بسم الله الرحمن الرحيم

(٤٢)

(باب)

(حقيقة النفس والروح وأحوالهما)

الآيات :

الإسراء : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » (١).

الزمر : « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » (٢)

الواقعة : « فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ » (٣).

الملك : « الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » (٤).

تفسير : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ » قال الطبرسي : روح الله روحه اختلف في الروح المسئول عنه على أقوال أحدها أنهم سألوه عن الروح الذي في بدن الإنسان ما هو ولم يجبهم وسأله عن ذلك قوم من اليهود عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة واختاره الجبائي وعلى هذا فإنما عدل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جوابهم لعلمه بأن ذلك أدعى لهم إلى الصلاح في الدين ولأنهم كانوا بسؤالهم متعنتين لا مستفيدين فلو صدر

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

(٢) الزمر : ٤٢.

(٣) الواقعة : ٨٣.

(٤) الملك : ٢.


الجواب لازدادوا عنادا وقيل إن اليهود قالت لقريش (١) سلوا محمدا عن الروح فإن أجابكم فليس بنبي وإن لم يجبكم فهو نبي فإنا نجد في كتبنا ذلك فأمر الله سبحانه بالعدول عن جوابهم وأن يكلمهم (٢) في معرفة الروح إلى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه ودلالة لنبوته.

وثانيها : أنهم سألوه عن الروح أهي مخلوقة محدثة أم ليست كذلك فقال سبحانه « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » أي من فعله وخلقه وكان هذا جوابا لهم عما سألوه عنه بعينه وعلى هذا فيجوز أن يكون الروح الذي سألوه عنه هو الذي به قوام الجسد على قول ابن عباس وغيره أم جبرئيل على قول الحسن وقتادة أم ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بجميع ذلك على ما روي عن علي عليه‌السلام أم عيسى عليه‌السلام فإنه سمي بالروح.

وثالثها : أن المشركين سألوه عن الروح الذي هو القرآن كيف يلقاك به الملك وكيف صار معجزا وكيف صار نظمه وترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب والأشعار وقد سمى الله سبحانه القرآن روحا في قوله « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » (٣) فقال سبحانه قل يا محمد إن الروح الذي هو القرآن من أمر ربي أنزله علي دلالة على نبوتي وليس من فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم وعلى هذا فقد وقع الجواب أيضا موقعه وأما على القول الأول فيكون معنى قوله « الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » هو الأمر الذي يعلمه ربي ولم يطلع عليه أحدا.

واختلف العلماء في مهية الروح فقيل إنه جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان وهو مذهب أكثر المتكلمين واختاره المرتضى قدس الله روحه وقيل هو جسم هوائي على بنية حيوانية في كل جزء منه حياة عن علي بن عيسى قال فلكل حيوان روح وبدن إلا أن منهم من الأغلب عليه الروح ومنهم من الأغلب

__________________

(١) في المجمع : لكفار قريش.

(٢) فيه : ويكلهم.

(٣) الشورى : ٥٢.


عليه البدن وقيل إن الروح عرض ثم اختلف فيه فقيل هو الحياة التي يتهيأ بها المحل لوجود العلم والقدرة والاختيار وهو مذهب الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي‌الله‌عنه والبلخي وجماعة من المعتزلة البغداديين وقيل هومعنى في القلب عن الأسواري وقيل إن الروح الإنسان وهو الحي المكلف عن ابن الإخشيد والنظام.

وقال بعض العلماء إن الله خلق الروح من ستة أشياء من جوهر النور والطيب والبقاء والحياة والعلم والعلو ألا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيا يبصر بالعينين ويسمع بالأذنين ويكون طيبا فإذا خرج من الجسد نتن البدن ويكون باقيا فإذا فارقه الروح بلي وفني ويكون حيا وبخروجه يصير ميتا ويكن عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا ويكون علويا لطيفا توجد به الحياة بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء « بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ » (١) وأجسادهم قد بليت في التراب.

وقوله « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » قيل هو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره إذ لم يبين له الروح ومعناه وما أوتيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلا أي شيئا يسيرا لأن غير المنصوص عليه أكثر فإن معلومات الله تعالى لا نهاية لها وقيل خطاب لليهود الذين سألوه فقالت اليهود عند ذلك كيف وقد أعطانا الله التوراة فقال التوراة في علم الله قليل (٢).

وقال الرازي : للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال وأظهرها أن المراد منه الروح الذي هو سبب الحياة ثم ذكر رواية سؤال اليهود وإبهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قصة الروح وزيفها بوجوه ضعيفة ثم قال بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أجابهم عنه على أحسن الوجوه وتقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح والسؤال عنه يقع على وجوه كثيرة أحدها أن يقال ماهية الروح أهو

__________________

(١) آل عمران : ١٧٠.

(٢) مجمع البيان : ج ٦ ، ص ٣٤٧ و ٤٣٨.


متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز ولا حال في المتحيز وثانيها أن يقال الأرواح قديمة أو حادثة وثالثها أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجساد أو تفنى ورابعها أن يقال ما هي حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها.

وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة وقوله « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ » ليس فيه ما يدل على أنهم عن أي هذه المسائل سألوا إلا أن جوابه تعالى لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها إحداهما السؤال عن ماهية الروح والثانية عن قدمها وحدوثها.

أما البحث الأول فهو أنهم قالوا ما حقيقة الروح وماهيته أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع والأخلاط أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام أو هو عبارة عن موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام وهذه الأعراض أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله كن فيكون فقالوا لم كان شيئا مغايرا لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله بأنه موجود يحدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها وهذا هو المراد بقوله « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ».

وأما البحث الثاني فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى « وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ » وقال « لَمَّا جاءَ أَمْرُنا » أي فعلنا فقوله « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوا أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » بمعنى أن الأرواح في مبدإ الفطرة تكون خالية عن العلوم ثم تحصل فيها المعارف والعلوم فهي لا تزال تكون في التغير من حال


إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغير والتبدل من أمارات الحدوث فقوله « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » يدل على أنهم سألوا أن الروح هل هي حادثة أم لا فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله وتكوينه ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم بالصواب (١).

أقول : ثم ذكر الأقوال الأخرى في تفسير الروح في هذه الآية فمنها أنه القرآن كما مر ومنها أنه ملك من الملائكة هو أعظمهم قدرا وقوة وهو المراد من قوله تعالى « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » (٢) ونقلوا عن علي عليه‌السلام أنه قال : هو ملك له سبعون ألف وجه ولكل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة قالوا ولم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء الله يبتلع السماوات السبع والأرضين السبع بلقمة واحدة. ثم اعترض على هذا الوجه وعلى الرواية بوجوه سخيفة ثم ذكر من الوجوه أنه جبرئيل عليه‌السلام ووجها رابعا عن مجاهد أنه خلق ليسوا بالملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورءوس وقال أبو صالح يشبهون الناس وليسوا بالناس ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئا يمكن التمسك به في إثبات هذا القول.

ثم قال في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن هاهنا شيئا إليه يشير الإنسان بقوله أنا وإذا قال الإنسان علمت وفهمت وأبصرت وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أنا إما أن يكون جسما أو عرضا أو مجموع الجسم والعرض أو ما تركب (٣) من الجسم والعرض وذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول أما القسم الأول وهو أن يقال الإنسان جسم فذلك الجسم إما أن يكون هو هذه البنية أو جسما داخلا في هذه

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ج ٢١ ، ص ٣٧ ـ ٣٨ ( ملخصا ).

(٢) النبأ : ٣٨.

(٣) في المصدر : أو شيئا مغايرا للجسم والعرض أو من ذلك الشيء الثالث.


البنية أو جسما خارجا عنها أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وهذا الهيكل المجسم المحسوس فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوسا فقد بطل كلامهم بالكلية.

والذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وجوه :

الأول : أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النمو والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاث العلم القطعي بأنه ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة.

الثاني : أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر مخصوص فإنه في تلك الحالة غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك وتاء الضمير كناية عن نفسه المخصوصة فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه.

الثالث : أن كل أحد يحكم بصريح عقله بإضافة كل واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي وبدني والمضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايرا لجملة هذا البدن ولكل واحد من هذه الأعضاء فإن قالوا فقد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أن نفس الشيء وذاته مغايرة لنفسه وذاته وذلك محال قلنا قد يراد بنفس الشيء وذاته هذا البدن المخصوص وقد يراد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي إليها يشير كل أحد بقوله أنا فإذا قال نفسي وذاتي كان المراد منه البدن وعندنا أنه مغاير لجوهر الإنسان.

الرابع : أن كل دليل يدل على أن الإنسان يمتنع أن يكون جسما فهو أيضا يدل على أنه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم وسيأتي تقرير تلك الدلائل.

الخامس : أن الإنسان قد يكون حيا حال ما يكون البدن ميتا فوجب


كون الإنسان مغايرا لهذا البدن والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » (١) فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء والحس يدل على أن هذا الجسد ميتة.

السادس : أن قوله تعالى « النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا » (٢) وقوله « أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً » (٣) يدل على أن الإنسان حي بعد الموت وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأنبياء لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مات فقد قامت قيامته وأن كل هذه النصوص يدل على أن الإنسان حي يبقى بعد موت الجسد وبديهة العقل والفطرة شاهدتان بأن هذا الجسد ميت ولو جوزنا كونه حيا كان يجوز مثله في جميع الجمادات وذلك عين السفسطة وإذا ثبت أن الإنسان حي ما كان الجسد ميتا لزم أن الإنسان شيء غير هذا الجسد.

السابع : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة طويلة له حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله ومن غير حله فالمهنأ (٤) لغيري والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي وجه الاستدلال أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صرح بأن حال كون الجسد محمولا على النعش بقي هناك شيء ينادي ويقول يا أهلي ويا ولدي جمعت المال من حله وغير حله ومعلوم أن الذي كان الأهل أهلا له وكان الولد ولدا له وكان جامعا للمال من الحرام والحلال والذي بقي في ربقته الوبال ليس إلا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان الجسد ميتا محمولا على النعش كان ذلك الإنسان حيا باقيا فاهما وذلك تصريح بأن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد والهيكل.

__________________

(١) آل عمران : ١٦٥.

(٢) غافر : ٤٦.

(٣) نوح : ٢٥.

(٤) في المصدر : فالغنى.


الثامن : قوله تعالى « يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً » (١) والخطاب بقوله « ارْجِعِي » إنما يتوجه إليها حال الموت فدل هذا على أن الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون راضيا مرضيا عند الله والذي يكون راضيا مرضيا ليس إلا الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حيا بعد موت الجسد والحي غير الميت فالإنسان مغاير لهذا الجسد.

التاسع : قوله تعالى « حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ » (٢) أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم الحق عند كون الجسد ميتا فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايرا لذلك الجسد الميت.

العاشر : ترى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم ولو لا أنهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدق لهم عبثا ولكان الدعاء لهم عبثا ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثا فإطباق الكل على هذه الصدقة والدعاء والزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت بموت هذا الجسد.

الحادي عشر : أن كثيرا من الناس يرى أباه وابنه في المنام ويقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهبا دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش عنه كان كما رآه في النوم من غير تفاوت ولو لا أن الإنسان باق حي بعد الموت لما كان كذلك ولما دل هذا الدليل على أن الإنسان حي بعد الموت ودل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايرا لهذا الجسد.

الثاني عشر : أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه ورجلاه

__________________

(١) الفجر : ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) الأنعام : ٦١ ـ ٦٢.


وتقلع عيناه وتقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنه هو عين ذلك الإنسان من غير تفاوت البتة حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجودا قبل ذلك إلا أنهم قطعوا يدي ورجلي وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة.

الثالث عشر : أن القرآن والأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم الله وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان وخلق خنزير أو قردة وليس هذا من المسخ في شيء وإن قلنا إن ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ فنقول فعلى هذا التقدير الإنسان باق وتلك البنية وذلك الهيكل غير باق فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئا مغايرا لتلك البنية.

الرابع عشر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يرى جبرئيل في صورة دحية الكلبي وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فهنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصل مع أن الحقيقة (١) الإنسانية غير حاصلة وهذا يدل على أن الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية وهذا الهيكل.

الخامس عشر : أن الزاني يزني بفرجه ويضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئا آخر سوى الفرج وسوى الظهر ويقال إن ذلك الشيء يستعمل الفرج في عمل والظهر في عمل آخر فيكون الملتذ والمتألم هو ذلك الشيء إلا أنه يحصل اللذة بواسطة ذلك العضو ويتألم بواسطة الضرب على هذا العضو.

السادس عشر : أني إذا تكلمت مع زيد وقلت له افعل كذا ولا تفعل كذا فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهي ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيء من أعضائه بعينه فوجب أن يكون المأمور والمنهي والمخاطب شيئا مغايرا لهذه الأعضاء وذلك يدل على أن ذلك المأمور والمنهي غير هذا الجسد فإن قالوا

__________________

(١) في المصدر : حقيقة الإنسان.


لم لا يجوز أن يكون المأمور والمنهي جملة هذا البدن لا شيء من أجزائه وأبعاضه قلنا توجيه التكليف إلى الجملة إنما يصح لو كانت الجملة فاهمة عالمة فنقول لو كانت الجملة عالمة فإما أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكل واحد من أجزاء البدن علم على حده والأول يقتضي قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة وهو محال والثاني يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء البدن عالما فاهما على سبيل الاستقلال وقد بينا أن العلم الضروري حاصل بأن الجزء المعين من البدن ليس عالما فاهما مدركا بالاستقلال فسقط هذا السؤال.

السابع عشر : الإنسان يجب أن يكون عالما والعلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل وهذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالما لأنه فاعل مختار والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد إلى تكوينه وهما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون متصورا امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما بالأشياء وإنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب وأما القرآن فآيات نحو قوله تعالى « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها » (١) وقوله « كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ » (٢) وقوله « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » (٣) وإذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما وثبت أن العلم ليس إلا في القلب ثبت أن الإنسان شيء في القلب أو شيء له تعلق بالقلب وعلى التقديرين فإنه بطل قول من يقول إن الإنسان هو هذا الجسد وهذا الهيكل.

وأما البحث الثاني وهو بيان أن الإنسان غير محسوس هو أن حقيقة الإنسان شيء مغاير للسطح واللون وكل ما هو مرئي فهو إما السطح وإما اللون وهما مقدمتان

__________________

(١) الأعراف : ١٧٨.

(٢) المجادلة : ٢٢.

(٣) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.


قطعيتان ينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية ولا محسوسة وهذا برهان يقيني.

ثم قال في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إما أن يكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولدا من امتزاجها ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد وأن يكون الحاصل جسما متولدا من امتزاجات هذه الأربعة فنقول أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا إن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء وذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو الأخلاط الأربعة ولم يقع (١) في شيء منها أنه الإنسان إلا في الدم فإن فيهم من قال إنه لروح بدليل أنه إذا خرج لزمه الموت أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهي الأرواح وهي نوعان أحدهما أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة إما في القلب أو في الدماغ وقالوا إنها هي الروح الإنساني ثم إنهم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب ومنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية هي المسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس وهي لا تقبل التحلل والتبدل ولا التفرق والتمزق فإذا تكون البدن وتم استعداده وهو المراد بقوله « فَإِذا سَوَّيْتُهُ » نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في

__________________

(١) في المصدر : ولم يقل أحد في ...


السمسم ونفاذ ماء الورد في جسم الورد ونفاذ تلك الأجسام (١) السماوية في جوهر البدن هو المراد بقوله « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » (٢) ثم إن البدن ما دام يبقى سليما قابلا لنفاذ تلك الأجسام الشريفة فيه بقي حيا فإذا تولد في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط الغليظة من سريان تلك الأجسام الشريفة فانفصلت عن هذا البدن فحينئذ يعرض الموت فهذا مذهب قوي وقول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الموت والحياة فهذا تفصيل مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن وأما أن الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إلى هذا القول.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال الإنسان عرض حال في البدن فهذا لا يقوله عاقل لأنه من المعلوم بالضرورة أن الإنسان جوهر لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبير والتصرف وكل من كان هذا شأنه كان جوهرا والجوهر لا يكون عرضا بل الذي يمكن أن يقال له عاقل هو الإنسان (٣) بشرط أن يكون موصوفا بأعضاء مخصوصة وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال :

القول الأول أن العناصر الأربعة إذا امتزجت وانكسرت سورة كل واحد منها بسورة أخرى حصلت كيفية معتدلة هي المزاج ومراتب هذا المزاج غير متناهية فبعضها هي الإنسانية وبعضها هي الفرسية فالإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بكيفيات مخصوصة متولدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص وهذا قول جمهور الأطباء ومنكري بقاء النفس ومن المعتزلة قول أبي الحسين البصري.

والقول الثاني : أن الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة والحياة عرض قائم بالجسم وهؤلاء أنكروا الروح والنفس

__________________

(١) في بعض النسخ « الاجزاء ».

(٢) الحجر : ٢٩ ، ص : ٧٢.

(٣) كذا في نسخ الكتاب ، وفي المصدر « بل الذي يمكن ان يقول به كل عاقل هو ان الإنسان يشترط ... ».


وقالوا ليس هاهنا إلا أجسام مؤتلفة موصوفة بصفة الحياة وبهذه الأعراض المخصوصة وهي الحياة والعلم والقدرة وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة.

والقول الثالث : أن الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بأشكال مخصوصة وبشرط أن تكون أيضا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه وأجزائه إلا أن هذا مشكل فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فهنا صورة الإنسان حاصلة مع عدم الإنسانية وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصلة مع أن هذه الصورة غير حاصلة فقد بطل اعتبار هذا الشكل والصورة في حصول معنى الإنسانية طردا وعكسا.

أما القسم الثالث : وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسماني وهذا قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين ببقاء النفس المثبتين للنفس معادا روحانيا وثوابا وعقابا روحانيا ذهب إليه جماعة من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي ومن قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة.

واعلم أن القائلين بإثبات النفس فريقان الأول وهم المحققون منهم قالوا الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص وهذا البدن آلته ومنزله ومركبه وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل بالعالم ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير.

والفريق الثاني الذين قالوا النفس إذا تعلقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس عين البدن والبدن عين النفس ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن فهذا جملة مذاهب الناس في الإنسان وكان ثابت بن قرة يثبت النفس ويقول إنها متعلقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وأن تلك الأجسام تكون سارية في البدن وهن موجودات في داخل البدن (١) وأما أن

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ج ٢١ ، ص ٤٥.


الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إلى ذلك.

أقول : ثم ذكر حججا عقلية طويلة الذيل على إثبات النفس ومغايرتها للبدن.

منها : أن النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه أما كونها واحدة فتارة ادعى البداهة فيه وتارة استدل عليه بوجوه منها أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلا بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص به مانعا لاشتغال الآخر بفعله الخاص به وإذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك والفكر جوهرا ومحل الغضب جوهرا آخر ومحل الشهوة جوهرا ثالثا وجب أن لا يكون اشتغال القوة الغضبية بفعلها مانعا للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكن التالي باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب والانصباب إليه وبالعكس فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مبادئ مستقلة بل هي صفات مختلفة لجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقا له عن الاشتغال بالفعل الآخر.

ومنها : أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه وهذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركا للخير والشر والملذ والموذي والنافع والضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد وثبت أن ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيل والمتفكر والمتذكر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات لكل المدركات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية.

ثم قال : وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أنه لما كانت النفس شيئا واحدا وجب أن لا يكون النفس هذا البدن ولا شيئا من أجزائه وأما امتناع كونها جملة هذا البدن فتقريره أنا نعلم بالضرورة أن القوة الباصرة غير سارية في كل البدن


وكذا القوة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيل والتذكر والتفكر والعلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية وأما بيان أنه يمتنع أن يكون النفس جزءا من أجزاء البدن فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد هو بعينه موصوف بالإبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الإبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال فأما أن يقال إنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات وكل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل أنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرناه أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال وثبت بالبديهة أن جملة البدن ليست كذلك وثبت أيضا أن شيئا من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه وهو المطلوب.

ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى نقول إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئا عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف وأن الذي عرف هو الذي اشتهى وأن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي إليه والمحرك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئا والعارف شيئا ثانيا والمشتهي شيئا ثالثا والمحرك شيئا رابعا لكان الذي أبصر لم يعرف والذي عرف لم يشته والذي اشتهى لم يحرك لكن من المعلوم أن كون شيء مبصرا لشيء لا يقتضي صيرورة شيء آخر عالما بذلك الشيء وكذلك القول في سائر المراتب وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات أنا وأني لما رأيتها عرفتها ولما عرفتها اشتهيتها ولما اشتهيتها طلبتها وحركت الأعضاء إلى القرب منها ونعلم أيضا بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذه الشهوة وبهذا التحريك أنا لا غيري.

وأيضا العقلاء قالوا الحيوان لا بد وأن يكون حساسا متحركا بالإرادة


فإن لم يحس بشيء لم يشعر بكونه ملائما وبكونه منافرا وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريدا للجذب أو الدفع فثبت أن الشيء الذي يكون متحركا بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساسا فثبت أن المدرك لجميع المدركات بجميع أنواع الإدراكات وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد.

وأيضا فإنا إذا تكلمنا بكلام لقصد تفهيم الغير معاني تلك الكلمات فقد عقلناها وأردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني.

إذا ثبت هذا فنقول إن كان محل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف والأصوات جسما واحدا لزم أن يقال إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة واللهاة واللسان ومعلوم أنه ليس كذلك وإن قلنا إن محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أن يكون محل الصوت هو القلب أيضا وذلك باطل أيضا بالضرورة وإن قلنا إن محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ومحل العلوم والإرادات هو القلب ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك وبينا أن المدرك لجميع الإدراكات والإرادات والمحرك لجميع الأعضاء بجميع أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئا واحدا فلم يبق إلا أن يقال محل الإدراك والقدرة على التحريك شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن النجار يفعل أفعالا مختلفة بواسطة آلات مختلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها وذات النفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في هذا المطلوب وبالله التوفيق.

ومنها : أنه لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة أو يقوم بجميع الأجزاء حياة وعلم وقدرة واحدة والقسمان باطلان أما الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حيا


عالما قادرا على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيوانا واحدا بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس ربط بعضهم بالبعض بالسلسلة لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتا واحدة وحيوانا لا حيوانات كثيرين وأيضا فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيوانا واحدا على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منها خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا الجزء أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآخر أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين الشخصين وفساد ذلك معلوم بالبديهة وأما الثاني فلأنه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وذلك معلوم البطلان بالضرورة مع أنه يعود المحذور السابق أيضا.

ومنها أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم وذلك يدل على أن النفس ليست جسما وتقرير هذه المنافاة من وجوه.

الأول أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى عنه زوالا تاما مثاله أن البصر إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه ثم إنا وجدنا الحال في قبول النفس لصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يعسر قبولها لشيء من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة كان قبولها للصورة الثانية أسهل وإذا قبلت الصورة الثانية صار قبولها للصورة الثالثة أسهل ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف البتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر كان قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع ولهذا السبب يزداد الإنسان فهما وإدراكا كلما ازداد تخريجا وارتياضا للعلوم فثبت أن قبول النفس للصورة العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم.

والثاني : أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن أما


أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس عن القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه وهذه الحالة لو استمرت لانتهت إلى الماليخوليا وموت البدن (١) فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد سببا لكماله ونقصانه معا ولحياته وموته معا وإنه محال.

والثالث : أنا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفا نحيفا فإذا لاح نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جرأة عظيمة وسلطنة قوية ولم يعبأ بحضور أكبر السلاطين ولم يقم له وزنا ولو لا أن النفس شيء سوى البدن والنفس إنما تحيا وتبقى بغير ما به يقوى البدن ويحيا لما كان الأمر كذلك.

والرابع : أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوات الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروما عن آثار النظر والعقل والفهم والمعرفة (٢) ولو لا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك.

والخامس : أنا نرى النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل أما إذا آل الأمر إلى التعقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان يمكنه أن لا يبصر شيئا إذا غمض عينه وأن لا يسمع شيئا إذا سد أذنيه ولا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالما به فعلمنا أن النفس

__________________

(١) في المصدر : وسوق الموت.

(٢) في المصدر : عن آثار النطق والعقل والمعرفة.


غنية بذاتها في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية فهذه الوجوه أمارات قوية في أن النفس ليست بجسم.

ثم ذكر في إثبات أن النفس ليست بجسم وجوها من الدلائل السمعية.

الأول قوله تعالى « وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ » (١) ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن.

الثاني قوله تعالى « أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ » وهذا صريح في أن النفس غير هذا الجسد.

الثالث أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » إلى قوله « فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً » ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن.

فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلا من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولا ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من سلالة.

الرابع قوله « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » ميز تعالى بين التسوية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله « مِنْ رُوحِي » دل ذلك على أن جوهر الروح شيء مغاير لجوهر الجسد.

__________________

(١) الحشر : ١٩.


الخامس قوله تعالى « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » وهذه الآية صريحة في وجود النفس موصوفة بالإدراك والتحريك معا لأن الإلهام عبارة عن الإدراك وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف بالإدراك والتحريك وهو موصوف أيضا بفعل الفجور تارة وفعل التقوى أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين وليس في البدن عضو واحد موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر واحد يكون موصوفا بكل هذه الأمور.

السادس قوله تعالى « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً » فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء الواحد هو المبتلى بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضو من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير جملة البدن ومغاير (١) أجزاء البدن وهو الموصوف بهذه الصفات.

واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس غير هذا الجسد والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما كان يعرف ما الروح وهذا من العجائب.

ثم استدل بهذه الآية التي بصدد تفسيرها على هذا المذهب وتقريره أن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال إنه من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له « كُنْ فَيَكُونُ » دل ذلك على أنه جوهر ليس

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : مغاير لجملة البدن ومغاير لاجزاء ...


من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد واعلم أن أكثر العارفين الكاملين من أصحاب الرياضات وأصحاب المكاشفات والمشاهدات مصرون على هذا القول جازمون بهذا المذهب.

ثم قال واحتج المنكرون بوجوه :

الحجة الأولى : لو كانت مساوية لذات الله تعالى في كونه ليس بجسم ولا عرض لكان مساويا له في تمام الماهية وذلك محال.

الثانية : قوله تعالى « قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ » إلى قوله « ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ » وهذا تصريح بأن الإنسان شيء مخلوق من نطفة وأنه يموت ويدخل القبر ثم أنه تعالى يخرجه من القبر ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثة لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة.

الثالثة : قوله تعالى « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً » إلى قوله « يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ » وهذا يدل على أن الروح جسم لأن الارتزاق والفرح من صفات الأجسام.

والجواب عن الأول : أن المساواة في أنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مساواة في صفات سلبية والمساواة في الصفات السلبية لا توجب المماثلة واعلم أن جماعة من الجهال يظنون أنه لما كان الروح موجودا ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وجب أن يكون مثلا للإله أو جزءا من الإله وذلك جهل فاحش وغلط قبيح وتحقيقه ما ذكرنا من أن المساواة في السلوب لو أوجبت المماثلة لوجب القول باستواء كل المختلفات فإن كل ماهيتين مختلفتين لا بد وأن يشتركا في سلب كل ما عداهما عنهما.

والجواب عن الثاني : أنه لما كان الإنسان في العرف والظاهر عبارة عن هذه الجثة أطلق عليه اسم الإنسان وأيضا فلقائل أن يقول هب أنا نجعل اسم الإنسان عبارة عن هذه الجثة إلا أنا قد دللنا على أن محل العلم والقدرة ليس هو هذه الجثة.


والجواب عن الثالث : أن الرزق المذكور في الآية محمول على ما يقوي حالهم ويكمل كمالهم وهو معرفة الله ومحبته بل نقول هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا لأن أبدانهم قد بليت تحت التراب والله تعالى يقول إن أرواحهم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهذا يدل على أن الروح غير البدن (١).

وقال في قوله سبحانه « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » فيه قولان :

الأول أنه إنما قال « عَلى قَلْبِكَ » وإن كان إنما أنزله عليه ليؤكد به أن ذلك المنزل محفوظ والمرسول (٢) متمكن في قلبه لا يجوز عليه التغير فيوثق عليه بالإنذار الواقع مع (٣) الذي بين الله تعالى أنه المقصود ولذلك قال « لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ».

الثاني أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختيار وأما سائر الأعضاء فمسخرة له والدليل عليه القرآن والحديث والمعقول أما القرآن فآيات إحداها في سورة البقرة « نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ » (٤) وقال هاهنا « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » وقال « إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ » (٥) وثانيها أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من المساعي فقال « لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » (٦) وقال « لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ » (٧) والتقوى في القلب لأنه تعالى قال « أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى » (٨) وقال تعالى « وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ » (٩) وثالثها قوله حكاية عن

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ج ٢١ ، ص ٥٣.

(٢) في المصدر : للرسول.

(٣) فيه : منه.

(٤) البقرة : ٩٧.

(٥) ق : ٣٧.

(٦) البقرة : ٢٢٥.

(٧) الحج : ٣٧.

(٨) الحجرات : ٣.

(٩) العاديات : ١٠.


أهل النار « لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ » (١) ومعلوم أن العقل في القلب والسمع منفذ إليه وقال « إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً » (٢) ومعلوم أن السمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب فكان السؤال عنهما في الحقيقة سؤالا عن القلب وقال « يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ » (٣) ولم تخن الأعين إلا بما تضمر القلوب عند التحديق بها ورابعها قوله « وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ » (٤) فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة واستدعاء الشكر عليها وقد قلنا لا طائل في السمع والأبصار إلا بما يؤديانه إلى القلوب ليكون القلب هو القاضي والمتحكم عليه وقال تعالى « وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ » (٥) فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجة والمقصود من ذلك هو الفؤاد القاضي فيما يؤدي إليه السمع والبصر.

وأما الحديث فما روى النعمان بن بشير قال سمعته صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب.

. وأما المعقول فوجوه أحدها أن القلب إذا غشي عليه فلو قطع سائر الأعضاء لم يحصل الشعور به وإذا أفاق القلب فإنه يشعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات فدل ذلك على أن الأعضاء تبع للقلب ولذلك فإن القلب إذا فرح أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك وكذا القول في سائر الأعراض النفسانية.

وثانيها أن القلب منبع المشيئات الباعثة على الأفعال الصادرة من سائر الأعضاء وإذا كانت المشيئات مبادئ الأفعال ومنبعها هو القلب فالأمر المطلق هو القلب.

__________________

(١) الملك : ١٠.

(٢) الإسراء : ٣٦.

(٣) غافر : ١٩.

(٤) السجدة : ١٩.

(٥) الأحقاف : ٢٦.


وثالثها أن معدن العقل هو القلب وإذا كان كذلك كان الآمر المطلق هو القلب أما المقدمة الأولى ففيها النزاع فإن طائفة من القدماء ذهبوا إلى أن معدن العقل هو الدماغ والذي يدل على قولنا وجوه :

الأول قوله تعالى « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها » (١) وقوله « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها » (٢) وقوله « إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ » (٣) أي عقل أطلق على العقل لما أنه معدن له.

الثاني أنه تعالى أضاف أضداد العقل إلى القلب فقال « فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » (٤) « خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ » (٥) « وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ » (٦) « يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ » (٧) « يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ » (٨) « كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ » (٩) « أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها » (١٠) « فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » (١١) فدلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضا هو القلب.

الثالث أنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا علومنا حاصلة في ناحية القلب ولذلك فإن الواحد منا إذا أمعن في الفكر والروية أحس من قلبه ضيقا وضجرا حتى كأنه يتألم بذلك وكل ذلك يدل على أن موضع العقل هو القلب وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم.

__________________

(١) الحج : ٤٦.

(٢) الأعراف : ١٧٨.

(٣) ق : ٣٧.

(٤) البقرة : ١٠.

(٥) البقرة : ٧.

(٦) البقرة : ٨٨.

(٧) التوبة : ٦٥.

(٨) آل عمران : ١٦٧.

(٩) المطففين : ١٤.

(١٠) محمد : ٢٤.

(١١) الحج : ٤٦.


الرابع أن القلب هو أول الأعضاء تكونا وآخرها موتا وقد ثبت ذلك بالتشريح ولأنه متمكن في الصدر الذي هو الأوسط في الجسد ومن شأن الملوك المحتاجين إلى الخدم أن يكونوا في وسط المملكة لتكتنفهم الحواشي من الجوانب ليكونوا أبعد من الآفات.

واحتج من قال العقل في الدماغ بوجوه أحدها أن الحواس التي هي الآلات للإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب وثانيها أن الأعضاء (١) التي هي آلات الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب وثالثها أن الآفة إذا دخلت في الدماغ اختل العقل ورابعها أن في العرف كل من أريد وصفه بقلة العقل يقال إنه خفيف الدماغ خفيف العقل (٢) وخامسها أن العقل أشرف فيكون مكانها أشرف والأعلى هو الأشرف وذلك هو الدماغ لا القلب فوجب أن يكون محل العقل الدماغ لا القلب.

والجواب عن الأول : لم لا يجوز أن يقال الحواس تؤدي آثارها إلى الدماغ ثم إن الدماغ يؤدي تلك الآثار إلى القلب والدماغ آلة قريبة للقلب (٣) والحواس آلة بعيدة والحس يخدم الدماغ والدماغ يخدم القلب وتحقيقه أنا ندرك من أنفسنا أنا إذا عقلنا أن الأمر الفلاني يجب فعله أو يجب تركه فإن الأعضاء تتحرك عند ذلك ونحن (٤) عند التعقلات نحس من جانب الدماغ.

وعن الثاني أنه لا يبعد أن يتأدى الأثر من القلب إلى الدماغ ثم الدماغ يحرك الأعضاء بواسطة الأعصاب النابتة منه.

وعن الثالث لا يبعد أن تكون سلامة الدماغ شرطا لوصول تأثير القلب إلى سائر الأعضاء.

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر « الأعصاب » وهو الصواب.

(٢) في المصدر : خفيف الرأس.

(٣) للعقل ( خ ).

(٤) كذا ، وفي المصدر « ونحن نجد التعقلات من جانب القلب لا من جانب الدماغ.


وعن الرابع : أن ذلك العرف إنما كان لأن القلب إنما يعتدل مزاجه بما يستمده من الدماغ من برودته فإذا لحق الدماغ خروج عن الاعتدال خرج القلب عن الاعتدال أيضا إما لزيادة حرارته عن القدر الواجب أو لنقصان حرارته عن ذلك القدر فحينئذ يختل العقل.

وعن الخامس : أنه لو صح ما قالوه لوجب أن يكون موضع القلب هو القحف (١) ولما بطل ذلك ثبت فساد قولهم (٢) انتهى.

وأقول بعد تسليم مقدمات دلائله وعدم التعرض لتزييفها ومنعها إنما تدل على أن الروح غير البدن وأجزائه والحواس الظاهرة والباطنة ولا تدل على تجردها لم لا يجوز أن تكون جسما لطيفا من عالم الملكوت تتعلق بالبدن أو تدخله وتخرج عند الموت وتبقى محفوظة إلى النشور كما سنحققه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها » قال الطبرسي قدس الله سره أي يقبضها إليه وقت موتها وانقضاء آجالها والمعنى حين موت أبدانها وأجسادها على حذف المضاف « وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها » أي يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز فهي التي تفارق النائم فلا يعقل والتي تتوفى عند الموت هي نفس الحياة التي إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس فالفرق بين قبض النوم وقبض الموت أن قبض النوم يضاد اليقظ وقبض الموت يضاد الحياة وقبض النوم يكون الروح معه وقبض الموت يخرج الروح من البدن « فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ » إلى يوم القيامة « وَيُرْسِلُ الْأُخْرى » يعني الأنفس التي لم يقض على موتها يريد نفس النائم « إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » قد سمي لموته « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ » أي دلالات واضحات على توحيد الله وكمال قدرته « لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » في الأدلة إذ لا يقدر على قبض النفوس تارة بالنوم وتارة بالموت غير الله تعالى قال ابن عباس في بني آدم نفس و

__________________

(١) القحف ـ بكسر القاف ـ : عظيم فوق الدماغ.

(٢) مفاتيح الغيب : ج ٢٣ ، ص ١٦٦ ـ ١٦٨.


روح وبينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها النفس والتحريك فإذا نام قبض الله نفسه ولم يقبض روحه وإذا مات قبض الله نفسه وروحه ويؤيده ما رواه العياشي بالإسناد عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن ثابت أبي المقدام عن أبيه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب كشعاع الشمس فإذا أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح والنفس (١) وإن أذن الله في رد الروح أجابت النفس والروح وهو قوله سبحانه « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها » فمهما رأت في ملكوت السماوات فهو مما له تأويل وما رأت فيما بين السماء والأرض فهو مما يخيله الشيطان ولا تأويل له (٢).

وقال الرازي النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو الحياة فنقول إن وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وعن باطنه وذلك هو الموت وأما في وقت النوم فإنه ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن فثبت أن النوم والموت من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام كامل والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه إذا ثبت هذا ظهر أن القادر العالم القديم الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه أحدها أن يقع ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه وذلك هو اليقظة وثانيها أن ينقطع ضوء النفس عن البدن بالكلية وهو الموت وثالثها أن ينقطع ضوء النفس عن ظاهر البدن دون باطنه وهو النوم (٣).

« فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ » قال الطبرسي رحمه‌الله أي فهلا إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت « وَأَنْتُمْ » يا أهل الميت « حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ » أي ترون تلك الحال و

__________________

(١) كذا ، والظاهر زيادة الواو في الموضعين : فالصواب « أجابت الروح النفس ...

أجابت النفس الروح ».

(٢) مجمع البيان : ج ٨ ، ص ٥٠٠ ـ ٥٠١.

(٣) مفاتيح الغيب : ج ٢٦ ، ص ٢٨٤.


قد صار إلى أن تخرج نفسه وقيل معناه تنظرون لا يمكنكم الدفع ولا تملكون شيئا (١).

« الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ » قال الرازي قالوا الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في الموت فقال قوم إنه عبارة عن عدم هذه الصفة وقال أصحابنا إنه صفة وجودية مضادة للحياة واحتجوا بهذه الآية لأن العدم لا يكون مخلوقا (٢).

١ ـ معاني الأخبار : قال حدثني غير واحد من أصحابنا عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن محمد بن إسماعيل عن الحسين بن الحسن عن بكر عن القاسم بن عروة عن عبد الحميد الطائي عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » كيف هذا النفخ فقال إن الروح متحرك كالريح وإنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح وإنما أخرجه على لفظة الريح لأن الروح مجانس للريح (٣) وإنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما اصطفى بيتا من البيوت فقال بيتي وقال لرسول من الرسل خليلي وأشباه ذلك وكل ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر (٤).

الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن خالد عن القاسم بن العروة مثله (٥).

الاحتجاج : عن محمد بن مسلم مثله (٦).

بيان : لعل إخراجه على لفظة الريح كما في الكافي عبارة عن التعبير عن إيجاده

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٢٧.

(٢) مفاتيح الغيب : ج ٣٠ ، ص ٥٤.

(٣) في الكافي : الأرواح مجانسة الريح.

(٤) معاني الأخبار : ١٧.

(٥) الكافي : ج ١ ، ص ١٣١.

(٦) الاحتجاج : ١٧٦.


في البدن بالنفخ فيه لمناسبة الروح للريح ومجانسته إياه واعلم أن الروح قد تطلق على النفس الناطقة التي تزعم الحكماء أنها مجردة وهي محل العلوم والكمالات ومدبرة للبدن وقد تطلق على الروح الحيواني وهو البخار اللطيف المنبعث من القلب الساري في جميع الجسد وهذا الخبر وأمثاله يحتملهما وإن كانت بالأخيرة بعضها أنسب وقيل الروح وإن لم تكن في أصل جوهرها من هذا العالم إلا أن لها مظاهر ومجالي في الجسد وأول مظهر لها فيه بخار لطيف دخاني شبيه في لطافته واعتداله بالجرم السماوي ويقال له الروح الحيواني وهو مستوى الروح الرباني الذي هو من عالم الأمر ومركبه ومطية قواه فعبر عليه‌السلام عن الروح بمظهره تقريبا إلى الأفهام لأنها قاصرة عن فهم حقيقته كما أشير إليه بقوله تعالى « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » ولأن مظهره هذا هو المنفوخ دون أصله.

وقال البيضاوي « فَإِذا سَوَّيْتُهُ » عدلت خلقه وهيأته لنفخ الروح « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » حتى جرى آثاره في تجاويف أعصابه (١) فحيي وأصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر ولما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب وتفيض عليه القوة الحيوانية فيسري حاملا لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن جعل تعلقه نفخا (٢).

وقال النيسابوري النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر فمن زعم أن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن فمعناه ظاهر ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لأجل تعلق النفس الناطقة به قال جار الله ليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه ولا خلاف في أن الإضافة في قوله « رُوحِي » للتشريف والتكريم مثل « ناقَةَ اللهِ » وبيت الله

__________________

(١) في المصدر : أعضائه.

(٢) أنوار التنزيل : ج ١ ، ص ٦٤٨.


وقال الرازي قوله تعالى « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » يدل على أن تخليق البشر لا يتم إلا بأمرين التسوية أولا ثم نفخ الروح ثانيا وهذا حق لأن الإنسان مركب من جسد ونفس أما الجسد فإنه يتولد من المني والمني إنما يتولد من دم الطمث وهو إنما يتولد من الأخلاط وهي إنما تتولد من الأركان الأربعة فلا بد في حصول هذه التسوية من رعاية المدة التي في مثلها يحصل ذلك المزاج الذي لأجله يحصل الاستعداد لقبول النفس الناطقة فأما النفس فإليها الإشارة بقوله « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » ولما أضاف الروح إلى نفسه دل على أنه جوهر شريف علوي قدسي وذهبت الحلولية إلى أن كلمة من تدل على التبعيض وهذا يوهم أن الروح جزء من أجزاء الله وهذا في غاية الفساد لأن كل ما له جزء فهو مركب وممكن الوجود لذاته ومحدث وأما كيفية نفخ الروح فاعلم أن الأقوى أن جوهر النفس عبارة عن أجرام شفافة نورانية علوية العنصر قدسية الجواهر وهي تسري في هذا البدن سريان الضوء في الهواء والنار في الفحم فهذا القدر معلوم أما كيفية ذلك النفخ فمما لا يعلمه إلا الله تعالى (١).

٢ ـ قرب الإسناد : عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام أن روح آدم عليه‌السلام لما أمرت أن تدخل فيه كرهته فأمرها أن تدخل كرها وتخرج كرها (٢).

بيان : لا يبعد أن يكون المعنى أن الروح لما كانت من عالم الملكوت وهي لا تناسب البدن فلما خلقها الله خلقا تحتاج في تصرفها وأعمالها وترقياتها إلى البدن فكأنها تعلقت به كرها فلما أنست به ونسيت ما كانت عليه صعبت عليها مفارقتها للبدن أو أنه لما كانت محتاجة إلى البدن ورأته ضائعة مختلة لا يمكنها إعمالها فيما تريد فارقته كرها.

__________________

(١) بماء على تكامل النفس بالحركة الجوهرية إلى مرتبة التجرد يمكن أن يكون التعبير بالنفخ إشارة إلى تكونها التدريجى.

(٢) قرب الإسناد : ٥٣.


٣ ـ العلل والخصال : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن عيسى اليقطيني عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لا ينام الرجل (١) وهو جنب ولا ينام إلا على طهور فإن لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فإن روح المؤمن ترفع إلى الله تبارك وتعالى فيقبلها ويبارك عليها فإن كان أجلها قد حضر جعلها في كنوز (٢) رحمته وإن لم يكن أجلها قد حضر بعث بها مع أمنائه من ملائكته فيردونها في جسدها (٣).

٤ ـ مجالس الصدوق : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن بعض أصحابه عن زكريا بن يحيى عن معاوية بن عمار عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى السماء فما رأت الروح في السماء فهو الحق وما رأت في الهواء فهو الأضغاث ألا وإن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف (٤) فإذا كانت الروح في السماء تعارفت

__________________

(١) في العلل : المسلم.

(٢) في العلل : مكنون.

(٣) الخصال : ١٧٥ ، العلل : ج ١ ، ص ٢٧٩.

(٤) توجد هذه الجملة « الأرواح جنود ـ الخ ـ » فى عدة من رواياتنا ، ورويت بطرق عامية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيأتي نقلها عن الشهاب تحت الرقم (٥٠) وقد ذكر في بيانها وجوه مختلفة غير مستندة إلى ظاهر اللفظ. والذي يظهر بالتأمل في نفس الرواية امور : ( الف ) ان الأرواح جنود لا جند واحد ، فهى في صفوف مختلفة كل صف يشتمل على عدة ارواح ( ب ) ان التعارف والتناكر في الأرواح يرتبطان بتجندها في جنود مختلفة ، ولا سيما بالنظر الى لفظة الفاء في الرواية. ( ج ) ان الائتلاف والاختلاف واقعان في هذا العالم الجسماني وباعتبار تعلقها بالابدان كما ان التعارف والتناكر المتفرعين على التجند في الجنود يتصف بهما الأرواح مع قطع النظر عن تعلقها بالابدان ، ويؤيده بل يدل عليه ذيل هذه الرواية كما انه يؤيده أيضا ما ورد في شأن صدور الرواية النبوية كما سيجيء نقلها عن « الضوء ».

ويتحصل من هذه الأمور ان للأرواح وعاء تكون هي في ذلك الوعاء مصطفة في صفوف.


وتباغضت فإذا تعارفت في السماء تعارفت في الأرض وإذا تباغضت في السماء تباغضت في الأرض (١).

٥ ـ التوحيد : عن محمد بن أحمد السناني وغيره عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن محمد بن إسماعيل البرمكي عن علي بن العباس عن عبيس بن هشام عن عبد الكريم بن عمرو عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله عز وجل « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » قال إن الله عز وجل خلق خلقا وخلق روحا ثم أمر ملكا فنفخ فيه فليست بالتي نقصت من قدرة الله شيئا هي من قدرته (٢).

٦ـ مجالس الصدوق : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد وعبد الله ابني محمد بن عيسى ومحمد بن الحسين عن الحسن بن محبوب عن محمد بن القاسم النوفلي قال : قلت لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام المؤمن يرى الرؤيا فتكون كما رآها وربما رأى الرؤيا فلا تكون شيئا فقال إن المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السماء فكل ما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير فهو الحق وكل ما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام فقلت له وتصعد روح

__________________

مختلفة ، واصطفاف عدة من الأرواح في صف واحد يوجب معرفة بعضها لبعض كما ان الاختلاف في الصفوف يلازم التناكر وعدم التعارف ومن هذا التعارف والتناكر ينشأ الائتلاف والاختلاف في هذا العالم فمنشأ التعارف هو الاصطفاف في صف واحد وبعبارة اخرى هو اتحاد مرتبة الوجود او تقارب المراتب ، كما ان منشأ التناكر هو الاختلاف في الصف وبعبارة اخرى هو اختلاف مرتبة الوجود او تباعد المراتب.

ثم ان الظاهر من قوله « الأرواح جنود. » انها بالفعل تكون في الصفوف المختلفة لا انها كانت في الماضى كذلك ، فالظاهر منها ـ الذي يوجبه حمل اللفظ مادة وهيئة على المعنى الحقيقي ـ انها مع كونها متعلقة بالابدان لها وعاء آخر تكون هي في ذلك الوعاء مصطفة في صفوف مختلفة ، وهذا لا يستقيم الا على القول بتجردها فان الاجسام اللطيفة المفروضة بعد حلولها في الأبدان لا يتصور لها اصطفاف وتعارف حقيقيان.

(١) الأمالي : ٨٨.

(٢) التوحيد : ١١٣.


المؤمن إلى السماء قال نعم قلت حتى لا يبقى (١) شيء في بدنه فقال لا لو خرجت كلها حتى لا يبقى منها (٢) شيء إذا لمات قلت فكيف تخرج (٣) فقال أما ترى الشمس في السماء في موضعها وضوؤها وشعاعها في الأرض فكذلك الروح أصلها في البدن وحركتها ممدودة (٤).

بيان : فقه هذه الأخبار موقوف على تحقيق حقيقة الروح وقد مضى بعض القول فيها وسيأتي تمامه إن شاء الله.

٧ ـ الإحتجاج : عن هشام بن الحكم أنه سأل الصادق عليه‌السلام قال فأخبرني عمن قال بتناسخ الأرواح من أي شيء قالوا ذلك وبأي حجة قاموا على مذاهبهم قال إن أصحاب التناسخ قد خلفوا وراءهم منهاج الدين وزينوا لأنفسهم الضلالات وأمرجوا أنفسهم في الشهوات وزعموا أن السماء خاوية ما فيها شيء مما يوصف وأن مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين بحجة من روى أن الله عز وجل خلق آدم على صورته وأنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر إن كان محسنا في القالب الأول أعيد في قالب أفضل منه حسنا في أعلى درجة الدنيا وإن كان مسيئا أو غير عارف صار في بعض الدواب المتعبة في الدنيا أو هوام مشوهة الخلقة وليس عليهم صوم ولا صلاة ولا شيء من العبادة أكثر من معرفة من تجب عليهم معرفته وكل شيء من شهوات الدنيا مباح لهم من فروج النساء وغير ذلك من الأخوات والبنات والخالات وذوات البعولة وكذلك الميتة والخمر والدم فاستقبح مقالتهم كل الفرق ولعنهم كل الأمم فلما سئلوا الحجة زاغوا وحادوا فكذب مقالتهم التوراة ولعنهم الفرقان وزعموا مع ذلك أن إلههم ينتقل من قالب إلى قالب وأن الأرواح الأزلية هي التي

__________________

(١) في المصدر : لا يبقى منه شيء.

(٢) فيه : منه.

(٣) فيه : يخرج.

(٤) الأمالي : ٨٨.


كانت في آدم ثم هلم جرا إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على أن أحدهما خالق صاحبه وقالوا إن الملائكة من ولد آدم كل من صار في أعلى درجة دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك فطورا تخالهم نصارى في أشياء وطورا دهرية يقولون إن الأشياء على غير الحقيقة فقد كان يجب عليهم أن لا يأكلوا شيئا من اللحمان لأن الدواب عندهم كلها من ولد آدم حولوا في صورهم فلا يجوز أكل لحوم القربات (١).

وساق الحديث الطويل إلى أن قال أخبرني عن السراج إذا انطفأ أين يذهب نوره قال يذهب فلا يعود قال فما أنكرت أن يكون الإنسان مثل ذلك إذا مات وفارق الروح البدن لم يرجع إليه أبدا كما لا يرجع ضوء السراج إليه أبدا إذا انطفأ قال لم تصب القياس إن النار في الأجسام كامنة والأجسام قائمة بأعيانها كالحجر والحديد فإذا ضرب أحدهما بالآخر سطعت (٢) من بينهما نار يقتبس منها سراج له الضوء فالنار ثابتة في أجسامها والضوء ذاهب والروح جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا وليس بمنزلة السراج الذي ذكرت إن الذي خلق في الرحم جنينا من ماء صاف وركب فيه ضروبا مختلفة من عروق وعصب وأسنان وشعر وعظام وغير ذلك هو يحييه بعد موته ويعيده بعد فنائه قال فأين الروح قال في بطن الأرض حيث مصرع البدن إلى وقت البعث قال فمن صلب أين روحه قال في كف الملك الذي قبضها حتى يودعها الأرض.

قال فأخبرني عن الروح أغير الدم قال نعم الروح على ما وصفت لك مادته من الدم ومن الدم رطوبة الجسم وصفاء اللون وحسن الصوت وكثرة الضحك فإذا جمد الدم فارق الروح البدن قال فهل يوصف بخفة وثقل ووزن قال الروح بمنزلة الريح في الزق إذا نفخت فيه امتلأ الزق منها فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه ولا ينقصها خروجها منه كذلك الروح ليس لها ثقل ولا وزن.

__________________

(١) الاحتجاج : ١٨٨.

(٢) في المصدر : سقطت.


قال : فأخبرني ما جوهر الريح (١) قال الريح هواء إذا تحرك سمي ريحا فإذا سكن سمي هواء وبه قوام الدنيا ولو كف الريح ثلاثة أيام لفسد كل شيء على وجه الأرض ونتن وذلك أن الريح بمنزلة المروحة تذب وتدفع الفساد عن كل شيء وتطيبه فهي بمنزلة الروح إذا خرج من البدن نتن البدن وتغير « فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ».

قال : أفيتلاشى الروح بعد خروجه عن قالبه أم هو باق قال بل هو باق إلى وقت « يُنْفَخُ فِي الصُّورِ » فعند ذلك تبطل الأشياء وتفنى فلا حس ولا محسوس ثم أعيدت الأشياء كما بدأها مدبرها وذلك أربعمائة سنة يسبت فيها الخلق وذلك بين النفختين قال وأنى له بالبعث والبدن قد بلي والأعضاء قد تفرقت فعضو ببلدة تأكلها سباعها وعضو بأخرى تمزقه هوامها وعضو قد صار ترابا بني به مع الطين حائط قال إن الذي أنشأه من غير شيء وصوره على غير مثال كان سبق إليه قادر أن يعيده كما بدأه قال أوضح لي ذلك قال إن الروح مقيمة في مكانها روح المحسن في ضياء وفسحة وروح المسيء في ضيق وظلمة والبدن يصير ترابا كما منه خلق وما تقذف به السباع والهوام من أجوافها مما أكلته ومزقته كل ذلك في التراب محفوظ عند من « لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ » في ظلمات الأرض ويعلم عدد الأشياء ووزنها وإن تراب الروحانيين بمنزلة الذهب في التراب فإذا كان حين البعث مطرت الأرض مطر النشور فتربو الأرض ثم تمخض مخض السقاء فيصير تراب البشر كمصير الذهب من التراب إذا غسل بالماء والزبد من اللبن إذا مخض فيجتمع تراب كل قالب فينقل بإذن الله القادر إلى حيث الروح فتعود الصور بإذن المصور كهيئتها وتلج الروح فيها فإذا قد استوى لا ينكر من نفسه شيئا (٢).

بيان : من فروج النساء أي الأجانب غير ذات البعولة وظاهر الخبر أن الروح جسم لطيف وأوله بعض القائلين بالتجرد بتأويلات ستأتي الإشارة إلى بعضها

__________________

(١) عن جوهر الروح ( خ ).

(٢) الاحتجاج : ١٩١ ـ ١٩٢.


وكذا أولوا ما روي عن الصادق عليه‌السلام في وصف الروح أنه قال وبها يؤمر البدن وينهى ويثاب ويعاقب وقد تفارقه ويلبسها الله سبحانه غيره كما تقتضيه حكمته وقال بعضهم قوله عليه‌السلام وقد تفارقه ويلبسها الله غيره صريح في أنها مجردة عن البدن مستقلة وأنه ليس المراد بها الروح البخارية قال وأما إطلاق الجسم عليه فلأن نشأة الملكوت أيضا جسمانية من حيث الصورة وإن لم تكن مادية.

٨ ـ العلل والعيون : عن أبيه ومحمد بن الحسن عن سعد بن عبد الله وعبد الله بن جعفر الحميري ومحمد بن يحيى العطار وأحمد بن إدريس جميعا عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبي هاشم داود بن قاسم الجعفري عن أبي جعفر محمد بن علي الثاني عليه‌السلام قال : أقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام ذات يوم ومعه الحسن بن علي عليه‌السلام وسلمان الفارسي رحمه‌الله وأمير المؤمنين متكئ على يد سلمان ودخل مسجد الحرام (١) إذ أقبل رجل حسن الهيئة واللباس فسلم على أمير المؤمنين عليه‌السلام فرد عليه‌السلام فجلس ثم قال يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل إن أخبرتني بهن علمت أن القوم ركبوا من أمرك ما أقضي عليهم أنهم ليسوا مأمونين في دنياهم ولا في آخرتهم وإن تكن الأخرى علمت أنك وهم شرع سواء فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام سلني عما بدا لك فقال أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه وعن الرجل كيف يذكر وينسى وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال؟

فالتفت أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه‌السلام فقال يا أبا محمد أجبه فقال عليه‌السلام أما ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين تذهب روحه فإن روحه متعلقة (٢) بالريح والريح متعلقة بالهواء إلى وقت ما يتحرك صاحبها لليقظة فإن أذن الله عز وجل برد تلك الروح على صاحبها جذبت تلك الروح الريح وجذبت تلك الريح الهواء فرجعت الروح فاستكنت (٣) في بدن صاحبها فإن لم يأذن الله عز

__________________

(١) في العلل والاحتجاج : فجلس.

(٢) في العلل « معلقة » فى الموضعين.

(٣) في العيون « فاسكنت » وفي الاحتجاج « فسكنت ».


وجل برد تلك الروح على صاحبها جذب الهواء الريح فجذبت الريح الروح فلم ترد على صاحبها إلى وقت ما يبعث.

وأما ما ذكرت من أمر الذكر والنسيان فإن قلب الرجل في حق وعلى الحق طبق فإن صلى الرجل عند ذلك على محمد وآل محمد صلاة تامة انكشف ذلك الطبق عن ذلك الحق فأضاء القلب وذكر الرجل ما كان نسي وإن هو لم يصل على محمد وآل محمد أو نقص من الصلاة عليهم انطبق ذلك الطبق على ذلك الحق فأظلم القلب ونسي الرجل ما كان ذكره.

وأما ما ذكرت من أمر المولود (١) الذي يشبه أعمامه وأخواله فإن الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلب ساكن وعروق هادئة وبدن غير مضطرب فاستكنت تلك النطفة في جوف الرحم خرج الولد يشبه أباه وأمه وإن هو أتاها بقلب غير ساكن وعروق غير هادئة وبدن مضطرب اضطربت النطفة (٢) فوقعت في حال اضطرابها على بعض العروق فإن وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه وإن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الولد أخواله.

فقال الرجل أشهد أن لا إله إلا الله ولم أزل أشهد بها أشهد أن محمدا عبده (٣) ورسوله ولم أزل أشهد بذلك وأشهد أنك وصي رسوله والقائم بحجته وأشار إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم أزل أشهد بها وأشهد أنك وصيه والقائم بحجته أشار إلى الحسن عليه‌السلام وأشهد أن الحسين بن علي وصي أبيك والقائم بحجته بعدك وأشهد على علي بن الحسين أنه القائم بأمر الحسين بعده وأشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن الحسين وأشهد على جعفر بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن علي وأشهد على موسى بن جعفر أنه القائم بأمر جعفر بن محمد وأشهد على علي بن

__________________

(١) في العلل : الرجل الذي يشبه ولده اعمامه.

(٢) في العلل : اضطربت تلك النطفة في جوف تلك الرحم فوقعت على عرق من العروق فان.

(٣) في المصادر الثلاثة : رسول الله.


موسى أنه القائم بأمر موسى بن جعفر وأشهد على محمد بن علي أنه القائم بأمر علي بن موسى وأشهد على علي بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن علي وأشهد على الحسن بن علي أنه القائم بأمر علي بن محمد وأشهد على رجل من ولد الحسن (١) بن علي لا يسمى ولا يكنى حتى يظهر أمره فيملؤها (٢) عدلا كما ملئت جورا أنه القائم بأمر الحسن بن علي والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ثم قام ومضى فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام يا أبا محمد اتبعه فانظر أين يقصد فخرج الحسن بن علي عليه‌السلام في أثره قال فما كان إلا أن وضع رجله خارج المسجد فما دريت أين أخذ من أرض الله عز وجل فرجعت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فأعلمته فقال يا أبا محمد أتعرفه قلت الله ورسوله وأمير المؤمنين أعلم فقال هو الخضر (٣).

الإحتجاج : مرسلا مثله (٤).

المحاسن : عن أبيه عن داود بن القاسم مثله (٥).

بيان : فإن روحه متعلقة بالريح يحتمل أن يكون المراد بالروح الروح الحيوانية وبالريح النفس وبالهواء الهواء الخارج المنجذب بالنفس وأن يكون المراد بالروح النفس مجردة كانت أم مادية وبالريح الروح الحيوانية لشباهتها بالريح في لطافتها وتحركها ونفوذها في مجاري البدن وبالهواء النفس والحق جمع حقة بالضم فيهما وهي وعاء من خشب ولعل الجمعية هنا لاشتمال القلب الصنوبري على تجاويف وأغشية أو لاشتمال محله عليها أو هي باعتبار الإفراط والحق مخفف حقة والطبق محركة غطاء كل شيء ولا يبعد أن يكون الكلام مبنيا على الاستعارة والتمثيل فإن الصلاة على محمد وآل محمد لما كانت سببا للقرب من المبدإ واستعداد النفس لإفاضة العلوم عليها فكان الشواغل النفسانية الموجبة للبعد عن الحق

__________________

(١) في العلل : الحسين.

(٢) في الاحتجاج : فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

(٣) علل الشرائع : ج ١ ، ص ٩٠ ـ ٩٢ ، العيون : ج ١ ، ٦٥ ـ ٦٨.

(٤) الاحتجاج : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٥) المحاسن : ٣٣٢.


تعالى طبق عليها فتصير الصلاة سببا لكشفه وتنور القلب واستعداده لفيض الحق إما بإفاضة الصورة ثانية أو باستردادها من الخزانة.

٩ ـ تفسير علي بن إبراهيم : عن أبيه عن داود بن القاسم الجعفري عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام قال : أقبل أمير المؤمنين عليه‌السلام يوما ويده على عاتق سلمان معه الحسن عليه‌السلام حتى دخل المسجد فلما جلس جاء رجل عليه برد حسن فسلم وجلس بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال يا أمير المؤمنين أريد أن أسألك عن مسائل فإن أنت أجبت (١) منها علمت أن القوم نالوا منك وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك وإن لم تجبني (٢) عنها علمت أنك والقوم شرع سواء فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام سل ابني هذا يعني الحسن فأقبل الرجل بوجهه على الحسن عليه‌السلام فقال له يا بني أخبرني عن الرجل إذا نام أين يكون روحه وعن الرجل يسمع الشيء فيذكره دهرا ثم ينساه في وقت الحاجة إليه كيف هذا وأخبرني عن الرجل يلد له الأولاد منهم من يشبه أباه وعمومته ومنهم من يشبه أمه وأخواله فكيف هذا فقال له الحسن عليه‌السلام نعم أما الرجل إذا نام فإن روحه يخرج مثل شعاع الشمس فيتعلق بالريح والريح بالهواء فإذا أراد الله أن ترجع جذب الهواء الريح وجذب الريح الروح فرجعت إلى البدن فإذا أراد الله أن يقبضها جذب الهواء الريح وجذب الريح الروح فقبضها (٣) وأما الرجل الذي ينسى الشيء ثم يذكره فما من أحد إلا على رأس فؤاده حقة مفتوحة الرأس فإذا سمع الشيء وقع فيها فإذا أراد الله أن ينساها طبق عليها وإذا أراد أن يذكره فتحها وهذا دليل الإلهية وأما الرجل الذي يلد له الأولاد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة فإن الولد يشبه أباه وعمومته وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل يشبه أمه وأخواله (٤) فالتفت الرجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال أشهد أن لا إله إلا الله ولم أزل أقولها وأشهد

__________________

(١) في المصدر : خرجت.

(٢) فيه : لم تخرج منها.

(٣) في المصدر : فيقبضها إليه.

(٤) فيه : خئولته.


أن محمدا رسول الله (١) ولم أزل أقولها وأشهد أنك وصي محمد وخليفته في أمته وأمير المؤمنين حقا وأن الحسن القائم بأمرك وأن الحسين القائم من بعده بأمره وأن علي بن الحسين القائم بأمره من بعده وأن محمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي ووصي الحسن بن علي القائم بالقسط المنتظر الذي يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ثم قام وخرج من باب المسجد فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام للحسن هذا أخي الخضر (٢).

بيان : وهذا دليل الإلهية أي كون الذكر والنسيان بيد الله ومن قبله دليل على وجود الصانع كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام عرفت الله بفسخ العزائم وفي بعض النسخ الإلهامية أي العلوم الإلهامية فإنه إذا كان الذكر من قبله تعالى فالعلوم كلها منه ويجوز أن يلهم من يشاء من عباده ما يشاء والأول أظهر.

١٠ ـ التوحيد : عن أحمد بن الحسن القطان عن الحسن بن علي السكراني (٣) عن محمد بن زكريا الجوهري عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إن للجسم ستة أحوال الصحة والمرض والموت والحياة والنوم واليقظة وكذلك الروح فحياتها علمها وموتها جهلها ومرضها شكها وصحتها يقينها ونومها غفلتها ويقظتها حفظها (٤).

١١ ـ منتخب البصائر : عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين وموسى بن عمر عن محمد بن سنان عن المفضل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : مثل روح المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق إذا أخرجت (٥) الجوهرة منه طرح الصندوق ولم يعبأ به وقال إن الأرواح

__________________

(١) في المصدر وبعض نسخ الكتاب : عبده ورسوله.

(٢) تفسير القمي : ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

(٣) في المصدر وبعض نسخ الكتاب « السكرى » وفي بعضها « السكران » ولم نجد له ذكرا في كتب الرجال.

(٤) التوحيد : ٢١٩.

(٥) في البصائر : خرجت.


لا تمازج البدن ولا تواكله (١) وإنما هي كلل (٢) للبدن محيطة به.

البصائر : عن بعض أصحابنا عن المفضل مثله (٣).

بيان : استدل بآخر هذه الرواية على تجرد الروح إذ لم يقل أحد بكونها جسما خارجا من البدن ويمكن أن يكون هذا بيان حالها بعد الموت فإن أول الخبر ظاهره الدخول.

١٢ ـ المناقب لابن شهرآشوب ، سأل أبا بكر نصرانيان ما الفرق بين الحب والبغض ومعدنهما واحد وما الفرق بين الرؤيا الصادقة والرؤيا الكاذبة ومعدنهما واحد فأشار إلى عمر فلما سألاه أشار إلى علي فلما سألاه عن الحب والبغض قال إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فأسكنها الهواء فمهما تعارف هناك ائتلف هاهنا ومهما تناكر هناك اختلف هاهنا ثم سألاه عن الحفظ والنسيان فقال إن الله تعالى خلق ابن آدم وجعل لقلبه غاشية فمهما مر بالقلب والغاشية منفتحة حفظ وأحصى ومهما مر بالقلب والغاشية منطبقة لم يحفظ ولم يحص ثم سألاه عن الرؤيا الصادقة والرؤيا الكاذبة فقال عليه‌السلام إن الله تعالى خلق الروح وجعل لها سلطانا فسلطانها النفس فإذا نام العبد خرج الروح وبقي سلطانه فيمر به جيل من الملائكة وجيل من الجن فمهما كان من الرؤيا الصادقة فمن الملائكة ومهما كان من الرؤيا الكاذبة فمن الجن فأسلما على يديه وقتلا معه يوم صفين (٤).

بيان : يحتمل أن تكون الغاشية كناية عما يعرض القلب من الخيالات الفاسدة والتعلقات الباطلة لأنها شاغلة للنفس عن إدراك العلوم والمعارف كما ينبغي وعن حفظها كما مر والمراد بالنفس هنا إما الروح البخارية الحيوانية وبالروح النفس الناطقة فالمراد بقوله سلطانها السلطان المنسوب من قبلها على البدن وأنها مسلطة على

__________________

(١) في البصائر : لا تداخله.

(٢) فيه : كالكلل.

(٣) بصائر الدرجات : ٤٦٣.

(٤) المناقب ، ج ٢ ، ص ٣٥٧ ،.


الروح من جهة أن تعلقها بالبدن مشروطة (١) بها وتابعة لها فإذا زالت الحيوانية انقطع تعلق الناطقة أو خرجت عن البدن ويحتمل العكس فالمراد بخروج الروح خروجها من الأعضاء الظاهرة وميلها إلى الباطن وتسلط الناطقة على الحيوانية ظاهر لكونها المدبرة للبدن وجميع أجزائه والتفريع في قوله عليه‌السلام فيمر به على الوجهين ظاهر فإنه لبقاء السلطان في البدن لم تذهب الحياة بالكلية وبقيت الحواس الباطنة مدركة فإلهام الملائكة ووساوس الشياطين أيضا باقية.

١٣ ـ العياشي : عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » قال خلق من خلق الله والله « يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ » (٢).

بيان : يمكن حمل الخبر على الروح الإنساني وإن كان ظاهره الملك أو خلق أعظم منه كما مر.

١٤ ـ العياشي : عن أبي بصير عن أحدهما عليهما‌السلام قال : سألته عن قوله « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » قال (٣) التي في الدواب والناس قلت وما هي قال هي من الملكوت من القدرة (٤).

١٥ ـ وعن أسباط بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل وهو مع الأئمة يفقههم وهو من الملكوت.

١٦ ـ المناقب : يونس في حديثه قال : سأل ابن أبي العوجاء أبا عبد الله عليه‌السلام لم يميل القلب إلى الخضرة أكثر مما يميل إلى غيرها قال من قبل أن الله تعالى خلق القلب أخضر ومن شأن الشيء أن يميل إلى شكله (٥).

__________________

(١) كذا ، والصواب : مشروط بها وتابع لها.

(٢) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٣١٦.

(٣) في المصدر : ما الروح؟ قال.

(٤) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ٣١٧.

(٥) المناقب : ج ٤ ، ص ٢٥٦.


١٧ ـ جامع الأخبار : سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام الرجل نائم هنا والمرأة النائمة يريان أنهما بمكة أو بمصر من الأمصار أرواحهما خارج (١) من أبدانهما قال لا يا أبا بصير فإن الروح إذا فارقت البدن لم تعد إليه غير أنها بمنزلة عين الشمس هي مركبة (٢) في السماء في كبدها وشعاعها في الدنيا.

١٨ ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن العباد إذا ناموا خرجت أرواحهم إلى السماء الدنيا فما رأت الروح في السماء الدنيا فهو الحق وما رأت في الهواء فهو الأضغاث.

١٩ ـ روي عن أبي الحسن عليه‌السلام يقول إن المرء إذا نام فإن روح الحيوان باقية في البدن والذي يخرج منه روح العقل فقال عبد الغفار الأسلمي يقول الله عز وجل « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها » إلى قوله « إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » أفليس ترى الأرواح كلها تصير إليه عند منامها فيمسك ما يشاء ويرسل ما يشاء فقال له أبو الحسن عليه‌السلام إنما يصير إليه أرواح العقول فأما أرواح الحياة فإنها في الأبدان لا يخرج إلا بالموت ولكنه إذا قضى على نفس الموت قبض الروح الذي فيه العقل ولو كانت روح الحياة خارجة لكان بدنا ملقى لا يتحرك ولقد ضرب الله لهذا مثلا في كتابه في أصحاب الكهف حيث قال « وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ » أفلا ترى أن أرواحهم فيهم بالحركات؟

توضيح : الظاهر أن الروح التي في خبر أبي بصير المراد بها روح الحياة أو المراد بالخروج في الأخبار الأخر إعراضها عن البدن وتوجهها إلى عالمها الأصلية وهي عالم الملكوت كما يظهر من التمثيل بالشمس قوله عليه‌السلام ولكنه إذا قضى أي بالنوم وكأن فيه سقطا.

٢٠ ـ الكافي : عن العدة عن أحمد بن محمد عن محمد بن خالد عن أبي نهشل عن محمد بن إسماعيل عن أبي حمزة الثمالي قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول إن الله خلقنا من أعلى عليين وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا منه وخلق أبدانهم من دون ذلك

__________________

(١) كذا.

(٢) مركوزة ( خ ).


فقلوبهم تهوي إلينا لأنها خلقت مما خلقنا منه ثم تلا هذه الآية « كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ » (١) وخلق عدونا من سجين وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه وأبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه ثم تلا هذه الآية « كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ » (٢).

بيان : اختلف المفسرون في تفسير عليين فقيل إنها مراتب عالية محفوفة بالجلالة وقيل السماء السابعة وقيل سدرة المنتهى وقيل الجنة وقيل أعلى مراتبها وقيل لوح من زبرجد أخضر معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيه والسجين الأرض السابعة أو أسفل منها أو جب في جهنم والمراد أن كتابة أعمالهم أو ما يكتب منها في عليين أي في دفتر أعمالهم أو المراد أن دفتر أعمالهم في تلك الأمكنة الشريفة وعلى الأخير فيه حذف مضاف أي وما أدراك ما كتاب عليين وأما الاستشهاد بالآيتين في الخبر فيحتمل وجهين أحدهما أن دفتر أعمالهم موضوع في مكان أخذت منه طينتهم وثانيهما أن يكون على تفسيره عليه‌السلام المراد بالكتاب الروح لأن الروح هو الكتاب الذي فيه علوم المقربين ومعارفهم وجهالات المضلين وخرافاتهم.

٢١ ـ الكافي : عن العدة عن أحمد بن محمد عن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله خلقنا من عليين وخلق أرواحنا من فوق ذلك وخلق أرواح شيعتنا من عليين وخلق أجسادهم من دون ذلك فمن أجل ذلك القرابة بيننا وبينهم وقلوبهم تحن إلينا (٣).

بيان : خلقنا أي أبداننا من فوق ذلك أي أعلى عليين من دون ذلك أي أدنى عليين فمن أجل ذلك أي من أجل كون أبداننا وأرواحنا مخلوقة

__________________

(١) المطففين : ١٨ ـ ٢١.

(٢) المطففين : ٧ ـ ٩ ، الكافي : ج ١ ، ص ٣٩٠.

(٣) الكافي : ج ١ ، ص ٣٨٩.


من عليين وكون أرواحهم وأجسادهم أيضا مخلوقة من عليين ويحتمل أن يكون المراد بقوله من فوق ذلك من مكان أرفع من عليين وبقوله من دون ذلك من مكان أسفل من عليين فالقرابة من حيث كون أرواحنا وأبدانهم من عليين قوله تحن أي تهوي كما قال تعالى « فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ » (١).

٢٢ ـ الكافي : عن العدة عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن عن محمد بن عيسى بن عبيد عن محمد بن شعيب عن عمران بن إسحاق الزعفراني عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول إن الله خلقنا من نور عظمته ثم صور خلقنا من طينة مخزونة مكنونة (٢) فأسكن ذلك النور فيه فكنا نحن خلقا وبشرا نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقنا (٣) نصيب وخلق أرواح شيعتنا من طينتنا وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة ولم يجعل الله لأحد في مثل الذي خلقهم منه نصيبا إلا للأنبياء فلذلك صرنا نحن وهم الناس وسائر (٤) الناس همج للنار وإلى النار (٥).

توضيح : إن الله خلقنا أي أرواحنا من نور عظمته أي من نور يدل على كمال عظمته وقدرته ثم صور خلقنا أي خلق لنا أجسادا مثالية شبيهة بالأجساد الأصيلة فهي صور خلقهم وأمثلته فيدل على أن لهم أجسادا مثالية قبل تعلق أرواحهم المقدسة بأبدانهم المطهرة وبعد مفارقتها إياه بل معها أيضا كما أن لنا بعد موتنا أجسادا مثالية تتعلق أرواحنا بها كما مر في كتاب المعاد بل يمكن أن تكون أجسادنا المثالية أيضا كذلك ويكون ما نرى في المنام فيها كما هو رأي جماعة ومن فسر التصوير في هذا الخبر بتصوير الأجساد الأصيلة فقد أبعد فكنا خلقا وبشرا

__________________

(١) إبراهيم : ٣٧.

(٢) في المصدر : مكنونة من تحت العرش.

(٣) فيه : خلقنا منه.

(٤) في المصدر : وصار سائر.

(٥) الكافي : ج ١ ، ص ٣٨٩.


نورانيين فالخلق للروح والبشر للجسد المثالي فإنه بصورة البشر وكونهما نورانيين بناء على كونهما جسمين لطيفين منورين من عالم الملكوت بناء على كون الروح جسما وعلى القول بتجردها كناية عن خلوه عن الظلمة الهيولائية وقبوله للأنوار القدسية والإفاضات الربانية في مثل الذي خلقنا أي خلق أرواحنا منه من طينتنا أي طينة أجسادنا والخبر يدل على فضلهم على الأنبياء عليهم‌السلام بل يومئ إلى مساواة شيعتهم لهم والمراد بالناس أولا الناس بحقيقة الإنسانية وثانيا ما يطلق عليه الإنسان في العرف العام والهمج محركة ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الأغنام والحمير ولعله عليه‌السلام شبههم بهم لازدحامهم دفعة على كل ناعق وبراحهم (١) عنه بأدنى سبب للنار أي خلقوا لها واللام للعاقبة وإلى النار أي مصيرهم إليها.

٢٣ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن علي بن حسان ومحمد بن يحيى عن سلمة بن خطاب وغيره عن علي بن حسان عن علي بن عطية عن علي بن رئاب رفعه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إن لله نهرا دون عرشه ودون النهر الذي دون عرشه نور نوره وإن في حافتي النهر روحين مخلوقين روح القدس وروح من أمره وإن لله عشر طينات خمسة من الجنة وخمسة من الأرض ففسر الجنان وفسر الأرض ثم قال ما من نبي ولا ملك من بعده جبله إلا نفخ فيه من إحدى الروحين وجعل النبي من إحدى الطينتين قلت لأبي الحسن الأول عليه‌السلام ما الجبل فقال الخلق غيرنا أهل البيت فإن الله عز وجل خلقنا من العشر طينات ونفخ فينا من الروحين جميعا فأطيب بها طيبا.

وروى غيره عن أبي الصامت قال : طين الجنان جنة عدن وجنة المأوى والنعيم (٢) والفردوس والخلد وطين الأرض مكة والمدينة والكوفة وبيت المقدس والحير (٣).

__________________

(١) في بعض النسخ « برائهم ».

(٢) في المصدر : وجنة النعيم.

(٣) فيه « والحائر ». الكافي : ج ١ ، ص ٣٨٩.


بيان : دون عرشه أي عنده نوره ماض من التفعيل والمستتر فيه راجع إلى النور والبارز إلى النهر أو العرش أو المستتر إلى الله والبارز إلى النور مبالغة في إضاءته ولمعانه وفي البصائر نور من نوره وكأنه أصوب أي من الأنوار التي خلقها الله سبحانه وحافتا النهر بالتخفيف جانباه مخلوقين إبطال لقول النصارى إن عيسى روح الله غير مخلوق روح القدس أي هما روح القدس وروح من أمره أي الروح الذي قال الله فيه « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » وستأتي الأقوال فيه وظاهر الخبر إما الروح الإنساني أو الروح الذي يؤيد الله به الأئمة عليهم‌السلام ففسر الجنان الظاهر أنه كلام ابن رئاب والضمير المستتر لأمير المؤمنين عليه‌السلام وقيل لأبي الحسن عليه‌السلام والتفسير إشارة إلى ما ذكر بعده في خبر أبي الصامت ثم قال أي أمير المؤمنين عليه‌السلام ولا ملك بالتحريك وقد يقرؤها (١) بكسر اللام أي إمام كما قال تعالى « وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » وهو بعيد وجملة من بعده جبله نعت ملك وضمير بعده لنبي وضمير جبله للملك إشارة إلى أن النبي أفضل من الملك فالمراد بالبعدية ما هي بحسب الرتبة وجعل النبي إنما لم يذكر الملك هنا لذكره سابقا وقيل لأنه ليس للملك جسد مثل جسد الإنسان قوله ما الجبل هو بفتح الجيم وسكون الباء سؤال عن مصدر الفعل المتقدم وهو كلام ابن رئاب ففسره عليه‌السلام بالخلق والأظهر عندي أن غيرنا تتمة الكلام السابق على الاستثناء المنقطع واعتراض السؤال والجواب بين الكلام قبل تمامه وليس تتمة لتفسير الجبل كما توهمه الأكثر.

قال الشيخ البهائي قدس‌سره يعني مادة بدننا لا تمسى جبلة بل طينة لأنها خلق من العشر طينات انتهى قال الفيروزآبادي الجبلة مثلثة ومحركة وكطمرة الخلقة والطبيعة وككتاب الجسد والبدن وجبلهم الله يجبل ويجبل خلقهم وعلى الشيء طبعه وجبره كأجبله انتهى.

وأطيب بها صيغة التعجب وطيبا منصوب على الاختصاص وفي بعض

__________________

(١) في بعض النسخ « يقرأ ».


نسخ البصائر طينا بالنون فالنصب على التميز أي ما أطيبها من طينة وروى غيره كأنه كلام ابن عطية ويحتمل بعض أصحاب الكتب قبله وضمير غيره لابن رئاب وأبو الصامت راوي الباقر والصادق عليهما‌السلام والظاهر أنه رواه عن أحدهما والحير حائر الحسين عليه‌السلام وقال بعضهم كأنه عليه‌السلام شبه علم الأنبياء عليهم‌السلام بالنهر لمناسبة ما بينهما في كون أحدهما مادة حياة الروح والآخر مادة حياة الجسم وعبر عنه بالنور لإضاءته وعبر عن علم من دونهم من العلماء بنور النور لأنه من شعاع ذلك النور وكما أن حافتي النهر يحفظان الماء في النهر ويحيطان به فيجري إلى مستقره كذلك الروحان يحفظان العلم ويحيطان به ليجري إلى مستقره وهو قلب النبي أو الوصي والطينات الجنانية كأنها من الملكوت والأرضية من الملك فإن من مزجهما خلق أبدان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله والأوصياء عليهم‌السلام من أهل البيت بخلاف سائر الأنبياء والملائكة فإنهم خلقوا من إحدى الطينتين كما أن لهم إحدى الروحين خاصة.

٢٤ ـ الكافي : عن العدة عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان (١) عن سدير الصيرفي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك يا ابن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه قال لا والله إنه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك فيقول له ملك الموت يا ولي الله لا تجزع فو الذي بعث محمدا لأنا أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك افتح عينيك فانظر قال يتمثل له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم عليهم‌السلام فيقال له هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة عليهم‌السلام رفقاؤك قال فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول « يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ » إلى محمد وأهل بيته « ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً » بالولاية « مَرْضِيَّةً » بالثواب « فَادْخُلِي فِي عِبادِي » يعني محمدا وأهل بيته « وَادْخُلِي جَنَّتِي » فما شيء أحب إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي (٢).

__________________

(١) في المصدر : عن أبيه عن سدير.

(٢) الكافي : ج ٣ ، ص ١٢٧.


٢٥ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن خالد بن عمار عن أبي بصير قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إذا حيل بينه وبين الكلام أتاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن شاء الله فجلس رسول الله عن يمينه والآخر عن يساره فيقول رسول الله أما ما كنت ترجو فهو ذا أمامك وأما ما كنت تخاف فقد أمنت منه ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقول هذا منزلك من الجنة فإن شئت رددناك إلى الدنيا ولك فيها ذهب وفضة فيقول لا حاجة لي في الدنيا وساق إلى قوله فإذا خرجت النفس من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليه وهي في الجسد فيختار الآخرة فيغسله فيمن يغسله ويقلبه فيمن يقلبه فإذا أدرج في أكفانه ووضع على سريره خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قدما وتلقاه أرواح المؤمنين يسلمون عليه ويبشرونه بما أعد الله له جل ثناؤه من النعيم فإذا وضع في قبره رد إليه الروح إلى وركيه ثم يسأل عما يعلم فإذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيدخل عليه من نورها (١) وبردها وطيب ريحها الحديث (٢).

٢٦ ـ ومنه : عن العدة عن سهل بن زياد عن محمد بن علي عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول إن آية المؤمن إذا حضره الموت ببياض (٣) وجهه أشد من بياض لونه ويرشح جبينه ويسيل من عينيه كهيئة الدموع فيكون ذلك خروج نفسه وإن الكافر تخرج نفسه سيلا (٤) من شدقه كزبد البعير أو كما تخرج نفس البعير (٥).

٢٧ ـ ومنه : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا علي إن ملك الموت إذا نزل لقبض

__________________

(١) في المصدر : وضوئها.

(٢) الكافي : ج ٣ ، ص ١٢٩.

(٣) فيه : يبياض.

(٤) في الكافي : سلا.

(٥) الكافي : ج ٣ ، ص ١٣٤.


روح الكافر نزل ومعه سفود من نار فينزع روحه فيصيح جهنم الحديث (١).

٢٨ ـ الفقيه : قال قال الصادق عليه‌السلام إذا قبضت الروح فهي مظلة فوق الجسد روح المؤمن وغيره ينظر إلى كل شيء يصنع به فإذا كفن ووضع على السرير وحمل على أعناق الرجال عادت الروح إليه فدخلت فيه فيمد له في بصره فينظر إلى موضعه من الجنة أو من النار فينادي بأعلى صوته إن كان من أهل الجنة عجلوني عجلوني وإن كان من أهل النار ردوني ردوني وهو يعلم كل شيء يصنع به ويسمع الكلام (٢).

٢٩ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش فقال لا المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم (٣).

٣٠ ـ ومنه : بإسناده عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : فإذا قبضه الله عز وجل صير تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا (٤).

٣١ ـ ومنه : بسند موثق عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إنا نتحدث عن أرواح المؤمنين أنها في حواصل طيور خضر ترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل تحت العرش فقال لا إذا ما هي في حواصل طير قلت فأين هي قال في روضة كهيئة الأجساد في الجنة (٥).

٣٢ ـ وفي رواية أخرى عن أبي بصير عنه عليه‌السلام قال : إن الأرواح في صفة الأجساد

__________________

(١) المصدر : ج ٣ ، ٢٥٣.

(٢) الفقيه : ٥١.

(٣) الكافي : ج ٣ ، ص ٢٤٤.

(٤) الكافي : ج ٣ ، ص ٢٤٥.

(٥) الكافي : ج ٣ ، ص ٢٤٥.


في شجر في الجنة تعارف وتساءل (١).

٣٣ ـ ومنه : بسند صحيح عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن لله جنة خلقها الله في المغرب وماء فراتكم هذه يخرج منها وإليها تخرج أرواح المؤمنين من حفرهم عند كل مساء فتسقط على ثمارها وتأكل منها وتتنعم فيها وتتلاقى وتتعارف فإذا طلع الفجر هاجت من الجنة فكانت في الهواء فيما بين السماء والأرض تطير ذاهبة وجائية وتعهد حفرها إذا طلعت الشمس وتتلاقى في الهواء وتتعارف قال وإن لله نارا في المشرق خلقها ليسكنها أرواح الكفار ويأكلون من زقومها ويشربون من حميمها ليلهم فإذا طلعت الفجر هاجت إلى واد باليمن يقال له برهوت أشد حرا من نيران الدنيا كانوا فيها يتلاقون ويتعارفون فإذا كان المساء عادوا إلى النار فهم كذلك إلى يوم القيامة الحديث (٢).

٣٤ ـ ومنه : بإسناده عن حبة العرني قال : خرجت مع أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى الظهر فوقف بوادي السلام كأنه مخاطب لأقوام فقمت بقيامه حتى أعييت ثم جلست حتى مللت ثم قمت حتى نالني مثل ما نالني أولا ثم جلست حتى مللت ثم قمت وجمعت ردائي فقلت يا أمير المؤمنين إني قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة ثم طرحت الرداء ليجلس عليه فقال لي يا حبة إن هو إلا محادثة مؤمن أو مؤانسته قال قلت يا أمير المؤمنين وإنهم لكذلك قال نعم ولو كشف لك لرأيتهم حلقا حلقا محتبين يتحادثون فقلت أجسام أم أرواح فقال أرواح وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلا قيل لروحه الحقي بوادي السلام وإنها لبقعة من جنة عدن (٣).

٣٥ ـ المحاسن : عن ابن فضال عن حماد بن عثمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ذكر الأرواح أرواح المؤمنين فقال يلتقون فقلت يلتقون

__________________

(١) الكافي : ج ٣ ، ص ٢٤٤.

(٢) المصدر : ج ٣ ، ص ٢٤٧.

(٣) المصدر : ج ٣ ، ص ٢٤٣.


قال : يلتقون ويتساءلون ويتعارفون حتى إذا رأيته قلت فلان (١).

٣٦ ـ الفقيه : بسنده الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى يرفع إلى إبراهيم وسارة أطفال المؤمنين يغذونهم بشجر في الجنة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من در فإذا كان يوم القيامة ألبسوا وطيبوا وهدوا إلى آبائهم فهم ملوك في الجنة مع آبائهم وهو قول الله عزوجل « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » (٢)

٣٧ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن أخيه إسحاق عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له بلغني أن يوم الجمعة أقصر الأيام قال كذلك هو قلت جعلت فداك كيف ذلك قال إن الله تبارك وتعالى يجمع أرواح المشركين تحت عين الشمس فإذا ركدت الشمس عذب الله أرواح المشركين بركود الشمس ساعة فإذا كان يوم الجمعة لا يكون للشمس ركود رفع الله عنهم العذاب لفضل يوم الجمعة فلا يكون للشمس ركود (٣).

٣٨ ـ ومنه : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب ويستر عنه ما يكره وإن الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحب قال وفيهم (٤) من يزور كل جمعة ومنهم من يزور على قدر عمله (٥).

٣٩ ـ ومنه : عن العدة عن سهل عن ابن محبوب عن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام قال : سألته عن الميت يزور أهله قال نعم فقلت في كم يزور قال في الجمعة وفي الشهر وفي السنة على قدر منزلته فقلت في أي صورة يأتيهم قال في صورة طائر لطيف يسقط على جدرهم ويشرف عليهم فإن رآهم بخير

__________________

(١) المحاسن : ١٧٨.

(٢) الفقيه : ٤٣٩ ، والآية في سورة الطور : ٢١.

(٣) الكافي : ج ٣ ، ص ٤١٦.

(٤) في المصدر : منهم.

(٥) الكافي : ج ٣ ص ٢٣٠.


فرح وإن رآهم بشر وحاجة حزن واغتم (١).

وفي رواية أخرى عن إسحاق قال : قلت في أي صورة قال في صورة العصفور أو أصغر من ذلك (٢).

أقول : قد أوردت أمثال هذه الأخبار مشروحة في كتاب المعاد وإنما أوردت قليلا منها هاهنا لدلالتها على حقيقة الروح والنفس وأحوالهما.

٤٠ ـ دعوات الراوندي : روي أن في العرش تمثالا لكل عبد فإذا اشتغل العبد بالعبادة رأت الملائكة تمثاله وإذا اشتغل بالمعصية أمر الله بعض الملائكة حتى يحجبوه بأجنحتهم لئلا تراه الملائكة فذلك معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا من أظهر الجميل وستر القبيح.

بيان : ربما يستدل به على أن الجسد المثالي موجود في حال الحياة أيضا.

٤١ ـ الكافي : عن علي بن محمد (٣) عن صالح بن أبي حماد عن الوشاء عن كرام عن عبد الله بن طلحة قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الوزغ فقال رجس وهو مسخ كله فإذا قتلته فاغتسل وقال إن أبي كان قاعدا في الحجر ومعه رجل يحدثه فإذا هو بوزغ يولول بلسانه فقال أبي للرجل أتدري ما يقول هذا الوزغ فقال لا علم لي بما يقول قال فإنه يقول والله لئن ذكرتم عثمان بشتيمة لأشتمن عليا حتى يقوم من هاهنا قال وقال أبي ليس يموت من بني أمية ميت إلا مسخ وزغا قال وقال إن عبد الملك بن مروان لما نزل به الموت مسخ وزغا فذهب من بين يدي من كان عنده وكان عنده ولده فلما أن فقدوه عظم ذلك عليهم فلم يدروا كيف يصنعون ثم اجتمع أمرهم على أن يأخذوا جذعا فيصنعوه كهيئة الرجل قال ففعلوا ذلك وألبسوا الجذع درع حديد ثم ألقوه (٤) في الأكفان فلم يطلع عليه أحد من الناس إلا

__________________

(١) الكافي : ج ٣ ، ص ٢٣٠.

(٢) المصدر : ج ٣ ٢٣١.

(٣) الظاهر أنه علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الكليني المعروف بعلان ، وهو ثقة ، لكن الرواية مجهولة بعبد الله بن طلحة.

(٤) في المصدر « لفوه » وهو الصواب.


أنا وولده (١).

بيان : المشهور استحباب ذلك الغسل واستندوا في ذلك إلى رواية مرسلة رواها الصدوق في الفقيه وقيل إن العلة في ذلك أنه يخرج من ذنوبه فيغتسل كغسل التوبة وقال المحقق في المعتبر وعندي أن ما ذكره ابن بابويه ليس بحجة وما ذكره المعلل ليس طائلا.

أقول : كأنهم غفلوا عن هذا الخبر إذ لم يذكروه في مقام الاحتجاج وإن كان مجهولا يولول أي يصوت والشتيمة الاسم من الشتم إلا مسخ وزغا إما بمسخه قبل موته أو بتعلق روحه بجسد مثالي على صورة الوزغ وهما ليسا تناسخا كما مر وسيأتي أو بتغيير جسده الأصلي إلى تلك الصورة كما هو ظاهر آخر الخبر لكن يشكل تعلق الروح به قبل الرجعة والبعث ويمكن أن يكون قد ذهب بجسده إلى الجحيم أو أحرق وتصور لهم جسده المثالي وإلباس الجذع درع الحديد ليصير ثقيلا أو لأنه إن مسه أحد فوق الكفن لا يحس بأنه خشب.

٤٢ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمرو بن أبي المقدام عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام قال : والله ما من عبد من شيعتنا ينام إلا أصعد الله روحه إلى السماء فيبارك (٢) عليها فإن كان قد أتى عليها أجلها (٣) جعلها في كنوز رحمته وفي رياض جنته وفي ظل عرشه وإن كان أجلها متأخرا بعث بها مع أمنته من الملائكة ليردها إلى الجسد الذي خرجت منه لتسكن فيه الحديث (٤).

مجالس الصدوق : عن محمد بن الحسن عن محمد بن الحسن الصفار عن الحسين بن الحسن بن أبان عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبي عمير عن علي بن أبي حمزة

__________________

(١) روضة الكافي : ٢٣٢.

(٢) هذه الجملة ( فيبارك عليها ) غير موجودة في المجالس.

(٣) الضمائر كلها في المجالس على صيغة المذكر.

(٤) روضة الكافي : ٢١٣.


عن أبي بصير عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام مثله (١).

٤٣ ـ ومنه : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن خالد عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وساق الحديث إلى أن قال : يا علي إن أرواح شيعتك لتصعد إلى السماء في رقادهم ووفاتهم فتنظر الملائكة إليها كما ينظر الناس إلى الهلال شوقا إليهم ولما يرون منزلتهم عند الله عز وجل (٢) الخبر.

٤٤ ـ الفقيه : بإسناده عن أبي عبيدة الحذاء وعن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عز وجل « تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ » فقال لعلك ترى أن القوم لم يكونوا ينامون فقلت الله ورسوله أعلم فقال لا بد لهذا البدن أن تريحه حتى تخرج نفسه فإذا خرج النفس استراح البدن ورجعت الروح فيه وفيه قوة على العمل الحديث (٣).

بيان : قال بعض المحققين الفرق بين الموت والنوم أن في الموت ينقطع تعلق النفس الناطقة وفي النوم يبطل تصرفها فالمراد من خروج النفس الناطقة هنا بطلان تصرفها في البدن والمراد من الروح هذا الجسم البخاري اللطيف الذي يكون من لطافة الأغذية وبخاراتها وله مدخل عظيم في نظام البدن.

٤٥ ـ في رسالة الإهليلجة التي كتب الصادق عليه‌السلام إلى المفضل بن عمر وذكر فيها احتجاجه في إثبات الصانع تعالى على الطبيب الهندي قال عليه‌السلام قلت أفتقر بأن الله خلق الخلق أم قد بقي في نفسك شيء من ذلك قال إني من ذلك على حد وقوف ما أتخلص إلى أمر ينفذ لي فيه الأمر قلت أما إذا أبيت إلا الجهالة وزعمت أن الأشياء لا تدرك إلا بالحواس فإني أخبرك أنه ليس للحواس دلالة على الأشياء ولا فيها معرفة إلا بالقلب فإنه دليلها ومعرفها الأشياء التي تدعي أن القلب لا يعرفها إلا بها فقال أما إذا نطقت بهذا فما أقبل منك إلا بالتخليص والتفحص منه

__________________

(١) المجالس : ٣٧٣.

(٢) المجالس : ٣٣٦.

(٣) الفقيه : ١٢٧.


بإيضاح وبيان وحجة وبرهان.

قلت : فأول ما أبدأ به أنك تعلم أنه ربما ذهبت الحواس أو بعضها ودبر القلب للأشياء التي فيها المضرة والمنفعة من الأمور العلانية والخفية فأمر بها ونهى فنفذ فيها أمره وصح فيها قضاؤه قال إنك تقول في هذا قولا يشبه الحجة ولكني أحب أن توضحه لي غير هذا الإيضاح قلت ألست تعلم أن القلب يبقى بعد ذهاب الحواس قال نعم ولكن يبقى بغير دليل على الأشياء التي تدل عليها الحواس قلت فلست تعلم أن الطفل تضعه أمه مضغة ليس تدله الحواس على شيء يسمع ولا يبصر ولا يذاق ولا يلمس ولا يشم قال بلى قلت فأية الحواس دلته على طلب اللبن إذا جاع والضحك بعد البكاء إذا روي من اللبن وأي حواس سباع الطير ولاقط الحب منها دلها على أن تلقي بين أفراخها اللحم والحب فتأوي سباعها إلى اللحم والآخرون إلى الحب؟

وأخبرني عن فراخ طير الماء ألست تعلم أن فراخ طير الماء إذا طرحت فيه سبحت وإذا طرحت فيه فراخ طير البر غرقت والحواس واحدة فكيف انتفع بالحواس طير الماء وأعانته على السباحة ولم ينتفع طير البر في الماء بحواسها وما بال طير البر إذا غمستها في الماء ساعة ماتت وإذا أمسكت طير الماء ساعة ماتت فلا أرى الحواس في هذا إلا منكسرا عليك ولا ينبغي ذلك أن يكون إلا من مدبر حكيم جعل للماء خلقا وللبر خلقا.

أم أخبرني ما بال الذرة التي لا تعاين الماء قط تطرح في الماء فتسبح وتلقى الإنسان ابن خمسين سنة من أقوى الرجال وأعقلهم لم تتعلم السباحة فيغرق كيف لم يدله عقله ولبه وتجاربه وبصره بالأشياء مع اجتماع حواسه وصحتها أن يدرك ذلك بحواسه كما أدركته الذرة إن كان ذلك إنما يدرك بالحواس أفليس ينبغي لك أن تعلم أن القلب الذي هو معدن العقل في الصبي الذي وصفت وغيره مما سمعت من الحيوان هو الذي يهيج الصبي إلى طلب الرضاع والطير اللاقط على لقط الحب والسباع على ابتلاع اللحم؟!


قال : لست أجد القلب يعلم شيئا إلا بالحواس.

قلت : أما إذا أبيت إلا النزوع إلى الحواس فإنا نقبل نزوعك إليها بعد رفضك لها ونجيبك في الحواس حتى يتقرر عندك أنها لا تعرف من سائر الأشياء إلا الظاهر مما هو دون الرب الأعلى سبحانه وتعالى فأما ما يخفى ولا يظهر فلست تعرفه وذلك أن خالق الحواس جعل لها قلبا احتج به على العباد وجعل الحواس الدلالات على الظاهر الذي يستدل بها على الخالق سبحانه فنظرت العين إلى خلق متصل بعضه ببعض فدلت القلب على ما عاينت وتفكر القلب حين دلته العين على ما عاينت من ملكوت السماء وارتفاعها في الهواء بغير عمد يرى ولا دعائم تمسكها لا تؤخر مرة فتنكشط ولا تقدم أخرى فتزول ولا تهبط مرة فتدنو ولا ترتفع أخرى فتنأى لا تتغير لطول الأمل (١) ولا تخلق لاختلاف الليالي والأيام ولا يتداعى منها ناحية ولا ينهار منها طرف مع ما عاينت من النجوم الجارية السبعة المختلفة بمسيرها لدوران الفلك وتنقلها في البروج يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وسنة بعد سنة منها السريع ومنها البطيء ومنها المعتدل السير ثم رجوعها واستقامتها وأخذها عرضا وطولا وخنوسها عند الشمس وهي مشرقة وظهورها إذا غربت وجري الشمس والقمر في البروج دائبين لا يتغيران في أزمنتهما وأوقاتهما يعرف ذلك من يعرف بحساب موضوع وأمر معلوم بحكمته يعرف ذوو الألباب أنها ليست من حكمة الإنس ولا تفتيش الأوهام ولا تقليب التفكر فعرف القلب حين دلته العين على ما عاينت أن لذلك الخلق والتدبير والأمر العجيب صانعا يمسك السماء المنطبقة أن تهوي إلى الأرض وأن الذي جعل الشمس والنجوم فيها خالق السماء ثم نظرت العين إلى ما استقلها من الأرض فدلت القلب على (٢) ما عاينت فعرف القلب بعقله أن ممسك الأرض الممهدة أن تزول أو تهوي في الهواء أو هو يرى الريشة ترمى بها فتسقط مكانها وهي في الخفة على ما هي عليه هو الذي يمسك السماء التي فوقها وأنه لو لا ذلك لخسفت بما عليها من ثقلها وثقل الجبال والأنام والأشجار والبحور والرمال فعرف القلب

__________________

(١) الأجل خ.

(٢) إلى خ.


بدلالة العين أن مدبر الأرض هو مدبر السماء ثم سمعت الأذن صوت الرياح الشديدة العاصفة واللينة الطيبة وعاينت العين ما يقلع من عظام الشجر ويهدم من وثيق البنيان وتسفي من ثقال الرمال تخلي منها ناحية وتصبها في أخرى بلا سائق تبصره العين ولا تسمعه الأذن ولا يدرك بشيء من الحواس وليست مجسدة تلمس ولا محدودة تعاين فلم تزد العين والأذن وسائر الحواس على أن دلت القلب أن لها صانعا وذلك أن القلب يفكر بالعقل الذي فيه فيعرف أن الريح لم تتحرك من تلقائها وأنها لو كانت هي المحركة لم يكفف عن التحرك ولم تهدم طائفة وتعفي أخرى ولم تقلع شجرة وتدع أخرى إلى جنبها ولم تصب أرضا وتنصرف عن أخرى فلما تفكر القلب في أمر الريح علم أن لها محركا هو الذي يسوقها حيث يشاء ويسكنها إذا شاء ويصيب بها من يشاء ويصرفها عمن يشاء فلما نظر القلب إلى ذلك وجدها متصلة بالسماء وما فيها من الآيات فعرف أن المدبر القادر على أن يمسك الأرض والسماء هو خالق الريح ومحركها إذا شاء وممسكها كيف شاء ومسلطها على من يشاء.

وكذلك دلت العين والأذن القلب على هذه الزلزلة وعرف ذلك بغيرهما من حواسه حين حركته فلما دل الحواس على تحريك هذا الخلق العظيم من الأرض في غلظها وثقلها وطولها وعرضها وما عليها من ثقل الجبال والمياه والأنام وغير ذلك وإنما يتحرك في ناحية ولم يتحرك في ناحية أخرى وهي ملتحمة جسدا واحدا وخلقا متصلا بلا فصل ولا وصل تهدم ناحية وتخسف بها وتسلم أخرى فعندها عرف القلب أن محرك ما حرك منها هو ممسك ما أمسك منها وهو محرك الريح وممسكها وهو مدبر السماء والأرض وما بينهما وأن الأرض لو كانت هي المتزلزلة لنفسها لما تزلزلت ولما تحركت ولكنه الذي دبرها وخلقها حرك منها ما شاء ثم نظر العين إلى العظيم من الآيات من السحاب المسخر بين السماء والأرض بمنزلة الدخان لا جسد له يلمس بشيء من الأرض والجبال يتخلل الشجرة فلا يحرك منها شيئا ولا يهصر منها غصنا ولا يعلق منها بشيء يعترض الركبان فيحول بعضهم من بعض من ظلمته وكثافته ويحتمل من


ثقل الماء وكثرته ما لا يقدر على صفته مع ما فيه من الصواعق الصادعة والبروق اللامعة والرعد والثلج والبرد والجليد ما لا تبلغ الأوهام صفته ولا تهتدي القلوب إلى كنه عجائبه فيخرج مستقلا في الهواء يجتمع بعد تفرقه ويلتحم بعد تزايله تفرقه الرياح من الجهات كلها إلى حيث تسوقه بإذن الله ربها يسفل مرة ويعلو أخرى متمسك بما فيه من الماء الكثير الذي إذا أزجاه صارت منه البحور يمر على الأراضي الكثيرة والبلدان المتنائية لا تنقص منه نقطة حتى ينتهي إلى ما لا يحصى من الفراسخ فيرسل ما فيه قطرة بعد قطرة وسيلا بعد سيل متتابع على رسله حتى ينقع البرك وتمتلئ الفجاج وتعتلي الأودية بالسيول كأمثال الجبال غاصة بسيولها مصمخة الآذان لدويها وهديرها فتحيا بها الأرض الميتة فتصبح مخضرة بعد أن كانت مغبرة ومعيشة بعد أن كانت مجدبة قد كسبت ألوانا من نبات عشب ناضرة زاهرة مزينة معاشا للناس والأنعام فإذا أفرغ الغمام ماءه أقلع وتفرق وذهب حيث لا يعاين ولا يدرى أين توارى فأدت العين ذلك إلى القلب أن ذلك السحاب لو كان بغير مدبر وكان ما وصفت من تلقاء نفسه ما احتمل نصف ذلك من الثقل من الماء وإن كان هو الذي يرسله لما احتمله ألفي فرسخ أو أكثر ولأرسله فيما هو أقرب من ذلك ولما أرسله قطرة بعد قطرة بل كان يرسله إرسالا فكان يهدم البنيان ويفسد النبات ولما جاز إلى بلد وترك آخر دونه فعرف القلب بالأعلام المنيرة الواضحة أن مدبر الأمور واحد وأنه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان في طول هذه الأزمنة والأبد والدهر اختلاف في التدبير وتناقض في الأمور ولتأخر بعض وتقدم بعض ولكان تسفل بعض ما قد علا ولعلا بعض ما قد سفل ولطلع شيء وغاب فتأخر عن وقته أو تقدم ما قبله فعرف القلب بذلك أن مدبر الأشياء ما غاب منها وما ظهر هو الله الأول خالق السماء وممسكها وفارش الأرض وداحيها وصانع ما بين ذلك مما عددنا وغير ذلك مما لم يحص.

وكذلك عاينت العين اختلاف الليل والنهار دائبين جديدين لا يبليان في طول كرهما ولا يتغيران لكثرة اختلافهما ولا ينقصان عن حالهما النهار في نوره وضيائه والليل في سواده وظلمته يلج أحدهما في الآخر حتى ينتهي كل واحد منهما إلى غاية ـ


محدودة معروفة في الطول والقصر على مرتبة واحدة ومجرى واحد مع سكون من يسكن في الليل وانتشار من ينتشر في النهار وانتشار من ينتشر في الليل وسكون من يسكن في النهار ثم الحر والبرد وحلول أحدهما بعقب الآخر حتى تكون الحر بردا والبرد حرا في وقته وإبانه فكل هذا مما يستدل به القلب على الرب سبحانه وتعالى فعرف القلب بعقله أن مدبر هذه الأشياء هو الواحد العزيز الحكيم الذي لم يزل ولا يزال وأنه لو كان في السماوات والأرضين آلهة معه سبحانه لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ولفسد كل واحد منهم على صاحبه.

وكذلك سمعت الأذن ما أنزل المدبر من الكتب تصديقا لما أدركته القلوب بعقولها وتوفيق الله إياها وما قاله من عرفه كنه معرفته بلا ولد ولا صاحبة ولا شريك فأدت الأذن ما سمعت من اللسان بمقالة الأنبياء إلى القلب.

فقال : قد أتيتني من أبواب لطيفة بما لم يأتني به أحد غيرك إلا أنه لا يمنعني من ترك ما في يدي إلا الإيضاح والحجة القوية بما وصفت لي وفسرت وقلت أما إذا حجبت عن الجواب واختلف منك المقال فسيأتيك من الدلالة من قبل نفسك خاصة ما يستبين لك أن الحواس لا تعرف شيئا إلا بالقلب فهل رأيت في المنام أنك تأكل وتشرب حتى وصلت لذة ذلك إلى قلبك قال نعم قلت فهل رأيت أنك تضحك وتبكي وتجول في البلدان التي لم ترها والتي قد رأيتها حتى تعلم معالم ما رأيت منها قال نعم ما لا أحصي قلت فهل رأيت أحدا من أقاربك من أخ أو أب أو ذي رحم قد مات قبل ذلك حتى تعلمه وتعرفه كمعرفتك إياه قبل أن يموت قال أكثر من الكثير قلت فأخبرني أي حواسك أدرك هذه الأشياء في منامك حتى دلت قلبك على معاينة الموتى وكلامهم وأكل طعامهم والجولان في البلدان والضحك والبكاء وغير ذلك قال ما أقدر أن أقول لك أي حواسي أدرك ذلك أو شيئا منه وكيف تدرك وهي بمنزلة الميت لا تسمع ولا تبصر قلت فأخبرني حيث استيقظت ألست قد ذكرت الذي رأيت في منامك تحفظه وتقصه بعد يقظتك على إخوانك لا تنسى منه حرفا قال إنه كما تقول وربما رأيت الشيء في منامي ثم لا أمسي حتى أراه في يقظتي كما


رأيته في منامي قلت فأخبرني أي حواسك قررت علم ذلك في قلبك حتى ذكرته بعد ما استيقظت قال إن هذا الأمر ما دخلت فيه الحواس قلت أفليس ينبغي لك أن تعلم حيث بطلت الحواس في هذا أن الذي عاين تلك الأشياء وحفظها في منامك قلبك الذي جعل الله فيه العقل الذي احتج به على العباد قال إن الذي رأيت في منامي ليس بشيء إنما هو بمنزلة السراب الذي يعاينه صاحبه وينظر إليه لا يشك أنه ماء فإذا انتهى إلى مكانه لم يجده شيئا فما رأيت في منامي فبهذه المنزلة.

قلت : كيف شبهت السراب بما رأيت في منامك من أكلك الطعام الحلو والحامض وما رأيت من الفرح والحزن قال لأن السراب حيث انتهيت إلى موضعه صار لا شيء وكذلك صار ما رأيت في منامي حين انتبهت قلت فأخبرني إن أتيتك بأمر وجدت لذته في منامك وخفق لذلك قلبك ألست تعلم أن الأمر على ما وصفت لك قال بلى قلت فأخبرني هل احتلمت قط حتى قضيت في امرأة نهمتك (١) عرفتها أم لم تعرفها قال بلى ما لا أحصيه قلت ألست وجدت لذلك لذة على قدر لذتك في يقظتك فتنتبه وقد أنزلت الشهوة حتى يخرج منك بقدر ما يخرج في اليقظة هذا كسر بحجتك في السراب.

قال ما يرى المحتلم في منامه شيئا إلا ما كانت حواسه دلت عليه في اليقظة قلت ما زدت على أن قويت مقالتي وزعمت أن القلب يعقل الأشياء ويعرفها بعد ذهاب الحواس وموتها فكيف أنكرت أن القلب يعرف الأشياء وهو يقظان مجتمعة له حواسه وما الذي عرفه إياها بعد موت الحواس وهو لا يسمع ولا يبصر ولكنت حقيقا أن لا تنكر له المعرفة وحواسه حية مجتمعة إذا أقررت أنه ينظر إلى الامرأة بعد ذهاب حواسه حتى نكحها وأصاب لذته منها فينبغي لمن يعقل حيث وصف القلب بما وصفه به من معرفته بالأشياء والحواس ذاهبة أن يعرف أن القلب مدبر الحواس وملكها ورأسها والقاضي عليها فإنه ما جهل الإنسان من شيء فما يجهل أن اليد لا تقدر على العين أن تقلعها ولا على اللسان أن تقطعه وأنه ليس يقدر شيء من الحواس

__________________

(١) أي شهوتك.


أن يفعل بشيء من الجسد شيئا بغير إذن القلب ودلالته وتدبيره لأن الله تبارك وتعالى جعل القلب مدبرا للجسد به يسمع وبه يبصر وهو القاضي والأمير عليه لا يتقدم الجسد إن هو تأخر ولا يتأخر إن هو تقدم وبه سمعت الحواس وأبصرت إن أمرها ائتمرت وإن نهاها انتهت وبه ينزل الفرح والحزن وبه ينزل الألم إن فسد شيء من الحواس بقي على حاله وإن فسد القلب ذهب جميعها حتى لا يسمع ولا يبصر.

قال لقد كنت أظنك لا تتخلص من هذه المسألة وقد جئت بشيء لا أقدر على رده قلت وأنا أعطيك تصاديق ما أنبأتك به وما رأيت في منامك في مجلسك الساعة.

قال افعل فإني قد تحيرت في هذه المسألة قلت أخبرني هل تحدث نفسك من تجارة أو صناعة أو بناء أو تقدير شيء وتأمر به إذا أحكمت تقديره في ظنك قال نعم قلت فهل أشركت قلبك في ذلك الفكر شيئا من حواسك قال لا قلت أفلا تعلم أن الذي أخبرك به قلبك حق قال اليقين هو فزدني ما يذهب الشك عني ويزيل الشبهة من قلبي.

أقول : قد عرفت أن القلب يطلق في لسان الشرع في الآيات والأخبار على النفس الناطقة ولما كان السائل منكرا لإدراك ما سوى الحواس الظاهرة نبهه عليه‌السلام على خطائه بمدركات الحواس الباطنة التي هي من آلات النفس وقد مر شرح الفقرات وتمام الحديث في كتاب التوحيد.

٤٦ ـ الدر المنثور : عن ابن عباس في قوله « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ » الآية قال نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فيتوفى الله النفس في منامه ويدع الروح في جوفه يتقلب ويعيش فإن بدا لله أن يقبضه قبض الروح فمات وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه (١).

٤٧ ـ وعن ابن عباس في قوله « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ » الآية قال كل نفس لها سبب تجري فيه فإذا قضى عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب والتي لم تمت تترك (٢).

__________________

(١) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ٣٢٩.

(٢) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ٣٢٩.


٤٨ ـ وعن ابن عباس في الآية قال سبب ممدود (١) ما بين المشرق والمغرب بين السماء والأرض فأرواح الموتى وأرواح الأحياء تأوي إلى ذلك السبب فتعلق النفس الميتة بالنفس الحية فإذا أذن لهذه الحية بالانصراف إلى جسدها تستكمل رزقها أمسكت النفس الميتة وأرسلت الأخرى (٢).

٤٩ ـ وعن جحيفة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سفره الذي ناموا فيه حتى طلعت الشمس ثم قال إنكم كنتم أمواتا فرد الله إليكم أرواحكم (٣).

٥٠ ـ شهاب الأخبار : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

ضوء الشهاب : هذا الحديث مما تسكب فيه العبرات ولا تؤمن في تفسيره العثرات وأنا مورد فيه بقدر ما رزقني الله تعالى من العلم به فأقول إن أصل كلمة روح موضوع للطيب والطهارة فتسمى روح الإنسان روحا والملائكة المطهرون أرواحا وروح القدس جبرئيل عليه‌السلام والروح اسم ملك آخر قال تعالى « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » وعيسى عليه‌السلام روح الله والنسبة إلى الملائكة والجن روحاني بالضم وهم الروحانيون ويقال لكل ذي روح روحاني قاله أبو عبيدة والروح الراحة ومكان روحاني طيب والريح واحدة الرياح والأرواح أصلها روح فقلبت الواو ياء لمكان كسرة الراء والراح والرياح بفتح الراء الخمر وروح وريحان أي رحمة ورزق والروح والنسيم والريحان المشموم ومن ذلك الروح التي يحيا بها الإنسان سميت بذلك لطهارتها وطيبها في الخلقة وفي مبدإ التكوين وقال أصحاب الأصول الروح النفس المتردد في مخارق الحي وعلى ذلك قال الشاعر :

فقلت له ارفعها إليك وأحيها

بروحك واجعلها له قبة (٤) قدرا

__________________

(١) في المصدر : ممدود بين السماء والأرض.

(٢) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ٣٢٩.

(٣) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ٣٢٩.

(٤) في بعض النسخ « لها قتبة ».


وما يقوله قوم من أن الأرواح قائمة بالأجساد وأنها كانت قبل الأجساد بكذا وكذا عاما وأنها غير داخلة في الأجساد ولا خارجة منها وأنها تفنى إلى غير ذلك فنحن مستغنون عن ذكره فيما نحن بصدده وكتب الأصول والجدل أولى بذكر ذلك فقال بعض من تكلم في هذا الحديث إنه على حذف المضاف والتقدير ذوو الأرواح وهذا قريب المأخذ وعند جماعة من محققي أصحاب الأصول أنه يجوز عقلا أن يكون الله تعالى إذا استشهد الشهيد أو توفي النبي أو الصالح من بني آدم ينتزع من جسده أجزاء بقدر ما تحل الحياة التي كانت الجملة بها حية فيها فيردها إلى تلك الأجزاء فتصير حيا وإن كانت جثة صغيرة فيرفعه إلى حيث شاء فإنه لا اعتبار في الحي بالجثة وظاهر الكتاب يشهد بصحة ذلك حيث يقول تعالى « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ » إلى قوله تعالى « وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » (١) وفي الحديث أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ورق الجنة ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش وهذا الحديث مما يعضد هذه المقالة فعلى هذا تتعارف هذه الأجساد اللطيفة بعد موت صاحبها كما كانت في دار الدنيا تعرف بعضها بعضا فتتباشر فتأتلف وبالعكس.

وروت عائشة في سبب هذا الحديث أن مخنثا قدم المدينة فنزل على مخنث من غير أن يعلم أنه مخنث فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال الأرواح جنود مجندة الحديث وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله الأرواح جنود مجندة فتشام كما تشام الخيل فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فلو أن مؤمنا جاء إلى مجلس فيه مائة منافق ليس فيهم إلا مؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه أو كما قال : وروي عن عائشة أنها قالت كانت امرأة بمكة تدخل على نساء قريش تضحكهن فلما هاجرت إلى المدينة دخلت المدينة فدخلت علي قلت فلانة ما أقدمك قالت إليكن قلت فأين نزلت قالت على فلانة امرأة مضحكة بالمدينة فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت يا رسول الله دخلت فلانة المضحكة قال صلى‌الله‌عليه‌وآله فعلى من نزلت قلت على فلانة قال :

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩ ،.


المضحكة قلت نعم قال الحمد لله إن الأرواح جنود مجندة الحديث.

وفي كلام بعضهم الروح نقاب أي يعلم بالأشياء وهذه كناية عن العلم والفطنة والذكاء والمعرفة والدهاء والعرب تعبر بالروح عن الحياة والله الموفق.

وأقول إن تحقيق أمر الروح عسير ولا يعلم حقيقة ذلك إلا من خلقه وأوجده وركبه « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » ولو أراد الله تعالى أن يعلم حقيقته وماهيته بكنهه لأعلمناه وقال « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » فقال حتى نسكت عما أسكت الله عنه وقد أوردت بعض ما سمعت فيه وعلمت وأنت محكم فانظر فيه واحكم والتوقف فيه فرض من لا فرض له والله أعلم وأحكم ثم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفائدة الحديث إعلام أن الجنس إلى الجنس أميل وإليه أسوق وأشوق والتعارف مما يجر الائتلاف وبالعكس وراوية الحديث عائشة.

٥١ ـ شهاب الأخبار : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس معادن كمعادن الذهب والفضة.

الضوء : المعدن مستقر الجوهر من قولك عدن بالمكان إذا أقام فيه ومنه « جَنَّاتُ عَدْنٍ » أي إقامة والذهب الجسد المعروف الذي ذهب الناس فيه والقطعة ذهبة وذهب الرجل إذا رأى القطعة الكبيرة من الذهب في المعدن فدهش والفضة أحد الثمنين وهو أحد الأجساد أيضا فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس متفاوتون كتفاوت المعادن متفاضلون كتفاضل الجواهر المجلوبة منها فمنها الذهب والفضة والنحاس والحديد والأسرب والرصاص والزرنيخ والفيروزج وغير ذلك وكان الغرض النبوي أن يعلمك أن الناس متفاوتون أمثال الفلز والخرز ليسوا بأمثال وإن كانوا من جنس واحد ومورد هذا الحديث على العكس من مورد الحديث الذي قبله يعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الناس كأسنان المشط فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول إذا صادفت أحدا فتعرف أحواله وتجسس أفعاله وأقواله فإن كان صالحا فعليك به فهو من المعدن النفيس فإن كان طالحا فالهرب الهرب منه فهو من المعدن الخسيس وفائدة الحديث الإعلام بتفاوت الناس على أنهم بنو الرجل وراوي الحديث أبو هريرة وتمام الحديث خيارهم في الجاهلية خيارهم


في الإسلام إذا فقهوا يعني أن الخيار منهم في الجاهلية إذا تفقهوا فهم الخيار في الإسلام والله أعلم.

بيان : قال الطيبي هو تشبيه بليغ فكمعادن الذهب تأكيد أو مجاز عن التفاوت أي الناس متفاوتون في النسب بالشرف والضعة كتفاوت المعدن في الذهب والفضة وما دونهما وتفاوتهم في الإسلام بالقبول لفيض الله بحسب العلم والحكمة على مراتب وعدم قبوله وقيد إذا فقهوا يفيد أن الإيمان يرفع تفاوت الجاهلية فإذا تحلى (١) بالعلم استجلب النسب الأصلي فيجتمع شرف النسب والحسب وفيه أن الوضيع العالم أرفع من الشريف الجاهل.

٥٢ ـ الشهاب : الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة واحدة.

الضوء : الناس أصله أناس فخفف وليس الألف واللام عوضا من الهمزة المحذوفة لأنهما تجتمعان مع الهمزة كقوله إن المنايا يطلعن على الأناس الآمنيناوالناس بن مضر بن نزار اسم قيس عيلان والإبل البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه وأبل الوحشي يأبل أبولا وأبل يأبل إبلا اجتزأ عن الماء شبهت بالإبل في الصبر عن الماء وتأبل الرجل عن امرأته إذا ترك مقاربتها ورجل آبل وأبل حسن القيام على إبله وإبل مأبلة أي مجموعة والراحلة البعير الذي يصلح للارتحال وراحله عاونه على رحلته والمعنى والله أعلم أنه ذم للناس وأنه قلما يقع فيهم من هو كامل في بابه وقال أبو عبيد يعني أنهم متساوون ليس لأحد منهم فضل على أحد في النسب ولكنهم أشباه وأمثال كإبل مائة ليس فيها راحلة تتبين فيها وتتميز منها بالتمام وحسن المنظر والراحلة عند العرب تكون الجمل النجيب والناقة النجيبة يختارها الرجل لمركبه ودخول الهاء في الراحلة للمبالغة كما تقول رجل داهية وراوية للشعر وعلامة ونسابة ويقال إنها إنما سميت راحلة لأنها ترحل كما قال تعالى « فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ » أي مرضية وكما قال تعالى : « مِنْ ماءٍ دافِقٍ » أي مدفوق قال ويقال لفلان إبل إذا كانت له مائة من الإبل وإبلان :

__________________

(١) تجلى ( خ ).


إذا كانت له مائتان ويقال للمائة منها هنيدة معرفة لا تنصرف وقال أبو سليمان الخطابي يقال للمائتين هنيد بغير هاء والعهدة عليه وقال ابن قتيبة الراحلة هي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر فإذا كانت في جماعة الإبل عرفت يقول الناس متساوون ليس لأحد منهم فضل في النسب ولكنهم أشباه كإبل مائة ليس فيها راحلة وقد خطأه أبو منصور الأزهري لفظا ومعنى أما اللفظة فمن حيث جعل الناقة هي الراحلة قال وليس الجمل عنده راحلة والراحلة عند العرب تكون الجمل النجيب والناقة النجيبة وأما المعنى أنه يعز فيهم الكامل الفاضل زهدا في الدنيا ورغبة في الآخرة هذا معنى كلام الأزهري وفائدة الحديث ذم الناس وأن الكامل فيهم قلما يوجد وراوي الحديث عبد الله بن عمر.

بيان : قال في النهاية يعني أن المرضي المنتجب من الناس في عزة وجوده كالنجيب من الإبل القوي على الأحمال والأسفار الذي لا يوجد في كثير من الإبل قال الأزهري الذي عندي فيه أن الله تعالى ذم الدنيا وحذر العباد سوء مغبتها (١) وضرب لهم فيها الأمثال ليعتبروا ويحذروا وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يحذرهم ما حذرهم الله ويزهدهم فيها فرغب أصحابه بعده فيها تنافسوا عليها حتى كان الزهد في النادر القليل منهم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله تجدون الناس من بعدي كإبل مائة ليس فيها راحلة أي أن الكامل في الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة قليل كقلة الراحلة في الإبل والراحلة هي البعير القوي على الأسفار والأحمال النجيب التام الخلق الحسن المنظر ويقع على الذكر والأنثى والهاء فيه للمبالغة انتهى وقال الكرماني وقيل أي الناس في أحكام الدين سواء لا فضل فيها لشريف على مشروف ولا لرفيع على وضيع كإبل لا راحلة فيها وهي التي ترحل لتركب أي كلها تصلح للجمل لا للركوب.

أقول : قد مر بعض الأخبار المناسبة لهذا الباب في أبواب المعاد وأبواب خلق أرواح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام وسيأتي بعضها في الأبواب الآتية إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أي عاقبتها.


تذييل وتفصيل

في بيان أقوال الحكماء والصوفية والمتكلمين من الخاصة والعامة في حقيقة النفس والروح ثم بيان ما ظهر من الآيات والأخبار في ذلك.

قال شارح المقاصد في بيان آراء الحكماء والمتكلمين في النفس لما عرفت أن الجوهر المجرد إن تعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف فنفس وإلا فعقل وقد يطلق لفظ النفس على ما ليس بمجرد بل مادي كالنفس النباتية التي هي مبدأ أفاعيله من التغذية والتنمية والتوليد والنفس الحيوانية التي هي مبدأ الحس والحركة الإرادية ويجعل النفس الأرضية اسما لها والنفس الناطقة الإنسانية فيفسر بأنها كمال أول لجسم طبيعي إلى ذي حياة بالقوة ثم قال مقتضى قواعدهم أي الفلاسفة أن يكون في الإنسان نفس هي مبدأ تعقل الكليات وأخرى مبدأ الحركات والإحساسات وأخرى مبدأ التغذية والتنمية وتوليد المثل (١) لكن ذكر في شرح الإشارات وغيره أن ليس الأمر كذلك بل المركبات منها ما له صورة معدنية يقتصر فعلها على حفظ المواد المجتمعة من الأسطقسات المتضادة بكيفياتها المتداعية إلى الانفكاك لاختلاف ميولها إلى أمكنتها المختلفة ومنها ما له صورة تسمى نفسا نباتية يصدر عنها مع الحفظ المذكور جمع أجزاء أخر من الأسطقسات وإضافتها إلى مواد المركب وصرفها في وجوه التغذية والإنماء والتوليد ومنها ما له صورة تسمى نفسا حيوانية يصدر عنها مع الأفعال النباتية والحفظ المذكور الحس والحركة الإرادية ومنها ما له نفس مجردة يصدر عنها مع الأفعال السابقة كلها النطق وما يتبعه.

ثم قال : ولما يثبت عند المتكلمين اختلاف أنواع الأجسام واستناد الآثار إليها ليحتاج إلى فصول منوعة ومباد مختلفة بنوا إثبات النفس على الأدلة السمعية

__________________

(١) غاية ما تقتضيه قواعد الفلسفة اثبات مبادئ لهذه الافاعيل ، لكن هذا لا ينافى اتحاد جميع هذه المبادى بالنفس اتحاد المراتب الناقصة بالكاملة ، فقد اثبتوا ان النفس في وحدتها كل القوى واقاموا عليها براهين مذكورة في محالها.


والتنبهات العقلية مثل أن البدن وأعضاءه الظاهرة والباطنة دائما في التبدل والتحلل والنفس بحالها وأن الإنسان الصحيح العقل قد يغفل عن البدن وأجزائه ولا يغفل بحال عن وجود ذاته وأنه قد يريد ما يمانعه البدن مثل الحركة إلى العلو.

وبالجملة قد اختلف كلمة الفريقين في حقيقة النفس فقيل هي النار السارية في الهيكل المحسوس وقيل الهواء وقيل الماء وقيل العناصر الأربعة والمحبة والغلبة أي الشهوة والغضب وقيل الأخلاط الأربعة وقيل الدم وقيل نفس كل شخص مزاجه الخاص وقيل جزء لا يتجزأ في القلب وكثير من المتكلمين على أنها الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره وكأن هذا مراد من قال هي هذا الهيكل المخصوص والبنية المحسوسة أي التي من شأنها أن يحس بها وجمهورهم على أنه جسم مخالف بالماهية للجسم الذي يتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته نافذ في جواهر الأعضاء سار فيها سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال بقاؤه في الأعضاء حياة وانتقاله عنها إلى عالم الأرواح موت وقيل إنها أجسام لطيفة متكونة في القلب سارية في الأعضاء من طريق الشرايين أي العروق الضاربة أو متكونة في الدماغ نافذة في الأعصاب الثابتة منه إلى جملة البدن.

واختار المحققون من الفلاسفة وأهل الإسلام (١) إلى أنها جوهر مجرد في ذاته متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف ومتعلقه أولا هو ما ذكره المتكلمون من الروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الأغذية ولطيفه ويفيده قوة بها يسري في جميع البدن فيفيد كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى المذكورة فيما سبق.

احتج القائلون بأنها من قبيل الأجسام بوجوه : الأول : أن المدرك للكليات أعني النفس هو بعينه المدرك للجزئيات لأنا نحكم بالكلي على الجزئي كقولنا هذه الحرارة حرارة والحاكم بين الشيئين لا بد أن يتصورهما والمدرك للجزئيات جسم لأنا نعلم بالضرورة أنا إذا لمسنا النار كان المدرك لحرارتها هو العضو اللامس

__________________

(١) كذا ، والظاهر زيادة لفظة « الى ».


ولأن غير الإنسان من الحيوانات يدرك الجزئيات مع أن الاتفاق على أنا لا نثبت لها نفوسا مجردة.

ورد بأنا لا نسلم أن المدرك لهذه الحرارة هو العضو اللامس بل النفس بواسطته ونحن لا ننازع في أن المدرك للكليات والجزئيات هو النفس لكن للكليات بالذات وللجزئيات بالآلات وإذا لم نجعل العضو مدركا أصلا لا يلزم أن يكون الإدراك مرتين والإنسان مدركين على ما قيل.

ويمكن دفعه بأنه يستلزم إما إثبات النفوس المجردة للحيوانات الأخر وإما جعل إحساساتها للقوى والأعضاء وإحساسات الإنسان للنفس بواسطتها مع القطع بعدم التفاوت (١).

الثاني : أن كل واحد منا يعلم قطعا أن المشار إليه بأنا وهو النفس يتصف بأنه حاضر هناك وقائم وقاعد وماش وواقف ونحو ذلك من خواص الأجسام والمتصف بخاصة الجسم جسم وقريب من ذلك ما يقال إن للبدن إدراكات هي بعينها إدراكات المشار إليه بأنا أعني النفس مثل إدراك حرارة النار وبرودة الجمد وحلاوة العسل وغير ذلك من المحسوسات فلو كانت النفس مجردة أو مغايرة للبدن امتنع أن تكون صفتها غير صفته.

والجواب : أن المشار إليه بأنا وإن كان هو النفس على الحقيقة لكن كثيرا ما يشار به إلى البدن أيضا لشدة ما بينهما من التعلق فحيث يوصف بخواص الأجسام

__________________

(١) ثبوت مرتبة من التجرد لنفوس سائر الحيوانات مثل ما تثبت لنفوس الاطفال مما لا ينفيه برهان إن لم يكن مما يثبته : واما دعوى القطع بعدم الفرق بين ادراك الإنسان وسائر الحيوانات فغير مقبولة ، فان القطع لو حصل فانما يحصل بمشابهة مبادئ الاحساس في جميع الحيوانات ، واما عدم اتحاد بعض هذه المبادى بمبدإ أقوى وأكمل في بعضها ـ وهو لنفس الناطقة في الإنسان ـ فمما لا يسمع دعوى القطع فيه. والافعال الصادرة من الإنسان كلها مستندة الى النفس ، ومنها ما يشترك بينها وبين النبات ، فهل يصح دعوى القطع بعدم التفاوت بين الافعال المشتركة بينهما؟.


كالقيام والقعود وكإدراك المحسوسات عند من يجعل المدرك نفس الأعضاء والقوى لا النفس بواسطتها فالمراد به البدن وليس معنى هذا الكلام أنها لشدة تعلقها بالبدن واستغراقها في أحواله يغفل فيحكم عليها بما هو من خواص الأجسام كما فهمه صاحب الصحائف ليلزم كونها في غاية الغفلة.

الثالث : أنها لو كانت مجردة لكانت نسبتها إلى جميع البدن على السواء فلم يتعلق ببدن دون آخر وعلى تقدير التعلق جاز أن ينتقل من بدن إلى بدن آخر وحينئذ لم يصح الحكم بأن زيدا الآن هو الذي كان بالأمس.

ورد بأنا لا نسلم أن نسبتها إلى الكل على السواء بل لكل نفس بدن لا يليق بمزاجه واعتداله إلا لتلك النفس الفائضة عليه بحسب استعداده الحاصل باعتداله الخاص (١).

الرابع : النصوص الظاهرة من الكتاب والسنة تدل على أنها تبقى بعد خراب البدن وتتصف بما هو من خواص الأجسام كالدخول في النار وعرضها عليها وكالترفرف حول الجنازة وككونها في قناديل من نور أو في جوف طيور خضر وأمثال ذلك ولا خفاء في احتمال التأويل وكونها على طريق التمثيل ولهذا تمسك بها القائلون بتجرد النفوس زعما منهم أن مجرد مغايرتها للبدن يفيد ذلك.

وقد يستدل : بأنه لا دليل على تجردها فيجب أن لا تكون مجردة لأن الشيء إنما يثبت بدليل وهو مع ابتنائه على القاعدة الواهية معارض بأنه لا دليل على كونها جسما أو جسمانيا فيجب أن لا يكون كذلك.

ثم قال : واحتج القائلون بتجرد النفس بوجوه :

الأول : أنها تكون محلا لأمور يمتنع حلولها في الماديات وكل ما هو كذلك يكون مجردا بالضرورة أما بيان كونها محلا لأمور هذا شأنها فلأنها تتعقلها وقد سبق أن التعقل إنما يكون بحلول الصورة وانطباع المثال والمادي لا يكون

__________________

(١) هذا بناء على تجرد النفس منذ أول وجودها ، وأما بناء على تجردها بالحركة الجوهرية واتحادها بالبدن فالجواب يصير أوضح بكثير.


صورة لغير المادي ومثالا له.

وأما بيان تلك الأمور وامتناع حلولها في المادة فهو أن من جملة معقولاتها الواجب وإن لم تعقله بالكنه والجواهر المجردة وإن لم نقل بوجودها في الخارج إذ ربما تعقل المعنى فتحكم عليه بأنه موجود أو ليس بموجود ولا خفاء في امتناع حلول صورة المجرد في المادي.

ومنها المعاني الكلية التي لا تمنع نفس صورها (١) الشركة كالإنسانية المتناولة لزيد وعمرو فإنها يمتنع اختصاصها بشيء من المقادير والأوضاع والكيفيات وغير ذلك مما لا ينفك عنه الشيء المادي في الخارج بل يجب تجردها عن جميع ذلك وإلا لم تكن متناولة لما ليس له ذلك والحاصل أن الحلول في المادة يستلزم الاختصاص بشيء من المقادير والأوضاع والكيفيات والكلية تنافي ذلك فلو لم تكن النفس مجردة لم تكن محلا للصورة الكلية عاقلة لها واللازم باطل.

ومنها المعاني التي لا تقبل الانقسام كالوجود والوحدة والنقطة وغير ذلك وإلا لكان كل معقول مركبا من أجزاء غير متناهية بالفعل وهو محال ومع ذلك فالمطلوب وهو وجود ما لا ينقسم حاصل لأن الكثرة عبارة عن الوحدات وإذا كان من المعقولات ما هو واحد غير منقسم لزم أن يكون محله العاقل له غير جسم بل مجردا لأن الجسم والجسماني منقسم وانقسام المحل مستلزم لانقسام الحال فيما يكون الحلول لذات المحل كحلول السواد والحركة والمقدار في الجسم لا لطبيعة تلحقه كحلول النقطة في الخط لتناهيه وكحلول الشكل في السطح لكونه ذا نهاية أو أكثر وكحلول المحاذاة في الجسم من حيث وجود جسم آخر على وضع ما منه وكحلول الوحدة في الأجزاء من حيث هي مجموع.

ومنها : المعاني التي لا يمكن اجتماعها إلا في المجردات دون الجسم كالضدين وكعدة من الصور والأشكال فإنه لا تزاحم بينها في التعقل بل يتصورها ويحكم فيما بينها بامتناع الاجتماع في محل واحد من المواد الخارجية حكما ضروريا وهذا الوجه

__________________

(١) تصورها ( ظ ).


من الاحتجاج يمكن أن يجعل وجوها أربعة بأن يقال لو كانت النفس جسما لما كانت عاقلة للمجردات أو للكليات أو للبسائط أو للمتمانعين.

والجواب : أن مبنى هذا الاحتجاج على مقدمات غير مسلمة عند الخصم منها أن تعقل الشيء يكون بحلول صورة في العاقل لا بمجرد إضافة بين العاقل والمعقول ومنها أن النفس لو لم تكن مجردة لكانت منقسمة ولم يجز أن يكون جوهرا وضعيا غير منقسم كالجزء الذي لا يتجزى ومنها أن الشيء إذا كان مجردا كانت صورته الإدراكية مجردة يمتنع حلولها في المادي ولم يجز أن تكون حاله في جسم عاقل لكنها إذا وجدت في الخارج كانت ذلك الشيء المجرد ومنها أن صورة الشيء إذا اختصت بوضع ومقدار وكيفية بحلولها في جسم كذلك كان الشيء أيضا مختصا بذلك ولم يجز أن يكون في ذاته غير مختص بشيء من الأوضاع والكيفيات والمقادير ومنها أن الشيء إذا لم يقبل الانقسام كانت صورته الحاصلة في العاقل كذلك ولم يجز أن تكون منقسمة بانقسام المحل العاقل مع كون الشيء غير منقسم لذاته ولا لحلوله في منقسم ومنها أن الشيئين إذا كانا بحيث يمتنع اجتماعهما في محل كالسواد والبياض كانت الصورتان الحاصلتان منهما في الجوهر العاقل كذلك وقد سبق أن صورة الشيء قد تخالفه في كثير من الأحكام ومنها أن اجتماعهما في العاقل لا يجوز أن يكون بقيام كل منهما بجزء منه ومنها أن انقسام المحل يستلزم انقسام الحال فيه لذاته ليمتنع حلول البسيط في العاقل الجسماني المنقسم البتة بناء على نفي الجزء الذي لا يتجزى ولا يخفى أن بعض هذه المقدمات مما قامت عليه الحجة.

أقول : ثم ذكر حججا أخرى لهم أعرضنا عنها وعن أجوبتها حذرا من الإطناب (١).

وقال شارح المواقف مذاهب المنكرين لتجرد النفس الناطقة كثيرة لكن المشهور منها تسعة :

__________________

(١) ذكر الحكماء لاثبات تجرد النفس عشرة براهين اخرى ، فعلى من أراد الاطلاع عليها الرجوع الى كتبهم المفصلة لا سيما الاسفار الأربعة.


الأول : لابن الراوندي أنه جزء لا يتجزى في القلب بدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات الممكنة.

الثاني للنظام أنه أجزاء هي أجسام لطيفة سارية في البدن سريان ماء الورد في الورد باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تحلل وتبدل حتى إذا قطع جزء من البدن انقبض ما فيه من تلك الأجزاء إلى سائر الأعضاء إنما المتحلل والمتبدل من البدن فضل ينضم إليه وينفصل عنه إذ كل أحد يعلم أنه باق من أول عمره إلى آخره ولا شك أن المتبدل ليس كذلك.

الثالث : أنه قوة في الدماغ وقيل في القلب. الرابع أنه ثلاث قوى إحداها في القلب وهي الحيوانية والثانية في الكبد وهي النباتية والثالثة في الدماغ وهي النفسانية.

الخامس : أنه الهيكل المخصوص وهو المختار عند جمهور المتكلمين.

السادس : أنها الأخلاط الأربعة المعتدلة كما وكيفا.

السابع : أنه اعتدال المزاج النوعي.

الثامن : أنه الدم المعتدل إذ بكثرته واعتداله تقوى الحياة وبالعكس.

التاسع : أنه الهواء إذ بانقطاعها طرفة عين تنقطع الحياة فالبدن بمنزلة الزق المنفوخ فيه.

ثم قال : واعلم أن شيئا من ذلك لم يقم عليه دليل وما ذكروه لا يصلح للتعويل عليه ثم قال تعلق النفس بالبدن ليس تعلقا ضعيفا يسهل زواله بأدنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله كتعلق الجسم بمكانه وإلا تمكنت النفس من مفارقة البدن بمجرد المشيئة من غير حاجة إلى أمر آخر وليس أيضا تعلقا في غاية القوة بحيث إذا زال التعلق بطل المتعلق مثل تعلق الأعراض والصور المادية بمحالها لما عرفت من أنها مجردة بذاتها غنية عما يحل فيه بل هو تعلق متوسط بين بين كتعلق الصانع بالآلات التي يحتاج إليها في أفعاله المختلفة ومن ثم قيل هو تعلق العاشق بالمعشوق عشقا جليا إلهاميا فلا ينقطع ما دام البدن صالحا لأن يتعلق به النفس ألا ترى أنه


تحبه ولا تمله مع طول الصحبة وتكره مفارقته وذلك لتوقف كمالاتها ولذاتها العقلية والحسية عليه فإنها في مبدإ خلقتها خالية عن الصفات الفاضلة كلها فاحتاجت إلى آلات تعينها على اكتساب تلك الكمالات وإلى أن تكون تلك الآلات مختلفة فيكون لها بحسب كل آلة فعل خاص حتى إذا حاولت فعلا خاصا كالإبصار مثلا التفتت إلى العين فتقوى بها على الإبصار التام وكذا الحال في سائر الأفعال ولو اتحدت الآلة لاختلطت الأفعال ولم يحصل لها شيء منها على الكمال وإذا حصلت لها الإحساسات توصلت منها إلى الإدراكات الكلية ونالت حظها من العلوم والأخلاق المرضية وترقت إلى لذاتها العقلية بعد احتظائها باللذات الحسية فتعلقها بالبدن على وجه التدبير كتعلق العاشق في القوة بل أقوى منه بكثير وإنما تتعلق من البدن أولا بالروح القلبي المتكون في جوفه الأيسر من بخار الغذاء ولطيفه فإن القلب له تجويف في جانبه الأيسر يجذب إليه لطيف الدم فيبخره بحرارته المفرطة فذلك البخار هو المسمى بالروح عند الأطباء وعرف كونه أول متعلق للنفس بأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة عما وراء موضع الشد ولا يبطلهما مما يلي جهة الدماغ وأيضا التجارب الطبية تشهد بذلك وتفيد النفس الروح بواسطة التعلق قوة بها يسري الروح إلى جميع البدن فيفيد الروح الحامل لتلك القوة كل عضو قوة بها يتم نفعه من القوى التي فصلناها فيما قبل وهذا كله عندنا للقادر المختار ابتداء ولا حاجة إلى إثبات القوى كما مر مرارا انتهى.

وقال المحقق القاساني في روض الجنان اعلم أن المذاهب في حقيقة النفس كما هي الدائرة في الألسنة والمذكورة في الكتب المشهورة أربعة عشر مذهبا :

الأول : هذا الهيكل المحسوس المعبر عنه بالبدن.

الثاني : أنها القلب أعني العضو الصنوبري اللحماني المخصوص.

الثالث : أنها الدماغ.

الرابع : أنها أجزاء لا تتجزى في القلب وهو مذهب النظام ومتابعيه.

الخامس : أنها الأجزاء الأصلية المتولدة من المني.


السادس : أنها المزاج.

السابع : أنها الروح الحيواني ويقرب منه ما قيل إنها جسم لطيف سار في البدن سريان الماء في الورد والدهن في السمسم.

الثامن : أنها الماء.

التاسع : أنها النار والحرارة الغريزية.

العاشر : أنها النفس.

الحادي عشر : أنها هي الواجب تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

الثاني عشر : أنها الأركان الأربعة.

الثالث عشر : أنها صورة نوعية قائمة بمادة البدن وهو مذهب الطبيعيين.

الرابع عشر : أنها جوهر مجرد عن المادة الجسمية وعوارض الجسم لها تعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف والموت إنما هو قطع هذا التعلق وهذا هو مذهب الحكماء الإلهيين وأكابر الصوفية والإشراقيين وعليه استقر رأي المحققين المتكلمين كالرازي والغزالي والمحقق الطوسي وغيرهم من الأعلام وهو الذي أشارت إليه الكتب السماوية وانطوت عليه الأنباء النبوية وقادت عليه الأمارات الحدسية والمكاشفات الذوقية انتهى.

وقال في الصحائف الإلهية النفس إما أن يكون جسما أو جسمانيا أو لا هذا ولا ذاك فإن كان جسما فإما أن يكون هذا الهيكل المحسوس ومال إليه كثير من المتكلمين وهو ضعيف وإما أن يكون جسما داخلا فيه وفيه عشر أقوال :

الأول قول أفلوطرخس أنه النار السارية فيه لأن خاصية النار الإشراق والحركة وخاصية النفس الحركة والإدراك والإدراك إشراق ويتأيد بقول الأطباء مدبر البدن الحرارة الغريزية.

الثاني قول ديوجامس أنه الهواء لأنه لطيف نافذ في المنافذ الضيقة قابل للأشكال المختلفة ويحرك الجسم الذي هو فيه كالزق المنفوخ فيه والنفس كذلك فالنفس الهواء.


الثالث : قول ثاليس الملطي أنه الماء لأن الماء سبب النمو والنشوء والنفس كذلك وهذه الوجوه ضعيفة لأنها مركبة من موجبتين في الشكل الثاني.

الرابع : قول أنباذقلس أنه العناصر الأربعة والمحبة والغلبة.

الخامس : قول طائفة من الطبيعيين أنه الأخلاط الأربعة لأن بقاءها بكيفياتها وكمياتها المخصوصة سبب لبقاء الحياة بالدوران وهو ضعيف إذ الدوران لا يفيد اليقين.

السادس : أنه الدم لأنه أشرف الأخلاط.

السابع : أنه أجسام لطيفة حية لذواتها سارية في الأعضاء والأخلاط لا يتطرق إليها انحلال وتبدل وبقاؤها فيها هو الحياة وانفصالها عنها هو الموت.

الثامن : أنه أجسام لطيفة متكونة في البطن يشوب القلب وينفذ من الشرايين إلى جملة البدن.

التاسع : أنه أرواح متكونة في الدماغ تصلح لقبول قوى الحس والحركة تنفذ في الأعصاب إلى جملة البدن.

العاشر : أنه أجزاء أصلية باقية من أول العمر إلى آخره وهو اختيار محققي المتكلمين.

وإن كان جسمانيا ففيها أقوال الأول أنه المزاج وهو قول أكثر الأطباء.

الثاني : أنه صفة للحياة.

الثالث : أنه الشكل والتخطيط.

الرابع : أنه تناسب الأركان والأخلاط.

وإن لم يكن جسما ولا جسمانيا فهو إما متحيز وهو قول ابن الراوندي لأنه قال إنه جزء لا يتجزى في القلب أو غير متحيز وهو قول جمهور الفلاسفة ومعمر من قدماء المعتزلة وأكثر الإمامية والغزالي والراغب وذهب فرفوريوس إلى اتحاد النفس بالبدن.


ثم قال بعد إيراد بعض الدلائل والأجوبة من الجانبين فالحق أنها جوهر لطيف نوراني مدرك للجزئيات والكليات حاصل في البدن متصرف فيه غني عن الاغتذاء بريء عن التحلل والنماء ولم يبعد أن يبقى مثل هذا الجوهر بعد فناء البدن ويلتذ بما يلائمه ويتألم بما يباينه هذا تحقيق ما تحقق عندي من حقيقة النفس انتهى.

وقال الصدوق رضي‌الله‌عنه في رسالة العقائد اعتقادنا في النفوس أنها الأرواح التي بها الحياة وأنها الخلق الأول لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أول ما أبدع الله سبحانه وتعالى هي النفوس المقدسة المطهرة فأنطقها بتوحيده ثم خلق بعد ذلك سائر خلقه واعتقادنا فيها أنها خلقت للبقاء ولم تخلق للفناء لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما خلقتم للفناء بل خلقتم للبقاء وإنما تنقلون من دار إلى دار وأنها في الأرض غريبة وفي الأبدان مسجونة واعتقادنا فيها أنها إذا فارقت الأبدان فهي باقية منها منعمة ومنها معذبة إلى أن يردها الله عز وجل بقدرته إلى أبدانها وقال عيسى ابن مريم للحواريين بحق أقول لكم إنه لا يصعد إلى السماء إلا ما نزل منها وقال الله جل ثناؤه « وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ » (١) فما لم ترفع منها إلى الملكوت بقي هو في الهاوية وذلك لأن الجنة درجات والنار دركات وقال الله عز وجل « تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ » (٢) وقال عز وجل « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ » (٣) وقال الله تعالى « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » (٤) وقال الله تعالى « وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ » (٥) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الأعراف : ١٧٦.

(٢) المعارج : ٤.

(٣) القمر : ٥٤ ـ ٥٥.

(٤) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٥) البقرة : ١٥٤.


الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقال الصادق عليه‌السلام إن الله تعالى آخى بين الأرواح في الأظلة قبل أن يخلق الأبدان بألفي عام فلو قد قام قائمنا أهل البيت لورث الأخ الذي آخى بينهما في الأظلة ولم يرث الأخ من الولادة وقال الصادق عليه‌السلام إن الأرواح لتلتقي في الهواء فتتعارف وتساءل فإذا أقبل روح من الأرض قالت الأرواح دعوه فقد أفلت من هول عظيم ثم سألوه ما فعل فلان وما فعل فلان فكلما قال قد بقي رجوه أن يلحق بهم وكلما قال قد مات قالوا هوى هوى.

ثم قال قدس‌سره والاعتقاد في الروح أنه ليس من جنس البدن فإنه خلق آخر لقوله تعالى « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ » (١) واعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة عليهم‌السلام أن فيهم خمسة أرواح روح القدس وروح الإيمان وروح القوة وروح الشهوة وروح المدرج وفي المؤمنين أربعة أرواح روح الإيمان وروح القوة وروح الشهوة وروح المدرج وفي الكافرين والبهائم ثلاثة أرواح روح القوة وروح الشهوة وروح المدرج وأما قوله تعالى « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » (٢) فإنه خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومع الأئمة عليهم‌السلام وهو من الملكوت.

وقال الشيخ المفيد نور الله ضريحه في شرحه على العقائد كلام أبي جعفر في النفس والروح على مذهب الحدس دون التحقيق ولو اقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه ثم قال رحمه‌الله النفس عبارة عن معان أحدها ذات الشيء والآخر الدم السائل والآخر النفس الذي هو الهواء والرابع هو الهوى وميل الطبع فأما شاهد المعنى الأول فهو قولهم هذا نفس الشيء أي ذاته وعينه وشاهد الثاني قولهم كلما كانت النفس سائلة فحكمه كذا وكذا وشاهد الثالث قولهم فلان هلكت نفسه إذا انقطع نفسه ولم يبق

__________________

(١) المؤمنون : ١٤.

(٢) الإسراء ، ٨٥.


في جسمه هواء يخرج من حواسه وشاهد الرابع قول الله تعالى « إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ » (١) يعني الهوى داع إلى القبيح وقد يعبر عن النفس بالنقم قال الله تعالى « وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ » (٢) يريد نقمته وعقابه فأما الروح فعبارة عن معان أحدها الحياة والثاني القرآن والثالث ملك من ملائكة الله تعالى والرابع جبرئيل عليه‌السلام فشاهد الأول قولهم كل ذي روح فحكمه كذا يريدون كل ذي حياة وقولهم فيمن مات قد خرجت منه الروح يعنون الحياة وقولهم في الجنين صورة لم يلجه الروح يريدون لم تلجه الحياة وشاهد الثاني قوله تعالى « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » (٣) يعني القرآن وشاهد الثالث قوله « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ » الآية (٤) وشاهد الرابع قوله تعالى « قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ » (٥) يعني جبرئيل عليه‌السلام وأما ما ذكره أبو جعفر ورواه أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد بألفي عام فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فهو حديث من (٦) أحاديث الآحاد وخبر من طرق الأفراد وله وجه غير ما ظنه من لا علم له بحقائق الأشياء وهو أن الله تعالى خلق الملائكة قبل البشر بألفي عام فما تعارف منها قبل خلق البشر ائتلف عند خلق البشر وما لم يتعارف منها إذ ذاك اختلف بعد خلق البشر وليس الأمر كما ظنه أصحاب التناسخ ودخلت الشبهة فيه على حشوية الشيعة فتوهموا أن الذوات الفعالة المأمورة المنهية كانت مخلوقة في الذر وتتعارف وتعقل وتفهم وتنطق ثم خلق الله لها أجسادا من بعد ذلك فركبها فيها ولو كان ذلك كذلك لكنا نعرف نحن ما كنا عليه وإذا ذكرنا به ذكرناه ولا يخفى علينا الحال فيه ألا ترى أن من نشأ ببلد من البلاد فأقام فيه حولا ثم انتقل إلى غيره لم يذهب عنه علم ذلك وإن خفي

__________________

(١) يوسف : ٥٣.

(٢) آل عمران : ٢٨ ـ ٣٠.

(٣) الشورى : ٥٢.

(٤) النبأ : ٣٨.

(٥) النحل : ١٠٢.

(٦) الأحاديث ( ظ ).


عليه لسهوه عنه فيذكر به ذكره ولو لا أن الأمر كذلك لجاز أن يولد منا إنسان ببغداد وينشأ بها ويقيم عشرين سنة فيها ثم ينتقل إلى مصر آخر فينسى حاله ببغداد ولا يذكر منها شيئا وإن ذكر به وعدد عليه علامات حاله ومكانه ونشوئه وهذا ما لا يذهب إليه عاقل والذي صرح به أبو جعفر رحمه‌الله في معنى الروح والنفس هو قول التناسخية بعينه من غير أن يعلم أنه قولهم فالجناية بذلك على نفسه وغيره عظيمة فأما ما ذكره من أن الأنفس باقية فعبارة مذمومة ولفظ يضاد ألفاظ القرآن قال الله تعالى « كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » (١) والذي حكاه من ذلك وتوهمه هو مذهب كثير من الفلاسفة الملحدين الذين زعموا أن الأنفس لا يلحقها الكون والفساد وأنها باقية وإنما تفنى وتفسد الأجسام المركبة وإلى هذا ذهب بعض أصحاب التناسخ وزعموا أن الأنفس لم تزل تتكرر في الصور والهياكل لم تحدث ولم تفن ولن تعدم وأنها باقية غير فانية وهذا من أخبث قول وأبعده من الصواب وما دونه في الشناعة والفساد شنع به الناصبة على الشيعة ونسبوهم به إلى الزندقة ولو عرف مثبته ما فيه لما تعرض له لكن أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة وبعد ذهن وقلة فطنة يمرون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث ولا ينظرون في سندها ولا يفرقون بين حقها وباطلها ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منها.

والذي ثبت من الحديث في هذا الباب أن الأرواح بعد موت الأجساد على ضربين منها ما ينقل إلى الثواب والعقاب ومنها ما يبطل فلا يشعر بثواب ولا عقاب وقد روي عن الصادق عليه‌السلام ما ذكرنا في هذا المعنى وبيناه وسئل عمن مات في هذه الدار أين تكون روحه فقال من مات وهو ماحض للإيمان محضا أو ماحض للكفر محضا نقلت روحه من هيكله إلى مثله في الصورة وجوزي بأعماله إلى يوم القيامة فإذا بعث الله من في القبور أنشأ جسمه ورد روحه إلى جسده وحشره ليوفيه أعماله فالمؤمن ينتقل روحه من جسده إلى مثل جسده في الصورة فيجعل في جنان من جنان الله يتنعم

__________________

(١) الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧.


فيها إلى يوم المآب والكافر ينتقل روحه من جسده إلى مثله بعينه ويجعل في النار فيعذب بها إلى يوم القيامة. وشاهد ذلك في المؤمن قوله تعالى « قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي » (١) وشاهد ما ذكرناه في الكافر قوله تعالى « النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا » (٢) فأخبر سبحانه أن مؤمنا قال بعد موته وقد أدخل الجنة « يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ » وأخبر أن كافرا يعذب بعد موته « غُدُوًّا وَعَشِيًّا » ويوم يقوم الساعة يخلد في النار.

والضرب الآخر من يلهى عنه ويعدم نفسه عند فساد جسمه فلا يشعر بشيء حتى يبعث وهو من لم يمحض الإيمان محضا ولا الكفر محضا وقد بين الله ذلك عند قوله « إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً » (٣) فبين أن قوما عند الحشر لا يعلمون مقدار لبثهم في القبور حتى يظن بعضهم أن ذلك كان عشرا ويظن بعضهم أن ذلك كان يوما وليس يجوز أن يكون ذلك من وصف من عذب إلى بعثه ونعم إلى بعثه لأن من لم يزل منعما أو معذبا لا يجهل عليه حاله فيما عومل به ولا يلتبس عليه الأمر في بقائه بعد وفاته وقد روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : إنما يسأل في قبره من محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا فأما ما سوى هذين فإنه يلهى عنه وقال في الرجعة إنما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من محض الإيمان أو محض الكفر محضا فأما ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب.

وقد اختلف أصحابنا فيمن ينعم ويعذب بعد موته فقال بعضهم المعذب والمنعم هو الروح التي توجه إليها الأمر والنهي والتكليف سموها جوهرا وقال آخرون بل الروح الحياة جعلت في جسد كجسده في دار الدنيا وكلا الأمرين يجوزان في العقل والأظهر عندي قول من قال إنها الجوهر المخاطب وهو الذي

__________________

(١) يس : ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) المؤمن : ٤٦.

(٣) طه : ١٠٤.


يسميه الفلاسفة البسيط وقد جاء في الحديث أن الأنبياء (١) خاصة والأئمة من بعده ينقلون بأجسادهم وأرواحهم من الأرض إلى السماء فيتنعمون في أجسادهم التي كانوا فيها عند مقامهم في الدنيا وهذا خاص لحجج الله دون من سواهم من الناس وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : من صلى علي من عند قبري سمعته ومن صلى علي من بعيد بلغته وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله من صلى علي مرة صليت عليه عشرا ومن صلى علي عشرا صليت عليه مائة مرة فليكثر امرؤ منكم الصلاة علي أو فليقل فبين أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد خروجه من الدنيا يسمع الصلاة عليه ولا يكون كذلك إلا وهو حي عند الله تعالى وكذلك أئمة الهدى يسمعون سلام المسلم عليهم من قرب ويبلغهم سلامه من بعد وبذلك جاءت الآثار الصادقة عنهم وقد قال « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ » الآية (٢) إلى آخر ما مر في كتاب المعاد.

أقول : وقد تكلمنا عليه هناك فلا نعيده.

وقال المفيد قدس الله روحه في كتاب المسائل القول في تنعم أصحاب القبور وتعذيبهم على أي شيء يكون الثواب لهم والعقاب ومن أي وجه يصل إليهم ذلك وكيف تكون صورهم في تلك الأحوال :

وأقول : إن الله تعالى يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدنيا ينعم مؤمنيهم فيها ويعذب كفارهم وفساقهم فيها دون أجسامهم التي في القبور يشاهدها الناظرون تتفرق وتندرس وتبلى على مرور الأوقات وينالهم ذلك في غير أماكنهم من القبور وهذا يستمر على مذهبي في النفس ومعنى الإنسان المكلف عندي وهو الشيء المحدث القائم بنفسه الخارج عن صفات الجواهر والأعراض ومضى به روايات عن الصادقين من آل محمد عليهم‌السلام ولست أعرف لمتكلم من الإمامية قبلي فيه مذهبا فأحكمه ولا أعلم بيني وبين فقهاء الإمامية وأصحاب الحديث فيه اختلافا.

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في أجوبة المسائل العكبرية حين سئل عن

__________________

(١) كذا ، والظاهر ان الصواب « نبينا » بقرينة قوله « من بعده ».

(٢) آل عمران : ١٦٩.


قول الله تعالى « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » (١) وقال فهل يكون الرزق لغير جسم وما صورة هذه الحياة فإنا مجمعون على أن الجواهر لا تتلاشى فما الفرق حينئذ في الحياة بين المؤمن والكافر فأجاب قدس الله لطيفه أن الرزق لا يكون عندنا إلا للحيوان والحيوان عندنا ليسوا بأجسام بل ذوات أخرجوا في هذه الدار إلى الأجساد وتعذر عليهم كثير من الأفعال إلا بها وصارت آلتهم في الأفعال الأجساد فإن أغنوا عنها بعد الوفاة جاز أن يرزقوا مع عدمها رزقا تحصل لهم اللذات وإن ردوا إليها كان الرزق لهم حينئذ بحسبه في الدنيا على السواء.

فأما قوله ما صورة هذه الحياة فالحياة لا صورة لها لأنها عرض من الأعراض وهي تقوم بالذات الفعال دون الأجساد التي تقوم بها حياة النمو دون الحياة التي هي شرط في العلم والقدرة ونحوهما من الأعراض.

وقوله إنا مجمعون على أن الجواهر لا تتلاشى فليس ذلك كما ظن ولو كان الأمر فيه ما توهم لامتنع أن يوجد الحياة لبعض الجواهر ويرفع عن بعض كما يوجد حياة النمو لبعض الأجساد ويرفع عن بعض على الاتفاق ولو قلنا إن الحياة بعد النقلة من هذه الدار يعم أهل الكفر والإيمان لم يفسد ذلك علينا أصلا في الدين فكانت الحياة لأهل الإيمان شرطا في وصول اللذات إليهم والحياة لأهل الكفر شرطا في وصول الآلام إليهم بالعقاب.

وقال رضي‌الله‌عنه في أجوبة المسائل التي وردت عليه من الري حين سئل عن الروح الصحيح عندنا أن الروح عبارة عن الهواء المتردد في مخارق الحي منا الذي لا يثبت كونه حيا إلا مع تردده ولهذا لا يسمى ما يتردد في مخارق الجماد روحا فالروح جسم على هذه القاعدة.

أقول : وقد روى بعض الصوفية في كتبهم عن كميل بن زياد أنه قال : سألت

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.


مولانا أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام فقلت يا أمير المؤمنين أريد أن تعرفني نفسي قال يا كميل وأي الأنفس تريد أن أعرفك قلت يا مولاي هل هي إلا نفس واحدة قال يا كميل إنما هي أربعة النامية النباتية والحسية الحيوانية والناطقة القدسية والكلية الإلهية ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان فالنامية النباتية لها خمس قوى ماسكة وجاذبة وهاضمة ودافعة ومربية ولها خاصيتان الزيادة والنقصان وانبعاثها من الكبد والحسية الحيوانية لها خمس قوى سمع وبصر وشم وذوق ولمس ولها خاصيتان الرضا والغضب وانبعاثها من القلب والناطقة القدسية لها خمس قوى فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة وليس لها انبعاث وهي أشبه الأشياء بالنفوس الفلكية ولها خاصيتان النزاهة والحكمة والكلية الإلهية لها خمس قوى بهاء في فناء ونعيم في شقاء وعز في ذل وفقر في غناء وصبر في بلاء ولها خاصيتان الرضا والتسليم وهذه التي مبدؤها من الله وإليه تعود قال الله تعالى « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » (١) وقال تعالى « يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً » (٢) والعقل في وسط الكل.

أقول : هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة المتداولة وهي شبيهة بأضغاث أحلام الصوفية وقال بعضهم في شرح هذا الخبر النفسان الأوليان في كلامه عليه‌السلام مختصان بالجهة الحيوانية التي هي محل اللذة والألم في الدنيا والآخرة والأخيرتان بالجهة الإنسانية وهما سعيدة في النشأتين وسميا الأخيرة فإنها لا حظ لها من الشقاء لأنها ليست من عالم الشقاء بل هي منفوخة من روح الله فلا يتطرق إليها ألم هناك من وجه وليست هي موجودة في أكثر الناس بل ربما لم يبلغ من ألوف كثيرة واحد إليها وكذلك الأعضاء والجوارح بمعزل عن اللذة والألم ألا ترى إلى المريض إذا نام وهو حي والحس عنده موجود والجرح الذي يتألم به في يقظته موجود في العضو ومع هذا لا يجد ألما لأن الواجد للألم قد صرف وجهه عن عالم الشهادة

__________________

(١) الحجر : ٢٩.

(٢) الفجر : ٢٧ ـ ٢٨.


إلى البرزخ فما عنده خير فإذا استيقظ المريض أي رجع إلى عالم الشهادة ونزل منزل الحواس قامت به الأوجاع والآلام فإن كان في البرزخ في ألم كما في رؤيا مفزعة مولمة أو في لذة كما في رؤيا حسنة ملذة انتقل منه الألم واللذة حيث انتقل وكذلك حاله في الآخرة انتهى.

وقال العلامة الحلي نور الله مرقده في كتاب معارج الفهم اختلف الناس في حقيقة النفس ما هي وتحرير الأقوال الممكنة فيها أن النفس إما أن تكون جوهرا أو عرضا أو مركبا منهما وإن كانت جوهرا فإما أن تكون متحيزة أو غير متحيزة وإن كانت متحيزة فإما أن تكون منقسمة أو لا تكون وقد صار إلى كل من هذه الأقوال قائل والمشهور مذهبان أحدهما أن النفس جوهر مجرد ليس بجسم ولا حال في الجسم وهو مدبر لهذا البدن وهو قول جمهور الحكماء ومأثور عن شيخنا المفيد وبني نوبخت من أصحابنا والثاني أنها جوهر أصلية في هذا البدن حاصلة فيه من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها التغير ولا الزيادة ولا النقصان وعند المعتزلة عبارة عن الهيكل المشاهد المحسوس وهاهنا مذاهب أخرى منها أن النفس هو الله تعالى ومنها أنها هي المزاج ومنها أنها النفس ومنها أنها النار ومنها أنها الهواء وغير ذلك من المذاهب السخيفة انتهى.

وقال المحقق الطوسي قدس الله روحه في التجريد هي جوهر مجرد وقال العلامة رفع الله مقامه في شرحه اختلف الناس في ماهية النفس وأنها هل هي جوهر أم لا والقائلون بأنها جوهر اختلفوا في أنها هل هي مجردة أم لا والمشهور عند الأوائل وجماعة من المتكلمين كبني نوبخت من الإمامية والمفيد منهم والغزالي من الآشاعرة أنها جوهر مجرد ليس بجسم ولا جسماني وهو الذي اختاره المصنف انتهى.

وقال المحقق الطوسي رحمه‌الله أيضا في كتاب الفصول الذي يشير إليه الإنسان حال قوله أنا لو كان عرضا لاحتاج إلى محل يتصف به لكن لا يتصف بالإنسان شيء بالضرورة بل يتصف هو بأوصاف هي غيره فيكون جوهرا ولو كان


هو البدن أو شيء من جوارحه لم يتصف بالعلم لكنه يتصف به الضرورة فيكون جوهرا عالما والبدن وسائر الجوارح آلاته في أفعاله ونحن نسميه هاهنا الروح انتهى.

وتوقف رحمه‌الله في رسالة قواعد العقائد واكتفى بذكر الأقوال حيث قال المسألة الثانية في أقوال الناس في حقيقة الإنسان وأنها أي شيء هي اختلفوا في حقيقة فبعضهم قالوا إن الإنسان هو الهيكل المشاهد وبعضهم قالوا هو أجزاء أصلية داخلية في تركيب الإنسان لا يزيد بالنمو ولا ينقص بالذبول وقال النظام هو جسم لطيف في داخل الإنسان سار في أعضائه فإذا قطع منه عضو تقلص ما فيه إلى باقي ذلك الجسم وإذا قطع بحيث انقطع ذلك الجسم مات الإنسان وقال ابن الراوندي هو جوهر لا يتجزى في القلب وبعضهم قالوا هو الأخلاط الأربعة وبعضهم قالوا هو الروح وهو جوهر مركب من بخارية الأخلاط ولطيفها مسكنه الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والدماغ والكبد ومنها ينفذ الروح في العروق والأعصاب إلى سائر الأعضاء وجميع ذلك جواهر جسمانية وبعضهم قالوا هو المزاج المعتدل الإنساني وبعضهم قالوا تخاطيط الأعضاء وتشكيل الإنسان الذي لا يتغير من أول عمره إلى آخره وبعضهم قالوا العرض المسمى بالحياة وجميع ذلك أعراض والحكماء وجمع من (١) المحققين من غيرهم قالوا إنه جوهر غير جسماني لا يمكن أن يشار إليه إشارة حسية وهذه هي المذاهب وبعضها ظاهر الفساد انتهى.

وقال الشيخ السديد المفيد طيب الله تربته حين سأله السائل في المسائل الرؤية ما قوله أدام الله تعالى علوه في الأرواح ومائيتها وحقيقة كيفياتها (٢) وما لها عند مفارقتها الأجساد وهي حياة النمو وقبول الغذاء والحياة التي في الذوات الفعالة هي معنى أم لا الجواب أن الأرواح عندنا هي أعراض لا بقاء لها وإنما عبد الله (٣) تعالى منها الحي حالا بحال فإذا قطع امتداد المحيي بها جاءت (٤) الموت الذي هو ضد

__________________

(١) جميع المحققين ( خ ).

(٢) كيفيتها ( خ ).

(٣) كذا ، والظاهر « يمد ».

(٤) كذا ، والصواب « جاء ».


الحياة ولم يكن للأرواح وجود فإذا أحيا الله تعالى الأموات ابتدأ فيهم الحياة التي هي الروح والحياة التي في الذوات الفعالة هي معنى يصحح العلم والقدرة وهي شرط في كون العالم عالما والقادر قادرا وليست من نوع الحياة التي تكون (١).

ثم قال قدس‌سره حين سأل السائل ما قوله حرس الله تعالى عزه في الإنسان أهو هذا الشخص المرئي المدرك على ما يذكره أصحاب أبي هاشم أم جزء حال في القلب حساس دراك كما يحكى عن أبي بكر بن الأخشاد والجواب أن الإنسان هو ما ذكره بنو نوبخت وقد حكي عن هشام بن الحكم والأخبار عن موالينا عليهم‌السلام تدل على ما أذهب إليه وهي شيء قائم بنفسه لا حجم له ولا حيز لا يصح عليه التركيب ولا الحركة والسكون ولا الاجتماع ولا الافتراق وهو الشيء الذي كانت تسميه الحكماء الأوائل الجوهر البسيط وكذلك كل حي فعال محدث فهو جوهر بسيط وليس كما قال الجبائي وابنه وأصحابهما إنه جملة مؤلفة ولا كما قال ابن الأخشاد إنه جسم متخلخل في الجملة الظاهرة ولا كما قال الأعوازي إنه جزء لا يتجزى.

وقوله (٢) فيه قول معمر من المعتزلة وبني نوبخت من الشيعة على ما قدمت ذكره وهو شيء يحتمل العلم والقدرة والحياة والإرادة والكراهة والبغض والحب قائم بنفسه محتاج في أفعاله إلى الآلة التي هي الجسد والوصف له بأنه حي يصح عليه القول بأنه عالم قادر وليس الوصف له بالحياة كالوصف للأجساد بالحياة حسب ما قدمناه وقد يعبر عنه بالروح وعلى هذا المعنى جاءت الأخبار أن الروح إذا فارقت الجسد نعمت وعذبت والمراد الإنسان الذي هو الجوهر البسيط يسمى الروح وعليه الثواب والعقاب وإليه يوجه الأمر والنهي والوعد والوعيد وقد دل القرآن على ذلك بقوله « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ

__________________

(١) كذا.

(٢) في بعض النسخ « وفيه ».


فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ » (١) فأخبر تعالى أنه غير الصورة وأنه مركب فيها ولو كان الإنسان هو الصورة لم يكن لقوله تعالى « فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ » معنى لأن المركب في الشيء غير الشيء المركب فيه ومحال أن تكون الصورة مركبة في نفسها وعينها لما ذكرناه وقد قال سبحانه في مؤمن آل يس (٢) « قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي » (٣) فأخبر أنه حي ناطق منعم وإن كان جسمه على ظهر الأرض أو في بطنها وقال تعالى « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ » (٤) فأخبر أنهم أحياء وإن كانت أجسادهم على وجه الأرض مواتا لا حياة فيها وروي عن الصادقين عليهم‌السلام أنهم قالوا إذا فارقت أرواح المؤمنين أجسادهم أسكنها الله تعالى في مثل أجسادهم التي فارقوها فينعمهم في جنة وأنكروا ما ادعته العامة من أنها تسكن في حواصل الطيور الخضر وقالوا المؤمن أكرم على الله من ذلك ولنا على المذهب الذي وصفناه أدلة عقلية لا يطعن المخالف فيها ونظائر لما ذكرناه من الأدلة السمعية وبالله أستعين انتهى كلامه رفع الله مقامه.

وقال الغزالي في الأربعين الروح هي نفسك وحقيقتك وهي أخفى الأشياء عليك وأعنى بنفسك روحك التي هي خاصة الإنسان المضافة إلى الله تعالى بقوله « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » (٥) وقوله « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » (٦) دون الروح الجسماني اللطيف الذي هو حامل قوة الحس والحركة التي تنبعث من القلب وتنتشر في جملة البدن في تجويف العروق والضوارب فيفيض منها نور حس البصر على العين ونور السمع على الأذن وكذلك سائر القوى والحركات والحواس كما يفيض من السراج

__________________

(١) الانفطار : ٦ ـ ٨.

(٢) كذا.

(٣) يس : ٢٦ ـ ٢٧.

(٤) آل عمران : ١٦٩.

(٥) الإسراء : ٨٥.

(٦) الحجر : ٢٩.


نور على حيطان البيت إذا أدير في جوانبه فإن هذه الروح تتشارك البهائم فيها وتنمحق بالموت لأنه بخار اعتدل نضجه عند اعتدال مزاج الأخلاط فإذا انحل المزاج بطل كما يبطل النور الفائض من السراج عند إطفاء السراج بانقطاع الدهن عنه أو بالنفخ فيه وانقطاع الغذاء عن الحيوان يفسد هذه الروح لأن الغذاء له كالدهن للسراج والقتل له كالنفخ في السراج وهذه الروح هي التي يتصرف في تقويمها وتعديلها علم الطب ولا تحمل هذه الروح المعرفة والأمانة بل الحامل للأمانة الروح الخاصة للإنسان ونعني بالأمانة تقلد عهدة التكليف بأن تعرض لخطر الثواب والعقاب بالطاعة والمعصية.

وهذه الروح لا تفنى ولا تموت بل تبقى بعد الموت إما في نعيم وسعادة أو في جحيم وشقاوة فإنه محل المعرفة والتراب لا يأكل محل المعرفة والإيمان أصلا وقد نطقت به الأخبار وشهدت له شواهد الاستبصار ولم يأذن الشارع في تحقيق صفته إلى أن قال وهذه الروح لا تفنى ولا تموت بل يتبدل بالموت حالها فقط ولا يتبدل منزلها والقبر في حقها إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار إذ لم يكن لها مع البدن علاقة سوى استعمالها للبدن أو اقتناصها أوائل المعرفة بواسطة شبكة الحواس فالبدن آلتها ومركبها وشبكتها وبطلان الآلة والشبكة والمركب لا يوجب بطلان الصائد نعم إن بطلت الشبكة بعد الفراغ من الصيد فبطلانها غنيمة إذ يتخلص من حمله وثقله ولذا قال عليه‌السلام تحفة المؤمن الموت وإن بطلت الشبكة قبل الصيد عظمت فيه الحسرة والندامة والألم ولذلك يقول المقصر « رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ » (١) « كَلاَّ » بل من كان ألف الشبكة وأحبها وتعلق قلبه بحسن صورتها وصنعتها وما يتعلق بسببها كان له من العذاب ضعفين (٢) أحدهما حسرة فوات الصيد الذي لا يقتنص إلا بشبكة البدن والثاني زوال الشبكة مع تعلق القلب بها وإلفه لها وهذا مبدأ من مبادئ معرفة عذاب القبر انتهى.

__________________

(١) المؤمنون : ١٠١.

(٢) ضعفان ، ظ.


أقول : لما كانت رسالة الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس والروح للشيخ الفاضل الرضي علي بن يونس العاملي روح الله روحه جمة الفوائد كثيرة العوائد مشتملة على جل ما قيل في هذا الباب من غير إسهاب وإطناب أوردت هاهنا جميعها وهي هذه :

الحمد لله الذي خلق النفوس وحجب حقيقتها عنا فإن العين تبصر غيرها ويتعذر إدراك نفسها منها فأوجب ذلك خبط العلماء فيها ولم يصل أكثرهم بدقيق الفكر إليها وقد قال العالم الرباني الذي أوجب الله حقه من عرف نفسه فقد عرف ربه أشار بامتناع معرفة نفسه مع قربه إلى امتناع الإحاطة بكنه ربه وما قيل في تفسيره من عرفها بالمخلوقية عرفه بالخالقية لا يدفع ما قصدناه ولا يمتنع ما ذكرناه إذ معرفتها بصفة حدوثها لا يستلزم معرفة عينها فإن معرفتها ليست ضروريا بلا خلاف لوجود الخلاف فيها ولا كسبية لامتناع صدق الجنس والفصل عليها بل الاعتراف بالعجز عن وجدانها أسهل من الفحص عن كنهها وبرهانها والإنسان ضعيف القوة محدود الجملة معلومه أقل من مظنونه وتخمينه أكثر من يقينه لكن من كان نظره أعلى ونقده أجلى ونوره أصنع وفكره أشيع كان من الشك أنجى ومن الشبهة أنأى وثاقب بصره الأسنى إلى النفس أدنى وهذا الإنسان الضعيف الصغير فيه ذلك البسيط اللطيف جزء يسير فكيف يدرك بجزء منه كله ويقبل منه جميعه وهذا يتعذر أن يكون معلوما ويبعد وإن لم يكن معدوما بل يكفي أن يعلم أنها قوة إلهية مسببة واسطة بين الطبيعة المصرفة والعناصر المركبة المثير لها الطالع عليها السائغ فيها الممتزج بها فالإنسان ذو طبيعة لآثارها البادية في بدنه وذو نفس لآثارها الظاهرة في مطلبه ومأربه وذو عقل لتميزه وغضبه وشكه ويقينه وها أنا ذا واضع لك في هذا المختصر المسمى بالباب المفتوح إلى ما قيل في النفس والروح ما بلغني من أقاويل الأوائل وما أوردوا من الشبهات والدلائل راج من واهب المواهب الإشارة إلى مأخذ تلك المذاهب مورد ما حضرني من دخل فيها.


فهنا مقصدان :

الأول في النفس

مقدمة : اسم النفس مشترك بالاشتراك اللفظي بين معان منها ذات الشيء فعل ذلك بنفسه ومنها الأنفة ليس لفلان نفس ومنها الإرادة نفس فلان في كذا ومنها العين قال ابن القيس :

يتقي أهلها النفوس عليها

فعلى نحرها الرقى والتميم.

ومنها مقدار دبغة من الدباغ تقول أعطني نفسا أي قدر ما أدبغ به مرة ومنها العيب إني لا أعلم نفس فلان أي عيبه ومنها العقوبة « وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ » ومنها ما يفوت الحياة بفواته كنفس الحيوان « كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ » وهذه هي المبحوث عنها المختلف فيها. واعلم أن الاحتمالات التي اقتضاها التقسيم بمناسبة إما جوهر مادي أو جوهر مجرد أو مادي وعرض أو مجرد وعرض أو مادي ومجرد وعرض.

المذهب الأول : الجوهر المادي قال به جماعة المعتزلة وكثير من المتكلمين ثم اختلفوا على مذاهب ذهب جمهور المسلمين إلى أنه مجموع الهيكل المحسوس وهذا كما ترى ليس هو جوهر فقط بل مضاف إليه عرض لأن الجسم كذلك واختاره القزويني قال لإجماع أهل اللغة أنهم عند إطلاق نفسه يشيرون إليه واتفاق الأمة على وقوع الإدراكات بالبصر عليه ونصوص القرآن أيضا واردة فيه مثل « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ » وأنه هو الذي يمات ويقبر في قوله « ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ » فمن يخرج عن هذه النصوص إلى غير مدلولاتها كيف يكون مسلما وقد أجمعت الأمة على أن من رأى هذه البنية وحلف أنه ما رأى إنسانا حنث ولكن اختلف في أن الإنسان هل هو هذه الجملة أو شيء له هذه الجملة أو شيء له هذه الجملة قال الأقرب الثاني والفائدة في الملك إذا جاء فيها فإنه ليس بإنسان وكذلك المصور لها من خشب وغيره


وإنما جرى اسم الإنسان على الهيكل تبعا لذلك الشيء الذي له الهيكل آدم وأولاده وهذا الذي قربه مخالف لما صوره.

وقال شارح النظم أطبق العقلاء على بطلان هذا القول لأن مقطوع اليد باق ويمتنع بقاء الماهية عند عدم جزئها ولأنها دائما تتحلل وتستخلف فالفائت له ثواب وعليه عقاب فإن حشرت كلها لزم المحال وإن لم تحشر لزم الظلم والإضلال ذهب أهل هذا التقسيم إلى أنه بعض الهيكل ثم اختلفوا على أقوال :

قال ابن الراوندي إنه جزء في القلب قال النظام إنه أجزاء لطيفة في القلب وكأنهما نظرا إلى أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه وجد قلبه محل ذكره فظناها ذلك وهو خطأ لعدم إنتاج الشكل الثاني من الموجبتين قال الأطباء إنه الروح الذي في القلب من الجانب الأيسر نظرا إلى أن جانب الإنسان الأيسر أخطر من الأيمن وهو ضعيف لجواز كون محله غير القلب وسلامة القلب شرط فيه قال بعضهم إنه الدم لفوات الحياة بفواته وعليه قول السموأل تسيل على حد الضباة نفوسنا قلنا لا يلزم من عدم شيء عند عدم آخر اتحادهما كالجوهر والعرض ولا حجة في الشعر لاحتماله المجاز وقيل هو الأخلاط بشرط أن يكون لكل واحد منها قدر معين ومأخذ هذا وجوابه قريب مما سلف.

قال بعض الفلاسفة : إنه الجزء الناري لأن خاصة النار الإشراق والحركة وخاصة النفس الإدراك والحركة والإدراك من جنس الإشراق ولذلك قالت الأطباء إن مدبر هذا البدن الحرارة الغريزية قلنا لا يلزم من الاشتراك في الخاصة الاشتراك في ذي الخاصة فإن العناصر مع اختلاف ماهياتها تشترك في كيفياتها.

قال الباقلاني : هو الجزء الهوائي وهو النفس المتردد في المخارق وأنه متى انقطع انقطعت الحياة فالنفس هو النفس قلنا قد أسلفنا أن التلازم لا يستلزم الاتحاد.

قيل : هو الجزء المائي لأنه سبب النمو فالنفس كذلك قلنا وهذا من


موجبتين في الشكل الثاني فهو عقيم ولا ينحصر النمو في الماء فإنه يوجد في الشمس والهواء.

قيل هو أجزاء لطيفة سارية في البدن كسريان الدهن في السمسم وماء الورد في ورقه قلنا هذا مجرد خيال خال عن دليل.

قال النظام وابن الإخشيد إنه الروح الدماغي الصالح لقبول الحس والكفر والحفظ والذكر وهو الحي المكلف الفاعل للأفعال وهو مركب من بخارية الأخلاط ولطيفها ومسكنه الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والدماغ والكبد وما ينفذ في العروق والأعصاب إلى سائر الأعضاء قلنا قد علمنا أن الأذن هي السامعة والعين هي الباصرة والبدن راكع وساجد فكيف يقال الفاعل غيرها ولم حد الزاني ولم قتل المرتد إذا كان هو غير هذا المشاهد؟

قال النظام أيضا إنه جزء لطيف داخل البدن سار في أعضائه فإذا قطع منه عضو تقلص ذلك اللطيف فإذا قطع اللطيف معه مات الإنسان وهذا نظر إلى فقد الحياة بفقدانه وقد عرفت ضعفه.

قال هشام بن الحكم هو جسم لطيف يختص بالقلب وسماه نورا وإن الجسد موات وإن الروح هو الحي الفعال المدرك وقد عرفت مأخذه وضعفه مما سلف.

قال ابن الإخشيد أيضا إنه جسم منبث في الجملة وفيه ما فيما قبله.

قالت الصوفية إنه جسم لطيف كهيئة الإنسان ملبس كالثوب على الجسد وكأنهم نظروا إلى الأفعال الصادرة عنه وإلى أنه إذا قطع بعضه لم يمت فجعلوه شيئا ملازما للجملة وهذا خرص محض.

قالت الثنوية : هو جوهران ممتزجان أحدهما خير هو من النور والآخر شر هو من الظلمة بناء منهم على قدم هذين وتدبيرهما وقد عرفت بطلان مبناه في الكلام.

قالت المرقونية : إنه ثلاثة جواهر نور وظلمة وثالث بينهما وهو الفاعل دونهما.


قالت الصابئة هو الحواس الخمس لأنه شاعر وهذه مشاعر وهو من موجبتين في الثاني ويلزمهم أنه متى ذهب بعضها ذهب الإنسان لبطلان المركب ببطلان جزئه والحس يكذبه.

قال قوم من الدهرية هو الطبائع الأربع فهذا الضرب من الاختلاف كان إنسانا قال بعض الدهرية هو الطبائع الأربع وخامس آخر هو المنطق والتمييز والفعل.

قال بعض أصحاب الهيولى هو الجوهر الحي الناطق وهو في هذا الجوهر شيء ليس بمماس ولا مباين وهو المدبر له.

قالت الملكائية من النصارى هو النفس والعقل والجرم.

قال معمر : هو عين من الأعيان لا يجوز عليه الانتقال ولا يجوز له محل ولا مكان يدبر هذا العالم ويحركه ولا يجوز إدراكه ورؤيته فقد قيل إنه جعل الإنسان بمثابة القديم غير أنه لما سئل كيف يختص تدبيره بهذا البدن دون غيره دهش وقال إنه مدبر لسائر أبدان العالم وهذه صفة الإله سبحانه فزعم حينئذ أنه ربه وهذا هو الذي عناه شارح نظم البراهين بقوله وقيل إن النفس هو الإله قالوا يجوز كون النفس مختلفة بالحقيقة والأبدان مختلفة بالمزاج فتعلق كل نفس بما يناسبها من المزاج قلنا الأبدان الإنسانية قريبة المزاج وربما اتحد أكثرها في المزاج فيلزم أن يتعلق بالجميع (١) وهذه الأقوال لإدراكها مأخذ إلا أنها عند تحرير المبحث منها ما يرجع إلى الجوهر المجرد ومنها ما يرجع إلى الأجزاء الأصلية.

قال أكثر المحققين كأبي الحسين البصري وجمال الدين الحلي وكمال الدين البحراني وسالم بن عزيزة السوراوي إن الإنسان أجزاء أصلية في البدن باقية من أول العمر إلى آخره لا يجوز عليها التبدل والتغير لا مجموع البدن لأنه دائما في التبدل والاستخلاف مع بقاء النفس والباقي غير الزائل ولو كان هو جملة البدن

__________________

(١) بالجمع ( خ ).


لزم الظلم حيث إن المعدوم منه لا يمكن إعادته لما عرفت من امتناع إعادة المعدوم فلا يصل إليه ما يستحقه ولأنا متى استحضرنا العلوم وجدناها في ناحية صدورنا فلو كان محل علومنا شيء خارج عن شيء من أجسامنا لزم قيام صفاتنا بغيرنا ولأن الإنسان لو كان مجردا كما قيل لزم أن لا يعلم الإنسان الآخر لأنه لو علم الإنسان الآخر علم ذلك المجرد وهو ظاهر البطلان ولأنا نعلم هذا الإنسان والإنسان المطلق جزء منه فلو لم نعلم الجزء لم نعلم الكل وينعكس إلى أنا لما علمنا الكل علمنا الجزء والمجرد لا يعلم فليس بجزء ولأنا ندرك الألم بأجسامنا عند تقريبنا إلى النار مثلا ونحكم عليها به والمحكوم عليه هو الإنسان فهو معلوم والمجرد غير معلوم.

قالوا الإنسان يدرك الكليات لامتناع حصر الكل الذي لا ينحصر في الجسم المنحصر فيكون هو المجرد قلنا إن العلم ليس صورة حالة في العالم وإنما هو الوصول إلى المعلوم والنظر إليه ولا نسلم له أن العلم بالكل كلي إنما الكلي في الحقيقة هو المعلوم وإن أطلق عليه فبالمجاز لأن عروض جميع الأفراد مستحيلة على القوة العقلية وإنما يحصل لها لقيامها بالجسم بعوارض محصورة لأنها صور جزئية في نفس جزئية موصوفة بالحدوث في وقت مخصوص وإذا كانت في النفس بهذه العوارض فهي ليست كلية.

قالوا القوة العقلية تقوى من الأفعال على ما لا يتناهى والجسمية لا تقوى على ما لا يتناهى أنتج من الشكل الثاني القوة العقلية ليست جسمية قلنا لا نسلم أن القوة العقلية تقوى على فعل فضلا عن أن يقوى على ما لا يتناهى لأن تعلقها بالمعقول عندكم حصول صورة فيها وذلك انفعال لا فعل ولو سلمنا أصل قوتها منعنا عدم تناهيها لأنكم إن أردتم أنها تقوى في الوقت الواحد على ما لا يتناهى منعناه فإنا نجد في أنفسنا تعذر ذلك علينا وإن أردتم بعدم النهاية أنه ما من وقت إلا ويمكننا أن نفعل فيه فالقوة الجسمية تقوى لذلك إذ ما من آن يفرض إلا ويمكن أو يجب أن يحصل لها فيه فعل فيقوى على ما لا يتناهى فتكون القوة العاقلة جسمية.

قالوا : لو قويت الجسمية على ما لا يتناهى وكان جزؤها يقوى على ما لا يتناهى


ساوى الجزء الكل وإن قوي على ما يتناهى تناهى الكل لأن نسبة الكل إلى الجزء معلومة فيكون نسبة تأثيره إلى تأثير الجزء معلومة ونسبة تأثير الجزء متناهية فنسبة تأثير الكل متناهية قلنا لا يلزم من كون تأثير الجزء أقل تناهيه فإن الجزء المؤثر الدائم الأثر له تأثير دائم ولا يلزم من دوامه مساواته الكل لأن له تأثيرا دائما لكنه ضعيف قليل لأنه واقف على حد.

قال جمهور الفلاسفة ومعمر بن عباد السلمي من قدماء المعتزلة والغزالي وأبو القاسم الراغب والشيخ المفيد وبنو نوبخت والأسواري ونصير الدين الطوسي إنه جوهر مجرد عن المكان والجهة والمحل متعلق بالبدن تعلق العاشق بمعشوقه والملك بمدينته ويفعل أفعاله بواسطته وإن النفس تدرك حقائق الموجودات وجواز الجائزات واستحالة المستحيلات وإن النفس الفلكية تفيض على الأشخاص كالشمس تدخل عند طلوعها كل كوة بل قال الغزالي لا هو داخل البدن ولا خارج عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه لأن مصحح ذلك الجسمية والتحيز المنفيان عنه كما أن الجماد لا عالم ولا جاهل لنفي المصحح عنه وهو الحياة قال ومن نفاه نفاه لغلبة العامية على طبعه ولهذا إن الكرامية والحنبلية جعلوا الإله جسما موجودا إذ لم يعقلوا إلا جسما يشار إليه ومن ترقى عن ذلك قليلا نفى الجسمية ولم يطق ينظر في عوارضها فأثبت الجهة لله سبحانه فإذا منعوا ذلك في صفات الله كيف يجيزونه في غيره قالوا لو تجرد شيء شاركه القديم في أخص صفاته فيشاركه في ذاته قلنا نمنع كون التجرد أخص الصفات بل كونه قيوما لقيامه بذاته وقيام غيره.

به احتجوا على إثبات المجرد بأن هنا معلومات بسيطة كالوحدة والنقطة فالعلم بها بسيط إذ لو تركب فإن تعلق جزؤه به أجمع ساوى الجزء الكل ولزم وجود العلم قبل وجوده وإن تعلق ببعضه لزم تركب ما فرض بساطته وإن لم يتعلق بشيء ظهر أنه ليس بعلم إذ الكلام في باقي الأجزاء كالكلام فيه فعند الجمع بينهما إن لم تحصل هيئة جديدة كان العلم المفروض محض ما ليس بعلم وإن حصلت الهيئة المفروضة علما فإن كانت من الجزءين فالتركيب في فاعلهما وإن حصلت عندهما قائمة بهما فالتركيب


في قابلهما لا فيهما إذ لو كانت مركبة عاد الكلام في أجزائها فمحل هذه المفروضة علما هو النفس وهي بسيطة لأنها لو تركبت فإن حل العلم البسيط في مجموعها انقسم العلم إذ الحال في أحد الجزءين غير الحال في الآخر ولو كان هو الحال في الآخر لزم حلول العرض الواحد في محلين وإن حل في أحد الجزءين فإن كان هو النفس فالمطلوب وإن كان هو جزؤها فالجزء الآخر خال منه فلزم أن نعلم شيئا ونجهله في وقت واحد فظهر أن المحل وهو النفس بسيط ولا شيء من الجسم والجسماني ببسيط ينتج من الشكل الثاني أن محل العلم ليس بجسم ولا جسماني.

والجواب أما المقدمة الأولى وهي أن هنا معلوما بسيطا فمسلم أما الباقيات فممنوعات أما الثانية فلأن الجزء يجوز مساواته للكل في التعلق وإن لم يساوه في الحقيقة كالأدلة المتواترة على شيء واحد وإن واحدها تعلق بما تعلق به مجموعها وفيه نظر لأن الجزء الثاني من العلم إن زاد المعلوم به انكشافا تعلق بغير ما تعلق به الأول وإن لم يزد كان وجوده مثل عدمه والأصوب في المنع أن قولهم إن لم يتعلق الجزء بشيء ظهر أنه ليس بعلم فعند الجمع إن لم يحصل هيئة كان المفروض علما محض ما ليس بعلم وإن حصلت منه إلخ نفي كل مركب فيقال في الحيوان مثلا ليس بمركب لأن جزأه إما حيوان فيتقدم الحيوان على نفسه وساوى الجزء الكل أو ليس بحيوان فبعد الجمع بالجزء الآخر إن لم تحصل هيئة كان الحيوان محض ما ليس بحيوان وإن حصلت فهي بسيطة لأنه لو كان لها جزء عاد التقسيم المذكور فيكون التركيب في فاعلها أو قابلها لا فيها وليس لهم عن هذه المعارضة مذهب وأما الثالثة وهو أنه يلزم من بساطة الحال بساطة المحل فلأنا لا نسلم أن العلم على هيئة الحلول والصورة وإنما هو إدراك ووصول ونظر إلى المعلوم ولو سلم لم يلزم من بساطة الحال بساطة المحل فإن النقطة والوحدة موجودتان في الجسم المركب نعم إنما يلزم ذلك إذا كان الحلول على نعت السريان ولم يقم على السريان في محل النزاع برهان.

ويلزم مما قالوا كون النفس جسما أو جسمانية لأنها تعلم المركب في صورة


المركبة مركبة فيلزم كون محلها مركبا لامتناع حلول المركب في البسيط وهذه معارضة أخرى لا محيص عنها وأما الرابعة فنمنع انقسام كل جسم وجسماني لما ثبت في الكلام جواهر لا تقبل الانقسام.

المذهب الثاني : أنها عرض فذهب جالينوس إلى أنه المزاج الذي هو اعتدال الأركان وهذا نظر إلى فوات الحياة بفواته وقد سلف جوابه.

وقيل إنه تشكيل البدن وتخطيطه وهذا قول سخيف جدا منقوض بمقطوع اليد مثلا فإن فوات تخطيطها يلزم منه عدم النفس لعدم الكل بعدم الجزء.

وقيل إنه الحياة وهذا مأخوذ من التلازم بينهما وقد عرفت أنه لا يوجب الاتحاد.

وقيل إنه النسبة الواقعة بين الأركان في الكميات والكيفيات.

أما تركبه من الجسم والمجرد أو من العرض والمجرد أو من الجسم والعرض والمجرد فقال سديد الدين محفوظ لا أعلم به قائلا إلا أن تفسير الفلاسفة لحقيقة الإنسان بأنه الحيوان الناطق يقتضي كون الإنسان عبارة عن البدن والنفس معا لأن الحياة جنس حلته أعراض والناطق هو النفس فعلى هذا يكون الإنسان مركبا من هذه تركيبا ثلاثيا وهذا مذهب تاسع وعشرون.

والثلاثون قال بشر بن معتمر وهشام النوطي إنه الجسم والروح الذي هو الحياة وإنهما الفاعلان للأفعال وعلى هذا قيل في الإنسان نفس وروح فإذا نام خرجت نفسه وإذا مات خرجتا معا وهذا يؤدي إلى أن النفس والروح غير الإنسان.

خاتمة

قوله عليه‌السلام من عرف نفسه فقد عرف ربه قال بعض العلماء الروح لطيفة لاهوتية في صفة ناسوتية دالة من عشرة أوجه على وحدانية ربانية :

١ـ لما حركت الهيكل ودبرته علمنا أنه لا بد للعالم من محرك ومدبر.

٢ ـ دلت وحدتها على وحدته.


٣ ـ دل تحريكها للجسد على قدرته.

٤ ـ دل اطلاعها على ما في الجسد على علمه.

٥ ـ دل استواؤها إلى الأعضاء على استوائه إلى خلقه.

٦ ـ دل تقدمها عليه وبقاؤها بعده على أزله وأبده.

٧ ـ دل عدم العلم بكيفيتها على عدم الإحاطة به.

٨ ـ دل عدم العلم بمحلها من الجسد على عدم أينيته.

٩ ـ دل عدم مسها على امتناع مسه.

١٠ ـ دل عدم إبصارها على استحالة رؤيته.

المقصد الثاني : الروح

فزعمت الفلاسفة أن في البدن أرواحا وأنفسا يعبرون عنها بالقوى منها الروح الطبيعي التي يشترك فيها جميع الأجساد النامية ومحلها الكبد ومنها الروح الحيواني وهي التي يشترك فيها الحيوانات ومحلها من الإنسان القلب ومنها النفساني وهي من فيض النفس الناطقة أو العقل ومحلها الدماغ وهي المدبرة للبدن وعندنا أن هذه الأرواح معان يخلقها الله تعالى في هذه المحال ثم أثبتوا قوى أخر في المعدة الماسكة والهاضمة والجاذبة والدافعة وعندنا أيضا أنها معان وليست جواهر لتماثل الجواهر ولو كان بعض الجواهر روحا لنفسه لكان كل جوهر كذلك فيستغني كل جزء عن أن يكون له روح غير نفسه فبطل بذلك كون روح الجسد من نفسه.

إن قالوا الروح الباقي عرض واعترض في الروح الأول قلنا فلم لا يجوز أن يكون روح هذا الجسد الظاهر عرضا هو الحياة والله خالق الموت والحياة فإن كانت جوهرا والموت عرض امتنع أن يبطل حكمها لأن العرض لا يضاد الجوهر وعند معظم أهل الفلاسفة والطب أن الروح من بخار الدم تتصاعد فتبقى ببقائها.


واعلم أن اسم الروح مشترك باللفظ بين عشر معان (ا) الوحي (ب) جبرئيل (ج) عيسى (د) الاسم الأعظم (ه‍) ملك عظيم الجثة (و) الرحمة (ز) الراحة (ح) الإنجيل (ط) القرآن (ي) الحياة أو سببها.

وقال الباقلاني والأسفراني وابن كيال وغيرهم أن الروح هي الحياة وهي عرض خاص وليست شيئا من بقية الأعراض المعتدلة والمحسوسة لجواز زوالها مع بقاء الروح.

إن قيل : فكيف يكون الروح هو الحياة والله له حياة وليس له روح؟

قلنا : أسماء الله تعالى سبحانه توقيفية لا تبلغ من الآراء فإن الله تعالى عليم ولا يسمى داريا ولا شاعرا ولا فقيها ولا فهيما والله تعالى قادر مبين ولا يسمى شجاعا ولا مستطيعا.

إن قيل : كيف يكون الروح هو الحياة وفي الأخبار أن الأرواح تنتقل إلى عليين وإلى سجين وإلى قناديل تحت العرش وإلى حواصل طير خضر والحياة لا تنتقل؟

قلنا : يجوز أن تنتقل أجزاء أحياء وتسمى أرواحا لأنها محال الروح وهي الحياة تسمية للمحل باسم معنى فيه كما يسمى المسجد صلاة في قوله تعالى « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى » (١) أو نقول المنتقل أمثال الأرواح يخلقها الله وتسمى أرواحا نورانية إن كانت قائمة بذوات المطيعين طيبة تصلي عليها الملائكة وظلمانية منتنة إن كانت قائمة بذوات المسيئين تلعنها الملائكة مثل ما ورد في الأخبار تصعد صلاة المحسن طيبة مضيئة وصلاة المسيء منتنة مظلمة وإن سورة البقرة وآل عمران تأتيان كأنهما غمامتان والله تبعث الأيام على هيئتها وتبعث يوم الجمعة أزهر وأنه يؤتى بكبش أملح فيذبح ويقال هذا الموت وأن الأعمال توزن وإنما هي أمثلة يخلقها الله.

إن قيل : إن الله وصف النفس التي هي الروح بالإرسال والإمساك في قوله

__________________

(١) النساء : ٤٢.


تعالى : « يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ » الآية (١) والحياة لا توصف بذلك.

قلنا : قد سلف أن النفس يقال على معان منها الروح ومنها العقل والتمييز وهذان هما المراد من قوله « يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ » الآية وأطلق على النائم لعدم الدفع والنفع ومنه سمى الله الكفار أمواتا في قوله « إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى » (٢) لعدم النفع.

إن قيل : في الحديث أن الأرواح جنود في الهواء والحياة لا تكون في الهواء.

قلنا : محمول على الذرية التي خرجت من آدم وفي هذا نظر لمخالفة ظاهر الآية إذ فيها « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ » (٣) أو أن الأرواح هنا القلوب لأن التعارف والتساكن (٤) فيها.

إن قيل : في الحديث خلق الله الأرواح قبل الأجساد ولا يصح ذلك في الحياة.

قلنا : لا يعلم صحته أو المراد بالأرواح الملائكة فإن جبرئيل روح والملك العظيم الجثة روح والروحانيون صنف منهم أيضا.

والظاهر من كلام أبي الحسن وجماعة أن الروح أجسام لطيفة فقيل ليست معينة وقال الجويني هي ماسكة الأجسام المحسوسة أجرى الله العادة باستمرار الحياة ما استمرت وكان ابن فورك يقول هو ما يجري في تجاويف الأعضاء ولهذا جوز أبو منصور البغدادي قيام الحياة بالشعر إذ لا يشترط في محلها التجويف ولم يجوز قيام الروح لاشتراط التجويف وليس في الشعر تجويف واستدلوا على كونها جسما بوصف الله لها ببلوغ الحلقوم وبالإرسال وبالرجوع وبالفزع وبقوله من نام على وضوء يؤذن لروحه أن تسجد عند العرش وعلى هذا اختلف في تكليفها فقيل ليست مكلفة وقيل بل مكلفة بأفعال غير أفعال البدن المحبة وضدها وأن له

__________________

(١) الزمر : ٤٢.

(٢) النمل : ٨٠.

(٣) الأعراف : ١٧١.

(٤) التناكر ( ظ ).


حياة وأفعالها اقتناء الأفعال (١) الحميدة واجتناب الذميمة وأوردوا في ذلك ما أورده الخيري في تفسيره قوله تعالى « يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها » (٢) أن النفس والروح يجيئان بين يدي الله فيختصمان فتقول النفس كنت كالثوب لم أقترف ذنبا ما لم تدخل في ويقول الروح كنت مخلوقا قبلك بدهور ولم أدر ما الذنب إلى أن دخلت فيك فيمثل الله لهما أعمى ومقعدا وكرما على الجدار ويأمرهما بالاقتطاف فيقول الأعمى لا أبصر ويقول المقعد لا أمشي فيقول له اركب الأعمى واقتطف فيقول هذا مثالكما فكما صار العنب بكما مقطوفا صار الذنب بكما معروفا ومن قال الروح هي الحياة قال المراد بالروح في هذا القول القلب لأنه به حياة الجسد وقد روي في حلية الأولياء عن سلمان رضي‌الله‌عنه أنه قال مثل القلب والجسد مثل الأعمى والمقعد قال المقعد أرى ثمرة ولا أستطيع القيام فاحملني فحمله فأكل وأطعمه وهذا أولى لأن فعل الجسد إنما يكون طاعة ومعصية بعزيمة القلب ولهذا قال عليه‌السلام إن في الجسم (٣) لمضغة إذا صلحت صلح سائره وإذا فسدت فسد سائره وهي القلب.

تذنيب

قوله تعالى « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » (٤) إن قيل كيف أبهم الله الجواب؟ قلنا فيه وجوه.

(ا) قال الكتابيون للمشركين اسألوا محمدا عنه فإن توقف فيه فهو نبي فسألوه فأجاب بذلك وقوله « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » عنى اليهود قالوا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء.

(ب) كان قصدهم بالسؤال تخجيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإن الروح لما قيل على معان

__________________

(١) الأخلاق ( خ ).

(٢) النحل : ١١١.

(٣) الجسد ( خ ).

(٤) الإسراء : ٨٥.


مختلفة كما سلف حتى لو أجاب بواحد منها قالوا ما نريد هذا فأبهموا السؤال فأبهم الجواب بما ينطبق على الجميع بأنه من أمر الله أي أنه أحدثه بقوله كن أو هو من شأنه وخلقه.

(ج) عن ابن عباس أنهم سألوا عن جبرئيل لأنهم كانوا يدعون معاداته.

(د) عن علي عليه‌السلام أنهم سألوا عن الملك العظيم الجثة.

(ه‍) لو أريد الروح التي في البدن لم يكن في الآية دليل على أنه لا يعلمها إلا الله.

هذا آخر ما وجدنا من الرسالة ولن نتكلم على ما فيها إحالة على أفهام الناظرين فخذ منها ما صفا ودع ما كدر.

تتمة

أقول بعد ما أحطت خبرا بما قيل في هذا الباب من الأقوال المتشتتة والآراء المتخالفة وبعض دلائلهم عليها لا يخفى عليك أنه لم يقم دليل عقلي على التجرد ولا على المادية وظواهر الآيات والأخبار تدل على تجسم الروح والنفس وإن كان بعضها قابلا للتأويل وما استدلوا به على التجرد لا يدل دلالة صريحة عليه وإن كان في بعضها إيماء إليه فما يحكم به بعضهم من تكفير القائل بالتجرد إفراط وتحكم كيف وقد قال به جماعة من علماء الإمامية ونحاريرهم وجزم القائلين بالتجرد أيضا بمحض شبهات ضعيفة مع أن ظواهر الآيات والأخبار تنفيه أيضا جرأة وتفريط فالأمر مردد بين أن يكون جسما لطيفا نورانيا ملكوتيا داخلا في البدن تقبضه الملائكة عند الموت وتبقى معذبا أو منعما بنفسه أو بجسد مثالي يتعلق به كما مر في الأخبار أو يلهى عنه إلى أن ينفخ في الصور كما في المستضعفين ولا استبعاد في أن يخلق الله جسما لطيفا يبقيه أزمنة متطاولة كما يقول المسلمون في الملائكة والجن ويمكن أن يرى في بعض الأحوال بنفسه أو بجسده المثالي ولا يرى في بعض الأحوال بنفسه أو بجسده بقدرة الله سبحانه أو يكون مجردا يتعلق بعد قطع تعلقه عن جسده الأصلي بجسد مثالي ويكون قبض الروح وبلوغها الحلقوم وأمثال ذلك تجوزا عن


قطع تعلقها أو أجرى عليها أحكام ما تعلقت أولا به وهو الروح الحيواني البخاري مجازا.

ثم الظاهر من الأخبار أن النفس الإنساني غير الروح الحيواني وغير سائر أجزاء البدن المعروفة وأما كونها جسما لطيفا خارجا من البدن محيطا به أو متعلقا به فهو بعيد ولم يقل به أحد وإن كان يستفاد من ظواهر بعض الأخبار كما عرفت.

وقد يستدل على بطلان القول بوجود مجرد سوى الله بقوله سبحانه « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » (١) وهو ضعيف إذ يمكن أن يكون تجرده سبحانه مباينا لتجرد غيره كما تقول في السمع والبصر والقدرة وغيرها.

وقد يستدل على نفيه بما سبق من الأخبار الدالة على أن الوحدة مختصة به تعالى وأن غيره سبحانه متجزئ كخبر فتح بن يزيد عن أبي الحسن عليه‌السلام وقال في آخره والإنسان واحد في الاسم لا واحد في المعنى والله جل جلاله هو واحد لا واحد غيره ولا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان وأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شيء واحد. وعن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام في حديث طويل ولكنه القديم في ذاته وما سوى الواحد متجزئ والله الواحد لا متجزئ ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزئ أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام لا تشبه [ تشبهه ] صورة ولا يحس بالحواس ولا يقاس بالناس قريب في بعده بعيد في قربه فوق كل شيء ولا يقال شيء فوقه أمام كل شيء ولا يقال له أمام داخل في الأشياء لا كشيء داخل وخارج من الأشياء لا كشيء خارج سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره. فإن هذه الأخبار وغيرها مما مر في كتاب التوحيد تدل على اختصاص تلك الصفات بالله تعالى وعلى القول بوجود مجرد سوى الله كانت مشتركة مع الله سبحانه فيها لا سيما في العقول التي ينفون عنها التغير والتبدل ولا يخلو من قوة لكن

__________________

(١) الشورى : ١١.


للكلام فيه مجال والله يعلم حقائق الأمور وحججه عليهم‌السلام.

وأقول : لما انتهى الكلام في هذا الباب إلى بعض الإطناب لكونه من أهم المطالب وأقصى المآرب فلا بأس بأن نذكر بعض المطالب المهمة من أحوال النفس وشئونها في فوائد.

الأولى : في بيان اتحاد حقيقة النفوس البشرية بالنوع قال نصير الملة والدين رحمه‌الله في التجريد ودخولها تحت حد واحد يقتضي وحدتها وقال العلامة رفع الله مقامه اختلف الناس في ذلك فذهب الأكثر إلى أن النفوس البشرية متحدة في النوع متكثرة بالشخص وهو مذهب أرسطو وذهب جماعة من القدماء إلى أنها مختلفة بالنوع واحتج المصنف على وحدتها بأنها يشملها حد واحد والأمور المختلفة يستحيل اجتماعها تحت حد واحد وعندي في هذا نظر وقال شارح المقاصد ذهب جمع من قدماء الفلاسفة إلى أن النفوس الحيوانية والإنسانية متماثلة متحدة الماهية واختلاف الأفعال والإدراكات عائد إلى اختلاف الآلات وهذا لازم على القائلين بأنها أجسام والأجسام متماثلة إذ لا تختلف إلا بالعوارض وأما القائلون بأن النفوس الإنسانية مجردة فذهب الجمهور منهم إلى أنها متحدة الماهية وإنما تختلف في الصفات والملكات واختلاف الأمزجة والأدوات وذهب بعضهم إلى أنها مختلفة بالماهية بمعنى أنها جنس تحته أنواع مختلفة تحت كل نوع أفراد متحدة الماهية متناسبة الأحوال بحسب ما يقتضيه الروح العلوي المسمى بالطباع التام لذلك النوع ويشبه أن يكون قوله عليه‌السلام الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وقوله عليه‌السلام الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف إشارة إلى هذا وذكر الإمام في المطالب العالية أن هذا المذهب هو المختار عندنا.

وأما بمعنى أن يكون كل فرد منها مخالفا بالماهية لسائر الأفراد حتى لا يشترك منهم اثنان في الحقيقة فلم يقل به قائل تصريحا كذا ذكره أبو البركات في المعتبر.


احتج الجمهور : بأن ما يعقل من النفس ويجعل لها حدا معنى واحد مثل الجوهر المجرد المتعلق بالبدن والحد تمام الماهية وهذا ضعيف لأن مجرد التحديد بحد واحد لا يوجب الوحدة النوعية إذ المعاني الجنسية أيضا كذلك كقولنا الحيوان جسم حساس متحرك بالإرادة وإن ادعي أن هذا مقول في جواب السؤال بما هو عن أي فرد وأي طائفة تفرض فهو ممنوع بل ربما يحتاج إلى ضم مميز جوهري وقد يحتج بأنها مشاركة في كونها نفوسا بشرية فلو تخالفت بفصول مميزة لكانت من المركبات دون المجردات والجواب بعد تسليم كون النفسية من الذاتيات دون العرضيات أن التركيب العقلي من الجنس والفصل لا ينافي التجرد ولا يستلزم الجسمية.

واحتج الآخرون : بأن اختلاف النفوس في صفاتها لو لم يكن لاختلاف ماهياتها بل لاختلاف الأمزجة والأحوال البدنية والأسباب الخارجية لكانت الأشخاص المتقاربة جدا في أحوال البدن والأسباب الخارجة متقاربة البتة في الملكات والأخلاق من الرحمة والقسوة والكرم والبخل والعفة والفجور وبالعكس واللازم باطل إذ كثيرا ما يوجد الأمر بخلاف ذلك بل ربما يوجد الإنسان الواحد يبدل مزاجه جدا وهو على غريزته الأولى ولا خفاء في أن هذا من الإقناعيات الضعيفة لجواز أن يكون ذلك لأسباب أخر لا نطلع على تفاصيلها.

الثانية تساوي الأرواح والأبدان قال شارح المقاصد كل نفس يعلم بالضرورة أن ليس معها في هذا البدن نفس أخرى تدبر أمره وأن ليس لها تدبير وتصرف في بدن آخر فالنفس مع البدن على التساوي ليس لبدن واحد إلا نفس واحدة ولا تتعلق نفس واحدة إلا ببدن واحد أما على سبيل الاجتماع فظاهر وأما على سبيل التبادل والانتقال من بدن إلى آخر فلوجوه :

الأول : أن النفس المتعلقة بهذا البدن لو كانت منتقلة إليه من بدن آخر لزم أن يتذكر شيئا من أحوال ذلك البدن لأن العلم والحفظ والتذكر من الصفات القائمة بجوهرها الذي لا يختلف باختلاف أحوال البدن واللازم باطل قطعا.


الثاني : أنها لو تعلقت بعد مفارقة هذا البدن ببدن آخر لزم أن يكون عدد الأبدان الهالكة مساويا لعدد الأبدان الحادثة لئلا يلزم تعطل بعض النفوس أو اجتماع عدة منها على التعلق ببدن واحد أو تعلق واحدة منها بأبدان كثيرة معا لكنا نعلم قطعا بأنه قد يهلك في مثل الطوفان العام أبدان كثيرة لا يحدث مثلها إلا في أعصار متطاولة.

الثالث : أنه لو انتقل نفس إلى بدن لزم أن يجتمع فيه نفسان منتقلة وحادثة لأن حدوث النفس عن العلة القديمة يتوقف على حصول الاستعداد في القابل أعني البدن وذلك بحصول المزاج الصالح وعند حصول الاستعداد في القابل يجب حدوث النفس لما تقرر من لزوم وجود المعلول عند تمام العلة.

لا يقال : لا بد مع ذلك من عدم المانع ولعل تعلق المنتقلة مانع وتكون لها الأولوية في المنع لما لها من الكمال.

لأنا نقول : لا دخل للكمال في اقتضاء التعلق بل ربما يكون الأمر بالعكس فإذن ليس منع الانتقال للحدوث أولى من منع الحدوث للانتقال.

واعترض : على الوجوه الثلاثة بعد تسليم مقدماتها بأنها إنما تدل على أن النفس بعد مفارقه البدن لا تنتقل إلى بدن آخر إنساني ولا يدل على أنها لا تنتقل إلى حيوان آخر من البهائم والسباع وغيرهما على ما جوزه بعض التناسخية وسماه مسخا ولا إلى نبات على ما جوزه بعضهم وسماه فسخا ولا إلى جماد على ما جوزه آخر وسماه رسخا ولا إلى جرم سماوي على ما يراه بعض الفلاسفة.

وإنما قلنا : بعد تسليم المقدمات لأنه ربما يعترض على الوجه الأول بمنع لزوم التذكر وإنما يلزم لو لم يكن التعلق بذلك البدن شرطا والاستغراق في تدبير البدن الآخر مانعا أو طول العهد منسيا وعلى الثاني بمنع لزوم التساوي وإنما يلزم لو كان التعلق ببدن آخر لازما البتة وعلى الفور وأما إذا كان جائزا أو لازما ولو بعد حين فلا لجواز أن لا ينتقل نفوس الهالكين الكثيرين أو ينتقل بعد حدوث الأبدان الكثيرة وما توهم من التعطيل مع أنه لا حجة على بطلانه فليس بلازم لأن


الابتهاج بالكمالات أو التألم بالجهالات شغل وعلى الثالث بأنه مبني على حدوث النفس وكون المزاج مع الفاعل تمام العلة بحيث لا مانع أصلا والكل في حيز المنع.

ثم قال وليس للتناسخية دليل يعتد به وغاية ما تمسكوا به في إثبات التناسخ على الإطلاق أي انتقال النفس بعد المفارقة إلى جسم آخر إنساني أو غيره وجوه :

الأول : أنها لو لم تتعلق لكانت معطلة ولا تعطيل في الوجود وكلتا المقدمتين ممنوعة.

الثاني : أنها مجبولة على الاستكمال والاستكمال لا يكون إلا بالتعلق لأن ذلك شأن النفوس وإلا كانت عقلا لا نفسا ورد بأنه ربما كان الشيء طالبا لكماله ولا يحصل لزوال الأسباب والآلات بحيث لا يحصل لها البدن.

الثالث : أنها قديمة فتكون متناهية العدد لامتناع وجود ما لا يتناهى بالفعل بخلاف ما لا يتناهى من الحوادث كالحركات والأوضاع وما يستند إليها فإنها إنما تكون على سبيل التعاقب دون الاجتماع والأبدان مطلقا بل الأبدان الإنسانية خاصة غير متناهية لأنها من الحوادث المتعاقبة المستندة إلى ما لا يتناهى من الدورات الفلكية وأوضاعها فلو لم يتعلق كل نفس إلا ببدن واحد لزم توزع ما يتناهى على ما لا يتناهى وهو محال بالضرورة.

ورد بمنع قدم النفوس ومنع لزوم تناهي القدماء لو ثبت فإن الأدلة إنما تمت فيما له وضع وترتيب ومنع لا تناهي الأبدان وعللها ومنع لزوم أن يتعلق بكل بدن نفس وإن أريد الأبدان التي صارت إنسانا بالفعل اقتصر على منع لا تناهيها.

ثم قال : وقد يتوهم أن من شريعتنا القول بالتناسخ فإن مسخ أهل المائدة قردة وخنازير رد لنفوسهم إلى أبدان حيوانات أخر والمعاد الجسماني رد لنفوس الكل إلى أبدان أخر إنسانية للقطع بأن الأبدان المحشورة لا تكون الأبدان الهالكة بعينها لتبدل الصور والأشكال بلا نزاع.

والجواب : أن المتنازع هو أن النفوس بعد مفارقتها الأبدان تتعلق في الدنيا


بأبدان أخر للتدبير والتصرف والاكتساب لا أن تتبدل صور الأبدان كما في المسخ أو أن تجتمع أجزاؤها الأصلية بعد التفرق فترد إليها النفوس كما في المعادن على الإطلاق وكما في إحياء عيسى عليه‌السلام بعض الأشخاص.

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه حين سأله سائل تأول سيدنا أدام الله نعماءه ما ورد في المسوخ مثل الدب والقرد والفيل والخنزير وما شاكل ذلك على أنها كانت على خلق جميلة غير منفور عنها ثم جعلت هذه الصور المسيئة على سبيل التنفير عنها والزيادة في الصد عن الانتفاع بها وقال لأن بعض الأحياء لا يجوز أن يصير حيا آخر غيره إذا أريد بالمسخ هذا فهو باطل وإن أريد غيره نظرنا فيه فما جواب من سأل عند سماع هذا عن الأخبار الواردة عن النبي والأئمة عليهم‌السلام بأن الله تعالى يمسخ قوما من هذه الأمة قبل يوم القيامة كما مسخ في الأمم المتقدمة وهي كثيرة لا يمكن الإطالة بحصرها في كتاب وقد سلم الشيخ المفيد رضي‌الله‌عنه صحتها وضمن ذلك الكتاب الذي وسمه بالتمهيد وأحال القول بالتناسخ وذكر أن الأخبار المعول عليها لم ترد إلا بأن الله تعالى يمسخ قوما قبل يوم القيامة وقد روى النعماني كثيرا من ذلك يحتمل النسخ والمسخ معا فمما رواه ما أورده في كتاب التسلي والتقوي وأسنده إلى الصادق عليه‌السلام حديث طويل يقول في آخره وإذا احتضر الكافر حضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام وجبرئيل وملك الموت عليهما‌السلام فيدنو إليه علي عليه‌السلام فيقول يا رسول الله إن هذا كان يبغضنا أهل البيت فأبغضه فيقول رسول الله يا جبرئيل إن هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأبغضه فيقول جبرئيل لملك الموت إن هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيته فأبغضه واعنف به فيدنو منه ملك الموت فيقول يا عبد الله أخذت فكاك رقبتك أخذت أمان براءتك تمسكت بالعصمة الكبرى في دار الحياة الدنيا فيقول وما هي فيقول ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام فيقول ما أعرفها ولا أعتقد بها فيقول له جبرئيل يا عدو الله وما كنت تعتقد فيقول كذا وكذا فيقول له جبرئيل أبشر يا عدو الله بسخط الله وعذابه في النار وأما ما كنت ترجو فقد فاتك وأما الذي كنت تخافه فقد نزل بك ثم يسل


نفسه سلا عنيفا ثم يوكل بروحه مائة شيطان كلهم يبصق في وجهه ويتأذى بريحه فإذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب النار يدخل عليه (١) من فوح ريحها ولهبها ثم إنه يؤتى بروحه إلى جبال برهوت ثم إنه يصير في المركبات حتى إنه يصير في دودة بعد أن يجري في كل مسخ مسخوط عليه حتى يقوم قائمنا أهل البيت فيبعثه الله ليضرب عنقه وذلك قوله « رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ » (٢) والله لقد أتي بعمر بن سعد بعد ما قتل وإنه لفي صورة قرد في عنقه سلسلة فجعل يعرف أهل الدار وهم لا يعرفونه والله لا يذهب الدنيا حتى يمسخ عدونا مسخا ظاهرا حتى إن الرجل منهم ليمسخ في حياته قردا أو خنزيرا ومن ورائهم عذاب غليظ ومن ورائهم « جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً ».

والأخبار في هذا المعنى كثيرة قد جازت عن حد الآحاد فإن استحال النسخ وعولنا على أنه ألحق بها ودلس (٣) فيها وأضيف إليها فما ذا يحيل المسخ وقد صرح به فيها وفي قوله « هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ » (٤) وقوله « فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » (٥) وقوله « وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ » (٦)؟

والأخبار ناطقة بأن معنى هذا المسخ هو إحالة التغيير عن بنية الإنسانية إلى ما سواها وفي الخبر المشهور عن حذيفة أنه كان يقول أرأيتم لو قلت لكم إنه يكون فيكم قردة وخنازير أكنتم مصدقي فقال رجل يكون فينا قردة وخنازير قال وما يؤمنك من ذلك لا أم لك. وهذا تصريح بالمسخ وقد تواتر الأخبار بما يفيد أن معناه تغيير الهيئة والصورة وفي الأحاديث أن رجلا قال لأميرالمؤمنين عليه‌السلام

__________________

(١) إليه ( خ ).

(٢) غافر : ١١.

(٣) دس ( ظ ).

(٤) المائدة : ٦٣.

(٥) البقرة : ٦٥.

(٦) يس : ٦٧.


وقد حكم عليه بحكم والله ما حكمت بالحق فقال له اخسأ كلبا وإن الأثواب تطايرت عنه وصار كلبا يمصع (١) بذنبه وإذا جاز أن يجعل الله جل وعز الجماد حيوانا فمن ذا الذي يحيل جعل حيوان في صورة حيوان آخر؟

فأجاب قدس‌سره اعلم أنا لم نحل المسخ وإنما أحلنا أن يصير الحي الذي كان إنسانا الحي الذي كان قردا أو خنزيرا والمسخ أن يغير صورة الحي الذي كان إنسانا يصير بهيمة لا أنه يتغير صورته إلى صورة البهيمة والأصل في المسخ قوله تعالى « كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » (٢) وقوله تعالى « وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ » (٣) وقد تأول قوم من المفسرين آيات القرآن التي في ظاهرها المسخ على أن المراد بها أنا حكمنا بنجاستهم وخسة منزلتهم وإيضاع أقدارهم لما كفروا وخالفوا فجروا بذلك مجرى القرود التي لها هذه الأحكام كما يقول أحدنا لغيره ناظرت فلانا وأقمت عليه الحجة حتى مسخته كلبا على هذا المعنى وقال آخرون بل أراد بالمسخ أن الله تعالى غير صورهم وجعلهم على صور القرود على سبيل العقوبة لهم والتنفير عنهم وذلك جائز مقدور لا مانع له وهو أشبه بالظاهر وأمر عليه والتأويل الأول ترك الظاهر وإنما تترك الظواهر لضرورة وليست هاهنا.

فإن قيل فكيف يكون ما ذكرتم عقوبة قلنا هذه الخلقة إذا ابتدئت لم تكن عقوبة وإذا غير الحي المخلوق على الخلقة التامة الجميلة إليها كان ذلك عقوبة لأن تغير الحال إلى ما ذكرناه يقتضي الغم والحسرة.

فإن قيل : فيجب أن يكون مع تغير الصورة ناسا قردة وذلك متناف قلنا متى تغيرت صورة الإنسان إلى صورة القرد لم يكن في تلك الحال إنسانا بل كان إنسانا مع البنية الأولى واستحق الوصف بأنه قرد لما صار على صورته وإن كان الحي واحدا في الحالين لم يتغير ويجب فيمن مسخ قردا على سبيل العقوبة له أن يذمه مع تغير

__________________

(١) مصع بذنبه ـ كفتح ـ : حركه.

(٢) البقرة : ٦٥.

(٣) المائدة : ٦٣.


الصورة على ما كان منه من القبائح لأن تغير الهيئة والصورة لا يوجب الخروج عن استحقاق الذم كما لا يخرج المهزول إذا سمن عما كان يستحقه من الذم وكذا السمين إذا هزل.

فإن قيل فيقولون إن هؤلاء الممسوخين تناسلوا وإن القردة في أزماننا هذه من نسل أولئك قلنا ليس يمتنع أن يتناسلوا بعد أن مسخوا لكن الإجماع حاصل على أنه ليس شيء من البهائم من أولاد آدم ولو لا هذا الإجماع لجوزنا ما ذكر وعلى هذه الجملة التي قررناها لا ينكر صحة الأخبار الواردة من طرقنا بالمسخ لأنها كلها يتضمن وقوع ذلك على من يستحق العقوبة والذم من الأعداء والمخالفين.

فإن قيل : أفتجوزون أنه يغير الله تعالى صورة حيوان جميلة إلى صورة أخرى غير جميلة بل مشوهة منفور عنها أم لا تجوزون قلنا إنما أجزنا في الأول ذلك على سبيل العقوبة لصاحب هذه الخلقة التي كانت جميلة ثم تغيرت لأنه يغتم بذلك ويتأسف وهذا الغرض لا يتم في الحيوان التي (١) ليس بمكلف فتغيير صورهم عبث فإن كان في ذلك غرض يحسن لمثله جاز انتهى.

وظاهر كلامه رحمه‌الله أولا وآخرا أنه عند المسخ يخرج عن حقيقة الإنسانية ويدخل في نوع آخر وفيه نظر والحق أن امتياز نوع الإنسان إذا كان بهذا الهيكل المخصوص وهذا الشكل والتخطيط والهيئة فلا يكون هذا إنسانا بل قردة (٢) وخنزيرا وإن كان امتيازه بالروح المجرد أو الساري في البدن كما هو الأصوب كانت الإنسانية باقية غير ذاهبة وكان إنسانا في صورة حيوان ولم يخرج من نوع الإنسان ولم يدخل في نوع آخر وقد روي عن أبي جعفر عليه‌السلام أن الفرقة المعتزلة عن أهل السبت لما دخلوا قريتهم بعد مسخهم عرفت القردة أنسابها من الإنس ولم يعرف الإنس أنسابها من القردة فقال القوم للقردة ألم ننهكم وفي تفسير العسكري عليه‌السلام فمسخهم الله كلهم قردة وبقي باب المدينة مغلقا لا يخرج منهم أحد ولا يدخل إليهم أحد وتسامع

__________________

(١) كذا ، والصواب « الذي ».

(٢) كذا ، والصواب « قردا ».


بذلك أهل القرى فقصدوهم وتسنموا حيطان البلد فاطلعوا عليهم فإذا كلهم رجالهم ونساؤهم قردة يموج بعضهم في بعض يعرف هؤلاء الناظرون معارفهم وقراباتهم وخلطاءهم يقول المطلع لبعضهم أنت فلان أنت فلان فتدمع عينيه ويومئ برأسه أي نعم. فهذان الخبران يدلان على أنهم لم يتخلعوا من الإنسانية وكان فيهم العقل والشعور إلا أنهم كانوا لا يقدرون على التكلم.

قال النيسابوري في قوله سبحانه « كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » (١) عن مجاهد أنه مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله « كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً » (٢).

واحتج بأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس فإذا أبطله وخلق مكانه تركيب القرد رجع حاصل المسخ إلى إعدام الأعراض التي باعتبارها كان ذلك الجسم إنسانا وإيجاد أعراض أخر باعتبارها صار قردا وأيضا لو جوزنا ذلك لم نؤمن في كل ما نراه قردا وكلبا أنه كان إنسانا عاقلا وذلك شك في المشاهدات.

وأجيب : بأن الإنسان ليس هذا الهيكل لتبدله بالسمن والهزال فهو أمر وراء ذلك إما جسماني سار في جميع البدن أو جزء في جانب من البدن كقلب أو دماغ أو مجرد كما تقوله الفلاسفة وعلى التقادير فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ وبهذا التأويل يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولأنه لم يتغير منهم إلا الخلقة والصورة والعقل والفهم باق فإنهم يعرفون ما نالهم بشؤم المعصية من تغير الخلقة وتشويه الصورة وعدم القدرة على النطق وسائر الخواص الإنسانية فيتألمون بذلك ويتعذبون ثم أولئك القرود بقوا أو أفناهم الله وإن بقوا فهذه القرود التي في زماننا من نسلهم أم لا الكل سائر (٣) عقلا إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم

__________________

(١) البقرة : ٦٥.

(٢) الجمعة : ٥.

(٣) سائغ ( ظ ).


ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا انتهى.

وأقول : قد ورد في أخبارنا أيضا موافقا لما روي عن ابن عباس كما في تفسير العسكري عليه‌السلام : كانوا كذلك ثلاثة أيام ثم بعث الله عليهم ريحا ومطرا فجر بهم إلى البحر وما بقي مسخ بعد ثلاثة أيام وأما التي ترون من هذه المصورات بصورها فإنما هي أشباهها لا هي بأعيانها ولا من نسلها.

وروى الصدوق في العلل بإسناده عن عبد الله بن الفضل قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قول الله عز وجل « وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » قال إن أولئك مسخوا ثلاثة أيام ثم ماتوا ولم يتناسلوا وإن القردة اليوم مثل أولئك وكذلك الخنزير وسائر المسوخ ما وجد منها اليوم من شيء فهو مثله لا يحل أن يؤكل لحمه (١) الخبر.

وروى في العيون بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال : سمعت المأمون يسأل الرضا عليه‌السلام عما يرويه الناس من أمر الزهرة وأنها كانت امرأة فتن بها هاروت وماروت وما يروونه من أمر سهيل أنه كان عشارا باليمن فقال عليه‌السلام كذبوا في قولهم إنهما كوكبان وإنهما كانتا دابتين من دواب البحر فغلط الناس وظنوا أنهما الكوكبان وما كان الله ليمسخ أعداءه أنوارا مضيئة ثم يبقيهما ما بقيت السماء والأرض وإن المسوخ لم يبق أكثر من ثلاثة أيام حتى ماتت وما تناسل منها شيء وما على وجه الأرض اليوم مسخ وإن التي وقعت عليها اسم المسوخية مثل القرد والخنزير والدب وأشباهها إنما هي مثل ما مسخ الله عز وجل على صورها قوما « غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ » بإنكارهم توحيد الله وتكذيبهم رسله الخبر (٢).

أقول : فقد ثبت بهذه الأخبار أن هذه الحيوانات ليست من نسل هؤلاء المسوخ ولا من نوعهم وإنما هي على صورهم وقد عرفت أن المسخ ليس تناسخا لأن الروح لم ينتقل إلى بدن آخر وإنما تغيرت صورة البدن وأما التناسخ بمعنى انتقال

__________________

(١) لم نجد الرواية بعينها في العلل ، ويوجد ما هو قريب المضمون بها في : ج ٢ ، ص ١٧٠.

(٢) العيون ج ١ ص ٢٧١.


الروح من بدن إلى بدن غير الأبدان المثالية فمما أجمع على نفيه جميع المسلمين وأما الأخبار الشاذة الواردة في ذلك فيشكل التعلق بظواهرها كالخبر الذي أورده السائل فهي إما مؤولة بالمسخ أو بتصور الأجساد المثالية بتلك الصور كما ذكرنا سابقا وأما في الأجساد المثالية فقد تقدم القول فيها في كتاب المعاد والله الهادي إلى الرشاد.

قال شارح المقاصد : القول بالتناسخ في الجملة محكي عن كثير من الفلاسفة إلا أنه حكاية لا تعضدها شبهة فضلا عن حجة ومع ذلك فالنصوص القاطعة من الكتاب والسنة ناطقة بخلافها وذلك أنهم ينكرون المعاد الجسماني أعني حشر الأجساد وكون الجنة والنار داري ثواب وعقاب ولذات وآلام حسية ويجعلون المعاد عبارة عن مفارقة النفوس الأبدان والجنة عن ابتهاجها بكمالاتها والنار عن تعلقها بأبدان حيوانات أخر يناسبها فيما اكتسب من الأخلاق وتمكنت فيها من الهيئات معذبة بما يلقى فيها من الذل والهوان مثلا تتعلق نفس الحريص بالخنزير والسارق بالفار والمعجب بالطاوس والشرير بالكلب ويكون لها تدريج في ذلك بحسب الأنواع والأشخاص أي ينزل من بدن إلى بدن هو أدنى في تلك الهيئة المناسبة مثلا يبتدئ نفس الحريص من التعلق ببدن الخنزير ثم إلى ما دونه في ذلك حتى ينتهي إلى النمل ثم يتصل بعالم العقول عند زوال تلك الهيئة بالكلية.

ثم إن من المنتمين من التناسخية إلى دين الإسلام يروجون هذا الرأي بالعبارات المهذبة والاستعارات المستعذبة ويصرفون به إليه بعض الآيات الواردة في أصحاب العقوبات اجتراء على الله وافتراء على ما هو دأب الملاحدة والزنادقة ومن يجري مجراهم من الغاوين المغوين الذين هم شياطين الإنس الذين يوحون إلى العوام والقاصرين من المحصلين زخرف القول غرورا.

فمن جملة ذلك ما قالوا في قوله تعالى « كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ » أي بالفساد « بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها » (١) أي بالكون وفي قوله تعالى « كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها » (٢)

__________________

(١) النساء : ٥٥.

(٢) الحج : ٢٢.


أي من دركات جهنم التي هي أبدان الحيوانات وكذا في قوله « فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ » (١) وقوله تعالى « رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ » (٢) وفي قوله تعالى « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ » الآية (٣) معناه أنهم كانوا مثلكم في الخلق والعلوم والمعايش والصناعات فانتقلوا إلى أبدان هذه الحيوانات وفي قوله تعالى « كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ » (٤) أي بعد المفارقة وفي قوله تعالى « وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ » (٥) أي على صور الحيوانات المتنكسة الرءوس إلى غير ذلك من الآيات ومن نظر في كتب التفسير بل في سياق الآيات لا يخفى عليه فساد هذه الهذيانات.

وجوز بعض الفلاسفة تعلق النفوس المفارقة ببعض الأجرام السماوية للاستكمال وبعضهم على أن نفوس الكاملين تتصل بعالم المجردات ونفوس المتوسطين تتخلص إلى عالم المثل المعلقة في مظاهر الأجرام العلوية على اختلاف مراتبهم في ذلك ونفوس الأشقياء إلى هذا العالم في مظاهر الظلمانيات في الصور المستكرهة بحسب اختلاف مراتبهم في الشقاوة فيبقى بعضهم في تلك الظلمات أبدا لكون الشقاوة في الغاية وبعضهم ينتقل بالتدريج إلى عالم الأنوار المجردة.

الثالثة : أن النفس لا تفنى بفناء البدن قال في شرح المقاصد فناء البدن لا يوجب فناء النفس المغايرة له مجردة كانت أو مادية أي جسما حالا فيه لأن كونها مدبرة له متصرفة فيه لا يقتضي فناءها بفنائه لكن مجرد ذلك لا يدل على كونها باقية البتة فلهذا احتيج في ذلك إلى دليل وهو عندنا النصوص من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهي من الكثرة والظهور بحيث لا يفتقر إلى الذكر وقد أورد الإمام في المطالب العالية من الشواهد العقلية والنقلية في هذا الباب ما يفضي ذكره إلى الإطناب وأما الفلاسفة فزعموا أنه يمتنع فناء النفس.

__________________

(١) المؤمن : ١١.

(٢) المؤمنون : ١٠٧.

(٣) الأنعام : ٣٨.

(٤) البقرة : ٦٥.

(٥) الإسراء : ٩٧.


أقول : ثم ذكر بعض دلائلهم على ذلك لا حاجة بنا إلى إيرادها.

الرابعة : في كيفية تعقل النفس وإدراكها قال في التجريد وتعقل بذاتها وتدرك بالآلات وقال شارح المقاصد لا نزاع في أن مدرك الكليات من الإنسان هو النفس وأما مدرك الجزئيات على وجه كونها جزئيات فعندنا النفس وعند الفلاسفة الحواس (١) ثم قال بعد إيراد الحجج من الجانبين لما كان إدراك الجزئيات مشروطا عند الفلاسفة بحصول الصورة في الآلات فعند مفارقة النفس وبطلان الآلات لا تبقى مدركة للجزئيات ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط وعندنا لما لم تكن الآلات شرطا في إدراك الجزئيات إما لأنه ليس بحصول الصورة لا في النفس ولا في الحس وإما لأنه لا يمتنع ارتسام صورة الجزئي في النفس بل الظاهر من قواعد الإسلام أنه يكون للنفس بعد المفارقة إدراكات متجددة جزئية واطلاع على بعض جزئيات أحوال الأحياء سيما الذين كان بينهم وبين الميت تعارف في الدنيا ولهذا ينتفع بزيارة القبور والاستعانة بنفوس الأخيار من الأموات في استنزال الخيرات واستدفاع الملمات فإن للنفس بعد المفارقة تعلقا ما بالبدن وبالتربة التي دفنت فيها فإذا زار الحي تلك التربة وتوجهت تلقاءه نفس الميت حصل بين النفسين علاقات وإفاضات.

الخامسة : في كمالات النفس ومراتبها قال في شرح المقاصد قد سبق أن لفظ القوة كما يطلق على مبدإ التغيير والفعل فكذا يطلق على مبدإ التغير والانفعال فقوة النفس باعتبار تأثرها عما فوقها من المبادئ للاستكمال بالعلوم والإدراكات يسمى عقلا نظريا وباعتبار تأثيرها في البدن لتكميل جوهره وإن كان ذلك أيضا عائدا إلى

__________________

(١) ذهب المشاءون إلى أن النفس تدرك الجزئيات بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة وذهب شيخ الاشراق إلى أن حصول الاوضاع والإضافات الخاصة بين الحواس والمحسوسات شروط لادراك النفس لمدركاتها الجزئية المحسوسة في عالم المثال ، وذهب صدر المتألهين إلى أن للنفس مرتبة مثالية تدرك الجزئيات المحسوسة فيها ، والحواس إنما هي آلات لادراك المحسوسات المادية ومعدات تعد النفس لادراكها في عالمها المثالى ، واما الجزئيات المتخيلة والموجودة في عالم المثال الأعظم فتدركها بنفسها من دون حاجة إلى آلة وتبعه على ذلك أتباع مدرسته وأصحاب الحكمة المتعالية. وعليه يصح ادراك النفس للجزئيات بعد مفارقة البدن أيضا.


تكميل النفس من جهة أن البدن آلة لها في تحصيل العلم والعمل يسمى عقلا عمليا والمشهور أن مراتب النفس أربع لأنه إما كمال وإما استعداد نحو الكمال قوي أو متوسط أو ضعيف فالضعيف وهو محض قابلية النفس للإدراكات يسمى عقلا هيولانيا تشبيها بالهيولى الأولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة لها بمنزلة قوة الطفل للكتابة والمتوسط وهو استعدادها لتحصيل النظريات بعد حصول الضروريات تسمى عقلا بالملكة لما حصل لها من ملكة الانتقال إلى النظريات بمنزلة الشخص المستعد لتعلم الكتابة وتختلف مراتب الناس في ذلك اختلافا عظيما بحسب اختلاف درجات الاستعدادات والقوى وهو الاقتدار على استحضار النظريات متى شاءت من غير افتقار إلى كسب جديد لكونها مكتسبة مخزونة تحضر بمجرد الالتفات بمنزلة القادر على الكتابة حين لا يكتب وله أن يكتب متى شاء ويسمى عقلا بالفعل لشدة قربه من الفعل وأما الكمال فهو أن يحصل النظريات مشاهدة بمنزلة الكاتب حين يكتب ويسمى عقلا مستفادا أي من خارج هو العقل الفعال الذي يخرج نفوسنا من القوة إلى الفعل فيما له من الكمالات ونسبته إلينا نسبة الشمس إلى أبصارنا وتختلف عبارات القوم في أن المذكورات أسام لهذه الاستعدادات والكمال أو للنفس باعتبار اتصافها بها أو لقوى في النفس هي مبادئها مثلا يقال تارة إن العقل الهيولاني هو استعداد النفس لقبول العلوم الضرورية وتارة إنها قوة استعدادية أو قوة من شأنها الاستعداد المحض وتارة إنه النفس في مبدإ الفطرة من حيث قابليتها للعلوم وكذا في البواقي وربما يقال إن العقل بالملكة هو حصول الضروريات من حيث يتأدى إلى النظريات.

وقال ابن سينا هو صورة المعقولات الأولى وتتبعها القوة على كسب غيرها بمنزلة الضوء للإبصار والمستفاد هو المعقولات المكتسبة عند حصولها بالفعل.

وقال في كتاب المبدإ والمعاد إن العقل بالفعل والعقل المستفاد واحد بالذات مختلف بالاعتبار فإنه من جهة تحصيله للنظريات عقل بالفعل ومن جهة حصولها


فيه بالفعل عقل مستفاد وربما قيل هو عقل بالفعل بالقياس إلى ذاته ومستفاد بالقياس إلى فاعله.

واختلفوا أيضا في أن المعتبر في المستفاد هو حصول النظريات الممكنة للنفس بحيث لا يغيب أصلا حتى قالوا إنه آخر المراتب البشرية وأول منازل الملكية وأنه يمتنع أو يستبعد جدا ما دامت النفس متعلقة بالبدن أو مجرد الحضور حتى يكون قبل العقل بالفعل بحسب الوجود على ما صرح به الإمام وإن كان بحسب الشرف هو الغاية والرئيس المطلق الذي يخدمه سائر القوى الإنسانية والحيوانية والنباتية ولا يخفى أن هذا أشبه بما اتفقوا عليه من حصر المراتب في الأربع نعم حضور الكل بحيث لا يغيب أصلا هو كمال مرتبة المستفاد.

ثم قال أما العملي فهو قوة بها يتمكن الإنسان من استنباط الصناعات والتصرفات في موضوعاتها التي هي بمنزلة المواد كالخشب للنجار وتميز مصالحه التي يجب الإتيان بها من المفاسد التي يجب الاجتناب عنها لينتظم بذلك أمر معاشه ومعاده وبالجملة هي مبدأ حركة بدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء تخصها صلاحيته ولها نسبة إلى القوة النزوعية ومنها يتولد الضحك والخجل والبكاء ونحوها ونسبة إلى الحواس الباطنة وهي استعمالها في استخراج أمور مصلحة وصناعات وغيرها ونسبة إلى القوة النظرية وهي أن أفاعيله أعني أعماله الاختيارية تنبعث عن آراء جزئية تستند إلى آراء كلية تستنبط من مقدمات أولية أو تجربية أو ذائعة أو ظنية تحكم بها القوة النظرية مثلا يستنبط من قولنا بذل الدرهم جميل والفعل الجميل ينبغي أن يصدر عنا ينتج أن بذل الدرهم ينبغي أن يصدر عنا ثم يحكم بأن هذا الدرهم ينبغي أن أبذله لهذا المستحق فينبعث من ذلك شوق وإرادة إلى بذله فتقدم القوة المحركة على دفعه إلى المستحق.

ثم قال : وكمال القوة النظرية معرفة أعيان الموجودات وأحوالها وأحكامها كما هي أي على الوجه الذي هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية وسمي حكمة نظرية وكمال القوة العملية القيام بالأمور على ما ينبغي أي على الوجه الذي


يرتضيه العقل الصحيح بقدر الطاقة البشرية وسمي حكمة عملية وفسروا الحكمة على ما يشمل القسمين بأنها خروج النفس من القوة إلى الفعل في كمالها الممكن علما وعملا إلا أنه لما كثر الخلاف وفشا الباطل والضلال في شأن الكمال وفي كون الأشياء كما هي والأمور على ما ينبغي لزم الاقتداء في ذلك بمن ثبت بالمعجزات الباهرة أنهم على هدى من الله تعالى وكانت الحكمة الحقيقية هي الشريعة لكن لا بمعنى مجرد الأحكام العملية بل بمعنى معرفة النفس ما لها وما عليها والعمل بها على ما ذهب إليه أهل التحقيق من أن المشار إليها في قوله « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » (١) هو الفقه وأنه اسم للعلم والعمل جميعا.

وقد تقسم الحكمة المفسرة بمعرفة الأشياء كما هي إلى النظرية العملية لأنها إن كانت علما بالأصول المتعلقة بقدرتنا واختيارنا فعملية وغايتها العمل وتحصيل الخير وإلا فنظرية وغايتها إدراك الحق وكل منهما ينقسم بالقسمة الأولية إلى ثلاثة أقسام فالنظرية إلى الإلهي والرياضي والطبيعي والعملية إلى علم الأخلاق وعلم تدبير المنزل وعلم سياسة المدينة لأن النظرية إن كان علما بأحوال الموجودات من حيث يتعلق بالمادة تصورا وقواما فهي العلم الطبيعي وإن كان من حيث يتعلق بها قواما لا تصورا فالرياضي كالبحث عن الخطوط والسطوح وغيرهما مما يفتقر إلى المادة في الوجود لا في التصور وإن كان من حيث لا يتعلق بها لا قواما ولا تصورا فالإلهي ويسمى العلم الأعلى وعلم ما بعد الطبيعة كالبحث عن الواجب والمجردات وما يتعلق بذلك.

والحكمة العملية إن تعلقت بآراء ينتظم بها حال الشخص وذكاء نفسه فالحكمة الخلقية وإلا فإن تعلقت بانتظام المشاركة الإنسانية الخاصة فالحكمة المنزلية والعامة فالحكمة المدنية والسياسة.

ثم قال : للإنسان قوة شهوية هي مبدأ جذب المنافع ودفع المضار من المآكل والمشارب وغيرها وتسمى القوة البهيمية والنفس الأمارة وقوة غضبية هي

__________________

(١) البقرة : ٢٦٩.


مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع وتسمى السبعية والنفس اللوامة وقوة نطقية هي مبدأ إدراك الحقائق والشوق إلى النظر في العواقب ليتميز بين المصالح والمفاسد ويحدث من اعتدال حركة الأولى العفة وهي أن تكون تصرفات البهيمية على وفق اقتضاء النطقية ليسلم عن أن تستعبدها الهوى وتستخدمها اللذات ولها طرف إفراط هي الخلاعة والفجور أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما لا ينبغي وطرف تفريط هي الخمود أي السكون عن طلب ما رخص فيه العقل والشرع من اللذات إيثارا لا خلقة ومن اعتدال حركة السبعية الشجاعة وهي انقيادها للنطقية ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الهائلة ولها طرف إفراط هو التهور أي الإقدام على ما لا ينبغي وتفريط وهو الجبن أي الحذر عما لا ينبغي ومن اعتدال حركة النطقية وهي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة وطرف إفراطها الجربزة وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي وطرف تفريطها الغباوة وهي تعطيل الفكر بالإرادة والوقوف على اكتساب العلوم فالأوساط فضائل والأطراف رذائل وإذا امتزجت الفضائل حصل من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة فأصول الفضائل العفة والشجاعة والحكمة والعدالة ولكل منها شعب وفروع مذكورة في كتب الأخلاق وكذا الرذائل الستة انتهى.

تتميم

قال الرازي في المطالب العالية في تعديد خواص النفس الإنسانية ونحن نذكر منها عشرة القسم الأول من الخواص النطق وفيه أبحاث :

الأول : أن الإنسان الواحد لو لم يكن في الوجود إلا هو وإلا الأمور الموجودة في الطبيعة لهلك أو ساءت معيشته بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما في الطبيعة مثل الغذاء المعمول فإن الأغذية الطبيعية لا يلائم الإنسان والملابس أيضا لا يصلح للإنسان إلا بعد صيرورتها صناعية فكذلك يحتاج الإنسان إلى جملة من الصناعات حتى تنتظم أسباب معيشته والإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمجموع تلك الصناعات


بل لا بد من المشاركة حتى يخبز هذا لذاك وينسج ذاك لهذا فلهذه الأسباب احتاج الإنسان إلى أن تكون له قدرة على أن يعرف الآخر الذي هو شريكه ما في نفسه بعلامة وضعية وهي أقسام فالأول أصلحها وأشرفها الأصوات المركبة والسبب في شرفها أن بدن الإنسان لا يتم ولا يكمل إلا بالقلب الذي هو معدن الحرارة الغريزية ولا بد من وصول النسيم البارد إليه ساعة فساعة حتى يبقى على اعتداله ولا يحترق فخلقت آلات في بدنه بحيث يقدر الإنسان على استدخال النسيم البارد في قلبه فإذا مكث ذلك النسيم لحظة تسخن وفسد فوجب إخراجه فالصانع الحكيم جعل النفس الخارج سببا لحدوث الصوت فلا جرم سهل تحصيل الصوت بهذا الطريق ثم إن ذلك الصوت سهل تقطيعه في المحابس المختلفة فحصلت هيئات مخصوصة بسبب تقطيع ذلك الصوت في تلك المحابس وتلك الهيئات المخصوصة هي الحروف فحصلت الحروف والأصوات بهذا الطريق ثم تركب الحروف فحصلت الكلمات بهذا الطريق ثم جعلوا كل كلمة مخصوصة معرفة لمعنى مخصوص فلا جرم صار تعريف المعاني المخصوصة بهذا الطريق في غاية السهولة من وجوه الأول أن إدخالها في الوجود في غاية السهولة والثاني أن تكون الكلمات الكثيرة الواقعة في مقابلة المعلومات الكثيرة في غاية السهولة والثالث أن عند الحاجة إلى التعريف تدخل في الوجود وعند الاستغناء عن ذكرها تعدم لأن الأصوات لا تبقى.

والقسم الثاني من طرق التعريف الإشارة والنطق أفضل بوجوه الأول أن الإشارة إنما تكون إلى موجود حاضر عند المشير محسوس وأما النطق فإنه يتناول المعدوم ويتناول ما لا يصح الإشارة إليه ويتناول ما يصح الإشارة إليه أيضا والثاني أن الإشارة عبارة عن تحريك الحدقة إلى جانب معين فالإشارة نوع واحد أو نوعان فلا يصح لتعريف الأشياء المختلفة بخلاف النطق فإن الأصوات والحروف البسيطة والمركبة كثيرة والثالث أنه إذا أشار إلى شيء فذلك الشيء ذات قامت به صفات كثيرة فلا يعرف بسبب تلك الإشارة أن المراد تعريف الذات وحدها أو الصفة الفلانية


أو الصفة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو المجموع وأما النطق فإنه واف بتعرف كل واحدة من هذه الأحوال بعينها.

والقسم الثالث : الكتابة وظاهر أن المئونة في إدخالها في الوجود صعبة ومع ذلك فإنها مفرعة على النطق وذلك لأنا لو افتقرنا إلى أن نضع لتعريف كل معنى من المعاني البسيطة والمركبة نقشا لافتقرنا إلى حفظ نقوش غير متناهية وذلك غير ممكن فدبروا فيه طريقا لطيفا وهو أنهم وضعوا بإزاء كل واحد من الحروف النطقية البسيطة نقشا خاصا ثم جعلوا النقوش المركبة في مقابلة الحروف المركبة فسهلت المئونة في الكتابة بهذا الطريق إلا أن على هذا التقدير صارت الكتابة مفرعة على النطق إلا أنه حصل في الكتابة منفعة عظيمة وهي أن عقل الإنسان الواحد لا يفي باستنباط العلوم الكثيرة فالإنسان الواحد إذا استنبط مقدارا من العلم وأثبته في الكتاب بواسطة الكتابة فإذا جاء بعده إنسان آخر ووقف عليه قدر على استنباط أشياء أخر زائدة على ذلك الأول فظهر أن العلوم إنما كثرت بإعانة الكتابة. فلهذا قال عليه‌السلام قيدوا العلم بالكتابة. فهذا بيان حقيقة النطق والإشارة والكتابة.

البحث الثاني : مما يتعلق بهذا الباب أن المشهور أنه يقال في حد الإنسان إنه حيوان ناطق فقال بعضهم إن هذا التعريف باطل طردا وعكسا أما الطرد فلأن بعض الحيوانات قد تنطق وأما العكس فهو بعض الناس لا ينطق فأجيب عنه بأن المراد منه النطق العقلي ولم يذكروا لهذا النطق العقلي تفسيرا ملخصا فنقول الحيوان نوعان منه ما إذا عرف شيئا فإنه لا يقدر على أن يعرف غيره حال نفسه مثل البهائم وغيرها فإنها إذا وجدت من نفسها أحوالا مخصوصة لا تقدر على أن تعرف غيرها تلك الأحوال وأما الإنسان فإذا وجد من نفسه حالة مخصوصة قدر على أن يعرف غيره تلك الحالة الموجودة في نفسه فالناطق الذي جعل فصلا مقوما هو هذا المعنى والسبب فيه أن أكمل طرق التعريف هو النطق فعبر عن هذه القدرة بأكمل الطرق الدالة عليها وبهذا التقرير فإن تلك السؤال لا يتوجه والله أعلم بالصواب.


البحث الثالث : أن هذه الألفاظ والكلمات لها أسماء كثيرة فالأول اللفظ وفيه وجهان أحدهما أن هذه الألفاظ إنما تولد بسبب أن ذلك الإنسان لفظ ذلك الهواء من حلقه فلما كان سبب حدوث هذه الأصوات هو لفظ ذلك الهواء لا جرم سميت باللفظ والثاني أن تلك المعاني كانت كامنة في قلب ذلك الإنسان فلما ذكر هذه الألفاظ صارت تلك المعاني الكامنة معلومة فكأن ذلك الإنسان لفظها من الداخل إلى الخارج.

والاسم الثاني : الكلام واشتقاق هذه اللفظة من الكلم وهو الجرح والسبب أن الإنسان إذا سمع تلك اللفظة تأثر جسمه بسماعها وتأثر عقله بفهم معناها فلهذا السبب سمي بالكلمة.

والاسم الثالث : العبارة وهي مأخوذة من العبور والمجاوزة وفيه وجهان الأول أن ذلك النفس لما خرج منه فكأن جاوزه وعبر عليه الثاني أن ذلك المعنى عبر من القائل إلى فهم المستمع.

الاسم الرابع : القول وهذا التركيب يفيد الشدة والقوة ولا شك أن تلك اللفظة لها قوة إما لسبب خروجها إلى الخارج وإما لسبب أنها تقوى على التأثر في السمع وعلى التأثير في العقل والله أعلم.

النوع الثاني : من خواص الإنسان قدرته على استنباط الصنائع العجيبة ولهذه القدرة مبدأ وآلة أما المبدأ فهو الخيال القادر على تركيب الصور بعضها ببعض وأما الآلة فهي اليدان وقد سماهما الحكيم أرسطاطاليس الآلة المباحة وسنذكر هذه اللفظة في علم التشريح إن شاء الله وقد يحصل ما يشبه هذه الحالة للحيوانات الأخر كالنحل في بناء البيوت المسدسة إلا أن ذلك لا يصدر من استنباط وقياس بل إلهام وتسخير ولذلك لا يختلف ولا يتنوع هكذا قاله الشيخ وهو منقوض بالحركة الفلكية وسنفرد لهذا البحث فصلا على الاستقصاء.

النوع الثالث : من خواص الإنسان الأعراض النفسانية المختلفة وهي على أقسام فأحدها أنه إذا رأى شيئا لم يعرف سببه حصلت حالة مخصوصة في نفسه مسماة


بالتعجب وثانيها أنه إذا أحس بحصول الملائم حصلت حالة مخصوصة وتتبعها أحوال جسمانية وهي تمدد في عضلات الوجه مع أصوات مخصوصة وهي الضحك فإن أحس بحصول المنافي والموذي حزن فانعصر دم قلبه في الداخل فينعصر أيضا دماغه وتنفصل عنه قطرة من الماء وتخرج من العين وهي البكاء وثالثها أن الإنسان إذا اعتقد في غيره أنه اعتقد فيه أنه أقدم على شيء من القبائح حصلت حالة مخصوصة تسمى بالخجالة ورابعها أنه إذا اعتقد في فعل مخصوص أنه قبيح فامتنع عنه لقبحه حصلت حالة مخصوصة هي الحياء وبالجملة فاستقصاء القول في تعديد الأحوال النفسانية مذكور في باب الكيفيات النفسانية.

والنوع الرابع : من خواص الإنسان الحكم بحسن بعض الأشياء وقبح بعضها إما لأن صريح العقل يوجب ذلك عند من يقول به وإما لأجل أن المصلحة الحاصلة بسبب المشاركة الإنسانية اقتضت تقريرها لتبقى مصالح العالم مرعية وأما سائر الحيوانات فإنها إن تركت بعض الأشياء مثل الأسد فإنه لا يفترس صاحبه فليس ذلك مشابها للحالة الحاصلة للإنسان بل هيئة أخرى لأن كل حيوان فهو يحب بالطبع كل من ينفعه فلهذا السبب الشخص الذي أطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا له عن افتراسه.

النوع الخامس : من خواص الإنسان تذكر الأمور الماضية وقيل إن هذه الحالة لا تحصل لسائر الحيوانات والجزم في هذا الباب بالنفي والإثبات مشكل.

والنوع السادس : الفكر والروية وهذا الفكر على قسمين أحدهما أن يتفكر لأجل أن يعرف حاله وهذا النوع من الفكر ممكن في الماضي والمستقبل والحاضر.

والنوع الثاني : التفكر في كيفية إيجاده وتكوينه وهذا النوع من الفكر لا يمكن في الواجب والممتنع وإنما يمكن في الممكن ثم لا يمكن في الممكن الماضي والحاضر وإنما يمكن في الممكن المستقبل وإذا حكمت هذه القوة تبع حكمها حصول الإرادة الجازمة ويتبعها تأثير القوة والقدرة في تحريك البدن وهل لشيء من الحيوانات شيء من الكيفيات المشهور إنكاره وفيه موضع بحث فإنها راغبة في


كل ما يكون لذيذا عندها نافرة عن كل ما يكون مولما عندها فوجب أن يتقرر عندها أن كل لذيذ مطلوب وأن كل مولم مكروه فأجيب عنه بأن رغبتها إنما يكون في هذا اللذيذ فكل لذيذ حضر عنده فإنه يرغب فيه من حيث إنه ذلك الشيء فأما أن يعتقد أن كل لذيذ فهو مطلوب فهذا ليس عنده.

واعلم أن الحكم في هذه الأشياء بالنفي والإثبات حكم على الغيب والعلم بها ليس إلا لله العلي العليم والله أعلم.

الفصل الثاني والعشرون في بيان أن اللذات العقلية أشرف وأكمل من اللذات الحسية اعلم أن الغالب على الطباع العامية أن أقوى اللذات وأكمل السعادات لذة المطعم والمنكح ولذلك فإن جمهور الناس لا يعبدون الله إلا ليجدوا المطاعم اللذيذة في الآخرة وإلا ليجدوا المناكح الشهية هناك وهذا القول مردود عند المحققين من أهل الحكمة وأرباب الرياضة ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بقضاء الشهوة وإمضاء الغضب لكان الحيوان الذي يكون أقوى في هذا الباب من الإنسان أشرف منه لكن الجمل أكثر أكلا من الناس والذئب أقوى في الإيذاء من الإنسان والعصفور أقوى على السفاد من الإنسان فوجب كون هذه الأشياء أشرف من الإنسان لكن التالي معلوم البطلان بالضرورة فوجب الجزم بأن سعادة الإنسان غير متعلقة بهذه الأمور.

الحجة الثانية : كل شيء يكون سببا لحصول السعادة والكمال فكلما كان ذلك الشيء أكثر حصولا كانت السعادة والكمال أكثر حصولا فلو كان قضاء شهوة البطن والفرج سببا لكمال حال الإنسان ولسعادته لكان الإنسان كلما أكثر اشتغالا بقضاء شهوة البطن والفرج وأكثر استغراقا فيه كان أعلى درجة وأكمل فضيلة لكن التالي باطل لأن الإنسان الذي جعل عمره وقفا على الأكل والشرب والبعال يعد من البهيمة ويقضى عليه بالدناءة والخساسة وكل ذلك يدل على أن الاشتغال بقضاء هاتين الشهوتين ليس من باب السعادات والكمالات بل من باب دفع الحاجات والآفات.

الحجة الثالثة : أن الإنسان يشاركه في لذة الأكل والشرب جميع الحيوانات


الخسيسة فإنه كما أن الإنسان يلتذ بأكل السكر فكذلك الجعل يلتذ بتناول السرقين فلو كانت هذه اللذات البدنية هي السعادة الكبرى للإنسان لوجب أن لا يكون للإنسان فضيلة على هذه الحيوانات الخسيسة بل نزيد ونقول لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بهذه اللذات الخسيسة لوجب أن يكون الإنسان أخس الحيوانات والتالي باطل فالمقدم مثله وبيان وجه الملازمة أن الحيوانات الخسيسة مشاركة للإنسان في هذه اللذات الخسيسة البدنية إلا أن الإنسان يتنغص عليه المطالب بسبب العقل فإن العقل سمي عقلا لكونه عقالا له وحبسا له عن أكثر ما يشتهيه ويميل طبعه إليه فإذا كان التقدير أن كمال السعادة ليس إلا في هذه اللذات الخسيسة ثم بينا أن هذه اللذات الخسيسة حاصلة على سبيل الكمال والتمام للبهائم والسباع من غير معارض ومدافع وهي حاصلة للإنسان مع المنازع القوي والمعارض الكامل وجب أن يكون الإنسان أخس الحيوانات ولما كان هذا معلوم الفساد بالبديهة ثبت أن هذه اللذات الخسيسة ليست موجبة للبهجة والسعادة.

الحجة الرابعة : أن هذه اللذات الخسيسة إذا بحث عنها فهي في الحقيقة ليست لذات بل حاصلها يرجع إلى دفع الألم والدليل عليه أن الإنسان كلما كان أكثر جوعا كان التذاذه بالأكل أكمل وكلما كان ألم الجوع أقل كان الالتذاذ بالأكل أقل وأيضا إذا طال عهد الإنسان بالوقاع واجتمع المني الكثير في أوعية المني حصلت في تلك الأوعية دغدغة شديدة وتمدد وثقل وكلما كانت هذه الأحوال الموذية أكثر كانت اللذة الحاصلة عند اندفاع ذلك المني أقوى ولهذا السبب فإن لذة الوقاع في حق من طال عهده بالوقاع يكون أكمل منها في حق من قرب عهده به فثبت أن هذه الأحوال التي يظن أنها لذات جسمانية فهي في الحقيقة ليست إلا دفع الألم وهكذا القول في اللذة الحاصلة بسبب لبس الثياب فإنه لا حاصل لتلك اللذة إلا دفع ألم الحر والبرد وإذا ثبت أنه لا حاصل لهذه اللذات إلا دفع الآلام فنقول ظهر أنه ليس فيها سعادة لأن الحالة السابقة هي حصول الألم والحالة الحاضرة عدم الألم وهذا العدم كان حاصلا عند العدم الأصلي فثبت أن هذه الأحوال ليست


سعادات ولا كمالات البتة.

الحجة الخامسة أن الإنسان من حيث يأكل ويشرب ويجامع ويؤذي يشاركه سائر الحيوانات وإنما يمتاز عنها بالإنسانية وهي مانعة من تكميل تلك الأحوال وموجبة لنقصانها وتقليلها فلو كانت هذه الأحوال عين السعادة لكان الإنسان من حيث إنه إنسان ناقصا شقيا خسيسا ولما حكمت البديهة بفساد هذا التالي ثبت فساد المقدم.

الحجة السادسة : أن العلم الضروري حاصل بأن بهجة الملائكة وسعادتهم أكمل وأشرف من بهجة الحمار وسعادته ومن بهجة الديدان والذباب وسائر الحيوانات والحشرات ثم لا نزاع أن الملائكة ليس لها هذه اللذات فلو كانت السعادة القصوى ليست إلا هذه اللذات لزم كون هذه الحيوانات الخسيسة أعلى حالا وأكمل درجة من الملائكة المقربين ولما كان هذا التالي باطلا كان المقدم مثله بل هاهنا ما هو أعلى وأقوى مما ذكرناه وهو أنه لا نسبة لكمال واجب الوجود وجلاله وشرفه وعزته إلى أحوال غيره مع أن هذه اللذات الحسية ممتنعة عليه فثبت أن الكمال والشرف قد يحصلان سوى هذه اللذات الجسمية فإن قالوا ذلك الكمال لأجل حصول الإلهية وذلك في حق الخلق محال فنقول لا نزاع أن حصول الإلهية في حق الخلق محال إلا أنه قال عليه‌السلام تخلقوا بأخلاق الله والفلاسفة قالوا الفلسفة عبارة عن التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية فيجب عليه أن يعرف تفسير هذا التخلق وهذا التشبه ومعلوم أنه لا معنى لهما إلا تقليل الحاجات وإضافة الخيرات والحسنات لا بالاستكثار من اللذات والشهوات.

الحجة السابعة : أن هؤلاء الذين حكموا بأن سعادة الإنسان ليس إلا في تحصيل هذه اللذات البدنية والراحات الجسمانية إذا رأوا إنسانا أعرض عن طلبها مثل أن يكون مواظبا للصوم مكتفيا بما جاءت الأرض عظم اعتقادهم فيه وزعموا أنه ليس من جنس الإنسان بل من زمرة الملائكة ويعدون أنفسهم بالنسبة إليه أشقياء أراذل وإذا رأوا إنسانا مستغرق الفكر والهمة في طلب الأكل والشرب والوقاع مصروف الهمة إلى تحصيل أسباب هذه الأحوال معرضا عن العلم والزهد والعبادة قضوا بالبهيمية


والخزي والنكال ولو لا أنه تقرر في عقولهم أن الاشتغال بتحصيل هذه اللذات الجسدانية نقص ودناءة وأن الترفع عن الالتفات إليها كمال وسعادة لما كان الأمر على ما ذكرنا ولكان يجب أن يحكموا على المعرض عن تحصيل هذه اللذات بالخزي والنكال وعلى المستغرق فيها بالسعادة والكمال وفساد التالي يدل على فساد المقدم.

الحجة الثامنة : كل شيء يكون في نفسه كمالا وسعادة وجب أن لا يستحيا من إظهاره بل يجب أن يفتخر بإظهاره ويتبجح بفعله ونحن نعلم بالضرورة أن أحدا من العقلاء لا يفتخر بكثرة الأكل ولا بكثرة المباشرة ولا بكونه مستغرق الوقت والزمان في هذه الأعمال وأيضا فالعاقل لا يقدر على الوقاع إلا في الخلوة فأما عند حضور الناس فإن أحدا من العقلاء لا يجد في نفسه تجويز الإقدام عليه وذلك يدل على أنه تقرر في عقول الخلق أنه فعل خسيس وعمل قبيح فيجب إخفاؤه عن العيون وأيضا فقد جرت عادة السفهاء بأنه لا يشتم بعضهم بعضا إلا بذكر ألفاظ الوقاع وذلك يدل على أنه مرتبة خسيسة ودرجة قبيحة وأيضا لو أن واحدا من السفهاء أخذ يحكي عند حضور الجمع العظيم فلانا كيف يواقع زوجته فإن ذلك الرجل يستحيي من ذلك الكلام ويتأذى من ذلك القائل وكل هذا يدل على أن ذلك الفعل ليس من الكمالات والسعادات بل هو عمل باطل وفعل قبيح.

الحجة التاسعة : كل فرس وحمار كان ميله إلى الأكل والشرب والإيذاء أكثر وكان قبوله للرياضة أقل كان قيمته أقل وكل حيوان كان أقل رغبة في الأكل والشرب وكان أسرع قبولا للرياضة كانت قيمته أكثر ألا ترى أن الفرس الذي يقبل الرياضة في الكر والفر والعدو الشديد فإنه يشترى بثمن رفيع وكل فرس لا يقبل هذه الرياضة يوضع على ظهره الإكاف ويسوى بينه وبين الحمار ولا يشترى إلا بثمن قليل فلما كانت الحيوانات التي هي غير ناطقة لا تظهر فضائلها بسبب الأكل والشرب والوقاع بل بسبب تقليلها وبسبب قبول الأدب وحسن الخدمة لمولاه فما ظنك بالحيوان الناطق العاقل؟

الحجة العاشرة : أن سكان أطراف الأرض لما لم تكمل عقولهم ومعارفهم و


أخلاقهم لا جرم كانوا في غاية الخسة والدناءة ألا ترى أن سكان الإقليم السابع وهم الصقالبة لما قل نصيبهم من المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة فلا جرم تقرر في عقول العقلاء خسة درجاتهم ودناءة مراتبهم وأما سكان وسط المعمور لما فازوا بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة لا جرم أقر كل أحد بأنهم أفضل طوائف البشر وأكملهم وذلك يدل على أن فضيلة الإنسان وكماله لا يظهر إلا بالعلوم الحقيقية والأخلاق الفاضلة.

٤٣

(باب اخر)

(في خلق الأرواح قبل الأجساد وعلة تعلقها بها وبعض شئونها من ائتلافها واختلافها وحبها وبغضها وغير ذلك من أحوالها)

١ ـ البصائر : عن محمد بن الحسين عن جعفر بن بشير عن آدم أبي الحسين (١) عن إسماعيل بن أبي حمزة عمن حدثه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال والله يا أمير المؤمنين إني لأحبك فقال كذبت فقال الرجل سبحان الله كأنك تعرف ما في قلبي فقال علي عليه‌السلام إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثم عرضهم علينا فأين كنت لم أرك (٢).

٢ ـ ومنه : عن عبد الله بن محمد عن إبراهيم بن محمد عن عبد الرحمن بن أبي هاشم عن سلام بن أبي عمير (٣) عن عمارة قال : كنت جالسا عند أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ أقبل رجل فسلم عليه ثم قال يا أمير المؤمنين والله إني لأحبك فسأله ثم قال له

__________________

(١) في المصدر : أبى الحسن.

(٢) البصائر : ٨٧.

(٣) كذا في جميع النسخ ، والظاهر أنه « سلام بن أبي عمرة » لعدم ذكر « سلام بن أبي عمير » في كتب الرجال ، واما عمارة فلم نعرف أنه من هو ، ومن المعلوم انه غير عمارة بن أبي سلامة الهمداني شهيد الطف ، وعلى فرض كونه إياه فلا يمكن رواية سلام عنه بلا واسطة ، وكيف كان فلا تخلو الرواية عن ضعف او ارسال كسابقتها ولاحقاتها.


إن الأرواح خلقت قبل الأبدان بألفي عام ثم أسكنت الهواء فما تعارف منها ثم ائتلف هاهنا وما تناكر منها ثم اختلف هاهنا وإن روحي أنكر روحك (١).

٣ ـ ومنه : عن أبي محمد عن عمران بن موسى عن يونس بن جعفر عن علي بن أسباط عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن رجلا قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام والله إني لأحبك ثلاث مرات فقال علي عليه‌السلام والله ما تحبني فغضب الرجل فقال كأنك والله تخبرني ما في نفسي قال له علي عليه‌السلام لا ولكن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام فلم أر روحك فيها (٢).

٤ـ الكشي : وجدت في كتاب جبرئيل بن أحمد بخطه حدثني محمد بن عيسى عن محمد بن الفضيل (٣) عن عبد الله بن عبد الرحمن عن الهيثم بن واقد عن ميمون بن عبد الله عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم أسكنها الهواء فما تعارف منها ثم ائتلف هاهنا وما تناكر ثم اختلف هاهنا.

أقول : قد أوردنا أمثال هذه الأخبار في باب إخبار أمير المؤمنين عليه‌السلام بشهادته وباب أنهم عليهم‌السلام يعرفون الناس بحقيقة الإيمان والنفاق وباب أنهم المتوسمون.

٥ ـ البصائر : عن بعض أصحابنا عن محمد بن الحسين عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن أيوب عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي (٤) عام فلما ركب الأرواح في أبدانها كتب بين أعينهم مؤمن أو كافر وما هم به مبتلون (٥) و

__________________

(١) البصائر : ٨٨.

(٢) المصدر : ٨٨.

(٣) مشترك بين جماعة من الضعفاء والمجهولين كعبد الله بن عبد الرحمن ، وفي بعض النسخ « أبي عبد الله بن عبد الرحمن ».

(٤) في تفسير الفرات : بألف.

(٥) فيه : مبتلين بقدر اذن فأرة.


ما هم عليه من سيئ أعمالهم وحسنها في قدر أذن الفأرة ثم أنزل بذلك قرآنا على نبيه فقال « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ » (١) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المتوسم وأنا بعده والأئمة من ذريتي هم المتوسمون (٢).

تفسير الفرات : عن أحمد بن يحيى معنعنا عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله (٣).

٦ ـ العلل : عن علي بن أحمد عن محمد بن أبي عبد الله عن محمد بن إسماعيل البرمكي عن جعفر بن سليمان عن أبي أيوب الخراز عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام لأي علة جعل الله عز وجل الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلى في أرفع محل فقال عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى علم أن الأرواح في شرفها وعلوها متى ما تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عز وجل فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدر لها في ابتداء التقدير نظرا لها ورحمة بها وأحوج بعضها إلى بعض وعلق بعضها على بعض ورفع بعضها على بعض ورفع بعضها فوق بعض درجات وكفى (٤) بعضها ببعض وبعث إليهم رسله واتخذ عليهم حججه مبشرين ومنذرين يأمرون بتعاطي العبودية والتواضع لمعبودهم بالأنواع التي تعبدهم بها ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الآجل ومثوبات في العاجل ومثوبات في الآجل ليرغبهم بذلك في الخير ويزهدهم في الشر وليذلهم (٥) بطلب المعاش والمكاسب فيعلموا بذلك أنهم بها مربوبون وعباد مخلوقون ويقبلوا على عبادته فيستحقوا بذلك نعيم الأبد وجنة الخلد ويأمنوا من النزوع إلى ما ليس لهم بحق.

ثم قال عليه‌السلام يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى أحسن نظرا لعباده منهم لأنفسهم ألا ترى أنك لا ترى فيهم إلا محبا للعلو على غيره حتى إنه يكون منهم

__________________

(١) الحجر : ٧٥.

(٢) البصائر : ٣٥٦.

(٣) تفسير الفرات : ٨١.

(٤) كفأ ( ظ ).

(٥) في بعض النسخ « ليدلهم » بالدال المهملة.


لمن قد نزع إلى دعوى الربوبية ومنهم من (١) نزع إلى دعوى النبوة بغير حقها ومنهم من (٢) نزع إلى دعوى الإمامة بغير حقها وذلك مع ما يرون في أنفسهم من النقص والعجز والضعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام والمناوبة عليهم والموت الغالب لهم والقاهر لجميعهم يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم و « لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (٣)

بيان : في القاموس نزع إلى أهله نزاعا ونزاعة ونزوعا بالضم اشتاق وفي المصباح نزع إلى الشيء نزاعا ذهب إليه والمناوبة عليهم أي إنزال المصائب عليهم بالنوبة نوعا بعد نوع أو معاقبتهم بذلك قال في القاموس النوب نزول الأمر كالنوبة والنوبة الدولة وناوبه عاقبه ويحتمل أن يكون المنادبة بالدال من الندبة والنوحة.

٧ ـ الإختصاص : بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن الحسين بن علوان عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال : كنت مع أمير المؤمنين عليه‌السلام فأتاه رجل فسلم عليه ثم قال يا أمير المؤمنين إني والله لأحبك في الله وأحبك في السر كما أحبك في العلانية وأدين الله بولايتك في السر كما أدين بها في العلانية وبيد أمير المؤمنين عود فطأطأ رأسه ثم نكت بالعود ساعة في الأرض ثم رفع رأسه إليه فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حدثني بألف حديث لكل حديث ألف باب وإن أرواح المؤمنين تلتقي في الهواء فتشم وتتعارف فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف بحق الله لقد كذبت فما أعرف في الوجوه (٤) وجهك ولا اسمك في الأسماء ثم دخل عليه رجل آخر فقال يا أمير المؤمنين إني لأحبك (٥) في الله وأحبك في السر كما أحبك في العلانية قال فنكت الثانية

__________________

(١) في المصدر : من قد نزع.

(٢) في المصدر : من قد نزع.

(٣) العلل : ج ١ ، ص ١٥ و ١٦.

(٤) في المصدر : وجهك في الوجوه.

(٥) ليس في المصدر هذه الجملة « لاحبك في الله ».


بعوده في الأرض ثم رفع رأسه الأرض ثم رفع رأسه إليه فقال له صدقت إن طينتنا طينة مخزونة أخذ الله ميثاقها من صلب آدم فلم يشذ منها شاذ ولا يدخل فيها داخل من غيرها اذهب فاتخذ للفقر جلبابا فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يا علي بن أبي طالب والله الفقر أسرع إلى محبينا من السيل إلى بطن الوادي (١).

بيان : في النهاية شاممت فلانا إذا قاربته وعرفت ما عنده بالاختبار والكشف وهي مفاعلة من الشم كأنك تشم ما عنده ويشم ما عندك لتعملا بمقتضى ذلك وقال في حديث علي عليه‌السلام من أحبنا أهل البيت فليعد للفقر جلبابا : أي ليزهد في الدنيا وليصبر على الفقر والقلة الحديث والجلباب الإزار والرداء وقيل هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها وجمعه جلابيب كنى به عن الصبر لأنه يستر عن الفقر كما يستر الجلباب البدن وقيل إنما كنى بالجلباب عن اشتماله بالفقر أي فليلبس إزار الفقر ويكون منه على حالة تعمه وتشتمله لأن الغناء من أحوال أهل الدنيا ولا يتهيأ الجمع بين حب الدنيا وحب أهل البيت.

٨ ـ العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم ، قال : العلة في خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام قال إنما عنى به أن الأرواح خلقت قبل آدم بألفي عام.

٩ ـ كتاب محمد بن المثنى الحضرمي ، عن جعفر بن محمد بن شريح الحضرمي عن حميد بن شعيب عن جابر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها عند الله ائتلف في الأرض وما تناكر عند الله اختلف في الأرض.

٩ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن بكير بن أعين قال كان أبو جعفر عليه‌السلام يقول إن الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا وهم ذر يوم أخذ الميثاق على الذر بالإقرار (٢) بالربوبية ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوة وعرض الله عز وجل على محمد أمته في الطين وهم أظلة وخلقهم من الطينة التي خلق منها آدم

__________________

(١) الاختصاص : ٣١١.

(٢) في المصدر : له بالربوبية.


وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام عرضهم عليه وعرفهم رسول الله وعرفهم عليا ونحن نعرفهم « فِي لَحْنِ الْقَوْلِ » (١)

بيان : في الطين أي حين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الطين أو الأمة أو هما معا وهو أظهر والمراد قبل خلق الجسد وعرضهم عليه أي على الله أو على النبي في لحن القول إشارة إلى قوله تعالى « وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ » (٢) قال البيضاوي لحن القول أسلوبه وإمالته إلى جهة تعريض وتورية منه قيل للمخطئ لاحن لأنه يعدل الكلام عن الصواب (٣).

١١ ـ معاني الأخبار : عن أحمد بن محمد بن الهيثم عن أحمد بن يحيى بن زكريا عن بكر بن عبد الله عن تميم بن بهلول عن أبيه عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة بعدهم عليهم‌السلام فعرضها على السماوات والأرض والجبال فغشيها نورهم (٤) الحديث.

١٢ ـ البصائر : عن إبراهيم بن هاشم عن عمرو بن عثمان عن أبي محمد المشهدي من آل رجاء البجلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رجل لأمير المؤمنين عليه‌السلام أنا والله لأحبك فقال له كذبت إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام فأسكنها الهواء ثم عرضها علينا أهل البيت فو الله ما منها روح إلا وقد عرفنا بدنه فو الله ما رأيتك فيها فأين كنت (٥) الخبر.

١٣ ـ البصائر : عن عباد بن سليمان عن محمد بن سليمان عن هارون بن الجهم عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر قال : بينا أمير المؤمنين جالس في مسجد الكوفة وقد احتبى بسيفه

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٤٣٧.

(٢) محمد : ٣٠.

(٣) أنوار التنزيل : ج ٢ ، ص ٤٣٩.

(٤) معاني الأخبار : ١٠٨.

(٥) البصائر : ٨٧.


وألقى ترسه خلف ظهره إذ أتته امرأة تستعدي على زوجها فقضى للزوج عليها فغضبت فقالت والله ما هو كما قضيت والله ما تقضي بالسوية ولا تعدل في الرعية ولا قضيتك عند الله بالمرضية قال فغضب أمير المؤمنين عليه‌السلام فنظر إليها مليا ثم قال كذبت يا جرية يا بذية يا سلسع يا سلفع يا التي لا تحيض مثل النساء قال فولت هاربة وهي تقول ويلي ويلي فتبعها عمرو بن حريث فقال يا أمة الله قد استقبلت ابن أبي طالب بكلام سررتني به ثم نزغك بكلمة فوليت منه هاربة تولولين قال فقالت يا هذا ابن أبي طالب أخبرني (١) بالحق والله ما رأيت حيضا كما تراه المرأة قال فرجع عمرو بن حريث إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له يا ابن أبي طالب ما هذا التكهن قال ويلك يا ابن حريث ليس مني هذا كهانة إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأبدان (٢) بألفي عام ثم كتب بين أعينها مؤمن أو كافر ثم أنزل بذلك قرآنا على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ » (٣) فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المتوسمين وأنا بعده والأئمة من ذريتي منهم (٤).

ومنه : عن إبراهيم بن هاشم عن عمرو بن عثمان عن إبراهيم بن أيوب عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله إلى قوله يا عمرو ويلك إنها ليست بالكهانة ولكن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام فلما ركب الأرواح في أبدانها كتب بين أعينهم مؤمن (٥) أم كافر وما هم به مبتلون وما هم عليه من شر (٦) أعمالهم وحسنته في قدر أذن الفأرة ثم أنزل بذلك قرآنا على نبيه فقال « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ » فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المتوسم ثم أنا [ من بعده والأئمة ] من ذريتي من

__________________

(١) في المصدر : أخبرنى والله بما هو في ، لا والله ما رأيت ...

(٢) الاجساد ( خ ).

(٣) الحجر : ٧٥.

(٤) البصائر : ٣٥٦.

(٥) في الاختصاص : كافر ومؤمن وما هم مبتلين وما هم عليه من سيئ عملهم وحسنه ..

(٦) في البصائر : سيئ.


بعدي هم المتوسمون فلما تأملتها عرفت ما هي (١) عليها بسيماها (٢).

الإختصاص : عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب وإبراهيم بن هاشم عن عمرو بن عثمان مثله (٣).

١٤ ـ البصائر : عن أبي محمد عن عمران بن موسى عن إبراهيم بن مهزيار عن محمد بن عبد الوهاب عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : دخل عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله على أمير المؤمنين عليه‌السلام وساق الحديث إلى أن قال قال عليه‌السلام إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فأسكنها الهواء فما تعارف منها هنالك ائتلف في الدنيا وما تناكر منها هناك اختلف في الدنيا وإن روحي لا تعرف روحك (٤) الخبر.

١٥ ـ ومنه : عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو مع أصحابه فسلم عليه ثم قال (٥) أما والله أحبك وأتولاك فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام ما أنت كما قلت ويلك إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام عرض علينا المحب لنا فو الله ما رأيت روحك فيمن عرض علينا فأين كنت فسكت الرجل عند ذلك ولم يراجعه (٦).

١٦ ـ ومنه : عن الحسن بن علي بن عبد الله عن عيسى بن هشام عن عبد الكريم عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بينا أمير المؤمنين عليه‌السلام في مسجد الكوفة إذ أتاه رجل فقال يا أمير المؤمنين والله إني لأحبك قال ما تفعل قال :

__________________

(١) فيه : عرفت ما فيها وما هي عليه.

(٢) البصائر : ٣٥٤.

(٣) الاختصاص : ٣٠٨.

(٤) البصائر : ٨٨ ـ ٨٩.

(٥) في بعض النسخ وفي المصدر : أنا.

(٦) البصائر : ٨٧.


بلى والله الذي لا إله إلا هو قال والله الذي لا إله إلا هو ما تحبني فقال يا أمير المؤمنين إني أحلف بالله أني أحبك وأنت تحلف بالله ما أحبك والله كأنك تخبرني أنك أعلم بما في نفسي قال فغضب أمير المؤمنين عليه‌السلام وإنما كان الحديث العظيم يخرج منه عند الغضب قال فرفع يده إلى السماء وقال كيف يكون ذلك وهو ربنا تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثم عرض علينا المحب من المبغض فو الله ما رأيتك فيمن أحب فأين كنت (١).

بيان : ما تفعل أي ما تحب أو ما تعمل بمقتضاه أو للاستفهام أي أي شيء تقصد بإظهار الحب فيكون تعريضا بالنفي والأول أظهر.

١٧ ـ العلل : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الكريم بن عمرو عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف هاهنا وما تناكر منها في الميثاق اختلف هاهنا والميثاق هو في هذا الحجر الأسود (٢) الخبر.

١٨ ـ ومنه : بهذا الإسناد عن محمد بن الحسين عن جعفر بن بشير عن الحسين بن أبي العلا عن حبيب قال حدثنا الثقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلة قبل الميلاد فما تعارف من الأرواح ائتلف وما تناكر منها اختلف (٣).

١٩ ـ ومنه : بهذا الإسناد عن حبيب عمن رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما تقول في الأرواح أنها جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف قال فقلت إنا نقول ذلك قال فإنه كذلك إن الله عز وجل أخذ على (٤) العباد

__________________

(١) البصائر : ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) العلل : ج ٢ ، ص ١١١.

(٣) المصدر : ج ١ ، ص ٨٠.

(٤) في المصدر : من.


ميثاقهم وهم أظلة قبل الميلاد وهو قوله عز وجل « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ » إلى آخر الآية (١) قال فمن أقر له يومئذ جاءت ألفته هاهنا ومن أنكره يومئذ جاء خلافه هاهنا (٢).

بيان : قال في النهاية فيه الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف (٣) مجندة أي مجموعة كما يقال ألوف مؤلفة وقناطير مقنطرة ومعناه الإخبار عن مبدإ كون الأرواح وتقدمها على الأجساد أي أنها خلقت أول خلقها على قسمين من ائتلاف واختلاف كالجنود المجموعة إذا تقابلت وتواجهت ومعنى تقابل الأرواح ما جعلها الله عليه من السعادة والشقاوة والأخلاق في مبدإ الخلق يقول إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما خلقت عليه ولهذا ترى الخير يحب الأخيار ويميل إليهم والشرير يحب الأشرار ويميل إليهم انتهى.

وقال الكرماني في شرح البخاري أي خلقت مجتمعة ثم فرقت في أجسامها فمن وافق الصفة ألفه ومن باعد نافره وقال الخطابي خلقت قبلها فكانت تلتقي فلما التبست بها تعارفت بالذكر الأول فصار كل إنما يعرف وينكر على ما سبق له من العهد وقال النووي مجندة أي جموع مجتمعة وأنواع مختلفة وتعارفها لأمر جعلها الله عليه وقيل موافقة صفاتها وتناسبها في شيمها وقال الطيبي الفاء في فما تعارف تدل على تقدم اشتباك في الأزل ثم تفرق فيما لا يزال أزمنة متطاولة ثم ائتلاف بعد تناكر كمن فقد أنيسه ثم اتصل به فلزمه وأنس به وإن لم يسبق له اختلاط معه اشمأز منه ودل التشبيه بالجنود على أن ذلك الاجتماع في الأزل كان لأمر عظيم من فتح بلاد وقهر أعداء ودل على أن أحد الحزبين حزب الله والآخر

__________________

(١) الأعراف : ١٧١.

(٢) العلل : ج ١ ، ص ٨٠.

(٣) قد مر منا بيان موجز في شرح الحديث في ذيل الرواية الرابعة من الباب السابق فراجع.


حزب الشيطان وهذا التعارف إلهامات من الله من غير إشعار منهم بالسابقة انتهى وقد مر كلام قطب الدين الراوندي رحمه‌الله في هذا الخبر.

اعلم أن ما تقدم من الأخبار المعتبرة في هذا الباب وما أسلفناه في أبواب بدء خلق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام وهي قريبة من التواتر دلت على تقادم (١) خلق الأرواح على الأجساد وما ذكروه من الأدلة على حدوث الأرواح عند خلق الأبدان مدخولة لا يمكن رد تلك الروايات لأجلها (٢).

__________________

(١) تقدم ( خ ).

(٢) الكلام حول روايات خلق الأرواح قبل الأبدان يقع في جهات :

( الف ) في صدورها : هل تكون مقطوعة الصدور أو لا؟ وعلى فرض عدم القطع بصدورها هل يوجد دليل على وجوب التعبد بها أولا ( ب ) في دلالتها ، هل تدل دلالة صريحة على تقدم وجود الأرواح على أبدانها خارجا بالتقدم الزمانى أولا ( ج ) في توافقها مع الأدلة العقلية.

فنقول : أما من الجهة الأولى فهي غير بالغة حد التواتر ، فلا يحصل القطع بصدورها عادة وادلة حجية الخبر الواحد قاصرة عن غير ما يتعلق بالاحكام الفرعية العملية ، فلا يوجد دليل على وجوب التعبد بها. وأما من الجهة الثانية فلا ريب في ظهورها في ذلك في حد نفسها وإن لم يبلغ إلى مرتبة النص. وقد أول الشيخ المفيد ـ على ما يأتي حكايته عنه ـ الخلق بالتقدير ، كما أنه يمكن حملها على نوع من التمثيل والاستعارة إذا وجد دليل قطعى معارض لمدلولها. وأما من الجهة الثالثة فقد دار البحث بين الفلاسفة حول حدوث النفس وقدمها ، وذهب أصحاب مدرسة صدر المتألهين إلى انها تحدث بحدوث البدن غير بالغة حد التجرد العقلى متحركة نحوه ، ولا مجال لذكر أدلتهم ونقدها هاهنا.

وهناك أمر يتعلق بمعرفة شئون النفس يستعصى على الاذهان المتوغلة في الماديات ، ولعل إجادة التأمل فيه يعين على حل العويصة وهو أن النفس وإن كانت أمرا متعلقا بالمادة بل ناشئا عنها ومتحدا بها وبهذا الاعتبار صح مقايستها بالحوادث واتصافها بالمقارنة والتقدم والتأخر زمانا إلا أنها حين ما تدخل في حظيرة التجرد تجد نفسها محيطة بالبدن من ناحية البدن والنهاية وأن شعاعها يمتد إلى ما قبل حدوث البدن كما انه يمتد إلى ما بعد انحلاله. فالذى ينظر إلى جوهرها المجرد من فوق عالم الطبيعة يجدها خارجة عن وعاء الزمان محيطة به ، وإذا قايسها.


٢٠ ـ الكافي : عن الحسين بن محمد (١) عن عبد الله عن محمد بن سنان عن المفضل عن جابر بن يزيد قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام يا جابر إن الله أول ما خلق خلق محمدا وعترته الهداة المهتدين فكانوا أشباح نور بين يدي الله قلت وما الأشباح قال ظل النور أبدان نورية بلا أرواح وكان مؤيدا بروح واحد وهي روح القدس (٢) فبه كان يعبد الله وعترته [ و ] لذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل ويصلون الصلاة ويحجون ويصومون (٣).

بيان : أول منصوب بالظرفية والمهتدين صفة وكونه مفعول الهداة بعيد فكانوا أشباح نور الإضافة إما بيانية أي أشباحا هي أنوار والأشباح جمع الشبح بالتحريك وهو سواد الإنسان أو غيره تراه من بعيد فالمراد إما الأجساد المثالية فالمراد بقوله بلا أرواح بلا أرواح الحيوانية أو الروح مجردا كان أو جسما

__________________

إلى ظاهرة مادية واقعة في ظرف الزمان كالبدن يجدها موجودة معها وقبلها وبعدها ، فيصح له أن يحكم بتقدم وجودها على وجود البدن مع أن من ينظر إليها من نافذة عالم المادة ويعتبرها أمرا متعلقا بالبدن بل مرتبة كاملة له انتهى إليها بالحركة الجوهرية وبهذا الاعتبار يسميها نفسا ، يحكم بحدوثها عند حدوث البدن وحصول التجرد لها بعد ذلك ولا منافاة بين النظرين ، وبهذا يمكن الجمع بين القولين.

ومما ينبغي الالتفات إليه أن في تقدم خلق الأرواح على الأبدان بألفى عام ـ على حد التعبير الوارد في الروايات ـ لم يعتبر كل روح إلى بدنه بحيث يكون خلق كل روح قبل خلق بدنه بألفى عام كامل لا أزيد ولا أنقص والا لزم عدم وجود جميع الأرواح في زمن علي عليه‌السلام فضلا عما قبله ، ضرورة حدوث كثير من الأبدان بعد زمنه بآلاف سنة ولا يبعد أن يكون ذكر الالفين لاجل التكثير ، وتثنية الالف للاشارة الى التقدم العقلى والمثالى.

(١) في المصدر « الحسين [ عن محمد ] بن عبد الله » وهو مصحف ، والصواب ما في نسخ الكتاب كما أثبتناه ، وهو الحسين بن محمد بن عامر بن أبي بكر الأشعري الثقة ويروى عن عمه « عبد الله بن عامر » وعن غيره.

(٢) فيه ( خ ).

(٣) الكافي : ج ١ ، ص ٤٤٢.


لطيفا فيستقيم أيضا لأن الأرواح ما لم تتعلق بالأبدان فهي مستقلة بنفسها أرواح من جهة وأجساد من جهة فهي أبدان نورانية لم تتعلق بها أرواح أخر وعلى هذا فظل النور أيضا إضافته للبيان أو لامية والمراد بالنور نور ذاته تعالى فإنها من آثار ذلك النور الأقدس وظلاله والمعنى دقيق وربما يؤول النور بالعقل الفعال على طريقة الفلاسفة.

وكان مؤيدا بروح واحد أي في عالم الأرواح أو في عالم الأجساد والأول أظهر ولذلك أي لتأيدهم بذلك الروح في أول الفطرة الروحانية خلقهم في الفطرة الجسمانية حلماء علماء إلخ ويصلون كأنه تأكيد لما مر أو المراد بقوله خلقهم خلقهم في عالم الأرواح أي كانوا يعبدون الله في هذا العالم وكانوا فيه علماء بخلاف سائر الأرواح لتأيدهم حينئذ بروح القدس فقوله عليه‌السلام ويصلون أي في عالم الأجساد فلا تكرار.

أقول : قد مرت أخبار كثيرة في ذلك في باب حدوث العالم.

قال : شارح المقاصد النفوس الإنسانية سواء جعلناها مجردة أو مادية حادثة عندنا لكونها أثر القادر المختار وإنما الكلام في أن حدوثها قبل البدن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام أو بعده لقوله تعالى بعد ذكر أطوار البدن « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » (١) إشارة إلى إفاضة النفس ولا دلالة في الحديث مع كونه خبر واحد على أن المراد بالأرواح النفوس البشرية أو الجوهر (٢) العلوية ولا في الآية على أن المراد إحداث النفس أو إحداث تعلقها بالبدن وأما الفلاسفة فمنهم من جعلها قديمة وذهب أرسطو وشيعته إلى أنها حادثة ثم ذكر دلائل الطرفين واعترض عليها بوجوه أعرضنا عن ذكرها.

__________________

(١) المؤمنون : ١٤.

(٢) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها « الجوهرية العلوية » والظاهر ان الصواب « الجواهر العلوية ».


وقال الشيخ المفيد قدس الله نفسه في أجوبة المسائل الروية (١) فأما الخبر بأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فهو من أخبار الآحاد وقد روته العامة كما روته الخاصة وليس هو مع ذلك مما يقطع على الله بصحته وإن ثبت القول فالمعنى فيه أن الله تعالى قدر الأرواح في علمه قبل اختراع الأجساد واخترع الأجساد واخترع لها الأرواح فالخلق للأرواح قبل الأجساد خلق تقدير في العلم كما قدمناه وليس بخلق لذواتها كما وصفناه والخلق لها بالإحداث والاختراع بعد خلق الأجسام والصور التي تدبرها الأرواح ولو لا أن ذلك كذلك لكانت الأرواح تقوم بأنفسها ولا تحتاج إلى آلات تعلقها ولكنا نعرف ما سلف لنا من الأرواح قبل خلق الأجساد كما نعلم أحوالنا بعد خلق الأجساد وهذا محال لا خفاء بفساده وأما الحديث بأن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف فالمعنى فيه أن الأرواح التي هي الجواهر البسائط تتناصر بالجنس وتتخاذل بالعوارض فما تعارف منها باتفاق الرأي والهوى ائتلف وما تناكر منها بمباينة في الرأي والهوى اختلف وهذا موجود حسا ومشاهد وليس المراد بذلك أن ما تعارف منها في الذر ائتلف كما ذهبت إليه الحشوية كما بيناه من أنه لا علم للإنسان بحال كان عليها قبل ظهوره في هذا العالم ولو ذكر بكل شيء ما ذكر ذلك فوضح بما ذكرناه أن المراد بالخبر ما شرحناه والله الموفق للصواب انتهى.

وأقول : قيام الأرواح بأنفسها أو تعلقها بالأجساد المثالية ثم تعلقها بالأجساد العنصرية مما لا دليل على امتناعه وأما عدم تذكر الأحوال السابقة فلعله لتقلبها في الأطوار المختلفة أو لعدم القوى البدنية أو كون تلك القوى قائمة بما فارقته من الأجساد المثالية أو لإذهاب الله تعالى تذكر هذه الأمور عنها لنوع من المصلحة كما ورد أن الذكر والنسيان من صنعه تعالى مع أن الإنسان لا يتذكر كثيرا من أحوال الطفولية والولادة والتأويل الذي ذكره للحديث في غاية البعد لا سيما مع الإضافات الواردة في الأخبار المتقدمة.

__________________

(١) السروية ( خ ).


٢١ ـ العلل : عن أبيه عن محمد بن يحيى العطار عن محمد بن أحمد بن يحيى عن الحسن بن علي عن عباس عن أسباط عن أبي عبد الرحمن قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إني ربما حزنت فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد وربما فرحت فلا أعرف في أهل ولا مال ولا ولد فقال إنه ليس من أحد إلا ومعه ملك وشيطان فإذا كان فرحه كان (١) دنو الملك منه وإذا كان حزنه كان (٢) دنو الشيطان منه وذلك قول الله تبارك وتعالى « الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » (٣).

بيان : لعل المراد أن هذا لهم من أجل وساوس الشيطان وأمانيه في أمور الدنيا الفانية وإن لم يتفطن به الإنسان فيظن أنه لا سبب له أو يكون غرض السائل فوت الأهل والمال والولد في الماضي فلا ينافي الهم للتفكر فيها لأجل ما يستقبل أو المراد أنه لما كان شأن الشيطان ذلك يصير محض دنوه سببا للهم وفي الملك بعكس ذلك في الوجهين.

٢٢ ـ العلل : عن أبيه عن محمد بن يحيى العطار عن جعفر بن محمد بن مالك عن أحمد بن مدين من ولد مالك بن الحارث الأشتر عن محمد بن عمار عن أبيه عن أبي بصير قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام ومعي رجل من أصحابنا فقلت له جعلت فداك يا ابن رسول الله إني لأغتم وأحزن من غير أن أعرف لذلك سببا فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إن ذلك الحزن والفرح يصل إليكم منا لأنا إذا دخل علينا حزن أو سرور كان ذلك داخلا عليكم ولأنا وإياكم من نور الله عز وجل فجعلنا وطينتنا وطينتكم واحدة ولو تركت طينتكم كما أخذت لكنا وأنتم سواء ولكن مزجت طينتكم بطينة أعدائكم فلو لا ذلك ما أذنبتم ذنبا أبدا قال قلت جعلت فداك فتعود (٤) طينتنا ونورنا كما بدئ فقال إي والله يا عبد الله أخبرني عن هذا الشعاع

__________________

(١) في المصدر كان من دنو.

(٢) في المصدر كان من دنو.

(٣) العلل : ج ١ ، ص ٨٧ ، والآية في سورة البقرة : ٢٦٨.

(٤) في المصدر : أفتعود.


الزاخر من القرص إذا طلع أهو متصل به أو بائن منه فقلت له جعلت فداك بل هو بائن منه فقال أفليس إذا غابت الشمس وسقط القرص عاد إليه فاتصل به كما بدأ منه فقلت له نعم فقال كذلك والله شيعتنا من نور الله خلقوا وإليه يعودون والله إنكم لملحقون بنا يوم القيامة وإنا لنشفع فنشفع وو الله إنكم لتشفعون فتشفعون وما من رجل منكم إلا وسترفع له نار عن شماله وجنة عن يمينه فيدخل أحباءه الجنة وأعداءه النار (١).

بيان : يا عبد الله ليس هذا اسم أبي بصير فإن المشهور بهذا اللقب اثنان أحدهما ليث المرادي والآخر يحيى بن القاسم وليس كنية واحد منهما أبا عبد الله حتى يمكن أن يقال كان أبا عبد الله فسقط أبا من النساخ ولكن كنيتهما أبو محمد فالظاهر أن أبا بصير هذا ليس شيئا منهما بل هو عبد الله بن محمد الأسدي الكوفي المكنى بأبي بصير كما ذكره الشيخ في الرجال وإن كان ذكره في أصحاب الباقر عليه‌السلام لأنه كثيرا ما يذكر الرجل في أصحاب إمام ثم يذكره في أصحاب إمام آخر وكثيرا ما يكتفي بأحدهما ولو كان أحد المشهورين يمكن أن يكون المراد المركب الإضافي لا التسمية وقد شاع النداء بهذا عند الضجر في عرف العرب والعجم وفي القاموس زخر البحر كمنع طما وتملأ والوادي مد جدا وارتفع والشيء ملأه والقوم جاشوا لنفير أو حرب والقدر والحرب جاشتا والنبات طال والرجل بما عنده فخر انتهى وأكثر المعاني مناسبة وفي بعض النسخ بالجيم ولا يستقيم إلا بتكلف.

قوله عاد إليه كأنه على المجاز كما أن في المشبه أيضا كذلك فإن الظاهر عود الضمير في (٢) إليه إلى الله ويحتمل عوده إلى النور والمراد بنور الله النور المشرق والمكرم الذي اصطفاه وخلقه ولا يبعد أن يكون المراد أنوار الأئمة عليهم‌السلام كما قال عليه‌السلام إنكم لملحقون بنا أو المراد بنور الله رحمته والتشفيع قبول الشفاعة.

__________________

(١) العلل : ج ١ : ص ٨٧.

(٢) من ( خ ).


٢٣ ـ المحاسن : عن أبيه عن فضالة عن عمر بن أبان عن جابر الجعفي قال : تنفست بين يدي أبي جعفر عليه‌السلام ثم قلت يا ابن رسول الله أهتم من غير مصيبة تصيبني أو أمر نزل (١) بي حتى تعرف (٢) ذلك أهلي في وجهي ويعرفه صديقي قال نعم يا جابر قلت ومم ذلك يا ابن رسول الله قال وما تصنع بذلك قلت أحب أن أعلمه فقال يا جابر إن الله خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه فإذا أصاب تلك الأرواح في بلد من البلدان شيء حزنت عليه الأرواح لأنها منه (٣).

بيان : تنفست أي تأوهت وفي الكافي تقبضت بمعنى الانبساط كما سيأتي من ريح روحه بالضم أي من رحمة ذاته أو نسيم روحه الذي اصطفاه كما مر أو بالفتح أي رحمته كما ورد في خبر آخر وأجرى فيهم من روح رحمته ويؤيد الأول بعض الأخبار لأبيه وأمه لأن الطينة بمنزلة الأم والروح بمنزلة الأب وهما متحدان نوعا أو صنفا فيهما.

٢٤ ـ الكافي : عن العدة عن أحمد بن محمد البرقي عن أبيه عن فضالة بن أيوب عن عمر بن أبان عن جابر الجعفي قال : تقبضت بين يدي أبي جعفر عليه‌السلام فقلت جعلت فداك ربما حزنت من غير مصيبة تصيبني أو ألم (٤) ينزل بي حتى يعرف ذلك أهلي في وجهي وصديقي فقال نعم يا جابر إن الله عز وجل خلق المؤمنين من طينة الجنان وأجرى فيهم من ريح روحه فلذلك المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه فإذا أصاب روحا من تلك الأرواح في بلد من البلدان حزن حزنت هذه لأنها منها (٥).

__________________

(١) في المصدر : ينزل.

(٢) فيه : يعرف.

(٣) المحاسن : ١٣٣.

(٤) في المصدر وبعض نسخ الكتاب : أمر.

(٥) الكافي : ج ٢ ، ص ١٦٦.


٢٥ ـ ومنه : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى وعدة من أصحابنا عن سهل بن زياد جميعا عن ابن محبوب عن علي بن رئاب عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إن اشتكى شيئا منه وجد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة وإن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها (١).

الإختصاص : عنه عليه‌السلام مرسلا مثله (٢).

تبيين : قوله عليه‌السلام كالجسد الواحد كأنه عليه‌السلام ترقى عن الأخوة إلى الاتحاد أو بين أن إخوتهم ليست مثل سائر الأخوات بل هم بمنزلة أعضاء جسد واحد تعلق بها روح واحد فكما أنه بتألم عضو واحد تتألم وتتعطل سائر الأعضاء فكذا بتألم واحد من المؤمنين يحزن ويتألم سائرهم كما مر فقوله عليه‌السلام كالجسد الواحد تقديره كعضوي جسد واحد وقوله إن اشتكى ظاهره أنه بيان لحال المشبه به والضميران المستتران فيه وفي وجد راجعان إلى المرء والإنسان أو الروح الذي يدل عليه الجسد وضمير منه للجسد وضمير أرواحهما لشيء وسائر الجسد والجمعية باعتبار جمعية السائر أو من إطلاق الجمع على التثنية مجازا وفي الإختصاص وأن روحهما وهو أظهر والمراد بالروح الواحد إن كان الروح الحيوانية فمن للتبعيض وإن كان النفس الناطقة فمن للتعليل فإن روحهما الروح الحيوانية هذا إذا كان قوله وأرواحهما من تتمة بيان المشبه به ويحتمل تعلقه بالمشبه فالضمير للأخوين المذكورين في أول الخبر والغرض إما بيان شدة اتصال الروحين كأنهما روح واحدة أو أن روحيهما من روح واحدة هي روح الأئمة عليهم‌السلام وهو نور الله كما مر في خبر أبي بصير الذي هو كالشرح لهذا الخبر ويحتمل أن يكون إن اشتكى أيضا لبيان حال المشبه لاتضاح وجه الشبه وعلى التقادير المراد بروح الله أيضا الروح التي اصطفاها الله وجعلها في الأئمة عليهم‌السلام كما مر في قوله تعالى :

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ، ص ١٦٦.

(٢) الاختصاص : ٣٢.


« وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » ويحتمل أن يكون المراد بروحه ذاته سبحانه إشارة إلى شدة ارتباط أرواح المقربين والمحبين من الشيعة المخلصين بجناب الحق تعالى حيث لا يغفلون عن ربهم ساعة ويفيض عليهم منه سبحانه آنا فآنا وساعة فساعة العلم والحكم والكمالات والهدايات بل الإرادة (١) أيضا لتخليهم عن إرادتهم وتفويضهم جميع أمورهم إلى ربهم كما قال فيهم « وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ » (٢) وقال في الحديث القدسي فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله ولسانه وسيأتي تمام القول فيه في محله إن شاء الله تعالى بحسب فهمي والله الموفق.

٢٦ ـ قرب الإسناد : عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد قال سمعت جعفرا عليه‌السلام وسئل هل يكون أن يحب الرجل الشيء ولم يره قال نعم فقيل له مثل أي شيء فقال مثل اللون من الطعام يوصف للإنسان ولم يأكله فيحبه وما أشبه ذلك مثل الرجل يحب الشيء يذكر لأصحابه وما لك أكثر مما تدع.

بيان : لعل المعنى إذا تفكرت في أمثلة ذلك كان ما لك منها أكثر مما تتركه كناية عن كثرة أمثلة ذلك وظهورها ويمكن أن يكون تصحيف تسمع ويمكن أن يكون غرض السائل السؤال عن حب المؤمن أخاه من غير سابقة كما في سائر الأخبار.

٢٧ ـ مجالس الشيخ : عن جماعة عن أبي المفضل عن جعفر بن محمد العلوي عن عبد الله بن أحمد بن نهيك عن عبد الله بن جبلة عن حميد بن شعيب عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لما احتضر أمير المؤمنين عليه‌السلام جمع بنيه فأوصاهم ثم قال يا بني إن القلوب جنود مجندة تتلاحظ بالمودة وتتناجى بها وكذلك هي في البغض فإذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه إليكم فارجوه وإذا أبغضتم الرجل من غير سوء سبق منه إليكم فاحذروه.

٢٨ ـ مجالس ابن الشيخ : عن أبيه عن أحمد بن محمد بن الوليد عن أبيه عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمد بن عيسى عن ابن أبي عمير عن حنان

__________________

(١) في نسختين مخطوطتين : الارادات.

(٢) التكوير : ٢٩.


بن سدير عن أبيه قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إني لألقى الرجل لم أره ولم يرني فيما مضى قبل يومه ذلك فأحبه حبا شديدا فإذا كلمته وجدته لي مثل ما أنا عليه له ويخبرني أنه يجد لي مثل الذي أجد له فقال صدقت يا سدير إن ائتلاف قلوب الأبرار إذا التقوا وإن لم يظهروا التودد بألسنتهم كسرعة اختلاط قطر الماء على مياه الأنهار وإن بعد ائتلاف قلوب الفجار إذا التقوا وإن أظهروا التودد بألسنتهم كبعد البهائم من التعاطف وإن طال اعتلافها على مزود واحد.

بيان : المزود كمنبر وعاء الزاد.

٢٩ ـ الشهاب : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل المؤمن في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى.

٣٠ ـ وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل القلب مثل ريشة بأرض تقلبها الرياح.

الضوء : يقال تداعت الحيطان إذا تهادمت أو تهيأت للسقوط بأن تميل أو تتهور يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤمنون متحدون متآزرون متضافرون كأنهم نفس واحدة ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤمن للمؤمن بمنزلة البنيان يشد بعضه بعضا وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤمنون يد واحدة على من سواهم شبه عليه‌السلام المؤمنين في اتحادهم وموازرتهم بالجسد المجتمع من آلات وأعضاء إذا اشتكى بعضه كانت الجملة ألمة سقيمة مساهرة محمومة لاتصال بعضه ببعض ولأن الألم هو الجملة وهو في حكم الجزء الواحد بسبب الحياة التي هي كالمسمار يضم أجزاءها وينتظمها ولفظ الحديث خبر وتشبيه والمعنى أمر يأمرهم به أن يتوادوا ويتحابوا ويرحم بعضهم بعضا وفائدة الحديث الأمر بالتناصر والتعاون وراوي الحديث النعمان بن بشير وقال ره في الحديث الثاني وروي بأرض فلاة شبه عليه‌السلام القلب بريشة ساقطة بأرض عراء لا حاجز بها ولا مانع فالريح تطيرها هنا وثم وذلك للاعتقادات والأحوال التي يتقلب لها ولسرعة انقلابه وقلة ثبوته ودوامه على حالة واحدة وقد قيل إنما سمي قلبا لتقلبه وفائدة الحديث إعلام أن القلب سريع الانقلاب لا يبقى على وجه واحد وراوي الحديث أنس بن مالك.


٤٤

(باب)

(حقيقة الرؤيا وتعبيرها وفضل الرؤيا الصادقة وعلتها وعلة الكاذبة)

الآيات :

يونس : « الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » (١).

يوسف : « إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ » إلى قوله تعالى « وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » (٢).

وقال تعالى : « وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » (٣).

وقال تعالى : « وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي » إلى قوله « يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ » إلى قوله تعالى « قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ

__________________

(١) يونس : ٦٤.

(٢) يوسف : ٨.

(٣) يوسف : ٢٣.


لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ » (١).

الإسراء : « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ » (٢).

الروم : « وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ » (٣).

الصافات : « قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ » (٤).

الفتح : « لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ » (٥).

المجادلة : « إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ » (٦).

النبأ : « وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً » (٧).

تفسير : « الَّذِينَ آمَنُوا » أي بجميع ما يجب الإيمان به « وَكانُوا يَتَّقُونَ » مع ذلك معاصيه « لَهُمُ الْبُشْرى » قال الطبرسي رحمه‌الله قيل فيه أقوال أحدها أن البشرى في الحياة الدنيا هي ما بشرهم الله تعالى به في القرآن على الأعمال الصالحة وثانيها أن البشارة في الحياة الدنيا بشارة الملائكة للمؤمنين عند موتهم بـ « أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » وثالثها أنها في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له وفي القيامة إلى أن يدخلوا الجنة يبشرونهم بها حالا بعد حال وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام وروي ذلك في حديث مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٨).

« لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ » قال البيضاوي الرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في

__________________

(١) يوسف : ٣٦ ـ ٥١.

(٢) الإسراء : ٦٠.

(٣) الروم : ٢٣.

(٤) الصافات : ١٠٢.

(٥) الفتح : ٢٧.

(٦) المجادلة : ١٠.

(٧) النبأ : ٩.

(٨) مجمع البيان : ج ٥ ، ص ١٢٠.


النوم وفرق بينهما بحرف التأنيث كالقربة والقربى وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها (١) من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق من المعاني الحاصلة هناك ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه.

« مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » أي من تعبير الرؤيا لأنها أحاديث الملك إن كانت صادقة وأحاديث النفس والشيطان إن كانت كاذبة أو من تأويل غوامض كتب الله وسنن الأنبياء وكلمات الحكماء (٢).

وقال الطبرسي رحمه‌الله قيل إنه كان بين رؤياه وبين مصير أبيه وإخوته إلى مصر أربعون سنة عن ابن عباس وأكثر المفسرين وقيل ثمانون عن الحسن (٣) وقال النيسابوري قال علماء التعبير إن الرؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب لكيلا يبقى المؤمن في الحزن والغم والرؤيا الجيدة يبطئ تأثيرها لتكون بهجة المؤمن أدوم.

« قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً » قال الطبرسي رحمه‌الله هو من رؤيا المنام كان يوسف عليه‌السلام لما دخل السجن قال لأهله إني أعبر الرؤيا فقال أحد العبدين وهو الساقي رأيت أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته إياها وقال صاحب الطعام إني رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وأنواع الأطعمة وسباع الطير تنهش منه « نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ » أي أخبرنا بتعبيره وما يئول إليه أمره « قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ » في منامكما « إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ » في اليقظة قبل أن يأتيكما التأويل « أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً » روي أنه قال :

__________________

(١) كذا في المصدر ، وفي بعض نسخ الكتاب « فراغه ».

(٢) أنوار التنزيل : ج ١ ص ٥٨٥.

(٣) مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٢٠٩.


أما العناقيد الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن ثم يخرجك الملك في يوم الرابع وتعود إلى ما كنت عليه والرب المالك « وَأَمَّا الْآخَرُ » أي صاحب الطعام روي أنه قال بئس ما رأيت أما السلاسل الثلاث فإنها ثلاثة أيام تبقى في السجن فيخرجك الملك فيصلبك فتأكل الطير من رأسك فقال عند ذلك ما رأيت شيئا وكنت ألعب فقال يوسف « قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ » أي فرغ من الأمر الذي تسألان وتطلبان معرفته وما قلته لكما فإنه نازل بكما وهو كائن لا محالة (١).

«وَقالَ الْمَلِكُ » قال النيسابوري لما دنا فرج يوسف أراه الله في المنام سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فاضطرب الملك بسببه لأن فطرته قد شهدت بأن استيلاء الضعيف على القوي منذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه لم يعرف تفصيله فجمع الكهنة والمعبرين وقال « يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ » ثم إنه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه فأعجز الله أولئك الملأ عن جواب المسألة وعماه عليهم حتى قالوا إنها « أَضْغاثُ أَحْلامٍ » ونفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بتأويلها.

واعلم أنه سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ والمانع لها من ذلك هو اشتغالها بتدبير البدن وما يرد عليها من طريق الحواس وفي وقت النوم تقل تلك الشواغل فتقوى النفس على تلك المطالعة فإذا وقفت النفس على حالة من تلك الأحوال فإن بقيت في الخيال كما شوهدت لم تحتج إلى التأويل وإن نزلت آثار مخصوصة مناسبة للإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فهناك يفتقر إلى المعبر ثم منها ما هي متسقة منتظمة يسهل على المعبر الانتقال من تلك المتخيلات إلى الحقائق الروحانيات ومنها ما تكون مختلطة مضطربة لا يضبط تحليلها وتركيبها لتشويش وقع في ترتيبها وتأليفها فهي المسماة بالأضغاث وبالحقيقة الأضغاث ما يكون مبدؤها تشويش القوة المتخيلة لفساد وقع في القوى البدنية

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٥ ، ص ٢٣٢ ـ ٢٣٥ ( ملخصا ).


ولورود أمر غريب عليه من خارج لكن القسم المذكور قد تعد من الأضغاث من حيث إنها أعيت المعبر عن تأويلها انتهى.

« وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما » قال البيضاوي أي من صاحبي السجن وهو الشرابي « وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ » وتذكر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة أو (١) مدة طويلة « فَأَرْسِلُونِ » إلى من عنده علمه أو إلى السجن « لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ » أي إلى الملك ومن عنده « لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ » تأويله أو فضلك ومكانك « دَأَباً » أي على عادتكم المستمرة وانتصابه على الحال بمعنى دائبين أو المصدر بإضمار فعله أي تدأبون دأبا وتكون الجملة حالا « فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ » لئلا يأكله السوس « إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ » في تلك السنين « ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ » أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن فنسب (٢) إليهن على المجاز تطبيقا بين المعبر والمعبر به « إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ » أي تحرزون لبذور الزراعة « فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ » أي يمطرون من الغيث أو يغاثون من القحط من الغوث « وَفِيهِ يَعْصِرُونَ » ما يعصر كالعنب والزيتون لكثرة الثمار وقيل يحلبون الضروع (٣).

«وَماجَعَلْنَا الرُّؤْيَا » قيل المراد رؤية العين والأكثر على أنه رؤية المنام وقال الطبرسي رحمه‌الله روي عن ابن عباس أنها رؤيا نوم رآها أنه سيدخل مكة وهو بالمدينة فقصدها فصده المشركون في الحديبية عن دخولها حتى شك قوم ودخلت عليهم الشبهة فقالوا يا رسول الله أليس قد أخبرتنا أنا ندخل المسجد الحرام آمنين فقال أوقلت لكم إنكم تدخلونها العام قالوا لا فقال لندخلنها إن شاء الله ورجع ثم دخل مكة في العام القابل فنزل « لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ » (٤) وقيل رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه أن قرودا تصعد منبره وتنزل فساءه ذلك واغتم به فلم (٥)

__________________

(١) في المصدر : أى.

(٢) في المصدر : فأسند.

(٣) أنوار التنزيل : ج ١ ، ص ٥٩٧ ـ ٥٩٨.

(٤) الفتح : ٢٧.

(٥) في المجمع : فلم يسمع بعد ذلك ضاحكا حتى مات.


ير بعد ذلك ضاحكا حتى توفي (١).

أقول : وقد مرت أخبار كثيرة في ذلك وقال الرازي قال سعيد بن المسيب رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك وهذا قول ابن عباس في رواية عطا.

« وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ » أي منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية وطلب معاشكم فيهما أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين إشعارا بأن كلا من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه.

« إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ » يدل على أن نوم الأنبياء عليهم‌السلام بمنزلة الوحي وكذا الآية التالية « إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ » قال الطبرسي رحمه‌الله يعني نجوى المنافقين والكفار بما يسوء المؤمنين ويغمهم من وساوس الشيطان وبدعائه وإغوائه وقيل المراد بها أحلام المنام التي يراها الإنسان في منامه ويحزنه (٢).

أقول : سيأتي ذلك في الرواية :

« وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً » قال السيد المرتضى رحمه‌الله إن سأل سائل عن قوله تعالى « وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً » فقال إذا كان المراد بالسبات هو النوم فكأنه قال وجعلنا نومكم نوما وهذا مما لا فائدة فيه الجواب قلنا في هذه الآية وجوه منها أن يكون المراد بالسبات الراحة والدعة وقد قال قوم إن اجتماع الخلق كان في يوم الجمعة والفراغ منه في يوم السبت فسمي اليوم بالسبت للفراغ الذي كان فيه ولأن الله تعالى أمر بني إسرائيل فيه بالاستراحة من الأعمال قيل وأصل السبات التمدد يقال سبتت المرأة شعرها إذا حلته من العقص وأرسلته قال الشاعر :

وإن سبتته مال جثلا كأنه

سدى واهلات من نواسج خثعما

أراد : إن أرسلته ومنها أن يكون المراد بذلك القطع والسبت أيضا الحلق

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٦ ، ص ٤٢٤.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٥١.


يقال : سبت شعره إذا حلقه وهو يرجع إلى معنى القطع والنعال السبتية التي لا شعر عليها.

قال عنترة :

بطل كأن ثيابه في سرحة

يحذي نعال السبت ليس بتوأم.

ويقال لكل أرض مرتفعة منقطعة مما حولها سبتاء وجمعها سباتى فيكون المعنى على هذا الجواب جعلنا نومكم قطعا لأعمالكم وتصرفكم ومنها أن يكون المراد بذلك أنا جعلنا نومكم سباتا ليس بموت لأن النائم قد يفقد من علومه وقصوده وأحواله أشياء كثيرة يفقدها الميت فأراد سبحانه أن يمتن علينا بأن جعل نومنا الذي يضاهي فيه بعض أحوالنا أحوال الميت ليس بموت على الحقيقة ولا يخرج لنا عن الحياة والإدراك فجعل التأكيد بذكر المصدر قائما مقام نفي الموت وسادا مسد قوله وجعلنا نومكم ليس بموت ويمكن في الآية وجه آخر لم يذكر فيها هو أن السبات ليس هو كل نوم وإنما هو من صفات النوم إذا وقع على بعض الوجوه والسبات هو النوم الممتد الطويل السكون ولهذا يقال فيمن وصف بكثرة النوم إنه مسبوت وبه سبات ولا يقال ذلك في كل نائم وإذا كان الأمر على هذا لم يجر قوله تعالى « وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً » مجرى أن يقول وجعلنا نومكم نوما والوجه في الامتنان علينا بأن جعل نومنا ممتدا طويلا ظاهر وهو لما في ذلك لنا من المنفعة والراحة لأن التهويم والنوم الغرار لا يكسبان شيئا من الراحة بل يصحبهما في الأكثر القلق والانزعاج والهموم هي التي تقلل النوم وتنزره وفراغ القلب ورخاء البال تكون معهما غزارة النوم وامتداده وهذا واضح.

قال السيد قدس الله روحه وجدت أبا بكر محمد بن القاسم الأنباري يطعن على الجواب الذي ذكرناه أولا ويقول إن ابن قتيبة أخطأ في اعتماده لأن الراحة لا يقال لها سبات ولا يقال سبت الرجل بمعنى استراح وأراح ويعتمد على الجواب الذي ثنينا بذكره ويقول في ما استشهد به ابن قتيبة من قوله سبتت المرأة شعرها إن معناه أيضا القطع لأن ذلك إنما يكون بإزالة الشداد الذي كان مجموعا به


وقطعه والمقدار الذي ذكره ابن الأنباري لا يقدح في جواب ابن قتيبة لأنه لا ينكر أن يكون السبات هو الراحة والدعة إذا كانتا عن نوم وإن لم توصف كل راحة بأنها سبات ويكون هذا الاسم يخص الراحة إذا كانت على هذا الوجه ولهذا نظائر كثيرة في الأسماء وإذا أمكن ذلك لم يكن في امتناع قولهم سبت الرجل بمعنى استراح في كل موضع دلالة على أن السبات لا يكون اسما للراحة عند النوم والذي يبقى على ابن قتيبة أن يبين أن السبات هو الراحة والدعة ويستشهد على ذلك بشعر أو لغة فإن البيت الذي ذكره يمكن أن يكون المراد به القطع دون التمدد والاسترسال.

فإن قيل فما الفرق بين جواب ابن قتيبة وجوابكم الذي ذكرتموه أخيرا قلنا الفرق بينهما بين لأن ابن قتيبة جعل السبات نفسه راحة وجعله عبارة عنها وأخذ يستشهد على ذلك بالتمدد دون غيره ونحن جعلنا السبات نفسه من صفات النوم والراحة واقعة عنده للامتداد وطول السكون فيه فلا يلزمنا أن نقول سبت الرجل بمعنى استراح لأن الشيء لا يسمى بما يقع عنده حقيقة والاستراحة تقع على جوابنا عند السبات وليس السبات إياها بعينها على أن في الجواب الذي اختاره ابن الأنباري ضربا من الكلام لأن السبت وإن كان القطع على ما ذكره فلم يسمع فيه البناء الذي ذكره وهو السبات ويحتاج في إثبات مثل هذا البناء إلى سمع عن أهل اللغة وقد كان يجب أن يورد من أي وجه إذا كان السبت هو القطع جاز أن يقال سبات على هذا المعنى ولم نره فعل ذلك (١).

١ ـ مجالس الصدوق : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام عن أبيه عن جده عن علي عليه‌السلام قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الرجل ينام فيرى الرؤيا فربما كانت حقا وربما كانت باطلا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا علي ما من عبد ينام إلا عرج بروحه إلى رب العالمين فما رأى عند رب العالمين فهو حق ثم إذا أمر الله العزيز الجبار برد روحه إلى جسده فصارت الروح بين السماء والأرض فما

__________________

(١) الغرر والدر ج ١ ص ٣٣٧ ـ ٣٤٠.


رأته فهو أضغاث أحلام (١).

٢ ـ ومنه : بإسناده عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان قال وحدثني محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محسن بن أحمد عن أبان بن عثمان عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سمعته يقول إن لإبليس شيطانا يقال له هزع يملأ المشرق والمغرب في كل ليلة يأتي الناس في المنام (٢).

٣ ـ قرب الإسناد : عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من رأى أنه في الحرم وكان خائفا أمن.

٤ ـ تفسير علي بن إبراهيم : في قوله تعالى « لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ » قال في الحياة الدنيا الرؤيا الحسنة يراها المؤمن وفي الآخرة عند الموت (٣).

٥ ـ المحاسن : عن أبيه عن صفوان عن داود عن أخيه عبد الله قال : بعثني إنسان إلى أبي عبد الله عليه‌السلام زعم أنه يفزع في منامه من امرأة تأتيه قال فصحت حتى سمع الجيران فقال أبو عبد الله عليه‌السلام اذهب فقل إنك لا تؤدي الزكاة قال بلى والله إني لأؤديها فقال قل له إن كنت تؤديها لا تؤديها إلى أهلها (٤).

٦ ـ الخرائج : روي أن أبا عمارة المعروف بالطيان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رأيت في النوم كأن معي قناة قال كان فيها زج قلت لا قال لو رأيت فيها زجا لولد (٥) لك غلام لكنه (٦) تولد جارية ثم سكت ساعة ثم قال كم في القناة من كعب قلت اثنا عشر كعبا قال تلد الجارية اثني عشر بنتا.

قال محمد بن يحيى فحدثت بهذا الحديث العباس بن الوليد فقال : أنا من

__________________

(١) الأمالي : ٨٩.

(٢) الأمالي : ٨٩. وزاد : « ولهذا يرى الاضغاث ».

(٣) تفسير القمي : ٢٨٩.

(٤) المحاسن : ٨٧.

(٥) يولد ( خ ).

(٦) لكن ( خ ).


واحدة منهن ولي إحدى عشرة خالة وأبو عمارة جدي.

٧ ـ المناقب : عن ياسر الخادم قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام رأيت في النوم كأن قفصا فيه سبع عشرة قارورة إذ وقع القفص فتكسرت القوارير فقال إن صدقت رؤياك يخرج رجل من أهل بيتي يملك سبعة عشر يوما ثم يموت فخرج محمد بن إبراهيم بالكوفة مع أبي السرايا فمكث سبعة عشر يوما ثم مات (١).

الكافي : عن الحسين عن أحمد بن هلال عن ياسر مثله (٢).

بيان : إن صدقت رؤياك أي لم تكن من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها أو لم تكذب في نقلها والأول أظهر ومحمد بن إبراهيم هو طباطبا بايعه أولا أبو السرايا وخرج ولما مات بايع محمد بن زيد وقال الطبري في تاريخه كان اسم أبي السرايا سري بن منصور وكان من أولاد هاني بن قبيصة الذي عصى على كسرى أبرويز وكان أبو السرايا من أمراء المأمون ثم عصى في الكوفة على أمير العراق وبايع محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ثم أرسل إليه حسن بن سهل أمير العراق جندا فقاتلوه وأسر وقتل.

٨ ـ الكشي : عن علي بن محمد عن محمد بن أحمد عن محمد بن عيسى قال قال لي ياسر الخادم إن أبا الحسن الثاني عليه‌السلام أصبح في بعض الأيام قال فقال لي رأيت البارحة مولى لعلي بن يقطين وبين عينيه غرة بيضاء فتأولت ذلك على الدين.

٩ ـ دعوات الراوندي : حدث أبو بكر بن عياش قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فجاءه رجل فقال رأيتك في النوم كأني أقول لك كم بقي من أجلي فقلت لي بيدك هكذا وأومأ إلى خمس وقد شغل ذلك قلبي فقال عليه‌السلام إنك سألتني عن شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل وهي خمس تفرد الله بها « إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي

__________________

(١) المناقب : ج ٤ ، ص ٣٥٢.

(٢) روضة الكافي : ٢٧٥.


نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » (١)

بيان : قال الطبرسي رحمه‌الله جاء في الحديث أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله وقرأ هذه الآية وقد روي عن أئمة الهدى أن هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل والتحقيق غيره تعالى (٢).

أقول : هذا لا ينافي ما أخبروا عليهم‌السلام به من هذه الأشياء على سبيل الإعجاز لأنه كان بالوحي والإلهام وكان عدم الإخبار في هذا المقام لعدم وصول الخبر من الله تعالى إليه في تلك الواقعة أو لمصلحة وقد مر القول فيه في كتاب الإمامة.

١٠ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة أن رجلا دخل على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال رأيت كأن الشمس طالعة على رأسي دون جسدي فقال تنال أمرا جسيما ونورا ساطعا ودينا شاملا فلو غطتك لانغمست فيه ولكنها غطت رأسك أما قرأت « فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي » (٣) فلما أفلت تبرأ منها إبراهيم عليه‌السلام قال قلت جعلت فداك إنهم يقولون إن الشمس خليفة أو ملك فقال ما أراك تنال الخلافة ولم يكن في آبائك وأجدادك ملك وأي خلافة وملوكية أكثر (٤) من الدين والنور ترجو به دخول الجنة إنهم يغلطون فقلت (٥) صدقت جعلت فداك (٦).

بيان : « بازِغَةً » أي طالعة ولعل استشهاده عليه‌السلام كان بأن إبراهيم عليه‌السلام بعد رؤية الشمس واختلاف أحوالها اهتدى أو أظهر الاهتداء وهدى قومه إلى التوحيد فطلوع الشمس على رأسك علامة لاهتدائك إلى الدين القويم أو بأن الشمس لما

__________________

(١) لقمان : ٣٤.

(٢) مجمع البيان : ج ٨ ، ص ٣٢٤.

(٣) الأنعام : ٧٨.

(٤) في المصدر : أكبر.

(٥) في بعض النسخ والمصدر : قلت.

(٦) روضة الكافي : ٢٩١ ـ ٢٩٢.


كان في عالم المحسوسات أضوأ الأنوار حتى إن إبراهيم عليه‌السلام قال لموافقة قومه وإتمام الحجة عليهم « هذا رَبِّي » لغلبة نورها وظهورها ووصفها بالكبر ثم تبرأ منها لتغير أحوالها الدالة على إمكانها وحدوثها وفي الرؤيا تتمثل الأمور المعنوية بالأمور المحسوسة المناسبة لها فينبغي أن يكون هذا النور أضوأ الأنوار المعنوية فليس إلا الدين الحق والأول أظهر لفظا والثاني معنى قوله عليه‌السلام ولم يكن في آبائك يظهر منه أن تعبير الرؤيا يختلف باختلاف الأشخاص ويحتمل أن يكون الغرض بيان خطإ أصل تعبيرهم بأن ذلك غير محتمل لا أنه لا يستقيم في خصوص تلك المادة.

١١ ـ الكافي : بالإسناد المتقدم عن ابن أذينة عن رجل رأى كأن الشمس طالعة على قدميه دون جسده قال عليه‌السلام مال يناله من نبات (١) الأرض من بر أو تمر يطؤه بقدميه ويتسع فيه وهو حلال إلا أنه يكد فيه كما كد آدم عليه‌السلام (٢).

١٢ ـ ومنه : عن علي عن أبيه عن الحسن بن علي عن أبي جعفر الصائغ عن محمد بن مسلم قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وعنده أبو حنيفة فقلت له جعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة فقال يا ابن مسلم هاتها فإن العالم بها جالس وأومأ بيده إلى أبي حنيفة قال فقلت رأيت كأني دخلت داري وإذا أهلي قد خرجت علي فكسرت جوزا كثيرا ونثرته علي فتعجبت من هذه الرؤيا فقال أبو حنيفة أنت رجل تخاصم وتجادل لئاما في مواريث أهلك فبعد نصب شديد تنال حاجتك منها إن شاء الله فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أصبت والله يا أبا حنيفة قال ثم خرج أبو حنيفة من عنده فقلت جعلت فداك إني كرهت تعبير هذا الناصب فقال يا ابن مسلم لا يسؤك الله فما يواطئ تعبيرهم تعبيرنا ولا تعبيرنا تعبيرهم وليس التعبير كما عبره قال فقلت له جعلت فداك فقولك أصبت وتحلف عليه وهو مخطئ قال نعم حلفت عليه أنه أصاب الخطاء قال فقلت له فما تأويلها قال يا ابن مسلم

__________________

(١) في المصدر : نبات من الأرض.

(٢) روضة الكافي : ٢٧٥.


إنك تتمتع بامرأة فتعلم بها أهلك فتخرق (١) عليك ثيابا جددا فإن القشر كسوة اللب قال ابن مسلم فو الله ما كان بين تعبيره وتصحيح الرؤيا إلا صبيحة الجمعة فلما كان غداة الجمعة أنا جالس بالباب إذ مرت بي جارية فأمرت غلامي فردها ثم أدخلها داري فتمتعت بها فأحست بي وبها أهلي فدخلت علينا البيت فبادرت الجارية نحو الباب فبقيت أنا فمزقت علي ثيابا جددا كنت ألبسها في الأعياد.

وجاء موسى الزوار العطار إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له يا ابن رسول الله رأيت رؤيا هالتني رأيت صهرا لي ميتا وقد عانقني وقد خفت أن يكون الأجل قد اقترب فقال يا موسى توقع الموت صباحا ومساء فإنه ملاقينا ومعانقة الأموات للأحياء أطول لأعمارهم فما كان اسم صهرك قال حسين فقال أما إن رؤياك تدل على بقائك وزيارتك أبا عبد الله عليه‌السلام فإن كل من عانق سمي الحسين عليه‌السلام يزوره إن شاء الله تعالى.

وذكر إسماعيل بن عبد الله القرشي قال أتى إلى أبي عبد الله عليه‌السلام رجل فقال (٢) يا ابن رسول الله رأيت في منامي كأني خارج من مدينة الكوفة في موضع أعرفه وكأن شيخا (٣) من خشب أو رجلا منحوتا من خشب على فرس من خشب يلوح بسيفه وأنا أشاهده فزعا مذعورا مرعوبا فقال عليه‌السلام أنت رجل تريد اغتيال رجل في معيشته فاتق الله الذي خلقك ثم يميتك فقال الرجل أشهد أنك قد أوتيت علما واستنبطته من معدنه أخبرك يا ابن رسول الله عما قد فسرت لي إن رجلا من جيراني جاءني وعرض علي ضيعته فهممت أن أملكها بوكس (٤) كثير لما عرفت أنه ليس لها طالب غيري فقال أبو عبد الله عليه‌السلام وصاحبك يتولانا ويبرأ من عدونا فقال نعم يا ابن رسول الله رجل جيد البصيرة مستحكم الدين وأنا

__________________

(١) في المصدر : فتمزق.

(٢) في المصدر : فقال له.

(٣) فيه : شبحا.

(٤) الوكس : النقص.


تائب إلى الله عز وجل وإليك مما هممت به ونويته فأخبرني يا ابن رسول الله لو كان ناصبيا (١) حل لي اغتياله فقال أد الأمانة لمن ائتمنك وأراد منك النصيحة ولو إلى قاتل الحسين عليه‌السلام (٢).

بيان : الظاهر أن الراوي عن الزوار والقرشي هو محمد بن مسلم ويحتمل الإرسال من الكليني قوله أو رجلا كأن الترديد من الراوي ويقال لوح بسيفه على بناء التفعيل أي لمع به.

١٣ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول الرؤيا على ما تعبر فقلت له إن بعض أصحابنا روى أن رؤيا الملك كانت أضغاث أحلام فقال أبو الحسن عليه‌السلام إن امرأة رأت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن جذع بيتها انكسر (٣) فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقصت عليه الرؤيا فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقدم زوجك ويأتي وهو صالح وقد كان زوجها غائبا فقدم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم غاب عنها زوجها غيبة أخرى فرأت في المنام كأن جذع بيتها قد انكسر (٤) فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقصت عليه الرؤيا فقال لها يقدم زوجك ويأتي صالحا فقدم على ما قال ثم غاب زوجها ثالثة فرأت في منامها أن جذع بيتها قد انكسر فلقيت رجلا أعسر فقصت عليه الرؤيا فقال لها الرجل السوء يموت زوجك فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) فقال ألا كان عبر لها خيرا (٦).

توضيح : أضغاث أحلام أي لم تكن لها حقيقة وإنما وقعت كذلك لتعبير يوسف عليه‌السلام وإنما أورد الراوي تلك الرواية تأييدا لما ذكره قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقدم

__________________

(١) فيه : ناصبا.

(٢) روضة الكافي : ٢٩٣.

(٣) في المصدر : قد انكسر.

(٤) في بعض النسخ « انكسرت » فى المواضع الثلاثة.

(٥) في المصدر : قال : فبلغ ذلك النبي.

(٦) روضة الكافي : ٣٣٥.


زوجك لعله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبر انكسار أسطوانة بيتها بفوات ما كان لها من التمكن والتصرف في غيبته وقال الفيروزآبادي يوم عسر وعسير وأعسر شديد أو شؤم وأعسر يسر يعمل بيديه جميعا فإن عمل بالشمال فهو أعسر والمراد هنا الشوم أو من يعمل باليسار فإنه أيضا مشوم ويظهر من أخبار المخالفين أن هذا الأعسر كان أبا بكر ولعله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يصرح باسمه تقية قال في النهاية فيه إن امرأة أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت رأيت كأن جائز بيتي انكسر فقال يرد الله غائبك فرجع زوجها ثم غاب فرأت مثل ذلك فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم تجده ووجدت أبا بكر فأخبرته فقال يموت زوجك فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال هل قصصتها على أحد قالت نعم قال هو كما قيل لك الجائز الخشبة التي توضع عليها أطراف العوارض في سقف البيت والجمع أجوزة.

١٤ ـ الكافي : عن العدة عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن النضر بن سويد عن الحلبي عن ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : رأيت كأني على رأس جبل والناس يصعدون إليه من كل جانب حتى إذا كثروا عليه تطاول بهم في السماء وجعل الناس يتساقطون عنه من كل جانب حتى لم يبق منهم أحد إلا عصابة يسيرة ففعل ذلك خمس مرات في كل ذلك يتساقط عنه الناس وتبقى تلك العصابة أما إن قيس بن عبد الله بن عجلان في تلك العصابة فما مكث بعد ذلك إلا نحوا من خمس حتى هلك (١).

بيان : كأن تأويل الرؤيا الفتن التي حدثت بعده صلوات الله عليه في الشيعة فارتدوا.

وأقول : وروى الكشي عن حمدويه بن نصير عن محمد بن عيسى عن النضر مثله وفيه أما إن ميسر بن عبد العزيز وعبد الله بن عجلان في تلك العصابة فما مكث بعد ذلك إلا نحوا من سنتين حتى هلك عليه‌السلام وقيس غير مذكور في كتب الرجال.

١٥ ـ المحاسن : عن أبيه عن حمزة بن عبد الله عن جميل بن دراج قال قال

__________________

(١) روضة الكافي : ١٨٢ ـ ١٨٣.


أبو عبد الله عليه‌السلام إن المؤمنين إذا أخذوا مضاجعهم صعد (١) الله بأرواحهم إليه فمن قضى عليه بالموت جعله في رياض الجنة بنور (٢) رحمته ونور عزته وإن لم يقدر عليه الموت بعث بها مع أمنائه من الملائكة إلى الأبدان التي هي فيها (٣).

١٦ ـ العياشي : عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : رأت فاطمة عليها‌السلام في النوم كأن الحسن والحسين عليهما‌السلام ذبحا أو قتلا فأحزنها ذلك فأخبرت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رؤيا فتمثلت بين يديه قال أنت أريت فاطمة هذا البلاء قالت لا فقال يا أضغاث وأنت أريت فاطمة هذا البلاء قالت نعم يا رسول الله قال ما (٤) أردت بذلك قالت أردت (٥) أحزنها فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة عليها‌السلام : اسمعي ليس هذا بشيء (٦).

بيان : كأن خطابه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لملك الرؤيا وشيطان الأضغاث لقوله سبحانه « إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ » أو تمثل بإعجازه صلى‌الله‌عليه‌وآله لكل منهما مثال وتعلق به روح فسأله ومثل هذا التسلط الذي يذهب أثره سريعا من الشيطان ولم يوجب معصية على المعصومين عليهم‌السلام لم يدل دليل على نفيه ولا ينافيه قوله تعالى « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ » (٧) وقد مر بعض القول فيه في كتاب النبوة وسيأتي أيضا إن شاء الله تعالى.

١٧ ـ فرج المهموم : نقلا من كتاب تعبير الرؤيا للكليني بإسناده عن محمد بن سالم قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام قوم يقولون النجوم أصح من الرؤيا وذلك (٨) كانت صحيحة حين لم يرد الشمس على يوشع بن نون وعلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فلما رد الله عز وجل الشمس عليهما ضل فيهما علماء النجوم فمنهم مصيب ومنهم مخطئ.

١٨ ـ البصائر : عن علي بن حسان عن ابن بكير عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام من الرسول؟ ومن النبي؟ ومن المحدث فقال الرسول الذي يأتيه

__________________

(١) في المصدر : أصعد.

(٢) فيه : فى كنوز رحمته.

(٣) المحاسن : ١٧٨.

(٤) في المصدر : فما اردت.

(٥) فيه : اردت أن أحزنها.

(٦) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ١٧٢. (٧) الحجر : ٤١. (٨) كذا.


جبرئيل فيكلمه قبلا فيراه كما يرى أحدكم صاحبه الذي يكلمه فهذا الرسول والنبي الذي يؤتى في النوم نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان يأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من السبات إذا أتاه جبرئيل في النوم فهكذا النبي ومنهم من تجمع (١) له الرسالة والنبوة فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رسولا نبيا يأتيه جبرئيل قبلا فيكلمه ويراه ويأتيه في النوم وأما المحدث فهو الذي يسمع كلام الملك فيحدثه من غير أن يراه ومن غير أن يأتيه في النوم (٢).

أقول : قد مضى مثله بأسانيد جمة في كتاب النبوة وكتاب الإمامة وغيرهما.

١٩ ـ الإختصاص : قال الصادق عليه‌السلام إذا كان العبد على معصية الله عز وجل وأراد الله به خيرا أراه في منامه رؤيا تروعه فينزجر بها عن تلك المعصية وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة (٣).

٢٠ ـ ومنه : عن أبي الفرج عن سهل بن زياد عن رجل عن عبد الله بن جبلة عن أبي المغراء عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال سمعته يقول من كانت له إلى الله حاجة وأراد أن يرانا وأن يعرف موضعه فليغتسل ثلاثة ليال يناجي بنا فإنه يرانا ويغفر له بنا ولا يخفى عليه موضعه قلت سيدي فإن رجلا رآك في المنام وهو يشرب النبيذ قال ليس النبيذ يفسد عليه دينه إنما يفسد عليه تركنا وتخلفه عنا (٤) الخبر.

٢١ ـ مجالس الصدوق : عن الحسين بن إبراهيم بن ناتانة (٥) عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن إبراهيم الكرخي قال : قلت للصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام إن رجلا رأى ربه عز وجل في منامه فما يكون ذلك فقال ذلك

__________________

(١) في البصائر : يجتمع.

(٢) بصائر الدرجات : ٣٧١.

(٣) الاختصاص : ٢٤١.

(٤) المصدر : ٩٠.

(٥) بالنون أولا وآخرا والتاء في الوسط كما حكى في التعليقة عن جده المجلسي الأول ـ ره ـ وقيل في ضبطه وجوه اخرى.


رجل لا دين له إن الله تبارك وتعالى لا يرى في اليقظة ولا في المنام ولا في الدنيا ولا في الآخرة (١).

٢٢ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن علي بن حديد عن جميل بن دراج عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : أصبح رسول الله يوما كئيبا حزينا فقال له علي عليه‌السلام ما لي أراك يا رسول الله كئيبا حزينا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله وكيف لا أكون كذلك وقد رأيت في ليلتي هذه أن بني تيم وبني عدي وبني أمية يصعدون منبري هذا يردون الناس عن الإسلام القهقرى فقلت يا رب في حياتي أو بعد موتي فقال بعد موتك (٢).

٢٣ ـ ومنه : عن أحمد بن محمد عن علي بن الحسين عن محمد بن الوليد ومحسن بن أحمد عن يونس بن يعقوب عن علي بن عيسى القماط عن عمه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : رأى (٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني أمية يصعدون على منبره من بعده ويضلون الناس عن الصراط القهقرى فأصبح كئيبا حزينا قال فهبط عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال يا رسول الله ما لي أراك كئيبا حزينا قال يا جبرئيل إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلون الناس عن الصراط القهقرى فقال والذي بعثك بالحق نبيا إن هذا شيء ما اطلعت عليه فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها قال « أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ » وأنزل عليه « إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ » جعل الله عز وجل ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله خيرا من ألف شهر ملك بني أمية (٤).

__________________

(١) البصائر : ٣٦٣.

(٢) روضة الكافي : ٣٤٥.

(٣) في أكثر النسخ : أرى.

(٤) لم نجد الرواية بعينها في الكافي ، وفي الروضة ( ص ٢٢٢ ) رواية تتحد معها مضمونا وتفترق عنها في مواضع من السند والمتن ، اما السند فهي عن سهل بن زياد عن.


٢٤ ـ كتاب سليم بن قيس : عن عبد الله بن جعفر قال : كنت عند معاوية وساق الحديث إلى أن قال قلت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسئل عن هذه الآية « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ » (١) فقال إني رأيت اثني عشر رجلا من أئمة الضلال يصعدون منبري وينزلون يردون أمتي على أدبارهم القهقرى فيهم رجلان من حيين من قريش مختلفين وثلاثة من بني أمية وسبعة من ولد الحكم بن العاص إذا بلغوا خمسة عشر رجلا جعلوا كتاب الله دخلا وعباد الله خولا الحديث.

٢٥ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نصر عن ابن أبي حمزة عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الفرق من السنة قال لا قلت هل فرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال نعم قلت كيف (٢) ذلك قال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين صد عن البيت وقد كان ساق الهدي وأحرم أراه الله الرؤيا التي أخبر الله في كتابه إذ يقول « لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ » (٣) فعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه سيفي له بما أراه فمن ثم وفر ذلك الشعر الذي كان على رأسه حين أحرم انتظارا لحلقه في الحرم حيث وعده الله عز وجل فلما حلقه لم يعد توفير (٤) الشعر ولا كان ذلك من قبله (٥).

__________________

محمد بن عبد الحميد عن يونس .. الخ ، وأما المتن فتبتدأ هكذا : قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول هبط جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كئيب حزين .. ولعله وقع سهو في ذكر المصدر.

(١) الإسراء : ٦٠.

(٢) في المصدر : كيف فرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس من السنة؟ قال : من أصابه ما أصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفرق كما فرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد أصاب سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والا فلا قلت له : كيف ذلك؟.

(٣) الفتح : ٢٧.

(٤) في المصدر : فى توفير.

(٥) الكافي : ج ٦ ، ص ٤٨٦.


٢٦ ـ مجالس الصدوق : بإسناده عن ابن عباس قال : كنت مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في خروجه إلى صفين فلما نزل نينوى وهو بشط الفرات توضأ وصلى ثم نعس فانتبه فقال رأيت في منامي كأني برجال قد نزلوا من السماء معهم أعلام بيض قد تقلدوا سيوفهم وهي بيض تلمع وقد خطوا حول هذه الأرض خطة ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض يضطرب بدم عبيط وكأني بالحسين فرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه يستغيث فلا يغاث وكأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء ينادونه ويقولون صبرا آل الرسول فإنكم تقتلون على أيدي شرار الناس وهذه الجنة يا أبا عبد الله إليك مشتاقة ثم يعزونني (١) ويقولون يا أبا الحسن أبشر فقد أقر الله (٢) عينك به « يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ » ثم انتبهت هكذا والذي نفس علي بيده لقد نبأني الصادق المصدق أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وآله أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا وهذه أرض كرب وبلاء يدفن فيها الحسين وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمة (٣) والحديث مختصر.

٢٧ ـ المكارم : روي أن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : كنت أدعو الله سنة عقيب كل صلاة أن يعلمني الاسم الأعظم فإني (٤) ذات يوم قد صليت الفجر فغلبتني عيناي وأنا قاعد إذا أنا برجل قائم بين يدي يقول لي سألت الله تعالى أن يعلمك الاسم الأعظم قال (٥) [ قلت ] نعم قال قل اللهم إني أسألك باسمك الله الله الله الله (٦) الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم قال فو الله ما دعوت بها لشيء إلا رأيت نجحه (٧).

__________________

(١) يعزونى ( خ ).

(٢) في الأمالي : اقر الله به عينك يوم القيامة.

(٣) الأمالي : ٣٥٦.

(٤) في المصدر : فبينا أنا ذات.

(٥) في المصدر « قلت » وهو الصواب.

(٦) في المصدر تكرر لفظة الجلالة خمس مرات.

(٧) مكارم الأخلاق : ٤٠٨.


أقول : قد مر رؤيا عبد المطلب في بشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه رأى أن شجرة قد نبتت على ظهره قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها الشرق والغرب وأن نورا يزهر منها أعظم من نور الشمس وأن العرب والعجم ساجدة لها وهي كل يوم تزداد عظما ونورا وأن رهطا من قريش يريدون قطعها فإذا دنوا منها يأخذهم شاب من أحسن الناس وجها ويكسر ظهورهم ويقلع أعينهم فقالت الكاهنة لئن صدقت ليخرجن من صلبك ولد يملك الشرق والغرب وينبأ في الناس وقد مر أيضا رؤياه في حفر زمزم والسيوف وهي طويلة وقد مرت منامات آمنة في ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومضى رؤيا العباس في بشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه رأى أنه خرج من منخر عبد الله بن عبد المطلب طائر أبيض فطار وبلغ المشرق والمغرب ثم رجع حتى سقط على بيت الكعبة فسجدت له قريش كلها فصار نورا بين السماء والأرض وامتد حتى بلغ المشرق والمغرب فقالت كاهنة بني مخزوم يا عباس لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبه ولد يصير أهل المشرق والمغرب تبعا له وتقدم في غزوة بدر أن عاتكة بنت عبد المطلب رأت أن راكبا قد دخل مكة ينادي ثلاث مرات يا آل عدي يا آل فهر اغدوا إلى مصارعكم فأخذ حجرا فدهدهه من الجبل فما ترك دارا من دور قريش إلا أصابته منه فلذة وكان وادي مكة قد صار من أسفله دما فوافى زمزم بعد ثلاث ونادى فيهم أدركوا العير فكانت غزوة بدر ومر في ولادة الحسين عليهم‌السلام أن أم أيمن قالت يا رسول الله رأيت في ليلتي هذه كأن بعض أعضائك ملقى في بيتي فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تلد فاطمة الحسين فتربينه وتلفينه فيكون بعض أعضائي في بيتك. وتقدم أيضا أن امرأة حنظلة بن أبي عامر الراهب رأت في المنام كأن السماء انفرجت فوقع فيها حنظلة ثم انضمت فذهب حنظلة إلى أحد فاستشهد وتقدم أيضا منامات غريبة من بخت نصر منها أنه رأى في المنام كأن ملائكة السماء هبطت إلى الأرض أفواجا إلى الجب الذي حبس فيه دانيال عليه‌السلام مسلمين عليه يبشرونه بالفرج فندم على ما فعل وأخرجه من الجب ومنها أنه رأى في نومه كأن رأسه من حديد ورجليه من نحاس وصدره من ذهب فعبرها دانيال بأنه يذهب ملكه ويقتل بعد ثلاث


يقتله رجل من ولد فارس فكان كذلك ورأى المؤبدان في ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام إبلا صعابا يقود خيلا عرابا.

٢٨ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان في بني إسرائيل رجل فدعا الله أن يرزقه غلاما ثلاث سنين فلما رأى أن الله لا يجيبه قال يا رب أبعيد أنا منك فلا تسمعني أم قريب أنت مني فلا تجيبني قال فأتاه آت في منامه فقال إنك تدعو الله عز وجل منذ ثلاث سنين بلسان بذي وقلب عات غير تقي ونية غير صادقة فأقلع عن بذائك وليتق الله قلبك ولتحسن نيتك قال ففعل الرجل ذلك ثم دعا الله فولد له الغلام (١).

٢٩ ـ مجالس الشيخ : بإسناده عن شمر بن عطية قال : كان أبي ينال من علي بن أبي طالب عليه‌السلام فأتي في المنام فقيل له أنت الساب عليا فحنق حتى أحدث في فراشه ثلاثا.

٣٠ ـ قصص الراوندي : بإسناده عن طربال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لما أمر الملك بحبس يوسف عليه‌السلام في السجن ألهمه الله تأويل الرؤيا فكان يعبر لأهل السجن رؤياهم.

٣١ ـ مجالس ابن الشيخ : عن والده عن ابن مخلد عن أبي عمرو عن الحسن بن سلام عن قبيصة عن سفيان عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا تقارب الزمان لم تكذب رؤيا المؤمن وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا.

بيان : هذه الرواية رواها من طرق المخالفين قال في النهاية فيه إذا تقارب الزمان وفي رواية اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب أراد اقتراب الساعة وقيل اعتدال الليل والنهار وتكون الرؤيا فيه صحيحة لاعتدال الزمان واقترب افتعل من القرب وتقارب تفاعل منه ويقال للشيء إذا ولى وأدبر تقارب ومنه حديث المهدي يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر انتهى.

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٢٤.


وقال الخطابي في أعلام الحديث قوله إذا اقترب الزمان فيه قولان أحدهما أن يكون معناه تقارب زمان الليل والنهار وقت استوائهما أيام الربيع وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا وكذلك هو في الخريف والمعبرون يقولون أصدق الرؤيا ما كان وقت اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار وينعها والوجه الآخر أن اقتراب الزمان انتهاء مدة إذا دنا قيام الساعة.

وأصدقهم رؤيا قال النووي في شرح الصحيح ظاهره الإطلاق وقيد القاضي بآخر الزمان عند انقطاع العلم بموت العلماء والصالحين فجعله الله جابرا ومنبها لهم والأول أظهر لأن غير الصادق في حديثه يتطرق الخلل إلى رؤياه وحكايته إياها.

٣٢ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن معمر بن خلاد قال سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول ربما رأيت الرؤيا فأعبرها والرؤيا على ما تعبر (١).

بيان : قال في النهاية فيه الرؤيا لأول عابر يقال عبرت الرؤيا أعبرها عبرا وعبرتها تعبيرا إذا أولتها وفسرتها وخبرت بآخر ما يئول إليه أمرها يقال هو عابر الرؤيا وعابر للرؤيا وهذه اللام تسمى لام التعقيب لأنها عقبت الإضافة والعابر الناظر في الشيء والمعبر المستدل بالشيء على الشيء ومنه الحديث للرؤيا كنى وأسماء فكنوها بكناها واعتبروها بأسمائها ومنه حديث ابن سيرين كان يقول إني أعتبر الحديث المعنى فيه أنه يعبر الرؤيا على الحديث ويعتبر به كما يعتبرها بالقرآن في تأويلها مثل أن يعبر الغراب بالرجل الفاسق والضلع بالمرأة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سمى الغراب فاسقا وجعل المرأة كالضلع ونحو ذلك من الكنى والأسماء انتهى قوله عليه‌السلام على ما تعبر أي تقع موافقة لما عبرت به.

٣٣ ـ الكافي : عن عدة من أصحابه عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن محبوب عن عبد الله بن غالب عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول إن رؤيا المؤمن ترف بين السماء والأرض

__________________

(١) روضة الكافي : ٣٣٥.


على رأس صاحبها حتى يعبرها لنفسه أو يعبرها له مثله فإذا عبرت لزمت الأرض فلا تقصوا رؤياكم إلا على من يعقل (١).

بيان : في القاموس رف الطائر أي بسط جناحيه كرفرف والرفرفة تحريك الظليم جناحيه حول الشيء يريد أن يقع عليه انتهى وفي تشبيه الرؤيا بالطير وإثبات الرفرفة وترشيحه بالقص الذي هو قطع الجناح وبلزوم الأرض لطائف لا تخفى وفي النهاية في حديث الرؤيا لا تقصها إلا على واد يقال قصصت الرؤيا على فلان إذا أخبرته بها أقصها قصا والقص البيان.

٣٤ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن خالد عن القاسم بن عروة عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤيا لا تقص إلا على مؤمن خلا من الحسد والبغي (٢).

بيان : إنما اشترط عليه‌السلام ذلك لئلا يتعمد المعبر تعبيرها بالسوء حسدا وبغيا أقول : روى البغوي في شرح السنة عن جابر قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل وهو يخطب فقال يا رسول الله رأيت فيما يرى النائم البارحة كأن عنقي ضربت فسقط رأسي فاتبعته فأخذته ثم أعدته مكانه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه فلا يحدثن به الناس. وعن أبي سلمة قال : كنت أرى الرؤيا فيهمني حتى سمعت أبي قتادة يقول كنت أرى الرؤيا فيمرضني حتى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول الرؤيا الصالحة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فلا يحدث به ولينقل (٣) عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شر ما رأى فإنها لن تضره. ثم قال فيه إرشاد للمستعبر لموضع رؤياه فإن رأى ما يكره لا يحدث به حتى لا يستقبله في تعبيرها ما يزداد به هما فإن رأى ما يحبه فلا يحدث به إلا من يحبه لأنه لا يأمن ممن لا يحبه أن يعبره حسدا على غير وجهه فيغمه أو يكيده بأمر كما أخبر الله تعالى عن يعقوب حين قص عليه يوسف رؤياه

__________________

(١) الروضة : ٣٣٦.

(٢) الروضة : ٣٣٦.

(٣) وليتفل ظ.


« لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً »و روي عن أبي رزين قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وهي على رجل طائر فإذا حدثت بها وقعت وأحسبه قال لا تحدث بها إلا حبيبا أو لبيبا. وفي رواية أخرى الرؤيا على رجل طائر ما لم يعبر فإذا عبرت وقعت قال وأحسبه قال ولا تقصها إلا على واد أو ذي رأي. الواد لا يحب أن يستقبلك في تفسيرها إلا بما تحب وإن لم يكن عالما بالعبارة لم يعجل لك بما يغمك وأما ذو الرأي فمعناه ذو العلم بعبارتها فهو يخبرك بحقيقة تفسيرها أو بأقرب مما تعلم منها ولعله أن يكون في تفسيرها موعظة يردعك عن قبيح ما أنت عليه أو يكون فيها بشرى فتشكر الله عليها قال وروى أبو أيوب مرسلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال إن الرؤيا يقع على ما عبر ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها وإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحا أو عالما انتهى.

وقال في النهاية فيه الرؤيا لأول عابر وهي على رجل طائر لأول عابر أي إذا عبرها بر صادق عالم بأصولها وفروعها واجتهد فيها وقعت له دون غيره ممن فسرها بعده وهي على رجل طائر أي أنها على رجل قدر جار وقضاء ماض من خير أو شر وإن ذلك هو الذي قسمه الله تعالى لصاحبها من قولهم اقتسموا دارا فطار سهم فلان في ناحيتها أي وقع سهمه وخرج وكل حركة من كلمة أو شيء يجري لك فهو طائر والمراد أن الرؤيا هي التي يعبرها المعبر الأول فكأنها كانت على رجل طائر فسقطت ووقعت حيث عبرت كما يسقط الذي يكون على رجل الطائر بأدنى حركة.

٣٥ ـ غوالي اللئالي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينا أنا نائم إذا أتيت بقدح من لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من بين أظافيري قالوا بما أولت ذلك يا رسول الله قال العلم.

بيان : قال في فتح الباري وفي رواية من أطرافي ويحتمل أن يكون بصر به وهو الظاهر وأن يكون علمه ويؤيد الأول ما في رواية أخرى فشربت منه حتى


رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم على أنه محتمل أيضا وقال في حديث أبي هريرة اللبن في المنام فطرة وفي رواية أبي بكرة من رأى أنه يشرب لبنا فهو الفطرة وفي حديث الإسراء حين أتي بقدح خمر وقدح لبن فأخذ اللبن فقال له جبرئيل أخذت الفطرة وقال إن من الرؤيا ما يدل على الماضي والحال والمستقبل وهذه أولت على الماضي فإن رؤياه هذه تمثيل بأمر قد وقع لأن الذي أعطيه من العلم كان قد حصل له قال وذكر الدينوري أن اللبن المذكور فيها يختص بالإبل وأنه لشاربه مال حلال وعلم وحكمة قال ولبن البقر خصب السنة ومال حلال وفطرة ولبن السباع غير محمود إلا أن لبن اللبؤة (١) مال مع عداوة لذي أمر.

٣٦ ـ جامع الأخبار : في كتاب التعبير عن الأئمة عليهم‌السلام أن رؤيا المؤمن صحيحة لأن نفسه طيبة ويقينه صحيح وتخرج فتتلقى من الملائكة فهي وحي من الله العزيز الجبار وقال عليه‌السلام انقطع الوحي وبقي المبشرات ألا وهي نوم الصالحين والصالحات ولقد حدثني أبي عن جدي عن أبيه عليهما‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال من رآني في منامه فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة.

٣٧ ـ كمال الدين : يروى في الأخبار الصحيحة عن أئمتنا عليهم‌السلام أن من رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحدا من الأئمة عليهم‌السلام (٢) قد دخل مدينة أو قرية في منامه فإنه أمن لأهل المدينة أو القرية مما يخافون ويحذرون وبلوغ لما يأملون ويرجون.

٣٨ ـ الفقيه : قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجل من أهل البادية له جسم وجمال فقال يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل « الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ » (٣) فقال أما قوله « لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » فهي

__________________

(١) اللبؤة : انثى الأسد.

(٢) صلوات الله عليهم ( خ ).

(٣) يونس : ٦٣ ـ ٦٤.


الرؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشر بها في دنياه وأما قول الله عز وجل « وَفِي الْآخِرَةِ » فإنها بشارة المؤمن (١) عند الموت يبشر بها عند موته أن الله قد غفر لك ولمن يحملك إلى قبرك (٢).

٣٩ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن معمر بن خلاد عن الرضا عليه‌السلام قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا (٣) أصبح قال لأصحابه هل من مبشرات يعني به الرؤيا (٤).

بيان : روت العامة أيضا هذه الرواية بإسنادهم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة.

٤٠ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول رأي المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزءا من أجزاء النبوة (٥).

بيان : لما غيب الله تعالى في آخر الزمان عن الناس حجتهم تفضل عليهم وأعطاهم رأيا في استنباط الأحكام الشرعية مما وصل إليهم من أئمتهم عليهم‌السلام ولما حجب عنهم الوحي وخزانه أعطاهم الرؤيا الصادقة أزيد مما كان لغيرهم ليظهر عليهم بعض الحوادث قبل حدوثها وقيل إنما يكون هذا في زمان القائم عليهم‌السلام على سبعين جزءا لعل المراد أن للنبوة أجزاء كثيرة سبعون منها من قبل الرأي أي الاستنباط اليقيني لا الاجتهاد والتظني والرؤيا الصادقة فهذا المعنى الحاصل لأهل آخر الزمان على نحو تلك السبعين ومشابه لها وإن كان في النبي أقوى ويحتمل أن يكون المعنى على نحو بعض أجزاء السبعين كما ورد أن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين

__________________

(١) في المصدر : للمؤمن.

(٢) الفقيه : ٣٢.

(٣) في المصدر : كان إذا ...

(٤) روضة الكافي : ٩٠.

(٥) روضة الكافي : ٩٠.


جزءا من النبوة وقد روت العامة بأسانيد.عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.قال البغوي في شرح السنة أراد تحقيق أمر الرؤيا وتأكيده وإنما كانت جزءا من النبوة في حق الأنبياء دون غيرهم قال عبيد بن عمير رؤيا الأنبياء وحي وقرأ « إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ » الآية وقيل إنها جزء من أجزاء علم النبوة وعلم النبوة باق والنبوة غير باقية أو أراد به أنها كالنبوة في الحكم بالصحة كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله الهدى الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة أي هذه الخصال في الحسن والاستحباب كجزء من أجزاء النبوة وهذه الخلال جزء من شمائل الأنبياء وجزء من أجزاء فضائلهم فاقتدوا فيها بهم لا أنها حقيقة نبوة لأن النبوة لا تتجزى ولا نبوة بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو معنى قوله عليه‌السلام ذهبت النبوة وبقيت المبشرات الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو يرى له وقيل معنى قوله جزء من ستة وأربعين أن مدة الوحي على رسول الله من حين بدأ إلى أن فارق الدنيا كان ثلاثا وعشرين سنة وكان ستة أشهر منها في أول الأمر يوحى إليه في النوم وهو نصف سنة فكانت مدة وحيه في النوم جزء من ستة وأربعين جزءا من أيام الوحي انتهى.

وقال الجزري في النهاية الجزء القطعة والنصيب من الشيء ومنه الحديث الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وإنما خص هذا العدد لأن عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أكثر الروايات الصحيحة كان ثلاثا وستين سنة وكانت مدة نبوته منها ثلاثا وعشرين سنة لأنه بعث عند استيفاء الأربعين وكان في أول العمر يرى الوحي في المنام ودام كذلك نصف سنة ثم رأى الملك في اليقظة فإذا نسب مدة الوحي في النوم وهي نصف سنة إلى مدة نبوته وهي ثلاث وعشرون سنة كانت نصف جزء من ثلاثة وعشرين جزءا وذلك جزء واحد من ستة وأربعين جزءا وقد تعاضدت الروايات في أحاديث الرؤيا بهذا العدد وجاء في بعضها من خمسة وأربعين جزءا ووجه ذلك أن عمره لم يكن قد استكمل ثلاثا وستين ومات في أثناء السنة الثالثة والستين ونسبة نصف السنة إلى اثنتين وعشرين سنة وبعض الأخرى نسبة جزء من خمسة وأربعين وفي


بعض الروايات جزء من أربعين ويكون محمولا على من روي أن عمره كان ستين سنة فيكون نسبة نصف سنة إلى عشرين سنة كنسبة جزء إلى أربعين انتهى.

وقال الخطابي في أعلام الحديث هذا وإن كان وجها قد يحتمله الحساب والعدد فإن أول ما يجب من الشرط فيه أن يثبت ما قاله من ذلك بخبر أو رواية ولم نسمع فيه خبرا ولا ذكر قائل هذه المقالة في ما بلغني عنه في ذلك أثرا فهو كأنه ظن وحسبان والظن لا يغني من الحق شيئا ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذهب إليه من هذه القسمة لقد كان يجب أن يلحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه في منامه في تضاعيف أيام حياته وأن تلتقط وتلفق وتزداد في أصل الحساب وإذا صرنا إلى أصل هذه القضية بطلت هذه القسمة وسقط هذا الحساب من أصله وقد ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في عدة أحاديث من روايات كثيرة أنه كان يرى الرؤيا المختلفة في أمور الشريعة ومهمات أسباب الدين فيقصها على أصحابه فكان يقول لهم إذا أصبح من رأى منكم رؤيا فيقصونها عليه وقال لهم يوم أحد رأيت في سيفي ثلمة ورأيت كأني مردف كبشا فتأولت ثلمة السيف أنه يصاب في أصحابه وأنه يقتل كبش القوم ثم ذكر رؤيا كثيرة فقال وهذه كلها بعد الهجرة وأعلى هذه كلها ما نطق به الكتاب من رؤيا الفتح في قوله جل وعز « لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ » الآية (١) وقوله « وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ » الآية (٢) فدل ما ذكرناه من هذا وما تركناه من هذا الباب على ضعف هذا التأويل ونقول إن هذا الحديث صحيح وجملة ما فيه حق وليس كل ما يخفى علينا علته لا تلزمنا حجته وقد نرى أعداد ركعات الصلوات وأيام الصيام ورمي الجمار محصورة في حساب معلوم وليس يمكننا أن نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت هذه الأعداد دون ما هو أكثر منها أو أقل فلم يكن ذهابنا عن معرفة ذلك قادحا في موجب الاعتقاد منا في اللازم من أمرها ومعنى الحديث تحقيق أمر الرؤيا وأنها مما كان الأنبياء يثبتونه ويحققونه وأنها كانت جزءا

__________________

(١) الفتح : ٢٧.

(٢) الإسراء : ٦٠.


من أجزاء الذي كان يأتيهم والأنباء التي كان ينزل بها الوحي عليهم انتهى.

وقال بعض شراح البخاري الرؤيا جزء من النبوة أي في حق الأنبياء فإنهم يوحى إليهم في المنام وقيل الرؤيا تأتي على وفق النبوة لا أنها جزء باق منها وقيل هي من الأنباء أي أنباء صدق من الله لا كذب فيه ولا حرج في الأخذ بظاهره فإن أجزاء النبوة لا تكون نبوة فلا ينافي حينئذ ذهبت (١) النبوة ثم رؤيا الكافر قد يصدق لكن لا يكون جزءا منها إذ المراد الرؤيا الصالحة من المؤمن الصالح جزء منها.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم وجه الطبري اختلاف الروايات في عدد ما هو جزء منه باختلاف حال الرائي بالصلاح والفسق وقيل باعتبار الخفي والجلي من الرؤيا وقيل إن للمنامات شبها بما حصل له وميز به من النبوة بجزء من ستة وأربعين.

٤١ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن أبي جميلة عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رجل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قول الله عز وجل « لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » قال هي الرؤيا الحسنة يرى المؤمن فيبشر بها في دنياه (٢).

بيان : روي في شرح السنة بإسناده عن عبادة بن الصامت قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن قوله تعالى « لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » قال هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو يرى له ولا تنافي بينه وبين ما ورد في بعض الأخبار أنها هي البشارة عند الموت لاحتمال شمولها لهما.

٤٢ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن سعد بن أبي خلف عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الرؤيا على ثلاثة وجوه بشارة من الله للمؤمن وتحذير من الشيطان وأضغاث أحلام (٣).

__________________

(١) كذا.

(٢) روضة الكافي : ٩٠.

(٣) روضة الكافي : ٩٠.


بيان : لعل المراد بتحذير الشيطان أنه يحذر ويخوف عن ارتكاب الأعمال الصالحة أو المراد به الأحلام الهائلة المخوفة والظاهر أنه تصحيف تحزين لآية النجوى وقوله « لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا » ولرواية محمد بن الأشعث الآتية ولما رواه في شرح السنة بإسناده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان آخر الزمان لم يكد رؤيا المؤمن يكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا والرؤيا ثلاثة رؤيا بشرى من الله ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه ورؤيا من تحزين الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يكره فلا يحدث به وليقم وليصل والقيد في المنام ثبات في الدين والغل أكرهه.

ثم قال : قوله والقيد ثبات في الدين لأن القيد يمنع عن النهوض والتقلب وكذلك الورع يمنعه مما لا يوافق الدين وهذا إذا كان مقيدا في مسجد أو سبيل الخير وإن رآه مسافر فهو إقامة عن السفر وكذلك إذا رأى دابته مقيدة وإن رآه مريض أو محبوس طال مرضه وحبسه أو مكروب طال كربه والغل كفر لقوله تعالى « غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً » (١) وقد يكون بخلا قال تعالى « وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ » (٢) وقد يكون كفا عن المعاصي إذا كان في الرؤيا ما يدل على الصلاح بأن يرى ذلك لرجل صالح.

٤٣ ـ مجالس ابن الشيخ : عن والده عن أحمد بن محمد بن الصلت عن ابن عقدة عن علي بن محمد الحسني (٣) عن جعفر بن محمد بن عيسى عن عبيد الله بن علي عن الرضا عن علي عليه‌السلام قال : رؤيا الأنبياء وحي.

٤٤ ـ ومنه : عن والده عن أبي القاسم بن شبل عن ظفر بن حمدون عن

__________________

(١) يس : ٨.

(٢) الإسراء : ٢٩.

(٣) في بعض النسخ « الحسيني » والظاهر ان الصواب ما أثبتناه موافقا لبعض النسخ المخطوطة ، وهو علي بن محمد الحسنى الخجندى نزيل الرى ، ولم نجد ذكرا من « الحسيني » في كتب الرجال.


إبراهيم بن إسحاق عن أحمد بن محمد بن عيسى ومحمد بن خالد عن علي بن النعمان عن يزيد بن إسحاق شعر عن هارون بن حمزة قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن منا لمن ينكت في قلبه وإن منا لمن يؤتى في منامه وإن منا لمن يسمع الصوت مثل صوت السلسلة في الطشت (١) وإن منا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرئيل وميكائيل ع.

٤٥ ـ المكارم : قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كثير الرؤيا ولا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

٤٦ ـ مجالس الصدوق : عن محمد بن عمر البغدادي عن الحسن بن عثمان عن إبراهيم بن عبيد الله بن موسى عن مريسة بنت موسى بن يونس عن صفية بنت يونس عن بهجة بنت الحارث عن خالها عبد الله بن منصور قال : سألت جعفر بن محمد عليهما‌السلام عن مقتل الحسين بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال حدثني أبي عن أبيه وساق الحديث الطويل في قصة كربلاء وسفره صلوات الله عليه إلى العراق إلى أن قال فهم بالخروج من أرض الحجاز إلى أرض العراق فلما أقبل الليل راح إلى مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليودع القبر فقام يصلي فأطال فنعس وهو ساجد فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في منامه فأخذ الحسين عليه‌السلام وضمه إلى صدره وجعل يقبل عينيه ويقول بأبي أنت كأني أراك مرملا بدمك بين عصابة من هذه الأمة يرجون شفاعتي ما لهم عند الله من خلاق يا بني إنك قادم على أبيك وأمك وأخيك وهم مشتاقون إليك وإن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة فانتبه الحسين عليه‌السلام من نومه باكيا فأتى أهل بيته فأخبرهم بالرؤيا وودعهم وساق إلى أن قال ثم سار حتى نزل العذيب فقال فيها قائلة الظهيرة ثم انتبه من نومه باكيا فقال له ابنه ما يبكيك يا أبه فقال يا بني إنها ساعة لا تكذب الرؤيا فيها وإنه عرض لي في منامي عارض فقال تسرعون السير والمنايا تسير بكم إلى الجنة الحديث.

٤٧ ـ ثواب الأعمال : عن محمد بن الحسن عن محمد بن الحسن الصفار عن

__________________

(١) في بعض النسخ « الطست » بالمهملة.


يعقوب بن يزيد عن محمد بن الحسن المثنى عن هشام بن أحمد وعبد الله بن مسكان ومحمد بن مروان عن مروان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ثلاثة يعذبون يوم القيامة من صور صورة من الحيوان حتى ينفخ فيها وليس بنافخ فيها والذي يكذب في منامه يعذب حتى يعقد بين شعيرتين وليس بعاقدهما والمستمع من قوم وهم له كارهون يصب في أذنيه الآنك وهو الأسرب.

٤٨ ـ الكافي : عن العدة عن أحمد بن محمد بن خالد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن حماد بن عثمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن رجلا كان على أميال من المدينة فرأى في منامه فقيل له انطلق فصل على أبي جعفر فإن الملائكة تغسله في البقيع فجاء الرجل فوجد أبا جعفر عليه‌السلام قد توفي (١).

٤٩ ـ توحيد المفضل : فكر يا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها بكاذبها فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة بل كانت فضلا لا معنى له فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها أو مضرة يتحذر (٢) منها وتكذب كثيرا لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد.

٥٠ ـ مناقب الخوارزمي : قال : لما كان وقت السحر في الليلة التي حوصر فيها الحسين عليه‌السلام خفق برأسه خفقة ثم استيقظ فقال رأيت في منامي الساعة كأن كلابا قد شدت علي لتنهشني وفيها كلب أبقع (٣) رأيته أشدها علي وأظن أن الذي يتولى قتلي رجل أبرص من بين هؤلاء القوم الخبر.

٥١ ـ دعوات الراوندي : حدث أبو عمر القاضي أن أبا يوسف اعتل فقال ليلة رأيت قائلا يقول كل لا واشرب لا فإنك تبرأ فأرسلنا إلى أبي علي الخياط فقال ما سمعت بأعجب من هذا والمنامات تعبر من القرآن والحديث فأنظروني حتى

__________________

(١) الروضة : ١٨٣.

(٢) يتحرز ( خ ).

(٣) أي فيه سواد وبياض.


أفكر فلما كان من الغد جاءنا فقال مررت البارحة على هذه الآية « شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ » فنظرت إلى لا يتردد فيها وهي شجرة الزيتون اسقوه زيتا وأطعموه زيتا قال ففعلنا هذا فكان سبب عافيته.

٥٢ ـ وعن سمرة (١) بن جندب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى منكم أحد رؤيا فيقص عليه من شاء الله أن يقص وإنه قال لنا ذات غداة إنه أتاني الليلة آتيان فقالا لي انطلق فانطلقت معهم فأخرجاني إلى الأرض المقدسة فأتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة فإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ (٢) رأسه فيتدهده الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى قلت لهما سبحان الله ما هذان قالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل في الجانب الأول فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى قلت سبحان الله ما هذان قالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا على مثل التنور فإذا فيه لغط (٣) وأصوات فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا ـ (٤) قلت لهما ما هؤلاء قالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا على

__________________

(١) سمرة ـ بفتح السين المهملة وضم الميم ـ ابن جندب بن هلال الفزارى صاحب القضية المعروفة مع الأنصاري ، كان واليا على البصرة من قبل زياد بن أبيه ، فقتل في أيام امارته ـ وهي ستة أشهر ـ ثمانية آلاف رجل من الشيعة ، وعن ابن أبي الحديد انه عاش حتى حضر مقتل الحسين عليه‌السلام وكان من شرطة ابن زياد ، وكان أيام مسير الحسين عليه‌السلام إلى العراق يحرض الناس على الخروج إلى قتاله.

(٢) أي يشدخ رأسه ويكسره.

(٣) اللغط ـ بفتحتين ـ : أصوات مبهمة لا تفهم.

(٤) أي أحدثوا ضوضاء ، وهو أصوات الناس في الحرب والازدحام.


نهر أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شاطئ النهر رجل عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح ثم يأتي الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر (١) له فاه فيلقمه حجرا فينطلق فيسبح ثم يرجع إليه وكلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجرا قلت لهما ما هذان قالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء وإذا هو عنده نار له يحشها ويسعى حولها قلت لهما ما هذا فقالا لي انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة معتمة فيها من كل نور الربيع وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان ما رأيتهم قط قلت لهما ما هؤلاء قالا لي انطلق فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن قالا لي ارق فيها فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر فإذا نهر معترض يجري كان ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا فذهب السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهناك منزلك فسما بصري صعدا فإذا قصر مثل الربابة البيضاء قالا لي هذا منزلك قلت لهما بارك الله فيكما ذراني أدخله قالا أما الآن فلا وأنت داخله قلت لهما فإني رأيت منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قالا لي أما إنا سنخبرك أما الرجل الأول الذي أتيت عليه فيثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة يفعل به إلى يوم القيامة وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل التنور فإنهم الزناة والزواني وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا وأما الرجل الكريه المرآة الذي عنده النار يحشها

__________________

(١) فغرفاه : فتحه.


فإنه مالك خازن النار وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه‌السلام وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم « خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً » تجاوز الله عنهم وأنا جبرئيل وهذا ميكائيل.

تبيين : أقول هذه الرواية رواها الخطابي في كتاب أعلام الدين وزاد بعد قوله مات على الفطرة قال فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولاد المشركين وقال الجزري في النهاية الثلغ الشدخ وهو ضربك الشيء الرطب بالشيء اليابس حتى يتشدخ ومنه حديث الرؤيا وإذا هو يهوي بالصخرة فيثلغ بها رأسه وقال في حديث الرؤيا فيتدهدى الحجر فيتبعه فيأخذه أي يتدحرج يقال دهديت الحجر ودهدهته وقال الكلوب بالتشديد حديدة معوجة الرأس وقال فيشرشر شدقه أي يشقه ويقطعه والشدق طرف الفم وقال اللغط صوت وضجة لا يفهم معناه وقال ضوضوا أي ضجوا واستغاثوا والضوضاة أصوات الناس وغلبتهم (١) وهي مصدر وقال فيفغر فاه أي يفتحه وقال كريه المرآة أي قبيح المنظر يقال رجل حسن المنظر والمرآة وحسن في مرآة العين وهي مفعلة من الرؤية وقال يحشها أي يوقدها يقال حششت النار أحشها إذا ألهبتها وأضرمتها وقال على روضة معتمة أي وافية النبات طويلة انتهى.

وقال الخطابي : يعني كافية النبات والعميم الطويل من النبات كقول الأعشى مؤزر بعميم النبت مكتهل ويقال جارية عميمة أي طويلة القد وفي النهاية المحض في اللغة اللبن الخالص غير مشوب بشيء وقال الربابة بالفتح السحابة التي ركب بعضها بعضا وقال الخطابي وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأولاد المشركين فظاهره أنه ألحقهم بأولاد المسلمين في حكم الآخرة وإن كان قد حكم بحكم آبائهم في الدنيا وذلك أنه سئل عن ذراري المشركين فقال هم من آبائهم وللناس فيهم اختلاف

__________________

(١) كذا في نسخ الكتاب ، والصواب « جلبتهم » ، والجلبة : الضجة واختلاط أصوات الناس.


وعامة أهل السنة على أن حكمهم حكم آبائهم في الكفر وقد ذهبت طائفة منهم إلى أنهم في الآخرة من أهل الجنة وقد رويت آثار عن نفر من الصحابة واحتجوا لهذه المقالة بحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه واحتجوا بقول الله عزوجل « وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ » (١) واحتجوا بقول الله عز وجل « يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ » (٢) قال بعض أهل التفسير إنهم أطفال الكفار واحتجوا لذلك بأن اسم الولدان يشتق من الولادة ولا ولادة في الجنة فكانوا هم الذين نالتهم الولادة في الدنيا وروي عن بعضهم أنهم إن كانوا سبيا وخدما للمسلمين في الدنيا فهم كذلك خدم لهم في الجنة.

٥٣ ـ تفسير علي بن إبراهيم : في قوله تعالى « إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ » حدثني أبي عن محمد بن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال كان سبب نزول هذه الآية أن فاطمة عليه‌السلام رأت في منامها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هم أن يخرج هو وفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام من المدينة فخرجوا حتى جاوزوا من حيطان المدينة فتعرض لهم طريقان فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات اليمين حتى انتهى بهم إلى موضع فيه نخل وماء فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاة كبراء وهي التي في إحدى أذنيها نقط بيض فأمر بذبحها فلما أكلوا ماتوا في مكانهم فانتبهت فاطمة باكية ذعرة فلم تخبر رسول الله بذلك فلما أصبحت جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بحمار فأركب عليه فاطمة عليها‌السلام وأمر أن يخرج أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم‌السلام من المدينة كما رأت فاطمة عليها‌السلام في نومها فلما خرجوا من حيطان المدينة عرض له (٣) طريقان فأخذ رسول الله ذات اليمين كما رأت فاطمة عليها‌السلام حتى انتهوا إلى موضع فيه نخل وماء فاشترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شاة كبراء كما رأت فاطمة فأمر بذبحها فذبحت وشويت فلما أرادوا أكلها قامت فاطمة وتنحت ناحية منهم تبكي مخافة أن يموتوا فطلبها

__________________

(١) التكوير : ٩ ـ ١٠.

(٢) الواقعة : ١٧.

(٣) في المصدر : لهم.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى وقع (١) عليها وهي تبكي فقال ما شأنك يا بنية قالت يا رسول الله إني رأيت كذا وكذا في نومي وقد فعلت أنت كما (٢) رأيته فتنحيت عنكم فلا أراكم (٣) تموتون فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلى ركعتين ثم ناجى ربه فنزل عليه جبرئيل فقال يا محمد هذا شيطان يقول (٤) [ يقال ] له الدهار (٥) وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا ويؤذي المؤمنين في نومهم ما يغتمون به فأمر جبرئيل فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له أنت أريت فاطمة هذه الرؤيا فقال نعم يا محمد فبزق (٦) عليه ثلاث بزقات فشجه في ثلاث مواضع ثم قال جبرئيل لمحمد قل يا محمد إذا رأيت في منامك شيئا تكرهه أو رأى أحد من المؤمنين فليقل أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياؤه (٧) المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت ومن (٨) رؤياي وتقرأ الحمد والمعوذتين وقل هو الله أحد وتتفل عن يسارك ثلاث تفلات فإنه لا يضره ما رأى (٩) وأنزل الله على رسوله « إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ » الآية (١٠).

بيان : ما رأيت الكبراء بهذا المعنى فيما عندنا من كتب اللغة وتعرض الشيطان لفاطمة عليها‌السلام وكون منامها المضاهي للوحي شيطانيا وإن كان بعيدا لكن باعتبار عدم بقاء الشبهة وزوالها سريعا وترتب المعجز من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك والمنفعة المستمرة للأمة ببركتها يقل الاستبعاد والحديث مشهور ومتكرر في الأصول والله يعلم.

٥٤ ـ البصائر : عن إبراهيم بن إسحاق عن محمد بن فلان الواقفي (١١) قال : كان لي ابن عم يقال له الحسن بن عبد الله وكان زاهدا وكان من أعبد أهل زمانه وكان يلقاه السلطان وربما استقبل السلطان بالكلام الصعب يعظه ويأمر بالمعروف

__________________

(١) وقف ( خ ).

(٢) في المصدر : كل ما رأيته.

(٣) فيه : لان لا أراكم.

(٤) كذا.

(٥) الزها ( خ ).

(٦) في المصدر : فبصق عليه ثلاث بصقات.

(٧) وأنبياء الله ( خ ).

(٨) فيه : من رؤيا ...

(٩) فيه فأنزل ...

(١٠) تفسير القمي : ٦٦٨ ـ ٦٦٩. (١١) في بعض النسخ : الرافقى.


وكان السلطان يحتمل له ذلك لصلاحه فلم يزل هذه حاله حتى كان يوما دخل أبو الحسن موسى عليه‌السلام المسجد فرآه فدنا إليه ثم قال له يا با علي ما أحب إلي ما أنت فيه وأسرني بك إلا أنه ليست بك معرفة فاذهب فاطلب المعرفة قال جعلت فداك وما المعرفة قال له اذهب وتفقه واطلب الحديث قال عمن قال عن مالك بن أنس وعن فقهاء أهل المدينة ثم اعرض الحديث علي قال فذهب فتكلم معهم ثم جاءه فقرأه عليه فأسقطه كله ثم قال له اذهب واطلب المعرفة وكان الرجل معنيا بدينه فلم يزل يترصد أبا الحسن عليه‌السلام حتى خرج إلى ضيعة له فتبعه ولحقه في الطريق فقال له جعلت فداك إني أحتج عليك بين يدي الله فدلني على المعرفة قال فأخبره بأمير المؤمنين وقال له كان أمير المؤمنين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بأمر أبي بكر وعمر فقبل منه ثم قال فمن كان بعد أمير المؤمنين قال الحسن ثم الحسين حتى انتهى إلى نفسه عليه‌السلام ثم سكت قال جعلت فداك فمن هو اليوم قال إن أخبرتك تقبل قال بلى جعلت فداك فقال أنا هو قال جعلت فداك فشيء أستدل به قال اذهب إلى تلك الشجرة وأشار إلى أم غيلان فقل لها يقول لك موسى بن جعفر أقبلي قال فأتيتها قال فرأيتها والله تجب الأرض جبوبا حتى وقفت بين يديه ثم أشار إليها فرجعت قال فأقر به ثم لزم السكوت فكان لا يراه أحد يتكلم بعد ذلك وكان من قبل ذلك يرى الرؤيا الحسنة وترى له ثم انقطعت عنه الرؤيا فرأى ليلة أبا عبد الله عليه‌السلام فيما يرى النائم فشكا إليه انقطاع الرؤيا فقال لا تغتم فإن المؤمن إذا رسخ في الإيمان رفع عنه الرؤيا.

بيان : الجب القطع.

٥٥ ـ الكافي : عن بعض أصحابه عن علي بن العباس عن الحسن بن عبد الرحمن عن أبي الحسن الأول (١) عليه‌السلام قال : إن الأحلام لم تكن في ما مضى في أول الخلق وإنما حدثت فقلت وما العلة في ذلك فقال إن الله عز ذكره بعث رسولا إلى أهل زمانه فدعاهم إلى عبادة الله وطاعته فقالوا إن فعلنا ذلك فما لنا

__________________

(١) ليس في المصدر لفظة « الأول ».


فوالله ما أنت بأكثرنا مالا ولا بأعزنا عشيرة فقال إن أطعتموني أدخلكم الله الجنة وإن عصيتموني أدخلكم الله النار فقالوا وما الجنة وما النار فوصف لهم ذلك فقالوا متى نصير إلى ذلك فقال إذا متم فقالوا لقد رأينا أمواتنا صاروا عظاما ورفاتا فازدادوا له تكذيبا وبه استخفافا فأحدث الله عز وجل فيهم الأحلام فأتوه فأخبروه بما رأوا وما أنكروا من ذلك فقال إن الله عز ذكره أراد أن يحتج عليكم بهذا هكذا تكون أرواحكم إذا متم وإن بليت أبدانكم تصير الأرواح إلى عقاب حتى تبعث الأبدان (١).

بيان : الرفات كل ما دق وكسر وما أنكروا من ذلك أي استغرابهم من ذلك أو ما أصابوا من المنكر والعذاب في النوم أو ما أنكروا أولا من عذاب البرزخ والأول أظهر هكذا تكون أرواحكم كما أن في النوم تتألم أرواحكم بما لم يظهر أثره على أجسادكم ولا يطلع من ينظر إليكم عليه كذلك نعيم البرزخ وعذابه وقد مر الكلام فيه في كتاب المعاد.

٥٦ ـ الدرة الباهرة : قال أبو محمد العسكري عليه‌السلام من (٢) أكثر المنام رأى الأحلام.

بيان : قال مؤلفه قدس‌سره الظاهر أنه عليه‌السلام يعني أن طلب الدنيا كالنوم وما يصير منها كالحلم انتهى.

وأقول يتحمل أن يكون المعنى أن كثرة الغفلة عن ذكر الله وعن الموت وأمور الآخرة موجبة للأماني الباطلة والخيالات الفاسدة التي هي كأضغاث الأحلام ولا يلتفت إليها الكرام مع أن الحمل على ظاهره أظهر وأصوب بحمل الأحلام على الفاسدة منها كما ورد أن الحلم من الشيطان.

٥٧ ـ كتاب الغايات : لجعفر بن أحمد القمي ، قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خياركم أولو النهى قيل يا رسول الله ومن أولو النهى فقال أولو النهى أولو الأحلام الصادقة.

__________________

(١) روضة الكافي : ٩٠.

(٢) في بعض النسخ « فى ».


٥٨ ـ كتاب التبصرة لعلي بن بابويه ، عن سهل بن أحمد عن محمد بن محمد بن الأشعث عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤيا ثلاثة بشرى من الله وتحزين من الشيطان والذي يحدث به الإنسان نفسه فيراه في منامه وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤيا من الله والحلم من الشيطان.

٥٩ ـ كتاب المؤمن للحسين بن سعيد ، بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : رأي المؤمن ورؤياه جزء من سبعين جزءا من النبوة ومنهم من يعطى على الثلث (١).

بيان : ومنهم من يعطى لعل المعنى أن بعض الكمل من المؤمنين يكون رأيه ورؤياه ثلثا من أجزاء النبوة.

٦٠ ـ الدر المنثور : من عدة كتب بأسانيد عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى « لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ » قال هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له فهي بشراه في الحياة الدنيا وبشراه في الآخرة الجنة (٢).

وروي مثله بأسانيد عن عبادة بن الصامت وأبي هريرة وجابر بن عبد الله وغيرهم.

٦١ ـ وعن عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى « لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » قال الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة فمن رأى ذلك فليخبر بها وادا ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه فلينفث عن يساره ثلاثا ولا يخبر بها أحدا (٣).

٦٢ ـ وعن أبي جعفر عليه‌السلام عن جابر بن عبد الله قال : أتى رجل من أهل البادية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله أخبرني عن قول الله « الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ » فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أما قوله « لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه وأما قوله « وَفِي

__________________

(١) يحتمل أن يقرأ « الثلاث » وكذا في بيان المؤلف ـ ره.

(٢) الدر المنثور : ج ٣ ، ص ٣١١.

(٣) الدر المنثور : ج ٣ ، ص ٣١١.


الْآخِرَةِ » فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك ولمن يحملك إلى قبرك (١).

٦٣ ـ وعن ابن عباس « لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » قال هي الرؤيا الحسنة يراها المسلم لنفسه أو لبعض إخوانه (٢).

٦٤ ـ وعن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ألا إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له (٣).

٦٥ ـ وعن أبي الطفيل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا نبوة بعدي إلا المبشرات قيل يا رسول الله وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة (٤).

٦٦ ـ وعن أبي قتادة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤيا الصالحة بشرى من الله وهي جزء من أجزاء النبوة (٥).

٦٧ ـ وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة والرؤيا ثلاث فالرؤيا الصالحة بشرى من الله والرؤيا من تحزين الشيطان والرؤيا مما يحدث الرجل نفسه وإذا رأى أحدكم ما يكره فليقم وليتفل ولا يحدث به الناس وأحب القيد في النوم وأكره الغل القيد ثبات في الدين فإن رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصها إن شاء وإن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم يصلي (٦).

٦٨ ـ وعن عبادة بن الصامت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (٧) وعن أنس مثله.

٦٩ ـ وعن أبي سعيد الخدري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غيره مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره (٨).

٧٠ ـ وعن أبي سعيد أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة (٩).

__________________

(١ ـ ٩) الدر المنثور : ج ٣ ، ص ٣١٢.


٧١ ـ وعن عبادة بن الصامت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله تعالى : « لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا » قال هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له وهو كلام يكلم به ربك عبده في المنام (١).

٧٢ ـ وعن أبي قتادة قال : الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات ثم ليستعذ بالله من شرها فإنها لا تضره (٢).

٧٣ ـ وعن عوف بن مالك قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الرؤيا على ثلاثة منها تخويف من الشيطان ليحزن به ابن آدم ومنها الأمر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (٣).

٧٤ ـ وعن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال : العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فيكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئا فقال علي بن أبي طالب عليه‌السلام أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين إن الله يقول « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » فالله يتوفى الأنفس كلها فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب عمر من قوله (٤).

بيان : فلينفث أي فليتفل تفلا خفيفا وإن لم يخرج معه شيء من البزاق.

٧٥ ـ الكافي : عن العدة عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه عن النضر بن سويد عن درست بن أبي منصور عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك الرؤيا الصادقة والكاذبة مخرجهما من موضع واحد قال صدقت أما الكاذبة المختلفة فإن الرجل يراها في أول ليلة في سلطان المردة الفسقة وإنما هي شيء

__________________

(١) المصدر : ج ٣ ، ص ٣١٣.

(٢) المصدر : ج ٣ ، ص ٣١٣.

(٣) الدر المنثور : ج ٣ ، ص ٣١٣.

(٤) المصدر : ج ٥ : ص ٣٢٩.


يخيل إلى الرجل وهي كاذبة مخالفة لا خير فيها وأما الصادقة إذا رآها بعد الثلثين من الليل مع حلول الملائكة وذلك قبل السحر فهي صادقة لا تختلف (١) إن شاء الله إلا أن يكون جنبا أو يكون (٢) على غير طهر أو لم يذكر الله عز وجل حقيقة ذكره فإنها تختلف وتبطئ على صاحبها (٣).

بيان : قوله مخرجهما من موضع واحد لعل المراد أن ارتسامهما في محل واحد أو أن علتهما معا الارتسام لكن علة الارتسام فيهما مختلفة وقيل يعني كليهما صورة علمية يخلقها الله تعالى في قلب عباده بأسباب روحانية أو شيطانية أو طبيعية قوله عليه‌السلام في سلطان المردة الفسقة أي في أول الليل يستولي على الإنسان شهوات ما رآه في النهار وكثرت في ذهنه الصور الخيالية واختلطت بعضها ببعض وبسبب كثرة مزاولة الأمور الدنيوية بعد عن ربه وغلبت عليه القوى النفسانية والطبيعية فبسبب هذه الأمور تبعد عنه ملائكة الرحمن وتستولي عليه جنود الشيطان فإذا كان وقت السحر سكنت قواه وزالت عنه ما اعتراه من الخيالات الشهوانية فأقبل عليه مولاه بالفضل والإحسان وأرسل عليه ملائكته ليدفعوا عنه أحزاب الشيطان فلذا أمره الله تعالى في ذلك الوقت بعبادته ومناجاته وقال « إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً » (٤) فما يراه في الحالة الأولى فهو من التسويلات والتخييلات الشيطانية ومن الوساوس النفسانية وما يراه في الحالة الثانية فهو من الإفاضات الرحمانية بتوسط الملائكة الروحانية ثم ذكر عليه‌السلام علة تخلف بعض الرؤيا مع كونها في السحر فقال إنه إما بسبب جنابة أو حدث أو غفلة عن ذكر الله تعالى فإنها توجب البعد عن الله واستيلاء الشيطان.

وقال في شرح السنة : قال أرباب التعبير : رؤيا الليل أقوى من رؤيا النهارو

__________________

(١) في المصدر : لا تخلف.

(٢) فيه : أو ينام على غير طهور ولم يذكر.

(٣) روضة الكافي : ٩١.

(٤) المزمل : ٦.


أصدق ساعات الرؤيا وقت السحر وروي عن أبي سعيد قال أصدق الرؤيا بالأسحار.

وقال ابن حجر في فتح الباري ذكر الدينوري أن رؤيا أول الليل يبطئ تأويلها ومن النصف الثاني يسرع وإن أسرعها تأويلا وقت السحر ولا سيما عند طلوع الفجر وعن جعفر الصادق عليه‌السلام أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة.

تفصيل وتبيين

لما كان أمر الرؤيا وصدقها وكذبها مما اختلفت فيه أقاويل الناس (١) فلا بأس

__________________

(١) مسألة الرؤيا من غوامض المسائل النفسية ، وقد بقيت بعد جهات منها في قيد الإبهام. ولنبدأ بالاشارة إلى جوانب بينة منها لعلها تساعد على توضيح بعض جوانبها الأخرى. فنقول : لا ريب ان النائم عند ما يرى شيئا من المنامات تحصل له إدراكات من غير طرق الحواس الظاهرة وتسمية تلك الادراكات بالخيالات لا تخرجها عن واقعها ، فان الخيال حتى الفاسد الباطل منه له حصول في الذهن ووجود علمى للنفس ، وإنما فساده وبطلانه من ناحية عدم انطباقه على الخارج. ولا ريب في حكاية كثير من المنامات عن وقوع أشياء في الخارج في ما مضى أو ما يأتي مع عدم سبيل للرائى حتى في حال يقظته إلى الاطلاع على شيء منها : وهي أكثر من ان يمكن حملها على الصدقة والاتفاق ، وخاصة منامات الأنبياء والأولياء المشتملة على الوحى والالهام كما أنه لا ريب في ان كثيرا منها تمثلات ذهنية لاميال وآمال وتركيبات وتحليلات لما اختزن من الصور في خزانة الخيال. وهذه النوع الأخير من الرؤيا ـ وإن انقسم إلى اقسام مختلفة ـ يرجع إلى بروز ما كمن في النفس إلى ساحة الحواس الباطنة وادراك النفس لها بتوسيط تلك الحواس مرة اخرى. ومعرفة علل هذا الافاعيل النفسية ومدى ارتباطها بالحالات البدنية والروحية رهينة لتجارب كثيرة لا يزال علماء النفس مشتغلين بها. اما النوع الأول منه فلا يمكن تعليله بأمثال تلك العلل فحسب كما لا يخفى. وبعبارة اخرى حصول هذا النوع من الادراكات للنفس ليس معلولا لحالات فسيولوجية أو ظاهرات بسيكولوجية معينة. فأى حاله بدنية أو نفسية توجب العلم بوجود كنز على مقدار معين في مكان خاص أو بحدوث حادثة مشخصة في زمان خاص في المستقبل؟! وما هو الذي يمكن أن يجعل وجه الربط بين الظاهرات الجسمية والروحية في الإنسان وبين العلم بقضايا عازبة عن ذهنه بموضوعاتها ومحمولاتها؟! فهذه المعلومات ليست مما يستقل به النفس من الإدراك بصرف النظر عما هو خارج عن ذاتها رأسا والغير الذي يمكن أن يشارك النفس في حصول هذه الادراكات لها بوجه.


أن نذكر هاهنا بعض أقوال المتكلمين والحكماء ثم نبين ما ظهر لنا فيه من أخبار أئمة الأنام عليهم‌السلام.

فأما الحكماء فقد بنوا ذلك على ما أسسوه من انطباع صور الجزئيات في النفوس المنطبعة الفلكية وصور الكليات في العقول المجردة وقالوا إن النفس في حالة النوم قد تتصل بتلك المبادئ العالية فتحصل لها بعض العلوم الحقة الواقعة فهذه هي الرؤيا الصادقة وقد يركب المتخيلة بعض الصور المخزونة في الخيال ببعض فهذه هي الرؤيا الكاذبة وقال بعضهم إن للنفوس الإنسانية اطلاعا على الغيب في حال المنام وليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك من نفسه تجارب أوجبته التصديق وليس ذلك بسبب الفكر فإن الفكر في حال اليقظة التي هو فيها أمكن يقصر عن تحصيل مثل ذلك فكيف في حال النوم بل بسبب أن النفوس الإنسانية لها مناسبة الجنسية إلى المبادئ العالية المنتقشة بجميع ما كان وما سيكون وما هو كائن في الحال ولها أن تتصل بها اتصالا روحانيا وأن تنتقش بما هو مرتسم فيها لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها عن الاشتغال بغير تلك الأفاعيل وليس لنا سبيل إلى إزالة عوائق النفس بالكلية عن الانتقاش بما في المبادئ العالية لأن أحد العائقين هو اشتغال النفس بالبدن ولا يمكن لنا إزالة هذا العائق بالكلية ما دام البدن صالحا لتدبيرها إلا أنه قد يسكن

__________________

إما أن يكون أمرا عقليا محضا ، أو مثاليا برزخيا ، ولا يكون أمرا ماديا البتة ، للقطع بعدم حصول ارتباط مادى بين الإنسان وبين موجود مادى آخر مما يقع تحت الحواس في حال النوم بحيث يمكن إسناد تلك العلوم إليه بوجه. فعلى فرض جعل المشارك للنفس امرا عقليا يصير الرؤيا اتصالا للنفس بموجود عقلي في المنام وتمثل ما تستفيد منه حسب استعدادها بصور جزئية في عالمها المثالى. وان شئت قلت : فى ساحة الحواس الباطنة ولوح الذهن وعلى فرض جعل المشارك أمرا مثاليا بصير الرؤيا إشرافا للنفس على عالم المثال ومشاهدة أمور هناك مباشرة. وكلاهما مما يصح فرضه عقلا ، ولا ينفيه دليل شرعى ، بل يوجد في الاخبار ما يؤيدهما بل يدل عليهما ، فعليك باجادة التدبر فيها. وسيأتي في المتن أقوال عدة من العلماء والباحثين تعرف مواقع النظر فيها مما تلونا عليك ، فلا نتصدى لنقدها بالتفصيل حذرا من التطويل.


أحد الشاغلين في حالة النوم فإن الروح ينتشر إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الانتشار ويحصل الإدراك بها وهذه الحالة هي اليقظة فتشتغل النفس بتلك الإدراكات فإذا انخنس الروح إلى الباطن تعطلت هذه الحواس وهذه الحالة هي النوم وبتعطلها يخف إحدى شواغل النفس عن الاتصال بالمبادئ العالية والانتقاش ببعض ما فيها فيتصل حينئذ بتلك المبادئ اتصالا روحانيا ويرتسم في النفس بعض ما انتقش في تلك المبادئ مما استعدت هي لأن تكون منتقشة به كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض والقوة المتخيلة جبلت محاكيه لما يرد عليها فتحاكي تلك المعاني المنتقشة في النفس بصور جزئية مناسبة لها ثم تصير تلك الصور الجزئية في الحس المشترك فتصير مشاهدة وهذه هي الرؤيا الصادقة.

ثم إن الصور التي تركبها القوة المتخيلة إن كانت شديدة المناسبة لتلك المعاني المنطبعة في النفس حتى لا يكون بين المعاني التي أدركتها النفس وبين الصور التي ركبتها القوة المتخيلة تفاوت إلا في الكلية والجزئية كانت الرؤيا غنية عن التعبير وإن لم تكن شديدة المناسبة إلا أنه مع ذلك تكون بينهما مناسبة بوجه ما كانت الرؤيا محتاجة إلى التعبير وهو أن يرجع من الصورة التي في الخيال إلى المعنى الذي صورته المتخيلة بتلك الصورة وأما إذا لم تكن بين المعنى الذي أدركته النفس وبين الصورة التي ركبتها القوة المتخيلة مناسبة أصلا لكثرة انتقالات المتخيلة من صورة إلى صورة لا تناسب المعنى الذي أدركته النفس أصلا فهذه الرؤيا من قبيل أضغاث الأحلام ولهذا قالوا لا اعتماد على رؤيا الشاعر والكاذب لأن قوتهما المتخيلة قد تعودت الانتقالات الكاذبة الباطلة انتهى.

ولا يخفى أن هذا رجم بالغيب وتقول بالظن والريب ولم يستند إلى دليل وبرهان ولا إلى مشاهدة وعيان ولا إلى وحي إلهي مع ابتنائه على إثبات العقول المجردة والنفوس الفلكية المنطبعة وهما مما نفتهما الشريعة المقدسة كما تقرر في محله.

وقال الرازي في المطالب العالية في بيان طريقة الفلاسفة في كيفية صدور


المعجزات والكرامات عن الأنبياء والأولياء قالوا قد عرفت أن انطباع الصور في الحس المشترك على وجهين أحدهما أن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الموجودة في الخارج وأدتها إلى الحس المشترك فحينئذ تنطبع في الحس المشترك وتصير مشاهدة له والثاني أن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور بعضها بالبعض إذا ركبت صورة فإن تلك الصورة قد تنطبع في الحس المشترك ومتى حصل الانطباع وجب أن تصير مشاهدة وذلك لأن في القسم الأول إنما صارت تلك الصورة مشاهدة لأجل أن تلك الصور انطبعت في الحس المشترك لا لأجل أنها وردت عليه من الخارج وإذا كان كذلك وجب أيضا في الصور المنحدرة عليه من جانب المتخيلة أن تصير مشاهدة ومثال الحس المشترك المرآة فإن كل صورة تنطبع فيها من أي جانب كان صارت مشاهدة فكذلك الصور المنطبعة في الحس المشترك إذا انطبعت فيه من أي جانب كان وجب أن تصير محسوسة.

إذا عرفت هذا فنقول الصور التي تشاهدها الأبرار والكهنة والنائمون والممرورون ليست موجودة في الخارج فإنها لو كانت موجودة في الخارج لوجب أن يراها كل من كان سليم الحس بناء على أنه متى كانت الحاسة سليمة وكان الشيء الحاضر بحيث تصح رؤيته ولم يحصل القرب القريب والبعد البعيد واللطافة والصغر وحصلت المقابلة فعند حضور هذه الشرائط يكون الإدراك والإبصار واجبا إذ لو جاز أن لا يحصل الإدراك عند حضور هذه الشرائط لجاز أن يصير عندنا جبال عظيمة وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها ومعلوم أن تجويزه يوجب الجهالات العظيمة فثبت بهذا أن تلك الصور غير موجودة في الخارج فيجب الجزم بأن ورودها على الحس المشترك إنما كان من الداخل وهو أن القوة المتخيلة ركبت تلك الصور فانحدرت إلى الحس المشترك فصارت مرئية وقد كان الواجب أن تحصل هذه الحاصلة أبدا إلا أن العائق عنه أمران الأول أن الحس المشترك إذا حصلت فيه الصور المأخوذة من الخارج لم يتسع للصور التي يركبها المتخيلة فحينئذ تصير الصور التي يركبها المتخيلة بحيث لا يمكن انطباعها في الحس المشترك والثاني أن القوة


العاقلة تكون مسلطة على القوة المتخيلة فيمنعها عن تركيب تلك الصور.

إذا عرفت هذا فنقول إنه إذا انتفى الشاغلان معا أو أحدهما فإنه يحصل ذلك التلويح وذاك التشبيح أما في وقت النوم فقد زال أحد الشاغلين وهو الحس الظاهر فلا ينتقل من الحواس الظاهرة إلى الحس المشترك شيء من الصور فيبقى لوح الحس المشترك خاليا عن النقوش الخارجية فيستعد لقبول الصور التي تركبها المتخيلة فتنحدر تلك الصورة من المتخيلة إلى لوح الحس المشترك فتصير محسوسة.

وأما في وقت المرض فإن النفس تصير مشغولة بتدبير البدن فلا تتفرغ لمنع القوة المتخيلة من تركيب تلك الصور فحينئذ تقوى القوة المتخيلة على عملها وإذا قويت على هذا العمل عصت الحس المشترك عن قبول الصور الخارجية فوردت عليه هذه الصور فتصير مشاهدة محسوسة والصور الهائلة التي تصير مشاهدة في حالة الخوف فهي من هذا الباب فإن الخوف المستولي على النفس يصدها عن تأديب المتخيلة فلا جرم تقدر المتخيلة على رسم صورها في الحس المشترك كصورة الغول وغيرها وكذلك قد يستولي على النفوس الضعيفة العقل قوى أخرى كشهوة شيء فتشتد تلك الشهوة حتى تغلب العقل فالمتخيلة تركب صورة ذلك المشتهى وتنطبع تلك الصورة في لوح الحس المشترك فتصير محسوسة.

إذا عرفت هذا فنقول إنه يتفرع عليه أشياء كثيرة :

الفرع الأول في سبب المنامات الصادقة والكاذبة اعلم أن الصور التي تركبها المتخيلة قد تكون كاذبة وقد تكون صادقة أما الكاذبة فوقوعها على ثلاثة أوجه الأول أن الإنسان إذا أحس بشيء وبقيت صورة ذلك المحسوس في خزانة الخيال فعند النوم ترتسم تلك الصورة في الحس المشترك فتصير مشاهدة محسوسة والثاني أن القوة المفكرة إذا ألفت صورة ارتسمت تلك الصورة في الخيال ثم وقت النوم تنتقل تلك إلى الحس المشترك فتصير محسوسة كما أن الإنسان إذا تفكر في الانتقال من بلد إلى بلد وحصل في خاطره شيء أو خوف عن شيء فإنه يرى تلك الأحوال في النوم والثالث أن مزاج الروح الحامل للقوة المفكرة إذا تغير فإنه تتغير أحوال القوة


المفكرة ولهذا السبب فإن الذي يميل مزاجه إلى الحرارة يرى في النوم النيران والحريق والدخان ومن مال مزاجه إلى البرودة يرى الثلوج ومن مال مزاجه إلى الرطوبة يرى الأمطار ومن مال مزاجه إلى اليبوسة يرى التراب والألوان المظلمة فهذه الأنواع الثلاثة لا عبرة بها البتة بل هي من قبيل أضغاث الأحلام.

وأما الرؤيا الصادقة فالكلام في ذكر سببها متفرع على مقدمتين إحداهما أن جميع الأمور الكائنة في هذا العالم الأسفل مما كان ومما سيكون ومما هو كائن موجود في علم البارئ تعالى وعلم الملائكة العقلية والنفوس السماوية والثانية أن النفس الناطقة من شأنها أن تتصل بتلك المبادئ وتنتقش فيها الصور المنتقشة في تلك المبادئ وعدم حصول هذا المعنى ليس لأجل البخل من تلك المبادئ أو لأجل أن النفس الناطقة غير قابلة لتلك الصور بل لأجل أن استغراق النفس في تدبير البدن صار مانعا من ذلك الاتصال العام.

إذا عرفت هذا فنقول النفس إذا حصل لها أدنى فراغ من تدبير البدن اتصلت بطباعها بتلك المبادئ فينطبع فيها بعض تلك الصور الحاضرة عند تلك المبادئ وهو الصور التي هي أليق بتلك النفس ومعلوم أن أليق الأحوال بها ما يتعلق بأحوال ذلك الإنسان وبأصحابه وبأهل بلده وإقليمه وأما إن كان ذلك الإنسان منجذب الهمة إلى تحصيل علوم المعقولات لاحت له منها أشياء ومن كانت همته مصالح الناس رآها ثم إذا انطبعت تلك الصور في جوهر النفس الناطقة أخذت المتخيلة التي من طباعها محاكاة الأمور في حكاية تلك الصور المنطبعة في النفس بصور جزئية يناسبها (١) ثم إن تلك الصور تنطبع في الحس المشترك فتصير مشاهدة فهذا هو سبب الرؤيا في المنام ثم إن تلك الصور التي ركبتها المتخيلة لأجل تلك المعاني قد تكون شديدة المناسبة لتلك المعاني فتكون هذه الرؤيا غنية عن التعبير وقد لا تكون كذلك إلا أنها أيضا مناسبة لتلك المعاني من بعض الوجوه وهاهنا تحتاج هذه المنامات إلى التعبير وفائدة التعبير التحليل بالعكس يعني أن يرجع المعبر من

__________________

(١) تناسبها ( ظ ).


هذه الصور الحاضرة في الخيال إلى تلك المعاني والقسم الثالث أن لا تكون هذه الصور مناسبة لتلك المعاني البتة وذلك يكون لأحد وجهين أحدهما أن يكون حدوث هذا الخيال الغريب إنما كان لوجه واحد من الوجوه الثلاثة المذكورة في سبب أضغاث الأحلام والثاني أن يكون ذلك لأجل أن القوة المتخيلة ركبت لأجل ذلك المعنى صورة ثم ركبت لأجل تلك الصورة صورة ثانية وللثانية ثالثة وأمعنت في هذه الانتقالات فانتهت بالأخرة إلى صورة لا تناسب المعنى التي أدركته النفس أولا البتة وحينئذ يصير هذا القسم أيضا من باب أضغاث الأحلام ولهذا السبب قيل إنه لا اعتماد على رؤيا الكاذب والشاعر لأن القوة المتخيلة منهما قد عودت الانتقالات الكاذبة الباطلة والله أعلم.

الفرع الثاني في كيفية الإخبار عن الغيب اعلم أن النفس الناطقة إذا كانت كاملة القوة وافية في الوصول إلى الجوانب العالية والسافلة وتكون في القوة بحيث لا يصير اشتغالها بتدبير البدن عائقا لها عن الاتصال بالمبادئ المفارقة ثم اتفق أيضا أن كانت قوته (١) الفكرية قوية قادرة على انتزاع لوح الحس المشترك عن الحواس الظاهرة فحينئذ لا يبعد أن يقع لمثل هذه النفس في حال اليقظة مثل ما يقع للنائمين من الاتصال بالمبادئ المفارقة فحينئذ يرتسم عن بعض تلك المفارقات صور تدل على وقائع هذا العالم في جوهر النفس الناطقة ثم إن القوة لأجل قوتها تركب صورة مناسبة لها ثم تنحدر تلك الصورة إلى لوح الحس المشترك فتصير مشاهدة وعند هذه الحال يسمع ذلك الإنسان كلاما منظوما من هاتف وقد يشاهد منظرا في أكمل هيئة وأجل صورة تخاطبه تلك الصورة بما يهمه من أحوال من يتصل به ثم إن كانت هذه الصورة المحسوسة منطبقة على تلك المعاني التي أدركتها النفس الناطقة كان ذلك وحيا صريحا وإن كانت الصورة الخيالية مخالفة لذلك المعنى العقلي من بعض الوجوه كان ذلك وحيا محتاجا إلى التأويل والصارف للقوة المتخيلة عن هذا التغيير والتبديل أمران :

__________________

(١) كذا ، والظاهر « قوتها ».


الأول : أن الصورة المنطبقة (١) في النفس الناطقة الفائضة من جانب المبادئ العالية لما فاضت على غاية الجلاء والوضوح صارت تلك القوة مانعة للخيال عن التصرف فيها كما أن الصور المحسوسة المأخوذة من الخارج إذا كانت في غاية القوة فحينئذ يقوى على منع القوة المتخيلة من التصرف في تلك الصورة بالتغيير والتبديل.

النوع الثاني : أن النفوس التي ليس لها من القوة ما يقوى على الاتصال بعالم الغيب في حال اليقظة فربما استعانت في حال اليقظة بما يدهش الحس ويحير الخيال كما يستعين بعضهم بشد حثيث وبعضهم بتأمل شيء شفاف أو برق لامع يورث البصر ارتعاشا فإن كل ذلك مما يدهش الخيال فيستعد النفس بسبب حيرتها وانقطاعها في تلك اللحظة عن تدبير البدن لانتهاز فرصة إدراك الغيب والشرط في هذا أن يكون ذلك الإنسان ضعيف العقل مصدقا لكل ما يحكى له من مسيس الجن مثل الصبيان والنسوان والبله فهؤلاء إذا ضعفت حواسهم وكانت أوهامهم شديدة الانجذاب إلى مطلوب معين فحينئذ يقع لنفوسهم التفات في تلك اللحظة إلى عالم الغيب ويتأمل ذلك المطلوب فتارة يسمع خطابا ويظن أنه جني وتارة تتراءى له صور مشاهدة فيظن أنها من إخوان الجن فيلقي إليه من الغيب ما ينطق به في أثناء الغشي فيأخذه السامعون ويبنون عليه تدابيرهم في مهماتهم فهذا ما قرره الشيخ الرئيس في هذا الباب.

واعلم أن الأصل في جملة هذه التفاريع أمران :

الأول أن يقال : هذه الصور التي تشاهدها الأنبياء والأولياء وغيرهم ليست موجودة في الخارج لأنها لو كانت موجودة في الخارج لوجب أن يدركها كل من كان له سليم الحس إذ لو جوزنا أن لا يحصل الإدراك مع حصول هذه الشرائط لجاز أن تكون بحضرتنا جبال ورعود ونحن لا نراها ولا نسمعها وذلك يوجب السفسطة ولا يخفى أن الجهالات التي ألزمتموها على هذا القول هي على قولكم ألزم وذلك لأنا لو جوزنا أن يرى الإنسان صورا ويشاهدها ويتكلم معها ويسمع أصواتها ويرى

__________________

(١) المنطبعة ( ظ ).


أشكالها ثم إنها لا تكون موجودة البتة في الخارج جاز أيضا في كل هذه الأشياء التي نراها ونسمعها من صور الناس والجبال والبحار وأصوات الرعود أن لا يكون لشيء منها وجود في الخارج بل يكون محض الخيالات ومحض الصور المرتسمة في الحس المشترك ومعلوم أن القول به محض السفسطة بل نقول هذا في البعد عن الحق والغوص في الجهالة أشد من الأول لأن على القول الذي نقول نحن جازمون بأن كل ما رأيناه فهو موجود حق إلا أنه يلزمنا تجويز أن يكون قد حضر عندنا أشياء ونحن لا نراها وتجويز هذا لا يوجب الشك في وجود ما رأيناه وسمعناه أما على القول الذي يقولونه فإنه يلزم وقوع الشك في وجود كل صورة رأيناها وكل صوت سمعناه وذلك هو الجهالة التامة والسفسطة الكاملة فثبت أن القول الذي اخترتموه في غاية الفساد.

فإن قالوا : إن حصول هذه الحالة لحصول أحوال منها أن يكون كامل النفس قوي العقل كما في حق الأنبياء والأولياء فإذا لم يحصل شيء من هذه الأحوال وكان الإنسان باقيا على مقتضى المزاج المعتدل لم يحصل شيء من هذه الأحوال فحينئذ يحصل القطع بوجود هذه الأشياء في الخارج فنقول في الجواب إن بالطريق الذي ذكرتم ظهر أنه لا يمتنع أن يحس الإنسان بوجود صور مع أنها لا تكون موجودة أصلا وإذا ظهر جواز هذا المعنى فنحن إنما يمكننا انتفاء هذه الحالة إذا دللنا على أن الأسباب الموجبة لحصول هذه الحالة محصورة في كذا وكذا ونقيم على هذا الحصر برهانا يقينيا ثم نبين في المقام الثاني أنها بأسرها منتفية زائدة بالبرهان اليقيني ثم نبين في المقام الثالث أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن السبب فإن (١) بتقدير أن يكون الأمر كذلك لم يلزم من زوال تلك الأسباب زوال هذه الحالة ثم على تقدير إقامة البراهين القاطعة الجازمة على صحة هذه المقدمات يصير جزمنا بحصول هذه المحسوسات في الخارج موقوفا على إثبات هذه المقدمات النظرية الغامضة والموقوف على النظري الغامض أولى أن يكون نظريا غامضا وحينئذ تبطل هذه العلوم المستفادة

__________________

(١) فانه ( ظ ).


من الحواس بطلانا كليا فثبت أن القول الذي ذكرتموه قول باطل يوجب التزام السفسطة.

واعلم أن الذي حمل هؤلاء الفلاسفة على ذكر هذه العلل والأسباب إطباقهم على إنكار الملائكة وعلى إنكار الجن وقد بينا في كتاب الأرواح أنه ليس لهم شبهة ولا خيال يدل على نفي هذه الأشياء وإذا كان أصل هذه الأقوال نفي الملائكة والجن وقد عرفت أنه ليس لهم فيه دليل وفرعه مما يوجب القول بالسفسطة كان هذا القول في غاية الفساد والبطلان فهذا تمام الكلام في هذا الأصل وأما الأصل.

واما الاصل الثاني فهو أن هذه الكلمات متفرعة على إثبات إدراك الحواس الباطنة ونحن قد بينا بالبرهان القاهر القاطع أن المدرك لجميع الإدراكات هو النفس الناطقة وأن القول بتوزيع الإدراكات على قوى متفرقة قول باطل وكلام فاسد فثبت بهذه البيانات أن كلامهم في غاية الضعف والفساد.

والحق أن هذا الباب يحتمل وجوها كثيرة فأحدها أنا بينا أن النفوس الناطقة أنواع كثيرة ذو طوائف مختلفة ولكل طائفة منها روح فلكي كلي هو العلة لوجودها وهو المتكفل بإصلاح أحوالها وذلك الروح الفلكي كالأصل والمعدن والينبوع بالنسبة إليها وسميناه بالطباع التام فلا يمتنع أن يكون الذي يراها في المنامات وفي اليقظة أخرى وعلى سبيل الإلهامات ثالثا هو ذلك الطباع التام ولا يمتنع كون ذلك الطباع التام قادرا على أن يتشكل بأشكال مختلفة بحسب جسم مخصوص هوائي في جميع أعماله وثانيها أن تثبت طوائف الملائكة وطوائف الجن ونحكم بكونها قادرة على أن تأتي بأعمال مخصوصة عندها يظهرون للبشر وعلى أعمال أخرى عندها يحتجبون عن البشر فهذا ما نقوله في هذا الباب انتهى.

وقال في المواقف وشرحه وأما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين أي جمهورهم أما عند المعتزلة فلفقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وإثبات الشعاع وتوسط الهواء الشفاف والبنية المخصوصة وانتفاء الحجاب إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراكات فما يراه النائم ليس من الإدراكات في شيء بل هو من قبيل الخيالات


الفاسدة والأوهام الباطلة وأما عند الأصحاب إذ لم يشترطوا في الإدراك شيئا من ذلك فلأنه خلاف العادة أي لم تجر عادته تعالى بخلق الإدراكات في الشخص وهو نائم ولأن النوم ضد للإدراك فلا يجامعه فلا يكون الرؤيا إدراكا حقيقة بل هو من قبيل الخيال الباطل.

وقال الأستاذ أبو إسحاق إنه إدراك حق بلا شبهه إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه في نومه من إبصار المبصرات وسمع المسموعات (١) وذوق وغيرها من الإدراكات وبين ما يجده اليقظان في إدراكاته فلو جاز التشكيك فيه لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة ولم يخالف الأستاد في كون النوم ضدا للإدراك لكنه زعم أن الإدراك يقوم بجزء من أجزاء الإنسان غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم اجتماع الضدين في محل واحد.

أقول : ثم ذكر ما زعمته الفلاسفة في ذلك نحوا مما مر وقال بعض المحققين من الحكماء والصوفية الجامعين بزعمهم بين الشرع والحكمة سبب الرؤيا انخناس الروح البخاري من الظاهر إلى الباطن بأسباب شتى مثل طلب الاستراحة عن كثرة الحركة وميل الاشتغال بتأثيره في الباطن لينفتح السد ولهذا يغلب النوم عند امتلاء المعدة ومثل أن يكون الروح قليلا ناقصا فلا يفي بالظاهر والباطن جميعا ولزيادته ونقصانه أسباب طبية مذكورة في كتب الأطباء فإذا انخنس الروح إلى الباطن وركدت الحواس بسبب من الأسباب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس لأنها لا تزال مشغولة بالتفكر فيما تورده الحواس عليها فإذا وجدت فرصة الفراغ وارتفعت عنها الموانع فإن كانت عالية معتادة بالصدق أو مائلة إلى العالم الروحاني العقلي متوجهة إلى الحق مطهرة عن النقائص معرضة عن الشواغل البدنية متصفة بالمحامد أو غير ذلك مما جب تنويرها وتقويتها وقدرتها على خرق العالم الحسي من الإتيان بالطاعات والعبادات واستعمال القوى والآلات بموجب الأوامر الإلهية وحفظ الاعتدال بين طرفي الإفراط والتفريط فيها ودوام الوضوء والذكر خصوصا من أول

__________________

(١) في أكثر النسخ « للمسموعات ».


الليل إلى وقت النوم وصحة البدن واعتدال مزاجه الشخصي والدماغي اتصلت بالجواهر الروحانية الشريفة التي فيها نقوش جميع الموجودات كلية وجزئية المسماة بالكتاب المبين وأم الكتاب فانتقشت بما فيها من صور الأشياء لا سيما ما ناسب أغراضها ويكون مهما لها فإن النفس بمنزلة مرآة ينطبع فيها كل ما قابلها من مرآة أخرى عند حصول الأسباب وارتفاع الحجاب بينهما والحجاب هاهنا اشتغال النفس بما تورده الحواس فإذا ارتفع ظهر فيها من تلك المرائي ما يناسبها ويحاذيها فإن كانت تلك الصور جزئية وبقيت في النفس بحفظ الحافظة إياها على وجهها ولم تتصرف فيه القوة المتخيلة الحاكية للأشياء بمثلها فتصدق هذه الرؤيا ولا تحتاج إلى التعبير وإن كانت المتخيلة غالبة وإدراك النفس للصورة ضعيفا صارت المتخيلة بطبعها إلى تبديل ما رأته النفس بمثال كتبديل العلم باللبن وتبديل العدو بالحية وتبديل الملك بالبحر والجبل إلى غير ذلك وذلك لما دريت أن لكل معنى صورة في نشأة غير صورته في النشأة الأخرى وأن النشآت متطابقة.

نقل أن رجلا جاء إلى ابن سيرين وقال رأيت كأن في يدي خاتما أختم به أفواه الرجال وفروج النساء فقال إنك مؤذن تؤذن في شهر رمضان قبل الفجر فقال صدقت وجاء آخر فقال كأني صببت الزيت في الزيتون فقال إن كانت تحتك جارية اشتريتها ففتش عن حالها فإنها أمك لأن الزيتون أصل الزيت فهو رد إلى الأصل فنظر فإذا جاريته كانت أمه وقد سبيت في صغره وقال آخر له كأني أعلق الدر في أعناق الخنازير فقال كأنك تعلم الحكمة غير أهلها وكان كما قال.

وربما تبدل المتخيلة الأشياء المرئية في النوم بما يشابهها ويناسبها مناسبة ما أو ما يضادها كما من رأى أنه ولد له ابن فتولد له بنت وبالعكس وهذه الرؤيا تحتاج إلى مزيد تصرف في تعبيره فيحلل بالعكس أي يرجع من الصور الخيالية الجزئية إلى المعاني النفسانية الكلية وربما لم تكن انتقالات المتخيلة مضبوطة بنوع مخصوص فانشعبت وجوه التعبير فصار مختلفا بالأشخاص والأحوال والصناعات وفصول السنة وصحة النائم ومرضه وصاحب التعبير لا ينال إلا بضرب من الحدس ويغلط فيه كثيرا للالتباس


وإن كانت النفس سفلية متعلقة بالدنيا منهمكة في الشهوات حريصة على المخالفات مستعملة للمتخيلة في التخيلات الفاسدة وغير ذلك مما يوجب الظلمة وازدياد الحجب أو سوء مزاج الدماغ فلا تتصل بالجواهر الروحانية بمجرد ذلك فتفعل باختراعها بقوتها المتخيلة في مملكتها وعالمها الباطني صورا وأشخاصا جسمانية بعضها مطابقة لما يوجد في الخارج وبعضها خرافات لا أصل لها في شيء من العوالم بل هو من دعابات المتخيلة واضطراباتها التي لا تفتر عنها في أكثر الأحوال ثم انتقلت منها وحاكتها بأمور أخرى في النوم فبقيت مشغولة بمحاكاتها كما تبقى مشغولة بالحواس في اليقظة وخصوصا إذا كانت ضعيفة منفعلة عن آثار القوى وهي أضغاث الأحلام ولمحاكاتها أسباب من أحوال البدن ومزاجه فإن غلبت على مزاجه الصفراء حاكاها بالأشياء الصفر وإن كان فيه الحرارة حاكاها بالنار والحمام الحار وإن غلبت البرودة حاكاها بالثلج والشتاء ونظائرهما وإن غلبت السوداء حاكاها بالأشياء السود والأمور الهائلة قال بعض العلماء وإنما حصلت صورة النار مثلا في التخيل عند غلبة الحرارة لأن الحرارة التي في موضع تتعدى إلى المجاور لها كما يتعدى نور الشمس إلى الأجسام بمعنى أنه سيكون سببا لحدوثه إذ خلقت الأشياء موجودة وجودا فائضا بأمثاله على غيره والقوة المتخيلة منطبعة في الجسم الحار فيتأثر به تأثرا يليق بطبعها لأن كل شيء قابل يتأثر من شيء فإنما يتأثر منه بشيء يناسب جوهر هذا القابل وطبعه فالمتخيلة ليست بجسم حتى تقبل نفس الحرارة فتقبل من الحرارة ما في طبعها القبول وهو صورة الحار فهذا هو السبب فيه.

ثم قال : والاتصال بالجواهر الروحانية كما يكون في المنام فكذلك قد يكون في اليقظة أيضا كما أن الاختراعات الخيالية تكون في الحالتين وذلك لأن رفع الحجاب بين مرآة النفس وذلك العالم كما يكون في المنام فكذلك قد يكون بأسباب أخر مثل صفاء النفس بسبب أصل الفطرة ومثل انزعاج النفس وانزجارها عن هذا العالم بسبب ما يكدرها وينقص (١) عيشها الدنياوي من المؤلمات والمنفرات فيتوجه

__________________

(١) ينغص ( ظ ).


إلى عالمها هربا من هذه الأمور الموحشة فيرتفع الحجاب بينها وبين عالمها ومثل الرياضات العلمية والعملية التي توجب المكاشفات الصورية والمعنوية أي ظهور الحوادث والحقائق ومثل الموت الإرادي الذي يكون للأولياء ومثل الموت الطبيعي الذي يوجب كشف الغطاء للجميع سواء كانوا سعداء أو أشقياء ومثل ما لو غلب على المزاج اليبوسة والحرارة وقل الروح البخاري حتى صرفت النفس لغلبة السوداء وقلة الروح عن موارد الحواس فيكون مع فتح العين وسائر أبواب الحواس كالمبهوت الغافل الغائب عما يرى ويسمع وذلك لضعف خروج الروح إلى الظاهر فهذا أيضا لا يستحيل أن ينكشف لنفسه من الجواهر الروحانية شيء من الغيب فيحدث به ويجري على لسانه فكأنه أيضا غافل عما يحدث به وهذا يوجد في بعض المجانين والمصروعين وبعض الكهنة فيحدثون بما يكون موافقا لما سيكون.

ثم ما تتلقاه النفس في اليقظة على وجهين فإن كانت النفس قوية وافية بضبط الجوانب لا تشغلها المشاعر السفلية عن المدارك العالية وتكون متخيلتها قوية على استخلاص الحس المشترك عن مشاهدة الظواهر إلى مشاهدة ما يراها في الباطن فلا يبعد أن يقع لها ما يقع للنائم من غير تفاوت فمنه ما هو وحي صريح لا يفتقر إلى التأويل ومنه ما ليس كذلك فيفتقر إليه أو يكون شبيها بالمنامات التي هي أضغاث أحلام إن أمعنت المتخيلة في الانتقال والمحاكات وإن لم يكن كذلك فلا يخلو إما أن يستعين بما يقع للحس دهشة وللخيال حيرة أو لا بل كانت لضعف طبيعي في الحواس أو مرض طار فالأول كفعل المستنطقين المشغلين للصبيان والنساء ذوات المدارك الضعيفة بأمور مترقرقة أو بأشياء ملطخة سود مدهشة محيرة للحس مرعشة للبصر برجرجتها أو شفيفها وكاستعانة بعض المتصوفة والمتكهنة برقص وتصفيق وتطريب فكل هذه موهنة للحواس مخلة بها وربما يستعينون أيضا بالإبهام بالعزائم وبأدعية غير مفهومة الألفاظ يوجب الترهيب بالحس (١) إذا استنطقوا غيرهم والثاني كما للمصروعين والممرورين ومن في قواه ضعف وفي دماغه رطوبة قابلة وقد يجتمع الشيئان : ضعف

__________________

(١) بالجن ( خ ).


الفائق (١) وقوة النفس بتطريب وغيره كالكثير من المرتاضين من أولي الكد وهذا حسن وما للكهنة والممرورين نقص أو ضلال أو تعطيل للقوى كما خلقت لأجله وأما الفضلاء فرياضاتهم وعلومهم مرموزة مكتومة عن المحجوبين.

وقال الكراجكي رحمه‌الله في كتاب كنز الفوائد وجدت لشيخنا المفيد رضي‌الله‌عنه في بعض كتبه أن الكلام في باب رؤيا المنامات عزيز وتهاون أهل النظر به شديد والبلية بذلك عظيمة وصدق القول فيه أصل جليل والرؤيا في المنام يكون من أربع جهات :

أحدها حديث النفس بالشيء والفكر فيه حتى يحصل كالمنطبع في النفس فيتخيل إلى النائم ذلك بعينه وأشكاله ونتائجه وهذا معروف بالاعتبار.

الجهة الثانية من الطباع وما يكون من قهر بعضها لبعض فيضطرب له المزاج ويتخيل لصاحبه ما يلائم ذلك الطبع الغالب من مأكول ومشروب ومرئي وملبوس ومبهج ومزعج قد ترى تأثير الطبع الغالب في اليقظة والشاهد حتى أن من غلب عليه الصفراء يصعب عليه الصعود إلى المكان العالي يتخيل له من وقوعه منه ويناله من الهلع والزمع ما لا ينال غيره ومن غلبت عليه السوداء يتخيل له أنه قد صعد في الهواء وناجته الملائكة ويظن صحة ذلك حتى إنه ربما اعتقد في نفسه النبوة وأن الوحي يأتيه من السماء وما أشبه ذلك.

والجهة الثالثة ألطاف من الله عز وجل لبعض خلقه من تنبيه وتيسير وإعذار وإنذار فيلقي في روعه ما ينتج له تخييلات أمور تدعوه إلى الطاعة والشكر على النعمة وتزجره عن المعصية وتخوفه الآخرة ويحصل له بها مصلحة وزيادة فائدة وفكر يحدث له معرفة.

والجهة الرابعة أسباب من الشيطان ووسوسة يفعلها للإنسان يذكره بها أمورا تحزنه وأسبابا تغمه فيما لا يناله أو يدعوه إلى ارتكاب محظور يكون فيه عطبه أو تخيل شبهة في دينه يكون منها هلاكه وذلك مختص بمن عدم التوفيق

__________________

(١) العائق ( خ ).


لعصيانه وكثرة تفريطه في طاعات الله سبحانه ولن ينجو من باطل المنامات وأحلامها إلا الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ومن رسخ في العلم من الصالحين.

وقد كان شيخي رضي‌الله‌عنه قال لي إن كل من كثر علمه واتسع فهمه قلت مناماته فإن رأى مع ذلك مناما وكان جسمه من العوارض سليما فلا يكون منامه إلا حقا يريد بسلامة الجسم عدم الأمراض المهيجة للطباع وغلبة بعضها على ما تقدم به البيان والسكران أيضا لا يصح منامه وكذلك الممتلئ من الطعام لأنه كالسكران ولذلك قيل إن المنامات قل ما يصح في ليالي شهر رمضان فأما منامات الأنبياء عليهم‌السلام فلا تكون إلا صادقة وهي وحي في الحقيقة ومنامات الأئمة عليهم‌السلام جارية مجرى الوحي وإن لم تسم وحيا ولا تكون قط إلا حقا وصدقا وإذا صح منام المؤمن فإنه من قبل الله تعالى كما ذكرناه وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : رؤيا المؤمن جزء من سبعة وسبعين جزءا من النبوة وروي عنه عليه‌السلام أنه قال : رؤيا المؤمن تجري مجرى كلام تكلم به الرب عنده.

فأما وسوسة شياطين الجن فقد ورد السمع بذكرها قال الله تعالى « مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ » (١) وقال « وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ » (٢) وقال « شَياطِينَ » (٣) « الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » (٤) وورد السمع به فلا طريق إلى دفعه.

فأما كيفية وسوسة الجني للإنسي فهو أن الجن أجسام رقاق لطاف فيصح أن يتوصل أحدهم برقة جسمه ولطافته إلى غاية سمع الإنسان ونهايته فيوقع فيه كلاما يلبس عليه إذا سمعه ويشتبه عليه بخواطره لأنه لا يرد عليه ورود المحسوسات من ظاهر جوارحه ويصح أن يفعل هذا بالنائم واليقظان جميعا وليس هو في العقل

__________________

(١) الناس : ٤ ـ ٦.

(٢) الأنعام : ١٢١.

(٣) صدرها : « وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ » الخ.

(٤) الأنعام : ١١٢.


مستحيلا روى جابر بن عبد الله أنه قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخطب إذ قام إليه رجل فقال يا رسول الله إني رأيت كأن رأسي قد قطع وهو يتدحرج وأنا أتبعه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تحدث بلعب الشيطان بك ثم قال إذا لعب الشيطان أحدكم (١) في منامه فلا يحدثن به أحدا.

وأما رؤية الإنسان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو لأحد الأئمة عليهم‌السلام في المنام فإن ذلك عندي على ثلاثة أقسام قسم أقطع على صحته وقسم أقطع على بطلانه وقسم أجوز فيه الصحة والبطلان فلا أقطع فيه على حال فأما الذي أقطع على صحته فهو كل منام رأى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد الأئمة عليهم‌السلام وهو الفاعل لطاعة أو آمر بها وناه عن معصية (٢) أو مبين لقبحها وقائل لحق أو داع إليه وزاجر عن باطل أو ذام لمن هو عليه وأما الذي أقطع على بطلانه فهو كل ما كان ضد ذلك لعلمنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام صاحبا حق وصاحب الحق بعيد عن الباطل وأما الذي أجوز فيه الصحة والبطلان فهو المنام الذي يرى فيه النبي والإمام عليهم‌السلام وليس هو آمرا ولا ناهيا ولا على حال يختص بالديانات مثل أن يراه راكبا أو ماشيا أو جالسا ونحو ذلك وأما الخبر الذي يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتشبه بي فإنه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في كل حال ويكون المراد به القسم الأول من الثلاثة الأقسام لأن الشيطان لا يتشبه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في شيء من الحق والطاعات وأماما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله من رآني نائما رآني يقظان. فإنه يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد به رؤية المنام ويكون خاصا كالخبر الأول على القسم الذي قدمناه والثاني أن يكون أراد به رؤية اليقظة دون المنام ويكون قوله نائما حالا للنبي وليست حالا لمن رآه فكأنه قال من رآني وأنا نائم فكأنما رآني وأنا منتبه والفائدة في هذا المقال أن يعلمهم بأنه يدرك في الحالتين إدراكا واحدا فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده وهو نائم

__________________

(١) بأحدكم ( ظ ).

(٢) في أكثر النسخ « معصيته ».


أن يفيضوا فيما لا يحسن أن يذكروه بحضرته وهو منتبه وقد روي عنه عليه‌السلام أنه غفا ثم قام يصلي من غير تجديد وضوء فسئل عن ذلك فقال إني لست كأحدكم تنام عيناي ولا ينام قلبي.

وجميع هذه الروايات أخبار آحاد فإن سلمت فعلى هذا المنهاج وقد كان شيخي رحمه‌الله يقول إذا جاز من بشر أن يدعي في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه مع قلة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة فما المانع من أن يدعي إبليس عند النائم بوسوسة له أنه نبي مع تمكن إبليس مما لا يتمكن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام ومما يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله والأئمة منها ما هو حق ومنها ما هو باطل أنك ترى الشيعي يقول رأيت في المنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو يأمرني بالاقتداء به دون غيره ويعلمني أنه خليفته من بعده وأن أبا بكر وعمر وعثمان ظالموه وأعداؤه وينهاني عن موالاتهم ويأمرني بالبراءة منهم ونحو ذلك مما يختص بمذهب الشيعة ثم يرى الناصبي يقول رأيت رسول الله في النوم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وهو يأمرني بمحبتهم وينهاني عن بغضهم ويعلمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة وأنهم معه في الجنة ونحو ذلك مما يختص بمذهب الناصبية فنعلم لا محالة أن أحد المنامين حق والآخر باطل فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت الدليل في اليقظة على صحة ما تضمنه والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه وليس يمكن الشيعي أن يقول للناصبي إنك كذبت في قولك إنك رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه وقد شاهدنا ناصبيا يتشيع وأخبرنا في حال تشيعه بأنه يرى منامات بالضد مما كان يراه في حال نصبه فبان بذلك أن أحد المنامين باطل وأنه من نتيجة حديث النفس أو من وسوسة إبليس ونحو ذلك وأن المنام الصحيحة (١) هو لطف من الله تعالى بعبده على المعنى المتقدم

__________________

(١) كذا.


وصفه وقولنا في المنام الصحيح إن الإنسان رأى في نومه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما معناه أنه كان قد رآه وليس المراد به التحقق في اتصال شعاع بصره بجسد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأي بصر يدرك به في حال نومه وإنما هي معاني تصورت وفي نفسه تخيل له فيها أمر لطف الله تعالى له به قام مقام العلم وليس هذا بمناف للخبر الذي روي من قوله من رآني فقد رآني لأن معناه فكأنما رآني وليس يغلط في هذا المكان إلا من ليس له من عقله اعتبار.

قال المازري من العامة في شرح قول النبي الرؤيا من الله والحلم من الشيطان مذهب أهل السنة في حقيقة الرؤيا أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه وتعالى « يَفْعَلُ ما يَشاءُ » لا يمنعه النوم واليقظة فإذا خلق هذه الاعتقادات فكأنه جعلها علما على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال أو كان قد خلقها فإذا خلق في قلب النائم الطيران وليس بطائر فأكثر ما فيه أنه اعتقد أمرا على خلاف ما هو فيكون ذلك الاعتقاد علما على غيره كما يكون خلق الله تعالى الغيم علما على المطر والجميع خلق الله تعالى ولكن يخلق الرؤيا والاعتقادات التي جعلها علما على ما يسر بغير حضرة الشيطان وخلق ما هو علم على ما يضر بحضرة الشيطان فنسب إلى الشيطان مجازا لحضوره عندها وإن كان لا فعل له حقيقة.

وقال البغوي في شرح السنة ليس كل ما يراه الإنسان صحيحا ويجوز تعبيره بل الصحيح ما كان من الله يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها وهي على أنواع قد تكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان أو يريه ما يحزنه وله مكايد يحزن بها بني آدم كما قال تعالى « إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا » ومن لعب الشيطان به الاحتلام الذي يوجب الغسل فلا يكون له تأويل وقد يكون من حديث النفس كما يكون في أمر أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر والعاشق يرى معشوقه ونحوه وقد يكون من مزاج الطبيعة كمن غلب عليه الدم يرى الفصد والحجامة والحمرة والرعاف والرياحين والمزامير والنشاط ونحوه ومن غلب عليه الصفراء يرى النار و


الشمع والسراج والأشياء الصفر والطيران في الهواء ونحوه ومن غلب عليه السوداء يرى الظلمة والسواد والأشياء السود وصيد الوحش والأحوال والأموات والقبور والمواضع الخربة وكونه في مضيق لا منفذ له أو تحت ثقل ونحوه ومن غلب عليه البلغم يرى البياض والمياه والأنداء والثلج والوحل فلا تأويل لشيء منها.

وقال السيد المرتضى رحمه‌الله في كتاب الغرر والدرر في جواب سائل سأله ما القول في المنامات أصحيحة هي أم باطلة ومن فعل من هي وما وجه صحتها في الأكثر وما وجه الإنزال عند رؤية المباشرة في المنام وإن كان فيها صحيح وباطل فما السبيل إلى تمييز أحدهما من الآخر؟ :

الجواب : اعلم أن النائم غير كامل العقل لأن النوم ضرب من السهو والسهو ينفي العلوم ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة لنقصان عقله وفقد علومه وجميع المنامات إنما هي اعتقادات يبتدئها (١) النائم في نفسه ولا يجوز أن تكون من فعل غيره فيه لأن من عداه من المحدثين سواء كانوا بشرا أو ملائكة أو جنا أجسام والجسم لا يقدر أن يفعل في غيره اعتقادا ابتداء بل ولا شيئا من الأجناس على هذا الوجه وإنما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الابتداء وإنما قلنا إنه لا يفعل في غيره جنس الاعتقادات متولدا لأن الذي يعدي الفعل من محل القدرة إلى غيرها من الأسباب إنما هو الاعتمادات وليس في جنس الاعتمادات ما يولد الاعتقادات ولهذا لو اعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل ما تولد فيه شيء من الاعتقادات وقد بين ذلك وشرح في مواضع كثيرة والقديم تعالى هو القادر أن يفعل في قلوبنا ابتداء من غير سبب أجناس الاعتقادات ولا يجوز أن يفعل في قلب النائم اعتقادا لأن أكثر اعتقادات النائم جهل ويتأول الشيء على خلاف ما هو به لأنه يعتقد أنه يرى ويمشي وأنه راكب وعلى صفات كثيرة وكل ذلك على خلاف ما هو به وهو تعالى لا يفعل الجهل فلم يبق إلا أن الاعتقادات كلها من جهة النائم وقد ذكر في المقالات أن المعروف بصالح قبة كان يذهب إلى أن ما يراه النائم في منامه على الحقيقة وهذا جهل منه

__________________

(١) في أكثر النسخ « يبتدئ بها ».


يضاهي جهل السوفسطائية لأن النائم يرى أن رأسه مقطوع وأنه قد مات وأنه قد صعد إلى السماء ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك كله وإذا جاز عند صالح هذا أن يعتقد اليقظان في السراب أنه ماء وفي المردي (١) إذا كان في الماء أنه مكسور وهو على الحقيقة صحيح لضرب من الشبهة واللبس فألا جاز ذلك في النائم وهو من الكمال أبعد ومن النقص أقرب؟

وينبغي أن يقسم ما يتخيل النائم أنه يراه إلى أقسام ثلاثة منها ما يكون من غير سبب يقتضيه ولا داع يدعو إليه اعتقادا مبتدأ ومنها ما يكون من وسواس الشيطان يفعل في داخل سمعه كلاما خفيا يتضمن أشياء مخصوصة فيعتقد النائم إذا سمع ذلك الكلام أنه يراه فقد نجد كثيرا من النيام يسمعون حديث من يتحدث بالقرب منها فيعتقدون أنهم يرون ذلك الحديث في منامهم ومنها ما يكون سببه والداعي إليه خاطرا يفعله الله تعالى أو يأمر بعض الملائكة بفعله ومعنى هذا الخاطر أن يكون كلاما يفعل في داخل السمع فيعتقد النائم أيضا أنه ما يتضمن ذلك الكلام والمنامات الداعية إلى الخير والصلاح في الدين يجب أن تكون إلى هذا الوجه مصروفة كما أنما يقتضي الشر منها الأولى أن تكون إلى وسواس الشيطان مصروفة وقد يجوز على هذا في ما يراه النائم في منامه ثم يصح ذلك حتى يراه في يقظته على حد ما يراه في منامه وفي كل منام يصح تأويله أن يكون سبب صحته أن الله تعالى يفعل كلاما في سمعه لضرب من المصلحة بأن شيئا يكون أو قد كان على بعض الصفات فيعتقد النائم أن الذي يسمعه هو يراه فإذا صح تأويله على ما يراه فما ذكرناه إن لم يكن مما يجوز أن تتفق فيه الصحة اتفاقا فإن في المنامات ما يجوز أن يصح بالاتفاق وما يضيق فيه مجال نسبته إلى الاتفاق فهذا الذي ذكرناه يمكن أن يكون وجها فيه.

فإن قيل : أليس قد قال أبو علي الجبائي في بعض كلامه في المنامات إن الطبائع لا يجوز أن تكون مؤثرة فيها لأن الطبائع لا يجوز على المذاهب الصحيحة أن تؤثر في شيء وإنه غير ممتنع مع ذلك أن يكون بعض المآكل يكثر عندها المنامات بالعادة كما أن فيها ما يكثر عنده بالعادة تخييل الإنسان وهو مستيقظ ما لا

__________________

(١) خشبة يدفع بها الملاح السفينة.


أصل له؟ قلنا قد قال ذلك أبو علي وهو خطأ لأن تأثيرات المآكل بمجرى العادة على المذاهب الصحيحة إذا لم تكن مضافة إلى الطبائع فهو من فعل الله تعالى فكيف نضيف التخيل الباطل والاعتقاد الفاسد إلى فعل الله تعالى فأما المستيقظ الذي استشهد به فالكلام فيه والكلام في النائم واحد ولا يجوز أن نضيف التخيل الباطل إلى فعل الله تعالى في نائم ولا يقظان فأما ما يتخيل من الفاسد وهو غير نائم فلا بد من أن يكون ناقص العقل في الحال وفاقد التمييز بسهو وما يجري مجراه فيبتدئ اعتقاد الأصل له كما قلناه في النائم.

فإن قيل : فما قولكم في منامات الأنبياء عليهم‌السلام وما السبب في صحتها حتى عد ما يرونه في المنام مضاهيا لما يسمعونه من الوحي؟

قلنا : الأخبار الواردة بهذا الجنس غير مقطوع على صحتها ولا هي مما توجب العلم وقد يمكن أن يكون الله تعالى أعلم النبي بوحي يسمعه من الملك على الوجه الموجب للعلم أني سأريك في منامك في وقت كذا ما يجب أن تعمل عليه فيقطع على صحته من هذا الوجه لا بمجرد رؤيته له في المنام وعلى هذا الوجه يحمل منام إبراهيم عليه‌السلام في ذبح ابنه ولو لا ما أشرنا إليه كيف كان يقطع إبراهيم عليه‌السلام بأنه متعبد بذبح ولده؟

فإن قيل : فما تأويل ما يروى عنه عليه‌السلام من قوله من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتخيل بي وقد علمنا أن المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في النوم ويخبر كل واحد منهم عنه بضد ما يخبر به الآخر فكيف يكون رائيا له في الحقيقة مع هذا؟

قلنا : هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد ولا معول على مثل ذلك على أنه يمكن مع تسليم صحته أن يكون المراد به من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة لأن الشيطان لا يتمثل بي لليقظان فقد قيل إن الشيطان ربما تمثلت بصورة البشر وهذا التشبيه أشبه بظاهر ألفاظ الخبر لأنه قال من رآني فقد رآني فأثبت غيره رائيا له ونفسه مرئية وفي النوم لا رائي له في الحقيقة ولا


مرئي وإنما ذلك في اليقظة ولو حملناه على النوم لكان تقدير الكلام من اعتقد أنه يراني في منامه وإن كان غير راء له على الحقيقة فهو في الحكم كأنه قد رآني وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر وتبديل لصيغته.

وهذا الذي رتبناه في المنامات وقسمناه أسد تحقيقا من كل شيء قيل في أسباب المنامات وما سطر في ذلك معروف غير محصل ولا محقق فأما ما يهذي إليه الفلاسفة في هذا الباب فهو مما يضحك الثكلى لأنهم ينسبون ما صح من المنامات لما أعيتهم الحيل في ذكر سببه إلى أن النفس اطلعت إلى عالمها فأشرفت على ما يكون وهذا الذي يذهبون إليه في حقيقة النفس غير مفهوم ولا مضبوط فكيف إذا أضيف (١) إليه الاطلاع على عالمها وما هذا الاطلاع وإلى أي شيء يشيرون بعالم النفس ولم يجب أن تعرف الكائنات عند هذا الاطلاع فكل هذا زخرفة ومخرقة وتهاويل لا يتحصل منها شيء وقول صالح قبة مع أنه تجاهل محض أقرب إلى أن يكون مفهوما من قول الفلاسفة لأن صالحا ادعى أن النائم يرى على الحقيقة ما ليس يراه فلم يشر إلى أمر غير معقول ولا مفهوم بل ادعى ما ليس بصحيح وإن كان مفهوما وهؤلاء عولوا على ما لا يفهم مع الاجتهاد ولا يعقل مع قوة التأمل والفرق بينهما واضح.

فأما سبب الإنزال فيجب أن يبنى على شيء يحقق سبب الإنزال في اليقظة مع الجماع ليس هذا مما يهذي به أصحاب الطبائع لأنا قد بينا في غير موضع أن الطبع لا أصل له وأن الإحالة فيه على سراب لا يتحصل وإنما سبب الإنزال أن الله تعالى أجرى العادة بأن يخرج هذا الماء من الظهر عند اعتقاد النائم أنه يجامع وإن كان هذا الاعتقاد باطلا (٢) انتهى كلامه قدس الله روحه.

ولنكتف بذكر هذه الأقوال ولا نشتغل بنقدها وتفصيلها ولا بردها وتحصيلها لأن ذلك مما يؤدي إلى التطويل الخارج عن المقصود في الكتاب ولنذكر ما ظهر لنا في هذا الباب من الأخبار المنتمية إلى الأئمة الأخيار عليهم‌السلام فهو أن الرؤيا تستند إلى أمور شتى :

__________________

(١) في أكثر النسخ « ضيف ».

(٢) الأمالي ج ٢ ص ٣٩٢ ـ ٣٩٥.


فمنها أن للروح في حالة النوم حركة إلى السماء إما بنفسها بناء على تجسمها كما هو الظاهر من الأخبار أو بتعلقها بجسد مثالي إن قلنا به في حال الحياة أيضا بأن يكون للروح جسدان أصلي ومثالي يشتد تعلقها في حال اليقظة بهذا الجسد الأصلي ويضعف تعلقها بالآخر وينعكس الأمر في حال النوم أو بتوجهها وإقبالها إلى عالم الأرواح بعد ضعف تعلقها بالجسد بنفسها من غير جسد مثالي وعلى تقدير التجسم أيضا يحتمل ذلك كما يومئ إليه بعض الأخبار بأن يكون حركتها كناية عن إعراضها عن هذا الجسد وإقبالها إلى عالم آخر وتوجهها إلى نشأة أخرى وبعد حركتها بأي معنى كانت ترى أشياء في الملكوت الأعلى وتطالع بعض الألواح التي أثبتت فيها التقديرات فإن كان لها صفاء ولعينها ضياء يرى الأشياء كما أثبتت فلا تحتاج رؤياه إلى تعبير وإن استدلت على عين قلبه أغطية أرماد التعلقات الجسمانية والشهوات النفسانية فيرى الأشياء بصور شبيهة لها كما أن ضعيف البصر ومؤف العين يرى الأشياء على غير ما هي عليه والعارف بعلته (١) يعرف أن هذه الصورة المشبهة التي اشتبهت عليه صورة لأي شيء فهذا شأن المعبر العارف بداء كل شخص وعلته ويمكن أيضا أن يظهر الله عليه الأشياء في تلك الحالة بصور يناسبها لمصالح كثيرة كما أن الإنسان قد يرى المال في نوم بصورة حية وقد يرى الدراهم بصورة عذرة ليعرف أنهما يضران وهما مستقذران واقعا فينبغي أن يتحرز عنهما ويجتنبهما وقد ترى في الهواء أشياء فهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها ويحتمل أن يكون المراد بما يراه في الهواء ما أنس به من الأمور المألوفة والشهوات والخيالات الباطلة وقد مضى ما يدل على هذين النوعين في رواية محمد بن القاسم ورواية معاوية بن عمار وغيرهما.

ومنها ما هو بسبب إفاضة الله تعالى عليه في منامه إما بتوسط الملائكة أو بدونه كما يومئ إليه خبر أبي بصير وسعد بن أبي خلف.

ومنها ما هو بسبب وسواس الشيطان واستيلائه عليه بسبب المعاصي التي عملها في اليقظة أو الطاعات التي تركها فيها أو الكثافات والنجاسات الظاهرية والباطنية التي

__________________

(١) بعقله ( خ ).


لوث نفسه بها كما مر في رواية هزع ورواية تارك الزكاة وغيرهما وتدل عليه آية النجوى على بعض الوجوه.

ومنها ما هو بسبب ما بقي في ذهنه من الخيالات الواهية والأمور الباطلة ويومئ إليه خبر ابن أبي خلف وغيره.

وأما ما وراء ذلك مما سبق ذكره وإن كان بعضها محتملا ويمكن تطبيق الآيات والأخبار عليه لكن لم يدل عليه دليل والتجويز والإمكان لا يقومان مقام البرهان مع أنه ليس من الأمور التي يجب تحقيقها والإذعان بكيفيتها.

خاتمة

نورد فيها بعض ما ذكره أرباب التعبير والتأويل وإن لم يكن لأكثرها مأخذ يصلح للتعويل.

قال بعضهم : السحاب حكمة فمن ركبه علا في الحكمة وإن أصاب منها شيئا أصاب حكمة وإن خالطه ولم يصب شيئا خالط الحكماء فإن كان في السحاب سواد أو ظلمة أو رياح أو شيء من هيئته العذاب فهو عذاب وإن كان فيه غيث فهو رحمة.

والسمن والعسل قد يكون مالا في التأويل وقد يكون علما وحكمة روي أن رجلا سأل ابن سيرين قال رأيت كأني ألعق عسلا من جام من جوهر فقال اتق الله وعاود القرآن فقد قرأته ثم نسيته.

والعلو إلى السماء رفعة قال تعالى « وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا » (١) ومن رأى أنه صعد السماء ودخلها نال شرفا وذكرا وشهادة.

والطيران في الهواء عزم سفر أو نيل شرف وقال بعضهم من رأى أنه يطير فإن كان إلى جهة السماء من غير تعريج ناله ضرر وإن غاب في السماء ولم يرجع مات وإن رجع أفاق من مرضه وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه وإن كان بجناح فهو مال وسلطان يسافر في كنفه وإن كان بغير جناح دل على التعزير في ما

__________________

(١) مريم : ٥٧.


يدخل (١) فيه وقالوا إن الطيران للشرار دليل ردي والحبل العهد والأمان لقوله تعالى « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً » (٢).

واعلم أن التأويل قد يكون بدلالة كتاب أو سنة أو من الأمثال السائرة بين الناس وقد يقع التأويل على الأسماء والمعاني وقد يقع على الضد فالتأويل بدلالة القرآن كالحبل يعبر بالعهد كما مر والسفينة بالنجاة قال تعالى « فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ » (٣) والخشبة بالنفاق لقوله تعالى « كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ » (٤) والحجارة بالقسوة لقوله تعالى « أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً » (٥) والمرض بالنفاق لقوله « فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » (٦) والماء بالفتنة في حال لقوله « لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ » (٧) وأكل اللحم الني بالغيبة لقوله « أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً » (٨) ودخول الملك محلة أو بلدا أو دارا يصغر عن قدره وينكر دخول مثله مثلها يعبر بمصيبة وذل ينال أهله لقوله « إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها » (٩) والبيض بالنساء لقوله « كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ » (١٠) وكذلك اللباس لقوله « هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ » (١١) واستفتاح الباب بالدعاء لقوله « إِنْ تَسْتَفْتِحُوا » (١٢) أي تدعوا.

والتأويل بدلالة الحديث كالغراب بالرجل الفاسق لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سماه فاسقا والفأرة بالمرأة الفاسقة لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله سماه فويسقة والضلع بالمرأة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنها خلقت من ضلع أعوج والقوارير بالنساء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله رويدك سوقا بالقوارير.

والتأويل بالأمثال كالصائغ بالكذاب لقولهم : أكذب الناس الصواغون. وحفر الحفرة بالمكر لقولهم من حفر حفرة لأخيه وقع فيها قال تعالى : « وَلا يَحِيقُ

__________________

(١) يدخله فيه ( خ ).

(٢) آل عمران : ١٠٣.

(٣) العنكبوت : ١٥.

(٤) المنافقون : ٤.

(٥) البقرة : ٧٤.

(٦) البقرة : ١٠.

(٧) الجن : ١٦.

(٨) الحجرات : ١٢.

(٩) النمل : ٣٤.

(١٠) الصافات : ٤٩.

(١١) البقرة : ١٨٧. (١٢) الأنفال : ١٩.


الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ » (١) والحاطب بالنمام لقولهم لمن نم ووشى إنه يحطب عليه وفسروا قوله « حَمَّالَةَ الْحَطَبِ » (٢) بالنميمة وطول اليد بصنائع المعروف لقولهم فلان أطول يدا من فلان ويعبر الرمي بالحجارة والسهم بالقذف لقولهم رمى فلانا بفاحشة قال الله تعالى « وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ » (٣) وغسل اليد باليأس عما يؤمل (٤) لقولهم غسلت يدي عنك والتأويل بالأسامي كمن رأى من يسمى راشدا يعبر بالرشد وسالما بالسلامة وروي عن أنس قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب ابن طاب فأولت الرفعة لنا في الدنيا والعافية في الآخرة وأن ديننا قد طاب وقال ابن سيرين نوى التمر نية السفر وقد يعبر السفرجل بالسفر إذا لم يكن في الرؤيا ما يدل على المرض والسوسن بالسوء لأن أوله سوء إذا عدل به مما ينسب إليه في التأويل.

والتأويل بالمعنى كالأترج يعبر بالنفاق لمخالفة باطنه ظاهره إذا لم يكن في الرؤيا ما يدل على المال وكالورد والنرجس بقلة البقاء إن عدل به عما نسب إليه لسرعة ذهابه والآس بالبقاء لأنه يدوم روي أن امرأة بالأهواز رأت كأن زوجها ناولها نرجسا وناول ضرتها آسا فقال المعبر يطلقك ويتمسك بضرتك أما سمعت قول الشاعر :

ليس للنرجس عهد

إنما العهد للآس.

وأما التأويل بالضد فكما أن الخوف يعبر بالأمن لقوله « وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً » (٥) والأمن بالخوف والبكاء بالفرح إذا لم يكن معه رنة والضحك بالحزن إلا أن يكون تبسما والطاعون بالحرب والحرب بالطاعون والعجلة بالندم والندم بالعجلة والعشق بالجنون والجنون بالعشق والنكاح بالتجارة والتجارة بالنكاح والحجامة بكتبة الصك والصك بالحجامة والتحول عن المنزل بالسفر

__________________

(١) فاطر : ٤٣.

(٢) المسد : ٤.

(٣) النور : ٤.

(٤) يأمل ( خ ).

(٥) النور : ٥٥.


والسفر بالتحول عن المنزل ومن هنا أن العطش خير من الري والفقر من الغنى والمضروب والمجروح والمقذوف أحسن حالا من الفاعل.

وقد يتغير بالزيادة والنقصان كالبكاء إنه فرح وإن كان معه صوت ورنة فمصيبة وفي الضحك إنه حزن فإن كان تبسما فصالح وفي الجوز مال مكنون فإن سمعت له قعقعة فهو خصومة والدهن في الرأس زينة فإن سال عن الوجه فهو غم والزعفران ثناء حسن فإن ظهر له لون فهو مرض أو هم والمريض يخرج من منزله ولا يتكلم فهو موته فإن تكلم برأ والفأر نساء فإن اختلفت ألوانها إلى البيض والسود فهي الأيام والليالي والسمك نساء فإذا عرف عددها فإن كثر فغنيمة.

وقد يتغير التأويل عن أصله باختلاف حال الرائي كالغل في النوم مكروه وهو في حق الرجل الصالح قبض اليد عن الشر وقال ابن سيرين نقول في الرجل يخطب على المنبر يصيب سلطانا فإن لم يكن من أهله يصلب وسأل رجل ابن سيرين عن الأذان فقال الحج وسأله آخر فأول بقطع السرقة وقال رأيت الأول في سيماء حسنة فتأولت « وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ » (١) ولم أرض هيئة الثاني فأولت « ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ » (٢).

وقد يرى فيصيبه عين ما رأى حقيقة من ولاية أو حج أو قدوم غائب أو خير أو نكبة وقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عام الفتح فكان كذلك قال تعالى « لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا » (٣) وروى الزهري عن ابن خزيمة بن ثابت عن عمه أن خزيمة رأى أنه سجد على جبهة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره فاضطجع له وقال صدق رؤياك فسجد على جبهته وقد يرى في المنام الشيء فيكون لولده أو قريبه أو سميه فقد أري [ رأى ] النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله متابعة أبي جهل معه فكان لابنه عكرمة فلما أسلم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله هو هذا ورأى لأسيد بن العاص ولاية مكة فكان لابنه عتاب ولاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة وروى البخاري بإسناده عن ابن سيرين عن قيس بن عباد قال كنت جالسا في مسجد المدينة في ناس فيهم بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل

__________________

(١) الحج : ٢٧.

(٢) يوسف : ٧٠.

(٣) الفتح : ٢٧.


رجل على (١) وجهه أثر الخشوع فقال بعض القوم هذا رجل من أهل الجنة فصلى ركعتين تجوز فيهما ثم خرج وتبعته فقلت له إنك حين دخلت المسجد قالوا هذا من أهل الجنة قال والله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك بم ذاك رأيت رؤيا على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقصصتها عليه رأيت كأني في روضة ذكر من سعتها وخضرتها في وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء وأعلاه عروة فقيل لي ارقه قلت لا أستطيع فأتاني منصف فرفع ثيابي من خلفي فرقيت حتى كنت في أعلاها فأخذت بالعروة فقيل استمسك فاستيقظت وإنها لفي يدي فقصصتها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال تلك الروضة الإسلام وذلك العمود عمود الإسلام وتلك العروة العروة الوثقى فأنت على الإسلام حتى تموت والرجل عبد الله بن سلام.

قال في النهاية : في الحديث تجوزوا في الصلاة أي خففوها وأسرعوا بها وقيل إنه من الجواز القطع والسير وقال المنصف بكسر الميم الخادم وقد يفتح.

وقال في شرح السنة : من رأى في النوم أنه قد صعد السماء فدخلها نال شرفا وذكرا ونال الشهادة فإن رأى نفسه فيها لا يدري متى صعد إليها فهو شرف معجل وشهادة مؤجلة والشمس ملك عظيم ومن رأى فيها من تغير أو كسوف فهو حدث بالملك من هم أو مرض أو نحوه والقمر وزير الملك في التأويل والزهرة امرأته وعطارد كاتبه والمريخ صاحب حربه وزحل صاحب عذابه والمشتري صاحب ماله وسائر النجوم العظام أشراف الناس وإنما يكون القمر وزيرا ما رئي في السماء فإن رآه عنده أو في حجره أو في بيته تزوج زوجا يغلب ضوؤه رجلا كان أو امرأة وكانت الشمس في تأويل رؤيا يوسف أباه والقمر أمه أو خالته والكواكب الأحد عشر إخوته كما قال تعالى « وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ » الآية (٢) وكان رؤياه في صباه فظهر تأويلها بعد أربعين سنة ويقال بعد ثمانين سنة.

وروي أن ابن سيرين رأى في المنام كأن الجوزاء تقدمت الثريا فأخذ في

__________________

(١) في ( خ ).

(٢) يوسف : ١٠٠.


الوصية وقال يموت الحسن وأموت بعده وهو أشرف مني وسأل رجل ابن سيرين فقال رأيت كأني أطير بين السماء والأرض فقال أنت رجل كثير المنى وقالوا من رأى القيامة قد قامت في موضع فإن العدل يبسط في ذلك المكان فإن كانوا مظلومين نصروا وإن كانوا ظالمين انتقم منهم لأنه العدل ويوم القيامة يوم الفصل والعدل قال تعالى « وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ » (١) ومن رأى دخل الجنة فهو البشرى من الله بالجنة فإن أكل شيئا من ثمارها أو أصابها فهو خير يناله في دينه ودنياه وعلم ينتفع به فإن أعطاها غيره ينتفع بعلمه غيره ودخول جهنم إنذار للعاصي ليتوب فإن رأى أنه تناول شيئا من طعامها أو شرابها فهو خلاف أعمال البر منه أو علم يصير عليه وبالا والغسل والوضوء بالماء البارد توبة وشفاء من المرض وخروج من الحبس وقضاء للدين وأمن من الخوف غير أن الغسل أقوى من الوضوء قال تعالى لأيوب عليه‌السلام : « هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ » (٢) فلما اغتسل خرج من المكاره والغسل والوضوء بالماء المسخن هم أو مرض والأذان حج لقوله تعالى « وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ » (٣) وربما كان سلطانا في الدين وقوة والصلاة في النوم استقامة الرأي في الدين والسنة إذا كانت إلى الكعبة والإمامة رئاسة وولاية إن استقامت قبلته وتمت صلاته والركوع توبة لقوله تعالى « خَرَّ راكِعاً وَأَنابَ » (٤) والسجود قربة لقوله تعالى « وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ » (٥) وإن صلى منحرفا عن سمت القبلة شرقا أو غربا فانحراف عن السنة فإن جعلها وراء ظهره فهو نبذه الإسلام لقوله تعالى « فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ » (٦) فإن رأى أنه لا يعرف القبلة فهو حيرة منه في الدين ومن رأى نفسه فوق الكعبة فلا دين له والكعبة الإمام العادل فمن أم الكعبة فقد أم الإمام والمسجد الجامع هو السلطان ومن رأى نفسه بالكعبة أو يأتي بشيء من المناسك فهو صلاح في دينه بقدر عمله ودخول الحرم أمن لقوله « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » (٧)

__________________

(١) الأنبياء : ٤٧.

(٢) ص : ٤٢.

(٣) الحج : ٢٧.

(٤) ص : ٢٤.

(٥) العلق : ٢٠.

(٦) آل عمران : ١٨٥.

(٧) آل عمران : ٩١.


والأضحية فك الرقبة فمن ضحى وكان عبدا أعتق وإن كان أسيرا نجا أو خائفا أمن أو مديونا قضى دينه أو مريضا شفاه الله أو صرورة حج.

وقال : من رأى في المنام أنه تزوج امرأة عاينها أو عرفها أو نسبت إليه أصاب سلطانا وإن تزوج امرأة لم يعاينها ولم يعرفها ولم تنسب إليه إلا أنه يسمي عروسا فهو موته أو يقتل إنسانا ومن طلق امرأة عزل عن سلطنته ومن تزوج امرأة ميتة ظفر بأمر ميت ومن رأى أنه نكح امرأة من محارمها يصل رحمها ومن أصاب زانية أصاب دنيا حراما فإن رآه رجل من الصالحين أصاب علما فإن رأت امرأة أنها تزوجت أصابت خيرا فإن رأت أن زانيا نكحها فهو نقصان مالها وتشتت أمرها.

وروى البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة فتأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة وهي الجحفة.

وقال أصحاب التعبير الرجل المعروف في النوم هو ذلك الرجل أو سميه أو نظيره والمجهول إن كان شابا فهو عدو وإن كان شيخا فهو جدة والمرأة العجوزة المجهولة هي الدنيا فإن كانت ذات هيئة وسمت حسن كانت حلالا وإن كانت على غير سمت الإسلام كانت دنيا حراما وإن كانت شعثة قبيحة فلا دين ولا دنيا والمرأة سنة والجارية خير والصبي هم والمرأة الزانية هي الدنيا لطالب الدنيا وعلم لأهل الصلاح والعلم والخصيان هم الملائكة إذا رآهم في سمت حسن وسأل رجل ابن سيرين فقال رأيت في النوم صبيا في حجري يصيح فقال اتق الله ولا تضرب بالعود.

فأما الأعضاء : فرأس الرجل رئيسه والوجه جاهه والشيب وقاره وطول الشعر هم إلا أن يكون ممن يلبس السلاح (١) فهو له زينة وحلق الرأس كفارة الذنوب إن كان في حرم أو أيام موسم وإن كان مديونا أو في كرب ففرج وإن لم يكن

__________________

(١) الصلاح ( خ ).


شيئا منها فهو هتك أو عزل رئيسه وطول اللحية فوق القدر دين أو هم وخضاب الرأس واللحية تغطية أمر وشعر الشارب والإبط زيادة مكروهه (١) ونقصانه محمود والأذن امرأة الرجل وابنته والسمع والبصر دينه والصوت صيته في الناس وما حدث عن شيء منه كان ذلك فيما ينسب إليه والعين دين فإن رأى أنه أعمى ضل عن الإسلام وإن رأى أنه أعور ذهب نصف دينه أو أصاب إثما عظيما والرمد حدث في الدين وأشفار العين وقاية الدين وكذا الاكتحال والجبهة والأنف من الجاه والفم مفتاح أمره وخاتمته والقلب القائم بأمره ومدبره واللسان ترجمانه والمبلغ عنه وقد يكون حجته وقطعه انقطاع حجته في المنازعة وقد يكون اللسان ذكره قال تعالى « وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ » (٢) وقطع اللسان للنساء محمود يدل على الستر والحياء والأسنان أهل البيت والقرابات لتقاربها وتلاصقها والثنايا أقربهم والأبعد منها أبعدهم والعليا رجال القرابة والسفلى نساؤها وما حدث فيها من حسن أو فساد أو كلال ففي القرابة فإن رأى أن أسنانه سقطت فصارت في يده تكثر نساء أهله فإن سقطت وذهبت فهو موتهم قبله والعنق موضع الأمانة والدين وضعفه عجز عن احتمال الأمانة والدين والعضد أخ أو ولد قد أدرك واليد أخ وقطعها موته وقد يؤول طول اليد بصنائع المعروف وإذا نسبت اليد إلى الأخ كانت الأصابع أولادا لأخ وإذا انفردت الأصابع عن ذكر اليد فهي الصلوات الخمس ونقصانها حدث في الصلاة فالإبهام الصبح والسبابة الظهر والوسطى العصر والبنصر المغرب والخنصر العشاء والصدر حلم الرجل واحتماله والثدي البنت والبطن والأمعاء مال وولد فإن رأى ظهور شيء من أمعائه من جوفه فهو ظهور ماله والكبد كنز وفي الحديث يخرج الأرض أفلاذ كبدها أي كنوزها وكذلك الدماغ والمخ والأضلاع النساء لأن المرأة خلقت من ضلع والظهر سند الرجل وقوته ومن المملوك سيده و

__________________

(١) في بعض النسخ « زيادته مكروهة ».

(٢) الشعراء : ٨٤.


الصلب القوة وقد يكون الولد لأن الولد يخرج منه والذكر ذكره وقد يكون ولده والخصيتان الأعداء فإن رأى قطعهما ظفر به أعداؤه فإن (١) عظمتا كان منيعا وقد يكون انقطاع الخصيتين انقطاع إناث الولد والفخذ عشيرة الرجل وقومه والركبة موضع كده ونصبه في المعيشة والقروح والبثر والجراح والورم في البدن والجنون والجذام كلها مال والبرص مال وكسوة وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل عن ورقة فقالت خديجة إنه قد صدقك ولكن مات قبل أن تظهر فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رأيته (٢) في المنام وعليه ثياب بيض ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك.

قال المعبرون : القميص على الرجل دينه على لسان صاحب الشرع وقد يعبر القميص بشأنه في مكسبه ومعيشته وما رأى في قميصه صفاقة أو خرق أو وسخ فهو صلاح معيشته أو فساده والسراويل جارية أعجمية والإزار امرأة وأفضل الثياب ما كان جديدا صفيقا واسعا والبياض في الثياب جمال في الدين والدنيا والحمرة في الثياب صالحة للنساء وتكره للرجال إلا أن تكون في ملحفة أو إزار أو فراش فهو حينئذ سرور وفرح والصفرة في الثياب مرض والخضرة حياة في الدين لأنها لباس أهل الجنة والسواد سود (٣) وسلطان لمن يلبس السواد في اليقظة ولمن لا يلبسها مكروه والصوف مال كثير والبرد من القطن يجمع خير الدين والدنيا وأجود البرود الحبرة فإن كان البرد من إبريشم فهو مال حرام وفساد من الدين والقطن والكتان والشعر والوبر كلها مال والعمامة ولاية والفراش امرأة حرة أو أمة والوسائد والمرافق والمقادم والمناديل خدم والسرير سلطان إذا كان ممن يصلح لذلك وإلا فهو شهرة.

ويقال : المرأة فضيحة والستور على الأبواب هم وحزن والنعل امرأة وخمار

__________________

(١) وإن ( خ ).

(٢) في أكثر النسخ « اريته ».

(٣) سودد ( خ ).


المرأة زوجها فإن لم يكن لها زوج فوليها.

وروي عن أم العلا الأنصارية قالت رأيت في النوم لعثمان بن مظعون رضي‌الله‌عنه بعد موته عينا تجري فقصصتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال ذاك علمه (١).

وقال أصحاب التعبير : الساقية التي لا يغرق في مثلها حياة طيبة والبحر الملك الأعظم فإن استقى منه ماء أصاب من الملك مالا والنهر رجل يقدر (٢) عظمته والماء الصافي إذا شرب خير وحياة طيبة وإن كان كدرا أصابه مرض وشرب الماء المسخن ودخول الحمام هم ومرض والماء الراكد أضعف في التأويل من الجاري والمطر غياث ورحمة إن كان عاما وإن كان خاصا في موضع فهو أوجاع يكون (٣) في ذلك الموضع والطين والوحل والماء الكدر هم وحزن والسيل عدو يتسلط والثلج والبرد والجليد هم وعذاب إلا أن يكون الثلج قليلا في موضعه وحينه فيكون خصبا لأهل ذلك الموضع والسباحة احتباس أمر والمشي على الماء قوة نفس ومن غمره الماء أصابه هم غالب والغرق فيه إذا لم يمت غرق في أمر الدنيا وانفجار العيون من الدار والحائط وحيث ينكر انفجارها هم وحزن ومصيبة بقدر قوة العين والخمر مال حرام فإن سكر منها أصاب معه سلطانا والسكر من غير الشراب خوف ومن اعتصر خمرا خدم السلطان وأخصب وجرت على يده أمور عظام قال تعالى « إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً » (٤) فأوله يوسف بأنه يسقي ربه خمرا وشرب اللبن فطرة وهو يكون مالا حلالاوقد ورد في الخبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أول اللبن بالعلم وروي أن امرأة رأت في المنام أنها كانت تحلب حية فسألت ابن سيرين فقال هذه يدخل عليها أهل الأهواء.

اللبن فطرة والحية عدو وليست من الفطرة في شيء والأشجار رجال أحوالهم

__________________

(١) في بعض النسخ « عمله » وهو أظهر.

(٢) في بعض النسخ « بقدر ».

(٣) كذا.

(٤) يوسف : ٣٦.


كأحوال الشجر في الطبع والنفع وطيب الريح فمن رأى شجرا أو أصاب شيئا من ثمره أصاب من رجل في مثل حال ذلك الشجر والنخل رجل شريف والتمر مال وشجر الجوز رجل أعجمي شحيح والجوز نفسه مال مكنون وشجرة السدر رجل شريف وشجرة الزيتون رجل مبارك نفاع وثمر الزيتون هم وحزن والكرم والبستان امرأة والعنب الأبيض في وقته غضارة الدنيا وخيرها وفي غير وقته مال يناله قبل وقته الذي يرجوه والأشجار العظام التي لا ثمر لها كالدلب والصنوبر إن رأى فهو رجل ضخم بعيد الصوت قليل الخير والمال والشجرة ذات الشوك رجل صعب المرام والصفر من الثمار مثل المشمش والكمثرى والزعرور الأصفر ونحوها أمراض والحامض منها هم وحزن والحبوب كلها مال والحشيش مال والزرع عمله في دينه أو دنياه والثوم والبصل والجزر والشلجم هم وحزن والرياحين كلها بكاء وحزن إلا ما يرى منها ثابتا في موضعه من غير أن يمسه وهو يجد ريحه.

وروى البخاري وغيره من المخالفين بإسنادهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض لها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب ورأيت في رؤياي هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين ورأيت أيضا فيها بقرا والله (١) خير فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد وثواب الصدق الذي أتانا الله بعد يوم بدر.

قال في النهاية : وهل إلى الشيء بالفتح يهل بالكسر وهلا بالسكون إذا ذهب وهمه إليه انتهى وضبطه النووي بالتحريك وقال الوهل بالتحريك معناه الوهم والاعتقاد وسائر اللغويين على الأول.

ورووا أيضا عن جابر في خبر غزوة أحد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : رأيت كأني في درع حصينة ورأيت بقرا تنحر فأولت الدرع الحصينة بالمدينة والبقر بقرة والله

__________________

(١) كذا في جميع النسخ ، ولعله سقط منه شيء.


خير. وأولوا ذبح البقرة بالمسلمين الذين استشهدوا يوم أحد.

قال ابن حجر هذه اللفظة الأخيرة هي بفتح الموحدة وسكون القاف مصدر بقره بقرا ومنهم من ضبطها بفتح النون والفاء.

وقال أهل التعبير السيف سلطان في المنام وإن رآه قد رفعه فوق رأسه نال سلطانا مشهورا وإن لم يكن ممن ينبغي له فهو ولد وكذلك كل من أعطي سكينا أو رمحا أو قوسا ليس معه سلاح فهو ولد وإن كان معه سلاح فهو سلطان وما حدث في السيف من انكسار أو ثلمة أو كدورة فهو حدث فيما ينسب السيف إليه وإن رأى أنه سل سيفا من غمد ولدت امرأته غلاما فإن انكسر السيف في الغمد مات الولد فإن انكسر الغمد دون السيف ماتت الأم وسلم الولد والرمي عن القوس نفوذ كتبه في السلطان (١) بالأمر والنهي وانكسار القوس مصيبة والبقر سنون فإن كانت سمانا كانت مخاصب وإن كانت عجافا كانت مجادب كما في تأويل يوسف عليه‌السلام ومن ركب ثورا أصاب مالا من عمل السلطان أو استمكن من عامل وإن رأى ثورا من العوامل ذبح وقسم لحمه فهو موت عامل وقسمة تركته فإن كان من غير العوامل كان رجلا ضخما والبعير رجل ضخم والناقة امرأة وما رأى أنه راكب بعير مجهول سافر وإن نزل عنه مرض وإن دخل جماعة من الإبل أرضا دخلها عدو وربما كان أوجاعا ومن رأى أنه يرعى غنما سودا فهو أناس من أناس العرب وإن كانت بيضا فمن العجم وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : رأيت غنما كثيرة سودا دخل فيها غنم كثير بيض قالوا فما أولته يا رسول الله قال العجم يشاركونكم في دينكم وأنسابكم والذي نفسي بيده لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من العجم فأسعدهم به فارس.

والكبش رجل ضخم والنعجة امرأة شريفة والعنز يجري مجرى النعجة إذا كان في الرؤيا ما يدل على المرأة إلا أن العنز دون النعجة في الشرف والحسب وقد يجري مجرى النعجة (٢) في كونها سنة مخصبة إن كانت سمينة ومجدبة إن كانت عجافا

__________________

(١) في بعض النسخ : فى سلطانه.

(٢) البقر ( ظ ).


والفرس عز وسلطان والأنثى امرأة شريفة والبغل سفر والحمار جد الرجل الذي يسعى به فمن رأى أنه ذبح حماره ليأكل من لحمه أصاب مالا يجده والفيل سلطان أعجمي فإن ركبه في أرض حرب كانت الدبرة على أصحاب الفيل قال تعالى « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ » ومن أصاب حمار وحش أو وعلا وصغيره (١) أنه يريد أكله يصيب غنيمة ومن رأى أنه راكب حمار وحش يصرفه كيف شاء فهو راكب معصية أو يفارق رأي الجماعة والأسد عدو قاهر والخنزير رجل دني شديد الشوكة والضبع امرأة قبيحة سوء والدب عدو دني أحمق والذئب سلطان غشوم أو لص ضعيف كذاب والثعلب كثير الاختلاف فمن رأى أنه ينازعه خاصم ذا قرابة وإن طلب ثعلبا أصابه وجع وإن طلبه ثعلب أصابه فزع ومن رأى ثعلبا يهرب منه فهو عزيمة يراوغه ومن أصاب ثعلبا أصاب امرأة يحبها حبا ضعيفا وابن آوى كالثعلب وأضعف والسنور لص وابن عرس في معناه وأضعف والكلب عدو دني غير مبالغ في العداوة والقرد عدو ملعون والحية عدو مكاتم للعداوة والعقرب عدو ضعيف لا تجاوز عداوته لسانه وكذلك سائر الهوام أعداء على منازلهم وذو السم أبلغ والنسر والعقاب سلطان قوي والحدأة ملك خامل الذكر شديد الشوكة والبازي سلطان غشوم والصقر قريب منه والغراب إنسان فاسق كذوب والعقعق إنسان لا عهد له ولا حفاظ ولا دين والطاوس الذكر ملك أعجمي والأنثى امرأة حسناء أعجمية والحمامة امرأة أو خادمة والفاختة امرأة غير آلفة والدجاج خدم والديك رجل أعجمي من نسل الملوك.

قال عمر : رأيت أن ديكا نقر بي نقرتين فأولت أن رجلا من العجم سيقتلني فقتله أبو لؤلؤة والعصفور رجل صخاب (٢) دني والبلبل غلام صغير والببغاء ولد يناغي والخفاش عابد مجتهد والزرزور صاحب أسفار والهدهد كاتب يتعاطى دقيق العلم ولا دين له والثناء عليه قبيح لنتن ريحه والزنابير والذباب سفلة الناس وغوغاؤهم

__________________

(١) ضميره ( خ ).

(٢) الصخاب : الشديد الصياح.


والنحلة إنسان كسوب عظيم الخطر والبركة وطير الماء أفضل الطير في التأويل لأنها أكثرها ريشا وأقلها غائلة ولها سلطانان في البر والماء والسمك الطري الكبار إذا كثر عددها مال وغنيمة وصغارها هموم كالصبيان ومن أصاب سمكة طرية أو سمكتين أصاب امرأة أو امرأتين فإن أصاب في بطنها لؤلؤة أصاب منها غلاما والضفدع إنسان عابد مجتهد فإن كثر من الضفادع فعذاب والجراد جند والجنود إذا دخلوا موضعا فهو خراب وروى مسلم والبخاري في صحيحيهما بإسنادهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نحن الآخرون السابقون بينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا علي وأهماني فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة وفي رواية الترمذي قال : رأيت في المنام كأن في يدي سوارين فأولتهما كاذبين يخرجان من بعدي يقال لأحدهما مسيلمة صاحب اليمامة والعبسي صاحب صنعاء.

وقال علماء التعبير : من رأى عليه سوارين من ذهب أصابه ضيق في ذات يده ومن الفضة خير من الذهب فإن رأى عليه خلخالا من ذهب أو فضة أصابه حبس أو خوف أو قيد وليس يصلح للرجال في المنام من الحلي إلا القلادة والتاج والعقد والقرط والخاتم وللنساء كله زينة والقلادة ولاية وأمانة واللؤلؤ المنظوم كلام الله أو من كلام البر وإن كان منثورا فهو ولد وغلمان وربما كان اللؤلؤ جارية أو امرأة والقرط زينة وجمال والخاتم إذا كان معروف الصياغة والنقش سلطان صاحبه فإن أعطي خاتما فتختم به ملك شيئا وربما كان الخاتم امرأة ومالا أو ولدا.

وفص الخاتم وجه ما يعبر الخاتم به وإن كان الخاتم من ذهب كان ما نسب إليه حراما فإن رأى حلقته انكسرت وسقطت وبقي الفص ذهب سلطانه وبقي الذكر والجمال ومن رأى أنه أصاب ذهبا يصيبه غرم ويذهب ماله فإن كان الذهب معمولا من إناء أو نحوه كان أضعف في التأويل والدراهم مختلفة التأويل على اختلاف الطبائع فمنهم من يراها في المنام فيصيبها في اليقظة ومنهم من يعبرها بالكلام فإن كانت بيضا فهي كلام حسن وإن كانت ردية فكلام سوء ومنهم من


لا يوافقه شيء منهما والدراهم في الجملة خير من الدنانير فقد يكون الدينار الواحد والدرهم الواحد يكون ولدا صغيرا.

انتهى ما أخرجناه من كتبهم المعتبرة عندهم ولا يعتمد على أكثرها لابتنائها على مناسبات خفية وأوهام ردية والأخبار التي رووها أكثرها غير ثابتة وقد جرت التجربة في كثير منها على خلاف ما ذكروه فكثيرا ما رأينا ماء صافيا فأصبنا علما ودخلنا بستانا أخضر فأصبنا معرفة ووجدنا الحية دنيا كما شبه أمير المؤمنين عليه‌السلام الدنيا بها فإنها لين لمسها وفي جوفها السم الناقع يهوي إليها الصبي الجاهل ويهرب منها الفطن العاقل وكثيرا ما ترى العذرة في المنام يقع على الإنسان أو يتلوث يده بها فيصيب مالا وسقوط الأسنان العليا لموت أقارب الأب والسفلى لأقارب الأم وكسر الظهر لفوت الأخ. كما قال سيد الشهداء عليه‌السلام حين استشهد العباس قدس الله روحه الآن انكسر ظهري. وكثيرا ما يرى الإنسان أنه يدخل الحمام فيوفق لزيارة أحد الأئمة عليهم‌السلام فإنها موجبة لتطهير الأرواح عن لوث الخطايا والذنوب كالحمام لتطهير الأجساد وتناثر النجوم لكثرة فوت العلماء ولذا سموا ابتداء الغيبة الكبرى سنة تناثر النجوم لفوت كثير من أكابر العلماء فيها كالكليني وعلي بن بابويه والسمري آخر السفراء وغيرهم رضي‌الله‌عنهم.

ثم إنها تختلف كثيرا باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان ولذا كان هذا العلم من معجزات الأنبياء والأولياء (١) عليهم‌السلام وليس لغيرهم من ذلك إلا حظ يسير « لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ».

وأما أضغاث الأحلام الناشئة من الأغذية الردية والأخلاط البدنية فهي كثيرة معلومة بالتجارب ولقد أتى رجل والدي قدس‌سره فزعا مهموما وقال رأيت الليلة أسدا أبيض في عنقه حية سوداء يحملان علي ويريدان قتلي فقال والدي رحمه‌الله لعلك أكلت البارحة طعام الأقط مع رب الرمان قال نعم قال لا بأس عليك الطعامان المؤذيان صورا لك في المنام وأمثال ذلك كثيرة جربها كل إنسان من نفسه والله ولي التوفيق.

__________________

(١) في بعض النسخ : الأوصياء.


٤٥

(باب آخر)

(في رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليهم‌السلام وسائر الأنبياء والأولياء في المنام)

١ ـ العيون والمجالس للصدوق : عن محمد بن إبراهيم الطالقاني عن ابن عقدة عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال له رجل من أهل خراسان يا ابن رسول الله رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام كأنه يقول لي كيف أنتم إذا دفن في أرضكم بعضي (١) واستحفظتم وديعتي وغيب في ترابكم (٢) نجمي فقال له الرضا عليه‌السلام أنا المدفون في أرضكم وأنا بضعة من نبيكم وأنا الوديعة والنجم ألا فمن زارني وهو يعرف ما أوجب الله تبارك وتعالى من حقي وطاعتي فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة ومن كنا شفعاءه يوم القيامة نجا ولو كان عليه مثل وزر الثقلين الجن والإنس.

ولقد حدثني أبي عن جدي عن أبيه عليهما‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال من رآني (٣) في منامه فقد رآني (٤) لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ولا في صورة أحد من شيعتهم وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءا من النبوة (٥).

تبيان : يدل الخبر على عدم تمثل الشيطان في المنام بصورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة بل بصورة شيعتهم أيضا ولعله محمول على خلص شيعتهم كسلمان وأبي ذر والمقداد وأضرابهم وقد روى المخالفون أيضا مثله بأسانيد عن ابن (٦) عمر وأبي

__________________

(١) في المجالس : بضعتى.

(٢) في بعض النسخ وفي المصدرين : ثراكم.

(٣) في العيون : زارنى.

(٤) في العيون : زارنى.

(٥) العيون : ج ٢ ، ص ٢٥٧. الأمالي : ٣٩.

(٦) في أكثر النسخ : أبى عمر.


هريرة وابن مسعود وجابر وأبي سعيد وأبي قتادة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله برواية أبي داود والبخاري ومسلم والترمذي بألفاظ مختلفة منها من رآني في المنام فكأنما رآني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي ومنها من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ومنها من رآني في النوم فقد رآني فإنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل في صورتي وفي رواية أن يتشبه بي ومنها من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتراءى بي.

وقال في النهاية الحق ضد الباطل ومنه الحديث من رآني فقد رأى الحق أي رؤيا صادقة ليست من أضغاث الأحلام وقيل فقد رآني حقيقة غير مشتبه انتهى.

واعلم أن العلماء اختلفوا في أن المراد رؤيتهم عليهم‌السلام في صورهم الأصلية أو بأي صورة كانت ولا يخفى أن ظاهر حديث الرضا عليه‌السلام التعميم لأن الرائي لم يكن رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يسأله عليه‌السلام في أي صورة رأيته وحمله على أنه عليه‌السلام علم أنه رآه بصورته الأصلية بعيد عن السياق فإن من رأى أحدا من الأئمة عليهم‌السلام في المنام لم يحصل له علم في المنام بأنه رآه ويقال في العرف واللغة إنه رآهم وإن رأى الشخص الواحد بصور مختلفة فيقال رآه بصورة فلان ولا يعدون هذا الكلام من المتناقض.

والعامة أيضا اختلفوا في ذلك فمنهم من قال المراد رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورته الأصلية وأيدوه عن ابن سيرين أنه إذا قص عليه رجل أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال صف لي الذي رأيته فإن وصف له صفة لا يعرفها قال لم تره وبعضهم قال بالتعميم وأيده بما رووه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من رآني في المنام فقد رآني فإني أرى في كل صورة.

وقال القرطبي : اختلف في معنى الحديث فقال قوم هو على ظاهره فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء قال وهذا قول يدرك فساده بأوائل العقول ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها وأن لا يراه رائيان في آن


واحد في مكانين وأن يحيا (١) الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبونه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره عن جسده فلا يبقى فيه منه شيء ويزار مجرد القبر ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره وهذه جهالات لا يلتزمها من له أدنى مسكة من العقل (٢) وقالت طائفة معناه أن من رآه على صورته التي كان عليها ويلزم منه أن من رآه على غير صفته أن يكون رؤياه من الأضغاث ومن المعلوم أنه يرى في النوم على حالة تخالف حاله في الدنيا من الأحوال اللائقة وتقع تلك الرؤيا حقا كما لو رأى امتلاء دارا (٣) [ دار ] بجسمه مثلا فإنه يدل على امتلاء تلك الدار بالخير ولو تمكن الشيطان من التمثل بشيء مما كان عليه أو ينسب إليه لعارض عموم قوله فإن الشيطان لا يتمثل بي فالأولى تنزه رؤياه وكذا رؤيا شيء منه أو مما ينسب إليه عن ذلك فهو أبلغ في الحرمة وأليق بالعصمة كما عصم من الشيطان في يقظته قال والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة ولا أضغاث أحلام بل هي حق في نفسها ولو رأى على غير صورته فتصور تلك الصورة ليس من الشيطان بل هو من قبل الله قال وهذا قول القاضي أبي بكر وغيره ويؤيده قوله فقد رأى الحق أي رأى الحق الذي قصد إعلام الرائي فيه فإن كانت على ظاهرها وإلا سعى في تأويلها ولا يهمل أمرها لأنها إما بشرى بخير أو إنذار من شر وإما تنبيه على حكم ينفع له في دينه أو دنياه.

وقال الغزالي : لا يريد أنه رأى بل رأى مثالا صار آلة يتأدى بها معنى في نفسي إليه وصار واسطة بيني وبينه في تعريف الحق إياه بل البدن في اليقظة أيضا ليس إلا آلة النفس والحق أن ما يراه حقيقة روحه المقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله ويعلم الرائي كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله بخلق علم لا غير.

__________________

(١) في أكثر النسخ : يجىء.

(٢) عقل ( خ ).

(٣) دار ( ظ ).


وقال الكرماني في شرح البخاري فقد رآني أي رؤيته ليست أضغاث أحلام ولا تخييلات الشيطان كما روي فقد رأى الحق ثم الرؤية بخلق الله لا يشترط فيها مواجهة ولا مقابلة فإن قيل كثيرا ما يرى على خلاف صفته ويراه شخصان في حالة في مكانين قلت ذلك ظن الرائي أنه كذلك وقد يظن الظان بعض الخيالات مرئيا لكونه مرتبطا بما يراه عادة فذاته الشريفة هي مرئية قطعا لا خيال فيه ولا ظن فإن قلت الجزاء هو الشرط قلت أراد لازمه أي فليستبشر فإنه رآني وقال الطيبي اتحاد الشرط والجزاء يدل على المبالغة أي رأى حقيقتي على كمالها قال وقال القاضي لعله مقيد بما رآه على صفته فإن خالف كان رؤيا تأويل رؤيا حقيقة وهو ضعيف انتهى كلماتهم الواهية.

والظاهر أنها ليست رؤية بالحقيقة وإنما هو بحصول الصورة في الحس المشترك أو غيره بقدرة الله تعالى والغرض من هذه العبارة بيان حقيقة الرؤيا وأنها من الله لا من الشيطان وهذا المعنى هو الشائع في مثل هذه العبارة كأن يقول رجل من أراد أن يراني فلير فلانا أو من رأى فلانا فقد رآني أو من وصل فلانا فقد وصلني فإن كل هذه محمولة على التجوز والمبالغة ولم يرد بها معناها حقيقة.

وأما التأويل الذي ذكره المفيد قدس الله روحه فيما نقلنا عنه في الباب السابق فلا يخفى بعده مع أنه غير محتمل في خبر الرضا عليه‌السلام أصلا بل في بعض ألفاظ الروايات العامية أيضا.

بقي الكلام في أنه هل يكون حجة في الأحكام الشرعية فيه إشكال فإنه قد ورد بأسانيد صحيحة عن الصادق عليه‌السلام في حديث الأذان أن دين الله تبارك وتعالى أعز من أن يرى في النوم. ويمكن أن يقال المراد أنه لا يثبت أصل شرعية الأحكام بالنوم بل إنما هي بالوحي الجلي ومع ذلك ينبغي أن يخص بنوم غير الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام لما مر أن نومهم بمنزلة الوحي لكن هذه الأخبار ليست بصريحة في وجوب العمل به إذ لعله مع العلم بكونه منهم عليهم‌السلام لم يجب العمل به إذ مناط الأحكام الشرعية العلوم الظاهرة كما أن النبي والأئمة عليهم‌السلام كانوا يعرفون كفر


المنافقين وفسق الفاسقين ونجاسة أكثر الأشياء لكن الظاهر أنهم لم يكونوا مأمورين بالعمل بهذا العلم بل كانوا يستندون في تلك الأحكام إلى الأمور الظاهرة من المشاهدة وسماع البينة مع أن الظاهر أن هذا من مسائل الأصول ولا بد فيه من العلم ولا يثبت بأخبار الآحاد المفيدة للظن وأيضا ما يرى في المنام قد يحتاج إلى تعبير وتأويل فلعل ما رآه مما له تعبير وهو لا يعرفه وإن لم يكن من قبيل الأضغاث.

ولقد سأل السيد مهنا بن سنان العلامة الحلي قدس الله روحه ما يقول سيدنا فيمن رأى في منامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعض الأئمة عليهم‌السلام وهو يأمره بشيء وينهاه عن شيء هل يجب عليه امتثال ما أمره به أو اجتناب ما نهاه عنه أم لا يجب ذلك مع ما صح عن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال من رآني في منامه فقد رآني فإن الشيطان لم يتمثل بي وغير ذلك من الأحاديث.

وما قولكم لو كان ما أمر به أو نهى عنه على خلاف ما في أيدي الناس من ظاهر الشريعة هل بين الحالين فرق أم لا أفتنا في ذلك مبينا جعل الله كل صعب عليك هينا.

فأجاب نور الله ضريحه أما ما يخالف الظاهر فلا ينبغي المصير إليه وأما ما يوافق الظاهر فالأولى المتابعة من غير وجوب لأن رؤيته عليه‌السلام لا يعطي وجوب الاتباع في المنام انتهى.

وقال البغوي في شرح السنة رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام حق وكذلك جميع الأنبياء والملائكة وكذلك الشمس والقمر والنجوم المضيئة والسحاب الذي فيه الغيث ومن رأى نزول الملائكة بمكان فهو نصرة لأهله إن كانوا في كرب وجدب وكذلك رؤية الأنبياء ومن رأى ملكا يكلمه ببر أو عظة أو بصلة أو يبشره فهو شرف في الدنيا وشهادة في العاقبة ورؤية الأنبياء كالملائكة إلا في الشهادة لأن الأنبياء كانوا يخالطون الناس كما قال « إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ » (١) الآية وقال في

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٦.


الشهداء « وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ » (١) ورؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكان سعة لأهله إن كانوا في ضيق ونصرة إن كانوا في ظلم وكذلك الصحابة والتابعين لهم بإحسان ورؤية أهل الدين بركة وخير على قدر منازلهم في الدين ومن رأى النبي كثيرا في المنام لم يزل خفيف الحال مقلا في دنيا (٢) من غير حاجة فادحة ولا خذلان قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه ورؤية الإمام إصابة خير وشرف.

٢ ـ قرب الإسناد : عن معاوية بن حكيم عن الحسن بن علي بن بنت إلياس قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام بخراسان رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والتزمته (٣).

٣ ـ وبهذا الإسناد عنه عليه‌السلام قال : قال لي ابتداء إن أبي كان عندي البارحة قلت أبوك قال أبي قلت أبوك قال في المنام إن جعفرا كان يجيء إلى أبي فيقول يا بني افعل كذا يا بني افعل كذا قال فدخلت عليه بعد ذلك فقال لي يا حسن إن منامنا ويقظتنا واحدة (٤).

٤ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى (٥) عن محمد بن الحسين عن علي بن النعمان عن سويد القلا [ القلاء ] عن بشير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له إني رأيت في المنام أني قلت لك إن القتال مع غير الإمام المفترض الطاعة حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير فقلت لي نعم هو كذلك فقال أبو عبد الله عليه‌السلام هو كذلك (٦).

٥ ـ تفسير الفرات : عن سعيد بن عمر القرشي عن الحسين بن عمر الجعفري عن أبيه قال : كنت أدمن الحج فأمر على علي بن الحسين عليه‌السلام فأسلم عليه فدخلت (٧)

__________________

(١) الحديد : ١٩.

(٢) دنياه ( ظ ).

(٣) قرب الإسناد : ٢٠٣. وفيه : رايت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاهنا والتزمته.

(٤) المصدر : ٢٠٢.

(٥) في الكافي : محمد بن الحسن الطاطرى ، عمن ذكره ، عن علي بن النعمان ، عن سويد القلانسى ـ الخ ـ.

(٦) الكافي : ج ٥ ، ص ٢٣. وفيه : هو كذلك ، هو كذلك.

(٧) في المصدر : ففى بعض حججى غدا علينا علي بن الحسين (ع) ووجهه مشرق فقال : جاءنى رسول الله ...


في بعض حججي عليه فقال رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلتي هذه حتى أخذ بيدي فأدخلني الجنة فزوجني حوراء فواقعتها فعلقت فصاح بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا علي بن الحسين سم المولود منها زيدا قال فما قمنا (١) من ذلك المجلس حتى أرسل المختار بن أبي عبيد هدية إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام شراها بثلاثين ألفا فلما رأينا إشعافه بها تفرقنا من المجلس فلما كان من قابل حججت ومررت على علي بن الحسين لأسلم عليه فخرج بزيد على كتفه الأيسر وله ثلاثة أشهر وهو يتلو هذه الآية ويومئ بيده إلى زيد وهو يقول « هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ».

٦ ـ مجالس الصدوق : عن محمد بن بكران النقاش عن أحمد بن محمد البرد الهمداني عن المنذر بن محمد عن أحمد بن رشيد عن عمه سعيد بن خثيم عن أبي حمزة الثمالي قال : حججت فأتيت علي بن الحسين عليهما‌السلام فقال يا حمزة ألا أحدثك عن رؤيا رأيتها رأيت كأني أدخلت الجنة فأوتيت بحوراء لم أر أحسن منها فبينا أنا متكئ على أريكتي إذ سمعت قائلا يقول يا علي بن الحسين ليهنئك زيد ليهنئك زيد قال أبو حمزة ثم حججت بعده فأتيت علي بن الحسين فقرعت الباب ففتح لي ودخلت فإذا هو حامل زيدا على يده أو قال حاملا غلاما على يده فقال لي يا أبا حمزة « هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا » (٢)

٧ ـ كتاب سليم بن قيس : قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لعبد الله بن عمر ما قال لك أبوك حين دعانا رجلا رجلا فقال أما أدنى شهادتي فإنه قال إن بايعوا أصلع بني هاشم حملهم على المحجة البيضاء وأقامهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم ثم قال يا ابن عمر فما قلت أنت عند ذلك قال قلت له فما يمنعك أن تستخلفه قال فما رد عليك قال ورد علي شيئا أكتمه قال علي عليه‌السلام فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخبرني به ليلة مات أبوك في منامي ومن رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد رآه في اليقظة قال فما أخبرك قال أنشدك الله يا ابن عمر لئن حدثتك لتصدقن؟

__________________

(١) في المصدر : .

(٢) الأمالي : ٢٠٢.


قال أو أسكت قال فإنه قال لك حين قلت له فما يمنعك أن تستخلفه قال الصحيفة التي كتبناها بيننا والعهد في الكعبة في حجة الوداع فسكت ابن عمر وقال أسألك بحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أمسكت عني الخبر.

٨ ـ ومنه : عن عبد الرحمن بن غنم الأزدي وساق قصة وفاة معاذ بن جبل وأبي بكر إلى أن قال دعا بالويل والثبور وقال هذا محمد وعلي صلوات الله عليهما يبشراني بالنار بيده الصحيفة التي تعاهدنا عليها في الكعبة وهو يقول لقد وفيت بها فظاهرت على ولي الله [ أنت ] وأصحابك فأبشر بالنار في أسفل السافلين قال سليم فقلت لمحمد بن أبي بكر فمن ترى حدث أمير المؤمنين عن هؤلاء الخمسة بما قالوا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنه يراه في منامه كل ليلة وحديثه إياه في المنام مثل حديثه إياه في اليقظة فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي في نوم ولا يقظة ولا بأحد من أوصيائي إلى يوم القيامة قال سليم فقلت لمحمد بن أبي بكر من حدثك بهذا قال علي عليه‌السلام فقلت سمعت أنا أيضا كما سمعت أنت قلت لمحمد فلعل ملكا من الملائكة حدثه قال أو ذاك وساقه إلى أن قال سليم فلما قتل محمد بن أبي بكر بمصر وعزينا أمير المؤمنين عليه‌السلام حدثته بما حدثني به محمد وخبرته بما خبرني به عبد الرحمن بن غنم قال صدق محمد رحمه‌الله أما إنه شهيد يرزق الحديث.

٩ ـ مجالس ابن الشيخ : عن أبيه عن المفيد عن الصدوق عن أبيه عن محمد بن القاسم عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عمن سمع حنان بن سدير الصيرفي قال سمعت أبي يقول رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يرى النائم وبين يديه طبق مغطى بمنديل فدنوت منه وسلمت عليه ، فرد السلام ثم كشف المنديل عن الطبق فإذا فيه رطب فجعل يأكل منه فدنوت منه فقلت يا رسول الله ناولني رطبة فناولني واحدة فأكلتها ثم قلت يا رسول الله ناولني أخرى فناولنيها فأكلتها فجعلت كلما أكلت واحدة سألته أخرى حتى أعطاني ثمانية رطبات فأكلتها ثم طلبت منه أخرى فقال لي حسبك قال فانتبهت من منامي فلما كان من


الغد دخلت على جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام وبين يديه طبق مغطى بمنديل كأنه الذي رأيته في المنام بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسلمت عليه فرد علي السلام ثم كشف الطبق فإذا فيه رطب فجعل يأكل منه فعجبت لذلك وقلت جعلت فداك ناولني رطبة فناولني فأكلتها ثم طلبت أخرى حتى أكلت ثماني رطبات ثم طلبت منه أخرى فقال لي لو زادك جدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لزدناك فأخبرته فتبسم تبسم عارف بما كان.

١٠ ـ ومنه : بإسناده عن سلمان في أجوبة أمير المؤمنين عليه‌السلام عن مسائل الجاثليق وساق إلى أن طلب الجاثليق منه عليه‌السلام المعجز فقال أمير المؤمنين خرجت أيها النصراني من مستقرك مضمرا خلاف ما أظهرت الآن من الطلب والاسترشاد فأريت في منامك مقامي وحدثت فيه كلامي وحذرت فيه من خلافي وأمرت فيه باتباعي قال صدقت والله الذي بعث المسيح ما اطلع على ما أخبرتني به غير الله تعالى ثم أسلم وأسلم الذين كانوا معه.

أقول : قد مر في أبواب معجزات الأئمة عليهم‌السلام أخبار كثيرة في ذلك تركناها مخافة الإطناب والتكرار وستأتي رؤيا أم داود في باب عمل الاستفتاح.

١١ ـ التوحيد للصدوق : بإسناده عن وهب بن وهب القرشي عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام رأيت الخضر عليه‌السلام (١) قبل بدر بليلة فقلت له علمني شيئا أنصر به على الأعداء فقال (٢) يا هو يا من لا هو إلا هو فلما أصبحت قصصتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا علي علمت الاسم الأعظم وكان على لساني يوم بدر (٣) الخبر.

١٢ ـ مجالس ابن الشيخ : عن أبيه عن ابن حشيش عن محمد بن عبد الله عن علي بن محمد بن مخلد عن أحمد بن ميثم عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن

__________________

(١) في المصدر : فى المنام.

(٢) فيه : قل يا هو ...

(٣) التوحيد : ٤٩.


أبي بكر بن عياش قال : إني رأيت في منامي حين وجه موسى بن عيسى إلى قبر الحسين عليه‌السلام من كربه وكرب جميع أرض الحائر وزرع الزرع فيها كأني خرجت إلى قومي بني غاضرة فلما صرت بقنطرة الكوفة اعترضتني خنازير عشرة تريدني فأغاثني الله برجل كنت أعرفه من بني أسد فدفعها عني فمضيت لوجهي فلما صرت إلى شاهي ضللت الطريق فرأيت هناك عجوزا فقالت لي أين تريد أيها الشيخ قلت أريد الغاضرية قالت لي تنظر هذا الوادي فإنك إذا أتيت إلى آخره اتضح لك الطريق فمضيت وفعلت ذلك فلما صرت إلى نينوى إذا أنا بشيخ كبير جالس هناك فقلت من أين أنت أيها الشيخ فقال لي أنا من أهل هذه القرية فقلت كم تعد من السنين قال ما أحفظ ما مر من سني وعمري ولكن أبعد ذكري أني رأيت الحسين بن علي عليه‌السلام ومن كان معه من أهله ومن تبعه يمنعون الماء الذي تراه ولا تمنع الكلاب ولا الوحوش شربه فاستفظعت ذلك وقلت له ويحك أنت رأيت هذا قال إي والذي سمك السماء لقد رأيت هذا أيها الشيخ وعاينته وإنك وأصحابك الذين تعينون على ما قد رأينا مما أقرح عيون المسلمين إن كان في الدنيا مسلم فقلت ويحك وما هو قال حيث لم تنكروا ما أجرى سلطانكم إليه قلت وما جرى قال أيكرب قبر ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويحرث أرضه قلت وأين القبر قال ها هو ذا أنت واقف في أرضه وأما القبر فقد عمي عن أن يعرف موضعه.

قال ابن عياش : وما كنت رأيت القبر قبل ذلك الوقت قط ولا أتيته في طول عمري فقلت من لي بمعرفته فمضى معي الشيخ حتى وقف بي على حير له باب وآذن وإذا جماعة كثيرة على الباب فقلت للآذن أريد الدخول على ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لا تقدر على الوصول في هذا الوقت قلت ولم قال هذا وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمد رسول الله ومعهما جبرئيل وميكائيل في رعيل من الملائكة كثير.

قال ابن عياش : فانتبهت وقد دخلني روع شديد وحزن وكآبة ومضت بي الأيام حتى كدت أن أنسى المنام ثم اضطررت إلى الخروج إلى بني غاضرة لدين


كان لي على رجل منهم فخرجت وأنا لا أذكر الحديث حتى صرت بقنطرة الكوفة ولقيني عشرة من اللصوص فحين رأيتهم ذكرت الحديث ورعبت من خشيتي لهم فقالوا لي ألق ما معك وانج بنفسك وكان معي نفيقة فقلت ويحكم أنا أبو بكر بن عياش وإنما خرجت في طلب دين لي والله لا تقطعوني عن طلب ديني وتصرفاتي في نفقتي فإني شديد الإضافة فنادى رجل منهم مولاي ورب الكعبة لا تعرض له ثم قال لبعض فتيانهم كن معه حتى تصير به إلى الطريق الأيمن.

قال أبوبكر : فجعلت أتذكر ما رأيته في المنام وأتعجب من تأويل الخنازير حتى صرت إلى نينوى فرأيت والله الذي لا إله إلا هو الشيخ الذي كنت رأيته في منامي بصورته وهيئته رأيته في اليقظة كما رأيته في المنام سواء فحين رأيته ذكرت الأمر والرؤيا فقلت لا إله إلا الله ما كان هذا إلا وحيا (١) ثم سألته كمسألتي إياه في المنام فأجابني بما كان أجابني ثم قال لي امض بنا فمضيت فوقفت معه على الموضع وهو مكروب فلم يفتني شيء من منامي إلا الآذن والحير فإني لم أر حيرا ولم أر آذنا ثم قال أبو بكر إن أبا حصين حدثني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال من رآني في المنام فإياي رأى فإن الشيطان لا يتشبه بي تمام الخبر.

بيان : تقول كرب الأرض إذا قلبتها للحرث والرعيل القطعة من الخيل والإضافة الضيافة.

أقول : وقد مضت أخبار كثيرة من هذا الباب في أبواب معجزات الأئمة ومعجزات ضرائحهم المقدسة.

__________________

(١) في أكثر النسخ « وصيا » والظاهر أنه تصحيف.


٤٦

(باب)

(قوى النفس ومشاعرها من الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى البدنية)

الآيات :

البقرة : « خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » (١).

النحل : « وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » (٢).

المؤمنون : « وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ » (٣)

الروم : « وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ » (٤).

تفسير : « خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ » قال النيسابوري القلب تارة يراد به اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة وينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة والشرايين ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسانا وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بموجب (٥) التكليف « إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ » (٦) وهي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة ومدة بعد إرادة موجده

__________________

(١) البقرة : ٧.

(٢) النحل : ٧٨.

(٣) المؤمنون : ٧٨.

(٤) الروم : ٢٢.

(٥) بمواجب ( خ ).

(٦) ق : ٣٧.


« إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (١) كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق وهو نقيض ذلك « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ » (٢) وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » (٣) وبالروح « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » (٤) « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » (٥) ثم قال بعد تفسير السمع والبصر والحق عندي أن نسبة البصر إلى العين نسبة البصيرة إلى القلب ولكل من القلب والعين نور أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق فهو نور جزئي ومدركه في ذلك النور ولكل منهما بل لكل فرد منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته وضعفه ويتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه أو يدركه أصغر مما هو عليه انتهى.

أقول : وقد مضى تفسير الختم وتأويله في كتاب العدل.

« لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً » قال الزمخشري هو في موضع الحال أي غير عالمين شيئا من حق المنعم الذي خلقكم في البطون وسواكم ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة « وَجَعَلَ لَكُمُ » معناه وركب فيكم هذه الأشياء آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم.

وقال النيسابوري اعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الإنسان في مبدإ فطرته خال عن المعارف والعلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات وحضرت صورها في ذهنه ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق إن كان كافيا في جزم الذهن بثبوت بعضها لبعض أو انتفاء بعضها عن بعض فتلك الأحكام علوم بديهية وإن لم يكن

__________________

(١) يس : ٨٢ والآية كانت في المتن بجميع نسخه هكذا : إنما أمرنا لشيء إذا اردناه ان نقول له كن فيكون.

(٢) الأعراف : ٥٤.

(٣) الشمس : ٧ ـ ٨.

(٤) الإسراء : ٨٥.

(٥) ص ٧٢ ، الجر : ٢٩.


كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعا للدور أو التسلسل فهي علوم كسبية فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أنه تعالى أعطى الحواس والقوى الداركة للصور الجزئية وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة هي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات وإنما لا يظهر آثارها عليها حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئا فشيئا وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية فالمراد بقوله « لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً » أنه لا يظهر أثر العلم عليهم ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب سائر العلوم ومعنى « لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » أن تصرفوا كل آلة في ما خلق لأجله وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف جعل على أخرج أن يكون جعل السمع والبصر والأفئدة متأخرا عن الإخراج من البطن.

« وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ » قال الرازي لما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بالاختلاف الذي بين ألوان الإنسان فإن واحدا منهم مع كثرة عددهم وصغر حجمهم خدودهم وقدودهم لا تشتبه بغيرهم والثاني اختلاف كلامهم فإن عربيين هما أخوان إذا تكلما بلغة واحدة يعرف أحدهما من الآخر حتى أن من يكون محجوبا عنهما لا يبصرهما يقول هنا صوت فلان وفيه حكمة بالغة وذلك لأن الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه وليقبل على الصديق (١) قبل أن يفوته الإقبال عليه وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع بها التمييز (٢) ومن الناس من قال إن المراد اختلاف اللغات كالعربية والفارسية والرومية وغيرها والأول أصح انتهى.

وعلى الثاني المراد أنه علم كل صنف لغته أو ألهمه وضعها وأقدره عليها.

__________________

(١) في أكثر النسخ « ليحترز قبل ... » وهو خطأ من النساخ ظاهر.

(٢) في أكثر النسخ « التميز ».


الأخبار :

١ ـ مجالس الصدوق : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن إبراهيم بن هاشم عن إسماعيل بن مرار عن يونس بن عبد الرحمن عن يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام جماعة من أصحابه فيهم حمران بن أعين ومؤمن الطاق وهشام بن سالم والطيار وجماعة من أصحابه فيهم هشام بن الحكم وهو شاب فقال أبو عبد الله عليه‌السلام يا هشام قال لبيك يا ابن رسول الله قال ألا تحدثني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته قال هشام جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أجلك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إذا أمرتكم بشيء فافعلوا (١) قال هشام بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة وعظم ذلك علي فخرجت إليه ودخلت البصرة في يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة وإذا أنا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء متزر بها من صوف وشملة مرتد بها (٢) فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت أيها العالم أنا رجل غريب تأذن لي فأسألك عن مسألة قال فقال نعم قال قلت له ألك عين قال يا بني أي شيء هذا من السؤال فقلت هكذا مسألتي فقال يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء قلت أجبني فيها قال فقال لي سل قلت ألك عين قال نعم قلت فما ترى بها قال الألوان والأشخاص قال قلت (٣) فلك أنف قال نعم قلت فما تصنع به قال أتشمم بها الرائحة قال قلت ألك فم قال نعم قال قلت وما (٤) تصنع به قال أعرف به طعم الأشياء قال قلت ألك لسان قال نعم قلت وما تصنع به قال أتكلم به قال قلت ألك أذن قال نعم قلت وما تصنع بها قال أسمع بها الأصوات قال قلت :

__________________

(١) في المصدر : فافعلوه.

(٢) زاد فيه : والناس يسألونه.

(٣) فقلت : ألك.

(٤) فما ( خ ).


ألك يد قال نعم قلت وما تصنع بها قال أبطش بها قال قلت ألك قلب قال نعم قلت وما تصنع به قال أميز كل ما ورد على هذه الجوارح قال قلت أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب قال لا قلت وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة قال يا بني إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته أو لمسته ردته إلى القلب فييقن اليقين ويبطل الشك قال فقلت إنما أقام الله القلب لشك الجوارح قال نعم قال قلت فلا بد من القلب وإلا لم تستقم الجوارح قال نعم قال فقلت يا أبا مروان إن الله تعالى ذكره لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح وييقن ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك قال فسكت ولم يقل شيئا قال ثم التفت إلي فقال أنت هشام فقلت لا فقال لي أجالسته فقلت لا قال فمن أين أنت قلت من أهل الكوفة قال فأنت إذا هو قال ثم ضمني إليه وأقعدني في مجلسه وما نطق حتى قمت فضحك أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام ثم قال يا هشام من علمك هذا قال قلت يا ابن رسول الله جرى على لساني قال يا هشام هذا والله مكتوب في « صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى » (١).

٢ ـ العلل : عن محمد بن موسى البرقي عن علي بن محمد ماجيلويه عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه عن محمد بن سنان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول لرجل اعلم يا فلان إن منزلة القلب (٢) من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم ألا ترى أن جميع جوارح الجسد شرط للقلب وتراجمة له مؤدية عنه الأذنان والعينان والأنف (٣) واليدان والرجلان والفرج فإن القلب إذا هم بالنظر فتح الرجل عينيه وإذا هم بالاستماع حرك أذنيه وفتح

__________________

(١) الأمالي : ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٢) في بعض النسخ « والجسد » والصواب ما أثبتناه موافقا لنسخ اخرى وللمصدر.

(٣) زاد في المصدر : « والفم ».


مسامعه فسمع وإذا هم القلب بالشم استنشق بأنفه فأدى تلك الرائحة إلى القلب وإذا هم بالنطق تكلم باللسان وإذا هم بالحركة سعت الرجلان وإذا هم بالشهوة تحرك الذكر فهذه كلها مؤدية عن القلب بالتحريك وكذا ينبغي للإمام أن يطاع للأمر منه (١).

بيان : قال في القاموس الشرطة بالضم واحد الشرط كصرد وهم أول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت وطائفة من أعوان الولاة.

٣ ـ التوحيد والخصال : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن القاسم بن محمد الأصبهاني عن سليمان بن داود المنقري عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن علي بن الحسين عليه‌السلام في حديث طويل يقول فيه ألا إن للعبد أربع أعين عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه وعينان يبصر بهما أمر آخرته فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته وإذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه (٢).

أقول : أوردت الأخبار في أحوال القلب وصلاحه وفساده وكذا أحوال النفس ودرجاتها في الصلاح والفساد في أبواب مكارم الأخلاق من كتاب الكفر والإيمان.

٤ ـ المناقب لابن شهرآشوب ، مما أجاب الرضا عليه‌السلام بحضرة المأمون لضباع بن نصر الهندي وعمران الصابي عن مسائلهما قال عمران العين نور مركبة أم الروح تبصر الأشياء من منظرها قال عليه‌السلام العين شحمة وهو البياض والسواد والنظر للروح دليله أنك تنظر فيه فترى صورتك في وسطه والإنسان لا يرى صورته إلا في ماء أو مرآة وما أشبه ذلك قال ضباع فإذا عميت العين كيف صارت الروح قائمة والنظر ذاهب قال كالشمس طالعة يغشاها الظلام قالا (٣) أين تذهب الروح قال أين يذهب الضوء الطالع من الكوة في البيت إذا سدت الكوة قال أوضح لي

__________________

(١) علل الشرائع : ج ١ ، ص ١٠٣.

(٢) الخصال : ١١٢.

(٣) في المصدر : قال.


ذلك قال الروح مسكنها في الدماغ وشعاعها منبث في الجسد بمنزلة الشمس دارتها في السماء وشعاعها منبسط على الأرض فإذا غابت الدارة فلا شمس وإذا قطعت الرأس فلا روح (١).

بيان : نور مركبة أي مدرك ركب في هذا العضو وهو يدرك المبصرات أم المدرك الروح وهذا منظره واختار عليه‌السلام الثاني ويدل على أن المدرك النفس وهذه آلاتها كما مر أنه المشهور ويحتمل أن يكون المراد به الروح الحيواني بأن يكون المراد أن المدرك هو الروح الذي في العين لا نفس الضوء (٢) فلا ينفي المذهب الآخر كما يومئ إليه قوله الروح مسكنها في الدماغ وهو يدل على أن محل الروح ومنشأه الدماغ كما قيل وكان النزاع لفظي والمراد هنا الروح النفساني النازل من الدماغ بتوسط الأعصاب إلى جميع البدن ومنشأ الجميع القلب.

قال بعض المحققين : خلق الله سبحانه بلطيف صنعه جرما حارا لطيفا نورانيا شفافا يسمى بالروح البخاري وجعله مركبا للنفس وقواها وكرسيا لملائكتها حيا بحياتها باقيا بتعلقها به فانيا برحلتها عنه لا كسائر الأجرام التي تزول عنها الحياة وهي باقية وبه حياة البدن من الواهب بواسطة النفس فكل موضع يفيض عليه من سلطان نوره يحيا وإلا فيموت واعتبر بالسدد فلو لا أن قوة الحس والحركة قائمة بهذا الجسم اللطيف لما كانت السدد يمنعها وقد يخدر العضو بالسدة بحيث لا يتألم بجرح وضرب وربما ينقطع فتبطل الحياة منه ولو لا أنه شديد اللطافة لما نفذ في شباك العصب ومن أخذ بعض عروقه يحس بجري جسم لطيف حار فيه وتراجعه عنه وهذا هو الروح ومنبعه القلب الصنوبري ومنه يتوزع على الأعضاء العالية والسافلة من البدن فما يصعد إلى معدن الدماغ على أيدي خوادم الشرايين معتدلا بتبريده فائضا إلى الأعضاء المدركة المتحركة منبثا في جميع البدن يسمى روحا نفسانيا وما يسفل منه إلى الكبد بأيدي سفراء الأوردة الذي هو مبدأ

__________________

(١) المناقب : ج ٤ ، ص ٣٥٣.

(٢) العضو خ.


القوى النباتية منبثا في أعراق البدن يسمى روحا طبيعيا انتهى.

قوله دليله أنك تنظر فيه كأن الغرض التنبيه على أن هذا العضو بنفسه ليس شاعرا لشيء لأنه مثل سائر الأجسام الصقيلة التي يرى فيها الوجه كالماء والمرآة فكما أنها ليست مدركة لما ينطبع فيها فكذا العين وغيرها من المشاعر أو دفع (١) لتوهم كون الانطباع دليلا على كونها شاعرة فيكون سندا للمنع.

قوله دارتها أي جرمها المستدير في القاموس الدار المحل يجمع البناء والعرصة كالدارة وبالهاء ما أحاط بالشيء كالدائرة ومن الرمل ما استدار منه وهالة القمر وفي المصباح الدارة دارة القمر وغيره سميت بذلك لاستدارتها انتهى والرأس مذكر وتأنيث الفعل كأنه لاشتماله على الأعضاء الكثيرة إن لم يكن من تصحيف النساخ.

٥ ـ التوحيد : عن محمد بن موسى بن المتوكل عن علي بن إبراهيم عن محمد بن أبي إسحاق عن عدة من أصحابنا أن عبد الله الديصاني أتى هشام بن الحكم فقال له ألك رب فقال بلى قال قادر قال بلى (٢) قادر قاهر قال يقدر أن يدخل الدنيا كلها في البيضة لا تكبر (٣) البيضة ولا تصغر الدنيا فقال هشام النظرة فقال له قد أنظرتك حولا ثم خرج عنه فركب هشام إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فاستأذن عليه فأذن له فقال يا ابن رسول الله أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعول فيها إلا على الله وعليك فقال أبو عبد الله عليه‌السلام عما ذا سألك فقال قال لي كيت وكيت فقال أبو عبد الله عليه‌السلام يا هشام كم حواسك قال خمس فقال أيها أصغر فقال الناظر قال وكم قدر الناظر قال مثل العدسة أو أقل منها فقال يا هشام فانظر أمامك وفوقك وأخبرني بما ترى فقال أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وترابا وجبالا وأنهارا فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام إن الذي قدر أن يدخل

__________________

(١) رفع خ.

(٢) في المصدر : نعم.

(٣) في المصدر « لا يكبر في البيضة » والصواب ما في المتن.


الذي تراه العدسة (١) أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة ولا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة فانكب هشام عليه وقبل يديه ورأسه ورجليه وقال حسبي يا ابن رسول الله فانصرف إلى منزله وغدا عليه الديصاني فقال له يا هشام إني جئتك مسلما ولم أجئك متقاضيا للجواب فقال له هشام إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب (٢) الخبر.

تبيين : أقول في حل هذا الخبر وجوه أوردتها في كتاب التوحيد وعلى التقادير يدل على أن الإبصار بالانطباع وعلى بعض الوجوه المتقدمة يحتمل أن يكون إقناعيا مبنيا على المقدمة المشهورة بين الجمهور أن الرؤية بدخول صور المرئيات في العضو البصري فلا ينافي كون الإبصار حقيقة بخروج الشعاع.

٦ ـ الإختصاص : قال العالم عليه‌السلام : خلق الله عالمين متصلين فعالم علوي وعالم سفلي وركب العالمين جميعا في ابن آدم وخلقه كريا (٣) [ كرويا ] مدورا فخلق الله رأس ابن آدم كقبة الفلك وشعره كعدد النجوم وعينيه كالشمس والقمر ومنخريه كالشمال والجنوب وأذنيه كالمشرق والمغرب وجعل لمحه كالبرق وكلامه كالرعد ومشيه كسير الكواكب وقعوده كشرفها وغفوه كهبوطها وموته كاحتراقها وخلق في ظهره أربعا وعشرين فقرة كعدد ساعات الليل والنهار وخلق له ثلاثين معى كعدد الهلال ثلاثين يوما وخلق له اثني عشر وصلا (٤) كعدد السنة اثني عشر شهرا وخلق له ثلاثمائة وستين عرقا كعدد السنة ثلاثمائة وستين يوما وخلق له سبعمائة عصبة واثني عشر عضوا وهو مقدار ما يقيم الجنين في بطن أمه وعجنه من مياه أربعة فخلق المالح في عينيه فهما لا يذوبان في الحر ولا يجمدان في البرد وخلق المر في أذنيه لكي لا تقربهما الهوام وخلق المني في ظهره لكيلا يعتريه الفساد وخلق

__________________

(١) فيه : العدس.

(٢) التوحيد : ٧٥.

(٣) في المصدر : كرويا.

(٤) من هنا الى « واثنى عشر » غير موجود في المصدر.


العذب في لسانه (١) ليجد طعم الطعام والشراب وخلقه بنفس وجسد وروح فروحه التي لا تفارقه إلا بفراق الدنيا ونفسه التي تريه (٢) الأحلام والمنامات وجسمه هو الذي يبلى ويرجع إلى التراب (٣).

بيان : وغفوه أي نومه وفي بعض النسخ فقره وكأنه تصحيف وهو مقدار ما يقيم أي الاثنا عشر فإن أكثر الحمل اثنا عشر شهرا على الأشهر وكأن الروح هو الحيواني والنفس هي الناطقة.

٧ ـ تحف العقول : سأل يحيى بن أكثم عن قول علي عليه‌السلام إن الخنثى يورث من المبال وقال فمن ينظر إذا بال إليه مع أنه عسى أن تكون امرأة وقد نظر إليها الرجال أو عسى أن يكون رجلا وقد نظرت إليه النساء وهذا ما لا يحل فأجاب أبو الحسن الثالث عليه‌السلام : إن قول علي عليه‌السلام حق وينظر قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة وتقوم الخنثى خلفهم عريانة فينظرون في المرايا فيرون الشبح فيحكمون عليه (٤).

بيان : ظاهره أن الرؤية بالانطباع لا بخروج الشعاع لقوله عليه‌السلام فيرون الشبح ولأنه إذا كان بخروج الشعاع فلا ينفع النظر في المرآة لأن المرئي حينئذ هو الفرج أيضا ويمكن الجواب بوجهين :

الأول : أن مبنى الأحكام الشرعية الحقائق العرفية واللغوية لا الدقائق الحكمية ومن رأى امرأة في الماء لا يقال لغة ولا عرفا أنه رآها وإنما يقال رأى صورتها وشبحها والنصوص الدالة على تحريم النظر إلى العورة إنما تدل على تحريم الرؤية المتعارفة وشمولها لهذا النوع من الرؤية غير معلوم فيمكن أن يكون كلامه عليه‌السلام مبنيا على ذلك لا على كون الرؤية بالانطباع ويكون قوله فيرون الشبح

__________________

(١) في المصدر : فشهد آدم أن لا إله إلا الله فخلقه بنفس ـ الخ ـ.

(٢) فيه : يرى بها الاحلام.

(٣) الاختصاص : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٤) تحف العقول : السؤال في ص ٤٧٧ ، والجواب في ص ٤٨٠.


مبنيا على ما يحكم به أهل العرف وذكره لبيان أن مثل تلك الرؤية لا تسمى رؤية حقيقية (١) لا عرفا ولا لغة.

والثاني : أنه يحتمل أن يكون الحكم مبنيا على الضرورة ويجوز في حال الضرورة ما لا يجوز في غيرها فيجوز النظر إلى العورة كنظر الطبيب والقابلة وأمثالهما ولما كان هذا النوع من الرؤية أخف شناعة وأقل مفسدة اختاره عليه‌السلام لدفع الضرورة هناك بها فلا يدل على الجواز عند فقد الضرورة وعلى الانطباع والأول أظهر ومع ذلك لا يمكن دفع كون ظاهر الخبر الانطباع وسنتكلم في أصل الحكم في موضعه إن شاء الله تعالى.

٨ ـ توحيد المفضل : قال الصادق عليه‌السلام فكر يا مفضل في الأفعال التي جعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبر فيها فإنه جعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرك يقتضيه ويستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن وقوامه والكرى (٢) يقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام قواه والشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه ولو كان الإنسان إنما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئا يضطره إلى ذلك كان خليقا أن يتوانى عنه أحيانا بالتثقل والكسل حتى ينحل بدنه فيهلك كما يحتاج الواحد إلى الدواء لشيء مما يصلح به بدنه فيدافع به حتى يؤديه ذلك إلى المرض والموت وكذلك لو كان إنما يصير إلى النوم بالتفكر في حاجته إلى راحة البدن وإجمام قواه كان عسى أن يتثاقل عن ذلك فيدفعه حتى ينهك بدنه ولو كان إنما يتحرك للجماع بالرغبة في الولد كان غير بعيد أن يفتر عنه حتى يقل النسل أو ينقطع فإن من الناس من لا يرغب في الولد ولا يحفل (٣) به فانظر كيف جعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرك من نفس الطبع يحركه كذلك ويحدوه عليه.

__________________

(١) حقيقة ( خ ).

(٢) الكرى ـ بفتحتين ـ : النعاس.

(٣) أي لا يبالى ولا يهتم به. وفي نسخة « لا يحتمل به » وفي أخرى « ولا بمجفل به ».


واعلم أن في الإنسان قوى أربعا قوة جاذبة تقبل الغذاء وتورده على المعدة وقوة ممسكة تحبس الطعام حتى تفعل فيه الطبيعة فعلها وقوة هاضمة وهي التي تطبخه وتستخرج صفوه وتبثه في البدن وقوة دافعة تدفعه وتحدر الثفل الفاضل بعد أخذ الهاضمة حاجتها ففكر في تقدير هذه القوى الأربع التي في البدن وأفعالها وتقديرها للحاجة إليها والإرب فيها وما في ذلك من التدبير والحكمة ولو لا الجاذبة كيف يتحرك الإنسان لطلب الغذاء التي بها قوام البدن ولو لا الماسكة كيف كان يلبث الطعام في الجوف حتى تهضمه المعدة ولو لا الهاضمة كيف كان ينطبخ منه حتى يخلص منه الصفو الذي يغذو البدن ويسد خلله ولو لا الدافعة كيف كان الثفل الذي تخلفه الهاضمة يندفع ويخرج أولا فأولا أفلا ترى كيف وكل الله سبحانه بلطيف صنعه وحسن تقديره هذه القوى بالبدن والقيام بما فيه صلاحه؟

وسأمثل في ذلك مثالا إن البدن بمنزلة دار الملك وله فيها حشم وصبية (١) وقوام موكلون بالدار فواحد لإفضاء (٢) حوائج الحشم وإيرادها عليهم وآخر لقبض ما يرد وخزنه إلى أن يعالج ويهيأ وآخر لعلاج ذلك وتهيئته وتفريقه وآخر لتنظيف ما في الدار من الأقذار وإخراجه منها فالملك هو الخلاق الحكيم ملك العالمين والدار هي البدن والحشم هي الأعضاء والقوام هي هذه القوى الأربع :

ولعلك ترى ذكرنا هذه القوى الأربع وأفعالها بعد الذي وصفت فضلا وتزدادا وليس ما ذكرته من هذه القوى على الجهة التي ذكرت في كتب الأطباء ولا قولنا فيه كقولهم لأنهم ذكروها على ما يحتاج إليه في صناعة الطب وتصحيح الأبدان وذكرناها على ما يحتاج في صلاح الدين وشفاء النفوس من الغي كالذي أوضحته بالوصف الثاني والمثل المضروب من التدبير والحكمة فيها.

تأمل يا مفضل هذه القوى التي في النفس وموقعها من الإنسان أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخلال الحفظ وحده

__________________

(١) الصبية ـ بالتثليث : جمع الصبى.

(٢) في بعض النسخ « لا قضاء » وهو تصحيف.


كيف كانت تكون حاله وكم من خلل كان يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجاربه إذا لم يحفظ ما له وعليه وما أخذه وما أعطى وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساءه وما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ولا يحفظ علما ولو درسه عمره ولا يعتقد دينا ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئا على ما مضى بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية أصلا

فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخلال أو كيف موقع الواحدة منها دون الجميع وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان فإنه لو لا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة ولا انقضت له حسرة ولا مات له حقد ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ولا رجاء غفلة من سلطان ولا فترة من حاسد أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان جعل له في كل منهما ضرب من المصلحة وما عسى أن يقول الذين قسموا الأشياء بين خالقين متضادين في هذه الأشياء المتضادة المتباينة وقد تراها تجمع على ما فيه الصلاح والمنفعة؟

انظر يا مفضل إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه أعني الحياء فلولاه لم يقر ضيف ولم يوف بالعدات ولم تقض الحوائج ولم يتحر الجميل ولم يتنكب القبيح في شيء من الأشياء حتى إن كثيرا من الأمور المفترضة أيضا إنما يفعل للحياء فإن من الناس [ من ] لو لا الحياء لم يرع حق والديه ولم يصل ذا رحم ولم يؤد أمانة ولم يعف عن فاحشة أفلا ترى كيف وفي الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره

تأمل يا مفضل ما أنعم الله تقدست أسماؤه به على الإنسان من هذا النطق الذي يعبر به عما في ضميره وما يخطر بقلبه وينتجه فكره وبه يفهم من غيره ما في نفسه ولو لا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء ولا تفهم عن مخبر شيئا وكذلك الكتابة التي بها تقيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وغيرها وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات والحساب ولولاه لانقطع أخبار بعض الأزمنة


عن بعض وأخبار الغائبين عن أوطانهم ودرست العلوم وضاعت الآداب وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم وما روي لهم مما لا يسعهم جهله ولعلك تظن أنها مما يخلص إليه بالحيلة والفطنة وليست مما أعطيه الإنسان من خلقه وطباعه وكذلك الكلام إنما هو شيء يصطلح عليه الناس فيجري بينهم ولهذا صار يختلف في الأمم المختلفة بألسن مختلفة وكذلك الكتابة ككتابة العربي والسرياني والعبراني والرومي وغيرها من سائر الكتابة التي هي متفرقة في الأمم إنما اصطلحوا عليها كما اصطلحوا على الكلام فيقال لمن ادعى ذلك إن الإنسان وإن كان له في الأمرين جميعا فعل أو حيلة فإن الشيء الذي يبلغ به ذلك الفعل والحيلة عطية وهبة من الله عز وجل له في خلقه فإنه لو لم يكن له لسان مهيأ للكلام وذهن يهتدي به للأمور لم يكن ليتكلم أبدا ولو لم يكن له كف مهيأة وأصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدا واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة فأصل ذلك فطرة البارئ جل وعز وما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب ومن كفر فإن الله غني عن العالمين.

فكر يا مفضل في ما أعطي الإنسان علمه وما منع فإنه أعطي علم جميع ما فيه صلاح دينه ودنياه فمما فيه صلاح دينه معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة في الخلق ومعرفة الواجب عليه من العدل على الناس كافة وبر الوالدين وأداء الأمانة ومواساة أهل الخلة وأشباه ذلك مما قد توجب معرفته والإقرار والاعتراف به في الطبع والفطرة من كل أمة موافقة أو مخالفة وكذلك أعطي علم ما فيه صلاح دنياه كالزراعة والغراس واستخراج الأرضين واقتناء الأغنام والأنعام واستنباط المياه ومعرفة العقاقير التي يستشفى بها من ضروب الأسقام والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر وركوب السفن والغوص في البحر وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان والتصرف في الصناعات ووجوه المتاجر والمكاسب وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه ومنع ما سوى ذلك مما ليس فيه


شأنه ولا طاقته أن يعلم كعلم الغيب وما هو كائن وبعض ما قد كان أيضا كعلم ما فوق السماء وما تحت الأرض وما في لجج البحار وأقطار العالم وما في قلوب الناس وما في الأرحام وأشباه هذا مما حجب على الناس علمه وقد ادعت طائفة من الناس هذه الأمور فأبطل دعواهم ما يبين من خطئهم في ما يقضون عليه ويحكمون به في ما ادعوا علمه فانظر كيف أعطي الإنسان علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره ونقصه وكلا الأمرين فيها صلاحه.

تأمل الآن يا مفضل ما ستر عن الإنسان علمه من مدة حياته فإنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع ترقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه بل كان يكون بمنزلة من قد فني ماله أو قارب الفناء فقد استشعر الفقر والوجل من فناء ماله وخوف الفقر على أن الذي يدخل على الإنسان من فناء العمر أعظم مما يدخل عليه من فناء المال لأن من يقل ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك ومن أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس وإن كان طويل العمر ثم عرف ذلك وثق بالبقاء وانهمك في اللذات والمعاصي وعمل على أنه يبلغ من ذلك شهوته ثم يتوب في آخر عمره وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله ألا ترى لو أن عبدا لك عمل على أنه يسخطك سنة ويرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه ولم يحل عندك محل العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك ونصحك في كل الأمور في كل الأوقات على تصرف الحالات.

فإن قلت : أوليس قد يقيم الإنسان على المعصية حينا ثم يتوب فتقبل توبته قلنا إن ذلك شيء يكون من الإنسان لغلبة الشهوات له لو [ و ] تركه مخالفتها من غير أن يقدرها في نفسه ويبني عليه أمره فيصفح الله عنه ويتفضل عليه بالمغفرة فأما من قدر أمره على أن يعصي ما بدا له ثم يتوب آخر ذلك فإنما يحاول خديعة من لا يخادع بأن يتسلف التلذذ في العاجل ويعد ويمني نفسه التوبة في الآجل ولأنه لا يفي بما يعد من ذلك فإن النزوع من الترفه والتلذذ ومعاناة التوبة ولا سيما عند الكبر وضعف البدن أمر صعب ولا يؤمن على الإنسان مع مدافعته بالتوبة أن


يرهقه الموت فيخرج من الدنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين إلى أجل وقد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتى يحل الأجل وقد نفد المال فيبقى الدين قائما عليه فكان خير الإنسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقب الموت فيترك المعاصي ويؤثر العمل الصالح.

فإن قلت : وها هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته وصار يترقب الموت في كل ساعة يقارف الفواحش وينتهك المحارم قلنا إن وجه التدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه فإن كان الإنسان مع ذلك لا يرعوي ولا ينصرف عن المساوي فإنما ذلك من مرحه ومن قساوة قلبه لا من خطإ في التدبير كما أن الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به فإن كان المريض مخالفا لقول الطبيب لا يعمل بما يأمره ولا ينتهي عما ينهاه عنه لم (١) ينتفع بصفته ولم يكن الإساءة في ذلك الطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه ولئن كان الإنسان مع ترقبه للموت كل ساعة لا يمتنع عن المعاصي فإنه لو وثق بطول البقاء كان أحرى بأن يخرج إلى الكبائر القطعية (٢) فترقب الموت على كل حال خير له من الثقة بالبقاء ثم إن ترقب الموت وإن كان صنف من الناس يلهون عنه ولا يتعظون به فقد يتعظ به صنف آخر منهم وينزعون عن المعاصي ويؤثرون العمل الصالح ويجودون بالأموال والعقائل النفسية في الصدقة على الفقراء والمساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة لتضييع أولئك حظهم منها.

تذنيب

ولنذكر بعض ما ذكره الحكماء في تحقيق القوى البدنية الإنسانية لتوقف فهم الآيات والأخبار عليها في الجملة واشتمالها على الحكم الربانية.

قالوا : الحيوان جسم مركب مختص من بين المركبات بالنفس الحيوانية لكون مزاجه أقرب إلى الاعتدال جدا من النباتات والمعادن فبعد أن يستوفي درجة

__________________

(١) في بعض النسخ : ولم ينتفع بصفته فلم يكن.

(٢) الفظيعة ( خ ).


الجماد والنبات يقبل صورة أشرف من صورتهما وعرفوا النفس الحيوانية بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة ولها قوتان مدركة ومحركة أما المدركة فهي إما في الظاهر أو في الباطن أما التي في الظاهر فهي خمس بحكم الاستقراء وقيل لأن الطبيعة لا تنتقل من درجة الحيوانية إلى درجة فوقها إلا وقد استكملت جميع ما في تلك المرتبة فلو كان في الإمكان حس آخر لكان حاصلا للإنسان فلما لم يحصل علمنا أن الحواس منحصرة في الخمس.

فمنها السمع وهو قوة مودعة في العصب المفروش في مقعر الصماخ ويتوقف على وصول الهواء المنضغط بين القارع والمقروع و (١) القالع والمقلوع مع مقاومة المتكيف بكيفية الصوت المعلول لتموج ذلك الهواء إلى الصماخ وليس مرادهم بوصوله ما هو المتبادر منه بل إن ذلك الهواء بتموجه يموج الهواء المجاور له ويكفيه بالصوت ثم يتموج المجاور لهذا المجاور وهكذا إلى أن يتموج الهواء الراكد في الصماخ وقيل لا ينحصر المتوسط في الهواء بل كل جسم سيال كالماء أيضا.

ومنها البصر وهو قوة مودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين النابتتين من غور البطنين المقدمين من الدماغ يتيامن النابت منهما يسارا ويتياسر النابت منهما يمينا فيلتقيان ويصير تجويفهما واحدا ثم ينعطف النابت منهما يمينا إلى الحدقة اليمنى والنابت منهما يسارا إلى الحدقة اليسرى ويسمى الملتقى بمجمع النور.

والفلاسفة اختلفوا في كيفية الإبصار فالطبيعيون منهم ذهبوا إلى أنه بانطباع شبح المرئي في جزء من الرطوبة الجليدية التي هي بمنزلة البرد والجمد في الصقالة المرآتية فإذا قابلها متلون مستنير انطبع مثل صورته فيها كما ينطبع صورة الإنسان في المرآة لا بأن ينفصل من المتلون شيء ويميل إلى العين بل بأن يحدث مثل صورته في عين الناظر ويكون استعداد حصوله بالمقابلة المخصوصة مع توسط الهواء المشف.

__________________

(١) أو ( خ ).


والرياضيون ذهبوا إلى أنه بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط رأسه عند العين وقاعدته عند المرئي ثم اختلفوا في أن ذلك المخروط مصمت أو مؤتلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس متفرقة في الجانب الذي يلي القاعدة وقال بعضهم بأن الخارج من العين خط واحد مستقيم لكن يثبت طرفه الذي يلي العين ويضطرب طرفه الأخرى على المرئي فيتخيل منه هيئة مخروط.

والإشراقيون قالوا لا شعاع ولا انطباع وإنما الإبصار مقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقيلة فإذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم حضوري إشراقي على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية لكن المشهور من آراء الفلاسفة الانطباع والشعاع.

تمسك الأولون بوجوه أحدها وهو العمدة أن العين جسم صقيل نوراني وكل جسم كذلك إذا قابله كثيف ملون انطبع فيه شبحه كالمرآة أما الكبرى فظاهر وأما الصغرى فلما نشاهد من النور في الظلمة إذا حك المنتبه من النوم عينه ولأن الإنسان إذا نظر نحو أنفه قد يرى عليه دائرة مثل الضياء وإذا انتبه من النوم قد يبصر ما قرب منه ثم يفقده وذلك لامتلاء العين من النور وإن غمضنا إحدى العينين اتسع مثقب العين الأخرى فيعلم أنه يملؤه جوهر نوري ولو لا انصباب أجسام نورانية من الدماغ إلى العين لكان تجويف العصبتين عديم الفائدة.

وثانيها : أن الإحساس بسائر الحواس ليس لأجل خروج شيء من المحسوس بل لأجل أن يأتيها صورة المحسوس فكذا حكم الإبصار.

وثالثها : أن كون رؤية الأشياء الكبيرة من البعيد صغيرة لضيق زاوية الرؤية لا يتأتى إلا مع القول بكون موضع الرؤية هو الزاوية كما هو رأي أصحاب الانطباع لا القاعدة على ما هو رأي القائلين بخروج الشعاع فإنها لا تتفاوت.

ورابعها : أن من حدق النظر إلى الشمس ثم انصرف عنها يبقى في عينه صورتها زمانا وذلك يوجب ما قلناه.

وخامسها : أن الممرورين يرون صورا مخصوصة لا وجود لها في الخارج فإذن


حصولها في البصر.

وأجيب عن الأول بأنه بعد تمامه لا يفيد إلا انطباع الشبح وأما كون الإبصار به فلا وعن الثاني أنه تمثيل بلا جامع وعن الثالث بأن كون العلة ما ذكرتم غير مسلم كيف وأصحاب الشعاع يذكرون له وجها آخر وعن الرابع بأن الصورة غير باقية في الباصرة بل في الخيال وأين أحدهما من الآخر وعن الخامس أنه إنما يدل على إثبات الانطباع في هذا النحو من الرؤية التي هي من قبيل الرؤيا ومشاهدة الأمور الغائبة عن الأبصار بوقوع أشباحها في الخيال ولا يدل على أن الإبصار للموجودات في الخارج بالانطباع وقياس أحدهما على الآخر غير ملتفت إليه في العلوم.

وتمسك القائلون بالشعاع أيضا بوجوه أحدها أن من قل شعاع بصره كان إدراكه للقريب أصح من إدراكه للبعيد لتفرق الشعاع في (١) البعيد ومن كثر شعاع بصره مع غلظه كان إدراكه للبعيد أصح لأن الحركة في المسافة البعيدة تفيد رقة وصفاء ولو كان الإبصار بالانطباع لما تفاوت الحال.

وثانيها أن الأجهر يبصر بالليل دون النهار لأن شعاع بصره لقلته يتخلل نهارا شعاع الشمس فلا يبصر ويجتمع ليلا فيقوى على الإبصار والأعمش بالعكس لأن شعاع بصره لغلظه لا يقوى على الإبصار إلا إذا أفادته الشمس رقة وصفاء.

وثالثها أن الإنسان إذا نظر إلى ورقة ورآها كلها لم يظهر له إلا السطر الذي يحدق نحوه البصر وما ذاك إلا بسبب أن مسقط سهم مخروط الشعاع أصح إدراكا.

ورابعها أن الإنسان يرى في الظلمة كأن نورا انفصل عن عينه وأشرق على أنفه وإذا غمض عينه على السراج يرى كأن خطوطا شعاعية اتصلت بين عينيه والسراج.

والجواب عن الكل أنها لا تدل على المطلوب أعني كون الإبصار بخروج الشعاع بل على أن في العين نورا ونحن لا ننكر أن في آلات الإبصار أجساما شعاعية مضيئة تسمى بالروح الباصرة وإن أنكرها محمد بن زكريا زعما أن النور لا يوجد إلا في النار

__________________

(١) للبعيد ( خ ).


وفي الكواكب وأما الأجسام الكثيفة وما في بواطنها فالأولى بها الظلمة وكيف يعقل داخل الدماغ مع تسترها بالحجب جسم نوراني أما ابن سينا فقد اعترف بذلك لأن جالينوس لما احتج ببعض الشبه التي مر ذكرها على خروج الشعاع من العين وأجاب عنه بأن ذلك يدل على وجود الشعاع في العين ولا نزاع فيه لكن قلتم إن ذلك الشعاع يخرج فحينئذ نقول آلة الإبصار جسم نوراني في الجليدية يرتسم منه بين العين والمرئي مخروط وهمي يتعلق إدراك النفس بذلك المرئي من جهة زاويته التي عند الجليدية وتشتد حركته عند رؤية البعيد فيتخلل لطيفها فيفتقر إلى تلطيف إذا غلظ وتكثيف إذا لطف ورق فوق ما ينبغي ويحدث منها في المقابل القابل أشعة وأضواء يكون قوتها في مسقط السهم مما يحاذي مركز العين الذي هو بمنزلة الزاوية للمخروط الوهمي ولشدة استنارته يكون ما يرى منه أظهر وإدراكه أقوى وأكمل ويشبه أن يكون هذا مراد القائلين بخروج الشعاع تجوزا منهم على ما صرح به الشيخ وإلا فهو باطل قطعا أما إذا أريد حقيقة الشعاع الذي هو من قبيل الأعراض فظاهر وإن أريد جسم شعاعي يتحرك من العين إلى المرئي فلأنا قاطعون بأنه يمتنع أن يخرج من العين جسم ينبسط في لحظة على نصف كرة العالم ثم إذا طبق الجفن عاد إليها أو انعدم ثم إذا فتح خرج مثله وهكذا وأن يتحرك الجسم الشعاعي من دون قاسر أو إرادة إلى جميع الجهات وأن ينفذ في الأفلاك ويخرقها ليرى الكواكب وأن لا يتشوش لهبوب الرياح ولا يتصل بغير المقابل كما في الأصوات حيث يميلها الرياح إلى الجهات ولأنه يلزم أن لا يرى القمر مثل الثوابت بل بزمان يناسب التفاوت بينهما وليس كذلك بل يرى الأفلاك بما فيها من الكواكب دفعة.

ثم إن للقائلين بالشعاع مذهبا آخر وهو أن المشف الذي بين البصر والمرئي يتكيف بكيفية الشعاع الذي في البصر ويصير بذلك آلة للإبصار ويرد عليه المفاسد المتقدمة مع زيادة.

وقال صاحب المقاصد : الحق أن الإبصار بمحض خلق الله تعالى عند فتح العين. ثم اعلم أنه يعرض في الرؤية أمور غريبة قد يستدل ببعضها على أحد المذهبين


منها اختلاف الأقدار بسبب تفاوت الأبعاد والسبب فيه على كلا المذهبين اختلاف زاوية مركز الجليدية انفراجا وحدة فإنه إذا قابل المبصر البصر توهمنا خطين مستقيمين واصلين بين مركز الجليدية وطرفي المبصر فيحصل زاوية البتة عند مركز الجليدية فكلما كانت تلك الزاوية أعظم يرى المرئي أصغر ولا يخفى على المتدرب أن قرب المرئي سبب لعظم تلك الزاوية وبعده سبب لصغرها أو بزيادة القرب يزيد عظمها وبزيادة البعد يزيد صغرها فالخطوط التي هي أضلاع الزوايا موجودة عند الرياضيين موهومة عند المشاءين وكل من أصحاب المذهبين جعل هذا مؤيدا لمذهبه وله وجه وإن كان بمذهب المشاءين أنسب.

وقال بعض المحققين : قد قرر الحكماء عن آخرهم أن تفاوت أقدار المبصرات بتفاوت أقدار الزاوية المذكورة ويتبع تفاوت إحداهما تفاوت الأخرى على نسبتها من غير انثلام في اتساق النسبة وبنوا عليه علم المناظر وغيره من معظمات المسائل وفيه شبهة وهو أنا إذا قربنا جسما صغيرا طوله مثل طول البصر أو أزيد بقليل كالإصبع من البصر بحيث يصل إلى رءوس شعر الجفن فيرى بزاوية عظيمة جدا ويحجب الجبل العظيم جدا فزاويته أعظم من زاوية الجبل فيجب أن يرى أعظم مع أن الأمر بخلافه ضرورة والجواب أنه في الرؤية أعظم إلا أنه يعلم بحكم العقل أنه صغير جدا ورئي عظيما بسبب كمال قربه انتهى.

ومنها رؤية المرئيات في المرايا والأجسام الصقيلة واختلف في سببه وتفرق آراؤهم إلى مذاهب أربعة الأول مذهب أصحاب الشعاع حيث ذهبوا إلى أنه بانعكاس الخطوط الشعاعية وتفصيله أنا نعلم تجربة أن الشعاع ينعكس من الجسم الصقيل كما ينعكس شعاع الشمس من الماء إلى الجدار ومن المرآة إلى مقابلها فإذا وقع شعاع البصر على المرآة مثلا ينعكس منها إلى جسم آخر وضعه من المرآة وضع المرآة من البصر على وجه تتساوى زاويتا الشعاع والانعكاس فإذا قابلت المرآة وجه المبصر وكان سهم المخروط الشعاعي عمودا على سطح المرآة وجب انعكاس ذلك الخط العمود من سمته بعينه إلى مركز الجليدية إذ لو انعكس إلى غيره لزم تساوي زاوية قائمة مع زاوية


حادة وانعكست الخطوط القريبة منه إلى باقي أجزاء الوجه فيرى الوجه وإذا كانت المرآة غير مقابلة للبصر على الوجه المذكور لم ينعكس الشعاع إليه بل إلى جسم آخر من شأنه أن تتساوى به الزاويتان المذكورتان فالمرئي في المرآة إنما هو الأمر الخارجي لكن لما رئي بالشعاع الذي رئي به المرآة يظن أنه في المرآة وليس موجودا في المرآة وإذا كان الوجه قريبا من المرآة والخطوط المنعكسة قصيرة يظن أن صورة المرئي قريبة من سطح المرآة وإذا كان الوجه بعيدا عنها والخطوط المنعكسة طويلة يظن الصورة غائرة فيها وأورد عليه وجوه من الإيراد المذكورة في محالها.

الثاني مذهب أصحاب الانطباع وتوضيحه أنه كما أن القوة الباصرة بحيث إذا قابلت جسما ملونا مضيئا ارتسمت صورته فيها فكذلك هي بحيث إذا قابلت جسما صقيلا ارتسمت صورتها في الباصرة مع صورة مقابل ذلك الجسم الصقيل وترتسم في جزء ارتسمت فيه صورة المرآة وشرط الانعكاس عندهم أيضا ما مر من كون الجسم المقابل من المرآة مثل مقابلة المرآة للمبصر بحيث تتساوى زاويتا الشعاع والانعكاس من الخطوط الشعاعية الموهومة المفروضة المستقيمة.

الثالث مذهب سخيف ضعيف وهو أن الصورة ينطبع في المرآة.

الرابع مذهب أفلاطون ومن سبقه وتبعه من الإشراقيين حيث أثبتوا عالما آخر سوى هذا العالم الجسماني الذي هو المحدد للجهات مع ما فيه من الأجرام الفلكية والأجسام العنصرية وهو عالم متوسط بينه وبين عالم المجردات العقلية الصرفة المنزهة عن المقدار والحيز والجهة والشكل فإن أشخاص هذا العالم صور مثالية وأشباح برزخية مجردة عن الطبائع والمواد نورانية يسمى ذلك العالم عالم المثال وقالوا إن الصور المرئية في المرايا وغيرها من الأجسام الصقيلة والصور المتخيلة وأمثالها صور موجودة قائمة بنفسها إذ لو كانت الصور في المرآة لما اختلفت رؤية الشيء باختلاف مواضع نظرنا إليها ولو كانت في الهواء لم يمكن أن ترى لأن الهواء شفاف لم يمكن أن يرى وكذا ما حل فيه وليست هي صورتك بعينها بأن ينعكس الشعاع من المرآة إليك لبطلان القول بالشعاع لوجوه مذكورة في كتب


القوم ولا في القوة الباصرة أو غيرها من القوى البدنية لوجوه ذكروها فهي صور جسمانية موجودة في عالم آخر متوسط بين عالمي الحس والعقل يسمى بعالم المثال وهي قائمة بذاتها معلقة لا في محل ولا في مكان لها مظاهر كالمرآة في الصور المرئية المرآتية والخيال في الصور الخيالية ووافقهم الصوفية في إثبات هذا العالم وقد مرت الإشارة إليه.

قال القيصري في شرح الفصوص : اعلم أن العالم المثالي هو عالم روحاني من جوهر نوراني شبيه بالجوهر الجسماني في كونه محسوسا مقداريا وبالجوهر المجرد العقلي في كونه نورانيا وليس بجسم مركب مادي ولا جوهر مجرد عقلي لأنه برزخ وحد فاصل بينهما وكل ما هو برزخ بين الشيئين لا بد وأن يكون غيرهما بل له جهتان يشبه بكل منهما ما يناسب عالمه اللهم إلا أن يقال أنه جسم نوري في غاية ما يمكن من اللطافة فيكون حدا فاصلا بين الجواهر المجردة اللطيفة وبين الجواهر الجسمانية الكثيفة وإن كان بعض هذه الأجسام ألطف من البعض كالسماوات بالنسبة إلى غيرهما انتهى.

ومنها رؤية الشيء شيئين كما في الأحول وفي من مد طرف عينه أو غمض إصبعه في طرف من العين فإنه يرى كل شيء اثنين واختلفت الآراء في تعليله ولنذكر منها مذهبين الأول مذهب أصحاب الشعاع فإنهم يقولون إنه يخرج من كل عين مخروط شعاعي له سهم فإن وقع السهمان على موضع واحد من المرئي يرى شيئا واحدا وإن اختلف موقعاهما يرى اثنين الثاني مذهب أصحاب الانطباع ومداره على مقدمة وهي أن القوة البصرية قائمة بالروح الحيواني المصبوب في العصبتين المجوفتين النابتتين من مقدم الدماغ المتقاطعتين وعند التقاطع يتحد التجويفان وهناك مجمع النور فإذا قابل البصر المبصر انطبعت صورته في الجليديتين ولا يكفي ذلك في الإبصار وإلا لرئي الشيء الواحد شيئين بل يحب أن تتأدى صورة أخرى مثل تلك الصورة إلى مجمع النور فتحصل الإبصار ثم إن هذا الروح الذي في مجمع النور يؤدي صورة المرئي إلى الحس المشترك وهناك يتم كمال الإبصار


ثم بعده هذه المقدمة نقول إن لإدراك الشيء الواحد اثنين أربعة أسباب :

الأول انتقال الآلة المؤدية للشبح الذي في الجليدية إلى ملتقى العصبتين فلا يتأدى الشبحان إلى موضع واحد بل ينتهي كل إلى جزء آخر من الروح الباصرة لأن خطي الشبحين لم ينفذا نفوذا من شأنه أن يتقاطعا عند ملتقى العصبتين وإذا اختص كل بجزء آخر من الروح الباصرة فكأنهما شبحان لشيئين ولأنه يختلف موضع الشبح في الروح الباصرة يرى الاثنين في الاثنين.

الثاني حركة الروح الباصرة التي في الملتقى وتموجها يمينا ويسارا حتى يتقدم مركزها المرسوم له في الطبع إلى جهتي الجليديتين أخذا متموجا مضطربا فيرتسم فيه الشبح قبل تقاطع المخروطين فينطبع من الشيء الواحد شبحان ويرى كشيئين مفترقين وهذا مثل ارتسام شبح الشمس في الماء الساكن الراكد مرة واحدة وفي الماء المتوج متكررا.

الثالث اضطراب روح الباصرة التي في مقدم الدماغ وحركته قداما إلى صوب ملتقى العصبتين وخلفا إلى الحس المشترك فإذا نظر في تلك الحالة إلى المرئي انطبع شبحه في جزء من الروح الحاصل في مركزه الذي له وضع مخصوص بالقياس إلى ذلك المرئي فإذا تحرك ذلك الجزء ووقع جزء آخر في موضعه فلا جرم انطبع شبحه في ذلك الجزء أيضا ولم يزل بعد عن الجزء الأول فتجتمع هناك صورتان ويرى شيئان ولمثل هذا السبب يرى الشيء السريع الحركة إلى جانبين كشيئين لأنه قبل انمحاء صورته عن الحس المشترك وهو في جانب يراه البصر في جانب آخر فتتوافى (١) إدراكاته في الجانبين معا ومن هذا القبيل رؤية القطرة النازلة خطا مستقيما والشعلة الجوالة دائرة ونظير الحركة الدورية لصاحب الدوار فإنه لسبب من الأسباب الطبية (٢) يتحرك الروح الذي في تجويف مقدم الدماغ على الدور فحينئذ إن انطبعت فيه صورة تزول بسرعة لتحركه كزوال الضوء عن أجزاء الكرة المقابلة

__________________

(١) فتتواخى ( خ ).

(٢) الطبيعية ( ظ ).


للكوة التي تشرق منها الشمس على الكرة إذا دارت الكرة لكن قبل زوالها عن ذلك الجزء تحصل صورة في الجزء الذي حصل مكانه فيظن أن المرئي يدور حول نفسه وما ذلك إلا لحركة الرائي.

الرابع اضطراب يعرض للثقبة العنبية فإن الطبقة العنبية سهلة الحركة إلى هيئة تتسع بها الثقبة تارة وتضيق أخرى تارة إلى خارج وتارة إلى داخل فإن تحرك إلى خارج يعرض للثقبة اتساع وإن تحرك إلى داخل يعرض لها تضيق فإن ضاقت يرى الشيء أكبر وإن اتسعت يرى أصغر فيرى المرئي أولا غير المرئي ثانيا خصوصا إذا تمثلت قبل انمحاء الأول فيرى اثنين وفي حال ضيق الثقبة يتكاثف الروح البصري والنور الشعاعي فيرى أكبر كما يرى الشيء في البخار أعظم وفي حال السعة يتلطف الروح ويتخلخل ويرق فيرى أصغر.

ومنها انعطاف الشعاع وبيان ذلك أن الخطوط الشعاعية التي هي على سطح المخروط تنفذ على الاستقامة إلى طرفي المرئي إذا كان الشفاف المتوسط متشابه الغلظ والرقة فإن فرض هناك تفاوت بأن يكون مما يلي الرائي هواء ومما يلي المرئي ماء أو بخارا فإن تلك الخطوط إذا وصلت إلى ذلك الماء مثلا انعطفت ومالت إلى سهم المخروط ثم وصلت إلى طرفي المرئي ولو انعكس الفرض مالت الخطوط إلى خلاف جانب السهم ومن لوازم الانعطاف رؤية الشيء في الماء والبخار أعظم مما يرى في الهواء فإن العنبة ترى في الماء كالإجاصة والكوكب يرى في الأفق أعظم مما يرى في وسط السماء وذلك لأن الخطوط إذا انعطفت ومالت إلى جانب السهم تكون زاوية رأس المخروط أعظم منها إذا نفذت الخطوط على الاستقامة لأنه يجب أن تتباعد الخطوط بحيث إذا انعطفت ومالت إلى السهم وصلت إلى طرفي المرئي فيكون المرئي بها أعظم من المرئي بالأخرى.

ومنها رؤية الشجر على الشط منتكسا وذلك لأن الخطوط الشعاعية المنعكسة من سطح الماء إلى الشجر إنما تنعكس إليه على هيئة أوتار الآلة الحدباء المسماة بالفارسية چنگ فإذا كان الشجر على الطرف الآخر من الماء انعكس الشعاع


إلى رأس الشجر من موضع أقرب من الرائي وإلى ما تحت رأسه من موضع أبعد منه وهكذا وإذا كان الشجر على طرف الرائي كان الأمر في الانعكاس على عكس ما ذكر ألا ترى أنك إذا سترت سطح الماء من جانبك يستر عنك رأس الشجر في الصورة الأولى وقاعدتها في الصورة الثانية فيكون الخط الشعاعي المنعكس إلى رأس الشجر أطول من جميع تلك الخطوط المنعكسة إلى ما دونه ويكون ما هو أقرب منه أطول مما هو أبعد منه على الترتيب حتى يكون أقصرها هو المنعكس إلى قاعدة الشجرة وذلك لتساوي زاويتي الشعاع والانعكاس.

ولنفرض خط «ا ب» عرض النهر وخط «ج ب» الشجر القائم على شطه وه الحدقة ونفرض على «ا ب» نقطتي «د» و «و» على «ج ب» «ح» و «ط» فإذا خرج من «هـ» خط شعاعي إلى «و» وآخر إلى «د» وجب أن ينعكس الأول إلى نقطة «ط» مثلا فتكون الزاوية الشعاعية

أعني زاوية «ه‍ و ا» كالزاوية الانعكاسية أعني زاوية «ط و ب» وأن ينعكس الآخر إلى نقطة «ح» وتتساوى أيضا شعاعية «ه‍ د ا» وانعكاسية «ح د ب».

ثم إن النفس لا تدرك الانعكاس لتعودها في رؤية المرئيات بنفوذ الشعاع على الاستقامة فتحسب الشعاع المنعكس نافذا في الماء ولا نفوذ حينئذ هناك إذ ربما لا يكون الماء عميقا بقدر طول الشجر فيحسب لذلك أن رأس الشجر أكثر نزولا في الماء لكون الشعاع المنعكس إليه أطول وكذا الحال في باقي الأجزاء على الترتيب فتراه كأنه منتكس تحت سطح الماء.

ومنها الشامة وهي قوة منبثة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي تدرك الروائح بتوسط الهواء المتكيف بكيفية ذي الرائحة وقيل بتبخر أجزاء


لطيفة من ذي الرائحة تختلط بالهواء وتصل معه إلى الخيشوم وقيل بفعل ذي الرائحة في الشامة من غير استحالة في الهواء ولا تبخر وانفصال أجزاء ورد الثاني بأن القليل من المسك يشم على طول الأزمنة وكثرة الأمكنة من غير نقصان في وزنه وحجمه والثالث بأن المسك قد يذهب به إلى مسافة بعيدة ويحرق ويفنى بالكلية مع أن رائحته تدرك في الهواء الأول أزمنة متطاولة ويؤيد ذلك ما حكى أرسطو أن الرخمة (١) قد انتقلت من مسافة مائتي فرسخ برائحة جيفة من حرب وقع بين اليونانيين ودلهم على انتقالها من تلك المسافة عدم كون الرخمة في تلك الأرض إلا في نحو من هذا الحد من المسافة وقد يقال لعل المتحلل منه أجزاء صغار جدا تختلط بجميع تلك الأجزاء الهوائية والاستبعاد غير كاف في المباحث العلمية على أن الشيخ اعترض عليه في الشفاء بقوله يجوز أن يكون إدراكها للجيف بالباصرة حين هي محلقة في الجو العالي.

ومنها الذائقة وهي قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان وهي تالية للامسة إذ منفعتها أيضا في الفعل الذي به يتقوم البدن وهي تشهية الغذاء واختياره وبالجملة يتمكن به على جذب الملائم ودفع المنافر من المطعومات كما أن اللامسة يتمكن بها على مثل ذلك من الملموسات وهي توافق اللامسة في الاحتياج إلى الملامسة وتفارقها في أن نفس ملامسة المطعوم لا يؤدي الطعم كما أن نفس ملامسة الحار تؤدي الحرارة بل تفتقر إلى توسط الرطوبة اللعابية المنبعثة عن الآلة التي تسمى الملعبة ويشترط أن تكون هذه الرطوبة خالية عن مثل طعم المطعوم وضده بل عن غير ما يؤدي طعم المذوق كما هو إلى الذائقة فإن المريض إذا تكيف لعابه بطعم الخلط الغالب عليه لا يدرك طعوم الأشياء المأكولة والمشروبة إلا مشوبة بذلك الطعوم فإن الممرور إنما يجد طعم العسل مرا.

واختلفوا في أن توسطها إما بأن يخالطها أجزاء لطيفة من ذي الطعم ثم تغوص هذه الرطوبة معها في جرم اللسان إلى الذائقة فالمحسوس حينئذ هو كيفية ذي الطعم

__________________

(١) الرخمة ـ بالتحريك ـ طائر من الجوارح العظيمة الجثة.


وتكون الرطوبة واسطة لتسهل وصول جوهر المحسوس الحامل للكيفية إلى الحاسة أو بأن يتكيف نفس الرطوبة بالطعم بسبب المجاورة فتغوص وحدها فيكون المحسوس كيفيتها وعلى التقديرين لا واسطة بين الذائقة ومحسوسها حقيقة بخلاف الإبصار المحتاج إلى توسط الجسم الشفاف.

ومنها اللامسة وهي منبثة في البدن كله من شأنها إدراك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ونحو ذلك بأن ينفعل عنها العضو اللامس عند الملامسة بحكم الاستقراء قال الشيخ أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس فإنه كما أن للنبات قوة غاذية يجوز أن يفقد سائر القوى دونها كذلك حال اللامسة للحيوان لأن صلاح مزاجه من الكيفيات الملموسة وفساده باختلالها والحس طليعة للنفس فيجب أن يكون الطليعة الأولى هو ما يدل على ما منع به الفساد ويحفظ به الصلاح وأن يكون قبل الطلائع التي تدل على أمور تتعلق ببعضها منفعة خارجة عن القوام ومضرة خارجة عن الفساد والذوق وإن كان دالا على الشيء الذي به يستبقى الحياة من المطعومات فقد يجوز أن يبقى الحيوان بدونه لإرشاد الحواس الأخر على الغذاء الموافق واجتناب المضار وليس شيء منها يعين على أن الهواء محرق أو مجمد ولشدة الاحتياج إليه كان بمعونة الأعصاب ساريا في جميع الأعضاء إلا ما يكون عدم الحس أنفع له كالكبد والطحال والكلية لئلا تتأذى بما يلاقيها من الحاد اللذاع فإن الكبد مولد للصفراء والسوداء والطحال والكلية مصبان لما فيه لذع وكالرئة فإنها دائمة الحركة فتتألم باصطكاك بعضها ببعض وكالعظام فإنها أساس البدن ودعامة الحركات فلو أحست لتألمت بالضغط والمزاحمة وبما يرد عليها من المصاكات.

ثم إن الجمهور ذهبوا إلى أن اللامسة قوة واحدة بها يدرك جميع الملموسات كسائر الحواس فإن اختلاف المدركات لا يوجب اختلاف الإدراكات ليستدل بذلك على تعدد مبادئها وذهب كثير من المحققين ومنهم الشيخ إلى أنها قوى متعددة بناء على ما مهدوه في تكثير القوى من أن القوة الواحدة لا يصدر عنها أكثر من واحد


فقالوا : هاهنا ملموسات مختلفة الأجناس متضادة الأجناس فلا بد لها من قوى مدركة مختلفة تحكم بالتضاد بينها فأثبتوا لكل ضدين منها قوة واحدة هي الحاكمة بين الحرارة والبرودة والحاكمة بين الرطوبة واليبوسة والحاكمة بين الخشونة والملاسة والحاكمة بين اللين والصلابة ومنهم من زاد الحاكمة بين الثقل والخفة قالوا ويجوز أن يكون لهذه القوى بأسرها آلة واحدة مشتركة بينها وأن يكون هناك في الآلات انقسام غير محسوس فلذا توهم اتحاد القوى.

ويرد عليه أن المدرك بالحس هو المتضادان كالحرارة والبرودة دون التضاد فإنه من المعاني المدركة بالعقل أو الوهم وإذا جاز إدراك قوة واحدة للضدين فقد صدر عنها اثنان فلم لا يجوز أن يصدر عنها ما هو أكثر من ذلك وأيضا فإن الطعوم والروائح والألوان أجناس مختلفة متضادة مع اتحاد القوى المدركة لها وكون التضاد في ما بين الملموسات أكثر وأقوى لا يجدي نفعا.

وأما الحواس الباطنة فهي أيضا خمس عندهم بشهادة الاستقراء.

الأول الحس المشترك ويسمى باليونانية بنطاسيا أي لوح النفس وهي قوة مرتبة في مقدم التجويف الأول من التجاويف الثلاثة التي في الدماغ تقبل جميع الصور المنطبعة في الحواس الظاهرة بالتأدي إليها من طريق الحواس فهو كحوض ينصب فيه أنهار خمسة واستدلوا على وجوده بوجوه :

الأول : أنا نشاهد القطرة النازلة خطا مستقيما والنقطة الدائرة بسرعة خطا مستديرا وليس ارتسامها (١) في البصر إذ لا يرتسم فيه إلا المقابل وهو القطرة والنقطة فإذن ارتسامها (٢) إنما يكون في قوة أخرى غير البصر حصل فيها الارتسامات المتتالية بعضها ببعض فيشاهد خطا.

الثاني : أنا نحكم ببعض المحسوسات الظاهرة على بعض كالحكم بأن هذا الأبيض هو هذا الحلو وهذا الأصفر هو هذا الحار وكل من الحواس الظاهرة

__________________

(١) ارتسامهما ( خ ).

(٢) ارتسامهما ( خ ).


لا يحضر عندها إلا نوع مدركاتها فلا بد من قوة يحضر عندها جميع الأنواع ليصح الحكم بينها.

الثالث : أن المبرسم أي من به المرض المسمى بذات الجنب إذا قوي مرضه وتعطلت حواسه الظاهرة بغلبة المرض يرى أشياء لا تحقق لها في الخارج على سبيل المشاهدة دون التخيل فإنه قد يرى سباعا وأشخاصا حاضرة عنده ولا يراها أحد ممن سلم حواسه وليست هذه الصور مرتسمة في بصره إذ لا يرتسم فيه إلا ما هو موجود مقابل إياه ولما كان إدراكها كإدراك ما يرتسم من الخارج بلا فرق عند المدرك دل ذلك أيضا على أن الإبصار إنما هو بالحس المشترك ولما كان الإبصار بارتسام الصورة في الحس المشترك لم يتميز الحال عند المدرك بين أن يرد عليه الصورة من الخارج كما هو الغالب وبين أن ترد عليه من داخل كما في المبرسم فإنه لما اشتغل نفسه بمزاولة المرض بحيث تعطلت حواسه الظاهرة استولت المتخيلة ونقشت في لوح الحس المشترك صورا كانت مخزونة في الخيال وصورا ركبتها من الصور المخزونة على طريق انتقاشها فيه من الخارج ولما لم يكن لها شعور بانتقاشها فيه من داخل لم يفرق بينها وبين الصور المنتقشة فيه من خارج فيحسب الأشياء التي هذه صورها موجودة في الخارج حاضرة عنده كما في الصحة بلا فرق.

واعترض على الأول بأنه يجوز أن يكون اتصال الارتسام في الباصرة بأن يرتسم المقابل الآخر قبل أن يزول المرتسم قبله بسرعة لحوق الثاني وقوة ارتسام الأول فيكونان معا قيل وهذا مكابرة للقطع بأنه لا ارتسام في البصر عند زوال المقابلة.

وعلى الثاني بأنه لا يلزم من عدم كون الارتسام في الباصرة كونه في قوة أخرى جسمانية لجواز أن يكون في النفس ألا ترى أنا نحكم بالكلي على الجزئي كحكمنا بأن زيدا إنسان مع القطع بأن مدرك الكلي هو النفس ويجوز أن يكون حضورهما عند النفس وحكمها بينهما لارتسامهما في آلتين كما أن الحكم بين الكلي والجزئي تكون لارتسام الكلي في النفس والجزئي في الآلة.


وعلى الثالث أنه لا يلزم من ذلك وجود حس مشترك غاية الأمر أن لا تكفي الحواس الظاهرة لمشاهدة الصور حالتي الغيبة والحضور بل يكون لكل حس ظاهر حس باطن.

الثاني الخيال وهي قوة مرتبة في مؤخر التجويف الأول من الدماغ بحسب المشهور وعند المحققين الروح المصوب في التجويف الأول آلة للحس المشترك والخيال إلا أن المشاهدة اختص بما في مقدمه والتخيل بما في مؤخره وهو يحفظ جميع صور المحسوسات ويمثلها بعد الغيبة عن الحواس المختصة والحس المشترك وهي خزانة الحس المشترك لبقاء الصور المحسوسة فيها بعد زوالها عنه وإنما جعلت خزانة للحس المشترك مع أن مدركات جميع الحواس الظاهرة تختزن فيها لأن الحواس الظاهرة لا تدرك شيئا بسبب الاختزان بالخيال بل بإحساس جديد من خارج فيفوت معنى الخزانة بالقياس إليها بخلاف الحس المشترك فإنا إذا شاهدنا صورة في اليقظة أو النوم ثم ذهلنا عنها ثم شاهدناها مرة أخرى نحكم عليها بأنها هي التي شاهدناها قبل ذلك فلو لم تكن الصور محفوظة لم يكن هذا الحكم كما لو صارت منسية وإنما احتيج إلى الحفظ لئلا يختل نظام العالم ولا يشتبه الضار بالنافع إذا لم يعلم أنه المبصر أو لا وينفسد المعاملات وغيرها.

والدليل على مغايرتها للحس المشترك وجهان أحدهما أن قوة القبول غير قوة الحفظ فرب قابل النقش كالماء لم يحفظ لوجود رطوبة فيه هي شرط سرعة القبول وعدم اليبس الذي هو شرط الحفظ وثانيهما أن استحضار الصور والذهول عنها من غير نسيان والنسيان يوجب تغاير القوتين ليكون الاستحضار حصول الصورة فيهما والذهول حصولها في أحدهما دون الأخرى والنسيان زوالها عنهما واعترض عليهما بوجوه وأجابوا منها وهي مذكورة في محالها.

واحتج الرازي على إبطال الخيال بأن من طاف في العالم ورأى البلاد والأشخاص الغير المعدودة فلو انطبقت صورها في الروح الدماغي فإما أن يحصل جميع تلك الصور في محل واحد فيلزم الاختلاط وعدم التمايز وإما أن يكون لكل صورة


محل فيلزم ارتسام صورة في غاية العظم في جزء في غاية الصغر.

وأجيب بأنه قياس للصور على الأعيان وهو باطل فإنه لا استحالة ولا استبعاد في توارد الصور على محل واحد مع تمايزها ولا في ارتسام صورة العظيم في المحل الصغير وإنما ذلك في الأعيان الحالة في محالها حلول العرض في الموضوع أو الجسم في المكان.

الثالث الوهم وهي القوة المدركة للمعاني الجزئية الموجودة في المحسوسات كالعداوة المعينة من زيد وقيد بذلك لأن مدرك العداوة الكلية هو النفس والمراد بالمعاني ما لا يدرك بالحواس الظاهرة فيقابل الصور أعني ما يدرك بها فإدراك تلك المعاني دليل على وجود قوة بها إدراكها وكونها مما لم يتأد من الحواس دليل على مغايرتها للحس المشترك وكونها جزئية دليل على مغايرتها للنفس الناطقة بناء على أنها لا تدرك الجزئيات بالذات هذا مع وجودها في الحيوانات العجم كإدراك الشاة معنى في الذئب بقي الكلام في أن القوة الواحدة لما جاز أن تكون آلة لإدراك أنواع المحسوسات لم لا يجوز أن تكون آلة لإدراك معانيها أيضا؟

وأما إثبات ذلك بأنهم جعلوا من أحكام الوهم ما إذا رأينا شيئا أصفر فحكمنا بأنه عسل وحلو فيكون الوهم مدركا للحلاوة والصفرة والعسل جميعا ليصح الحكم وبأن مدرك عداوة الشخص مدرك له ضرورة فضعيف لأن الحاكم حقيقة هو النفس فيكون المجموع من الصور والمعاني حاضرا عندها بواسطة الآلات كل منها بآلتها الخاصة ولا يلزم كون محل الصور والمعاني قوة واحدة لكن يشكل بأن مثل هذا الحكم قد يكون للحيوانات العجم التي لا يعلم وجود النفس الناطقة لها كذا ذكره في شرح المقاصد.

وقد يستدل على وجودها بأن في الإنسان شيئا ينازع عقله في قضاياه كما يخاف الانفراد بميت يقتضي عقله الأمن منه وربما يغلب التخويف على التأمين فهو قوة باطنية غير عقله وقيل محل هذه القوة التجويف الأوسط من الدماغ وآلتها الدماغ كله لأنها الرئيس المطلق في الحيوان ومستخدمة سائر القوى


الحيوانية التي مصدر أكثر أفاعيلها الروح الدماغي فيكون كل الدماغ آلة لكن الأخص بها التجويف الأوسط لاستخدامها المتخيلة ومحلها مؤخر ذلك التجويف ولا يستلزم كون الشيء آلة القوة كونه محلا لها ليلزم توارد القوى على محل واحد كما توهم.

الرابع الحافظة وهي للوهم كالخيال للحس المشترك ووجه تغايرهما (١) أن قوة القبول غير قوة الحفظ والحافظة للمعاني غير الحافظة للصور والكلام فيه كالكلام في ما تقدم ويسميها قوم ذاكرة إذ بها الذكر أعني ملاحظة المحفوظ بعد الذهول ومتذكرة إذ بها التذكر أي الاحتيال لاستعراض الصور بعد ما اندرست ومحلها أول التجويف الآخر من الدماغ.

والخامس المتخيلة المركبة للصور المحسوسة والمعاني الجزئية المتعلقة بها بعضها مع بعض والمفصلة بعضها عن بعض تركيب الصورة بالصورة كما في قولك صاحب هذا اللون المخصوص له هذا الطعم المخصوص وتركيب المعنى بالمعنى كما في قولك ما له هذه العداوة له هذه النفرة وتركيب الصورة بالمعنى كما في قولك صاحب هذه الصداقة له هذا اللون وتفصيل الصورة عن الصورة كما في قولك هذا اللون ليس هذا الطعم وقس على هذا وقال بعضهم هي مرتبة في مقدم التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها تركيب بعض ما في الخيال أو الحافظة من الصور والمعاني مع بعض وتفصيل بعضها عن بعض فتجمع أجزاء أنواع مختلفة كجعلها حيوانا من رأس إنسان وعنق جمل وظهر نمر ويفرق أجزاء نوع واحد كإنسان بلا رأس ولا يسكن عن فعلها دائما لا نوما ولا يقظة وهي المحاكية للمدركات والهيئات المزاجية وتنتقل إلى الضد والشبيه فما في القوى الباطنة أشد شيطنة منها ليس من شأنها أن يكون عملها منتظما بل النفس هي التي تستعملها على أي نظام أرادت فتسمى عند استعمال النفس إياها بواسطة الوهم بالمتخيلة وعند استعمالها إياها بواسطة القوة

__________________

(١) تغايرها ( خ ).


العقلية بالمفكرة بها تستنبط العلوم والصناعات وتقتنص الحدود الوسطى باستعراض ما في الحافظة.

خاتمة

قال بعض المحققين : قد علم بالتشريح أن للدماغ بطونا ثلاثة أعظمها البطن المقدم وأصغرها البطن الأوسط وهو كمنفذ من البطن المقدم إلى البطن المؤخر فآلة الحس المشترك هو الروح المصبوب في مقدم البطن المقدم وآلة الخيال هو الروح المصبوب في مؤخره ولما كان الوهم سلطان القوى الحسية ومستخدما لسائر القوى الحيوانية كان الدماغ كله آلة له وإن كان له اختصاص بآخر التجويف الأوسط وآلة المتصرفة مقدم التجويف الأوسط وآلة الحافظة مقدم التجويف الأخير وأما مؤخر هذا التجويف فلم يودع فيه شيء من هذه القوى إذ لا حارس هناك من الحواس الظاهرة فلو أودع فيه شيء من هذه القوى لكثر فيه المصادمات الموجبة لاختلال القوة.

قال المحقق الشريف فانظر إلى حكمة البارئ حيث قدم ما يدرك به الصور الجزئية ووضع تحته ما يحفظها وأخر ما يدرك به المعاني المنتزعة من تلك الصور وقرنه بما يحفظها وأقعد المتصرف فيهما بينهما فسبحانه جلت قدرته وعظمت حكمته انتهى.

وهو إشارة إلى ما قيل في تعيين محال تلك القوى بطريق الحكمة والغاية من أن الحس المشترك ينبغي أن يكون في مقدم الدماغ ليكون قريبا من الحواس الظاهرة فيكون التأدي إليه سهلا والخيال خلفه لأن خزانة الشيء ينبغي أن يكون كذلك ثم ينبغي أن يكون الوهم بقرب الخيال ليكون الصور الجزئية بحذاء معانيها الجزئية والحافظة بعده لأنها خزانته والمتخيلة في الوسط لتكون قريبة من الصور والمعاني فيمكنها الأخذ منهما (١) بسهولة.

وأما القوى المحركة فعندهم تنقسم إلى فاعلة وباعثة أما الباعثة المسماة

__________________

(١) منها ( خ ).


بالشوقية فهي القوة التي إذا ارتسمت في الخيال صورة مطلوبة أو مهروبة عنها حملت القوة الفاعلة على تحريك آلات الحركة والشوقية ذات شعبتين شهوية وغضبية لأنها إن حملت الفاعلة على تحريك يطلب بها الأشياء المتخيلة التي اعتقد أنها نافعة سواء كانت ضارة بحسب الواقع أو نافعة طلبا لحصول اللذة تسمى قوة شهوانية وإن حملت القوة الشوقية القوى المباشرة على تحريك يدفع به الشيء المتخيل ضارا كان بحسب الواقع أو مفيدا دفعا على سبيل الغلبة تسمى قوة غضبية.

وأما الفاعلة المباشرة للتحريك فهي التي من شأنها أن تعد العضلات للتحريك وكيفية ذلك الإعداد منها أن تبسط العضل بإرخاء الأعصاب إلى خلاف جهة مبدئها لينبسط العضو المتحرك أي يزداد طولا وينتقص عرضا أو تقبضه بتمديد الأعصاب إلى جهة مبدئها لينقبض العضو المتحرك أي يزداد عرضا وينتقص طولا.

ثم اعلم أن للحركات الاختيارية مبادئ مترتبة أبعدها القوى المدركة التي هي الخيال أو الوهم في الحيوان والعقل بتوسطهما في الإنسان وفي الفلك بزعمهم وتليها القوة الشوقية وهي الرئيسة في القوة المحركة الفاعلة كما أن الوهم رئيسه في القوى المدركة وبعد الشوقية وقبل الفاعلة قوة أخرى هي مبدأ العزم والإجماع المسماة بالإرادة والكراهة وهي التي تصمم بعد التردد في الفعل والترك عند وجود ما يترجح به أحد طرفيهما المتساوي نسبتهما إلى القادر عليهما.

ويدل على مغايرة الشوق للإدراك تحقق الإدراك بدونه وعلى مغايرة الشوق للإجماع أنه قد يكون شوق (١) ولا إرادة وقيل إنه لا تغاير بينهما إلا بالشدة والضعف فإن الشوق قد يكون ضعيفا ثم يقوى فيصير عزما فالعزم كمال الشوق وما قيل من أنه قد يحصل كمال الشوق بدون الإرادة كما في المحرمات للزاهد المغلوب للشهوة فغير مسلم بل الشوق العقلي فيه إلى جانب الترك أقوى من الميل الشهوي إلى خلافه ويدل على مغايرة الفاعلة لسائر المبادئ كون الإنسان المشتاق العازم غير قادر على التحريك وكون القادر على ذلك غير مشتاق.

__________________

(١) في بعض النسخ « شوقا » والصواب ما في المتن.


وقال الشيخ المفيد قدس الله روحه في كتاب المسائل الحس كله مماسة ما تحس به المحسوس واتصال به أو بما يتصل به أو بما ينفصل منه أو بما يتصل بما ينفصل منه وذلك كالبصر فإن شعاعه لا بد من أن يتصل بالمبصر أو بما ينفصل منه أو بما يتصل بما ينفصل منه ولو كان يحس به بغير اتصال لما ضر الساتر والحاجز ولما ضرت الظلمة ولكان وجود ذلك وعدمه في وقوع العلم سواء فإن قال قائل أفيتصل شعاع البصر بالمشتري وزحل على بعدهما قيل له لا لكنه يتصل بالشعاع المنفصل منهما فيصيران كالشيء الواحد لتجانسهما وتشاكلهما.

وأما الصوت فإنه إذا حدث في أول الهواء الذي يلي الأجسام المصطكة وكذا في ما يليه من الهواء مثله ثم كذلك إلى أن يتولد في الهواء الذي يلي الصماخ فيدركه السامع ومما يدل على ذلك أن القصار يضرب الثوب على الحجر فترى مماسة الثوب للحجر ويصل الصوت بعد ذلك فهذا دال على ما قلناه من أنه يتولد في هواء بعد هواء إلى أن يتولد في الهواء الذي يلي الصماخ.

وأما الرائحة فإنه ينفصل من الجسم ذي الرائحة أجزاء لطاف وتتفرق في الهواء فما صار منه في الخيشوم الذي يقرب من موضع ذي الرائحة أدركه.

وأما الذوق فإنه إدراك ما ينحل من الجسم فيمازج رطوبة اللسان واللهوات ولذلك لا يوجد طعم ما لا ينحل منه الشيء كاليواقيت والزجاج ونحوهما والطعم والرائحة لا خلاف في أنهما لا يكونان إلا بمماسة واللمس في الحقيقة هو طلب الشيء ليشعر به وحقيقته الشعور وهذه جملة على اعتقادنا وأبي القاسم البلخي وجمهور أهل العدل وأبو هاشم الجبائي يخالف في مواضع منها.

وأقول : قال الحكماء أيضا للنفس الناطقة قوى تشارك بها الحيوان الأعجم والنبات وقوى أخرى أخص يحصل بها الإدراك للجزئي وهي قوى تشارك بها الحيوان الأعجم دون النبات وهي الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة ولها قوة أخرى أخص من الأوليين لأنها تختص بالإنسان وهي قوة يحصل بها الإدراك للكلي.


فأما القوى التي تشارك بها النبات والحيوان الأعجم فأصولها ثلاثة اثنتان لأجل الشخص وهما الغاذية والنامية وواحدة لأجل النوع وهي المولدة وهذه القوى الثلاثة تسمى نباتية لا لاختصاص النبات بها بل لانحصار قواه فيها وتسمى طبيعية أيضا.

فأما الغاذية فهي التي تحيل الغذاء إلى مشاكلة المغتذي ويتم فعلها بأفعال جزئية ثلاثة أحدها تحصيل جوهر البدل وهي الدم والخلط الذي هو بالقوة القريبة من الفعل وبالإلزاق وهو أن يلصق ذلك الحاصل بالعضو ويجعله جزءا منه وبالتشبيه بالعضو المغتذي حتى في قوامه ولونه وقد تخل بكل واحد من هذه الأفعال الثلاثة أما الأول فكما في علة تسمى أطروقيا وهي عدم الغذاء وأما الثاني فكما في الاستسقاء اللحمي وأما الثالث فكما في البرص والبهق فإن البدل والإلصاق موجودان فيهما والتشبيه غير موجود فهذه الأفعال الثلاثة لا بد وأن تكون بقوى ثلاث لكن القوة الغاذية هي مجموعها أو قوة أخرى هي تستخدم كل واحدة منها والقوة التي يصدر منها التشبيه يسمونها مغيرة ثانية وهي واحدة بالجنس في الإنسان وغيره من المركبات التي لها أجزاء وأعضاء مختلفة بالحقيقة بمنزلة الأعضاء وتختلف بالنوع إذ في كل عضو منها قوة تغير الغذاء إلى تشبيه مخالف لتشبيه قوة أخرى.

وأما النامية فهي التي تداخل الغذاء بين أجزاء المغتذي فيزيد في الأقطار الثلاثة بنسبة طبيعية بأن يزيد في الأعضاء الأصلية أعني ما يتولد عن المني كالعظم والعصب والرباط وغيرها وبذلك يظهر الفرق بين النمو والسمن فإن السمن إنما هو زيادة في الأعضاء المتولدة من الدم كاللحم والشحم والسمين لا في الأعضاء الأصلية وبقولنا بنسبة طبيعية يخرج الورم فإنه ليس على نسبة طبيعية بل خارج عن المجرى الطبيعي.

وأما المولدة فالمراد بها قوتان فوحدتهما اعتبارية كما في الغاذية إحداهما ما يجعل فضلة الهضم الرابع منيا وهذه القوة فعلها في الأنثيين لأن ذلك الدم


يصير منيا فيها وثانيهما ما يهيئ كل جزء من المني من الذكر والأنثى في الرحم بعضو مخصوص بأن يجعل بعضه مستعدا للعظمية وبعضه مستعدا للعصبية وبعضه للرباطية إلى غير ذلك وهذه القوة تسمى المغيرة الأولى وفعلها إنما يكون حال كون المني في الرحم ليصادف ذلك فعل القوة المصورة لأنها تعد مواد الأعضاء والمصورة تلبسها صورها الخاصة بها.

وإنما احتيج إلى هذه القوى أما إلى الغاذية فلأن بقاء البدن بدون الغذاء محال لأن البدن إنما يمكن تكونه من جسم رطب ليكون قابلا للتشكيل والتمديد ولا بد من حرارة عاقدة منضجة محللة للفضول يلزمها لا محالة أن تحلل الرطوبة ويعينها على ذلك الهواء الخارجي والحركات البدنية والنفسانية فلو لا أن الغذاء يخلف بدل ما يتحلل منه لم يمكن بقاؤه مدة تمام التكون فضلا عما بعد ذلك وليس يوجد في الخارج جسم إذا مس جسد الإنسان استحال بطبيعته فلا بد إذن من أن يكون للنفس قوة من شأنها أن تحيل الوارد إلى مشابهة جوهر أعضاء البدن ليخلف بذلك بدل ما يتحلل منه وهي القوة الغاذية.

وأما إلى المولدة فلما ثبت من أن الموت ضروري وحدوث الإنسان بالتولد مما يندر وجوده فوجب أن يكون للنفس قوة تفصل من المادة التي تحصلها الغاذية ما بعده مادة لشخص آخر ولما كانت المادة المنفصلة أقل من المقدار الواجب لشخص كامل جعلت النفس ذات قوة تضيف من المادة التي تحصلها الغاذية شيئا فشيئا إلى المادة المفصولة فيزيد بها مقدارها في الأقطار على تناسب طبيعي يليق بأشخاص ذلك النوع إلى أن يتم الشخص.

وتخدم الغاذية قوى أربع هي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة أما الاحتياج إلى الجاذبة فظاهر لأن الغذاء لا يمكن أن يصل بنفسه إلى جميع الأعضاء لأنه لا يخلو إما أن يكون ثقيلا فلا يصل إلى الأعضاء العالية وإما أن يكون خفيفا فلا يصل إلى الأعضاء السافلة ووجودها في بعض الأعضاء معلوم بالحس فإن المنتكس إذا اشتدت حاجته إلى الغذاء يجده ينجذب من فمه إلى المعدة من غير


إرادته بل مع إرادة إمساكه في فمه وأيضا إن الحلو يخرج بالقيء بعد غيره وإن تناوله أولا وما ذلك إلا بجذب المعدة اللذيذ إلى قعرها وأيضا الرحم إذا كانت خالية عن الفضول بعيدة العهد من الجماع يحس الإنسان وقت الجماع أن إحليله ينجذب إلى الداخل.

وأما إلى الماسكة فلأن الغذاء لا بد فيه من الاستحالة حتى يصير شبيها بجوهر المغتذي والاستحالة حركة وكل حركة في زمان فلا بد من زمان في مثله يستحيل الغذاء إلى جوهر المغتذي ولأن الخلط جسم رطب سيال استحال أن يقف بنفسه زمانا فلا بد من قاسر يقسره على الوقوف وذلك القاسر هو الماسكة ووجودها في بعض الأعضاء معلوم بالحس فإن أرباب التشريح قالوا إذا شرحنا الحيوان حال ما تناول الغذاء وجدنا معدته محتوية على الغذاء بحيث لا يمكن أن يسيل من ذلك الغذاء شيء وأيضا قالوا إذا شققنا بطن الحامل من تحت السرة وجدنا رحمها منضمة انضماما شديدا بحيث لا يسع أن يدخل فيها طرف الميل وأيضا فإن المني إذا استقر في الرحم لا ينزل عنها مع ثقله.

وأما إلى الهاضمة فلأن إحالة القوة المغيرة إنما يكون لما هو متقارب الاستعداد للصورة العضوية وإنما يكون ذلك بعد فعل القوة التي تجعله متقارب الاستعداد وتلك هي القوة الهاضمة.

ومراتب الهضم أربع أولها في المعدة فإن الغذاء يصير فيها كيلوسا أي جوهرا شبيها بماء الكشك الثخين إما بمخالطة المشروب وذلك في أكثر الحيوانات وإما بلا مخالطة المشروب كما في جوارح الصيد وابتداء ذلك الهضم في الفم ولهذا كانت الحنطة الممضوغة تفعل في إنضاج الدماميل ما لا تفعله المطبوخة ولا المدقوقة المخلوطة باللعاب وثانيها في الكبد فإن الكيلوس إذا تم انهضامه في المعدة انجذبت لطائفه بالعروق المسماة بالماساريقا إلى الكبد وتداخلت في العروق المتصغرة المتضائلة المنتشرة في جميع أجزاء الكبد بحيث يلاقي الكبد بكليته الكيلوس فينهضم هناك انهضاما ثانيا وتنخلع صورته النوعية الغذائية ويستحيل إلى الأخلاط ويسمى


كيموسا وابتداء هذا الهضم في الماساريقا وثالثها في العروق وابتداؤه من حين صعود الخلط في العرق العظيم الطالع من حدبة الكبد ورابعها في الأعضاء وابتداؤه من حين ما ترشح الدم من فوهات العروق.

وأما إلى الدافعة فلأنه ليس غذاء يصير بتمامه جزءا من المغتذي بل يفضل منه ما يضيق المكان ويمنع ما يرد من الغذاء عن الوصول إلى الأعضاء ويوجب ثقل البدن بل يفسد ويفسد فلا بد من قوة تدفع تلك الفضلات ووجودها ظاهر عند الحس في حال التبرز والقيء وإراقة البول.

وقد تتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء كما للمعدة فإن فيها الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة بالنسبة إلى غذاء جميع البدن وفيها أيضا هذه القوى بالنسبة إلى ما تغتذي (١) به خاصة.

ثم اعلم أن الحكماء عدوا من القوى المولدة القوة المصورة وأنكرها جماعة منهم المحقق الطوسي قدس‌سره والفخر الرازي والغزالي وغيرهم قال في المقاصد المولدة هي قوة شأنها تحصيل البزر (٢) وتفصيله إلى أجزاء مختلفة وهيئات مناسبة وذلك بأن يفرز جزءا من الغذاء بعد الهضم التام ليصير مبدأ لشخص آخر من نوع المغتذي أو جنسه ثم يفصل ما فيه من الكيفيات المزاجية فيمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو ثم يفيده بعد الاستحالات الصور والقوى والأعراض الحاصلة للنوع الذي انفصل عنه البزر أو لجنسه كما في البغل والمحققون على أن هذه الأفعال مستندة إلى قوى ثلاث بينوا حالها على ما عرفت في الإنسان وكثير من الحيوانات :

الأولى التي تجذب الدم إلى الأنثيين وتتصرف فيه إلى أن يصير منيا وهي لا تفارق الأنثيين وتخص باسم المحصلة.

__________________

(١) في أكثر النسخ « تقتضى » وهو تصحيف.

(٢) البرز ـ بالباء المكسورة والزاى المعجمة الساكنة ثم الراء المهملة : ما يبذر من الحبوب.


والثانية : التي تتصرف في المني فتفصل كيفياتها المزاجية وتمزجها تمزيجات بحسب عضو عضو فتعين للعصب مثلا مزاجا خاصا وللشريان مزاجا خاصا وللعظم مزاجا خاصا وبالجملة تعد مواد الأعضاء وتخص هذه باسم المفصلة والمغيرة الأولى تمييزا عن المغيرة التي هي من جملة الغاذية.

والثالثة : التي تفيد تمييز الأجزاء وتشكيلها على مقاديرها وأوضاع بعضها عن بعض وكيفياتها وبالجملة تلبس كل عضو صورته الخاصة به يستكمل وجود الأعضاء وهذه تخص باسم المصورة وفعلها إنما يكون في الرحم انتهى.

وقال المحقق الطوسي قدس‌سره والمصورة عندي باطلة لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركبة عن قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا انتهى.

والغزالي بالغ في ذلك حتى أبطل القوى مطلقا وادعى أن الأفعال المنسوبة إلى القوى صادرة عن ملائكة موكلة بهذه الأفعال تفعلها بالشعور والاختيار كما هو ظاهر النصوص الواردة في هذا الباب.

وقال الشارح القوشجي بعد إيراد الكلام المتقدم يرد عليه أنا لا نسلم أن المصورة قوة واحدة بسيطة لم لا يجوز أن تكون وحدتها بالجنس كما أن المغيرة واحدة بالجنس مختلفة بالنوع ولو سلم فلم لا يجوز أن يكون صدور هذه الأفعال عنها بحسب استعداد المادة فإن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع في الأعضاء ففضلة هضم كل عضو إنما تستعد لصورة ذلك العضو.

لكن الإنصاف أن تلك الأفعال المتقنة المحكمة على النظام المشاهد من الصور العجيبة والأشكال الغريبة والنقوش المؤتلفة والألوان المختلفة وما روعي فيها من حكم ومصالح لقد تحيرت فيها الأوهام وعجزت عن إدراكها العقول والأفهام قد بلغ المدون منها كما علم في علم التشريح ومنافع خلقة الناس خمسة آلاف مع أن ما لم يعلم منها أكثر مما قد علم كما لا يخفى على ذي حدس كامل كما لا يكاد يذعن العقل بصدورها عن القوة التي سموها مصورة وإن فرضنا كونها مركبة والمواد


مختلفة بل يحكم بأن أمثال تلك الأمور لا يمكن أن تصدر إلا عن حكيم عليم خبير قدير.

ثم أطال الكلام في الاعتراض على دلائلهم في إثبات تلك القوى وتعددها تركناها مخافة الإطناب والإسهاب.

٤٧

(باب)

(ما به قوام بدن الإنسان وأجزائه وتشريح أعضائه ومنافعها وما يترتب عليها من أحوال النفس)

١ ـ العلل : عن محمد بن شاذان (١) بن عثمان بن أحمد البراوذي عن محمد بن محمد بن الحرث بن سفيان (٢) السمرقندي عن صالح بن سعيد الترمذي عن عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه أنه وجد في التوراة صفة خلق آدم عليه‌السلام حين خلقه الله عز وجل وابتدعه قال الله تبارك وتعالى إني خلقت آدم وركبت جسده من أربعة أشياء ثم جعلتها وراثة في ولده تنمي في أجسادهم وينمون عليها إلى يوم القيامة وركبت جسده حين خلقته من رطب ويابس وسخن وبارد وذلك أني خلقته من تراب وماء ثم جعلت فيه نفسا وروحا فيبوسة كل جسد من قبل التراب ورطوبته من قبل الماء وحرارته من قبل النفس وبرودته من قبل الروح ثم خلقت في الجسد بعد هذا الخلق الأول أربعة أنواع وهن ملاك الجسد وقوامه بإذني لا يقوم الجسد إلا بهن ولا تقوم منهن واحدة إلا بالأخرى منها المرة السوداء والمرة الصفراء والدم والبلغم ثم أسكن بعض هذا الخلق في بعض فجعل مسكن اليبوسة في المرة

__________________

(١) في المصدر « محمد بن شاذان بن أحمد بن عثمان المرواذى » ولم نجد له ذكرا في كتب الرجال من العامة والخاصة.

(٢) في المصدر وبعض نسخ الكتاب سفين.


السوداء ومسكن الرطوبة في المرة الصفراء ومسكن الحرارة في الدم ومسكن البرودة في البلغم فأيما جسد اعتدلت به (١) هذه الأنواع الأربع التي جعلتها ملاكه وقوامه وكانت كل واحدة منهن أربعا لا تزيد ولا تنقص كملت صحته واعتدل بنيانه فإن زاد منهن واحدة عليهن فقهرتهن ومالت بهن [ و ] دخل على البدن السقم من ناحيتها بقدر ما زادت وإذا كانت ناقصة نقل (٢) [ تقل ] عنهن حتى تضعف من طاقتهن وتعجز عن مقارنتهن (٣) وجعل عقله في دماغه وشرهه (٤) في كليته وغضبه في كبده وصرامته (٥) في قلبه ورغبته في رئته وضحكه في طحاله وفرحه وحزنه وكربه في وجهه وجعل فيه ثلاثمائة وستين مفصلا.

قال وهب : فالطبيب العالم بالداء والدواء يعلم من حيث يأتي السقم من قبل زيادة تكون في إحدى هذه الفطر (٦) الأربع أو نقصان منها ويعلم الدواء الذي به يعالجهن فيزيد في الناقصة منهن أو ينقص من الزائدة حتى يستقيم الجسد على فطرته ويعتدل الشيء بأقرانه.

ثم تصير هذه الأخلاق التي ركب عليها الجسد فطرا عليه تبنى أخلاق بني آدم وبها توصف فمن التراب العزم ومن الماء اللين ومن الحرارة الحدة ومن البرودة الأناة فإن مالت به اليبوسة كان عزمه القسوة وإن مالت به الرطوبة كانت لينه مهانة وإن مالت به الحرارة كانت حدته طيشا وسفها وإن مالت به البرودة كانت أناته ريبا وبلدا فإن اعتدلت أخلاقه وكن سواء واستقامت فطرته كان حازما في أمره لينا في عزمه حادا في لينه متأنيا في حدته لا يغلبه خلق من أخلاقه ولا يميل به من أيها شاء استكثر

__________________

(١) فيه ( خ ).

(٢) في المصدر : تقل.

(٣) مقاومتهن ( خ ).

(٤) في بعض النسخ « وشره » وفي بعضها « وسوءه في طينته ».

(٥) شرهه ( خ ).

(٦) في أكثر النسخ « الفطرة ».


ومن أيها شاء أقل ومن أيها شاء عدل ويعلم كل خلق منها إذا علا عليه بأي شيء يمزجه ويقومه فأخلاقه كلها معتدلة كما يجب أن يكون.

فمن التراب قسوته وبخله وحصره وفظاظته وبرمه وشحه وبأسه وقنوطه وعزمه وإصراره ومن الماء كرمه ومعروفه (١) وتوسعه وسهولته وتوسله (٢) وقربه وقبوله ورجاؤه واستبشاره فإذا خاف ذو العقل أن يغلب عليه أخلاق التراب ويميل به ألزم كل خلق منها خلقا من أخلاق الماء يمزجه به بلينه يلزم القسوة اللين والحصر التوسع والبخل العطاء والفظاظة الكرم والبرم الترسل (٣) والشح السماح واليأس الرجاء والقنوط الاستبشار والعزم القبول والإصرار القرب.

ثم من النفس حدته وخفته وشهوته ولهوه ولعبه وضحكه وسفهه وخداعه وعنفه وخوفه ومن الروح حلمه ووقاره وعفافه وحياؤه وبهاؤه وفهمه وكرمه وصدقه ورفقه وكبره وإذا خاف ذو العقل أن تغلب عليه أخلاق النفس وتميل به ألزم كل خلق منها خلقا من أخلاق الروح يقومه به يلزم الحدة الحلم والخفة الوقار والشهوة العفاف واللعب الحياء والضحك الفهم والسفه الكرم والخداع الصدق والعنف الرفق والخوف الصبر.

ثم بالنفس سمع ابن آدم وأبصر وأكل وشرب وقام وقعد وضحك وبكى وفرح وحزن وبالروح عرف الحق من الباطل والرشد من الغي والصواب من الخطاء وبه علم وتعلم وحكم وعقل واستحيا وتكرم وتفقه وتفهم وتحذر وتقدم ثم يقرن إلى أخلاقه عشرة خصال أخرى الإيمان والحلم والعقل والعلم والعمل واللين والورع والصدق والصبر والرفق ففي هذه الأخلاق العشر جميع الدين كله ولكل خلق منها عدو فعدو الإيمان الكفر وعدو الحلم الحمق وعدو العقل الغي وعدو العلم الجهل وعدو العمل الكسل وعدو اللين العجلة وعدو الورع الفجور

__________________

(١) معرفته « خ ».

(٢) ترسله « ظ ».

(٣) التوسل « ظ ».


وعدو الصدق الكذب وعدو الصبر الجزع وعدو الرفق العنف فإذا وهن الإيمان تسلط عليه الكفر وتعبده وحال بينه وبين كل شيء يرجو منفعته وإذا صلب الإيمان وهن له الكفر وتعبد واستكان واعترف الإيمان وإذا ضعف الحلم علا الحمق وحاطه وذبذبه وألبسه الهوان بعد الكرامة وإذا استقام الحلم فضح الحمق وتبين عورته وأبدى سوأته وكشف ستره وأكثر مذمته فإذا استقام اللين تكرم من الخفة والعجلة واطردت الحدة وظهر الوقار والعفاف وعرفت السكينة وإذا ضعف الورع تسلط عليه الفجور وظهر الإثم وتبين العدوان وكثر الظلم ونزل الحمق وعمل بالباطل وإذا ضعف الصدق كثر الكذب وفشت الفرية وجاء الإفك بكل وجه البهتان (١) وإذا حصل الصدق اختسأ الكذب وذل وصمت للإفك (٢) وأميتت (٣) الفرية وأهين البهتان ودنا البر واقترب الخير وطردت الشرة وإذا وهن الصبر وهن الدين وكثر الحزن ورهق الجزع وأميتت الحسنة وذهب الأجر وإذا صلب الصبر خلص الدين وذهب الحزن وأخر الجزع وأحييت الحسنة وعظم الأجر وتبين الحزم وذهب الوهن وإذا ترك الرفق ظهر الغش وجاءت الفظاظة واشتدت الغلظة وكثر (٤) الغشم وترك العدل وفشا المنكر وترك المعروف وظهر السفه ورفض الحلم (٥) وذهب العقل وترك العلم وفتر العمل ومات اللين وضعف الصبر وغلب الورع ووهن الصدق وبطل تعبد أهل الإيمان.

فمن أخلاق العقل عشرة أخلاق صالحة الحلم والعلم والرشد والعفاف والصيانة والحياء والرزانة والمداومة على الخير وكراهة الشر وطاعة الناصح فهذه عشرة أخلاق صالحة ثم يتشعب (٦) كل خلق منها عشر خصال فالحلم يتشعب منه حسن العواقب والمحمدة في الناس وتشرف المنزلة والسلب عن السفلة وركوب

__________________

(١) في المصدر : والبهتان.

(٢) في المصدر « الافك » وهو الظاهر.

(٣) واميت ( خ ).

(٤) في جميع النسخ « وكسر » وهو تصحيف.

(٥) في المصدر « الحكم » والظاهر أنه تصحيف.

(٦) في المصدر « من كل » وهو الصواب.


الجميل وصحبة الأبرار والارتداع (١) عن الضيعة (٢) والارتفاع عن الخساسة وشهرة (٣) اللين والقرب من معالي الدرجات ويتشعب من العلم الشرف وإن كان دنيا والعز وإن كان مهينا والغنى وإن كان فقيرا والقوة وإن كان ضعيفا والنيل وإن كان حقيرا والقرب وإن كان قصيا والجود وإن كان بخيلا والحياء وإن كان صلفا والمهابة وإن كان وضيعا والسلامة وإن كان سفيها ويتشعب من الرشد السداد والهدى والبر والتقوى والعبادة والقصد والاقتصاد والقناعة والكرم والصدق ويتشعب من العفاف الكفاية (٤) والاستكانة والمصادقة والمراقبة والصبر والنصر واليقين والرضا والراحة والتسليم ويتشعب من الصيانة الكف والورع وحسن الثناء والتزكية والمروءة والكرم والغبطة والسرور والمنالة والتفكر ويتشعب من الحياء اللين والرأفة والرحمة والمداومة والبشاشة والمطاوعة وذل النفس والنهى والورع وحسن الخلق ويتشعب من المداومة على الخير الصلاح والاقتدار والعز والإخبات والإنابة والسؤدد والأمن والرضا في الناس وحسن العاقبة ويتشعب من كراهة الشر حسن الأمانة وترك الخيانة واجتناب السوء وتحصين الفرج وصدق اللسان والتواضع والتضرع لمن هو فوقه والإنصاف لمن هو دونه وحسن الجوار ومجانبة إخوان السوء ويتشعب من الرزانة التوقر والسكون والتأني والعلم والتمكين والحظوة والمحبة والفلح (٥) والزكاية والإنابة ويتشعب من طاعة الناصح زيادة العقل وكمال اللب ومحمدة الناس والامتعاض من اللوم والبعد من البطش واستصلاح الحال ومراقبة ما هو نازل والاستعداد للعدو والاستقامة على المنهاج والمداومة على الرشاد فهذه مائة خصلة من أخلاق العاقل (٦).

بيان : الصرامة بالصاد المهملة الشجاعة والحدة والعزم وفي بعض النسخ

__________________

(١) في بعض النسخ « والارتداد ».

(٢) في المصدر « الضعة ».

(٣) وشهوة ( خ ).

(٤) الكفاف ( خ ).

(٥) في المصدر ، الفلج.

(٦) علل الشرائع : ج ١ ، ص ١٠٤ ـ ١٠٨.


بالمعجمة من ضرم كفرح اشتد جوعه أو من ضرم عليه احتد غضبا في وجهه أي تظهر فيه وفي القاموس التبلد التجلد بلد ككرم وفرح فهو بليد وأبلد وقال الحصر كالنصر والضرب التضييق وبالتحريك ضيق الصدر والبخل والعي في المنطق وقال الفظ الغليظ الجانب السيئ الخلق القاسي الخشن الكلام فظ بين الفظاظة والفظاظ بالكسر.

قوله يلزم القسوة اللين إلخ أي يختار الوسط بينهما ويكسر سورة (١) كل منهما بالآخر وهي العدالة المطلوبة في الأخلاق أو يستعمل كلا منها في موقعه كما قال تعالى في وصف أمير المؤمنين عليه‌السلام وأضرابه « أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ » وهو التخلق بأخلاق رب العالمين كما قال سبحانه « نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ».

والبرم التوسل أي التقرب إلى الناس أو إلى الله بالصبر على أخلاق الناس ولعله كان بالراء وهو الاستئناس فإنه أنسب والعزم بالقبول أي إذا عزم في أمر فنصحه صادق يقبل منه والإصرار القرب أي من الله بالتوبة أو الأعم قوله وكبره أي على أعداء الدين والظاهر صبره كما يظهر من قوله والخوف الصبر ويحتمل أن يكون التصحيف في ما سيأتي ويكون المراد بالكبر الشجاعة لمقابلة الخوف.

ثم الظاهر أن المراد بالنفس في هذا الحديث الروح الحيواني وبالروح الناطقة ونسبة البرد إليها لأنه يلزم تعلقها تحرك النفس الذي يحصل البرد بسببه وتقدم أي إلى الخير والسعادة والكمال وفي القاموس الذبذبة تردد الشيء المعلق في الهواء وحماية الجوار والأهل وإيذاء الخلق والتحريك وقال تكرم عنه تنزه وقال الطرد الإبعاد وقال خسأ الكلب طرده وصمت للإفك أي عنه وشرة الشباب بالكسر نشاطه والرزانة الوقار والارتداع الانزجار ولا يبعد أن يكون مكان الضيعة الضعة كما مر في كتاب العقل وفي القاموس الصلف بالتحريك التكلم بما يكرهه صاحبك

__________________

(١) في بعض النسخ « سورة في كل .. ».


والتمدح بما ليس عندك أو مجاوزة حد الظرف والادعاء فوق ذلك تكبرا انتهى والمنالة لعل المراد بها الدرجة التي تنال بها أشرف المقاصد من القرب والفوز والسعادة من النيل الإصابة والإخبات الخشوع والخضوع للرب تعالى والحظوة بالضم والكسر المكانة والمنزلة والفلح بالمهملة محركة والفلاح الفوز والنجاة والبقاء في الخير وبالمعجمة بالفتح الظفر والفوز والاسم بالضم والزكاية النمو والطهارة وفي بعض النسخ الركانة بالراء المهملة والنون وهي العلو والرفعة والوقار ولعله أصوب وفي القاموس معض من الأمر كفرح غضب وشق عليه فهو ماعض ومعض وأمعضه ومعضه تمعيضا فامتعض.

أقول : إنما لم نعط شرح هذا الخبر حقه لأنه من الأخبار العامية المنسوبة إلى أهل الكتاب وقد مر قريب منه في كتاب العقل وشرحناه هناك بما ينفع في هذا المقام.

٢ ـ الخصال : عن محمد بن موسى بن المتوكل عن محمد بن يحيى العطار عن محمد بن أحمد الأشعري عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي عن علي بن الحسن الطاطري عن سعيد بن محمد عن درست عن أبي الأصبغ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بني الجسد على أربعة أشياء الروح والعقل والدم والنفس فإذا خرج الروح تبعه العقل فإذا (١) رأى الروح شيئا حفظه عليه العقل وبقي الدم والنفس (٢).

بيان : كأن المراد بالروح النفس الناطقة وبالعقل الحالات والصفات الحالة فيها ولا بد لها منها في العلوم والإدراكات فإذا فارق الروح البدن تبعتها تلك الأحوال لأنها في البرزخ لا تفارقها العلوم والمعارف بل تترقى فيها كما يظهر من الأخبار وبالنفس الروح الحيوانية فهي مع الدم الحامل لها تبقيان في البدن وتضمحلان وقوله فإذا رأى الروح أي بعد مفارقة (٣) البدن والرؤية بمعنى العلم أو بعين الجسد المثالي.

__________________

(١) في المصدر : وإذا.

(٢) الخصال : ١٠٦.

(٣) بل الظاهر أن المراد ما تراه الروح في حال الرؤيا ، والمراد ببقاء النفس بقاؤها في البدن حال النوم.


٣ ـ الخصال : عن محمد بن الحسن بن الوليد عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محمد بن سنان عن المفضل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قوام الإنسان وبقاؤه بأربعة بالنار والنور والريح والماء فبالنار يأكل ويشرب وبالنور يبصر ويعقل وبالريح يسمع ويشم وبالماء يجد لذة الطعام والشراب فلو لا النار في معدته لما هضمت الطعام والشراب ولو لا النور في بصره لما أبصر ولا عقل ولو لا الريح لما التهبت نار المعدة ولو لا الماء لم يجد لذة الطعام والشراب قال وسألته عن النيران فقال النيران أربعة نار تأكل وتشرب ونار تأكل ولا تشرب ونار تشرب ولا تأكل ونار لا تأكل ولا تشرب فالنار التي تأكل وتشرب فنار ابن آدم وجميع الحيوان والتي تأكل ولا تشرب فنار الوقود والتي تشرب ولا تأكل فنار الشجرة والتي لا تأكل ولا تشرب فنار القداحة والحباحب (١).

بيان : فبالنار يأكل ويشرب أي بالحرارة الغريزية التي تتولد من النار ويسمونها نار الله والمراد بالنور إما نور البصر أو الأعم منه ومن سائر القوى والمشاعر فإن النور ما يصير سببا لظهور الأشياء كما عرفت مرارا وبالريح يسمع ويشم لأن الهواء حامل للصوت والكيفيات المشمومة وبالماء يجد لذة الطعام والشراب أي الماء الذي في الفم فإنه الموصل للكيفيات المذوقة إلى الذائقة كما مر فلو لا النار في معدته أي الحرارة المفرطة فنار ابن آدم أي الحرارة الغريزية فإنها الداعية إلى الأكل والشرب وتحيل المأكول والمشروب فنار الوقود أي النيران التي توقدها الناس فإنها تأكل الحطب وكل ما تقع فيه أي تحيلها وتكسرها ولا تشرب لأن الماء غالبا يطفئها والتي تشرب ولا تأكل فنار الشجرة أي النار التي تورى من الشجر الأخضر كما مر في تفسير قوله تعالى « الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً » فإنها تشرب الماء الذي (٢) يسقي الشجر ولا تأكل أي لا يحيل شيئا ترد (٣) عليه بحرارتها

__________________

(١) الخصال ، ١٠٦.

(٢) في جميع نسخ الكتاب ، التي.

(٣) يرد عليها ( ظ ).


وقد مر الكلام فيها وفي القاموس قدح بالزند رام الإيراء به كاقتدح والمقدح والقداح والمقداح حديدته والقداح والقداحة حجره وقال الجوهري الحباحب اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا نارا ضعيفة مخافة الضيفان فضربوا بها المثل حتى قالوا نار الحباحب لما تقدحه الخيل بحوافرها انتهى ولعل المعنى أنها لما كانت تخرج من بين الحديد والحجر ولا ينفذ الماء فيهما ولا يحيلان شيئا فكأنهما لا تأكل ولا تشرب وقد مر الكلام فيه من باب النار.

٧ ـ العيون : عن هاني بن محمد بن محمود العبدي عن أبيه بإسناده رفعه أن موسى بن جعفر عليه‌السلام دخل على الرشيد فقال له الرشيد يا ابن رسول الله أخبرني عن الطبائع الأربع فقال موسى عليه‌السلام : أما الريح فإنه ملك يدارى وأما الدم فإنه عبد عارم (١) وربما قتل العبد مولاه وأما البلغم فإنه خصم جدل إن سددته من جانب انفتح من آخر وأما المرة فإنها أرض إذا اهتزت رجفت بما فوقها فقال له هارون يا ابن رسول الله تنفق على الناس من كنوز الله ورسوله (٢).

بيان : يحتمل أن يكون المراد بالريح المرة الصفراء لحدتها ولطافتها وسرعة تأثيرها فينبغي أن يدارى لئلا تغلب وتهلك أو المراد بها الروح الحيوانية وبالمرة الصفراء والسوداء معا فإنه تطلق عليهما المرة فيكون اصطلاحا آخر في الطبائع وتقسيما آخر لها والعارم سيئ الخلق الشديد يقال عرم الصبي علينا أي أشر ومرح أو بطر أو فسد (٣) ولعل المعنى أنه خادم للبدن نافع له لكن ربما كانت غلبته سببا للهلاك فينبغي أن يصلح ويكون الإنسان على حذر منه فإنه خصم جدل كناية عن بطء علاجه وعدم اندفاعه بسهولة إذا اهتزت أي غلبت وتحركت رجفت بما فوقها كما في حمى النائبة من الغب والربع وغيرهما فإنها تزلزل البدن وتحركها ورأيت مثل هذا الكلام في كتب الأطباء والحكماء الأقدمين.

__________________

(١) في المصدر « غارم » بالمعجمة ، والظاهر أنه تصحيف.

(٢) العيون ، ج ١ ، ص ٨١.

(٣) أفسد ( خ ).


٥ ـ العيون والعلل : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن غير واحد عن أبي طاهر بن أبي حمزة عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : الطبائع أربع فمنهن البلغم وهو خصم جدل ومنهن الدم وهو عبد وربما قتل العبد سيده ومنهن الريح وهو (١) ملك يدارى ومنهن المرة وهيهات وهيهات هي الأرض إذا ارتجت ارتجت بما عليها (٢).

٦ ـ العلل : عن علي بن أحمد عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد عن إسماعيل بن أبي زياد السكوني قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إنما صار الإنسان يأكل ويشرب بالنار ويبصر ويعمل (٣) بالنور ويسمع ويشم بالريح ويجد لذة (٤) الطعام والشراب بالماء ويتحرك بالروح ولو لا أن النار في معدته ما هضمت أو قال حطمت الطعام والشراب في جوفه ولو لا الريح ما التهبت نار المعدة ولا خرج الثفل من بطنه ولو لا الروح ما تحرك ولا جاء ولا ذهب ولو لا برد الماء لاحترقه (٥) نار المعدة ولو لا النور ما أبصر ولا عقل فالطين صورته والعظم في جسده بمنزلة الشجر في الأرض والدم في جسده بمنزلة الماء في الأرض ولا قوام للأرض إلا بالماء ولا قوام لجسد الإنسان إلا بالدم والمخ دسم الدم وزبده فهكذا (٦) الإنسان خلق من شأن الدنيا وشأن الآخرة فإذا جمع الله بينهما صارت حياته في الأرض لأنه نزل من شأن السماء إلى الدنيا فإذا فرق الله بينهما صارت تلك الفرقة الموت ترد شأن الأخرى (٧) إلى السماء فالحياة في الأرض والموت في السماء

__________________

(١) في المصدر : هى.

(٢) العلل : ج ١ ، ص ١٠٠.

(٣) يعقل ( ظ ).

(٤) في المصدر : طعم.

(٥) في المصدر : « لا حرقته » وهو الصواب.

(٦) فكذا ( خ ).

(٧) في بعض النسخ « الآخرة ».


وذلك أنه يفرق بين الأرواح والجسد فردت الروح والنور إلى القدرة (١) الأولى وترك الجسد لأنه من شأن الدنيا وإنما فسد الجسد في الدنيا لأن الريح تنشف الماء فييبس فيبقى الطين فيصير رفاتا ويبلى ويرجع كل إلى جوهره الأول وتحركت الروح بالنفس حركتها من الريح فما كان من نفس المؤمن فهو نور مؤيد بالعقل وما كان من نفس الكافر فهو نار مؤيد بالنكراء فهذه صورة نار وهذه صورة نور والموت رحمة من الله عز وجل لعباده المؤمنين ونقمة (٢) على الكافرين ولله عقوبتان إحداهما من أمر الروح والأخرى تسليط بعض الناس على بعض فما كان من قبل الروح فهو السقم والفقر وما كان من تسليط فهو النقمة وذلك قوله تعالى « وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ » (٣) من الذنوب فما كان من ذنب الروح من ذلك سقم وفقر وما كان من تسليط فهو النقمة وكل ذلك للمؤمن عقوبة له في الدنيا وعذاب له فيها وأما الكافر فنقمة عليه في الدنيا وسوء العذاب في الآخرة ولا يكون ذلك إلا بذنب والذنب من الشهوة وهي من المؤمن خطأ ونسيان وأن يكون مستكرها وما لا يطيق وما كان في الكافر فعمد وجحود واعتداء وحسد وذلك قول الله عز وجل « كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ » (٤)

بيان : أو قال الترديد من الراوي والحطم الكسر ولو لا الريح أي التي تدخل المعدة مع الطعام والشراب أو المتولدة في المعدة أو الالتهاب من الأولى وخروج الثفل من الثانية كما ذكر الأطباء أن الرياح المتولدة فيها تعين على إحدار الثفل فالطين صورته أي مادته التي تقبل صورته وقال الفيروزآبادي وتستعمل الصورة بمعنى النوع والصفة خلق من شأن الدنيا أي البدن وشأن الآخرة أي الروح فإذا جمع الله بينهما أي بين النشأتين صارت حياته في الأرض أي تعلقت روحه السماوية

__________________

(١) القدس ( خ ).

(٢) نقمته ( خ ).

(٣) سورة الأنعام ، الآية ١٢٩.

(٤) العلل : ج ١ ، ص ١٠١ ١٠٢ ، والآية في سورة البقرة : ١٠٩.


بالجسد الأرضي فتدخل فيه على الجسمية أو تظهر آثارها في الأرض بتوسط البدن على التجرد ترد شأن الآخرة أي الروح إلى السماء فالحياة في الأرض أي بسبب كون الروح أو تعلقها في الأرض والموت في السماء أي بسبب عروج الروح إلى السماء أو الروح في حال الحياة في الأرض وبعد الموت في السماء فردت الروح والنور إلى القدرة الأولى أي إلى عالم الأرواح التي هي أولى مخلوقاته تعالى وفي بعض النسخ إلى القدس الأولى أي إلى عوالم القدس الأولى ويرجع كل أي من العناصر إلى جوهره الأول قبل الامتزاج أو كل من الروح والبدن إلى الجوهر الأول وتحركت الروح بالنفس كأن المراد بالروح هنا الحيوانية وبالنفس الناطقة أي عند الموت تتحرك الروح إلى السماء بسبب حركة النفس أو قطع تعلقها كحركة الروح في حال الحياة في البدن من الريح التي هي النفس أو المراد حركتها في حال الحياة أي الروح الحيوانية إنما تتحرك وتجري في مجاري البدن بسبب النفس حركتها التي بسبب الريح والتنفس (١) ويمكن أن يقرأ بالنفس بالتحريك أي حركة الروح الحيوانية تابعة للنفس كما أن النفس وتحركه تابع للريح فيرتكب تأويل في تأنيث الضمير كالأنفاس ونحوه وعلى هذا يحتمل وجها آخر بأن يكون المراد خروج الحيوانية بالنفس وخروجه كحركة الروح بالريح إلى السماء بعد خروجها والروح في قوله فردت الروح يمكن أيضا حملها على الحيوانية فالمراد بالنور الناطقة ويدل عليه قوله فهو نور مؤيد بالعقل وإذا حملناها على الناطقة فالمراد بالنور كمالاتها وعلمها وإدراكاتها والأول في أكثر أجزاء الخبر أظهر والنكراء بالفتح الحيل والخداع والفطنة في الباطل قال في القاموس النكر والنكارة والنكراء والنكر بالضم الدهاء والفتنة والمنكر وقد مر في الحديث أنها شبهة (٢) بالعقل وليست به.

قوله إحداهما من الروح أي ما يصيب روحه من الآلام الجسمانية والروحانية

__________________

(١) النفس ( خ ).

(٢) شبيهة ( ظ ).


بلا توسط أحد والأخرى ما يصيبه بسبب تسلط الغير عليه فهو النقمة أي ينتقم الله منه بغيره وعقوبة المؤمن منحصرة فيهما وأما الكافر فيجتمع عليه عقاب الدنيا وعذاب الآخرة ويحتمل أن تكون أن مخففة وكان المعنى إنما يفعله باستكراه الشهوة وعدم طاقته لمقاومتها لعسر تركها عليه لا بسبب اختياره وخروجه عن التكليف وأما الكافر فيفعلها عمدا واعتداء واستهانة بأمر الله ونهيه كما ورد في خبر آخر فإذا وقع الاستخفاف فهو الكفر.

« حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ » الآية في سورة البقرة هكذا « وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً » قال البيضاوي علة ود « مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ » يجوز أن يتعلق بود أي تمنوا ذلك من عند أنفسهم وتشهيهم لا من قبل التدين والميل مع الحق أو بحسدا أي حسدا بالغا منبعثا من أصل نفوسهم (١) انتهى وظاهر الخبر أن الاستشهاد بقوله « مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ » أي باختيارهم لا باستكراه واضطرار وخطإ ونسيان فيدل على أن المؤمن لا يرتكب المعصية إلا على أحد هذه الوجوه فالمراد بالمؤمن الكامل وهو الذي لا يخاف عليه العذاب في الآخرة وعلى ما أولنا يشمل غيره أيضا ولا يخفى ما في الخبر من التشويش وكأنه من الرواة وهو مع ذلك مشتمل على رموز خفية وأسرار غيبية وحكم ربانية وحقائق إيمانية « لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ »

٧ ـ العلل : عن محمد بن الحسن بن الوليد عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن عمرو بن أبي المقدام عن جابر عن أبي (٢) عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى لما أحب أن يخلق خلقا بيده وذلك بعد ما مضى من الجن والنسناس في الأرض سبعة آلاف سنة قال ولما كان من شأن الله أن يخلق آدم للذي أراد من التدبير والتقدير لما هو مكونه في السماوات والأرض وعلمه لما أراد من ذلك كله كشط عن أطباق السماوات ثم قال للملائكة انظروا إلى أهل

__________________

(١) أنوار التنزيل : ج ١ ص ١٠٦.

(٢) في المصدر : عن أبي جعفر عليه‌السلام.


الأرض من خلقي من الجن والنسناس فلما رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق عظم ذلك عليهم وغضبوا لله وأسفوا على أهل الأرض ولم يملكوا غضبهم أن قالوا يا رب أنت العزيز القادر الجبار (١) القاهر العظيم الشأن وهذا خلقك الضعيف الذليل في أرضك يتقلب (٢) في قبضتك ويعيشون برزقك ويستمتعون بعافيتك وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب العظام لا تأسف ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك لما تسمع منهم وترى وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه فيك فلما سمع الله عز وجل من الملائكة قال « إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » لي عليهم فيكون حجة لي عليهم في أرضي على خلقي فقالت الملائكة سبحانك « أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ » قالوا (٣) فاجعله منا فإنا لا نفسد في الأرض ولا نسفك الدماء قال الله جل جلاله يا ملائكتي « إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ » إني أريد أن أخلق خلقا بيدي أجعل ذريته أنبياء مرسلين وعبادا صالحين وأئمة مهتدين أجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي ينهونهم عن معاصي (٤) وينذرونهم عذابي ويهدونهم إلى طاعتي ويسلكون بهم طريق سبيلي وأجعلهم حجة لي « عُذْراً أَوْ نُذْراً » وأبين (٥) النسناس من أرضي فأطهرها منهم وأنقل مردة الجن العصاة عن بريتي وخلقي وخيرتي وأسكنهم في الهواء وفي أقطار الأرض لا يجاورون نسل خلقي وأجعل بين الجن وبين خلقي حجابا ولا يرى نسل خلقي الجن ولا يؤانسونهم ولا يخالطونهم فمن (٦) عصاني من نسل خلقي الذين اصطفيتهم لنفسي أسكنتهم مساكن العصاة وأوردتهم مواردهم ولا أبالي.

__________________

(١) المختار ( خ ).

(٢) في المصدر : يتقلبون.

(٣) في المصدر : وقالوا.

(٤) فيه : المعاصى.

(٥) سيأتي في البيان عن بعض النسخ « ابير » وعن بعضها « ابيد ».

(٦) زاد في المصدر : ولا يجالسونهم.


فقالت الملائكة يا ربنا افعل ما شئت « لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ » (١) « الْحَكِيمُ » فقال الله جل جلاله للملائكة « إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ » وكان ذلك من أمر الله عز وجل تقدم (٢) إلى الملائكة في آدم من قبل أن يخلقه احتجاجا منه عليهم.

قال : فاغترف تبارك وتعالى غرفة من الماء العذب الفرات فصلصلها فجمدت ثم قال لها منك أخلق النبيين والمرسلين وعبادي الصالحين والأئمة المهتدين الدعاة إلى الجنة وأتباعهم إلى يوم القيامة ولا أبالي ولا أسأل عما أفعل « وَهُمْ يُسْئَلُونَ » يعني بذلك خلقه أنه سيسألهم ثم اغترف غرفة من الماء المالح الأجاج فصلصلها فجمدت ثم قال لها منك أخلق الجبارين والفراعنة والعتاة (٣) إخوان الشياطين والدعاة إلى النار يوم (٤) القيامة وأتباعهم ولا أبالي ولا أسأل عما أفعل « وَهُمْ يُسْئَلُونَ » قال وشرط في ذلك البداء ولم يشترط في أصحاب اليمين البداء ثم خلط الماءين فصلصلهما ثم ألقاهما قدام عرشه وهما ثلة من طين ثم أمر الملائكة الأربعة الشمال والدبور والصبا والجنوب أن جولوا على هذه السلالة (٥) الطين وأبرءوها وأنشئوها (٦) ثم جزءوها وفصلوها وأجروا فيها (٧) الطبائع الأربعة الريح والمرة والدم والبلغم قال فجالت الملائكة عليها وهي الشمال والصبا والجنوب والدبور فأجروا فيها الطبائع الأربعة قال والريح في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الشمال قال والبلغم في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الصبا قال والمرة في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الدبور قال والدم في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الجنوب قال فاستقلت النسمة وكمل البدن قال : فلزمه

__________________

(١) العلى ( خ ).

(٢) تقدمة ( خ ).

(٣) في المصدر : واخوان.

(٤) فيه : الى يوم القيامة.

(٥) فيه : الثلة.

(٦) فيه : وانسموها.

(٧) فيه : وأجروا إليها.


من ناحية الريح حب الحياة وطول الأمل والحرص ولزمه من ناحية البلغم حب الطعام والشراب واللين والرفق ولزمه من ناحية المرة الغضب والسفه والشيطنة والتجبر والتمرد والعجلة ولزمه من ناحية الدم حب النساء واللذات وركوب المحارم والشهوات.

قال عمرو أخبرني جابر أن أبا جعفر عليه‌السلام قال وجدناه في كتاب من كتب علي عليه‌السلام (١).

تفسير علي بن إبراهيم ، عن أبيه عن ابن محبوب عن عمرو بن أبي المقدام عن ثابت الحداد عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله بأدنى تغيير وقد أوردناه بلفظ التفسير في باب خلق آدم عليه‌السلام (٢).

بيان : لما هو مكونه متعلق بالتقدير والتدبير على التنازع وعلمه معطوف على الذي أو على شأن الله أو علمه بصيغة الماضي عطفا على هو مكونه ولما أراد بالتشديد تأكيد لقوله لما أحب لبعد العهد بين الشرط والجزاء وقال الجوهري كشطت الجل عن ظهر الفرس والغطاء عن الشيء إذا كشفته عنه وفي المصباح أسف غضب وزنا ومعنى أن قالوا أي إلى أن قالوا وأن ليس في التفسير وفيه يتقلبون وهو أظهر وما هنا لرعاية إفراد لفظ الخلق وفيه خليفة يكون حجة لي في أرضي على خلقي بيدي أي بقدرتي وأبين النسناس أي أخرجهم وفي بعض النسخ أبير أي أهلك وفي التفسير أبيد بمعناه والمردة جمع المارد وهو العاتي وفي الصحاح الصلصال الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف والحمأ الطين الأسود والمسنون المتغير المنتن وقال ثلة البئر ما أخرج من ترابها والثلة بالضم الجماعة من الناس انتهى وفي التفسير سلالة من طين وسلالة الشيء ما استل منه أن جولوا من الجولان وفي التفسير أن يجولوا وابروها من البري بمعنى النحت أو بالهمز أي اجعلوها مستعدة لأن أبرأها وأنشئها مجازا والبر التراب ويمكن

__________________

(١) العلل : ج ١ ، ص ٩٨ ـ ١٠٠.

(٢) تفسير القمي : ٣١.


أن يكون من التأبير وفي القاموس أبر النخل والزرع كأبره أصلحه ولعل المراد بالريح المرة الصفراء وبالمرة السوداء كما مر أو بالعكس أو المراد بالريح الروح الحيواني وبالمرة المرتان وفي التفسير الصغير لعلي بن إبراهيم وأجروا فيها الطبائع الأربع المرتين والدم والبلغم إلى قوله فالدم من ناحية الصبا والبلغم من ناحية الشمال والمرة الصفراء من ناحية الجنوب والمرة السوداء من ناحية الدبور.

٨ ـ العلل : عن محمد بن موسى بن المتوكل عن عبد الله بن جعفر الحميري عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن بعض أصحابنا رفعه (١) قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام عرفان المرء نفسه أن يعرفها بأربع طبائع وأربع دعائم وأربعة أركان وطبائعه الدم والمرة والريح والبلغم ودعائمه العقل ومن العقل الفطنة والفهم والحفظ والعلم وأركانه النور والنار والروح والماء فأبصر وسمع وعقل بالنور وأكل وشرب بالنار وجامع وتحرك بالروح ووجد طعم الذوق والطعم بالماء فهذا تأسيس صورته فإذا كان عالما حافظا ذكيا فطنا فهما عرف في ما هو ومن أين تأتيه الأشياء ولأي شيء هو هاهنا ولما هو (٢) صائر بإخلاص الوحدانية والإقرار بالطاعة وقد جرى فيه النفس وهي حارة وتجري فيه وهي باردة فإذا حلت به الحرارة أشر وبطر وارتاح وقتل وسرق ونصح (٣) واستبشر وفجر وزنى واهتز وبذخ وإذا كانت باردة اهتم وحزن واستكان وذبل ونسي وأيس فهي العوارض التي تكون منها (٤) الأسقام فإنه سبيلها ولا يكون أول ذلك إلا لخطيئة عملها فيوافق ذلك مأكل أو مشرب في إحدى ساعات لا تكون تلك الساعة موافقة لذلك المأكل والمشرب بحال الخطيئة فيستوجب الألم من ألوان الأسقام وقال جوارح الإنسان وعروقه وأعضاؤه جنود لله (٥)

__________________

(١) في المصدر : يرفعه.

(٢) والى ما ( خ ).

(٣) في المصدر : « وبهج » وهو الظاهر.

(٤) فيه وفي بعض نسخ الكتاب : فيها.

(٥) جنود الله ( خ ).


مجندة عليه فإذا أراد الله به سقما سلطها عليه فأسقمه من حيث يريد به ذلك السقم (١).

بيان : قوله والفهم عطف على العقل أو عد العقل أربعا باعتبار شعبه والأول أظهر وقال الراغب في مفرداته النور الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار وذلك ضربان دنيوي وأخروي فالدنيوي ضربان ضرب معقول بعين البصيرة وهو ما انتشر من الأمور الإلهية كنور العقل ونور القرآن ومحسوس بعين البصر وهو ما انتشر من الأجسام النيرة كالقمر والنجوم والنيران فمن النور الإلهي قوله عز وجل « قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ » (٢) وقال « وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » (٣) وقال « وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا » (٤) وقال « فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ » (٥) وقال « نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ » (٦) ثم قال ومن النور الأخروي قوله « يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ » (٧) وقوله « انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ » (٨) وسمى الله نفسه نورا فقال « اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » (٩) انتهى.

عرف في ما هو أي فناء الدنيا ودناءتها وأحوال نفسه وضعفه وعجزه ومن أين تأتيه الأشياء أي يؤمن بالقضاء والقدر ويعلم أسباب الخير والشر والسعادة والشقاوة ولأي شيء هو هاهنا أي في الدنيا للمعرفة والطاعة وإلى ما هو صائر من الآخرة وقوله بإخلاص الطاعة إما حال عن فاعل عرف أي متلبسا به أو متعلق بصائر أي يعلم أن مصيره إلى الجنة إذا أخلص الوحدانية أو متعلق بالمعرفة علة لها.

__________________

(١) العلل : ج ١ ، ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢) المائدة : ١٥.

(٣) الأنعام : ١٢٢.

(٤) الشورى : ٥٢.

(٥) الزمر : ٢٢.

(٦) النور : ٣٥.

(٧) الحديد : ١٢.

(٨) الحديد : ١٣.

(٩) النور : ٣٥.


والارتياح النشاط والبذخ الكبر بذخ كفرح وذبل ذوي وضمر (١) بحال الخطيئة أي تلك الموافقة بسبب الخطيئة وقال الجوهري الجند الأنصار والأعوان وفلان جند الجنود.

٩ ـ العلل : عن محمد بن موسى البرقي عن علي بن محمد ماجيلويه عن أحمد بن محمد البرقي عن أبيه عن محمد بن سنان عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول لرجل اعلم يا فلان إن منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم ألا ترى أن جميع جوارح الجسد شرط للقلب وتراجمة له مؤدية عنه الأذنان والعينان والأنف والفم واليدان والرجلان والفرج فإن القلب إذا هم بالنظر فتح الرجل عينيه وإذا هم بالاستماع حرك أذنيه وفتح مسامعه فسمع وإذا هم القلب بالشم استنشق بأنفه فأدى تلك الرائحة إلى القلب وإذا هم بالنطق تكلم باللسان (٢) وإذا هم بالحركة سعت الرجلان وإذا هم بالشهوة تحرك الذكر فهذه كلها مؤدية عن القلب بالتحريك وكذلك ينبغي الإمام (٣) [ للإمام ] أن يطاع للأمر منه (٤).

بيان : الشرط كصرد طائفة من أعوان الولاة.

١٠ ـ العلل : عن محمد بن الحسن بن الوليد عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن أبي جميلة عمن ذكره عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إن الغلظة في الكبد والحياء في الريح والعقل مسكنه القلب (٥).

١١ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن أبي نصر والحسن بن

__________________

(١) ذوى ـ كضرب وفرح ـ ذويا : نشف ماؤه ، وضمر ـ كنصر وكرم ـ : هزل.

(٢) زاد في المصدر : وإذا هم بالبطش عملت اليدان.

(٣) فيه : للامام.

(٤) العلل : ج ١ ، ص ١٠٣.

(٥) المصدر : ج ١ ، ص ١٠١.


فضال عن أبي جميلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الحزم في القلب والرحمة والغلظة (١) في الكبد والحياء في الرئة وفي حديث آخر لأبي جميلة العقل مسكنه في القلب (٢).

بيان : الحزم ضبط الأمر والأخذ فيه بالثقة ونسبته إلى القلب إما لأن المراد بالقلب النفس وهو ظاهر وإما لأن لقوة القلب مدخلا في حسن التدبير والرحمة والغلظة منسوبتان إلى الأخلاط المتولدة في الكبد فلذا نسبهما (٣) إليه ويحتمل أن يكون لبعض صفاته مدخلا (٤) فيهما كما هو المعروف بين الناس وكذا الرئة ولا يبعد أن يكون الريح في الخبر السابق تصحيف الرئة لاتحاد الراوي وعلى تقدير صحته المراد المرة السوداء أو الصفراء والأول أنسب.

١٢ ـ العلل : عن محمد بن موسى بن المتوكل عن عبد الله الحميري عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن ابن محبوب عن بعض أصحابنا رفع الحديث قال : لما خلق الله عز وجل طينة آدم أمر الرياح الأربع فجرت عليها فأخذت من كل ريح طبيعتها (٥).

١٣ ـ النصوص : عن علي بن الحسن عن هارون بن موسى عن علي بن محمد بن مخلد عن الحسن بن علي بن بزيع عن يحيى بن الحسن بن فرات عن علي بن هاشم البريد عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في صغره عند أبيه عليهما‌السلام يا ابن رسول الله من أين الضحك قال يا محمد العقل من القلب والحزن من الكبد والنفس من الرئة والضحك من الطحال فقمت وقبلت رأسه.

١٤ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن سنان قال : سمعت

__________________

(١) الغضب ( خ ).

(٢) روضة الكافي : ١٩٠.

(٣) نسبتهما ( خ ).

(٤) كذا في جميع النسخ ، والصواب « مدخل ».

(٥) العلل : ج ١ ، ص ١٠١.


أبا الحسن عليه‌السلام يقول طبائع الجسم على أربعة فمنها الهواء الذي لا تحيا (١) النفس إلا به وبنسيمه ويخرج ما في الجسم من داء وعفونة والأرض التي قد تولد اليبس والحرارة والطعام ومنه يتولد الدم ألا يرى (٢) [ ترى ] أنه يصير إلى المعدة فيغذيه حتى يلين ثم يصفو فيأخذ (٣) الطبيعة صفوه دما ثم ينحدر الثفل والماء وهو يولد البلغم (٤).

١٤ـ بيان : طبائع الجسم على أربعة أي مبنى طبائع جسد الإنسان وصلاحها على أربعة أشياء ويحتمل أن يكون المراد بالطبائع ما له مدخل في قوام البدن وإن كان خارجا عنه فالمراد أنها على أربعة أقسام ويخرج ما في الجسم يدل على أن لتحرك النفس مدخلا في دفع الأدواء ورفع العفونات عن الجسد كما هو الظاهر والأرض أي الثانية منها الأرض وهي تولد اليبس بطبعها والحرارة بانعكاس أشعة الشمس والكواكب عنها فلها مدخل في تولد المرة الصفراء والمرة السوداء والطعام هذا هو الثالثة وإنما نسب الدم فقط إليها لأنها أدخل في قوام البدن من سائر الأخلاط مع عدم مدخلية الأشياء الخارجة كثيرا فيها والماء هو الرابعة ومدخليتها في تولد البلغم ظاهرة.

١٥ ـ الإختصاص : عن المعلى بن محمد عن بعض أصحابنا يرفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن أول من قاس إبليس فقال « خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » ولو علم إبليس ما خلق الله (٥) في آدم لم يفتخر عليه ثم قال إن الله عز وجل خلق الملائكة من نور (٦) وخلق الجان من النار وخلق الجن صنفا من الجان من الريح وخلق الجن (٧) صنفا من الجن من الماء وخلق آدم من صفحة الطين ثم أجرى في آدم النور

__________________

(١) لا تجيء ( خ ).

(٢) في المصدر : ألا ترى.

(٣) فيه : فتأخذ.

(٤) روضة الكافي : ٢٣٠.

(٥) في المصدر : ما جعل.

(٦) في المصدر : من النور.

(٧) كذا وفي المصدر ، وخلق صنفا.


والنار والريح والماء فبالنور أبصر وعقل وفهم وبالنار أكل وشرب ولو لا أن النار في المعدة لم يطحن المعدة الطعام ولو لا أن الريح في جوف آدم تلهب نار المعدة لم تلتهب ولو لا أن الماء في جوف ابن آدم يطفئ حر نار المعدة لأحرقت النار جوف ابن آدم فجمع الله ذلك في آدم الخمس الخصال (١) وكانت في إبليس خصلة فافتخر بها (٢).

١٦ ـ نهج : قال عليه‌السلام اعجبوا لهذا الإنسان ينظر بشحم ويتكلم بلحم ويسمع بعظم ويتنفس من خرم (٣).

١٧ ـ العلل : لمحمد بن علي بن إبراهيم رفعه قال : سألته عن الموت مما هو ومن أي شيء هو فقال هو من الطبائع الأربع التي هي مركبة في الإنسان وهي المرتان والدم والريح فإذا كان يوم القيامة نزعن هذه الطبائع من الإنسان فيخلق منها الموت فيؤتى به في صورة كبش أملح أي أغبر فيذبح بين الجنة والنار فلا يكون في الإنسان هذه الطبائع الأربع فلا يموت أبدا.

١٨ ـ الخصال والعلل : عن محمد بن إبراهيم الطالقاني عن الحسن بن علي العدوي عن عباد بن صهيب عن أبيه عن جده عن الربيع صاحب المنصور قال : حضر أبو عبد الله عليه‌السلام مجلس المنصور يوما وعنده رجل من الهند يقرأ كتب الطب فجعل أبو عبد الله عليه‌السلام ينصت لقراءته فلما فرغ الهندي قال له يا أبا عبد الله أتريد مما معي شيئا قال لا فإن معي ما هو خير مما معك قال وما هو قال أداوي الحار بالبارد والبارد بالحار والرطب باليابس واليابس بالرطب وأرد الأمر كله إلى الله عز وجل وأستعمل ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعلم أن المعدة بيت الداء وأن الحمية هي الدواء وأعود البدن ما اعتاد.

فقال الهندي وهل الطب إلا هذا فقال الصادق عليه‌السلام أفتراني من كتب

__________________

(١) خصال ( خ ).

(٢) الاختصاص : ١٠٩ ، وفيه : فافتخر بها على آدم عليه‌السلام.

(٣) نهج البلاغة الرقم ٧ من الحكم.


الطب أخذت قال نعم قال لا والله ما أخذت إلا عن الله سبحانه فأخبرني أنا أعلم بالطب أم أنت قال الهندي لا بل أنا قال الصادق عليه‌السلام فأسألك شيئا قال : سل.

قال الصادق ع : أخبرني يا هندي لم كان في الرأس شئون قال لا أعلم قال فلم جعل الشعر عليه من فوق قال لا أعلم قال فلم خلت الجبهة من الشعر قال لا أعلم قال فلم كان لها تخاطيط (١) وأسارير قال لا أعلم قال فلم كان الحاجبان من فوق العينين (٢) قال لا أعلم قال فلم جعل العينان كاللوزتين قال لا أعلم قال فلم جعل الأنف (٣) بينهما قال لا أعلم قال فلم كان ثقب الأنف في أسفله قال لا أعلم قال فلم جعلت الشفة والشارب من فوق الفم قال لا أعلم قال فلم احتد السن وعرض الضرس وطال (٤) الناب قال لا أعلم قال فلم جعلت اللحية للرجال قال لا أعلم قال فلم خلت الكفان من الشعر قال لا أعلم قال فلم خلا الظفر والشعر من الحياة قال لا أعلم قال فلم كان القلب كحب الصنوبر قال لا أعلم قال فلم كانت الرئة قطعتين وجعل حركتها في موضعها قال لا أعلم قال فلم كانت الكبد حدباء قال لا أعلم قال فلم كانت الكلية كحب اللوبيا قال لا أعلم قال فلم جعل طي الركبة إلى خلف قال : لا أعلم. قال فلم انخصرت (٥) القدم قال لا أعلم.

فقال الصادق ع : لكني أعلم قال فأجب فقال الصادق عليه‌السلام كان في الرأس شئون لأن المجوف إذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع (٦) فإذا جعل ذا فصول كان الصداع (٧) منه أبعد وجعل الشعر من فوقه ليوصل بوصوله الأدهان إلى الدماغ و

__________________

(١) تخطيط ( خ ).

(٢) فوق العين ( خ ).

(٣) في ما بينهما ( خ ).

(٤) أطال ( خ ).

(٥) في العلل تخصرت.

(٦) في العلل والخصال : الصدع.

(٧) في العلل والخصال : الصدع.


يخرج بأطرافه البخار منه ويرد (١) الحر والبرد الواردين عليه وخلت الجبهة من الشعر لأنها مصب النور إلى العينين وجعل فيها التخاطيط (٢) والأسارير ليحبس العرق الوارد من الرأس عن العين قدر ما يميطه الإنسان عن (٣) نفسه كالأنهار في الأرض التي تحبس المياه وجعل الحاجبان من فوق العينين ليردا (٤) عليهما من النور قدر الكفاية ألا ترى يا هندي أن من غلبه النور جعل يده على عينيه ليرد عليهما قدر كفايتهما منه وجعل الأنف في ما بينهما ليقسم النور قسمين إلى كل عين سواء وكانت العين كاللوزة ليجري فيها الميل بالدواء ويخرج منها الداء ولو كانت مربعة أو مدورة ما جرى فيها الميل وما وصل إليها دواء ولا خرج منها داء وجعل ثقب الأنف في أسفله لينزل منه الأدواء المنحدرة من الدماغ ويصعد (٥) فيها الأراييح (٦) إلى المشام ولو كان في أعلاه لما نزل داء ولا وجد رائحة وجعل الشارب والشفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدماغ عن الفم لئلا يتنغص على الإنسان طعامه وشرابه فيميطه عن نفسه وجعلت اللحية للرجال ليستغنى بها عن الكشف في المنظر ويعلم بها الذكر من (٧) الأنثى وجعل السن حادا لأن به يقع العض وجعل الضرس عريضا لأن به يقع الطحن والمضغ وكان الناب طويلا ليشد (٨) الأضراس والأسنان كالأسطوانة في البناء وخلا الكفان من الشعر لأن بهما يقع اللمس فلو كان بهما شعر ما درى الإنسان ما يقابله ويلمسه وخلا الشعر والظفر من الحياة لأن طولهما سمج يقبح وقصهما حسن فلو كان فيهما حياة لألم الإنسان لقصهما وكان (٩) القلب كحب الصنوبر لأنه منكس فجعل

__________________

(١) في العلل : ويرد عنه الحر.

(٢) التخطيط ( خ ).

(٣) من نفسه ( خ ).

(٤) في العلل : « ليوردا » وفي الخصال : « ليرد ».

(٥) في العلل وتصعد فيها الروائح.

(٦) الارياح ( خ ).

(٧) والأنثى ( خ ).

(٨) في الخصال : « ليشيد » وفي بعض النسخ « ليسند ».

(٩) وجعل ( خ ).


رأسه دقيقا ليدخل في الرئة فيتروح عنه ببردها لئلا يشيط الدماغ بحره وجعلت الرئة قطعتين ليدخل بين مضاغطها (١) فتروح عنه بحركتها وكانت الكبد حدباء لتثقل المعدة وتقع جميعها عليها فتعصرها فيخرج ما فيها من البخار وجعلت الكلية كحب اللوبيا لأن عليها مصب المني نقطة بعد نقطة فلو كانت مربعة أو مدورة لاحتبست النقطة الأولى الثانية فلا يلتذ بخروجها الحي إذ المني ينزل من فقار الظهر إلى الكلية فهي كالدودة تنقبض وتنبسط ترميه أولا فأولا إلى المثانة كالبندقة من القوس وجعل طي الركبة إلى خلف لأن الإنسان يمشي إلى ما بين يديه فتعتدل الحركات ولو لا ذلك لسقط في المشي وجعلت القدم متخصرة لأن الشيء إذا وقع على الأرض جميعه ثقل ثقل حجر الرحى إذا كان على حرفه دفعه الصبي وإذا وقع على وجهه صعب ثقله على الرجل.

فقال الهندي : من أين لك هذا العلم فقال عليه‌السلام أخذته عن آبائي عليهم‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عليه‌السلام عن رب العالمين جل جلاله الذي خلق الأجساد والأرواح (٢) فقال الهندي صدقت وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وعبده وأنك أعلم أهل زمانك (٣).

بيان : قال في القاموس المعدة ككلمة وبالكسر موضع الطعام وقال الجوهري الشأن واحد الشئون وهي مواصل قبائل الرأس وملتقاها ومنها تجيء الدموع وقال السرر أيضا واحد أسرار الكف والجبهة وهي خطوطها وجمع الجمع أسارير والذي يظهر من كلام اللغويين أن السن والضرس مترادفان ويظهر من إطلاقات الأخبار وغيرها اختصاص السن بالمقاديم الحداد والضرس بالمآخير العراض وفي المصباح حدب الإنسان من باب تعب إذا خرج ظهره وارتفع عن الاستواء والرجل أحدب والمرأة حدباء وقال الجوهري رجل مخصر القدمين إذا كانت قدمه تمس الأرض من مقدمها

__________________

(١) مساقطها ( خ ).

(٢) في العلل والخصال : الاجسام.

(٣) العلل : ج ١ ، ص ٩٢ ـ ٩٥ : الخصال ٩٨ ـ ١٠٠.


وعقبها وتخوى (١) أخمصها مع دقة فيه قوله عليه‌السلام ليوصل بوصوله أي بسبب وصول الشعر إلى الدماغ تصل إليه الأدهان أو هو جمع الوصل إلى منابته وأصوله ولا يبعد أن يكون في الأصل بأصوله فصحف بقرينة مقابلة أطرافه قوله عليه‌السلام لأنها مصب النور وذلك لأن طول الشعر من الجانب الأعلى إليهما وأكثر الأنوار السماوية ترد من الجهة العليا أو أن الأعصاب التي ترد منها الروح إليهما في باطن الجبهة ومع نبات الشعر تصل منابتها إلى تلك الأعصاب فتمنع ورود الروح التي هي محل النور أو أنه مزاج الروح الحامل للنور حار رطب والشعر يتولد من المواد الباردة اليابسة فلا يتوافقان والأول أظهر ويقال ماطه يميطه وأماطه أي نحاه وأبعده وفي القاموس الريح معروف والجمع أرواح وأرياح ورياح وريح كعنب وجمع الجمع أراويح وأراييح قوله عليه‌السلام فيميطه عن نفسه أي فيحتاج إلى أن يميط ما ينزل من الدماغ في أثناء الأكل والشرب عن نفسه أو فيميط الشارب والشفة ما ينزل عنه وهو بعيد ليستغنى بها عن الكشف أي عن كشف العورة لاستعلام كونه ذكرا أم أنثى وقوله في المنظر متعلق بقوله يستغنى لا بالكشف ليشد الأضراس وفي بعض النسخ ليسند وفي المصباح السند بفتحتين ما استندت إليه من حائط وغيره يقال أسندته إلى الشيء فسند هو انتهى وعلى التقديرين لعل وجه كونه سندا من بين سائر الأسنان أنه لطوله يمنع وقوع الأسنان بعضه على بعض في بعض الأحوال كما أن الأسطوانة تمنع السقف من السقوط أو أنها لطولها وقوتها تكون أثبت من غيرها فتمنعها من التزلزل والسقوط لاتصالها كالأسطوانة التي تنصب في الأرض ويجعل بينها التخاتج فتمسكها ويؤيده أن هذا السن يسقط غالبا بعد سائرها فهو أقوى منها وأثبت.

ما يقابله كأنه كان يعامله فصحف مع أن أكثر ما يلمس يكون مقابلا ليدخل أي القلب بين مضاغطها أي بين قطعتي الرئة فتروح أي الرئة عنه أي القلب وفي القاموس شاط يشيط شيطا احترق وفلان هلك انتهى واستعيرت

__________________

(١) يخوى ( خ ).


النقطة هنا للشيء القليل والقطرة والاحتباس يكون لازما ومتعديا إلى الثانية أي منضمة إليها وهذا موافق لما مر من مذهب جالينوس في ذلك وكأنه كان مكان المثانة الأنثيين لأنهم لم يذكروا مرور المني على المثانة كما عرفت إلا أن يكون المراد رميه قريبا من المثانة كما مر وقال الشيخ في القانون في ذكر أوعية المني وهذه الأوعية تصعد أولا ثم تتصل برقبة المثانة أسفل من مجرى البول مع أن أكثر ما ذكره مبني على الظن والتخمين فإن صح الخبر وضبطه كان قولهم في ذلك باطلا قوله عليه‌السلام يمشي إلى ما بين يديه أي يميل في المشي إلى قدامه فلو كان طي الركبة من القدام لانثنى أيضا من هذا الجانب فيسقط قوله إذا وقع على الأرض جميعه وذلك لامتناع الخلأ لأنه إذا لم يكن بين السطحين هواء أصلا وانطبقتا لم يكن رفع أحدهما عن الآخر فيرتفعان معا ولو كان بينهما هواء قليل يرتفع لكن يعسر (١) لتوقفه على تخلخل هذا الهواء ودخول الهواء من خارج أيضا فتخصر القدم يوجب وجود هواء كثير تحت القدم فإذا رفع القدم يدخل تحت ما لصق بالأرض من قدام القدم وعقبه الهواء من الأطراف بسرعة وسهولة فلا يعسر رفعه.

١٩ ـ العلل : عن الحسين بن أحمد عن أبيه عن محمد بن أحمد عن أبي عبد الله الداري عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن سفيان الحريري عن معاذ عن بشر بن يحيى العامري عن ابن أبي ليلى قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام ومعي نعمان فقال أبو عبد الله عليه‌السلام من الذي معك فقلت جعلت فداك هذا رجل من أهل الكوفة له نظر ونفاذ (٢) رأي يقال له نعمان (٣) قال فلعل هذا

__________________

(١) يتعسر ( خ ).

(٢) في المصدر : ونقاد ورأى.

(٣) يعني أبا حنيفة ، وهو نعمان بن ثابت بن مرزبان مولى تيم الله ، وانحرافه عن الإمام الصادق مشهور بين الفريقين ، ينسب إليه مكتب الرأى والقياس ، قال الغزالى : فأما ابو حنيفة فقد قلب الشريعة ظهر البطن وشوش مسلكها وغير نظامها وأردف جميع قواعد الشريعة بأصل هدم به شرع محمد المصطفى (ص) ومن فعل شيئا من هذا مستحلا كفر ومن فعل غير مستحل فسق ، ثم جرى في الطعن عليه بما لا يسع ذكره المجال من اراده راجع كتابه المسمى « المنخول في الأصول » ، وقد ألف شيخنا المفيد ـ ره ـ رسالة في مخالفته لنصوص كتاب الله وسنة رسوله من باب الطهارة إلى الديات.


الذي يقيس الأشياء برأيه فقلت نعم قال يا نعمان هل تحسن أن تقيس رأسك فقال لا فقال ما أراك تحسن شيئا ولا فرضك إلا من عند غيرك فهل عرفت كلمة أولها كفر وآخرها إيمان قال لا قال فهل عرفت ما الملوحة في العينين والمرارة في الأذنين والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين قال لا قال ابن أبي ليلى فقلت جعلت فداك فسر لنا جميع ما وصفت قال حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن الله تبارك وتعالى خلق عيني ابن آدم من شحمتين فجعل فيهما الملوحة ولو لا ذلك لذابتا فالملوحة تلفظ ما يقع في العين من القذى وجعل المرارة في الأذنين حجابا من الدماغ فليس من دابة تقع فيه إلا التمست الخروج ولو لا ذلك لوصلت إلى الدماغ وجعلت العذوبة في الشفتين منا من الله عز وجل على ابن آدم يجد (١) بذلك عذوبة الريق وطعم الطعام والشراب وجعل البرودة في المنخرين لئلا تدع في الرأس شيئا إلا أخرجته قلت فما الكلمة التي أولها كفر وآخرها إيمان قال قول الرجل لا إله إلا الله أولها كفر وآخرها إيمان ثم قال يا نعمان إياك والقياس فقد حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال من قاس شيئا بشيء قرنه الله عز وجل مع إبليس في النار فإنه أول من قاس على ربه فدع الرأي والقياس فإن الدين لم يوضع بالقياس و (٢) بالرأي (٣).

بيان : أقول قد مرت أخبار كثيرة في هذا المعنى في باب البدع والمقاييس وفي بعضها جعل الأذنين مرتين لئلا يدخلها شيء إلا مات لو لا ذلك لقتل ابن آدم الهوام وجعل الشفتين عذبتين ليجد ابن آدم طعم الحلو والمر وجعل العينين مالحتين لأنهما شحمتان ولو لا ملوحتهما لذابتا وجعل الأنف باردا سائلا لئلا يدع في الرأس داء إلا أخرجه ولو لا ذلك لثقل الدماغ وتدود وفي بعضها وجعل الماء في المنخرين

__________________

(١) في المصدر : فيجد.

(٢) فيه : ولا بالرأى.

(٣) العلل : ج ١ ، ص ٨٦.


ليصعد منه النفس وينزل ويجد منه الريح الطيبة من الخبيثة قوله عليه‌السلام ولا فرضك أي ما أراك تحسن ما افترض الله عليك إلا إذا أخذته من غيرك وقوله فالملوحة تلفظ علة أخرى وجعل البرودة أي الماء البارد فإن السيلان علة لإخراج ما في الرأس لا البرودة (١) وهي علة لعدم سيلان الدماغ كما أشير إليه في الخبر الآخر.

٢٠ ـ العلل : عن علي بن أحمد بن محمد عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن محمد بن إسماعيل البرمكي عن علي بن العباس عن عمر بن عبد العزيز قال حدثنا هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت ما العلة في بطن الراحة لا ينبت فيه الشعر وينبت في ظاهرها فقال لعلتين أما إحداهما فلأن الناس يعلمون الأرض التي تداس ويكثر عليها المشي لا تنبت شيئا والعلة الأخرى لأنها جعلت من الأبواب التي تلاقي الأشياء فتركت لا ينبت عليها الشعر لتجد مس اللين والخشن ولا يحجبها الشعر عن وجود الأشياء ولا يكون بقاء الخلق إلا على ذلك (٢).

بيان : الأرض التي تداس كأنه علة لعدم نبات الشعر بعد الكبر لا ابتداء والدوس الوطء بالرجل من الأبواب التي تلاقي الأشياء أي من أسباب العلم التي تدرك بها الأشياء بالملاقاة أو من الأعضاء التي تلاقي الأشياء كثيرا عن وجود الأشياء أي وجدان كيفياتها في القاموس وجد المطلوب كوعد وجدا ووجودا ووجدانا وإجدانا بكسرهما أدركه.

٢١ ـ العلل : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن محمد بن علي عن عيسى بن عبد الله القرشي رفعه قال : دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له يا أبا حنيفة (٣) بلغني أنك تقيس قال نعم أنا أقيس فقال ويلك لا تقس فإن أول من قاس إبليس قال « خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ » قاس

__________________

(١) لعل المراد أن البرودة هي التي بسببها تتقطر الابخرة المتصاعدة إلى الدماغ فتسيل من المنخرين.

(٢) العلل : ج ١ ص ٩٥.

(٣) يا أبا حنيفة ( خ ).


ما بين النار والطين ولو قاس نورية آدم بنور النار عرف فضل ما بين النورين وصفاء أحدهما على الآخر ولكن قس لي رأسك مع جسدك أخبرني عن أذنيك ما لهما مرتان وعن عينيك ما لهما مالحتان وعن شفتيك ما لهما عذبتان وعن أنفك ما له بارد فقال لا أدري فقال له أنت لا تحسن (١) تقيس رأسك تقيس الحلال والحرام فقال يا ابن رسول الله أخبرني كيف ذلك فقال إن الله عز وجل جعل الأذنين مرتين لئلا يدخلهما شيء إلا مات ولو لا ذلك لقتلت الدواب ابن آدم وجعل العينين مالحتين لأنها شحمتان ولو لا ملوحتهما لذابتا وجعل الشفتين عذبتين ليجد ابن آدم طعم الحلو والمر وجعل الأنف باردا سائلا لئلا يدع في الرأس داء إلا أخرجه ولو لا ذلك لثقل الدماغ وتدود.

وقال البرقي وروى بعضهم أنه قال في الأذنين لامتناعهما من العلاج وقال في موضع ذكر الشفتين الريق فإنما عذب الريق ليميز به بين الطعام والشراب وقال في ذكر الأنف لو لا برد ماء (٢) الأنف وإمساكه الدماغ لسال الدماغ من حرارته (٣).

ومنه : عن أبيه عن محمد بن يحيى عن محمد بن أحمد عن إبراهيم بن هاشم عن أحمد بن عبد الله العقيلي عن عيسى بن عبد الله القرشي رفع الحديث وذكر مثله إلى قوله وتدود (٤).

بيان : وتدود أي تولد فيه الدود لامتناعهما من العلاج أي لتكونا بطبعهما آبيتين (٥) ممتنعتين عن أن تعالج الدواب فيهما بعد دخولهما بل تموت أو تخرج أو لأنهما لكونهما غائرتين في الرأس يشكل علاجهما إذا لذعتهما هامة أو دابة فينفذ السم سريعا إلى الدماغ فيهلك.

__________________

(١) في المصدر : لا تحسن أن تقيس رأسك ، فكيف تقيس الحلال والحرام؟.

(٢) ما في الانف ( خ ).

(٣) العلل : ج ١ ، ص ٨٢.

(٤) المصدر : ٨١.

(٥) في نسخ الكتاب : آيتين.


٢٢ ـ المناقب : مما أجاب الرضا عليه‌السلام بحضرة المأمون لضباع بن نصر الهندي وعمران الصابي عن مسائلهما قالا فما بال الرجل يلتحي دون المرأة قال عليه‌السلام زين الله الرجال باللحى وجعلها فصلا يستدل بها على الرجال (١) والنساء (٢).

٢٣ ـ مجالس الشيخ : عن جماعة عن أبي المفضل عن جعفر بن محمد الموسوي عن عبيد الله (٣) بن أحمد بن نهيك عن محمد بن أبي عمير عن سبرة بن يعقوب بن شعيب عن أبيه عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ابن آدم ثلاثمائة وستون عرقا منها مائة وثمانون متحركة ومائة وثمانون ساكنة فلو سكن المتحرك لم يبق الإنسان ولو تحرك الساكن لهلك الإنسان الخبر.

المكارم عن علي عليه‌السلام عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مثله (٤).

٢٤ ـ العلل : لمحمد بن علي بن إبراهيم العلة في زيادة ضلع المرأة على ضلع الرجل لمكان الجنين كي يتسع جوفها للولد.

٢٥ ـ الكافي : عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي الحسن الأنباري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحمد الله في كل يوم ثلاثمائة وستين مرة عدد عروق الجسد يقول « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » كثيرا على كل حال (٥).

٢٦ ـ ومنه : عن علي بن إبراهيم عن أبيه وحميد بن زياد عن الحسن بن محمد جميعا عن أحمد بن الحسن الميثمي عن يعقوب بن شعيب قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن في ابن آدم ثلاثمائة وستين عرقا منها مائة وثمانون متحركة

__________________

(١) من النساء.

(٢) المناقب : ج ٤ ، ص ٣٥٤.

(٣) كذا ذكره النجاشي ، وعن الفاضل الجزائري في الحاوى أن ضبطه مصغرا سهو إن لم يكن رجلا آخر ، واحتمل بعضهم كونه مسمى باسمين.

(٤) المكارم : ٣٥٧.

(٥) الكافي : ج ٢ ، ص ٥٠٣.


ومنها مائة وثمانون ساكنة فلو سكن المتحرك لم ينم ولو تحرك الساكن لم ينم وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أصبح قال « الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » كثيرا على كل حال ثلاثمائة وستين مرة وإذا أمسى قال مثل ذلك (١).

العلل : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن الميثمي مثله (٢).

٢٧ ـ المناقب لابن شهرآشوب ، عن سالم الضرير أن نصرانيا سأل (٣) الصادق عليه‌السلام عن أسرار الطب ثم سأله عن تفصيل الجسم فقال عليه‌السلام إن الله خلق الإنسان على اثني عشر وصلا وعلى مائتين وثمانية وأربعين عظما وعلى ثلاثمائة وستين عرقا فالعروق هي التي تسقي الجسد كله والعظام تمسكها واللحم يمسك العظام والعصب يمسك اللحم وجعل في يديه اثنين وثمانين عظما في كل يد أحد وأربعون عظما منها في كفه خمسة وثلاثون عظما وفي ساعده اثنان وفي عضده واحد وفي كتفه ثلاثة فذلك أحد وأربعون عظما وكذلك في الأخرى وفي رجله ثلاثة وأربعون عظما منها في قدمه خمسة وثلاثون عظما وفي ساقه اثنان وفي ركبته ثلاثة وفي فخذه واحد وفي وركه اثنان وكذلك في الأخرى وفي صلبه ثماني عشرة فقارة وفي كل واحد (٤) من جنبيه تسعة أضلاع وفي وقصته (٥) ثمانية وفي رأسه ستة وثلاثون عظما وفي فيه ثمانية وعشرون أو اثنان وثلاثون عظما (٦).

تبيين : يمكن أن يكون المراد وصل الأعضاء العظيمة بعضها ببعض كالرأس والعنق العضدين والساعدين والوركين مع الفخذين والساقين والأضلاع من اليمين والأضلاع

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ، ص ٥٠٣.

(٢) العلل : ج ٢ ، ص ٤٢.

(٣) في المصدر : سأل الصادق (ع) عن تفصيل.

(٤) واحدة ( خ ).

(٥) في المصدر : وفي عنقه.

(٦) المناقب : ج ٤ ، ص ٢٥٦.


من الشمال وكأن المراد بالوقصة العنق قال الفيروزآبادي وقص عنقه كوعد كسرها والوقص بالتحريك قصر العنق انتهى فعدها ثمانية باعتبار ضم بعض فقرات الظهر إليها لقربها منها وانحنائها ويحتمل أن يكون في الأصل وفي وقيصته وهي عظام وسط الظهر وهي على المشهور سبعة فتكون الثمانية بضم الترقوة إليها وفي بعض النسخ في أول الخبر وستة وأربعين عظما وهو تصحيف لأنه لا يستقيم الحساب والأسنان غير داخلة في عدد العظام فيدل على أنها ليست بعظم وقد اختلف الأطباء في ذلك اختلافا عظيما فمنهم من ذهب إلى أنها عظم وقيل هو عصب وقيل عضو مركب.

وظاهر الأخبار أنها نوع آخر غير العظم والعصب لأنهم عليهم‌السلام عدوها في ما لا تحله الحياة من الحيوان مقابلا للقرن والعظم والظلف والحافر وغيرها وهو لا ينافي المذهب الأخير كثيرا وظاهر الأخبار أنه لا حس لها ولم تحلها الحياة كما ذهب إليه بعض الأطباء وقال بعضهم لها حس قال في القانون ليس لشيء من العظام حس البتة إلا للأسنان فإن جالينوس قال بل التجربة تشهد أن لها حسا أعينت به بقوة تأتيها من الدماغ ليميز أيضا بين الحار والبارد وقال القرشي قال جالينوس ليس بشيء (١) من العظام حس إلا للأسنان لأن قوة الحس تأتيها في عصب لين وهذا عجب فإنه كيف جعل لينا وهو مخالط للعظام وينبغي أن يكون شبيها بجرمها فيكون صلبا لئلا تتضرر بمماستها وقال بقي هاهنا بحث وهو أن الأسنان عظام أو ليس بعظام وقد شنع جالينوس على من لا يجعلها عظاما وجعلهم سوفسطائية واستدل على أنها عظام بما هو عين السفسطة وذلك لأنه قال ما هذا معناه لأنها لو لم تكن عظاما لكانت إما أن تكون عروقا أو شرايين أو لحما أو عصبا ومعلوم أنها ليست كذلك وهذا غير لازم فإن القائلين بأنها ليست بعظام يجعلونها من الأعضاء المؤلفة لا من هذه المفردة ويستدلون على تركيبها بما يشاهد فيها من الشظايا وتلك رباطية وعصبية قالوا وهذا يوجد في أسنان الحيوانات الكبار ظاهرا.

__________________

(١) لشيء ( خ ).


وقوله عليه‌السلام وفي فيه ثمانية وعشرون أي في بدء الإنبات ثم ينبت في قريب من العشرين أربعة أخرى تسمى أسنان الحلم بالكسر بمعنى العقل أو بالضم بمعنى الاحتلام يعني البلوغ ولذا قال عليه‌السلام بعده واثنان وثلاثون ويحتمل أن يكون باعتبار اختلافها في الأشخاص قال في القانون الأسنان اثنتان وثلاثون سنا وربما عدمت النواجد منها في بعض الناس وهي الأربعة الطرفانية فكانت ثماني وعشرين سنا فمن الأسنان ثنيتان ورباعيتان من فوق ومثلهما من أسفل للقطع ونابان من فوق ونابان من تحت للكسر وأضراس للطحن في كل جانب فوقاني وسفلاني أربعة أو خمسة فكل ذلك اثنتان وثلاثون سنا أو ثماني وعشرون والنواجد تنبت في الأكثر في وسط زمان النمو وهو بعد البلوغ إلى الوقف وذلك أن الوقوف قريب من ثلاثين سنة ولذلك تسمى أسنان الحلم.

٢٨ ـ الكافي : عن محمد عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن عبد الرحمن بن العزرمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إن لله عبادا في أصلابهم أرحام كأرحام النساء قال فسئل فما لهم لا يحملون فقال إنها منكوسة ولهم في أدبارهم غدة كغدة الجمل أو البعير فإذا هاجت هاجوا وإذا سكنت سكنوا (١).

٢٩ ـ ومنه : عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل عن صالح بن عقبة عن رفاعة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في رجل ضرب رجلا فنقص بعض نفسه بأي شيء يعرف ذلك قال ذلك بالساعات قلت وكيف الساعات (٢) قال إن النفس يطلع الفجر وهو في الشق الأيمن من الأنف فإذا مضت الساعة صار إلى الشق الأيسر فتنظر (٣) ما بين نفسك ونفسه ثم يحسب فيؤخذ بحساب ذلك منه (٤).

__________________

(١) الكافي : ج ٥ ، ص ٥٤٩.

(٢) في المصدر : وكيف بالساعات ، قال : فان ...

(٣) فيه : فتنتظر ما بين نفسك ونفسه ثم يحتسب فيؤخذ ...

(٤) الكافي : ج ٧ ، ص ٣٢٤.


بيان : كأن المراد به أنه في أول اليوم يكون النفس في الشق الأيمن أكثر ولعل هذا إنما ذكر استطرادا فإن استعلام عدد النفس لا يتوقف عليه ولم أر من عمل به سوى الشيخ يحيى بن سعيد في جامعه وقال العلامة ره في التحرير في انقطاع النفس الدية وفي بعضه بحسب ما يراه.

٣٠ ـ التهذيب : بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر لا تواروا إلا كميشا يعني به من كان ذكره صغيرا وقال لا يكون ذلك إلا في كرام الناس.

٣١ ـ توحيد المفضل : فكر يا مفضل كيف جعلت آلات الجماع في الذكر والأنثى جميعا على ما يشاكل ذلك فجعل للذكر آلة ناشرة تمتد حتى تصل النطفة إلى الرحم إذ كان محتاجا إلى أن يقذف ماءه في (١) غيره وخلق للأنثى وعاء قعر ليشتمل على الماءين جميعا ويحتمل الولد ويتسع له ويصونه حتى يستحكم أليس ذلك من تدبير حكيم لطيف « سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ».

فكر يا مفضل في أعضاء البدن أجمع وتدبير كل منها للإرب فاليدان للعلاج والرجلان للسعي والعينان للاهتداء والفم للاغتذاء والمعدة للهضم والكبد للتخليص والمنافذ لتنفيذ الفضول والأوعية لحملها والفرج لإقامة النسل وكذلك جميع الأعضاء إذا تأملتها وأعملت فكرك فيها ونظرك وجدت كل شيء منها قد قدر لشيء على صواب وحكمة.

قال المفضل : فقلت يا مولاي إن قوما يزعمون أن هذا من فعل الطبيعة فقال سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق فإن هذه صفته (٢) وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه (٣) من

__________________

(١) الى غيره ( خ ).

(٢) صنعته ( خ ).

(٣) تراد ( خ ).


الصواب والحكمة علم أن هذا الفعل للخالق الحكيم وأن الذي سموه طبيعة هو سنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه.

فكر يا مفضل في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير فإن الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه وتبعث بصفوه إلى الكبد في (١) عروق رقاق واشجة بينهما قد جعلت كالمصفي للغذاء لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكاها وذلك أن الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ثم إن الكبد ثقيلة فيستحيل بلطف التدبير دما وينفذ إلى البدن كله في مجاري مهيأة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيأ للماء حتى يطرد إلى (٢) الأرض كلها وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مغايض (٣) قد أعدت لذلك فما كان منه من جنس المرة الصفراء جرى إلى المرارة وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال وما كان من البلة والرطوبة جرى إلى المثانة فتأمل حكمة التدبير في تركيب البدن ووضع هذه الأعضاء منه مواضعها وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلا تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه فتبارك من أحسن التقدير وأحكم التدبير وله الحمد كما هو أهله ومستحقه.

قال المفضل : فقلت صف نشوء الأبدان ونموها حالا بعد حال حتى تبلغ التمام والكمال فقال عليه‌السلام أول ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث لا تراه عين ولا تناله يد ويدبره حتى يخرج سويا مستوفيا جميع ما فيه قوامه وصلاحه من الأحشاء والجوارح والعوامل إلى ما في تركيب أعضائه من العظام واللحم والشحم والمخ والعصب والعروق والغضاريف فإذا خرج إلى العالم تراه كيف ينمي بجميع أعضائه وهو ثابت على شكله وهيئته لا تتزايد ولا تنقص إلى أن يبلغ أشده إن مد في عمره أو يستوفي مدته قبل ذلك هل هذا إلا من لطيف التدبير والحكمة؟

يا مفضل انظر إلى ما خص به الإنسان في خلقه تشريفا وتفضيلا على البهائم فإنه

__________________

(١) وعروق دقاق ( خ ).

(٢) في ( خ ).

(٣) جمع « مغيض » المكان الذي يغيض فيه الماء ، وفي بعض النسخ « مفائض » أي المجارى.


خلق ينتصب قائما ويستوي جالسا ليستقبل الأشياء بيديه وجوارحه ويمكنه العلاج والعمل بهما فلو كان مكبوبا على وجهه كذات الأربع لما استطاع أن يعمل شيئا من الأعمال.

انظر الآن يا مفضل إلى هذه الحواس التي خص بها الإنسان في خلقه وشرف بها على غيره كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكن من مطالعة الأشياء ولم تجعل في الأعضاء التي تحتهن كاليدين والرجلين فتعرضها الآفات وتصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعللها ويؤثر فيها وينقص منها ولا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر تقلبها واطلاعها نحو الأشياء فلما لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع كان الرأس أسنى المواضع للحواس وهو بمنزلة الصومعة لها فجعل الحواس خمسا تلقى خمسا لكيلا يفوتها شيء من المحسوسات فخلق البصر ليدرك الألوان فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها لم يكن فيها منفعة وخلق السمع ليدرك الأصوات فلو كانت الأصوات ولم يكن سمع يدركها لم يكن فيها إرب وكذلك سائر الحواس ثم هذا يرجع متكافئا فلو كان بصرا [ بصر ] ولم يكن ألوانا [ ألوان ] لما كان للبصر معنى ولو كان سمع ولم يكن أصوات لم يكن للسمع موضع فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضا فجعل لكل حاسة محسوسا يعمل فيه ولكل محسوس حاسة تدركه ومع هذا فقد جعلت أشياء متوسطة بين الحواس والمحسوسات لا يتم الحواس إلا بها كمثل الضياء والهواء فإنه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون ولو لم يكن هواء يؤدي الصوت إلى السمع لم يكن السمع يدرك الصوت فهل يخفى على من صح نظره وأعمل فكره أن مثل هذا الذي وصفت من تهيئة الحواس والمحسوسات بعضها يلقى بعضا وتهيئة أشياء أخر بها تتم الحواس لا يكون إلا بعمد وتقدير من لطيف خبير؟

فكر يا مفضل في من عدم البصر من الناس وما يناله من الخلل في أموره فإنه لا يعرف موضع قدمه ولا يبصر ما بين يديه فلا يفرق بين الألوان وبين المنظر الحسن والقبيح ولا يرى حفرة إن هجم عليها ولا عدوا إن أهوى إليه بسيف ولا يكون له


سبيل إلى أن يعمل شيئا من هذه الصناعات مثل الكتابة والتجارة والصياغة حتى إنه لو لا نفاذ ذهنه لكان بمنزلة الحجر الملقى وكذلك من عدم السمع يختل في أمور كثيرة فإنه يفقد روح المخاطبة والمحاورة ويعدم لذة الأصوات واللحون الشجية [ و ] المطربة ويعظم المئونة على الناس في محاورته حتى يتبرموا (١) به ولا يسمع شيئا من أخبار الناس وأحاديثهم حتى يكون كالغائب وهو شاهد أو كالميت وهو حي فأما من عدم العقل فإنه يلحق بمنزلة البهائم بل يجهل كثيرا مما يهتدي إليه البهائم أفلا ترى كيف صارت الجوارح والعقل وسائر الخلال التي بها صلاح الإنسان والتي لو فقد منها شيئا لعظم ما يناله في ذلك من الخلل يوافي خلقه على التمام حتى لا يفقد شيئا منها فلم كان كذلك إلا لأنه خلق بعلم وتقدير.

قال المفضل : فقلت فلم صار بعض الناس يفقد شيئا من هذه الجوارح فيناله في ذلك مثل ما وصفته يا مولاي؟

قال عليه‌السلام : ذلك للتأديب والموعظة لمن يحل ذلك به ولغيره بسببه كما قد يؤدب الملوك الناس للتنكيل والموعظة فلا ينكر ذلك عليهم بل يحمد من رأيهم ويصوب من تدبيرهم ثم إن للذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت إن شكروا وأنابوا لما (٢) يستصغرون معه ما ينالهم منها حتى إنهم لو خيروا بعد الموت لاختاروا أن يردوا إلى البلايا ليزدادوا من الثواب.

فكر يا مفضل في الأعضاء التي خلقت أفرادا وأزواجا وما في ذلك من الحكمة والتقدير والصواب في التدبير فالرأس مما خلق فردا ولم يكن للإنسان صلاح في أن يكون أكثر من واحد ألا ترى أنه لو أضيف إلى رأس الإنسان رأس آخر لكان ثقلا عليه من غير حاجة إليه لأن الحواس التي يحتاج إليها مجتمعة في رأس واحد ثم كان الإنسان ينقسم قسمين لو كان له رأسان فإن تكلم من أحدهما كان الآخر معطلا لا إرب فيه ولا حاجة إليه وإن تكلم منهما جميعا بكلام واحد كان أحدهما فضلا لا يحتاج إليه وإن تكلم بأحدهما بغير الذي تكلم به من الآخر لم يدر السامع بأي

__________________

(١) أي يتضجروا.

(٢) ما ( خ ).


ذلك يأخذ وكان أشباه هذا من الاختلاط واليدان مما خلق أزواجا ولم يكن للإنسان خير في أن يكون له يد واحدة لأن ذلك كان يخل به في ما يحتاج إلى معالجته من الأشياء ألا ترى أن النجار والبناء لو شلت إحدى يديه لا يستطيع أن يعالج صناعته وإن تكلف ذلك لم يحكمه ولم يبلغ منه ما يبلغه إذا كانت له يدان يتعاونان على العمل.

أطل الفكر يا مفضل في الصوت والكلام وتهيئة آلاته في الأسنان فالحنجرة كالأنبوبة (١) لخروج الصوت واللسان والشفتان والأسنان لصياغة الحروف والنغم ألا ترى أن من سقطت أسنانه لم يقم السين ومن سقطت شفته لم يصحح الفاء ومن ثقل لسانه لم يفصح الراء وأشبه شيء بذلك المزمار الأعظم فالحنجرة يشبه (٢) قصبة المزمار والرئة يشبه (٣) الزق الذي ينفخ فيه لتدخل الريح والعضلات التي تقبض على الرئة ليخرج الصوت كالأصابع التي تقبض على الزق حتى تجري (٤) الريح في المزمار والشفتان والأسنان التي تصوغ الصوت حروفا ونغما كالأصابع التي تختلف في فم المزمار فتصوغ صفيره ألحانا غير أنه وإن كان مخرج الصوت يشبه المزمار بالدلالة والتعريف فإن المزمار بالحقيقة هو المشبه بمخرج الصوت.

قد أنبأتك بما في الأعضاء من الغناء في صنعة الكلام وإقامة الحروف وفيها مع الذي ذكرت لك مآرب أخرى فالحنجرة ليسلك فيها هذا النسيم إلى الرئة فتروح عن الفؤاد بالنفس الدائم المتتابع الذي لو حبس شيئا يسيرا لهلك الإنسان وباللسان تذاق الطعوم فيميز بينها ويعرف كل واحد منها حلوها من مرها وحامضها من مزها ومالحها من عذبها وطيبها من خبيثها وفيه مع ذلك معونة على إساغة الطعام والشراب والأسنان تمضغ الطعام حتى يلين ويسهل إساغته وهي مع ذلك

__________________

(١) الانبوبة ـ كالارجوزة ـ : ما بين العقدتين من القصب أو الرمح ، وأنابيب الرئة مخارج النفس منها.

(٢) تشبه ( ظ ).

(٣) تشبه ( ظ ).

(٤) تخرج ( خ ).


كالسند للشفتين تمسكهما وتدعمهما من داخل الفم واعتبر ذلك بأنك ترى من سقطت أسنانه مسترخي الشفة ومضطربها وبالشفتين يترشف الشراب حتى يكون الذي يصل إلى الجوف منه بقصد وقدر لا يثج (١) ثجا فيغص به الشارب أو ينكأ في الجوف ثم هما بعد ذلك كالباب المطبق على الفم يفتحهما الإنسان إذا شاء ويطبقهما إذا شاء.

ففي ما وصفنا من هذا بيان أن كل واحد من هذه الأعضاء يتصرف وينقسم إلى وجوه من المنافع كما تتصرف الأداة الواحدة في أعمال شتى وذلك كالفأس يستعمل في النجارة والحفر وغيرهما من الأعمال.

لو رأيت الدماغ إذا كشف عنه لرأيته قد لف بحجب بعضها فوق بعض لتصونه من الأعراض وتمسكه فلا يضطرب ولرأيت عليه الجمجمة بمنزلة البيضة كيما يفته هد الصدمة (٢) والصكة (٣) التي ربما وقعت في الرأس ثم قد جللت الجمجمة بالشعر حتى صار بمنزلة الفرو للرأس تستره من شدة الحر والبرد فمن حصن الدماغ هذا التحصين إلا الذي خلقه وجعله ينبوع الحس والمستحق للحيطة والصيانة لعلو منزلته من البدن وارتفاع درجته وخطر مرتبته؟

تأمل يا مفضل الجفن على العين كيف جعل كالغشاء والأشفار كالأشراج وأولجها في هذا الغار وأظلها بالحجاب وما عليه من الشعر.

فكر يا مفضل من غيب الفؤاد في جوف الصدر وكساه المدرعة التي هي غشاؤه وحصنه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لئلا يصل إليه ما ينكؤه من جعل في الحلق منفذين أحدهما لمخرج الصوت وهو الحلقوم المتصل بالرئة والآخر منفذ للغذاء وهو المريء المتصل بالمعدة الموصل الغذاء إليها وجعل على الحلقوم طبقا يمنع الطعام أن يصل إلى الرئة فيقتل من جعل الرئة مروحة الفؤاد لا تفتر ولا تخل لكيلا

__________________

(١) ثج الماء : سال.

(٢) حد ( خ ) ـ.

(٣) الصكة : الضربة الشديدة ، واللطمة.


تتحيز الحرارة في الفؤاد فتؤدي إلى التلف من جعل لمنافذ البول والغائط أشراجا تضبطهما لئلا يجريا جريانا دائما فيفسد على الإنسان عيشه فكم عسى أن يحصي المحصي من هذا بل الذي لا يحصى منه ولا يعلمه الناس أكثر.

من جعل المعدة عصبانية شديدة وقدرها لهضم الطعام الغليظ ومن جعل الكبد رقيقة ناعمة لقبول الصفو اللطيف من الغذاء ولتهضم وتعمل ما هو ألطف من عمل المعدة إلا الله القادر أترى من الإهمال يأتي بشيء من ذلك كلا بل هو تدبير من مدبر حكيم قادر عليم بالأشياء قبل خلقه إياها لا يعجزه شيء « وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ».

فكر يا مفضل لم صار المخ الرقيق محصنا في أنابيب العظام هل ذلك إلا ليحفظه ويصونه لم صار الدم السائل محصورا في العروق بمنزلة الماء في الظروف إلا لتضبطه فلا يفيض لم صارت (١) الأظفار على أطراف الأصابع إلا وقاية لها ومعونة على العمل لم صار داخل الأذن ملتويا كهيئة اللولب (٢) إلا ليطرد فيه الصوت حتى ينتهي إلى السمع وليكسر حمة الريح فلا ينكأ في السمع لم حمل الإنسان على فخذيه وأليتيه هذا اللحم إلا ليقيه من الأرض فلا يتألم من الجلوس عليها كما يألم من نحل جسمه وقل لحمه إذا لم يكن بينه وبين الأرض حائل يوقيه صلابتها من جعل الإنسان ذكرا وأنثى إلا من خلقه متناسلا ومن خلقه متناسلا إلا من خلقه مؤملا ومن أعطاه آلات العمل إلا من خلقه عاملا ومن خلقه عاملا إلا من جعله محتاجا ومن جعله محتاجا إلا من ضربه بالحاجة ومن ضربه بالحاجة إلا من توكل بتقويمه من خصه بالفهم إلا من أوجب له الجزاء من وهب له الحيلة إلا من ملكه الحول ومن ملكه الحول إلا من ألزمه الحجة من يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلا من لم يبلغ (٣) مدى شكره؟ فكر

__________________

(١) صار الاظفار ( خ ).

(٢) اللولب آلة من خشب او حديد ذات دوائر ناتئة ـ وهو الذكر ـ أو داخلة ـ وهو الأنثى وفي أكثر نسخ الكتاب « الكوكب » والظاهر أنه تصحيف ، ويمكن أن يكون بمعنى المحبس أو ينبوع البئر.

(٣) لا يبلغ ( خ ).


وتدبر ما وصفته هل تجد الإهمال على هذا النظام والترتيب تبارك الله عما يصفون.

أصف لك الآن يا مفضل الفؤاد اعلم أن فيه ثقبا موجهة نحو الثقب التي في الرئة تروح عن الفؤاد حتى لو اختلفت تلك الثقب فتزايل (١) بعضها عن بعض لما وصل الروح إلى الفؤاد ولهلك الإنسان فيستجيز ذو فكر وروية أن يزعم أن مثل هذا يكون بالإهمال ولا يجد شاهدا من نفسه ينزعه عن هذا القول.

لو رأيت فردا من مصراعين فيه كلوب (٢) أكنت تتوهم أنه جعل كذلك بلا معنى بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقى فردا آخر فتبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة وهكذا تجد الذكر من الحيوان كأنه فرد من زوج مهيأ (٣) من فرد أنثى فيلتقيان لما فيه من دوام النسل وبقائه فتبا وخيبة وتعسا لمنتحلي الفلسفة كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير والعمد فيها.

لو كان فرج الرجل مسترخيا كيف كان يصل إلى قعر الرحم حتى يفرغ النطفة فيه ولو كان منعظا أبدا كيف كان الرجل يتقلب في الفراش ويمشي بين الناس وشيء شاخص أمامه ثم يكون في ذلك مع قبح المنظر تحريك الشهوة في كل وقت من الرجال والنساء جميعا فقدر الله جل اسمه أن يكون أكثر ذلك لا يبدو للبصر في كل وقت ولا يكون على الرجال منه مئونة بل جعل فيه القوة على الانتصاب وقت الحاجة إلى ذلك لما قدر أن يكون فيه من دوام النسل وبقائه.

اعتبر الآن يا مفضل بعظم النعمة على الإنسان في مطعمه ومشربه وتسهيل خروج الأذى أليس من حسن التقدير في بناء الدار أن يكون الخلاء في أستر موضع فيها فهكذا جعل الله سبحانه المنفذ المهيأ للخلاء من الإنسان في أستر موضع منه فلم يجعله بارزا من خلقه ولا ناشرا من بين يديه بل هو مغيب في موضع غامض من البدن مستور محجوب يلتقي

__________________

(١) وتزايل ( خ ).

(٢) الكلوب : خشبة في رأسها عقافة منها او من حديد.

(٣) مهنأ ( خ ).


عليه الفخذان وتحجبه الأليتان بما عليهما من اللحم فيواريانه فإذا احتاج الإنسان إلى الخلاء وجلس تلك الجلسة ألفى ذلك المنفذ منه منصبا مهيأ لانحدار الثفل فتبارك الله من تظاهرت آلاؤه ولا تحصى نعماؤه.

فكر يا مفضل في هذه الطواحن التي جعلت للإنسان فبعضها حداد لقطع الطعام وقرضه وبعضها عراض لمضغه ورضه فلم ينقص واحد (١) من الصفتين إذ كان محتاجا إليهما جميعا.

تأمل واعتبر بحسن التدبير في خلق الشعر والأظفار فإنهما لما كانا مما يطول ويكثر حتى يحتاج إلى تخفيفه أولا فأولا جعلا عديمي الحس لئلا يؤلم الإنسان الأخذ منهما ولو كان قص الشعر وتقليم الأظفار مما يوجد له مس ذلك لكان الإنسان من ذلك بين مكروهين إما أن يدع كل واحد منهما حتى يطول فيتثقل عليه وإما أن يخففه بوجع وألم يتألم منه.

قال المفضل : فقلت فلم لم يجعل ذلك خلقة لا تزيد فيحتاج الإنسان إلى النقصان منه فقال عليه‌السلام إن لله تبارك وتعالى في ذلك على العبد نعما لا يعرفها فيحمد عليها اعلم أن آلام البدن وأدواءه تخرج بخروج الشعر في مسامه وبخروج الأظفار من أناملها ولذلك أمر الإنسان بالنورة وحلق الرأس وقص الأظفار في كل أسبوع ليسرع الشعر والأظفار في النبات فتخرج الآلام والأدواء بخروجهما وإذا طالا تحيزا وقل خروجهما فاحتبست الآلام والأدواء في البدن فأحدثت عللا وأوجاعا ومنع مع ذلك الشعر من المواضع التي يضر بالإنسان ويحدث عليه الفساد والضرر لو نبت الشعر في العين ألم يكن سيعمى البصر ولو نبت في الفم ألم يكن سينغص على الإنسان طعامه وشرابه ولو نبت في باطن الكف ألم يكن سيعوقه عن صحة اللمس وبعض الأعمال ولو نبت في فرج المرأة وعلى ذكر الرجل ألم يكن سيفسد عليهما لذة الجماع فانظر كيف تنكب الشعر هذه المواضع لما في ذلك من المصلحة ثم ليس هذا في الإنسان فقط بل تجده في البهائم والسباع وسائر المتناسلات فإنك ترى أجسامهن مجللة بالشعر وترى هذه

__________________

(١) واحدا ( خ ).


المواضع خالية منه لهذا السبب بعينه فتأمل الخلقة كيف تتحرز وجوه الخطاء والمضرة وتأتي بالصواب والمنفعة إن المنانية (١) وأشباههم حين اجتهدوا في عيب الخلقة والعمد عابوا الشعر النابت على الركب والإبطين ولم يعلموا أن ذلك من رطوبة تنصب إلى هذه المواضع فينبت فيها الشعر كما ينبت العشب في مستنقع المياه أفلا ترى إلى هذه المواضع أستر وأهيأ لقبول تلك الفضلة من غيرها ثم إن هذه تعد مما يحمل الإنسان من مئونة هذا البدن وتكاليفه لما له في ذلك من المصلحة فإن اهتمامه بتنظيف بدنه وأخذ ما يعلوه من الشعر مما يكسر به شرته ويكف عاديته ويشغله عن بعض ما يخرجه إليه الفراغ من الأشر والبطالة.

تأمل الريق وما فيه من المنفعة فإنه جعل يجري جريانا دائما إلى الفم ليبل الحلق واللهوات فلا يجف فإن هذه المواضع لو جعلت كذلك كان فيه هلاك الإنسان ثم كان لا يستطيع أن يسيغ طعاما إذا لم يكن في الفم بلة تنفذه تشهد بذلك المشاهدة واعلم أن الرطوبة مطية الغذاء وقد تجري من هذه البلة إلى موضع آخر من المرة فيكون في ذلك صلاح تام للإنسان ولو يبست المرة لهلك الإنسان ولقد قال قوم من جهلة المتكلمين وضعفة المتفلسفين بقلة التمييز وقصور العلم لو كان بطن الإنسان كهيئة القباء يفتحه الطبيب إذا شاء فيعاين ما فيه ويدخل يده فيعالج ما أراد علاجه ألم يكن أصلح من أن يكون مصمتا محجوبا عن البصر واليد لا يعرف ما فيه إلا بدلالات غامضة كمثل النظر إلى البول وحس العرق وما أشبه ذلك مما يكثر فيه الغلط والشبهة حتى ربما كان ذلك سببا للموت فلو علم هؤلاء الجهلة أن هذا لو كان هكذا كان أول ما فيه أنه كان يسقط عن الإنسان الوجل من الأمراض والموت وكان يستشعر البقاء ويغتر بالسلامة فيخرجه ذلك إلى العتو والأشر ثم كانت الرطوبات التي في البطن تترشح وتتحلب فيفسد على الإنسان مقعده ومرقده وثياب بذلته وزينته بل كان يفسد عليه عيشه.

__________________

(١) في بعض النسخ « المنابية » بتقديم الموحدة التحتانية على المثناة الفوقانية ، وفي بعضها « المانوية ».


ثم إن المعدة والكبد والفؤاد إنما تفعل أفعالها بالحرارة الغريزية التي جعلها الله محتبسة في الجوف فلو كان في البطن فرج ينفتح حتى يصل البصر إلى رؤيته واليد إلى علاجه لوصل برد الهواء إلى الجوف فمازج الحرارة الغريزية وبطل عمل الأحشاء فكان في ذلك هلاك الإنسان أفلا ترى أن كل ما تذهب إليه الأوهام سوى ما جاءت به الخلقة خطأ وخطل.

أقول : قد مر شرح الجميع في كتاب التوحيد من أراد ذلك فليرجع إليه (١).

٣٢ ـ الدر المنثور ، عن وهب بن منبه قال : خلق الله ابن آدم كما شاء وبما شاء (٢) فكان كذلك « فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ » خلق من التراب والماء فمنه لحمه ودمه وشعره وعظامه وجسده فهذا (٣) بدء الخلق الذي خلق الله منه ابن آدم ثم جعلت فيه النفس فبها يقوم ويقعد ويسمع ويبصر ويعلم ما تعلم الدواب ويتقي ما تتقي ثم جعلت فيه الروح فبه عرف الحق من الباطل والرشد من الغي وبه حذر وتقدم واستتر وتعلم ودبر الأمور كلها فمن التراب يبوسته ومن الماء رطوبته فهذا بدء الخلق الذي خلق الله منه ابن آدم كما أحب أن يكون ثم جعل فيه من هذه الفطر الأربع أنواعا من الخلق (٤) في جسد ابن آدم فهي قوام جسده وملاكه بإذن الله وهي المرة السوداء والمرة الصفراء والدم والبلغم فيبوسته وحرارته من قبل النفس ومسكنها في الدم ورطوبته وبرودته من قبل الروح ومسكنه (٥) في البلغم فإذا اعتدلت هذه الفطر في الجسد فكان من كل واحد ربع كان جلدا (٦) كاملا وجسما صحيحا وإن كثر واحد منها على صاحبه علاها وقهرها وأدخل (٧) عليها السقم من ناحيته وإن قل عنها واحد (٨) منها غلبت عليه وقهرته ومالت به فضعف عن قوتها وعجز عن طاقتها

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذه الطبعة ، الصفحة ٦٦ ـ ٧٨.

(٢) في المصدر : مما شاء.

(٣) فيه : فذلك.

(٤) فيه : أنواعا من الخلق أربعة في ...

(٥) مسكنها ( خ ).

(٦) في المصدر : جسدا.

(٧) دخل ( خ ).

(٨) فيه : واخذ عنها.


وأدخل عليها السقم من ناحيته فالطبيب العالم بالداء والدواء يعلم من الجسد حيث أتى سقمه أمن نقصان أو من زيادة (١).

٣٣ ـ وعن ابن عباس قال : إن الله أوحى إلى داود أن يسأل سليمان عن أربع عشرة كلمة فإن أجاب ورثه العلم والنبوة قال أخبرني يا بني أين موضع العقل منك قال الدماغ قال أين موضع الحياء منك قال العينان قال أين موضع الباطل منك قال الأذنان قال أين باب الخطيئة منك قال اللسان قال أين طريق الريح منك قال المنخران قال أين موضع الأدب والبيان منك قال الكلوتان قال أين باب الفظاظة والغلظة منك قال الكبد قال أين بيت الريح منك قال الرئة قال أين باب الفرح منك قال الطحال قال أين باب الكسب منك قال اليدان قال أين باب النصب منك قال الرجلان قال أين باب الشهوة منك قال الفرج قال أين باب الذرية منك قال الصلب قال أين باب العلم والفهم والحكمة قال القلب إذا صلح القلب صلح ذلك كله وإذ فسد القلب فسد ذلك كله.

بسمه تعالى

إلى هنا تم الجزء الخامس من المجلد الرابع عشر كتاب السماء والعالم من بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار وهو الجزء واحد وستون حسب تجزئتنا من هذه الطبعة البهية النفيسة. وقد قابلناه على النسخة التي نمقها الفاضل الخبير الشيخ محمد تقي اليزدي بما فيها من التعليق والله ولي التوفيق.

محمد الباقر البهبودى

__________________

(١) الدر المنثور : ج ٥ ، ص ١٧.


(مراجع التصحيح والتخريج والتعليق)

قوبل هذا الجزء بعدة نسخ مطبوعة ومخطوطة ، منها النسخة المطبوعة بطهران سنة (١٣٠٥) المعروفة بطبعة أمين الضرب ، ومنها النسخة المطبوعة بتبرير ومنها النسخة المخطوطة النفيسة لمكتبة صاحب الفضيلة السيد جلال الدين الأرموي الشهير بـ « المحدث » واعتمدنا في التخريج والتصحيح والتعليق على كتب كثيرة نسرد بعض أساميها :

١ ـ القرآن الكريم.

٢ ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي المطبوع سنة ١٣١١ في ايران

٣ ـ تفسير فرات الكوفي المطبوع سنة ١٣٥٤ في النجف

٤ ـ تفسير مجمع البيان المطبوع سنة ١٣٧٣ في طهران

٥ ـ تفسير أنوار التنزيل للقاضي البيضاوي المطبوع سنة ١٢٨٥ في استانبول

٦ ـ تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي المطبوع سنة ١٢٩٤ في استانبول

٧ ـ الاحتجاج للطبرسي المطبوع سنة ١٣٥٠ في النجف

٨ ـ اصول الكافي للكليني المطبوع سنة ـ في طهران

٩ ـ الاقبال للسيد بن طاوس المطبوع سنة ١٣١٢ في طهران

١٠ ـ تنبيه الخواطر لورام بن أبي فراس المطبوع سنة ـ في طهران

١١ ـ التوحيد للصدوق المطبوع سنة ١٣٧٥ في طهران

١٢ ـ ثواب الأعمال للصدوق المطبوع سنة ١٣٧٥ في طهران

١٣ ـ الخصال الأعمال للصدوق المطبوع سنة ١٣٧٤ في طهران

١٤ ـ الدر المنثور للسيوطي

١٥ ـ روضة الكافي للكليني المطبوع سنة ١٣٧٤ في طهران


١٦ ـ علل الشرائع الصدوق المطبوع سنة ١٣٧٨ في قم

١٧ ـ عيون الأخبار للصدوق المطبوع سنة ١٣٧٧ في قم

١٨ ـ فروع الكافي للكلينى المطبوع سنة ـ في

١٩ ـ المحاسن للبرقي المطبوع سنة ١٣٧١ في طهران

٢٠ ـ معاني الاخبار للصدوق المطبوع سنة ١٣٧٩ في طهران

٢١ ـ مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب المطبوع سنة ١٣٧٨ في قم

٢٢ ـ من لا يحضره الفقيه للصدوق المطبوع سنة ١٣٧٦ في طهران

٢٣ ـ نهج البلاغة للشريف الرضي المطبوع سنة ـ في مصر

٢٤ ـ اسد الغاية لعز الدين ابن الأثير المطبوع سنة ـ في طهران

٢٥ ـ تنقيح المقال للشيخ عبد الله المامقاني المطبوع سنة ١٣٥٠ في النجف

٢٦ ـ تهذيب الاسماء واللغات للحافظ محيى الدين بن شرف النورى المطبوع في مصر

٢٧ ـ جامع الرواة للاردبيلى المطبوع سنة ١٣٣١ في طهران

٢٨ ـ خلاصة تذهيب الكمال للحافظ الخزرجي المطبوع سنة ١٣٢ في مصر

٢٩ ـ رجال النجاشى المطبوع ـ في طهران

٣٠ ـ روضات الجنات للميرزا محمد باقر الموسوى المطبوع سنة ١٣٦٧ في طهران

٣١ ـ الكنى والألغاب للمحدث القمي المطبوع ـ في صيدا

٣٢ ـ لسان الميزان لابن حجر العسقلاني المطبوع ـ فى حيدرآباد الدكن

٣٣ ـ الرواشح السماوية للسيد محمد باقر الحسيني الشهير بالداماد المطبوع سنة ١٣١١ في ايران

٣٤ ـ القبسات للسيد محمد باقر الحسينى الشهير بالداماد المطبوع سنة ١٣١٥ في ايران

٣٥ ـ رسالة مذهب ارسطاطا ليس للسيد محمد باقر الحسينى الشهير بالداماد المطبوعة بهامش القبسات

٣٦ ـ اثولوجيا المنسوب إلى ارسطاطا ليس المطبوعة بهامش القبسات


٣٧ ـ رسالة الحدوث لصدر المتألهين المطبوع سنة ١٣٠٢ في ايران

٣٨ ـ الشفاء للشيخ الرئيس ابى على بن سينا المطبوع سنة ١٣٠٣ في ايران

٣٩ ـ شرح التجريد تأليف المحقق الطوسى للعلامة الحلي المطبوع سنة ١٣٦٧ في قم

٤٠ ـ عين اليقين للمولى محسن الفيض الكاشاني المطبوع سنة ١٣١٣ في طهران

٤١ ـ مروج الذهب للمسعودى المطبوع سنة ١٣٤٦ في مصر

٤٢ ـ القاموس لمحيط للفيروزآبادى المطبوع سنة ١٣٣٢ في مصر

٤٣ ـ الصحاح للجوهري المطبوع سنة ١٣٧٧ في مصر

٤٤ ـ النهاية لمجد الدين ابن الاثير المطبوع سنة ١٣١١ في مصر


فهرس

(ما في هذا الجزء من الأبواب)

٤٢ ـ باب حقيقة النفس والروح وأحوالهما............................... ١٣١ ـ ١

٤٣ ـ باب آخر في خلق الأرواح قبل الأجساد وعلة تعلقها بها وبعض شئونها من ئتلافها واختلافها وحبها وبغضها وغير ذلك من أحوالها....................................................................... ١٥٠ ـ ١

٤٤ ـ باب حقيقة الرؤيا وتعبيرها وفضل الرؤيا الصادقة وعلتها وعلة الكاذبة

................................................................... ٢٣٣ ـ ١٥١

٤٥ ـ باب آخر في رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه : وسائر الأنبياء والأولياء في المنام

................................................................... ٢٤٤ ـ ٢٣٤

٤٦ ـ باب قوى النفس ومشاعرها من الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى البدنية ٢٨٦ ـ ٢٤٥

٤٧ ـ باب ما به قوام بدن الإنسان وأجزائه وتشريح أعضائه ومنافعها وما يترتب عليها من أحوال النفس ٣٣١ ـ ٢٨٦



*(رموز الكتاب)*

ب : لقرب الاسناد.

ع : للعلل الشرائع.

لد : للبلدين الامين.

بشا : لبشارة المصطفى.

عا : لدعائم الاسلام.

لي : لامالى الصدوق.

تم : لفلاح السائل.

عد : للعقائد.

م : لتفسير الامام العسكري (ع)

ثو : لثواب الاعمال.

عدة : للعدة.

ما : لامالى الطوسى.

ج : للاحتجاج.

عم : لاعلام الورى

محص : للتمحيص.

جا : لمجالس المفيد.

عين : للعيون والمحاسن.

مد : للعمدة.

جش : لفهرست النجاشي.

غر : للغرر والدرر.

مص : لمصباح الشريعة.

جع : لجامع الاخبار.

غط : لغيبة الشيخ.

مصبا : للمصباحين.

جم : لجماع الاسبوع.

غو : لغوالي اللئالي.

مع : لمعاني الاخبار.

جنة : للجنة.

ف : لتحف العقول.

مكا : لمكارم الاخلاق.

حة : لفرحة الغرى.

فتح : لفتح الابواب.

مل : لكامل الزيارة.

ختص : لكتاب الاختصاص.

فر : لتفسير فرات بن إبراهيم.

منها : للمنهاج.

خص : لمنتخب البصائر.

فس : لتفسير علي بن إبراهيم.

مهج : لمهج الدعوات.

د : للعدد.

فض : لكتاب الروضة.

ن : لعيون أخبار الرضا (ع).

سر : للسرائر.

ق : للكتاب العتيق الغروى.

نيه : لتنبيه الخاطر.

سن : للمحاسن.

قب : لمناقب ابن شهر آشوب

نجم : لكتاب النجوم.

شا : للارشاد.

قبس : لقبس المصباح.

نص : للكافية.

شف : لكشف اليقين.

قضا : لقضاء الحقوق.

نهج : لنهج البلاغة.

شى : لتفسير العياشي.

قل : لاقبال الاعمال.

نى : لغيبة النعماني.

ص : لقصص الانبياء.

قية : للدروع.

هد : للهداية.

صا : للاستبصار.

ك : لاكمال الدين.

يب : للتهذيب.

صبا : لمصباح الزائر.

كا : للكافي.

يج : للخرائج.

صح : لصحيفة الرضا (ع).

كش : لرجال الكشي.

يد : للتوحيد.

ضا : لفقه الرضا (ع).

كشف : لكشف الغمة.

ير : لبصائر الدرجات.

ضوء : لضوء الشهاب.

كف : لمصباح الكفعمى.

يف : للطرائف.

ضه : لروضة الواعظين.

كنز : لكنز جامع الفوائد وتأويل الايات الظاهرة معاً.

يل : للفضائل.

ط : للصراط المستقيم.

ل : للخصال.

ين : لكتابى الحسين بن سعيد او لكتابه والنوادر.

طا : لامان الاخطار.

يه : لمن لايحضره الفقيه.

طب : لطب الائمة.

بحار الأنوار - ٦١

المؤلف:
الصفحات: 337