
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
نبذة
من حياة الفاضل القطيفي (ره)
ذكره ـ أول من
ذكره ـ الحر العاملي في القسم الثاني من كتابه « أمل الآمل » الذي سماه : « تذكرة
المتبحرين في تراجم العلماء المتأخرين » فاكتفى فيه بقوله : إبراهيم ابن سليمان
القطيفي ، فاضل عالم محدّث ، له كتب منها كتاب « الفرقة الناجية » حسن ، توفي
بالغري ، من المتأخرين .
ثمّ ذكره صاحب
« الحدائق » في « الكشكول » عن رسالة لبعض فضلاء تلامذة المجلسي ، والمقصود به
صاحب « رياض العلماء » قال : الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي ، ثمّ الغروي ، ثمّ
الحلي ، الإمام الفقيه الفاضل ، العالم الكامل ، المحقق المدقق ، المعاصر للشيخ
علي الكركي. كان يسكن المشهد المقدس الغروي .
مشايخه
:
قال : والذي
يظهر من اجازة الشيخ إبراهيم هذا للمولى شمس الدين محمّد بن الحسن الأسترآبادي
أنّه يروي عن الشيخ علي بن هلال ( الجزائري ) بواسطة واحدة وقد كتب بخطه
الشريف اجازة لتلميذه المير معزّ الدين محمّد بن تقي الدين
__________________
الحسيني الأصفهاني ، ويظهر من تلك الإجازة أنّ الشيخ علي بن هلال المذكور
كان عمّ هذا الشيخ. وكان تاريخ الإجازة : سنة ثمان وعشرين وتسعمائة وقال في
الإجازة السابقة : إنّ عدة من الفضلاء أجازوه ، ولكن أوثقهم الشيخ إبراهيم بن
الحسن بن علي بن هلال الجزائري المذكور وعليه فالواسطة واسطتان.
ومن مشايخه
المحقق الثاني الكركي ، فقد انهى صاحب « الكشكول » إجازته إلى المترجم عن الكركي .
تلامذة
والراوون عنه :
قال : ويروي
عنه أيضا جماعة من العلماء ، كما يظهر ذلك من إجازاته.
منهم : تلميذه
السيّد معزّ الدين محمّد بن تقي الدين محمّد الحسيني الأصفهاني ، وله منه إجازة
تاريخها سنة ثمان وعشرين وتسعمائة ، في المشهد المقدس الغروي ، وقد رأيتها بخطه
الشريف على ظهر « الشرائع » التي كانت لتلميذه المذكور ، وخطه لا يخلو من رداءة.
ومنهم أيضا :
السيّد شريف الدين الحسيني المرعشي التستري ، والد القاضي نور الله التستري صاحب «
مجالس المؤمنين » على ما صرّح به القاضي نور الله في حواشي « المجالس » المذكور (
في ترجمة هشام بن سالم ).
ومنهم : السيّد
الآميرزا نعمة الله الحلي .
وقد سبق القول
عن أجازته للمولى شمس الدين محمّد بن الحسن الأسترآبادي.
وأضاف صاحب «
الحدائق » في سلسلة أجازته : الشيخ حسين بن عبد الحميد ، والمولى كريم الدين
الشيرازي عن القطيفي .
__________________
وأضاف صاحب «
روضات الجنات » : المولى شمس الدين محمّد بن تركي وتاريخ أجازته له سنة خمس عشرة
وتسعمائة ، بعد سنتين من وروده العراق .
ومنهم : شاه
محمود الخليفة الشيرازي .
مؤلفاته
:
١ ـ أدعية سعة
الرزق وقضاء الدين في مجموعة مختصرة ـ الذريعة ١ : ٣٩٨.
٢ ـ الأربعون
حديثا ـ ينقل عنه العلامة المجلسي في البحار ـ الذريعة ١ : ٤١٠.
٣ ـ تحقيق
الفرقة الناجية مرتب على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة ، أوله : يا من جعل عليا العلي
الهادي ، إلى دين مختاره من الحاضر والبادي .. فهذه نفقة صدرت في تحصيل أنّ الفرقة
الناجية عند الله هم الشيعة الإمامية. وقال في خاتمتها :
ولنختم رسالتنا
هذه بثلاث فوائد. وبعد الفوائد قال : أجببت تتميم ما أسلفته بأحاديث حسنة لا يكاد
يظفر بها مجتمعة إلا قليل من العلماء ، وهي مؤكدة لما تقدم من أنّ الحق انما هو
كون الفرقة الناجية شيعة علي عليهالسلام. ثم أورد ثمانية عشر حديثا وبها تتم النسخة ، كتبت في
شعبان ١٠٠٦ ه فرغ منه في ٥ صفر ٩٤٥ ه ـ الذريعة ١٦ : ١٧٧.
٤ ـ تعليقات
على الشرائع ـ الذريعة ٦ : ١٠٦ بعنوان حاشية على الشرائع.
٥ ـ الثمانية عشر
حديثا ، وهي تتمة رسالته السابقة في تحقيق الفرقة الناجية كما مر ، وذكرها في
الذريعة ٥ : ١١ بهذا العنوان وذكر لها نسختين إحداهما للمرحوم المساوي.
٦ ـ حاشية
الألفية للشهيد ـ الذريعة ٦ : ٢٢ و١١ : ١٠٧ بعنوان شرح الألفية وقال : أو له :
الحمد لله الذي تفرد بالكبرياء وتوحد بالجلال. فرغ منه نهار الأحد السادس عشر من
محرم سنة ٩٣٩ وعناوينه : أقول .. رأيت نسخة منه في مكتبة المولى محمّد علي
الخوانساري في النجف الأشرف. وعبّر عنه مؤلفه بالحاشية.
__________________
٧ ـ الرسالة
الحائرية ، كما في الذريعة ٦ : ٤. وسيأتي الحديث عنها.
٨ ـ الرسالة
الرضاعية ، في عموم قاعدة التنزيل ، ردّا على المحقق الكركي ، ذكرها في الذريعة ١١
: ١٨٨ وقال : طبعت منضمة إلى رضاعيات أخر بايران ، أو لها : يا من فطرنا بفطرته ..
٩ ـ رسالة في
حرمة صلاة الجمعة في زمن الغيبة مطلقا ، ردّا على المحقق الكركي في قوله بوجوبها
مع وجود المجتهد الجامع لشرائط الفتوى ، كما في رياض العلماء والذريعة ١٥ : ٦٢.
١٠ ـ رسالة في
حرمة السجود على التربة المشوية ( المطبوخة ) وهي وان لم يذكرها الأفندي في « رياض
العلماء » فلم ينقل عنه ولم يذكره البحراني لا في « الكشكول » ولا في « لؤلؤة
البحرين » ولا العلامة الطهراني في « الذريعة » ولكنه ذكر ردّها من شيخه الشيخ
الكركي وقال : ردّ فيها على معاصره الشيخ إبراهيم القطيفي المانع منه. فرغ منها
٩٣٣ ، ونقل ذلك عن « رياض العلماء » .
١١ ـ الرسالة
الصومية ـ الذريعة ١١ : ٢٠٤ وقال : هي موجودة في المكتبة الرضوية. ونقل عنها بعض
فتاواه الأردبيلي في « شرح الإرشاد ».
١٢ ـ رسالة في
شرح عدد ( محرمات الذبيحة ) كما في الذريعة ٢٠ : ١٤٨.
مختصرة.
١٣ ـ السراج
الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج ـ وهو هذا الكتاب وسيأتي الكلام عنه.
١٤ ـ شرح
الأسماء الحسنى ـ الذريعة ١٣ : ٨٨ وقال : مبسوط طويل الذيل كثير الفوائد ، فرغ منه
في سنة ٩٣٤ ه ، كما في رياض العلماء.
١٥ ـ النجفية
في سهو اليومية ـ مرتبة على مقدمة وبابين وخاتمة أو لها : « الحمد لله الذي اصطفى
محمّدا على سائر الأنبياء .. اني لم أظفر على مؤلف لضبط
__________________
السهو في الصلاة على انفراد ، الا ما ألفه بعض الفضلاء المحقّقين في رسالة
تسمى « السهوية » فتأملتها فإذا هي لا تخلو من اضطراب ، وسميتها : النجفية في سهو
اليومية ، الذريعة ١١ : ٢٢٧. وقال : توجد عند المحدث القمي نسخة عصر المصنف كتبت
في النجف الأشرف ثم قرئت عليه فكتب الإنهاء : في مجالس آخرها الرابع عشر من شهر
جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وتسعمائة وفي بعض إجازاته أذن في العمل بخلافياتها ما
دام حيّا. والقمي ذكر نسخته في الفوائد الرضوية : ٦.
١٦ ـ نفحات
الفوائد ومفردات الزوائد. قال فيه : دعاني حب الوحدانية وعزة الجبروتية ، وسطوة
الإلهية وقدرة الفردانية ، مما لا تحيط به القوة الإمكانية إلا بما تلهمه الألطاف
الرحمانية في قوله تعالى «
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا » فإنه ممّا تحيرت فيه عقول اولي الألباب وكثر فيه القيل
والقال بين حملة الكتاب ـ حاشا وارث العلم عن الحق الصواب ، فإنهم الراسخون فيه ،
والعاملون بتأويل المتشابه وردّه الى المحكم من الخطاب ـ حتى أنّ بعض الأفاضل رجّح
أنّ الدليل فيها اقناعي. وهو تهجّم عظيم على الحضرة الربوبية. وها أنا ذا أسطر ما
سنح لي .. فرغ منه ١٣ شوال ستة ٩٤٥ وهي أجوبة لاسئلة افتراضية في الفسلفة الدينية
، عناوينها : إن سأل سائل كذا نقول كذا ..
١٧ ـ نوادر
الأخبار الطريفة ـ الذريعة ٢٤ : ٣٤٤ والظاهر أنها هي الثمانية عشر حديثا المارّ
الذكر.
١٨ ـ النية ـ الذريعة
٢٤ : ٤٣٩ وقال : موجودة في الرضوية وقف سنة ١١٤٥.
١٩ ـ الهادي
إلى الرشاد في شرح الإرشاد للعلامة ـ الذريعة ٢٥ : ١٥ خرج منه الطهارة وقليل من
الصلاة ، نسخة منه في الرضوية ، واخرى عند السيّد محمّد علي الروحاني بأصفهان.
وذكره بعنوان حاشية الإرشاد للعلامة ـ الذريعة ٦ : ١١.
٢٠ ـ واجبات
الصوم ، أوله : يا ولي العناية اجعلنا من أهل عنايتك ، منها نسخة في الرضوية كتبت
في سنة ١٠٦٧ ه كما في الذريعة ٢٥ : ٢. ولعلها هي الرسالة الصومية السابقة الذكر.
الرسالة
الحائرية :
نقل أكثر
رسائله هذه المرحوم المولى عبد الله الأفندي في « رياض العلماء » ونقلها عنه صاحب
« الحدائق » في « لؤلؤة البحرين » ثمّ قال : والعجب أنّه مع كونه يروي عن الشيخ
علي الكركي المذكورة ، كانت له معه معارضات ومناقضات ، بل رأيت في كلامه في بعض
كتبه ما يدل على القدح في فضل الشيخ علي المذكور ونسبته إلى الجهل ـ كما هو شأن
جملة من المعاصرين ـ حتى أنّه ألف في جملة من المسائل في مقابلة رسائل الشيخ علي
المذكور ردّا عليه ونقضا لما ذكره منها : مسألة حلّ الخراج .. ورسالة حرمة الجمعة
زمان الغيبة .. ورسالة المنزلة في الرضاع .. وفي الجميع ما أصاب ولا وافق الصواب.
وقد وقعت بيدي
رسالة من رسائله سمّاها ب « الرسالة الحائرية في تحقيق المسألة السفرية » ذكر في
صدر الرسالة المذكورة ما اتفق له مع الشيخ علي في سفره معه للمشهد المقدس الرضوي
من المسائل التي نسبه فيها الى الخطأ :
منها : أنّ
العشرة القاطعة لكثرة السفر يشترط فها التتالي أم لا؟ فنسب الى نفسه الأول وإلى
الشيخ علي الثاني ، وفي هذه المسألة صنّف الرسالة المشار إليها.
ومنها : أنّه
نقل عنه : أن من لم يجد ساترا الا جلد الكلب وعليه في نزعه تقية سقط عنه فرض أداء
الصلاة. قال : فبالغته في ذلك فأبى إلا الإصرار على ما قاله .. فأعرضت عنه وحملته
على الغفلة وعدم المطالعة.
ومنها : أنه
حكم باستحباب الوضوء المجدّد على من اغتسل غسل الجنابة ، وبالغته في ذلك وقلت له :
ان المجدّد لا يستحب الا مع سبق وضوء قبله. فقال : وفي غسل الجنابة وضوء ضمنا.
ثمّ ذكر : «
أني دخلت يوما الى ضريح الرضا عليهالسلام فوجدته هناك فجلست معه ، فاتّفق حضور بغية العلماء
الوارثين وزبدة الفضلاء الراسخين جمال الملة والدين. فابتدأ ـ بحضوره ـ معرضا عليّ
: لم لم تقبل جائزة الحكام؟!
فقلت : لأن
التعرض لها مكروه.
فقال : بل واجب
أو مستحب.
فطالبته
بالدليل.
فاحتج بفعل
الحسن عليهالسلام مع معاوية وقال : ان التأسي إما واجب أو مندوب ، على
اختلاف المذهبين.
فأجبته عن ذلك
واستشهدت بقول الشهيد « رحمهالله تعالى » في « الدروس » : « ترك أخذ ذلك من الظالم أفضل
، ولا يعارض ذلك أخذ الحسن عليهالسلام جوائز معاوية ؛ لأن ذلك من حقوقهم بالأصالة ».
فمنع ـ أولا ـ كون
ذلك في « الدروس » ثمّ التزم بالمرجوحية. وعاهد الله تعالى هناك أن يقصر كلامه على
قصد الاستفادة بالسؤال والإفادة بالجواب.
ثم فارقته
قاصدا الى المشهد الغروي على أحسن الحال.
فلما وصلت
تواترت الأخبار عنه من الثقات وغيرهم بما لا يليق بالذكر الى أن انتهى الأمر إلى
دعواه العلم ونفيه عن غيره. فبذلت وسعي بجميع أنواع الملاطفة في رضاه بالاجتماع
للبحث والمذاكرة فأبى ».
وفي آخر
الرسالة ذكر ما صورته : « وإذ فرغت من هذه فأنا مشتغل بنقض رسالته « الخراجية »
وكشف لبس ما رتّبه فيها من المباحث الاقناعية » وهو مما يقضى منه العجب العجيب ،
كما لا يخفى على الموفّق الأريب .
وقال قبله
المولى عبد الله الأفندي في « رياض العلماء » : وتكثرت المعارضات بينه وبين الشيخ
علي الكركي ، حتى أن أكثر الإيرادات التي أوردها الشيخ علي في بعض رسائله في
الرضاع والخراج وغيرهما ردّ عليه .
ثمّ قال : وقد
سمعت من الأستاذ « المجلسي » أيده الله ـ مشافهة ـ ما يدل على القدح في فضله ، بل
في تديّنه ، حيث انه نقل لي : أنّه رأى مجموعة بخط الشيخ
__________________
إبراهيم هذا ، وقد ذكر افتراءات على الشيخ علي .
ونقل ذلك صاحب
« لؤلؤة البحرين » وقال : ومن وقف على ما نقلناه عن الرسالة المتقدمة ، وما حذفناه
مما هو من هذا القبيل وأشنع ، عرف صحة ما ذكره شيخنا المذكور. ولكن هذه طريقة قد
جرى عليها جملة من العلماء من تخطئة بعضهم بعضا في المسائل ، وربما انجرّ الى
التجهيل والطعن في العدالة .
وعليه فصاحب «
لؤلؤة البحرين » حمل المجموعة بخط الشيخ إبراهيم هذا التي كانت عند المجلسي على
الرسالة الحائرية ، وقد مرّ فيما نقل البحراني عنها اعتراض الكركي على القطيفي في
حرم الامام الرضا عليهالسلام : أنّه لم لم يقبل جائزة الحكام؟! ولكن الأفندي نقل
الاعتراض هذا هكذا :
« سمعنا من
المشايخ أنّه كان رحمهالله بمشهد الحسين عليهالسلام أو المشهد الغروي على مشرفه أفضل الصلاة والسلام ،
واتّفق ورود الشيخ علي المذكور هناك ، واجتمعنا خلف القبر المبارك في الرواق. وكان
السلطان « الشاه طهماسب » قد أرسل في تلك الأوقات للشيخ إبراهيم المذكور جائزة ،
وردّها الشيخ .. فقال له الشيخ علي : انك أخطأت في ذلك الرد وارتكبت اما محضورا أو
مكروها. واستدل على ذلك القول بأن مولانا الحسن عليهالسلام قد قبل جوائز معاوية ، ومتابعته والتأسي به إما واجبة
أو مندوبة ، وتركها إما حرام أو مكروه كما تحقق في الأصول ، وهذا السلطان لم يكن
انقض درجة من معاوية وأنت لم تكن أعلى رتبة من الحسن عليهالسلام. وأجابه الشيخ بجواب .
فترى ما فيه من
المفارقات عن واقع اعتراض الكركي وجواب القطيفي عالم يذكره. وعذره في ذلك نقله ذلك
بواسطة « المشايخ » ولعله سمعه من شيخه المجلسي نقلا بالمعنى عن الرسالة الحائرية
للقطيفي نفسه. والطريف أن البحراني ابتدأ فنقل ما نقله الأفندي ثمّ نقل ما في
الرسالة الحائرية ولم يلتفت الى وحدة القضية
__________________
واختلاف النقل ورجحان النقل المباشر على النقل بالواسطة. ثم انبرى المولى
الأفندي لتفنيد اعتراض المحقق الثاني فقال :
« لكن أقول :
إنّ كلام المحقق الثاني تتراءا منه آثار المغالطة :
أما أولا ـ فلأن
أخذ الحسن جوائز معاوية كان استيفاء لبعض حقوقه عليهالسلام ، فان الدنيا بما فيها لهم عليهمالسلام ، فكيف بما في يد ذلك الطاغي الباغي ، فلا تصح المقايسة
، ويبطل حديث التأسي لأنه يجب أو يستحب فيما لم يعلم فيه جهة اختصاص ، وهو ظاهر.
وأما ثانيا ـ فلأن
باب التقية والضرورة في شأنه عليهالسلام واضح مفتوح في أخذه تلك الجوائز ، لأنه كان قد صالح
ظاهرا مع ذلك الملحد تقية لشيعته وحقنا لدم زمرة تبعته ، فلو لم يقبل الجوائز منه
لتخيّل ذلك الشقي أنّه لم يقر على عهده وصلحه ، ولعله يخطر بباله أنّه يريد الخروج
عليه ثانيا. وعلى هذا أيضا فلا وجه للاستدلال بفعله من جهة التأسي.
وأما ثالثا ـ فلأن
الله تعالى يقول « وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النّارُ » وأخذ تلك
الجوائز من السلطان الجائر مستلزم له البتة ، فهو ـ حينئذ ـ ممنوع ، من باب أن
مقدمة المحظور محظورة أيضا إذا كانت مستلزمة له ، إذ قل ما ينفك الركون مع الإحسان
كما قيل « الإنسان عبد الإحسان » خرج عنه ما خرج من وقت الضرورة ونحوها فيبقى
الباقي تحت المنع. ومن المعلوم أنّ ذلك الاحتمال ـ أعني الضرورة ـ عن هذا الشيخ
مرتفع ، على ما صرّح به هو نفسه ، فلا وجه لتجويزه له » .
وقبل أن يحاكم
بينهما اعتذر يقول : وأنا أقول : إن كليهما طودا الحلم وعلما العلم ولا يليق بمثلي
أن يحاكم بينهما .
يقول هذا وهو
بعد ذلك يقول : وقد سمعت عن الأستاذ ( المجلسي ) أيده الله :
__________________
أنّه ( القطيفي ) لم يكن ذا فضل كثير ، فليست له مرتبة المعارضة مع الشيخ
علي الكركي إذ أين فضله عن فضل الشيخ علي وعلمه وتبحره فلما ذا
عدّهما علما العلم وطودا الحلم؟ لعله لقوله :
« رأيت بخط بعض
العلماء أنّه حكى عن بعض أهل البحرين في حق الشيخ إبراهيم هذا ، « قدس الله سره »
: أن هذا الشيخ قد دخل عليه الإمام الحجة عليهالسلام في صورة رجل يعرفه الشيخ ، وسأله : أي الآيات من القرآن
في المواعظ أعظم؟ فقال الشيخ : قوله سبحانه :
« إِنَّ
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ، أَفَمَنْ يُلْقى فِي
النّارِ خَيْرٌ؟ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ؟! اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
» فقال : صدقت يا شيخ. ثم خرج عنه. فسأل بعض أهل البيت : أخرج فلان؟ قالوا :
ما رأينا أحدا داخلا ولا خارجا على أنّ المجلسي قد ذكر كتاب الأربعين في عداد مصادر بحاره
وتوثيق أصابها فقال :
« والشيخ
إبراهيم القطيفي « رحمهالله » كان في غاية الفضل ، وكان معاصرا للشيخ نور الدين
المروّج « الكركي » وكانت بينهما مناظرات ومباحثات كثيرة » . فلا محيص عن
التعارض بين القولين ، ولا يدرى السابق عن اللاحق.
هذا
الكتاب :
قال الأفندي :
وقد ألف في كل موضع ألف فيه الشيخ علي الكركي للردّ عليه. ومن جملة ذلك : الرسالة
الخراجية المسماة ب « السراج الوهّاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج » وقد وضعها في حرمة
الخراج ردّا على الشيخ علي في رسالته « قاطعة اللجاج » التي صنّفها في حلّ الخراج .
أما المؤلف
الفاضل القطيفي فقد قال عنها : وإنّ بعض إخواننا في الدين ( يعني المحقق الكركي )
قد ألف رسالة في حلّ الخراج وسمّاها « قاطعة اللجاج » وأولى باسمها
__________________
أن يقال : مثيرة العجاج كثيرة الاعوجاج! ولم أكن ظفرت بها منذ ألفها إلا
مرة واحدة في بلد « سمنان » وما تأملتها إلّا كجلسة العجلان. وأشار اليّ من يجب
طاعته بنقضها ليتخلّق من رآها من الناس برفضها ، فاعتذرت بأعذار لا نذكر الآن. وما
بلغت منها حقيقة تعريضية ـ بل تصريحية ـ بأنواع التشنيع ومخالفته في ذلك.
فلما تأمّلته
الآن مع علمي بأن ما فيها أوهى من نسج العناكب ، فدمع الشريعة على ما فيها من
مضادها ساكب ، وهو مع ذلك لا يألو جهدا بأنواع التعريض ـ بل التصريح ـ بما يكاد
يخفى مقصده فيه على أهل البصائر ، ومن هو على حقائق أعوار المقاصد عائر ..
فاستخرت الله
تعالى على نقضها وابانة ما فيها من الخلل والزلل ، ليعرف أرباب النظر من أهل العلم
والعمل الحق فيتبعوه ، والباطل فيجتنبوه ، فخرج الأمر بذلك.
فألفت هذه
الرسالة وجعلتها واضحة الدلالة وسميّتها « السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج »
ومن الله تقدس اسمه اسأل العصمة في المقاصد والمصادر والموارد .
والمقصود من
حلّ الخراج ما قاله المحقق الكركي في مقدمة كتابه : وفي حال غيبته عليهالسلام قد أذن أئمتنا عليهمالسلام لشيعتهم في تناول ذلك من سلاطين الجور ، كما سنذكره
مفصّلا .
والظاهر أنّ
مقصوده من ذلك هو ما قاله بشأنه صاحب « رياض العلماء » :
« ويلوح من بعض
التواريخ الفارسية : أنّ الشيخ علي الكركي هذا قد دخل بلاد العجم في زمن سلطنة
السلطان الشاه إسماعيل ، وأنّ الشيخ علي المذكور دخل الى « هراة » بعد دخول
السلطان الشاه إسماعيل المذكور إليها في سنة غلبة السلطان المذكور على ملك الاوزبك
: شاه بيگ خان » .
__________________
وقال : « واتصل
بصحبة السلطان ( الشاه طهماسب الصفوي ثاني سلاطين الصفوية ) فكان معظما مبجلا في
الغاية عند ذلك السلطان وقد عيّن له وظائف وادارات كثيرة ، حتى أنّه قرر له
سبعمائة تومانا في كل سنة بعنوان « السيورغال » في بلاد عراق العرب ، وكتب في ذلك
حكما وذكر فيه اسمه في نهاية الإجلال والإعظام » .
وقال : وقد كان
هذا الشيخ معظما عند السلطان الشاه الطهماسب في الغاية ، وأعطاه وظائف « وسيور
غالات » وادارات ببلاد عراق العرب ، وقد نصبه حاكما في الأمور الشرعية بجميع بلاد
إيران ، وأعطاه في ذلك الباب حكما وكتابا يقضي منه العجب ، لغاية مراعاة ذلك
السلطان لأدبه في ذلك الكتاب ، ولما كان ذلك المكتوب مشتملا على مطالب جليلة دعاني
ذلك الى إيراد صورة ذلك الحكم والكتاب في هذا الموضع من هذا الكتاب ، وكان صدره
هكذا : بسم الله الرحمن الرحيم يا محمّد يا عليّ .. .
فكأن اقطا
السلطان الصفوي هذه الخراجات لهذا الشيخ هو الذي أثار الضجة ، فكتب الشيخ ردّا
عليهم « قاطعة اللجاج في تحقيق حلّ الخراج » فردّه القطيفي بكتابه : « السراج
الوهّاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج ».
وقد مرّ في
ترجمة شيخه الكركي ، أنّ العلامة الطهراني يؤرخ فراغ الكركي من تأليفه رسالة
الخراجية بسنة ٩١٦ ويؤرخ فراغ الفاضل القطيفي من رسالته الردّية : «
السراج الوهاج » بسنة ٩٢٤ فالفاضل بينهما ثمان سنين ، وكجواب عن هذه الفترة
الفاصلة قال القطيفي في مقدمته :
« ولم أكن ظفرت
بها منذ ألفها إلا مرة واحدة في بلد « سمنان » وما تأمّلتها إلا كجلسة العجلان ،
أشار إليّ من يجب طاعته بنقضها ليتخلّق من رآها من
__________________
الناس برفضها ، فاعتذرت .. وما بلغت ( حينئذ ) منها حقيقة تعريضية بل
تصريحية بأنواع التشنيع ، فلما تأمّلته الآن مع علمي بأنّ ما فيها أوهى من نسج
العناكب ، فدمع الشريعة على ما فيها من مضادّها ساكب ، وهو مع ذلك لا يألو جهدا
بأنواع التعريض بل التصريح .. فاستخرت الله على نقضها وابانة ما فيها من الخلل
والزلل ، ليعرف أرباب النظر من أهل العلم والعمل الحق فيتبعوه ، والباطل فيجتنبوه
، فخرج الأمر بذلك ، فامتثلت .. » .
أما قبل هذا
فقد كان الفاضل القطيفي من تلامذته والمستجيزين منه الحديث كما مرّ عن صاحب «
الحدائق » ولذلك قال فيه : « والعجب أنه مع كونه يروي عن الشيخ الكركي
كانت له معه معارضات ومناقضات .. وقد وقعت بيدي رسالة من رسائله سمّاها ب «
الرسالة الحائرية في تحقيق المسألة السفرية » ذكر في صدر الرسالة المذكورة ما اتفق
له مع الشيخ علي في سفره معه للمشهد المقدس الرضوي من المسائل التي نسبه فيها الى
الخطأ .. الى أنّ قال : ثم فارقته قاصدا المشهد الغروي على أحسن الحال. فلما وصلت
تواترت الأخبار عنه من الثقات وغيرهم بما لا يليق بالذكر ، الى أن انتهى الأمر إلى
دعواه العلم ونفيه عن غيره. فبذلت وسعي ـ بجميع أنواع الملاطفة ـ في ( طلب ) رضاه
بالاجتماع للبحث والمذاكرة ، فأبى .. ».
وذكر في آخر
الرسالة ما صورته : « وإذ فرغت من هذه فأنا مشتغل بنقض رسالته « الخراجية » وكشف
لبس ما رتّبه فيها من المباحث الاقناعية » وهو مما يقضى منه العجب العجيب ، كما لا
يخفى ذلك على الموفق الأريب » .
تحدّيه
شيخه بمناظرته :
أما قوله : «
فبذلت وسعى ـ بجميع أنواع الملاطفة ـ في ( طلب ) رضاه بالاجتماع
__________________
للبحث والمذاكرة ، فأبى .. ».
فقد نقله
المولى عبد الله الأصفهاني في « رياض العلماء » عن حسن بيگ روم لو المعاصر للشيخ
علي الكركي هذا في تاريخه بالفارسية « أحسن التواريخ » ما معناه :
ان الشيخ
إبراهيم القطيفي لما خاصم الشيخ علي الكركي رجع الأمير نعمة الله الحلي ـ الذي كان
من تلامذة الشيخ علي الكركي ـ رجع عنه واتصل بالشيخ إبراهيم القطيفي مع جماعة من
العلماء في ذلك العصر : كالمولى حسين الأردبيلي والمولى حسين القاضي مسافر ـ المولى
حسين ـ وغيرهم ممن كان بينهم وبين الشيخ علي كدورة ، ودفع الأمير نعمة الله الحلي
مع الجماعة من العلماء دفعوا الشيخ إبراهيم القطيفي على أن يباحث مع الشيخ علي
الكركي في مجلس السلطان الشاه طهماسب في مسألة صلاة الجمعة ، ووعده ذلك الجمع من
العلماء أن يعاونوه في البحث في المجلس ، وكان يعاونهم في ذلك جماعة من الأمراء
أيضا ، عداوة للشيخ علي (!) ولكن لم يتّفق هذا المقصود ولم ينعقد ذلك أصلا .
وعلق السيد
الأمين العاملي على هذه المواقف للفاضل القطيفي في مواجهة شيخه المحقق الكركي يقول
: ان العالم إذا تورّع عن جوائز الملوك وتنزه عنها وتجنب الانحياز إليهم تورّعا ،
فلا لوم عليه ولا يقدح ذلك فيه ، بل هو طريق السلامة. ولكن اللوم على القطيفي في
قدحه في الشيخ وإطالته لسانه عليه مع جلالة قدره وعظم محله في العلم ، وكون
القطيفي ليس من رجاله ، فان من تورّع عن جوائز الملوك لا يجوز له القدح فيمن
يأخذها ، لوجوب حمل فعله على الصحة ، لا سيما إذا كان من أجلاء العلماء كالمحقق
الكركي .
ولا شبهة في
تقدم الشيخ علي عليه في العلم والتحقيق والتبحّر ، كما لا شك في أنّ الشيخ علي
أبعد غورا وأصحّ رأيا وأقوى سياسة في قبوله جائزة الشاه طهماسب ومخالطته لملوك
الصفوية ، وانّ في ردّ القطيفي لجائزة الشاه لنوع جمود .
__________________
وقال في أحواله
: قدم من القطيف الى العراق وسكن النجف ، وتوفي فيه ، ولم أقف على تاريخ وفاته ،
لكنّه كان حيا سنة ٩٤٤ وهي تاريخ أجازته الكبيرة للسيد شريف الدين الحسيني
المرعشي الشوشتري والد القاضي نور الله الشوشتري صاحب « مجالس المؤمنين » .
__________________
بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي
يسر معرفة اليقين فظهرت للعارفين حقائقه ، وأوضح لطلّابه أعلامه وبانت للمساكين
طرائقه ، الذي يقذف ( بِالْحَقِّ عَلَى
الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ) ، والصلاة على المختار للهداية فهو قائد الخير وسائقه ،
محمّد المصطفى الذي صفت جميع صفاته وخلائقه ، وعلى أخيه الذي جعل سيفا لنبوّته فهو
مؤازره وموافقة ، ذلك أمير المؤمنين حقّا المميّز به صادق عهد الله ومدافعة ، صلّى
الله عليهما وعلى آلهما الذين هم سوابق الفضل ولواحقه.
وبعد ، فيقول
الفقير الى الله المنّان إبراهيم بن سليمان : إنّ الزمان وإن تفاقمت ضلالته وبعدت
هدايته ، ورجع القهقرى على عقبه وأقعى إقعاء الكلب على ذنبه ، وكلح منه لأهل
الفضل نابا وفتح لهم من مضلّات الفتن بابا ، ونادى بخدّامه في الشهوات الذين
ارتكبتهم الغفلة والهفوات : هلمّوا إلى بقية الله للدين وحفظة الحجج والبراهين ،
فلا يبقوا لهم من الناس دارا ولا في عمران الأرض آثارا ، فإن وليّ النعم ودافع
النقم ممد لأوليائه بالارقاد وهو القاهر
__________________
__________________
بقدرته في سمائه وأرضه فوق العباد ، وقد صرّح عنه بكلامه فصيح المنادي ،
فأسمع من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد من الحاضر والبادي
« أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ.
إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ. وَثَمُودَ
الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ. الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ. فَصَبَّ عَلَيْهِمْ
رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ. إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ
» و « إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ
» .
هذا وأنّ بعض
إخواننا في الدين قد ألّف رسالة في حلّ الخراج وسمّاها « قاطعة اللجاج » وأولى
باسمها أنّ يقال : مثيرة العجاج كثيرة الاعوجاج ، ولم أكن ظفرت بها منذ ألّفها
إلّا مرّة واحدة في بلد سمنان ، وما تأمّلتها إلّا كجلسة العجلان ، فأشار إليّ من
يجب طاعته بنقضها ليتخلّق من رآها من الناس برفضها ، فاعتذرت بأعذار لا نذكر الآن ، وما
بلغت منها حقيقة تعريضية بل تصريحية بأنواع التشنيع ومخالفته في ذلك ، فلمّا تأمّلته
الآن مع علمي بأن ما فيها أو هي من نسج العناكب ، فدمع الشريعة على ما فيها من
مضادّها ساكب ، وهو مع ذلك لا يألو جهدا بأنواع التعريض بل التصريح بما يكاد يخفى
مقصده فيه على أهل البصائر ، ومن هو على حقائق أعوار المقاصد عاثر ، لكن المرء
المؤمن يسلّي نفسه بالخبر المنقول عن أهل المآثر عليهمالسلام : لا يخلو المؤمن من خمس ـ الى أن قال ـ : وهو مؤمن
يؤذيه ، فقيل : مؤمن يؤذيه! قال : نعم وهو شرّهم عليه لأنّه يقول فيه فيصدّق وفي قوله
تعالى « وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ »
__________________
وقوله « وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ
كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
» أتمّ دلالة وسلوى ، وقد حسن بي إن أتمثّل بقول عنترة العبسي :
ولقد خشيت
بأن أموت ولا أرى
|
|
للحرب دائرة
بابني ضمضمي
|
شاتمي عرضي
ولم اشتمهم
|
|
والناذرين
إذا لم ألقهما ذمي
|
فاستخرت الله
تعالى على نقضها وابانة ما فيها من الخلل والزلل ، ليعرف أرباب النظر من أهل العلم
والعمل الحقّ فيتّبعوه والباطل فيجتنبوه ، فخرج الأمر بذلك ، فامتثلت قائلاً من
قريحتي الفاترة على البديهة الحاضرة ثلاثة أبيات :
فشمّرت عن
ساق الحميّة معربا
|
|
لتمزيقها
تمزيق أيدي بني سبا
|
وتفريقها
تفريق غيم تقيّضت
|
|
له ريح خسف
صيرت جمعه هبا
|
أبى الله أن
يبقى ملاذ العاقل
|
|
كذاك الذي
لله يفعل قد أبى
|
فألّفت هذه
الرسالة وجعلتها واضحة الدلالة وسمّيتها « السراج الوهّاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج
» ومن الله تقدّس اسمه أسأل العصمة في المقاصد والمصادر والموارد ولا قدّم على
المقصود بالذات من النقض فوائد :
الفائدة
الأولى :
قال العلّامة
في تحريره : فصل ، ويحرم كتمان الفقه والعلم قال الله تعالى
« إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللّاعِنُونَ » . وقال
« إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ
ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النّارَ
» . وقال ـ عليهالسلام ـ : من كتم علما الجمعة الله يوم القيامة بلجام من
النار . وقال ـ عليهالسلام ـ : إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه فمن لم
__________________
يفعل فعليه لعنة الله .
الثانية
:
قال عليهالسلام : الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل :
يا رسول الله فيما دخولهم في الدنيا؟ قال : اتّباع السلطان ، فاذا فعلوا ذلك
فاحذروهم على دينكم . أورد ذلك العلامة في تحريره أيضا . وقال عليهالسلام : العلماء أحبّاء الله ما أمروا بالمعروف ونهوا عن
المنكر ولم يميلوا في الدنيا ولم يختلفوا أبواب السلاطين ، فإذا رأيتهم مالوا الى
الدنيا واختلفوا أبواب السلاطين فلا تحملوا عنهم العلم ولا تصلّوا خلفهم ولا
تعودوا أمراضهم ولا تشيّعوا جنائزهم فإنهم آفة الدّين وفساد الإسلام يفسدون الدين
كما يفسد الخل العسل . وقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : النظر في وجوه العلماء عبادة . سئل جعفر بن
محمد عليهالسلام عنه فقال : هو العالم الذي إذا نظرت اليه ذكّرك الآخرة
ومن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة . وفي حديث آخر : إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم
أنّه لص وإياك يخدع ، ويقال : يردّ مظلمة ويدفع عن مظلوم ، فإنّه هذه خدعة إبليس
اتخذها فخّا والقرآن سلّما . وروي الشيخ بإسناده إلى معاوية الأسدي قال : سمعت أبا
عبد الله جعفر بن محمد ( عليهماالسلام ) يقول : أما والله إنكم لعلى دين الله وملائكته
فأعينونا على ذلك
__________________
بورع واجتهاد ، عليكم بالصلاة والعبادة ، عليكم بالورع . وإلى محمّد
بن مسلم الثقفي قال : سمعت أبا جعفر محمّد بن علي عليهماالسلام يقول : لا دين لمن دان بطاعة من عصى الله ، ولا دين لمن
دان بفرية باطل على الله ، ولا دين لمن دان بجحود شيء من كتاب الله . وإلى علي بن
جعفر بن محمّد عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليهمالسلام قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ذات يوم لأصحابه : ألا أنّه قد دبّ إليكم داء الأمم من
قبلكم وهو الحسد ، ليس بحالق الشعر لكنه حالق الدّين ، وينجي منه أن يكفّ الإنسان
يده ولسانه ، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن . وإلى ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : تناصحوا في العلم فإن خيانة أحدكم في علمه أشدّ من
خيانة في ماله وإنّ الله سائلكم يوم القيامة . وبحذف الإسناد عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : العلم وديعة الله في أرضه والعلماء أمناؤه ، فمن عمل
بعلمه أدّى أمانته ، ومن لم يعمل بعلمه كتب في علم الله من الخائنين .
الثالثة
:
بحذف الإسناد
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من أعان طالب
__________________
العلم فقد أحبّ الأنبياء وكان معهم ، ومن أبغض طالب العلم فقد أبغض
الأنبياء فجزاؤه جهنّم ، وأنّ لطالب العلم شفاعة كشفاعة الأنبياء ، وله في جنّة
الفردوس ألف قصر من ذهب ، وفي جنّة الخلد مائة ألف مدينة من نور ، وفي جنّة المأوى
ثمانون درجة من ياقوتة حمراء ، وله بكلّ درهم أنفقه في طلب العلم جوار بعدد النجوم
وبعدد الملائكة ، ومن صافح طالب العلم حرّم الله جسده على النار ، ومن أعان طالب
العلم إذا مات غفر الله له ولمن حضر الجنازة. قالوا لمالك بن دينار : يا أبا يحيى
ربّ طالب علم للدنيا! فقال : ويحكم ليس له يقال طالب العلم يقال له طالب الدنيا . وهذا موافق
لقوله عليهالسلام : ولئن تطلب الدنيا بأقبح ما يطلب به خير من أن يطلب
بأحسن ما يطلب به الآخرة . وقال عليهالسلام من آذى طالب العلم لعنته الملائكة وأتى يوم القيامة وهو
عليه غضبان ، ومن أهان فقيها مسلما لقي الله وهو عليه غضبان .
الرابعة
:
الفقهاء أفضل
الناس بعد المعصومين إذا عملوا بمقتضى علمهم واستعملوا الورع في أفعالهم وكفّوا
ألسنتهم عن الغيبة لأنها آفتهم ، فإن الرجيم اللعين قد علم أنّهم أشدّ الخليقة
عليه لأنه إنّما طلب النظرة لإغواء النوع وهم هداة الطريقة ، ولهذا ورد أنّ فقيها
واحدا أشدّ على إبليس من ألف عابد فامتحنهم بحبّ
__________________
السمعة وبالغيبة ، لأن الأولى علامة المرائي ، والرّياء يصيّر الطاعات
معاصي ، والثانية تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ، وقد ورد فيها ما لا يحصى.
ومنه عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام الغيبة إدام كلاب النار . وعنه أيضا : كذب
من زعم أنه ولد من الحلال ويأكل لحوم الناس . وزيّن أيضا لهم ما وجب عليه التنزّه عنه من أعمال
الحيل والشبه في الدين ليسقط أمانتهم عند الله ومحلّهم عند قلوب الأتقياء ، فإن
تميّز المقتدي أنما يكون بما ينفرد به عن أبناء النوع ، فكيف إذا فعل ما يتعفّف
عنه أكثر أفرادهم؟ لا جرم يسقط محلّه فلا يركن إليه في الدين لأنّه ظالم لنفسه
فيدخل تحت عموم قوله تعالى « وَلا تَرْكَنُوا إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ
أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ
» .
الخامسة
:
الحيل الشرعيّة
على أقسام : منها ما لا ينافي الأمانة ، ومنها ما ينافيها ولهما ضابط هو أن ما
أخلّ بالمطلوب الشرعي الناشئ عن حكمة ربّانية بها يتمّ صلاح النوع وأحوال معاشهم
فلا شك في كونه منافيا للأمانة ، وما ليس كذلك لا ينافيها لكن منه ما يكون التنزّه
عنه أولى ، ومنه ما لا يوصف بذلك ، ولنفرض صورا يتّضح للناظر بها جليّة الحال.
الأولى : إذا
باع الإنسان موزونا أو مكيلا بمثله جنسا متفاضلا فهو ربا ، فجاز أن يتحيّل بما
يخرجه عن الربا إمّا بضمّ غير الجنس إليه أو غير ذلك من الصور المذكورة شرعا ،
وهذا غير مناف للحكمة بل موافق لها وليس تركه أولى ، وذلك لأنّ تحريم الربا أمر
تعبّدي لا يتعلّق بمصلحة المتعاوضين أصلا بل مصلحتهما نظرا الى عمل المعاش في جعل
التعاوض تابعا لتراضيهما ، ومن ثم أجاب تعالى
__________________
المنكرين حيث قال حكاية عنهم « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا » بقوله « وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » فغرض الشارع
يتمّ بالتخلّص منه بأيّ وجه اتفق ، إذ لا غرض له منوطا إلا بعدم التفاضل مع
التساوي ، ومثل هذه الحيلة لإسقاط الشفعة فإن الأمثل إن نزع المال من المالك لا
يكون إلا عن رضاه خرج منه ما كلّف به الشارع عند وقوع البيع دون سائر العقود في
الأراضي التي يمكن قسمتها من ثبوت حق الشريك وهو الأخذ بالشفعة ، وليس بلازم على
المشتري أن يوقع البيع ليشفع منه بل له أن يوقع الصلح ليسلم من التكليف بالحكم
الشرعي ، والحقّ تعالى إنّما أوجب حكم الشفعة مع البيع ولم يوجب البيع.
الثانية : إذا
دفع الى فقيه مالا ليصرفه على المحاويج ويأخذ منه لنفسه إن كان محتاجا وهو غير
محتاج فملّك ماله من يثق به كولده وزوجته ليكون محتاجا وأخرجه على نفسه ثم استعاد
ماله كان ذلك من الحيل المنافية للأمانة لمنافاته حكمة طلب إخراج الزكاة لأن الغرض
مساواة الفقراء ودفع ضروراتهم بدفع الحقّ المفروض لهم وقد ورد استحباب نقلها الى
الفقهاء لأنهم أعلم بمواقعها ، وربما قيل بالوجوب ، فاذا فعل الفقيه ذلك كان خائنا
لأمانته غير موثوق بديانته وهو ممّن نصب للدين فخّا يصطاد به ، ومثل هذا من أتى
الى مال مسلم يده عليه فتسلّط باليد الغالبة حتى أخافه ، وعلم منه أنّه إن لم
يوافقه اضطرّه الى ما هو أبلغ ممّا يلتمس منه ، ثم طلب منه أن يبيعه نصف نخيله
وبساتينه التي يكون قيمة الواحد منها ألف دينار وهي خمسون مثلا بدينار ليتملّك نصف
ذلك ويأخذه منه ، وذلك لأنه مناف لمطلوب الشارع من عدم أكل المال بالباطل إلا أن
تكون تجارة عن تراض ، الناشئ عن حكمة تسلّط المسلمين على أموالهم إلا عن طيب من
__________________
أنفسهم ليتمّ نظامهم ويتوفّر دواعيهم الى حاجاتهم المتفرّعة عن غناهم ،
ونحو ذلك من أمره ظالم بمال على عامل لا يستحقّ عنده شيئا كعشار مثلا فأخذ رطل
إبريسم مثلا فباعه عليه باثني عشر تومانا وقيمة الرطل أضعافه والمأمور عليه لا
يقدر أن يمتنع لخوف من الظالم فإن ذلك خيانة وإعانة على منكر وهو أمر الظالم على
المظلوم بما لا يستحقّ وعدم انزجار العامل عن عمله ، فانظر أيّها العاقل اللبيب كم
بين الصورتين اللتين في المسألة من ألف ألف جريب ، وبعض قاصري النظر عادمي الفكر
يتسلّط على جواز الصور بورودها في مثل دفع الربا والشفعة ، وليس إلّا من غلبة حبّ
الدّنيا المقتضي لعدم البصيرة ، ونعوذ بالله من ذلك.
الثالثة : إذا
كان على فقير من السادة أو العوام دين لرجل وعلى الآخر حقّ من الخمس أو الزكاة ،
وعلم كلّ منهما أنّ المدين لا يتمكّن من أداء الدين لإعساره ، فصالح ذو الحقّ ـ صاحب
الدين ـ على ما في ذمّته الفقير بشيء نذر رضي به صاحب الدين لعلمه بعدم تمكّنه من
الاستيفاء ، ثم احتسب ذو الحق ما يستحقّه في ذمّة الفقير من حق الله تعالى عليه فإنّه
يصح ولا ينافي الحكمة ، لكن احتساب قدر ما دفع وإبراء الفقير أو إنظاره بالباقي
ودفع باقي ما في ذمّته من الحقّ إلى الفقراء أولى. ولهذا ورد في الشرع المطهّر
كراهة صرف الصدقات الواجبة الى من يعتاد صلته من الاخوان ، وربما كان
من هذا الباب الصور الشرعية في دفع القرض بزيادة عليه ، وحكى لي من أثق بدينه إنّ
الشهيد ابن مكّي ـ تغمّده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنّته ـ سئل لمّا قدم المدينة
حاجّا عن المائة يزاد عليها عشرون فقال ربا والله ربا والله ، فقالوا له : ليس كما
تذهب لكن نحن نقرض المائة ونستوهب عشرين منها ثم نقرض العشرين ، فقال : حيلة حيلة
لا أدري.
فانظر الى
تورّع هذا الفقيه واحتياطه في عدم الحيلة المحتملة ، وما نال الفقهاء
__________________
المرتبة عند الله تعالى والزلفة لديه إلّا بالورع ، وما حكاه السعيد عن
والده في طبخ الزبيب فيه كفاية لكل لبيب أريب ، وحيث أتينا على ما أوردناه من
المقدّمات فلنرجع الى المقصود بالذات.
قوله
: حيث إنّا لزمنا الإقامة ببلاد العراق وتعذّر علينا الانتشار في الآفاق لم نجد
بدّا من التعلّق بالغربة لدفع الأمور الضروريّة من لوازم مهمّات
المعيشة .
أقول : لا يخفى
على كلّ ناظر أنّ هذا العذر لا ينهض على مخالفة الشرع القويم والطريق المستقيم ،
فالتعلّق بالغربة إمّا أن يكون مشروعا خاليا عمّا يدنس غرض أهل الشريعة أو لا يكون
، فإن كان الأول لم يفتقر إلى توطئة العذر بما ذكر على وجه هو إظهار عدم حبّ الزيادة
وطبيعة بعض المكلّفين مشعوفة بها كما لا يخفى ، وإن كان الثاني فالعذر غير مقبول ،
فكيف يستجير من ادّعى الارتقاء في العلم أن يتكلّم بنحو هذا بعد سماعه قوله تعالى
« إِنَّ
اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
» . وبعد قوله عليهالسلام : من طلب العلم يكفل له برزقه . وقوله عليهالسلام : الرزق كالموت يأتيك وإن هربت منه . وغير ذلك من
الآثار ، على أن الناظر بعين البصيرة يرى ما قاله غير واضح ، فإنّ إقامته في
العراق لم تكن لازمة خصوصا حينئذ وعدم وجدانه بدّا من التعلّق غير واقع ، فإنّه لم
يقم فيها وفي مثلها إلّا ريب ما يطرح الإعياء ، ثم أخذت منه وهو مستقيم في الحالين
ولا تفاوت عليه
__________________
فيهما ، فالعذر إذن مزيّف إلا على من ران على قلبه ممّا كسب.
قوله
: مقتفين في ذلك أثر كثير من العلماء وجمّ غفير من الكبراء الأتقياء .
أقول : لم يرض
هذا المعتذر أن يرتكب ما ارتكب إلّا بأن ينسب مثل فعله إلى الأتقياء على قاعدة
قوله تعالى وقول رسوله المعلومين لأهل العلم وتركنا ذكره بعينه حذرا من خبط
الجهّال في المثال. وليت شعري أيّ تقي ارتكب ما ارتكبه من أخذ قرية يتسلّط فيها
بالسلطان من غير سبق العياء ولا غيره من الأسباب المملّكة ، فإن كان وهمه يذهب الى
مثل العلّامة جمال الملّة والدين الحسن بن يوسف بن المطهّر ـ قدّس الله سرّه ـ فهذا
من الذي يجب عنه الاستغفار ويطهر القسم بتكراره بعد المضمضة ، فإن الذي كان له من
القرى حفر أنهارها بنفسه وأحياها بماله لم يكن لأحد فيها من الناس تعلّق أبدا ،
وهذا مشهور بين الناس ، ويدلّ عليه ونزيده بيانا أنّه وقف أكثر قرأه في حياته وقفا
مؤبّدا ، ورأيت خطّه عليه وخطّ الفقهاء المعاصرين له من الشيعة والسنّة ، ومنه الى
الآن ما هو في يد ينسب إليه بقبضه بسبب الوقف الصحيح ، وفي صدر سجل الوقف أنّه
أحياها وكانت مواتا ، والوقف الذي عليه خطّه وخطّ الفقهاء موجود الآن ومع ذلك
فالظنّ بمثله لما علم من تقواه وتورّعه يجب أن يكون حسنا مع أنّه يتمكّن من الأمور
على ما في نفسه ، ولو لم يكن من تقواه ، إلّا أن أهل زمانه فيه بين معتقد فيه ما
لا يذكر وآخر يعتقد فيه الأمر المنكر ويبالغون في نقضه ويعملون بنقل الميّت دون
قوله كما صرّح به هو عن نفسه وهو في أعلى مراتب القدرة عليهم ، ولم يتعرّض لغير
الاشتغال باكتساب الفضائل العلمية والأحكام النبوية وإحياء دارس الشريعة المحمّدية
لكان كافيا في كمال ورعه وجمال سيرته ، ونحو ذلك يقال في مثل علم الهدى وأخيه ـ رضوان
الله عليهما ـ على أنّ الذي يجب على هذا المستشهد
__________________
نظرا الى طريقة العلم وآدابه واقتفاء آثار المستشهدين أنّه ينقل عنهم ولو
بخبر واحد أنهم أخذوا القرية الفلانية أو قرية ما لغيرهم تعلّقوا بها لأمر السلطان
لهم بذلك حتى ثبت استشهاده ، أمّا مجرّد أن يكون لهم قرى وأموال ونحو ذلك لا يدلّ
على أنهم فعلوا كمثل فعله ليصحّ استشهاده ، فهذا أيضا مزيّف ، وحسن أن يتمثل له
بقول الشاعر :
وأفحش عيب
المرء أن يدفع الفتى
|
|
توى النقص
عنه بانتقاص الأفاضل
|
قوله
: اعتمادا على ما ثبت بطريق أهل البيت عليهمالسلام من أنّ أرض أهل العراق ونحوها
ممّا فتح عنوة بالسيف لا يملكها مالك مخصوص بل هي للمسلمين قاطبة يؤخذ منها الخراج
أو المقاسمة ويصرف في مصارفه .. إلخ .
أقول : سيأتي
الجواب إن شاء الله تعالى عن هذا في محلّه مفصّلا ، بحيث يكشف عن غمام التباسه
ويعرّف المستضيء بنور الحقّ موضع اقتباسه.
قوله
: وفي حال غيبته عليهالسلام قد أذن أئمتنا عليهمالسلام لشيعتهم في تناول ذلك من
سلاطين الجور .
أقول : الذي
أذن أئمّتنا عليهمالسلام لشيعتهم في زمن الغيبة المناكح وفي وجه قوي له شاهد من
الأثر المساكن والمتاجر وهو في الأرضين مختصّ بما كان حقّهم عليهمالسلام كالأنفال ، أمّا الأرض المفتوحة عنوة فهي للمسلمين
قاطبة ، فتصرّفهم فيها جائز مع عدم ظهور الامام ، ويدلّ عليه ما يأتي من الأحاديث
ما أشار إليه بعض الأصحاب كالشيخ في التهذيب وغيره ، والظاهر سقوط الخراج زمن الغيبة عن الشيعة
لظاهر الأخبار. ويؤيّده أنه لم ينقل عن السلف منهم والخلف عزل قسط من شيء من
الأراضي وإن لم يؤخذ منهم الخراج مع اعتنائهم
__________________
بالتقوى والتحرّز عن الاشتغال بالحقوق. وقد يستدلّ على سقوط الخراج عن
المسلمين كافّة مع عدم ظهور الامام بظاهر بعض الأحاديث ، وسيأتي. نعم الظاهر أنّه
يستقرّ الضمان على غير الشيعة لظاهر حديث عمر بن يزيد . إذا عرفت هذا
فقوله « وفي حال غيبته عليهالسلام قد أذن أئمّتنا عليهمالسلام لشيعتهم في تناول ذلك من سلاطين الجور » إن أراد به
أنهم إذ أذنوا في تناول الأراضي فهو ممنوع ، ولا نعرف قائلاً به ولا أثرا من
الحديث يدلّ عليه ، وهو قد سلّم ذلك في رسالته حيث اعترض بعد ذكر الحديث التي تدلّ
في زعمه على إباحة الخراج باعتراضين.
أحدهما : أن
الأحاديث في الابتياع فلا يجوز غيره.
والثاني : أنها
في التناول لما يأخذه الجائر فلا يتسلّط على الأخذ من دون أخذه سابقا ، لأنه غير
مدلول الأحاديث وقصاراه في الجواب عن الثاني المساواة ، وعن الأول المساواة مع
التنبيه الدالّ على الأولوية. وستسمعها مع ما عليهما مفصّلا إن شاء الله تعالى.
وإن أراد أنهم
أذنوا في ابتياع ما يأخذه الجائر فليس مخصوصا بالخراج فإنهم أذنوا في ابتياع ما
يأخذه من زكاة من أسلم طوعا من الأراضي بل ومن الأنعام ولا بالشيعة ، ومع أنه لا
يدلّ على ما هو فيه من حلّ القرية بشيء من الدلالات وستسمعه عن قريب إن شاء الله
تعالى.
قوله
: فلهذا تداوله العلماء
.. إلخ.
أقول : إن أراد
بما تناولوه ما أجازه الأئمّة عليهمالسلام لشيعتهم من حلّ الثلاثة أو ابتياع ما يأخذه السلطان فقد
بيّنا أنه لا دلالة فيه على مطلوبه ، وإن أراد أنهم تداول أخذ قرى المسلمين ووضع
يديهم عليها فنحن لا نسلّم فعل واحد
__________________
منهم له أو إشارته إلى إباحته فضلا عن تداولهم له ، وعلى طريق آداب البحث
على المدّعي هنا تصحيح النقل بما ثبت به شرعا ولو بخير واحد أنهم تداولوا ذلك ،
أمّا الدعوى المجرّدة فلا تقبل في مواضع النزاع. هذا وقد يمنع دلالة التداول ما لم
يتحقّق إجماع أو ما يقوم مقامه من الأدلّة التي يصحّ الاعتماد عليها.
قال السيّد
التقيّ الورع ابن طاوس الحسني مجيبا لمن أورد عليه ـ لما ترك التقدم والنقابة
الاعتراض بفعل المرتضى علم الهدى وأخيه بعد أن قال : إن أولئك قد يتملّكون في
زمانهم ممّا لا نقدر عليه ـ ما معناه : إني قلت بذلك على سبيل التأدّب معهما
وإلّا فلست براض عليهما ولا على فعلهما وليسا معصومين حتى يكون فعلهما حجّة ، فهما
داخلان تحت من يردّ عليه مثل هذه الأفعال.
قوله
: مع أني لم أقتصر فيما أشرت إليه على مجرّد ما نبّهت عليه بل أضفت الى ذلك من
الأسباب التي يثمر الملك ويفيد الحلّ ما لا يشوبه شك ولا يلحقه لبس من شراء حصّة
من الأشجار والاختصاص بمقدار معيّن من البذر فقد ذكر أصحابنا طرقا للتخلّص من
الربا
.
أقول : هذا لا
يحتاج الى بيان طائل بعد ما حقّقناه في المقدّمة ، وذلك لأنه إن بنى الحلّ على
الملك فالصورة حيلة تنافي الأمانة بل غير جائزة لأن أهلها مقهورون مخافون ، ولهذا
لمّا أخذت القرية منه لم يمكنه أن يدّعي عليهم ولا أن يطالبهم بما ابتاعه منهم
لأنهم يجيبوه بأنا إنما فعلنا ذلك خوفا ولو كان عن رضي وإيثار لاستقرّ ملكه عليه
كسائر الأملاك المبتاعة ، وإن لم يبن عليه فوجوده كعدمه بل عدمه أولى ، ومن هنا
علم أنّ الاحتياط لا بدّ فيه من المعرفة والتقوى والورع. ومن العجب أنّ الخراج
عنده ليس من الشبهات ولا من المشتبهات ، وظاهره أنّ القرية
__________________
مساوية للخراج ، والاحتياط إنّما بكون المقتضي من الخلاف والشبهة وهذا خلف
، على أنّ الصورة التي عليها مقتضى دخوله تحت الملاك والزراريع الذين يلزمهم
الخراج ، فظاهره كما استشهد به آخر رسالته إن كتم الخراج وسرقته والحيلة عليه لا
يجوز. وحينئذ يلزمه الخراج لدخوله تحت أهله هذا خلف فرجع ما عمله على أصله
بالإبطال.
قوله
: المقدّمة الاولى في أقسام الأرضين وهي في الأصل على قسمين :
أحدهما
: أرض بلاد الإسلام ، وهي عامر وموات ، فالعامر ملك لأهله لا يجوز التصرّف فيه
إلّا بإذن مالكه ، والموات إن لم يجر عليه ملك مسلم فهو لإمام المسلمين يفعل به ما
يشاء ، وليس هذا القسم من محلّ البحث المقصود.
القسم
الثاني : ما ليس كذلك وهو أربعة أقسام :
أحدهما
: ما يملك بالاستغناء .. إلخ.
وثانيهما
: أرض من أسلم أهلها عليها طوعا .. إلخ ، ومنه قوله : إذا عرفت هذا فاعلم أن
العلّامة في المختلف احتجّ بهاتين الروايتين
قلت : يعني ما يذكره
عن قريب على مختار الشيخ والجماعة ، وهما في الدلالة على مختار ابن حمزة وابن
البرّاج أظهر ثم احتجّ لهما برواية لا يدلّ على مطلوبهما بل ولا يلتئم مع مقالتهما
.. إلخ .
أقول : لا يخفى
على ممّن عرف الشريعة بأعلى مراتب المعرفة أو وسطها أو أدناها أن هذا كلام من لا
يحقّق شيئا ومن ليس له اطّلاع على هذا الفنّ ولا على اصطلاح أهله ، وذلك لأن
أصحابنا في باب إحياء الموات يقسّمون الأراضي إلى قسمين : أرض بلاد الإسلام ولا
يخرج عنها ويقابلها أرض بلاد الشرك ، وفي
__________________
باب الجهاد يذكرون للأراضي أقساما أربعة : المفتوحة عنوة ، وأرض الصلح ،
والتي أسلم أهلها عليها طوعا ، والأنفال ، فقسمته هنا الأراضي في الأصل على قسمين
: أحدهما أرض بلاد الإسلام ، وثانيهما ما ليس كذلك ، وهو أربعة عن التحقيق بمعزل ،
فإن أرض الإسلام لا يخلو إمّا أن يكون ما أسلم أهلها عليها طوعا أو ما قابل بلاد
الشرك ، وما قابل بلاد الشرك ينقسم الى المفتوح عنوة وما أسلم أهلها عليها طوعا
وغيرهما. وليت شعري كيف جعل أرض بلاد الإسلام قسما يقابل الأربعة؟ وكيف حصر ما ليس
أرض بلاد الإسلام في الأربعة المذكورة؟ ثم ليت شعري كيف جعل القسم الذي هو أرض
بلاد الإسلام ليس من محلّ البحث المقصود؟ فليت شعري ما المقصود بالبحث حتى لا يكون
منه؟ ومن أيّ وجه. اختصّ ما سواء بأنّه المقصود بالبحث بحيث لا يشاركه فيه فيساويه؟
ويمكن الجواب بأن هذا من مخترعات اجتهاده ومعناه في نفسه ويظهر بعد السؤال عنه ،
فاعتبروا يا أولي الأبصار.
تنبيه وإيقاظ :
إن كنت في شكّ ممّا أشرنا إليك فاستمع لما يتلى عليك.
قال الشيخ ـ رحمهالله ـ في المبسوط فصل : في حكم أراضي الزكاة وغيرها ، الأرضون على أربعة
أقسام حسب ما ذكرناه في النهاية ، فضرب منها يسلم أهلها عليها .. إلخ ، والضرب الآخر من
الأرضين ما أخذ عنوة بالسيف ، والضرب الثالث كلّ أرض صالح أهلها عليها وهي أرض
الجزية .. إلخ ، والضرب الرابع كلّ أرض انجلى أهلها أو كانت مواتا .. إلخ. وإنما
لم نذكر تتمّة كلامه في الأرضين لعدم تعلّق غرضنا به ، ولأنّ نحوه آت في كلام
التحرير
__________________
الذي نقشه المؤلف فلا فائدة في تكراره.
وقال في كتاب
إحياء الموات والبلاد على ضربين : بلاد الإسلام وبلاد الشرك ، فبلاد
الإسلام على ضربين : عامر وغامر ، فالعامر ملك لأهله لا يجوز لأحد الشروع فيه
والتصرّف فيه إلّا بإذن صاحبه .. إلخ ، وأمّا الغامر على ضربين : غامر لم يجر عليه
ملك لمسلم ، وغامر جرى عليه ملك مسلم .. إلخ. وأمّا بلاد الشرك فعلى ضربين : عامر
وغامر ، فالعامر ملك لأهله ، وكذلك كلّ مكان به صلاح العامر من الغامر ، فان صاحب
الغامر أحقّ به كما قلنا في العامر في بلاد المسلمين ، ولا فرق بينهما أكثر من أن
العامر في بلاد الإسلام لا يملك بالقهر والغلبة ، وأمّا الغامر فعلى ضربين.
وقال ابن إدريس
في السرائر باب أحكام الأرضين وما يصحّ التصرّف فيه بالبيع والشراء
وما لا يصحّ. الأرضون على أربعة أقسام : ضرب منها أسلم أهلها عليها طوعا .. إلخ ،
والضرب الثاني من الأرضين ما أخذ عنوة بالسيف ، والضرب الثالث كلّ أرض صالح أهلها
وهي أرض الجزية .. إلخ ، والضرب الرابع كلّ أرض انجلى أهلها .. إلخ ـ ثم قاله : ـ والبلاد
على ضربين .. وساق البحث على نحو ما ذكر الشيخ في المبسوط.
وقال العلّامة
في الإرشاد المطلب الرابع في الأرضين وهي أربعة .. إلخ ـ ثم قال
سياقة : ـ لا يجوز إحياء الغامر ولا ما به صلاح العامر كالشرب والطريق في بلاد
الإسلام والشرك إلّا أن ما في بلاد الشرك نعيم بالغلبة ، ونحو ذلك قال في القواعد وقال المحقّق
في الشرائع وغير ذلك من كتب الأصحاب من أرادها
__________________
وقف عليها فلا حاجة الى سطرها مفصّلة وفيما ذكرناه كفاية.
قوله
: القسم الثاني .. إلخ .
أقول : هذه
الأقسام التي ذكرها هو كلام العلّامة في تحريره إلّا ما شذّ ،
فليس الكلام منسوبا اليه لتكون الجناية فيه إن كانت عليه إلّا ما أشار إليه من
الدليل فإنّه كلام المختلف ، وأنا الآن أذكر كلام التحرير بعينه ليعرف الناظر أنه
أخذه منه نقشا من غير تغيير ، وأذكر كلام العلّامة في المختلف. وأشار الى ما
ينبغي الإشارة إليه.
قال العلّامة
في تحريره الثالث في الأرضين وفيه ثمانية مباحث : الأول : الأرضون
على أربعة أقسام ( أحدها ) ما يملك بالاستغنام ويؤخذ قهرا بالسيف فإنها للمسلمين
قاطبة لا يختصّ بها المقاتلة ولا يفضلون على غيرهم ، ولا يتخيّر الامام بين قسمتها
ووقفها وتقرير أهلها بالخراج ، ويقبّلها الامام لمن يقوم بعمارتها بما يراه من
النصف أو الثلث وعلى المتقبّل إخراج مال القبالة وحقّ الرقبة وفيما يفضل في يده
إذا كان نصابا العشر أو نصف العشر ، ولا يصحّ التصرّف في هذه الأرض بالبيع والشراء
والوقف وغير ذلك ، وللإمام أن ينقله من متقبّل الى غيره إذا انقضت مدة القبالة ،
وله التصرّف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين ، وارتفاع هذه الأرض تنصرف الى
المسلمين بأجمعهم ، وليس للمقاتلة فيها إلّا مثل ما لغيرهم من النصيب في الارتفاع.
( الثاني ) أرض من أسلم أهلها عليها طوعا من قبل نفوسهم من غير قتال فتترك في
أيديهم ملكا لهم
__________________
يصحّ لهم التصرّف فيها بالبيع والشراء والوقف وسائر أنواع التصرّف إذا
عمروها وقاموا بعمارتها ، ويؤخذ منهم العشر أو نصف العشر زكاة إذا بلغ النصاب ،
فان تركوا عمارتها وتركوها خرابا كانت للمسلمين قاطبة ، وجاز للإمام أن يقبلها
ممّن يعمرها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع ، وكان على المتقبّل بعد إخراج
حقّ القبالة ومئونة الأرض إذا بقي معه النصاب العشر ، وعلى الامام أن يعطى أربابها
حقّ الرقبة. ( الثالث ) أرض الصلح وهي كلّ أرض صالح أهلها عليها ، وهي أرض الجزية
، بلزمهم ما يصالحهم الامام عليه من نصف أو ثلث أو ربع أو غير ذلك ، وليس عليهم
غير ذلك ، وإذا أسلم أربابها كان حكم أرضهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء ، ويسقط
عنهم الصلح لأنه جزية ، ويصحّ لأربابها التصرّف فيها بالبيع والشراء والهبة وغير
ذلك ، وللإمام أن يزيد وينقص ما يصالحهم عليه بعد انقضاء مدّة الصلح بحسب ما يراه
من زيادة الجزية ونقصانها ، ولو باعها المالك من مسلم صحّ وانتقل ما عليها إلى
رقبة البائع ، هذا إذا صولحوا على أنّ الأرض لهم ، أمّا لو صولحوا على أنّ الأرض
للمسلمين وعلى أعناقهم الجزية كان حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوة عامرها للمسلمين
ومواتها للإمام. ( الرابع ) أرض الأنفال وهي كلّ أرض انجلى أهلها عنها وتركوها ،
أو كانت مواتا لغير مالك فأحييت ، أو كانت آجاما وغيرها ممّا لا يزرع فاستحدثت
مزارع فإنها كلّها للإمام خاصّة لا نصيب لأحد معه فيها ، وله التصرّف فيها بالقبض
والهبة والبيع والشراء بحسب ما يراه ، وكان له أن يقبلها بما يراه من نصف أو ثلث
أو ربع ، ويجوز له نزعها من يد متقبّلها إذا انقضت مدّة الزمان إلّا ما أحييت بعد
موتها ، فإن من أحياها أولى بالتصرّف فيها إذا تقبّلها بما يقبلها غيره ، فإن أبى
كان للإمام نزعها من يده وتقبيلها لمن يراه ، وعلى المتقبّل بعد إخراج مال القبالة
فيما يحصل في حصّة العشر أو نصف العشر الثاني ، قال الشيخ : كلّ موضع أوجبنا فيه
العشر أو نصف العشر من أقسام الأرضين إذا أخرج
الإنسان مئونته ومئونة عياله لسنته وجب عليه فيما بقي بعد ذلك الخمس لأهله.
أقول : إلى هنا
كلام التحرير وهو قريب من عبارة الشيخ في المبسوط التي ذكرها في آخر فصول كتاب
الزكاة . ولا يخفى أنّ المؤلّف قد أخذها بعينها ويتعلّق بها
فوائد :
( منها ) أنّ
الشيخ والعلّامة اقتصرا على قول وللإمام أن ينقلها من متقبّل الى آخر إذا انقضت
مدّة القبالة ، وزاد المؤلّف « أو اقتضت المصلحة ذلك » وظاهره أن اقتضاء المصلحة
يتخيّر النقل قبل انقضاء المدّة وهو غلط ، لأن الإمام يجب عليه إلّا الوفاء بما
عاقد عليه إذا كان مصلحة حينئذ وهو لا ينقل إلّا ذلك.
( ومنها ) قول
العلّامة رحمهالله ولو باعها المالك من مسلم صحّ وانتقل ما عليها إلى رقبة
البائع. قلت : خالف في ذلك التقي محتجّا بأنه قد ثبت في الأرض فإذا بيعت فلا ضمان.
وأجاب العلّامة بأنها جزية على المالك متعلّقة بشيء من ماله فاذا خرج منه المال
استقرّت في ذمته كالدين الذي عليه رهن. والمشهور ما قاله العلّامة.
( ومنها ) قول
الشيخ وتبعه العلّامة . أو كانت مواتا لغير مالك فأحييت أو كانت آجاما ممّا لا
يزرع فاستحدثت مزارع. قلت : هذا القيد ـ أعني الأحياء والاستحداث ـ ليس بشيء لأن
الموات التي لا مالك لها والآجام للإمام أحييت واستحدثت أم لا ، بل القيد لا يخلو
من نظر لأن الأحياء والاستحداث إن كان للإمام فهو ليس بشرط لأنّه مالك قبله ، وان
كان من غيره أمكن القول بأن ذلك الغير يملكها لأن الموات يملكها المحيي على وجه ،
وقد يحمل على الأحياء مع
__________________
ظهوره ، ولا شعور في الكلام به فحذف القيد أولى. ومنها قول الشيخ والعلّامة : إلّا ما
أحييت بعد مواتها فإن من أحياها أولى بالتصرّف فيها إذا تقبّلها بما يتقبّلها
غيره.
أقول : لا يجب
على الامام تقريرها في يدها لأنها ملكه وهو مخيّر في وضع من شاء عليها وأحيا
المحيي إن أفاد ملكا لم يجز رفع يده وإلّا جاز مطلقا ، نعم يستحبّ ذلك للإمام ،
فإن أراد الاستحباب فلا بحث فيه إلّا أنهما قالا : فإن أبى كان للإمام نزعها.
وظاهر ذلك أنّه إن لم يأت لم يكن له النزع عملا بمفهوم الشرط الذي هو حجّة عند
المحقّقين. وقولهما سابقا « أولى » لا يدلّ على الاستحباب لأنّ أولوية اليد قد
تفيد الوجوب كما في أولوية المحجر. هذا ممّا يتعلّق بكلام التحرير الذي نسخه
المؤلّف في رسالته ، اما ما قال العلّامة رحمهالله في مختلفه فهذه عبارته : مسألة : أرض من أسلم أهلها عليها طوعا
ملك لهم يتصرّفون فيها كيف شاءوا ، فان تركوا عمارتها يقبّلها الامام ممّن يعمرها
ويعطي صاحبها طسقها وأعطى المتقبّل حصّة وما يبقى فهو متروك لصالح المسلمين في بيت
مالهم. قاله الشيخ رحمهالله وأبو الصلاح ، وقال ابن حمزة : إذا تركوا عمارتها صارت
للمسلمين أمرها الى الامام. وقال ابن البراج وإن تركوا عمارتها حتى صارت خرابا كانت حينئذ لجميع
الإسلام يقبّلها الامام عليهالسلام ممّن يقوم بعمارتها بحسب ما يراه من نصف أو ثلث أو ربع
وعلى متقبّلها بعد إخراج مئونة الأرض وحقّ القبالة فيما يبقى في خاصّة من عليها إذ
بقي خمسة أوسق أو أكثر من
__________________
ذلك العشر أو نصف العشر. وقال ابن إدريس الأولى ترك ما
قاله الشيخ فإنّه مخالف للأصول والأدلّة العقليّة والسمعيّة ، فإن ملك الإنسان لا
يجوز لأحد أخذه ولا التصرّف فيه بغير إذنه واختياره ، فلا يرجع عن الأدلّة بأخبار
الآحاد ، والأقرب ما قاله الشيخ لنا أنّه أنفع للمسلمين وأعود عليهم فكان سائغا ،
وأيّ عقل يمنع من الانتفاع بأرض ترك أهلها عمارتها وإيصال أربابها حقّ الأرض مع
أنّ الروايات متضافرة بذلك.
وروى صفوان بن
يحيى وأحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : ذكرنا الكوفة وما وضع عليها من الخراج وما
سار فيها أهل بيته ، فقال : من أسلم طوعا تركت أرضه في يده وأخذ منه العشر ممّا
سقت السماء والأنهار ، ونصف العشر ممّا كان بالرشاء فيما عمروه منها ، وما لم
يعمروه منها أخذه الإمام فقبله ممّن يعمره وكان للمسلمين ، وعلى المتقبّلين في
حصصهم العشر أو نصف العشر. وفي الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : ذكرت
لأبي الحسن الرضا الخراج وما سار به أهل بيته فقال : العشر ونصف العشر فيما عمر
منها وما لم يعمر أخذه الوالي فقبله ممّن يعمره وكان للمسلمين وليس فيها أقل من
خمسة أوسق شيء وما أخذ بالسّيف فذلك للإمام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بخيبر .
لا يقال السؤال
وقع عن أرض الخراج ولا نزاع فيها بل في أرض من أسلم أهلها عليها طوعا ، لأنّا نقول
الجواب وقع أولا عن أرض من أسلم أهلها ، ثم إنّه عليهالسلام أجاب عن أرض العنوة.
واحتجّ ابن
حمزة وابن البرّاج بما رواه معاوية بن وهب في الصحيح قال :
__________________
سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : أيّما رجل أتى خربة فاستخرجها وكرى أنهارها
وعمرها فإنّ عليه فيها الصدقة ، فإن كانت أرضا لرجل قبله فغاب عنها وتركها وأخربها
ثم جاء بعد يطلبها فإن الأرض لله عزوجل ولمن يعمرها .
والجواب أنّه
محمول على أرض الخراج أو على أنّ المحيي أحقّ ما دام يقوم بعمارتها وأداء حقّها من
مالكها إذ أراد خرابها لما رواه الحلبي في الصحيح عن الصادق عليهالسلام ـ الى أن قال ـ : وعن الرجل يأتي الأرض الخربة الميتة
فيستخرجها ويكري أنهارها ويعمرها ويزرعها ماذا عليه؟ فيها الصدقة. قلت : فإن كان
يعرف صاحبها؟ قال : فليؤدّ إليه حقّه. الى هنا كلامه ، وهو كلام فقيه متمكّن في فقه عالم بأغواره فطن في
دقائقه ، وذلك لأنه حيث علم أنّ كلام الشيخ رحمهالله مركب من دعويين : أحدهما جواز التصرّف وهو موافق لمذهب
الشيخ ، وعدم دفع الطسق ، وظاهرهما أنها تخرج عن ملك المالك وهو مخالف لمذهب الشيخ
، وكلام ابن إدريس يقتضي المنع من التصرّف مطلقا وهو مخالف لمذهب الشيخ والتقي
والقاضي وهو ـ أعني العلّامة ـ مختار مذهب الشيخ. استدلّ أولا على صحّة دعواه من
جواز التصرّف وهو مشترك بينه وبين التقي والقاضي ردّا على ابن إدريس بقوله : إنّه
أنفع للمسلمين وأعود عليهم فكان سائغا ، قال : وأيّ عقل يمنع من الانتفاع بأرض ترك
أهلها عمارتها .. متعجّبا من قول ابن إدريس بالمنع ، وأردفه بقوله :
وإيصال أربابها حقّ الأرض إذ لا عجب من
__________________
المنع إذا لم يصل المالك نفع لأنها ملكه ، ومجرّد ترك العمارة ليس من
الأسباب الناقلة للملك عن مالكه قطعا ، بل الأعراض بقصد عدم للملك لا يخرج الملك
عن المالك وإن كان الملك حيوانا يخرج الى الامتناع كالصيد ، وقد صرّح به الأصحاب
في محلّه مستدلّين بعدم تحقّق سبب الإزالة شرعا فكيف بغيره ، ثم أكّد الاستدلال
بتضافر الروايات ، وأورد منها روايتين. فبطل مذهب ابن إدريس فصار الحال مشتركا بين
الشيخ والتقي والقاضي إلّا ما يفهم من إطلاق قوله في الرواية « وكان للمسلمين »
والمراد ليس إلّا مال القبالة وأطلق اللفظ لذلك. وأيضا فدليل ابن إدريس لا غبار
عليه لولا الشهرة التي عضدت خبر الواحد بجواز الانتفاع ، ولا تصريح في الروايات
بخروج الملك عن المالك لإمكان حمل ما يحتمل منها ذلك على النماء والارتفاع ،
فدليله بالنسبة إلى بقاء الملك لا معارض له أصلا ، ويؤيّده ما دلّ من الروايات على
لزوم أنّه إن قال قائل : إذا كان الأمر في أموال الناس ما ذكرتم من لزوم الخمس
فيها وكذا الغنائم وكان أحكام الأرضين ما بيّنتم من وجوب اختصاص التصرّف فيها
بالأئمة عليهمالسلام ، إما لاختصاصهم بها كالأنفال أو للزوم التصرف فيها
بالتقبيل والتضمين لهم مثل أرض الخراج فيجب أن لا يحلّ لكم منكح ولا تخلص لكم متجر
ولا يسوغ لكم مطعم على وجه من الوجوه. قيل له : إن الأمر وان كان كما ذكرت من
اختصاص الأئمة عليهمالسلام بالتصرّف في هذه الأشياء فإن لنا طريقا الى الخلاص ، ثم
أورد الحديث التي وردت بالإذن للشيعة في حقوقهم عليهمالسلام حال الغيبة ـ ثم قال : ـ إن قال قائل إن ما ذكرتموه
إنما يدلّ على إباحة التصرّف في هذه الأرضين ولا يدلّ على صحّة تملّكها بالشراء
والبيع ، ومع عدم صحتهما لا يصحّ ما يتفرّع عليهما. قيل له : قد قسمت الأرضين على
ثلاثة أقسام : أرض يسلم أهلها عليها فهي ملك لهم يتصرّفون فيها ، وأرض تؤخذ عنوة
وتصالح أهلها عليها وقد أبحنا شراءها وبيعها لأن لنا في ذلك قسما لأنها أراضي
المسلمين وهذا
القسم أيضا يصحّ الشراء والبيع فيه على هذا الوجه ، وأمّا الأنفال وما يجري
مجراها فليس يصحّ تملّكها بالشراء وانما أبيح لنا التصرّف حسب . ثم استدلّ
على حكم أراضي الخراج برواية أبي بردة بن رجا السابقة الدالّة على
جواز بيع آثار التصرّفات دون رقبة الأرض ، وهذا كلام واضح السبيل وجهه من حيث
المعنى أن التصرّف في المفتوحة عنوة إنما يكون بإذن الامام ، وقد حصل منهم الاذن
لشيعتهم حال الغيبة ، فيكون آثار تصرّفهم محترمة بحيث يمكن ترتّب البيع ونحوه
عليها ، وعبارة شيخنا في الدروس أيضا يرشد الى ذلك حيث قال : ولا يجوز التصرّف في
المفتوحة عنوة إلّا بإذن الإمام عليهالسلام سواء كان بالوقف أو غيرها ، نعم في حال الغيبة ينفذ
ذلك. وأطلق في المبسوط أنّ التصرف فيها لا ينفذ أي لا يقيّد بحال ظهور الامام
ولا عدمه ، ـ ثم قال ـ وقال ابن إدريس إنما يباع ويوقف تحجيرنا وبناؤنا وتصرّفنا لا نفس الأرض
، ومراده بذلك أنّ ابن إدريس أيضا أطلق جواز التصرّف في مقابل إطلاق الشيخ عدم
جوازه ، والصواب التقييد بحال الغيبة لينفذ ، وعدمه بعدمه ، وهذا ظاهر بحمد الله.
الى هنا كلامه.
يقول الفقير
الى الله المنّان إبراهيم بن سليمان : إن هذا التنبيه الثاني من كرامات القرن
العاشر حيث أظهر أنّ من يسعى بالعلم ويوصف به ويجلس منتصبا للفتوى يبسط مثل هذا في
مصنف ، وليس أعجب من ذلك إلّا سماع أهل القرن لهذا التأليف من غير أن ينكره منكر
منهم إنكارا يروع مثل هذا المؤلّف أن يؤلّف مثله ، ولا أعرف جوابا من هذين إلّا ما
قاله عليهالسلام : إن
__________________
الله لا يفيض العلم انتزاعا .. إلخ. وها أنا ذا انفة على الدين ورعاية للحجج
والبراهين أبيّن ما فيه على وجه يظهر لكلّ متأمّل.
قوله
: نفوذ هذه التصرّفات التي ذكرناها إنما هو في غيبة الإمام عليهالسلام أما في حال
ظهوره فلا ، لأنه إنما يجوز التصرّف فيها مطلقا بإذنه ، وعلى هذا فلا ينفذ شيء من
تصرفات المتصرّف فيها استقلالا .
أقول : لا خفي
أنه أراد بالتصرفات التي أشار إليها البناء والغرس ونحو ذلك ، ولا شبهة في أن
نفوذه على معنى كون البيع مثلا يصح فيه لا يتعلق بظهور الامام ولا غيبته لأن علّة
النفوذ كون الآثار المذكورة مملوكة للمتصرف وهي أعيان لا يخرج عن ملكه الا بسبب
شرعي ، وهذا لا يختلف الأمر فيه بين غيبة الامام وظهوره ، وهذا المؤلف قد سلم ذلك حيث
علل في التنبيه الأول الجواز بقوله « قلت : هذا واضح لا غبار عليه يدل عليه ما
تقدم من قول الصادق عليهالسلام : اشتر حقه فيها وأنه محرم لم يخرج عن ملك مالكه شيء من الأسباب
الناقلة فيكون قابلاً لتعلق التصرفات ». فانظر أيها المتأمل الى تناقض كلام هذا
الرجل وخبطه وعدم ضبطه ثم لا يرضى أن يتأخر حيث أخره القدر ، بل لا يزال يدعي
الفضل والعلو فيه ، لكن هذا من ذاك كما في المثل السائر : السفينة في الدجلة
كالملاح ، وقوله في التعليل « لأنه إنما يجوز التصرف فيها بإذنه مطلقا فلا ينفذ شيء
من تصرفات المتصرف فيها استقلالا » كلام غير مربوط لأن عدم جواز التصرف لا يقتضي
عدم جواز آثار التصرف ، فإن الغاصب لو غرس أو بنى جاز مع غرسه وبنائه ولا يزيد
مرتبة ، هذا عن كون غاصبا. ثم إن كلامه هذا يبطله
__________________
ما صرح به العلامة في المنتهى وغيره من الأصحاب من إطلاق جواز بيعها تبعا لآثار
التصرف من غير تعيين لكون التصرف وقع مباحا أم لا ، والروايات صريحة بذلك أيضا ،
وفي بعضها عن علي عليهالسلام هكذا : رفع اليه رجل اشترى أرضا من أرض الخراج .. إلخ
فكيف [ تكون ] مخصوصة بحال الغيبة؟ والدليل الشرعي الذي قدمناه وسلمه هو يؤيد ذلك
، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
قوله
: وقد أرشد الى هذا الحكم كلام الشيخ في التهذيب
.. إلخ .
أقول : ليت
شعري كيف أرشد كلام الشيخ في التهذيب الى ما ذكره ، ثم ليت شعري ثانيا وثالثا كيف
وكلام الشيخ الأول إنما وقع لفائدة جواز نفي التصرف على معنى عدم تحقق الإثم فيه
وليس من البيع والشراء ونحوهما في شيء ، وقد صرح به عند استيفاء الاستدلال على
إباحة غير الأرضين بقوله : وأما أراضي الخراج وأراضي الأنفال والتي قد انجلى أهلها
عنها فأنا قد أبحنا أيضا التصرف فيها ما دام الامام مستترا ، فاذا ظهر يرى هو في
ذلك رأيه ، فنكون نحن في تصرفنا غير آثمين . فانظر كيف ساوي في الأمر أرض الخراج وبالأنفال؟ فلو لا
أن المراد بالتصرف هو نفس الانتفاع لافترقا لافتراقهما في الأحكام بالنسبة إلى
البيع ونحوه كما لا يخفى ، وسيأتي من المؤلف ما يدل عليه ومما يؤيد ما ذكرناه ويزيده
بيانا أن الشيخ لما استوفى غرضه من بيان جواز التصرف بالانتفاع قال « فإن قال قائل
: إن جميع ما ذكرتموه إنما يدل على إباحة التصرف لكم في هذه الأرضين ولم يدل على
أنه يصح لكم تملكها بالشراء والبيع ، فاذا لم يصح الشراء
__________________
والبيع فما يكون فرعا عليه أيضا لا يصح مثل الوقف والنحلة والهبة وما يجري
مجرى ذلك . قلت : وهذا صريح في أن ما تقدم ليس إلا في إباحة نفس
التصرف ولهذا بقوله « إنما » الدالة على الحصر ، ثم لم يجب بأن البيع ونحوه يجوز
في زمن الغيبة بل أجاب بما نقله عن المؤلف ، وحاصله جواز البيع والشراء في الأرض
التي أسلم عليها طوعا ، وجواز بيع أرض العنوة والصلح لان المبايع فيها سهما
لأنها أراضي المسلمين فيجوز بيعه وشراؤه على هذا الوجه وعدم جواز بيع أراضي
الأنفال بل يجوز التصرف فيها حسب ، ولا يخفى على من له تأمل ومسكة من عقل النظر أن
ما ذكره الشيخ لا يدل على مدعى هذا المؤلف بأحد الدلالات ولا ينطبق عليه لأن الشيخ
علل أو لا إباحة التصرف بالجواز حال الغيبة وليس من المدعى المراد في شيء ، وعلل
جواز البيع والشراء بقرار الملك فيما أسلم أهله عليه وبالشركة في أرض المفتوحة
عنوة ، فلا مدخل لظهور الامام ولا غيبته بوجه من الوجوه ، ولا أعرف من أين تخيل
لهذا المؤلف كون كلام الشيخ يرشد الى ما ذكره!! وقول المؤلف « ثم استدل على حكم
الخراج برواية أبي بردة » كلام لا يرتبط بالمقصود أصلا لأن رواية أبي بردة عامة
بالنسبة إلى الظهور والغياب والى كون التصرف فيها جائزا وغير جائز ، وكون المتصرف
شيعيا وغير شيعي ، فانظر أيها المتأمل بعين البصيرة إلى كلام هذا الرجل تجد العجب
العجاب. وقد أجببت أن أورد كلام الشيخ في التهذيب من أوله الى آخره تبركا وتيمنا
وتعريفا يخرج من الإجمال إلى التفصيل وينتبه الناظر على سواء السبيل. قال رحمهالله « فان قال قائل : إذا كان الأمر في أموال الناس ما
ذكرتم من لزوم الخمس فيها وكان أحكام الأرضين ما بينتم من وجوب اختصاص التصرف فيها
بالأئمة عليهمالسلام إما لأنها مما يختصون برقبتها دون سائر الناس مثل
الأراضي التي ينجلي
__________________
أهلها عنها ، أو للزوم التصرف فيها بالتقبيل والتضمين لهم مثل أرض الخراج
وما يجري مجراها ، فيحب أن لا يحل لكم منكح ولا يتخلص لكم متجر ولا يسوغ لكم مطعم
على وجه من الوجوه وسبب من الأسباب قيل له : إن الأمر وإن كان على ما ذكرتموه من
السؤال من اختصاص الأئمة عليهمالسلام بالتصرف في هذه الأشياء فإن لنا طريقا الى الخلاص مما
ألزمتمونا. أما الغنائم والمتاجر والمناكح وما يجري مجراها مما يجب للإمام فيها
الخمس فإنهم عليهمالسلام قد أباحوا ذلك لنا وسوغوا التصرف فيه وقد قدمنا فيما
مضى ذلك ، ويؤكده أيضا ما رواه سعد ابن عبد الله عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن
عمارة عن الحارث بن مغيرة البصري عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قلت له : إن لنا أموالا من غلات وتجارات ونحو ذلك
، وقد علمت أن لك فيها حقا ، قال : فلم أحللنا إذا لشيعتنا إلا لتطيب ولادتهم؟!!
وكل من والى آبائي فهم في حل مما في أيدينا فليبلغ الشاهد الغائب . وعنه عن أبي
جعفر عن علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لأبي جعفر عليهالسلام رجل يسأله أن يجعله في حل من مأكله ومشربه من الخمس ،
فكتب بخطه : من أعوزه شيء من حقي فهو في حل . وما رواه محمد ابن الحسن الصفار عن يعقوب بن يزيد عن
الحسن بن علي الوشاء عن القاسم بن يزيد عن الفضل عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : من وجد برد حبنا في كبده فليحمد الله على أول
النعم ، قال : قلت : جعلت فداك ما أول النعم؟ قال : طيب الولادة ، ثم قال أبو عبد
الله عليهالسلام : قال أمير المؤمنين عليهالسلام لفاطمة عليهاالسلام : أحلي نصيبك من ألفي لآباء شيعتنا ليطيبوا ، ثم قال
أبو عبد الله عليهالسلام : إنا أحللنا أمهات شيعتنا لآبائهم ليطيبوا . وما رواه
محمد
__________________
ابن الحسن الصفار عن الحسن بن الحسن ومحمد بن علي وحسن بن علي بن يوسف
جميعا عن محمد بن سنان عن حماد بن طلحة صاحب السابري عن معاذ كثير بياع الأكسية عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : موسع على شيعتنا أن ينفقوا مما في أيديهم
بالمعروف ، فاذا قام قائمنا حرم على كل ذي كنز كنزه حتى يأتوه به يستعين به. فاما
الأرضون فكل أرض تعين لنا أنها مما قد أسلم أهلها فإنه يصح لنا التصرف فيها
بالشراء منهم والمعاوضة وما يجري مجراها ، وأما أراضي الخراج وأراضي الأنفال والتي
قد انجلى أهلها عنها فإنا قد أبحنا أيضا التصرف فيها ما دام الامام مستترا ، فاذا
ظهر يرى وفي ذلك رأيه فنكون نحن في تصرفنا غير آثمين وقد قدمنا ما
يدل على ذلك ، والذي يدل عليه أيضا ما رواه سعيد بن عبد الله عن أبي جعفر عن الحسن
بن محبوب عن عون بن يزيد قال : رأيت أبا سيار مسمع بن عبد الملك بالمدينة وقد كان
حمل الى أبى عبد الله عليهالسلام مالا في تلك السنة فرده عليه ، فقلت له : لم رد عليك
أبو عبد الله عليهالسلام المال الذي حملته إليه؟ فقال : إني قلت حين حملت إليه
المال أني كنت وليت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم
وكرهت أحبس عنك أو أعرض لها وهي حقك الذي جعلها الله تعالى لك في أموالنا ، فقال :
وما لنا من الأرض لها وما أخرج الله منها إلا الخمس ، يا أبا سيار الأرض كلها لنا
فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا ، قال : قلت له : أنا أحمل إليك المال كله ،
فقال لي : يا أبا سيار الأرض قد طيبناه لك فضم إليك مالك ، وكل ما كان في أيدي
شيعتنا من الأرض فهم محللون ، محلل لهم ذلك الى أن يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان
في أيدي سواهم فان كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من
أيديهم ويخرجهم عنها صغرة وما رواه محمد
__________________
ابن علي محبوب عن محمد بن الحسين بن محبوب عن عمر بن يزيد قال : سمعت رجلا
من أهل الجبال يسأل أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها فعمرها وأكرى نهرها
وبنى فيها بيوتا وغرس فيها نخلا وشجرا ، قال : فقال أبو عبد الله عليهالسلام : كان أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له وعليه طسقها
يؤديه الى الامام في حال الهدنة ، فإذا ظهر القائم فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه . وما رواه علي
بن الحسن بن فضال عن جعفر بن محمد بن حكيم عن عبد الكريم بن عمر الخثعمي عن الحارث
البصري قال : دخلت على أبي جعفر فجلست عنده فأذن نجية قد استأذن عليه فأذن له فدخل
فجثا على ركبتيه ثم قال : جعلت فداك إني أريد أن أسألك عن مسألة ما أريد بها إلا
فكاك رقبتي من النار ، فكأنه رق له فاستوى جالسا فقال : يا نجية : سلني فلا تسألني
اليوم إلا أخبرتك به ، فقال : جعلت فداك ما تقول في فلان وفلان فقال : يا نجية لنا
الخمس في كتاب الله ولنا الأنفال ولنا صفو المال ، هما والله أول من ظلمنا حقنا في
كتاب الله وأول من حمل الناس على رقابنا ودمائنا في أعناقهما إلى يوم القيامة
بظلمنا أهل البيت ، وان الناس يتقلبون في حرام الى يوم القيامة بظلمنا أهل البيت ،
فقال نجية : ( إِنّا لِلّهِ وَإِنّا
إِلَيْهِ راجِعُونَ ) ثلاث مرات ، هلكنا ورب الكعبة ، فرفع فخذه عن الوسادة
واستقبل القبلة ودعا بدعاء لم أفهم منه شيئا إلا أنا سمعنا في آخر دعائه يقول :
اللهم إنا أحللنا ذلك لشيعتنا ، قال : ثم أقبل إلينا بوجهه وقال : يا نجية ما على
فطرة إبراهيم غيرنا وغير شيعتنا. فان قال قائل : إن جميع ما ذكرتموه إنما يدل على
إباحة التصرف لكم في هذه الأرضين ولم يدل على أنه يصح لكم تملكها بالشراء والبيع ،
فاذا لم
__________________
يصح الشراء والبيع فما يكون فرعا عليه أيضا لا يصح مثل الوقف والنحلة
والهبة وما يجري مجرى ذلك ، قيل : قد قسمنا الأرض فيما مضى على ثلاثة أقسام : أرض
يسلم أهلها عليها فهي تترك في أيديهم وهي ملك لهم ، فما يكون حكمه هذا الحكم صح
لنا شراؤها وبيعها ، وأما الأرضون التي تؤخذ عنوة أو يصالح أهلها عليها فقد أبحنا
شراءها وبيعها لأن لنا في ذلك قسما لأنها أراضي المسلمين ، فهذا القسم مما يصح
الشراء والبيع فيه على هذا الوجه ، وأما الأنفال وما يجري مجراها فليس تصح تملكها
بالشراء وإنما أبيح لنا التصرف حسب. والذي يدل على القسم الثاني ما رواه محمد بن
الحسن الصفار عن أيوب بن نوح عن صفوان بن يحيى قال : حدثني أبو بردة بن رجا قال :
قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : كيف تراني شراء أرض الخراج؟ قال : ومن يبيع ذلك في
أرض المسلمين؟ قال : قلت يبيعها الذي في يديه ، قال : ويصنع بخراج المسلمين ما ذا؟
ثم قال : لا بأس اشتر حقه منها ويحول حق المسلمين عليه ولعله يكون أقوى عليه وأمين
بخراجهم منه . وروى علي بن الحسين بن فضال عن إبراهيم بن هشام عن
حماد بن عيسى عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الشراء من أرض اليهود والنصارى قال : ليس به بأس ،
قد ظهر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على أهل خيبر فخارجهم على أن تترك الأرض بأيديهم
يعملونها ويعمرونها فلا أدى به بأسا لو أنك اشتريت منها شيئا ، وأيما قوم أحيوا
شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم . وعنه عن علي بن حماد عن حريز عن محمد ابن مسلم وعمر بن
حنظلة عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سألته عن ذلك فقال : لا بأس بشرائها ، فإنها إذا
كانت بمنزلتها في أيديهم يؤدى عنها كما يؤدي
__________________
عنها . وعنه عن علي بن حماد بن عيسى عن إبراهيم بن أبي زياد
قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الشراء من أرض الجزية قال : فقال : اشترها فإن لك من
الحق ما هو أكثر من ذلك . وبهذا الاسناد عن حماد عن حريز عن زرارة عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : إذا كان كذلك كنتم الى أن تزادوا أقرب منكم الى
أن تنقصوا . وبهذا الاسناد عن حريز عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سمعته يقول : رفع إلى أمير المؤمنين عليهالسلام رجل اشترى أرضا من أرض الخراج ، فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : له ما لنا وعليه ما علينا مسلما كان أو كافرا له ما
لأهل الله وعليه ما عليهم .
يقول الفقير
الى الله المنان إبراهيم بن سليمان : الى هنا كلام الشيخ في التهذيب ولا يخفى على
ناظرة أنه قد اشتمل على أمرين : ( الأول ) إباحة التصرف للشيعة في الخمس والأراضي
الى يقوم قائم آل محمد عليهمالسلام. ( الثاني ) إباحة البيع والشراء للأراضي من غير تقييد
بزمن الغيبة ولا يكون البائع شيعيا بل ولا مسلما ولا بكون البيع يختص بآثار التصرف
، نعم ربما فهم منهما سواء له الاختصاص لكن بتوجه ( بتوجيه ظ ) لأن الجواز مطلقا
يقتضي الجواز للشيعة في جملة من يجوز لهم. والدليل دل على الجواز مطلقا فلا شبهة ،
وها هو قد تجلى لناظره ، فليطالعه بعين البصيرة ، وقد اشتمل على أحكام وأنظار لولا
الخروج عن المقصود لأشرنا إليها.
قوله
: ووجه من حيث المعنى أن التصرف في المفتوحة عنوة انما يكون بإذن الامام ، وقد حصل
منهم الإذن لشيعتهم حال الغيبة فتكون آثار تصرفهم محترمة
__________________
بحيث
يمكن ترتب البيع ونحوه .
أقول : هذا
كلام في نهاية الركاكة والسقوط عن درجة الاعتبار لا يخرج من لحيي متأمل ، وذلك أن
مطلوب المؤلف كما هو ظاهر منه صريح أن التصرف بالبيع ونحوه تبعا للآثار إنما يصح
زمان الغيبة ، فلا يصح إثباته إلا بأمرين : الصحة مع الغيبة ، وعدم الصحة لا معها
، وكلامه هنا دلالته على الصحة زمن الغيبة فلا يصح دليلا على المدعى ، على أن
المقصود بالذات تخصيص الصحة بزمن الغيبة لأن الصحة قد ثبتت على جهة العموم بما مضى
من الأدلة ، وأشار إليه أيضا من الأحاديث ، ولا دلالة فيما ذكره عليه أصلا ، هذا
والصحة لا تتوقف على إباحة الإذن كما قررناه سابقا ونبهنا على أنه أشار إليه فيما
سبق أيضا فلا مدخل لتوسط قوله : إن التصرف انما يكون بإذن الإمام فهذا الكلام
عند التأمل لا حقيقة له ، ويحسن التمثيل فيه بقوله تعالى
« وَأَلْقِ
ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا
يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى
» .
قوله
: وكلام شيخنا في الدروس أيضا يرشد الى ذلك. .
أقول : ظاهر
كلامه في الدروس غير مقيد بآثار التصرف وحمله عليه تكلف غير حسن ، وقد
أشرنا إليه سابقا ، وفي خلال كلام الشيخ في التهذيب ما يدل عليه.
قوله
: وأطلق في المبسوط
أن التصرف لا ينفذ
أي لا يقيد بحال الظهور ولا عدمه .
__________________
أقول : مسلم
أنه أطلق ، لكن مراده بالإطلاق عدم النفوذ على الاستقرار لا عدم نفوذ البيع تبعا
لآثار التصرف لأن ذلك جائز لا يختلف فيه أحد من الأصحاب فيما علمته.
قوله
: ثم قال : وقال ابن إدريس
: « إنما يباع ويوقف
تحجيرنا وبناؤنا وتصرفنا لا نفس الأرض » ، ومراده بذلك أيضا أن ابن إدريس أطلق
جواز التصرف في مقابل إطلاق الشيخ ( رحمهالله ) عدم جوازه .
أقول : أسند
إلى نفسه بصيغة الجمع والى أهل زمنه ظاهر أو هو زمن الغيبة فلا إطلاق بالنسبة
إليها ولو شوحح في ذلك مع فساد المشاحة كما لا يخفى ، قلنا : ظاهر كلامه فيما سوى
الأرض وظاهر الشهيد الإطلاق وإلا لم يكن لا يراده قول ابن إدريس « لا نفس الأرض »
فائدة ، وكلام الشهيد يقتضي نفوذ التصرف مطلقا في الغيبة ، وكلام الشيخ يقتضي
المنع ، وكلام ابن إدريس يقتضي تخصيص الجواز بما سوى نفس الأرض ، فمن أين علم أن
كلام الشهيد يرشد الى كون البيع لآثار التصرف مخصوص بالغيبة مع أنه خلاف ظاهره كما
حررناه وأزلنا اللبس عنه والحمد لله.
قوله
: في المقدمة الثالثة في بيان أرض الأنفال والآجام وبطون الأدوية ورءوس الجبال .
أقول : لا نقض
يتعلق بهذا إلا أن فيه نكتة أحببت الإشارة إليها حيث أهملها ، إما لاختياره
الإطلاق كغيره أو لغير ذلك ، وهي أن المراد بما ذكر كل ما كان كذلك أو ما كان في
ملكه أعني ما ليس في يد مسلم من الأرض التي أسلم
__________________
أهلها عليها طوعا وجهان في قوة التعادل. قال العلامة في المختلف لما نقل
القولين : والأقرب الإطلاق. لنا ما رواه محمد بن مسلم في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام أنه سمعه يقول : الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها
هراقة دم أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم وما كان من أرض خراب أو بطون أو دية فهذا
من الفيء ، والأنفال لله وللرسول ، فكما كان لله فهو للرسول صلىاللهعليهوآله يضعه حيث يجب . وما رواه محمد بن مسلم أيضا بسند آخر عن الباقر عليهالسلام وفي حديث سماعة بن مهران وقد سأله عن الأنفال ـ الى أن
قال ـ الطسق للمالك والشهرة عليه . فيتعين الحمل على ما ذكرناه فتم الاستدلال والرد ، ثم
احتج لهما بما هو دليلهما ولا إشكال ولا شك في دلالته على مطلوبهما والتئامه مع
مقالتهما لأن الرواية دلت على أن من عمر أرضا خربة لها مالك يكون له وليس للمالك
إذا طلبها أن ينزعها منه ، فدلت بعمومها على أرض من أسلم أهلها عليها طوعا مع
خرابها لدخولها تحت اسم الأرض الخربة ونظائرها على خروجها عن ملكه ، ولهذا احتاج
العلامة إلى حملها على ما ذكره ، ولو لا ظهور دلالتها على الدعوى لم يحتج الى
الحمل ، فإن الحمل لا يكون إلا ممن يريد خلاف ظاهر المحمول ، وهذا واضح ثم أورد
سندا على حمله ما هو بعينه صالح للاستدلال على شق كلام الشيخ الثاني الذي هو الفتوى
المشهور بين أصحابنا ، فتم مطلوبه ودليله ، ولم يقصر عن مدعاه ولا أورد إلا ما هو
دليل منتج للمدعي. فانظر أيها المنصف كيف اجترأ هذا الرجل على إمام المجتهدين
وعماد الدين حتى قال : ثم احتج لهما برواية لا تدل
__________________
على مطلوبهما بل ولا تلتئم مع مقالتهما . فاذا كان هذا قوله في هذا الرجل الذي هو علم التحقيق
والتدقيق فكيف لا يشنع على غيره ووجب أن يتمثل بهما بقول الشاعر :
وكم من عائب
قولا صحيحا
|
|
وآفته من
الفهم السقيم
|
وأي شناعة على
العالم أكبر من أنه لا يفهم عدم انطباق الدليل على المدعى حتى يستدل بما يدل ولا
يلتئم مع المداول. وليت شعري كيف توهم أن الدليل لا يدل ولا يلتئم ، فإن كان سببه
ذكر الغياب في الرواية فلا يخفى قصوره لأنه قال وتركها وأخربها. فالعلة هي الترك
والخراب ولو شوحح بأن الرواية دلت على أن العلة المجموع ، والتقي والقاضي زعما أن
العلة الخراب مطلقا ، أجبنا بوجهين ( أحدهما ) أنه لا قائل بمدخلية الغياب مع
الخراب ، فاعتباره خارج عن الأقوال ، فخصوصية قيد الغياب ملغى بلا خلاف ، وحينئذ
فذكره في السؤال وقع للتنبيه على سبب الخراب نظرا الى الغالب لا أنه شرط. ومثل هذا
كثير في الروايات يعلمه من طالعها. ( وثانيهما ) أن الغيبة هنا محمولة على عدم
ملاحظته ومراعاته ، فان مثل ذلك يسمى غيبة ، فإن من توجه إلى شيء ببدنه ولم يكن
متوجها إليه بقلبه يقال أنه غائب القلب عنه. أقول : وبنحو هذا الخيال الواهي تحيري
على مثل هذا الفاضل بأنه يستدل على ما يدل على المطلوب ولا يلتئم مع المقالة ،
وليس لقائل أن يقل إن العلامة حاك ، فالقصور في استدلال التقي والقاضي لأنه سلم
الدلالة وأجاب عنها بالحمل ، ولو لم يكن الدليل دالا كان سوء الفهم منسوبا إليه ،
وحاشاه بل حاشاهما أيضا منه ، فانظر أيها الناظر سمت الحق متجنبا لغيره
« وَلا
تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ
» .
__________________
قوله
: في خلال كلامه وكلام شيخنا الشهيد في الدروس قريب من كلامهما فإنه قال يقبلهما
الامام بما يراه ويصرفه في مصالح المسلمين وابن إدريس منع من ذلك كله ، وقال إنها
باقية على ملك الأول ولا يجوز التصرف فيها إلا باذنه وهو متروك .
أقول : كان
الخطأ والسهو لازم هذا الرجل فلا ينفك عنه حتى أنه لو نقل عبارة لم ينقلها صحيحا
لا أدري لأي شيء ، فان كان يقول : لأن الرواية تجوز بالمعنى ، قلنا : فلا بد من
مراعاة عدم الاختلاف وهذه عبارة الدروس ، فليتأمل هل هي مخالفة لما نقله أو موافقة
، قال : ولو تركوا عمارتها فالمشهور في الرواية أن الامام يقبلها بما يراه ويصرفه
في مصالح المسلمين. وفي النهاية يدفع من حاصله طسقها لأربابها والباقي للمسلمين وابن إدريس
منع من التصرف بغير إذن أربابها وهو متروك ولا شك أن الشهيد في هذه العبارة اقتصر على كون المشهور
في الرواية ما ذكره وحكى الطسق عنه النهاية وهي كتاب خبر حذفت أسانيده ، وكأنه
أشار الى مقتضى رواية الحلبي السابقة وذكر قول ابن إدريس وهو المنع من التصرف بغير إذن
أربابها وأنه متروك ، وما حكاه المؤلف يفهم منه بغير ارتياب لو كان هو عبارة
الدروس أنه مفت بتقبيلها وصرف الحاصل في المصالح من غير إشارة الى غير ذلك إلا قول
ابن إدريس ، وقد ذكر أنه متروك ، فأين عبارته مما حكاه؟ فاعتبروا يا أولي الأبصار
وإن أردت زيادة الإيضاح فبين ما نقله ، وبين عبارة الدروس فرق من وجود : ( الأول )
أن عبارته تدل على الفتوى وعبارة الدروس لا تدل عليه بل على أن المشهور في الرواية
ذلك. ( الثاني ) أن عبارته لا
__________________
إشعار فيها بالإشارة إلى الرواية وهو يدل على عدم قول ما حكاه عن ابن إدريس
، فإذا كان متروكا تعين الحمل به وعبارة الدروس تدل على نقل
الخلاف بل الرواية لأن النهاية كتاب خبر في الحقيقة. ( الثالث ) أن عبارته تدل
صريحا على نقل بقاء الملك الأول ويفهم منه أن ما سبق يدل على عدمه ، وليس في عبارة
الشهيد ما يدل على عدم الملك أصلا ، بل ربما كان في نقله بكلام ابن إدريس إشعار
بأنها باقية على الملك على القولين حيث اقتصر على نقل اشتراط الاذن من أربابها. (
الرابع ) أن عبارته تقيد كون البقاء على الملك متروكا لأنه قول ابن إدريس المتروك
، وعبارة الشهيد لا احتمال فيها لذلك ، وكيف يكون البقاء على الملك متروكا وهو
فتوى الأكثرين من أصحابنا؟ نعم اشتراط الاذن ـ كما قاله الشهيد ـ متروك ، فهذا
كلام من لا يحقق شيئا ، اللهم إلا أن يكون نقل كلام الدروس من حضورها عنده لظنه
أنه متوهم لم ينظر هو ولا غيره بعد في ذلك. ومثل هذا التصنيف يجري مجرى التلاعب
بالعلوم ونقل أقوال الفقهاء بالخيال الموهوم نعوذ بالله من ذلك.
قوله
: المقدمة الثانية في حكم المفتوحة عنوة .. إلخ .
أقول : لا نزاع
لنا ولا ورد على حكم المفتوحة عنوة ، فإن حكمها مشهور متداول بين الأصحاب ، وقد
ذكر المؤلف عبارة بعضهم بعينها ، نعم لنا في هذا الباب الذي ذكره نكت : ( الاولى )
لم يذكر من حكم المفتوحة عنوة إخراج الخمس منها أو من حاصلها ، بل ظاهره عدم ذلك
حيث أطلق الحكم بتقبيلها وإخراج حاصلها فيما ذكر ، ولا وجه حسنا له فإن الله تعالى
يقول « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ » الآية ، وهي
عامة ، والشيخ قال في صدر كلامه الذي
__________________
نقله : والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد التي فتحت
عنوة أن يكون خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة للغانمين وغير
الغانمين في ذلك سواء ويكون للإمام .. إلى آخر ما ذكره عنه. وقال الفاضل ابن إدريس في سرائره
: والضرب الثاني من الأرضين ما أخذ عنوة بالسيف ـ بفتح العين ـ وهو ما أخذ عن خضوع
وتذلل قال الله تعالى « وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ
» أي خضعت وذلت ، فإن هذه الأرض تكون للمسلمين بأجمعهم المقاتلة وغير
المقاتلة ، وكان على الامام أن يقبلها لمن يقوم بعمارها بما يراه من النصف أو
الثلث أو الربع أو غير ذلك ، وكان على المتقبل إخراج ما قبل به من حق الرقبة يأخذه
الامام فيخرج منه الخمس فيقسمه على مستحقه والباقي منه يجعل في بيت مال المسلمين
يصرف في بيت مال المسلمين يصرف في مصالحهم من سد الثغور وتجهيز الجيوش ، وربما أهمل
ذلك بعض الأصحاب إنكالا على ما سبق منهم قبل ، فالمنفرد للبحث لا بد وأن يتعرض
لذلك لئلا يتوهم عموم الحكم في المفتوحة عنوة بل هو الظاهر خصوصا عند غير العالم
بالأحكام الثانية.
قوله
: وهذا الحديث وإن كان من المراسيل إلا أن الأصحاب تلقوه بالقبول ولم نجد له رادا
وقد عملوا بمضمونه.
واحتج
به على ما تضمن من مسائل هذا الباب العلامة في المنتهى
وما هذا شأنه فهو
حجة بين الأصحاب .
أقول : ما ذكره
لا غبار عليه ، إلا أنه سنورد ما هو أبلع شهرة منه مع أنه رده
__________________
برد ليس بشيء ومنه أنه مرسل ، فكلامه هنا يكون حجة عليه هناك ، فذكرنا هذا
للتنبيه على اختلاف قوليه وعدم ضبطه للقانون وعدم وقوفه بحسب مقتضى الدليل (
الثالثة ) قال في آخر كلامه : بقي هنا شيء وهو أنه ـ يعني الخبر المرسل الذي
استدل به ـ تضمن وجوب الزكاة قبل حق الأرض وبعد ذلك يؤخذ أهل الأرض ، والمشهور بين
الأصحاب أن الزكاة بعد المؤن ، نعم هو قول الشيخ رحمهالله.
وروى الشيخ في
الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام قال : وما أخذ بالسيف فذلك للإمام يقبله بما يرى كما
صنع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بخيبر قبل أرضها ونخلها والناس يقولون لا يصح قبالة
الأرض والنخل إذا كان البياض أكثر من السواد ، وقد قبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خيبر وعليهم في حصصهم العشر ونصف العشر.
وفي معناه ما
رواه أيضا مقطوعا عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر .
أقول : ظاهر
إيراده للخبر وما في معناه الاستدلال على كون الزكاة بعد المؤن ولا دلالة في ذلك
بوجه من الوجوه إلا بالمفهوم على وجه بعيد كما لا يخفى ولا حجة فيه ، فالاستدلال
ساقط والمعتمد في الاستدلال على عدم وجوب الزكاة في مجموع الحاصل كما تضمنه الخبر
أن شرط الزكاة ملك النصاب لمالك واحد ، ولا كلام أن ارتفاع الأرض للمسلمين فلا
يبلغ نصيب كل واحد منهم قطعا فلا يجب فيه الزكاة لاختلال شرط الوجوب وهو ملك
النصاب لمالك متفرد. وبهذا يتم الاستدلال وإن قلنا أن الزكاة تقدم على المؤن ، وما
دل على الوجوب في الخبر لا يصح
__________________
الاعتماد عليه إلا بسبب الاعتضاد بالشهرة ، ولا شهرة هنا ، فسقط الاستدلال
به على هذا الحكم.
قوله
: الثانية : موات هذه الأرض أعني المفتوحة عنوة وهو ما كان وقت الفتح مواتا للإمام
ـ عليهالسلام ـ خاصة لا يجوز إحياؤه إلا بإذنه إن كان ظاهرا ، ولو تصرف فيها
متصرف بغير إذنه كان عليها طسقها ، وحال الغيبة يملكها المحيي من غير إذن ، ويرشد
الى بعض هذه الأحكام ما أوردناه في الحديث السابق عن أبي الحسن الأول عليهالسلام.
وأدل منه ما رواه .. إلخ. وروى الشيخ أيضا عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد
الله عليهالسلام عن الشراء من أرض اليهود والنصارى فقال : ليس به بأس ـ الى أن
قال ـ أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعملوها فهم أحق بها وهي لهم .
أقول : لا نزاع
لنا في أن موات المفتوح عنوة من الأنفال يختص به الامام عليهالسلام ، لكن لنا في كلام المؤلف نكتتان :
( الاولى ) أنه
سلم أن المحيي يملكها إذا كان الامام غير ظاهر من غير إذن ولا غبار عليه ، إلا أنه
يقول عن قريب في رسالته : إن ما في يد غير الشيعة من ذلك حرام ، وهو خلاف ما سلمه
هنا وخلاف ما أقام الدليل عليه هنا من العموم ، وسنشير الى الدليل هناك أيضا بما
يظهر به خطاؤه ولولاه لأمكن أن يجاب عنه بأنه أراد الخاص بقرينة ما يأتي من كلامه.
( الثانية )
أنه استدل بخبر محمد بن مسلم الذي ذكرناه عنه ولا دلالة فيه بل هو دال على ملك
المحيي من غير تفصيل ، ولولا خصوص ما دل من
__________________
الأحاديث أمكن الاستدلال به على العموم فلا يليق ذكره دليلا على ما ادعاه
لأنه لا يدل على شيء منه. وقد يعتذر عنه انه أراد الاستدلال على كون الموات
بالاحياء تملك في الجملة وهو عام فيدخل فيه ملكه في زمن الغيبة وغيره دل على عدم
الملك في زمن الظهور ، وهذا لا يخلو من تكلف.
قوله
: الثالثة : قال الشيخ في المبسوط
والنهاية
: وكافة الأصحاب لا
يجوز بيع هذه الأرض .. إلخ .
أقول : قد ثبت
أن الناقل يجب عليه تصحيح ما نقله ، وقد نقل عن كافة الأصحاب ذلك ، فعليه تصحيح
نقله على أنا نقول : قال الشهيد رحمهالله في الدروس : ولا يجوز التصرف في المفتوح عنوة إلا بإذن
الإمام سواء بالوقف أو بالبيع أو غيرهما ، نعم في حال الغيبة ينفذ ذلك . وهو يدل
بظاهره على خلاف ما نقله عن الكافة ، وربما فهم المؤلف من كلام الشهيد هذا شيئا
غير ما هو معناه ، وسيأتي الكلام عليه في محله إن شاء الله تعالى ، على أن هذا كله
بحث في المسألة من حيث هي ، وإلا فلا فائدة للمؤلف في ذلك ، نظرا الى ما هو مقصوده
إذ لا يلزم من كون هذا حكم المفتوح عنوة حل القرية إلا مع دعاء ( ادعاء ـ خ ل )
وستسمع ع تقريب بطلانها.
قوله
: وفي التذكرة
رواه كذا قال : يود
بالواو بدلا عن الراء من الأداء مجزوما بأنه أمر للغائب محذوف اللام وما ذكرناه
أولى
.
أقول :
الأولوية هنا لا معنى لها أصلا بل النظر يتعلق بتصحيح الرواية ولا بد
__________________
للمجتهد من أصل مصحح عليه يعتمد ، فإن كان فيه الواو وجب اتباعه ، وإن كان
فيه الراء اتبع ، وليس للأولوية في نقل ألفاظ الأخبار مدخل.
قوله
: فإن قلت : إذا جوزتم البيع ونحوه تبعا لآثار التصرف فكيف يجوز أولي الأمر أخذها
من المشتري؟ وكيف يسترد رأس ماله مع أنه قد أخذ عوضه أعني تلك الآثار؟ قلت : لا
ريب أن ولي الأمر له أن ينتزع أرض الخراج من متقبلها إذا انقضت مدة القبالة ، وإن
كان له فيها شيء من الآثار فانتزاعها من يد المشتري أولى بالجواز ، وحينئذ فله
الرجوع برأس ماله لئلا يفوت الثمن والمثمن .
أقول : نفي
الريب عن جواز الانتزاع من المتقبل مع انقضاء مدة القبالة مسلم لا غبار عليه ، أما
كون انتزاعها من يد المشتري مساويا له فضلا عن كونه أولى بالجواز ممنوع أشد المنع
بل في المبسوط ظاهر البطلان لأن يد المشتري يد معاوضة بذل فيها جزء من
ماله ويد المتقبل ليس كذلك بل هي في معنى المزارعة والمساقاة يستحق جزء السبب بسبب
عمله والآخر للمالك ، فأين هذا من ذاك؟ وهل يستجيز محصل أن يسطر في تصنيف تظفر به
الأذكياء مثل هذا لولا قلة التأمل وعدم إمعان النظر؟ ومن العجائب والغرائب قوله :
وكيف يسترد رأس ماله مع أنه قد أخذ عوضه ، أعني تلك الآثار أنه قبل الابتياع فليس
من الأخذ في شيء وإن أراد أن ملكها مع انتزاعها الامام باق له لم يزل ، فلا معنى
لرد الثمن ، ولا لقوله لئلا يفوت الثمن والمثمن ، وإن أراد غير ذلك فهو غير معقول
إلا أن يكون من مخترعات اجتهاده فلا بأس.
قوله
: لكن الذي يرد الثمن يحتمل أن يكون هو الامام عليهالسلام لانتزاعه ذلك ، يحتمل
أن يكون البائع لما في الرد من الاشعار بسبق الأخذ .
__________________
أقول : لا
يحتمل أن يكون المراد إلا الإمام عليهالسلام لأن البائع باع ما هو جائز له شرعا بمعاوضة صحيحة ثبت جوازها بالنص ،
فاستحق العوض ، فلا وجه لرده ، وكيف يحتمل أن يرده مع أن المنتزع الامام عليهالسلام وهي في يده؟ ولو احتمل أن يرد البائع وجب الحكم بعود
يده كما كانت ما لم يعاوضه الإمام لأن من آثار التصرف ما هو مملوك للبائع كالبناء
والغرس وغيرهما. ومن العجب أن المؤلف ما فارق قوله الأول إلا بقليل ، ثم احتمل ما
لا يجتمع معه وقوله الأول ، وإذا تصرف فيها أحد بالبناء والغرس صح وله بيعها على
أنه يبيع ماله فيها من الآثار وخص الاختصاص التصرف ، ثم قال بعده بما سطر ، وهذا
تصريح في جواز بيعه حقه أعني آثار التصرف ، قلت : فاذا كان ما باعه حقا له والامام
عليهالسلام له الانتزاع من حيث إن الأرض لم تنتقل كيف يحتمل أن يرد
البائع ثمن ما هو حق له ، وقد عاوض عليه بعقد صحيح لازم ، ولعل هذا من مخترعات
اجتهاد المؤلف في المسائل الفقهية ، وبعد هذا بأسطر قال : قلت : هذا واضح لا غبار
عليه يدل عليه ما تقدم من قول الصادق عليهالسلام « اشتر حقه منها » ، وأنه أثر محترم مملوك لم يخرج عن ملك مالكه بشيء من الأسباب الناقلة
فيكون قابلاً لتعلق التصرفات ، فانظر أيها المتأمل إلى كلام هذا المؤلف سابقا ولا
حقا ، وفي الوسط تظفر ببعض الغرائب فيه.
قوله
: في التنبيه الأول ردا على العلامة : ثم نعود الى كلامه في المختلف ، فإنه قال
فيه في آخر المسألة في كتاب البيع : ويحمل قول الشيخ على الأرض المحياة دون
الموات. قلت : هذا مشكل لأن المحياة هي التي تتعلق بها هذه الأحكام المذكورة. وأما
الموات فإنها في حال الغيبة مملوكة للمحيي ، ومع وجود الامام لا يجوز التصرف فيها
إلا بإذنه ، مع أن الحمل لا يلاقي ما قربه من مختار ابن إدريس
__________________
لأن
مراده بأرض العراق المعمورة المحياة التي يقال فيها لا يجوز بيعها ولا هبتها لأنها
أرض الخراج ، الى هنا كلامه .
وقبل
التعرض له نذكر كلام العلامة في المختلف قال : مسألة الأرض المفتوحة عنوة ، قال في
المبسوط : لا يصح بيع شيء من هذه الأرض ولا أن تبنى دورا ومنازل ومساجد وسقايات
ولا غير ذلك من أنواع التصرف التي تتبع الملك ، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف
باطلا وهو باق على الأصل ، وقال ابن إدريس : فإن قيل : نراكم تبيعون وتشرون وتقفون
أرض العراق وقد أخذت عنوة ، قلنا : إنما نبيع ونقف تصرفنا وتحجيرنا وبناءنا ، فأما
نفس الأرض فلا يجوز ذلك. وهو يشعر بجواز البناء والتصرف وهو أقرب ، ويحمل قول
الشيخ على الأرض المحياة دون الموات
الى هنا.
أقول : لا يخفى
على الناظر أن الشيخ أطلق المنع من غير تقييد بالمحياة ولا الموات ، وأن ابن إدريس
أطلق الجواز من غير تقييد . وأن العلامة قد جمع بين القولين بحمل كلام الشيخ على
المحياة دون الموات ، وقرب كلام ابن إدريس مع الحمل المذكور وهو عين جعله مخصوصا
بالموات ، ولا يرد أن ابن إدريس منع من جواز البيع في الأرض ، فإذا حمل كلام
العلامة على الموات لا وجه للمنع لأنا نجيب أن العلامة لم يتعرض إلا لتقريب جواز
البناء والتصرف لا غير كما لا يخفى ، فاستشكال المؤلف سببه قلة التدبر في كلام
الفضلاء وسرعة التهجم عليهم بالطعن كما هو دأبه كثيرا. وليت شعري كيف لم يتفطن في
كلام هذا الفاضل حتى قال : لا يلاقي ما قربه ، فإنه لم يقرب إلا الجواز المقابل
للمنع المطلق ، وحمل كلام الشيخ على المحياة فعلم تفصيل مذهبه ، نعم لم يتعرض
لكلام ابن إدريس
__________________
في منع بيع نفس الأرض لعدم تعلق غرضه به في المسألة التي ساقها. وبالجملة
فهذا الرجل لم يعض بضرس قاطع على العلم ليعرف مقاصده وينال مطالبه فلو مشى الهوينا
وتأخر حيث أخره القدر كان أنسب بمقامه.
قوله
: نعم يحمل كلام الشيخ (ره) على حال وجود الامام وظهوره لا مطلقا .
أقول : هذا من
غرائبه وعجائبه ، فإن كلام الشيخ عنده مخصوص بالمحياة وقت الفتح فاذا حمل المنع
على حال ظهوره عليهالسلام لا مطلقا جاز ذلك في غيبته ، وإذا جاز بيع الأرض ونحوه
في الغيبة كان ذلك منافيا لما سبق منه مما نقله عن الكافة ، ولمطلوبه الذي هو
بصدده ، ولأجله ألف رسالته ، فإن التزمه فيا حبذا ، لكنه لا يلزمه بل هو لغفلته لا
يدري بتنافي كلامه ، ويمكن أن سبب حمل توهمه أن كلام الشيخ مخصوص بالمنع من البيع
تبعا لآثار التصرف وهو بمعزل عن كلام الشيخ لأن صريح كلامه المنع من بيع نفس الأرض
حيث قال : لا يجوز بيع شيء من هذه الأرض ولا أن تبنى .. إلخ مع انا سنبين
أن بيع الآثار لا يختص بزمن الغيبة ، فانظر أيها المتأمل الى رده لكلام العلامة
وحمله.
أقول : ومن
مختلطات رسالته قوله :
الثانية : نفوذ هذه التصرفات .. إلخ ، فلنورده بعينه بلفظه ثم نتكلم عليه.
قال
: الثاني نفوذ هذه التصرفات التي ذكرناها هو في غيبة الإمام ، أما في حال ظهوره
فلا ، لأنه إنما يجوز التصرف فيها مطلقا بإذنه ، وعلى هذا فلا ينفذ شيء من
التصرفات المتصرف فيها استقلالا ، وقد أرشد الى هذا الحكم كلام الشيخ في التهذيب
فإنه أورد على نفسه سؤالا وجوابا محصلهما مع رعاية ألفاظه
__________________
بحسب
الإمكان ـ الى أن قال : ـ ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب .
[ وما رواه حسن بن راشد عن أبي الحسن الأول عليهالسلام .. وله رءوس الجبال وبطون
الأودية والآجام الحديث . احتج ابن إدريس بأن الأصل إباحة ذلك
للمسلم وعدم تخصيص الامام عليهالسلام فلا يعدل عنه بمثل هذه الأخبار الضعيفة
، والجواب المنع من
أصالة الإباحة ، بل الإمام أولى لأنه قائم مقام الرسول عليه وهو أولى بالمؤمنين من
أنفسهم ، وبالجملة ففي المسألة نظر الى
هنا كلام العلامة رحمهالله ] .
أقول : لا يخفى
أن جوابه الذي أجاب به عن حجة ابن إدريس غير ناهض لأنه لا يلزم من كونه قائماً
مقام الرسول عليهالسلام وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم أن لا يكون الأصل الإباحة
للمسلمين ، وأن ما في يد المسلم إذا أسلم عليه لا يكون له ويختص به عليهالسلام بل يستحب البحث في الرسول عليهالسلام بالنسبة الى ذلك ، قال المحقق في المعتبر : قال الشيخان
: رءوس الجبال والآجام من الأنفال ، وقيل : المراد به ما كان من الأرض المختصة به
، وظاهر كلامهما الإطلاق ، ولعل مستند ذلك رواية الحسن بن راشد عن أبي الحسن الأول
قال : وله رءوس من الجبال وبطون الأودية والآجام ، والراوي ضعيف.
__________________
قوله
: وفي مرسلة العباس الوراق عن رجل سماه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إذا غزا
قوم بغير إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام ، وإذا غزوا بإذن الإمام
فغنموا كان الخمس للإمام. ومضمون هذه الرواية مشهور بين الأصحاب مع كونها مرسلة
وجهالة بعض رجال أسنادها وعدم إمكان التمسك بظاهرها ، إذ من غزا بإذن الإمام لا
يكون خمس غنيمته كلها للإمام عليهالسلام .
أقول : هذا
الكلام من المؤلف عجيب غريب ، لأنه إن أراد بما ذكر من الإرسال وغير بيان صورة
الحال مع كونها حجة فلا مزيد فيه.
وان أراد الطعن
في العمل بالرواية فهو ساقط بالكلية لا يحتاج الى جواب طائل بعد كونها في الاشتهار
بين الأصحاب بالغة حدا لا يذكرون الإشارة إلى خلاف عند الفتوى بمضمونها ، ولم أسمع
لها رادا من الأصحاب ، وما هذا حاله في الاشتهار حجة بلا اشكال ، وقد سلم نحو ذلك
فيما مضى بقوله : وهذا الحديث وإن كان من المراسيل إلا أن الأصحاب تلقوه بالقبول
ولم نجد له رادا وقد عملوا بمضمونه. واحتج به على ما تضمن من مسائل هذا الباب
العلامة في المنتهى ، وما هذا شأنه فهو حجة بين الأصحاب ، وأن ما فيه من
الضعف ينجبر بهذا القدر من الشهرة. انتهى كلامه ، ولا شك أن شهرة هذا الخبر كاد أن
لا يلحقه شهرة شيء من المراسيل بل صرح بعض الأصحاب بنقل الإجماع على مضمونها.
قوله « وعدم
إمكان التمسك بظاهرها إذ من غزا بإذن الإمام لا يكون خمس غنيمة كلها للإمام » أعجب
من الأول لوجهين.
__________________
( أحدهما ) ما
هو مقرر مذكور مشهور متواتر بين الأصحاب يعرفه كل من خالط الاستدلال بالحديث ، وهو
أن الخبر إذا اشتمل على ما هو معمول به إما لاشتهاره أو لعدم المعارض له جاز
الفتوى به ، وإن كان مشتملا على شيء له معارض أو شاذ لا يصح الفتوى به ولا يقدح
في جواز العمل بما ليس فيه ذلك ، ولو لا خوف الإطالة أوردت من ذلك جملة ، وكأن
المؤلف لم يلاحظ ما ورد في ذلك في منزوحات البئر وغيره من
الأحكام الشرعية ولا وصيته المعتبر في ذلك. والدليل العقلي يساعد على ذلك فإن
المعارضة والتخصيص قد يختص ببعض ما دل عليه الخبر فيكون الباقي سليما من المعارض
فيكون راجح الدلالة فيجب العمل به.
( وثانيهما )
أن استناد الخمس إليه عليهالسلام لأنه القابض له والمتصرف فيه والحاكم فيه بما شاء كيف
لا والإضافة تصدق بأدنى ملابسة على أن قائلاً لو قال : الخمس كله له للرواية لم
يكن رد كلامه إلا بثبوت الدليل على عدم الاختصاص ، فلا بد من الجمع ، ولا جمع إلا
بأن إسناده إليه بكونه له من حيث إنه يرفع إليه أو يأخذ ما يصطفيه ويقسمه فيأخذ
نصفه ويقسم النصف على الأصناف ، وما يفضل عن كفايتهم في السنة فهو له وما يعوز فهو
عليه ، فكأنه له وكأنهم واجبوا النفقة عليه. ليت شعري كيف كان مثل هذا الذي يفهم
تطبيقه بأدنى تأمل يقتضي عدم إمكان التمسك بظاهرها حتى يكون قدحا فيها؟ وهل مثل
هذا يصدر من فقيه تكلف الجمع بين الأخبار المختلفة والنظر في دقائق معانيها ولاورد
ما يحقق شهرة العمل بالرواية ويدفع احتمال الرد عليها بالإرسال ونحوه فيما ذكرناه
من الحكم؟.
قال الشيخ في
المبسوط الأنفال هي كل أرض خربة باد أهلها ـ الى أن
__________________
قال : ـ قال قوتل قوم من أهل حرب بغير إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة
للإمام خاصة دون غيره ، فجميع ما ذكرناه كان للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصة وهي لمن قام مقامه من الأئمة في كل عصر ، فلا يجوز
التصرف في شيء من ذلك إلا بإذنه .. إلخ ، ولم يذكر فيه لا قولا ولا خلافا.
وقال في
النهاية : وإذا غزا قوم أهل حرب من غير أمر الإمام فغنموا كانت
غنيمتهم للإمام خاصة دون غيره ، وليس لأحد أن يتصرف في شيء مما يستحقه الامام من
الأنفال والأخماس إلا بإذنه .. إلخ.
وقال في الخلاف
: مسألة : إذا دخل قوم دار الحرب وقاتلوا بغير إذن الامام فغنموا كان ذلك
للإمام خاصة ، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم .
وقال ابن إدريس
في باب ذكر الأنفال ومستحقها : ولو قاتل قوم من أهل الحرب بغير أمر الإمام فغنموا
كانت الغنيمة خاصة للإمام دون غيره ، فجميع ما ذكرناه كان للنبي عليهالسلام خاصة وهو لمن قام مقامه من الأئمة في كل عصر لأجل
المقام لا ورائه .. إلخ.
قلت : ومن مذهب
ابن إدريس عدم جواز العمل بخبر الواحد وإن صح مستنده مطلقا فضلا عن الضعيف ، فضلا
عن كونه مخصصا لعموم الكتاب ، وأفتى بمضمون الرواية فلو لا أنها عنده من المشاهير
التي يجب العمل بها لم يفت بمضمونها ، بل الظاهر أنه لا خلاف عنده في مضمونها لأن
مجرد الشهرة مع ضعف المستند لا يقوم حجة عنده خصوصا في تخصيص الكتاب العزيز ،
وكلام المحقق الآتي
__________________
ذكره صريح في أنه انما اعتمد على الإجماع على مضمونها ، وقد سبق نقل الشيخ
في الخلاف الإجماع عليه. وقال العلامة في المنتهى وإذا قاتل قوم
من غير إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة للإمام ، ذهب إليه الشيخان والسيد المرتضى رحمهمالله وأتباعهم. وقال الشافعي .. إلخ ـ ثم قال : ـ احتج
الأصحاب بما رواه العباس الوراق عن رجل سماه .. . إلخ.
قلت : ظاهره أن
مضمونها متفق عليه حيث لم يذكر الخلاف إلا عن المخالفين ، وقال « احتج الأصحاب »
والجمع المحلى للعموم ، وقد يمكن أن يقال الألف واللام للعهد فلا يرجع إلا الى
الثلاثة وأتباعهم لكنه لا يقدح إلا في الدلالة على الإجماع ولا يخلو من مشاحة لا
حاجة الى الإطالة بها. وقال في التحرير في الفصل الثالث في الأنفال : وإذا قاتل
قوم من غير إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة للإمام عليهالسلام خاصة ولم يشر الى قوم ولا خلاف ولا احتمال الى غير ذلك من
تصانيفه كالقواعد والإرشاد وغيرهما وعبارات سائر الأصحاب مما يخرج تعداده الى
الإطناب ، لا يقال قد قال المحقق رحمهالله في النافع ، وقيل : إذا غزا قوم بغير إذنه فغنمتم له ،
والرواية مقطوعة فحكاه قولا وأشار الى ضعفه بكون الرواية مقطوعة .
وقال في
المعتبر : الثانية : قال الثالثة : إذا قاتل قوم من غير إذن الامام فغنموا
فالغنيمة للإمام. وقال الشافعي .. إلخ ـ ثم قال : ـ وما ذكره الأصحاب ربما عولوا. فيه
على روية العباس الوراق عن رجل سماه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال :
__________________
إذا غزا قوم بغير إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام وإن غزوا
بأمره كان للإمام الخمس وبعض المتأخرين يستكشف صحة الدعوى مع إنكاره العمل بخبر
الواحد فيحتج بدعوى إجماع الإمامية ، وذلك مرتكب فاحش إذ هو يقول : إن الإجماع
أنما يكون حجة إذا علم أن الامام في الجملة ، فإن كان يعلم ذلك فهو منفرد بعلمه
فلا يكون علمه حجة على من لا يعلم . الى هنا كلامه ، ويظهر منه إنكار الفتوى.
فنقول : كلامه
في النافع لا يظهر منه غير أنه حكاه قولا وأشار الى ضعف مستنده
وغاية ما يلزم منه عدم قطعه به على أن المعلوم من قاعدته في النافع أن ما يقول فيه
وقيل هو ما إذا لم يكن مستنده مقطوعا به عنده وهو لا يدل على اختياره فلأنه مع أنه
صرح في شرائعه بالفتوى من غير إشارة إلى خلاف ولا ضعف حيث قال في آخر المقصد الأول
من الأنفال : وما يغنمه المقاتلون بغير إذنه فهو له عليهالسلام فلو كان مخالفا في النافع صريحا لم يقدح خلافه في
الاتفاق لسبق دخوله مع الجماعة وكلامه في المعتبر لم يرد على ما
ذكره في النافع إلا بتعيين الثلاثة وبإنكاره الإجماع لا على طريق نقل
الخلاف بل على طريق عدم ثبوته عنده ، وهو مرتكب لا يخلو من نظر لأن الإجماع
المنقول بخبر الواحد حجة عنده ، وابن إدريس من أجلاء الأصحاب ولو قدح فيه فلا قدح
في الشيخ وقد نقله في الخلاف وهو رئيس الطائفة وإمامهم ومعتمدهم في الأقوال
والروايات. على أنا نقول من العجب تردد المحقق أو عدم جزمه بالفتوى ، وقد اعتمد في
غير ذلك على ما هو أقل
__________________
شهرة مع ضعف مستنده حيث يقول : رواية يجبر ضعفها الشهرة وهذه أشد شهرة ،
وأيضا فقد جزم بالفتوى في شرائعه ولا مستند له إلا هذه الرواية فلو لا انجبارها بالشهرة
أو الاتفاق لم يجز له الفتوى بحال ، وعلى كل حال فلا محيص ولا مناص عن الشهرة التي
يتحقق معها صحة الاستدلال بالخبر وإن كان مرسلا.
قال الفاضل
المقداد في تنقيحه في شرح قول المحقق في النافع : وقيل إذا غزا قوم بغير إذنه
فغنيمتهم له والرواية مقطوعة والقائل الثلاثة وأتباعهم ، والرواية رواها عباس
الوراق عن الصادق عليهالسلام وهي مشهورة بين الأصحاب وعليها عملهم .
وقال الفاضل
ابن فهد في مهذبه في شرح كلامه في الرواية إشارة الى ما رواه العباس الوراق عن رجل
سماه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال ( طاب ثراه ) :
إذا غزا قوم
إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام ، وإن غزوا بأمره كان الخمس للإمام . وعليها عمل
الأصحاب ، ويؤيدها أن ذلك معصية فلا يكون وسيلة إلى الفائدة ولأنه ربما كان نوع
مفسدة فالمنع أو عزلهم الى تركه فيكون لطفا فضعفها بإرسالها تؤيد بعمل الأصحاب
وبما وجهناه .
قلت : وفي
كلاهما ما يدل على الاتفاق ، وفي هذا القدر كفاية شافية ووقاية
رافية والله الفتاح.
قوله
: وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الأرض المعدودة من الأنفال إما أن تكون محياة أو موات ،
وعلى التقديرين فإما أن يكون الواقع يده عليها من الشيعة أو لا ، فهذه أقسام أربعة
وحكمها أن كلما كان بيد الشيعة من ذلك فهو حلال عليهم مع
__________________
اختصاص
كل من المحياة والموات بحكمه لأن الأئمة عليهمالسلام أحلوا ذلك لشيعتهم حال
الغيبة وأما غيرهم فإنه عليهم حرام .
أقول : في هذه
نوع قصور ، والأنسب أن يقال : إما أن يكون محياة أو موات وحكمها أن كل ما بيد
الشيعة .. إلخ ، والأمر سهل في هذا ، لكن قوله « وأما غيرهم فإنه عليهم حرام وباطل
» فإن ظاهر المذهب أن الموات من الأنفال يصح إحياؤه لجميع المسلمين ولا تحرم على
أحد منهم في زمن الغيبة ، فيد كل مسلم عليه يد إباحة ، وهو مدلول إطلاق الروايات
وفتاوى الأصحاب ، حيث حكموا بجواز إحياء الموات من غير تقييد لها بكونها من غير
الأنفال ، بل في الحقيقة عند التأمل أكثر موات الأرضين من الأنفال ، ويدل عليه
أيضا إطلاق إحياء ما ترك عمارته غائبا كان المالك أو حاضرا. نعم الكلام في الكسب
فإنه لا يحل على الإطلاق على معنى عدم وجوب شيء على المكتسب إلا للشيعة في وجه
حسن ، وبين ذلك وبين حريم وضع اليد على الأرض بون بعيد ، والمؤلف لم يلتفت الى ذلك
لأنه من المجازفين ، ولهذا استدل على مدعاه بقول أبي عبد الله في رواية عمر بن
يزيد : وكل ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم محللون يحل لهم ذلك الى أن يقوم
قائمنا فيحسبهم طسق ما كان في أيدي سواهم ، فإن كسبهم من الأرض حرام حتى يقوم
قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم . ولم يتفطن لعدم دلالة الحديث على تحريم وضع اليد
واختصاصه بالتكسب ، وبخبر نجية ، ولا دلالة فيه إلا من حيث المفهوم ، والتحقيق أن
مفهوم خبر نجية لا دلالة فيه أصلا لأنه عليهالسلام قال :
__________________
لنا الخمس في كتاب الله ولنا الأنفال ولنا صفو المال ـ ثم قال : ـ اللهم
إنا أحللنا ذلك لشيعتنا ومفهومه أنهم لم يحلوا ذلك لغير شيعتهم. وذلك إشارة الى ما
هو حقهم من الأمور المذكورة ، ولا يلزم من عدم إحلالهم الجميع عدم إحلالهم البعض ،
ولو سلمت الدلالة فهي محمولة على الكسب بالنسبة إلى الأرضي جمعا بين الأخبار ،
ويمكن أن يحمل أيضا الحل للشيعة على الحل الخاص. أعني ما يختلف الحال فيه بين
الحضرة والغيبة ، بحيث لا يرفع أيديهم عنه بعد الظهور كما دل عليه بعض الأخبار
وكلام الأصحاب كالعلامة في المنتهى وغيره.
أقول : لا
يشتبه على من ينظر بعين البصيرة الشافية عن شوب كدر طلب غير الحق أنه لا يكاد يحقق
شيئا ولا ورد ما يزيل الشبهة عما ذكرته من الأخبار ومن كلام الأصحاب الدال على
الإباحة في الأرضين بإطلاقه ، وقبل ذلك أقدم سؤالا وجوابه ، أما السؤال فهو أن
الامام عليهالسلام أطلق تحريم الكسب من الأرض ، وحملهم بعض الأخبار على
ذلك لا يتمشى على أصول قواعد الشريعة من أن الزرع لزارعه ولو في الأرض وغيره وكذا
الغرس لغارسه وانما يلزمه الأجرة في الذمة والجواب أن إطلاق التحريم على الكسب
باعتبار لزوم الحق للغير به مع عدم إيقائه إياه من باب إطلاق المسبب على السبب ،
أو نقول أن حق الامام عليهالسلام متعين في العين لإطلاق الطسق وهو الرقبة من خراج الأرض
ولا يكون ذلك كسائر الحقوق التي يكون المدين فيها بالخيار في جهات القضاء ولنرجع
الى ما قلناه فنقول : أما الدلالة من الأخبار فمنه ما رواه الشيخ في التهذيب عن
علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : من غرس شجرا أو حفر واديا بديا لم يسبقه
__________________
إليه أحد أو أحيا أرضا ميتة فهي له قضاء من الله عزوجل ورسوله . وعنه عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عن محمد بن
مسلم قال سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض وعمروها فهم أحق
بها وهي لهم . وعن الحسن بن محبوب عن معاوية بن وهب قال : سمعت أبا
عبد الله عليهالسلام يقول : أيما رجل أتى خربة بائرة فاستخرجها وكرى أنهارها
وعمرها فإن عليه فيها الصدقة ، فإن كانت أرضا لرجل قبله فغاب عنها وتركها وأخر بها
ثم جاء بعد فطلبها فإن الأرض لله عزوجل ولمن عمرها . وعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن زرارة
ومحمد بن مسلم وأبي بصير وفضيل وبكير وحمران وعبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي
جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام قالا : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من أحيا أرضا مواتا فهي له . وعن الحسن بن
محبوب عن هشام بن سالم عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر عليهالسلام قال : وجدناه في كتاب علي عليهالسلام : إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة
للمتقين ، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتقون والأرض كلها لنا ، فمن
أحيا أرضا من المسلمين فليعمرها وليؤد خراجها الى الامام وله ما أكل منها وإن
تركها أو خربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحق بها من
الذي تركها فليؤد خراجها الى الامام من أهل بيتي وله ما أكل حتى يظهر القائم من
أهل بيتي بالسيف فيحوبها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومنعها إلا ما كان في أيدي شيعتنا فيقاطعهم على ما كان في
أيديهم ويترك الأرض في أيديهم .
__________________
أقول : قطع
تفصيل هذه الرواية النزاع وفصح عن المراد وفيها وفيما سبق جملة كافية من الأخبار.
وأما الدلالة من كلام الأصحاب فأكثر من أن تحصى ، فمنه ما ذكره العلامة في المنتهى
وهذه عبارته : وأما الموات منها وقت الفتح فهي للإمام خاصة لا يجوز لأحد إحياؤه
إلا بإذنه إن كان موجودا ولو تصرف فيها بغير إذنه كان على المتصرف طسقها ويملكها
المحيي عند غيبته من غير إذن ـ الى أن قال : ـ ويدل على أن المحيي للموات في غيبته
عليهالسلام يملكها بالإحياء ما رواه الشيخ في الصحيح عن عمر بن
يزيد قال : سمعت رجلا من أهل الجبل يسأل أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها فعمرها وأكرى
أنهارها وبنى فيها بيوتا وغرس فيها نخلا وشجرا قال : فقال أبو عبد الله عليهالسلام كان أمير المؤمنين عليهالسلام يقول : من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له وعليه طسقها
يؤديه الى الإمام فهي في حالة الهدنة ، فإذا ظهر القائم عليهالسلام فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه.
قلت : والمراد
بالمؤمنين في الخبر المسلمون لأن الشيعة مأذون لهم اتفاقا فجعل الفاضل الخبر دليلا
على الملك من غير إذن يدل على أنه فهم ما ذكرناه من أن المراد المسلمون ، والغرض
الاستشهاد بكلام الأصحاب فلا مشاحة في دلالة الخبر وعدم حجية فهم العلامة إذ
الدليل قد تقدم في الأخبار.
وقال في
التحرير في كتاب إحياء الموات : ولو كان الإمام غائبا كان المحيي أحق بها ما دام
قائماً بعمارتها ، فإن تركها فزالت آثارها فأحياها غيره كان الثاني أحق ، فإذا ظهر
الامام كان له رفع يده عنها وقد سمعت ما ذكره في باب قسمة الأراضي عند ذكر الأنفال
في صدر الرسالة.
__________________
وقال في
الإرشاد : ويجوز إحياء الموات بإذن الامام وبدون إذنه مع غيبته ولا يملكه الكافر .
وقال في
القواعد : وكل أرض لم يجر عليها ملك مسلم فهي للإمام ، وما جرى عليها ملك مسلم فهي
له وبعده لورثته ، فإن لم يكن لها مالك معين فهي للإمام ولا يجوز إحياؤها إلا
بإذنه ، فإن بادر وأحياها بغير إذنه لم يملكها ، فإن كان غائبا كان أحق بها ما دام
قائماً بعمارتها ، فإن تركها فبادت آثارها فأحياها غيره كان الثاني أحق ، وللإمام
بعد ظهوره رفع يده .
وقال الشهيد رحمهالله في دروسه : ونعني بالموات ما لا ينتفع به لعطلته إما
لانقطاع الماء عنه أو لاستيلائه عليه أو لاستيجابه مع خلوة من الاختصاص ، ويشترط
في تملكه بالإحياء أمور تسعة : ( أحدها ) إذن الامام على الأظهر سواء كان قريبا من
العمران أم لا ، وفي غيبة الإمام يكون المحيي أحق بها ما دام قائماً بعمارتها ،
فإن تركها فزالت آثاره زالت يده .. ( وثانيها ) أن يكون المحيي مسلما .. إلخ. وعبارات
الأصحاب في هذا كثيرة لا يخلو منها سطور ، واشتركت معنى في أن إحياء الموات في حال
الغيبة لسائر المسلمين جائز ويقتضي ثبوت اليد وكون المحيي أحق بالأرض ، وهذا مما
لا شك فيه ولا شبهة لديه ولا غبار عليه. وفي هذا القدر كفاية وتقنع والله يقول
الحق وهو يهدي السبيل.
قوله
: المقدمة الرابعة : في تعيين ما فتح عنوة من الأرضين .. إلخ .
أقول : لا بحث
لنا منوطا بهذه المقدمة إلا في العراق.
__________________
والمؤلف قال :
وأما أرض العراق التي تسمى بأرض السواد وهي المفتوحة من الفرس التي فتحت في أيام
الثاني فلا خلاف في أنها فتحت عنوة .
أقول : إن أراد
بقوله « لا خلاف في أنها فتحت عنوة » أنه لا خلاف في كونها فتحت بالسيف في الجملة
على معنى أن فتحها لم يكن بالصلح ولا بهرب أهلها وتسليمها ولا بإسلامهم طوعا بل
بالمحاربة فهو حق اليقين لأنه من المتواترات لكن لا يجديه في مطلوبه نفعا ، وإن أراد أنها بحكم
المفتوحة عنوة على معنى أن عامرها للمسلمين وغامرها للإمام على ما سبق من تفصيل
الأحكام فهو معلوم البطلان إذ الخلاف متحقق ، بل لو شئت أن أقول : لا خلاف في
كونها من الأنفال لأنها غنيمة الغازي بغير إذنه فيكون منها ، لقلت : وما يوجد من
بعض الروايات فهو محمول على التقية ، وعبارات الأصحاب لا يخلو عن شيء يمكن تطبيقه
على ما ينافي الاتفاق ، والآن فلسنا بصدد دعوى ذلك لنحققه بل بصدد بيان بطلان قوله
« لا خلاف » ومن أنه لم يأت بدليل على الإجماع أكثر من إيراد عبارتين أو ثلاثة
لبعض أصحابنا ورواية أو روايتين من الحديث وليس من الدلالة على الإجماع في شيء ،
بل لو كانت دعواه ترجيح أحد المذهبين لم يقم ما ذكره دليلا على مدعاه لأن قول
رجلين أو ثلاثة في أصحابنا ليس بدليل ، وخبر الواحد بمجرده قد يمنع دلالته ومع
تسليمها فمع الخلو عن المعارض ، والمعارض وهو ما علم من أنها فتحت في زمن الثاني
وقد سلمه ـ معلوم وإذن علي عليهالسلام غير معلوم ، وليس حمل الخبر على ما يقتضي الإذن أولى من
حمله على التقية للجزم بأنها فتحت في غير زمن الامام الظاهر اليد ، وكلام الشيخ
يدل على أن عدم الاذن محقق وسيأتي.
__________________
وأعجب من ذلك
أن العلامة في المنتهى والتحرير نقل عن الشيخ ما يدل على أنها من الأنفال فأسقطه حتى
أورد الكلامين ، وأورد هو قول الشيخ في المبسوط وجعل آخره
إيرادا ثم أجاب عنه بكلام رث ركيك لا يفوه به متأمل وحيث كانت هذه المسألة من
المهمات علما وعملا ونقضا وجب إيضاحها على وجه لا يبقى معه اشتباه ، فنقول وبالله
التوفيق : ثبت بما لا غبار عليه أن الثاني بعث عسكرا فتح العراق وولي الأمر عندنا
وهو علي عليهالسلام حينئذ مقهور اليد عامل بالتقية متابع خوفا على نفسه
للثاني لا يشك فيها أحد من علمائنا ، ومن المعلوم أن عليهالسلام عند الثاني في ظاهره وعند من يدين بإمامته من الرعية ،
لا حكم له من حيث الإمامة ولا أمر ولا إذن ولا غير ذلك وهذا مقطوع به أيضا ،
فالغنيمة التي غنمها العسكر غنيمة عسكر ليس من قبل إمام عادل عندنا فهي من الأنفال
على الرواية المشهورة بين الأصحاب ، وقد أسلفناها وما يدل على شهرتها ونقل الإجماع عليها ،
فالعراق حينئذ من الأنفال ولا يحتمل أن يكون بحكم المفتوحة عنوة إلا على أحد أمرين.
( الأول ) كون
العسكر أتى بإذن ولي الأمر وهو غير معلوم والأصل عدمه ، بل لو قيل إنه ثابت العدم
أمكن لأنه إعانة على اشتهار إمامته وعموم رئاسته وهو إغراء بالقبيح لا يليق من
المعصوم إلا على وجه لا يخلو من نظر هو أن ذلك أخف ضررا مع اشتهار اسم الإسلام من
البقاء على الكفر ، ولا يخفى على المتأمل ما فيه ، ومما يؤيد عدم تحقق الاذن ويؤكده
أمور ستسمعها إن شاء الله تعالى ، ولنورد منها هنا شيئا واحدا هو أن السيد الفاضل
الكامل العالم العامل علي بن
__________________
عبد الحميد الحسيني قدس الله سره قال في شرحه الذي بلغ فيه الغاية وتجاوز
فيه النهاية للنافع وظاهره أنه حكاية عن شيخه فخر الدين رحمهالله ما هذا لفظه : وأما العراق فقيل فتح عنوة فهو للمسلمين
كافة لا يباع ولا يوقف ولا يوهب ولا يملك لأن الحسن والحسين عليهماالسلام كانا مع الجيش وفتح بإذن علي عليهالسلام ، وقيل لم يفتح عنوة لأن الفتح عنوة هو الذي يكون بحضور
الإمام أو نائب الإمام أو إذن الامام وليس شيء من ذلك معلوما ، وكذا قولهم أن
الحسن والحسين عليهماالسلام كانا مع الجيش أيضا غير معلوم فلا يكون مفتوحا عنوة
فيكون للإمام عليهالسلام وهو المفتي به ، وكذا قال والده . الى هنا
كلامه رحمهالله.
أقول : ولم أقف
على حديث أعتمد عليه ولو خبر واحد في أنه عليهالسلام أذن في ذلك ، والأصل والظاهر متطابقان على عدمه ، فيكون
منفيا وعلى كل تقدير فائدة الإجماع الذي ادعاه مع التصريح بالخلاف كما سمعته.
( الثاني )
الشك في مقتضى الرواية وليس بمتوجه لما قررنا سابقا ، ولا ورد عبارات بعض الأصحاب
في هذا الباب.
قال الشيخ رحمهالله في المبسوط : وأما أرض السواد فهي الأرض المفتوحة من
الفرس الذي فتحها عمر وهي سواد العراق فلما فتحت بعث عمر عمار بن ياسر أميرا وابن
مسعود قاضيا وواليا على بيت المال وعثمان بن حنيف ماسحا ، فمسح عثمان الأرض. واختلفوا
في مبلغها ، فقال الساجي اثنان وثلاثون ألف ألف جريب ، وقال أبو عبيدة ستة وثلاثون
ألف جريب وهي ما بين عبادان والموصل طولا وبين القادسية وحلوان عرضا ، ثم ضرب على
كل جريب نخل ثمانية دراهم والرطبة ستة والشجر كذلك والحنطة أربعة والشعير درهمين
وكتب الى عمر فأمضاه. وروي أن ارتفاعها كان في عهد عمر مائة وستين ألف ألف درهم
__________________
فلما ولي عمر بن عبد العزيز رجع الى ثلاثين ألف ألف في أول سنة وفي الثانية
بلغ ستين ألف ألف فقال : لو عشت سنة أخرى لرددتها الى ما كان في أيام عمر فمات تلك
السنة ، وكذلك أمير المؤمنين عليهالسلام لما اقضي الأمر إليه أمضى ذلك لأنه لم يمكنه أن يخالف
ويحكم بما يجب عنده فيه ، والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد
التي فتحت عنوة أن يكون خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة ،
يكون الغانمين وغير الغانمين في ذلك سواء ، ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها
وتضمينها بما شاء ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما يبوء بهم من سد
الثغور ومئونة المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح ، وليس الغانمين في
هذه الأرضين خصوصا شيء بل هم والمسلمون فيه سواء ، ولا يصح بيع شيء من هذه
الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تملكه ولا وقفه ولا إجارته ولا إرثه ، ولا يصح
أن نبنى دورا ومنازل ومساجد وسقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرف الذي تتبع الملك
، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا وهو باق على الأصل ، وعلى الرواية التي
رواها أصحابنا أن كل عسر أو فرقة غزت بغير إذن الامام فغنمت تكون الغنيمة للإمام
خاصة هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين إن
صح شيء من ذلك يكون للإمام خاصة ويكون من جملة الأنفال التي لا خاصة لا يشركه
فيها غيره .
أقول : لا خفاء
ولا شبهة أن الشيخ رحمهالله بهذا الكلام حاكم أن الفتح كان بغير إذن علي عليهالسلام لأنه حكم بأنه على الرواية يكون من الأنفال ، والرواية
تضمنت أن ما فتح له بغير إذنه يكون له ، فلو لا أن عدم الاذن محقق عنده لم يحكم
بأنها من الأنفال على الرواية بلا مرية لأنه لا يلزم من الرواية أن ما فتح بإذنه
من
__________________
الأنفال بل ما فتح بغير إذنه ، وقد حكم على الرواية بأن العراق وسائر ما
فتح في غير أيام علي عليهالسلام يكون من الأنفال ، وهذا صريح ينادي من له أدنى تأمل بأن
غزو العسكر لم يكن بإذن أمير المؤمنين عليهالسلام وأن مذهب الشيخ أنها من الأنفال لأنه مفت بمقتضى
الرواية وجازم بها في كتبه بل ادعى في بعضها الإجماع على مقتضاها كما أسلفنا حكاية
عنه.
إن قلت ما قد
قال سابقا والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها ينافي حكمه بكونها من
الأنفال على الرواية لأن الرواية عنده محققة مجزوم بها كما ذكرته
عند في هذا الكتاب وغيره كالنهاية فما الجمع بين كلاميه؟
قلت : وجه
الجمع بين كلاميه أن يحمل الكلام الأول على الرد على العامة بتقدير الفتح عنوة ،
فإن الذي يقتضيه المذهب في المفتوح عنوة ما ذكره ، وعند الشافعي أن حكمه حكم ما
ينقل ويحول ، وبه قال الزبير ، وذهب قوم الى أن الامام مخير فيه بين
شيئين بين أن يقسمه على الغانمين وبين أن ينفقه على المسلمين. ذهب اليه عمر ومعاد
الثوري وعبد الله بن المبارك ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه الى أن الامام مخير فيه بين
ثلاثة أشياء : بين أن يقسمه على الغانمين وبين أن ينفقه على المسلمين وبين أن يقر
أهلها عليها ويضرب عليهم الجزية باسم الخراج ، فإن شاء أقر أهلها الذين كانوا فيها
، وإن شاء أخرج أولئك وأتى بقوم آخرين من المشركين وأقمرهم فيها وأضرب عليهم
الجزية باسم الخراج ، وذهب مالك الى أن ذلك يصير وقفا على المسلمين بنفس الاغتنام
والأخذ من غير إنفاق الامام ، ولا يجوز بيعه ولا شراؤه ، فلما علم
الشيخ أنهم اتفقوا على أنها
__________________
فتحت عنوة وأن أكثر مذاهبهم ليس على ما هو الحق في المفتوح عنوة أشار إلى
أن الذي يقتضيه المذهب في المفتوح عنوة ما ذكره بين ذلك للرد عليهم ، ثم أشار الى
ما هو مذهب الإمامية واختيارهم وذكر سند اختيارهم وهو الرواية ، فهذا حقيقة كلام
الشيخ رحمهالله يعرفه من دعاه ومن تدبر مباحثه في كتبه خصوصا المبسوط ،
وكيف يليق غير هذا وهو حاكم مفت بمقتضى الرواية وحاكم أن الأمر على
مقتضاها أن يكون العراق من الأنفال.
قال المؤلف في
آخر المقدمة : فإن قلت أليس قد قال الشيخ في المبسوط ما صورته : وعلى الرواية التي
رواها أصحابنا أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير إذن الامام فغنمت تكون الغنيمة للإمام عليهالسلام خاصة تكون هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول إلا ما
فتح بعد في أيام أمير المؤمنين عليهالسلام ـ إن صح شيء من ذلك ـ يكون للإمام خاصة ويكون من جملة
الأنفال التي لا يشركه فيها غيره ، وهذا الكلام يقتضي أن لا يكون أرض العراق من المفتوحة
عنوة. قلت : الجواب عن ذلك من وجوه :
( الأول ) أن
الشيخ قال هذا على صورة الحكاية وفتواه ما تقدم في أول الكلام مع أن جميع أصحابنا
مصرحون في هذا الباب بما قاله الشيخ في أول كلامه ، والعلامة في المنتهى والتذكرة أورد كلام
الشيخ هذا حكاية وإيرادا بعد أن أفتى بمثل كلامه الأول حيث قال في أول كلامه :
وهذه الأرض فتحت عنوة .. إلخ. ولم يتعرض لما ذكره أخيرا بشيء.
__________________
( الثاني ) أن
الرواية التي أشار إليها ضعيفة الاسناد ومرسلة ، ومثل هذه كيف
يحتج به أو يسكن إليه مع أن الظاهر من كلام العلامة في المنتهى ضعف العمل بها؟
( الثالث ) إنا
لو سلمنا صحة الرواية المذكورة لم يكن فيها دلالة على أن أرض العراق فتحت
عنوة بغير أمر الإمام ، فقد سمعنا أن عمر استشار أمير المؤمنين في ذلك ، ومما يدل
على ذلك فعل عمار فإنه من خلصاء أمير المؤمنين عليهالسلام ولو لا أمره لما ساغ له الدخول في أمرها . إلى هنا.
أقول : هذا
الكلام مما يجب أن يقال منه على ساق وينتصر لدين الله منه فإنه مع بطلانه لا يصل
الى مرتبة الشبهة بل هو أوهى من بيت العنكبوت وذلك لأن قوله في الوجه الأول من
الأجوبة : إن الشيخ قال « هذا على صورة الحكاية وفتواه ما تقدم في أول كلامه » ليس
بمعقول لأن الشيخ حكم على تقدير الرواية بأن العراق من الأنفال فهو حكم معلق على
تقدير جواز العمل بالرواية ، ويلزم منه أن العسكر الذي افتتح العراق كان بغير إذنه
لأن مقتضى الرواية ليس إلا مع ذلك. فليت شعري كيف يخيل أن يكون هذا
حكاية؟ لا أدري عمن حكى. وأما الحكاية التي حكى ليس إلا حكم على تقدير ، فإما أن
يمنع الملازمة ردا عليه أو يمنع الأصل الذي يبنى عليه ، وأما كون كلامه حكاية فهو
حكاية لا يخلو من نكاية.
قوله
: مع أن جميع أصحابنا يصرحون في هذا الباب ما قاله الشيخ في أول كلامه .
__________________
أقول : قد سمعت
ما حكيناه عن فخر الدين رحمهالله والذي أعرفه أن أكثر الأصحاب لم يتعرض لذلك بنفي ولا
إثبات نعم ذكره أفراد منهم كالعلامة والشيخ على ما سمعته من قوله الدال على أنها من الأنفال وابن
إدريس أشار الى ذلك في سرائره إشارة ، فليت شعري كيف كان قول أفراد قليلين مع عدم
التصريح من بعضهم جميع الأصحاب « إِنَّ هذا لَشَيْءٌ
عُجابٌ » .
وأعجب منه الصحيح
من بعض الأصحاب بالخلاف وباختيار العكس جزما أو معلقا على ما هو مسلم ،
فكيف يدخل مثل هذا في الجميع. وأعجب منه التصريح من الجمع.
قوله
: والعلامة في المنتهى والتذكرة أورد كلام الشيخ هذا حكاية وإيرادا بعد أن أفتى
بمثل كلامه الأول حيث قال في أول كلامه وهذا الأرض فتحت عنوة لم يتعرض لما ذكره
آخرا بشيء .
أقول : إنما
كان أعجب لأنه أورد سندا للرد على قول الشيخ بأنه مخالف لما قاله جميع الأصحاب مع
أن الذي أشار إليه من الأصحاب لم يسكتوا عن كلام الشيخ بل أورده حكاية ، وفيه
دلالة ظاهرة على فهمهم منه ما يخالف فتواهم وعلى اعتبار القول حيث أوردوه بعد
فتواهم ، وهذا يؤكد عدم إطلاق فتوى من أفتى من الموردين لكلامه بدون إيراد قوله
والإشارة إليه ، فكيف يكون سندا على أن قول الشيخ خلاف الإجماع أو أنه حكاية؟! نعم
ما ذكره العلامة عنه حكاية فاعتبروا يا أولي الأبصار. هذا وكلام العلامة في
المنتهى ليس فيه دلالة على أنه
__________________
مفت بأنها بحكم المفتوح عنوة بشيء من الدلالات لأنه قال : مسألة : أرض
السواد هي الأرض المفتوحة من الفرس التي فتحها عمر بن الخطاب وهي سواد العراق وحده
في الأرض من منقطع الجبال الى طرف القادسية المتصل بقريب من أرض العرب ومن تخوم
الموصل طولا الى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة. فأما الغربي الذي يليه
البصرة فإنما هو إسلامي مثل شط عثمان بن أبي العاص ما والاها كانت سباخا ومواتا
فأحياها عثمان ابن ابي العاص وسميت هذه الأرض سوادا لأن الجيش لما خرجوا من
البادية رأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سموها السواد لذلك ، وهذه الأرض فتحت عنوة ،
فتحها عمر بن الخطاب ، ثم بعث إليها بعد فتحه ثلاثة أنفس عمار بن ياسر على صلاته
أميرا ، وابن مسعود قاضيا وواليا على بيت المال ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض
، وفرض. لهم كل يوم شاة شطرها مع السقوط لعمار وشطرها للآخرين وقال : ما أرى ،
قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلا سريع في خرابها ، ومسح عثمان بن حنيف أرض الخراج
واختلفوا في مبلغها فقال الساجي اثنان وثلاثون ألف ألف جريب. وقال أبو عبيدة : ست
وثلاثون ألف ألف جريب ثم ضرب على كل جريب نخل عشرة دراهم وعلى الكرم ثمانية دراهم
وعلى جريب الشجر والرطبة ستة دراهم وعلى الحنطة أربعة دراهم وعلى الشعير درهمين ثم
كتب بذلك الى عمر فأمضاه ، وروي أن ارتفاعها كان في عهد عمر مائة وستين ألف ألف
درهم ، فلما كان زمان الحجاج رجع الى ثمانية عشر ألف ألف ، فلما ولي عمر بن عبد
العزيز رجع الى ثلاثين ألف ألف درهم في أول سنته وفي الثانية بلغ الى ستين ألف ألف
درهم ، فقال : لو عشت سنة أخرى لرددتها الى ما كان في أيام عمر ، فمات تلك السنة ،
ولما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين علي عليهالسلام أمضى ذلك لأنه لم يمكنه أن يخالف ويحكم بما يجب عنده
فيه.
قال الشيخ (ره)
: والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد
للمسلمين قاطبة ـ الغانمين وغيرهم سواء في ذلك ـ ويكون للإمام النظر فيها
وتقبيلها وتضمينها بما شاء ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما يبوء بهم
من سد الثغور وتقوية المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح ، وليس للغانمين
في هذه الأرضين على وجه التخصيص شيء بل هم والمسلمون فيه سواء ، ولا يصح بيع شيء
من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تملكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجازته ولا
إرثه ، ولا يصح أن تبنى دورا ومنازلا ومساجد وسقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرف
التي تتبع الملك ، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا وهو باق على الأصل. ثم
قال رحمهالله : وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كل عسكر أو فرقة
غزت بغير إذن الامام فغنمت تكون الغنيمة للإمام خاصة تكون هذه الأرضون وغيرها مما
فتحت بعد الرسول إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين عليهالسلام ـ إن صح شيء من ذلك ـ يكون للإمام خاصة ويكون من جملة
الأنفال التي له خاصة لا يشركه فيها غيره . فانظر أيها المتأمل بعين البصيرة إلى قلة تأمل هذا
الرجل وجرأته على دعوى الإجماع ونفي الخلاف والنقل عن جميع الأصحاب ، مع أن عبارات
أمثالهم كما تلونا عليك ، فإن العلامة قد حكى كلام الشيخ حكاية وهي كما ذكرناه عنه
في المبسوط ، وقد ذكر هو فيما سبق حكم المفتوحة عنوة فلو كان أرض
السواد مما فتح عنوة عنده لقال به جزما من غير أن يحكيه قولا مع أنه حكاه ولم
يتعرض له بنفي أو إثبات ، ثم حكى قول الشيخ وعلى الرواية بعده فان كان حكاية القول
وعدم التعرض له دليلا على عدم الاختيار فهو مشترك ، وما هو جوابه هو جوابنا ، ولم
يسبق منه شيء غير قوله « فتحت عنوة فتحها عمر بن الخطاب » ولا دلالة فيه
__________________
لأنه من المجزوم به أنها فتحت بالسيف فتحها الثاني ، أما أن لها حكم
المفتوحة عنوة شرعا فلا ، بل لو قيل أن قوله « فتحها » فيه دلالة على أنها ليست
بحكم المفتوحة عنوة عنه كان صوابا لأنه جزم بأن المغنوم بغير إذن للإمام. وقوله «
فتحها » من غير أن يذكر شيئا غير ذلك فيه دلالة على أنها من الأنفال خصوصا إذا
انضم إلى جملة كونها بحكم المفتوحة عنده حكاية ، وعبارته في التحرير قريب من هذا
حيث قال : أرض السواد وهي الأرض المفتوحة من الفرس التي فتحها عمر وهي سواد العراق
وحده من سطح الجبال بحلوان الى طرف القادسية المتصلة بقريب من أرض العرب ومن تخوم
الموصل طولها الى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة ، فأما الغربي الذي يليه
البصرة فإنما هو إسلامي مثل شط عثمان ابن أبي العاص وما والاها كانت شياحا ومواتا
وأحياها عمار بن أبي العاص وسميت هذه الأرض سوادا لأن الجيش لما خرجوا من البادية
رأوا التفات شجرها فسموها سوادا وبعث عمر إليها بعد فتحها ثلاثة أنفس : عمار بن
ياسر على صلاتهم أميرا وابن مسعود قاضيا وواليا على بيت المال وعثمان بن حنيف على
مساحة الأرض ، قال أبو عبيدة : فبلغ مساحتها ستة وثلاثون ألف ألف جريب فضرب على كل
جريب نخل عشرة دراهم وعلى الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب الشجر والرطبة ستة دراهم
وعلى الحنطة أربعة دراهم وعلى الشعير درهمين ثم كتب الى عمر فأمضاه وكان ارتفاعها
مائة وستين ألف ألف درهم ولما انتهى الأمر الى أمير المؤمنين عليهالسلام أمضى ذلك ورجع ارتفاعها في زمن الحجاج إلى ثمانية عشر
ألف ألف درهم. قال الشيخ : والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد
التي فتحت عنوة يخرج خمسها لأربابه وأربعة الأخماس الباقية للمسلمين قاطبة لا يصح
التصرف فيه ببيع ولا هبة ولا إجارة ولا إرث ، ولا يصح أن تبنى دورا ومنازل ومساجد
وسقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرف التي يتبع الملك ، ومتى فعل شيئا من ذلك كان
التصرف باطلا وهو باق
على الأصل ـ قال ـ وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كل عسكر أو فرقة عزت
بغير إذن الامام تكون تلك الغنيمة للإمام خاصة تكون هذه الأرضون وغيرها مما فتحت
بعد الرسول عليهالسلام إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين عليهالسلام ـ إن صح شيء من ذلك ـ يكون للإمام خاصة ويكون من جملة
الأنفال التي له خاصة لا شركة فيها غيره . الى هنا ، فتفطن أيها المنصف ، هل حكم بأنها فتحت عنوة
في كلامه هذا أو احترز عنه بقول « المفتوحة من الفرس التي فتحها عمر » ثم حكى قول
الشيخ ولم يتعرض له مع أنه صرح في باب الخمس بحكم المفتوحة عنوة ولم يذكره هنا إلا
قولا ، وهذا بعينه هو كلامه في المنتهى من غير فرق ، وتوهم الفرق بقوله في المنتهى « فتحت عنوة
فتحها عمر » في غاية الضعف بعد ما ذكرناه ، فأين الدلالة من كلام العلامة فضلا عن
كلام جميع الأصحاب؟ والله يهدي الى طريق الصواب. واعلم أن في عبارة الشيخ والعلامة
دلالة على أن عليا عليهالسلام ما أمضى ما فعله عمر إلا تقية ، والظاهر أنه لكونها من
الأنفال لأنها غنيمة من غزا بغير إذنه.
قوله
: إن الرواية التي أشار إليها الشيخ ضعيفة الإسناد .
أقول : هذا لا
يحتاج الى رد بعد ما أثبتناه وحققناه من أنها معتضدة بعمل الأصحاب مشهورة الفتوى
منهم بل مضمونها في الحقيقة إجماع ، وقد تقدم فلا نعيده ، والمؤلف قال سابقا
ومضمون هذه الرواية مشهور بين الأصحاب مع كونها مرسلة ولا شك أن الشهرة تعضد الضعف
وتحقق جواز العمل جزما.
قوله
: مع أن الظاهر من كلام العلامة في المنتهى
ضعف العمل بها .
__________________
أقول : لا أدري
قوله هذا لأي شيء نشأ ولا أي شيء قصد به وذلك لأنا إذا سلمنا أن ظاهر العلامة في
المنتهى ضعف العمل بها لهم يقدح في حجيتها المستندة إلى شهرتها
بين الأصحاب بوجه من الوجوه أصلا ، بل لا يقدح في الإجماع لأن العلامة أفتى بها
فيما تقدم من المنتهى وما تأخر عنه فلا يقدح خلافه فيه في الإجماع لو كان صريحا
فضلا عن أن يكون ظاهرا على أنا لا نسلم أن ظاهر العلامة في المنتهى ضعف العمل بها
وهذه عبارته فيه وإذا قاتل قوم من غير إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة للإمام. ذهب
إليه الشيخان والسيد المرتضى رحمهالله وأتباعهم. وقال الشافعي : حكمها حكم الغنيمة مع إذن
الامام لكنه مكروه. وقال أبو حنيفة : هي لهم ولا خمس ولأحمد ثلاثة أقوال كقول
الشافعي وأبي حنيفة وثالثها لا شيء لهم. احتج الأصحاب بما رواه العباس الوراق عن
رجل سماه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إذا غزا قوم بغير إذن الامام كانت الغنيمة كلها
للإمام ، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس . احتج الشافعي
بعموم قوله تعالى « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
» الآية ، وهو يتناول المأذون فيه وغيره واحتج أبو حنيفة بأنه اكتساب مباح
من غير جهاد فكان كالاحتطاب والاحتشاش. واحتج أحمد على ثالث أقواله بأنهم عصاة
بالفعل فلا يكون ذريعة إلى الفائدة والتملك الشرعي. والجواب عن الأول أنه غير دال
على المطلوب إذ الآية تدل على إخراج الخمس في الغنيمة إلا على المالك ، وإن كان
قول الشافعي فيه قوة ، وعن الثاني بالمنع من المساواة لأنه منهي عنه إلا بإذنه عليهالسلام ، وعن الثالث بالتسليم فإنه غير دال على المطلوب الى هنا ، ولا
أعرف وجه ظهور استعطافه العمل بالرواية من هذا الكلام ، فإن كان
__________________
المؤلف توهم ذلك من قوله « ذهب إليه الشيخان .. إلخ » أو من قوله « احتج
الأصحاب » أو من قوله « وان كان قول الشافعي فيه قوة » فليس من
الظهور الذي ذكره في شيء كما لا يخفى ، فإن قوله الأول ذهب إليه بعد فتواه ظاهرا
، وقوله « احتج الأصحاب » مؤيد في الحقيقة ، وكون قول الشافعي لا يخلو من قوة لا
يدل على ضعف العمل بضده مع أنه أورد ذلك بعد جوابه بقصور استدلاله عن الدلالة على
مطلوبه.
قوله
: الثالث : لو سلمنا صحة الرواية المذكورة لم يكن فيها دلالة على أن أرض العراق
فتحت عنوة بغير إذن الامام عليهالسلام .
أقول : لم يدع
الشيخ ولا غيره ولا فاه به فوه عالم أن الرواية تدل على عدم الاذن حتى يكون ثالث
الأجوبة عدم دلالتها على الفتح عنوة بغير إذن ، فهذا الجواب لا ينطبق ولا يبتني
على قانون أهل النظر بوجه من الوجوه أصلا ، وحاصل الأمر أن الشيخ حكم بأن العراق
من الأنفال على الرواية ، فقضية شرطية بيان ملازمتها لم يتعرض له إلا أنه من
كلامه أنه يعتقده ، وقد وجهناه سابقا فجوابه بأن الرواية لا دلالة فيها بغير إذن خبط ظاهر.
قوله
: فقد سمعنا أن عمر استشار أمير المؤمنين عليهالسلام في ذلك .
أقول : السماع
لا يكون دليلا إلا إذا ثبت بطريق شرعي ولو آحادا ، ولم يثبت ، والأصل عدم الإذن
فيتمسك به الى أن يقوم ما يخالفه.
قوله
: ومما يدل عليه فعل عمار فإنه من خلصاء أمير المؤمنين عليهالسلام ولولا أمره لما
ساغ له الدخول .
__________________
أقول : هذا من
أوهى الأدلة لأن عمر كان في الظاهر إماما تجب متابعته تقية ، وقد بعث عماله الى
البلاد وفيهم خواص علي عليهالسلام فلم يمتنعوا فعدم امتناعهم لا يدل على وجوب اتباعه لأنه
أهل لذلك ، ولا على صحة تصرفه على أن عمار لو تمكن من عدم الطاعة له وسلمنا أنه
استأذن عليا عليهالسلام فأذن له لم يدل ، إلا أن فعل عمار لم يكن معصية لا أن
فعل عمر كان صحيحا وفتحه كان صحيحا وتوليته كانت صحيحة ، وكيف يخفى هذا على من له
أدنى عقل وفكر ، هذا والصحيح أنها حمله الامام عليهالسلام لأنها من الأنفال ، فلو أذن لعمار لكان أذن له في ماله
، وإذنه عليهالسلام في ماله جائز وكذا إذنه في صرفه في مصالح المسلمين ـ لو
ثبت ـ وجواز هذا كاف في عدم صحة الاستدلال ولات حين مناص ، وبالجملة فهذا الكلام
بعيد عن التحقيق وبالله التوفيق.
قوله
: ومما يقطع النزاع ويدفع السؤال ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد الحلبي قال :
سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن السواد ما منزلته؟ فقال : هو لجميع المسلمين ..
إلخ
.
أقول : هذا خبر
واحد غير معتضد بالإجماع بل ولا شهرة وهو محمول على التقية فلا يعرج على مثله محصل
، وقد مر في خلال كلام الشيخ والعلامة الإشارة إلى التقية في إمضاء علي عليهالسلام بعد توليته.
قوله
: وروى أيضا عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عما
اختلف فيه ابن أبي ليلى وابن شبرمة في السواد وأرضه فقلت : إن ابن أبي ليلى قال :
إنهم إذا أسلموا فهم أحرار وما في أيديهم من أرضهم لهم وأما ابن شبرمة فزعم أنهم
عبيد وأن أرضهم التي بأيديهم ليست لهم ، فقال في الأرض
__________________
ما
قال ابن شبرمة وابن بشير
وقال في الرجال ما
قال ابن أبي ليلى بأنهم إذا أسلموا فإنهم أحرار . وهذا قاطع في الدلالة على ما قلناه لا
سيما وفتوى الأصحاب وتصريحهم موافق لذلك فلا مجال للتردد.
أقول : هذا عن
التحقيق بمعزل لأنا إذا سلمنا الخبر ولم نتعرض لضعف إسناده ، وقلناه بمضمونه لم
يلزم أكثر مما دل عليه ، وإنما دل على أن الأرض ليست لهم وكونها لا تدل على أنها
فتحت عنوة لأنه أعم ولا دلالة للعام على الخاص ، كيف ونفي كونها لهم يجتمع مع ما
هو الحق من كونها من الأنفال ، والأنفال للإمام عليهالسلام فلا يكون لهم ، فانظر أيها المتأمل إلى كثرة خبط هذا
الرجل خبط عشواء فلا يكاد أن يرتب دليلا على محله ، فمن هو بهذا القصور أولى أن
يتحذر عن القصور ، ومن العجب أن دليله غير منطبق على مدعاه وهو يقول « وهذا قاطع
في الدلالة على ما قلناه » وأما قوله « لا سيما وفتوى الأصحاب وتصريحهم موافق لذلك
فلا مجال للتردد » علم جوابه فيما مضى فلا يحتاج الى بيان طائل.
قوله
: وأما أرض الشام فقد ذكر كونها مفتوحة عنوة بعض الأصحاب ، وممن ذكر ذلك العلامة
في كتاب إحياء الموات من التذكرة لكن لم يذكر أحد حدودها
، وأما البواقي فذكر
حكمها القطب الراوندي في شرح نهاية الشيخ وأسنده إلى المبسوط وعبارته هذه «
والظاهر على ما في المبسوط أن الأرضين التي هي من أقصى خراسان الى كرمان وخوزستان
وهمدان وقزوين وما حواليها أخذت بالسيف » هذا
ما وجدته فيما حضرني من كتب الأصحاب.
__________________
أقول : هذا
كلام لا يحتاج الى نقض لأنه لم يزد فيه على كون بعض الأصحاب ذكر ذلك وهو حكاية حال
، ولا يخفى أن مجرد الفتوى ليس دليلا ، وقد صدر المقام بقوله في تعيين ما فتح عنوة
، فإن أراد أن هذا القدر يقتضي التعيين فلا يخفى فساده وإن أراد أنه يفيد الدعوى
فلا نزاع معه ، على أن في المبسوط قد سمعته وسمعت ما ذيله به من قوله « وعلى الرواية » ، وإذ قد عرفت
ما أفدناه وضعف ما استدل به فاعلم أن هنا أمر إذا نظره المتأمل بعين البصيرة لم
يجد معه لهذا الرجل المتحمل في حل هذه الشعرية وجها وأنه وفيما فعل وألف لا يخلو
من أمرين قصور في العلم أسقط فيما فعل ، أو شدة فهمه لحب جمع الدنيا لا يبالي معه
من أين أصاب ، وذكر ما ذكرتموها لدفع الشناعة من بعض قاصري النظر ، ولعل الثاني هو
الوجه ، فإن ولاة العراق قد ألموا أهله بتخريج مال لا شبهة في تحريمه ، ضرب في
تحصيله السيد والعامي وبكر من ضيق ذمة الفقير والمسكين وكنت من المشاهدين لذلك ،
حتى أن الحائك وغيره من أرباب الصنائع من المؤمنين المكتسبين يؤخذ منهم إلى مرتبة
الدرهم والدرهمين وجمعوا ذلك وجعلوه في وجه المعونة للزاد والراحلة وما تبعهما عند
توجهنا الى الرضا عليهالسلام بإشارة من خلدت دولته فبولغت فيه ، فكان جوابي بحضرة
هذا المؤلف وحضرات أكبار أهل العراق من السادة والعوام أنه ـ دامت سلطنته ـ بعث
إلينا من أقاصي خراسان ونحن في طرف عراق العرب طلبنا لترويج الدين وإظهار فضل
التشيع وأهله المستنين بسنته أهل بيت النبوة عليهمالسلام فاذا تركنا الدين وأخذنا الحرام كيف نكون أهلا لترويج
الدين ، فلم ألبث قليلا وإذا به قد أخذه وصرفه فيما يشاء غير متأثم ولا خائف من
موقف العرق ولا مستح من شناعة أهل الإيمان
__________________
وأهل الخلاف على دين التشيع نظرا الى فعل من هو مسمى فيهم بالرئاسة وربما
زعم أنه عمل حيلة له ، فليت شعري كيف كانت تلك الحيلة مع أن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر يقتضي وجوب السعي في رده الى أهله على الفور بجميع أنواع القدرة ، فلو
لم يكن على المتحيل في أخذه إلا عدم رده والسعي فيه لكان من موبقات الذنوب بل
الرضا والسكوت عنه مع المكنة من موبقاتها ، وإنما ذكرت هذه الحكاية في هذا المحل
لأنها مشهورة بلغت مرتبة لا يمكن أحد أن ينازع فيها ولا يمكن من الجواب عنها هو ،
وقد زعم أنه قد عمل عليها صورة وجاز أمره مع ذلك عند أهل الدنيا الغافلين عن مصالح
المعاد ، فكيف لا يجوز ما يحتمل أن يكون شبهة!! وقد كنت أكره أن أوقعها في مثل هذه
الرسالة لولا ما علمته من وجوب التنبيه لأهل الله ليأخذوا الحذر من مثله وليمتنعوا
من تقليده لفقد ما يشترط في صحة أخذه من مثل الثقة والأمانة. قال الله في الشهادة
ـ ولا شك في كونها دون مرتبة الانتصاب في منصب النبوة للفتوى وتكملة الاستقامة ـ
« فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا
إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما
» وأكثر فائدة في ذكرها تعريف أهل الخلاف لنا أن ديننا ومذهبنا لا يقتضي ذلك
، فإنه قد اشتهر عنهم بسبب مثل هذه الأفعال ممن يزعمه أنه من رؤساء المذهب ما لا
يكاد يقال ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولنرجع الى ما
نحن بصدده فنقول : لا شك ولا خفاء أن المفتوحة عنوة مواتها للإمام وعامرها
للمسلمين ، فما علم أنه عامر وقت الفتح فهو للمسلمين ، وما علم أنه موات فهو
للإمام ، وما لم يعلم فهو محتمل وكونه عامرا الآن أعلم دلالة فيه على كونه عامرا
وقت الفتح ، والأصل عدم العمارة حيث يثبت ، فلا يجوز التسلط على أخذ الخراج من
قرية الآن إلا إذا علم أنها كانت وقت الفتح عامرة ، وهو في آخر
__________________
رسالته قال « وليس لأحد أن يقول : هؤلاء أحيوا هذه البلاد وقد كانت قبل
مواتا لأن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل.
أما ( أولا )
فلأن بلاد العراق على ما حكيناه كانت بتمامها معمورة لم يكن لأحد مجال أن يعمروها
في وسط البلاد قرى متعددة ، وما كان بين القريتين والبلدين في البعد قدر فرسخ إلا
نادرا ، كيف ومجموع معمورهما من الموصل الى عبادان ستة وثلاثون ألف ألف جريب.
وأما ( ثانيا )
فلأن عمارة القرى أمر عظيم يحتاج الى زمان طويل وصرف مال جزيل وهم كانوا بعيدين عن
هذا الاستعداد مع أن هذه التمحلات بعد ما تلوناه من كلامهم في أحكام هذه الأرضين
وأحوال خراجها وحل ذلك من التكلفات الباردة والأمور السامجة » .
أقول تنبيها
لأهل العقول :
يا اولي
الألباب انظروا يا ذوي البصائر تكفروا كيف جعل الإيراد كون البلاد محياة بعد
الموات وهذا لا يعترض به أحد؟ ومن ثم قال : إنه معلوم البطلان ببديهة العقل ، ثم
خبط في توجيه معلوميته بالبديهة بما يشعر بأن مراده أعم من إحياء الجميع والبعض
ونحن نفصل الجواب عن كلامه على طريق البحث والنظر.
فنقول : إما أن
يريد بقوله هذه البلاد مجموعها ـ أي مجموع بلاد العراق ـ أو البلاد التي يتعلق بها
غرضه كالقرية مثلا ، فإن أراد الأول فمسلم أنه مسلم البطلان بالبديهة فلا حاجة الى
الاستدلال عليه ، بل الاستدلال الذي ذكره عليه لا يخلو من قصور إذ قوله « لم يكن
لأحد مجال أن يعمر في وسط البلاد قرى » ممنوع أشد المنع ، إذ لا شاهد له من الأدلة ، وكون
معمورها ما ذكر لا يدل عليه إلا
__________________
إذا تحقق أن ذلك هو قدر مجموع أراضيها طوعا وعرضا ، وهو إن لم يكن معلوم
البطلان بالضرورة يفتقر إثباته إلى دليل ، وقوله « وأما ثانيا .. إلخ » ركيك جدا لأنه
مجرد استبعاد وخطابية ، ومن العجب إسناد ما هو معلوم البطلان بالبديهة مثل هذا ،
وإن أراد الثاني فمعلوم أنه ليس معلوم البطلان بالبديهة ودعواه مكابرة ، وما أسنده
من الوجهين ظاهر الضعف كما نبهنا عليه آنفا ، ومما يؤكده ويزيده بيانا ما هو في
الاشتهار كالشمس في رابعة النهار من تجدد قرى وبلاد بعد الفتح لم تكن معمورة ، فإن
الحلة التي هي اليوم من أقطاب العراق كانت مواتا وقت الفتح وغيرها كثير من أراضي
العراق.
ويؤيد ما
ذكرناه أن العلامة الفهامة قطب رحى الدين وإمام المجتهدين وقف قرى متعددة كما
أشرنا إليه سابقا ، وفي صدر وقفه أنه أحياها وهي ميتة وعمرها وكانت خرابا ، وعلى
وقفه خطوط أماثل العلماء والفقهاء من المذاهب الأربعة ومذهب الخاصة ، وهل يستجيز
محصل أن يقول إن أرض العراق يوم الفتح لم يكن فيها شيء من الموات؟ إلا أن يكون
ممن لا يبالي كيف يرمي الكلام على أن معمورها المذكور ليس بطريق ثابت يصح الاعتماد
عليها؟ هذا والمعترض لا يعترض بأنها محياة بعد الممات ، إذ لا حاجة الى ذلك بل
يقول لا نسلم أن هذه المعينة من أرض الخراج وكون العراق مفتوحة عنوة لا يدل عليه
إلا إذا ثبت أنها كانت بحيث لا موات فيها ، وأن هذه المعينة كانت محياة حينئذ
ودونه خرط القتاد بل كون بعضها كان مواتا معلوم بالضرورة. لا يقال لو تم ما ذكرتم
لقام الاحتمال في كل شيء من المفتوح عنوة فلا يتحقق حكم الخراج في شيء منه.
فنقول : إن لم
يعلم أن شيئا منه على التعيين كان عامرا وقت الفتح ولا ثبت أنه قد أخذ منه الخراج
متصلا من غير انقطاع أو أخذه عادل ونحو ذلك مما يدل
__________________
على أنها محياة وقت الفتح التزمنا ذلك ولا ضرورة ولا محذور فيه إذ طريان ما
يمنع الحكم بسبب لا حق لا يقتضي نفيه سابقا ، وإن علم على التعيين تعلق الحكم به
وترك في غيره الى أن ثبت ، ومن المعلوم أراضي عدة كانت عمارات وقت الفتح ذكر أهل
السير وغيرهم وأشار إليها الأصحاب.
وقال ابن إدريس
في السرائر وقد أورد شيخنا المفيد في مقنعه في باب الخراج وعمارة
الأرضين خبرا وهو : روى يونس بن إبراهيم عن يحيى بن أشعث الكسري عن مصعب بن مصعب
بن يزيد الأنصاري قال : استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام على أربعة رساتيق : المدائن والهفتادات [ والبهقباذات ]
وبهرسير وشهر جويرب ونهر الملك . قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : بهر سير ـ بالباء
المنقطة من تحتها نقطة واحدة والسين الغير المعجمة ـ وهي المدائن ، الدليل على ذلك
أن الراوي قال : استعملني على أربعة رساتيق ثم عد خمسة فذكر المدائن ثم ذكر من
جملة الخمسة نهر سير وعطف على
__________________
__________________
اللفظ دون معناه وهذا كثير في القرآن والشعر. قال الشاعر :
إني الملك القرم
وابن الهمام
|
|
وليث الكتيبة
في المزدحم
|
وكل الصفات
راجعة إلى موصوف واحد وقد عطف بعضها على بعض لاختلاف ألفاظها ، وقول الحطيئة :
وهند أتى من دونها النأي والبعد.
والبعد هو
النأي ، ويدل على ما قلناه أيضا ما ذكره أصحاب السير في كتاب صفين ، قالوا لما سار
أمير المؤمنين عليهالسلام الى صفين ـ قالوا : ـ ثم مضى نحو ساباط حتى انتهى الى
مدينة نهر سير وإذا رجل من أصحابه ينظر في آثار كسرى وهو يتمثل قول أبي يغفر
النهشلي :
جرت الرياح
على محل ديارهم
|
|
فكأنهم كانوا
على ميعاد
|
فقال علي عليهالسلام : أولا قلت « كَمْ تَرَكُوا مِنْ
جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها
فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ
» الآية.
فأما الهفتادات
فهي ثلاثة : الهفتاد الأعلى وهو ستة طساسيج طسوج بأجل وحطرسة والفلوجة العليا
والسفلى والنهرين وعين النهر. والهفتاد الأوسط أربعة طساسيج : طسوج الحبة الحبة
والبدأة وسورا ونهر سما ونهر الملك وباروسما. والهفتاد الأسفل خمسة طساسيج فيما
طسوج مزابت باد قلي وطسوج المسلحين الذي فيه الخورنق والسدير ، ذكر عبد الله بن
جودد أنه في كتاب الممالك والمسالك. الى هنا.
وإنما ذكرنا
الخبر الذي فيه ذكر أمير المؤمنين عليا عليهالسلام تيمنا ببركته ، وإلا فالأخبار المعمور وقت الفتح في
ولاية الثاني كثيرة فلا يقال يحتمل تجرد هذه المذكورة.
__________________
ثم نعود الى ما
كنا فيه فنقول : ليس لقائل أن يقول إن الظاهر أن العراق كانت عمارا ولهذا سميت
السواد لشدة التفاف شجرها ونخلها فيجوز البناء عليه ، لأنا نقول : لا يصح عند
الشريعة التمسك بالظاهر في رفع يد المسلم عما في يده لأن يد المسلم على المال على
معلوم وكونه من أرض الخراج فلا يصح ما يتصرف فيه مما يتأتى ذلك غير معلوم ولا يجوز
رفع يده عنه لأن الشارع جعل لرفع اليد عن الملك أمر يناط به من شهادة العدلين أورد
اليمين على اختلاف المذهبين ومما ينبهك على ذلك أن الوقف ثبت بالشياع وإذا كان في
يد مسلم شيء يعارضه الشياع فيه قولان أصحهما تقدم يد المسلم على الشياع ، فكيف
بما لا يتمسك فيه إلا بمثل هذه الاحتمالات الباردة ، ومن نظر الشريعة خصوصا باب
الإقرار والقضاء علم أن رفع يد المسلم لا يصح إلا في موضع اليقين شرعا لجواز رفعها
وأن رفعها يبتني على الاحتياط التام ، وهذا بأصله يصح متمسكا على عدم أخذ الخراج
مما عليه يد أحد المسلمين إذا لم يعلم أنه كان من الذي حيا وقت الفتح بطريق شرعي ،
ومن العجائب قول هذا المؤلف « مع أن هذه التمحلات بعد ما تلوناه من كلامهم في أحكام
هذه الأرضين وحل خراجها من التكلفات الباردة والأمور السامجة » ليت شعري
التكليف البارد والأمر السامج هو التلزيق والخطابات التي لا طائل تحتها ولا دليل
عليها أو التمسك بثبوت يد المسلم وأصالة عدم استحقاق الغير أيهما أولى بما ذكر.
قوله
: بعد ما تلوناه من كلامهم.
أقول : كلام
القوم في أرض الخراج أو في أرض معينة ، الأول لا نزاع فيه ، والثاني لم يذكر فلا
يحتاج الى المنع ، وكأني أرى هذا الرجل نظر بعين الفكرة الصائبة ، في الدنيا. إن
أكثر الناس في هذا الزمان يميلون الى تحصيل الحطام ولو
__________________
بالحرام ، فأكثروا الحشو بالشبهات ليكون له منهم الرغبات لشدة تهمتهم
وميلهم الى مقتضى الشهوات ، نعوذ بالله من نصب الدين فخا يصطاد به الحطامات واسم
الرئاسات ، وقد كان في هذا القدر كفاية إذا لم يبق في الرسالة ما هو منوط بموضع
نزاع مهم ، إلا أنا نتعرض لما قصر فيه فهمه واستدلاله في باقيها تحقيقا لاسم النقض
والله الموفق.
قوله
في المقدمة الخامسة : اعلم أن الخراج هو ما يضرب على الأرض كالأجرة وفي معناه
المقاسمة ، غير أن المقاسمة تكون جزء من حاصل الزرع والخراج مقدار من النقد يضرب .
أقول : ظاهره
أن الجزء من حاصل الزرع لا يسمى خراجا وهو باطل ، فإن تسميته خراجا شائع ذائع وهو
موجود في الأخبار فضلا عن الفتاوى ، وقد ذكره المؤلف بعد هذا بيسير في الحديث
المروي عن أبي الحسن الأول حيث قال : الأرض التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي
موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها على صلح ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم
من الخراج النصف أو الثلث أو الثلثان .. إلخ ، فلا أدري كيف يرمي هذا الرجل الكلام ، هب أنه
لم يتأمل حال التأليف ، ألا يلتفت بعد قبل ملاحظة أهل النظر؟
قوله
: وقال المقداد رحمهالله في التنقيح : ولم يحضرني عند كتابة هذه الرسالة لأحكي
عبارته ، ولكن حاصل كلامه فيه على ما أظن أن مرجع تعيين الخراج الى العرف .
أقول : هذا
الكلام لا يليق بحكاية الأقوال ، ولم يستعمله المحصلون في ذلك ، وأي ضرورة الى ذلك
مع أنه لم يستوف كلم أكابر القوم كالمفيد والمرتضى وابن
__________________
بابويه وغيرهم ، فحذف هذا الكلام كان أنسب ، هذا والمقداد في تنقيحه لم
يتعرض لهذه المسألة أصلا ولم يودعها كتابه.
فانظر أيها
المتأمل إلى كثرة خبط هذا الرجل ، وكونه لا يبالي كيف وقع الكلام منه. وأعجب من
ذلك غفلة الناس منه.
قوله
: ووجهه من حيث المعنى واضح لأن الخراج حق شرعي ينوط تقديره بالمصلحة عرفا ،
فارتباطه بنظر الإمام ، فإذا تعدى الجائر في ذلك الى ما لا يجوز له ، وعمل ما هو
منوط بنظر الامام استدلالا
بنفسه كان الوزر
عليه في ارتكاب ما لا يجوز له ، ولم يكن المأخوذ حراما ولا مظنة حرام لأنه حق شرعي
على الزارع خارج عن ملكه يستحقه قوم معلومون ، وقد رفع أئمتنا المنع من طرفهم
بالنسبة إلينا فكيف يحرم!! .
أقول : هذا
الوجه من حيث المعنى في غاية السقوط لأن الخراج وإن كان حقا شرعيا إلا أنه في
الذمة ما لم يشترط كونه من حاصل الأرض ، فالأخذ من حاصل الأرض لا بعينه له إل
بالتراضي لأن المدين مخير في جهات القضاء ، فإذا أخذ من غير ماله من غير رضاه لم
يصح ولم يزل استحقاقه عنه ، ولو سلم أنه في غير الزرع جبرا ودون إثباته ما لا يخفى
فهو حق مشاع في عين مال معصوم لا يجوز التسلط عليه إلا بالقسمة من أهله ، فأخذ
الجائر له لا يكون معينا له حتى تبرأ ذمة المأخوذ منه ، فهو على الإشاعة لم يزل
فلا يزول التحريم.
ومن العجب قوله
: « لأنه حق شرعي على الزارع خارج عن ملكه » لا أدري خروجه عن ملكه بمعنى عدم
استحقاقه له سبب الشركة أو غيره لغيره. ( الأول ) غير مسلم ولا يقتضي رفع التحريم
ـ لو سلم كما قلناه ـ لأن القابض غير مستحق ولا والي على القسمة. ( والثاني ) لا
يخفى فساده. وقوله : « وقد رفع أئمتنا عليهمالسلام المنع
__________________
من طرفهم بالنسبة إلينا » ممنوع في صورة وسنكشف عليك تحقيق هذه المسألة عن
قريب إن شاء الله تعالى.
قوله
: في التذكرة في كتاب البيع .
أقول : كلام
التذكرة بمجرده لا يكون حجة إنما الحجة في الدليل المذكور فيها من كتاب أو سنة أو
إجماع أو دليل عقل ، نعم يحسن إيراد ما فيها إذا لم يكن عن دليل لمعرفة مذهبه
وقوله فيها ، وحسن هنا أن يمتثل بقول بعض الفضلاء. وأنت خبير بما رواه ، ولسنا
نقلد ما بين دفتي الشفاه.
أقول : وتعليل
العلامة في تذكرة بقوله « لأن هذا مال لا يملكه الزارع وصاحب الأنعام والأرض فإن
حق الله أخذه غير مستحقه فبرئت ذمته وجاز شراؤه » ضعيف لا يعرج
عليه لأنه لا يلزم من استحقاق الله تعلى في مال شيئا ، إن من أخذ من المشاع بذلك
الاسم يكون ما أخذه هو الحق الذي لله تعالى.
وبهذا لو أخذ
المال من المال المشاع قهرا لم تبرأ ذمة المالك إلا من قدر حصة ما أخذه قهرا مع
عدم التفريط ويلزمه زكاة الباقي.
ولو قيل هذا
مخصوص بالجائر منعناه على أن دليله عام لإشعار فيه بكون الأخذ مخصوصا على ما لا
ينفى ، فخصوصية الجائر بالحكم يقتضي تعليلا آخر لا يفهم مما ذكر والله الموفق.
قوله
: والحاصل إن هذا مما وردت به النصوص وأجمع عليه الأصحاب بل المسلمون .. والمنازع
فيه مدافع للنص ومنازع للإجماع ، فإذا بلغ معه الكلام الى هذا المقام فالأولى
الاقتصار معه على قولي سلام .
__________________
أقول : لم يزد
على دعوى النص والإجماع وهو ممنوع وعليه إثباته ، فاذا أثبته على وجه ينطبق على
مدعاه ونوزع فيه فليعرض عن المنازع ، وسياق ما نذكره من النص والإجماع ، والكلام
عليه وعنده يعرف من يقال له اعتراضا عنه وأشار الى جهله سلام.
قوله
: من تأمل كثيرا من أحوال كبراء علمائنا السالفين .. إلخ .
أقول : هذا
ونحوه من التزليقات والتلزيقات التي لا تشتبه على أهل الله مقاصد قائلها ، وقد
أسلفنا شيئا من الجواب عنها ، وسيأتي زيادة عند ذكر زيادة كلام في هذا المقام إن
شاء الله تعالى.
قوله
في مقالة حل الخراج : ولنا في الدلالة على ما قلناه مسلكان ، الأولى : في الأخبار
الواردة عن أهل البيت عليهمالسلام وهي كثيرة ، فمنها ما رواه الشيخ عن أبي بكر
الحضرمي قال : دخلت على أبي عبد الله عليهالسلام وعنده إسماعيل ابنه فقال ما يمنع
ابن أبي سماك أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه مما يكفيه الناس ويعطهم ما يعطي الناس ،
قال : ثم قال : لم تركت عطاءك؟ قال : قلت : مخافة على ديني ، قال : ما منع ابن أبي
سماك أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أن لك في بيت المال نصيبا؟ قلت
: هذا [ الخبر ] نص في باب فإنه عليهالسلام بين السائل حيث قال : إنه ترك أخذ
العطاء للخوف على دينه بأنه لا خوف عليه فإنه إنما يأخذ حقه حيث إنه يستحق في بيت
المال نصيبا وقد تقرر في الأصول بتعدي الحكم بالعلة المنصوصة .
أقول : جميع ما
أورده وأورد في هذا الباب من الأخبار وغيرها يأتي جوابها في الجمع بين كلام
الأصحاب لكن أجببت أن أشير الى ما ذكر فيه مفصلا بيازا
__________________
لقصوره في الاستدلال ، فأقول : هذا الخبر أورده العلامة في المنتهى دليلا
على جواز تناول جوائز الظالم إذا لم يعلم أنها حرام ، ولم يذكره في حل الخراج
وتناوله ، ولا شك أن الاستدلال يتبع الدليل ، والدليل لا إشعار فيه بالخراج على أن
ما فهمه هذا المؤلف من هذا الخبر ليس على الوجه ، وذلك أنه عليهالسلام أشار الى الرد على ابن أبي سماك في إعراضه عن الشيعة
بقوله « أو لا يمنع .. إلخ » ثم سأل أبا بكر عن ترك العطاء فأجابه إن تركه مخافة
فأقره عليه وأعرض عنه. ثم رجع الى تقريع ابن أبي سماك وإلزامه بأنه ترك الدفع مع
أنه يعلم لكل من المسلمين حقا في بيت المال وهو يدفع الى بعضهم دون بعض.
فحاصل الخبر أن
أبا بكر له حجة في ترك الأخذ ولا حجة لابن أبي سماك في ترك الدفع فأين النص وأين
نفيه الخوف هذا والخبر ممنوع صحة سنده فلا تثبت دلالته.
ومن العجب أن
هذا الرجل لو أراد أن يستدل على مطلب صحيح لم يحسن الاستدلال عليه لقصور فهمه.
قوله
: ومنها ما رواه أيضا في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو الحسن عليهالسلام
: مالك لا تدخل مع علي في شراء الطعام إني أظنك ضيقا ، قال : قلت : نعم ، فإن شئت
وسعت علي ، قال : اشتره.
وقد احتج بها
العلامة في التذكرة على تناول ما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة.
أقول : لا يخفى
على من له أدنى تأمل في العلم أن هذا الخبر لا يدل على تناول ما يأخذه الجائر باسم
الخراج ، والمقاسمة بشيء من الدلالات غاية دلالته أنه
__________________
يدل على ابتياع الطعام على جهة العموم وليس فيه تصريح بأن الابتياع من
الجائر ولو سلم ، فنحن لا نمنع من جواز ابتياع ما يأخذه باسم الخراج. فإن قيل : يدل
من حيث عمومه ، قلنا : قد ثبت إن شرط صحة الابتياع كون البيع حلالا فالخراج إن كان
حلالا جاز ابتياعه وإلا فلا ، ولا دلالة في الخبر على أن الخراج حلال كما لا يخفى
فإن معاملة الغاصب والابتياع منه وإن كان أكثر أمواله غصبا جائز لعموم الكتاب
والسنة ، ولا يدل على ما في يده من الغصب ، وهذا واضح.
وقوله : « وقد
احتج به العلامة » ليس بشيء لأنا بينا عدم دلالة الخبر وقد يظهر نكتة استدلال
العلامة فيما نحققه إن شاء الله تعالى.
قوله
: ومنها ما رواه أيضا في الصحيح عن جميل بن صالح قال : أرادوا بيع تمر عين أبي
زياد فأردت أن أشتريه ثم قلت : حتى أستأذن أبا عبد الله عليهالسلام فأمرت مصادفا
، فسأله فقال قل له : يشتريه ، فان لم يشتره اشتراه غيره. قلت
: قد احتج بهذا الحديث لحل ذلك العلامة في المنتهى
وصححه.
أقول : الجواب
عن هذا كالجواب عن الخبر السابق ، فإنه لا دلالة فيه على موضع النزاع بل على
ابتياع مال الظالم ، ونحن لا نمنعه بل نكرهه.
قوله
: لكن قد يسأل عن قوله « فان لم يشتره اشتراه غيره .. إلخ » ، وحاصله أن الحل مختص
بمن ليس له دخل في قيام دولة الجور ونفوذ أوامرها وفق شوكتها وهو معنى لطيف في
زعمه.
أقول : هذا
خلاف ما أصله من أن الخراج لجميع المسلمين فإنه إذا لا يفترق
__________________
الحكم فيه بالنسبة الى أهل يقوم به الدولة وغيرهم.
وفي الخبر
الأول ـ أعني رواية أبي بكر ـ دلالة على ذلك حيث رد على ابن أبي سماك بعدم استعمال
شباب الشيعة على ما فهم المؤلف ، وأيضا فالأصحاب أطلقوا من غير تفصيل ولم يذكروا
أنه من خواص الشيعة ، فالمخصص يحتاج الى دليل ، وهو مسلم كلامهم ويستدل به ، والذي
يخطر ببالي أن قوله عليهالسلام « فان لم يشتره اشتراه غيره » للإشارة الى أن الامتناع
من أموال الظالم لا فائدة مهمة فيها إلا إذا كان أهل العصر جميعا أو أكثرهم على
ذلك لأن الامتناع يفيد تورعه عن المظالم حينئذ بسبب عدم معاملة الناس له ، أما إذا
لم يكن كذلك لم يظهر فائدته خصوصا أن أحدا لا يمنع عن معاملة من يعامله وإلا لبطل
أكثر النظام فلا فائدة في الامتناع حينئذ ، فقول الامام ذلك للتنبيه على هذا ،
فالأحاديث وكلام القوم على العموم ، وأي محصل يجزم بتخصيص ما هو عام بمثل هذا
الخيال مع أنه لم يزد على الدعوى شيئا فانظر الى قصور فكره هذا الرجل تظفر بالعجب
العجاب.
قوله
: ومنها ما رواه أيضا عن إسحاق بن عمار قال : سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو
يظلم ، قال : يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا.
وهذا الحديث نقلته
هكذا من المنتهى
وظني أنه نقله من
التهذيب وبمعناه أحاديث كثيرة.
أقول : لا يخفى
على الناظر أن هذا الحديث لا دلالة فيه على حل الخراج ولا على حل تناوله من الظالم
بشيء من الدلالات لأن دلالته ليس إلا على جواز
__________________
الابتياع من العامل الذي يظلم إذا لم يعلم أنه ظلم أحدا بعينه ، فأخذه إن
كان ظلما لم يجز ، وإلا جاز ، فأين الدلالة وهو مع ذلك مرسل وإسحاق بن عمار ضعيف.
قوله
: ومنها ما رواه أيضا في الصحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليهالسلام
قال : سألته عن الرجل هنا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنمها وهو يعلم أنهم
يأخذون أكثر من الحق الذي يجب عليهم ، قال : ما الإبل والغنم إلا مثل الحنطة
والشعير وغير ذلك لا بأس حتى يعرف الحرام بعينه ، قيل له فما ترى في مصدق يجيئنا
فيأخذ صدقات أغنامنا نقول بعناها فيبيعناها ، فما ترى في شرائها منه؟ قال : إن كان
أخذها وعزلها فلا بأس.
أقول : لا
دلالة في هذا على المطلوب لأن جواز ابتياعهم لا يدل على جواز الابتياع مطلقا لجواز
أن يكون ذلك لكونه ما لهم وفي قوله « عزلها » إشارة اليه. نعم صدر الحديث فيه دلالة
ما ، وسيأتي الجواب عنهما إن شاء الله تعالى.
قوله
: قيل فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعزله
بكيل ، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال : إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك
فلا بأس بشرائه منه بغير كيل.
أقول : لا خفاء
في عدم صحة الاستدلال بهذه على مطلوبه وذلك لأن المفهوم منها بقرينة السؤال
والجواب أن الغرض جواز إبانة الابتياع من غير كيل ثان ، أو عدم جوازه كما هو ظاهر
جلي. وقد صرح في السؤال بأنه يقسم لهم حظهم ويأخذ حظه وهو نظرا الى منطوق اللفظ
يدل على أن ما أخذه حقا له ، ولا نزاع في ذلك إذ
__________________
« القاسم » يجوز أن يكون مزارعا أو وكيل المزارع الذي منه الزرع أو منهما
أو من الزرع والأرض له ، ولا إشعار في الخبر بأن القاسم قاسم الجور وأن الذي يأخذه
من الخراج ، سلمنا ، لكن جوازه لهم لا يدل على جوازه مطلقا لأنه ما لهم لم يزل
والابتياع لأنه لا يمكن بدونه ولا يرد أنه لو كان كذلك لم تظهر فائدة السؤال لجواز
أن تكون فائدته استبانة جواز ذلك فإن فيه تقريرا لفعله ورضا به من حيث معاوضته ،
وربما كان في قوله وأنتم حضور إشارة الى ذلك لأن مع عدم الحضور يحتمل خلطه بغير ما
أخذ منهم.
قوله
: ومنها ما رواه الشيخ أيضا بإسناده عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليهالسلام
عن أبيه أن الحسن والحسين عليهماالسلام كانا يقبلان جوائز معاوية
قلت : قد علم أن
موضع الشبهة حقيق بالاجتناب ، والامام عليهالسلام لا يواقعها ، وما كان قبولهما عليهماالسلام لجوائزه إلا لما لهما من الحق في بيت
المال ، مع أن تصرفه عليه غضب الله وسخطه كان بغير رضا منهم عليهمالسلام ،
فتناولهما حقهما المترتب على تصرفه دليل على جواز ذلك لذوي الحقوق في بيت المال من
المؤمنين نظرا الى ثبوت المتأسي. وقد نبه شيخنا في الدروس
على هذا المعنى وفرق
بين الجائزة والظلم وبين أخذ الحق الثابت في بيت المال أصالة ، فإن ترك قبول الأول
أفضل بخلاف الثاني.
أقول : وبالله
التوفيق : هذا الكلام مخبوط من أربعة أوجه :
( الأول ) : أن
معرض استدلاله حل الخراج والرواية دلت على الجوائز ، وبينهما بون بعيد ، إذ جهة حل
الجائزة عدم العلم بتحريمها والأصل عدم التحريم ، وعموم ما دل على جواز تناولها
إذا لم يعلم غصبا بعينها وحل الخراج يستدعي
__________________
دليلا يختصه كما لا يخفى.
( الثاني ) أن
قوله « قلت : لا خفاء أن موضع الشبهة حقيق بالاجتناب والامام عليهالسلام لا يواقعها » لا طائل تحته ، لأن الشبهة التي لا يواقعها الامام إن
أريد بها ما يقتضي المنع والتحريم فغير الامام من العدول كذلك ، ونحن لا ندعي
تحريم مال الجائر مطلقا وإن أريد ما يقتضي المرجوحية التي لا تبلغ التحريم ، فلو
سلمنا عدم مواقعة الامام لها قلنا لا يقتضي مواقعته إلا عدم المرجوحية بالنسبة
إليه لا مطلقا. وقد يختلف الحال بالنسبة اليه والى غيره والواقع هناك كذلك ، فإن
جوائز الظالم مكروهة لسائر الناس دون الإمام لأن حق الإمامة له وما في يد الجائر
يستحق هو قبضه بالأصالة بتقدير وقوع الشبهة فيه لأنه أعلم بمصارفه ويدفع نوع
الشبهة عنه ، وهذا غير القبض والمال حقه بالأصالة بخلاف غيره فإنه مرجوح بالنسبة
إليه.
وقد نبه على ما
قلناه الشهيد رحمهالله في دروسه حيث قال : وترك أخذ ذلك من الظالم مع الاختيار
أفضل ، ولا يعارضه أخذ الحسنين عليهماالسلام جوائز معاوية لأن ذلك من حقوقهم بالأصالة. على أن لنا أن
نقول إنهم فعلوا ذلك تقية فلا دلالة فيه أصلا.
( الثالث ) أن
قوله « وما كان قبولهما عليهماالسلام لجوائزه إلا بما لهما من الحق في بيت المال » ركيك ظاهر
الركاكة لأنه غير لازم أن تكون الجائزة من بيت المال لجواز أن يكون من خاصة ماله
المملوكة له بأخذ أنواع التملكات.
ومن هذا يعلم (
الوجه الرابع ) من الخبط ـ أعني قوله « فتناولهما حقهما عليهماالسلام المترتب على تصرفه دليل على جواز ذلك لذوي الحقوق نظرا
الى
__________________
ثبوت التأسي » ـ لأن تناولهما لم يثبت أنه من حقهما من بيت المال حتى
يتأسى لهما من هذه الحيثية. فانظر أيها المتأمل إلى قلة فطنة هذا الرجل كيف بلغت
بهذا القدر في مثل هذا المطلب اليسير.
وأبلغ من هذا
كله قوله « وقد نبه شيخنا في الدروس على هذا المعنى .. إلخ » وأنت قد تعلم
أن الشهيد لم ينبه إلا على جواز ابتياع ما يأخذه الجائر وجواز جائزته ، وإن ترك
ذلك أفضل إلا للمعصوم فإن حقه بالأصالة ، ومن المعلوم أنه غير مطلب المؤلف لأن
الجوائز لا شبهة فيها وإن أخذ المعصوم لها من حيث حقه في بيت المال ، فيثبت لغيره
ما ثبت له من غير فرق ، وهذا خلاف ما نبه عليه الشهيد بلا مرية ، فان كنت في شك من
ذلك فاستمع كلام الشهيد في دروسه قال قدسسره : ويجوز شراء ما يأخذه الجائر باسم الخراج والزكاة
والمقاسمة وإن لم يكن مستحقا لها وتناول الجائزة منه إذا لم يعلم غصبها ، وإن علم
ردت على المالك فإن جهله تصدق بها ، واحتاط ابن إدريس بحفظها والوصية بها.
وروي أنها
كاللقطة قال : وينبغي إخراج خمسها والصدقة على إخوانه منها والظاهر أنه أراد
الاستحباب في الصدقة ، وترك أخذ ذلك من الظالم مع الاختيار أفضل ولا يعارض ذلك أخذ
الحسن عليهالسلام جوائز معاوية لأن ذلك من حقوقهم بالأصالة.
فانظر أيها
المتأمل هل الذي نبه عليه الذي أشرنا إليه أو الذي توهم المؤلف ، فإن كلامه ظاهر
في المرجوحية وعدم صلاحية فعله عليهالسلام للرجحان لاختصاص الرجحان به لأنه حقه بالأصالة ، هذا ما
أفاده تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنته ، ولا كلام في مرجوحية جوائز الظالم
عقلا وشرعا ، وقد
__________________
أحببت أن أزيد هذا البحث إيضاحا بالاستشهاد بكلام بعض الأصحاب.
قال العلامة في
المنتهى : ولا بأس بمعاملة الظالمين وإن كان مكروها ـ الى أن قال ـ : وانما قلنا
إنه مكروه لاحتمال أن يكون ما أخذه ظلما فكان الأولى التحري عنه دفعا للشبهة
المحتملة. ( مسألة ) متى تمكن الإنسان من ترك معاملة الظالمين والامتناع من
جوائزهم كان الأولى له ذلك لما فيه من التنزه.
وقال فيه أيضا
: ولو لم يعلم حراما جاز تناولها وإن كان المجيز لها ظالما.
وينبغي أن يخرج
الخمس من جوائز الظالم ليظهر بذلك ما له ، لأن الخمس يطهر المختلط بالحرام ، فتطهر
ما لم يعلم فيه الحرام أولى .
وقال المقداد
في تنقيحه : جوائز الظالم والفاعل من قبله يجوز قبولها والتصرف فيها إلا أن يعلم
الظلم بعينه ولا يجوز أخذه .
وقال ابن إدريس
وينبغي إخراج خمسها والصدقة على إخوانه منها ، والظاهر أن مراده بالاستحباب في الصدقة وترك الجائزة من
الظالم أفضل ، وكذا ترك معاملته أيضا ، ولا يكون ما بيده من الأمور محرما بمجرد
ظلمه لجواز أن يتملك شيئا على جهة الظلم فلا يحرم حينئذ معاملته لقول الصادق عليهالسلام « كل شيء فيه حلال وحرام فهو حلال حتى يعرف تحريمه
بعينه ».
نعم يكره ذلك
مع الاختيار ، وأما حال الضرورة فجائز ، ولا يعارض الأول أخذ الحسنين عليهماالسلام جوائز معاوية لأن ذلك حقهم بالأصالة ، ولو لا كراهة
__________________
الإطالة في مثل هذا مع ظهوره لأوردت عبارات اخرى ، وبالجملة فلا شك عند أهل
الله أن من الورع تجنب جوائز الظالم ، وإنكار ذلك جهل.
قوله
: فإن قيل : هنا سؤالان : ( الأول ) أن هذه الأخبار إنما تضمت حال الشراء خاصة ،
فمن أين ثبت حل التناول مطلقا؟ ( الثاني ) أن هذه الأخبار إنما دلت على جواز
التناول من الجائر بعد استيلائه والأخذ كما يفعله الجائر.
قلنا
: الجواب عن الأول أن حل الشراء كاف في ثبوت المطلوب لأن حله يستلزم حل جميع أسباب
النقل كالصلح والهبة لعدم الفرق بل الحكم بجواز غير الشراء على ذلك التقدير بطريق
أولى لأن شرط صحة الشراء أكثر. وقد صرح الأصحاب بذلك بل يستلزم جواز قبول هبته وهو
في يد ذي المال والحوالة ما عرفت من أن ذلك غير مملوك بل إنما هو حق تسلط على
التصرف فيه غير من له أهلية التصرف ، وقد سوغ أئمتنا تملكنا له على ذلك التصرف
الغير الشائع لأن تحريمه إنما كان من حقهم فاغتفروا لشيعتهم ، ذلك طلبا لزوال
المشقة عنهم ، فعليهم من الله التحية والسلام وقد صرح بذلك بعض الأصحاب .
أقول : هذا
الكلام خبط ظاهر وذلك لأن متعلق البيع ـ أعني الخراج المبحوث عنه ـ غير مملوك
للجائر ـ وقد سلمه المؤلف ، وإذا لم يكن مملوكا فهو مملوك لغيره لاستحالة بقاء ملك
بلا مالك. ولو قيل : أنه على حكم مال الله تعالى حتى يقبضه الامام لم يقدح في
المطلوب ومستحق قبضه والتصرف فيه الامام عليهالسلام ، فاذا فرضنا أنه أجاز الابتياع لم يدل على جواز غيره
بشيء من الدلالات فضلا عن كون جواز غير البيع أولى وذلك لأنه محجوب فيه وأمره الى
الوالي ، فإذا جاز نوعا معينا لم يجز تخطيه وإنما يمكن تسليم المساواة والأولوية
في صورة ما إذا كان الإجازة يقتضي كون الابتياع ملكا للبائع ، فإن ما ذكره قد يتم
__________________
وتعليله قد يتحقق ، وهو لم يتفطن في الفرق بين الأمرين كما هو عادته من
المجازفة.
وقوله « بل
يستلزم جواز قبول هبته وهو في يد ذي المال » ظاهر المنع بل البطلان وأي وجه اقتضى استلزام جواز
ابتياع مال يأخذه بإجازة من له التصرف في بيعه جواز اتهابه مال من أجيز له في
البيع هذا أمر لا نعرفه فلعله حصله من تدقيقات اجتهاده وحسن تأمله فيه.
وقوله في
إثباته « لما عرفت من : أن ذلك غير مملوك » لا يصح تعليلا للاستلزام كما لا يخفى لأن غير المملوك
يوقف التصرف فيه على إذن المالك أو من له التصرف ، ولا يستلزم الإذن في معين الاذن
في غيره ، وإن كان ما يؤذن فيه أبلغ مما لا يؤذن فيه ، فإن الإذن في الهبة بغير
عوض لا يستلزم الاذن في البيع ، فكيف بالعكس.
وقوله « وقد
سوغ أئمتنا تملكنا له على ذلك التصرف » عجيب غريب لأنه إن أراد بتسويغ أئمتنا للتملك بتسويغهم
له بغير الابتياع فهو ممنوع ، وقد سلم أن غيره بالاستلزام والأولوية ، وإن أراد
بتسويغهم له بالانتفاع فلا منازعة فيه ، وإنما البحث في كون ذلك يستلزم غيره أم له
، وعليه بني الإيراد ، وقوله « وقد صرح به بعض الأصحاب » لا طائل تحته
لأن فتوى بعض الأصحاب بمجرده لا يقوم دليلا.
قوله
: واما الجواب عن الثاني فإن الأخذ من الجائر والأخذ بأمره سواء ، على أنه إذا لو
حظ أن المأخوذ حق ثبت شرعا ليس فيه وجه تحريم ولا غصب ولا قبح حيث إن هذا حق مفروض
على هذه الأراضي المحدث عنها ، وكونه منوطا بنظر
__________________
الامام
انتفى الحظر اللازم بسببه ترخص
الإمام في تناوله من
الجائر سقط السؤال بالكلية أصلا ورأسا .
أقول : هذا
الكلام أو له ممنوع أشد المنع ، أعني قوله « الأخذ من الجائر والأخذ بامره سواء ».
ليت شعري أي
وجه اقتضى المساواة مع أن هذا مال محرم يتوقف على إذن الامام وليس هو في يد الجائر
حتى يدخل تحت الأخبار بتقدير حجيتها؟ ومن أين يحتمل المساواة فضلا عن القطع بها مع
أن أخذه محرم أجيز الأخذ منه بالابتياع للنص مثلا والأخذ على حاله من التحريم ،
فالأخذ ابتداء عن أمره لا وجه لإباحته.
وآخره ركيك جدا
، أعني قوله « إذا لوحظ .. إلخ » لأنا إذا لاحظنا كون المأخوذ حقا لا قبح فيه وأنه
منوط ينظر الامام وأجاز تناوله من الجائر كيف يسقط السؤال بالكلية أصلا ورأسا ، إذ
القائل يقول هذا حق لا قبح فيه أصلا ، لكن لا يجوز تناوله ابتداء ، فهذا السؤال
كما لا يخفى قائم باق يفتقر الى الجواب بل لا جواب فيه لأصالة المنع من التصرف إلا
بإذن الإمام خرج منه التناول من الجائر على وجه المخصوص فيبقي الباقي على المنع ،
إذا تأمل المتأمل هذا الكلام علم منه أن المؤلف في أي مقام هذا ، وبعض الأصحاب صرح
بعدم جواز التناول بغير ذلك.
قال الفاضل
السيد ابن عبد الحميد الحسيني في شرحه للنافع : وإنما يحل بعد قبض السلطان له أو
نائبه ، ولهذا المصنف ما يأخذه باسم المقاسمة فقيده بالأخذ وهو
على الجائر ونائبه حرام ، وغيره من المصنفين أيضا ذكر ذلك.
__________________
والحاصل : أن
ما دل عليه الروايات في زعمه لا يقتضي ما ذكره وأما الإجماع على ما ذكره فهو على
المنع وبالله التوفيق.
قوله
: المسلك الثاني ..
إلى آخر ما نقل من
العبارات.
أقول : وبالله
التوفيق وهو ولي التحقيق : ( أولا ) حيث حققنا فيما مضى أن العراق ليست مفتوحة
عنوة وأبطلنا ما زيفه المؤلف من الأدلة على أن ذلك لم يجديه حل الخراج بتقدير
تسليمه لأنه إنما يكون في الأرض المفتوحة عنوة ومحل قريته بحث عنها ليس كذلك.
( وثانيا ) إنا
قد حققنا أيضا أن كون أرض العراق مفتوحة عنوة لا يقتضي حل الخراج في مطلوب هذا
المؤلف.
( وثالثا ) أن
حله إنما ثبت بتقدير أخذه من الجائر ابتياعا لأنه مدلول الروايات ، والذي حكاه من
الأقوال إنما هو قول عدد قليل وبعضهم لم يذكر غير الابتياع كالشيخ في النهاية وبعضهم
كالعلامة والشهيد ذكر غيره وبعض من لم يذكره صرح بنفي غيره كما حكيناه عن
السيد الحسيني شارح النافع رحمهالله ، وظاهر بعض الأصحاب أيضا ذلك ، بل بعض ما ذكره عبارته
ظاهره ذلك ، فالتناول بغير الابتياع غايته أنه فتوى آحاد من الأصحاب وليس دليلا إذ
لا شاهد له من الأخبار ولا إجماع عليه والعقل ينفيه ، وظاهر الكتاب العزيز شاهد
بنفيه
__________________
فلا يقوم حجة ، وقد سبق ما فيه كفاية عند ذكره الاستلزام فلا يتم مطلوبه.
( ورابعا ) أن
حل التناول من الجائر مطلقا لو ثبت لم يستلزم حل الأخذ ابتداء فلا يحل غرضه إذ
غرضه حل الخراج مطلقا ، ولا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع بل ولا قول من
يعتمد عليه من الأصحاب ، ألا ترى أنه استدل بالاتفاق المستند الى عبارات الأصحاب
ولم يذكر عبارة يدل على ذلك أصلا بل في بعضها ما يدل على العدم كقول الشهيد في آخر
عبارته « وكما يجوز الشراء يجوز سائر المعاوضات والهبة والصدقة والوقف ولا يحل
تناولها بغير ذلك » فسقط كلامه بالكلية.
ولنرجع الى
تحقيق كلام الأصحاب في الباب تبرعا وقصدا لإبانة الحق ومن الله تعالى نسأل الاسناد
بإلهام الصواب والسداد والتمسك بسبيل الرشاد فنقول : لا شك ولا خفاء في أن الأصحاب
ذكروا جواز ابتياع ما يأخذه السلطان الجائر باسم المقاسمة وسام الزكاة من الأراضي
والأنعام ، ولا شبهة أن ذلك ليس من حيث الاستحقاق منه لذلك لا للعين المأخوذة ولا
لجواز الأخذ بل هو ظلم ، كما لا شبهة أن هذه المسألة لا تعلق لها بحل الخراج وعدم
حله لأن الزكاة من الأنعام ، والغلات لا تعلق لها بذلك بوجه من الوجوه ، وقد
أجازوا فيها ذلك مع أنها ظلم وغصب فلو كانت العلة حل الخراج لاختص الحكم به ، ولم
يخصه به أحد فيما علمته ، ومن ذكر ذلك ذكره غالبا في باب المكاسب وذكر أنه يجوز
ابتياع ما يأخذه الجائر من الزكاة والأرض.
بل لنا أن نقول
: إن أخذ الظالم الخراج من الأرض باسم المقاسمة غصب وظلم ، إذ لا يلزم من استحقاق
المسلمين له جواز أخذه لغير وإليهم ، ولا جواز قسمته بحيث يبعث ما أخذه لهم لأن
قسمة غير الوالي غير معتبرة ، ألا ترى أنهم
__________________
حكموا بجواز ابتياع ما يأخذه باسم الزكاة مع حكمهم إلا من شذ بعدم براءة
الدافع منها بها أوجبوا الزكاة عليه فيما بقي عنده ثانيا ، وزكاة الجميع مع سبق
تفريطه ، وحرموا الدفع إليه مع المكنة ، فيمكن أن يقال في الخراج ذلك للاشتراك في
العلة ، ومما يؤيد هذا ويؤيده بيانا أن مصرف الزكاة الثمانية المذكورين في الآية
الكريمة وجواز الابتياع لما يأخذه الظالم لا يختص بهم بل هو
جائز على الإطلاق فلا يكون لعلة الاستحقاق.
نعم قد وردت
رخصة بكفاية ما يأخذه الظالم عن الزكاة دلت عليه روايات من طرقنا لكني لم أقف على
مفت بها بل أكثر من تعرض لها قرب الإخراج ثانيا أو لم يعتمد شيئا إلا الشيخ في
التهذيب فإنه قال فيه لما ذكر حديث أبي بكر وفيه ، وليس على أهل الأرض اليوم زكاة
فإنه قد رخص اليوم لمن وجبت عليه وأخذت منه ذلك السلطان الجائر أن يحتسب من الزكاة
وإن كان الأفضل إخراجه ثانيا لأن ذلك ظلم ظلم به . ثم أورد
الروايات الدالة على الإسقاط.
أقول : وحكمه
بأنه ظلم ظلم به يقتضي الجزم بالإعادة لا أفضلية الإعادة إذا عرفت هذا فلا يخفى أن
الجمع بين تحريم مال المسلم إلا بوجه شرعي وتجويز ابتياع ما يؤخذ منه ظلما أمر
مشكل ، فلا بد من تحقيق هذه المسألة لأنها من المهمات في الشريعة ، وسأفصل ما يتضح
به في مباحث.
الأول : في ما
يدل على أن ذلك حرام وظلم في الزكاة صريحا وفي غيره بالإطلاق وما يتبعه من الضمان.
الثاني : في
الجمع بين ذلك وبين جواز الابتياع من الظالم.
الثالث : في رد
اللازم من هذه المسألة وتوابعها.
__________________
فالبحث الأول
فيه مسألتان : ( الاولى ) في المأخوذ من الزكاة. ( والثانية ) في المأخوذ من
غيرها.
أما الأولى :
فيدل على تحريم أخذها وأن المأخوذ ظلم وعدوان عموم قوله تعالى
« إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ
» الآية ، حصرها فيمن ذكره ، فأخذ غيرهم إلا من الوالي عليها للقسمة بينهم
وتصرفه بجميع الأنواع غير مشروع وظلم لأهل الحق ، وغيرها من الآيات وعموم قوله عليهالسلام « خذ الصدقة من أغنيائهم واجعلها في فقرائهم » فأخذها على
غير الوجه ظلم محرم وعدوان ، ولأنها شرعت لسد فاقة الفقراء ومواساتهم ، فأخذها لا
لصرفها في الوجه مناف للحكمة ، فيجب أن يكون محرما ولأنها حق في العين ، فيتوقف
تمييزه على القسمة الشرعية أجاز الشارع للمالك الدفع منها أو من غيرها عينا أو
قيمة إلى الوالي والمستحق تحقيقا ، فاذا لم يدفع لم تبرأ الذمة ولم يخرج الاستحقاق
عن العين عملا باستصحاب بقاء الحق الى أن يتحقق ما يخرج عنه ، وليس أخذ الجائر
مخرجا لأنه ليس واليا ولا مستحقا ، ويؤيد ما ذكرناه ما رواه الشيخ في التهذيب عن
محمد ابن علي بن محبوب عن إبراهيم بن عثمان عن حماد عن حريز عن أبي أسامة قال : قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك إن هؤلاء المتصدقين يأتوننا فيأخذون منا
الصدقة فنعطيهم إياها ، أيجزي عنا؟ فقال : لا ، إنما هؤلاء قوم غصبوكم ـ أو قال ـ ظلموكم
أموالكم وإنما الصدقة لأهلها .
إن قلت : أورد
الشيخ في التهذيب ثلاث روايات تدل على عدم وجوب الزكاة ثانيا ، قلنا : مع عدم
التعرض لدلالتها لا إيراد علينا بها لأن مطلوبنا
__________________
إثبات أنها ظلم وقد ثبت ، فيقع الكلام في الجمع خاصة إذ لا يلزم من السقوط
بتقدير ترجيحه على عدم سقوط الظلم الذي لا معارض له ، ويؤيد عدم السقوط من فتوى
الأصحاب ما قال العلامة في المنتهى : لا يجوز للمالك دفعها الى الجائر طوعا ولو
دفعها إليه باختياره لم تجز عنه ـ ثم قال : لو عزلها المالك فأخذها الظالم أو تلفت
لم يضمن المالك حصة الفقراء مما أخذ الظالم إجماعا إذا لم يفرط ويؤدي زكاة ما بقي
عليه على ما تقدم من الخلاف .
وقال في
التحرير : ولو أخذ الجائر الزكاة ففي إجزائها روايتان الأقرب عدمه لكن لا يضمن حصة
الفقراء مما أخذه .
وقال الشيخ في
الخلاف : إذا أخذ الصدقة لم تبرأ ذلك ذمته من وجوب الزكاة عليه لأن ذلك ظلم ظلم به
، والصدقة لأهلها يجب عليه إخراجها ، وقد روي أن ذلك مخبر عنه ، والأول أحوط. قال
الشافعي : إذا أخذ الزكاة إمام غير عالم ( عادل خ ) أجزأت عنه لأن إمامته لم تزل
بفسقه ، وذهب أكثر الفقهاء من المحققين وأكثر أصحاب الشافعي إلى أنه إذا فسق زالت
إمامته ـ ثم قال : ـ والذي يدل على أن ذمته لم تبرأ مما أخذه المغلب أن الزكاة حق
لأهلها فلا تبرأ ذمته بأخذ غير من له الحق ، ومن أبرأ الذمة بذلك فعلية الدلالة .
وقال الشهيد في
البيان : لو أخذ الظالم العشر أو نصفه باسم الزكاة ففي الإجزاء بها روايتان
والأقرب عدمه ، وحينئذ يزكي الباقي وإن نقص عن النصاب بالمخرج .
__________________
وأما الثانية :
فيدل عليها عموم الكتاب والسنة الدالين على تحريم التصرف في الأموال بغير حق ،
والعقل مؤيد له فإنه حاكم بقبح ذلك فإن ما جعله الله تعالى في وجه المصادف يقبح
تغييره لمنافاته الحكمة.
ويؤيده ما رواه
الشيخ في التهذيب عن علي بن يقطين قال : قلت لأبي الحسن عليهالسلام : ما تقول في أعمال هؤلاء؟ قال : إن كنت لا بد فاعلا
فاتق أموال الشيعة : قال : فأخبرني أنه كان يجيئها من الشيعة علانية ويردها عليهم
في السر. دل بفحواه على الترك مع الإمكان وعن النهي صريحا عن
أموال الشيعة ولو كان أخذ الخراج من الحقوق التي ليست ظلما لم يجز ذلك.
ومن العجب أن
المؤلف نقل هذا الخبر وخبر آخر في آخر رسالته وهو ما رواه الشيخ عن الحسن بن الحسن
الأنباري عن الرضا عليهالسلام ـ الى أن قال ـ فكتب أبو الحسن عليهالسلام : فهمت كتابك وما ذكرت من الخوف على نفسك ، فإن كنت
تعلم أنك إذا وليت عملت في عملك بما أمر به رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثم يصير أعوانك وكتابك أهل ملتك ، فاذا صار إليك شيء
وواسيت به فقراء المؤمنين كان جائزا وإلا فلا.
ثم قال ما ختم
به رسالته : وما زلنا نسمع كثيرا ممن عاصرناهم لا سيما شيخنا الأعظم الشيخ علي بن
هلال قدس الله روحه وغالب ظني أنه بغير واسطة بل بالمشافهة أنه لا يجوز لمن عليه
الخراج والمقاسمة سرقته ولا جحوده ولا منعه ولا شيء من ذلك لأن ذلك حق عليهم.
فليت شعري كيف
ختم بهذه رسالته مع أن كلام الامام صريح في عدم جواز
__________________
أخذ الظالم له ، وهو قد سلم فيما مضى أن أخذه محرم عليه؟ وإذا كان محرما
عليه كيف لا يجوز كتمانه عليه مع المكنة ولا سرقته ولا جحوده؟ وهل هذا إلا عدول عن
قول معصوم وفتوى قام الدليل عقلا ونقلا عليها الاستشهاد بقول فقيه جائز الخطأ أن
يثبت صحة النقل عنه؟
ولو شئت أن
أقول أن اختيار الدفع الى الظالم مع التمكن من الكتمان والسرقة والجحود مما علم
عدم جوازه من الدين بالضرورة لقلت ، لأن ذلك حق للمسلمين يجب إيصاله إلى وإليهم ،
فإذا كان غائبا وجب أن يوصل الى نائبه وهو حاكم الشرع ، فإن لم يكن فإلى مستحقه
حسبه كالمال الذي في يده لغيره فإنه يدفعه الى من يستحق قبضه شرعا.
ومما يؤيد
بطلان ما ذكره ونقله في غالب ظنه ما رواه الشيخ عن أحمد بن زكريا الصيدلاني عن رجل
من بني حنيفة من أهل بست وسجستان قال : رافقت أبا جعفر عليهالسلام في السنة التي حج فيها في أول خلافة المعتصم فقلت له
وأنا معه على المائدة وهناك جماعة من أولياء السلطان : إن والينا جعلت فداك رجل
يتولاكم أهل البيت ويحبكم وعلي في ديوانه خراج ، فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب
إليه بالإحسان إلي ، فقال : لا أعرفه ، فقلت : جعلت فداك إنه على ما قلت من محبيكم
أهل البيت فكتابك ينفعني عنده ، فأخذ القرطاس وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما
بعد فإن موصل كتابي ذكر عنك مذهبا جميلا وإن ما لك من أعمالك ما أحسنت فيه ، فأحسن
إلى إخوانك ، واعلم أن الله عزوجل لسائلك مثاقيل الذر والخردل. فلما وردت سجستان سبق
الخبر الى الحسين بن عبد الله النيشابوري ـ وهو الوالي ـ فاستقبلني من المدينة على
__________________
فرسخين فدفعت اليه الكتاب فقبله ووضعه على عينيه ثم قال لي : حاجتك؟ فقلت :
خراج علي في ديوانك ، قال : فأمر بطرحه عني وقال : لا تؤد خراجا ما دام لي عملي ثم
سألني عن عيالي فأخبرته بمبلغهم فأمر لي ولهم بما يقوتنا وفضلا ، فما أديت في عمله
خراجا ما دام حيا ولا قطعني صلته حتى مات . ووجه الدلالة ظاهرة فإنه إنما شكى الامام الخراج فلو
كان حقا يجب أداؤه ويحرم كتمانه لأخبره بذلك ولم يجبه إلى الوصية فيه لأجله.
ومما يدل على
ما ذكرناه ما رواه الشيخ عن علي بن أبي حمزة قال : كان لي صديق من كبار بني أمية
فقال : استأذن لي على أبي عبد الله عليهالسلام ، فاستأذنت له فأذن له ، فلما أن دخل فسلم وجلس ، ثم
قال كلمته : جعلت فداك إني كنت في ديوان هذا القوم فأصبت في دينارهم مالا كثيرا
وأغمضت في مطالبه ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : لولا أن بني أمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء
ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا ، ولو تركهم الناس وما في أيديهم لما
وجدوا شيئا إلا ما وقع في أيديهم ، قال : فقال الفتي : جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟
قال : فقال : إن قلت لك تفعل؟ قال : أفعل. قال : فاخرج من جميع ما كسبت من ديوانهم
، فمن عرفت منهم رددت إليه ماله ومن لم تعرف تصدقت به وأنا أضمن لك على الله عزوجل الجنة .. إلخ . وجه الدلالة أنه أطلق الأمر برد ما أخذ بسبب الظالمين
وهو يتناول الخراج وغيره ، وهو موافق للنظر لأن أخذ الجائر ظلم يجب رده الى من
أخذه منه ليصرف في محله.
إن قلت : هذا
الخبر استدل به بعض الأصحاب كالعلامة في المنتهي على وجوب رد جوائز الظالم إذا
علمته حراما قلت : لا مانع من الاستدلال به على
__________________
ذلك لأنه عام ، ويصح الاستدلال به على ما يتناوله ، ومنه الجائزة المحرمة
فلا منافاة إذ لا يلزم من الاستدلال به على فرد مما دل عليه عدم الاستدلال به على
الآخر ، إذ الاعتبار بعموم الدليل ، لا يقال صرح جماعة من الأصحاب بعدم وجوب رد
الخراج وإن علم أربابه.
فنقول : أو لا
كلام من قال بذلك ليس حجة بمجرده ما لم يكن رواية أو إجماع سلمنا لكن الجواب يعلم
من الجمع بين كلام الأصحاب.
وأما البحث
الثاني وهو الجمع بين كون الأخذ غير مستحق وجواز الابتياع ، فهو أن يقول حيث لا
يمكن حمل الكلامين على إطلاقهما ضرورة أن كون المال مغصوبا. وظلما يقتضي المنع من
جواز التصرف فيه وهو متحقق ولو في الزكاة على القول بوجوب إعادتها ، وقد حكينا من
أجلاء فقهائنا وذكرنا روايته عن أهل البيت عليهمالسلام ، فإنه إذا ثبت وجوبهما ثانيا ثبت جزما أن ما أخذ فيه
حق للمالك باق على استحقاقه فهو في يد آخذه غصب بلا شبهة ، فلا يمكن القول بجواز
ابتياعه منه مع أن القائل بذلك أطلق جواز الابتياع فيما أخذه الظالم باسم الزكاة ،
وإن من مذهبه عدم براءة ذمة المأخوذ منه ووجوب الإعادة فلا بد من
الجمع دفعا للتنافي العقلي والشرعي.
فنقول وبالله
التوفيق : جهة الجمع هو أن المراد بالجائر في كلام الأصحاب مخصوص بمن له شبهة
الإمامة ، وقد أجيز لنا أن نعاملهم بمقتضي مذهبهم كما جاز ابتياع عوض الخمر من
اليهود ، وحينئذ إذا أخذ إمامهم منهم شيئا فهو مباح بالنسبة إليه والى رعيته المعتقدين
إمامته ، فيجوز ابتياعه وإن لم يكن مستحقا عندنا ، وفي وجوب التخصيص بما أخذ من
معتقدي الإمامة نظر ينشأ من أن جواز معاملتهم بمذهبهم هل يقتضي العموم فلا يشترط
الإباحة أو لا يقتضيه ، فيشترط
__________________
فعل عدم الاشتراط يجوز وإن أخذ من الشيعي ، وعلى الاشتراط لا يجوز. وظاهر
الأصحاب عدم الاشتراط لإطلاقهم الجواز من غير تفصيل ولعل الأقرب الاشتراط ، وربما
كان في الخبر الذي ذكرناه سابقا عن علي بن يقطين دلالة عليه حيث قال عليهالسلام « فاتق أموال الشيعة » ولا يشكل هذا
بضمان المعتقد الزكاة وإن دفع الى من يعتقد أنه إمام لأنه إذا استبصر يضمن ، فان (
وان ظ ) كان دفع الى فريقه مع جواز تصرف من دفع إليه والابتياع منه قطعا ، ولو
اخترنا العموم بحيث يشمل الحكم للشيعة فالوجه سقوط الزكاة مثلا عن الشيعي بأخذه ،
ويكون ذلك رخصة بسبب شبهة مذهب المخالف ودفعا للضرورة عن الشيعي بالإعادة ، وكأني
بعديم نظر وقليل فكر لا ينعم المطالعة والتدبر يتلقى هذا الجمع لالتزامه التقليد
وعدم معرفته بدقائق الشريعة بالإنكار ويظن أنه تخصيص من غير مخصص فيقول الكلام عام
فلا وجه للتخصيص. وقد تقرر أن العقل قد يخصص ، فإذا تحقق ما لا يتمشى على قواعد
العقل والشرع إلا بالمخصص وجب ، ومن حمله على العموم فهو لأخذه ما طفح على الماء
من غير أن يريب الى ما في وسطه فضلا عن قعره مع أن ما ذكرناه قد ينبه له من بعض
العبارات للفضلاء المحققين كقول العلامة في المنتهي : يجوز للإنسان أن يبتاع ما
يأخذه بسلطان الجور بشبهة الزكاة من الإبل والبقر والغنم وما يأخذه من حق الأرض
باسم الخراج وما يأخذه بشبهة المقاسمة. فذكره الشبهة فيه إشارة الى
ما ذكرناه ، وفي الكلام الذي ذكرناه عن الشيخ في الخلاف وكلام الشافعي فيه دلالة
أيضا ، بل أقول : أن في كل عبارات الأصحاب دلالة من حيث أن الأخذ من الأنعام
والغلات ولو من الأراضي التي أسلم أهلها كما يقتضيه إطلاق العبارة ، والاتفاق
__________________
لا يكون إلا عمن يتصدى لذلك من حيث إمامه في زعمه لأن بعث المصدقين وأخذ
ذلك من خواص من يعتقد الإمامية أو نائبه ، فيكون ذلك من خواصه قرينة على أن المراد
من له شبهة الإمامية ، والله الموفق للصواب.
واما الثالث :
أعنى رد الخطأ في هذه المسألة فنقول : من علل جواز الابتياع بأن هذا مال لا يملكه
الزارع وصاحب الأنعام فقد أخطأ لأنه لا يلزم من عدم ملكه له بتقدير تسليمه بعينه
بأخذ الجائر ولهذا حكم العلماء بضمان الزكاة على المأخوذ منه ، وبينهما تناف ظاهر
، خصوصا أنه قال : لأن هذا مال لا يملكه الزارع وأصحاب الأنعام والأرض فإنه حق
الله أخذه غير مستحقه فبرئت ذمته وجاز شراؤه.
وليت شعري ما
يجمع بين براءة ذمته وضمانه ، وإنما قلنا بتقدير تسليمه لأن المنع متوجه بأن يقال
الزرع ملكه والأجرة عليه في ماله فتدبر. ومن قال بعدم جواز منع الزارع ونحوه فقد
أخطأ لأنه إذا تمكن وجب عليه المنع لأن المدفوع إليه غير مستحق فيجب منعه لأنه من
الأمر بالمعروف ودفعه من المنكر ، ومن أطلق جوز الهبة بحيث يشتمل الزكاة فقد أخطأ
لأن الزكاة متعينة للصرف في أصنافها فلا يجوز هبتها ولا قبول هبتها ، وقد يتوجه
المنع في غير الزكاة أيضا لولا أن الجائر له من نصيب وافر فيجوز نظرا الى شبهة
إمامته التصرف فيما يهب منه ولا يرد ذلك في الابتياع ، فإن بيع الامام للزكاة جائز
لأن صرف العين غير متعين ولأنه قد يبيع للمصارف المتوقفة على البيع كسبيل الله.
وقد يعلم بالتنبيه المذكور أكثر الخطأ الوارد في الباب والله ولي الصواب وإليه
المرجع والمناب.
وحيث انتهينا
الى هذا ولم يبق في رسالته المعدة للنقص إلا ما هو حقيق بالاعراض والرفض من
التعريض بأهل الايمان وإظهار الشنيعة لأهل البحث والتبيان ، مع كون ما ذكر سابقا
ولا حقا لا يكاد يخرج من بين لحيي المحصل فلنقطع الكلام إلا عن ثلاث فوائد :
الأولى : قد
ذكر في كلامه مرة بعد اخرى الشريف المرتضى قدسسره والمحقق الطوسي والعلامة رضوان الله عليهم أجمعين توطئة
عند نفوس بعض العامة ومن ذكرهم يعيدون عما عمله فلا يستحلون ما استحله ونحن لا
نمنع كون المرتضى ذا حشمة وارتفاع ولا يكثر ( يكسره خ ) ( يشر في خ ل ) ذلك إذا
كان غير مشتمل على ما يخالف الشرع على أن عادة السلف أن من تقدم من فقهائهم
وعلمائهم لا يذكرونهم إلا بأحسن ما عملوا امتثالا للخبر النبوي على ما فاه [ به
عليه ] الصلاة والسلام ، ولا نقول ( ولا يقولون خ ل ) بعد موته إلا خيرا ، هذا وإن
علم أنه كان يفعل غير ذلك فكيف إذا لم يعلم ، بل علم من شواهد الحال والآثار أنه
كان من أهل التقوى والصلاح ، ومع التحقيق لو فعل من ذكره فعله لم يكن حجة إذا قام
الدليل على مرجوحيته ، وإن شئت أن تطلع على بعض هذه الأمور فانظر في كتاب السيد
النقيب العالم العامل التقي النقي ابن طاوس الحسيني الذي صنفه لابنه المعبر عنه
بثمرة المهجة فإنه أشار الى المرتضى وأخيه في أمر سهل هو توليهما النقابة ورد
عليهما ولم يحتشمهما من الرد ، ورد قول من يحتج بهما في ذلك من شدة صلاحه وتقواه
وورعه الذي لا يوصف ، وأما ما في العقائد ( الفضائل خ ل ) للمحقق الطوسي لا
استشهاد به فإنه كان داخلا في سلك الأمراء والملوك ، وفي الإشارة كفاية. وبالجملة
فمثل هذا لا يقوم عذرا فضلا عن الحجة.
الثانية :
المعذرة إلى أرباب العلم والنظر والتقوى والورع فيما زل فيه الذهن أو غفل عنه
القلب فإن ذلك شأن غير المنزل من كتاب أو سنة ، فإن صحة جميع المطالب ليس من
علامات الفضائل ذو والفضل يعرفون أهله يكفيه الأنظار والإيراد والإصدار ، لكن
المطلوب منهم إمعان النظر وإتعاب الفكر قبل المبادرة برد أو إيراد ، فإن الاستعجال
مظنة الخطأ ، وفيما فعلته من النقض فاني انما فعلته لاعتقاد وجوبه على أن هذا
المؤلف ـ فيما علمته والله على ما أقول شهيد ـ في مرتبة يقصر عما يدعيه لنفسه
فأحببت أن أعرفه واعرف أهل الفضل مرتبته ، وأيضا
فرسالته هذه مع كونه واهية المباني ركيكة المعاني قد اشتهرت بين أهل الراحة
وحب الاشتهار بشعائر الأبرار فأحببت إظهار ما غفلوا عنه قربة الى الله تعالى لئلا
يضيع الحق فتدخل في سلك من رضي بإضاعته وسكت عن إنكار تضييعه ، لولا ذلك لكنت من
المعرضين عنها كما أعرضت عن جواب استغابته وإعرابه من لا يؤمن على سفك الدماء
المحرمة عن الأعوام والله الحكم يوم القيامة ، والعذر فيها أيضا من التشنيع ، فإن
مثل ذلك جوابا عما سبق من تشنيعه جائز بل هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا
وقع في تصنيف سبب خطائه فيه ، فإن بدأ استحق الجواب وهذه عادة السلف ، فان شككت في
ذلك فلا حظ تصنيف العلامة خصوصا المختلف ، وانظر ما شنع فيه على ابن إدريس مع أن
مصنفه إمام المذهب في العلم والعمل ، وأنما فعلوا ذلك ليكون علمائهم منزهين عن
التعرض بمثل ذلك ، قال الشاعر :
بسفك الدماء
يا جارتي تحقن الدماء
|
|
وبالقتل تنجو
كل نفس من القتل
|
وقال تعالى ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ). وقلت [ مع ] قريحتي الفاترة :
ولو أن زيدا
سالم الناس سالموا
|
|
وكانوا له
إخوان صدق مدى الدهر
|
ولكنه أوذي
فجوزي بعض ما
|
|
جناه نكالا
والتقاضي الى الحشر
|
الثالثة : روى
الشيخ في التهذيب عن محمد بن يعقوب عن علي بن محمد عن ابن جمهور عن أبيه رفعه عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : كان أمير المؤمنين عليهالسلام كثيرا ما يقول : اعلموا علما يقينا إن الله تعالى لم
يجعل للعبد وإن اشتد جهده وعظمت حيلته وكثرت مكائده أن يسبق ما سمى به في الذكر
الحكيم ولم يخل بين العبد في ضعفه وقلة حيلته أن يبلغ ما سمى له في الذكر الحكيم ،
أيها الناس إنه لن يزاد امرء نقيرا بحذقه ولن ينقص امرء نقيرا بحمقه ، فالعالم
بهذا
__________________
العامل به أعظم الناس راحة في منفعة والعالم بهذا التارك له أعظم الناس
شغلا في مضرة ، ورب منعم عليه مستدرج بالإحسان إليه ، ورب مقدور في الناس مصنوع له
، فأقف أيها الساعي من سعيك واقصر من عجلتك وانتبه من سنة غفلتك وتفكر فيما جاء عن
الله عزوجل على لسان نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واحتفظوا بهذه الحروف السبعة فإنها من قول أهل الحجى
ومن عزائم الله في الذكر الحكيم إنه ليس لأحد أن يلقى الله عزوجل بخلة من هذه الخلال الشرك بالله فيما افترض عليه ، أو
شفى غيظ بهلاك نفسه ، أو أمر بأمر يعمل بغيره ، أو أستنجح إلى مخلوق بإظهار بدعة
في دينه ، أو سره أن يحمده الناس بما لم يفعل ، والمتجبر المختال وصاحب الأبهة. وعن الحسن بن
محبوب عن حريز قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : اتقوا الله وصونوا أنفسكم بالورع وقووه بالثقة
والاستغناء بالله عن طلب الحوائج الى صاحب سلطان ، واعلم أن من خضع لصاحب سلطان أو
لمن يخالفه على دينه طلبا لما في يديه من دنياه أخمده الله ومقته عليه ووكله إليه
، فإن هو غلب على شيء من دنياه فصار منه إليه شيء نزع الله البركة منه ولم يأجره
على شيء ينفقه في حج ولا عتق ولا بر.
ولنقطع الكلام
على هذا حامدين لله حيث جعلنا من أتباع العترة الطاهرة ، ونسأله أن يمن علينا
بصيانة دينهم وما ينسب إليه عن المشبهة الباطنة والظاهرة ، وأن يجعلهم شفعاءنا في
الدنيا والآخرة والحمد لله.
تمت في سنة
١١٠٩ ه ـ ق
__________________
فهرس
رسالة الفاظل القطيفي
نبذة من حياة الفاضل القطيفي (ره)................................................... ٣
فائدة في حرمة كتمان الفقه والعلم.................................................. ٢١
ذكر الاخبار المتضمنة لفضل الفقهاء................................................ ٢٢
ذكر الحيل الشرعية وبيان الضابطة فيها............................................. ٢٥
الرد على قول المحقق الثاني بأن الأئمة
(ع) قد أذنوا في تناول ذلك من سلاطين الجور حال الغيبة ٣٠
الاستشكال على المحقق الثاني في تقسيمه
للأراضي.................................... ٣٣
نقل عبارة المحقق الكركي في الأنفال
والاستشكال عليها............................... ٣٦
الرد على استدلال المحقق الثاني برواية
أبي بردة........................................ ٤٦
بيان حكم الأرض المفتوحة عنوة وذكر نكت
عليها................................... ٥٧
نقل أقوال الأصحاب في ما إذا غزا قوم
أهل الحرب من دون إذن الامام فغنموا كانت غنيمتهم للامام والتعليق عليها ٦٩
بيان أقسام الأرض المعدودة من الأنفال.............................................. ٧٢
دلالة الاخبار على الأرض الموت.................................................... ٧٤
في تعيين ما فتح عنوة من الأرضين.................................................. ٧٧
المناقشة في أن أرض العراق هل هي مفتوحة
عنوة
أو من الأنفال؟ نهاية تحقيق المصنف في
أن أرض العراق من الأنفال...................... ٧٨
تحقيق الكلام في أرض الشام....................................................... ٩٣
في بيان معنى الخراج............................................................. ١٠١
الاستدلال على حل الخراج بالاخبار............................................... ١٠٤
مناقشة المصنف برواية قبول الحسنين
جوائز معاوية.................................. ١٠٩
الكلام في جوائز الظالم........................................................... ١١٢
مسألة في الرخصة بكفاية ما يأخذه الظالم
عن زكاة................................. ١١٨
فيما يدل على أن ذلك حرام وظلم في
الزكاة....................................... ١١٩
في الجمع بين كون الاخذ غير مستحق وجواز
الابتياع من الظالم...................... ١٢٤
|