم نزل فانصرفت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ منزلها (٣).

قال ابن أبي الحديد : قرأت هذا الكلام علىٰ النقيب أبي يحيىٰ جعفر ابن يحيىٰ بن أبي زيد البصري ، وقلت له : بمن يعرّض ؟ فقال : بل يصرّح. قلت : لو صرّح لم أسألك ، فضحك وقال : بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام. قلت : هذا الكلام كلّه لعليّ يقوله ! قال : نعم ، إنّه الملك يا بني. قلت : فما مقالة الأنصار ؟ قال : هتفوا بذكر علي عليه‌السلام فخاف من اضطراب الأمر عليهم فنهاهم (٤).

ثانياً : خطبة الزهراء عليها‌السلام بنساء المهاجرين والأنصار :

تظافرت الروايات عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام وعبدالله

_______________________

١) الرعة : الاستماع والإصغاء.

٢) أم طحال : أمرأة بغي في الجاهلية ، يقال في المثل : أزنىٰ من أمّ طِحال.

٣) دلائل الإمامة : ١٢٣. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٥.

٤) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٥.


ابن عباس ، وسويد بن غفلة ، وعبدالله بن الحسن عن أُمّه فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام قالوا : لمّا مرضت فاطمة الزهراء عليها‌السلام المرضة التي توفيت فيها ، واشتدّت علّتها ، اجتمعت إليها نساء المهاجرين والأنصار ليعدنها ، فسلّمن عليها ، وقلن : كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول الله ؟ فحمدت الله تعالىٰ وصلّت علىٰ أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قالت : « أصبحت والله عائفة لدنياكنّ ، قالية لرجالكنّ ، لفظتهم بعد أن عجمتهم (١) ، وشنأتهم بعد أن سبرتهم (٢) ، فقبحاً لفلول الحدّ ، واللعب بعد الجدّ ، وقرع الصفاة ، وصدع القناة ، وخطل الآراء ، وزلل الأهواء ، و ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) (٣) لا جرم والله ، لقد قلّدتهم ربقتها ، وحمّلتهم أوقتها (٤) ، وشننت عليهم غارتها ، فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين.

ويحهم أنّىٰ زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والدلالة ، ومهبط الروح الأمين ، والطَّبين (٥) بأمور الدنيا والدين ؟! ( أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )(٦).

وما الذي نقموا من أبي الحسن ؟! نقموا منه والله نكير سيفه ، وقلّة مبالاته بحتفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله عزَّ وجل.

_______________________

١) اختبرتهم وابتليتهم.

٢) اختبرتهم وامتحنتهم.

٣) سورة المائدة : ٥ / ٨٠.

٤) ثقلها.

٥) الفطن الحاذق.

٦) سورة الزمر : ٣٩ / ١٥.


وتالله لو تكافّوا عن زمامٍ نبذه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاعتقله (١) ثمّ لسار بهم سيراً سُجحاً (٢) ، لا يُكلم خشاشه ، ولا يكلّ سائره ، ولا يملّ راكبه ، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً فضفاضاً ، تطفح ضفتاه ، ولا يترنّق (٣) جانباه ، ولأصدرهم بطاناً ، ونصح لهم سراً وإعلاناً ، ولم يكن يتحلّىٰ من الغنىٰ بطائل (٤) ، ولا يحظىٰ من الدنيا بنائل ، غير ريّ الناهل ، وشبعة الكافل ، ولبان لهم الزاهد من الراغب ، والصادق من الكاذب ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَٰؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ )(٥).

ألا هلم فاستمع ، وما عشت أراك الدهر عجباً ، وإن تعجب فعجب قولهم. ليت شعري إلىٰ أيّ لَجأ لجأوا ، وإلى أيّ سناد استندوا ، وعلىٰ أي عماد اعتمدوا ، وبأيّ عروة تمسكوا ، وعلىٰ أيّ ذريّة قدّموا واحتنكوا (٦) ! ( لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) (٧) وبئس للظالمين بدلاً.

استبدلوا والله الذنابىٰ بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغماً لمعاطس قومٍ

_______________________

١) أمسكة.

٢) سهلاً ليناً.

٣) لا يتكدر.

٤) لم يستفد منه كثير فائدة.

٥) سورة الزمر : ٣٩ / ٥١.

٦) استولوا.

٧) سورة الحج : ٢٢ / ١٣.


( يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (١) ، ( أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ ) (٢) ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٣) ؟!

أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملء القَعب دماً عبيطاً ، وذعافاً مبيداً ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبّ ما أسس الأولون ، ثم طيبوا عن دنياكم نفساً ، واطمئنّوا للفتنة جأشاً (٤) ، وابشروا بسيف صارم ، وسطوة معتدٍ غاشم ، وبهرج دائمٍ شاملٍ ، واستبدادٍ من الظالمين ، يدع فيأكم زهيداً ، وجمعكم حصيداً. فيا حسرتىٰ لكم ، وأنّىٰ بكم وقد عميت عليكم ؟! ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) (٥) ».

قال سويد بن غفلة : فأعادت النساء قولها علىٰ رجالهنّ ، فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين ، وقالوا : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يُبرَم العهد ويُحكَم العقد ، لما عدلنا إلىٰ غيره.

فقالت عليها‌السلام : « إليكم عنّي ، فلا عذر بعد تعذيركم ، ولا أمر بعد تقصيركم » (٦).

_______________________

١) سورة الكهف : ١٨ / ١٠٤.

٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢.

٣) سورة يونس : ١٠ / ٣٥.

٤) مروّعة للقلب والنفس.

٥) سورة هود : ١١ / ٢٨.

٦) روىٰ هذه الخطبة ابن أبي طيفور في بلاغات النساء : ١٩. والشيخ الصدوق في معاني الأخبار : ٣٥٤ / ١. والشيخ الطوسي في أماليه : ٣٧٤ / ٨٠٤. والطبري في الدلائل : ١٢٥ / ٣٧. والاربلي في كشف الغمة ١ : ٤٩٢. والطبرسي في الاحتجاج ١ : ١٠٨. وابن أبي الحديد في شرح النهج ١٦ : ٢٣٣. والعلّامة المجلسي في البحار ٤٣ : ١٥٨ ـ ١٥٩.


المبحث الثالث : وفاتها عليها‌السلام ومدّة بقائها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونال الزهراء عليها‌السلام ما نالها من القوم ، لزمت الفراش ، ونحل جسمها ومرضت مرضاً شديداً (١) ومكثت أربعين ليلة في مرضها إلىٰ أن توفيت ( صلوات الله عليها ) (٢) وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يمرضها بنفسه ، وتعينه علىٰ ذلك أسماء بنت عميس (٣).

فلمّا نعيت إليها نفسها ، أوصت أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يتزوج بابنة أُختها أُمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحبّها لأولادها ، وأن يتخذ لها نعشاً وصفته له ، وأن لا يدع أحداً يشهد جنازتها ممن ظلمها ، ولا يصلي عليها أحد منهم ، وأن يتولىٰ أمرها بنفسه ، ويدفنها في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار (٤).

وروي أنّ أسماء بنت عميس هي التي وصفت صورة النعش لفاطمة عليها‌السلام

_______________________

١) راجع الرويات في هذا المعنىٰ في الاحتجاج / الطبري : ٨٣ ودلائل الإمامة / الطبراني : ١٣٤. وكتاب سليم : ٤٠. ودعائم الإسلام ١ : ٢٣٢. ووصفت عليها‌السلام بالشهيدة في كثير من الروايات والزيارات. راجع الكافي ١ : ٤٥٨ / ٢. والمزار / المفيد : ١٥٦. والمقنعة / المفيدة : ٤٥٩. وتهذيب الأحكام / الطوسي ٦ : ١٠ / ١٩. والبلد الأمين / الكفعمي : ١٧٨.

٢) روضة الواعظين / الفتال : ١٥١. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩١ / ٢٠.

٣) أمالي المفيد : ٢٨١ / ٧. وأمالي الطوسي : ١٠٩ / ١٦٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢١١ / ٤٠. وقيل : إنّ أسماء التي حضرت زواج الزهراء عليها‌السلام ووفاتها ، هي غير أسماء بنت عميس ، فلعلّها مصحفة عن سلمىٰ امرأة أبي رافع ، أو سلمىٰ بنت عميس امرأة حمزة ( رضي الله عنه ) ، أو أسماء بنت يزيد بن السكن.

٤) روضة الواعظين / الفتال : ١٥١. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٢. وأمالي المفيد : ٢٨١ / ٧. وأمالي الطوسي : ١٠٩ / ١٦٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨١ و ١٩٢ و ٢١١ / ٤٠.


قبل وفاتها ، فقد روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : « أول نعش أُحدث في الإسلام نعش فاطمة عليها‌السلام ، إنّها اشتكت شكوتها التي قبضت فيها ، وقالت لأسماء : إنّي نحلت وذهب لحمي ، ألا تجعلي لي شيئاً يسترني ؟ قالت أسماء : إنّي كنت بأرض الحبشة ، فرأيتهم يصنعون شيئاً ، أفلا أصنع لك ، فإن أعجبك صنعت لك ؟ قالت : نعم. فدعت بسرير فأكبّته لوجهه ، ثمّ دعت بجرائد فشددتها علىٰ قوائمه ، ثم جلّلته ثوباً ، فقالت : هكذا رأيتهم يصنعون. فقالت عليها‌السلام : اصنعي لي مثله ، استريني سترك الله من النار » (١).

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : فقبضت فاطمة عليها‌السلام فارتجّت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء ، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها ، فصرخن صرخة واحدة ، كادت المدينة تتزعزع من صراخهن ، وهن يقلن : يا سيدتاه ، يا بنت رسول الله ، وأقبل الناس إلىٰ علي عليه‌السلام مثل عرف الفرس وهو جالس ، والحسن والحسين عليهم‌السلام بين يديه يبكيان ، فبكىٰ الناس لبكائهما.

وخرجت أُمّ كلثوم عليها‌السلام وعليها برقعها تجرّ ذيلها ، متجلّلة برداء عليها تسحبه ، وهي تقول : يا أبتاه ، يا رسول الله ، الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده أبداً (٣).

_______________________

١) تهذيب الأحكام / الطوسي ١ : ٤٦٩ / ١٨٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢١٣ / ٤٣. وراجع أيضاً كشف الغمة / الاربلي ١ : ٥٠٣ ـ ٥٠٤. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٦٢. وحلية الأولياء / أبو نعيم ٢ : ٤٣. والاستيعاب / ابن عبد البرّ ٤ : ٣٧٨. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٨٢. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٣ ـ ٩٠٥. وذخائر العقبىٰ / المحب الطبري : ٥٤.

٢) كتاب سُليم : ٢١٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٩.

٣) روضة الواعظين / الفتال : ١٥١ ـ ١٥٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٢.


وروي أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام وقع علىٰ وجهه وهو يقول : « بمن العزاء يا بنت محمد ، كنت بك أتعزّىٰ ، ففيم العزاء من بعدك ؟ » (١).

واجتمع الناس وهم يرجون أن تخرج جنازة الزهراء عليها‌السلام فيصلّوا عليها ، فخرج أبو ذر رضي‌الله‌عنه وقال : انصرفوا ، فإنّ ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أُخّر إخراجها في هذه العشية ، فقام الناس وانصرفوا (٢).

غُسلها عليها‌السلام :

لمّا توفيت فاطمة عليها‌السلام قام أمير المؤمنين عليه‌السلام بجميع ما أوصته ، فتولىٰ غسلها بنفسه (٣) ، وكفّنها في سبعة أثواب (٤). وقيل : أعانته علىٰ غسلها أسماء بنت عميس بوصية من الزهراء عليها‌السلام (٥) ، وروي أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام أمر الحسن والحسين عليهما‌السلام يدخلان الماء (٦) ، وكانت أسماء تصبّ عليه (٧).

_______________________

١) كشف الغمة ١ : ٥٠١. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٧.

٢) روضة الواعظين / الفتال : ١٥٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٢.

٣) راجع : الكافي / الكليني ١ : ٤٥٩ / ٤. وعلل الشرائع / الصدوق : ١٨٤ / ١ ـ باب (١٤٨). وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٥٠٢. وتهذيب الأحكام / الطوسي ١ : ٤٤٠ / ٦٧. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٣٦. وتاج المواليد / الطبرسي : ٩٨ ـ ضمن مجموعة نفيسة. والاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٣٧٩. وتاريخ المدينة / ابن شبة ١ ١٠٩. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٤ و ١٨٨ و ٢٠٦ / ٣٢ و٣٣ ، ٨١ : ٢٩٩ / ١٨.

٤) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٠١ / ٣٠ ، ٨١ : ٣٣٥ / ٣٦.

٥) الذرية الطاهرة / الدولابي : ١٥٢ / ٢٠٢. والسنن الكبرىٰ / البيهقي ٣ : ٣٩٦. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٤. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٥٠٠. والاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٣٧٩. والإصابة / ابن حجر ٤ : ٣٧٨. وذخائر العقبىٰ / المحب الطبري : ٥٣. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٤ و ١٩٥ و ١٨٩ ، ٨١ : ٣٠٠ / ١٨.

٦) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٥٠٠. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٦ ، ٨١ : ٣٠٠ / ١٨.

٧) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٩.


ولم يحضرها إلّا الحسن ، والحسين ، وزينب ، وأُمّ كلثوم ، وفضة جاريتها ، وأسماء بنت عميس (١).

وعن أُمّ سلمة ، وسلمىٰ امرأة أبي رافع ، وعبدالله بن محمد بن عقيل ، قالوا : إنّ الزهراء عليها‌السلام اغتسلت قبل مماتها كأحسن ما كانت تغتسل ، وتحنّطت ولبست ثيابها الجدد ، واستقبلت القبلة ، وقالت : « إنّي مقبوضة فلا أكشفن ، فاني قد اغتسلت » فتوفّيت عليها‌السلام وحملها علي عليه‌السلام بغُسلها (٢).

وهذا الخبر معارض بما تقدّم من وصيتها بالغُسل ، وأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام تولّىٰ غسلها ، كما أنّ الحكم علىٰ خلافه ، إذ لا يجوز الدفن إلّا بعد الغسل سوىٰ في مواضع ليس هذا منها.

وأوّل العلّامة المجلسي رحمه‌الله هذا الخبر بكونها عليها‌السلام لم تنه عن الغسل ، بل نهت عن كشف بدنها لغرض التنظيف (٣) ، فجمع بين الخبرين ، مستدلاً برواية ورقة بن عبدالله الأزدي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « والله لقد أخذت في أمرها ، وغسلتها في قميصها ، ولم أكشفه عنها ، فوالله لقد كانت ميمونة

_______________________

١) دلائل الإمامة / الطبري : ١٣٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٧١.

٢) الأمالي / الطوسي : ٤٠٠ / ٨٩٣. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٢ ـ ٩٠٣. وتاريخ المدينة / ابن شبة ١ : ١٠٨. ومسند أحمد ٦ : ٤٦١ ـ ٤٦٢. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٨١. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٢٧. وأُسد الغابة ٥ : ٥٩٠. وذخائر العقبىٰ : ٥٣. ومجمع الزوائد ٩ : ٢١٠ ـ ٢١١. والثغور الباسمة / السيوطي : ٤٩. وكشف الغمة ١ : ٥٠١ ـ ٥٠٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٧٢ / ١٢ و ١٨٣ و ١٨٧.

٣) بحار الأنوار ٤٣ : ١٧٢ و ١٨٨.


طاهرة مطهّرة ».

وقال سبط ابن الجوزي : قد تكون مخصوصة بذلك (٢) ، وبنحوه قال علي ابن عيسىٰ الاربلي (٣).

وقال السيوطي : هذا حديث غريب ، وإسناده جيد... فإن صحّت هذه القصة ، عُدّ ذلك في خصائصها (٤).

الصلاة عليها عليها‌السلام :

تولّىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام الصلاة علىٰ فاطمة عليها‌السلام وكبر خمساً (٥) ، وكان معه الحسن والحسين عليهما‌السلام (٦) ونفر من بني هاشم ومن خواصه عليه‌السلام ، منهم العباس عمه ، وعقيل ، والفضل بن العباس ، وأبو ذر ، وسلمان ، والمقداد ، وحذيفة ، وعبدالله بن مسعود ، وعمّار ، والزبير ، وبريدة (٧).

وقد وضع البعض رواية شاذة نادرة ، مفادها أن أبا بكر صلّىٰ علىٰ فاطمة عليها‌السلام وكبّر أربعاً (٨). والهدف من وضع هذه الرواية واضح ، هو الدلالة

_______________________

١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٧٩.

٢) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٩.

٣) كشف الغمة ١ : ٥٠٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٨.

٤) الثغور الباسمة / السيوطي : ٥٠.

٥) كشف الغمة ١ : ٥٠٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٨ ، ٨١ : ٣٩٠ / ٥٥.

٦) دلائل الإمامة / الطبري : ١٣٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٧١ / ١١.

٧) روضة الواعظين / الفتال : ١٥٢. ورجال الكشي : ٧ / ١٣. والخصال / الصدوق : ٣٦٠ / ٥٠. والاختصاص / المفيد : ٥. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٣. وتاج المواليد / الطبرسي : ٩٨ ـ ٩٩. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢١٠ / ٣٩.

٨) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٢٩.


علىٰ أن فاطمة عليها‌السلام ماتت وهي راضية عن الشيخين ، لكنها معارضة لما روي في الصحيح من أن الزهراء عليها‌السلام ماتت وهي ساخطة عليهما وأوصت أن لا يحضرا جنازتها ، ولا يصليا عليها ، ولمّا ماتت دفنها زوجها علي عليه‌السلام ليلاً ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلّىٰ عليها علي عليه‌السلام (١) ، وقد ردّ كثير من الأعلام هذه الرواية وكذّبوها (٢).

قال سلامة الموصلي :

لمّا قضت فاطم الزهراء غسّلها

عن أمرها بعلها الهادي وسبطاها

وقام حتىٰ أتىٰ بطن البقيع بها

ليـلاً فصلّىٰ عليها ثمّ واراها

ولم يصلِّ عليها منهمُ أحدٌ

حاشا لها من صلاة القوم حاشاها (٣)

دفنها :

لمّا جنّ الليل ومضىٰ شطره ونامت العيون ، أخرجها أمير المؤمنين

_______________________

١) راجع : صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨ / ٢٥٦ ـ كتاب المغازي. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٠ / ١٧٥٩ ـ كتاب الجهاد والسير. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٢ / ٢٩٦٨ ـ باب صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والمستدرك / الحاكم ٣ : ١٦٢. وتاريخ المدينة / ابن شبة ١ : ١١٠. والسيرة الحلبية ٣ : ٣٦١ ـ ٣٦٢. والكافي / الكليني ١ : ٤٥٨. وعلل الشرائع / الصدوق : ١٨٥ و١٨٨ و١٨٩ ، ومضت في المبحث الأول المزيد من تخريجاته.

٢) راجع : شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ١١٣.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٣.


والحسن والحسين عليهم‌السلام ومعهم نفر من بني هاشم وبعض من خواصّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ودفنوها في جوف الليل ، وغيّبوا قبرها ، وسوّىٰ علي عليه‌السلام حواليها قبوراً مزورة مقدار سبعة حتىٰ لا يعرف قبرها ، وسوّىٰ قبرها مع الأرض ليخفىٰ موضعه (١) ، وروي أنّه عليه‌السلام رشّ أربعين قبراً حتىٰ لا يبين قبرها من غيره من القبور فيصلّوا عليها (٢).

وسُئل ابن عباس : متىٰ دفنتم فاطمة عليها‌السلام ؟ فقال : دفناها بليلٍ بعد هدأة. قيل : فمن صلّىٰ عليها ؟ قال : علي عليه‌السلام (٣).

قال الشيخ كاظم الاُزري رحمه‌الله : :

ولأيّ الاُمور تـدفن سراً

بضعة المصطفىٰ ويعفىٰ ثراها

فمضت وهي أعظم الناس وجداً

في فم الدهر غصّة من جواها

وثوت لا يرىٰ لها الناس مثوىٰ

أيّ قدس يضمّه مثواها (٤)

وعن الأصبغ بن نباته ، أنه سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن علّة دفنه لفاطمة

_______________________

١) روضة الواعظين / الفتال : ١٥٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٣.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٣. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ١١٥. وتلخيص الشافي ٣ : ١٣٠. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٣٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٣.

٣) الشافي / المرتضىٰ ٤ : ١١٣. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٣٠. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٣٠.

٤) الاُزرية : ١٤١ ـ دار الأضواء.


بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلاً. فقال عليه‌السلام : « إنّها كانت ساخطة علىٰ قومٍ كرهت حضورهم جنازتها » (١).

وعن علي بن أبي حمزة ، قال : سألت أبا عبدالله عليه‌السلام لأيّ علّة دُفِنت فاطمة بالليل ، ولم تدفن بالنهار ؟ فقال عليه‌السلام : « لأنّها أوصت أن لا يصلي عليها رجال » (٢).

وهكذا يغيّب قبر أحبّ الناس إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعزّهم عليه في مجتمع لم يبل فيه قميص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحُرِمت الاُمّة من قدس الزهراء عليها‌السلام وثواب زيارة بقعتها حتىٰ قيام الساعة.

لقد عبّرت الزهراء عليها‌السلام في وصيتها بتغييب قبرها عن مظلوميتها واغتصاب حقوقها ، فجعلت ذلك موضع تساؤل عبر الأجيال يحكي قصة ظلامة الزهراء عليها‌السلام وهضم حقوقها والاعتداء عليها ، وقد بانت آثار ذلك منذ صبيحة الليلة التي دفنت فيها.

روىٰ محمد بن همام باسناده عن رجاله ، قال : إنّ المسلمين لما علموا وفاة فاطمة عليها‌السلام جاءوا إلىٰ البقيع ، فوجدوا فيه أربعين قبراً ، فأشكل عليهم قبرها من سائر القبور ، فضجّ الناس ، ولام بعضهم بعضاً ، وقالوا : لم يخلف نبيكم إلّا بنتاً واحدة ، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها ولا دفنها ولا الصلاة عليها ، ولا تعرفوا قبرها ؟! (٣).

_______________________

١) الأمالي / الصدوق : ٧٥٥ / ١٠١٨. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٣. و٢٠٩ / ٣٧.

٢) علل الشرائع / الصدوق ١ : ١٨٥ باب (١٤٩).

٣) دلائل الإمامة : ١٣٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢١٢ / ٤١.


ندبة علي عليه‌السلام عند دفن الزهراء عليها‌السلام :

وعبّر أمير المؤمنين عليه‌السلام عن تلك المظلومية حينما فرغ من دفن الزهراء عليها‌السلام ، حيث هاج به الحزن ، فأرسل دموعه علىٰ خديه ، وحوّل وجهه إلىٰ قبر أخيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « السلام عليك يا رسول الله ، عنّي وعن ابنتك النازلة في جوارك ، والبائنة في الثرىٰ ببقعتك ، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك.

إلىٰ أن قال : وإلىٰ الله أشكو ، وستنبئك ابنتك بتضافر أُمتك علىٰ هضمها ، فأحفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليلٍ معتلجٍ بصدرها لم تجد إلىٰ بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكم الله وهو خير الحاكمين.

إلى أن قال : واهاً واهاً ! والصبر أيمن وأجمل ، ولولا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث عندك لزاماً معكوفاً ، ولأعولت إعوال الثكلىٰ علىٰ جليل الرزية ، فبعين الله تُدفَن ابنتك سرّاً ، ويُهضَم حقّها قهراً ، ويُمنَع إرثها جهراً ، ولم يطل العهد ، ولم يخلق منك الذكر ، فإلىٰ الله يا رسول الله المشتكىٰ ، وفيك يا رسول الله أجمل العزاء ، صلّىٰ الله عليك وعليها‌السلام والرضوان (١).

وقام عليه‌السلام علىٰ شفير القبر فقال :

لكلِّ اجتماعٍ من خليلين فرقة

وكلّ الذي دون الفراق قليلُ

_______________________

١) أمالي المفيد : ٢٨١ / ٧. وأمالي الطوسي : ١٠٩ / ١٦٦. والكافي / الكليني ١ : ٤٥٨ / ٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٣ / ٢١ و ٢١٠ / ٤٠. وراجع : نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٣١٩ الخطبة ٢٠٢. وشرح ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٦٥ / ١٩٥. وتذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٩ ـ ٣٢٠. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٥٠٤ ـ ٥٠٥.


وإنّ افتقادي فاطماً بعد أحمدٍ

دليلٌ علىٰ أن لا يدوم خليلُ (١)

ثم قال عليه‌السلام : اللهمَّ إني راضٍ عن ابنة نبيك ، اللهمَّ إنّها قد أُوحشت فآنسها ، اللهمَّ إنّها قد هُجرت فصِلها ، اللهمَّ إنّها قد ظُلمت فاحكم لها ، وأنت خير الحاكمين » (٢).

موضع قبرها عليها‌السلام :

قال الشيخ الصدوق رحمه‌الله : اختلفت الروايات في موضع قبر فاطمة سيدة نساء العالمين عليها‌السلام ، فمنهم من روىٰ أنّها دفنت في البقيع ، ومنهم من روىٰ أنّها دفنت بين القبر والمنبر ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما قال : « ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة » لأنّ قبرها عليها‌السلام بين القبر والمنبر ، ومنهم من روىٰ أنّها دفنت في بيتها ، فلمّا زادت بنو أُمية في المسجد ، صارت في المسجد ، وهذا هو الصحيح عندي (٣).

ومستند الشيخ الصدوق رحمه‌الله في تصحيحه ما رواه عن أبيه بالاسناد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال : سألت أبا الحسن علي بن موسىٰ

_______________________

١) الكامل / المبرد ٤ : ٣٠. وشرح ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٨٨. والموفقيات / ابن بكار : ١٩٤ / ١٠٦. ومروج الذهب / المسعودي ٢ : ٢٩١. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٦٣. وتذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٩.

٢) الخصال / الصدوق : ٥٨٨.

٣) الفقيه / الصدوق ٢ : ٣٤١ / ١٥٧٣ ـ ١٥٧٥. وراجع الأقوال في هذه المسألة في روضة الواعظين / الفتال : ١٥٢. وإعلام الورىٰ / الطبرسي ١ : ٣٠١. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧. وكشف الغمة ١ : ٥٠١. ومعاني الأخبار / الصدوق : ٢٦٧ ـ ٢٦٨. وتاريخ المدينة / ابن شبّة ١ : ١٠٨. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٧ و ٩١٨. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٧.


الرضا عليه‌السلام عن قبر فاطمة صلوات الله عليها ، فقال : « دفنت في بيتها ، فلمّا زادت بنو أُمية في المسجد صارت في المسجد » (١) وروي نحو ذلك عن الإمام الصادق عليه‌السلام (٢).

وذكر الشيخ الطوسي رحمه‌الله والعلّامة الطبرسي الأقوال الثلاثة التي ذكرها الشيخ الصدوق رحمه‌الله واستبعدا الأول منها ، واستصوبا القولين الأخيرين.

قال الشيخ الطوسي رحمه‌الله : الأصوب أنها مدفونة في دارها ، أو في الروضة (٣) ، وهاتان الروايتان كالمتقاربتين ، والأفضل عندي أن يزور الإنسان من الموضعين جميعاً ، فإنّه لا يضرّه ذلك ، ويحوز به أجراً عظيماً ، وأمّا من قال إنّها دفنت بالبقيع ، فبعيد عن الصواب (٤).

وقال العلّامة الطبرسي رحمه‌الله : القول الأول بعيد ـ أي كونها عليها‌السلام مدفونة بالبقيع ـ والقولان الآخران أشبه وأقرب إلىٰ الصواب ، فمن استعمل الاحتياط في زيارتها ، زارها في المواضع الثلاثة (٥).

ورجّح السيد ابن طاووس كونها عليها‌السلام مدفونة في بيتها (٦) ، وكذلك عبدالعزيز بن عمران ، وقال : إنها دفنت في بيتها ، وصنع بها ما صنع برسول

_______________________

١) معاني الأخبار : ٢٦٨. والفقيه / الصدوق ١ : ١٤٨ / ٦٨٤. والكافي / الكليني ١ : ٤٦١ / ٩. وقرب الاسناد / الحميري : ٣٦٧ / ١٣١٤. وتهذيب الأحكام / الطوسي ٣ : ٢٥٥ / ٢٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٥ / ١٧.

٢) تاريخ المدينة / ابن شبة ١ : ١٠٧ ـ ١٠٨. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٢.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٥ / ١٧.

٤) تهذيب الأحكام / الطوسي ٦ : ٩ / ١٧.

٥) إعلام الورىٰ / الطبرسي ١ : ٣٠١. وتاج المواليد / الطبرسي : ٩٩ ـ ضمن مجموعة نفيسة.

٦) إقبال الأعمال / ابن طاووس : ٦٢٤.


الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّها دفنت في موضع فراشها ، واحتجّ علىٰ ذلك بكونها دفنت ليلاً ، ولم يعلم بها كثير من الناس (١).

وقيل أيضاً : إنّها عليها‌السلام دفنت بالمسجد المنسوب إليها في البقيع ، وهو المعروف ببيت الحزن ، أو بيت الأحزان ، الذي آوت إليه والتزمت الحزن فيه عند وفاة أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، والله العالم بحقيقة الحال.

قال الشاعر :

بأبي التي ماتت وما

ماتت مكارمها السنيهْ

بأبي التي دفنت وعفّي

قبرها السامي تقيهْ (٣)

وقال ديك الجنّ :

يا قبر فاطمة الذي ما مثله

قبرٌ بطيبةَ طاب فيه مبيتا

إذ فيك حلّت زهرة الدنيا التي

بحلىٰ محاسن وجهها حلّيتا

فسقىٰ ثراك الغيث ما بقيت به

نور القبور بطيبةٍ وبقيتا (٤)

تاريخ وفاتها عليها‌السلام :

المشهور أن وفاتها عليها‌السلام كانت في الثالث من جمادى الآخرة (٥) ، يوم

_______________________

١) تاريخ المدينة / ابن شبة ١ : ١٠٨.

٢) وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٧ و ٩١٨.

٣) المجالس السنية / السيد الأمين ٥ : ٦٨.

٤) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٦.

٥) إقبال الأعمال / ابن طاووس : ٦٢٣. ومصباح المتهجد / الطوسي : ٧٩٣. ومصباح الكفعمي :


الثلاثاء ، سنة إحدىٰ عشرة من الهجرة ، وهو المروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام (١).

وفي رواية : لعشر بقين من جمادىٰ الآخرة (٢) ، وقيل : لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر ليلة الأحد (٣).

وعن ابن عياش : في الحادي والعشرين من رجب (٤).

وقال المدائني والواقدي وابن عبدالبرّ : إنّها توفّيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان (٥).

مقدار عمرها عليها‌السلام :

يختلف مقدار عمر الزهراء عليها‌السلام بحسب اختلاف الرواية في تاريخ ولادتها عليها‌السلام ، وقد قدّمنا ذلك في الفصل الأول ، فعلىٰ ما روي بأنّها عليها‌السلام ولدت بعد المبعث بخمس سنين ، يكون عمرها عليها‌السلام لمّا توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثماني عشرة سنة ، وهو المشهور (٦).

_______________________

٥١١. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٩ / ٢٦ ، ٢١٥ / ٤٦ و ١٠٠ : ١٩٨ / ١٧.

١) دلائل الإمامة / الطبري : ٧٩ / ١٨. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩ / ١٦ و ١٧٠ / ١١.

٢) دلائل الإمامة / الطبري : ١٣٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٧١.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٠ / ١٦.

٤) مصباح المتهجد : ٨١٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢١٥ / ٤٧ و ١٠٠ / ١٢٠٢.

٥) تاريخ الطبري ٣ : ٢٤٠. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٦٢. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٢٨. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٨٣. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٥٠٣. والثغور الباسمة / السيوطي : ٤٨. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٩ ، ٢١٤.

٦) الكافي / الكليني ١ : ٤٥٨. وتذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣٢١ عن الإمام الصادق عليه‌السلام.


وعلىٰ القول بأنها عليها‌السلام ولدت قبل المبعث بخمس سنين ، يكون عمرها عليها‌السلام عند وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثماني وعشرين أو تسعاً وعشرين سنة ، وهو قول أكثر العامّة (١) ، وهناك أقوال اُخرىٰ كثيرة مختلفة في تقدير عمر الزهراء عليها‌السلام يوم وفاتها ، سببها الاختلاف في تاريخ ولادتها ومدّة بقائها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد قيل : إنّ عمرها الشريف يوم وفاتها عليها‌السلام كان اثنتين وعشرين سنة ، وقيل : ثلاث وعشرون ، وأربع وعشرون ، وستّ وعشرون ، وسبع وعشرون ، وتسع وعشرون ، وثلاثون ، وثلاث وثلاثون ، وخمس وثلاثون (٢).

مدة بقائها عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

اختلفت الروايات وتضاربت الأقوال في تحديد المدة التي مكثتها الزهراء عليها‌السلام فقيل أنّه كان : خمسة عشر يوماً ، أربعين يوماً ، خمسة وأربعين ، شهرين ، ستين يوماً ، سبعين ، اثنتين وسبعين ، خمسة وسبعين ، خمسة وثمانين ، ثلاثة أشهر ، تسعين يوماً ، خمسة وتسعين ، مائة يوم ، أربعة أشهر ، ستة أشهر ، ستة أشهر إلّا ليلتين ، ثمانية أشهر ، فلم يقل أحد بأقل من خمسة

_______________________

وعيون المعجزات : ٥٥. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٣٦. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٤٩. والتتمة / تاج الدين العاملي : ٤١. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٧١ / ١١.

١) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٣٩٩ / ٩٩٨. وتذكرة الخواص : ٣٢٠ ـ ٣٢١. وتاريخ الطبري ٣ : ٢٤٠. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٦٢. وأُسد الغابة ٥ : ٥٢٤. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٢٨. والاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٣٨٠.

٢) راجع : مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٣. والمعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٣٩٩ / ٩٩٧. وتذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣٢١. والاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٣٨٠. وأُسد الغابة ٥ : ٥٢٤. والثغور الباسمة / السيوطي : ٤٨. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٥٠٣. والتتمة / تاج الدين العاملي : ٤٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢١٣ ـ ٢١٤.


عشر يوماً ، ولا بأكثر من ثمانية أشهر (١).

وتدلّ أكثر الروايات المنقولة عن أهل البيت عليهم‌السلام أنها مكثت بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة وسبعين يوماً (٢) ، وعلىٰ المشهور عند الإمامية من أنّ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت في الثامن والعشرين من صفر ، تكون وفاتها عليها‌السلام في نحو الثالث عشر من جمادىٰ الاُولىٰ ، لا في الثالث من جمادىٰ الآخرة وكما هو المشهور في وفاتها عليها‌السلام ، وعلىٰ المشهور عند العامّة من أن وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثاني عشر من ربيع الأول ، تكون وفاتها في أواخر جمادىٰ الاُولىٰ.

والذي يقتضيه الجمع بين ماهو مشهور من وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثامن والعشرين من صفر ، ووفاتها عليها‌السلام في الثالث من جمادىٰ الآخرة ، هو ما روي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام من أن فاطمة عليها‌السلام بقيت بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة وتسعين يوماً (٣) ، فيرتفع بذلك التنافي.

ورجّح ذلك أبو الفرج الأصفهاني حيث قال : كانت وفاة فاطمة عليها‌السلام

_______________________

١) راجع : المعارف / ابن قتيبة : ٦٢. والمعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٣٩٨ ـ ٣٩٩. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٦٢ ـ ١٦٣. ودلائل النبوة / البيهقي ٦ : ٣٦٥. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٤. والإصابة / ابن حجر ٤ : ٣٧٩. والذرية الطاهرة / الدولابي : ١٥١ / ١٩٥. والثغور الباسمة / السيوطي : ٤٨. ومقاتل الطالبيين / أبو الفرج : ٣١. المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧. وكشف الغمة ١ : ٤٤٩ و ٥٠٢ و٥٠٣. وإعلام الورىٰ / الطبرسي ١ : ٣٠٠. والتتمة / تاج الدين العاملي : ٤١ ـ ٤٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ٧ ـ ٩ و١٨٠ / ١٦ و١٨٨ / ١٩ و ٢٠٠ / ٣٠ و ٢١٢ / ٤١ و ٢١٣ / ٤٤ و ٢١٥ / ٤٥ و ٢١٧ / ٤٩.

٢) الكافي / الكليني ١ : ٢٤١ / ٥ و ٤٥٨ / ١ ، ٤ : ٥٦١ / ٤. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٤٩. والتتمة / تاج الدين العاملي : ٤١. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩ / ١٦ و ١٩٥ / ٢٢ و ٢١٢ / ٤١.

٣) دلائل الإمامة / الطبري : ٧٩ / ١٨. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٥٠٣. والتتمة / تاج الدين العاملي : ٤٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨٩ / ١٩.


وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة يختلف في مبلغها ، فالمكثر يقول ثمانية أشهر ، والمقلل يقول : أربعون يوماً (١) ، إلّا أنّ الثبت في ذلك ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام أنّها توفيت بعده بثلاثة أشهر (٢).

ويؤيده أيضاً ما روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « بدؤ مرض فاطمة عليها‌السلام بعد خمسين ليلة من وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٣) وما روي من أنّها عليها‌السلام مرضت مرضاً شديداً ، ومكثت أربعين ليلة في مرضها إلىٰ أن توفيت (٤). فيكون المجموع تسعين يوماً ، مع عدم التعرض للأيام الزائدة ، تسامحاً في الكسور لقلتها ، والله العالم بحقيقة الحال.

ونكتفي بهذا القدر من الكلام في الحديث عن الزهراء عليها‌السلام النموذج المتكامل والمثل الأعلىٰ في العطاء والتضحية والصبر والعبادة والذوبان في ذات الله عزّ وجلّ ، والوقوف بكلِّ بسالة وشجاعة بوجه الباطل وتعريته تماماً ، مؤكدين أخيراً بان موقف الزهراء عليها‌السلام وقصة رحيلها إلىٰ العالم الآخر يعدّ من أكثر الوثائق الحاسمة في التاريخ قدرة علىٰ كشف الكثير من الحقائق التي طالما خفيت علىٰ الأجيال.

وذلك باعتبار أن الزهراء عليها‌السلام ميزان عدل لفهم الحق ، ومن خلال ما ثبت

_______________________

١) وروي خمسة عشر يوماً. راجع : بحار الأنوار ٤٣ : ٢٠٠ / ٣٠.

٢) مقاتل الطالبيين : ٣١. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢١٥ / ٤٥. ورواية الإمام الباقر عليه‌السلام في مجمع الزوائد ٩ : ٢١٢. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٦٢. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٢٨. وتاريخ الطبري ٣ : ٢٤٠.

٣) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٠١ / ٣٠.

٤) روضة الواعظين : ١٥١. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨١ و ١٩١ / ٢٠.


بنحو القطع من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » (٢) وقد ثبت بما قدّمناه عن كتب الصحاح أن فاطمة عليها‌السلام ماتت وهي ساخطة علىٰ أبي بكر وعمر ، وأوصت أن لا يحضرا جنازتها ، ولا يصليا عليها ، وأن عليّاً عليه‌السلام دفنها ليلاً ، ولم يؤذن بها أبا بكر وعمر.

فان كانت إمامة أبي بكر حقيقة شرعية ثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإننا سنكون أمام احتمالين لا ثالث لهما بشأن الزهراء صلوات الله عليها.

الأول : أن تكون قد ماتت علىٰ ضلالة ولم تدخل الجنة ـ والعياذ بالله ـ لأنها لم تعرف أبا بكر إماماً لزمانها.

الثاني : أن تكون قد ماتت علىٰ الإيمان ، وعلىٰ هذا يكون الإمام الحق غير أبي بكر وعمر.

والاحتمال الأول باطل وغير صحيح ، لما ثبت في كتب الفريقين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « فاطمة سيدة نساء أهل الجنة » (٣).

ومن هنا نعلم بأنّ سيدة نساء العالمين عليها‌السلام كانت علىٰ يقين من معرفة الإمام الحق الذي من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية ، ألا وهو من قالت

_______________________

١) مسند أحمد ٤ : ٩٦. والاحسان بترتيب صحيح ابن حبان ٧ : ٤٩ / ٤٥٥٤. وحلية الأولياء ٣ : ٢٢٤. وكنز العمال ١ : ١٠٣ / ٤٦٤. ومستدرك الحاكم ١ : ١١٧. ومجمع الزوائد ٥ : ٢١٨ و ٢٢٤ و ٢٢٥.

٢) صحيح مسلم ٣ : ١٤٧٨ / ٥٨ ـ كتاب الامارة. والسنن الكبرىٰ / البيهقي ٨ : ١٥٦. وجامع الاُصول ٤ : ٤٦٣ / ٢٠٦٥. ومجمع الزوائد ٥ : ٢١٨.

٣) خرّجناه في الفصل الثاني من هذا البحث.


عنه الزهراء نفسها بخطبتها الشهيرة : « وتالله لو تكافّوا عن زمامٍ نبذه إليه رسول الله لاعتقله ، ثمّ لسار بهم سيراً سجحاً ... ويحهم ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ».

نعم ، ذلك هو الإمام الحق الذي عرفته الزهراء عليها‌السلام وبقيت تدافع عن حقّه السليب حتىٰ النفس الأخير من حياتها المقدسة ، فسلام عليهما من أهل بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

والحمدُ لله ربِّ العالمين

وسلامٌ علىٰ عبـاده

الذيـن اصطفىٰ

محمـد وآله

الطاهرين

*

تمّ بحمد الله





المحتويات

مقدمة المركز ......................................................................  ٥

المقدِّمة ............................................................................  ٧

الفصل الأول

الزهراء عليها‌السلام في حياة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..............................................  ١١

المبحث الأول : في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..........................................  ١١

تاريخ الولادة ...................................................................  ١٤

من الولادة حتىٰ الهجرة ..........................................................  ١٩

الهجرة ..........................................................................  ٢٣

المبحث الثاني : أسماؤها وألقابها وشمائلها عليها‌السلام ..............................  ٢٥

١ ـ فاطمة................................................................. ...... ٢٦

٢ ـ الزهراء........................................... ........................... ٢٨

٣ ـ البتول....................................................... ................ ٢٩

٤ ـ المُحَدَّثة........................................................... .......... ٣٢

٥ ـ الصدّيقة................................................................ .... ٣٣


كناها ..........................................................................  ٣٤

أُمّ أبيها ........................................................................  ٣٥

حليتها وشمائلها ................................................................  ٤١

المبحث الثالث : زواجها عليها‌السلام .................................................  ٤٢

تاريخ زواجها ..................................................................  ٤٢

عمرها عند الزواج ...............................................................  ٤٣

الخطبة .........................................................................  ٤٤

الكفاءة ........................................................................  ٤٦

الاستئذان والمشاورة .............................................................  ٥٠

خطبة العقد ....................................................................  ٥١

المهر ...........................................................................  ٥٢

درس توجيهي ..................................................................  ٥٤

الجهاز وأثاث البيت ............................................................  ٥٧

بيت الزهراء عليها‌السلام ..............................................................  ٦٠

الزفاف والتكبير ................................................................  ٦٢

الوليمة .........................................................................  ٦٤

الدعاء للعريسين ................................................................  ٦٦

المبحث الرابع : دورها في داخل الاُسرة وخارجها ...............................  ٦٧

١ ـ الطاعة وحسن المعاشرة ......................................................  ٦٨

٢ ـ التعاون وتقسيم العمل ......................................................  ٧١

٣ ـ تربية الأولاد ................................................................  ٧٣

دورها في خارج المنزل ...........................................................  ٧٥


الفصل الثاني

خصائصها الفذّة ومكارم أخلاقها عليها‌السلام ..........................................  ٨٥

المبحث الأول : مناقب الزهراء عليها‌السلام وخصائصها ...............................  ٨٧

١ ـ عصمتها من الأرجاس ......................................................  ٨٧

٢ ـ فرض مودّتها ...............................................................  ٨٧

٣ ـ المباهلة بها .................................................................  ٨٨

٤ ـ إنّها مع الحقّ أبداً ...........................................................  ٨٨

٥ ـ بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشجنة منه ...........................................  ٨٩

حكاية موضوعة ................................................................  ٩٠

رأي أهل البيت عليهم‌السلام ..........................................................  ٩١

آراء أعلام الطائفة وغيرهم ......................................................  ٩٢

٦ ـ سيدة نساء العالمين .......................................................  ١٠٠

٧ ـ سيدة نساء أهل الجنة .....................................................  ١٠١

٨ ـ أحبّ الناس إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .........................................  ١٠٢

٩ ـ أول من يدخل الجنّة ......................................................  ١٠٣

١٠ ـ غضّ الأبصار لمرورها علىٰ الصراط .......................................  ١٠٤

١١ ـ جلالة بعثتها عليها‌السلام يوم القيامة ..........................................  ١٠٤

١٢ ـ تكثير الطعام في بيتها عليها‌السلام .............................................  ١٠٥

١٣ ـ إنحصار ذرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بنسلها عليها‌السلام .................................  ١٠٦

المبحث الثاني : مكارم أخلاقها ...............................................  ١١٣

١ ـ العبادة ...................................................................  ١١٣


٢ ـ العلم .....................................................................  ١١٨

٣ ـ العفّة والحجاب ...........................................................  ١٢٣

٤ ـ الكرم والسخاء ...........................................................  ١٢٥

٥ ـ صبرها علىٰ المعاناة .......................................................  ١٢٧

الفصل الثالث

الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .................................................  ١٣٥

المبحث الأول : انقلاب الاُمّة ومنع حقوق الزهراء عليها‌السلام .....................  ١٤٠

أول بوادر الانقلاب ..........................................................  ١٤٠

الهجوم علىٰ دار الزهراء عليها‌السلام وما ترتب عليه ..................................  ١٤٢

منع الحقوق المالية للزهراء عليها‌السلام ...............................................  ١٥٩

أولاً : اغتصاب نحلة الزهراء عليها‌السلام .............................................  ١٥٩

مطالبة الزهراء عليها‌السلام بالنحلة وموقف السلطة ...................................  ١٦٢

ثانياً : حرمان الزهراء عليها‌السلام من الإرث .........................................  ١٧٠

ثالثاً : اسقاط سهم ذوي القربىٰ ...............................................  ١٨٤

التكرم وشرع الإحسان ........................................................  ١٨٨

أهداف السلطة ...............................................................  ١٩٠

المبحث الثاني : حال الزهراء عليها‌السلام ومواقفها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ..... ...... ١٩٥

١ ـ المطالبة بحقوقها وبيان مظلوميتها ..........................................  ١٩٨

٢ ـ سخطها علىٰ ظالميها .....................................................  ٢٠٠

٣ ـ الدفاع عن الولاية والإمامة ................................................  ٢٠٤


٤ ـ خطبتا فاطمة عليها‌السلام .......................................................  ٢٠٦

أولاً : خطبة الزهراء عليها‌السلام في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ...............................  ٢٠٩

مخاطبة الأنصار ...............................................................  ٢١٥

جواب أبي بكر ...............................................................  ٢١٧

جواب الزهراء عليها‌السلام ..........................................................  ٢١٨

جواب أبي بكر ...............................................................  ٢١٩

خطاب الزهراء عليها‌السلام لعامّة الناس ..............................................  ٢١٩

ندبتها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ........................................................  ٢٢٠

علىٰ أثر الخطبة ...............................................................  ٢٢١

ثانياً : خطبة الزهراء عليها‌السلام بنساء المهاجرين والأنصار ..........................  ٢٢٢

المبحث الثالث : وفاتها عليها‌السلام ومدّة بقائها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله ...................  ٢٢٦

غُسلها عليها‌السلام .................................................................  ٢٢٨

الصلاة عليها عليها‌السلام ...........................................................  ٢٣٠

دفنها ........................................................................  ٢٣١

ندبة علي عليه‌السلام عند دفن الزهراء عليها‌السلام .........................................  ٢٣٤

موضع قبرها عليها‌السلام ............................................................  ٢٣٥

تاريخ وفاتها عليها‌السلام ............................................................  ٢٣٧

مقدار عمرها عليها‌السلام ...........................................................  ٢٣٨

مدة بقائها عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...........................................  ٢٣٩

المحتويات ....................................................... .............. ٢٤٥

سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

المؤلف: علي موسى الكعبي
الصفحات: 249
ISBN: 964-319-218-0