

المقدّمة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
والصلاة والسلام
على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
وبعد ...
فإنّ من نعم الله
عليّ أن وفّقني لكتابة هذا المعجم ، والذي تصدّيت فيه لشرح الكثير من المصطلحات
الأصوليّة وحرّرت فيه جهات البحث في المسائل الأصوليّة.
والذي دفعني لهذا
المشروع هو ما وجدته من صعوبات تواجه الطلبة الأعزّاء في تحديد مفادات المصطلحات
المستعملة في كلمات الأصوليّين ، ولأنّهم عادة لا يتصدّون لشرح معاني هذه
المصطلحات أو أنّهم إذا ما تصدّوا لبيان بعضها كان ذلك بشكل مقتضب أو بلغة معقّدة
، على أنّ ذلك يتمّ في سياق البحث عن مسألة من المسائل فيشرحون المقدار المتّصل
بجهة بحثهم ويرجئون الشرح لحيثيّات المصطلح الأخرى إلى بحث آخر له اتّصال بتلك
الحيثيّات ، وهنا يكون على الطالب تتبّع تلك البحوث وملاحقتها لغرض الوقوف على كلّ
الحيثيّات المتّصلة بالمصطلح ، فقد لا يتيسّر له ذلك وقد لا يتمكّن من الربط بينها
، على أنّه قد يجهل الموارد التي يتمّ فيها بيان معنى ذلك المصطلح.
وثمّة مشكلة أخرى
تواجه الطالب ، وهي صعوبة الوقوف على جهة البحث في
كثير من المسائل
الأصوليّة ، فالعلماء وإن كانوا يحرّرون جهة البحث في كلّ مسألة إلاّ أنّ الصعوبة
التي تواجه الطلبة بالإضافة إلى التعقيد اللفظي هي المقدّمات الطويلة التي يوطئون
بها البحث ، ولذلك قد ينتهي الطالب من دراسة ذلك البحث وبعد لم يتحرّر عنده مورد
النزاع والنقض والإبرام.
كلّ ذلك هو ما
دفعني إلى كتابة هذا الكتاب الذي بين يديك ، فأنا وإن كنت بذلت فيه جهدا مضنيا
آملا في بلوغ الغاية المذكورة إلاّ أنّني لا أدّعي بلوغ أقصى تلك الغاية ولكنّي
أرجو أن أكون قد ساهمت في تذليل بعض الصعوبات التي يواجهها الطلبة الأعزّاء في
دراساتهم الأصوليّة كما أطمح من ذلك في دعواتهم وأن أكون مشمولا للرحمة التي
يفيضها ربّنا على طلبة العلم وروّاد الفقه.
هذا وقد اعتمدت
أسلوب الترتيب الهجائي في عرض المصطلحات ، وعند ما تتّحد بعض المصطلحات في بداية
الحرف يكون ضابط التقديم والتأخير في العرض هو ملاحظة الحرف الثاني ثمّ الثالث
وهكذا.
ثمّ إنّني عرضت
المصطلح كما هو مستعمل في كلمات الأصوليّين دون إرجاعه إلى أصله الاشتقاقي ليسهل
تناوله والوقوف عليه ، وعند ما يكون المصطلح مستعملا بأكثر من اشتقاق فإنّني ابحثه
في موضع وأذكر الثاني في موضعه وأحيل القارئ على الموضع الذي تمّ بحث المصطلح فيه
، وإذا اتّفق أن اتّحد أكثر من مصطلح في المعنى فإنّني أبحثه تحت أحد العنوانين
ثمّ أحيل القارئ في موضع العنوان الثاني إلى الموضع الذي تمّ فيه إيضاح المصطلح ،
وقد يتمّ إيضاح بعض المصطلحات في غير مواضعها لاقتضاء شرح المصطلح محلّ البحث لذلك
، وفي مثل هذه الحالة نقوم بإحالة القارئ إلى مواضع الشرح عند ما يتمّ التصدّي
لعرضها في مواضعها إلاّ أنّه ورغم أنّ ذلك واحد
من موارد اهتمامنا
لكنّنا لا ندّعي عدم الغفلة في بعض الأحيان.
هذا وقد شرحت بعض
المصطلحات غير الأصوليّة ، ذلك لأنّها تقع ـ بنظري ـ في سياق غرض الكتاب.
ثمّ إنّ هنا أمورا
ثلاثة أودّ الإشارة إليها :
الأمر
الأوّل : هو أنّني
اعتمدت أسلوب التقرير لأقوال ومباني الأصوليّين عند التصدّي لعرضها فلم ألتزم
بألفاظهم وصياغاتهم ، وذلك لأنّ الغرض هو إيضاح أقوالهم ومبانيهم ، ولذا فإنّني
أتحمّل مسئوليّة ما قد يقع من خطأ وإن كنت قد تحرّيت الدقّة في الفهم والعرض إلاّ
أنّ العصمة لأهلها.
الأمر
الثاني : إنّه قد نستعرض
في مقام تحرير بعض المسائل شيئا من أدلّتها ، وليس في ذلك خروج عن غرض الكتاب بل
لأنّ تحرير تلك المسألة اقتضى ذلك بنظرنا ، وقد يكون ذلك استرسالا نعتذر عنه.
الأمر
الثالث : إنّه قد يجد
القارئ الكريم إسهابا في بعض الموارد ، وذلك لأنّني حاولت استيفاء البحث فيها نظرا
لعدم استيفائها في كتب الأصول.
ويمكن التمثيل
لذلك بقاعدة « الجمع ممّا أمكن فهو أولى من الطرح » ومثل بحث « الاستحسان ».
ختاما أسأل الله
لي ولكم التوفيق والسداد وإن يجمعنا وإيّاكم في محضر نبيّه الكريم وعترته الطيّبين
الطاهرين عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.
والحمد لله ربّ
العالمين.
محمّد
صنقور
حرف
الالف
عناوين
حرف الألف
١ ـ الإباحة
|
|
١٧ ـ الإجماع
المحصّل
|
٢ ـ اصالة
الإباحة
|
|
١٨ ـ الإجماع
المدركي
|
٣ ـ اتصال زمان
الشك بزمان اليقين
|
|
١٩ ـ الإجماع
المركّب
|
٤ ـ الأثر
الشرعي
|
|
٢٠ ـ الإجماع
المنقول
|
٥ ـ اجتماع
الأمر والنهي
|
|
٢١ ـ الإجمال
|
٦ ـ الاجتهاد
|
|
٢٢ ـ اجمال
المخصّص اللبّي
|
٧ ـ الاجتهاد
والرأي
|
|
٢٣ ـ اجمال
المخصّص اللفظي
|
٨ ـ الإجزاء
|
|
٢٤ ـ اجمال النص
|
٩ ـ الإجماع
|
|
٢٥ ـ احترازية
القيود
|
١٠ ـ الإجماع
البسيط
|
|
٢٦ ـ الاحتمال
والمحتمل
|
١١ ـ الإجماع
التشرفي
|
|
٢٧ ـ الاحتياط
|
١٢ ـ الإجماع
الحدسي
|
|
٢٨ ـ الاحتياط
الشرعي
|
١٣ ـ الإجماع
الدخولي
|
|
٢٩ ـ الاحتياط
العقلي
|
١٤ ـ الإجماع
السكوتي
|
|
٣٠ ـ الاحتياط
حسن على أيّ حال
|
١٥ ـ الإجماع
اللبي
|
|
٣١ ـ الاحتياط
في التعبديات
|
١٦ ـ الإجماع
اللطفي
|
|
٣٢ ـ الاحتياط
قبل الفحص
|
٣٣ ـ أخبار من بلغ
|
|
٥١ ـ الاستصحاب
|
٣٤ ـ الاختيار
|
|
٥٢ ـ الاستصحاب
الاستقبالي
|
٣٥ ـ اخذ القطع
بحكم في موضوع حكم آخر
|
|
٥٣ ـ الاستصحاب
التعليقي
|
٣٦ ـ اخذ القطع
بحكم في موضوع حكم آخر مثله
|
|
٥٤ ـ الاستصحاب
التنجيزي
|
٣٧ ـ اخذ القطع
بحكم في موضوع ضده
|
|
٥٥ ـ الاستصحاب
السببي والمسبّبي
|
٣٨ ـ اخذ القطع
بحكم في موضوع نفس الحكم
|
|
٥٦ ـ استصحاب
الصحة عند الشك في المانع
|
٣٩ ـ اخطارية
المعاني الاسميّة
|
|
٥٧ ـ استصحاب
العدم الأزلي
|
٤٠ ـ الإرادة
|
|
٥٨ ـ استصحاب
الفرد المردد
|
٤١ ـ الإرادة
الاستعماليّة
|
|
٥٩ ـ الاستصحاب
القهقرائي
|
٤٢ ـ الإرادة
الإلهيّة
|
|
٦٠ ـ الاستصحاب
الكلّي
|
٤٣ ـ الإرادة
التفهيميّة
|
|
٦١ ـ استصحاب
المفهوم المردد
|
٤٤ ـ الإرادة
التكوينيّة والتشريعيّة
|
|
٦٢ ـ استصحاب
حال الشرع
|
٤٥ ـ الإرادة
الجدّيّة
|
|
٦٣ ـ استصحاب حال
العقل
|
٤٦ ـ الاستثناء
|
|
٦٤ ـ استصحاب
حكم المخصص في العموم الأزماني
|
٤٧ ـ الاستحالة
|
|
٦٥ ـ استصحاب
عدم النسخ
|
٤٨ ـ الاستحباب
|
|
٦٦ ـ الاستصحاب
في أطراف العلم الإجمالي
|
٤٩ ـ استحباب
الاحتياط
|
|
٦٧ ـ الاستصحاب
في الأمور التدريجية
|
٥٠ ـ الاستحسان
|
|
|
٦٨ ـ الاستصحاب في الزمان
|
|
٨٦ ـ الاشتراك
اللفظي
|
٦٩ ـ الاستصحاب
في الزمانيات
|
|
٨٧ ـ الاشتراك
المعنوي
|
٧٠ ـ الاستصحاب
في الشبهات الحكمية
|
|
٨٨ ـ أصالة
الاطلاق
|
٧١ ـ الاستصحاب
في المحمولات الثانوية
|
|
٨٩ ـ أصالة
الحسّ
|
٧٢ ـ الاستصحاب
في الموضوعات المركّبة
|
|
٩٠ ـ أصالة
العموم
|
٧٣ ـ الاستصحاب
في حالات التقدّم والتأخّر
|
|
٩١ ـ أصالة عدم
التذكية
|
٧٤ ـ الاستصحاب
في حالات توارد الحالتين
|
|
٩٢ ـ أصالة عدم
التقدير
|
٧٥ ـ استصحاب
مجهولي التاريخ
|
|
٩٣ ـ أصالة عدم
الغفلة
|
٧٦ ـ استصحاب
معلوم التاريخ
|
|
٩٤ ـ أصالة عدم
القرينة
|
٧٧ ـ الاستعمال
|
|
٩٥ ـ أصالة عدم
النقل والاشتراك
|
٧٨ ـ الاستعمال
الحقيقي
|
|
٩٦ ـ الأصل
|
٧٩ ـ استعمال
اللفظ في أكثر من معنى
|
|
٩٧ ـ الأصل
العملي
|
٨٠ ـ الاستعمال
المجازي
|
|
٩٨ ـ الأصل
المثبت
|
٨١ ـ الاستعمال
المجازي طبعي أو وضعي
|
|
٩٩ ـ الأصل
الموضوعي
|
٨٢ ـ الاستعمال
وشروطه
|
|
١٠٠ ـ الأصول العمليّة
|
٨٣ ـ
الاستلزامات العقلية
|
|
١٠١ ـ الأصول
العملية التنزيليّة
|
٨٤ ـ الاستنباط
|
|
١٠٢ ـ الأصول
العملية الشرعية
|
٨٥ ـ اسم الجنس
|
|
١٠٣ ـ الأصول
العملية العقلية
|
|
|
١٠٤ ـ الأصول
العملية المحرزة
|
|
|
١٠٥ ـ الأصول
اللفظية
|
|
|
١٠٦ ـ الأصول
المؤمّنة
|
١٠٧ ـ الاضطرار
|
|
١٢٤ ـ اعراض
المشهور عن الظهور
|
١٠٨ ـ الاضطرار
الى بعض أطراف العلم الإجمالي
|
|
١٢٥ ـ الاقتضاء
|
١٠٩ ـ الاضطرار
بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار
|
|
١٢٦ ـ الأمارة
|
١١٠ ـ الاطّراد
علامة الحقيقة
|
|
١٢٧ ـ الامتثال
الاحتمالي
|
١١١ ـ الاطّراد
في التعريف
|
|
١٢٨ ـ الامتثال
الظنّي التفصيلي والامتثال الاجمالي
|
١١٢ ـ الإطلاق
|
|
١٢٩ ـ الامتثال
العلمي التفصيلي والامتثال الإجمالي
|
١١٣ ـ الإطلاق
البدلي
|
|
١٣٠ ـ الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار
|
١١٤ ـ الإطلاق
الشمولي
|
|
١٣١ ـ الامتناع
بالذات
|
١١٥ ـ إطلاق
اللفظ وإرادة شخصه
|
|
١٣٢ ـ الامتناع
بالغير
|
١١٦ ـ إطلاق
اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله
|
|
١٣٣ ـ الامتناع
بالقياس
|
١١٧ ـ الإطلاق
اللفظي الحكمي
|
|
١٣٤ ـ الأمر
|
١١٨ ـ الإطلاق
المقامي
|
|
١٣٥ ـ الأمر
الإرشادي
|
١١٩ ـ الإطلاق
في المفاهيم الافرادية والجمل التركيبية
|
|
١٣٦ ـ أمر الآمر
مع علمه بانتفاء شرطه
|
١٢٠ ـ الاعتبار
|
|
١٣٧ ـ الأمر
المولوي
|
١٢١ ـ اعتبارات
الماهيّة
|
|
١٣٨ ـ الأمر
بالأمر
|
١٢٢ ـ الاعتبار
في الاوضاع اللغوية
|
|
١٣٩ ـ الأمر بعد
الأمر
|
١٢٣ ـ اعراض
المشهور
|
|
١٤٠ ـ الأمر بعد
الحظر
|
|
|
١٤١ ـ الأمر بين
الأمرين
|
١٤٢ ـ الأمر هل يدلّ على الفور أو
التراخي
|
|
١٦٢ ـ الانصراف
|
١٤٣ ـ الأمر هل
يدلّ على المرّة أو التكرار
|
|
١٦٣ ـ الانعكاس
في التعريف
|
١٤٤ ـ الإمكان
|
|
١٦٤ ـ انقلاب
النسبة
|
١٤٥ ـ الإمكان
الاحتمالي
|
|
١٦٥ ـ الانقياد
|
١٤٦ ـ إمكان
التعبّد بالظن
|
|
١٦٦ ـ الأوامر
الارشاديّة
|
١٤٧ ـ الإمكان
الخاص
|
|
١٦٧ ـ ايجادية
المعنى الحرفي
|
١٤٨ ـ الإمكان
الذاتي
|
|
|
١٤٩ ـ الإمكان
الشرعي
|
|
|
١٥٠ ـ الإمكان
الوقوعي
|
|
|
١٥١ ـ الإمكان
بالقياس
|
|
|
١٥٢ ـ الانتزاع
|
|
|
١٥٣ ـ انجبار
ضعف الخبر بعمل المشهور
|
|
|
١٥٤ ـ الانحلال
التعبّدي
|
|
|
١٥٥ ـ الانحلال
الحقيقي
|
|
|
١٥٦ ـ الانحلال
الحكمي
|
|
|
١٥٧ ـ انحلال
العلم الإجمالي
|
|
|
١٥٨ ـ انحلال
العلم الإجمالي الكبير بالصغير
|
|
|
١٥٩ ـ الانسداد
|
|
|
١٦٠ ـ الانسداد
الصغير
|
|
|
١٦١ ـ الإنشاء
والإخبار
|
|
|
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والصلاة
والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
حرف الألف
١ ـ الإباحة
وهي حكم من
الأحكام التكليفيّة المتّصلة بفعل المكلّف ، وثبوتها لفعل من أفعال المكلّفين ينتج
السعة وعدم لزوم الالتزام به.
وتنقسم الإباحة
الى قسمين :
الإباحة
بالمعنى الأخص : وهي التي يتساوى فيها الفعل والترك بنظر الشارع ، أي انّه ليس للفعل بنظر
الشارع أيّ خصوصيّة تقتضي ترجيح فعله أو ترجيح تركه ، وبهذا ناسب أن تكون الإباحة
قسيما للأحكام التكليفية الأربعة ، إذ انّها وان كانت تشترك معها في أنّها حكم
تكليفي إلا انّها لا تنطبق على أحد من تلك الأقسام فعلاقتها مع سائر الأحكام علاقة
التباين ، وهذا هو منشأ تسميتها بالإباحة بالمعنى الأخص ، إذ انّها لا تتداخل مع
واحد من سائر الأحكام التكليفيّة ، وذلك في مقابل الإباحة بالمعنى الأعم كما
سيتّضح ذلك.
والإباحة بالمعنى
الأخص تنقسم الى قسمين :
الاباحة
الاقتضائية : وهي التي يكون
لجعلها واعتبارها من قبل الشارع منشأ وملاك يقتضي الإباحة والسعة ، كما لو كان
المنشأ من جعل الاباحة هو التسهيل على العباد. ومن هنا ناسب أن يكون هذا النحو من
الإباحة إباحة بالمعنى الأخص ، وذلك لان ملاك التسهيل أوجب انتفاء خصوصيّة الفعل
أو الترك لو كانت ، وهذا بخلاف الاباحة بالمعنى الأعم فإن خصوصيّة الفعل ـ لو كانت
ـ تبقى على حالها موجبة لترجّحه على الترك ، وهكذا خصوصية الترك ـ لو كانت ـ تبقى
على حالها موجبة لترجحه على الفعل.
الإباحة
غير الاقتضائية : وهي الخالية عن أيّ ملاك يقتضي الفعل أو الترك أو يقتضي جعل الإباحة.
فالقيد الاول يخرج الاباحة بالمعنى الاعم ، إذ انّ الإباحة بالمعنى الأعم يكون
الفعل أو الترك فيها مشتملا على ملاك يقتضي إما ترجّح الفعل أو ترجّح الترك ،
والقيد الثاني يخرج الاباحة الاقتضائية.
الإباحة
بالمعنى الأعم : وهي الترخيص وعدم الإلزام بالفعل أو الترك ، فهي تعم الإباحة بالمعنى الأخص
كما تشمل الاستحباب والكراهة ، إذ انّ جامع الأحكام الثلاثة هو عدم الإلزام بالفعل
أو الترك. ومن هنا لا تكون الاباحة بالمعنى الأعم قسيما للأحكام التكليفيّة الخمسة
، إذ انّ القسيم لا يتداخل مع قسيمه ، نعم هي قسيم للأحكام التكليفية الإلزاميّة.
* * *
٢ ـ أصالة الإباحة
اضطربت الكلمات في
تحديد ما هو المراد من أصالة الإباحة والتي هي في مقابل أصالة الحظر. ويمكن تصنيف
الأقوال المحدّدة لهوية هذا الأصل الى
ثلاثة أقوال :
الأوّل : هو حكم العقل بإباحة كل فعل وقع الشكّ في حكمه الواقعي ،
هذا بناء على القول بأصالة الاباحة وأما بناء على القول بأصالة الحظر فالمقصود من
أصالة الحظر هو حكم العقل بلزوم الامتناع عن كل فعل وقع الشك في حكمه الواقعي.
وكل ذلك معلّق على
عدم ورود ما ينافي الأصل من قبل الشارع ، فلو كنا نبني على أصالة الإباحة فهذا
يعني انّ الحكم بالإباحة ثابت للأشياء إذا لم يرد من الشارع منع ، وبهذا تكون
أصالة الاباحة وكذلك اصالة الحظر من الأحكام العقليّة الظاهرية المتقومة بالجهل
بالحكم الواقعي ، ومن هنا تكون مساوقة لاصالة البراءة العقليّة وكذلك تكون أصالة
الحظر مساوقة لاصالة الاشتغال أو الاحتياط العقلي ، نعم قد يفترق الأصلان عن البراءة
والاشتغال العقليين فيما لو بنينا على ان موضوع أصالة الإباحة والحظر مختص
بالشبهات التحريمية ـ كما هو ليس ببعيد ـ وبهذا تكون أصالة البراءة والاشتغال أعم
من أصالتي الحظر والإباحة.
وبما بيّناه يتّضح
عدم الطولية بين أصالتي الاباحة والحظر وبين أصالتي البراءة والاشتغال العقليين
بناء على هذا القول والذي هو منسوب لصاحب الفصول رحمهالله.
الثاني : هو حكم العقل بإباحة الافعال والاشياء أو المنع عنها بغض
النظر عن حكم الشارع ، فالقول بأصالة الاباحة معناه حكم العقل بحلية الافعال وعدم
استحقاق المكلف للعقاب عند ارتكابها ما لم يمنع الشارع عن ارتكابها.
وبناء على هذا
القول تكون اصالة البراءة مغايرة تماما لاصالة الإباحة وكذلك تكون أصالة الاشتغال
العقلي مغايرة تماما لاصالة الحظر ، وذلك لان
أصالتي البراءة
والاشتغال متأخرة عن الحكم الشرعي ، إذ انّ موضوعهما الشك في الحكم الشرعي الواقعي
في حين ان اصالتي الإباحة والحظر انما تجريان ـ بناء على هذا القول ـ في ظرف عدم
الحكم الشرعي حيث قلنا انّ أصالة الإباحة تعني حكم العقل بإباحة الافعال إلا اذا
منع الشارع أي إلا اذا كان هناك منع واقعي عن الفعل معلوم أو مشكوك.
ومن هنا يتضح
الفرق بين مجرى الاصلين أصالة البراءة وأصالة الإباحة ، فحينما يكون المكلف قاطعا
بعدم المنع الشرعي فالمجرى هو أصالة الاباحة وحينما يكون المكلف شاكا في الحكم
الشرعي فالمجرى هو أصالة البراءة.
ثم انه لا يخفى
عليكم انّ البناء على أصالة الإباحة لا يلازم البناء على أصالة البراءة العقلية
فمن الممكن ان نبني على أصالة الإباحة وفي نفس الوقت نبني على أصالة الاشتغال
العقلي وذلك لاختلاف موضوعيهما ، وكذلك البناء على أصالة الحظر لا يلازم البناء
على أصالة الاشتغال كما هو واضح.
الثالث : هو انّ موضوع أصالة الاباحة وكذلك الحظر هو الافعال والأشياء
بما هي ، أي انّ البحث عمّا هو الحق في حكم الاشياء هل الإباحة أو الحظر بحث عن
حكم هذه الاشياء واقعا ، فتكون أصالة الاباحة ـ لو تمت ـ من الادلة الاجتهادية
الكاشفة عن حكم الاشياء واقعا ، أي انّ وظيفتها هي الكشف عن الحكم الشرعي الواقعي
للاشياء بعناوينها الأوليّة.
وبهذا تفترق عن
أصالة البراءة والتي تكون وظيفتها تحديد الحكم الظاهري وهذا يقتضي افتراض الشك في
الحكم الواقعي في رتبة متقدمة على جريان البراءة.
ومن هنا قد يقال
بعدم وصول
النوبة لاصالة
البراءة وذلك لكونها دليلا فقاهتيا « أصلا عملي » وهو لا يجري في موارد قيام
الدليل الاجتهادي ، إلاّ انّ المحقق النائيني رحمهالله ذكر انه تبقى بعض الحالات يمكن جريان أصالة البراءة في
موردها وذلك فيما لو اتفق امتناع التمسك بأصالة الإباحة في مورد من الموارد لمانع
فإن الجاري حينئذ هو أصالة البراءة.
ثم انّ المستظهر
من عبائر المحقق النائيني هو تبني القول الثالث إلاّ انّه ذكر انّ موضوع أصالة
الإباحة والحظر مختص بالانتفاع المتعلق بالموضوع الخارجي. وهذا بخلاف أصالة
البراءة والاشتغال فإن موضوعهما هو مطلق الفعل الصادر عن المكلّف سواء كان له
ارتباط بالاعيان الخارجية من حيث انتفاع المكلّف أو لم يكن.
وبهذا يتضح انّ
موضوع أصالة الاباحة وكذلك الحظر ـ بناء على هذا القول ـ مشتمل على حيثيتين الاولى
: هي الاعيان الخارجية ، الثانية ان يكون نحو ارتباط المكلّف بها هو الانتفاع
المناسب لكل واحد من تلك الاعيان. ومن هنا كان موضوع أصالة البراءة والاشتغال أوسع
دائرة من موضوع أصالتي الاباحة والحظر بالإضافة الى تباين موضوعيهما.
* * *
٣ ـ اتصال زمان الشك
بزمان اليقين
ذكر الشيخ صاحب
الكفاية رحمهالله في بحث استصحاب الموضوعات المركبة انّ الاثر الشرعي اذا
كان مترتبا على عدم أحد الحادثين في زمان تحقق الحادث الآخر بنحو العدم المحمولي
ذكر ان استصحاب عدم الحادث الى زمان حدوث الآخر لا يجري سواء كان الاثر مترتبا على
عدم كل منهما في
زمان الآخر أو كان
الأثر مترتبا على عدم واحد من الحادثين في زمان الآخر ، أي انّ الاستصحاب في الفرض
لا يجري سواء كان معارضا باستصحاب آخر ـ كما في الصورة الاولى ـ أو لم يكن معارضا
كما في الصورة الثانية.
وذكر انّ منشأ عدم
جريان الاستصحاب هو احتمال عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وهو يشير بذلك الى
اختلال شرط من شرائط جريان الاستصحاب.
وقبل بيان مراده
نقول : انّه لا ريب في اشتراط اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، بمعنى عدم الفصل
بينهما بيقين آخر ، فلو كان المكلّف على يقين من الحدث ثم تيقن بالطهارة ثم شك بعد
ذلك في الحدث الاول فإنّه حينئذ لا يجري استصحاب الحدث ، وذلك لانفصال زمان الشك
عن زمان اليقين بالحدث.
وهذا المقدار لا
إشكال فيه ، انما الكلام فيما أفاده صاحب الكفاية رحمهالله والذي هو اعتبار عدم احتمال انفصال زمان الشك عن زمان
اليقين ، فقد وقع الخلاف في مراده.
والتعرّف على
مرامه يتوقف على توضيح ثلاث مقدمات :
المقدمة
الاولى : هي ما قيل انّ
القضايا لا تنقح موضوعاتها ، بمعنى انّ القضية تتكفل ببيان ثبوت حكم لموضوع وليس
لها تصد لاثبات انّ هذا الفرد هو موضوع القضية أو انّه ليست بموضوع لها ، فإنّ هذا
منوط بنفس المتلقي للخطاب ، فهو الذي عليه ان يحرز موضوعية هذا الفرد أو ذاك لهذه
القضية ، مثلا حينما يقال : تصدق على الفقير ، فإنّ هذه القضية أناطت حكما بموضوع هو
الفقير ، أما ما هو المراد من الفقير وكذلك أي الافراد هي مصداق لعنوان الفقير
فهذا ما لا تتكفل القضية ببيانه ، وعلى
المتلقي ان يحرز
ذلك من خارج القضية ، ثم حينما يتنقح عنده الموضوع مفهوما ومصداقا يرتب عليه ذلك
الحكم. ومن هنا لا يصح ترتيب الحكم على فرد لا يحرز مصداقيته لموضوع الحكم. وهذا
الفرد الغير المحرز مصداقيته للموضوع هو المعبّر عنه بالشبهة المصداقية.
المقدمة
الثانية : انّ المتعبد به
شرعا بواسطة الاستصحاب هو بقاء المتيقن أو اليقين في ظرف الشك ، وهذا معناه انّ
المتيقن بنفسه هو المجعول في ظرف الشك ، فلو كان المتيقن حكما شرعيا فإنّ المجعول
في ظرف الشك هو عين الحكم الثابت في ظرف اليقين وليس المجعول في ظرف الشك حكما
جديدا مماثلا للحكم المتيقن ، وهذا ما يبرّر اعتبار عدم انفصال زمان الشك عن زمان
اليقين ، إذ مع انفصالهما بيقين آخر يكون التعبد بالحكم الثابت في زمان اليقين
الاول تعبدا بحكم جديد ، وذلك للقطع بارتفاع الحكم الثابت في زمان اليقين الاول ،
وهذا ينافي ما ذكرناه من انّ المتعبد به في الاستصحاب هو بقاء الحكم السابق.
مثلا : لو كان
المكلّف يعلم بوجوب صلاة الجمعة ثم علم بارتفاع الوجوب ثم شك في وجوب الجمعة ،
فإنّ التعبّد حينئذ بوجوب الجمعة لا يكون تعبدا استصحابيا ، وذلك لأنّ ايجاب صلاة
الجمعة لا يكون بقاء للحكم الثابت في زمان اليقين الاول وانما هو حكم جديد.
وبتعبير آخر : انّ
الشك في وجوب الجمعة بعد العلم بارتفاعه ليس شكا في بقاء الوجوب وانما هو شك في حدوث
وجوب جديد ، إذ انّ اليقين الاول بوجوب الجمعة منتقض يقينا لعلمنا بارتفاع الوجوب
كما هو الفرض.
فالمبرر لشرطية
اتصال زمان الشك بزمان اليقين هو انّ صدق البقاء لا يكون إلاّ بذلك ، كما انّ صدق
نقض
اليقين بالشك لا
يكون إلاّ باتصال زمان الشك بزمان اليقين وعدم انفصالهما بيقين آخر.
المقدمة
الثالثة : إنّ روايات
الاستصحاب نهت عن نقض اليقين بالشك وأفادت بأنّ اليقين لا ينقض إلاّ بيقين مثله ،
ومعنى ذلك انّه لا ترفع اليد عن يقين بمجرّد الشك في زوال متعلقه ، نعم تيقن
المكلّف بزوال متعلّق اليقين يصحح الانتقاض وحينئذ لا سبيل لترتيب الاثر على بقائه
، ولازم ذلك ـ كما اتضح مما ذكرناه في المقدمة الثانية ـ انّ اليقين المنهي عن
نقضه بالشك هو اليقين الذي لم ينتقض بيقين آخر وإلا فلا معنى للنهي عن نقضه بالشك
، إذ انّ الشك بعد اليقين المناقض لا يكون شكا في اليقين الاول وانما هو شك في
الحدوث فلا يكون اهماله نقضا لليقين الاول بالشك ، فيكون هذا الفرض خارجا موضوعا
عن قوله عليهالسلام « لا تنقض اليقين بالشك » ، فالذي هو مورد الرواية هو الشك
في بقاء متعلّق اليقين ، وهذا لا يكون إلاّ في حالة يحرز معها عدم انتقاض اليقين
بيقين آخر حتى يصدق حين إهمال اليقين السابق انه نقض اليقين بالشك.
ومع اتضاح هذه
المقدمات الثلاث نقول :
انّ اليقين المنهي
عن نقضه بالشك هو اليقين المتصل زمانه بالشك لا اليقين الذي انتقض بيقين آخر ثم
وقع الشك في وجود متعلّقه بعد ذلك ، وهنا تتحرر عندنا قضية حاصلها « انّ نقض اليقين
المتصل زمانه بالشك منهي عنه » ، وهذه القضية لا تتكفل بتنقيح مصاديق موضوعها وانّ
ذلك انّما هو شأن المتلقي للقضية ، فمتى ما أحرز الاتصال كان مسئولا عن عدم نقض
اليقين بالشك ، ومتى ما شك في الاتصال فمعناه ان مورد الشك شبهة مصداقية ، وقد
قلنا انّ ترتّب حكم أي
قضية على فرد منوط
باحراز مصداقيته لموضوع الحكم في القضية ، وهذا هو المعبّر عنه بعدم جواز التمسك
بالعام في الشبهة المصداقية. والمقام من هذا القبيل ، وذلك لان الشك في اليقين
السابق مردد بين الشك في البقاء ـ لو كان الحادث الآخر وقع أولا ـ وليس شكا في
البقاء لو كان الحادث الذي يراد استصحاب عدمه حدث أولا ، وعندئذ لا يكون الاتصال
بين زمان الشك وزمان اليقين محرزا ، وعليه لا يمكن التمسّك بحديث « لا تنقض اليقين
بالشك » لإثبات جريان الاستصحاب في هذا المورد ، إذ لا يحرز مصداقية هذا المورد
لنقض اليقين بالشك فلا يحرز مشموليته لموضوع الاستصحاب.
وحتى يتضح المطلب
أكثر نذكر هذا المثال :
لو كان موضوع
الاثر الشرعي ـ وهو انفصال العلقة الزوجية ـ هو عدم التحيض في زمان ايقاع الطلاق ،
فلو كنا نعلم بعدم تحيض المرأة وعدم ايقاع الطلاق في الساعة الاولى من النهار ثم
علمنا بوقوع أحدهما غير المعين في الساعة الثانية وعلمنا بوقوع الآخر غير المعين
في الساعة الثالثة ، وفي الساعة الثالثة وقع الشك في تحيض المرأة في زمان إيقاع
الطلاق ، فلو استصحبنا عدم التحيّض الى زمان ايقاع الطلاق فإنّ هذا الاستصحاب مبتل
باحتمال عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وذلك لأنّ التحيض لو وقع في الساعة
الثانية فهذا معناه انّ الشك في الساعة الثالثة في عدم التحيض ليس متصلا بزمان
اليقين بعدم التحيّض الثابت في الساعة الاولى ، وذلك للفصل بينهما باليقين بوقوع
التحيض ، فاليقين بعدم التحيض الثابت في الساعة الاولى قد انتقض باليقين بوقوع
التحيض في الساعة الثانية فيكون الشك بعدم
التحيض في الساعة
الثالثة شكا في اليقين الاول بعد انتقاضه ، فلا يكون اهماله نقضا لليقين بالشك ،
إذ انّ اليقين بعدم التحيض قد انتقض باليقين بالتحيّض.
وان كان الواقع في
الساعة الثانية هو الطلاق فإنّ الشك في وقوع التحيض وعدمه في الساعة الثالثة متصل
باليقين بعدم التحيض ، لان عدم التحيض لم ينتقض في الساعة الثانية ، إذ انّ الواقع
في الساعة الثانية هو الطلاق وهو لا ينقض اليقين بعدم التحيّض.
ولما كان المكلّف
مترددا من جهة ما هو الواقع في الساعة الثانية فهذا معناه انّه متردد في اتصال
زمان الشك بزمان اليقين أو عدم الاتصال ، فيكون المورد شبهة مصداقية ، أي نشك في
مصداقية هذا المورد للنهي عن نقض اليقين بالشك أو قل نشك في مصداقيته لموضوع
الاستصحاب.
ونقرّب المطلب
بتقريب آخر :
إنّ هنا ثلاثة
أزمنة ، فالساعة الاولى هي زمان العلم بعدم حدوث التحيّض وبعدم ايقاع الطلاق ،
والساعة الثانية هي زمان العلم الإجمالي بحدوث أحد الحادثين إما التحيّض وإما
إيقاع الطلاق ، والساعة الثالثة هي زمان العلم الاجمالي بحدوث الحادث الآخر إما
التحيّض وإما إيقاع الطلاق ، فتكون الساعة الثالثة هي زمان الشك في تقدم أحد
الحادثين على الآخر. وترتب الاثر متوقف على بقاء عدم التحيض الى زمان ايقاع الطلاق
، وهذا يستوجب ان يكون الواقع في الساعة الثانية هو ايقاع الطلاق حتى يكون ايقاعه
في زمان عدم التحيض ، إلا ان ذلك لا يمكن إثباته بواسطة الاستصحاب ، وذلك لاننا في
الساعة الثالثة نعلم بوقوع كلا الحادثين « التحيض وايقاع الطلاق » إلا انّ الشك من
جهة
تقدم أحدهما على
الآخر.
فلو كان متعلّق
العلم الإجمالي في الساعة الثانية هو وقوع التحيض فهذا معناه انّ الشك في عدم
التحيض في الساعة الثالثة شك بعد انتقاض اليقين بعدم التحيّض باليقين الاجمالي
بوقوع التحيض ، فيكون الشك في عدم التحيّض ، منفصلا عن اليقين بعدم التحيض ،
والفاصل هو اليقين بالتحيض ، وعندها لا يجري الاستصحاب لانفصال زمان الشك عن زمان
اليقين.
وان كان متعلّق
العلم الإجمالي في الساعة الثانية هو ايقاع الطلاق فهذا معناه انّ الشك في عدم
التحيض في الساعة الثالثة متصل باليقين بعدم التحيض الثابت في الساعة الاولى إذ لم
يفصل بينهما بفاصل في الساعة الثانية حيث ان المفترض ان الواقع في الساعة الثانية
هو ايقاع الطلاق وهو لا ينقض اليقين بعدم التحيض كما هو واضح.
ومن هنا يمكن
استصحاب عدم التحيّض الى زمان ايقاع الطلاق ، إلاّ انه لمّا لم يكن هناك سبيل
لإحراز ما هو الواقع في الساعة الثانية فإنه لا محالة يقع التردد في انّ هذا
المورد هل هو من موارد اتصال زمان الشك بزمان اليقين أو انه من موارد الانفصال.
ولذلك لا يمكن
إجراء استصحاب عدم التحيض الى زمان ايقاع الطلاق للشك في مشمولية المورد للنهي
عن نقض اليقين
بالشك ، فيكون التمسّك بهذا الاطلاق لاثبات مصداقية هذا الفرض له من التمسّك
بالعام في الشبهة المصداقية ، هذا ما نفهمه من عبارة صاحب الكفاية رحمهالله.
* * *
٤ ـ الأثر الشرعي
المراد من الأثر
الشرعي في استعمالات الاصوليين هو الحكم الشرعي الاعم من التكليفي والوضعي
والظاهري والواقعي
، فحينما يقال مثلا انّ من شرائط ثبوت الحجية لخبر الثقة ان يكون مؤداه أثرا شرعيا
أو ذا أثر شرعي فإن المقصود من الاثر الشرعي هو الحكم الشرعي.
ومنشأ التعبير عن
الحكم الشرعي بالأثر الشرعي هو انّ الحكم الشرعي إنّما يؤثر ويتلقى عن الشارع ،
كما انّه لا ينتظر من الشارع بما هو شارع ان تكون آثاره غير الاحكام الشرعية ، ومن
هنا تكون الآثار الشرعية مساوقة للاحكام الشرعية ، وهذا هو المصحح لإطلاق عنوان
الأثر الشرعي على الحكم الشرعي.
وبما ذكرناه يتضح
المراد من دعوى من ذهب الى انّ ثبوت الحجية لخبر الثقة منوط بكون مؤداه أثرا شرعيا
أو ذا أثر شرعي ورتب على ذلك نفي الحجية عن أخبار الآحاد المتصلة بالقضايا
التاريخية أو التكوينية ، كما انّه أحد منشأي الإشكال على حجية الخبر بالواسطة ،
وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان الخبر بالواسطة.
كما انّه يتضح مما
ذكرناه المراد من دعوى جمع من الاعلام بأن جريان الاستصحاب منوط بكون المستصحب
أثرا شرعيا بنفسه أو انه ذو أثر شرعي ، حيث انّ المقصود من ذلك هو اشتراط ان يكون
مجرى الاستصحاب حكما شرعيا أو يكون موضوعا لحكم شرعي.
فمثلا : عند ما
يكون المتيقن سابقا والمشكوك لاحقا حكما شرعيا كالوجوب والطهارة أو موضوعا لحكم
شرعي كالحدث او البلوغ فإنّ ذلك يصحح جريان الاستصحاب ، وعند ما يكون المستصحب
شيئا آخر فإنّ الاستصحاب لا يجري ، نعم لا يبعد ان يكون مرادهم شاملا لحالات الشك
في عدم الحكم الشرعي لو كانت له حالة سابقة متيقنة.
* * *
٥ ـ اجتماع الأمر والنهي
وقع النزاع في
مسألة اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد من حيث الجواز والامتناع ، فقد ذكر صاحب
الكفاية رحمهالله انّ المشهور ذهبوا الى امتناع الاجتماع مطلقا وذهب آخرون
الى جواز الاجتماع مطلقا ، وفصّل البعض بين ما يقتضيه العقل وما يقتضيه المتفاهم
العرفي ، فما يقتضيه العقل هو إمكان الاجتماع وأما ما يقتضيه الفهم العرفي فهو
الامتناع.
إلاّ انّه نسب الى
المحقق البروجردي إنكار صحة نسبة القول بالامتناع الى المشهور ، وبرّر ذلك بأنّ
الذي أوهم بناء المشهور على الامتناع هو اشتهار الفتوى بينهم بفساد الصلاة في
الأرض المغصوبة ، والحال انّ ذلك لا يلازم القول بالامتناع ، إذ لعلّ المدرك الذي
اعتمدوه هو عدم صلوح الحرام لأن يتقرب به للمولى ، وهذا القول يمكن ان يتبناه
القائلون بالجواز.
وكيف كان فتحرير
محل النزاع يقتضي بيان امور :
الأمر الأول :
انّه لا نزاع في
استحالة تعلّق الأمر والنهي بعنوان واحد كتعلّق الأمر والنهي بالصلاة مثلا ، وذلك
لما ثبت في محلّه من تضاد الاحكام فيما بينها ، فتعلّق الأمر بشيء معناه انّ متعلق
الامر محبوب للمولى كما انّ تعلّق النهي بشيء معناه مبغوضية متعلّق النهي للمولى ،
فإذا كان متعلّق الامر ومتعلّق النهي شيئا واحدا فهذا يعني انّ هذا المتعلّق محبوب
ومبغوض في آن واحد ، واستحالة ذلك من الوضوح بحيث تستوجب صرف النزاع عن هذا الفرض
ـ وان أوهمت عبائر البعض انّ ذلك هو محل النزاع ـ وعليه فمورد النزاع في هذه
المسألة فرض آخر ، وهو ما لو تعلّق الأمر بعنوان
وتعلق النهي
بعنوان آخر واتفق ان تصادق العنوانان على مورد واحد ، كما لو كان متعلّق الأمر هو
الصلاة ومتعلّق النهي هو الغصب واتفق ان تطابق عنوانا الصلاة والغصب على مورد واحد
بأن وقعت الصلاة في الأرض المغصوبة.
وهنا يقع البحث عن
انّ مورد التصادق هل هو واحد حقيقة أو هو متعدّد وان التركيب بينهما انضمامي ، فلو
كنا نبني على انّ مورد التصادق متّحد حقيقة وان تعدد العنوان لا يوجب تعدّد
المعنون وانّ النهي يسري من متعلّقه ـ وهو طبيعة المنهي عنه ـ الى منطبق متعلّق
الأمر لو كنا نبني على ذلك لكان ذلك يستلزم البناء على الامتناع وأما لو كنّا نبني
على انّ تعدد العنوان يوجب تعدّد المعنون وان النهي لا يسري من متعلّقه الى منطبق
متعلّق الأمر وكذلك العكس فلا بدّ من الالتزام بجواز الاجتماع.
وبهذا اتضح انّ
محل النزاع في مسألة اجتماع الأمر والنهي صغروي ، وذلك لانّ الكبرى وهي استحالة ان
يكون شيء واحد متعلقا للأمر والنهي مسلّمة حتى عند القائلين بالجواز. فالبحث اذن انّما
هو عن انّ مورد التصادق هل هو واحد حقيقة فيكون من صغريات الكبرى المسلّمة أو انّ
الواقع هو انّ ما تعلّق به النهي غير ما تعلّق به الأمر وان متعلّق النهي لا يسري
لمنطبق المأمور به فلا تكون المسألة من صغريات الكبرى المسلمة ولا يكون ثمة مانع
من اجتماع الامر والنهي على مورد التصادق بعد ان لم يكن مورد التصادق واحدا حقيقة
وذلك لأنّ تعدد العنوان يوجب تعدّد المعنون.
الأمر الثاني :
انّ المراد من
الواحد المأخوذ في عنوان المسألة هو الواحد المقابل
للمتعدّد لا
الواحد المقابل للكلّي.
وبيان ذلك : انّه
قد يكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي بمعنى انّ متعلّقيهما شيئان متغايران ، وقد
يكون متعلّق الأمر متّحدا مع متعلّق النهي والثاني هو مورد البحث والاول هو ما
أردنا الاحتراز عنه بواسطة التعبير بالواحد.
ومن هنا قلنا ان
المراد من الواحد في المقام هو المقابل للمتعدّد والذي يكون معه متعلّق الأمر
مباينا لمتعلّق النهي وان كان عنوان المأمور به وعنوان المنهي عنه متحدين مفهوما
إلاّ انّ الأمر تعلّق بحصة منه والنهي تعلّق بحصة اخرى كما في الأمر بالسجود لله
جلّ وعلا والنهي عن السجود للصنم ، فإنّ متعلّق أحدهما لا يتحد مع متعلّق الآخر
دائما ، فلا يمكن ان يتفق تصادق عنواني السجود لله جلّ وعلا والسجود للصنم على
مورد واحد ، فدائما يكون مصداق أحدهما مباينا لمصداق الآخر ، وهذا بخلاف عنوان
الصلاة وعنوان الغصب فإنّه قد يتفق اتحادهما على مورد واحد ، ففي الوقت الذي تكون
الافعال الخاصة مصداقا لعنوان الصلاة تكون مصداقا لعنوان الغصب ، وذلك فيما لو
أوقع المكلّف الصلاة في الأرض المغصوبة ، فإنّ الحركات المخصوصة التي يوقعها المكلّف
في الارض المغصوبة تكون متعلقا للأمر وفي الوقت نفسه تكون متعلقا للنهي ، فليس ثمة
شيئان متغايران أحدهما متعلق للأمر والآخر متعلّق للنهي ، وهذا هو المقصود من
الواحد المأخوذ في عنوان المسألة ، لا انّ المقصود من الواحد هو المقابل للكلّي
حتى يكون المراد منه الواحد الشخصي الذي لا يقبل الصدق على غيره بل الواحد في
المقام قد يكون كليا وعليه يكون المراد من الواحد الأعم من الواحد الشخصي أو
الواحد النوعي أو الجنسي. فالمقصود هو كل
ما كان موردا
لتصادق متعلّقي الأمر والنهي ، فالصلاة في المغصوب والتي هي مورد لاجتماع الأمر
والنهي ليس واحدا شخصيا ، وذلك لقابلية صدق هذا العنوان على أفراد كثيرة.
الأمر الثالث :
في بيان الفرق بين
مسألة اجتماع الأمر والنهي وبين مسألة النهي في العبادات هل يقتضي الفساد.
فنقول : انّ الفرق
بينهما ـ كما أفاد السيد الخوئي رحمهالله ـ انّما هو من جهة البحث ، وذلك لأنّ البحث في المسألة
الاولى صغروي ـ كما اتضح مما تقدم ـ حيث قلنا انّ محل البحث فيها هو انّ النهي هل
يسري من متعلّقه الى منطبق متعلّق الأمر أو لا ، فلو قلنا بالسريان فالنتيجة هي
الامتناع ولو قلنا بعدمه فالنتيجة هي الجواز.
وأما البحث عن
مسألة النهي في العبادات فهو بحث كبروي ، وذلك لأنّ جهة البحث عنها هي انّه هل
يلزم من النهي عن العبادة فسادها أو لا يلزم ، وهذا يعني اننا قد فرغنا عن تعلّق
النهي بالعبادة أي عن سريان النهي الى منطبق متعلّق الامر وهي العبادة ، ونبحث
عندئذ عن انّ هذا السريان هل يوجب فساد العبادة أو لا. وهو بحث كبروي.
الأمر الرابع :
انّه بناء على
القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي يقع التعارض بين دليلي الأمر والنهي ، إذ انّ
مقتضى دليل الأمر هو وجوب مورد التصادق ومقتضى دليل النهي هو حرمة مورد التصادق ،
وعندئذ يقع التكاذب بين مدلولي الدليلين فلا بدّ من الرجوع الى أحكام باب التعارض
لترجيح أحد الدليلين على الآخر أو الحكم بتساقطهما ولو في مورد التصادق أو التخيير
بينهما على اختلاف المباني.
وببيان أوضح : إنّ
البناء على الامتناع ناشئ عن دعوى اتّحاد مورد التصادق حقيقة وأنّ منطبق متعلّق
الأمر هو عينه منطبق متعلّق النهي وانّه ليس ثمة شيئان أحدهما منطبق لعنوان
المأمور به والآخر منطبق لعنوان المنهي عنه ، فليس في البين سوى شيء واحد ، واذا
كان كذلك فهذا الشيء الواحد حقيقة مأمور به لأنّه مصداق لطبيعة المأمور به ومنهي
عنه لانّه مصداق لطبيعة المنهي عنه وهو من اجتماع الحكمين المتضادين على موضوع
واحد ، وهو مستحيل ، وعندئذ يحصل الجزم بعدم مطابقة أحد الحكمين للواقع وهذا ما
يعني انّ واحدا من الدليلين كاذب ، ولمّا لم نكن نعلم أيّ الدليلين هو الكاذب
وأيّهما المطابق للواقع فلا محاله يكون المرجع هو أحكام باب التعارض.
وأما بناء على
القول بالجواز فالمرجع هو أحكام باب التزاحم ، وذلك لانّ البناء على الجواز ناشئ
عن دعوى عدم اتحاد مورد التصادق حقيقة وانّ الواقع ونفس الأمر هو انّ منطبق
المأمور به مغاير لمنطبق المنهي عنه فلا يسري النهي من متعلّقه الى منطبق المأمور
به ، إذ انّ أحدهما غير الآخر وان الاتحاد بينهما من قبيل التركيب الانضمامي ،
وعندئذ لا مانع من أن يكون مورد الاجتماع مأمورا به ومنهيا عنه ، لأنّ الواقع انّ
المأمور به غير المنهي عنه فلا يكون من اجتماع الضدين ، واذا كان كذلك فالمكلّف
مسئول عن كلا الحكمين ، غايته انّ المكلّف لمّا كان عاجزا عن امتثالهما معا ، إذ
انّ امتثال الأمر يؤدي في الفرض المذكور الى عجزه عن امتثال النهي وهكذا العكس ،
فعندئذ يقع التزاحم في مقام الامتثال ، فلا بدّ من الرجوع لمرجحات باب التزاحم.
* * *
٦ ـ الاجتهاد
و « هو استفراغ
الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي » ، وهذا التعريف نسبه صاحب الكفاية رحمهالله الى العلامة والحاجبي.
وعلّق السيد
الخوئي رحمهالله على هذا التعريف بقوله انّه غلط ، وعلّل ذلك بعدم جواز
العمل بالظن إلا ان يقوم دليل خاص على اعتباره ، وهذا الذي قام الدليل على اعتباره
يكون حجة مطلقا أي سواء أوجب الظن الشخصي بمؤداه أو لم يوجب الظن ، بل انّه يكون
حجة حتى في موارد عدم ايجابه الظن النوعي كما هو الحال في الاصول العملية غير
المحرزة.
ثم أفاد أن هذا
التعريف يناسب اصول العامة ، وذلك لاعتمادهم على الظنون الناشئة عن القياس
والاستحسان والاستقراء.
أقول : الظاهر عدم
مناسبة هذا التعريف حتى لاصول العامة لو كان المراد من الظن المأخوذ في التعريف
مطلق الظن ، وذلك لانّهم انما يعتمدون على الظنون الناشئة عن الاستحسان والقياس
والاستقراء باعتبار انها ظنون معتبرة قام الدليل الخاص على حجيتها عندهم ، ولذلك فهم
لا يعتمدون على الظنون الناشئة عن وسائل غير معتبرة عندهم.
فالاختلاف بين
العامة والإمامية فيما هي الظنون المعتبرة من الظنون غير المعتبرة ، نعم ما أفاده
السيد الخوئي رحمهالله إنما يناسب بعض العامة ، وهم القائلون بحجية مطلق الظن.
ثم انّ هذا
التعريف كان مدخلا لطعن الإخباريين « رضوان الله عليهم » ، إذ انّ ظاهره حجية مطلق
الظن ، ولذلك عدل السيد الخوئي رحمهالله عن قيد الظن بقيد الحجة ، وقال انّ المناسب هو تعريف
الاجتهاد : « باستفراغ الوسع في تحصيل الحجّة
على الاحكام
الشرعية أو تعيين الوظيفة عند عدم الوصول اليها » أي عدم الوصول الى الدليل
الاجتهادي المعتبر ، وبالقيد الثاني ينتفي الإشكال الأوّل على التعريف المذكور ،
وبالقيد الأوّل لا يبقي مجال لطعن الأخباري على الاصولي ، إذ انّ الأخباري
والاصولي متفقان على ان الظن إذا قام الدليل على حجيته فإنّ الصلاحية لإثبات الحكم
الشرعي.
إلا انّ صاحب
الكفاية رحمهالله لم يتوسل بالوسيلة التي توسل بها السيد الخوئي رحمهالله للتفصّي عن إشكال الأخباري بل انّه وجّه التعريف بما يرتفع معه اشكال
الأخباري ، وقال ما حاصله انّ التعريف ليس تعريفا بالحد ولا بالرسم وانّما هو شرح
للاسم كما هو المتعارف عند اللغويين فلا وجه للنقض عليه بأنه غير جامع ولا مانع من
دخول الاغيار بعد ان كان الغرض منه شرح الاسم ، نعم الأنسب هو استبدال الظن بالحجة
إلاّ انّ ذلك غير لازم بعد القطع بإرادتها كما يتضح ذلك بأدنى تأمل في مباني
الاصوليين من الامامية.
ثم انّ البحث عما
هو المراد من تحصيل الحجة الوارد في التعريف ، وهل المراد منه التحصيل الفعلي
الملازم لوجود ملكة التحصيل أو المراد منه كفاية وجود ملكة التحصيل ولو لم يكن
تحصيل الحجة فعليا.
هذا وقد أفاد
السيد الخوئي رحمهالله انّه لمّا لم يكن الاجتهاد بعنوانه موضوعا للاحكام المبحوث
عنها في بحث الاجتهاد فلا معنى لإتعاب النفس في البحث عما هو المراد من تحصيل
الحجة.
وبيان ذلك :
انّ الاحكام
المترتبة على الاجتهاد ثلاثة : الاول : هو جواز عمل المجتهد بما يؤدي اليه
اجتهاده.
الثاني : جواز
تقليد المكلف الجاهل
للمجتهد.
الثالث : نفوذ حكم
المجتهد على المكلّف في القضايا الشخصية وغيرها.
وتمام هذه الاحكام
لا تتوقف على تحديد المراد من تحصيل الحجة بل لا بد من ملاحظة أدلة هذه الاحكام
للتعرّف على حدود موضوعها من حيث السعة والضيق.
ثم انه استظهر بعد
استعراض أدلة الاحكام الثلاثة انّ المراد من تحصيل الحجة هو التحصيل الفعلي وعدم
كفاية التوفّر على ملكة التحصيل ، وبهذا يكون المناسب لتعريف الاجتهاد كما أفاد هو
« العلم بالاحكام الشرعية الواقعية أو الظاهرية أو بالوظيفة الفعلية عند عدم احراز
الحكم الشرعي من الادلة التفصيلية ».
نعم بناء على ما
ذكره الشيخ الانصاري رحمهالله من أنّ الذي له ملكة تحصيل الحجة لا يجوز له الرجوع الى
الغير بل يلزمه التحصيل الفعلي للحجة ، واستدل لذلك بالإجماع وانصراف أدلة جواز
رجوع الجاهل للعالم الى الفاقد لملكة تحصيل الحجة أي ملكة استنباط الحكم الشرعي ،
بناء على ذلك يكون المتعين في تعريف الاجتهاد و « هو ملكة تحصيل الحجّة على
الوظيفة الفعلية من الاحكام الواقعية والظاهرية » ، وبهذا يكون مفهوم الاجتهاد
واسعا يشمل الواجد لملكة تحصيل الحجة وإن لم يبادر في تحصيلها أي انه جاهل فعلا
وان كان مجتهدا ملكة.
وأورد السيد
الخوئي على هذا التعريف بأنه غير مناسب للحكمين الآخرين ، وذلك لانّ جواز تقليد
الجاهل للمجتهد ، وكذلك نفوذ حكم المجتهد انما هو مختص بالمجتهد بالفعل كما هو
ثابت. ثم أفاد بأنه لو تم الإجماع والانصراف فإن ذلك يقتضي تخصيص أدلة جواز تقليد
الجاهل
للعالم بمن ليس له
ملكة الاجتهاد ، وهذا لا يعني ان من له ملكة الاجتهاد مجتهد.
أقول : الظاهر انّ
النقض الذي أورده السيد الخوئي رحمهالله على التعريف المناسب لدعوى الشيخ الانصاري رحمهالله غير ناقض ، وذلك لإمكان التفصّي عنه بالالتزام بأن المجتهد هو المتوفر على
ملكة الاجتهاد وحسب ، غايته انّ موضوع الحكمين الآخرين ليس هو المجتهد فحسب وانما
هو المجتهد باضافة قيد زائد وهو فعلية تحصيل الحجة ، وذلك للدليل الخاص ، فكما ان
الدليل الخاص دلّ على شرطية العدالة في نفوذ حكم الحاكم وجواز الرجوع اليه فكذلك
شرط الفعلية ، وكما ان العدالة ليست شرطا في صدق الاجتهاد وانما هي شرط في نفوذ
الحكم وجواز التقليد فكذلك فعلية التحصيل.
* * *
٧ ـ الاجتهاد والرأي
كان مفهوم
الاجتهاد مرادفا لمصطلح الرأي في عصر الأئمّة عليهمالسلام فكان كلاهما يعبّران عن معنى واحد ، وهو التفكير الشخصي
وحدس الحكم الشرعي اعتمادا على ما ينخطر في الذهن نتيجة قرائن خاصّة أو عقلائيّة ،
ولذلك لا يكون النظر في النصوص الشرعيّة ـ لاستنباط الحكم الشرعي ـ من الاجتهاد
بناء على هذا المعنى.
هذا وقد كان علماء
العامّة يعتمدون ذلك على أساس أنّه واحد من مصادر التشريع ، فهو مقابل الكتاب
والسنّة ، غايته أنّهم لا يلجئون إليه إلاّ حين فقدان النصّ الشرعي ، فحجيّة
الاجتهاد والرأي واقعة ـ بنظرهم ـ في طول الحجّيّة الثابتة للكتاب والسنّة
الشريفة.
وبما ذكرناه يتّضح
أنّ القياس ليس
داخلا ضمن مفهوم
الاجتهاد والرأي ، وذلك لأنّ القياس يقتضي ملاحظة الأحكام الشرعيّة للوقوف على
موضوعاتها أو تنقيح عللها أو تخريجها أو تحقيقها ، وذلك لغرض تعدية الأحكام
الثابتة بالنصوص إلى الموضوعات الواقعة موردا للبحث عن حكمها الشرعي ، وأمّا
الاجتهاد والرأي فهو يتحرّك ضمن دائرة المرئيّات الذاتيّة وحساب المصالح والمفاسد
المدركة عند الفقيه بقطع النظر عن آليّة الوصول لهذه المدركات ، فسواء كانت
عقلائيّة أو شخصيّة فالأمر سيّان ما دام الغرض هو حدس الحكم الشرعي.
لذلك لا يرى
المجتهد عندهم غضاضة في أن يبرّر فتواه بالاجتهاد والرأي دون الحاجة إلى بيان منشأ
الوصول إلى هذا الرأي ، وعندها ينقطع السؤال عند السائل لأنّه يرى في ذلك مبرّرا
تامّا.
وذلك يعبّر عن أنّ
الرأي والاجتهاد يعني التفكير لحدس الحكم الشرعي أيّا كانت آليّة هذا التفكير.
وقد بقي هذا
المعنى لمفهومي الرأي والاجتهاد رائجا إلى مرحلة متأخّرة من الزمن فكلّما ذكر أحد
الاصطلاحين انسبق إلى الذهن الثاني.
وبذلك يتّضح منشأ
ما ورد عن أهل البيت عليهمالسلام من ذمّ كثير للاجتهاد ، فقد كان المقصود منه الاجتهاد
المساوق لمعنى الرأي فهو الذي كان متداولا في عصر النصّ عند أبناء العامّة ، وكان
ذلك مسلك الكثير منهم في الوصول إلى الحكم الشرعي.
وهذا ما يبرّر
استيحاش علمائنا الأجلاّء ـ قبل عصر المحقّق الحلّي رحمهالله ـ من استعمال لفظ الاجتهاد للتعبير عن عمليّة الاستنباط
للحكم الشرعي من الكتاب والسنّة إلاّ أنّ هذا الاستيحاش بدأ في الذوبان بمرور
الزمن وأصبح مصطلح
الاجتهاد يعبّر عن معنى مختلف اختلافا جوهريّا عن معنى الرأي.
فقد بقي مصطلح الرأي
محتفظا بمعناه الذي كان رائجا في عصر النصّ وأمّا لفظ الاجتهاد فقد أصبح معناه ـ خصوصا
عند الإماميّة ـ استنباط الحكم الشرعي من أدلّته المعتبرة شرعا.
فالاجتهاد بتعبير
آخر ـ في المصطلح الحديث ـ يعني استفراغ الوسع والنظر في الكتاب والسنّة لغرض
التعرّف على الحكم الشرعي.
* * *
٨ ـ الإجزاء
ويقع البحث تحت
هذا العنوان عن مسائل ثلاث :
الأولى : عن إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره ، أي إجزاء
الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي عن الامر الواقعي ، واجزاء المأمور به بالامر
الظاهري عن الامر الظاهري ، واجزاء المأمور به بالامر الاضطراري عن الامر
الاضطراري.
الثانية : عن إجزاء المأمور به بالامر الاضطراري عن الامر الواقعي.
الثالثة : عن إجزاء المأمور به بالامر الظاهري عن الامر الواقعي ،
وحتى تتضح معالم البحث لا بد من بيان امور :
الأمر
الأول : انّ المراد من
عنوان الإجزاء هو معناه اللغوي ، وهو الكفاية والإغناء فحينما يقال أجزأ فعل عن
آخر فهو يعني انّه أغنى عنه ، غايته انّ ما يجزي عنه الفعل يختلف تبعا للدليل ،
فقد يجزي الفعل عن الإعادة والقضاء كمن صلّى جهرا في موضع الإخفات ، فإنّ صلاته
تجزي عن الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، وقد يجزي الفعل عن القضاء
دون الإعادة ، كمن
صلّى في السفر تماما ناسيا ، فإن صلاته تجزي عن القضاء لو تذكر خارج الوقت دون
الإعادة لو تذكر في الوقت ، وقد يطلق الإجزاء ويراد منه كفاية المأتي عن غير
المأتي به ، كإجزاء ذبح الهدي عن العقيقة واجزاء الاطعام عن العتق في بعض الموارد.
والمتحصل ان
المراد من الإجزاء في استعمالات الفقهاء هو عينه المراد منه عند اللغويين.
الأمر
الثاني : انّ بحث
الإجزاء من المسائل العقلية وليس من مباحث الالفاظ ، وذلك يتضح بملاحظة الجهة
المتصدية للإجابة عن ثبوت الإجزاء أو عدم ثبوته ، فإن كانت الجهة المتصدية لذلك هي
الدلالة اللفظية فالمسألة من مباحث الالفاظ ، وان كانت الجهة المتصدية لذلك هي
مدركات العقل فالبحث يكون معها عقليا ، وواضح بهذه الضابطة ان مبحث الإجزاء من
المباحث العقلية ، إذ انّ الذي يحدّد إجزاء الاتيان بالمأمور به عن أمره أو عدم إجزائه
انّما هو العقل ، وأما صيغة الأمر مثلا أو مادته فليست لها دلالة على أكثر من بعث
المكلف نحو المأمور به ، أما انّه لو انبعث عن الامر وجاء بالمأمور به على وجهه
فهل ذلك يقتضي الإجزاء وسقوط الأمر أو فاعليته فهذا ما لا يمكن استفادته بواسطة
نفس الامر نعم هو مستفاد بواسطة العقل ، وذلك بأحد بيانين ، كما أفاد السيد الشهيد
الصدر رحمهالله.
البيان
الأول : ان العقل
يستقلّ بإدراك الكفاية عند ما يأتي المكلف بالمأمور به ، وذلك لأنّ الاتيان
بالمأمور به محقق لغرض المولى ، وهذا موجب لخروج المكلف عن عهدة التكليف المدركة
بواسطة حكم العقل بحق الطاعة للمولى جلّ وعلا ، فحق الطاعة للمولى ينتفي بتحقق
غرضه
بواسطة الإتيان
بالمأمور به.
البيان
الثاني : انّ الإتيان
بالمأمور به بعد امتثاله من تحصيل الحاصل ، وهذا ما يعبّر عن كفاية الإتيان به في
المرة الاولى وبتعبير آخر : انّ الامر حينما يتعلّق بالجامع يكون الاتيان بأحد
أفراده محقق للجامع ، فلا معنى للإتيان بفرد آخر ، لأنّه إذا كان الغرض هو تحقق
الجامع فقد تحقق بفرده الاول لان الطبيعة تنوجد بأول وجودات أفرادها ، فيكون
الاتيان بفرد آخر من تحصيل الحاصل ، وإن كان الغرض هو تحقيق فرد آخر لجامع آخر أو
لنفس الجامع فهذا ما لا موجب له إلا ان يكون ثمة أمر جديد وهو خلف الفرض.
وبهذا يتنقح انّ
مبحث الإجزاء من المباحث العقلية.
الأمر
الثالث : بعد اتضاح ان
جهة البحث في مسألة الإجزاء هي ثبوت الملازمة العقلية بين الاتيان بالمأمور به
وبين الإجزاء عن الامر أو عدم ثبوت الملازمة ، بعد اتضاح ذلك يتضح استقلالية هذه
المسألة عن مسألة دلالة الامر على المرة والتكرار ومسألة تبعية القضاء للأداء ، إذ
انّ جهة البحث في مسألة المرة والتكرار هو ما تقتضيه دلالة الامر ، وانّ الامر هل
وضع للدلالة على البعث نحو الطبيعة المقيدة بالمرة أو وضع للدلالة على الطبيعة
المقيدة بالتكرار ، أو انّه لم يوضع إلاّ للدلالة على البعث نحو الطبيعة دون ان
يكون قيد المرة والتكرار دخيلا فيما هو الموضوع له لفظ الامر.
وواضح أجنبية هذا
البحث عن مسألة الإجزاء ، إذ اننا نبحث في المقام عن الملازمة العقلية بين الاتيان
بالمأمور به وبين الإجزاء بعد الفراغ عن حدود ما تدل عليه صيغة الامر ، واتحاد
نتيجة القول بالإجزاء مع القول بدلالة الامر على المرة ، واتحاد القول
بعدم الاجزاء مع
القول بدلالة الامر على التكرار لا يوجب اتحاد البحثين بعد تباينهما من حيث الجهة
المبحوث عنها في المسألتين ، اذ هي الضابطة في تباين المسائل واتحادها ، وليس
للنتيجة دخل في تصنيف المسائل كما هو واضح.
وأما مبحث تبعية
القضاء للأداء فجهته انّ صيغة الأمر هل تدل باطلاقها على تعدد المطلوب والذي يقتضي
القضاء ـ أو وحدته والذي يستوجب عدم وجوب القضاء بعد انتهاء الوقت وعدم الإتيان
بالمأمور به.
واتحاد القول
بالإجزاء مع القول بعدم التبعية واتحاد القول بعدم الإجزاء مع القول بالتبعية لا
يصيّر البحثان بحثا واحدا ، على انّ موضوع كل واحد من البحثين مباين لموضوع البحث
الآخر. فموضوع بحث تبعية القضاء للأداء هو عدم الاتيان بالمأمور به في الوقت ،
وموضوع بحث الإجزاء هو الإتيان بالمأمور به ، فالبحثان متباينان جهة وموضوعا.
هذا حاصل ما أفاده
السيد الخوئي رحمهالله.
الأمر
الرابع : جرت عادة
الاصوليين على عنونة هذا البحث بقولهم « ان الاتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي
الإجزاء أولا؟ ».
ومن هنا لا بدّ من
ايضاح معنى قولهم « على وجهه » وكذلك ايضاح معنى « الاقتضاء ».
أما قولهم « على
وجهه » فقد ذكر له ثلاثة احتمالات :
الاحتمال
الاول : وهو الذي ذكره
صاحب الكفاية رحمهالله وتبنّاه ، وحاصله انّ المراد من الإتيان بالمأمور به على
وجهه هو الإتيان به موافقا لمقتضيات الشرع والعقل.
فالموافقة
لمقتضيات الشرع معناه الاتيان بالمأمور به واجدا لتمام الأجزاء والشرائط المستفادة
بواسطة الشارع.
والموافقة
لمقتضيات العقل تعني الإتيان بالشرائط أو الأجزاء التي لا يمكن استفادتها إلا
بواسطة العقل ، وذلك مثل قصد امتثال الامر ، حيث ثبت بالدليل استحالة استفادته
بواسطة الشرع كما هو منقح في بحث التوصلي والتعبدي.
واستدل صاحب
الكفاية رحمهالله على هذه الدعوى بأنّه لو كان المراد من قولهم « على وجهه »
هو خصوص الأجزاء والشرائط المعتبرة شرعا لكان التقييد بقولهم « على وجهه » توضيحيا
، وهو خلاف الأصل ، إذ انّ الاصل في القيود الاحترازية ، هذا أولا وثانيا يلزم من
عدم القول بإرادة مجموع ما يعتبر شرعا وعقلا خروج التعبديات عن محل البحث ، وذلك
لانّ قصد الامر المعتبر في التعبديات لا يستفاد إلا بواسطة العقل ، فالعقل هو المحدد
لكيفية الإطاعة في التعبديات ، فإذا لم يكن ما يعتبر عقلا مرادا من قولهم « على
وجهه » فهذا معناه خروج التعبديات عن محل البحث ، وهو ما لا يمكن الالتزام به.
الاحتمال
الثاني : انّ المراد من
قولهم « على وجهه » هو الإتيان بالمأمور به مع قصد الوجه ، كقصد الوجوب أو
الاستحباب.
وأجاب صاحب
الكفاية رحمهالله عن هذا الاحتمال انّ المعروف بين الفقهاء عدم اعتبار قصد
الوجه مطلقا ، وانّ من ذهب من الفقهاء الى اعتباره حصره في العبادات وهذا يقتضي
خروج التوصليات عن محل البحث.
ثم انه لا مبرر
للتنصيص عليه لو كنا نبني على اعتباره ، وذلك لدخوله تحت عنوان ما يعتبر شرعا ،
فيكفي التعبير بالإتيان بالمأمور به ، إذ انّه يشمل قصد الوجه لو قيل باعتباره
شرعا.
الاحتمال
الثالث : انّ المراد من
قولهم « على وجهه » هو الاتيان بالمأمور به موافقا لما يعتبر شرعا ،
وعليه يكون
التقييد توضيحيا ، ومع ذلك لا يلزم خروج التعبديات عن محل البحث ، إذ انّ ذلك مبني
على استحالة اعتبار قصد الامر شرعا أما مع القول بعدم الاستحالة كما هو مذهب السيد
الخوئي رحمهالله والمحقق النائيني رحمهالله فلا معنى لإرادة الأعم مما يعتبر شرعا وعقلا ، وأما مخالفة
ذلك للاصل وانّه يقتضي الاحترازية فلا بأس به إذا كان ذلك هو مقتضى القرينة ، حيث
قام الدليل على إمكان اعتبار قصد الأمر شرعا.
وأما
المراد من الاقتضاء : فهو العلية والتأثير كما أفاد صاحب الكفاية رحمهالله. وبيان ذلك :
انّ الاقتضاء تارة
يضاف الى الصيغة واخرى الى الفعل ، فإذا ما اضيف الى الصيغة كان بمعنى الكشف
والدلالة ، فحينما يقال ان صيغة الأمر هل تقتضي الوجوب فهذا معناه البحث عن
دلالتها على الوجوب ، أما اذا اضيف الاقتضاء الى الفعل فإنّه يكون بمعنى العلية
والتأثير ، فإذا قيل ان الصوم هل يقتضي الثواب أولا؟ فإنّ البحث عندئذ عن علّية فعل الصوم لترتّب الثواب ،
وهكذا.
وهكذا البحث في
المقام ، فإنّ الاقتضاء اضيف الى الإتيان بالمأمور به ، ومن هنا كان بمعنى تأثير
الإتيان بالمأمور به للإجزاء.
ثم أورد صاحب
الكفاية على نفسه فقال ما حاصله : انّه وإن سلّم انّ اقتضاء الإجزاء عن الأمر عند
الإتيان بنفس متعلق الأمر وان سلّم انه بمعنى التأثير والعلّية إلا انّه غير مسلّم
عند ما يقال انّ الإتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري أو الظاهري يقتضي الإجزاء
عن الامر الواقعي ، فإنّ الاقتضاء هنا ليس بمعنى التأثير وإنما هو بمعنى الدلالة
والكشف ، أي انّ دليل الامر الاضطراري هل يدل على الإجزاء عن الأمر الواقعي ،
فالاقتضاء إذن
بمعنى الدلالة لا بمعنى التأثير والسببيّة.
وقد أجاب صاحب
الكفاية عن ذلك بأنّ البحث في موارد الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو
الظاهري عن الامر الواقعي ينحل الى بحثين ، الاول كبروي والآخر صغروي ، أما
الكبروي فهو انّ محض الاتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء أولا؟ ، وهنا يكون
الاقتضاء بمعنى التأثير والعلّية.
والبحث الصغروي هو
عن دلالة الامر الاضطراري والامر الظاهري على الإجزاء ، إلا انّ هذا البحث متفرع
على اقتضاء وتأثير الاتيان بالمأمور به للإجزاء وإلا لو لم يكن الإتيان بالمأمور
به مقتضيا ومؤثرا للإجزاء لم يكن ثمة موقع للبحث الصغروي.
وبهذا يتضح انّ
البحث عن إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره لا يكون إلاّ بحثا كبرويا ، أما البحث
عن إجزاء الاتيان بالمأمور بالامر الاضطراري أو الظاهري عن الامر الواقعي لا ينتهي
عند الوصول الى اقتضائهما للإجزاء كبرويا بل لا بدّ من البحث عن انّ صيغة الأمر
الاضطراري أو الظاهري هل تدلّ على الإجزاء عن الامر الواقعي أولا؟.
ولو انتهى بنا
البحث الى عدم الإجزاء فإنه لا معنى للبحث الصغروي.
وبما ذكرناه تتضح
معالم بحث الإجزاء ، ولتتميم الفائدة نشير اجمالا الى المباحث الثلاثة المبحوثة في
مسألة الإجزاء.
المبحث
الاول : إجزاء الإتيان
بالمأمور به عن أمره ، كإجزاء المأمور به بالامر الواقعي عن الامر الواقعي واجزاء
المأمور به بالأمر الاضطراري عن الامر الاضطراري وكذلك إجزاء المأمور به بالامر
الظاهري عن الامر الظاهري.
الظاهر انه لم يقع
خلاف بين الأعلام في اقتضاء ذلك للإجزاء ، واستدل صاحب الكفاية لذلك بما حاصله :
انّ الإجزاء في هذه الموارد ضروري بمقتضى ما يستقل به العقل ، إذ لا معنى لبقاء
الامر بعد انتفاء موضوعه بالإتيان بمتعلقه.
وأيّد السيد الخوئي
رحمهالله ذلك بما حاصله : انّ عدم الإجزاء في هذه الموارد يلزم منه
أحد لوازم ثلاثة على سبيل مانعة الخلو ، وجميعها باطلة ، وهي إما لزوم الخلف أو
عدم إمكان الامتثال الى الابد أو يكون الامر بعد الامتثال مجردا عن الملاك.
وبيان ذلك : انّ
الإتيان بالمأمور به محقق للغرض بلا ريب وإلا لما وقع متعلقا للأمر ، وحينئذ لو
جاء المكلّف بالمأمور به وقلنا بعدم الإجزاء فهذا خلف تحقق الغرض به ، إذ انّ ذلك
يقتضي كون الغرض أوسع من الامر فيكون المطلوب والغرض متعددين وهو خلف الفرض ، أو
نقول انّ الغرض والمطلوب يتحققان بالاتيان بالمأمور به ومع ذلك يبقى الامر على
حاله مقتضيا للبعث والتحريك ، وهذا لا معنى له إلا مع افتراض كون الأمر بلا مقتض
وبلا ملاك ، إلاّ ان نقول انّ الامر مشتمل على الغرض وانه غير متعدد إلا انّ
الامتثال الاول لا يقتضي الإجزاء ، وهذا أيضا مستحيل ، إذ ما هو الفرق بين
الامتثال الاول والامتثال الثاني بعد توفرهما معا على تمام الأجزاء والشرائط
المعتبرة ، فإذا كان الاول غير مجز فكذلك الثاني وهكذا الثالث وهذا يعني عدم امكان
الامتثال الى الابد.
فالمتحصل انّ
إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره لم يقع محلا للنزاع إلا ممن لا يعتد بقوله.
المبحث
الثاني : وهو إجزاء
الإتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري عن الامر الواقعي ، والبحث في هذه
المسألة من جهتين
:
الجهة
الاولى : ما لو اتفق
زوال العذر والاضطرار قبل انتهاء الوقت ، وتحرير محل النزاع في هذه الصورة ـ كما
أفاد السيد الخوئي رحمهالله ـ يتبلور بالالتفات الى أمرين :
الامر
الاول : انّ الاتيان
بالمأمور به بالامر الاضطراري لا يكون إلاّ في حالة يكون معها موضوع الأمر
الاضطراري هو وجود العذر ، لا أن يكون موضوعه هو استيعاب العذر لتمام الوقت ، فإنّ
الاتيان بالمأمور به حينئذ لا يكون امتثالا للأمر الاضطراري ، لأنّ موضوعه كما هو
المفترض هو العذر المستوعب لتمام الوقت والحال انه بادر للإتيان بالمأمور به قبل
تنقح الموضوع ، نعم لو كان جازما بالاستيعاب واتفق مطابقة جزمه للواقع وهو
الاستيعاب ، وكذلك لو دلت الامارة المعتبرة على الاستيعاب واتفق مطابقتها للواقع
فإنّ الاتيان بالمأمور به حينئذ يكون امتثالا للأمر الاضطراري ، وعندئذ يقع البحث
عن انّه يجزى عن الامر الواقعي أولا.
الأمر
الثاني : انّ محل البحث
هو ما لو كان الملاك من الأمر الاضطراري ناشئا عن المصلحة في متعلق الامر
الاضطراري ، أي انّ المصلحة في المأمور به بالامر الاضطراري هي الملاك في البعث
نحو الامر الاضطراري ، أما لو كانت المصلحة من الامر الاضطراري غير متصلة بمتعلقه
وانما هي متصلة بملاك خارج عن متعلق الامر الاضطراري فإنّ هذه الحالة غير مشمولة
لمحل البحث ، إذ لا مورد معها للقول بأنّ المأمور به بالامر الاضطراري يفي بمعظم
الملاك أو بجزء كبير أو صغير.
ومن هنا كان
الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري الناشئ عن التقية خارجا عن محل البحث وغير
مقتض
عقلا للإجزاء إلا
مع قيام الدليل الخاص على ذلك كما هو كذلك في بعض الموارد.
ثم البحث بعد
تبلور محله يقع في مقامين كما ذكر صاحب الكفاية رحمهالله.
المقام
الاول : والبحث فيه
ثبوتي أي في المحتملات التي يمكن ان يكون واقع الامر الاضطراري مشتملا عليها وهي
أربعة :
المحتمل
الاول : ان يكون متعلّق
الامر الاضطراري واجدا لتمام ملاك متعلق الامر الواقعي.
المحتمل
الثاني : ان يكون واجدا
لجزء من ملاك الامر الواقعي مع افتراض تعذر استيفاء ما يفوت من الامر الواقعي.
المحتمل
الثالث : ان يكون واجدا
لجزء الملاك مع القدرة على استيفاء ما يفوت من الامر الواقعي إلا انّ الفائت ليست
بالمستوى الذي يستوجب لزوم استيفائه.
المحتمل
الرابع : ان يكون واجدا
لجزء الملاك مع افتراض القدرة على استيفاء ما يفوت ، ويكون الفائت بمستوى يلزم
استيفاؤه بواسطة الإعادة في الوقت أو القضاء خارج الوقت.
المقام
الثاني : والبحث فيه
إثباتي ، أي عما يقتضيه دليل الامر الاضطراري.
وقد ذهب صاحب
الكفاية رحمهالله الى دلالته على الإجزاء لاطلاق أدلته كقوله تعالى ( فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) ، ومع افتراض عدم تمامية الإطلاق فالمرجع هو الاصل ، وهو في المقام البراءة ،
لانّ الشك فيه شك في أصل التكليف أي شك في التكليف بالأداء أو القضاء وهو مجرى
لأصالة البراءة.
الجهة
الثانية : ما لو اتفق
زوال العذر والاضطرار بعد خروج الوقت ، وفي هذه الحالة ذهب المحقق
النائيني رحمهالله الى الإجزاء ، وذلك لانّ القيد المعتذر في ظرف الاضطرار واستيعاب العذر للوقت
يدور أمره ثبوتا بين أمرين لا ثالث لهما ، فإما ان يكون ذلك القيد دخيلا في اشتمال
المأمور به بالامر الواقعي على الملاك بحيث لو اتفق انتفاؤه لما كان المأمور به
واجدا للملاك من غير فرق بين ان يكون القيد مقدورا أو متعذرا ، وحينئذ لا معنى
للامر بالفاقد للقيد لانه غير واجد للمصلحة والملاك ، فالامر بالمأمور به
الاضطراري أمر بما لا ملاك ولا مصلحة في متعلقه.
واما ان يكون
القيد المتعذر في تمام الوقت غير دخيل في الملاك حال الاضطرار وإنّما هو دخيل في
ظرف القدرة ، وحينئذ يتعين الامر بالفاقد أي الامر الاضطراري ، وذلك لتوفره على
الملاك التام بعد تعذّر ذلك القيد ، وعندئذ يكون الامر بالقضاء بعد الإتيان
بالمأمور به بالامر الاضطراري في الوقت بلا معنى ، إذ انّ القضاء يكون لغرض تدارك
الملاك الفائت والمفترض ان المأمور به الاضطراري واجدا لتمام الملاك فلا مقتض
للقضاء أصلا.
وبهذا يثبت
الإجزاء في موارد الاتيان بالمأمور به بالامر الاضطراري إذا كان العذر مستوعبا
لتمام الوقت ، وذلك لأنّ الامر الاضطراري يكشف بواسطة القرينة العقلية المذكورة عن
عدم دخالة القيد المتعذر في ترتب الملاك وان المأمور به بالامر الاضطراري واجد
لتمام الملاك في المأمور به بالامر الواقعي.
المبحث
الثالث : في إجزاء
المأمور به بالأمر الظاهري عن الامر الواقعي ، والبحث عنه في موردين :
المورد
الاول : ما لو انكشف
بنحو الجزم عدم مطابقة الامر الظاهري للواقع.
المورد
الثاني : ما لو انكشف له
انّ
الامارة أو الاصل
المعتمد أولا كان معارضا بأمارة أو أصل يوجب سقوطهما عن الحجية أو انّ الامارة
معارضة بأمارة أقوى أو انّ تطبيقه للكبرى المسلمة كحجية الظهور لم يكن في محلّه.
أما المورد الاول
فلم يقع خلاف في عدم الإجزاء ، لانّ سقوط الأمر بناء على الطريقية بل والمصلحة
السلوكية لا يكون إلاّ بالإتيان بالمأمور به الواقعي أو قيام دليل على إجزاء غير
المأمور به عن المأمور به الواقعي أو قيام دليل على إجزاء غير المأمور به عن
المأمور به والمفترض عدم تحقق كلا الامرين.
وكذلك الحال في
الشبهات الموضوعية كما لو قامت البينة على طهارة ماء وانكشف له بعد ان توضأ به عدم
طهارته فإنّ هذا الوضوء لا يجزي عن الواقع ، وذلك لان الاحكام ثابتة لموضوعاتها
الواقعية.
إلاّ انّ هنا في
هذا المورد تفصيل ذهب اليه صاحب الكفاية ، وهو انّ الحكم الظاهري إذا كان مستندا
الى الامارة فالامر كما ذكروا وهو عدم الإجزاء ، وأما اذا كان مستنده الاصل العملي
فإنّ الصحيح هو الإجزاء ، وذلك لحكومة الاصول على الادلة الواقعية بمعنى ان الاصول
توسع من دائرة الشرط الواقعي ، فيكون ما جاء به الشاك اعتمادا على الاصل واجدا
للشرط الواقعي ، فالماء الذي اغتسل به اعتمادا على أصالة الطهارة أو استصحابها
طاهر واقعا ، غايته ان طهارته خاصة بالشاك ، وعليه تكون صلاته الواقعة بعد هذا الغسل
واجدة للطهارة الواقعية. وهذا هو مبرر الإجزاء عند ما يكون مستند الحكم الظاهري هو
الاصل العملي.
وأما المورد
الثاني فقد فصّل المشهور فيه بين الشبهات الحكمية والشبهات الموضوعية فذهبوا الى
الإجزاء في موارد
الشبهات الحكمية ، ومثاله لو كان المجتهد يبني على عدم شرطية الطهارة من الخبث في الطواف اعتمادا
على رواية معتبرة ثم انكشف له انّ لهذه الرواية معارض ، واتفق ان كان الترجيح مع
الرواية التي لم يكن مطلعا عليها والتي تقتضي شرطية الطهارة عن الخبث في الطواف ،
فمورد الشبهة في المثال هو شرطية الطهارة ومن هنا تكون الشبهة حكمية ولهذا يكون ما
جاء به من طواف مجزيا بنظر المشهور.
وأما في موارد
الشبهات الموضوعية فذهبوا الى عدم الإجزاء.
* * *
٩ ـ الإجماع
اختلفت الكلمات في
تحديد ضابطة الإجماع ، فمنهم من ذهب الى انّ الإجماع هو اتفاق المسلمين قاطبة ـ في
كل الأعصار والأمصار ـ على حكم من الاحكام الشرعية. ومنهم من زعم انّ الاجماع هو
اتفاق العلماء من المسلمين على حكم من الاحكام.
ومنهم من ضيق من
دائرة موضوع الإجماع فادّعى انّ الإجماع هو اتفاق أهل الحلّ والعقد وهناك من ذهب
الى انّ الإجماع هو اتفاق أهل عصر من الاعصار على رأي ، وهناك من ذهب الى غير ذلك.
والاختلاف في
ضابطة تحقق الاجماع نشأ عن الاختلاف فيما هو المدرك المعتمد لحجية الاجماع.
* * *
١٠ ـ الإجماع البسيط
وهو اتفاق آراء
العلماء على رأي بحيث تتم استفادة هذا الاتفاق بواسطة المدلول المطابقي لقول كل
واحد منهم ، ولا يختلف الحال في صدق الاجماع البسيط بين اتفاقهم على الإثبات أو
النفي.
وقد يصدق الإجماع
البسيط كما أفاد السيد الصدر رحمهالله في حالة يكون استفادة اتفاق العلماء على رأي بواسطة
المدلول الالتزامي ولكن بشرط إحراز انّ المدلول الالتزامي لم ينشأ عن تبني
المجمعين لآراء مختلفة لازمها ذلك المدلول الالتزامي ، بمعنى انّه قد يتفق اختلاف
الآراء في مسألة ويكون لازم جميع هذه الآراء واحدا ويقع هذا اللازم موقع التبني
ولا يكون منشؤه تبني الرأي الملزوم وانما يكون اللازم متبنى من الجميع بقطع النظر
عن ملزومه ، أي حتى لو اتفق التخلّي عن الملزوم فإنّ اللازم يبقى على حاله موردا
لاتفاق الآراء.
ويمكن التمثيل
للصورة الاولى باجماع العلماء على جواز رجوع العامي للمجتهد ، فإنّ هذا الإجماع تم
تحصيله بواسطة المدلولات المطابقية لكلمات الفقهاء.
كما يمكن التمثيل
للصورة الثانية باجماع العلماء على عدم حجية خبر الكذاب فإنّ تحصيله تم بواسطة
لوازم آراء العلماء في حجية خبر الواحد إذ منهم من ذهب الى حجية خبر الثقة فحسب
ومنهم من خص الحجية بخبر العدل وذهب آخرون الى الحجية لخبر الامامي الممدوح فإنّ
لازم تمام هذه الآراء هو عدم حجية خبر الكذاب ، هذا اللازم لم ينشأ عن تلازمه للمدلول
المطابقي لكل واحد من هذه الأقوال وانّما هو متبنى الجميع بقطع النظر عما هو الحجة
من الأخبار.
* * *
١١ ـ الإجماع التشرفي
وهو دعوى الإجماع
على حكم بملاك التشرّف برؤية الامام الحجة عجّل الله فرجه وسماع الحكم منه.
والتعبير عن مدرك
الحكم المتلقى عن الامام الحجّة عليهالسلام بالاجماع ينشأ عن خوف التصريح بالمدرك الحقيقي
للحكم ، إذ قد
يدعى منافاته للكتمان المفروض او استيجابه التكذيب المتعبد به ، كما هو المستفاد
من التوقيع الشريف الذي خرج على يد علي بن محمد السمري رحمهالله آخر سفراء الغيبة الصغرى.
وهذا النحو من
الإجماع لم يدعه أحد من العلماء ، وانما حدسه البعض حينما لم يجدوا لبعض دعاوى
الاجماع ما يعضدها. ومن هنا لا يكون هذا النحو من الاجماع من مدارك حجية الاجماع
المحصّل كما انه ليس من الإجماع المنقول ، إذ لا يعدو هذا الإجماع عن كونه تورية
اريد منها التفصّي عن التصريح بالمدرك الحقيقي للحكم.
* * *
١٢ ـ الإجماع الحدسي
واضافة الحدس الى
الإجماع يراد منها الإشارة الى ما هو مدرك الحجية للإجماع المحصّل.
والمدرك المشار
اليه هو ما يقال من ثبوت الملازمة العقلية بين اتفاق آراء العلماء على أمر وبين
قول المعصوم عليهالسلام ، ومن هنا كان الكاشف عن قول المعصوم عليهالسلام بناء على هذا المسلك هو العقل النظري ، إذ انّ إدراك الملازمة من شئون العقل
النظري كما هو واضح.
والتعبير عن هذا
المسلك بالإجماع الحدسي منشؤه انّ التعرّف على قول المعصوم عليهالسلام ينتج عن الحدس والنظر في كبرى الملازمة وصغراها ، إذ انّ الاستفادة من هذه
الملازمة لا يتم إلاّ بواسطة البحث عن ان مثل هذه الملازمة هل ينتج القطع بالملزوم
أولا ، وهذا معناه البحث عن انّ هذه الملازمة عقلية أو اتفاقيّة ، وهذا هو البحث
الكبروي ، ثم على فرض تمامية الكبرى لا بدّ من ملاحظة انّ مورد البحث من صغريات
هذه الكبرى
أولا ، وهذا هو
البحث الصغروي.
وكيف كان فقد
استدلّ على حجية الاجماع المحصّل ببيان حاصله : انّ اتفاق آراء الفقهاء يستوجب
الجزم بتطابق الرأي المتفق عليه مع قول المعصوم عليهالسلام ، وذلك بواسطة الملازمة العقلية والتي لا إشكال كبرويا في
إفادتها الجزم أو الاطمئنان بوجود الملزوم عند ثبوت اللازم بنحو البرهان الإنّي ،
وتقريب ذلك :
إنّ فتوى الفقيه
الواحد بمسألة ينشأ عنه الظن أو الاحتمال بمطابقة فتواه للواقع ، فإذا انضمّ الى
فتوى الفقيه الاول فتوى فقيه آخر فإنّ مستوى الظن بالمطابقة يتصاعد ومعه يتضاءل
احتمال المنافاة مع الواقع ، إذ انّ العلاقة بينهما طردية فكلما تصاعد مستوى الظن
بالمطابقة كلما تضاءل مستوى احتمال المخالفة ، وهكذا يتضاءل مستوى احتمال المخالفة
الى ان يصل لدرجة لا يحتفظ العقلاء بمثله ، أي انهم يتجاوزون هذا المستوى من الاحتمال
ولا يعتدون به ، وهذا ما ينتج الاطمئنان بالموافقة ، على انّه قد تتكثر الاقوال
المتطابقة لحد ينشأ عن هذا التكثر الجزم بتطابق قولهم مع الواقع ، وذلك بنفس
المسار الطردي المذكور ، هذا هو أحد التقريبات لمسلك الحدس ، ولا بأس بذكر تقريب
آخر :
وهذا التقريب
يرتكز على ثبوت الملازمة العادية بين اتفاق الآراء وبين قول المعصوم عليهالسلام ، إذ من البعيد جدا ان تتفق آراء العلماء على أمر ويكون رأي امامهم منافيا
لما اتفقوا عليه. وهذا نظير استكشاف رأي الرئيس بواسطة تباني أتباعه قاطبة
على ذلك الرأي.
* * *
١٣ ـ الإجماع الدخولي
ويراد من وصف
الإجماع بالدخولي الإشارة الى ما هو مدرك
الحجيّة للإجماع
المحصّل.
وحاصل هذا المدرك
هو انّه لما كانت حجية الإجماع منوطة ـ بنظر الامامية ـ بدخول المعصوم في ضمن
المجمعين بنحو من أنحاء الدخول فإنّ اتفاق الامة أو العلماء أو الطائفة على رأي لا
يتحقق إلا حينما يكون المعصوم عليهالسلام في ضمن المجمعين ، فهو فرد من الامة ومن العلماء ومن
الطائفة.
فمنشأ الحجية
للاجماع المحصّل هو دخول المعصوم عليهالسلام في إطار المجمعين وعليه فالاجماع الدخولي هو الاجماع الذي
يحرز معه وجدانا دخول المعصوم عليهالسلام في إطار المجمعين.
* * *
١٤ ـ الإجماع السكوتي
حينما يفتي جماعة
من الفقهاء بأمر فيطّلع سائر الفقهاء على تلك الفتوى فلا يعلّقون عليها بالنفي أو
الإيجاب فإنّ ذلك يعبّر عن قبولهم لمضمونها ، وهذا هو ما يسمّى بالإجماع السكوتي.
وذلك في مقابل
الإجماع القولي والذي يكون حينما يصرّح جميع الفقهاء بالتبنّي لفتوى في مسألة من
المسائل.
وبناء على ما
ذكرناه من إيضاح لمعنى الإجماع السكوتي يتبيّن أنّه لا يصحّ للباحث أن يدّعي ثبوته
إلاّ حينما يتمّ التحقّق من مجموعة أمور :
الأوّل : هو اطّلاع جميع الفقهاء على مضمون الفتوى الصادرة من بعضهم.
الثاني : مضي زمن يتمكّن معه بقيّة الفقهاء من البحث في مدارك
المسألة لغرض الوصول إلى النتيجة.
الثالث : عدم وجود ما يمنع من التصريح بخلاف ما أفتى به ذلك
البعض.
وحينئذ وحينما
يتمّ التحقّق من كلّ ذلك فإنّ للباحث عن الإجماع أن
يدّعي ثبوت
الإجماع السكوتي على مضمون الفتوى الصادرة من بعض الفقهاء. والإشكال الذي يمكن
إيراده على ذلك هو أنّه من المحتمل أن لا يرى بعض الفقهاء لازما للبحث عن حكم تلك
المسألة فحينئذ لا يكون له رأي فيها كما أنّ من المحتمل أن يكون له رأي مخالف
لمضمون تلك الفتوى إلاّ أنّه لا يرى ضرورة للتصريح به أو أنّه لا يرى من ثمرة
تقتضي التصريح به وحينئذ كيف يتمّ إحراز الإجماع بمجرّد السكوت.
هذا وقد نسب إلى
أكثر أتباع أبي حنيفة القول بحجيّة هذا النوع من الإجماع ونسب أيضا إلى أحمد بن
حنبل إمام الحنابلة وجماعة من الشافعيّة.
* * *
١٥ ـ الإجماع اللبي
حينما تتّفق كلمة
الفقهاء في مسألة على لفظ واحد فإنّ الإجماع في الفرض المذكور يعبّر عنه بالإجماع
اللفظي ، ومثاله ما لو قال الفقهاء إنّ الفقّاع حرام.
أمّا حينما
يعبّرون عن رأيهم المتّحد في مسألة بألفاظ مختلفة فإنّ الإجماع في هذا الفرض يعبّر
عنه بالإجماع اللبّي. ذلك لأنّ الاتّفاق بينهم إنّما هو في المضمون دون اللفظ.
وقد ذكروا أنّ
الثمرة المترتّبة على ذلك هي أنّ الإجماع لو كان من قبيل الإجماع اللفظي فإنّ من
الممكن التمسّك بإطلاقه أو عمومه وهكذا يمكن إجراء سائر الأصول اللفظيّة عليه من
قبيل أصالة الظهور وأصالة عدم النقل وأصالة الحقيقة وغيرها.
وأمّا لو كان
الإجماع من قبيل الإجماع اللبّي فإنّ من غير الممكن التمسّك بالأصول اللفظيّة في
مورده ، فليس للفقيه إلاّ أن يتمسّك بالقدر المتيقّن من معقد الإجماع.
مثلا لو أمكن
تحصيل الإجماع على نجاسة العصير العنبي إلاّ أنّ كلمات الفقهاء في التعبير عن ذلك
مختلفة فبعضها مثلا كان بهذا اللفظ : « العصير العنبي نجس » ، وبعضها كان بهذا
اللفظ : « العصير العنبي المغلي محكوم بالنجاسة » ، والبعض الآخر كان بهذا اللفظ :
« يلزم المكلّف تطهير الإناء الذي أصابه العصير العنبي والذي لم يذهب ثلثاه بالغليان
» وهكذا.
فهنا يكون
المتحصّل من مجموع هذه الكلمات هو نجاسة العصير العنبي إلاّ أنّه لو وقع الشكّ في
إطلاق النجاسة فإنّ من غير الممكن استظهاره ، ذلك لعدم اتّحاد كلمات الفقهاء لفظا
فهي وإن لم تكن متنافية إلاّ أنّها متفاوتة سعة وضيقا ، فلعلّ من أفاد المعنى
الضيّق لا يريد الإطلاق. من هنا لا يسع المحصّل للإجماع إلاّ التمسّك بالقدر
المتيقّن من مجموع الكلمات.
* * *
١٦ ـ الإجماع اللطفي
والمراد منه
الإشارة الى ما هو مدرك الإجماع المحصّل ، والمدرك المشار اليه هو قاعدة اللطف.
وهذا المبنى لا
يفترض دخول المعصوم عليهالسلام في إطار المجمعين ، وانّما يستكشف وبواسطة العقل العملي
قبول المعصوم لمعقد الإجماع ، فهذا هو ما يستوجب حجيته.
وهذا المبنى قد
تبنّاه جمع من الأعلام المتقدمين والمتأخرين وعلى رأسهم الشيخ الطوسي رحمهالله والمحقق الداماد رحمهالله وشريف العلماء رحمهالله وغيرهم.
وحاصل هذا المبنى
هو انّ اتفاق الطائفة على أمر لا يخلو حاله عن أحد احتمالين :
الاحتمال
الاول : ان يكون ما
اتفق عليه متطابقا مع الواقع وهذا يعني قبول الامام عليهالسلام لمورد الاتفاق.
الاحتمال
الثاني : ان يكون ما
اتفق متنافيا مع الواقع ، وهنا لا بدّ وان يتصدى المعصوم عليهالسلام لبيان الواقع أولا أقل يحدث ما يوجب نقض الاتفاق الواقع بينهم ، حتى لا
يستوجب اتفاقهم الاجماع على الباطل.
ومنشأ دعوى
اللابدّية هي قاعدة اللّطف المستفادة بواسطة العقل العملي ، والتي تعني انّ من حق
العبد على مولاه بمقتضى عدالته إرشاده الى ما هو مقرّب منه تعالى وعدم ايقاعه في
الضلال والغواية ولو باهمال هدايته ، فإنّ من المستقبح عقلا ترك الناس في ضلالتهم
وغوايتهم ، وهذا ما تنزّه عنه ساحة المولى جلّ وعلا.
ومن هنا وجب على
الله تعالى بعث الرسل وانزال الكتب ونصب الاولياء المرشدين وذلك لهداية الناس
وإيقافهم على جادة الحق ، وبهذا وجب على المعصوم عليهالسلام وبحكم وظيفته ان يردع الناس عن الباطل ، فمتى ما اتفقت
آراؤهم على باطل فإن مقتضى ما ذكرناه هو لزوم تنبيههم ومع عدم التنبيه يستكشف انّ
ما اتفقوا عليه موافق للحق وإلا لزم نفي العدالة عن الله جلّ وعلا ، وذلك إما
لانّه تعالى لم يجعل لهم مرشدا هاديا أو انّه جعل لهم مرشدا غير معصوم ، وكلاهما
منفيان بقاعدة اللطف والتي تستوجب ان يجعل الله تعالى للعباد علما هاديا معصوما لا
يتوانى ولا يتلكأ عن بيان الحق كما لا يخفى عليه ما هو الحق.
وبما بيناه يتضح
انّ قاعدة اللطف هي المنشأ لدعوى حجية الإجماع المحصّل عند أصحاب هذا المسلك ،
ويتضح أيضا انّ قاعدة اللطف ـ لو تمت ـ فهي من مدركات العقل العملي ، اذ انّها
تعبير آخر عما يدركه من استحقاق العبد للإرشاد والهداية وقبح ايقاعه في الضلالة
ولو باهمال هدايته.
* * *
١٧ ـ الإجماع المحصّل
وهو الإجماع
المحرز وجدانا والذي ينشأ عن تتبع الفقيه لآراء العلماء في مسألة من المسائل
والوقوف بعد ذلك على اتفاقهم عليها ، وهذا في مقابل الإجماع المنقول والذي لا يكون
فيه الإجماع محرزا بالوجدان وانما هو متلقى عن فقيه آخر كان قد حصّل الإجماع
بنفسه.
* * *
١٨ ـ الإجماع المدركي
وهو اجماع الفقهاء
على حكم مسألة مع احراز مدرك اجماعهم على حكم تلك المسألة ، ولا يختلف الحال بين
اتّفاقهم على مدرك واحد أو انّهم مختلفون فيما هو مدرك حكم المسألة مع اتّفاقهم في
النتيجة فإنّ الإجماع في كلا الصورتين يكون مدركيّا ، كما انّه لا فرق بين كون
المدرك من قبيل الأدلّة الاجتهاديّة أو الاصول العمليّة ، فالمناط في مدركيّة
الإجماع هو احراز ما هو منشأ اتّفاقهم في الفتوى.
وثمّة اجماع آخر
يعبّر عنه بالإجماع المحتمل للمدركيّة ، وهو ما لو كان لحكم المسألة المجمع عليه
مدرك تام أو غير تام يحتمل اعتماد المجمعين عليه أو اعتماد بعضهم عليه.
والإجماع المدركي
وكذلك محتمل المدركيّة ليسا من الإجماع الاصطلاحي ، إذ انّ الإجماع الاصطلاحي يكشف
بطريق الإن عن دخول المعصوم عليهالسلام في ضمن المجمعين أو يكون كاشفا عن وجود دليل معتبر ، وذلك
بواسطة الحدس أو قاعدة اللطف ، والإجماع المدركي لا يصلح لذلك بعد أن كان مدركه
محرزا ، وهكذا لو كان محتملا للمدركيّة فإنّ إحراز اعتمادهم على دليل معتبر لم يصل
لا يكون ميسورا في هذا الفرض.
١٩ ـ الإجماع المركّب
وهو اتفاق آراء
العلماء على رأي بحيث يكون الاتفاق مستفادا من المدلول الالتزامي للآراء المختلفة
لهؤلاء العلماء على ان يكون هذا اللازم ناشئا عن تبني كل واحد لرأيه ، بمعنى انّه
لو لم يكن كل واحد متبنيا للرأي المعين لكان من الممكن ان لا يبني على اللازم.
ويمكن التمثيل
للإجماع المركب بالاجماع على لازم الاختلاف الواقع في ما هو حكم صلاة الجمعة ، فإن
البعض ذهب الى وجوبها وذهب البعض الآخر الى حرمتها في عصر الغيبة ، وذهب آخرون الى
استحبابها ومجموع هذه الآراء متفقة على عدم كراهة صلاة الجمعة بالكراهة المصطلحة ،
إذ انّ ذلك هو لازم القول بالوجوب او الحرمة أو الاستحباب ، وذلك لما ثبت في محلّه
من تضاد الاحكام فيما بينها ، وحينئذ فلو كان منشأ الاتفاق على هذا اللازم هو تبني
كل واحد من العلماء لما ينافيه فهذا من الإجماع المركب وإلا فلو كان المنشأ من
تبنّي عدم الكراهة هو دليل خاص ثابت بقطع النظر عن تبنّي الملزوم فإنّ هذا الاتفاق
على اللازم يكون من الإجماع البسيط.
* * *
٢٠ ـ الاجماع المنقول
وهو الإجماع الذي
يتمّ احرازه بواسطة نقل المحصّل للإجماع ، وهذا النقل قد يكون متواترا وقد لا يكون
كذلك والثاني هو المعبّر عنه بالإجماع المنقول بخبر الواحد.
ومن هنا تكون
حجيته منوطة بثبوت الحجية لخبر الواحد أولا وبأنّ الحجية الثابتة لخبر الواحد لا
تختص بالخبر الحسّي بل تشمل الخبر الحدسي.
ولا ريب في ثبوت
الأمر الاول إلا انّ الأمر الثاني غير مسلّم عند المشهور ، ومن هنا لا يكون
الاجماع المنقول مشمولا لأدلة الحجية لخبر الواحد باعتباره من الإخبارات الحدسية
من جهة نقل الإجماع للمسبب والذي هو قول المعصوم عليهالسلام ، نعم هو مشمول لأدلة الحجية من جهة نقله للسبب إذ انّه
إخبار عن حس.
وبيان ذلك : إنّ
نقل الاجماع على حكم يعني الإخبار عن أمرين : الاول هو الإخبار عن وجود اجماع بين
العلماء على الحكم وهذا هو المدلول المطابقي لنقل الإجماع ، وهو المعبّر عنه بنقل
السبب أو نقل الكاشف ، وذلك لانّ إحراز وجود الإجماع يكون سببا للكشف عن قول
المعصوم عليهالسلام. فالإجماع هو الكاشف فيكون نقل الإجماع معناه الإخبار عن
وجود الكاشف وعن وجود السبب ، وواضح أنّ الإخبار عن ذلك يكون إخبارا عن حس.
وأما الامر الثاني
فهو قول المعصوم عليهالسلام ويعبر عنه بالمسبب والمنكشف ، وذلك لأنّ إحرازه مسبب عن
وجود الاجماع ، للملازمة المدعاة بين الاجماع وبين قول المعصوم عليهالسلام ، وحينئذ يكون نقل الإجماع نقلا للمسبب كما هو نقل للسبب ، إلا انّ ناقل
الاجماع يخبر عن المسبب بواسطة الحدس لا بواسطة الحس كما هو الحال في نقله للسبب ،
إذ انّ إحراز المسبب بالنسبة لناقل الإجماع انما تم بواسطة إيمانه بالملازمة
العقلية أو العادية أو قاعدة اللطف ، وكلها امور حدسية نظرية.
وباتضاح ذلك يتضح
انّ نقل الإجماع للمسبب لا يكون مشمولا لأدلة الحجية لخبر الواحد ، وذلك لأنّه
إخبار عن حدس ، وأما نقل الإجماع للسبب فلا مانع من شمول أدلة الحجية له بعد ان
كان الإخبار عنه إخبارا عن حس إلا انّه مع ذلك
يواجه مشكلة اخرى
، وهي دعوى انّ الحجية الثابتة لخبر الثقة منوطة بترتب الأثر الشرعي على الخبر ،
وترتّب الاثر الشرعي على النقل الكاشف منوط بثبوت مؤداه الثاني والذي هو قول
المعصوم المعبّر عنه بالمسبب ، وقد قلنا انّ هذا المؤدى لم يخبر عنه ناقل الإجماع
عن حس وانّما استفاد قول المعصوم عليهالسلام ـ بعد تحصيل الاجماع ـ من أحد الوجوه الحدسيّة كقاعدة
اللطف أو الملازمة العقلية أو العادية.
ومن هنا لا بدّ
للتفصّي عن هذا الإشكال من ان تكون الملازمة مثلا ثابتة للمنقول له في مرتبة سابقة
حتى يكون نقل الكاشف وهو الاجماع ملازما لنقل المنكشف ، فيكون لإخبار ناقل الإجماع
أثر شرعي بواسطة لازمه ، أي انّ المدلول المطابقي للخبر الحسي ليس له أثر شرعي إلا
انّه لمّا كان لمدلول الخبر الالتزامي أثر شرعي فإنّ ذلك يصحّح ثبوت الحجية له ـ اي
للخبر الحسّي وهو نقل الاجماع ـ لانّه سيصبح بواسطة لازمة واجدا للأثر الشرعي ،
وبذلك نتفصّى عن الإشكال المذكور.
إلاّ انّه بذلك لا
يكون المؤدى الثاني لنقل الإجماع حجة من جهة إخبار الناقل له وانّما هو من جهة
ثبوته للمنقول له باعتباره مؤمنا بالملازمة ، وكلّ ما استفاده المنقول له من ناقل
الاجماع هو ثبوت الإجماع واقعا والذي هو إخبار من الناقل عن حس ، ففي الواقع يكون
نقل الإجماع منقّحا لموضوع الملازمة الثابتة عند المنقول له.
* * *
٢١ ـ الإجمال
وهو اشتباه المعنى
وعدم وضوحه ، وذلك في مقابل البيان والذي وضوح المعنى وجلائه. ووصف الإجمال قد
يعرض المفردات
اللفظية وقد يعرض الهيئات التركيبية كما قد يعرض المعنى والمفهوم.
والمقصود من عروضه
للمفردات اللفظية هو خفاء معناها وعدم وضوحه ، فالإجمال واقعا وصف للمعنى غايته
انّه نشأ عن اللفظ فمعنى اللفظ هو المجمل وإلا فاللفظ من حين مادته وهيئته ليس فيه
إجمال ، وهكذا الكلام في إجمال الهيئات التركيبية ، وليس مرادنا من إجمال معانيها
هو عدم وضوحها في نفسها بل مقصودنا الاجمال من حيث عدم معرفة أيّ المعاني الذي
تكشف عنه هذه الالفاظ أو الهيئات. راجع إجمال النص.
وأما المقصود من
الإجمال الذي يعرض المعنى والمفهوم ابتداء فهو انّ المعنى قد يكون مجملا في نفسه
وبقطع النظر عن الفاظه ، إذ قد لا يكون له لفظ كما في بعض الحركات والمواقف التي
تصدر عن العاقل ولا ينفهم منها معنى محصل ، وكذلك بعض المطالب الغامضة التي لا
يكون منشأ غموضها التعقيد اللفظي بل منشؤها مثلا ضعف العقل البشري عن إدراكها ،
كمفهوم الروح.
* * *
٢٢ ـ اجمال المخصّص
اللبّي
والمراد من
المخصّص اللبّي هو ما يوجب خروج بعض أفراد العام عن حكم العام ولكن بواسطة غير
لفظية ، كأن يتم التخصيص بواسطة الإجماع أو السيرة أو الدليل العقلي أو القرنية
الحالية. وهذا النحو من التخصيص تارة يكون بمثابة التخصيص بالمتصل واخرى يكون
بمثابة التخصيص بالمنفصل.
أما الاول : فهو
ما لو كان المخصّص اللبّي من الوضوح بحيث يمكن للمتكلم ان يعتمد عليه في تفهيم
مراده الجدّي من العموم وانّه غير مريد
لإدخال بعض أفراد
العام تحت حكم العام.
ومثاله ما لو قال
السيّد المتديّن لعبده « اسقني من ايّ شراب » فإنّ من المقطوع به عدم إرادة الخمر
من العموم ، فالخمر خارج عن حكم العام تخصيصا. وهذا المخصص لبّي لاستفادته من غير
لفظ ، وهو بمثابة المخصّص المتصل لوضوحه ، ولذلك صحّ للسيّد الاتّكال على هذا
الوضوح وعدم تكلّف التلفّظ بالمخصّص.
وأما
الثاني : والذي هو
بمثابة المخصّص المنفصل ، فهو ما يحتاج الى التأمّل والرجوع الى بعض القرائن ،
وليس من الوضوح بحيث لا ينعقد معه ظهور في العموم كما هو في الفرض الاول.
ومثاله ما لو قال
المولى : « انّ كل طواف فهو مشروط بالطهارة » ، ثم بعد ملاحظة الأدلة اتّضح وجود
اجماع على عدم اشتراط الطهارة في الطواف المستحب ، فإنّ هذا النحو من الاجماعات
يكون بمثابة المخصّص المنفصل ، لوضوح انّه لا يؤثر على انعقاد الظهور في العموم ،
إمّا لأنّه متأخر عن زمن الخطاب بالعموم ـ طبعا هذا بخلاف الدليل العقلي القطعي
فإنه لا يعقل تاخره عن الخطاب ـ أو لأنّ صلاحيته للتخصيص تتم بعد الملاحظة
والمتابعة وانّه ليس من قبيل الإجماعات المدركيّة ، وعندها لا يظلّ الخطاب معلّقا
على نتيجة التتبع ، إذ انّ انعقاد الظهور في العموم والإطلاق لا يتأثر باحتمال
المخصّص كما عليه أهل التحقيق.
ومع اتّضاح المراد
من المخصّص اللبّي وانّه ينقسم الى ما يشبه المخصص المتصل والى ما يشبه المخصّص
المنفصل نقول انّ الإجمال في مورد المخصّص اللبّي قد يكون مصداقيا كما هو العادة
وقد يكون مفهوميا ، وان كلا منهما تارة يكون بنحو التردد بين
المتباينين وتارة
يكون بنحو التردد بين الاقل والاكثر ، على غرار ما ذكرناه في اجمال المخصّص اللفظي
، فراجع.
نعم قد يقال انّ
الإجمال في المخصّص اللبّي من جهة المفهوم غير معقول ، وذلك لانّ المخصص اللبّي من
قبيل ما يدركه العقل ، ولا يتعقل الإجمال فيما يدركه العقل ، إذ انّ موضوع الحكم
العقلي دائما يكون محدّد المعالم ، ، فلا يحكم العقل على ما هو مبهم.
ولعلّ هذا هو منشأ
تركّز البحث عن إجمال المخصّص اللبّي من جهة المصداق.
والظاهر انّ الامر
ليس كذلك فإنّ الاجمال من جهة المفهوم في المخصص اللبي معقول في بعض المخصّصات
اللبيّة ، ومثاله قيام الاجماع على حجية خبر الواحد بنحو يكون معقد الاجماع
المنقول هو حجية خبر الواحد ، فإنّ هذا الإجماع مخصص للأدلة النافية لحجية العمل
بالظن إلاّ انّه قد يدعى إجمال هذا المخصص مفهوما ، إذ انّ خبر الواحد في عرف أهل
الحديث يحتمل معنيين ، الاول هو مطلق الخبر غير البالغ حد التواتر ، وهذا المعنى
يقتضي السعة والشمول للخبر الذي ليس له إلاّ طريق واحد ، والاحتمال الثاني انّ الخبر
الواحد هو الخبر المستفيض فحسب ، ولو كان هذا المعنى هو المراد من خبر الواحد فهو
يقتضي الضيق ، وعندها يتردد مفهوم خبر الواحد بين الاقل والاكثر.
هذا هو تصوير
الإجمال المفهومي بين الاقل والاكثر في المخصّص اللبّي ، نعم قد يدعى انّ الإجماع
لمّا كان دليلا لبيا فيتمسك بالقدر المتيقن منه.
أقول : انّ هذا
الكلام وان كان تاما إلا انّه لا يلغي امكان تصوير الإجمال المفهومي في المخصص
اللبّي وان كان سيترتب على ذلك سقوط الثمرة من التقسيم.
وأما تصوير
الاجمال في المخصّص اللبّي من جهة التردد بين متباينين فمثاله ما لو ورد عام مفاده
حرمة إطعام كل كافر ، ونقل لنا قيام الإجماع على جواز اطعام المولى وإن كان كافرا
وكان هذا هو لسان الإجماع المنقول ، ولم يتضح لنا المراد من عنوان المولى وهل هو
العبد او هو السيّد ، وواضح انّ هذا الإجمال مفهومي وانّ التردد فيه بين متباينين
، كما انّ التمسّك بالقدر المتيقن من المخصّص في الفرض المذكور غير ممكن بعد ان
كان التردّد بين مفهومين متباينين ، وعندئذ يقع البحث عن سريان الاجمال للعام أو
عدم سريانه.
وبتعبير آخر يقع
البحث عن إمكان التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية إذا كان المخصص لبيّا.
وللتعرّف على هذا البحث يراجع عنوان التمسّك بالعام في الشبهات المفهومية.
* * *
٢٣ ـ إجمال المخصّص
اللفظي
المراد من المخصّص
اللفظي هو القرينة اللفظية الموجبة لخروج بعض أفراد العام عن حكم العام ، ولو لا
تلك القرينة لكانت تلك الافراد مشمولة لحكم العام.
مثلا لو قال المولى
: « أكرم كل العلماء إلا الفساق منهم » ، فإن قوله « إلا الفساق منهم » هو المخصّص
أي هو القرينة الموجبة لخروج فساق العلماء عن حكم العام وهو وجوب الإكرام ، ولو لا
هذا المخصّص لكان فساق العلماء مشمولين لوجوب الإكرام والذي هو حكم العام.
والمراد من إجمال
المخصّص هو ان تكون تلك القرينة مشتبهة المعنى. ثم انّ المخصّص تارة يكون متصلا
واخرى يكون منفصلا ، والاتصال يعني انّ القرينة الموجبة للتخصيص وردت في نفس
الخطاب الدال على
العموم والانفصال
يعني انّ القرينة وردت في خطاب منفصل عن الخطاب الدال على العموم.
والإجمال في
المخصّص تارة يكون من جهة المفهوم واخرى يكون من جهة المصداق ، وكل منهما ينقسم
الى قسمين ، فالاجمال المفهومي تارة يكون بين الأقل والأكثر وتارة يكون بين
المتباينين ، وكذلك الإجمال المصداقي ، فحاصل أقسام الإجمال في المخصّص اللفظي
ثمانية :
ونبدأ بالإجمال
المفهومي :
والمراد منه هو
انّ المعنى والمفهوم من المخصّص غير واضح او قل غير منضبط ولا محدّد المعالم ، وهو
على قسمين فتارة يكون الغموض والاشتباه مقتضيا للترديد بين معنيين متباينين ،
وتارة يكون مقتضيا للتردد بين معنيين أحدهما أعم مطلقا من الآخر أي أحدها أوسع دائرة
من الآخر.
أما الاول : وهو
التردد بين مفهومين متباينين ، فمثاله ما لو ورد « لا تطعم أحد الا الموالي » ولم
ينفهم المراد من مفهوم الموالي ، إذ انّه يحتمل معنيين ، فلعلّ مراد المتكلم من
الموالي العبيد ولعل مراده السادة فالمفهومان متباينان.
واما الثاني : وهو
التردّد بين مفهومين أحدهما أعم مطلقا من الآخر ، فمثاله ما لو قال المولى « لا
تتزوج من الكافرة إلاّ الكتابية » وكان مفهوم الكتابية مجملا ومرددا بين اختصاصه
بمعتنق الديانتين « اليهودية والنصرانية » وبين شموله لديانة ثالثة هي « المجوسية
» فالثاني أعم مطلقا من الاول ، فالمرأة اليهودية والنصرانية على كلا الاحتمالين
كتابية وانما التردد في المرأة المجوسية من حيث شمول عنوان الكتابية لها فتكون
داخلة في عنوان المخصص أو عدم شموله لها فتكون تحت عنوان العام.
وباتّضاح هذين
القسمين يتضح انّ الإجمال المفهومي في المخصّص على أربعة أقسام ، وذلك لأنّ
المخصّص المجمل مفهوما تارة يكون متصلا واخرى يكون منفصلا.
وأمّا
الإجمال المصداقي في المخصّص : فهو الشك والتردّد الناشئ عن غير المفهوم ، بأن يكون المفهوم من المخصّص
واضحا وبينا ، وانّما الشك في موضوعية ومصداقية بعض الافراد لعنوان المخصص نتيجة
اشتباه الامور الخارجية ، وهذا النحو من الإجمال على نحوين أيضا ، فتارة يكون
التردد بين متباينين واخرى يكون بين الأقل والأكثر.
أما الاول :
فمثاله ما لو قال المولى : « تصدّق على الفقراء إلا الهاشميين »
، وكان مفهوم الهاشمي واضحا ومحددا إلا انه وقع الشك في « زيد وخالد » الفقيرين
فأحدهما غير المعين هاشمي قطعا.
وأما الثاني :
فمثاله عين المثال الاول إلا انّ الشك وقع في « زيد » وهل هو مصداق لعنوان الهاشمي
أولا؟
فهنا التردد بين
الاقل والأكثر حيث نحرز انّ ثلاثة من الفقراء هاشميون إلا انّ الشك في انّهم أربعة
بإضافة « زيد » أو ثلاثة وانّ زيدا ليس منهم.
ثم انّ كل واحد من
هذين القسمين ينقسم الى مخصّص متصل وآخر منفصل ، فحاصل أقسام الإجمال المصداقي في
المخصص أربعة.
وأما جواز التمسّك
بالعام في موارد إجمال المخصص فسيتضح تحت عنوان التمسّك بالعام في الشبهات والتمسّك
بالعام في الشبهات المصداقية.
* * *
٢٤ ـ إجمال النص
والمراد من اجمال
النص هو الغموض الذي يكتنف النص إما من
جهة مدلوله
التصوري أو من جهة مدلوله الاستعمالي دون التصوري أو من جهة مدلوله الجدّي دون
الاستعمالي.
أمّا الإجمال من
جهة المدلول التصوري فهو الإجمال الناشئ عن الجهل بالوضع اللغوي للفظ ، وعندها لا
ينقدح أيّ معنى في الذهن من اطلاق اللفظ.
ومن هنا ادعى صاحب
الكفاية رحمهالله انّ الإجمال من المفاهيم الإضافية باعتبار انّ اللفظ قد
يكون مجملا عند شخص لجهله بوضعه اللغوي ويكون بيّنا عند آخر لعلمه بالوضع اللغوي ،
إلا انّ السيد الخوئي رحمهالله لم يقبل دعوى انّ الإجمال من المفاهيم الاضافية ، ونقض على
الشيخ الآخوند رحمهالله بانّه لو كان كذلك لكانت تمام الالفاظ العربية مجملة عند
غير العرب باعتبار جهلهم بأوضاعها اللغوية.
فالصحيح انّ
الإجمال من المفاهيم الواقعية والذي لا يختلف الحال فيه من شخص لآخر بل ان للإجمال
معنى منضبطا ومطردا في تمام الحالات والموارد ، فكلّ لفظ بحسب المتفاهم العرفي
مشتبه المعنى فهو مجمل وإلاّ فهو مبيّن ، وليس ثمة حالة يكون فيها اللفظ مجملا
بالاضافة لشخص وبينا بالاضافة لشخص آخر ، ويمكن التنظير لذلك بوصف العالم ، فالشخص
إمّا أن يكون عالما أو لا يكون عالما ، وصحة اتصافه بالعالمية لا يرتبط بمعرفة
الآخرين حتى يكون وصف العالمية لزيد وصفا اضافيا فهو عالم بالاضافة لعمرو باعتبار
معرفته بعلمه وغير عالم بالاضافة لخالد باعتبار جهله بعالميته ، بل انّ كلّ من هو واجد
للعلم فهو عالم بقطع النظر عن معرفة الآخرين لواجديته للعلم أو عدم واجديته.
وهكذا الكلام في
الاجمال ، فكلّ لفظ مشبه المعنى بحسب الموازين
المقررة عند أهل
المحاورة فهو مجمل وإلاّ فهو مبيّن ، غايته انه قد يقع الخلاف في بعض الموارد وانّ
هذا المورد من قبيل المجمل أو المبيّن ، وهذا الخلاف في الواقع يرجع الى مقام
الاثبات أي مقام تطبيق ضابطة المجمل على موارده ، وهذا بنفسه يكشف عن انّ للإجمال
معنى متقررا في مرحلة سابقة ، والنزاع انّما هو في انّ الضابطة منطبقة على المورد
أولا.
وبهذا البيان اتضح
انّ الإجمال لا يتعقل في المدلول التصوري بحسب ما يستفاد من نظر السيد الخوئي رحمهالله.
ومن هنا فالإجمال
في النص منقسم الى قسمين :
القسم
الاول : هو الاجمال
الواقع في مرحلة المدلول الاستعمالي ، والمراد من المدلول الاستعمالي هو ما يظهر
من حال المتكلم انّه أراد من استعمال هذه الالفاظ اخطار معان معينة ، فالظهور
الاستعمالي ظهور حالي سياقي يكشف عن إرادة المتكلم لإخطار معان معينة من الفاظها
إلاّ انّه لا يكشف عن إرادته الجدية للمعاني المنكشفة ، إذ انّ الظهور الاستعمالي
يجامع الهزل والتقية والإيهام على المخاطب.
وعلى أيّ حال
فالإجمال في مرحلة المدلول الاستعمالي معناه عدم وضوح هذا المقدار من الدلالة ،
بمعنى انّ المخاطب يجهل أيّ المعاني التي أراد المتكلم اخطارها من كلامه ، وهذا
النحو من الإجمال عبّر عنه السيد الخوئي رحمهالله بالإجمال الحقيقي وقال : انّه على نحوين :
الاول
: الإجمال بالذات : وهو الإجمال الذي ينشأ
عن نفس اللفظ أو الهيئة التركيبية اللفظية ، ومثاله استعمال اللفظ المشترك دون
قرينة.
الثاني
: الإجمال بالعرض : وهو الذي ينشأ عن احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ولو لا احتفافه بذلك
لكان ظاهرا في مدلوله الاستعمالي.
والمراد من احتفاف
الكلام بما يصلح للقرينية هو عدم الجزم بالقرينة وعدم الجزم بعدم القرينية.
وبتعبير آخر :
انّه قد يكتنف الكلام لفظ يوجب التشويش على المراد الاستعمالي ، وقد يلقى الكلام
في جو يستوجب التعمية على المراد ، فلا هو قرينة صريحة فتستوجب صرف الظهور الأولي
الى ظهور يتناسب مع القرينة كما لا يمكن اهماله باعتبار صلاحيته لأن يعتنى به بنظر
أهل المحاورة ، وعندها لا يستقرّ المخاطب على معنى ثابت من كلام المتكلم بل يظلّ
محتملا لأكثر من معنى ، ويمكن التمثيل لذلك بورود الأمر عقيب الخطر ، فإنّ الأمر
لو خلّي ونفسه لكان ظاهرا في الوجوب إلاّ انّ وروده بعد الحظر يستوجب اجمال المراد
من الأمر.
القسم
الثاني : الإجمال في
مرحلة المدلول الجدّي ، وهذا النحو من الإجمال يجامع الظهور في الدلالة
الاستعمالية ، فقد يظهر من حال المتكلم انّه مريد لإخطار المعنى من كلامه إلاّ انّ
مراده الجدّي مجمل.
والمقصود من
الإرادة الجديّة هي ان يظهر من حال المتكلم انّه جاد في الحكاية عن الواقع من
كلامه ، كأن يظهر من حال الامام عليهالسلام انّه متصد لبيان الحكم الواقعي وانّ كلامه لم يكن عن تقية
مثلا.
ومثال الإجمال في
مرحلة المدلول الجدّي ان يرد عن المتكلم كلام ظاهر في العموم ، ثم يرد عنه كلام
آخر يستوجب تخصيص العموم به إلاّ انّ هذا المخصّص كان مجملا ، فإنّ هذا الإجمال
يسري من المخصّص الى العموم في بعض الموارد ، فالإجمال في العموم ليس حقيقيا ،
لأنّه لم ينشأ عن نفس الكلام الاول بل انّ الكلام الاول كان ظاهرا في العموم ، غايته
انّ الإجمال قد طرأ عليه بسبب إجمال
المخصّص المنفصل
وإلا فهو ظاهر في انّ المتكلم أراد اخطار العموم من كلامه ، أي انّ المدلول
الاستعمالي لا إجمال فيه ، نعم بسبب اجمال المخصّص وقع التردد من جهة انّ المتكلم
هل أراد من كلامه الاول العموم واقعا أولا.
ومثال ذلك ما لو
قال المولى « أكرم كلّ العلماء » ثم قال في خطاب آخر « لا تكرم زيدا العالم » ،
وزيد العالم مردد بين شخصين ولا ندري أيهما أراده المولى ، فعندئذ لا يمكن التمسّك
بالعموم لإثبات وجوب الإكرام لزيد الاول أو لزيد الثاني ، إذ انّ التردد فيمن هو
المراد من المخصّص أوجب التردد فيمن هو المشمول للعموم واقعا ، فواحد منهما قطعا
خارج عن العموم إلا انه غير متشخص بسبب اجمال المخصص. وهذا ما أوجب عدم التعرّف
على من هو الباقي تحت العموم منهما ، وهذا هو معنى سريان الإجمال في المخصص
للعموم.
ولاحظتم انّ
الإجمال الذي عرض العموم انما هو في مرحلة المدلول الجدّي وإلا فالظهور الاستعمالي
في العموم لم يتأثر باجمال المخصّص.
وهذا النحو من
الإجمال عبّر عنه السيد الخوئي رحمهالله بالإجمال الحكمي ، بمعنى انّه في حكم المجمل وإلا فهو ظاهر
في نفسه ، واجمال المخصّص لم يسلب عنه الظهور الاستعمالي ، نعم أوجب التشويش على
ما هو المراد الجدّي من العموم.
* * *
٢٥ ـ احترازية القيود
المراد من القيود
عادة هو كلّ ما يوجب التضييق في دائرة موضوع الحكم أو متعلّقه ، ولهذا فهي تشمل
النعت والحال والتمييز والإضافة والشرط والغاية وهكذا.
والمراد من
الاحترازية هو المانعية عن شمول الحكم للموضوع الفاقد
للقيود عند أخذها
فيه ، بحيث يكون موضوع الحكم روحا هو المتحيّث بتلك القيود المأخوذة فيه.
وبتعبير آخر : إنّ
الاحترازية تقتضي دخالة القيود في ترتّب الحكم على الموضوع بحيث يكون شخص الحكم
منتفيا عند انتفائها ، وهي في مقابل المثالية أو التوضيح مثلا ، إذ ان القيود
المذكورة لغرض التمثيل تقتضي عدم اختصاص الحكم بمورد المثال.
مثلا لو قال
المولى : « أكرم الفقير العادل » واستظهرنا انّ العدالة مذكورة لغرض التمثيل أو
لغرض بيان الفرد الاكمل من الموضوع ، فعندئذ يكون موضوع الحكم هو مطلق الفقير ،
وليس للعدالة دخل في ترتّب وجوب الإكرام على الفقير. أما لو استظهرنا الاحترازية
فهذا يقتضي عدم وجوب اكرام الفقير إذ لم يكن متصفا بالعدالة.
ومع اتضاح المراد
من عنوان احترازية القيود يقع البحث عن انّ القيود المأخوذة في مرحلة المدلول
التصوري الوضعي هل هي مرادة في مرحلة المدلول الجدّي أولا؟
فإن كان الجواب
بالإيجاب فهذا يعني انّ القيود تقتضي الاحترازية وإلا فلا.
والصحيح كما هو
مقتضى الظهور العرفي انّ القيود المذكورة في كلام المتكلم يراد بها الاحتراز عن كل
حالة لا تكون معها القيود متوفرة ، أي انّ الأصل في القيود الاحترازية ، وهو أصل
عقلائي منشؤه هو انّ المستظهر من حال كل متكلم انّ ما يخطره من معان بواسطة
ألفاظها تكون مرادة بالإرادة الجديّة ، وهذا هو المعبّر عنه بأصالة التطابق بين
المدلول التصوري ـ المفاد بواسطة الألفاظ ـ والمدلول الجدّي.
وبهذا يتضح انّ قاعدة
احترازية القيود نحو من الدلالة الحالية السياقية
المطردة يتعاطاها
العقلاء لغرض بيان حدود مقاصدهم ، وينتج عن هذه القاعدة انتفاء الحكم بانتفاء
القيود المأخوذة في موضوعه ، كما ينتج عنها عدم سقوط الحكم في حالات عدم توفّر
المتعلّق المأتي به على القيود المأخوذة فيه ، كما لو كان متعلّق الحكم هو الصلاة
عن طهارة وجاء المكلف بصلاة فاقدة للطهارة ، فإن الحكم بالوجوب مثلا لا يسقط بتلك الصلاة الفاقدة للطهارة.
وهنا لا بدّ من
التنبيه على أمر وهو انّ الذي تنفيه قاعدة احترازية القيود ـ عند انتفاء القيود عن
موضوع الحكم ـ انّما هو شخص الحكم لا طبيعيّة فهي لا تمنع عن ثبوت مثل الحكم
للموضوع الفاقد أو المتقيد بقيد آخر.
كما انّه لا بدّ
من الالتفات الى انّ هذه القاعدة أو هذا الأصل انّما يجري في موارد الشك فيما هو
المراد الجدّي من ذكر القيود ، وهل المراد منها تضييق من دائرة الموضوع أو انّ
المراد منها التمثيل والتوضيح او بيان الفرد الاكمل ، وعندها يصح التمسّك بأصالة
الاحترازية في القيود ، أما لو دلّت القرينة على إرادة المثالية من القيد فإنّ
القاعدة لا تجري بل المتبع حينئذ هو ما تقتضيه القرينة.
ومنشأ ذلك هو انّ
العقلاء عند ما يشكون فيما هو المراد الجدّي للمتكلم فإنّهم يستظهرون جريانه وفق
الطريقة المتعارفة والتي تقتضي التطابق بين الدلالة التصورية والإرادة الجديّة ،
ولمّا كان المدلول التصوري من ذكر القيود هو تضييق دائرة الموضوع المتقيّد بتلك
القيود المذكورة فكذلك المدلول الجدّي ، أما مع إحراز انّ المتكلم لم يرد جدّا من
ذكر القيود تضييق دائرة الموضوع فإنه لا مجال للتمسّك بالقاعدة.
* * *
٢٦ ـ الاحتمال والمحتمل
المراد من
الاحتمال في عرف المناطقة هو ما يقابل الظنّ والشكّ ، إلاّ أنّه في عرف الأصوليّين
قد يطلق فيما يقابل اليقين والاطمئنان فيكون الظنّ والشكّ داخلين تحت عنوان
الاحتمال.
وفي كلا
الاستعمالين يحتفظ عنوان الاحتمال بخصوصيّة مشتركة بينهما وهي القبول بإمكانيّة أن
لا يكون متعلّق الاحتمال مطابقا للواقع.
وببيان آخر :
إذا توجّهت النفس
إلى نسبة بين شيئين كانتساب الموت لزيد فإمّا أن يحصل القطع أو الاطمئنان بثبوت
نسبة الموت لزيد أو بانتفاء النسبة ، وهذا الفرض خارج عن معنى الاحتمال في استعمال
المناطقة والأصوليّين.
وإمّا أن لا يحصل
القطع والاطمئنان بثبوت النسبة أو انتفائها ، وهنا إمّا أن لا يترجّح في النفس كلا
الأمرين النسبة وعدمها ، وهذا ما يعبّر عنه بالشكّ ، وإمّا أن يترجّح في النفس
ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها ، وهذا ما يعبّر عنه بالظنّ ، فإذا كانت النسبة هي
المترجّحة فالظنّ في جانبها ، ويكون الاحتمال في جانب عدم ثبوت النسبة ، أي يكون
الاحتمال في جانب المرجوح في النفس من الأمرين.
وإذا كان عدم ثبوت
النسبة هو المترجّح في النفس فالظنّ في جانبه ويكون الاحتمال في جانب ثبوت النسبة.
والفرض الثاني ـ وهو
عدم القطع أو الاطمئنان بثبوت النسبة أو عدم ثبوتها ـ بجميع صوره هو المراد من
عنوان الاحتمال في عرف الأصوليّين ، غايته أنّ الاحتمال قد يكون قويّا فيكون بمرتبة
الظنّ ، وقد يكون ضعيفا فيكون بمرتبة الاحتمال في استعمال المناطقة ، وقد لا
يترجّح في النفس
أحد الأمرين أي
ثبوت النسبة وعدم ثبوتها فيكون الاحتمال بمرتبة الشكّ.
وبذلك يتّضح أنّ
كلّ واحد من صور الفرض الثاني ينحل إلى احتمالين في استعمال الأصوليّين ، فالظنّ
بثبوت النسبة يقتضي أن يكون بإزائه احتمال منطقي بعدم ثبوتها ، والشكّ بثبوت
النسبة يقتضي أن يكون بإزائه شكّ بعدم ثبوت النسبة ، واحتمال عدم ثبوت النسبة
احتمالا منطقيّا يقتضي أن يكون بإزائه ظنّ بثبوتها.
وأمّا المراد من
المحتمل فهو متعلّق الاحتمال ، فلو كان ثمّة احتمال بموت زيد فمتعلّق الاحتمال هو
موت زيد فهو إذن المحتمل.
وبذلك يتبيّن
المراد من قولهم أنّ الاحتياط مثلا قد ينشأ عن أهميّة المحتمل ، إذ قد تكون مرتبة
الاحتمال ضعيفة إلاّ أنّ المحتمل لمّا كان خطيرا بمعنى أنّه لو اتّفق مطابقته
للواقع لما كان الشارع يرضى بتفويته ، لمّا كان الأمر كذلك كان مقتضيا لجعل
الاحتياط لغرض التحرّز عن فوات الواقع ذي الأهميّة الخطيرة.
فالهدف الذي يصوّب
المكلّف السهم نحوه يحتمل ضعيفا أنّه إنسان إلاّ أنّه لمّا كان المحتمل وهو قتل
الإنسان خطيرا فهذا قد يقتضي لزوم الأمر بالاحتياط لئلاّ يفوت الملاك المهمّ لو
اتّفق مصادفة الاحتمال للواقع.
* * *
٢٧ ـ الاحتياط
الاحتياط كما هو
المستفاد من كلمات اللغويين يعني التحفّظ والتحرّز عن الوقوع في المكروه ، وهذا
المعنى هو المراد في استعمالات الاصوليين ، فهو يعني التحفّظ والتحرّز عن الوقوع
في مخالفة الواقع بواسطة العمل بتمام المحتملات والذي هو أعلى مراتب الاحتياط.
ثم انه يقع البحث
عندهم عن
الحالات التي يكون
معها المكلف ملزما بالاحتياط ، وما هي المرتبة التي يكون المكلّف ملزما بتحصيلها ،
فتارة يكون المكلّف مسئولا عن الالتزام بتمام الأطراف المحتملة كما في موارد العلم
الإجمالي في الشبهات المحصورة ، وتارة لا يكون ملزما بأكثر من عدم المخالفة
القطعية كما في موارد العلم الإجمالي في التدريجيات على بعض المباني ، كما انّه في
بعض الفروض يكون مسئولا عن الامتثال الإجمالي الظنّي دون الشكي والوهمي كما في
موارد انسداد باب العلم والعلمي بناء على الحكومة على بعض التفسيرات والمعبّر عنه
بالتبعيض في الاحتياط ، وهناك حالة يكون معها المكلّف ملزما بالأخذ بأحوط أقوال
الفقهاء الواقعين في شبهة الأعلمية وهي حالة اختلافهم في الفتوى على بعض المباني.
ثم انّ ثمة حالات
لا يكون معها الاحتياط لازما بتمام مراتبه كما في الشبهات البدويّة ، نعم ذهب
الأخباريون رحمهالله الى لزوم الاحتياط لو كانت الشبهة حكمية تحريمية ، وهنا
يكون الاحتياط مقتضيا لترك ما يحتمل حرمته.
والمتحصّل انّ
الاحتياط في تمام الموارد المذكورة بمعنى واحد وهو التحفّظ عن مخالفة الحكم
الواقعي.
* * *
٢٨ ـ الاحتياط الشرعي
وهو الأصل العملي
الذي بنى الأخباريون على انّه المرجع في الشبهات الحكمية التحريميّة وذلك في مقابل
مشهور الاصوليين حيث يبنون على جريان أصالة البراءة الشرعية والعقلية في هذا
المورد ، وفي مقابل ما بنى عليه السيد الصدر رحمهالله من جريان خصوص البراءة الشرعية في هذا المورد.
فالأخباريون وان
كانوا يبنون على جريان البراءة الشرعية ـ بل وكذلك العقلية كما هو الظاهر ـ في
الشبهات الوجوبية إلا انهم يختلفون عن المشهور في الشبهات التحريمية حيث يدعون انّ
الأدلة من الآيات والروايات تثبت لزوم مراعاة الاحتياط في خصوص الشبهات الحكمية
التحريمية ، وهذا هو منشأ التعبير عن هذا الاحتياط بالشرعي ، ولذلك ادعى السيد
الخوئي رحمهالله وهو المستظهر من كلمات الشيخ الانصاري بل وسائر الاصوليين
انّ النزاع بين الاخباريين والاصوليين في المقام صغروي وان كانت كبرى قاعدة قبح
العقاب بلا بيان مسلمة عند الجميع.
فالنزاع انما هو
في صلاحية أدلة الاحتياط لرفع موضوع البراءة العقلية وعدم صلاحيتها لذلك ،
فالأخباريون يقولون : انّ البراءة العقلية انّما تجري مع عدم البيان وأدلة
الاحتياط في الشبهات التحريمية بيان فلا موضوع لأصالة البراءة العقلية.
وأما الاصوليون
فحيث ادعوا انّ أدلة الاحتياط غير تامة إما من جهة السند أو من جهة الدلالة فلا
موجب لانتفاء موضوع أصالة البراءة العقلية ، فلا فرق بين الشك في الوجوب « الشبهة
الوجوبية » أو الشك في الحرمة « الشبهة التحريمية » من جهة انهما جميعا مجرى
لاصالة البراءة العقلية وكذلك الشرعية.
أقول : يمكن دعوى
انّ الخلاف بين الاصوليين والاخباريين في المقام كبروي ولكن في خصوص البراءة
الشرعية ، وذلك حينما نفترض انّ الإخباريين يرون انّ موضوع أدلة البراءة الشرعيّة
في الشبهات التحريميّة هو عينه موضوع الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريميّة ،
فمنشأ الاختلاف هو دعوى التعارض بين الأدلة وترجيح أدلة الاحتياط
الشرعي ، فالنزاع
لو كان كذلك ـ كما هو ليس ببعيد في بعض الأدلة ـ فهو كبروي ، إذ انّهم حينئذ يبنون
على عدم جريان البراءة الشرعية في الشبهات التحريمية لسقوط دليلية أدلتها بالتعارض
وترجيح أدلة الاحتياط الشرعي لا انّ المنشأ لذلك هو انّ الاحتياط الشرعي ينفي
موضوع البراءة كما أفاد السيد الخوئي رحمهالله.
* * *
٢٩ ـ الاحتياط العقلي
وهو أحد الاصول
العملية العقلية أي المدركة بواسطة العقل العملي ، ولم يختلف أحد من العلماء في
انّ أصالة الاحتياط العقلي جارية في كل مورد تتسع له حدود حق الطاعة للمولى جلّ
وعلا ، وانّما وقع الخلاف في حدود حق الطاعة فهو الذي نشأ عنه الاختلاف فيما هو
مجرى أصالة الاحتياط العقلي.
فالسيد الصدر رحمهالله حيث بنى على انّ حدود حق الطاعة للمولى تتسع لتشمل التكاليف المظنونة
والمحتملة ذهب الى انّ أصالة الاحتياط العقلي تجري في موارد الظن بالتكليف بل وفي
موارد احتماله.
وأما المشهور فحيث
بنوا على تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان ذهبوا الى انّ أصالة الاحتياط العقلي
لا تجري في موارد الظن أو احتمال التكليف ، وهذا ناشئ ـ كما هو مقتضى الاستدلال
بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ عن انّ حدود حق الطاعة للمولى جلّ وعلا بنظرهم لا
تشمل التكاليف غير المعلومة ، ولذلك بنوا على جريان أصالة البراءة العقلية في
حالات عدم العلم بالتكليف.
والظاهر انهم لا
يختلفون عن السيد الصدر رحمهالله في انّ التكليف المحتمل موجب للاحتياط عقلا ، وذلك دفعا
للضرر الاخروي
المحتمل ، واحتمال الضرر لا يأتي لو كانت حدود حق الطاعة غير شاملة للتكاليف
المحتملة ، إذ انّ ذلك موجب للقطع بعدم الضرر.
فالخلاف بين
المشهور والسيد الصدر رحمهالله هو انّ المشهور يقولون انّ المؤمّن عن الضرر المحتمل هو
العقل والذي هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان والذي يظهر من عبائر السيد الصدر رحمهالله هو انّ مورد أصالة البراءة هو عينه مورد أصالة الاحتياط العقلي ، فإما ان
يدرك العقل البراءة أي قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو يدرك الاحتياط العقلي ولزوم
التحفّظ على التكاليف المحتملة ، إذ من المستحيل ان يدرك العقل حكمين متنافيين
لموضوع واحد في رتبة واحدة.
فالخلاف بينهما في
رتبة المدرك العقلي القاضي بالاشتغال والاحتياط ، فالمشهور يقولون انّ ما يدركه
العقل من لزوم التحفظ على التكاليف المحتملة هو المدرك الاولي وهو معلّق على عدم
وجود مؤمّن عن التكليف المحتمل ، فإذا ما جاء المؤمن لم يلزم مراعاة التكليف
المحتمل ، وهذا المؤمن قد يكون شرعيا ـ كما يؤمن بذلك السيد الصدر رحمهالله ـ وقد يكون عقليا كأصالة البراءة العقلية المستندة الى القاعدة ، ومن هنا لو منع
مانع عن جريان البراءة العقلية فالمرجع هو أصالة الاشتغال العقلي.
مثلا : في مورد
العلم الإجمالي تسقط البراءة العقلية والشرعية عن الطرفين بسبب التعارض وعندها
يتنجّز العلم الإجمالي ، فلو اضطر المكلف بعد ذلك الى أحد الطرفين أي بعد تنجّز
العلم الإجمالي اضطر الى أحد الطرفين المعين أو غير المعين فإن أصالة البراءة
العقلية والشرعية لا تجري فيبقى ارتكاب ذلك الطرف محتملا للمخالفة الواقعية ولا
مؤمّن عن هذا الاحتمال لسقوط المؤمّن
العقلي والشرعي
بالتعارض فيجب الاحتياط عقلا ، وهذا الاحتياط في الواقع يرجع الى انّ حق الطاعة
للمولى يتسع للتكاليف المحتملة لكن غير المؤمّن عنها لا شرعا ولا عقلا.
وكذلك الكلام في
الشبهات الحكميّة البدويّة قبل الفحص ، فحيث لا مؤمّن عنها لعدم جريان البراءة
العقلية والشرعية فالمرجع هو أصالة الاحتياط العقلي.
وحاصل كلام السيد
الصدر رحمهالله انّ التأمين العقلي غير ممكن ، وذلك لأنّ موضوعه المفترض
هو عينه موضوع أصالة الاحتياط العقلي فلا يمكن ان يدرك العقل لزوم الطاعة في موارد
التكاليف المحتملة وفي نفس الوقت يدرك انّ المكلّف غير مسئول عن التكاليف المحتملة
، نعم المؤمن الشرعي وهو أصالة البراءة الشرعية ينفي موضوع لزوم الاحتياط العقلي
في التكاليف المحتملة ، وذلك لأن ما يدركه العقل من لزوم الاحتياط معلّق من أول
الامر على عدم الترخيص الشرعي فإذا ما جاء الترخيص الشرعي انتفى موضوع الاحتياط
العقلي.
وأما المشهور
فيدعون انّ المؤمّن الشرعي والمؤمن العقلي كلاهما في رتبة واحدة وان الذي هو في
رتبة متقدمة هو الاحتياط العقلي ، وهذا هو معنى قولهم انّ التكاليف المحتملة غير
مشمولة لحق الطاعة للمولى جلّ وعلا.
والمتحصّل انّ
المشهور يذهبون الى ان موضوع المدرك العقلي بلزوم طاعة المولى هو التكليف المحتمل
غير المؤمن عنه عقلا وشرعا والسيد الصدر رحمهالله يذهب الى موضوعه هو التكليف المحتمل غير المؤمّن عنه شرعا
فحسب.
هذا ما نفهمه من
الخلاف الواقع بين المشهور والسيد الصدر رحمهالله ثم انّ
المقدار المتفق
عليه في الجملة هو انّ أصالة الاحتياط العقلي تجري في موارد الشك في المكلف به إذا
كان الاحتياط ممكنا. ولمزيد من التوضيح راجع البحث تحت عنوان الشك في المكلّف به.
* * *
٣٠ ـ الاحتياط حسن على
أيّ حال
والمراد من هذه
القاعدة التي أطبق العلماء على تماميتها هو انّ العقل يستقلّ بإدراك حسن الاحتياط
مهما أمكن ولم يلزم من مراعاته محذور.
ومنشأ إدراك العقل
لحسن الاحتياط هو ما يترتب على الاحتياط من التحفّظ على أغراض المولى جلّ وعلا لو
اتفقت ، وهو من أكمل مصاديق الشكر لوليّ النعمة جلّ وعلا ، واذا كان كذلك
فالاحتياط محبوب للمولى جلّ وعلا ولو بنحو المحبوبيّة الطريقية ، ولا ريب انّ
تحرّي ما هو محبوب للمولى من أكمل صور العبودية والتي يستقلّ العقل برجحانها وبهذا
يثبت المطلوب.
وبذلك يتضح انّ
الاحتياط حسن سواء امكن الامتثال التفصيلي أو لم يكن ممكنا وسواء استلزم الاحتياط
التكرار أو لم يستلزم ذلك ، وسواء كان في التوصليّات أو كان في التعبديّات ، وسواء
كان الاحتياط منتجا للتحفّظ على الأغراض اللزومية للمولى أو الأغراض الغير البالغة
حد الإلزام.
نعم لو ترتّب على
مراعاة الاحتياط محذور علم من الشارع عدم قبوله باهماله كما لو استوجب الاحتياط
اختلال النظام فإن حسن الاحتياط حينئذ ينتفي ، وذلك لانتفاء الحيثية التعليليّة
لحسنه والتي هي التحفّظ على الملاكات الواقعية الغير المزاحمة بما هو أهم.
وهكذا الكلام لو
كان الاحتياط
مستوجبا للوقوع في
العسر والحرج فإنّ المعلوم من الشارع اهتمامه بعدم وقوع المكلفين في العسر والحرج
، وهذا ما ينفي الحسن عن الاحتياط لانتفاء الحيثيّة التعليليّة لحسنه.
ومع ذلك لا يسقط
الاحتياط بتمام مراتبه بمجرّد استلزام الاحتياط التام لاختلال النظام أو العسر
والحرج فإنّ سقوط الاحتياط انّما هو لمزاحمته لهذين الملاكين فالساقط عندئذ هو
المزاحم لهما لا مطلقا ، ومن هنا يظلّ العقل مدركا لحسن الاحتياط في المرتبة التي
لا تكون مزاحمة لأحد هذين الملاكين ، وهذه المرتبة هي المعبّر عنها بالتبعيض في
الاحتياط أو الامتثال الظني إن لم تكن هذه المرتبة مزاحمة أيضا للملاكين المذكورين
وإلا فمع مزاحمتها لهما فإنّ ما يدركه العقل عندئذ من حسن الاحتياط هو مرتبة
الامتثال الاحتمالي.
* * *
٣١ ـ الاحتياط في
التعبديات
والغرض من عقدهم
هذا البحث هو ما وقع من اشكال في امكان الاحتياط في الاحكام التعبديّة وإلا
فالأحكام التوصليّة ـ والتي لا يكون الغرض منها سوى تحقق متعلّقها في الخارج ـ فلا
مسرح للإشكال في امكان الاحتياط في موردها ، فلو وقع الشك في وجوب دفن هذا الميت
لاحتمال إسلامه وعدم وجوبه لاحتمال كفره فلا ريب في انّ مقتضى الاحتياط هو ايقاع
الدفن وليس من محذور يترتب على هذا الاحتياط ، وذلك لتوفّره على الحيثية التعليلية
القاضية بحسنه والتي هي التحفّظ على الواقع ، إذ لعلّ الواقع هو وجوب الدفن.
انّما الكلام في
الاحكام التعبديّة المتقومة بقصد الوجه وقصد الامر المولوي ، وهنا صورتان :
الصورة
الاولى : لو دار الأمر
بين
وجوب الشيء
واستحبابه فهل الاحتياط في هذه الصورة ممكن لو كان مورد الشك من سنخ الامور
العبادية أو انّ الاحتياط غير ممكن؟
قد يقال بعدم
الإمكان ، وذلك لتعذّر قصد الوجه في المقام ، إذ لا يتأتى للمكلّف قصد الاستحباب
أو الوجوب لافتراض الشك فيما هو سنخ المطلوب المتوجّه اليه ، وهل هو الوجوب أو
الاستحباب ، فقصد أحدهما تشريع محرّم.
والجواب عن هذا
الإشكال مبني على عدم اعتبار قصد الوجه ـ أي قصد سنخ الطلب من وجوب أو استحباب ـ وعندها
ينتفي المحذور من الاحتياط ، وهذا هو ما استقرّ عليه المحققون وانّ امتثال الاوامر
العبادية ليس منوطا بأكثر من قصد التقرب للمولى جلّ وعلا ، وقصد التقرب للمولى في
هذه الصورة ممكن بلا ريب بعد احراز الأمر المولوي الأعم من الوجوبي والاستحبابي.
الصورة
الثانية : ما لو دار
الأمر بين الوجوب والإباحة أو بين الاستحباب والإباحة. والإشكال على امكان
الاحتياط في هذه الصورة ينشأ عن عدم امكان قصد الأمر المولوي ، وذلك لعدم إحرازه
اذ من المحتمل ان يكون الواقع هو الاباحة وعندئذ إما ان يأتي بالفعل المردد بقصد
الأمر وحينها يكون مشرّعا ، لأنّ البناء على الوجوب او الاستحباب مع عدم الجزم به
من أنحاء التشريع المحرّم ، وان أتى بالفعل دون قصد الأمر فهذا ليس من الاحتياط
بشيء ، وذلك لأن الاحتياط يعني التحفّظ على الواقع بحيث يحصل الجزم بعد الاحتياط
بالاتيان بالواقع لو كان ، والحال انّه في الفرض الثاني ليس كذلك ، إذ لو كان
الواقع هو الوجوب أو الاستحباب فإن المكلّف لم يأت به ، لأن امتثال الواجب العبادي
وكذلك المستحب
العبادي متقوّم
بقصد الأمر.
والجواب عن هذا
الإشكال هو انّه لا دليل على اعتبار قصد الأمر بخصوصه في التعبديات وانما المعتبر
في موردها هو الاتيان بالفعل مضافا للمولى بنحو من أنحاء الإضافة كقصد التقرّب
والتحبّب للمولى جلّ وعلا ، واذا كان كذلك فالاحتياط في هذه الصورة ممكن بلا ريب ،
وذلك بأن يأتي المكلّف بالفعل المردد برجاء ان يكون مطلوبا للمولى وهو نحو من أنحاء
الإضافة للمولى جلّ وعلا بل هو أدعى للتقرّب من بعض الإضافات.
* * *
٣٢ ـ الاحتياط قبل الفحص
والمراد من هذا
الاحتياط هو الاحتياط العقلي وكذلك الشرعي احتمالا ، وذلك بقرينة انّهم تارة
يستدلون عليه بعدم شمول قاعدة قبح العقاب بلا بيان لهذه الصورة ، وهذا ما يناسب
الاحتياط العقلي ، وتارة يستدلون عليه بانصراف الادلة الشرعية اللفظية ـ الدالة
على البراءة الشرعية ـ عن هذه الصورة وعليه لا مانع من التمسك بأدلة الاحتياط
الشرعي لو تمّت ولم تكن إرشاديّة وإلا فلزوم الاحتياط قبل الفحص عقلي لقاعدة لزوم
دفع الضرر المحتمل غير المؤمّن عنه.
وعلى أيّ حال
فالمراد من الاحتياط قبل الفحص هو لزوم الامتثال الاجمالي القطعي ـ أي المنتج
لإحراز المطابقة للواقع ـ قبل مراجعة الادلة الاجتهادية القطعية والظنيّة المعتبرة
أي التي قام الدليل القطعي على حجيتها.
وموضوع قاعدة
الاحتياط قبل الفحص هو خصوص الشبهات الحكمية إذا كانت الشبهة بدويّة ، أما إذا
كانت إجمالية فالاحتياط معها لازم
سواء كانت الشبهة
حكمية أو موضوعية على انّ لزوم الاحتياط في موردها لا يختص بما قبل الفحص بل يظلّ
الاحتياط لازما حتى بعد الفحص لو اتفق عدم العثور على ما يوجب انحلال العلم الإجمالي.
وأما الشبهات
الحكمية البدويّة فالمرجع بعد الفحص وعدم العثور على الدليل المثبت للتكليف بل
والنافي للتكليف المرجع هو أصالة البراءة العقلية والشرعية كما هو مسلك المشهور أو
الشرعية فحسب كما هو مسلك السيد الصدر رحمهالله ، وأما الاخباريون فمبناهم التفصيل بين الشبهات الحكمية
التحريمية والشبهات الحكمية الوجوبية ، فالثانية مجرى لأصالة البراءة بعد الفحص ،
وأما الاولى فالجاري في موردها هو الاحتياط الشرعي في حال عدم العثور على ما ينفي
الحرمة.
وأما الشبهات
الموضوعية فالظاهر انّه لم يختلف أحد في انها مجرى لأصالة البراءة سواء قبل الفحص
أو بعده وعدم ارتفاع الشك.
ثم ان البحث عمّا
هو مقدار الفحص الذي يرتفع معه موضوع أصالة الاحتياط العقلي ويصحح جريان البراءة ،
وقد ذكر السيد الخوئي رحمهالله انّ الاحتمالات الثبوتية في المقام ثلاثة :
الاحتمال
الاول : ان يكون مقدار
الفحص موجبا للعلم بعدم وجود الدليل.
الاحتمال
الثاني : ان يكون مقدار
الفحص موجبا للظن بعدم الدليل.
الاحتمال
الثالث : ان يكون مقدار
الفحص موجبا للاطمئنان بعدم الدليل.
أما الاحتمال
الاول فساقط جزما ، وذلك لأنّ الدليل على لزوم الفحص لا يقتضي ذلك ، إذ انّ الأدلة
على لزوم الفحص هي إما دعوى انّ ما يدركه العقل من قبح العقاب بلا بيان لا
يشمل حالات عدم
الفحص ، فلو كان هذا هو الدليل على لزوم الفحص قبل إجراء البراءة فإنّه لا يقتضي
ان يكون مقدار الفحص هو الموجب للعلم بعدم الدليل ، إذ انّ الفحص المصحح لإدراك
العقل لقبح العقاب بلا بيان هو الفحص المتعارف والذي هو البحث عن الأدلة في
مظانّها وهو لا يوجب القطع بعدم الدليل.
وأما لو كان دليل
لزوم الفحص هو دعوى الاجماع فهو لا يقتضي أكثر من لزوم الفحص في الجملة امّا ما هو
مقدار الفحص فهو خارج عن معقد الإجماع.
وأما لو كان
الدليل هو العلم الاجمالي بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة فالعلم الاجمالي يمكن
انحلاله ولو حكما بالفحص المتعارف ، فلا يلزم ان يكون الانحلال حقيقيا كي يقال
بلزوم ان يكون مقدار الفحص موجبا للعلم بعدم الدليل.
وأما لو كان دليل
لزوم الفحص هو انصراف أدلة البراءة الشرعية عن حالات عدم الفحص فهذا الانصراف لا
يكون مع الفحص المتعارف.
هذا أولا وثانيا
انّ دعوى لزوم ان يكون مقدار الفحص موجبا للقطع بعدم الدليل لا تعدو عن كونها
وهميّة لتعذّر حصول القطع بعدم الدليل ، وهذا ما يستوجب انسداد باب الاستنباط ،
لأنّ الفقيه مهما بذل من جهد فإنّ القطع بعدم الدليل لا يحصل ، إلا ان يقال بأن
غاية ما يلزم من شرطية حصول القطع بعدم الدليل هو عدم إمكان إجراء البراءة وهذا لا
يلزم منه انسداد باب الاستنباط ، لانّ هذه الدعوى لا تقتضي عدم جواز العمل بالادلة
الاجتهادية الغير الموجبة للعلم إذا كانت معتبرة.
وأما الاحتمال
الثاني فمنشأ سقوطه هو انّ الظن بعدم الدليل ليس حجة لعدم حجية الظن في نفسه إلا
مع قيام
الدليل القطعي على
حجيته وهو مفقود في المقام ، إذ انّ وجوب الفحص لا ينتهي بحصول الظن بعدم الدليل
كما هو مقتضى أدلته.
وأما الاحتمال
الثالث : فهو المتعين ، وذلك لانّ الاطمئنان حجة شرعا لقيام السيرة العقلائية
الممضاة على ذلك.
ومن هنا فحصول
الاطمئنان بعدم الدليل ـ والذي ينشأ عن الفحص عنه في مظانّه ـ كاف في انتفاء موضوع
أصالة الاحتياط العقلي ومصحح لجريان البراء العقليّة والشرعية.
* * *
٣٣ ـ أخبار من بلغ
تبحث تحت هذا العنوان
قاعدة « التسامح في أدلة السنن » من حيث تماميتها وعدم تماميتها وما هي حدود هذه
القاعدة لو تمت.
والمدار في البحث
عن ذلك هو ما يستظهر من مجموعة من الروايات تبلغ حدّ الاستفاضة وفيها ما هو معتبر
سندا ، هذه الروايات معنونة بعنوان « أخبار من بلغ » وهو مقتبس من بعض هذه
الروايات ، مثل رواية محمد بن مروان قال : سمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول : « من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب
أوتيه وان لم يكن كما بلغه » .
وسوف نتعرض بشيء
من التفصيل لهذا البحث تحت عنوان « التسامح في أدلة السنن ».
* * *
٣٤ ـ الاختيار
الاختيار قد يطلق
فيكون في مقابل الجبر ، وقد يطلق فيكون في مقابل الاضطرار ، وقد يطلق في مقابل
الإكراه ، وقد يكون بمعنى الانتخاب عند ما يواجه العاقل الملتفت مجموعة من
الخيارات فينتخب أحدها ويهمل
سائر الخيارات.
وتفصيل ذلك انّ الاختيار يستعمل في أربع حالات :
الاولى : ان يكون الفعل ناشئا عن رغبة ودون ان يكون هناك قاسر أو
قاهر خارجي ألجأه على القيام بالفعل ، والاختيار هنا في مقابل الجبر والذي يكون
الفعل معه ناشئا عن قاسر خارجي ، ولا فرق في مثل هذه الحالة بين ان يكون الفعل
القسري محبوبا أو مبغوضا كما لا فرق بين ان يكون الفاعل شاعرا وملتفتا حين صدوره
عنه أو ذاهلا وغافلا عن صدوره عنه ، ففي تمام هذه الحالات يكون الفاعل مجبورا وذلك
لصدور الفعل عنه قهرا.
الثانية : ان لا يكون الفعل ناشئا عن خوف الوقوع في محذور لا يحتمل
أو يكون تحمّله شاقا ، على ان يكون المحذور من سنخ الامور التكوينية الغير المتصلة
بإنسان آخر ، والاختيار هنا يقابل الاضطرار ، ومثاله ما لو شرب الإنسان السائل
الخمري حتى لا يقع في الهلكة لعدم وجود ما يسد به الرمق.
وهذا الاضطرار وان
كان ينافي الاختيار بالمعنى المذكور إلا انه لا ينافي الاختيار بمعان اخرى.
الثالثة : ان لا يكون الفعل ناشئا عن ضغط يمارس ضده من قبل شخص آخر
بل يكون ناشئا عن رغبة نابعة عن إدراكه للمصلحة المترتبة على الفعل ، ويقابل هذا
النحو من الاختيار الإكراه ، بمعنى ان يكون الفعل ناشئا عن ملاحظة المضاعفات
المترتبة على ترك الفعل وكونها أسوأ مما سيترتب على صدور الفعل عنه.
وهنا لا يكون
الإكراه منافيا لتمام معاني الاختيار.
الرابعة : ان يكون الفعل ناشئا عن ترجيح لأحد الخيارات ، وكان
بوسعه ترجيح خيار آخر.
هذه حالات أربع
يطلق على الفعل
في موردها الفعل
الاختياري ، وحتى يتبلور معنى الاختيار نذكر ما يتقوّم به مفهوم الاختيار حتى يكون
تعريفه بعد ذلك واضحا.
المقوّم
الاول : الوعي
والالتفات وذلك في مقابل الغفلة والذهول التام كما لو صدر الفعل عن النائم فإنّه
لا يتعقل في مورده الاختيار ، وهذا ما يعبّر عن انّ الاختيار لا يكون إلاّ مع
مرتبة من الوعي والإدراك.
المقوم
الثاني : العلم
والالتفات الى انّ ما يصدر عنه متطابقا مع العنوان المقصود على ان يكون الواقع
متطابقا مع المعلوم ، فلو قصد المكلّف شرب السائل المتعنون بعنوان الخمر وصدر عنه
شرب ذلك السائل الملتفت الى انه خمر وكان ذلك السائل خمرا واقعا ، فهذا الفعل
الصادر عنه اختياري إذا توفرت معه سائر الشروط.
وبهذا يتضح انّ
العلم المعتبر في تحقق الاختيار ليس هو تلك الصفة النفسانية المعبّر عنها بالقطع
بل المعتبر هو العلم المطابق للواقع ، فلو كان قاصدا لشرب الخمر ومعتقدا ان ما
يشربه خمر إلا انّ الواقع انّ ذلك السائل الذي صدر عنه شربه لم يكن خمرا بل كان
عصيرا عنبيا فهنا لا يكون شرب العصير العنبي بعنوانه اختياريا ، وكذلك لو شرب
المكلّف خمرا معتقدا انّه ماء فإن شرب الخمر بعنوانه ليس اختياريا لانّه لا يعلم
بخمريته وانما كان يقطع بكونه ماء ولم يكن قطعه واقعيا.
وبما ذكرناه يتضح
انّ العلم المعتبر في صدق الاختيار هو العلم بعنوان الفعل الصادر على ان يكون
الفعل منطبق العنوان ـ المعلوم والمقصود ـ واقعا.
ثم انّ المقصود من
العلم المقوّم للاختيار هو العلم الإجمالي في مقابل الجهل التام بعنوان الفعل ،
فيكفي في
صدق الاختيار علم
المكلف اجمالا بعنوان الفعل الصادر عنه ولا يلزم ان يكون عالما بحقيقة العنوان
وبحدّه التام بل ولا برسمه ، فلو كان المكلف يعلم بخمرية هذا السائل ـ إلا انه
يجهل ماهيته وممّ يتركب وما هي مضاعفاته ـ فإنّ ذلك كاف في صدق الاختيار عند
اقدامه على شربه ، فلا يلزم العلم بتفاصيل العنوان كما هي دعوى الاشعري ، حيث
استدل على عدم اختيارية ما يصدر عن المكلّف بدعوى تقوّم الاختيار بالعلم بتفاصيل
عنوان الفعل الصادر وهذا لا يتفق لأحد ، فالنتيجة انّ صدور الأفعال عن المكلّفين
ليس اختياريا.
ولا تخفى سماجة
هذا الدليل لمنافاته للوجدان القطعي القاضي بكفاية العلم بالمميّز لعنوان الفعل
الصادر عن سائر العناوين ، وهذا لا يستوجب أكثر من العلم اجمالا بعنوان الفعل
الصادر ، فهذا المقدار هو الذي يقضي العقل باستحقاق فاعله للمدح أو الذم.
المقوّم
الثالث : القدرة على
الفعل الصادر عنه ، ولا تكون ثمة قدرة على فعل حتى تكون هناك قدرة على تركه ،
ولهذا قالوا انّ القدرة تعني انّ له ان يفعل وله ان لا يفعل اما لو كان صدور الفعل
عنه حتميا فإنّه لا يكون قادرا عليه لعدم قدرته على تركه.
المقوّم
الرابع : وجود مرتبة من
الرضا والرغبة في الفعل الصادر عن اختيار فلا يكون الفعل اختياريا لو تجرّد عن
الرضا بتمام مراتبه ، فلو الجأ المكلّف على ايجاد فعل لم يكن له أدنى رغبة في
صدوره عنه بحيث أصبح بمثابة الأداة فإنّ الفعل الصادر عنه لا يكون عندئذ اختياريا.
وبهذا يتضح انّ
صدور الفعل في ظرف الإكراه وكذلك في ظرف الاضطرار ـ بالمعنى الذي ذكرناه هنا ـ يكون
من قبيل الافعال الاختيارية ،
إذ انّ صدور الفعل
في ظرف الاكراه والاضطرار يكون ناشئا عن رغبة المكلّف في التخلّص من المحذور الأشق
، فهو وإن كان لو خلّي وطبعه لما اختار ذلك الفعل إلاّ انّ ذلك لا يسلب عن فعله
صفة الاختيار بعد ان كانت مرتبة من الرغبة منحفظة في مورد فعله ، فالمريض الذي
يدعو الطبيب لبتر عضو من أعضائه يعدّ مختارا وذلك لرغبته في قطع مادة المرض.
المقوّم
الخامس : انّ الفعل لا
يكون اختياريا إلا مع تصوره وتصور فائدته في الجملة ثم التصديق والإذعان بالفائدة
وعندها ينقدح الشوق النفساني والرغبة في تحصيله.
هذا هو حاصل
المقومات التي لا يكون الفعل اختياريا إلا مع التوفّر عليها. ولا يخفى تداخل هذه
المقومات فيما بينها إلاّ انّ الغرض من بيانها بهذه الصورة هو تيسير فهمها.
* * *
٣٥ ـ أخذ القطع بحكم في
موضوع حكم آخر مثله
والمراد من هذه
الفرضية هو ان يكون الحكم الذي أخذ العلم به قيدا في ترتّب الحكم الآخر مباينا
ومغايرا للحكم الواقع في رتبة المحمول ، كما لو قيل : « إذا علمت بنجاسة العصير
العنبي حرم عليك شربه » ، فالعلم بنجاسة العصير العنبي قطع موضوعي لافتراض وقوعه
في رتبة الموضوع للحرمة ، كما انّ العلم بالنجاسة قطع طريقي لافتراض طريقيته
وكاشفيته عن ثبوت النجاسة للعصير العنبي.
فالقطع الطريقي
صار قطعا موضوعيا في هذه القضية ، ومن هنا يكون ثبوت الحرمة متولّدا عنه ، إذ انّ
هذا هو مقتضى علاقة الموضوعات بأحكامها.
وكيف كان فلا ريب
في امكان هذه الفرضية.
ومن هنا يتضح
الحال في أخذ العلم بمرتبة من الحكم في موضوع مرتبة اخرى ، كما لو قال المولى : «
إذا علمت بإنشاء الحرمة للخمر فإنّ الحرمة تصبح فعلية في حقك » ، فإنّ الحكم
بمرتبة الإنشاء غير الحكم بمرتبة الفعلية ، فأخذ العلم بالاول في موضوع الثاني
نظير أخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر.
إلا ان يقال انّ
العلم بالجعل ملازم للعلم بالمجعول أي انّ العلم بالإنشاء ملازم للعلم بالفعلية ،
وحينئذ يكون أخذ العلم بالجعل في موضوع الحكم بمرتبة المجعول معناه أخذ العلم
بالحكم المجعول في موضوع نفس الحكم المجعول وهذا هو الدور المحال.
* * *
٣٦ ـ أخذ القطع بحكم في
موضوع حكم آخر مثله
والمراد من هذه
الفرضية هو اعتبار قيدية العلم بحكم في موضوع حكم آخر إلاّ انّ هذا الحكم الآخر
مسانخ للحكم الذي وقع العلم به قيدا في ترتب الحكم الآخر.
وبتعبير آخر : انّ
الحكم الواقع في رتبة الموضوع غير الحكم الواقع في رتبة المحمول إلاّ انهما
متسانخان ومتماثلان ، نعم الحكم الواقع في رتبة الموضوع ثابت لموضوعه ابتداء ، أما
الحكم الواقع في رتبة المحمول فهو مترتّب على موضوعه بقيد العلم بثبوت الحكم
الأول.
والمصحح لهذه
الفرضية هو انّ الحكم الاول الواقع في رتبة الموضوع غير الحكم الثاني ، فهما وان
كانا متحدين جنسا أو نوعا إلا انهما مختلفان شخصا ، فشخص الحكم الاول غير شخص
الحكم الثاني ، مثلا : لو قيل « إذا علمت بوجوب الصلاة وجبت عليك بوجوب ثان » ،
فالوجوب الثابت للصلاة في رتبة
الموضوع غير
الوجوب المترتّب على العلم بوجوب الصلاة ، فهما وان كانا متحدين جنسا إلا انهما
متغايران شخصا ، وهذا ما يميّز هذه الفرضية عن فرضية أخذ العلم بحكم في موضوع نفس
ذلك الحكم.
وباتضاح ذلك يقع
البحث عن استحالة هذه الفرضية أو امكانها ، فقد يقال باستحالتها وذلك بملاك آخر
غير ملاك الدور ، إذ انّ محذور الدور لا يأتي في المقام بعد افتراض انّ الحكم
الواقع في رتبة الموضوع غير الحكم الواقع في رتبة المحمول ، فمنشأ القول باستحالة
هذه الفرضية هو دعوى لزوم اجتماع المثلين ، إذ انّ موضوع أو متعلّق كل من الحكمين
المتسانخين واحد وهو الصلاة ، ودعوى انّ موضوع الحكم الثاني هو الصلاة بقيد العلم
بوجوبها بخلاف الحكم الاول حيث ان موضوعه هو الصلاة فحسب غير تامة ، وذلك لما
ذكرناه من انّه في ظرف العلم يكون كلا الحكمين فعليين أما الثاني فلافتراض تحقق
موضوعه وأما الاول فلأنّ العلم طريق محض لثبوته ، فيكون كلا الحكمين المتماثلين
ثابت في ظرف القطع بالحكم الاول.
إلا انّ السيد
الخوئي رحمهالله نفى هذا المحذور عن هذه الفرضية وادعى امكانها وانّ الوجوب
الثاني يكون مؤكدا للوجوب الاول في ظرف تحقق موضوع الوجوب الثاني. فالوجوب قد يكون
ثابتا للصلاة دون ان يكون قطع ، فهنا لا يوجد إلاّ الحكم الاول وقد يكون الحكم
الاول « وجوب الصلاة » مقطوعا به دون ان يكون مطابقا للواقع فهنا يكون الوجوب
الثاني متحققا دون الاول ، وقد يكون الوجوب الاول مقطوعا به ومطابقا للواقع فهنا
يترتب الوجوب الثاني لتحقق موضوعه إلاّ انّ وظيفته هي تأكيد الوجوب الاول فحسب.
وهذا نظير ما لو
ورد دليلان
أحدهما مفاده حرمة
أكل الميتة والآخر مفاده حرمة أكل النجس ، فلو كانت الميتة غير نجسة فالحرمة
الثابتة لها هي الحرمة الاولى ، ولو اتفق وجود النجس من غير الميتة فهو حرام
بالحرمة الثانية ، أما لو اتفق وجود الميتة النجسة ـ كميته ذي النفس السائلة ـ فالحرمة
الثابتة للميتة بمناط النجاسة مؤكدة للحرمة الثابتة بمناط الميتة.
* * *
٣٧ ـ أخذ القطع بحكم في
موضوع ضده
والمراد من هذه
الفرضية هو ان يكون الحكم الواقع في رتبة المحمول منافيا للحكم الذي أخذ العلم به
موضوعا أو جزء موضوع لذلك الحكم « المحمول ».
مثلا : لو قيل «
اذا علمت بحرمة الميتة وجب عليك تناولها » فالحكم في هذه القضية هو وجوب أكل
الميتة وموضوعها هو العلم بحكم مضاد ومناف للوجوب ، ومنشأ التنافي هو افتراض وحدة
موضوع الحكمين ، إذ لو افترضنا انّ موضوع الحرمة غير موضوع الوجوب لما لزم من ذلك
أيّ تناف.
هذا وقد ذكر
لاستحالة هذه الفرضية وجهان :
الوجه
الاول : انّه يلزم من
هذه الفرضية اجتماع الضدين ، وذلك لأنّ افتراض العلم بحرمة الميتة موضوعا لثبوت
الوجوب لأكل الميتة معناه انّ أكل الميتة في الوقت الذي يكون فيه حراما يكون واجبا
، وهو من اجتماع الضدين.
وبيان ذلك : انّ
العلم بحرمة أكل الميتة طريق محض لثبوت الحرمة لأكل الميتة فهو يكشف عن انّ أكل
الميتة حرام واقعا بنحو مطلق ، فإذا كان أكل الميتة واجبا في ظرف القطع بالحرمة
فهذا معناه انّه في ظرف القطع
بالحرمة يكون أكل
الميتة واجبا وحراما ، أما انّه واجب فلأنّ موضوع الوجوب هو القطع بالحرمة
والمفروض انّ ذلك متحقق ، وأمّا انّه حرام فلأن المفترض انّه قاطع بالحرمة والتي
هي طريق لثبوت الحرمة.
فالقاطع بحرمة أكل
الميتة ـ بناء على هذه الفرضية ـ يكون أكل الميتة في حقه واجب لتحقق موضوع الوجوب
وحرام الافتراض قطعه بذلك والذي هو طريق لثبوت الحرمة ، وهذا هو اجتماع الضدين.
وما يقال من انّ
موضوع الحرمة مغاير لموضوع الوجوب ، إذ انّ موضوع الوجوب هو أكل الميتة المعلوم
الحرمة ، وموضوع الحرمة هو خصوص أكل الميتة دون قيد العلم ، وهذا ما يستوجب ارتفاع
التضاد.
إلا انّه يتضح
الجواب عن ذلك بما ذكرناه من ان التنافي إنّما يقع في ظرف العلم بالحرمة حيث يكون
موضوع الوجوب معه متحققا ، فباعتبار انّ العلم طريق لثبوت الحرمة وموضوع لثبوت
الوجوب يكون ظرف القطع هو الحالة التي يتحقق معها التنافي والتضاد ، وأما مع عدم
العلم بالحرمة كما لو كان تنجّز الحرمة عليه بوسيلة غير القطع كالأصل العملي مثلا
فإنّه لا تنافي أصلا ، وذلك لعدم تحقق موضوع الوجوب بعد افتراض ان موضوعه القطع
بالحرمة ، هذا حاصل ما أفاده السيد الخوئي رحمهالله.
الوجه
الثاني : انّه يلزم من
هذه الفرضية تعذر الامتثال ، وذلك لأنّ الحرمة تبعث نحو ترك تناول الميتة والوجوب
يبعث نحو تناول الميتة ، وواضح استحالة الانبعاث عن هذين الحكمين.
* * *
٣٨ ـ أخذ القطع بحكم في
موضوع نفس الحكم
المراد من هذه
الفرضية هو اعتبار العلم
بحكم موضوعا لنفس
ذلك الحكم ، وهذا معناه إناطة ثبوت الفعلية للحكم بالعلم بثبوت الفعلية له ، وذلك
لأنّ افتراض العلم بالحكم موضوعا يقتضي ترتّب ثبوت الحكم على تنقّح وتحقق موضوعه
في رتبة سابقة كما هو مقتضى علاقة الموضوعات بأحكامها ، فأولا يتحقق الموضوع
وعندئذ يترتب عليه الحكم ، فحينما يقال « اذا استطعت وجب عليك الحج » فهذا معناه
اناطة فعلية الوجوب للحج بتحقق الاستطاعة فما لم تتحقق الاستطاعة لا يكون الحج
واجبا.
ومثال الفرضية
المذكورة هو اعتبار العلم بحرمة الخمر موضوعا لحرمة الخمر ، وهذا معناه انّ ثبوت
الفعلية لحرمة الخمر منوط بتحقق العلم بثبوت الفعلية لحرمة الخمر ، وذلك لافتراض
العلم بفعلية الحرمة موضوعا لثبوت الفعلية لحرمة الخمر.
وباتضاح ذلك يتضح
استحالة هذه الفرضية لاستلزامها الدور. وبيان ذلك يتم بواسطة الالتفات الى هذه
المقدمات :
المقدمة
الاولى : انّ افتراض شيء
موضوعا أو جزء موضوع لحكم يقتضي تأخر ثبوت الحكم عن وجود الموضوع المفترض ، فالحكم
عدم ما لم يتقرّر موضوعه المفترض خارجا ، ولهذا قالوا انّ الموضوع مولّد للحكم
وانّ نسبته للحكم نسبة العلة لمعلولها ، فالموضوع يقع في رتبة العلة والحكم يقع في
رتبة المعلول.
المقدمة
الثانية : انّ العلم
بالحكم إذا افترضنا أخذه موضوعا لنفس ذلك الحكم فمعنى ذلك انّ العلم بالحكم لا بدّ
وان يوجد قبل وجود نفس الحكم ، إذ انّ هذا هو مقتضى كون العلم بالحكم واقعا في
رتبة الموضوع للحكم ، ومعنى ذلك انّ العلم بالحكم هو المولّد والعلة للحكم.
المقدمة
الثالثة : انّ العلم
والقطع بشيء معناه ثبوت ذلك الشيء المقطوع في نفس الأمر بغض النظر عن القطع به ،
وان القطع به ليس له سوى دور الكشف عن المقطوع ، فلا هو سابق على المقطوع ولا هو
مولّد له بل هو متأخر عنه تأخّر الكاشف عن منكشفه.
وباتضاح هذه
المقدمات يتضح استلزام الفرضية المذكورة للدور ، إذ انها تفترض انّ الحكم مترتب
على العلم به ، وهذا يعني انّ الحكم متأخر عن العلم بالحكم تأخر الحكم عن موضوعه ،
ولمّا كان الموضوع هو العلم بنفس الحكم ـ كما هو المفترض ـ فهذا معناه وجود الحكم
في رتبة سابقة عن وجود الموضوع ، وهذا لأنّ العلم متأخر عن معلومه ، وذلك يعني انّ
الحكم يكون متأخرا ومتقدما ، اما انّه متأخر فلأنه واقع في رتبة الحكم واما انّه
متقدم فلافتراض ان موضوع الحكم هو العلم به والعلم بشيء فرع وجود المعلوم في رتبة
سابقة عن العلم به.
ويمكن تقريب الدور
بشكل آخر ، يراجع في محلّه.
* * *
٣٩ ـ اخطارية المعاني
الاسميّة
ذهب المحقق
النائيني رحمهالله الى انّ المفاهيم الاسميّة مفاهيم اخطارية ، أي انّ لها
تقرّر وثبوت في الذهن ، فهي نظير الوجودات العينية في الخارج ، فكما انّ الوجودات
العينية ـ وهي الجواهر ـ وجودات متقررة ومستقلة في عالم الخارج ولا يناط وجودها
بوقوعها في اطار موضوع بل هي موجودة في نفسها لنفسها فكذلك المعاني الاسمية في
عالم الذهن ، فإنّها وجودات استقلالية ولا يناط وجودها في عالم الذهن بموضوع من
قبيل المركب اللفظي بل تنقدح في
الذهن ابتداء وان
تجردت عن كل مركب ، فالمفاهيم الاسمية ـ بقطع النظر عن مداليلها وهل انّ مدلولها
من قبيل الجواهر أو الأعراض أو الاعتبارات أو الانتزاعيات ـ كلها مفاهيم استقلالية
غير مفتقرة لموضوع يؤهلها لأن تنخطر في الذهن ، ولهذا لو افترض جدلا ان لا مفهوم
في عالم الوجود إلاّ مفهوم واحد فإنّه مؤهل لأن ينخطر في الذهن ، مما يعبّر عن انّ
المفاهيم الاسمية كالوجودات العينية من حيث انّها موجودة لا في موضوع ، غايته انّ
الوجودات العينية متقرّرة في وعاء الخارج وأما المفاهيم الاسمية فهي متقررة
استقلالا في وعاء الذهن.
ولتوضيح ما ذكرناه
نمثل بهذه المفاهيم ، وهي مفهوم الماء والبياض والعلية والبيع ، فإنّها جميعا
مفاهيم اسميّة ، ونلاحظ انّها معاني متصورة ومدركة ولها تقرّر وثبوت بنحو مستقل في
وعاء الذهن ، ونلاحظ انّ إدراكها ليس منوطا بوجود ألفاظ موضوعة ومستعملة لغرض
الدلالة عليها بل ان تصوّر وإدراك هذه المعاني متحقق بقطع النظر عن ألفاظها.
كما نلاحظ انّ
اختلاف هوية هذه المعاني ـ من حيث انّ الاول منها من قبيل الجواهر والثاني من قبيل
الأعراض والثالث من قبيل المفاهيم الانتزاعية والرابع من قبيل المفاهيم الاعتبارية
ـ لا يمنع من كون تعقّلها وتصورها في الذهن استقلاليا ، بمعنى انّ هذه المعاني وان
اختلفت هوياتها إلاّ انّ لها تقرّر وثبوت في حدّ نفسها في وعاء الذهن.
ومع اتضاح ذلك
يتضح ان الألفاظ الاسمية ليس لها إلاّ دور إخطار مداليها في ذهن السامع فهي لا
توجد المعاني المدلولة لها في الذهن وانّما توجب حضورها وانخطارها في الذهن بعد ان
كانت مخبوءة.
* * *
٤٠ ـ الإرادة
وهي تطلق على
معنيين :
المعنى
الاول : هو الحبّ والشوق
البالغ مرتبة تستدعي سعي المريد لتحقيق المراد ، وهذا المعنى يقتضي البناء على ان
الإرادة من الكيفيات النفسانية المتخلقة في النفس بسبب مقدمات مرحلية تنشأ الإرادة
عند آخر مرحلة منها ، فأولا يتصور الذهن الفعل ثم يتصوّر فائدته وحين يحصل التصديق
والإذعان بالفائدة تنقدح الرغبة والشوق للفعل وهذا الشوق هو المعبّر عنه بالإرادة.
والإرادة بهذا
المعنى لا تستتبع وجود المراد بل يتوسط بينها وبين المراد الاختيار. ولهذا
فالإرادة بهذا المعنى قد تتعلّق بالمستحيل.
المعنى
الثاني : وهو إعمال
القدرة والسلطنة المعبّر عنه بالمشيئة ، وهي تعني إحداث الفعل وإيجاده من العاقل
الملتفت ، وهذا المعنى للإرادة هو أحد معاني الاختيار.
ولا تخفى الطوليّة
بين المعنيين ، فإنّ إعمال القدرة مرحلة متأخرة عن الشوق الأكيد ، على انّ بين
المعنيين عموم من وجه ، فقد يتحقق الشوق ولا يترتب عليه إعمال القدرة والسلطنة كما
انّه قد يتحقق إعمال القدرة والإحداث والإيجاد ولا يكون منشؤه الشوق كما هو في
المشيئة الإلهية ، فإنّ المشيئة الإلهيّة تعني الإرادة واعمال القدرة ـ والتي هي
من صفات الأفعال ـ ولا يناسب ساحته المقدسة انسباق المشيئة بالشوق أو تكون إرادته
بمعنى الشوق والذي قلنا انه من الكيفيات أو الافعال النفسانية.
ومن هنا ذكر بعض
الأعلام انّ الإرادة المناسبة للإنسان تتمحض في المعنى الاول وأما المعنى الثاني
فهو الاختيار المسبوق بالإرادة بالمعنى الاول.
* * *
٤١ ـ الإرادة
الاستعماليّة
لا يخفى إنّ
الإرادة الاستعمالية غير الدلالة الاستعماليّة فالاولى تتصل بالمتكلم والثانية
تتصل بالمخاطب.
والكلام هنا عن
الإرادة الاستعماليّة وقد ذكر لها خمسة معان :
المعنى
الاول : هي ان يقصد
المتكلم من استعمال اللفظ تفهيم المعنى بواسطته.
وأورد السيد الصدر
رحمهالله على هذا التفسير للإرادة الاستعمالية ، بأنه يلزم منه عدم
شمول الإرادة الاستعماليّة لحالات استعمال اللفظ في المشتركات مع قصد الإجمال ،
ولا ريب في شمول الإرادة الاستعمالية لمثل هذه الحالات ، إذ انّ المستعمل للفظ
المشترك مريد للاستعمال رغم عدم إرادته للتفهيم ، فإرادة التفهيم ليست مقومة
للإرادة الاستعمالية.
المعنى
الثاني : ان يقصد
المتكلم من استعمال اللفظ ايجاد المعنى في عالم الاعتبار بنحو التنزيل ، فالغرض من
استعمال اللفظ هو التوصل لإيجاد المعنى بنحو الإيجاد التنزيلي ، فكأنّه أوجد
المعنى باللفظ وأراد من ايجاد اللفظ ايجاد المعنى.
وأورد السيد الصدر
على هذا المعنى بأنّه نشأ عما هو المبنى في تفسير حقيقة الوضع وما هو منشأ العلاقة
الدلالية بين اللفظ والمعنى ، وهذا المبنى لو تم فإنّه يفسّر العلاقة الواقعة بين
اللفظ والمعنى إلا انّه لا يقتضي ان يكون الاستعمال مرتبطا بالكيفية التي انخلقت عنه
العلاقة بين اللفظ والمعنى ، فحيثية الاستعمال لا تتطابق بالضرورة مع حيثية
العلاقة الوضعية المختارة من قبل الواضع.
وبتعبير آخر : لا
يلزم المستعمل ان يحتفظ بنفس الكيفية التي نشأت عنه العلاقة الوضعية ، فقد لا يقصد
من الاستعمال ايجاد المعنى تنزيلا.
المعنى
الثالث : انّ المراد من
الإرادة الاستعمالية هي إرادة التلفظ باللفظ المعين ، وذلك التزاما بتعهده ، حيث
انه قصد إخطار معنى معين وقد التزم بأنّه متى ما أراد إخطار هذا المعنى فإنّه ياتي
بهذا اللفظ المخصوص.
وهذا المعنى إنّما
يتناسب مع مسلك التعهد في الوضع ، على انّه لا يفسّر معنى الإرادة التي هي محل
البحث ، نعم هو يتحدث عن منشأ الإرادة الاستعمالية ، والحديث عن المنشأ غير الحديث
عما هو المراد منها كما أفاد ذلك السيد الصدر رحمهالله.
المعنى
الرابع : ان يقصد
المتكلّم إفناء اللفظ في المعنى ، فتكون الإرادة الاستعمالية بمعنى إرادة لحاظ
اللفظ لحاظا آليا فانيا في المعنى.
وهذا مبني على انّ
الاستعمال يعني افناء اللفظ في المعنى فتكون الإرادة الاستعمالية هي إرادة الإفناء
أي إرادة جعل اللفظ فانيا في المعنى. ومن هنا تكون تمامية هذا التفسير للإرادة
الاستعمالية مبني على تمامية المسلك المذكور في تفسير الاستعمال والذي هو مسلك
المشهور.
المعنى
الخامس : وهو الذي
تبنّاه السيد الصدر رحمهالله وحاصله : انّ الإرادة الاستعمالية تعني قصد التلفظ بماله
أهلية إخطار المعنى ، فالمتكلم يقصد الإتيان باللفظ المعد للكشف عن المعنى ، وتبقى
في البين عوامل اخرى لا بدّ من تحصيلها أو حصولها حتى تترتب عن مجموعها الدلالة ،
فالإرادة الاستعمالية لا تساوق الإرادة التفهمية بل انّ إرادة التفهيم مرحلة
متأخرة أو مباينة لإرادة الاستعمال ، فهي متأخرة لو كان مريدا للاستعمال ومريدا
كذلك للتفهيم ، وهي مباينة لو انضم للإرادة الاستعمالية إرادة الإجمال ، وفي كلا
الصورتين تكون الإرادة الاستعمالية غير إرادة التفهيم والإجمال.
والمتحصّل انّ
الإرادة الاستعمالية
هي إرادة استعمال
اللفظ الذي له صلاحية الدلالة على المعنى وهذا يجامع إرادة الإجمال لكنه مع ذلك
قصد اللفظ الذي له الصلاحية للدلالة على المعنى.
* * *
٤٢ ـ الإرادة الإلهيّة
إنّ البحث عن
الإرادة الإلهيّة من المباحث الشائكة جدا ، فقد وقع الخلاف في ماهيتها وحقيقتها ،
وما يهمنا في المقام هو المقدار الذي وقع في كلمات الاصوليين ، فقد اختلفوا فيما
هو المراد من الإرادة الإلهية ، وهنا ثلاثة معان أساسية :
المعنى
الاول : وهو الذي تبناه
صاحب الكفاية رحمهالله وبعض الاصوليين تبعا لما هو المشهور بين الفلاسفة وحاصله :
انّ الإرادة
الإلهية تعني العلم بالنظام الكامل والأصلح ، بمعنى انّه يعلم الخير والصلاح
والكمال وأيّ الأفعال التي تكون متناسبة مع الكمال والنظام الأتم.
وقد فسّر الحكيم
السبزواري هذا المعنى بما حاصله : انّ الإرادة الالهية تعني وجود الداعي لفعل
الخير والنظام الأحسن والأكمل ، وهذا الداعي هو عين علمه تعالى بالنظام الأتم
والأكمل ، ولمّا كان علمه تعالى هو عين ذاته فالإرادة الإلهية بهذا المعنى هي عين
ذاته ، فالفرق بين الإرادة الإنسانيّة والإرادة الإلهية هو انّ الإرادة الإنسانية
تعني الشوق المؤكد الناشئ عن الداعي والذي هو إدراك الشيء الملائم ، أما الإرادة
الإلهيّة فهي عين الداعي والذي هو إدراك الأصلح والأكمل.
وبتعبير آخر : هي
عين علمه والذي هو عين ذاته المقدسة ، فيكون الداعي للإيجاد هو عين ذاته ، إذ لا
يتعقل في ساحته تعالى كون إرادته
بمعنى الشوق والذي
هو كيف نفساني حادث وعارض على الذات ، فإرادته ليست حالة منتظرة كما انّها ليست
متخلّقة عن تصوّر الشيء الملائم كما هو الحال في الإرادة الإنسانية.
وأورد المحقّق
النائيني رحمهالله على تفسير الإرادة بهذا المعنى بأنّه من خلط المفهوم
بالمصداق ، إذ انّ البحث في المقام عن مفهوم الإرادة وعن اتّصاف المولى جلّ وعلا
بها ، ومن الواضح انّ صفات الله جلّ وعلا متغايرة وليس أحدها عين الآخر ، فالقدرة
غير العلم كما انّها غير الحياة كما انّ العلم غير الإرادة ، فلكلّ واحدة منها
معنى مستقل عن الآخر ، غايته انّ مطابق هذه الصفات واحد ، إذ انّ صفات الله تعالى
عين ذاته ، فهو كما قيل « قدرة كلّه وحياة كلّه وإرادة كلّه وعلم كلّه » فهو بسيط
من تمام الجهات فليس كل واحدة من هذه الصفات يمثل جزء ذاته أو انّ صفاته زائدة على
ذاته فهو صرف الوجود وصرف القدرة وصرف الإرادة وهكذا ، إلاّ انّ العينية في الخارج
لا يعني اتحاد هذه الصفات مفهوما ، ومن هنا لا تصح دعوى انّ الإرادة هي العلم
بالنظام الاصلح.
المعنى
الثاني : وهو الذي
تبنّاه المحقّق النائيني رحمهالله وادعى انّه مبنى أكابر الفلاسفة ، وحاصله :
انّ الإرادة
الالهية تعني الابتهاج والعشق والرضا بذاته تعالى ، وذلك لأنّ ذاته أتم وأكمل مدرك
، فذاته حينما تدرك ذاته فإنّه تمام الإدراك لأتم مدرك ، فهي كل الخير والكمال
والبهاء والجمال ، وهذا ما يقتضي ابتهاج الذات المقدّسة بذاتها ـ تقدّست وجلّت ـ ،
ثم انّ ذلك يستوجب ابتهاجها بما يصدر عنها ، إذ انّ الذات المقدسة لمّا كانت في
أعلى مراتب الكمال فما يصدر عنها يكون مسانخا لكمالها ، وهو تعالى لمّا كان مبتهجا
بكمال ذاته يكون مبتهجا بآثارها وهو
المعبّر عنه بالابتهاج
في مرحلة الفعل أو بالمشيئة بحسب تعبير الروايات.
فهناك ابتهاج يكون
من صفاته الذاتية وهو الابتهاج بالذات لكونها أتمّ مدرك ، وهي الإرادة الذاتية
الأزلية ، وهناك ابتهاج في مرحلة الفعل وهو الرضا عن آثار الذات ، إذ حينما تكون
الذات مرضية ومعشوقة تكون آثارها كذلك ، والرضا المتعلّق بآثار الذات هي الإرادة
التي من صفات الفعل المعبّر عنها بالإرادة الفعليّة.
وأورد السيد
الخوئي رحمهالله على هذا المعنى بأنّه لا يتناسب مع مفهوم الإرادة لا لغة
ولا عرفا ، ولا يبعد ان يكون منشأ هذا التكلّف هو دعوى ان إرادة الله جلّ وعلا
ذاتية ، وهو ما لا يلزم الالتزام به ، فنحن وان كنّا نلتزم بأنّ الإرادة ليست
بمعنى الشوق الأكيد إلاّ انّ ذلك لا يعيّن المعنى المذكور.
ثم ادعى السيد
الخوئي رحمهالله انّ الرضا من الصفات الفعليّة كالسخط ، فهو ليس كالعلم
والقدرة ، والدليل على ذلك صحة سلبه عن الذات ، وهو أمارة كونه من صفات الفعل ،
ولو سلمنا انّه من صفات الذات فإنّه لا دليل على انّ الرضا هو الإرادة.
أقول : لا تخفى
غفلة السيد الخوئي رحمهالله عن مراد المحقّق النائيني رحمهالله فإنّ الرضا الذي هو من صفات الفعل ليس هو الرضا المقصود
عند المحقّق النائيني وجمع من الفلاسفة كما أوضحنا ذلك.
المعنى
الثالث : وهو الذي
تبنّاه السيد الخوئي رحمهالله ، وحاصله : انّ الإرادة لا تكون إلاّ من صفات الفعل ، وذلك
لأنّ المراد منها هو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنه في الروايات بالمشيئة.
واستدلّ لذلك بعد
اسقاط المعنيين الأولين انّه لمّا كان من المستحيل نسبة الإرادة بمعنى الشوق
الأكيد الى الله تعالى وانّه لا معنى معقول للإرادة غير
إعمال القدرة
والسلطنة تعيّن ان يكون المراد من الإرادة هو هذا المعنى خصوصا وانّ الروايات لا
تثبت معنى للإرادة غير هذا المعنى ، نعم لمّا كانت قدرة الله تعالى وسلطنته تامة
لا يشوبها نقص فإن المراد الإلهي لا يناط بشيء آخر غير إعمال هذه القدرة والسلطنة.
وهذا هو معنى قوله
عليهالسلام في معتبرة صفوان « الإرادة من الخلق الضمير وما يبدوا لهم
بعد ذلك من الفعل ، وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنه لا يروى
ولا يهم ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل
لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكّر ولا كيف
كما انّه لا كيف له » .
ثم لا يخفى انّ
إعمال القدرة والتي هي المشيئة والإرادة ليست ناشئة عن إعمال القدرة وإلاّ لزم
التسلسل ، فالإرادة إذن متخلّقة عن غير إعمال القدرة ، وهذا هو معنى قوله عليهالسلام في معتبرة عمرو بن أذينة « خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة
» .
* * *
٤٣ ـ الإرادة التفهيميّة
وهي تعني قصد
تفهيم المعنى بواسطة اللفظ ، فهي تختلف عن الإرادة الاستعماليّة من جهة انّ المراد
في الإرادة التفهيمية هو ايجاد او قل اخطار صورة المعنى في ذهن المخاطب عن طريق
استعمال اللفظ ، وأمّا المراد في الإرادة الاستعمالية فهو ـ كما أفاد السيد الصدر
ـ ليس أكثر من قصد الإتيان بما يمهّد للدلالة دون ان يستلزم ذلك قصد التفهيم ، إذ
قد لا يكون مراد المستعمل تفهيم المعنى كما أوضحنا ذلك في بحث الإرادة
الاستعمالية.
* * *
٤٥ ـ الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة
المراد من الإرادة
التكوينية ـ بحسب نظر صاحب الكفاية رحمهالله ـ هي العلم بالنظام الاصلح ، وهذا هو المعنى الاول الذي
ذكرناه للإرادة الإلهية ، وهذه الإرادة تقتضي إفاضة الوجود على الاشياء بما يتناسب
مع علمه تعالى بما هو الأكمل والأتم.
وأما الإرادة
التشريعية فهي بمعنى علمه تعالى بمصلحة فعل إذا صدر عن مكلّف بمحض اختياره ،
فالفعل في علم الله تعالى انّما يكون واجدا للمصلحة عند ما يصدر بواسطة المكلّف
ويكون عن اختيار. وهذا المعنى للإرادة التكوينية والتشريعية هو ما تبنّاه مشهور
الفلاسفة.
المعنى
الثاني : هو انّ الإرادة
لمّا كانت بمعنى الحب والرغبة فهي تارة تتعلّق بالافعال الصادر عن المريد مباشرة ،
كما لو كان الحب والإرادة متعلّقة بأن يحيي ويميت وفي الإنسان بأن يتزوج ، فهذه
الإرادة هي المعبّر عنها بالإرادة التكوينية ، وتارة تتعلّق الإرادة والرغبة بأن
يصدر الفعل عن آخر ، على ان يكون صدوره عنه باختياره ، وهذه هي الإرادة التشريعية
، كما في تعلّق إرادة المولى بأن تصدر الواجبات عن المكلّف عن اختيار منه.
هذا إذا بنينا على
انّ الإرادة تعني الحب والرغبة ، وأما لو بنينا على انّ الإرادة بمعنى العزم على
الإنجاز والتي هي مرتبة متأخرة عن الحب فإنّه لا توجد في هذه الحالة إلاّ إرادة
تكوينيّة وهي العزم على انجاز فعل ، غايته انّ هذا الفعل قد يكون تكوينيا وقد يكون
تشريعيا ، بمعنى انّه قد يكون من سنخ الافعال التي لا تتصل بشخص آخر مختار وهذا هو
المراد من الفعل التكويني ، وقد يكون من سنخ
الافعال التي تتصل
بشخص آخر مختار ، إلاّ انّ الجامع بينهما ان الإرادة لهما تتعلّق بفعل المريد
مباشرة ، إذ انّ ايجاد الفعل وافاضته أو ايجاد التشريع كلاهما فعل مباشري للمريد.
ومن هنا لا توجد إرادة تشريعية بالمعنى المتقدم ، نعم يوجد ـ بناء على هذا المعنى
ـ « إرادة التشريع » أي إرادة فعل التشريع والتي هي فعل مباشري للمريد.
وهذا المعنى ذكره
بعض الفلاسفة ، والظاهر من كلمات السيد الخوئي رحمهالله اختيار هذا التفصيل حيث أفاد انّ الإرادة لما كانت بمعنى
البناء القلبي فإنّها دائما تكون تكوينية ، نعم يمكن تقسيمها الى تكوينية وتشريعية
بلحاظ المتعلّق ، أما لو كانت الإرادة بمعنى الشوق فإنّ تقسيمها إلى إرادة تكوينية
وإرادة تشريعية تام.
المعنى
الثالث : انّ الإرادة
التكوينية تعني الإحداث والايجاد أو قل افاضة الوجود للأشياء ، وأما الإرادة
التشريعية فتعني الاوامر والنواهي المولوية. وهذا التقسيم للإرادة ذكره بعض
الأعلام ، وهو يتناسب مع القول بأن الإرادة هي إعمال القدرة والسلطنة.
* * *
٤٥ ـ الإرادة الجدّيّة
وهي ان يكون
الداعي من استعمال الألفاظ هو قصد الحكاية أو قصد الإنشاء واقعا وحقيقة ، وذلك في
مقابل قصد الكذب أو الهزل أو السخرية.
ومن هنا لا تكون
الإرادة الجدّية إلاّ في موارد استعمال الجمل التامة الإنشائية والخبريّة ، إذ هي
التي يتعقل فيها الجد والهزل ، وأما استعمال الجمل الناقصة والمفردات اللفظية فلا
يكون استعمالها إلاّ لغرض الاستعمال أو إرادة التفهيم ، وأما الإرادة الجدّية فهي
غير
متصوّرة في موارد
الجمل الناقصة والمفردات اللفظية ، إذ ليس لها أهلية الكشف عن واقع النفس بعد ان
كانت مجرّد مفردات أو مركبات ناقصة.
وسنوضح ذلك أكثر
في الدلالة الجدّية.
* * *
٤٦ ـ الاستثناء
وهو إخراج بعض
أفراد موضوع عن الحكم المجعول على ذلك الموضوع ولو لا الاستثناء لكانت الأفراد
الخارجة مشمولة للحكم كما هو الحال في سائر أفراد الموضوع ، فخروجها بالاستثناء
انّما هو من جهة عدم شمول الحكم المجعول للموضوع لها وإلاّ فهي من أفراد الموضوع
حقيقة.
مثلا حينما يقال «
أكرم العلماء إلاّ الفساق منهم » يكون خروج الفساق من جهة عدم مشموليتهم للحكم
المجعول للمستثنى منه « الموضوع » وإلا فهم من أفراد الموضوع حقيقة ، نعم هم
خارجون عنه حكما.
وهذا النحو من
الاستثناء يعبّر عنه عند النحاة بالاستثناء المتصل ، ويعبّر عن هذا النحو من
الإخراج والاقتطاع عند الاصوليين بالتخصيص أو بالخروج التخصيصي. وفي مقابل هذا
النحو من الاستثناء هناك استثناء عند علماء العربية يعبّر عنه بالاستثناء المنقطع
وهو المعبّر عنه بالخروج الموضوعي أو التخصّصي عند الأصوليين وهو لا يتصل روحا
بالاستثناء والذي هو التخصيص.
والمقصود من
الاستثناء المنقطع هو إخراج موضوع عن الحكم المجعول لموضوع آخر بأحد أدوات
الاستثناء ، ومثاله قوله تعالى ( فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ ) فالخارج عن الحكم المذكور للمستثنى منه هو موضوع آخر لا صلة له بالموضوع
المستثنى منه ، فالمستثنى منه هم
الملائكة
والمستثنى هو ابليس وهو من غير جنس الملائكة ، ومن هنا كان الاستثناء منقطعا
ظاهرا.
وهذا النحو من
الاستثناء يعبّر عنه ـ كما ذكرنا ـ بالخروج الموضوعي التخصّصي عن حكم المستثنى منه
، فليس هو إخراج وانما هو خروج ، فحتى لو لم يتصد المتكلّم لإخراجه عن حكم الموضوع
فإنّه خارج من اول الأمر ، إذ انّ شخص الحكم إذا كان مجعولا لموضوع فإنّ عدم شموله
لموضوع آخر لا يحتاج الى بيان ، نعم قد يتصدى المتكلم لبيان خروجه لغرض يقتضيه
الحال أو نكتة بلاغية.
فالاستثناء ـ إذن
ـ المبحوث عند الاصوليين من حيث افادته للمفهوم وعدم افادته انما هو الاستثناء
المتصل.
ثم انّ الاستثناء
تارة يكون راجعا للموضوع واخرى يكون راجعا للحكم ، بمعنى انّه تارة يكون من قيود
الموضوع واخرى يكون من قيود الحكم.
أما الاستثناء
الراجع للموضوع فهو ما يؤتى فيه بأداة الاستثناء قبل الإسناد أي قبل الحكم على
الموضوع المستثنى منه ، كما لو قيل « العلماء إلاّ الفساق يجب اكرامهم » أو «
العلماء غير الفساق يجب اكرامهم » ، فالاستثناء هنا ضيق من دائرة الموضوع قبل
اسناد الحكم له.
وهذا الاستثناء
يعبّر عنه بالاستثناء الصفتي ، إذ انّه يؤول روحا الى توصيف الموضوع بغير المستثنى
أو قل يؤول الى تضييق دائرة الموضوع وتحصيصه بحصة خاصة ، فكأنّ أداة الاستثناء
حصّصت الموضوع الى حصتين فكانت احدى الحصتين هي المسند اليها الحكم دون الحصة
الاخرى ، ولهذا لو كنا نبحث عن المفهوم في مثل هذه الجملة الاستثنائية لكان البحث
عنها داخلا تحت البحث عن المفهوم في الجمل الوصفية.
وأما الاستثناء
الراجع للحكم فهو
ما تكون فيه أداة
الاستثناء واقعة بعد الإسناد أي بعد عروض الحكم على موضوعه كما لو قيل « العلماء
يجب إكرامهم إلاّ الفساق منهم » ، فإنّ الاستثناء هنا من قيود الحكم باعتباره
واقعا بعد الإسناد. والمقصود من كونه من قيود الحكم انّ الاستثناء هو المتصدي
لإخراج المستثنى من الحكم الواقع على المستثنى منه أي موجبا لاختصاص الحكم
بالمستثنى منه.
وبهذا يتضح انّ
الاستثناء الراجع للموضوع ليس استثناء حقيقة وإنما هو صورة استثناء بسبب استعمال
أداة الاستثناء لغرض تضييق دائرة الموضوع فهو أشبه بالقيد النعتي الذي يضاف
للموضوع لغرض تحديده.
ثم انّ هنا كلاما
ينسب الى نجم الأئمة حاصلة : انّ الاستثناء دائما يكون راجعا للموضوع ، فسواء جيء
بأداة الاستثناء قبل الإسناد أو بعده فإنّه يكون موجبا لتضييق دائرة الموضوع.
واستدل لذلك بدعوى
انّ المصير الى غير ما ذكر يستوجب التناقض ، إذ انّ الحكم بعد ما يعرض على الموضوع
بتمامه الشامل للمستثنى يكون إخراج المستثنى بعد ذلك عن الحكم من التناقض ، فكأنّه
أثبت له الحكم ثم نفاه عنه.
وأجاب المحقّق
النائيني رحمهالله عن ذلك بما حاصله : انّ الظهور التصديقي للكلام انّما
ينعقد بعد تماميته أما قبل ان يتم المتكلّم كلامه فلا يصح التعويل على ما يظهر
بدوا منه ، واذا كان كذلك فلا تناقض فيما لو جاء المتكلم بحكم لموضوع ثم أخرج بعض
أفراد الموضوع عن الحكم قبل ان يتم كلامه ، إذ لم ينعقد لكلامه قبل الإخراج
والاستثناء ظهور تصديقي في انّ الحكم شامل لتمام أفراد الموضوع ، والظهور البدوي
ليس له استقرار قبل اتمام الكلام كما هو أوضح من ان يخفى ،
بل وحتى لو نصب
المتكلم قرينة منفصلة على انّ مراده الجدّي لم يكن هو استيعاب الحكم لتمام أفراد
الموضوع فإن ذلك لا يكون من التناقض بين القرينة وذي القرينة ، هذا هو الجواب
الحلّي.
وقد أجاب المحقّق رحمهالله على دعوى نجم الأئمة بجواب آخر نقضي وحاصله : انّ هذا الإشكال سيّال ومطّرد
في تمام الحالات التي يكون فيها الكلام مشتملا على قرينة موجبة لإخراج بعض أفراد
موضوع الحكم عن ان تكون مشمولة للحكم ، كالقرائن الموجبة للتقييد والتخصيص ، وكذلك
لو تم الإشكال لكانت القرينة على المجاز ـ والتي تصرف ذي القرينة عن ظهورها الاولي
الى الظهور المناسب للقرينة ـ تقتضي التناقض بين القرينة وذي القرينة.
* * *
٤٧ ـ الاستحالة
راجع ما ذكرناه
تحت عنوان الامتناع بالذات والامتناع بالغير والامتناع بالقياس.
* * *
٤٨ ـ الاستحباب
وهو أحد الأحكام
التكليفية الخمسة ، وقد ذكروا انّ تعريفه هو عبارة عن « طلب الشيء مع الإذن في
تركه » ، وهذا ما يقتضي تركّب الاستحباب من جزءين.
ومن هنا لم يقبل
جمع من الأعلام بهذا التعريف ، وذلك لأنّ الاستحباب من المفاهيم البسيطة ، وهذا ما
أوجب العدول عنه الى تعريف آخر وهو انّ الاستحباب « هو الطلب غير الإلزامي ».
وكيف كان فإنّ نظر
هذين التعريفين انما هو لمقام الإثبات ، وثمة
تعريف آخر
للاستحباب يتصل بمقام الثبوت حاصله انّ الاستحباب عبارة عن الحكم التكليفي الناشئ
عن ملاك غير بالغ حدّا يستوجب تعلّق الإرادة الملزمة بتحقيق متعلّقه ، فالإرادة
الموجبة لجعل الحكم الاستحبابي لم تكن شديدة تبعا للملاك الذي تولدت عنه الإرادة
حيث لم يكن تاما.
* * *
٤٩ ـ استحباب الاحتياط
يمكن ان يراد من
الاستحباب في المقام الاستحباب الطريقي ، بمعنى انّ الأمر به نشأ عن تعلّق إرادة
المولى بالتحفّظ على الأحكام الواقعية ، فالاحتياط ليس مطلوبا للمولى بنفسه بل انّ
مطلوبيته باعتباره وسيلة للتحفّظ على الأحكام الواقعية.
ويمكن ان يراد من
استحباب الاحتياط الاستحباب النفسي ، بمعنى انّ إرادة المولى قد تعلّقت بنفس
الاحتياط وبقطع النظر عما يترتّب عليه من التحفّظ على الواقع.
ويمكن ان يكون
الاحتياط مستحبا بالاستحباب الطريقي وكذلك النفسي كما مال الى ذلك السيد الصدر رحمهالله.
وكيف كان فمشهور
الاصوليين ذهبوا الى استحباب الاحتياط ، وذلك للروايات الكثيرة الآمرة بالاحتياط ،
ولمّا كان حملها على الوجوب يواجه مجموعة من الإشكالات فإنّ المتعين حينئذ حملها
على الاستحباب ، إلاّ انّه في مقابل هذه الدعوى ادعى البعض استحالة الاستحباب
المولوي للاحتياط ، ولذلك لا بدّ من حمل الروايات الآمرة بالاحتياط على انّها
أوامر إرشادية بمعنى انّها متصدية للتنبيه على ما يدركه العقل من حسن الاحتياط.
واستدلّ لهذه
الدعوى بدليلين :
الأول : انّه يلزم من جعل
الاستحباب المولوي
للاحتياط اللغوية ، وذلك لانّه إن كان الغرض من جعل الاستحباب هو بعث المكلّف نحو
الاحتياط فهذا تحصيل للحاصل ، إذ انّ إدراك العقل لحسن الاحتياط وحسن التحفّظ على
الاوامر المولوية الواقعية المحتملة كاف في بعث المكلّف نحو الاحتياط فلا مبرّر
لجعل الاستحباب ، مما يعبّر عن انّ غرض الاوامر الباعثة نحو الاحتياط هو الإرشاد
الى الحكم العقلي.
وقد أجاب الأعلام
عن هذا الدليل بما حاصله :
انه قد يفترض انّ
الأمر بالاحتياط مولويا ومفيدا للاستحباب ومع ذلك لا تلزم اللغويّة ، وذلك فيما لو
كان الاستحباب نفسيا أي مطلوب بنفسه للمولى لكونه موجبا لتأكيد التقوى وترويض
النفس على الطاعة وهذا الملاك بنفسه مطلوب للمولى وبقطع النظر على متعلّق الاحتياط
، وحينئذ يكون الباعث العقلي مؤكدا بالباعث المولوي فلا يكون الباعث المولوي
تحصيلا للحاصل.
ثم انّه لو فرض
انّ استحباب الاحتياط طريقي فلا يلزم منه اللغوية أيضا ، وذلك لانّه حينئذ يكشف عن
تعلّق إرادة المولى بالتحفظ على الواقع ولو بنحو الإرادة الغير الملزمة ، وهذا ما
يمنع من تهاون المكلّف بالتكاليف الواقعية المحتملة بدعوى انّها موهومة وانّ
التحفظ عليها من الوسوسة كما ربما ينقدح ذلك في بعض الأذهان ، فيكون استحباب
الاحتياط نافيا لهذه الدعوى ومؤكدا لما يحكم به العقل من حسن التحفظ على الواقع ـ وهذا
الجواب ملفق من كلام المحقق النائيني رحمهالله والسيد الصدر رحمهالله.
الدليل
الثاني : انّ حكم العقل
بحسن الاحتياط واقع في سلسلة معلومات الحكم الشرعي وكلما كان الحكم العقلي واقعا
في سلسلة
معلومات الاحكام
الشرعية فإنّ الامر به من قبل الشارع يكون إرشاديا ، هذا ما أفاده المحقق النائيني
، وبيانه :
ان حكم العقل بحسن
الاحتياط معناه إدراك العقل لحسن التحفظ على الاوامر الواقعية المجهولة ، فهو إذن
مترتب على وجود الأحكام الشرعية فما لم يكن في الواقع أحكام شرعية فإنّ العقل لا
يحكم بحسن الاحتياط ، إذ لا أوامر في الواقع حتى يحكم العقل بحسن التحفّظ عليها ،
إذن حكم العقل بحسن الاحتياط معلول لوجود الاحكام الواقعية ، وكلّما كان كذلك
فالامر من الشارع بما يقتضيه الحكم العقلي لا يكون مولويا.
ولتوضيح المطلب
أكثر نمثّل بهذه الآية الشريفة وهي قوله تعالى ( أَطِيعُوا اللهَ ) فإنّ الأمر فيها لا بدّ من حمله على الإرشاد لما يدركه العقل من لزوم طاعة
المولى جلّ وعلا ، ومنشأ ذلك هو انّ حكم العقل بلزوم طاعة المولى جلّ وعلا واقع في
رتبة المعلول للأحكام الشرعية ، فلو لم يكن هناك أحكام شرعية فإنّ العقل لا يدرك
لزوم طاعة المولى ، إذ المفترض انّ لا أوامر للمولى حتى يدرك العقل لزوم طاعتها ،
إذن إدراك العقل للزوم الطاعة معلول لوجود الأوامر الشرعية او قل واقع في سلسلة
معلولات الاوامر الشرعية ، وحينئذ يكون الأمر بطاعة هذه الاوامر إرشاديا وإلاّ لزم
التسلسل ، إذ ما هو الملزم لطاعة المولى بأمره بالطاعة ، فإن كان الملزم هو أمر
آخر للمولى ينسحب الكلام لذلك وهكذا ، أما لو كان القاضي بلزوم الطاعة هو العقل
فإنّ التسلسل لا يلزم ، إذ انّ ثمة أوامر شرعية يدرك العقل لزوم طاعتها.
وبهذا يثبت انّ
الأمر الصادر من الشارع إذا كان متناسبا مع ما يقتضيه
الحكم العقلي وكان
ذلك الحكم واقعا في رتبة المعلول للحكم الشرعي فإنّ المتعين هو حمل الأمر الصادر
عن الشارع على الإرشادية ، والمقام من هذا القبيل ، إذ انّ الأمر بالاحتياط يتناسب
مع الحكم العقلي وهو حسن التحفّظ على الحكم الشرعي الواقعي المجهول. وبه تسقط دعوى
الاستحباب الشرعي بالاحتياط.
وأجاب عنه السيد
الخوئي رحمهالله بما حاصله : انّه وان كنا نسلّم انّ حكم العقل بحسن
الاحتياط واقع في سلسلة معلومات الحكم الشرعي إلاّ انّه مع ذلك يمكن ان يكون الأمر
به أمرا مولويا شرعيا ، وذلك لأنّ مقدار ما يدركه انما هو حسن الاحتياط وهذا لا
يمنع من أن يأمر الشارع بوجوب الاحتياط الشرعي تحفّظا على أغراضه التي قد تفوت لو
لا حكمه بوجوب الاحتياط ، فالأمر بالاحتياط يكون مولويا رغم انّ ما يدركه العقل من
حسن الاحتياط واقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي.
ثم انّ الجواب
الذي ذكره السيد الصدر رحمهالله على الدليل الأول يصلح للجواب عن هذا الدليل مع شيء من
التعديل فتأمل.
* * *
٥٠ ـ الاستحسان
المتبادر بدوا من
معنى الاستحسان هو اعمال الذوق ومقتضيات الطبع في مقام التعرّف على الحكم الشرعي ،
فمتى ما وجد المجتهد انّ هذا الفعل ملائما لما يقتضيه الطبع فهذا يكشف عن ان حكم
هذا الفعل الواقعي هو الإباحة ، وبخلافه ما لو كان الفعل مستبشعا تمجّه الطباع
وتشمئز له النفوس ويتنافى مع الذوق فهذا يعبّر عن انّ حكمه الواقعي هو الحرمة لو
كانت مرتبة الاشمئزاز والاستقذار شديدة جدا ، أما لو كانت
مرتبة الاستقذار
والاستبشاع بمستوى أدنى من الحالة السابقة فإنّ هذا يكشف عن ان حكم هذا الفعل عند
الله تعالى هو الكراهة.
وهذا المعنى
للاستحسان يمكن ان يستفاد من كلام الشافعي ـ والذي لا يرى حجية الاستحسان ـ حيث
قال في مقام الرد على دعوى حجية الاستحسان : « أفرأيت اذا قال المفتي في النازلة
ليس فيها نص خبر ولا قياس وقال استحسن ، فلا بدّ ان يزعم انّ جائزا لغيره ، ان
يستحسن خلافه فيقول كل حاكم في بلد ومفت بما يستحسن ، فيقال في الشيء الواحد بضروب
من الحكم والفتيا ، فإن كان هذا جائزا عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاءوا
وان كان ضيقا فلا يجوز ان يدخلوا فيه ».
فإنّ هذا النص كما
تلاحظون صريح في انّ الشافعي يفهم من الاستحسان المعنى الذي ذكرناه ، وذلك لأنّ
ملاحظته في مرتبة متأخرة عن فقدان النص يعبّر عن انّ الاستحسان ليس بمعنى تقديم
أقوى النصين ظهورا أو سندا ـ كما ذكر البعض ـ وملاحظته مترتبا على القياس يعبّر عن
ان الاستحسان ليس بمعنى العدول عن قياس الى قياس أقوى ـ كما ذكر البعض ـ كما يعبّر
عن انّ الاستحسان لا يدخل تحت أيّ وجه من وجوه القياس المذكورة ، ومن هنا يتمحض
معنى الاستحسان ـ بحسب فهم الشافعي ـ في مجموعة من المحتملات.
منها انّ مراد
الشافعي من الاستحسان هو المصالح المرسلة ، وهذا الاحتمال غير مراد جزما ، وذلك
لانّ المصالح المرسلة تخضع لضوابط عقليّة أو عقلائية أو شرعية كما سيتضح ذلك في
الحديث عن المصالح المرسلة ، فلو كان مراده ذلك لكان إشكاله ـ وهو انّه يلزم من
القول بحجية الاستحسان « ان يقول كل
حاكم في بلد ومفت
بما يستحسن » ـ غير وارد ، إذ انّ الضوابط العقلية والعقلائية وكذلك الشرعية مطردة
والاختلاف انما هو في موارد تطبيقها وهذا حاصل حتى في الكتاب والسنة وكذلك القياس
، وهذا ما يعبّر عن انّ الشافعي لا يقصد بالاستحسان المصالح المرسلة.
وبما ذكرناه يتضح
عدم إرادته للحسن والقبح العقليين أو العقلائيين ، وكذلك يتّضح عدم إرادته من
الاستحسان ما يعبّر عنه بحجية العرف.
وبسقوط تمام
المحتملات يتعيّن كون المراد من معنى الاستحسان هو ما ذكرناه ، إذ هو الذي يرد
عليه إشكال الشافعي ، فالذوق وما يلائم الطبع وكذلك الاشمئزاز والاستقذار
والاستبشاع كلها حالات نفسانية تخضع لعوامل تربوية أو اجتماعية أو ثقافية ، وهي
تختلف من بلد لآخر ومن بيئة لاخرى ، بل قد يتفاوت المجتمع الواحد في ذلك فتجد انّ
طبقة معينة أو شريحة خاصة تنفر من بعض الأطعمة وتستقذرها والحال انّ نفس هذه
الأطعمة تستهوي طبقة اخرى من المجتمع أولا أقل لا تكون مستقذرة عندهم ، كما نلاحظ
ان بعض المجتمعات تمارس بعض الأعمال وترى انها ملائمة للذوق والتحضّر ، ونجد
مجتمعات اخرى تستبشع هذه الأعمال وترى انها من التخلّف والتسافل الى مستوى الحيوان
، وما ذلك إلاّ لاختلاف التربية والثقافة.
ثم انّ المجتمع
الواحد قد يمرّ بأطوار وظروف تتغيّر معها طبائعه ومذاقاته. وبهذا اتضح انّ ما يفهمه الشافعي من معنى الاستحسان هو ما
ذكرناه.
ويمكن تأكيد هذا
الفهم ببعض التعريفات المذكورة للاستحسان فقد نقل صاحب محاضرات في اسباب اختلاف
الفقهاء عن المبسوط ـ كما ذكر ذلك السيد الحكيم ـ انّ الاستحسان
« هو الأخذ
بالسماحة وانتفاء ما فيه الراحة ».
وكذلك نقل عن ابن
قدامة انّ الاستحسان « دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه ».
والتعريف الاول
يعبّر عن الحكم بمناط الاستحسان لا بدّ وان يكون متناسبا مع السماحة والسهولة ،
فلو كان فعل من الأفعال متناسبا مع انس النفس ومتناغما مع مذاقها وموجبا لراحتها
واستجمامها فهذا يقتضي الحكم بإباحته بل وباستحبابه ، لأنّه هو مقتضى الأخذ
بالسماحة وانتفاء ما فيه الراحة ، فلو حكمنا بحرمته لأخذنا بما فيه التعب وأوردنا
المكلّف موارد النصب وهو ما ينافي مآرب النفس في الطرب.
وأما التعريف
الثاني فنتساءل ما هو الدليل الذي ينقدح في نفس المجتهد ويتعذّر عليه التعبير عنه
، فحتما ليس هو من قبيل النصوص الشرعية ولا هو من قبيل البراهين العقلية ولا هو
قياس من الأقيسة وإلاّ لأجاد التعبير عنه ، ولو كان من قبيل المصالح المرسلة أو
سدّ الذرائع أو ما الى ذلك فما هو الموجب لانتفاء القدرة على التعبير عنه ، نعم لو
كان الذوق هو الدليل فإنّ من الصعب التعبير عنه إلاّ ان يكون المجتهد شاعرا.
المعنى
الثاني للاستحسان : هو « ما يستحسنه المجتهد بعقله » ، وهذا التعريف منقول عن ابن قدامة ، وهو
يحتمل معان ثلاثة :
الاحتمال
الاول : انّ مراده من
الاستحسان العقلي هو خصوص مدركات العقل القطعية الأعم من مدركات العقل العملي ـ كإدراك
العقل لحسن العدل وقبح الظلم ـ ومدركات العقل النظري كإدراكه للملازمة بين وجوب
الشيء ووجوب مقدمته أو انّ مراده مختص بالاول.
الاحتمال
الثاني : انّ مراده من
الاستحسان العقلي
هو مطلق ما يستحسنه العقل الأعم من العقل النظري والعملي والقطعي والظني.
والظاهر من
التعريف انّ المتعين هو الاحتمال الثاني ، وذلك لعدم وجود ما يوجب اختصاصه بالاول
، ومن هنا يكون الاستحسان شاملا للقياس والاستقراء وسدّ الذرائع ، لانها جميعا من
صغريات ما يستحسنه العقل الاعم من القطعي والظني ، وعليه فليس الاستحسان ـ بناء
على هذا المعنى ـ دليلا مستقلا في مقابل الدليل العقلي ، وذلك حتى بناء على
الاحتمال الاول ، وهذا ما يعبّر عن وجود خلل في التعريف.
المعنى
الثالث : انّ الاستحسان
هو « العدول بحكم مسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة ». وهذا التعريف نقله
ابن قدامة أيضا.
واحتمالات المراد
من هذا التعريف ثلاثة :
الاول : انّ الاستحسان يعني تقديم الدليل المخصص من الكتاب
والسنة على عمومات الكتاب واطلاقاته وكذلك عمومات السنة واطلاقاتها. مثلا قوله تعالى ( أُحِلَّ
لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) ، فالآية الكريمة تدلّ باطلاقها على حلّية أكل طعام البحر
، فلو ورد دليل من السنة مفاده « حرمة أكل ما لا فلس له » فإنّ هذا الدليل يكون
مقدما بالاستحسان أي بقاعدة حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص.
الثاني : انّ المراد من الاستحسان هو تقديم الآيات والروايات ـ في
مقام التعرّف على الحكم الشرعي ـ على سائر الأدلة الاخرى سواء كان من قبيل الإجماع
أو العقل أو القياس أو ما الى ذلك فكل ما سوى الكتاب والسنة يكون في مرحلة متأخرة
عنهما في مقام المرجعية ، أي لا يلجأ الى غير الكتاب والسنة في موارد اشتمالهما أو
أحدهما
على حكم المسألة
المبحوث عنها.
الثالث : انّ الاستحسان يعني الخروج عمّا يقتضيه القياس بسبب وجود
دليل خاص من الكتاب والسنة ، بمعنى انّه في فرض التعارض بين ما يدلّ عليه الكتاب
والسنة وبين ما يقتضيه القياس فإنّ الاستحسان يقتضي تقديم ما يدلّ عليه الكتاب
والسنة.
والظاهر إرادة هذا
المعنى من التعريف بقرينة قوله « العدول بحكم مسألة عن نظائرها » ، فإنّ هذا
التعبير يناسب القياس والذي يعني إسراء حكم من مسألة الى نظائرها من المسائل ، فلو
كانت احدى هذه المسائل مما قام الدليل الخاص من الكتاب والسنة على انّ حكمها مناف
لحكم نظائرها من المسائل فإنّ مقتضى الاستحسان هو تقديم الدليل الخاص من الكتاب
والسنة.
والذي يؤكد ما
ذكرناه انّ التعبير بالعدول لا يناسب التخصيص ـ والذي هو الاحتمال الاول ـ إذ انّ
العدول يستبطن وجود قاعدة كلية متبناة تقتضي حكما معينا إلاّ انّ ثمة شيئا أوجب
العدول عن هذه القاعدة ، والتخصيص ليس من هذا القبيل ، وذلك لأنّ المخصص لو كان
متصلا فإنّ حكم المسألة المستفاد من المخصّص ثابت بنفس الخطاب المفيد للعموم ،
فليس من قاعدة تقتضي حكما مغايرا وتكون المسألة الخارجة بالتخصيص مشمولة له أولا
ثم تخرج بواسطة الدليل الخاص حتى يصدق العدول ، إذ انّ العموم من أول الأمر لا
يشمل المسألة الخارجة بالمخصص المتصل ، وأمّا لو كان المخصّص منفصلا فكذلك لا يكون
التعبير بالعدول دقيقا لو كان المراد منه التخصيص ، إذ ان التعويل على الاطلاق أو
العموم قبل الفحص عن المخصّص أو المقيّد غير صحيح ، وذلك للعلم الإجمالي بوجودات
مخصّصات ومقيّدات
منفصلة في الخطابات الشرعية ، فمع الفحص والعثور على المخصّص المنفصل لا يكون
العمل بمقتضى المخصص أو المقيد عدولا عن العموم والاطلاق ، وذلك لانّ الاطلاق
وكذلك العموم لم يكونا مرادين بالإرادة الجدية من أول الأمر بل المراد الجدّي
منهما هو غير ما يقتضيه المخصّص المنفصل.
وبهذا يتنقح ان لا
قاعدة كلية مبتناة تم العدول عنها في موارد التخصيص بل انّ المخصّص يثبت في عرض
العموم والاطلاق وانما قد يتفق العثور على العموم قبل العثور على المخصّص وقد
ينعكس الأمر فنعثر على المخصّص قبل العثور على العموم أو الاطلاق وحينئذ فما معنى
التعبير بالعدول.
وأما الاحتمال
الثالث فيناسبه التعبير بالعدول ، وذلك لأنّ القياس ضابطة عقلية كلية محددة
المعالم لا يقال في موردها انّ بعض مواردها خارج من أول الأمر بل انّ كل ما يخرج
عنها يكون عدولا عن مقتضاها الى شيء آخر.
هذا ما يناسب سقوط
الاحتمال الاول ، وأما الاحتمال الثاني فهو أبعد من الاحتمال الأول ، وذلك لأنّ
الاستحسان فيه بمعنى تقديم الكتاب والسنة على سائر الادلة ، ولا نجد مناسبة
للتعبير بالعدول لو كان هذا المعنى هو المراد ، إذ انّ هذا المعنى لا يعني أكثر من
بيان الترتيب المرحلي للأدلة في مقام المرجعية والاستنباط للأحكام الشرعية.
والمتحصّل انّ حمل
التعريف على الدقة يقتضي كون المراد منه ما ذكرناه وهو الخروج عن القاعدة الكليّة
المستلهمة بواسطة القياس في موارد وجود الدليل الخاص من الكتاب والسنة ، وهذا ما
تؤكده مقتضيات القياس ، إذ ان القياس العقلي لا يفرق
بين مسألة واخرى
بل يعطي ضابطة كلية لنظائر المسألة المقيس عليها إلاّ انّ المجتهد يعدل عمّا
يقتضيه القياس بسبب وجود الدليل الخاص من الكتاب والسنة.
والذي يعزّز ما
استظهرناه من التعريف ما نقل عن البزودي ـ وهو من الاحناف ـ قال : ان الاستحسان هو
« العدول عن موجب قياس الى قياس أقوى أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه ».
والمناسب لما
ذكرناه هو قوله « أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه » حيث اعتبر المعدول عنه هو
القياس وليس هو دليل آخر كعمومات الكتاب والسنة.
ثم انّ هذا
التعريف أوسع دائرة من التعريف السابق حيث جعل الموجب للعدول عن القياس مطلق
الدليل الأقوى ، فلو اعتبرنا انّ الإجماع وكذلك المصالح المرسلة أقوى دليليّة من
القياس كان ذلك موجبا للعدول عما يقتضيه القياس ، وكذلك لو كان هناك قياس أقوى
دليليّة من قياس آخر فلا بدّ من العدول عن القياس المرجوح بمقتضى الاستحسان ، إلاّ
انّ هذا التعريف لم يشر الى ما هي الضابطة لتشخيص اقوائية أحد القياسين على الآخر
، والمحتمل في ضابطة الأقوائية أحد امور :
الأمر
الاول : مناسبة القياس
الأقوى للمصلحة.
ولو كانت هذه هي
الضابطة لما صحّ عدّ الاستحسان دليلا برأسه ، فهو حينئذ يرجع الى المصالح المرسلة
فهي المائز ـ بناء على هذا الاحتمال ـ بين القياس الأقوى من القياس الأضعف ، وهذا
ما يوجب استبعاد هذا الاحتمال ، إذ انّ الظاهر منهم هو اعتبار الاستحسان دليلا
مستقلا في عرض الأدلة الاخرى.
الأمر
الثاني : مناسبته لسدّ
الذرائع
أو العرف وهذا
الاحتمال أيضا ساقط لعين ما ذكرناه في الأمر الاول.
الأمر
الثالث : انّ الضابطة في
أقوائية قياس على آخر هو الذوق وملائمات الطبع ، وهذا الاحتمال هو المتعين ، إذ لا
يرد عليه الإشكال الوارد على الاحتمال الاول والثاني ، كما لا يتصوّر ان تكون
ضابطة الاقوائية هو موافقة القياس الأقوى للكتاب والسنة والإجماع ، إذ انّ ظاهر
التعريف هو انّ الدليل على حكم المسألة هو أحد القياسين لا غير ، إلاّ انّه لمّا
كان أحد القياسين منافيا لما يقتضيه الآخر كان ذلك مستوجبا للبحث عن الأقوى منهما.
هذا بالاضافة الى
انّ الثالث من الامور المحتملة متناسب مع مجموعة من التعريفات المذكورة للاستحسان
كما بينا ذلك.
المعنى
الرابع : ما نقل عن
الشاطبي من المالكية انّ الاستحسان هو « العمل بأقوى الدليلين ».
ولم نتبين المراد
من هذا التعريف ، فهل المراد منه هو إعمال الاستحسان لتشخيص ما هو الدليل الأقوى
أو انّ المراد من الاستحسان هو نفس الأخذ بالدليل الأقوى والأقوائية تثبت بواسطة
اخرى غير الاستحسان ، فنفس الأخذ بما يقتضيه الكتاب الكريم وطرح ما يقتضيه الخبر
الواحد المنافي هو الاستحسان ، أو انّ الاستحسان معناه هذه القاعدة الكليّة وهي
كلما تعارض دليلان فالحجيّة تكون في طرف الأقوى منهما ، وهذا المعنى أيضا لا يشخّص
لنا ضابطة الأقوائية.
فبناء على
الاحتمال الثاني لا يكون الاستحسان من الأدلة على الحكم الشرعي وانما يكون مجرّد
اصطلاح يطلق على هذه الحالة التي يعمل فيها المجتهد بالدليل الأقوى.
وأما الاحتمال
الثالث : فهو خلاف
ظاهر التعريف ، إذ
انّ هذه القاعدة لا تعدو إما ان تكون قاعدة عقلية منشؤها إدراك العقل لاستحالة
ترجيح المرجوح واستحالة التخيير بين المرجوح والراجح ، وإمّا انّها قاعدة مستفادة
من الشرع أو من دليل آخر ، وإطلاق عنوان الاستحسان عليها مجرّد اصطلاح وهو ينافي
دعوى دليليته على الحكم الشرعي ، ولو سلمنا استفادتها من الاستحسان فهذا لا يقتضي
أكثر من كونها من موارد ما يكشف عنه الاستحسان لا أنها هي الاستحسان نفسه ، وحينئذ
لا يصلح تعريف الاستحسان بها فلا بدّ من التماس تعريف للاستحسان لو كان هذا
الاحتمال هو المتعيّن ، وهذا ما يؤكد سقوط هذا الاحتمال ، على انّه لا معنى محصّل
من هذا الاحتمال ، وذلك لأن الظاهر من التعريف انّ المجتهد إنّما يلجأ للاستحسان
في حالة تعارض الأدلة مع إحراز دليلية كل واحد منهما على الحكم الشرعي لو لا
التعارض ، وحينئذ لا معنى لأن يقال خذ بما هو الأقوى منهما ، لان ذلك لا يعالج
المشكلة ، فهو أشبه بما لو سألك سائل عن أي الطرقين أسلك وكان غرضه التعرّف على
الطريق الاقرب فتجيبه بقولك « اسلك أقرب الطريقين » فهنا لا يكون السائل قد تحصّل
على الجواب الناجع ، لأنّه انّما يسأل عن الطريق الأقرب.
نعم لو كان يعلم
بالطريق الأقرب إلاّ انّه لا يعلم أهو ملزم بسلوك الطريق الاقرب أو هو مخير مثلا
فإنّ الجواب بالقول « اسلك الطريق الأقرب » يكون ناجعا ، إلاّ انّ ذلك خلاف الظاهر
من مرجعية الاستحسان في ظرف التعارض ، لأن الظاهر انّه لا يلجأ للاستحسان للتعرّف
على هذه القاعدة فحسب بل يلجأ اليه لتشخيص الدليل الأقوى من الدليل الأضعف.
ومن هنا يكون
المتعيّن من الاحتمالات هو الاحتمال الأول ، وبهذا يكون تعريف الاستحسان ـ بناء
على هذا الاحتمال ـ هو المشخّص للدليل الأقوى الذي يلزم العمل به ، فيكون التعريف
من قبيل التعريف بالفائدة والنتيجة ، فهذا وان كان خلاف الظاهر من التعريفات إلاّ
انّ ذلك مألوف في التعريفات التي يكون الغرض منها إعطاء صورة عن المعرّف كما يقال
في تعريف الخمر انّه المسكر ، فهو تعريف بما ينتج عنه.
والمتحصّل انّ هذا
الاحتمال وان كان خلاف الظاهر من التعريف إلاّ انّه لمّا كان الاحتمال الثاني ـ والذي
هو أقرب بحسب الصياغة اللفظية للتعريف ـ بعيد جدا كما ذكرنا والاحتمال الثالث ساقط
لابتلائه بما ذكرناه من إشكال فيدور التعريف بين الإجمال وعدم انفهام معنى محصل له
وبين الاحتمال الأول ، والظاهر تعيّنه لمناسبته مع تعريفات اخرى ومناسبته كذلك مع
مرجعية الاستحسان في مقام التعارض.
ومع تمامية هذا
الاحتمال يبقى السؤال عن الآليّة المعتمدة للاستحسان لتشخيص الدليل الأقوى والتي
هي جوهر الاستحسان ، حيث قلنا انّ هذا التعريف ـ بناء على الاحتمال الاول ـ لا
يكشف لنا سوى عن النتيجة المترتبة على الاستحسان ، وهي تشخيص الدليل الأقوى وأما
الآلية المعتمدة لذلك فلا بدّ من استفادتها من مورد آخر.
وهنا مجموعة من
الاحتمالات نوردها لغرض البحث عمّا هو المتعيّن منها :
الاحتمال
الاول : إنّ الآلية
المعتمدة لتشخيص الدليل الأقوى هو الكتاب المجيد أو السنة أو العقل القطعي والظني
أو مناسبة أحد الدليلين لما تقتضيه المصلحة العامة أو
مناسبة أحدهما
للمرتكزات العرفية أو تناسب أحدهما لسدّ الذرائع المفضية للحرام فهو حينئذ يكون
الاقوى أو تناسب أحدهما لفتح الذرائع المفضية للواجب فهو الاقوى من الدليل الفاقد
لهذه الخصوصية.
الاحتمال
الثاني : ملائمة أحد
الدليلين للطبع أو منافاة أحدهما للمذاقات العامة فيكون ما يقابله هو الأقوى.
الاحتمال
الثالث : هو مجموع هذه
المرجحات.
أمّا الترجيح
بالكتاب أو بالسنة أو بالعقل أو بالمصلحة أو بسدّ الذرائع أو فتحها أو بالمرتكزات
العرفية فمن غير المناسب أن يطلق عليها الترجيح بالاستحسان بل المناسب ان يقال
ترجيح أحد الدليلين بالكتاب أو بالعقل وهكذا.
وما قد يقال انّه
مجرّد اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح.
نقول انّ هذا
الكلام صحيح إلاّ اننا لا نحرز انّ ترجيح أحد الدليلين بالكتاب مثلا يصطلح عليه
بالاستحسان حتى نقول لا مشاحة في الاصطلاح وانما نبحث عن ان مصطلح الاستحسان على
أيّ شيء يطلق ، وحينئذ لا بدّ من ملاحظة الاعتبارات والمناسبات بين المصطلح
والمصطلح عليه ، ومن الواضح عدم التناسب بين ترجيح أحد الدليلين بالكتاب المجيد
وبين مصطلح الاستحسان.
وأما الاحتمال
الثالث فيضعفه ما نجده في كلمات القوم من عدم انحصار الترجيح وتشخيص الاقوى
بالاستحسان ، فلو كان الاحتمال الثالث هو المتعين لكان جامعا لتمام المرجحات وهذا
ما لا يمكن قبوله لملاحظة انّ الاستحسان في كلماتهم يكون في عرض مرجحات اخرى وفي
حالات يكون في طولها مما يعبّر عن انّ الاحتمال الثالث ليس هو المقصود.
ومن هنا يتعين
الاحتمال الثاني ، إذ هو الذي لا يرد على الإشكال الوارد على الاحتمال الاول كما
لا يرد عليه الإشكال الوارد على الاحتمال الثالث ، فمن المناسب جدا ان يقال حين
ترجيح أحد الدليلين بما يلائم الطبع والمذاقات العامة من المناسب انّ يقال انّ
الترجيح تم بالاستحسان ، على انّ هذا الاحتمال هو المناسب لبعض التعريفات المذكورة
للاستحسان.
ثم انّه لو
افترضنا جدلا ان الاحتمال الثالث هو المتعيّن لكان علينا ان نمارس عملية الاستذواق
لغرض تشخيص الدليل الاقوى ولو في الحالات التي لا يكون معها مرجح آخر ، كما لو
تعارض خبران ولم يكن ثمة مرجح من المرجحات الاخرى فإنّ علينا ان نلاحظ ما هو
الدليل المناسب لمقتضيات الذوق وملائمات الطبع ، وهذا هو المستفاد مما ذكره
السرخسي في مبسوطه ، حيث ذكر ان من تعريفات الاستحسان هو « طلب السهولة في الاحكام
مما يبتلي به الخاص والعام » وكذلك ما نقله عن بعض من انّ الاستحسان هو « الأخذ
بالسماحة وانتفاء ما فيه الراحة » « والأخذ بالسعة وابتغاء الدعة » ، فإنّ هذه
التعريفات تعبّر عن انّه يحوم في حمى الاحتمال الذي رجّحناه أو يكون الاستحسان
متضمنا للمعنى الذي ذكرناه.
وأما احتمال ان
تكون الآلية لتشخيص الدليل الأقوى هو مجموع المرجحات باستثناء ما ذكرناه في
الاحتمال الثاني فهو وان كان معقولا إلاّ انّه يتنافى ـ كما ذكرنا ـ مع عدّ
الاستحسان مرجحا في عرض المرجحات الاخرى وفي حالات يكون في طولها مما يؤكد عدم
إرادة هذا الاحتمال.
المعنى
الخامس : وهو ما نقل عن
المالكيّة من انّ الاستحسان هو
« الالتفات الى
المصلحة والعدل ».
وهنا لم يحدّد لنا
التعريف متى يلجأ المجتهد للالتفات الى المصلحة والعدل ، وهل انّ الالتفات لذلك
يكون في ظرف التعارض بين الأدلة ، فيكون الاستحسان من وسائل علاج التعارض أو ان
الالتفات يكون ابتدائيا ، بمعنى انّه يكون وسيلة للكشف عن الحكم الشرعي فيكون في
عرض الأدلة الاخرى ، أو انّ الالتفات يكون لغرض محاكمة الأدلة الشرعية والعقلية
وغيرها فما كان منها مناسبا للمصلحة والعدل فهي صالحة للدليلية ، أما مع منافاتها
للمصلحة والعدل فهي لا تصلح للدليلية والكاشفية عن الحكم الشرعي فتكون للاستحسان
فوقية على سائر الأدلة ، إذ هو المشخص ـ بناء على هذا الاحتمال ـ للحجّة منها من
غير الحجة حتى في ظرف عدم التعارض.
على انّ التعريف
لم يشخّص لنا مرتبة المصلحة الموجبة للترجيح لو كان الاحتمال الاول هو المراد ،
كما انّه لم يبيّن لنا مقدار المصلحة المؤثرة في الكشف عن الحكم الشرعي لو كان
الاحتمال الثاني هو المقصود ، كما انّه لم يوقفنا على ماهية وحدود المصلحة الموجبة
لثبوت الحجية لبعض الأدلة وانتفائها عن أدلة اخرى لو كان الاحتمال الثالث هو
المراد.
ومن هنا لا ندري
ما هو العلاج في حالة تعارض المصلحتين أو تزاحمهما وبأيّ وسيلة يتوسّل المجتهد
لترجيح احدى المصلحتين ، ثم ما ذا لو تعارض أو تزاحم العدل مع المصلحة بأن كان أحد
الدليلين مناسبا للمصلحة وكان الآخر مناسبا لمقتضيات العدل أو كان أحد الفعلين
مناسبا للمصلحة والآخر للعدل ولم يكن ثمة مرجح من المرجحات الاخرى.
مثلا لو كان هناك
رجل يحرق في كل ليلة بيتا من بيوتات البلدة وكان
قطع مادة الفساد
الذي يحدثه هذا الرجل يتوقف على حبس مجموعة من الرجال وتعذيبهم لغرض التعرّف على
الجاني منهم ولم يكن ثمة وسيلة اخرى لقطع مادة الفساد.
فهنا يكون حبس
هؤلاء الرجال وتعذيبهم متناسبا مع المصلحة العامة إلاّ انّه مناف للعدل ، إذ لا
إشكال انّ حبس غير الجاني وتعذيبه من الظلم ، فهذه الحالة لا يجيب عليها التعريف
المذكور أيضا.
على انّه يمكن
الإيراد على التعريف بأن الاستحسان لا يكون ـ بناء عليه ـ دليلا مستقلا بل هو راجع
الى المصالح المرسلة والى ما يدركه العقل من حسن العدل وقبح الظلم ، وحينئذ لا
يكون الاستحسان إلاّ تكثيرا للمصطلحات بلا مغزى ، وهذا يتنافى مع الصناعة العلمية
، هذا بالإضافة الى انّ الظاهر من كلمات الاصوليين وفقهاء القوم انّ الاستحسان دليل
مستقل في عرض الأدلة كالمصالح المرسلة والدليل العقلي وليس هو مصطلح ثان للمصالح
المرسلة والدليل العقلي. ومن هنا يكون التشكيك في دقة هذا التعريف كبيرا جدا.
هذا تمام الكلام
في معنى الاستحسان ، ولا بأس ببيان الأدلة التي استدلّ بها على حجية الاستحسان.
ذكر السيد الحكيم
في كتابه الاصول العامة انّه استدلّ على ذلك بآيتين من الكتاب المجيد وبرواية من
السنة الشريفة وبالإجماع ، ونحن نعرض لهذه الأدلة تباعا.
الدليل
الاول : قوله تعالى ( الَّذِينَ
يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) .
وتقريب الاستدلال
بهذه الآية الكريمة لصالح القول بحجية الاستحسان ، انّ الله تعالى امتدح عباده
اللذين يتبعون أحسن القول ، وهذا ما يعبّر عن حجية الاستحسان
وإلاّ لما امتدح
الله تعالى عباده المتصفين بالعمل بالاستحسان.
وقبل الجواب عن
الاستدلال بالآية الشريفة نقول : انّ المراد من عنوان الأحسن يحتمل ثلاثة احتمالات
:
الاحتمال
الأول : انّه عنوان
اضافي نسبي ، وحينئذ يكون معنى الآية هو حجية كل قول أو رأي إذا اضيف ونسب الى رأي
آخر كان أحسن منه بقطع النظر عن كون القولين واجدين للحجيّة في نفسيهما أو لا ،
فمحض الأحسنية هي المناط في ثبوت الحجية للقول المتصف بها.
وواضح انّ هذا
الاحتمال غير مراد جزما ، إذ من غير المعقول ان يكون القول أو الرأي غير واجد
للحجية وبمجرّد ان يضاف الى رأي آخر ويتفوق عليه نسبيا يكون ذلك موجبا لاتصافه
بالحجيّة ، فالرأي حينما يكون منافيا لنظر الشارع لا يكون رجحانه على رأي آخر مناف
أيضا للشارع موجبا لثبوت الحجيّة للرأي الراجح وإلاّ لما صحّ ان تكون للشارع
متبنيات خاصة تثبت بموجبها حجية بعض الأقوال وعدم حجية أقوال اخرى ، إذ انّ
الاقوال التي لم تثبت لها الحجيّة متفاضلة بلا ريب ، وحينئذ يكون الافضل منها حجة
يلزم التعبّد به وهذا خلاف بناء الشارع على عدم حجيتها ، هذا لو كان المراد من
الأحسنية هو الأحسنية الواقعية وإلا لو كان المراد من الأحسنية هو الأحسنية بنظر
كل أحدد للزم الهرج والمرج ، إذ انّ الأحسنية بهذا المعنى تخضع لعوامل نفسية
وملاحظة المصالح الشخصية وهي متفاوتة من شخص لآخر ومتزاحمة في غالب الأحيان ،
وعندئذ يجرّ كل واحد النار الى قرصه ، وتكون لغة الغاب هي المحكمة في المجتمعات
وبها يختلّ النظام ، وهذا ما يورث الجزم بعدم إرادة الآية
الشريفة لهذا
المعنى.
الاحتمال
الثاني : انّ المراد من
عنوان الأحسنية هي الأحسنية الواقعية في إطار الأقوال الواجدة للحجية في نفسها
وبقطع النظر عن تفاضلها ، وحينئذ يكون المراد أحد احتمالات ثلاثة :
الاول : ان يكون كل واحد من القولين واجدا للحجية في حدّ نفسه ما
لم يتعارضا أو يتزاحما واذا تعارضا أو تزاحما فإنّ الحجية تسقط عن القول المفضول
وتبقى الحجية للقول الأحسن. فما يقتضيه القياس مثلا حجة في حدّ نفسه وكذلك ما
يقتضيه النص القرآني إلاّ انّه حينما يتعارضان أو يتزاحمان فإنّ الحجيّة تسقط عن
المفضول منهما وهو ما يقتضيه القياس.
الثاني : ان يكون كل واحد من القولين واجدا للحجيّة ولا يكون
التفاضل بينهما موجبا لسقوط المفضول حتى في ظرف التعارض أو التزاحم نعم الارجح هو
الأخذ بالقول الفاضل.
الثالث : ان تكون الآية بصدد بيان راجحية اختيار القول الفاضل
وليست متصدية لحالات التعارض أو التزاحم.
والاحتمال الراجح
من هذه الاحتمالات هو الأول وذلك بقرينة ذيل الآية الشريفة ( أُولئِكَ
الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ ) هذا لو كنا نبني على حجية مفهوم الوصف فيكون المتبع للأحسن
هو الذي هداه الله عزّ وجلّ ، وبمفهوم الوصف يكون غيره من أهل الضلال ، إلاّ أنّ
المعروف بين الاعلام هو عدم حجية مفهوم الوصف ، وعليه لا يكون الاتصاف بالهداية
لمتّبع الأحسن ملازما لانتفائها عن غير المتّبع للأحسن خصوصا مع ملاحظة المعطوف
على وصف الهداية وهي قوله ( وَأُولئِكَ هُمْ
أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي أولوا
العقول الراجحة ،
فإنّ هذا الوصف يشعر بأن الأخذ بالأحسن من صفات الكمال وليس هو الفيصل بين الحق
والباطل والهداية والضلال ، فالهداية والتعقّل من المفاهيم المشككة ، فمن الناس من
يأخذ منهما بحظ وافر فهذا هو الأهدى والأعقل ، ومنهم من يكون حظه منهما أقل وهذا
لا يقتضي انسلاب صفة الهداية والتعقل عنه.
ومن هنا لا يمكن
استظهار المعنى الاول ، ولا يبعد ان يكون المعنى الثالث هو المتعين من هذا
الاحتمال ، وذلك لأنّه بعد عدم دلالة الجملة الوصفية على المفهوم لا يكون ثمة
مبرّر لاستظهار تصدّي الآية الشريفة لعلاج حالات التعارض والتزاحم ، إذ المبرّر
لاستظهار تصدّي الآية لذلك هو مفهوم الوصف ، إذ به يثبت انّ متّبع غير الأحسن لا
يكون مهديّا وهذا معناه سقوط الحجية عن القول غير الأحسن وذلك يقتضي انّ الآية
متصدية لعلاج حالات التعارض والتزاحم ، إذ لا معنى لسقوط أحد القولين عن الحجية
بمجرّد أنّ أحدهما أحسن من الآخر إذا لم يكونا متعارضين أو متزاحمين ، وعليه وبعد
عدم حجية مفهوم الوصف تكون الآية بصدد بيان راجحية اختيار القول الأحسن من القولين
الواجدين للحجيّة وليست متصدّية لعلاج حالات التعارض والتزاحم أصلا ، لا أقل انّ
هذا المعنى محتمل جدا وليس المعنى الاول مترجح عليه فتكون الآية الشريفة مجملة من
هذه الجهة.
على انّه لو كان
المعنى الاول من هذا الاحتمال هو المتعيّن لما كانت الآية الشريفة صالحة للاستدلال
بها على حجية الاستحسان ، وذلك لأن المعنى الاول لا يقتضي أكثر من حجيّة القول
الاحسن وسقوط الحجية عن غير الاحسن اما كيف نشخّص الأحسن من القولين فهذا ما لم
تتصد الآية
الشريفة لبيانه.
فالتعريف الاول
والثاني والثالث والخامس كلها متصدية لتشخيص الأحسن من الأقوال والبحث إنما هو عن
ثبوت الحجية لهذه المشخصات ولا يمكن إثبات حجية ذلك بالكبرى الكلية المستفادة من
الآية الشريفة ، إذ من الواضح ان القضايا لا تنقح موضوعاتها ، فحينما يقول المولى
أكرم العلماء فإنه ليس متصديا لإثبات انّ زيدا عالما وان بكرا عالما ، وهنا أيضا
حينما يقول « الأحسن هو الحجة » لا يكون ذلك موجبا لإثبات انّ الأحسن هو المستفاد
بواسطة الذوق وملائمات الطبع أو العقل أو المصلحة أو ما الى ذلك ، نعم لو ثبت من
خارج الآية الشريفة انّ الأحسن يتشخص بواسطة الذوق أو المصلحة أو العقل فإنّه يمكن
التمسّك بالآية الشريفة لإثبات الحجية لهذه الصغريات ، إذن فلا بدّ من التماس دليل
آخر على حجية الاستحسان في إثبات ما هو أحسن.
نعم يبقى الكلام
في التعريف الرابع وهو انّ الاستحسان يعني « العمل بأقوى الدليلين » ، وقد احتملنا
للمراد منه ثلاثة احتمالات ورجحنا الاحتمال الاول وبناء عليه يكون التعريف متصديا
أيضا لتشخيص القول الأحسن وبذلك يكون مشمولا للإشكال الوارد على التعريفات الاخرى
، وأما بناء على الاحتمال الثاني فالاستحسان ليس من أدلة الحكم الشرعي ، وأما بناء
على الاحتمال الثالث فهو مطابق للآية بناء على المعنى الاول من الاحتمال الثاني
لها إلاّ انّه لا ينفع لإثبات المطلوب بعد ان كان مفاده حجية الدليل الأقوى دون
تشخيص ما هو الدليل الاقوى من الدليل الأضعف.
الاحتمال
الثالث : لمعنى الآية
الشريفة انّ المراد من عنوان الأحسن هو الأحسن الواقعي إلاّ انّه في مقابل
القول الباطل ،
فالآية الشريفة تمتدح اللذين يأخذون بالقول الحق ، وذلك بقرينة السياق.
ولكي تتضح الدعوى
نذكر الآية الشريفة بتمامها وكذلك التي سبقتها والتي تليها (
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ
لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ
أُولُوا الْأَلْبابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ
تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ * لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ
... ) .
فالآية الشريفة
واقعة في هذا السياق وهي تعبّر عن انّ المهديين واولي الألباب واللذين لهم البشرى
هم اللذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا لربهم واتّبعوا أحسن القول ، وفي مقابلهم من
حقت عليه كلمة العذاب وليس من سبيل لإنقاذهم من النار.
والذي يؤكد ما
ذكرناه انّ الآية الشريفة رتبت البشارة على اجتناب عبادة الطاغوت والإنابة لله جلّ
وعلا ثم عطفت ذلك ببيان العلة من البشارة وهي اتباع أحسن القول ، فأحسن القول هو
اجتناب الطاغوت والإنابة لله جلّ وعلا ، فالتوصيف هنا باتباع أحسن القول سيق لغرض
التعليل أو لغرض الاحتراز وكلاهما يصبان في صالح المطلوب كما هو واضح.
ثم لم تكتف الآيات
بزفّ البشرى للذين يتبعون أحسن القول أي اللذين اجتنبوا الطاغوت بل أوضحت مصير
غيرهم فقالت ( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) فليس هنا حالة
برزخية فاما اتباع أحسن القول وهو المستوجب للبشرى وإمّا اتباع الطرق الاخرى وهو
المستوجب للعذاب.
وبهذا اتضح انّ
الأحسنية في الآية الشريفة ليست في مقابل الحسن وانّما هي في مقابل سيّئ القول
وباطله فهي على غرار قوله تعالى ( أَفَمَنْ يَهْدِي
إِلَى
الْحَقِّ
أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى ) فأحقية الذي يهدي للحق بالاتباع ليست في مقابل استحقاق من لا يهدي للإتباع ،
فالذي لا يهدي لا يستحق الإتباع بل يحرم اتباعه.
وبتمامية استظهار
هذا الاحتمال تكون الآية غير نافعة لاثبات ما يروم القوم إثباته من حجية الاستحسان
، وما قد يقال من انّه يمكن إثبات حجية الاستحسان بواسطة التمسّك باطلاق اللذين
يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
نقول انه لو تم
الإطلاق ـ بناء على هذا الاحتمال ـ فإنّ الإشكال الوارد على المعنى الاول من
الاحتمال الثاني لمعنى « الاحسن » وارد هنا أيضا فراجع.
الدليل
الثاني : قوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) .
وهذه الآية
الشريفة تحتمل عدة احتمالات نذكر أهمها :
الاحتمال
الاول : انّ الآية
الشريفة في صدد التأكيد على اتباع التكاليف الإلزامية ، فإنها أحسن ما انزل من
الله جلّ وعلا ، وذلك في مقابل الأحكام التكليفية الغير الإلزامية ، فهي وان كانت
حسنة إلاّ التكاليف الإلزامية أحسن ، ولعل منشأ الأحسنية هو ان الملاكات في موردها
تامة ، فالأحسنية بلحاظ ما يعود على المكلّف من نفع وما يندفع عنه من ضرر ، أو
بلحاظ انّ اتباعها هو المنجي من النار ، وأما التكاليف غير الإلزامية فهي بالإضافة
الى انّ ما يعود منها على المكلّف ليس بمستوى ما يعود عليه من اتباع التكاليف
الإلزامية ، فهي بالإضافة لذلك فإنّ اتباعها لا يوجب النجاة من النار والفوز
بالجنة لو كان المتبع لها تاركا للتكاليف الإلزامية.
الاحتمال
الثاني : انّ الآية
الشريفة متصدّية لعلاج حالات
التعارض والتزاحم
وان المكلّف ملزم بالأخذ بأحسن ما انزل ، ولمّا كان التعارض فيما انزل غير معقول
فيتعين القول إما باختصاص تصدّي الآية الشريفة لحالات التزاحم أو انّ المراد مما انزل
هم الأعم من القرآن الكريم وسائر الأدلة ـ فإن التعارض حينئذ معقول ، وذلك كما لو
تعارض خبر ثقة مع ظهور آية ـ أو يكون المراد من التعارض هو التعارض الصوري بين
متشابهات الآيات ومحكماتها فالأحسن حينئذ هو الأخذ بالمحكمات ، والأحسنية هنا
بلحاظ المكلّف لجهله بالمراد من المتشابهات.
الاحتمال
الثالث : انّ الآية
تخاطب الكفار أو العصاة وتعظهم باتباع أحسن ما انزل اليهم ، فقد انزل اليهم
التهديد والوعيد بالنار والعذاب كما انزلت اليهم البشرى بالمغفرة عند ما ينيبون
الى ربهم ويتوبون اليه من قبل ان يباغتهم العذاب.
والأحسنية هنا
بلحاظهم حيث انّ الاوفق بحالهم هو التوبة والإنابة لانها تستوجب المغفرة. ويمكن ان
يستظهر هذا المعنى بواسطة سياق الآية الشريفة ( وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا
تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ
تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ... ) ، وهذا المعنى استظهره الشيخ محمد جواد مغنية رحمهالله.
وأوفق احتمال
يناسب دعوى دليلية الآية الشريفة على حجية الاستحسان هو الاحتمال الثاني إلاّ انّه
مع مخالفته لظهور الآية الشريفة لا تثبت به الدعوى.
أما مخالفته لظهور
الآية الشريفة فواضح بملاحظة سياق الآية وسابقتها والتي تليها ، فهي تأمر بالإنابة
والرجوع الى الله تعالى قبل فوات
الأوان ومباغتة
العذاب ، وهذه اللغة لا تناسب أهل الطاعة واللذين يبحثون عن حكم الله تعالى
ويتحرّون مظانه ، فهل من المناسب لو جاءك طالب الحق يبحث عن وظيفته الشرعية أترى
من المناسب أن تهدده وتزجره وأي أحد من أهل المحاورة يقبل بهذا النحو من البيان
حتى نقبل ذلك على الله جلّ وعلا ، ولو تنزلنا وقلنا انّ المعنى المتعين من الآية
الشريفة هو الاحتمال الثاني فإنّه لا ينفع لإثبات الدعوى وذلك لامور :
أولا : لانّه أجنبي عما يراد اثباته من حجية الاستحسان ـ بناء
على التعريف الاول والثاني والثالث والخامس ـ فإنها جميعا بصدد تحديد صغرى الدليل
الاقوى ، وهذا ما لم تتصد الآية الشريفة لبيانه حتى بناء على الاحتمال الثاني ، إذ
انها ـ بناء عليه ـ بصدد بيان حجية الدليل الاقوى اما ان تشخيص الدليل الاقوى يتم
بواسطة الذوق وملائمات الطبع أو ما يستحسنه العقل أو ما يدلّ عليه الكتاب والسنة
أو ما يناسب المصلحة أو العدل فهذا ما لا يمكن استفادته من الآية الشريفة حتى بناء
على الاحتمال الثاني.
واما التعريف
الرابع فكذلك يرد عليه نفس الإشكال بناء على ما استظهرنا وهو الاحتمال الاول ،
وأما الاحتمال الثالث للتعريف فهو صياغة ثانية للآية بناء على احتمالها الثاني ،
وعليه لا يكون الاستحسان أكثر من لزوم العمل بالدليل الأقوى أما ما هو الدليل
الاقوى فهذا ما لا يتصدى التعريف الرابع ـ بناء على احتماله الثالث ـ لبيانه.
ثانيا : الآية ـ بناء على احتمالها الثاني ـ أخص من المدعى في
بعض التعريفات كالتعريف الاول حيث لا تختص حجية الاستحسان ـ بناء عليه ـ بحالات
التعارض أو التزاحم بل هو
حجة حتى في غير
مورديهما وكذلك الكلام في التعريف الثاني بل وحتى الخامس لو كان الالتفات الى
المصلحة والعدل مطردا حتى في غير حالات التعارض والتزاحم كما هو مقتضى اطلاق
التعريف.
الدليل
الثالث : وهو من السنة
الشريفة وهو ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن مسعود انّه قال « انّ الله نظر
في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته ثم نظر في
قلوب العباد بعد قلب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم فوجد أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيّه يقاتلون
على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيّئ
» .
والإشكال على
الاستدلال بهذه الرواية من جهتين :
الجهة
الاولى : تتصل بالسند
حيث انّ ابن مسعود رحمهالله لم يسند الرواية الى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فهي مقطوعة ، وهذا ما يوهن الاستدلال بها على المطلوب إذ
لعلها كلاما لابن مسعود نفسه ، نعم بناء على حجية قول الصحابي يمكن الاستدلال بهذا
النص إلاّ انّ الاستدلال حينئذ يكون بقول الصحابي لا بالسنّة الشريفة ، وعندئذ
يكون الدليل مبنائيا ، فمن لا يرى حجية قول الصحابي لا يصلح هذا الدليل لإلزامه ،
وذلك لا يمثل طعنا في الصحابي الجليل ابن مسعود إذ فرق بين عدالة الرجل وبين حجية
قوله واجتهاده.
الجهة
الثانية : إنّ لفظ
المسلمين في قوله « فما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن » ظاهر في العموم
المجموعي أي ما رآه مجموع المسلمين ، وحينئذ تكون الرواية أجنبية عن محلّ البحث ،
إذ انّها انّما تثبت حجية الإجماع لا حجية الاستحسان الذي
قد يختص به مجتهد
أو مجتهدان ، على انّه لا يبعد ان يكون ذلك مختص بالصحابة حيث رتبت الرواية حجية
ما يراه المسلمون حسنا على نظر الله جلّ وعلا إلى قلوب العباد ووجدانه امتياز قلوب
الصحابة على سائر قلوب العباد ، إذ لا معنى لثبوت حجية استحسان المسلمين بسبب ان
قلوب الصحابة خير قلوب العباد إذ لا ارتباط بين السبب ونتيجته مما يوجب استظهار
انّ الذي ثبت لاستحسانه الحجية هو خصوص الصحابة ، فتكون الرواية أخص من المدعى ـ لو
بنينا على انّها في صدد إثبات حجية الاستحسان وإلاّ فهي ـ كما هو الظاهر من
الرواية ـ أجنبية عن محل البحث ، إذ انّها متصدية لإثبات حجية إجماع الصحابة.
ثم انّ الإنصاف
انّ الرواية ليست متصدية للحديث عما يكشف عن الحكم الشرعي وان رؤية أو استحسان
المسلمين يكشف عن حكم الله الواقعي بل هي تعبّر عن انّ قلوب المسلمين أو الصحابة
لمّا كانت على الفطرة لم تتغلّف بحجب الضلال والكفر أو انّها تخلّصت منها بالإيمان
والهداية فإنّ لها حينئذ ان تتعرّف على موارد الفضيلة والرذيلة والخير والشر ، إذ
ان ضمير الإنسان إذا خلا من الكفر والعصبية فإنّه يكون دليل الخير والصلاح.
هذا ما يستظهر من
الرواية فهي من الروايات الأخلاقية التي لا صلة لها بالدعوى ، والتعبير « بما رآه
المسلمون » ناشئ عن انّ الوقوف على موارد الفضيلة والرذيلة لا يختص بفرد دون آخر
بعد افتراض سلامة الفطرة.
والذي يؤكد ما
ذكرناه انّ الرواية رتّبت الفقرة الأخيرة وهي قوله « ما رآه المسلمون حسنا » على
نظر الله جلّ وعلا لقلوب العباد ووجدانه انّ قلوب الصحابة خير قلوب العباد ،
وواضح انّ القلب
لا يكشف عن الحكم الشرعي وإلاّ فما معنى اختلاف المسلمين في فتاواهم المعتمدة على
الاستحسان إلاّ ان يقال ان قلب المسلّم مشرّع وليس كاشفا وحينئذ يجب الالتزام بأن
ما يوحيه قلب كل مسلم من حكم حجة عليه ولو لم يكن هذا المسلم مجتهدا ، وذلك لأنّ
الرواية لم تجعل هذه الصفة لمسلم دون آخر حتى تكون صلاحية ذلك منحصرة بالمجتهد ،
وهذا ما لا يلتزم به القائلون بالاستحسان.
الدليل
الثالث : دعوى الإجماع
على حجية الاستحسان.
والظاهر عدم وجود
دعوى بهذه السعة وانما هي موارد .. وقليلة أيضا ـ ادّعي انّ اجماع الأمة عليها نشأ
عن الاستحسان ، وحينئذ نقول : إن صرّح حينئذ في معقد هذه الإجماعات انّها نشأت عن
الاستحسان فإنّ الاستحسان يثبت في الجملة أي في الموارد التي تجمع الأمة قاطبة على
صلاحيته لإثبات حكم أو نفي حكم ولا يصحّ التعدّي منها الى موارد اخرى ، كما لا بدّ
من ملاحظة أي نحو من الاستحسان الذي أجمعت الأمة على أهليته لإثبات حكم ذلك المورد
ومع تشخيصه يكون هو المتعين من أنحاء الاستحسان ، إذ انّ غيره ليس موردا للإجماع
فلا يمكن الاستدلال بالإجماع على حجيته ، ومع عدم تشخيصه لا يصح إعمال الحدس
لتحديده ، وذلك لأنه اجتهاد خاص لا يمكن تحميل اجماع الامة عليه وإلاّ فهو خروج عن
الاستدلال بالاجماع.
هذا كلّه لو صرّح
في معقد الإجماع بأن مدركه هو الاستحسان وأما مع عدم التصريح فلا مبرّر للاستدلال
على حجيّته بالإجماع إلاّ الحدس والاجتهاد وهو خروج عن الاستدلال بالإجماع.
والظاهر انّ تمام
الموارد القليلة التي
ادعي قيام الإجماع
عليها وانّه ناشئ عن الاستحسان هي من هذا القبيل ، إذ من المتعذّر عادة إحراز انّ
المنشأ من تبني كل فرد أو عالم من الامة لهذا الحكم هو الاستحسان ، وعدم وجود ما
يبرّر الإجماع من نص لا يقتضي تعين المدرك في الاستحسان فلعلّ المدرك هو السيرة
العقلائية أو المتشرعية ، ولعلّ المناشئ مختلفة فكل فريق نشأ تبنيه للحكم عن مدرك
غير الذي نشأ عنه تبني الفريق الآخر فيتكون الإجماع ولكن بمناشئ مختلفة.
هذا بالإضافة الى
عدم تمامية دعوى إجماع الأمة على حجية الاستحسان ، فإنّ هذه الدعوى منقوضة بمذهب
الامامية حيث يبنون جميعا على عدم حجيته وكذلك الظاهرية والشافعية.
وبهذا يتضح سقوط
تمام الأدلة التي استدلّ بها على حجية الاستحسان ، وهو كاف لسقوطه عن الحجية من
غير حاجة لإثبات ذلك ، فإن الأدلة الظنية التي لم يقم الدليل القطعي على حجيتها
باقية على الأصل وهو عدم الحجية. لقوله تعالى ( إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) .
* * *
٥١ ـ الاستصحاب
الظاهر انّه لم
يرد عنوان الاستصحاب في شيء من ألسنة الروايات التي استدل بها على حجية الاستصحاب
، وانّما نشأ هذا العنوان عن التناسب بين ما تعطيه كلمة الاستصحاب بحسب مدلولها
اللغوي وبين ما تقتضيه أدلته.
فالاستصحاب بحسب
مدلوله اللغوي معناه اتخاذ شيء مصاحبا ومرافقا وملازما وهو في مقابل مجانية الشيء
ومفارقته ، وهذا المعنى يتناسب مع ما يقتضيه الاستصحاب بحسب المصطلح الاصولي ، حيث
يقتضي
الالتزام بالمتيقن
في مرحلة الشك ، فالمتيقن مستصحب وملتزم به وغير مجانب ـ بصيغة المفعول ـ في مرحلة
الشك.
وكيف كان
فالتعريفات المذكورة للاستصحاب تحوم في حمى واحد ، ولذلك ذكر صاحب الكفاية رحمهالله انّ تعريفات الاستصحاب تشير الى معنى واحد ، إلا انّ السيد الخوئي رحمهالله لم يقبل بهذه الدعوى وأفاد انّ الاستصحاب لا ينبغي ان يكون له تعريف واحد بل
لا بدّ وان يختلف باختلاف المبنى فيما هو المجعول في الاستصحاب ، فلو كان المجعول
في الاستصحاب هو الطريقية المحضة فهذا يقتضي ان يكون نحوا من الأمارات ، وحينئذ لا
بدّ من تعريفه بما يتناسب مع كونه أمارة ، ولو كان المجعول في الاستصحاب هو
الوظيفة العملية فهذا يقتضي ان يكون الاستصحاب أصلا عمليا ، وعندئذ لا بدّ من
تعريفه بما يتناسب مع كونه أصلا عمليا.
ومن هنا نشأ
الاختلاف في تعريف الاستصحاب ، فهو بناء على كونه أمارة يناسبه ان يعرّف بهذا
التعريف الذي نقله الشيخ الانصاري رحمهالله عن بعض العلماء من انّ الاستصحاب هو « كون الحكم متيقنا في
الآن السابق مشكوكا في الآن اللاحق ».
ومنشأ تناسبه
لأمارية الاستصحاب هو انّ اليقين السابق بالحكم كاشف ظني عقلائي عن بقاء الحكم في
مرحلة الشك ، فهو تعريف له بمنشإ كاشفيته وهو اليقين السابق بالحكم ، وواضح ان
الاستصحاب إذا كان كاشفا عن بقاء الحكم في مرحلة الشك فهو أمارة.
وأما بناء على كون
الاستصحاب أصلا عمليا ـ كما هو المعروف ـ فيناسبه التعريف الذي ذكره الشيخ
الانصاري رحمهالله وقال انه أسدّ التعريفات وأخصرها وهو « إبقاء ما
كان » وشرحه الشيخ
صاحب الكفاية رحمهالله بأنّه الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه » ،
وتناسب هذا التعريف مع كون الاستصحاب أصلا عمليا واضح ، وذلك لأنّ الأصل العملي
حكم ظاهري مقرّر على المكلّف في ظرف الشك في الحكم الواقعي ، فقول الشيخ الأنصاري رحمهالله بأن الاستصحاب « إبقاء ما كان » معناه حكم الشارع ببقاء المتيقن على حاله في
ظرف الشك ، وهو تعبير آخر عن جعل الشارع الحكم الظاهري على المكلّف ، غايته انّ
موضوع هذا الحكم الظاهري هو اليقين السابق والشك اللاحق ، فاليقين والشك
المتواردان على متعلّق واحد هو المنقح لموضوع الحكم الظاهري وهو الاستصحاب أو قل
لزوم البناء على البقاء.
ثم لا بأس بشرح ما
أفاده صاحب الكفاية رحمهالله في تعريفه للاستصحاب ، فقوله « هو الحكم ببقاء » معناه انّ
الشارع جعل حكما ظاهريا على المكلّف هو لزوم البناء على البقاء ولزوم ترتيب آثار
البقاء والتعامل مع المتيقن السابق وكأنّه لا زال متيقنا ، فكما انّه لو كان
متيقنا فعلا يقتضي بعض الآثار من تنجيز أو تعذير فكذلك الحال فيما لو كان متيقنا
سابقا ومشكوكا لاحقا.
ثم انّ الاستصحاب
لا يختص بلزوم البناء على بقاء الحكم المتيقن سابقا بل يشمل حالة الشك في الموضوع
ذي الحكم إذا كان لذلك الموضوع حالة سابقة متيقنة ، وهذا هو معنى قوله « ببقاء حكم
أو موضوع ذي حكم » فإنّ المقصود من الحكم هو مثل الوجوب أو الحرمة أو الطهارة
والمقصود من الموضوع ذي الحكم هو كل موضوع يترتب على تنقّحه أثر شرعي مثل الكرّ
والخمر وعدم زوال الحمرة المشرقية وهكذا ، فإنّ الحكم
ببقاء السائل
الخمري على الخمرية يترتب عليه أثر شرعي وهو حرمة شربه.
ثم انّ السيد
الخوئي رحمهالله قال : إنّ الصحيح في تعريف الاستصحاب ـ بناء على كونه اصلا
عمليا هو « حكم الشارع ببقاء اليقين في ظرف الشك من حيث الجري العملي ».
والظاهر انّ الفرق
بين هذا التعريف وبين تعريف الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية رحمهالله ليست جوهريا ، نعم هو الأنسب بروايات الاستصحاب كما أفاد السيد الخوئي رحمهالله ، وذلك لأنّ صحاح زرارة الثلاث أفادت النهي عن نقض اليقين بالشك ، وهذا يقتضي
تعريفه بلزوم البناء على بقاء اليقين في حالات الشك ، إذ هو المنهي عن نقضه وليس
المتيقن والذي هو متعلّق اليقين ، غايته انّ الحكم ببقاء المتيقن هو لازم الحكم
بلزوم البناء على بقاء اليقين ، إذ ان الحكم ببقاء اليقين ينتج الحكم ببقاء
المتيقن ، إذ من غير المعقول ان يبقى اليقين دون متعلّقه « المتيقن » ، وذلك لأن
اليقين من العناوين ذات الإضافة فلا يمكن وجود يقين دون ان يكون له متيقن.
وعلى أيّ حال فقد
ذكر الشيخ الانصاري رحمهالله انّ للاستصحاب أقساما ناشئة عن لحاظات ثلاثة :
الأول : هو التقسيم بلحاظ المستصحب وهو المتيقن الذي حكم الشارع
بلزوم البناء على بقائه في ظرف الشك كالوجوب الذي كان متيقنا ونشك فعلا في بقائه ،
وكالسائل الخمري الذي كان متيقنا ونشك فعلا في بقائه على صفة الخمرية ، فالوجوب في
المثال الاول والسائل الخمري في المثال الثاني يعبّر عن كلّ واحد منهما بالمستصحب.
ونحن إذا لاحظنا
المستصحب نجده على أقسام ، فالاستصحاب بلحاظ ما
ينقسم عليه المستصحب
ينقسم على نفس تلك الأقسام.
فنقول تارة يكون
المستصحب أمرا وجوديا مثل الوجوب والحياة ، وتارة يكون أمرا عدميا مثل عدم الحكم
وعدم الرطوبة وعدم الحاجب وعدم الحدث.
والأمر الوجودي
تارة يكون حكما شرعيا كالوجوب والطهارة ، وتارة يكون من الامور الخارجية مثل الرطوبة
والعصير العنبي. والحكم الشرعي تارة يكون حكما تكليفيا مثل الحرمة وتارة يكون حكما
وضعيا مثل الطهارة والزوجية والملكية ، والحكم الشرعي أيضا قد يكون كليا مثل
الحرمة الثابتة للخمر وقد يكون جزئيا مثل شخص وجوب النفقة على زوجة زيد الثابت على
عهدة زيد نفسه.
الثاني : التقسيم بلحاظ دليل المستصحب أو قل بلحاظ منشأ اليقين ،
إذ قد يكون اليقين في حينه ناشئا عن المدرك العقلي كما لو حدث اليقين بوجوب شيء
بواسطة ادراك العقل اشتماله على المصلحة التامة الغير المزاحمة ، وقد يكون اليقين
بالمستصحب ناشئا عن الإجماع ، كما قد يكون ناشئا عن الدليل اللفظي من الكتاب أو
السنة ، وقد يكون منشؤه المشاهدة كما لو شاهد المكلّف النجاسة وهي تسقط في الإناء
، وقد يكون ناشئا عن مناشئ اخرى.
الثالث : التقسيم بلحاظ السبب الموجب للشك في البقاء ، إذ قد يكون
الشك في البقاء ناشئا من اشتباه الامور الخارجية كالشك في الرطوبة الحادثة من حيث
كونها منيا أو مذيا أو الشك في انّ الدم الخارج هل هو من دم العذرة أو من دم الحيض
والشبهة في المقام موضوعية والتي مآلها دائما الى الشك في الحكم الجزئي أو قل الشك
في بلوغ الحكم مرحلة الفعلية فحينما يقع الشك في حدوث حدث الحيض
بسبب الشك في انّ
الدم الخارج هل هو دم حيض أو دم عذرة فإنّ الشك هنا شك في فعلية الطهارة الحدثية
فهو شك في الحكم الجزئي ، ولاتّضاح ذلك راجع الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية.
وقد ينشأ الشك في
البقاء عن الشك في حدود الحكم الشرعي الكلي كالشك في بقاء الحرمة للعصير العنبي
بعد زوال ثلثيه بالشمس وكالشك في حرمة النبيذ بعد ذهاب سورته بالماء ، وهنا تكون
الشبهة حكمية باعتبار انّ متعلق الشك هو الحكم الشرعي الكلّي أو قل انّ متعلّق
الشك هو حدود الجعل الشرعي ، راجع الشبهة الحكمية.
وقد يكون الشك في
البقاء ناشئا عن الشك في استعداد المستصحب للبقاء الى مدة معينة ، وهذا هو المعبّر
عنه بالشك في المقتضي ، وقد يكون الشك في بقاء المستصحب ناشئا عن احتمال طروء
الرافع ، وهذا هو المعبّر عنه بالشك في الرافع.
والاول مثل الشك
في بقاء نهار شهر رمضان باعتبار الشك في قابليته للبقاء الى هذه الساعة ، والثاني
مثل الشك في بقاء الزوجية لاحتمال زوالها بسبب الطلاق.
كما انّ الشك في
البقاء قد يكون شكا منطقيا بمعنى ان طرفي الثبوت والانتفاء متساوية في النفس ، وقد
يكون بمعنى ترجّح طرف الثبوت أو طرف الانتفاء في النفس وقد يكون بمعنى الاحتمال.
هذه هي تمام
الاقسام التي ذكرها الشيخ الانصاري رحمهالله ، وبعضها وقع محلا للنزاع من حيث مشموليتها لأدلة الحجية
للاستصحاب وبعضها ادعي الاتفاق على شمول أدلة الاستصحاب لها ، كما انّ بعضها ادعي
الإجماع على عدم شمول أدلة الاستصحاب لها وسوف نشير الى بعض هذه الاقسام
في سياق استعراض
عناوينها « إن شاء الله تعالى ».
* * *
٥٢ ـ الاستصحاب
الاستقبالي
المراد من
الاستصحاب الاستقبالي هو ما يكون فيه المتيقن فعليا ويكون المشكوك استقباليا ،
بمعنى ان يكون المكلّف على يقين بشيء فعلا إلاّ انّه يشك في استمراره فيما يستقبل
من الزمان ، فهو وان كان يشترك مع الاستصحاب الاعتيادي في تأخر المشكوك على
المتيقن إلا انّ الاختلاف بينهما من جهة انّ الحالة المألوفة هو فعلية متعلّق الشك
وماضوية متعلّق اليقين ، أما الاستصحاب الاستقبالي فإنّ الحالة الفعليّة للمكلف هي
اليقين بالشيء ويكون المشكوك متأخرا.
ومثاله ما لو كان
المكلّف متيقنا بعجزه عن الوضوء الاختياري إلاّ انّه يشك في استمرار هذا العجز
فيما يستقبل من الزمان ، فاليقين والشك وان كانا فعليين ـ وكذلك متعلّق اليقين وهو
العجز فعلي أيضا ـ إلاّ انّ متعلّق الشك وهو بقاء العجز استقبالي. فهنا لو كنّا
نبني على جريان الاستصحاب فإنّ مقتضاه هو البناء على بقاء العجز فيما يستقبل من
الزمان.
وباتّضاح ذلك نقول
انّ السيد الخوئي رحمهالله ذكر انّه لم يجد من تعرّض لهذا النحو من الاستصحاب إلاّ
المحقق النائيني رحمهالله فإنّه أشار الى هذا النحو من الاستصحاب في المقدمات المفوتة
ونقل عن صاحب الجواهر رحمهالله انّه يرى عدم جريانه إلا انه لم ينقل المنشأ الذي حدى
بصاحب الجواهر رحمهالله الى القول بعدم جريانه.
ولعلّ منشأه ـ كما
أفاد السيد الخوئي رحمهالله ـ هو انّ أكثر الروايات التي استدلّ بها على حجية
الاستصحاب تفترض فعلية المشكوك وتقدم المتيقن ، كما في مضمرة زرارة « لانّك
كنت على يقين من
طهارتك فشككت » إلا انّه مع ذلك يمكن القول بحجية هذا الاستصحاب تمسكا باطلاق
الكبرى التي علّل بها الامام جريان الاستصحاب وهي قوله عليهالسلام « فإنّ اليقين لا يرفع بالشك » وقوله عليهالسلام « وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك » .
ومن هنا ذهب السيد
الخوئي رحمهالله الى جريان الاستصحاب الاستقبالي على ان يكون الأثر الشرعي
مترتبا عليه حين جريانه أي في حالة اليقين بالحادث وإرادة اسرائه لما يستقبل من
الزمان ، لا أن يكون الأثر مترتبا على وجود الحادث في مستقبل الزمان ، إذ انّ
المعتبر في جريان الاستصحاب هو كون الأثر الشرعي مترتبا حين إجراء الاستصحاب ،
وإجراء الاستصحاب في المقام هو زمان المتيقن.
مثلا : لو كان
جواز البدار للعاجز في مثالنا السابق مترتبا على إحراز استمرار العجز لآخر الوقت
فإنّ استصحاب استمرار العجز ـ المتيقن فعلا ـ الى آخر الوقت ينقّح موضوع الأثر
الشرعي وهو جواز البدار ، أما لو لم يكن الأثر مترتبا حين إجراء الاستصحاب فإنّ
الاستصحاب لا يجري ، فلو كنا على يقين فعلا من عدالة زيد ونشك في انّ عدالته هل
ستستمر الى شهر أولا وكان هناك أثر مترتب على اتّصافه بالعدالة في آخر الشهر وهي
صحة الطلاق أمامه في ذلك الوقت مع افتراض عدم وجود أثر شرعي مترتب حين إجراء
استصحاب استمرار العدالة المتيقنة فعلا فإنّ هذا الاستصحاب لا يجري ، إذ لا أثر
مترتب حين إجرائه كما هو الفرض.
* * *
٥٣ ـ الاستصحاب التعليقي
ومجرى هذا
الاستصحاب ـ لو تمت
حجيته ـ هو الحكم
لا الموضوع كما سيتضح ان شاء الله تعالى ، ولأجل التعرّف على موضوع البحث لا بدّ
من تقديم مقدمة ، وهي انّ مناشئ الشك في بقاء الحكم ثلاثة :
الاول : ان يكون الشك من جهة بقاء الجعل والتشريع بعد إحرازه في
مرحلة سابقة ، وهذا النحو من الشك لا يتصور إلاّ في حالة احتمال النسخ ، ولا مبرّر
للشك في انتفاء الجعل إلاّ احتمال ان يكون المولى قد رفع الحكم بعد جعله ، وهنا
يجري استصحاب عدم النسخ ، وتصوير معنى النسخ والبحث عن امكانه وهل يجري الاستصحاب
في مورده أو لا ياتي في محلّه ان شاء الله تعالى.
ومثاله ما لو علم
المكلّف بحرمة أكل النجس ثم شك في بقاء هذه الحرمة ، فهذا شك في نسخ الحرمة.
الثاني : ان يكون الشك من جهة بقاء الحكم الكلي المجعول أي الشك
في بقاء الفعلية للحكم بعد ان كانت محرزة في مرحلة سابقة ، وهذا النحو من الشك
يعبّر عنه بالشبهة الحكمية وينشأ عن الشك سعة موضوع الحكم في مرحلة الجعل وضيقه.
ومثاله وجوب
النفقة على الزوجة المطيعة ، فقد يقع الشك في الوجوب بعد ان تصبح الزوجة غنية
ومنشأ الشك هو الشك في سعة دائرة موضوع الوجوب ، وهل ان موضوع الوجوب هو مطلق
الزوجة المطيعة أو انّ موضوعه هو خصوص الزوجة المطيعة الفقيرة. وهنا يجري استصحاب
وجوب النفقة على الزوجة ويعبّر عن هذا الاستصحاب باستصحاب الحكم التنجيزي ،
والمراد من الحكم التنجيزي هو الحكم المجعول أي البالغ مرتبة الفعلية بسبب تحقق
تمام الموضوع المأخوذ حين الجعل.
فالزوجة حينما
تكون مطيعة
وفقيرة يكون وجوب
النفقة ثابتا لها على الزوج بلا ريب ، أي انّ وجوب النفقة يكون فعليا وتنجيزيا
وعند ما ينتفي قيد الفقر عنها والذي نحتمل دخالته في موضوع وجوب النفقة يقع الشك
في استمرار الوجوب التنجيزي الفعلي ، وعندئذ يجري استصحابه أي استصحاب ذلك الحكم
المنجّز والفعلي بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.
الثالث : ان يكون منشأ الشك هو انتفاء خصوصية لو قدّر لها البقاء
لا صبح الحكم فعليا ، وذلك لتحقق خصوصية كانت مفقودة حين وجود الخصوصية المنتفية
فعلا أي في ظرف الشك ، والخصوصية التي كانت منتفية وتحققت فعلا يعلم بدخالتها في
موضوع الحكم ، وأما الخصوصية المنتفية فعلا والتي كانت موجودة فإنّه لا نقطع
بدخالتها في موضوع الحكم إلاّ اننا نحتمل ذلك ، وهذا الاحتمال هو الذي نشأ عنه
الشك في تحقق الفعلية للحكم ، إذ انّ هذه الخصوصية لو كانت دخيلة في موضوع الحكم
فإنّ الحكم لا يكون فعليا جزما بسبب انتفائها. وأما لو لم تكن دخيلة في موضوع
الحكم فإن الحكم يكون فعليا جزما لافتراض تحقق الخصوصية التي نعلم بدخالتها.
وبتعبير آخر : لو
كان لموضوع الحكم ثلاث خصوصيات ، اثنتان منها يحرز دخالتهما في موضوع الحكم وواحدة
يحتمل دخالتها في موضوع الحكم ، فلو اتفق وجود الخصوصيات الثلاث فلا كلام ، إذ
الحكم يكون فعليا بلا ريب ، أما لو اتفق ان كانت احدى الخصوصيتين اللتين نعلم
بدخالتهما في الحكم منتفية والمتحقق هو احدى الخصوصيتين منهما وكذلك الخصوصية
الثالثة المحتمل دخالتها في الحكم ، فعندئذ نستطيع ان نقول لو كانت الخصوصية
المعلوم دخلها
متحققة فعلا لا
صبح الحكم فعليا وهذا هو المعبّر عنه بالحكم المعلّق ، فلو اتفق بعد ذلك ان تحققت
الخصوصية المنتفية إلاّ انّ الخصوصية الثالثة المحتمل دخالتها انتفت عن الموضوع
قبل تحقق الخصوصية التي كانت منتفية ، فهنا يقع الشك في بقاء الحكم المعلّق الذي
كان معلوما قبل تحقق الخصوصية الثانية وقبل انتفاء الخصوصية الثالثة.
مثلا : لو كان
وجوب النفقة مترتب على موضوع هو الزوجة المطيعة مع احتمال دخالة الفقر في موضوع
الوجوب ، وهنا نقول : لو اتفق ان كانت المرأة زوجة ومطيعة وفقيرة فهنا لا ريب في
تحقق الفعلية للوجوب ، أما لو اتفق ان كانت المرأة زوجة وفقيرة إلاّ انّها لم تكن
مطيعة ، فهنا نستطيع ان نقول : انّ هذه الزوجة لو كانت مطيعة لوجبت لها النفقة
وهذا الوجوب يعبّر عنه بالحكم المعلّق.
فلو اتفق ان تحققت
الخصوصية الثانية المعلوم دخلها في الحكم وهي الطاعة إلاّ انه وقبل تحقق عنوان «
المطيعة » انتفت الخصوصية الثالثة المحتمل دخلها وهو عنوان « الفقيرة » ، فهنا يقع
الشك في بقاء الحكم المعلّق الذي كان معلوما وهو « انّ هذه الزوجة لو كانت مطيعة
لوجبت لها النفقة » ، ومنشأ الشك هو انتفاء الخصوصية الثالثة المحتمل دخالتها
والتي كانت محرزة حين العلم بوجود الحكم المعلّق ، وحينئذ يقع البحث في امكان
الاستصحاب ، ولو أمكن إجراء الاستصحاب لكان منتجا لإثبات بقاء الحكم المعلّق ، أي
اثبات انّ هذه الزوجة لو كانت مطيعة لوجبت لها النفقة.
وبهذا البيان اتضح
الفرق بين الاستصحاب التنجيزي والاستصحاب التعليقي ، وانّ الاول عبارة عن استصحاب
الفعلية التي لو
كانت محرزة في
مرحلة سابقة ثم طرأ الشك في بقائها بسبب انتفاء خصوصية كانت موجودة ونحتمل انها
دخيلة في تحقق الفعلية سابقا ، وهذا يؤول روحا الى الشك في سعة دائرة موضوع الحكم.
وأما الاستصحاب
التعليقي فهو عبارة عن استصحاب الحكم المعلّق والذي لم يبلغ مرتبة الفعلية بسبب
عدم تحقق أحد قيوده الذي لو قدّر له ان تحقق سابقا لأصبح الحكم حينها فعليا ،
فالمستصحب في الاستصحاب التنجيزي هو الحكم الفعلي وأما المستصحب في الاستصحاب
التعليقي فهو الحكم المعلّق.
ومنشأ عروض الشك
على بقاء الحكم المعلّق هو انتفاء خصوصية كانت موجودة نحتمل دخالتها في موضوع
الحكم وهذا الانتفاء وقع قبل تحقق الخصوصية المعلوم دخالتها في موضوع الحكم ، وهذا
الشك يؤول روحا الى الشك في سعة دائرة موضوع الحكم إلاّ انّ الفرق بين الاستصحابين
انّ الأول كان متوفرا على تمام الخصوصيات المعلوم دخالتها والمحتمل دخالتها في
موضوع الحكم ، وهذا اما أوجب الجزم بتحقق الفعلية في المرحلة السابقة.
أما الثاني فلم
تكن تمام الخصوصيات المعلوم دخالتها متوفرة بل انّ المتحقق منها هو بعض الخصوصيات
المعلوم دخالتها في الموضوع والخصوصية المحتمل دخلها في الموضوع وهذا ما أوجب
الجزم بالقضية التعليقيّة وهي انّ الخصوصية المفقودة لو تحققت لأصبح الحكم فعليا.
وتصوير جريان
الاستصحاب في الحكم المعلّق هو انّ الحكم المعلّق كان معلوما قبل انتفاء الخصوصية
المحتملة الدخل في موضوع الحكم وبعد انتفائها وتحقق الخصوصية المفقودة
نشك في بقاء الحكم
المعلّق فحينئذ يجري استصحاب الحكم المعلّق ، وذلك لليقين بالحدوث والشك في
البقاء.
وباتّضاح ذلك نقول
: انّ السيد الصدر رحمهالله ذكر انّ المشهور قبل المحقق النائيني رحمهالله هو حجية الاستصحاب التعليقي إلاّ انّ الشهرة انقلبت بعد المحقق النائيني رحمهالله الى على عدم حجية الاستصحاب التعليقي ، وذلك تأثرا بالمحقق النائيني رحمهالله.
ومقصودنا من
الاستصحاب التعليقي الذي كانت الشهرة مع جريانه ثم تحولت الى البناء على عدم
جريانه هو الاستصحاب التعليقي في الأحكام ، وأما الاستصحاب التعليقي في الموضوعات
أو متعلّقات الأحكام فهو بحث آخر ، وتصويره لا يختلف عن تصوير الاستصحاب التعليقي
في الأحكام ، إذ كلاهما متقوم بإحراز قضية تعليقية في مرحلة سابقة ثم وقوع الشك
ففي بقائها بسبب انتفاء خصوصية محتملة الدخل في موضوع القضية التعليقية ، غايته
انّ الجزاء في القضية التعليقية تارة يكون حكما شرعيا وحينئذ يكون استصحابها
استصحابا للحكم المعلّق ، وتارة يكون موضوعا لحكم شرعي أو متعلقا لحكم شرعي وعندئذ
يكون الاستصحاب التعليقي موضوعيا.
مثلا : لو كان
المكلّف لابسا ثوبا يحرز انها ليست من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، فعندئذ يتمكن من
تشكيل قضية تعليقية حاصلها « لو وقعت الصلاة منه لكانت في غير ما لا يؤكل لحمه ».
ثم لو صلّى في ثوب
مشكوك فهل له ان يستصحب تلك القضية التعليقية وهي « انّه لو وقعت منه الصلاة لكانت
في غير ما لا يؤكل لحمه ».
وتلاحظون ان منشأ
الشك هو انتفاء خصوصية هو انتفاء خصوصية
كانت محرزة وهي
انّ الثوب التي كان متلبسا بها لم تكن من أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، واما ما هو
متلبس به فعلا فهي ثوب لا يحرز انّها مما لا يوكل لحمه. وحينئذ لو كنا نقول بجريان
الاستصحاب التعليقي في الموضوعات فإن النتيجة هي ببقاء القضية التعليقية في ظرف
الشك.
* * *
٥٤ ـ الاستصحاب التنجيزي
يطلق الاستصحاب
التنجيزي على الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية إذا كان منشأ الشبهة هو الشك في
سعة دائرة الحكم المجعول مع افتراض وجود يقين سابق بفعلية الحكم المجعول ثم طرأ الشك
في بقائه بسببه انتفاء بعض الخصوصيات المحتمل دخلها في فعلية الحكم المجعول.
ومثاله : ما لو
كنا نحرز انّ الماء المتغير بالنجاسة متنجّس ، واتفق ان أحرزنا تغيّر هذا الماء
بالنجاسة ، فإنّه لا محالة يحصل القطع بتنجّس الماء ، ثم انّه لو اتفق ان زال
التغيّر عن الماء بنفسه واحتملنا انّ تنجّس الماء المتغير بالنجاسة انّما هو في
ظرف التغيّر الفعلي فإنّه لا محالة يحصل الشك في بقاء فعلية التنجس للماء ، وحينئذ
يجري استصحاب بقاء فعلية التنجّس للماء ، وهذا الاستصحاب هو المعبّر عنه
بالاستصحاب التنجيزي.
وتلاحظون انّ منشأ
الشك هو الجهل بسعة دائرة الحكم المجعول وهل انّ موضوعه هو التغيّر الفعلي بحيث لو
زال التغيّر عنه لارتفعت النجاسة أو انّ موضوعه هو حدوث التغيّر حتى لو زال بعد
ذلك ، فلو كان الاول لكانت النجاسة مرتفعة حتما في الفرض المذكور ، ولو كان الثاني
لكانت النجاسة باقية إلاّ انّه لمّا لم نكن نحرز ما هي حدود دائرة موضوع
الحكم وقع الشك في
بقاء الفعلية بعد زوال التغيّر ، وهنا يجري استصحاب بقاء الفعليّة المعبّر عنه
بالاستصحاب التنجيزي.
ولمزيد من التوضيح
راجع الاستصحاب التعليقي.
ثم انّ الاستصحاب
التنجيزي قد يطلق على الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية والتي يكون مآل الشك
فيها الى الشك في بقاء فعلية الحكم بسبب اشتباه الامور الخارجية.
* * *
٥٥ ـ الاستصحاب السببي والمسبّبي
المراد من
الاستصحاب السببي هو الاستصحاب الواقع في رتبة الموضوع ويترتب على جريانه تنقيح
موضوع لحكم من الأحكام.
ومنشأ التعبير عنه
بالسببي هو انّ الاستصحاب الواقع في رتبة الموضوع دائما يكون سببا في ترتب الحكم
كما هو الحال في سائر موضوعات الأحكام ، ولهذا قالوا انّ الموضوع مولّد للحكم ،
فاستصحاب العدالة لزيد مثلا منقّح لموضوع جواز الائتمام به ، إذ بالاستصحاب ثبت
الموضوع وبثبوته يترتب الحكم بجواز الائتمام ، ومن هنا تعنون هذا الاستصحاب بعنوان
السببي.
ثم لا يخفى عليك
انّ الاستصحاب السببي لا يختص بالموضوعات بل يشمل الحكم الشرعي كما يشمل عدمه ،
والضابطة في كلّ ذلك هو ان يكون المستصحب واقعا في رتبة الموضوع لحكم من الأحكام بقطع
النظر عن انّ الواقع في رتبة الموضوع موضوعا خارجيا أو حكما شرعيا أو عدم حكم شرعي
، فاستصحاب الطهارة الحدثية استصحاب سببي لو كان الأثر المراد ترتيبه عليه حكما من
الأحكام الشرعية
مثل جواز الدخول في الصلاة ، كما انّ استصحاب عدم الملكية ـ والذي هو عدم حكم شرعي
ـ استصحاب سببي باعتباره واقعا في رتبة الموضوع لحرمة التصرّف بغير إذن المالك.
وأما الاستصحاب
المسببي فهو الواقع في رتبة الحكم ولا ينتج عنه سوى ثبوت الحكم المستصحب فليس له
الصلاحية لإثبات موضوعه ، إذ انّ الأحكام لا تنقّح موضوعاتها بخلاف العكس ، ولهذا
سمّي هذا النحو من الاستصحاب بالمسببي ، أي باعتبار ترتبه على ثبوت موضوعه ، ولهذا
يكون الشك في مورده مسببا عن الشك في ثبوت موضوعه ، فكلّ مستصحب يكون الشك فيه
مسببا عن الشك في موضوعه فالاستصحاب في ذلك المورد مسبّبي.
والمراد من
السببيّة هي السببيّة الشرعية والتي تعني اعتبار الشارع شيئا موضوعا لحكم شرعي ،
وحينئذ متى ما تحقق السبب الشرعي « موضوعات الاحكام » ترتب عليه الحكم من غير فرق
بين ان يكون هذا التحقق للموضوع ثابتا بالوجدان أو بالتعبد أي الأمارة أو الاصل ،
ولا معنى عندئذ لاستصحاب المسبب ، إذ انّ المسبب وهو الحكم الشرعي مجعول بحسب
الفرض على موضوعه المقدّر الوجود ، ونحن انّما نشك في وجوده بسبب الشك في وجود
موضوعه ، فمتى ما ثبت لنا تحقق موضوعه ـ بأي نحو من انحاء الإثبات ـ ترتّب عن ذلك
ثبوت الحكم الواقع موقع الكبرى الثابتة بواسطة الدليل.
مثلا لو قام
الدليل على انّ الزواج من ذات العدّة حرام ، فإنّه لا معنى للشك في هذه الكبرى
الكلية ، نعم قد يقع الشك في جواز الزواج من هذه المرأة ، وذلك بسبب احتمال كونها
في
العدة ، فعند ما
يثبت لنا انّها في العدة بواسطة الوجدان أو التعبد فإنّ ذلك ينقّح صغرى الدليل
الشرعي القاضي بحرمة الزواج من ذات العدّة ، وعندها تترتب الحرمة بلا حاجة الى
توسط شيء آخر ، فترتّب الحكم الشرعي هنا مسبب عن ثبوت موضوعه.
وبهذا اتّضح
المنشأ للتعبير عن الاستصحاب المنقّح لموضوع الحكم بالاستصحاب السببي ، واتضح أيضا
منشأ التعبير عن الاستصحاب للحكم بالاستصحاب المسببي وانّ وقوعه في رتبة الحكم
يقتضي ان يكون ثبوته مسبّبا عن ثبوت موضوعه والشك فيه مسبب عن الشك في ثبوت
موضوعه.
ثم انّ نتيجة
الاستصحاب السببي قد تنافي نتيجة الاستصحاب المسبّبي وقد لا يكون بينهما تناف.
ومثال
الاول : لو علم المكلّف
بطهارة ماء ثم شك في بقائه على الطهارة فإنّ له ان يستصحب طهارته ، ولو كان يعلم
بوجوب الاغتسال ثم شك في بقاء الوجوب فإنّ ذلك يقتضي استصحاب الوجوب ، وهنا نقول :
انّه لو كان منشأ الشك في بقاء الوجوب هو طهارة الماء الذي اغتسل به فإنّ استصحاب
الوجوب يكون مسبّبيا باعتبار انّه نشأ عن الشك في الموضوع ، ويكون استصحاب طهارة
الماء سببيا باعتباره واقعا في رتبة الموضوع وانّ الشك في الطهارة هو السبب في
الشك في بقاء الوجوب.
وتلاحظون انّ
مقتضى الاستصحاب السببي هو ثبوت الطهارة ، وهذا ينتج عدم وجوب الاغتسال ، وان
مقتضى الاستصحاب المسبّبي هو وجوب الاغتسال ، فنتيجة الاستصحابين متنافية.
وفي مثل هذا الفرض
لم يختلف أحد في تقديم الاستصحاب السببي على
الاستصحاب
المسبّبي وان اختلفوا في كيفية تخريج ذلك صناعيا ، والذي ذكره السيد الخوئي رحمهالله في بعض كلماته انّ منشأ التقديم هو ان الاستصحاب السببي ينقّح صغرى الدليل
الشرعي ، وبضمها مع الكبرى الثابتة بواسطة دليلها لا يكون هناك معنى لجريان
الاستصحاب السّببي إذ لا شك في مورده تعبدا.
وبيان ذلك : انّ
الكبرى في مثالنا هي عدم وجوب الاغتسال على من اغتسل بالماء الطاهر وهذه الكبرى لا
موقع للشك من جهتها لافتراض ثبوتها بواسطة دليلها ، وأمّا الصغرى فهي انّ هذا
المكلّف قد اغتسل بالماء الطاهر.
وثبوت هذه الصغرى
يتم بواسطة أمرين أحدهما وجداني والآخر تعبدي ، أما الاول فهو انّ المكلّف يحرز
وجدانا انّه اغتسل ، وأما الثاني فهو الذي يتم بواسطة الاستصحاب السببي والذي هو
استصحاب طهارة الماء ، فبضم الوجدان الى التعبّد نستنتج انّ المكلّف قد اغتسل
بالماء الطاهر ، وعندئذ لا يكون ثمة معنى للشك في وجوب إعادة الغسل ، إذ انّ الشك
في وجوب الاغتسال مسبّب عن الشك في طهارة الماء الذي اغتسل به والاستصحاب السببي
يثبت طهارة الماء.
وهناك تقريب آخر
ذكره السيد الخوئي تبعا للمحقّق النائيني رحمهما الله وهو انّ الأصل السببي حاكم
على الأصل المسبّبي ، بمعنى انّ الاستصحاب السببي يلغي الشك في مورد الاستصحاب
المسبّبي ، وذلك لأنّ استصحاب طهارة الماء يلغي الشك في وجوب اعادة الاغتسال.
ومثال
الثاني : وهو ما لو كانت
نتيجة الاستصحابين غير متنافية ، هو ما لو علم المكلف بأن هذه المرأة في العدّة ثم
شك في انقضاء العدّة عنها فإنّ
الاستصحاب يقتضي
التعبّد ببقائها في العدّة ، فهنا الاستصحاب قد نقّح موضوعا لحكم شرعي هو حرمة
الزواج من هذه المرأة ، فالاستصحاب ببقاء العدّة صار سببا لترتب حكم شرعي هو
الحرمة.
ثم انّه لو جعلنا
متعلّق اليقين والشك هو حرمة الزواج من هذه المراءة فإنّ نتيجة الاستصحاب هي
الحرمة ، وتلاحظون انّ هذا الاستصحاب واقع في رتبة الحكم والشك فيه مسبّب عن الشك
في الموضوع وهو الشك في بقاء المرأة على عدّتها ونتيجته هي ما تقتضيه نتيجة
الاستصحاب السببي.
ثم انّ الكلام يقع
في أيّ الاستصحابين هو المقدّم ، والمعروف بينهم هو تقديم الاستصحاب السببي ،
بتقريبات منها ما ذكرناه في الفرض الاول.
* * *
٥٦ ـ استصحاب الصحة عند
الشك في المانع
المراد من الصحة
هو التمامية وهي تتحقق بمجموع الاجزاء والشرائط المأخوذة في المركب المأمور به ،
والمراد من المانع هو كلّ شيء اخذ عدمه في المأمور به ، فحينما يقال « لا تصلّ
فيما لا يؤكل لحمه » فإنّ هذا النهي يرشد الى مانعية الكون في جلد غير مأكول اللحم
للمركّب العبادي وهي الصلاة.
ويقع البحث في
المقام عن جريان استصحاب الصحة عند ما يقع الشك في بقائها بسبب الشك في تحقق
المانع ، وهذا الشك تارة يكون بنحو الشبهة الحكمية واخرى بنحو الشبهة الموضوعية.
أما
الشك بنحو الشبهة الحكمية : فهو ما لو كان منشأ الشك
في الصحة هو الشك في اعتبار الشارع المانعية لشيء ، ومثاله ما لو وقع التنحنح من
المكلّف أثناء
الصلاة فشك في صحة الصلاة بسبب الشك في اعتبار الشارع التنحنح مانعا عن صحة الصلاة
، وهنا يقع البحث عن جريان استصحاب الصحة الثابتة قبل عروض مشكوك المانعية «
التنحنح ».
وباتّضاح ذلك نقول
انّ الشيخ الأنصاري رحمهالله ذهب الى عدم جريان استصحاب الصحة في المقام ، وذلك لعدم
العلم بحدوثها ، إذ من المحتمل اعتبار عدم التنحنح في الصحة ، واذا كان كذلك فلا
جزم لنا بتحقّق تمام الأجزاء والشرائط ، فلا يقين بحدوث الصحة إذ اليقين بحدوثها
يساوق اليقين بتوفر الصلاة على تمام الأجزاء والشرائط والمفروض انّنا نحتمل اعتبار
عدم التنحنح في تحقق التمامية ، وعندئذ كيف يستصحب ما لا يقين بحدوثه.
قد يقال انّ الصحة
المستصحبة هي الأجزاء الواقعة قبل عروض التنحنح.
إلا انّه يقال :
انّ صحة الأجزاء المأتي بها قبل التنحنح لا شك فيها إلاّ انّ هذه الصحة لا تعني
أكثر من قابلية الأجزاء الماتي بها لأن تنضم اليها بقية الأجزاء فتتحقق بذلك
التمامية ، فهي إذن غير الصحة التي نبحث عن إمكان استصحابها ، فالصحة التي هي محل
البحث هي الصحة التي تعني التمامية وذلك لا يتحقق إلاّ بإحراز الواجدية لمجموع
الأجزاء والشرائط ، وأما الصحة الثابتة للأجزاء المأتي بها فهي الصحة التأهيلية
وهي مما لا شك في بقائها.
فالنتيجة انّ
الصحة التي يراد استصحابها لا يقين بحدوثها والتي لنا يقين بحدوثها لا شك في
بقائها كما انها لا تنتج المطلوب ، نعم يمكن إجراء الاستصحاب التعليقي لإثبات
الصحة بمعنى التمامية ، وذلك بأن يقال انّ هذه الأجزاء المأتي بها قبل وقوع
التنحنح
لو انضمت اليها
بقية الأجزاء لوقعت الصحة والآن بعد وقوع التنحنح كذلك ، فالمستصحب هو هذه القضية
التعليقية.
هذا هو حاصل ما
أفاده الشيخ الانصاري رحمهالله إلا انه أفاد بعد ذلك بأنه يمكن إجراء استصحاب الصحة في
مثل الفرض لو كان الشك من جهة القاطع.
وعرّف القاطع :
بالشيء الذي اعتبره الشارع قاطعا وهادما للهيئة الاتصالية ، بحيث يكون وجوده موجبا
لنقض الاتصال بين أجزاء المركب من غير فرق بين وقوعه حال الاشتغال بالأجزاء أو في
الأكوان المتخللة بين أجزاء المركب ، وهو مثل الحدث.
ومع اتّضاح معنى
القاطع ـ بنظر الشيخ الانصاري رحمهالله ـ نقول انّه لو وقع الشك في قاطعية شيء فإنه يمكن استصحاب
بقاء الصحة المحرزة قبل عروض محتمل القاطعية ، وبهذا يكون مذهب الشيخ رحمهالله هو التفصيل بين الشك من جهة المانع والشك من جهة القاطع.
وقد استوجه المحقق
النائيني والسيد الخوئي رحمها الله ما ذكره الشيخ من عدم جريان الاستصحاب في الصحة
عند الشك في المانع إلاّ انهما لم يقبلا دعواه في جريان الاستصحاب عند ما يكون
الشك من جهة القاطع.
وأما
الشك من جهة الشبهة الموضوعية : فالمتصوّر في موردها صورتان :
الصورة
الاولى : الشك في تحقق
المانع مع العلم بمانعيته كبرويا ، كما لو كنا نحرز مانعية التكفير إلاّ انّ الشك
وقع من جهة تحقق التكفير خارجا أو عدم تحققه.
الصورة
الثانية : الشك في مانعية
الموجود ، كما لو كنا نحرز مانعية التكفير كبرويا ، ونحرز صدور فعل
منا إلاّ انّه نشك
انّ الذي صدر هل هو تكفير أو لا ، فالشك في الصورة الاولى شك بمفاد كان التامة أي
الشك في أصل تحقق الوجود للمانع ، وأما الشك في الصورة الثانية فهو شك بمفاد كان
الناقصة أي الشك في اتصاف الموجود بما هو محرز المانعية كبرويا ، كالشك في اتصاف
الفعل الصادر عنه بالتكفير.
وفي كلا الصورتين
لا مانع من الحكم بالصحة ولكن لا بواسطة استصحابها وانما بواسطة استصحاب عدم صدور
المانع ، بمعنى انّ المكلف يشك في تحقق ما اعتبر عدمه في الصلاة وقد كان على يقين
بعدم صدور ما اعتبر عدمه فعند الشك يستصحب عدم صدور ما اعتبر عدمه.
* * *
٥٧ ـ استصحاب العدم
الأزلي
راجع عنوان «
العدم الأزلي ».
* * *
٥٨ ـ استصحاب الفرد
المردد
ليس المراد من
الفرد المردد هو المردد بحسب الواقع ونفس الأمر ، إذ لا نتعقل معنى لذلك ،
فالمحتملات المتصورة لمعنى الفرد المردد واقعا لا تخلو عن أحد معان أربعة وكلها مستحيلة
:
المعنى
الاول : ان يكون
التردّد من جهة الوجود والعدم بمعنى ان يكون الفرد المردد مردّدا واقعا بين الوجود
والعدم ، وهو مستحيل ، إذ لا واسطة بين الوجود والعدم ، فإما ان يكون الفرد بحسب
الواقع موجودا واما ان يكون في حيز العدم ، وأما افتراض تردده بحسب الواقع بين
الوجود والعدم فهذا معناه ارتفاع النقيضين في مورده ، واستحالة ذلك من الوضوح بحيث
لا يتعقل ان يحتمله أحد.
المعنى
الثاني : ان يكون
التردّد من جهة التشخّص ، بمعنى ان لا يكون
للفرد المردد ما
يشخصه واقعا وفي نفس الأمر ، وهذا ما أوجب نعته بالمردد ، فهو مجرّد من تمام
المشخصات الزمانية والمكانية وغيرها. وهذا مستحيل أيضا ، لأنّ افتراض وجود الفرد
المردد يساوق تشخصه ، لأنّ الشيء ما لم يتشخص لا يوجد.
المعنى
الثالث : ان يكون التردد
هو جهة التشخص للفرد المردد ، فكما انّ سائر الأفراد الموجودة لها ما يشخصها ويميزها
فإنّ ما يشخص الفرد المردد ويميزه هو التردد ، وهذا ما لا نفهم له معنى محصلا ، إذ
انّ التردد يباين التشخّص فكيف يكون ما به التشخّص مباينا للتشخص.
المعنى
الرابع : ان يكون
التردّد من جهة قابلية الفرد المردد للصدق على كثيرين ، وهذا المعنى ان كان المراد
منه الكلي فهو معنى معقول لكنه غير مراد حتما ولو كان مرادا فهو من سوء التعبير ،
وان كان المراد منه الجزئي بالحمل الشائع فهو مستحيل لأن الجزئي يمتنع فرض صدقه
إلاّ على نفسه.
وبهذا اتضح انّ
الفرد المردد الذي نبحث عن امكان جريان الاستصحاب في مورده ليس المقصود منه الفرد
المردد واقعا ، وانّما هو الفرد المردد عند المكلّف المتشخّص في نفس الأمر
والواقع.
وقد ذكروا له
صورتين :
الصورة
الاولى : هو القسم
الثاني من استصحاب الكلّي ، وهو ما لو علم المكلف بتحقّق الكلّي بواسطة فرده إلاّ
انّ هذا الفرد مردد بين فردين لو كان الاول لكان قد انتفى يقينا ، ولو كان الثاني
فهو باق يقينا.
ومثاله ما لو علم
المكلف بجامع الحدث بواسطة العلم بصدور إما حدث البول أو حدث الجنابة ، فلو كان
الصادر عنه هو حدث البول فهو مرتفع يقينا ، وذلك لافتراض توضأ المكلّف بعد العلم
بصدور جامع
الحدث ، ولو كان
الصادر عنه هو حدث الجنابة فهو باق يقينا.
وهنا ذكر الأعلام
انّ الذي يمكن استصحابه هو كلّي الحدث باعتبار توفّره على أركان الاستصحاب ، إلاّ
انّه في مقابل ذلك ذكر بعض الأعلام امكانية استصحاب الفرد الواقعي المردد بين
الفردين ولا حاجة لاستصحاب الكلّي.
ولا يخلو كلامه من
غموض ، إذ انّ مراده ـ كما أفاد المحقق النائيني ـ ان كان هو استصحاب الفرد
الخارجي دون ملاحظة خصوصية الفردين والتي هي في المثال الجنابة والبول فهذا هو
استصحاب الكلي ، إذ انّ تجريد الحدث عن خصوصية الجنابة وخصوصية البول تقتضي ان
يكون المستصحب هو جامع الحدث ، وان كان مراده استصحاب الفرد على تقدير خصوصيته
الاولى واستصحابه على تقدير خصوصيته الثانية فهو ممتنع قطعا لأنّه على تقدير
خصوصيته الاولى « حدث البول » منتف جزما ـ كما هو الفرض ـ فلا شك في البقاء على
تقدير هذه الخصوصية وعلى تقدير الخصوصية الثانية « حدث الجنابة » لا يقين بالحدوث.
الصورة
الثانية : هي افتراض علم
المكلّف بجامع التكليف مثلا مع التردد فيما هو متعلّقه واقعا وهل هو الفرد الأول
أو الفرد الثاني ، ثم يحتمل ارتفاع الجامع بسبب احتمال عروض ما يوجب ارتفاع
متعلّقه الواقعي.
والفرق بين هذه
الصورة والصورة السابقة انّ منشأ الشك في بقاء الجامع في الصورة الاولى هو الجزم
بارتفاع أحد الفردين ، وحينها لو كان هو المتعلّق واقعا للجامع لكان الجامع قد
ارتفع ، ولمّا لم نكن نحرز انّه متعلّق الجامع واقعا أدى ذلك للشك في بقاء الجامع
، وأما منشأ الشك في بقاء الجامع في هذه الصورة فهو احتمال
عروض ما يوجب
ارتفاع متعلّق الجامع واقعا ، ومن هنا وقع الشك في بقاء الجامع.
ومثال هذه الصورة
ما لو علم المكلّف بوجوب احدى الصلاتين ، اما صلاة الطواف أو صلاة الآيات ثم احتمل
ارتفاع الوجوب بسبب نسخ أو انتفاء الموضوع.
وهنا لا يمكن
استصحاب الفرد المردد لو كان بمعنى استصحاب الفرد على تقدير خصوصيّته الاولى
واستصحابه على تقدير خصوصيته الثانية ، امّا استصحابه بقطع النظر عن الخصوصيتين
فهو استصحاب لجامع التكليف المعلوم تفصيلا. والظاهر امكان استصحاب تنجّز الفرد
الاول واستصحاب تنجّز الفرد الثاني.
* * *
٥٩ ـ الاستصحاب القهقرائي
وهو الذي يكون فيه
المتيقن متأخرا عن المشكوك ، فهو على خلاف طبع الاستصحاب ، حيث يكون فيه متعلّق
اليقين متقدما على متعلّق الشك ، فأولا يكون المكلّف متيقنا بوجود الشيء ثم يعرض
له الشك في بقائه ، أما الاستصحاب القهقرائي فهو على عكس ذلك تماما ، إذ انّ
الحالة المتأخرة عند المكلّف ـ في مورده ـ هي اليقين ويراد منه اسراء حالة اليقين
الثابتة فعلا الى حالة الشك الثابتة في الزمن السابق.
مثلا : لو كان
المكلّف على يقين فعلي بعدالة زيد إلاّ انّه يشك في اتّصافه بالعدالة قبل شهر ، إذ
لو كان عدلا قبل شهر لكان الطلاق الذي أوقع أمامه في ذلك الوقت صحيحا.
والظاهر انّه لم
يختلف أحد في عدم حجية هذا النحو من الاستصحاب ، إلاّ ما نسب الى الاستاذ الشريف
أو بعض تلامذته ـ كما ذكر ذلك المحقق النائيني رحمهالله ـ وذلك لعدم شمول أدلة
الحجية للاستصحاب
لهذا الفرض ، إذ لا يكون نقض اليقين بالشك المنهي عنه في أدلة الاستصحاب متحققا في
هذا الفرض ، وعندها لا يجري الاستصحاب لاعتبار ذلك في جريانه.
ثم انّ هناك حالة
ذكر جمع من العلماء جريان الاستصحاب القهقرائي في موردها وهي ما لو اتفق اليقين
بظهور لفظ في معنى إلاّ انّه وقع الشك في انّ هذا الظهور الفعلي هل هو كذلك في زمن
صدور النص مثلا أو لا بأن كان اللفظ ظاهرا في معنى آخر ثم انتقل منه الى المعنى
الظاهر فعلا.
فالاستصحاب
القهقرائي يثبت به ان ظهور اللفظ في زمن النص هو ما عليه الظهور فعلا ، مثلا لو
كنّا نحرز انّ لفظ الصعيد ظاهر في مطلق وجه الارض إلاّ انّا نشك فيما هو المعنى
الظاهر من لفظ الصعيد في زمن النص وهل هو ما عليه الظهور الفعلي أو انّه كان ظاهرا
في معنى آخر ثم انتقل بتمادي الزمن الى المعنى الذي عليه الظهور الفعلي ،
وبالاستصحاب القهقرائي نسرّي اليقين الثابت فعلا الى زمن الشك المتقدم.
الاّ انّ السيد
الصدر رحمهالله ذكر انّ ذلك لا يثبت بواسطة الاستصحاب القهقرائي وانّما
يثبت بواسطة أصالة الثبات ، والتي هي من الاصول العقلائية ، ولمزيد من التوضيح
راجع عنوان أصالة الثبات.
* * *
٦٠ ـ الاستصحاب الكلّي
الاستصحاب ـ كما
ذكرنا في أقسامه ـ قد يكون جزئيا وقد يكون كليا ، والتعرّف على الفرق بينهما يتم
بملاحظة المستصحب ، فمتى ما كان المستصحب جزئيا فالاستصحاب في مورده جزئي ، ومتى
ما كان المستصحب كليا فالاستصحاب
عندئذ كلّي ،
فالتقسيم في المقام بلحاظ المستصحب.
ثم انّه قد يكون
المستصحب الكلي حكما شرعيا كما قد يكون موضوعا لحكم شرعي ، فالاول من قبيل طبيعي
الوجوب وجامع الحكم التكليفي الأعم من الوجوب والاستحباب أو جامع الحكم الإلزامي
الأعم من الحرمة والوجوب ، والثاني مثل جامع الحدث الأعم من الحدث الأكبر والأصغر.
ثم انّه لا فرق في
المستصحب الكلّي بين ان يكون من قبيل العناوين المتأصلة كالجواهر والأعراض أو من
قبيل الاعتبارات كالاحكام الشرعيّة التكليفية والوضعية أو من قبيل العناوين
الانتزاعية والتي تنتزع من اضافة شيء لآخر.
ثم انّ المصحح
لجريان الاستصحاب الكلّي أمران :
الأول : ان يكون المستصحب كليا ، بمعنى انّ الذي تواردت عليه
حالتا اليقين والشك هو الكلّي.
الثاني : ان يكون لاستصحابه بعنوانه الكلّي أثر شرعي ، فلو لم يكن
الأثر الشرعي مترتبا على المستصحب بعنوانه الكلّي فإنّ الاستصحاب الكلّي لا يجري
في مورده.
مثلا : لو كان
المكلف على يقين بجامع الحدث الأعم من الأكبر والأصغر ثم شك بعد ذلك في بقائه فليس
له ان يستصحب جامع الحدث لو كان الأثر الذي يريد ترتيبه مختصا بالحدث الأكبر كحرمة
المكث في المسجد أو عبور أحد المسجدين المعظمين ، وذلك لانّ الحدث الأكبر بخصوصه ـ
والموجب لهذا الأثر الخاص ـ لم يكن متيقنا وانّما المتيقن هو الجامع الأعم منه ومن
الحدث الأصغر.
وهذا بخلاف ما لو
كان الأثر مترتبا على الأعم منهما ، فإنّه لا ريب في
صحة جريان استصحاب
الكلّي لترتيب ذلك الأثر ، مثلا : لو كان الاثر من قبيل مس كتابة القرآن المجيد أو
الدخول في الصلاة أو الطواف الواجب فإنّ استصحاب جامع الحدث ينتج عدم صحة الدخول
في الصلاة وكذلك بقية الآثار المشتركة.
ثم انّ الشيخ
الانصاري رحمهالله وتبعه الشيخ صاحب الكفاية رحمهالله قسموا الاستصحاب الكلّي الى ثلاثة أقسام وأضاف السيد
الخوئي رحمهالله قسما رابعا :
القسم
الاول : ان يفترض تحقق
العلم بوجود الكلّي وذلك بواسطة العلم بوجود فرده ثم يقع الشك في بقاء ذلك الفرد
وهذا يقتضي الشك في بقاء الكلّي ، إذ انّ الشك في انتفاء الفرد ملازم في هذا الفرض
للشك في انتفاء الكلّي ، وذلك لأن العلم بالكلّي نشأ ـ كما هو الفرض ـ عن العلم
بوجود فرده.
ومثاله : ما لو
علم المكلّف بأنه رزق غلاما ذكرا « هو زيد » ولم يكن قد رزق قبله بمولود فهنا يحصل
له العلم بوجود جامع الولد له ، ثم لو شك في بقاء ولده زيد فإنّ ذلك يساوق الشك في
بقاء كلّي الولد.
وعندئذ ان كان
الأثر الشرعي مترتبا على بقاء زيد الولد بعنوانه الشخصي فإنّ الذي يجري هو الاستصحاب
الشخصي دون الكلّي ، مثلا لو كان الأب قد نذر ان يعقّ عن ولده زيد في اليوم السابع
فإنّ الاستصحاب الجاري عند الشك في البقاء انّما هو الاستصحاب الشخصي ، وذلك لانّ
الأثر الشرعي وهو وجوب العقيقة في اليوم السابع انّما هو مترتب على بقاء زيد الولد
لا انّه مترتب على كلّي الولد ، نعم لو كان الاثر المراد ترتيبه هو وجوب النفقة
فإنّ الاستصحاب الجاري حينئذ هو الاستصحاب الكلّي ، وذلك لأن موضوع هذا الأثر هو
وجود كلّي الولد.
القسم
الثاني : ان يفترض تحقق
العلم بوجود الكلّي في ضمن فرد غير متشخّص ـ فيكون الكلّي وكذلك الفرد محرز الوجود
، غايته انّ الفرد المحرز الوجود مجهول الهويّة ـ ثم بعد ذلك أحرزنا ارتفاع فرد
معين إلاّ انّه وقع الشك من جهة انّ الفرد المنتفي هل هو الواقع في ضمن الكلي حتى
ينتفي مع ارتفاعه الكلّي أو انّه لم يكن الواقع في ضمن الكلّي ، وهذا ما سبّب الشك
في بقاء الكلّي.
ومثاله : ما لو
علم المكلّف بصدور كلّي الحدث منه الاّ انّه لم يكن يعلم انّ الحدث الصادر عنه هل
هو في ضمن حدث البول أو الجنابة ، ثم انّه لو توضأ بعد ذلك فلا محالة يقع الشك منه
في بقاء كلّي الحدث ، إذ لو كان الحدث الذي صدر منه هو حدث البول فقد ارتفع يقينا
ولو كان الحدث الصادر منه هو الجنابة فهو باق يقينا ، ولمّا لم يكن يعلم بهويّة
الفرد الواقع في ضمن كلّي الحدث أوجب ذلك الشك في بقاء كلّي الحدث.
وبهذا يتضح انّ
الذي يمكن استصحابه في هذا القسم هو الكلي فحسب ولكن شريطة ان يكون لاستصحابه أثر
شرعي كما في المثال حيث انّ لاستصحاب جامع الحدث أثرا شرعيا وهو حرمة مس كتابة
القرآن الكريم والدخول في الصلاة والطواف الواجب ، إذ ان ذلك من آثار كلّي الحدث
الأعم من الأكبر والاصغر.
وأمّا استصحاب
الجزئي فلا يمكن جريانه في هذا القسم ـ كما ذكرنا ـ وذلك لأن مورده مردد بين ما هو
معلوم الارتفاع وهو حدث البول ـ كما في المثال ـ وبين ما هو مشكوك الحدوث وهو حدث
الجنابة.
ومن هنا لا يمكن
ترتيب الآثار المختصة بأحدهما ، فلا يمكن الحكم بحرمة المكث في المسجد والذي هو
أثر
شرعي للحدث الأكبر
، كما انّ الاثر الخاص بالحدث الاصغر لو اتفق لا يمكن ترتيبه لو كان الأكبر هو
المعلوم الارتفاع.
القسم
الثالث : ان يفترض تحقق
العلم بالفرد وهذا يقتضي تحقق العلم بوجود الكلّي الواقع في ضمن الفرد ثم انّه لو
حصل العلم بارتفاع الفرد إلاّ انّه نحتمل بقاء الكلّي ضمن فرد آخر كان موجودا قبل
ارتفاع الفرد الاول أو انّ الفرد الآخر حدث ساعة انتفاء الفرد الاول المعلوم
الحدوث.
ومثاله : ما لو
علم المكلّف بصدور حدث البول منه ، فهو حينئذ يعلم بصدور كلّي الحدث ، ثم لو أحرز
ارتفاع حدث البول بواسطة الوضوء إلاّ انّه احتمل طروء حدث الجنابة له قبل ارتفاع
حدث البول أو ساعة ارتفاعه ، فهو حينئذ وان كان يقطع بارتفاع حدث البول إلاّ انّه
لا يقطع بارتفاع كلّي الحدث لاحتمال طرو حدث الجنابة عنه قبل ارتفاع حدث البول أو
حين ارتفاعه بحيث لم يتخلل وقت لم يكن محدثا.
وهنا يقع البحث عن
امكان إجراء استصحاب الكلّي باعتبار انّ كلّي الحدث كان متيقنا ثم وقع الشك في
بقائه.
هذه هي الأقسام
الثلاثة التي ذكرها الشيخ الانصاري رحمهالله وأضاف اليها السيد الخوئي قسما رابعا وهو :
القسم
الرابع : هو ما لو احرز
وجود فرد معين ومشخّص ، وهذا يستوجب إحراز وجود الكلّي في ضمنه ، واتفق ان كان
هناك علم بفرد متعنون بعنوان معين إلاّ انّه لا ندري انّ هذا الفرد ذو العنوان هل
هو عينه الفرد الاول أو انّه فرد آخر ، ثم لو حصل العلم بارتفاع الفرد الاول
المعين فإنّه يقع الشك في بقاء الكلّي ، لأنّه ان كان الفرد ذو العنوان هو عينه
الفرد الاول فهذا يعني ارتفاعه قطعا وبه يرتفع الكلّي ايضا ، وان كان الفرد ذو
العنوان مغايرا للفرد الاول فهذا يعني بقاء الكلّي جزما في
ضمن الفرد ذي
العنوان ، ولمّا لم نكن نحرز انطباق الفرد ذي العنوان على الفرد الاول يقع الشك في
بقاء الكلّي.
ومثاله : ما لو
علم المكلّف بغرق ولده زيد فهو اذن يعلم بغرق إنسان ، ولو اتفق ان علم أيضا بغرق
شاب إلاّ انّه لم يحرز انّ هذا الشاب هو ابنه زيد أو انّه فرد آخر. ثم انّ هذا
المكلّف لو انقذ ولده من الغرق فإنّه يظلّ محتملا لبقاء كلّي الإنسان في حالة
الغرق ، وذلك لاحتمال ان يكون عنوان الشاب المعلوم كونه في حالة الغرق هو فرد آخر
غير ولده الذي أنقذه ، وحينئذ يقع البحث في جريان استصحاب الكلّي في هذا الفرض.
* * *
٦١ ـ استصحاب المفهوم
المردد
والمفهوم المردد
هو الكلّي الذي يدور معناه بين معنيين متباينين أو بين معنيين أحدهما أوسع دائرة
من الآخر.
ومثال الاول : ما
لو قال المولى « ذات القرء لا يصح طلاقها » فإنّ القرء مردد بين معنيين متباينين ،
فإمّا ان يكون المراد منه الطهر أو يكون المراد منه الحيض.
ومثال الثاني :
عدم جواز الصلاة خلف الفاسق ، فإن مفهوم الفاسق مردد بين مرتكب الكبيرة والصغيرة ،
وهذا يقتضي ضيق دائرة المفهوم ، وبين مرتكب الكبيرة فحسب.
أما في حالات
دوران المفهوم بين متباينين وعدم وجود قدر مشترك بينهما فلا مجال للاستصحاب ، لأن
الأثر الشرعي المترتب على المفهوم المردد لا نحرز ترتّبه على المعنى الاول ولا على
المعنى الثاني.
فلو علمنا بتحيض
المرأة ثم شككنا في بقائها على حدث الحيض ، فهنا لا يمكن استصحابه حدث الحيض
لترتيب الأثر الثابت لمفهوم القرء وهو صحة الطلاق ، وهكذا لو كانت الحالة
السابقة هي الطهر.
نعم لو كان الأثر الشرعي مترتبا على عدم القرء فإنّه يمكن استصحاب لترتيب أثره
الشرعي.
وأما في حالات
دوران المفهوم بين الأقل والأكثر ، فلو كان القدر المتيقن ـ وهو الأكثر ـ محرزا ثم
شك في بقائه فإنه لا مانع من استصحابه لترتيب الأثر الشرعي المترتب على المفهوم
المردد ، كما لو كنا نحرز عدالة زيد على كلا تقديري المراد من مفهوم العدالة ثم شك
في بقاء هذا المقدار من العدالة.
أما لو كان الأقل
هو المحرز ثم شك في بقائه فحينئذ لا يمكن استصحابه لترتيب الاثر الشرعي المترتب
على المفهوم المردد ، لعدم إحراز تحقق المفهوم المردد ، إذ لعلّ الأكثر هو المراد
من المفهوم المردد ، فالشك في مورد الأقل شك في أصل الحدوث للمفهوم.
أما لو كان الأثر
مترتبا على العدم فإنّه لا مانع من جريانه لو كان العدم محرزا ثم شك في ارتفاعه ،
كما لو كنا نحرز عدم عدالة زيد على كلا تقديري المراد من مفهوم العدالة ثم انّ
زيدا ترك ارتكاب الكبائر ، فشككنا انّ عدم العدالة هل ارتفع بذلك أو لا ، فعندئذ
نستصحب عدم العدالة.
ثم لا يخفى ان
المقصود من ترتّب الأثر على المفهوم المردّد هو ترتّبه على المفهوم المتعيّن في
نفس الأمر والواقع ، وليس المقصود ترتّبه على المفهوم المردد بعنوان كونه مرددا ،
فالتردّد ليس هو موضوع الأثر الشرعي وانّما نشأ عن جهل المكلّف بما هو المراد
الواقعي من المفهوم ، فلم يؤخذ التردد في مفهوم الأثر الشرعي.
* * *
٦٢ ـ استصحاب حال الشرع
المراد منه
استصحاب الحكم الأعم من الكلّي والجزئي الثابت في الشريعة في ظرف الشك في بقائه ،
فالمستصحب في المقام هو الحكم الكلّي والجزئي
الأعم من الوضعي
والتكليفي ، وهذا بخلاف استصحاب حال العقل فإنّ المستصحب في مورده هو نفي الحكم
الشرعي التكليفي الإلزامي.
على انّ المقصود
من الاستصحاب في المقام هو الاستصحاب الاصطلاحي والذي يقتضي لزوم البناء على
الحالة المتيقنة في ظرف الشك في بقائها ، وهذا بخلاف استصحاب حال العقل فإنّه
بمعنى الرجوع الى ما تقتضيه القاعدة العقلية من براءة ذمة المكلّف عن التكليف غير
المعلوم فهو تعبير آخر عن التمسّك بالبراءة الأصلية.
ومنشأ التعبير
باستصحاب حال الشرع هو انّ المستصحب والذي هو الحالة السابقة المتيقنة ثبتت حكمها
بواسطة الشرع ، ويمكن ان يكون المنشأ لذلك هو انّ المستصحب عبارة عن الحكم الشرعي
، فحال الشرع هو الحكم الشرعي.
وكيف كان فقد ذكر
صاحب الحدائق رحمهالله انّ الاستصحاب يطلق ـ عند قدماء الاصوليين ـ على معان
ثلاثة بالإضافة الى استصحاب حال العقل والتي هي البراءة الأصلية.
الأول
والثاني : هو استصحاب حكم
العموم واستصحاب الإطلاق الى ان يثبت المخصّص والمقيّد. وعلّق على هذين القسمين
بأنهما ليسا من الاستصحاب في شيء وانّهما يرجعان الى التمسّك باطلاق النص أو عمومه
، فهما من الأدلة اللفظية الشرعية المحرزة. ولعل هذا هو منشأ عدم تعرّض الشيخ
الطوسي رحمهالله في العدّة وكذلك صاحب المعالم والفاضل التوني في الوافية
لهذين القسمين.
الثالث : هو استصحاب الحكم الشرعي الثابت لمورد في حالة طروء ما
يوجب الشك في انتفاء الحكم عن ذلك المورد. ومنشأ الشك تارة يكون اشتباه الامور
الخارجية وهذا هو
مورد استصحاب
الحكم الجزئي أو قل الاستصحاب في الشبهات الموضوعية ، وتارة يكون منشأ الشك هو
احتمال ارتفاع الحكم وزواله بعد اليقين بثبوته ، وهذا من استصحاب الحكم الكلي
والذي هو من أقسام الشبهات الحكمية ، وقد يكون منشأ الشك هو الجهل بحدود موضوع
الحكم المجعول من حيث السعة والضيق ، وهذا أيضا من الاستصحاب في الشبهات الحكمية.
وكلّ هذه الموارد
داخلة في محلّ النزاع عندهم كما هو المستظهر من كلماتهم بالتأمل ، نعم المثال الذي
عادة ما يقرّبون به محلّ النزاع هو ما ينقلونه عن بعض أصحاب الشافعي من انّ
المتيمم الفاقد للماء لو اتفق ان وجد الماء أثناء الصلاة ، فهل يجب عليه المضي في
الصلاة أو انّ وجدان الماء يكون بمثابة الحدث المانع من المضي في الصلاة ، وهنا
يكون الاستصحاب مقتضيا للبناء على الحالة السابقة وهي وجوب المضي في الصلاة ، وهذا
الفرض انّما يناسب استصحاب الحكم الكلّي ، وذلك لأن منشأ الشك هو الجهل بسعة دائرة
موضوع الحكم المجعول كما أوضحنا ذلك تحت عنوان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.
إلاّ انّه لا يختص
محلّ النزاع بهذا المورد كما يوضح ذلك تمثيلهم بمن تيقن الطهارة ثم شك في طروء
الحدث وكذلك الشك في حياة الزوج بعد غيابه أو الشك في طهارة الثوب بعد العلم
بطهارتها ، فإنّ هذه الأمثلة تناسب الاستصحاب في الشبهات الموضوعية.
وأما شمول محلّ
النزاع لموارد الشك في نسخ الحكم فهو مستفاد من بعض كلمات الفاضل التوني رحمهالله.
وكيف كان فقد كان
السائد بين قدماء الاصوليين هو تصنيف استصحاب حال الشرع في الأدلة
العقلية ، ومنشأ
ذلك ـ بنظرهم ـ هو انّ ثبوت الحكم في الحالة السابقة كاشف عن بقائه ، وذلك لوجود
المقتضي للحكم في ظرف الشك وليس شيء سوى الشك في صلاحية العارض للمنع عن ان يؤثر
المقتضي أثره ، والشك في صلاحيته لذلك يساوق عدم صلاحيته للمنع عن ان يؤثر المقتضي
المحرز أثره.
ثم انّ هنا
استصحاب يعبّر عنه باستصحاب حال الإجماع ، وهو في الواقع من أقسام استصحاب حال
الشرع ، والمقصود منه الإشارة الى مدرك الحكم الشرعي المستصحب وانّه الإجماع ،
فالحكم الشرعي الثابت في حالة أو وقت بواسطة الإجماع إذا وقع الشك فيه في حالة
لاحقة أو وقت آخر فإنّ استصحابه يقتضي لزوم البناء على بقاء الحكم الشرعي الثابت
بالإجماع.
* * *
٦٣ ـ استصحاب حال العقل
المراد من استصحاب
حال العقل ـ كما هو المستظهر من عبائر صاحب الحدائق رحمهالله ـ هو البراءة الأصلية النافية للحكم الإلزامي « الوجوب
والحرمة » ، والتي يعبّر عنها بأصالة النفي وبأصالة براءة الذمة عن التكليف ما لم
يقم على ثبوته دليل ، كما سنوضح ذلك في محلّه.
وأما ما هو
المستظهر من عبائر الفاضل التوني رحمهالله فهو انّ استصحاب حال العقل يختلف عن البراءة الأصلية ،
وذلك بقرينة اعتبار استصحاب حال العقل قسيما للبراءة الأصلية ، نعم المراد من
استصحاب حال العقل هو استصحاب البراءة الأصلية.
وما أفاده الفاضل
التوني رحمهالله هو المناسب لكلمات قدماء الاصوليين ـ رغم اضطرابها ـ ، إذ
انّ كثيرا منهم
يصنّفون الدليل
العقلي الى البراءة والاستصحاب ـ ويجعلون استصحاب حال العقل في أقسام الاستصحاب ـ وقد
يضيفون اليها الملازمات العقلية وكذلك غيرها.
وصاحب الحدائق رحمهالله وان كان قد ذكر هذا التصنيف وأفرد للاستصحاب عنوانا مستقلا عن البراءة
الأصلية في المقدمة الثالثة إلاّ انّه بعد ان ذكر أقسام الاستصحاب ذكر انّ القسم
الاول منها هو « استصحاب نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمة منه الى ان يظهر دليله »
ثم قال : « وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصلية الذي تقدم الكلام عليها بمعنييها ».
وكيف كان فالمراد
من حال العقل هو الحالة التي عليها العقل من إدراك براءة ذمة المكلّف عن كلّ تكليف
إلزامي لم يقم دليل على ثبوته ، وبهذا يكون المراد من استحباب حال العقل هو
استصحاب المدرك العقلي.
والظاهر انّ
الاستصحاب هنا يعني الرجوع الى الحكم العقلي القاضي ببراءة الذمة عن التكليف
الإلزامي غير المعلوم ، وليس المراد منه الاستصحاب الاصطلاحي المقتضي للبناء على
الحالة المتيقنة في ظرف الشك ، نعم فسّر الفاضل التوني « الحال » بالحالة السابقة
، وهذا يعبّر بدوا عن انّ المراد من استصحاب حال العقل هو الاستصحاب الاصطلاحي
إلاّ انّ الظاهر عدم إرادته لذلك بقرينة تفسيره للحالة السابقة بعدم اشتغال الذمة
في الزمن السابق ، وواضح انّ عدم اشتغال الذمة انّما ثبت بواسطة حكم العقل ببراءة
الذمة عن كلّ تكليف لم يقم على ثبوته دليل ، وهذا الافتراض وهو عدم قيام الدليل
يظلّ منقّحا لموضوع الحكم العقلي بالبراءة مطلقا ، فليس ثمة حالة يمكن افتراضها
مجرى لاستصحاب حال العقل ولا يكون موضوع الحكم العقلي بالبراءة
متحرّرا فأين
اليقين السابق والشك اللاحق ، فلو افترض انّ المكلّف قد عثر على دليل الحكم فلا
مجال لاستصحاب حال العقل كما لا مجال لإجراء القاعدة العقلية ، ففي كلّ مورد يجري
فيه استصحاب حال العقل تجري فيه القاعدة وكذلك العكس.
وبهذا يتّضح انّ
المراد من استصحاب حال العقل هو الرجوع الى القاعدة العقلية القاضية بالبراءة عن
كلّ تكليف غير معلوم ، والذي يؤكد ما ذكرناه انّهم استدلوا على حجية هذا الاستصحاب
بمدرك القاعدة القاضية ببراءة الذمة عن كلّ تكليف لم يقم عليه دليل.
وأما وجه تفسير
الفاضل التوني « للحال » بالحالة السابقة فلعلّه لأجل انّ الشك في كلّ مورد بخصوصه
يكون متأخرا عن تحرّر القاعدة العقلية فيكون نفي الحكم الإلزامي عن ذلك المورد
بواسطة الرجوع الى القاعدة العقلية ، وهذا هو المبرّر للتعبير عن الرجوع
بالاستصحاب ، لأنه عبارة عن إجراء القاعدة المتيقنة على مورد الشك ، فهو أشبه
بتطبيق الكبرى على احدى صغرياتها فينتفي الشك عن المورد بواسطة التطبيق والإرجاع.
نعم المستظهر من
عبائره انّ ثمة حالة سابقة متيقنة وحالة لاحقة مشكوكة ، وهذا معناه انّ المراد من
الاستصحاب هو الاستصحاب الاصطلاحي ، إلاّ انّه مع ذلك يمكن توجيهه بما يناسب ما
ذكرناه من انّ استصحاب حال العقل معناه الرجوع الى البراءة الأصلية.
وهو انّ المكلّف
قد يتمسك بالبراءة الأصلية المدركة بالعقل ابتداء لعدم عثوره على دليل أصلا ، إلاّ
انّه بعد ذلك يعثر على رواية ضعيفة السند أو مضطربة الدلالة فيحتمل انّ ذلك موجبا
لاشتغال ذمته بمفادها أو بما يتراءى منها ، وهنا يستصحب البراءة
الأصلية المدركة
بالعقل والثابتة قبل العثور على هذه الرواية ، وواضح انّ هذا ليس من الاستصحاب
الاصطلاحي ، لأنّ العثور على الرواية الضعيفة لا ينفي موضوع القاعدة العقلية ـ القاضية
بالبراءة الأصلية ـ والذي هو عدم العثور على دليل ، فالحالة التي هو عليها قبل
العثور هي الحالة التي هو عليها بعد العثور على الرواية ، فليس ثمة يقين سابق وشك
لاحق.
نعم المناسب في
المقام هو التعبير باستصحاب البراءة المدركة بالعقل ، وذلك لتجدّد شيء لم يكن
موجودا والذي هو العثور على الرواية.
وهناك صورة اخرى
تناسب عبائر الفاضل التوني رحمهالله ولا تنافي ما ذكرناه ، وهي ما لو لم يقم دليل على وجوب
النفقة على الأخ ، وكان حال المكلّف عند ذلك هو الفقر ، ثم أصبح المكلّف مليا
فاحتمل انّ طروء هذه الحالة موجب لاشتغال ذمته بوجوب النفقة على أخيه.
فهنا يستصحب
البراءة الأصلية والتي هي استصحاب حال العقل ، وواضح انّ هذا الاستصحاب ليس أكثر
من إجراء البراءة الأصلية ، غايته انّ المناسب هنا هو التعبير باستصحاب حال العقل
، وذلك لأنه رجوع الى ما يقتضيه حكم العقل بعد ان لم يكن مبرّر لهذه المئونة
الزائدة في حالته الاولى.
وكيف كان فلو كان
في هذا التوجيه وسابقه شيء من التكلّف فهو ناشئ عن اضطراب عبائر الفاضل التوني رحمهالله وعدم تعقل إرادة ظهورها الاولي.
وبهذا يتضح تمامية
ما أفاده صاحب الحدائق رحمهالله من انّ استصحاب حال العقل هو عينه البراءة الأصلية النافية
للتكليف الإلزامي بمقتضى حكم العقل بعدم اشتغال ذمة المكلّف بتكليف لم يقم
على ثبوته دليل.
ومن هنا عدّ قدماء
الاصوليين هذا النحو من الاستصحاب من الأدلة العقلية ، إذ انّ مستنده عندهم ـ كما
أفاد ذلك الفاضل التوني وغيره ـ هو ما يدركه العقل من قبح التكليف بما لا يطاق ،
ويمكن تقريب ذلك بأحد وجهين :
الأول : انّ المفترض هو انّ المكلّف بذل الوسع في البحث عن
التكليف ولم يتمكن من الوصول اليه ، وهذا معناه انّ الوصول للتكليف خارج عن طاقة
المكلّف ، فمطالبته بالتكليف حينئذ تكليف بما لا يطاق.
الثاني : انّ الجاهل بالتكليف يستحيل منه الانبعاث عن التكليف
وحينئذ يكون تكليفه بما لا يتمكن من الانبعاث عنه تكليف بما لا يطاق.
وبتقريب آخر ذكره
الشيخ الأنصاري رحمهالله انّ امتثال التكليف لا يكون إلاّ بقصد امتثاله ، ومع جهل
المكلّف به لا يكون قصد الامتثال منه ممكنا ، وحينئذ يكون تكليفه بما لا يتمكن من
امتثاله ـ لعدم القدرة على قصد امتثاله ـ تكليفا بما لا يطاق.
* * *
٦٤ ـ استصحاب حكم المخصص في
العموم الأزماني
والبحث في المقام
عن حكم الفرد المخصص لو كان تخصيصه محرز في زمان ثم وقع الشك في حكمه بعد ذلك
الزمان ، فهل المرجع هو عموم العام الأزماني او انّ المرجع هو استصحاب حكم المخصص.
مثلا قوله تعالى ( أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ ) يدلّ باطلاقه أو عمومه على لزوم كل عقد وانّ هذا اللزوم
ثابت للعقد على امتداد الزمن ، فلو قام الدليل الخاص على انّ البيع الذي يكون
المبيع فيه معيبا ليس لازما حين انكشاف العيب للمشتري وانّ له خيار العيب ، بمعنى
انّ له فسخ العقد
حين انكشاف العيب
، فلو انّ المشتري لم يعمل خياره حين انكشاف العيب وتوانى بحيث مضى وقت يعدّه
العرف خروجا عن حدّ الفورية المحرز معها ثبوت الخيار والخروج عن عموم العام
الأزماني ، وعندها يقع الشك في انّ هذا البيع خياري أو انه بيع لزومي كسائر
البيوع.
والحكم بأن هذا
البيع ـ بعد انتهاء الوقت المحرز للخيار ـ لزومي معناه ان المرجع في مثل هذا الشك
هو عموم العام الأزماني ـ كما انّ الحكم بأنّ هذا البيع ـ بعد انتهاء الوقت المحرز
للخيار ـ خياري معناه انّ المرجع في مثل هذا الشك هو استصحاب المخصص.
وهنا أمر لا بدّ
من التنبيه عليه وهو انّ البحث ليس عن كبرى التعارض بين عموم العام الأزماني وبين
الاستصحاب فإن نتيجة هذا البحث واضحة على ما هو محرر في محلّه وهي ان المقدم حينئذ
هو عموم العام باعتباره دليلا اجتهاديا فالامارات دائما مقدمة على الاصول العملية
بل حتى لو كان الاستصحاب أمارة فإنّ العموم مقدم عليه ، فالبحث في المقام انّما هو
عن الحالات والموارد التي يكون المرجع فيها هو عموم العام والموارد التي يكون
المرجع فيها هو استصحاب المخصص.
ولا بأس بتقرير ما
أفاده صاحب الكفاية رحمهالله في المقام باعتباره دخيلا في اتضاح معالم البحث.
فقد ذكر انّ الحالات
المتصورة في المقام أربع :
الصورة
الاولى : ان يكون العموم
الأزماني عموما مجموعيا ويكون الزمان الملحوظ في دليل المخصص ليس أكثر من ظرف
للحكم المخصص.
والمراد من العموم
المجموعي هو انّ الأفراد الطولية للعام تمثّل بمجموعها موضوع حكم العام فيكون كل
فرد جزء لموضوع حكم العام ، ومن هنا لا
يكون لحكم العام
إلاّ امتثال واحد ومعصية واحدة ، فلو أخلّ المكلّف بفرد من أفراد العام الممتدة في
عمود الزمان فهذا معناه عدم امتثال حكم العام ، إذ انّ تحقّق الامتثال لا يكون في
هذا الفرض بالإتيان بتمام الأفراد المتعاقبة.
ومثاله قوله تعالى
: ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فإنّ المطلوب هو وجوب الوفاء بالعقد في تمام الآنات المتعاقبة ، بمعنى ان ظرف
وجوب الوفاء بالعقد هو مجموع الآنات الممتدّة في عمود الزمان ، فليس الزمان مفرّدا
ومصنّفا لحكم العام الى أحكام طولية يكون لكلّ واحد طاعة ومعصية مستقلّة ، بل هناك
حكم واحد ظرفه هو مجموع آنات الزمان ، وحينئذ لو قام دليل مفاده عدم وجوب الوفاء
بالعقد حين انكشاف الغبن في المعاملة ، فلو افترضنا انّ الزمان الملحوظ في المخصص
لم يكن سوى ظرف لحكم الخاص فما هو المرجع عند الشك في حكم المخصّص بعد انتهاء الزمان
الملحوظ فيه؟
ذهب صاحب الكفاية رحمهالله الى انّ المرجع في هذا الفرض هو استصحاب المخصص ، وذلك لأن الزمان الملحوظ في
حكم العام لم يكن سوى ظرف للحكم ، وهذا يقتضي ان لا يكون الزمان مستوجبا لتصنيف
موضوع العام الى أفراد طولية يتعدد بتعددها الحكم ، فليس في البين سوى حكم واحد
ظرفه الدوام والاستمرار ، وعند مجيء المخصص يكون ذلك الاستمرار قد انقطع بواسطته ،
فلا يكون الفرد العرضي الذي خرج بالتخصيص مشمولا لحكم العام بعد انتهاء الزمان
الذي اخذ ظرفا للحكم الخاص مشمولا ، وعندئذ لا مبرّر للرجوع الى العام عند الشك في
حكم الخاص بعد انتهاء زمن الخاص الذي أخذ ظرفا له.
وأما التمسّك
باستصحاب حكم الخاص فباعتبار انّ الزمان لم يكن سوى ظرف له فيكون حكم الخاص
متوفّرا على أركان الاستصحاب وهو اليقين به قبل انتهاء الزمان الملحوظ ظرفا له
والشك في بقائه بعد انتهاء الزمان والمفروض انّ الزمان لم يكن سوى ظرف له وهذا ما
يعني وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، وهذا هو مبرّر جريان استصحاب المخصص بعد ان
لم يكن ما يمنع من جريانه وهو شمول حكم العام له حيث قلنا انّ استمرار حكم العام
قد انقطع عنه.
ثم انّ صاحب
الكفاية رحمهالله استدرك على ما ذكره من أنّ المرجع في هذه الصورة هو
استصحاب حكم الخاص بقوله ـ بما معناه ـ انّ التخصيص لو كان لاول أزمنة حكم العام
فإنّ المرجع حينئذ هو عموم العام ، وذلك لأنّ التخصيص في هذا الفرض لا يوجب انقطاع
حكم العام ، كما في خيار المجلس فإنّه يثبت في أول أزمنة العقد ، فحتى لو لم يكن
دليل على وجوب الوفاء بالعقد بعد التفرق عن المجلس فإن المرجع بعد التفرّق عنه هو
عموم العام الأزماني ، وذلك لأنّ حكم العام انما يبدأ بعد الزمان الأول كما هو
مقتضى تخصيصه بخيار المجلس في الزمان الأول.
الصورة
الثانية : هي عين الصورة
الاولى ولكن مع افتراض انّ الزمان الملحوظ في دليل المخصص أخذ قيدا في حكم المخصص
كما لو افترضنا انّ دليل المخصص المفيد لثبوت الخيار في المعاملة الغبنية دلّ على
اعتبار زمان انكشاف الغبن قيدا في ثبوت الخيار ، بمعنى انّ الخيار يسقط بمجرّد عدم
اعمال المشتري له حين انكشاف الغبن ، وحينئذ فالمرجع ـ بنظر صاحب الكفاية ـ بعد
انقضاء زمن الخيار وعدم اعمال المشتري له هو الاصول العملية الجارية في مورد
حكم المخصص ، فلا
العموم يمكن التمسّك به لعين ما ذكرناه في الصورة الاولى ولا الاستصحاب ، وذلك
لأنّ تعدية حكم المخصص الى ما بعد انقضاء زمن انكشاف الغبن معناه تعدية حكم من
موضوع الى آخر وهو من القياس.
وبتعبير آخر : لا
تكون القضية المتيقنة والمشكوكة واحدة في مثل هذا الفرض بعد ان كان موضوع حكم
المخصص هو زمان انكشاف الغبن في المعاملة والموضوع الذي نبحث عن حكمه هو ما بعد
انكشاف الغبن في المعاملة ، ثم انّ هنا أيضا يأتي نفس الاستدراك السابق.
الصورة
الثالثة : ان يكون العموم
الأزماني عموما استغراقيا ويكون الزمان الملحوظ في دليل المخصص ليس إلاّ ظرفا لحكم
المخصص.
والمراد من كون
العموم الأزماني استغراقيا هو انحلال موضوع العام الى أفراده الطولية ويكون كل فرد
موضوعا مستقلا لحكم العام ، بمعنى ان حكم العام ينحلّ أيضا الى أحكام بعدد أفراد
موضوع العام ، فيكون لكل حكم من هذه الأحكام طاعة ومعصية مستقلّة ، وهذا معناه انّ
الزمان أوجب تفريد وتصنيف موضوع العام الى موضوعات طولية متعاقبة يتعدد الحكم
بعددها.
ومثاله ما لو قال
المولى « أكرم العلماء أبدا » ، فإنّ الزمان هنا أوجب تفريد موضوع العام الى أفراد
يتعدد الحكم بتعددها ويكون لكلّ حكم طاعة ومعصية مستقلة ، ولذلك لا يسقط عنه
التكليف بمجرّد إكرامهم في الزمن الاول وكذلك لو عصى المكلّف ولم يكرمهم في الزمان
الاول فإنّه يبقى ملزما بالاكرام في الأزمنة الأخرى المتعاقبة.
وأما كون المخصّص
ملحوظا بنحو الظرفية فمعناه انّ الزمان ليس دخيلا
في حكم المخصص
وانما باعتبار ان الموجود الخارجي لا ينفك عن ان يكون مظروفا للزمان فهذا هو الذي
برّر ملاحظة الزمان وإلا فليس له دخالة في حكم المخصص.
ومثاله ما لو قال
المولى : « لا يجب التصدق على زيد العالم في السنة الثانية » واستظهرنا من لسان
الدليل انّ الزمان لم يكن سوى ظرف لحكم المخصص.
وفي هذه الصورة
ذهب الشيخ صاحب الكفاية رحمهالله الى انّ المرجع عند الشك في استمرار حكم المخصص أو عدم
استمراره المرجع هو عموم العام الأزماني ، وذلك لأن المقدار المحرز خروجه عن عموم
العام هو ذلك الفرد الذي دلّ عليه دليل المخصص وأما الفرد الواقع في طول الفرد
الخارج بالتخصيص فهو باق على عموم العام الأزماني ولا مقتضي لخروجه عن حكم العام
كما هو الحال في الأفراد العرضية ، فإنّ خروج بعضها عن عموم العام لا يستوجب خروج
حكم العام عن الباقي ، وعليه يجب اكرام زيد العالم في السنين التي تلي السنة
الثانية ، نعم لو كان للعام ما يعارضه فإنّ المرجع حينئذ هو استصحاب حكم المخصص ،
وذلك لتوفّره على أركان الاستصحاب مع انتفاء ما يمنع عن جريانه وهو العموم
الأزماني بعد افتراض سقوطه بالمعارضة.
الصورة
الرابعة : وهي عين الصورة
الثالثة مع افتراض أخذ الزمان قيدا في حكم المخصص ، بمعنى اعتبار الزمان دخيلا في
حكم المخصص وليس مجرّد ظرف ، وهنا يكون المرجع أيضا هو عموم العام إلاّ ان يبتلي
بالمعارض ، وحينئذ هل يسوغ الرجوع لاستصحاب حكم المخصص كما هو الحال في الصورة
الثالثة أولا؟
ذهب صاحب الكفاية رحمهالله الى عدم جريان الاستصحاب في حكم
المخصص في هذه
الصورة بل المرجع هي الاصول العملية الاخرى الجارية في مورد المخصص ، وذلك لافتراض
أخذ الزمان قيدا وهو يقتضي انتفاء الحكم عند انتفاء الزمان ، فإثبات نفس الحكم
للفرد الواقع في طول الفرد المنقضي زمانه معناه تعدية الحكم من موضوع الى موضوع
آخر وهذا هو القياس.
وبتعبير آخر : انّ
وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة غير منحفظة في المقام ، إذ انّ القضية المتيقنة هي
الفرد الواقع في الزمان الاول والقضية المشكوكة هي الفرد الواقع في الزمان الثاني
، فالحكم لو كان ثابتا للفرد الواقع في طول الفرد الاول لكان حكما آخر مسانخا
للحكم الاول لا انّه عينه وهذا بخلاف ما يقتضيه الاستصحاب من اسراء عين الحكم
الثابت في ظرف اليقين الى ظرف الشك.
* * *
٦٥ ـ استصحاب عدم النسخ
أما بيان المراد
من معنى النسخ فياتي تحت عنوان النسخ.
وأما استصحاب عدم
النسخ فمورده الشك في بقاء الحكم بمرتبة الجعل ، فقد يقع الشك في انّ الحكم
المجعول على موضوعه المقدّر الوجود هل ارتفع أو انه لا زال ثابتا ، وهذا معناه
الشك في انتساخ الحكم وعدمه.
ثم انّ صحة جريان
استصحاب عدم النسخ ـ بناء على جريانه ـ انما هو في حالة لا يكون للحكم المشكوك في
بقائه اطلاق او عموم أزماني يمكن التمسّك به في ظرف الشك وإلا فالمرجع هو الاطلاق
والعموم الأزماني ، وكذلك لو كان هناك دليل مفاده استمرار أحكام الشريعة فإنه
حينئذ يكون المرجع عند الشك ولا مسوّغ معه للتمسّك باستصحاب عدم النسخ ، فقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « حلال محمد
حلال الى يوم
القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة » يتكفّل بإثبات استمرارية الأحكام الشرعية ،
وهذا ما يجعل له الصلاحية للمرجعية في ظرف الشك ، نعم لو قام دليل قطعي على انتساخ
حكم من الأحكام فإنّه لا مجال حينئذ للتمسّك باطلاق هذه الرواية الشريفة باعتبار
انّ الدليل القطعي الذي ثبت به نسخ الحكم يكون مقيدا لإطلاق هذه الرواية الشريفة.
وما ذكرناه مختص
بأحكام الشريعة الاسلاميّة ، أما لو وقع الشك في انتساخ أحكام الشرائع السابقة فهل
يمكن التمسّك باستصحاب عدم النسخ أو لا؟
ذكر الأعلام «
رضوان الله عليهم » : انّ إجراء استصحاب عدم النسخ في الشرائع السابقة ـ بناء على
جريانه ـ انما هو مع افتراض عدم ثبوت نسخ الشرائع السابقة بكاملها ، ومع عدم ثبوت
ذلك لا يجري الاستصحاب أيضا لو قام الدليل الاجتهادي على نسخ بعض الاحكام أو على
ثبوت بعض أحكام الشرائع السابقة بعينها فيتمحض جريان استصحاب عدم النسخ بالأحكام
التي لم يثبت نسخها كما لم يثبت استمرارها.
ومع تحرّر محلّ
النزاع نقول : انّ الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية رحمهما الله وجمعا من الأعلام
ذهبوا الى جريان استصحاب عدم النسخ ، وذلك لتوفره على أركان الاستصحاب مع شمول
أدلة الحجية له وعدم وجود ما يمنع من جريانه.
وأما السيد الخوئي
رحمهالله فذهب الى عدم جريانه لا في شريعتنا ولا في الشرائع السابقة
، وذلك لأنّ النسخ ليس أكثر من بيان انقضاء أمد الحكم ، واذا كان كذلك فحينما يقع
الشك في استمرار حكم فهذا معناه الشك في سعة المجعول وضيقه.
وبتعبير آخر : إنّ
الشك في استمرار
الحكم مآله الى
الشك في سعة موضوع الحكم وضيقه ، وهل انّ موضوع الحكم هو مطلق المكلّف الى الأبد
أو انّ موضوعه هو خصوص المكلّف الموجود في زمن التشريع مثلا ، واذا كان كذلك فمرجع
الشك في استمرار الحكم الى الشك في أصل جعل الحكم على المكلف المعدوم زمن التشريع
وهو مجرى لأصالة البراءة كما هو واضح.
* * *
٦٦ ـ الاستصحاب في أطراف العلم
الإجمالي
ومورد البحث ما لو
كان متعلّق التكليف المعلوم بالإجمال مرددا بين أطراف كان لكلّ واحد منها حالة
سابقة متيقنة ، فهل يجري الاستصحاب في تمام الأطراف أو يجري في بعض دون الآخر أو
لا يصح إجراء الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مطلقا؟
ومثاله : ما لو
علم المكلّف بوجوب صلاة عليه إلاّ انّه تردد بين ان تكون صلاة الطواف أو صلاة
الآيات ، واتفق انّه كان على يقين من عدم وجوب صلاة الطواف في حقه وكذلك كان على
يقين من عدم وجوب صلاة الآيات عليه ، فهنا هل يجري استصحاب عدم وجوب صلاة الطواف
واستصحاب عدم وجوب صلاة الآيات أو انّهما لا يجريان معا أو انه يجري في أحدهما دون
الآخر؟
هذا وقد صنّف
البحث الى قسمين :
القسم
الأول : ان يكون إجراء
الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي مستوجبا للوقوع في المخالفة العملية قطعا.
ومثال هذا القسم
ما ذكرناه ، فإنّ إجراء الاستصحاب في الطرف الاول والثاني وبالتالي عدم الإتيان
بكلا الصلاتين معناه القطع بمخالفة التكليف ـ المعلوم بالإجمال ـ عملا.
وفي هذه الصورة
ذهب المشهور الى عدم جريان كلا الاستصحابين ، لأنّه يلزم من إجرائهما الترخيص في
المعصية ، وهو قبيح ، وإجراؤه في أحد الطرفين دون الآخر بلا مرجّح ، فالنتيجة هي
سقوطهما معا عن الحجية ، إلاّ ان يقوم دليل على التخيير وهو مفقود.
« ومن أراد
التفصيل فليراجع أوائل بحث الاشتغال حيث يبحثون هناك عن جريان الحكم الظاهري في
أطراف العلم الإجمالي ».
القسم
الثاني : ان لا يكون
إجراء الاستصحاب في تمام الأطراف مستوجبا للوقوع في المخالفة العملية القطعية.
ومثاله : ما لو
كان المكلّف يعلم تفصيلا باشتغال ذمته بصلاتين « الظهر والمغرب » ثم علم اجمالا
بفراغ ذمته من احدى الصلاتين ، فهنا يقع الشك فيما هو الباقي على عهدته ، وعندئذ
لو أجرى الاستصحاب في كلا الصلاتين ورتّب على ذلك الإتيان بهما لا يكون قد خالف
الواقع عملا كما هو واضح ، نعم أحد الاستصحابين مناف للواقع قطعا ، وذلك لافتراض
العلم بفراغ الذمة من أحدهما.
وفي هذا الفرض
اختلف الأعلام ، فذهب الشيخ الانصاري رحمهالله والمحقق النائيني رحمهالله الى عدم جريان الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي وان
لم يستلزم المخالفة العملية القطعية.
وأما الشيخ صاحب
الكفاية رحمهالله فذهب الى جريان الاستصحاب في تمام الأطراف ، ولا تظهر ثمرة
بين القولين من حيث تنجّز تمام الأطراف ، غايته انّ التنجّز بحسب المبنى الاول
مسبّب عن العلم الإجمالي ، واما بحسب المبنى الثاني فإن التنجّز يكون مسبب عن الاستصحاب
، نعم تظهر ثمرة بين القولين في بعض الحالات من جهة اخرى غير التنجّز فراجع.
٦٧ ـ الاستصحاب في الأمور
التدريجية
راجع الاستصحاب في
الزمانيات.
* * *
٦٨ ـ الاستصحاب في الزمان
والغرض من عقد هذا
البحث هو ملاحظة انّ أركان الاستصحاب تامة فيما لو كان المستصحب هو نفس الزمان مثل
النهار والليل ، فلو كان المكلّف على يقين بحلول النهار ثم شك في بقائه فحينئذ هل
له ان يستصحب بقاء النهار أو لا؟
ومنشأ الاشكال في
جريان الاستصحاب في الزمان هو انّ الزمان من الوجودات التي من طبعها عدم القرار ،
وذلك في مقابل الوجودات القارّة والتي تجتمع أجزاؤها في عرض واحد كوجود زيد.
فآنات الزمان يناط
وجود المتأخر منها بتصرّم المتقدم ، فحينما يكون المتأخر موجودا يكون المتقدّم في
حيّز العدم ، وحينئذ لا تنحفظ له وحدة حتى يعرضها اليقين والشك ، بمعنى انّ وحدة
القضية المتيقنة والمشكوكة ـ والتي هي من أركان الاستصحاب ـ لا يمكن تصورها في
الزمان ، إذ انّ الآن المعلوم غير الآن المشكوك ، فالآن المعلوم هو الآن المتقدم
والذي يقطع بتصرّمه ، والآن المشكوك لم نكن على يقين من حدوثه.
والتفصّي عن هذا
الإشكال إما بدعوى ان الزمان ليس وجودات متعددة ومتعاقبة بل هو وجود واحد سيال ،
بمعنى انّه متقوم بعدم القرار ، وقد برهن على هذه الدعوى في علم الحكمة ، وحينئذ
فالزمان وجود واحد عقلا وبنحو الدقة.
وبذلك يمكن ان
يعرضه اليقين والشك ولا يكون المتيقن غير المشكوك ، وبه تبطل دعوى عدم
تصوّر وحدة القضية
المتيقنة والمشكوكة.
ومع عدم قبول هذه
الدعوى يمكن اثبات وحدة القضية المتيقنة بواسطة النظر العرفي المسامحي والذي يرى
انّ للزمان وجودا واحدا يبدأ بوجود أول آن من آناته وينتهي بآخر آن من آناته ،
ونسبة كل آن من آناته لوجود الزمان نسبة الجزء الى الكل ، ولهذا يرى العرف انّ
لهذا الكل « الزمان » حدوثا واستمرارا ثم زوالا وانتفاء ، فحدوث الزمان بحدوث أول
آن منه واستمراره باستمرار آناته وانعدامه بانعدام آخر آناته ، فهذه الأوصاف
الثلاثة عرضت موضوعا واحدا هو الزمان مما يعبّر عن انّ للزمان وجودا واحدا بحسب
النظر العرفي.
والذي يؤكد هذه
الدعوى ما نشاهده من تجزئة العرف للزمان الى قطعات كل قطعة يكون لها حدوث واستمرار
وزوال ، كالنهار مثلا ، فإنّه يحدث بشروق الشمس ويستمر حتى سقوط قرص الشمس أو زوال
الحمرة المشرقية ، وهذا ما يصحح استصحابه حينما يقع الشك في بقائه بعد اليقين
بحدوثه ، إذ انّ المدار في صدق الوحدة بين القضية المتيقنة والقضية المشكوكة هو
النظر العرفي كما هو المحقق عندهم.
ثم لا يخفى عليك
انّ محلّ النزاع في صحة جريان استصحاب الزمان انّما هو فيما لو كان الأثر الشرعي
مترتب على بقاء نفس الزمان ، أما لو كان مترتبا على عدمه فإنّه لم يقع خلاف في صحة
جريان استصحاب العدم ، فوجوب أداء الظهرين مترتّب على عدم الغروب ، فلو وقع الشك
في تحقق الغروب فإنّ بالإمكان استصحاب عدمه ، ومنه يترتّب وجوب الاداء ، إذ انّ
موضوعه عدم الغروب وقد ثبت بواسطة الاستصحاب.
* * *
٦٩ ـ الاستصحاب في
الزمانيات
المقصود من
الزمانيات هي الوجودات غير القارّة ، فهي متقوّمة بكون الجزء المتأخر منها منوطا
وجوده بانصرام المتقدم ، فهي وان كانت غير الزمان إلاّ انّها مثل الزمان من جهة
انها وجودات متصرّمة ليس لها قرار ، ولهذا يعبّر عنها بالوجود السيال في مقابل
الوجود الذي تكون تمام أجزائه مجتمعة في عرض واحد.
ويمثلون للزمانيات
بالحركة وجريان الماء وانصباب الدم من الرحم والقراءة ، فهذه الأمثلة جميعا تشترك
في تقوّم كل واحد منها بعدم اجتماع أجزائه في عرض واحد.
وهناك قسم آخر
يطلق عليه الاصوليون الزمانيات أيضا ، وهو الوجود القار المقيد بزمان ، فمنشأ اطلاق
عنوان الزماني على هذا النحو من الوجودات هو تقيّده بالزمان.
ومثاله : ما لو
أمر المولى المكلّف بالكون في المسجد من شروق الشمس الى الغروب ، فإن الكون في
المسجد ليس من الزمانيات في حدّ نفسه إلاّ انّ تقيّده بالزمان صحّح اطلاق عنوان
الزماني عليه.
وكيف كان فإنّ
إجراء الاستصحاب في الزمانيات ـ بالمعنى الاول ـ يواجه نفس المشكلة التي يواجهها
إجراء الاستصحاب في الزمان ، والعلاج الذي ذكر هناك يجري في المقام أيضا فلاحظ.
ولمّا كان مقتضى
التحقيق عندهم هو جريان الاستصحاب في الزمان ففي المقام كذلك إلاّ انه وقع البحث
عن ما هي الحالات التي يصح معها إجراء الاستصحاب في الزمانيات.
والحالات المتصورة
ثلاثة :
الحالة
الاولى : ان يكون الشك
في البقاء ناشئا عن الشك في استعداد الوجود الزماني للبقاء الى مدّة معينة ،
وهذا هو المعبّر
عنه بالشك في المقتضي ، كما لو كان المكلّف يعلم بجريان الماء وشك بعد ذلك في
استمراره بسبب الشك في قابلية المادة التي تمدّه للاستمرار الى هذا الوقت.
وجريان الاستصحاب
في المقام لا إشكال فيه من جهة كون المستصحب زمانيا ، وانّما الإشكال من جهة جريان
الاستصحاب عند ما يكون الشك في البقاء ناشئا عن الشك في المقتضي ، حيث ذهب الشيخ
الانصاري والمحقق النائيني رحمهما الله الى عدم جريان الاستصحاب في هذا الفرض وذلك
في مقابل ما عليه المشهور من جريان الاستصحاب في هذا الفرض.
الحالة
الثانية : ان يكون الشك
في البقاء ناشئا عن الشك في طرو الرافع ، أي افتراض انّ هذا الوجود الزماني له قابلية
لأن يبقى الى المدّة التي وقع فيها الشك إلاّ انّ احتمال طرو الرافع أوجب الشك في
البقاء والاستمرار.
ومثاله : ما لو
علم الزوج بصدور حدث الحيض من زوجته ، وانّ سيلان دم الحيض له القابلية لأن يستمر
سبعة أيام ـ كما هو مقتضى عادتها ـ إلاّ انّه شك بعد ذلك في استمرار السيلان بسبب
الشك في طروء عارض ـ كمرض مثلا ـ وهنا لا ريب في جريان الاستصحاب.
الحالة
الثالثة : ان يكون الشك
ناشئا عن احتمال حدوث مقتض آخر مع إحراز انّ المقتضي الاول قد انقضى تأثيره.
ومثاله : ما لو
علمنا بشروع زيد في صلاة رباعية وكنا نعلم انّ الصلاة الرباعية لا تقتضي أكثر من
عشر دقائق بالنسبة لزيد إلاّ انّه بعد هذه المدة شككنا في استمرار زيد في الصلاة
وكان منشأ الشك هو احتمال حدوث مقتض آخر للاستمرار ، كأن احتملنا انّ زيدا قد
ابتلي بخلل في صلاته أوجب عليه الاحتياط بركعتين.
هذا وقد وقع
الكلام بينهم في
جريان الاستصحاب
في هذه الحالة أو عدم جريانه ، فقد ذهب المحقق النائيني رحمهالله الى عدم جريان الاستصحاب بدعوى انّ المقوم لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة
في الوجودات الزمانية هو وحدة الداعي ، والمقام ليس كذلك ، فعلى فرض بقاء زيد على
الصلاة واقعا لا يكون ذلك استمرارا للفعل الاول المعلوم الحدوث بل هو حدوث آخر ،
ومن هنا يكون الشك في تلبسه بالصلاة فعلا شكا في حدوث فعل جديد وليس هو شكا في
استمرار الفعل الاول.
أما السيد الخوئي رحمهالله فلم يقبل هذه الدعوى ، وانكر ان يكون الداعي هو المقوّم للوحدة في الامور
الزمانية وان الصحيح هو انّ مناط الوحدة في الامور الزمانية ـ بنظر العرف ـ هو
الاتصال وهو حاصل في المقام ، اذ انّ هذا المكلّف لو قام وجاء بركعتين احتياطيتين
دون فصل فإنّ العرف يرى مجموع الركعات وجودا زمانيا واحدا ، وهكذا الكلام فيما لو
وقع الشك في استمرار جريان الماء بسبب احتمال حدوث مادة اخرى تستوجب استمرار
الجريان وإلاّ فالمادة الأولى التي أوجبت حدوث الجريان قد نفدت جزما ، فكما انّه
لو علمنا بحدوث مادة اخرى حين نفاد المادة الاولى لا يكون ذلك مؤثرا في صدق وحدة
الجريان للماء بسبب الاتصال فكذلك الحال عند ما يقع الشك.
فالمصحّح لجريان
الاستصحاب هو اتصال الجريان بنظر العرف المنقّح لصدق وحدة القضية المتيقنة
والمشكوكة من غير فرق بين ان يكون المنشأ لاتصال الجريان هو نفس المادة التي أوجبت
حدوثه او انّ المنشأ لذلك هو حدوث مادة اخرى.
وأمّا
الوجودات الزمانية بالمعنى الثاني : فالشك في موردها تارة يكون
بنحو الشبهة
الموضوعية واخرى بنحو الشبهة الحكمية.
أما الشك بنحو
الشبهة الموضوعية فهو ما لو كانت حدود الحكم معلومة إلاّ انّ الشك وقع من جهة تحقق
الحدّ المقرر من الشارع خارجا ، وهو على نحوين ، فتارة يكون الحد الشرعي هو عدم
الزمان وتارة يكون الحدّ الشرعي هو الزمان.
ومثال الأول :
وجوب الإمساك ، فإنّه محدّد بعدم الغروب ، فلو وقع الشك في تحقق الغروب فإن
استصحاب عدم الغروب ينقّح موضوع وجوب الإمساك.
ومثال الثاني :
صحة طواف الحج فإنّها محددة شرعا بشهر ذي الحجة ، فلو شك في بقاء ذي الحجة فإنّ استصحاب
بقائه ينقّح موضوع صحة الطواف. والظاهر عدم الإشكال في جريان الاستصحابين.
وأما الشك بنحو
الشبهة الحكمية فهو ما لو وقع الشك في حدود الحكم المعلوم ، وهو تارة ينشأ عن شبهة
مفهومية واخرى عن تعارض الأدلة.
أما
الاول : فهو ما لو كان
الحدّ المعتبر شرعا مجملا بنحو الإجمال المفهومي ، ومثال ذلك : ما لو دلّ الدليل
على انّ مشروعية نافلة الليل مستمرة الى طلوع الفجر إلاّ انّه لم يعلم ما هو
المراد من طلوع الفجر وهل هو الفجر الصادق أو الفجر الكاذب وشك المكلّف في بقاء
مشروعية نافلة الليل فهل له استصحابها أو لا؟
وأما
الثاني : فهو ما لو كانت
الأدلة المحدّدة للحكم الشرعي متعارضة ، ومثال ذلك : ما لو دلت الروايات على انّ
أداء صلاة الصبح مستمر الى شروق الشمس ، ودلّت روايات اخرى على ان وقت الأداء
ينتهي بالإسفار فهنا لو وقع الإسفار هل يصح استصحاب بقاء الأداء او لا؟
ذهب الشيخ الأنصاري
وصاحب الكفاية رحمهما الله الى التفصيل بين افتراض كون الزمان قيدا للحكم وبين
افتراضه ظرفا له فالاول لا يصح معه الاستصحاب بخلاف الثاني.
ثم انّ هناك منشأ
آخر للشك هو ما لو كان الشك ناشئا عن احتمال حدوث تكليف جديد مع احراز انتهاء أمد
التكليف الاول. ومثاله : ما لو علم المكلّف بوجوب الكون في منى الى زوال يوم
الثاني عشر ثم علم بتحقق الزوال إلاّ انّه شك في حدوث تكليف جديد يستوجب البقاء
الى يوم الثالث عشر ، كما لو تعرّض للنساء أو الصيد.
وهنا وقع الكلام
في امكان جريان الاستصحاب أو عدمه. فراجع.
* * *
٧٠ ـ الاستصحاب في الشبهات
الحكمية
وقع الكلام بين
الأعلام في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، فذهب المشهور الى جريانه وفي
مقابل دعوى المشهور ذهب آخرون كالشيخ النراقي والسيد الخوئي رحمها الله الى عدم
جريانه.
ولغرض تحرير محلّ
النزاع لا بدّ من بيان مقدمة نذكر فيها انحاء الشك في الحكم الشرعي :
النحو
الاول : ان يكون الشك
في بقاء أصل الجعل والتشريع ، والشك بهذا النحو لا يتصور إلاّ في حالات احتمال
النسخ ، والاستصحاب الجاري في مورده هو استصحاب عدم النسخ ، وهو خارج عن محلّ
البحث.
النحو
الثاني : ان يكون الشك
في بقاء المجعول والفعلية وان كان أصل الجعل مما لا شك في بقائه ، والشك في بقاء
المجعول انّما يتصوّر في حالات بلوغ الحكم مرحلة الفعلية ـ بسبب تحقق موضوعه من
تمام حيثياته خارجا ـ واحراز المكلّف لذلك ، ثم
يطرأ عليه الشك.
ومنشأ الشك في
بقاء فعلية الحكم أحد أمرين :
الأمر
الاول : هو الشك في
بقاء موضوع الحكم خارجا بعد ان كان محرزا ، فالشك في بقاء الموضوع هو الذي نشأ عنه
الشك في بقاء الفعلية ، فلو كان الموضوع محرز البقاء لكانت الفعلية كذلك ، إذ لا
إشكال عندنا من جهة حدود موضوع الحكم بل انّ حدوده معلومة لدينا ـ كما هو الفرض ـ غايته
انّ هذه الحدود ـ المحرز اعتبارها والواضح مفهومها ـ هل لا زالت متحققة خارجا أو
لا.
مثلا : لو انّ
المكلّف يعلم بفعلية طهارته من الحدث وذلك لتحقق موضوع الطهارة في حقه ـ والذي هو
الوضوء وعدم صدور الناقض ـ ثم لو شك في بقاء الطهارة بسبب الشك في طروء الناقض ، فهذا
الشك يكون من الشك في بقاء فعلية الحكم ، ومنشؤه احتمال انتفاء الموضوع خارجا.
ويعبّر عن الشبهة
في هذا الفرض بالشبهة الحكمية الجزئية كما يعبّر عنها بالشبهة الموضوعية ، وقد كان
السيد الخوئي رحمهالله ـ بحسب نقل السيد الصدر رحمهالله ـ يذهب الى عدم جريان الاستصحاب في الشبهة الحكمية الجزئية
إلاّ انّه يصحح جريان الاستصحاب في مثل هذا الفرض بطريقة اخرى أي بغير استصحاب
فعلية الحكم الجزئي بل استصحاب عدم طرو الناقض مثلا ، إذ انّ لهذا العدم حالة
سابقة متيقنة ، فحينما انتهى من وضوئه كان يحرز عدم صدور الناقض ، أو ان نستصحب
بقاء الموضوع الوجودي الذي كان محرز التحقق سابقا ، كما لو وقع الشك في بقاء وجوب
النفقة على الولد الفقير والذي كنا نعلم بفقره ، فبدلا من ان نستصحب بقاء فعلية
الوجوب للنفقة نستصحب بقاء فقر الولد وعندها
يتنقّح موضوع
الوجوب.
الأمر
الثاني : الموجب للشك في
بقاء الحكم المجعول هو الجهل بحدود دائرة الحكم المجعول من حيث السعة والضيق ،
وهذا ما ينشأ عن عدم معرفة حدود موضوع الحكم والذي يترتّب على وجوده تحقق الفعلية
للحكم.
ومثاله : ما لو
وقع الشك في نجاسة الماء المتغير الذي زال تغيّره بنفسه ، فالشك في الحكم المجعول
هنا نشأ عن عدم معرفة حدود موضوع الحكم بالنجاسة ، وهل انّ موضوعه هو التغيّر
بالنجاسة حدوثا حتى ولو زال التغيّر بعد ذلك أو انّ موضوعه هو التغيّر الفعلي ،
بمعنى انّ زوال التغيّر ينفي موضوع الحكم بالنجاسة.
وهذا النحو من
الشك هو المعبّر عنه بالشبهة الحكمية ، وهو محلّ النزاع من حيث صحة جريان
الاستصحاب في مورده أولا ، حيث ذهب المشهور الى صحة جريانه وفي مقابل دعوى المشهور
ذهب الشيخ النراقي والسيد الخوئي رحمها الله الى عدم صحة جريانه على تفصيل ستأتي
الإشارة اليه ان شاء الله تعالى.
أما كيفية جريان
الاستصحاب في الشبهات الحكمية فهو انّ المكلّف يعلم بتحقق النجاسة للماء بسبب
العلم بتحقق التغيّر ، وبعد ان يزول التغيّر يشك في بقاء فعلية الحكم بالنجاسة ،
وعندئذ يجري استصحاب بقاء الفعلية للنجاسة.
وهنا ملاحظة لا
بدّ من الالتفات اليها للتعرّف على ما هو محلّ النزاع بالدقة ، وهي انّ الحكم
المجعول على موضوعه تارة يكون انحلاليا ، بمعنى انّه ينحلّ الى أحكام بعدد أفراد
موضوعه ، ويكون الزمان الواقع ظرفا لموضوع الحكم مقتضيا لتحصيص الموضوع الى حصص
طولية أي الى حصص ممتدة في عمود الزمان.
ومثاله : وجوب
النفقة على الزوجة ، فإنّ هذا الوجوب ينحلّ الى وجوبات بعدد أفراد النفقة الممتدة
في عمود الزمان ، فالزمان الواقع ظرفا للنفقة فردّ النفقة وحصّصها الى حصص طولية
متعاقبة بتعاقب الزمن الى حين انتهاء أمد الزوجية « المقصود من الموضوع الاعم منه
ومن المتعلّق ».
هذا النحو من
الأحكام وان كانت الشبهة فيه حكمية كلية إلاّ انها خارجة عن محل النزاع ولا يصح
القول بجريان الاستصحاب في موردها ، وذلك لأن الشك فيها دائما يكون مسبوقا بعدم
اليقين ، ففي مثالنا لو كان موضوع وجوب النفقة مرددا بين الزوجة بنحو مطلق أو خصوص
الزوجة الفقيرة ، فلو كانت الزوجة في أوّل الأمر فقيرة فإنّ الوجوبات المتعددة
والمتعاقبة في عمود الزمان الى آخر يوم من الفقر لا مجال للشك فيها ، إذ انّها
القدر المتقين من موضوع الوجوبات ، أمّا بعد الفقر فلا علم بالوجوب حتى يستصحب بعد
الشك.
وبتعبير آخر : انّ
الافراد الطولية للنفقة بعد الفقر لم يكن لنا علم بوجوبها ومعه لا مجال لاستصحابها
، إذ انّه متقوم باليقين السابق وهو منتف بحسب الفرض.
وبهذا يتضح عدم
جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية إذا كانت من قبيل ما ذكرناه ، ويتمحض محل
النزاع بما اذا لم يكن الحكم انحلاليا ولم يكن الزمان الواقع ظرفا للموضوع موجبا
لتحصيصه الى حصص طولية.
ومثاله : الماء
المتغير بالنجاسة ، فإنّ الماء المتغير واحد برغم تمادي الزمان فهو لا يتعدد بسبب
تعاقب الزمان فلا يكون الزمان موجبا لتفريده وتحصيصه الى حصص متعاقبة ، وبذلك يكون
الحكم بالنجاسة الثابت
لهذا الماء واحدا
وغير منحلّ الى نجاسات متعددة ، إذ لا معنى لتعدّد الحكم بالنجاسة بعد اتحاد
الموضوع.
وهذا النحو من
الأحكام هو محلّ النزاع بين المشهور والسيد الخوئي رحمهالله.
وبيان ذلك : انّه
لو وقع الشك في بقاء الفعلية للنجاسة بعد زوال التغيّر فإنّ بالإمكان استصحاب
الفعلية المعلومة سابقا أي قبل زوال التغيّر ، وهذا هو المعبّر عنه باستصحاب الحكم
المجعول ، وهو الذي يبني المشهور على جريانه في مثل هذه الموارد. والسيد الخوئي رحمهالله لا يختلف معهم في هذا المقدار ، وانّما يدعي انّ هذا الاستصحاب معارض دائما
باستصحاب عدم الجعل الثابت من الأزل ، اذ نتيجة كل واحد من الاستصحابين منافية
لنتيجة الاستصحاب الآخر.
ومنشأ دعوى جريان
استصحاب عدم الجعل هو ما ذكرناه من انّ المنشأ للشك في بقاء المجعول انّما هو
الجهل بسعة دائرة موضوع الحكم ، وهناك قدر متيقن نحرز موضوعيته للحكم وما سوى ذلك
لا تكون موضوعيته للحكم محرزة ، ولذلك يقع الشك في جعل الشارع للحكم على غير ذلك
المقدار المتيقن ، وهذا ما يصحّح استصحاب عدم الجعل الثابت من الأزل أو المعلوم
عدمه في صدر التشريع الإسلامي.
ولمّا كانت نتيجة
استصحاب عدم الجعل منافية لنتيجة استصحاب بقاء المجعول يسقط الاستصحابان معا عن
الحجيّة.
ففي مثالنا يكون
استصحاب بقاء الحكم بالنجاسة الى ما بعد زوال التغيّر معارضا باستصحاب عدم جعل
النجاسة للماء بعد زوال التغيّر ، ولذلك يسقطان عن الحجيّة.
وكان نظر السيد
الخوئي رحمهالله بحسب نقل السيد الصدر رحمهالله هو عدم
جريان الاستصحاب
في الشبهات الحكمية الكلية مطلقا ثم بنى على عدم جريانه في خصوص الشبهات الحكمية
الإلزامية دون الشبهات الحكمية الترخيصية.
ومثاله : ما لو
وقع الشك في بقاء الحلّية للعصير العنبي بعد غليانه بالشمس فإنّه يمكن استصحاب
الحلية الثابتة له قبل الغليان ، وهذا الاستصحاب غير معارض باستصحاب عدم الجعل
للإباحة ، وذلك لأن الإباحة ثابتة للأشياء كلها دون جعل. ومن هنا ليس لعدم الإباحة
حالة سابقة متيقنة حتى يستصحب.
* * *
٧١ ـ الاستصحاب في المحمولات
الثانوية
انّ المستصحب إذا
كان من قبيل الموضوعات فإنّ الشك فيه تارة يكون من جهة وجوده المحمولي ، وتارة
يكون من جهة عدمه المحمولي ، بمعنى انّ الشك في الموضوع تارة يكون من جهة الشك في
بقائه في حيز الوجود بعد ان كان وجوده محرزا وهذا هو الشك من جهة الوجود المحمولي
والذي هو مفاد كان التامة.
وقد يكون الشك في
الموضوع من جهة الشك في انتفاء العدم عنه بعد ان كان محرزا وهذا هو الشك من جهة
العدم المحمولي والذي هو مفاد ليس التامة.
وتلاحظون انّ
الوجود المحمولي والعدم المحمولي يحملان على الموضوع ويتشكل من ذلك قضية حملية
موضوعها أحد المهيات ومحمولها الوجود أو العدم وهذا النحو من القضايا هي المعبّر
عنها بالمحمولات الاولية. ومنشأ التعبير عنها بالمحمولات الاولية هو انّه لا تخلو
ماهيّة من المهيات من أحد هذين
المحمولين ، فإمّا
ان تكون موجودة أو معدومة وإلاّ لزم ارتفاع النقيضين عن الماهيّة ، وهو مستحيل.
وبما ذكرنا يتضح
انّ الذي يعرضه الشك هو الماهيّة المجرّدة عن الوجود والعدم وتكون جهة الشك هي
حيثية الوجود والعدم ، إذ ان ملاحظة الماهيّة حال كونها موجودة معناه عدم الشك
فيها من جهة بقاء الوجود وانتفائه فلا معنى لاستصحاب وجودها ، وكذلك الحال لو
لوحظت معدومة.
وباتضاح ذلك نقول
: إنّ الماهيّة المجرّدة عن الوجود والعدم اذا وقع الشك في بقائها في حيّز الوجود
بعد احراز عروض الوجود لها في زمن سابق فلا ريب في جريان استصحاب وجودها ، وهكذا
لو كان المحرز هو عدمها ثم وقع الشك في انتفاء العدم عنها فإنه لا ريب في جريان
استصحاب عدمها.
إذن لا كلام فيما
لو كان المستصحب من قبيل المحمولات الأوليّة ، وانّما الكلام فيما لو كان المستصحب
من قبيل المحمولات الثانويّة.
والمراد من
المحمولات الثانويّة هي المحمولات التي تعرض الموضوعات بنحو مفاد كان الناقصة أو
ليس الناقصة ويعبّر عن الاول بالوجود النعتي وعن الثاني بالعدم النعتي ، وهذا ما
يقتضي الفراغ عن وجود تلك الموضوعات ، إذ انّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ،
فاتّصاف شيء بوصف وجودي بمفاد كان الناقصة أو بوصف عدمي بمفاد ليس الناقصة لا يتم
إلاّ بعد افتراض وجود ذلك الشيء ، وعندئذ يمكن ان تعرضه المحمولات الثانوية. فيقال
: زيد أي الموجود عالم أو ليس بعالم.
ثم انّ المقصود من
المحمولات الثانويّة هو الأعم من المحمولات التي تعرض الموضوعات بعد الفراغ عن
وجودها المحمولي والمحمولات التي
تعرض الموضوعات
بواسطة محمولات ثانوية اخرى. فإن بعض المحمولات يتوقف عروضها للموضوع على عروض
محمولات ثانوية للموضوع ، وهذه هي المحمولات الثالثية ، وهكذا قد يتوقف عروض بعض
المحمولات للموضوع على عروض محمولات ثالثية فتكون تلك المحمولات رابعية وهكذا ،
فقولنا : « زيد متكلّم » معناه الفراغ عن وجوده المحمولي ، إذ لا يتصف زيد
بالتكلّم ما لم يكن موجودا فالتكلّم اذن من المحمولات الثانوية ، أما حينما يقال :
« زيد فصيح » فإنّ الاتصاف بالفصاحة لا يتوقف على وجود زيد فحسب بل هو منوط بكون
زيد متكلما ، إذ انّ الاتصاف بالفصاحة فرع الاتصاف بالتكلّم فهي إذن محمول ثالثي ،
والتعبير عنه بالمحمول الثانوي انّما هو في مقابل المحمول الأولي.
ومع اتّضاح ما
ذكرناه نقول انّ الشك في المحمولات الثانويّة يمكن تصنيفه الى ثلاثة أقسام :
القسم
الاول : ان يكون الشك
في بقاء المحمول الثانوي مسبّبا عن الشك في بقاء المحمول الأولي والذي هو الوجود ،
كما لو شككنا في فقر زيد بسبب الشك في وجوده بحيث لو كان وجوده محرزا لما وقع الشك
في بقائه على الفقر بل يكون الفقر حينئذ محرزا ، واذا كان كذلك فمآل الشك روحا الى
الشك في بقاء الموضوع وهو زيد ، ومن هنا وقع الإشكال في جريان استصحاب فقر زيد ،
إذ كيف يجري استصحاب المحمول مع افتراض انّ الموضوع غير محرز ، وليس من أثر يترتب
على صفة الفقر إذ لم تكن هذه الصفة في موضوع ، وإجراء الاستصحاب في الموضوع لا
ينقّح بقاء الفقر إلاّ بنحو الأصل المثبت ، إذ انّ الفقر ليس من الآثار الشرعية
لبقاء
زيد وانما هو لازم
عقلي استفيد من العلم الخارجي بأن زيدا اذا كان موجودا فهو فقير.
فالنتيجة انه لا
يجري استصحاب المحمول الثانوي اذا كان الشك فيه مسببا عن عدم إحراز موضوعه أي عدم
إحراز الوجود المحمولي لموضوعه ، إلاّ انّ السيد الخوئي رحمهالله توسل بوسيلة اخرى لإثبات جريان الاستصحاب في هذا القسم ، وذكر لذلك تقريبين :
التقريب
الأول : انّه يمكن
إحراز بقاء الاتصاف بواسطة استصحاب الموضوع المتصف بالوصف المشكوك في بقائه ، فإنّ
الموضوع المتصف بذلك الوصف كان محرزا ثم وقع الشك في بقائه ، وعندئذ يمكن استصحاب
الموضوع المتصف بذلك الوصف ، فزيد المتصف بالفقر كان محرزا ثم وقع الشك في بقائه
وعندئذ يجري استصحاب متعلّق اليقين.
وتلاحظون انّ هذا
التقريب يعتمد كون المستصحب هو مجموع الموضوع ومحموله ، ونظّر السيد الخوئي رحمهالله لهذا القسم بما لو وقع الشك في بقاء الزوجية بسبب الشك في موت الزوج الغائب ،
فإنّه يمكن إحراز الزوجية بواسطة استصحاب بقاء الغائب المتصف بالزوجية ، وحينئذ لا
يصح لزوجة هذا الغائب الزواج من آخر.
ثم استدرك على ذلك
بأن الآثار الشرعية التي تترتب على هذا الاستصحاب هي التي لا تتوقف على الإحراز
الوجداني للبقاء ، إلاّ ان ذلك ليس تضييقا لحجية الاستصحاب بل لأنّ موضوع الأثر
الشرعي هو الوجدان فلا الاستصحاب ولا الأمارة يوجبان ترتّب ذلك الأثر ، ومثاله :
إطعام ذي المخمصة فإنّه منوط بإحراز وجوده وجدانا.
التقريب
الثاني : انّ الأثر
الشرعي لما كان مترتبا على موضوع مركب ـ
من الموضوع
ومحموله الثانوي ـ فإنه يمكن إحراز الموضوع المركب بواسطة استصحاب أجزائه ، فوجود
زيد لما كان محرزا سابقا فإنّه يمكن استصحابه ، وكذلك لمّا كان الفقر لزيد محرزا
فإنّه يمكن استصحابه لظرف الشك ، وبهذا يتنقّح الموضوع المركب ويترتب عندئذ الأثر
الشرعي.
واتفاق ترتّب
الجزءين في الوجود لا يمنع من صحة استصحابهما بعد ان كانا متوفرين على أركان
الاستصحاب ، وقد بينا ذلك في استصحاب الموضوعات المركبة.
القسم
الثاني : أن يكون الشك
في بقاء المحمول الثانوي غير مسبّب عن الشك في بقاء المحمول الأولي « الوجود » أي
غير مسبّب عن الشك في بقاء الموضوع بل الشك في المحمول الثانوي متحقق رغم احراز
بقاء الموضوع.
ومثاله : ما لو
وقع الشك في بقاء زيد على الفقر مع إحراز بقاء زيد ، وهنا لا ريب في جريان استصحاب
الفقر وذلك لتوفّره على أركان الاستصحاب ، فقد كان الفقر محرزا ثم وقع الشك في
بقائه مع انحفاظ وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، فالقضية المتيقنة هي فقر زيد
والقضية المشكوكة كذلك.
القسم
الثالث : أن يكون الشك
في بقاء المحمول الثانوي غير مسبّب أيضا عن الشك في بقاء موضوعه إلاّ انّ المفترض
في هذا القسم هو الشك في بقاء الموضع بالإضافة الى الشك في بقاء المحمول الثانوي.
ومثاله : ما لو
كنّا نحرز وجود زيد كما نحرز اتّصافه بالفقر إلاّ انّه وقع الشك في بقاء اتّصافه
بالفقر لاحتمال عروض صفة الغنى عليه ، واتفق أيضا الشك في بقاء الوجود لزيد
لاحتمال موته.
وفي هذا القسم وقع
الإشكال في
جريان استصحاب
الاتصاف بالفقر ، وذلك لعين الإشكال المذكور في القسم الأول ، ويضاف اليه هنا انّ
استصحاب الموضوع ـ بالإضافة الى انّه لا ينقّح بقاء الفقر باعتباره ليس أثرا شرعيا
لبقاء الموضوع ـ لا ينقّح بقاء الفقر من جهة كونه لازما عقليا له ، إذ انّ بقاء
زيد لا يلازم عقلا بقاءه على صفة الفقر ، وذلك لاحتمال انتفاء صفة الفقر عنه حتى
مع افتراض وجوده.
وصفة الفقر انّما
كانت لازما عقليا لبقاء زيد في القسم الاول باعتبار افتراض وجود علم خارجي ببقاء
زيد على الفقر لو كان موجودا وهذا ما لم نفترضه في هذا القسم.
وأجاب السيد
الخوئي رحمهالله عن هذا الإشكال بعين ما أجاب به الإشكال في القسم الاول.
وبما ذكرناه تتضح
النتيجة فيما لو كان الشك في المحمول الثالث والرابع وهكذا ، فإنّه يمكن تقسيم
الشك في المحمول الثالث الى الأقسام الثلاثة ، فتارة يكون الشك في بقاء المحمول
الثالث بسبب الشك في بقاء المحمول الثاني ، وقد لا يكون الشك في المحمول الثالث
مسبّبا عن الشك في المحمول الثاني ، وهذا له حالتان فقد يكون المحمول الثاني محرز
البقاء وقد لا يكون كذلك.
* * *
٧٢ ـ الاستصحاب في الموضوعات
المركّبة
موضوعات الأحكام
الشرعية على نحوين ، فتارة تكون بسيطة واخرى تكون مركبة ، ولا إشكال في جريان
الاستصحاب في الموضوعات البسيطة إذا كانت واجدة لأركان الاستصحاب ، ومثاله : حدث
الحيض ، إذ هو موضوع المجموعة من الأحكام الشرعية ، بمعنى ان هذه
الأحكام لا يتوقف
ترتّبها على أكثر من حدث الحيض.
وأما الموضوعات
المركّبة من أكثر من جزء أو من جزء وشرط فلها صورتان :
الصورة
الاولى : ان يكون
الموضوع للحكم الشرعي هو المجموع ، بمعنى ان الشارع لاحظ الأجزاء والشرائط
المعتبرة عنده وانتزع عنها عنوانا بسيطا هو عنوان المجموع أو ما يؤدي مؤداه ، كأن
تكون الأجزاء والشرائط لوحظ بعضها متقيدا بالآخر بحيث يكون التقيّد هو المطلوب
للمولى.
وفي مثل هذه
الحالة لا يجري الاستصحاب إلاّ ان يكون عنوان المجموع مثلا أو عنوان الاقتران
متوفّرا على ركني الاستصحاب ، أما استصحاب كل جزء على حدة ـ لو كان لكل جزء حالة
متيقنة ـ فإنّه لا ينتج المطلوب إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ، وذلك لأن
استصحاب الجزء الاول يثبت بقاء الجزء الاول في ظرف الشك ، وكذلك استصحاب الجزء
الثاني ، وعندها نحرز بقاء الجزءين إلاّ انّ ذلك ليس هو موضوع الحكم الشرعي ـ كما
هو المفترض ـ حيث افترضنا انّ موضوعه المجموع وهو غير المستصحب في الاستصحاب الاول
والثاني ، نعم لازم بقاء المستصحب الاول والمستصحب الثاني الى ظرف الشك هو تحقق
المجموع في ظرف الشك ، إلاّ انّه لمّا كانت الآثار الشرعية المترتبة على لوازم
المستصحب العقلية غير حجة ، لعدم حجية الأصل المثبت ، فهذا يقتضي عدم ترتّب أي
فائدة على الاستصحاب ، وهذا ما يساوق عدم حجيتهما.
وهكذا لو كان أحد
الجزءين ثابتا بالوجدان وكان للجزء الآخر حالة سابقة متيقنة فإنّ استصحابه لا
ينقّح
موضوع الأثر
الشرعي الاّ بواسطة اللازم العقلي الساقط عن الاعتبار.
الصورة
الثانية : ان يكون موضوع
الحكم الشرعي مجموعة من الأجزاء بحيث يكون كل واحد منها معتبرا في ترتب الحكم
الشرعي ، بمعنى انّ المعتبر هو تحقق هذه الأجزاء بنفسها دون ان ينتزع من مجموعها
عنوان بسيط بل هي متى ما ثبت تحققها بنحو من أنحاء الإثبات ترتّب الحكم الشرعي.
وفي مثل هذه
الصورة يمكن إجراء الاستصحاب في كل جزء كانت له حالة سابقة متيقنة ثم شك في بقائه
، فلو كان أحد الجزءين محرزا وجدانا وكان الآخر غير محرز الوجود إلاّ ان وجوده كان
محرزا ، فإن بالإمكان تنقيح الموضوع المركب بواسطة الوجدان والتعبّد الاستصحابي.
وباتضاح المراد من
الموضوعات المركبة يصل البحث لبيان أنحاء التركب في الموضوعات لتتّضح الحالات التي
يمكن ان يكون فيها الموضوع المركب من قبيل الصورة الاولى ، وما هي الضابطة لاندراج
الموضوعات المركبة في الصورة الاولى أو الثانية ، فنقول :
إنّ المحقق
النائيني رحمهالله ذكر ان التركّب في الموضوعات المركّبة على أنحاء :
النحو
الأول : ان يكون
الموضوع مركّبا من جوهر وعرضه ، وبتعبير المحقق النائيني رحمهالله ان يكون الموضوع مركبا من العرض ومحلّه « الجوهر » ، بمعنى أخذ العرض وصفا
لمعروضه بنحو الوجود النعتي وبمفاد كان الناقصة ، فيكون وجود العرض قائما بالغير «
الجوهر ». وهنا يكون الموضوع هو التقيّد المنتزع عن أخذ المولى العرض قيدا لمعروضه
ولحاظه بما هو وصف قائم به.
ومثال ذلك :
العدالة للإنسان
عند ما تؤخذ وصفا
وقيدا للإنسان في موضوع من موضوعات الأحكام الشرعية ، فعلاقة العدالة بالإنسان
حينئذ علاقة العرض بمحلّه بنحو الوجود النعتي والذي يعتمد ملاحظة العرض باعتباره
وجودا غيريا أي وصفا ونعتا قائما بمحلّه ومعروضه.
وهذا هو معنى وجود
العرض بمفاد كان الناقصة والذي يعنى حمل أحد الوجودين على الوجود الآخر على أن
يكون المحمول وصفا للمحمول عليه فنقول : كان زيد عادلا وذلك في مقابل الوجود
المحمولي والذي هو مفاد كان التامة حيث يكون فيها المحمول هو الوجود ويكون الموضوع
ماهيّة من الماهيات ، فالوجود النعتي هو ثبوت شيء لشيء وأما الوجود المحمولي فهو
ثبوت الشيء. وقد أوضحنا ذلك في محلّه ، فراجع.
وفي مثل هذه
الصورة يكون المستصحب هو التقيّد ، فلو لم تكن له حالة سابقة فإنّ الاستصحاب لا
يجري في مورده ، فلو كان المعروض ثابتا بالوجدان مثلا ، وكان عرضه غير محرز الوجود
إلاّ انّ له حالة سابقة فإنّ الاستصحاب لا يجري لغرض إحرازه ، وذلك لأنّه لا ينتج
التقيّد ـ والذي هو موضوع الحكم الشرعي ـ إلاّ بواسطة الأصل المثبت ، كما أوضحنا
ذلك فيما سبق.
النحو
الثاني : ان يكون
الموضوع مركّبا من الجوهر وعدم العرض على ان يكون عدم العرض قيدا لمحلّه « الجوهر
» ، بمعنى انّ المولى لاحظ عدم العرض باعتباره وصفا لمحلّه وانتزع عن ذلك عنوانا
بسيطا هو التقيّد ـ كما هو في النحو الاول ـ.
وعدم العرض في
المقام هو المعبّر عنه بالعدم النعتي ، والذي يكون فيه عدم العرض وصفا لمعروضه
بمفاد ليس الناقصة ، وذلك في مقابل العدم المحمولي والذي يكون فيه عدم
العرض مثلا منفيا
بقطع النظر عن معروضه أي بمفاد ليس التامة النافية لوجود الشيء رأسا لا أنها تنفي
اتّصاف شيء بشيء كما هو الحال في ليس الناقصة.
ومثال العدم
النعتي عدم الفسق إذا اخذ قيدا للإنسان في موضوع من موضوعات الأحكام ، وهذا يعني
انّ موضوع الحكم هو العنوان البسيط المنتزع عن أخذ عدم الفسق وصفا لمعروضه «
الإنسان ». ومن هنا لا يتأتى الاستصحاب إلاّ ان تكون لنفس التقيّد حالة سابقة
متيقنة ، أما لو لم يكن كذلك وكان الإنسان مثلا محرزا وجدانا وعدم الفسق ليس محرزا
فعلا إلاّ انه كان محرزا فإن استصحاب التقيّد بعدم الفسق غير واجد لأركانه ، واما
استصحاب عدم الفسق فإنّه لا يثبت التقيد إلاّ بواسطة الاصل المثبت.
النحو
الثالث : ان يكون
الموضوع مركّبا من جوهرين ، كما لو كان موضوع وجوب الصدقة المنذورة هو وجود رجلين
هما زيد وبكر.
وهنا يكون جريان
الاستصحاب في كل جزء على حدة أو عدم جريانه منوطا بكيفية لحاظ المولى للموضوع
المركب ، فلو لاحظ الأجزاء بنحو يكون كل واحد منهما متقيدا بالآخر ـ بحيث ينتزع عن
ذلك عنوان بسيط كعنوان التقارن مثلا ـ فإن الاستصحاب لا يجري بنفس التقريب السابق
، وأما اذا لوحظت الأجزاء بنحو يكون كل جزء دخيلا في ترتّب الحكم ، وليس لشيء آخر
ـ غير تحقق نفس الأجزاء ـ دخل في ترتب الحكم على موضوعه.
فهنا لا مانع من
جريان الاستصحاب في كلّ جزء على حدة لإثبات تحققه لو كان لذلك الجزء حالة سابقة ،
فلو كانت بعض الأجزاء محرزة وجدانا وكان البعض الآخر
غير محرز إلاّ انّ
لها حالة سابقة فإنّ بالامكان استصحابها ، فيتنقّح موضوع الحكم المركب بواسطة
الوجدان والتعبّد الاستصحابي.
النحو
الرابع : ان يكون الموضوع
مركبا من عرضين لجوهر واحد أو من عرضين لجوهرين.
ومثال الاول :
جواز الائتمام فإنّ موضوعه مركّب من عرضين لمحلّ واحد وهما العدالة والذكورة.
ومثال الثاني :
استحقاق الولد للميراث ، فإنّ موضوعه مركّب من عرضين لمحلّين ، الاول هو إسلام
الولد ، والثاني هو موت الأب ، فالاول عرض لمحل وهو الولد ، والثاني عرض لمحلّ آخر
وهو الأب ، ويجري في هذا النحو ما ذكرناه في النحو الثالث. ثم انّ هناك أنحاء
للموضوعات المركبة تعرف بملاحظة ما ذكرناه.
اذا اتضحت أنحاء
التركّب في الموضوعات نقول : انّه قد يحرز تواجد تمام أجزاء الموضوع ، وهنا لا
كلام فيما اذا لم يكن التركب من قبيل الصورة الاولى ، أما في الصورة الاولى فلا
بدّ من إحراز العنوان البسيط المنتزع عن أخذ أحد الجزءين قيدا للآخر. وادعى المحقق
النائيني رحمهالله انّ النحو الاول والثاني لا يكونان إلاّ من هذا القبيل ،
وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان استصحاب العدم النعتي.
وقد يكون أحد
الجزءين محرزا بالوجدان والآخر غير محرز إلاّ ان له حالة سابقة متيقنة ، وهنا يجري
الاستصحاب في الجزء الآخر ، ويتنقّح بذلك موضوع الحكم الشرعي ، طبعا في غير الصورة
الاولى.
وقد يكون كلا
الجزءين غير محرزين ثم يحصل العلم بتحققهما إلاّ انّه يقع الشك في تقدّم أحدهما
بالنسبة للآخر ، وهذه الحالة لها ثمان صور كما أفاد السيد الخوئي رحمهالله.
الصورة
الأولى : ان نجهل بزمن
تحقق كلا الجزءين ، وهذا هو المعبّر عنه بمجهولي التاريخ ، ومثاله : ان نعلم بموت
زيد ونعلم باسلام ولده بعد العلم بعدمهما ، إلاّ اننا نشك في تقدّم اسلام الولد
على موت الأب أو العكس ، كما انّه لا نعلم بتاريخ الاسلام ولا تاريخ الموت.
الصورة
الثانية : نفس الصورة
الاولى إلاّ انّ تاريخ أحدهما معلوما ، كأن نعلم بأنّ موت زيد وقع يوم الجمعة إلاّ
انّنا نشك في تاريخ اسلام الولد وهل وقع قبل يوم الجمعة أو بعده.
وكل من هاتين
الصورتين ينقسم الى قسمين :
القسم
الاول : ان يكون الأثر
الشرعي مترتبا على تأخر أحدها عن الآخر أو سبق أحدهما الآخر ، كأن يكون استحقاق
الميراث مترتبا على تأخر موت الأب عن اسلام الولد أو تقدّم اسلام الولد على موت
الأب.
القسم
الثاني : ان يكون الأثر
الشرعي مترتبا على عدم أحد عنواني التقدم أو التأخر.
وبضرب الصورتين في
القسمين يكون حاصل الصور أربع. ثم انّ الأثر الشرعي المترتّب على وجود أحد عنواني
التقدم أو التأخر ، تارة يكون أي الأثر الشرعي مترتبا على الوجود المطلق المعبّر
عنه بالوجود المحمولي والذي يكون بمفاد كان التامة ، وتارة يكون الأثر الشرعي
مترتبا على الوجود النعتي بمفاد كان الناقصة ، وقد أوضحنا المراد من ذلك وسيأتي
مزيد توضيح لذلك.
وأما الأثر
المترتب على عدم أحد العنوانين فإنه تارة يكون مترتبا على العدم المحمولي بمفاد
ليس التامة ، وتارة يكون مترتبا على العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة.
فهذه صور أربع
وبضمها الى الصور
الاربع الآنفة
الذكر يكون حاصل الصور ثمان ، وسيأتي ايضاح هذه الصور جميعا تحت عنوان استصحاب
مجهولي التاريخ.
* * *
٧٣ ـ الاستصحاب في حالات التقدّم
والتأخّر
والغرض من عقد هذا
البحث هو التعرّف على مجرى الاستصحاب في حالات العلم بانتفاء المستصحب أو تحققه
والشك في تقدم ذلك أو تأخره.
وبيان ذلك :
إنّ المكلّف قد
يكون على علم بالحكم أو بالموضوع ثم يشك في ارتفاعهما ، وهنا لا ريب انّ الجاري هو
استصحاب بقاء الحكم وكذلك بقاء الموضوع ، وقد يكون المكلّف عالما بعدم الحكم أو
بعدم الموضوع ثم يشك في انتفاء العدم ، وهنا أيضا يكون مقتضى الاستصحاب هو البناء
على استمرار عدم الحكم وكذلك البناء على استمرار عدم الموضوع.
وهذا لا كلام فيه
انّما الكلام فيما لو علم المكلّف بالحدوث ثم علم بارتفاع الحادث إلاّ انّه كان
يشك في زمان الارتفاع من حيث التقدّم والتأخر ، وهل انّ الارتفاع تمّ في الزمن
الأول أو في الزمن الثاني ، وكذلك لو كان يعلم بعدم الحدوث ثم علم بانتفاء العدم
أي علم بتحقق الحادث إلاّ انه شك في زمان انتفاء العدم وهل تمّ ذلك في الزمن الاول
أو الزمن الثاني. فهذه صورتان :
الصورة
الاولى : وهي ما اذا علم
المكلّف بالحدوث ثم علم بانتفاء الحادث إلاّ انّه شك في زمان الانتفاء من حيث
التقدّم أو التأخر ، وهنا لا ريب في انتفاء آثار الحادث بعد الزمان المتأخر ،
انّما الكلام في الزمان المتقدم وهل هو مجرى لاستصحاب بقاء الحادث أو لا؟
الظاهر انّه لم
يستشكل أحد في جريان الاستصحاب في الزمان المتقدّم ، وذلك لتوفّره على ركني
الاستصحاب حيث انّ المكلّف كان عالما بتحقق الحادث ثم شك في بقائه ، واحتمال كونه
زمان الارتفاع لا يلغي الشك ، لعدم الجزم بأنّ الزمان الأول هو زمان ارتفاع الحادث
، وعليه لا بدّ من استصحاب بقاء الحادث الى حين القطع بارتفاعه والذي هو الزمان
الثاني ، نعم جريان الاستصحاب قبل الزمان الثاني منوط بترتّب أثر شرعي على بقاء
المستصحب الى الزمان الثاني.
ومثال ذلك : ما لو
علمت المرأة بأنّها على حدث الحيض ثم قطعت بارتفاع حدث الحيض إلاّ ان زمان
الارتفاع مردد عندها بين أول الفجر أو عند شروق الشمس ، فهنا لا ريب في انتفاء
آثار الحادث عند شروق الشمس ، انّما الكلام فيما قبل الشروق. والظاهر ـ كما ذكرنا
ـ انّ فترة ما قبل الشروق والتي تبدأ بأول الفجر مجرى لأصالة الاستصحاب إلاّ انّ
جريان الاستصحاب ـ كما ذكرنا ـ منوط بوجود أثر شرعي مترتّب على بقاء حدث الحيض الى
الفجر أو قل الى ما قبل الشروق ، كعدم وجوب القضاء لصلاة الصبح ، إذ انّ عدم وجوب
القضاء أثر شرعي لبقاء الحيض.
نعم لو كان عدم
وجوب القضاء مترتّب على انتفاء حدث الحيض عند الشروق فإنّ الاستصحاب لا يجري ،
وذلك لأنّ غاية ما يثبته الاستصحاب هو بقاء حدث الحيض الى ما قبل الزمان الثاني ،
والمفروض انّ ذلك ليس هو موضوع عدم وجوب القضاء حيث افترضنا انّ موضوعه هو انتفاء
الحدث عند الشروق ، نعم يثبت انّ انتفاء الحدث كان عند الشروق بواسطة اللازم
العقلي ، إذ انّه حينما نستصحب بقاء الحدث الى الزمان
الاول فإنّ لازمه
انّ الانقطاع حصل في الزمان الثاني أي عند الشروق ، ولمّا كان موضوع الأثر الشرعي
تمّ تنقيحه بواسطة لازم المستصحب العقلي فإنّ هذا الاستصحاب غير حجة ، لما ذكروا
من انّ الاستصحاب انّما يكون حجة في حالة يكون الاثر الشرعي مترتبا على نفس
المستصحب أو لازم المستصحب الشرعي.
الصورة
الثانية : ما لو علم
المكلّف بعدم الحادث ثم علم بتحققه إلاّ انه تردّد في زمان التحقق من حيث التقدّم
والتأخر ، والكلام في المقام هو الكلام في الصورة الاولى.
ومثال هذه الصورة
ما لو علم المكلّف بعدم صدور الناقض ثم علم بصدوره إلاّ انّه شك في زمان صدوره وهل
هو حين الصلاة أو بعد الصلاة.
وفي مثل هذا الفرض
يجري استصحاب عدم صدور الحدث في الزمان الاول ، ويترتب على ذلك صحة صلاته ، لو
افترضنا انّ موضوع صحة الصلاة هو عدم صدور الناقص حينها.
* * *
٧٤ ـ الاستصحاب في حالات توارد
الحالتين
ومحلّ البحث هو ما
لو تعاقبت حالتان على موضوع مع افتراض الجهل بالمتقدّم منهما ، وكانت كل حالة
تقتضي أثرا منافيا للأثر الذي تقتضيه الحالة الاخرى ، فهنا هل يجري الاستصحاب في
كل من الحالتين ثم يسقط الاستصحابان بالمعارضة أو انّ الاستصحاب لا يجري فيهما معا
أو انّ الصحيح هو التفصيل؟
ويمكن التمثيل
لتعاقب الحالتين بما لو علم المكلّف بعروض حدث النوم عليه وبعروض الطهارة إلاّ
انّه يجهل بالمتقدّم منهما عن المتأخر ، فهنا لو كنا نبني على جريان الاستصحاب في
كل
من الحالتين فهذا
معناه استصحاب حدث النوم الى ما بعد الطهارة وهو يقتضي ترتيب آثار الحدث ،
واستصحاب الطهارة الى ما بعد حدث النوم وهذا يقتضي ترتيب آثار الطهارة.
ولمّا كان
الاستصحابان متعارضين فالنتيجة هي سقوطهما عن الاعتبار ، والمرجع حينئذ هي الاصول
الجارية في معروض الحالتين.
هذا وقد صنّف
البحث الى صورتين :
الصورة
الاولى : ان يكون تاريخ
عروض كل من الحالتين على الموضوع مجهولا.
وفي هذه الصورة
وقع الخلاف بين الأعلام ، فذهب البعض كصاحب الكفاية رحمهالله الى عدم جريان الاستصحاب في كل من الحالتين بقطع النظر عن
التعارض ، واستدلّ عليه بنفس ما استدل به على عدم جريان الاستصحاب في مجهولي
التاريخ في الموضوعات المركبة وهو عدم احراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وهذا
ما أوضحناه تحت عنوان اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، وذهب آخرون كالسيد الخوئي
والسيد الصدر رحمهما الله الى جريان الاستصحاب في كل من الحالتين وسقوطهما
بالمعارضة.
الصورة
الثانية : ان يكون تاريخ
عروض احدى الحالتين معلوما والآخر مجهولا.
مثلا : لو كان
عروض حدث النوم معلوم التاريخ بأن كان الساعة الاولى من النهار وكان عروض الطهارة
مجهولا فيحتمل انّه وقع قبل الساعة الاولى كما يحتمل انّه وقع في الساعة الثانية.
وهنا ذهب صاحب
الكفاية رحمهالله وآخرون الى عدم جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ وجريانه
في معلومه بأن نستصحب
حدث النوم الى
الساعة الثانية. واستدلّ صاحب الكفاية رحمهالله على عدم جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ بنفس ما استدلّ
به في مجهولي التاريخ.
وأمّا السيد
الخوئي رحمهالله فذهب الى جريان الاستصحاب في كلا الحالتين المتواردتين
وعندئذ يسقطان بالمعارضة ، إلاّ انّه أفاد ـ وتبعا للمحقّق النائيني رحمهالله ـ بأن استصحاب معلوم التاريخ شخصي واستصحاب مجهول التاريخ كلّيّ ، نعم اختلف
السيد الخوئي رحمهالله عن المحقق النائيني رحمهالله في أيّ الأقسام من استصحاب الكلّي يكون مجرى مجهول التاريخ
، فالمحقق النائيني رحمهالله يبني على انّ الجاري هو استصحاب الكلّي من القسم الثاني ،
وأما السيد الخوئي رحمهالله فقد ذكر انّ الاستصحاب في مجهول التاريخ تارة يكون
استصحابا كلّيّا من القسم الثاني واخرى من القسم الرابع.
أمّا انّ
الاستصحاب في معلوم التاريخ شخصي فواضح ، لأن حدث النوم ـ مثلا ـ كان معلوم الوقوع
في الساعة الاولى ومشكوك البقاء بعد ذلك ، وعندئذ نستصحب نفس الحدث في ظرف الشك.
وأما انّ الاستصحاب في مجهول التاريخ كلّي من القسم الثاني فمثاله : ما لو علم
المكلّف بصدور حدث النوم منه في الساعة الاولى ثم صدر منه وضوء ونوم إلاّ انّه
يجهل المتقدم منهما عن المتأخر مع افتراض العلم بصدور حدث النوم منه في الساعة
الثالثة ويشك ان الوضوء الذي صدر منه هل وقع قبل حدث النوم أو بعده ، فإن كان قد
صدر قبل حدث النوم فهو قد ارتفع يقينا وان كان قد صدر منه بعد حدث النوم فهو باق
يقينا فالطهارة دائرة بين البقاء يقينا أو الارتفاع يقينا ، وهذه هي ضابطة القسم
الثاني من استصحاب الكلّي ـ كما أوضحنا ذلك في محلّه ـ وأمّا ان استصحاب الحدث
شخصي
فاعتبار انّ حدث
النوم كان معلوم الوقوع قبل توارد الحالتين فنستصحبه الى ظرف الشك.
وأمّا دعوى انّ
استصحاب مجهول قد يكون كليا من القسم الرابع ـ والذي أضافه السيد الخوئي على
الأقسام الثلاثة التي ذكرها الشيخ الانصاري ـ فمثاله : ما لو علم المكلّف بصدور
حدث النوم منه في الساعة الاولى وعلم أيضا بصدور الوضوء عنه في الساعة الثالثة
إلاّ انّه يعلم أيضا بصدور حدث آخر هو البول مثلا ويشك في تقدّمه على الوضوء أي
الساعة الثالثة أو تأخره عنه ، فإن كان متقدما على الوضوء فإنّه لا يعدّ حدثا ،
وذلك لأن المكلّف حينها كان محدثا يقينا ، وان كان قد أحدث بعد الوضوء فهو مما
يترتب عليه أثر ، وهو الناقضية للوضوء ، وعندئذ نقول :
إنّ المكلف يعلم بصدور
حدث النوم ويعلم بارتفاعه يقينا ، ويعلم أيضا بصدور حدث آخر إلاّ انّه مردد بين
الارتفاع وعدمه ، فهو إن كان قد وقع قبل الوضوء فهو منطبق على حدث النوم ، إذ انّ
البول بعد النوم ليس بحدث ، وان كان قد وقع بعد الوضوء فهو حدث جديد ويترتّب عليه
أثر ، وهذا معناه ان عنوان حدث البول ـ المعلوم الوقوع ـ ان كان منطبقا على حدث
النوم فهو قد ارتفع يقينا بالوضوء ، وان كان غير منطبق على حدث النوم فهو باق
يقينا.
وهذا هو القسم
الرابع من استصحاب الكلّي حيث قلنا في بيانه انّه عبارة عن العلم بفرد شخصي والعلم
بعنوان آخر ثم العلم بارتفاع ذلك الفرد الشخصي ، والشك يكون من جهة انطباق ذلك
العنوان على الفرد الشخصي المعلوم الارتفاع ، فلو كان منطبقا فالعنوان مرتفع قطعا
وإلاّ فهو باق ، وعندها نستصحب بقاء العنوان.
* * *
٧٥ ـ استصحاب مجهولي
التاريخ
ومحلّ البحث هو ما
لو كان موضوع الحكم الشرعي مركبا من جزءين محرزين فعلا إلاّ انّه وقع الشك في تقدم
أحدهما بالنسبة للآخر وتأخر أحدهما بالنسبة للآخر مع افتراض الجهل بتاريخيهما.
ويمكن تصنيف هذا
الفرض الى أقسام :
القسم
الأول : هو ان يكون
الأثر الشرعي مترتبا على الوجود المطلق المعبّر عنه بالوجود المحمولي والذي هو
مفاد كان التامة ؛ ويتضح ذلك بملاحظة صوره الخمس :
الصورة
الاولى : ما إذا كان
الأثر الشرعي مركبا من جزءين وهو تقدم أحد شيئين على الآخر بمعنى انّ المعتبر هو
وجود التقدّم بمفاد كان التامة المعبّر عنه بالوجود المحمولي والذي هو عبارة عن
ثبوت الشيء ووجوده لا ثبوت شيء لشيء كما هو الحال في الوجود النعتي.
ومثال هذه الصورة
: هو ما لو كان موضوع استحقاق الولد للميراث هو تقدّم موت الأب على موته على نحو
يكون التقدّم المعتبر في الأثر الشرعي هو وجود التقدم بمفاد كان التامة ، ولمّا
كنا محرزين لعدم التقدم حينما لم يكونا ميتين فإنّه يمكن استصحاب عدم التقدم أي
عدم تحقق وجود التقدم لموت الأب المحرز سابقا وبه ينتفي استحقاق الولد للميراث.
ولا يجري استصحاب عدم التقدم لموت الابن ، وذلك لافتراض عدم وجود أثر شرعي على
تقدم موت الابن كما لو افترضنا ان الأب كان كافرا فتقدم موت الابن لا يوجب
استحقاقه للميراث ، فلا معنى حينئذ لاستصحاب عدم التقدم لموت الابن.
الصورة
الثانية : نفس الصورة
الاولى إلاّ انّه يفترض فيها وجود أثر
شرعي مترتب على
تقدّم الجزء الثاني على الاول.
ومثاله : ما لو
كان استحقاق الابن للميراث مترتب على وجود التقدم لموت الأب بالنسبة لموت الابن ،
وكان استحقاق الأب للميراث مترتبا على وجود التقدّم لموت الابن بالنسبة لموت الأب.
فلو كنا نعلم بعدم موتهما ثم أحرزنا ذلك ووقع الشك في التقدم بالنسبة للاول على
الثاني وكذا العكس.
وهنا يجري استصحاب
عدم التقدم لموت الابن على موت الاب وهذا ينتج عدم استحقاق الابن للميراث ، وكذلك
يجري استصحاب عدم التقدم لموت الابن على موت الابن ، وهذا ينتج عدم استحقاق الأب
للميراث ، وليس بين الاستصحابين تعارض لاحتمال ان موتهما تم في وقت واحد.
الصورة
الثالثة : نفس الصورة
الثانية إلاّ انّه يضاف عليها إحراز وجود التقدم لأحدهما إجمالا ، وهنا لا يأتي
احتمال تزامن موتهما ، ولذلك يتعارض الاستصحابان للعلم الإجمالي بمنافاة أحدهما
للواقع ، فإجراء أحد الاستصحابين دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، كما انّ إجراءهما
معا يستلزم المخالفة القطعية للواقع ، فلا محيص عن سقوط كلا الاستصحابين عن
الاعتبار.
الصورة
الرابعة : نفس الصورة
الاولى إلاّ انّه يفترض انّ للتقدّم بالنسبة للجزء الاول على الثاني أثرا شرعيا
كما انّ للتأخر بالنسبة للاول على الثاني أثرا شرعيا آخر ، وهنا يجري استصحاب عدم
التقدم كما يجري استصحاب عدم التأخر ، ولا تعارض بين الاستصحابين لاحتمال تزامن
الجزءين في التحقق.
ومثال ذلك : ما لو
كان استحقاق الوارث الوحيد لميراث المورّث مترتبا على تحقق التقدّم بالنسبة لاسلام
الوارث على موت
المورّث ، وكان تحقق التأخر لإسلام الوارث موضوعا لأثر شرعي آخر وهو استحقاق
الإمام للميراث.
وهنا يجري استصحاب
عدم التقدّم أي عدم تحقق التقدّم لإسلام الوارث على موت المورّث ، ويجري أيضا
استصحاب عدم تحقق التأخر لإسلام الوارث فلا يكون للإمام ميراث المورّث ، وليس بين
الاستصحابين تعارض لاحتمال انّ اسلام الوارث تزامن مع موت المورّث.
الصورة
الخامسة : نفس الصورة
الرابعة إلاّ انّه يفترض فيها وجود علم اجمالي بتحقق التقدم لأحدهما على الآخر ،
وهنا يسقط كلا الاستصحابين عن الحجية ، إذ انّ إجراءهما معا مستوجب للمخالفة
القطعية للواقع واجراء أحدهما المعين دون الآخر بلا مرجّح.
القسم
الثاني : ان يكون الأثر
الشرعي مترتبا على العدم المحمولي والذي هو مفاد ليس التامة النافية للوجود عن
معروضها ، وذلك في مقابل ليس الناقصة والتي تصف معروضها بوصف عدمي ، فحينما يقال :
ليس زيد ، فهذا معناه نفي الوجود عن زيد ، وأما حينما يقال : ليس زيد عالما فإنّ
ليس في المثال لا تنفي الوجود عن زيد وانما هي متصدّية لوصفه بعدم الاتصاف
بالعالميّة ، أي انّ وظيفتها هو ربط السلب بالموضوع ، وهذه هي المعبّر عنها بليس
الناقصة ، والعدم المفاد بواسطتها هو العدم النعتي.
وكيف كان فالاثر
الشرعي المفترض في هذا القسم مترتب على العدم المفاد بواسطة ليس التامة والذي هو
العدم المحمولي النافي للوجود عن موضوعه.
ومثاله ما لو كان
الأثر الشرعي مترتبا على عدم موت الأب حين
موت الولد ، وهناك
أثر آخر مترتب على عدم موت الولد حين موت الأب ، وهنا لو كان المكلف يعلم بعدم
موتهما ثم علم بموتهما إلاّ انّه شك في انّ موت الأب هل تمّ حين عدم موت الولد أو
انّ موت الولد تم حين عدم موت الأب ، وعندئذ يجري استصحاب عدم موت الأب حين موت
الولد ويترتب على ذلك استحقاق الأب للميراث إلاّ انّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب
عدم موت الولد حين موت الأب ويترتب على ذلك استحقاق الولد لميراث الأب ، وحينئذ يسقطان
عن الحجية.
هذا هو مبنى الشيخ
الانصاري رحمهالله وجمع من الأعلام إلاّ ان صاحب الكفاية رحمهالله لم يقبل بذلك وبنى على عدم جريان الاستصحاب في نفسه بقطع النظر عن التعارض ،
وذلك لاحتمال عدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين والحال انّه يعتبر في جريان
الاستصحاب احراز اتصالهما ، وسيأتي ايضاح ذلك تحت عنوان اتصال زمان الشك بزمان
اليقين.
وعلى أيّ تقدير
فإن الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية رحمهما الله يتفقان على عدم حجية الاستصحاب في
الفرض المذكور ، والاختلاف بينهما انما هو في منشأ سقوط الاستصحاب عن الحجية ،
فالشيخ الانصاري رحمهالله يرى انّ المنشأ لذلك هو التعارض ، وهذا يعني جريان كل
منهما ثم سقوطهما بالمعارضة ، أما صاحب الكفاية رحمهالله فيرى انّ المنشأ لذلك هو عدم توفّر هذا الاستصحاب على أحد
شرائط جريانه وهو إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين.
والثمرة التي تظهر
بين القولين هو ما لو افترضنا انّ الأثر يترتب على الاستصحاب الاول دون الآخر بأن
لا يكون بقاء المستصحب في
الاستصحاب الآخر
ذا أثر شرعي ، وعندها يجري الاستصحاب ذو الأثر الشرعي دون معارض بناء على مبنى
الشيخ الانصارى رحمهالله ، أما بناء على مبنى صاحب الكفاية رحمهالله فلا يجري الاستصحاب حتى في هذا الفرض لأنّ شبهة انفصال زمان الشك عن زمان
اليقين لا يختلف الحال فيها بين الفرضين.
ومثال هذا الفرض
هو ما لو كان الأثر الشرعي ـ وهو تنجّس الماء ـ مترتبا على عدم الكريّة حين
الملاقاة ، فلو كنا نعلم بعدم الكرية وعدم الملاقاة ، ثم علمنا بحصول الكريّة
وعلمنا كذلك بالملاقاة إلاّ اننا نشك في تقدم أحدهما على الآخر ، فهنا يمكن
استصحاب عدم الكريّة الى حين الملاقاة ويترتب على ذلك الأثر الشرعي وهو تنجس الماء
، ولا يجري استصحاب عدم الملاقاة للنجس الى حين حصول الكرية لو افترضنا عدم وجود أثر
شرعي لذلك ، وبهذا تتضح الثمرة بين المبنيين.
القسم
الثالث : ان يكون موضوع
الأثر الشرعي هو الوجود النعتي أي مفاد كان الناقصة ، ومنشأ التعبير عنه بالوجود
النعتي هو انّ هذا الوجود يكون وصفا قائما بمعروضه كالعالمية بالإضافة لزيد فعلاقة
العالمية بزيد علاقة العرض بمحلّه وهذا العرض هو المعبر عنه بالوجود النعتي إذا
لوحظ قائما بمحلّه.
ومثال هذا القسم
ما لو افترضنا ان موضوع استحقاق الابن للميراث هو اسلامه قبل موت الأب بمعنى لزوم
اتصاف اسلامه بالتقدّم ، فلو كنا نعلم بعدم اسلامه وبعدم موت الأب ثم علمنا
بتحققهما ، فهل يمكن استصحاب عدم اتصاف اسلام الولد بالتقدم أو لا؟
ذهب صاحب الكفاية رحمهالله الى عدم جريان الاستصحاب بدعوى انّ
اتصاف اسلام الولد
بالتقدّم وعدم اتصافه بذلك ليس لهما حالة سابقة متيقنة حتى تستصحب ، إذ انّ اتصاف
شيء بشيء أو بعدم ذلك الشيء مترتب على وجود المتصف به ولا يتعقل اتصافه بوجود شيء
أو بعدم شيء حال عدمه ، وذلك لما قيل ان ثبوت شيء لشيء فرع وجود المثبت له فلا
يوصف الانسان المعدوم بأنه قائم أو بأنه ليس بقائم.
ومن هنا لا يمكن
اتصاف عدم الإسلام للابن المحرز سابقا بعدم التقدّم أو بالتقدّم ، وهذا هو المراد
من عدم العلم باتصاف الحادث بالتقدّم أو بعدم التقدم.
إلاّ انه في مقابل
هذه الدعوى ادعى السيد الخوئي رحمهالله امكان استصحاب عدم التقدّم ، وذلك لأنّ اسلام الابن عند ما
لم يكن موجودا كان غير متصف بالتقدم وهذا هو مبرّر استصحاب عدم التقدّم ، او دعوى
انّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له وان كانت تامة إلاّ ان نفي شيء عن شيء لا
يتوقف على وجود المنفي عنه ذلك الشيء ، فنحن وان كنا لا نتمكن من استصحاب الاتصاف
بشيء أو بعدم شيء إلاّ انّه يمكن استصحاب عدم الاتصاف بالشيء ، إذ انّ ذلك كان
محرزا عند ما لم يكن الموضوع موجودا.
وبتعبير آخر : انّ
المستصحب في المقام هو عدم الربط والذي هو محرز سابقا عند ما لم يكن المعروض
موجودا.
ومع اتضاح جريان
الاستصحاب بنظر السيد الخوئي رحمهالله نقول : انه لا مانع من استصحاب عدم اتصاف اسلام الولد
بالتقدم على موت الاب ، ولا يعارضه استصحاب عدم اتصاف موت الأب بالتقدّم وذلك
لاحتمال تزامن اسلام الولد مع موت الأب إلاّ ان يكون هناك علم اجمالي بتقدّم
أحدهما على الآخر
، وقد بينّا ذلك في القسم الأول.
القسم
الرابع : ان يكون موضوع
الأثر الشرعي هو العدم ولكن بمفاد ليس الناقصة المعبّر عنه بالعدم النعتي ، والذي
يكون فيه المعروض متصفا بعدم العرض ، أو قل يكون موضوع الحكم هو عدم العرض ومحلّه
على ان يكون عدم العرض وصفا لمعروضه بنحو ربط السلب والقضية الموجبة معدولة
المحمول ، كأن تقول : زيد ليس بقائم ، أي زيد متصف بعدم القيام.
ومثاله : ما لو
كان موضوع الأثر الشرعي هو اتصاف اسلام الولد بعدم التأخر عن موت الأب ، فلو كنا
نعلم بعدم اسلام الولد وعدم موت الأب ثم علنا باسلام الولد وموت الأب إلاّ انّا
نشك في اتّصاف إسلام الولد بعدم التأخر عن موت الأب ، فهل يمكن استصحاب الاتصاف
بعدم التأخر؟
ذهب صاحب الكفاية رحمهالله الى عدم امكان جريان الاستصحاب ، وذلك لعدم العلم بالاتصاف بالتأخر أو عدمه.
فنحن وان كنّا نحرز سابقا عدم الإسلام إلاّ انّ هذا لا يعني العلم بعدم الاتصاف ،
وذلك لأنّ وصف الشيء بعدم الاتّصاف فرع وجود ذلك الشيء ، إذ انّ القضية المعدولة
المحمول تعني ربط السلب بموضوعه ، وهذا يتوقف على وجود الموضوع حتى يمكن ربطه
بالسلب ، نعم لو كان مفاد القضية هو سلب الربط عن الموضوع لما كان وجود الموضوع
لازما ، أمّا مع افتراض انّ مفاد القضية هو ربط السلب فإنّه لا بدّ من وجود الموضع
أولا ثم ربطه بالسلب ، ونحن لم يكن عندنا يقين إلاّ بعدم الموضوع وعندئذ لا يمكن
وصفه لا بوصف وجودي ولا بوصف عدمي « ربط السلب ».
أما السيد الخوئي رحمهالله فذهب الى امكان اجراء الاستصحاب وأفاد بأنّ الاتصاف بالعدم ـ بنحو ربط السلب
والقضية الموجبة
معدولة المحمول ـ وان لم يكن متيقنا فلا يمكن استصحابه إلاّ انّه يمكن استصحاب عدم
الاتصاف اذ انّ عدم الاتصاف كان محرزا عند ما لم يكن الموضوع موجودا ، وواضح انّ
عدم الاتّصاف ـ والذي هو بمعنى سلب الربط ـ لا يناط إحرازه بوجود الموضوع كما
ذكرنا ذلك في القسم الثالث.
وبهذا يتضح إمكان
استصحاب عدم اتّصاف اسلام الولد بالتأخر عن موت الأب والذي كان محرزا عند ما لم
يكن اسلام الولد موجودا. وهذا الاستصحاب غير معارض باستصحاب عدم اتصاف موت الأب
بالتأخر عن اسلام الولد ، وذلك لاحتمال تزامن موت الأب مع اسلام الولد إلاّ ان
يكون هناك علم اجمالي بتأخر أحدهما عن الآخر ، كما ذكرنا نظير ذلك في القسم الاول.
* * *
٧٦ ـ استصحاب معلوم
التاريخ
والبحث في المقام
عن جريان الاستصحاب في حالات العلم بتاريخ أحد الحادثين والجهل بتاريخ الحادث
الآخر.
ويمكن تقسيم البحث
الى أربعة أقسام :
القسم
الأول : ان يكون الأثر
مترتبا على تقدّم أو تأخّر أحد الحادثين عن الآخر بنحو يكون المعتبر هو وجود
التقدم أو التأخر بمفاد كان التامة المعبر عنه بالوجود المحمولي.
ومثاله ما لو كان
الأثر مترتبا على تقدّم انعتاق الولد على موت الاب. فلو كنا نعلم بانعتاق الولد
وان ذلك تم في يوم الجمعة ونعلم أيضا بموت الأب إلاّ انه نجهل ان ذلك تمّ قبل
الانعتاق أو بعده كيوم السبت مثلا.
فهنا يمكن استصحاب
عدم التقدّم
للانعتاق ولا
يعارضه استصحاب عدم التقدم للموت ، وذلك لاحتمال تزامن الانعتاق مع الموت للأب
إلاّ أن يكون هناك علم اجمالي بتقدم أحد الحادثين على الآخر. وتفصيل ذلك ذكرناه في
القسم الأول من استصحاب مجهولي التاريخ. فراجع.
القسم
الثاني : ان يكون الأثر
مترتبا على عدم أحد الحادثين عند حدوث الحادث الآخر أو عدم أحد الحادثين قبل أو
بعد الحادث الآخر ، ويكون هذا العدم محموليا أي بمفاد ليس التامة.
فلو كان الأثر
مثلا : مترتبا على عدم موت المورث عند انعتاق الوارث ، فلو علمنا بموت المورث وان
ذلك تمّ يوم الجمعة وعلمنا أيضا بانعتاق الوارث إلاّ انّه لا ندري انّ ذلك وقع قبل
موت المورث أو بعده.
وفي هذا القسم وقع
الخلاف بين الأعلام ، فذهب الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية والمحقق النائيني رحمهمالله الى جريان الاستصحاب في الحادث المجهول التاريخ دون معلومه. وهذا معناه جريان
استصحاب عدم انعتاق الوارث الى حين موت المورّث ، ومبرّر جريان الاستصحاب في مجهول
التاريخ هو توفّره على أركان الاستصحاب ، فعدم الانعتاق كان معلوما ثم وقع الشك في
ارتفاع العدم وتحقق الانعتاق وحينئذ يستصحب عدم الانعتاق.
وأما عدم جريان
الاستصحاب في معلوم التاريخ فلأن عدم الموت كان محرزا قبل يوم الجمعة وحدوث الموت
محرز في يوم الجمعة وهو محرز البقاء الى ما بعد الجمعة ، فلا معنى لجريان
الاستصحاب في مورده ، فلا عدم الموت مشكوك البقاء ولا حدوث الموت مشكوك الحدوث
والبقاء ، ولمّا كان الاستصحاب معناه التعبّد ببقاء المستصحب في عمود الزمان الى
حين
التيقن بانتفائه
فهذا معناه الشك في بقاء المستصحب في الحقبة الزمانية المتوسطة بين اليقين بالحدوث
واليقين بالارتفاع وهذا غير حاصل في الفرض ، فلا يكون مشمولا لأدلة الاستصحاب.
هذا هو حاصل التقريب
الذي أفاده الشيخ الأنصاري والمحقق النائيني رحمهما الله لاثبات الدعوى إلاّ انّ
لصاحب الكفاية رحمهالله تقريبا آخر لاثبات عدم جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ
وهو دعوى عدم اتصال زمان الشك باليقين وهذا ما أوضحناه تحت عنوان اتصال زمان الشك
بزمان اليقين.
وفي مقابل ما ذهب
اليه هؤلاء الأعلام ذهب جمع من الأعلام كالسيد الخوئي رحمهالله الى جريان الاستصحاب حتى في معلوم التاريخ.
وحاصل ما أفاده
السيد الخوئي رحمهالله انّ الأثر الشرعي بحسب الفرض ليس مترتبا على عدم وقوع
الحادث في الزمان المعلوم حتى يقال بعدم جريان الاستصحاب في مورده لكونه معلوما بل
انّ الأثر الشرعي مترتب على عدم الحادث المتعنون بكون حدوثه في زمان الحادث الآخر
أو بعده وهو مشكوك كما هو واضح فإنّ الحادث وان كان زمان وقوعه معلوما إلاّ انّه
مشكوك من جهة وقوعه في زمان الحادث الآخر.
وبتعبير آخر : انّ
الاستصحاب الذي يراد إجراؤه هو استصحاب عدم الحادث الى حين وقوع الحادث الآخر
المجهول التاريخ ، وهذا متوفر على ركني الاستصحاب ، إذ انّ عدم الحادث كان محرزا
ثم وقع الشك في انتفاء عدم الحادث حين وقوع الحادث الآخر المجهول التاريخ ، وعندها
يمكن إجراء استصحاب عدم الحادث الى حين وقوع الحادث المجهول.
ففي المثال : انّ
عدم الموت كان
محرزا ثم وقع الشك
في انتفاء عدم الموت ـ وتحقق الموت ـ حين انعتاق الوارث ، فهنا لا محذور من جريان
استصحاب عدم الموت الى حين الانعتاق ، والعلم بأن الموت قد وقع يوم الجمعة لا
ينافي امكان جريان الاستصحاب بعد ان كان الاستصحاب بلحاظ الحادث الآخر المجهول
التاريخ لا بلحاظ عمود الزمان.
وبهذا البيان يتضح
امكان جريان الاستصحاب إذا لم تكن بينهما معارضة بسبب العلم الإجمالي وكان لكل من
الاستصحابين أثر شرعي يترتب على جريانه كما أوضحنا ذلك في استصحاب مجهولي التاريخ.
القسم
الثالث والرابع : يفترضان انّ الأثر الشرعي مترتب على الوجود النعتي والعدم النعتي ، والاول
يعني الاتصاف بتقدم أحد الحادثين على الآخر مثلا ، والثاني يعني الاتصاف بعدم تقدم
أحد الحادثين على الآخر ، وهنا يأتي نفس الكلام الذي ذكرناه في القسم الثالث والرابع
من استصحاب مجهولي التاريخ ، فراجع.
* * *
٧٧ ـ الاستعمال
المراد من
الاستعمال ـ بدوا ـ هو إلقاء اللفظ واستخدامه أداة لغرض تفهيم المعنى المراد في
نفس المتكلم ، فهو يختلف عن الدلالة من جهة ارتباطها بالمتلقي للفظ فهو ينتقل من
اللفظ الى المعنى بسبب العلاقة الحاصلة بين اللفظ والمعنى ، فهو يستفيد من هذه
العلاقة لتصوّر المعنى عند اطلاق اللفظ.
وأما الاستعمال
فهو مرتبط بالمتكلم ، وهو أيضا يستفيد من العلاقة بين اللفظ والمعنى ولكن لغرض
اخطار المعاني الحاضرة في نفسه أي اخطارها في ذهن السامع وذلك باتخاذ اللفظ وسيلة
لذلك.
وهذا المقدار لا
إشكال فيه ، انّما الإشكال من جهة حقيقة هذا الاستعمال ، فقد ذهب المحقق صاحب
الكفاية رحمهالله الى انّ حقيقة الاستعمال هي إفناء اللفظ في المعنى حتى
كأنّ الملقى هو المعنى ابتداء. ومعنى ذلك انّ اللفظ يلاحظ باللحاظ الآلي المرآتي
ويكون المعنى ملحوظا باللحاظ الاستقلالي.
فالآلية بالنسبة
للفظ تعني طريقيته لالقاء المعنى ، فيكون أشبه شيء بالمرآة حيث يكون النظر اليها
وسيلة للنظر الى المنكشف عنها ، فهي فانية في منكشفها وكأن المنظور اليه هو
المنكشف ولهذا تكون المرآة مغفولا عنها حين النظر الى مرئيها ، وهذا هو المراد من
انّ لحاظ المعنى يكون لحاظا استقلاليا.
ومن هنا يكتسب
اللفظ ما للمعنى من حسن وقبح وما ذلك إلاّ لتهالك اللفظ وفنائه في معناه.
المعنى
الآخر للاستعمال : وهو عبارة عن جعل اللفظ علامة على المعنى ، فهو أشبه شيء بالعلامات
الموضوعة على الطرقات لبيان انّها سالكة أو مغلقة وكالإشارات التي يحدثها الأخرس
لغرض تفهيم مراداته.
واذا كان اللفظ
كذلك فلا يلزم ان يكون لحاظه آليا ، إذ من الممكن جدا ان يلحظ بشكل استقلالي
ويتأدى منه الغرض وتفهيم المعنى المراد. وهذا هو الذي مال اليه السيد الخوئي رحمهالله كما يستظهر من عبائره. ونبه على ذلك بما هو مشاهد عند إلقاء القصائد والخطب
البليغة ، إذ انّ ألفاظها وتراكيبها تلحظ لحاظا استقلاليا ومع ذلك يكون المتكلم
قاصدا تفهيم معانيها.
وبما ذكرناه يتضح
انّ الاستعمال بكلا معنييه متقوّم بالإرادة الاستعمالية ، وهذا ما أوضحناه تحت
عنوان « الإرادة الاستعمالية ».
وأما شروط
الاستعمال فسنبحثها تحت عنوان « الاستعمال وشروطه ».
٧٨ ـ الاستعمال الحقيقي
والمراد منه هو
استعمال اللفظ للدلالة على معناه الحقيقي. والمعنى الحقيقي للفظ هو المعنى الذي
وضع لغرض الدلالة عليه ، فالعلاقة بينهما نشأت عن الاوضاع اللغوية ، ولذلك تكون
دلالة اللفظ على معناه الموضوع له دلالة ابتدائية لا تناط بشيء آخر ، وذلك في
مقابل دلالة اللفظ على المعنى المجازي حيث انها منوطة بوجود تناسب بين المعنى
المجازي والمعنى الموضوع له اللفظ ، فهي متأخرة عن دلالة اللفظ على معناه الحقيقي.
وبهذا يتضح انّ
الاستعمال الحقيقي هو استعمال اللفظ للدلالة على معناه الاولي الحقيقي والذي نشأ
عن العلقة الوضعية بينهما.
* * *
٧٩ ـ استعمال اللفظ في أكثر
من معنى
المراد من هذا
العنوان هو استعمال لفظ واحد وإرادة معنيين أو أكثر من ذلك اللفظ ، ففي الوقت الذي
يكون فيه المعنى الاول مرادا من اللفظ يكون المعنى الثاني كذلك وهكذا الثالث ،
فبدلا من استعمال اللفظ مرتين للكشف عن مدلولين مستقلّين يستعمل اللفظ مرة واحدة
لغرض الكشف عن مدلولين مستقلّين.
وأوضح موارد
استعمال اللفظ في أكثر من معنى هو استعمال اللفظ المشترك وإرادة مجموع معانيه من
ذلك الاستعمال.
ومثاله : ان يقول
المتكلّم « رأيت عينا » ويريد بذلك العين النابعة والجارحة الباصرة والذهب.
ويشمل محل النزاع
استعمال اللفظ وإرادة معنيين أحدهما حقيقي والآخر
مجازي ، كما يشمل
استعمال اللفظ وإرادة معنيين مجازيين ، ومثال الاول ما لو قال المتكلم : « رأيت
قمرا » وأراد من « القمر » الكوكب السماوي والوجه الصبيح. ومثال الثاني : ما لو
قيل : « احذر عدوك » واريد من العدو الحسد والكسل.
والمتحصّل انّ
الضابطة في تشخيص محل البحث هو افتراض استقلالية المعاني التي يراد التعبير عنها
بواسطة اللفظ الواحد ، وبذلك يخرج عن محل البحث استعمال اللفظ في مجموع معانيه
بنحو يكون المدلول عليه بواسطة اللفظ هو المجموع بما هو مجموع ، ومنشأ خروج ذلك عن
محل البحث هو انّ هذا الاستعمال من استعمال اللفظ في معنى واحد هو المجموع.
وكيف كان فقد وقع
النزاع بين الأعلام في امكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فمنهم من ذهب الى
امكانه ومنهم من ذهب الى استحالته وهو مشهور المتأخرين ، ومنهم من مال الى التفصيل
كما سيتضح ان شاء الله تعالى.
وقد استدلّ للقول
بالاستحالة بمجموعة من الأدلة ، نكتفي بذكر ما أفاده المحقق النائيني رحمهالله وحاصله : انّ صفحة النفس إذا كانت مشغولة بمعنى من المعاني الاستقلاليّة فإنّ
من المستحيل اشتغالها بمعنى استقلاليّ آخر.
ومدرك هذه الدعوى
هو الوجدان ، فإنّ الوجدان قاض بضيق النفس عن استيعاب معنيين مستقلّين في عرض واحد
، نعم عند ما تنمحي صورة المعنى الاول عن النفس فإنّ من الممكن عروض صورة اخرى كما
هو الحال في المرآة ، فحينما تكون المرآة مستوعبة لصورة فإنّ من المستحيل انطباع
صورة اخرى عليها دون ان تنمحي الصورة الاولى ، وما ذلك إلاّ
لانشغال المرآة
بالصورة الاولى المقتضي لامتناع انطباع الصور الاخرى عليها ، نعم يمكن للمرآة ان
تستوعب أكثر من صورة فيما لو كانت تلك الصور تمثل بمجموعها صورة واحدة ، وهكذا
الحال بالنسبة للمعاني الحاضرة في النفس في عرض واحد إلاّ ان ذلك خروج عن محلّ
النزاع ، إذ انّ المفترض هو استيعاب المعنى الاول للنفس ، إذ هو معنى الاستقلالية.
ومع اتضاح هذه
المقدمة نقول : انّ معنى استعمال اللفظ في المعنى هو ايجاد المعنى واخطاره في نفس
المخاطب ، فوظيفة اللفظ هي احضار المعنى المنطبع في نفس المتكلم وايجاده في نفس
المخاطب. وهذا معناه انّ الملحوظ أولا وبالذات هو المعنى ولحاظ اللفظ انما هو لحاظ
آلي يراد منه رسم الصورة الحاضرة في نفس المتكلم رسمها في نفس المخاطب ، واذا كان
كذلك فالمعنى مستقطبا لتمام صفحة النفس ، إذ انّ هذا هو مقتضى الاستقلالية ، وعليه
لا تكون النفس قادرة على استيعاب معنى استقلاليّ آخر ، وذلك لافتراض انشغالها
بالمعنى الأول.
لا يقال بأن انشغال
النفس بلحاظين عند استعمال اللفظ في المعنى أمر لا بدّ منه بدعوى انّ المعنى كما
يكون ملحوظا عند الاستعمال كذلك اللفظ يكون ملحوظا عنده.
فإنّه يقال : انّ
لحاظ اللفظ انّما هو لحاظ آلي تبعي ، ولذلك لا يجد المخاطب في نفسه عند استعمال
المتكلم اللفظ في المعنى لا يجد إلاّ المعنى مما يعبّر عن انّ اللفظ يكون فانيا في
المعنى ، فليس في البين سوى المعنى فهو الملحوظ أولا وبالذات.
هذا هو حاصل ما
أفاده المحقق النائيني رحمهالله في تقريب القول بالاستحالة ، واذا تمّ ما أفاده فإنّ
استحالة استعمال اللفظ في أكثر من
معنى يكون مستحيلا
حتى بناء على مسلك السيد الخوئي رحمهالله في الوضع ـ حيث بنى على ان حقيقة الوضع هي التعهد
والالتزام النفساني من المتكلّم بأن لا يستعمل هذا اللفظ إلاّ اذا قصد تفهيم هذا
المعنى ـ وذلك لأن الكبرى التي ينشأ عنها القول بالاستحالة هي انّ النفس عاجزة عن
استيعاب أكثر من معنى استقلالي في آن واحد ، ولذلك لا يمكن للمتعهد ان يلتزم
باستعمال لفظ وإرادة معنيين استقلاليين حتى وان تعهّد بذلك ، فإنّه وان كان من
الممكن ان يتعهّد المتكلّم بقصد معنيين مستقلّين حين استعمال لفظ معين إلاّ انّه
عاجز عن الالتزام بهذا التعهّد ، إذ انّ نفسه لا تسع معنيين استقلاليين في عرض
واحد.
ومن هنا كان همّ
السيد الخوئي رحمهالله هو الخدشة في الكبرى حيث ادعى انّ النفس جوهر بسيط ، وهذا
ما يقتضي سعتها وأهليّتها لاستيعاب معان استقلالية في عرض واحد. ونبّه على ذلك
بثلاثة امور نذكر منها أمرين ، إذ انّ الثالث يرجع روحا الى الثاني.
الأمر
الاول : انّه لا ريب في
انّ القضايا الحملية مستوجبة للحاظ ثلاثة معان استقلالية في آن واحد ، وذلك لأنّ
الحكم على الموضوع بالمحمول يستلزم ملاحظة الموضوع والمحمول والنسبة بينهما ، فإنّ
من المستحيل الحكم على الموضوع بالمحمول دون الالتفات الى هذه المعاني الاستقلالية
، وافتراض غفلة المتكلم عن الموضوع والمحمول حين الحكم مستحيل ، وذلك لتقومه بهما.
فتحصّل انّ
الموضوع والمحمول والنسبة والتي هي معانى استقلالية تكون بأجمعها حاضرة في النفس
حين الحكم.
الأمر
الثاني : انّ الوقوع خير
شاهد على الإمكان ، حيث نجد انّه قد يصدر من شخص واحد فعلان إراديّان في
آن واحد ، وواضح
استحالة صدور الفعل الإرادي دون تصوره استقلالا في النفس ، إذ انّ عدم تصوره خلف
إراديته.
ومثال ذلك : ان
يلاعب الوالد طفله وفي نفس الوقت يقرأ كتابا أو يصلح آلة.
وباتضاح ما ذكرناه
يتضح منشأ القول بالاستحالة ومنشأ دعوى الإمكان ، ويبقى الكلام عن دعوى التفصيل ،
وهو مبنى الشيخ صاحب المعالم رحمهالله حيث فصّل بين المفرد وبين التثنية والجمع فذهب الى
الاستحالة في المفرد والى الإمكان في التثنية والجمع ، واستدلّ على ذلك بما حاصله
:
انّ التثنية تعني
تكرار المفرد مرتين كما انّ الجمع يعني تكرار المفرد مرّات فحينما يقول المتكلّم «
رأيت عينين » فإن معنى ذلك « رأيت عينا وعينا » ، وحينما يقول : « رأيت عيون »
فإنّ معناه « رأيت عينا وعينا » ، فكما انّه لو عطف مفردات العين على بعضها فإنّ
من الممكن إرادة الباصرة من المفرد الاول والنابعة من الثاني والذهب من الثالث
فكذلك حينما يأتي بلفظ العين بصيغة التثنية أو الجمع ، ثم أيّد دعواه بالتثنية
والجمع في الأعلام الشخصية ، فإنّ المتكلم حينما يقول « رأيت زيدين » « وهؤلاء
زيدون » فإنّه يقصد بذلك ذاتين أو ثلاث ذوات ، وهي معان استقلالية متباينة ، إذ
انّ لفظ زيد لا يكشف عن طبيعة لها أفراد فيكون المراد من زيدين فردان من طبيعة
واحدة ، إذ انّ لفظ زيد علم شخصي لا يكشف إلاّ عن ذات واحدة ممتنعة الصدق على
غيرها.
وقد أجاب السيد
الخوئي رحمهالله عن دليل صاحب المعالم رحمهالله بما حاصله : انّ الموضوع له لفظ العين وغيره في المفرد
والتثنية والجمع واحد وهو الطبيعة المهملة المجردة عن تمام الحيثيات
والخصوصيات حتى
خصوصية التجرّد عن الخصوصيات المعبّر عنه باللابشرط ، غايته انّ هيئة التثنية
وهكذا هيئة الجمع موضوعان للدلالة على التعدد ، فالمثنى اذن له وضعان وضع للمادة
ووضع آخر للهيئة ، والوضع المختص بالمادة لا يختلف الحال فيه بين المفرد وغيره حيث
قلنا انّ المادة وضعت للطبيعة المهملة ، نعم هيئة التثنية وضعت للدلالة على المادة
المتهيئة بها مرتين ، وهيئة الجمع وضعت للدلالة على المادة المتهيئة بها مرّات ،
واذا كان كذلك فالمادة المستعملة في ضمن الهيئة تظلّ محلا للنزاع ، فبناء على
الاستحالة يكون استعمال المادة في أكثر من معنى مستحيلا حتى وان وضعت في ضمن هيئة
التثنية أو الجمع ، وعليه لا بدّ وان يكون المراد من المادة الواقعة في ضمن هيئة
التثنية فردين من طبيعة واحدة ، إذ انّ ذلك هو مقتضى استحالة استعمال المادة في
أكثر من معنى ومقتضى ما وضعت له هيئة التثنية.
وقد اجيب عن
التأييد الذي أيّد به صاحب المعالم دعواه بما حاصله : انّه مع تمامية دعوى
الاستحالة لا بدّ من تأويل التثنية والجمع في الأعلام الشخصية بأن يقال انّ المراد
من قولنا « هؤلاء زيديون » هو « هؤلاء المسمّون بزيديين » فيكون لفظ « زيدون » قد
استعمل في المسمّى مجازا.
ثم انّ هنا بحث
يتصل بمقام الإثبات وهو انه لو كان البناء هو امكان استعمال اللفظ في أكثر من معنى
فهل يحمل اللفظ المشترك على معانيه مع خلو الكلام عن القرينة المفيدة لإرادة أحد
المعاني بعينه أو انّ استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى يكون منافيا لما هو
مقتضى الظهور العرفي.
الظاهر عدم وقوع
الخلاف في انّ استعمال اللفظ في أكثر مناف لما هو
مقتضى الظهور
العرفي ، وذلك لأنّ اللفظ المشترك لم يوضع لمجموع المعاني بوضع واحد ، وانّما وضع
لكل معنى بوضع مستقل ، فاستعماله في تمام المعاني يكون من استعمال اللفظ في غير ما
وضع له وهو محتاج للقرينة كما انّ استعماله في معنيين أو في أحد المعاني من غير
قرينة يؤدي الى اجمال المراد ، إذ لا كاشف عما هو المراد بهذا الاستعمال.
* * *
٨٠ ـ الاستعمال المجازي
والمراد من
الاستعمال المجازي هو استعمال اللفظ للدلالة على معنى لم يكن اللفظ قد وضع لغرض
الدلالة عليه وانما وضع للدلالة على معنى آخر ، فالدلالة على المعنى المجازي واقعة
في طول الدلالة على المعنى الحقيقي ، إذ انّها تفترض وجود معنى حقيقي للفظ ويكون
المستعمل قد تجاوز هذا المعنى الى معنى آخر مستعينا على ذلك اما بالتناسب بين
المعنيين الحقيقي والمجازي أو بالقرينة على ما هو الخلاف بينهم في ذلك ، وسيأتي
مزيد توضيح تحت عنوان دلالة اللفظ على المعنى المجازي.
* * *
٨١ ـ الاستعمال المجازي طبعي
أو وضعي
والبحث في المقام
يقع عمّا هو المصحّح لاستعمال اللفظ في المعنى المجازي ، وهل انّ التناسب بين
المعنى الحقيقي والمعنى المجازي كافيا في تصحيح استعمال اللفظ في المعنى المجازي
أو ان صحة الاستعمال منوطة بالوضع أي بإذن الواضع.
فالمقصود من اناطة
صحة الاستعمال في المعنى المجازي بالوضع هو ترخيص الواضع استعمال اللفظ في المعنى
المتناسب مع المعنى الموضوع له اللفظ ، لا انّ المقصود من ذلك هو
افتقار الاستعمال
في المعنى المجازي الى وضع ثان ، إذ لا تنحفظ الطولية بينهما عندئذ ويكون استعمال
اللفظ في المعنى الاول والمعنى الثاني استعمالا حقيقيا ، إلا ان يقال انّه قد يكون
المراد من اناطة صحة الاستعمال بالوضع هو سنخ الوضع في المعنى الحقيقي ومع ذلك
تنحفظ الطولية بين الوضعين بافتراض مئونة اضافية في الوضع الثاني يتميّز بها الوضع
في المعنى المجازي عن الوضع في المعنى الحقيقي وتحتفظ بالطولية بينهما.
ومع تحرّر محلّ
النزاع نقول : انّ في المقام اتجاهين :
الإتجاه
الاول : هو اناطة صحة
الاستعمال المجازي بالوضع ، وهذا الإتجاه هو المنسوب الى المشهور.
الاتجاه
الثاني : هو انّ المرجع
في تصحيح الاستعمال المجازي هو ما يستسيغه العرف بحسب طبعه وسليقته. واستحسانه
عادة ما ينشأ عن التناسب بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المجازي الذي يراد
استعمال اللفظ لإفادته.
وعليه فمتى ما
استحسن العرف اطلاق لفظ على معنى باعتبار تناسبه مع المعنى الموضوع له اللفظ بنحو
من أنحاء التناسب فهو كاف في تصحيح الاستعمال دون الحاجة لوضع الواضع أو لترخيصه ،
بل لو رخّص الواضع في استعمال لفظ في معنى مجازي ولم يكن ذلك الاستعمال مستساغا
بنظر العرف لمنافاته مع ما تقتضيه طبيعته وسليقته فإنّ ذلك لا يصحّح الاستعمال ،
فالمناط اذن هو المذاق العرفي.
وهذا الإتجاه ذهب
اليه جمع من الأعلام كصاحب الكفاية رحمهالله ، واستدلّ عليه بالوجدان. وأما الإتجاه الاول فقد ذكرت له
مجموعة من المبرّرات أهمها :
دعوى انّ انتساب
استعمال لفظي الى لغة لا يكون إلاّ بواسطة ما تقرّره
الاوضاع اللغوية
المختصة بتلك اللغة ، وهذا ما يقتضي عدم صحة استحداث أيّ استعمال إلاّ في اطار
المقرّرات المتلقاة عن الواضع.
واجيب عن هذه
الدعوى بأنّ الاستعمال المجازي المتناسب مع المذاق العرفي لأهل المحاورة لا يكون
خروجا عن إطار المقرّرات اللغويّة بعد ان كان المصحح للاستعمال هو تناسب المعنى
المجازي مع المعنى الموضوع له اللفظ.
* * *
٨٢ ـ الاستعمال وشروطه
ذكر السيد الصدر رحمهالله انّ مقومات الاستعمال وشروطه ثلاثة :
الأول : هو أهلية اللفظ للكشف عن المعنى ، وهذه الأهليّة قد تنشأ
عن العلاقة الوضعية بين اللفظ والمعنى ، بأن يكون اللفظ وضع ابتداء للدلالة على
المعنى ، وقد تنشأ عن التناسب بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى الآخر الذي
يراد استعمال اللفظ لإفادته ، وهذا هو المعبّر عنه بالمعنى المجازي ، حيث انّ منشأ
دلالة اللفظ على غير معناه ـ الذي وضع بإزائه ـ هو التناسب بنحو ما بين المعنى
الحقيقي للفظ والمعنى الآخر ، وقد تنشأ الأهلية عن مناشئ اخرى كما في حالات اطلاق
اللفظ وإرادة نوعه على ما سنوضح ذلك في محلّه.
والمتحصّل : انّه
ما لم تكن للفظ أهليّة للكشف عن المعنى فإنّ الاستعمال لا يكون صحيحا ، وذلك لأن
الاستعمال متقوّم بقصد تفهيم المعنى بواسطة اللفظ.
الثاني : انّه لمّا كانت علاقة المستعمل ـ وهو اللفظ ـ والمستعمل
فيه ـ وهو المعنى ـ علاقة الدال والمدلول فهذا معناه انّهما متضايفان ، واذا كان
كذلك فلا بدّ من تغاير المستعمل عن المستعمل فيه ، بمعنى ان يكون موضوع أحدهما غير
موضوع
الآخر ، اذ يستحيل
ان يجتمع المتضايفان من جهة واحدة على موضوع واحد ، فلا يعقل ان يكون شخص واحد أبا
لآخر وابنا له ، فكذلك يستحيل ان يكون اللفظ مستعملا ومستعملا فيه ، فالكاشف لا
يكون عين المنكشف والدال لا يكون عين المدلول ، ولذلك ذكرت توجيهات للتفصّي عن هذا
المحذور في حالات استعمال اللفظ في شخصه ، كأن تقول : « زيد ثلاثي » وتقصد من لفظ
زيد شخص ذلك اللفظ فقد يقال : انّ المستعمل والمستعمل فيه واحد وهو شخص لفظ زيد.
وببيان أبعد عن
الإشكال : انّ المستعمل والمستعمل فيه من قبيل العلة والمعلول ، واذا كان كذلك
فيستحيل افتراض ان يكون الشيء علة ومعلولا لنفسه ، فالعلة والمعلول وان كانا
متضايفين إلاّ انّ العليّة تستبطن شيئا زائدا على ما يقتضيه التضايف وهو امتناع
تصادقهما على شيء واحد حتى مع تعدد الاعتبار ، وهذا بخلاف ما يقتضيه التضايف فإنّه
لا يقتضي أكثر من التغاير في حال اتحاد الجهة والاعتبار أما لو تعدّدت الجهة
والاعتبار فلا مانع من تصادقهما على موضوع واحد ، نعم يبقى الكلام في أصل دعوى انّ
العلاقة بينهما علاقة العلة والمعلول ، والسيد الصدر رحمهالله يدعي ذلك بلحاظ الوجود الذهني.
والظاهر انّ مراده
من العلّية هي العلّية في مقام الكشف والدلالة وهو المستظهر من كلمات الأعلام «
رضوان الله عليهم » ، والمنبّه على ذلك هو انّ الاستعمال متقوّم بقصد التفهيم ،
فيكون اللفظ المستعمل هو العلة التي يتوسّل بها لتفهيم المعنى فيكون المعنى حينئذ
هو المعلول.
وواضح انّ اللفظ
المفهم للمعنى هو اللفظ المتصوّر للمتلقّي له وهذا هو معنى انّ العلية بلحاظ الوجود
الذهني.
الثالث : انّه لا بدّ في الاستعمال من تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى
، غايته انّ تصوّر اللفظ يكون بنحو اللحاظ الآلي المرآتي ويكون المعنى متصورا بنحو
اللحاظ الاستقلالي ، هذا بناء على انّ استعمال اللفظ في المعنى يعني فناء اللفظ في
معناه ، أما بناء على علاميّة اللفظ على المعنى فإنّ آلية اللحاظ للفظ ليست ضرورية
بل يمكن ان يكون لحاظه استقلاليا أيضا كما أوضحنا ذلك تحت عنوان « الاستعمال ».
* * *
٨٣ ـ الاستلزامات العقلية
المراد منها هو
استلزام قضية لقضية اخرى واقعا وفي نفس الأمر على ان يكون المدرك لذلك الاستلزام
هو العقل ، وذلك في مقابل الاستلزامات الجعلية أو الاستلزامات الواقعية التي يمكن
إدراكها بواسطة الحس والتجربة.
ثم انّ هذه
الاستلزامات مدركة بواسطة العقل النظري والذي تكون وظيفته متمحضة في إدراك الواقع
دون ان يكون لهذا الإدراك أيّ انعكاس واقتضاء للعمل على طبق ما يقتضيه ذلك المدرك
، نعم يكون للمدرك النظري تأثير واقتضاء عملي لو انضمت اليه مقدمة من الخارج.
ومثال الاستلزامات
العقلية هو ما يدركه العقل من استلزام وجوب شيء لحرمة ضده ، وما يدركه من استلزام
وجوب الشيء لوجوب مقدمته ، واستلزام حرمة الشيء لحرمة مقدماته التوليديّة ، وما
يدركه من استلزام الحكم العقلي العملي للحكم الشرعي كاستلزام قبح الظلم لحرمته
شرعا.
وحتى يتبلور
المراد من الاستلزامات العقلية نذكر هذه الامور الثلاثة :
الأمر
الاول : انّ
الاستلزامات العقلية ليس لها ان تنتج الحكم الشرعي إلاّ بواسطة انضمام مقدمة
خارجية ، فمثلا استلزام وجوب
الشيء لوجوب
مقدمته معناه إدراك العقل للعلية وانّ العلاقة بين الوجوب ومقدماته علاقة العلة مع
معلولها ، وهذا يقتضي حتمية وجوب المقدمة عند وجوب ذيها ، إلاّ انّ هذا المقدار لا
ينتج حكما شرعيا بل انّ النتيجة الشرعية منوطة بتوفّر مقدمة خارجة عن هذا
الاستلزام ، وهذه المقدمة هي ثبوت الوجوب للشيء وعندها تترتب النتيجة الشرعية
والتي هي وجوب مقدمات ذلك الواجب.
وبطبيعة الحال
فإنّ هذه النتيجة الشرعية منوطة بتمامية مقدمة مطوية وهي حجية الدليل العقلي ،
وهذه المقدمة هي التي تؤهل القضية الاستلزامية للدليلية على الحكم الشرعي ، ومن
هنا يعبّر عن مثل الاستلزامات بصغرى الدليل العقلي ، لانّها تقع في صغرى قياس
نتيجته دليلية الاستلزام العقلي ، وتكون كبرى ذلك القياس هو حجية المدرك العقلي ،
وعندها يكون القياس الذي يقع الاستلزام العقلي في كبراه منتجا للنتيجة الشرعية ،
ولو لا القياس الذي وقعت حجية الدليل العقلي في كبراه لاصبح القياس الآخر الذي
يراد التعرّف به على الحكم الشرعي عقيما.
وبيان ذلك :
انّ العقل يدرك
الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته. وما يدركه العقل حجّة.
النتيجة : انّ
إدراك العقل للملازمة حجّة.
وبهذه النتيجة
يتأهل الاستلزام العقلي للدليلية على الحكم الشرعي ، وذلك إذا انضمت اليه مقدمة
خارجية تثبت وجوب شيء.
الأمر
الثاني : انّ
الاستلزامات العقليّة تعبّر عن أنحاء العلاقات الواقعية بين القضايا أو قل الأحكام
، وهذا يقتضي ان لا تخرج هذه
العلاقات عن
المواد الثلاث والتي هي الوجوب والاستحالة والإمكان ، فإمّا ان يكون الحكم ملازما
لاستحالة حكم آخر أو يكون ملازما لضرورة ثبوت حكم آخر أو ملازما لإمكان حكم آخر.
ومثال الاول
استحالة اجتماع الأمر والنهي واستحالة اجتماع الضدين ، ومثال الثاني الملازمة بين
وجوب شيء ووجوب مقدمته ، ومثال الثالث الملازمة بين مقدمات الترتّب وبين امكان
الخطاب الترتّبي.
ومن هنا يتضح انّ
الاستلزامات العقلية وان كانت لا تستقل في إثبات حكم شرعي ، كما في الملازمات التي
هي من سنح الوجوب والإمكان إلاّ انّها يمكن ان يستنتج عن بعضها انتفاء حكم شرعي
دون الحاجة لتوسيط مقدمة خارجية ، كما لو أدرك العقل استحالة شيء فإنّ ذلك يقتضي
الجزم بعدم ايجابه مثلا ، فإن إدراك العقل لاستحالة ثبوت شيء لشيء يساوق إدراكه
لاستحالة ايجابه دون الحاجة لتوسيط مقدمة خارجية ، فالعقل لو أدرك استحالة جعل
الحجية للظن فإنّ ذلك وحده كاف في نفي الحجية عن الظن.
الامر
الثالث : انّ
الاستلزامات العقلية قد تصنّف في قسم المستقلات العقلية وقد تصنّف في قسم غير
المستقلات العقلية ، وذلك يتوقف على سنخ المقدمة الخارجية التي إذا انضمت الى
القضية الاستلزامية انتجت النتيجة الشرعية ، فإن كانت المقدمة عقلية فإنّ القضية
الاستلزامية تصبح من المستقلات العقلية وان كانت المقدمة شرعية فالقضية
الاستلزامية تكون من غير المستقلات العقلية.
على انّ بعض
الاستلزامات العقلية لا يكون إلاّ من قبيل المستقلات العقلية ، إذ انّ المقدمة
التي تنضم اليه
لغرض انتاج الحكم
الشرعي لا تكون إلاّ عقليّة.
ومثال هذا البعض
من الاستلزامات هو الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، فإن هذه القضية
الاستلزامية لا تنضم اليها لغرض انتاج الحكم الشرعي إلاّ مقدمة عقلية كما هو واضح.
* * *
٨٤ ـ الاستنباط
الاستنباط في
اللغة بمعنى الاستخراج والإظهار بعد الخفاء ، وهو في مصطلح الأصوليّين يعني البحث
في الأدلّة المعتبرة شرعا لغرض الوصول إلى الحكم الشرعي ، فهو بذلك يساوق معنى
الاجتهاد الذي هو استفراغ الوسع ، والنظر في الأدلّة المعتبرة شرعا من أجل استخراج
الأحكام الشرعيّة منها.
فالاستنباط هو
العمليّة التي يمارسها الفقيه حينما يكون بصدد استكشاف الحكم الشرعي من الكتاب
والسنّة ، فحينما يلاحظ الفقيه الروايات مثلا ويجمع بينها ويقف على مفرداتها
ويلاحق القرائن المحيطة بها ويستفرغ وسعه في سبيل استظهار المعنى المتحصّل منها
وفقا للضوابط اللغويّة والمناسبات العرفيّة فإنّ هذه العمليّة بمجموعها يعبّر عنها
بالاستنباط ، لأنّها تنتج استخراج الحكم الشرعي والوصول إليه.
* * *
٨٥ ـ اسم الجنس
وقع الخلاف بين
الأعلام فيما هو الموضوع له اسم الجنس ، فذهب المشهور الى انّ اسم الجنس موضوع
للماهية المطلقة ، أي الطبيعة الملحوظ فيها التجرّد عن تمام القيود ، فيكون لحاظ
التجرّد عن القيود مأخوذا فيما وضع له اسم الجنس.
وبتعبير آخر : انّ
اسم الجنس موضوع للطبيعة بقيد الإطلاق ، فيكون الإطلاق جزء المعنى الموضوع اسم
الجنس والجزء الآخر هو الطبيعة. ومن هنا تكون افادة اسم الجنس لاستيعاب أفراد
الطبيعة بالوضع ، فحينما يقال : « أكرم العالم » يكون العموم والاستيعاب لتمام
أفراد طبيعة العالم مستفادا بواسطة الوضع فلا تكون ثمة حاجة الى مقدمات الحكمة
لاستفادة الإطلاق.
وفي مقابل هذه
الدعوى ذهب جمع من المحققين الى انّ الموضوع له اسم الجنس هو الماهية المهملة
المجردة عن تمام القيود واللحاظات حتى لحاظ التجرّد عن القيود ، فاسم الجنس موضوع
لذات الطبيعة بما هي ، ويكون الإطلاق كالتقييد يعرض الطبيعة أو لا يعرضها.
ومن هنا يكون
استفادة الإطلاق والاستيعاب من الطبيعة بواسطة قرينة الحكمة. واستدلّ لصالح هذه
الدعوى بالوجدان وانه لا نشعر بأيّ عناية عند ما يستعمل اسم الجنس في الطبيعة مع
لحاظ أحد القيود بنحو تعدّد الدال والمدلول ، والحال انه لو كان موضوعا للطبيعة
المطلقة لكان لحاظ القيود معها مناف لما وضع له اسم الجنس وهذا ما لا نستشعره عند
استعمال اسم الجنس في الطبيعة مع لحاظ أحد القيود ، وهو أمارة وجدانية على صحة
الدعوى ، إذ ان استعمال اللفظ في غير ما وضع له يستبطن مئونة زائدة يستشعرها أهل
الانس باللغة.
ومن هنا يتضح ان
اسم الجنس موضوع لذات الطبيعة ، والتقييد والإطلاق يعرضان عليها ويكون الكاشف عن
عروض أحدهما هو القرينة الخارجة عن نطاق اسم الجنس ، أي انّ اسم الجنس يظلّ مفيدا
للطبيعة وتكون استفادة
الإطلاق والتقييد
من دال آخر. وهذا هو معنى ان استفادة الاطلاق والتقييد بنحو تعدّد الدال والمدلول.
وكيف كان فيمكن
التمثيل لاسم الجنس بتمام المفاهيم المعبّر عنها في المنطق بالمفاهيم الكليّة ،
فهو يشمل الجواهر مثل الإنسان والحجر والأعراض كالبياض والسواد والعرضيات كالأبيض
والأسود والمفاهيم الاعتبارية كالملكية والزوجية والمفاهيم الانتزاعية كالعلّية
والفوقية وغيرها.
ولمزيد من البيان
في اسم الجنس لاحظ عنوان « اعتبارات الماهية » « والكلّي الطبيعي » « النكرة ».
* * *
٨٦ ـ الاشتراك اللفظي
المراد من المشترك
اللفظي هو اللفظ الموضوع بوضعين أو أكثر على ان يكون المعنى الموضوع له اللفظ في
كلّ وضع مغايرا للمعنى الموضوع له نفس اللفظ في الوضع الآخر ، فيكون اللفظ متحدا
والمعنى متعددا بتعدد الأوضاع.
ومثاله : لفظ
القرء ـ كما قيل ـ فإنّه موضوع لمعنى الطهر وموضوع بوضع آخر لمعنى الحيض.
وباتضاح ذلك نقول
: انه قد وقع النزاع بين الأعلام في المشترك اللفظي من حيث امكانه أو امتناعه أو
وجوبه ، والمشهور بينهم هو الإمكان وفي مقابل دعوى المشهور ذهب البعض الى وجوب
تحقق المشترك اللفظي في اللغة ، وتبنى السيد الخوئي رحمهالله وآخرون امتناع وجود المشترك اللفظي في اللغة.
أما دعوى الوجوب
فمدركها ـ كما ذكر صاحب الكفاية رحمهالله ـ هو عدم تناهي المعاني رغم انّ الألفاظ متناهية ، وهذا ما
يستوجب نشوء الاشتراك اللفظي لغرض استيعاب
تلك المعاني الغير
المتناهية.
والظاهر انّ
المراد من عدم تناهي المعاني هو كثرتها ، إذ هو المناسب للنتيجة بخلاف ما هو
المستظهر من عبائر صاحب الكفاية رحمهالله.
وأما دعوى امتناع
المشترك اللفظي في اللغات فمدركها انّ الاشتراك اللفظي يتنافى مع الغرض من الاوضاع
اللغوية ، وذلك لأنّ الغرض من الوضع هو تفهيم المراد للمخاطب ، وواضح انّ المخاطب
لا يتهيأ له التعرّف على المراد بواسطة المشترك اللفظي باعتبار تحمله لأكثر من
معنى.
وأما السيد الخوئي
رحمهالله فسلك طريقا آخر لإثبات الامتناع يتناسب مع مسلكه في الوضع
حيث ذهب هناك الى ان الوضع معناه التعهد والالتزام النفساني بأنّه متى ما جاء بلفظ
معين فإنّه لا يقصد سوى معنى معين فلو قصد معنى آخر كان ناقضا لتعهده.
وأما دعوى الامكان
فمدركها عدم لزوم محذور عقلي من وقوعه كما انّ الوقوع أقوى شاهد على الإمكان ،
ودعوى منافاة الاشتراك اللفظي للغرض من الوضع غير مسلّمة ، إذ انّ الغرض من الوضع
لا يختص بتفهيم المراد فقد يتعلّق الغرض بالإجمال ، على انّه يمكن التخلّص عن
الإجمال الناشئ عن الاشتراك اللفظي بواسطة القرينة. وأما دعوى السيد الخوئي
المتناسبة مع مسلكه في الوضع فغير تامة لعدم تمامية أصل المبنى عندهم.
* * *
٨٧ ـ الاشتراك المعنوي
اللفظ قد يوضع
بإزاء مفهوم كلّي فيكون ذلك الوضع مصححا لاستعمال اللفظ في مصاديق ذلك الكلّي دون
ان يكون الاستعمال ناشئا عن وضع اللفظ بأوضاع متعددة ، فلفظ الإنسان مثلا قد وضع
بإزاء مفهوم كلّي هو
الحيوان الناطق ،
وحينئذ صحّ استعمال لفظ الإنسان في زيد وبكر وخالد باعتبار انّ هذه الأفراد مصاديق
لمفهوم الحيوان الناطق ، فاستعمال لفظ الإنسان في كل واحد من هذه الأفراد لم ينشأ
عن وضع لفظ الإنسان لكل واحد بوضع على حدة بل نشأ عن وضع لفظ الإنسان للحقيقة
المشتركة بين هذه الافراد ، ومن هنا كان لفظ الإنسان مشتركا معنويا.
فالمشترك المعنوي
هو اللفظ الموضوع للمعنى الكلّي والذي يكون استعماله في أفراد المعنى الكلّي بلحاظ
اشتراك هذه الافراد في صدق المفهوم الكلّي عليها.
ومنشأ التعبير عن
هذا الاشتراك بالمعنوي هو انّ المصحح لاستعمال اللفظ في المعاني المختلفة هو
اشتراكها في المعنى الكلّي الموضوع له اللفظ ، على ان يكون استعمال اللفظ فيها
بلحاظ ذلك المعنى الكلّي المشترك ، وذلك في مقابل الاشتراك اللفظي ، حيث انّ
المصحح لاستعمال اللفظ في المعاني المختلفة هو انّ اللفظ قد وضع بأوضاع متعددة
لهذه المعاني وإلاّ فهي متباينة فيما بينها وقد لا يكون بينها جامع مشترك ، ولو
كان لها جامع مشترك فإنّ استعمال اللفظ في تلك المعاني لا يكون بلحاظه ، فاستعمال
لفظ العين في الباصرة والجارية انّما هو بمناط انّ لفظ العين وضع لكل واحد من
المعنيين بوضع على حدة.
وبهذا يتضح انّ الاشتراك
المعنوي يمتاز عن الاشتراك اللفظي بامور :
الاول : انّ الاشتراك المعنوي يكون معه اللفظ موضوعا لمفهوم كلّي
، وأما الاشتراك اللفظي فقد يكون معه اللفظ موضوعا لمعنى كلّي وقد يكون موضوعا
لمعنى شخصي.
الثاني : انّه لا يوجد في الاشتراك المعنوي سوى وضع واحد وهو وضع
اللفظ بإزاء معنى كلّي ، وأما الاشتراك
اللفظي فهو منوط
بوضع اللفظ الواحد بأوضاع متعددة ، بمعنى أنّ كل واحد من تلك المعاني موضوع له
اللفظ بوضع مستقل.
الثالث : انّ المصحّح لاستعمال اللفظ في المعاني المتعددة في
موارد الاشتراك المعنوي هو اشتراك هذه المعاني في معنى كلّي هو المعنى الموضوع له
اللفظ ، وأمّا المصحح لاستعمال اللفظ في المعاني المتعددة في موارد الاشتراك
اللفظي فهو انّ ذلك اللفظ وضع لكلّ واحد من تلك المعاني بوضع مستقلّ.
الرابع : انّه لا يمكن افتراض التباين التام بين المعاني في موارد
الاشتراك المعنوي ، بل لا بدّ وان يكون بينها قاسم مشترك هذا القاسم هو المعنى
الكلّي الموضوع له اللفظ ، وأما تباين المعاني في موارد الاشتراك اللفظي فقد يكون
تباينا تاما.
وبما ذكرناه يتضح
انّ المشترك المعنوي هو عبارة عن اللفظ الموضوع للجامع ويكون استعماله في أفراد
الجامع بلحاظ انّ هذه الافراد منطبق لذلك الجامع.
ثم انّه ليس
المقصود من الأفراد هو خصوص الأفراد الشخصية فقد تكون كذلك كما لو كانت علاقتها
بالجامع علاقة النوع بأفراده ، وقد لا يكون كذلك ، كما لو كانت علاقة المصاديق
بالجامع علاقة الجنس بأنواعه ، فإنّ المصاديق في هذا الفرض تكون كلية ، كما انّه
قد تكون أفراد الجامع بمعنى مراتبه المشككة كما هو الحال في مفهوم الوجود ومفهوم
النور.
على انّ المعنى
الكلّي الموضوع له اللفظ في موارد الاشتراك المعنوي لا يختص بالجامع الحقيقي
لأفراده بل يشمل الجامع الصنفي كما هو الحال في استعمال لفظ رجل في زيد وبكر وخالد
، رغم انّ لفظ رجل ليس جامعا حقيقيا لهذه الأفراد ، وانّما هو
جامع صنفي ، بمعنى
انّ الجامع بين هذه الأفراد هو خصوصية عرضية مشتركة وليست خصوصية ذاتية.
نعم الظاهر انّ
الاشتراك المعنوي لا يصدق لو كان الجامع بين الأفراد خفيا حتى وان كان جامعا ذاتيا
، فليس المناط في صدق الاشتراك المعنوي هو اشتراك مجموعة من الأفراد في الجامع
الموضوع له اللفظ بل لا بدّ وان يكون اشتراك الأفراد في ذلك الجامع مأنوسا ومألوفا
عرفا.
* * *
٨٨ ـ أصالة الإطلاق
أصالة الإطلاق أصل
لفظي يتمسّك به في ظرف الشكّ في إرادة المتكلّم للإطلاق إلاّ أنّ ذلك لا يصحّ إلاّ
حينما يكون لكلام المتكلّم ظهور اقتضائي في الإطلاق.
فحينئذ يكون
الرجوع إلى أصالة الإطلاق منتجا لإحراز المراد الجدّي للمتكلّم وأنّه أراد الإطلاق
من كلامه ولم يكن مريدا للتقييد.
مثلا : لو قال
المتكلّم ( أكرم عالما ) فإنّ هذا الخطاب ظاهر في الإطلاق كما هو مقتضى الضوابط
اللغويّة والمناسبات العرفيّة إلاّ أنّه قد نحتمل أنّ المتكلّم أراد التقييد من
كلامه أي أنّه لم يكن مريدا لمطلق العالم وإنّما أراد العالم العادل.
وحينئذ يأتي دور
أصالة الإطلاق لينفي هذا الاحتمال لعدم وجود قرينة تدلّ عليه ، وبذلك يتمّ إحراز
أنّ ما كان ظاهرا من كلام المتكلّم بنحو الظهور الاقتضائي هو ما كان مريدا له
جدّا.
ولمزيد من التوضيح
راجع ما ذكرناه تحت عنوان الأصول اللفظيّة وعنوان أصالة الظهور.
* * *
٨٩ ـ أصالة الحسّ
المعروف بين
الأصوليّين أنّ حجّيّة خبر الثقة وكذلك البيّنة منوط بظهور
حال المخبر في
أنّه يخبر عن حسّ لا عن حدس ، لأنّ الخبر الحدسي اجتهاد وإعمال للنظر وهو غير حجّة
إلاّ على المجتهد نفسه ومقلّديه.
والمراد من الخبر
الحسّي هو الذي تلقّاه المخبر بواسطة واحد من مدركاته الحسّيّة. فحينما يخبر عن
موت زيد فإنّ خبره لا يكون حسّيّا إلاّ أن يكون قد رأى بنفسه موت زيد أو سمع ممّن
رأى ، أمّا لو سمع بكاء في بيت زيد فحدس أنّه قد مات ، فلو أخبر بعدئذ عن موته
اعتمادا على ذلك فإنّ خبره يكون حدسيّا.
ومع اتّضاح المراد
من الخبر الحسّي نقول : إنّه لو وقع الشكّ في خبر مخبر وأنّه أخبر به عن حسّ أو
أخبر به عن حدس فإنّ أصالة الحسّ في الإخبارات تقتضي البناء على حسيّة الخبر.
وإلغاء احتمال الحدس.
فأصالة الحسّ تعني
البناء على ظهور حال المخبر في أنّ ما أخبر به كان عن حسّ ، وهو بناء عقلائي يلجأ
إليه العقلاء حين الشكّ في حدسيّة الخبر إلاّ أنّ اعتماد هذا الأصل عند العقلاء
منوط بشروط ثلاثة :
الشرط
الأوّل : أن لا تكون
ثمّة قرينة على أنّ المخبر يخبر عن حدس.
الشرط
الثاني : أن يكون مضمون
الخبر ممّا يمكن تحصيله بواسطة الحسّ ، أمّا إذا لم يكن كذلك فإنّ أصالة الحسّ لا
تجري في مورده.
فمثلا : لو أخبر
الفلكي أنّ الهلال ولد في ساعة كذا فإنّ مضمون هذا الخبر لا يمكن تحصيله بواسطة
الحسّ فلا يجري فيه الأصل بخلاف ما لو أخبر بدخول الشهر القمري فإنّ من المحتمل أن
يكون إخباره عن حسّ ، وإنّه رأى الهلال فأخبر بدخول الشهر. وحينئذ لوقع الشكّ في
أنّ إخباره كان عن حدس أو حسّ فإنّه يصحّ اللجوء لأصالة الحسّ فيتنقّح بذلك موضوع
حجّيّة خبر الثقة.
الشرط
الثالث : أن يكون
الإخبار عن حسّ مناسبا لشأن المخبر ، أمّا لو لم تكن له شأنيّة الإخبار عن حسّ
فإنّ البناء على أصالة الحسّ في الفرض المذكور لا يصحّ.
فمثلا : لو كان المخبر
مسجونا وأخبر بدخول الشهر القمري وأحرزنا عدم اتّصاله بمن يمكنه رؤية الهلال ،
فإنّ هذا الخبر وإن أمكن تحصيله بواسطة الحسّ إلاّ أنّه في الفرض المذكور يتعيّن
صدوره عن حدس ، وذلك لملاحظة شأن المخبر وأنّه من غير الممكن أن يخبر بمثل هذا
الخبر عن حسّ نظرا لحيلولة السجن بينه وبين مشاهدة الأفق أو الاتّصال بمن يمكنه
مشاهدته.
* * *
٩٠ ـ أصالة العموم
أصالة العموم أصل
لفظي يتمسّك به في ظرف الشكّ في إرادة المتكلّم للعموم إلاّ أنّ ذلك لا يصحّ إلاّ
حينما يكون للكلام ظهور اقتضائي في العموم ، فحينئذ يكون الرجوع إلى أصالة العموم
منتجا لإحراز المراد الجدّيّ للمتكلّم وأنّه أراد العموم من كلامه ولم يكن مريدا
للخصوص.
ولمزيد من التوضيح
راجع ما ذكرناه تحت عنوان الأصول اللفظيّة.
* * *
٩١ ـ أصالة عدم التذكية
المراد من التذكية
هو إزهاق نفس الحيوان بالوسائل المقررة شرعا مع التحفظ على الشرائط المعتبرة في
وقوع التذكية عند الشارع ، ومع عدم مراعاة ذلك يكون الحيوان في عداد الميتة.
ولمّا كانت
التذكية أمرا حادثا فهي مسبوقة بالعدم ، ومن هنا كان المراد من أصالة عدم التذكية
هو استصحاب عدم التذكية ، وفي كل مورد يكون استصحاب عدم التذكية جاريا يكون مقدما
على أصالة الحل إما بنحو
الحكومة أو بنحو
الورود ، وذلك لأن استصحاب عدم التذكية يكون أصلا موضوعيا بالنسبة لاصالة الحل
فينفي موضوعها ، إذ ان موضوعها هو الشك في الحلية واستصحاب عدم التذكية ينفي الشك
في الحلية ، فلا موضوع حينئذ لاصالة الحل.
وبتعبير آخر : انّ
استصحاب عدم التذكية يعالج موضوع الأثر الشرعي والذي هو الحرمة فموضوع الحرمة هو
عدم التذكية وموضوع الحلية الواقعية هو وقوع التذكية كما انّ موضوع الحلية
الظاهرية لو كانت هو الشك في التذكية. فاستصحاب عدم التذكية ينقح موضوع الحرمة
ويلغي موضوع الحلية الظاهرية « أصالة الحل » ، إذ ان الاستصحاب ينزّل الشك في
التذكية وعدمها منزلة اليقين بعدم التذكية ، وهذا ما يوجب عدم جريان أصالة الحل ،
إذ انّ الاحكام تابعة لموضوعاتها وبانتفاء الموضوع ينتفي الحكم ، والذي هو في
المقام أصالة الحل.
وحتى يكون مجرى
أصالة عدم التذكية واضحا لا بدّ من بيان أقسام الشك في حرمة وحلية اللحم ، فنقول :
ان الشك تارة يكون بنحو الشبهة الموضوعية ، واخرى يكون بنحو الشبهة الحكمية.
أما الشك بنحو
الشبهة الموضوعية فقد ذكر له السيد الخوئي رحمهالله أربعة أنحاء :
النحو
الاول : ان يكون الشك
ناشئا عن الجهل بعنوان الحيوان الذي وقعت عليه التذكية يقينا ، بمعنى عدم تشخّص
هوية هذا الحيوان المذكى ، وهل هو من الحيوانات المحللة أو من الحيوانات المحرمة ،
فالشبهة في هذا الفرض موضوعية وإلاّ فنحن نعرف الحيوانات المحللة من المحرمة إلاّ
انّ الجهل من جهة عنوان هذا المذكى لعدم الاطلاع على رأسه مثلا.
ومثال هذا الفرض
ما لو افترض
الاطلاع على تذكية
هذا الحيوان إلاّ انّه وقع الشك من جهة انّه شاة أو ذئب ، وهنا لا إشكال في عدم
جريان أصالة عدم التذكية ، وذلك لإحراز وقوعها كما هو الفرض إلاّ انّه هل تجري
أصالة الحل في هذا اللحم أو لا؟.
ذهب السيد الخوئي رحمهالله الى جريانها دون الحاجة الى الفحص عن هوية هذا اللحم. وذلك لعدم لزوم الفحص
لإجراء الاصل في الشبهات الموضوعية. إلاّ انّ بعض الأعلام تمسّك باستصحاب حرمة
الأكل ، وذلك للعلم بالحرمة قبل زهاق الروح ونشك بعد التذكية في ارتفاعها بسبب
الشك في كون المذكى من مأكول اللحم أو لا. ونسب للشهيد الاول رحمهالله ظاهرا التمسّك بأصل عبر عنه بأصالة الحرمة في اللحوم.
النحو
الثاني : ان نحرز وقوع
التذكية وانها وقعت على حيوان محلل الأكل ذاتا إلاّ انّ الشك من جهة احتمال انّ
هذا الحيوان قد طرأ عليه ما يوجب المنع من قابليته للتذكية ، كاحتمال انّه وطئ من
قبل انسان أو ارتضع من لبن خنزيرة أو عرض له جلل.
وهنا أيضا لا تجري
أصالة عدم التذكية لأنها محرزة كما هو الفرض ، غايته اننا نشك في قابلية هذا
الحيوان للتذكية من جهة احتمال عروض ما يمنع عن القابلية للتذكية ، وباستصحاب عدم
عروض المانع مع احراز وقوع التذكية تثبت الحلية.
النحو
الثالث : ان نحرز أيضا
وقوع التذكية إلاّ انّه يقع الشك من جهة قابلية هذا الحيوان ذاتا لأن تقع عليه
التذكية. والفرق بين هذا النحو من الشك والنحو الاول انّ الشك في النحو الاول ليس
من جهة قابلية المذكى للتذكية بل انّ القابلية محرزة والشك انما هو من جهة حلية
لحمه أو عدمها مع الفراغ عن قابليته للتذكية ، إذ لا ملازمة بين القابلية للتذكية
وبين حلية
لحم القابل
للتذكية.
وكيف كان فمثال ما
نحن فيه هو ما لو أوقع المكلّف التذكية في الظلمة أو كان أعمى وشك في انّ الحيوان
الذي أوقع التذكية عليه هل هو شاة حتى يكون قابلا للتذكية أو هو خنزير فلا يكون
قابلا للتذكية.
وهنا يكون جريان
الاستصحاب وعدم جريانه يختلف باختلاف المباني ، فإن كان البناء هو قابلية كل حيوان
للتذكية إلاّ ما قام الدليل الخاص في مورد على عدم قابليته لها ، وكان البناء أيضا
على جريان استصحاب العدم الأزلي في العناوين الذاتية فإن مجموع ذلك ينقح حلّية
اللحم الذي وقع الشك فيه من جهة قابليته للتذكية.
وبيان ذلك : انّ
استصحاب العدم الأزلي لو كان جاريا في العناوين الذاتية فإنّ بالإمكان استصحاب عدم
تعنون هذا الحيوان بالعنوان الغير القابل للتذكية ، بمعنى استصحاب عدم خنزيرية هذا
الحيوان المحرزة حين لم يكن هذا الحيوان موجودا ، فإنّ هذا الحيوان حينما كان في
حيّز العدم لم يكن متعنونا بعنوان الخنزير وبعد ان وجد هذا الحيوان نشك في تعنونه
بعنوان الخنزيرية فنستصحب عدم خنزيريته الثابتة في الأزل. كما هو الحال في استصحاب
عدم قرشية هذه المرأة إذ انّ عدم القرشية كان محرزا عند ما لم تكن هذه المرأة
موجودة ، فاستصحاب عدم القرشية من استصحاب العدم الأزلي ، غايته انّ استصحاب عدم
القرشية استصحاب لعدم عنوان غير ذاتي للمرأة وان كان هذا العنوان ملازما لوجود
المرأة لو كانت واقعا قرشية.
أما استصحاب عدم
الخنزيرية فإنّه استصحاب لعدم عنوان ذاتي للحيوان. ولمزيد من التوضيح راجع عنوان «
العدم الازلي ».
وباتضاح ذلك نقول
: لو تم استصحاب عدم الخنزيرية لتنقح بذلك مصداق لعموم انّ كلّ حيوان قابل للتذكية
، وبه تثبت حلية هذا اللحم المردد من جهة قابليته للتذكية ، ولا تجري حينئذ أصالة
عدم التذكية.
أما لو كان البناء
هو عدم تمامية هذا العموم وعدم تمامية جريان استصحاب العدم الأزلي في العناوين
الذاتية أو لا أقل عدم تمامية أحدهما فإنّ النتيجة تختلف.
فبناء على انّ
التذكية عبارة عن فري الاوداج الاربعة مع مراعاة الشرائط المعتبرة فإنّ استصحاب
عدم التذكية لا يجري ، وذلك لاحراز وقوعها بهذا المعنى ـ كما هو المفترض ـ إلاّ ان
ذلك لا يعني الحلية ، إذ يمكن التمسك بأصالة الحرمة في اللحوم كما نسب الى الشهيد
الاول ، أو التمسّك باستصحاب الحرمة الثابتة قبل زهاق الروح كما ذهب لذلك البعض ،
نعم يمكن البناء على أصالة الحل على بعض المباني.
وبناء على انّ
التذكية أمر وجودي بسيط ينشأ عن فري الاوداج مع مراعاة الشرائط ، فليس فري الاوداج
إلاّ من قبيل السبب لتحقق التذكية وإلاّ فهو غير التذكية كما هو الحال في الطهارة
فإنها غير الوضوء نعم هي مسبّبة عنه ، لو كان البناء هو ذلك فإنّ الجاري عندئذ هو
أصالة عدم التذكية ، وذلك لانّه بعد وقوع فري الاوداج نشك في تحقق التذكية بسبب
الشك في قابلية هذا الحيوان لها ، فنستصحب عدم تحققها.
النحو
الرابع : ان نحرز قابلية هذا الحيوان للتذكية ونحرز أيضا انّه من
مأكول اللحم إلاّ انّ الشك من جهة وقوع التذكية وعدمها ، كما لو شككنا انّه مات
حذف أنفه أو ازهقت روحه بواسطة التذكية ، أو شككنا في توفر الذبح على تمام الشرائط
المعتبرة في
تحقق التذكية ،
كما لو وقع الشك في اسلام الذابح ، وهنا لا ريب في جريان أصالة عدم التذكية ، وذلك
للشك تحققها والأصل عدم التحقق.
هذا حاصل ما أفاده
السيد الخوئي رحمهالله في الشك بنحو الشبهة الموضوعية ، وأما الشك بنحو الشبهة
الحكمية فكذلك له أربعة أنحاء.
النحو
الأول : ان نحرز وقوع
التذكية خارجا كما نحرز عنوان الحيوان الذي وقعت عليه التذكية إلاّ انّه يقع الشك
في حلية اللحم المذكى من جهة عدم وجود دليل على الحلّية ، كما لو وقع الشك في حلية
الغراب بعد تذكيته بسبب عدم الدليل على الحلية أو الحرمة مثلا.
فهنا لا تجري
أصالة عدم التذكية وانما الجاري هو أصالة الحل إلاّ ان يقال بأصالة الحرمة في
اللحوم أو باستصحاب الحرمة الثابتة قبل زهاق الروح كما ذكر البعض.
النحو
الثاني : ان نحرز وقوع
التذكية بمعنى فري الاوداج مع مراعاة الشرائط المعتبرة إلاّ انّ الشك نشأ من جهة
قابلية الحيوان للتذكية كما لو تولّد الحيوان من حيوانين أحدهما قابل للتذكية
والآخر غير قابل لها ولم نكن نحرز تعنونه بأحد العنوانين.
فهنا لو كان عموم
مفاده قابلية كل حيوان للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل الخاص ، فإنّه يمكن التمسك
بالعموم لاثبات قابلية هذا الحيوان للتذكية ، وذلك لاحراز حيوانيته وهو ما ينقّح
موضوعيته للعموم.
وأما لو لم يكن
ثمة عموم من هذا القبيل فإنّ المرجع حينئذ هو أصالة عدم التذكية لو كان البناء على
انّها أمر بسيط ـ كما هو مبنى السيد الخوئي رحمهالله ـ وذلك لانّ الشك في القابلية للتذكية يساوق الشك في تحقق
التذكية والاصل العدم ، وأما مع البناء على انّ التذكية هي فري الاوداج فإنّه
محرز بالوجدان فلا
تجري أصالة عدم التذكية.
النحو
الثالث : مثل الثاني
إلاّ انّ الشك نشأ عن احتمال عدم القابلية للتذكية بسبب ما طرأ على الحيوان من
عوارض أوجبت الشك في بقاء قابليته للتذكية ، كما لو كان الشك من جهة احتمال مانعية
الجلل لقابلية الحيوان للتذكية. والاصل الجاري في المقام هو عدم المانعية.
النحو
الرابع : ان ينشأ الشك
من جهة احتمال اعتبار شرط في التذكية بالاضافة للشروط الاخرى ، كما لو احتملنا
اعتبار ان يكون الذابح اماميا أو اعتبار الذبح بالحديد.
وهنا ذهب السيد
الخوئي رحمهالله الى جريان أصالة عدم التذكية ، وذلك لأن الشك في اعتبار
شرط زائد يساوق الشك في تحقق التذكية بدونه ، والاصل عدمها.
* * *
٩٢ ـ أصالة عدم التقدير
أصالة عدم التقدير
أصل لفظي يتمسّك به في ظرف الشكّ في وجود لفظ مقدّر في كلام المتكلّم أراده إلاّ أنّه
لم يصرّح به.
وفائدة الرجوع
لأصالة عدم التقدير هو نفي احتمال التقدير والذي لو كان ثابتا لكان معنى الكلام
مختلفا عمّا هو عليه دون تقدير.
مثلا لو قال
المولى : ( الغناء حرام ) فإنّ ظاهر هذا الخطاب هو حرمة فعل الغناء وحرمة استماعه
، وذلك لأنّ عدم ذكر متعلّق الحرمة يقتضي الظهور في العموم الشامل أعمّ من فعل
الغناء واستماعه.
إلاّ أنّه لو وقع
الشكّ في التقدير وأنّ المولى أراد من قوله : ( الغناء حرام ) ( أنّ فعل الغناء
حرام ) فإنّ المعنى سوف يختلف عمّا هو المناسب للظهور الاقتضائي حيث ستتمحّض
الحرمة
بذلك في فعل الغناء
دون استماعه.
فإنّ هذا الاحتمال
وارد فإنّ نفيه يحتاج إلى مستند. وهنا يأتي دور أصالة عدم التقدير ـ والذي هو أصل
عقلائي ـ لينفي هذا الاحتمال ولينتج إحراز إرادة المتكلّم لما هو المناسب للظهور
الاقتضائي من كلامه.
ولمزيد من التوضيح
راجع ما ذكرناه تحت عنوان الأصول اللفظيّة وعنوان أصالة الظهور.
* * *
٩٣ ـ أصالة عدم الغفلة
قد أوضحنا المراد
من هذا الأصل اللفظي تحت عنوان أصالة الظهور.
* * *
٩٤ ـ أصالة عدم القرينة
قد أوضحنا المراد
من هذا الأصل اللفظي تحت عنوان أصالة الظهور.
* * *
٩٥ ـ أصالة عدم النقل
والاشتراك
إذا كان لفظ
موضوعا لمعنى ثمّ اتّفق أن هجر هذا المعنى ليوضع اللفظ بإزاء معنى آخر فإنّ المعنى
الأوّل يعبّر عنه بالمنقول ، كما يعبّر عن حالة الهجران من المعنى الأوّل للفظ إلى
المعنى الثاني بالنقل.
وإذا كان لفظ
موضوعا لمعنيين مختلفين كلّ وضع على حدة فإنّ هذا اللفظ يعبّر عنه بالمشترك اللفظي
، ومثاله لفظ ( العين ) فإنّه مشترك لفظي لأنّه موضوع للجارحة المبصرة ، وموضوع
بوضع آخر لينبوع الماء.
وباتّضاح ذلك نقول
: حين إحراز النقل فالظهور يكون في جانب المعنى المنقول إليه اللفظ ، وحين إحراز
الاشتراك في لفظ من الألفاظ فلا بدّ من القرينة لتعيين أحد المعنيين وإلاّ كان
الكلام مجملا.
أمّا حينما لا
يكون النقل محرزا وكان
المقدار المحرز هو
أنّ هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى ووقع الشكّ في النقل إلى معنى آخر فما هو المرجع
في مثل هذا الفرض؟ الجواب هو أنّ المرجع أصالة عدم النقل.
فأصالة عدم النقل
أصل لفظي يتمسّك به في حالات الشكّ في هجران المعنى الموضوع له اللفظ إلى معنى آخر
، والمصحّح للرجوع إلى هذا الأصل هو البناء العقلائي القاضي باعتماد ما يظهر من
اللفظ دون الاعتناء باحتمال هجران المعنى المستظهر إلى معنى آخر ، ولمزيد من
التوضيح راجع ما ذكرناه تحت عنوان أصالة الثبات في اللغة.
وحينما يشتمل كلام
المتكلّم على لفظ ويكون ظاهرا في معنى إلاّ أنّه يقع الشكّ في أنّ اللفظ المذكور
مشترك لفظي ، أو أنّه ليس كذلك. ومن الواضح أنّه لو كان مشتركا لفظيّا لكان معنى
اللفظ مجملا ، فيدور الأمر بين الظهور والإجمال أي أنّ اللفظ لو كان مشتركا لكان
مجملا أمّا إذا لم يكن مشتركا فالمتعيّن هو إرادة المعنى المنسبق للذهن.
وهنا يأتي دور
أصالة عدم الاشتراك لينفي احتمال الاشتراك فينعقد بذلك الظهور في التطابق بين
المعنى المستظهر بدوا من اللفظ وبين المراد الجدّي ، أي يتمّ بأصالة عدم الاشتراك
إحراز إرادة المتكلّم للمعنى المستظهر بدوا من اللفظ.
ومستند هذا الأصل
هو البناء العقلائي القاضي بعد الاعتناء باحتمال إرادة غير المعنى المستظهر من
اللفظ.
* * *
٩٦ ـ الأصل
الأصل في اللغة هو
ما يبنى عليه الشيء ويطلق كذلك على المستند والمرجع ، وهذا المعنى قد يستعمل في
كلمات الاصوليين ـ كما هو الملاحظ
من اطلاقهم لفظ
الأصل على بعض المجاميع الروائية ـ فمقصودهم عندئذ من الأصل المرجع والمآل في مقام
التعرّف على الحكم الشرعي.
وبهذا يعم الاصل
مطلق الوسائل العقلائية والشرعية التي يمكن الوصول بواسطتها الى النتيجة الشرعية ،
فوسائل المعرفة كالاخبار المتواترة والاحكام العقلية القطعية وكذلك الأمارات
الظنية المعتبرة والاصول العملية الشرعية والعقلية كلها مشمولة لعنوان الأصل بهذا
المعنى.
ثم انّ الفاضل
التوني رحمهالله نقل عن الشهيد الثاني رحمهالله في تمهيد القواعد انّ الأصل يطلق على معان أربعة :
الاول : هو الدليل ، والظاهر انّ مقصوده من الدليل هو مطلق ما
ثبتت حجيته ودليليته على الحكم الشرعي الواقعي دون الظاهري كالكتاب والسنة ، وذلك
بقرينة تمثيله بالكتاب المجيد والسنة الشريفة واعتباره الاستصحاب استعمالا آخر للفظ
الأصل ، إلاّ ان يكون الاستصحاب دليلا اجتهاديا فيكون مراده من الدليل هو خصوص
الكتاب والسنة.
الثاني : انّ الاصل يطلق ويراد منه الراجح ، فعند ما يقال الأصل
في الكلام الحقيقة يكون المراد انّ الراجح
عند دوران الأمر
بين الحقيقة والمجاز هو الحقيقة.
الثالث : الاستصحاب ، فإنّه كثيرا ما يطلق لفظ الأصل ويراد منه
الاستصحاب.
الرابع : انّ الاصل يطلق ويراد منه القاعدة ، أي الضابطة الكلية
المتصيدة أو المستفادة من الأدلة المعتبرة ، فعند ما يقال : « الأصل في البيع
اللزوم » فإنّ المقصود هو انّ مقتضى القاعدة المستفادة من الأدلة هو لزوم البيع في
كل مورد وقع الشك في جوازه أو لزومه.
والظاهر انّ مآل
هذه الاستعمالات الاربعة للفظ الأصل الى معنى واحد وهو المرجعية ، فالمرجع للتعرّف
على الحكم الشرعي هو الدليل كما انّ المرجع لتشخيص نحو الاستعمالات مثلا هو
الراجحية الناشئة عن مبرراتها ، وهكذا الكلام في المعنى الثالث والرابع.
* * *
٩٧ ـ الأصل العملي
الأصل العملي هو
الدليل الذي تتحدّد به الوظيفة العملية المقرّرة للمكلف عند الشك في الحكم الواقعي
وعدم وجدان الدليل المحرز الأعم من القطعي والظني المعتبر.
فلا يكون المطلوب
من الأصل العملي الكشف عن الحكم الشرعي الواقعي بل ان دوره يتمحض في تحديد الوظيفة
العملية للمكلّف عند فقدان الدليل المحرز أو ما ينتج نتيجة الفقدان كاجمال الدليل
أو ابتلاؤه بالمعارض ، وهذا ما يعني انّ مرجعية الاصل العملي انّما تكون بعد
استفراغ الوسع في البحث عن الادلة المحرزة. فإن عثر على ما يصلح للكشف عن الحكم
الشرعي الواقعي فهو المعتمد والاّ فالمرجع هو الاصل العملي ، فموضوع الاصل العملي
الذي يترتب على تنقّحه جريانه هو فقدان الدليل الكاشف عن الحكم الواقعي.
ثم انّ الاصول
العملية برمّتها أحكام شرعية ظاهرية أو محددة للاحكام الشرعية الظاهرية بنحو قطعي
، بمعنى انّ الوظيفة المقرّرة بواسطة الاصل العملي وظيفة قطعية ، وذلك لقيام
الدليل القطعي حجيتها ومثبتيتها للحكم الظاهري ، ومن هنا يصحّ اسناد البراءة مثلا
الى الشارع ـ فيقال البراءة حكم ظاهري شرعي ـ ويكون ذلك الاسناد عن علم.
وما ذكرناه بتمامه
هو ما عليه
الإمامية « أعزّهم
الله » في العصر الحاضر وهو كذلك على امتداد تاريخ الفقه الإمامي ، غايته انّ
تبلور هذه الصياغة لم يكن بهذا الشكل إلاّ انّ ما عليه العمل في مقام استنباط
الحكم الشرعي من أدلته هو ما عليه العمل فعلا ، فهم يبدءون بالبحث عن الأدلة
القطعية ثم الأدلة الظنيّة المعتبرة والتي قام الدليل القطعي على حجيتها ودليليتها
ومع عدم العثور على نحو من أحدهما يلجئون الى الأصل العملي ، والتي هي وسيلة علمية
أيضا ـ لقيام الدليل القطعي على دليليتها ـ غايته انّها تحدد الحكم الشرعي الظاهري
بخلاف الأدلة المحرزة فإنّها تكشف عن الحكم الشرعي الواقعي.
وهذا يتضح بالتأمل
السريع في منهجيتهم المتبعة في مقام استنباط الأحكام الشرعية ، وبهذا يمتاز الفقه
الإمامي عن الفقه السنّي حيث انّهم يلجئون عند فقدان الدليل القطعي أو الذي قام
الدليل القطعي على حجيته ـ كالسنة الثابتة بخبر الثقة ـ الى الظنون والاعتبارات
الذوقية مثل الاستحسان وقياس مستنبط العلة حيث يعولون في استنباطها على التخمين
والحدس كما لا يخفى على كل من لاحظ منهجيتهم في الاستنباط.
ومن المناسب تقرير
ما أفاده السيد الصدر رحمهالله في مقام استعراض المراحل التاريخية التي مرّ بها الأصل
العملي الى ان بلغ هذه المرحلة التي هو عليها فعلا.
وستلاحظون انّ
الاصل العملي في تمام مراحله التاريخية ظل محتفظا بركنيه الأساسيين :
الاول : انّه وسيلة علميّة تتحدد بواسطته الوظيفة العملية
المقرّرة على المكلّف من قبل الشارع.
الثاني : انّ موقعه في المنهجية المتبعة في استنباط الحكم الشرعي
موقع المرجع والملجأ عند فقدان
الدليل الكاشف عن
الحكم الواقعي أو ما ينتج نتيجة الفقدان كاجمال الدليل او ابتلاؤه بالمعارض.
فالسيد المرتضى
علم الهدي والشيخ ابن ادريس الحلّي رحمهما الله أفادا بأنّ المصادر المعتمدة عندنا
في الاستنباط للحكم الشرعي هي الأدلة المنتجة للعلم فحسب ، فلا يصح التعويل على
الظنون والاعتبارات الذوقية المؤطرة بالقياس والاستحسان ، وهذه الأدلة العلمية هي
الكتاب المجيد والسنة الشريفة والإجماع المحصّل والعقل المنتج للقطع.
ثم طبقا الدليل
العقلي على مثل البراءة والمقصود منها البراءة العقلية المعبّر عنها عندهم
بالبراءة الأصلية ، فهم يدرجون الاصل العملي في اطار الدليل العقلي. ثم لمّا تطوّر
البحث الاصولي عند الإمامية أرجعوا البراءة العقلية الى الاستصحاب ، ويقصدون من
الاستصحاب الذي ترجع اليه البراءة العقلية هو استصحاب حال العقل ، بمعنى استصحاب
ما يدركه العقل من براءة ذمة المكلّف عن التكليف الواقعي غير المعلوم ، واستدلّوا
على البراءة العقلية بقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق ، إذ انّ التكليف بغير
المعلوم تكليف بما هو خارج عن القدرة فهو قبيح عقلا ، وهذا ما ينتج براءة الذمة عن
التكليف غير المعلوم ، وهذا هو المستظهر من عبائر المحقق الحلّي رحمهالله.
« ولمزيد من
التوضيح راجع استصحاب حال العقل ».
ثم في مرحلة
متأخرة عن هذه المرحلة استدلّ على البراءة ـ كما في المعتبر للمحقق الحلّي والدروس
للشهيد الاول رحمهما الله ـ بقاعدة « انّ عدم الدليل دليل العدم » وذلك انّ الفقيه
إذا استفرغ الوسع في بحثه عن الأدلة المحرزة للحكم الشرعي فلم يجد فيها ما يثبت أو
ينفي الحكم الشرعي المعين
فهذا ما ينقح عدم
الدليل وهو دليل العدم.
والمراد من أنّه
دليل العدم هو انّه دليل على عدم مسئولية المكلّف عن التكليف الواقعي الثابت في
نفس الأمر وهو معنى آخر للبراءة العقلية والتي هي حكم ظاهري مجعول في ظرف الجهل
بالحكم الواقعي ، وليس المراد من دليل العدم هو عدم وجود حكم شرعي في الواقع ، إذ
انّ ذلك مناف لما عليه الإمامية قاطبة من البناء على انّه ما من واقعة إلاّ ولها
حكم واقعي يصيبه المجتهد أو يخطأه.
وكيف كان فهذا
التعبير يوضح انّ البراءة عندهم من الأدلة العقلية القطعيّة إلاّ انّ موضوعها الذي
يترتّب عليه جريانها هو عدم وجدان الدليل المحرز للحكم الواقعي.
ثم في مرحلة
متأخرة عن المرحلة الآنفة الذكر صنفت البراءة وكذلك الاستصحاب في الامارات الظنية
التي قام الدليل القطعي على حجيتها ، وتميز في هذه المرحلة الاستصحاب عن البراءة ،
وهذا ما يتضح بملاحظة عبائر صاحب المعالم رحمهالله حيث صرّح بأنّ أصالة البراءة من الأدلة الظنية ، ومقصوده
التي قام الدليل القطعي على حجيتها.
ثمّ انّ المرحلة
التي تلت صاحب المعالم والشيخ البهائي رحمهما الله تبلور فيها الاصل العملي بشكل
أكثر مما عليه قبل هذه المرحلة وان الاصل العملي لا يعدو عن كونه وظيفة عملية.
ولعلّ أول من تنبّه لذلك ـ كما أفاد الشيخ الانصاري رحمهالله ـ هو صاحب شرح الوافية وهو السيد جمال الدين رحمهالله.
ثم انّ مفهوم
الاصل العملي أخذ في التبلور بشكل أدق وشبه متكامل في عصر الشيخ الوحيد البهبهاني رحمهالله حيث بلغ علم الاصول عموما في عصره مستوى ناضجا جدا ، وكان من رواد مدرسة
الوحيد البهبهاني رحمهالله
صاحب الحاشية
الكبرى على المعالم الشيخ محمد تقي رحمهالله ، وقد ساهم هذا العالم الجليل في تنضيج المفهوم من الأصل
العملي. ثم بلغ الاصل العملي غايته في الدقة على يد الشيخ الانصاري رحمهالله.
والبحث عن أقسام
الاصل العملي أوضحناه تحت عنوان « الاصول العملية ».
* * *
٩٨ ـ الأصل المثبت
والبحث في الاصل
المثبت عن ترتّب الآثار الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية للمستصحب بواسطة
الاستصحاب ، بمعنى انّ الاستصحاب هل يقتضي التعبّد بوجود اللوازم العقلية للمستصحب
، وعندئذ لو كانت لهذه اللوازم آثار شرعية يكون الاستصحاب مقتضيا لتنجزها أو انّ
أدلة الاستصحاب قاصرة عن إثبات هذا المقدار وان أقصى ما تقتضيه الأدلة هو التعبّد
ببقاء المستصحب ، وعندئذ تثبت الاحكام المجعولة للمستصحب أو الآثار الشرعية
للمستصحب والتي هي موضوعات لاحكام شرعية اخرى.
وبيان ذلك : انّ
الآثار الشرعية قد ترتب على نفس المستصحب ـ وهو المشكوك الذي له حالة سابقة متيقنة
ـ وقد تكون الآثار الشرعية مترتبة على اللوازم الشرعية للمستصحب ، وهناك حالة
ثالثة تكون الآثار الشرعية مترتبة على اللوازم العقلية أو العادية للمستصحب.
ومثال الصورة
الاولى : اطلاق الماء فإنّ الأثر الشرعي المترتّب عليه هو صحة الاغتسال به وهو أثر
شرعي لنفس الماء المطلق ، وحينئذ لو وقع الشك في انتفاء الإطلاق عن الماء فإنّ
استصحاب الاطلاق مصححا لترتب الاثر الشرعي المذكور.
ومثال الصورة
الثانية : هو انّ صحة الاغتسال ـ والذي هو أثر شرعي لإطلاق الماء ـ موضوع لحكم
شرعي آخر وهو جواز الدخول في الصلاة والطواف ومس كتابة القرآن الكريم.
فهذه الاحكام
جميعا لوازم شرعية لأثر المستصحب الشرعي والذي هو صحة الاغتسال ، والتعبّد ببقاء
المستصحب تعبّد بثبوت لوازم آثاره الشرعية كما انّ التعبّد ببقائه مقتض للتعبّد
بالاحكام المترتبة عليه ابتداء. وهذا المقدار لا إشكال فيه.
ومثال الصورة
الثالثة : ما لو كان وجوب الصدقة مترتبا على العجز عن التكسب. فهنا نقول : لو كنا
نعلم بوجود زيد قبل خمسين سنة ثم شككنا في بقائه على قيد الحياة ، وعندئذ لو
استصحبنا حياته لكان الاستصحاب مقتضيا للتعبد ببقاء زيد الى هذه المدة ، وبقاء زيد
الى هذه المدة يستلزم عادة عجزه عن التكسب ، فالعجز عن التكسب من اللوازم العادية
للمستصحب ، فلو كان التعبّد ببقاء المستصحب تعبّدا بوجود اللوازم العادية فهذا
معناه إحراز العجز عن التكسب بواسطة الاستصحاب وبذلك يتنقح موضوع الأثر الشرعي ،
حيث افترضنا انّ موضوع وجوب الصدقة هو العجز عن التكسب وهو قد ثبت بواسطة التعبّد
ببقاء زيد الى هذه المدة أي التعبّد بالملزوم.
فلو كان التعبّد
بالملزوم تعبدا بلوازمه العادية والعقلية لكان معنى ذلك هو ترتّب الآثار الشرعية
المترتبة على اللوازم العادية والعقلية ، وهذا هو معنى حجية الأصل المثبت والتي هي
محل النزاع ، فالمراد من المثبت هو اللازم العقلي أو العادي للمستصحب ، والمراد من
الأصل في المقام هو الاستصحاب والذي يقتضي التعبد ببقاء المستصحب في ظرف الشك.
ثم انّ هنا أمر لا
بدّ من التنبيه عليه
ليتحرّر محل
النزاع بشكل تام وهو انّ اللازم العقلي والعادي للمستصحب والذي نبحث عن صلاحية
الاستصحاب للتعبّد بوجوده هو لازم المستصحب في مرحلة البقاء فحسب ، لا مرحلة
البقاء والحدوث ، إذ لو كان لازم المستصحب لازما له في مرحلة الحدوث لكان معنى ذلك
انّ للازم حالة سابقة متيقنة ، وعندئذ يمكن استصحابه بنفسه ، وبذلك تترتب آثاره
الشرعية ، إذ انّها حينئذ تصبح آثارا للمستصحب نفسه بعد افتراض انّ المستصحب هو
نفس اللازم.
مثلا لو كنا نعلم
بوجود زيد وانّه عاجز عن التكسب ثم شككنا في بقاء زيد وبقاء عجزه عن التكسب فإن
بالإمكان استصحاب العجز الى ظرف الشك وعندها يترتب الأثر الشرعي على العجز وهو
وجوب التصدّق.
فالمتحصل : انّ
محل البحث هو ما لو كان لازم المستصحب لازما له في مرحلة البقاء ولم يكن لازما له
في مرحلة الحدوث ، كما هو المفترض في المثال الاول حيث لم يكن زيد قبل خمسين عاجزا
عن التكسب إلاّ انّ بقاءه الى هذه المدة يستلزم العجز.
وباتضاح ذلك نقول
: انّ المعروف بين المحققين هو عدم حجية الأصل المثبت وانّ أدلة الاستصحاب قاصرة
عن الشمول للتعبّد بلوازم المستصحب العقليّة.
* * *
٩٩ ـ الأصل الموضوعي
وهو الأصل النافي
لموضوع أصل آخر ، وهذا هو المنشأ للتعبير عنه بالاصل الموضوعي ، إذ انّه يمنع عن
جريان الأصل الآخر بواسطة إلغاء موضوعه ـ ويعبّر عن الأصل الموضوعي بالأصل السببي
وذلك لأنّه يكون سببا في انتفاء موضوع الأصل الآخر.
ثم انّ الأصل
الموضوعي لا يختص بالشبهات الموضوعية ، بمعنى انه قد يكون مجراه شبهة موضوعية وقد
يكون مجراه شبهة حكمية ، فالمناط في كون الأصل موضوعيا هو ان يكون نافيا لموضوع
أصل آخر حتى وان كان هذا الأصل النافي جاريا في الشبهات الحكمية.
وبيان ذلك :
حينما يقع الشك في
خمرية مائع فإنّ أصالة الحلّ قاضية بحليته. إلاّ انّه لو اتّفق ان كان هذا المائع
مسبوقا باليقين بالخمرية فعندئذ يكون استصحاب بقائه على الخمرية نافيا لموضوع
أصالة الحل إذ انّ موضوعها الشك في خمرية المائع وبالاستصحاب ينتفي الشك في
الخمرية ويكون هذا المائع خمرا تعبدا فلا مجال لجريان أصالة الحل بعد ان ألغى
الاستصحاب موضوعها.
وتلاحظون انّ هذا
الاستصحاب موضوعي وذلك لأن الشبهة في المثال موضوعية ، وقد تكون الشبهة حكمية.
ومثاله : ما لو
وقع الشك في وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فإنّ مقتضى أصالة البراءة هو عدم
الوجوب إلاّ انّه لو كان الشك في الوجوب مسبوقا باليقين به فإنّ استصحاب وجوب صلاة
الجمعة ينفي موضوع أصالة البراءة وهو الشك في الوجوب ، إذ لا شك حينئذ بعد استصحاب
الوجوب فلا مجال لجريان أصالة البراءة عن الوجوب.
فأصالة الاستصحاب
في المثال منعت من جريان أصالة البراءة بواسطة نفي موضوعها ، وبهذا تحدّد المراد
من الأصل الموضوعي وانّه الاصل الجاري في رتبة موضوع الأصل الآخر والموجب لارتفاعه
وإلغائه ويترتب على ذلك عدم جريانه.
ولمزيد من التوضيح
راجع « الاستصحاب السببي والمسببي ».
* * *
١٠٠ ـ الاصول العمليّة
والتي هي ـ كما
ذكرنا تحت عنوان الأصل العملي ـ عبارة عن الوظائف العمليّة المؤمنة أو المنجّزة
التي يلجأ اليها عند فقدان الدليل المحرز الأعم من القطعي أو الظني المعتبر.
والاصول العملية
هي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب ، وهي ـ كما ذكر جمع من الأعلام ـ منحصرة
في هذه الاصول الاربعة إلاّ انّ هذا الحصر استقرائي. وهذا يعني إمكان وجود اصل
عمليّ آخر غير الذي ذكرنا إلاّ انّه بعد البحث في الأدلة لم يعثر على ما يصلح
لإثبات أصل آخر غير هذه الاصول الأربعة.
إلاّ انّهم ذكروا
إنّ الحصر بلحاظ الموارد عقلي ، بمعنى انّ ملاحظة الموارد التي تقع متعلّقا للشك
من جهة الحكم الواقعي يتضح انّه ما من مورد إلاّ وهو مجرى لأحد هذه الأصول
الأربعة.
فالشك تارة يقع في
الحكم الشرعي وتكون لمورد الشك حالة سابقة متيقنة ومعتبرة بنظر الشارع ، وتارة لا
تكون له حالة سابقة أو تكون إلاّ انّها غير معتبرة شرعا.
فالفرض الاول مجرى
لأصالة الاستصحاب أي استصحاب الحالة السابقة والبناء على بقائها ، والفرض الثاني
وهي حالة الشك الغير المسبوق باليقين أو المسبوق باليقين إلاّ انّ الشارع لم يرتّب
على بقائه أثرا هذا الفرض تارة يكون الشك معه شكا في أصل التكليف كالشك في وجود
الحرمة أو الوجوب ، وتارة يكون الشك معه شكا في المكلّف به كالشك في امتثال
التكليف مع العلم باشتغال الذمة به.
والاول وهو الشك
في التكليف
مجرى لأصالة
البراءة ، والثاني وهو الشك في المكلف به له صورتان ، فتارة يكون المكلّف به مما
يمكن الاحتياط في مورده كما لو علم المكلف باشتغال ذمته بقضاء صلاة فائتة إلاّ انه
شك في ماهية هذه الصلاة وهل هي صلاة المغرب أو صلاة العشاء ، وفي هذه الحالة يكون
المجرى أصالة الاحتياط.
والصورة الثانية
يكون الشك في المكلّف به مما لا يمكن الاحتياط في مورده ، كما لو علم المكلف بجامع
التكليف الإلزامي في مورد من الموارد ولم يدر انّه الوجوب أو الحرمة ، فهنا لا
يمكن الاحتياط ، لانه إن جاء بالفعل المشكوك فقد يكون ما فعله محرما وان تركه فقد
يكون ما تركه واجبا ، وهذا ما يعبّر عنه بدوران الأمر بين المحذورين ، والجاري في
هذه الصورة هو أصالة التخيير.
وتلاحظون انّ
حالات الشك في الحكم الشرعي الواقعي لا تعدو هذه الموارد ، وتمام هذه الموارد مجرى
لأحد الاصول الأربعة.
وذكر السيد الصدر رحمهالله انّ المنشأ لانحصار الاصول العملية في الاربعة المذكورة يتضح بملاحظة المراحل
التاريخية التي مرّ بها الأصل العملي الى ان بلغ هذه المرحلة من النضوج والتبلور.
فقد كان الأصل
العملي في مراحله الاولى مصنّفا ضمن الدليل العقلي حتى انّك تجد انّهم لم يستدلّوا
على حجية الاستصحاب بالأخبار بل كان دليلهم عليه هو العقل. فهم حينما ذكروا انّ
الاصول العملية هي هذه الأربعة لأنّ العقل بنظرهم يستقلّ بإدراك البراءة العقلية
في مورد وبالاحتياط العقلي في مورد ثان وبالتخيير العقلي في مورد ثالث وبالاستصحاب
في مورد رابع.
وأما مثل أصالة
الطهارة فلا يحور العقل في إدراكها ، ولهذا لم تذكر في ضمن الاصول العملية ، إذ لو
كانت من
الاصول العملية
بنظرهم فهي ليست من الاصول العملية العقلية ، ثم انّ هذا التصنيف بقي سائدا حتى في
مدرسة الوحيد البهبهاني رحمهالله حيث تصنّف هذه الاصول ضمن الدليل العقلي رغم انّ الأصل
العملي في هذه المرحلة قد تميّز عن الأمارة وتبلور مفهومه بشكل شبه متكامل.
والذي صنّف الاصول
العملية بالصورة التي هي عليه الآن هو الشيخ الانصاري رحمهالله إلاّ انّه اقتصر على بحث هذه الاصول الأربعة تبعا لطريقة المتقدمين من
الاصوليين ، فلم يكن من منشأ في انحصار الاصول العملية في هذه الأربعة سوى توهم
القدماء من الاصوليين. وانّ الاصول العملية من الادلة العقلية ، وحيث انّ العقل لا
يدرك سوى هذه الاصول الاربعة ، فهي إذن منحصرة فيهم. إلاّ انّه بعد تبلور المفهوم
من الأصل العملي لا يكون ثمة مبرر يقتضي الانحصار.
* * *
١٠١ ـ الاصول العملية
التنزيليّة
المراد من الاصول
العملية التنزيليّة ـ كما أفاد السيد الصدر رحمهالله ـ هي ما كان لسان دليليها معبّرا عن تنزيل الأصل أو قل
الحكم الظاهري منزلة الحكم الواقعي ، فالشارع في مورد الاصول العملية التنزيليّة
لاحظ الحكم الواقعي ونزّل الحكم الظاهري منزلته.
ويمكن التمثيل
لهذا النحو من الاصول بأصالة الطهارة وأصالة الحل ، حيث انّ لسان جعلهما يعبّر عن
تنزيل مشكوك الطهارة ومشكوك الحليّة منزلة الطهارة الواقعية والحليّة الواقعية.
هذا ما أفاده
السيد الصدر رحمهالله في الحلقة الثالثة إلاّ انّه في مباحث الاصول فسّر الاصول
العمليّة التنزيليّة بما يناسب الاصول المحرزة
بالنحو الذي
شرحناه تحت عنوانها.
ثم انّ الظاهر من
عبائر المحقق النائيني رحمهالله انّ الاصول التنزيلية هي الاصول المحرزة ـ بالمعنى الذي
شرحناه تحت عنوانها ـ كما انّ المستظهر من عبائر السيد الخوئي رحمهالله انّ الاصول العملية المحرزة هي الاصول العملية التنزيلية وانهما اصطلاحان
لمعنى واحد.
إلاّ انّه قد
ذكرنا هناك ـ تبعا للسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله ـ انّ الأصل المحرز هو
ما يكون لسان دليلية معبّرا عن تنزيل مورد الاصل منزلة اليقين إلاّ انّ المحقق
النائيني رحمهالله ذكر في الفوائد انّ الاصول التنزيلية متكفلة لتنزيل المؤدى
منزلة الواقع بلحاظ الجري العملي ، ومثل لذلك بالاستصحاب وقاعدة التجاوز وأصالة
الصحة.
إلاّ انّ مراده
كما هو المستظهر من عبائره هو انّ الاصول التنزيلية متكفلة لتنزيل مؤداها منزلة
العلم ولكن من جهة البناء العملي لا من جهة الكاشفية كما أوضحنا ذلك ، تحت عنوان «
الاصول العملية المحرزة ».
* * *
١٠٢ ـ الاصول العملية
الشرعية
وهي الوظائف
العملية المقررة من قبل الشارع ، والتي جعلها الشارع مرجعا ومآلا في ظرف الشك وعدم
العثور في الأدلة المحرزة على ما ينفي الشك ، وهي مثل أصالة البراءة الشرعية
والاستصحاب وأصالة الاحتياط الشرعي على مبنى الاخباريين وأصالة الطهارة على بعض
المباني.
ومنشأ وصفها
بالشرعية هو انّ التعرّف عليها تم بواسطة الأدلة الشرعية « الكتاب والسنة » وذلك
في مقابل الاصول العملية العقلية والتي هي من مدركات العقل العملي.
* * *
١٠٣ ـ الاصول العملية
العقلية
وهي الاصول
العملية التي يستقل العقل بإدراكها. أو قل : هي الوظائف العملية المدركة بواسطة
العقل العملي ، إذ انّ العقل لمّا كان يدرك استحقاق المولى جلّ وعلا للطاعة على
عباده يدرك أيضا سعة هذا الحق وحدوده.
فالبراءة العقلية
ـ مثلا ـ منشؤها إدراك العقل ضيق هذا الحق عن الشمول للتكاليف غير المعلومة وانّ
حق الطاعة للمولى جلّ وعلا انّما هو مختص بالتكاليف المعلومة فحسب ، إذ انّ العقل
يدرك قبح مؤاخذة العبد على التكاليف الواقعية المجهولة.
وأما البناء على
انّ حق الطاعة يتسع ليشمل التكاليف الواقعية المظنونة والمحتملة فهذا يستوجب
البناء على أصالة الاشتغال العقلي وان المكلّف مسئول تجاه المولى جلّ وعلا عن أيّ
تكليف مظنون أو محتمل إلاّ ان يرخص المولى جلّ وعلا في ترك هذه التكاليف المظنونة
أو المحتملة.
وأما أصالة
الاشتغال « الاحتياط العقلي » في موارد العلم الإجمالي فمنشؤها إدراك العقل لسعة
حق الطاعة لمطلق التكاليف المعلومة أي سواء كانت معلومة بالعلم التفصيلي أو
الإجمالي ، أو انّ منشأها إدراك العقل لحرمة المخالفة القطعية ـ بتقريب مذكور في
محله ـ وهو يرجع الى دعوى انّما يدركه العقل من حدود حق الطاعة لا يقتضي أكثر من
لزوم عدم مخالفة التكليف المعلوم اجمالا بنحو قطعي.
وأما أصالة
التخيير العقلي فمنشؤها إدراك العقل لضيق هذا الحق عن الشمول للتكليف الواقعي غير
المقدور على إحراز امتثاله ، وذلك لدوران الأمر بين المحذورين.
والمتحصل مما
ذكرناه انّ مرجع الاصول العملية العقلية هو ما يدركه
العقل من حدود حق
الطاعة للمولى جلّ وعلا. كما يتضح مما ذكرناه انّ الاصول العملية العقلية تقع في
طول الاصول العمليّة الشرعية أو تكون في بعض الحالات مؤكّدة للأصل العملي الشرعي
لاتحاد موضوعيهما.
والمراد من وقوع
الاصول العملية العقلية في طول الاصول العملية الشرعية هو انّ الاصول العملية
العقلية لا تجري في موارد جريان الاصول العملية الشرعية ، وذلك لانتفاء موضوعها في
موارد جريان الاصل العملي الشرعي.
مثلا : التكليف
المشكوك إذا كانت له حالة سابقة متيقنة مجرى لاصالة البراءة العقلية لو لا جعل
الاستصحاب في هذا المورد وذلك لأنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم العلم بالتكليف
بقطع النظر عن انّ له حالة سابقة متيقنة لو لم يكن كذلك إلاّ انه وباعتبار ان جعل
الاستصحاب يقتضي التعبّد ببقاء المستصحب فإنّ موضوع البراءة العقلية ينتفي حينئذ.
وهكذا لو كان
البناء هو جريان أصالة الاشتغال العقلي في الشبهات البدويّة واتفق ان وقع الشك في
وجوب شيء ، فإنّ ما يقتضيه الأصل العملي العقلي هو الاشتغال إلاّ انّه اذ لم يكن
ثمة مانع عن جريان البراءة الشرعية فإنّ أصالة الاشتغال العقلي لا تجري وذلك
لانتفاء موضوعها. بعد افتراض انّ جريانها معلّق على عدم الترخيص الشرعي.
* * *
١٠٤ ـ الاصول العملية
المحرزة
وهي من أقسام
الاصول العملية الشرعية ، والمقصود من المحرزية هو ان يكون لسان دليل الأصل معبّرا
عن جعل الشارع مورد الأصل علما تنزيلا ، فالشارع مثلا جعل مورد الاستصحاب وهو الشك
المسبوق
بالعلم علما
تنزيلا ، وجعل مورد قاعدة التجاوز وهو الشك بعد تجاوز المحل علما تنزيلا. إلاّ
انّه وقع الخلاف بين الشيخ النائيني والسيد الخوئي رحمهما الله فيما هو الملحوظ
حين تنزيل مورد الاصل منزلة العلم ، فهل الملحوظ هو الجري العملي أو ان الملحوظ هو
الطريقية والكاشفية.
وبتعبير آخر : هل
انّ تنزيل مورد الأصل منزلة العلم هو تنزيله من جهة الجري العملي أو تنزيله من جهة
الكاشفية عن الواقع؟
لا يخفى عليك انّ
للعلم شئون ومقتضيات مترتبة عنه ، فمن هذه الشئون هي الكاشفية عن الواقع كما انّ
منها اقتضاؤه للجري العملي أي اقتضاؤه للتحرّك نحو الفعل المعلوم لو تعلّق الغرض
بفعله. وسيأتي تفصيل ذلك في محلّه.
ومع اتّضاح هذه
المقدمة نقول : انّ المحقق النائيني رحمهالله ذهب الى انّ تنزيل مورد الأصل منزلة العلم انما هو من جهة
الجري العملي ، فكما انّ العلم يقتضي الجري والتحرّك على وفق ما يقتضيه المعلوم
فكذلك الشك المسبوق بالعلم ـ مثلا ـ يقتضي ذلك ، فالشارع لم ينزّل مورد الاستصحاب
منزلة العلم من تمام حيثيات العلم وانما نزله منزلة العلم بلحاظ حيثية واحدة من
حيثياته وهي الجري العملي ، وهذا ما تم التعرّف عليه من ملاحظة لسان دليل أصالة
الاستصحاب. كقوله عليهالسلام « انت على يقين من وضوئك ».
وأما السيد الخوئي
رحمهالله فبنى على انّ التنزيل المستفاد من لسان دليل الأصل هو
التنزيل بلحاظ حيثية اخرى من حيثيات العلم وهي الكاشفية والطريقية للواقع ، فمعنى
تنزيل مورد الأصل منزلة العلم هو ان لمورد الاصل ما للعلم من كاشفية عن الواقع ،
فكما انّ العلم طريق للواقع فكذلك مورد الاصل.
فالشك المسبوق
بالعلم مثلا هو مورد الاستصحاب وقد نزّل ـ كما هو المستفاد من لسان دليله ـ منزلة
العلم من حيث الكاشفية عن الواقع ، فكما انّ العلم محرز للواقع فكذلك مورد الاصل
محرز للواقع تنزيلا.
وهنا تقريب آخر
للأصل العملي المحرز أفاده السيد الصدر رحمهالله وحاصله : انّ الاصل العملي المحرز تارة يكون مجعولا بلحاظ
أهمية المحتمل واخرى يكون مجعولا بلحاظ أهمية المحتمل بالإضافة الى قوة الاحتمال
والثاني هو الأصل المحرز دون الاول.
وبيان ذلك : انّ
في الواقع ونفس الامر مجموعة من الملاكات يقتضي بعضها الحرمة ويقتضي بعضها الوجوب
ويقتضي البعض الآخر الترخيص ، ويكون التحفظ عليها جميعا غير ميسور لافتراض جهل
المكلّف بها ، وليس من وسيلة للتعرف عليها. فهنا يوازن المولى بين هذه الملاكات
ويجعل الأصل على ما هو الأهم ملاكا ، فحينما يكون الاهم ملاكا مقتضيا للترخيص فإنّ
المولى يجعل الاصل مطابقا لما يقتضيه الترخيص.
وباتضاح ذلك نقول
: انّه تارة يكون مصبّ نظر المولى عند جعل الأصل هو التحفظ على الملاك الأهم من
هذه الملاكات المختلطة على المكلّف فالاصل في هذا الفرض غير محرز ، وتارة يكون
نظره حين جعل الأصل الى أمرين ، الاول هو أهمية الملاك على سائر الملاكات ،
والثاني هو كاشفية مورد الأصل عن الواقع بنحو ما ، فهذا النحو من الاصل فيه جنبتان
اقتضتا جعله من قبل المولى ، الجنبة الاولى هي التحفظ على الملاك الأهم ، والثانية
انه له نحو كشف عن الواقع ، والاولى يعبّر عنها بأهمية المحتمل ، والثانية يعبّر
عنها بقوة الاحتمال ، وكل أصل يتوفر على هاتين الحيثيتين فهو أصل محرز.
١٠٥ ـ الأصول اللفظية
الأصول اللفظيّة
هي الأصول النافية لاحتمال إرادة غير المعنى الظاهر من الكلام.
وبتعبير أدقّ :
الأصول اللفظيّة هي الظهورات الاقتضائيّة التي تكون مرجعا عند الشكّ في إرادة
المتكلّم لغيرها.
والمراد من الظهور
الاقتضائي ـ كما أوضحناه في محلّه ـ هو الظهور الناشئ عن مقتضيات الضوابط اللغويّة
والمناسبات العرفيّة.
فحينما يكون
الكلام ظاهرا في معنى من المعاني بسبب ما تقتضيه الضوابط اللغويّة والعرفيّة ووقع
الشكّ في إرادة المتكلّم للمعنى الظاهر ، إذ المتكلّم قد يكون مريدا لغير ما هو
الظاهر من كلامه فحينئذ يكون المرجع هو الظهور الاقتضائي بمعنى أنّ المرجع في
تحديد مراد المتكلّم من كلامه هو ما يقتضيه الظهور الناشئ عن ضوابط اللغة وطريقة
العرف وأهل المحاورة ، وهذا هو معنى أصالة التطابق بين الدلالة التصديقيّة
والإرادة الجدّيّة.
ولكي يتّضح المراد
من الأصل اللفظي أكثر نذكر مثالا :
لو قال المتكلّم (
أكرم كلّ عالم ) فإنّ الظاهر من هذا الكلام بحسب ما تقتضيه اللغة والفهم العرفي هو
طلب إيقاع الإكرام لجميع أفراد العلماء ، فالعموم المستفاد من الخطاب قد تمّ
استظهاره بواسطة لفظ ( كلّ ) الموضوعة في اللغة لهذا المعنى ، فلو وقع الشكّ بعد
ذلك في أنّ المتكلّم هل أراد العموم من لفظ ( كلّ ) وهل أراد حقّا طلب إكرام جميع
العلماء أو أراد إكرام بعضهم؟
فهنا يقع البحث
عمّا هو المرجع في مثل هذا اللفظ؟ والجواب هو أنّ المرجع في ذلك هو أصالة العموم ،
فأصالة العموم أصل لفظي يلجأ إليه
في ظرف الشكّ في
إرادة المتكلّم للعموم أو عدم إرادته له.
وإنّما يصحّ
اللجوء إلى أصالة العموم عند ما يكون الكلام ظاهرا بحسب ضوابط اللغة والفهم العرفي
في العموم.
وتلاحظون أنّ
الأصل اللفظي ألغى احتمال إرادة المتكلّم لغير ما هو الظاهر من كلامه. وأنّ الظهور
الاقتضائي في العموم كان هو المرجع في تحديد مراد المتكلّم.
وبذلك اتّضح
المراد من معنى الأصل وأنّه بمعنى المرجع في ظرف الشكّ ، كما اتّضح المنشأ من
انتسابه للفظ والتعبير عنه باللفظي ، ذلك لأنّ العموم إنّما يستفاد بواسطة اللفظ
أو من سياق الكلام.
ثمّ إنّ الأصول
اللفظيّة تتحدّد عناوينها بمتعلّق الشكّ في مراد المتكلّم فعند ما يكون الشكّ في
إرادة المتكلّم للعموم مع كون الكلام ظاهرا في العموم فالمرجع هو أصالة العموم ،
وعند ما يكون الشكّ في إرادة الإطلاق فالمرجع هو أصالة الإطلاق ، وعند ما يكون
الشكّ في إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ فالمرجع هو أصالة الحقيقة ، وعند ما يكون
الشكّ في وجود قرينة متّصلة أو منفصلة لم تصل إلينا فالمرجع هو أصالة عدم القرينة.
وهكذا. ويمكن التعبير عن جميع هذه الأصول بأصالة الظهور لأنّ مآلها جميعا هو
الظهور الاقتضائي كما اتّضح ذلك ممّا تقدّم.
ثمّ إنّ المستند
في التمسّك بالأصول اللفظيّة هو السيرة العقلائيّة المقتضية للبناء على تطابق
الظهور الاقتضائي مع المراد الجدّي في ظرف الشكّ في المراد الجدّي للمتكلّم لذلك
قد يعبّر عن الأصول اللفظيّة بأصالة التطابق بين الدلالة التصديقيّة والإرادة
الجدّيّة. فهي إذن أصول عقلائيّة.
* * *
١٠٦ ـ الأصول المؤمّنة
المراد من الأصول
المؤمّنة هو الأصول العمليّة النافية للتكليف كأصالة البراءة وأصالة الحلّ وأصالة
الطهارة ، ومنشأ التعبير عنها بالمؤمّنة هو أنّ احتمال التكليف يساوق احتمال
العقوبة ، فحينما لا يكون ثمّة أصل ناف للتكليف فإنّ هذا الاحتمال يكون منجّزا
ومصحّحا للإدانة ، أمّا حينما يجري الأصل النافي للتكليف في مورد الاحتمال فإنّ
المكلّف حينئذ يكون في أمن من العقوبة المحتملة بعد افتراض انتفاء التكليف المحتمل
والمصحّح للإدانة والمسئوليّة ، ولذلك حينما يتّفق عدم جريان الأصل النافي للتكليف
فإنّ الاحتمال يكون منجّزا ومصحّحا لاستحقاق العقوبة.
* * *
١٠٧ ـ الاضطرار
تستعمل كلمة
الاضطرار في كلمات الاصوليين في معنيين :
المعنى
الاول : هو ما يساوق
الضرورة والتي تكون معها الإرادة منتفية بتمام مراتبها ، كما في حالات وجود القاسر
التكويني. فالسقوط من الشاهق بعد الإسقاط اضطراري أي ضروري الوقوع. وذلك لانّ
الإسقاط مقدمة توليدية لا يتوسط بينها وبين ذي المقدمة اختيار فاتّفاق الإسقاط
ينتج بالضرورة السقوط فهو إذن قاسر تكويني ينفي الإرادة بتمام مراتبها.
وهذا المعنى من
الاضطرار هو المراد عادة من كلمة الاضطرار في قاعدة « الاضطرار بسوء الاختيار لا
ينافي الاختيار ».
المعنى
الثاني : للاضطرار هو ما
يكون ترك متعلّقه موجبا للوقوع في
محذور لا يحتمل
عادة أو يكون تحمله شاقا.
ومثاله : أكل
الميتة لذي المخمصة فإنّه فعل اضطراري ، وذلك لأنّ تركه يوجب الوقوع في الهلكة وهو
محذور لا يحتمل عادة ، وكذلك حينما يبيع المكلّف ما يملك ليعالج بثمنه ولده المريض
، فإنّ هذا البيع فعل اضطراري ، لأن تركه يوجب الوقوع في محذور يكون تحمله شاقا.
وهذا المعنى هو
المراد من بحث الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي وهو المراد من قوله تعالى ( فَمَنِ
اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ ) وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم « رفع ... ما اضطروا اليه » .
* * *
١٠٨ ـ الاضطرار الى بعض
أطراف العلم الإجمالي
لا ريب في انّ
الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي مصحح لجواز ارتكاب الطرف المضطر اليه أو
مقدار ما يرتفع معه الاضطرار ، انّما الكلام في الاطراف الاخرى التي لم تقع محلا
للاضطرار ، فهل انّها تظلّ منجّزة بالعلم الإجمالي أو انّ العلم الإجمالي يسقط عن
التنجيز بالاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي ، ومن هنا يصحّ ارتكاب سائر
الأطراف بعد إجراء الاصل المؤمّن في موردها.
وحتى يتحرّر محل
البحث لا بدّ من التنبيه على أمر نبّه عليه السيد الخوئي رحمهالله : وهو انّ الاضطرار المبحوث عن مسقطيته لمنجزية العلم الإجمالي أو عدم
مسقطيته هو الاضطرار النافي لتمام آثار الطرف المضطر اليه ، أما لو كان نافيا لبعض
الآثار الشرعية دون البعض فإنّ العلم الإجمالي لا يسقط عن التنجيز بلا ريب.
وذلك لانّ دعوى
سقوط المنجزية عن العلم الإجمالي بالاضطرار انّما هي
لأجل انّ الطرف
المضطر اليه لا يتنجز بالعلم الإجمالي لافتراض اضطرار المكلف اليه فيبقى الطرف
الآخر موردا للشك لاحتمال ان يكون المحرم واقعا هو الطرف المضطر اليه ، وعندئذ
يجري الأصل المؤمّن عن الطرف الآخر بلا معارض ، بعد ان لم يكن الطرف المضطر اليه
مجرى للأصل المؤمّن لإحراز جواز ارتكابه.
وهذا البيان انّما
يناسب حالات رفع الاضطرار لتمام الآثار عن الطرف المضطر اليه ، أما في حالات
ارتفاع بعض الآثار الشرعية ـ عن الطرف المضطر اليه ـ بالاضطرار فلا معنى للبحث عن
سقوط المنجزية عن العلم الإجمالي بعد ان لم يكن الطرف المضطر اليه خارجا عن منجزية
العلم الإجمالي.
مثلا : لو علم
المكلف اجمالا بحرمة أحد الطعامين وكان أحدهما المعين أو غير المعين موردا
للاضطرار فإنّ هذا الاضطرار يكون موجبا لانتفاء تمام الآثار عن الطرف الواقع موردا
للاضطرار ، إذ ليس الاثر الشرعي المتصور في المثال سوى الحرمة والاضطرار يوجب
ارتفاعها بلا ريب ، وعندها يقع البحث عن سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز للأطراف
الاخرى.
أما لو كان
المعلوم اجمالا هو نجاسة أحد المائعين « الماء أو العصير » أو كان المعلوم اجمالا
هو نجاسة أحد الماءين فإنّ الاضطرار الى شرب أحدهما المعين وهو الماء في المثال
الاول ، أو الى أحدهما غير المعين في المثال الثاني ، فإنّ الاضطرار في المثالين
لا يوجب انتفاء تمام الآثار الشرعية ، فإنّ لنجاسة الماء أثرين الاول هو عدم جواز
الشرب والثاني هو عدم صحة التطهر به من الحدث والخبث. والاضطرار انما يرفع الأثر
الاول دون الثاني. ومن هنا لا يسقط العلم الإجمالي عن المنجزية بل تبقى
منجزيته ثابتة
للطرف الآخر وللطرف المضطر اليه في غير الأثر الواقع موردا للاضطرار.
فصورة العلم
الإجمالي في المثال الاول هو العلم اما بعدم جواز التطهر بالماء أو عدم جواز شرب
العصير ، وصورة العلم الإجمالي في المثال الثاني هو عدم صحة التطهر إما بالماء
الاول أو الماء الثاني.
ومع اتضاح محل
البحث نقول : انّ الاضطرار الى بعض أطراف العلم الإجمالي يتصور على ثلاث صور ، كل
صورة يمكن تصنيفها الى حالتين :
الصورة
الاولى : ان يفترض حدوث
الاضطرار بعد تنقّح موضوع التكليف واقعا وبعد انعقاد العلم الإجمالي بالتكليف.
ومثاله ما لو وقعت
النجاسة في أحد الطعامين وعلم المكلف بوقوعها في نفس الساعة التي وقعت فيه أو
بعدها ، وبعد انعقاد العلم الإجمالي بتنجس أحد الطعامين اضطر المكلّف الى أحدهما.
وهنا قد يكون
الاضطرار متعلقا بأحد الطعامين بعينه وقد يكون متعلقا بواحد منهما لا بعينه.
الصورة
الثانية : ان يفترض حدوث
الاضطرار بعد تنقّح موضوع التكليف واقعا وقبل انعقاد العلم الإجمالي به.
ومثاله : ما لو
وقعت النجاسة في أحد الطعامين في الساعة الاولى ثم اضطر المكلّف الى أحدهما وبعد
ذلك انعقد العلم الإجمالي بوقوع النجاسة في أحد الطعامين. وهنا أيضا تارة يكون
الاضطرار متعلقا بأحدهما المعين واخرى يتعلّق بأحدهما غير المعين.
الصورة
الثالثة : ان يفترض حدوث
الاضطرار قبل تنقح موضوع التكليف وقبل انعقاد العلم الإجمالي.
ومثاله : ما لو
اضطر المكلّف الى
أحد طعامين ثم بعد
ذلك وقبل تناوله وقعت النجاسة في أحدهما وانعقد العلم الاجمالي أيضا ، وهذه الصورة
تنحلّ أيضا الحالتين ، فالاضطرار تارة يتعلّق بأحدهما بعينه واخرى بأحدهما لا
بعينه.
ثم انّ الاضطرار
الى بعض أطراف العلم الإجمالي لا يختص بالشبهات التحريمية بل يشمل الشبهات
الوجوبية ، كما لو كان متعلّق العلم الإجمالي أحد واجبين إما الإنفاق على الزوجة
أو أداء الدين. وكذلك يعم البحث حالات الإكراه فلا يختص بحالات الاضطرار.
* * *
١٠٩ ـ الاضطرار بسوء
الاختيار لا ينافي الاختيار
أوضحنا المراد من
هذه القاعدة تحت عنوان الامتناع بسوء الاختيار.
* * *
١١٠ ـ الاطّراد علامة
الحقيقة
لما لم يكن
الاستعمال أمارة على انّ اللفظ المستعمل حقيقة في المعنى المستعمل فيه اتّجه البحث
عمّا هي الضابطة التي يمكن التمييز بواسطتها بين الاستعمال الحقيقي والاستعمال
المجازي.
وقد ذكرت لهذا
الغرض مجموعة من الضوابط منها الإطراد ، فقد ادعي انّه أمارة على الاستعمال
الحقيقي. هذا وقد ذكرت للاطراد مجموعة من المعاني.
المعنى
الاول : هو صحة استعمال
لفظ في تمام أفراد معنى كلّي بحيث يكون المصحح لاستعمال هذا اللفظ في تمام هذه
الأفراد هو المعنى الكلّي والتي تكون تلك الأفراد مصاديقه ، مع العلم بأنّ كل فرد
من تلك الأفراد ليس معنى حقيقيا لذلك اللفظ إذ لوحظ ذلك الفرد بعنوان فرديته.
فإذا صحّ استعمال
اللفظ في تمام الافراد بلحاظ معناها الكلّي فهذا يكشف عن انّ اللفظ حقيقة في
المعنى الكلّي.
مثلا : صحة
استعمال لفظ الإنسان في زيد وبكر وخالد وهكذا بلحاظ انّ هذه الافراد من مصاديق
الحيوان الناطق ، أي انّ العلاقة الملحوظة حين استعمال لفظ الإنسان في زيد وبكر
وخالد هي علاقة المصداق بمعناه الكلّي وهو في المثال الحيوان الناطق.
والمتحصل انّ هذا
الاستعمال المطّرد في الأفراد بلحاظ معناها الكلّي يكشف عن انّ لفظ الإنسان حقيقة
في المعنى الكلّي وهو الحيوان الناطق.
المعنى
الثاني : هو صحة استعمال
لفظ معين في معنى مخصوص في تمام الموارد والحالات مع أحكام ومحمولات مختلفة على ان
لا تكون ثمة قرينة على إرادة المعنى المخصوص من ذلك اللفظ.
مثلا : لو لاحظ
المستعلم للغة من اللغات انّ أصحاب تلك اللغة يستعملون لفظا معينا في معنى معين ،
ولاحظ انحفاظ استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى المخصوص في تمام استعمالاتهم رغم
انّ الاحكام التي تحمل على ذلك اللفظ بمعناه المعين مختلفة وليس ثمة قرينة خاصة
على ذلك ، فإنّه يحصل الجزم حينئذ بأن ذلك اللفظ موضوع لذلك المعنى المطّرد
استعماله فيه.
فلو لاحظ المستعلم
انّ العرب تستعمل لفظ « القمر » في ذلك الكوكب الليلي ، ولاحظ انّ هذا المعنى هو
المراد دائما من لفظ القمر رغم تفاوت الاحكام المحمولة عليه ، فمعنى القمر في
قولهم : « بزغ القمر » هو عينه المعنى من قولهم « انخسف القمر » أو « غاب القمر »
أو « انشق القمر » أو « خلق الله القمر » وهكذا.
وحينئذ ينقدح في
ذهن المستعلم انّ
هذا الاستعمال اما
ان يكون حقيقيا أو مجازيا ، واحتمال مجازيته منفي لاطراد الاستعمال فيتعين كونه
حقيقيا ، فمنشأ انتفاء احتمال المجازية هو الإطراد نفسه ، إذ ليس من المعقول ان
تنحفظ القرينة الحالية وكذلك المقالية في تمام الموارد مع اختلاف المحمولات
وافتراض تكثر تلك الموارد والحالات ، وهذا المعنى للاطراد هو الذي تبنّاه السيد
الخوئي رحمهالله وادعى انّه الوسيلة الغالبة للتعرّف على أوضاع اللغة.
المعنى
الثالث : هو اطراد
التبادر ، والمقصود منه عرض اللفظ على النفس في موارد عديدة وحالات مختلفة ، فإن
وجد انّ المتبادر من هذا اللفظ في تمام هذه الموارد معنى واحد ، فهذا يكشف عن هذا
اللفظ موضوع لهذا المعنى.
* * *
١١١ ـ الاطّراد في
التعريف
وهو أحد الشرائط
المذكورة للتعريف في علم المنطق ، أي انّ التعريف لا يكون تاما إلاّ ان يتوفر على
مجموعة من الشرائط منها الاطّراد.
والمراد منه المنع
عن دخول الأغيار ، بمعنى ان لا يكون التعريف شاملا لغير المعرّف.
* * *
١١٢ ـ الإطلاق
عرّف الإطلاق
قديما بأنّه « ما دلّ على شائع في جنسه ».
وحاصل المراد من
هذا التعريف : انّ المطلق هو اللفظ الذي له دلالة على معنى كلّي قابل
للصدق على أفراده وحصصه ، فالمراد من الإسم الموصول في التعريف هو اللفظ ، فاللفظ
المطلق هو الذي له دلالة على معنى شائع.
والمعنى الشائع هو
المعنى الكلّي الذي له قابلية الصدق على أفراد كثيرة.
والظاهر من كلمات
المحقق النائيني رحمهالله انّه فهم من التعريف انّ المطلق هو اللفظ الدال على فعلية
الصدق على أفراد كثيرة ، بمعنى انّ القابلية للصدق على كثيرين وحدها غير كافية
لصحة اطلاق عنوان المطلق على اللفظ ، ولهذا أورد على التعريف بأنه غير شامل
للإطلاق البدلي ، وانه يقتضي اختصاص الإطلاق بالشمولي فحسب ، وانّ النكرة في سياق
الإثبات مثل « أكرم عالما » ليست من المطلق ، لأنها لا تدلّ على الإطلاق الشمولي ،
نعم النكرة في سياق النفي أو النهي مندرجة تحت التعريف.
وهذا بخلاف ما لو
فهمنا من التعريف انّ المطلق هو اللفظ الذي له قابلية الصدق على كثيرين ، فإنّ اسم
الجنس النكرة وكذلك المعرف بلام الجنس مشمولان للتعريف من غير فرق بين وقوعهما في
سياق النفي أو سياق الإثبات ، إذ انّهما على أيّ حال يقبلان الصدق على أفرادهما.
وكيف كان فإنّ
الظاهر من التعريف هو انّ الإطلاق من صفات اللفظ ، وهذا خلاف ما هو المتسالم عليه
عند المحققين من انّ الإطلاق وكذلك التقييد من صفات المعنى ، فالمعنى تارة يكون
مطلقا واخرى يكون مقيدا ، كما هو الحال في الكلية والجزئية ، إذ انّ المعنى هو
الذي تارة يكون كليا واخرى يكون جزئيا ، ووصف اللفظ بالإطلاق والتقييد انّما هو
بتبع المعنى الذي وضع اللفظ للدلالة عليه.
هذا هو حاصل ما
أفاده المحقق النائيني رحمهالله في مقام التعليق على التعريف. ثم انّ الذي استقرّ عليه
المحققون هو انّ المراد من الإطلاق في المصطلح الاصولي هو عينه المراد منه عند
اللغويين أو ما يقارب المعنى اللغوي ، والذي هو الإرسال ، فحينما
يقال دابة مرسلة
فهذا معناه انّها مطلقة العنان لا يمنعها عن الاسترسال في الحركة مانع ، وذلك في
مقابل الدابة المعقولة والمقيدة.
وهذا المعنى هو
المراد من الإطلاق عند الاصوليين ، حيث عرّفوا الإطلاق بأنّه المقابل للتقييد.
فالمعنى المطلق هو غير المقيد ، فالطبيعة عند ما تلحظ ولا يلحظ معها وصف زائد على
معناها فهذا يقتضي إرادة الإطلاق لا بمعنى ان الإطلاق جزء مفهومها بل هو وصف طارئ
على ماهيتها ، وعند ما تلحظ تلك الطبيعة ويلحظ معها شيء خارج ماهيتها فهذه الطبيعة
مقيدة.
فالإنسان الملحوظ
مجردا عن كل قيد حتى قيد التجرّد عن القيود يكون معروضا للإطلاق. ولمزيد من التوضيح
راجع التقابل بين الإطلاق والتقييد.
* * *
١١٣ ـ الإطلاق البدلي
هو ما كان مصب
الحكم فيه هو الطبيعة بنحو صرف الوجود بمعنى ان المطلوب هو ايجاد الطبيعة ، ولمّا
كان ايجادها يتحقق بايجاد واحد من أفرادها فهذا يقتضي انّ إيجاد واحد من أفراد
الطبيعة ـ على سبيل البدل وبنحو العطف بأو ـ محقق لامتثال الحكم.
وبهذا يتضح عدم
انحلال الحكم في الإطلاق البدلي وانّ الانحلال في طرف الطبيعة انّما هو لأجل انّ
إيجاد الطبيعة لا يكون إلاّ في ضمن واحد من أفرادها.
ومنشأ التعبير عن
هذه الحالة بالاطلاق هو انّ جعل الحكم على صرف الوجود للطبيعة يقتضي ان يكون
المكلف في سعة من جهة امتثال الطبيعة في ضمن أيّ فرد من أفرادها ، كما انّ ذلك
يعبّر عن انّه لا خصوصية
عند المولى لفرد
على فرد آخر ، فتمام الأفراد يمكن ان تكون موردا لامتثال الأمر بالطبيعة في ضمنها.
ويمكن التمثيل
للإطلاق البدلي بالنكرة في سياق الإثبات ، كما لو قال المولى : « أعتق رقبة » فإنّ
المطلوب اعتاقه هو صرف الوجود لطبيعة الرقبة ، راجع « الإطلاق الشمولي ».
* * *
١١٤ ـ الإطلاق الشمولي
والمراد منه
الاستغراق والاستيعاب لتمام أفراد أو أحوال الطبيعة التي عرضها الاطلاق بحيث يكون
الحكم المجعول على الطبيعة منحلا الى أحكام بعدد أفراد أو أحوال الطبيعة المعروضة
للإطلاق ، وهذا يؤول روحا الى انّ الحكم المحمول على الطبيعة محمول على كل أفرادها
أو أحوالها على سبيل العطف بالواو ، وهذا لا يكون إلاّ بتعدد الحكم بتعدد الأفراد
أو الاحوال.
ومثال ذلك وقوع
الحكم على النكرة في سياق النهي مثل « لا تكرم كافرا » أو كون الحكم مجعولا على
مطلق الوجود للطبيعة كقوله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ ) .
ثم انّه وقع
الخلاف بين الأعلام فيما هو منشأ استفادة الشمولية تارة والبدلية اخرى من الاطلاق
رغم انّ الإطلاق في كلا الحالتين مستفاد من قرينة الحكمة ، ومن غير المعقول ان
تكون قرينة الحكمة بنفسها مفيدة تارة للإطلاق الشمولي ومفيدة تارة اخرى للإطلاق
البدلي.
ومن هنا تصدى
الأعلام لمعالجة هذه المشكلة ، فالسيد الخوئي رحمهالله ادعى انّ استفادة الشمولية تارة والبدلية اخرى ناشئة عن
قرينة عقلية أو عرفية ولا صلة في استفادة الشمولية والبدلية بقرينة الحكمة.
وأما الشيخ صاحب
الكفاية رحمهالله
فادعى انّ منشأ
استفادة الشمولية والبدلية هو قرينة عقلية مطردة ، وهي انّ الطبيعة توجد بوجود أحد
أفرادها إلاّ انّها لا تنعدم إلاّ بانعدام تمام أفرادها ، ولمّا كان الأمر يعني
طلب ايجاد الطبيعة فهذا يقتضي البدلية ، إذ انّ الطبيعة تتحقق بايجاد فرد منها وهو
معنى البدليّة. وأما النهي فلمّا كان المراد منه هو طلب اعدام الطبيعة فهذا لا
يكون إلاّ بترك تمام أفرادها ، إذ انّ ايجاد فرد واحد منها يتنافى مع كون المطلوب
هو اعدام الطبيعة ، إذ انّ ايجاد فرد منها معناه وجودها ، وهو خلف المطلوب ، والذي
هو اعدام الطبيعة. وبهذه القرينة استفدنا الشمولية.
وهذا البيان وقع
موقع القبول عند السيد الصدر رحمهالله إلاّ انّه استدرك عليه بأن ذلك انّما يناسب الشمولية
والبدلية في مرحلة الامتثال ولا يناسب الشمولية والبدلية بلحاظ الحكم.
وبيان ذلك : انّ
المكلّف حينما يتصدى لامتثال الحكم المجعول على الطبيعة يتحرّى ما هو المحقق
للامتثال ، وهل انّ الامتثال يتحقق بايجاد فرد من أفراد الطبيعة أو باعدام فرد من
أفرادها ، أو انّ الامتثال يتحقق بايجاد تمام أفراد الطبيعة وباعدام تمام أفرادها
، أو انّ الامتثال تارة يكون بالنحو الاول وتارة يكون بالنحو الثاني ، وهنا يأتي
دور القرينة العقلية التي ذكرها الشيخ الآخوند رحمهالله.
أما حينما نبحث
عما هو المجعول على المكلّف ، وهل المجعول هي أحكام متعددة بعدد أفراد الطبيعة
بحيث يكون لكل حكم منها طاعة ومعصية مستقلة فيكون الإطلاق شموليا ، أو انّ المجعول
هو حكم واحد بحيث لا يكون في البين إلاّ طاعة واحدة أو معصية واحدة فيكون الاطلاق
بدليا. فإنّ الصحيح في هذا الفرض انّ الشمولية والبدلية تابعة لملاحظة الحكم ، فإن
لوحظ الحكم مع موضوعه فالأصل
الشمولية ما لم
تقم قرينة منافية للشمول ، وان لوحظ الحكم مع متعلقه فالأصل البدلية ما لم تقم
قرينة مقتضية لشيء آخر.
مثلا : « أكرم
العالم » فإنّ الوجوب المستفاد من الهيئة اذا لاحظناه مع موضوعه فهو حينئذ منحل
الى أحكام بعدد أفراد طبيعة العالم ، وهذا هو معنى الشمولية ، واذا لاحظنا الوجوب
مع متعلّقه « الاكرام » فإنّ الحكم حينئذ لا يقتضي أكثر من ايجاد الطبيعة في ضمن
فرد من أفرادها.
ومنشأ هذه الدعوى
انّ موضوع الحكم يفترض في مرحلة متقدمة على جعل الحكم ، فلو كان الموضوع من قبيل
الطبائع ذات المفهوم الكلّي فهذا يعني انّ الموضوع قبل جعل الحكم عليه قابل للصدق
على أفراده ، وبهذه الحيثية ينصبّ الحكم على الموضوع ، فلا يكون للحكم أي تصرّف في
الموضوع ، فالموضوع أيّا كانت حيثيته المفترضة يكون مصبا للحكم ، وهذا بخلاف
المتعلّق ، فإنّه انّما ينشأ عن الحكم ، ويكون معنى وقوعه متعلقا للحكم هو مطلوبية
تحقيقه ، وهذا لا يستوجب أكثر من ايجاد طبيعة المتعلّق ، وطبيعة المتعلق توجد
بواحد من أفرادها على نحو البدل.
* * *
١١٥ ـ اطلاق اللفظ وإرادة
شخصه
والمراد من ذلك هو
ان يستعمل المتكلّم اللفظ ويقصد منه شخص ذلك اللفظ ، كأن يقول : « زيد ثلاثي » أو
« زيد لفظ » ويقصد من المحمول شخص اللفظ المذكور في موضوع القضية.
وهذا النحو من
الاستعمال يحتاج الى شيء من التأمل كما ذكر ذلك صاحب الكفاية رحمهالله ، وذلك لأنّ المستعمل والمستعمل فيه واحد وهو شخص اللفظ المذكور في موضوع
القضية ، فهو عينه
المحمول والحال انّه قد ذكرنا انّ من شرائط الاستعمال تغاير المستعمل والمستعمل
فيه حتى لا يكون الدال والمدلول واحدا وحتى لا يلزم تركب القضية من جزءين والذي هو
مستحيل عقلا ، إذ انّ كلّ قضية لا بدّ وان تكون مشتملة على النسبة ولا نتعقل
النسبة في المقام لافتراض عينية المحمول للموضوع ، وهذا معناه انّ القضية متركبة
من محمول ونسبة فحسب ، إذ انّ الحاكي في مفروض القضية هو عينه المحكي ، فالواقع في
رتبة المحمول ليس شيئا آخر غير الموضوع.
وأما استحالة
اتّحاد الدال والمدلول فلانّه قد ذكرنا في بيان حقيقة الاستعمال انّه بمعنى فناء
اللفظ في المعنى ، فكأن المعنى هو الملقى ، وحينئذ يكون لحاظ اللفظ حين الاستعمال
آليا ويكون لحاظ المعنى استقلاليا ، فإذا كان الدال والمدلول واحدا فهذا معناه انّ
المتكلم قد لاحظ اللفظ بلحاظين متنافيين في عرض واحد ، أي لاحظ اللفظ بلحاظ آلي في
الوقت الذي لاحظه لحاظا استقلاليا.
وقد تفصّى المحقق
الآخوند رحمهالله عن هذا الاشكال بما حاصله :
انّه يمكن افتراض
تغاير المستعمل عن المستعمل فيه اعتبارا وهو كاف في تصحيح الاستعمال ودفع محذور
الاتحاد ، وذلك باعتبار تعدد الجهة في المستعمل والمستعمل فيه ، وهذا هو الذي
يبرّر دعوى التغاير الاعتباري ، فمن جهة انّه صادر عن المتكلم يكون دالا ومن جهة
انّ شخصه مراد للمتكلم يكون مدلولا. وأما محذور تركّب القضية من جزءين فهو منوط
بعدم كون شخص اللفظ موضوعا واقعا للقضية وإلاّ فهي متركّبة من ثلاثة أجزاء.
وبتعبير آخر : انّ
القضايا المتعارفة مثل « زيد رجل » لا يكون الموضوع
فيها شخص اللفظ
المتركّب من مادة « الزاي والياء والدال » ، إذ انّ شخص اللفظ ليس برجل ، فموضوع
هذه القضية هو مؤدى اللفظ ، أما في المقام فشخص اللفظ هو موضوع القضية ، وبهذا
تكون متركبة من ثلاثة أجزاء.
ومن هنا يكون
اطلاق اللفظ وإرادة شخصه ليس من الاستعمال ، وذلك لأنّ الاستعمال منوط بكون
الموضوع والذي هو المستعمل حاكيا عن معنى ، وفي المقام ليس كذلك لافتراض انّ
الموضوع هو شخص اللفظ.
وكيف كان فالذي
استقرّ عليه جمع من الأعلام كالسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله انّ اطلاق
اللفظ وإرادة شخصه ليس من قبيل الاستعمال بل هو من قبيل الدلالة الايجادية وسيأتي
توضيح ذلك في محله ان شاء الله تعالى.
* * *
١١٦ ـ اطلاق اللفظ وإرادة
نوعه أو صنفه أو مثله
والكلام في صحة
استعمال اللفظ في نوع اللفظ ، بمعنى ان يقصد المتكلم من اللفظ نوعه ، والذي هو
الحقيقة المشتركة الجامعة والصادقة على حصصها الواقعة في جواب ما هو ، فزيد وبكر
وخالد حينما يسأل عنهم « بما هو » فإنّ الجواب هو « النوع » وهو الانسان.
وباتّضاح ذلك نقول
: انّه قد يستعمل اللفظ ويراد منه نوعه ، كما لو قال المتكلم « ضرب كلمة » فإن أراد
من لفظ « ضرب » نوعه وهو « الكلمة » ـ والتي هي تمام الحقيقة المشتركة والجامعة
والصادقة على حصصها مثل « ضرب ـ وشرب ـ وقائم ـ والباء » فإنّ هذه الفاظ لو وقع
عنها السؤال « بما هو » لكان الجواب هو « الكلمة » ـ فالمتكلم في المثال استعمل
حصة من حصص النوع
وأراد منه النوع.
وأما استعمال
اللفظ وإرادة صنفه : فهو ان يستعمل المتكلم لفظا ويريد منه صنفه.
والصنف هو الكلّي
الواقع تحت النوع والذي يوجب تقسيم النوع الى أقسام كلّ قسم يعبّر عنه بالصنف ،
فالأصناف وان كانت تشترك في انضوائها تحت حقيقة واحدة هي النوع إلاّ انّه لمّا
كانت كل مجموعة من الحصص تمتاز بخصوصية عرضية غير مقومة للذات أوجب ذلك تصنيف
النوع الى أقسام كلّ قسم يكون صنفا من أصناف النوع. مثلا : أفراد الانسان بتمامها
تشترك في حقيقة واحدة هي المعبّر عنها بالنوع إلاّ انّ لكلّ مجموعة من هذه الأفراد
خصوصية لا تتصل بمقومها الذاتي ، هذه الخصوصية هي التي أوجبت تصنيف النوع ، فأفراد
الانسان بلحاظ خصوصية العلم مصنفه إلى صنفين علماء وغير علماء ، وهكذا.
ومع اتّضاح ذلك
نقول : انّ المتكلم قد يستعمل لفظا ويكون مراده منه صنف ذلك اللفظ ، مثلا حينما
يسال عن اعراب لفظ زيد في جملة « رأيت زيدا » فإنه يقول « زيد مفعول به » ،
فالمتكلم استعمل في المثال لفظ زيد في صنفه ، إذ انّ الكلمة ـ وهي النوع ـ يمكن
تصنيف حصصها بلحاظ ما يعرضها من خصوصيات. فخصوصية وقوع الكلمة في الجملة موقع المفعول توجب تصنيف
أفراد الكلمة الى مفعول به وغير مفعول به.
فحينما نستعمل
لفظا ونقصد منه المفعول به فهذا هو استعمال اللفظ في صنفه.
وأما استعمال
اللفظ في مثله فذلك حينما يستعمل المتكلم لفظا ويقصد به مثل اللفظ الذي تلفظ به
سابقا أو تلفظ به متكلم آخر ، فحينما يقول متكلم : « ضرب زيد عمرا » ثم يقول « ما
هو اعراب زيد » فإنّ لفظ زيد
الثاني استعمل في
مثله.
هذا وقد وقع
الكلام عما هو المصحح لهذه الاستعمالات المجازية ، وأجاب المحقق الآخوند رحمهالله عن ذلك بأنّ المصحح لهذه الاستعمالات هو عينه المصحح لسائر الاستعمالات
المجازية والذي هو التناسب مع الطبع العرفي ومذاقه.
وأما السيد الخوئي
رحمهالله فادعى انّ هذه الإطلاقات ليست من قبيل الاستعمالات بل هي
من قبيل الدلالة الإيجادية على ما سيأتي توضيحها في محلّها ، ان شاء الله تعالى.
* * *
١١٧ ـ الإطلاق اللفظي
الحكمي
والمراد منه نفي
القيود عن الموضوع أو المتعلّق للحكم بواسطة قرينة الحكمة ، وعبّر عنه باللفظي
باعتبار انّ الإطلاق يعرض المعنى المستفاد بواسطة اللفظ ويقتضي نفي القيود عنه ،
وهو بخلاف التقييد اللفظي فإنّه يعرض المعنى أيضا المستفاد بواسطة اللفظ والاطلاق
اللفظي في مقابل الاطلاق المقامي والذي لا صلة له بالموضوع المذكور وانما ينفي موضوعات
اخرى للحكم لو قدّر لها ان تذكر لما أوجبت تقييدا في الموضوع المذكور ، فسواء ذكر
الموضوع الآخر أو لم يذكر فإن موضوع الحكم الاول يظلّ مفيدا لمعناه السعي دون أن
يتأثر بذكر الموضوع الآخر.
فالاطلاق اللفظي
يعرض المعنى المذكور بواسطة اللفظ ، والاطلاق المقامي ينفي المعنى غير المذكور.
وهذا هو منشأ تسمية الاول بالاطلاق اللفظي ، وأما منشأ التعبير عنه بالحكمي
فباعتبار انّ الظهور في الاطلاق تم بواسطة قرينة الحكمة.
ولمزيد من التوضيح
راجع عنوان « قرينة الحكمة » وعنوان « الإطلاق المقامي ».
١١٨ ـ الإطلاق المقامي
الإطلاق المقامي
هو الإطلاق المستفاد من قرائن اخرى غير قرينة الحكمة وتكون نتيجته نفي موضوع مستقل
عن ان يكون مشمولا لحكم من الأحكام على خلاف الإطلاق اللفظي ، فإنّه انّما يقتضي
انتفاء القيود المضيقة لدائرة موضوع الحكم.
فالإطلاق المقامي
ينفي موضوعا هذا الموضوع لو قدّر له وذكر في الكلام لما أضاف شيئا زائدا على
الموضوع المذكور وانما تكون فائدة ذكره هو انّه أحد موضوعات الحكم المذكور وتوضيح
ذلك :
انّ الإطلاق
اللفظي ـ المعبّر عنه بالاطلاق الحكمي ـ متقوم بظهور حال كل متكلم ـ مريد لجعل حكم
لموضوع ـ انّه في صدد بيان تمام موضوع حكمه وانّ كلّ حيثية دخيلة ـ بنظره ـ في
ترتب الحكم على الموضوع فإنّه لا بدّ من ذكرها وتقييد الموضوع بها. فالمتكلم حينما
لا يذكر أيّ قيد لموضوع الحكم فهذا يقتضي عدم إرادته للقيود وإلاّ لو كان مريدا
لها ولم يذكرها يكون ناقضا لغرضه ـ وهو بيان موضوع حكمه بتمام حدوده ـ ولمّا كان
الحكيم لا ينقض غرضه فهذا يعني عدم إرادته لتلك القيود ، وبذلك يتنقّح الإطلاق
والذي يعني نفي القيود عن موضوع الحكم.
فالمنتفي بالإطلاق
اللفظي هو قيود الموضوع ، والمنشأ للظهور في الإطلاق اللفظي هو ما يظهر من حال كل
متكلّم انّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه وانّه عند ما لا يذكر القيود في كلامه
فإنها ليست له ، وهذا ما تنقحه قرينة الحكمة.
أما الإطلاق
المقامي فليس كذلك ، إذ هو يختلف عن الإطلاق اللفظي من جهتين ، الاولى في نتيجة
الإطلاق المقامي ، الثانية فيما هو منشأ الظهور في
الإطلاق المقامي.
أما
الجهة الاولى : فإنّ مقتضى
الإطلاق المقامي هو انتفاء موضوع مستقل عن ان يكون مشمولا للحكم المذكور للمتكلم ،
والمراد من الاستقلال هو انّ الموضوع المنفي لو كان مرادا للمتكلم لما أوجب ذلك
تضييقا في دائرة الموضوع المذكور ، وهذا بخلاف الإطلاق اللفظي فإنّ القيد المنفي
بالإطلاق لو كان مرادا لأوجب تضييقا في دائر الموضوع المجعول له الحكم.
مثلا حينما يقال :
« أكرم العالم » فإنّ مقتضى الاطلاق اللفظي ومقدمات الحكمة هو سعة دائرة الموضوع «
العالم » لأن الاطلاق يعني نفي القيود المضيقة لدائرة مفهوم العالم ، أما لو كان
القيد مرادا للمتكلم وذكره في كلامه فإنّ ذكر القيد يستوجب تضييق دائرة الموضوع ،
فيصبح موضوع الحكم هو العالم العادل مثلا.
والإطلاق المقامي
ليس كذلك ، فمثلا حينما يكون المولى في صدد تعداد موضوعات حكم من الاحكام ، كأن
يقول : « مفطرات الصائم ثلاثة الأكل والشرب والجماع » ، فلو شككنا في انّ الارتماس
في الماء هل هو من مفطرات الصائم أيضا أو لا؟ فإنّ مقتضى الإطلاق المقامي هو نفي
موضوعية الارتماس للإفطار والذي هو الحكم ـ ، ومن الواضح انّ الارتماس لو كان
مرادا ومذكورا لما أوجب تضييقا في دائر موضوعات الحكم الأخرى كالأكل ، ولهذا قلنا
انّ الإطلاق المقامي ينفي موضوعا مستقلا لا يستوجب لو اتفق ذكره تقييدا في الموضوع
الآخر للحكم ، وانّما هو موضوع اضيف الى موضوعات الحكم المذكور.
الجهة
الثانية : وهي البحث عن
منشأ الظهور في الإطلاق المقامي.
ومما ذكرناه سابقا
يتضح انّ الإطلاق المقامي لا ينشأ عن مقدمات
الحكمة ، إذ انّ
مقدمات الحكمة تفترض وجود موضوع يكون المتكلم في مقام بيان حدوده المتناسبة مع
الحكم بنظره ، وهذا يقتضي نفي القيود عن الموضوع ـ عند عدم ذكرها ـ وتضييق الموضوع
بالقيود عند ذكرها ، فيختلف حال الموضوع سعة وضيقا باختلاف ما يعرض عليه من اطلاق
أو تقييد. فالاطلاق بمعنى نفي القيود يكون ناشئا عن مقدمات الحكمة والتقييد يكون
ناشئا عن ذكر القيود.
أما الإطلاق
المقامي فالموضوع المذكور لا يختلف حاله بذكر الموضوع الآخر أو عدم ذكره ، وهذا ما
يكشف عن انّ الظهور في الإطلاق المقامي هو شيء آخر غير مقدمات الحكمة ، ومن هنا
قالوا انّ الإطلاق المقامي ينشأ عن قرينة خاصة. وقد ذكر السيد الصدر رحمهالله انّها على نحوين :
الاول : ان يصرّح المتكلم انّه في مقام تعداد موضوعات الحكم
المذكور ، وحينئذ فكلّ موضوع لم يذكره فهو منفي بالإطلاق المقامي أي انه غير مشمول
للحكم المذكور.
ومثاله ما لو قال
المولى : « ساحصي لكم مستثنيات الغيبة » ثم أخذ في تعدادها ، فلو وقع الشك ـ بعد
ان أنهى المولى كلامه ـ في الطفل المميّز ، وانّه مشمول للحكم المذكور إلاّ انّ
المولى أهمل ذكره أو انّه غير مشمول للحكم؟
فهنا يمكن التمسك
بالاطلاق المقامي لنفي موضوعية الطفل المميز للحكم بجواز الغيبة ، إذ لو كان
موضوعا لجواز الغيبة لذكره المولى ، وذلك لانّه في مقام تعداد موضوعات الحكم كما
دلّ على ذلك تصريحه أو ظهور كلامه في انّه بصدد احصاء مستثنيات الغيبة.
الثاني : ان يكون الإطلاق المقامي مستفادا من طبيعة الموضوع مع
ملاحظة ما يقتضيه
حال المتكلم ، فلو كان الموضوع من قبيل الموضوعات التي لا يتعرّف على وجوبها مثلا
إلاّ بواسطة إخبار الشارع مع الالتفات الى انّ هذا الموضوع لو كان واجبا لما كان
في بيانه محذور ، فحينئذ لو استقصينا البحث في خطابات الشارع فلم نجد ما يثبت
الوجوب لكان ذلك موجبا لاستظهار انتفاء موضوعية هذا الموضوع للوجوب إذا ضممنا الى
كل ما ذكرناه القرينة العامة المسلمة وهي انّ الشارع دائما يكون في مقام التصدي
لبيان ما يتصل بأغراضه.
مثلا : لو وقع
الشك في وجوب التمنطق في الصلاة ، أي وقع الشك في موضوعية التمنطق للوجوب ، فإنّه
لمّا كانت طبيعة هذا الموضوع تقتضي عدم امكان التعرّف على وجوبه بغير اخبار الشارع
، فإنّ عدم ذكر الشارع لوجوبه رغم انّه حريص على بيان أحكامه ، وليس ثمة ما يوجب
الإحجام عن البيان والمفترض انّنا تابعنا خطابات الشارع فلم نجد ما يثبت الوجوب
للتمنطق ، كلّ ذلك يكوّن الظهور في الإطلاق المقامي وانّ التمنطق ليس موضوعا
للوجوب.
* * *
١١٩ ـ الإطلاق في
المفاهيم الافرادية والجمل التركيبية
المراد من
المفاهيم الأفرادية هي المفاهيم الاسمية ، كاسماء الأجناس ، وعروض الإطلاق عليها
معناه ملاحظتها مجردة عن كل قيد حتى قيد التجرد عن القيود.
وأما المراد من
الجملة التركيبية فهو المدلول الذي تقتضيه طبيعة القضية ، إذ انّ الاختلاف في
الكيفية التركيبية للقضية يستوجب اختلاف مدلولها.
وعروض الإطلاق
عليها بمعنى عدم وجود ما يوجب تبدّل مدلولها الاولي ، أي انّها لو خلّيت وطبيعة
تركيبها فإنها
تقتضي الظهور في معنى معين ، هذا الظهور المستفاد من الكيفية التركيبية للقضية هو
المعبّر عنه بالاطلاق في الجمل التركيبيّة.
ومن هنا يتضح
المراد من تقييدها فإنّه بمعنى طروء ما يوجب تبدّل ظهورها الاولي ـ المستفاد من
طبيعة تركيبها ـ الى ظهور آخر تقتضيه طبيعة القرينة المقيدة ، فالجملة الطلبية
مثلا تقتضي العينية التعيينية النفسية ، وهذا الاقتضاء ناشئا عن طبيعة الجملة
الطلبية ، فهي إذن مفيدة للعينية إذا لم تقيّد بما يستوجب تبدّل هذا الظهور ، وهذا
هو معنى الاطلاق في الجمل التركيبية. أي عدم تقييد الجملة التركيبية بما يستوجب
تبدّل ظهورها الاولي.
وتقييد الجملة
الطلبية ـ مثلا ـ يكون باضافة قيد للجملة يقتضي ظهورها في الكفائية أو التخييرية
أو الغيرية ، وهذا ما ينافي ظهورها الاولي.
وباتضاح الفرق بين
الإطلاق في المفاهيم الافرادية والإطلاق في الجمل التركيبية نقول : انّ الاطلاق في
المفاهيم الأفرادية يقتضي دائما السعة في المفهوم الافرادي ، وذلك في مقابل تضييق
المفهوم الأفرادي وحصره ببعض أفراده أو حصصه والذي ينشأ عن التقييد للمفهوم
الأفرادي.
وأما الإطلاق في
الجمل التركيبية فهو يقتضي التضييق ، والتقييد فيها هو الذي يقتضي التوسعة ، كما
لاحظتم ذلك في الجمل الطلبية وكما هو كذلك في الجمل الشرطية ، حيث انّ مقتضى
الاطلاق فيها هو التضييق وانحصار ترتّب الحكم على تحقق الشرط أو الوصف ، بل انّ
الإطلاق في الجمل التركيبية قد يقتضي تضييق المفاهيم الافرادية الواقعة في إطارها
، كما هو الملاحظ في اطلاق العقد فإنّه يقتضي اختصاص النقد ـ الواقع ثمنا في العقد
ـ بنقد البلد ، ولو لا وقوع النقد في اطار
العقد لكان مقتضيا
للسعة.
هذا هو حاصل ما
أفاده المحقق النائيني رحمهالله ، ثم أفاد بأنّ الإطلاق في الجمل التركيبية ليست له ضابطة
مطردة بل تتفاوت النتيجة فيها بتفاوت الحالات والمقامات ، ولذلك تبحث الجمل
التركيبية من حيث ما يقتضيه اطلاقها وتقييدها في محال مختلفة تبعا للحاجة لذلك.
* * *
١٢٠ ـ الاعتبار
المعتبر ـ بصيغة
المفعول ـ كما أفاد المحقق النائيني رحمهالله نحو من الوجود إلاّ انّ وعاء هذا النحو من الوجود هو عالم
الاعتبار ، وذلك في مقابل الوجودات العينيّة فإن وعاء وجودها هو الخارج ، ولا فرق
بينهما من جهة الانقسام الى الموجودات المتأصلة والموجودات الانتزاعية.
فكما انّ الوجودات
العينية قد تكون من قبيل الوجودات المتأصلة مثل الجواهر « الانسان ، الحجر »
والاعراض والتي هي موجودة في اطار الجواهر وقائمة بها مثل القيام والإحاطة.
وقد تكون من قبيل
الوجودات الانتزاعية التي ليس لها ما بإزاء في الخارج ، بمعنى ان لا وجود لها في
الخارج يمكن ان يشار اليه بل انّ الموجود في الخارج هو منشأ انتزاعها ، مثل العلّية
والفوقية ، فإنّ العلية لا وجود لها في الخارج إلاّ انّ منشأ انتزاعها له ما بإزاء
في الخارج وهو العلّة والمعلول ، فإنّهما من الوجودات العينية ، والعقل حينما لاحظ
العلة والمعلول انتزع عنهما عنوان العلّية ، فالعلية من الوجودات الانتزاعية.
فكما انّ الوجودات
العينية تنقسم الى متأصلة وانتزاعية فكذلك الوجودات الاعتبارية ، فقد تكون من
قبيل الوجودات
المتأصلة مثلا الحلية والحرمة والملكية والرقية ، فإنّ لهذه الوجودات ما بإزاء في
عالم الاعتبار ، وقد تكون من قبيل الوجودات الانتزاعية والتي ليس لها ما بإزاء في
عالم الاعتبار إلاّ انّ منشأ انتزاعها موجود في عالم الاعتبار ويمكن ان يشار اليه
بالنحو المناسب للوجود الاعتباري ، وذلك مثل ما لو اعتبر المولى الملكية مترتبة
على الصيغة فإنّ العقل حينئذ ينتزع عنوان السببية والمسببيّة ، فالسببيّة
والمسببيّة ليس لهما وجود متأصل في عالم الاعتبار إلاّ ان منشأ انتزاعهما موجود
متأصل في عالم الاعتبار.
وباتضاح ان
المعتبر نحو من الوجود وعاؤه هو عالم الاعتبار نقول انّ الاعتبار فعل نفساني
اختياري ، وليس هو الإرادة والكراهة ، وذلك لعدم اختياريتهما ، نعم الإرادة من
مبادئ الاعتبار ، كما انّ إدراك المصلحة والمفسدة ليس هو عين الاعتبار بل هما من
مبادئه في بعض الأحيان.
ومن هنا صحّ ان
يقال : انّه ليس للاعتبار وجود وراء اعتبار المعتبر ، حيث انّه ـ كما ذكرنا ـ فعل
نفساني اختياري ، فبمجرّد ان يرفع المعتبر اليد عن اعتباره فإنّ المعتبر يكون في
حيّز العدم.
وبما ذكرناه يتضح
الفرق بين الاعتبار والمعتبر ـ بصيغة المفعول ـ فالمعتبر هو ما يوجد بواسطة
الاعتبار وهو الذي ينقسم الى متأصل وانتزاعي ، وأما الاعتبار فليس من قبيل
الوجودات الاعتبارية حيث قلنا انّه من أفعال النفس الاختياريّة ، ولا يعقل ان يكون
وجود الاعتبار اعتباري لاستلزام ذلك للتسلسل ، إذ لو كان الاعتبار وجود اعتباري لا
نسحب الكلام الى هذا الوجود وانّه ما هو منشأ اعتباريته ، فإن كان هو
الاعتبار أيضا لزم
التسلسل ، فلا بدّ وأن يكون الاعتبار وجودا حقيقيا من الوجودات الذهنية.
ويمكن تنظير ذلك
بالتصوّر فإنّه غير المتصوّر ، فالمتصوّر مثلا هو مفهوم الإنسان وأما التصوّر فهو
موجود واقعي حقيقي علاقته مع مفهوم الإنسان علاقة المظروف بظرفه ووعاء وجوده «
التصور » هو الذهن ، وهكذا الكلام في الاعتبار فإنّه موجود حقيقي واقعي وعاء وجوده
النفس وأما الوجودات الاعتبارية مثل الحرمة والوجوب فهي مظروفة للاعتبار والاعتبار
هو وعاؤها وموطنها كما أفاد ذلك السيد الخوئي رحمهالله.
والمتحصّل انّ
الاعتبار فعل نفساني يعني افتراض شيء لشيء أو افتراض انّ شيئا شيء ، والاول من
قبيل جعل الحرمة على موضوع والثاني من قبيل تنزيل الشك منزلة اليقين ، والجامع
بينهما هو عنوان الحكم ، فالاعتبار هو الحكم على الشيء وليس المقصود من الحكم هو
الإنشاء اللفظي ، إذ ان ذلك هو المبرز للحكم والاعتبار ، وأما الاعتبار والحكم فهو
فعل النفس الناشئ عن الإرادة والكراهة.
ولأنّ الاعتبار
يعني الحكم والتقنيين فهذا يقتضي لزوم تصوّر الموضوع وتصوّر الحكم وتصوّر النسبة
بينهما وتصوّر الفائدة المترتبة على النسبة ثم الإذعان والتصديق بتلك الفائدة
وحينئذ ينشأ الحكم والاعتبار.
وليس من اعتبار
إلاّ ويمرّ بهذه المراحل الذهنية وان كان اعتباطيا ، ومن هنا لا يلزم ان يكون
الاعتبار ناشئا عن ملاكات واقعية أو لا أقل وهمية ـ كما يتفق للمقنن غير المعصوم ـ
فالاعتبار ليس أكثر من افتراض يتفق صدوره من كل عاقل ملتفت أيّا كان غرضه ، ولهذا
قيل انّ الاعتبار
سهل المئونة.
ثم انّ الاعتبار
ليس ملزما ومقتضيا لأن ترتّب آثاره إلاّ ان يكون صادرا عمّن له حقّ الاعتبار سواء
كان هذا الحق مدركا بواسطة العقل العملي القطعي والذي هو إدراك العقل لاستحقاق
المولى جلّ وعلا للطاعة وترتيب الآثار على معتبراته أو كان هذا الحق ناشئا عن
الآراء المحمودة والمتبنيات العقلائية ، وهذا النحو من الاعتبارات هو المعبّر عنه
بالاعتبارات العقلائية.
* * *
١٢١ ـ اعتبارات الماهيّة
والمقصود من
اعتبارات الماهيّة هو أنحاء لحاظها أو قل الكيفيات التي تلحظ بها الماهية. واختلاف
اللحاظ في الماهية يؤول الى تباين الملحوظ دقة ، فالماهية الملحوظة بشرط شيء
متباينة مع نفس الماهية الملحوظة بشرط لا ، وحتى الماهيّة اللابشرط المقسمي مباينة
لأقسامها ، أي بنحو التباين المفهومي ، إذ انّ مفهوم الماهية اللابشرط المقسمي
مباين للماهيّة اللابشرط أو البشرطشيء.
والغرض من عقد هذا
البحث هو التعرّف على ما هو الموضوع له اسم الجنس ، بمعنى البحث عن أيّ اللحاظات
التي لوحظت معها الماهية حين وضع اسم الجنس لها.
وكيف كان فالماهية
قد تلاحظ بما هي هي أي بقطع النظر عن تمام الخصوصيات التي قد تعرضها ، فلا يلحظ
معها سوى ذاتها وذاتيتها والذي هو واقعها في نفس الأمر كجنسها وفصلها.
والماهية بهذا
اللحاظ يعبّر عنها بالماهية المهملة ، فهي مهملة من تمام الجهات والحيثيّات التي
قد تطرأ عليها حتى خصوصية اهمالها لا يكون ملحوظا معها. وحتى خصوصية ان
اللحاظ في موردها
مقتصر على الذات والذاتيات ليس ملحوظا ، ومن هنا لا يحمل عليها شيء سوى ذاتها
وذاتياتها ، فيصح ان يقال : الإنسان من حيث هو حيوان ناطق أو ناطق. وهذه هي المعبّر
عنها بالكلّي الطبيعي ـ كما أفاد السيد الخوئي رحمهالله على خلاف بين الاعلام فصلناه تحت عنوان « الكلّي الطبيعي ».
وقد تلاحظ الماهية
بالإضافة الى خصوصية خارجة عن مقام ذاتها وذاتياتها ، وهذا اللحاظ له أقسام :
القسم
الاول : ان يكون
الملحوظ معها هو عنوان مقسميتها ، أي عنوان انّها مقسم للأقسام الآتية دون لحاظ
خصوصية اخرى ، والماهية بهذا اللحاظ يعبّر عنها بالماهية اللابشرط المقسمي ، وهي
معقول ثانوي وعاؤه الذهن فحسب.
ومنشأ كونها من
المعقولات الثانوية هو انها تنتزع عن المفهوم المنتزع من الخارج ابتداء. فالذهن
ينتزع عن الخارج عنوان الرجل المتّصف بالفقر ـ مثلا ـ وعنوان الرجل المتّصف بعدم
الفقر ، ثم يكون بامكان الذهن انتزاع مفهوم آخر من هذا المفهوم المنتزع عن الخارج
، هذا المفهوم يعبّر عنه بالمعقول الثانوي ، فالذهن ينتزع عن عنوان الرجل الفقير
مفهوم الرجل المتحيّث بقيد الفقير ، وينتزع عن عنوان الرجل غير الفقير مفهوم الرجل
المتحيّث بقيد عدم الفقير ، كما يمكنه ان ينتزع عن مفهوم الرجل مفهوم الرجل
المجرّد عن التقيّد بالفقر والتقيّد بعدم الفقر ، كما له ان ينتزع مفهوم الرجل
الجامع لتمام هذه الأقسام أي الرجل الفقير والرجل غير الفقير والرجل ، وهذه
الماهية الملحوظة بما هي جامع هي المعبّر عنها بالماهية اللابشرط المقسمي. ولاستيضاح المراد
من المعقول الثانوي راجعه تحت عنوانه.
القسم
الثاني : ان يكون
الملحوظ مع الماهية هو صفة التجرّد عن تمام الخصوصيات والحيثيات الخارجة عن ذاتها
وذاتياتها ، بمعنى انّها تلحظ مجرّدة عن تمام القيود الوجودية والعدمية ، وهذه هي
المعبّر عنها بالماهية المجرّدة والماهية بشرط لا.
والماهية بهذا
اللحاظ تكون من قبيل الجنس والفصل والنوع ، وذلك لانّها مفاهيم ليس لها ما بإزاء
في الخارج وانّما وعاؤها الذهن فحسب ، ولا يمكن حمل الوجودات الخارجية عليها ، نعم
يصح حمل المعقولات الثانوية عليها ، فيقال : الإنسان نوع ، والحيوان جنس ، والناطق
فصل.
القسم
الثالث : ان يكون
الملحوظ مع الماهيّة صفة خارجية ، أي صفة يكون لها تقرّر في عالم الخارج ، وهذا
يعني انّ الماهية تلحظ بمالها من وجود خارجي في اطار أفرادها ، وعندها يتحيّث
وجودها بالقيد الخارجي المتحيثة به في عالم اللحاظ ، فلا تصدق على غير الوجود
المتقيّد بذلك القيد الخارجي. والماهية الملحوظة بهذا النحو من اللحاظ يعبّر عنها
بالماهية المخلوطة والماهية بشرط شيء ، وهي على قسمين :
الاول : الماهية الملحوظ معها قيد وجودي مثل ماهية الرجل الملحوظ
معه قيد الفقر.
الثاني : الماهية الملحوظ معها قيد عدمي مثل ماهيّة الرجل الملحوظ
معه قيد عدم الفقر.
وكلا القسمين
يعبّر عنهما بالماهية بشرط شيء ، أي بشرط تحيّثها بالقيد ، ولا يختلف الحال بين
كون القيد وجوديا أو عدميا بعد ان كان المراد من البشرطشيء هو شرط الاتّصاف ، وهو
صادق في حالات الاتصاف بالقيد الوجودي والاتّصاف بالقيد العدمي. إلاّ انّ
الاصوليين ـ كما ذكر السيد الخوئي رحمهالله يطلقون على
الماهية الملحوظ
معها القيد العدمي الماهية بشرط لا ، وعلّق على ذلك بأنه اصطلاح ولا مشاحة في
الاصطلاح.
القسم
الرابع : ان يكون
الملحوظ مع الماهيّة هو خصوصيّة الإطلاق والإرسال ، بمعنى انّها تلحظ مع عدم
التقيّد بأيّ قيد وجودي أو عدمي ، فيكون عدم لحاظ القيد مأخوذا في اللحاظ مع
الماهيّة.
وبتعبير آخر :
تكون الماهيّة ملحوظة مع عدم التقيّد بالقيد وعدم التقيّد بعدم القيد ، كأن نلاحظ
ماهيّة الرجل مع عدم التقيّد بشيء مثل عدم التقيّد بالفقر وعدم التقيّد بعدم
الفقر. ويعبّر عن هذه الماهيّة بالماهيّة اللابشرط القسمي بحسب ما أفاده السيد الخوئي
رحمهالله.
هذا تمام الكلام
في اعتبارات الماهيّة وسيأتي توضيح أكثر تحت كل عنوان من أنحاء الماهية ، وتحت
عنوان الكلّي الطبيعي. إلاّ انّه لا بدّ من الإشارة هنا الى انّ اسم الجنس موضوع
لأيّ نحو من أنحاء الماهية.
وقد وقع الخلاف
بين الأعلام ، فبعضهم ذهب الى انّه موضوع للماهية المطلقة المعبّر عنها بالماهية
اللابشرط القسمي ، ومشهور المحققين ذهبوا الى انّه موضوع للماهية المهملة المعبّر
عنها بالماهية اللابشرط القسمي ، ويترتب على هذا الخلاف ، انّه بناء على المبنى
الاول يكون الإطلاق في اسماء الأجناس مستفادا بواسطة الوضع ، وعلى المبنى الثاني
يكون الإطلاق مستفادا بواسطة قرينة خارجة عما وضع له اسم الجنس ، وهذه القرينة هي
المعبّر عنها بقرينة الحكمة.
ومنشأ الحاجة
لإثبات الاطلاق الى قرينة خارجة عما وضع له اسم الجنس ـ بناء على المبنى الثاني ـ هو
انّ اسم الجنس عند ما يكون موضوعا للماهية المهملة فهذا معناه انه وضع للطبيعة بما
هي هي الغير الملحوظ معها
أي حيثيّة أو
خصوصية من الخصوصيات الخارجة عن ذاتها وذاتياتها ، حتى لحاظ اختصاص النظر
بالماهيّة لم يكن ملحوظا معها حين وضع اسم الجنس بإزائها ، وهذا معناه انّ الإطلاق
لم يكن ملحوظا معها حين الوضع ، ولهذا عند ما يكون المتكلم مريدا للإطلاق من
اسم الجنس يلزمه نصب قرينة ولو من قبيل قرينة الحكمة ، كما هو الحال لو كان مريدا
للتقييد ، فإنّه لمّا كان اسم الجنس موضوعا للماهيّة المهملة وللطبيعة بما هي يكون
التقييد خارجا عمّا وضع له اسم الجنس ، وهذا ما يبرّر الحاجة الى قرينة خارجية.
وقد استدل لصالح
المبنى الثاني : بأن اسم الجنس لو كان موضوعا للماهية المطلقة لكان استعماله
في المقيّد يستبطن عناية زائدة وهي غير محسوسة بالوجدان ، إذ لا يرى العرف انّ
استعمال اسم الجنس في الماهية المقيدة استعمالا مجازيا بل هو استعمال حقيقي بنحو
تعدّد الدال والمدلول كما هو الحال في استعمال اسم الجنس في الماهيّة المطلقة ،
ففي كلا الحالتين تكون الماهيّة مستعملة في الطبيعة المهملة ويكون التقييد
والإطلاق مستفادين من قرائن اخرى خارجة عما وضع له اسم الجنس.
وهذا ما يعبّر عن
انّ اسم الجنس موضوع للجامع بين جميع الأقسام المذكورة في انحاء لحاظ الماهيّة ،
وحينئذ صح استعمال اسم الجنس في الماهيّة على اختلاف أنحائها ، غايته تكون
اللحاظات المضافة الى الماهيّة مستفادة بواسطة قرائن اخرى.
* * *
١٢٢ ـ الاعتبار في
الاوضاع اللغوية
والبحث هنا عن
نظرية الاعتبار في الوضع ، وهي محاولة لتفسير العلاقة الواقعية المدركة بالوجدان
بين اللفظ
والمعنى ، حيث نجد
انّ اللفظ سبب لانخطار المعنى في الذهن ، ومن غير المعقول ان يكون هذا الانخطار قد
نشأ جزافا ، فلا بدّ من منشأ سبّب انخلاق هذه العلاقة السببية الواقعية. ومن هنا
تصدّت مجموعة من النظريات للكشف عمّا هو السر لهذه العلاقة. ومن هذه النظريات هي نظرية الاعتبار.
واجمال المراد
منها هو انّ الواضع يعتبر اللفظ دالا على المعنى ، وهذا الاعتبار يحدث استيثاقا
بين اللفظ والمعنى ينشأ عنه انخطار المعنى عند اطلاق اللفظ ، فالسرّ الذى نشأت عنه
العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع.
وهذا المقدار لا
موقع للخلاف فيه بين أصحاب مسلك الاعتبار وانّما اختلفوا في كيفية الاعتبار الذي
نشأت عنه العلاقة ، وهل هو اعتبار اللفظ علامة على المعنى أو هو اعتبار اللفظ
وجودا تنزيليا للمعنى أو انّ الكيفية الاعتبارية هي انّ الواضع جعل اللفظ أداة
لتفهيم المعنى. وتشترك هذه الكيفيات الثلاث في انّ المنشأ لحدوث العلاقة هي اعتبار
الواضع وانّه لا وجود لها وراء اعتبار الواضع.
وكيف كان فهنا
ثلاث نظريات متفرعة عن نظرية الاعتبار :
النظرية
الاولى : هي انّ الواضع
اعتبر الوضع علامة على المعنى ، فاللفظ ـ بحسب اعتبار الواضع ـ بمثابة العلامة
الموضوعة على الطريق للتعبير عن انّه مغلق أو سالك ، غايته انّ الوضع في الثاني
حقيقي خارجي والوضع اللغوي اعتباري وإلاّ فكلاهما مشتركان من جهة انّ العلامة وضعت
للكشف عن ذي العلامة. ولمزيد من التوضيح راجع مسلك العلامية.
النظرية
الثانية : هي انّ الواضع
يعتبر اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ،
فالملقى للمخاطب
هو المعنى تنزيلا واعتبارا ، ولهذا يكون لحاظ اللفظ من قبل المتكلم لحاظا آليا
ويكون الملحوظ بنحو الاستقلال هو المعنى ، فهو الموجود بالاستعمال واللفظ يكون
فانيا فيه فناء العنوان في المعنون.
ويمكن تنظير
الوجود التنزيلي للمعنى باللفظ ببعض المعتبرات الشرعية التي نزّل فيها وجود شيء
منزلة وجود شيء آخر ، كتنزيل وجود الفقاع منزلة وجود الخمر ، فالخمر وان لم يكن له
وجود خارجي عند وجود الفقاع إلاّ انّه موجود تنزيلا وفي عالم الاعتبار ، وكذلك
الحال في وجود المعنى باللفظ ، فهو وان لم يكن له وجود في وعاء الخارج عند ما يطلق
اللفظ إلاّ انّ له وجود حقيقي في وعاء الاعتبار.
النظرية
الثالثة : هي انّ الواضع
يعتبر اللفظ أداة لتفهيم المعنى ، وبهذا تصبح علاقة اللفظ بالمعنى علاقة الوسيلة
بذي الوسيلة ، فكلّما أراد المتكلّم اخطار المعنى في ذهن المخاطب توسّل باللفظ
لتحقيق هذا الغرض ، فكما يتوسل بالمفتاح لفتح القفل كذلك يتوسل باللفظ لإخطار
المعنى ، غايته انّ اللفظ وسيلة وأداء اعتبارية بمعنى انّها نشأت عن اعتبار الواضع
اللفظ أداة ، وهذا بخلاف المفتاح فانّ صلاحيته لان يتوسل به لفتح القفل ليس منوطا
بالاعتبار بل هي ناشئة عن علاقة تكوينية بينه وبين القفل هذه العلاقة هي علاقة
الوسيلة بذي الوسيلة.
* * *
١٢٣ ـ إعراض المشهور
والبحث في المقام
عن سقوط الحجية عن الخبر المعتبر سندا اذا أعرض عنه المشهور.
وشهرة الإعراض
التي وقع البحث عن صلاحيتها لسلب الحجية عن
الخبر المعتبر
سندا هي الشهرة الواقعة بين قدماء الفقهاء القريبين من عصر النص كالصدوقين والشيخ
المفيد والسيد المرتضى والحلبي وسلاّر وابن البراج والشيخ الطوسي رحمهمالله.
ثم انّ صدق
الإعراض منوط باحراز أمرين :
الأمر
الاول : هو إحراز
اطّلاعهم على الخبر ، وهذا يعني انّه لو وقع الشك في اطلاعهم عليه ـ بحيث احتملنا
انّ منشأ عدم العمل بالخبر هو عدم رؤيتهم له ـ فإنّ صدق الإعراض في مثل هذا الفرض
غير متحقق ، فيكون هذا الفرض خارجا عن محلّ النزاع.
والوسيلة التي
يمكن التعرّف بها على رؤيتهم للخبر هي نقلهم له باسانيده المعتبرة أو وجدانه في
المجاميع الروائية المشهورة ، إذ في هذه الحالة يستبعد عدم اطلاعهم عليه رغم حرصهم
على التحرّي عن الأخبار المنقولة عن أهل البيت عليهمالسلام خصوصا المتصل منها بالأحكام.
الأمر
الثاني : هو إحراز انّ الإعراض
لم ينشأ عن إجمال الخبر أو عدم ظهوره في المعنى الذي يراد الاستدلال به عليه ، أو
لم ينشأ عن انّ الخبر بنظرهم كان قد صدر تقية أو انّه معارض بما هو اقوى منه سندا
أو دلالة.
ومع احراز الإعراض
واحراز انّه لم ينشأ عن أحد المناشئ المذكورة يقع البحث حينئذ عن انّ هذا الإعراض
هل هو موجب لانسلاب الحجية عن الخبر رغم سلامة طريقه من الضعف أو انّ هذا الإعراض
لا يؤثر في صحة الاعتماد عليه؟.
ذهب المشهور من
المتأخرين الى انّ الإعراض سالب للحجية عن الخبر ، وذلك لأنّ مناط ثبوت الحجية
للخبر هو الوثوق بصدوره ، وكيف يحصل الوثوق بخبر أعرض عنه
المشهور من قدماء
الاصحاب القريبين من عصر النص والذين هم أعرف العلماء بالحديث وبرجال الحديث ، وهل
اخذ الحديث إلاّ منهم ، فهم بحكم قربهم من عصر النص أعرف من غيرهم بما ابتلي به
الحديث من الوضع والتدليس.
إلاّ انّ السيد
الخوئي رحمهالله خالف المشهور وذهب الى انّ الإعراض غير قادح في حجية الخبر
المعتبر سندا ، وذلك لأنّ أدلة الحجية لخبر الثقة غير قاصرة عن الشمول لهذا الفرض
، وانّ اعراض بعض العلماء وان كانوا الأكثر عن خبر مع عمل آخرين به لا يقدح في صحة
الاعتماد عليه بعد تمامية الاطلاق لادلة الحجية ، نعم لو تسالم العلماء على
الاعراض فإنّ ذلك يوجب الاطمئنان بوجود خلل في الخبر ، وحينئذ لا يصح التعويل على
مثله ، إلاّ ان ذلك خارج عن محل البحث.
* * *
١٢٤ ـ إعراض المشهور عن
الظهور
والبحث هنا عن انّ
إعراض المشهور عما هو المستظهر من الرواية هل يوجب سقوط الظهور عن الحجية أو لا.
ذهب مشهور
المتأخرين الى عدم سقوط الحجية عن الظهور بالاعراض ، وذلك لإطلاق أدلة الحجية
الثابتة للظهور ، بمعنى انّ حجية الظهور ليست منوطة بعدم الظن بخلافه ، فلو اقتضت
الضوابط اللغوية المقررة عن أهل اللسان ظهورا معينا وكان هذا الظهور متناسبا مع
المتفاهم العرفي مع ملاحظة تمام ما يكتنف الرواية من قرائن فإنّ هذا الظهور يكون
حجة حتى ولو لم يحصل الظن الشخصي به أو كان الظن الشخصي منافيا لما هو مقتضى ذلك
الظهور.
نعم اعراض المشهور
يكون بمثابة
القرينة العكسية
المزاحمة للقرائن الاخرى الموجبة لظهور معين ، فلو كنا نبحث عما تقتضيه الرواية من
ظهور فإنّ إعراض المشهور عن ظهور معين يكون قرينة عكسية في مقابل القرائن الاخرى
الموجبة لذلك الظهور المعرض عنه ، وحينئذ نوازن بين تلك القرائن لغرض التعرّف عما
هو الحقيق منها بالاتباع.
* * *
١٢٥ ـ الاقتضاء
يستعمل لفظ الاقتضاء
في كلمات الاصولين في معنيين :
المعنى
الاول : هو الكشف
والدلالة.
المعنى
الثاني : هو العلّية
والمؤثرية.
والتعرف على أيّ
المعنيين هو المراد في مورد من الموارد يتم بواسطة ملاحظة المسند اليه الاقتضاء ،
فإن اسند الاقتضاء الى لفظ لغرض التعرّف على مدلوله فالاقتضاء حينئذ يكون بمعنى
الكشف والدلالة ، وان اسند الى فعل من الافعال أو الى أمر من الامور الواقعية
فالاقتضاء حينئذ يكون بمعنى العلّية والمؤثرية.
مثلا : حينما يقال
: الامر هل يقتضي المرة أو التكرار ، أو يقال الأمر بعد الأمر هل يقتضي التأسيس أو
التأكيد ، والأمر عقيب الحظر أو توهمه هل يقتضي الإباحة أو الوجوب ، فهنا يكون
الاقتضاء بمعنى الدلالة ـ أي انّ الامر عقيب الحظر هل يدل على الوجوب أو الإباحة ـ
وذلك لأنّ الاقتضاء قد اسند الى لفظ الأمر لغرض التعرّف على دلالته.
وحينما يقال :
الإتيان بالمأمور به هل يقتضي الإجزاء أو انّ الحرمة في العبادة هل تقتضي الفساد
أو انّ الوجوب هل يقتضي حرمة ضده وهكذا ، فإنّ الاقتضاء هنا يكون بمعنى
العلية أو
المؤثرية ، وذلك لأنّ الاقتضاء لأنّ الاقتضاء اسند الى فعل أو الى أمر من الامور
الواقعية وكان الغرض هو البحث عن العلاقة الواقعية بين أمرين.
هذا هو حاصل ما
أفاده صاحب الكفاية رحمهالله في بحث الإجزاء وقد استوجهه جمع من الأعلام كالسيد الخوئي رحمهالله.
* * *
١٢٦ ـ الأمارة
الأمارة في اللغة
هي العلامة ، وهي في المصطلح الاصولي تعني الأدلة الظنية النوعية والتي لها نحو
كشف عن الواقع إلاّ انّ هذا الكشف ليس تاما ، بمعنى انّ المطلع عليها لا يصل
لمرتبة اليقين والقطع بمطابقة مدلولها للواقع.
وقلنا انّها نوعية
لنحترز بها عن الوسائل غير العقلائية والتي قد تورث الظن في حالات محدودة ولعوامل
غالبا ما تكون نفسية وغير مطردة عند العقلاء. فهذه الوسائل الشخصية لا يعبّر عنها
في المصطلح الاصولي بالأمارة.
ويمكن التمثيل
للأمارة بخبر الواحد وبالإجماع المنقول وبالشهرة الفتوائية وبالظهورات العرفية
والقياس والاستقراء ، فإنّ كلّ واحد من هذه الأمارات وسيلة من الوسائل الظنية
العقلائية والتي لا تعطي الإراءة التامة عن الواقع. ولهذا لا يصحّ التعويل عليها
واستكشاف الحكم بواسطتها إلاّ مع قيام الدليل القطعي على حجيتها ودليليتها.
وبهذا يتضح عدم
اختصاص الامارة في اصطلاح الاصوليين بالدليل الظني الذي قام الدليل القطعي على
حجيته ـ كما قد يتوهم ـ فإنّ الأمارة عندهم تطلق على الأعم من الدليل الظني
المعتبر شرعا وغير المعتبر كالقياس والاستقراء. ولهذا
فهم يستعرضون
الأمارات واحدة تلو الاخرى للبحث عن صلاحيتها للكشف عن الحكم الشرعي وعدم صلاحيتها
لذلك ، فإن قام الدليل القطعي على صلاحية واحد منها للكشف والدليليّة على الحكم
الشرعي عبّروا عن تلك الأمارة بالامارة المعتبرة وإلاّ فهي أمارة غير معتبرة ، وما
يتراءى من تعبيرات بعض الاصوليين ـ عند التفريق بين الأمارة والاصل ـ من انّ
الأمارة هي المعتبرة شرعا فغير مراد جزما حيث انهم يبحثون هناك عما هو المجعول في
الأمارة ، وهذا انّما هو بعد الفراغ عن حجيتها ، فهي مرحلة متأخرة عن تحديد معنى
الأمارة.
* * *
١٢٧ ـ الامتثال الاحتمالي
المستظهر من عبائر
المحقق النائيني رحمهالله انّ المراد من الامتثال الاحتمالي هو الامتثال الإجمالي
المنتج للقطع بفراغ الذمة عن عهدة التكليف ، الاّ انّ السيد الخوئي رحمهالله لم يقبل باستعمال لفظ الامتثال الاحتمالي في الامتثال الإجمالي.
وعليه يكون المراد
من الامتثال الاحتمالي هو التبعيض في الاحتياط وقد أوضحنا المراد منه تحت عنوان «
التبعيض في الاحتياط » ، ومثاله :
ان يأتي المكلّف
ببعض أطراف العلم الاجمالي دون البعض الآخر ، وحيث انّ من المحتمل كون المأتي به
هو منطبق الجامع المعلوم بالإجمال فعندئذ يكون المكلّف محتملا لامتثال المأمور به
واقعا.
وبهذا يتضح انّ
الإتيان بالفعل المحتمل وجوبه أو استحبابه برجاء المطلوبية ، أو ترك الفعل المحتمل
حرمته أو كراهته برجاء المطلوبية لا يكون من الامتثال الاحتمالي بل هو من الامتثال
الاجمالي الذي يحصل معه القطع بفراغ الذمة عن التكليف لو كان
ثابتا واقعا.
ويتّضح أيضا مما
ذكرناه انّ الامتثال الإجمالي هو المقابل للامتثال التفصيلي لا المقابل للامتثال
اليقيني ، فإنّ الامتثال الاجمالي امتثال يقيني أيضا ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان «
الامتثال العلمي التفصيلي ».
* * *
١٢٨ ـ الامتثال الظنّي
التفصيلي والامتثال الاجمالي
والمراد من
الامتثال الظني التفصيلي هو امتثال التكليف الثابت بواسطة الظن المعتبر حيث لا
يمكن العلم الوجداني بالتكليف ، وأما الامتثال الإجمالي فهو الإتيان بتمام
المحتملات الموجبة للقطع بفراغ الذمة عن التكليف لو كان ثابتا واقعا. فالامتثال
الإجمالي هنا لا يختلف عن الامتثال الإجمالي المقابل للامتثال العلمي التفصيلي.
ثم انّ الامتثال
الظني التفصيلي على نحوين :
النحو
الأول : هو ما يكون
الظن فيه بالتكليف من الظنون الخاصة ، كالظن الناشئ عن خبر الثقة بناء على انفتاح
باب العلم والعلمي.
والامتثال
التفصيلي الظني بهذا النحو من الظنون يجري فيه تمام ما ذكرناه في الامتثال العلمي
التفصيلي ، نعم بناء على مبنى المحقق النائيني رحمهالله من انّ الامتثال الإجمالي دائما يكون في طول الامتثال
التفصيلي يلزم البناء على لزوم تقديم المظنون على المحتمل في مقام الامتثال
الإجمالي ، بمعنى انّه لو دار الأمر بين القصر والتمام مثلا وكان مقتضى الظن
المعتبر الخاص هو القصر فإنّ المكلّف لو اختار الامتثال الإجمالي فإنّه ملزم
بتقديم القصر على التمام.
إلاّ انّ السيد
الخوئي رحمهالله ادعى انّ تقديم المظنون على المحتمل غير لازم
حتى بناء على مبنى
المحقق النائيني رحمهالله ، وذلك لأنّ الإتيان بالتكليف المظنون بالظن الخاص يكون
بداعي الأمر المتوجه للمكلّف بنحو اليقين التعبدي ، بمعنى انّ المكلّف يكون
انبعاثه نحو التكليف المظنون عن جزم تعبدي بالتكليف ، وهذا الجزم كما يمكن ان يكون
هو الداعي للمكلّف للإتيان بالتكليف المظنون أولا وقبل الإتيان بالتكليف المحتمل
كذلك يكون هو الداعي لو جيء به بعد التكليف المحتمل ، فلا فرق بين الحالتين ،
وكذلك الكلام في التكليف المحتمل ، فكما يكون الإتيان به بعد التكليف المظنون
بداعي احتماله فكذلك يكون الداعي والباعث للإتيان به قبل التكليف المظنون هو داعي
احتماله ، فأيّ فرق بين التقديم والتأخير إذا كان كذلك.
النحو
الثاني : هو يكون الظن
فيه بالتكليف من قبيل الظن المطلق ـ بناء على انسداد باب العلم والعلمي ـ وهو
المعبّر عنه بالظن الانسدادي.
وهنا يكون
الامتثال الإجمالي صحيحا بلا إشكال فيما لو بنينا على صحة الامتثال الإجمالي حتى
على تقدير القدرة على الامتثال التفصيلي العلمي والظني الخاص.
أما لو بنينا هناك
على الطولية بين الامتثال التفصيلي والامتثال الإجمالي في ظرف القدرة على الامتثال
التفصيلي فإنّه يقع البحث هنا عن وجود خصوصية توجب صحة الامتثال الإجمالي رغم انّ
الامتثال التفصيلي الظني ممكن ، أو انّه لا توجد خصوصية في البين توجب التفريق بين
الظن الخاص والظن الانسدادي وعليه لا بدّ من البناء هنا أيضا على الطولية بين
الامتثال التفصيلي والامتثال الإجمالي.
* * *
١٢٩ ـ الامتثال العلمي
التفصيلي والامتثال الإجمالي
ويتحدّد الفرق
بينهما بواسطة ملاحظة التكليف ، فتارة يكون التكليف معلوما تفصيلا ومن تمام الجهات
وتارة لا يكون كذلك ، وفي الحالة الاولى حينما يمتثل المكلّف التكليف المعلوم يكون
امتثاله تفصيليا ، وفي الحالة الثانية ـ أي حينما يكون التكليف مبهما من بعض جهاته
ـ لا يمكن امتثال التكليف إلاّ بنحو الامتثال الاجمالي.
والمراد من
الامتثال الإجمالي العلمي هو الإتيان بما يوجب القطع بفراغ الذمة عن التكليف ، ولهذا
النحو من الامتثال حالتان ، فتارة يكون التكليف دائرا بين أمرين متباينين واخرى لا
يكون كذلك.
ففي الحالة الاولى
: يكون الامتثال الإجمالي مستوجبا للتكرار ، كما لو دار الوجوب بين القصر والتمام
بنحو الشبهة الحكمية أو بين كون القبلة في الشرق أو الغرب وهذه شبهة موضوعية.
وفي الحالة
الثانية : يكون الامتثال الإجمالي مستوجبا للإتيان بتمام ما هو محتمل الدخل في
التكليف ، كما لو وقع الشك في وجوب السورة في الصلاة أو لزوم مراعاة الاطمئنان في
القراءة ، فإنّ الامتثال الإجمالي يقتضي الإتيان بالصلاة مع السورة ومراعاة الاطمئنان.
ثم انّه وقع البحث
بين الأعلام عن صحة الامتثال الإجمالي مع القدرة على الامتثال التفصيلي وهل بين
الامتثال التفصيلي القطعي والامتثال الإجمالي القطعي طولية أو ان للمكلّف اختيار
أيّهما شاء في مقام الامتثال للتكليف.
ولا يخفى عليك انّ
المراد من القدرة على الامتثال التفصيلي هو القدرة على
معرفة التكليف
تفصيلا ، إذ انّ المكلّف تارة يكون قادرا على الوصول الى الحكم الشرعي بواسطة
الفحص عنه في مظانه ، واخرى يكون عاجزا عن الوصول اليه حتى مع الفحص ، وفي الحالة
الثانية لا ريب في صحة الامتثال الإجمالي القطعي سواء كان مستوجبا للتكرار أو لم
يكن مستوجبا لذلك وسواء كان في التوصليات أو في التعبديات ، وسواء كان التكليف
متنجزا على المكلّف كما في موارد العلم الإجمالي أو لم يكن متنجزا كما في الشبهات
البدوية بعد الفحص أو قبل الفحص لو لم يكن الفحص نافعا في التعرّف على الحكم
الشرعي.
وأما الحالة
الاولى ـ وهي التي يكون فيها المكلّف قادرا على الامتثال التفصيلي القطعي وذلك
بواسطة الفحص عن الحكم الشرعي ـ فهي التي وقعت محلا للنزاع بين الأعلام إلاّ انّ
النزاع يختص بحالات تنجّز الواقع كما في الشبهات الحكمية قبل الفحص وموارد العلم
الإجمالي ، هذا فيما لو كان التكليف المراد امتثاله من التعبديات ، وأما التوصليات
وكذلك الأحكام الوضعية كالطهارة فالظاهر انها لم تقع محلا للنزاع ، نعم أثار الشيخ
الأنصاري رحمهالله اشكالا في خصوص العقود والإيقاعات ، وقال ما حاصله :
انّ العقود وكذلك
الإيقاعات لما كانت من قبيل الإنشاء والذي يعتبر فيه الجزم والبت فهو لا يناسب
الامتثال الإجمالي والاحتياط بتكرار الإنشاء المحتمل اعتباره في تحقق العقد أو
الإيقاع ، إذ انّ كل إنشاء حينئذ سوف يكون معلقا على كونه هو المعتبر شرعا.
فحينما يقع الشك
في انّ طلاق الكارهة الباذلة هل يكون بصيغة الخلع أو بصيغة الطلاق ، أي هل يلزم
المكلف ان ينشأ الإيقاع بصيغة « انت مخلوعة » أو « انت طالق » ، فإنّ
الإتيان بكلّ واحد
من الإنشاءين سوف لن يكون بنحو الجزم المعتبر في الإيقاعات ، وذلك لأن المكلّف
حينئذ سوف يكون عاجزا عن الجزم بكون الإنشاء الاول هو الموجب شرعا لانتهاء العلقة
وكذلك الإنشاء الثاني ، ولذلك يكون الامتثال الإجمالي في العقود والايقاعات داخل
في محل النزاع.
* * *
١٣٠ ـ الامتناع بالاختيار
لا ينافي الاختيار
وهي من القواعد
العقلية المشتهرة بين علماء الكلام وكذلك علماء الاصول ، وكثيرا ما ترد في كلمات
الاصوليين بعنوان « الاضطرار بسوء الاختيار لا ينافي الاختيار ».
وكيف كان فالمراد
من القاعدة ـ اجمالا ـ هو انّ الضرورة المستندة الى الاختيار لا تنفي عن متعلّقها
صدق اختياريته ، ولهذا لا تقبح معاقبة الواقع تحت سلطانه بعد ان كانت ناشئة عن
اختياره.
ومثال ذلك
المقدمات التوليدية بالنسبة لذيها ، فذو المقدمة وان كان ضروري الوقوع عند اتفاق
وقوع المقدمة التوليدية إلاّ انّ مقدمته لمّا كانت اختيارية فإنّ ذلك يقتضي
اختيارية ذي المقدمة ، ومن هنا يصحّ اسناد ذي المقدمة الى فاعل المقدمة التوليدية
عن اختيار ، رغم انّ ذا المقدمة خارج عن الاختيار.
وحتى يتجلّى
المراد من القاعدة نقول : انّ مورد البحث عنها في علم الكلام يختلف عن مورد البحث
عنها في علم الاصول ، ومنشأ الاختلاف هو انّ الغرض من بحثها في علم الكلام هو
الاستفادة منها للرد على شبهة الأشعري فيما هو واقع الأفعال الصادرة عن العباد ،
حيث انّ مبنى الأشعري في ذلك هو الجبر.
وأما الغرض من
بحثها في علم الاصول فهو التعرّف على ما هو حكم الأفعال الاضطرارية الناشئة عن
مقدمات اختيارية ، وهل تسقط المسئولية عنها بعد ان كانت ثابتة لو لا الاضطرار.
ولهذا يبحث عن هذه القاعدة عادة في موردين : الاول : في بحث اجتماع الأمر والنهي ،
والمورد الثاني في بحث المقدمات المفوتة.
وقبل بيان المراد
من القاعدة في علم الأصول لا بأس بالإشارة الى المراد منها في علم الكلام فنقول :
انّ الأشاعرة في
مقام الانتصار لمذهبهم ادعوا انّ الأفعال لا تخلو عن ان تكون ضرورية الوقوع أو
ضرورية العدم ، فليس ثمة فعل إلاّ وهو كذلك ، بمعنى انّه لا يوجد فعل ممكن الوجود
فهو إمّا واجب أو ممتنع ، فهو واجب الوقوع لو كانت علته تامة ، وهو ممتنع الوقوع
مع عدم علته أو كانت علته ناقصة ، واذا تمّ ذلك فكلّ فعل يصدر عن الإنسان فهو
ضروري الوقوع ، إذ لو لم يكن كذلك لم يقع فالشيء ما لم يجب لا يوجد ، وما هو ضروري
الوقوع لا يمكن ان يكون اختياريا ، إذ انّ اختياريته تنافي ضرورة وقوعه.
هذا هو حاصل
الشبهة المثارة من الأشعري لغرض الانتصار لمذهبه.
وقد أجاب عن هذه
الشبهة الخواجة نصير الدين الطوسي وكذلك العلامة الحلّي رحمهما الله بقولهم انّ
الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ومرادهم من الامتناع هو الامتناع بالغير ،
بمعنى انّ وجوب الوجود للفعل إذا كان ناشئا عن اختيار المكلّف فإنّ ذلك لا يسلب
الاختيارية عن الفعل ، فنحن وان كنا نسلّم بأن الوقوع لم يكن ليحصل لو لا وجوبه
وضرورته إلاّ انّ هذه الضرورة ليست ذاتية للفعل ، بمعنى انّ ضرورة الوقوع لم تكن
ناشئة عن مقام الذات للفعل وانّما كانت
ناشئة عن علته
التامة ، فهي ضرورية ولكن بالغير ، وعندئذ يقع البحث عن منشأ الضرورة فإذا كانت
ناشئة عن مقدمات وكانت بعض هذه المقدمات هي إرادة واختيار الفاعل فإنّ الفعل
المترتّب عليها يكون اختياريا ، إذ انّ الفاعل كان قادرا على عدم ايقاع الفعل
بواسطة عدم ايجاد علّته ومن الواضح انّ القدرة على ترك الفعل بواسطة ترك علته
معناه اختيارية الفعل ، إذ انّ الفعل الاختياري هو الفعل الذي يكون للمكلّف فعله
وتركه ولو بواسطة ايجاد علته الاختيارية أو اعدامها.
وبهذا يتضح انّ
المراد من الامتناع هو الامتناع بالغير والذي هو ضرورة الوجود أو ضرورة العدم
الناشئة عن غير مقام الذات لمتعلّق الضرورة ، وذلك في مقابل الضرورة الذاتية أي
الناشئة عن مقام الذات لمتعلقها كاقتضاء ذات الباري جلّ وعلا للوجود ، فالوجوب
الثابت لذاته تعالى ناشئ عن مقام ذاته « جلّت أسماؤه » ، وهكذا ضرورة العدم
الثابتة لشريك الباري فإنها ناشئة أيضا عن مقام الذات لشريك الباري ، فيكون حاصل
المراد من القاعدة هو انّ الضرورة المستندة الى اختيار علتها يقتضي اختيارية ذي
الضرورة.
وأمّا المراد من
القاعدة في كلمات الاصوليين فالظاهر انّه لا يختلف عما هو المراد منها في علم
الكلام ، إلاّ انّ السيد الخوئي رحمهالله في المحاضرات ذكر انّ المراد من الامتناع في القاعدة هو
الامتناع الوقوعي ، وذكر في الدراسات انّ المراد من الامتناع هو الامتناع الحقيقي.
والظاهر انّ
مقصوده من الامتناع الوقوعي هو ضرورة وقوع الفعل عند ايجاد مقدماته الاختيارية
التوليدية ، وهذا بخلاف ما هو المراد من الامتناع عند المتكلّمين حيث انّ مقصودهم
منه
هو الضرورة
الناشئة عن العلة التامة لو كانت هذه العلة هي نفس الاختيار الذي يترتّب عليه
الفعل ابتداء.
وبيان ذلك : انّ
الفعل الواقع خارجا عن المكلّف قد يحتاج وقوعه الى إيقاع أفعال جوارحية تكون هي
المقدمات التوليدية للفعل ، وهذا هو مورد القاعدة في كلمات الاصوليين.
وقد لا يكون الفعل
الصادر عن المكلف مفتقرا الى أكثر من إرادة ايقاعه ، بمعنى انّ ضرورة وقوعه لا
يتوقف على مقدمات خارجية ، فبمجرّد ان تنعقد الإرادة لإيجاده فإنّ الفاعل يقوم
بالفعل ابتداء.
ومثال الاول :
القتل ، فإنّ القتل لا يتم إلاّ بواسطة مقدمات توليدية مثل الإلقاء من شاهق ، فإنّ
الإلقاء من الشاهق ليس هو القتل نفسه بل هو مقدمة توليدية له.
ومثال الثاني :
الكذب ، فإنّ هذا الفعل لا يفتقر وجوده الى أكثر من إرادته واختياره.
وواضح انّ كلا
الصورتين يكون الامتناع في موردهما هو الامتناع بالغير ، غايته انّ الصورة الاولى
تتوقف ضرورة الفعل في موردها على مقدمات خارجية اختيارية ، وأمّا الصورة الثانية
فصدور الفعل في موردها لا يتوقف على أكثر من الإرادة والاختيار ، إلاّ انّ الضرورة
في كلا الصورتين لم تكن ناشئة عن مقام الذات لمتعلقها وانّما هي ناشئة عن علة
خارجة عن مقتضى ذاتها.
وحيث انّ نظر
الأشعري كان منصبا على الأفعال الصادرة ابتداء عن المكلّف لا الأفعال الناشئة عن
مقدمات خارجية ، إذ لا معنى للبحث عنها بعد ان كانت هذه المقدمات أفعالا صادرة عن
المكلّف ابتداء ، فحيث انّ هذه الأفعال الصادرة عن المكلّف ضرورية بنظره فالافعال
المترتبة عليها تكون ضروريتها أوضح.
فنظر الأشعري
مقتصر على الافعال من سنخ الصورة الثانية ، نعم نفس الافعال التوليدية مشمولة
لإشكاله إلاّ انّها حينئذ تكون من سنخ الصورة الثانية أيضا ، فإلقاء الغير من شاهق
فعل صادر ابتداء عن المكلّف.
واذا كان كذلك
فالمراد من الامتناع في القاعدة لا يكون بمعنى الامتناع الوقوعي بالمعنى الذي
استظهرناه من عبائر السيد الخوئي رحمهالله والذي هو عبارة عن ضرورة الوقوع الناشئة عن المقدمات
الاختيارية التوليدية.
وأما نظر الاصولي
فهو منصب على الأفعال من سنخ الصورة الاولى والتي هي الأفعال الضرورية الوقوع بسبب
وقوع مقدماتها الاختيارية التوليدية ، إذ لا اشكال في مسئولية المكلّف عن الفعل
الصادر ابتداء عنه بمحض اختياره.
هذا حاصل ما نفهمه
من عبائر السيد الخوئي رحمهالله المقتضبة في المقام والتي وردت في المحاضرات.
وأما ما نسب اليه
في الدراسات من انّ الامتناع في القاعدة ـ في البحث الاصولي ـ هو الامتناع الحقيقي
فلم نجد له توجيها مناسبا ، إذ لا إشكال في عدم إرادته من الامتناع الحقيقي
الامتناع بالذات ولا الامتناع بالقياس ولا الامتناع بالغير ، لانّه جعله مقابلا
للامتناع الحقيقي وان عبّر عنه في الدراسات بالامتناع العرضي إلاّ انّ مقصوده منه
هو الامتناع بالغير ، كما هو واضح.
نعم قد يكون مراده
من الامتناع الحقيقي هو نفسه الامتناع الحقيقي ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ وذلك لأنّ
الفعل الناشئ عن مقدماته التوليدية لا يكون المكلّف معه قادرا على التراجع وهذا ما
ناسب التعبير عنه بالامتناع الحقيقي ، بخلاف الامتناع في مورد الصورة الثانية فإنّ
حصول الإرادة والاختيار لا يعجّز المكلّف عن
التراجع ، فهذا
النحو من الامتناع من الامتناع بالغير إلاّ انّ خصوصيته هي عدم القدرة على التراجع
بعد حصول المقدمات التوليدية ، بخلاف الامتناع بالغير في مورد الصورة الثانية ،
فإنّ المكلّف حتى لو أراد الفعل واختاره فإنّ له ان لا يفعل فلا يتحقق الامتناع
معه إلاّ حين ايجاد الفعل. وهذا التوجيه هو المتناسب مع مبناه في العلل الإرادية ،
وذلك في مقابل دعوى استحالة تخلّف المعلول عن علّته التامة حتى في موارد العلل
الإرادية.
وكيف كان
فالامتناع المراد في القاعدة هو الامتناع بالغير إلا انّ نظر الاصولي مقتصر على
الامتناع الناشئ عن المقدمات الخارجية الاختيارية ، إذ لا إشكال في مسئولية
المكلّف عن الأفعال الاختيارية الصادرة عنه ابتداء ، نعم الأفعال التي لا تكون
اختيارية لو قطع النظر عن مقدماتها ، بمعنى انّها لو كانت اختيارية لكانت
اختياريتها بسبب اختيارية مقدماتها ، هذه الأفعال يمكن ان يقع التشكيك حتى من غير
الأشعري في اختياريتها.
فالسقوط من الشاهق
ضروري الوقوع وعدمه خارج عن اختيار المكلّف بعد الإسقاط ، وحينئذ يمكن ان يقال بأن
السقوط ليس اختياريا وان كان الاسقاط اختياريا ، وهنا يتصدى المؤمن بالقاعدة للقول
: بأنّ السقوط وان كان ضروريا إلاّ انّ الضرورة الناشئة عن مقدمات اختيارية لا
تنفي مسئولية المكلّف عن ذلك الفعل الذي نشأت ضرورته عن اختياره.
وباتّضاح المراد
من القاعدة نقول انّ الاقوال فيها ثلاثة :
القول
الاول : انّ الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وخطابا.
القول
الثاني : انّ الامتناع
بالاختيار
ينافي الاختيار
عقابا وخطابا.
القول
الثالث : انّ الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا ولكن ينافيه خطابا.
والمراد من عدم
منافاة الامتناع للخطاب هو انّ الضرورة الناشئة عن مقدمات اختيارية لا تمنع من نهي
أو أمر المكلّف عن الفعل الضروري أي غير المقدور ، وذلك لأنّ الضرورة نشأت عن
الاختيار.
وأما المراد من
منافاة الامتناع للخطاب فهو انّ الضرورة وعدم القدرة على الترك او الفعل تمنع من
نهي المكلّف أو أمره وان كانت هذه الضرورة وعدم القدرة قد نشأت عن مقدمات اختيارية
، وذلك للغوية نهيه أو أمره بعد ان كان عاجزا عن الامتثال. فلا معنى لنهيه عن فعل
لا يتمكن من تركه وان كان عدم تمكنه من الترك ناشئا عن اختياره.
فمنافاة الامتناع
للخطاب انّما هو بسبب عبثية الخطاب ، وهذا ما يتنزّه عنه المولى جلّ وعلا.
والقول الاول
منسوب الى أبي هاشم المعتزلي وما اليه المحقق القمي رحمهالله ، وأورد عليه السيد الخوئي رحمهالله : بأنّ الخطاب بالأمر أو النهي انّما يكون بغرض احداث
الداعي في نفس المكلّف ، فمع افتراض عجز المكلّف عن الانبعاث عن الخطاب لا يكون
ثمة معنى لإحداث الباعث في نفسه ، إذ لن ينحدث الداعي في النفس للانبعاث بعد
افتراض عدم قدرة المكلّف على الامتثال ، فيكون الخطاب بالأمر أو النهي عبثيّا.
وهذا لا يختلف الحال فيه بين العجز عن قاسر خارجي أو استناد العجز الى سوء
الاختيار ، فإنّ عبثية الخطاب في كلا الفرضين منحفظة.
ثم أورد على هذا
القول ايرادا نقضيا ، حاصله : انّه لو كان الخطاب
في صورة العجز
المستند الى الاختيار ممكنا لصحّ تكليف المكلّف بالمحال إذا كان ذلك التكليف منوطا
بفعل اختياري كأن يقول : اذا أفطرت في نهار شهر رمضان وجب عليك الجمع بين النقيضين
أو الضدين ، وواضح استحالة هذا الخطاب.
وأما القول الثاني
فقد أورد عليه السيد الخوئي رحمهالله بأن العجز عن التكليف لمّا كان مستندا الى الاختيار فهذا
معناه اختيارية الفعل ، إذ انّ الفعل الاختياري هو ما كان للمكلّف فعله وتركه ولو
بواسطة فعل أو ترك مقدماته الاختيارية ، فكونه ضروري الوقوع لا ينافي اختياريته
بعد ان كان المكلّف قادرا على الامتثال بواسطة مقدماته الاختيارية ، وهذا ما يصحح
مسئولية المكلّف عن الفعل الضروري المستند للاختيار.
فالكون في الارض
المغصوبة وان كان ضروري الوقوع إلاّ انّه لما كان ناشئا عن الدخول الاختياري فإنّ
ذلك يقتضي ـ كما هو مقتضى الحكم العقلي القطعي ـ صحه إدانة المكلّف على الكون في
الارض المغصوبة ، إذ لا يفرّق العقل بين الفعل الذي تكون اختياريته ابتدائية وبين
الفعل الذي تكون اختياريته ناشئة عن اختيارية مقدماته.
وبهذا تتضح تمامية
القول الثالث والذي هو مبنى المشهور من انّ الضرورة المستندة للاختيار لا تنفي
اختيارية الفعل الممتنع ، ومن هنا يكون المكلّف مسئولا عن ذلك الفعل أو الترك ولا
تقبح معاقبته ، نعم لا تصح مخاطبة المكلف بالترك أو الفعل ، وذلك لعبثية الخطاب
بعد افتراض العجز عن الامتثال.
* * *
١٣١ ـ الامتناع بالذات
وهو الاستحالة
الناشئة عن مقام الذات. أو قل : هو ضرورة انتفاء
المحمول عن
الموضوع وتكون هذه الضرورة ناشئة عن مقام الذات للموضوع.
فالامتناع بالذات
يقابل الوجوب بالذات والذي يكون فيه ثبوت المحمول للموضوع ضروريا على ان تكون
الضرورة ناشئة عن مقام الذات للموضوع.
ومثال الممتنع
بالذات شريك الباري حيث ان انتفاء الوجود عن شريك الباري ضروري وانّ هذه الضرورة
نشأت عن ان ذات شريك الباري تقتضي ذلك.
وبهذا يتضح انّ
المقصود من امتناع اجتماع الأمر والنهي هو الامتناع بالذات ، إذ انّ المدعى هو انّ
ذات الأمر والنهي يقتضيان امتناع الاجتماع.
* * *
١٣٢ ـ الامتناع بالغير
وهو ضرورة انتفاء
المحمول عن الموضوع إلاّ انّ هذه الضرورة لا تنشأ عن مقام الذات للموضوع بل تنشأ
عن سبب خارج عن الذات مستوجب لانتفاء المحمول عن الذات.
ومثاله الإنسان ـ والذي
يكون وجوده ممكنا بالإمكان الذاتي ـ إذ قد يعرضه الامتناع بالغير فيكون ممتنع
الوجود بالغير ، وذلك حينما لا تكون هناك علة تامة مقتضية لضرورة وجوده ، فعدم
العلة هي الواسطة في امتناع وضرورة عدمه ، فلم يكن الامتناع ناشئا عن مقام الذات
للإنسان بل انّه نشأ عن سبب خارج عن ذاته.
* * *
١٣٣ ـ الامتناع بالقياس
المراد من
الامتناع بالقياس هو امتناع عدم شيء عند افتراض وجود ملازمه بقطع النظر عن ان
علاقته بملازمه علاقة العلة والمعلول أو علاقة
المعلول بعلته أو
كونهما معلولين لعلة ثالثة.
وبتعبير آخر : ان
كلّ شيء واجب الوجود بالقياس الى وجود شيء آخر فإنّ عدمه ممتنع بالقياس عند وجود
الآخر ، حتى ولو لم يكن الوجود الآخر علة لوجود لازمه. فعند ما نفترض انّ وجود زيد
ملازم لوجود عمرو فهذا معناه ان افتراض وجود عمرو يقتضي امتناع عدم وجود زيد.
فالعلّة ـ مثلا ـ لمّا
كانت واجبة الوجود بالقياس الى وجود المعلول ـ بمعنى انّ افتراض وجود المعلول
يقتضي ضرورة وجود العلة ـ فهذا معناه انّ افتراض وجود المعلول يقتضي امتناع عدم
وجود العلة ، وهكذا لو كان بين شيئين تلازم في الوجود ـ رغم انّ أحدهما ليس علة
للآخر بل هما معلولان لعلة ثالثة ـ فإنّ كل واحد منهما واجب الوجود بالقياس الى
الآخر ، وحينئذ يكون افتراض وجود أحدهما مقتضيا لامتناع عدم وجود الآخر بالقياس.
* * *
١٣٤ ـ الأمر
وقع الخلاف بين
الأعلام فيما هو المعنى الموضوع له لفظ الأمر ، إلاّ انّ الظاهر عدم الخلاف في انّ
مادة الأمر مفيدة لمعنى الطلب في الجملة ، نعم الخلاف فيما هو منشأ هذه الاستفادة
، فقد ذهب المحقق النائيني رحمهالله الى انّ مادة الأمر موضوعة لإفادة معنى الواقعة التي لها
خطر وأهمية ، وتمام المعاني المذكورة لمادة الأمر ترجع روحا الى هذا المعنى بما
فيها الطلب ، فإنّه من الامور التي لها خطر ، وعليه يكون منشأ استفادة الطلب من
مادة الأمر ـ بناء على هذه الدعوى ـ هو انّه من مصاديق المعنى الموضوع له لفظ
الأمر.
وفي مقابل هذه
الدعوى ذهب جمع
من الأعلام الى
انّ الطلب من المعاني التي وضع لفظ الأمر للدلالة عليه ، فتكون مادة الأمر ـ بناء
على هذه الدعوى ـ من المشتركات اللفظية. والخلاف بين هؤلاء الأعلام فيما هي المعاني الاخرى التي
وضعت مادة الأمر للدلالة عليها. فمنهم من زعم انّ مادة الأمر موضوعة ـ بالإضافة
للطلب ـ للشيء والحادثة والغرض والشيء العجيب والفعل.
وذهب صاحب الكفاية
رحمهالله الى انّ مادة الأمر موضوعة للطلب وللشيء فحسب ، وانّ سائر
المعاني المذكورة ترجع لمعنى الشيء وانه وقع خلط بين المفهوم والمصداق ، وانّ لفظ
الأمر لم يستعمل في هذه المعاني ، نعم هو مستعمل في مصاديقها ، وهو خارج عن محل
البحث ، إذ انّ البحث انما هو عن المفهوم الذي وضعت مادة الأمر بإزائه وللدلالة
عليه.
ثم انّ هناك
أقوالا اخرى أعرضنا عن ذكرها لعدم ترتّب ثمرة تذكر من بيانها ، والمهم في المقام
هو التعرّض لمسألتين :
المسألة
الاولى : هي انّه هل
يعتبر في صدق الأمر صدوره من العالي للداني وانّ الآمر في مقام الاستعلاء ، أو لا
يعتبران معا ، أو يعتبر الأول دون الثاني أو الثاني دون الاول؟ أقوال :
ذهب جمع من
الأعلام كصاحب الكفاية والسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهمالله الى اعتبار العلو في صدق الأمر وانّ صدور الأمر من
المستعلي إذا لم يكن عاليا لا يكون أمرا ، كما انّ صدور الأمر من العالي على غير
وجه الاستعلاء يعدّ بنظر العرف أمرا ، واستدلّ السيد الخوئي رحمهالله على ذلك بالوجدان وانّ صدوره من العالي هو المصحح لانتزاع عنوان البعث
والتحريك والتكليف وانّه يصحّ سلب الأمر عن الطلب اذا صدر من الداني المستعلي ،
بأن يقال : انّ طلب المستعلي
الداني ليس أمرا.
وذهب السيد الإمام
رحمهالله الى اعتبار الاستعلاء بالإضافة الى العلو ، فإنّ مثل قوله
تعالى : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ) وكذلك قوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) لا يعدّ أمرا لأنّه لم يصدر على وجه الاستعلاء.
المسألة
الثانية : في دلالة الأمر
على الوجوب فنقول : انّه قد وقع الاتفاق على انّ الأمر ظاهر في الوجوب ، وانّ ذلك
هو مقتضى المتفاهم العرفي من الأمر عند اطلاقه وعدم وجود ما يوجب صرفه عن ذلك.
نعم وقع الخلاف
بين الأعلام فيما هو منشأ هذا الظهور ، فالمشهور زعموا انّ منشأ الظهور هو الوضع ،
وانّ مادة الأمر كذلك صيغته وضعتا للدلالة على الطلب الوجوبي.
واستدلوا لذلك :
باستعمالات أهل اللسان والمحاورة لمادة الأمر وهيئته كقوله تعالى : (
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) إذ لا معنى
للتحذير عن مخالفة الأمر لو لم يكن مفيدا للطلب الوجوبي ، ولكان عليه عندئذ ان يقيّد الأمر
المحذّر عن مخالفته بالامر الوجوبي.
وفي مقابل دعوى
المشهور ذهب المحقق النائيني والسيد الخوئي رحمهما الله الى انّ المنشأ لظهور
الأمر في الوجوب هو حكم العقل بتقريب حاصله : انّ العقل يدرك عند صدور الطلب من
المولى لزوم الطاعة وانّه ليس للمكلّف التخلّف عنه ، إذ انّ ذلك هو ما تقتضيه
عبوديته للمولى جلّ وعلا ، نعم لو رخّص المولى في ترك متعلّق الطلب فإنّ للمكلّف
عندئذ تجاوزه وعدم الجري على وفقه ، أما مع عدم الترخيص فالعقل يدرك مسئولية
المكلّف عن امتثال أمر المولى أداء لحقّ المولوية.
فالأمر في حدّ
نفسه ليست له دلالة
على أكثر من الطلب
واستفادة الوجوب من اوامر المولى انّما هي من مدركات العقل العملي.
* * *
١٣٥ ـ الأمر الإرشادي
هو ما يكون مدلوله
حكما عقليا أو حكما شرعيا وضعيا ، فيكون دور الأمر حينئذ دور المنبّه والمرشد الى
الحكم العقلي أو الحكم الشرعي الوضعي.
وبيان ذلك : إنّ
الظهور الاولي للأمر ـ سواء المدلول عليه بالمادة أو بالصيغة أو بشيء آخر ـ يقتضي
الطلب المولوي لمتعلقه إلاّ انّ هذا الظهور لا يكون مستقرا إلاّ مع فقدان القرائن
الموجبة لصرف الظهور الى معنى آخر أما لو كان ثمة قرينة منافية لذلك فإنّ الظهور
يكون مع ما يناسبها.
واذا كان كذلك
فالأمر الصادر بداعي التنبيه والإرشاد الى شيء لا يكون مفيدا للطلب المولوي ، وهذا
يعني انسلاخه عن ظهوره الاولي الى الظهور في الإرشاد. ومن هنا لا يكون الأمر
الإرشادي موجبا للبعث نحو متعلّقه ، وانما يكون له دور الكشف عن انّ متعلّقه حكم
وضعي مثلا.
ولمزيد من التوضيح
نقول : انّ الاوامر الإرشادية يمكن تصنيفها الى قسمين :
القسم
الاول : ان يكون متعلّق
الأمر فيها مدركا من المدركات العقلية والتي لها تقرّر في نفس الأمر والواقع بقطع
النظر عن صدور الأمر عن الشارع أو عدم صدوره ، وهنا تكون فائدة الأمر متمحضة في
الإرشاد والتنبيه على الحكم العقلي ، فلا يكون متعلّقه مطلوبا مولويا ، وانّما
تكون مطلوبيته ـ لو كانت ـ ناشئة عن إدراك العقل لذلك.
ومثاله قوله تعالى
: ( أَطِيعُوا اللهَ ) إذ انّ متعلّق الأمر الوارد في
الآية الشريفة هو
إطاعة الله جلّ وعلا ، ومطلوبية الطاعة لله سبحانه لا يمكن ان تكون حكما شرعيا
لاستلزام ذلك لمحذور عقلي وهو الدور أو التسلسل ، إذ لو كان الموجب للزوم امتثال
الأمر باطاعة الله جلّ وعلا هو الأمر بالطاعة في الآية الشريفة لكان ذلك مقتضيا
للبحث عما هو الموجب لإطاعة الأمر بالطاعة فإن كان هو نفس قوله « أطيعوا الله »
لزم الدور وان كان هو أمر إلهي آخر رجع السؤال وهو ما الذي يلزم باطاعة الله تعالى
في أمره بلزوم طاعة قوله « أطيعوا الله » وهكذا يتسلسل.
أما لو كان الموجب
لإطاعة الله عزّ وجل هو ما يدركه العقل من لزوم طاعة أوامر المولى أداء لحق
المولوية فإنّه حينئذ ينقطع التسلسل ولا يلزم الدور ، وبهذا يتعين انّ الأمر في
قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ ) أمر إرشادي لما يحكم به العقل من لزوم طاعة الله جلّ وعلا.
وبهذه القرينة
العقلية ـ القاضية باستحالة ان يكون الأمر في الآية الشريفة مولويا ـ ينصرف الأمر
عن ظهوره الاولي في الطلب الشرعي الى الظهور في الإرشادية.
والمتحصّل انّ
الأمر الإرشادي في هذا القسم هو ما يلزم من افتراض مولويته محذور عقلي.
وهنا بيان آخر
للأمر الإرشادي أفاده المحقق النائيني رحمهالله وحاصله : ان الأمر الإرشادي هو ما كان متعلّقه مدركا عقليا
واقعا في سلسلة معلولات الحكم الشرعي.
وبيان ذلك :
انّ بعض الأحكام
العقلية تقع في طول الحكم الشرعي فما لم يكن حكم شرعي فإنّ العقل لا يستقل
بإدراكها ، وهذا هو معنى وقوع الحكم العقلي في سلسلة معلولات الحكم الشرعي ، بمعنى
انّ وجود الحكم الشرعي واحد
من المقدمات التي
نشأ عنها الحكم العقلي ، فيكون الحكم العقلي معلولا للحكم الشرعي بهذا المعنى.
ومثال ذلك : حكم
العقل بلزوم طاعة المولى جلّ وعلا وحكمه بحسن الاحتياط ، فإنّ حكم العقل بلزوم
طاعة المولى مترتّب على وجود أوامر شرعية للمولى جلّ وعلا ، فما لم تكن أوامر
للمولى جلّ وعلا لا معنى لحكم العقل بلزوم طاعة المولى ، وهكذا الكلام في حكم
العقل بحسن الاحتياط ، فإنّ الاحتياط معناه التحفّظ على الاوامر الواقعية ، فما لم
تكن أوامر لا معنى لحكم العقل بحسن الاحتياط أي بحسن التحفظ على الاوامر الواقعية
، إذ لا أوامر حتى يدرك العقل حسن التحفظ عليها.
ومن هنا فكلّ حكم
عقلي يقع في رتبة متأخرة عن وجود الحكم الشرعي فهو من الاحكام العقلية الواقعة في
سلسلة معلولات الأحكام الشرعية ، وحينئذ لو وقعت متعلّقا للامر الصادر عن الشارع
فهذا الأمر لا بدّ وان يكون إرشاديا.
فلو أمر المولى
بالطاعة فهذا الأمر لا يكون إلاّ إرشاديا حتى لا يلزم التسلسل ، إذ ما هو الملزم
لطاعة المولى في أمره بالطاعة فإن كان هو أمره باطاعة الأمر بالامر بالطاعة ينسحب
السؤال الى هذا الأمر وهكذا يتسلسل ، فيتعين كون الملزم لطاعة المولى هو ما يدركه
العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا في أوامره.
ومن هنا أعطى
المحقق النائيني رحمهالله ضابطة كلية يتميز بواسطتها الأمر الإرشادي عن الأمر
المولوي وهي : انّ الحكم العقلي الواقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي
يكون الأمر به من قبل الشارع إرشاديا.
إلاّ انّ هذا
البيان لم يقبله بعض الأعلام كالسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله وأورد عليه
السيد
الخوئي رحمهالله بما حاصله : انّه لا ملازمة بين وقوع الحكم العقلي في سلسلة معلولات الحكم
الشرعي وبين تعيّن الأمر به في الإرشادية ، إذ من الممكن ان يكون متعلّق الامر
الصادر عن الشارع حكما عقليا واقعا في سلسلة معلولات الحكم الشرعي ويكون الأمر به
مولويا بداعي البعث والتحريك كما هو الحال في حكم العقل بحسن الاحتياط فرغم انّه
واقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي إلاّ انّه مع ذلك يمكن ان يكون الأمر به
مولويا ، وذلك لأنّ مقدار ما يدركه العقل هو حسن الاحتياط وهذا لا يمنع عن ان يأمر
الشارع بالاحتياط بنحو الوجوب الشرعي أو الاستحباب تحفّظا على أغراضه التي قد تفوت
لو لا أمر الشارع مولويا بالاحتياط فالصحيح انّ ضابطة الأمر الإرشادي هو ما يلزم
من افتراض مولويته محذور عقلي كما هو كذلك في الأمر بالطاعة.
القسم
الثاني : ان يكون مدلول
الأمر حكما من الأحكام الوضعية الشرعية. وهنا أيضا لا يكون الأمر مولويا ، إذ انّ
قوام الأمر المولوي هو صدوره عن المولى بداعي البعث والتحريك نحو ايجاد متعلقه ،
والأمر الكاشف عن الحكم الوضعي لا يكون كذلك ، إذ انّ الحكم الوضعي مجعول شرعي
يعبّر عن اعتبار الشارع شيئا بقطع النظر عن اختيار المكلف ، وذلك مثل الطهارة
والنجاسة والصحة والفساد وهكذا.
فلو كان مدلول
الأمر حكما وضعيا فحينئذ يكون الأمر إرشاديا ، لانّ متعلّقه لا يكون مطلوبا من
المكلف ايجاده ، وهذه هي القرينة على إرشادية الأمر والموجبة لصرفه عن الظهور في
المولوية ، فكلّما كان مدلول الأمر مجعولا من المجعولات الشرعية الغير المقتضية
لبعث المكلّف فهذا معناه انّ الأمر في موردها إرشادي.
مثلا : لو قال
المولى : « طهر ثوبك من الدم بالماء » فإنّ الأمر بالتطهير ليس مولويا للقطع بعدم
وجوب تطهير الثوب ، وهذه القرينة هي التي أوجبت انصراف ظهور الأمر الى الإرشادية
وانّ الشارع يعتبر الماء من المطهرات.
ثم انّ هنا قسما
آخر من الأوامر يعبّر عنها في بعض الأحيان بالأوامر الإرشادية. وهي الاوامر التي
تصدر من الشارع لغرض التنبيه على فائدة طبيّة مثلا ، كما في قول الامام ابي عبد
الله عليهالسلام لموسى بن بكير « كله كبابا » يعني اللحم وكما في قوله عليهالسلام « كل الرمان بشحمه فإنّه يدبغ المعدة ».
* * *
١٣٦ ـ أمر الآمر مع علمه بانتفاء
شرطه
وهنا احتمالان
للمراد من هذه الفرضيّة :
الاحتمال
الاول : انّ المراد من
انتفاء شرط الأمر هو انتفاء علله أو بعضها. وعلل الأمر هي المعبّر عنها بمبادئ
الحكم ، وهي تصوّر الفعل والذي يقع متعلقا للأمر وتصوّر فائدته والمصلحة المترتبة
عليه ثم التصديق بها ثم تولّد الشوق والإرادة المتناسبة مع حجم المصلحة والملاك.
فلو كان المراد من
انتفاء شرط الأمر هو انتفاء بعض علله لكان حاصل المراد من عنوان البحث هو انّه هل
يمكن صدور الأمر من المولى مع علمه بعدم تمامية علله الموجبة لوجوده.
والظاهر انّ المقصود
من الإمكان ـ بناء على هذا الاحتمال ـ هو الإمكان الوقوعي ، بمعنى انّه هل يلزم من
وقوع الأمر مع العلم بعدم توفره على علة وجوده محال أو لا ، وأما احتمال ان يكون
المراد من الإمكان هو الإمكان الذاتي فبعيد جدا ـ كما أفاد صاحب
الكفاية رحمهالله ـ وذلك لوضوح الإمكان الذاتي ، إذ انّ وجود الامر ممكن ذاتا وان لم تكن علة
وجوده متحققة ، وذلك مثل الإنسان فإنّه ممكن الوجود ذاتا حتى مع عدم وجود علته
التامة ، ومن هنا يتعين المراد من الإمكان وانّه الإمكان الوقوعي.
وكيف كان فاحتمال
ان يكون هذا الفرض هو المراد من البحث بعيد جدا كما أفاد ذلك جمع من الأعلام
كالسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله ، نعم احتمله صاحب الكفاية رحمهالله وذهب الى استحالة أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه لو كان هذا الفرض هو محل
النزاع.
وأما منشأ استبعاد
ان يكون هذا الفرض هو محل النزاع فهو وضوح استحالة وجود الأمر مع انتفاء علته ، إذ
ان وجود الشيء فرع تمامية علته ، فإذا لم يكن هناك تصوّر للأمر ولفائدته كيف يوجد
والحال انّه متقوم بذلك.
وبتعبير آخر : إنّ
الأمر فعل اختياري للآمر ، وكل فعل اختياري فهو متقوّم بمبادئه والتي هي تصور
الفعل وفائدته ثم التصديق بها ثم تولّد الشوق والإرادة المناسبة لحجم الفائدة. ومن
المستحيل صدور الأمر بالفعل دون ان يمر عبر هذه السلسلة الذهنية.
الاحتمال
الثاني : ان يكون المراد
من انتفاء شرط الأمر هو انتفاء بعض مراتبه المقتضية لفعليته لو اتفق تحققها ،
فيكون المراد من العنوان ـ بناء على هذا الاحتمال ـ هو انه هل يمكن أمر الآمر بأمر
مع علمه بعدم بلوغ الأمر مرتبة الفعلية بسبب فقدانه لما يوجبها.
وهذا الاحتمال
ذكره صاحب الكفاية رحمهالله وتبنى امكان أمر الآمر مع علمه بعدم بلوغ الأمر مرتبة
الفعلية الموجبة لتنجّز الأمر على المكلّف ، بدعوى انّه قد يصدر الأمر من بغير
داعي البعث
والتحريك بل بداعي الامتحان مثلا أو بداعي الكشف عن انّ متعلّق الأمر محبوب في
نفسه وواجد لملاك جعله ، وهذا ما تشهد به الأعراف العقلائية.
وقد قبل السيد
الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله ان يكون هذا الاحتمال هو محل النزاع إلاّ انّ
التوجيه الذي ذكره صاحب الكفاية رحمهالله لإثبات دعوى الإمكان غير مقبول بنظر السيد الخوئي رحمهالله ، وذلك لأنّه خروج عن محل البحث ، إذ انّ محل البحث انما هو الأوامر الحقيقية
والتي لا تكون إلاّ بداعي البعث ، ومن الواضح انّ الانبعاث إذا لم يكن ممكنا لعدم
بلوغ الأمر مرتبة الفعلية فإنّ داعي البعث يكون مستحيلا ، لافتراض علم الآمر بعدم
بلوغ الأمر مرتبة الفعلية وذلك لانتفاء شرط الفعلية.
ومن هنا انتهج
السيد الخوئي رحمهالله وكذلك السيد الصدر رحمهالله مع فارق بينهما طريقة اخرى لعلاج المسألة.
فقد أفاد السيد
الخوئي رحمهالله ما حاصله : انّه قد يقال بأنّ أمر الآمر مع علمه بانتفاء
شرط الفعلية مستحيل بالاستحالة الوقوعية ، وذلك لأنّه لغو محض يتنزّه عنه الحكيم
جلّ وعلا ، إذ كيف ينشأ أمرا وبداعي البعث والحال انّه يدرك عدم بلوغ الفعل مرتبة
الفعلية لانتفاء شرط الفعلية أبدا. إلاّ انّ هذه الدعوى ليست تامة على اطلاقها ،
وانّما الصحيح هو التفصيل بين فرضيتين :
الفرضية
الاولى : ان يكون عدم
تحقق الفعلية للأمر مستندا لنفس الجعل ، بمعنى افتراض ان يعلم المولى بأنّه اذا
جعل الحكم فإنّه لن يتحقق موضوعه خارجا وان منشأ عدم التحقق هو نفس الجعل.
مثلا : لو قال
المولى : « تجب الكفارة عند الافطار في نهار شهر رمضان » وهو يعلم انّه اذا جعل
الحكم
بوجوب الكفارة
بشرط الإفطار فإنّه لن يتحقق الافطار خارجا ـ والذي هو شرط الفعلية ـ بسبب انّ ذلك
يوجب الكفارة.
فصار منشأ عدم
تحقق فعلية الوجوب للكفارة هو نفس جعل الوجوب للكفارة ، وهذا هو معنى عدم تحقق
الفعلية للجعل بسبب نفس الجعل. وهنا لا ريب في امكان مثل هذا الجعل وان علم بعدم
تحقق موضوعه ، إذ انّ الغرض من الجعل هو سد باب الوجود للإفطار ـ في المثال ـ وهو
غرض عقلائي تشهد له الأعراف السائدة في المجتمعات.
الفرضية
الثانية : ان يكون عدم
تحقق الفعلية ناشئا من مناشئ اخرى لا تتصل بالجعل كعدم قدرة المكلّف على الامتثال
أبدا أو عدم تحقق الموضوع المترتب عليه الحكم أبدا.
وهنا يستحيل صدور
الأمر لكونه لغوا محضا يتنزّه عنه الحكيم جلّ وعلا. ومثاله : ان يقول المولى :
للمكلّف « اذا طرت
فسبح الله جلّ وعلا » رغم علمه بعدم قدرة المكلّف على الطيران.
* * *
١٣٧ ـ الأمر المولوي
وهو الأمر الصادر
عن الشارع بداعي البعث والتحريك ، وبذلك تخرج الأوامر الامتحانية ، إذ انّها لا
تكون بداعي البعث والتحريك ، كما انّ الأوامر الإرشادية لا تكون أوامر مولوية حتى
وان كان متعلّقها مطلوبا للمولى ، إذ انّ المناط في مولويّة الأمر هو ان يكون
صدوره عن المولى بداعي البعث والتحريك لا ان يكون متعلّقه مطلوبا للمولى فحسب حتى
وان كان صدوره بداعي البعث مبتليا بمحذور عقلي ، كما هو الحال في الطاعة في قوله
تعالى ( أَطِيعُوا اللهَ ) فإنّ متعلّق هذا
الأمر وان كان مطلوبا
للمولى جلّ وعلا
إلاّ ان هذا الأمر مع ذلك لم يصدر بداعي البعث والتحريك وانّما صدر بداعي الإرشاد
والتنبيه الى ما يدركه العقل من لزوم طاعة المولى ، وذلك لأنّ صدوره بداعي البعث
التأسيسي مبتل بمحذور عقلي هو الدور أو التسلسل ، كما أوضحنا ذلك تحت عنوان «
الأمر الإرشادي ».
* * *
١٣٨ ـ الأمر بالأمر
ومورد البحث هو ما
لو أمر المولى مكلّفا بأن يأمر مكلفا آخر بشيء ، فهل يلزم المكلّف الآخر امتثال
متعلّق الأمر الثاني بحيث يصبح مسئولا عنه وان لم يأمره المكلّف الاول به.
وبتعبير آخر انّ
الأمر بالامر بشيء هل يدل على ان متعلّق الامر الثاني مطلوب من المكلّف الثاني وان
المولى قد تعلّقت إرادته بايجاد المكلّف الثاني لمتعلّق الأمر الثاني عينا كما لو
كان قد وجّه اليه الأمر مباشرة أو ليس له دلالة على ذلك.
مثلا : قوله تعالى
: ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) فإنّ المولى في الآية الشريفة قد أمر المكلّف بأن يأمر أهله « المكلف الثاني
» بالصلاة « متعلّق الأمر الثاني » ، فهل انّ الأمر بالأمر يدل على مطلوبية
المأمور به الثاني من المكلّف الثاني أو ليس له دلالة على ذلك أو انّ الصحيح هو
التفصيل؟
وفي المقام
احتمالات ثلاثة :
الاحتمال
الاول : انّ المأمور به
الثاني ليس مطلوبا مطلقا ، فلا يلزم المكلّف الثاني الجري على وفقه.
ومنشأ هذا
الاحتمال هو استظهار اختصاص تعلّق إرادة المولى بمتعلّق الأمر الاول ، بمعنى انّ
مصب غرض المولى هو ان يمتثل المكلّف الاول الأمر بالأمر ولا غرض له في ان يجري
المكلّف الثاني على وفق المأمور به الثاني. وهذا ما قد يتفق في الأوامر
التمرينية والتي
يكون غرض المولى فيها تعليم ابنه مثلا طريقة الأمر والنهي.
الاحتمال
الثاني : انّ المأمور به
الثاني مطلوب للمولى مطلقا حتى وان لم يمتثل المكلف الاول الأمر بالأمر.
ومنشأ هذا
الاحتمال هو استظهار طريقية الأمر الأول للأمر الثاني وانّه ليس للأمر الاول
والمكلّف الاول سوى دور الوساطة ، ومن هنا يكون المكلّف الثاني مسئولا عن متعلّق
الأمر الثاني حتى لو لم يمتثل المكلف الاول الأمر بالامر إلاّ انّه اتفق ان اطلع
المكلف الثاني على تعلّق إرادة المولى بايجاد المأمور به الثاني من طريق آخر ، أي
اطلع على الأمر بالأمر من غير طريق المأمور بالأمر.
الاحتمال
الثالث : ان تكون
مطلوبية المأمور به الثاني معلّقة على امتثال المكلّف الاول للأمر بالأمر ، أما مع
عدم امتثال المكلّف الاول الأمر بالأمر فإنّ المكلّف الثاني لا يكون مسئولا عن
امتثال المأمور به الثاني ، فيكون لامتثال المكلّف الاول موضوعية بمعنى انّ
التكليف بالمكلّف به الثاني قد اخذ في موضوعه امتثال المكلّف الاول الأمر بالأمر.
ومن الثمرات
المهمة المترتبة على هذا البحث هو مسألة مشروعية عبادات الصبي ، حيث وردت مجموعة
من الروايات تأمر الأب بأمر الصبي بالصلاة والصوم وكذلك الحج.
منها : معتبرة
الحلبي « .. فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين ». فلو كان المتعين هو
الاحتمال الاول فحينئذ لا تكون هذه الروايات صالحة للدلالة على مشروعية عبادات
الصبي ، وذلك لافتراض عدم دلالة الأمر بالأمر على مطلوبية متعلّق الأمر الثاني فلا
تكون ثمة دلالة للرواية على مطلوبية الصلاة « العبادة » من الصبي ، ومع عدم كونها
مطلوبة لا تكون مشروعة من الصبي ،
إذ انّ مشروعية
العبادة فرع مطلوبيتها.
أما لو كان
المتعين هو الاحتمال الثاني فإنّ مثل هذه الروايات صالحة للدلالة على مشروعية
عبادات الصبي ، بعد افتراض تعيّن الاحتمال الثاني وان متعلق الأمر الثاني مطلوب من
المأمور الثاني.
وكذلك لو كان
المتعين هو الاحتمال الثالث ، إذ يكون متعلّق الامر الثاني « الصلاة » مطلوبا من
الصبي غايته انّ ذلك منوط بامتثال الأب للأمر بالأمر بالصلاة.
* * *
١٣٩ ـ الأمر بعد الأمر
مورد البحث تحت
هذا العنوان هو ما لو ورد أمر بشيء ثم ورد بعد ذلك أمر بنفس ذلك الشيء ، فهل انّ
تعقّب الامر للأمر يقتضي حمل الأمر الثاني على التأكيد أو انّ الأمر الثاني يبقى
على ظهوره في التأسيس كما لو لم يكن مسبوقا بأمر.
ومحل البحث
بالإضافة الى وحدة متعلقي الأمرين هو ما لو لم يكن أحدهما مشروطا بشرط دون الآخر ،
بأن كان كلا الأمرين مطلقين ، كما لو قال المولى « أقم الصلاة » ثم قال « أقم
الصلاة » ، وكذلك يدخل في محل البحث حالة اتحاد الأمرين في الشروط ، بأن يفترض انّ
الشروط المعتبرة في الأمر الاول هي عينها المعتبرة في الأمر الثاني.
أما لو كان أحد
الأمرين مشروطا بشرط وكان الآخر مطلقا من جهته ، أو كان أحدهما مشروطا بشرط وكان
الآخر مشروطا بغيره فإنّ ذلك خارج عن محل البحث.
ثم لا يخفى عليك
انّ مورد البحث يشمل حالتي وقوع الأمرين بنحو التعاقب في كلام متصل ووقوعهما في
كلامين منفصلين. وكيف كان فالبناء على التأسيس يقتضي البناء على
وجود وجوبين
متعلّقين بمتعلّق وموضوع واحد ، وأما البناء على التأكيد فهو يعني البناء على انّ
الأمر الثاني يقتضي اشتداد مرتبة الوجوب.
ومع اتضاح مورد
البحث نقول : انّ صاحب الكفاية رحمهالله ادعى وقوع التنافي بين ما هو مقتضى ظهور الصيغة وبين ما هو
مقتضى اطلاق المادة ، فمقتضى ظهور الصيغة هو التأسيس ، أي انّ صيغة الأمر ظاهرة في
تعلّق إرادة المولى اللزومية بايجاد متعلق الأمر ، ولا يختلف الحال في هذا الظهور
بين أمر وأمر ، فكما انّ الاول ظاهر في ذلك فكذلك الثاني المتعقب للاول ، وهذا ما
يستوجب ايجاد فردين من الطبيعة المأمور بها ، إذ انّ ظهور صيغة الأمر في التأسيس
يكشف عن أن المولى قد تعلّقت إرادته بايجاد الطبيعة مرتين ، لأنّ هذا هو مقتضى
التكرار بعد استظهار التأسيس من صيغة الأمر.
إلا انّ هذا
الاستظهار يتنافى مع اطلاق المادة والتي هي الطبيعة الواقعة متعلقا للصيغة ، مثل
الصلاة في قوله « صلّ » ، فإنّ مقتضى اطلاق المادة في الأمر الثاني وعدم التقييد
بمثل « مرة اخرى » معناه اتحاد متعلّقي الأمرين وانّ إرادة المولى قد تعلّقت
بايجاد الطبيعة في ضمن واحد من أفرادها.
إلاّ انّه مع هذا
التنافي ـ بين ما هو مقتضى الظهور في الصيغة وما هو مقتضى اطلاق المادة ـ يكون
المستظهر من هذا الفرض هو التأكيد فهو المنسبق من صيغة الأمر الثاني. وذلك لوجود
خصوصية اقتضت ذلك وهي كون الصيغة الثانية مسبوقة بمثلها مع عدم اختصاص أحدهما بشرط
أو سبب.
هذا هو حاصل ما
أفاده صاحب الكفاية رحمهالله في المقام ، وعلّق السيد الصدر رحمهالله على ذلك بما حاصله : ان صيغة الأمر ليس لها دلالة على أكثر من الوجوب ، وانّ
التأسيس والتأكيد
خارج عن مفاد
الصيغة ، ولهذا لا بدّ من التماس قرينة على إرادة أحدهما ، فقد تختلف النتيجة
باختلاف الحالات.
* * *
١٤٠ ـ الأمر بعد الحظر
والمراد من هذا
البحث هو انّه لو ورد أمر بشيء بعد النهي عنه أو ورد أمر بشيء بعد ان كان المتوهم
حرمته.
ومثال الاول :
قوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) فإنّه أمر بالصيد بعد النهي عنه في قوله تعالى : ( لا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) .
ومثال الثاني :
رواية يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يريد ان يتزوج المرأة ، وأحبّ أن ينظر اليها ،
قال عليهالسلام : « تحتجز ثم لتقعد وليدخل فلينظر » ، فإنّ الأمر بالنظر الواقع في جواب الامام عليهالسلام ورد بعد توهم السائل الحظر.
وبعد اتّضاح
المراد من عنوان البحث نقول : انّه وقع الخلاف فيما هو المستظهر من الأمر بعد
الحظر أو بعد توهم الحظر ، فقد نسب الى العامة القول بدلالة الأمر على الوجوب حتى
بعد الحظر أو توهمه ، وأما المشهور بين علمائنا فهو القول بدلالة الامر في الفرض
على الإباحة ، وذهب البعض الى انّ دلالة الامر بعد الحظر تكون تابعة لما قبل الحظر
، فإن كان متعلّق الأمر قبل الحظر واجبا فهو بعد ارتفاع الحظر كذلك ، وان كان
مستحبا أو مباحا فهو كذلك بعد ارتفاع الحظر ، إلاّ انّ ذلك مختص بما لو كان المنشأ
من الأمر بعد الحظر هو انتهاء الملاك الذي من أجله وقع الحظر.
وفي مقابل هذه
الأقوال ذهب السيد الخوئي رحمهالله الى اجمال المراد من الأمر بعد الحظر أو توهمه. ومن هنا
نحتاج لتعيين المراد الى قرينة خاصة وعندئذ يكون الظهور مع ما يناسب
القرينة ، أما مع
عدم القرينة فالمراد من الأمر مجمل ، وذلك لأنّ مجيئه بعد الحظر أو توهمه صالح
للقرينية على صرف الظهور عن الوجوب. ومن الواضح انّ احتفاف الكلام بما يصلح
للقرينية موجب لإجمال المراد من الكلام ، فكما لا يمكن استظهار المدلول الوضعي
للكلام كذلك لا يمكن استظهار معنى آخر ، لأنّ الذي يوجب انعقاد الظهور في المعنى
الآخر هو القرينة أما مع عدم القرينة واحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية فإن الكلام
عندئذ يصبح مجملا ، بمعنى انّ العرف لا يستقرّ معه على معنى معين.
* * *
١٤١ ـ الأمر بين الأمرين
اختلف المتكلّمون
في واقع الأفعال الصادرة عن الإنسان ، فذهب الأشاعرة منهم الى انّ الواقع هو
صدورها عن الله جلّ وعلا استقلالا وانّ الإنسان مجبر عليها ، فلا فرق بين حركة
الدم الجارية في عروقه وبين حركة يده الواقعة على انسان آخر والموجبة لقتله. فتمام
ما يصدر عن الإنسان هو فعل الله تعالى دون ان تكون للإنسان أيّ مشيئة في ذلك.
وبهذه النظرية
سلبت عن الله جلّ وعلا صفة العدالة ، فهو يعذب ويعاقب الإنسان على فعل لم يصدر
عنه.
وفي مقابل هذه
النظرية ذهبت المعتزلة الى انّ الأفعال الصادرة عن الإنسان واقعة تحت تأثيره بنحو
الاستقلال دون ان يكون للمشيئة الإلهية أيّ تأثير في صدورها عنه ، فليس ثمة من دور
لله جلّ وعلا سوى افاضة الوجود على الإنسان ، فمتى ما افيض الوجود عليه استغنى عن
الله جلّ وعلا.
وبتعبير آخر
يتناسب مع التفويض الفلسفي : انّ الله جلّ وعلا خلق العقل الأول وفوّض اليه الأمر
، فكلّ ما هو علة في عالم الإمكان فهو مستقل في
تأثيره عن المفيض
الاول ، فالنار مستقلة في تأثيرها للإحراق كما انّ النور مستقل في تأثيره للإنارة
، وهكذا الإنسان فإنّه مستقل في تأثيره للأفعال الصادرة عنه.
ومن هنا قالوا :
لو افترض انعدام الله ـ تعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ لما أدى ذلك الى اختلال
عالم الوجود ، إذ انّ الله جلّ وعلا لم يكن سوى علة الايجاد والمفيض للعلة الاولى
، وأما البقاء والتأثير في عالم الممكنات فهو مستقل عنه.
ومن هنا عبّر عن
هذا الفرقة بالمفوضة ، فهي وان أرادت بهذا المذهب التفصّي عن محذور سلب العدل عن
الله سبحانه وتعالى إلاّ انها وقعت في محذور آخر لا يقلّ شأنا عن المحذور الاول
حيث سلبت عن الله جلّ وعلا سلطنته المطلقة عن مملكته.
وفي مقابل هاتين
النظريتين ذهب الامامية ـ رفع الله شأنهم ـ الى نظرية الأمر بين الأمرين ، وهي
مستفادة من أئمتهم المعصومين عليهمالسلام ، وهي برزخ بين النظريتين ، ومعها يتحفّظ على الإيمان
بعدالة الله جلّ وعلا وعلى سلطنته المطلقة.
وحاصل هذه النظرية
على ما أفاده السيد الخوئي رحمهالله ان صدور الفعل عن العباد منوط بأمرين :
الأمر
الاول : ان يكون العبد
واجدا للحياة والعلم والقدرة والإرادة وما الى ذلك ، وكلّ ذلك مفاض من قبل الله
جلّ وعلا ، وهذه الإفاضة لا تختص بالإحداث والايجاد فحسب ، بل هي فيض بعد فيض ،
فالفقر الذاتي للإنسان ـ ولسائر الممكنات ـ يستوجب احتياجه الى مفيض الوجود جلّ
وعلا حدوثا واستمرارا.
وبتعبير آخر : انّ
وجود الإنسان بالنسبة لوجود الله جلّ وعلا وجود ربطي تعلّقي ، أي انّ وجوده عين
الربط وعين التعلّق لا أنهما شيئان متغايران
بينهما نسبة ربطية
بل انّ الوجود الممكن هو عين الربط وصرف التعلّق والتدلّي واذا صحّ التعبير فوجوده
امتداد للوجود الواجب « جلّ ثناؤه » ، ومن هنا لا تتعقل الاستقلالية في وجوده بعد
ان كان الربط والتعلّق هو واقعه وذاته.
وهذا هو معنى
الفقر الذاتي للممكنات ، فإفاضة الوجود عليها لا يسلب عنها صفة الفقر بعد ان كان
الفقر هو ذاتها ، ومن هنا لو انقطع عنها الفيض لانقطعت عنها كلّ الكمالات مثل
الحياة والقدرة أو قل « لم تكن شيئا مذكورا ».
الأمر
الثاني : الذي يناط به
صدور الفعل عن العبد هو إعماله لقدرته المفاضة عليه من قبل الله جلّ وعلا ، وهو
المعبّر عنه بالاختيار.
وهذه الأهلية
والتي هي اعمال القدرة لم تكن لو لا انّ الله تعالى أعطاها للإنسان. ومن هنا صح
اسناد الأفعال الصادرة عن الإنسان الى الله تعالى باعتباره المفيض للحياة والعلم
والقدرة والأهلية لإعمال القدرة ، كما يصح اسنادها للإنسان لانها صدرت عن إرادته
واختياره.
وهذا هو الأمر بين
الأمرين فلا هو استقلال محض عن مفيض الوجود جلّ وعلا ولا أن أفعال العباد صادرة عن
الله ابتداء دون أن يكون لإرادتهم واختيارهم أيّ دخل في صدورها كما ذهبت لذلك
الأشاعرة.
ويمكن تقريب نظرية
الأمر بين الأمرين بهذا المثال الذي ذكره السيد الخوئي رحمهالله : وهو انّه لو كان هناك مولى له عبد مشلول الحركة تماما ، واتّفق ان كان
للسيد وسيلة يتمكن بها من دبّ الحركة الإرادية في جسد عبده ، وكانت هذه الوسيلة
خاضعة لإرادة السيد ، بمعنى انّه متى ما أراد ان يبعث الحركة الإرادية في جسد عبده
فعل ومتى ما أراد اعادته الى حالة الشلل
تمكن من ذلك ، كما
لو كانت الوسيلة من قبيل التيار الكهربائي ويكون التحكّم في بعثه وقطعه بيد السيد.
فعندئذ لو وضع
الجهاز الكهربائي وضغط على زرّه الذي بيده فإنّ العبد حينئذ يصبح قادرا على الحركة
الإرادية ، بمعنى انّ التيار الكهربائي يؤهله للحركة لا انه يلجئه على الحركة فإنه
يمكن للعبد ان لا يتحرك وان كانت له أهلية التحرك الإرادي.
فلو قام العبد بعد
بعث التيار في جسده بقتل شخص أو مساعدة يتيم وكان ذلك بمرأى من السيد المتحكم في
التيار الكهربائي فإنّ الفعل الذي صدر عن العبد يمكن نسبته الى العبد باعتبار انّه
صدر عن إرادته واختياره وكان له ان لا يفعل ذلك ، إذ انّ الحركة المنبعثة له
بواسطة التيار كانت من سنخ الحركات الإرادية. كما يمكن نسبته الى السيد لأنّه
الباعث للحركة وكان ملتفتا الى ما يصدر عن العبد من أفعال وكان بإمكانه ان يقطع
عنه الحركة بواسطة قطع التيار إلاّ انّه لم يفعل ذلك ، لانه شاء ان يكون العبد
مختارا فيما يصدر عنه من أفعال.
وبهذا المثال
اتّضح المراد من الأمر بين الأمرين ، فلا العبد مستقل في فعله ولا هو مجبر عليه ،
وهذا هو المطابق للبراهين العقلية القطعية وكذلك النصوص الشرعية.
* * *
١٤٢ ـ الأمر هل يدلّ على الفور
أو التراخي
ويقع البحث تحت
هذا العنوان عما هو مدلول الأمر ، وهل هو الفورية المقتضية للزوم المبادرة لامتثال
الأمر ، أو هو التراخي وعدم لزوم المبادرة للامتثال فيكون المكلّف في سعة من جهة
اختيار زمن الامتثال ، فله ان يمتثل الأمر في الزمن الاول المتعقب للأمر وله ان
يؤخره للزمن الثاني
والثالث وهكذا.
ذهب المحققون الى
عدم دلالة الأمر على الفور وعدم دلالتها على التراخي. وانّ هيئة الامر لا تدل على
أكثر من البحث أو النسبة الطلبية أو اعتبار الوجوب على عهدة المكلّف. وان المادة
المتهيئة بهيئة الأمر لا تدل على أكثر من الطبيعة المهملة ، نعم قد تستفاد الفورية
أو التراخي من قرائن خارجية ، فإن كانت وإلاّ فالمرجع هو الأصل اللفظي كالإطلاق أو
الاصل العملي.
* * *
١٤٣ ـ الأمر هل يدلّ على المرّة
أو التكرار
ويقع البحث تحت
هذا العنوان عمّا هو مدلول الأمر وهل هو طلب إيجاد متعلّق الأمر مرّة أو طلب ايجاد
بنحو التكرار.
وهنا معنيان
للمرّة والتكرار :
المعنى
الاول : انّ المراد من
المرّة هو الفرد من الطبيعة المأمور بها ، والمراد من التكرار هو الافراد.
فلو كان الأمر
يدلّ على المرّة فهذا معناه انّ المطلوب هو الاتيان بالطبيعة المأمور بها في ضمن
فرد واحد من أفرادها ، ولو كان الأمر يدلّ على التكرار فمعنى ذلك انّ المطلوب هو
الاتيان بالطبيعة في ضمن أفراد من غير فرق بين أن يكون ذلك بنحو طولي أو عرضي.
المعنى
الثاني : انّ المراد من
المرّة هو الدفعة ، أي انّ المطلوب هو الانبعاث عن الأمر انبعاثا واحدا سواء كان
بواسطة الإتيان بطبيعة المأمور به في ضمن فرد واحد أو في ضمن أفراد متعددة بمعنى
انّ المكلف لو جاء بطبيعة المأمور به في ضمن فردين أو أكثر فإنّ ذلك يكون امتثالا
واحدا لو كان الإتيان بهما عرضي عينا كما لو كان قد جاء بطبيعة المأمور به في ضمن
فرد واحد.
والمراد من
التكرار هو الدفعات ، أي انّ المطلوب هو الانبعاث بعد الانبعاث بقطع النظر عن انّ
الانبعاث الاول كان بواسطة الإتيان بطبيعة المأمور به في ضمن فرد أو في ضمن أفراد
وهكذا الانبعاث الثاني والثالث.
فلو أمر المولى
بالتصدّق على فقير فإنّ المطلوب ـ بناء على الدفعات ـ هو التصدّق بعد التصدق من
غير فرق بين المجيء بطبيعة التصدّق ـ في الامتثال الاول ـ في ضمن فرد أو أفراد
وهكذا الامتثال الثاني والثالث.
وبهذا اتضحت
الثمرة المترتبة على الاختلاف في معنى المرّة والتكرار ، إذ انّ المرة بناء على
انّها بمعنى الدفعة تتحقق بالفرد وبالافراد ، وأما بناء على المعنى الاول فهي لا
تكون إلاّ بفرد واحد والإتيان بأكثر من فرد يكون من التكرار ـ بناء وعلى المعنى
الاول للتكرار ـ على انّ هذه الافراد الإضافية لا تكون من الامتثال لو كان
المستظهر من الأمر هو الدلالة على المرة بالمعنى الأول.
والتكرار ـ بناء
على الدفعات ـ لا يتحقق الاّ بنحو طولي حتى وان تضمنت كل دفعة مجموعة من الأفراد
وأما بناء على انّه بمعنى الأفراد فهو كما يتحقق بنحو طولي كذلك يتحقق بالإتيان
بالطبيعة في ضمن أفراد عرضية.
وكيف كان فقد ذهب
المحققون الى عدم دلالة الأمر لا على المرّة ولا على التكرار ، نعم قد تستفاد
مطلوبية المرّة أو التكرار من قرائن خارجة عن حاق الأمر.
* * *
١٤٤ ـ الإمكان
وهو ما يقابل
الضرورة ، فحينما يقال هذا الشيء ممكن أي انّه غير ممتنع. والإمكان هو أحد المواد
الثلاث التي لا تخلو نسبة وقضية عن
التكيّف باحدها ،
فكلّ قضية لا يخلو ثبوت محمولها لموضوعها عن ان يكون ممكنا أو واجبا أو ممتنعا. والوجوب والامتناع
هما المعبّر عنهما بالضرورة. ومن هنا قالوا انّ الإمكان يقابل الضرورة ، فالشيء ما
لم يكن ممكنا فهو امّا واجب او ممتنع.
* * *
١٤٥ ـ الإمكان الاحتمالي
وهو ان يحتمل
العقل ثبوت شيء لشيء او انتفاؤه عنه دون ان يكون برهان عقلي نشأ عنه هذا الاحتمال
، وهذا بخلاف الإمكان الخاص مثلا أو الإمكان الوقوعي وهكذا سائر الإمكانات فإنها
جميعا مفتقرة الى البرهان العقلي المقتضي لنفي الضرورة المناسب لكلّ واحد منها.
فالإمكان
الاحتمالي هو المراد من الإمكان الذي ذكره الشيخ ابن سينا في عبارته المعروفة «
كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يزدك عنه قاطع البرهان »
أي كل حكم على شيء بالنفي أو الإثبات يحتمله عقلك فهو ممكن بالإمكان الاحتمالي إلا
ان يقوم برهان على الإمكان أو الامتناع أو الوجوب ، ومع عدم قيام البرهان لا سبيل
للحكم بالامتناع أو الوجوب.
* * *
١٤٦ ـ إمكان التعبّد
بالظن
ومبرّر البحث عن
امكان التعبّد بالظن هو انّ كشفه عن الواقع ليس تاما ومن هنا لا تكون الحجيّة له
ذاتية ، كما انّ احتمال منافاة متعلّقه للواقع تستلزم قابليته للمنع عن ترتيب
الأثر عليه شرعا.
واذا كان كذلك
فثبوت الحجية له مفتقر للجعل الشرعي ، وثبوت الجعل له منوط بامكان جعل الحجية له ،
إذ مع عدم امكان ثبوت الحجية له لا
معنى للبحث
الاثباتي ، وهذا ما يبرّر البحث عن امكان التعبّد بالظن بعد عدم اقتضائه للحجية
عقلا ، نعم بناء على الحكومة حين انسداد باب العلم والعلمي يكون العقل حاكما بثبوت
الحجية للظن فلا معنى للبحث عن امكانه ثبوتا ، إلاّ انّ هذا انّما يتم بناء على
تفسير صاحب الكفاية رحمهالله للحكومة على ما سيأتي ايضاحه في محلّه ان شاء الله تعالى.
وكيف كان فقد وقع
الخلاف فيما هو المراد من امكان التعبّد بالظن ، فهل المراد منه الإمكان الذاتي أو
الإمكان الاحتمالي أو الإمكان الوقوعي.
وقد ذهب السيد
الإمام رحمهالله الى انّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو
الإمكان الاحتمالي ، إذ هو الذي لا يحتاج الى برهان عقلي ، ويكفي في ثبوته عدم
قيام الدليل على امتناعه ، وهذا يتّضح من خلال ملاحظة مسار البحث الذي جرى عليه
الأعلام حيث انّهم يستدلّون على امكان التعبّد بالظن بعدم وجود ما يوجب المنع عن
التعبّد به ، والحال ان الإمكان الذاتي وكذلك الوقوعي لا يثبتان بنفي امتناعهما بل
انّهما يحتاجان الى برهان عقلي يدلّ على ثبوتهما ، نعم استدلّ الشيخ الأنصاري رحمهالله على امكان التعبّد بالظن ببناء العقلاء على الحكم بالإمكان ما لم تثبت
الاستحالة ، وهذا استدلال على الإمكان لا على نفي امتناعه ليكون من الإمكان الاحتمالي.
إلاّ انّ السيد
الإمام رحمهالله أجاب عن ذلك بأنّ الإمكان الذاتي وكذلك الوقوعي لا يثبتان
ببناء العقلاء وانّما يثبتان بالبرهان العقلي ، ومن هنا ذهب رحمهالله الى انّ الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان الاحتمالي وأفاد انّ ذلك
هو الذي نحتاجه في المقام ، إذ يكفي للحكم بامكان التعبّد بالظن عدم وجود دليل
عقلي أو شرعي صالح لنفي
الإمكان.
وفي مقابل ما ذهب
اليه السيد الإمام رحمهالله ذهب جمع من الأعلام كالسيد الخوئي رحمهالله الى انّ المراد من الإمكان في المقام هو الإمكان الوقوعي ، وذلك لأن التعبّد
بالظن ممكن ذاتا بلا ريب لعدم اقتضائه في حدّ نفسه ضرورة التعبّد به كما انه أي
الظن لا يقتضي امتناع التعبّد به ، وامّا الإمكان الاحتمالي فهو واضح ، وهذا يبعّد
وقوعه محلا للنزاع بعد كونه مدركا بالوجدان.
ومن هنا يتعيّن
كون المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان الوقوعي ، حيث يقع البحث
عن انّ التعبّد بالظن هل يلزم من فرض وقوعه محذور عقلي كاجتماع الضدين أو المثلين
بعد الفراغ عن امكانه ذاتا ، فإذا قادنا البحث الى استلزام التعبّد بالظن لاجتماع
الضدين أو المثلين فإنّ ذلك يقتضي استحالة التعبّد بالظن بنحو الاستحالة
الوقوعيّة.
* * *
١٤٧ ـ الإمكان الخاص
عرّف الإمكان
الخاص بأنّه « سلب الضرورة عن الطرفين » فالسلب هو النفي ، والضرورة هما الوجوب
والامتناع ، والطرفان هما النفي والإثبات.
وبه يتّضح انّ
الإمكان الخاص يعني انتفاء الوجوب وانتفاء الامتناع عن القضية في طرفي الثبوت
والانتفاء أي في جهتي الثبوت والانتفاء. فالقضية التي يكون ثبوت وانتفاء محمولها عن موضوعها غير
واجب وغير ممتنع فهي ممكنة بالإمكان الخاص بمعنى انّ الثبوت ممكن بالإمكان الخاص
وكذلك الانتفاء.
أما لو كان جانب
الإثبات واجبا كقولنا « الله موجود » أو كان جانب الإثبات ممتنعا كما لو قيل «
شريك
الباري موجود »
فإنّه لا يصدق سلب الوجوب في الأول ولا سلب الامتناع في الفرض الثاني ، ومن هنا لا
تكون هاتان القضيتان ممكنتان بالإمكان الخاص.
ومثال الإمكان
الخاص قولنا « الإنسان موجود » فإن جانب إثبات الوجوب منتف ، أي انّ ثبوت الوجود
للإنسان غير واجب ، وجانب اثبات الامتناع منتف ، أي انّ نفي الوجود عن الإنسان غير
ممتنع.
وكذلك لو قلنا «
الإنسان غير موجود » فإنّ نفي الوجود عن الإنسان غير واجب كما انّ نفي الوجود عن
الإنسان غير ممتنع.
والمتحصل ان ثبوت
شيء لشيء إذا لم يكن ضروري الوجود ولا ضروري العدم فهو ممكن بالامكان الخاص
المعبّر عنه بالامكان الحقيقي وهو عينه الإمكان الذاتي.
* * *
١٤٨ ـ الإمكان الذاتي
وهو انتفاء ضرورة
الوجود العدم عن الذات من حيث هي ، أي انّ الذات التي يكون شأنها عدم الاقتضاء
للوجود والعدم هي ذات ممكنة الوجود بالإمكان الذاتي ، وذلك في مقابل الوجوب الذاتي
، والذي يعني ضرورة المحمول للموضوع وتكون تلك الضرورة ناشئة عن مقام الذات
للموضوع ، وفي مقابله الامتناع الذاتي والذي ينشأ عن مقام الذات للموضوع.
* * *
١٤٩ ـ الإمكان الشرعي
وهو الذي لا يلزم
من افتراض وقوعه محذور شرعي ، فوجوب طاعة الأبوين ـ في غير معصية الله جلّ وعلا ـ لمّا
لم يكن مستلزما لمحذور شرعي فهو ممكن بالإمكان الشرعي ،
وهذا بخلاف
استحباب النافلة المفوتة للفريضة فإنّه لمّا كان مستلزما لمحذور شرعي فإنّه لا
يكون ممكنا شرعا.
* * *
١٥٠ ـ الإمكان الوقوعي
وهو الذي لا يلزم
من فرض وقوعه محال أي انّ وجوده لو اتفق لا يكون مستلزما لأحد المحاذير العقلية
كاجتماع الضدين أو النقيضين ، ومثاله : امكان التعبّد بالظن ، فقد ذهب جمع من
الأعلام الى انّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في هذا البحث هو الإمكان الوقوعي.
فالقائلون بإمكان التعبّد بالظن يقصدون عدم استلزام أي محذور عقلي من وقوع التعبّد
بالظن ، وذلك في مقابل من ذهب استحالة التعبّد بالظن بدعوى استلزام فرض وقوعه
لمحاذير عقلية كاجتماع الضدين أو المثلين ، وهذا هو الامتناع الوقوعي.
فالإمكان الوقوعي
هو ما يكون ممكنا في حدّ نفسه ولا يلزم من فرض وقوعه أيّ محذور عقلي ، وهو في
مقابل الامتناع الوقوعي حيث يكون ممكنا ذاتا إلاّ ان وقوعه مستلزما لمحذور عقلي.
كصدور الظلم من الله جلّ وعلا فإنّه وان كان ممكنا ذاتا إلاّ انّه ممتنع وقوعا.
* * *
١٥١ ـ الإمكان بالقياس
إذا لوحظ شيء
بالاضافة الى شيء آخر فلم يكن هذا الشيء الآخر موجبا لوجوده ولا موجبا لعدمه فهذا
الشيء ممكن بالقياس الى ذلك الشيء الآخر.
فالإمكان بالقياس
معناه عدم صلاحية شيء معين لأن يكون سببا في امتناع شيء أو وجوبه عند ملاحظته
بالإضافة اليه.
مثلا : إذا لاحظنا
النهي عن الضد
الخاص بالإضافة
الى وجوب الصلاة فإننا نجد انّ إيجاب الصلاة لا يكون سببا في امتناع النهي عن الضد
الخاص كما انّه ليس سببا في ايجاب النهي عن الضد الخاص ، فالنهي عن الضد الخاص
بالاضافة الى وجوب الصلاة ممكن بالقياس.
ومثال آخر أكثر
وضوحا : إذا لاحظنا وجوب الصوم بالإضافة الى وجوب الصلاة نجد انّ وجوب الصلاة ليس
سببا لضرورة إيجاب الصوم كما انّه ليس سببا لامتناعه ، فوجوب الصوم بالقياس الى
إيجاب الصلاة ممكن بالقياس.
وقد ذهب السيد
الخوئي رحمهالله الى انّ المراد من قاعدة الإمكان في الحيض هو الإمكان
بالقياس ، أي انّ كلّ دم اذا لوحظ بالإضافة الى الشروط المستفادة من الروايات فلم
تكن تلك الشروط موجبة لانتفاء حيضية ذلك الدم كما انها لا تكون موجبة لتعيّن
حيضيته فهو حيض بالامكان القياسي.
* * *
١٥٢ ـ الانتزاع
الانتزاع هو وصف
للعمليّة الذهنيّة المنتجة لاستنباط عنوان من ملاحظة الوجود الخارجي أو الاعتباري
، وبذلك لا يكون للأمر الانتزاعي أو قل المنتزع ما بإزاء في عالم الوجود الخارجي
ولا في عالم الاعتبار.
فالأمر الانتزاعي
ليس له تقرّر ووجود في العالمين إلاّ بالإضافة إلى منشأ انتزاعه ، فمنشأ الانتزاع
هو الذي يكون له تقرّر ووجود ، فهو إمّا أن يكون من الموجودات المتأصّلة الخارجيّة
وإمّا أن يكون وجودا اعتباريّا ، وأمّا الأمر الانتزاعي فليس كذلك ، ولهذا ليس من
شيء في عالم الوجود العيني أو الاعتباري يقال له بأنّه أمر انتزاعي.
وبما ذكرناه يتّضح
أنّ الأمر الانتزاعي هو كلّ عنوان تمّ تحصيله واستنباطه من ملاحظة العقل للوجودات
العينيّة أو الاعتباريّة ، مثلا : حينما يلاحظ العقل الترتّب بين وجود النار
والاحتراق بحيث يكون وجود الآخر مترتّبا على وجود الأوّل فإنّ العقل ينتزع من ذلك
عنواني العليّة والمعلوليّة ، وهما ـ كما تلاحظون ـ ليس لهما ما بإزاء ما في
الخارج يمكن أن يشار إليه ، والموجود خارجا ليس سوى النار والاحتراق. فالموجود هو
منشأ الانتزاع وهما النار والاحتراق ، وأمّا الأمر الانتزاعي فهو عنوان استنبطه
الذهن من ملاحظة الوجود العيني في المثال.
وهكذا الحال
بالنسبة لعنوان الفوقيّة والتحتيّة والقبليّة والبعديّة فإنّها جميعا عناوين
انتزاعيّة استنبطها الذهن من ملاحظة نحو العلاقة بين شيئين.
هذا فيما يتّصل
بالانتزاع عن الوجودات العينيّة ، وأمّا الانتزاع عن الأمور الاعتباريّة ـ والتي
هي نحو من الوجود أيضا إلاّ أنّ وعاءها هو عالم الاعتبار ـ فيمكن التمثيل لذلك بما
لو اعتبر المولى الزوجيّة مترتّبة عن العقد ، فإنّ العقل ينتزع من ملاحظة ذلك
عنوان السببيّة أي أنّ العقد سبب لاعتبار الزوجيّة.
وهكذا لو قال
المولى ( إذا استطعت وجب عليك الحجّ ) فإنّ العقل ينتزع عن ذلك عنوان الشرطيّة أي
أنّ الاستطاعة شرط في اعتبار الحجّ واجبا. وكذلك لو قال المولى ( لا تصلّ فيما لا
يؤكل لحمه ) فإنّ العقل ينتزع عنوان المانعيّة أي مانعيّة اشتمال المكلّف على جلد
ممّا لا يؤكل لحمه لصحّة الصلاة.
فالسببيّة
والشرطيّة والمانعيّة ليس لها وجود وتقرّر في عالم الاعتبار والموجود إنّما هو
منشأ انتزاعها ،
فالموجود في عالم
الاعتبار ـ مثلا ـ هو الزوجيّة المترتّبة عن العقد ، وأمّا السببيّة فهي منتزعة عن
ذلك وهكذا.
* * *
١٥٣ ـ انجبار ضعف الخبر بعمل
المشهور
المراد من
الانجبار هو التوسّل بعمل المشهور بالخبر لغرض الاستعاضة به عن الضعف السندي للخبر
، فيكون عمل المشهور موجبا لاعتبار الخبر وحجيته بعد ان كان من المفترض سقوطه عن
الاعتبار بسبب ضعفه السندي.
والمراد من عمل
المشهور هو استناد المشهور للخبر في مقام العمل والفتيا ، فالشهرة الموجبة لانجبار
الضعف السندي للخبر هي الشهرة العملية. وفي مقابل المشهور يكون هناك جمع من
الفقهاء لم يحرز استنادهم لهذا الخبر في مقام العمل أو احرز استنادهم الى خبر آخر
مناف لهذا لخبر أو مطابق لمؤداه أو كانوا مستندين الى أصل عملي أو عقلائي أو كانوا
يفتون بما ينافي الخبر الضعيف دون التصريح بمنشإ فتواهم أو لم تكن لهم فتوى منافية
لمضمون الخبر الضعيف ولا مطابقة ، كل ذلك ينقّح موضوع القاعدة والذي هو انجبار ضعف
الخبر بعمل المشهور ، إذ لو تسالم جميع الفقهاء على العمل بالخبر الضعيف فإنّ ذلك
لا يكون من صغريات هذه القاعدة ، وهكذا لو كان غير العاملين من القلة بحيث لا يؤثر
على صدق التسالم.
ثم انّ الشهرة
المبحوث عن جابريتها لضعف الخبر هي الشهرة الواقعة بين القدماء ، كالصدوقين والشيخ
المفيد والسيد المرتضى وسلاّر والحلبي وابن البرّاج وشيخ الطائفة الطوسي رحمهمالله وكل من هو في طبقتهم ممن هم قريبون من عصر الأئمة عليهمالسلام.
وباتضاح ما ذكرناه
نقول : انّه قد ذهب مشهور المتأخرين الى تمامية هذه القاعدة ، واستدلّوا لذلك
بوجوه عمدتها : انّ موضوع الحجية لخبر الواحد هو الخبر الموثوق بقطع عن منشأ
الوثوق ، فقد يكون منشؤه وثاقة الراوي ، وقد يكون منشؤه استناد مشهور الفقهاء من
قدماء الطائفة اليه ، فوثاقة الراوي ليس هو المناط الوحيد في تنقيح موضوع الحجية
لخبر الواحد.
وفي مقابل دعوى
المشهور ذهب السيد الخوئي رحمهالله الى عدم تمامية هذه القاعدة ، وذلك جريا على مبناه فيما هو
موضوع الحجية لخبر الواحد وان موضوع الحجية هو خبر الثقة إلاّ ان يحصل الاطمئنان
بصدوره بسبب قيام قرينة داخلية أو خارجية على ذلك.
ثم انّ السيد
الخوئي رحمهالله أورد على المشهور اشكالا صغرويا حاصله : انّ تمامية دعوى
الانجبار منوط بإحراز استناد مشهور القدماء للخبر الضعيف في مقام العمل ودون ذلك
خرط القتاد ، وذلك لأنه ليس للمشهور كتب استدلالية يمكن التعرّف بواسطتها على ما
هو مستندهم في هذه الفتوى أو تلك وهل انّ مستند هذه الفتوى المطابقة لمؤدى الخبر
الضعيف هو نفس الخبر أو انّ المستند لذلك هو دليل آخر ، وبهذا لو سلمنا بتمامية
كبرى الانجبار فإنّه لا ثمرة مترتبة عليها بعد ان لم يكن احراز الصغرى وهو
الاستناد ميسورا.
* * *
١٥٤ ـ الانحلال التعبّدي
والمراد من
الانحلال التعبّدي هو زوال العلم الإجمالي بواسطة الأمارة أو الأصل التنزيلي ،
بمعنى انّه لو كان القائم بدل الأمارة أو الأصل التنزيلي هو العلم الوجداني لكان
العلم الإجمالي منحلاّ حقيقة إلاّ انّه لمّا كان
القائم هو الامارة
والتي هي علم تعبّدا فإنّ العلم الإجمالي ينحلّ تعبّدا للتعبّد بعلمية الأمارة أو
الأصل التنزيلي ـ بناء على انّ المجعول فيه هو العلمية والطريقية ـ فالعلم
الإجمالي وان كان لا يزول وجدانا بقيام الامارة إلاّ انّ التعبّد بعلميتها اقتضى
تنزيل العلم الإجمالي منزلة المنحل.
فلو كنّا نعلم
بنجاسة أحد الإنائين ثم قامت البينة على انّ النجاسة قد وقعت في الإناء الاول فإنّ
ذلك لا يقتضي زوال العلم الإجمالي حقيقة إلاّ انّه لمّا كانت الأمارة منزلة منزلة
العلم تعبّدا فإنّ هذا يقتضي التعبّد بزوال العلم الإجمالي.
هذا حاصل ما
يستفاد من كلمات السيد الخوئي رحمهالله إلاّ انّ السيد الصدر رحمهالله لم يقبل بدعوى وجود انحلال تعبّدي ، وذلك لأنّ دليل
الأمارة لو كان قد نزّل الأمارة منزلة العلم فإنّ هذا التنزيل لا يطال الانحلال ،
وذلك لكونه أثرا تكوينيا للعلم ، وليس للشارع بما هو شارع التصرّف في الآثار التكوينية
من حيث توسيع دائرتها أو تضييقها ، وأما لو كان دليل الأمارة مقتضيا لاعتبار
الأمارة علما بنحو المجاز السكّاكي العقلي فإنّ الآثار المترتبة حينئذ انّما هي
الآثار الاعتبارية لا الآثار الحقيقية التكوينية والتي منها الانحلال.
قد يقال : انّ
المقصود من التعبّد بالانحلال هو انّ دليل الأمارة لمّا كان قد نزّل الامارة منزلة
العلم أو اعتبرها علما فإنّ ذلك يقتضي التعبّد بآثارها ، فالانحلال الثابت بواسطة
الأمارة انحلال تعبّدي لا انّه انحلال حقيقي تكويني تم بواسطة التعبّد بعلمية
الأمارة ، فلا يقال حينئذ انّه أثر تكويني للعلم وليس للشارع التصرّف في الآثار
التكوينية بل هو تعبّد بعلميّة الأمارة ، وهذا بنفسه يقتضي التعبّد بآثارها.
إلاّ انّ الصحيح
عدم صلاحية هذه المحاولة لحلّ الإشكال ، وذلك لأنّ التعبّد بعلمية الأمارة انّما
هو تعبّد بالعلة ، ونحتاج الى تعبّد آخر للمعلول ، إذ لا ملازمة بين التعبّدين ،
ثم انّه لا معنى للتعبّد بالانحلال لأنّه لا ينتج التأمين عن الطرف الآخر ـ لو بقي
الشك في مورده ـ بل لا بدّ من التأمين عنه بإجراء الأصل المؤمن وأما التعبّد
بالانحلال وحده فغير كاف في التأمين عن الطرف الآخر ، واذا سلّم بلزوم إجراء الأصل
المؤمن عن الطرف الذي لم يكن موردا للأمارة فإنّ التعبّد بالانحلال لا تبقى له
فائدة ، إذ انّ التعبّد بالأمارة يقتضي رفع التعارض بين الاصول الجارية في أطراف
العلم الإجمالي ، حيث انّ مورد الأمارة لا يكون مجرى للأصل المؤمن ، فيجري الأصل
المؤمن في الطرف الآخر بدون معارض حتى لو لم يكن هناك تعبّد بالانحلال.
مثلا : لو علم
اجمالا بنجاسة أحد الإنائين ثم قامت البيّنة على انّ النجاسة وقعت في الإناء الاول
، فحينئذ لا يجري الأصل المؤمن في مورد الأمارة وهو الطرف الاول ، وأما الطرف
الثاني فيجري فيه الاصل المؤمن بلا معارض ، وعندئذ لا تكون ثمة فائدة من التعبّد
بالانحلال ، لأنّ الطرف الآخر مجرى للأصل المؤمن على كلا تقدري القول بالتعبّد
بالانحلال أو القول بعدم التعبّد بالانحلال.
نعم تكون للتعبّد
بالانحلال فائدة لو بنينا على جواز ارتكاب الطرف الآخر دون إجراء الاصل المؤمن ،
وهذا ما لا يمكن الالتزام به ، وذلك لأنّ الشك البدوي ما دام منحفظا في الطرف
الآخر فإنّه لا يسع المكلّف ارتكابه دون مؤمن شرعي أو عقلي ، وذلك للاتفاق على انّ
الشك إذا لم يكن مؤمنا عنه شرعا أو عقلا ـ ولو بقاعدة
قبح العقاب بلا
بيان ـ فإنّه يصبح منجزا عقلا. هذا حاصل ما أفاده السيد الصدر رحمهالله.
* * *
١٥٥ ـ الانحلال الحقيقي
المراد من
الانحلال الحقيقي هو زوال العلم الإجمالي وجدانا بحيث لو راجع المكلّف نفسه لوجد
انّ العلم الإجمالي قد زال.
ولكي يتّضح المراد
من ذلك نذكر بعض التطبيقات التي ينحلّ معها العلم الإجمالي حقيقة ووجدانا ، ثم
نستخلص من ذلك الضابطة للانحلال الحقيقي.
التطبيق
الاول : لو علم المكلّف
بنجاسة أحد إناءين ثم علم بأن منطبق المعلوم بالإجمال هو الإناء الاول ، فهنا لا
إشكال في انحلال العلم الإجمالي وسراية العلم من الجامع الى الفرد المعلوم انّه هو
منطبق الجامع حقيقة وواقعا. وسراية العلم من الجامع الى طرفه المعيّن هو المنشأ
لانحلال العلم الإجمالي حقيقة ، إذ انّ بقاء العلم الإجمالي منوط بعدم السراية
والفرض هو تحققها.
وهنا لا بدّ من
التنبيه على انّ منشأ الجزم عادة بكون منطبق الجامع هو هذا الفرد المعيّن هو العلم
باشتمال الطرف الواقعي المعلوم بالإجمال على علامة خاصة. فهذا هو ما أوجب حصول
الجزم بانطباق المعلوم بالاجمال على الفرد المعين باعتبار انّ ذلك الفرد مشتمل على
نفس العلامة المعلوم اشتمال الطرف الواقعي عليها.
ففي مثالنا لو
كانت النجاسة المعلومة بالإجمال مسببة عن العلم بخمرية واحد من الإنائين غير
المعين ، فحينئذ لو علم انّ الإناء المشتمل على الخمر هو الأول فإنّ العلم بالجامع
يسري للفرد المعلوم خمريته.
التطبيق
الثاني : لو علم المكلّف
بنجاسة أحد
الإنائين ثم علم بنجاسة أحدهما المعين ، وهو الاول مثلا ، ولم تكن هناك خصوصية
للمعلوم بالإجمال تقتضي احتمال ان يكون المعلوم تفصيلا غير متطابق مع المعلوم
بالإجمال ، فلو كانت النجاسة المعلومة بالإجمال ليست ذات علامة ثم علمنا بعد ذلك
بنجاسة إناء معين منهما فإنّ العلم الإجمالي هنا ينحل بالعلم التفصيلي بالفرد ،
وذلك لعدم وجود خصوصية في المعلوم بالإجمال تستوجب الحيلولة دون العلم بانطباق
المعلوم بالاجمال على ما هو المعلوم بالتفصيل.
هذا وقد وقع
الخلاف في هذا الفرض بين المحقق النائيني رحمهالله والمحقق العراقي رحمهالله فذهب الاول الى الانحلال والثاني الى عدمه. وعلى أيّ حال
لو كنا نبني على الانحلال فهو من قبيل الانحلال الحقيقي ، وذلك لزوال العلم
الإجمالي حقيقة بالعلم التفصيلي بالفرد.
التطبيق
الثالث : ما لو علم
المكلّف باشتغال ذمته باحدى صلاتين اما الظهر أو المغرب ، ثم بعد ذلك علم بعدم
وجوب كلا الصلاتين وان علمه الإجمالي السابق لم يكن سوى وهم.
وهنا لا ريب في
سقوط العلم الإجمالي ، وذلك لزوال ركنه الركين وهو العلم بالجامع حيث انقلب العلم
بالجامع إلى علم بعدم مطابقته للواقع.
التطبيق
الرابع : ما لو علم
المكلف باشتغال ذمته باحدى صلاتين ثم تبدّل اليقين الى الشك ، بمعنى انّه شك في
واقعية المعلوم بالإجمال ، وهذا هو المعبّر عنه بالشك الساري ، حيث يتعلّق الشك
بعين ما تعلّق به اليقين. ولا ريب في انحلال العلم الإجمالي بذلك حقيقة ، إذ لا علم
اجمالي ـ بحسب الفرض ـ بعد سراية الشك الى عين ما تعلّق به اليقين ، وهذا ما يقتضي
أن يكون كل طرف مشكوكا بالشك البدوي.
وبهذه التطبيقات
يمكن ان نستنتج
الضابطة للانحلال
الحقيقي ، وهي انّ كل حالة نحرز معها زوال العلم بالجامع أو نحرز سرايته من الجامع
الى أحد الأطراف فإنّ العلم الإجمالي ينتفي بذلك حقيقة وواقعا. فالتطبيق الاول
والثاني أحرزنا فيهما سريان العلم من الجامع الى أحد أطرافه ، وفي التطبيق الثالث
والرابع أحرزنا فيهما زوال العلم بالجامع.
وهنا أمر لا بدّ
من التنبيه عليه : وهو انّه يشترط في الانحلال الحقيقي اتّحاد المعلوم
بالتفصيل ـ في التطبيقات الثلاثة ـ مع المعلوم بالإجمال زمانا ، واتحاد متعلّق
الشك ومتعلّق العلم الإجمالي زمانا في التطبيق الرابع.
وهذا واضح بأدنى
تأمل ، إذ انّ سراية العلم بالجامع الى الطرف المعين في التطبيق الاول والثاني لا
تتحقق لو كان المعلوم بالتفصيل متأخرا عن المعلوم بالإجمال ، إذ لا يمكن في هذه
الحالة ان يكون المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالإجمال.
مثلا : لو كنا
نعلم بنجاسة أحد الإنائين وانها وقعت في الساعة الاولى ثم علمنا بأنّ نجاسة وقعت
في الإناء الاول ولكن في الساعة الثانية ، أي انّ وقوع النجاسة تمّ في الساعة
الثانية.
فهنا لا ينحل
العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ، وذلك لأنّ المعلوم في العلم الإجمالي غير
المعلوم تفصيلا ، فليس المعلوم بالتفصيل مصداقا للمعلوم بالإجمال.
وأما عدم الانحلال
في التطبيق الثالث ـ لو كان زمان المعلومين مختلفا ـ فلأنّ أحدهما غير الآخر. مثلا
: لو علم المكلّف باشتغال ذمته باحدى صلاتين من يوم السبت ثم علم بعدم وجوب كلا الصلاتين
من يوم الأحد.
فالمعلوم إجمالا
هو وجوب أحد صلاتي يوم السبت ، وأما المعلوم تفصيلا فهو عدم وجوب كلا صلاتي يوم
الأحد ، وحينئذ كيف يمكن انحلال
الاول بالثاني
والحال انّ متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر.
وأما عدم الانحلال
في التطبيق الرابع ـ لو كان متعلّق اليقين متفاوتا زمانا مع متعلّق الشك ـ فكذلك
لتباين المتعلقين. مثلا لو كان المكلّف يعلم بوجوب احدى الصلاتين من يوم السبت ثم
شك في وجوب احدى صلاتي يوم الأحد ، فعدم الانحلال هنا باعتبار انّ متعلّق العلم
الإجمالي هو احدى صلاتي يوم السبت ومتعلّق الشك هو احدى صلاتي يوم الأحد ، بل لا
يمكن فرض ان يكون هذا الشك من نحو الشك الساري ، والذي هو مفترض التطبيق الرابع.
ثم لا يخفى انّ
المقصود من اشتراط الاتحاد الزماني هو الاتحاد من ناحية المعلوم لا من العلم ، فلا
ضير في تأخر العلم التفصيلي عن العلم الاجمالي إذا كان متعلّق العلمين متّحدا
زمانا.
* * *
١٥٦ ـ الانحلال الحكمي
والمراد منه
انتفاء المنجزيّة والتأثير عن العلم الإجمالي دون ان يزول العلم الإجمالي حقيقة ،
وهذا انّما يتفق في حالات قيام الأمارة أو الاصل العملي على ثبوت التكليف لبعض
أطراف العلم الإجمالي ، فيكون اجراء الأصل المؤمّن في الأطراف الاخرى بلا معارض ،
فتنتفي حينئذ منجزية العلم الاجمالي عن هذه الاطراف.
ومنشأ ذلك هو دعوى
انّ العلم الإجمالي مقتض للتنجيز وليس علة تامة لتنجيز أطرافه ، بمعنى انّ ثبوت
المنجزية انّما هو باعتبار امتناع إجراء الاصول المؤمّنة في كل الأطراف لاستلزامه
الترخيص في المعصية ، وامتناع اجرائها في بعض الاطراف دون بعض لاستلزامه الترجيح
بلا مرجّح ، فيتعين سقوط الاصول المؤمّنة عن تمام الأطراف ، وبهذا
تتنجز أطراف العلم
الإجمالي ، فلو اختلّت هذه المقدمة بحيث كانت بعض الأطراف متنجزة بمنجّز آخر من
أمارة أو أصل مثبت للتكليف فإنّ الأطراف الاخرى يصبح جريان الاصل المؤمّن فيها
ممكنا لانتفاء محذور التعارض الذي يترتب عليه سقوط الاصول المؤمّنة ، إذ لمّا كانت
بعض الأطراف موردا لتنجيز الأمارة أو الأصل المثبت للتكليف فإنّ الأطراف الاخرى
تكون مجرى للاصول المؤمّنة بلا معارض ، وهذا هو معنى سقوط العلم الإجمالي عن
المنجزية بسبب الانحلال الحكمي.
وهنا شروط ثلاثة
لا بدّ من تواجدها في موارد الانحلال الحكمي :
الشرط
الاول : ان يكون مقدار
ما كشفت عنه الأمارة أو نجزته الاصول المثبتة للتكليف مساويا لمقدار ما هو المعلوم
بالإجمال ، وحينئذ تجري الاصول المؤمّنة عن بقية الاطراف بلا معارض.
مثلا : لو علمنا
بتنجّس خمسة من الاواني العشرة ثم كشفت الأمارة عن انّ الخمسة المتنجسة هي الخمسة
الواقعة في الطرف الشمالي ، فإنّ العلم الإجمالي عندئذ ينحل بالانحلال الحكمي ،
وذلك لأن المقدار الذي كشفت عنه الأمارة مساويا للمقدار المعلوم بالإجمال ، وهكذا
لو كانت الخمسة الشمالية مجرى لاستصحاب النجاسة ، ففي كلا الحالتين يسقط العلم
الاجمالي عن المنجزية بمعنى انّ الأطراف الباقية تكون مجرى للاصول المؤمّنة دون
معارض. وهذا هو الانحلال الحكمي.
أما لو كان
المنكشف بواسطة الأمارة هو نجاسة أربعة من الاواني العشرة وهي الاربعة الشمالية
فإنّ العلم الاجمالي حينئذ لا ينحل ، نعم تخرج الأطراف المنكشف نجاستها بالامارة
عن أطراف العلم الإجمالي وتصبح
أطرافه ستة ،
ومنشأ ذلك هو عدم امكان إجراء الاصول المؤمنة في الستة ، إذ انّ اجراء الاصل
المؤمّن في كل طرف معارض باجرائه في الأطراف الاخرى.
الشرط
الثاني : ان لا يكون
السبب للتنجيز الذي تكشف عنه الأمارة أو يثبته الاصل مختلفا عن سبب التنجيز في
المعلوم بالإجمال ، فلا بدّ وان يكون المنكشف بواسطة الأمارة مطابقا لما هو
المعلوم بالإجمال وكذلك لا بدّ وان تكون جهة التنجيز في الاصل متطابقة مع جهة
التنجيز في العلم الإجمالي.
مثلا : لو علم
اجمالا بحرمة أكل أحد الطعامين بسبب كونه من الأعيان النجسة ثم قامت الأمارة على
انّ الذي هو من الأعيان النجسة هو الطعام الاول فإنّ العلم الإجمالي حينئذ يسقط عن
المنجزية ، أما لو كان المنكشف بالأمارة هو مغصوبية الطعام الاول أو كان الاستصحاب
مقتضيا لذلك فإن العلم الاجمالي لا ينحل ، وذلك لأن المنجّز بالعلم الإجمالي غير
المنجّز بالأمارة أو الاستصحاب.
الشرط
الثالث : ان لا يكون
انعقاد العلم الإجمالي متقدما على قيام الامارة أو الاصل المنجّز ، فلو افترضنا
انّ العلم الإجمالي قد انعقد ثم قامت الامارة على انّ المعلوم بالإجمال هو الطرف
الاول مثلا فإنّ العلم الإجمالي لا ينحل بذلك ، بمعنى انّ العلم الإجمالي يظلّ
منجزا للأطراف التي لم تقع موردا للأمارة ، وذلك بسبب ان منجزية الأمارة انما هو
عند قيامها ، وهذا معناه انّ الاصول المؤمنة في مورد الأمارة جارية قبل قيام
الامارة وعندئذ تسقط لتعارضها مع الاصول المؤمنة الجارية في غير مورد الامارة ،
وبذلك يتنجّز العلم الإجمالي ويكون قيام الامارة بعد ذلك غير نافع في سقوط
المنجزية عن العلم الاجمالي بالنسبة للأطراف غير الواقعة موردا للامارة.
مثلا : لو علمنا
بحرمة أحد الطعامين ثم قامت البينة على حرمة الطعام الاول ، فإنّ العلم الإجمالي
لا ينحل ، إذ انّ منجزية الامارة انّما تبدأ من حين قيامها ، وعندئذ يكون قيام
الامارة غير نافع في سقوط المنجزية عن الطرف الآخر الذي لم يقع موردا للأمارة ،
وذلك لأنّه لو لاحظنا مورد الامارة قبل قيامها ولاحظنا الطرف الآخر لوجدنا انّ في
البين علم اجمالي اما بحرمة الطعام الاول الى حين قيام الامارة ويكون المنجّز بعد
قيامها هو الامارة أو بحرمة الطعام الثاني الى ما بعد قيام الأمارة.
* * *
١٥٧ ـ انحلال العلم
الإجمالي
المراد من انحلال
العلم الإجمالي هو سقوطه عن منجّزية تمام أطرافه بقطع النظر عمّا هو المنشأ لسقوطه
عن المنجّزية ، فقد يكون السقوط ناشئا عن زوال العلم بالجامع ، امّا لانقلابه الى
شك وامّا لانقلابه الى علم بالنقيض ، كما لو كان يعلم بنجاسة أحد الإنائين ثم
انكشف له عدم مطابقة معلومه للواقع وانّ الواقع هو طهارة كلا الإنائين وانّ العلم
الإجمالي بالنجاسة لم يكن سوى وهم.
وقد يكون زوال
العلم بالجامع من جهة سريان المعلوم بالاجمال من الجامع الى أحد أطرافه المعين ،
كما انّ سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز لاطرافه قد ينشأ عن قيام الأمارة بتعيين
ما هو منطبق الجامع ، وقد ينشأ السقوط عن عدم جريان الاصول المؤمّنة في بعض
الاطراف ، فتجري الاصول المؤمّنة في الطرف الآخر بلا معارض ، وقد ينشأ عن مناشئ
اخرى.
والمتحصل انّه في
كل حالة يسقط فيها العلم الاجمالي عن المنجزية لتمام أطرافه يعبّر عن هذه الحالة
بانحلال العلم الاجمالي.
١٥٨ ـ انحلال العلم
الإجمالي الكبير بالصغير
والمقصود من
الانحلال في هذا الفرض هو سريان العلم بالجامع الى جامع آخر واقع في ضمن دائرة
أضيق من دائرة العلم الأول.
ومعنى الانحلال
انّ العلم الإجمالي الكبير لا ينجّز تمام أطرافه ، وتنجّز الأطراف الواقعة في ضمن
دائرة العلم الاجمالي الصغير انّما هو بسبب العلم الاجمالي الصغير ، وأما العلم
الإجمالي الكبير فقد سقط عن المنجّزيّة لتمام أطرافه.
وهذا النحو من
الانحلال يمكن تصويره بنحو الانحلال الحقيقي كما يمكن تصويره بنحو الانحلال
الحكمي.
ومثال الصورة
الاولى ما لو علم المكلّف انّ خمسا من شياه في قطيع ـ يساوي عشرين شاة ـ قد تغذت
على لبن خنزيرة ، فجامع العلم الإجمالي في المثال هو خمس شياه من عشرين ، فلو
تحوّل العلم بعد ذلك الى علم بتغذّي خمس شياه من عشر من القطيع هي العشر البيض
منها فإنّ العلم الإجمالي ينحلّ حينئذ الى علم اجمالي آخر بحرمة خمس شياه من العشر
البيض وشك بدوي في العشرة الباقية.
ومنشأ الانحلال هو
سراية الجامع من العلم الإجمالي الاول الى جامع آخر واقع في دائرة أضيق من دائرة
العلم الاجمالي الاول الكبير.
ومثال الصورة
الثانية هو عينه مثال الصورة الاولى إلاّ انّ الانحلال لم ينشأ عن العلم بسريان
الجامع من العلم الاول الكبير الى العلم الاجمالي الصغير وانّما نشأ عن قيام
الأمارة أو أصل منجّز بالتفصيل الذي ذكرناه في الانحلال الحكمي.
وبهذا يتضح ان
انحلال العلم
الإجمالي الكبير
بالصغير منوط بتوفره على شرطين :
الاول : ان تكون أطراف العلم الإجمالي الصغير بعض أطراف العلم
الإجمالي الكبير ، فلو كانت أطراف العلم الاجمالي الثاني مباينة لأطراف العلم
الإجمالي الكبير فإنّه لا يكون من انحلال العلم الاجمالي الكبير بالصغير ، فلو
علمنا انّ خمسا من عشرين شاة قد تغذت على لبن خنزيرة ثم علمنا انّ خمسا من عشرة قد
تغذت على لبن خنزيرة ولم تكن هذه العشرة بعض أطراف العلم الاول ، فإنّ العلم
الاجمالي الاول لا ينحل بالثاني بل هما علمان اجماليان متباينان ، وهكذا لو كانت
بعض أطراف العلم الإجمالي الثاني من غير أطراف العلم الإجمالي الاول ، كما لو كانت
خمس شياه من العلم الاجمالي الثاني من غير أطراف العلم الإجمالي الاول على تفصيل
في هذا الفرض.
الثاني : ان يكون مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي
الثاني مساويا للمقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير كما هو في
المثال.
أما لو كان مقدار
المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الثاني أقل من مقدار المعلوم بالإجمال في
العلم الإجمالي الاول الكبير فإنّ العلم الإجمالي الكبير لا ينحل. فلو علمنا انّ
أربعا من الشياه الخمس واقعة في ضمن العشر البيض فإنّ العلم الإجمالي الكبير يظلّ
منجّزا لتمام أطرافه بسبب العلم الاجمالي بوجود شاة واحدة من بين العشرين قد تغذت
على لبن خنزيرة ، وهذا ما يبرّر عدم الانحلال.
* * *
١٥٩ ـ الانسداد
دليل الانسداد أحد
الأدلة التي يستدلّ بها على حجية الظن المطلق.
والمراد من الانسداد
هو انسداد
باب العلم والعلمي
بالاحكام الشرعية ، بمعنى عدم وجود طرق تورث العلم بالأحكام الشرعية ، وعدم وجود
طرق ظنية خاصة قام الدليل القطعي على حجيتها.
ودليل الانسداد
مكوّن من أربع أو خمس مقدمات ـ على الخلاف ـ وتسميته بذلك ناشئ عن انّ احدى
مقدماته هي دعوى انسداد باب العلم والعلمي. والمراد من العلم هو العلم الوجداني
بالأحكام الإلهية الشرعية ، وأما المراد من العلمي فهو العلم التعبدي الناشئ عن
الأدلة الظنية الخاصة والتي قام الدليل القطعي على حجيتها بالخصوص دون سائر
الظنون.
ولو تمت مقدمات
الانسداد لكانت النتيجة المتحصلة عنها هي حجية الظن المطلق ، بمعنى منجزيّة
ومعذريّة مطلق الظن وبقطع النظر عن منشئه ، فحينما يحصل الظنّ بوجوب شيء يكون
المكلّف مسئولا عن ذلك الوجوب حتى وان كان منشأ الظن به خبر الواحد الضعيف أو النص
الشرعي المجمل أو غير ذلك ، وحينما يحصل الظن بحليّة شيء فإنّ المكلّف يكون في سعة
من جهته بقطع النظر عن منشأ الظن بالحلّية.
وحتى يتجلّى
المراد من دليل الانسداد أكثر ، وما هو وجه الاستدلال به على حجية مطلق الظن لا
بدّ من استعراض مقدمات هذا الدليل بما يتناسب مع الغرض ، فنقول : انّ الشيخ
الأنصاري رحمهالله ذكر انّ لهذا الدليل أربع مقدمات اذا تمّت فإنّها تنتج
حجية الظن :
المقدمة
الاولى : هي العلم
اجمالا بثبوت تكاليف بالغة مرتبة الفعليّة ، وهذا معناه مسئولية المكلف عن التصدّي
لامتثالها ولا يجوز له اهمالها وتجاوزها.
وهذه المقدمة
مكوّنة من دعويين : الاولى : هي العلم الإجمالي بوجود
تكاليف شرعية ،
والثانية : هي انّ هذه التكاليف المعلوم ثبوتها اجمالا بالغة مرتبة الفعليّة
والتنجّز.
والشيخ الآخوند
صاحب الكفاية رحمهالله فصل بين الدعويين ، وجعل الدعوى الاولى هي المقدمة الاولى
، وجعل الدعوى الثانية المقدمة الثالثة ، ولذلك فإنّ مقدمات دليل الانسداد خمس
بنظر صاحب الكفاية رحمهالله.
المقدمة
الثانية : هي عدم وجود
طرق تورث العلم بالأحكام الشرعية ، وعدم وجود طرق ظنيّة خاصة قام الدليل القطعي
على حجيتها واعتبارها ، وهذا هو معنى انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية.
ومدرك هذه المقدمة
هو انّ الأحكام الواصلة لنا بواسطة العلم الوجداني قليلة جدّا ، حيث انّ نسبتها
الى الكم الهائل من الأحكام الشرعية المتصلة بحياة الإنسان الخاصّة والعامّة ضئيلة
جدّا لا تكاد تذكر. والوسيلة الوحيدة ـ دون مجازفة ـ التي يمكن الاتّكال عليها في
مقام التعرّف على الأحكام الشرعية هي الروايات المودعة في الكتب المعتمدة عند
الطائفة ، وهي وان كانت مستوعبة تقريبا لتمام الأحكام المتصلة بحياة الإنسان
الخاصّة والعامّة إلاّ انّ المشكلة في طريقيّتها لإثبات الاحكام الشرعية ، بمعنى
انّ طريقيّتها وحجيتها منوط بتمامية دعويين :
الاولى : حجيّة أخبار الثقات ، ثم إثبات وثاقة الواقعين في طرق
هذه الروايات.
الثانية : حجيّة ظواهر هذه الروايات ، أي حجية ما يفهمه العرف من
متون هذه الأخبار.
ومع سقوط كلا
الدعويين او احداهما تكون النتيجة هي انسداد باب العلمي. فلو لم نتمكن من اثبات
حجيّة خبر الثقة
أو لم نتمكن من اثبات وثاقة الواقعين في طرق هذه الروايات فإنّه حينئذ لا تكون ثمة
قيمة علمية لهذه الروايات ، ولو أمكن إثبات حجيّة خبر الثقة وإثبات وثاقة الواقعين
في طرق هذه الروايات إلاّ انّه لم نتمكن من إثبات حجيّة ما يظهر من متون هذه الروايات
أو كان الدليل مقتضيا لعدم حجيّة الظواهر لغير المشافهين أو المقصودين بالافهام
فإنّ النتيجة هي انسداد باب العلمي أيضا ، إذ انّ ما ينفهم من الروايات لا مبرّر
لاعتماده بعد ان كانت حجيّة ودليليّة هذا الفهم ساقطة عن الاعتبار.
وأما القرآن
الكريم فهو وان كان لا يواجه المشكلة الاولى ، حيث انّ صدوره قطعي إلاّ انّ
المشكلة الثانية وهي عدم حجية الظواهر تشمل ظواهر الكتاب المجيد ـ لو تمّت ـ وهي
كافية في انسداد باب العلمي بالاحكام المودعة في القرآن المجيد.
المقدمة
الثالثة : انّ العمل
بالاحتياط ـ وذلك بواسطة الإتيان بكلّ ما يحتمل وجوبه وترك كل ما يحتمل حرمته ـ غير
لازم أو غير جائز ، أمّا انّه غير لازم فهو ما لو كان الاحتياط متعذّرا ، وحينئذ
يكون التكليف به تكليفا بغير المقدور ، أو كان الالتزام به موجبا للوقوع في العسر
والحرج المنفيين شرعا. وأما انّه غير جائز فهو ما لو كان الالتزام به موجبا
لاختلال النظام.
والعمل بالاصول
العمليّة في كل مسألة ينافي العلم الإجمالي ، كما انّ العمل بمثل القرعة مما لم
يقم الدليل على اعتباره خصوصا في الشبهات الحكمية ، بل الضرورة الفقهية قاضية بعدم
صحة الاعتماد على مثل هذه الوسائل لإثبات الأحكام الشرعية ، فلم يبق إلاّ تقليد
الانفتاحي والذي تمّت عنده حجية الروايات سندا ودلالة ، وهذا ما لا يمكن المصير
اليه ،
وذلك لأنّ الذي
يبني على انسداد باب العلم والعلمي يرى انّ الانفتاحي مخطئ في مذهبه وعليه يكون
الرجوع اليه معناه رجوع العالم للجاهل وهو غير جائز كما هو واضح.
المقدمة
الرابعة : هي انّ عدم
العمل بمطلق الظن يستلزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا ، وذلك لأنّ
المكلّف لمّا كان يعلم بثبوت تكاليف بالغة مرتبة الفعليّة وكان الاحتياط متعذّرا
أو موجبا لاختلال النظام أو الوقوع في العسر والحرج ، وكان الرجوع الى الاصول
العمليّة ينافي العلم الإجمالي ، والرجوع الى مثل القرعة أو الانفتاحي غير جائز ،
فالعمل حينئذ بغير الظن لا يكون إلاّ عملا بالشك أو الوهم ، ومن الواضح انّ الأخذ
بمقتضاهما وترك ما يؤدي اليه الظن من ترجيح المرجوع على الراجح.
وقد يقال انّه لما
ذا لا يكون العمل على وفق الظنون الخاصة التي يرى الانفتاحي حجيتها ، وحينئذ لا
يكون العمل بها من ترجيح المرجوح ، لانّها إذا لم تكن أرجح من سائر الظنون فهي في
عرضها.
والجواب عن ذلك هو
انّ العمل بالظنون الخاصة وان لم يكن من ترجيح المرجوح إلاّ انّه من الترجيح بلا
مرجح ، وذلك لعدم قيام الدليل الخاص على حجيّة الظنون الخاصة كما هو مقتضى الفرض.
هذا تمام الكلام
في مقدمات دليل الانسداد. وتلاحظون انّ هذا الدليل لا يكون منتجا لحجيّة مطلق الظن
ما لم تكن جميع مقدماته تامّة ، إذ يكفي في سقوطه سقوط احدى مقدماته ، فحينما
نتمكن من إثبات حجية أخبار الثقات وإثبات وثاقة الواقعين في طرق الروايات أو إثبات
حجيتها بطريق آخر ، هذا بالاضافة الى التمكن من إثبات حجية الظواهر وانّها غير
مختصة بالمشافهين
فحينئذ يكون باب العلمي منفتحا وبه ينحل العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي
الصغير ، فلا يكون الالتزام بأطرافه متعذرا أو موجبا للعسر والحرج أو اختلال
النظام.
وكيف كان لو تمّت
مقدمات الانسداد فإنها تنتج حجية مطلق الظن إلا ان الكلام في انّ ذلك هل هو من باب
الكشف أو الحكومة أي هل انّ الحجية الثابتة لمطلق الظن ـ لو تمّت مقدمات الانسداد
ـ حجية شرعية أو حجية عقلية.
والمراد من الكشف
هو انّ مقدمات الانسداد تكون كاشفة ـ لو تمّت ـ عن جعل الشارع الحجية لمطلق الظن
فالكاشف هي مقدمات الانسداد والمنكشف هو الجعل الشرعي للحجيّة.
وأما المراد من
الحكومة فهو انّ العقل ـ عند ما تكون مقدمات الانسداد تامّة ـ يدرك بأنّ المكلف
يكون مسئولا عن الامتثال الموجب للظن بفراغ الذمة عن التكليف ولا يكون معذورا حين
الاكتفاء بالامتثال الموجب للشك أو احتمال الخروج عن عهدة التكليف ، بمعنى انّه لا
يصح منه التنزّل من الامتثال الظني الى الامتثال الشكي أو الاحتمالي. وهذا هو معنى
التبعض في الاحتياط ، إذ انّ العقل يدرك انّ المكلّف لمّا لم يكن قادرا على
الاحتياط التام لكونه متعذّرا أو موجبا للعسر والحرج او اختلال النظام فإنّه يتنزل
منه الى التبعيض في الاحتياط. وهذا التبعيض له مراتب ، فمنه ما يكون موجبا للظن
بفراغ الذمّة ، ومنه ما يكون موجبا لاحتمال فراغ الذمّة ، ولا تصل النوبة للمراتب
النازلة عند ما تكون المرتبة العليا مقدورة وغير موجبة لمحذور العسر والحرج أو
اختلال النظام ، نعم لو أوجبت ذلك فإنّ العقل يدرك ان التنزّل انّما يكون للمرتبة
التي تليها وهكذا.
وتلاحظون انّ هذا
يعني استقلال العقل في إدراك لزوم العمل بما هو مقتضى الظن وعندئذ يكون المكلّف
معذورا في مخالفة الواقع الناتج عن التبعيض في الاحتياط وعدم الالتزام بتمام
الاطراف المحتملة أي عدم العمل بالامتثال الإجمالي القطعي. وهذا هو المراد من
الحكومة بحسب مبنى السيد الخوئي رحمهالله ، وأما بحسب مبنى صاحب الكفاية رحمهالله فهو انّ المراد من الحكومة هو حكم العقل بحجية الظن المطلق لو تمّت مقدمات
الانسداد. والفرق بين المبنيين أوضحناه تحت عنوان « الحكومة الانسدادية ».
وعلى أيّ حال
فالوجه في تبني حجية الظن المطلق من باب الكشف هو دعوى انّ الشارع لا يرضى
بالاحتياط إذا كان مستوجبا للامتثال الإجمالي في أكثر الأحكام ، إذ انّ ذلك ينافي
قصد الوجه المعتبر في العبادات ، وباعتبار انّ الطرق الاخرى كالرجوع الى فتوى
الانفتاحي أو الاعتماد على مثل القرعة أو الاصول العملية الجارية في كل مورد ،
باعتبار انّ كل هذه الطرق ساقطة ـ كما هو مقتضى الفرض ـ فإنّ ذلك يكشف عن انّ
الشارع قد جعل الحجية لمطلق الظن ، إذ هو المتعين بعد سقوط كل الطرق الاخرى.
وبتعبير آخر :
انّه بعد افتراض تمامية مقدمات الانسداد يدور الأمر بين التبعيض في الاحتياط والذي
هو الامتثال الاجمالي الظني وبين جعل الشارع الحجية لمطلق الظن والاول ساقط بسبب
العلم بعدم رضا الشارع به ، وذلك لقيام الإجماع فالمتعيّن هو الثاني.
وأما الوجه في
تبنّي حجية مطلق الظن من باب الحكومة فهو لأنّ الاحتياط التام لمّا كان محرما
باعتباره موجبا لاختلال النظام أو انّه غير واجب لاستلزامه العسر والحرج فإنّ
العقل يدرك لزوم التنزّل من مرتبة الاحتياط التام الى مرتبة التبعيض في
الاحتياط ، ولا
يصار الى المرتبة الدنيا اذا كانت المرتبة العليا من التبعيض مقدورة وغير موجبة
لاختلال النظام أو العسر والحرج.
واذا كانت هذه
المرتبة من الاحتياط غير محرمة لسقوط دعوى الاجماع بتحريمها يكون المتعيّن حينئذ
هو الحكومة ، إذ لا مجال لانكشاف جعل الشارع الحجية للظن بعد امكان ان يتكل الشارع
على ما يدركه العقل من لزوم الامتثال الإجمالي الظني أو التبعيض في الاحتياط ، وبه
تتعيّن الحكومة دون الكشف ، إذ مبنى الكشف معتمد على تمامية الإجماع على حرمة
التبعيض في الاحتياط ومع سقوط دعوى الإجماع لا مجال للكشف.
* * *
١٦٠ ـ الانسداد الصغير
الانسداد الصغير
يعني عدم وجود طريق قطعي أو علمي على حجّيّة شيء دخيل في عمليّة الاستنباط للحكم
الشرعي مع افتراض انفتاح طريق القطع والظنّ المعتبر بمستوى يمكن معه الوصول إلى
معظم الأحكام الشرعيّة.
فالانسداد الصغير
يقع في مقابل الانسداد الكبير والذي يفترض فيه عدم وجود أي طريق قطعي أو علمي
للوصول للأحكام الشرعيّة.
والانسداد بكلا
قسميه يتمسّك به لإثبات حجّيّة الظنّ ، غايته أنّ الانسداد الكبير ينتج بحسب الدعوى
حجّيّة مطلق الطرق الموجبة للظنّ بالحكم الشرعي ، وأمّا الانسداد الصغير فهو يثبت
حجّيّة الظنّ لخصوص الطريق الذي لم يتيسّر إثبات حجّيّته بواسطة الطرق القطعيّة أو
الظنّيّة المعتبرة.
فمثلا قول الرجالي
عند ما لا نجد طريقا خاصّا لإثبات حجّيّته فهذا معناه انسداد باب العلم بقول
الرجالي ، ومعه ينغلق عنّا طريق مهمّ
للوصول لبعض
الأحكام الشرعيّة ، وذلك لأنّ قول الرجالي في التعديل والجرح لو كان معتبرا لكان
طريقا لتصحيح الكثير من الروايات المتضمّنة لبيان الأحكام الشرعيّة.
من هنا قد يقال
بصحّة التمسّك بالظنّ الحاصل من قول الرجالي ، وذلك بدليل الانسداد الصغير والذي
يتقوّم بثلاث مقوّمات أساسيّة :
الأولى : عدم وجود طريق قطعي أو ظنّي معتبر لإثبات حجّيّة قول
الرجالي مثلا.
الثانية : العلم الإجمالي بمطابقة قول الرجالي في بعض ما أفاده
للواقع ، وهذا معناه العلم الإجمالي بصحّة بعض الروايات المتضمّنة لبيان الأحكام
الشرعيّة.
الثالثة : إنّ الاحتياط بالعمل بجميع الروايات المتوقّف تصحيحها
وتضعيفها على قول الرجالي غير ممكن لاستلزامه مجموعة من المحاذير ، منها عدم إمكان
الاحتياط في نفسه لتباين مضامين بعض الروايات ومنها أنّه قد ينشأ عن ذلك العسر
والحرج كما لو كان مفاد بعض الروايات التكفير ببقرة ، ومفاد الأخرى التكفير ببدنة
ومفاد الثالثة التكفير بشاة فإنّ الاحتياط يقتضي التكفير بكلّ ذلك.
وإذا تمّت هذه
المقدّمات تكون النتيجة هي حجّيّة الظنّ الحاصل من قول الرجالي.
ولأنّ الغرض لا
يتّسع لمناقشة هذه المقدّمات نكتفي بهذا القدر ممّا ذكرناه.
* * *
١٦١ ـ الإنشاء والإخبار
المراد من الإنشاء
ـ كما هو مذهب المشهور ـ هو ايجاد المعنى واحداثه بواسطة اللفظ. والمقصود من
الإيجاد هو التسبيب لخلق معنى في عالمه المناسب له على ان يكون قصد الإيجاد باللفظ
دخيلا في ذلك.
فحينما يقول
المتكلم : « بعت » بقصد الإنشاء فإنّه يسبّب في انخلاق معنى في عالم الاعتبار
العقلائي وهو اعتبار العقلاء للتمليك ، فالعقلاء حينما كانوا قد تبانوا على انّ
التلفّظ بلفظ « بعت » ـ بقصد ايجاد معناه ـ يوجب اعتبار وجود التمليك فهذا معناه
انّ التلفظ بذلك بقصد ايجاد المعنى يوجب انخلاق فرد حقيقي في عالم الاعتبار
العقلائي. هذا ما سلكه المشهور في تفسير الإنشاء وهو يتناسب مع ما سلكه صاحب
الكفاية رحمهالله على اختلاف بينهما ، وسيأتي مزيد توضيح تحت عنوان « الجمل
الإنشائية ».
وأما المراد من
الإخبار فهو الكشف باللفظ عن ثبوت المؤدى في ظرفه ووعائه الخارجي أو الذهني ، على
ان يكون قصد الكشف والحكاية عن ذلك دخيلا في صدق الإخبار ، ولمزيد من التوضيح راجع
عنوان « الجمل الخبرية ».
١٦٢ ـ الانصراف
هو انسباق بعض
أفراد الطبيعة الى الذهن عند اطلاق لفظ الطبيعة ، أو قل هو انسباق معنى معيّن من
اللفظ للذهن رغم انّ المدلول الوضعي للفظ يتسع لأكثر مما هو المنسبق منه. وهو على
قسمين :
القسم
الاول : الانصراف
المستقر ، وهو الذي يوجب انسلاب الظهور عن الإطلاق واستقراره مع الأفراد أو الحصص
المنصرف اليها أو يوجب اجمال المراد من اللفظ ، وهل المراد هو المدلول الوضعي على
سعته أو خصوص الأفراد والحصص المنصرف اليها مما هو مشمول للمدلول الوضعي للفظ ،
فيكون القدر المتيقن من المراد هو المعنى المنصرف اليه.
القسم
الثاني : هو الانصراف
البدوي والذي يزول بالتأمّل ولا يؤثر على الظهور في الإطلاق.
ولا إشكال كبرويا
في لزوم الاعتناء بما يقتضيه القسم الاول من الانصراف ، كما لا إشكال في عدم تأثير
الانصراف البدوي على الظهور في الإطلاق ، نعم وقع النزاع بين الأعلام في تحديد
موارد الانصرافين ، فالنزاع إذن بين الأعلام صغروي.
ثم انّ تحديد
موارد كل من الانصرافين يتم عادة بواسطة البحث عن مناشئ الانصراف ، وذلك لأنّ
الانصراف وجداني لا يقع محلا للنزاع ، فتحديد مناشئ الانصراف هو الوسيلة التي
يتوسل بها لغرض التعرّف على انّ الانصراف الوجداني هل هو من قبيل الانصراف الاول
أو هو من قبيل الانصراف الثاني.
ولا بأس باستعراض
بعض المناشئ المذكورة عند الأعلام لملاحظة ما تقتضيه من نحوي الانصراف.
المنشأ
الاول : هو غلبة وجود
بعض أفراد الطبيعة خارجا ، وهذه الغلبة لها مراتب ، فقد يكون ما يقابل الأفراد
الغالبة موجودا ومألوفا أيضا ، وقد يكون ما يقابلها نادرا ، وقد يكون معدوما.
وواضح انّ المرتبة
الاولى لا يكون الانصراف معها موجبا لاستقرار الظهور مع المنصرف اليه بل يبقى
الظهور في الإطلاق على حاله ، وذلك لأنّ هذه المرتبة من الغلبة لم توجب نشوء علاقة
بين اللفظ وبين الأفراد الغالبة ، بل يبقى اللفظ الدال على الطبيعة بمعناها السعي
محتفظا بصلاحيته للدلالة عليها ، والعلاقة التي نشأت بواسطة الغلبة في الوجود
انّما هو بين واقع الطبيعة وبين الأفراد الغالبة ، بمعنى انّ هذه الغلبة أوجبت
انسا ذهنيا بين الأفراد الغالبة الوجود وبين واقع الطبيعة ، وهذا الانس الذهني ليس
من الوثاقة والاستحكام بحيث يوجب التصرّف في دلالة لفظ
الطبيعة وتضييق
دائرة مدلوله.
ومن هنا فالانصراف
الناشئ عن هذه المرتبة من الغلبة ليس إلاّ انصرافا بدويا يزول بمجرّد الالتفات الى
انّ دلالة اللفظ على الطبيعة بمعناها السعي لم تتأثر بهذا الانس الذهني.
وأما المرتبة
الثالثة بل وكذلك الثانية فلا يبعد ان يكون الانصراف الناشئ عنها موجبا لعدم
انعقاد الظهور في الاطلاق ، فهو وان وقع التشكيك في ايجاب هذا الإصراف لاستقرار
الظهور في المنصرف اليه إلاّ انّ صلاحيته للمنع عن الظهور في الإطلاق يصعب التشكيك
فيها ، وذلك لوثاقة واستحكام العلاقة بين الافراد الغالبة وبين واقع الطبيعة بحيث
أوجبت هذه الوثاقة انحداث خلل في العلاقة بين لفظ الطبيعة وبين مدلوله السعي ،
ولذلك لو أراد المتكلّم الإطلاق من لفظ الطبيعة فإنه يحتاج الى نصب قرينة غير
قرينة الحكمة للدلالة على إرادة الاطلاق وإلاّ لكان مجازفا بغرضه.
المنشأ
الثاني : كثرة استعمال
اللفظ الدال على الطبيعة في بعض أفرادها مع نصب قرينة على ذلك. وهذه الكثرة لها
مراتب أيضا ، فقد تكون كثرة الاستعمال موجبة لانتقال اللفظ من معناه والذي هو
الطبيعة بسعتها الى حصص خاصة منها ، فيكون المعنى الاول مهجورا وتكون كثرة
الاستعمال موجبة للوضع التعيّني في الثاني.
وهنا لا إشكال في
انّ الانصراف الناشئ عن هذه المرتبة من الكثرة موجبا لانعقاد الظهور في المعنى
المنصرف اليه دون المعنى الاول ، وذلك لأنّ هذه المرتبة من الكثرة أوجبت استئناسا
ذهنيا شديدا بين اللفظ والمعنى الثاني بحيث نشأ عن هذا الاستئناس تبدّل دلالة
اللفظ.
ولا يخفى عليك انّ
هذه العلاقة المستوثقة لم تنتج عن العلاقة بين
الصورة الذهنية
للطبيعة والأفراد الخارجية باعتبار غلبة وجودها ، وذلك لإمكان ان لا تكون الأفراد
التي استعمل اللفظ فيها بالخصوص هي الأفراد الغالبة الوجود ، إذ يمكن ان تكون
مساوية من حيث الوجود للأفراد الاخرى للطبيعة.
فالعلاقة إذن نشأت
عن الاستئناس الواقع بين نفس اللفظ والافراد التي غلب استعماله فيها. ومن هنا يصح
للمتكلم ان يتكل على هذا الانصراف لو كان مريدا للافراد الخاصة ولا يصح منه
التعويل على السعة اللفظية لو كان مريدا للإطلاق.
والمرتبة الثانية
لكثرة الاستعمال هي الموجبة لنشوء وضع ثان للفظ فيكون اللفظ بذلك من المشتركات
اللفظية ، وحينئذ لا يمكن استظهار أحد المعنيين من اللفظ ما لم ينصب المتكلم قرينة
على إرادة أحدهما.
فالانصراف الناشئ
عن هذه المرتبة من الكثرة في الاستعمال منع عن انعقاد الظهور في الإطلاق وان كان
لم يوجب انعقاد الظهور في المعنى الثاني المنصرف اليه ، والسرّ في صلاحية هذا
الانصراف للمنع عن الظهور في الاطلاق هو ما ذكرناه من ان الكثرة في الاستعمال
أوجبت نشوء استئناس ذهني بين نفس اللفظ والمعنى الثاني ، وهذا ما أوجب التعتيم على
المدلول ، وبه يفقد اللفظ صلاحيته للدلالة على المعنى الاول.
وبتعبير آخر : انّ
استظهار الإطلاق من اللفظ منوط بمقدمات الحكمة والتي منها صلاحية اللفظ لعروض
الاطلاق عليه ، ونحن في المقام لا نحرز هذه الصلاحية بعد ان كان المعنى الثاني ـ والذي
لا يصلح لأن يعرض عليه الإطلاق ـ مأنوسا من اللفظ بنحو تكون دلالة اللفظ عليه
وضعيّة تعيّنية ، فهو والمعنى الاول يشتركان في وضع اللفظ للدلالة عليهما ، غايته
انّ
دلالة اللفظ على
المعنى الثاني نشأ عن الوضع التعيّني.
وأما المرتبة
الثالثة لكثرة الاستعمال فهي التي لا توجب النقل ولا توجب الاشتراك لكنّها تستوجب
نشوء علاقة بين اللفظ وبين بعض حصص الطبيعة ، هذه العلاقة تبلغ حدّا من الاستيثاق
تكون معه صالحة للقرينية ، ومن هنا يكون الانصراف الناشئ عن هذه المرتبة من الكثرة
الاستعمالية مانعا عن انعقاد الظهور في الإطلاق ، وان كان لا يقتضي الظهور في
المعنى المنصرف اليه.
ومن مناشئ
الانصراف مناسبات الحكم والموضوع وكذلك القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهذا ما
سيتم بيانه في محله ان شاء الله تعالى.
* * *
١٦٣ ـ الانعكاس في
التعريف
وهو أحد الشرائط
المذكورة للتعريف في علم المنطق ، بمعنى انّ التعريف لا يكون تاما إلاّ أن يتوفر
على مجموعة من الشرائط منها الانعكاس.
والمراد منه
جامعية التعريف لتمام أفراد وخصوصيات المعرّف ، فمتى ما كان التعريف قاصرا عن
الشمول لبعض أفراد أو خصوصيات المعرّف فهذا يعني انّه غير منعكس.
* * *
١٦٤ ـ انقلاب النسبة
مورد البحث في مسألة
انقلاب النسبة هو ما لو وقع التعارض بين أكثر من دليلين وكانت النسب بينهم متفاوتة
وتختلف باختلاف كيفية ملاحظة العلائق بينهم ، فحينما تلحظ الأدلة في عرض واحد تكون
النسب بينهم مغايرة عمّا لو لوحظ دليلان منهم ـ مثلا ـ في عرض واحد ثم لوحظت
النسبة بين أحدهما والدليل الثالث بعد
ملاحظة النتيجة
المتحصلة عن النسبة بين الدليل الاول والدليل الثاني.
فالمراد من انقلاب
النسبة هو تبدّل النسبة عند ملاحظتها بين أحد الدليلين والدليل الثالث في طول
ملاحظة النسبة بين الدليلين الأولين تبدلها عمّا كانت عليه عند ملاحظة الأدلة الثلاثة
في عرض واحد.
والنزاع الواقع
بين الأعلام هو في كيفية ملاحظة الأدلة المتعارضة ، فهل تلاحظ تمام الأدلة في عرض
واحد أو تلاحظ النسبة بين الدليلين الأولين وبعد تقرّرها يلاحظ الدليل الثالث مع
الدليل الاول المراعى معه علاقته بالدليل الثاني ، وعندها تنقلب النسبة عما لو
لوحظت الأدلة في عرض واحد.
مثلا : لو ورد
دليل مفاده « تصدق على الفقراء » وورد دليل آخر مفاده « لا تتصدّق على الفقير
الفاسق » وورد دليل ثالث « لا تتصدق على الفقير الشاب ».
فحينئذ لو لاحظنا
الأدلة في عرض واحد لاقتضت تلك الملاحظة تقييد الدليل الاول بالثاني والثالث ،
فيكون حاصل الجمع بين هذه الأدلة هو وجوب التصدّق على الفقير غير الفاسق وغير
الشاب ، وذلك لأنّ النسبة بين الدليل الاول والدليل الثاني هي العموم المطلق وكذلك
النسبة بين الدليل الاول والثالث.
أمّا لو لاحظنا
النسبة بين الدليل الاول والدليل الثالث بعد ملاحظة النسبة بنى الدليل الاول
والثاني ومراعاة تلك النسبة حين ملاحظة العلاقة بين الدليل الاول والثالث فإنّ
النسبة تنقلب من العموم المطلق الى العموم من وجه ، وذلك لأن حاصل الجمع بين
الدليل الاول والثاني هو وجوب التصدّق على الفقير العادل ، وعندئذ لو لاحظنا
النسبة بين الفقير العادل والفقير والشاب لوجدنا انّها
العموم من وجه.
فمورد الافتراق في
الدليل الاول هو الفقير العادل الشيخ ، حيث يكون مشمولا للدليل الاول ولا يكون
مشمولا للدليل الثالث ، ومورد الافتراق في الدليل الثالث هو الفقير الشاب الفاسق
حيث يكون مشمولا للدليل الثالث ولا يكون مشمولا للدليل الاول ، ومورد الاجتماع بين
الدليلين الاول والثالث هو الفقير الشاب العادل ، فمقتضى الدليل الاول هو وجوب
التصدّق عليه ومقتضى الدليل الثالث هو حرمة التصدّق عليه.
ونذكر مثالا آخر
ليكون المطلب أكثر وضوحا : إذا ورد دليلان بينهما عموم من وجه وكان أحدهما مخصّص
بدليل ثالث ، فلو لوحظت الأدلة في عرض واحد فإنّ النتيجة هي استحكام المعارضة بين
العامين من وجه في مورد الاجتماع وتخصيص الدليل الذي له مخصّص بمخصّصه.
أما لو خصّصنا
الدليل الذي له مخصّص بمخصّصه ثم لاحظنا نسبته بعد تخصيصه مع الدليل الآخر فإنّ
النسبة سوف تنقلب الى العموم المطلق.
مثلا : لو ورد
دليل مفاده استحباب اكرام الفقراء وورد دليل آخر مفاده حرمة اكرام الفساق ، وورد
دليل ثالث مفاده وجوب اكرام الفقراء العدول. فإنّه تارة نلاحظ الأدلة الثلاثة في عرض واحد ، وحينئذ يقع
التعارض بين الدليل الاول والدليل الثاني في مادة الاجتماع وهي « الفقراء الفساق »
، فمقتضى الدليل الاول هو استحباب اكرامهم لكونهم فقراء ، ومقتضى الدليل الثاني هو
حرمة اكرامهم لكونهم فساقا ، ونخصّص الدليل الاول بالدليل الثالث بقطع النظر عن
علاقة الدليل الاول بالثاني.
أما لو لاحظنا
النسبة بين الدليل الاول مع الدليل الثالث وخصصنا
الدليل الاول
بالثالث ثم لاحظنا العلاقة بين الدليل الاول ـ بعد التخصيص ـ وبين الدليل الثاني
فإنّ النسبة بينهما سوف تنقلب وتصبح من العموم المطلق ، وذلك لأنّ النتيجة الحاصلة
من ملاحظة العلاقة بين الدليل الاول والثالث هي استحباب إكرام الفقراء إلاّ أن
يكونوا عدولا فإنّه يجب ، وهذا معناه انّ مفاد الدليل الاول هو استحباب اكرام
الفقراء الفساق ، وحينئذ تكون نسبته الى الدليل الثاني هي العموم المطلق أي انّ
الدليل الاول أخص مطلقا من الدليل الثاني ، إذ انّ مفاد الدليل الثاني هو حرمة
اكرام الفساق ، فيكون حاصل الجمع بينهما هو حرمة إكرام الفساق إلاّ الفقراء منهم.
وبعد اتضاح المراد
من انقلاب النسبة وما هو محل النزاع بين الاعلام نقول : انّ صاحب الكفاية رحمهالله ذهب الى عدم انقلاب النسبة وانّ الأدلة المتصدية لعلاج موضوع واحد تلاحظ في
عرض واحد ويكون المتبع هو ما تقتضيه تلك النسبة الملحوظة في عرض واحد ، وذلك لعدم
وجود ما يبرّر ملاحظة النسبة بين دليلين ثم ملاحظة أحد الدليلين بعد تخصيصه مثلا
مع الدليل الثالث ، فإنّ الثابت بحسب ما تقتضيه طريقة أهل المحاورة هو ملاحظة
الظهورات الاوليّة لتمام الأدلة في عرض واحد وانّ القرائن المنفصلة لا تهدم الظهور
، ولذلك التزم بأنّ العام حجة في الباقي.
وبيان ذلك : انّه
حينما يرد دليل مفاده « استحباب النفقة على الأقرباء » و « حرمة النفقة على الفساق
» و « وجوب النفقة على الأولاد الصغار » فأيّ مبرّر يقتضي تقديم ملاحظة الدليل
الاول مع الدليل الثالث ومن ثم تخصيص الاول بالثالث ، ثم ملاحظة الاول بعد تخصيصه
مع الثاني ، ولما ذا لا تلاحظ
الأدلة الثلاثة في
عرض واحد فتكون النتيجة هي استحكام التعارض في مورد الاجتماع وهو القريب الفاسق
فيلتزم بالترجيح أو التخيير وفي نفس الوقت نلتزم بوجوب النفقة على الأولاد الصغار
» لعدم وقوعه طرفا في المعارضة وعندئذ يكون حاصل الجمع هو وجوب النفقة على الاولاد
الصغار واللذين هم من الاقرباء واستحباب النفقة على الاقرباء غير الفساق ، وأما
القريب الفاسق فحكمه تابع لما هو المبنى من الترجيح أو التخيير فإن كنا نبني على
الترجيح وكان الراجح هو الدليل الاول فإن المتعيّن حينئذ هو استحباب النفقة على
القريب الفاسق وان كان الراجح هو الدليل الثاني يكون المتعين هو حرمة النفقة على
القريب الفاسق وان لم يكن ثمة مرجح لاحد الدليلين الاول والثاني فالنتيجة هي
التساقط والرجوع الى الاصل العملي إن لم يكن ثمة عموم فوقاني.
ودعوى انّ الدليل
الثالث يكون قرينة على الدليل الاول لأنّه أخص منه مطلقا غير مسموعة ، وذلك لأن
الدليل الثالث انّما هو قرينة منفصلة ، والقرينة المنفصلة لا تهدم الظهور ، فعليه
يبقى الاول ظاهرا في العموم ، وهذا ما يوجب بقاء النسبة بينه وبين الدليل الثاني
العموم والخصوص من وجه.
وفي مقابل ما ذهب
اليه صاحب الكفاية رحمهالله ذهب جمع من الأعلام الى انقلاب النسبة واستدلّ لهم السيد
الخوئي رحمهالله بما حاصله : انّ الثابت في محلّه هو انّ القرائن المنفصلة
تكشف عمّا هو المراد الجدّي فإذا ورد دليل عام ثم ورد بعد ذلك دليل خاص فإنّه يكشف
عن انّ العموم لم يكن مرادا جدّا من أول الأمر. ومن الواضح انّ الحجيّة الثابتة
للظهور انّما هي ثابتة لخصوص ما تقتضيه الإرادة الجدّية للمتكلّم ، وعندئذ لا يمكن
ان يعارض
دليل ثالث عام
بهذا الدليل العام ، وذلك لعدم كونه مرادا جدّا ، أي انّه غير حجة في العموم ،
وغير الحجة لا يعارض ما هو حجّة ، نعم هو حجّة في الخصوص باعتبار انّ الخصوص هو
المراد الجدي للمتكلّم.
والخصوص حينما
يلاحظ مع الدليل الثاني العام تنقلب النسبة عمّا لو كانت الملاحظة للنسبة بين
العام قبل التخصيص والدليل الثاني العام.
إذن لمّا كان
الدليل الصالح لوقوعه طرفا في المعارضة هو الدليل الحجة فهذا يقتضي تخصيص العام
قبل ملاحظة علاقته بالدليل الثالث ، وهذا ما ينتج انقلاب النسبة أي تبدلها عما لو
لوحظت الادلة في عرض واحد.
* * *
١٦٥ ـ الانقياد
المراد من
الانقياد هو الطاعة الاعتقادية مع اتفاق عدم الأمر واقعا ، وذلك في مقابل التجرّي
والتي هي المعصية الاعتقادية ، بمعنى انّ المكلف حينما يكون بصدد الإتيان بما
يعتقد كونه مطلوبا للمولى ويتفق عدم مطابقة اعتقاده للواقع يكون بذلك منقادا ،
وهذا في مقابل التصدي لمخالفة ما يعتقد لزوم الالتزام به شرعا مع اتفاق عدم مطابقة
معتقده للواقع ، فإنّه عندئذ يكون متجريا.
فالتجري هو مخالفة
ما يعتقد لزومه شرعا مع منافاة المعتقد للواقع ، والانقياد هو موافقة ما يعتقد
مطلوبيته شرعا مع منافاة المعتقد للواقع ، على انّه يمكن ان يقال انّ دائرة
الانقياد أوسع من دائرة التجري ، وذلك لأنّ الانقياد يصدق في حالة التصدّي لموافقة
ما يحتمل مطلوبيته شرعا ، وهذا بخلاف التجري فإنّه لا يصدق إلاّ في حالة المخالفة
لما يعتقد لزومه شرعا ، نعم التجري لا يختص بحالات المخالفة لما هو مقطوع اللزوم
بل يشمل
المخالفة لما قامت
الحجة الشرعية على لزومه.
فحينما يكون مقتضى
الاستصحاب أو الاشتغال هو اللزوم فإنّ مخالفة المكلف لما هو مقتضى الاستصحاب يعدّ
تجريا لو اتفق عدم مطابقة مؤدى المنجّز الشرعي للواقع ، وهذا بخلاف الانقياد فإنّه
لو كان الجاري في مورد من الموارد أصل البراءة المقتضية للسعة إلاّ انّ المكلف
وبسبب احتماله للمطلوب الشرعي عمل بما هو مقتضى احتماله فإنّه يعدّ منقادا.
وكيف كان
فالانقياد يكشف عن حسن سريرة المنقاد ، وهل يستحق المثوبة على ذلك أو لا؟
يحتمل عدم
الاستحقاق ، وذلك لأن الثواب مترتب على موافقة المأتي به للامر المولوي. كما يحتمل
الاستحقاق للثواب ، وذلك لأن بناء العقلاء قاض بترتب الثواب بمجرّد كون العبد في
مقام الجريان على وفق ما تقتضيه عبوديته لمولاه. ومن هنا ذهب جمع من الأعلام الى
استحقاق المكلّف للمثوبة على الانقياد ومنهم الشيخ الانصاري وصاحب الكفاية رحمهما
الله.
* * *
١٦٦ ـ الأوامر الإرشاديّة
تنقسم الأوامر
سواء المدلول عليها بالصيغة أو بالمادّة أو بشيء آخر إلى قسمين : أوامر مولويّة
وأوامر إرشاديّة ، وهذا التقسيم إنّما هو بلحاظ ما تكشف عنه الأوامر.
أمّا
الأوامر المولويّة : فهو ما يكون مدلولها حكما من الأحكام التكليفيّة الطلبيّة والتي هي الوجوب
والاستحباب ، ومولويّتها ناشئة عن أنّ المولى يجعل هذه الأحكام على عهدة المكلّف
بحيث يكون المكلّف مبعوثا نحو تحقيق متعلّقاتها أداء لحقّ المولويّة للمولى ،
غايته أنّ المولى قد
يرخّص في ترك بعض
متعلّقات هذه الأوامر إلاّ أنّ الترخيص لا يسقطها عن الطلب.
وأمّا
الأوامر الإرشاديّة : فهي ما يكون مدلولها حكما عقليّا أو حكما شرعيّا وضعيّا.
وتوضيح ذلك : أنّ
الأمر سواء المدلول عليه بالصيغة أو بالمادّة ظاهر ـ كما قلنا ـ في الوجوب أي ظاهر
في الأمر المولوي إلاّ أنّه قد تقوم قرينة تصرف هذا الظهور إلى مدلول آخر تبعا
للقرينة. فمن الموارد الذي استعمل فيها الأمر في غير الأوامر المولويّة الوجوبيّة
هو هذا المورد الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وهو « الأوامر الإرشادية » وهي التي لا
يكون متعلّقها مبعوثا نحوه ومطلوبا من المكلّف تحصيله ، وإذا كان فيه طلب فهو ليس
من مقتضيات نفس الأمر الإرشادي ، إذ الأمر الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.
وبتعبير آخر :
الأمر الإرشادي دوره دور الكاشف وليس له دور البعث نحو متعلّق الأمر كما في
الأوامر المولويّة.
ولمزيد من التوضيح
نقول : إنّ الأوامر الإرشاديّة يمكن تقسيمها إلى قسمين :
القسم
الأول : ما يكون فيه
الأمر كاشفا عن مدرك من المدركات العقليّة ، أو قل عن حكم من الأحكام العقليّة
والتي يكون لها تقرر وثبوت في مرحلة سابقة على صدور الأمر ويكون دور الأمر
الإرشادي فيها دور المنبّه والمرشد إلى الحكم العقلي وبالتالي يكون المطلوب في مثل
هذه الأوامر ليس مطلوبا مولويّا بل هو مطلوب يقتضيه العقل ، وذلك كقوله تعالى : ( أَطِيعُوا
اللهَ ) فإنّ صيغة الأمر هنا استعملت في الأمر الإرشادي ، والذي
صرف ظهور هذه الصيغة عن الأمر المولوي الوجوبي هو
وجود قرينة عقليّة
تمنع من هذا الظهور بل وتكوّن ظهورا آخر وهو الظهور في الإرشاديّة ، وهذه القرينة
هي حكم العقل باستحالة أن يكون هذا الأمر مولويّا إذ لو كانت طاعة الله عزّ وجلّ
مستندة إلى أمر الله جلّ وعلا لكنّا قد احتجنا إلى أمر يبعثنا نحو طاعة أمر الله
الذي يقتضي طاعة الله.
وهكذا الكلام في
هذا الأمر الأخير ، فإمّا أن يدور أو يتسلسل وكلاهما مستحيل ، أما إذا استندت طاعة
الله عزّ وجلّ إلى ما يقتضيه العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا انتفى كلا
المحذورين ، وهذه القرينة هي التي صرفت صيغة الأمر عن ظهورها في الوجوب وكوّنت
ظهورا جديدا للأمر وهو الظهور في الإرشاديّة ، فالمراد من الإرشاديّة إذن في
المقام هو التنبيه على ما يحكم به العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا ، إذن الأمر
الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.
القسم
الثاني : ـ من الأوامر
الإرشاديّة ـ ما يكون مدلوله حكما وضعيّا ـ وقد قلنا ـ أنّ الأحكام الوضعيّة هي
مجعولات شرعيّة لا تتّصل بفعل المكلّف مباشرة ، أي أنّها ليست حكما تكليفيّا
مجعولا على عهدة المكلّف بحيث يكون المكلف مبعوثا نحوها ومطلوبا منه إيجادها ، نعم
قد تكون موضوعا لحكم تكليفي ـ كما بيّنّا ذلك في محلّه ـ ، والأحكام الوضعيّة هي
مثل الطهارة والنجاسة والملكيّة والصحة والفساد لأن هذه المجعولات الشرعيّة لا
يكون المكلّف مسئولا عن تحصيلها ، ولهذا لو صدر أمر وكان متعلّقه أحد هذه
المجعولات الشرعيّة فإنّ هذا الأمر يكون إرشاديّا ، والقرينة على إرشاديّته هي
معرفة عدم مطلوبيّته بنفسه من المكلّف ، فلو قال المولى : « طهّر ثوبك من الدم
بالماء » فإنّ هذا الأمر ليس ظاهرا في الوجوب ، وذلك لوجود قرينة صارفة
عن ظهور هذا الأمر
في الوجوب ، وهذه القرينة هي أنّ متعلّق الأمر وهو الطهارة ليس مطلوبا من المكلّف
تحصيله ، إذ أنّ للمكلّف أن لا يطهّر الثوب عن الدم ولا يكون بذلك قد خالف أمر
المولى ، إذن يكون هذا الأمر مرشدا إلى حكم وضعي وهو أنّ الدم من النجاسات وأنّ
الماء من المطهّرات.
* * *
١٦٧ ـ إيجادية المعنى
الحرفي
ذهب المحقق
النائيني رحمهالله الى انّ المعاني الحرفية معان إيجادية. ومقصوده انّ
المعاني الحرفية ليست استقلالية وليس لها تقرّر في عالم المفهوم بل انّ وجودها
منوط بوقوعها في اطار مركب لفظي ، فهي نظير الأعراض من جهة انّها وجودات غير
مستقلة ولا يكون لها وجود إلاّ في إطار موضوع ، وافتراض وجود عرض في غير موضوع
مستحيل ، فوجوده متقوم دائما بوجود موضوعه.
وهكذا الكلام في
المعاني الحرفية فإنّها وجودات منوط وجودها بوقوعها في اطار مركبات لفظية وهذا هو
شأنها مطلقا ، فليس من وعاء من الاوعية تكون فيه الحروف وجودات مستقلة ، ولها تجد
انّ اطلاقها بصورة مستقلة عن المركب اللفظي لا يعبّر عن أيّ معنى ، فلا ينخطر من
اطلاقها أيّ مضمون ، وهذا كما أفاد المحقق النائيني رحمهالله ناشئ عن نقصان في ذاتها ، فعدم استقلاليتها ليس ناشئا عن
لحاظها لحاظا آليا فحسب بل لكونها وجودا ناقصا متدلّيا ومتقوما بالغير كما هو
الحال في الوجودات العرضية كالمقولات التسع.
والفائدة المناطة
بالوجودات الحرفية هي الربط بين المفاهيم الاسمية المستقلّة ، وذلك لأنّ المفاهيم
الاسمية
مفاهيم متباينة في
نفسها من جهة ، ومن جهة اخرى انّ المفاهيم الاسميّة مفاهيم استقلالية ومتقرّرة في
عالم الذهن ، ومن هنا لا يتأتى للاسماء ايجادها بعد ان كانت اخطارية أي مستقلّة
ومتقرّرة لا في موضوع.
وبتعبير أدق :
انّها ليست من الوجودات الربطية حتى تتأهل للايجادية ، فلا بدّ لايجادها من معان
ربطية تؤلف بين هذه المعاني المتباينة والمتقرّرة في نفسها في الذهن ، وهذا ما
تتصدى المعاني الحرفية لايجاده.
ومن هنا كانت
المعاني الحرفية ايجادية أي انها توجد الربط بين المفاهيم الاسمية المستقلة
والمتباينة والتي يستحيل ان تنوجد بواسطة الاسماء والتي تتمحض وظيفتها في ابراز
المعاني المستقلة المتباينة والفاقدة للرابط الذاتي فيما بينها ، فلا بدّ من وجود
روابط بين هذه المعاني المستقلة ، وليس ثمة وجودات ربطية سوى ما ينخلق بواسطة
المعاني الحرفية.
على انّ المعاني
الحرفية ـ كما ذكرنا ـ يستحيل أن يكون لها نصيب من الوجود غير الوجود الربطي ، إذ
لو افترضت استقلالية لكانت مفتقرة الى وجود ربطي وليس سوى الاسماء وقد افترضناها
استقلالية. ومن هنا يتمحض وجودها بالوجود الربطي التعلّقي ، وهذا ما أهلها لايجاد
الربط بين المعاني الاسميّة.
فكلمة « في » وضعت
لإيجاد معنى ربطي بين الظرف ومظروفه ولولاها لما كانت بين المعنيين الاسميين
المستقلين « الظرف والمظروف » أيّة رابطة ، وهكذا كلمة « من » إذ انّها وضعت
لإيجاد الربط بين المبتدأ به والمبتدأ منه.
على انّ ذلك لا
يختص بالمعاني الحرفية النسبية مثل « من ، في ، الباء » بل يشمل المعاني الحرفية
غير النسبية
مثل حروف النداء
والتمنّي والترجّي ، فحرف التمنّي يربط بين المتمنّي ـ بصيغة الفاعل ـ والمتمنّى
وهو متعلّق التمنّي.
وبما بيناه اتضح
انّ المعاني الحرفية معان ربطية لا استقلال لها في عالم المفاهيم بل وفي تمام
العوالم ، فهي متقومة دائما بالمركبات ولا وعاء لها سوى ذلك ، وتتمحّض وظيفتها في
ايجاد الربط بين المعاني الاسمية المستقلّة.
وهذا ما عبّرت عنه
الرواية المنسوبة لأمير المؤمنين على ابن أبي طالب عليهالسلام « انّ الحرف ما أوجد معنى في غيره ».
هوامش
حرف الألف
(١) سورة النساء
: ٣٠.
|
نواقض الوضوء ،
الحديث ٤.
|
(٢) الوسائل :
باب ١٨ من أبواب مقدّمات العبادات.
|
(١٧) الوسائل :
باب ٤٤ من أبواب النجاسات الحديث ١.
|
(٣) اصول الكافي
: ١ / ١٠٩ الحديث ٣.
|
(١٨) سورة
المائدة : ١.
|
(٤) اصول الكافي
: ١ / ١٣٠ الحديث ٤.
|
(١٩) سورة
المائدة : ١.
|
(٥) سورة الحجر
: ٣٠.
|
(٢٠) سورة
المائدة : ٣.
|
(٦) سورة الأنفال : ٢٠.
|
(٢١) الوسائل : باب ٥٦ من أبواب جهاد النفس
الحديث ١.
|
(٧) سورة
المائدة : ٩٦.
|
(٢٢) سورة
البقرة : ٢٧٥.
|
(٨) سورة الزمر
: ١٨.
|
(٢٣) سورة
التوبة : ١١١.
|
(٩) سورة الزمر
: ١٨.
|
(٢٤) سورة
البقرة : ٢٤٥.
|
(١٠) سورة الزمر
: ١٧ ـ ٢٠.
|
(٢٥) سورة
الأنفال : ٢٠.
|
(١١) سورة يونس : ٢٥.
|
(٢٦) سورة
الأنفال : ٢٠.
|
(١٢) سورة الزمر
: ٥٥.
|
(٢٧) سورة طه :
١٣٢.
|
(١٣) سورة الزمر
: ٥٣ ـ ٥٦.
|
(٢٨) سورة
المائدة : ٢.
|
(١٤) مسند أحمد
: مسند المكثرين من الصحابة الحديث ٣٤١٨.
|
(٢٩) سورة المائدة : ٩٥.
|
(١٥) سورة النجم
: ٢٨.
|
(٣٠) الوسائل :
باب ٣٦ من أبواب مقدّمات النكاح الحديث ١٠.
|
(١٦) مستدرك
الوسائل : باب ١ من أبواب
|
|
حرف الباء
عناوين
حرف الباء
١٦٨ ـ البداء
١٦٩ ـ البراءة
١٧٠ ـ البراءة
الأصلية
١٧١ ـ البراءة
الشرعيّة
١٧٢ ـ البراءة
العقليّة
١٧٣ ـ البراءة في
المستحبات
١٧٤ ـ البرهان
اللمّي والبرهان الإنّي
١٧٥ ـ بساطة
المشتق
حرف الباء
١٦٨ ـ البداء
البداء في اللغة
بمعنى الظهور ، يقال « بدا لي أمر » أي ظهر بعد خفائه أو بعد ان لم يكن ظاهر.
والبداء بهذا
المعنى مستحيل على الله تعالى ، إذ لا يتفق ذلك إلاّ لمن يجوز عليه الجهل وهو
تعالى منزّه عن النقص فهو الكمال المطلق الغير المتناهي ، واذا كان كذلك فهو عالم
بكلّ شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يعلم ما يلج في الارض وما
يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو عليم بذات الصدور.
فليس ثمة عالم من
العوالم إلاّ وهو تعالى محيط به ومطلع عليه ، على انّ علمه تعالى أزلي بأزلية ذاته
المقدسة ، هذا ما عليه الإمامية « رفع الله شأنهم ».
وأما قولهم
بالبداء فليس المقصود منه الظهور بعد الخفاء ، إذ انّهم مجمعون قاطبة ودون استثناء
على استحالة ذلك على الله تعالى ، فما نسب اليهم من المصير الى هذا القول محض
افتراء وإرجاف فهذه كتبهم تعبّر عن فساد هذه النسبة ، والى الله المشتكى ربنا « ان
كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ».
والبداء الذي تقول
به الامامية انّما هو الإظهار بعد الإخفاء ، والتعبير عن
ذلك بالبداء انّما
هو مجرّد اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح. ومنشأ الاصطلاح عليه بالبداء هو علاقة
المشاكلة ، والتي تعني ـ كما ذكر علماء البديع ـ « ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في
صحبته تحقيقا أو تقديرا ».
كما في قوله تعالى
: ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ
الْماكِرِينَ ) ، فإنّ نسبة المكر الى الله تعالى ليس بمعنى المكر المنسوب
الى الكفار والذي يستبطن معنى الخديعة ، إذ هو تعالى منزّه عنها ، فالمكر المنسوب
الى الله تعالى يعني الغلبة والقهر ، وانّما جيء بلفظ المكر لغرض المشاكلة بمعنى
انّه استعاض عن لفظ الغلبة والقهر أو ما يراد فهما بلفظ المكر لمناسبته ومشاكلته
للفظ المكر المستعمل ـ في صدر الآية الشريفة ـ في معناه الحقيقي.
هذا فيما تكون فيه
المشاكلة تحقيقية ، وقد تكون تقديرية كما في قوله تعالى : ( لِيَمِيزَ
اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) ، فإنّ تمييز الخبيث من الطيب منوط بالامتحان ، وهذا يعني
الجهل بالواقع قبل الامتحان ، وهو مستحيل على الله تعالى ، إلاّ انّ استعمال لفظ
التمييز هنا للمشاكلة التقديرية حيث لم يذكر لفظ التمييز بمعناه الحقيقي في نفس
الكلام إلاّ انّه مقدّر بمعنى انّ المولى أراد تقريب المعنى المراد عنده تعالى
بالمعنى المألوف للتمييز وهو المعنى المناسب للإنسان.
واستعمال لفظ
البداء في الإبداء من قبيل المشاكلة التقديرية ، والتي هي مجرّد استبدال لفظ بلفظ
دون ان يكتسب المعنى الذي استعمل اللفظ فيه مجازا ما يعبّر عنه المعنى الحقيقي
للفظ ، غايته انّ هذا اللفظ لمّا كان مألوفا أكثر ومعناه الحقيقي أقرب للفهم اتّخذ
هذا اللفظ معبرا وطريقا لإفهام المعنى الآخر الادق والذي هو الإبداء.
على انّ هذا
الاستعمال لسنا مختصين به بل ذكر في روايات السنة أيضا ، فقد نقل البخاري في صحيحه
باسناده عن أبي عمرة انّ أبا هريرة حدّثه انّه سمع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول « انّ ثلاثة في بني اسرائيل أبرص وأعمى وأقرع بدا لله عزّ وجل أن
يبتليهم ... » .
وكيف كان فالمراد
من البداء هو انّ المشيئة الالهيّة اقتضت تدبير بعض الامور على أساس القابلية
للتغيّر أو التقديم والتأخير وربط بعض المقدرات باخرى بنحو التعليق ، على انّه
تعالى مطلع من الأزل على المتقدم منها من المتأخر وعلى انّ المعلّق منها هل سيتم
لتحقق المعلّق عليه أو انّه لن يتم لأنّ المعلّق عليه لن يتحقق.
فالمحو والإثبات
والتغيير والتأخير والتقديم والتعليق لا يتنافى مع علمه بما ستصير اليه الامور ،
وانّما اقتضت حكمته وشاءت إرادته تدبير خلقه بهذا النحو من التدبير « لا يسأل عمّا
يفعل ».
وقد دلّت على هذا
النحو من المشيئة آيات كثيرة ، منها قوله تعالى : ( وَأَنْ لَوِ
اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ) ، ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ ) ، ( إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) ، ( إِنْ تَنْصُرُوا
اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ) ، ( فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) ، ( اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) ، ( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ
فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) ، ( وَلَئِنْ أَخَّرْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ ) ، ( وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ
مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ ) .
فالبركات المنفتحة
عن السماء والنصر الذي يؤيد الله به أنصاره
والنور المفاض عن
الله تعالى على المؤمنين وتعجيل الخير بدلا عن تأخيره وتأخير العذاب بدلا عن
تعجيله كلها مظاهر للقدرة الالهية والتي هي مكنونة في مخزون علمه ، غايته انّ
حكمته اقتضت التعجيل أو التأخير أو التعليق.
فالتعبير عن ذلك
بالبداء نشأ عن انّه تعالى يظهر مشيئته لعباده فيظهر لهم ما كان خفيا عنهم ، فقد
يعدهم بالنصر فيؤخره عنهم لأنّ مشيئته اقتضت تعليق النصر على التوكل على الله ،
فلمّا خلت نفوسهم عنه أخّر النصر عنهم ، فتظهر لهم مشيئته في التأخير بعد ان لم
تكن ظاهرة لهم لوعده ايّاهم بالنصر ، وهذا لا يستلزم الكذب لانّه علّق وعده بالنصر
على التوكل وهم قد خلو منه وقد لا يصرّح بالمعلّق عليه لمصلحة اقتضتها حكمته
البالغة.
ويعبّر عن هذا
النحو من القضاء ـ في تمام الموارد التي ذكرناها ـ بالقضاء غير المحتوم وبالقضاء
الموقوف ، وهو المقصود من لوح المحو والإثبات المستفاد من الآية الكريمة ( يَمْحُوا
اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) .
وقد دلّت على
البداء بهذا المعنى روايات كثيرة من طرقنا :
منها : ما عن علي بن ابراهيم في تفسيره عن عبد الله بن مسكان عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : « اذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة
الى سماء الدنيا فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة ، فإذا أراد
الله ان يقدّم شيئا أو يؤخره أو ينقص شيئا أمر الملك ان يمحو ما يشاء ثم أثبت الذي
أراده ، قلت : وكل شيء هو عند الله مثبت في كتاب الله ، قال : نعم ، قلت : فأي
شيء يكون بعده ، قال : سبحان الله ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى » .
ومنها : ما عن علي بن ابراهيم
أيضا في تفسيره عن
عبد الله بن مسكان عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن عليهمالسلام عند تفسير قوله تعالى : ( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكِيمٍ ) أي يقدّر الله كل أمر من الحق ومن الباطل وما يكون في تلك
السنة وله فيه البداء والمشيئة ، يقدّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والارزاق
والبلايا والأعراض والأمراض ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء » .
فالمراد من البداء
هو انّ لله تعالى المشيئة فيما يقضيه ويقدّره ، إلاّ انّ ذلك لا يعني ان مشيته
التي قد تقتضي التقديم أو التأخير أو عدم وقوع المعلّق عند عدم وقوع المعلّق عليه
نشأت عن عدم علمه بمجاري الامور حيث يظهر له بعد ذلك انّ الأوفق هو تقديم ما قدّر
تأخيره أو تأخير ما قدّر تقديمه ، وانما مشيئته اقتضت تدبير خلقه بهذا النحو من
التدبير.
ولهذا أكدت
الروايات على هذا المعنى :
منها : ما رواه الصدوق في إكمال الدين باسناده عن أبي بصير
وسماعه عن أبي عبد الله عليهالسلام : « من زعم انّ الله عزّ وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس
فابرءوا منه » .
ومنها : ما رواه العياشي عن ابن سنان عن ابي عبد الله عليهالسلام يقول : « انّ الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء
وعنده ام الكتاب ، وقال فكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل ان يصنعه ليس شيء
يبدو له إلاّ وقد كان في علمه ، انّ الله لا يبدو له من جهل » .
هذا هو مراد
الإمامية من البداء ، والطعن عليهم انما جاء من عدم فهم مرادهم ومع انفهامه لا
معنى لعرض أدلتهم ومن أراد فليراجع.
* * *
١٦٩ ـ البراءة
وهي احدى الاصول
العملية
الجارية في ظرف
الشك في التكليف الواقعي ، وبها تتحدّد الوظيفة العملية للمكلّف تجاه التكليف
المشكوك دون ان يكون لها كشف عن الحكم الواقعي.
والوظيفة المقررة
بواسطة البراءة هي السعة وعدم لزوم امتثال التكليف المشكوك. ومجرى هذا الاصل هو
الشبهات البدوية الحكمية والموضوعية فمورد هذا الاصل هو الشك في التكليف لا الشك
في المكلّف به إذ انّ الثاني مجرى لاصالة الاشتغال ، وسيأتي توضيح ذلك فيما بعد.
ثم انّ الشك في
التكليف والذي هو مجرى لأصالة البراءة ـ أو قل هو موضوع لجريان هذا الاصل ـ يمكن
تقسيمه الى ثمانية أقسام كما ذكر الشيخ الانصاري رحمهالله ، وذلك لأن الشك تارة يكون في الوجوب وعدمه ، وتارة يكون
الشك في الحرمة وعدمها ، وكلّ واحد من القسمين ينقسم الى أقسام أربعة ، إذ انّ
الشك في الوجوب وكذلك الشك في الحرمة تارة ينشأ عن فقدان الدليل وتارة ينشأ عن
اجماله وثالثة ينشأ عن تعارض الأدلة وعدم وجود مرجّح لأحدهما على الآخر ، وقد يكون
الشك ناشئا عن اشتباه الامور الخارجية.
وصاحب الكفاية رحمهالله استعاض عن تقسيم أنحاء الشك بإعطاء ضابطة عامة وهي انّ مجرى أصالة البراءة هو
الشك في التكليف وهو يشمل تمام الأقسام المذكورة ، إلاّ انّه استثنى من هذه
الاقسام قسما واحدا لم يرتض جريان البراءة في مورده ، وهو ما لو كان منشأ الشك هو
تعارض النصين حيث يبني هو رحمهالله على انّ المرجع في حالات التعارض هو التخيير اعتمادا على
مجموعة من الروايات.
وأما السيد الخوئي
رحمهالله فأورد على الشيخ الانصاري رحمهالله بأنّ مجرى أصالة البراءة ليس منحصرا في هذه الأقسام
الثمانية ، إذ قد
يكون الشك دائرا بين الوجوب والحرمة والإباحة ، ولا ريب في جريان أصالة البراءة في
هذا المورد أيضا ، وبه تكون الأقسام اثني عشر قسما ، لأنّ هذا النحو من الشك ينشأ
أيضا إمّا عن فقدان الدليل أو إجماله أو تعارض الأدلة أو اشتباه الامور الخارجية.
وأما الاخباريون
باستثناء الاسترآبادي فالأقسام عندهم منحصرة في خمسة ، وذلك لبنائهم على عدم جريان
أصالة البراءة في موارد الشك في الحرمة إلاّ أن تكون الشبهة موضوعية.
* * *
١٧٠ ـ البراءة الأصلية
المراد من البراءة
الأصلية هي « أصالة خلو الذمة من الشواغل الشرعية » كما هو تعبير المحقق الحلّي رحمهالله. ويعبّر عنها بأصالة النفي ، وهي عينها أصالة البراءة الأعم من العقلية
والشرعية ، ولهذا تجدهم ـ قدماء الاصوليين ـ يستدلّون عليها تارة بقاعدة قبح
التكليف بما لا يطاق ، وتارة اخرى يستدلون عليها بالروايات.
نعم البراءة
الأصليّة العقلية كانت تصنف في ضمن الادلة العقلية القطعية ، وذلك لأنّهم كانوا
يرجعون البراءة الأصلية الى استصحاب حال العقل ، وحيث انّ دليله عندهم هو قاعدة قبح
التكليف بما لا يطاق لذلك كانت البراءة الأصليّة ـ كاستصحاب حال العقل ـ من الأدلة
العقلية القطعية. ثم انّها بعد ذلك صنّفت في ضمن الأدلة الظنية ، وذلك تبعا
للاستصحاب أيضا حيث انّه اعتبر من الأدلة الظنية لإفادته الظن ببقاء الحالة
السابقة ، فحيث انّ الحالة السابقة كانت عدم التكليف فإن ذلك يوجب الظن ببقاء
الحالة على ما هي عليه.
وكيف كان فأصالة
براءة الذمة عن كل تكليف الزامي محتمل لم تكن موضع خلاف على امتداد تاريخ الفقه
الامامي وان كان تبلور هذا الاصل لم يكن بالصورة التي هي عليه فعلا ، نعم فصل
الاخباريون في ذلك فقبلوا بالبراءة الاصلية في موارد الشبهات الوجوبية وبنوا على
جريان أصالة الاحتياط الشرعي في الشبهات الحكمية التحريمية.
والمتحصل انّ
البراءة الأصلية هي عبارة عن أصالة نفي الحكم الإلزامي المحتمل ما لم يقم دليل على
إثباته فهي إذن من الاصول النافية للتكليف والمؤمنة عن العقاب لو اتفق ثبوته واقعا
ولا شأن لها بإثبات حكم ظاهري.
وقد استعرضنا
تاريخ هذا الاصل بشيء من التفصيل تحت عنوان « البراءة العقلية » ، كما أوضحنا
المراد من قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق تحت عنوان « استصحاب حال العقل ».
* * *
١٧١ ـ البراءة الشرعيّة
وهي البراءة
المستفادة بواسطة الأدلة الشرعية وهي الكتاب والسنة وكذلك الاستصحاب ، فإنّ كبرى
حجية الاستصحاب مستفادة عن الشارع ، ولذلك صحّ ان يعد الاستصحاب من الأدلة الشرعية
على حجيّة البراءة.
أمّا الكتاب
المجيد فقد استدل به على البراءة بمثل قوله تعالى ( ما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) وكذلك قوله تعالى ( وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) .
وأما السنة
الشريفة فقد استدلّ لها بروايات كثيرة ، منها حديث الرفع وحديث السعة وروايات الحل.
وأما الاستصحاب
فقد ذكرت له ثلاثة تقريبات :
التقريب
الأول : استصحاب عدم
الجعل الثابت قبل الشريعة ، فحينما نشك في وجوب شيء أو حرمة شيء ، فإنّ جعل الوجوب
لمّا كان متيقن العدم ـ قبل ان يصدع الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم بالرسالة ـ كان ذلك مستوجبا لجريان استصحاب عدم الجعل في
ظرف الشك.
وقد صاغ السيد
الخوئي رحمهالله هذا التقريب بصياغة اخرى حاصلها : انّ تشريع الاحكام لم
يكن دفعيا بل كان بنحو التدرّج ، وعندئذ لو وقع الشك في جعل المولى الوجوب على شيء
فإن لحاظ الصدر الاول من التشريع يورث القطع بعدم جعل الوجوب لهذا الفعل حينذاك
فلو وقع الشك بعد ذلك فإنّه يمكن استصحاب عدم الجعل.
والإيراد على هذا
التقريب بأنّ عدم الجعل الذي كنا على يقين منه انما هو عدم محمولي بمفاد ليس
التامة ، أي انّ المتيقن هو عدم وجود جعل لعدم وجود الشريعة ، وحينئذ لا يكون
استصحابه منتجا للعدم النعتي إلاّ بناء على حجيّة الأصل المثبت ، بمعنى انّ
استصحاب عدم الجعل المحمولي ينتج عدم الجعل المحمولي ولازمه عدم الجعل النعتي
المنتسب للشريعة ، فحينما نشك في ايجاب الشارع لصلاة الجمعة فإنّ عدم وجوب صلاة
الجمعة في الشريعة ليست له حالة سابقة متيقنة حتى تستصحب ، نعم نحن على يقين من
عدم وجوب صلاة الجمعة حينما لم تكن شريعة إلاّ انّ ذلك لا ينفع لمعالجة الشك
الفعلي ، إذ انّ الشك الفعلي في وجوب صلاة الجمعة انّما هو شك في عدم الوجوب
المنتسب للشريعة والمستصحب انما هو عدم الجعل الثابت قبل الشريعة ، نعم لو كنّا
نبني على حجيّة اللازم العقلي للمستصحب لكان استصحاب عدم الجعل الثابت
قبل الشريعة نافعا
، وذلك لأن لازم استصحاب عدم الوجوب الثابت قبل الشريعة هو عدم الوجوب في الشريعة
إلاّ انّ الإشكال من جهة عدم حجية اللوازم العقلية للمستصحب.
هذا الإيراد لو
تمّ فإنّه لا يرد بناء على صياغة السيد الخوئي رحمهالله لهذا التقريب ، وذلك لافتراض انّ العدم الذي نحن على يقين
منه عدم نعتي ، إذ انّ المفترض هو انّ اليقين بعدم الجعل منتسب للشريعة لأنه انما
كان بلحاظ الصدر الاول من الشريعة حيث لم تشرّع فيه أكثر الاحكام. فالمتيقن سابقا
هو عدم الجعل المتصف به الشارع.
التقريب
الثاني : هو استصحاب عدم
فعلية التكليف والذي كان متيقنا حينما لم يكن المكلّف بالغا.
التقريب
الثالث : استصحاب عدم
فعلية التكليف والذي كان متيقنا حينما لم تكن شروط التكليف متحقّقة ، والمراد من
الشروط هنا هي الشروط الخاصة بالتكليف المشكوك ، كما لو شك في وجوب صلاة العيد يوم
العيد فإنّ له ان يستصحب عدم الوجوب المتيقن قبل يوم العيد أي قبل تحقق موضوعه لو
كان ثابتا واقعا. بمعنى انّ صلاة العيد لو كانت واجبة لكانت فعلية الوجوب منوطة
بتحقق يوم العيد ، فقبل يوم العيد لا يكون وجوب الصلاة فعليا جزما فعند ما يقع
الشك يوم العيد في تحقق الفعليّة فإنّه يمكن استصحاب عدم الفعليّة الثابت قبل يوم
العيد.
وقد استدلّ أيضا
لحجيّة البراءة بالإجماع ، وذكرت للإجماع على حجية البراءة ثلاثة تقريبات :
التقريب
الأوّل : هو دعوى انّ
الطائفة مجمعة على انّ الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري حينما لا يصل
للمكلف ، فإنّ الوظيفة المقرّرة له حينئذ هي البراءة.
وهذه الدعوى وان
كانت تامّة كبرويا إلاّ انّ الإشكال من جهة الصغرى حيث يدعي الأخباريّون ـ القائلون
بعدم جريان البراءة في الشبهات التحريميّة ـ انّ الحكم الظاهري بالنسبة لموارد
الشك في الحرمة واصل للمكلّف وهو الاحتياط الشرعي ، ففي كلّ مورد يشك فيه المكلّف
في حرمة شيء فإنّ حكمه الظاهري هو الاحتياط الشرعي كما دلّت على ذلك الروايات ،
وحينئذ لا تكون هذه الكبرى الكلية المجمع عليها نافعة لإثبات البراءة في موارد الشبهات
التحريمية.
التقريب
الثاني : انّ الطائفة
مجمعة على انّ الحكم الظاهري الثابت في حالات الجهل بالحكم الواقعي هو الترخيص
والسعة ، وهذا الإجماع لو تم فإنّه نافع لإثبات حجية البراءة إلاّ انّ الإشكال فيه
من جهة عدم قبول الإخباريين لذلك في حالات الجهل بالحرمة.
التقريب
الثالث : هو دعوى
الإجماع على قبح المؤاخذة على ترك تكليف لم يكن معلوما.
والإشكال على هذا
التقريب انّه معلوم المدركية أو لا أقل انّه محتمل المدركية ، فلا يكون اجماعا
تعبديا ، إذ لا يبعد انّ الاتفاق على قبح المؤاخذة على ترك التكليف غير الواصل
ناشئ عمّا يدركه العقل من قبح العقاب بلا بيان ، أو انّ المنشأ هو البناء العقلائي
على ذلك ، بناء على انّ الحسن والقبح من الآراء المحمودة وليس من مدركات العقل
العملي.
* * *
١٧٢ ـ البراءة العقليّة
وهي المستفادة
بواسطة ما يدركه العقل من قبح العقاب بلا بيان ، وهو من مدركات العقل العملي
المقتضي لتحديد حق الطاعة للمولى جلّ وعلا
وانّ مورده يختص
بحالات العلم بالتكليف ، ففي كل مورد لم يصل التكليف للمكلف وصولا علميّا فإنّ
المكلّف مؤمّن عن العقاب من جهة ذلك التكليف.
والمؤمّن عن
العقاب والمؤاخذة هو ما يدركه العقل من قبحه حين عدم البيان ، فالمسألة إذن من
صغريات قاعدة الحسن والقبح العقليين.
ومن المناسب هنا
تقرير ما أفاده السيد الصدر رحمهالله في تاريخ هذه القاعدة والتي هي من مهمات المباحث الاصولية
، فقد ذكر السيد الصدر رحمهالله انّ هذه القاعدة لم تكن معروفة بل ولا مذكورة قبل الشيخ
المفيد رحمهالله وما ذكره الشيخ الصدوق رحمهالله من جريان أصالة الإباحة في موارد الشك لا يقتضي اعتماده
على هذه القاعدة بل من القريب جدا انّه عوّل في ذلك على الروايات الدالة الإباحة
فيكون مراده من الإباحة هي الإباحة الشرعية.
وأما الشيخ المفيد
رحمهالله وكذلك الشيخ الطوسي رحمهالله فكانا يبنيان على خلاف هذه القاعدة ، فقد ذهبا الى التوقف
وعدم إدراك العقل للإباحة أو الحظر ، بمعنى انّهما لا يريان انّ العقل في حالات
عدم إدراك المصلحة أو المفسدة يحكم بالاباحة أو الحظر. ومن هنا رتّب الشيخ الطوسي رحمهالله على ذلك لزوم الاحتياط في مقام العمل وأفاد أنّ ذلك من مدركات العقل حينما لا
يكون ثمة مؤمّن من الوقوع في المفسدة ، فالعقل يحكم في مورد لا يؤمن معه من
المفسدة بالاحتياط ولزوم التجنّب عن الخوض فيه ، وهذا انّما هو في مقام العمل ،
وأما انّ الاشياء على الإباحة أو الحظر فهو مما لا يدركه العقل.
ثم انّه بعد ان
اعتبر الاحتياط أصلا أوليا ذكر انّ هذا الأصل لا يصح الخروج عنه إلاّ ان يقوم دليل
شرعي على الحلية في حالات الشك كما هو كذلك بمقتضى ما وصل من أدلة
تقتضي الإباحة أو
البراءة الشرعية.
وحتى يتجلّى مبنى
الشيخ المفيد والشيخ الطوسي رحمهما الله نقول : انّه نشأ عن خلاف بين علماء الاصول
والذين يبنون على التحسين والتقبيح العقليين ، فهم يذهبون الى انّ الفعل اذا كان
حسنه تاما ـ بنظر العقل ـ فحكمه الشرعي هو الوجوب ، أما اذا كانت مرتبة الحسن فيه
ضعيفة فإنّ حكمه الاستحباب الشرعي ، وهذا بخلاف ما لو كان الفعل قبيحا ـ بنظر
العقل ـ وكان قبحه شديدا فإنّ حكمه لا محالة يكون الحرمة ، ولو كان القبح ضعيفا
فإنّ حكمه الكراهة.
وهذه الحالات لا
إشكال في إدراك العقل لأحكامها والخلاف انّما هو في حالة يكون العقل فيها غير مدرك
لما عليه الفعل وهل هو ذو مصلحة أو هو ذو مفسدة. وهنا اختلف العلماء فيما يحكم به
العقل وهل هو القبح المساوق للحظر أو هو عدم القبح المساوق للإباحة. والشيخ المفيد
وكذلك الشيخ الطوسي قالا بالتوقف وعدم إدراك العقل لواحد منهما.
والمتحصّل انّ
قاعدة قبح العقاب بلا بيان لم يكن لها ذكر في تلك الحقبة ، وبعد مائة عام من هذه
الحقبة جاء الشيخ ابن زهرة رحمهالله وبنى على حكم العقل بالبراءة إلاّ انّه لم يكن يقصد من حكم
العقل بالبراءة هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل هو قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق
، وهي لا تتصل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ التكليف بلا بيان ليس من التكليف
بما لا يطاق بعد ان كان التكليف غير المعلوم مما يمكن امتثاله بواسطة الاحتياط
المعبّر عنه بالامتثال الإجمالي.
والشيخ الأنصاري رحمهالله يفهم من كلام ابن زهرة رحمهالله انّ التكليف بقصد الامتثال إذا لم يكن معلوما تكليف بما لا
يطاق ، إذ انّه لا يمكن قصد الامتثال
والانبعاث عن
الأمر بعد ان كان التكليف غير معلوم ، والاحتياط لا يحقق الامتثال المطلوب بعد
تعذّر قصد الامتثال المعتبر في الامتثال ، ومن هنا يقبح التكليف بالامتثال مع قصد
الامتثال لانّه تكليف بما لا يطاق. ولمزيد من التوضيح راجع « استصحاب حال العقل ».
وكيف كان فلا صلة
لما ذكره ابن زهرة رحمهالله ـ حتى بناء على توجيه الشيخ الأنصاري رحمهالله ـ بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ثم انّ المحقق
الحلّي رحمهالله والذي يأتي في مرحلة متأخرة عن الشيخ ابن زهرة رحمهالله ذكر انّ المدرك لحجية البراءة هو استصحاب حال العقل ، بمعنى انّ المكلف كان
محرزا لبراءة ذمته عن التكليف فحين الشك يستصحب البراءة الأصلية إلاّ ان يقوم دليل
على الخلاف ، وهذا الذي بنى عليه المحقق الحلّي رحمهالله تلقّاه كثير ممن جاء بعده بالقبول حيث بنوا على انّ حجية
البراءة إنّما نشأت عن الاستصحاب والذي هو حجّة بحكم العقل بمقتضى كاشفية الحالة
السابقة عمّا عليه الواقع في ظرف الشك ، وهذا لا يتصل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان
، ثم انّ للمحقق رحمهالله كلاما آخر حاصله :
انّ الفقيه عند
ممارسته لاستنباط الحكم الشرعي من أدلته يبحث عن الحكم في الأدلة التي يعلم انّ
الشارع قد ارتضاها وسائل للوصول للحكم الشرعي ، فهو يبحث عن الحكم في الكتاب
والسنة والإجماع فإذا لم يجد في هذه الأدلة ما يساعد على ثبوت أو نفي الحكم
المبحوث عنه بحيث يحصل له القطع ـ من جرّاء الفحص ـ بعدم وجود دليل على الحكم
المبحوث عنه فإنّ بامكانه نفي هذا الحكم ، أي نفي التكليف به ، وذلك لأنّ التكليف
بما لا دليل عليه تكليف بما لا يطاق.
ودعوى انّه قد
يكون هناك دليل لم
يتم العثور عليه
خلف ما افترضناه من انّ الفقيه يحصل له الجزم بعدم الدليل بعد الفحص والتنقيب في
الأدلة.
وهنا تمسك المحقق رحمهالله بقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق في دائرة أضيق من الدائرة التي تمسك ابن زهرة
رحمهالله بالقاعدة في موردها ، حيث انّ المحقق الحلّي رحمهالله يرى انّ الرجوع لهذه القاعدة انما هو في حالة الجزم بعدم الدليل ، وأما الشيخ
ابن زهرة رحمهالله فافترض انّ جريان هذه القاعدة يتم في حالة عدم العلم بوجود
دليل يثبت الحكم المشكوك حتى لو كنا نحتمل دليل لم يتيسر لنا الاطلاع عليه. وعلى
أيّ حال فلا صلة لما أفاده المحقق الحلّي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
ثم انّه تلت هذه
المرحلة مرحلة اخرى بنى فيها الاصوليون على انّ البراءة من الأدلة الظنية ، وذلك
لانها مستفادة من الاستصحاب ، وحجية الاستصحاب انّما هي لافادته الظن ببقاء الحالة
السابقة. وبتعبير أدق : انّ الحالة السابقة كاشف ظني على البقاء في ظرف الشك.
وتلاحظون انّ ذلك
عدول عما كانت عليه المرحلة السابقة من اعتبار البراءة من الأدلة القطعية ، وكيف
كان فقد شاع هذا المبنى في زمن الشيخ صاحب المعالم والشيخ البهائي رحمهما الله ولم
ينقل عن أحدهم البناء في حجية البراءة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
فأول من استدلّ
بهذه القاعدة على البراءة هو الشيخ الوحيد البهبهاني رحمهالله إلاّ انّها لم تكن متبلورة بالشكل الذي هي عليه الآن ،
فإنّ الإتجاه في فهم هذه القاعدة كان يبدو اتجاه لغويا ، ولهذا وقع التشكيك في
اطلاق هذه القاعدة وعدم اطلاقها كما استشكل جمع من المحققين في امكان التمسك
بالقاعدة في الشبهات المفهومية كما في قوله تعالى ( وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فإنّ مفهوم الكعب دائر
بين كونه قبة
القدم أو المفصل الواقع بين الساق والقدم ، فهنا هل يمكن التمسك بالقاعدة لنفي
لزوم المسح الى المفصل أو لا يصح التمسك بالقاعدة ، فقد استشكل جمع من المحققين في
امكان التمسك بالقاعدة بدعوى انّ موضوعها عدم البيان ومفروض المثال انّ البيان على
لزوم المسح واضح ، غايته انّ المفهوم مجمل وهذا لا يتصل بالقاعدة.
ثم تبلورت القاعدة
بشكل أكبر ، حيث أفاد بعض المحققين انّ المراد من البيان هو البيان بلحاظ المتلقي
للخطاب فإذا لم يكن يفهم فإنّ البيان لم يتحقق في حقه ، فيكون مشمولا للقاعدة.
وواضح مما ذكرناه
انّ الاعلام اتجهوا في فهم القاعدة على أساس لغوي وكأنّها من الخطابات الشرعية.
هذا وقد ذهب بعض
العلماء بعد ذلك الى عدم جريان القاعدة في موارد الشبهات الموضوعية ، لأنها ليست
من شئون المولى ، إذ ليس عليه سوى بيان الحكم الكلّي وأما تنقيح موضوع الحكم
والتحرّي من وجوده خارجا فهو من شئون المكلّف.
ثم انّ القاعدة
أخذت منحى عقليّا أكثر دقة وعمقا حين فسّر البيان فيها على أساس ما يدركه العقل
حيث ادعي انّ المدرك بالعقل العملي هو استقباح المؤاخذ والإدانة على ترك تكليف لم
يصل للمكلف وصولا علميا ولهذا لا تختص القاعدة بالشبهات الحكمية بل تعم الشبهات
الموضوعية أيضا.
وسيأتي ايضاح أكثر
للقاعدة تحت عنوان « قبح العقاب بلا بيان ».
* * *
١٧٣ ـ البراءة في
المستحبات
قد يقال بعدم
امكان تصوير جريان البراءة فيما لو كان الشك في الاستحباب ، وذلك لأنّ البراءة
العقلية انّما
تقتضي نفي المؤاخذة والعقوبة عند عدم البيان ، وواضح انّ ذلك إنّما يختص بالتكاليف
الإلزامية ، إذ هي التي يترتب على مخالفتها المؤاخذة والعقوبة ، وبهذا تكون
البراءة العقلية مؤمّنة عن العقاب والمؤاخذة في حالات عدم العلم بالتكليف واتفاق
مخالفته واقعا ، أما التكاليف غير الإلزامية فتركها غير مستوجب للمؤاخذة والعقوبة
في ظرف العلم فضلا عن حالات عدم العلم ، فعليه لا معنى لإجراء البراءة العقلية
لنفي التكليف غير الإلزامي ، لأنّه أشبه بتحصيل الحاصل.
وأما البراءة
الشرعية فكذلك لا معنى لجريانها لو كان دليلها مثل قوله تعالى ( وَما
كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) وقوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) وكذلك قوله عليهالسلام « الناس في سعة ما لا يعلمون » .
فكل النصوص التي
مفادها نفي الإدانة عن ترك التكليف في ظرف الشك لا يتعقل شمولها للتكاليف غير
الإلزامية.
إلاّ انّه مع ذلك
يمكن تصوير جريان البراءة في المستحبات بلحاظ النصوص التي مفادها رفع التكليف في
مرحلة الظاهر في ظرف عدم العلم كحديث الرفع وحديث الحجب ، والرفع والوضع يتعقلان
في حالات الجهل بالتكليف غير الإلزامي ، وعندئذ لا يكون ثمة مانع عن ظهورهما في
الاطلاق ، غايته انّ رفع التكليف بلحاظ الاحكام الإلزامية يقتضي عدم وجوب الاحتياط
، واما رفع التكليف بلحاظ التكاليف غير الإلزامية يلازم عدم استحباب الاحتياط ، إذ
من غير المعقول ان يكون التكليف مرفوعا في مرحلة الظاهر ومع ذلك يكون الاحتياط
واجبا أو مستحبا ، إذ الإحكام متضادة فيما بينها حتى في مرحلة
الظاهر. وعليه
تكون نتيجة جريان البراءة في المستحبات هي رفع الاستحباب عن الاحتياط.
والسيد الخوئي رحمهالله وان كان قد ذكر هذا التصوير وارتضاه إلاّ انّه أورد عليه بأن رفع الاستحباب
عن الاحتياط في المستحبات الاستقلالية غير ممكن ، وذلك للقطع باستحباب الاحتياط في
حالات الشك.
وأورد عليه السيد
الصدر رحمهالله انّه لا معنى للجزم باستحباب الاحتياط حتى في موارد الشك
في الاستحباب ، وذلك لأنّ دليل الاستحباب للاحتياط ان كان هو أخبار التثليث فواضح
انّها غير شاملة للمستحبات ، نعم ما نقله الشيخ الانصاري رحمهالله عن الشهيد رحمهالله انّ الامام عليهالسلام قال : « ليس بناكب عن الصراط من سلك طريق الاحتياط » وكذلك ما نقله عن ابن الشيخ الطوسي رحمهالله في أماليه عن الإمام عليهالسلام « أخوك دينك فاحتط لدينك » يمكن استفادة شمولهما للمستحبات إلاّ انّ الروايتين غير معتبرتين سندا. وأما
أخبار من بلغ فمفادها ـ بنظر السيد الخوئي رحمهالله في أحد قوليه ـ هو الاستحباب النفسي ولكن لا لنفس الفعل
وانّما للعنوان الثانوي وهو البلوغ ، وهذا لا يمنع من عدم استحباب الاحتياط لنفس
الفعل بعنوانه.
والمتحصل هو امكان
تصوير جريان البراءة في المستحبات حتى بالنسبة للاستقلالي منها ، وتكون نتيجة
البراءة في موردها هو نفي استحباب الاحتياط. فلو شككنا في استحباب صلاة الغفيلة ـ مثلا
ـ فإنّ اجراء البراءة يقتضي عدم استحباب الاحتياط في موردها.
وأما المستحبات
الضمنية والتي يكون استحبابها تابعا لاستحباب المركب الواقعة في ضمنه فقد تبنى
السيد الخوئي رحمهالله إمكان جريان البراءة
في موردها ، بمعنى
انّ المكلّف لو شك في جزئية جزء للمركب الاستحبابي أو شك في شرطية شرط له فإنّ
بامكانه إجراء البراءة عنه ، وبالتالي يمكنه أن يأتي بالمركب الاستحبابي بقصد أمره
دون أن يكون معه الجزء أو الشرط المشكوك ، وذلك لأنّ هذا الجزء أو الشرط وإن لم
يحتمل كونه واجبا نفسيا إلاّ انه يحتمل كونه واجبا شرطيا ، بمعنى اشتراط أن يكون
المركب الاستحبابي متوفرا عليه ومع عدم توفره عليه لا يكون المكلّف قد جاء بما هو
مستحب أو يكون ما جاء به تشريعا محرما ، فإجراء البراءة ينفع لرفع هذا الوجوب
الشرطي.
ومن هنا يصح
للمكلّف أن يأتي بالمركب الاستحبابي دون الالتزام بالشرط أو الجزء ويقصد منه
امتثال أمره ولا يكون بذلك مخلا بالمأمور به كما لا يستوجب التشريع المحرم.
فلو كانت السورة
جزء من النافلة لكان ذلك معناه وجوب السورة وجوبا شرطيا بحيث لا يكون المكلّف
ممتثلا للاستحباب إلاّ مع الالتزام بالسورة ، والإتيان بالنافلة مجردة عن السورة
مع قصد الأمر الاستحبابي تشريع محرم إلاّ انّه لو وقع الشك في استحباب السورة فإنّ
إجراء البراءة عنها يصحح الإتيان بالنافلة مجردة عنها مع قصد الأمر ، وهذا بخلاف
ما لو قلنا بعدم جريان البراءة فإنّه من غير الممكن الإتيان بالمركب مع قصد الأمر
، نعم يمكن الإتيان به مع السورة أو بدونها برجاء المطلوبية.
* * *
١٧٤ ـ البرهان اللمّي والبرهان
الإنّي
يطلق البرهان في
مصطلح المناطقة على خصوص القياس ، وذلك لأنّه الوسيلة الوحيدة بنظرهم لتحصيل
اليقين بالنتيجة ، إلاّ انّ المقصود من
القياس البرهاني
هو ما يتألّف من كبرى وصغرى يقينيتين من جهة المادة والصورة ، وحينئذ يكون منتجا
لليقين بالمطلوب المعبّر عنه بالمجهول التصديقي.
ومنتجيّة القياس
لليقين بالمطلوب ينشأ عن الحدّ الأوسط ، إذ هو علّة اليقين بثبوت الأكبر للأصغر «
النتيجة » ، وذلك لوجود علقة ثبوتيّة واقعيّة بين الحدّ الأوسط والحدّ الأكبر ينشأ
عنها صلاحيّة الحدّ الأوسط للوسطيّة في الإثبات ، أي انّ صلاحيّة الحدّ الأوسط
للكشف عن ثبوت الأكبر للاصغر ينشأ عن العلاقة الواقعيّة بين الحدّ الأوسط والحدّ
الأكبر ، فلا بدّ وأن يكون الحدّ الأوسط علّة للحدّ الأكبر أو معلولا له أو تكون
بينهما ملازمة واقعيّة ناشئة عن كونهما معلولين لعلّة ثالثة.
وباتضاح ذلك نقول
: انّ الحدّ الأوسط إذا كان علّة لوجود الأكبر فإنّ كاشفيّته عن ثبوت الأكبر
للأصغر يعبّر عنها بالبرهان اللمّي ، وحينئذ يكون الحدّ الأوسط بالإضافة الى انّه
واسطة ثبوتيّة هو واسطة في الإثبات ، فهو واسطة في الثبوت لافتراضه علّة لوجود
الأكبر ، وهو واسطة في الإثبات باعتبار كاشفيّته عن ثبوت الأكبر للأصغر.
فالبرهان اللمّي
هو الحدّ الأوسط الكاشف عن ثبوت الحدّ الأكبر للأصغر على أن تكون علاقته بالحدّ
الأكبر علاقة العلّة بالمعلول ، وبتعبير آخر : انّ البرهان اللمّي هو ما يكون واسطة ثبوتيّة وواسطة
إثباتيّة في آن واحد.
وبهذا يتّضح بأنّ
الوصول للنتيجة في البرهان اللمّي يتوقف على احراز عليّة الحدّ الأوسط للحدّ
الأكبر ، وهذا ما يكون واقعا موقع الكبرى في القياس البرهاني ، كما يتوقف على
احراز وجود الحدّ الأوسط والذي هو العلّة للأكبر ، وهذا ما يكون في موقع صغرى
القياس البرهاني ، وعندها
نصل للنتيجة والتي
هي ثبوت الحدّ الأكبر للأصغر.
فعند ما نحرز انّ
النار علّة للحرارة والتي هي الكبرى ونحرز انّ النار موجودة ، وهذه هي الصغرى يمكن
بذلك استكشاف وجود الحرارة ، فاستكشاف وجود الحرارة نشأ عن احراز وجود النار والتي
هي علّة وواسطة ثبوتيّة لوجود الحرارة.
وتلاحظون انّ
النار هي الحدّ الأوسط المنتج للكشف عن ثبوت الوجود للحرارة ، أي ثبوت الحدّ
الأكبر وهو الوجود لحرارة وهي الأصغر ، كما تلاحظون انّ العلاقة بين الحدّ الأوسط
والحدّ الأكبر هي علاقة العلّة بالمعلول ، فالنار هي علّة الوجود للحرارة ، ولهذا
كانت النار واسطة ثبوتيّة بالإضافة الى انّها واسطة إثباتيّة.
وأمّا البرهان
الإنّي فهو الحدّ الأوسط والذي تكون علاقته بالحدّ الأكبر علاقة المعلول بعلّته ،
فالمعلول هو الحدّ الأوسط وعلّته هي الحد الأكبر ، أو تكون العلاقة بينهما علاقة
المعلولين لعلّة ثالثة ، وحينئذ لا يكون الحد الأوسط واسطة ثبوتيّة بل يتمحّض دوره
في الوسطيّة في الإثبات والكاشفيّة عن ثبوت الحدّ الأكبر للحدّ الأصغر ، وهذا
يتقوّم باحراز نحو العلاقة بين الحدّ الأوسط والحدّ الأكبر وانّها من قبيل علاقة المعلول
بعلّته أو علاقة المعلولين لعلّة ثالثة ، وهذا ما يقع موقع الكبرى في القياس
البرهاني ، كما يتقوّم باحراز وجود المعلول ، وهذا ما يكون في موقع الصغرى.
فحينما نحرز وجود
النهار والذي هو معلول لشروق الشمس أو أنهما معلولان لعلّة ثالثة فإنّه يمكن
استكشاف شروق الشمس ، وذلك بواسطة ضمّ الصغرى والتي هي احراز وجود النهار الى
الكبرى والتي هي التلازم بين وجود النهار وشروق الشمس.
١٧٥ ـ بساطة المشتق
المراد من المشتق
إجمالا ـ وسيأتي ايضاحه تحت عنوانه ـ هو المبدأ أو الحدث المتّحد مع الذات بنحو من
أنحاء الاتحاد كمفهوم الضارب.
والبحث في المقام
عن انّ مفهوم المشتق هل هو بسيط أو مركب ، بمعنى انّ مفهوم المشتق مثل مفهوم
العالم هل هو بسيط بحسب التحليل العقلي أي مفهوم واحد بحسب الدقة العقلية أو هو
مفهوم اندماجي ومركب من شيئين أو أكثر ، فمحل النزاع هو ما عليه المفهوم الاشتقاقي
بحسب التحليل العقلي ، وليس محل النزاع ما يظهر من كلمات صاحب الكفاية رحمهالله من انّ البساطة والتركب المبحوث عنهما للمشتق هي البساطة والتركب باعتبار ما
يحدثه المشتق من تصور عند اطلاقه مثلا المعبّر عنه باللحاظ الإدراكي.
أي ان قلنا انّ
الصورة المرتسمة في الذهن عند اطلاق المشتق هي صورة مفهوم وحداني فهذا معناه انّ
مفهوم المشتق بسيط وان قلنا انّ ما يرتسم في الذهن عند اطلاق المشتق هي مجموعة
مفاهيم مثل الذات والمبدأ « الحدث » فهذا معناه انّ مفهوم المشتق مركب ، إذ انّه
لا ريب في انّ ما ينقدح في الذهن من اطلاق المشتق ليس إلاّ معنى واحدا ، وليس هذا
محل خلاف بين الأعلام ، فالبساطة بحسب الإدراك والتصوّر لا تتنافى مع التركيب بحسب
التحليل العقلي ، والذي يكون البحث فيه عن واقع المفهوم الاشتقاقي وهو الذي يقتضيه
الوجدان وما عليه المتفاهم العرفي من غير فرق بين المشتق وسائر الألفاظ ، فالبساطة
إذن بحسب الإدراك والتصور ليست محور النزاع بين الأعلام كما انّها لا تتنافى مع
التركب بحسب التحليل العقلي.
فمحل البحث هو ما
عليه واقع
المفهوم الاشتقاقي
، وهل انّ واقعه هو البساطة أو التركب.
ومع تحرّر محل
النزاع نقول : انّه وقع الخلاف بين الأعلام فيما هو واقع المشتق ، فمذهب مشهور
الفلاسفة والمتأخرين من الاصوليين هو انّ مفهوم المشتق مفهوم بسيط ، وفي مقابل
دعوى المشهور ذهب جمع منهم المحقق الاصفهاني والسيد الخوئي رحمهما الله الى تركّب
المفهوم الاشتقاقي.
فالقائلون ببساطة
المشتق ادعوا انّ المشتق بحسب التحليل العقلي ليس الاّ المبدأ وأما الذات المنتسبة
له فهي والنسبة خارجان عن مدلول المشتق ، وعليه لا فرق بين المشتق والمصدر إلاّ
بالاعتبار ، فكما انّ مدلول المصدر هو الحدث فكذلك مدلول المشتق ، فكلاهما لم تؤخذ
الذات والانتساب اليها في مدلولهما.
فالمتحصل انّ
مدلول المصدر ومدلول المشتق معنى واحد بسيط وهو الحدث إلاّ انّه لمّا لم يكن من
الممكن حمل الحدث على الذات جيء بالمشتق لغرض التمكن من حمله على الذات. فكما انّ
النطق بمادة « ش ـ ر ـ ب » لا يتيسر الاّ بواسطة هيئة المصدر وليس معنى ذلك انّ
الهيئة دخيلة في مدلول المادة فكذلك هيئة المشتق انّما وضعت لغرض التمكن من الحمل
على الذات الاّ انّ ذلك لا يقتضي انّ الذات والنسبة دخيلان في مدلول المشتق.
فالنتيجة انّه لا
فرق بين المصدر والمشتق إلاّ من جهة اعتبارية ، وهي ـ كما قالوا ـ البشرطلا
واللابشرط ، فالمشتق لا بشرط من جهة الحمل ، وهذا يقتضي صحة حمل الذات عليه وعدم
إبائه للحمل فيقال « زيد عالم » ، وهذا بخلاف المصدر فإنّ شأنه الإباء للحمل وهو
معنى البشرطلا. وسيأتي ايضاح ذلك تحت عنوان المشتق والمبدأ.
وهناك معنيان
للبساطة ذكرهما المحقق العراقي رحمهالله.
المعنى
الاول : هو انّ مدلول
المشتق عبارة عن المبدأ أيضا ولكن لا بنحو مطلق بل بنحو القضية الحينية ، بمعنى
انّ مدلوله المبدأ حين قيامه بالذات ، فقيام المبدأ بالذات ليس مأخوذا في مدلول
المشتق بنحو القضية التقييدية إلاّ انّ المبدأ لا يكون مدلولا للمشتق إلاّ حين
قيامه بالذات واتحاده معها.
ويمكن تنظيره ـ لغرض
التوضيح فحسب ـ بالقمر ، فإنّ الليل ليس دخيلا في مدلوله إلاّ انّه لا يكون القمر
قمرا إلاّ حينما يكون مظروفا لليل. وهذا هو المراد من التوأمة في عبائر المحقق العراقي رحمهالله ، فكما انّ التوأم ليس مقوّما للتوأم الآخر فكذلك الذات والنسبة لا يقوّمان
مدلول المشتق ، نعم تحقق مدلول المشتق « المبدأ » يكون حين قيامه بالذات.
المعنى
الثاني : انّ مدلول
المشتق عبارة عن المبدأ مع لحاظ جريانه على الذات لحاظا آليا ، وهذا اللحاظ دخيل
في مدلول المشتق.
وبتعبير آخر : انّ
المشتق معناه المبدأ والنسبة الربطية بينه وبين الذات على ان تكون الذات خارجة عن
مدلوله وتكون النسبة داخلة. فبساطة المشتق بهذا المعنى إنّما هي من جهة عدم دخالة الذات
في مدلوله وإلاّ فالمشتق بهذا المعنى مركب من المبدأ بالاضافة الى قيامه بالذات
والذي عبرنا عنه بالنسبة الربطية. وهذا المعنى منسوب الى المحقق الشريف وتبنّاه
المحقق العراقي رحمهالله.
وأمّا القائلون
بتركب المفاهيم الاشتقاقية فادعوا انّ مفهوم المشتق بحسب التحليل العقلي مركّب من
المبدأ والذات المنتسبة الى المبدأ على انّ النسبة بينهما نسبة اندماجية ناقصة كما
هو الحال في الجمل الناقصة بحسب مبنى بعض الاعلام في الجمل الناقصة ـ وليس هذا
محلا للنزاع عند القائلين
بالتركيب ، وإنّما
النزاع فيما هو المراد من الذات وهل هو واقع الذات أي مصداق الذات أو قل الحمل
الشائع أو هو مفهوم الذات.
والذي يرتضيه
السيد الخوئي رحمهالله هو انّ المشتق مركب من المبدأ ومفهوم الذات ، وذلك لأنه لو
كان المراد من الذات هو واقع الذات للزم ان يكون للمشتق معان كثيرة متباينة ، وهو
مناف للوجدان ، فلو قيل « زيد عالم » و « بكر عالم » و « خالد عالم » فإنّ الذوات
في كلّ واحد من هذه المشتقات متباينة فيما بينها فيلزم ان يكون « عالم » في القضية
الاولى غير « عالم » في القضيّة الثانية وهكذا الثالثة.
وبهذا يتضح انّ
الذات المتركب منها مفهوم المشتق هو مفهوم الذات ، فيكون المراد من العالم هو
الشيء الذي ثبت له العلم ، وبهذا لا يكون معنى عالم متباينا بحسب اختلاف القضايا. فواقع
الذات ليس دخيلا في مدلول المشتق والذي هو دخيل في مدلوله انّما هو عنوان جامع
صالح للصدق على كل ذات.
ولكي يتّضح المراد
من الذات المتركّب منها المشتق نقول : انّما هو متركب منه مدلول المشتق عبارة عن
ذات مبهمة ومجردة عن تمام الخصوصيات والحيثيات الموجبة لتشخصها ، فهي مبهمة من
تمام الجهات إلاّ جهة جريانها على المبدأ وقيامه بها ، فهي أشبه شيء بالاسم
الموصول من حيث ابهامه ، ولأنّ الذات المتركب منها المشتق مبهمة صحّ حملها على
تمام الذوات من غير فرق بين كون الذات من قبيل الجواهر أو الأعراض أو الاعتباريات
أو الانتزاعيات وكذلك الزمان ، ومن غير فرق بين الواجب والممكن والممتنع ، فحينما
يقال « الضارب » فهو لا يعني أكثر من شيء ثبت له الضرب ، وهكذا حينما يقال «
الناطق » فإنّه يعني شيء ثبت له النطق.
هوامش حرف الباء
(١) سورة آل عمران
: ٩٤.
(٢) سورة الأنفال
: ٢٧.
(٣) صحيح البخاري
: كتاب الأنبياء ، باب ما ذكره عن بني اسرائيل ، الحديث ٣٢٧٧.
(٤) سورة الجن :
١٦.
(٥) سورة الأعراف
: ٩٦.
(٦) سورة الرعد :
١١.
(٧) سورة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم : ٧.
(٨) سورة الزخرف :
٥٥.
(٩) سورة الحديد :
٢٨.
(١٠) سورة الإسراء
: ١٨.
(١١) سورة هود :
٨.
(١٢) سورة فاطر :
١١.
(١٣) سورة الرعد :
٣٩.
(١٤) البحار : ٤ /
١٢ الحديث ١٨.
(١٥) البحار : ٤ /
١١ الحديث ١٢.
(١٦) البحار : ٤ /
١١١ الحديث ٣٠.
(١٧) البحار : ٤ /
١٠٢ الحديث ١٤.
(١٨) سورة التوبة
: ١٥.
(١٩) سورة الإسراء
: ١٥.
(٢٠) سورة المائدة
: ٦.
(٢١) سورة الإسراء
: ١٥.
(٢٢) سورة الطلاق
: ٥٢.
(٢٣) الوسائل :
باب ٥٠ من أبواب النجاسات الحديث ١١.
(٢٤) الحدائق
الناضرة : ١ / ٧٦ المقدمة الرابعة.
(٢٥) الوسائل :
باب ١٢ من أبواب صفات القاضي الحديث ٤٦.
حرف
التّاء
عناوين حرف التاء
١٧٦ ـ تأخير
البيان عن وقت الحاجة
|
١٩٢ ـ التخصيص بالمتصل
|
١٧٧ ـ تأسيس
الأصل الثانوي عند التعارض
|
١٩٣ ـ التخصيص
بالمخصّص اللبّي
|
١٧٨ ـ تأسيس
الأصل عند الشك في الحجيّة
|
١٩٤ ـ التخصيص
بالمنفصل
|
١٧٩ ـ تأسيس
الأصل في باب التعارض
|
١٩٥ ـ التخطئة
والتصويب
|
١٨٠ ـ التبادر
|
١٩٦ ـ أصالة
التخيير
|
١٨١ ـ التبعيض
في الاحتياط
|
١٩٧ ـ التخيير
الشرعي والعقلي
|
١٨٢ ـ التبعيض
في الحجيّة
|
١٩٨ ـ التخيير
العقلي الشرعي
|
١٨٣ ـ تبعية
الدلالة الالتزامية للمطابقية
|
١٩٩ ـ التخيير
الفقهي والاصولي
|
١٨٤ ـ تبعية
الدلالة للإرادة
|
٢٠٠ ـ التخيير
بين الأقل والأكثر
|
١٨٥ ـ تتميم
الكشف
|
٢٠١ ـ التخيير
في باب التعارض
|
١٨٦ ـ التجرّي
|
٢٠٢ ـ تداخل
الأسباب والمسبّبات
|
١٨٧ ـ التجزّي
|
٢٠٣ ـ الترادف
|
١٨٨ ـ تحقيق
المناط
|
٢٠٤ ـ الترتّب
|
١٨٩ ـ تخريج
المناط
|
٢٠٥ ـ الترجيح
بالأحدثية
|
١٩٠ ـ التخصّص
|
٢٠٦ ـ الترجيح
بالتقيّة
|
١٩١ ـ التخصيص
|
٢٠٧ ـ الترجيح
بالشهرة
|
٢٠٨ ـ الترجيح بالصفات
|
٢٢٨ ـ تعارض
الإطلاق البدلي والإطلاق الشمولي
|
٢٠٩ ـ الترجيح
بالظن غير المعتبر
|
٢٢٩ ـ تعارض
الإطلاقين من وجه
|
٢١٠ ـ الترجيح
بموافقة الكتاب المجيد
|
٢٣٠ ـ التعارض
العرضي
|
٢١١ ـ التزاحم
|
٢٣١ ـ التعارض
بين الأدلّة
|
٢١٢ ـ تزاحم
الملاكات
|
٢٣٢ ـ التعارض
بين الأصلين وبين الأصل والامارة
|
٢١٣ ـ التزاحم
في المستحبات
|
٢٣٣ ـ التعارض
بين الإطلاق والعموم
|
٢١٤ ـ التزاحم
في الواجبات الضمنيّة
|
٢٣٤ ـ التعارض
بين الدليل اللفظي والدليل العقلي
|
٢١٥ ـ التسامح
في أدلة السنن
|
٢٣٥ ـ التعارض
بين العامين من وجه
|
٢١٦ ـ التشريع
|
٢٣٦ ـ التعبّدي
والتوصّلي
|
٢١٧ ـ التشريع
العملي
|
٢٣٧ ـ تعدّد
الدال والمدلول
|
٢١٨ ـ التصويب
الأشعري
|
٢٣٨ ـ تعقّب
الاستثناء لجمل متعددة
|
٢١٩ ـ التصويب
المعتزلي
|
٢٣٩ ـ تعقّب
العام بضمير يرجع الى بعض مدلوله
|
٢٢٠ ـ التضاد
|
٢٤٠ ـ نظرية
التعهّد
|
٢٢١ ـ التضاد
بين الأحكام التكليفيّة
|
٢٤١ ـ التفويض
|
٢٢٢ ـ التعادل
والترجيح
|
٢٤٢ ـ التقابل
بين الإطلاق والتقييد
|
٢٢٣ ـ تعارض
الأحوال
|
٢٤٣ ـ التقسيمات
الأوليّة والثانويّة للواجب
|
٢٢٤ ـ تعارض
الاستصحاب مع الأمارة
|
٢٤٤ ـ التقليد
|
٢٢٥ ـ تعارض
الاستصحاب مع سائر الاصول
|
|
٢٢٦ ـ تعارض
الاستصحاب مع قاعدة اليد
|
|
٢٢٧ ـ تعارض
الاستصحابين
|
|
٢٤٥ ـ التقيّة
|
|
٢٤٦ ـ التقيّة
المداراتيّة
|
|
٢٤٧ ـ التكليف
|
|
٢٤٨ ـ تمايز
العلوم
|
|
٢٤٩ ـ التنجيز
والتعذير
|
|
٢٥٠ ـ التنجيز
والتعليق
|
|
٢٥١ ـ تنزيل
الأمارة منزلة القطع
|
|
٢٥٢ ـ تنزيل
المؤدى منزلة الواقع
|
|
٢٥٣ ـ تنقيح
المناط
|
|
٢٥٤ ـ التواتر
|
|
٢٥٥ ـ التواتر
الإجمالي
|
|
٢٥٦ ـ التواتر
اللفظي
|
|
٢٥٧ ـ التواتر
المعنوي
|
|
٢٥٨ ـ توقف
الوضع على تصوّر المعنى واللفظ
|
|
حرف التاء
١٧٦ ـ تأخير البيان عن
وقت الحاجة
عند ما تكون هناك
أحكام مولويّة ثابتة في نفس الأمر والواقع وتكون موضوعاتها متحقّقة فإنّ عدم
تبليغها للمكلّفين رغم افتراض تحقّق موضوعاتها يكون من تأخير البيان عن وقت
الحاجة.
فمعنى البيان هو
تبليغ الأحكام ، وتأخير ذلك عن وقت الحاجة يتحقّق حينما تكون موضوعات تلك الأحكام
المجعولة موجودة خارجا.
أمّا حينما يفترض
عدم تحقّق موضوعات الأحكام فإنّ عدم بيان تلك الأحكام وتبليغها للمكلّفين لا يكون
من تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فلو افترض عدم وجود سارق خارجا فإنّ عدم بيان حدّ
السارق لا يكون من تأخير البيان عن وقت الحاجة ، أمّا لو اتّفق وجود السارق فإنّ
عدم بيان حدّ السارق يكون من تأخير البيان عن وقت الحاجة.
هذا وقد ذكر بعضهم
أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح ، وذلك لأنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد
في متعلّقاتها. فإذا كان الواقع هو ثبوت الوجوب لشيء فإنّ معنى ذلك هو اشتماله على
المصلحة التامّة ،
وحينئذ يكون عدم
بيانه في وقته تفويتا لمصلحة الواقع ، وهكذا لو كان الواقع هو ثبوت الحرمة لشيء
فإنّ معنى ذلك هو اشتماله على المفسدة التامّة ، وحينئذ يكون تأخير البيان للحكم
عن وقته إيقاعا للمكلّف في مفسدة الواقع.
ومن الواضح أنّ
تفويت المصلحة على المكلّف أو إيقاعه في مفسدة الواقع قبيح ، ولذلك أشكل على من
يقول بقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة تفسير ظاهرة تأخّر المخصّصات عن العمومات في
كلمات أهل البيت عليهمالسلام إذ كثيرا ما يتأخّر بيان المخصّصات عن بيان العمومات في
كلماتهم عليهمالسلام رغم مجيء وقت العمل بالمخصّصات ، فقد يرد خطاب عن الإمام
مفاده « إنّ كلّ سمك فهو حلال » ثمّ بعد مدّة من الزمن يصدر عنه خطاب آخر مفاده «
إنّ السمك الذي ليس له فلس حرام » ، فبيان مورد الحرمة قد تأخّر عن وقت الحاجة ،
وأنتج ذلك وقوع المكلّف في مفسدة الحرمة الواقعيّة لأنّه كان يتناول السمك الذي
ليس له فلس اعتمادا على الخطاب الأوّل.
فبناء على قبح
تأخير البيان عن وقت الحاجة يشكل تفسير هذه الظاهرة الشائعة في خطابات المعصومين عليهمالسلام ، من هنا قد يلتزم البعض بحمل هذه المخصّصات على أنّها نواسخ للأحكام المفادة
بالخطابات الأولى ، حتّى لا يلزم من ذلك الوقوع في محذور القبح الناشئ عن تأخير
البيان عن وقت الحاجة. وهذا معناه الالتزام مثلا بحلّيّة السمك الذي ليس له فلس
قبل صدور الخطاب بالحرمة ، وأنّ الحلّيّة قد نسخت بالخطاب الآخر المفيد للحرمة.
إلاّ أنّ معالجة
هذا الإشكال بالحمل على النسخ يقتضي البناء على
وقوع النسخ في
أكثر الأحكام الشرعيّة ، إذ ما من عام تقريبا إلاّ وقد ورد عليه مخصّص بعد ذلك أو
أكثر. من هنا كان لا بدّ من البحث عن مخرج آخر لهذا الإشكال ، وذلك للقطع
بمحدوديّة الموارد التي وقع فيها النسخ.
هذا وقد تصدّى
الأعلام ( رضوان الله تعالى عليهم ) إلى إسقاط الإشكال من الأساس وإثبات أنّ تأخير
البيان عن وقت الحاجة ليس قبيحا في نفسه بحيث لا يمكن انفكاك القبح عن هذا الفرض
كما هو الحال في قبح الظلم حيث يستحيل انفكاك وصف القبح عنه.
فتأخير البيان
حينما يكون ناشئا عن ملاك ومصلحة أهمّ من المصلحة الكامنة في متعلّق الفعل أو كان
أكثر أهميّة من إيقاع المكلّف في مفسدة الواقع فتأخير البيان في مثل هذا الفرض لن
يكون قبيحا بل هو عندئذ يكون راجحا.
ولهذا ليس من
محذور في تأخير بيان المخصّص عن مجيء العامّ كما أنّ العكس فاقد للمحذور أيضا فمن
الممكن أن يسبق بيان المخصّص مجيء العامّ.
* * *
١٧٧ ـ تأسيس الأصل
الثانوي عند التعارض
والبحث في المقام
عما هو المرجع عند التعارض بحسب ما تقتضيه الروايات العلاجية ، والتعبير عنه
بالأصل الثانوي بلحاظ ما يقتضيه الأصل الاولي في التعارض المستفاد بواسطة العقل
والذي لا تصل النوبة اليه لو أمكن الاستفادة من الأصل الثانوي في علاج التعارض.
والظاهر من روايات
العلاج على اختلاف طوائفها انّها تعالج التعارض الواقع بين الأخبار ولا تصدّي لها
لعلاج التعارض الذي قد يتفق وقوعه في سائر الأدلة ، كما انّها مختصة بحالات
التعارض بين
الأخبار المظنونة الصدور ، وعليه يكون المرجع في غير ذلك ـ لو اتفق التعارض ـ هو
ما تقتضيه القاعدة العقلية.
وكيف كان فروايات
العلاج على طوائف أربع :
الطائفة
الاولى : هي الروايات
الآمرة بالتوقف ، والظاهر انّ المراد من التوقف هو عدم الاعتماد على كلا الخبرين
المتعارضين في مقام العمل وإرجاء ذلك الى حين الالتقاء بالامام عليهالسلام ، وحينئذ يكون المرجع في حكم المسألة التي تصدى الخبران المتعارضان لبيانه هو
العمومات والإطلاقات إن وجدت وإلاّ فالمرجع عند ذاك هو الاصول العملية ، إلاّ ان
يقال بانّ روايات التوقف في حالات التعارض ظاهرة في انّ الوظيفة التي يلزم المكلّف
التزامها بالإضافة الى التوقف وعدم الأخذ بكلا الخبرين هي الاحتياط وعدم صحة
الرجوع الى العمومات والإطلاقات وكذلك الاصول العملية عند فقدها.
الطائفة
الثانية : هي مرفوعة
زرارة الآمرة بالاحتياط في ظرف التعارض ، والظاهر منها هو العمل بأوفق الخبرين
المتعارضين بالاحتياط ، فليس معنى الاحتياط في المقام هو التحفظ على الواقع بواسطة
العمل بما يوجب القطع بمطابقة الواقع بل المراد هو ملاحظة الروايتين المتعارضتين
والعمل بالرواية التي هي أنسب للاحتياط من الرواية الاخرى.
فلو كان مؤدى
الخبر الاول هو لزوم استيناف الوضوء عند عروض الحدث أثناء الطواف ثم اتمامه من حيث
القطع ، وكان مفاد الخبر الآخر هو عدم لزوم تجديد الوضوء وصحة اتمامه ولو من غير
وضوء ، فإنّ الخبر الأوفق بالاحتياط هو الاول ، ولهذا يلزم العمل به رغم انّ ذلك
لا يحصّل القطع بمطابقة الواقع ، إذ لعلّ الواقع هو
استيناف الطواف من
رأس.
والإشكال على
الطائفة الاولى القاضية بلزوم التوقف في ظرف التعارض هو ان بعض رواياتها ضعيف
السند وبعضها خارج موضوعا عن بحث التعارض بين الاخبار وهي مقبولة عمر بن حنظلة ،
إذ انّ موردها هو فصل الخصومة بين المتخاصمين ، على انّ الظاهر منها اختصاصها بظرف
القدرة على لقاء الإمام عليهالسلام فهي لا تشمل ظرف عدم القدرة والذي هو محل الابتلاء ، على
انها غير متحدة المفاد مع خبر سماعة حيث انّ مفاده لزوم التوقف ابتداء ومع
الاضطرار للعمل بأحد الخبرين يكون المرجع هو المرجحات ، وأما المقبولة فمفادها انّ
التوقف انّما يأتي في رتبة متأخرة عن فقد المرجحات.
وأما الروايات
الدالة على لزوم التوقف عند الشبهة فغير مشمولة لمحل الكلام ، إذ انّها لا تفترض
التعارض في لزوم التوقف وانّما تأمر بالتوقف عند الشبهة مطلقا ، ولو سلّم شمولها
لحالات التعارض فإنّه حينئذ لا مانع من تخصيصها بروايات العلاج القاضية بالتخيير أو
الرجوع للمرجحات ، إذ العلاقة بينها وبين روايات العلاج هي علاقة الإطلاق
والتقييد.
وإن أبيت وقلت انّ
روايات الوقوف عند الشبهة آبية عن التخصيص ، فإننا نقول انّ روايات التخيير
والترجيح تقتضي خروج الخبرين أو الخبر الراجح عن الشبهة موضوعا ، إذ انّه لا شبهة
في حال قيام الروايات على جعل الحجيّة للخبرين المتعارضين بنحو التخيير أو جعل
الحجيّة للخبر الراجح.
وأما الاحتياط
فدليله منحصر بمرفوعة زرارة المنقولة عن ابن أبي جمهور الإحسائي في غوالي اللئالي
، فهي إذن غير قابلة لأن يعتمد عليها.
الطائفة
الثالثة : هي روايات التخيير
وقد اعتمدها صاحب الكفاية رحمهالله وبنى على انّ المرجحات الواردة في الطائفة الرابعة من
روايات العلاج لا تقتضي أكثر من استحباب اختيار الخبر المشتمل عليها ، على انّ
أكثر المرجحات المذكورة ليست من المرجحات للخبرين المتكافئين من حيث الحجيّة لو لا
التعارض بل هي من قبيل تمييز الحجّة عن اللاحجّة. واستدلّ لدعواه بمجموعة من
الأدلة والمنبهات لا نرى من المناسب ذكرها في المقام.
وفي مقابل دعوى
صاحب الكفاية رحمهالله ذهب المشهور الى التخيير ولكن عند فقدان المرجح ، وادعى
الشيخ الانصاري رحمهالله تواتر الأخبار أو لا أقل استفاضتها في انّ الروايات
المتعارضة لا تسقط عن الحجية في ظرف فقدان المرجح بل المرجع عندئذ هو التخيير.
وسوف نتحدث عن التخيير في الاخبار المتعارضة في بحث منفصل ان شاء الله تعالى.
الطائفة
الرابعة : هي روايات
الترجيح ، وقد اعتمدها المشهور وجعلها في رتبة متقدمة على التخيير ، فمتى ما وجد
المرجح المنصوص لا تصل النوبة للتخيير. وقد أفردنا لكل مرجح عنوانا برأسه ، فراجع.
والمتحصل انّ مبنى
المشهور هو انّ القاعدة عند تعارض خصوص الأخبار هي الرجوع للمرجّحات ومع فقدها
يكون المرجع هو التخيير ولا تصل النوبة للقاعدة الاوليّة وهي التساقط.
وفي مقابل هذه
الدعوى دعويان ، الاولى هي الرجوع الى التخيير ابتداء والدعوى الثانية هي الرجوع
الى القاعدة الاولية وهي التساقط عند فقد المرجّح.
* * *
١٧٨ ـ تأسيس الأصل عند
الشك في الحجيّة
والبحث في المقام
عمّا هو المرجع عند الشك في حجية دليل من الأدلة ، فهل المرجع عند الشك في حجية
شيء هو ترتيب آثار الحجية عليه أو انّ المرجح في ذلك هو البناء عملا على عدم حجيته؟
المعروف بين
الاعلام « رضوان الله عليهم » انّ المرجع عند الشك في حجية شيء هو البناء عملا على
عدم حجيته ، وهذا هو معنى قولهم « انّ الشك في الحجية يساوق القطع بعدم الحجيّة ».
فكما انّ القطع
بعدم حجيّة دليل يقتضي عدم ترتيب أيّ أثر على ذلك الدليل المقطوع بعدم حجيته فكذلك
الحال لو وقع الشك في حجية دليل فإنّ ذلك يقتضي عدم ترتيب آثار مؤدى الدليل
المشكوك الحجيّة ، فكأنّه في حيز العدم ، وحينئذ لا بدّ من الرجوع الى ما تقتضيه
الاصول العملية المناسبة لمورد الشك ، هذا اذا لم يكن ثمة عموم أو إطلاق أو دليل
اجتهادي متقدم في مقام المرجعيّة على الأصل العملي.
وبهذا اتضح انّ
المراد من مساوقة الشك في الحجيّة للقطع بعدم الحجيّة هو انّ الشك في جعل الحجيّة
لدليل مقتض لعدم ترتيب آثار الحجية على الدليل المشكوك الحجيّة ، لا انّ المراد من
ذلك هو ان الشك في جعل الحجيّة مقتض للقطع بعدم جعل الحجية ، إذ انّ الشك في جعل
الحجيّة والقطع بعدم جعلها ضدان لا يجتمعان ، فمن المستحيل ان يكون الدليل مشكوك
الحجيّة وفي نفس الوقت مقطوع بعدم حجيته.
والمتحصل انّ الشك
في الحجيّة يقتضي عدم ترتيب آثار الحجيّة على الدليل والتي هي ـ كما ذكروا ـ صحة
الاستناد الى الدليل وصحة اسناد
مؤداه الى الشارع.
فالحجيّة عند ما
تكون ثابتة للدليل فإنّها تصحح الاستناد الى مؤداه ، فلو كان مؤداه الترخيص فإنّ المكلّف
يكون معذورا في تركه للفعل ، ولو كان مؤداه الإلزام فإنّ المكلف يكون مسئولا عنه.
كما تصحح الحجيّة الإسناد الى الشارع بمعنى اسناد مؤدى الدليل الى الشارع ، فلو
كان مؤداه الحرمة فإن للمكلف ان ينسب الحرمة الى الشارع.
أما لو كانت
الحجيّة مشكوكة فإنّ هذين الأثرين لا يترتبان بل يحرم على المكلّف اسناد المؤدى
الى الشارع ، كما لا يصح له رفع اليد عن الإطلاقات والعمومات وعما تقتضيه الاصول
العمليّة ، إذ مجرّد قيام الدليل المشكوك الحجيّة لا يبرّر نفي الحجيّة عن
الإطلاقات والعمومات وكذلك الاصول العملية.
* * *
١٧٩ ـ تأسيس الأصل في باب
التعارض
والبحث في المقام
عمّا هو المرجع في حالات استحكام التعارض بين الأدلة وعدم امكان الجمع العرفي. والاستفادة
من هذا البحث انما هو في موارد قصور الروايات العلاجية عن الشمول لها ، كالتعارض
الواقع بين الأدلة الاجتهاديّة التي ليست من قبيل الأخبار أو التعارض بين الأخبار
مع فقد المرجّح وعدم القول بالتخيير أو التوقف والإرجاء.
هذا وقد اختلف
الأعلام فيما هو الأصل الأولي عند التعارض ، فالمشهور ذهبوا الى ان مقتضى الأصل
الأولي هو سقوط كلا الدليلين عن الحجيّة ، وفي مقابل دعوى المشهور ذهب بعض القدماء
الى ان المرجع هو قاعدة انّ الجمع مهما أمكن فهو أولى من الطرح ، وذهب بعض آخر الى
التخيير. وهناك من
ذهب الى التفصيل بين التعارض الذاتي فحكم بالتساقط والتعارض العرضي فحكم بثبوت
الحجية لكلا الدليلين. وهذا هو المنسوب للشيخ العراقي رحمهالله.
ونقتصر في المقام على
بيان مسلك المشهور وهو التساقط ، فقد استدلّ له السيّد الخوئي رحمهالله بما حاصله :
انّ الدليلين
المتعارضين لو كان دليل حجيتهما هو السيرة العقلائية ـ كما في حالات التعارض بين
الخبرين أو حالات التعارض بين ظهور آية وظهور اخرى ـ فإنّ القول بالتساقط ناشئ عن عدم
جريان السيرة العقلائيّة على العمل بالمتعارضين ، بمعنى قصور دليلية السيرة عن
الشمول لموارد التعارض ، وان لم يكن دليل الحجيّة للمتعارضين من قبيل السيرة
فالقول بالتساقط منشؤه انّ المحتملات المتصورة لما عليه دليل الحجيّة أربعة :
المحتمل
الاول : ان تكون الحجيّة
ثابتة للدليلين المتعارضين ، وهذا الاحتمال ساقط جزما ، إذ من المستحيل ان يتعبدنا
الشارع بالمتناقضين ، فحينما يكون مؤدى الدليل الاول هو وجوب شيء ومؤدى الدليل
الثاني هي حرمة نفس ذلك الشيء فهذا معناه انّ الدليل الاول ينفي الحرمة عن متعلّقه
بعد ان يثبت الوجوب له وكذا العكس ، فلو جعلت الحجيّة لكلا الدليلين فهذا معناه
انّ الشارع يتعبدنا بوجوب الشيء بمقتضى المدلول المطابقي للدليل الاول وبعدم وجوبه
بمقتضى المدلول الالتزامي للدليل الثاني.
المحتمل
الثاني : ان تكون الحجية
ثابتة لأحد الدليلين بعينه دون الآخر ، وهذا الاحتمال ساقط أيضا ، وذلك لاستيجابه
الترجيح بلا مرجح ، وهو مستحيل.
المحتمل
الثالث : ان تكون
الحجيّة ثابتة
لكلا الدليلين ولكن بنحو التخيير بحيث يكون ثبوت الحجيّة لأحدهما منوطا باتّفاق
العمل بمقتضاه ، فلو عمل المكلّف بمقتضى الدليل الاول ـ مثلا ـ فإنّه يصبح الحجّة
دون الآخر وهكذا العكس.
والجواب عن هذا
الاحتمال انّه لو اتفق ان أهمل المكلّف كلا الدليلين فإنهما يسقطان عندئذ عن
الحجيّة ، إذ انّ حجيّة كل واحد منهما منوط بالعمل به والمفترض انه لم يعمل بأيّ
واحد منهما ، وحينئذ يصبح المكلّف في سعة من كلا الدليلين ويكون له الرجوع الى
الاصول المؤمّنة لو لم يكن عموم فوقاني وهذا ما لا يمكن الالتزام به حتى عند
القائلين بالتخيير ، كما انّه لا يمكن تنظير هذا الاحتمال بالتخيير الوارد في
الروايات العلاجية ، إذ انّ مفادها هو لزوم العمل بأحد الدليلين ، غايته انّ
المكلّف في سعة من جهة اختيار أحدهما.
المحتمل
الرابع : ان تكون
الحجيّة ثابتة لكلا الدليلين بنحو التخيير على ان تكون حجية كل واحد منهما منوطة
بعدم العمل بالآخر ، وهذا الاحتمال ساقط أيضا ، لأن المكلّف لو لم يعمل بكلا
الدليلين يصبح كلا الدليلين حجّة في حقّه لتوفر كل واحد منهما على شرط الحجيّة وهو
ترك الآخر. وعندها تكون النتيجة هي التعبّد بكلا الدليلين وهو مستحيل لاستلزامه
التعبّد بالمتناقضين.
وبهذا يتعين القول
بسقوط كلا الدليلين المتعارضين عن الحجيّة ، ويكون المتحصّل هو ان القاعدة الاولية
عند تعارض الأدلة هو التساقط.
* * *
١٨٠ ـ التبادر
وأحد العلامات
التي يتميّز بواسطتها المعنى الحقيقي للفظ من
المعنى المجازي.
والتبادر في اللغة
يعني التسابق والتسارع ، والمقصود منه في المقام هو انسباق تصوّر المعنى من اللفظ
بمجرّد اطلاق اللفظ بحيث يكون هذا المعنى هو المتصوّر الاول في الذهن دون بقية
المعاني. وهذا الانسباق والتصور المتسارع للذهن لا يكون علامة الحقيقة إلاّ إذا
استند الى حاقّ اللفظ بحيث لا تساهم في هذا الانسباق عوامل اخرى كالقرائن الحالية
أو المقالية.
فإذا كان كذلك
فإنّ التبادر يعبّر عن انّ اللفظ المستعمل في المعنى المتبادر حقيقة في ذلك المعنى
أي يعبّر عن ان اللفظ قد وضع للدلالة على المعنى المتبادر ، إذ انّ العلقة بين
اللفظ والمعنى لمّا لم تكن ذاتية فيتعين كونها جعليّة ، ولمّا لم تكن هناك عوامل
شخصية نشأ عنها التبادر فيتعين أن يكون المنشأ للتبادر هو الوضع ، أي انّ التبادر
معلول للوضع وبهذا يثبت انّ تبادر المعنى من اللفظ أمارة على ان اللفظ قد وضع
للدلالة على ذلك المعنى.
إلاّ انّ مقدار ما
يثبت بالتبادر ـ كما أفاد السيد الخوئي رحمهالله ـ هو انّ اللفظ حقيقة في المعنى المتبادر منه في زمان
التبادر أمّا انّه حقيقة في المعنى المتبادر في الزمان السابق على التبادر فهذا ما
لا يتكفل التبادر لاثباته ، فلا بدّ من التماس دليل آخر غير التبادر لاثبات ذلك.
ومن هنا يتمسك
بأصالة الثبات في اللغة ـ المعبّر عنها بالاستصحاب القهقرائي ـ لإثبات انّ هذا
اللفظ حقيقة في المعنى المتبادر. وهذا الاستصحاب والذي هو حجة في باب الظهورات
فحسب مدركه البناء العقلائي القاضي بثبات اللغة وعدم تبدّل أوضاعها.
ولو كان بناء
العقلاء وما عليه أهل المحاورة غير ذلك لانسدّ باب
الاستنباط للإحكام
الشرعية ، إذ انّ الاستنباط يعتمد أكثر ما يعتمد على النصوص الشرعية وما يستظهر من
الفاظها ، فلو لم يكن التباني العقلائي جاريا على انّ ما هو المستظهر فعلا هو
المستظهر في زمن النص لما كان لنا وسيلة اخرى للتعرّف على معظم الاحكام الشرعية.
فالتبادر مع
انضمام أصالة الثبات في اللغة أمارة على انّ المعنى المتبادر من اللفظ هو المعنى
الحقيقي للفظ.
وباتضاح المراد من
التبادر نقول : انّه قد اورد على صلاحية التبادر للكشف عن الوضع بايراد مشهور
حاصله : انّ التبادر ليس معلولا للوضع ولهذا لا يحصل التبادر للجاهل بالاوضاع
اللغوية ، نعم هو معلول للعلم بالوضع ، وعليه فالتبادر الذي علة للعلم بالوضع هو
معلول للعلم بالوضع ، وهذا هو الدور المحال ، إذ انّه متوقف ومتوقف عليه ، فهو
متوقف على العلم بالوضع والعلم بالوضع متوقف عليه.
وقد اجيب عن هذا
الإشكال بمجموعة من الاجوبة ، ومن أهمها ما أجاب به صاحب الكفاية رحمهالله عن هذا الاشكال ، وحاصله :
انّ الذي يتوقف
عليه التبادر هو العلم الارتكازي والذي يجامع الغفلة ويكون مخبوء في ما وراء
الشعور ، وينشأ عن الانس الحاصل من الممارسة الساذجة والغير الواعية لتفاصيل
الاوضاع اللغوية ، فابن اللغة حينما يعيش في الاوساط اللغوية يكتسب منهم اللغة ،
وتظلّ مختمرة في ذهنه دون ان يلتفت لتمام الحيثيات الموجبة لانفهام المعاني من
ألفاظها وما هي سعة مداليل هذه الالفاظ ، وهذا هو المعبّر عنه بالعلم الارتكازي ،
وهو المنشأ للتبادر.
وأمّا ما ينتجه
التبادر ويتسبب في الكشف عنه هو العلم التفصيلي
بالوضع والذي يعني
التوجّه لمدلول اللفظ من حيث سعته وضيقه وخصوصياته.
والمتحصّل انّ
العلم بالوضع والذي هو علة للتبادر هو العلم الارتكازي ، وأما العلم بالوضع والذي
هو معلول للتبادر فهو العلم التفصيلي. فالمتوقف على التبادر غير المتوقف عليه
التبادر.
ثم انّ التبادر
الذي هو علامة الحقيقة هل هو التبادر الشخصي أو التبادر النوعي؟
لا ريب في علامية
التبادر النوعي على الحقيقة وانّما الكلام في التبادر الشخصي ، فقد يقال بعدم
صلاحيته للعلامية ، وذلك لأن التبادر الشخصي قد ينشأ عن عوامل أجنبية لا تتصل
بحاقّ اللفظ وانما تنشأ عن المرتكزات الشخصية التي كثيرا ما تساهم الظروف الخاصة
في تكوينها ، ومن هنا لا يصح الاعتماد على التبادر الشخصي لاستكشاف الوضع.
إلاّ انّ هذا
الكلام خروج عن محل الفرض ، إذ المفترض انّ التبادر الذي يكون علامة الحقيقة هو
الذي ينشأ عن نفس اللفظ دون تدخّل أيّ عامل من العوامل الشخصية أو غيرها ، فعلى
الذي يحصل له التبادر أن يسبر أغوار النفس كما عليه ان يلاحظ العوامل الخارجيّة
فإن وجد انها ساهمت في نشوء التبادر فإنّ هذا لا يكون مؤهلا للكشف عن الوضع ، أما
اذا وجد انّ منشأه هو حاق اللفظ فإنّ بإمكانه ان يستعين بأصالة التطابق بين الظهور
الشخصي والظهور النوعي ـ والتي هي من الاصول العقلائية ـ ليثبت بواسطة مجموع
الأمرين كون اللفظ حقيقة في المعنى المتبادر كما أفاد ذلك السيد الصدر رحمهالله.
* * *
١٨١ ـ التبعيض في
الاحتياط
وهو في مقابل
الاحتياط التام
والذي يحرز معه
إدراك الواقع والتحفظ عليه. فالمراد من التبعيض في الاحتياط هو الإتيان بما يوجب
الظن أو احتمال الموافقة للواقع ، فهو معنى آخر للامتثال الإجمالي الاحتمالي
والامتثال الإجمالي الظني ، فلو كان للمكلّف علم اجمالي بالنجاسة وكانت دائرة
أطرافه خمسة ، فلو ترك تمام الاطراف فهذا هو الاحتياط التام ولو ترك بعضها فهو
تبعيض في الاحتياط.
ولو كانت هناك شبهات
تحريمية متعددة وشبهات وجوبية متعددة فاحتاط في بعضها وترك البعض الآخر فهذا تبعيض
في الاحتياط بلحاظ مجموع الشبهات واحتياط تام بالنسبة للشبهات التي رتب الأثر
عليها.
ولا ريب في لزوم
الاحتياط التام في الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي في ظرف انفتاح باب العلم
والعلمي ، وكذلك لا ريب في عدم وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية على خلاف في
الشبهات التحريمية الحكمية. انّما الكلام فيما لو افترض انسداد باب العلم والعلمي
، وقد تحدثنا في محلّه عن الاحتياط التام ، وأما الاحتياط الناقص والذي هو التبعيض
في الاحتياط فهل هو لازم لو افترض الانسداد أو جائز أو محرم؟
وقع الخلاف بين
الاعلام في ذلك ، فمنهم من ذهب الى حرمة التبعيض في الاحتياط ، وذلك بدعوى قيام
الإجماع على انّ الامتثال الإجمالي غير سائغ شرعا ، هذا أولا ، وثانيا ان الامتثال
الإجمالي لا يمكن معه قصد الوجه المعتبر في العبادات.
وأجاب السيد
الخوئي رحمهالله عن هذه الدعوى بأنّها غير مسلّمة ، وذلك لانّ هذه المسألة
مستحدثة على ان هذا الإجماع مبتل باحتمال المدركية ، إذ لعل مدركه هو البناء على
لزوم قصد الوجه في العبادات ، فلا يكون اجماعا تعبديا.
وأما دعوى وجوب
التبعيض في الاحتياط فلأنه إذا تمّت مقدمات الانسداد بما فيها حرمة الاحتياط التام
فإنّ المتعين هو التبعيض في الاحتياط وليس حجية مطلق الظن ، إذ لا صلاحية لتمامية
مقدمات الانسداد لإثبات حجية مطلق الظن بعد التمكن من التبعيض في الاحتياط ، كما
انّ العقل ليس له شأن الحكم بحجية الظن المطلق كما اتّضح ذلك مما ذكرناه في بحث
الانسداد وبحث الحكومة الانسدادية.
وأما البناء على
جواز التبعيض في الاحتياط فلأنّه بعد سقوط دعوى الحرمة والقول بحجية الظن المطلق
بناء على الحكومة أو الكشف فإنّه لا مانع من التبعيض في الاحتياط إذا لم يكن
منافيا لحجية الظن ، كالتبعيض في الاحتياط في التكاليف المحتملة.
* * *
١٨٢ ـ التبعيض في الحجيّة
والمراد من
التبعيض في الحجيّة هو ثبوت الحجية لبعض الخبر وسقوطها عن البعض الآخر منه.
والبحث في المقام
عن امكان التبعيض في الحجية وعدم امكانه.
الصورة
الاولى : ان يكون الخبر
مشتملا على أكثر من مدلول ويكون أحد مدلولاته منافيا لمضمون الكتاب أو السنة
القطعية أما المدلولات الاخرى فليس بينها وبين الكتاب والسنة الشريفة أي منافاة.
وهنا لا ريب في
امكان التبعيض في الحجية ، بمعنى إمكان ان تجعل الحجيّة لمدلولات الخبر الغير
المنافية للكتاب والسنة ويكون المدلول المنافي لهما هو الساقط عن الحجية على ان لا
تؤدي منافاة بعض مدلولات الخبر للكتاب والسنة الى إحراز كذب المخبر كأن نحتمل عدم
إرادة المنافي جدا وواقعا
أو انّ المخبر قد
اشتبه في النقل فأضاف ما لم يسمع الى ما سمع ، وحينئذ يكون منشأ سقوط الحجية عن
المنافي هو إحراز المنافاة ويكون ثبوت الحجية لغير المنافي مبنيا على وثاقة الراوي
وأصالة عدم الغفلة والاشتباه في النقل ، وهذا هو المصحح لشمول أدلة الحجيّة
للمقدار غير المنافي ، إذ لا مانع من شمولها لغير المنافي بعد امكان صدقه وعدم
اشتباهه وبعد توفره على شرط الحجيّة وهي الوثاقة.
أما امكان صدقه
فلعدم وجود ما يحرز معه الكذب في المدلول المنافي ، وأما عدم اشتباهه فللأصل
العقلائي القاضي بأصالة عدم الاشتباه والغفلة في ظرف الشك في وقوعهما ، واحتمال
الكذب والاشتباه ليس مختصا بالحالة المفترضة بل يشمل كل الاخبار المظنونة الصدور
والتي جعل الشارع لها الحجيّة لتوفرها على شرط الحجيّة وهي وثاقة الراوي إلاّ أن
يدعى انّ منافاة بعض مدلولات الخبر للواقع تستوجب عدم الوثوق بصدور تمام الخبر ،
وهذا غير مبرّر في كثير من الأحيان.
الصورة
الثانية : أن يكون الخبر
مشتملا أيضا على أكثر من مدلول وتكون بعض مدلولاته منافية لخبر آخر ، واتفق ان كان
المدلول المنافي موافقا للعامة وكان مدلول الخبر الآخر بعضه أو تمامه غير موافق
لمذهب العامة.
وهنا أيضا لا مانع
من ثبوت الحجيّة لمدلولات الخبر غير المنافية للخبر الآخر ويكون الساقط عن الحجيّة
هو المدلول المنافي. ومنشأ سقوطه هو المرجح الجهتي القاضي بترجّح الخبر الغير
الموافق للعامة على الموافق لمذهبهم. والتفكيك في الحجيّة بين المدلول المنافي
والمدلولات غير المنافية لا محذور فيه ، وذلك لعدم قصور أدلة الحجيّة عن الشمول
لمدلولات الخبر
غير المنافية لعين ما ذكرناه في الصورة الاولى.
الصورة
الثالثة : ان يكون الخبر
مشتملا أيضا على أكثر من مدلول إلاّ انّ بعض مدلولاته محتملا لاكثر من معنى بحيث
لا يمكن استظهار واحد من المحتملات ، وهذا بخلاف المدلولات الاخرى للخبر فإنّها
ظاهر في معانيها.
وهنا لا إشكال في
سقوط المدلول المجمل دون سائر المدلولات ، إذ لا مبرّر لسقوط الحجيّة عن سائر
المدلولات بعد افتراض ظهورها في معانيها ، ثم انّ سقوط المدلول المجمل عن الحجيّة
لا يختلف الحال فيه بين أن يكون منشأ اجماله هو عدم وضوحه بنفسه أو يكون منشأ
الإجمال مسبّب عن أدلة اخرى.
الصورة
الرابعة : أن يكون للخبر
مدلول واحد استقلالي إلاّ ان لهذا المدلول مدلولات تضمنية متعددة ، ويتفق أن يكون
أحد المدلولات التضمنيّة منافيا لمدلول تضمني واقع في اطار مدلول خبر آخر ، وهذا
هو المعبّر عنه بالتباين الجزئي أو التعارض بين العامين من وجه.
ومثاله : ما لو
كان لسان الخبر الاول هو وجوب اكرام كل العلماء ، وكان لسان الدليل الثاني هو حرمة
اكرام كل الفساق ، فالتنافي بين مدلول الخبر الاول ومدلول الخبر الثاني انّما هو
في مادة الاجتماع وهي العالم الفاسق ، فإنّ مقتضى العموم في الخبر الاول هو وجوب
اكرامه ومقتضى العموم في الخبر الثاني هو حرمة اكرامه.
ونتيجة التعارض
هنا تحتمل أحد احتمالات أربعة :
الاول : هو سقوط الخبرين بتمام مدلوليهما عن الحجيّة ، وهذا
معناه عدم الإيمان بالتبعيض في الحجيّة في هذا المورد.
الثاني : سقوط أحدهما بتمام مدلوله
عن الحجيّة
اعتمادا على أحد المرجحات ، وهذا معناه أيضا عدم الإيمان بالتبعيض في الحجيّة.
الثالث : الحكم بالتخيير بين الخبر الاول بتمام مدلوله أو الخبر
الثاني بتمام مدلوله ، وهذا معناه عدم التبعيض في الحجيّة أيضا.
الرابع : التسليم بثبوت الحجيّة لكلا الخبرين في مادة الافتراق ،
وأما مادة الاجتماع فلها عدة احتمالات :
الاول : سقوط الحجيّة عن الدليلين في مادة الاجتماع.
الثاني : ثبوت الحجيّة لهما في مادة الاجتماع ولكن بنحو التخيير.
الثالث : الرجوع للمرجحات الجهتية والمضمونية دون الصدورية في
مادة الاجتماع ، وعندها تسقط الحجيّة عن الفاقد للمرجح دون الواجد ، والساقط عن
الحجية هو خصوص المدلول التضمني المنافي للواجد للمرجح.
فلو افترض مثلا
انّ المدلول المرجوح جهة أو مضمونا هو حرمة اكرام العالم الفاسق فحينئذ يكون
الساقط عن الحجيّة هو خصوص هذا المدلول ، وعليه يثبت وجوب اكرام العالم الفاسق
بواسطة الدليل الاول.
الرابع : الرجوع بالإضافة الى المرجحات الجهتية والمضمونيّة الى
المرجحات الصدورية في مادة الاجتماع فيكون الساقط عن الحجيّة هو المدلول التضمني
المرجوح.
والإيمان بأحد هذه
الاحتمالات الأربعة من الاحتمال الرابع معناه الإيمان بالتبعيض في الحجيّة ، وذلك
لأنّ الاحتمال الاول معناه ثبوت الحجيّة لبعض مدلول الخبر الاول وبعض مدلول الخبر
الثاني والمعبّر عنهما بمادتي الافتراق وسقوط الحجيّة عن بعض مدلول الخبر الاول
وبعض مدلول الخبر الثاني وهما مادة الاجتماع.
والاحتمال الثاني
معناه التبعيض في الحجيّة في الخبر الذي لم يختر المكلف مدلوله التضمني ، فتكون
مادة الافتراق فيه حجّة دون مادة الاجتماع.
وأما الاحتمال
الثالث والرابع فمعناه ثبوت الحجيّة لبعض الخبر المشتمل على المدلول التضمني
المرجوح فالمقدار الواجد للحجيّة هو مادة الافتراق.
وكيف كان
فالاحتمالات الثلاثة للصورة الرابعة وان كانت ممكنة إلاّ انّها ساقطة جزما ، وذلك
لعدم وجود مبرر لسقوط الخبرين أو أحدهما عن الحجيّة من رأس بعد افتراض عدم التعارض
التام بينهما وبعد ان لم تكن أدلة الحجيّة قاصرة عن الشمول لمادتي الافتراق فيهما.
وأمّا الاحتمال
الرابع والقاضي بالتبعيض في الحجيّة فالاحتمال الاول منه وهو سقوط الحجيّة عن مادة
الاجتماع في الخبرين مبني على القول بتساقط المتعارضين وعدم شمول روايات الترجيح
لهذا الفرض ، والاحتمال الثاني مبني على القول بأنّ المرجع عند التعارض هو التخيير
مطلقا حتى مع وجود المرجحات المنصوصة كما هو مبنى صاحب الكفاية رحمهالله ، وأما الاحتمال الثالث فمبني على انّ المرجع عند التعارض هو المرجحات بعد
افتراض امكان ان يصدر بعض الخبر تقية أو بنحو لا يكون مرادا جدا ، وعندئذ لا مانع
من شمول أدلة الحجيّة لمادتي الافتراق وثبوتها أيضا للمدلول الواجد للمرجح الجهتي
أو المضموني.
وأما عدم الرجوع
للمرجح الصدوري مثل الشهرة أو الصفات فلأنّه يلزم منه أحد محذورين ، أما المحذور
الاول فهو إسقاط أحد الخبرين من رأس ، فالخبر الذي يكون راويه أعدل أو أصدق أو
أفقه
تثبت له الحجيّة
دون الخبر الآخر الذي يكون راويه عدلا أو صادقا ، ومن الواضح انّ ذلك لا يمكن
قبوله ، إذ يلزم منه اسقاط الحجيّة عن الخبر المرجوح في مادة الافتراق وهو غير
مبرّر بعد ان لم تكن مادة الافتراق طرفا في المعارضة ، واذا قلت : نرجع للمرجح
الصدوري في مادة الاجتماع فحسب فهذا معناه التبعيض في السند ، وهذا هو المحذور
الثاني ، إذ من غير المعقول ان يتعبدنا الشارع بصدور بعض الخبر دون البعض ، فالخبر
له مدلول واحد فإمّا ان يكون صادرا أو لا يكون صادرا ، فالحجيّة من حيث السند لا
يتصور فيها التبعيض بخلاف الحجيّة من جهة المضمون ، إذ من الممكن أن يكون بعض
مدلول الخبر ليس جديا ، وكذلك الحجيّة من حيث الجهة ، إذ من الممكن أن يكون بعض
مدلول الخبر صدر تقية أمّا ان يتعبدنا الشارع بصدور بعض الخبر دون بعضه الآخر فهذا
ما لا نتعقله ، هذا حاصل ما أفاده المحقق النائيني رحمهالله.
وأجاب عنه السيد
الخوئي رحمهالله بأنّ الرجوع الى المرجحات الصدورية لا يلزم منه التبعيض في
السند ، أي التبعيض في الصدور ، فالرجوع الى المرجح الصدوري لا يعني القول بأن بعض
الكلام صادر وبعضه غير صادر بل انّ الرجوع الى المرجح الصدوري معناه انّ الشارع
جعل الحجيّة لبعض المدلول ولم يجعلها للبعض الآخر من مدلول الخبر.
وبيان ذلك : انّ الحكم
الشرعي تارة يكون موضوعه الدال وتارة يكون موضوعه المدلول ، فإذا كان موضوعه الدال
فحينئذ لا يتعدد الحكم بتعدّد المدلول ، ومثاله حرمة الكذب ، فإن موضوعه الدال أي
الخبر بقطع النظر عن تعدد مدلوله أو اتحاده ، فلا فرق بين أن يقول زيد : « مات
عمرو » أو ان يقول : « مات كل
من في القرية »
فإنّه في كلا الإخبارين لو كانا كاذبين يكون قد ارتكب حراما واحدا وان كان المدلول
متعددا في الإخبار الثاني ، أي انّه كما لو أخبر بالخبر الاول يكون قد ارتكب كذبا
واحدا فكذلك في الإخبار الثاني يكون قد كذب كذبة واحدة ، فدعوى انحلال الحرمة بعدد
مدلولات الخبر غير معقولة بعد ان كان موضوع حرمة الكذب هو الدال وهو واحد كما هو
الفرض.
وأما لو كان موضوع
الحرمة هو المدلول فتعدد الحرمة واتحادها منوط بتعدد المدلول واتحاده ، فلو كان
المدلول متعددا لكانت الحرمات متعددة بعدده لافتراض انّ موضوع الحرمة هو المدلول ،
ومثاله : حرمة الغيبة ، فإنّ موضوع الحرمة هو المدلول ، فلو قال زيد : « كل من في
القرية فساق » فإنّ الحرمة تتعدد بعدد أفراد من في القرية ، إذ انّ ذلك ينحل الى
نسبة الفسق لكل فرد من أفراد من في القرية ، أي ينحل هذا الخبر الى مدلولات بعدد
أفراد الطبيعة ، وهذا ما يعني تعدد الحرمات باعتبار انّ موضوعها المدلول كما هو
الفرض.
وباتضاح هذه
المقدمة نقول : انّ الحجيّة حكم يعرض الخبر من حيث مدلوله ، واذا كان كذلك فهي
متعددة بتعدد المدلول ، ولا يكون اتحاد الدال موجبا لاتحاد الحجيّة ، بمعنى ان
تكون ثابتة أو غير ثابتة بل انها قد تكون ثابتة لبعض مدلول الخبر ولا تكون ثابتة
للبعض الآخر ، وذلك لأن كل مدلول من مدلولات الخبر يكون موضوعا مستقلا للحكم
بالحجية.
ومن هنا لو رجعنا
للمرجحات الصدورية في مادة الاجتماع لا يكون ذلك موجبا لطرح الخبر من رأس بل انّ
الساقط هو خصوص المدلول التضمني المرجوح وتكون مادة الافتراق باقية على الحجيّة ،
لأنّها
موضوع مستقل لها
ولم تقع طرفا في المعارضة حتى يستوجب ذلك سقوطها عن الحجيّة بالمرجح الصدوري ،
فالرجوع للمرجح الصدوري لا يوجب التبعيض في السند بل هو موجب للتبعيض في الحجيّة ،
باعتبار انّ موضوعها المدلول فيكون معنى الرجوع للمرجح الصدوري هو اثبات الحجيّة
لمدلول دون مدلول.
ونبّه على ذلك
بمجموعة من الامثلة ، منها : انّه لو قامت البيّنة على انّ ما في يد زيد من عشرة
دراهم هي لعمرو ، ثم قامت بيّنة اخرى على انّ خمسة منها لخالد ، فإنّه لا ريب في انّ
الخمسة الاولى من الدراهم تكون لعمرو ، وما ذلك إلاّ لأنّ الحجيّة الثابتة للبيّنة
ثابتة لمدلولاتها كل مدلول على حدة ، بمعنى ان كل مدلول يكون موضوعا مستقلا للحجية
، ولمّا لم تكن الخمسة الاولى طرفا في المعارضة فإنّه لا مانع من ثبوت حجيّة
البينة لها دون الخمسة الاخرى الواقعة طرفا في المعارضة.
وبهذا يتضح وجه
الاحتمال الرابع من انّه لا مانع من الرجوع للمرجحات الصدوريّة في مادة الاجتماع ،
ولا يلزم من ذلك التبعيض في السند.
ويتضح أيضا مما
ذكرناه الفرق بين التبعيض في الحجيّة من حيث المدلولات التضمنيّة وبينه من حيث
المدلولات الالتزامية ، فإنّ الاول لا مانع عنه ، أما الثاني فيمكن المنع عنه
باعتبار تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية ثبوتا وانتفاء ، فالمدلولات التضمنيّة
لا يتصل أحدها بالآخر ، إذ ليس أحدها منتجا للآخر ، بخلاف المدلول الالتزامي فإنّ
منشأه هو المدلول المطابقي ، ولهذا يمكن ان يقال بأن سقوط المدلول المطابقي موجبا
لسقوط المدلول الالتزامي.
ثم انّ ما ذكرناه
مختص بحالات التعارض الجزئي إذا كان كلا الخبرين عاما ، أما لو كان التعارض بين
عام ومطلق فقد ذكرنا انّ المشهور هو تقديم العام في مادة الاجتماع على المطلق ، وأما
لو كان التعارض الجزئي بين اطلاقين فهو ما سيأتي الحديث عنه مستقلا ان شاء الله
تعالى.
الصورة
الخامسة : أن يكون للخبر
مدلول التزامي واتفق سقوط المدلول المطابقي عن الخبر بعد ثبوته ، فهنا يمكن القول
ببقاء المدلول الالتزامي على الحجيّة ، وبهذا يثبت التبعيض في الحجيّة ، فيكون
المدلول الالتزامي حجة ويكون المدلول المطابقي ساقطا عن الحجيّة ، وقد فصلنا ذلك
تحت عنوان « تبعية الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة ».
وهناك صور اخرى
أعرضنا عن ذكرها لاتضاحها بما تقدم من صور ، فتأمل.
* * *
١٨٣ ـ تبعية الدلالة
الالتزامية للمطابقية
لم يقع خلاف بين
الأعلام في تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الثبوت إذا كان المدلول
الالتزامي للإمارة دون الأصل ، نعم لم يقبل السيد الخوئي رحمهالله بذلك في غير الامارة التي تكون من قبيل الاخبارات ، حيث ذهب الى انّ الأمارة
ليست حجة في مثبتاتها إلاّ ان تكون خبرا أو بينة.
وكيف كان فقد وقع
الخلاف بين الأعلام في تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في السقوط ، بمعنى انّه
لو اتفق سقوط المدلول المطابقي للأمارة عن الحجية فهل يسقط المدلول الالتزامي عن
الحجية أيضا أو انّ سقوط المدلول المطابقي للأمارة لا يستلزم سقوط مدلولها
الالتزامي.
ذهب جمع من
الأعلام الى عدم
التلازم في السقوط
وان اتفقوا على التلازم في الثبوت ، بمعنى انّه كلّما كان للامارة مدلولان مطابقي
والتزامي فإنّ ثبوت الحجية للاول يلازم ثبوت الحجيّة للثاني إلاّ انّ سقوط الحجيّة
عن الاول لا يلازم سقوط الحجيّة عن الثاني.
وفي مقابل هذه
الدعوى ذهب آخرون كالسيد الخوئي والسيد الصدر رحمهما الله الى التلازم في السقوط
أيضا.
ولكي يتحرر محل
النزاع نبيّن أقسام المدلول الالتزامي :
انّ المدلول
الالتزامي إما أن يكون مساويا للمدلول المطابقي وأمّا أن يكون أخصّ منه أو يكون
أعمّ منه.
أما ما كان منه
مساويا للمدلول المطابقي فهو ما كان علة منحصرة للمدلول المطابقي أو معلولا أو
لازما كذلك ، بمعنى انّ كلّ واحد منحصر بالآخر. ومثاله الإخبار عن انّ زيدا يرى
فإنّ لازمه انّ لزيد عينا يبصر بها ، إذ انّ الرؤية معلول منحصر بامتلاك الرائي
لجارحة العين المبصرة.
وهنا لا خلاف في
سقوط المدلول الالتزامي عن الحجيّة لو اتفق العلم بسقوط المدلول المطابقي عن
الحجيّة ، وذلك لأنّ المدلول الالتزامي منحصر ثبوته بتحقق المدلول الالتزامي ، فمع
انتفائه لا شيء يوجب بقاء أو تحقق المدلول الالتزامي بعد افتراض ان تحققه منحصر
بتحقق المدلول المطابقي ، فيكون العلم بسقوطه علما بسقوط المدلول الالتزامي.
وأما ما كان منه
أخص من المدلول المطابقي فهو ما كان معلولا أو لازما منحصرا للمدلول المطابقي مع
كون المدلول المطابقي علة للوازم اخرى. ومثاله الإخبار عن موت زيد فإنّ لازمه توقف
نفس زيد ، وهذا اللازم أخص من المدلول المطابقي ، إذ انّ لموت زيد مدلولات
التزامية اخرى
بالإضافة الى توقف
نفسه وهي مثلا امتناعه عن الكلام والأكل والشرب والحركة الإرادية.
وهنا أيضا لا بدّ
من الالتزام بسقوط المدلول الالتزامي عن الحجيّة إذا سقط المدلول المطابقي عن
الحجيّة ، وذلك لعين ما ذكرناه في القسم الاول ، إذ انّهما يشتركان في كون اللازم
منحصرا بالمدلول المطابقي ، بمعنى انّه لا موجب للمدلول الالتزامي غير هذا المدلول
المطابقي ، نعم هما يفترقان من حيث انّ القسم الاول يكون فيه المدلول المطابقي منحصرا
أيضا باللازم ، وهذا بخلاف هذا القسم ، فهو وان كان اللازم فيه منحصرا بالمدلول
المطابقي بحيث لا يوجد عن غيره إلاّ انّ المدلول المطابقي غير منحصر باللازم فهو
يوجد اللازم ويوجد غيره من اللوازم الاخرى ، إلاّ انّ هذا الفرق لا يؤثر في
النتيجة بعد افتراض كون اللازم منحصرا.
فانحصار اللازم
بالمدلول المطابقي هو الذي يوجب العلم بسقوط اللازم عند سقوط المدلول المطابقي ،
وهذا هو المبرّر للقول بتبعية المدلول الالتزامي للمطابقي في السقوط عن الحجيّة في
كلا القسمين.
وبهذا يتّضح خروج
القسمين الاول والثاني عن محل النزاع ، إذ لم يختلف أحد في التبعية.
وأما القسم الثالث
ـ وهو ما كان اللازم في أعم من المدلول المطابقي ـ فهو ما كان معلولا أو لازما مع
امكان ان ينشأ هذا اللازم عن ملزوم آخر أو علة اخرى ، ومثاله الإخبار عن غرق زيد
في الماء فإنّ لازمه موت زيد ، وهذا اللازم أعم من المدلول المطابقي ، إذ انّ
الغرق ليس هو الموجب الوحيد للموت بل قد يحدث الموت بموجب آخر غير الغرق من
الاحتراق أو السقوط من شاهق.
وهذا القسم هو
الذي وقع فيه
الخلاف بين
الأعلام ، حيث ذهب المشهور الى التبعية في السقوط عن الحجيّة وذهب آخرون الى عدم
التلازم بين سقوط المدلول المطابقي وسقوط المدلول الالتزامي.
واستدلّ لصالح
القول بالتلازم بما أفاده المحقق النائيني رحمهالله وحاصله :
انّ الإخبار عن
الملزوم ـ والذي هو المدلول المطابقي ـ يؤول روحا الى الإخبار عن مدلولين ، الاول
هو المدلول المطابقي والثاني هو المدلول الالتزامي ، وكل واحد منهما موضوع مستقل
للحجية ، فلو اتفق سقوط المدلول المطابقي عن الحجية بسبب التعارض أو العلم باشتباه
المخبر في خصوص المدلول المطابقي فإنّ ذلك لا يستوجب سريان سقوط الحجيّة الى
المدلول الالتزامي بعد ان كان المدلول الالتزامي موضوعا مستقلا للحجيّة.
وأجاب السيد الصدر
رحمهالله عن ذلك بأن كلا المدلولين المطابقي والالتزامي ينشأ احراز
مطابقتهما للواقع عن الأصل العقلائي وهو أصالة عدم الاشتباه في النقل وكذلك ينشأ
عن احراز عدم الكذب لافتراض وثاقة الراوي ، أما إذا أحرزنا اشتباه الناقل في
المدلول المطابقي فإن احراز اشتباهه في المدلول الالتزامي لا يعني افتراض اشتباه
آخر.
ففي المثال الذي
ذكرناه ـ وهو الاخبار بغرق زيد والذي لازمه الإخبار بموته ـ لا يكون الحكم باشتباه
الناقل في الإخبار بالموت مستتبعا لافتراض اشتباه آخر غير الاشتباه الثابت لنقله
بغرقه ، إذ انّ الاصل العقلائي لمّا لم يكن جاريا في المدلول المطابقي فهو غير جار
في المدلول الالتزامي ، إذ انّ منشأ الأصل العقلائي هو استبعاد اشتباه الناقل ،
وهذا الاستبعاد نشأ عنه المدلولان معا ومع احراز الاشتباه يكون الأصل العقلائي غير
جار في المدلولين ، لأنّه
لا معنى للاستبعاد
حينئذ بعد إحراز الاشتباه في المدلول المطابقي والذي تولّد عنه المدلول الالتزامي.
ومن هنا اتّضح وجه التبعية في السقوط.
* * *
١٨٤ ـ تبعية الدلالة
للإرادة
لا خلاف بين
الاعلام في تبعية الدلالة الاستعمالية التفهيميّة وكذلك الدلالة التصديقية الجدّية
للإرادة ، فإن الدلالة التفهيميّة والتي تعني ظهور حال المتكلم انّه في مقام تفهيم
المعنى من اللفظ لا تكون إلاّ مع إحراز إرادة المتكلّم للتفهيم ، غايته ان إحراز
الإرادة لا يتوقف على تصريحه بل يكفي ظهور حاله انّه في صدد التفهيم مع عدم وجود
قرينة ـ أو ما يصلح للقرينية ـ تقتضي غير ذلك ، وهكذا الكلام في الدلالة
التصديقيّة الجديّة فإنّها تعني ظهور حال المتكلم في انّ ما قصد تفهيمه باللفظ
يريده جدا وواقعا ، وهذا كما هو واضح منوط باحراز كون المتكلم بصدد ذلك.
فتبعية الدلالة
للإرادة في الدلالتين ليس محلا للنزاع بين الاعلام ، انّما الكلام في الدلالة
الوضعية فقد وقع البحث في تبعيّتها للإرادة ، بمعنى انّ دلالة اللفظ على المعنى هل
هي منوطة بقصد المتكلم تفهيم المعنى من اللفظ أو انّ دلالة اللفظ على المعنى ليست
متوقفة على إرادة المتكلم تفهيم المعنى من اللفظ بل الدلالة الوضعية تتحقّق حتى مع
عدم إرادة المتكلّم لذلك بل وحتى لو صدر اللفظ من غير عاقل أو من غير ذي الشعور.
فبناء على الرأي
الاول تكون الدلالة الوضعية دائما دلالة تصديقيّة ، وأما بناء على الرأي الثاني
فالدلالة الوضعية دلالة تصورية لا تستوجب أكثر من انخطار المعنى في الذهن عند اطلاق
اللفظ من غير فرق بين ان يكون اللافظ قاصدا لتفهيم المعنى من
اللفظ أو لم يكن
قاصدا ، كما لو صدر منه غفلة أو حال نومه ، والرأي الثاني هو مذهب المشهور.
ولعلّ أول من أثار
هذا البحث هو الخواجة نصير الدين الطوسي والشيخ الرئيس ابن سينا رحمهما الله حيث
انّ المستظهر من عبائرهما هو تبعية الدلالة للإرادة ، إلاّ انّ الاعلام اختلفوا في
أي الدلالات هي التابعة للإرادة في نظرهما ، فبعضهم استظهر انّ مرادهما هو تبعية
الدلالة التصديقية للإرادة واستظهر البعض الآخر من كلامهما تبعية الدلالة الوضعية
للإرادة ، وذهب السيّد الخوئي رحمهالله الى انّ مقصودهما هو تبعيّة الدلالة الوضعية ـ والتي لا
تكون إلاّ تصديقيّة ـ للإرادة.
أما دعوى انّ
التبعية المقصودة هي تبعية الدلالة التصديقيّة ـ الاولى والثانية ـ للإرادة
فلاستبعاد أن تكون الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني المرادة بحيث تكون الإرادة جزء
المعنى الموضوع له اللفظ ، إذ انّ الوجدان قاض بأن الالفاظ موضوعة لنفس المعاني
بقطع النظر عن إرادتها ، ولهذا نجد ان دلالة الألفاظ على معانيها تتحقق ولو مع
إحراز عدم إرادتها من اللافظ ، كأن كان يقصد معنى غير المعنى الموضوع له اللفظ أو
كان اللافظ من غير ذي الشعور ، مع انّه يلزم كون الوضع دائما من قبيل الوضع العام
والموضوع له الخاص ، لأنّه يستلزم دائما تقيّد المعنى بالإرادة الحقيقيّة والتي هي
جزئية فيكون الموضوع له وهو المعنى المراد خاصا والوضع عاما إلاّ أن يكون المقصود
من الإرادة هو مفهومها لا واقعها ، وهذا معناه عدم توقف الدلالة على الإرادة
الحقيقيّة المستوجبة لكون المتكلم ملتفتا ، فتكون الدلالة تصورية ، غايته انّ
المعنى المدلول عليه باللفظ هو عبارة عن المعنى بالإضافة الى مفهوم
الإرادة ، وهو غير
مقصود حتما ، فيكون المستفاد من لفظ الأسد عند اطلاقه الحيوان المفترس بالاضافة
الى مفهوم الإرادة وهذا غير مقصود حتما.
وبهذا يتعيّن كون
المراد من التبعيّة هو تبعيّة الدلالة التصديقيّة للإرادة ، وواضح انّ ذلك لا
يتّصل بالوضع ، إذ انّ الدلالة التصديقيّة « الاستعمالية والجديّة » انّما تستفاد
من الظهور الحالي السياقي للمتكلم وانّه في مقام تفهيم المعنى من اللفظ وانّ مراده
الجدي مطابق للدلالة الاستعمالية التفهيميّة.
وأما دعوى انّ
التبعية المقصودة هي تبعية الدلالة الوضعيّة ـ والتي لا تكون إلاّ تصديقيّة ـ للإرادة
فهي دعوى السيد الخوئي رحمهالله ، ومنشؤها هو انكاره للدلالة التصورية والتي تعني انخطار
المعنى من اللفظ بمجرّد اطلاقه ولو من غير ذي الشعور ، حيث يرى ان مثل هذه الدلالة
ليست أكثر من دلالة انسية نشأت عن كثرة الاستعمال أو عن منشأ آخر وليست ناشئة عن
الوضع ، والدلالة التي تنشأ عن الوضع لا تكون إلاّ اختيارية ، أما على مسلكه في الوضع
ـ وانّه عبارة عن الالتزام والتعهد بأن لا ياتي باللفظ إلاّ إذا كان قاصدا لتفهيم
المعنى ـ فواضح ، إذ من غير المعقول ان تحصل الدلالة الوضعيّة دون ان يكون المتكلم
عاقلا ملتفتا ومريدا لتفهيم المعنى من اللفظ ، إذ لو كانت الدلالة تحصل من غير ذلك
لما كان الوضع بمعنى التعهد والالتزام والذي يستبطن الإرادة والاختيار.
ومن هنا كانت
الدلالة الوضعية دائما تصديقيّة بمعنى انّ العلقة بين اللفظ والمعنى لا تكون إلاّ
في حالة قصد تفهيم المعنى باللفظ ، ومع عدم القصد لا تكون هناك علقة وضعية بين
اللفظ والمعنى ، فتقوّم الدلالة الوضعية بالإرادة حتمي بناء على مسلك التعهد.
وأمّا بناء على
مسلك الاعتبار فهل الدلالة الوضعية تابعة للإرادة أيضا ، ذهب السيد الخوئي رحمهالله لذلك بدعوى انّ الغرض من الوضع انّما هو تفهيم المعنى من اللفظ ، وهذا الداعي
من اعتبار اللفظ دالا على المعنى يكون هو المحدد لدائرة الدلالة الوضعية ، إذ لا
معنى لان يكون الاعتبار أوسع من الداعي والغرض من الوضع ، فلو كانت الدلالة
الوضعية مفيدة لانخطار المعنى من اللفظ مع عدم إرادة تفهيم المعنى لكان ذلك يعني
كون الاعتبار أوسع من الوضع وهو لغو لا يتعقل من مثل الواضع الحكيم.
فالمتحصل انّ
الدلالة تابعة للإرادة مطلقا وعلى تمام المباني وان مقصود المحقق الطوسي والشيخ
الرئيس رحمهما الله هو تبعية الدلالة الوضعيّة ـ والتي لا تكون إلاّ تصديقيّة ـ للإرادة.
هذا هو مبنى السيد الخوئي رحمهالله.
* * *
١٨٥ ـ تتميم الكشف
وهو مسلك المحقّق
النائيني رحمهالله فيما هو المجعول في الامارات وتبعه السيد الخوئي رحمهالله ، وحاصله : انّ الامارات والطرق والتي هي معتمدة عند العقلاء في مقام التعرف
على الواقعيات ليس لها الاّ دور الكشف عن الواقع كما هو الحال في الوسائل العلمية
والتي تكشف عن الواقع كشفا قطعيا ، غايته انّ الامارات والطرق تكشف عن الواقع كشفا
ظنيا ، ولهذا يحتاج التعبد بها الى جعل من الشارع.
وباتضاح ذلك نقول
: انّ الحجيّة لمّا لم تكن ذاتية للأمارات لافتراض النقص في كاشفيتها عن الواقع ـ بخلاف
الوسائل العلمية فإنّ حجيّتها ذاتيّة ـ فحينئذ يكون جعل الحجيّة لها من قبل الشارع
ـ ولو بواسطة امضاء ما عليه العقلاء اعتماد الطرق والامارات ـ معناه إلغاء احتمال
منافاة
مؤدى الامارة
للواقع ، وهذا الإلغاء والذي يثبت بواسطة جعل الحجيّة للامارة هو المراد من تتميم
الكشف ، إذ انّ جعل الحجيّة للامارة يؤول روحا الى انّ الشارع قد تمم الكشف الناقص
الذي عليه الأمارة ، وهذا التتميم يعني انّ الشارع قد أعطى للأمارة ما للعلم من
صلاحية الكشف عن الواقع.
ومبرّر دعوى ان
المجعول في الامارات هو الطريقية وتتميم الكشف هو انّ الطرق والامارات المعتمدة
عند الشارع ليست من اختراع الشارع بل انها جميعا معتمدة عند العقلاء ، فهي المعوّل
عليها في مقام ابلاغ المقاصد والتعبير عن المرادات وفي مقام المعوّل عليها في مقام
ابلاغ المقاصد والتعبير عن المرادات وفي مقام الإدانة. ونلاحظهم لا يعتنون باحتمال
مخالفتها للواقع اتفاقا.
وواضح انّ ذلك ليس
ناشئا عن الاحتياط ورجاء إدراك الواقع ، إذ انّه لو كان كذلك لما اعتمدوا عليها في
الموارد الخطيرة كمسائل الدماء والأعراض والاموال الخطيرة والذي يكون الاحتياط في
موردها مقتضيا لعدم الاعتماد على الطرق والامارات الظنيّة مما يعبّر عن انّ منشأ
الاعتماد على الطرق والامارات ليس هو الاحتياط ، كما انّ منشأ الاعتماد لا يمكن ان
يكون هو العلم بمطابقة مؤديات الامارات للواقع ، إذ ان مما لا ريب فيه انّ
الامارات لا تكشف عن الواقع كشفا قطعيا كما يشهد لذلك الوجدان ، وهذا ما يؤكد انّ
المنشأ لتعويلهم على الطرق والأمارات هو انّها بنظرهم كالوسائل العلمية من حيث
غالبية مطابقة مؤدياتها للواقع ، بمعنى انّ هذا الاعتبار العقلائي نشأ عن مبرّر هو
من الاستحكام والإتقان بحيث اقتضى اعتبار الامارات كالوسائل العلمية.
ومن هنا جاء الجعل
التشريعي على أساس صوابية هذا البناء العقلائي ، وهذا ما استفدناه بواسطة الامضاء
، فالامضاء وقع على ما هو البناء العقلائي من الغاء احتمال الخلاف فيما تكشف عنه
الامارة.
* * *
١٨٦ ـ التجرّي
التجرّي هو العمل
على خلاف ما قامت الحجة على تنجّزه ، على ان يكون المتنجّز بالحجة غير مطابق
للواقع وإلاّ فلو طابق الواقع لكان معصية ، فالفرق بين المعصية والتجرّي انّما هو
من حيث مطابقة المتنجّز بالحجة للواقع وعدم مطابقته ، ففي ظرف المطابقة يكون الفعل
المنافي لما عليه الحجة معصية وفي ظرف عدم المطابقة للواقع يكون الفعل المنافي
للحجة تجرّيا.
وبهذا اتضح انّ
التجرّي لا يختص بمورد مخالفة ما يقتضيه القطع ، فهو وان كان أجلى مصاديق التجرّي
إلاّ انّ التجرّي لا يختص به بل يشمل مخالفة كل حكم قام الدليل على تنجّزه على
المكلف ، ومن هنا لو خالف المكلّف ما تقتضيه الامارة المعتبرة أو ما يقتضيه
الاستصحاب مثلا أو الاشتغال أو أجرى البراءة عن الحكم الإلزامي قبل الفحص فإنّه
حينئذ يكون متجريا لو اتفق عدم مطابقة هذه الحجج للواقع.
ثم انّ هنا أمرا
لا بدّ من التنبيه عليه ليتحرّر معنى التجرّي أكثر ، وهو انّ القطع أو الظن
المعتبر انما يكونان قواما لتحقق التجرّي لو انكشف الخلاف انما يكونان كذلك لو
لوحظا على انّهما طريقان لإحراز الواقع ، بمعنى انّ القطع مثلا لم يكن سوى كاشف عن
الواقع وهكذا الظن ، أما لو كان القطع ـ أو الظن ـ موضوعيا بمعنى أخذه موضوعا أو
جزء موضوع للحكم
بحيث يكون مساهما
في توليد الحكم لا الكشف عنه ـ كما هو في القطع الطريقي ـ فإنّ التجرّي لا يكون
حينئذ متصورا حتى مع انكشاف منافاة القطع للواقع.
فلو قال المولى :
إذا قطعت بأن هذا الحكم ليس شرعيا فيحرم عليك اسناده للشارع ، فلو قطع المكلف بذلك
ومع ذلك أسند الحكم للشارع فإنّه يكون عاصيا حتى لو انكشف انّ هذا الحكم مطابقا
للواقع ، فإن مطابقته للواقع لا ينفي عن المكلّف المعصية ويصيّره متجريا ، وذلك
لأن حرمة الإسناد انّما هي مترتبة على القطع وهو متحقق وجدانا كما هو الفرض وعليه
تكون حرمة الاسناد ثابتة واقعا وعدم مطابقة المقطوع للواقع لا ينفي موضوعية القطع
للحرمة ، وهكذا الكلام في الظن اذا كان موضوعيا.
وبهذا اتضح انّ
القطع الموضوعي والظن الموضوعي وكذلك الاحتمال الموضوعي مما يترتب على مخالفتهما
المعصية حتى لو لم يكن متعلقها مطابقا للواقع ، فالتجري انما يتصور في القطع والظن
الطريقيين.
ثم انّ هنا حالة
وقع الكلام في انّها داخلة تحت عنوان التجرّي أو انّها خارجة عنه. وهذه الحالة هي
ما لو قامت الامارة أو المؤمن الشرعي على اباحة شيء فمن الواضح انحفاظ احتمال
منافاة الاباحة للواقع فلو انّ المكلّف ارتكب هذا الفعل برجاء ان يكون حراما واقعا
، اي انّ الدافع من ارتكاب الفعل المباح ظاهرا هو رجاء ان يكون محرما في نفس الأمر
والواقع.
مثلا : لو قامت
البينة على انّ هذا المائع خلّ فشربه المكلّف برجاء أن يكون خمرا ، فهل انّ هذا
المكلّف الجسور على المولى جلّ وعلا يعدّ متجريا وانّ الفعل الذي ارتكبه
متجرى به أو لا؟
ذهب المحقق
النائيني رحمهالله الى انّ هذا المكلّف متجر ، ومن هنا يكون مشمولا للأحكام المترتبة
على المتجري ، وعلّق السيد الصدر رحمهالله على دعوى المحقق النائيني رحمهالله بأنّ التجرّي اذا كان بالإضافة الى نفس الفعل فدعوى المحقق
النائيني رحمهالله ليست تامة ، وذلك لافتراض انّ الفعل الذي ارتكبه مؤمّن عنه
شرعا ، وان كان التجرّي بلحاظ ما عليه المكلّف من خبث نفساني من حيث رغبته فيما
يسخط المولى جلّ وعلا يكون ما أفاده المحقق النائيني تاما ويكون المكلف في الفرض
متجريا على حدود الحق المولوي والمقتضي لعدم التعرّض لإسخاط وانتهاك حرمة المولى
جلّ وعلا.
* * *
١٨٧ ـ التجزّي
وقد عرّف الاجتهاد
بنحو التجزّي بأنّه الاقتدار على استنباط بعض الاحكام دون بعض ، وذلك في مقابل
الاجتهاد المطلق فإنّ الواجد له يقتدر على استنباط تمام الاحكام على اختلاف
أبوابها وتفاوتها من حيث الصعوبة والسهولة وابتناؤها على مقدمات كثيرة أو قليلة.
والبحث عن
الاجتهاد بنحو التجزّي يقع في جهتين : الجهة الاولى في امكانه ، والجهة الثانية في
حكم المتجزي :
أما
الجهة الاولى : فهي مورد خلاف
بين الأعلام حيث ذهب بعضهم الى استحالة التجزي وذهب صاحب الكفاية رحمهالله الى وجوبه عقلا ، وأما المعروف بين الاصوليين فهو الإمكان.
أما القائلون
بالاستحالة فاستدلّوا على ذلك بأنّ الاجتهاد ملكة يقتدر بها المجتهد على استنباط
الاحكام أمر بسيط غير قابل للتجزئة ، فإمّا ان
يكون المكلّف
متوفرا عليها فهو حينئذ مجتهد مطلق وإلاّ فليس هو بمجتهد ، ولا برزخ بين الحالتين.
وكذا لو كان المراد من الاجتهاد هو الاقتدار الفعلي وانّه ليس من قبيل الملكة ،
وانما هو استفراغ الوسع لغرض الوصول للنتيجة الشرعية فإنّه غير قابل للتجزؤ
لبساطته.
وأجاب السيد
الخوئي رحمهالله عن هذه الدعوى بأن التجزؤ في الاجتهاد يعني التبعيض في
أجزاء الكلّي لا أنّه التبعيض في أجزاء الكل ، بمعنى انّ الملكة تنحل الى ملكات
بعدد أفراد المسائل فكلّ مسألة يحتاج استنباط حكمها الى ملكة ، لأنّ الملكة أشبه
بالكلّي ويكون الاقتدار على كل مسألة من قبيل الجزئي لذلك الكلّي فهو عينا كعلاقة
أفراد الانسان بطبيعة الإنسان لا كعلاقة المركب بأجزائه.
فنحن وان كنا
نسلّم بأن الملكة أمر بسيط غير قابل للتجزئة إلاّ انّ موضوع هذه الملكة هو كل
مسألة مسألة من المسائل الشرعية ، ولهذا قد يكون المكلّف متوفرا على الملكة في
مسألة لقلة مقدماتها وسهولة الوصول الى نتيجتها ولا يكون واجدا للملكة في مسألة
اخرى لكثرة مقدماتها وصعوبة الوصول الى نتيجتها ، وهذا هو معنى التجزي في الاجتهاد
، وواضح انّ هذا المعنى لا يلزم منه تجزئة الأمر البسيط.
ولا يخفى انّ
المراد من واجدية المكلّف للملكة في بعض المسائل معناه التوفّر على تمام ما يتصل
بالمسألة وإلاّ لم يكن واجدا لملكة الوصول لنتيجتها ، فمثلا : واجدية المكلّف
لملكة الاجتهاد في مسألة حرمة لحم الأرنب معناه التوفّر على مجموعة من المقدمات ،
منها انّ له رأيا عن علم بحجيّة خبر الثقة وحجيّة الظهور وان النهي ظاهر في الحرمة
وان الرواية معتبرة سندا وانه ليس لها معارض او
انّ معارضها ساقط
عن الحجيّة أو انّه مرجوح جهة أو مضمونا وهكذا سائر ما يتصل بالمسألة ، ولهذا لا
يبعد تداخل المسائل في الجملة من حيث انّ الاقتدار على بعضها اقتدار على البعض
الآخر. وبهذا اتّضح مدرك القائلين بامكان التجزي في الاجتهاد.
وأما ما ادعاه
صاحب الكفاية رحمهالله من انّ التجزّي في الاجتهاد ضروري الوقوع قبل الوصول
لمرحلة الاجتهاد المطلق فمنشؤه ما ذكره من استحالة الطفرة ، ولذلك لا بدّ وان يمر
المجتهد بمرحلة التجزي قبل الوصول لمرحلة الاجتهاد.
وأجاب عنه السيد
الخوئي رحمهالله بأن الاجتهاد في كلّ مسألة لا يتصل بالاجتهاد في مسألة
اخرى ، وعليه يمكن عقلا ان يتوفر المكلّف على ملكات المسائل في عرض واحد ولو بنحو
الإعجاز ، ولا يلزم من ذلك الطفرة بعد ان كانت ملكات الاقتدار على المسائل مستقلة
وعرضية ، نعم لا يتفق عادة حصول الملكة والاقتدار على كل المسائل في عرض واحد ،
فلو كان صاحب الكفاية رحمهالله يقصد من الوجوب الوجوب العادي فكلامه تام إلاّ انّ
المستظهر من كلامه ينافي أن يكون هذا مقصوده ، وذلك لاستدلاله على الوجوب باستحالة
الطفرة.
وأما
الجهة الثانية : فالبحث فيها يقع عن ثلاث مسائل :
المسألة
الاولى : في جواز عمله
برأيه في المسائل التي يتمكن من الوصول لنتائجها. وقد بنى جمع من الأعلام كالسيد
الخوئي رحمهالله على جواز استقلاله في العمل برأيه وانّ رجوعه الى غيره في
المقدار الذي استنبطه عن علم وملكة يكون من رجوع العالم الى مثله ، وهو غير جائز ،
لأنّه في موارد الاختلاف يحرز انّ ما عليه المجتهد الآخر خطأ وغير مطابق للواقع ،
وفي موارد الاتفاق لا يكون ثمة مسوغ
شرعي للرجوع
للمجتهد الآخر ، وذلك لأنّ أدلة جواز التقليد قاصرة عن الشمول لمثله في ذلك
المقدار الذي تمكن من الوصول لنتائجه.
المسألة
الثانية : في جواز رجوع
الغير له في الموارد التي هو مجتهد فعلا فيها. وقد تبنى السيد الخوئي رحمهالله عدم الجواز ، وذلك لقصور أدلة جواز التقليد عن الشمول لهذا المورد ، فإنّ
الظاهر من الأدلة ترتيب جواز التقليد على المجتهد المطلق والذي هو العارف بمقدار
كبير ومعتد به من الأحكام الشرعية ، كما هو المستظهر من عنوان الفقيه وأهل الذكر
والعارف بالأحكام.
وأما السيرة
العقلائية الجارية على الرجوع للعالم في المقدار الذي يعلمه وان كان يجهل مقدارا
آخر كما هو الحال في الطبيب الذي لا يعلم بسوى جهة خاصة من الطبابة. فإنّ هذه
السيرة وان كانت مسلّمة إلاّ انّ ثبوت حجية السيرة العقلائية منوط بامضاء الشارع
لها ، وهو غير محرز في المقام خصوصا مع ملاحظة ما هو المستظهر من أدلة جواز
التقليد والتي رتبت جوازه على صدق عنوان العارف بالأحكام والفقيه ، وهو غير صادق
على المتجزّي والذي لا يعلم بسوى مقدار محدود من الأحكام.
المسألة
الثالثة : في جواز تصدّي
المتجزّي للقضاء بناء على القول بلزوم التوفر على ملكة الاجتهاد في المتصدي لهذا
المنصب. وهنا أيضا تبنّى السيد الخوئي رحمهالله عدم الجواز ، وفي المقابل تبنى البعض الجواز فيما لو كان
المتجزي مجتهدا في مقدار معتد به من الأحكام على ان يكون منها المسائل المتصلة
بالقضاء.
واستدلّ السيد
الخوئي رحمهالله على عدم الجواز
بقصور أدلة جواز التصدّي للقضاء عن الشمول للمتجزّي ، فإنّها رتبت جواز القضاء على
العالم والعارف بالاحكام.
١٨٨ ـ تحقيق المناط
قد أوضحنا المراد
من المناط تحت عنوان تنقيح المناط وخلصنا هناك إلى أنّ المراد من المناط هو العلّة
، وذلك لإناطة الشارع الحكم بها. بمعنى أنّ الشارع إنّما جعل الحكم على موضوع بسبب
اشتماله على علّة أوجبت ذلك.
وما يهمّنا في
المقام هو بيان المراد من عنوان تحقيق المناط ، وقد ذكر له معنيان :
الأوّل : هو التحقّق من اشتمال موضوع من الموضوعات على مناط حكم
ثابت لموضوع آخر بالنصّ أو الإجماع.
بمعنى أنّ المجتهد
بعد أن يقف على مناط حكم لموضوع ثبت بواسطة النصّ أو الإجماع يسعى للتحقّق من وجود
ذلك المناط في موضوع آخر ، وحينما يتحقّق من اشتمال ذلك الموضوع على المناط يسرّي
ذلك الحكم المنصوص على مناطه إلى الموضوع الآخر الواجد لنفس ذلك المناط.
ومثاله الحكم
بوجوب قطع يد السارق ، فإنّ مما لا ريب فيه أنّ المناط في ذلك نصّا أو إجماعا هو
السرقة ، فهي منشأ الحكم بوجوب قطع يد المتلبّس بها ، وعندئذ لو وقع البحث عن
إيجاب قطع يد النابش للقبر فإنّ ذلك يكون بحثا عن اشتمال النبش على مناط الحكم
بوجوب القطع فإن وجد أنّ النبش للقبر مشتمل على مناط وجوب القطع فإنّه بذلك يحكم
بوجوب قطع يده.
فوجوب قطع يد
النابش ثبت بواسطة تحقيق المناط ، والعمليّة الاجتهاديّة التي مارسها المجتهد في
الفرض المذكور تتمحّض في التحقّق من اشتمال نبش القبر على مناط الحكم المنصوص أو
المحرز بواسطة الإجماع.
الثاني : هو التحقّق من مصداقية بعض الأفراد للموضوع الكلّي
المنصوص أو المجمع
على حكمه ، فالعمليّة الاجتهاديّة هنا تتمحّض في تشخيص أفراد الموضوع الكلّي
المجعول عليه الحكم. ومثاله قوله تعالى : ( فَجَزاءٌ مِثْلُ ما
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) فالآية الشريفة توجب التكفير بواحد من الأنعام الثلاثة على
المحرم عند ما يقدم على قتل واحد من الحيوانات على أن يراعي في التكفير المماثلة
بين الحيوان المقتول وبين ما يكفّر به من النعم.
فالمماثلة هنا
موضوع كلّي جعل عليه الحكم بوجوب التكفير ولم تتصدّ الآية لبيان مصاديق ذلك
الموضوع ، لذلك لو اتّفق أنّ قتل المحرم حمارا وحشيّا فإنّ على المجتهد تحديد ما
يجب على المحرم التكفير به من الأنعام ، هذا النحو من التحديد هو ما يعبّر عنه
بتحقيق المناط.
فتحقيق المناط
يعني الاجتهاد في تشخيص أفراد الموضوع الكلّي المجعول عليه الحكم.
ويمكن أن نعرّف
تحقيق المناط بالمعنى الثاني ببيان آخر ، وهو الاجتهاد في تحديد صغريات قاعدة
شرعيّة كلّيّة منصوص عليها أو مجمع على ثبوتها في الشريعة ، ومثاله : ( كلّ شيء لك
حلال حتّى تعلم أنّه حرام ) فعند ما تشكّ في حرمة نوع من الطعام ولا تجد دليلا
محرزا على حرمته فإنّه يكون مصداقا لهذه القاعدة وصغرى لهذه الكبرى الكلّيّة.
والمعنى الأوّل من
تحقيق المناط من أقسام القياس الفاقد للحجّيّة بنظر الإماميّة وذلك لأنّ القطع
بالمناط لا يصحّح تسرية الحكم من موضوعه إلى موضوع آخر بعد عدم القطع باشتمال
الموضوع الآخر على مناط الحكم في الموضوع الأوّل ومجرّد الظن لا يغني من الحقّ
شيئا.
نعم لو قطع
المجتهد باشتمال الموضوع الآخر على مناط الحكم في
الموضوع الأوّل
فإنّ ذلك يصحّح تسرية الحكم منه إلى الموضوع الآخر إلاّ أنّ ذلك غير متاح غالبا
لاحتمال أنّ لخصوصيّة الموضوع الأوّل دخل في ثبوت الحكم ، وحينئذ تكون تسرية الحكم
من الاجتهاد الظنّي الفاقد للاعتبار.
وقد تبيّن ممّا
ذكرناه أنّ تحقيق المناط بالمعنى الأول لم يشترط في تصحيح التعدّي القطع بواجديّة
الموضوع الآخر لمناط الحكم في الموضوع الأوّل بل إنّه لو كان ثمّة قطع بذلك فإنّه
لا نحتاج إلى الاجتهاد في تحقيق المناط ، فهذا الفرض خارج عن تحقيق المناط بالمعنى
الأوّل.
وأمّا المعنى
الثاني لتحقيق المناط فهو وإن عدّ من أقسام القياس إلاّ أنّ الواقع أنّه ليس منه
أو لا ينبغي أن يكون منه لأنّه لا يزيد على تطبيق الموضوع على مصاديقه المحرز
أنّها من مصاديقه ، ومع الشكّ في ذلك أي في مصداقية فرد للموضوع الكلّي فإنّ
القاعدة الكليّة لا تتكفّل إثبات مصداقيّة ذلك الفرد للقاعدة بل لا بدّ من إحراز
ذلك بقطع النظر عن القاعدة ، فلو كان الخطاب الشرعي هو وجوب إكرام العلماء فإنّ
هذا الخطاب لا يتكفّل إثبات أنّ زيدا من العلماء وأنّ بكرا ليس منهم.
* * *
١٨٩ ـ تخريج المناط
المراد من عنوان
تخريج المناط هو استنباط علّة الحكم من خطاب شرعي لم يتصدّ لبيان العلّة وإنّما
يحدسها المجتهد حدسا ويرتّب على ذلك تعدية الحكم لموضوع آخر لاشتماله على العلّة
المستنبطة.
ويمثّل لذلك عادة
بتحريم الربا في البرّ وهذا الخطاب لم يتصدّ لبيان مناط الحرمة ولكنّ المظنون أنّ
المناط هو أنّ البرّ من المكيل لذلك تثبت حرمة الربا لمطلق المكيل.
وبما ذكرنا يتّضح
منشأ التعبير عن هذا النحو من الاجتهاد بتخريج المناط ، إذ أنّ المجتهد يتصدّى
بنفسه لاستخراج المناط من الحكم الثابت لموضوع منصوص. دون أن يعتمد في ذلك على نصّ
صريح أو حتّى غير صريح. وهذا بخلاف تنقيح المناط فإنّ المجتهد يعتمد في استنباطه
للعلّة على ملاحظة النصّ كما أوضحنا ذلك في محلّه.
وعلى أيّ حال فإنّ
هذا النحو من الاجتهاد فاقد للحجّيّة بنظر الإماميّة لأنّه لا يعدو الظنّ بالمناط
والذي لا يغني من الحق شيئا. نعم قد يقتضي الفهم العرفي إلغاء خصوصيّة الموضوع
إلاّ أنّ ذلك يكون من الاستظهار الذي قام الدليل القطعي على حجّيّته.
* * *
١٩٠ ـ التخصّص
هو الخروج
الموضوعي عن موضوع الحكم ، فكلّ موضوع مغاير لموضوع الحكم فخروجه عن موضوع الحكم
بالتخصّص.
مثلا : الدليل
المستفاد منه حرمة الغناء لا يشمل الحداء ، وذلك للتباين بين مفهوم الحداء ومفهوم
الغناء ، ولهذا يقال انّ خروج الحداء عن موضوع الحرمة بالتخصص ، وهذا بخلاف الغناء
للعرائس فإنّ خروجه عن دليل الحرمة بالتخصيص ، أي بإخراج بعض أفراد الموضوع عن حكم
الموضوع فلو لا الإخراج لكان ذلك الفرد مشمولا لحكم الموضوع.
والتعرّف على
الخروج الموضوعي لا يناط بالخطاب الشرعي بل هو منوط بمعرفة حدود موضوع الحكم ،
وعندئذ يترتب على ذلك عدم شمول الحكم لكلّ ما هو خارج عن حدود الموضوع ، إذ انّ
الأحكام تابعة لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء ، ولمّا كان موضوع الحكم منتفيا وغير صادق
على الموضوعات الخارجة عن
حدوده فهذا يقتضي
انتفاء الحكم الثابت للموضوع عنها.
ولهذا لا نحتاج في
الخروج الموضوعي الى تحرير الموضوعات الاخرى بل يكفي إحراز حدود الموضوع ، فكل ما
هو خارج عن الحد لا يكون مشمولا للحكم ويكون خروجه بالتخصص. راجع عنوان « الورود ».
* * *
١٩١ ـ التخصيص
وهو عبارة عن
اخراج بعض أفراد موضوع الحكم العام بواسطة القرينة الدالة على ذلك ، فلو لا
القرينة لكان الحكم العام الواقع على الطبيعة شاملا لتلك الأفراد. فالتخصيص كالتقييد
، غايته ان التخصيص يطلق في حالات إخراج بعض أفراد موضوع الحكم العام والذي ثبت
عمومه بواسطة الوضع.
ثم انّ التخصيص
تارة يكون بنحو التخصيص المتصل واخرى يكون بنحو التخصيص المنفصل ، وكلاهما ينقسم
الى قسمين ، فتارة يكون التخصيص بمخصص لفظي واخرى يكون بمخصص لبّي.
* * *
١٩٢ ـ التخصيص بالمتصل
وهو عبارة عن
إخراج بعض أفراد الطبيعة عن حكم العام بواسطة القرينة المتصلة بالكلام الدال على
العموم ، ولا ريب في تقديم المخصص على العموم ، وانما الكلام عمّا هو الوجه
الصناعي لهذا التقديم.
وقد صنّف السيد
الصدر رحمهالله التخصيص بالمتصل الى ثلاثة أقسام :
القسم
الاول : ان يكون
المخصّص المتصل واقعا في اطار الطبيعة المدخولة لأداة العموم ، فيكون المخصص من
توابع القضية المدخولة لأداة العموم ، فلا هو كلام مستأنف
متصل بالكلام
الدال على العموم ولا هو من أركان القضية الدالة على العموم ، وهذا ما يعبّر عنه
بالفضلة في اصطلاح النحاة ، كوصف الطبيعة المدخولة للعموم أو تمييزها أو نصب حال
لها وهكذا.
ومثاله : ان يقال
: « أكرم كل العلماء العدول » أو يقال : « أكرم كل أعلم فقها واصولا » أو « أكرم
كل العلماء زاهدين في الدنيا » ، فالاول نعت والثاني تمييز والثالث حال.
وهنا يكون التقديم
على أساس انّ موضوع الحكم العام واقعا ليس هو الطبيعة المدخولة للأداة فحسب بل انّ
موضوع الحكم العام هو مجموع الطبيعة والمتصل بها من نعت أو حال ، وبتعبير آخر ان
موضوع الحكم روحا هو الطبيعة المتحيثة بالنعت أو التمييز وليس هو الطبيعة على
سعتها.
وواضح انّ ذلك لا
يؤثر على افادة الأداة للعموم ، إذ انّ مفادها هو عموم مدخولها ، والمقام يكون
مدخولها هو الطبيعة مع ملاحظة القيود المذكورة لها ، ومن هنا تكون دائرة العموم من
أول الامر مختصة بالطبيعة المتحيثة بتلك القيود ، وتكون الأفراد الخارجة ـ عن
الحكم الثابت للطبيعة ـ خارجة حتى في مرحلة المدلول التصوري فضلا عن المدلول
الاستعمالي والجدّي.
واذا صحّ ان نطلق
على هذا القسم عنوان التخصيص بالمتصل فهو بمعنى تضييق دائرة الطبيعة المدخولة
للأداة من أول الأمر.
القسم
الثاني : التخصيص بنحو
الاستثناء ، وهو بطبيعته تكملة للقضية المثبتة أو المنفيّة ويقتضي حكما منافيا
للحكم الثابت او المنفي عن المستثنى منه فهو إفراز لبعض أفراد المستثنى منه بحكم
مستقل عن حكم المستثنى منه ، وهذه الأفراد هي المعبّر عنها بالمستثنى.
وواضح انّه في
حالات الاستثناء ـ اذا كانت الطبيعة مدخولة لأداة العموم ـ يكون الحكم الثابت
للمستثنى منه منعقدا في العموم ولو بدوا ويكون مجيء أداة الاستثناء موجبا لنفي هذه
الدلالة على العموم ، لأنّه يقتطع جزء من الطبيعة المدخولة للعموم ويفرد لها حكما
منافيا للحكم الثابت للطبيعة في عقد المستثنى منه ، وهذا ما يوجب التنافي البدوي
في داخل الجملة الاستثنائية إلاّ انّ هذا التنافي لا يبقى طويلا ، إذ يتنقح عند
المتلقي للجملة الاستثنائية دلالة ثانية مستلهمة من سياق مجموع الجملة ، هذه
الدلالة السياقية هي الموجبة لرفع التنافي الواقع بين عقد المستثنى منه وعقد المستثنى
وكأنّه لا تنافي أصلا وانّما هو نحو من التفنّن في الكلام ، الغرض منه ابراز حكمين
أحدهما ثابت لمدخول أداة العموم والآخر ثابت لمدخول أداة الاستثناء ، ويستقر
المتلقي على هذه الدلالة ، وهذا هو مبرّر الالتزام بتقديم التخصيص بالمتصل في مثل
هذه الحالة.
وبتعبير آخر : انّ
موضوع الحجيّة للظهور هو الدلالة النهائية للكلام ، إذ لا معنى للتمسّك بما ينقدح
بدوا من الكلام قبل تمامه ، ولما كانت الحالة السياقية القاضية بتضييق موضوع الحكم
المدخول لأداة العموم واعطاء حكما منافيا للافراد المقتطعة عن الطبيعة هي الدلالة
الاخيرة المستفادة من تمام الكلام فهذا يقتضي ان تكون الحجية ثابتة لهذا المقدار
من الدلالة.
القسم
الثالث : التخصيص بجملة
مستأنفة إلاّ انّها متصلة بالجملة الاولى الدالة على العموم ، على ان تكون النسبة
بين موضوع حكم العام وموضوع حكم المخصص هي نسبة العموم والخصوص المطلق.
ومثاله : ما لو
قال المولى : « أكرم كل العلماء ولا تكرم العالم الفاسق ».
وفي هذا القسم
بذلت محاولات
عديدة لإبراز
المبرّر الفنّي لتقديم هذا النحو من المخصص على العام. منها ما ذكرناه في القسم
الثاني. ومنها دعوى أظهرية الخاص على العام ، فيكون التقديم بملاك تقديم الأظهر
على الظاهر. ومنها ما ذكره السيد الخوئي رحمهالله ، وحاصله :
انّ التمسّك
بأصالة الظهور في الإرادة الاستعمالية وكذلك الإرادة الجدّية انّما هو في ظرف الشك
في مراد المتكلم ، أما مع إحراز عدم إرادة المتكلم لظاهر كلامه في مرحلة المدلول
الاستعمالي أو الجدّي فإنّه لا معنى للتمسك بالظهور التصوري وترتيب الأثر على
مقتضاه ، إذ انّ موضوع الحجيّة انّما هو المراد الجدّي كما هو مقتضى البناء
العقلائي ، ومتى أحرزنا عدم الإرادة الجدّية للظهور التصوري فإنّ العقلاء لا
يرتبون الأثر على ذلك الظهور التصوري الوضعي ، نعم البناء العقلائي قاض بأصالة
التطابق بين الظهور التصوري والظهور الاستعمالي والجدّي في ظرف الشك في الإرادة
الاستعمالية والجديّة ، ويعبّر عن هذا الأصل العقلائي في الإرادة الاولى بأصالة
الحقيقة وفي الثانية بأصالة الجهة أو الجد ، وهم انما يلجئون الى هذين الأصلين في
ظرف الشك في المراد.
ومع اتضاح هذه
المقدمة نقول : انّ العموم إذا اكتنف بقرينة قطعية على عدم الإرادة الاستعمالية
والجدية للعموم فإنّه لا معنى للتمسك بالعموم اعتمادا على الظهور التصوري المستفاد
بواسطة الوضع ، إذ لا مبرّر لذلك بعد إحراز عدم الإرادة ، واللجوء الى اصالة
الحقيقة وأصالة الجهة والجد انّما هو في ظرف الشك والفرض انّه لا شك بعد ان كانت
القرينة مفيدة للقطع بعدم المراد ، وهكذا الكلام لو كانت القرينة ظنية إلاّ انّه
قام الدليل القطعي على حجيتها ، كما لو كانت خبر ثقة ، فهي
قرينة قطعية ثابتة
بواسطة التعبّد ، غايته انّ تقدم القرينة القطعية يكون بالورود ، وأما التقدم
بالقرينة الظنية يكون بالحكومة.
والمراد من ذلك
انّ الحجيّة الثابتة للعموم انّما هي في ظرف الشك من جهة انّه مراد جدا أو لا ،
فإذا قامت القرينة القطعية فإنّها تلغي موضوع الحجيّة حقيقة ، فلا موضوع لثبوت
الحجيّة للعموم ، إذ انّ موضوعها الشك في إرادة العموم ولا شك عند قيام القرينة
القطعية بل هو قطع بعدم إرادة العموم.
وأما القرينة
الظنية فإنّها لا تلغي الشك في إرادة العموم وجدانا إلاّ انّها تلغيه تعبدا ، وهذه
هي الحكومة المتصرفة في عقد الوضع « أي الموضوع ».
ومن هنا يتقدم
المخصص على العموم بالحكومة ، بمعنى انّ دليل حجية المخصص حاكم على دليل حجية
العام.
* * *
١٩٣ ـ التخصيص بالمخصّص
اللبّي
والمراد من المخصص
اللبّي هو دليل معتبر غير لفظي تكون علاقته بالعموم علاقة العموم والخصوص المطلق
مثل الإجماع والدليل العقلي والسيرة العقلائية والمتشرعية.
وتقديم المخصّص
اللبّي ـ لو تمت دليليته وأخصيته ـ على العام لم يقع محلا للإشكال. وأما الوجه
الصناعي لذلك فيمكن تعدية بعض المحاولات المذكورة في تقديم المخصص المتصل وكذلك
المنفصل. كمحاولة السيد الخوئي رحمهالله التي ذكرناها في القسم الثالث من أقسام المخصص المتصل.
ثم انّ المخصص
اللبّي قد يكون في قوة المخصص المتصل وقد يكون في قوة المخصص المنفصل ، فلو كان
المخصص اللبّي من قبيل الدليل العقلي الذي هو من الوضوح بحيث لا ينعقد معه ظهور في
العموم إلاّ بعد تحيّث
مدخول أداة العموم
بغير المخصص فهو في قوة المخصص المتصل ، ولو لم يكن كذلك فهو في قوة المخصص
المنفصل والذي ينعقد معه ظهور في الإرادة الاستعمالية للعموم.
* * *
١٩٤ ـ التخصيص بالمنفصل
وهو عبارة عن
إخراج بعض أفراد الطبيعة عن حكم العام بواسطة القرينة المنفصلة عن الكلام الدال على
العموم ، ومثاله : لو قال المولى : « أكرم العلماء » ثم في مجلس آخر قال : « لا
تكرم العلماء الفساق ».
وهنا ذهب صاحب
الحدائق رحمهالله الى انّ المرجع هو أحكام باب التعارض ، وذكر هذا العلاج
صاحب الكفاية رحمهالله بنحو الاحتمال ، والمعروف بين العلماء هو تقديم المخصص
المنفصل على العام إلاّ انّهم اختلفوا في توجيه ذلك صناعيا.
وتبنّى السيد
الخوئي رحمهالله نفس التقريب المذكور في المخصص المتصل من القسم الثالث ،
وذكر البعض انّه لا فرق بين المخصص المتصل والمخصص المنفصل بعد ان تعارف عن المشرع
الإسلامي اعتماد القرائن المفصلة في مقام بيان مراداته ، وعليه لا بدّ من ان يعامل
المخصص المنفصل وكأنّه متصل بالكلام ، ويكون تحديد المراد من الخطاب الشرعي بعد
الجمع بين القرينة وذي القرينة ، ولا يصح التعويل على العموم ابتداء.
* * *
١٩٥ ـ التخطئة والتصويب
المراد من التخطئة
ـ اجمالا وسيأتي ايضاحها ـ ان الأحكام التي يصل اليها المجتهد بواسطة بذل الوسع
والتنقيب في الأدلة ليس من الضروري ان تكون جميعها متطابقة مع الواقع ، فقد يكون
الحكم الذي وصل اليه المجتهد مصيبا للواقع وقد يكون مخطئا للواقع.
فالتخطئة تعني
امكان ان لا يطابق ما وصل اليه المجتهد ما عليه الواقع أي إمكان ان يخطئ المجتهد
الواقع. وأما التصويب فهو يعني صوابية كل ما يصل اليه المجتهد من أحكام.
ولكي يتضح المراد
من التخطئة والتصويب أكثر لا بأس بذكر تمهيد أفاده السيد الخوئي رحمهالله ، وحاصله :
انّ الامور
الواقعية لا يمكن ان تنقلب عما هي عليه ، من غير فرق بين ان تكون من قبيل الجواهر
والاعراض أو ان تكون من قبيل الامور العقلية الثابتة كالمدركات العقلية النظرية أو
العملية ، فهي امور ثابتة في نفس الأمر والواقع أدركها مدرك أو لا ، كما انّها لا
تتغيّر بالاعتبار ، فالموجود واقعا لا يكون معدوما بالاعتبار كما انّ المعدوم لا
يكون موجودا بالاعتبار ، كما انّ القطع بوجود شيء لا يصيّره موجودا لو كان ذلك
الشيء في نفس الأمر والواقع معدوما.
ومن هنا لا يتعقل
التصويب في الامور الواقعية وإلاّ لزم اجتماع الضدين أو النقيضين ، فلو كان شخص
يقطع بوجود شيء والآخر يقطع بعدمه فإنّ القول بصوابية كلا القطعين معناه اجتماع
النقيضين ، وهكذا لو قطع شخص بوجود الليل وقطع آخر بأن الوجود فعلا للنهار فإنّ
افتراض صوابية القطعين معناه اجتماع الضدين ، فلا بدّ من ان يكون أحدهما مخطأ
للواقع.
وهذا المقدار لا
إشكال فيه ولا خلاف وانّما الخلاف في الامور الاعتبارية كالاحكام الشرعية ، فهل هي
كالامور الواقعية بحيث لا يمكن أن يكون الحكمان المتخالفان الواردان على موضوع
واحد من جهة واحدة مصيبين بل لا بدّ من خطأ أحدهما ، أو انّ الحال في الامور
الاعتبارية يختلف عن الامور الواقعية ، فمن الممكن أن
يكون كلا الحكمين
مصيبين للواقع بل انّ ذلك هو المتحقّق خارجا.
والاول هو المعبّر
عنه بالتخطئة والثاني هو المعبّر عنه بالتصويب ، والقول بالتخطئة هو مذهب الامامية
، وأما القول بالتصويب فهو مذهب جمع من الاشاعرة والمعتزلة على خلاف بينهما ،
سيأتي ايضاحه تحت عنوان « التصويب الاشعري » و « التصويب المعتزلي ».
ومنشأ القول
بالتخطئة عند الامامية هو ما ثبت بالنصوص الشرعية انّ لله عزّ وجل في كل واقعة حكم
، وأنّ أحكام الله عزّ وجل تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، وبهاتين
المقدمتين يثبت القول بالتخطئة ، وذلك لأن الاحكام إذا كانت تابعة للمصالح
والمفاسد في متعلقاتها ، مثل الحج والصلاة والصوم فإنّ منشأ ايجابها هو ما تشتمل
عليه من مصالح واقعية ، وكذلك مثل شرب الخمر وأكل الميتة والكذب فإنّ منشأ تحريمها
هو ما تشتمل عليه واقعا من مفاسد.
واذا كان كذلك
فإنّ الاحكام وان كانت امورا اعتبارية إلاّ انّ لهذه الاعتبارات مناشئ واقعية ،
وحينئذ لو صح ان تكون الصلاة واجبة ومحرمة لكان معنى ذلك انّ الصلاة في الوقت التي
هي ذات مصلحة هي ذات مفسدة ، وهذا هو اجتماع الضدين المحال ، على انّه لو سلّم انّ
أحكام الله عزّ وجل ليست تابعة للملاكات الكامنة في متعلقاتها فإنّ التصويب محال
أيضا لاستلزامه اجتماع النقيضين أو الضدين ، وذلك لانّ كل واقعة فلله عزّ وجل فيها
حكم ، فلو صوبنا ما ذهب اليه المجتهد من حرمة شيء وصوبنا ما ذهب اليه المجتهد
الآخر من عدم حرمة ذلك الشيء أو وجوبه لكان معنى ذلك انّ الله عزّ وجل في الوقت
الذي يعتبر انّ هذا الشيء حرام
يعتبره أيضا غير
حرام أو واجبا ، وهذا من اجتماع النقيضين أو الضدين ، إذ انّ المعتبر وان كان غير
واقعي وان وعاءه عالم الاعتبار إلاّ انّ نفس الاعتبار من الامور الواقعية كما هو
واضح ، فلا يصح ان يكون للمولى اعتباران متباينان في عرض واحد ، ولو صح فهو من
العبث الذي يتنزّه عنه المولى جلّ وعلا ، وهذا الجواب الاخير انما يرد على التصويب
الاشعري ـ كما سيأتي.
هذا بالنسبة
للأحكام الواقعية ، وأما بالنسبة للأحكام الظاهرية فتارة يقع البحث عنها من جهة
عالم الجعل واخرى من جهة عالم المجعول المعبّر عنه بالفعلية ، والقول بالتخطئة
انّما هو في عالم الجعل دون عالم المجعول.
وبيان ذلك : انّ
عالم الجعل هو الذي تجعل فيه الاحكام على موضوعاتها المقدرة الوجود ، فالبراءة
مثلا من الاحكام الظاهرية المجعولة على موضوعها المقدر وهو ما لو افترض وقوع الشك
في الحكم الواقعي ، كما انّ الاحتياط كذلك. فهنا لو بنى أحد المجتهدين على انّ
البراءة هي المجعولة في ظرف الشك وبنى آخر على انّ الاحتياط هو المجعول في ظرف
الشك فإن من المستحيل أن يكون كلا المجتهدين مصيبا للواقع وإلاّ لزم اجتماع الضدين
، فلا بدّ وان يكون أحد المجتهدين قد أخطأ الواقع.
وأما مرحلة
الفعلية فلا يتعقل فيه إلاّ التصويب ، وذلك لأنّ مرحلة الفعليّة تعني تحقق الموضوع
خارجا ، وعندئذ يكون المكلف مسئولا عن ترتيب الحكم ، ولا مجال للتردد في مثل هذا
الظرف ، فالمكلّف الذي كان يبني على البراءة في ظرف الشك تكون وظيفته البراءة متى
ما تحقق الشك وتكون وظيفة من يبني على الاحتياط هي الاحتياط ، ولا معنى للخطإ في
هذه الحالة ، إذ انّ هذه الحالة ليست
أكثر من ترتيب
الحكم المتبنّى على موضوعه المتحقّق قطعا ، فهو مصيب فيما هي الوظيفة الفعلية في
حقه ، واحتمال الخطأ والصواب انّما هو في عالم الجعل ، وحتى لو تغيّر رأيه فيما هي
الوظيفة في ظرف الشك وبنى على الاحتياط بعد ان كان يبني على البراءة فإنّه لم يكن
مخطئا في الجريان على البراءة سابقا ، إذ انّه رتبها على موضوعها ، غايته انّه كان
مخطئا في البناء على البراءة وانّ الواقع لم يكن كذلك.
وبتعبير آخر : لا
يقال لمن شرب العصير العنبي بانيا على البراءة انّه لا ينبغي له أن يشربه ، نعم
يصح ان يقال انّه لا ينبغي له البناء على البراءة ، لأنّ الواقع هو لزوم البناء
على الاحتياط في ظرف الشك.
فالتخطئة انما
تتعقل في مرحلة الجعل لا مرحلة المجعول.
* * *
١٩٦ ـ أصالة التخيير
وهو من الاصول
العملية العقلية ، ومجرى هذا الاصل هو حالات العلم الإجمالي الذي يتعذر معه
الاحتياط ، كموارد دوران الامر بين المحذورين مثل دوران الامر بين الوجوب والحرمة
، وسيأتي تفصيل هذا البحث بما يناسب الغرض ان شاء الله تعالى تحت عنوان « دوران
الامر بين المحذورين ».
* * *
١٩٧ ـ التخيير الشرعي
والعقلي
المراد من التخيير
بين شيئين أو أشياء هو جعل المكلّف في سعة من جهة اختيار أحد البدائل الواقعة
متعلقا للأمر.
ويقصدون من
التخيير الشرعي هو التخيير الذي تصدّى الشارع للنص عليه وعلى أطرافه ، كما في
التخيير بين خصال
الكفارة والتخيير بين الخبرين المتعارضين المستفاد بواسطة روايات العلاج.
وأما التخيير
العقلي فهو الذي تتم استفادته بواسطة العقل كما في حالات ايقاع الأمر على الطبيعة
بنحو الاطلاق البدلي وكما في حالات التزاحم بين المتساويين.
وسيأتي مزيد توضيح
وتعميق للفرق بين التخييرين تحت عنوان « الواجب التخييري ».
* * *
١٩٨ ـ التخيير العقلي
الشرعي
هو الذي عبّر عنه
السيد الخوئي رحمهالله بالتخيير العقلي الثابت بضميمة الدليل الشرعي ، ومراده
انّه لو ورد خطاب شرعي ودار الأمر بقرينة خارجية بين سقوط أصل الخطاب وسقوط اطلاقه
المقتضي للتعيين فإنّ المتعين هو سقوط الاطلاق ، لأنّه القدر المتيقن من القرينة
الخارجية ، إذ انّها لا تقتضي أكثر من ذلك.
وبتعبير آخر : لو
دار الأمر بين سقوط الحكم وسقوط تعيّنه فإنّ العقل يحكم بسقوط التعيّن دون أصل
الحكم ، لأنه القدر المتيقن.
ومثاله لو ورد
خطاب شرعي مفاده وجوب صلاة الجمعة ، وكان مقتضى اطلاقه هو الوجوب التعييني ، وورد
خطاب آخر مفاده وجوب صلاة الظهر ، وكان مقتضى اطلاقه هو الوجوب التعييني ، ودلّت
القرينة الخارجية على عدم وجوب الصلاتين تعيينا ، فاما أن يكون الوجوب ساقط عنهما أو
يكون الوجوب ثابت لهما تخييرا والاول يقتضي سقوط الخطابين رأسا ، والثاني يقتضي
سقوط الاطلاق ـ المقتضي للتعيين ـ عن كلا الخطابين ، وهنا يكون القدر المتيقن هو
سقوط الاطلاق ، إذ القرينة لا تستوجب سقوط كلا الخطابين ،
نعم هي لا تقتضي
التخيير أيضا إلاّ انّه القدر المتيقن من مفاد القرينة بعد دوران مفادها بين سقوط
الخطابين وعدم سقوط كلا الخطابين بواسطة ثبوت الوجوب لهما تخييرا.
وذكر السيد الخوئي
رحمهالله مثالا آخر نذكره ليتّضح المراد أكثر ، وحاصله :
انّه لورود خطاب
شرعي عام وكان له اطلاق احوالي إلاّ انّه قامت القرينة الخارجية على خروج فردين من
العموم ، الاّ انّ القرينة لا تتكفل ببيان نحو خروجهما ، وهل وانهما خارجان عن
العموم مطلقا أو انّ خروجهما عن حكم العام بمعنى عدم صحة ترتيب حكم العام عليهما
في عرض واحد ، وأما ترتيب حكم العام على أحدهما عند عدم ترتيب الحكم على الآخر فهو
مما لا تنفيه القرينة.
فهنا يكون القدر
المتيقن هو الثاني دون الاول ، مثلا : لو قال المولى : « أكرم كل العلماء » فإنّ
هذا العموم له اطلاق أحوالي ، بمعنى انه يجب اكرام الفرد الاول حتى في حالة اكرام
الثاني وهكذا يجب اكرامه حتى في حالة اكرام الاول والثالث ، فلو كانت هناك قرينة
مقتضية لعدم وجوب اكرام زيد وخالد من العلماء إلاّ انّه لم يحرز نحو الخروج لهذين
الفردين عن حكم العام ، وهل انّه لا يجوز اكرامهما معا أو انّه لا يجوز إكرام زيد
في حالة اكرام خالد ، كما لا يجوز اكرام خالد في حالة اكرام زيد.
فإنّ مفاد القرينة
يدور بين اخراج كلا الفردين عن حكم العام أو اخراجهما عن حكم العام تخييرا ،
والقدر المتيقن من القرينة هو الخروج التخييري ، وذلك لأنّ القرينة لا تكشف عن
أكثر من عدم إرادة الإطلاق الاحوالي في الفردين الخارجين فهي لا تثبت خروجهما معا
عن حكم العام ، بمعنى انّه وان كنا نسلّم بأن مقتضى الاطلاق الاحوالي
في الفردين هو
وجوب اكرام كل فرد حتى في حال اكرام الآخر إلاّ انّه ثمّة علم بعدم إرادة الاطلاق
، إما من جهة عدم وجوب اكرامهما من رأس فيكون الاطلاق ساقط عنهما لخروجهما عن حكم
العام ، أو انّ الإطلاق الاحوالي هو وحده الساقط عن الفردين دون العموم ، وحينئذ
يتعين الاحتمال الثاني ، إذ لا مقتضي لاسقاط حكم العام عنهما معا بعد عدم دلالة
القرينة على ذلك ، نعم هي محتملة لذلك إلاّ انها محتملة للمعنى الآخر أيضا ، ولمّا
كان المعنى الآخر هو القدر المتيقن فإن العقل يحكم بتعيّنه ، لتمامية العموم وعدم
وجود ما يوجب سقوطه عن الفردين رأسا.
* * *
١٩٩ ـ التخيير الفقهي
والاصولي
المراد من التخيير
الفقهي هو انّ المكلّف في سعة ابتداء من جهة اختيار أحد التكليفين وتطبيقه في مقام
العمل ، بمعنى انّ وظيفته هي اختيار أحد التكليفين ابتداء ، فالنصّ الشرعي المتكفل
لبيان التخيير الفقهي يحدّد التكاليف الواقع كلّ واحد منها طرفا للتخيير ، ويكون
المكلّف عندها مسئولا عن اتخاذ أحد التكاليف وتطبيقها في مقام الامتثال.
وأما التخيير
الاصولي فهو بمعنى جعل الحجيّة لأحد الدليلين تخييرا ، ومع اختيار أحد الدليلين
بعد ثبوت الحجيّة له تخييرا يكون المكلّف مسئولا عن العمل بالتكليف المستفاد
بواسطة الدليل المختار ، ويكون ذلك التكليف هو المتعين عليه بعد اختيار دليله ،
وكأنّه لا يوجد تكليف آخر مفاد بواسطة دليل آخر.
وبتعبير آخر :
التخيير الاصولي لا نظر له الى مؤدى الدليلين وما يشتملان عليه من تكليفين ،
وانّما نظره الى نفس الدليلين وجعل الحجية لهما
تخييرا ، ويكون
لزوم العمل بتكليف دون آخر مترتبا على اختيار أحد الحجتين ، وبعد اختيار احدى
الحجتين تكون وظيفة المكلّف العمل بمؤداها تعيينا.
* * *
٢٠٠ ـ التخيير بين الأقل
والأكثر
والبحث فيه يقع عن
امكان وقوع التخيير بين الأقل والأكثر ، وقد اختلف الأعلام في ذلك ، فذهب صاحب
الكفاية رحمهالله الى امكانه وذهب آخرون الى عدم الامكان.
وتحرير البحث
يستدعي ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمهالله ـ تصنيف التخيير بين الأقل والأكثر الى ثلاث صور :
الصورة
الاولى : ان يفترض عدم
وجود الأقل في ضمن الاكثر وانّ وجود الأقل يغاير وجود الأكثر. وفي هذه الصورة لا
ريب في امكان التخيير بين الأقل والأكثر ، وذلك لانّ واقع التخيير بينهما تخيير
بين متباينين.
ومثاله : لو أمر
السيد عبده بايجاد خطين ، إما خط طويل أو خط قصير ، وواضح انّ الخط القصير مباين
للخط الطويل ، فلا يقال انّ الخط الطويل مشتمل على خطين قصيرين ، وذلك لأن الاتصال
في كل خط يقوّم الوحدة للخط بنحو الدقة العقلية وبحسب النظر العرفي.
أما بحسب الدقة
العقلية فلأنّ عدم القول بالوحدة في الخط المتصل معنا القول بوجود الجزء الذي لا
يتجزأ ، إذ كلّ جزء تفترضه مهما صغر فهو قابل للتجزئة العقلية على الأقل ، ومع عدم
القول بالوحدة في الخط المتّصل معناه القول بالكثرة الوجودية للخط المتصل ، وحينئذ
لا بدّ من الرجوع الى منشأ الكثرة الوجودية وليست هي سوى الوحدات التي تنشأ عن اجتماعها
الكثرة وهذه الوحدات هي الجزء الذي لا يتجزأ والذي أطبق
الفلاسفة على
استحالته.
وأما بحسب النظر
العرفي فإننا نجد بالوجدان انّ الحبل الطويل غير الحبل القصير ، ولا يقال انّ
الحبل الطويل مشتمل على حبلين قصيرين. على انّه قد يتعلّق غرض المولى بالإتيان
بحبلين أحدهما قصير والآخر طويل إلاّ انّه ولمعرفته بضيق قدرة المكلّف عن الإتيان
بهما معا يأمره بأن يأتي بأحدهما بنحو التخيير.
الصورة
الثانية : ان يفترض امكان
وجود الأقل في ضمن الأكثر إلاّ انّ غرض المولى قد تعلّق بايجاد الأقل بشرط لا ، أي
بشرط عدم الزيادة.
وفي هذه الصورة لا
ريب في امكان التخيير بين الأقل والأكثر ، إلاّ انّ التخيير بينهما شكليا والواقع
انّ التخيير بينهما من التخيير بين المتباينين.
ومثاله : التخيير
بين القصر والتمام ، فإنّ الركعتين وان كانتا في ضمن الأربع لو جاء بالصلاة
الرباعية إلاّ انّه لمّا اعتبر فيهما عدم الزيادة تكون الأربع مباينة للركعتين.
الصورة
الثالثة : ان يفترض امكان
وقوع الأقل في ضمن الأكثر مع عدم اعتبار البشرطلا في الأقل ، بمعنى عدم اشتراط عدم
الزيادة أو قل انّ الأقل مأخوذ بنحو اللابشرط من جهة الزيادة.
وفي هذه الصورة
يستحيل التخيير بين الأقل والأكثر ، وذلك لأنّه حينما يأتي بالأقل يكون قد امتثل
الأمر وتحقق بذلك الغرض وسقط الوجوب عن المكلّف ، فلا معنى لاعتبار الأكثر مصداقا
للواجب ، نعم يمكن ان يكون الأكثر مستحبا.
ومثاله : التخيير
بين التسبيح مرة أو ثلاث مرات لو كان التسبيح مرة مأخوذا بنحو اللابشرط.
* * *
٢٠١ ـ التخيير في باب
التعارض
ذكرنا في بحث
تأسيس الأصل الثانوي عند تعارض الأخبار انّ جمعا من الأعلام ـ كصاحب الكفاية رحمهالله ـ ذهبوا الى انّ المرجع عند تعارض الأخبار هو التخيير ، اعتمادا على بعض
روايات العلاج ، وفي مقابل هذه الدعوى ذهب المشهور الى انّ التخيير لا تصل النوبة
إليه إلاّ بعد فقدان المرجحات.
وكيف كان فقد وقع
البحث عن هذا التخيير من جهات نشير الى جهتين منها :
الجهة
الاولى : انّ التخيير
بناء على مرجعيته في حالات التعارض بين الاخبار هل هو من التخيير في المسألة
الفقهية أو هو من التخيير في المسألة الاصوليّة؟
المعروف بينهم انّ
التخيير في الاخبار المتعارضة هو التخيير في المسألة الاصوليّة ، وهذا معناه انّ
أدلّة العلاج المفيدة للتخيير جعلت الحجيّة التخييريّة للخبرين ، والمناسب لجعل
الحجية التخييريّة ـ كما ذكر المشهور ـ هو جعل الحجيّة المشروطة ، بمعنى انّ
الشارع أناط حجيّة الدليل الذي له معارض بالتزام المجتهد به أو المكلّف ، فمتى ما
التزم المكلّف بأحد الخبرين فإنّ الحجيّة تثبت لذلك الخبر الملتزم به دون الآخر ،
وهكذا لو التزم بالآخر فإنّ الحجيّة تثبت له دون الاول.
الجهة
الثانية : انّ التخيير ـ والذي
هو المرجع عند تعارض الاخبار ـ هل هو ابتدائي أو استمراري؟
فبناء على الاول
تكون الحجيّة التخييريّة ثابتة قبل اختيار أحد الخبرين والالتزام به أما بعد
اختيار أحدهما والالتزام به فإنّه ليس للمجتهد اختيار الخبر الآخر ، بل يكون ساقطا
عن الحجيّة بمجرّد الالتزام بالأوّل مثلا ، وهذا بخلاف ما لو بنينا على استمرارية
التخيير فإنّ
للمجتهد ان يختار
أولا أحدهما ثم بعد ذلك يختار الآخر.
وقد ذهب صاحب
الكفاية رحمهالله الى استمرارية التخيير وانّه لا يسقط بمجرّد اختيار أحدهما
والالتزام به ، واستدلّ لذلك باستصحاب التخيير المتيقن ثبوته قبل اختيار أحد
الخبرين ، هذا بالاضافة الى اطلاقات أدلة التخيير فإنّها تقتضي صحة اختيار الآخر
حتى في حال اختيار الاول قبل ذلك.
* * *
٢٠٢ ـ تداخل الأسباب
والمسبّبات
والبحث في المقام
عمّا لو تعدّد الشرط واتّحد الجزاء فهل انّ القاعدة تقتضي تداخل الأسباب والتي هي
الشروط أو عدم التداخل؟ والمراد من التداخل هو ترتّب جزاء واحد من مجموع الأسباب
فيكون كلّ سبب جزء علّة بعد ان كان علّة مستقلّة في ظرف الانفراد. وعدم التداخل
معناه التحفّظ على استقلاليّة الأسباب واقتضاء كلّ واحد منها جزاء مستقلا.
ومع البناء على
تداخل الأسباب لا تصل النوبة للبحث عن تداخل المسبّبات انّما الكلام لو كان البناء
هو عدم التداخل بين الأسباب فهل القاعدة تقتضي تداخل المسبّبات ، بمعنى انّ
المكلّف وان كانت ذمّته مشغولة بتكاليف متعدّدة إلاّ انّ بامكانه الخروج عن عهدة
هذه التكاليف المتعدّدة بواسطة امتثال تكليف واحد ، أو انّ القاعدة تقتضي عدم
تداخل المسبّبات وانّ الجزاء يتعدّد بتعدّد أسبابه وانّ المكلّف يكون مسئولا عن
امتثال تمام التكاليف المتعدّدة بعد تحقّق أسبابها.
والثمرة المترتّبة
على هذا البحث ـ كما أفاد المحقّق النائيني رحمهالله ـ هي انّه بناء على القول بتداخل الأسباب يكون الجزاء
واحدا ، وعليه يكون الإتيان
بالجزاء متعددا
تشريعا محرما ، إذ لا أمر بأكثر من تكليف بعد البناء على التداخل.
وأمّا بناء على
عدم تداخل الأسباب مع البناء على تداخل المسبّبات فإنّ المكلّف وإن كان بإمكانه
الاكتفاء بتحصيل جزاء واحد إلاّ انّ الإتيان بالجزاءات الاخرى لا يكون تشريعا
محرما ، إذ انّ تداخل المسبّبات لا يقتضي أكثر من الرخصة. ومع البناء على عدم
تداخل المسبّبات يكون المكلّف مسئولا عن تحصيل تمام الجزاءات المتعدّدة بتعدّد
أسبابها.
ويمكن التمثيل
لذلك بما لو اجتمعت على المكلّف مجموعة من الأسباب الموجبة للغسل كالجنابة ومسّ
الميت والحيض فهل القاعدة تقتضي تداخل هذه الأسباب ، وعندئذ لا يترتّب عن مجموع
هذه الأسباب إلاّ وجوب غسل واحد ، أو انّ القاعدة تقتضي عدم التداخل وانّ كلّ سبب
يوجب غسلا مستقلا ، ومع البناء على عدم تداخل الأسباب فهل القاعدة تقتضي تداخل
المسبّبات ، بمعنى كفاية غسل واحد للخروج عن عهدة التكليف بالأغسال الثلاثة ، أي
انّ المكلّف وان كان مسئولا عن ثلاثة أغسال إلاّ انّ الإتيان بواحد يكفي عن
الأغسال الاخرى ، أو انّ القاعدة تقتضي عدم التداخل ، وعندئذ يجب على المكلّف
الإتيان بثلاثة أغسال وانّ الإتيان بغسل واحد لا يوجب الخروج عن عهدة الأغسال
الاخرى.
ثمّ انّ محلّ
البحث عن تداخل الأسباب والمسبّبات وعدم تداخلها مختصّ بحالات قابليّة الأسباب
والمسبّبات للتعدّد كما في المثال ، أمّا لو كان السبب غير قابل للتعدّد كالإفطار
في نهار شهر رمضان ، فإن الإفطار غير قابل للتعدّد ، إذ بعد أن يأكل الصائم في
المرّة الاولى يكون قد أفطر ، وعندئذ لا يقال للأكل الثاني انّه افطار
كما هو واضح ، أو
كان المسبّب غير قابل للتعدّد كما في القصاص بالقتل مثلا فإنّ هذين الفرضين خارجان
عن محلّ البحث.
* * *
٢٠٣ ـ الترادف
وهو في اللغة
بمعنى التتابع ، وأردفت الرجل إذا أركبته خلفك فوق الدابة.
والمراد من
الترادف في المقام هو اشتراك لفظين متغايرين في معنى واحد ، والمترادف هو ما يكون
فيه المعنى قد وضع له أكثر من لفظ لغرض الدلالة عليه. ومثاله : الحيوان المفترس
فإنّ له مجموعة من الالفاظ قد وضعت للدلالة عليه ، مثل لفظ الأسد والليث والهزبر.
والبحث في المقام
من جهتين :
الجهة
الاولى : في امكان
الترادف في اللغة :
فقد يقال بعدم
امكان الترادف في اللغة ، وذلك لأنّه لا معنى لوضع لفظين أو أكثر لمعنى واحد بعد
ان كان الغرض من الوضع هو تفهيم المعنى ، وهو يحصل بوضع لفظ واحد لافادة المعنى
المراد ، ومن هنا يكون وضع أكثر من لفظ لافادة معنى واحد مناف لحكمة الوضع ،
والمفترض من واضع اللغة انّه حكيم لا يقدم على ما هو عبث ومناف للحكمة.
إلاّ انّ هذه
الدعوى غير تامة بعد شهادة الوجدان على وقوع الترادف في اللغة ، والوقوع أقوى شاهد
على الامكان ، على انّ ذلك لا ينافي مقتضى الحكمة من الوضع ، إذ ما هو المحذور في
أن يتوسّل الواضع أو المتكلّم بأكثر من لفظ لإفادة المعنى المراد عنده.
والمتحصل انّ
امكان الترادف في اللغة مما لا ينبغي الإشكال فيه على تمام المباني فيما هو واقع
الوضع ، نعم يمكن الاستشكال في امكانه بناء على
نظرية التعهد في
الوضع والتي يتبناها السيد الخوئي رحمهالله ، وذلك لانّ المتعهد اذا التزم بأن لا يقصد تفهيم هذا
المعنى إلاّ إذا جاء بهذا اللفظ فهذا يعني انّه لا يكون ملتزما بتعهده إذا جاء
باللفظ الآخر المرادف وقصد تفهيم نفس المعنى إلاّ أن يكون قد التزم بالتزامين ،
وهو ان لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ ان يات بهذا اللفظ ثم يلتزم التزاما آخر بأن
لا يقصد نفس المعنى إلاّ إذا جاء باللفظ الآخر المرادف.
ولا يخفى التهافت
بين الالتزامين ، إذ انّ أحد الالتزامين ينافي الآخر ، نعم يمكن ان يلتزم بأن لا
يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ إذا جاء بكلا اللفظين وهذا الالتزام وان كان ممكنا
إلاّ انّه خلاف المتعارف ، إذ من غير المألوف الالتزام بالإتيان بكل المترادفات
لغرض تفهيم معنى واحد.
الاّ انّه يمكن
التفصي ـ كما أفاد السيّد الصدر رحمهالله بأحد حلول ثلاثة نذكرها بنحو الإجمال.
الأوّل : افتراض تعدد الواضع ، بمعنى تعدد المتعهدين بتعدد
المترادفات. وهذا الجواب لو تمّ فإنّه يصلح لتفسير المترادفات في اللغة بناء على
مسلك التعهد.
الثاني : هو افتراض اتحاد المتعهد إلاّ انّ التعهّد يكون بهذه
الكيفيّة ، وهي ان يتعهد بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلاّ اذا جاء بأحد هذه
الألفاظ المترادفة.
الثالث : افتراض اتحاد المتعهد أيضا إلاّ انّ التعهد يكون مشروطا
، بمعنى ان نفترض انّ المتعهد يتعهد بأن لا يقصد تفهيم المعنى إلاّ أن يأت بهذا اللفظ
ولكن بشرط ان لا يات باللفظ الآخر ثم يتعهد تعهدا آخر بان لا يقصد تفهيم المعنى
إلاّ أن يأت باللفظ الآخر على ان لا يأت باللفظ الأوّل.
وبهذا البيان اتضح
امكان الترادف في اللغة على جميع المباني.
الجهة
الثانية : فيما هو منشأ
وقوع الترادف في اللغة ، وقد ذكر لذلك احتمالان :
الاحتمال
الاول : أن يكون ذلك قد
نشأ عن تصدي الواضع لوضع لفظين أو أكثر لمعنى واحد ، أمّا في عرض واحد أو على
فترات متعاقبة ، وقد قلنا انّ ذلك لا محذور فيه ولا منافاة معه لحكمة الوضع.
الاحتمال
الثاني : أن يكون ذلك قد
نشأ عن اختلاف الواضع ، بمعنى انّ كل قبيلة من قبائل العرب قد وضعت للمعنى المراد
لفظا خاصا ثم انّه لما جمعت الفاظ اللغة أو تداخلت القبائل فيما بينها صار للمعنى
الواحد ألفاظ متعددة.
وهذان الاحتمالان
يمكن أن يكون أحدهما هو المنشأ لوقوع الترادف في اللغة ، كما يمكن أن يكون
مجموعهما هو المنشأ لذلك ، بمعنى انّه من الممكن أن يكون بعض المترادفات نشأ عن
الاحتمال الاول وبعضها نشأ عن الاحتمال الثاني.
على انّ هنا
احتمالا لا ينبغي اغفاله ، وهو انّ الوضع قد يكون تعيّنيا ، بمعنى انّه ينشأ عن
كثرة استعمال لفظ في معنى ولا يكون لأحد تصد للوضع ، وإذا كان كذلك فمن الممكن ان
يكثر استعمال لفظ في معنى بدرجة ينشأ عن هذه الكثرة الاستعمالية الوضع ، ثم يكثر
استعمال لفظ آخر من نفس القبيلة ـ في المعنى نفسه فينشأ عن ذلك وضع آخر.
* * *
٢٠٤ ـ الترتّب
المراد من الترتب
هو التكليف بالمهم بشرط عدم امتثال التكليف بالأهم ، فيكون التكليف بالأهم مطلقا
من جهة امتثال التكليف بالمهم أو عدم امتثاله ، وأما التكليف بالمهم فهو مشروط
بعدم امتثال الأهم أو قل انّه مشروط بعصيان الأهم ، وبهذا
تكون فعلية
التكليف بالمهم منوطة بعصيان التكليف الأهم.
ثم انّ مورد الأمر
الترتبي هو حالات التزاحم وضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين التكليفين وإلاّ فلو كان
المكلّف قادرا على الجمع بين التكليفين في عرض واحد فلا معنى للأمر الترتبي ، وليس
المقصود من ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين التكليفين هو ضيق القدرة عن امتثال
أحدهما حتى في طول الآخر بل انّ الترتب يتصوّر حتى في حال قدرة المكلّف على الجمع
بين التكليفين طوليا اذا كان عاجزا عن الجمع بينهما في عرض واحد ، كما في الواجب
الموسع والمضيق ، فلو وقعت النجاسة في المسجد عند زوال الشمس فإنّ هنا يمكن تصوير
الأمر الترتيبي ، بأن يقال انّ فعلية الأمر بالصلاة ـ والذي هو الواجب الموسع ـ مشروط
بعدم امتثال الأمر بالإزالة ، وهذا بخلاف الأمر بالإزالة فانّه مطلق من جهة امتثال
الأمر بالصلاة أو عدم امتثاله. فمورد الأمر الترتبي هو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع
بين التكليفين المتضادين ـ بنحو الضد الخاص ـ في عرض واحد.
وباتضاح ذلك نقول
: انّ البحث عن الترتب انما هو عن امكانه وامتناعه ، بمعنى انّ البحث عنه بحث
ثبوتي ، وواضح انّه لو ثبت امتناعه فإنّه لا تصل النوبة للبحث الإثباتي انما
الكلام فيما لو ثبت امكانه فقد أفاد السيد الخوئي رحمهالله انّ ثبوت الامكان للأمر الترتبي كاف في ثبوت وقوعه بلا
حاجة الى تجشم عناء البحث الإثباتي ، وذلك يتّضح بهذا البيان :
إنّ افتراض
مسئولية المكلّف عن تكليفين يعجز عن الجمع بينهما في عرض واحد مستحيل لاستحالة
التكليف بغير المقدور ، أو قل انّ الأمر بالضدين بنحو يكون كلّ واحد منهما
مطلق من جهة
امتثال الآخر أو عصيانه مستحيل لاستحالة طلب الجمع بين الضدين ، فالأمر بانقاذ
الغريق الاول بنحو مطلق ، والأمر بانقاذ الغريق الثاني بنحو مطلق ـ رغم ضيق قدرة
المكلّف عن امتثال الأمرين ـ مستحيل وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق ، وحينئذ لا
بدّ من أحد علاجين ، إمّا البناء على سقوط الأمر بالمهم من رأس ، بمعنى انّ
المكلّف مسئول عن امتثال التكليف بالأهم فحسب وليس مسئولا عن التكليف بالمهم سواء
امتثل الأمر بالاهم أو لم يمتثله ، وأما الالتزام بتقييد الأمر بالمهم ، أي
الالتزام بمسئولية المكلّف عن الأمر بالمهم عند عصيان الأمر بالأهم ، وهذا معناه سقوط
الإطلاق عن الأمر بالمهم دون سقوط أصل الأمر به.
وتلاحظون انّ كلّ
واحد من هذين الحلّين يرتفع معه محذور التكليف بغير المقدور ، إلاّ انّ الاول لا
مبرّر له بعد امكان التفصّي عن محذور التكليف بغير المقدور بواسطة الحلّ الثاني.
وبتعبير آخر :
يدور الأمر بين سقوط أصل الأمر بالمهم وبين سقوط اطلاقه ، ولا معنى للالتزام بسقوط
أصل الأمر بالمهم بعد ان كان واجدا لملاك جعله ، وبعد امكان التفصّي عن محذور
التكليف بغير المقدور بواسطة تقييد الأمر بعدم امتثال التكليف بالأهم.
ومن هنا يتعيّن
سقوط الإطلاق عن الأمر بالمهم ، لأنّه القدر المتيقن الذي تقتضيه القرينة العقلية
والتي هي استحالة التكليف بغير المقدور. وقد أوضحنا ما يتصل بهذا البيان تحت عنوان
« التخيير العقلي الشرعي ».
وبهذا يتمحض البحث
في الترتب عن إمكانه وامتناعه ، وقد اختلف الأعلام في ذلك ، ونسب السيد الخوئي رحمهالله الى الشيخ الانصاري رحمهالله
القول بامتناعه
خلافا لجمع من الأعلام كالمحقق النائيني رحمهالله. هذا وقد استدلّ صاحب الكفاية رحمهالله للقول بالامتناع بما ملخصه :
انّه يلزم من
الأمر الترتبي طلب الجمع بين الضدين ، وذلك في زمان فعلية الأمر بالمهم ، أي حين
عصيان الأمر بالأهم أو العزم على تركه وعصيانه ، إذ من الواضح عدم سقوط الأمر
بالأهم بمجرّد عصيانه أو العزم على عصيانه ، وحينئذ يكون كلّ من الأمر بالأهم
والامر المهم فعليا ، وهذا معناه مسئولية المكلّف عن كلا التكليفين ، إذ انّ كلا
منهما يدعو لامتثال نفسه حينئذ ، إذ انّ ذلك هو مقتضى افتراض فعلية كل منهما.
وأما ما استدل به
على إمكان الترتب فوجوه إلاّ انّ عمدة القول بإمكانه يتضح بهذا البيان ـ بعد
الاستدلال عليه بالوجدان وملاحظة الخطابات العرفية ـ وهو انّ المفترض هو عدم
التنافي بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم ذاتا ، بمعنى انّه ليس ثمة محذور من جعل
الوجوب على الفعل الأهم وجعل الوجوب على الفعل المهم ، وذلك لكون كل واحد منهما
واجدا لملاك جعله ، نعم التنافي انّما هو من جهة ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين
متعلقي الجعلين ، وحينئذ لو كان كلا التكليفين مطلقين لكان المكلّف عاجزا عن
امتثالهما ، أمّا لو افترضنا انّ فعليّة التكليف بالمهم مقيّدة بعدم امتثال الأهمّ
فإنّه لا محذور من جهة استحالة التكليف بغير المقدور ، وذلك واضح عند ما يمتثل
المكلّف الأمر بالأهم ، حيث لا مسئولية على المكلّف من جهة التكليف بالمهم بعد ان
لم تكن فعليته متحققة بسبب انتفاء موضوعها وهو عصيان الأمر الأهم ، إذ المفترض
انّه لم يعص الأهم.
وأما حينما يعصي
التكليف بالأهم فكذلك لا محذور من جهة لزوم
التكليف بغير
المقدور ، إذ انّ المكلّف لم يكن مسئولا عن غير التكليف بالأهم ، فالتكليف بالأهم
ليس مزاحما بتكليف آخر ، وذلك لأنّ التكليف بالمهم لا يدعو لايجاد موضوعه وهو
عصيان الأمر بالأهم فلا يكون التكليف بالمهم منافيا ومعاندا للتكليف بالأهم ،
غايته انّ المكلّف لمّا شاء عدم امتثال التكليف بالأهم تنقح موضوع التكليف بالمهم
، فالمكلّف إذن قادر على امتثال الأهم بواسطة اعدام موضوع الأمر بالمهم.
وبتعبير آخر :
لمّا لم تكن التكاليف مقتضية لايجاد موضوعاتها ، إذ هي لا تدعو إلاّ الى امتثال
نفسها في ظرف اتّفاق تحقق موضوعاتها خارجا ، لما لم يكن كذلك فالأمر بالمهم لا
يزاحم الأمر بالأهم ، إذ انّ الأمر بالمهم لا يكون كذلك إلاّ اذا افترضنا اقتضائه
لايجاد موضوعه وهو معصية الأمر بالأهم ، والأمر ليس كذلك حيث قلنا انّ الأمر
بالمهم لا يدعو لمعصية الأمر بالأهم.
وحينئذ نقول : إذا
لم يكن الأمر بالمهم نافيا للأمر بالأهم فما هو المانع من الأمر به بنحو الترتب ،
بأن يقال :
تجب عليك الإزالة
مطلقا ولكن اذا عصيت الأمر بها وجبت عليك الصلاة ، فالأمر بالصلاة لا يزاحم الأمر
بالإزالة ، إذ انّه لا يدعو لعصيان الأمر بالإزالة وانّما يدعو للإتيان بالصلاة لو
عصى المكلف الأمر بالإزالة ، وواضح انّه حين عصيانه الأمر بالإزالة قادر على
امتثال الأمر بالصلاة تكوينا وشرعا ، اما تكوينا فواضح ، وأما شرعا فلأن ترك
الإزالة لم يكن مستندا الى الشارع بعد ان لم يكن الأمر بالصلاة مقتضيا وداعيا
لعصيان الأمر بالإزالة.
* * *
٢٠٥ ـ الترجيح بالأحدثية
والمقصود من
الترجيح بالأحدثية
هو لزوم التعبّد
بالخبر المتأخّر صدورا في ظرف تعارضه مع المتقدم صدورا ، وليس المراد من ذلك هو
لزوم التعبّد بالمتأخر مطلقا حتى مع امكان الجمع العرفي بين الخبر المتقدم
والمتأخّر.
وقد تبنى بعض
الفقهاء هذا المرجح في ظرف التعارض إلاّ انّ المعروف بينهم هو عدم الترجيح
بالأحدثية ، لأنّ المتأخّر لو كان ناسخا فإنّه يلزم التعبّد به دون المتقدم بقطع
النظر عن مرجحات باب التعارض ، وذلك لأن الناسخ ليس من قبيل المرجحات وانما هو من
قبيل الكاشف عن انتهاء أمد الحكم المتقدم وصيرورة الحكم المتأخر هو الحكم الفعلي
والذي يلزم العباد التعبّد به إلاّ انّه لو سلّمنا امكان النسخ بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنّ من المقطوع به عدم ثبوت النسخ إلاّ بدليل قطعي ، وهذا
موجب آخر لخروج الترجيح بالأحدثية عن مرجحات باب التعارض ، وذلك لأن الخبر المقطوع
الصدور واجد للحجيّة بنحو لا يصلح الخبر الواحد لمعارضته ولو كان هذا الخبر معتبرا
سندا.
ولو كان المراد من
الترجيح بالأحدثية هو التخصيص والتقييد للاطلاقات المتقدمة صدورا فهذا خروج أيضا
عن مرجحات باب التعارض ، إذ انّ التخصيص والتقييد انّما يكونان في حالات امكان
الجمع العرفي ، وعندئذ لا يكون الأحدث مرجحا.
على انّ بعض
الروايات التي استدلّ بها على الترجيح بالأحدثية مشتملة على خصوصية نحتمل دخالتها
في الترجيح بالمتأخر ، وهو العلم بصدور الخبرين المتعارضين ، وهذا ما لا نتوفر
عليه فعلا ، وذلك لتساوي الخبرين عندنا من حيث احتمال صدورهما وعدم صدورهما ،
وايّهما صدر لبيان الحكم الواقعي وأيّهما صدر تقيّة مثلا.
على انّ الرواية
اشتملت على قرينة
تكشف عن انّ
الملاك من لزوم الأخذ بالمتأخر هو التقيّة وانّ الامام عليهالسلام قد يعطي حكما لمسألة ثم في وقت آخر يعطي حكما آخر لنفس المسألة وقد يكون
المتأخر هو المناسب للتقيّة ومع ذلك يلزم التعبّد به ، وذلك لمناسبة زمن صدور
الخبر للتقيّة ، وواضح انّه لو كان كذلك فإنّ العمل بالخبر المتأخّر انّما هو
لتشخيص الامام عليهالسلام الأعرف بمجاري الامور وانّ المناسب في ذلك الوقت هو العمل
بالتقيّة وإلاّ فالخبر المتقدم هو الذي صدر لبيان الحكم الواقعي ، ولو كان الخبر
المتقدّم هو الذي صدر لبيان الحكم الواقعي فإنّ لزوم العمل به انّما هو لأجل كونه
الحكم الواقعي وانّ الخبر المتقدم صدر لمناسبات اقتضتها التقية ، وعليه لا يكون
الخبر المتأخر مترجحا بسبب تأخره بل انّ الترجيح انّما نشأ اما عن كون المتأخر صدر
لبيان الحكم الواقعي وامّا لأنّه كان مناسبا للتقية في ظرف صدوره.
أما نحن فلمّا لم
نكن مطلعين على أيّ الخبرين صدر تقيّة وأيهما صدر لبيان الحكم الواقعي فإن اللازم
هو الرجوع لمرجح آخر للتعرّف بواسطته على ما يلزم العمل به منهما.
* * *
٢٠٦ ـ الترجيح بالتقيّة
المراد من الترجيح
بالتقيّة هو انّه لو تعارضت روايتان تعارضا مستحكما موجبا للعلم بمنافاة احداهما
للواقع وكانت كلا الروايتين واجدتين لشرائط الحجيّة بقطع النظر عن التعارض فإنّه
يلاحظ مفاد كلا الروايتين فإن كانت احداهما موافقة لروايات العامة والاخرى مخالفة
أو غير موافقة فإنّ الموافقة لروايات العامة تسقط عن الحجيّة بسبب التعارض.
ومنشأ الترجيح هو
انّه من غير
المعقول ان تكون
كلا الروايتين صادرتين لبيان الحكم الواقعي ، فلا بدّ وان تكون احداهما صادرة
تقيّة أو انها غير صادرة ، ولمّا كان عدم الصدور ينافي اعتبار السند ووثاقة جميع
رواته فيتعين صدور احداهما تقيّة ، ولمّا كان الأقرب للتقيّة هي الرواية الموافقة
لروايات العامة تعين عدم صدورها لبيان الحكم الواقعي ، وهذا ما يوجب سقوطها عن
الحجيّة.
وبهذا اتّضح
المراد من الترجيح بالتقيّة وانّه عبارة عن ترجيح الرواية المنافية للتقيّة أو غير
المناسبة لها في مقابل الرواية المناسبة للتقيّة.
ثمّ انّ الترجيح
بالتقيّة هل يختص باتفاق موافقة احدى الروايتين لروايات العامة ـ كما هو مقتضى
معتبرة الراوندي ـ أو تشمل الموافقة لفتاوى العامة المستندة لغير الروايات
كالمستندة للقياس أو الاستحسان.
الظاهر من كلمات
الفقهاء ان الترجيح بالتقيّة لا يختص بموافقة احدى الروايتين المتعارضتين لروايات
العامة بل يشمل الموافقة لفتاواهم المستندة لمدارك اخرى غير الروايات ، وذلك
بمقتضى اطلاق بعض الروايات كمقبولة عمر بن حنظلة ، على انّ ذلك هو مقتضى مناسبات
الحكم والموضوع ، إذ انّ المستظهر من روايات الترجيح بالتقيّة انّ ذلك ليس حكما
تعبديا صرفا بل انّه نشأ عن الظروف التي اكتنفت عصر النص ، حيث كان العامة ذووا
شوكة واقتدار فتكون مناوئتهم واظهار ما ينافي متبنياتهم مسوغا لإساءتهم أو لا أقل
استيحاشهم والذي قد يترتب عليه التشنيع والتوهين ، وقد تفضي مخالفتهم للوقوع في
الضرر والذي كان يحرص أهل البيت عليهمالسلام على التحفظ من ايقاع شيعتهم في محذوره.
واذا كان هذا هو
الملاك للترجيح
بالتقيّة فأيّ فرق
بين موافقة الخبر لروايات العامة أو موافقته لفتاواهم الغير المستندة لأخبارهم.
ثم انّ الترجيح
بالتقيّة انّما يأتي في مرحلة متأخرة عن الترجيح بالموافقة للكتاب المجيد والسنّة
القطعيّة ، فلو تعارض خبران وكان أحدهما موافقا للكتاب المجيد والآخر مخالفا
للكتاب فإنّ الذي يسقط عن الحجيّة هو الخبر المخالف للكتاب وان كان مخالفا للعامة
وكان الخبر الموافق للكتاب موافقا للعامة ، فالترجيح بالتقيّة إذن انّما هو في
حالة عدم موافقة ومخالفة كلا الخبرين للكتاب المجيد كأن لم يكن الكتاب المجيد
متصديا لحكم المسألة المشتمل عليها الخبران المتعارضان ، وعندئذ يلاحظ الموافق
لمذهب العامة فيكون مرجوحا.
وهذه الطولية
مستفادة من معتبرة الراوندي .
* * *
٢٠٧ ـ الترجيح بالشهرة
وقد ورد الترجيح
بالشهرة في مقبولة عمر بن حنظلة والمرفوعة التي رواها ابن ابي جمهور الإحسائي .
هذا وقد اختلف
الفقهاء في المراد من الشهرة الواردة في الروايتين ، فقد ذهب البعض الى انّ المراد
من الشهرة هي الشهرة الروائية ، بمعنى اشتهار نقل الرواية في المجاميع الروائية
بحيث تكون الرواية بالغة حد التواتر أو الاستفاضة ، وحينئذ يكون صدورها مطمئنا به
وتكون الرواية الواقعة في مقابلها شاذة.
ومن هنا يخرج
الترجيح بالشهرة عن مرجحات باب التعارض ، لأنّ الترجيح بالشهرة ـ بهذا المعنى ـ يكون
من قبيل ترجيح الحجة على اللاحجة ، إذ لا ريب في سقوط الرواية الشاذة المنافية
للرواية المشتهرة والتي هي مقطوعة الصدور.
واستدلّ السيد
الخوئي رحمهالله لذلك بأن الظاهر من الشهرة في المقبولة والمرفوعة هو
الوضوح ، وذلك لأنّ التعبير في المقبولة بالمجمع عليه ونفي الريب عما هو مجمع عليه
ثم تصنيفها في قسم الأمر البين الرشد يؤكد المعنى المذكور وانّ التعارض انّما هو
بين السنة القطعيّة والخبر الشاذ ، وواضح انّ كل خبر ينافي السنة القطعية يكون
ساقطا عن الحجيّة من أول الأمر وانّ التقديم حينئذ يكون من باب الأخذ بما هو حجة
والاعراض عمّا هو ساقط عن الحجيّة.
وأما افتراض
اشتهار كلا الخبرين في المقبولة فهو بمعنى الاجماع على نقلهما وانّهما مقطوعا
الصدور ، ومن هنا يكون الافتراض خارج عن محل الكلام باعتبار انّ البحث انّما هو عن
الخبرين الظنيين.
وفي مقابل هذه
الدعوى ذهب المشهور الى ان المراد من الشهرة وان كان هو الشهرة الروائية إلاّ انّه
مع ذلك تكون الشهرة من المرجحات في باب التعارض لا أنّ تقدمها من باب تمييز الحجة
عن اللاحجّة ، وذلك لأنّ المراد من الشذوذ في الخبر المقابل للمشهور انما هو قلة
النقل ، والتعبير عنه بالشذوذ انّما هو بالإضافة للخبر المشهور النقل ، كما انّ
التعبير عن المشهور بأنّه من المجمع عليه لا يعني أكثر من اشتار النقل ، فليس
المقصود منه الإجماع الاصطلاحي ، وذلك بقرينة وجود ما يقابله ، فإنّه منقول أيضا
في كتب الرواة ، غايته انّ نقله أقل من نقل الخبر المقابل له ، ومن هنا يكون
التعبير بنفي الريب عن الخبر المشهور معناه نفي الريب بالاضافة الى الخبر الآخر.
وأما السيد الصدر رحمهالله فقد أبرز قرينتين على انّ الشهرة المقصودة في المرفوعة هي الشهرة الفتوائية ،
ومقصوده من الشهرة الفتوائية هي
الشهرة الفتوائية
العملية والتي تعني استناد الفتوى والعمل الى رواية.
القرينة
الاولى : انّ زرارة رحمهالله حينما أمره الامام عليهالسلام بالأخذ بما اشتهر بين الاصحاب افترض ان يكون كلا الخبرين
مشهورين ، وهذا الافتراض انّما يناسب الشهرة الفتوائية العملية ، وذلك بقرينة انّ
الامام عليهالسلام أمر حين اتفاق هذا الافتراض بالأخذ بما يقول به أعدلهما
وأوثقهما ، فلو كان المراد من الشهرة هي الشهرة الروائية ـ والتي تقتضي قطعيّة
صدور كلا الخبرين ـ لما كان من المناسب الترجيح بالأعدلية والاوثقية بعد القطع
بصدورهما ، إذ انّ الترجيح بالأعدليّة والأوثقية ـ والتي هي من صفات الراوي ـ انما
تناسب الظن بالصدور.
* * *
٢٠٨ ـ الترجيح بالصفات
والمراد من
الترجيح بالصفات هو الترجيح بصفات الراوي ، فلو كان راوي أحد الخبرين المتعارضين
أعدل أو أفقه أو أصدق أو أوثق من الراوي للخبر الآخر ـ على ان يكون الراوي للخبر
الآخر ثقة ـ فإنّ ذلك يكون موجبا لترجيح الخبر المروي عن المتفوق في الصفات
المذكورة.
وعمدة ما يستدل به
على الترجيح بالصفات هو مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة ابن ابي جمهور الاحسائي.
وقد اورد على
الاستدلال بالمقبولة انّها بصدد ترجيح أحد الحكمين على الآخر وهو ممّا لا يتصل
بمحل الكلام ، ويؤيد ذلك اهمال الشيخ الكليني رحمهالله للترجيح بالصفات رغم انّه في مقام تعداد المرجحات. وأجاب
الشيخ الانصاري رحمهالله عن ذلك باحتمال أن يكون اهماله نشأ عن وضوح الترجيح
بالصفات.
ونقض عليه السيد
الخوئي رحمهالله بأنّ عدم ذكره الترجيح بالصفات لو كان
ناشئا عن الوضوح
لكان قد أهمل ذكر الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، إذ لا ريب في وضوحهما
بل أوضحيتهما على الترجيح بالصفات ، على انّ الشيخ الكليني رحمهالله في مقام تعداد المرجحات فلا يكون الوضوح حينئذ مسوغا لاهماله هذا المرجح لو
كان يتبنى صلاحيته للترجيح.
وأما المرفوعة فهي
ساقطة سندا فلا يصح التعويل عليها.
* * *
٢٠٩ ـ الترجيح بالظن غير
المعتبر
ويقع البحث في
المقام عن صلاحية المرجحات الظنيّة غير المنصوصة لترجيح الخبر ذي المرجح على الخبر
الفاقد له ، فلو اتّفق تعارض خبرين وكان أحدهما مشتملا على قرينة ظنيّة مقتضية لا
قربية مطابقته للواقع بالنسبة للخبر الآخر على ان تكون هذه القرينة من غير
المرجحات المنصوصة فهل يصح التعويل على هذه القرينة لترجيح ذي القرينة على الفاقد
لها؟.
ذهب الشيخ
الانصاري رحمهالله لذلك ، وقرّب ذلك بوجهين :
الوجه
الاول : انّ المستظهر
من الترجيح بالأعدليّة والأصدقيّة هو انّ ملاك الترجيح في الأخبار المتعارضة هو ما
يوجب الأقربيّة للواقع ، ومن هنا يكون اشتمال أحد الخبرين على قرينة ـ موجبة
لأقربيّته بالنسبة للآخر للواقع ـ سببا لترجّحه على الآخر ، فلا موضوعية للمرجحات
المنصوصة بعد ان كانت الأقربية هي ملاك الترجيح.
الوجه
الثاني : انّ المراد من
نفي الريب عن الرواية المشهورة هو نفي الريب بالإضافة للرواية الاخرى الشاذة لا
نفي الريب المساوق لليقين والاطمئنان ، وعليه يكون الخبر المكتنف بالقرينة
المقوّية لاحتمال
صدوره ممّا لا ريب
فيه بالاضافة الى الخبر المعارض والذي هو فاقد لتلك القرينة ، وهذا ما يوجب ترجحه
عليه بعد ان لم يكن الملاك في الترجيح هو عدم الريب المطلق ، وانّما هو عدم الريب
الإضافي ، وهذا ما يتفق في غير المرجحات المنصوصة.
إلاّ انّ الإشكال
على التقريب الاول هو ان المرفوعة ساقطة سندا ، والمقبولة انّما هي متصدّية لبيان
ما هو المرجح لأحد الحكمين على الآخر ، فلا صلة لها بمحل الكلام.
وأما الإشكال على
التقريب الثاني فهو عدم التسليم بأن المراد من نفي الريب هو نفي الريب الاضافي
وانّ الصحيح هو القطع بصدور الرواية التي نفى الامام عليهالسلام عنها الريب ، وبه تكون المقبولة بصدد تمييز الحجة عن
اللاحجّة.
وبسقوط كلا
التقريبين لا يكون ثمّة مبرر للترجيح بالظن غير المعتبر.
٢١٠ ـ الترجيح بموافقة الكتاب
المجيد
عالجت مجموعة من
الروايات العلاجيّة التعارض في الأخبار بواسطة الأمر بلزوم الأخذ بالخبر الموافق
لكتاب الله جلّ وعلا وترك الخبر المخالف لكتاب الله عزّ وجل أو بلزوم ترجيح
الموافق على المخالف.
والطائفة الاولى
خارجة عن محلّ الكلام لظهورها في تمييز الحجّة عن اللاحجّة ، إذ انّ محلّ الكلام
انّما هو الروايات المتكافئة والواجدة لشرائط الحجيّة لو لا التعارض.
ومن هنا لا بدّ من
بيان المراد من الموافقة والمخالفة في الروايات المتصدّية لعلاج التعارض بين
الأخبار الواجدة للحجيّة في نفسها لو لا التعارض. فنقول :
انّ الظاهر بدوا
من الموافقة هي مطابقة مفاد أحد الخبرين لكتاب الله
عزّ وجلّ ، إلاّ
انّ هذا الظهور يزول بمجرّد الالتفات الى انّ القرآن الكريم لم يتصد لبيان كثير من
تفاصيل الأحكام الشرعيّة وأوكل ذلك للسنّة الشريفة ، فلو كان المراد من الموافقة
هو المطابقة لكانت فائدة هذا المرجح محدودة جدا ، وهذا ما ينافي التأكيد عليه
كثيرا في روايات العلاج ، ومن هنا لا يستبعد ان يكون المراد من الموافقة هو عدم
المنافاة لكتاب الله جلّ وعلا ، وذلك في مقابل الخبر المنافي لكتاب الله عزّ وجل ،
وحينئذ يلاحظ الخبران فإن كان أحدهما مخالفا للكتاب والآخر غير مناف له فإنّ
الترجيح يكون للخبر الغير المنافي للكتاب.
ولو لم يقبل هذا
الاستظهار فإنّ الموافقة لا تعني التطابق التام بين مفاد الكتاب العزيز ومفاد أحد
الخبرين بل يكفي دخوله تحت عمومات أو اطلاقات الكتاب المجيد ، وحينئذ يلاحظ
الخبران فلو كان مؤدى أحدهما مشمولا لعمومات أو اطلاقات الكتاب وكان مؤدى الآخر
منافيا أو غير موافق ـ ولو بهذا النحو من الموافقة ـ فإنّ الترجيح يكون للاوّل.
وأمّا المخالفة
لكتاب الله عزّ وجلّ فإنّ من المقطوع به عدم إرادة المباينة لمفاد الكتاب المجيد ،
وذلك لأنّه لو كان المراد منه ذلك لكان من تمييز الحجّة عن اللاحجة ، إذ لا ريب في
انّ الخبر المخالف بنحو المباينة للكتاب المجيد يكون ساقطا عن الحجيّة حتى مع عدم
وجود المعارض ، وذلك للروايات المتواترة القاضية بسقوط المخالف لكتاب الله عزّ وجل
ـ بهذا النحو من المخالفة ـ عن الحجيّة في نفسه وبقطع النظر عن التعارض ، في حين
انّ البحث انّما هو عن الروايات المتعارضة والتي تكون متكافئة من حيث واجديتها
للحجيّة في نفسها لو لا التعارض.
وحينئذ يتعين أن
يكون المراد من المخالفة هو المخالفة التي لا تنافي الجمع العرفي بين مفاد الكتاب
المجيد وبين الرواية ، بحيث لو لا التعارض لكان على المجتهد ان يجمع بين مفاد
الكتاب والرواية جمعا عرفيا ويعمل بمفادهما معا بعد الجمع العرفي إلاّ انّه وبسبب
التعارض يسقط الخبر المنافي للكتاب ـ بهذا النحو من التنافي ـ عن الحجيّة وتكون
الحجيّة حينئذ للخبر الآخر الغير المنافي للكتاب ولو بهذا النحو من التنافي.
مثلا : لو كان
الخبر مخصّصا أو مقيّدا للعمومات أو اطلاقات الكتاب المجيد أو كان حاكما أو واردا
أو مشتملا على قرينة صارفة لظهور الكتاب عن ظهوره الأولي فإنّ ذلك لا يوجب سقوط
الرواية عن الحجيّة بل انّها حينئذ تصلح للتصرف في الظهور الأولي لمفاد الكتاب
المجيد ، إلاّ انّه لو كانت هذه الرواية معارضة برواية اخرى ليست منافية للكتاب
ولو بهذا النحو من التنافي أو كانت موافقة للكتاب المجيد فإنّ ذلك يستوجب ـ بمقتضى
روايات العلاج ـ سقوط الرواية الاولى عن الحجيّة ، والسقوط هنا لم ينشأ إلاّ بسبب
التعارض وإلاّ فالرواية الاولى واجدة للحجيّة في نفسها ، غايته انّ الرواية
الثانية مترجحة عليها ويلزم العمل بها دون الاولى بسبب وقوع الاولى طرفا في
المعارضة.
وهنا أمر نبّه
عليه السيد الصدر رحمهالله وهو انّ معتبرة الراوندي جعلت المرجّح هو مجموع الموافقة
والمخالفة ، وحينئذ لو كنا نفهم من الموافقة هي التطابق ولو بنحو الدخول تحت اطلاق
أو عموم الآية فهذا معناه ان يكون أحد الخبرين مطابقا والآخر منافيا وإلاّ لم يصح
ترجيح أحدهما على الآخر ، إذ انّ هذا هو مقتضى كون المرجح هو مجموع
الأمرين ، إلاّ
انّه مع الالتفات الى قلّة الأحكام التي تصدّى القرآن الكريم لبيانها يستظهر من
الرواية كفاية اشتمال أحد الخبرين على ما ينافي اطلاقات أو عمومات الكتاب المجيد
لترجيح الخبر الآخر حتى وان لم يكن موافقا بالنحو المذكور للموافقة كأن كان مفاده
ممّا سكت القرآن الكريم عن بيانه.
* * *
٢١١ ـ التزاحم
هو التنافي بين
الأحكام التكليفية الإلزاميّة في مقام الامتثال على ان يكون منشأ التنافي هو ضيق
قدرة المكلّف عن الجمع بينهما في مقام الامتثال.
ومثاله ما لو اتفق
ان عجز المكلّف عن الجمع بين وجوب النفقة على الزوجة ووجوب النفقة على الأب فإنّه
يحصل التنافي في مقام الامتثال بين الوجوبين ، أي انّ امتثال أحد الوجوبين يفضي
الى العجز عن امتثال الوجوب الآخر.
ومن هنا يتضح
الفرق بين التزاحم والتعارض ، إذ انّ التعارض معناه التنافي بين مؤدى الدليلين في
مرحلة الجعل ، بمعنى انّ كل مدلول ينفي واقعية مدلول الدليل الآخر بعد ان يثبته
لنفسه ، ومن هنا تكون مرجحات باب التعارض موجبة لطرح الدليل المرجوح ، وهذا بخلاف
التزاحم فإنّه لا تنافي بين مؤدى الدليلين في مورده بل يمكن الجزم بصدورهما
ومطابقة مضمونهما للواقع ، غايته انّ المكلف عاجز عن امتثالهما معا. وهذا ما أوجب
دعوى انّ امتثال أحدهما مقتض لسقوط فعلية الآخر ، لافتراض عدم قدرته بعد امتثال
الاول على امتثال الثاني ، فيكون سقوط التكليف الثاني بسبب انتفاء موضوعه وهو
القدرة ، وهذا لا يتصل بأصل جعله وصدوره لبيان الحكم
الواقعي بل لأن
الأحكام مجعولة على موضوعاتها المقدرة الوجود ، فحينما لا يكون الموضوع متحققا
خارجا لا يكون الحكم المجعول فعليا.
فالتزاحم إذن يوجب
انتفاء فعلية أحد الحكمين بسبب اقتضائه لانتفاء موضوعه ، وهذا بخلاف التعارض فإنّ
الحكم في كل دليل ينفي ـ في مورد التعارض ـ الحكم في الدليل الآخر حتى لو اتفق
تحقق موضوعه خارجا وحتى لو كان المكلّف قادرا على الجمع بين مؤدى الدليلين
المتعارضين ، كما في بعض حالات التعارض العرضي فإنّ بإمكان المكلف ان يصلّي الجمعة
والظهر ، وأما في فرض التزاحم فإنّ هذه الحالة لا تتفق أصلا.
ثم انّ هنا منبه
آخر على الفرق بين التزاحم والتعارض ، فالتزاحم يختلف باختلاف المكلفين ، فقد يتفق
ان يكون المكلّف قادرا على الجمع بين التكليفين فلا تكون أحكام التزاحم جارية في
حقّه بخلاف مكلف آخر كانت قدرته أضيق من ان تجمع بين تكليفين ، فالمكلّف الاول
مثلا قادر على ان يجمع بين امتثال وجوب النفقة على الزوجة ووجوب النفقة على الأب
وأما الآخر فإنّه لا يقدر على الجمع بين الوجوبين ، كما قد تنعكس الحالة فيصبح
القادر عاجزا والعاجز قادرا ، وهذا يعني انّ حالة التزاحم قد لا تظلّ مطردة في
المكلّف الواحد فقد تعرضه ثم تزول عنه ثم تعرضه وهكذا ، فتكون أحكام التزاحم جارية
في حقه متى ما طرأت حالة التزاحم عليه ومتى ما زالت يكون مسئولا عن الجمع بين
التكليفين.
وأما التعارض فليس
كذلك ، إذ انّ ترجح أحد الدليلين لا يختلف باختلاف المكلفين ، فلو كان المرجح
مقتضيا لتقديم الدليل الاول على الآخر فإنّ ذلك يكون مطردا في تمام الأزمنة ولتمام
المكلفين.
وبهذا اتضح انّ
الفرق بين التزاحم والتعارض بيّن جدا ، ومن هنا لا يقع الشك في مورد من جهة انّه
من باب التعارض أو التزاحم ، ولهذا لا تكون هناك حاجة لتأسيس أصل يكون مرجعا في
حالات الشك كما أفاد السيّد الخوئي رحمهالله ونقل انّ المحقّق النائيني رحمهالله كان يقول : بأنّ القول ان الأصل في موارد الشك هو التعارض
أو التزاحم أشبه شيء بان يقال : انّ الاصل في الاشياء الطهارة أو صحة بيع الفضولي.
وهنا أمر يجدر
التنبيه عليه ، وهو انّ خروج التزاحم عن التعارض يرتكز على كبريين لا بدّ من
التسليم بهما في مرحلة سابقة وإلاّ فمع عدم التسليم بهما أو باحداهما يكون التزاحم
داخلا في التعارض.
الاولى : هي إمكان الترتب بين الاحكام المتزاحمة ، بأن تقول انّ
المكلّف لو عصى التكليف الاول الاهم ـ مثلا ـ فإنّ التكليف المهم يصبح فعليا في
حقه ، وهذا هو الترتب المقتضي لترتب الفعلية للتكليف الآخر عند عدم امتثال التكليف
الاول.
فلو بنينا على عدم
امكان الترتب لافضى ذلك الى التنافي بين الحكمين في مقام الجعل والذي هو التعارض ،
وذلك لأنّه لمّا كان كل حكم مشروط بالقدرة على امتثاله ، فهذا معناه تحقق القدرة
على التكليفين في ظرف عدم امتثالهما فيكون التكليفان فعليين في ظرف عدم الامتثال ،
وهو مستحيل ، لأنه من غير المعقول ان يكونا مشروطين بالقدرة ومع ذلك يكونان فعليين
في ظرف عدم امتثال الاهم ، إذ انّه لو بادر لامتثال الاهم فإنّه يكون عاجزا عن
امتثال الآخر ، ومن هنا لا بدّ من الالتزام بأن التكليف المهم ينفي اطلاق الأهم
لحالات عدم امتثاله وانّ التكليف الأهم ينفي تشريع المهم وجعله حتى في ظرف القدرة
على
امتثاله والتي هي
حالة عدم امتثال الأهم ، وهذا هو التعارض.
وأما لو قلنا
بامكان الترتب فإنّ عدم امتثال الأهم ينقّح موضوع المهم وهو القدرة على امتثاله ،
وعندها يكون وجوبه فعليا ، ومع امتثال الأهم يكون المنفي هو فعليّة المهمّ لانتفاء
موضوعه لا انّه منتف عن موضوعه.
الثانية : انّ كلّ حكم فهو مقيّد بالقدرة على امتثاله ، وبتعبير
آخر : انّ كلّ حكم فهو غير مطلق من جهة لزوم امتثاله حتى مع الاشتغال بواجب آخر
أهم منه ، وعليه يكون كلّ تكليف مشروط بعدم امتثال ضدّه الأكثر أهميّة منه ، وحين
الالتزام بذلك لا يكون التكليف نافيا لجعل التكليف المهمّ وانّا هو ناف لموضوعه عند
الاشتغال بالتكليف الأهم ، فغاية ما يصنعه الاشتغال بالتكليف الأهم هو نفي
الفعليّة عن التكليف المهمّ.
أمّا لو لم نلتزم
بهذه الكبرى وقلنا انّ كلّ تكليف فهو مطلق ، أي سواء اشتغلت بالتكليف الأهم أو لم
تشتغل فهذا معناه انّ اطلاق الأمر بالتكليف الاول ينفي اطلاق الأمر بالتكليف
الثاني وهكذا العكس ، وهذا هو التعارض.
وبتعبير آخر : انّ
مقتضى اطلاق الأمر بالتكليف الاول هو انه لا شيء من التكاليف المضادة يضاهيه في
الأهمية وانّه يلزم امتثاله على كل تقدير حتى لو استوجب ترك تكليف آخر وحتى لو
اشتغلت بالتكليف الآخر الموجب للعجز عن التكليف الاول فالعجز لا يمنع عن بقاء
الخطاب بالتكليف الاول. كما انّ مقتضى اطلاق الأمر بالتكليف الثاني كذلك ، وليس
لهذا معنى سوى التنافي بين التكليفين في مقام الجعل وان كل واحد منهما ينفي جعل
الآخر ، وبهذا اتّضح تقوم التزاحم بهاتين الكبريين.
* * *
٢١٢ ـ تزاحم الملاكات
وهو التزاحم
الواقع بين ملاكات ومقتضيات الأحكام ، وهذا يتصور على صورتين :
الصورة
الاولى : هو ان يفترض
اشتمال الفعل على ملاك مقتض لجعل الوجوب عليه إلاّ انّ هذا الملاك مزاحم بملاك آخر
يقتضي تحريم هذا الفعل أو يقتضي اباحته بالإباحة بالمعنى الأعم التي تجامع اشتمال
الفعل على مزية مقتضية لإيجابه ، غايته انّ هذه المزية مزاحمة بما يستوجب عدم
مراعاتها ، كما لو زوحمت مصلحة الإيجاب بمصلحة التسهيل المقتضية للإباحة ، وكذلك
قد يشتمل الفعل على مفسدة شديدة إلاّ انّها مزاحمة بمصلحة تستوجب عدم جعل الحرمة على
الفعل وهكذا.
وهذا النحو من
التزاحم لا ارتباط له بالمكلّف ، إذ انّ وظيفته هي امتثال الحكم المجعول على الفعل
بقطع النظر عن ملاكه ، فحتى لو كان الحكم خاليا عن الملاك في متعلقه أو نفس جعله
أو كان الملاك منافيا لمقتضى الحكم فإنّ المكلّف مسئول عن امتثاله وليس عليه البحث
عن توفره على الملاك المناسب أو عدم توفره بعد إحراز صدور الحكم عن المولى وان
جعله جدّيّ.
وملاحظة ملاكات
الاحكام ومزاحماتها وما هي النتيجة المترتبة عن التزاحم انّما هي راجعة للمولى وهو
المشرع للأحكام ، ومن هنا لا تكون أحكام التزاحم جارية في تزاحم الملاكات.
الصورة
الثانية : ان يكون الفعل
مشتملا على ملاك مقتض للإيجاب مثلا أو مقتض للحرمة إلاّ انّه مزاحم بملاك في فعل
آخر بحيث تكون هذه المزاحمة مقتضية لملاحظة مجموع الفعلين وما يشتملان عليه من
ملاكات للخلوص
بنتيجة هي ترجيح أحد الملاكين مثلا أو الموازنة بينهما بحيث يترتب على ذلك جعل حكم
لا يتناسب مع الملاك الاول لو قطع النظر عن الملاك الثاني وهكذا ، ومثاله : صلاة
الفريضة في الوقت المشتملة على مصلحة مقتضية لايجابها واتفق تحقق موضوع صلاة
الآيات والتي هي مشتملة أيضا على ملاك مقتض لايجابها إلاّ انّ المولى يعلم بضيق
قدرة المكلف عن الجمع بينهما. فهنا يتزاحم الملاكان ، وعندها يلاحظ المولى مجموع
الملاكين المتزاحمين ويناسب بينهما بالنحو الذي يتفق مع غرضه. وهذا النحو من
التزاحم أيضا لا يتصل بالمكلّف.
ثم انّ هذا النحو
من التزاحم مبني على القول بأن الاحكام ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها أو في نفس
جعلها. ومن هنا يكون لصدور الحكم عن المولى مدلولين الاول مطابقي وهو نفس الحكم ،
والثاني التزامي وهو اشتماله على الملاك التام المناسب له.
* * *
٢١٣ ـ التزاحم في
المستحبات
والبحث في المقام
عن امكان وقوع التزاحم في المستحبات ، فقد يقال بعدم امكانه كما هو مبنى السيد
الخوئي رحمهالله بحسب نقل السيد الصدر رحمهالله وانه ذكر ذلك خارج بحثه. وقرّب ذلك بما حاصله :
انّ المكلّف لمّا
كان في سعة من جهة ترك المستحبات حتى مع اتفاق عدم التزاحم فإنّ ذلك يقتضي عدم
وجود مانع عن التحفظ على اطلاقها حتى في ظرف التزاحم ، إذ انّ المحذور من الإطلاق
في الأحكام الإلزاميّة انّما هو التكليف بغير المقدور ، فلو كان الحكمان
الإلزاميان مطلقين حتى في ظرف عدم القدرة ـ يعني انّه يلزم امتثالهما حتى في ظرف
العجز ـ لكان
معنى ذلك التكليف
بغير المقدور ، وهو مستحيل ، ومن هنا ينشأ التزاحم ، إلاّ انّ هذا المحذور لا يأتي
في المستحبات لو التزمنا باطلاق استحبابهما حتى في ظرف التزاحم وعدم القدرة على
الجمع بين المستحبين ، وذلك لجواز ترك المستحب حتى مع عدم التزاحم ، فلا محذور
يلزم من القول باستحبابهما في ظرف عدم القدرة على الجمع بينهما.
وبتعبير آخر : انّ
التكليف بغير المقدور والذي هو قوام التزاحم لا يتصوّر في المستحبات بعد عدم
الإلزام بامتثالهما مطلقا ، فلا معنى للقول بأن المستحب المهم ـ مثلا ـ يكون فعليا
في حال عدم امتثال المستحب الأهم ، إذ انّ للمكلّف الإتيان بالمهم ابتداء كما له تركهما
معا.
وأجاب السيد الصدر
رحمهالله عما أفاده السيد الخوئي رحمهالله بأنّ كلامه لا يتم على اطلاقه ، فعدم جريان التزاحم في
المستحبات أو جريانه يختلف باختلاف المباني. فبناء على القول بأنّ المناط في وقوع
التزاحم هو محذور طلب الجمع بين الضدين ـ كما تبنى ذلك القائلون باستحالة الترتب ـ
بناء على هذا المبنى لا يختلف الحال بين الاوامر الإلزامية والاوامر الاستحبابية ،
فكما انّ ايجاب الصلاة مثلا وايجاب الإزالة بنحو مطلق يكون من طلب الجمع بين
الضدين فكذلك الأمر استحبابا بالصوم يوم الخميس واجابة دعوة المؤمن على الطعام يوم
الخميس يكون من طلب الجمع بين الضدين ، وهذا ما يستوجب ترتيب أحكام التزاحم حتى في
الاوامر الاستحبابية.
وكذلك يثبت
التزاحم في الاوامر الاستحبابية لو كان البناء هو انّ الاوامر مطلقا انما تكون
لغرض البعث والتحريك نحو متعلّق الأمر الأعم من الوجوبي والاستحبابي ، فإنّ غرض
البعث والتحريك لا يتعقل في ظرف
الاشتغال بالضد
المساوي أو الأهم ، من غير فرق بين البعث الإلزامي أو البعث الاستحبابي ، والتفاوت
بينهما انّما هو من جهة شدة البعث وضعفه.
وبتعبير آخر :
انّه من غير الممكن أن يبعث المولى المكلّف نحو فعل حال انبعاثه نحو امتثال أمر
آخر مساو للمأمور به الثاني أو أهم منه الاّ ان يكون غرضه صرف المكلّف عن المأمور
به الاول المساوي أو الأهم ، وهذا غير معقول إلاّ في حال التنازل عن الأمر الاول ،
وهو خلف الفرض ، وعليه يكون التزاحم وأحكامه جارية حتى في الاوامر الاستحبابية.
نعم لو كان المبنى
في الأوامر الاستحبابية هو انها لا تعبّر عن أكثر من محبوبية المولى لمتعلق هذه
الاوامر لكان التزاحم غير جار في موردها ، وذلك لأنّ الاشتغال بأحد المحبوبين لا
ينفي محبوبيّة متعلّق الاستحباب الآخر.
والمتحصل انّ
جريان التزاحم واحكامه في الاوامر الاستحبابية يختلف باختلاف المباني.
* * *
٢١٤ ـ التزاحم في
الواجبات الضمنيّة
والمراد من
التزاحم بين الواجبات الضمنيّة هو ضيق قدرة المكلّف عن الجمع بين امتثال جزءين
مثلا من أجزاء مركب واجب ، كما لو دار الأمر عند المكلف بين الصلاة قائما مع
الإيماء للركوع والسجود أو بين الصلاة عن جلوس مع الركوع والسجود الاختياريين. وقد
يكون التزاحم بين جزء وشرط ، وقد يكون بين شرطين.
ومثال الاول : ما
لو كان المكلّف قادرا إمّا على التحفظ على الاطمئنان دون القيام ـ بأن كان غير
قادر على الاطمئنان إلاّ في حال الجلوس ـ أو التحفظ على القيام ولكن دون
الاطمئنان.
ومثال الثاني : ما
لو كان المكلّف
قادرا إمّا على
طهارة اللباس أو طهارة البدن ، وليس قادرا على مراعاة كلا الشرطين ، وذلك كما لو
كان الماء الذي بحوزته لا يكفي إلاّ لتطهير أحدهما.
وفي هذا النحو من
التزاحم ذهب المحقّق النائيني رحمهالله الى انّ المرجع هي مرجّحات باب التزاحم ، وأمّا السيد
الخوئي رحمهالله فنفى أن يكون التزاحم في الواجبات الضمنيّة من التزاحم
المبحوث عنه ، وبنى على دخوله تحت التعارض ، وذلك لان الوجوب عند ما يتعلّق
بالمركّب فإنّ الواجب هو تمام الأجزاء والشرائط ، فلو تعذّر الإتيان ببعض الأجزاء
والشرائط يكون تمام المركب غير مقدور ، إذ انّ عدم القدرة على بعض الأجزاء أو
الشرائط معناه عدم القدرة على تمام المركب ، ولهذا يسقط المركّب من رأس ويكون
ايجاب الناقص مفتقرا الى دليل ، فلا معنى حينئذ للتزاحم بين أجزاء المركب بعد ان
كان الوجوب ساقطا بتعذّر امتثال تمام المركب.
نعم في خصوص
الصلاة قام الدليل الخاص على انها لا تسقط بحال ، وعليه لو عجز المكلّف عن الجمع
بين جزءين أو شرطين أو جزء وشرط يكون المرجع هو ملاحظة أدلة الأجزاء والشرائط ،
وذلك للعلم بعدم وجوب أحدها في ظرف العجز عن الجمع ، إذ من غير المعقول أن يكون
كلا الجزءين واجبين رغم عدم القدرة على امتثالهما معا ، وهذا ما يعبّر عن عدم
واقعية أحد الوجوبين ، وحينئذ يحصل التنافي بين دليلي الجزءين ، إذ كلّ واحد يثبت
الجزئية لمتعلقه وينفيها عن الآخر ، وهذا هو التعارض الموجب لملاحظة الأدلة والتوفيق
بينها ان امكن الجمع العرفي أو الترجيح بأحد المرجحات إن كان وإلاّ كان المرجع هو
ما تقتضيه القاعدة عند استحكام التعارض وعدم وجود المرجح من تساقط أو تخيير على
الخلاف.
٢١٥ ـ التسامح في أدلة
السنن
والمراد من قاعدة
التسامح في أدلة السنن هو ان ما يعتبر في ثبوت الحجيّة للخبر من وثاقة الراوي أو
احتفافه بما يوجب الوثوق بصدوره غير معتبر في الأخبار المتضمنة للمستحبات وكذلك
المكروهات على قول.
فالمراد من
التسامح هو التساهل وعدم متابعة السند للتعرّف على وثاقة الواقعين في سلسلته ،
وكذلك التساهل في تحصيل القرائن الموجبة للوثوق بصدور الخبر.
والمراد من أدلة
السنن هي الروايات الواردة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته عليهمالسلام المتصدّية لبيان المستحبات والمكروهات.
ومدرك هذه القاعدة
مجموعة من الروايات ، وفيها ما هو معتبر سندا ، كمعتبرة هشام بن سالم عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره
وان لم يكن على ما بلغه » .
وهذه الروايات
يعبّر عنها بروايات « من بلغ » ، ومفادها كما اتضح من معتبرة هشام انّ كلّ من بلغه
انّ الفعل الكذائي يترتب على الإتيان به الثواب ففعله فإنّ له ذلك الثواب وان كان
ما بلغه لا يطابق الواقع.
وتقريب الاستدلال
بروايات من بلغ على القاعدة هو انّ هذه الروايات تصحح العمل بكل رواية متضمنة لحكم
استحبابي ، وهذا هو معنى جعل الحجية لاخبار السنن أيّا كان اسنادها ودرجة الوثوق
بصدورها.
هذا وقد ذهب جمع
من الأعلام الى عدم صلاحية أخبار من بلغ لاثبات حجية الخبر الضعيف المتصدي لبيان
حكم استحبابي ، ولهذا تكون شرائط الحجيّة معتبرة حتى في موارد اثبات الأحكام
الاستحبابية ، فلا يجوز للمجتهد ان يفتي باستحباب شيء إلاّ
ان يكون الخبر
الدال على الاستحباب واجدا لشرائط الحجيّة. ولهذا تعارف عنهم القول بلزوم الاتيان
ببعض الآداب والسنن برجاء المطلوبية ، إذ لم يثبت استحبابها بدليل معتبر.
* * *
٢١٦ ـ التشريع
المراد من التشريع
ـ بحسب ما أفاده المحقق النائيني رحمهالله ـ هو اسناد حكم الى الشارع بغير علم بقطع النظر عن علم
المكلّف بعدم كون الحكم من الشارع أو انّه يظن بصدوره عن الشارع أو يشك في ذلك ،
في تمام هذه الصور يكون اسناد الحكم الى الشارع من التشريع حتى لو اتفق واقعية هذا
الحكم المنسوب للشارع ، فمناط التشريع هو النسبة للشارع بغير علم.
وفي مقابل ما ذكره
المحقق النائيني رحمهالله ذهب البعض الى انّ التشريع عبارة عن نسبة الحكم الى الشارع
بغير علم مع اتفاق عدم مطابقة هذه النسبة للواقع ، وبناء على هذا التعريف يكون
الإسناد بغير علم حين اتفاق مطابقته للواقع تجريا ، بخلافه بناء على ما ذكره
المحقّق النائيني رحمهالله فإنّ مجرّد الإسناد بغير علم يكون تشريعا محرما حتى مع
اتفاق مطابقة النسبة للواقع.
وهناك تعريف ثالث
للتشريع ، وهو عبارة عن البناء القلبي بأنّ حكما معينا صادر عن الشارع مع العلم
بعدم صدوره أو الشك في صدوره ، وبناء على هذا التعريف يكون التشريع فعلا جوانحيا
لا يناط تحريمه بترتيب أثر عملي عليه من قول أو فعل.
وكيف كان فقد
استدلّ على حرمة التشريع ـ كما عن الشيخ الأنصاري رحمهالله ـ بالأدلة الأربعة ، وبملاحظة هذه الأدلة يتّضح انّ المراد
من التشريع هو ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله.
فقد استدلّ على
حرمة التشريع
بقوله تعالى ( قُلْ
آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ ) فإنّ عدم الإذن بالاسناد لا يختص بما لو اتفق عدم مطابقة الإسناد للواقع ، إذ
انّ هنا صورتين افترضتهما الآية الشريفة الإذن والافتراء ، فكل ما لا يكون عن إذن
فهو افتراء إمّا حقيقة كما لو اتفق عدم المطابقة وامّا حكما كما لو اتفقت المطابقة
، فمع مطابقة الإسناد للواقع لا يكون الإسناد بغير علم مأذونا به ، فهو إذن في حكم
الافتراء ، وبذلك يثبت المطلوب ، وهو الحرمة حتى مع اتفاق مطابقة الإسناد بغير علم
للواقع لعدم وجود حالة ثالثة لا يكون فيها الإسناد بغير علم مأذونا به ومع ذلك لا
يكون افتراء.
واستدلّ أيضا
بقوله عليهالسلام : « رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار » فرغم
مطابقة قضائه للواقع إلاّ انّه مع ذلك يكون قد ارتكب محرما بمجرّد انّ قضاءه كان
بغير علم.
كما استدلّ لذلك
بما يدركه العقل من قبح إسناد العبد للمولى حكما بغير علم ، إذ انّ ذلك ظلم للمولى
وخروج عن مقتضى العبودية.
ثم انّ صاحب
الكفاية رحمهالله ذهب الى انّ الآيات المانعة عن التشريع ليس لها دلالة على
الحرمة المولوية ، وانّما هي إرشاد الى ما يدركه العقل من قبح التشريع ، نظير قوله
تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ ) . إلاّ انّ المحقق النائيني رحمهالله ذهب الى دلالتها على الحرمة المولوية ، وذلك لأنّ ضابطة
الاوامر والنواهي الإرشادية هو ما كان متعلّقها حكما عقليا واقعا في سلسلة معلولات
الأحكام الشرعية ، أما لو كانت واقعة في سلسلة علل الاحكام الشرعية فإنّها حينئذ
راجعة الى ما يدركه العقل من الحسن والقبح والذي ينشأ عن إدراك المصالح والمفاسد ،
وهذا ما يقتضي كون الخطابات الشرعية في مواردها خطابات تأسيسيّة ، بمعنى ان
الاوامر والنواهي
في موردها مولوية ، وقد أوضحنا ذلك تحت عنوان « الأمر الإرشادي ».
ومع اتضاح ذلك
يتضح انّ ما يدركه العقل من قبح التشريع لا يصيّر النواهي الواردة في الآيات
إرشادية بل هي مولويّة ومقتضية للحرمة المولوية.
وبيان ذلك : انّ
قبح التشريع حكم مدرك بالعقل ابتداء لاشتماله على المفسدة التامة ، وليس ناشئا عن
حكم الشرع بشيء مثلا ثمّ يدرك العقل قبح مخالفته ، فيكون واقعا في سلسلة معلولات
الحكم الشرعي ، كما هو الحال في إدراك العقل لحسن الطاعة وقبح المعصية ، إذ انّ
هذا المدرك منوط بصدور أمر عن الشارع ، وحينئذ يدرك العقل حسن الطاعة ، ولو لم يكن
أمر لما أدرك العقل حسن الطاعة لعدم وجود موضوع للطاعة ، وهكذا الكلام في إدراك العقل
لقبح المعصية فإنّه منوط بوجود نهي.
وأما المقام فليس
من هذا القبيل ، فإنّ إدراك العقل لقبح التشريع ليس منوطا بوجود حكم شرعي في مرحلة
متقدّمة على إدراك العقل بل انّ قبح التشريع مدرك عقلي بقطع النظر عن وجود حكم
شرعي في مرحلة سابقة على المدرك العقلي بل انّ هذا المدرك يكون سببا وعلة في جعل
حكم شرعي هو حرمة التشريع ، فقبح التشريع واقع في سلسلة علل الحكم الشرعي بحرمة
التشريع.
* * *
٢١٧ ـ التشريع العملي
ما ذكرناه سابقا
يعبّر عنه بالتشريع القولي ، وأما التشريع العملي فهو ان يمارس المكلّف فعلا
بعنوان انّه من الدين مع عدم العلم بكونه من الدين ، كما لو كان المكلّف يجهل
بجزئية السورة في الصلاة أو يعلم بعدم جزئيتها ومع ذلك يأتي بها بقصد الجزئيّة.
وهذا النحو من
التشريع يتفق حكما مع التشريع القولي المعبّر عنه بالإسناد ، وذلك لما يدركه العقل
من قبح التصرّف في سلطنة المولى جلّ وعلا ، إذ من الواضح انّ صيرورة الشيء من
الدين من شئون المولى جلّ وعلا وليس لأحد إدخال ما ليس من الدين في الدين ، إذ انّ
في ذلك تجاوز عن حدود العبودية وتقمص لرداء الربوبية ، وليس من شيء أشنع من
التجاسر على حق المولى جلّ وعلا.
* * *
٢١٨ ـ التصويب الأشعري
وهو التصويب الذي
يبني عليه جمع من الاشاعرة ، وحاصله : انّه ليس لله عزّ وجل أحكام واقعية يصيبها
المجتهد أو يخطئها بل انّ الاحكام تابعة لما تقتضيه الأدلة والأمارات ، فقيام
الأمارة هو السبب في نشوء مصلحة في مؤداها ويترتب عن هذه المصلحة جعل الحكم الشرعي
بنحو يتطابق مع مؤدى الأمارة ، ومن هنا يكون كلّ مجتهد مصيبا ، وذلك لأنّه عوّل
فيما تبناه على ما أدت اليه الامارة والمفترض انّه ليس ثمة واقع وراء الامارة حتى
نحتمل عدم مطابقتها له ، فالأحكام انّما تتخلّق عن الأمارة ، فالمجتهد الذي بنى
رأيه على هذه الأمارة يكون رأيه هو الواقع ، والمجتهد الآخر الذي بنى رأيه على
أمارة أخرى ـ متصلة بنفس موضوع الامارة الاولى ـ يكون ما بنى عليه هو الواقع وهكذا
لو قامت أمارة ثالثة مباينة في مؤداها للأمارتين ، فيمكن ان يكون للواقعة الواحدة
حكمان أو ثلاثة أو أكثر ، وتكون تمام هذه الأحكام مصيبة للواقع ، لأن الواقع انّما
يتخلّق عن قيام الامارة.
وهذا الرأي مناف
للنصوص الشرعيّة الكثيرة الدالة على انّ لله عزّ وجل أحكام واقعية ، وانّ له في كل
واقعة حكم ، وانّ
التعرّف عليها يتمّ بواسطة الرسول الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم إمّا بسؤاله وأمّا ان يبدأ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم المسلمين فيبيّن لهم الأحكام فهو الذي يعلّمهم الكتاب والحكمة ، كما انّ هناك
أحكام ناسخة واخرى منسوخة وهو ما يعبّر ان لله أحكام في نفس الأمر والواقع بقطع
النظر عن قيام الأمارة كما هو واضح بأدنى تأمّل.
* * *
٢١٩ ـ التصويب المعتزلي
وهو التصويب الذي
تعتمده المعتزلة ، وحاصله : التسليم بأن لله جلّ وعلا أحكاما في نفس الأمر والواقع
، وأنّ هذه الأحكام ناشئة عن مصالح ومفاسد في متعلقاتها إلاّ انّ هذه الأحكام
إنشائية غير بالغة مرحلة الفعلية والتنجّز ، ولا تبلغ هذه المرحلة إلاّ أن تقوم الأمارة
على طبقها ، وحينما تكون الأمارة مؤدّية لمعنى غير ما عليه الواقع فإنّ قيامها
يكون سببا في نشوء مصلحة في مؤداها أقوى من مصلحة الواقع ، وهذا ما يؤهلها للحجيّة
ولزوم العمل على طبقها دون الواقع ، فيبقى الواقع مجرّد حكم إنشائي لا يصلح لأن
يتعبّد به بعد ان كان مرجوحا بسبب قيام الأمارة على خلافه.
وهذا الرأي غير
مقبول عند الاماميّة وان كان ممكنا في نفسه ، إذ من الممكن ان تكون فعلية الأحكام
الواقعيّة منوطة بكشف الامارة عنها ، فتكون فعليّة الأحكام الواقعيّة خاصة
بالعالمين بها ويكون الجاهل غير مشمول لهذه الأحكام ، إلاّ انّ ذلك مناف لما عليه
اجماع الطائفة من أنّ أحكام الله مشتركة بين العالم والجاهل ، وانّ الامارة انما
لها دور الكشف عن الواقع فقد تصيبه وقد تخطئه ، ومع تخطيها الواقع ومجاوزتها له لا
يكون ذلك مقتضيا لنشوء مصلحة في مؤداها أقوى من مصلحة
الواقع ، نعم يكون
المكلّف معذورا في ارتكابه ما ينافي الواقع.
هذا وقد ادعى
الشيخ الانصاري رحمهالله تواتر الأخبار على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل ،
ولعلّه ـ كما أفاد بعض الاعلام ـ يشير الى روايات الاحتياط الكثيرة جدا والتي
تعبّر عن راجحية التحفظ على الواقع حتى في ظرف الجهل به ، فلو كانت الأمارة مقتضية
لمصلحة أقوى من مصلحة الواقع فما معنى الاحتياط لغرض التحفظ على الواقع ، وما معنى
الحث البالغ حد التأكيد عليه في الشبهات البدوية وحد الوجوب في الشبهات المقرونة
بالعلم الإجمالي ، فذلك يعبّر عن انّ الواقع لا يترجح عليه شيء ، غايته ان المكلف
لا يكون مسئولا عنه في ظرف الجهل ، إلاّ ان ذلك غير دعوى انّ الواقع مختص بالعالم
به وانّه مرجوح لمن قامت عنده الامارة على خلافه.
والذي يؤكد دعوى
الإجماع والروايات الكثيرة الدالة على الاحتياط هي اطلاقات الأدلّة ، حيث رتبت
الأحكام على موضوعاتها دون ان تأخذ العلم قيدا في تلك الموضوعات ، فالحرمة ثابتة
للخمر والميتة والزنا علم المكلّف أو لم يعلم وكذلك النجاسة فإنها ثابتة للبول
والدم بقطع النظر عن علم المكلّف أو عدم علمه وهكذا استحقاق الولد للميراث فإنّه
غير منوط بعلمه.
وأما دعوى استلزام
ذلك لاجتماع حكمين متضادين في مورد الجهل ـ وهما الحكم الواقعي والظاهري ـ فهو
ممّا لا محصل له ، وقد اجيب عنه في بحث امكان التعبد بالظن.
* * *
٢٢٠ ـ التضاد
التضاد هو التنافي
والتباين التام بين الامرين الوجوديين بحيث لا يصدق
أحدهما على شيء من
الآخر ، ومن هنا يستحيل اجتماعهما ، أي تصادقهما على موضوع واحد من جهة واحدة وفي
زمان واحد وان جاز ارتفاعهما عنه ، بمعنى انسلابهما معا عن الموضوع.
ويمكن التعرّف على
علاقة التضاد بين عنوانين بواسطة ما ينشأ عن ملاحظتهما من قضايا ، فإن كانت
ملاحظتهما منتجة لقضيّتين سالبتين كليتين يكون موضوع احداها أحد العنوانين
ومحمولها العنوان الآخر ، وموضوع الثانية العنوان الثاني ومحمولها العنوان الاول
كان معنى ذلك انّ العنوانين متضادّان.
مثلا : لو كان
العنوانان اللذان نبحث عن علاقتهما هما الاسود والأبيض فإنّ ما ينحل عن ملاحظتهما
هو قضيتان سالبتان كليتان ، فيقال : « لا شيء من الاسود أبيض » ، ويقال : « لا شيء
من الابيض أسود » ، فنلاحظ انّ موضوع القضيّة الاولى هو محمول القضيّة الثانية كما
انّ محمول القضية الاولى هو موضوع القضية الثانية.
ثم انّ هنا أمرين
لا بدّ من الإشارة اليهما :
الأمر
الاول : انّ العلاقة
بين المفاهيم ـ بالحمل الأولي ـ دائما تكون بنحو التضاد حتى وان كانت العلاقة
بينهما بالحمل الشائع هي علاقة التساوي ، كما في مفهومي الإنسان والناطق ، فإنّ
العلاقة بينهما بالحمل الشائع هي علاقة التساوي إلاّ انّهما في عالم المفاهيم
متضادان ، وذلك يتّضح بواسطة الضابطة التي ذكرناها للتعرّف على علاقة التضاد ،
فمفهوم الإنسان بقطع النظر عن وجوده الخارجي لا يلتقي مع مفهوم الناطق ولو بنحو
الموجبة الجزئية.
الأمر
الثاني : انّ استحالة
اجتماع الضدين من القضايا الأوليّة البديهيّة ، والتي يكفي في الإذعان والتصديق
بواقعيتها مجرّد تصوّر طرفيها والنسبة
بينهما ، ولهذا
تكون قاعدة استحالة اجتماع الضدين من المراجع التي تحاكم بها القضايا النظرية ، إذ
انّه كلّما آلت قضيّة نظرية الى قضية بديهيّة فهذا يعبّر عن تماميتها وإلاّ فهي
غير تامّة ، إذ لا يمكن إثبات قضية نظرية بقضية نظرية وإلاّ لزم الدور أو التسلسل
ـ كما هو محرّر في محله ـ ولهذا قالوا انّ كلّ ما هو نظري لا بدّ وان يرجع الى ما
هو بديهي.
* * *
٢٢١ ـ التضاد بين الأحكام
التكليفيّة
لا ريب انّ
الاحكام التكليفيّة متضادة فيما بينها ، فليس ثمّة حكم من الأحكام التكليفيّة يمكن
ان يجتمع مع حكم آخر على موضوع واحد ، وذلك لأن الأحكام ليست اعتبارات محضة
وجزافية بل انّها ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها ، وحينئذ يكون الالتزام بامكان
اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد معناه اشتمال الموضوع الواحد على ملاكين
متنافيين وهو مستحيل كما هو واضح.
فالوجوب الثابت
لفعل معناه اشتمال الفعل على مصلحة تامّة ومحبوبيّة شديدة ، وحينئذ يستحيل ثبوت
الحرمة أو سائر الاحكام التكليفيّة لذلك الفعل ، إذ انّ ثبوت الحرمة له معناه
اشتماله على المفسدة التامة والمبغوضيّة الشديدة ، وهو غير معقول ، كما انّ افتراض
ثبوت الاستحباب له معناه انّ المصلحة المشتمل عليها غير تامة وان محبوبيته ليست
شديدة ، وهكذا افتراض سائر الأحكام له.
وبهذا يتبيّن انّ
دعوى التضاد بين الأحكام لا تكون تامة إلاّ مع افتراض تبعية الاحكام للملاكات في
متعلّقاتها وإلاّ فلو كانت الاحكام اعتبارات محضة لما كان هناك أيّ محذور في
اجتماعها على
موضوع واحد ، إذ انّ الاعتبار ـ كما قيل ـ سهل المئونة.
* * *
٢٢٢ ـ التعادل والترجيح
يبحث الأصوليّون
تحت هذا العنوان مسألة التعارض بين الأدلّة. والمقصود من التعادل هو تكافؤ
الدليلين المتعارضين في المزايا كأن يكون كلّ منهما صحيح السند واضح المعنى غير
مخالف لكتاب الله عزّ وجلّ.
وأمّا الترجيح
فالمقصود منه هو اشتمال أحد الدليلين المتعارضين على مزيّة يفتقدها الآخر كأن يكون
واجدا للمرجّح السندي أو الدلالي أو الجهتي أو غير ذلك وقد بحثنا كلّ ذلك في
محلّه.
هذا وقد أفاد
المحقّق النائيني رحمهالله أنّ الأولى تبديل العنوان بالتعارض بين الأدلّة ، وذلك
لأنّ التعادل والترجيح من الحالات والأوصاف التي تلحق الدليلين المتعارضين ،
فالمناسب هو عنونة البحث بعنوان يكون مقسما وجامعا للحالات التي تلحق الأدلّة
المتعارضة.
* * *
٢٢٣ ـ تعارض الأحوال
والبحث في المقام
عن تعارض الأحوال في اللفظ ، والمراد من أحوال اللفظ هو ما يتّصف به اللفظ ـ باعتبارات
مختلفة ـ من حقيقة ومجاز والنقل والاشتراك والتخصيص والتقييد والاستخدام وغيرها.
فقد يكون حال
اللفظ محرزا ، كما لو كنا نحرز استعماله فيما وضع له ، أي بنحو الحقيقة ، أو نحرز
استعماله في المعنى المنقول. وهنا لا إشكال في لزوم ترتيب الأثر على ما هو محرز ،
انّما الكلام فيما لو دار أمر اللفظ بين حالين أو أكثر ولم يكن في البين قرينة على
تعيّن أحدها.
كما لو دار الأمر
بين النقل
والاشتراك أو بين
العموم والاستخدام أو بين المجاز والاشتراك ، فما هو المرجع حينئذ؟
وقد أطال العلماء
في بيان ما هو المرجع عند تعارض أحوال اللفظ ، إلاّ انّ صاحب الكفاية رحمهالله ـ وتبعه جمع من الأعلام ـ أفاد بأنّ الوجوه المذكورة في ذلك لا تعدو عن كونها
استحسانات ظنيّة لا يصح اللجوء إليها ، وانّ الصحيح هو اعتماد ما تقتضيه الظهورات
العرفيّة في كلّ حالة من حالات الدوران ، إذ هي التي جرت عليها السيرة العقلائية
في مقام الاحتجاج والتفهيم.
* * *
٢٢٤ ـ تعارض الاستصحاب مع
الأمارة
ذكرنا في بحث
التعارض بين الاصلين والأصل والأمارة انّ مآل التعارض في الموردين الى التعارض بين
دليلي حجيتهما ، فالتعارض بين الاستصحاب والأمارة يرجع روحا الى التعارض بين دليل
حجيّة الاستصحاب ودليل حجيّة الأمارة.
ولم يستشكل أحد من
الاصوليين في تقدم دليل الأمارة على دليل الاستصحاب إلاّ انّهم اختلفوا فيما هو
المبرّر لهذا التقديم ، فذهب البعض الى انّ المبرّر هو انّ العلاقة بين دليل الأصل
ودليل الأمارة هو علاقة العام والخاص فدليل الأمارة مخصّص ولهذا فهو يتقدّم على
عموم دليل الأصول ، وذهب البعض الى انّ العلاقة بينهما هي علاقة الوارد والمورود ،
والوارد هو دليل الامارة. وذهب آخرون الى انّ العلاقة بينهما هي علاقة الحاكم
والمحكوم ، ودليل الأمارة هو الحاكم.
وبيان ذلك :
أما تقدم دليل
الأمارة على دليل الاستصحاب بالتخصيص فدليله انّ دليل الاستصحاب وان كانت علاقته
مع دليل الأمارة
هي علاقة العموم من وجه ، باعتبار انّ دليل الأمارة قد يجري مورد لا يجري فيه دليل
الاستصحاب ، وهكذا دليل الاستصحاب قد يجري في مورد لا يجري فيه دليل الأمارة ، وقد
يتحدان في مورد واحد ، إلاّ انّه حينما يلاحظ دليل الأمارة مع دليل الاصول
العمليّة ـ والتي منها الاستصحاب ـ تكون النتيجة هي عدم وجود مورد تجري فيه
الأمارة إلاّ وهو مجرى لأحد الاصول العمليّة ، فلو كان البناء هو تقديم الاصول
العمليّة لما بقي مورد تجري فيه الأمارة ، وعندها تكون الأمارة ملغية ، وهذا بخلاف
العكس ، فلو كان البناء هو تقديم الأمارة على الاصول فإنّ الاصول تبقى لها موارد
كثيرة تجري فيها. وهذا ما يعبّر عن انّ العلاقة بين دليل الأمارة ودليل الاصول هي
علاقة العام والخاص. ومن هنا يلتزم بتقدمها في كلّ مورد تجري فيه.
والمبرّر لملاحظة
دليل الأمارة مع دليل تمام الاصول العمليّة دون الاستصحاب وحده هو انّ العلاقة بين
دليل الأمارة ودليل كلّ أصل هي علاقة العموم من وجه ، ومن هنا لا بدّ من ملاحظة
دليل الأمارة مع دليل تمام الاصول ، وعندها تنقلب النسبة من العموم من وجه الى
العموم والخصوص المطلق.
وأمّا دعوى تقدم
دليل الأمارة على دليل الاستصحاب بالورود فقد ذكر صاحب الكفاية رحمهالله لذلك ثلاثة تقريبات نقتصر على بيان أحدها :
وهو انّ المراد من
قوله عليهالسلام « ولكن انقضه بيقين آخر » هو الأمر بالنقض عند قيام الحجّة ، فاليقين ليس إلاّ أحد مصاديق الحجّة ،
فليس له موضوعيّة بحيث لا ينقض اليقين السابق إلاّ باليقين والذي هو القطع والكاشف
التام ، نعم اليقين أجلى
مصاديق الحجّة ،
باعتبار ان حجيّته ذاتيّة إلاّ انّه ليس المصداق الوحيد الصالح لنقض اليقين السابق
، وعليه تكون الأمارة المعتبرة أيضا ناقضة لليقين السابق ، وهذا معناه انّها
كاليقين من حيث إلغاء موضوع الاستصحاب حقيقة ، وذلك لأنّ موضوع الاستصحاب هو
اليقين السابق وعدم قيام الحجّة على انتقاضه ، ومع قيام الأمارة الحجّة ينتفي
موضوع الاستصحاب.
وبتعبير آخر : انّ
موضوع الاستصحاب هو اليقين السابق مع عدم قيام الحجة على انتفاضة ، فإذا قامت
الأمارة ـ والتي هي حجة حقيقة بالتعبّد ـ انتفى موضوع الاستصحاب ، وهذا هو معنى
الورود.
وأمّا دعوى تقدم
دليل الأمارة على الاستصحاب بالحكومة فلأنّ دليل الأمارة انّما يتصرّف في موضوع
الاستصحاب فيضيّق من دائرته تعبدا ، فدليل الاستصحاب مفاده جريان الاستصحاب عند
الشك في بقاء الحالة السابقة المتيقّنة أمّا دليل الأمارة فيتصرّف في موضوع
الاستصحاب ويقول انّه في مورد قيام الأمارة لا شك في البقاء ، فلا صلة لدليل
الامارة بالحكم المجعول في مورد الشك.
وبتعبير آخر : انّ
دليل الأمارة يلغي موضوع الاستصحاب تعبّدا ويقتضي ان لا شك في مورد قيام الأمارة ،
وبه يكون الاستصحاب غير جار لانتفاء موضوعه تعبّدا ، فهو مثل قوله عليهالسلام « لا ربا بين الوالد وولده » ، فإنّ هذا التعبير لا يتصرّف في الحكم بحرمة
الربا ، وانّما يتصرّف في موضوع الحكم وهو الربا ، فيضيّق من دائرته ويخرج منها
الربا بين الوالد والولد ويعتبره ليس من الربا ، ومن هنا ينتفي الحكم بالحرمة
لانتفاء موضوعه تعبدا.
* * *
٢٢٥ ـ تعارض الاستصحاب مع
سائر الاصول
لا خلاف في تقدم
الاستصحاب على سائر الاصول سواء منها العقليّة ـ وهي البراء العقلية والاحتياط
العقلي والتخيير العقلي ـ أو الشرعيّة مثل البراء الشرعيّة والاحتياط الشرعي ،
وانّما الكلام فيما هو المبرّر للتقديم ، وهل هو الحكومة أو الورود أو التخصيص. والوجوه
التي ذكرناها في بحث « تعارض الاستصحاب مع الامارة » يمكن تصويرها في المقام ،
فتأمّل.
وقد تبنى السيد
الخوئي رحمهالله في المقام التفصيل بين تعارض الاستصحاب مع الاصول العقليّة
وتعارضه مع الاصول الشرعيّة ، فذهب الى انّ الاول يكون معه تقدم الاستصحاب بالورود
وأما الثاني فالتقدّم يكون بالحكومة.
أما تصوير ورود
دليل الاستصحاب على سائر الاصول العقليّة فتقريبه أنّ موضوع البراءة العقليّة مثلا
هو عدم البيان ، ودليل الحجيّة للاستصحاب بيان حقيقة ولكن ثبت بواسطة التعبّد
الشرعي ، فلا موضوع للبراءة في مورد جريان الاستصحاب.
وأما تصوير حكومة
الاستصحاب على سائر الاصول الشرعيّة فهو بنفس التصوير الذي ذكرناه في دعوى حكومة
الأمارة على الاستصحاب ، غايته انّ دليل الاستصحاب في المقام حاكم وهناك محكوم.
* * *
٢٢٦ ـ تعارض الاستصحاب مع
قاعدة اليد
والكلام عما هو
المراد من قاعدة اليد سيأتي ايضاحه تحت عنوان « قاعدة اليد » ، والبحث في المقام
متمحّض عمّا لو تعارض الاستصحاب مع قاعدة اليد ، بأن كان مقتضى
الاستصحاب هو عدم
ملكيّة هذا المال لذي اليد ، وكان مقتضى القاعدة هو ملكيّته لما في يده.
وهنا لم يستشكل
أحد في تقدم قاعدة اليد على الاستصحاب ، أما بناء على كون الاستصحاب أصلا عمليا
وان قاعدة اليد أمارة فواضح ، إذ لا ريب في تقدم الأمارة على الاصول العمليّة إمّا
بالتخصيص أو الورود أو الحكومة. وأما لو بنينا على أمارية الاستصحاب أو على انّ
قاعدة اليد أصل عملي كالاستصحاب فهنا أيضا يلزم تقديم قاعدة اليد على الاستصحاب ،
وذلك لأنّه لو كان البناء على تقديم الاستصحاب لاستوجب ذلك حمل أدلّة القاعدة على
الفرد النادر ، إذ انّ غالب الموارد التي تجري فيها قاعدة اليد هي مجرى لاصالة
الاستصحاب ، فقاعدة اليد تقتضي ملكيّة ذي اليد لما في يده ، وواضح انّ ملكيّة الشخص
لشيء غالبا ما يكون بواسطة الانتقال عن ملكيّة شخص آخر ، وهذا ما يعني امكان جريان
استصحاب عدم الملكيّة في حالات الشك كما هو مورد القاعدة ، إذ انّها تجري في حالات
الشك في الملكيّة. بل لو قلنا باستصحاب العدم الأزلي الثابت قبل تكوّن المملوك
فإنّه لا يبقى مورد ـ حتى المباحات الأوّلية ـ إلاّ ويجري فيها الاستصحاب في عرض
قاعدة اليد.
ومن هنا تتقدم
قاعدة اليد على الاستصحاب في موارد جريانهما وإلاّ كانت قاعدة اليد لاغية أو كانت
محمولة على الفرد النادر. على انّ الملاك الذي نصت عليه بعض الروايات من جعل
القاعدة وهو قوله عليهالسلام « لولاه لما قام للمسلمين سوق » يكون منتفيا لو كان البناء
هو تقديم الاستصحاب ـ في موارد جريانه ـ على قاعدة اليد ، وذلك لغالبية اتحاد
مورديهما.
٢٢٧ ـ تعارض الاستصحابين
التعارض بين
الاستصحابين له صورتان :
الصورة
الاولى : ان يفترض
التعارض في مورد يكون فيه أحد الاستصحابين أصلا سببيّا والآخر أصلا مسببيّا ،
ويكون كلّ واحد منهما مقتضيا لغير ما يقتضيه الآخر.
ومثاله : ما لو شك
المكلّف في طهارة ماء كان على يقين من طهارته ، واتّفق ان اغتسل عن الجنابة بهذا
الماء ، فإنّ مقتضى استصحاب الطهارة هو ارتفاع حدث الجنابة ، ومقتضى استصحاب
الجنابة هو البقاء على حدث الجنابة. ومن هنا يتنافى الاستصحابان ويحصل الجزم بعدم
واقعية أحدهما.
والمعروف في مثل
هذه الصورة هو تقديم الاستصحاب الجاري في الموضوع ـ المعبّر عنه بالاستصحاب السببي
ـ على الاستصحاب الجاري في رتبة الحكم والمعبّر عنه بالاستصحاب المسبّبي ، وقد
بينّا المراد من ذلك ومنشأ التقديم تحت عنوان « الاستصحاب السببي والمسبّبي ».
الصورة
الثانية : أن يكون
التعارض بينهما بنحو التنافي العرضي والذي يكون منشأ التنافي في مورده هو العلم
الإجمالي الخارجي بعدم واقعية أحدهما وإلاّ لو قطع النظر عن العلم الإجمالي
الخارجي لما كان بينهما أيّ تناف.
ومثاله : ما لو
علمنا اجمالا بسقوط نجاسة في أحد مائعين ، واتّفق ان كان المائعان معلومي الطهارة
قبل ذلك ، فهذا معناه انّ كلّ واحد من المائعين مجرى لاصالة الاستصحاب إلاّ انّ
إجراءهما معا يصطدم بالعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.
وقد صنّف هذا
النحو من التعارض الى قسمين :
القسم
الاول : أن يكون إجراء
الاستصحاب في الطرفين مؤديا للعلم بالمخالفة العمليّة للواقع ، أي مؤديا للوقوع في
المعصية.
ومثاله : ما لو
كان المكلّف يعلم بعدم وجوب الإنفاق على زوجتيه لنشوزهما ، ثم علم اجمالا برجوع
احداهما للطاعة. فهنا لو أجرينا استصحاب عدم وجوب الإنفاق على الزوجة الاولى وكذلك
الثانية لكان ذلك مقتضيا للمخالفة القطعية العمليّة.
وفي هذه الصورة
ذهب جمع من الاصوليين الى سقوط الاستصحابين عن الحجيّة ، وذلك لأن نسبتهما لدليل
حجيّة الاستصحاب واحدة ، فجعل الحجيّة لأحدهما دون الآخر بلا مرجّح ، وجعلها لهما
معا يستلزم الترخيص في المعصية ، فلا يبقى سوى التخيير أو التساقط ، والأول مفتقر
الى دليل مفقود فيتعيّن الثاني ، وهو سقوطهما معا عن الحجيّة.
القسم
الثاني : أن لا يكون
إجراء الاستصحاب في الطرفين مؤدّيا للعلم بالمخالفة العمليّة للواقع ، أي لا يكون
مؤديا للوقوع في المعصية ، غايته ان إجراء الاستصحاب في الطرفين موجبا للعلم
بالمخالفة الالتزامية للواقع.
ومثاله : ما لو
علم المكلّف باشتغال ذمته بقضاء صلاتين هي صلاة الظهر وصلاة المغرب ثم علم اجمالا
بقضاء احداهما ، فهنا لو أجرى استصحاب اشتغال الذمّة بصلاة الظهر واستصحاب اشتغال
الذمّة بصلاة المغرب لما لزم من ذلك العلم بمخالفة الواقع عملا.
وهنا اختلف
الاعلام ، فذهب الشيخ الأنصاري رحمهالله والمحقّق النائيني رحمهالله الى عدم جريان كلا الاستصحابين بل يسقطان بالمعارضة ويكون
المرجع هو منجزيّة العلم
الإجمالي ، وذهب
الشيخ صاحب الكفاية رحمهالله الى جريان الاستصحاب في كلا الطرفين ، ونتيجة المبنيين
واحدة من حيث تنجّز كلا الصلاتين على المكلّف ، غايته انّ الاول بمقتضى العلم
الإجمالي ، والثاني بالاستصحاب ، إلاّ انّه تترتب ثمرة على الخلاف في بعض الموارد
، وهو الحكم بنجاسة الملاقي لبعض اطراف العلم الاجمالي بناء على جريان الاستصحاب
في الطرفين ، وأما على المبنى الاول فلا يلزم منه الحكم بنجاسة الملاقي لبعض أطراف
العلم الإجمالي.
وبيان ذلك : انّه
لو كان المكلّف يعلم بنجاسة مائعين ثم علم بطهارة أحدهما اجمالا ، فإنّه بناء على
مذهب الشيخ الانصاري رحمهالله وكذلك بناء على مذهب صاحب الكفاية رحمهالله يلزم التجنّب عن كلا المائعين ، غايته انّ المنشأ للزوم الاجتناب بناء على
مذهب الشيخ رحمهالله هو تنجّز العلم الإجمالي بعد سقوط كلا الاستصحابين عن
الحجيّة ، وأما بناء على ما ذهب اليه صاحب الكفاية رحمهالله فالمنشأ هو جريان كلا الاستصحابين المنجّزين ، فنتيجة
المبنيين واحدة من جهة لزوم الاجتناب عن كلا المائعين إلاّ انّ الثمرة تظهر لو
لاقى شيء أحد المائعين ، فإنّه بناء على مذهب الشيخ رحمهالله لا يكون ذلك الشيء الذي لاقى أحد الطرفين متنجسا ، وأمّا
بناء على جريان الاستصحاب في الطرفين فإنّ الملاقي يكون محكوما بالتنجّس ، وذلك
لأنّ الملاقي للطرف ملاق للمتنجّس تعبّدا بالاستصحاب. فإنّ الملاقي يكون محكوما
بالتنجّس ، وذلك لأن الملاقي للطرف ملاق للمتنجّس تعبدا بالاستصحاب.
وكيف كان فقد
استدلّ صاحب الكفاية رحمهالله على جريان الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي بدعوى
انّ موضوع الاستصحاب متحقّق في
كل طرف فيكون
مشمولا لدليل الحجيّة هذا مع افتراض عدم المانع من جريانه ، إذ المانع المتصوّر في
إجراء الاستصحاب في تمام أطراف العلم الإجمالي هو لزوم المخالفة العمليّة القطعيّة
وهو غير متحقّق في هذا الفرض كما هو واضح.
وأمّا الشيخ
الأنصاري رحمهالله فقد استدلّ على عدم الجريان في تمام الأطراف بدعوى اجمال
دليل الحجية للاستصحاب ، وذلك لأنّ قوله عليهالسلام « لا تنقض اليقين بالشك » يقتضي جريان الاستصحاب في كل طرف
لتوفره على موضوع الاستصحاب ، إذ انّه كان متيقنا ثم وقع الشك في بقائه إلاّ انّه
مع ملاحظة ذيل الرواية « ولكن تنقضه بيقين آخر » يحصل الإجمال ، وذلك لأن مقتضى
اطلاق اليقين الآخر الشمول لليقين الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة.
وبتعبير آخر انّ
ملاحظة مجموع الصدر والذيل يوجب اجمال المراد من الرواية من هذه الجهة ، وذلك لأن
مقتضى الصدر جريان الاستصحاب في كلّ طرف لأنّه متوفر على شرط الجريان وهو اليقين
السابق والشك اللاحق ، وهذا منحفظ في كل طرف. وملاحظة الذيل تقتضي عدم جريان
الاستصحاب في تمام الاطراف ، وذلك لانتقاض الحالة السابقة بالعلم الإجمالي ، فيحصل
التنافي بين الصدر والذيل ، وهذا ما يوجب الإجمال في الرواية.
وأجاب عنه السيد
الخوئي رحمهالله انّ اليقين الآخر الموجب لانتقاض اليقين السابق انّما هو
اليقين التفصيلي ، وذلك لظهور الرواية في وحدة متعلق اليقينين ، ولمّا كان متعلق
اليقين الاول هو النجاسة التفصيليّة ـ مثلا ـ لهذا الطرف ولذاك الطرف فلا بدّ وان
يكون اليقين متعلّقا بعين ما تعلّق به اليقين السابق ، بأن يحصل العلم تفصيلا
بطهارة الإناء
الاول ـ مثلا ـ فينتقض اليقين الاول في مورده ، على انّه لو سلّم الإجمال في أحد
أدلّة الاستصحاب لا يكون ذلك موجبا لسريان الإجمال للأدلة الاخرى.
والنتيجة ـ بنظر
السيد الخوئي رحمهالله انّه لا مانع من جريان الاستصحاب في تمام أطراف العلم
الإجمالي إذا لم يكن ذلك مستوجبا للمخالفة القطعية العمليّة.
* * *
٢٢٨ ـ تعارض الإطلاق
البدلي والإطلاق الشمولي
والبحث في المقام
عما لو اتفق ورود دليلين أحدهما مطلق بالاطلاق الشمولي والآخر مطلق بالإطلاق
البدلي ووقع التنافي بينهما في مادة الاجتماع ، فهل يكون هذا المورد من صغريات
التعارض المستقر أو انّه من موارد التعارض البدوي والذي يمكن معه الجمع العرفي.
ومثال ذلك هو ما
لو ورد دليل بهذا اللسان « لا تكرم الفاسق » ، وورد دليل آخر بهذا اللسان « أكرم
عالما » ، فإنّ مقتضى الاطلاق الاول هو حرمة اكرام كلّ فرد من أفراد الفاسق ،
ومقتضى الإطلاق الثاني هو وجوب اكرام أي فرد من أفراد العلماء حتى لو كان فاسقا ،
فالتنافي يقع في مادة الاجتماع وهو العالم الفاسق ، فإنّ مقتضى الدليل الاول هو
حرمة اكرامه ، ومقتضى الدليل الثاني هو صحة تطبيق امتثال الأمر بالطبيعة عليه ،
فلو أكرم العالم المتّصف بالفسق لكان قد امتثل الأمر باكرام عالم.
فالإطلاق في
الدليل الاول شمولي بمعنى ان الحكم فيه بالحرمة ينحل الى حرمات بعدد أفراد طبيعة
الفاسق ، والإطلاق في الدليل الثاني بدلي ، بمعنى انّ الأمر متعلّق بصرف الطبيعة ،
والمكلّف في سعة من جهة تطبيق
الطبيعة على أيّ
فرد من أفرادها ، فالحكم واحد في مورد الاطلاق البدلي ومتعلّق بصرف طبيعة العالم.
وباتّضاح ذلك نقول
: انّ المعروف بينهم انّ هذا المورد من صغريات التعارض البدوي والذي يمكن معه
الجمع العرفي ، وانّ مقتضى الجمع العرفي هو تقديم الاطلاق الشمولي على الاطلاق
البدلي. ومن هنا يكون المقدم في المثال ـ في مادة الاجتماع ـ هو حرمة إكرام الفاسق
العالم ، وبه لا يكون إكرامه امتثالا للأمر بالطبيعة في الدليل الثاني.
وفي مقابل هذه
الدعوى ذهب الشيخ صاحب الكفاية رحمهالله الى عدم وجود ما يبرّر التقديم بعد ان كان الإطلاق في كلا
الدليلين مستفادا من مقدمات الحكمة.
وقد ذكر المحقق
النائيني رحمهالله لصالح الدعوى الاولى ثلاثة وجوه نبيّن واحدا منها :
انّ تقديم الإطلاق
البدلي معناه نفي الحكم المفاد بواسطة الاطلاق الشمولي عن الفرد الواقع في مادة
الاجتماع بخلاف العكس ، فإنّ القول بتقديم الشمولي لا يلزم منه ذلك ، وغاية ما
يلزم هو تضييق دائرة الخيار للمكلّف ، بحيث لو لا الإطلاق الشمولي لكانت دائرة
التخيير للمكلّف أوسع ، إذ يمكنه تطبيق امتثال الأمر بالطبيعة على الفرد الواقع في
مادة الاجتماع.
وبيان ذلك : انّ
الإطلاق الشمولي ـ كما ذكرنا ـ يقتضي انحلال الحكم الى أحكام بعدد أفراد الطبيعة ،
فكلّ واحد من هذه الأحكام له طاعة ومعصية مستقلّة فلا يكون امتثال واحد منها مجزيا
عن امتثال الآخر ، فلا بدّ من امتثال الآخر وما بعده وهكذا.
وأما الإطلاق
البدلي فليس كذلك بل هو حكم واحد متعلقه صرف
الوجود للطبيعة ،
غايته انّ المكلّف في سعة من جهة اختيار أيّ فرد من أفراد الطبيعة لجعله موردا
لامتثال الأمر بالطبيعة ، وحينئذ لا يكون المنع عن تطبيق امتثال الأمر على فرد من
أفراد الطبيعة موجبا لرفع اليد عن الحكم ، وهذا بخلاف المنع عن فرد من أفراد
الطبيعة في الإطلاق الشمولي فإنّه يعني رفع اليد عن الحكم الوارد على ذلك الفرد ،
وذلك لما ذكرناه من انّ لكلّ فرد حكم مستقل عن الأحكام الاخرى الثابتة لسائر أفراد
الطبيعة ، فلو قدمنا الاطلاق البدلي للزم من ذلك رفع اليد عن حكم بلا مبرّر لذلك
بعد امكان التحفّظ عليه والتحفّظ على الحكم الوارد في الإطلاق البدلي.
* * *
٢٢٩ ـ تعارض الإطلاقين من
وجه
وهو من الموارد
التي وقع البحث عن انها من صغريات التعارض المستقر أو من صغريات التعارض البدوي
والذي يمكن معه الجمع العرفي.
ومثاله : ما لو
ورد دليل لسانه « أكرم العلماء » ، وورد دليل آخر لسانه « لا تكرم الفساق » ،
فإنّه لو تمّ الإطلاق في الدليلين فإنّه يحصل التنافي في مادة الاجتماع وهي العالم
الفاسق ، فإنّ مقتضى الإطلاق الاول هو وجوب اكرامه ومقتضى الإطلاق الثاني هو حرمة
اكرامه الاّ انّ المعروف هو عدم تمامية الإطلاق في كلا الدليلين ، وذلك لأن
الإطلاق ليس مستفادا من الوضع ـ كما هو مبنى البعض ـ بل هو مستفاد من قرينة الحكمة
والتي لا تتصل بنفس اللفظ ، فالحكم انما هو مجعول على الطبيعة المهملة ، والاطلاق
ـ وكذلك التقييد ـ انّما يعرضها بواسطة دال آخر ، فتقييد الطبيعة مستفاد من ذكر
القيد ، وأما الإطلاق فيستفاد بواسطة مقدمات الحكمة والتي منها عدم نصب قرينة
على عدم إرادة
الاطلاق او عدم وجود ما يصلح للقرينية.
والمقام من موارد
احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على عدم إرادة الإطلاق ، وذلك لأنّ إرادة الاطلاق
في الدليل الاول منافية لإرادة الإطلاق في الدليل الثاني ، فالتعبّد بكلا
الإطلاقين تعبّد بالمتناقضين ، والتعبّد باطلاق أحدهما دون الآخر بلا مرجح ،
فيتعين عدم انعقاد الإطلاق في كلا الدليلين.
فالاطلاق انّما هو
مستفاد من حكم العقل وهو قرينة الحكمة ، والعقل لا يمكن ان يحكم بالاطلاق في كلا
الدليلين أو في أحدهما المعيّن ، فلا موجب لانعقاد الاطلاق فيتعيّن الاهمال في كلا
الدليلين من جهة مادة الاجتماع وهي العالم الفاسق ، فلا محيص من الرجوع الى الاصول
العمليّة لو لم يكن ثمة عمومات أو اطلاقات لبيان حكم العالم الفاسق.
وما ذكرناه مختصّ
بالاطلاقين المتسانخين كأن يكون كلّ منهما اطلاقا شموليا أو بدليا ، أما لو كان
أحدهما شموليا والآخر بدليا فقد أفردنا لهذا الفرض عنوانا مستقلا.
* * *
٢٣٠ ـ التعارض العرضي
وهو في مقابل
التعارض الذاتي الناشئ عن استحالة اشتمال متعلّق واحد على حكمين متغايرين ، ومن
هنا كان دليل كلّ واحد من الحكمين مقتضيا لنفي مدلول الدليل الآخر ، بمعنى انّ
وحدة المتعلّق لمدلولي الدليلين هي التي نشأ عنها نفي مدلول الدليل الاول لمدلول
الدليل الثاني وإلاّ لو كان المتعلّق متعددا لما كان لمدلول الدليل الاول صلاحية
النفي لمدلول الدليل الآخر وهكذا العكس ، فلو كان متعلّق الحرمة هو شرب الخمر
ومتعلّق الوجوب هو الصلاة فإن
الاول لا يقتضي
نفي الثاني ولا العكس.
والمتحصل انّ
التعارض الذاتي هو ما يكون فيه مؤدى كلّ واحد من الدليلين نافيا لمؤدى الدليل
الآخر بنفسه. أي انّ ملاحظة كلا الدليلين بنفسهما تكون مفضية للجزم بعدم واقعية
مؤدى أحدهما.
وأما التعارض
العرضي فهو التنافي بين مدلولي الدليلين الناشئ عن العلم الإجمالي الخارجي بعدم
واقعية أحدهما وإلاّ فلا تنافي بينهما لو قطع النظر عن العلم الإجمالي الخارجي ،
وذلك لافتراض انّ متعلّق كل واحد من مدلولي الدليلين يختلف عن متعلّق الآخر.
ومثاله : ما لو
كان مدلول الدليل الاول هو وجوب شيء وكان مدلول الدليل الآخر هو حرمة شيء آخر
فإنّه لا منافاة بين مدلولي الدليلين أصلا ، إلاّ انّه لو اتّفق ان علمنا بعدم
واقعية أحدهما غير المعين فإنه يحصل التعارض ، وذلك لأن هذا العلم الإجمالي
المستفاد من خارج الدليلين أوجب ان ينفي كل واحد من مدلولي الدليلين مدلول الدليل
الآخر بعد ان يثبت مدلول نفسه ، فالمدلول الاول يثبت الوجوب لمتعلقه وينفي الحرمة
عن متعلق المدلول الآخر وكذلك العكس ، ومن هنا نشأ التنافي والتكاذب بين الدليلين.
* * *
٢٣١ ـ التعارض بين
الأدلّة
المراد من التعارض
هو التنافي بين مؤدى دليلين بنحو يعلم بعدم واقعيّة أحدهما ، وهذا التنافي قد يكون
بنحو التناقض كما لو كان مفاد أحد الدليلين الإيجاب وكان مفاد الآخر عدم الإيجاب ،
وقد يكون بنحو التضاد كما لو كان مفاد أحدهما الإيجاب ومفاد الآخر الحرمة.
ومنشأ التنافي هو
انّ الاحكام متضادة فيما بينها ، وذلك لنشوئها عن
ملاكات في متعلقاتها
، وحينئذ لا يتعقل ان يكون لفعل واحد من جهة واحدة حكمان متغايران ، إذ انّ ذلك
معناه اشتمال الفعل على ملاكين يقتضي كل واحد منهما غير ما يقتضيه الآخر.
ومن هنا يتّضح انّ
التعارض لا يختص بما لو كان مؤدى الدليلين حكمين إلزاميين متغايرين ، إذ انّ معنى
وجوب الفعل انّه مشتمل على مصلحة تامة موجبة لايجابه ، ومعنى كراهة أو استحباب نفس
الفعل انّه مشتمل على مفسدة مانعة عن ايجابه أو مشتمل على مصلحة ليست بالغة حدا
تستوجب جعل الوجوب عليه.
كما اتّضح أيضا
انّ كلّ حكم فهو يتحمل مدلولين ، الاول مطابقي والآخر التزامي ، فالوجوب مثلا
مدلوله المطابقي هو الإلزام وجعل العهدة على المكلّف تجاه متعلقه وأما مدلوله
الالتزامي فهو نفي تمام الاحكام الأخرى عن متعلقه. وواضح انّه لو لا انّ الاحكام
ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها لما كان لكل حكم مدلول التزامي ، إذ لا مانع حينئذ
من ان يكون للفعل الواحد حكمان أو أكثر.
ويترتب على ما
ذكرناه ان التعارض دائما يؤول الى التناقض ، فلو كان مفاد الدليل الاول هو الوجوب
وكان مؤدى الدليل الثاني هو حرمة نفس الفعل الذي أثبت الدليل الاول وجوبه ، فهذا
معناه التناقض بين مؤدى الدليلين ، إذ انّ الدليل الاول في الوقت الذي يكشف عن
الوجوب لمتعلقه ينفي الحرمة عنه كما ينفي سائر الأحكام ، والدليل الثاني يثبت
بواسطة مدلوله المطابقي الحرمة لمتعلقه وينفي بمدلوله الالتزامي سائر الاحكام بما
فيها الوجوب ، فالمدلول المطابقي لكلا الدليلين وان كانا متضادين إلاّ انّ مدلول
أحدهما المطابقي يناقض مدلول الآخر الالتزامي.
وحتى يتبلور مركز
التعارض بين
الأدلّة نقول :
انّ التنافي المبحوث عنه في المقام انّما هو التنافي في مرحلة الجعل ، أي مرحلة
انشاء الاحكام وجعلها على موضوعاتها المقدرة الوجود ، وذلك لما ذكرناه من انّ
الاحكام ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها ، وهذا معناه ان كلّ حكم يراد جعله على
موضوع لا بدّ وان يتناسب مع نحو الملاك ومرتبته ، ومن هنا ينشأ التنافي بين
الأحكام ، إذ ملاكاتها لها تقرّر ووجود في نفس الأمر والواقع ، ومن المستحيل ان
يكون المتعلّق واجدا للمصلحة التامّة والمفسدة التامة ، واذا كان كذلك فالمتعلّق
له حكم واحد متعيّن واقعا ويستحيل ان يثبت له حكم آخر غير الحكم المسبّب عن الملاك
المتقرّر له في نفس الأمر والواقع.
هذا بحسب مقام
الثبوت ، وأما مقام الإثبات والذي هو الأدلة الإثباتية الحاكية عما عليه الواقع
فلا بدّ وان تعبّر عما عليه مقام الثبوت وهو انّ المتعلّق الواحد لا يكون له أكثر
من حكم واحد يتناسب مع ملاكه ، فلو كانت الأدلّة الإثباتية والتي تتصدّى للكشف عن
الجعل مقتضية لثبوت حكمين متغايرين لمتعلّق واحد فإنّه يحصل الجزم بعدم واقعيّة
أحدهما ، إلاّ انّه لمّا لم نكن مطلعين على الحكم المتعيّن ثبوته يحصل التردد في
أيّ الحكمين هو المطابق للواقع.
فالتعارض إذن بين
الأدلة المثبتة لحكمين متغايرين لمتعلّق واحد انّما هو باعتبار تصديها للكشف عن
الاحكام الإنشائية المعبّر عنها بالجعل ، وباعتبار انّ الاحكام الإنشائية متقرّرة
في نفس الأمر ويستحيل ان يثبت أكثر من حكم إنشائي لمتعلق واحد لأجل ذلك يحصل
التنافي بين الأدلّة الإثباتيّة إذا كان مؤدى أحدها يقتضي حكما منافيا لما يقتضيه
مؤدى الدليل الآخر رغم اتحاد المتعلّق.
٢٣٢ ـ التعارض بين
الأصلين وبين الأصل والامارة
والتعارض بين
الأصلين هو ما لو اتّفق ان كانت البراءة ـ مثلا ـ المقتضية للإباحة جارية في مورد
، وكان الاستصحاب المقتضي للحرمة جاريا في نفس المورد.
وفي الواقع انّ
هذا النحو من التعارض ليس تعارضا بين الأصلين وانّما هو تعارض بين دليلي حجيتهما ،
إذ انّ التعارض بين الأصلين غير معقول ، وذلك لأنّ دور الأصل هو بيان ما هو
الوظيفة المقرّرة على المكلّف ، وليس وراء الأصل منكشف يكشف عنه ، فالبراءة لا
تقتضي أكثر من التأمين والتعذير والاستصحاب لا يقتضي في المثال أكثر من التنجيز ،
واذا كان كذلك فليس لأيّ واحد نفي الآخر ، والذي هو قوام التعارض.
وهذا بخلاف دليلي
حجيتهما فإنّهما يكشفان عن واقع وراءهما ، وهو انّ الشارع جعل الحجيّة للبراءة
مثلا في هذا المورد دون غيرها من الاصول ، وجعل الحجيّة للاستصحاب في هذا المورد
دون غيره من الاصول ، وعليه لا بدّ من ملاحظة دليلي الحجيّة لهما للتعرّف على
المتقدم منهما من المتأخر ، وبأيّ نحو يكون ذلك التقدم أو للتعرّف مثلا على
سقوطهما عن الحجيّة.
وأما التعارض بين
الأمارة وبين الأصل العملي كما لو كان مفاد الأمارة هو الحلية ومقتضى الأصل وهو
الاستصحاب مثلا هو التنجيز ، فالتعارض هنا أيضا يؤول الى التعارض بين دليلي
حجيتهما ، وذلك لأنّ الاستصحاب ليس له محكي يحكي عنه حتى يكون صالحا لنفي مفاد
الأمارة.
ومن هنا لا يكون
بين مقتضى الأصل ومفاد الأمارة تعارض ، نعم
دليل الأصل
والقاضي بجريان الاستصحاب وبالتالي التنجّز ينافي دليل حجيّة الامارة المقتضية
للحليّة ، وذلك لأنّ دليل الحجيّة للاصل يثبت الاستصحاب المقتضي للتنجّز ، وإثباته
للحجيّة له معناه نفي الحجيّة عن الأمارة المقتضية للحليّة ، وكذلك دليل الحجيّة
للأمارة فإنّه في الوقت الذي يثبت الحجيّة لما تقتضيه الأمارة ينفيها عن الأصل
المقتضي للتنجّز.
والمتحصل انّ
التعارض لا يتصوّر إلاّ بين الأدلّة المحرزة المعبّر عنها بالأدلّة الاجتهاديّة ،
وأمّا التعارض بين الاصول أو بين الاصول والأمارات فإنّه يؤول روحا الى التعارض
بين الأدلّة المحرزة.
* * *
٢٣٣ ـ التعارض بين
الإطلاق والعموم
من الواضح انّ
أحكام التعارض انّما تجري في ظرف استحكامه ، أما مع امكان الجمع العرفي بالتخصيص
أو الحكومة أو الورود أو غير ذلك فإنّ أحكام التعارض من الرجوع الى المرجّحات أو
التخيير أو التساقط لا تجري.
إلاّ انّه وقع
البحث صغرويا في بعض الموارد ، وهل انها من حالات التعارض المستحكم أو انّها من
التعارض البدوي والذي يمكن معه الجمع العرفي. ومن هذه الموارد ما لو وقع التعارض
بين عام ومطلق.
كما لو ورد عام
مفاده يجب اكرام كلّ العلماء ، وورد مطلق مفاده يحرم اكرام الفساق ، فإنّ مقتضى
العموم هو وجوب اكرام العلماء الفساق ، ومقتضى الاطلاق هو حرمة اكرام العلماء
الفساق ، فالتنافي بينهما في مادة الاجتماع.
والكلام هنا عن
انّه هل يمكن الجمع العرفي بين الدليلين بحيث ترتفع
المنافاة بينهما
أو انّ التعارض بينهما مستحكم ، وعليه يكون المرجع هو أحكام باب التعارض.
والمعروف بين
العلماء انّ حالة من هذا القبيل تكون موردا للتعارض البدوي الذي يكون علاجه بواسطة
الجمع العرفي. وقد وجّهت هذه الدعوى بما حاصله :
انّ العموم لمّا
كانت دلالته على الاستيعاب والشمول وضعية فظهوره في ذلك يكون تنجيزيا ، بمعنى انّه
غير منوط بشيء آخر غير ما يقتضيه الوضع اللغوي لألفاظ العموم. وأما الاطلاق فظهوره
في الاستيعاب والشمول منوط بتمامية مقدمات الحكمة ، والتي منها عدم وجود قرينة
صارفة للكلام عن الاطلاق ، فظهوره إذن في الإطلاق تعليقي أي معلّق على مقدمات
الحكمة ، وحينئذ يكون المقدم في المقام هو العموم ، إذ انّه قرينة على عدم إرادة
الإطلاق جدا أو لا أقل ان العموم صالح للقرينيّة على عدم إرادة الإطلاق ، فتكون
النتيجة هي وجوب اكرام العلماء حتى الفساق ، ويكون مفاد الدليل الآخر « المطلق »
هو حرمة اكرام الفساق من غير العلماء.
إلاّ انّ الشيخ
صاحب الكفاية رحمهالله لم يقبل بهذه الدعوى وذهب الى استحكام المعارضة في مادة
الاجتماع ، وقرّب ذلك بأنّ الاطلاق وان كان انعقاده معلّقا على تماميّة مقدمات
الحكمة والتي منها عدم وجود ما يصلح للقرينية إلاّ انّ ذلك ليس للأبد وإلاّ لم
ينعقد اطلاق أصلا ، وذلك لاحتمال وجود قرينة لم يتم العثور عليها. والمتحصل انّ
الظهور في الاطلاق ينعقد بمجرّد انتهاء المتكلم من كلامه مع عدم نصب قرينة على عدم
إرادة الإطلاق جدا وعدم وجود قرينة لبيّة محتفة بالكلام بحيث تصلح لأن يتكل عليها
المتكلم في مقام البيان.
واجيب عن دعوى
صاحب الكفاية رحمهالله بأن الظهور في الاطلاق وان كان ينعقد بمجرّد انتهاء
المتكلم من كلامه مع عدم وجود قرينة على عدم إرادة الاطلاق إلاّ انّ هذا الظهور في
الاطلاق يسقط عن الحجيّة بعد ورود القرينة على الخلاف أو بعد ورود ما يصلح
للقرينية ، بمعنى انّ القرينة المنفصلة لا تنفي الإرادة الاستعماليّة للإطلاق إلاّ
انّها تنفي الإرادة الجدّيّة والتي هي مناط الحجيّة ، على انّه لا مانع من انعقاد
الإطلاق لو جرت عادة المتكلّم ـ كما هو الحال في خطابات الشارع ـ على اعتماد
القرائن المنفصلة ، وحينئذ لا بدّ من الفحص قبل الاعتماد على الاطلاق ، فمتى ما
تمّ العثور على القرينة فإنّ ذلك يستوجب انكشاف عدم إرادة الإطلاق جدّا وان كان
الإطلاق مرادا استعمالا لغرض في نفس المتكلم.
فالنتيجة انّه لا
فرق بين القرينة المتّصلة والمنفصلة من حيث عدم صحة الاعتماد على الاطلاق ، غايته
انّ القرينة المتصلة تمنع من انعقاد الظهور الاستعمالي للاطلاق ، وأمّا القرينة
المنفصلة فهي تهدم الظهور الجدّي للاطلاق ، وبهذا يكون مقتضى الجمع العرفي بين
العموم والإطلاق المتنافيين هو العمل بمقتضى العموم في مادة الاجتماع واختصاص
الاطلاق بمادة الافتراق.
* * *
٢٣٤ ـ التعارض بين الدليل
اللفظي والدليل العقلي
التعارض قد يكون
بين دليلين لفظيين ، وقد يكون بين دليلين عقليين ، وقد يكون بين دليل عقلي ودليل
لفظي ، وروايات العلاج سواء المفيد منها للترجيح بالمرجحات أو المفيد للتخيير أو
التوقف والإرجاء كلها متصدية لمعالجة التعارض في
الأدلّة اللفظية ،
وهي خارجة هنا عن محل الكلام ، ونقتصر في المقام على الفرضين الآخرين.
أما
الفرضية الاولى : وهي ما اذا كان التعارض بين دليلين عقليين فيمكن تصنيفها الى ثلاث حالات :
الاولى : ما لو كان التعارض بين دليلين عقليين قطعيين ، وهذا ما
لا يمكن اتفاقه ، وذلك لاستحالة ان يدرك العقل بنحو قطعي حكمين متغايرين لموضوع
واحد ، إذ انّ إدراك العقل القطعي لحكم معناه تصديه أولا لتحديد موضوعه من تمام
حيثياته بحيث لا يدع مجالا للمرونة في الموضوع ، وبعد ذلك يدرك الحكم المناسب له ،
وحينئذ لا يتعقل ان يكون له حكمان متغايران رغم اتحاد الموضوع ، ولو توهّم وقوع
التعارض في الفرض المذكور فإنّه بأدنى التفات الى حدود الموضوع يرتفع التعارض
ويتّضح امّا عدم إدراك العقل لأحد الحكمين أو انّ موضوع كلّ واحد منهما مباين
لموضوع الآخر. ومن هنا لا يتعقل التعارض في الأحكام العقلية القطعية.
الثانية : ما لو كان التعارض بين حكمين عقليين إلاّ انّ أحدهما
قطعي والآخر ظني ، كما لو كان مقتضى الدليل العقلي القطعي هو الحرمة باعتبار انّ
متعلقه من الظلم القبيح ، وكان مقتضى الدليل العقلي الظني هو الجواز باعتبار انّ
ذلك هو المتناسب مع القياس ـ بناء على حجيته ـ ، وهنا يكون المقدم هو الدليل
العقلي القطعي ، وذلك لوروده على الدليل الظني.
وورود الدليل
العقلي القطعي انّما هو بلحاظ مرحلة الحجيّة للدليل الظني العقلي ، بمعنى انّه
تلاحظ علاقة الدليل العقلي القطعي مع دليل الحجيّة للدليل العقلي الظني فتكون
النتيجة هي الورود باعتبار انّ الحجيّة الثابتة للدليل العقلي الظني انّما هو في
حالة
الشك في الحكم
الواقعي ، والدليل العقلي القطعي يلغي موضوع الحجيّة للدليل الظني حقيقة ، أي انّه
يلغي الشك في الحكم الواقعي والذي هو موضوع الدليل العقلي الظني ، وهذا هو الورود.
وبتعبير آخر :
الدليل العقلي الظني انّما هو حجّة في اثبات الجواز لو كان هناك شك في الحكم
الواقعي ، ومع قيام الدليل القطعي لا يكون هناك شك في الحكم الواقعي ، ومن هنا
يكون مآل التعارض بين الدليل العقلي القطعي والدليل العقلي الظني هو توهم اتحاد
الموضوع في الحكمين ، والواقع ليس كذلك ، فمثلا لو حكم العقل بنحو قطعي بانّ
التصرّف في أموال الغير قبيح لأنه ظلم ، وكان مقتضى القياس هو جواز التصرّف ، فإن
موضوع الحكم العقلي القطعي هو التصرّف في أموال الغير وأما القياس فهو التصرف في
الأموال باعتبار الشك مثلا في مملوكيتها لمالك محترم ، فموضوع كلّ واحد من الحكمين
مباين لموضوع الآخر.
الثالثة : ما لو كان التعارض بين دليلين عقليين ظنيين كأن كان
أحدهما يقتضي الايجاب والآخر عدمه ، فهنا يكون مآل التعارض الى التعارض بين دليلي
حجيتهما ، فلا بدّ من ملاحظتهما لغرض العلاج بحسب ما تقتضيه الضوابط المقررة في
باب التعارض ، فقد يكون دليلا الحجيّة لفظيين ، وقد يكونان عقليين قطعيين ، وقد
يكونان شرعيين غير لفظيين.
وأما
الفرضية الثانية : وهي ما لو كان أحد الدليلين عقليا والآخر لفظيا فله ثلاث حالات أيضا :
الاولى : ان يكون الدليل العقلي قطعيا ويكون الدليل اللفظي ظنيا ،
وحينئذ يكون الدليل العقلي القطعي واردا على الدليل اللفظي الظني ، ووروده انما هو
على دليل الحجيّة للدليل اللفظي الظني بنفس البيان السابق.
الثانية : ان يفترض العكس ، وهنا يكون الدليل اللفظي القطعي واردا
على الدليل العقلي الظني بنفس البيان.
الثالثة : ان يفترض كون الدليلين العقلي واللفظي ظنيين ، وهنا يكون
مآل التعارض بينهما الى التعارض في دليلي الحجيّة فيأتي نفس البيان المذكور في
الحالة الثالثة من الفرضيّة الاولى.
وهنا أمر نبّه
عليه السيد الصدر رحمهالله وهو انّ التعارض الذي يكون أحد طرفيه أو كلاهما عقليا لا
يتصور فيه الجمع العرفي والذي تكون وظيفته الكشف عن المراد الجدّي للشارع ، نعم
يتصور الجمع العرفي ـ في مورده ـ بالورود فحسب في بعض حالات التعارض كما أوضحنا
ذلك.
فالتعارض بين
الدليلين العقليين الظنيين وكذلك العقلي الظني واللفظي الظني يؤول دائما الى
التعارض بين دليلي الحجيّة لهما. وهذا بخلاف التعارض بين الدليلين اللفظيين فإنّ
من الممكن الجمع العرفي بينهما لغرض الكشف عن المراد الجدّي للشارع ، وبذلك يزول
التعارض ، ولا نحتاج عندئذ لملاحظة دليلي الحجيّة للدليلين المتعارضين ، نعم تكون
الحاجة للرجوع الى دليلي الحجيّة في الأدلة اللفظية المتعارضة في حالة تعذر الجمع
العرفي ، إذ يكون المرجع هو أدلة العلاج والتي يكون نظرها الى دليلي الحجيّة ،
فتقول مثلا : انّ خبر الثقة إذا منافيا للكتاب المجيد أو كان موافقا للعامة يكون
ساقطا عن الحجيّة بخلاف الخبر الموافق للكتاب أو المخالف للعامّة ، ولو لم يمكن
الاستفادة من روايات العلاج فإنّ المرجع هو ما تقتضيه القاعدة من التساقط مثلا ،
والملاحظ هنا هو دليلا الحجيّة للخبرين أيضا.
* * *
٢٣٥ ـ التعارض بين
العامين من وجه
التعارض قد يكون
بنحو التباين التام ، كما لو دلّ أحد الخبرين على وجوب شيء ودلّ الآخر على حرمته ،
فإنّ مدلول الخبر الاول هو نفي الحرمة عن الشيء ومدلول الخبر الثاني هو نفي الوجوب
عن ذلك الشيء ، فليس ثمة مورد في مؤدى الدليل الثاني غير منفي بالاول وكذلك العكس.
وقد يكون التعارض
بنحو التباين الجزئي المعبّر عنه بالتباين بنحو العموم والخصوص من وجه ، وهو ما لو
كان التنافي بين مدلولي الدليلين في مورد دون مورد.
ومثاله ما لو دلّ
الدليل الاول على وجوب اكرام كلّ العلماء ودلّ الدليل الآخر على حرمة اكرام كل
الفسّاق ، فإنّ مورد التنافي بين المدلولين انما هو في مادة الاجتماع وهي العالم
الفاسق ، فإنّ مقتضى الدليل الاول هو وجوب اكرامه ومقتضى مدلول الدليل الثاني هو
حرمة اكرامه ، وأما مورد الافتراق في كل من الدليلين فليس بين المدلولين من جهتهما
أيّ تناف.
وهنا وقع البحث
فيما هو المرجع لو اتّفقت هذه الحالة ، وهل يلتزم بالتبعيض في الحجيّة ، بمعنى
الالتزام بسقوط الحجيّة عن الدليلين في مورد الاجتماع وبقاء مادتي الافتراق على
الحجيّة أو انّ المرجع في مثل هذه الحالة هو المرجحات الجهتية والمضمونية دون
المرجحات الصدورية ، بمعنى ملاحظة مادة الافتراق للدليلين فإن كان أحدهما موافقا
لمذهب العامة والآخر غير موافق فإن الرجيح يكون لغير الموافق ، وهذا هو معنى
الرجوع للمرجح الجهتي ، ومعه يسقط الدليل الموافق للعامة في مادة الاجتماع. أو كان
أحد الدليلين في مادة الاجتماع
متحدا من حيث
المضمون من أحد مضامين الكتاب المجيد ، أو كان الآخر مخالفا للكتاب فإنّ الترجيح
حينئذ يكون مع الموافق أو غير المخالف ، وهذا هو المرجّح المضموني.
وأما عدم الرجوع
للمرجّح الصدوري ـ كالترجيح بالصفات أو الشهرة ـ فلأنّه يقتضي سقوط الدليل المرجوح
من رأس ، وهذا وان كان له مبرّر في مادة الاجتماع الاّ انّه لا مبرّر لسقوطه عن
الحجيّة في مادة الافتراق بعد ان لم تكن طرفا في المعارضة إلاّ ان يلتزم بالتبعيض
في السند.
وقد أوضحنا كلّ
ذلك تحت عنوان « التبعيض في الحجيّة ».
* * *
٢٣٦ ـ التعبّدي والتوصّلي
المراد من الواجب
التعبدي هو ما يعتبر في سقوطه عن عهدة المكلّف قصد القربة حين امتثاله كالصلاة
والحج ، فلو لم يقصد المكلّف التقرّب للمولى والامتثال لأمره لما كان ممتثلا.
وأمّا الواجب
التوصلي فيطلق على معان أربعة :
المعنى
الاول : هو ما لا يعتبر
في سقوطه عن عهدة المكلّف قصد القربة حين امتثاله بل يكفي الإتيان به ولو مجردا عن
قصد القربة والامتثال لأمر المولى جلّ وعلا ، نعم يترتب على قصد القربة استحقاق
المكلّف للثواب إلاّ انّه ليس شرطا في الإجزاء والسقوط عن العهدة.
ويمثل لذلك بدفن
الميت والنفقة على الزوجة فإنّ الأمر بهما يسقط بمجرّد الإتيان بمتعلقه.
المعنى
الثاني : هو ما لا يعتبر
في سقوطه عن عهدة المكلّف مباشرة الامتثال بل يكفي في سقوطه قيام الغير به سواء
بنحو الاستنابة أو التبرع.
ومثاله : الصلوات
الفائتة عن الميت فإنّها لازمة على وليّه ، وهي تسقط
عن عهدة الولي
بقيام الغير بها سواء بنحو الاستنابة أو التبرع.
المعنى
الثالث : هو ما لا يعتبر
فيه الاختيار والالتفات بل يسقط بمجرّد وقوعه خارجا حتى وان كان عن غير اختيار بل
ولا التفات.
ومثاله : إزالة
النجاسة عن المسجد ، فلو اتفق ان أزال المكلّف النجاسة عنه من غير قصد للتطهير
فإنّ التكليف بإزالة النجاسة يسقط بذلك.
المعنى
الرابع : ما لا يعتبر في
سقوطه عن العهدة امتثاله في ضمن فرد جائز ، كما لو أزال النجاسة عن المسجد بماء
مغصوب ، فإنّ التكليف بوجوب الإزالة يسقط بذلك وان كان المكلّف قد ارتكب محرما بتصرّفه
في الماء المغصوب ، وكما لو أنقذ ذا مخمصة بطعام مغصوب وهكذا.
وتلاحظون انّ
النسب بين الواجب التعبّدي وبين المعاني الأربعة للواجب التوصلي مختلفة.
فالنسبة بين
الواجب التعبّدي وبين المعنى الاول للواجب التوصلي هي التباين ، اذ لا شيء من
الواجبات التعبّدية إلاّ ويعتبر فيها قصد القربة ، ولا شيء من الواجبات التوصلية
بالمعنى الاول إلاّ وهي غير مشروطة بقصد القربة ، وبهذا تكون النسبة بينهما هي
التباين.
وأمّا النسبة بين
الواجب التعبّدي وبين المعنى الثاني للواجب التوصلي فهي العموم من وجه ، ومورد
الاجتماع هو الواجبات التي يعتبر في سقوطها قصد القربة مع انّه لا يعتبر فيها
المباشرة ، فإنّها واجبات تعبديّة من جهة اعتبار قصد القربة في امتثالها وتوصلية
من جهة عدم اعتبار المباشرة في موردها.
ومثاله : قضاء
الصلوات عن الميت فإنّها واجبة على الولي ويعتبر في سقوطها قصد القربة إلاّ انّه
لا يعتبر فيها المباشرة بل تسقط بالاستنابة
وبالتبرع.
وأمّا النسبة بين
الواجب التعبّدي وبين المعنى الثالث فهو التباين ، وذلك لأنّه لا يتعقل قصد القربة
إلاّ في ظرف الاختيار والالتفات ، ومعه لا يكون ثمة واجب تعبّدي إلاّ ويعتبر فيه
الاختيار والالتفات ، نعم بناء على صحّة الامتثال الإجمالي في التعبّديات وكان
الالتفات بمعنى الالتفات الى انّ ما يأتي به واجب ، بناء على ذلك يجتمع الواجب
التعبّدي مع الواجب التوصلي بالمعنى الثالث ، إذ انّ المكلّف يكرّر الفعل مثلا
لغرض امتثال الواجب الواقعي دون ان يعلم أي الأفعال التي جاء بها هو الواجب
الواقعي ، كمن صلّى الى الجهات الأربع ، فإنّه لا يعلم أي الصلوات هي المطلوبة
واقعا ، وحينئذ تكون العلاقة بين الواجب التعبّدي والواجب التوصلي ـ بهذا المعنى ـ
هي العموم المطلق ، ومورد الاتفاق هي الواجبات التعبّديّة التي يتم امتثالها اجمالا
، ومورد الافتراق في الواجب التوصلي هي الواجبات التي لا يعتبر فيها قصد القربة
كما لا يعتبر فيها الاختيار والالتفات.
هذا بناء على صحة
الامتثال الإجمالي مطلقا حتى في ظرف القدرة على الامتثال التفصيلي وإلاّ فلو بنينا
على انّ صحّة الامتثال الاجمالي منوطة بعدم القدرة على الامتثال التفصيلي فالعلاقة
بينهما هي العموم من وجه ، ومورد الاجتماع هي الواجبات التعبّدية التي يتم
امتثالها اجمالا لعدم القدرة على الامتثال التفصيلي ، ومورد الافتراق في الواجب
التعبّدي هي الواجبات التي يتمكن المكلف معها من الامتثال التفصيلي ، كما انّ مورد
الافتراق في الواجب التوصّلي هي الواجبات التي لا يعتبر فيها قصد القربة كما لا
يعتبر فيها الالتفات والاختيار.
وأمّا النسبة بين
الواجب التعبّدي وبين المعنى الرابع للواجب التوصلي فهي العموم من وجه بناء على
انّ امتثال الواجب التعبّدي في ضمن الفرد المحرّم في ظرف الجهل يكون مجزيا ، وأمّا
بناء على عدم الإجزاء وانّ الفرد المحرّم ليس مأمورا به مطلقا فالنسبة بينهما
التباين ، إذ لا شيء من التعبديات إلاّ ويعتبر في امتثاله ان يقع في ضمن فرد محلّل
، فكل واجب يسقط بامتثاله في ضمن فرد محرّم فهو ليس واجبا تعبديّا.
وأمّا النسبة بين
المعنى الاول للواجب التوصلي والمعاني الثلاثة فالعموم من وجه ، فمورد الاجتماع
بين المعنى الاول والمعنى الثاني هو الواجب الغير منوط بقصد القربة ولا يعتبر فيه
المباشرة ، ومثاله : دفن الميت ـ بناء على وجوبه على وليّ الميت ابتداء ـ فإنّه لا
يعتبر فيه قصد القربة كما يسقط بالاستنابة والتبرع.
ومورد الافتراق من
جهة المعنى الاول وطئ الزوجة كلّ أربعة أشهر فإنّه مشروط بالمباشرة ولا يعتبر فيه
قصد القربة ، ومورد الافتراق من جهة المعنى الثاني هو الصلاة على الميت بالنسبة
للولي ، فإنّه واجب توصلي باعتبار عدم اشتراطه بالمباشرة.
وأمّا النسبة بين
المعنى الاول والمعنى الثالث فالعموم من وجه أيضا ، ومورد الاجتماع هو الواجب الذي
لا يعتبر فيه قصد القربة كما لا يعتبر فيه الاختيار والالتفات ، كما في إزالة
النجاسة عن المسجد ، ومورد الافتراق من جهة المعنى الاول هو رد السلام مثلا إذ
يعتبر فيه الاختيار لو كان بمعنى القصد لا ما اذا كان بمعنى يقابل الاكراه ، ومورد
الافتراق في المعنى الثالث فهو الامتثال الإجمالي في التعبديات فإنه يكون توصليا
بمعنى عدم اشتراطه بالالتفات.
وأمّا النسبة بين
المعنى الأوّل
والمعنى الرابع
فالعموم من وجه ، ومورد الاجتماع مثل إزالة النجاسة عن المسجد فإنّه لا يعتبر فيه
قصد القربة كما لا يعتبر في سقوطه امتثاله في ضمن فرد محلل.
ومورد الافتراق من
جهة المعنى الاول هو مثل النفقة على الزوجة فإنّه يعتبر فيه أن يكون بمال محلل ،
ومورد الافتراق في المعنى الرابع هو الصلاة في الارض المغصوبة في ظرف الجهل فإنّها
مشروطة بقصد القربة إلاّ انّها وقعت في ضمن فرد محرم واقعا ، فهي واجب توصلي
بالمعنى الرابع.
وأمّا النسبة بين
المعاني الاخرى فيما بينها فتعرف بالتأمل. وباتضاح ما ذكرناه نقول : انّه لا كلام
فيما لو أحرزنا طبيعة الواجب وانّه من أيّ الأقسام انّما الكلام فيما لو وقع الشك
في ذلك ، وهذا ما سيتم الحديث عنه تحت عنوان « المرجع عند الشك في التعبديّة
والتوصّليّة ».
٢٣٧ ـ تعدّد الدال
والمدلول
المراد من الدال
هو اللفظ وغيره المعبّر عن المعنى ، واما المراد من المدلول فهو المعنى المنكشف
بواسطة الدال. كما انّ المقصود من المدلول هو خصوص المدلول المطابقي دون سائر
المدلولات ، فحينما يقال « تعدد الدال والمدلول » يقصدون تعدد المدلولات المطابقية
لتعدّد الدوال وهي الالفاظ مثلا المفيدة والمعبّرة عن المدلولات.
وبهذا تخرج
المدلولات التضمنيّة وكذلك الالتزاميّة ، إذ انّ تعددها ليس منوطا بتعدد الألفاظ ،
فقد يكون لفظ واحد له ـ بالاضافة الى المدلول المطابقي ـ مدلولات تضمنية ومدلولات
التزاميّة متعددة.
فالمقصود من «
تعدد الدال والمدلول » هو تعدّد المدلولات المطابقية بتعدّد الفاظها ، كما لو قيل
« أكرم الرجل العالم » فإنّ لفظ الرجل
دال ومدلوله
الطبيعة بما هي ، ومن هنا لا يكون لفظ الرجل استعمل في غير ما وضع له وهو الحصة
الخاصة والتي هي الرجل المتصف بالعالمية ، بل هو مستعمل في معناه الموضوع ، وهكذا
الكلام في لفظ العالم فإنّه مستعمل في معناه الموضوع له وهو طبيعة العالم ، وعليه
نكون قد استفدنا مدلولين بواسطة دالين.
هذا من جهة ما هو
مستفاد من اللفظين ، وأمّا استفادة اختصاص موضوع الحكم بالحصّة الخاصّة وهي الرجل
المتّصف بالعالميّة فهو ما يتم بواسطة النسبة الحاصلة عن اتّصاف الرجل بالعالميّة
، وهو اجنبي عمّا يدل عليه كلا اللفظين.
* * *
٢٣٨ ـ تعقّب الاستثناء
لجمل متعددة
والبحث في المقام
عمّا لو وردت جمل متعدّدة في كلام متّصل ثمّ تعقّب هذه الجمل استثناء. فهل انّ هذا
الاستثناء راجع الى خصوص الجملة الاخيرة أو الى تمام الجمل فيقتضي بذلك تخصيصها به
جميعا ، أو انّ رجوع الاستثناء الى الجملة الأخيرة هو القدر المتيقّن وتكون الجمل
الاولى مجملة بسبب احتفافها بما يصلح للقرينيّة على تخصيصها.
والمثال المعروف
لذلك هو قوله تعالى ( وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ) ، فإنّ قوله
تعالى : ( إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا ) تعقّب جملا
متعدّدة ، وهي الأمر بالجلد والنهي عن قبول شهادتهم والحكم بالفسق.
ومن هنا يقع البحث
عن ان الاستثناء ، هل هو راجع الى الجملة الأخيرة وبذلك تكون الجملتان
الاوليان على
اطلاقهما ولزوم امتثالهما حتى في ظرف التوبة. أو انّ الاستثناء راجع الى جميع
الجمل ، وعليه يلزم تخصيصها جميعا بعدم التوبة. أو انّ تخصيص الجملة الأخيرة هو
القدر المتيقّن إلاّ انّ الجملتين الاوليين لا ظهور لهما في الإطلاق كما لا ظهور
لهما في التقييد ، وذلك لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة والذي هو الاستثناء
المتعقّب للجمل المتعدّدة ، وبهذا تكون الجمل غير الجملة الأخيرة مجملة من حيث
إرادة الاطلاق أو التقييد.
وتحرير البحث ـ كما
أفاد السيّد الخوئي رحمهالله يستدعي تصنيف مورد الاستثناء المتعقب للجمل المتعددة الى
ثلاثة أنحاء :
النحو
الاول : أن يكون
الموضوع في الجمل متّحدا مع تعدد المحمولات ، وهذا النحو له صورتان :
الصورة
الاولى : ان يكون ذكر
الموضوع متحدا ، بمعنى ذكره مرة واحدة في صدر الكلام كما في الآية الشريفة ، وكما
لو قلنا « العلماء يجب اكرامهم واحترامهم واطاعتهم إلاّ الفسّاق منهم ».
وفي هذه الصورة
يكون الاستثناء ـ كما أفاد السيّد الخوئي رحمهالله ـ راجعا الى تمام الجمل وبهذا يجب تقييدها جميعا بما
يقتضيه الاستثناء ، وذلك لأنّها ترجع روحا الى جملة واحدة بحسب المتفاهم العرفي ،
وتكرار المحمولات انّما هو لعدم جامع بينها ، وهذا ما أوجب ذكرها جميعا بنحو
التعاقب.
الصورة
الثانية : ان يتكرر ذكر
الموضوع ، بمعنى ان يذكر الموضوع أكثر من مرة في الجمل المتعاقبة ، كما لو قال
المتكلّم : « العلماء يجب اكرامهم واحترامهم والعلماء تجب طاعتهم إلاّ الفسّاق
منهم ».
وفي هذه الصورة لا
بدّ من البناء على اختصاص الاستثناء بالجملة التي اشتملت على ذكر الموضوع ووقع
الاستثناء بعدها
أو لو افترض تعدد المحمولات بعد ذكر الموضوع ثانيا فإنّ الاستثناء يكون مقيّدا أو
مخصّصا لخصوص المحمولات بعد الموضوع المذكور ثانيا ، كما لو قال المتكلّم «
العلماء يجب اكرامهم واحترامهم والعلماء تجب طاعتهم ومراعاة أقربائهم إلاّ الفساق
منهم » فإنّ الاستثناء يكون من الجملة الاولى والثانية الواقعتين بعد ذكر العلماء
ثانيا دون الجمل الاولى الواقعة قبل ذكر العلماء ثانيا ، وذلك لأنّ ذكر الموضوع
ثانيا بعد ذكره في المرّة الاولى لا يكون له مبرّر بنظر العرف إلاّ أن يكون غرض
المتكلّم بيان خصوصيّة مفقودة في المحمولات الاولى المذكورة عقيب ذكر الموضوع أولا
، وليس هنا من خصوصيّة سوى إرادة تقييد المحمولات المذكورة بعد ذكر الموضوع ثانيا
بما يقتضيه الاستثناء.
النحو
الثاني : ان تتعدّد
الموضوعات ويتّحد المحمول ، ومثاله : ان يقول المتكلّم : « العلماء والزهاد
والسادة يجب اكرامهم إلاّ الفساق منهم » ، وهنا يأتي التفصيل المذكور في النحو
الاول بصورتيه.
النحو
الثالث : ان تعدّد
الموضوعات ويكون لكلّ واحد منها محمول مستقل ، ومثاله : ان يقول المتكلم « أكرم
العلماء وعاشر الصلحاء وتصدق على الفقراء إلاّ الفساق منهم ».
وواضح هنا رجوع
الاستثناء الى الجملة الاخيرة دون الجمل الاولى ، وذلك لأنّ كلّ جملة تعبّر عن
كلام مستأنف ومستقل ، فتكون الجملة التي تعقبها الاستثناء هي التي يراد تقييدها
بما يقتضيه الاستثناء ، ولا مبرّر لتقييد الجمل الاولى بعد ان كانت جملا مستقلّة ،
وتوهم سريان الاستثناء لها كان بسبب اتّصال الكلام وهو غير موجب لذلك ، وكان على
المتكلّم لو كان
مريدا لتقييدها هي أيضا أن يأتي بما يناسب إرادة التقييد.
إذ انّ تعقب
الاستثناء لجملة مستقلة لا يناسب إرادة التقييد للجمل التي سبقتها ، ومع الشك في
إرادة الاطلاق أو العموم بسبب الاستثناء المتعقب للجملة الأخيرة يكون المرجع هو
أصالة الإطلاق وأصالة العموم ، وهما من الاصول اللفظية العقلائية التي يلجأ اليها
في ظرف الشك في المراد.
ودعوى احتفاف
الكلام بما يصلح للقرينية ليست تامة ، وذلك لأنّ المراد من احتفاف الكلام بما يصلح
للقرينيّة أن تكون هناك قرينة يمكن للمتكلم ان يتكل عليها لبيان مراده وهذا يستوجب
ان يكون للقرينة ظهور لا ان تكون مجملة في نفسها كما أفاد السيّد الخوئي رحمهالله.
ثم انّ هنا أمرا
لا بدّ من التنبيه عليه وهو انّ ما ذكرناه في هذا البحث ليس مختصّا بالاستثناء
المتعقب للجمل المتعددة بل يشمل مطلق المقيدات والمخصصات والقرائن المتعقبة للجمل
المتعددة.
* * *
٢٣٩ ـ تعقّب العام بضمير يرجع
الى بعض مدلوله
والبحث في المقام
عما لو ورد حكم على موضوع عام ثم تعقب هذا العموم ضمير يرجع الى بعض أفراد العام ،
فهل المرجع هو أصالة العموم أو انّ المرجع هو أصالة عدم الاستخدام؟
فلو التزمنا
بأصالة العموم كانت النتيجة هي التمسّك بالعموم في غير الأفراد التي يعود إليها
الضمير ، ولو التزمنا بأصالة عدم الاستخدام كانت النتيجة هي تخصيص تمام أفراد
العموم بما يقتضيه الضمير ، إذ المراد من الاستخدام في المقام هو عود الضمير الى
بعض أفراد العام دون البعض الآخر ، وهذا هو معنى ما ذكره علماء
البديع من انّ
الاستخدام عبارة عن عود الضمير الى أحد معنيي اللفظ ويكون المراد من اللفظ هو
المعنى الآخر. فاللفظ العام له معنيان ، الاول هو دلالته على استيعاب تمام الأفراد
، وهذا هو المدلول المطابقي والثاني هو دلالته على بعض أفراد العام ، وهذا هو
المدلول التضمني.
فلفظ العام يدل
على استيعاب أفراد العام والضمير يرجع الى بعض أفراد العام ، وهذا هو أحد مصاديق
الاستخدام ، فلو بنينا على أصالة عدم الاستخدام كان اللازم هو البناء على عود
الضمير الى تمام الأفراد كما هو الحال في دلالة لفظ العموم على تمام الأفراد ، أما
لو بنينا على أصالة العموم فإنّه لا بدّ من الالتزام بالاستخدام وانّ العموم منحفظ
في غير الأفراد التي يرجع اليها الضمير.
ويمكن التمثيل
لذلك بقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ
أَرادُوا إِصْلاحاً ) ، فالضمير في قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ ) يرجع الى خصوص المطلّقات الرجعيّات والحال انّ صدر الآية
الشريفة يدلّ على العموم الشامل للرجعيات والبائنات.
وهنا يقع البحث في
انّ المرجع هل هو أصالة العموم ، وهذا ما يستوجب ترتب الأحكام المذكورة غير الحكم
الأخير على عموم المطلقات ويكون حقّ الرجوع وهو الحكم الأخير مختصا بالرجعيات
وتكون النتيجة حينئذ هي الالتزام بالاستخدام في الضمير.
أو انّ المرجع هو
أصالة عدم الاستخدام ، وعليه يلتزم بتخصيص تمام الأحكام بخصوص المطلّقات الرجعيات
دون البائنات ، وتكون
النتيجة حينئذ هي
استظهار عدم إرادة العموم في تمام الأحكام ، وان اللاتي يتربّصن ثلاثة قروء
واللاتي لا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن هو خصوص الرجعيات كما هو
الحال في الحكم باستحقاق الزوج للرجوع في العدّة.
أو انّ الصحيح هو
عدم امكان الرجوع الى أصالة العموم وعدم امكان الرجوع الى أصالة عدم الاستخدام؟
ذهب صاحب الكفاية رحمهالله الى القول الثالث ، وذلك لأنّ الرجوع الى أصالة العموم متعذر بسبب احتفاف
العام بما يصلح للقرينيّة على التخصيص وهو الضمير ، إذ يحتمل قرينيّته على إرادة
خصوص الرجعيّات من المطلقات في تمام الاحكام المذكورة في الآية الكريمة.
وأمّا عدم امكان
الرجوع الى أصالة عدم الاستخدام فلأنّه أصل لفظي عقلائي يتمسّك به العقلاء في ظرف
الشك في المراد من اللفظ ، فهم يتمسّكون بأصالة عدم الاستخدام لإثبات انّ الضمير
راجع الى عموم المطلّقات في المثال ، وأمّا إذا كان المراد معلوما والشك انّما هو
في كيفيّة إرادته فإنّ العقلاء لا يتمسكون بالأصل اللفظي لإثبات كيفيّة الإرادة.
وبتعبير آخر :
انّه لا ريب في إرادة خصوص الرجعيّات من الضمير وانّما الإشكال في كيفيّة ذلك وانّ
ذلك تمّ بواسطة الاستخدام أو لا؟ فحينئذ لا يمكن التمسّك بأصالة عدم الاستخدام
باعتباره أصلا لفظيا لا يلجأ اليه إلاّ في حالة الشك فيما هو المراد ، والمراد من
الضمير محرز ، غايته انّ كيفيّة الإرادة هي الواقعة موقع الشك.
وذهب السيد الخوئي
رحمهالله الى تقديم أصالة عدم الاستخدام في موارد الدوران بينها
وبين أصالة العموم ، وذلك لأنّ هذا الدوران يؤول الى الشك فيما هو المراد من
الضمير ، وهل
اريد به بعض أفراد
العام أو تمام أفراد العام ، وحينئذ يكون الظهور السياقي مقتضيا لعود الضمير الى
تمام أفراد العموم ، وهذا هو معنى عدم الاستخدام ، وقرينة ذلك هو الظهور السياقي ،
فوحدة السياق مستوجبة لكون المراد من مرجع الضمير هو عين المعنى المراد من اللفظ
الواقع موقع المرجع للضمير.
وهذا هو المستأنس
من المتفاهم العرفي ، إذ انّ وحدة السياق تقتضي بحسب الفهم العرفي تقديم ما يظهر
من مدلولها حتى على المعنى الحقيقي. ومن هنا لا بدّ من صرف ظهور اللفظ عن العموم
والبناء على انّ المراد جدّا من لفظ العموم هو الخاص وانّ تمام الاحكام المحمولة
على لفظ العام مختصة ببعض أفراده التي يقتضيها الضمير.
* * *
٢٤٠ ـ نظرية التعهّد
وهي احدى النظريات
المتصدّية لتفسير العلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى والموجبة لتصور المعنى عند
اطلاق اللفظ ، حيث وقع الخلاف بين الأعلام عما هو حقيقة الوضع ونشأ عن ذلك مجموعة
من النظريات ، ونظريّة التعهّد هي احدى هذه النظريّات ، وقد تبنّاها السيّد الخوئي
رحمهالله وأصرّ على انّها التفسير الوحيد لحقيقة الوضع وما هو واقع
العلاقة بين اللفظ والمعنى.
وحاصل المراد من
هذه النظريّة هو انّ حقيقة الوضع عبارة عن التباني النفساني من كلّ متكلّم بأن يأت
بلفظ مخصوص عند ما يقصد تفهيم معنى معين ، فالوضع إذن ـ بناء على هذه النظريّة ـ هو
التعهّد والالتزام والتباني النفساني على الإتيان بلفظ مخصوص عند قصد تفهيم معنى
معين ، وهذا
التعهّد والتباني
هو الذي نشأت عنه العلقة الوضعيّة بين اللفظ والمعنى.
وبناء على هذه
النظريّة تكون الدلالة الوضعيّة دلالة تصديقيّة دائما ، إذ انّ صدور اللفظ من غير
اللافظ العاقل الشاعر القاصد لتفهيم المعنى المخصوص لا يكون فعلا اختياريا لمن صدر
عنه اللفظ والحال انّ الدلالة بناء على هذه النظريّة منوطة بالتعهّد والالتزام وهو
لا يكون إلاّ اختياريا ، والاختيار متقوّم بالقصد كما هو واضح.
فالدلالة الوضعيّة
إذن لا تكون إلاّ في حالة قصد المتكلّم تفهيم المعنى من اللفظ ، وهذا هو معنى
الدلالة التصديقيّة ، وأمّا ما يتبادر من اللفظ عند صدوره من غير الشاعر فهو ناشئ
عن انس السامع باللفظ والمعنى وهو ما يعبّر عنه بتداعي المعاني.
ثمّ انّه يترتّب
على هذه النظريّة افتراض كلّ متكلّم واضع ، إذ انّ الالتزام والتعهد لو كان من
واضع واحد لما كان الوضع بمعنى التعهّد ، إذ انّ التعهّد يستبطن معنى الاختيار ولا
يكون التزام الواضع اختياريا لغيره إلاّ أن نفترض قبول سائر المتكلمين بتعهد
الواضع الاول ، وهذا معناه انّ كلّ متكلّم عند ما يتلقى تعهد الواضع الاول بالقبول
يكون قد تعهّد والتزم بمثل ما تعهّد به الواضع الاول ، وهذا يرجع الى ما ذكرناه
أولا من انّ كلّ متكلم واضع ، أي ملتزم ومتعهّد بأن لا يأت باللفظ المخصوص إلاّ
عند قصد تفهيم معنى معين ، ولا فرق بين أن يكون المتكلّم قد ابتكر اللفظ الذي يريد
الالتزام بإبرازه عند قصد تفهيم المعنى وبين ان يقبل بتعهد متكلم آخر فيلتزم بما
التزم به المتكلّم الآخر ، إذ في كلا الحالتين يكون فيهما كلّ متكلّم واضع.
وبهذا يرتفع
الاستيحاش عن دعوى انّ كلّ متكلّم واضع ، إذ انّ ذلك لا يعني أن يكون لكلّ متكلّم
ألفاظ مخصوصة تعهد بأن يبرزها عند إرادة
معان معينة بل
بمعنى انّ كلّ متكلّم ملتزم بأن يأت باللفظ المخصوص عند إرادة تفهيم المعنى وإن
كان هذا الالتزام ملتزم به عند الآخرين أيضا ، وبهذا يتّضح السرّ في ثبات الدلالات
الوضعيّة رغم تعاقب الأجيال ، إذ انّ كلّ جيل يتعهّد بعين ما تعهد به الجيل السابق
وهكذا.
ثمّ انّ التعهد
الذي يلتزم به كلّ متكلّم يكون بين طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى على نهج القضيّة
الحقيقيّة ، بمعنى انّه يلاحظ طبيعي اللفظ وطبيعي المعنى ويلتزم بأنّه كلما أراد
هذا المعنى فإنّه يبرزه بهذا اللفظ ، وعليه يكون المتكلّم في مقام الاستعمال ـ أي
مقام تطبيق التزامه ـ يوجد فردا من طبيعي اللفظ لغرض تفهيم المعنى ، وهكذا يبرز
فردا آخر من طبيعي اللفظ في استعمال آخر.
ومن هنا يندفع
اشكال الدور الذي قد يدعى وروده بناء على نظرية التعهد ، بأن يقال : انّ الالتزام
بإبراز اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى يتوقف على العلم بالوضع أي بوضع هذا اللفظ
للمعنى ، فلو كان الوضع هو نفس الالتزام والتعهّد للزم من ذلك الدور ، بمعى انّ
الالتزام بالإتيان بشخص هذا اللفظ عند إرادة تفهيم هذا المعنى متوقف على العلم
بوضع هذا اللفظ لهذا المعنى ولما كان الوضع بمعنى التعهّد والالتزام فهذا معناه ان
التعهّد والالتزام متوقف على التعهّد والالتزام ، وهذا هو الدور المحال.
ويتّضح الجواب
ممّا ذكرناه ، إذ انّ الالتزام والتعهّد في مرحلة الوضع غير الالتزام والتعهّد في
مرحلة الاستعمال ، فالالتزام في مرحلة الوضع عبارة عن التعهّد بإبراز طبيعي لفظ
مخصوص عند إرادة طبيعي المعنى ، وأمّا التعهّد في مرحلة الاستعمال فهو بمعنى
استعمال فرد من طبيعي اللفظ في المعنى ، والذي يتوقّف على العلم بالوضع هو الثاني
دون الأول.
وبهذا العرض
الإجمالي اتّضح المراد من نظريّة التعهّد وانّ حقيقة الوضع عبارة عن التزام كلّ
متكلّم بإبراز لفظ مخصوص عند إرادة تفهيم معنى معين.
* * *
٢٤١ ـ التفويض
وهو مذهب المعتزلة
، وحاصل المراد منه انّ صدور الأفعال الاختياريّة للإنسان معلولة ـ بنحو الاستقلال
التام ـ للإنسان نفسه دون أن يكون لله جلّ وعلا أيّ دخل ، فهي مخلوقة للإنسان أولا
وبالذات.
ومنشأ التعبير عن
هذه النظريّة بالتفويض هي ما ذكروه من الله جلّ وعلا حين خلق العباد ففوضهم فيما
يصدر عنهم من أفعال ، فكلّ ما يصدر عنهم فهو بمحض إرادتهم وسلطنتهم دون أن يكون
وراء هذه السلطنة سلطنة اخرى ، فكلّ ما يفعلونه من خير أو شرّ فهو مخلوق لهم وناشئ
عن محض إرادتهم.
وهذه النظريّة قد
توسّلوا بها لنفي ما يلزم من مذهب الأشاعرة من نسبة الأفعال القبيحة الصادرة عن
العباد لله جلّ وعلا والذي يستوجب نسبة الظلم اليه تعالى ونفي صفة العدالة عنه ، وهم
وان كانوا قد تفصوا عن هذه المشكلة إلاّ انّهم وقعوا فيما هو أشكل منها وهو نفي
السلطنة المطلقة عن الله جلّ وعلا واثبات الشريك لله عزّ وجل ، وهو أحد أنحاء
الشرك الأفعالي ، حيث انّ العباد يشتركون معه في الخلق والايجاد ، فدعواهم تشبه
دعوى المجوس القائلين بوجود الهين أحدهما للخير والآخر للشر وانّ الاول يصدر عنه
كلما هو خير ويصدر عن الآخر كلّما هو شر ، ولهذا عبّرت الروايات عنهم بمجوس هذه
الامة. وقد تعرضنا بشيء من التفصيل عن هذه النظريّة في بحث « الأمر بين
الأمرين » وهي
نظريّة الاماميّة « أعزّهم الله تعالى ».
* * *
٢٤٢ ـ التقابل بين
الإطلاق والتقييد
والبحث في هذا
العنوان يكون عن نحو العلاقة بين الإطلاق والتقييد ، فهل هي التضادّ أو التناقض أو
تقابل العدم والملكة ، احتمالات بل أقوال ثلاثة نشأت عن اختلاف المبنى فيما هو
المراد من الإطلاق.
فبناء على أنّ
الإطلاق يعني لحاظ عدم القيد كما ذهب لذلك السيّد الخوئي رحمهالله فالعلاقة بين الإطلاق والتقييد هي علاقة التضادّ ، وذلك لأنّ علاقة التضادّ
تكون بين أمرين وجوديّين يستحيل اجتماعهما وإن كان يصحّ ارتفاعهما.
فحينما نفترض أنّ
الإطلاق يعني لحاظ عدم القيد فهذا معناه افتراض أنّ الإطلاق أمر وجودي ، ولمّا كان
التقييد بمعنى لحاظ القيد فهو من الأمور الوجوديّة أيضا ، ولأنّ لحاظ القيد ولحاظ
عدمه في آن واحد غير ممكن كانت النتيجة هي أنّ العلاقة ببين الإطلاق والتقييد هي
علاقة التضادّ.
وأمّا بناء على
أنّ الإطلاق يعني عدم لحاظ القيد كما ذهب لذلك السيّد الصدر رحمهالله فالعلاقة بين الإطلاق والتقييد هي علاقة التناقض ، وذلك لأنّ التناقض يكون
بين الوجود والعدم لذلك الوجود ، ولهذا يستحيل اجتماعهما كما يستحيل ارتفاعهما.
فإذا افترضنا أنّ
الإطلاق معناه عدم لحاظ أخذ القيد فهذا معناه أنّ الإطلاق أمر عدمي ، ولمّا كان
التقييد هو لحاظ أخذ القيد فهو أمر وجودي كانت النتيجة هي أنّ العلاقة بين الإطلاق
والتقييد هي التناقض.
وأمّا بناء على
أنّ الإطلاق يعني عدم لحاظ القيد في مورد قابل للتقييد
فالعلاقة بين
الإطلاق والتقييد هي علاقة العدم والملكة ، وذلك لأنّ هذا النحو من العلاقة يعني
التقابل بين الوجود والعدم في مورد تكون له قابليّة ذلك الوجود ، فإذا افترضنا أنّ
الإطلاق يعني عدم لحاظ القيد في مورد قابل للتقييد بمعنى لحاظ أخذ القيد فإنّ
نتيجة ذلك هو أنّ العلاقة بينهما هي علاقة العدم والملكة. والثمرة التي يمكن تحصيلها
من المباني الثلاثة هي أنّه بناء على مبنى التضادّ لا تكون استحالة التقييد منتجة
لاستحالة الإطلاق ، لأنّ افتراض كون العلاقة بينهما هي التضادّ معناه أنّ الإطلاق
والتقييد أمران وجوديّان فمن الممكن وجود أحدهما عند استحالة الآخر عينا كما هو
الحال بالنسبة للبياض والسواد ، فإنّ استحالة وجود السواد لشيء لا يلازم استحالة
وجود البياض له.
وكذلك لا يكون ـ بناء
على التضادّ ـ امتناع التقييد مقتضيا لتعيّن الإطلاق ، وذلك لأنّ الضدّين يمكن
ارتفاعهما ، عينا كما هو الحال بالنسبة للسواد والبياض فإنّه من الممكن حين
استحالة أن يكون الشيء أبيضا أن لا يكون أسودا أيضا بأن يتّفق كونه أخضرا.
وبذلك اتّضح أنّ
استحالة تقييد الحكم بالعلم به لا يقتضي ضرورة تعيّن الإطلاق كما لا يقتضي
استحالته ، فمن الممكن أن يكون الحكم مطلقا من جهة العلم به وأن لا يكون مطلقا من
هذه الجهة.
وأمّا بناء على مبنى
التناقض فإنّ استحالة التقييد تنتج ضرورة تعيّن الإطلاق ، وذلك لأنّ المتناقضين
يستحيل ارتفاعهما ، فإذا كان التقييد مستحيلا كان الإطلاق ضروري الثبوت حتّى لا
تخلوا الواقعة من الوجود والعدم.
ولذلك كان استحالة
تقييد الحكم بالعلم به مقتضية ـ بناء على التناقض ـ
للزوم إطلاق الحكم
من جهة قيد العلم به.
وأمّا بناء على
مبنى العدم والملكة فإنّ استحالة التقييد تلازم استحالة الإطلاق لأنّ الإطلاق ـ بناء
على العدم والملكة ـ لا يكون إلاّ في مورد قابل للتقييد ، فإذا كان المورد غير
قابل للتقييد فهذا معناه عدم قابليّته للإطلاق.
وعليه تكون
استحالة تقييد الحكم بالعلم به تلازم عدم قابليّة الحكم لأن يكون مطلقا من جهة
العلم به ، بخلاف ما لو كان المورد قابلا للتقييد فإنّ عدم أخذ القيد لا ينتج
استحالة الإطلاق كما لا ينتج تعيّن ثبوته.
والنتيجة هي أنّ
عدم أخذ القيد لا يستلزم الإطلاق بناء على مبنى التضادّ ، ويستلزم عدم أخذ القيد
تعيّن الإطلاق بناء على مبنى التناقض ، وأمّا بناء على مبنى العدم والملكة فإنّ
عدم أخذ القيد يستلزم استحالة الإطلاق لو كان منشأ عدم أخذ القيد هو استحالة أخذه
ولو لم يكن منشأ عدم أخذ القيد هو استحالة أخذه فإنّ عدم التقييد لا تنتج عدم
الإطلاق كما لا تنتج تعيّن ثبوته.
* * *
٢٤٣ ـ التقسيمات الأوليّة
والثانويّة للواجب
قلنا إنّ المراد
من الواجب هو متعلّق الحكم ( الوجوب ) ، وعليه تكون تقسيمات الواجب هي تقسيمات
لمتعلّق الحكم.
ومتعلّق الحكم
تارة يلاحظ بقطع النظر عن الحكم المتعلّق به ، وتارة يلاحظ بالإضافة إلى الحكم ،
فإذا كان المتعلّق ملحوظا في ذاته بقطع النظر عن الحكم فإنّ له تقسيمات بحسب
الإمكان العقلي ، هذه التقسيمات يعبّر عنها بالتقسيمات الأوليّة.
وإذا لوحظ
المتعلّق بالإضافة إلى الحكم فإنّ له تقسيمات أخرى تلحقه
بسبب تعلّقه
بالحكم ، هذه التقسيمات يعبّر عنها بالتقسيمات الثانويّة.
فالصلاة مثلا
والتي يمكن أن تكون متعلّقا للوجوب تارة تلحظ في نفسها وبقطع النظر عن الوجوب
وحينئذ يمكن تقسيمها ثبوتا بمجموعة من التقسيمات أي يمكن للعقل أن يفترض لها حالات
وأفرادا متعدّدة.
كأن تقسّم الصلاة
إلى صلاة بطهارة وصلاة دون طهارة وإلى صلاة في المسجد وصلاة في الحمّام وصلاة في
الصحراء كما يمكن تقسيمها إلى صلاة واجدة للسورة وصلاة فاقدة لها وإلى صلاة واجدة
للاستقبال وصلاة دون استقبال وهكذا.
وتلاحظون أنّ هذه
التقسيمات يمكن افتراضها حتّى لو لم يثبت الوجوب للصلاة بل حتّى لو لم يكن ثمّة
شريعة. ولذلك يعبّر عن هذه التقسيمات بالتقسيمات الأوليّة وذلك لأنّ هذه التقسيمات
نشأت عن ملاحظة المتعلّق في نفسه ، فهي ثابتة له بالنظر إلى ذاته.
وأمّا إذا لوحظت
الصلاة باعتبارها متعلّقا للوجوب ( الحكم ) فحينئذ يمكن تقسيمها ثبوتا إلى تقسيمات
أخرى ، أي يمكن للعقل أن يفترض لها تقسيمات لوحظ فيها ثبوت الوجوب لها.
فمثلا يمكن تقسيم
الصلاة بهذا اللحاظ إلى صلاة بقصد الأمر ( الوجوب ) وصلاة دون قصد الأمر ، كما
يمكن تقسيمها إلى صلاة معلومة الوجوب وصلاة مجهولة الوجوب.
وتلاحظون أنّ مثل
هذه التقسيمات لا تتعقّل دون افتراض ثبوت الوجوب للصلاة ، فلا يمكن تقسيم الصلاة
إلى صلاة بقصد الوجوب وصلاة دون قصد الوجوب إلاّ حين افتراض كون الصلاة واجبة ،
وهكذا الحال في التقسيم الثاني إذ أنّ العلم بوجوب الصلاة أو الجهل به فرع افتراض
الوجوب في مرحلة سابقة
على التقسيم ،
لذلك يعبّر عن هذه التقسيمات بالتقسيمات الثانويّة لأنّها تلحق المتعلّق حين يلاحظ
بالإضافة إلى الوجوب.
ثمّ إنّ التقسيمات
الأوليّة والثانويّة يمكن لحوقها بموضوع الحكم أيضا ، فحين يلاحظ بقطع النظر عن
الحكم تكون التقسيمات المفترضة له تقسيمات أوّليّة ، وحين يلاحظ بالإضافة إلى
الحكم تكون التقسيمات المفترضة ثبوتا له تقسيمات ثانويّة.
فالإنسان حين
يلاحظ بقطع النظر عن وجوب الصلاة عليه يمكن تقسيمه إلى بالغ وغير بالغ ، وعاقل
وغير عاقل ، ويمكن تقسيمه إلى ذكر وأنثى ، وإلى عربي وأعجمي ، وهذه هي التقسيمات الأوّليّة
لموضوع الحكم.
وحين يلاحظ
الإنسان بالإضافة إلى وجوب الصلاة عليه يمكن تقسيمه إلى العالم بالحكم ، والجاهل
به ويمكن تقسيمه إلى القاصد للوجوب وغير القاصد له.
* * *
٢٤٤ ـ التقليد
وهو بحسب المتفاهم
اللغوي يعني تطويق القلادة على العنق أو على جزء آخر من الجسم على أن يكون العنق
مشمولا للتطويق كما في تقلّد الرجل بحمائل سيفه ، والمقلّد ـ بصيغة المفعول ـ هو
المطوّق ، والمقلّد ـ بصيغة الفاعل ـ هو الذي يقوم بجعل الطوق أو القلادة في العنق
، فتقليد المرأة هو جعل القلادة في عنقها ، وتقليد الهدي بمعنى تطويقه بحبل مشتمل
على نعال قد صلّى فيه.
ثم استعير هذا
المعنى لإفادة معنى المسئوليّة ، ووجه المناسبة بين هذا المعنى وبين المعنى الوضعي
واضحة ، إذ انّ المسئولية تعني تقيد المسئول وانحباسه وعدم تمكنه من التفصّي عما
هو مسئول عنه ،
وهو يناسب تطويق العنق ، إذ معه تسهل قيادة المطوّق ومعه يكون مضطرا للتحرّك
باتجاه الجهة المرادة لماسك الطوق ، فتطويق العنق أسهل وسيلة لجرّ المطوّق نحو
الجهة المرادة.
وهذا هو السرّ في
التعبير عن جعل السلطان الولاية على عمل من الأعمال لأحد الرعية بالتقليد ، إذ معه
يكون العامل مطوقا من قبل السلطان بذلك العمل.
ثمّ انّ التقليد
بالمعنى المصطلح لا يبتعد كثيرا عن المعنى الاستعاري ، إذ انّ المقلّد ـ بصيغة
الفاعل ـ يجعل عمله قلادة وطوقا في عنق المجتهد أي يلقي عليه مسئولية وتبعات العمل
الذي يمارسه في اطار التعبّد للمولى جلّ وعلا ، ومن هنا جاء في بعض الأخبار أنّ
الامام عليهالسلام خاطب اعرابيا كان قد سأل ربيعة الرأي عن مسألة فلما أفتاه
، سأله الإعرابي أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة الرأي ، فقال أبو عبد الله الصادق عليهالسلام : « هو في عنقه قال أو لم يقل ، وكل مفت ضامن » .
وكيف كان فقد ذكرت
للتقليد مجموعة من التعريفات يرجع بعض منها لبعض روحا ، ونحن هنا نذكر تعريفين :
التعريف
الاول : ما ذكره صاحب
العروة رحمهالله : وهو « الالتزام بالعمل بقول مجتهد معين وان لم يعمل بعد
بل ولم يأخذ بفتواه ، فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقّق التقليد ».
وهذا التعريف
يعبّر عن انّ التقليد لا يتقوّم بأكثر من القصد ، فمتى ما قصد المكلّف تقليد مجتهد
معين وعقد العزم على ذلك فإنّه قد تحقّق التقليد منه ، وتترتب بذلك آثاره ، والتي
منها كما ذكر جمع من الأعلام انّه لو اتّفق موت المجتهد بعدئذ فإنّ المكلّف ملزم
بالبقاء على تقليده أو لا أقل يجوز له البقاء على تقليده ، ولا يكون الرجوع اليه
من التقليد
الابتدائي بل هو من الاستمرار على التقليد ، إذ انّه كما هو الفرض قد تحقق منه
التقليد في حياة المجتهد ، وذلك لافتراض التزام المكلّف بالرجوع اليه في حياته وان
كان لم يعمل بفتاواه في حياته.
كما انّ من آثاره
ـ كما هو مدعى جمع من الأعلام ـ عدم جواز العدول عنه حال حياته الى غيره من
الأحياء ، إذ انّه بالتزامه يكون قد تحقّق التقليد في حقّه ، ومعه لا يصحّ له
العدول إلاّ أن ينكشف له أعلميّة الآخر. إلاّ انّ السيّد الخوئي رحمهالله لم يقبل بهاتين الثمرتين.
أمّا الثمرة
الاولى فلأنّ تقليد الميت لم يرد بعنوانه في الخطابات الشرعيّة حتى يترتب على
تحديده هذه الثمرة بل انّ المرجع في هذه المسألة هو الأدلّة التي استدلّ بها على
جواز تقليد الميّت أو عدم الجواز ، فلو كان الدليل هو الاستصحاب فهذا معناه جواز
البقاء ، إذ انّ حجيّة قول المجتهد حال حياته لم تكن منوطة بالاستناد الى فتواه بل
يكفي في حجيّة فتواه توفره على الشرائط المعتبرة مثل الأعلميّة والحياة ، واذا
توفّر على ذلك لزم تقليده ، فلو مات بعد ذلك لزم الحجيّة ثابتة لفتواه على كلّ من
كان مسئولا في حياته عن العمل بفتواه حتى وان لم يعمل بها غفلة أو عصيانا وذلك
بالاستصحاب.
وأمّا لو كان
الدليل هو السيرة والإطلاقات القاضية بلزوم تقليد المجتهد الواجد للشرائط فكذلك
يلزم المكلّف تقليده بعد موته حتى ولو لم يعمل بفتواه في حياته ، إذ انّ قول أهل
الذكر ووجوب قبول إنذار المنذر غير منوط بالعمل ولا بالالتزام ، فسواء عمل أو لم
يعمل التزم أو لم يلتزم فهو مسئول عن العمل بانذار المنذر وبقول أهل الذكر. وأمّا
الثمرة الثانية فيتّضح جوابها ممّا هو مذكور في الجواب عن الثمرة الاولى.
التعريف
الثاني : هو انّ التقلد
عبارة عن « العمل المستند الى فتوى المجتهد » ، وقد تبنّى هذا التعريف جمع من
الأعلام منهم السيد الخوئي رحمهالله وقال انّه المناسب للمعنى اللغوي وكذلك الأخبار.
أمّا مناسبته
للمعنى اللغوي فباعتبار انّ التقليد يعني جعل القلادة في العنق ، فتقليد المكلّف
للمجتهد أشبه بجعل عمله قلادة في عنق المجتهد ، وعندها يكون المجتهد مسئولا عن عمل
المكلّف ، وهذا لا يناسب غير العمل ، إذ لا مسئولية على المجتهد تجاه التكاليف
الملقاة على المكلّف بمجرّد التزام المكلّف بفتوى المجتهد حتى ولو لم يعمل بها.
وأمّا مناسبته
للأخبار فلأنّ الرواية التي ذكرناها والتي أكّد الامام عليهالسلام فيها بأن فتوى المجتهد طوق في عنقه لا يمكن التزامه بمجرّد إلقائه للفتوى وإن
لم يعمل بها الإعرابي ، إذ انّ تبعات الفتوى للأعرابي لا تكون إلاّ بعمل الإعرابي
بالفتوى ، فلو لم يعمل بها لا يكون المجتهد مسئولا عنها إلاّ من جهة أصل الإفتاء ،
وهذا أجنبي عن المقام ، إذ انّها تبعة اخرى لا ترتبط بالتقليد بل هي مرتبطة باسناد
الفتوى الى الشارع.
* * *
٢٤٥ ـ التقيّة
التقيّة من
الوقاية وهي التحفّظ عن الوقوع في المحذور ، وصيانة النفس ـ أو ما يتّصل بها ـ عن
الضرر ، والتدرّع بأسباب الحماية عن كلّ ما هو مخوف. ومن هنا تكون التقيّة شاملة
لموارد الحيطة والحذر من الطوارئ التكوينيّة ، هذا بحسب المتفاهم العرفي لعنوان
التقيّة وقد استعملت في الآيات والروايات بهذا المعنى.
وأمّا التقيّة
المبحوث عنها في المقام فقد استعملت في كلمات الفقهاء وتبعا لكثير من الروايات
وبعض الآيات في معنيين :
المعنى
الاول : التقيّة
بالمعنى الأعم : وهي التحفّظ عن كلّ ما يوجب عدم التحفّظ عنه الوقوع في الضرر
يقينا أو احتمالا عقلائيا سواء كان هذا الضرر المخوف مرتبطا بالحوادث الكونيّة ،
كالجلوس تحت جدار يريد أن ينقضّ أو تناول السموم ، فإنّ التقيّة عن الحوادث
الكونيّة يكون بالتحفّظ عن تعريض النفس ـ أو ما يتّصل بها ـ لمضاعفات هذه الحوادث
، أو كان الضرر المخوف مرتبطا بالانسان كالسلطان الجائر أو القوي الأحمق بقطع
النظر عن متبنياته ودينه ومذهبه ، فإنّ التقيّة من هؤلاء يكون بالتحفّظ عن الإساءة
إليهم.
ثمّ انّ الضرر
المخوف قد يكون من قبيل الضرر المتّصل بالنفس وقد يكون متصلا بما يتعلّق بالنفس من
المال والعرض ، وقد يتّصل بالقرابة القريبة ، وقد يرتبط بالمؤمنين ، كما قد يكون
الضرر المخوف مرتبطا ببيضة الإسلام أو كيان المسلمين أو مقدّراتهم أو مقدّساتهم.
المعنى
الثاني : التقيّة
بالمعنى الأخص وهي التقيّة من أبناء العامة ، وذلك بواسطة العمل على وفق ما تقتضيه
متبنّياتهم ، والقول بمقالتهم ، والتقيّة بهذا المعنى لا تتحقق إلاّ في حالة تكون
تلك المتبنيات والأقوال منافية للواقع ، وأمّا موافقتهم لاتّفاق مطابقة ما يبنون
عليه للواقع فليس هذا من التقيّة.
وهل التقيّة بهذا
المعنى متقوّمة بخوف الضرر كما هو الحال في التقيّة بالمعنى الأعم ، الظاهر من
كلمات الفقهاء عدم تقومها بذلك ، ولو كانت متقوّمة بالضرر فهو مسمى الضرر والذي
يتحمّل عادة أو يكون احتمال وقوعه ضعيفا أو كان احتمال وقوعه قويا ولكن على المدى
البعيد ، ففي تمام هذه الموارد يكون اظهار الموافقة من التقيّة بالمعنى الأخصّ.
٢٤٦ ـ التقيّة
المداراتيّة
وهي من أقسام
التقيّة بالمعنى الأخص ، والمراد منها مسايرة العامة في أقوالهم ومتبنّياتهم رغم
عدم ترتب الضرر على المخالفة.
ومنشأ التعبير عن هذا
النحو من التقيّة بالمداراتية هو انّ الحكمة من تشريعها هو مداراة العامة وتألّفهم
وتوحيد الصف الإسلامي وبيان ما عليه الشيعة من الخلق الرفيع والسماحة في التعامل
المعبّرة عن الروح الأخويّة التي ينعم بها المذهب الشيعي « أعزّه الله تعالى ».
وقد دلّ على مشروعيّة
التقيّة المداراتيّة مجموعة من الروايات ، منها معتبرة هشام بن الحكم ، قال : سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : « ايّاكم ان تعملوا عملا نعيّر به ، فإنّ ولد السوء
يعيّر والده بعمله ، كونوا لمن انقطعتم اليه زينا ، ولا تكونوا علينا شينا ، صلّوا
في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ، ولا يسبقونكم الى شيء من الخير ،
فأنتم أولى به منهم ، والله ما عبد الله بشيء أحبّ اليه من الخباء » قلت : وما
الخباء؟ قال عليهالسلام : « التقيّة » .
وهذه الرواية
تعبّر عن انّ الاختلاف الفكري والعقيدي بيننا وبين سائر المذاهب لا ينبغي أن يحول
دون معاشرتهم بالمعروف ومسايرتهم في ترك ما يأنفون فعله أو فعل ما يستمجّون تركه ،
وهذا النحو من التقيّة لا يختصّ بحالات الخوف من الضرر المحتمل وقوعه عند المخالفة
والمنافرة ، وذلك لاطلاق بعض الروايات واشتمال البعض الآخر على حكمة التشريع لهذا
النحو من التقيّة ، ومن هنا فرّع السيد الخوئي رحمهالله على ذلك مشروعيّة هذا النحو من التقيّة حتى في حالات ضعف
العامّة وذهاب شوكتهم ، وذلك في مقابل دعوى
الفقيه الهمداني رحمهالله حيث ذهب الى اختصاص مشروعيّة التقيّة بحالات اقتدار العامّة وقدرتهم على
ايقاع الضرر.
ثم انّ هنا تنبيه
اتّضح ممّا ذكرناه وهو انّ التقيّة المداراتيّة لا دليل على مشروعيتها مع غير
العامة كما في المجتمعات الكافرة أو مع السلطان الذي يتبنى التشيع مذهبا له إلاّ
أن يكون عدم التقيّة موجبا للوقوع في الضرر ، وحينئذ لا تكون من التقيّة المداراتيّة
وانما هي من التقيّة الاضطراريّة أو الإكراهيّة.
ثمّ انّ التقيّة
المداراتية لا تستوجب اباحة الفعل المحرم كشرب الخمر أو قتل النفس المحترمة أو
غيرهما من المحرّمات ، كما لا تسوّغ ترك الواجب مثل الصوم أو حج بيت الله الحرام ،
نعم هي مسوّغة لمراعاة ما يعتبرونه شرطا في الصلاة مثلا أو ترك ما يعتبرونه مانعا.
ثمّ انّ الفعل المأتي به لأجل التقيّة المداراتيّة هل يكون مجزيا عن المأمور به
بالأمر الواقعي أو لا؟ وقع الخلاف في ذلك ولعلّنا نشير اليه فيما بعد.
* * *
٢٤٧ ـ التكليف
التكليف هو تحميل
الغير بشيء فيه مشقّة وتعب ، ومن هنا ناسب أن يطلق عنوان التكليف على الأحكام
الإلزاميّة وان كانت تستتبع مصلحة أو تندفع بها مفسدة ، إذ انّ عنوان التكليف لم
يؤخذ فيه لغة خلو ما فيه كلفة ومشقّة عن المصلحة بل يصدق حتى في موارد ترتب
المصلحة على المكلّف به أو التوسّل به لدفع مفسدة ، كما انّ التكليف لا يختصّ
بموارد الحمل على الفعل الشاق بل يشمل موارد الحمل على ترك فعل يكون في تركه عناية
ومئونة زائدة لولاه لكان المكلّف في سعة من جهة فعله وتركه.
ومن هنا يصدق
التكليف على
التحريم ، إذ انّه
يستوجب حرمان المكلّف ، وهذا ما يستبطن تقييده وحبسه المساوق للكلفة ، فالتحريم
كالإيجاب يمنع المكلّف عن الاسترسال مع مشتهيات النفس ، فهو ينافي السعة ويناسب
المشقّة ولو النفسيّة.
وبهذا البيان
يتّضح انّ التكليف لا يشمل المستحبّات والمكروهات ، لأنّ المكلّف في سعة من جهتها
إلاّ انّه قد يقال بصدق المعنى اللغوي عليها ، وذلك لأنّ التكليف ـ كما قلنا ـ هو
تحميل الغير بما فيه مشقّة وتعب ، فالمناط في صدق التكليف هو متعلّقه ، فإن كان
فيه كلفة زائدة فهو تكليف بقطع النظر عن لزوم الالتزام به أو عدم لزومه ، إذ لم
يؤخذ في مفهوم التكليف لغة قيد الإلزام بل يكفي في صدق التكليف ان الالتزام به ولو
من غير ملزم موجب لتحمّل الكلفة والمشقّة ، ولهذا يصحّ أن يقال : انّ زيدا قد
تكلّف صوم يوم مستحبّ أو الإنفاق على جيرانه وان كان لا ملزم له بالقيام بذلك.
هذا كلّه بحسب
المدلول اللغوي لعنوان التكليف ، وأمّا بحسب الاصطلاح فإنّ التكليف يطلق ويراد منه
الأحكام الشرعيّة المتّصلة بفعل المكلّف ابتداء ، فهي امّا ان تعني اعتبار الفعل
على عهدة المكلّف ودينا ، وهذا هو المستحب ، وامّا اعتباره مرجوحا دون اعتبار
المكلّف محروما منه ، وهذا هو المكروه. وتارة يعتبر الفعل غير مترجّح من حيث
ارتكابه وعدمه ، وهذا هو الإباحة بالمعنى الأخصّ.
وبهذا تكون
الأحكام التكليفيّة اعتبارات شرعيّة متّصلة بفعل المكلّف ، ولمزيد من التوضيح راجع
الحكم التكليفي والحكم الوضعي.
* * *
٢٤٨ ـ تمايز العلوم
راجع عنوان «
موضوع العلم ».
٢٤٩ ـ التنجيز والتعذير
التنجيز والتعذير
هو المراد من الحجيّة الاصوليّة ، والمراد من التنجيز المقابل للتعذير هو ثبوت
المسئوليّة على المكلّف ، فحينما يقال انّ هذا الحكم منجّز على المكلّف فمعناه انّ
المكلّف مسئول عن امتثاله.
والتنجيز تارة
يثبت بواسطة الجعل الشرعي وتارة لا يكون كذلك بل يكون ثبوته بواسطة الجعل الشرعي
مستحيلا.
أمّا ما يثبت
بواسطة الجعل الشرعي فهو الحكم الواصل بطريق الظنّ المعتبر ، فلو لا اعتبار الشارع
للظن وجعل الحجيّة له لما كان الحكم الواصل بواسطته منجزا ، أي مثبتا للمسئوليّة
على المكلّف تجاهه. والواقع انّ الجعل هنا لا يقع على التنجيز ابتداء بل انّ الجعل
الشرعي واقع على الطريق الظني ، وبجعل الحجيّة للطريق الظني يتنقح موضوع التنجيز ،
فموضوع التنجيز هو الحكم الصادر عن المولى جلّ وعلا ، والظن ليست له صلاحيّة اثبات
ذلك إلاّ بواسطة الجعل الشرعي ، فمتى ما تحقق الجعل الشرعي للطريق الظني اكتسب
صلاحية الكشف عن الحكم الشرعي والذي هو موضوع التنجيز.
فتنجّز الحكم
الشرعي حكم عقلي مدرك بواسطة العقل العملي ، وهذا المدرك هو المعبّر عنه بحقّ
الطاعة للمولى جلّ وعلا.
وأمّا ما ذكره
صاحب الكفاية رحمهالله من انّ المجعول في الامارات هو المنجزية والمعذرية فمعناه
انّ الشارع جعل الحجيّة للأمارات وعندها تنقح موضوع الحكم العقلي والذي هو
المنجزيّة والمعذريّة ، وسيأتي ايضاح ذلك تحت عنوان « المنجزيّة والمعذريّة ».
وأمّا التنجيز
الذي يثبت بغير الجعل الشرعي فهو التنجيز الثابت بواسطة القطع. والقطع هنا أيضا
ليس
علة في ثبوت
التنجيز للحكم المقطوع ، نعم هو ينقّح موضوع تنجيز الحكم الشرعي ، والفرق بين
القطع والطريق الظني هو انّ صلاحية القطع لتنقيح موضوع التنجيز ليست منوطة بالجعل
الشرعي كما هو الحال في الطريق الظني ، فالقطع بنفسه ينقّح الموضوع بخلاف الطريق
الظني كما اتّضح ممّا سبق.
وهناك حالة ثالثة
ادعي ثبوت التنجيز في موردها بغير واسطة الجعل الشرعي للظن ، وهذه الحالة هي
المعبّر عنها بالاحتياط العقلي في الشبهات البدويّة ، حيث تبنّى السيد الصدر رحمهالله انّ الحكم الواصل بواسطة الظنّ غير المعتبر بل وكذلك الاحتمال منجّز عقلا ،
وذلك بدعوى انّ حقّ الطاعة يتّسع ليشمل الاحكام المظنونة والمحتملة ، فالظن
والاحتمال ينقّحان موضوع التنجيز وعندها يدرك العقل ـ بواسطة إدراكه لحقّ الطاعة
المطلقة ـ لزوم الاحتياط والذي هو التنجيز.
وفي مقابل هذه
الدعوى ذهب المشهور الى عدم صلاحيّة الظن غير المعتبر وكذلك الاحتمال لتنقيح موضوع
التنجيز ، وذلك لأنّ ما يدرك بالعقل في حالات الظنّ والاحتمال هو قاعدة قبح العقاب
بلا بيان ، نعم يكون الظنّ والاحتمال منقّحين لموضوع التنجيز لو جعل الشارع
الحجيّة للظنّ والاحتمال كما هو في الشبهات التحريميّة عند الإخباريين ، وكما هو
في الدماء والفروج عند البعض.
وأمّا التعذير
فالمقصود منه نفي المسئوليّة عن المكلّف تجاه الحكم الواقعي ، وهذا أيضا من
الأحكام العقليّة التي قد يثبت موضوعها بواسطة الجعل الشرعي للظنّ ، كما في موارد
جعل الحجيّة للأمارات النافية للتكليف ، وكما في موارد البراءة الشرعيّة ، وقد
يتنقّح موضوع التعذير بواسطة ما يدركه العقل كما موارد
القطع وكذلك
الشبهات البدويّة بناء على تماميّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وبما بيناه يتّضح
السرّ في تعريف الحجيّة بالمنجّزية والمعذرية ، وسيتّضح ذلك أكثر في تعريف الحجيّة
ان شاء الله تعالى.
* * *
٢٥٠ ـ التنجيز والتعليق
يطلق التنجيز
المقابل للتعليق ويراد منه الإطلاق وعدم الإناطة بشيء ، وهو يقع تارة وصفا للحكم
واخرى يكون وصفا لمتعلّق الحكم. والاول يعبّر عنه بالحكم التنجيزي ، وهو الذي يكون
ثبوته لموضوعه غير معلّق ولا منوط بشيء ، كثبوت الحرمة للخمر أو يكون ثبوته
لموضوعه غير معلّق على الجهة المنظورة ، كوجوب الصلاة بالنسبة للطهارة أو القبلة
فإنّ ثبوته غير معلّق على تحقّق الطهارة واحراز القبلة.
والثاني يعبّر عنه
بالواجب المنجّز ، وهو الذي لا تناط صحّة الإتيان به بوقت متأخّر عن زمان الوجوب ،
ومثاله الصلاة فإنّ وجوبها يثبت عند دخول الوقت وكذلك الإتيان بها فإنّه يصحّ من
حين دخول الوقت ، فالتعبير عن الصلاة بالواجب المنجّز منشؤه انّ صحّة الإتيان بها
ليست معلّقة على زمن متأخّر عن زمان تحقّق الفعليّة للوجوب.
ويطلق التنجيز على
القضيّة الحملية وذلك في مقابل القضيّة الشرطيّة التقديريّة ، ومنشأ التعبير عن
القضايا الحمليّة بالقضايا التنجيزيّة هو انّ ثبوت محمولها لموضوعها لا يناط بشيء
بل يثبت المحمول للموضوع في موردها ابتداء.
كما قد يطلق
التنجيز على الحكم البالغ مرحلة الفعليّة ، وذلك في مقابل الحكم الإنشائي. وبلوغ
الحكم مرحلة الفعليّة والتنجّز يكون بتحقّق
موضوعه وشرائطه
التي انيط تحقّق الفعليّة للحكم بتحقّقها خارجا.
وأمّا التعليق
فيراد منه التوقيف والربط ، وهو أيضا تارة يقع وصفا للحكم واخرى يكون وصفا لمتعلّق
الحكم ، والاول يعبّر عنه بالحكم التعليقي أو الحكم المشروط ، وهو ما يكون الحكم
فيه منوطا بشرط ، ويعبّر عن هذا الشرط بالمقدّمة الوجوبيّة.
وأمّا ما يكون
وصفا لمتعلّق الحكم فهو المعبّر عنه بالواجب المعلّق ، وهو ما يكون معه الوجوب
حاليا والواجب استقباليا ، أي منوطا بوقت متأخّر عن زمان الفعليّة للوجوب ، ويمثل
له بالصوم حيث يكون ثبوت الوجوب له من حين رؤية الهلال وأمّا زمان الواجب « الصوم
» فهو من طلوع الفجر. وسيأتي ايضاح كلّ ذلك في مباحث أقسام الوجوب والواجب ان شاء
الله تعالى.
٢٥١ ـ تنزيل الأمارة
منزلة القطع
ويراد من هذا
العنوان الإشارة الى أحد المباني فيما هو المجعول في الأمارات. وحاصل المراد من
هذا المبنى هو :
انّ أدلّة الحجيّة
للأمارات قد نزلت الأمارة منزلة العلم من حيث لزوم العمل بمؤداها ، فالتنزيل هنا
بلحاظ الأثر التكويني للقطع وهو المنجزية والمعذريّة.
والمتحصّل انّ
الكيفيّة التي تمّ بها جعل الحجيّة للأمارة عبارة عن التصرّف في عقد الوضع وهو
العلم وذلك بواسطة التوسيع من دائرة العلم واعتبار الأمارة فردا منه ادعاء على
طريقة المجاز السكّاكي ، فهو نظير قوله عليهالسلام « الفقّاع خمرة استصغرها الناس » ، إذ انّ واقع الفقّاع
مباين لواقع الخمرة إلاّ انّ الشارع نزّله منزلتها لغرض ترتيب الآثار الثابتة
للخمرة على
الفقاع.
وقد أورد على هذا
المبنى بأنّ المنجزيّة والمعذرية من الآثار العقليّة للقطع ، وعندئذ لا يكون
للشارع بما هو شارع التصرّف في المنزّل عليه ـ وهو القطع ـ وتوسيع دائرته لغرض
تعدية آثاره العقليّة للمنزل وهي الأمارة.
وبتعبير آخر : انّ
الشارع بما هو شارع ليس له شأنيّة التصرّف في الآثار التكوينيّة ، إذ انّها تابعة
لاسبابها الواقعيّة ، فهي غير قابلة للتصرّف ، وهذا ما يعبّر عن انّ المنجزيّة
والمعذرية لو كانت ثابتة للأمارة ، فهي ثابتة بواسطة الاعتبار الشرعي ابتداء نتيجة
مبررات نشأ عنها الاعتبار ، ومن هنا لو كان دليل الحجيّة ظاهرا في التنزيل فلا بدّ
من التصرّف فيه بما يتناسب مع هذا المحذور.
* * *
٢٥٢ ـ تنزيل المؤدى منزلة
الواقع
ويراد من هذا
العنوان الإشارة الى أحد المباني فيما هو المجعول في الامارات والاصول ، فقد ذهب
البعض أو جرى على لسانه انّ أدلّة الحجيّة للأمارات والاصول تقتضي تنزيل مؤديات
الأمارات والاصول منزلة الواقع ، بمعنى انّ الشارع قد نزّل الحكم المفاد بواسطة
الأمارة أو الاصل منزلة الواقع ، فكأنّ قيام الأمارة يحقّق موضوعا لنشوء حكم واقعي
مطابق لمفادها ، وكذلك الحال عند قيام الأصل.
مثلا عند ما يرد
خبر مفاده حرمة أكل لحم الأرنب فإنّ ورود الخبر ينقح موضوعا لنشوء حكم واقعي مطابق
لمؤدى الخبر وهو حرمة أكل لحم الأرنب ، وهكذا الكلام لو أجرينا أصالة الطهارة فيما
هو مشكوك الطهارة ، فإنّ جريان هذا الأصل
يوجب تحقّق حكم
واقعي هو طهارة المشكوك.
وقد أورد السيّد
الخوئي رحمهالله على هذا المبنى بأنّه يستلزم التصويب. والمراد من التصويب
هنا امّا التصويب المعتزلي والذي يعني تبدل الواقع عما هو عليه وانقلابه الى ما
يتناسب مع مؤدى الأمارة أو الأصل ، أو بمعنى انخلاق واقع جديد بسبب قيام الأمارة
أو الأصل ، والظاهر انّ المعنى الثاني هو الأنسب ، وذلك لالتزام صاحب هذا المبنى
بانحفاظ الواقع.
والايراد الآخر
انّه لا شيء من أدلّة الحجيّة للأمارات تصلح لإثبات تنزيل مؤديات الأمارات منزلة
الواقع.
* * *
٢٥٣ ـ تنقيح المناط
التنقيح هو
التنقية والتهذيب والتمييز ، ويقال نقّحت الشيء ، أي خلّصته من الشوائب ، ونقّحت
الحنطة ، أي خلّصت جيدها من رديئها.
والمناط اسم لموضع
التعليق ، فيقال ناطه نوطا ، أي علّقه ، ونياط القربة عروتها ، وشجرة ذات أنواط أي
ذات أغصان يمكن ان تعلّق عليها الثياب والسيوف بواسطة حمائلها.
ولهذا يطلق لفظ المناط
ويراد منه العلة ، وذلك لإناطة الشارع الحكم بها ، وعليه يكون معنى تنقيح المناط
هو تمييز علة الحكم عن سائر الاوصاف والحيثيّات المذكورة في الخطاب ، ومع تميّزها
تكون النتيجة هي امكان الاستفادة من العلّة لإثبات نفس الحكم لموضوعات اخرى غير
الموضوع المنصوص عليه في الخطاب ، بمعنى امكان تعدية الحكم من مورد النصّ الذي
اكتنف بمجموعة من الاوصاف والحيثيّات الى موارد اخرى ليست واجدة لتلك الاوصاف
والحيثيّات ما عدى العلّة المنقّحة.
ومن هنا قالوا انّ
تنقيح المناط
يتقوّم بعمليتين
يعالج بهما المجتهد النص ، العمليّة الاولى هي الحذف ، أي حذف الاوصاف والحيثيّات
الغير دخيلة في ثبوت الحكم لموضوعه ، والعمليّة الثانية هي التعيين ، وهي تعني
السعي للوقوف على علة ثبوت الحكم لموضوعه من نفس النص.
وعرّف تنقيح
المناط بتعريف آخر لا يبتعد كثيرا عن التعريف الاول وهو « إرجاع الفرع الى الأصل »
ويحتمل معنيين ولعلّهما جميعا مرادان :
الاحتمال
الأول : أن يكون المراد
من الإرجاع هو التعيين الذي ذكر في التعريف الاول ، والذي يعني تمييز العلّة ـ التي
ترتّب عليها ثبوت الفرع ـ عن سائر الأوصاف المذكورة في الخطاب ، فالإرجاع يعني
تحديد المرجع الذي نشأ عنه ثبوت الحكم لموضوعه المنصوص.
الاحتمال
الثاني : انّ المراد من
الإرجاع هو إرجاع فروع اخرى غير منصوصة للعلّة المنصوصة في الخطاب ، بمعنى التعرّف
على حكم فروع اخرى بواسطة العلّة المنصوصة في الخطاب.
وباتّضاح المراد
من تنقيح المناط نقول : انّ تنقيح المناط تارة يكون قطعيا واخرى يكون ظنيّا ، ولا
إشكال في عدم جواز ترتيب الأثر الشرعي على تنقيح المناط الظني ، وذلك لعدم قيام
الدليل القطعي على حجيّته ، فيكون مشمولا لأدلة المنع عن العمل بالظنّ كقوله تعالى
( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
شَيْئاً ) . وأمّا تنقيح المناط القطعي فهو حجّة لحجيّة القطع بلا
إشكال ، نعم الإشكال في تحديد صغريات تنقيح المناط القطعي.
ولكي يتّضح المراد
من تنقيح المناط أكثر نذكر هذا المثال :
لو ورد دليل بهذا
اللسان « سألت الامام عليهالسلام عن الدم يسقط في هذا العصير من الرمان فيقول الامام عليهالسلام لا
تشربه » فإنّ من
المقطوع به انّ العلّة من ثبوت الحرمة لعصير الرمان هو سقوط الدم فيه ، واحتمال ان
تكون الحرمة مسبّبة عن سقوط الدم بالإضافة الى كونه عصير رمان منفيّ قطعا ، كما
انّ احتمال أن يكون لشخص العصير المسئول عنه خصوصيّة اقتضت ثبوت الحرمة منفي أيضا
، كما انّ احتمال انّ لاتّخاذ ماء الرمّان من العصر خصوصيّة منفي كذلك ، وبهذا
يتنقح انّ لا علّة لثبوت الحرمة سوى سقوط الدم في العصير.
ومن هنا يمكن
الاستفادة من العلّة المنقّحة لإثبات الحرمة لفرد آخر من عصير الرمان ، وذلك
لانتفاء الاحتمال الثاني ، كما يمكن الاستفادة من العلّة لإثبات الحرمة لمطلق ما
يعتصر من الاجسام حين سقوط الدم فيه ، وذلك لانتفاء الاحتمال الاول ، كما يمكن
تعدية الحرمة لمطلق الماء المضاف حتى وان كانت الإضافة بسبب الامتزاج لا الاعتصار
، وذلك لانتفاء الاحتمال الثالث.
وتلاحظون انّنا
مارسنا هنا عمليتين ، الاولى هي التعيين ، حيث عيّنا بعد ملاحظة الدليل العلّة
الموجبة لثبوت الحكم لموضوعه ، والعمليّة الثانية هي الحذف ، أي حذف الاوصاف
والحيثيّات المكتنفة بموضوع الحكم المذكور في الخطاب ، فحذفنا خصوصيّة الفرد
المسئول عنه ، كما حذفنا خصوصيّة الرمان ، وحذفنا أيضا خصوصيّة الاعتصار ، وليكن
هذا من تنقيح المناط القطعي.
وأمّا تنقيح
المناط الظنّي فهو ان نقول : انّ العلة من ثبوت الحرمة لعصير الرمان هو سقوط
النجاسة ، فنلغي خصوصيّة الدم ونفترض العلّة هي مطلق النجاسة ، كما نلغي خصوصيّة
العصير ونجعل الموضوع مطلق السائل الشامل للماء المطلق.
وليكن هذا من
تنقيح المناط الظنّي ، والذي قلنا بعدم حجيّته.
٢٥٤ ـ التواتر
يعرّف التواتر
عادة باخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب كما يمتنع اتّفاق خطئهم واشتباههم.
وهذا التعريف ـ كما
أفاد السيّد الصدر رحمهالله يستبطن قياسا منطقيا مكونا من صغرى وكبرى ، أما الصغرى فهي
تكثّر عدد المخبرين للخبر ، وأمّا الكبرى فهي انّ هذه الكثرة من المخبرين يمتنع
تواطؤهم على الكذب واتفاق اشتباههم.
وهذه الكبرى قضيّة
عقليّة أوليّة ، ومن هنا اعتبروا المتواترات من القضايا الضروريّة الست ، والتي تؤدي
الى قطعية النتيجة المستفادة عن القياس المشتمل على احدى هذه القضايا الست ، واذا
كان هناك خلل فهو من الصغرى ، إذ وقع الخلاف فيما هي حدود الكثرة التي تقع صغرى
لكبرى امتناع التواطؤ على الكذب.
فقطعية الخبر
المتواتر إذن ناشئ عن يقينيّة الكبرى التي يتألّف منها القياس المنطقي وعن تكثر
عدد المخبرين ، فهو إذن عين الوسيلة التي يتوسّل بها المناطقة لإثبات يقينيّة
القضايا التجريبيّة ، وهي أيضا من القضايا العقليّة الاوليّة الست من قضايا
البرهان ، حيث يعتمد المناطقة لإثبات يقينيّة القضايا التجريبيّة على تأليف قياس منطقي
صغراه اقتران حادثة باخرى في حالات متعدّدة وكثيرة ، وكبراه هي انّ الصدفة لا تكون
أكثريّة ودائميّة ، إذ انّ اتّفاق الاقتران بين الحادثتين قد يكون صدفة في المرّة
الاولى والثانية إلاّ انّه الصدفة لا تتثنى ولا تتكرّر الى حد الكثرة ، ومن هنا
يكون الاقتران الدائمي أو الأكثري بين الحادثتين يعبّر عن علاقة العليّة
والمعلوليّة بين الحادثتين أو علاقة التلازم.
ولو لاحظتم لوجدتم
انّ الكبرى
التي تعتمدها
القضايا المتواترة في الوصول للنتيجة القطعيّة هي عينها التي تعتمدها القضايا
التجريبيّة في الوصول الى النتيجة القطعيّة ، وذلك لأنّ افتراض كذب المخبر لمصلحة
شخصيّة دعته لذلك أو اشتباهه لظرف خاص قد يتفق إلاّ انّ هذا الاتفاق لا يكون
أكثريا ، لأنّ معناه ان تقترن مصلحة المخبر الاول مع مصلحة المخبر الثاني وهكذا
الثالث والرابع صدفه ، بحيث تكون تلك المصالح الشخصيّة مجتمعة صدفة على نقل خبر ذي
مضمون واحد بالرغم من تفاوت الظروف والمشارب والأحوال ، وبهذا تثبت قطعية القضايا
التجريبيّة والمتواترة.
هذا حاصل ما قرّب
به المناطقة ـ أمثال ابن سنيا ـ كيفيّة إثبات قطعيّة القضايا المتواترة
والتجريبيّة إلاّ انّ السيد الصدر رحمهالله لم يرتض هذه الطريقة ، وتبنّى وسيلة اخرى لإثبات قطعيّة
القضايا المتواترة وعبّر عنها باليقين الموضوعي الاستقرائي الناتج عن حساب
الاحتمالات ، والذي هو عبارة عن تراكم القرائن الاحتماليّة لدرجة ينشأ عن هذا
التراكم اليقين الاستقرائي ، والذي هو في مقابل اليقين الرياضي ، إذ لا يبقى مع
اليقين الرياضي احتمال منافاة الواقع مهما كان هذا الاحتمال ضئيلا بخلاف اليقين
الاستقرائي فإنّه لا يتمكن من إلغاء احتمال المنافاة للواقع ، نعم هو يتمكن من
تحجيمه وايصاله الى مستوى لا يحتفظ معه العقل البشري ، وهذا هو مبرّر اطلاق اليقين
على ما ينتج من حساب الاحتمالات.
وحاصل ما أفاده
السيد الصدر رحمهالله في ذلك :
انّ مسار الوصول
للنتيجة القطعيّة في القضايا المتواترة ينشأ عن تراكم الاحتمالات الحاصلة من كلّ
خبر ، إذ انّ كل خبر فهو يحتمل المطابقة للواقع كما يحتمل المنافاة مع الواقع بسبب
انّ
اخبار المخبر قد
يكون بدافع الكذب لمصلحة شخصيّة دعته لذلك أو بسبب الاشتباه إلاّ انّ احتمال الكذب
والاشتباه يبدأ في التضاؤل كلّما تعدّد المخبرون للخبر ، ومعه ترتفع نسبة احتمال
الصدق والمطابقة ، إذ انّ العلاقة بين الاحتمالين المتعاكسين طرديّة ، فكلّما
تضاءل احتمال الكذب والاشتباه كلّما تصاعد احتمال الصدق والمطابقة ، وهذا هو معنى
تراكم القرائن الاحتماليّة للصدق والمطابقة.
فتضاؤل احتمال
الكذب والاشتباه ينشأ عن ضرب القيم الاحتماليّة للكذب والاشتباه في بعضها ، فلو
كان احتمال الكذب والاشتباه في الخبر الاول هو ٥٠% واحتمال الكذب والاشتباه في
الخبر الثاني ـ المتّحد مضمونا مع الخبر الاول ـ هو ٥٠% أيضا لكان قيمة الاحتمال
في الخبر الاول تساوي الكسر ٢ / ١ وكذلك الخبر الثاني فإنّ قيمة احتماله تساوي
الكسر ٢ / ١ ، فلو ضربنا قيمة كلّ من الاحتمالين في الآخر لوجدنا انّ مستوى
الاحتمال للكذب والاشتباه يتضاءل هكذا ٢ / ١ * ٢ / ١ ـ ٤ / ١ فإنّ نسبة الكسر ٤ /
١ الى الواحد أقلّ كما هو واضح من نسبة الكسر ٢ / ١ الى الواحد ، وهكذا ينخفض
احتمال عدم المطابقة ويرتفع معه مستوى احتمال مطابقة الخبر للواقع ، إذ انّ
العلاقة بين الاحتمالين ـ كما قلنا ـ طرديّة.
ولو تعدّد الخبر
ذو المضمون الواحد الى أكثر من الاثنين فإنّ القيم الاحتماليّة الناشئة عن
الإخبارات المتعدّدة تضرب في بعضها ، وسنجد انّ مستوى الاحتمال لعدم المطابقة
يتضاءل أكثر كلما كان العدد أكبر ، فإذا بلغ العدد حدا يكون احتمال عدم المطابقة
ضئيلا جدا بحيث لا يحتفظ العقل بهذا المستوى من الاحتمال لعدم المطابقة فعندئذ
يكون الخبر قد بلغ حدّ التواتر.
والذي يعبّر عن
انّ يقينيّة الخبر المتواتر تنشأ عن تراكم القيم الاحتماليّة ما نجده من تفاوت
الحالات في الأخبار المتواترة ، بمعنى انّه لا ضابط في الخبر المتواتر من جهة عدد
المخبرين ، فقد يحصل اليقين من عدد قليل من المخبرين ، وقد لا يحصل من عدد أكبر ،
وما ذلك إلاّ لأنّ القيمة الاحتماليّة للصدق والمطابقة في الحالة الاولى كبيرة
بخلاف في الحالة الثانية ، إذ انّه عند ما تكون القيم الاحتماليّة لكلّ خبر كبيرة
فإنّ حصول اليقين من تراكم الاحتمالات أسرع منه عند ما تكون القيمة الاحتماليّة
لكلّ خبر ضعيفة.
وبتعبير آخر : عند
ما تكون القيم الاحتماليّة لعدم المطابقة لكلّ خبر ضئيلة فإنّ الوصول الى اليقين
الاستقرائي سريعة بخلافه عند ما تكون القيم الاحتماليّة لعدم المطابقة لكلّ خبر
كبيرة فإنّ الوصول الى اليقين يكون أبطأ ، ولهذا نحتاج الى عدد أكبر من المخبرين.
فلو كانت قيمة
الاحتمال لعدم المطابقة في كلّ خبر من الأخبار الثلاثة مثلا هي قيمة الكسر ١٠٠ / ١
فإنّ ضرب كلّ قيمة من هذه القيم الثلاثة في بعضها ينتج ضئالة الاحتمال الى حدّ لا
يعتدّ العقلاء بمثل هذا المستوى من الاحتمال ، وهذا بخلاف ما لو كانت قيمة
الاحتمال هي الكسر ٢ / ١ فإنّ ضربها في مثلها ثلاث مرات يساوي الكسر ٨ / ١ ، ومن
الواضح انّ مستوى الاحتمال الناتج عن الكسر ٨ / ١ مما يعتني العقلاء بمثله ، فلذلك
نحتاج في تكوين التواتر الى عدد أكبر من المخبرين.
والتفاوت في القيم
الاحتماليّة من حيث الضعف والقوة يخضع لمجموعة من المبرّرات تتصل تارة بحالة كلّ
مخبر ، فقد يكون المخبر ثقة وقد لا يكون كذلك ، وقد يكون ضبطا وقد لا يكون كذلك.
وتتّصل تارة اخرى بمضمون الخبر ، فقد يكون غريبا وقد
يكون مألوفا. ويتّصل
كذلك بالصياغة اللفظيّة للخبر ، فقد تكون الإخبارات متّحدة لفظا وقد تتفاوت
الألفاظ مع اتّحاد المضمون وقد تكون المضامين متفاوتة إلاّ انّها متّحدة من حيث
اشتمالها على خصوصيّة مشتركة.
فلو كان المخبر
ثقة ضبطا وكان مضمون الخبر مألوفا ومتوقعا وكان منافيا لمذهب المخبر وكانت صياغته
متحدة لفظا مع خبر المخبر الآخر فإنّ القيمة الاحتماليّة لعدم المطابقة تكون ضعيفة
، فيكون العدد الذي يحتاجه لتكوين التواتر أقل ، ويكون الوصول الى مرحلة اليقين
معه أسرع.
والمتحصل ممّا
ذكرناه انّ تفاوت القيم الاحتماليّة التي ينشأ عنها التفاوت في مقدار الكثرة التي
نحتاجها لتكوين التواتر ناتج عن عوامل نوعيّة تتّصل تارة بالمخبر واخرى بمضمون
الخبر وثالثة بصياغته.
هذا حاصل ما أفاده
السيد الصدر رحمهالله ، وقد أجملناه خشية الإطالة على القارئ الكريم.
* * *
٢٥٥ ـ التواتر الإجمالي
وقد ذكر للتواتر
الإجمالي معان ثلاثة :
المعنى
الاول : هو اشتراك
الإخبارات الكثيرة في المدلول التضمني أو الالتزامي دون المدلول المطابقي ، وهذا
التعريف هو عينه التعريف الثاني للتواتر المعنوي.
المعنى
الثاني : هو ان تتصدّى
مجموعة كبيرة من الإخبارات لبيان موضوع واحد إلاّ انّها تتفاوت من حيث السعة
والضيق ، فيكون القدر المتيقّن من مجموع الإخبارات متواترا اجمالا.
ومثاله :
الإخبارات الكثيرة المتصدّية لبيان موضوع الحجيّة لخبر الواحد ، فإنّ مفاد بعضها
حجيّة خبر العدل الامامي ، ومفاد البعض الآخر
انّ موضوع الحجيّة
هو خبر الثقة ، كما انّ مفاد بعض الأخبار هو حجيّة الخبر الموثوق ، وبملاحظة مجموع
هذه الأخبار يحصل القطع بصدور بعضها اجمالا دون القدرة على الجزم بما هو الصادر
منها من غير الصادر ، إلاّ انّ لهذه الاخبار قدرا متيقنا يمكن الجزم بثبوته ، وهذا
القدر المتيقّن هو حجيّة خبر العدل الموثوق.
المعنى
الثالث : هو عبارة عن
اقتطاع مجموعة كبيرة من الإخبارات بشكل عشوائي بحيث لا يكون لهذه الإخبارات مصبّ
واحد تحكي عنه أو قدر متيقّن تتفق عليه ، وحينئذ لا يكون للمضعف الكيفي وجود ظاهر
، وان كان يمكن التماس جهة مشتركة من بين هذه الإخبارات بنحو الدقّة ، كأن تكون
جميع هذه الإخبارات متصدّية لأحكام الفروع أو تكون الجهة المشتركة هو جامع
الخبرية.
وكيف كان فالوثوق
بصدور بعضها غير المعين ينشأ عن المضعف الكمي فحسب ، وذلك بواسطة ضرب القيم
الاحتماليّة لعدم الصدور ـ لكلّ خبر ـ في بعضها فإنّ ذلك سينتج تضاؤل القيم الاحتماليّة
الى حدّ يحصل معه الاطمئنان بصدور بعضها غير المعين.
وهذا التعريف
للتواتر الإجمالي ذكره السيد الصدر رحمهالله في دورته التي حضرها السيد الحائري ، وقد ذكر انّ السيّد
الصدر رحمهالله قد عدل عن ذلك وقال بعدم كفاية المضعف الكمي في تحقّق
التواتر.
وعلّق السيّد
الحائري « حفظه الله » على التواتر الإجمالي بالمعنى الأخير بأنّه غريب لا يقول به
الاصحاب ، إذ لا بدّ لحصول التواتر في الخبر ان يكون لمجموع الاخبارات مصبّ واحد
ثم نقل وجه العدول وحاصله :
انّه لو لم يكن
للإخبارات المقتطعة عشوائيا مصب واحد فإنّه حينئذ لن يكون سوى المضعف الكمي ، وهو
وان
كان يوجب ضئالة
احتمال عدم المطابقة لبعضها غير المعيّن بواسطة ضرب القيم الاحتماليّة لكلّ في خبر
في بعضها إلاّ انّ ذلك لا ينتج زوال الاحتمال من النفس ، إذ انّ هذه الإخبارات
الكثيرة المقتطعة عشوائيا
معارضة دائما
بمقدارها من الإخبارات التي يعلم اجمالا بكذبها.
وبتعبير آخر :
اننا نعلم اجمالا بكذب مائة من الأخبار الواصلة لنا ، فلو كانت الاخبار المقتطعة
عشوائيا بمقدار مائة فإنّ من المحتمل ان تكون المائة المعلوم كذبها اجمالا هي التي
اقتطعناها من الأخبار ولا موجب لنفي هذا الاحتمال ، إذ انّ كلّ مائة من الأخبار
يحتمل أن تكون هي منطبق المعلوم بالإجمال.
ودعوى انّ هذه
المائة المقتطعة ليست هي منطبق المعلوم بالإجمال بلا مبرّر بعد ان كانت طرفا للعلم
الإجمالي ، نعم لو كان لهذه الأخبار مصبّ واحد لكان في البين مضعف كيفي يمكن ان
يعالج به محذور الترجيح بلا مرجّح ، بمعنى انّ المضعف الكيفي يوجب الاطمئنان أو
القطع بخروج المائة عن أطراف العلم الإجمالي.
* * *
٢٥٦ ـ التواتر اللفظي
وهو ان تتحد
الإخبارات ـ المتكثرة ـ لفظا ، كما في حديث الثقلين ، وحصول التواتر من هذا النحو
من الإخبارات يكون أسرع ، وذلك لاشتماله ـ بالاضافة الى المضعّف الكمي وهو كثرة
عدد المخبرين للخبر ، على المضعّف الكيفي ، إذ انّ احتمال اتفاق أن تكون مصلحة كلّ
واحد من المخبرين منوطة بالتحفظ على لفظ واحد بعيد جدا.
وعرّف السيد الصدر
رحمهالله التواتر اللفظي بتعريف أوسع من التعريف المذكور واعتبر ما
ذكرناه أكمل مراتب التواتر اللفظي. وأفاد انّ التواتر
اللفظي هو ما تكون
معه الإخبارات متّحدة من حيث المدلول المطابقي.
وهنا مراتب
للتواتر اللفظي بهذا المعنى ، إذ قد تشترك تمام الإخبارات في التفاصيل ، وعندها
يكون المضعف الكيفي أشدّ منه عند ما لا تكون التفاصيل مذكورة في تمام الاخبارات ،
ومنشأ الأشدّية واضحة ، إذ كلما كانت التفاصيل متّحدة في تمام الاخبارات أو
متقاربة فإنّ القيمة الاحتماليّة لعدم المطابقة تكون أضعف بسبب استبعاد اتّفاق
اقتضاء المصالح الشخصيّة لكلّ مخبر للتحفّظ على تفاصيل الخبر.
* * *
٢٥٧ ـ التواتر المعنوي
ويراد منه اتّحاد
الإخبارات ـ المتكثرة ـ في المضمون دون الألفاظ ، وبناء على هذا التعريف يكون
التواتر المعنوي أحد مراتب التواتر اللفظي بحسب تعريف السيّد الصدر رحمهالله في الحلقة الثالثة ، حيث عرّف التواتر اللفظي باتّحاد الإخبارات في المدلول
المطابقي بقطع النظر عن الاتّحاد اللفظي ، واعتبر الاتحاد اللفظي بين الاخبارات
المتكثرة أكمل مراتب التواتر اللفظي.
وهناك تعريف آخر
للتواتر المعنوي ذكره السيد الصدر رحمهالله وذكره بعض آخر من الأعلام ، وهو اتحاد الاخبارات ـ المتكثّرة
ـ في المدلول التضمني أو الالتزامي دون أن يكون بينها اتحاد في المدلول المطابقي.
ويمكن التمثيل
لذلك بالإخبارات الكثيرة التي تحدثت عن بطولات الإمام علي عليهالسلام ، فإنّها مختلفة المضامين ، وكلّ واحد منها يحكي موقفا بطوليا مغايرا لما
يحكيه الخبر الآخر إلاّ انّها تشترك جميعا في مدلول تضمني أو التزامي واحد وهو
شجاعة علي ابن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه.
٢٥٨ ـ توقف الوضع على
تصوّر المعنى واللفظ
من الواضح انّه لا
يتأتى الحكم على شيء إلاّ بعد تصوّره ، إذ انّ إثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له
في عالمه ، ولما كان وعاء الحكم هو الذهن فحينئذ لا بدّ من تصوّر موضوعه في رتبة
سابقة عن جعل الحكم عليه.
وباتضاح هذه
المقدمة نقول : انّ الوضع عبارة عن جعل لفظ دالا على معنى ، فالوضع بهذا حكم على
المعنى كما هو حكم على اللفظ ، أي انّ المعنى واللفظ كلّ منهما يمثل جزء موضوع
لقضيّة يكون المحمول فيها هو الوضع ، فكأنّما الواضع يشكل قضيّة هذه صورتها «
اللفظ والمعنى يدلّ الاول منهما على الثاني » ، فاللفظ والمعنى يمثلان موضوع
القضيّة و « يدلّ الاول منهما على الثاني » هو محمول القضيّة وهو عينه الوضع كما
هو واضح.
فإذا كان الوضع هو
الحكم على اللفظ والمعنى فهذا يقتضي ان يتصوّر الواضع اللفظ والمعنى في رتبة سابقة
على جعل الحكم أي جعل الوضع ، وذلك لاستحالة جعل الاحكام قبل تقرّر موضوعاتها.
وبهذا البيان
اتّضح المراد من توقّف الوضع على تصوّر المعنى واللفظ ، وبعد ذلك نقول انّ تصوّر
المعنى الذي يتوقّف عليه الوضع على نحوين :
النحو
الاول : ان نتصور
المعنى ـ الذي نريد جعل اللفظ دالا عليه ـ بنفسه ، بحيث نستحضره في ذهننا كاملا
ومن تمام حيثياته وبماله من سعة أو ضيق ، وذلك مثل ان نستحضر ونتصوّر معنى « زيد »
بماله من مشخصات ثمّ نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المتشخّص والمحدد ، وكذلك مثل ان
نتصور معنى « الإنسان » ـ بماله من حيثيات تميّزه عن سائر المعاني ، وبماله من سعة
بحيث يقبل الصدق على أفراده ـ ثمّ نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المحدّد.
النحو
الثاني : ان نستحضر
ونتصوّر المعنى ولكن ليس بنفسه وانّما بعنوانه المنطبق عليه ، فيكون هذا العنوان
مشيرا ومنوها بالمعنى الذي يراد جعل اللفظ دالا عليه ، وذلك مثل ان نتصور معنى زيد
ولكن ليس بنفسه وبمشخصاته الخاصة به وانّما بعنوان هذا العنوان صالح لأن ينطبق
عليه ، وهو مثلا عنوان الإنسان أو الرجل ، فهنا نكون قد تصوّرنا معنى زيد بعنوان
كلي صالح للانطباق عليه.
ومع اتّضاح هذين
النحوين من تصوّر المعنى نكون قد توفرنا على الشرط المصحّح للوضع ، إذ قلنا انّ
الوضع لا يمكن إلاّ بعد تصوّر الموضوع ، والمعنى أحد جزئي الموضوع كما اتّضح ممّا
تقدم.
ثمّ انّ الوضع
بلحاظ المعنى المتصوّر منقسم الى ثلاثة أقسام وهي الوضع العام والموضوع له العام ،
والوضع الخاص والموضوع له الخاص ، والوضع الخاص والموضوع له العام ، وهذا ما سيأتي
ايضاحه تحت عنوانه.
وأمّا الوضع بلحاظ
تصوّر اللفظ فهو منقسم الى قسمين :
الاول يعبّر عنه
بالوضع الشخصي ، والثاني يعبّر عنه بالوضع النوعي وايضاحهما تحت عنوانيهما.
هوامش حرف التاء
(١) الوسائل : باب
٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢٩.
(٢) الوسائل : باب
٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ١.
(٣) مستدرك
الوسائل : باب ٩ من أبواب صفات القاضي الحديث ٢.
(٤) الوسائل : باب
١٨ من أبواب مقدّمات العبادات الحديث ٦.
(٥) سورة يونس :
٥٩.
(٦) سورة الأنفال
: ٢٠.
(٧) الوسائل : باب
١ من أبواب نواقض الوضوء الحديث ١.
(٨) سورة البقرة :
٢٨.
(٩) الوسائل : باب
٧ من أبواب آداب القاضي الحديث ٢.
(١٠) الوسائل :
باب ٢٦ من كتاب الأمر بالمعروف الحديث ٢.
(١١) سورة النجم :
٢٨.
حرف الثّاء
عناوين
حرف الثاء
٢٥٩ ـ أصالة
الثبات
حرف الثاء
٢٥٩ ـ أصالة الثبات
وهي من الاصول
العقلائية المقتضية للبناء على ثبات المعنى اللغوي المتبادر في زمن الشك ، بمعنى
انّه لو كان المتبادر من لفظ معنى معين إلاّ انّه وقع الشك في انّ هذا المعنى هل
هو المتبادر من اللفظ في زمن النصّ أو انّ المتبادر منه معنى آخر إلاّ انّه
وبتمادي الزمن هجر المعنى الاول الموضوع له اللفظ وصار المعنى الثاني المتبادر
فعلا هو المعنى المنسبق عند اطلاق اللفظ.
وهنا يأتي دور
الاصل العقلائي ـ المعبّر عنه بأصالة الثبات في اللغة ـ لإثبات انّ المعنى المنسبق
فعلا من اللفظ هو المعنى المتبادر في عصر النص ، ولعلّ المنشأ لهذا الأصل العقلائي
هو غلبة بقاء اللغة على ما هي عليه حين نشأتها ، وانّ المداليل اللغوية هي آخر ما
يمكن ان يطرأ عليه التغيير بسبب تمادي العصور.
ويعبّر عن أصالة
الثبات في اللغة بالاستصحاب القهقرائي ، إذ انّه على خلاف طبع الاستصحاب من حيث
انّ المعهود من الاستصحاب هو تأخر زمان الشك عن زمان اليقين والمقام ليس كذلك ، إذ
يكون اليقين معه فعليا والشك يكون في حدوث المتيقّن في الزمان المتقدّم ، ولذلك
أفاد جمع من
الأعلام بأنّ
الأدلّة قاصرة عن اثبات الحجيّة للاستصحاب القهقرائي في غير اللغة ، وانّ ثبوت
الحجيّة له في خصوص اللغة مستفاد من السيرة العقلائيّة المقتضية لثبات اللغة.
وقد ذكرنا ما
يتّصل بهذا البحث تحت عنوان « التبادر » وعنوان « الاستصحاب القهقرائي » فراجع.
حرف الجيم
عناوين
حرف الجيم
٢٦٠ ـ الجامع
الانتزاعي
٢٦١ ـ الجامع
الذاتي الحقيقي
٢٦٢ ـ الجامع
العرضي
٢٦٣ ـ نظريّة
الجبر
٢٦٤ ـ أصالة الجد
٢٦٥ ـ الجزء
٢٦٦ ـ الجزء
الخارجي
٢٦٧ ـ الجزء
الذهني التحليلي
٢٦٨ ـ الجزء
الصوري
٢٦٩ ـ الجعل
البسيط
٢٧٠ ـ الجعل
التأليفي « المركب »
٢٧١ ـ الجعل
الشرعي
٢٧٢ ـ الجمع
التبرعي
٢٧٣ ـ الجمع
العرفي
٢٧٤ ـ الجمع مهما
أمكن أولى من الطرح
٢٧٥ ـ الجملة
الإنشائيّة
٢٧٦ ـ الجملة
التامة والجملة الناقصة
٢٧٧ ـ الجملة
الخبريّة
٢٧٨ ـ أصالة الجهة
حرف الجيم
٢٦٠ ـ الجامع الانتزاعي
هو العنوان
المشترك المنتزع من أفراد مختلفة.
فحينما تلحظ زيدا
وخالدا والقرطاس والثلج تجد أنّ لكلّ واحد من هذه الأفراد ما يشخّصه ويميّزه عن
الآخر ، وتجد في ذات الوقت أنّ شيئا مشتركا يجمع بينها وهو البياض ، هذا الشيء
الأبيض يمكن أن تجعله جامعا لهذه الأفراد.
وسمّي هذا الجامع
بالانتزاعي لأنّه تمّ انتزاعه من بين أفراد مختلفة ، فهو عنوان تقرّر بواسطة إلغاء
الفوارق الشخصيّة أفراد بعد التحفّظ على الجهة المشتركة بينها.
٢٦١ ـ الجامع الذاتي
الحقيقي
المراد من الجامع
الذاتي هو العنوان المقوّم لأفراده وهو ما يعبّر عنه بالنوع عند المناطقة.
ومثاله عنوان
الإنسان ، فإنّه الجامع الذاتي لأفراده وهم زيد وبكر وخالد ، وذلك لأنّ زيد وبكر
وخالد وإن كان لكلّ واحد منهم ما يشخّصه ويميّزه إلاّ أنّهم جميعا يشتركون في شيء
واحد هو الإنسانيّة ، فالإنسانيّة هي المقوّمة لذواتهم وهي تمام حقيقتهم بحيث لو
افترض انتفاؤها عن واحد منهم فإنّ معنى ذلك هو انتفاؤه.
ومنشأ التعبير عن
عنوان الإنسان
مثلا بالجامع
الذاتي لأفراده هو أنّه يشير إلى ما به تتقوّم ذواتهم ، وأمّا أنّه جامع حقيقي
فإنّه يشير إلى حقيقة أفراده.
وقد يطلق الجامع
الذاتي الحقيقي على ما يسمّيه المناطقة بالجنس. ومثاله عنوان الحيوان والذي هو
جامع للإنسان والأسد والثعلب والخيل ، فهو ذاتي لأنّه يمثّل جزء الذات المقوّم
لهذه الحقائق ، وهو جامع حقيقي لأنّه ـ واقعا ـ جزء الحقيقة المقوّم لهذه الأنواع.
* * *
٢٦٢ ـ الجامع العرضي
هو العنوان
المشترك بين مجموعة من الأفراد بشرط أن لا يكون ذاتيّا لتلك الأفراد.
ومثاله عنوان
الأبيض بالنسبة لزيد وبكر والقرطاس والثلج فإنّ كلّ هذه الأفراد متّصفة بالبياض
كان عنوان الأبيض جامعا مشتركا بينها ، ولأنّ البياض لا يمثّل حقيقة هذه الأفراد
وليس ذاتيّا لها كان عنوان الأبيض جامعا عرضيّا.
ولذلك يمكن أن
يقال أنّ الجامع العرضي هو ما يعبّر عنه المناطقة بالعرض الخاصّ ـ كالضاحك بالنسبة
لأفراد الإنسان ـ والعرض العامّ كالماشي بالنسبة للحيوان ، فالضاحك جامع لأفراد
الإنسان وليس ذاتيّا له ، والماشي جامع لأفراد الحيوان وليس ذاتيّا له.
* * *
٢٦٣ ـ نظريّة الجبر
وهي النظريّة
المنسوبة للاشاعرة ، وحاصلها :
هو نفي قانون
العلّية والمعلولية بين الممكنات ، وانّه لا شيء في عالم الممكنات إلاّ وهو معلول
مباشرة لله جلّ وعلا ، فليس ثمّة ممكن من
الممكنات له تأثير
استقلالي او تبعي على ممكن آخر ، فلا النار علة للإحراق ولا الشمس سبب للإنارة كما
انّ البرودة ليست أثرا للثلج ولا الحلاوة أثر من آثار العسل.
وكلّ ما نشاهده من
تلازم خارجي بين النار والإحراق والشمس والإنارة نشأ عن انّه قد جرت عادة الله جلّ
وعلا ان يفيض النور مثلا عند ما يوجد الشمس وان يخلق الحلاوة عند ما يخلق العسل ،
وإلاّ فليس بين الشمس والنور علاقة علّية ومعلولية وهكذا الكلام في سائر الممكنات
التي توهّم انّ بينها علاقة علّية ومعلولية.
هذا وقد ترقى
بعضهم وادعى ان حصول العلم بالنتيجة من القياس ليس ناشئا واقعا عن مقدمتي القياس
بل لأنّ عادة الله جلّ وعلا قد جرت على إحداث العلم بالنتيجة بعد تأليف القياس
وإلاّ فلا علاقة بين النتيجة وبين مقدمتي القياس ، فكما انّ قضيّة « الكلّ أعظم من
الجزء » لا تنتج « زوجية الاربعة » فكذلك قضيتا « العالم متغيّر » « وكلّ متغيّر
حادث » لا ينتجان « ان العالم حادث ».
ومن هذه النظريّة
نشأ القول بالجبر وانّ الأفعال الصادرة عن الإنسان معلولة مباشرة لله جلّ وعلا
وليس للإنسان أيّ نحو من أنحاء الدخل في حدوثها ، فكلامه وصلاته وظلمه وعدله وكذبه
وصدقه وايمانه وكفره كلها أفعال معلولة لله جلّ وعلا أولا وآخرا ومباشرة
واستقلالا.
هذا هو حاصل
المراد من نظريّة الجبر ، وهي منافية للبراهين العقليّة ومباينة للأدلة الشرعية
القطعيّة ، وبيان ذلك خارج عن المقصود إلاّ انّه قد أوضحنا ما هو المذهب الحقّ في
هذه المسألة تحت عنوان « الأمر بين الأمرين ».
* * *
٢٦٤ ـ أصالة الجد
وهي من الاصول
اللفظيّة العقلائية المقتضية للبناء على جدّيّة ما أخطره المتكلّم. وقد أوضحنا
المراد من هذا الأصل وما هو منشأ حجيّته في بحث « أصالة الجهة ».
* * *
٢٦٥ ـ الجزء
الجزء من المفاهيم
النسبيّة الإضافيّة والتي ينتزعها الذهن بواسطة ملاحظة شيء بالإضافة الى شيء آخر ،
كملاحظة السورة بالإضافة الى الصلاة ، فإنّ العقل ينتزع من ذلك جزئية السورة
للصلاة.
وكون الجزء من
المفاهيم الانتزاعيّة لا يعني انّ معنونه ممّا ليس له ما بإزاء في الخارج بل انّ
هذا المعنون تارة يلحظ بنفسه فيأخذ عنوانه الذي هو عليه واقعا وفي نفس الأمر ،
واخرى يلحظ بالإضافة الى شيء آخر وحينئذ ينتزع العقل له عنوانا بواسطة هذا اللحاظ
الإضافي إذا صحّ التعبير.
* * *
٢٦٦ ـ الجزء الخارجي
وهو الذي اذا
انضمّ اليه غيره خارجا تشكل عن مجموعهما مركب واحد ويكون انفصاله عنه موجبا لنقص
المركب أو انعدامه أو تبدل صورته الى صورة مركب آخر ، ومن هنا كان الجزء مقوم
لحقيقة المركب ، بمعنى استحالة ان يحتفظ المركّب بواقعه ـ الذي هو عليه مع الجزء ـ
حينما لا يكون الجزء موجودا مع سائر أجزاء المركب.
ومن هنا وقع
الكلام في الأجزاء المستحبّة في المركب ، وهل هي جزء حقيقي للمركب أو لا؟.
فالنافون لجزئية
الجزء الاستحبابي
يتمسّكون بدعوى
انّ جزئية الجزء لمركّب منوطة بتقوّم المركب بذلك الجزء ، وهذه الضابطة غير منطبقة
على الجزء الاستحبابي باعتبار انّ المركب لا يتقوّم به ، وافتراض تقوّمه به خلف
افتراض استحبابه ، إذ انّ استحباب الجزء يعني عدم تأثر المركب بانعدامه ، وقد قلنا
انّ انعدام الجزء يعني نقص أو انعدام أو تبدّل صورة المركب ، وهذا ما يعبّر عن انّ
المستحبّ ليس أكثر من فعل ظرف مطلوبيته هو المركب.
* * *
٢٦٧ ـ الجزء الذهني
التحليلي
وهو الذي تكون
دخالته في المركب بنحو الشرطيّة ، بمعنى ان يكون خارجا عن ذات المركّب إلاّ انّ
المركّب يكون متقيّدا به. ومن الواضح انّ التقيّد ليس له ما بإزاء في الخارج بل
انّ موطنه الذهن ، فذات المركب خارجا لا يختلف الحال فيه بين تقيّده بالشرط وعدم
تقيّده به ، بمعنى انّ ذات المركّب المتقيّد بالشرط ليس فيه شيء زائد يمكن ان يشار
اليه خارجا إلاّ انّه في صقع الذهن مباين لذات المركب الفاقد للتقيّد بالشرط.
وهذا هو منشأ
التعبير عنه بالجزء الذهني ، فالفرق بين الجزء الذهني والجزء الخارجي انّ الجزء
الخارجي يمكن أن يشار اليه ، فيقال هذا جزء المركب ، وأما الجزء الذهني فليس كذلك
بل انّ جزئيته الذهنيّة ناشئة عن تحليل العقل للمركب وانّه مركّب من ذات المركب
والتقيّد بالشرط ، ولهذا قالوا انّ الأمر عند ما يجعل على المركب فإنّه ينحل على
أجزائه الخارجيّة ، بمعنى انّ الأمر بالمركب أمر بأجزائه ، إلاّ انّه لا ينبسط على
شرائطه وقيوده بل انّها خارجة عن المأمور به ، والداخل في المأمور به انّما هو
التقيّد بها ، بمعنى انّ المأمور به انّما هو الحصّة
المتقيّدة بهذه
القيود ، فالقيود خارجة والتقيّد بها داخل في المأمور به.
فالطهارة مثلا
وكذلك الساتر والاستقبال ليست داخلة في المأمور به وهي الصلاة ، المتقيّدة
بالطهارة.
وبهذا يتّضح انّ
منشأ التعبير عن الجزء الذهني بالقيد هو انّه يوجب تقيّد المأمور به ، وذلك في
مقابل اطلاقه وإرساله ، وعلى هذا الأساس يكون الجزء الذهني شاملا للقيد الوجودي
مثل الطهارة وللقيد العدمي المعبّر عنه بالمانع مثل الغصبيّة ، إذ انّ كلاّ منهما
يوجب تقيّد المأمور به ، فالاول يوجب تقيّد الصلاة مثلا بالطهارة ، والثاني يوجب
تقيّد الصلاة بعدم الغصب.
* * *
٢٦٨ ـ الجزء الصوري
قد أوضحنا المراد
منه تحت عنوان « القاطع والمانع ».
٢٦٩ ـ الجعل البسيط
والمراد من الجعل
البسيط هو جعل الشيء ، أي ايجاده بمفاد كان التامة.
ويعرف الجعل
البسيط بواسطة ان فعل « جعل » لا يتعدّى في مورده إلاّ لمفعول واحد ، كأن تقول «
جعل الله الانسان » أي أوجده.
ثمّ انّ الجعل
البسيط يختصّ بايجاد أو بافاضة الذات والذاتيات ، فايجاد الإنسان أو ايجاد
الحيوانيّة أو الناطقيّة للإنسان يكون من الجعل البسيط ، وذلك لأن جعل الإنسان من
جعل الشيء ، لا من جعل شيء شيئا أو من جعل شيء لشيء ، فإنّ من غير المعقول ان تنفك
الإنسانيّة عن الإنسان حتى يصحّ جعل الإنسانيّة له ، فجعل الإنسانيّة للإنسان يكون
من جعل الشيء لنفسه ، وهو مستحيل ، نعم إذا كان جعل الإنسانيّة للإنسان بمعنى جعل
الإنسان أي
ايجاده فهذا صحيح
، وعنده يكون جعلا بسيطا.
وهكذا الكلام في
جعل مقوّم الإنسانيّة للإنسان كجعل الحيوانيّة أو الناطقيّة له فإنّه لا يكون إلاّ
بنحو الجعل البسيط وإلاّ لزم جعل الشيء لنفسه ، إذ انّه حينما لا تكون الناطقيّة
مجعولة فهذا معناه عدم جعل الإنسان ، ولذلك لا يكون جعل الناطقيّة للإنسان من جعل
شيء لشيء بل هو من جعل الشيء.
وهنا معنى ثان
للجعل البسيط يذكره الفلاسفة كصاحب المنظومة رحمهالله ويقول الشيخ المطهري رحمهالله انّ أول من نقّحه هو المير الداماد رحمهالله وهو ان الجعل البسيط هو جعل الوجود النفسي ، وذلك في مقابل الجعل المركّب فهو
بمعنى جعل الوجود الرابط ، ولمّا لم يكن هذا المعنى هو المراد من كلمات الاصوليين
فإننا لن نتعرض لبيانه.
* * *
٢٧٠ ـ الجعل التأليفي «
المركب »
والمراد منه جعل
الشيء شيئا آخر أو جعل شيء لشيء بمفاد كان الناقصة ، فالمعلول عند ما يكون موجودا
وتأتي العلّة لتجعل له وجودا زائدا على أصل وجوده يكون هذا النحو من الجعل جعلا
مركبا ، كما في جعل التراب طينا ، فإنّ الجاعل قد أفاض على التراب وجودا زائدا على
أصل وجوده وهي صفة الطينية والتي كان التراب فاقدا لها قبل الجعل.
ويعرف الجعل
المركب بواسطة ملاحظة فعل « جعل » فإن كان متعديا لمفعولين فهو من الجعل المركّب.
ثمّ انّ هذا النحو
من الجعل يختص بالصفات والأعراض الأعم من اللازمة والمفارقة. ومرادنا من الجعل هنا
هو خصوص الجعل التكويني الحقيقي وإلاّ فالجعل الاعتباري
كالجعولات
الشرعيّة لا يتعقّل معها جعل اللوازم الذاتيّة.
ولهذا قالوا بأن
جعل الحجيّة واعتبارها للقطع غير ممكن لا بنحو الجعل البسيط كما هو واضح ولا بنحو
الجعل المركّب ، وذلك لأنّه الحجيّة لازم ذاتي للقطع ، فجعل الحجيّة له من تحصيل
الحاصل.
* * *
٢٧١ ـ الجعل الشرعي
والمراد منه تمام
الأحكام المجعولة على موضوعاتها المقدرة الوجود.
وبيان ذلك : انّ
الحكم قبل أن يصل لمرتبة الجعل يمرّ بمراحل يعبّر عنها بعلل الحكم أو قل بمبادئ
الحكم والتي هي الملاك والإرادة كما سنوضح ذلك في محلّه ، فحينما يتوفر فعل من
الأفعال على مصلحة أو مفسدة تنشأ عن ذلك إرادة أو مبغوضيّة تتناسبان مع مستوى
المصلحة والمفسدة ، ويترتّب على ذلك اعتبار مولوي ينسجم بنظر المولى مع نحو الملاك
ومرتبته ، وحينها يبرز المولى هذا الاعتبار بوسيلة من وسائل الإبراز فيكون ذلك
الاعتبار المبرز هو الجعل الشرعي ، وعادة ما يتمّ ذلك بواسطة جعل الحكم واعتباره
على الموضوع المقدّر الوجود ، أي انّ الجعولات الشرعيّة عادة ما تكون مصوغة على
نهج القضايا الحقيقيّة.
ومن هنا لا يناط
الجعل الشرعي بتحقّق موضوعه خارجا فقد لا يتّفق تحقّقه خارجا ، وقد يكون اتّفاق
تحقّقه نادرا إلاّ انّ ذلك لا يؤثر على أصل الجعل ، إذ لا صلة للجعل بتحقّق
الموضوع خارجا بل هو منوط ـ كما ذكرنا ـ بمبادئه وملاكاته ، والمفروض انّها
متقرّرة في نفس الأمر والواقع.
فالفقير في نفس
الأمر والواقع واجد لملاك استحقاقه للزكاة وان لم يكن ثمّة فقير خارجا ، فمبرّر
جعل
الاستحقاق انّما
هو واجديّة الفقير لملاك الجعل لو اتّفق وجوده خارجا.
* * *
٢٧٢ ـ الجمع التبرعي
وهو الجمع بين
مدلولات الأدلّة المتعارضة بنحو لا يتناسب مع الضوابط المقرّرة عند العرف ، ومن
هنا يكون هذا النحو من الجمع ساقطا عن الحجيّة لعدم استناده الى الظهورات العرفيّة
والتي هي موضوع أدلّة الحجيّة.
وغالبا ما يكون
هذا الجمع مستندا الى قاعدة انّ الجمع مهما أمكن فهو أولى من الطرح ، وقد يكون
المنشأ لهذا الجمع هو الغفلة عن الضوابط العرفيّة للجمع وإلاّ فكبرى سقوط الجمع
التبرعي عن الحجيّة مسلّمة عند الأكثر.
* * *
٢٧٣ ـ الجمع العرفي
والمراد منه الجمع
بين مدلولات الأدلّة المتعارضة بنحو التعارض البدوي ، على أن يكون ذلك الجمع
متناسبا مع الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة ، ولهذا عبّر عنه بالجمع العرفي
لتناسبه مع المتفاهم العرفي ، وذلك في مقابل الجمع التبرعي.
ومن هذا التعريف
تتّضح امور يتشكّل من مجموعها المراد من الجمع العرفي :
الأمر
الاول : انّ الجمع
العرفي انّما يكون بين مدلولات الأدلّة ولا صلة له باسنادها ، ومن هنا لا بدّ من
الفراغ عن صدور الأدلّة التي يراد الجمع بين مفاداتها ، ولذلك يعبّر عن الجمع
العرفي بالجمع الدلالي.
الأمر
الثاني : انّ مورد الجمع
العرفي هو الأدلّة المتعارضة بدوا ، وبذلك تخرج الأدلّة المتعارضة بنحو التعارض
بنحو التعارض
المستقر ، ويخرج أيضا الدليل المشتمل على قرينة متّصلة منافية لظهوره التصوري ،
وذلك لأنّ اشتمال الدليل على قرينة متّصلة يمنع عن انعقاد الظهور التصديقي للدليل
من أوّل الأمر ، ويكون الظهور التصديقي مع ما تقتضيه القرينة.
وبهذا يتمحّض مورد
الجمع العرفي بالدليلين اللذين يكون أحدهما قرينة على ما هو المراد النهائي لمجموع
الدليلين ، فالدليل الذي يمثل القرينة على ما هو المراد من الدليل الآخر وان كان
لا يهدم الظهور التصديقي للدليل الآخر إلاّ انّه ينفي حجيّته ، بمعنى انّ الحجيّة
تثبت لما ينتج عن الجمع بين القرينة وذي القرينة.
الأمر
الثالث : انّ منشأ ثبوت
الحجيّة للجمع العرفي هو انّه من صغريات الظهور التصديقي الثاني المعبّر عنه
بالمراد الجدي والنهائي ، والظهور التصديقي هو موضوع الحجيّة كما هو واضح.
وتقريب دعوى
صغروية الجمع العرفي للظهور التصديقي هو انّ الجمع العرفي يستند الى ما يعدّه
المتكلم من قرائن لغرض بيان مراده الجدّي من كلامه امّا بنحو الإعداد الشخصي أو
بنحو الإعداد النوعي ، وواضح انّ هذا المستند هو الوسيلة العقلائيّة المعتمدة
لبيان المراد ، كما هو الوسيلة للتعرّف على ما هو مراد المتكلّم. ولهذه لا يلتفت
الى ما يظهر بدوا من كلامه الاول بعد ما تصدّى لبيان مراده الجدّي والنهائي.
والمراد من
الإعداد الشخصي هو القرينة الخاصة التي يتصدّى المتكلّم نفسه لإبرازها لغرض تفسير
كلامه الاوّل ، كأن يبرز المتكلّم قرينة على انّه ناظر لكلامه الاول لغرض شرحه
وتفسيره ، ويعبّر عن الدليل المشتمل على قرينة النظر بالدليل الحاكم ويكون الدليل
الآخر محكوما ، ويعبّر
عن الجمع العرفي
عند ما يكون منشؤه هذا النحو من القرائن بالحكومة.
والمراد من
الإعداد النوعي هو القرينة النوعيّة التي أعدّها العرف لغرض التوسّل بها لتحديد
المراد ، وعند ما يستعمل المتكلّم هذا النحو من القرائن يستظهر العرف جريانه على
وفق ما هو مقرّر عندهم. ومنشأ هذا الاستظهار هو أصالة متابعة كلّ متكلّم ما هو
مقرّر عند من يتكلّم بلغتهم ، إذ هم المقصودون بالافهام فلا بدّ من جريه على وفق
الطريقة التي يفهمون بواسطتها مراداته وإلاّ كان ناقضا لغرضه ، وهو خلف الحكمة
المفترضة للمتكلّم.
ومثال القرائن
النوعيّة التي يعتمدها المتكلّم لبيان مراده هو قرينة الأظهر على الظاهر والخاص
على العام والمطلق على المقيّد.
ثمّ انّ الوسيلة
التي يعتمدها العرف غالبا ـ كما أفاد المحقّق النائيني ـ للتعرّف على صلاحية
الدليلين لأن يجمع بينهما جمعا عرفيا هي افتراض الدليلين كلاما واحدا متصلا ،
وعندئذ ان احتفظ كلّ من الكلامين بظهوره التصديقي الثابت قبل افتراض اتّصالهما
فهذا معناه ان لا أحد من الدليلين قرينة على الآخر ، بمعنى انّ هذين الدليلين لا
يصلحان لأن يجمع بينهما جمعا عرفيا ، وذلك لأن القرينة المتّصلة تمنع من انعقاد
الظهور التصديقي للدليل الآخر وتحوّل ظهوره البدوي الى ما يتناسب مع مقتضاها ، ومن
هنا قلنا حين انحفاظ كل من الدليلين بظهوره التصديقي بعد افتراض اتّصالهما قلنا
بأن لا أحد منهما قرينة على الآخر وإلاّ لمنع عن استقرار ظهوره.
وأمّا إذا لم
يحتفظ أحد الدليلين بظهوره التصديقي ـ الثابت قبل افتراض الاتّصال ـ وتحوّل ظهوره
بعد افتراض الاتّصال الى ظهور آخر
يتناسب مع ظهور
الدليل الآخر فإنّ هذا يعبّر عن انّ الظهور الآخر يمثل قرينة على الدليل الاول.
وعلى اساس قرينيّة الدليل الآخر المستكشفة بواسطة افتراض اتّصالهما على هذا الاساس
يتمّ الجمع العرفي.
وبما بينّاه تتّضح
معالم الجمع العرفي. ثمّ انّه لا بدّ من توفّر الجمع العرفي على مجموعة من الشروط
يتّضح بعضها بالتأمّل فيما ذكرناه.
منها : أن يكون الكلامان صادرين من متكلّم واحد أو من جهة واحدة
، كالروايات الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام ، فانّهم عليهمالسلام يمثّلون بمجموعهم جهة واحدة هي الشريعة المقدّسة.
ومنها : احراز صدور الدليلين اللذين يراد الجمع بينهما وإلاّ فلو
علمنا اجمالا بعدم صدور أحدهما فإنّ التعارض هنا يكون بين السندين ، وقد قلنا انّ
الجمع العرفي جمع دلالي لا صلة له بالسند.
ومنها : ما قيل من لزوم إحراز جهة الصدور بمعنى ـ ظاهرا ـ ان لا
نعلم اجمالا أو تفصيلا بأنّ أحد الدليلين صادر لغير بيان الحكم الواقعي ، كأن يكون
صادرا تقيّة.
ومنها : أن لا يكون الجمع مقتضيا لإلغاء الدليل المغلوب رأسا.
* * *
٢٧٤ ـ الجمع مهما أمكن أولى
من الطرح
وهي من القواعد
المشتهرة بين قدماء الاصوليّين ، وقد ادّعى الميرزا حبيب الله الرشتي رحمهالله ـ في بدائع الافكار ـ اجمال المراد من هذه القاعدة ، والذي يظهر من بعض كلمات
العلاّمة الحلّي رحمهالله انّ المراد من الجمع هو الجمع الدلالي ، أمّا ما يظهر من
بعض كلمات الشهيد رحمهالله في تمهيد القواعد فهو انّ المراد من الجمع هو الجمع العملي
، أي التبعيض في العمل
بالدليلين.
ولكي يتّضح المراد
من هذه القاعدة نصنّف البحث الى ثلاثة جهات ، وقبل بيان ذلك نقول : انّ مورد
القاعدة هل هو الأخبار المتعارضة مطلقا ، أي سواء كان التعارض مستقرا ومستحكما أو
كان تعارضا بدويا ، أو انّ مورد القاعدة هو خصوص التعارض البدوي ، كالتعارض بين
الاطلاق والتقييد؟
المستظهر من كلمات
بعض الأعلام هو الاول وان مورد القاعدة هو مطلق التعارض ، ويترتب على كل من
الاحتمالين ثمرات مهمّة تتّصل بفهم القاعدة ، وهذا ما سيتّضح من مطاوي الحديث عن
الجهات الثلاث التي نرجوا بواسطتها اتّضاح المراد من القاعدة :
الجهة
الاولى : ويقع البحث
فيها عمّا هو المراد من الجمع ، وهل هو الجمع الدلالي أو هو الجمع العملي؟
والمقصود من الجمع
الدلالي أحد احتمالات ثلاثة :
الاحتمال
الاول : هو التوفيق بين
مدلولي الخبرين المتعارضين بتأويل أحدهما أو كلاهما بنحو ينتفي معه التعارض الواقع
بينهما بحسب الظهور الاولي قبل الجمع.
كما لو ورد « انّ
ثمن العذرة سحت » وورد « انّه لا بأس ببيع العذرة » فنحمل العذرة في الرواية
الاولى على عذرة الإنسان وفي الرواية الثانية على عذرة الحيوان.
الاحتمال
الثاني : هو التحفّظ على
مدلولي الدليلين والتعبّد بهما معا ولكن بنحو التخيير ، إمّا التخيير الاستمراري
أو التخيير الابتدائي.
الاحتمال
الثالث : الجمع بين
مدلولي الدليلين بنحو يتناسب مع الضوابط العرفيّة ، بمعنى انّه لو ألقينا هذين
الدليلين الى العرف لفهم من مجموعهما المعنى الذي حصّلناه من
الجمع بينهما ،
ومثاله حمل الأظهر على الظاهر والمقيّد على المطلق.
وأمّا المقصود من
الجمع العملي فهو أحد احتمالات.
الاحتمال
الاول : هو التبعيض
العملي للخبرين بمعنى ان نعمل ببعض مدلول الخبر الاول وببعض مدلول الخبر الثاني.
الاحتمال
الثاني : تبعيض العمل
بمدلول أحد الخبرين مع العمل بتمام مدلول الخبر الآخر ، ومثاله المطلق والمقيّد ،
أمّا المقيّد فنعمل بتمام مدلوله ، وأمّا المطلق فنعمل بالمقدار الذي لا يتنافى مع
المقيّد.
الاحتمال
الثالث : التبعيض العملي
بنحو الترديد ، أي ان نعمل تارة بتمام مدلول الخبر الاول ، ونعمل تارة اخرى بتمام
مدلول الخبر الثاني.
وبملاحظة مجموع
احتمالات المراد من الجمع الدلالي واحتمالات المراد من الجمع العملي ينقدح في الذهن
احتمال عدم الفرق بينهما ، إذ لو كان المراد من الجمع الدلالي هو الاحتمال الثالث
وكان المراد من الجمع العملي هو الاحتمال الثاني لكان المراد من الجمعين واحدا
والاختلاف انّما هو في التعبير ، بل لو كان المراد من الجمع الدلالي هو الاحتمال
الاول وكان المراد من الجمع العملي هو الاحتمال الاول لكان من الممكن القول
باتّحاد المراد منهما بأن يقال انّ التوفيق بين مدلولي الخبرين يلازم دائما العمل
ببعض مدلول الخبر الاول وببعض مدلول الخبر الثاني ، ففي المثال الذي ذكرناه
للاحتمال الاول من الجمع الدلالي عند ما حملنا العذرة في الرواية الاولى على عذرة
الإنسان نكون قد عملنا ببعض مدلول الخبر الاول ، وهو اجتناب بيع عذرة الإنسان وان
كنا لم نعمل باطلاقه المقتضي لترك بيع مطلق العذرة ، وعملنا أيضا ببعض مدلول الخبر
الثاني من حيث التزامنا بصحّة بيع
عذرة الحيوان ،
ولو كنّا واطلاق الرواية الثانية لجاز لنا بيع عذرة الإنسان أيضا.
نعم بناء على انّ
المراد من الجمع الدلالي هو الاحتمال الثاني وانّ المراد من الجمع العملي هو
الاحتمال الثالث أو الثاني أو الاول لكان الفرق بينهما بيّنا ، إذ انّ الاحتمال
الثالث للجمع العملي يقتضي العمل بكلا الخبرين ولكن بنحو الطوليّة في حين انّ
الاحتمال الثاني للجمع الدلالي ـ بناء على التخيير الابتدائي ـ لا يصحّ للمكلّف
العمل بالخبر الثاني لو اختار أولا العمل بالخبر الاول وهكذا العكس. وأمّا بناء
على التخيير الاستمراري فإنّ المكلّف لا يكون معه ملزما بالعمل بالخبر الثاني لو
اختار الاول ، نعم له ان يعمل بالثاني بعد العمل بالاول إلاّ انّ ذلك غير ملزم
وهذا بخلاف الاحتمال الثالث للجمع العملي ، نعم لو اخترنا في معنى الأولويّة انّ
المراد منها الراجحيّة لكان من الممكن التوفيق بين الاحتمال الثاني للجمع الدلالي
ـ بناء على التخيير الاستمراري ـ والاحتمال الثاني للجمع العملي.
وبهذا الطريقة
يعرف الفرق بين سائر احتمالات الجمعين.
الجهة
الثانية : ويقع البحث
فيها عمّا هو المراد من الإمكان في القاعدة ، وهل هو الإمكان العقلي أو هو الإمكان
العرفي؟
نسب الميرزا
الرشتي رحمهالله الى كتاب غوالي اللئالي وغيره من الكتب انّ المراد من
الإمكان في القاعدة هو الإمكان العقلي ثمّ ادّعى انّ القول بأنّ المراد من الإمكان
هو الإمكان العرفي هو من الخلط والاشتباه ، ثمّ أفاد بأن أول من تبنّى القول بأن
المراد من الإمكان هو الإمكان العرفي هو الاستاذ الوحيد البهبهاني رحمهالله.
وكيف كان فالمقصود
من الإمكان
العقلي هو الإمكان
الوقوعي ، وهو الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال ، أي انّ وجوده لو اتّفق لا يكون
مستلزما لأحد المحاذير العقليّة كاجتماع النقيضين.
وبناء على هذا
المعنى يكون المصحّح للجمع بين الروايات هو ان لا يلزم من نتيجة الجمع محذور عقلي
، فلو كان يلزم من نتيجة الجمع بين الروايتين نسبة الظلم الى الله تعالى فهذا
الجمع غير ممكن فلا يكون أولى من الطرح ، وهكذا لو كان يلزم من نتيجة الجمع
التعبّد بالمتناقضين أو بالضدّين فإنّ الجمع غير ممكن فلا يكون أولى من الطرح.
ومن هنا لو وردت
روايتان ، إحداهما تحرّم أكل لحم الأرنب والاخرى تحلّله فإنّ الجمع بين هاتين
الروايتين بالقول انّ لحم الأرنب حرام شرعا وحلال شرعا غير ممكن ، نعم لو جمعنا
بينهما بحمل الاولى على الكراهة والاخرى على الاباحة فإنّ هذا الجمع لا يلزم منه
محذور عقلي ، ولذلك يكون أولى من الطرح.
ومن هنا قالوا في
مقام الجواب على الجمع العملي بناء على الاحتمال الاول وهو العمل ببعض مدلول الخبر
الاول والعمل ببعض مدلول الخبر الثاني بأنّه مستحيل ، وذلك لاستلزامه الترخيص في
المخالفة القطعيّة ، والترخيص في المخالفة القطعيّة مستحيل وقوعا.
فلو قال المولى «
أكرم كلّ العلماء » وقال : « لا تكرم كلّ العلماء » وكان مقتضى الجمع هو العمل
ببعض مدلول الخبر الاول وببعض مدلول الخبر الثاني لكان ذلك معناه الترخيص في
المخالفة القطعيّة ، وذلك لأنّ الواقع لا يخلو إمّا أن يكون مدلول الخبر الاول أو
يكون مدلول الخبر الثاني ، وعلى كلّ تقدير تحصل المخالفة لجزء الواقع.
هذا ما يمكن ان
يقرّب به إشكال
القائلين بالجمع
الدلالي على الجمع العملي ، وهو مخدوش كما هو واضح إلاّ انّه يعزّز دعوانا من ان
المراد من الإمكان العقلي هو الإمكان الوقوعي.
وأمّا المقصود من
الإمكان العرفي فيحتمل معنيين :
المعنى
الاول : انّ المراد من
الإمكان العرفي هو الإمكان العقلائي ، بمعنى ان لا تتنافى نتيجة الجمع مع
المتبنّيات العقلائيّة وان كان متنافيا مع الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة ،
وبهذا تكون دائرة الجمع الممكن بناء على هذا المعنى أضيق من دائرة الجمع الممكن
بناء على انّ المراد من الإمكان هو الإمكان العقلي ، إذ ليس كلّ ممكن وقوعا يتناسب
مع المتبنّيات العقلائيّة.
مثلا : لو ورد خبر
مفاده « لا تعمل بخبر الكاذب » وورد خبر آخر مفاده « أعمل بخبر الكاذب » وجمعنا
بينهما بهذا الجمع وهو جواز العمل بخبر الكاذب ، فإنّ هذا الجمع وان كان ممكنا
وقوعا اذ لا يترتّب من تبنيه محذور عقلي إلاّ انّه غير متناسب مع المتبنيات
العقلائيّة كما هو واضح.
المعنى
الثاني : انّ المراد من
الإمكان العرفي هو التناسب مع الضوابط المعتمدة عند أهل المحاورة ، فمتى ما كان
الجمع متناسبا مع هذه الضوابط كان ممكنا ، وعندئذ يكون أولى من الطرح ، ومتى كان
الجمع منافيا لما عليه أهل المحاورة فهو غير ممكن ، فلا يكون أولى من الطرح.
والظاهر انّ هذا
هو المراد من الإمكان العرفي بنظر الوحيد البهبهاني رحمهالله ، إذ هو المتناسب مع النقوضات التي نقض بها على مسلك
الإمكان العقلي ، من قبيل استلزامه فقها جديدا واستلزامه اطراح روايات العلاج
للاخبار المتعارضة والقاضية بالتخيير أو الترجيح ، إذ لو كان مراده من الإمكان
العرفي هو
الإمكان العقلائي
لكان ما نقض به على مبنى الامكان العقلي صالحا لأن يكون نقضا على مبناه أيضا.
إذ من الواضح انّ
الجمع على أساس الإمكان العقلائي يستلزم أيضا اطراح روايات العلاج كما يستلزم أيضا
استحداث فقه جديد ، لوضوح انّ كثيرا من الجموعات المفترضة لا تتنافى مع المتبنّيات
العقلائيّة ، بمعنى عدم استيحاشهم من افتراضها إلاّ انّها تتنافى مع روايات العلاج
، ومستلزمة لاستحداث فقه جديد.
مثلا : لو ورد انّ
الواجب في ظهر يوم الجمعة هو صلاة الظهر ، وورد خبر آخر مفاده انّ الواجب في ظهر
يوم الجمعة هو صلاة الجمعة ، وجمعنا بين هذين الخبرين بالقول انّ الواجب في ظهر
يوم الجمعة هو صلاة الجمعة والظهر معا. فإنّ هذا الجمع لا يكون متنافيا مع الإمكان
العقلائي ، إذ لا يستوحش العقلاء من ايجاب المولى على عبيده صلاتين في ظهر يوم
الجمعة إلاّ انّ هذا الجمع منافيا لروايات العلاج والتي تقتضي في حالات التعارض
المستقرّ ـ كما في المثال ـ إمّا التخيير أو الترجيح بمرجحات باب التعارض ، كما
انّ هذا النحو من الجمع يستلزم استحداث فقه جديد.
ومن هنا استظهرنا
انّ مراد الوحيد البهبهاني رحمهالله من الإمكان العرفي هو تناسب الجمع مع الضوابط المعتمدة عند
أهل المحاورة ، وواضح انّ هذه الضوابط تقتضي عدم امكان الجمع في حالات التعارض
المستقرّ.
إلاّ انّ ما أفاده
الوحيد البهبهاني ليس تفسيرا للإمكان في القاعدة ، بمعنى انّه لا يدعي انّ مراد
العلماء من الإمكان في القاعدة هو الإمكان العرفي ، بل انّ غرضه بيان ما هو مقتضى
التحقيق بنظره وانّه يستوجب حمل الإمكان في القاعدة على الإمكان العرفي لا العقلي
بل ولا العقلائي كما
أوضحنا ذلك. وإلاّ
فمراد المشهور من الإمكان في القاعدة هو الإمكان العقلي كما وقع التصريح بذلك في
بعض كلماتهم وكما يشعر به النقض الذي نقض به الوحيد رحمهالله عليهم.
الجهة
الثالثة : ويقع البحث
فيها عما هو المراد من الاولويّة في القاعدة. فنقول : انّ للمراد من الاولويّة
مجموعة من الاحتمالات :
الاحتمال
الاول : انّ المراد من
الاولويّة هو اللزوم ، بمعنى انّه إذا دار الأمر بين الطرح وبين الجمع الممكن
فإنّه يلزم تقديم الجمع الممكن على الطرح ، فلا يسوغ للفقيه طرح الروايتين أو
احداهما إذا كان الجمع ممكنا.
الاحتمال
الثاني : انّ المراد من
الاولوية هو الراجحيّة ، بمعنى انّه اذا دار الأمر بين الطرح وبين الجمع الممكن
فإنّ الفقيه مخيّر بينهما إلاّ انّ الراجح له هو اختيار الجمع الممكن.
الاحتمال
الثالث : انّ الجمع اذا
كان ممكنا بالإمكان العرفي فالاولوية بمعنى اللزوم ، وإذا كان ممكنا بالإمكان
العقلي فالاولويّة بمعنى الرجحان.
الاحتمال
الرابع : انّه اذا دار
الأمر بين طرح كلا الروايتين وبين الجمع الممكن فالأولوية بمعنى اللزوم ، أمّا اذا
دار الأمر بين طرح احدى الروايتين وبين الجمع الممكن بينهما فالأولويّة بمعنى الرجحان.
والاحتمال الاول
هو المتناسب مع مبنى الوحيد رحمهالله بعد بنائه على انّ المراد من الإمكان هو الإمكان العرفي
بالمعنى الثاني ، وهو لا يكون إلاّ في حالات التعارض البدوي والذي يكون معه الجمع
عرفيا ، وقد قلنا بحجيّته أي بمنجزيته باعتباره الوسيلة الوحيدة لتنقيح الظهور
التصديقي والذي هو موضوع الحجيّة ، فلا مناص للفقيه من اعتماده لتشخيص المراد من
الخطابات الشرعيّة
المتعارضة بنحو
التعارض البدوي.
ومن هنا كان
المراد من الاولويّة ـ بناء على هذا المبنى ـ هو اللزوم وان كان ذلك منافيا
للمدلول اللغوي للفظ الاولويّة إلاّ انّه لا مشاحة في الاصطلاح بعد معرفة المراد ،
وبهذا يتّضح انّ المراد من الجمع بناء على هذا المسلك هو الجمع الدلالي بنحو
الاحتمال الثالث ، ويمكن أن يراد الجمع العملي ولكن بنحو الاحتمال الثاني.
وأمّا بناء على
مسلك المشهور وانّ المراد من الإمكان هو الإمكان العقلي فيحتمل انّ المراد من
الاولوية هو اللزوم أيضا بل انّ ذلك هو المستوحى من طريقتهم وكذلك استيحاشهم من
طرح الروايات المتعارضة.
كما يحتمل إرادة
المعنى الثالث للأولويّة وهي اللزوم في حالات الإمكان العرفي بالمعنى الثاني
والراجحيّة في حالات الإمكان العقلي ، وهذا ما تشعره بعض كلماتهم إلاّ انّهم قالوا
انّه في حالات الامكان العرفي لا تكون الروايات متعارضة أصلا لا بنحو التعارض
المستقر ولا بنحو التعارض البدوي.
وعليه يكون
الاحتمال الثاني هو المتّبع عمليا إلاّ انّه مختصّ بحالات التعارض المستقرّ ،
فكلّما كان الجمع ممكنا بالإمكان العقلي فلا غضاضة على الفقيه في تقديمه على الطرح
بل انّ ذلك هو الراجح خصوصا إذا دار الأمر بين طرح كلا الروايتين وبين الجمع
بينهما جمعا ممكنا.
هذا تمام الكلام
في شرح مفردات القاعدة. ثمّ انّ المتحصّل ممّا ذكرناه هو :
انّه لو كان
المراد من الجمع هو الجمع الدلالي وان المتعين من احتمالاته هو الاوّل ، وانّ
المراد من الامكان هو الإمكان العقلي ، وانّ الأولويّة بمعنى اللزوم يكون حاصل
المراد من القاعدة هو لزوم التوفيق بين الروايات
المتعارضة مطلقا
بنحو لا يلزم من ذلك التوفيق محذور عقلي ، وانّ الطرح حينئذ لا يكون سائغا ،
وحينئذ تكون القاعدة في عرض روايات العلاج ومنافية لها ، كما انّها منافية للأصل
الأولي للتعارض والذي هو التساقط أو التخيير ، كما انّها مستلزمة لاستحداث فقه
جديد ، على انّها منافية لما عليه البناء العقلائي والعرفي في علاج الأدلّة
المتعارضة ، وهذا ما يوجب سقوط هذه القاعدة عن الحجيّة لو كان هذا هو المراد منها.
وهكذا لو كان
المراد من الجمع هو الجمع العملي ، وكان المتعيّن هو الاحتمال الاوّل ، وكان
المراد من الإمكان هو الإمكان العقلي ، وكانت الاولويّة بمعنى اللزوم أو حتى بمعنى
الراجحيّة ـ في هذه الصورة والتي سبقتها.
وبهذه الطريقة
يمكن التعرّف على ما هو حاصل المراد من القاعدة ، وما هي قيمتها العمليّة ، وحتى
لا يتبرّم الطالب الكريم من الإطالة نوكل ذلك الى نباهته ونكتفي ببيان ما هو مناسب
لمتبنيات الاصوليين فعلا.
فنقول : انّ الذي
ينبغي أن يكون المراد من الجمع هو الجمع الدلالي ، والمتعيّن من احتمالاته هو
الاحتمال الثالث ، وانّ المراد من الاولويّة هو اللزوم ، فيكون حاصل المراد من
القاعدة هو لزوم التوفيق بين مدلولي الخبرين المتعارضين تعارضا بدويا بنحو يكون
ذلك التوفيق متناسبا مع الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة ، وبهذا يكون التعبير «
بمهما أمكن » احترازا عن حالات التعارض المستقرّ والذي لا يمكن معه الجمع بحسب
الضوابط المعتمدة عند العرف ، ومن هنا تكون القاعدة مساوقة لقاعدة الجمع العرفي.
* * *
٢٧٥ ـ الجملة الإنشائيّة
اختلف الأعلام
فيما هو المراد من الإنشاء ، فذهب المشهور الى انّ الإنشاء معناه ايجاد المعنى
الاعتباري ـ باللفظ في عالم الاعتبار العقلائي.
وبيان ذلك : انّ
للعقلاء مجموعة من الاعتبارات والمتبنّيات نشأت عن مبرّرات عقلائيّة مرتبطة
بشئونهم الحياتيّة سواء منها الفرديّة أو الاجتماعيّة ، وكذلك ما تقتضيه علاقتهم
مع الكون والدين ، على أساس كلّ ذلك نشأت الاعتبارات العقلائيّة ، كالزوجيّة
والملكيّة والولاية والوجوب والحرمة والاستفهام والتمنّي والترجي وهكذا.
ودور الجملة
الإنشائية انّما هو خلق فرد حقيقي لنحو من أنحاء هذه الاعتبارات ، فقول البائع «
بعت » والمشتري « قبلت » ايجاد لفرد حقيقي ـ بواسطة هذه الألفاظ ـ لما هو معتبر
عقلائيا ، فالعقلاء اعتبروا ـ وقبل صدور هذه الألفاظ من أحد ـ التمليك والتملّك
كلّما صدر هذا القول من شخصين ، ومن أجل هذا ينخلق فرد حقيقي للتمليك والتملّك
بمجرّد صدور هذا القول من شخصين.
ومن هنا قالوا انّ
الإنشاء هو ايجاد المعنى الاعتباري حقيقة بواسطة اللفظ إلاّ انّ وعاء ذلك الوجود
هو عالم الاعتبار العقلائي.
ويترتّب على ذلك
انّ الجملة الإنشائيّة لا تكون انشائيّة لو لم يكن لمضمونها منطبق في عالم
الاعتبار ، فلو قال شخص « ملكت كلّ شيء على هذه الأرض » فإنّ هذا القول لا يترتّب
عليه الملكيّة في عالم الاعتبار لعدم وجود اعتبار عقلائي قاض بأنّه كلّما قال شخص
ذلك تحقّقت الملكيّة الاعتباريّة ، ومن هنا لا تكون هذه الجملة انشائيّة ، لعدم
وجود منطبق لها في عالم الاعتبار وعندئذ لا ينوجد بها
فرد حقيقي لما هو
معتبر عقلائيّا.
والمتحصّل انّ
الجملة الإنشائية ـ بنظر المشهور ـ هي كلّ جملة يتحقّق بواسطة ألفاظها فرد حقيقي
للاعتبار العقلائي ، فقول القائل « صلّ » ايجاد لفرد حقيقي للطلب أي ايجاده في
عالم الاعتبار.
وأمّا بنظر السيّد
الخوئي رحمهالله فالجملة الإنشائيّة موضوعة لإبراز أمر نفساني لا يتّصل
بقصد الحكاية ، وهذا ما يميّزها عن الجملة الخبريّة ، فالواضع ـ والذي هو المتعهد
بنظره ـ التزم بأنّه كلّما أراد ابراز أمر نفساني كاعتبار الملكيّة أو الزوجيّة
فإنّه يبرزه بواسطة الجملة الإنشائيّة.
فالجملة
الإنشائيّة هي ما يبرز بها المتكلّم مقاصده على أن لا يكون منها قصد الحكاية ،
فليس للجملة الإنشائيّة دور الإيجاد للمعنى ، بل هو دور الإبراز لما انوجد في
النفس.
وهناك مبان اخرى
ذكرت لما هو المراد من الجملة الإنشائيّة ، أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة.
* * *
٢٧٦ ـ الجملة التامّة والجملة
الناقصة
لا إشكال في انّ
هناك فرقا بين الجمل التامّة والجمل الناقصة ، وذلك لأنّنا نرى وبالوجدان انّ
الجمل التامة توجب الاكتفاء بمدلولها والاستغناء به عن الاستزادة من المتكلّم ،
فالسامع لا ينتظر معها شيئا آخر ، وهذا بخلاف الجمل الناقصة ، فإنّ السامع يبقى
معها منتظرا للمزيد.
ومن هنا اتّجه
البحث عمّا هو السرّ في هذا الفارق الوجداني بين الجملتين ، ونذكر لذلك اتّجاهين :
الاتّجاه
الأوّل : وهو انّ منشأ
الفرق بين الجملة الناقصة والجملة التامّة هو الوضع ، بمعنى انّ الواضع وضع الجملة
الناقصة للتحصيص أي
لتضييق دائرة المفهوم
الاسمي ، وذلك لأنّ المفهوم الاسمي قابل للصدق على حصصه على حد سواء ، فمتى ما
أراد المتكلّم تفهيم ذات المعنى جاء بالمفهوم الاسمي مطلقا عن كلّ قيد ، ومتى ما
أراد حصّة خاصّة منه فإنّ عليه أن يأتي بدال آخر يعبّر عن إرادته للحصّة الخاصّة ،
فحمل الصفة على الموصوف والمضاف اليه على المضاف يكون بغرض تفهيم إرادة حصّة خاصة
من المفهوم الاسمي « الموصوف ـ المضاف ».
وبهذا اتّضح انّ
الجملة الناقصة تدلّ على تحصيص المعنى الاسمي بنحو تعدّد الدال والمدلول ، ومن هنا
كانت الجملة الناقصة موضوعة للمدلول الاستعمالي ، إذ انّها لا تعدو عن كونها دالّة
على قصد المتكلّم لإخطار المفهوم الاسمي المتحصص بحصّة خاصّة ، ولا يتعقّل في
موردها أن تكون موضوعة للمدلول التصديقي الجدي ، إذ انّ المدلول التصديقي الجدّي
متقوّم بقصد الحكاية ، والجملة الناقصة لا تصلح لذلك كما هو واضح.
وأمّا انّها موضوعة
للدلالة الاستعماليّة ـ أي التصديقيّة الأولى ـ وليس للدلالة التصوريّة فلأنّ
الدلالة الوضعيّة دائما تكون تصديقيّة كما هو مقتضى مسلك التعهّد في الوضع.
وأمّا المعنى
الموضوع بإزاء الجملة التامّة فهو قصد الحكاية ، أو قل انّ الجملة التامّة موضوعة
لإبراز أمر نفساني ، وهذا المبرز إمّا هو قصد الحكاية أو هو قصد أمر لا يتّصل
بالخارج ، وعلى أيّ تقدير فالجملة التامّة موضوعة للدلالة التصديقيّة الجدّيّة.
هذا هو حاصل مبنى
السيد الخوئي رحمهالله في الفرق بين الجملتين.
الاتّجاه
الثاني : انّ المبرّر
للفرق بين الجملتين هو انّ النسبة في الجملة التامّة تكون في صقع الذهن واقعيّة ،
بمعنى انّها
متوفّرة في صقع الذهن على ما ينبغي ان تتوفر عليه النسبة من وجود طرفين تكون
النسبة موجبة للربط بينهما. فالجملة التامة عند ما تأتي للذهن تكون بهذا النحو ،
إذ انّ الذي يحضر في الذهن من سماع الجملة التامّة هو مجموع الطرفين والنسبة ،
ولهذا قلنا انّ النسبة في الجملة التامة تكون في صقع الذهن واقعيّة.
وأمّا الجملة
الناقصة فهي تحضر في الذهن على انّها مفهوم أفرادي ، ولهذا فهو يحتاج الى طرف آخر
ينتسب اليه ، غايته انّ الذهن هو الذي يحلّل هذا المفهوم الأفرادي.
وبتعبير آخر : انّ
الجملة الناقصة مثل « غلام زيد » تحضر في الذهن على انّها مفهوم واحد ، فلا نسبة
حقيقيّة له ، إذ انّ النسبة الحقيقيّة متقوّمة بطرفين والحال انّه لم يحضر في
الذهن إلاّ بوصفه مفهوما أفراديا ، غايته انّ الذهن بعد ذلك يحلّل هذا المفهوم الأفرادي
فإذا صحّ ان نسمّي هذا نسبة فهو نسبة تحليليّة.
ومن هنا يتّضح
الفرق بين الجملة التامة والجملة الناقصة وانّ النسبة في الجملة التامة تكون في
الذهن واقعيّة وأمّا في الجملة الناقصة فالنسبة في الذهن تحليليّة اندماجيّة ،
بمعنى انّ المضاف والمضاف إليه يعبّران عن مفهوم افرادي.
فإذن الفرق بينهما
انّما هو في كيفيّة حضورهما في الذهن وإلاّ فالنسبة في الواقع الخارجي واحدة ، إذ
لا فرق خارجا بين « زيد عالم » و « زيد العالم » من حيث تماميّة النسبة خارجا.
هذا حاصل ما أفاده
السيّد الصدر رحمهالله ولمزيد من التوضيح راجع عنوان « النسبة ».
* * *
٢٧٧ ـ الجملة الخبريّة
اختلف الاعلام في
المعنى الموضوع
له الجملة
الخبريّة ، ونقتصر في المقام على ذكر اتّجاهين :
الاتّجاه
الأوّل : وهو المنسوب
للمشهور ، وحاصله : انّ الجملة الخبريّة موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة بين ـ الموضوع
والمحمول ـ في الواقع أو عدم ثبوتها لهما في الواقع ، ففي الحالة الاولى تكون
الجملة الخبريّة ايجابية وفي الحالة الثانية تكون سلبيّة ، فقولنا « زيد قائم »
تدلّ على ثبوت النسبة بين زيد والقيام في الخارج ، وقولنا « زيد ليس بقائم » تدلّ
على نفي النسبة بينهما في الخارج.
الاتّجاه
الثاني : انّ الجملة
الخبريّة وضعت للدلالة على قصد الإخبار والحكاية عن ثبوت النسبة في الواقع أو عدم
ثبوتها ، ففي الواقع لا فرق بين الجملة الإنشائيّة والجملة الخبريّة في مرحلة
الدلالة الوضعيّة من حيث انّ كلا منهما موضوع للدلالة على أمر نفساني ، فهما
يشتركان في أصل الإبراز للأمر النفساني ، غايته انّ المبرز في الجملة الخبريّة هو
قصد الحكاية والذي هو أمر نفساني ، وأما المبرز في الجملة الإنشائية فهو كلّ أمر
نفساني لا يتّصل بالخارج.
ومن هنا لا تتّصف
الجملة الخبريّة ـ كما هو الشأن في الجملة الإنشائيّة ـ بالصدق والكذب فسواء كانت
النسبة مطابقة للواقع أو لم تكن مطابقة فإنّ الجملة الخبريّة قد استعملت في المعنى
الموضوعة له وهو قصد الحكاية عن الواقع ، نعم المتّصف بالصدق والكذب انّما هو
مدلول الجملة الخبريّة ، فمدلولها متى ما طابق الواقع فهو صادق وإلاّ فهو كاذب ،
واتّصاف الجملة الخبريّة بالصدق والكذب انّما هو بتبع اتّصاف مدلولها بذلك.
وببيان آخر : انّ
الوضع ـ بنظر السيّد الخوئي رحمهالله ـ تعهد والتزام من المتكلم على انّه متى ما جاء بلفظ معيّن
فإنّه يقصد معنى معيّن ، وإذا كان كذلك
فالدلالة الوضعيّة
دائما تكون اختياريّة ، ومن الواضح انّ ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها ليس اختياريا
للمتكلّم ، ومن هنا لا بدّ من البناء على انّ الذي وضعت له الجملة الخبريّة هو قصد
الحكاية عن ثبوت النسبة أو عدم ثبوتها فهو الذي يكون اختياريا للمتكلّم ، وإذا
كانت الجملة الخبريّة موضوعة لقصد الحكاية فلا يصحّ اتّصافها بالصدق والكذب ، إذ
انّ قصد الحكاية هو مدلول الجملة بقطع النظر عن ثبوت النسبة واقعا أو عدم ثبوتها ،
نعم نعم المحكي بواسطة الجملة تارة يكون مطابقا للواقع وتارة لا يكون كذلك إلاّ
انّ هذا لا يتّصل بالمعنى الذي وضعت له الجملة الخبريّة بعد افتراض انّها وضعت
لقصد الحكاية ، وواضح انّ قصد الحكاية والذي هو المعنى الموضوع له الجملة الخبريّة
لا يتّصف بالصدق والكذب بسبب انّ النسبة متطابقة مع الواقع أو غير متطابقة ،
فالموضوع له الجملة الخبريّة ليس أكثر من إبراز أمر نفساني كما هو الحال في الجملة
الإنشائيّة ، فكما انّ ابراز الاعتبار لا يتّصف بالصدق والكذب فكذلك ابراز قصد
الحكاية ، غايته انّ مدلول الجملة الخبريّة يصلح لأن يوصف بالصدق والكذب وهذا
بخلاف مدلول الجملة الإنشائيّة.
هذا حاصل ما أفاده
السيّد الخوئي في معنى الجملة الخبريّة.
* * *
٢٧٨ ـ أصالة الجهة
وهو من الاصول
العقلائيّة أو قل هو من الاصول اللفظيّة المستفادة من البناء العقلائي ، كما
سيتّضح.
ومورد هذا الاصل
هو الشك في الإرادة الجديّة للمتكلّم من حيث انّ الكلام هل صدر عنه تقيّة أو لبيان
الواقع ، ففي مثل هذه الحالة يتمسّك
بأصالة الجهة
لإثبات انّ المتكلّم جاد فيما أفاده وقاصد لبيان الواقع ، فأصالة الجهة تنفي أن
تكون جهة الصدور هي التقيّة ، إلاّ انّ دورها لا ينحصر بهذه المهمّة بل يتّسع
ليشمل نفي تمام الجهات التي يحتمل أن يكون الكلام قد صدر عنها كاحتمال أن تكون جهة
الصدور هي الهزل أو الامتحان ، فكلّ جهة لا تتّصل ببيان الواقع فهي منفيّة بأصالة
الجهة ، نعم غالبا ما يستفاد من هذا الأصل لنفي صدور الكلام تقيّة.
وبما بينّاه اتّضح
منشأ التعبير عن هذا الأصل بأصالة الجهة ، وبقي الكلام عمّا هو منشأ الحجيّة لهذا
الأصل ، فنقول : انّ منشأ الحجيّة لهذا الأصل هو انّه من موارد قاعدة التطابق بين
المراد الاستعمالي والمراد الجدّي ، وهذه القاعدة هي المنقّحة لظهور حال المتكلّم
في انّ ما أراد إخطاره من معنى هو مراده الجدي واقعا ، ومن هنا تثبت الحجيّة
لأصالة الجهة باعتبارها من صغريات الظهور الذي قام الدليل القطعي على حجيّته.
وأمّا دعوى انّ
أصالة الجهة من موارد أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدّي فلأنّ
أصالة الجهة تعبير آخر عن أصالة الجدّ والتي تعني انّ كلّ متكلّم أراد من كلامه
اخطار معنى معيّن فإنّه إن لم ينصب قرينة على انّ ما أراد إخطاره لا يريده جدا
فإنّ الظاهر من حاله هو إرادة ما أخطره بنحو الإرادة الجديّة ، وهذا هو الذي عليه
البناء العقلائي في مقام التفهيم والتفهّم.
وببيان آخر : انّ
أصالة الجدّ ترتكز على أصلين عقلائيين :
الأوّل : هو أصالة التطابق والتي تعني تباني العقلاء على انّ كلّ
متكلّم أراد من كلامه معنى غير المعنى الذي أخطره بواسطة الألفاظ فإنّه ملزم بنصب
قرينة على ذلك ، ومع عدم نصب القرينة رغم عدم إرادته الجديّة
لما أخطره يكون
ناقضا لغرضه ، لأنّ العقلاء سيحملون ما أخطره من معنى على الجديّة.
الثاني : أصالة متابعة كلّ متكلّم ما هو مقرّر عند من يخاطبهم ، إذ
هم المقصودون بالافهام ، فلا بدّ من جريه على وفق الطريقة التي يفهمون بواسطتها
مراداته.
وحينئذ نقول :
انّه قد تنقح بواسطة الأصل الأوّل انّ الطريقة المتّبعة عند العقلاء هي انّ
المتكلّم عند ما لا يكون مريدا جدا لما أخطره فإنّ عليه ان ينصب قرينة على ذلك ،
وأمّا مع عدم نصبه للقرينة فإنّ ما أخطره سيحمل على الجد ، وباعتبار انّ كلّ
متكلّم ـ بحكم كونه عاقلا ـ متحفّظ على أغراضه فإنّه يجري على وفق الطريقة التي
يفهمون بواسطتها مراداته.
وبهذا يثبت
المطلوب وهو ظهور حال كلّ متكلّم انّه مريد جدا لما أخطره عند عدم نصب القرينة على
خلاف ذلك ، فعند ما نحتمل انّ جهة صدور الكلام من المتكلّم هي التقيّة فإنّ علينا
ان نلاحظ ان كان لهذا الاحتمال ما يبرّره وإلاّ فلا بدّ من نفي هذا الاحتمال وحمل
كلام المتكلّم على الجد وبيان الواقع ، بمعنى البناء على انّ ما أخطره بكلامه هو
ما يريده واقعا.
المحتويات
حرف الألف
الإباحة....................................................................... ١٥
اصالة الإباحة.................................................................. ١٦
اتصال زمان الشك بزمان
اليقين................................................. ١٩
الأثر الشرعي................................................................. ٢٥
اجتماع الأمر والنهي........................................................... ٢٧
الاجتهاد...................................................................... ٣٢
الاجتهاد والرأي............................................................... ٣٥
الإجزاء....................................................................... ٣٧
الإجماع....................................................................... ٤٩
الإجماع البسيط............................................................... ٤٩
الإجماع التشرفي............................................................... ٥٠
الإجماع الحدسي............................................................... ٥١
الإجماع الدخولي............................................................... ٥٢
الإجماع السكوتي.............................................................. ٥٣
الإجماع اللبي.................................................................. ٥٤
الإجماع اللطفي................................................................ ٥٥
الإجماع المحصّل................................................................ ٥٧
الإجماع المدركي............................................................... ٥٧
الإجماع المركّب............................................................... ٥٨
الإجماع المنقول................................................................ ٥٨
الإجمال....................................................................... ٦٠
اجمال المخصّص اللبّي.......................................................... ٦١
اجمال المخصّص اللفظي......................................................... ٦٤
اجمال النص................................................................... ٦٦
احترازية القيود................................................................ ٧٠
الاحتمال والمحتمل.............................................................. ٧٣
الاحتياط...................................................................... ٧٤
الاحتياط الشرعي.............................................................. ٧٥
الاحتياط العقلي............................................................... ٧٧
الاحتياط حسن على أيّ
حال................................................... ٨٠
الاحتياط في التعبديات.......................................................... ٨١
الاحتياط قبل الفحص.......................................................... ٨٣
أخبار من بلغ.................................................................. ٨٦
الاختيار...................................................................... ٨٦
اخذ القطع بحكم في
موضوع حكم آخر.......................................... ٩٠
اخذ القطع بحكم في
موضوع حكم آخر مثله...................................... ٩١
اخذ القطع بحكم في
موضوع ضده............................................... ٩٣
اخذ القطع بحكم في
موضوع نفس الحكم......................................... ٩٤
اخطارية المعاني
الاسميّة.......................................................... ٩٦
الإرادة........................................................................ ٩٨
الإرادة الاستعماليّة............................................................. ٩٩
الإرادة الإلهيّة................................................................ ١٠١
الإرادة التفهيميّة............................................................. ١٠٤
الإرادة التكوينيّة
والتشريعيّة................................................... ١٠٥
الإرادة الجدّيّة................................................................ ١٠٦
الاستثناء.................................................................... ١٠٧
الاستحالة................................................................... ١١٠
الاستحباب.................................................................. ١١٠
استحباب الاحتياط........................................................... ١١١
الاستحسان................................................................. ١١٤
الاستصحاب................................................................ ١٤١
الاستصحاب الاستقبالي....................................................... ١٤٦
الاستصحاب التعليقي......................................................... ١٤٧
الاستصحاب التنجيزي....................................................... ١٥٣
الاستصحاب السببي
والمسبّبي.................................................. ١٥٤
استصحاب الصحة عند
الشك في المانع......................................... ١٥٨
استصحاب العدم الأزلي....................................................... ١٦١
استصحاب الفرد المردد....................................................... ١٦١
الاستصحاب القهقرائي....................................................... ١٦٤
الاستصحاب الكلّي.......................................................... ١٦٥
استصحاب المفهوم
المردد...................................................... ١٧٠
استصحاب حال الشرع...................................................... ١٧١
استصحاب حال العقل........................................................ ١٧٤
استصحاب حكم المخصص في
العموم الأزماني.................................. ١٧٨
استصحاب عدم النسخ....................................................... ١٨٤
الاستصحاب في أطراف
العلم الإجمالي.......................................... ١٨٦
الاستصحاب في الأمور
التدريجية............................................... ١٨٨
الاستصحاب في الزمان....................................................... ١٨٨
الاستصحاب في
الزمانيات.................................................... ١٩٠
الاستصحاب في الشبهات
الحكمية............................................. ١٩٤
الاستصحاب في
المحمولات الثانوية............................................. ١٩٩
الاستصحاب في
الموضوعات المركّبة............................................ ٢٠٤
الاستصحاب في حالات
التقدّم والتأخّر......................................... ٢١١
الاستصحاب في حالات
توارد الحالتين.......................................... ٢١٣
استصحاب مجهولي
التاريخ.................................................... ٢١٧
استصحاب معلوم التاريخ..................................................... ٢٢٤
الاستعمال................................................................... ٢٢٧
الاستعمال الحقيقي........................................................... ٢٢٩
استعمال اللفظ في أكثر
من معنى............................................... ٢٢٩
الاستعمال المجازي............................................................ ٢٣٥
الاستعمال المجازي
طبعي أو وضعي............................................. ٢٣٥
الاستعمال وشروطه.......................................................... ٢٣٧
الاستلزامات العقلية........................................................... ٢٣٩
الاستنباط................................................................... ٢٤٢
اسم الجنس.................................................................. ٢٤٢
الاشتراك اللفظي............................................................. ٢٤٤
الاشتراك المعنوي............................................................. ٢٤٥
أصالة الاطلاق............................................................... ٢٤٨
أصالة الحسّ................................................................. ٢٤٨
أصالة العموم................................................................ ٢٥٠
أصالة عدم التذكية........................................................... ٢٥٠
أصالة عدم التذكية........................................................... ٢٥٠
أصالة عدم التقدير........................................................... ٢٥٦
أصالة عدم الغفلة............................................................. ٢٥٧
أصالة عدم القرينة............................................................ ٢٥٧
أصالة عدم النقل
والاشتراك................................................... ٢٥٧
الأصل...................................................................... ٢٥٨
الأصل العملي............................................................... ٢٦٠
الأصل المثبت................................................................ ٢٦٤
الأصل الموضوعي............................................................. ٢٦٦
الأصول العمليّة.............................................................. ٢٦٨
الأصول العملية
التنزيليّة....................................................... ٢٧٠
الأصول العملية
الشرعية...................................................... ٢٧١
الأصول العملية
العقلية........................................................ ٢٧٢
الأصول العملية
المحرزة........................................................ ٢٧٣
الأصول اللفظية.............................................................. ٢٧٦
الأصول المؤمّنة............................................................... ٢٧٨
الاضطرار................................................................... ٢٧٨
الاضطرار الى بعض
أطراف العلم الإجمالي....................................... ٢٧٩
الاضطرار بسوء
الاختيار لا ينافي الاختيار....................................... ٢٨٢
الاطّراد علامة
الحقيقة........................................................ ٢٨٢
الاطّراد في التعريف.......................................................... ٢٨٤
الإطلاق.................................................................... ٢٨٤
الإطلاق البدلي............................................................... ٢٨٦
الإطلاق الشمولي............................................................ ٢٨٧
إطلاق اللفظ وإرادة
شخصه.................................................. ٢٨٩
إطلاق اللفظ وإرادة
نوعه أو صنفه أو مثله...................................... ٢٩١
الإطلاق اللفظي الحكمي...................................................... ٢٩٣
الإطلاق المقامي.............................................................. ٢٩٤
الإطلاق في المفاهيم
الافرادية والجمل التركيبية................................... ٢٩٧
الاعتبار..................................................................... ٢٩٩
اعتبارات الماهيّة.............................................................. ٣٠٢
الاعتبار في الاوضاع
اللغوية................................................... ٣٠٦
اعراض المشهور.............................................................. ٣٠٨
اعراض المشهور عن
الظهور................................................... ٣١٠
الاقتضاء.................................................................... ٣١١
الأمارة...................................................................... ٣١٢
الامتثال الاحتمالي............................................................ ٣١٣
الامتثال الظنّي
التفصيلي والامتثال الاجمالي...................................... ٣١٤
الامتثال العلمي
التفصيلي والامتثال الإجمالي..................................... ٣١٦
الامتناع بالاختيار لا
ينافي الاختيار............................................. ٣١٨
الامتناع بالذات.............................................................. ٣٢٥
الامتناع بالغير............................................................... ٣٢٦
الامتناع بالقياس............................................................. ٣٢٦
الأمر....................................................................... ٣٢٧
الأمر الإرشادي.............................................................. ٣٣٠
أمر الآمر مع علمه
بانتفاء شرطه............................................... ٣٣٤
الأمر المولوي................................................................ ٣٣٧
الأمر بالأمر................................................................. ٣٣٨
الأمر بعد الأمر.............................................................. ٣٤٠
الأمر بعد الحظر.............................................................. ٣٤٢
الأمر بين الأمرين............................................................ ٣٤٣
الأمر هل يدلّ على
الفور أو التراخي........................................... ٣٤٦
الأمر هل يدلّ على
المرّة أو التكرار............................................. ٣٤٧
الإمكان..................................................................... ٣٤٨
الإمكان الاحتمالي............................................................ ٣٤٩
إمكان التعبّد بالظن........................................................... ٣٤٩
الإمكان الخاص.............................................................. ٣٥١
الإمكان الذاتي............................................................... ٣٥٢
الإمكان الشرعي............................................................. ٣٥٢
الإمكان الوقوعي............................................................. ٣٥٣
الإمكان بالقياس............................................................. ٣٥٣
الانتزاع..................................................................... ٣٥٤
انجبار ضعف الخبر بعمل
المشهور............................................... ٣٥٦
الانحلال التعبّدي............................................................. ٣٥٧
الانحلال الحقيقي............................................................. ٣٦٠
الانحلال الحكمي............................................................. ٣٦٣
انحلال العلم الإجمالي.......................................................... ٣٦٦
انحلال العلم الإجمالي
الكبير بالصغير............................................ ٣٦٧
الانسداد.................................................................... ٣٦٨
الانسداد الصغير............................................................. ٣٧٥
الإنشاء والإخبار............................................................. ٣٧٦
الانصراف.................................................................. ٣٧٧
الانعكاس في التعريف......................................................... ٣٨١
انقلاب النسبة............................................................... ٣٨١
الانقياد..................................................................... ٣٨٦
الأوامر الارشاديّة............................................................ ٣٨٧
ايجادية المعنى الحرفي........................................................... ٣٩٠
حرف الباء
البداء....................................................................... ٣٩٧
البراءة....................................................................... ٤٠١
البراءة الأصلية............................................................... ٤٠٣
البراءة الشرعيّة............................................................... ٤٠٤
البراءة العقليّة................................................................ ٤٠٧
البراءة في المستحبات.......................................................... ٤١٢
البرهان اللمّي
والبرهان الإنّي.................................................. ٤١٥
بساطة المشتق................................................................ ٤١٨
حرف التاء
تأخير البيان عن وقت
الحاجة.................................................. ٤٢٧
تأسيس الأصل الثانوي
عند التعارض........................................... ٤٢٩
تأسيس الأصل عند الشك
في الحجيّة........................................... ٤٣٣
تأسيس الأصل في باب
التعارض............................................... ٤٣٤
التبادر...................................................................... ٤٣٦
التبعيض في الاحتياط......................................................... ٤٣٩
التبعيض في الحجيّة........................................................... ٤٤١
تبعية الدلالة
الالتزامية للمطابقية............................................... ٤٤٩
تبعية الدلالة للإرادة.......................................................... ٤٥٣
تتميم الكشف............................................................... ٤٥٦
التجرّي..................................................................... ٤٥٨
التجزّي..................................................................... ٤٦٠
تحقيق المناط................................................................. ٤٦٤
تخريج المناط................................................................. ٤٦٦
التخصّص................................................................... ٤٦٧
التخصيص.................................................................. ٤٦٨
التخصيص بالمتصل........................................................... ٤٦٨
التخصيص بالمخصّص
اللبّي................................................... ٤٧٢
التخصيص بالمنفصل.......................................................... ٤٧٣
التخطئة والتصويب........................................................... ٤٧٣
أصالة التخيير................................................................ ٤٧٧
التخيير الشرعي
والعقلي...................................................... ٤٧٧
التخيير العقلي الشرعي....................................................... ٤٧٨
التخيير الفقهي
والأصولي...................................................... ٤٨٠
التخيير بين الأقل
والأكثر..................................................... ٤٨١
التخيير في باب
التعارض...................................................... ٤٨٣
تداخل الأسباب
والمسبّبات.................................................... ٤٨٤
الترادف.................................................................... ٤٨٦
الترتّب...................................................................... ٤٨٨
الترجيح بالأحدثية............................................................ ٤٩٢
الترجيح بالتقيّة............................................................... ٤٩٤
الترجيح بالشهرة............................................................. ٤٩٦
الترجيح بالصفات............................................................ ٤٩٨
الترجيح بالظن غير
المعتبر...................................................... ٤٩٩
الترجيح بموافقة
الكتاب المجيد.................................................. ٥٠٠
التزاحم..................................................................... ٥٠٣
تزاحم الملاكات.............................................................. ٥٠٧
التزاحم في المستحبات........................................................ ٥٠٨
التزاحم في الواجبات
الضمنيّة.................................................. ٥١٠
التسامح في أدلة السنن........................................................ ٥١٢
التشريع..................................................................... ٥١٣
التشريع العملي.............................................................. ٥١٥
التصويب الأشعري........................................................... ٥١٦
التصويب المعتزلي............................................................. ٥١٧
التضاد...................................................................... ٥١٨
التضاد بين الأحكام
التكليفيّة.................................................. ٥٢٠
التعادل والترجيح............................................................. ٥٢١
تعارض الأحوال.............................................................. ٥٢١
تعارض الاستصحاب مع
الأمارة............................................... ٥٢٢
تعارض الاستصحاب مع
سائر الاصول......................................... ٥٢٥
تعارض الاستصحاب مع
قاعدة اليد............................................ ٥٢٥
تعارض الاستصحابين......................................................... ٥٢٧
تعارض الإطلاق البدلي
والإطلاق الشمولي...................................... ٥٣١
تعارض الإطلاقين من
وجه.................................................... ٥٣٣
التعارض العرضي............................................................ ٥٣٤
التعارض بين الأدلّة........................................................... ٥٣٥
التعارض بين الأصلين
وبين الأصل والامارة...................................... ٥٣٨
التعارض بين الإطلاق
والعموم................................................. ٥٣٩
التعارض بين الدليل
اللفظي والدليل العقلي...................................... ٥٤١
التعارض بين العامين
من وجه.................................................. ٥٤٥
التعبّدي والتوصّلي............................................................ ٥٤٦
تعدّد الدال والمدلول.......................................................... ٥٥٠
تعقّب الاستثناء لجمل
متعددة.................................................. ٥٥١
تعقّب العام بضمير
يرجع الى بعض مدلوله...................................... ٥٥٤
نظرية التعهّد................................................................. ٥٥٧
التفويض.................................................................... ٥٦٠
التقابل بين الإطلاق
والتقييد................................................... ٥٦١
التقسيمات الأوليّة
والثانويّة للواجب............................................ ٥٦٣
التقليد...................................................................... ٥٦٥
التقيّة....................................................................... ٥٦٨
التقيّة المداراتيّة............................................................... ٥٧٠
التكليف.................................................................... ٥٧١
تمايز العلوم.................................................................. ٥٧٢
التنجيز والتعذير.............................................................. ٥٧٣
التنجيز والتعليق.............................................................. ٥٧٥
تنزيل الأمارة منزلة
القطع...................................................... ٥٧٦
تنزيل المؤدى منزلة
الواقع...................................................... ٥٧٧
تنقيح المناط.................................................................. ٥٧٨
التواتر...................................................................... ٥٨١
التواتر الإجمالي............................................................... ٥٨٥
التواتر اللفظي................................................................ ٥٨٧
التواتر المعنوي............................................................... ٥٨٨
توقف الوضع على تصوّر
المعنى واللفظ.......................................... ٥٨٩
حرف الثّاء
أصالة الثبات................................................................ ٥٩٥
حرف الجيم
الجامع الانتزاعي............................................................. ٥٩٩
الجامع الذاتي الحقيقي......................................................... ٥٩٩
الجامع العرضي............................................................... ٦٠٠
نظريّة الجبر.................................................................. ٦٠٠
أصالة الجد.................................................................. ٦٠٢
الجزء....................................................................... ٦٠٢
الجزء الخارجي............................................................... ٦٠٢
الجزء الذهني التحليلي......................................................... ٦٠٣
الجزء الصوري............................................................... ٦٠٤
الجعل البسيط................................................................ ٦٠٤
الجعل التأليفي «
المركب »................................................... ٦٠٥
الجعل الشرعي............................................................... ٦٠٦
الجمع التبرعي............................................................... ٦٠٧
الجمع العرفي................................................................. ٦٠٧
الجمع مهما أمكن أولى
من الطرح.............................................. ٦١٠
الجملة الإنشائيّة.............................................................. ٦٢٠
الجملة التامة والجملة
الناقصة.................................................. ٦٢١
الجملة الخبريّة................................................................ ٦٢٣
اصالة الجهة.................................................................. ٦٢٥
المحتويات.................................................................... ٦٢٩
|