

بسم
الله الرحمن الرحيم
مقدمة
المركز
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصلاة
والسلام على نبيّنا الأكرم المبعوث رحمةً للعالمين محمد المصطفى وعلى آله الطيبين
الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
حقوق البشر لافتة عريضة ترفع هنا أو
هناك ، يُزايد عليها المزايدون أحياناً ، ويحاول دعاة المذاهب الاجتماعية اتخاذها
وسيلة لترويج أفكارهم ، واغراء الجماهير للاصطفاف إلى جانب دعواتهم.
لقد أصبحت ( لائحة الحقوق ) محط اهتمام
المؤسسات الدولية ، والمنظمات الإنسانية ، وأضحى الاهتمام والتسابق على أشدّهما
لحشد التأييد ( لمنابرهم ) الفكرية والثقافية.
وكان الإسلام سبّاقاً في تشريعاته وفي
مبادئه وتعاليمه إلى تقرير تلك الحقوق وإيلائها الاهتمام الخاص كما في نصوص القرآن
الكريم ، والسُنّة المطهرة. وكانت سيرة الرسول الأعظم 6 وسيرة أهل بيته الطاهرين : تطبيقاً حيّاً لما شرّعه الإسلام في
هذا المجال ، سواء فيما يتعلّق بحقوق الإنسان فرداً ، أو ضمن المجتمع.
أراد الإسلام للإنسان أن ينعم بالحياة
الوادعة ، ويعرف ما له وما عليه ؛ ليكون في حالة انسجام وتوادّ مع أفراد جنسه ،
كما أراد له أن يعيش موفورَ الكرامة ، محفوظ النفس والعرض والمال لا يتعرض إليه
أحد بسوء أو
بظلم. ولكن قوى
الكفر العالمي والصليبيّة الحاقدة ـ ومن يدور في فلكهماـ حاولت طمس حقائق الإسلام
، والتعتيم على مبادئه الخيّرة ، وخاصةً عنايته بحقوق الإنسان فرداً ومجتمعاً.
ومن هنا تأتي أهمية اظهار حقائق الإسلام
وكشف أباطيل خصومه.
ومركزنا إذ يُصدر هذا الكتاب « الحقوق
الاجتماعية في الإسلام » ضمن سلسلته ، فهو ينطلق من أهدافه الخيّرة في نشر العلم ،
والتعريف بمبادئ الإسلام وحقائقه الناصعة.
ولتحقيق هذا الهدف ، فقد عُني هذا البحث
بتأصيل ذلك من خلال نصوص القرآن الكريم والسُنّة النبويّة المطهّرة وما جاء عن أهل
البيت الطاهرين :
وبخاصة ( رسالة الحقوق ) للإمام زين العابدين علي بن الحسين 8 التي تعدُّ لائحة قانونية ، ووثيقة
تاريخية قيمة.
آملين رفد المكتبة الإسلامية بكلِّ ما
هو نافع ومفيد في حقول المعرفة الإسلامية.
ومن
الله التوفيق
مركز
الرسالة
المقدِّمة
تحتل مسألة حقوق الإنسان ـ يوماً بعد
آخر ـ أهميةً متزايدة في العالَم المعاصر. وقد ظهرت منظمات عالميّة أخذت على
عاتقها الدفاع عن حقوق الإنسان وفق منظورها الخاص ، ووفق أهداف ومصالح الجهات
الممولة لها ، وقد اتخذت قضية حقوق الإنسان في غالب الأحيان سلاحاً سياسياً
تستخدمه الدول المستكبرة ضد الدول الإسلامية التي ترفض الدوران في فلكها والخضوع
لهيمنتها. وأخذت هذه القوى تُسخِّر ـ لهذه الغاية ـ الأقلام المأجورة ، وتستخدم
دور النشر والطباعة لترويج بضاعتها هذه لأغراض تسويقية. كذلك أخذ زعماء وعلماء
الدّيانات المحرّفة ، يستغلون هذه القضية الحساسة خدمةً لأغراضهم التبشيرية ،
ويظهرون دياناتهم بمظهر المدافع الحقيقي عن حقوق الإنسان ، ويصدّرون في كل عام
عشرات الكتب والنشرات التي تظهر اهتمامهم الموهوم بهذه المسألة ، والايحاء بأنّهم
أوّل من نادى بحقوق الإنسان ، وصاغ بنودها.
وللأسف الشديد أنّ الكتب والإصدارات الإسلامية
المؤلفة في هذا الحقل ، من القلّة بحيث لا تتناسب مع تزايد الاهتمام العالمي بحقوق
البشر.
وكمساهمة متواضعة قمنا بهذه الدراسة
المختصرة ، لغرض الإشارة الإجمالية إلى أنَّ مدرسة الإسلام قد سبقت المدارس
الاَُخرى في إيلاء هذه القضية ماتستحق. خصوصاً وإنّ الرَّسول الأكرم 6 قد أعلن عن المساواة بين البشر ـ وهو
حق من أكبر الحقوق الأساسية للإنسان في كلِّ
زمان ومكان ـ وذلك
في خطبته التاريخيّة في حجة الوداع ، قبل أسابيع قليلة من رحيله في السنة العاشرة
للهجرة. أي قبل أكثر من أربعة عشر قرناً !
( عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول
الله 6 في أوسط
أيّام التّشريق خطبة الوداع فقال : « يا أيُّها النّاس إنّ ربّكم واحدٌ ، وإنّ أباكم واحدٌ،
ونبيكم واحدٌ ، ولا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أحمر على أسود
، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى
..
» ) . وعنه
أيضاً : « الناس سواء كاسنان
المشط » .
وبذلك أعلن 6 مبدأ المساواة التامة بين جميع أفراد
النوع الإنساني بصرف النظر عن اللغة واللَّون والجنس ، وهذا المبدأ لم ينبس به أحد
قبل ظهور الإسلام ؛ لأن الناس كانوا يعتدّون بأجناسهم إلى أقصى حدّ ، حتى كبار الفلاسفة
منهم.
ألم يقل افلاطون : اني لاَشكر الله على
ثلاث: أن خلقني إنساناً ولم يخلقني حيواناً ، وأن جعلني يونانياً ولم يجعلني من
جنس آخر ، وأن أوجدني في عهد سقراط
!
بينما نجد العكس تماماً عند أول الناس
اسلاماً الإمام علي 7
، كما جاء في عهده لمالك الأشتر ـ الذي يُعد وثيقة تاريخية في غاية الأهمية ـ : « وأشْعِر قلبك
الرَّحمة للرَّعيَّة .. ولا تكُونَنَّ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنمُ أكلهُمْ ،
__________________
فإنَّهُم
صِنفانِ : إمّا أخٌ لَكَ في الدِّينِ ، أو نَظيرٌ لَكَ في الخَلْقِ
» .
إنّ غاية الإسلام الأساسية هي إقامة
مجتمع سليم ، مبني على أساس العدالة. ويتطلب هذا التوجه ـ بطبيعة الحال ـ الاهتمام
برعاية الحقوق المتبادلة بين أفراد المجتمع.
والملاحظ أن القرآن الكريم في تعبيره عن
أداء حق الغير أو حق الجماعة ، تارة يعبر عنه بطلب الإحسان ، كما في قوله تعالى : ( وأَحْسِن كَما أحْسَنَ اللهُ إليكَ
) ( القصص ٢٨
: ٧٧ ) ، وتارة أُخرى يعبر عنه في صورة أمر آخر كقوله تعالى : ( وَأَوفوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بالقِسْطاسِ
المُسْتَقِيم ذلكَ خيرٌ وَأحسَنُ تَأوِيلاً
) ( الإسراء
١٧ : ٣٥ ) ، وقد يعبر عن ذلك في صورة النهي كقوله تعالى : ( وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطِلِ
وَتُدْلُوا بِها إلى الحُكَّامِ لتأكُلوا فَرِيقاً مِنْ أموالِ النَّاسِ بالاِثمِ
وأنتم تَعْلَمُونَ ) ( البقرة ٢ : ١٨٨ ).
كلّ ذلك من أجل أن يسود العدل ، وتصان
حقوق الآخرين من المصادرة. وبذلك نجد القرآن الكريم قد عُني بالجانب الاجتماعي من
حياة الجماعة ، عناية لا تقل عن عنايته بصلة الفرد بربّه ، ولا يصور الفرد المسلم
إنساناً منعزلاً في خلوة ، أو راهباً في صومعة ، بل يصوره دائماً في جماعة تترتب
عليهم حقوق متبادلة.
وجاء في رسالة الحقوق ، المرّوية عن
الإمام زين العابدين 7
ـ والتي يمكن اعتبارها نموذجاً فذّاً في هذا الشأن ـ ما يكشف لنا بجلاء عن نظرة الإسلام
الشمولية للحقوق التي لا تقتصر على بيان حقوق الإنسان ، بل
__________________
تثبت الحق لغير الإنسان
أيضاً.
كما أشارت هذه الرسالة ـ في البداية ـ
إلى أنّ حقوق الناس ناشئة عن حقوق الله تعالى ، وهو سبحانه قد جعل حقوق عباده
مقدمة على حقوقه.
وقد تناولنا في بحثنا الوجيز هذا ،
الحقوق الآتية في ثلاثة فصول وهي :
الفصل
الأول : ( الحقوق العامة للإنسان ) :
وقد بحثنا فيه : حق الحياة ، وحقَّ الكرامة ، وحق التربية والتعليم ، وحق التفكير
، وحق التعبير ، وحق التمتع بالأمن ، وحق حرية الاعتقاد ، وحق المساواة ، وحق
الإقامة والسكن والهجرة ، وأيضاً حق التمتع بالعدل.
الفصل
الثاني : ( الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة القانونية ) :
واشتمل البحث فيه على : حق اليتيم ، وحق الأسير ، وحقوق الفقراء والمساكين.
الفصل
الثالث : ( الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة الاخلاقية ) :
واشتمل هذا الفصل على : حق المعلّم والمتعلّم ، وحقّ الأخ والصديق ، وحق الجليس ،
وحق الناصح والمستنصح ، ثم تناولنا حق الجوار بصورة أكثر تفصيلاً ؛ لأهميته الاجتماعية.
ثم جعلنا محور البحث يدور على الحقوق
العائلية ، التي تحظى بأهمية اجتماعية كبيرة ، باعتبار الاَسرة هي اللَّبنة
الأساسية في البناء الاجتماعي. وقسّمنا هذه الحقوق على ثلاثة أقسام :
حق الأبوين.
حق الأولاد.
الحقوق
المتبادلة بين الزوجين.
ولابدّ من الإشارة إلى أننا قد اتّبعنا
في هذه الدِّراسة المنهج ( النقلي ) الذي يعتمد على النصوص الدينية من آيات
وروايات وبالأخص ما ورد عن أهل بيت الرسول الأعظم :
لكونهم الثقل الثاني الذي أوصى نبينا محمد 6
التمسك به.
ومن
الله نستمد العون والتسديد.
الفصل الأول
الحقوق العامة
المبحث الأول
أنواع الحقوق العامة
هناك مجموعة من الحقوق العامة تتعلق
بحقّ الفرد كإنسان يؤكد الإسلام على مراعاتها ، ما لم تتصادم بحق أو حقوق أُخرى ،
وهي على أنواع ، نذكر أهمها ، وهي :
أولاً
: حق الحياة :
وهو من أكثر الحقوق طبيعيّة وأولويّة ،
قال تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم إنَّ الله
كان بكم رحيماً ) ( النساء ٤ : ٢٩ ) ، وقال تعالى : ( من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل
الناس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعاً
) ( المائدة ٥
: ٣٢ ).
والإسلام يراعي حق الحياة منذ بدء ظهور
النطفة وهي مادة الخلقة ، فلا يبيح الشرع المقدس قتلها ، ومن فعل ذلك ترتب عليه
جزاء مادي.. فعن اسحاق بن عمّار ، قال : قلت لأبي الحسن 7 : المرأة تخاف الحبل فتشرب الدّواء
فتلقي ما في بطنها ؟ قال : « لا
» ، فقلت : إنَّما هو نطفة ! فقال : « إن أوَّل ما يُخلق نطفة
» .
__________________
وعليه ، فقد احتل هذا الحق مكانةً مهمة
في مدرسة أهل البيت :
، يبدو ذلك جلياً لمن يطّلع على الروايات الواردة في باب القصاص في المجاميع
الحديثية ، وسوف يجد نظرة أرحب وأعمق لهذا الحق ، معتبرةً أن كل تسبيب أو مباشرة
في قتل نطفة ، أو إزهاق نفس محترمة ، أو إراقة الدِّماء ، يعد انتهاكاً لحق الإنسان
في الحياة ، ويستلزم ذلك عقوبة في الدنيا وعاقبة وخيمة يوم الجزاء.
ومن الشواهد النقلية الدالة على حرمة
التسبيب في ذلك ، ما رواه محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر 7 ، قال : « إنَّ الرَّجل ليأتي يوم
القيامة ومعه قدر محجمة من دم ، فيقول : والله ما قتلت ولا شركت في دم ، فيقال :
بلى ذكرت عبدي فلاناً ، فترقى ذلك
حتى قُتل ، فأصابك
من دمه » .
كما وردت روايات في حرمة الانتحار مفادها : ان المؤمن يبتلى بكل بلية ويموت بكل
ميتة إلاّ أنّه لا يقتل نفسه. ومن يقتل نفسه متعمداً فهو في نار جهنم خالداً فيها.
وفي هذا الاطار هناك من أُصيب بقصر
النظر ، أو بعمى في البصيرة ، يطعن ويشكك في التزام شيعة أهل البيت : بمبدأ التقية ، ويجهل أو يتجاهل الحكمة
العميقة من وراء تبني هذا المبدأ والمتمثلة اساساً في الحيلولة دون إراقة
الدِّماء. يقول المحقق الحلي : اذا اكرهه على القتل ، فالقصاص على المباشر دون
الآخر. وفي رواية علي بن رئاب ، يحبس
__________________
الآمر بقتله حتى
يموت ، هذا اذا كان المقهور بالغاً عاقلاً .
فللتقية حدود وشروط يجب ان تقف عندها ،
وخصوصاً إذا وصل الأمر إلى حد يعرّض حياة الآخرين إلى الخطر. وفي الحديث : « إنما جعلت التقية ليحقن بها
الدمُ ، فاذا بلغ الدَّم فليس تقية
» .
ثانياً
: حق الكرامة :
إهتم الإسلام ـ أيضاً ـ بحق آخر لا يقلُ
أهمية عن حق الحياة ألا وهو حق الكرامة.
ويراد بالكرامة : امتلاك الإنسان بما هو
إنسان للشرف والعزّة والتوقير. فلا يجوز انتهاك حرمته وامتهان كرامته ، فالإنسان
مخلوق مُكرَّم ، قد فضله الله تعالى على كثير من خلقه.. ( ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر
ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممَّن خلقنا تفضيلاً
) ( الإسراء
١٧ : ٧٠ ) ، وهي كرامة طبيعية متّع الله تعالى كل أفراد الإنسان بها. وهناك كرامة
إلـهية تختص بمن اتقى الله تعالى حق تقاته : (
يا أيُّها الناس
إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله
أتقاكمً )
( الحجرات ٤٩ : ١٣ ).
وكان أئمة أهل البيت : يراعون كرامة الناس من أن تمس ، حتى
انهم طلبوا من أرباب الحوائج أن يكتبوا حوائجهم حرصاً على صون ماء وجوههم. وهناك
رواية نبوية تتحدث عن كرامة الإنسان التي لا يجوز
__________________
المساس بها عن طريق
سَّبّه أو تقبيح وجهه ، وما إلى ذلك. ولكن هذه الرواية حُرّفت بحذف أولها ، فتغيرت
دلالتها إلى ما فيه التجسيم لله تعالى ، وان كان ظاهرها يتضمن معاني التكريم للإنسان.
لقد سعى الإمام علي بن موسى الرضا 7 إلى قشع العتمة التي تُخيم على عقول
بعض الناس وواجه السذاجة الفكرية وفضح التحريف الذي يحصل في المنابع المعرفية.
ينقل المحدّث القمي : عن الحسين بن خالد
، قال : قلت للرِّضا 7
: يا بن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله 6
قال : إن الله خلق آدم على صورته ! فقال : «قاتلهم الله ، لقد حذفوا أول الحديث ؛
إنَّ رسول الله 6
مرَّ برجلين يتسابان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك ،
فقال : يا عبد الله لا تقل هذا لاَخيك ، فانَّ الله عزَّ وجلّ خلق آدم على صورته» .
ولعلّ من هذا الباب نهي الإمام علي 7 عن أن يسيء ذووه معاملة قاتله ابن ملجم
، أو يمثل به بعد اجراء حكم الله فيه ، بقوله : « .. ولا يُمثّلَ بالرَّجل ،
فانِّي سمعتُ رسول الله 6
يقول : إيَّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور » .
ثالثاً
: حق التعليم :
إنَّ العلم حياة للنفس الإنسانية ، وحرمانها
منه يعني انتقاص وامتهان
__________________
كرامتها. ومما يؤكد
حق التعلم والتعليم في الإسلام مافعله النبي 6
بأسرى بدر ، إذ جعل فدية الأسير تعليم عشرة من أبناء المسلمين.
وقد أشار الإمام علي 7 إلى حق التعلم والتعليم في معرض تفسيره
لقوله تعالى : (
وإذ أخذَ اللهُ
ميثاق الذينَ أُوتوا الكِتابَ لتُبينُنَّهُ للنَّاس ولا تكتُمونَهُ فنبذوهُ وراءَ
ظُهورهم ... )
( آل عمران ٣ : ١٨٧ ).
فقال : « ما أخذ الله ميثاقاً من أهل الجهل بطلب تبيان العلم ،
حتّى أخذ ميثاقاً من أهل العلم ببيان العلم للجهّال
» .
وقال الإمام الصادق 7 في هذا الصَّدد : « إن العالم الكاتم
علمه يُبْعَث أنتن أهل القيامة ريحاً ، تلعنه كلّ دابّة حتى دوابّ الأرض الصغار » .
مما تقدم ، يمكن القول ان الأئمة : يرفضون مبدئياً احتكار العلم ، ويؤكدون
ضرورة بذله لطالبيه. أما في وقتنا الحاضر فتقوم دول ومؤسسات تدّعي التحضر باحتكار
العلم وحجبه عن الآخرين أو المتاجرة ببيعه بأغلى الاثمان أو استخدامه كسلاح سياسي
لتحقيق مآرب خاصة. والحال ان العلم هبة إلهية ونعمة شرَّف الله تعالى بها الإنسان
على باقي المخلوقات ، وقد أوجب الله تعالى على العلم زكاة ، وزكاته نشره. وقد بين
الإمام السجاد 7
في رسالة الحقوق ، حق المتعلم على المعلّم بقوله :
« أمّا حق رعيّتك بالعلم ، فأنْ تعلم أنّ الله عزّ وجلّ إنّما
جعلك قيّماً لهم
__________________
فيما
آتاك الله من العلم ، وفتح لك من خزائنه ، فإن أحسنت في تعليم النّاس ولم تخرق بهم
ولم تضجر عليهم ، زادك الله من فضله ، وإن أنت منعت النّاس علمك وخرقت بهم عند
طلبهم العلم ، كان حقّاً على الله عزّ وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ، ويسقط من
القلوب محلّك » .
وبالمقابل حدّد حق المعلّم على المتعلم
بقوله : « حق سائسك بالعلم
التّعظيم له ، والتوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والإقبال عليه ، وأن لا
ترفع عليه صوتك ، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يُجيب ، ولا
تُحدّث في مجلسه أحداً ، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذُكر بسوء ، وأن
تستر عيوبه ، وتظهر مناقبه ، ولا تجالس له عدوّاً ، ولا تعادي له وليّاً ، فإذا
فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للنّاس
» .
رابعاً
: حق التفكير والتعبير :
لا يخفى بأنّ الإسلام جعل التفكير فريضة
إسلامية. ومن يتدبر القرآن الكريم ، يجد آيات قد بلغت العشرات ، تأمر بالتفكر
والتعقل في الانفُس والآفاق ، فلم يضع الإسلام القيود أمام حركة الفكر السليم الذي
ينشد الحقيقة ، ويُثير الشك كمقدمة للوصول إلى اليقين. وقد أطلق النبي الأكرم 6 الفكر من عقال الجاهلية وجعله يتجاوز
المحسوس بانطلاقه إلى عوالم الغيب إلى مال لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.
ولقد آمنت مدرسة أهل البيت : بحرية التفكير والتعبير ؛ لغرض
__________________
الوصول إلى الحق
والحقيقة ، حيث عقدوا المناظرات مع الخصوم ، وشكّلوا الحلقات التي برّزت آراءهم في
شتى المجالات. فعلى سبيل المثال قام الإمامان الباقر والصادق 8 ، بدور فكري بارز في النصف الأول من
القرن الثاني الهجري ، وكانت فترة استقرار نسبي وانفتاح ثقافي ، فعقدوا المناظرات
مع العلمانيين من ملاحدة وزنادقة وكذلك مع علماء المذاهب الإسلامية.
ولعل من أجلى الشواهد على إيمان الأئمة : بحق التفكير والتعبير ، هو مناظراتهم
مع الخوارج الذين كانوا من أشد الفرق عداءاً للإمام علي 7 وأهل بيته الأطهار ، وقد شكّل الخوارج
تياراً فكرياً وسياسياً معارضاً. فقد حاججهم الإمام علي 7 بنفسه قبل معركة النهروان عندما أطلقوا
مقولتهم المعروفة : ( لا حكم إلا لله ) ، فقد أقرَّ الإمام علي 7 بأنها كلمة حق ولكن أريد منها الباطل
وطمس الحقيقة المتمثلة بأن علياً 7
إمام حق. ولقد منحهم الإمام حرية التعبير عمّا في ضمائرهم ما لم يؤدِ ذلك إلى
إراقة الدماء ، وحينئذ يسقطون حقهم الطبيعي بالتعبير لاحتكامهم إلى السيف والعنف.
والملاحظ ان الأئمة : واجهوا خصومهم باسلوب الحوار العقلاني
، وتكلموا معهم بالتي هي أحسن ، ولكن خصومهم كانوا يستعملون اسلوباً يغلب عليه
طابع التحدي. ينقل المؤرخ محمد بن جرير الطبري ( ت / ٣١٠ ه ) : ( إنّ عليّاً لما
دخل الكوفة دخلها ومعه كثير من الخوارج ، وتخلّف منهم بالنّخيلة وغيرها خلق كثير
لم يدخلوها ، فدخل حرقوص ابن زهير السّعدي وزرعة ابن البرج الطائي ـ وهما من رؤوس
الخوارج ـ على عليّ 7
، فقال له حرقوص : تُب من خطيئتك ، واخرج بنا إلى
معاوية نجاهده ، فقال له عليّ 7
: « إني كنت نهيتكم عن
الحكومة فأبيتم ، ثم الآن تجعلونها ذنباً
» !
فقال زرعة : أما والله لئن لم تتب من
تحكيمك الرّجال لأقتلنّك ، أطلب بذلك وجه الله ورضوانه !! فقال له عليّ 7 : « بؤساً لك ما أشقاك ! كأنّي بك قتيلاً تسفي عليك
الرّياح » ! قال زرعة : وددت أنّه كان ذلك .
وبعد ذلك اغلق الخوارج باب الحوار فقتلوا
( عبدالله بن خبّاب ) وكان يحمل مصحفاً في عنقه !. وعندئذٍ اضطُر الإمام علي 7 إلى استخدام القوة معهم ، لمروقهم عن
الحق.
خامساً
: حق التمتع بالأمن :
لكلِّ إنسان سوي حق طبيعي في التمتع
بالأمن ، فلا يجوز لأي كان تعكير صفو حياته ، وجعله أسير الحزن والأسى من خلال
التهديد والوعيد بالاعتداء على حياته أو عرضه أو ماله.
ويتأكد حق الأمان إذا أمّن الإنسان
إنساناً آخر بموجب ميثاق أو عهد ، وقد أوجب القرآن الكريم على المسلمين احترام
مواثيق الأمان حتى مع الكافرين كما في قوله تعالى : (
... فإن تولّوا
فخُذُوهم واقتُلُوهُم حيثُ وجدتُّموهُم ولا تَتَّخذُوا مِنُهم وليّاً ولا نصيراً * إلاَّ الَّذينَ يصلُونَ إلى
قوم بينكُمْ وبينَهُم ميثاقٌ .. ) ( النساء ٤ : ٨٩ ـ ٩٠ ).
والنبي الأكرم 6 دعا إلى رعاية هذا الحق الإنساني العام
وقال في
__________________
هذا السياق : « من قتل معاهداً لم ير رائحة
الجنَّة ، وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً
» .
وفي حديث آخر قال 6 : « .. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم ، يسعى بذّمتهم أدناهم ،
وهم يدٌ على سواهم » .
وقد سُئل الإمام الصادق 7 عن معنى قوله 6 : « يسعى بذّمتهم أدناهم
» فقال : « لو أن جيشاً من
المسلمين حاصروا قوماً من المشركين ، فأشرف رجلٌ منهم ، فقال : أعطوني الأمان حتى
ألقى صاحبكم أناظره ، فأعطاه أدناهم الأمان ، وجب على أفضلهم الوفاء به
» .
وقد أكد الإمام علي 7 هذا التوجه النبوي ، وضمنه عهده
المعروف لمالك الأشتر ، وجاء فيه : « .. وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة ، أو ألبسته منك ذِمَّة
، فَحُطْ عَهدَكَ بالوفاءِ ، وارع ذِمَّتكَ بالأمانةِ
.. » .
إنّ الإسلام وفّر ـ في الواقع ـ الأمان في
مجتمعه وهيأ فيه أجواء الاطمئنان للمعاهدين ، وأوجب الوفاء بعهدهم إلى المدّة
المتفق عليها والقابلة للتمديد ، كما وفّره أيضاً للذميين المقيمين في ظل الحكومة
الاسلامية من أهل الكتاب ، ولم يُجز التجاوز عليهم بكلمة سوء ، أو بغصب مالٍ ، أو
إزهاق نفس ، ومن فعل ذلك فقد ضيّع ذمَّة الله وذمة رسوله 6.
__________________
سادساً
: حق الاعتقاد :
ونقصد من ذلك : إنّ الإسلام لا يجبر
أحداً على اعتناقه ، فلا توجد في القرآن الكريم آية ولا في السُنّة النبوية روايةً
تدل على جواز حمل أصحاب الاديان الاَُخرى على تركها والدخول في دين الإسلام بالجبر
والقهر ، وفرض العقيدة الحقّة بالقوة ، بل انّ قوله تعالى ( لا إكراه في الدِّين قد تَّبيَّن الرُّشْدُ من الغَيّ
.. ) ( البقرة ٢
: ٢٥٦ ) ، دليل واضح على المنع من ذلك.
ومن هنا يظهر وهن الشبهة الغربية
القائلة : إن الإسلام دين انتشر بالسيف !!
كيف ، ولم يجبر المسلمون أحداً من أهل
الكتاب على اعتناق عقيدتهم ؟ والقرآن يدعو المسلمين إلى محاورتهم بالتي هي أحسن.
لقد سلك الأئمة الاطهار : هذا المسلك وفتحوا حواراً مع الزنادقة والملحدين
وأهل الكتاب ، ودافعوا عن العقيدة وأصول الإسلام بالحجة الدامغة والمنطق الرَّصين
، وكشاهد تاريخي على ذلك : احتجاج الإمام محمد الباقر 7 على عبدالله بن معمر الليثي في المتعة
، فقد ورد في كشف الغمة عن الآبي في كتاب نثر الدرر : ان الليثي قال لأبي جعفر 7 : بلغني انك تفتي في المتعة ؟ فقال 7 : « أحلّها الله في كتابه ، وسنّها رسول الله 6 ،
وعمل بها أصحابه ». فقال عبدالله
الليثي : فقد نهى عنها عمر ، قال 7
: « فأنت على قول
صاحبك ، وأنا على قول رسول الله
6 » ، قال
عبدالله : فيسرك ان نساءك فعلن ذلك ؟ قال أبو جعفر 7
« وما ذكر النساء
يا
أنوك ؟ إن الذي أحلّها في كتابه
وأباحها لعباده أغير منك وممن نهى عنها تكلفاً ، بل ويسرك ان بعض حرمك تحت حائك من
حاكة يثرب نكاحاً » ؟ ، قال الليثي :
لا ، قال 7 « فلمَ تحرّم ما أحلّ الله
» ؟! قال : لا أحرم ، ولكن الحائك ما هو لي بكفو. قال 7 « فإنَّ الله ارتضى عمله ، ورغب فيه ، وزوجه حوراً ،
أفترغب عمن رغب الله فيه ، وتستنكف ممن هو كفو لحور العين كبراً وعتواً
» ؟ فضحك عبدالله ، وقال : ما أحسب صدوركم إلاّ منابت أشجار العلم ، فصار لكم ثمره
وللناس ورقه .
سابعاً
: حق المساواة وحق التمتع بالعدل :
لقد أعلن القرآن الكريم ان الناس
متساوون جميعاً في أصل الخلقة ، قال تعالى : (
يا أيُّها
النَّاسُ إنَّا خلقناكُم من ذكرٍ وأُنثى وجعلناكُم شُعُوباً وقبائلَ لتعارفوا إنَّ
أكرمكُم عند الله أتقاكُم .. ) ( الحجرات ٤٩ : ١٣ ) فقضى بذلك على
عبودية البشر للبشر ، واعتبرهم جميعاً مخلوقات لله تعالى ، وبذلك وضع صمّام الأمان
على كل نزعةٍ نحو الطغيان على أساس العرق أو اللّون أو اللِّسان. وأوجد شعوراً
بالمساواة بين الحاكم والمحكوم ، والغني والفقير ، وبين القوي والضعيف ، وأصبح
مقياس الكرامة والفضل : التقوى والعمل الصالح.
إنّ الاعتقاد بمساواة البشر شرط لابدَّ
منه لقيام العدل الذي جعله القرآن الكريم غاية النبوات ، قال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب
والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ( الحديد ٥٧ : ٢٥ ) ، وكيف
__________________
يقام العدل بين
الجماعات إذا كانوا يعتقدون أنهم طبقات متمايزة أو أُسر متفاضلة ؟ وقد مرَّ أنّ
النبي 6 كان أول من
أعلن مبدأ المساواة في حجة الوداع ، وكان يساوي بين المسلمين في العطاء.
ولقد سار الإمام علي 7 ـ عندما استلم دفة الخلافة ـ على خطى
المنهج النبوي ، فساوى بين الناس في التعامل وفي العطاء ، وكان يأخذ كأحدهم ،
وقصته مع أخيه عقيل مشهورة حين طلب منه زيادة في عطائه ، فقال له : « إصبر حتى يخرج عطائي
» فلم يقبل ، فأبى أن يعطيه أكثر من عطائه. وبلغ من تمسكه بهذا الحق حدّاً ، بحيث
أنه وجد في مال جاءه من اصفهان رغيفاً فقسمه سبعة أجزاء كما قسم بيت المال ، وجعل
على كل جزء جزاً .
__________________
المبحث الثاني
الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة
القانونية
وضع الإسلام في دائرة اهتماماته حقوق
الضعفاء من الناس الذين لا يمتلكون حولاً ولا قوة :
كاليتيم الذي لم يبلغ الحلم ، وفقد
والديه ، أو أحدهما.
والأسير الذي وقع في الاَسر وليس له من
الأمر شيء ، فيكون تحت رحمة آسريه.
والفقير الذي لا يملك قوت سنته.
والمسكين الذي أسكنه الفقر والفاقة. كلّ
هؤلاء وضعهم الإسلام في دائرة اهتمامه وأوجب رعاية حقوقهم.
لقد وجه القرآن الكريم سهام نقده
للمجتمع الجاهلي ؛ لاستضعافه اليتيم وعدم إكرامه ، والاعتداء على أمواله ، قال
تعالى : ( ... كلا بل لا تُكرمون اليتيم
) ( الفجر ٨٩
: ١٧ ) ، وفي آية أُخرى نجد الوعيد الشديد للذين يعتدون على أموال اليتامى ظلماً
وعدواناً ، قال تعالى : (
إن الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلماً إنَّما يأكُلون في بُطونهم ناراً وسيصلون سعيراً
) ( النساء ٤
: ١٠ ).
ومما لا شك فيه ان عدم العناية بالايتام
سوف يولّد في نفوسهم عُقداً قد تترك آثاراً تدميرية على المجتمع ، ولأجل ذلك نجد
اهتمام الإمام علي 7
قد انصبَّ على الأيتام ، بحيث ضمّن وصيته قبل الموت فقرةً يقول فيها : « الله الله في الأيتام فلا
تغبّو أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم ، فقد سمعت رسول الله 6
يقول : من عال يتيماً حتّى يستغني أوجب الله عزّ وجل له بذلك الجنة كما أوجب لآكل
مال اليتيم النار » . فعن عبيد بن زرارة ، قال : سألتُ أبا
عبدالله 7 عن الكبائر
، فقال : « منها أكل مال
اليتيم ظلماً » .
ومن جانب آخر أوجب الإسلام للأسير
حقوقاً كالإطعام والإحسان اليه ، وان كان يراد من الغد قتله. وأنَّ علياً 7 كان يطعم من خُلِّد في السّجن من بيت
مال المسلمين .
ولما ضربه اللَّعين ابن ملجم المرادي ، أوصى الحسن والحسين 8 : ان يطعموه ويسقوه ويُحسنوا إساره .
وتجدر الاشارة إلى أنَّ الآية الكريمة :
( ويطعمون الطعام على حبّه
مسكيناً ويتيماً وأسيراً .. ) ( الإنسان ٧٦ : ٨ ). قد نزلت في حقّ
أهل البيت : : كان عند
فاطمة 3 شعير فجعلوه
عصيدة ، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم ، جاء مسكين ، فقال المسكين: رحمكم الله
، فقام علي 7 فأعطاه
ثلثاً ، فلم يلبث أن جاء يتيم ، فقال اليتيم : رحمكم الله ،
__________________
فقام علي 7 فأعطاه الثلث ، ثم جاء أسير ، فقال
الاسير : رحمكم الله ، فأعطاه علي 7
الثلث وما ذاقوها ، فأنزل الله تعالى الآية .
وتذهب مدرسة أهل البيت بعيداً في رعاية
حقوق الضعفاء ، فزيادة على توصياتها بضرورة إعطائهم الحقوق المالية التي منحها
الله تعالى لهم ، تدعو إلى الأخذ بنظر الاعتبار حقوقهم المعنوية ، كحقّهم في
الاحترام والتوقير ، ولا يخفى ان تحقير الفقير والأسير وكذلك اليتيم سوف يشعرهم
بالدّونية ، يولّد في أعماق نفوسهم مشاعر الحزن والأسى ، ويدفعهم ذلك إلى الانتقام
آجلاً أو عاجلاً.
وإدراكاً من الأئمة : للعواقب المترتبة على الإساءة إلى
كرامة الضعفاء ، جهدوا على استئصال كل ما من شأنه المس بكرامتهم ، واستعملوا
الوازع الديني كوسيلة أساسية ، من خلال التذكير بسخط الله تعالى وغضبه على كل من
انتقص من الضعيف وطعن في كرامته ، قال أمير المؤمنين 7
موصياً : « لا تحقّروا ضعفاء
إخوانكم ، فإنه من احتقر مؤمناً لم يجمع الله عزّ وجل بينهما في الجنّة إلاّ أن
يتوب »
، وقال الإمام الصادق 7
: « من حقّر مؤمناً
مسكيناً ، لم يزل الله حاقراً ماقتاً عليه حتى يرجع عن محقرته إيّاه
» ، وقال 7 : « من لقي فقيراً مُسلماً فسلَّم عليه خلاف سلامه على
الغنيّ ، لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان
» .
__________________
المبحث الثالث
الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة الأخلاقية
أولاً
: حق المعلِّم أو الاستاذ :
أوجب الإسلام لمن يعلِّم الناس حقاً
عظيماً يتناسب مع عظمة العلم والمعرفة ، وقد نقل لنا القرآن الكريم رغبة موسى 7 ـ وهو من أولي العزم ـ في طلب العلم ،
وكيف صَمّمَ على بلوغ هذا الهدف السامي مهما كانت العوائق ومهما بعد المكان وطال
الزمان ، عندما قال : (
.. لآ أبرَحُ حتى
أبلُغَ مجمعَ البحرينِ أو أمضِيَ حُقُباً
) ( الكهف ١٨
: ٦٠ ) ، ولما وجد العبد الصالح وضع نفسه موضع المتعلم ، وأعطى لاستاذه حق قيادته
وإرشاده ، قائلاً له : (
هل أتَّبِعُكَ على
أن تُعلّمنِ ممَّا عُلّمت رُشداً
) ( الكهف ١٨
: ٦٦ ) ، فإذا نَبهه إلى أمر تنبّه ، وإذا انكشف له الخطأ سارع إلى الاعتذار من
استاذه ووعده بالطاعة ، وأعطى بذلك درساً بليغاً في أدب المتعلم مع المعلّم.
وكان النبي الأكرم 6 يصرح بانه بُعث معلّماً ، ودعا في
أحاديث عديدة إلى مراعاة حق العلم والمعلِّم. وتناولت مدرسة أهل البيت :
حقوق المعلم والمتعلم معاً بشيء من
التفصيل وحثت على إكرام المعلم وتبجيله ، لكونه مربّي الأجيال.
تمعّن في هذه السطور التي سطرها يراع
زين العابدين 7
في رسالة الحقوق ، بعبارات تحمل معاني التقدير والعرفان بالجميل ، فيقول : « حق سائسك بالعلم : التعظيم له
، والتّوقير لمجلسه ، وحسن الاستماع إليه ، والاقبال عليه ، وأن لا ترفع عليه صوتك
، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتّى يكون هو الذي يجيب ، ولا تحدّث في مجلسه أحداً
، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء ، وأن تستر عيوبه ،
وتظهر مناقبه ، ولا تجالس له عدوّاً ، ولا تعادي له وليّاً ، فإذا فعلت ذلك شهد لك
ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله جلّ اسمه لا للنّاس
» .
وانطلاقاً من حرص الإسلام الدائم على
انسياب حركة العلم ، وعدم وضع العقبات أمام تقدمه وانتشاره ، طلب من المعلم أن يضع
نصب عينه حقوق المتعلّم ، فيسعى إلى ترصين علمه ، واختيار أفضل السُّبل لإيصال
مادته العلمية ، ولا يُنفّر تلاميذه بسوء عشرته.
ومن المعلوم أن الأئمة : قد اضطلعوا بوظيفة التربية والتعليم
واعطوا القدوة الحسنة في هذا المجال ، وخلّفوا تراثاً علمياً يمثل هدىً ونوراً
للاجيال. فمن حيث الكفاءة العلمية فهم أهل بيت العصمة ، ومعادن العلم والحكمة ،
ومن حيث التعامل الأخلاقي فهم في القمّة ، بدليل أنّ الطلاّب يقصدونهم من كلِّ حدب
وصوب ، ويسكنون لهم كما يسكن الطير إلى عشّه. وكان الإمام الصادق 7 يشكّل الاُنموذج للمعلم
__________________
الناجح الذي يقدّر
العلم حقّ قدره ، وقد جمع إلى علميته الفذّة أخلاقية عالية. قال الحسن بن زياد :
سمعتُ أبا حنيفة وقد سُئل عن أفقه من رأيت ، قال : جعفر بن محمد. وقال ابن ابي
ليلى : ما كنتُ تاركاً قولاً قلته أو قضاءً قضيته لقول أحد إلاّ رجلاً واحداً هو
جعفر بن محمد .
وقال فيه مالك بن أنس ـ أحد أئمة المذاهب الاربعة ـ : كنت أرى جعفر بن محمد. وكان
كثير الدعابة والتبسم. فإذا ذكر عنده النبي 6
اخضرَّ واصفرَّ ..
، وقال مالك أيضاً : ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وورعاً .. . ثم أشاد بزهده وفضله. وعلى الرغم من
كونه يمتاز بشخصية محببة كانت له هيبة وجلالة في قلوب الناس.
روى أبو نعيم في الحلية بسنده عن عمرو
بن المقدام ، قال : كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنّه من سلالة النبيين .
ثانياً
: حق الأخ :
الإسلام دين التآخي والتآلف ، يُقدم
المثل الصالح في نسج علاقات تقوم على الاُخوّة الصادقة. ويعتبر المقياس الصحيح
للاُخوّة هو ذاك المستند إلى الحقوق المتقابلة. فكل إخلال بها سوف ينعكس سلبا على
رابطة الإخاء ويحقق علاقة غير سليمة بين الطرفين ، بل مشحونة بروح العداء وتؤدي
إلى القطيعة والجفاء. وضرب لنا الرسول الأكرم 6
المثل
__________________
الاعلى في مراعاة
حقّ الإخوان ، كان إذا فقد الرّجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه ، فإن كان غائباً
دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده . ولأخيه الإمام علي 7 توصية ذهبية في هذا المجال ، يقول فيها
7 : « لا تُضيّعنّ حقّ أخيك اتكالاً
على ما بينك وبينَهُ ، فإنَّهُ ليسَ لك بأخٍ مَنْ أضعت حقَّهُ
» . وللاَخ
أيضاً حق الإكرام ، فمن أكرمه حصل على رضا الله تعالى ، وينبغي قضاء حاجته وعدم
تكليفه الطلب عند معرفتها ، ويتوجب المسارعة إلى قضائها. فقضاء حقوق الإخوان أشرف
أعمال المتقين.
وبلغ السمو السلوكي لأهل العصمة ، في
تقدير حق الأخوّة ، درجة بحيث أن الإمام الباقر 7
سأل يوماً أحد أصحابه ـ سعيد بن الحسن ـ قائلاً : « أيجيء أحدكم إلى أخيه ، فيدخل
يده في كيسه ، فيأخذ حاجته فلا يدفعه ؟ » فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال أبو جعفر
7 : « فلا شيء
إذاً » ، قلت : فالهلاك إذاً ، فقال : « إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد » .
وقدم لنا أهل بيت العصمة مقاييس معنوية
نحدد من خلالها مدى تعظيم الاشخاص لدين الله تعالى ، ومدى قربهم وبعدهم عنه ، ومن
هذه المقاييس حق الاخوان ، قال الإمام الصادق 7
: « من عظّم دين الله عظّم حق إخوانه ، ومن استخفَّ بدينه استخفَّ بإخوانه » ، وعن الإمام العسكري 7 : « وأعرف النّاس بحقوق إخوانه ،
وأشدّهم قضاءً لها ،
__________________
أعظمهم
عند الله شأناً » .
ثالثاً
: حق الجليس :
إنَّ للجلوس آداباً وأحكاماً ، وللجليس
حقوقاً وعليه التزامات. ولما كان الإنسان يتأثر بجليسه سلباً أو ايجاباً ، ويكتسب
من أخلاقه ، ويكون وسطاً ناقلاً لآراءه ، إهتم الإسلام بموضوع الجليس ، فقد روي عن
الإمام علي 7 انه كان
يقول : « جليس الخير نعمة ، وجليس الشرّ نقمة » .
وعلى العموم توصي مدرسة أهل البيت : بمجالسة العلماء ، ومزاحمتهم بالرّكب ،
ومجالسة الحلماء لكي يزداد الإنسان حلماً ، ومجالسة الأبرار الذين إذا فعلت خيراً
حمدوك ، وإنْ أخطأت لم يعنّفوك ، وكذلك مجالسة الحكماء ؛ لما فيها من حياة للعقول
، وشفاء للنّفوس. وأيضاً مجالسة الفقراء ؛ لكي يزداد الإنسان شكراً. كما نجد نهياً
عن مجالسة الأغنياء الذين أطغاهم الغنى فأصبحوا أمواتاً وهم أحياء ، ونهياً عن
مجالسة الجهلاء ، وأهل البدع والأهواء ، وضرورة الفرار منهم كما يُفر من المجذوم.
ومن الطبيعي أن للجليس الصالح حقوقاً ،
يغلب عليها الطابع المعنوي ، وهي عبارة عن آداب العشرة الحسنة معه ، أدرجها الإمام
السجاد 7 في رسالة
الحقوق وهي : « وحقّ جليسك أن تلين له جانبك ، وتنصفه في مجاراة اللفظ ، ولا تقوم
من مجلسك إلاّ بإذنه ، ومن تجلس إليه يجوز له القيام عنك بغير اذنك ، وتنس زلاّته
، وتحفظ خيراته ،
__________________
ولاتسمعه إلاّ خيراً
» .
رابعاً
: حق الناصح والمستنصح :
ما من إنسان إلاّ ويأتي عليه زمان يلتمس
فيه النصح والإرشاد للخروج من مشكلةٍ وقع فيها ، أو لمشروع يعتزم القيام به ،
وعندما يقدّم إليه أحدٌ نصيحة مخلصة ، يُفتح له باب المخرج أو تُكسر له حلقة الضيق
، فيمتلىء قلبه غبطةً وابتهاجاً.
والإسلام دين التناصح والتشاور ، يعتبر
الدّين النصيحة ، ويشجع على بذلها. والبعض من الاَفراد يتحاشى النصيحة ، خوفاً من
إغضاب إخوانه ، وخاصة أولئك الذين يسدّون آذانهم عن الآراء والنصائح التي لا تتفق
ـ عاجلاً ـ مع مصالحهم وأهوائهم. هذا الموقف ترفضه تعاليم أهل البيت : ، يقول الإمام علي 7 في كلماته الوعظية للحسن 7 : « أمحَضْ أخاك النَّصيحة ، حسنةً كانت أو قبيحة
» ، ويقول 7 : « ما أخلصَ المودّةَ مَنْ لم ينصح
» . والإسلام
يرى أن أفضل الاعمال ـ التي توجب القرب من الحضرة الإلهية ـ : النصح لله في خلقه.
وقد أشار الإمام زين العابدين 7 لهذين الحقّين المتقابلين بقوله :
« حقّ المستنصح : أن تؤدّي إليه
النّصيحة ، وليكن مذهبك الرّحمة له ، والرّفق به.
__________________
وحقُّ النّاصح : أن تلين له جناحك
وتُصغي إليه بسمعك ، فإن أتى بالصّواب حمدتَ الله عزّ وجلّ ، وإن لم يوافق رحمته ،
ولم تتّهمه ، وعلمت أنَّه أخطأ ، ولم تؤاخذه بذلك إلاّ أن يكون مستحقاً للتّهمة ،
فلا تعبأ بشيء من أمره على حال » .
__________________
المبحث الرابع
حقوق الجِوار
رابطة الجوار لها دورها العظيم في بناء
الحياة الاجتماعية بناءً سليماً ؛ لأنّها تعد بالمرتبة الثانية في النسيج
الاجتماعي بعد رابطة الأسرة ، ولهذا نجد في التشريع الإسلامي عناية خاصة بهذه
الرابطة ، كما سيتضح في الفقرات التالية.
أولاً
: الجوار في القرآن الكريم :
لم يرد ذكر الجار في القرآن الكريم إلاّ
مرتين في آية واحدة ، وهي من قوله تعالى : (
واعبدوا الله ولا
تشركُوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القُربى واليتامى والمساكين والجّار ذي
القُربى والجّار الجُنُب والصّاحب بالجَنْب
.. ) ( النساء ٤
: ٣٦ ).
إنّ تدبّر الآية الكريمة يوقفنا على
حقيقة في غاية الأهمية ، وهي : إنّ الله تعالى قرن حقّ الجّار مع حقّ عبادته ومع
حق الوالدين وذي القربى والمساكين ، وفي ذلك دلالة صريحة على أهمية حق الجِوار في الإسلام
، لانتظامه مع التوحيد في سلك واحد ، مما يبوؤه المكانة التي يستحقها من البحث
والدراسة.
يقول الشيخ أبو علي الطبرسي في معرض
تفسيره لهذه الآية : ( لما أمر سبحانه بمكارم الاخلاق في أمر اليتامى والازواج
والعيال ، عطف على ذلك بهذه الخلال المشتملة على معاني الاُمور ومحاسن الاَفعال ،
فبدأ بالأمر بعبادته ، فقال : (
واعبدوا الله ولا
تشركوا به شيئاً ) أي وحّدوه ، وعظّموه ، ولا تشركوا في
عبادته غيره ، فإنّ العبادة لا تجوز لغيره ؛ لانها لا تستحق إلاّ بفعلِ اُصولِ
النِعَم ، ولا يقدر عليها سواه تعالى ، (
وبالوالدين
احساناً )
، أي فاستوصوا بهما برّاً وإنعاماً وإحساناً وإكراماً ، وقيل : أنّ فيه اضمار فعل
، أي وأوصاكم الله بالوالدين إحساناً ، (
وبذي القربى
واليتامى والمساكين ) ، معناه : احسنوا بالوالدين خاصة ،
وبالقرابات عامة ، يقال : أحسنتُ اليه وأحسنتُ به ، واحسنوا إلى المساكين فلا
تضيعوهم ، واعطوهم ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة وسائر ما لابدّ منه لهم ، ( والجار ذي القربى والجار الجنب
) ، قيل معناه
: الجار القريب في النسب، والجار الاَجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة ـ إلى أن
يقول ـ : وهذه آية جامعة تضمنت بيان أركان الإسلام ، والتنبيه على مكارم الاخلاق.
ومن تدبّرها حق التدبّر ، وتذكّر بها حق التذكّر أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء ،
وهَدَتْه إلى جمّ غفير من علوم العلماء ) .
والنبي الأكرم 6 من خلال إصراره على حق الجوار ، تمكن
من قلب قيم وعادات المجتمع الجاهلي رأساً على عقب. صحيح أنّ المجتمع الجاهلي كان
يحترم الجوَار ويرعى ـ في الأعمّ ـ حرمته وعرضه وفي ذلك قال الشاعر ربيعة بن عامر
( مسكين الدارمي ) ( ت / ٨٩ ه ) :
__________________
ما ضرّ جاري أن أُجاورَهُ
|
|
أنْ لا يكون لِبابِهِ سترُ
|
أعمى إذا ما جَارتي خَرَجَتْ
|
|
حَتى يُواري جَارَتي الخِدْرُ
|
ناري ونَارُ الجَّارِ واحِدةٌ
|
|
وإليه قَبْلي ينزلُ القِدرُ
|
لكن الصحيح أيضاً ، أنّ كثيراً ما يُضرب
بحقوق الجار عرض الحائط ، فيُغار عليه ، وتُسلب أمواله ، وتُسبى حريمه في السنين
العجاف ، أو يشن عليه حرباً لا يخف لها أوار من أجل الثأر ، أو بدافع من العصبية
القبلية ، أو طغيان الأهواء والمصالح الشخصية. زد على ذلك كانت الإثرة والأنانية
تضرب بأطنابها في المجتمع الجاهلي الذي كان على شفير الهاوية ، فانقذه الإسلام
منها وانتقل المجتمع ـ آنذاك ـ إلى مدار جديد بعد ان تكرّست فيه قيم وعادات جديدة.
لقد أعاد الوحي تشكيل الوعي الاجتماعي ،
وخلق نفوساً نبيلة تؤثر المصلحة الاجتماعية على المصالح الفردية الآنية ، وخير
شاهد على ذلك ما روته كتب السيرة من أنه : ( أُهدي لرجل من أصحاب رسول الله 6 رأس شاة فقال : إنَّ أخي فلاناً وعياله أحوج
إلى هذا منَّا ، فبعث به إليهم ،
فلم يزل يبعث واحد إلى آخر حتى تداولها أهل سبعة أبيات ، حتى رجعت إلى الاوّل ) .
ثانياً
: حق الجار في رسالة الحقوق :
رسالة الحقوق للإمام زين العابدين 7 هي أوّل وثيقة إسلامية شاملة لحقوق الإنسان.
وهذا الأثر النفيس بقي محفوراً على لوحة الزمان ،
__________________
تتناقله الأجيال من
جيل لآخر ، يستمدون منه أعمق مشاعر الحب لله ، وحق الإنسان في الكرامة والرّفعة ،
والاعتراف بحقوقه المقدسة.
وفيما يتصل بحق الجِوار ، فقد جاء فيها
: « وحقّ جارك فحفظه
غائباً، وإكرامه شاهداً ، ونصرته إذا كان مظلوماً ، ولا تتبع له عورة ، فإن علمت
عليه سوءاً سترته عليه ، وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه ، ولا
تسلمه عند شدائده ، وتقيل عثرته ، وتغفر ذنبه ، وتعاشره معاشرة كريمة ، ولا تدّخر
حلمك عنه إذا جهل عليك ، ولا تخرج أن تكون سلماً له، ترد عنه لسان الشتيمة ، وتبطل
فيه كيد حامل النميمة. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله
» .
هذه الفقرة من رسالة الحقوق المنسوجة
بلغة قوية الإيحاء ، نجد فيها نظرة أعمق وأرحب لحقوق الجّار ، فهي ترسم علاقة
تكاملية بين المتجاورين ، وتعقد بينهم أواصر أُخوّة حقيقية. فنلاحظ أنّ للجّار حق
الحفظ في غيبته ، وحق الإكرام في إقامته ، وحق النصرة عند مظلوميته ، وفوق ذلك له
حقوق إضافية منها : حق الستر ، والنصيحة ، والمغفرة ، والمعاشرة الحسنة.
وقد تناول شارح رسالة الحقوق هذه الفقرة
مبيناً أنّ الإسلام قد اعتنى بحق الجار وجعله عظيماً ، يكاد يكون ـ حسب تعبيره ـ
من أعظم الحقوق الإنسانية ، واستدل على ذلك بوصايا جبريل 7 المتكررة للرسول 6 حول الجار ، وبالآية المتقدمة من سورة
النساء ، ثم استأنف قائلاً : ( وعلى هذا فالوصاية بالجار مأمور بها مندوب إليها
مسلماً كان أو كافراً.
__________________
والإحسان قد يكون
بمعنى المواساة ، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه ، فيحسن أن
يتعاون الجاران ويكون بينهما الرحمة والاحسان ، فاذا لم يُحسن أحدهما إلى الآخر
فلا خير فيهما لسائر الناس ـ إلى أن قال : ـ على هذا المنهج القويم من القرآن ،
وهذا الأسلوب المنير من السنة ، سار الإمام زين العابدين 7 في هذا الفصل من رسالته الخالدة في
التنويه بحق الجار والعناية والاهتمام به ، أَلا تنظر إليه قائلاً : « وحق جارك حفظه غائباً وإكرامه
شاهداً ونصرته إذا كان مظلوماً
.. ». يعني : يجب حفظه إذاً ... بمعنى ان لا يخونه وأن يكون أميناً على ما ائتمنه
عليه ، وإكرامه واحترامه والحفاوة به إذا حضر ، ونصره ومعونته إذا ألمَّ به خطب أو
نزل به ضرٌّ.
ويجب على ما قرّره 7 ستره ما أمكن ، فالله يحب الساترين ،
ويكره الفضيحة والافشاء ، ويكره التجسس والمراقبة ، فإن ظهر على الجار شيء ما مِن
دون تجسس أو مراقبة ، فعلى جاره أن يكتم كل ما عرف ، وأن يكون حصناً حصيناً لهذا
السر الذي بيده مفتاحه. ويجب أن ينصره إذا سمع عليه مقالة سوء ، ويكره الله أن
يستمع إلى قوم ينوشون جاراً بالسوء وفسق اللِّسان وهو عنهم راض ، وأن يقيل عثرته ،
وينهضه من كبوته ، ويُغضي عن بعض ما قد يسوء من أعماله ، فان الإنسان معرّض للخطأ
، وأن يمنعه ، ويذود عنه ، ويدفع كل ما يضر به ) .
وهنا يبدو من الضروري بمكان ، الإشارة إلى
أن أئمة أهل البيت :
لم يختص تميّزهم عن غيرهم بنظرتهم العميقة لمعنى الجوار ، وهو الصبر
__________________
على الاذى وليس كف
الأذى كما قال العبد الصالح 7
: « ليس الجوار كف الأذى ، ولكن حسن الجوار صبرك على الأذى » .
وإنما تميزوا أيضاً بتجسيدهم هذا
المفهوم من عالم المعنى إلى عالم الحس والواقع.
لقد ترجم أهل البيت : أقوالهم إلى سلوك سوّي ، أصبح قدوة
حسنة لمن أراد الاقتداء به. فعلى سبيل المثال لا الحصر ، كان الإمام السجاد 7 ، حريصاً على أداء حقوق الآخرين ، وان
كانوا من أعدائه .. جاء في رواية الواقدي : إنّ هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد
المخزومي كان والياً على المدينة لعبد الملك بن مروان ، وقد أساء جِوار الإمام ولحقه
منه أذى على حد تعبير الراوي ، فلما مات عبدالملك ، عزله الوليد بن عبدالملك ،
وأوقفه للناس ؛ لكي يقتصوا منه ، فقال : والله إني لا أخاف إلاّ علي بن الحسين ،
فمر عليه الإمام ، وسلم عليه ، وأمر خاصته أن لا يتعرض له أحد بسوء ، وأرسل له : «
إن كان أعجزك مال
تؤخذ به ، فعندنا ما يسعك ، ويسد حاجتك ، فطب نفساً منّا ، ومن كل من يطيعنا
» ، فقال له هشام بن اسماعيل : الله أعلم حيثُ يجعل رسالته .
وكان الإمام السجاد 7 يدعو لجيرانه بكلمات بلغت الغاية في
الرّقة ، ضمّنها ما لهم من الحقوق ، وصبها في قالب الدّعاء.
تمعّن في هذا الدّعاء من أدعية الصحيفة
السجادية ، الذي يفيض
__________________
بالمعاني ، ويحمل
أجمل المشاعر : ـ « اللّهُمَّ
تولَّني في جيراني باقامة سُنَّتكَ ، والاَخذ بمحاسن أدَبك في إرفاقِ ضعيفهم ،
وسدْ خلّتهم ، وتَعهُّد قادمهم ، وعيادة مريضهم، وهداية مسترشدهم ، وكتمان أسرارهم
، وستر عوراتهم ، ونصرة مظلومهم ، وحُسن مواساتهم بالماعون ، والعود عليهم
بالجدَةِ والاِفضال ، واعطاء ما يجبُ لهم قبل السؤالِ والجود بالنَّوال ـ اي
العطاء ـ يا أرحم الراحمين » .
__________________
الفصل
الثاني
الحقوق العائلية
المبحث الأول
حق الأبوين
أولى الإسلام عنايةً خاصة للاَسرة
وللمحافظة عليها ، من خلال تحديده للحقوق المترتبة على أفرادها تجاه بعضهم البعض ،
كي تصان الأسرة بصفتها اللّبنة الاساسية في بناء المجتمع الذي ينشده الإسلام. ولما
كان الوالدان هما حجري الاساس في بناء الأسرة وتنشئة الجيل ، نجد القرآن الكريم
يصرّح بعظم مكانتهما ووجوب الإحسان اليهما.
وفيما يأتي بيان لحقوق الوالدين في
القرآن الكريم ، والسُنّة النبوية ، وأقوال أهل البيت : :
أولاً
: حقوق الوالدين في القرآن الكريم :
قرن تعالى وجوب التعبد له ، بوجوب البرّ
بالوالدين في العديد من الآيات الكريمة ، منها قوله تعالى : ( وقضى ربُّك ألاّ تعبُدُوا إلاّ إيّاهُ وبالوالدين
إحساناً .. )
( الإسراء ١٧ : ٢٣ ) ، وقوله تعالى : (
وإذ أخذنا ميثاق
بني إسرائيل لا تعبدونَ إلاّ الله وبالوالدين إحساناً
.. ) ( البقرة ٢
: ٨٣ ) ، وقوله تعالى : (
قُلْ تعالوا أتلُ
ما حرَّمَ ربّكم عليكُم ألاّ تُشركُوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً
.. ) ( الانعام ٦
: ١٥١ ). ثم قرن الشكر له بالشكر لهما في قوله تعالى : ( .. أن أشكُر لي ولوالديك إليَّ المصيرُ
) ( لقمان ٣١
: ١٤ ).
وهكذا نجد أنّ الله تعالى يعتبر الإحسان
إلى الوالدين ، قضية جوهرية ، فهي من الأهمية بمكان ، بحيث يبرزها ـ تارة ـ في
عالم الاعتبار بصيغة القضاء : (
وقضى ربُّك ..
) ، ويجسدها ـ
تارة أُخرى ـ في عالم الامتثال بصيغة الميثاق : (
وإذ أخذنا ميثاق
بني إسرائيل .. ) ، ويعتبر التعدي على حرمتهما حراماً.
وهنا لابد من التنبيه على أن القرآن
الكريم وفي العديد من آياته يؤكد على الأولاد بضرورة الإحسان إلى الآباء ، أما
الآباء فلا يؤكد عليهم الإهتمام بأبنائهم إلاّ نادراً ، وفي حالات غير عادية كأن
لا يقتلوا أولادهم خشية الاِملاق ، ويكتفي بالتأكيد على أن الاولاد زينةٌ ومتعة ،
وموضع فتنة وإغراء للوالدين ، ولم يذكرهم إلاّ مقرونين بالمال وفي موضع التفاخر.
قال تعالى : ( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر
عظيم )
( الانفال ٨ : ٢٨ ) ، وقال تعالى : (
... وتفاخر بينكم
وتكاثر في الاموال والاولاد ... ) ( الحديد ٥٧ : ٢٠ ) ، والسرُّ في ذلك :
ان علاقة الوالدين بأولادهم هي أشدّ وأقوى من علاقة الأولاد بوالديهم ، فالآباء
بحكم الغريزة الطبيعية أكثر حباً للأولاد من حب الأولاد لهم ، وخصوصاً الأم التي
تلف أبناءها برداء الحنان وتضحي بالغالي والنفيس من أجلهم ، وتندفع غريزياً
وتلقائياً للقيام بما يؤمن حوائجهم ، وتعمل جاهدة من أجل صنع إكليل سعادتهم ، وعليه
فلا يحتاج الآباء إلى توجيه وتوكيد في هذا الصَّدد ، وانما يحتاجون ـ فقط ـ إلى
استجاشة الوجدان من أجل تنشئة الجيل ، تنشئة صالحة.
أما الأبناء فتعلقهم بالآباء أضعف فطرةً
من تعلق الآباء بهم. ومن هنا
وَرَدَ الأمر القرآني القاضي بالاحسان
إلى الوالدين من أجل رسم علاقة متكافئة بين الطرفين ، لذا وضع حقهم في المرتبة
اللاحقة بعد حقّه تعالى.
وبنظرة أعمق جعل الإحسان إلى الوالدين
المظهر الاجتماعي للعبادة الحقّة ، وكل تفكيك بين العبادة ومظهرها الاجتماعي ،
بالإساءة إلى الوالدين على وجه الخصوص، ولو بكلمة « أُفّ » ، يعني إفساداً للعبادة
.. كما تُفسد قطرة الخلّ العسل.
للأم
حقٌ أكبر :
منح القرآنُ الأم حقاً أكبر ، وذلك لما
تقدمه من تضحيات أكثر. فالاَُم هي التي يقع عليها وحدها عبء ( الحمل والوضع
والارضاع ) وما يرافقهما من تضحيات وآلام ، حيثُ يبقى الطفل في بطنها مدّة تسعة أشهر
على الاغلب في مرحلة الحمل ، يتغذى في بطنها من غذائها ، ويقر مطمئنا على حساب
راحتها وصحتها ، ثم تأتي مرحلة الوضع ، الذي لا يعرف مقدار الألم فيه إلاّ الأم ،
حيثُ تكون حياتها ـ أحياناً ـ مهددة بالخطر ، وتأتي بعدها مرحلة الارضاع والحضانة
وما يتخللها من عناء وسهر. فمن أجل كل ذلك يؤكد الإسلام على الأولاد بضرورة القيام
بحق الأم ، وفاءً بالجميل ، واعترافاً بالفضل. وفي ظل هذه التضحيات كان من الطبيعي
، ان يخصّ القرآن الأم بالعرفان ، ويوصي بها على وجه الخصوص : ( ووصَّينا الإنسان بوالديه حملتهُ أُمُّه وهناً على وهنٍ
وفصاله في عامين .. ) ( لقمان ٣١ : ١٤ ) ، وبذلك يؤجج القرآن
وجدان الابناء حتى لا ينسوا أو يتناسوا جهد الآباء وخاصة الأم وما قاسته من عناء ،
ويصبّوا كلَّ اهتمامهم على الزوجات والذرّية.
ثانياً
: حقوق الوالدين في السُّنة النبوية :
احتلت مسألة الحقوق عموماً وحقوق
الوالدين على وجه الخصوص مساحةً كبيرةً من أحاديث ووصايا النبي الأكرم 6 ، وذلك للتأكيدات القرآنية المتوالية ،
وللضرورة الاجتماعية المترتبة على الإحسان إليهما ، خصوصاً وأنّ النبي 6 اضطلع بمهمةٍ تغييرية كبرى تتمثل
باعادة تشكيل وعي جديد ومجتمع جديد.
ولما كانت الأسرة تشكل لبنةً كبيرة في
البناء الاجتماعي ، وجب رعاية حقوق الوالدين القيِّمَين عليها ، وبدون مراعاة ذلك
، يكون البناء الاجتماعي متزلزلاً كالبناء على الرَّمل.
وعليه ، فقد تصدّرت هذه المسألة الحيوية
سلّم أولويّات التوجيه النبوي ، بعد الدعوة لكلمة التوحيد ، فقد ربط النبي 6 بين رضا الله تعالى ورضا الوالدين ،
حتى يعطي للمسألة بعدها العبادي ، وأكد ـ أيضاً ـ بأنّ عقوق الوالدين هي من أكبر
الكبائر ، وربط بين حب الله ومغفرته ، وبين حب الوالدين وطاعتهما ، فعن الإمام زين
العابدين علي بن الحسين 7
: « إنّ رجلاً جاء إلى النبي 6
فقال يا رسول الله ما من عمل قبيح إلاّ قد عملته فهل لي من توبة ؟ فقال له رسول
الله 6 : « فهل من
والديك أحد حيٌّ » ؟ قال : أبي ، قال : « فاذهب فبره ». قال : فلمّا ولّى ، قال
رسول الله 6 : « لو كانت
أُمّه » .
__________________
وعن الإمام الصادق 7 قال : « جاء رجل إلى النبي 6 ، فقال : يا رسول الله مَنْ أبِرُّ ؟
قال : أُمَّكَ ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : أُمَّكَ ، قال : ثم مَنْ ؟ قال: أُمَّكَ ،
قال : ثم مَنْ ؟ قال : أباك » .
وفي التوجيه النبوي : من حق الوالد على
الولد ، ان يخشع له عند الغضب ، حرصاً على كرامة الآباء من أن تُهدر ، وفوق ذلك ،
فقد اعُتبر التسبب في شتم الوالدين من خلال شتم الولد للآخرين كبيرة من الكبائر ،
تستحق الإدانة والعقاب الاخروي. ثم ان البَّر بهما لا يقتصر على حياتهما فيستطيع
الولد المطيع ان يبَّر بوالديه من خلال تسديد ديونهما أو من خلال الدعاء
والاستغفار لهما ، وغير ذلك من أعمال البرَّ.
لقد جسّد النبي 6 هذه التوصيات على مسرح الحياة ، ففي
الوقت الذي كان يحث المسلمين على الهجرة ، ليشكل منهم نواة المجتمع التوحيدي
الجديد في المدينة ، وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون قلائل بالآحاد ، تروي كتب
السيرة ، أن رجلاً جاء إلى النبي 6
فقال : جئت أبايعك على الهجرة ، وتركت أبويّ يبكيان. فقال النبي 6 : « إرجع اليهما فاضحكهما كما أبكيتهما
» .
ومن الشواهد الاخرى ذات الدلالة القوية
، على تأكيد السيرة النبوية على رعاية حق الوالدين ، أنّ أختاً للنبي 6 من الرضاعة زارته يوماً ، فرحَّب بها
ترحيباً حاراً ، وأكرمها غاية الإكرام ، ثم جاء أخوها إليه ، فلم يصنع معه ما صنع
معها من الحفاوة والإكرام ، فقيل له : يا رسول الله :
__________________
صنعت بأخته ما لم
تصنع به ، وهو رجل ! فقال 6
: « إنّها كانت أبرَّ بأبيها منه » .
وهكذا نرى أنّ التوجه النبوي يجعل ميزان
القرب والبُعد مرتبطاً بمدى رعاية المرء لحقوق والديه.
ولا يفوتنا في نهاية هذه الفقرة ، ان
ننوه بالمكانة التي يوليها النبي 6
للأم ، ويكفي شاهداً على ذلك قوله 9
: « الجنة تحت أقدام الامهات » .
ثالثاً
: حقوق الوالدين في مدرسة أهل البيت :
أعطى الأئمة الأطهار لتوجّهات القرآن
الكريم وأقوال النبي وأفعاله الفكرية والتربوية روحاً جديدة ، وزخماً قوياً عندما
أُلقيت على عواتقهم وظيفة النهوض الحضاري بالأمة في جميع المجالات ، خصوصاً بعد
التداعيات والشروخ التي حصلت في المجتمع الاسلامي من جراء سيطرة حكام الجور
والضلال على مراكز القرار. فعمل الأئمة :
باخلاص من أجل تقويم الاعوجاج وترشيد المسار الحضاري للأمة.
وفي ما يتعلق بحق الوالدين ، نلاحظ أنهم
عملوا على عدة محاور ، يمكن إبرازها على النحو الآتي :
١
ـ تفسير ما ورد من آيات قرآنية :
ينبغي الإشارة هنا إلى أنّ أهل البيت : هم الذين أُنزل القرآن في
__________________
بيوتهم ، وقَرنَهم
الرسول الأعظم به ، وغدوا بذلك قرآناً ناطقاً ، ينطقون بالحق ويؤكدون على أداء
الحقوق.
فقد حدّد الإمام جعفر الصادق 7 مفهوم الإحسان الوارد بقوله تعالى : ( وقضى ربُّك ألاّ
تعبدُوا إلاّ إيَّاهُ وبالوالدين إحساناً
.. ) ( الإسراء
١٧ : ٢٣ ) ، فقال 7
: « الإحسان : أن
تُحسن صحبتهما ، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً ممّا يحتاجان إليه ، وإنْ كانا
مستغنيين » .
وحول قوله تعالى : ( .. إما يبلغنَّ عندك الكبر أحدُهُما أو كلاهُما فلا تقُلْ
لهما أُفٍّ ولا تنهرهُما .. ) ( الإسراء ١٧ : ٢٣ ).
قال 7
: « إن أضجراك فلا تقل
لهما أُفٍّ ، ولا تنهرهما إن ضرباك
» .
وعن قوله تعالى : ( وقُلْ لهما قولاً كريماً
) ( الإسراء
١٧ : ٢٣ ) ، قال 7
: « إنْ ضرباك فقل لهما : غفر الله لكما » .
وقال الصادق 7 : « أدنى
العقوق ( أُفٌّ ) ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه » .
وفي ضوء قوله تعالى : ( واخفض لهما جناح الذُّل من الرَّحمةِ وقُلْ رَبِّ
ارحمهما كما ربياني صغيراً ) ( الإسراء ١٧ : ٢٥ ) ، يقول أيضاً 7 : « لا تملأ عينيك من النّظر اليهما
إلاّ برحمة ورقّة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ولا تقدَّم
قدّامهما » .
وحول الآية الكريمة : (
ان اشكُر
__________________
لي
ولوالديك إليَّ المصير ) ( لقمان ٣١ : ١٤ ) ، يقول الإمام علي
بن موسى الرِّضا 7
: « إن الله عزّ وجل .. أمر بالشكر له وللوالدين ، فمن لم يشكر والديه لم يشكر
الله » .
٢
ـ استثارة الوازع الأخلاقي :
أراد الأئمة : أن تبقى منظومة الأخلاق في الأمة حيةً
فعالةً ، انطلاقاً من حرصهم الدائم على سلامة المجتمع الإسلامي ، حتى لا يتردى
أفراده في مهاوي القلق والضياع.
وعليه فقد حثّوا على التمسك بالقيم الأخلاقية
في تعامل الأولاد مع والديهم ، بحيث تتحول إلى طبع يطبع سلوك الأبناء .. وفي هذا
الصَّدد يقول الإمام علي 7
: « برّ الوالدين من أكرم الطباع » .
ويقول حفيده الإمام الهادي 7
: « العقوق ثكل من لم يثكل » .
٣
ـ تحديد الحكم الشرعي :
لم يبقِ آل البيت : مسألة حقوق الوالدين في إطار التوجهات
القرآنية أو مجرد استثارة الدوافع الاخلاقية ، بل حددوا الحكم الشرعي لهذه المسألة
الحيوية ، واعتبر الامام علي 7
: « برّ الوالدين أكبر فريضة » .
ويقول الإمام الباقر 7
: « ثلاث لم يجعل الله
عزّ وجلّ لأحد فيهنّ رخصة :
__________________
أداء
الأمانة إلى البرّ والفاجر ، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر ، وبرّ الوالدين برين
كانا أو فاجرين » .
والجدير بالذكر ، أن الإسلام لم يربط
حقوق الوالدين بقضية الدين ، وضرورة كونهما مسلمين ، بل أوجب رعاية حقوقهم بمعزل
عن ذلك ، يقول الإمام الرِّضا 7
: « برّ الوالدين واجب
وإنْ كانا مشركين ، ولا طاعة لهما في معصية الخالق
» . ولم يكتف
الإمام الرِّضا 7
بتبيان الحكم الشرعي بل كشف عن الحكمة من وراء هذا التحريم بقوله : « حرّم الله عقوق الوالدين لما
فيه من الخروج من التّوفيق لطاعة الله عزّ وجلّ ، والتّوقير للوالدين ، وتجنّب كفر
النّعمة ، وابطال الشكر ، وما يدعو من ذلك إلى قلّة النّسل وانقطاعه ، لما في
العقوق من قلّة توقير الوالدين ، والعرفان بحقّهما ، وقطع الأرحام ، والزّهد من
الوالدين في الولد ، وترك التّربية بعلّة ترك الولد برّهما
» .
من خلال التمعن في هذا النصّ نجد نظرةً
أرحب وأعمق لحق الوالدين، وكون القضية لا ترتبط بالجانب المعنوي المتعلق بحقوق
الوالدين فحسب ، بل لها آثار واقعية على مجمل الكيان الاجتماعي ، وعلى الأخص فيما
يتعلق بمسألة حفظ الجنس البشري من الانقراض والاستئصال ، كما أن للمسألة آثاراً
تربوية سلبية واضحة ، فعندما يجد الوالدان أنفسهما وقد هدرت كرامتهما ، وصودر
حقهما من قبل الأبناء ،
__________________
فسوف يتشكل رأي عام في
المجتمع ، بأن انجاب الأولاد ، أو على الأقل بذل الجهد في تربيتهما ، عملية خاسرة
، وتسفر عن نتائج غير مُرضية ، وهذا سوف يؤدي إلى قلة أو انقطاع النسل ـ كما نوّه
الإمام 7 ـ أو يؤدي
إلى عدم الاهتمام بتربية الابناء ، وفي كلتا الحالتين فالخسارة فادحة على المجتمع.
ويحصل العكس من ذلك لو وجد الاَبوان أنفسهما في موضع التكريم والاحترام ، فسوف
يحرصون على إنجاب الأطفال ، والقيام بتربيتهم على النحو الأفضل.
وخير شاهد معاصر على ذلك ما يحصل الآن
في المجتمعات الغربية ، فقد أدّى التفكك الاَُسري إلى متاهات لا تُحمد عقباها ، وأخذ
الولد يتنكر لقيمومة والديه ويتنصل عن أداء حقوقهما ، وانجرف في تيار المادة
واللّذة العارم ، الأمر الذي أدّى إلى قلّة النسل الشرعي وعدم الاهتمام بتربية
الطفل، وايكاله إلى دور الحضانة ، وبلغ الانتكاس الاجتماعي حداً ، بحيث أصبحوا
يهتمون بتربية الحيوان وخاصة الكلاب أكثر من الذين خرجوا من الاَصلاب ! واذا استمر
هذا الوضع الشاذ ، بشيوع حالة من الأنانية والانعزال ، فسوف يؤدي إلى انقطاع أو
على الأقل قلة النسل الشرعي ، وتصبح المجتمعات الغربية على شفير الهاوية.
٤
ـ تحديد الحقوق المترتبة للوالدين :
تتسع عدسة الرؤية للحقوق في مدرسة أهل
البيت : عن غيرها من
المدارس والمذاهب القانونية والاجتماعية ، فهي تركز في توجهاتها على الحقوق
المعنوية ، وتضعها في سلّم الأولوية ، ولا يعني ذلك إهمال الحقوق المادية ، فإذا
كانت النَّظرة المتعارفة للحق انه حقٌّ ماديٌّ بالدَّرجة
الأساس ، فانَّ مدرسة أهل البيت : تنظر للحق نظرة أرحب وأشمل ، هي نظرة الإسلام
العميقة التي تُقدم الجانب المعنوي على المادي ، وعلى هذا الأساس ، نلاحظ أنّ أكثر
توصيات وأحاديث الأئمة :
تنصب على رعاية الحقوق المعنوية ، كالطاعة للوالدين والشكر والنصيحة لهما ، يقول
الإمام أمير المؤمنين 7
في نهج البلاغة : « إنّ
للولد على الوالد حقّاً .. أن يطيعه في كلِّ شيء إلاّ في معصية الله سبحانه
» .
ويقول حفيده الإمام الصادق 7 : « يجب للوالدين على الولد ثلاثة أشياء : شكرهما على كلِّ
حال ، وطاعتهما فيما يأمرانه وينهيانه عنه في غير معصية الله ، ونصيحتهما في
السرِّ والعلانية » .
ويقول الإمام زين العابدين علي بن
الحسين 7 في رسالة
الحقوق : « أمّا حق أبيك فأنْ
تعلم أنّه أصلك ، وأنّه لولاه لم تكن ، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك ، فاعلم أنّ
أباك أصل النعمة عليك فيه ، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك ، ولا قوة إلاّ بالله
» .
ويقول 7
في ما يتعلق بحق الأم : « أما
أُمّك فأن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً ، وأعطتك من ثمرة قلبها مالا
يعطي أحدٌ أحداً ، ووقَتْك بجميع جوارحها ، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك
، وتعرى وتكسوك ، وتضحى وتظلّك ، وتهجر النّوم لأجلك ، ووقَتْك الحرَّ
__________________
البرد
تكون لها ، فإنّك لا تطيق شكرها إلاّ بعون الله وتوفيقه
» .
بهذه اللغة الوجدانية الشفافة يصوغ
الإمام زين العابدين 7
بنود الحقوق الاعتبارية للوالدين.
وأيضاً ينقل أبو الحسن موسى الكاظم 7 عن جده المصطفى 6 : أن رجلاً سأل الرسول 6 : ما حقّ الولد على والده ؟ قال : « لا يُسمّيه باسمه ، ولا يمشِ
بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسب له
» .
وأنت لو تمعنت في السطور المتقدمة ،
تلمس بوضوح عمق التركيز على الحقوق المعنوية للوالدين ، ولعل السرّ في ذلك أن
تطعيم الأولاد فكريا ووجدانياً من خلال إدراك هذا النوع من الحقوق الاعتبارية ،
يمنح الأولاد المناعة والحصانة من الإصابة بالأمراض الاجتماعية ، تلك التي تقوّض
كيان الأسرة كمجتمع صغير ، وتنعكس أعراضها وآثارها التدميرية على المجتمع الكبير.
ومن الضروري الإشارة إلى أن التركيز على
الحقوق المعنوية ، لا يعني بحال اغفال ما للوالدين من حقوق مادية ، كضرورة الانفاق
عليهم عند العوز أو الشيخوخة ، ولكن وفق ضوابط وحدود معقولة.
والظاهر أنّ الرأي السائد آنذاك ، هو ان
للوالد مطلق التصرف في أموال بنيه، اعتماداً على رواية للنبي 6 في هذا الخصوص ، ولكن الإمام
__________________
الصادق 7 قشع هذا المفهوم الخاطئ من أذهان
الكثيرين ، وفق مبادئ وقواعد الإسلام ، التي تمنع الضَّرر والإضرار بالآخرين ،
وكشف 7 عن الدواعي
التي حملت النبي 6
على القول لرجل اشتكى من أبيه ـ وادّعى أنه أخذ ميراثه الذي من أمه ـ : « أنت ومالك لأبيك
» بان الأب كان معسراً ، وقد الجأته الضرورة لذلك ، فالأمر لا يعدو أن يكون قضية
في واقعة.
يتضح لك ذلك عند قراءة الرّواية التالية
: عن الحسين بن أبي العلاء قال : قلت لأبي عبدالله 7
: ما يحلّ للرّجل من مال ولده ؟ قال 7
: « قوته بغير سرف إذا
اضطرّ اليه » ، قال : فقلت له
: فقول رسول الله 6
للرّجل الذي أتاه ، فقدّم أباه ، فقال له : « أنت ومالك لأبيك
» ؟ فقال 7 : « إنّما جاء بأبيه إلى النبيّ 6
فقال : يا رسول الله هذا أبي وقد ظلمني ميراثي من أُمي ، فأخبره الأب أنّه قد
أنفقه عليه وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرّجل شيء أفكان
رسول الله 6 يحبس الأب للإبن
» !
__________________
المبحث الثاني
الآثار السلبية الدنيوية لمن عق والديه
ذكرنا فيما سبق بعض الآثار الأخروية
المترتبة على عقوق الوالدين ، ولعل من أبرزها التعرض لسخط الله تعالى ، وعدم قبول
الطاعات وغير ذلك من آثار. ومن يطّلع على أحاديث أهل البيت : يجد حشداً من الأحاديث في هذا المجال ،
وهنا سوف نقتصر على إبراز الآثار السلبية في دار الدنيا لمن أساء لوالديه ،
ويمكننا تصنيفها حسب النقاط الآتية :
أولاً
: التعرض للفقر والفاقة :
يقول الإمام جعفر الصادق 7 في هذا الخصوص : « أيّما رَجلٍ دعا على ولده
أورثه الفقر » .
ثانياً
: المقابلة بالمِثل :
إنّ الأولاد الذين يسيئون التصرف مع
آبائهم ، سوف يقابلهم أبناؤهم بالمِثل ، ولا يقيمون لهم وزناً عندما يكبرون ،
ويؤكد هذه الحقيقة ما ورد عن الإمام جعفر الصادق 7
: « برّوا آباءكم ،
يبرّكم آبناؤكم » ، وقد
__________________
أثبتت التجارب
العملية هذه الحقيقة ، وغدت من المسلّمات عِبَر الأجيال ، فالذي يعق والديه يواجه
الحالة نفسها مع أبنائه لا محالة.
ثالثاً
: العقوق يُورِثُ الذّلة والمهانة :
مما لا شك فيه ، ان الفرد الذي يعق
والديه ، ينظر له المجتمع بعين السخط والاستخفاف ، ويصبح منبوذاً مذموماً على
الصعيد الاجتماعي ، ولا يُذكر إلاّ بالعار والشنار ، مهما تستر خلف سواتر الأعذار
، يقول الإمام الهادي 7
: « العقوق يعقب
القلّة ، ويؤدي إلى الذِّلة » .. ويمكن
حمل كلمة « القلّة » في الحديث على إطلاقها ، فتشمل القلة في المال والفقر المعنوي
والاجتماعي ، المتمثل بقلة الأصدقاء والمعارف الذين لا يلقون حبال ودّهم إلى من
عقّ والديه ، وكيف تحصل الثقة بمن قطع حبال الودّ مع والديه ، وهما من أقرب
المقربين إليه ؟
المبحث الثالث
القدوة الحسنة
إنَّ اقتحام العقول والنفوس بغية
التأثير في الناس ، أصعب بكثير من اقتحام المواقع والثغور ، وذلك لأن الناس
يختلفون اختلافاً بيّناً في طريقة التفكير ، وفي مركّب المزاج وفي مستوى الثقافة ،
ونتيجة لكلِّ ذلك ، تصبح عملية التعامل معهم ، والتأثير فيهم عملية صعبة وشاقة ،
وتحتاج إلى قدرات ومتطلبات من نمط خاص ، لا تتوفر إلاّ عند الخواص من أهل الصَّبر
، والعلم بمواقع الأمر. وأهل البيت في مقدمة هذا الطراز الرّفيع من القادة ، الذين
تمكنوا من اجتذاب الناس وامتلكوا أزمّة قلوبهم ، ومفاتيح عقولهم من خلال القدوة
الحسنة والسلوك السويّ ، خصوصاً وأنّ الناس ـ عادة ـ لا تتأثر بلسان المقال ، بقدر
ما تتأثر بلسان الحال. ومن الشواهد الدالة على إلتزام الأئمة : العملي بحقوق الوالدين ، وتأثر الناس
بهذا السلوك ، ان الإمام علي بن الحسين 7
كان يأبى ان يؤاكل أمّه ، واسْتَلْفَتَ هذا الموقف أنظار أصحاب الإمام والمحيطين
به ، وسألوه باستغراب : إنك أبرّ الناس وأوصلهم للرّحم ، فكيف لا تؤاكل أمك ؟!
فقال 7 : « إني أكره أن تسبق يدي إلى
ماسبقت إليه عينها ، فاكون قد عققتها
» !
__________________
هذا الموقف الذي يستحق الإعجاب والتقدير
، يكشف العمق السلوكي لروّاد مدرسة أهل البيت :
، ويعطي درساً لا ينسى في وجوب رعاية حقوق وحرمة الوالدين.
وتجدر الاشارة إلى أن الإمام زين
العابدين 7 كان يدعو
لوالديه ، ويشير إلى عظم حقهما عليه ، فيقول : « يا الهي أين طول شغلهما بتربيتي ؟ وأين شدة تعبهما في
حراستي ؟ وأين إقتارهما على أنفسهما للتوسعة عليّ هيهات ما يستوفيان مني حقهما ،
ولا أدرك ما يجب عليَّ لهما ، ولا أنا بقاضٍ وظيفة خدمتهما
» .
وفي دعاء آخر تضمنته الصحيفة السجادية ،
يقول 7 : « اللّهم اجعلني أهابهما هيبة
السّلطان العسوف ، وأبرّهما برّ الأم الرّؤوف ، واجعل طاعتي لوالديّ وبرّي بهما أقرّ
لعيني من رقدة الوسنان ، وأثلج لصدري من شربة الظّمآن حتّى أُوثر على هواي هواهما
» .
وقد سلك بقية الأئمة : هذا المسلك نفسه ، وعملوا على استئصال
كلّ ما من شأنه الحطّ من مكانة الوالدين ، ومن الشواهد الدالة على ذلك : عن
ابراهيم بن مهزم قال : خرجت من عند أبي عبدالله 7
ليلةً ممسياً فأتيت منزلي بالمدينة وكانت أُمّي معي ، فوقع بيني وبينها كلام
فأغلظت لها. فلمّا أن كان من الغد صلّيت الغداة وأتيت أبا عبدالله 7 ، فلما دخلت عليه ، قال لي مبتدئاً : «
يا أبا مهزم ،
مالك ولخالدة أغلظت في كلامها البارحة ؟ أما علمت أنّ بطنها منزل قد سكنته ، وأنّ
حجرها مهد قد غمزته ،
__________________
وثديها
وعاء قد شربته » ؟! قال : قلت :
بلى ، قال : « فلا تغلظ لها
» . وكان لهذه
الكلمات فعل السحر على الابن فسارع للاعتذار من أمه.
والذي يؤسف له ، أنّ الكثيرين من شباب
اليوم ـ بسبب التربية الخاطئة ، أو البيئة المنحرفة ، أو الثقافة الوافدة ـ يكيلون
السّباب واللعان للوالدين ، على أتفه الأسباب ، ويصبّون جام غضبهم عليهم ، عندما
يُسْدِيان لهم النصيحة المخلصة ، مما يترك أثراً سيئاً على نفسيهما ، فيصابان
بخيبة أمل مريرة.
هذا في الوقت الذي يدعو الأئمة : إلى مخاطبة الوالدين بعبارات عذبة ،
ومهذبة ، تحمل معاني التقدير والشعور بالعرفان وعدم رفع الصوت على الوالدين .. عن
الحكم قال : قلت لأبي عبدالله 7
: إنّ والدي تصدّق عليَّ بدار ، ثمّ بدا له أن يرجع فيها، وان قضاتنا يقضون لي بها
، فقال 7 : « نعم ما
قضت به قضاتكم ، وبئس ما صنع والدك ، انما الصدقة لله عزّ وجل فما جعل لله عزّ وجل
فلا رجعة له فيه ، فان أنت خاصمته فلا ترفع عليه صوتك ، وإن رفع صوته فاخفض أنت
صوتك » .
ونخلص في نهاية هذا المطلب إلى القول
بان حقوق الوالدين جسيمة ، فقد قرن القرآن حقهما مع حقه تعالى في مستوى واحد مع
اختلاف في الرّتبة ، فله عزّ وجلّ حقّ العبادة ولهم حقّ الإحسان.
ومنح القرآن الكريم الأم حقاً أكبر ، لما
تُقدِّمه من تضحيات أكثر. وقد
__________________
تصدّرت هذه المسألة
الحيوية سلّم أولويات السيرة النبوية التي اعتبرت عقوق الوالدين من أكبر الكبائر.
ثم إنَّ الأئمة :
ـ وهم القوّامون على الأمة ـ قد عملوا على عدّة محاور لتوعية الناس بمكانة
الوالدين ، فقاموا بتفسير ماورد في ذلك من آيات قرآنية ، واستثاروا الوازع الأخلاقي
والوجداني ، وحددوا ـ أيضاً ـ الحكم الشرعي ، وهو أن حقّ الوالدين فريضة من أكبر
الفرائض ، ثم عينوا تفصيلاً الحقوق المترتبة على الأولاد تجاه والديهم ، زد على
ذلك كشفوا عن الآثار السلبية الدنيوية والأخروية ، لمن عقّ والديه ، وشكّل سلوكهم
السويّ تجاه والديهم ، قدوة حسنة للاجيال في هذا المجال.
المبحث الرابع
حقوق الأولاد
ضمن الإسلام للأولاد حقاً أساسياً ، وهم
بعدُ في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم ، وهو ( حق الوجود ) ، وللتدليل على ذلك نجد
ان تعاليم الإسلام ، تشجع على اتخاذ الذّرية ، وانجاب الأولاد. فالإسلام كما هو
معروف يحثُّ على الإكثار من النسل ، ويرى كراهية تحديده ، حتى نجد أن القرآن
الكريم ، يعتبر الأبناء زينة الحياة الدنيا ، كما في قوله تعالى : ( المالُ والبنونُ زينة الحياة الدُّنيا
... ) ( الكهف ١٨
: ٤٦ ) ، وينقل لنا أماني ورغبات الأنبياء من خلال الدعاء بأن يهب لهم الله تعالى
الذّرية الصالحة ، فعلى سبيل المثال ينقل لنا القرآن الكريم دعاء ابراهيم 7 مع استجابة ذلك الدعاء : ( ربِّ هبْ لي من الصّالحين * فبشرناهُ بغُلامٍ حليم
.. ) ( الصّافات ٣٧
: ١٠٠ ـ ١٠١ ) ، ويَنقلُ لنا أيضاً رغبة زكريا القوية بان يرزقه تعالى الذّرية
وذلك ، عندما رأى ـ بأمّ عينيه ـ القدرة الإلـهية متمثلةً في رزق مريم الإعجازي : ( هنالك دعا زكريّا ربَّهُ قال ربِّ هبْ لي من لدنك
ذُريّة طيّبةً إنَّك سميع الدعاء
) ( آل عمران
٣ : ٣٨ ). وقد صوّر لنا القرآن الكريم باسلوبه البلاغي الرائع ، ما كان عليه زكريا
7 من الشوق
إلى الولد ، وخشيته من البقاء فرداً ، كما في قوله تعالى : ( وَزَكَريَّا إذْ نادى رَبّه رَبِّ لا
تذرني
فَرداً وأنتَ خير الوارثين ) ( الانبياء ٢١ : ٨٩ ) ، وكيف انه
سبحانه استجاب له دعاءه ؛ لأنه كان 7
أهلاً لاستجابة الدعاء : (
فاسْتَجَبْنا له
ووهبنا له يحْيى واصلحنا له زوجَهُ إنّهُمْ كانوا يُسارعُونَ في الخيراتِ ويدعُونَنَا
رَغَباً وَرَهباً وكانوا لنا خاشعين
) ( الانبياء
٢١ : ٩٠ ).
وفي كلِّ ذلك ، تلميح لنا ، بأنْ ندعو
الله تعالى أنْ يرزقنا كما رزقهم الذرّية الصالحة.
أضف إلى ذلك أنَّ السُّنة النبوية ـ
القولية والفعلية ـ تشجع على الزواج، المصدر الشرعي والعرفي للانجاب ، وتُنفّر
أشدّ التنفير من العزوبيّة والرّهبانية ، يقول النبي 6
: « شرار موتاكم
العزّاب » .
وتنقل لنا الرغبة النبوية ، بأنْ تكون
أمته 6 أكثر الأمم يوم
القيامة « تناكحوا تكثروا ،
فإنّي أُباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط
» .
ومن يطّلع على أحاديث أهل البيت : ، يلاحظ أنّ حقوق الأولاد تحتل مكانةً
مرموقة في مدرستهم الإلهية ، وحول حق الولد في الوجود ، يجد أحاديث ترغّب الآباء
بانجاب الأبناء ، لما في ذلك من قوة في العدد ، يقول أمير المؤمنين 7 في هذا الصَّدد : « الولد أحد العددين
» . وأيضاً
للاستعانة بهم في أوقات الحاجة أو الضرورة ، يقول الإمام زين
__________________
العابدين 7 : « من سعادة الرّجل أن يكون له وُلدٌ يستعين بهم
» .
إنَّ الولد يشكل الامتداد الطبيعي
لوالديه ، فمن خلاله ينقل الوالدان صفاتهما وافكارهما واخلاقهما ، وفي كل ذلك
امتداد معنوي لوجودهما.
ويبقى أن نشير إلى ان الآباء سوف ينالون
الثواب نتيجة لاعمال أولادهم الحسنة من دعاء أو صدقة أو عبادة ، وما إلى ذلك. وهذا
ـ بحد ذاته ـ حافز آخر ، يشجع على اتخاذ الذّرية ، من كل ذلك يوفر الولد للوالدين
السعادة الدنيوية والأخروية. وعليه يقول الإمام الباقر 7 : « من سعادة الرّجل أن يكون له الولد ، يعرف فيه شبهه :
خَلقه ، وخُلقه ، وشمائله » .
زد على ذلك ، ان الولد يديم ذكر والديه
، فاسمهم مقرون بإسمه ، وبذلك يُبقي اسمهم محفوراً على لوحة الزّمان ، يقول الإمام
علي 7 « الولد الصالح أجمل الذّكرين
» .
يضاف إلى هذا أنَّ مدرسة أهل البيت : ، حاربت الانعزال والرَّهبنة والابتعاد
عن الواقع والمجتمع ، وشجعت على الزَّواج كأسلوب شرعي للشروع في تكوين الأسرة وانجاب
الأطفال ، وفي هذا المجال ، جاء في بحار الاَنوار : أن امرأة سألت أبا جعفر 7 ، فقالت : أصلحك الله إنّي متبتّلة،
فقال لها : « وما التبتّل عندك » ؟ قالت : لا أريدُ التزويج أبداً ، قال :
__________________
« وَلِمَ »
؟ قالت : التمس في ذلك الفضل ، فقال : « انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة 3
أحقّ به منك ، إنّه ليس أحد يسبقها إلى الفضل
» .
من كلِّ ما تقدم ، نخرج بفكرة عامة ، هي
أن الإسلام ـ متمثلٌ في القرآن والسُنّة بمعناها الاَعم ، أي قول المعصوم وفعله
وتقريره ـ يؤكد ـ تصريحاً وتلميحاً ـ على ضرورة اتّخاذ الأولاد ، وهو من خلال هذا
التوجه ، يضمن لهم ( حق الوجود ) ، بمعنى : أن يبرزوا من كتم العدم إلى حيّز
الوجود ، حتى تستمر الحياة جيلاً بعد جيل ، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن
عليها.
أولاً
: حق اختيار والدته :
للولد ـ قبل أن يتلبس بالوجود ـ حقٌ على
أبيه ، وهو أن يختار له أمّاً صالحة ، يستودعها نطفته. وقد ثبت علمياً أنّ الصفات
الوراثية الجسمية والمعنوية تنتقل عن طريق التناسل.
وقد سبق الوحيُ العلمَ في الكشف عن هذه
الحقيقة المهمة ، وحثَّ على تدارك آثارها السلبيّة ، يقول النبي 6 ـ وهو الناطق عن الوحي ـ مُوصياً : « تزوجوا في الحِجْزِ الصّالح
فانّ العرق دسّاس » . ويقول أيضاً : « تخيروا لنطفكم فإن النساء
يلدن أشباه إخوانهنّ وأخواتهن
» .
فمن الأهمية بمكان أن يختار الأب الزوجة
ذات النسب ، حتى ينقل
__________________
لولده صفات جسمية
ومعنوية عالية ، تشكل له الدرع الواقي من الانحراف والانجرار وراء ضغط الغرائز
الهابطة ، وأيضاً يوصي الإسلام بأن يختار الوالد أم أولاده من ذوات الدين والإيمان
، فتكون بمثابة صمّام أمانٍ يحول دون جنوح الاطفال عن جادة الحق والفضيلة ، وقد
ضرب الله تعالى لنا مثلاً في امرأة نوح ، التي آثرت الكفر على الإيمان وخانت زوجها
في رسالته ، وكيف أثّرت سلبياً على موقف ابنها من قضية الإيمان برسالة نوح ، وكانت
النتيجة أن أوردته مناهل الهلكة : غَرَقاً في الدنيا ، وعذاباً في الآخرة ! ولقد
دفعت العاطفة الاَبوية نوحاً 7
إلى مناداة ابنه ليركب في سفينة النجاة مع سائر أهله ، ولكنه كان خاضعاً لتربية
أمه المنحرفة ولضغط بيئته الكافرة ، فأصرَّ على الكفر ولم يستجب لنداء أبيه المخلص
، وتشبث بالاسباب المادية العادية فاعتقد أنّ اللجوء إلى الجبل سوف ينقذه من الغرق
، فلا الجبل أنقذه. ولا شفاعة أبيه اسعفته ، فكان من المغرقين.
إقرأ هذه الآيات بتمعن : ( ونادى نوح ربّه فقال ربِّ إنّ ابني من أهلي وإن وعدك
الحقّ وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك
إنّه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم انّي اعظك أن تكون من الجاهلين
) ( هود ١١ :
٤٥ ).
وهكذا نجد أنّ الأم الكافرة متمثلة في
امرأة نوح 7 تقف سداً
منيعاً أمام إيمان ولدها ، وتشجعه على عقوق إبيه ، وعدم السمع والطاعة له.
وفي مقابل ولد نوح الذي يمثل الرَّفض
والتمرّد ، نجد اسماعيل ولد ابراهيم 8
يمثل الطاعة والامتثال لتوجهات أبيه ، وذلك عندما أُوحي
إليه في المنام أن يذبحه ، فلم يترَّدد
إسماعيل 7 ـ فيما يوحي
به النص القرآني ـ : (
فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعيَ قَالَ يا بُنَيَّ إنّي أرَى في المَنَامِ أنّي أذبَحُكَ فانظُر
ماذَا تَرَى قَالَ يا أبتِ افعَل ما تُؤمِر سَتَجِدُني إن شاءَ اللهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ ) ( الصافات ٣٧ : ١٠٢ ).
وهذا الموقف الإسماعيلي المشرِّف ، لم
ينطلق من فراغ ، بل كان نتيجةً طبيعية للتربية الإبراهيمية ، إذ تمكن إبراهيم 7 من عزل ولده الوحيد عن ضغوط بيئته
المنحرفة ، ولعل الأهم من ذلك أن هاجر ـ أُم إسماعيل ـ كانت امرأة مؤمنة صالحة ،
هاجرت مع أبيه وتحملت معه معاناة الجوع والعطش والغربة ، عندما تركها إبراهيم 7 في وادٍ غير ذي زرع ، فكانت صابرة
محتسبة ، زرعت في ولدها بذور الحب والطاعة لوالده ولرسالته.
وعلى ضوء الهدى القرآني ، كانت مدرسة
أهل البيت : تركّز في
توجهاتها التربوية والاجتماعية ، على أهمية ووجوب التفحص والتثبت عند اختيار
الزَّوجة ، وأن ينظر الأب نظرة بعيدة الأفق يُراعي بها حق أولاده في الانتساب إلى
أم صالحة ، ولا ينظر بعين واحدة فيركز عند الاختيار على مالها أو جمالها أو حسبها
فحسب.
وصفوة القول : إنّ على الرجل أن يختار
لنطفته المرأة المتدينة، فيفرزها عن غيرها ، ويستخلصها لنفسه كما تُسْتَخلص
الزّبدة من ماء المخيض. ومن هنا أكد الإمام الصادق 7
على ذلك بقوله : « تجب
للولد على والده ، ثلاث خصال : اختيار والدته ، وتحسين اسمه ، والمبالغة في
تأديبه
» .
ولا ننسى الإشارة إلى أنّ السُنّة قد
حذّرت من الافتتان بالجمال الظاهري ، وحثّت على النظر إلى الجمال الباطني المتمثل
بالطهارة والإيمان ، فعندما قال النبي 6
مُحذراً : « إياكم وخضراء
الدّمن » ، قيل : يا رسول الله وما خضراء
الدّمن ؟ قال : « المرأة
الحسناء في منبت السّوء » . كذلك حذرت السنّة المطهّرة من المرأة
الحمقاء ، تلك التي لا تُحسن التصرف ؛ لضعف مستحكم في عقلها ، وكشفت عن الآثار
السلبية التي تُصيب الأبناء من جراء الاقتران بالمرأة الحمقاء ، فالحديث النبوي
يقول : « إياكم وتزوج
الحمقاء ، فإنّ صحبتها بلاء ، وولدها ضياع
» .
ويبقى إن نشير إلى أن الإسلام قد حرّم
الزِّنا لعلل عديدة : منها ما يتعلق بحق الابناء في الانتساب إلى الآباء الشرعيين
، ومنها ما يتعلق بخلق أجواء عائلية نظيفة توفر للطفل حقه في التربية الصالحة ،
وقد حدّد حقوقاً تترتب بدرجة أساسية على الأم التي تُشكل وعاءً للنسل ، فيجب عليها
أن تصون نفسها ونسلها من كل شين ، حتى يبقى الولد قرير العين ، مطمئن النفس بطهارة
مولده ، وحتى لا تظهر عليه علامات ولد الزِّنا ، وأمامنا شواهد معاصرة في الحضارة
الغربية ، التي تشجع على الاختلاط والتبرج وتطلق العنان للشهوة الجامحة ، وتشكل
بذلك أرضية ممهدة للعلاقات غير الشرعية بين الجنسين ، فكان من نتيجة ذلك ازدياد
أعداد أولاد الزِّنا
__________________
وما يرافق ذلك من
مظاهر شاذّة كظاهرة أولاد الشوارع ، وتفشي الجريمة والسرقة ، الأمر الذي أدّى إلى
تمزق النسيج الاجتماعي ، وهو أمر يهدد المجتمع الغربي عموماً بعواقب وخيمة.
ولقد حذّرت مدرسة أهل البيت : من تلك العواقب من قديم الزمان ، يقول
أمير المؤمنين 7
: « ألا أخبركم بأكبر
الزِّنا ؟.. هي امرأة توطئ فراش زوجها ، فتأتي بولد من غيره فتلزمه
زوجها ، فتلك التي لا يكلمها الله ولا ينظر إليها يوم القيامة ، ولا يزكيها ، ولها
عذاب عظيم »
، وفي هذا الحديث إشارة إلى اختلال واختلاط الانساب فيصادر الزِّنا حق الابناء في
الانتساب إلى آبائهم.
ويبين الإمام الثامن علي بن موسى الرضا 7 علة تحريم الزِّنا بقوله : « حُرم الزِّنا لما فيه من
الفساد من قتل النفس ، وذهاب الانساب ، وترك التربية للأطفال ، وفساد المواريث ،
وما أشبه ذلك من وجوه الفساد » .
ولا يخفى ان هذه الامور فيها اعتداء
صارخ على حق الطفل في الحياة والانتساب والتربية والميراث. ولقد وجّه أحد الزنادقة
سؤالاً إلى أبي عبدالله 7
، لِمَ حرّم الله الزِّنا ؟ فأجابه الامام برحابة صدر وسعة أفق قائلاً : « لِمَا فيه من الفساد ، وذهاب
المواريث ، وانقطاع الأنساب ، لا تعلم المرأة في الزِّنا من أحبلها ، ولا المولود
يعلم من أبوه .. » .
ولقد أصاب الإمام 7 بذلك كبد الحقيقة ، من أن الزّنا يصادر
حق
__________________
الابن في الانتساب
لأبيه ؛ كما كشف لنا الإمام الصادق 7
عن علامات ولد الزِّنا ، وفي حديثه الآتي إشارة للآثار السلبية التي يفرزها إنكار
حق المولود في الولادة الطبيعية والشرعية ، قال 7
: « إنّ لولد الزّنا
علامات : أحدها بغضنا أهل البيت ، وثانيها أنّه يحنّ إلى الحرام الذي خُلق منه ،
وثالثها الاستخفاف بالدّين ، ورابعها سوء المحضر للنّاس ، ولا يسيء محضر إخوانه
إلاّ من ولد على غير فراش أبيه ، أو حملت به أمّه في حيضها
» .
من كلِّ ما تقدم ، اتضح لنا ، أنّ الإسلام
يحث على اختيار المرأة الصالحة، ويعتبر ذلك من حقوق الولد على أبيه ، وأيضاً للولد
ـ قبل ان يُخلق ـ حق عظيم على أُمُّه، بأن تحصّن نفسها وتحافظ على عفّتها ، ولا
تنزلق إلى الزّنا فتحرم المولود من حق الانتساب إلى أبيه ، وتضيّع حقه في الإرث
والتمتع بالسمعة الطيّبة.
ثانياً
: حقوق ما بعد الولادة :
١
ـ حق الحياة :
إنَّ للطفل ـ ذكراً كان أو أُثنى ـ حقّ
الحياة ، فلا يبيح الشرع لوالديه أن يطفئا شمعة حياته بالوأد أو القتل أو الاجهاض.
ولقد شنَّ الإسلام حملة قوية على عادة ( الوأد ) التي كانت متفشية في الجاهلية،
وتساءَل القرآن مستنكراً ومتوعداً : (
وإذا الموؤدة
سُئلت * بأيّ ذنب قتلت
) ( التكوير٨١
: ٨ ـ ٩ ) واعتبر ذلك جريمة كبرى لا يمكن تبريرها ـ بحال ـ
__________________
حتى في الحالات
الاضطرارية كحصول المجاعة. وكانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر ، كما في قوله
تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق
نحن نرزقكم وإياهم ) ( الانعام ٦ : ١٥١ ). وفي آية أُخرى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم
) ( الإسراء
١٧ : ٣١ ).
والملاحظ في الآية الأولى ، إنّه تعالى
قدّم رزق الآباء على رزق الأبناء، وفي الآية الاخرى ، نجد العكس ، إذْ قدّم رزق
الأبناء على الآباء ، فما السرّ في ذلك ؟ وهل كان التعبير عفوياً ؟ بالطبع لا ؛
لأن التعبير القرآني قاصد ودقيق ، لا يقدّم كلمة أو يُؤخر أُخرى إلاّ لغاية وحكمة.
وعند التأمل العميق نجد ان قوله تعالى :
( ولا تقتلوا أولادكم من املاق
) ( الانعام ٦
: ١٥١ ). توحي بأن الفقر موجود بالفعل ، والمجاعة قائمة ، ولمّا كان اهتمام الإنسان
في تلك الازمان يتمحور حول نفسه ، يخشى من هلاكها ، لذا يُطمئنه الخالق الحكيم في
هذه الآية بانّه سوف يضمن رزقه أولاً ، ومن ثم رزق أولاده في المرتبة الثانية ،
يقول له : ( نحن نرزقكم وإياهم
) أي يا أصحاب
الاِملاق نحن نأتي برزقهم أيضاً.
بينما في الآية التالية ، يقول تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق
) ( الإسراء ١٧
: ٣١ ) ، أي : خوفاً من فقر سوف يقع في المستقبل ، وبتعبير آخر : من فقر محتمل
الوقوع ، وهنا يُطمئنه الرَّبّ تعالى بضمان رزق أبنائه أولاً ؛ لأنه يخاف إن جاءه
أولاد أن يأتي الفقر معهم فيقول له مُطمئناً : (
نحن نرزقهم وإياكم
).
فالمعنى ـ في الآيتين ـ ليس واحداً ،
وكلّ آية تخاطب الوالدين في ظرف معين ، ولكن تتحد الآيتان في الغاية وهي الحيلولة
دون الاعتداء
على حياة الأبناء. ثم إنّ الجاهلية كانت
تمارس سياسة التمييز بين الجنسين بين الذكر والأنثى فتعتدي على حياة الإناث بالوأد
الذي كان يتمّ في صورة بشعة وقاسية ، ويفتقد إلى أدنى العواطف الإنسانية ، حيثُ
كانت البنت تُدفن وهي حية !..
ينقل مؤلف المختار من طرائف الأمثال والأخبار
:
( سُئل عمر بن الخطاب عن أعجب ما مرَّ به في حياته.
فقال
: هما حادثتان : كلمّا تذكرت الأولى ضحكت ، وكلمّا تذكرت الاَُخرى بكيت ..
قيل
له : فما الأولى التي تُضحكك ؟
قال
: كنت في الجاهلية أعبد صنماً من العجوة ، فإذا دار العام أكلت هذا الصنم ، وصنعت
من البلح الجديد صنماً غيره !
قيل
له : وما الاَُخرى التي تبكيك ؟
قال
: بينما كنت أحفر حفرة لوأد ابنتي ، كان الغبار يتناثر على لحيتي ، فكانت ابنتي
هذه تنفض عن لحيتي هذا الغبار ، ومع ذلك فقد وأدتها
) !!!
إزاء هذه الممارسات الهمجية ، الوحشية ،
الخالية من الإنسانية ، والتي كانت تُرتكب في عصر الجاهلية ، عمل الإسلام على
تشكيل رؤية جديدة لحياة الإنسان ، رؤية تعتبر الحياة ليست حقا فحسب ، بل هي أمانة
إلهية
__________________
أودعها الله سبحانه
وتعالى لدى البشر ، وكل اعتداء عليها بدون مبرِّر شرعي يُعد عدواناً وتجاوزاً
يستحق الإدانة والعقاب الأخروي ، فليس من حق أية قوة غير إلـهية سلب هذه الوديعة
المقدسة ، والله تعالى هو واهب الحياة ، وله وحده الحق في سلبها.
وأيضاً عمل الإسلام على تشكيل وعي
اجتماعي جديد بخصوص الأنثى ، وقد كان الجاهليون لا تطيب نفوسهم بولادتها كما يقول
القرآن الكريم : (
وإذا بُشّر
أحدُهُم بالاُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسودّاً وهُو كظيم * يتوارى من القوم من سُوء ما
بُشِّر به أيُمسِكُهُ على هُون أم يَدسُهُ في التُّراب ألا ساءَ ما يحكمون
) ( النحل ١٦
: ٥٨ ـ ٥٩ ). ولقد اختار النبي الأكرم 6
أفضل السُّبل لإزالة هذا الشعور الجاهلي تجاه الأنثى ، والذي كان يتسبب في زهق
أرواح مئات الفتيات كل عام ، ففضلاً عن تحذيره من العواقب الأخروية الجسيمة
المترتبة على ذلك ، اعتبر من قتل نفساً بغير حق جريمة كبرى ينتظر صاحبها القصاص
العادل.
ومن جانب آخر زرع النبي 6 في وعيهم أن الرّزق بيد الله تعالى ،
وهو يرزق الإناث كما يرزق الذكور ، فأشاع بذلك أجواء الطمأنينة على العيش ، وكان
الجاهليون يقتلون الإناث خوف الفقر. أضف إلى ذلك استعمل النبي 6 لغةً وجدانيةً شفافة ، فتجد في السُنّة
القولية عبارات تعتبر البنت ريحانة ، والبنات هن المباركات ، المؤنسات ، الغاليات
، المشفقات.. وما شابه ذلك ، وكشاهد من السُنّة القولية وردّ ( عن حمزة بن حمران
يرفعه قال : أتى رجل وهو عند النبي 6
، فأُخبر بمولود أصابه ، فتغيّر وجه الرّجل !! فقال له النبيّ : « ما لكَ
» ؟ فقال : خير ، فقال : « قُل
». قال : خرجت والمرأة تمخض ، فأُخبرت أنّها ولدت جارية !! فقال له
النبيّ 6
: « الأرض تقلّها ،
والسَّماء تظلّها ، والله يرزقها وهي ريحانة تشمّها
.. » ؟. وقد أكد
الإمام علي 7 ، ذلك
التوجه النبوي بقوله : « كان
رسول الله 6 إذا بُشّر بجارية ، قال :
ريحانة ، ورزقها على الله عزّ وجلّ
» .
ولقد أعطى النبي 6 أُنموذجاً حياً يعدُّ قدوةً في السلوك
مع ابنته فاطمة 3
، ينقل الحسني في سيرة الأئمة عن بنت الشاطئ في حديثها عن بنت النبي 6 : لما ولدت فاطمة ( استبشر أبواها
بمولدها ، واحتفلا به احتفالاً لم تألفه مكة في مولد أنثى ) ، ويظهر ذلك أيضاً من الأسماء والالقاب
العديدة التي منحها إياها صلى الله عليهما ، فقد نقل الحسني عن الأستاذ توفيق أبي
علم ، في كتابه أهل البيت : ( إنّ للسيدة فاطمة الزهراء تسعة أسماء فاطمة ،
والصدّيقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والمحدثة ، والزهراء ، والبتول ، وسيدة
نساء أهل الجنة ، واضاف إلى ذلك ( أبو علم ) أنه كان يُطلق عليها : أم النبي ؛
لأنّها كانت وحدها في بيته بعد موت أمّها ، تتولى رعايته والسهر عليه ) ، وتنقل كتب السيرة أيضاً عن النبي 6 أنه كان يمنحها حبّه ، ويسبغ عليها
عطفه بحيث أنه كان اذا سافر كانت آخر الناس عهداً به ، وإذا رجع من سفره كانت أولَ
الناس
__________________
عهداً به ، وكان إذا
رجع من سفر أو غزاة ، أتى المسجد فصلى ركعتين ، ثم ثنّى بفاطمة .
صحيح أن النبي 6 قد استشف من وراء الغيب السر المكنون
فيها .. وأن الذّرية الطاهرة من بضعته الزَّهراء 3
، وأنهم سوف يتابعون المسيرة التي بدأها ولن يفترقوا عن الكتاب حتى يردوا على
النبي 6 الحوض ،
ولكن الصحيح أيضاً أنّ النبي الأكرم 6
أراد أن يرسم لنا صورة مشرقة في التعامل مع البنت ، ذلك النوع من التعامل
الاجتماعي الذي غيبته الجاهلية. ولقد سار أئمة أهل البيت : على خطى جدّهم العظيم ، واقتفوا آثاره
في تغيير النظرة التمييزية السائدة ، التي تحط من الأنثى لحساب الذكر ولا تقيم لها
وزناً.
قال الحسن بن سعيد اللّخمي : ولد لرجل
من أصحابنا جارية ، فدخل على أبي عبدالله 7
، فرآه متسخّطاً ، فقال له أبو عبدالله 7
: « أرأيت لو أنّ الله
تبارك وتعالى أوحى إليك ! : أن أَخْتَارُ لك ، أو تختار لنفسك ، ما كنت تقول
» ؟ قال : كنت أقول : يا ربِّ تختار لي ، قال 7
: « فإنّ الله قد
اختار لك » .
بهذه الطريقة الحكيمة أزاح الإمام الصادق 7
رواسب الجاهلية المتبقية في نفوس الآخرين.
على ان الأكثر إثارة في هذا الصَّدد أن
بعضهم اتّهم زوجته بالخيانة ، لا لشيء إلاّ لكونها ولدت جارية ! وعندئذ دحض الإمام
الصادق 7 هذا الرأي
السقيم ، الذي لا يستقيم على سكة العقل ولا الشرع ، وكشف
__________________
عن الرؤية القرآنية
البعيدة.
عن ابراهيم الكرخي ، عن ثقة حدّثه من
أصحابنا قال : تزوجت بالمدينة ، فقال لي أبو عبدالله 7
: « كيف رأيت » ؟ قلت : ما رأى رجل من خيرٍ في امرأة إلاّ وقد رأيته فيها ، ولكن
خانتني ! فقال : « وما
هو » ؟ قلت : ولدت جارية ! قال : « لعلّك كرهتها
، إنّ الله عزّ وجلّ
يقول : (
آباؤكم وأبناؤكم
لا تدرون أيُّهم أقرب لكم نفعاً
) ( النساء ٤
: ١١ ) .
وعن الجارود بن المنذر قال : قال لي أبو
عبدالله 7 : « بلغني أنّه ولد لك ابنة
فتسخطها ! وما عليك منها ؟ ريحانة تشمَّها ، وقد كُفيت رزقها
.. » .
ولابدّ من التنويه على ان الإمام الصادق
7 قد قلب
النظرة التمييزية التي تُقدِّم الذَّكر على الأنثى ، رأساً على عقب ، وفق نظرة
دينية أرحب ، وهي أن البنين نِعَمٌ ، والبنات حسنات ، والله تعالى يَسأل عن
النِعَم ويثيب على الحسنات .. قال 7
في هذا الصدد : « البنات
حسنات ، والبنون نِعمة ، فانما يثاب على الحسنات ، ويُسأل عن النعمة
» .
وعلى ضوء ماتقدم نجد أن مدرسة أهل البيت
: مارست عملية
( الإخلاء والإملاء ) :
إخلاء العقول من غواشي ورواسب الجاهلية
، وانتهاكها الصارخ لحق المولود في الوجود.
__________________
واملاء العقول بافكار الإسلام الحضارية،
التي تبين للإنسان مكانته في الكون ، وتصون حياته ، وتكفل حريته وكرامته ، وتراعي
حقوقه منذ نعومة أظفاره ، وعلى الخصوص حقه في الوجود ، وعلى الأخص حق البنات في
الحياة.
٢
ـ حق الولد في الاسم الحَسن :
للبعض أسماء جميلة ، تحمل معاني سامية ،
وتولّد مشاعر جميلة ، فتجذبك للشخص المسمى بها كما يجذب شذا الأزهار النحل. وللبعض
الآخر أسماء سمجة ، مفرغة من أي مضمون ، وتحسّ عند سماعها بالضيق والاشمئزاز. وما
أعظم التأثير النفسي والاجتماعي للإسم ، الذي نطلقه على اطفالنا ، فكم من الأولاد
قد أرّق اسمه البشع ليله ، وقضَّ مضجعه ، نتيجة الاستهزاء والازدراء الذي يلاقيه
من مجتمعه ، فيتملكه إحساس بالمرارة والتعاسة من اسمه الذي أصبح قدراً مفروضاً
عليه كالوشم على الجلد تصعب إزالته ، وهناك بالطبع نفوس قوية ، لم تسمح لسحابة
الاسم السوداء أن تنغص حياتها ، فعملت على تغيير اسمها السيء واستأصلته .. كما
يستأصل الجرّاح الماهر خلية السرطان.
ولم يهمل الإسلام كدين يقود عملية تغيير
حضارية كبرى ، شأن الاسم ، وكان النبي 6
يقوم بتغيير الاسماء القبيحة أو الاسماء التي تتنافى مع عقيدة التوحيد ، واعتبر من
حق الولد على والده ، ان يختار له الاسم المقبول ، قال رسول الله 6 : « إنّ أوّل ما ينحل أحدكم ولده الاسم الحسن ، فليحسن
أحدكم اسم ولده » . وقد بيّن في حديث آخر الأبعاد
__________________
الأخروية المترتبة
على الاسم ، فقال 6
: « استحسنوا أسماءكم
فإنكم تُدعون بها يوم القيامة : قُم يا فلان ابن فلان إلى نورك ، وقم يا فلان ابن
فلان لا نور لك » .
جدير ذكره ان أحسن الأسماء أسماء
الانبياء والمرسلين والأئمة :
والصالحين ، يقول الرسول 6
موصياً : « سمّوا أولادكم
أسماء الأنبياء » ، ويقول الإمام الباقر 7 : « أصدق الأسماء ما سُمّي بالعبوديّة ، وخيرها أسماء
الأنبياء صلوات الله عليهم » ،. والملفت للنظر ان الرسول الأكرم 6 بقدر ما كان حريصاً على تغيير الأسماء
القبيحة في الرّجال والبلدان ، كان سخياً بالمقابل في منح الأسماء الحسنة لأهل بيته
: وأصحابه
والمحيطين به. تروي كُتب السيرة : ان بشرى ولادة الحسن 7 عندما زفت إلى النبي 6 وأطلّ على الحياة سبطه الأول من حبيبته
ووحيدته فاطمة الزهراء 3
سيدة نساء العالمين ، سارع رسول الله 6
إلى دار فاطمة ، فَدُفع إليه هذا المولود المبارك ، فأخذه بيديه ، وأذَّن في أُذنه
اليمنى وأقام في اليسرى ، ثم قال لعلي 7
: « أي شيء سميت ابني
؟ قال : ما كنت لاسبقك بذلك » ، فقال 6 :
ولا أنا سابق ربي به. فهبط جبريل : فقال
: يا محمد ، إنّ ربك
يُقرئك السلام ، ويقول لك : علي منك بمنزلة هارون من موسى ولكن لا نبيَّ بعدك ،
فسمِّ ابنك هذا باسم ولد هارون
، فقال : وما كان اسم ابن هارون
يا جبريل ؟ قال : شُبَّر
، فقال 6 :
__________________
إنّ
لساني عربي ، فقال : سمِّه الحسن.
فسمّاه حسناً وكنّاه أبا محمد » .
ولما وُلِد الحسين 7 : ( جيء به إلى جده رسول الله 6 فاستبشر به ، وأذّن في أذنه اليمنى ،
وأقام في اليسرى ، فلما كان اليوم السابع ، سمّاه حسيناً ، وعق عنه بكبش ، وأمر
أُمّه أن تحلق رأسه ، وتتصدق بوزن شعره فضة كما فعلت بأخيه الحسن ، فامتثلت .. ) .
إنّ التعاليم النبوية التي تؤكد على حق
الولد في الاسم الحَسِن ، لم تنطلق من فراغ ، أو تثار من أجل الترف ، بل تنطلق من
منظار حضاري ، ينظر للعواقب المترتبة على غمط هذا الحق أو التهاون فيه ، فالتعاليم
النبوية تتفق مع معطيات العلم الحديثة بدليل : ( ان علم النفس قد اكتشف ـ أخيراً ـ
علاقة وثيقة بين الإنسان واسمه ولقبه. ويضرب علماء النفس لنا ـ مثلاً ـ رجلاً اسمه
( صعب ) فإن دوام انصباب هذه التسمية في سمعه ووعيه ، يطبع عقله الباطن بطابعه ،
ويَسِمُ أخلاقه وسلوكه بالصعوبة.. وذلك لا ريب هو سر تغيير الرَّسول أسماء بعض
الناس ، الذين كانت أسماؤهم من هذا القبيل ، فقد أبدل باسم ( حرب ) اسماً آخر هو (
سمح ) فهناك ـ إذن ـ وحي مستمر توحيه أسمائنا ويلوّن إلى حدٍ كبير طباعنا ) .
لقد وضع الأئمة : نصب أعينهم هذا الحق وضرورة مراعاته ،
وثمة شواهد عديدة على ذلك منها ، قول الإمام موسى الكاظم 7 : « أوّل ما
__________________
يبرّ
الرّجل ولده أن يسمّيه باسم حسن ، فليحسن أحدكم اسم ولده
» .
كما بين الإمام الصادق 7 المنافع التي يجنيها من ينحل أولاده
اسماً يحاكي به أسماء الأئمة :
، فعندما قيل لابي عبدالله 7
: جعلت فداك إنّا نسمّي بأسمائكم وأسماء آبائكم فينفعنا ذلك ؟ فقال : « إي والله وهل الدّين إلاّ
الحبّ ؟ قال الله : ( إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم
ذنوبكم )
» .
فالاسم ـ تبعاً لما تقدم ـ ليس مجرد لفظ
يُكتب بالمداد على شهادة الميلاد ، بل هو حق طبيعي للمولود ، يعيّن هويته ، وتتفتح
نفسه الغضة على مضمونه البديع .. كما تتفتح براعم الزّهور في الربيع.
٣
ـ حق التأديب والتعليم :
لا شك أن السنوات الأولى من عمر الطفل ،
هي أهم مراحل حياته ، ومن هذا المنطلق يؤكد علماء التربية على ضرورة الاهتمام
الزائد بالطفل ، وأهمية تأديبه بالآداب الحسنة.
قال سيد الموحدين ، الإمام علي 7 مبيّناً أهمية الأدب وأرجحيته على غيره
.. : « خير ما ورّث
الآباءُ الأبناء الأدبَ » .
وقال 7
: « إنّ الناس إلى
صالح الأدب ، أحوج منهم إلى الفضّة
__________________
والذّهب
» .
وسلّط حفيده الإمام الصادق 7 أضواءً معرفية أقوى ، فكشف عن العلة
الكامنة وراء تفضيل الأدب على المال بقوله : « إنَّ خير ما ورّث
الآباء لأبنائهم الأدب لا المال ، فإنّ المال يذهب والأدب يبقى
.. » .
وينبغي الإشارة إلى أن موضوع ( أدب الأطفال
) قد احتل مساحةً واسعة من أحاديث أهل البيت :
، فنجد تأكيداً على المبادرة إلى تأديب الأحداث قبل أن تقسو قلوبهم ويصلب عودهم ؛
لأن الطفل كورقة بيضاء تقبل كل الخطوط والرُسوم التي تنتقش عليها ، يقول الإمام علي
لولده الحسن 8 : « إنما قلب الحدث كالأرض
الخالية ، ما أُلقي فيها من شيء قبلته ، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ، ويشتغل
لبّك » .
وكان ذلك ديدن الأئمة : ، فمع ما كانوا عليه من العصمة يولون لأدب
أولادهم عناية خاصة ، وكان أبوهم علي 7
أديب النبي 6 ، يتبعه
اتّباع الفصيل لأمه ، فأورث أدبه الراقي لأولاده من بعده ، وكلاهما يضيء من مشكاةٍ
واحدة هي مشكاة الوحي ، يقول صادق أهل البيت :
: « أدّبني أبي بثلاث ..
قال لي : يابنيَّ من يصحب صاحب السّوء لا يسلم ، ومن لا يقيّد ألفاظه يندم ، ومن
يدخل مداخل السّوء يتّهم » .
__________________
أدب الطفل في مدرسة أهل البيت : :
يمكن إبراز الخطوط الأساسية لمدرسة أهل
البيت في بيان تأديب الطفل وتعليمه في النقاط التالية :
أ ـ
لا تقتصر تربية الأولاد على الأبوين فحسب بل هي مسؤولية اجتماعية تقع أيضاً على
عاتق جميع أفراد المجتمع. وحول هذه النقطة بالذات ، يقول الإمام الصادق 7 : « أيّما ناشئ نشأ في قوم ثمّ لم يؤدّب على معصية ، فإنّ
الله عزّ وجلّ أوّل ما يعاقبهم فيه أن ينقص من أرزاقهم
» .
فالإمام 7
يحدّد المسؤولية الجماعية عن الظواهر الاجتماعية السلبية ، ويكشف عن الترابط
القائم بين التربية والتعليم ، وبين الوضع الاقتصادي ، فكل انحراف في التربية سوف
يؤثر سلباً على الاقتصاد ، فللمعصية آثار تدميرية على المجتمع ، لذلك نجد القرآن
الكريم ، ينقل دعوة النبي هود 7
لقومه بالتوبة من المعصية والاستغفار كشرط أساسي لنزول المطر الذي حُبس عنهم ثلاث
سنين : ( ويا قوم استغفروا ربّكم ثمَّ
تُوبوا إليه يُرسل السماء عليكُم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوَّتكم ولا تتولَّوا
مُجرمين )
( هود ١١ : ٥٢ ).
فرؤية آل البيت : تنطوي على ضرورة تأديب أفراد المجتمع
وخصوصاً
__________________
الأحداث منهم على
الطاعة ، وتميل إلى أن المسؤولية في ذلك لا تناط بالوالدين فحسب ، وإنّ كان دورهم
أساسياً ، وإنّما تتسع دائرتها لتشمل الجميع ، فالسُنّة الاجتماعية بطبيعتها تنطبق
على الجميع بدون استثناء.
ب ـ
من الضروري مراعاة عمر الطفل ، فلكل عمر سياسة تربوية خاصة ، فمدرسة أهل البيت : سبقت المدارس التربوية المعاصرة
بالاَخذ بمبدأ ( التدرج ) وهو مبدأ التزمت به المناهج التربوية المعاصرة ، بعد أنْ
اثبتت التجارب العملية فائدته وجدواه ، ويمكن لنا أن نأتي بشواهد على ذلك ، ففيما
يتعلق بالتربية الدينية ، يؤدب الطفل على الذكر لله إذا بلغ ثلاث سنين ، يقول
الإمام الباقر 7
: « إذا بلغ الغلام
ثلاث سنين فقل له سبع مرّات : قل : لا إله إلاّ الله ، ثم يُترك
.. » . ثم نتدرج
مع الطفل فنبدأ بتأديبه على الصلاة ، يقول الإمام علي 7 : « أدّب صغار أهل بيتك بلسانك على الصلاة والطهور ، فإذا
بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً
» ، بعد ذلك :
« يؤدّب الصّبي على
الصّوم ما بين خمسة عشر سنة إلى ستّ عشرة سنة
» كما يقول الإمام الصادق 7
.
وفي أثناء هذه الفترات يمكن تأديب الطفل
على أُمور أُخرى لا تستلزم بذل الجهد ، كأن نؤدبه على العطاء والاحسان إلى الآخرين
، ونزرع في وعيه حبّ المساكين ، وفي هذا الصَّدد يقول الإمام الصادق 7 : « مُر الصّبي فليتصدق بيده بالكسرة والقبضة والشيء ، وإن
قلّ ، فإنّ كلَّ شيء
__________________
يراد
به الله ـ وإن قلّ بعد أن تصدق النية فيه ـ عظيم
.. » .
وهنا يبدو من الأهمية بمكان الاشارة إلى
أن الأئمة : يتبنون
بصورة عامة تقسيماً ( ثلاثياً ) لحياة الطفل ، ففي كل مرحلة من المراحل الثلاث ،
يحتاج الطفل لرعاية خاصة من قبل الأبوين ، وأدب وتعليم خاص، استقرأنا ذلك من
الاحاديث الواردة في هذا المجال ، وكشاهد على تبنيهم التقسيم الثلاثي ، نورد هذه
الرّوايات الثلاث :
عن النبي الأكرم 6 : « الولد سيّد سبع سنين ، وعبد سبع سنين ، ووزير سبع سنين
، فإن رضيت خلائقه لاحدى وعشرين سنة ، وإلاّ ضُرب على جنبيه ، فقد أعذرت إلى الله
» .
وقد نسج الإمام الصادق 7 على هذا المنوال فقال : « دع ابنك يلعب سبع سنين ،
ويؤدب سبع سنين ، والزمه نفسك سبع سنين ، فإن أفلح ، وإلاّ فإنَّه لا خير فيه
» ، فمن خلال
هاتين الروايتين نجد تقسيماً ثلاثياً لمرحلة الطفولة ، كل مرحلة تستغرق سبع سنين ،
فالمرحلة الأولى هي مرحلة لعب ، والثانية مرحلة أدب ، والثالثة مرحلة تبني مباشر
للطفل وملازمته كظله.
وفي الرّواية الثالثة نجد انها تلتزم
هذا التقسيم لكن مع اختلاف طفيف إذ تجعل مدّة المرحلة الأولى والثانية ست سنين
وتُبقي المرحلة الثالثة على عددها أي سبع سنين : عن الحسن الطّبرسي في مكارم الأخلاق
نقلاً
__________________
عن كتاب المحاسن عن
الامام الصادق 7
قال : « احمل صبيّك حتى
يأتي عليه ستّ سنين ، ثمّ أدّبه في الكتاب ستّ سنين ، ثم ضمّه اليك سبع سنين
فأدّبه بأدبك ، فإن قبل وصَلُح وإلاّ فخلّ عنه
» .
ج
ـ ينبغي عدم الاِسراف في تدليل الطفل ،
واتباع أُسلوب تربوي يعتمد على مبدأ الثواب والعقاب ، كما يحذّر أئمة أهل البيت : من الأدب عند الغضب ، يقول أمير
المؤمنين 7 « لا أدب مع غضب
» ، وذلك لأن الغضب
حالة تحرك العاطفة ولا ترشد العقل ، ولا تعطي العملية التربوية ثمارها المطلوبة بل
تستحق هذه العملية ما تستحقه الأمراض المزمنة من الصبر والأناة وبراعة المعالجة.
فالطفل يحتاج إلى استشارة عقلية متواصلة ؛ لكي يدرك عواقب أفعاله ، وهي لا تتحقق ـ
عادة ـ عند الغضب الذي يحصل من فوران العاطفة وتأججها ، وبدون الاستشارة العقلية
المتواصلة ، لا تحقق العملية أهدافها المرجوة ، فتكون كالطرق على الحديد وهو بارد.
وعند تمعننا المتأني في أحاديث أهل
البيت : نجد أنّ
هناك رخصة في اتباع أسلوب ( الضرب ) مع الصبي في المرحلة الثانية دون المرحلة
الطفولة الأولى ، منها قول الإمام علي 7
: « أدّب صغار أهل
بيتك بلسانك على الصّلاة والطّهور ، فإذا بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً
» .
ولكن بالمقابل نجد أحاديث أُخرى تحذر من
اتباع أسلوب الضرب ،
__________________
منها قول بعضهم :
شكوت إلى أبي الحسن موسى 7
ابناً لي ، فقال : « لا
تضربه ولا تطل » .
ويمكن الجمع بين الأمرين ، بأنّ اسلوب
الضرب ـ من حيث المبدأ ـ غير مجدٍ على المدى البعيد ، ولكن لابدَّ منه في حالات
استثنائية مهمة ، وخاصة في ما يتعلق بأداء الفرائض الواجبة من صلاة وصيام ،
والضرورة تقدر بقدرها لذلك نجد الإمام علي 7
يقول : « ... فاضرب ولا تجاوز
ثلاثاً » ، وعليه يجب الابتعاد ـ ما أمكن ـ عن
ضرب الأطفال ؛ لانه ثبت تربوياً انه يُؤثر سلباً على شخصيتهم ولا يجدي نفعاً ، ولا
مانع من اتباعه في حالات خاصة بقدر ، كالملح للطعام.
ولابدَّ من التنويه على ان مدرسة أهل
البيت : تراعي طاقة
الطفل ، فلا تكلفه فوق طاقته ، بما يشق عليه.
عن الحلبي ، عن أبي عبدالله ، عن أبيه 8 ، قال : « إنا نأمر صبياننا بالصلاة ،
إذا كانوا بني خمس سنين ، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين. ونحن
نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم إن كان إلى
نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل ، فاذا غلبهم العطش والغرث افطروا حتى يتعودوا
الصوم ويطيقوه ، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام
اليوم ، فاذا غلبهم العطش افطروا
» .
__________________
وضمن هذا التوجه يستحسن ، تكليف الطفل
بما يَقْدِرُ عليه ، كالقيام ببعض أعمال البيت ، مثل ترتيب الفراش ، وتنظيف
الاَثاث ، والقاء الفضلات في أماكنها ، وتهيئة وتنسيق مائدة الطعام وأدواته ،
والعناية بحديقة المنزل ، وما إلى ذلك من أعمال بسيطة تنمي روح العمل والمبادرة
لدى الطفل ، وتعوده على الاعتماد على نفسه.
وهناك حق آخر للطفل مكمل لحقه في اكتساب
الأدب ألا وهو حقّ التعليم ، فالعلم كما الأدب وراثة كريمة ، يحث أهل البيت : الآباء على توريثه لأبنائهم. فالعلم
كنز ثمين لا ينفذ. أما المال فمن الممكن ان يتلف أو يسرق ، وبالتالي فهو عرضة
للضياع. ومن هذا المنطلق ، يقول الإمام علي 7
: « لا كنز أنفع من
العلم » .
ثم إنَّ العلم شرف يرفع بصاحبه إلى مقامات سامية ولو كان وضيع النسب ، يقول الإمام
علي 7 : « العلم أشرف الأحساب
» .
فمن حق الولد على الوالد أنْ يسعى
لاكتسابه هذا الشرف العظيم منذ نعومة أظفاره ، ومن حقه أيضاً على الأب أن يُورِثه
هذا الكنز المعنوي الذي لا يُقَدَّر بثمن ، والذي هو أصل كل خير. قال الشهيد
الثاني 2 في كتاب
منية المريد : ( اعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا
العالم العلوي والسفلي طرّاً ، وكفى بذلك جلالة وفخراً. قال الله في محكم الكتاب ،
تذكرة وتبصرة لأولي الألباب : (
الله الذي خلق سبع
سموات ومن الأرض مثلهنَّ يتنزّل الأمر بينهنَّ لتعلموا أن الله على كلِّ شيءٍ
__________________
قدير
وأن الله قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً
) ( الطلاق ٦٥
: ١٢ ).
وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم ،
لا سيّما علم التّوحيد الّذي هو أساس كلّ علم ومدار كلّ معرفة ) .
ولما كان العلم بتلك الأهمية ، يكتسب حق
التعليم مكانته الجسيمة ، لذلك نجد أن الحكماء يحثون أولادهم على كسب العلم ،
وفاءً بالحق الملقى على عواتقهم. يقول الإمام الصادق 7
: « كان فيما وعظ
لقمان ابنه ، أنه قال له : يابنيّ اجعل في أيّامك ولياليك نصيباً لك في طلب العلم
، فإنك لن تجد تضييعاً مثل تركه
» . كما نجد
الأئمة : ، يعطون هذا
الحق ما يستحقه من عناية ، لا سيّما وأن الإسلام يعتبر العلم فريضة على كل مسلم
ومسلمة ، وهذه الفريضة لا تنصبّ على الأب والام فحسب بل تنسحب إلى أولادهما ، لذا
نجد الإمام علياً 7
يؤكد على الآباء بقوله : « مروا أولادكم بطلب العلم » .
ولما كان العلم في الصِّغر كالنقش على
الحجر ، يتوجب استغلال فترة الطفولة لكسب العلم أفضل استغلال ، وفق برامج علمية
تتبع مبدأ الأولوية ، أو تقديم الأهم على المهم ، خصوصاً ونحن في زمن يشهد ثورة
علمية ومعرفية هائلة ، وفي عصر هو عصر السرعة والتخصص. ولقد أعطى أهل البيت : لتعلم القرآن أولوية خاصة ، وكذلك تعلم
مسائل الحلال والحرام ، ذلك العلم الذي يمكِّنه من أن يكون مسلماً يؤدي
__________________
فرائض الله المطلوبة
منه ، وللتدليل على ذلك ، نجد أن من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن 8 : « .. أبتدأتك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله ، وشرائع الإسلام
وأحكامه ، وحلاله وحرامه ، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره
» .
وأيضاً نجد في هذا الصَّدد ما قاله
أحدهم للإمام الصّادق 7
: ( إنّ لي ابناً قد أُحبّ أن يسألك عن حلال وحرام ، لا يسألك عما لا يعنيه ، فقال
7 : « وهل يسأل النّاس عن شيءٍ أفضل
من الحلال والحرام » ؟! وزيادة على ضرورة تعليم الاطفال
العلوم الدينية من قرآن وفقه ، تركز السُنّة النبوية المعطرة على أهمية تعلم الطفل
لعلوم حياتية معينة كالكتابة والسباحة والرَّمي ، وسوف أورد بعض الروايات الواردة
في هذا الخصوص.
منها : قول الرسول الأكرم 6 : « من حق الولد على والده ثلاثة : يحسن اسمه ، ويعلّمه
الكتابة ، ويزوّجه إذا بلغ » . إذن فتعليم الكتابة حق حياتي تنقشع من
خلاله غيوم الجهل والأميّة عن الطفل.
وفي حديث نبوي آخر، نلاحظ أنّ حق تعليم
الكتابة يتصدر بقية الحقوق الحياتية للطفل ، قال 6
: « حقّ الولد على
والده أن يعلّمه الكتابة ، والسّباحة ، والرّماية ، وأن لا يرزقه إلاّ طيّباً
» .
__________________
وهناك نقطة جوهرية كانت مثار اهتمام
الأئمة : وهي ضرورة
تحصين عقول الناشئة من الاتجاهات والتيارات الفكرية المنحرفة من خلال تعليمهم علوم
أهل البيت : واطلاعهم
على أحاديثهم ، وما تتضمنه من بحر زاخر بالعلوم والمعارف. وحول هذه النقطة بالذات
، يقول الإمام علي 7
: « علّموا صبيانكم من
علمنا ما ينفعهم الله به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها
» ، وقال
الإمام جعفر الصادق 7
: « بادروا أحداثكم
بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة
» .
ومن المعلوم أن فكر المرجئة حينذاك يملي
للظالمين ويمدّ لهم حبال الأمل في النجاة ؛ لأنه يرفض الثورة على الحاكم الظالم ،
ويُرجيء حسابه إلى يوم القيامة ، ويعتبر الفاسق الذي يرتكب الكبائر مؤمناً ! لأجل
ذلك النشء اهتم الأئمة :
بتحصين فكر النشىء الجديد ضد التيارات الفكرية المنحرفة والوافدة ، من خلال الدعوة
إلى تعليم الأطفال الافكار الإسلامية الأصيلة التي تُستقى من منابع صافية.
٤
ـ حق العدل والمساواة :
إنّ النظرة التمييزية للأطفال ـ وخصوصاً
بين الذكر والأنثى ـ تزرع بذور الشقاق بين الأشقاء ، وتحفر الاَخاديد العميقة في
مجرى العلاقة الاَخوية بينهما ، فالطفل ذو نفسية حساسة ، ومشاعره مرهفة ، فعندما
يحسّ أنّ والده يهتم كثيراً بأخيه ، سوف يطفح صدره بالحقد عليه. وقد يحدث أن
__________________
أحدَ الوالدين أو
كليهما يحب أحد أولاده ، أو يعطف عليه ـ لسبب ما ـ أكثر من إخوته ، وهذا أمر طبيعي
وغريزي ، ولكن إظهار ذلك أمام الإخوة ، وإيثار الوالدين للمحبوب بالاهتمام
والهدايا أكثر من إخوته ، سوف يؤدي إلى تعميق مشاعر الحزن والأسى لدى الآخرين ، ويفرز
مستقبلاً عاقبةً قد تكون وخيمة. وعليه فالتزام العدالة والمساواة بين الاولاد يكون
أشبه بمانعة الصواعق ، إذ تحيل العدالة والمساواة من حصول أدنى شرخ في العلاقة بين
أفراد الأسرة ، وإلاّ فسوف تكون عاملاً مشجعاً لانطلاق مشاعر الغيرة والحقد فيما
بينهم.
وفي قصة يوسف 7 درس في كيفية معاملة الأبناء بالعدل
والمساواة .. فهذا يوسف قريب من قلب والده يعقوب 7
لأنه توسّم فيه أَمارات النبوّة ، لذا آثره على إخوته ، فأثار ذلك حفيظتهم
وبغضاءهم ، وظهرت أمارة ذلك عليهم ، مما دفع يعقوب 7
إلى تحذير يوسف عندما قصَّ عليه رؤياه وما تحمل من إرهاصات في رفعته وعلوّ شأنه ،
بأنْ قال له : (
يا بني لا تقصص
رؤياك على إخوتِك فيكيدوا لك كيداً
) ( يوسف ١٢ :
٥ ).
ويحث الأئمة : على الاستفادة من هذا الدَّرس القرآني
الذي لا يُنسى ، وقد وضعوه نصب أعينهم.. فعن مسعدة بن صدقة قال : قال جعفر ابن
محمد 7 : « قال والدي 7 :
والله إنّي لأصانع بعض ولدي ، وأجلسه على فخذي ، وأُكثر له المحبّة ، وأكثر له
الشّكر ، وإنّ الحقّ لغيره من ولدي ، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره ، لئلا يصنعوا
به ما فعل بيوسف إخوته .. » .
__________________
وهناك عدة شواهد من السُنّة النبوية
تعطي وصايا ذهبية للوالدين في هذا المجال ، وتكشف عن الحقوق المتبادلة بين
الجانبين ، حيثُ يلزم الوالد من الحقوق لولده ، ما يلزم الولد من الحقوق لوالده ،
يقول 6 : « إنّ لهم عليك من الحقّ أن
تعدل بينهم ، كما أن لك عليهم من الحقّ أن يبرّوك
» ، وأيضاً
يقول 6 : « اعدلوا بين أولادكم في
النُّحْلِ ـ أي العطاء ـ كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ واللّطف
» .
فهنا نجد نظرة أرحب وأعمق للحق ، فكما
أنَّ للأب حق البِّر ، عليه بالمقابل حق العدالة ، فالحقوق يجب أن تكون متبادلة ،
وكلٌّ يتوجب عليه الإيفاء بالتزاماته ، ويمكن التدليل على عمق النظرة النبويّة من
قوله 6 : « إنّ الله تعالى يحبّ أن
تعدلوا بين أولادكم حتّى في القُبَل
» !. صحيح أنّ
القاعدة العامة في الإسلام تجاه الأبوين ، هي قاعدة الإحسان ، لا قاعدة العدل ،
فلا يسوغ للابن أن يقول : إن أبي لا يعطيني ، فأنا لا أُعطيه ، أو إنّه لا يحترمني
فلا احترمه ؛ ذلك إنّ الأب هو السبب في منح الحياة للولد وهو أصله. ولكن الصحيح
أيضاً هو أن يتبع الآباء مبدأ العدل والمساواة في تعاملهم مع ابنائهم ، ليس فقط في
الاُمور المعنوية من اعطاء الحنان والعطف والتقبيل بل أيضاً في الاُمور المادية ،
في العطيّة ، فقد وصّى النبي الأكرم 6
الآباء بقوله : « ساووا
بين أولادكم في العطيّة ، فلو كنت مفضّلاً أحداً لفضّلت النّساء
» .
__________________
٥
ـ حقوق الأولاد المالية :
لا شك أن على الوالدين واجباً مالياً
تجاه أولادهما ، وهو وجوب الانفاق على معيشتهم ، وتوفير حوائجهم الحيويّة من طعام
ولباس وسكن وما إلى ذلك ، والشريعة تعتبر الاقربين أولى بالمعروف ، والدينار الذي
يُنفق على الأهل أعظم أجراً من الذي ينفق في موارد خيرية أُخرى. كما أن الأولاد
يرثون من الوالدين ، فلا يُجوّز الشرع المقدس حرمان الأولاد من نيل حقوقهم
المفروضة لهم ـ كطبقة أُولى من طبقات الارث ـ إلاّ في موارد نادرة كالارتداد ، أو
قتل الوالدين. وحول ميراث الأولاد ، قال عزّ من قائل (
يوصيكُمُ اللهُ في
أولادكُم للذّكر مثلُ حظِّ الاَُنثيين
... ) ( النساء ٤
: ١١ ) ( ولكم نصفُ ما تركَ أزواجُكُم
إن لَّم يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فإن كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ ممَّا
تَرَكنَ مِن بَعدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أو دَينٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا
تَرَكتُم إن لَّم يَكُن لَّكُم وَلَدٌ فإن كانَ لَكُم وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ
مِمَّا تَرَكتُم مِن بَعدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أو دَينٍ
.. ) ( النساء ٤
: ١٢ ).
ورب سائل يسأل ويقول : ذكرتم في الفقرة
السابقة عن حق الأولاد في العدالة والمساواة ، وعدم التفرقة بين الاولاد في العطاء
، فلماذا يعطي القرآن يا ترى للذكر مثل حظ الانثيين ؟
لقد طُرح هذا السؤال قديماً على الأئمة : وكان جوابهم واحداً .. ( عن اسحاق بن محمّد
النَّخَعي قال : سأل الفهفكي أبا محمد 7
: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهماً واحداً ، ويأخذ الرّجل سهمين ؟ فقال
أبو محمد 7 : « إن المرأة ليس عليها جهاد ،
ولا نفقة ، ولا عليها معقُلة ، إنما ذلك على الرّجال
». فقلت في نفسي قد كان قيل لي : إنّ ابن أبي
العوجاء سأل أبا عبدالله 7 عن هذه المسألة فأجابه بهذا الجواب ،
فأقبل أبو محمد 7
عليَّ فقال : « نعم ، هذه المسألة
مسألة ابن أبي العوجاء ـ وكان زنديقاً ـ والجواب منّا واحد »
) .
وهناك تحليلات أُخرى للاَئمة : صفوة القول فيها : إنّ الرّجل يُعطي
للمرأة الصَّداق ، وهو حق جعله الله تعالى لها وحدها ، زد على ذلك ، أنّ الرّجل هو
المعيل للمرأة ، وليس عليها إعالته. وعليه فإن هذا الاختلاف بين الأولاد الذكر
والانثى في الميراث هو عين العدالة.
والقرآن يصرح بأنّ أولاد الأنبياء قد
ورثوا من آبائهم : (
وورث سليمان داوود
) ( النمل ٢٧
: ١٦ ). حتى إن الإمام علياً 7
استشهد بهذه الآية المباركة على حق فاطمة الزهراء 3
بوراثة أبيها محمد 6
قائلاً : « هذا كتاب الله
ينطق » فسكتوا وانصرفوا ! وقد منع أبو بكر فاطمة إرث أبيها
بدعوى ان النبي 6
قال : « نحن معاشر
الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة »
، وهذا القول كما لا يخفى يخالف صريح القرآن ، وقد ولَّد صدمةً نفسية حادّة لبنت
المصطفى ، لإحساسها العميق بالغبن ، وعدم قدرتها على نيل حقوقها ، الأمر الذي اسهم
بقسط في وفاتها.
بقي علينا أنْ نشير إلى أنّ الأنبياء والأوصياء
والصالحين ، قد الزموا أنفسهم بحق الوصية لابنائهم ، والقرآن الكريم قد نقل لنا
وصية إبراهيم 7
لبنيه : ( ووصّى بها إبراهيمُ بنيه
ويعقوبُ يا بنيَّ إنَّ الله اصطفى لكُمُ الدّين فلا تموتُنَّ إلاّ وأنتم مسلمون
* أم كنتم شهداء إذ
حضَر يعقوب الموتُ إذ قال لبنيه
__________________
ما
تعبدُونَ من بعدي قالوا نعبُدُ إلهك وإله آبائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً
واحداً ونحنُ له مسلمون ) ( البقرة ٢ : ١٣٢ ـ ١٣٣ ).
وتنقل لنا النصوص الإسلامية وصية قديمة
وقيّمة هي وصية آدم 7
إلى ابنه شيت نقتبس منها : « .. إذا
نفرت قلوبكم من شيء فاجتنبوه ، فإني حين دنوت من الشّجرة لأتناول منها نفر قلبي ،
فلو كنت امتنعت من الأكل ، ما أصابني ما أصابني
» .
وقد استخدم الأئمة : الوصية أداة تنويرية ، وكأسلوب لايصال
أفكارهم النيّرة ، وإرشاداتهم الخيّرة للاجيال التالية ، فمن خلال الوصية يُطلعون
أبناءهم على ثوابتهم العقائدية ، وعلى خلاصة تجربتهم الحياتية.
إقرأ بتمعن هذه الفقرات المنتخبة من
وصايا الإمام علي 7
لفلذة كبده الحسن 7
وسوف تدرك ـ بلا شك ـ صفاء بصيرته ، وطهارة وجدانه ، وعمق إنسانيته : « أُوصيك بتقوى الله أي بنيّ
ولزوم أمره ، وعمارة قلبك بذكره ، والاعتصام بحبله. وأيُّ سبب أوثق من سبب بينك
وبين الله إن أنت أخذت به ! أحي قلبك بالموعظة ، وأمته بالزّهادة ، وقوّه باليقين
، ونوّره بالحكمة ، وذلّله بذكر الموت
.. واعلم يا بنيَّ
أنَّ أحبّ ما أنت آخذ به إليَّ من وصيتي ، تقوى الله ، والاقتصار على ما فرضه الله
عليك ، والأخذُ بما مضى عليه الأولون من آبائك ، والصّالحون من أهل بيتك
..
» .
وأيضاً اقرأ هذا المقطع من وصيته 7 لولده الحسين 7 ، يضمّنه
__________________
أسمى المعاني وأجمل
المشاعر : « يا بنيَّ أوصيك
بتقوى الله في الغنى والفقر ، وكلمة الحقّ في الرّضا والغضب ، والقصد في الغنى
والفقر ، وبالعدل على الصّديق والعدوّ ، وبالعمل في النّشاط والكسل ، والرّضى عن
الله في الشدّة والرّخاء .. » .
وقد سلك بقية العترة الطاهرة هذا المسلك
، يوصي السابق منهم اللاحق ، ولا يتّسع المجال لذكر جميع وصاياهم : ، وفيما أوردناه كفاية لما أردناه.
وفي نهاية هذا المطلب ، يبدو من الضروري
بمكان ، ان نلخّص ما توصلنا إليه من نقاط البحث بالقول : ان للولد على أبيه حقوقاً
عديدة منها : ما يسبق ولادته ، كحقه في الوجود وحق اختيار والدته.
ومنها ما يُوجب له بعد ولادته : كحقه في
الحياة ، فلا يجوز إطفاء شمعة حياته بالوأد والقتل ، وكحقه بانتحال الاسم الحَسِن
، وتعهده بالتأديب والتربية الصالحة ، وتعليمه العلوم والمعارف الضرورية والنافعة
، ومعاملة الأولاد بالعدل والمساواة ، والاِنفاق عليهم بسخاء ، وعدم مصادرة حقوقهم
المالية الواجبة ، وعدم البخل عليهم بالوصايا النافعة للدنيا والآخرة. وعلى هذا
الصعيد لابدَّ من الاستشهاد في نهاية المطاف برسالة الحقوق للإمام زين العابدين 7 الذي استلهم بنودها من معدن الرسالة
ومعين النبوة ، وما أروع الصورة البيانية التي يرسمها الإمام السجاد 7 لحقوق الأولاد عندما يقول : « .. وحق
ولدِكَ أن تعلم أنه منك، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وانك مسؤول عما
وليته به
__________________
من حسن الأدب
والدلالة على ربه عزّ وجلّ ، والمعونة على طاعته. فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه
مثاب على الإحسان إليه ، معاقب على الإساءة إليه » .
__________________
الفصل
الثالث
الحقوق
المتبادلة بين الزوجين
المبحث الأول
حقوق الزوجة
في الواقع ان الأسرة مجتمع صغير يقوم
على أكتاف شخصين هما : الرجل والمرأة. والمجتمع ليس كثرة عددية تنمو ، وإنما هو
علاقات بين أفراد تقوم على هدف معين ، وقد حدّد القرآن هذا الهدف بالسكنى أو
الاطمئنان في علاقة الذكر بالاُنثى ، من خلال المودة والرّحمة بينهما ، يقول عزّ
من قائل : ( ومن آياته أن خلق لكم من
أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم
يتفكرون )
( الروم٣٠ : ٢١ ) ، وهذا المجتمع يتكون باسلوب تعاقدي يكشف عن قبول الطرفين بفحوى
العقد وما يفرضه من حقوق وواجبات ، وبألفاظ صريحة لا لبس فيها ولا تقبل الاِنكار.
قال سبحانه وتعالى : (
فأنكحوهنَّ بإذن
أهلهنَّ وآتوهن أجورهنَّ بالمعروف محصناتٍ غير مسافحات
.. ) ( النساء ٤
: ٢٥ ). وبمقتضى هذه الآية الكريمة ونحوها من الأدلّة نجد أن إذن الولي بالنسبة
للبنت الباكر أمر ضروري في نظر الفقهاء ، لصيانة حق المرأة في الاختيار السليم
للزوج ، فليس الإذن لامتهان كرامتها ، وإنّما هو إجراء احترازي يمنع المرأة من
اتخاذ قرار متسرع بالموافقة على الزواج من شخص تحت تأثير رغبة نفسية عابرة ، أو
تأثر عاطفي.
وبعد الإذن يأتي الأجر أو ما نطلق عليه
( المهر ) ، وهو حق آخر للمرأة ؛ لكي تشعر أنها مطلوبة وليست طالبة ، وهذا الشعور
يوفّر لها حياءها المغروس في جبلّتها ، ويوفر لها أيضاً كرامتها ، ولا يعني إعطاء
المهر للزوجة أنها أصبحت مملوكة للزوج ، بل قال تعالى ( وآتُوا النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحلَةً
) ( النساء ٤
: ٤ ) إنما هي شريكة حياة ، تعاقدت مع الرجل ضمنياً على العيش المشترك ، الذي يقوم
على حقوق والتزامات متبادلة .. (
ولهُنَّ مِثلُ
الَّذي عليهنَّ بالمعرُوفِ .. ) ( البقرة ٢ : ٢٢٨ ).
وعلى الرغم من هذا الاهتمام القرآني
الواضح بحقوق المرأة ، إلاّ أنك تجد عند أعداء القرآن جملة من الاتهامات الباطلة
التي تثار حول موقف القرآن الكريم من حقوق المرأة ، من انه فرض عليها الحجاب
فقيَّد حريتها، وأنه وضع القيمومة بيد الرّجل، ومنحه نصيباً مضاعفاً من الميراث
وما إلى ذلك. وهؤلاء الذين يذرفون دموع التماسيح على حقوق المرأة ، يريدون الطعن
بمصداقية القرآن ككتاب سماوي ، ومنبع للتشريع الإسلامي ، ويحاولون الإيحاء بتخلف
هذا الكتاب المقدس ، وعدم مسايرته لروح العصر ! ولأجل الرّد على تلك المزاعم التي
تظهر عند التمعن والتحقيق أوهن من بيت العنكبوت ، لابدَّ من الرجوع إلى القرآن
واستنطاقه ، وإلى العترة الطاهرة الذين هم عِدل القران وتراجمة الوحي ، وسوف نجد ـ
بما لا يدع مجالاً للشك ـ بأن القرآن قد منح المرأة مكانتها الإنسانية ، إذ كانت
النظرة إليها تتسم بالضعة والهوان. فالديانات غير السماوية القديمة كانت تعتبر
المرأة مخلوقة من طبيعة وضيعة ! أما الرجل فقد خلق من عنصر مكرم ! حتى إن البعض قد
ذهب أبعد من ذلك عندما ادّعى بأن المرأة خلقت من رجس ، وان إله الشر هو الخالق لها
!
وكان عرب الجاهلية ، يبالغون في النيل
من المرأة والحطّ من شأنها حتى جعلوها حيواناً خلق على صورتهم ليخدمهم ويلبّي
رغباتهم الجنسية.
وحدة
التكوين والمسؤولية :
لقد دحض القرآن الحكيم هذه العقائد
العارية عن الصحة ، وأقر بأنَّ طبيعة التكوين وأصل الخلقة بين الرّجل والمرأة واحد
، فلم يخلق الرجل من جوهر مكرم ، ولا المرأة من جوهر وضيع ، بل خلقهما الله من
عنصر واحد وهو التراب ومن نفس واحدة. يقول تعالى : (
يا أيُّها الناس
اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً
ونساء )
( النساء ٤ : ١ ). وبذلك ارتقى بالمرأة ، عندما جعلها مثل الرّجل تماماً من جهة
الطبيعة التكوينية ، ووفَّر لها من خلال ذلك حق الكرامة الإنسانية.
ثم إنّ القرآن وحَّد بين الرّجل والمرأة
في تحمّل المسؤوليّة ، فقال عزّ من قائل : (
من عمل صالحاً من
ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياةً طيبة
.. ) ( النحل ١٦
: ٩٧ ) ، على أنّ التساوي بينهما في أصل الخلقة والكرامة والمسؤوليّة ، لا يعني بتاتاً
إنكار الاختلاف الفطري والطبيعي الموجود بينهما ، والذي يؤدي إلى الاختلاف في
الحقوق والواجبات. فميزان العدالة السليم هو التسوية بين المرء وواجباته ، وليس
التسوية في الحقوق والواجبات بين جنسين مختلفين تكويناً وطبعاً.
ومن هذا المنطلق ، فليس التفضيل في الإرث
اختلالاً في العدالة ، بل
هو عين العدالة ، فالرّجل عليه الصّداق
منذ بداية العلقة الزوجية ، وعليه النفقة إلى النهاية !
من جانب آخر لا يريد القرآن تحديد حريّة
المرأة ومكانتها من خلال فرض الحجاب .. بل أراد صيانتها بالحجاب دون تقييدها ، مع الإيحاء
باحترام المرأة لدى نفسها ولدى الآخرين ، إذ أراد لها ، ان تخرج في المجتمع ـ إذا
خرجت ـ غير مثيرة للغرائز الكامنة في نفوس الرجال ، فتكون محافظة على نفسها ، وغير
مضرّة بالآخرين.
كما أقرّ القرآن للمرأة بحق الاعتقاد
والعمل وفق ضوابط محددة ومنح المرأة الحقوق المدنية كاملة ، فلها حق التملك ، ولها
أن تهب أو ترهن أو تبيع وما إلى ذلك ، كما منحها حق التعليم ، فوصلت إلى مراتب
علمية عالية ، وأشاد بنزعة التحرر لدى المرأة من الظلم والطغيان ، وضرب لذلك مثلاً
في امرأة فرعون ( آسية ) التي ظلت على الرغم من الاجواء الضاغطة ، محافظةً على
عقيدة التوحيد ، التي آمنت بها ، فاصبحت مثلاً يُحتذى .. ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت ربي
ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين
) ( التحريم
٦٦ : ١١ ). إنه موقف صارم لاهوادة فيه ، ويختلف عن موقف مؤمن آل فرعون الذي وقف
بوجه فرعون هو الآخر ولكن بلباقة !
وهكذا يكشف لنا القرآن عن مقدار الصلابة
التي يمكن أن تكتسبها المرأة ، إذا امتلكت الإيمان والرؤية السليمة ، ويحدث العكس
من ذلك لو حادت عن طريق الهداية كامرأة نوح 7
، فسوف تغدو أسيرة لعواطفها وأهوائها ، تحركها أينما شاءت ، فتكون كالريشة في مهب
الريح.
وكانت قضية المرأة وحقوقها كزوجة أو أم
مثار اهتمام السّنُة النبوية الشريفة ، يقول النبي الأكرم 6 « مازال جبرئيل يوصيني بالمرأة ، حتّى ظننت أنّه لا
ينبغي طلاقها إلاّ من فاحشةٍ مبينة
» . ثم يحدد
ثلاثة حقوق أساسية للمرأة على زوجها وهي :
١ ـ توفير القوت لها.
٢ ـ توفير اللباس اللائق بها.
٣ ـ حسن المعاشرة معها.
وفي ذلك يقول الحديث الشريف : « حقّ المرأة على زوجها : أن
يسدّ جوعها ، وأن يستر عورتها ، ولا يقبّح لها وجهاً
» .
فالحديث أعلاه لا يقصر حق الزوجة على الأمور
المادية الضرورية من طعام وكساء ، بل يُقرن ذلك بحق معنوي ، هو أن لا يقبّح لها
وجهاً ، بتعبير آخر ان يحسن معاشرتها ، لا سيما وأنها زميلته في الحياة ، وشريكته
في العيش ، ومن الخطأ أن يتعامل معها باعتبارها آلة للمتعة ، أو وسيلة للخدمة ،
فيعاملها بطريقة إصدار الأوامر. وهناك توجهات نبوية تحثُّ على التعامل الإنساني مع
الزوجة وحتى استشارتها ، وإن لم يُردْ الزوج أنْ يأخذ برأيها في ذلك المورد ، لأن استشارة
الزوج لزوجته ، اجراء حوار مستمر معها ، وهذا ممّا يندب إليه العقل والشرع.
إذن لها حق معنوي مكمل لحقوقها المادية
، وهو حق الاحترام
__________________
والتقدير المخلص ،
وانتقاء تعابير مهذبة لائقة عند التخاطب معها ، تشيع أجواء الطمأنينة ، وتوقد شمعة
المحبة ، يقول الرّسول 6
: « قول الرّجل للمرأة
: إنّي احبّك ، لا يذهب من قلبها أبداً
» ، ويؤكد
الإمام علي بن الحسين 7
الحقوق آنفة الذكر ، بعد ان يُذكّر الزّوج بنعمة السكن والأنس التي توفرها الحياة
الزوجية ، مشيراً إلى حقوقها المعنوية : كحق الإكرام ، والرّحمة ، والعفو عنها عند
الخطأ والزَّلل الذي يحدث ـ في كثير من الاحيان ـ نتيجة الجهل ، فيقول 7 : « .. وأما حق زوجتك ، فأن تعلم أن الله عزّ وجل جعلها لك
سكناً وأنساً ، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله عزّ وجل عليك ، فتكرمها ، وترفق بها ،
وإن كان حقك عليها أوجب ، فإن لها عليك أنْ ترحمها ؛ لأنها اسيرتك ، وتطعمها
وتكسوها ، وإذا جهلت عفوت عنها
» .
فاكرام الزوجة ، والرّحمة بها ، والعفو
عن زلاتها العادية ، هي الضمان الوحيد والطريق الاَمثل لاستمرار العلقة الزوجية ،
وبدون مراعاة هذه الامور يصبح البناء الأسري هشاً كالبناء على الرّمل. فقد ثبت أن
أكثر حوادث الطلاق تحصل من أسباب تافهة.
لقد فصل أحد القضاة في أربعين ألف قضية
خلاف زوجي ، وبعدها قال هذه الجملة : ( انك لتجد التوافه ـ دائماً ـ في قرارة كل
شقاء زوجي ). فلو تحلى الزّوجان بالصبر ، وغضا النظر عن بعض الاخطاء التي تحصل من
غير عمد ، لاَمكن صيانة العش الزّوجي من الانهيار.
__________________
ويتطرق الإمام زين العابدين 7 في رسالة الحقوق لحق الزوجة ، ويلقي
أضواءً إضافية على حقها المعنوي المتمثل بالرّحمة والمؤانسة فيقول : « وأما حق
رعيتك بملك النكاح ، فان تعلم ان الله جعلها سكناً ومستراحاً وانساً وواقية ،
وكذلك كلّ واحد منكما يجب أن يحمد الله على صاحبه. ويعلم ان ذلك نعمة منه عليه ،
ووجب ان يحسن صحبة نعمة الله ويكرمها ويرفق بها ، وإن كان حقك عليها أغلظ وطاعتك
بها ألزم ، فيما أحببت وكرهت ما لم تكن معصية فان لها حق الرّحمة والمؤانسة ولا
قوة إلاّ بالله » .
والتمعن في هذه السطور يظهر لنا أن
الرابطة الزوجية هي نعمة كبرى تستحق الشكر اللفظي ، بان يحمد الله تعالى عليها ،
وتستوجب الشكر العملي ، بأن يكرم زوجته ، ويرفق بها ، ويعاملها باللّطف والرّحمة ،
ويعقد معها صداقة حقيقية ، كما يعقد أواصر الصداقة مع الآخرين ، أما لو تصرف معها
بالعنف ، وأحصى عليها كل شاردة وواردة ، فسوف يقطع شرايين الودّ والمحبة معها ،
ويكون كسكين حادة تقطع رباط الزوجية المقدس.
ولقد بيّن الإمام الصادق 7 بكلِّ وضوح السياسة التي يجب على
الزّوج اتباعها ، لاستمالة زوجته ، وعدم قطع حبال الودّ معها ، فقال : « لا غنى بالزّوج عن ثلاثة
أشياء فيما بينه وبين زوجته ، وهي : الموافقة ؛ ليجتلب بها موافقتها ومحبّتها
وهواها ، وحُسن خلقه معها. واستعماله
__________________
استمالة
قلبها بالهيئة الحسنة في عينها. وتوسعته عليها
» .
على أن أشد ما يسترعي الانتباه : إن هذه
الاقوال ، ليست ـ مجرّد ـ كلمات تنشر في الهواء ، يطلقها الأئمة : من أجل الموعظة ، بل جسّدها أهل بيت
العصمة بحذافيرها على صعيد الواقع ، فلا توجد إشكالية انفصام في سلوك أهل البيت : بين الوعي والواقع ، ومن الشواهد
الدالة على ذلك ، يروي الحسن بن الجهم قال : رأيت أبا الحسن 7 اختضب فقلتُ : جعلت فداك اختضبت ؟ فقال
: « نعم ، إنّ التهيّة
ممّا يزيد في عفّة النّساء ، ولقد ترك النّساء العفّة بترك أزواجهنّ التهيّة
... أيسرّك أن تراها على
ما تراك عليه إذا كنت على غير تهيّة
» ؟ قلتُ : لا ، قال : « فهو
ذاك » .
فالإمام 7
يدرك أنّ الاستمالة تشكل النقطة المركزية في الحياة المشتركة لكلا الزوجين ؛ لذلك
يراعي حق الزوجة ، ويسعى إلى استمالة قلبها من خلال التهيّة ، ولأن عدم التوافق في
هذا الجانب ، يعتبر من الأسباب الأساسية في الاخفاق في الزَّواج. صحيح أنّ الزّواج
في الإسلام ليس هو إشباع شهوة الجنس. فالجنس مجرّد وسيلة لهدفية الزّواج ،
المتمثلة بضرورة خلق جيل صالح تستمر فيه الحياة الإنسانية.
ولا يعني ذلك التقصير بحق الزّوجة في
المتعة الجنسية بالمقدار المتعارف ، فلا يجوّز الشرع هجرها أكثر من أربعة أشهر.
__________________
المبحث الثاني
حقوق الزّوج
لكي تسير سفينة الزواج إلى شاطئ الأمان ،
لابدّ من إعطاء قائد هذه السفينة حقوقه كاملة ، ولعل أوّل حق منحه الله تعالى
للزوج ، هو حق القيمومة ، يقول تعالى : (
الرجال قوّامون
على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم
) ( النساء ٤
: ٣٤ ) ، فحق القوامة استمدّه الرجل من تفوقه التكويني على المرأة ، وأيضاً من
تحمله لتكاليف المعيشة الشاقة. ولكن قيمومة الرّجل لا تبيح له التسلط والخروج عن
دائرة المسؤولية إلى دائرة التحكم والتعامل القسري مع الزوجة ؛ لأن ذلك يتصادم مع
حق المرأة في المعاشرة الحسنة ، الذي أشار إليه القرآن صراحةً : ( وعاشروهن بالمعروف
) ( النساء ٤
: ١٩ ).
لا شك أنّ الإسلام قد طلب من الزّوجة
الانقياد للزوج في كل ما يرتضيه العقل والشرع ، وبدون ذلك لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق. فالإسلام لا يرتضي أن تستخدم هذه القيمومة وسيلة لإذلال المرأة ، أو
الانتقاص من مكانتها. صحيح أنّ أعظم النّاس حقاً على المرأة زوجها ، ولكن هذا الحق
يجب أنْ لا يُساء تفسيره وتطبيقه بما يؤدي إلى إذلال الزَّوجة.
إنّ المرأة ريحانة ، وعليه فهي رقيقة ،
تنقصها الصّلابة ، والحزم والإرادة ؛ لذا تحتاج إلى سياج يصد عنها رياح السّموم ؛
كيما تذبل هذه الريحانة وتذهب نضارتها وهي في أوان عطرها الفوّاح ، والسياج هو
الرّجل يمتلك القوة والارادة والاستعداد للتضحية.
ومن حقوق الزوج الاَُخرى ، أن تمكنه
الزّوجة من نفسها ، كلما أراد ذلك ، ماعدا الحالات الاستثنائية الطبيعية التي تمر
بها بنات حوّاء ، يقول الرسول الأكرم 6
: « ... إنّ من خَيْر [ نسائكم
] الولود الودود ، والسّتيرة [ العفيفة ] ، العزيزة في أهلها ، الذليلة مع بعلها ،
الحصان مع غيره ، التي تسمع له وتطيع أمره ، إذا خلا بها بذلت ما أراد منها
» . ويقول
أيضاً : « خير نسائكم التي
إذا دخلت مع زوجها خلعت درع الحياء
» ، وهناك
أحاديث أُخر تحذّر المرأة من الابتعاد عن فراش الزوجية ، وأنها سوف تدان في الحياة
الدنيوية ، وتلعنها الملائكة حتى تعود إلى زوجها.
ثم إن عليها أن تحترم زوجها ، وأن تُسهم
بدورها في عقد المودة والمحبة معه ، يقول الرسول 6
: « لو أمرت أحداً أن
يسجد لأحد لأمرتُ المرأة ان تسجد لزوجها
» .
وانطلاقاً من هذا التوجه النبوي ، يتوجب
على الزوجة ، ان تكون لطيفة
__________________
المعشر مع الزوج ،
تخاطبه بعبارات تدخل السرور على قلبه والبهجة في جنانه ، خصوصاً عندما يعود من
العمل ، خائر القوى ، مرهق الاعصاب. فعليها أن تستقبله والبشر يطفح على وجهها ،
وتعرض خدماتها عليه ، وبذلك تنال رضاه .. « وطوبى لامرأة رضي عنها زوجها
» . ـ كما يقول
النبي 6 ـ وحول هذا
الأمر يقول الإمام الباقر 7
: « لا شفيع للمرأة
أنجح عند ربّها من رضا زوجها ، ولمّا ماتت فاطمة 3
قام عليها أمير المؤمنين 7 وقال : اللّهم إنّي راض عن
ابنة نبيّك ، اللّهم انّها قد أُوحشت ، فَأْنِسها
.. » .
اتّضح مما سبق أن للزوج : حق القيمومة ،
وحق التمكين أو الاستمتاع ، وفوق هذا وذاك لما سُلِّمت اليه دفة قيادة الأسرة توجب
له حق الطاعة في الحدود المشروعة ومن مصاديق ذلك ، ليس للزوجة أنْ تخرج من بيتها
بدون إذن زوجها ، وورد في الحديث : « ... ولا تخرج من بيته إلاّ باذنه، فان فعلت لعنتها ملائكة
السموات ، وملائكة الارض ، وملائكة الرضا ، وملائكة الغضب
...
» .
إنَّ المرأة كنز ثمين يجب الحفاظ عليه
في مكان أمين ، والبيت هو المكان الذي يصون المرأة. لذا يخاطب القرآن النساء بقوله
: ( وقرن في بيوتكنَّ ولا تبرَّجن
تبُّرج الجاهلية الأولى ) ( الأحزاب ٣٣ : ٣٣ ).
وهناك حقوق أُخرى للزوج منها : الحفاظ
على كرامته ، وصون أمواله
__________________
في غيابه ، وعدم كشف
أسراره ، وليس لها أن تصوم ـ تطوعاً ـ إلاّ بإذنه.
وعلى العموم تحتاج الحياة الزوجية ـ لكي
تستمر ـ إلى الرّضا ، والاحترام المتبادل ، وإسداء الخدمة .. كما تحتاج الزّهور ـ
لكي تبقى متفتحة ـ إلى النور ، والهواء ، والماء.
وتجدر الاشارة إلى أن الالتزام بالحقوق
المتبادلة للزوجين إضافة إلى كونه مسقطاً للواجب ، يترتب عليه ثواب عظيم ، والعكس
هو الصحيح ، فالرّجل إذا سقى زوجته أُجر ومن
حسُن برّه بأهله زاد الله في عمره.
وبالمقابل : « ايّما امرأة خدمت زوجها سبعة أيام اغلق الله عنها سبعة أبواب النار
، وفتح لها ثمانية أبواب الجنة تدخل من أيّها شاءت » .. « وأيّما امرأة رفعت من بيت زوجها شيئاً من موضع إلى
موضع تريد به صلاحاً ، إلاّ نظر الله اليها ، ومن نظر الله إليه لم يعذبه
» .
وهنا يبدو من الأهمية بمكان الاشارة إلى
أن ضمانات الالزام بالحقوق في القوانين الإلهية هي أكثر من مثيلاتها في القوانين
الوضعية. لماذا ؟ لأن الإنسان في القانون الوضعي يتمكن من التملّص والالتفاف على
الحقوق المترتبة عليه من خلال وسائل الحيلة ، والرشوة ، والتهديد ، والاكراه وما
__________________
شابه ذلك.
أما في القوانين الإلهية ، فإضافة
لوسائل الالزام والتنفيذ الخارجية ـ من شَرَطَة ومحاكم ـ توجد عوامل إلزام وضبط
داخلية ، متمثلة في الخشية والخوف من عقاب الله تعالى وسخطه ووعيده الاخروي.
فالانسان المسلم يسعى لكسب رضا الله تعالى من خلال أداء حقه أداء حقوق الآخرين ،
والقرآن يرى أنّ ظُلم الإنسان للآخرين هو ظلم يقع على نفسه في نهاية الأمر : ( ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه
.. ) ( البقرة ٢
: ٢٣١ ).
فالوازع الديني يصبح أداة كبح كبرى لكل
نزعة شيطانية تريد التنصل من الحقوق والالتزامات. أما الانسان الوضعي فليس لديه من
عوامل الكبح والضبط الداخلية إلاّ الوجدان والاخلاق اللذين كثيراً ما ينحرفان عن
جادة الصواب لمختلف الأسباب ، فتنقلب المقاييس لديه فيصبح المنكر معروفاً ،
والمعروف منكراً !
زد على ذلك وجود ترابط وثيق في الاسلام
بين البعد الاجتماعي والبعد العبادي ، فكل اخلال في البعد الأول ـ من خلال عدم
الالتزام بحقوق الآخرين ـ سوف ينعكس سلباً على الجانب العبادي وهذا ما أوضحه
الحديث النبوي الشريف : « من
كان له امرأة تؤذيه ، لم يقبل الله صلاتها ، ولا حسنة من عملها حتّى تعينه وترضيه
وإن صامت الدّهر .. وعلى الرّجل مثل ذلك الوزر ،
إذا كان لها مؤذياً ظالماً » .
__________________
وقد اتضح من جميع ما تقدم أن للزوجين
حقوقاً متبادلة يترك الإخلال بها آثاراً تدميرية على كيان الأسرة ، وبالمقابل يؤدي
الالتزام بها إلى خلق وحدة اجتماعية متلاحمة.
الخلاصة
لقد توصلنا في الفصل الأول من هذه
الدراسة المختصرة إلى الأمور التالية : ـ
١ ـ إنّ مدرسة الإسلام قد سبقت المدارس
الاَُخرى ، في ايلاء قضية حقوق الانسان الأهمية التي تستحق. من خلال اعلان الرسول
الأكرم 6 عن المساواة
بين البشر وذلك في حجة الوداع. ومن خلال الوثيقة التاريخية التي حررها الإمام أمير
المؤمين 7 في عهده
لمالك الاشتر. وأيضاً من خلال رسالة الحقوق الجامعة ، التي دونها الإمام زين
العابدين 7 في القرن
الأول الهجري.
وإنّ الغاية من ذلك ، هي السعي لاقامة
مجتمع سليم يقوم على قواعد الحق والعدالة.
٢ ـ إنّ القرآن الكريم قد عني بالجانب
الاجتماعي من حياة الجماعة ، عنايةً لا تقل عن عنايته بصلة الفرد بربّه. ولأجل ذلك
رتّب لأفراده حقوقاً أساسية تتعلق بوجودهم وكرامتهم ، منها على سبيل المثال لا
الحصر : حق الحياة ، وحق التمتع بالعيش الآمن ، وحق الكرامة ، وكسب العلم والمعرفة
، وحق التفكير والتعبير ، وما إلى ذلك من حقوق أساسية لا غنى عنها ، لتحقيق
إنسانية الإنسان ، وتحقيق حريته.
٣ ـ تحثُّ مدرسة أهل البيت : على اعطاء حقوق الضعفاء الذين لا
يملكون حولاً ولا قوة. سواء الحقوق المالية منها ، أو المعنوية كحقهم
الطبيعي في الاحترام والتوقير.
٤ ـ أولت مدرسة أهل البيت : عنايةً خاصة لتلك الحقوق المتلبسة
بالصفة الأخلاقية ، كحق المعلم والمتعلم ، وحق الأخ ، وحق الجليس ، وحق الناصح ،
وهي حقوق قد تجاهلتها أو قد قللت من أهميتها المدارس الحقوقية الاخرى.
٥ ـ اهتم الإسلام بالجِوار ، الذي يأتي
بالمرتبة الثانية في النسيج الاجتماعي بعد رابطة الاَُسرة. تمثل ذلك في وصايا
جبريل 7 المتكررة
للرسول 6 بمراعاة حق
الجار ، وللمساحة التي احتلها موضوع الجِوار في أحاديث أهل البيت : على وجه العموم ، ورسالة الحقوق للإمام
زين العابدين 7
على وجه التعيين. وقد اشرنا إلى عمق نظرة الأئمة :
المتميزة لمعنى حسن الجوار ، فليس هو كفّ الأذى فحسب بل الصبر على الأذى ! وقد جسّدوا
هذا المفهوم من عالم المعنى إلى عالم الحس والواقع من خلال سلوكهم السويّ في
تعاملهم مع جيرانهم.
وفي الفصل الثاني ، تناولنا بصورة مفصلة
الحقوق العائلية ، وخرجنا بالنتائج التالية :
١ ـ إنّ الإسلام يحرص على تقوية النسيج
الاجتماعي ، الذي يربط بين أفراد العائلة. عندما جعل للوالدين حق الإحسان ، ووضع
حقهم في المرتبة التالية بعد حقه تعالى.
٢ ـ اتبع الأئمة الأطهار عدة محاور من
أجل بيان حقوق الوالدين منها : تفسير ما ورد من آيات بغية اعطاء رؤية قرآنية صافية
في هذا الصدد. كما استثاروا الوازع الأخلاقي عند الأبناء تجاه آبائهم. وحددوا
الحكم
الشرعي لمسألة الإحسان للوالدين ،
باعتبارها فريضة من أكبر الفرائض ، وكشفوا عن الحكمة من ذلك ، وتتمثل بادامة
النّسل ، وعدم قطع الأرحام ، وأيضاً كشف الأئمة الأطهار عن الآثار السلبيّة ـ
الدنيويّة والأخروية ـ لمن عق والديه. وشكّل سلوكهم السويّ قدوة حسنة في الإحسان للوالدين.
٣ ـ حدد الإسلام حقوق الأولاد سواءً قبل
الولادة أو بعدها ، فَضَمِنَ لهم حق الوجود من خلال تحريمه لوأد البنات ، وأيضاً
من خلال تشجيعه على الزَّواج والانجاب ، وتنفيره من العزوبية والرهبانية.
ومن أجل تنشئة جيل جديد صالح ، أرشد الإسلام
الزّوج إلى اختيار الزَّوجة الصالحة. كما أوجب الإسلام على الأم أن تصون نفسها من
الرذيلة حتى يصان حق الولد في الانتساب الشرعي إلى أبيه. كما ضمن الإسلام للأولاد حقوقاً
لمرحلة ما بعد الولادة كحقهم الطبيعي في الحياة ، وعليه فلا يبيح الإسلام تهديد
حياتهم بأي شكل ، وتحت أية ذريعة.
٤ ـ ضمن الإسلام للأولاد حقهم في
المعاملة العادلة ، بلا تمييز بين الذَّكر والاُنثى. كما جاء ذلك في سيرة النبي 6 والأئمة الأطهار : ، فعملوا على قشع غيوم النظرة
التمييزية السائدة ، التي تحط من شأن الاُنثى لحساب الذَّكر ولا تقيم لها وزناً.
٥ ـ لقد سبقت مدرسة أهل البيت : المدارس التربوية المعاصرة بالاخذ
بمبدأ ( التدرج ) في تعليم وتربية الطفل.
وقد تبنت هذه المدرسة الإلـهية تقسيماً
( ثلاثياً ) لحياة الطفل ، ففي كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث ، يحتاج الطفل
لسياسة تربوية تتناسب مع عمره وقدرته.
٦ ـ أجاب الأئمة الأطهار : على شبهة تفريق الاسلام بين الذَّكر
والاُنثى في الميراث بما حاصله : أن هذا التفريق هو عين الحق والعدالة ، ذلك أن
المرأة ليس عليها جهاد ولا نفقة ، وفوق ذلك لها على الرَّجل حق النفقة.
٧ ـ اتبع الأئمة : أُسلوب الوصية لأولادهم كأداة لإيصال
افكارهم النَّيرة وتجاربهم النافعة للأجيال التالية.
وفي الفصل الثالث المخصص للحديث عن
الحقوق المتبادلة بين الزوجين نخرج بالنتائج التالية :
١ ـ حدد الإسلام بدقة الحقوق المتبادلة
بين الزوجين. التي تنشأ باسلوب تعاقدي ، يكشف عن قبولهم ببنود العقد وما ينشئه من
حقوق وواجبات.
٢ ـ للزوجة ـ التي تجمعها مع الرَّجل في
الإسلام ، وحدة التكوين والمسؤولية ـ حقوق أساسية ، منها المادي المتعلق بمعيشتها
، ومنها المعنوي المتعلق بحسن المعاشرة معها.
٣ ـ للزوج حقوق عديدة على زوجته ، لعل
من أبرزها حق القيمومة. ولكن الإسلام لا يرتضي أن تستخدم هذه القيمومة وسيلةً لإذلال
المرأة ، أو الانتقاص من مكانتها ، أو سلب حقوقها. وله عليها ـ أيضاً ـ حق التمكين
، وعدم الخروج من البيت إلاّ باذنه.
وفي نهاية المطاف استنتجنا في الدراسة
أن ضمانات الالتزام بالحقوق في القوانين الإلهية المتمثلة في المسائل الشرعية ، هي
أكثر من ضمانات
الالزام في القوانين الوضعية ، التي
يتمكن الإنسان في التملص منها والالتفاف عليها ، بخلاف المسائل الشرعية التي تملك
سلطة ضبط داخلية للافراد ، متمثلةً بالخشية من عقاب الله وسخطه ، إضافة لامتلاكها
سلطة الزام خارجية متمثلة بقانون العقوبات.
كما استنتجنا وجود ترابطٍ وثيق في الإسلام
بين الجانب العبادي والجانب الاجتماعي ، وكل إخلال في الثاني سوف ينعكس سلبياً على
الأول ، من جراء الاعتداء على حقوق العباد.
والحمد
لله على هدايته ، والصلاة والسلام
على
أشرف الأنبياء والمرسلين محمد ،
وعلى
آله الطيبين الطاهرين ، وصحبه
المخلصين
ومن سار على
نهجهم
إلى يوم الدين.
وآخر
دعوانا : أن
الحمدُ
لله ربِّ
العالمين.
*
المقدِّمة ........................................................................ ٧
الفصل الأول
الحقوق العامة للإنسان............... ..........................................١٣
المبحث الأول : أنواع الحقوق العامة......................................... ١٥
أولاً : حق الحياة ......................................................... ١٥
ثانياً : حق الكرامة ....................................................... ١٧
ثالثاً : حق التعليم ........................................................ ١٨
رابعاً : حق التفكير
والتعبير ................................................ ٢٠
خامساً : حق التمتع
بالأمن ................................................ ٢٢
سادساً : حق الاعتقاد .................................................... ٢٤
سابعاً : حق المساواة
وحق التمتع بالعدل .................................... ٢٥
المبحث الثاني : الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة القانونية....................... ٢٧
المبحث الثالث : الحقوق الاجتماعية ذات الصبغة الأخلاقية .............................. ٣٠
أولاً : حق المعلِّم
أو الاستاذ ............................................... ٣٠
ثانياً : حق الأخ .......................................................... ٣٢
ثالثاً : حق الجليس ....................................................... ٣٤
رابعاً : حق الناصح
والمستنصح ............................................ ٣٥
المبحث الرابع : حقوق الجِوار .............................................. ٣٧
أولاً : الجوار في
القرآن الكريم ............................................. ٣٧
ثانياً : حق الجار في
رسالة الحقوق .......................................... ٣٩
الفصل الثاني
الحقوق العائلية ............................................................... ٤٥
المبحث الأول : حق الأبوين ................................................ ٤٧
أولاً : حقوق الوالدين
في القرآن الكريم .................................... ٤٧
ثانياً : حقوق
الوالدين في السُّنة النبوية ...................................... ٥٠
ثالثاً : حقوق
الوالدين في مدرسة أهل البيت ................................ ٥٢
١ ـ تفسير ما ورد من
آيات قرآنية ..................................... ٥٢
٢ ـ استثارة الوازع الأخلاقي
.......................................... ٥٤
٣ ـ تحديد الحكم
الشرعي ............................................ ٥٤
٤ ـ تحديد الحقوق
المترتبة للوالدين ..................................... ٥٦
المبحث الثاني : الآثار السلبية الدنيوية لمن عق والديه........................... ٦٠
أولاً : التعرض للفقر
والفاقة ............................................... ٦٠
ثانياً : المقابلة
بالمِثل ....................................................... ٦٠
ثالثاً : العقوق
يُورِثُ الذّلة والمهانة ......................................... ٦١
المبحث الثالث : القدوة الحسنة.............................................. ٦٢
المبحث الرابع : حقوق الأولاد............................................... ٦٦
أولاً : حق اختيار
والدته................................................... ٦٩
ثانياً : حقوق ما بعد
الولادة ............................................... ٧٤
١ ـ حق الحياة ....................................................... ٧٤
٢ ـ حق الولد في الاسم
الحَسن ........................................ ٨١
٣ ـ حق التأديب
والتعليم ............................................. ٨٤
أدب الطفل في مدرسة
أهل البيت..................................... ٨٦
٤ ـ حق العدل
والمساواة .............................................. ٩٤
٥ ـ حقوق الأولاد
المالية .............................................. ٩٧
الفصل الثالث
الحقوق المتبادلة بين الزوجين.................................................. ١٠٣
المبحث الأول : حقوق الزوجة............................................ ١٠٥
المبحث الثاني حقوق الزّوج................................................ ١١٣
الخلاصة................................................................. ١١٩
|