كلمة المركز
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الواحدِ الأحدِ الفردِ
الصّمدِ الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، ثمّ الصّلاة والسّلام على العبد المؤيَّد ، والرسول المسدَّد ، المصطفى الأمجد ، والمحمود الأحمد ، سيّدنا ومولانا أبي القاسم محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وعلى آله الهداة المهديّين ، وأوصيائه المنتجبين ، سيّما خاتم الأوصياء المطهّرين المنتظر ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ ، واللَّعن على أعدائهم يوم الدين.
أمّا بعد ، فقد مَنّ الله ـ تعالى ـ على
عباده المؤمنين أن بعث فيهم وإليهم رسولاً من أنفسهم يعلّمهم معالم دينهم ويزكّيهم ويهديهم سواء السبيل فقال عزّ من قائل : (
هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
) ، ومنّ عليهم __________________
كذلك بأوصياء وخلفاء
وأئمةٍ اثني عشر راشدين هادين مهديّين يحملون أعباء الرّسالة من بعده ، ويقومون بإتمام الدّين وإكمال شريعة سيّد المرسلين صلىاللهعليهوآلهوسلم
حتى تقوم السّاعة ، لكنّهم لاقوا من جهلة هذه الامّة والمتلبّسين بعباءة الدين ظلماً فادحاً وتجاهلاً واضحاً ، وجرت عليهم أعظم المصائب وأنواع البلايا ، ولم يؤذَ أحد في الله ـ تعالى ـ بمثل ما اُوذوا ، إلّا صاحب الرّسالة ونبيُّ الرحمة صلىاللهعليهوآلهوسلم
حيث صرّح بذلك قائلاً : «
ما اُوذي نبيٌّ بمثل ما اُوذيتُ »
فمضتْ عليهم الأحوال على هذه الطريقة وهذا المنوال ، حتى قضى الواحد منهم نحبه تلو الآخر : « فقُتل من قُتل وسُبي من سُبي واُقصي من اُقصي وجري القضاء لهم بما يرجىٰ له حسن المثوبة »
، وأسفر عن ذلك كلّه حرمان المؤمنين من الارتباط بإمامهم الحاضر ، والاهتداء بهديه ، وتلقّي ما يعنيهم من أحكام دينهم ودنياهم من النّبع الصّافي ، والمصدر الأصيل ، والثّقل الأصغر الّذي يعدل الثقل الأكبر وإمتداد للنبوّة وبيت الوحي ، إذ كتب الله ـ تعالى ـ وقضى لحجّته الثاني عشر ، __________________
وخاتم أوصياء نبيّه
الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بغيبتين : صغرى دامت سبعين عاماً يتوسّط خلالها بينه وبين شيعته ومواليه نوّابٌ أربعة حازوا لديه بالنيابة الخاصّة ، وكانت هذه الأعوام السّبعين فترة تمهيديّة يعدّ شيعته ومواليه لغيبة طويلة لا يعرف مداها إلا الله ـ تبارك وتعالى ـ سمّيتْ بالغيبة الكبرىٰ.
فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما هو تكليف
المؤمنين في زمن الغيبة الكبرىٰ الذي انقطع اتصالهم المباشر بإمام زمانهم ، وممّن يأخدون أحكام دينهم ؟
هذا السؤال وعشرات الأسئلة الاُخرى
سنجيب عنها في هذا الكتيّب الوجيز ـ إن شاء الله تعالى ـ ليتّضح للقارىء الكريم أهمّ ما يتعلّق بالرّسالة العلميّة وأحكام الدين المبين اُصولاً وفروعاً ، عسى أن يرفع غوامض ما يتعلّق بمصطلحات الفقه والفقهاء ـ دامت بركاتهم ـ آملين أن يلقىٰ قبولاً لدىٰ المؤمنين ويسفر عن تذليل العقبات والصّعاب في طريقتهم إلي معرفة أحكام الشريعة الغرّاء ، آمين.
وقد كتبناه على هيئة دروس ليستفاد منها
في تعليم الجيل الجديد والقادم من الشباب الصّاعد أيضاً في الدّورات الصّيفيّة التي تنعقد في الكويت وفي سائر البلادا وقد بذلنا في سبيل ذلك
قصارىٰ جهدنا
ليكون واضحاً في غاية الوضوح ، ولهذا بادرنا الى استعمال الألفاظ العامة ، وتجنّبنا اُسلوب المصطلحات العلميّة الخاصة مهما أمكن ، إلا فيما تقتضيه الضرورة سعياً منّا الىٰ توضيح تلك المصطلحات بما يناسب المقام ، وعليه فنرجوا من ذوي الاختصاص أن يأخذوا بعين الاعتبار ما نرمي إليه في هذا الكرّاس من تجنّب الاُسلوب العلمي ، لهذا فقد تسامحنا كثيراً في العبارات وراعينا المجاز في التعبير ، فلا يلومونا إذا خاننا التعبير أحياناً أو قصر منّا البيان ، والله وليُّ التوفيق.
|
مركز الإمام السّجّاد عليهالسلام
للدّراسات الحوزويّة
قم المقدسة
الأحد : ١١ ربيع الثاني
١٤٢٣ ه. ق.
الموافق٢٢ / ٦ / ٢٠٠٢
ميلادي.
|
الدّرس الأوّل
المؤمنون في زمن الغيبة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: ذكرتم في مقدّمة الكتاب أنّ المؤمنين كانوا يتلقّون وظائفهم وتكاليفهم وأحكام دينهم من منبع الوحي الإلهي وهو النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم في حياته ، ثم من
أوصيائه الّذين هم عِدْل القرآن والثقل الأصغر حتى بدأت الغيبة الكبرىٰ فكيف كان يصنع المؤمنون حيال أحكامهم الشرعية ؟ وإلى من كانوا يرجعون في تلقّي تكاليفهم ؟ ولماذا وبأي دليل اختاروا هذا المسلك ؟
ج)
: لا شك أنّ غيبة الإمام ـ عليه الصلاة
والسلام ـ كانت تقديراً إلهيّاً وأمراً ربّانيّاً أدّىٰ الى انقطاع الاُمّة عن منبع الوحي ومصدر التشريع فكان لا بدّ من تعويض ذلك وتعيين مسلك وتحديد طريقة يعمل بها المؤمنون ويرجع إليها العباد ، وهي الطريقة المتّبعة لدى العقلاء وتسمّى ب « السيّرة العقلائيّة » ، أو « حكم العقل » ، « حكم الفطرة » ، أو « حكم الشرع ».
وقد خرجت في فترة الغيبة الصّغرى من
ناحيته المقدّسة أخبار وتواقيع مؤكّدة تأمر شيعته ومواليه بتلقّي أحكام دينهم ودنياهم من الفقهاء الصّالحين المنوبين عنه ـ أرواحنا فداه ـ بالنيابة العامّة ، وتحثّهم على اتّباعهم ، وتدعو الى الالتفاف حولهم ، كما في قوله ـ عجّل الله فرجه الشريف ـ : « من كان من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه » ـ وما في قوله صلوات الله وسلامه عليه ـ : « وأمّا
الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله »
، فمن هنا
وانطلاقاً من هذين الأمرين الإرشاديّين نشأت فكرة الإجتهاد والتقليد ، طبقاً لما تمليه الضّرورة في زمن الغيبة ، حيث انقطاع الاتصال المباشر بالمعصوم عليهالسلام.
والنتيجة
: أنّ باب الإجتهاد والتقليد لدى
المؤمنين ظلّ مفتوحاً وسيكون كذلك إلى أن يقضي الله ـ تعالى ـ لعباده المؤمنين __________________
بالفرج ، ويظهر
المهديّ من آل محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وحتى تنقشع سحب الظلام ، ويذهب هذا الليل الطّويل ليسفر الصّبح الجليّ ، ويتجلّي النهار وتشرق الشّمس السّاطعة ـ إن شاء الله تعالى ـ ، « أليس الصبح بقريب ».
س)
: إذا كان هذا الكتاب قد عدّ لتوضيح الرّسالة العمليّة وكيفيّة التعامل معها ، وبيان شيء من اُصول الدّين وفروعه ، فما معنى الدّين ؟
ج)
: الدّين عند علماء اللّغة ـ في اللّغة
العربيّة ـ يعني الطّاعة والجزاء والحساب والتعبّد والورع والسّلطان والقهر والمعصية ، والقضاء ، وبالمعنى اللّغوي قال تعالى : (
مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ )
أي يوم الجزاء أو يوم الحساب ، وفي المثَلَ : « كما تَدينُ تُدان »
أي كما تُجازي تجازىٰ ، وأيضاً قوله تعالى : (
ذَٰلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ )
أي الحساب أو الجزاء الصحيح ، وقوله تعالى : (
إِنَّ
الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ )
أي الطّاعة والتعبّد ، وقوله تعالى : (
مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ )
أي في قضاء الملك ، وقوله تعالى : (
أَإِنَّا
__________________
لَمَدِينُونَ
) أي لمملوكون ، وأمّا الدّين عند علماء
الأديان فمعناه الاعتقاد بخالق الكون والكائنات ، والعمل بالأحكام والقوانين التي تناسب ذلك الاعتقاد ، ولهذا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان »
، وعليه
فكلّ من يعتقد بالصّانع الحكيم فهو متدّين وذو دينٍ ، وكلّ من أنكر الخالق والصّانع فهو لا دين له ، نعم الأديان تنقسم إلى الأديان الحقّة والباطلة أو المنحرفة ، ولهذا قال تعالى : (
إِنَّ
الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ ) أي ان الطريقة الحقّة والصحيحة في
الاعتقاد والعمل هي الإسلام ، ولهذا : (
وَمَن
يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ )
إذ كل طريقة
في الاعتقاد والعمل غير طريقة الاسلام باطلة.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس الثاني
وجوب الاجتهاد والتقليد
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
عرفنا في الدّرس السّابق ما هو تكليف المؤمنين في زمن الغيبة والى من يرجعون ، فما معنى « السّيرة العقلائية » ، و «حكم العقل » ، و « حكم الفطرة » ، و « حكم الشرع » ؟
ج)
: والجواب الذي يناسب المقام باختصارٍ
شديد ، وبيانٍ واضح سديد أنّ السّيرة العقلائية ـ كما هو واضح ـ استمرار عادة الناس وتبانيهم العمل على فعل شيءٍ ، أو ترك شيءٍ ، والمقصود بالناس : جميع العقلاء والعرف العام من كلّ ملّة ونحلة ، فيعمّ المسلمين وغيرهم ، والتعبير الشايع عند الاُصوليين المتأخرين ـ والمراد منهم علماء الاُصول في الأزمنة المتأخرة ـ تسميتها ب « بناء العقلاء » .
فالسّيرة العقلائية تقضي بلزوم رجوع الجاهل إلى العالم وأهل الخبرة.
__________________
وأمّا المراد بحكم العقل والمقصود منه
هنا هو حكم العقل العملي « ومعنى حكم العقل ـ على هذا ـ ليس إلا إدراك أن الشيء ممّا ينبغي أن يُفعل أو يُترك »
فالعقل يحكم بضرورة رجوع الجاهل الى العالم وذوي الاختصاص وأهل الخبرة.
وأمّا حكم الفطرة فالمراد منه أن الفطرة
الإنسانيّة السّليمة تحكم بوجوب ولزوم رجوع الجاهل الى العالم وأهل الخبرة فيما يجهل.
وأمّا حكم الشرع فهو الحكم الوارد على
لسان الشارع المقدّس في الكتاب أو السّنّة أو المستفاد من العقل أو الإجماع أو سيرة المعصومين عليهالسلام
، وهو على قسمين :
أ ـ إمّا إرشاد وتنبيهٌ إلى حكم العقل ،
أو حكم الفطرة ، أو السيرة العقلائية ، إن كان لواحدٍ من هذه الثلاثة حكم في خصوص المسألة ، ويسمى « حكماً إرشاديّاً ».
ب ـ وإمّا تأسيس حكم وإيجاد أمر أو نهي
، إذا لم يكن مسبوقاً بحكم العقل أو الفطرة أو السيرة العقلائية ، ولم يكن مبتنياً على أحدها ويسمّى حينئذٍ « أمراً مولويّاً » أي من المولى مباشرة __________________
من غير ابتناءٍ على
حكم العقل أو الفطرة أو السّيرة العقلائيّة.
والنتيجة
: أنّ مسألة وجوب التقليد في الشّرع
المقدّس مبنيّة على أحد الاُمور الثلاثة السّابقة :
أ ـ إمّا على حكم العقل بضرورة رجوع
الجاهل الى العالم وأهل الخبرة.
ب ـ أو على حكم الفطرة بلزوم الرجوع الى
العالم وأهل الخبرة.
ج ـ أو على السّيرة العقلائية القاضية
بالرّجوع إلى العالم و أهل الخبرة.
فما ورد على لسان المعصوم عليهالسلام في الأخبار الصّحاح
وفي بعض المراسيل مثل قوله عليهالسلام
: « من كان
من الفقهاء صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواء ، مطيعاً لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه »
حكم شرعي إرشادي ، أي أنّه إمّا إرشاد الى حكم العقل ، أو حكم الفطرة ، أو سيرة العقلاء.
واعلم أنّ السّيرة العقلائية لا تكون
حجّة ـ أي لا يجوز العمل بها ، أو لا يجب الأخذ بها ـ إلا إذا كانت ممضاةً وموقَّعةً ومؤيّدةً __________________
من قِبَلِ الشارع
المقدّس بالكتاب والسُّنة ، أو على الأقل لم يرد نهي عنها على لسان المعصوم عليهالسلام.
والحاصل
: أنّ المؤمنين كانوا وما زالوا يرجعون
في تلقّي أحكامهم إلى الفقيه الجامع للشرائط ، وذلك بدليل السّيرة العقلائية القاضية برجوع الجاهل الى العالم أو حكم العقل أو حكم الفطرة القاضيين بضرورة رجوع الجاهل إلى العالم وزاد في التأكيد على ذلك ما ورد لسان المعصوم عليهالسلام
، وبهذا نكون قد أجبنا على سؤال هامّ تقدّم في الدّرس الأول ، ألا وهو : لماذا وبأيّ دليل اختاروا هذا المسلك ؟ أي لماذا اختاروا طريقة التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم ؟
س)
: تقدّم في الدّرس الأول معنى الدّين ومفهومه ، فما هي حاجة الإنسان إلى الدّين ؟
ج)
: إعلم أن الإنسان موجود مركّب من جسد
مادّي وروح مجرّدة ، ثم إنّ عقله يمثّل جانبه الرُّوحاني المعنوي ، وهواه وغرائزه تمثّل جانبه المّادي الحيوانيّ ، فهو بفطرته يبحث عن سعادة مادّية ومعنويّة ، ويسعى إلي الكمال الذي خلق واُوجد من أجله ، ولمّا كان ذا بُعدين : بُعدٍ اجتماعي ، وبعدٍ فردي ، فإنّه بحاجة إلى برامج وقوانين وسلوك تضمن له السعادة المادّيّة والمعنويّة
في كلا الجانبين ، الجانب
الفردي والجانب الاجتماعي ، وتكفل له الحياة الطّيّبة في كلا البُعدين ، وهذه القوانين والأنظمة الكفيلة بتحقيق السّعادة المعنويّة والمادّيّة والحياة الطيّبة في البعدين الفردي والاجتماعي للإنسان التي تعدّ ضرورة فطرية له ، هذه القوانين والأنظمة تعدّ ديناً حقاً ، وتسمّى بدين الحق كما قال تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا )
.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس للثالث
دور الدين في الحياة الانسان
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: ما هي الآثار الفرديّة والاجتماعيّة التي يتركها الدّين في حياة الانسان ؟
ج)
: أمّا الآثار الفرديّة فهي كثيرة أهمّها
أنّ الدِّين والإيمان بالله واليوم الآخر يمنح الإنسان حالة من الاستقرار النفسي في مواجهة المشكلات والمصائب والبلايا التي تحلّ به ، ويملؤ قلبه بالأمل والرّجاء في نظرته الى المستقبل ، فيكون متفائلاً بما سيأتي ، مجتهداً في عمله ، صادقاً في فعله وقوله ، رابط الجأش في المعترك الحياة ، لا يخشى في الله لومة لائم ، راجياً كلّ الخير من ربّه القادر الحكيم العليم الرَّحيم ، فلا يظلم الآخرين ، ولا يعتدي على حقوقهم ، ولا يتجاوز الحدود التي رسمها له الشّرع المقدّس ، يحترم القوانين الإلهيّة ، ويرأف بكلِّ شيء حوله حتى بالحيوان والجماد فضلاً عن رأفته بالإنسان لا سيّما والديه
وجيرانه وأهله
وعياله ، وكيف كان فهو مصداق قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
« خير النّاس أنفعهم للناس » ، وقوله تعالى : ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
) ، لأنّه يرى الله ـ تعالى ـ معه ورقيباً
عليه في كلّ آن (
وَهُوَ
مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ )
و ( فَمَن يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
) .
س)
: تبيّن من الدّرسين السابقين أن العقل والفطرة وسيرة العقلاء تأمرنا بالرّجوع الى أهل الخبرة والدّراية في كلّ فنّ من الفنون أو علم من المعلوم ، وأنّ الإنسان لمّا كان محتملاً لتوجّه تكاليف ووظائف إليه من الله ـ تبارك وتعالى ـ أو كان عالماً ولو إجمالاً بتوجّه تلك التكاليف إليه ، وجب عليه أن يطلب العلم ويسعى إلى معرفة ذلك ليطّلع على تكاليفه ويحصل على وظائفه الشرعيّه من الأوامر والنواهي يعمل طبقاً لمعرفته ، فيأتي بما أمره الله ـ تعالى ـ به ، ويترك ما نهى الله ـ تعالى عنه ، وهذا لا يتحقّق إلا بأن يكون إمّا مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً ـ كما صرّحت به جميع
__________________
الرّسائل
العمليّة وأجمع عليه الفقهاء ـ ، والسؤال هنا : ما هو الاجتهاد ومن هو المجتهد ؟ وما معنى التقليد ؟ وما معنى الاحتياط ؟
ج)
: أمّا الاجتهاد فهو بذل الجهد والسّعي
الحثيث لاستنباط الحكم الشرعي من مصادر التشريع ـ الكتاب والسُّنة والعقل والإجماع ـ.
وأمّا المجتهد فهو الذي قضى شطراً من
عمره في تلقّي دروس وعلوم خاصّة تدرّس في حوزات علميّة خاصّة تؤهّله وتجعله قادراً استنباط الحكم الشرعي واستخراجه من مصادر التّشريع الأربعة متى شاء وأراد ، وهذه العلوم عبارة عن بعض العلوم العربيّة ـ كالنّحو والصّرف واللّغة ـ واُصول الفقه والفقه والمنطق وعلم الحديث والرّجال ، وهي علوم وفنون خاصّة ، لا يمكن أن يتفرّغ لها جميع الناس ، وإلى هذا أشارت الآية المباركة : ( وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ
إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )
، ولا يؤفّق إلى العمل بها إلا نفرُ قليل من __________________
الناس في كلّ عصر ومصر.
وأمّا التقليد : فإنّه بعد ما ذكرنا من
عدم استطاعة الجميع لتلقّي علوم الشريعة وبلوغ مرتبة الاجتهاد يتّضع لدينا أنّ عامّة الناس وهم الغالبيّة العظمي في كلّ زمان عليهم أن يأخذوا أحكامهم وتكاليفهم من أحد الفقهاء والمجتهدين الأحياء الجامعين لشرائط المرجعيّة الدّينيّة وهو الذي يسمّي ب « التقليد » .
وأمّا الاحتياط : فهو الجمع بين أقوال
الفقهاء بحيث يكون قد برئت ذمّته قطعاً وعلى كلّ حال ، وهو قد يكون في الفعل كما إذا احتمل كون الفعل واجباً وكان قاطعاً بعدم حرمته ، أو في الترك كما إذا احتمل حرمة فعل وكان قاطعاً بعدم وجوبه ، وقد يكون في الجمع بين أمرين مع التكرار ، كما إذا لم يعلم أنّ وظيفته في الصّلاة هي القصر أو التمام ، فإنّه يجمع بينهما بالتكرار ، أي يصلّي قصراً __________________
ثمّ يصلّي تماماً أو
العكس.
لكنّ الاحتياط رغم كونه سيبلاً للنّجاة
إلا أنّه غير ممكن للجميع ، إذ يجب أن يكون عارفاً بكيفيّة الاحتياط إمّا بالاجتهاد أو بالتقليد ، لعصوبة تشخيص موارده إذ قد يكون الاحتياط في ترك الاحتياط.
وعمل العامّي بلا تقليد ولا احتياط باطل
إلا إذا طابق الواقع ـ أي انكشف له أنّه مطابق للحكم الواقعي ـ أو تبيّن له أنّه مطابق لفتوى الفقيه الجامع لشرائط التقليد.
والحمد لله ربّ العالمين
الدرس الرابع
الحكم الواقعي والحكم
الظاهري
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
بعد ما تبيّن أنّ طلب علوم الشّريعة وبلوغ مرتبة الاجتهاد فَرْضُ كفايةٍ إذا قام به من يعتدّ به ، وإلا فهو فَرْضُ عينٍ على جميع المؤمنين ، بل هو من أهمّ الفرائض لأن به يستقيم الدّين وتحفظ بيضة الإسلام ، وبعد ما تبيّن أن هناك طائفة قد نذروا أنفسهم في كلّ زمان للقيام بهذه الفريضة العظيمة كي يستخرجوا الحكم الشرعي وينشرونه بين النّاس كافّة حتى يرفعوا عن كواهلهم عبثاً ثقيلاً ومسئوليّة جسيمة ، ويسهّلوا عليهم طريق الهداية الى معرفة أحكام الله ـ تبارك وتعالى ـ ومعرفة تكاليفهم السّماويّة ، وهذه الحركة ـ أعني حركة الاجتهاد والتقليد ـ مستمرة الى يومنا هذا وإلى قيام الحجّة ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ وباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه ، فا السؤال الذي يطرأ على أذهاننا هو : أليس حكم الله ـ تعالى ـ واحد لا يتعدّد ، وأليس لله ـ تعالى ـ في
كلّ
مسألة وواقعة حكم واحد ؟ فلماذا نجد في الكثير من الأحيان عدّة أحكام في المسألةٍ الواحدة ، لكلّ فقيهٍ ومجتهدٍ رأي يختلف عن غيره ؟!
ج)
: نعم الله ـ تعالى ـ في المسألةٍ
الواحدة حكم واحد ، ولكلّ مسألة حكم خاصّ بتلك المسألة يسمّى ب « الحكم الواقعيّ » ، ولكن بما أنّ الحكم الواقعي يحتاج إلى نصّ جليّ قطعي ، وأكثر ما وردتنا من الأخبار والرّوايات قابلة للتأويل ومنها ما هو ضعيف السّند ، فالمجتهد يسعى الى استنباط الحكم الشرعي من ظواهر الآيات والرّوايات وأحياناً يستند فيه الى إجماع العلماء أو حكم العقل ولهذا فقد يصيب ، أي يوفّق ليكون الحكم الذي استنبطة مطابقاً للحكم الواقعي ، وقد يصيب فيكون الحكم الّذي توصّل اليه الفقيه حجّة عليه وعلى مقلّديه سواء كان مصيباً عند الله ـ تعالى ـ أو كان مخطئاً ، اذا الشّرع المقدّس عفا عن خطئه هنا ، ولا أحد يستطيع أن يجزم هل ما استنبطه هو الحكم الواقعي أم لا ؟ سوي المعصوم عليهالسلام
والمعصوم عليهالسلام
فرض علينا اتّباع المجتهد في كلّ حكم توصّل إليه ، وحكم له بالأجر والثواب على كلّ حال ، حيث أنّه يؤجر على الجهد الذي بذله في سبيل استنباط الحكم الشرعي ، فإذا أصاب الواقع وأدّى جهده إلى معرفة الحكم
الواقعي اُعطي أجراً
ثانياً لذلك ، وكلّ ما يستنبطه المجتهد فهو من الأحكام الظاهرية ويسمّي ب « الحكم الظاهري » الذي اُمرنا باتّباعه والعمل به في زمن الغيبة الكبرى ، ولا يعني هذا أنّ كلّ ما أفتى به المجتهد يعدّ حكماً ظاهريّاً ، بل هناك فتاوىٰ مأخوذة من النص القرآني الجليّ كقوله ـ تعالى ـ في الإرث : (
فَلِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ )
، ومثل قوله تعالى : (
الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
) ، أو مأخوذة من النصوص الروائية الجليّة كأوقات الصّلاة وعدد ركعات الصّلوات وما شابه ذلك وهي غالباً من الضّروريات وهي قطعاً من الأحكام الواقعية التي لا تقبل التأويل والتعدّد.
س)
: اشرحوا لنا ما هي الرّسالة العمليّة ؟
ج)
: الرّسالة العمليّة عبارة عن كتاب يدوّن
فيه المجتهد الأحكام الشرعيّه التي استخرجها واستنبطها من مصادر التشريع الأربعة ، وهو قد يكون مفصَّلاً يحتوي على جملة كبيرة من الأحكام وفي جميع أبواب الفقه من التقليد الى الدّيات ، أو في بعضها ، وقد يكون مختصراً لكن يشمل جميع أبواب الفقه أيضاً ، __________________
وقد يختار الفقيه
اسماً خاصاً لرسالته العمليّة مثل « المختصر النافع » أو « وسيلة النجاة » أو « العروة الوثقى » أو « تحرير الوسيلة » أو « منهاج الصّالحين » أو « توضيح المسائل » أو « الأحكام الواضحة » أو غير ذلك من الأسماء ، وربما تكون الرّسالة العمليّة خاصّة ببيان أحكام باب واحد من أبواب الفقه كالحج ـ مثلاً ـ وتسمّى حينئذٍ بتسميةٍ خاصّة مثل « رسالة في أحكام الحج » أو « مناسك الحج » ، أو في أبواب اُخرى مثل « أحكام المسافر » أو « رسالة في الخمس » أو « رسالة في صلاة المسافر » وما شابه ذلك.
ولمّا كانت الرّسالة العمليّة ـ رغم
أنها مكتوبة لعامّة الناس ـ تحتوي على جملة غير يسيرة من العبارات والألفاظ والمصطلحات الخاصّة وعبارات قد لا يستوعبها الجميع ، فقد لجأنا الى كتابة هذا الكتيّب آملين أن يزيل كلّ غموضٍ من شأنه أن يحول دون الوقوف على المقصود فيها ، ويرفع كلّ ما من شأنه أن يمنع المقلّد من معرفة الحكم الشّرعي الصّحيح ، كما سيكون بأذن الله ـ تعالى ـ معيناً للقارىء الكريم على سهولة استخراج الحكم الشرعي الّذي يبحث عنه في الرّسالة العمليّة.
والحمد لله ربّ العالمين
الدرس الخامس
التقليد نوعان : ممدوح
ومذموم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: لقد ذكرتم في الدّرس الثالث أهمّية التقليد وأنّ عمل العاميّ بلا تقليد ولا احتياط باطل ، لكنْ أليست الآيات والرّوايات قد منعت عن التقليد كما في قوله ـ تعالى ـ في ذمّ المقلّدين ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم
مُّقْتَدُونَ )
، وأما نهتنا الشّريعة عن التقليد في الدّين ؟!
ج)
: التقليد الذي منعت عنه الشّريعة وذمّه
الإسلام غير التقليد الذي تحدّثنا عنه هناك ، وقد ذكرنا أنّ سيرة العقلاء وعملهم وإمضاء الشارع المقدّس وتأييده أو عدم منعه عن تلك السّيرة هو الذي جعل التقليد مشروعاً بل مطلوباً لا مفرّ منه ، ولو قلنا أن العقل يحكم بضرورة رجوع الجاهل الى أهل الخبرة __________________
والعالم أو أن
الفطرة تحكم بلزوم رجوع الجاهل الى أهل الخبرة ، فالشّرع المقدّس لا ولن ينهىٰ عن حكم العقل ولا عن حكم الفطرة ، وحينئذٍ فكلّ أمر يصدر في الشّريعة المقدّسة بوجوب التقليد أو الحثّ عليه فإنّما هو إرشاد وتنبيه الى العمل بحكم العقل أو الفطرة ، ولكن قد يحكم العقل أو الفطرة بقبح العمل بتقليدٍ ما ، أو قد يذمّ العقلاء نوعاً من التقليد ، وهنا أيضاً فالشارع المقدّس ينهي عن هذا النّوع من التقليد ، ولمّا كان رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة والى العالم من القسم الأول دون القسم الثاني فإنّه ممّا أمر به الشارع الحكيم وهو رئيس العقلاء.
وبعبارة أصحّ وأوضح فإنّ أقصى ما قد
يقال أنّ العقل والفطرة يحكمان بقبح التقليد ، وأنّ عمل العقلاء وسيرتهم جرت على ذمّ التقليد وتركه ، إلا في مورد خاص وهو لزوم ووجوب وضرورة رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة والعلماء فيما يجهل من اُمور دينه ودنياه ، وحينئذٍ فهذا النّوع والمورد الخاص خارج عن ذلك الحكم العام ، ويكون مطلوباً في الشريعة لابدّ منه ، هذا أوّلاً.
ولهذا فإنّ الشريعة الغرّاء منعت عن
التقليد المذموم والمنهيّ عنه بحكم العقل أو الفطرة أو سيرة العقلاء ، مثل تقليد الجاهل للجاهل ، وتقليد من ليس بمجتهد مطلقاً ، وكتقليد الفاسق الذي لا
يؤمَّن على الدّين
أو الدُّنيا ، فالعقل والفطرة يحكمان بعدم جواز رجوع الجاهل إلى الجاهل الذي مثله ، ويمنعان من الرجوع إلى غير أهل الخبرة مطلقاً ، والعقلاء لا يعتمدون على قول الفاسق ويذمّون متّبعيه ، ومن لا أمان له عندهم في اُمور دنياهم ، فهو بطريق أولى لا أمان له في اُمور دينهم.
وقد أجمع الفقهاء على عدم وجوب التقليد
في الضّروريّات كأن يقلّد في أصل وجوب الصّلاة والصّوم والحج وغيرها من الواجبات لأنها واجبة بضرورة الدّين واُمور مفروغ عنها في أصل الشّريعة وإنكار وجوبها إنكار لأحد ضروريات الدّين ، وهكذا بالعكس ، لا يجب التقليد في أصل حرمة الكذب مثلاً أو الغيبة أو الزّنا أو غيرها من المحرّمات الثابتة بضرورة الدّين ، لأنّ إنكار حرمة المحرمات أيضاً إنكار لضرورة من ضرورات الدّين ، فإنكار وجوب الواجبات المسلّمة وإنكار حرمة أحد المحرّمات المسلّمة إن كان عن عمدٍ وعلم يوجب ويستلزم الخروج من الدّين.
وكذا لا يجب التقليد في اليقينيّات إذا
حصل له اليقين بها ، كما لو قال المجتهد : هذا السّائل خمر يحرم شربه ، ولكن أيقن العاميّ أنّه ماء طاهر ـ مثلاً ـ فإنّه لا يجب عليه الإجتناب عن ذلك
السّائل بل يجوز له
شربه واستعماله خلافاً لرأي المجتهد الذي يقلّده ، لأنّه من قبيل تشخيص الموضوع الّذي يعدّ من شؤون المقلِّد والمكلَّف لا المجتهد.
وثانياً : قد نهت الشريعة عن التقليد في
اُصول الدّين كالتّوحيد والعدل والنّبوّة والإمامة والمعاد يوم القيامة ، نعم أجازت التقليد في المسائل الجزئية والخلافيّة التي تتعلق بكلّ أصل من اُصول الدّين ، لأنها اُمور تخصُّصيّة لا يتسنّي لكلّ أحدٍ من المؤمنين أن يخوضها ويطلبها ويعرفها بنفسه ، ولأنها اُمور استدلالية يعجز عن استخراجها من أدلّتها ، فهي حينئذٍ لا تختلف عن فروغ الدّين والأحكام العمليّة إلا أنّها أحكام عقائديّة علميّة ، كما في كيفيّة علم الله ـ تعالى ـ بالأشياء ، وكيفيّة إرادته ـ تعالى ـ وهل هي من صفات الذّات أو هي صفة فعل ؟ وتفاصيل المعاد ، وكيفية الحشر والنّشر والحساب والجزاء ومعنى العدالة الإلهيّة ، وكيفيّة خلود أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة ، ومعنى العصمة لدى الأنبياء والأئمة عليهمالسلام
، وعلم النبيّ والإمام عليهماالسلام
، إذن لا يجوز التقليد في أصل وجود الله ـ تعالى ـ ، ولا في أصل توحيده ووحدانيّته ـ تعالى ـ ، ولا في أصل صفات كماله ـ أي صفات الجمال والجلال ـ ، ولا في أصل المعاد والحشر والنشر
والحساب ولا في أصل
نبوّة الأنبياء عليهمالسلام
وعصمتهم ، لا سيّما نبيّنا الخاتم محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ولا في إمامة الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام
، ولا في أصل عدالة الله ـ تعالى ـ وأنّه يجزي المحسن بالإحسان ويعاقب المسيء بمثل إساءته.
ومعنى عدم وجوب التقليد أو عدم جواز
التقليد فيها أنّه لا يكفيه أن يعتقد ويقول لأن المجتهد الفلاني ـ أي مرجع تقليدي ـ يقول : إنّ الله ـ تعالى ـ موجود فأنا أعتقد بوجوده ـ تعالى ـ ، أو لأنّه يقول إنّ الله ـ تعالى ـ عادل ، فأنا أعتقد بعدالته ـ تعالى ـ ، أو لأنّه يقول : محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
نبيّنا ، فأنا أعتقد بنبوّته ، أو لأنّه يقول : عليُّ عليهالسلام
أو أحد الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام
إمام ، فأنا اعتقد بإمامته أو إمامتهم ، وهكذا بل يجب عليه في هذه الاُمور أن يفكّر ويتأمّل فيها ويبحث عن أدلّتها ، نعم طالما هي من ضروريّات الدّين والمذهب يكفيه أن يعتقد بها عن جزمٍ ، ولو لم يؤفّق إلى البحث والتحقيق والبرهنة والاستدلال ، وإن كانت المعرفة عن دليل وبرهان أتمّ وأكمل وأفضل.
والحمد لله ربّ العالمين
الدرس السادس
اُصول الدين والعقائد
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: يبدو أنّكم تريدون أن تشرحوا اُصول العقائد ، فما علاقه اُصول الدِّين بالرّسالة العمليّة والأحكام الشرعيّة ؟
ج)
: إعلم أن علماءنا في الأزمنة الماضية
كانوا يبدأون رسائلهم العمليّه ببيان أهمّ ما يتعلّق باُصول الدّين ، وبيان نبذة عن المسائل العقائديّة التي هي مورد ابتلاء المكلّفين ، وهي المسائل الأساسيّة التي يسأل عنها المسلم في قبره وعند الحساب يوم القيامة كما دلّت عليه كثير من الأخبار والأحاديث ، وعلى نهجهم سار بعض علمائنا المعاصرين في زماننا هذا حيث بدأوا رسائلهم العمليّه بنفس تلك الطريقة ، وللأهميّة التي لاحظناها في ذلك فقد بادرنا الى شرحٍ موجزٍ وبيانٍ مبسوطٍ لاُصول العقائد تيمّناً وتبرُّكاً بها ، وليكون عوناً للجليل الصّاعد والقادم في معرفة اُصول دينه التي هي أهمّ من الفروغ ، ولا ينفع العمل إذا كانت العقيدة فاسدة ،
إذا العقيدة هي
المبنى والأساس الذي يُبتنىٰ ويُبنىٰ عليه الدّين ولا يصحّ عمل ولا يُقبل عند الله ـ تعالى ـ إلا إذا كان مبنياً على أساسٍ سليم صحيح ونابعاً من عقيدة سليمة بعيدة عن كلّ الشبهات ، خالية من الشوائب ، وذلك أن الإنسان قد يعذَّب بل قطعاً يعاقب ويعذَّب يوم القيامة على ترك الواجب أو فعل الحرام عالماً عامداً ، غير أنّه لا يخلّد في النار إذا كانت عقائده سليمة ، أمّا من كانت عقائده فاسدة فإنّه يخلّد في النار ، إلا إذا كان معذوراً عند الله ـ تبارك وتعالى ـ ، وعليه فلا يجوز التهاون في العقائد بل يجب الاهتمام بها ، وبذل الجهد في سبيل ذلك ، والبحث عن أدلتها وبراهينها ، إذ كيف يجوز أن يسعى الإنسان ويبذل قصارى جهده من أجل دنياه ودنيا غيره أحياناً ، لكنّه يغفل الجانب الأساسي والمهمّ الذي خلق من أجله ويحاسب عليه ، وهو حياته الاُخروية والدّار الآخرة التي لا تنقطع ، إمّا نعيم خالد أبدي ، أو شقاء وعذاب وخلود في النار ـ أجارنا الله تعالى من ذلك ـ ولهذا فقد قال عليهالسلام
: « اليوم
عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل »
، ولهذا أيضاً قال ـ تعالى ـ (
الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
) __________________
في مواضع عديدة من
القرآن الكريم ، فجعل العمل الصّالح في كلّ موضع مقروناً بالإيمان والعقيدة السّليمة ، وفسّر هذا الإيمان بقوله ـ تعالى ـ (
آمَنَ
الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ
مِّن رُّسُلِهِ )
، وقال ـ تعالى ـ : (
الم.
ذَٰلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ.
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ )
بل جعل الإيمان والعقيدة السّليمة سبيل النّجاة
حيث قال ـ عزّ شأنه ـ : ( إِلَّا مَنْ أَتَى
اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )
فالقلب موضوع العقيدة ووعاء الإيمان ، ولا يكون سليماً إلا بسلامة المظروف والموضوع الّذي بداخله وهو العقيدة والإيمان ، فلا يجوز التّهاون والتّقصير في هذا المجال ، بل على المسلم أن يقضي شطراً من عمره منكبّاً على المعرفة ، وأعلى مراتب المعرفة معرفة اُصول الدّين ، وهي الّتي سمّيت ب « الفقه الأكبر » مقابل الأحكام والمسائل الشرعيّة وفروع الدّين التي اُطلق عليها « الفقه الأصغر » ، ولهذا قيل : «
أوّل العلم معرفة الجبّار وآخر العلم تفويض
__________________
الأمر
اليه » .
ثم إنّ أهمّ القضايا المتعلّقه بالعقائد
فطريّة « كوجود الخالق والصّانع الحكيم » لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « كلّ
مولود يولد على الفطرة » أي مؤمناً بالخالق الحكيم ، أو عقليّة « كوحدانيّة الله ـ تعالى ـ » ، لقوله تعالى : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا
آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا
) إذ يحكم العقل بأن تعدّد الصّانع يوجب الخلاف والاختلاف المقتضيان للفساد ، أو فطريّة عقلية كالإيمان بالعدل الإلهي.
وكيف كان فأهمّيّة اُصول العقائد الّتي
هي أول شيء يُسأل عنه الإنسان بعد الموت ، تدعونا وتحفّزنا إلى أن نبدأ كتابنا هذا بأهمّ ما يتعلّق بها من المسائل التي يُسأل عنها المسلم اُسوةً بفقهائنا الأبرار ومحدّثينا الأخيار الّذين بدأوا كتب الفقه والحديث بما يخصّ اُصول الدّين ، عسى أن نوفّق في تحقيق ما نرمي إليه.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس السابع
طرق الوصول إلى معرفة اُصول
الدين
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: هل اُصول العقائد في الأديان واحدة أم أنها تختلف من دينٍ إلى دين ؟
ج)
: لا شك أنّ الحاجة إلى الدّين حاجة
فطريّة نشأت منذ أن خلق الله ـ تعالى ـ أبانا آدم عليهالسلام
إذ كان نبيّاً ، فلم يخلُ زمان من نبيٍّ أو وصيّ نبيّ ، وعليه فهناك ثلاثة اُصول اجتمعت عليها وأطبقت عندها جميع الأديان السّماويّة هي التوحيد والنّبوّة والمعاد ، لكن يمكن إضافة عقائد اُخرى إليها إمّا لأنها مأخوذة ومستقاة منها ، أو لأنها من توابعها ، لتكون جميعاً من اُصول العقائد ، فالاعتقاد بوجود الله ـ تعالى ـ أصل من اُصول جميع الأديان السّماويّة ، وأمّا الاعتقاد بتوحيده ـ تبارك وتعالى ـ فهو أصل آخر لكنّه مأخوذ من الاعتقاد بوجود الله ـ تبارك وتعالى ـ أو من توابعه ولوازمه ، وهكذا العدل فإنّه من توابع التوحيد ومتفرّع عليه إلا أنّه
أصل من اُصول المذهب
الجعفري الاثني عشري ، كما أنّ الإمامة أيضاً من توابع النّبوّة.
والنتيجة
: أنّ اُصول الدّين قد ترد بالمعنى العام
الذي يقابل فروع الدّين وهي حينئذٍ تشمل جميع العقائد المعتبرة ، وقد ترد بمعنىً خاصّ يقتصر على الاُصول الثلاثة التي أجمعت عليها جميع الأديان السّماويّة وهي « التّوحيد والنّبوّة والمعاد ».
س)
: علمنا ضرورة معرفة ما يتعلّق بالدّين من اُصول وفروع ، فما هي الوسائل والطرق التي بها نتوصّل إلي معرفة هذه الاُمور ؟
ج)
: إعلم أن طرق المعرفة التي بها يتوصّل
الإنسان إلى معرفة الأشياء تنقسم إلى أربعة أقسام :
١ ـ المعرفة التجربيّة الحسّيّة ، وهي
المعرفة التي تتحقق بواسطة الآلات الحسّيّة كالجوارح والأعضاء ، ولا تخلو هذه المعرفة من الاستعانة بالعقل في التجربة والمشاهدة والاستنتاج ، وتسمّى المعرفة العلميّة.
٢ ـ المعرفة العقلية : أو بواسطة العقل
والبراهين العقليّة ، وتسمّى المعرفة الفلسفية.
٣ ـ المعرفة التّعبّديّة : وهي التي
تحصل بواسطة مصدر معتمد ، كالمعرفة الحاصلة بالشيء عن طريق المخبر الصّادق الأمين ، كما
هو الحال فيما
يتعلّق بأحكام الدّين ، وتسمّى المعرفة الدّينية.
٤ ـ المعرفة الشّهوديّة : التى تحصل
بواسطة الرياضات النفسانيّة والعبادات الرُّوحانية ، وتسمّى المعرفة العرفانيّة.
ثم إنّ الطّريقة الّتي تنحصر فيها معرفة
أصول الدين هي الطريقة العقلية الفلسفيّة ، كما أن الطّريقة الّتي تحصر بها معرفة فروع الدّين هي المعرفة التّعبّديّة ، نعم يمكن الاستعانة بالتّجربة الحسّيّة أو الكشف والشهود أيضاً لمعرفة أصول العقائد ولإثبات الأدلة العقليّة ، كما يمكن الاستعانة بالعقل لمعرفة بعض الأحكام الشّرعيّة وفروع الدّين إذ «
كلّ ما به العقل حكم به الشّرع »
، وقال عليهالسلام
: « العقل ما
يُعبد به الرَّحمن وتُكتسب به الجِنان »
.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس الثامن
ضرورة التفقّه باُمور الدين
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: ذكرتم في الدّرس السّابع أنّ طرق المعرفة أربعة ، وأنّ طريق معرفة اُصول الدّين هو العقل ، وطريق معرفة فروع الدّين هو التعبُّد والشرع ، سواء كانت هذه الفروع من أحكام اُصول الدّين أو من الأحكام الفرعيّة الشرعيّة ، أعني سواء كانت من الأحكام العقائديّة أو الأحكام العمليّة ، والسؤال المطروح هنا : ما هي الضّرورة التي تدعو الى تحصيل العلم والمعرفة بشؤون الدّين ـ سواء الاُصول أو الفروع ـ ؟! وما الحاجة إلى هذه المعرفة ؟
ج)
: يكفي في الحاجة الى معرفة ما يتعلّق
بنا من أحكام الدّين وشؤونه وضرورة السّعي وراء هذه المعرفة احتمال وجود المبدأ والمعاد ، بيان ذلك : أن الإنسان العاقل الذي بلغ سنّ التكليف يحتمل أن يكون لهذا العالم مبدأٌ أوجده وخلقه وهذا المبدأ حكيم في صنعه وفعله ، وجميع الخلائق تدلّ على ذلك ،
ويحتمل أيضاً أن
يكون هناك معاد وآخرة ويحاسب على أفعاله وأعماله فيها ، فمجرّد هذا الاحتمال يستلزم ضرورة البحث والتحقيق عن المعرفة ، والسّعي إلى معرفة ما يجب عليه من الاعتقادات والمعتقدات القلبية ، ومعرفة ما يجب عليه من الأفعال المطلوبة منه عند الخالق الحكيم ، إذ لمّا كان للإنسان والعالم بأسره خالق حكيم عليم ولم يكن الموت انقراضاً وانعداماً ، بل كان بداية لحياة أبديّة وخلود أبدي ، وكان مخلوقاً لغاية سامية ، وقد أعدّ له الخالق الحكيم برنامجاً خاصّاً وسلوكاً معيّناً وتكاليف محدودة ، وكان التخلّف عنها موجباً للشّقاء والخسران الأبدي ، فإنّ الفطرة الإنسانيّة توجب عليه أن يعتني بهذا الاحتمال ويسعى الى معرفة ما يحتمل أن يدفع عنه للشّقاء الدّائم ويضمن له السّعادة الأبديّة مهما كان الاحتمال ضعيفاً ، و ذلك نظراً إلي عظمة المُحتمَل وأهمّيّته ، والمحتمَل هو الشّقاء الأبدي أو النعيم الأبدي ، فشدّة ما قد يلاقيه من العذاب الأخروي ، أو حلاوة ما قد يجده من النعيم الأبدي يكفي لأن يدفع الإنسان إلى تحصيل المعرفة ثم العمل بما توصّل إليه علمه لدفع العذاب المحتمَل أو لجلب المنفعة المحتمَلة أو لكليهما ، إذ العمل متوقّف على المعرفة ، والمعرفة شرط في صحّة العمل ، كما
أنّ صحّة العمل
وإخلاص العامل شرطان لقبول العمل ، أليس الإنسان إذا احتمل وجود تيّار كهربائي في ما الحوض ـ مثلاً ـ وأنّ إدخال يده في الماء قد يودي بحياته ، ويؤدّي الى هلاكه ومماته ، أليس هذا الاحتمال مهما كان ضعيفاً يكفي لكي يتجنّب الانسان ويمتنع من إدخال يده في ماء الحوض ؟! لأنّ المحتمَل وهو الهلاك والموت أمر عظيم عنده ؟
إلا إذا كان مختلاً عقلاً أو مجازفاً
بحياته ، هذا في العذاب المنقطع وهو الموت ، فكيف به هو يحتمل عذاباً أبديّاً لا ينقطع ، ألا يجب أن يبحث ويحقّق عمّا يؤمّنه ويضمن له الأمان من ذلك العذاب والشَّقاء ؟
وهكذا العكس : لو احتمل أحدنا أنّ عملاً
معيّناً مهما كان هذا العمل شاقّاً وخطيراً قد يؤدّي إلى حصوله على ثروة عظيمة وكنز كبير ، كالغوص تحت الماء رغم مشقّته ومخاطره الاحتماليّة ، ورغم أن احتمال حصوله على اللؤلؤ والثروة ضعيف ، فإنّه بمجرّد هذا الاحتمال يتحمّل المشاق ويغوص بحثاً عن اللؤلؤ أو الكنز المحتمَل ، وذلك أن أهمّيّة المحتمَل عنده ـ وهو العثور على اللؤلؤ أو الكنز تحت الماء ـ تجعله لا يعتني بما قد يصيبه من أذىً ومشاقٍّ في سبيل العثور على مبتغاه ، ويحتمل ذلك في سبيل
الغنى والثروة ، فما
حاله إذا كان يحتمل ثروة عظيمة وغنىً دائماً ، ونعيماً ورخاءً وسعادة أبديّة ، ألا يجدر به أن يبذل أقصى ما في وسعة للعثور على طريق يهتدي إليها ، ثم يبذل قصارىٰ جهده لنيلها بالعمل الصالح النافع الذي يوصله إليها والّذي يمكّنه من الفوز بها ؟!
س)
: قرأنا فيما مضى عن طرق المعرفة وأهمّيتهاوالحاجة إليها ، فهل هناك شروط للحصول على هذه المعرفة ؟
ج)
: لا شك أنّ المعرفة علم و « العلم نورٌ يقذفه
الله في قلب يشاء »
، وإذا كان هذا العلم يتعلّق بمعرفة الله ـ تعالى ـ واُصول العقائد وأحكام الشريعة ، فهو غاية الكمال وأعلى مراتب المعرفة ، وتسمّى هذه المعرفة « حكمةً » ، و « الحكمة ضالّة المؤمن »
يبحث عنها أينما كان وهي الكنز الذي لا يعثر عليه كلّ أحد ، ولا تُمنح لكلّ النّاس ، بل تعطى للمجاهدين بالجهاد الأكبر وهو جهاد النّفس ، والّذين روّضوا أنفسهم على طاعة الله ـ تعالى ـ وخالفوا أهواءهم لقوله تعالى : (
وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
__________________
سُبُلَنَا
) ولهذا قال تعالى : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا
) ، وهكذا (
وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .
ولا شكّ أن الإنسان مفطور مجبول على حبّ
العلم والمعرفة ويميل إليهما بفطرته ، لأن إنسانيّة الإنسان بعقله والعلم ثمرة العقل ، ولهذا فالإنسان يكره الجهل والجاهل ، ويكره أن يوصف بهما حتى وإن كان جاهلاً ، وقد شبّه الإسلام العلم بالنّور ، والجهل بالظلام ، وشبّه الجاهل بالميّت والعالم بالحيّ في قوله عليهالسلام « العالم بين الجهّال كالحيّ بين الأموات »
، إلا أن بعض العلوم أشرف من بعض ، وشرف العلم بشرف موضوعه ، فمثلاً علم معرفة الإنسان أشرف من علم معرفة الحيوان لأنّ الإنسان أشرف من الحيوان وعلم الأحياء أشرف من علم الجماد ، فأشرف العلوم على الاطلاق هو العلم الباحث عن الله ـ تعالى ـ وما كان موضوعه الواجب ـ جلّ وعلا ـ لأنّ الله ـ تعالى ـ أشرف ما في الوجود ، لا يقاس بشرفه أحد من خلقه ، ولا يدانيه في الشّرف شريف ، وثمرة __________________
هذا العلم هو
الإيمان والعمل الصّالح الكفيل بسعادة الدّارين (
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
) ، وهو علم مبني على العلم والبرهان : (
ادْعُ
إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
) ، و (
وَلَا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )
، ( إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
شَيْئًا )
.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس التاسع
التوحيد
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: تقدّم في الدّرس الخامس أن اُصول الدّين خمسة هي : « التّوحيد ، العدل ، النُّبوّة ، الإمامة ، والمعاد يوم القيامة » فما معنى التوحيد ؟
ج)
: قبل أن نخوض في مسألة التّوحيد ينبغي
أن نعرّج على ما هو أهمّ من التّوحيد ، لأنّ التوحيد مبنيٌّ عليه ، وهو متقدّم رتبةً على التوحيد ، ويرد في مرتبة متقدّمة على التوحيد ، ألا وهو « وجود الله ـ تبارك وتعالى ـ » وإنّما لم يُجعل وجوده ـ تبارك وتعالى ـ أصلاً مستقلاًّ في الاُصول والعقائد لأنا أوّلاً : إذا أثبتنا التّوحيد فقد أثبتنا الوجود لأن التّوحيد كما قلنا متفرّع على أصل الوجود ، وتوحيده ـ تعالى ـ متوقّف على وجوده ـ عزّ وجلّ ـ ، وثانياً : لأنّ التوحيد أمر عقلي ، والوجود أمر فطري ، والفطري أشدّ وضوحاً من العقليّ ، نعم هما متلازمان ، أي يلزم من وجوده
ـ تعالى ـ توحيده
ولهذا فقدا اعتبروا وجوده ـ تعالى ـ أمراً مسلّماً مفروغاً عنه ، لا يحتاج الى دليل وبرهان ، بل يكفي في التصديق والاعتقاد بوجوده ـ تعالى ـ العودة الى الوجدان والفطرة السّليمة ، ولا ينكر وجوده ـ تعالى ـ إلا مكابر معاند ، بل منكر وجوده ـ تعالى منكر لكلّ مخلوق ولأصل الخلقة والخليقة ، ومنكر لنفسه بطبيعة الحال ، إذ كيف يمكن للفطرة والوجدان والعقل السّليم أن تحكم باستحالة أن توجد البعرة من غير بعير ، وامتناع أن يوجد الدّخان بلا نار ، وهكذا في سائر الأشياء الجزئيّة البسيطة ، ولكنّها إذا وصلت إلى هذا الكون العظيم والخلق العجيب تزعم بأنّها وجدتْ بالصّدفة ومن غير خالق ، فتنكر وجود خاق للكون والكائنات ، أليس هذا سفسطة وباطل وهراء ؟! وأليس هذا مغالطة صريحة وافتراء وانحراف عن الجادّة والصّراط المستقيم ، وخروج عن الفطرة والوجدان والعقل السّليم ؟! قال ـ تعالى ـ : ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ
، أَمْ
خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ
) .
وثالثاً : لأن وجوده ـ تعالى ـ لكثرة ما
يدلّ عليه وشدّة __________________
وضوحه وبيانه غنيٌّ
عن البيان والاستدلال ولهذا قيل : « توضيح الواضحات من أشكل المشكلات »
أليست كلّ هذه الآيات والعلامات والبيّنات تدل عليه ؟! ، انظر الى آيات الآفاق والأنفس أما تكفي دليلاً وشاهداً على وجوده ـ تبارك وتعالى ـ ؟! ، (
وَفِي
الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) .
وهكذا : (
سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ )
، وقوله ـ تعالى ـ : (
وَلِكُلٍّ
وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ).
ثم كيف يمكن الاستدلال على وجوده ـ تبارك
وتعالى ـ وذاته المقدّسة وهو النّور الذي ملأ الخافقين ، ولشدّه نوره لا يمكن النظر الى حاقّ ذاته والوصول الى حقيقة صفاته سيّما للمخلوق الملوّت بالمادّة والمتعلّق بالمادّيّات ، هذا فضلاً عن إمكان إنكار وجوده المقدّس ـ جلّت عظمته ـ إذ كيف يمكن إنكاره ( وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ مَا كُنتُمْ )
، ( مَا يَكُونُ مِن
نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ
__________________
إِلَّا
هُوَ رَابِعُهُمْ )
، و ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ )
، ( وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ )
، و ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ )
، أيضاً ( وَهُوَ الَّذِي فِي
السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ
) .
ولهذا فقد ورد في دعاء الصباح : « يا مَنْ دلَّ على
ذاتِهِ بذاتهِ » وهل هناك شيءٌ بعد هذا يمكن أن يستدلّ به على وجوده ـ سبحانه وتعالى ـ ؟ ، إذ مَنْ دلّ على ذاته بذاته ، وعلى وجوده بوجوده ، وعلى عظمته بعظمته ، وعلى علمه بعلمه ، وعلى صفاته بصفاته ، هل يحتاج الى الاستدلال والبرهان على أصل وجوده ـ سبحانه وتعالى ـ ؟! ولهذا قال الإمام الحسين ـ عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم ـ في دعاء يوم عرفة : « سبحانك متى غبت حتّى تحتاج الى دليل » ، وقال أيضاً عليهالسلام : « عَمِيَتْ عينٌ لا
تراك عليها رقيباً » .
__________________
س)
: إذا كان وجوده ـ تعالى ـ أوضح من أن يحتاج إلى دليل وبرهان ، فما بال القرآن الكريم قد احتوى على جملة من الآيات الدّالّة على هذه البراهين والاستدلال على وجوده ـ تبارك وتعالى ـ ، كما في آيات الآفاق والأنفس التي استشهد بها القرآن الكريم ؟! وهكذا ماورد في السُّنّةَ الشريفة من الأخبار والأحاديث المتعلّقة بهذا الأمر ؟!
بالإضافة
إلى ما في كتب الفلاسفة الاسلاميين وغيرهم من الموحّدين وعلماء الكلام من التعرض مفصّلاً للاستدلال على إثبات أصل وجوده ـ تبارك وتعالى ـ ؟! أليس هذا دليلاً على عدم كونها مسألة فطريّة بديهيّة ، بل أنّها مسألة نظريّة تحتاج إلى الأدلّة والبراهين ؟!
ج)
: ما ذكرتموه من الآيات والأخبار وآراء
الفلاسفة في هذا الخصوص صحيح لا غبار عليه ، وإنّما الإشكال في ادّعاء أنّ ذلك يدلّ على كون مسألة أصل وجوده الواجب ـ تعالى ـ التي تعرّضنا لها في هذه الدّرس من المسائل النظريّة المحتاجة إلى الدّليل والبرهان ، لأنّ جميع ما ورد في هذا الشأن من الآيات والأحاديث وأقوال الفلاسفة ما هي إلا إرشادات وتنبيهات إلى حكم الفطرة والعقل ، ولا يُعدّ شيءٌ منها استدلالاً مستقلاً أو دليلاً
في حدّ ذاته ، فمثلاً
قوله ـ تعالى ـ : (
أَمْ
خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ )
، أو قوله عليهالسلام
« بك عرفتك
، وأنت دللتني عليك ولولا أنت لم أدرِ ما أنت » ، أو قوله عليهالسلام « عرفت ربّي بربّي »
وغيرها من الآيات والأخبار إنّما هي صريحة واضحة في أنّها إرشادات وتنبيهات إلى حكم العقل أو الفطرة ، وأمّا أقوال وبراهين الفلاسفة الإلهيّين ، مثل « برهان الصّدّيقين » وهو كيفية معرفة الله ـ تعالى ـ باالله ، الذي يعدّ إشارة إلى قول المعصوم عليهالسلام
: « عرفتُ ربّي بربّي » أو « بك عرفتك » ، وهو يتضمّن هذه المعاني ، وكيف يعرف الإنسان ربّه بربّه ؟ وهكذا البراهين التي أقامها الفلاسفة الطبيعيّون مثل « برهان الحركة » أو « برهان المعرفة »أي معرفة النفس أو « برهان الحدوث » أو « برهان الإمكان » ، وما شابهها من البراهين إنما هي تنبيهات وإرشادات إلى حكم الفطرة والعقل ليس إلا.
والحاصل أنّ مَنْ تجلّت ذاته لمقدّسة ، ونوره
الأنور ، ووجوده الأقدس ، وعظمته وكبرياؤه في كل مخلوقاته ، لا يخفى __________________
على أحد ، وحاشاه أن
يغيب عنهم أو يحتاج الى دليل ، ولهذا قال الشاعر :
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ
|
|
تدلٌّ على أنّهُ واحِدُ
|
وقال عليهالسلام
« سبحانك
متى غبت حتّى تحتاج إلى دليلٍ »
، وقال الفلاسفة والعرفاء : «
الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق »
، فهو ـ تعالى ـ أدلّ دليل على ذاته المقدّسة.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس العاشر
الدليل على وجود الله
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وقد جاء في مقدّمة الرِّسالة العمليّة
للمرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى الشيخ حسين الوحيد الخراساني ـ دام ظله ـ باللّغة الفارسية ، عن وجود الله ـ تعالى ـ وطرق الإيمان به ـ تعالى ـ ونِعْمَ ما جادت به بنانه ، وبوركت صفقة يمينه ، وإليكم خلاصة ما ورد هناك مترجماً من الفارسية :
طرق
الإيمان بالله ـ تعالى ـ متعدّدة :
فإنّ أهل الله دليلهم على الله ووسيلة معرفتهم إلى الله تعالى ـ هو الله ـ تعالى ـ ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
) ، « يا من دلَّ على ذاته بذاته »
، « بك عرفتك
وأنت دللتني عليك » .
__________________
وأمّا غيرهم ـ فباختصار ـ نشير إلى بعض
الطرق التي تناسبهم والمؤدّية إلى معرفة الله ـ تعالى ـ والإيمان به عندهم :
ألف : حين يتأمّل الإنسان ذاته وما يحيط
به من المدرَكات ، ثم يتأمّل ويلاحظ كلّ جزء من أجزائها ، فإنّه يجد أنّ عدم ذلك الجزء وتلك الذّرّة ليس بالأمر المحال ، وأنّ وجوده وعدمه سيّان ، فليس لذاته ضرورة الوجود ولا ضرورة العدم ، وكلّ ما كان وجوده وعدمه سيّان فهو يحتاج إلى سبب يوجده ، ولمّا كان وجود كلّ جزء من أجزاء العالم محتاجاً إلى منعم الوجود ومانح الوجود فإنّ معطي الوجود ومانحه إمّا نفس الوجود ، أو غيره من سائر الموجودات ، ولكنّه يستحيل أن يكون هو الّذي منح نفسه الوجود ، وأوجد نفسه ، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه ، وأنّي له أن يمنح نفسه الوجود وهو بعدُ لا وجود له ـ أي قبل أن يوجَد ـ ، وإمّا أن يكون الموجِد له موجوداً آخر مثله ونظيره ، وهذا محال أيضاً لأنّ من يعجز عن إيجاد نفسه فهو أعجز عن إيجاد غيره ، وهذا الحكم الجاري على أجزاء العالم فهو جارٍ على العالم بأسره.
ولهذا السبّب فإنّ وجود الكائنات
وكمالات الوجود ـ كالحياة والعلم والقدرة ـ تدلّ على وجود حقيقة يكون وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها ذاتيّة ، نابغة من حاقّ ذاتها ، غير متعلّقة
بغيرها ، ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ )
، عن أبي الحسن الرّضا عليهالسلام
أنّه دخل عليه رجل فقال له : يابن رسول الله ما الدّليل على حدوث العالم ؟ فقال : « أنت لم تكن ثم كنت ، وقد علمتَ أنّك لم تكوّن نفسك ، ولا كوّنك من هو مثلك »
.
وسأل أبو شاكر الدّيصاني الإمام الصّادق
عليهالسلام
: ما الدّليل على أنّ لك صانعاً ؟ فقال عليهالسلام
: « وجدتُ
نفسي لا تخلو من إحدى الجهتين : إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة ، أو صنعتها وكانت معدومة ، فإنْ كنتُ صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيتُ بوجودها عن صنعها ، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يُحدث شيئاً ، فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً وهو الله ربُّ العالمين » .
فضرورة العقل تقتضي أنّ ما لم يكن ثم
كان ، لا بدّ أن يكون له موجِد وصانع لا طريق للعدم إلى ذاته ، وهو محض الوجود.
ب : إذا عثرنا على ورقة في صحراء كُتِبَ
عليها حروف الهجاء من الألف إلى الياء بالترتيب الصّحيح ، فإنّ ضمير كلّ إنسانٍ يشهد بأنّ رسم هذه الحروف وترتيبها لم يأتِ إلا عن إدراك __________________
ومعرفة ، ولو وَجَدَ
فيها كلمةً مؤلَّفة من تلك الحروف ، أو كلاماً مؤلَّفاً من الكلمات ، فإنّه بقدر ما فيها من الدّقة في التأليف والتركيب ، يؤمن ويصدّق بمدىٰ علم المؤلّف ووعيه وثقافته ، ثم يستدلّ بذلك على مدىٰ علم القائل والمؤلّف وحكمته ، أفهل تركيب نباتٍ من العناصر الأوّلية أقلّ أهميّة للاستدلال على عظمة صانعه وعلمه وحكمته ، من تلك العبارات والجمل التي لا ينكر دلالتها على علم المؤلف لها ؟!
مجرّد التأمّل في صنع شجرة وإيجاد
عروقها التي تتفرّع منها آلاف الأوراق في نظام محيّرٍ مدهش ، والقدرة التي اُودعتْ في كلّ خليّةٍ من خلايا الورق كي تمتصّ الماء والغذاء بواسطة الجذور من أعماق الأرض ، يكفي للإيمان بالعلم اللامتناهي والحكمة اللامتناهية للصّانع الحكيم : (
أَمَّنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ
ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ
قَوْمٌ يَعْدِلُونَ )
، ( أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ
شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ
) ، (
وَأَنبَتْنَا
فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ) .
فالتأمّل في كلّ نباتٍ وفي كلّ شجرة من __________________
جذورها إلى ثمارها
يكفي لمعرفة أنّها آيةٌ من آياتِ علم الله ـ تبارك وتعالى ـ وقدرته وحكمته ، وقد انحنت جميعاً وخضعت واستسلمت بتمامها وكمالها للنظام التكويني الَّذي أحاط بها وسيطر عليها : (
وَالنَّجْمُ
وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ) .
وخلاصة القول أنّ النظام الدَّقيق في
تكوين نباتٍ من البذرة الميّتة المدفونة تحت التُّراب ، ثم صعودها وارتفاعها نحو السّماء وتفرّعها الى الأغصان والخضرار الأوراق على الأغصان ، وخروج ثمره خاصّة منها ، بحيث لا يخرج من بذرة الباقلاء سوى نبتة الباقلاء ، ولا يخرج من نبتة الباقلاء سوى الباقلاء ، ولا يخرج من بذرة البنفسج ، سوى نبتة البنفسج وزهرتها ولا يخرج من حصى النخيل إلا النّخيل ولا يخرج من النخيل سوى الْبَلَح والرّطب والتّمر ، بل لا تختلط ثمره نخلة بنخلة اُخرى ، ولا أوراق شجرة أو ثمارها بشجرة اُخرى ، ولا زهرة نباتٍ بزهزة نباتٍ اُخرى ، وهلمّ جرّا ، كلّ ذلك وآلاف الأنظمة والقوانين الدّقيقة التي اُودعت في الطّبيعة لهي أدلّ دليل وأسطع برهانٍ وأبْيَنُ آياتٍ على وجود الصّانع الحكيم والقادر العليم.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
تتمّة الدرس العاشر
الدليل على وجود الله
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وهكذا النظر إلى اليضة وحصارها المكنون
بجلدة غليظة تحتها جلدة رقيقة ، وتحت الجلدة الرَّقيقة ذهب سائل وفضة جارية لا تختلط إحداهما بالاُخرىٰ ، وكيف يتكوّن فيها الجنين بين ذهبها وفضّتها ويتغدّي عليهما ليخرج منها فرخاً إمّا ديكاً أو دجاجةً ، فإنّك لو تأمّلت في هذه البيضة الصّغيرة وما يخرج منها والحرارة التي تحتاجها لكي يتكوّن الجنين بداخلها ويتحوّل الجنين إلى الفرخة بعد أن تكاملت أعضاؤه وجوارحه ، وعناية الدَّجاجة بتلك البيضة من الرّقاد عليها وقلبها من جانب إلى آخر وبثّ الحرارة اللازمة إليها وإحاطتها بكلّ وجودها حتى تنفس وتخرج فرخةً متكاملة ، لو تأمّلت في البيضة هذه والفرخة لوجدت عشرات القوانين الدَّقيقة التي تحيط بها ممّا لا محيص معها دون الإقرار بوجود الصّانع الحكيم القادر العليم ، ولا مفرّ
منها دون الاعتراف
بالخالق العظيم ، لأنها آيات باهرات تحكي عظمة الخالق ، بل تصرخ بأعلى الصّوت عن وجود يدٍ غيبية حكيمة عليمة تصنع وترعى ذلك.
هذا قطرة من بحر أسرار عالم المادة
والطّبيعة ، وقيد شعرة من عالم النبات والحيوان المحيّر للعقول ، فكيف لو تأمّلت في خلق الإنسان ببُعديه المادّي الجسدي ، والمعنوي الرُّوحي ، فالتأمُّل في أبسط تركيبة من جسد الإنسان يكفي للإقرار بوجوده ـ تعالى ـ ووحدانيّته ، فعلى سبيل المثال : جعل الأسنان على ثلاثة أقسام ، الثّنايا في الأمام ، والأنياب بعدها ، ثم الطّواحن الصغرى ، ثم الطّواحن الكبرى ، لو غيّرنا مواضعها لوجدنا خللاً كبيراً في عملها ولعلّ قبحاً فاحشاً في منظر وجوهنا. وماذا لو كان الحاجبان تحت العينين لا فوقهما ، أو كانت فتحة الأنف إلى الأعلى دون الأسفل ؟
عمارة الأرض وعمرانها من حرثها وزرعها
حتى إقامة أضخم المباني وإنشاء ناطحات السّحاب عليها وأدقّ الصنائع وأظرفها ، كلّ ذلك متوقّف على رؤوس الأصابع والظّفر الذي عليها.
والعجب كلّ العجب في أنّ الغذاء الذي
عُدّ لتكوين مادّة الظّفر بصلابتها هو نفسه الّذي تخرج منه مادّة رقيقة شفّافة للعين
والبصر ، تصل إلى
العين بعد أن تطوي مراحل الهضم والجذب.
هذه أمثلة لأبسط آثار العلم والحكمة ، لا
تحتاج إلى مزيد تأمّل وتدقيق (
وَفِي أَنفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ )
، فكيف بأدقّ الأسرار وأخفاها الّتي تفتقر إلي التخصُّص في علم الطّب البشري والتشريح ، وعلم وظائف الأعضاء ، والفحص بالأجهزة الخاصّة كالمناظر ، ( أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم
) ، (
وَإِن
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا ) .
هذه الكتابة الحكيمة وهذه القوانين
المتقنة بأيّ دواةٍ ومدادِ علمٍ وقلم حكمةٍ ، وبأيّة قدرةٍ كُتبت على قطرة ماء ؟
(
فَلْيَنظُرِ
الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ
) ، (
يَخْلُقُكُمْ
فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ
) .
ثم ما هذا العلم والقدرة والحكمة التي
خلقت من الحيوان المنويّ الذي لا يُرىٰ بالعين المجرَّدة في ذلك الماء البشري المهين ما يرقى ويتكامل ليغوص بمشعل إدراكه وشعلة فكره في __________________
أعماق الآفاق
والأنفس ويُسبر أغوارها ، فيستخرج دفائن كنوزها ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.
عَلَّمَ
الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )
، ويتّخذ
الأرض ةالسَّماء مسرحاً لاستعراض مواهبه ومحطة لجولان قدرته وفكره (
أَلَمْ
تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً
وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ
مُّنِيرٍ )
.
فما عسى أن يقوله الإنسان في مقابل عظمة
هذا العلم والقدرة والرَّحمة والحكمة سوي ما نطق به كتابه الكريم ( فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ
) ، وما عساه
أن يصنع سوي أن يعفّر خدّه وجبينه بالتّراب ويقول : «
سبحان ربّي الأعلى وبحمده ».
بمقتضي الآية الكريمة : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ
) ينبغي التّأمّل في آفاق العالم وأطرافه ، المليء والمزدحم بملايين الكواكب والنّجوم والشّمس والقمر ، التي لا يُرىٰ أكثرها بالعين المجرّدة ، ولا تصلنا لتطلّ علينا أنوارها وأشعّتها إلا بعد آلافٍ من السنين الضّوئية ـ التي تبلغ سرعتها قرابة ثلاثمائة ألف كيلومتراً في الثانية الواحدة ـ ، ويفوق __________________
حجم بعضها حجم الكرة
الأرضيّة بملايين المرّات ، وبينها فواصل مرسومة ، تدور في فلكٍ معيّن ، يحكمها قانون الجاذبيّة العام ، يرسم تعادلاً بينها ، وتوازناً في حركتها ليحول دون وقوع الصّدام بينها ، وإصطدام بعضها ببعض ، ويمنع تزاحم بعضها لبعض : ( لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .
ج
: كافّة التّطورات التي تحصل للمادّة ، والتغيّرات
التي تجري في الطّبيعة تدلّ على قدرة تفوق المادّة وأعظم من الطّبيعة ، إذ تأثير المادّة والمادّي مرهون بالوضع والمحاذاة فالنار التي تسخّن بحرارتها جسماً ـ مثلاً ـ ، أو المصباح الذي ينير بأشعّته وضيائه فضاءً ومساحةً ، لم يكن ليتحقّق منهما هذان الأثران في الجسم والمكان ـ الفضاء ـ لولا حصول نسبة وضعية خاصة ومحاذاة بينهما وبين الجسم والمكان المنفعل والمتأثّر بهما ، هذا قانون تكويني ثابت يعمّ كلّ مادة ومادّي ، ولا يستثنى منه شيء ، إذا لابدّ من حصول هذه النّسبة المعيّنة وهذا الوضع الخاص لوقوع التأثير بين المؤثر والمتأثر ، والفاعل والمنفعل ، ولمّا كان حصول هذه النّسبة وهذا الوضع بين الموجود والمعدوم محالاً ، فإنّ تأثير __________________
المادّة والطّبيعة
في الحوادث المادّيّة والمستجدّات الطّبيعيّة محال أيضاً ، فكلّ معدوم يكتب له الوجود في السَّماوات والأرضين يكون آيةً بيّنة ودليلاً قاطعاً على وجود قدرة غنيّةٍ في تأثيرها عن الوضع والمحاذاة ، وهي خارقة للطّبيعة ، وفوق الجسم والجسمانيّات : (
إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )
.
د
: الإنسان مفطور مجبول على الإيمان بالله
ـ تعالى ـ ، فالإيمان يجري في فطرته مجرى الدّم في عروقه ، لأنّه لا يستغني في ذاته وفطرته عن سند يستند إليه ، وعن كنفٍ يكتنف به ، وحصنٍ حصينٍ يلوذ إليه ، وقدرة يعتمد عليها ، بل بفطرته يحتاج إلى من يستند إليه ويتكوّل عليه ، غير أنّ انشغاله وتعلّقه بالعلائق المادّيّة يفرضان عليه حجاباً يمنعه من العثور على ذلك الحصن الحصين والكنف المنيع.
فإذا ادلهمّتْ به الخطوب ، ونزل به
البلاء ، وأحاطت به النوائب من كلّ حدبٍ ومكان ، وحلّ به اليأس والشّقاء والحرمان ، وأيقن بأنّ مصابيح الأفكار عن هدايته منطفئة ، وأيدي القدرة عن نصرته عاجزة ، وأبواب الرَّشاد بوجهه __________________
موصدة ، انتبه
وجدانه ، واستيقظ ضميره النّائم ، ليولّي وجهه بلا إرادةٍ ودون اختيار الى ساحة قدس الغنيّ بالذّات ، ويستعين بلا انتظار بالقادر المتعال ، الذي كان مفطوراً على الاتكاء والتّوكّل عليه والاستناد إليه فانشغل عنه بغيره ، (
نَسُوا
اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ )
، و ( هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا
رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ
دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ
مِنَ الشَّاكِرِينَ ) .
قال رجل للإمام أبي عبد الله الصّادق عليهالسلام : « يابْنَ رسولِ اللهِ دُلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليَّ المجادِلونَ وحيّروني ، فقال له : يا عبد الله ، هل ركبتَ السّفينة قطّ ؟ قال : نعم ، قال : فهل كُسِرَ بك حيثُ لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ ، قال : نَعَم ، قال : فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ قال : نعم ، قال الصّادق عليهالسلام : فذلك الشّيءُ هو
الله القادر على الإنجاء حيث لا مُنجِي ، وعلى الإغاثة حيثُ لا مغيثَ »
.
__________________
ثم هذه المعرفة والعلاقة الفطرية بالله
التي تحصل عند حلول البلاء واليأس والشّفاء قد تحصل أيضاً في حال الاختيار والرخاء ، لكن بجناحين هما العلم والعمل :
أوّلاً : بأن يمزّق المرء حجاب الجهل
بنور العقل والعلم والمعرفة ، ليرى بعين اليقين ويعلم علم اليقين بأنّ وجود الموجودات وكمالاتها الوجوديّة ليست من صنعها ولا من صنع نظائرها وأشباهها ، بل تبدأ وتنتهي جميعها إلى ذات قُدّوسيّة حكيمة تبدأ منه وتنتهي إليه ، وجودها جميعاً منه وبه وله وإليه ، ( هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
) .
ثانياً : أن يلتمس طريق الخير ويدفع عن
نفسه دنس الرذائل والصفات المذمومة باتّباع التقوى وطهارة الروح وتزكية النّفس ، إذ لا حجاب بين الله ـ تعالى ـ وعبده سوى حجاب الجهل والغفلة والمعصية : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا
فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
) ، (
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا.
قَدْ
أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) .
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس الحادي عشر
صفات الله
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: تقدّم أنّ وجود الله ـ تعالى ـ أمر ثابت بالفطرة والوجدان ، وأنّ جميع الأشياء من حولنا تدلّ على وجوده ـ تبارك وتعالى ـ ، فما هي الصّفات الّتي يتّصف بها الله ـ سبحانه وتعالى ـ ؟
ج)
: لله ـ تعالى ـ نوعان من الصّفات ، الأول
: الصفات الثبوتيّة ، وتسمّى « صفات الجمال » ، الثاني : الصفات السّلبيّة ، وتسمّى « صفات الجلال » ، وهي جميعاً ـ أي النوع الأول والثاني ـ تسمّى « صفات الكمال ».
س)
: ما معنى الصّفات الثبوتيّة والصّفات السّلبيّة ؟
ج)
: الصفات الثبوتيّة هي التي تتّصف بها
الذات الإلهيّة المقدّسة ، بل يجب أن يتّصف بها الله ـ تعالى ـ ، والسّلبية هي الّتي تتنزّه عنها الذّات المقدّسة ، أي يجب أن لا يتّصف بها الله ـ تعالى ـ.
س)
: ما هي الصّفات السّلبيّة ؟
ج)
: كل صفة تدلّ على النقص والمحدوديّة
والحاجة إلى الغير تعدّ صفة سلبيّة ويجب نفيها عن ذاته المقدّسة ، كالجسمانيّة وتوابعها من التكاثر والتناسل وكونه ذا أجزاء ، وكالجهال بجميع مراتبه ، والفقر ، والضّعف ، وما شابه ذلك.
س)
: ما هي الصّفات الثبوتيّة ؟
ج)
: الصّفات الثبوتيّة على قسمين :
أ ـ الصّفات الثبوتيّة الذاتية.
ب ـ الصّفات الثبوتيّة الفعليّة.
س)
: ما هي الصّفات الثبوتيّة الذاتيّة ؟
ج)
: هي الصّفات التي يتصف بها الله ـ تعالى
ـ في ذاته المقدّسة ، ومنتزعة من ذاته المقدّسة ، كالحياة والعلم والقدرة ، وهو ـ تعالى ـ متّصف بها من غير نظر إلى شيءٍ من أفعاله ومخلوقاته ، وتسمّى « صفات الذات ».
س)
وما هي الصّفات الثّبوتيّة الفعليّة ؟
ج)
: هي الصّفات التي يتّصف بها الله ـ تعالى
ـ من جهة ارتباطها بأفعاله ومخلوقاته ، وهي منتزعة من علاقته ـ تبارك وتعالى ـ بمخلوقاته ، كالخالقيّة ، الرّازقيّة ، وتسمّي « صفات الفعل ».
واعلم أنّ صفات الذّات هي النّواة
الأصليّة لصفات الفعل ، وأنّ أصل صفات الفعل يرجع إلى صفات الذات ، مثلاً الخالقيّة صفة يتّصف بها الله ـ تعالى ـ بعد ما يخلق شيئاً ، ولكنّه ـ تعالى ـ قبل أن يخلق الأشياء كان في الذاته المقدّسة متّصفاً بالقدرة المطلقة ( إِنَّ اللهَ
عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
) ، فالخالقيّة صفة فعليّة قائمة بالقدرة وهكذا سائر صفات الفعل فإنها متوقّفة على صفة ذاتيّة ، وصفات الذّات متقدّمة عليها.
س)
: عدّد لنا صفات الذّات المقدّسة ؟
ج)
: أهم هذه الصّفات واُصولها ثلاث :
الحياة وقد قال تعالى في آية الكرسي : ( اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ
) .
العلم : قال تعالى : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ )
، قال ـ تعالى ـ أيضاً : (
عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ )
، وقال ـ تعالى ـ : (
وَهُوَ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) .
__________________
القدرة
: قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
) .
س)
: عدّد لنا صفات الفعل ؟
ج)
: أهمّ هذه الصّفات واُصولها أيضاً ثلاث
:
الخالقيّة : قال ـ تعالى ـ : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ
) ، (
وَاللهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
) ، الرُّبوبيّة : قال ـ تعالى ـ : (
رَبَّكُمْ
وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
) وقال ـ تعالى ـ : ( الْحَمْدُ للهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ )
، وقال ـ تعالى ـ أيضاً : ( رَّبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ )
، والرُّبوبيّة معناها أنّ الله ـ تعالى ـ مدبّر لشؤون خلقه من مبدء الخلق الى المعاد وفي جميع الأحوال ، إذا المخلوق كما يحتاج في نشأته إلى الله ـ تعالى ـ فإنّه يحتاج إلى الله ـ تعالى ـ أيضاً في بقائه ، ولهذا فالرُّبوبيّة تنقسم إلى الربوبيّة التكوينيّة : هي أن الله ـ تعالى ـ يقوم بإدارة شؤون جميع المخلوقات ويوفّر لها سبل الحياة والبقاء والكمال ، وبعبارة أدقّ : __________________
القيام بتدبير اُمور
الكون الكائنات ، والرُّبوبيّة التشريعيّة : وهي تختص بتدبير اُمور تضمن سعادة ذوي العقول والشّعور ، كالإنسان ، وذلك بإرسال الرّسل وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب السّماويّة ، وتسنين القوانين والأحكام الكفيلة بسعادة الإنسان وكماله الاُخروي.
فالرّبوبيّة المطلقة عبارة عن حاجة
المخلوقات إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ في كافّة شؤونها التكوينيّة والتشريعيّة.
الاُلوهيّة : والإله ، هو الّذي يستحقّ
العبادة ، والعبادة محرّمة لغير الله ـ تعالى ـ ، (
اللهُ لَا
إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ )
، ( لَا إِلَٰهَ
إِلَّا اللهُ )
، « قولوا لا
إله إلا الله تفلحوا » .
وهناك صفات فعليّة اُخرى لابدّ من
الإشارة إليها :
الإرادة
: (
إِنَّمَا
أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ
) .
الحكمة
: قال ـ تعالى ـ ( وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )
وأيضاً : __________________
(
وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) .
لأنّه لا يفعل شيئاً إلا بحكمة ولحكمة.
الكلام
: (
وَمَا
كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا
... الخ ) .
وقال ـ تعالى ـ : ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا
) .
الصّدق : قال ـ تعالى ـ : ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا
) .
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس الثاني عشر
مراتب التوحيد وأقسامه
بسم الله الرّحمن الرّحيم
التّوحيد هو الاعتقاد بوحدانيّة الله ـ تعالى
ـ بنفي التّركيب في ذاته المقدّسة وصفاته التي هي عين ذاته ، ونفي الشّريك له في خلقه وأمره ، ونفي أن يكون له والد أو ولد : (
قُلْ هُوَ
اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.
وَلَمْ
يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ )
، ( اللهُ لَا
إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ) .
والتّوحيد على أقسام :
١
ـ توحيد الذّات ، أي الواحد الذي لا
شبيه له ولا نظير ، والأحد الذي لا يقبل القسمة العقليّة ولا القسمة الوهميّة ، وليست وحدانيّته وحدانيّة عدديّة «
واحدٌ لا بالعدد » ، ( لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ
__________________
قَالُوا
إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ
) ، وليست وحدانيّته ـ تعالى ـ وحدانيّة نوعيّة بأن يقال : الله ـ تعالى ـ فرد من النوع الكذائي ، كما يقال : أنّ زيداً فرد من أفراد النوع الإنساني.
٢
ـ توحيد الصّفات : والمراد هنا صفات
ذاته المتعالية ، دون صفات الفعل ، إذ أنّ صفات الذات عين ذاته المقدّسة كالحياة والعلم والقدرة ، إذ تعدّد الذّات والصّفات يستلزم التركيب والتجزئة ، والتركيب يستلزم حاجة المركَّب إلى أجزائه وإلى مركِّب تلك الأجزاء ، كما يستلزم زيادة الصّفات على الذّات ، المستلزم لأن يكون فاقداً لصفات الكمال محتاجاً إلى من يفيض عليه بتلك الصّفات ، وهذه الحاجة تناقض كونه ـ تعالى ـ غنيّاً بالذّات.
٣
ـ التّوحيد في الاُلوهيّة : ( وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ
لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ
) .
٤
ـ التّوحيد الرّبوبي : أو التّوحيد في
الربوبيّة ـ ( قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ
)
__________________
٥
ـ التّوحيد في الخلق : ( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
) .
٦
ـ التوحيد في العبادة : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ
) ، (
قُلْ
أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
) .
٧
ـ التّوحيد في الأمر والحكم :
( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) .
٨
ـ التّوحيد في الخوف والخشية :
( فَلَا تَخَافُوهُمْ
وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .
٩
ـ التّوحيد في الملك : ( وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ
وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
) .
١٠
ـ التّوحيد في النّفع والضّرر :
( قُلْ فَمَن يَمْلِكُ
لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا
) .
١١
ـ التّوحيد في الرّزق : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ
__________________
وَالْأَرْضِ
قُلِ اللهُ ) .
١٢
ـ التّوحيد في التوكّل : ( اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى
اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
) .
١٣
ـ التّوحيد في العمل : ( وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ
تُجْزَىٰ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ
) .
١٤
ـ التّوحيد في التّوجّه : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ )
قال عليٌّ أميرالمؤمنين عليهالسلام
لابنه : « واعلم يا بُنيّ أنّه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته »
.
عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليهالسلام « قال : سمعته يقول : ما
من شيءٍ أعظم ثواباً من شهادة أن لا إله إلا الله ، لأنّ الله عزّ وجلّ لا
__________________
يَعْدِلُهُ
شيء ، ولا يُشركه في الأمر أحد »
.
عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ما جزاء من أنعم
الله عزّ وجلّ عليه بالتوحيد إلا الجنّة » .
وقال تعالى : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم
بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ
) .
والنتيجة
: أنّ التوحيد والاعتقاد به مطلوب في
جميع المجالات السَّابقة ، الدّليل على توحيده ـ تعالى ـ ما جاء في الآيات والأحاديث السَّابقة ، ويجب أن ينعكس ذلك على سلوك المؤمن وتصرّفاته وأعماله ، كما أنّ ثمرة هذا التوحيد والاعتقاد به يظهر في تكامل الفرد والمجتمع الموحِّد ، بعدما أشرقت أشعّة الكمال ونور السّداد في أعماق النّفس والعقل الإنساني حتى يملأ الخافقين سعادة وكمالا بحثاً عن الحقائق والآيات الباهرات التي تعبّر عن منظومة موحَّدة ، ودُرٍّ نضيد وسلسلة مترابطة متكاملة في عالم الوجود ، وهي حقيقة تنبثق من __________________
كلمة « لا إله إلا الله »
التي تتألّف من حروف يمكن أداؤها والتّلفّظ بها بالجهر والإخفات ، فهي كلمة جامعة للذكر الجليّ والذكر الخفيّ ، كما أنّ مؤداها وحقيقتها قلبية ، فهي من الأذكار القلبيّة واللّسانيّة.
والحمد لله ربّ العالمين
تتمة الدرس الثاني عشر
ثمرات التوحيد العمليّة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تبيّن من الدّرس الماضي مراتب التوحيد
وأقسامه ، وأن أعلى مراتبه مرتبة التوجّه الكلّيّ إلى الله ـ تعالى ـ ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
) .
وتبيّن أيضاً أهمّ معاني التوحيد وهي :
١ ـ نفي التّعدد : وهو عبارة عن نفي
الشريك لله ـ تبارك وتعالى ـ.
٢ ـ نفي التركيب : وهو عدم كونه جسماً
مركّباً من أجزاء.
٣ ـ نفي الصّفات الزائدة على الذّات
المقدّسة ، بل صفاته الذاتيّة عين ذاته المتعالية.
٤ ـ التوحيد الأفعالي : وهو أنّ جميع
أفعاله منه ـ تعالى ـ لا __________________
يحتاج في خلق شيء أو
فعل شيء إلى غيره ، بل لا غير له ولا معه حتى يحتاج اليه ، وكلّ ما عداه وجودات ظلّيّة اعتباريّة في قبال وجوده الذي هو عين الحقيقة.
٥ ـ التأثير الاستقلالي : ومعناه أنّ ما
يصدر من الخلائق قاطبة إنّما هي أفعال الله ـ عزّ وجلّ ـ (
وَاللهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )
فالمخلوق أيّاً كان لا يستغني فيما يفعله عن الخالق الحكيم ، بل لا يصدر منه شيءٍ إلا بإدارة من الله ـ تعالى ـ ومشيّته ، وكلّ ما للمخلوق من تأثير وتأثّر إنّما يتمّ بإذن الله ـ تعالى ـ وإرادته التكوينيّة.
أمّا الثّمرة العمليّة والعقائديّة
للتّوحيد في فعله ـ تعالى ـ وتوحيد أفعاله ، فهي أنّ الإنسان حينئذٍ لا يرى ولا يعتقد بمعبود سوي الله ـ تعالى ـ ، إذ الاُلوهيّة من لوازم الخالقيّة والرّبوبيّة.
وأمّا التّوحيد بالمعنى الأخير ـ وهو
التأثير الاستقلالي ـ فثمرته ونتيجته أن يجعل الإنسان عمله خالصاً لوجه الله ـ تعالى ـ ، ولا يستعين بغيره ، بل يعتمد ويتوكّل على الله وحده ، ولا يرجونّ غيره ، ولا يطلب الأجر إلا منه ، ويقطع كلّ أملٍ بغيره ، ولا __________________
ييأس في قضاء حوائجه
وتحقق أفعاله وتحقيق أهدافه ، ويسأل الله التوفيق ، فهو حينئذ يكون في كنف الله ـ تعالى ـ وتحت ولايته الخاصّة ، وينجو من وساوس النّفس ومكر الشيطان ، ليشعر بالأمل والتفاؤل ، وراحة النّفس والاستقرار والسكينة (
أَلَا
إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
) .
س)
: إذا كانت الاستعانة والتوسل بغير الله ـ تعالى ـ شركاً وحراماً فما بالنا نجد في كثير من الرّوايات والأدعية والزّيارات وفعل العلماء والمؤمنين خلاف ذلك ، إذ نجدهم يأمرون بالتوسّل الى الأئمّة والأنبياء عليهمالسلام وهكذا ببعض الصّالحين
؟
ج)
: الجواب واضح إذ المنهيّ عنه والّذي
يعدّ شركاً بالله ـ تعالى ـ هو التوسّل والاستعانة بمعنى أن نعتقد بالّذي نتوسل أو نستعين به أنّه يقضي لنا حاجة باستقلاله ودون الحاجة إلى الله ـ تعالى ـ ، ولا إذنٍ منه ـ تعالى ـ ، بلىٰ هذا شرك و ( إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ )
ولا يختلف حينئذ بين كون التوسّل بالحيّ أو الميّت ، ولكنّ هذا خلاف ما عليه سيرة العقلاء والمؤمنين فإنّهم لا يتوسّلون بأحد إلا ليكون واسطة بينهم وبين خالقهم لأنّه وجيه __________________
عند الله ـ تعالى ـ ،
وصاحب مقام وقرب ومنزلة ، كالأنبياء والأولياء والصّالحين ، وأنّ الفاعل الحقيقيّ هو الله ـ تعالى ـ لا هؤلاء : الأخيار الأبرار ، بل يعتقد المؤمن أنّ هؤلاء أيضاً من المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً.
س)
: إذا كان الأمر كذلك ، أليس المشركون كانوا يعتقدون بأنّ آلهتهم تقرّبهم إلى الله ـ تعالى ـ ؟! قالوا ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللهِ زُلْفَىٰ )
، وقد ذمّهم القرآن الكريم وحكم عليهم بالخلود
في نار جهنم ؟!
ج)
: جواب هذا الإشكال واضح بعد ما ذكرنا من
أنّ العبادة محرّمة لغير الله وشرك أو كفر بالله العظيم ، فهم أوّلاً : كانوا يعبدونها ، أو يعبدون بعض الخلق ، وهذا ما لا يصنعه المؤمن ، وثانياً : هناك فرق بين التوسّل والاستعانة بمن نهى الله ـ تعالى ـ عن التوسّل به وبين التوسّل بمن أمر الله ـ تعالى ـ بالتوسّل به وإليه إذ هناك من هو وليٌّ من أوليائه ـ تعالى ـ فهو قطعاً وسيلة مقرِّبة إلى الله ـ تعالى ـ (
إِنَّكَ
لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ )
، و ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
) ، __________________
ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم مشعل هداية
حيّاً وميّتاً ، فالمؤمن لا يعبد سوي الله ـ تبارك وتعالى ـ ، ولا يتوسّل بمن نهىٰ الله ـ تعالى ـ عن التّوسُّل به ، وإنّما يتوسّل بأولياء الله ـ تعالى ـ المقرَّبين منه والمقرِّبين إليه حقيقةً ويجعلهم شفعاء ووسائط بينه وبين الله ـ تعالى ـ ، وهو مطلوب لأنّه لا يرى لهم تأثيراً مستقلاً عن إرادة الله ـ تعالى ـ ، بل إرادتهم تابعة لإرادته وإذنه ـ تعالى ـ ، ولهذا فكلّ ما يتّهمنا به الأعداء زور وبهتان ، إذ أولياؤه ـ تعالى ـ يشفعون بعد مماتهم كما يشفعون في حياتهم ولا فرق بينهم في الحياة وبعد الممات ، وهم ينفعون إن شاءالله ـ تعالى ـ أحياءً وأمواتاً : (
وَلَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ )
، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
« من زارني
بعد مماتي كمن زارني في حياتي »
، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « من حجّ
أو اعتمر ولم يزرني فقد جفاني »
، و « من زارني ميّتاً كمن زارني حيّاً »
، ومن ثمرات
زيارته صلىاللهعليهوآلهوسلم
حيّاً أن __________________
يأتيه المسلم
مستغفراً تائباً الى الله ـ تعالى ـ بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
ومستشفعاً إيّاه «
يا شفيعاً عند الله إشفع لنا عند الله »
، (
وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذ ... جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ
لَهُمُ الرَّسُولُ )
، ( قَالُوا يَا أَبَانَا
اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي )
، ( وَلَا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ
) وهذه الشّفاعة وهذا الرّضا غير مختصّين بدار الدّنيا وحياة الشفيع ، ولا هما مختصّين بالآخرة ويوم القيامة بل هم شفعاء في الدّنيا والآخرة ، وفي حياتهم ومماتهم وكلّ ما نسب إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
خلاف ذلك فهو افتراء عليه وزور وبهتان على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ثم حاجة الامّة إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لم تنقطع في شتّي مجالات الدّين والدّنيا ، فكما كنّا نحتاج إليه في حياته فإنّا نحتاج إليه بعد مماته ، وإذا كانت حاجتنا إليه موجودة فالتأثير من جهته موجود قطعاً ، وكلّ ما يصرف وجه الامّة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد وفاته فهو يصرف وجه الامّة عن الله ـ تعالى ـ وهو ضلال مبين ، وهذا ممّا __________________
يصرف وجه الامّة عن
رسولها الكريم ، وهو من صنع أئمّة الضّلال وحكّام الجور.
ثمّ أليست الاُمة مطبقة على جواز طلب
الشّفاعة من الحيّ ، والتوسّل بالأحياء ؟! وألم يجيزوا الاستشفاع والتوسّل ببعض الصّحابة والأولياء في حياتهم ؟! فأسألكم بالله هل هناك حيٌّ أعظم شأناً من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد مماته ؟! وأنّى لصحابّي أو وليٍّ من الأولياء أن يكون مؤثّراً وشفيعاً في حياته مع زعم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا ينفع ولا يشفع بعد مماته ، وإذا كان الأمر متعلّقاً بمقام الشفيع ومنزلته عند الله ـ تعالى ـ فهل هناك من الأحياء فضلاً عن الأموات من يداني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في حياته وبعد مماته حتى تجوز له الشّفاعة في الدّنيا ولا تجوز لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟! ( فَمَا لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ )
، وإذا كان طلب المطر من العبّاس عمّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
جائزاً وكما في صحاح العامّة والجماعة ، فطلب المطر وغيره من النّبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد مماته جائز بطريق أولى ، وإذا جاز التوسّل وطلب الشّفاعة من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد مماته ، جاز ذلك من غيره أيضاً إن كان ذا قربى ومنزلة عند الله ـ تعالى ـ ، كالأنبياء والأولياء عليهالسلام
لعدم الختصاص ذلك به صلىاللهعليهوآلهوسلم
دون غيره.
__________________
ثم إنّا نقف على قبورهم وأمام أضرحتهم
فنسلّم عليهم ونقول : « أشهد أنك
تسمع كلامي وتشهد مقامي وتردّ سلامي »
وما كان هذا حاله كان نافعاً في حياته ومماته ولم يحجبه الموت عن الدُّنيا ، ولا يحول بينه وبين أهلها شيء ، وإلّا لكان السّلام عليه وزيارته لغواً وعبثاً.
أضف إلى ذلك أنّ في الاستشفاع والتوسّل
ببعض الأموات سرّاً مكنوناً ولطفاً خفيّاً ، ذلك أنّ الله ـ تعالى ـ كما جعل من المعاد والحساب وسيلة وسبباً لحصول كلّ ذي حقٍّ حقّه الّذي حرم منه في الدُّنيا ، وإظهار مقام من خفي على الآدميين مقامه في الدُّنيا وإبراز منزلته (
يَوْمَ
تُبْلَى السَّرَائِرُ )
، والاقتصاص للمظلوم ممّن ظلمه في الدُّنيا ، فكذلك جعل الموت لبعض أوليائه الّذين أخفيت مقاماتهم في الدُّنيا ، وماتوا دون أن تعرف منزلتهم ، سبباً ووسيلة للكشف عن مقاماتهم وإبراز هويّاتهم في هذه الدُّنيا قبل الآخرة وقيام السّاعة ، بإظهار كرامات منهم بعد التوسّل إليهم ، ليستيقن الناس أنّ العدالة الإلهيّة والإحسان الرّبانيّ على __________________
عبادة تعطي ثمارها
في الدُّنيا قبل الآخرة وإن كان بعد الموت ، ( إنّ الله لا يضيع عمل عاملٍ منكم من ذكر أو أنثى ) ، (
مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا
) أي في الدُّنيا والآخرة ، ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا ... فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً )
، « إذا مات
ابن آدم انقطع عن الدُّنيا إلا بثلاث : صدقةٍ جاريةٍ أو علم ينتفع به الناس ، أو ولدٌ صالحٌ يستغفر له » وهذا من شأنه أن يكون حافزاً للنّاس والمؤمنين بأن يخلصوا في عملهم ويصبروا على طاعته وترك معاصيه ، ولا يطمعوا في الأجر العاجل ، فإنّهم سيؤجرون حتماً في الآخرة ، وقد يعطون أجرهم قبل السّاعة وبعد مماتهم أيضاً ، بإظهار كرامات لهم وإحياء ذكرهم وقبورهم في صدور المؤمنين ، وبرفع منزلتهم في القلوب بطلب الشفاعة منهم والانتفاع بهم بعد الموت.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس الثالث عشر
القضاء والقدر
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: تقدّم في الدّرس الماضي أنّ أفعالنا كلّها مخلوقة لله ـ تعالى ـ وأن لا تأثير ولاتأثر ، لا فعل ولا انفعال إلّا بعلم الله ـ تعالى ـ وإذنه وإرادته ومشيّته وأنه لا استقلالية لمخلوقٍ في فعله ، ألا يعني هذا سلب الإرادة والاختيار من الإنسان وكونه فاعلاً مجبراً بدل أن يكون فاعلاً مختاراً ؟! وكيف التوفيق بين هذا القول : ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ )
الذي معناه سلب الاختيار ، وبين قوله ـ تعالى ـ ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا
) الذي معناه الاختيار التّام ؟ وكيف يحاسب الإنسان على فعل خلقه الله ـ تعالى ـ وما صدر منه دون اختياره ؟ وأخيراً أليس القضاء والقدر الإلهيّان يمنعان من الاختيار ، وحينئذٍ فالإنسان لا يستحقّ العقاب ؟!
__________________
ج)
: كلا ليس الأمر كما تظنّون وذلك أنّه
أوّلاً : ليس المراد من خلق الأفعال ووقوع التأثير والتأثّر من الله ـ تعالى ـ أنّ الله ـ تعالى ـ يسلب الإرادة الاختيار من عبده إنّ الله ـ تعالى ـ خلق في الإنسان القدرة على التعقّل والتفكّر والتدبّر فيما حوله ، وأعطاه أيضاً جوارح وأعضاءً قادرة على صنع ما يريد ـ طبعاً في حدود طاقته ـ ، ولهذا (
لَا
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا
) و (
لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا
) فلا يكلّفه فوق طاقته ، ثمّ منحه القدرة على اتخاذ القرار ، وهي الإراده التي بواسطتها يستطيع أن يتّخذ القرار المناسب ، فهو يريد ويقرّر بملءِ إرادته غير مجبر ولا مسخَّر اتّخاذ القرار ، وإن كان لعجزه محتاجاً إلى الله ـ تعالى ـ الذي بدوره منحه القوّة اللازمة لتحقيق مراداته ومقاصده من القوّة إلى الفعل ، إذن لا دخل لله ـ تعالى ـ في اختياره وفيما يريد أو لا يريد ، بل هو الّذي يقرّر باختياره التّام ، فإذا أراد واتّخذ قراره الأخير أظهر في نفسه الشّوق إلى الفعل ، ولكنّه لمّا كان عاجزاً عن الإتيان بما يريد فإنّ الله ـ تعالى ـ يخلق فعله إن شاء ولكن بواسطة القوى والأعضاء والجوارح التي منحها إيّاه ، __________________
ففاعل القدرة ـ وهو
الله تعالى ـ فاعل للفعل ، لأنّه ـ تعالى ـ حين أعطانا القدرة على الإرادة والتّصميم ، والقدرة على القيام بالفعل فقد أوجد الفعل وخلقه ، هذا ما أشير إليه في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « إنّما الأعمال بالنّيّات ، وليس لامرىءٍ إلا ما نوى »
وقوله ـ تعالى
ـ : ( وَأَن لَّيْسَ
لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ
) ، وليس الاختيار سوى القدرة على اتّخاذ القرار ، والعمل من آثار هذه القدرة ونتائجها ، ولا يكون سعيه إلا في حدود إرادته ، إذ العمل مرهون بالإرادة واتّخاذ القرار ، فهو يعاقب حينئذ على هذا القصد وهذه النّيّة وهذه الإرادة ، طبعاً إذا انبثق عنها الفعل ، وصدر منه الفعل المخالف لأمر الله ونهيه ، نعم زمام اُمور هاتين القدرتين ، أعني القدرة على الارادة واتخاذ القرار ، والقدرة على الإتيان بالفعل ، بيده ـ تعالى ـ آناً فآناً ، يوجدهما متى شاء وأين شاء وكيف شاء ، وإن شاء ، لا تخرجان من حيطة قدرته وإرادته ـ تعالى ـ ، وعليه فلا معنى حينئذٍ لسلب الاختيار من الإنسان ، فهو مختار في فعله يستحقّ عليه العقاب ، كما يستحقُّ الأجر والثواب ، وظهر من هذا أنْ لا __________________
منافاة بين قوله ـ تعالى
ـ : ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَمَا تَعْمَلُونَ )
، وبين قوله ـ تعالى ـ : (
إِمَّا شَاكِرًا
وَإِمَّا كَفُورًا )
لأنّه قادر على إرادة أن يكون شاكراً وأن يكون كفوراً ، على حدّ سواء ـ وإن كانت إرادة الشكوريّة أوفق لفطرته ، إلا أنّ إرادة الكفوريّة أوفق لطبيعته وغريزته الحيوانيّة ـ ، وقادر أيضاً على فعل الشكر والطّاعة وفعل الكفر والمعصية. إن شاء الله تعالى ـ ، (
اعْمَلُوا
آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ
) .
وأمّا القضاء والقدر الإلهيّان : فمعنى
القدر في اللُّغة العربيّة المقدار ، من قبيل الأوزان والمقادير والأحجام ، والتقدير الإلهي معناه ، أن الله ـ تعالى ـ جعل ورسم لكل مخلوق من مخلوقاته حدوداً كميةً وكيفيّةً وزمانيةً ومكانيّةً خاصّة معيّنة ، لا تتحقّق إلا بتأثير من العلل والأسباب والعوامل التدريجيّة.
ومعنى القضاء الإلهي : إيجاد وخلق الشيء
بعد أن اكتملت و تهيّئت كافّة علل وجوده ومقدّماته وأسبابه وشرائطه ، المادّيّة منها والمجرّدة ، (
فَإِذَا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ
__________________
سَاجِدِينَ
) ، فالقضاء هو الحكم التكويني الأخير
الّذي يسمّى الجزء الأخير من العلّة ، وهو أهمّ أجزائها ، ولولاه لم يوجد الشيء بالغاً ما بلغ حتى لو اكتملت كافّة الأسباب والمقدّمات والشرائط ، وإن كان إيجاد تلك المقدمات والشرائط والأسباب من صنع الله أيضاً ، وقد أوضح ذلك في قوله ـ تعالى ـ : (
وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ
نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ.
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ
الْخَالِقِينَ )
وهذا الإنشاء الآخر عبارة عن القضاء الإلهيّ ، وهو القضاء التكويني.
وعليه فالتقدير الإلهي يأتي قبل القضاء
الإلهي ، وله أيضاً مراتب تدريجيّة عبارة عن المقدّمات البعيدة والمتوسّطة والقريبة ، كما في المراتب والمقدمات التي وردت في الآية الشريفة عن خلق الإنسان ، وأيضاً يتغيّر التقدير بتغيير شيء من أسبابه وعوامله ومقدّماته ، مثلاً قد يحدث تغيير في مراحل خلق الإنسان وتقديره بحيث يؤدي الى سقطه وهو جنين قبل أن يصبح __________________
إنساناً سويّاً أما
القضاء الإلهي فهو أمر دفعيٌّ ، يقع دفعة من غير حالة انتظار أو تدريج (
إِذَا
قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ )
، ولا يحدث
فيه تغيير أصلاً.
س)
: إذا كان القضاء الإلهي لا يدخله ولا يطرأ عليه التغيير أصلاً ، فما المراد بقولهم عليهالسلام في بعض الأدعية
والرّوايات التي تشير وتهدي الى تغيير قضاء الله ـ تعالى ـ كما في قولهم عليهالسلام
أنّ الصّدقة والبرّ بالوالدين وصلة الرّحم والدعاء والاستغفار تدفع القضاء المحتّم وتغيّره ؟
ج)
: أنّ القضاء قد يستعمل في اللّغة بمعنى
القدر أو العكس ، وما ورد في هذه الأخبار والأدعية من هذا القبيل ، فهذه الاُمور في الحقيقة تغيُّر القدر الّذي هو عبارة عن المقدّمات والأسباب والشرائط التي يجب توفرها واكتمالها لتحقيق القضاء الإلهي المحتّم ، فالصّدقة مثلاً تحول دون وقوع بعض مقدّمات القضاء الإلهي بموت الإنسان ، كما لو كان المقدَّر أن تصدمه السّيّارة ، فيحدث تغيير مفاجىء في أسباب الحادث بحيث لا يقع ، فينجو الإنسان من القضاء الإلهي له بالموت ، ولهذا في الرّواية أنّ عليّاً __________________
أمير المؤمنين عليهالسلام كان مستنداً إلى
جدار فتنحّي عنه ، فقال له أحد أصحابه : أتفرُّ من قضاءِ الله ؟! فأجاب عليهالسلام
: « فررت من
قضاء الله إلى قدره » .
والأفعال التي تصدر من الإنسان كُلُّها
معلولة للقضاء الإلهي ومتوقّفة عليه ، ولكن هذا لا ينافي كون الإنسان مخيّراً في فعله لما ذكرنا سابقاً من أنّ الله ـ تعالى ـ منحه الإرادة والقدرة على إيجاد فعله ولكن لمّا كان أصل وجود الإنسان ، ووجود الموادّ الدَّخيلة في فعله ، والأدوات والآلات وجميع ما يحيط بفعله موجودة بوجوده ـ تعالى ـ مخلوقة له ـ تعالى ـ قائمة به ـ تعالى ـ فإنّ الفعل في مرتبة أدني منسوب الى الإنسان واختياره التام ، وفي مرتبة أعلى وبلحاظ أدقّ وأسمى منسوب الى الله ـ تعالى ـ ، وهذا لا ينافي كون الانسان مختاراً ، لأن التأثير الذي هو إرادة الإنسان باعتبار كونها الجزء الأخير من العلّة التّامّة في فعله ، لا ينافي استناد جميع أجزاء العلَّة التّامّة إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ ، ولهذا قال الصادق عليهالسلام
: « لا جبر
ولا تفويض بل أمر بين الأمرين »
__________________
وقد تقدّم معناه.
وهناك قضاء تشريعي ( وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
) وهو الحكم والوجوب الشّرعي الّذي يختصّ بفروع الدّين ، فهو خارج عن محل البحث وسيأتي البحث عن القضاء التّشريعي في الحلقات القادمة التي تمثّل تتمّة هذا الكرّاس عند البحث عن كيفية فهم الرّسالة العلمليّة وفروع الدّين.
الحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس الرابع العشر
العدل الإلهي
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: ما معنى العدل ؟
ج)
: العدل في اللغة : « إعطاء كلِّ ذي حقٍّ
حقّه » ، وقد يقال : « العدل : وضع كلِّ شيءٍ موضعه » فيكون العدل مرادفاً لمعنى الحكمة ، وكيف كان فالعدل يقابل الظلم الّذي يعني : « سلب كلِّ ذي حقٍّ حقّه » أو « وضع الشيء في غير موضعه » ، فللعدل مفهومان ومعنيان : أ ـ مفهوم خاصّ : وهو عبارة عن رعاية حقوق الآخرين ، ب ـ مفهوم عامّ : وهو عبارة عن الإتيان بالأعمال الحكيمة والمطابقة للحكمة ، الّذي يشمل المعنى الأول أيضاً.
وهو يختلف عن المساواة إذ المساواة قد
تكون عدلاً ومطابقةً للعدالة وقد تكون ظلماً ، فالمساواة في القضاء ـ مثلاً ـ بين المرأة والرَّجل بل بين جميع الناس هي العدل بعينه ، وعدم المساواة بينهم في القضاء والمحاكم ظلم ، لكنّ المساواة بين
العالم والجاهل في
التكريم والاحترام ظلم للعالم ، بل ظلم بالعلم ، وليست من العدل والحكمة.
س)
: لماذا سمّي الإماميّة ـ الجعفريّة ـ بالعدليّة ؟
ج)
: لأنّنا نعتقد بأنّ الأفعال تتّصف
بالحُسن والقُبحْ بذواتها ، وأنها تنقسم في حدّ ذاتها إلى الأفعال الحسنة والأفعال القبيحة ، والعقل الإنساني قادر على إدراك الأفعال الحسنة القبيحة إلى حدٍّ ما ـ لا جميع الأفعال ـ ، وقادر على إدراك وجه الحُسن ووجه القُبحْ فيها ، وجهة الحسن والقبح فيها إلى حدٍّ ما أيضاً ، ولهذا يستطع الإنسان بعقله أن يشخّص ـ إلى حدٍّ ما ـ أنّ الفعل الكذائي حَسَنٌ وأن الفعل الكذائي قبيح ، وبعد أن شخّص جهة الحسن يحكم ويقول : هذا الفعل يجوز صدوره من الله ـ تعالى ـ لأنّه حَسَنٌ وقد يبلغ الحسن مرتبة عالية فيحكم العقل بأنّ هذا الفعل يجب صدوره من الله ـ تعالى ـ ، أو يشخّص العكس أعني أنّه قد يشّخص القبح في هذا الفعل الخاص فيحكم بعدم جواز صدوره من الله ـ تبارك وتعالى ـ ، وأنّ ساحته المقدَّسة منزّهة من الإتيان به وبأمثاله ومن إيجادها فهي لا تصدر منه ـ تعالى ـ ، فالعقل بوحده قادر على تعيين وتحديد الضّوابط والحدود للفعل الإلهي من غير حاجة إلى بيان من الكتاب والسُّنة ، وبعبارة أدق :
كلُّ ما يفعله الله ـ
تعالى ـ حَسَنٌ ، وكلُّ ما تركه فهو قبيح ، لكن لا بمعنى أنّه حَسَنٌ لأنّه ـ تعالى ـ فعله ، أو قبيح لأنّه ـ تعالى ـ تركه ، بل لأن هناك أفعالاً تتّصف بالحُسْن في نفسها وبحدّ ذاتها ، وهناك أفعال تتّصف بالقبح في نفسها ، فالله ـ تعالى ـ منزّه عن الإتيان بالفعل لأنّه قبيح ، ويأتي بالحَسَن لأنّه حَسَنٌ ، خلافاً للذين زعموا أنّ الأفعال لا تتّصف بالحُسْن والقُبْح الذّاتيين ، بل إذا صدر من الله ـ تعالى ـ أو أمر به ، فهو حَسَنٌ ، وإذا نهى عنه يكون قبيحاً ، إذ قد ينهى عن الإحسان إلى اليتيم ، أو برّ الوالدين ، أو العدل في القضاء ، فيكون حينئذٍ كلٌّ من هذه الأفعال قبيحاً وتتّصف بالقبح ، أو قد يأمر بشرب الخمر ، أو ظلم اليتيم ، أو قطع الرّحم فتكون هذه الأفعال حسنةً ، وتتّصف بالحُسْن ، بل زعموا أنّ الله ـ تعالى ـ قد يدخل الصّالحين أو الأنبياء أو بعضهم في النّار يوم القيامة ، وقد يدخل الكفّار أو المنافقين أو بعضهم في الجنّة ، إذ قد يدخل موسى عليهالسلام
مثلاً في النّار ، وقد يدخل أبا لهب وفرعون الجنّة ، وهذا لا ينافي العدل الإلهي ، بل هو العدل بعينه ، فكلّ فعل قد يصدر من الله ـ تعالى ـ أو يأمر به ، فإذا صدر منه ، أو أمر به كان حَسَناً ، وإذا نهى عن شيء كان قبيحاً ، للأفعال حُسْن وقبح ذاتيّين.
والإمامية العدليّة لا تقبل بهذا الكلام
، بل تقول : الإحسان
إلى اليتيم ، أو برّ
الوالدين ، أو العدل في القضاء ، وما شابهها أفعال حسنة لا يجوز أن ينهى عنها الله ـ تعالى ـ ، وأنّ شرب المسكر ، أو الظلم ، أو قطع الرَّحم ، وما شابهها أفعال قبيحة لا يجوز أن ينهى عنها. وهو ـ تعالى ـ بطريقٍ أولى لا يظلم ولا يجازي الإحسان بالإساءة ، ولا يُدخل أولياءه النّار ، ولا يُدخل أعداءه الجنّة ، ولو فعل ـ والعياذ بالله ـ لم يكن عادلاً ، ولم يصحّ وصفه بالعدل ـ نستغفر الله ـ لأنها أفعال غير حكيمة وموصوفة بالقبح ، والأفعال موصوفة بالحُسْن والقُبْح الذاتيّين ، ولا يصدر منه ـ تعالى ـ إلا الحَسَن.
نعم هناك اُمور لا يستقلّ العقل في
معرفة حُسْنها وقُبْحها ويعجز عن إدراك جهة الحُسْن والقُبْح فيها بل يحتاج إلى بيانٍ من الشّارع المقدَّس فما أمر به الشّارع المقدَّس كان حَسَناً وما نهى عنه كان قبيحاً ، أو قُل : ما أمر به انكشف لنا أنّه حَسَنٌ وإلا لم يأمر به ، وما نهى عنه انكشف لنا أنّه ، قبيح ، وإلا لم ينه عنه ، كأمره ـ تعالى ـ بالصَّلاة في الأوقات الخمسة ، وأمره بالخمس والزّكاة وكيفية خاصة للصَّلاة ، وهلمّ جرّا.
ولعلّ بعض ما يأمر الله ـ تعالى ـ به ، أو
ينهى عنه لا يكون موصوفاً بالحُسْن والقُبْح الذاتيين ، وذلك في الاُمور الاعتباريّة
المحضة التي هي لم
تأتِ إلا باعتباره ـ تعالى ـ لها جهة حُسْنٍ أو جهة قُبْح كعدد ركعات الصّلوات الخمس ، أو مقدار الزّكاة ، أو عدد الطّواف ، أو ما شابه فإنّها قد لا تكون حسنة أو قبيحة بذواتها ، أي قد لا تكون لها جهة حسن أو قبح ذاتيّين ، بل حسنها يكون باعتبار أنّ الله ـ تعالى ـ أمر بها ويكون قبحها باعتبارأنّه ـ تعالى ـ نهى عنها ، ولعلَّ بعض الاُمور التّعبّديّة أو جُلّها تكون من هذا القبيل ، أقول لعلَّ ولا أجزم بذلك.
س)
: ذكرتم أن الأفعال تتّصف بالحُسْن والقُبْح الذّاتيّين وأنّ الله ـ تعالى ـ لا يجوز أن يصدر منه القبيح أو يأمر به ، وقد يجب صدور الحَسَن منه أو قد يجب أن يأمر به ، أليس هذا يعدُّ تجاوزاً على الله ـ تعالى ـ فيما يصدر أو لا يصدر منه ؟! وألم يكن حكماً عليه ـ تعالى ـ وفرضاً وإلزاماً فيما يصحّ أن يفعل وما لا يصح ؟! وأنّى للعقل المخلوق القاصر أن يأمر الله ـ تعالى ـ وينهاه ، أو يحكم عليه فيما يصح أن يفعل وما لا يصح ؟!
ج)
: كلا ، ليس الأمر كما تظنّ ، بل المراد
أولاً : أنّ الله ـ تعالى ـ حين خلق الأفعال وأوجدها ، خلقها حسنةً أو قبيحة فحسنها وقبحها ذاتيّان لا أنّه تعالى خلقها ثم اعتبر وجعل بعضها حسناً وبعضها الآخر قبيحاً ، ليكون حُسْنها وقُبْحها جعليّاً
اعتباريّاً ، تابعاً
لاعتبار المعتبر ، ولمّا كان حسنها وقبحها ذاتيّاً كان الفاعل للحَسَن منها عادلاً حكيماً ، والفاعل للقبيح منها ظالماً ، بغضّ النّظر عن الفاعل أيّاً كان.
وثانياً : الله ـ تعالى ـ هو الّذي كتب
على نفسه ذلك وأوجب على ذاته المقدَّسة المتعالية ، قال ـ تعالى ـ : (
كَتَبَ
رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )
، و ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ )
، و ( أَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) .
بل ذاته المقدسة تأبىٰ من فعل القبيح وتتنزّه عنه ، ولأنها الخير المطلق فلا تكون مصدراً إلا للخير ، ولا يصدر منها غير ذلك على الإطلاق.
وثالثاً : هو الّذي خلق العقل وجعله حجة
على العباد : « لله على النّاس حجّتان : حجّةٌ ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الحجّة الظاهرة فهم الأنبياء ، وأمّا الحجّة الباطنة فهو العقل »
، وفي
الحديث القدسي يخاطب الله ـ تعالى ـ العقل : « بك اُثيب وبك اُعاقب »
، __________________
فهذا العقل قادر على
إدراك الحُسْن والقُبْح في كثير من الأفعال ، ولهذا يعاقب صاحبه على فعل القبيح إذا شخّصه ، ويجازى بالإحسان ويؤجر على فعل الحَسَن إذا شخّصه ، وإن لم يبلغه حكم الله ـ تعالى ـ فيهما ، ولم تصله الشرائع السّماويّة ، ولم يتّصل بنبيٍّ أو رسولٍ ، وإذا كان الأمر كذلك ، فخالق العقل أولى بأن يلتزم بذلك ، ولا يخالف حكم العقل الصّريح ، ولهذا قالوا : « كلُّ ما حكم به العقل ، حكم به الشّرع ».
وأمّا ادّعاء أنّ العقل عاجز عن تشخيص
الخير والشرّ والتمييز بين الحَسَن القبيح فهو خلاف الفطرة السَّليمة وخلاف الوجدان ، لأنّ الإنسان لو التفت قليلاً إلى نفسه وإلى العقلاء من حوله يكشف ـ لا محالة دون انتظار ولا تأمُّل ـ زيف هذا الادّعاء وبطلانه ، وفضلاً عن أنه يناقض الأحاديث الكثيرة القاضية بحجّيّة العقل ، إذ هذه الأحاديث أيضاً كفيلة بردّ هذه المزاعم وبطلانها ، ومعنى قوله ـ تعالى ـ : (
إِنَّ
رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ )
أي لا يريد
إلا الخير والفعلَ الحسن.
س)
تقدّم أنّ الذّات المتعالية منزّهة عن فعل القبيح والشّر ،
__________________
وتأبى
عن ذلك ، تقدّم أيضاً في الدروس السَّابقة أنّ الله ـ تعالى ـ يخلق أفعال البشر (
وَاللهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ
)
، ولا ريب أنّ كثيراً من أفعالنا قبيحة وشرور ، فكيف نجمع بين هذا وذاك ؟
ج)
: لا منافاة بينهما ، وذلك لأننا ذكرنا
أيضاً بأنّ الله ـ تعالى ـ يقدّر ما يريده ويقصده الإنسان ثم يقضي بوقوعه أو عدم وقوعه ، بمعنى أنّه ـ تعالى ـ أوجد القدرة والإرادة في الإنسان ثمّ خيّره فهو الذي يأتي بالأفعال مباشرة خيرها أو شرّها ، « ذلك بما كسبت أيديهم » ، (
فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ
) ، وقال علي عليهالسلام « كلُّ ما استغفرت منه
فهو منك ، وكلُّ ما حمدت الله عليه فهو منه »
.
س)
: لماذا يجب أن يكون الله ـ تعالى ـ عادلاً ؟
ج)
: لأمور ، أوّلاً : لأنّ العدل حَسَنٌّ والظُّلم
قبيح ، وقد ذكرنا أنّ الله ـ تعالى ـ منزّهٌ عن فعل القبيح ، (
إِنَّ
اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ )
، ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي
بِالْقِسْطِ ) .
__________________
ثانياً : العدل كمال ، والله ـ تعالى ـ « مستجمع لجميع الكمالات » .
ثالثاً : الظّلم عيب ونقص ، والله ـ تعالى
ـ منزّه عن كلّ عيب ونقص.
رابعاً : أنّ الظّلم إمّا ناشىء عن
الجهل بقبح الظلم ، أو عن العجز عن بلوغ الهدف ، أو عن اللغو والعَبَث ، والعليم الحكيم القادر المتعال منزّه عنها جميعاً.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس الخامس عشر
النبوّة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
ينبغي أن نعلم أنّ هناك طريقة اُخرى
وطريق آخر لمعرفة حقائق الوجود ، والاهتداء إلى الحياة السَّعيدة سوى طريق الحس والتعقّل ، بل لا يمكن معرفة اكثر الحقائق وما وراء الطّبيعة والاهتداء الى حكم الله ـ تعالى ـ وقوانينه ، إلا بهذا الطّريق ، وهو « الوحي » الذي (
لَّا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ )
خلافاً للمعرفة الحسّيّة أو العقليّة القابلة للخطاء والمعرَّضة للاشتباه ، والوحي نوع خاصّ من التّعليم الإلهي الذي يختصّ بفئة من عباد الله ـ تعالى ـ ممّن اختارهم واصطفاهم لأنهم أفضل عباده ، والقادرون على حمل رسالته وإبلاغها الى النّاس ( إِنَّ اللهَ
اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
__________________
الْعَالَمِينَ
) ، وبما أنّ الوحي أمر خاصّ ذو حقيقة
خاصّة فلا يتسنّى لعامّة الناس إدراك حقيقته لأنّهم لم يتلقّوه بالوجدان ولم يباشره وبأنفسهم ، نعم ، بوسعهم أن يعرفوه بواسطة آثاره والعلائم الدّالّة عليه ، ومن ثمّ يصدّقوه ، ويبادرون إلى تصديق النبيّ الموحىٰ إليه ، فإذا ثبت ذلك وتمّ التّصديق والإيمان بنبوّته وجب عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا في كلّ شيء ، ولا عذر حينئذٍ لمن يخالف له أمراً أو نهيّاً ، إلا إذا استثناه من ذلك التكليف ، وأسقط عنه الإلتزام به.
س)
: ما الحاجة إلى بعثة الأنبياء ؟
ج)
: بعد ما ثبت وجود الله ـ تعالى ـ بالضّرورة
والبداهة ، وثبت أنّه تعالى ـ حكيم عليم منزّه عن اللّغو والعبث فيما يفعل ويخلق ويصنع ، وبعد ما ثبت أنّه ـ تعالى ـ خلق الإنسان عاقلاً يطلب الكمال بعقله وفطرته ، ويسعى الى السَّعادة الأبديّة بفطرته ، وثبت أن له غرائز وشهوات وأهواء ورغبات تحول دون معرفة كثير من الأسرار والحقائق إضافة إلى أنّه قاصر عن معرفة كلّ شيء بعقله وحواسّه المجرّدة ، بعد ما ثبت ذلك كله يتبيّن جليّاً __________________
ضرورة أن يعدّ الله ـ
تعالى ـ له قوانين ويرسم له الشرائع وأحكاماً تضمن له تلك السَّعادة ، وتميّزه عن الحيوان والملائك ، ولئلاّ يكون خلقه عبثاً ولغواً ـ تبارك الله عما يصفون ـ ولهذا جاء في الخبر « عن عبد
الله بن سنان ، قال سألت أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصَّادق عليهالسلام ، فقلت : الملائكة
أفضل أم بنو آدم ؟ فقال : قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ عليهالسلام : إنّ الله عزّ وجلّ
ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة ، وركّب في البهائم شهوةً بلا عقل ، وركّب في بني آدم كليهما ، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ، ومن غلب شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم »
.
ولمّا ثبت أنّ الإنسان عاجز عن التوصُّل
إلى وضع قوانين تكفل جميع حوائجه الماديّة والمعنويّة ، وتتكفّل بسعادته في الدُّنيا والآخره ـ والقوانين الوضعيّة التي صاغتها أيدي البشر ونتجت عن أفكارهم العاجزة عن التكفّل بجانب واحدٍ من حياته الماديّة الدنيوية ، وقد ثبت فشلها بالضرورة والوجدان لهي أدلّ دليل على ضرورةٍ التشريع الإلهي والتّسنين السّماوي ـ لهذا وذلك كان من الضّروري جدّاً حاجة الإنسان إلى تشريع سماوي __________________
وأحكام الهيّة.
ثم لمّا ثبت أيضاً أنّ جميع النّاس غير
مؤهّلين لتلقّي الوحي من الله ـ تعالى ، ولا من ملائكة الموكّلين بالوحي وإنزاله ، وليسوا مؤهّلين جميعاً لتلقّي الأحكام الإلهيّة بواسطة الإلهام والإلقاء في القلوب ، لكثرة ما تحيط بهم من الحجب المادّيّة ، وما تلوّث نفوسهم من المعاصي والذنوب ، وكثرة ما تشين قلوبهم من الشّهوات والغرائز الحيوانيّة ، ويعكّر صفوة عقولهم من الوساوس الشّيطانية والنّفسانية ، لهذا الأسباب وتلك لم يبق إلا أن يصطفي الله ـ تعالى ـ صفوة عباده وخيرة خلقه ليكونوا وسطاء بينه وبين خلقه وعباده ، وتكون قلوبهم أوعية لوحيه ومصادر لتشريعه.
س)
: ما هي الفائدة من بعثة الأنبياء ؟
ج)
: الثمرة والفائدة من بعثة الأنبياء
بالإضافة الى ما تقدّم من كونهم وسطاء بين الناس وبين الوحي ومكلّفين بتبليغ الشّريعة وتعليم الشّعوب وهدايتهم وقيادتهم إلى سُبُل الكمال ، فإنّهم يباشرون مهمّة التذكير الدّائم بأحكام الله ـ تعالى ـ ونظام الفطرة ، والإرشاد المتواصل بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ( وَذَكِّرْ
فَإِنَّ
الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
) ، (
إِنَّمَا
أَنتَ مُذَكِّرٌ )
، وقال مولانا أمير المؤمنين علي عليهالسلام
: «
ليستأدونهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيَّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتّبليغ »
، والأنبياء
اُسوة عمليّة للنّاس ، يتأسّي بهم المؤمنون ويقتدي بهم أهل الخير ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
) ، كما أنّهم يعملون على توفير الحياة الاجتماعية والسياسية الطيبة ، ويعلّمون النّاس كلّ ما من شأنه أن يوفّر لهم الرّاحة والاستقرار ، ويحرّرونهم من العبودية لغير الله ـ تعالى ـ إلى العبوديّة لله ـ تعالى ـ ، ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
) ، ويفكّون عنهم القيود النفسانيّة والقيود الجاهليّة ويخلّصونهم من براثن الظّالمين : ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ
) .
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
تتمة الدرس الخامس عشر
خصائص النبي عليهالسلام
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: ما هي خصائص النّبي عليهالسلام
؟
ج)
: إعلم أنّ الحديث عن النّبوة ينقسم الى
النّبوّة العامّة ، والنّبوّة الخاصّة ، والنّبوّة العامّة عبارة عن الخصائص والصّفات العامّة التي يجب توفّرها في جميع الأنبياء ، لا تختصّ بنبيٍّ دون نبيّ ، وأمّا النّبوّة الخاصّة فالمراد منها ما ينفرد به كلّ نبيٍّ من الخصائص والأوصاف والمعجزات ، مثلاً لو كان الحديث عن النّبيّ موسى ـ على نبيّنا وآله وعليهالسلام
ـ ذكرنا له أوصافه الخاصّة وما اختص به من الكرامات (
وَكَلَّمَ
اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا )
وما انفرد بها من المعجزات (
أَنِ
اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا
) ، (
وَإِذْ
فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ
__________________
فَأَنجَيْنَاكُمْ
وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ
) ، (
فَأَلْقَىٰ
عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ )
، وخُصّ
أيضاً بالتوراة ، وما شابه ذلك ، وإن كان الحديث عن النبيّ عيسى ـ على نبيّنا وآله وعليهالسلام
ـ : ذكرنا أنّه ولد من غير أبٍ (
فَنَفَخْنَا
فِيهَا مِن رُّوحِنَا )
، ( مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ )
( وَيُكَلِّمُ النَّاسَ
فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ )
، ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم
مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي
الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ )
، وخُصّ
بالإنجيل ، وما شابه ذلك من خصائصه ـ على نبيّنا وآله وعليهالسلام
ـ ، وهكذا عن سائر الأنبياء عليهالسلام.
أمّا النّبوّة العامّة فمن خصائصها :
أوّلاً
: العصمة : لأنّه يجب أن يكون
أميناً على وحي الله ، ومعصوماً من كلّ زلّةٍ أو خطأ أو نسيان أو توجّه الى غير الله ـ تعالى ـ وإلا لم يكن وجيهاً عند النّاس ، إذ النّاس بحاجةٍ إلى __________________
اُسوة كاملة متكاملة
، مبرّأة من جميع العيوب الخَلْقيّة والخُلُقيّة ، والغاية من بعثة الأنبياء هي الطّاعة ، وطاعة النبيّ عليهالسلام
واجبة في كلّ ما يأمر به وينهى عنه ، فإذا جاز عليه الخطأ والمعصية سقطت طاعته ، بل حرمتْ طاعته ، فلم تتحقّق الغاية من بعثته ، كما أنه لو جاز له الخطأ والسّهو والنسيان والمعصية ، لم يحصل اليقين بصدقه وصحّة ما يدّعيه وما ينسبه إلى الله ـ تعالى ـ في تبليغ الوحي الإلهي ، ولو صدر منه شيء من الخطأ والمعصية سقط من أعين النّاس ، ولم يعيروه اهتماماً أو ثقة ، وكان عمله مخالفاً لقوله فكان مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ : (
كَبُرَ
مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )
وهذا نقض للغرض من بعثته ، وأخيراً : إنّما تصدر المعصية ويقع الخطأ بسبب ما يعاني منه العاصي والمخطىء من ضعف في العقل أو فتور في العقيدة أو هشاشة في الإرادة ، فمن اتّصف بواحد منها كان في غاية العجز والنقصان ، وهو حينئذٍ لا يكون حجةٍ على العباد ، إضافة إلى أنّ هذا الشّخص لا يكون لائقاً لأن يكون وسيطاً بين الله ـ تعالى ـ وبين عباده ، إذ الوحي الإلهي يأبىٰ إلا أن يكون وعاؤه العقل الكامل الّذي بلغ مرتبة حقّ اليقين __________________
وحاز عليها ، ويحتاج
إلى إرادةٍ فوق كلّ الإرادات لارتباطها المباشر والوثيق بالله ـ تعالى ـ وتبعيتها التّامّة لإرادة الله ـ تبارك وتعالى ـ.
فهو لا يريد إلا ما أراد الله ـ تعالى ـ
، ولا تتأثر إرادته إلا بإرادته ، ولا تتخلّف إرادته عن الإرادة الإلهيّة قيد شعرة ولا طرفه عين ، ومن كان ذلك كان معصوماً بالبداهة والضَّرورة ، ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ
) و (
نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) .
ثمّ الأهمّ والأعظم من ذلك كلّه أنّ
المتعارف بين النّاس كون الممثّل والسّفير ـ لا سيما إن كان تامّ الاختيار ومطلق الصّلاحية ـ مرآةً ودليلاً وآيةً يعبّر عن مستوىٰ من ينوب ويمثّل عنه علماً وحكمةً وقدرةً ورحمةً وصدقاً ووفاءً وهلمّ جرّا من الصّفات ، ولمّا كان النّبيّ سفيراً وممثلاً ، وكان الأنبياء سفراء الله ـ تعالى ـ في الأرض ينوبون عنه في كلّ شيء من التبليغ إلى التّطبيق ، وكانوا أدِلاءَ على الله ، كأنّ النّاظر إليهم ناظر الى صفات الله ـ تعالى ـ ، وكان ـ في أعين الناس ، وفي الواقع ، كلّ ما يصدر منهم محسوباً __________________
على الله ـ تعالى ـ ،
لهذه الأسباب ، كان على الله ـ تعالى ـ أن لا يختار للنّبوّة إلا من كان كاملاً في صفاته ، تامّاً في ذاته ، مبرءاً من العيوب ، وإلا كان المعتقد بنقص أو عيب في الذات الالهية المتعالية معذوراً ، وسبحان الله عمّا يصفون ، فالأنبياء معصومون منذ ولادتهم إلى أن يودّعوا الحياة الدُّنيا وتُقبض أرواحهم الطّاهرة الى الرّفيق الأعلى.
س)
: ما معنى العصمة ؟
ج)
: العصمة على قسمين ، أو للعصمة مرتبتان
:
١ ـ العصمة الصغرى : وهي الإلتزام
بالشّريعة المقدّسة وأحكامها بحيث تحصل له الملكة في طاعة الله ـ تعالى ـ وترك المعصية واجتناب كل ما من شأنه أن يُبعد الإنسان عن الله ـ تعالى ـ وإن كان مكروهاً ، والإتيان بكلّ ما من شأنه أن يقرّب إلى الله ـ تعالى ـ وإن كان مستحبّاً ، وهذه الملكة تردعه وتحجبه عن المعصية العمديّة ، وينالها صاحبها بعد ممارسة طويلة لجملة من الرياضات والتزكية النفسية من خلال التزامه بأحكام الشريعة والعبادات ، وقد يوفَّق إليها كثير من العباد.
٢ ـ العصمة الكبرى : وهي الملكة
النفسانيّة التي توجد في الفرد منذ نشأته وترافقه منذ ولادته ، فهي تولد بولادة صاحبها
وتموت بموته ، لا
تكاد تفارقه لمحة بصر ولا طرفة عين ، وهي منحة إلهيّة وعطاء ربّاني تحجب صاحبها عن الوقوع في المعصية وكلِّ خطأ وسهوٍ ونسيانٍ ، وهي علامة كمال المتمتّع بها والحائز عليها كمالاً فوق كمال المخلوقات جميعاً ، تعصم صاحبها حتى في منامه ، إذ المعصوم تنام عيناه ولا ينام قلبه ، ويغفو بصره ولا يغفو فؤاده قطّ ، بل منتبه يقظ حسّاس في كلّ لحظة من لحظات حياته ، لا يغفو ولا يغفل ولا يسهو ولا ينسى ولا يَخطأ طرفة عين ، علاوة على أنّه يتمتّع بالعلم التّام والمعرفة الكاملة بقبح الامور وحسنها ، لأنّه يرى الأشياء والأعمال والأفعال على حقيقتها رأي العين ، ويعلم بها علمَ اليقين ، ويَبْصُرُ بها عينَ اليقين ، ويدركها حقّ اليقين ، وهي عطاء ولطف من الله ـ تعالى ـ ، وهي مختصّة بالأنبياء الأئمة عليهالسلام
وحالات نادرة اُخرى نصّت عليها الشّريعة الغرّاء وأكدتها النّصوص الصّحيحة أو كان من ضروريّات الدّين والمذهب كما هو الحال في الصّديقة الطاهرة السّيّدة فاطمة الزّهراء عليهالسلام
، والسّيّدة مريم ابنة عمران عليهالسلام
، وسيّدنا الخضر عليهالسلام.
س)
: إذا كانت عصمة الأنبياء والائمّة عليهالسلام من الله ـ تعالى ـ كما
تقولون ، فما هو فضلهم على النّاس ؟ وبماذا يستحقّون هذه الدّرجات الرّفيعة والمنازل العالية ؟
ج)
: ذكرنا أنّها عبارة عن ملكة نفسانية
وإرادة قويّة وهي عناية خاصّة ربانيّة ولم نقل أنّها تسلب الاختيار من صاحبها ، إذ أنها لا تجعله مسخَّراً منقاداً ، بل يتمتّع بكامل الحريّة وتمام الاختيار في عمله وسلوكه الّذي يصدر منه لكنّه بطبيعة الحال لا يكون إلا شَكُوراً ، وكما تُنسب جميع الأعمال إلى الله ـ تعالى ـ : ( وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَمَا تَعْمَلُونَ )
فإنّ هذه العصمة تنسب اليه أيضاً ، بمعنى أنّه ـ تعالى ـ قد ضمن عصمته وصيانته وترفّعة عن كلّ نقص وعيب وقبيح ، فهو يستحقّ الدّرجات الرّفيعة والمنازل العالية بعمله الدؤوب وجهده المتواصل ، ثم لمّا كانت هذه العصمة أوسع دائرة وأشمل موضوعاً وأشدّ ابتلاءً من العصمة الصغرى لأنّها لا تقتصر على ترك المعصية العمديّة بل تتّسع لتشمل الخطأ والسّهو والنّسيان ، ولا تقتصر على ترك الحرام والالتزام بالفريضة ، بل تتّسع لتشمل ترك المكروه والالتزام بالمندوب والمستحب ، ولا تقتصر على ذلك أيضاً بل تتّسع لتشمل « ترك الأولى » ، لمّا كانت العصمة هكذا كان صاحبها أفضل من غيره ، ولا يدانيه أحد في فضله وكماله.
__________________
س)
: ما معنى « ترك الأولىٰ » ؟
ج)
: إعلم أنّ هناك اموراً مباحة لجميع
النّاس بما فيهم المعصومين عليهالسلام
، لكنّها قد لا تناسب شأنهم دائماً أو أحياناً فالإتيان بها قبيح لهم لأنها من قبيل « حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين » ، مثلاً لو أنك رأيت عالماً خرج في
الشّارع دون عمامة ورداء ، أو رأيته يأكل في الطريق أو يمشي بعمامته في بعض الأسواق ، أو يهرول على بعض الشواطىء ، أو وجدته جالساً على قارعة الطريق دون سبب معقول ، لأنكرتَ عليه فعلته هذه رغم أنّه لم يقترف حراماً ولا مكروهاً ، وذلك لأنّه أتى بما لا يليق بشأنه ومقامه العلميّ ، وإن كان ما أتى به مباحاً ، بل قد يسقط من عينك بسبب ذلك العمل المباح ، إذا تبيّن هذا فانتقل بذهنك وخيالك إلى المعصوم عليهالسلام
لو صدر منه شيء من ذلك ، ألا تراه أشدّ قبحاً ، ولهذا فالمعصوم عليهالسلام
منهيٌّ عن « ترك الأولى » ، وسمّي بالأولى ، لأنّ المعصوم أولى بتركه ، أو لأن الأولويّة تقتضي تركه والاجتناب عنه لما قد تحمله من مفاسد نفسية أو اجتماعيّة ، ومن هذا المنطلق قال مولانا اميرالمؤمنين علي بن __________________
أبي طالب عليهالسلام : « والّذي نفسي بيده لو
اُعطيتُ الأقاليمَ السَّبعة بما تحتَ أفلاكها على أن أعصى اللهَ في نملةٍ أسْلِبُها جِلْبَ شعيرٍ ما فعلتُ »
، وقال أيضاً عليهالسلام
في كتابه الى عثمان بن حنيف : «
ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به ، ويستضيءُ بنور علمه ، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بِطمْرَيْهِ ، ومن طَعْمِهِ بقُرْصَيْهِ ، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك ، ولكن أعينوني بِوَرَعٍ واجتهادٍ وعِفّةٍ وسَدَادٍ ، فواللهِ ما كَنَزْتُ من دنياكم تِبْراً ، ولا ادّخَرْتُ من غنائمها وِفْراً ، ولا أعْدَدْتُ لِبالي ثوبي طِمْراً ، ولا حُزْتُ من أرضها شبراً ، ...
وإنّما هي نفسي اُرَوِّضُها بالتّقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر ... الخ ».
وأمّا أبونا آدم عليهالسلام فإنّه اُخرج من
الجنّة ولم يُجعل من اُولي العزم لأنّه ترك الأولى أو أتى بترك الأولى ، قال تعالى : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ )
بعد أن قال تعالى : (
أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ )
ولم يكن النهي عن الأكل من تلك الشّجرة نهياً محرّماً وإنّما نهياً شأنيّاً أي من شأنك يا آدم أن تأكل أنت __________________
وحوّاء من هذه
الشّجرة والأولى ترك أكلها ، ولهذا فإنّهما أكلا : ( فَلَمَّا ذَاقَا
الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ )
، وكانت النتيجة هى الخروج والإخراج من الجنّة : ( وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ )
، وأيضاً سقوط آدم عليهالسلام
من درجة اُولى العزم (
وَلَمْ
نَجِدْ لَهُ عَزْمًا )
، والاكتفاء بدرجة النّبوّة.
س)
: ذكرتم مصطلح النبيّ والرّسول واُولي العزم ، فما الفرق بينها ؟
ج)
: إعلم أنّ النّبي لفظ عامّ يُطلق على
كلّ من بعث بالنّبوّة من عند الله ـ تعالى ـ ، لهداية النّاس وإرشادهم ، وإخراجهم من الظُّلُمات الى النُّور. ولفظ النبيّ إن كان أصله النبأ فمعناه : « صاحب الخبر المهم » و « ذو الخبر الهام » ، وإن كان أصله « النُّبوّ » فمعناه : « صاحب المنزلة الرّفيعة والمقام السّامي » ، وكلا المعنيين ينطبق على النبيّ عليهالسلام
، وعدد الأنبياء كما في الأخبار والمتفق عليه عند جمهور المسلمين مائة وأربعة وعشرون ألف نبيّ.
__________________
وأمّا الرّسول فهو قسم خاصّ من الأنبياء
، وأخصّ من النّبي لأنّه صاحب شريعة سماوية وكتاب من الله ـ تعالى ـ يحمل بين دفّتيه أحكام الله في العبادات والمعاملات وقوانينه الّتي شرّعها لأهل ذلك الزّمان ، وكلّ شريعة جديدة تنسخ الشريعة الّتي قبلها ، فشريعة نبيّنا الخاتم محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
قد نسخت شريعة عيسى عليهالسلام
، وشريعة سيّدنا المسيح ـ الإنجيل ـ نسخت شريعة سيدنا موسى عليهالسلام وهكذا.
فجميع الرُّسل أنبياء ، وبعض الأنبياء
رُسُلٌ ، وبعضهم ليسوا برُسُلٍ ، ولكلّ رسول شريعة وكتاب ، وأمّا الأنبياء فإنّهم يتّبعون شريعة الرَّسول الذي كان قبلهم ، كما أنّ الأنبياء بني إسرائيل الذين جاؤوا بعد موسى عليهالسلام
كانوا على شريعة موسى عليهالسلام
والّذين قبله كانوا على شريعة إبراهيم الخليل عليهالسلام
، أو يكون النّبيّ تابعاً لشريعة الرَّسول الّذي كان يعاصره في الزّمان ، ولا يجوز له أن يتّبع شريعة من قبله من الرُّسُل إن كان هناك رسول يعاصره ويزامنه بل كان تابعاً لشريعة الرَّسول الذي يعاصره ، مثل النّبيّ لوط عليهالسلام الّذي كان معاصراً لسيّدنا ابراهيم عليهالسلام
وكان تابعاً لشريعته كتابه وهكذا يحيى عليهالسلام
الذى كان تابعاً لشريعة عيسى عليهالسلام
، وهارون الذي كان تابعاً لموسى عليهالسلام
، وعدد الرّسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً هم
الخواصّ من الأنبياء
، ولا شكّ أن الأنبياء بعضهم أفضل من بعض والرُّسُل أفضل من الأنبياء الذين لم يكونوا رسلاً ، كما أنّ بعض الرّسل أفضل من البعض الآخر ، قال تعالى : (
تِلْكَ
الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ
).
وأمّا اُولوا العزم فهم خمسة من
الرُّسُل اُرسلوا بشرائع إلى جميع الخلائق ، فكلُّ اُولي العزم رُسُل ، وبعض الرُّسُل أولوا عزمٍ ، وبعضهم ليسوا كذلك ، واُولوا العزم خمسة هم : النبي الأكرم سيدنا محمد بن عبدالله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وسيّدنا إبراهيم وسيّدنا نوح ، وسيّدنا موسى ، وسيّدنا عيسى ـ عليهم الصّلاة والسَّلام أجمعين ـ ، وقيل أصحاب الكتب السّماوية والشّرائع هم اُلوا العزم من الرُّسل لا جميع الرُّسل ، ويبدو أنّه ليس بصحيح لأنّا نجد أن لداوود عليهالسلام كتاباً هو الزّبور ، نعم ربما تكون الشرائع مختصّة باُولي العزم منهم.
الحمد لله ربّ العالمين
تتمة الدرس الخامس عشر
خصائص النبي عليهالسلام
بسم الله الرّحمن الرّحيم
ثانياً
: المعجزة : لا بدّ لكلّ دعوىٰ
من دليل ساطع وبرهان قاطع يؤدّي الى اليقين بصحّة الدّعوىٰ والمدَّعىٰ ، ولمّا كان الرَّسول والنّبيّ يدّعي السّفارة من الله ـ تعالى ـ ، وأنّه سفير يمثّل الحقّ ـ جلّ وعلا ـ وحجّته على عباده ، فلابدّ من إقامة برهان لا يداخله الشك ، ولا يطرو عليه الترديد ، وينقطع معه ريبُ كلِّ مريب ، وحجّة كلّ لبيب ، حتّى يُثبت ما أدّعاه ، ويتمّ الحجّة على العباد ، ولا شيء أدلّ على هذا المدعىٰ ، وأقْطَعَ للشّك والتّرديد فيه من المعجزة.
س)
: فما هي المعجزة ؟
ج)
: المعجزة عبارة عن التّصديق العملي من
الله ـ تعالى ـ للنّبي ، وحقيقتها عبارة عمّا يكون خرقاً للعادة والطبيعة ، ولإحداث فعل من غيره أسبابه أطّبيعيّة ، بل خلافاً للأسباب والعلل
الطّبيعيّة فهي
إيجاد مسبَّب بلا سبب ، ويشترط في صحّة المعجزة أن يعجز الجنّ الإنس عن الإتيان بها ، ولهذا سُمّيتْ معجزة ، وإلا لم يكن معنىً لتسميتها بذلك وعدّها إعجازاً.
فمن توفّرت فيه العصمة وظهرت عصمة منجهة
تحلّيه بالصّفات الحميدة والكمال النَّفساني ، وأفعاله وسلوكياته المستقيمة وكان أهلاً لادّعاء النّبوّة والسّفارة الإلهيّة ، ثمّ ادّعى ذلك وأتى بفعل يعجز عنه الجنّ والإنس ، فهو نبيٌّ صادق في دعواه ، وتجب له الطّاعة في كلّ ما يأمر به وينهي عنه.
ولهذا جاء في الحديث المروي في اُصول
الكافي عن أبي عبد الله ـ الصادق عليهالسلام
ـ : « إنّا
لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا ، وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصّانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا يلامسوه فيابشرهم ويباشروه ، ويُحاجّهم ويحاجّوه ثَبُتَ أنّ له سفراه في خلقه ، يعبّرون عنه الى خلقه وعباده ، ويدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فَناؤهم ، فثبت الآمرون والنّاهون عن الحكيم العليم في خلقه ، والمعبّرون عنه جلّ وعزّ ، وهم الأنبياء عليهالسلام وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين لها ، غير مشاركين للنّاس ـ على مشاركتهم لهم في الخلق والتّركيب ـ في شيء من أحوالهم
،
مؤيّدين
من عند الحكيم العليم بالحكمة ، ثم ثبت ذلك في كلّ دهر وزمان ممّا أتتْ به الرُّسُلُ والأنبياء من الدّلائل والبراهين ، لكيلا تخلو الأرض من حُجّةٍ يكون معه علم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته » .
ومن خصائص الإعجاز أنّه : أوّلاً ـ ليس
أمراً اكتسبياً ، فلا يحصل بالتّعليم والتّعلُّم ، وثانياً ـ لا تؤثر فيه القوى الاُخرى ، ولا يتأثر بها ، وهي خاصّة بالخواصّ من أولياء الله ـ تعالى ـ ولا تقع إلا بإذنه ـ تعالى ـ.
وهناك الكثير من هذه المعجزات التي ظهرت
على أيدي الأنبياء والصَّالحين من عباد الله المخلَصين ، كخروج النّاقة من الجبل بدعاء سيّدنا صالح النّبي عليهالسلام
، وماء زمزم الذي جرى في البرّ الأقفر عند موضع الكعبة المشرَّقة بيد سيّدنا إسماعيل عليهالسلام وهو طفل رضيع ، وسفينة نوح ، وصهر الحديد على يد سيّدنا داوود عليهالسلام
، ومنطق الطَّير والحيوان الذي اُوتي سيّدنا سليمان عليهالسلام
، وطاعة الجنّ والإنس والحيوانات والطٌّيور ، الذي سُمّي بملك سليمان عليهالسلام
، وآلاف المعجزات التي ظهرت على أيدي الأنبياء __________________
على مرّ العصور
والتأريخ.
وأخيراً فلابدّ أن تكون المعجزة ـ عادةً
ـ تناسب الزّمان والمكان وأحوال النّاس ، فمثلاً العصى معجزة سيّدنا موسى عليهالسلام كانت تلائم تلك الظروف الّتي كثر فيها السّحر ، أو نزول الدّم والضّفادع وما شابه ذلك من السّماء تناسب طغيان فرعون وجبروته وجبروت من كانوا معه ، أو إحياء الموتى وشفاء الأمراض ، لا سيّما المستعصية من غير علاج طبيعي ودواء ، معجزة تناسب تلك الفترة الّتي بُعث فيها سيّدنا عيسى عليهالسلام
من تقدّم مذهل في علم الطّبّ والعلوم الطّبيعيّة وهلمّ جرّا من المعجزات لا سيّما عشرات المعجزات التي ظهرت على يد سيّدنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
حتّى عُدّتْ اكثر من ألف معجزة ، أهمّها وأعظمها المعجزة الخالدة أعني القرآن الكريم الذي جاء في زمن تتباهي فيه العرب بقوّة البلاغة وشدّة الفصاحة وسحر البيان وقد تحدّى العرب جميعاً ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِّثْلِهِ )
، بل تحدّي
الجنّ والإنس حيث قال ـ جلّ وعلا ـ : (
وَادْعُوا
شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
) وقال ـ تعالى ـ : (
قُل
لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا
__________________
بِمِثْلِ
هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
) ، وبما أن نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم خاتمة النّبوّات ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين فلابدّ أن تكون له معجزة خالدة لأنّ رسالته خالدة ، ولابدّ أن تواكب جميع العصور والأزمنة ، وتنفع النّاس الى يوم القيامة ، ولهذا فقد كان القرآن الكريم إعجازاً في اللّغة ، وإعجازاً علميّاً ، وإعجازاً اقتصاديّاً ، وإعجازاً ثقافيّاً ، وإعجازاً تربويّاً ، وإعجازاً قانونيّاً ، وإعجازاً حضاريّاً ، وإعجازاً فلسفيّاً ، وإعجازاً في كلّ شيء ، لا يسع هذه الوجيزة التطرّق الى تفاصيل ذلك ، وقد ألّف المتخصّصون وذوي الخبرة كتباً قيّمة في مجالات الإعجاز القرآني ، ووجوه الإعجاز فيها ، وإليكم بعض الأمثلة من الكتاب المجيد في الإعجاز العقائدي والفلسفي : (
لَّقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ
) ، (
لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا )
، ومن الإعجاز العلمي : (
يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا
لَا
__________________
تَنفُذُونَ
إِلَّا بِسُلْطَانٍ )
، ( يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا
شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ )
، وفي الاقتصاد : (
وَأَحَلَّ
اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا )
، وفي
القانون : ( وَلَا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ
) ، ( فَمَنِ
اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ
عَلَيْكُمْ )
، ( وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
) ، و (
الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
) ، والآداب والتربية : ( وَأَحْسِن كَمَا
أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ )
، ( هَلْ جَزَاءُ
الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ )
، ( وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ )
، والإخبار بالغيب : (
الم غُلِبَتِ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ
وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ.
فِي
__________________
بِضْعِ
سِنِينَ ) ، وهناك آيات كثيرة لا مجال في هذا
المختصر إلى عرضها.
والّذي لا يدع مجالاً للشّكّ والتّرديد
في هذا الإعجاز وهذه المعجزة الخالدة ، أن القرآن الكريم نزل في أكثر الشّعوب تخلّفاً واُمّيّةً وجهلاً حينذاك ، وفي أكثر الأزمنة والأمكنة فوضاويّةً وانحطاطاً ، والأعجب من ذلك أنّ الذي جاء به رسول اُمّيّ لم يحضر درساً ولا تلقّى تعليماً عند أحد من البشر ، ولم يدخل مدرسةً أو مكتباً أو جامعةً ، إلا أنّه كان من اُسرة عريقة ، وسلالة شامخة ، وذريّة إبراهيم الخليل عليهالسلام
، وكانت سيرته الصّدق والأمانة وسلوكه الخير والرّشاد ، والعصمة من كلّ عيبٍ أو منقضةٍ.
فالقرآن الكريم هو المعجزة الخالدة وهو ( تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ )
، و ( لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ
وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) ، لأنّه : أوّلاً : عَجَزَ البشر والجنّ عن الإتيان بمثله ولو بسورة واحدة.
ثانياً : نزل في الجاهليّة ، أي في عصر
الجاهلية ومكان الجاهليّة ومعقل الجاهليّة.
ثالثاً : جاء به رسول اُمّيٌّ عاش في
ذلك الزمان والمكان.
__________________
رابعاً : لأنّه ( هُدًى لِّلْعَالَمِينَ
) ، في جميع مجالات الهداية والتعليم.
خامساً : لأنّه أخبر عن الاُمور
الغيبيّة.
سادساً : لأنّه محيط بأسرار الخلائق
والكون : ( وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ )
، ( وَجَعَلْنَا مِنَ
الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) .
سابعاً : عدم وقوع الاختلاف في القرآن :
( أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا
كَثِيرًا )
.
ثامناً : الهداية والتربية العمليّة : ( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) .
بعض سجايا رَسُولِ الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وصفاته
الكريمة وأخلاقه الحميدة :
١ ـ (
يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.
وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا
) .
__________________
٢ ـ (
لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
) ، (
وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) .
٣ ـ (
وَإِنَّكَ
لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
) .
٤ ـ « الصَّادقُ الأمين » لقبه المبارك
في الجاهليّة.
٥ ـ من شدّة زهده وإعراضه عن الدُّنيا
أنّه لم يشبع طيلة حياته حتّى من خبز الشَّعير ، وكانت ثيابه من الصُّوف الخشن.
٦ ـ ومن شدّة تواضعه أنّه كان يسلّم على
الأطفال ، ولا يرضى أن يقوم له أحد ، وكان إذا دخل مجلساً سلّم وجلس أينما انتهى به المقام ، وكان يجالس العبيد والفقراء ويشاركهم في الطّعام ، وكان يجلس على الأرض والتراب ، وكان يخصف نعله بيديه الكريمتين ويخيط ثيابه بنفسه ، ويَحْلِبُ الضّأن.
٧ ـ عناية بالجار ، قال مولانا عليٌّ
أميرالمؤمنين عليهالسلام
: « لقد أوصانا رسول الله بالجار حتّى ظننّا أنّه سيورّثه »
.
__________________
٨ ـ عنايته بالمرضىٰ وعيادته لهم
وإن كانوا من غير ملّة الإسلام.
٩ ـ وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم
كثير الاهتمام بأصحابه حتى في تشييع جنائزهم.
١٠ ـ وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا صافح أحداً لا يخلع يده حتّى يخلع الآخر يده.
١١ ـ كان أعظم النّاسِ شجاعةً وبطولةً
وفروسيّةً وأشدّهم قتالاً ، قال مولانا علي عليهالسلام
: « كنّا إذا حَمِيَ الوطيس لُذْنا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
» .
١٢ ـ وكان أعبد النّاس : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .
١٣ ـ وكان أحرص النّاس على القرآن : ( طه.
مَا
أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ
) .
١٤ ـ كان صلىاللهعليهوآلهوسلم
كثير الاستماع حتى لقّبوه بالاُذُن : (
وَيَقُولُونَ
__________________
هُوَ
أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ
) .
١٥ ـ وكان أسخى الناس وأكرمهم.
وما لا يُعَدُّ ولا يُحصىٰ من
الفضائل والمناقب والسجايا الكريمة التي لا مجال لعدّها هنا في هذا المختصر ، ونوصي بالرّجوع الى كتب التأريخ والسّيرة ولأخلاق للوقوف على بعض هذه السجايا والفضائل.
ملاحظات هامّة :
أولاً : أنّ الأنبياء والرُّسل يصدّق
بعضهم بعضاً ، ويبشّر السّابق منهم باللاحق ، ويُخبِرُ عن مكان ظهوره وبعثته وبعض أوصافه لا سيّما إن كان اللاحق ـ المخبَر عنه ـ رسولاً ، وبالخصوص إن كان من أولي العزم ، وقد بشّر جميع الأنبياء والرُّسُل أقوامهم بقدوم نبيّنا محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
وبعثته حتّى أنّ بعض صفاته وأسماءه الشّريفة وردت في كتبهم كالتوراة والإنجيل : (
النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ
) .
ثانياً : لم يطلبوا أجراً من النّاس على
دعوتهم ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ
__________________
عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ الْعَالَمِينَ
) ، (
وَمَا
تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ
) ، وقد خُصّ رسولنا صلىاللهعليهوآلهوسلم بأجر المودّة لأهل بيته وعترته الطّاهرة (
قُل لَّا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ
) ، وهو أجر تنتفع به الاُمة نفسها : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ
) .
ثالثاً : أن للنّبيّ والرّسول مقامين
ومنزلتين : مقام الخلافة الإلهية ، ومقام الخلافة على العباد ، فهو حاكم وقاضٍ إلى جانب كونه هادياً وبشيراً ونذيراً.
رابعاً : (
النَّبِيُّ
أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ
) ، فيجب أن يفديه النّاس بأرواحهم وأموالهم وأولادهم ، وأن يحفظوه ويذودوا عنه بكلّ غالٍ ونفيس.
وأمّا النّبوّة الخاصّة بنبينا الأكرم
محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم
فإنها ثابتة بسيرته الحسنة وعصمته المتميّزة وصفاته الحكيمة الكريمة وفضائله ومناقبه الجسيمة ، ومعجزته الخالدة بل مئات المعاجز __________________
الاُخرى بشارة
الأنبياء والرُّسُل بقدومه وظهوره ، وقد سُقنا هذه الاُمور خلال بحثنا عن النّبوّة العامّة وفيها الكفاية لمن ألقى السّمع وهو شهيد ، ولا تفي هذه الوجيزة ببيان ذلك ولهذا فقد أرجعنا القارىء الكريم إلى كتب السّيرة والتأريخ لمزيد العلم والمعرفة.
والحمد لله ربّ العالمين
الدرس السادس عشر
الإمامة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بعد ما تبيّن أنّ النّبيّ الأكرم محمداً
صلىاللهعليهوآلهوسلم
خاتم الأنبياء وشريعته الإسلامية خاتمة الشرائع وكتابه الخالد مصون من كل تحريف وتزييف وهو مشعل نور وهداية الى يوم القيامة ، وأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان حاكماً على العباد وقاضياً بينهم وشريعته الغرّاء هي الحَكَمُ العَدْل والمرجع الوحيد القائم إلى يوم القيامة وقيام السّاعة ، لا يجوز التّديُّن بغيرها ولا التحكيم الى سواها ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ
) ، و (
إِنَّ
الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ )
، لمّا كان الأمر كذلك وكان للقرآن ظاهر وباطن ولباطنه بطون إلى سبعين بطناً أو أكثر ـ وهذه ممّا اتفقت عليه جماهير المسلمين وعلماء الإسلام على اختلاف مشاربهم __________________
ومذاهبهم ـ ، ثم
اختلف المسلمون وعلماؤهم في تفسير ظاهره وظواهره ، بل عجزوا كثيراً عن ذلك ، وكانوا حينئذٍ عن معرفة أسراره وحقائقه وبطونه أعجز ، لأنَّ عجائبه لا تنتهي ، ولم تكن الفرصة كافية أمام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لبيان ذلك كلّه ، لعيب في قابلية النّاس ، وعجزهم عن إدراك كثير من الحقائق ، بسبب الحقبة الزّمنيّة التي عاشوا فيها ، ولحاجة معرفة كثير من الامور إلى مرور الزّمان وتغيير في العقول وحصول التجارب وتقدم العلوم وتكامل في العقول وهي ممّا لم يتحقّق بل ولن يتحقق إلا في عصور متأخرة عن عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فكان لابدّ من وجود خلفاء وأئمةٍ هادين
مهديّين راشدين يواصلون تلك المسيرة ويحملون عبأ الرّسالة ، فيكونون حكّاماً وخلفاء على النّاس ، يحكمون بالشّريعة ، ويقيمون الحدود ، ويحفظون الثّغور ، ويعملون بعلمهم الموروث من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والممدود إلى السّماء بحبل الله المتين ، ومعصومون عن كلّ سهو وخطأ ونسيان ، ومشهود لهم بالفضل والكمال ، ليبيّنوا للنّاس عظمة الإسلام وحقائق القرآن ، فتكون الرّسالة المحمديّة صلىاللهعليهوآلهوسلم جليّة للعيان ، واضحة المعالم ، حاكمة إلى قيام السّاعة ، وإلا لو انقطعت العصمة ، ولم يكن الخليفة منصوباً منصوراً مؤيّداً من
عند الله ـ تعالى ـ ،
لكانت الرّسالة ناقصة شأنها شأن ما وقع بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إلى يومنا هذا وإلى ظهور المهديّ من آل محمد عليهمالسلام
من تشويهٍ للشريعة وظلم واضطهاد وتباين للآراء والمذاهب ولأحزاب ، وتشتُّتٍ وتمزيقٍ وانحراف ، ولم يتحقّق الغرض الّذي من أجله بعث النّبيُّ الخاتم ، والغاية الّتي من أجلها كان الإسلام خاتم الشرائع السّماوية ، وعُدّ القرآن خالداً إلى قيام السّاعة.
فلأجل هذه الأسباب اقتضت الضّرورة وحكم
العقل بالبداهة أن ينصب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بأمر من الحكيم العليم خلفاء يحملون الرّاية من بعده ويكونون للاُمّة كما كان هو ، وتكون لهم حقوق على الاُمّة بمثل ما كانت له صلىاللهعليهوآلهوسلم
عليها ، وسمّي هؤلاء أئمة فما معنى كلمة الامام ؟
ج)
: الإمام في اللّغة هو الزّعيم والقائد ،
وفي اصطلاح المتكلّمين وعلماء الكلام الإمامة هي الزّعامة الدّينيّة والدّنيويّة المطلقة على أهل الإسلام وكافّة المسلمين ، وهذه الزّعامة لا تكون عندنا ولا تجوز في مذهبنا وعقيدتنا إلا لمن كان منصوباً من عند الله ـ تعالى ـ ، لما تقدّم من أهميّة هذا المنصب والمقام وخطورته وعجز النّاس عن اختيار من يكون أهلاً لذلك ،
والتّجارب قد أثبتت
ذلك ورأيناها رأي العين في زماننا هذا ، وإن سمعنا أيضاً الكثير عن ماضي ، ولهذا فقد أثبتت تلك التّجارب بطلان كلّ ادّعاء خلاف ما ذكرنا ، وزيف كلّ داعٍ إلى اختيار النّاس ، وإلى تحكيم ما يطلق عليه في لسان الغرب بالدّيمقراطيّة ، وكلّما تقدّم بنا الزّمان ظهر بطلان هذه الدّعوات للعيان اكثر ، ويئس النّاس من دعاة الدّيمقراطية ، وأيقنوا بمدى زيف هذه المحاولات في إسعادهم وسلامتهم ، حتى زعم بعض علماء العامّة من المتأخّرين والمعاصرين وحتى القدماء أنّ الخلفاء الأربعة كانوا منصوبين من قِبَلِ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
متجاهلين ما في صحاحهم عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
« من بعدي
اثنا عشر أمير » أو « خليفة »
أو « إمام »
وأنّ « كلّهم من
قريش »
واختلفوا في تفسيره وتطبيقه على مصاديقه ، رغم أنّ في بعض كتبهم روايات صريحة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
تنصّ على أسمائهم وتدلّ على أعيانهم ، ولم يتمسّك بها سوى فرقة واحدة من فرق المسلمين أطلق عليها الإماميّة الاثني عشريّة.
فالإمام يجب أن يكون منصوباً من عند
الله تعالى ، وأن __________________
يكون متّصلاً بمنبع
الفيض الإلهي مستمدّاً علمه من الله تعالى ، وأن يكون معصوماً بالعصمة الكبرى لأنّه عِدْلُ القرآن وهو القرآن النّاطق لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « إنّي
تاركٌ فيكم الثِّقْلَينِ ، كتابَ الله حبلٌ ممدود إلى السّماء ، وعترتي أهلَ بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ـ بعدي ـ أبداً » وهو معنى قوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ
) والقربىٰ هم فاطمة الزهراء سيّدة
النّساء وبَعْلُها وبنوها عليها وعليهم أفضل الصّلاة وأتمُّ التّسليم.
ليت شعري كيف انتبه الخليفة الثاني ومن
معه إلى لزوم اختيار الخليفة ، وضرورة أن ينصبوا إماماً للمسلمين وخليفةً لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
في سقيفة بني ساعدة ، ولم ينتبه الله إلى هذا الأمر ولا رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
؟!
ومن أين جاء الخليفة الأول بفكرة نصب
الخليفة الثّاني من بعده وتعيينه وتحديده دون الرجوع إلى المسلمين ، والعمل بالشّورى ، إن كان الشّورى هو المرجع والطريق إلى تعيين __________________
الخليفة واختياره ، على
ما يزعمه دعاة الشُّورى ؟!
ومن أين جاء الخليفة الثّاني بقانون
نَصَبَ به ستّةً من المسلمين ـ الصّحابة ـ وأمرهم باختيار الخليفة من بعده ، إذا كان الخليفة الثالث مَنصُوباً من عند الله تعالى والرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على حدّ زعم القائلين بالنصّ على خلافة الأربعة الرّاشدين ، وأنّهم كانوا منصوصين منصوبين من عند الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
؟!
وللرّدّ على القائلين : لو كان عليٌّ عليهالسلام منصوصاً منصوباً من
قِبَلَ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالخلافة مباشرة بعده ، وكان الخليفة الأول لرسول الله فهل يُعقَل أن يخالفه الصّحابة ويعرضوا عنه ؟!
نقول : لو كان الأول ـ أبوبكر خليفة
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بالنّص والتّنصيب فما بال كثير من المسلمين ـ الصّحابة ـ قد امتنعوا في الوهلة الاولى عن بيعته وعلى رأسهم عليّ عليهالسلام
وبنو هاشم وسلمان ومقداد وأبوذر وعمّار وجمع غفير من المهاجرين والأنصار حتّى تضاربوا بينهم وتراشقوا بالألفاظ وكادوا يتقاتلون فقالت الأنصار : منّا الأمير ، وقال المهاجرون : منّا الأمير ، ثم قالوا واتّفقوا بينهم على ما قاله بعض المهاجرين للأنصار أنّ « منّا الأمير
ومنكم الوزير » . وما بال حروب الرّدّة التي دارت بين المسلمين حينذاك وإنّما سُمّيتْ بالرّدّة لزعمهم أنّ من امتنعوا عن طاعة الخليفة الأوّل وحبسوا الزّكوات عن إرسالها إليه وإيصالها لديه مرتدّون عن الإسلام خارجون على الخليفة ، كلّ ذلك قد ورد في كتب التأريخ والسيرة والحديث والعقائد والكلام وكان مثار جدلٍ بين المسلمين ، ولا يزال كذلك.
على أنّ الشّخص الوحيد والفرد الفريد من
بين هؤلاء الأربعة الّذي لم يتمّ اختياره للخلافة من قِبَلِ الناس ولا بواسطة واحدٍ بعينه من الصّحابة ، وإنّما تمّتْ له البيعة بتزاحم المسلمين على باب داره واجتماعهم على بيته ، وعلمهم ويقينهم بأنّ بيعتهم له تحصيل حاصل بعد بيعة المسلمين له في صدر الإسلام سيّما في واقعة الغدير بأمر من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وفي محضرة الشّريف ، وعلمهم ويقينهم بأنّه الخليفة الحقّ والإمام المنصوب من عند الله تعالى ورسوله وإجماعهم على وجوب طاعته ، كما أجمعوا على أنّ مخالفيه ومعاديه ناكثون وقاسطون ومارقون ، هوالإمام أميرالمؤمنين عليُّ بنُ أبي طالبٍ عليهالسلام
وإن حاول بعض المخالفين __________________
المعاندين تجاهل ذلك
في العمل والواقع العملي ، والبحثَ عن مبرّرٍ لما بدر من أصحاب الجمل وخوارج نهروان ومعاوية بن أبي سفيان وأذنابه ، وسعىٰ جاهداً للدّفاع عنهم في محاولة يائسة لإنقاد الغرقى تحسين صورتهم في عيون المسلمين ، وأنّى لهم ذلك وقد فَضَحَهُمُ التأريخ ، وكشفتْ عن عوراتهم السّيرة ، وبدتْ وصمة العار على جبينهم لا تزيله مياه البحار والأنهار ، وأقرّوا بها في كتبهم ، ونطقوا بها في مجالسهم ومحافلهم ؟! وأينَ هم من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « يا عمّار ستقتلُكَ الفئةُ الباغية » ؟!
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
تتمة الدرس السادس عشر
الإمامة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وكيف يكون إماماً للمسلمين وخليفةً
لرسول ربّ العالمين صلىاللهعليهوآلهوسلم
من أقرّت كتب السّيرة والتاريخ ، واعترفت ودوّنت أيدي مواليه ومؤيّديه في كتبهم مقولته الشّهيرة وإقرار الصّريح : « إنّ لي شيطاناً يعتريني »
، و « أقيلوني فلست بخيركم وعليُّ فيكم »
، وهكذا مقولة صاحبه الخليفة الثاني عن بيعته أنّها كانت فلتةً لا ينبغي
للمسلمين أن يعودوا لمثلها ، وأيضاً مقولته __________________
الشّهيرة عن نفسه في
أكثر من سبعين موضوعاً وموطناً « لولا عليٌّ لهلك عمر »
، و « كلُّ النّاس أفقه من عمر »
، و « لا أبقاني الله لمعضلةٍ ليس لها أبو الحسن »
، فضلاً عن الخليفة الثالث الذي امتلئتْ بطون الكتب بمثالبه وأخطائه وزلاته ؟!
أنّى لهؤلاء وأمثالهم أن يتقلّدوا ازمام
أمور المسلمين ويكونوا خلفاء رسول ربّ العالمين صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهم يجرّون وراءهم أذيالَ الضّعف والجهل والنُّقصان ؟!
وأنّى لهم أن يتقدموا على جامع الكمالات
، وبحر الفضائل ، والإنسان الكامل ، والمحيط بلا ساحل ، والشّمس المضيئة ، __________________
والقمر المنير ، ووارث
علوم الأنبياء ، الذي ينحدر عنه السّيل ولا يرقىٰ اليه الطير ، ومن نزل في حقه وشأنه أفضل الآيات ، والسُّور البيّنات ، منها قوله ـ تعالى ـ : (
إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ )
، و ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ )
، و ( وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا.
إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا )
، ومئات الآيات البيّنات الّتي تحدّثت عنه وعن فضائله بالكناية « والكناية أبلغ من التصريح ».
وكيف أخّروا الذي قدّمه الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال في
حقّه وشأنه وفضله وكماله ما يفوق الإحصاء ، ولا تناله أيدي العاديّن ، ولا تبلغه عقول المسترشدين ، حتى ملأت فضائله العالم بأسره ، وملأت الخافقين ، وامتلأت بها كتب المخالفين والمعاندين قبل أن تنطق بها كتب مواليه ومحبّيه ، وتدوّنها أيدي شيعته ؟!
كيف تجرّؤا على ذلك وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « أفقهكم عليٌّ ، أقضاكم عليٌّ
أعلمكم علي » ، وقال أيضاً : « علي مني
__________________
وأنا
منه »
وقال : « من كنت
مولاه فهذا عليٌّ مولاهُ ، أللّهم والِ مَنْ والاه ، وعادِ من وعاداه ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهْ ، واخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ »
وذلك بعد أن نزلت الآية المباركة : (
يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
) ، وقال : « عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ » ولم يقل صلىاللهعليهوآلهوسلم يدور عليٌّ
حيثما دار الحق ، بل __________________
قال : « يدور الحقّ حيثما
دار علي »
لأنّ عليّاً عليهالسلام
مظهر الحقّ ، وميزانه ، يعرف الحقّ بعليٍّ عليهالسلام
، وهو الحق المطلق والعدالة التّامّة ، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « يا علي
أنت مني بمنزلة هارونَ من موسى »
، وقد أبدى عن جهله وكشف عن عورته من زعم أنّ هذه الخلافة تختصّ بالمدينة المنوَّرة وفي زمن الرَّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
لأنّه شبّه عليّاً عليهالسلام
بهارون عليهالسلام
، وقد خلّف موسى عليهالسلام
في حياته ومات قبل أخيه موسى عليهالسلام
، لأنّ هذا القائل لم يفقه إلى قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « إلا أنّه لا نبيَّ بعدي » وهو واضح غاية الوضوح وصريح في أنّ هذه المنزلة إنّما تكون بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
لا في حياته الشّريفة ـ وإن كان عليٌّ عليهالسلام
خليفته في حياته وبعد مماته ـ ، إضافةً إلى أنّها نصّ صريح في أنّه عليهالسلام
بمنزلة الأنبياء ، ولو انقطاع النّبوّة وختمها به صلىاللهعليهوآلهوسلم
لكان عليٌّ نبيّاً قطعاً.
وكيف تجاهلوا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يا عليّ لا يُحبُّك
إلا مؤمن ولا
__________________
يُبغضك
إلا منافق » ، وقوله : « يا عليّ أنت وشيعتك
معي في الجنّة »
، و « يا عليّ
أنت وشيعتك على منابر من نورٍ يوم القيامة »
، « حُبُّ
عليٍّ إيمانٌ وبغضه كُفرٌ » ، و « حبُّ عليٍّ عبادةٌ »
، ومئات الأحاديث الَّتي اكتضّت بها جوامع الحديث ، وملأت بطون الكتب وذاعت وشاعت حتى تجاوزت العدَّ والتواتر والإحصاء ، رغم كتمان الأعداء لها حقداً منهم لعليّ عليهالسلام
وكتمان الأصدقاء لها خوفاً من القتل والتّشريد والسّجن والتعذيب بأيدي بني أميّة وبني العبّاس وأزلامهم الحاقدين لعليٍّ عليهالسلام
وبني هاشم ؟!
ألم يقرؤا ويسمعوا ويروا سيرة عليٍّ عليهالسلام وفيها ما يكفي
ويزيد دليلاً وشاهداً على حقانيّة عليٍّ عليهالسلام
بالخلافة ، وبطلان خلافة من __________________
تقدّموا عليه ؟! هل
خفي عليهم برازه لعمرو بن عبد ودّ العامري في الخندق وهو يستخفّ ويستهزىء بالمسلمين ويدعوهم إلى البراز ، وقد أخذ الخوف منهم كلّ مأخذ وصاروا كأنّ على رؤوسهم الطّير ؟! وهو في العشرين من عمره فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
لعليًّ عليهالسلام
: اخرج إليه ثم قال عنه : «
برز الإيمان كلّه إلى الشّركِ كلّه »
، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
بعد أن قتل عليٌّ عمرواً : «
لضربة عليٍّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين » ؟!
وأين كانوا حين انهزم جيش المسلمين في
اُحد بمكرٍ وحيلة من خالد بن الوليد قائد جيش المشركين ، ولم يصمد مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
سوى عليٌّ عليهالسلام
والزُّبير ، وقيل : نفرٌ قليل من المسلمين ، فهجم المشركون على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وهمّوا بقتله وعليٌّ في جنبه وجواره لم يفارقه طرفة عين ، يذّب عنه بنفسه وروحه وجسده حتى لقد انكسرتْ رباعيّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
وشُجَّ جبينه المبارك ، وكان الأول والثاني في مقدّمة الفارّين من المعركة ؟!
أينَ هم فتح خيبر حيث ذهب الأول
بالرّاية فعاد هارباً خائباً ، وذهب الثاني فعاد هارباً إثْرَ صاحبه وأخيه ، ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم __________________
في الثّلاثة : « لاُعطينَّ
الرَّاية غداً لرجلٍ ـ رجلاً ـ يحبُّ اللهَ ورسولَهُ ، ويُحبُّه الله ورسوله »
فأعطاها لعليٍّ عليهالسلام
الَّذي لم يتوانَ ولم يتأخّر في فتح خبير ، وقتل مرحبهم ذلك البطل الَّذي كانت تتغنّى بشجاعته النساء ، وتتباهى بقوته أبطال اليهود ورجالها ؟!.
وفي هذا اليسير الذي يُعدّ دون القطرة
في جنب المحيط كفايةٌ لأهل النّظر والبصيرة ولمن أراد أن يعتبر (
أَوْ
أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )
، وقد ولّى زمن الضّحك على الذُّقون واختلاق الأساطير ، والأكاذيب ، والقصص الخيالية والأفلام الكرتونية الّتي تحكي عن البطولات الوهميّة ، والفضائل الخياليّة ، والمواقف الزّائفة لهذا وذاك (
أَفَمَن
يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
) ؟!
ولله درُّ الشاعر حيث قال :
ويُقَدَّمُ الاُمويُّ وهو مؤخَّرُ
|
|
ويُؤَخَّر العَلَويُّ وهو مقدَّمُ
|
__________________
وأخيراً فالأئمة والخلفاء بعد رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم
اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل ، وقد وردت أسماؤهم في الأحاديث المرويَّة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، وكلُّ واحد منهم دَلَّ على الّذي يليه وصرَّح باسمه وكنيته ، ودعا النّاس إليه من بعده ، وهم :
١
ـ عليُّ بن أبي طالبٍ عليهالسلام.
٢
ـ الحسن بن عليٍّ عليهالسلام.
٣
ـ الحسين بن علي عليهالسلام.
٤
ـ علي بن الحسين زين العابدين عليهالسلام.
٥
ـ محمد بن علي الباقر عليهالسلام.
٦
ـ جعفر بن محمد الصّادق عليهالسلام.
٧
ـ موسى بن جعفر الكاظم عليهالسلام.
٨
ـ عليُّ بنُ موسى الرَّضا عليهالسلام.
٩
ـ محمد بن عليٍّ الجواد عليهالسلام.
١٠
ـ عليُّ بن محمد الهادي عليهالسلام.
١١
ـ الحَسن بن عليٍّ العسكريّ عليهالسلام.
١٢
ـ الحجة بن الحسن المهدي عليهالسلام وعجّل
الله فرجه.
وكلُّهم معصومون شأنهم في ذلك شأن رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
والأنبياء ، وعلمهم من الله تعالى.
والحمد لله ربّ العالمين
الدرس السابع عشر
الإمام المهدي المنتظر عليهالسلام
بسم الله الرّحمن الرّحيم
بعد
ماتبيّن : أولاً ـ أنّ الغاية من بعثة الأنبياء
جميعاً هي إقامة العدل الإلهي وتحكيم الشريعة السّماوية لإسعاد الناس في الدّين والدّنيا والآخرة ، وإصلاح الكون وإعماره.
ثانياً : وأنّ الغاية أيضاً من بعثة
الأنبياء هي التمهيد والإعداد لظهور النبيّ الخاتم وخروجه وبعثته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ثالثاً : وأنّ النُّبوّة لا يمكن أن
تنقطع بموت النبي الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم
دون أن تتحقق الغاية الاُولى والهدف الأسمى ، بل لا بدّ من ائمة هادين مهديّين معصومين يخلفونه شأنهم شأن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
يقودون الاُمة نحو تحقيق الهدف الأسمى وغاية الغايات.
رابعاً : وأنّ الغاية من بعثة النّبيّ
الخاتم صلىاللهعليهوآلهوسلم
هي الإعداد
والتمهيد لظهور خاتم
الأوصياء ، الإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف وتوجيه الأنظار إليه وإلى حكمه وعدله وتطهيره للأرض من دنس الشّرك والنّفاق والظلم والطُّغيان والاستبداد.
لما بيِّنت النّقاط الأربع السّابقة
تتبيّن أهمّية البحث والتحقيق في حياة هذا الإمام الّذي سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بإذن الله ـ تعالى ـ ، بعد ما مُلئتْ ظلماً وجوراً ، (
لِئَلَّا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )
، ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) .
وهذا هو الوعد الإلهيُّ الّذي قطعه في
التّوراة والإنجيل والزَّبور والقرآن : (
وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ
) ، (
وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ )
، ( وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي
__________________
ارْتَضَىٰ
لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا )
وهي كُلّها وعود وبشارات إلهيّة بظهور الإمام المنتظر عجل الله ـ تعالى ـ فرجه الشريف.
ولهذا فقد أجمع المسلمون ، وأطبقتْ جميع
فرقهم على خروج المهدي المنتظر في آخر الزَّمان ، وامتلأت كتبهم بأحاديث المهدي عجّل الله فرجه الشريف وبشارة النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
به وبظهوره وظهور دولته الكريمة حتى تجاوزت حدّ التواتر ولم تنلها يد الإحصاء والاستقصاء ، نسوق بعضاً يسيراً منها في هذه الوجيزة للاستشهاد والاستدلال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لو لَمْ يَبْقَ من
الدُّنيا إلا يومٌ واحدٌ لَطوَّلَ اللهُ ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يُواطىءُ اسمه اسمي وكُنيتُهُ كُنيتي يملأُ الأرضَ عَدْلاً وقِسْطاً كما مُلِئَتْ ظُلماً وجَوْراً » .
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « المهديُّ
من وُلْدي » .
__________________
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « المهديُّ طاووسُ
أهلِ الجنّة » .
بعض صفاته عليه الصَّلاة والسَّلام :
قال أمير المؤمنين عليهالسلام على المنبر « يخرج رجلٌ من وُلْدي
في آخِرِ الزّمان أبيضَ مشرب حمزةً مُبْدِحُ البطنِ ، عريضَ الفَخِذَينِ ، عظيمَ مشاش المنكبَينِ ، بظهره شامتان : شامّةٌ على جلده ، وشامةٌ على شِبْهِ شامةِ النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، له اسمانِ : اسمٌ
يَخفىٰ ، واسمٌ يُعْلَنُ ، فأمّا الّذي يخفى فأحمدُ ، وأمّا الّذي يُعلَنُ فمحمّدُ ، فإذا هزَّ رأيته أضاء لها ما بينَ المشرقِ والمغرب ، ووضع يده على رؤوسِ العباد ، فلا يبقىٰ مؤمن إلا صار قلبُهُ
أشدَّ من زُبَرِ الحديد ، وأعطاهُ اللهُ قُوّةَ أربعينَ رجلاً ، ولا يبقىٰ ميّـتٌ إلا دخلتْ
عليه تلك الفرحةُ في قلبه وفي قبره وهم يتزاورون في قبورهم ، ويتباشرونَ بقيام المهديّ عليهالسلام »
.
من خصائصه عليهالسلام.
أوّلاً : المسيح عيسى بن مريمٍ عليهماالسلام سينزل من السّماء
ويُصلِّي خلفه وينصره.
__________________
ثانياً : « يخرج المهديُّ وعلى رأسه
غمامة فيها منادٍ يُنادي : هذا المهديُّ خليفةُ اللهِ فاتّبعوه » .
ثالثاً : أصحابه (٣١٣) بعدد أصحاب
بدروهم أفضل منهم «
لا يستوحشون إلى أحدٍ ، ولا يفرحون بأحدٍ ، يَدْخُلُ فيهم على عِدَّة أصحاب بدرٍ ، لم يَسْبِقْهُمُ الأوّلونَ ، ولا يُدْرِكُهُمُ الآخرونَ ، وعلى عِدَّة أصحاب طالوت الَّذينَ جاوزوا معه النَّهرَ ».
رابعاً : هو خاتم الأوصياء « المهديُّ منّا ، يُخْتَم
الدّينُ بنا كما فُتح بنا » .
خامساً : إنكاره إنكار لنُبوّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: « من أنكر
المهديُّ من وُلْدِي فقد أنكرني ».
سادساً : يظهر بمكّة المكرَّمة ، ويكون
خروجه في المسجد الحرام عند الكعبة المشرَّفة.
سابعاً : عند خروجه يكون جبرئيل عليهالسلام عن يمينه ، __________________
وميكائيل عليهالسلام عن شماله.
ثامناً : يظهر و « له هَيبةٌ موسىٰ ، بَهاءُ عيسى ، وحُكْمُ
داوود ، وصَبْرُ أيُّوب » . و « عليه جُيُوبُ النُّور تتوقَّد من شعاع ضياء القُدس » .
تاسعاً : في بعض الأخبار أنّه عليه
الصَّلاة والسَّلام يظهر في يوم عاشوراء.
عاشراً : له غيبتان صغرى وكبرى ، والكبرى
طويلة ، فعمره الشّريف طويل ، وهذا ليس محالاً على الله ـ تعالى ـ لا عقلاً كاجتماع النقيضين وارتفاعهما ، وكاجتماع الضدّين ، ولا نقلاً ، كما أنّه ليس محالاً عادياً مخالفاً للقوانين الطبيعيّة ، لأنّه أمر ممكن من جميع الجهات يشهد على إمكانه طول عمر نوح عليهالسلام
، والخضر وإلياس وعيسى عليهالسلام.
الحادي عشر : أنّه يخرج وعليه درع رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، ومعه ذوالفقار أمير المؤمنين ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ، ومعه كتب الأنبياء الماضين كالتوراة والانجيل والزَّبور والصُّحف ، ويحمل __________________
مواريث الأنبياء
كالتّابوت الّذي فيه السّكينة وخاتم سليمان عصى موسى.
الثّاني عشر : أنّ النّاس ينتفعون به في
غيبيته كما ينتفعون بالشمس إذا حجبتها السُّحُب والغيوم.
الثالث عشر : أنّ الأرض تُخرج خيراتها
وبركاتها وهكذا السّماء والنبات والحيوان والطّيور.
الرَّابع عشر : أنّ هناك علامات عامّة
وعلامات خاصّة والعلامات العامّة كثيرة كما في الأحاديث والأخبار ، وهي قد تقع وقد لا تقع لمصلحة يراها الله تعالى ، والّتي تقع إمّا علامات بعيدة أو قريبة ، وأمّا الخاصة وتسمّى العلامات الحتميّة والمحتومة فهي خمسة خروج السُّفياني ، والخسف بالبيداء لجيش السُّفياني ، والصَّيحة ، وخروج اليماني والخراساني ، وكلّها تكون قريبة العهد لظهوره عجل الله فرجه الشريف أو بعضها متزامن لظهوره عليهالسلام.
«
اللّهُمَّ كن لِوليّك الحُجَّةِ بنْ الحسن ، صلواتُك عليه وعلى آبائه في هذه السَّاعة وفي كلّ ساعةٍ ، وليّاً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تُسكنه أرضك طوعاً وتمتّعه فيها طويلاً »
.
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
الدرس الثامن عشر
المعاد
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
: ما معنى المعاد ؟
ج)
: المعاد في اللغة هو إعادة الشّيء بعد زواله وانقراضه وإعدامه ، وفي الأديان السَّماويّة لا سيّما في مذاهبنا ومعتقدنا هو الاعتقاد بأنّ ـ الله تعالى ـ سيعيد الإنسان والجنّ وكلّ مخلوق مكلّف وحتى بعض الحيوان والطّير بأجسادهم وأرواحهم الّتي كانوا عليها في دار الدُّنيا ، ويقيم لهم الكتاب والميزان ليحاسبهم على أعمالهم الّتي صدرتْ منهم في حياتهم الدُّنيا فيجزي المحسن بإحسانه ويجزى المسيء بإساءته وإن شاء غفر له أو شفَّع فيه بعض عبادة الصّالحين ، ثمّ يُدخل من شمله الإحسان الإلهي في الجنّة ويُدخل من سواهم في النّار.
وهناك بعد الموت برزخ بين الدُّنيا
والآخرة ويسمّى عالم البرزخ فما هو عالَم البرزخ ؟
ج)
: عالَم البرزخ هو الَّذي تعيش فيه أرواح
الأموات ، وتنتقل اليه نفوسهم في جسد برزخي مثالي يختلف عن الجسد المادّي ، ويحاسب في عالَم البرزخ على معتقداته بعض أعماله ، فإن كان مؤمناً محسناً عاش هناك سعيداً منعّماً ، وهو مقام من تمحّض فيه الإيمان ، وإن كان كافراً أو مشركاً أو منفقاً ومسيئاً عاش هناك شقيّاً معذَّباً وهو مقام من تمحّض الكفر ، وهناك قسم ثالث من النّاس كانوا في دار الدُّنيا مستضعفين لم يمحّضوا الإيمان ولم يمحّضوا الكفر وخلطو عملاً صالحاً وآخر سيّئاً فإنّهم ممّن يُلْهَى عنهم في البرزخ أي تعيش أرواحهم في أجسادهم البرزخيّة المثالية لا معذَّبين ولا متنعّمين ، حتّى تقوم السّاعة ويُنفخ في الصُّور نفخة ثانية قتقوم على هيئتها في الدُّنيا وتأتي المحشر للحساب والجزاء ، فالقبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حُفَر النيران ، طبعاً هذا لمن تمحّض الكفر ، وقال تعالى : (
وَمِن
وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
) .
س)
: هل الميّت ينتفع بشيءٍ من الدُّنيا ؟
ج)
: نعم الميّت المؤمن تأتي روحه في قالب
الجسد __________________
البرزخي إلى دار
الدُّنيا في الليالي والأيّام الشريفة وتجلس على قبره تنتظر أن يصلها خير من أهله ، وممّا ينتفع به الميت : « إذا ماتَ ابنُ آدم انقطع عمله إلا بثلاث : علم ينتفع به النّاس ، أو صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له أو يستغفر له »
.
والأدلّة العقليّة والنقليّة على المعاد
كثيرة إذ القرآن الكريم نطق بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : (
أَيَحْسَبُ
الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ. بَلَىٰ
قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ
) . (
فَانظُرْ
إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ
ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
) ، (
كَذَٰلِكَ
يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
) ، (
فَسَيَقُولُونَ
مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
) ، (
وَهُوَ
الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ
__________________
أَهْوَنُ
عَلَيْهِ )
، ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا.
فِيمَ
أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا. إِلَىٰ رَبِّكَ
مُنتَهَاهَا ) .
ومن الأدلّة العقلية : برهان الرُّوح
وهو أن الرُّوح من الله تعالى : ( وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن
رُّوحِي )
وهي مجرَّدة
لا تنعدم بمعنى أنّها قابلة للبقاء الدّائم والأبدي ، ولهذا فالإنسان يعيش بجسده ويحيا بروحه ، فالحياة حياة الرُّوح ، بل الحياة للرُّوح وليس الجسد سوى جماد وقالبٍ قوامه وحياته بالرُّوح ، فإذا انعدم الجسد أو انقراض أو صار الجسد تراباً فالرُّوح باقية وهي الأساس في الحساب والكتاب.
برهان العدالة : وهو باختصار أن
الدُّنيا دار عمل وَجِدٍّ واجتهاد وكفاح ، ومن النّاس من يشقى في هذه الدُّنيا ويقع عليه الظلم ، ولا توجد قوة تأخذ حقّه من الظالم وهو كثير جدّاً فلابدّ من وجود عالم يرجع فيه النّاس ليحاسَبوا ويجازوا على أعمالهم بعدالة تامّة (
وَيَوْمَ
يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ
__________________
مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلًا)، وإلالم يكن هدف ولا حكمة من خلق
الدُّنيا وهو قبيح من الحكيم ، والحكيم منزّه عن العبث واللّغو ـ سبحانه وتعالى عمّا يصفون ـ.
والموت انتقال من دار الى دار وليس
فناءً وانعداماً «
وإنّما تُنقلون من دارٍ إلى دارٍ » ، ولا شيء أعجبُ من غفلة الإنسان عن الموت « ما رأيتُ
يقيناً أقربَ إلى الشّكّ من الموت »
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )
، ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا
فَانٍ )
، ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ )
، ( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا
) ، ولو التفت الى أنّ حياته الأبديّة تبدأ بعد الموت ، وأنّه خُلق للآخرة لا للدُّنيا « خُلقتم
للبقاء لا للفناء » ، لم تنم عينه طرفة عين ، ولم يغفل
قلبه عن الآخرة ، وعمل لها جاهداً ولم يعصِ الله قيد شعرة ، « إعمل
__________________
لدنياك
كأنّك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً »
، وقد وعد الله تعالى بالمعاد في قوله : (
إِنَّ
السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا )
وقطع وعده
هذا ( بَلَىٰ وَعْدًا
عَلَيْهِ حَقًّا )
، ( قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَٰلِكَ
عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) .
س)
: مَن الَّذي يقبض الأرواح ؟
ج)
: (
قُلْ
يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ
) ، (
حَتَّىٰ
إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا
) .
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
تتمة الدرس الثامن عشر
حقائق اُخرى عن المعاد
بسم الله الرّحمن الرّحيم
س)
هل هناك فرق بين قبض أرواح المؤمنين والكفّار ؟
ج)
: نعم قال ـ تعالى ـ عن قبض أرواح
المؤمنين : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
) ، وقال ـ تعالى ـ عن قبض أرواح الكفّار : (
وَلَوْ
تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ
) .
س)
: هل تقبل التوبة بعد الموت ؟
ج)
: لقبول التوبة شروط أهمها أن تكون في
الدُّنيا قبل الموت ، وأن تكون قبل اليأس من الحياة ، وأن تكون بصدق وإخلاص ، وأن لا يكون كافراً معانداً : (
إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ
فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا
__________________
يَمُوتُونَ
وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
) ، ( حَتَّىٰ إِذَا
جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا
) ، (
إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
، ( إِذِ الْمُجْرِمُونَ
نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ
) .
س)
: ولماذا لا يعيدهم الله تعالى إلى الدُّنيا لَعَلَّهم يكونون صادقين؟
ج)
: (
كَلَّا
إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا
) ، (
وَلَوْ
رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
) .
س)
: ما هو النّفخ في الصُّور ؟
ج)
: الصُّورمن الاُمور الغيبية الّتي لا
تدركها عقولنا ، ولم نجد رواية تصوّره تصويراً واضحاً ، وإن وردت بعض الأحاديث الّتي فيها بعض الأوصاف العجيبة والغريبة ولعلّها من وضع __________________
الوضّاعين وتأليف
القصّاصين ، لكنّ القدر المتيقّن والمتّفق عليه أنّ الله تعالى يأمر مَلَك الموت أو ميكائيل أو أحد الملائكة وهو مكلّف بالنّفخ في الصُّور بأن ينفخ ، وهو نفخان ، النَّفخ الأول هو الَّذي يصعق له من في السّماوات والأرض ويموت على أثره الخلائق أجمعون إلا من شاء الله تعالى : (
وَنُفِخَ
فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ
) ، وتنعدم الحياة الدُّنيا ، وتضطرب الشَّمس والقمر والكواكب والنُّجوم ، وتتهاوىٰ ويصطدم بعضها ببعض ويكون حينئذ زوالها وانقراضها ، وهي مقدّمة لقيام السّاعة وتحقيق القيامة وقد صوّر القرآن الكريم هذه الأحداث في الآيات وسور عديدة سيّما في السُّور القصار إليك نماذج منها : (
الْقَارِعَةُ.
مَا
الْقَارِعَةُ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا
الْقَارِعَةُ.
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ.
وَتَكُونُ
الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ )
، ( إِذَا السَّمَاءُ
انشَقَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ.
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا
وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا
وَحُقَّتْ )
، ( إِذَا السَّمَاءُ
انفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ
انتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ
فُجِّرَتْ.
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ
) ، (
إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ
__________________
انكَدَرَتْ.
وَإِذَا
الْجِبَالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشَارُ
عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ.
وَإِذَا
النُّفُوسُ زُوِّجَتْ. وَإِذَا
الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ.
وَإِذَا
الصُّحُفُ نُشِرَتْ. وَإِذَا السَّمَاءُ
كُشِطَتْ.
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ.
وَإِذَا
الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ) .
ثم ينفخ نفخة ثانية فيقوم الأموات وإلى ربّهم يُحشرون ويُنشَرونَ وإلى ساحة القيامة يحضرون ، وهم يحملون أوزارهم على أكتافهم وأكفانَهم وهم في حيرة وخوف وهَلَعٍ من أمرهم إلاّ الّذين محّضُوا الإيمان ، ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ.
وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا
يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا )
، ( وَسِيقَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ
فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ
وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
) .
والحمد لله ربّ العالمين
__________________
المحتويات
مقدّمة المركز ........................................................ ٥
الدرس الأوّل : المؤمنون
في زمن الغيبة .................................. ٩
الدرس الثاني : وجوب
الاجتهاد والتقليد .............................. ١٣
الدرس الثالث : دور
الدين في حياة الانسان ........................... ١٨
الدرس الرابع : الحكم
الواقعي والحكم الظاهري ....................... ٢٣
الدرس الخامس : التقليد
نوعان : ممدوح ومذموم ....................... ٢٧
الدرس السادس : اُصول
الدين والعقائد ............................... ٣٢
الدرس السابع : طرق
الوصول إلى معرفة اُصول الدين .................. ٣٦
الدرس الثامن : ضرورة
التفقّه بأمور الدين ............................. ٣٩
الدرس التاسع : التوحيد
............................................. ٤٥
الدرس العاشر : الدليل
على وجود الله ................................ ٥٢
تتمة الدرس العاشر : الدليل على وجود
الله ............................ ٥٧
الدرس الحادي عشر : صفات
الله .................................... ٦٥
الدرس الثاني عشر : مراتب
التوحيد وأقسامه .......................... ٧١
تتمّة الدرس الثاني عشر : ثمرات التوحيد العمليّة ....................... ٧٧
الدرس الثالث عشر : القضاء
والقدر ................................. ٨٦
الدرس الرابع عشر : العدل
الإلهي .................................... ٩٤
الدرس الخامس عشر : النبوّة
....................................... ١٠٣
تتمّة الدرس الخامس
عشر : خصائص النبي عليهالسلام
..................... ١٠٨
تتمّة الدرس الخامس
عشر خصائص النبي عليهالسلام
....................... ١٢٠
الدرس السادس عشر : الإمامة
..................................... ١٣٣
تتمّة الدرس السادس
عشر : الإمامة ................................. ١٤١
الدرس السابع عشر : الإمام
المنتظر عليهالسلام
............................ ١٥٠
الدرس الثامن عشر : المعاد
......................................... ١٥٧
الدرس الثامن عشر
: حقائق اُخرى عن المعاد ......................... ١٦٣
|