بسم الله الرحمن الرحيم

باب النهي عن الجسم والصورة

١ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن علي بن أبي حمزة قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أن الله جسم صمدي نوري معرفته ضرورة يمن بها على من يشاء من خلقه فقال عليه‌السلام سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ » لا يحد

______________________________________________________

باب النهي عن الجسم والصورة

الحديث الأول : موثق.

قوله : معرفته ضرورة : أي تقذف في القلب من غير اكتساب أو تحصل بالرؤية تعالى الله عن ذلك ، وقد يؤول كلامه بأن مراده بالجسم الحقيقة العينية القائمة بذاتها لا بغيرها وبالصمدي ما لا يكون خاليا في ذاته عن شيء فيستعد أن يدخل هو فيه ، أو مشتملا على شيء يصح عليه خروجه عنه ، وبالنوري ما يكون صافيا عن ظلم المواد وقابلياتها ، بل عن المهية المغايرة للوجود وقابليتها.

قيل : ولما كان السائل فهم من هذا الكلام ما هو الظاهر ولم يحمله على ما ذكر ، أجاب عليه‌السلام لا بتخطئة إطلاق الجسم بل بنفي ما فهمه عنه سبحانه ، فقال : سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو ، أي ليس لأحد أن يصفه بصفة يعرفها من صفات ذاته الفانية وصفات أشباهه من الممكنات ، فإنه لا يكون معرفة شيء منها معرفة « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ » أي لا بآلة وقوة وهو « لا يحد » وكل جسم محدود متناه « ولا يجس » أي لا يمس وكل جسم يصح عليه أن يمس و « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ » أي الأوهام ، ولا الحواس الظاهرة والجسم يدرك بالحواس الباطنة والظاهرة ولا


ولا يحس ولا يجس و « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ » ولا الحواس ولا يحيط به شيء ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد.

٢ ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن حمزة بن محمد قال كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أسأله عن الجسم والصورة فكتب سبحان من « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » لا جسم ولا صورة ورواه محمد بن أبي عبد الله إلا أنه لم يسم الرجل.

٣ ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن محمد بن زيد قال جئت إلى الرضا عليه‌السلام أسأله عن التوحيد فأملى علي الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء ومبتدعها ابتداعا بقدرته وحكمته لا من شيء فيبطل الاختراع ولا لعلة فلا يصح الابتداع خلق ما شاء كيف شاء متوحدا بذلك لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته لا تضبطه العقول ولا تبلغه الأوهام و « لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ » ولا يحيط به مقدار عجزت دونه العبارة وكلت دونه الأبصار وضل فيه تصاريف الصفات احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور عرف بغير رؤية ووصف بغير صورة ونعت بغير جسم لا إله إلا الله الكبير المتعال.

______________________________________________________

يحيط به شيء إحاطة عقلية أو وهمية أو حسية « ولا جسم » لأن معناه حقيقة مقتدر محدود « ولا صورة ولا تخطيط » أي تشكل كيف ، والصورة والتشكل لا ينفك عن التحديد ولا تحديد.

الحديث الثاني : ضعيف وآخره مرسل ومحمد بن أبي عبد الله هو محمد بن جعفر ابن عون.

قوله : لم يسم الرجل أي الراوي.

الحديث الثالث : ضعيف.

قوله : بقدرته وحكمته ، متعلق بالابتداع أو به وبالفطر والإنشاء وقد مر شرح تلك الفقرات في شرح خطبة الكتاب.


٤ ـ محمد بن أبي عبد الله عمن ذكره ، عن علي بن العباس ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن محمد بن حكيم قال وصفت لأبي إبراهيم عليه‌السلام قول هشام بن سالم الجواليقي وحكيت له قول هشام بن الحكم أنه جسم فقال إن الله تعالى لا يشبهه شيء أي فحش أو خنا أعظم من قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

٥ ـ علي بن محمد رفعه ، عن محمد بن الفرج الرخجي قال كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم وهشام بن سالم في الصورة فكتب دع عنك حيرة الحيران واستعذ بالله من الشيطان ليس القول ما قال الهشامان.

______________________________________________________

الحديث الرابع : مرسل والجواليقي بائع الجواليق وهو جمع جولق معرب جوال ، والخنى : الفحش والفساد.

قوله : أو بخلقة ، أي مخلوقية أو بأعضاء كأعضاء المخلوقين.

الحديث الخامس : مرفوع ولا ريب في جلالة قدر الهشامين وبراءتهما عن هذين القولين ، وقد بالغ السيد المرتضى قدس الله روحه في براءة ساحتهما عما نسب إليهما في كتاب الشافي مستدلا عليها بدلائل شافية ، ولعل المخالفين نسبوا إليهما هذين القولين معاندة كما نسبوا المذاهب الشنيعة إلى زرارة وغيره من أكابر المحدثين ، أو لعدم فهم كلامهما ، فقد قيل إنهما قالا بجسم لا كالأجسام ، وبصورة لا كالصور فلعل مرادهم بالجسم الحقيقة القائمة بالذات ، وبالصورة المهية وإن أخطئا في إطلاق هذين اللفظين عليه تعالى.

قال المحقق الدواني : المشبهة منهم من قال : أنه جسم حقيقة ثم افترقوا فقال بعضهم : إنه مركب من لحم ودم ، وقال بعضهم : هو نور متلألئ كالسبيكة البيضاء ، طوله سبعة أشبار بشبر نفسه ، ومنهم من قال : أنه على صورة إنسان ، فمنهم من يقول : إنه شاب أمرد جعد قطط ، ومنهم من قال : إنه شيخ أشمط الرأس واللحية ، ومنهم من قال : هو من جهة الفوق مماس للصفحة العليا من العرش ، ويجوز عليه الحركة


______________________________________________________

والانتقال ، وتبدل الجهات ، وتأط العرش تحته أطيط الرحل الجديد تحت الراكب الثقيل ، وهو يفصل عن العرش بقدر أربع أصابع ، ومنهم من قال : هو محاذ للعرش غير مماس له وبعده عنه بمسافة متناهية ، وقيل : بمسافة غير متناهية ، ولم يستنكف هذا القائل عن جعل غير المتناهي محصورا بين حاصرين ، ومنهم من تستر بالبلكفة (١) فقال : هو جسم لا كالأجسام وله حيز لا كالأحياز ، ونسبته إلى حيزه ليس كنسبة الأجسام إلى أحيازها ، وهكذا ينفي جميع خواص الجسم عنه حتى لا يبقى إلا اسم الجسم وهؤلاء لا يكفرون بخلاف المصرحين بالجسمية « انتهى ».

قال الشهرستاني : حكى الكعبي عن هشام بن الحكم أنه قال : هو جسم ذو أبعاض له قدر من الأقدار ، ولكن لا يشبه شيئا من المخلوقات ولا تشبهه ، ونقل عنه أنه قال : هو سبعة أشبار بشبر نفسه ، وأنه في مكان مخصوص ، وجهة مخصوصة وأنه يتحرك وحركته فعله ، وليست من مكان إلى مكان ، وقال : هو متناه بالذات غير متناه بالقدر ، وحكي عنه أبو عيسى الوراق أنه قال : أن الله تعالى مماس لعرشه لا يفضل عنه شيء من العرش ، ولا يفصل عنه شيء ، وقال هشام بن سالم : أنه تعالى على صورة إنسان أعلاه مجوف وأسفله مصمت ، وهو نور ساطع يتلألأ ، وله حواس خمس ويد ورجل وأنف وإذن ، وعين ، وفم ، وله وفرة سوداء ، هو نور أسود لكنه ليس بلحم ولا دم ، ثم قال : وغلا هشام بن الحكم في حق علي عليه‌السلام ، حتى قال : إنه إله واجب الطاعة ، وهذا هشام بن الحكم صاحب غور في الأصول لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة ، فإن الرجل وراء ما يلزمه على الخصم ، ودون ما يظهره من التشبيه وذلك أنه ألزم العلاف ، فقال : إنك تقول إن الباري تعالى عالم بعلم ، وعلمه ذاته فيشارك المحدثات في أنه عالم بعلم ويباينها في أن علمه ذاته فيكون عالما لا كالعالمين ، فلم لا تقول هو جسم لا كالأجسام ، وصورة لا كالصور ، وأنه قدرة لا كالأقدار إلى غير ذلك.

__________________

(١) نسخة « بالبفكة » ولم أقف على معنى لها ـ على اختلاف النسخ ـ في كتب اللّغة.


٦ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن إسماعيل ، عن الحسين بن الحسن ، عن بكر بن صالح ، عن الحسن بن سعيد ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن محمد بن زياد قال سمعت يونس بن ظبيان يقول دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت له إن هشام بن الحكم يقول قولا عظيما إلا أني أختصر لك منه أحرفا فزعم أن الله جسم لأن

______________________________________________________

أقول : فظهر أن نسبة هذين القولين إليهما إما لتخطئة رواة الشيعة وعلمائهم لبيان سفاهة آرائهم ، أو أنهم لما ألزموهم في الاحتجاج أشياء إسكاتا لهم ، نسبوها إليهم ، والأئمة عليهم‌السلام لم ينفوها عنهم إبقاء عليهم ، أو لمصالح أخر ، ويمكن أن يحمل هذا الخبر على أن المراد : ليس القول الحق ما قال الهشامان بزعمك أو ليس هذا القول الذي تقول ، ما قال الهشامان بل قولهما مباين لذلك ، ويحتمل أن يكون هذان مذهبهما قبل الرجوع إلى الأئمة عليهم‌السلام ، والأخذ بقولهم ، فقد قيل : إن هشام بن الحكم قبل أن يلقي الصادق عليه‌السلام كان على رأي جهم بن صفوان ، فلما تبعه عليه‌السلام تاب ورجع إلى الحق ، ويؤيده ما ذكره الكراجكي في كنز الفوائد من الرد على القائلين بالجسم بمعنييه ، حيث قال : وأما موالاتنا هشاما (ره) فهي لما شاع عنه واستفاض من تركه للقول بالجسم الذي كان ينصره ، ورجوعه عنه وإقراره بخطائه فيه وتوبته منه ، وذلك حين قصد الإمام جعفر بن محمد عليهما‌السلام إلى المدينة فحجبه وقيل له :إنه أمرنا أن لا نوصلك إليه ما دمت قائلا بالجسم ، فقال : والله ما قلت به إلا لأني ظننت أنه وفاق لقول إمامي عليه‌السلام ، فأما إذا أنكره علي فإنني تائب إلى الله منه فأوصله الإمام عليه‌السلام إليه ، ودعا له بخير ، وحفظ عن الصادق عليه‌السلام أنه قال لهشام : إن الله تعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه ، وروي عنه أيضا أنه قال : سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير لا يحد ولا يحس ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيط به شيء ، ولا هو جسم ولا صورة ولا بذي تخطيط ولا تحديد.

الحديث السادس : ضعيف.


الأشياء شيئان جسم وفعل الجسم فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل ويجوز

______________________________________________________

قوله : جسم وفعل الجسم ، هذا الكلام يحتمل وجهين « الأول » أن يكون مبنيا على ما يذهب إليه وهم أكثر الناس من أن الموجود منحصر في المحسوس وما في حكمه وكل ما لا وضع له ولا إشارة حسية إليه ، فعندهم فرض وجوده مستحيل ، فالشيء عندهم إما جسم وإما عرض قائم بالجسم وهو المراد بفعل الجسم لأنه تابع له في الوجود.

الثاني : أن يكون أراد بالجسم الحقيقة القائمة بذاتها المغايرة للأفعال من غير اعتبار التقدر والتحدد كما مرت الإشارة إليه ، فالمراد بقوله عليه‌السلام : أما علم أن الجسم محدود ، أنه مخطئ في إطلاق الجسم على كل حقيقة قائمة بالذات ، وعلى التقديرين قوله : فإذا احتمل ، استدلال على نفي جسميته سبحانه بأنه لو كان جسما لكان محدودا بحدود متناهيا إليها لاستحالة لا تناهي الأبعاد وكل محتمل للحد قابل للانقسام بأجزاء متشاركة في الاسم والحد ، فله حقيقة كلية غير متشخصة بذاتها ولا موجودة بذاتها أو هو مركب من أجزاء ، حال كل واحد منها ما ذكر فيكون مخلوقا أو بأن كل جسم متناه ، وإذا كان متناهيا كان محدودا بحد واحد معين أو حدود معينة فيكون مشكلا ، فذلك الحد المعين والشكل المخصوص إما أن يكون من جهة طبيعة الجسمية بما هي جسمية ، أو لأجل شيء آخر ، والأول باطل ، وإلا لزم كون جميع الأقسام محدودة بحد واحد وشكل واحد ، لاشتراكها في معنى الجسمية بل يلزم أن يكون مقدار الجزء والكل وشكلهما واحد ، فيلزم أن لا جزء ولا كل ولا تعدد في الأجسام وهو محال ، والثاني أيضا باطل ، لأن ذلك الشيء إما جسم أو جسماني أو مفارق عنهما ، والكل محال ، لأنه إن كان جسما آخر فيعود المحذور ويلزم التسلسل وإن كان جسمانيا فيلزم الدور إذ وجوده لكونه جسمانيا يتوقف على تحدد ذلك الجسم ، لأن الجسم ما لم يتحدد لم يوجد ، وإذا كان وجود ذلك الجسم وتحدده متوقفين عليه كان وجوده متوقفا على ما يتوقف عليه وجوده ، فيتوقف وجود ذلك الشيء على وجوده ، وكان تحدد الجسم متوقفا على ما يتوقف على تحدده ، فيتوقف


أن يكون بمعنى الفاعل فقال أبو عبد الله عليه‌السلام ويحه أما علم أن الجسم محدود متناه والصورة محدودة متناهية فإذا احتمل الحد احتمل الزيادة والنقصان وإذا احتمل الزيادة والنقصان كان مخلوقا قال قلت فما أقول قال لا جسم ولا صورة وهو مجسم الأجسام ومصور الصور لم يتجزأ ولم يتناه ولم يتزايد ولم يتناقص لو كان كما يقولون لم يكن بين الخالق والمخلوق فرق ولا بين المنشئ والمنشإ لكن هو المنشئ فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا.

٧ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن إسماعيل ، عن علي بن العباس ، عن الحسن بن عبد الرحمن الحماني قال قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام إن هشام

______________________________________________________

تحدد ذلك الجسم على تحدده ، فيلزم تقدم الشيء على نفسه وهذا محال ، وإن كان أمرا خارجا عن الأجسام والجسمانيات فيلزم كون الجسم المفروض إلها مفتقرا في وجوده إلى أمر مفارق لعالم الأجسام ، فيكون هو إلا له لا الجسم ، وقد فرض الجسم إلها وهذا خلف ، على أنه عين المطلوب ، وهو نفي كونه جسما ولا صورة في جسم.

ثم استدل عليه‌السلام بوجه آخر وهو ما يحكم به الوجدان : من كون الموجد أعلى شأنا وأرفع قدرا من الموجد ، وعدم المشابهة والمشاركة بينهما ، وإلا فكيف يحتاج أحدهما إلى العلة دون الآخر ، وكيف صار هذا موجدا لهذا بدون العكس ، ويحتمل أن يكون المراد عدم المشاركة والمشابهة فيما يوجب الاحتياج إلى العلة فيحتاج إلى علة أخرى.

قوله : فرق ، بصيغة المصدر أي الفرق حاصل بينه وبين من صوره ، ويمكن أن يقرأ على الماضي المعلوم ، أي فرق بين من جسمه وصوره ، وبين من لم يجسمه ولم يصوره ، أو بين كل ممن جسمه وغيره من المجسمات ، وقوله : إذ كان لا يشبهه شيء أي من غير مشابهة شيء له ، أو مشابهته لشيء أو المراد أنه لما لم يكن بينه وبين الأشياء المفرقة مشابهة صح كونه فارقا بينها.

الحديث السابع : ضعيف.


ابن الحكم زعم أن الله جسم « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » عالم سميع بصير قادر متكلم ناطق والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد ليس شيء منها مخلوقا فقال قاتله الله أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكل شيء سواه مخلوق إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان.

٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن محمد بن حكيم قال :

______________________________________________________

قوله : ليس كمثله شيء ، يومئ إلى أنه لم يقل بالجسمية الحقيقية ، بل أخطأ في إطلاق لفظ الجسم عليه تعالى ، ونفي عنه صفات الأجسام كلها ، ويحتمل أن يكون مراده أنه لا يشبهه شيء من الأجسام ، بل هو نوع مباين لسائر أنواع الأجسام فعلى الأول نفي عليه‌السلام إطلاق هذا اللفظ عليه تعالى ، بأن الجسم إنما يطلق على الحقيقة التي يلزمهما التقدر والتحدد فكيف يطلق عليه تعالى.

وقوله : يجري مجرى واحد ، إشارة إلى عينية الصفات وكون الذات قائمة مقامها ، فنفى عليه‌السلام كون الكلام كذلك ولم ينفه من سائر الصفات ، ثم نبه على بطلان ما يوهم كلامه من كون الكلام من أسباب وجود الأشياء ، فلفظة « كُنْ » في الآية الكريمة كناية عن تسخيره للأشياء ، وانقيادها له من غير توقف على التكلم بها ، كما قال سيد الساجدين عليه‌السلام : « فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة ، وبإرادتك دون نهيك منزجرة » على أقرب الاحتمالين ، ثم نفي عليه‌السلام كون الإرادة على نحو إرادة المخلوقين من خطور بال أو تردد في نفس ، ويحتمل أن يكون المقصود بما نسب إلى هشام : كون الصفات كلها مع زيادتها مشتركة في عدم الحدوث والمخلوقية فنفاه عليه‌السلام بإثبات المغايرة أولا ، ثم بيان أن كل ما سواه مخلوق ، والأول أظهر ، وقوله : تكون يمكن أن يقرأ على المعلوم من المجرد أو المجهول من بناء التفعيل.

الحديث الثامن : مجهول.


وصفت لأبي الحسن عليه‌السلام قول هشام الجواليقي وما يقول في الشاب الموفق ووصفت له قول هشام بن الحكم فقال إن الله لا يشبهه شيء.

باب صفات الذات

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن خالد الطيالسي ، عن صفوان بن يحيى ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لم يزل الله عز وجل ربنا والعلم ذاته ولا معلوم والسمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم والسمع على

______________________________________________________

باب صفات الذات

الحديث الأول : مجهول.

قوله : وقع العلم منه على المعلوم ، أي وقع على ما كان معلوما في الأزل وانطبق عليه ، وتحقق مصداقه ، وليس المقصود تعلقه به تعلقا لم يكن قبل الإيجاد أو المراد بوقوع العلم على المعلوم العلم به على أنه حاضر موجود ، وكان قد تعلق العلم به قبل ذلك على وجه الغيبة ، وأنه سيوجد والتغير يرجع إلى المعلوم لا إلى العلم وتحقيق المقام : أن علمه تعالى بأن شيئا وجد هو عين العلم الذي كان له تعالى بأنه سيوجد ، فإن العلم بالقضية إنما يتغير بتغيرها ، وهو إما بتغير موضوعها أو محمولها ، والمعلوم هيهنا هي القضية القائلة بأن زيدا موجود في الوقت الفلاني ، ولا يخفى أن زيدا لا يتغير معناه بحضوره وغيبته ، نعم يمكن أن يشار إليه إشارة خاصة بالموجود حين وجوده ولا يمكن في غيره ، وتفاوت الإشارة إلى الموضوع لا يؤثر في تفاوت العلم بالقضية ، ونفس تفاوت الإشارة راجع إلى تغير المعلوم لا العلم.

وأما الحكماء فذهب محققوهم إلى أن الزمان والزمانيات كلها حاضرة عنده تعالى ، لخروجه عن الزمان كالخيط الممتد من غير غيبة لبعضها دون بعض ، وعلى هذا فلا إشكال لكن فيه إشكالات لا يسع المقام إيرادها.


المسموع والبصر على المبصر والقدرة على المقدور قال قلت فلم يزل الله متحركا قال فقال تعالى الله عن ذلك إن الحركة صفة محدثة بالفعل قال قلت فلم يزل الله متكلما قال فقال إن الكلام صفة محدثة ليست بأزلية كان الله عز وجل ولا متكلم.

٢ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سمعته يقول كان الله عز وجل ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما يكون فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان بن يحيى ، عن الكاهلي

______________________________________________________

ثم اعلم أن صفاته سبحانه على ثلاثة أقسام منها سلبية محضة كالقدوسية والفردية ومنها إضافية محضة كالمبدئية والخالقية والرازقية ، ومنها حقيقية سواء كانت ذات إضافة كالعالمية والقادرية أو لا ، كالحياة والبقاء ، ولا شك أن السلوب والإضافات زائدة على الذات ، وزيادتها لا توجب انفعالا ولا تكثرا ، وقيل : إن السلوب كلها راجعة إلى سلب الإمكان ، والإضافات راجعة إلى الموجدية ، وأما الصفات الحقيقية فالحكماء والإمامية على أنها غير زائدة على ذاته تعالى ، وليس عينيتها وعدم زيادتها بمعنى نفي أضدادها عنه تعالى ، حتى يكون علمه سبحانه عبارة عن نفي الجهل ليلزم التعطيل ، فقيل : معنى كونه عالما وقادرا أنه يترتب على مجرد ذاته ما يترتب على الذات والصفة ، بأن ينوب ذاته مناب تلك الصفات ، والأكثر على أنه تصدق تلك الصفات على الذات الأقدس ، فذاته وجود وعلم وقدرة وحياة وسمع وبصر ، وهو أيضا موجود عالم قادر حي سميع بصير ، ولا يلزم في صدق المشتق قيام المبدأ به ، فلو فرضنا بياضا قائما بنفسه لصدق عليه أنه أبيض.

الحديث الثاني : صحيح.

الحديث الثالث : حسن.


قال كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام في دعاء الحمد لله منتهى علمه فكتب إلي لا تقولن منتهى علمه فليس لعلمه منتهى ولكن قل منتهى رضاه.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن سعد بن عبد الله ، عن محمد بن عيسى ، عن أيوب بن نوح أنه كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام يسأله عن الله عز وجل أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكونها أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عند ما خلق وما كون عند ما كون فوقع بخطه لم يزل الله عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء.

٥ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن جعفر بن محمد بن حمزة قال كتبت إلى الرجل عليه‌السلام أسأله أن مواليك اختلفوا في العلم فقال بعضهم لم يزل الله عالما قبل فعل الأشياء وقال بعضهم لا نقول لم يزل الله عالما لأن معنى يعلم يفعل

______________________________________________________

قوله فليس لعلمه : أي لمعلوماته عدد متناه ، فلا يكون لعلمه عدد ينتهي إلى حد أو ليس لعلمه بحمده نهاية بانتهاء حمده إلى حد لا يتصور فوقه حمد ، ولكن للرضاء نهاية بالمعنيين ، فإن لرضاه بحمد العبد منتهى عددا أو لرضاه بحمد العبد حدا لا يتجاوزه.

الحديث الرابع : صحيح.

الحديث الخامس : ضعيف.

قوله : لأن معنى يعلم يفعل ، أي يفعل العلم ويوجده ، على أن العلم إدراك والإدراك فعل ، وقال بعض المحققين : هذا الكلام يحتمل وجهين :

أحدهما أن تعلق علمه بشيء يوجب وجود ذلك الشيء وتحققه ، فلو كان لم يزل عالما كان لم يزل فاعلا فكان معه شيء في الأزل في مرتبة علمه أعني ذاته ، أو غير مسبوق بعدم زماني ، وهذا على تقدير كون علمه فعليّا.

وثانيهما أنّ تعلق العلم بشىء يستدعي انكشاف ذلك الشىء واكشاف الشىء يستدعي نحو حصول له ، وكلّ حصول ووجود لغيره سبحانه مستند إليه سبحانه فيكون


فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئا فإن رأيت جعلني الله فداك أن تعلمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فكتب عليه‌السلام بخطه لم يزل الله عالما تبارك وتعالى ذكره.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الصمد بن بشير ، عن فضيل بن سكرة قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام جعلت فداك إن رأيت أن تعلمني هل كان الله جل وجهه يعلم قبل أن يخلق الخلق أنه وحده فقد اختلف مواليك فقال بعضهم قد كان يعلم قبل أن يخلق شيئا من خلقه وقال بعضهم إنما معنى يعلم يفعل فهو اليوم يعلم أنه لا غيره قبل فعل الأشياء فقالوا إن أثبتنا أنه لم يزل عالما بأنه لا غيره فقد أثبتنا معه غيره في أزليته فإن رأيت يا سيدي أن تعلمني ما لا أعدوه إلى غيره فكتب عليه‌السلام ما زال الله عالما تبارك وتعالى ذكره.

______________________________________________________

من فعله ، فيكون معه في الأزل شيء من فعله فأجاب عليه‌السلام بأنه لم يزل عالما ولم يلتفت إلى بيان فساد متمسك نافيه ، لأنه أظهر من أن يحتاج إلى البيان ، فإنه على الأول مبني على كون العلم فعليا وهو ممنوع ، ولو سلم فلا يستلزم فعلية العلم عدم انفكاك المعلوم عنه عينا بمعنى عدم مسبوقيته بعدم زماني ، أو كون المعلوم في مرتبة العالم وعلى الثاني مبني على كون الصور العلمية صادرة عنه صدور الأمور العينية ، فيكون من أقسام الموجودات العينية ومن أفعاله سبحانه وهو ممنوع ، فإن الصور العلمية توابع غير عينية لذات العالم ولا تحصل لها عدا الانكشاف لدى العالم ، ولا حظ لها من الوجود والحصول العيني أصلا ، ولا مسبوقية لها إلا بذات العالم ، لكنها ليست في مرتبة ذاته ، ولا يجب فيها نحو التأخر الذي للأفعال الصادرة عن المبدأ بالإيجاد.

الحديث السادس : ضعيف.


باب آخر وهو من الباب الأول

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن حماد ، عن حريز ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال في صفة القديم إنه واحد صمد أحدي المعنى ليس بمعاني كثيرة مختلفة قال قلت جعلت فداك يزعم قوم من أهل العراق أنه يسمع بغير الذي يبصر ويبصر بغير الذي يسمع قال فقال كذبوا وألحدوا وشبهوا تعالى الله عن ذلك إنه سميع بصير يسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع قال قلت يزعمون أنه بصير على ما يعقلونه قال فقال تعالى الله إنما يعقل ما كان بصفة المخلوق وليس الله كذلك.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن العباس بن عمرو ، عن هشام بن الحكم قال

______________________________________________________

باب آخر وهو من الباب الأول

الحديث الأول : صحيح ، ولعل المراد بوحدته أنه لا يشاركه غيره في حقيقته لتشخصه بذاته ، وبصمديته كونه غير محتمل لأن يحله غيره ، ولا يصح عليه الخلو عما يمكن أن يدخل فيه ، وبأحديته أن لا يصح عليه الائتلاف من معان متعددة ، أو الانحلال إليها ، وقوله : ليس بمعان كثيرة ، تفسير لإحدى المعنى ، ويحتمل أن يكون تفسيرا لكل واحد من الثلاثة.

قوله : على ما يعقلونه ، أي من الإبصار بآلة البصر فيكون نقلا لكلام المجسمة أو باعتبار صفة زائدة قائمة بالذات ، فيكون نقلا لمذهب الأشاعرة ، والجواب أنه إنما يعقل بهذا الوجه من كان بصفة المخلوق ، أو المراد : تعالى الله أن يتصف بما يحصل ويرتسم في العقول والأذهان ، والحاصل أنهم يثبتون لله تعالى ما يعقلون من صفاتهم والله منزه عن مشابهتهم ومشاركتهم في تلك الصفات الإمكانية.

الحديث الثاني : مجهول ، وقد مر الكلام فيه ، ويدل على نفي زيادة الصفات


في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله عليه‌السلام أنه قال له أتقول إنه سميع بصير فقال أبو عبد الله هو سميع بصير سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه وليس قولي إنه سميع بنفسه أنه شيء والنفس شيء آخر ولكني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسئولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا فأقول يسمع بكله لا أن كله له بعض لأن الكل لنا له بعض ولكن أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك كله إلا أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى.

______________________________________________________

أي نفي صفات موجودة زائدة على ذاته سبحانه ، وأما كونها عين ذاته تعالى بمعنى أنها تصدق عليها أو أنها قائمة مقام الصفات الحاصلة في غيره تعالى أو أنها أمور اعتبارية غير موجودة في الخارج ، واجبة الثبوت لذاته تعالى فلا نص فيه وفي أمثاله على شيء منها ، وإن كان ظاهر أكثرها أحد الأولين.

قال المحقق الدواني : لا خلاف بين المتكلمين كلهم ، والحكماء ، في كونه تعالى عالما قديرا مريدا متكلما ، وهكذا في سائر الصفات ، ولكنهم تخالفوا في أن الصفات عين ذاته أو غير ذاته أو لا هو ولا غيره ، فذهبت المعتزلة والفلاسفة إلى الأول وجمهور المتكلمين إلى الثاني ، والأشعري إلى الثالث ، والفلاسفة حققوا عينية الصفات بأن ذاته تعالى من حيث أنه مبدء لانكشاف الأشياء عليه علم ، ولما كان مبدء الانكشاف عين ذاته كان عالما بذاته ، وكذا الحال في القدرة والإرادة وغيرهما من الصفات قالوا : وهذه المرتبة أعلى من أن تكون تلك الصفات زائدة عليه ، فإنا نحتاج في انكشاف الأشياء علينا إلى صفة مغايرة عنا قائمة بنا ، والله تعالى لا يحتاج إليه بل بذاته ينكشف الأشياء عليه ، ولذلك قيل محصول كلامهم نفي الصفات وإثبات نتائجها وغاياتها ، وأما المعتزلة فظاهر كلامهم أنها عندهم من الاعتبارات العقلية التي لا وجود لها في الخارج « انتهى ».


باب

الإرادة أنها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل

١ ـ محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، عن الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت لم يزل الله مريدا قال إن المريد لا يكون إلا لمراد معه ـ لم يزل الله عالما قادرا ثم أراد.

______________________________________________________

باب الإرادة أنها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل

الحديث الأول : صحيح ، واعلم أن إرادة الله سبحانه عند متكلمي الإمامية هي العلم بالخير والنفع وما هو الأصلح ولا يثبتون فيه تعالى وراء العلم شيئا ، ولعل المراد بتلك الأخبار الدالة على حدوث الإرادة هو أنه يكون في الإنسان قبل حدوث الفعل اعتقاد النفع فيه ، ثم الرؤية ، ثم الهمة ، ثم انبعاث الشوق منه ، ثم تأكده حتى يصير إجماعا باعثا على الفعل ، وذلك كله فينا إرادة متوسطة بين ذاتنا وبين الفعل وليس فيه سبحانه بعد العلم القديم بالمصلحة من الأمور المقارنة سوى الأحداث والإيجاد فالإحداث في الوقت الذي تقتضي المصلحة صدور الفعل فيه قائم مقام ما يحدث من الأمور في غيره تعالى ، فالمعنى أن ذاته تعالى بصفاته الكمالية الذاتية كافية في حدوث الحادث من غير حاجة إلى حدوث أمر في ذاته عند حدوث الفعل.

قوله عليه‌السلام : إلا لمراد معه : قال بعض المحققين أي لا يكون المريد بحال إلا حال كون المراد معه ، ولا يكون مفارقا من المراد ، وحاصله أن ذاته تعالى مناط لعلمه وقدرته ، أي صحة الصدور واللاصدور بأن يريد فيفعل ، وأن يريد فيترك ، فهو بذاته مناط لصحة الإرادة وصحة عدمها ، فلا يكون بذاته مناطا للإرادة وعدمها ، بل المناط فيها الذات مع حال المراد ، فالإرادة أي المخصصة لأحد الطرفين لم يكن من صفات الذات فهو بذاته عالم قادر مناط لهما ، وليس بذاته مريدا مناطا لها ، بل بمدخلية مغاير متأخر عن الذات ، وهذا معنى قوله : لم يزل عالما قادرا ثم أراد.


٢ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن إسماعيل ، عن الحسين بن الحسن ، عن بكر بن صالح ، عن علي بن أسباط ، عن الحسن بن الجهم ، عن بكير بن أعين قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام علم الله ومشيئته هما مختلفان أو متفقان فقال العلم ليس هو المشيئة ألا ترى أنك تقول سأفعل كذا إن شاء الله ولا تقول سأفعل كذا إن علم الله فقولك إن شاء الله دليل على أنه لم يشأ فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء وعلم الله السابق للمشيئة.

٣ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى قال قلت لأبي الحسن عليه‌السلام أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق قال فقال الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه

______________________________________________________

الحديث الثاني : ضعيف ولعل المراد المشية المتأخرة عن العلم ، الحادثة عند حدوث المعلوم ، وقد عرفت أنه في الله تعالى ليس سوى الإيجاد ، ومغايرته للعلم ظاهر ، ويحتمل أن يكون المقصود بيان عدم اتحاد مفهوميهما ، إذ ليست الإرادة مطلق العلم ، إذ العلم يتعلق بكل شيء ، بل هي العلم بكونه خيرا وصلاحا ونافعا ولا يتعلق إلا بما هو كذلك ، وفرق آخر بينهما ، وهو أن علمه تعالى بشيء لا يستدعي حصوله بخلاف علمه به على النحو الخاص ، فالسبق على هذا يكون محمولا على السبق الذاتي الذي يكون للعام على الخاص ، والأول أظهر كما عرفت.

قوله عليه‌السلام وعلم الله السابق المشية (١) : بنصب المشية ليكون معمولا للسابق ، أو بجرها بإضافة السابق إليه ، وربما يقرأ بالرفع ليكون خبرا ، ويكون السابق صفة للعلم ، ولا يخفى بعده ، وفي التوحيد سابق للمشية.

الحديث الثالث : صحيح ، قال بعض المحققين في شرح هذا الخبر : الظاهر أن المراد بالإرادة مخصص أحد الطرفين وما به يرجح القادر أحد مقدورية على الآخر لا ما يطلق في مقابل الكراهة ، كما يقال يريد الصلاح والطاعة ، ويكره الفساد والمعصية.

وحاصل الجواب : أن الإرادة من الخلق الضمير ، أي أمر يدخل في خواطرهم

__________________

(١) كذا في النسخ ، ويظهر منها أنها موافقة لنسخة الشارح (ره) من كتاب الكافي ولكن في ما عندنا من النسخ « سابق للمشيئة » وكأنها غير محتاجة إلى الاحتمالات المذكورة في كلام الشارح (ره).


لا غير ذلك لأنه لا يروي ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.

______________________________________________________

وأذهانهم ، ويوجد في نفوسهم ويحل فيها ، بعد ما لم يكن فيها ، وكانت هي خالية عنه ، وقوله : وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، يحتمل أن يكون جملة معطوفة على الجملة السابقة والظرف خبرا للموصول ، ويحتمل أن يكون الموصول معطوفا على قوله الضمير ، ويكون قوله من الفعل بيانا للموصول ، والمعنى على الأول أن الإرادة من الخلق الضمير والذي يكون لهم بعد ذلك من الفعل ، لا من إرادتهم ، وعلى الثاني أن إرادتهم مجموع ضمير يحصل في قلبهم وما يكون لهم من الفعل المترتب عليه ، فالمقصود هنا من الفعل ما يشمل الشوق إلى المراد وما يتبعه من التحريك إليه والحركة ، وأما الإرادة من الله فيستحيل أن يكون كذلك فإنه يتعالى أن يقبل شيئا زائدا على ذاته ، بل إرادته المرجحة للمراد من مراتب الأحداث لا غير ذلك ، إذ ليس في الغائب إلا ذاته الأحدية ، ولا يتصور هناك كثرة المعاني ولا له بعد ذاته وما لذاته بذاته إلا ما ينسب إلى الفعل ، فإرادة الله سبحانه من مراتب الفعل المنسوب إليه لا غير ذلك.

أقول : ويحتمل على الاحتمال الأول أن يكون المراد بالضمير تصورا لفعل وبما يبدو بعد ذلك اعتقاد النفع والشوق وغير ذلك ، فقوله : من الفعل ، أي من أسباب الفعل أو من جهة الفعل ، وقوله عليه‌السلام : ولا كيف لذلك ، أي لا صفة حقيقية لقوله ذلك وإرادته كما أنه لا كيف لذاته ، أو لا يعرف كيفية إرادته على الحقيقة ، كما لا يعرف كيفية ذاته وصفاته بالكنه.

وقال الشيخ المفيد قدس الله روحه : إن الإرادة من الله جل اسمه نفس الفعل ومن الخلق الضمير وأشباهه مما لا يجوز إلا على ذوي الحاجة والنقص ، وذلك لأن العقول شاهدة بأن القصد لا يكون إلا بقلب ، كما لا تكون الشهوة والمحبة إلا لذي


٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال خلق الله المشيئة بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشيئة.

______________________________________________________

قلب ، ولا تصح النية والضمير والعزم إلا على ذي خاطر يضطر معها في الفعل الذي يغلب عليه إلى الإرادة له ، والنية فيه والعزم ، ولما كان الله تعالى يجل عن الحاجات ويستحيل عليه الوصف بالجوارح والأدوات ، ولا يجوز عليه الدواعي والخطرات بطل أن يكون محتاجا في الأفعال إلى القصود والعزمات ، وثبت أن وصفه بالإرادة مخالف في معناه لوصف العباد ، وأنها نفس فعله الأشياء ، وبذلك جاء الخبر عن أئمة الهدى ثم أورد هذه الرواية ، ثم قال : نص على اختياري في الإرادة ، وفيه نص على مذهب لي آخر ، وهو أن إرادة العبد تكون قبل فعله ، وإلى هذا ذهب البلخي ، والقول في تقدم الإرادة للمراد كالقول في تقدم القدرة للفعل ، وقوله عليه‌السلام : إن الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد الفعل ، صريح في وجوب تقدمها للفعل ، إذا كان الفعل يبدو من العبد بعدها ، ولو كان الأمر فيها على مذهب الجبائي لكان الفعل باديا في حالها ولم يتأخر بدوه إلى الحال التي هي بعد حالها.

الحديث الرابع : حسن ويحتمل وجوها من التأويل :

الأول : أن لا يكون المراد بالمشية الإرادة بل إحدى مراتب التقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشيء كالتقدير في اللوح ، مثلا والإثبات فيه ، فإن اللوح وما أثبت فيه لم يحصل بتقدير آخر في لوح سوى ذلك اللوح ، وإنما وجد سائر الأشياء بما قدر في ذلك اللوح ، وربما يلوح هذا المعنى من بعض الأخبار كما سيأتي في كتاب العدل ، وعلى هذا المعنى يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير.

الثاني : أن يكون خلق المشية بنفسها كناية عن كونها لازمة لذاته تعالى غير متوقفة على تعلق إرادة أخرى بها ، فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحققها بنفسها منتزعة عن ذاته تعالى بلا توقف على مشية أخرى أو أنه كناية عن أنه اقتضى علمه الكامل ، وحكمته الشاملة كون جميع الأشياء حاصلة بالعلم بالأصلح ، فالمعنى أنه


______________________________________________________

لما اقتضى كمال ذاته أن لا يصدر عنه شيء إلا على الوجه الأصلح والأكمل ، فلذا لا يصدر شيء عنه تعالى إلا بإرادته المقتضية لذلك.

الثالث : ما ذكره السيد الداماد قدس الله روحه : أن المراد بالمشية هنا مشية العباد لأفعالهم الاختيارية لتقدسه سبحانه عن مشية مخلوقة زائدة على ذاته عز وجل وبالأشياء أفاعيلهم المترتب وجودها على تلك المشية ، وبذلك تنحل شبهة ربما أوردت هاهنا وهي أنه لو كانت أفعال العباد مسبوقة بإرادتهم لكانت الإرادة مسبوقة بإرادة أخرى ، وتسلسلت الإرادات لا إلى نهاية.

الرابع : ما ذكره بعض الأفاضل وهو أن للمشية معنيين « أحدهما » متعلق بالشائي وهي صفة كمالية قديمة هي نفس ذاته سبحانه وهي كون ذاته سبحانه بحيث يختار ما هو الخير والصلاح.

« والآخر » يتعلق بالمشيء وهو حادث بحدوث المخلوقات لا يتخلف المخلوقات عنه وهو إيجاده سبحانه إياها بحسب اختياره ، وليست صفة زائدة على ذاته عز وجل وعلى المخلوقات ، بل هي نسبة بينهما تحدث بحدوث المخلوقات لفرعيتها المنتسبين معا فنقول : إنه لما كان هيهنا مظنة شبهة هي أنه إن كان الله عز وجل خلق الأشياء بالمشية فبم خلق المشية؟ أبمشية أخرى فيلزم أن تكون قبل كل مشية مشية إلى ما لا نهاية له ، فأفاد الإمام عليه‌السلام أن الأشياء مخلوقة بالمشية ، وأما المشية نفسها فلا يحتاج خلقها إلى مشية أخرى ، بل هي مخلوقة بنفسها لأنها نسبة وإضافة بين الشائي والمشي تتحصل بوجوديهما العيني والعلمي ، ولذا أضاف خلقها إلى الله سبحانه لأن كلا الوجودين له وفيه ومنه ، وفي قوله عليه‌السلام بنفسها دون أن يقول بنفسه إشارة لطيفة إلى ذلك ، نظير ذلك ما يقال : إن الأشياء إنما توجد بالوجود ، فأما الوجود نفسه فلا يفتقر إلى وجود آخر ، بل إنما يوجد بنفسه.

الخامس : ما ذكره بعض المحققين بعد ما حقق أن إرادة الله [ المتحققة ]


٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن محمد بن عيسى ، عن المشرقي حمزة بن المرتفع ، عن بعض أصحابنا قال كنت في مجلس أبي جعفر عليه‌السلام إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى « وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى » (١) ما ذلك الغضب فقال أبو جعفر عليه‌السلام هو العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق وإن الله تعالى لا يستفزه شيء فيغيره.

______________________________________________________

المتجددة هي نفس أفعاله المتجددة الكائنة الفاسدة ، فإرادته لكل حادث بالمعنى الإضافي يرجع إلى إيجاده ، وبمعنى المرادية ترجع إلى وجوده ، قال : نحن إذا فعلنا شيئا بقدرتنا واختيارنا فأردناه أولا ثم فعلناه بسبب الإرادة ، فالإرادة نشأت من أنفسنا بذاتها لا بإرادة أخرى ، وإلا لتسلسل الأمر لا إلى نهاية ، فالإرادة مرادة لذاتها ، والفعل مراد بالإرادة ، وكذا الشهوة في الحيوان مشتهاة لذاتها ، لذيذة بنفسها ، وسائر الأشياء مرغوبة بالشهوة ، فعلى هذا المثال حال مشية الله المخلوقة ، وهي نفس وجودات الأشياء ، فإن الوجود خير ومؤثر لذاته ، ومجعول بنفسه ، والأشياء بالوجود موجودة ، والوجود مشيئ بالذات والأشياء مشيئة بالوجود وكما أن الوجود حقيقة واحدة متفاوتة بالشدة والضعف والكمال والنقص ، فكذا الخيرية والمشيئية ، وليس الخير المحض الذي لا يشوبه شر إلا الوجود البحث الذي لا يمازجه عدم ونقص ، وهو ذات الباري جل مجده ، فهو المراد الحقيقي. إلى آخر ما حققه ، والأوفق بأصولنا هو الوجه الأول ، والله يعلم.

الحديث الخامس : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : هو العقاب ، أي ليس فيه سبحانه قوة تغير عن حالة إلى حالة تكون إحداهما رضاه والأخرى غضبه ، إنما أطلق عليه الغضب باعتبار صدور العقاب عنه ، فليس التغير إلا في فعله صفة مخلوق من إضافة المصدر إلى المفعول « لا يستفزه » أي لا يستخفه ولا يزعجه ، وقيل : أي لا يجده خاليا عما يكون قابلا له فيغيره للحصول له تغير الصفة لموصوفها.

__________________

(١) سورة طه : ٨٤.


٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن العباس بن عمرو ، عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فكان من سؤاله أن قال له فله رضا وسخط فقال أبو عبد الله عليه‌السلام نعم ولكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين وذلك أن الرضا حال تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال لأن المخلوق أجوف معتمل مركب للأشياء فيه مدخل وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه لأنه واحد واحدي الذات واحدي المعنى فرضاه ثوابه وسخطه عقابه من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلى حال لأن ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين.

______________________________________________________

الحديث السادس : مجهول.

قوله : وذلك أن الرضا حال ... في التوحيد وذلك لأن الرضا والغضب دخال ، والحاصل أن عروض تلك الأحوال والتغيرات إنما يكون لمخلوق أجوف له قابلية ما يحصل فيه ويدخله « معتمل » بالكسر أي يعمل بأعمال صفاته وآلاته ، أو بالفتح أي مصنوع ركب فيه الأجزاء والقوي ، والأول أولى ، ليكون تأسيسا مركب من أمور مختلفة للأشياء من الصفات والجهات والآلات فيه مدخل ، وخالقنا تبارك اسمه لا مدخل للأشياء فيه لاستحالة التركب في ذاته فإنه واحدي الذات واحدي المعنى فأذن لا كثرة فيه لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ، وإنما الاختلاف في الفعل فيثيب عند الرضا ويعاقب عند السخط من غير مداخلة شيء فيه ، يهيجه وينقله من حال إلى حال ، لأن ذلك ينافي وجوب الوجود ، فلا يكون من صفاته سبحانه ، بل من صفات المخلوقين العاجزين ، قال السيد الداماد قدس‌سره : المخلوق أجوف لما قد برهن واستبان في حكمة ما فوق الطبيعة أن كل ممكن زوج تركيبي ، وكل مركب مزوج الحقيقية فإنه أجوف الذات لا محالة ، فما لا جوف لذاته على الحقيقة هو الأحد الحق سبحانه لا غير ، فإذا الصمد الحق ليس هو إلا الذات الأحدية الحقة من كل جهة ، فقد تصحح من هذا الحديث الشريف تأويل الصمد بما لا جوف له ، ولا مدخل لمفهوم من المفهومات وشيء من الأشياء في ذاته أصلا.


٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال المشيئة محدثة.

جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل

إن كل شيئين وصفت الله بهما وكانا جميعا في الوجود فذلك صفة فعل وتفسير هذه الجملة أنك تثبت في الوجود ما يريد وما لا يريد وما يرضاه وما يسخطه وما يحب وما يبغض فلو كانت الإرادة من صفات الذات مثل العلم والقدرة كان ما لا يريد ناقضا لتلك الصفة ولو كان ما يحب من صفات الذات كان ما يبغض ناقضا لتلك الصفة ألا ترى أنا لا نجد في الوجود ما لا يعلم وما لا يقدر عليه وكذلك صفات ذاته الأزلي لسنا نصفه بقدرة وعجز وعلم وجهل وسفه وحكمة وخطإ وعز وذلة ويجوز أن يقال يحب من أطاعه ويبغض من عصاه ويوالي من أطاعه ويعادي من عصاه وإنه

______________________________________________________

الحديث السابع : صحيح.

قوله : جملة القول ... هذا التحقيق للمصنف (ره) وليس من تتمة الخبر وغرضه الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل ، وأبان ذلك بوجوه :

الأول : أن كل صفة وجودية لها مقابل وجودي فهي من صفات الأفعال لا من صفات الذات ، لأن صفاته الذاتية كلها عين ذاته ، وذاته مما لا ضد له ، ثم بين ذلك في ضمن الأمثلة وأن اتصافه سبحانه بصفتين متقابلتين ذاتيتين محال.

والثاني : ما أشار إليه بقوله : ولا يجوز أن يقال يقدر أن يعلم.

والحاصل : أن القدرة صفة ذاتية تتعلق بالممكنات لا غير ، فلا تتعلق بالواجب ولا بالممتنع ، فكل ما هو صفة الذات فهو أزلي غير مقدور ، وكلما هو صفة الفعل فهو ممكن مقدور ، وبهذا يعرف الفرق بين الصفتين ، وقوله : ولا يقدر أن لا يعلم ، الظاهر أن لا لتأكيد النفي السابق ، أي لا يجوز أن يقال يقدر أن لا يعلم ، ويمكن أن يكون من مقول القول الذي لا يجوز ، وتوجيهه : أن القدرة لا ينسب إلا إلى الفعل نفيا أو إثباتا ، فيقال : يقدر أن يفعل أو يقدر أن لا يفعل ، ولا ينسب إلى ما لا


يرضى ويسخط ويقال في الدعاء اللهم ارض عني ولا تسخط علي وتولني ولا تعادني ولا يجوز أن يقال يقدر أن يعلم ولا يقدر أن لا يعلم ويقدر أن يملك ولا يقدر أن لا يملك ويقدر أن يكون عزيزا حكيما ولا يقدر أن لا يكون عزيزا حكيما ويقدر أن يكون جوادا ولا يقدر أن لا يكون جوادا ويقدر أن يكون غفورا ولا يقدر أن لا يكون غفورا ولا يجوز أيضا أن يقال أراد أن يكون ربا وقديما وعزيزا وحكيما

______________________________________________________

يعتبر الفعل فيه لا إثباتا ولا نفيا ، فما يكون من صفات الذات التي لا شائبة للفعل فيها كالعلم والقدرة وغيرهما ، لا يجوز أن ينسب إليها القدرة ، فإن القدرة إنما يصح استعمالها مع الفعل والترك ، فلا يقال يقدر أن يعلم ولا يقال ولا يقدر أن لا يعلم ، لأن العلم لا شائبة فيه من الفعل.

أقول : ويحتمل أن يكون الواو للحال ، والحاصل : أن من لا يقدر أن لا يعلم كيف يصح أن يقال له يقدر أن يعلم ، إذ نسبة القدرة إلى طرفي الممكن على السواء وأما الجود والغفران فيحتمل أن يكونا على سياق ما تقدم بأن يكون المراد بالجواد ذات يليق به الجود ، وبالغفور من هو في ذاته بحيث يتجاوز عن المؤاخذة لمن يشاء ، فمرجعه إلى خيريته وكماله وقدرته ، لا فعل الجود والمغفرة حتى يكونا من صفات الفعل ، ويحتمل أن يكونا مقطوعين عن السابق ، لبيان كون الجود وفعل المغفرة مقدورين.

الثالث : ما أشار إليه بقوله : ولا يجوز أن يقال أراد أن يكون ربا.

والحاصل : أن الإرادة لما كانت فرع القدرة فما لا يكون مقدورا لا يكون مرادا ، وقد علمت أن الصفات الذاتية غير مقدورة فهي غير مرادة أيضا ، ولكونها غير مرادة وجه آخر وهو قوله : لأن هذه من صفات الذات « إلخ » ومعناه أن الإرادة لكونها من صفات الفعل فهي حادثة ، وهذه الصفات يعني الربوبية والقدم وأمثالهما لكونها من صفات الذات فهي قديمة ، ولا يؤثر الحادث في القديم فلا تعلق للإرادة بشيء منها ، وقوله : ألا ترى توضيح لكون الإرادة لا تتعلق بالقديم بأن إرادة شيء


ومالكا وعالما وقادرا لأن هذه من صفات الذات والإرادة من صفات الفعل ألا ترى أنه يقال أراد هذا ولم يرد هذا وصفات الذات تنفي عنه بكل صفة منها ضدها يقال حي وعالم وسميع وبصير وعزيز وحكيم غني ملك حليم عدل كريم فالعلم ضده الجهل والقدرة ضدها العجز والحياة ضدها الموت والعزة ضدها الذلة والحكمة ضدها الخطأ وضد الحلم العجلة والجهل وضد العدل الجور والظلم.

باب حدوث الأسماء

١ ـ علي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد ، عن الحسين بن يزيد ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن إبراهيم بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك

______________________________________________________

مع كراهة ضده والقديم لا ضد له كما قيل ، أو المعنى أن القديم واجب الوجود والإرادة متعلقة الحادث الممكن ، ثم رجع إلى أول الكلام لمزيد الإيضاح فقال : وصفات الذات إلى آخره.

باب حدوث الأسماء

الحديث الأول : مجهول وهو من متشابهات الأخبار وغوامض الأسرار التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم ، والسكوت عن تفسيره والإقرار بالعجز عن فهمه أصوب وأولى وأحوط وأحرى ، ولنذكر وجها تبعا لمن تكلم فيه على سبيل الاحتمال.

فنقول : « أسماء » في بعض النسخ بصيغة الجمع ، وفي بعضها بصيغة المفرد والأخير أظهر ، والأول لعله مبني على أنه مجزأ بأربعة أجزاء ، كل منها اسم ، فلذا أطلق عليه صيغة الجمع.

وقوله « بالحروف غير متصوت » وفي أكثر نسخ التوحيد غير منعوت وكذا ما بعده من الفقرات تحتمل كونها حالا عن فاعل خلق ، وعن قوله أسماء ، ويؤيد الأول ما في أكثر نسخ التوحيد خلق أسماء بالحروف ، وهو عز وجل بالحروف غير منعوت


وتعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت وباللفظ غير منطق وبالشخص غير مجسد وبالتشبيه غير موصوف وباللون غير مصبوغ منفي عنه الأقطار مبعد عنه الحدود محجوب عنه حس كل متوهم مستتر غير مستور فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها وحجب منها واحدا وهو الاسم المكنون المخزون فهذه الأسماء التي ظهرت فالظاهر هو

______________________________________________________

فيكون المقصود بيان المغايرة بين الاسم والمسمى بعدم جريان صفات الاسم بحسب ظهوراته النطقية والكتبية فيه تعالى ، وأما على الثاني فلعله إشارة إلى حصوله في علمه تعالى فيكون الخلق بمعنى التقدير والعلم ، وهذا الاسم عند حصوله في العلم الأقدس ، لم يكن ذات صوت ولا ذات صورة ولا ذا شكل ولا ذا صبغ ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن أول خلقه كان بالإضافة على روح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأرواح الأئمة عليهم‌السلام بغير نطق وصبغ ولون وخط بقلم ، ولنرجع إلى تفصيل كل من الفقرات وتوضيحها ، فعلى الأول قوله غير متصوت إما على البناء للفاعل ، أي لم يكن خلقها بإيجاد حرف وصوت ، أو على البناء للمفعول أي هو تعالى ليس من قبيل الأصوات والحروف ، حتى يصلح كون الاسم عينه تعالى.

وقوله عليه‌السلام : وباللفظ غير منطق بفتح الطاء أي ناطق ، أو أنه غير منطوق باللفظ كالحروف ليكون من جنسها ، أو بالكسر أي لم يجعل الحروف ناطقة على الإسناد المجازي كقوله تعالى « هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ » (١) وهذا التوجيه يجري في الثاني من احتمالي الفتح وتطبيق تلك الفقرات على الاحتمال الثاني ، وهو كونها حالا عن الاسم بعد ما ذكرنا ظاهر ، وكذا تطبيق الفقرات الآتية على الاحتمالين.

قوله عليه‌السلام : مستتر غير مستور ، أي كنه حقيقته مستور عن الخلق مع أنه من حيث الآثار أظهر من كل شيء ، أو مستتر بكمال ذاته من غير ستر وحاجب أو أنه غير مستور [ عن الخلق ] بل هو في غاية الظهور ، والنقص إنما هو من قبلنا ، ويجري

__________________

(١) سورة المجادلة : ٢٩.


الله تبارك وتعالى وسخر سبحانه لكل اسم من هذه الأسماء أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا ثم خلق لكل ركن منها ثلاثين اسما فعلا منسوبا إليها فهو « الرَّحْمنُ

______________________________________________________

نظير الاحتمالات في الثاني ، ويحتمل على الثاني أن يكون المراد أنه مستور عن الخلق غير مستور عنه تعالى ، وأما تفصيل الأجزاء وتشعب الأسماء فيمكن أن يقال إنه لما كان كنه ذاته تعالى مستورا عن عقول جميع الخلق فالاسم الدال عليه ينبغي أن يكون مستورا عنهم ، فالاسم الجامع هو الاسم الذي يدل على كنه الذات مع جميع الصفات الكمالية ، ولما كانت أسماؤه تعالى ترجع إلى أربعة لأنها إما أن تدل على الذات أو الصفات الثبوتية الكمالية أو السلبية التنزيهية أو صفات الأفعال ، فجرى ذلك الاسم الجامع إلى أربعة أسماء جامعة ، واحد منها للذات فقط ، فلما ذكرنا سابقا استبد تعالى به ولم يعطه خلقه وثلاثة منها تتعلق بالأنواع الثلاثة من الصفات فأعطاها خلقه ليعرفوه بها بوجه من الوجوه ، فهذه الثلاثة حجب ووسائط بين الخلق وبين هذا الاسم المكنون ، إذ بها يتوسلون إلى الذات وإلى الاسم المختص بها إذ في التوحيد « بهذه الأسماء » وهو أظهر ، ولما كانت تلك الأسماء الأربعة مطوية في الاسم الجامع على الإجمال لم يكن بينها تقدم وتأخر ، ولذا قال : ليس منها واحد قبل الآخر ، ويمكن أن يقال على بعض المحتملات السابقة : أنه لما كان تحققها في العلم الأقدس ، لم يكن بينها تقدم وتأخر ، أو يقال أن إيجادها لما كان بالإفاضة على الأرواح المقدسة ولم يكن بالتكلم لم يكن بينها وبين أجزائها تقدم وتأخر في الوجود ، كما يكون في تكلم الخلق ، والأول أظهر ثم بين الأسماء الثلاثة.

وهنا اختلاف بين نسخ الكافي والتوحيد ، ففي أكثر نسخ الكافي فالظاهر هو الله تبارك وتعالى ، وسخر لكل اسم ، فعلى ما في الكافي يحتمل أن يكون فالظاهر هو الله وتبارك وسبحانه لكل اسم ، فعليما في الكافي يحتمل أن يكون المعنى أن الظاهر بهذه الأسماء هو الله تعالى وهذه الأسماء إنما جعلها ليظهر بها على


الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ » الحكيم « الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ » المقتدر القادر « السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ » البارئ المنشئ

______________________________________________________

الخلق ، فالمظهر هو الاسم ، والظاهر به هو الرب سبحانه.

ويحتمل أن يكون بيانا للأسماء الثلاثة ، ويؤيده نسخة الواو ، وما في التوحيد فأولها « الله » وهو الدال على النوع الأول لكونه موضوعا للذات مستجمعا للصفات الذاتية الكمالية ، والثاني « تبارك » لأنه من البركة والنمو وهو إشارة إلى أنه معدن الفيوض ومنبع الخيرات التي لا تتناهى ، وهو رئيس جميع الصفات الفعلية من الخالقية والرازقية والمنعمية وسائر ما هو منسوب إلى الفعل ، كما أن الأول رئيس الصفات الوجودية من العلم والقدرة وغيرهما ، ولما كان المراد بالاسم كل ما يدل على ذاته وصفاته تعالى أعم من أن يكون اسما أو فعلا أو جملة لا محذور في عد « تبارك » من الأسماء.

والثالث هو « سبحان » الدال على تنزيهه تعالى عن جميع النقائص ، فيندرج فيه ويتبعه جميع الصفات السلبية والتنزيهية ، هدا على نسخة التوحيد ، وعلى ما في الكافي الاسم الثالث « تعالى » لدلالته على تعاليه سبحانه عن مشابهة الممكنات وما يوجب نقصا أو عجزا ، فيدخل فيه جميع صفات التنزيهية ، ثم لما كان لكل من تلك الأسماء الثلاثة الجامعة شعب أربع ترجع إليها ، جعل لكل منها أربعة أركان ، هي بمنزلة دعائمه ، فأما « الله » فلدلالته على الصفات الكمالية الوجودية له أربع دعائم هي وجوب الوجود المعبر عنه بالصمدية والقيومية ، والعلم والقدرة والحياة ، أو مكان الحياة اللطف ، أو الرحمة أو العزة ، وإنما جعلت هذه الأربعة أركانا لأن سائر الصفات الكمالية إنما يرجع إليها كالسميع والبصير والخبير مثلا ، فإنها راجعة إلى العلم ، والعلم يشملها وهكذا ، وأما « تبارك » فله أركان أربعة : هي الإيجاد ، والتربية في الدارين ، والهداية في الدنيا ، والمجازاة في الآخرة ، أي الموجد أو الخالق


البديع الرفيع الجليل الكريم الرازق المحيي المميت الباعث الوارث فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتى تتم ثلاث مائة وستين اسما فهي

______________________________________________________

والرب والهادي والديان ، ويمكن إدخال الهداية في التربية وجعل المجازاة ركنين الإثابة والانتقام ، ولكل منها شعب من أسماء الله الحسنى كما لا يخفى بعد التأمل والتتبع.

وإما « سبحان » أو « تعالى » فلكل منهما أربعة أركان لأنه إما تنزيه الذات عن مشابهة الممكنات ، أو تنزيهه عن إدراك الحواس والأوهام والعقول ، أو تنزيه صفاته عما يوجب النقص ، أو تنزيه أفعاله عما يوجب الظلم والعجز والنقص ، ويحتمل وجها آخر وهو تنزيهه عن الشريك والأضداد والأنداد ، وتنزيهه عن المشاكلة والمشابهة ، وتنزيهه عن إدراك العقول والأوهام ، وتنزيهه عما يوجب النقص والعجز من التركب والصاحبة والولد ، والتغيرات والعوارض والظلم والجور والجهل وغير ذلك ، وظاهر أن لكل منها شعبا كثيرة ، فجعل عليه‌السلام شعب كل منها ثلاثين وذكر بعض أسمائه الحسنى على التمثيل وأجمل الباقي.

ويحتمل على ما في الكافي على الاحتمال الأول أن تكون الأسماء الثلاثة ما يدل على وجوب الوجود والعلم والقدرة ، والاثنا عشر ما يدل على الصفات الكمالية والتنزيهية التي تتبع تلك الصفات ، والمراد بالثلاثين صفات الأفعال التي هي آثار تلك الصفات الكمالية ، ويؤيده قوله : فعلا منسوبا إليها ، وعلى الأول يكون المعنى أنها من توابع تلك الصفات ، فكأنها من فعلها.

هذا ما خطر ببالي في حل هذا الخبر ، وإنما أوردته على سبيل الاحتمال من غير تعيين لمراد المعصوم عليه‌السلام ، ولعله أظهر الاحتمالات التي أوردها أقوام على وفق مذاهبهم المختلفة ، وطرائقهم المتشتتة.

وإنما هداني إلى ذلك ما أورده ذريعتي إلى الدرجات العلى ، ووسيلتي إلى مسالك الهدى بعد أئمة الورى عليهم‌السلام أعني والدي العلامة قدس الله روحه في


نسبة لهذه الأسماء الثلاثة وهذه الأسماء الثلاثة أركان وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة.

______________________________________________________

شرح هذا الخبر على ما في الكافي حيث قال :

الذي يخطر بالبال في تفسير هذا الخبر على الإجمال ، هو أن الاسم الأول كان اسما جامعا للدلالة على الذات والصفات ، ولما كان معرفة الذات محجوبة عن غيره تعالى ، جزء ذلك الاسم على أربعة أجزاء ، وجعل الاسم الدال على الذات محجوبا عن الخلق ، وهو الاسم الأعظم باعتبار ، والدال على المجموع اسم أعظم باعتبار آخر ، ويشبه أن يكون الجامع هو الله والدال على الذات فقط هو ، وتكون المحجوبية باعتبار عدم التعيين كما قيل : إن الاسم الأعظم داخل في جملة الأسماء المعروفة ولكنها غير معينة لنا ، ويمكن أن يكونا غيرهما والأسماء التي أظهرها الله للخلق على ثلاثة أقسام ، منها ما يدل على التقديس مثل العلي العظيم العزيز الجبار المتكبر ، ومنها ما يدل على علمه تعالى ، ومنها ما يدل على قدرته تعالى ، وانقسام كل واحد منها إلى أربعة أقسام بأن يكون التنزيه إما مطلقا أو للذات أو للصفات أو الأفعال ، ويكون ما يدل على العلم إما لمطلق العلم أو للعلم بالجزئيات كالسميع والبصير أو الظاهر أو الباطن ، وما يدل على القدرة إما للرحمة الظاهرة أو الباطنة أو الغضب ظاهرا أو باطنا ، أو ما يقرب من ذلك التقسيم ، والأسماء المفردة على ما ورد في القرآن والأخبار يقرب من ثلاثمائة وستين اسما ذكرها الكفعمي في مصباحه ، فعليك بجمعها والتدبر في ربط كل منها بركن من تلك الأركان. « انتهى كلامه رفع الله مقامه ».

أقول : وبعض الناظرين في هذا الخبر جعل الاثني عشر كناية عن البروج الفلكية والثلاثمائة وستين عن درجاتها ، ولعمري لقد تكلف بأبعد مما بين السماء والأرض ، ومنهم من جعل الاسم كناية عن مخلوقاته تعالى ، والاسم الأول الجامع عن أول مخلوقاته ، وبزعم القائل هو العقل ، وجعل ما بعد ذلك كناية عن كيفية تشعب


وذلك قوله تعالى : « قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى » (١)

٢ ـ أحمد بن إدريس ، عن الحسين بن عبد الله ، عن محمد بن عبد الله وموسى بن عمر والحسن بن علي بن عثمان ، عن ابن سنان قال سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام هل كان الله عز وجل عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق قال نعم قلت يراها ويسمعها قال ما كان محتاجا إلى ذلك لأنه لم يكن يسألها ولا يطلب منها هو نفسه ونفسه هو قدرته نافذة فليس يحتاج أن يسمي نفسه ولكنه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف فأول ما اختار لنفسه :

______________________________________________________

المخلوقات ، وتعدد العوالم ، وكفى ما أومأنا إليه للاستغراب ، وذكرها بطولها يوجب الإطناب.

قوله : وذلك قوله عز وجل ، استشهاد لأن له تعالى أسماء حسنى ، وأنه إنما وضعها ليدعوه الخلق بها ، فقال تعالى : قل ادعوه تعالى بالله أو بالرحمن أو بغيرهما فالمقصود واحد ، وهو الرب ، وله أسماء حسنى كل منها يدل على صفة من صفاته المقدسة فأيا ما تدعو فهو حسن ، قيل : نزلت الآية حين سمع المشركون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : يا الله ، يا رحمن ، فقالوا : إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر؟ وقالت اليهود : إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره الله في التوراة ، فنزلت الآية ردا لما توهموا من التعدد ، أو عدم الإتيان بذكر الرحمن.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

قوله : ويسمعها ، على بناء المجرد أي بأن يذكر اسم نفسه ويسمعه ، أو على بناء الأفعال لأن المخلوق يعرفه تعالى بأسمائه ويدعوه بها ، فزعم أن الخالق أيضا كذلك لأنه أعلى الأشياء ، أي إنما سمي بالعلي لأنه أعلى الأشياء ذاتا ، وبالعظيم لأنه أعظمها صفاتا ، فهذان اسمان جامعان يدلان على تنزهه تعالى عن مناسبة المخلوقات ومشابهتها بالذات والصفات ، فمعناه « الله » أي مدلول هذا اللفظ ، ويدل على أنه أخص الأسماء بالذات المقدس ، بل على أنه اسم بإزاء الذات لا باعتبار صفة من

__________________

(١) سورة الإسراء : ١١٠.


« الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ » لأنه أعلى الأشياء كلها فمعناه الله واسمه العلي العظيم هو أول أسمائه علا على كل شيء

٣ ـ وبهذا الإسناد ، عن محمد بن سنان قال سألته عن الاسم ما هو قال صفة لموصوف.

٤ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن إسماعيل ، عن بعض أصحابه ، عن بكر بن صالح ، عن علي بن صالح ، عن الحسن بن محمد بن خالد بن يزيد ، عن عبد الأعلى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال اسم الله غيره وكل شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله فأما ما عبرته الألسن أو عملت الأيدي فهو مخلوق والله غاية من غاياته

______________________________________________________

الصفات « علا على كل شيء » أي علا الاسم على كل الأسماء الدالة على الصفات ، أو هو تفسير للاسم تأكيدا لما سبق.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : صفة لموصوف ، أي سمة وعلامة تدل على ذات فهو غير الذات ، أو المعنى أن أسماء الله تعالى تدل على صفات تصدق عليه ، أو المراد بالاسم هنا ما أشرنا إليه سابقا ، أي المفهوم الكلي الذي هو موضوع اللفظ.

الحديث الرابع : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : اسم شيء ، أي لفظ الشيء أو هذا المفهوم المركب والأول أظهر ، ثم بين المغايرة بأن اللفظ الذي يعبر به الألسن والخط الذي تعمله الأيدي فظاهر أنه مخلوق.

قوله : والله غاية من غاياه (١) ، اعلم أن الغاية تطلق على المدى والنهاية ، وعلى امتداد المسافة وعلى الغرض والمقصود من الشيء ، وعلى الراية والعلامة ، وهذه العبارة تحتمل وجوها :

__________________

(١) وفي الأصل كما ترى « من غاياته » وتوافقت النسخ التي عندنا عليه ، وأشار إليه الشارح (ره) أيضا في الاحتمال الثالث.


والمغي غير الغاية والغاية موصوفة وكل موصوف مصنوع وصانع الأشياء غير موصوف

______________________________________________________

الأول : أن تكون الغاية بمعنى الغرض والمقصود ، أي كلمة الجلالة مقصود من جعله مقصودا ، وذريعة من جعله ذريعة ، أي كل من كان له مطلب وعجز عن تحصيله بسعيه يتوسل إليه باسم الله ، والمغيى بالغين المعجمة والياء المثناة المفتوحة أي المتوسل إليه بتلك الغاية غير الغاية ، أو بالياء المكسورة أي الذي جعل لنا الغاية غاية هو غيرها ، وفي بعض النسخ والمعنى بالعين المهملة والنون ، أي المقصود بذلك التوسل ، أو المعنى المصطلح ، غير تلك الغاية التي هي الوسيلة إليه.

الثاني : أن يكون المراد بالغاية النهاية ، وبالله : الذات لا الاسم أي الرب تعالى غاية آمال الخلق يدعونه عند الشدائد بأسمائه العظام ، والمغيى بفتح الياء المشددة المسافة ذات الغاية ، والمراد هنا الأسماء فكأنها طرق ومسالك توصل الخلق إلى الله في حوائجهم ، والمعنى أن العقل يحكم بأن الوسيلة غير المقصود بالحاجة ، وهذا لا يلائمه قوله والغاية موصوفة إلا بتكلف تام.

الثالث : أن يكون المراد بالغاية العلامة وصحفت غاياه بغاياته ، وكذا في بعض النسخ أيضا ، أي علامة من علاماته ، والمعنى أي المقصود ، أو المغيى أي ذو العلامة غيرها.

الرابع : أن يكون المقصود أن الحق تعالى غاية أفكار من جعله غاية وتفكر فيه ، والمعنى المقصود أعني ذات الحق غير ما هو غاية أفكارهم ، ومصنوع عقولهم ، إذ غاية ما يصل إليه أفكارهم ويحصل في أذهانهم موصوف بالصفات الزائدة الإمكانية وكل موصوف كذلك مصنوع.

الخامس : ما صحفه بعض الأفاضل حيث قرأ : عانة من عاناه أي الاسم ملابس من لابسه ، قال في النهاية : معاناة الشيء ملابسته ومباشرته ، أو مهم من اهتم به من قولهم عنيت به فأنا عان ، أي اهتممت به واشتغلت أو أسير من أسره ، وفي النهاية العاني الأسير ، وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنا يعنو فهو عان ، أو محبوس من حبسه ، وفي النهاية وعنوا بالأصوات أي احبسوها ، والمعنى أي المقصود بالاسم غير


بحد مسمى لم يتكون فيعرف كينونيته بصنع غيره ولم يتناه إلى غاية إلا كانت غيره لا يزل من فهم هذا الحكم أبدا وهو التوحيد الخالص فارعوه وصدقوه

______________________________________________________

العانة أي غير ما نتصوره ونعقله.

ثم اعلم أنه على بعض التقادير يمكن أن يقرأ والله بالكسر ، بأن يكون الواو للقسم.

قوله : غير موصوف بحد ، أي من الحدود الجسمانية أو الصفات الإمكانية ، أو الحدود العقلية ، وقوله : مسمى صفة لحد ، للتعميم كقوله تعالى « لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً » (١) ويحتمل أن يكون المراد أنه غير موصوف بالصفات التي هي مدلولات تلك الأسماء ، وقيل : هو خبر بعد خبر أو خبر مبتدإ محذوف.

قوله : لم يتكون فيعرف كينونته (٢) بصنع غيره ... قيل : المراد أنه لم يتكون فيكون محدثا بفعل غيره ، فتعرف كينونته وصفات حدوثه بصنع صانعه كما تعرف المعلولات بالعلل.

أقول : لعل المراد أنه غير مصنوع حتى يعرف بالمقايسة إلى مصنوع آخر ، كما يعرف المصنوعات بمقايسة بعضها إلى بعض ، فيكون الصنع بمعنى المصنوع وغيره صفة له ، أو أنه لا يعرف بحصول صورة هي مصنوعة لغيره ، إذ كل صورة ذهنية مصنوعة للمدرك ، معلولة له.

قوله : ولم يتناه ، أي هو تعالى في المعرفة أو عرفانه أو العارف في عرفانه إلى نهاية إلا كانت تلك النهاية غيره تعالى ومباينة له غير محمولة عليه.

قوله عليه‌السلام : لا يزل ، في بعض النسخ بالذال ، أي ذل الجهل والضلال من فهم هذا الحكم وعرف سلب جميع ما يغايره عنه ، وعلم أن كلما يصل إليه أفهام الخلق فهو غيره تعالى.

__________________

(١) سورة الإنسان : ١.

(٢) كذا في النسخ ، وفي المتن « كينونيته ».


وتفهموه بإذن الله من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن حجابه ومثاله وصورته غيره وإنما هو واحد متوحد فكيف يوحده من زعم

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : من زعم أنه يعرف الله بحجاب ... أي بالأسماء التي هي حجب بين الله وبين خلقه ، ووسائل بها يتوسلون إليه ، بأن زعم أنه تعالى عين تلك الأسماء أو الأنبياء أو الأئمة عليهم‌السلام ، بأن زعم أن الرب تعالى اتحد بهم أو بالصفات الزائدة فإنها حجب عن الوصول إلى حقيقة الذات الأحدية أو بأنه ذو حجاب كالمخلوقين « أو بصورة » أي بأنه ذو صورة كما قالت المشبهة ، أو بصورة عقلية زعم أنها كنه ذاته وصفاته تعالى « أو بمثال » أي خيالي أو بأن جعل له مماثلا ومشابها من خلقه « فهو مشرك » لما عرفت مرارا من لزوم تركبه تعالى وكونه ذا حقائق مختلفة ، وذا أجزاء ، تعالى الله عن ذلك.

ويحتمل أن يكون إشارة إلى أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقته تعالى بوجه من الوجوه لا بحجاب ورسول يبين ذلك ، ولا بصورة عقلية ولا خيالية ، إذ لا بد بين المعرف والمعرف من مماثلة وجهة اتحاد ، وإلا فليس ذلك الشيء معرفا أصلا ، والله تعالى مجرد الذات عن كل ما سواه ، فحجابه ومثاله وصورته غيره من كل وجه ، إذ لا مشاركة بينه وبين غيره في جنس أو فصل أو مادة أو موضوع أو عارض ، وإنما هو واحد موحد فرد عما سواه ، فإنما يعرف الله بالله إذا نفي عنه جميع ما سواه ، وكلما وصل إليه عقله كما مر أنه التوحيد الخالص.

وقال بعض المحققين : من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال أي بحقيقة من الحقائق الإمكانية كالجسم والنور أو بصفة من صفاتها التي هي عليها كما أسند إلى القائلين بالصورة أو بصفة من صفاتها عند حصولها في العقل كما في قول الفلاسفة في رؤية العقول المفارقة فهو مشرك ، لأن الحجاب والصورة والمثال كلها مغايرة له غير محمولة عليه ، فمن عبد الموصوف بها عبد غيره ، فكيف يكون موحدا له عارفا به ، إنما عرف الله من عرفه بذاته وحقيقته المسلوب عنه جميع ما يغايره ، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه ، إنما يكون يعرف غيره.


أنه عرفه بغيره وإنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره ليس بين الخالق والمخلوق شيء والله خالق الأشياء لا من شيء كان

______________________________________________________

أقول : لا يخفى أن هذا الوجه وما أوردته سابقا من الاحتمالات التي سمحت بها قريحتي القاصرة لا يخلو كل منها من تكلف ، وقد قيل فيه وجوه أخر أعرضت عنها صفحا ، لعدم موافقتها لأصولنا ، والأظهر عندي أن هذا الخبر موافق لما مر ، وسيأتي في كتاب العدل أيضا من أن المعرفة من صنعه تعالى وليس للعباد فيها صنع ، وأنه تعالى يهبها لمن طلبها ولم يقصر فيما يوجب استحقاق إفاضتها ، والقول بأن غيره تعالى يقدر على ذلك نوع من الشرك في ربوبيته وإلهيته ، فإن التوحيد الخالص هو أن يعلم أنه تعالى مفيض جميع العلوم والخيرات ، والمعارف والسعادات كما قال تعالى :

« ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ » (١) فالمراد بالحجاب إما أئمة الضلال وعلماء السوء الذين يدعون أنهم يعرفونه تعالى بعقولهم ولا يرجعون في ذلك إلى حجج الله تعالى ، فإنهم حجب يحجبون الخلق عن معرفته وعبادته تعالى ، فالمعنى أنه تعالى إنما يعرف بما عرف نفسه للناس لا بأفكارهم وعقولهم ، أو أئمة الحق أيضا فإنه ليس شأنهم إلا بيان الحق للناس فأما إفاضة المعرفة والإيصال إلى البغية فليس إلا من الحق تعالى كما قال سبحانه : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ » (٢) ويجري في الصورة والمثال ما مر من الاحتمالات ، فقوله عليه‌السلام : ليس بين الخالق والمخلوق شيء ، أي ليس بينه تعالى وبين خلقه حقيقة أو مادة مشتركة حتى يمكنهم معرفته من تلك الجهة ، بل أوجدهم لا من شيء كان ، ويؤيد هذا المعنى ما ذكره في التوحيد تتمة لهذا الخبر : والأسماء غيره والموصوف غير الواصف ، فمن زعم أنه يؤمن بما لا يعرف فهو ضال عن المعرفة ، لا يدرك مخلوق شيئا إلا بالله ، ولا يدرك معرفة الله إلا بالله ، والله خلو من خلقه وخلقه خلو منه ، وإذا أراد شيئا كان كما أراد بأمره من غير نطق ، لا ملجأ لعباده مما قضى ، ولا حجة لهم فيما ارتضى

__________________

(١) سورة النساء : ٧٩.

(٢) سورة القصص : ٥٦.


والله يسمى بأسمائه وهو غير أسمائه والأسماء غيره

______________________________________________________

لم يقدروا على عمل ولا معالجة مما أحدث في أبدانهم المخلوقة إلا بربهم ، فمن زعم أنه يقوى على عمل لم يرده الله عز وجل فقد زعم أن إرادته تغلب إرادة الله « تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » ووجه التأييد ظاهر لمن تأمل فيها.

تذييل :

اعلم أن المتكلمين اختلفوا في أن الاسم هل هو عين المسمى أو غيره ، فذهب أكثر الأشاعرة إلى الأول والإمامية والمعتزلة إلى الثاني ، وقد وردت هذه الأخبار ردا على القائلين بالعينية وأول بعض المتأخرين كلامهم لسخافته وإن كانت كلماتهم صريحة فيما نسب إليهم.

قال شارح المقاصد : الاسم هو اللفظ المفرد الموضوع للمعنى على ما يعم أنواع الكلمة ، وقد يقيد بالاستقلال والتجرد عن الزمان ، فيقابل الفعل والحرف على ما هو مصطلح النحاة ، والمسمى هو المعنى الذي وضع الاسم بإزائه ، والتسمية هو وضع الاسم للمعنى وقد يراد بها ذكر الشيء باسمه كما يقال يسمى زيدا ولم يسم عمروا ، فلا خفاء في تغاير الأمور الثلاثة ، وإنما الخفاء فيما ذهب إليه بعض أصحابنا من أن الاسم نفس المسمى ، وفيما ذكره الشيخ الأشعري من أن أسماء الله تعالى ثلاثة أقسام ما هو نفس المسمى مثل « الله » الدال على الوجود ، أي الذات ، وما هو غيره كالخالق والرازق ونحو ذلك مما يدل على فعل ، وما لا يقال إنه هو ولا غيره كالعالم والقادر وكل مما يدل على الصفات ، وأما التسمية فغير الاسم والمسمى.

وتوضيحه : أنهم يريدون بالتسمية اللفظ وبالاسم مدلوله كما يريدون بالوصف قول الواصف ، وبالصفة مدلوله ، وكما يقولون : أن القراءة حادثة والمقر وقديم ، إلا أن الأصحاب اعتبروا المدلول المطابقي فأطلقوا القول بأن الاسم نفس المسمى للقطع بأن مدلول الخالق شيء ماله الخلق لا نفس الخلق ، ومدلول العالم شيء ما له العلم لا نفس العلم ، والشيخ أخذ المدلول أعم ، واعتبر في أسماء الصفات المعاني المقصودة ،


باب معاني الأسماء واشتقاقها

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تفسير

______________________________________________________

فزعم أن مدلول الخالق الخلق وهو غير الذات ، ومدلول العالم العلم وهو لا عين ولا غير « انتهى ».

باب معاني الأسماء واشتقاقها

الحديث الأول : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : الباء بهاء الله ، يظهر من كثير من الأخبار أن للحروف المفردة أوضاعا ومعاني متعددة لا يعرفها إلا حجج الله عليه‌السلام ، وهذه إحدى جهات علومهم واستنباطهم من القرآن ، وقد روت العامة في « الم » عن ابن عباس أن الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه ، والبهاء الحسن ، والسناء بالمد : الرفعة ، والمجد : الكرم والشرف.

وأقول : يمكن أن يكون هذا مبنيا على الاشتقاق الكبير والمناسبة الذاتية بين الألفاظ ومعانيها ، فالباء لما كانت مشتركة بين المعنى الحرفي وبين البهاء فلا بد من مناسبة بين معانيهما ، وكذا الاسم والسناء لما اشتركا في السين فلذا اشتركا في معنى العلو والرفعة ، وكذا الاسم لما اشترك مع المجد والملك فلا بد من مناسبة بين معانيها ، وهذا باب واسع في اللغة يظهر ذلك للمتتبع بعد تتبع المباني والمعاني ، فالمراد بقوله عليه‌السلام والسين سناء الله ، أن هذا الحرف في الاسم مناط لحصول هذا المعنى فيه ، وكذا البواقي ، والتأمل في ذلك يكسر سورة الاستبعاد عن ظاهر هذا الكلام ، وهذا مما خطر بالبال في هذا المقام.

ولعله أقرب مما أفاده بعض الأعلام ، حيث قال : لما كان تفسيره بحسب معنى حرف الإضافة ، ولفظ الاسم غير محتاج إلى البيان للعارف باللغة أجاب عليه‌السلام بالتفسير


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال : الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم مجد الله وروى بعضهم الميم ملك الله والله إله كل شيء الرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة

______________________________________________________

بحسب المدلولات البعيدة ، أو لأنه لما صار مستعملا للتبرك مخرجا عن المدلول الأول ففسره بغيره مما لوحظ في التبرك ، والمراد بهذا التفسير إما أن هذه الحروف لما كانت أوائل هذه الألفاظ الدالة على هذه الصفات أخذت للتبرك أو أن هذه الحروف لها دلالة على هذه المعاني إما على أن للحروف مناسبة مع المعاني بها وضعت لها ، وهي أوائل هذه الألفاظ فهي أشد حروفها مناسبة وأقواها دلالة لمعانيها أو لأن الباء لما دلت على الارتباط والانضياف ومناط الارتباط والانضياف إلى شيء وجدان حسن مطلوب للطالب ، ففيها دلالة على حسن وبهاء مطلوب لكل طالب ، وبحسبها فسرت ببهاء الله ، ولما كان الاسم من السمو الدال على الرفعة والعلو والكرم والشرف ، فكل من الحرفين بالانضمام إلى الآخر دال على ذلك المدلول فنسبت الدلالة على السناء بحسب المناسبة إلى السين ، وفسرها بسناء الله والدلالة على المجد أو الملك بحسبها إلى الميم ، وفسرها بالمجد أو الملك على الرواية الأخرى « والله إله كل شيء » أي مستحق للعبودية لكل شيء والحقيق بها ، والرحمن لجميع خلقه.

اعلم أن الرحمن أشد مبالغة من الرحيم ، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى ، وذلك إنما يعبر تارة باعتبار الكمية وأخرى باعتبار الكيفية ، فعلى الأول قيل : يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ، ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن وعلى الثاني قيل : يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما بتخصيص الأول بجلائل النعم والثاني بغيرها ، والثاني أيضا يحتمل أن يكون محمولا على الوجه الأول ، أي رحمن الدارين بالنعم العامة ، والرحيم فيهما بالنعم الخاصة بالهداية والتوفيق في الدنيا والجنة ودرجاتها في الآخرة ، والأخير في هذا الخبر أظهر.


٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النضر بن سويد ، عن هشام بن الحكم أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها الله مما هو مشتق فقال يا هشام الله مشتق من إله وإله يقتضي مألوها والاسم غير المسمى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد أفهمت يا هشام قال قلت زدني قال لله تسعة وتسعون اسما فلو كان الاسم هو المسمى لكان كل اسم منها إلها ولكن الله معنى يدل عليه بهذه الأسماء وكلها غيره يا هشام الخبز اسم للمأكول والماء اسم للمشروب والثوب اسم للملبوس والنار اسم للمحرق أفهمت يا هشام فهما تدفع به وتناضل به أعداءنا المتخذين مع الله عز وجل غيره قلت نعم فقال نفعك الله به وثبتك يا هشام قال فو الله ما قهرني أحد في التوحيد حتى قمت مقامي هذا.

٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال سئل عن معنى

______________________________________________________

الحديث الثاني : حسن وقد مر بعينه متنا وسندا في باب المعبود فلا نعيد شرحه.

الحديث الثالث : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : استولى ، لعله من باب تفسير الشيء بلازمه ، فإن معنى الإلهية يلزمه الاستيلاء على جميع الأشياء دقيقها وجليلها ، وقيل : السؤال إنما كان عن مفهوم الاسم ومناطه ، فأجاب عليه‌السلام بأن الاستيلاء على جميع الأشياء مناط المعبودية بالحق لكل شيء.

أقول : الظاهر أنه سقط من الخبر شيء ، لأنه مأخوذ من كتاب البرقي وروي في المحاسن بهذا السند بعينه عن القاسم عن جده الحسن عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام وسئل عن معنى قول الله « عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » (١) فقال : استولى على

__________________

(١) سورة طه : ٥.


الله فقال استولى على ما عزوجل.

٤ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن يعقوب بن يزيد ، عن العباس بن هلال قال سألت الرضا عليه‌السلام عن قول الله « اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » (١) فقال هاد لأهل السماء وهاد لأهل الأرض وفي رواية البرقي هدى من في السماء وهدى من في الأرض.

٥ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن فضيل بن عثمان ، عن ابن أبي يعفور قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ » (٢) وقلت أما الأول فقد عرفناه وأما الآخر فبين لنا تفسيره فقال إنه ليس شيء إلا يبيد أو يتغير أو يدخله التغير والزوال أو ينتقل من لون إلى لون ومن هيئة إلى هيئة ومن صفة إلى صفة ومن زيادة إلى نقصان ومن

______________________________________________________

ما دق وجل ، وروى الطبرسي في الاحتجاج أيضا هكذا ، فلا يحتاج إلى هذه التكلفات إذ أكثر المفسرين فسروا الاستواء بمعنى الاستيلاء ، وقد حققنا في مواضع من كتبنا أن العرش يطلق على جميع مخلوقاته سبحانه وهذا أحد إطلاقاته لظهور وجوده وعلمه وقدرته في جميعها ، وهذا من الكليني غريب ولعله من النساخ.

الحديث الرابع : ضعيف على المشهور وآخره مرسل.

قوله عليه‌السلام : هاد لأهل السماء ... أقول : النور ما يكون ظاهرا بنفسه وسببا لظهور غيره ، والله سبحانه هو الموجود بنفسه ، الموجد لغيره ، والعالم بذاته المفيض للعلوم على من سواه ، فهو هاد لأهل السماء وأهل الأرض ، وهدى لهم بما أوجد وأظهر لهم من آيات وجوده وعلمه وقدرته ، وبما أفاض عليهم من العلوم والمعارف.

الحديث الخامس : صحيح.

قوله عليه‌السلام : يبيد ، أي يهلك ، والرفات : المتكسر من الأشياء اليابسة ، والرميم ما بلى من العظام ، والبلح محركة بين الخلال والبسر ، قال الجوهري : البلح قبل البسر لأن أول التمر طلع ، ثم خلال ثم بلح ثم بسر ثم رطب. أقول : الغرض أن

__________________

(١) سورة النور : ٣٥.

(٢) سورة الحديد : ٣.


نقصان إلى زيادة إلا رب العالمين فإنه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة هو الأول قبل كل شيء وهو الآخر على ما لم يزل ولا تختلف عليه الصفات والأسماء كما تختلف على غيره مثل الإنسان الذي يكون ترابا مرة ومرة لحما ودما ومرة رفاتا ورميما وكالبسر الذي يكون مرة بلحا ومرة بسرا ومرة رطبا ومرة تمرا فتتبدل عليه الأسماء والصفات والله جل وعز بخلاف ذلك.

٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن محمد بن حكيم ، عن ميمون البان قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام وقد سئل عن الأول والآخر فقال الأول لا عن أول قبله ولا عن بدء سبقه والآخر لا عن نهاية كما يعقل من صفة المخلوقين ولكن قديم أول آخر لم يزل ولا يزول بلا بدء ولا نهاية لا يقع عليه الحدوث ولا يحول من حال إلى حال « خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ».

٧ ـ محمد بن أبي عبد الله رفعه إلى أبي هاشم الجعفري قال كنت عند أبي جعفر

______________________________________________________

دوام الجنة والنار وأهلهما وغيرها لا ينافي آخريته تعالى واختصاصها به فإن هذه الأشياء دائما في التغير والتبدل وبمعرض الفناء والزوال ، وهو سبحانه باق من حيث الذات والصفات ، أزلا وأبدا بحيث لا يعتريه تغير أصلا ، فكل شيء هالك وفإن إلا وجهه تعالى ، وقيل : آخريته سبحانه باعتبار أنه تعالى يفنى جميع الأشياء قبل القيامة ثم يعيدها كما يدل عليه ظواهر بعض الآيات وصريح بعض الأخبار ، وقد بسطنا القول في ذلك في الفرائد الطريفة في شرح الدعاء الأول.

الحديث السادس : مجهول ومضمونه قريب من الخبر السابق.

« لا عن أول قبله » أي سابق عليه بالزمان أو علة « ولا عن بدء » بالهمز أي ابتداء أو بدئ على فعيل أي علة « لا عن نهاية » أي من حيث الذات والصفات كما مر « لا يقع عليه الحدوث » ناظر إلى الأولية « ولا يحول » ناظر إلى الآخرية.

الحديث السابع : مرفوع.


الثاني عليه‌السلام فسأله رجل فقال أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه وأسماؤه وصفاته هي هو فقال أبو جعفر عليه‌السلام إن لهذا الكلام وجهين إن كنت تقول هي هو أي إنه ذو عدد وكثرة فتعالى الله عن ذلك وإن كنت تقول هذه الصفات والأسماء لم تزل فإن لم تزل محتمل معنيين فإن قلت لم تزل عنده في علمه وهو مستحقها فنعم وإن كنت تقول لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع

______________________________________________________

قوله : له أسماء وصفات : الظاهر أن المراد بالأسماء ما دل على الذات من غير ملاحظة صفة ، وبالصفات ما دل على الذات مع ملاحظة الاتصاف بصفة فأجاب عليه‌السلام بالاستفسار عن مراد السائل وذكر محتملاته وهي ثلاثة ، وينقسم بالتقسيم الأول إلى احتمالين ، لأن المراد به إما معناه الظاهر أو مأول بمعنى مجازي ، لكون معناه الظاهر في غاية السخافة ، فالأول وهو معناه الظاهر : أن يكون المراد كون كل من تلك الأسماء والحروف المؤلفة المركبة عين ذاته تعالى ، وحكم بأنه تعالى منزه عن ذلك لاستلزامه تركبه وحدوثه وتعدده تعالى الله عن ذلك.

الثاني : أن يكون قوله : « هي هو » كناية عن كونها دائما معه في الأزل فكأنها عينه وهذا يحتمل معنيين :

« أحدهما » أن يكون المراد أنه تعالى كان في الأزل مستحقا لإطلاق تلك الأسماء عليه ، وكون تلك الأسماء في علمه تعالى من غير تعدد في ذاته تعالى وصفاته ومن غير أن يكون معه شيء في الأزل فهذا حق.

« وثانيهما » أن يكون المراد كون تلك الأسماء والحروف المؤلفة دائما معه في الأزل فمعاذ الله أن يكون معه غيره في الأزل ، وهذا صريح في نفي تعدد القدماء ولا يقبل تأويل القائلين بمذاهب الحكماء ، وقوله عليه‌السلام : تصويرها ، أي إيجادها بتلك الصور والهيئات ، وهجاؤها ، أي التكلم بها ، وفي القاموس : الهجاء ككساء تقطيع اللفظ بحروفها ، وهجيت الحروف وتهجيته « انتهى ».

فقوله : وتقطيع حروفها ، كالتفسير له ، ثم أشار عليه‌السلام إلى حكمة خلق الأسماء


حروفها فمعاذ الله أن يكون معه شيء غيره بل كان الله ولا خلق ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ويعبدونه وهي ذكره وكان الله ولا ذكر والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل والأسماء والصفات مخلوقات والمعاني والمعني بها هو الله الذي لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف وإنما يختلف ويأتلف المتجزئ

______________________________________________________

والصفات بأنها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون بها إليه ويعبدونه ، « وهي ذكره » بالضمير أي يذكر بها ، والمذكور بالذكر قديم ، والذكر حادث ، ومنهم من قرأ بالتاء قال الجوهري : الذكر والذكرى نقيض النسيان ، وكذلك الذكرة.

قوله عليه‌السلام : والأسماء والصفات مخلوقات ، أقول : ههنا اختلفت نسخ الحديث ففي توحيد الصدوق مخلوقات المعاني ، أي معانيها اللغوية ومفهوماتها الكلية مخلوقة وفي احتجاج الطبرسي ليس لفظ المعاني أصلا ، وفي الكتاب والمعاني بالعطف ، فالمراد إما مصداق مدلولاتها ، ويكون قوله والمعنى بها عطف تفسير له ، أو هي معطوفة على الأسماء ، أي والمعاني وهي حقائق مفهومات الصفات مخلوقة ، أو المراد بالأسماء الألفاظ وبالصفات ما وضع أسماؤها له ، وقوله : مخلوقات والمعاني خبران للأسماء والصفات ، أي الأسماء مخلوقات والصفات هي المعاني والمعنى بها هو الله أي المقصود بها المذكور بالذكر ، ومصداق تلك المعاني المطلوب بها هو ذات الله تعالى ، والمراد بالاختلاف تكثر الأفراد أو تكثر الصفات ، أو الأحوال المتغيرة أو اختلاف الأجزاء وتباينها بحسب الحقيقة ، أو الانفكاك والتحلل وبالائتلاف التركب من الأجزاء أو اتفاق الأجزاء في الحقيقة ، وحاصل الكلام أن ذات الله سبحانه ليس بمؤتلف ولا مختلف لأنه واحد حقيقي ، وكل ما يكون واحدا حقيقيا لا يكون مؤتلفا ولا مختلفا ، أما أنه واحد حقيقي فلقدمه ، ووجوب وجوده لذاته.

وأما أن الواحد لا يصح عليه الائتلاف والاختلاف ، لأن كل متجزء أو متوهم بالقلة والكثرة مخلوق ، ولا شيء من المخلوق بواحد حقيقي لمغايرة الوجود والمهية وللتحلل إلى المهية والتشخص ، فلا شيء من الواحد بمتجزي ولا شيء من


فلا يقال الله مؤتلف ولا الله قليل ولا كثير ولكنه القديم في ذاته لأن ما سوى الواحد متجزئ والله واحد لا متجزئ ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزئ أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له فقولك إن الله قدير ـ خبرت أنه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة العجز وجعلت العجز سواه وكذلك قولك عالم إنما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل سواه وإذا أفنى الله الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع ولا يزال من لم يزل عالما.

______________________________________________________

المتجزى بواحد ، وقوله عليه‌السلام : فقولك إن الله قدير ، بيان لحال توصيفه سبحانه بالصفات كالقدرة والعلم ، وأن معانيها مغايرة للذات ، فمعنى قولك : أن الله قدير خبرت بهذا القول إنه لا يعجزه شيء ، فمعنى القدرة فيه نفي العجز عنه لا صفة وكيفية موجودة ، فجعلت العجز مغايرا له منفيا عنه ، ونفي المغاير للشيء مغاير له كالمنفي عنه ، وكذا العلم وسائر الصفات.

وقوله عليه‌السلام : فإذا أفنى الله الأشياء استدلال على مغايرته تعالى للأسماء وهجائها وتقطيعها ، والمعاني الحاصلة منها من جهة النهاية ، كما أن المذكور سابقا كان من جهة البداية.

والحاصل أن علمه تعالى ليس عين قولنا عالم ، وليس اتصافه تعالى به متوقفا على التكلم بذلك ، وكذا الصور الذهنية ليست عين حقيقة ذاته وصفاته تعالى ، وليس اتصافه تعالى بالصفات متوقفا على حصول تلك الصور إذ بعد فناء الأشياء تفنى تلك الأمور مع بقائه تعالى متصفا بجميع الصفات الكمالية ، كما أن قبل حدوثها كان متصفا بها ، وهذا الخبر مما يدل على أنه سبحانه يفنى جميع الأشياء قبل القيامة.

ثم اعلم أن المقصود بما ذكر في هذا الخبر وغيره من أخبار البابين هو نفي تعقل كنه ذاته وصفاته تعالى ، وبيان أن صفات المخلوقات مشوبة بأنواع النقص والعجز والله تعالى متصف بها ، معرى عن جهات النقص والعجز ، كالسمع فإنه فينا العلم بالمسموعات بالحاسة المخصوصة ، ولما كان توقف علمنا على الحاسة لعجزنا وكان حصولها لنا من


فقال الرجل فكيف سمينا ربنا سميعا فقال لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس وكذلك سميناه بصيرا لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك ولم نصفه ببصر لحظة العين وكذلك سميناه لطيفا لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك وموضع

______________________________________________________

جهة تجسمنا وإمكاننا ونقصنا ، وأيضا ليس علمنا من ذاتنا لعجزنا وعلمنا حادث لحدوثنا ، وليس علمنا محيطا بحقائق ما نسمعه كما هي ، لقصورنا عن الإحاطة ، وكل هذه نقائص شابت ذلك الكمال ، فلذا أثبتنا له سبحانه ما هو الكمال ، وهو أصل العلم ونفينا عنه جميع تلك الجهات التي هي سمات النقص والعجز ، ولما كان علمه سبحانه غير متصور لنا بالكنه ، ورأينا الجهل فينا نقصا فنفيناه عنه ، فكأنا لم نتصور من علمه تعالى إلا عدم الجهل ، فإثباتنا العلم له تعالى إنما يرجع إلى نفي الجهل ، لأنا لم نتصور علمه تعالى إلا بهذا الوجه ، وإذا وفيت في ذلك حق النظر وجدته نافيا لما يدعيه القائلون بالاشتراك اللفظي في الوجود وسائر الصفات لا مثبتا له ، وقد عرفت أن الأخبار الدالة على نفي التعطيل ينفي هذا القول.

قوله عليه‌السلام : بالسمع المعقول في الرأس ، أي الذي نتعقله في الرأس ونحكم بأنه فيه ، واللطيف قد يكون بمعنى رقيق القوام أو عديم اللون من الأجسام أو صغير الجسم ، وفيه سبحانه لا يتصور هذه الأمور لكونها من لوازم الأجسام ، فقد يراد به التجرد مجازا أو بمعنى لطيف الصنعة أو العالم بلطائف الأمور كما فسر به في هذا الخبر.

وموضع النشو منها ، أي المواد التي جعلها في أبدانها وبها ينمو وموضع نمو كل عضو وقدر نموها بحيث لا يخرج عن التناسب الطبيعي بين الأعضاء ، والنشوء بالهمزة : النمو ، وربما يقرأ بكسر النون والواو خبرا بمعنى شم الريح ، جمع نشوة أي يعلم محل القوة الشامة منها ، وفي التوحيد : موضع الشبق أي شهوة الجماع ، وفي الاحتجاج : موضع المشي والعقل ، أي موضع قواها المدركة ، والحدب محركة التعطف ، ويمكن عطفه على موضع النشو وعلى النشو.


النشوء منها والعقل والشهوة للسفاد والحدب على نسلها وإقام بعضها على بعض ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والقفار فعلمنا أن خالقها لطيف بلا كيف وإنما الكيفية للمخلوق المكيف وكذلك سمينا ربنا قويا لا بقوة البطش المعروف من المخلوق ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة وما احتمل الزيادة احتمل النقصان وما كان ناقصا

______________________________________________________

وإقام بعضها ، الإقام مصدر بمعنى الإقامة كقوله تعالى « أَقامَ الصَّلاةَ » (١) حذفت التاء المعوضة عن العين [ الساقطة من إقوام ] وأقيمت الإضافة مقامها ، ويمكن عطف هذه الفقرة على علمه وعلى المعلومات ، والفقرات الآتية تؤيد الثاني ، والقفار جمع القفر وهو مفازة لا نبات فيها ولا ماء.

قوله عليه‌السلام : لوقع التشبيه ... قال بعض الأفاضل : أبطل كون قوته قوة البطش المعروف من المخلوقين بوجهين :

« أحدهما » لزوم وقوع التشبيه وكونه ماديا مصورا بصورة المخلوق « وثانيهما » لزوم كونه سبحانه محتملا للزيادة لأن الموصوف بمثل هذه الكيفية لا بد لها من مادة قابلة لها متقومة بصورة جسمانية ، موصوفة بالتقدر بقدر ، والتناهي والتحدد بحد لا محالة فيكون لا محالة حينئذ موصوفا بالزيادة على ما دونه من ذوي الأقدار وكل موصوف بالزيادة الإضافية موصوف بالنقصان الإضافي لوجهين :

« أحدهما » أن المقادير الممكنة لأحد لها تقف عنده في الزيادة ، كما لأحد لها في النقصان ، فالمتقدر بمقدار متناه يتصف بالنقص الإضافي بالنسبة إلى بعض الممكنات ، وإن لم يدخل في الوجود.

« وثانيهما » أنه يكون حينئذ لا محالة موصوفا بالنقص الإضافي بالنسبة إلى مجموع الموصوف بالزيادة الإضافية ، والمقيس إليه ، فيكون أنقص من مجموعهما ، وما كان ناقصا بالنسبة إلى غيره من الممكنات لا يكون قديما واجب الوجود لذاته

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٧٣.


كان غير قديم وما كان غير قديم كان عاجزا فربنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضد ولا ند ولا كيف ولا نهاية ولا تبصار بصر ومحرم على القلوب أن تمثله وعلى

______________________________________________________

لأنه علة ومبدء لكل ما يغايره ، والمبدأ المفيض أكمل وأتم من المعلول الصادر عنه المفاض عليه منه ، فكل ناقص إضافي أحق بالمعلولية من المبدئية لما هو أكمل وأزيد منه ، وهذا ينافي ربوبيته ويتم به المطلوب لكنه لما أراد إلزام ما هو أظهر فسادا وهو لزوم عجزه عن قوته ضم إليه قوله : وما كان غير قديم كان عاجزا ، لأنه كان معلولا لعلته ومبدئه ، مسخرا له غير قوي على مقاومته.

إذا عرفت ذلك فربنا تبارك وتعالى لا شبه له لأن شبه الممكن ممكن ، ولا ضد له لأن الشيء لا يضاد علته ، ومقتضى العلية والمعلولية الملازمة والاجتماع في الوجود ، فلا يجامع المضادة ولا ند له ، لأن المثل المقاوم لا يكون معلولا ولا قديم سواه بدليل التوحيد ، ولا كيف له لكونه تاما كاملا في ذاته ، غير محتمل لما يفقده ولا نهاية له لتعاليه عن التقدر والقابلية لما يغايره.

ولا يبصار بصر ، وفي بعض النسخ ولا تبصار بالتاء ، أي التبصر بالبصر ، ومحرم على القلوب أن تمثله أي أن يجعل حقيقته موجودا ظليا مثاليا ، ويأخذ منه حقيقة كلية معقولة لكونه واجب الوجود بذاته لا تنفك حقيقته عن كونه موجودا عينيا شخصيا ، وعلى الأوهام أن تحده لعجزها عن أخذ المعاني الجزئية عما لا يحصل في القوي والأذهان ، ولا يحاط بها فلا تأخذ منه صورة جزئية ، وعلى الضمائر أن تكونه الضمير السر وداخل الخاطر والبال ، ويطلق على محله كما أن الخاطر في الأصل ما يخطر بالبال ويدخله ، ثم أطلق على محله ، والتكوين التحريك ، والمعنى أنه محرم على ما يدخل الخواطر أن يدخله ، وينقله من حال إلى حال ، لاستحالة قبوله لما يغايره ، أو المراد بالضمائر خواطر الخلق وقواهم الباطنة ، وأنه يستحيل أن يخرجه من الغيبة إلى الحضور والظهور عليهم ، أي ليس لها أن تجعله بأفعالها متنزلا إلى مرتبة الحضور عندهم.


الأوهام أن تحده وعلى الضمائر أن تكونه جل وعز عن أداة خلقه وسمات بريته وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

٨ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رجل عنده الله أكبر فقال الله أكبر من أي شيء فقال من كل شيء فقال أبو عبد الله عليه‌السلام حددته فقال الرجل كيف أقول قال قل الله أكبر من أن يوصف.

٩ ـ ورواه محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن مروك بن عبيد ، عن جميع بن عمير قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام أي شيء الله أكبر فقلت الله أكبر من

______________________________________________________

أقول : ويحتمل أن يكون دليلا على امتناع حصوله في المعقول والضمائر ، لأنه يلزم أن يكون حقيقته سبحانه مكونة مخلوقة ولو في الوجود الذهني ، وهو متعال عن ذلك « عن أداة خلقه » أي آلتهم التي بها يفعلون ويحتاجون في أفعالهم إليها و « سمات بريته » أي صفاتهم.

الحديث الثامن : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : من أي شيء ، هذا استعلام عن مراد القائل أنه هل أراد اتصافه سبحانه بالشدة أو الزيادة في الكبر الذي يعقل في المخلوقين ، فيلزم اتصافه بالكبر الإضافي أو أراد نفي اتصافه سبحانه بما يعقل عن الصفات في المخلوقات ، ولما أجاب القائل بقوله : من كل شيء ، علم أنه أراد الأول فنبه على فساده بقوله حددته ، لأن المتصف بصفات الخلق محدود بحدود الخلق ، غير خارج عن مرتبتهم ، فلما علم القائل خطاءه قال : كيف أقول؟ فأجاب عليه‌السلام بقوله : قل : الله أكبر من أن يوصف ، ومعناه اتصافه بنفي صفات المخلوقات عنه وتعاليه عن أن يتصف بها.

الحديث التاسع : مجهول.

قوله عليه‌السلام : أي شيء الله أكبر؟ أي ما المراد به وما معناه؟


كل شيء فقال وكان ثم شيء فيكون أكبر منه فقلت وما هو قال الله أكبر من أن يوصف.

١٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن يونس ، عن هشام بن الحكم قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سبحان الله فقال أنفة لله.

١١ ـ أحمد بن مهران ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن علي بن أسباط ، عن سليمان مولى طربال ، عن هشام الجواليقي قال ـ سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « سُبْحانَ اللهِ » ما يعنى به قال تنزيهه.

١٢ ـ علي بن محمد ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى جميعا ، عن أبي هاشم الجعفري قال : سألت أبا جعفر الثاني عليه‌السلام ما معنى الواحد فقال إجماع الألسن عليه بالوحدانية كقوله تعالى « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : وكان ثم شيء؟ استفهام للإنكار أي أكان في مرتبة تداني مرتبته سبحانه ، ويصح فيها النسبة بينه وبين غيره شيء ، والحاصل أنه يضمحل في جنب عظمته وجلاله كل شيء ، فلا وجه للمقايسة ، أو المعنى أنه لم يكن في الأزل شيء ، وكانت هذه الكلمة صادقة في الأزل ، والأول أعلى وأظهر.

الحديث العاشر : صحيح.

قوله عليه‌السلام : أنفة لله ، أي براءة وتعال وتنزه له سبحانه عن صفات المخلوقات ونصب سبحان على المصدر ، أي أسبح الله سبحانا يليق به ويقال : أنف منه أي استنكف.

الحديث الحادي عشر : ضعيف.

الحديث الثاني عشر : صحيح.

قوله عليه‌السلام : إجماع الألسن ، أي معنى الواحد في أسمائه وصفاته سبحانه ما أجمع عليه الألسن من وحدانيته وتفرده بالخالقية والألوهية ، كقوله : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ » أي جميع الخلق إذا راجعوا إلى أنفسهم وجانبوا الأغراض الفاسدة التي صرفتهم


مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ » (١)

باب آخر وهو من الباب الأول

إلا أن فيه زيادة وهو الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء الله

وأسماء المخلوقين

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن المختار بن محمد بن المختار الهمداني ومحمد بن الحسن ، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال سمعته يقول « وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ » الواحد الأحد « الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ » لو كان كما يقول المشبهة لم يعرف

______________________________________________________

عن مقتضى عقولهم ، أو المراد به مشركو مكة ، فإن شركهم كان في المعبودية لا الخالقية ، ويحتمل أن يكون الواحد في الله سبحانه موضوعا شرعا لهذا المعنى ، أي من أجمعت الألسن على وحدانيته.

باب آخر وهو من الباب الأول إلا أن فيه زيادة ، وهو الفرق ما بين

المعاني تحت أسماء الله وأسماء المخلوقين.

الحديث الأول : مجهول ، وأبو الحسن عليه‌السلام يحتمل الثاني والثالث عليهما‌السلام قال ابن الغضائري : اختلفوا في أن مسئول فتح بن يزيد هو الرضا عليه‌السلام أم الثالث ، وصرح الصدوق بأنه الرضا عليه‌السلام.

قوله عليه‌السلام : لم يعرف الخالق ، في التوحيد هكذا « وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ » ، منشئ الأشياء ومجسم الأجسام ومصور الصور ، ولو كان كما يقولون لم يعرف » وهو أصوب ، والمعنى أنه لو كان قول المشبهة حقا لم يتميز الخالق من المخلوق ، لاشتراكهما في الصفات الإمكانية ، وعلى ما في الكتاب : المعنى : لا يمكن معرفة الخالق من المخلوق ، وبالمقايسة إليه ، إذ ليس المخلوق ذاتيا لخالقه ولا مرتبطا به

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٨.


الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشإ لكنه المنشئ فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا قلت أجل جعلني الله فداك لكنك قلت الأحد الصمد وقلت لا يشبهه شيء والله واحد والإنسان واحد أليس قد تشابهت الوحدانية قال يا فتح أحلت ثبتك الله إنما التشبيه في المعاني فأما في الأسماء فهي واحدة وهي دالة على المسمى وذلك أن الإنسان وإن قيل واحد

______________________________________________________

ارتباطا يصحح الحمل والقول عليه ، والمراد بالخلق إما مطلق الإيجاد ، فقوله : ولا المنشئ ، من المنشأ كالمفسر والمؤكد له ، أو المراد به التقدير والتصوير ، فقوله : ولا المنشأ تعميم ، والضمير في لكنه إما للشأن أو راجع إليه سبحانه.

قوله : فرق ، إما اسم أي الفرق والامتياز لازم بينه سبحانه وبين من جسمه أي أوجده جسما ، أو أعطاه حقيقة الجسمية ، وصوره أي أوجده متصورا بصورة خاصة وأنشأه من العدم ، فقوله : إذ كان تعليل لعدم المعرفة أو الفرق ، أو فعل ، أي فرق وباين بين المهيات وصفاتها ولوازمها ، وجعل لكل منها حقيقة خاصة وصفة مخصوصة فقوله : « إذ » يحتمل الظرفية والتعليل ، فعلى الأول ، المعنى : أنه خلقها في وقت لم يكن متصفا بشيء من تلك الحقائق والصفات ، ولم يكن في شيء منها شبيها بالمخلوقات وعلى الثاني لعل المعنى أنه أعطى المخلوقات المهيات المتباينة والصفات المتضادة لأنه لم يكن يشبهه شيئا منها ، إذ لو كان متصفا بأحد تلك الأضداد لم يكن معطيا لضدها ، إذ لو كان حارا مثلا لم يكن معطيا ومفيضا للبرودة ، فلما لم يكن متصفا بشيء منهما صار علة لكل منهما فيما يستحقه من المواد ، وأيضا لو كان مشاركا لبعضها في المهية لم يكن معطيا تلك المهية غيره ، وإلا لزم كون الشيء علة لنفسه.

قوله عليه‌السلام : أحلت ، أي أتيت بالمحال وقلت به ، ثبتك الله ، أي على الحق.

قوله عليه‌السلام : إنما التشبيه بالمعاني ، أي التشبيه الممنوع منه إنما هو تشبيه معنى حاصل فيه تعالى بمعنى حاصل للخلق ، لا محض إطلاق لفظ واحد عليه تعالى ، وعلى الخلق بمعنيين متغايرين ، أو المعنى أنه ليس التشبيه هنا في كنه الحقيقة والذات ،


فإنه يخبر أنه جثة واحدة وليس باثنين والإنسان نفسه ليس بواحد لأن أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة ومن ألوانه مختلفة غير واحد وهو أجزاء مجزاة ليست بسواء دمه غير لحمه ولحمه غير دمه وعصبه غير عروقه وشعره غير بشره وسواده غير بياضه وكذلك سائر جميع الخلق فالإنسان واحد في الاسم ولا واحد في المعنى والله جل جلاله هو واحد لا واحد غيره لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان فأما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلف من أجزاء مختلفة وجواهر شتى غير أنه بالاجتماع شيء واحد قلت جعلت فداك فرجت عني فرج الله عنك فقولك « اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » فسره لي كما فسرت الواحد فإني أعلم أن لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل غير أني أحب أن تشرح ذلك لي فقال يا فتح إنما قلنا اللطيف للخلق اللطيف ولعلمه

______________________________________________________

وإنما التشبيه في المفهومات الكلية التي هي مدلولات الألفاظ ، وتصدق عليه سبحانه كما مر تحقيقه ، فأما في الأسماء فهي واحدة ، أي الأسماء التي تطلق عليه تعالى ، وعلى الخلق واحدة ، لكنها لا توجب التشابه ، إذ الأسماء دالة على المسميات ، وليس عينها حتى يلزم الاشتراك في حقيقة الذات والصفات ، ثم بين عليه‌السلام عدم كون التشابه في المعنى في اشتراك لفظ الواحد بينه وبين خلقه تعالى ، بأن الوحدة في المخلوق هي الوحدة الشخصية التي تجتمع مع أنواع التكثرات ، وليست إلا تألف أجزاء واجتماع أمور متكثرة ، ووحدته سبحانه هي نفي التجزي والكثرة والتعدد عنه سبحانه مطلقا ، وقوله عليه‌السلام : فأما الإنسان ، فيحتمل أن يكون كل من المخلوق والمصنوع والمؤلف والظرف خبرا ، وإن كان الأول أظهر.

قوله عليه‌السلام : للفصل ... بالصاد المهملة ، أي للفرق الظاهر بينه وبين خلقه ، أو بالمعجمة أي لما بينت من فضله على المخلوق.

قوله عليه‌السلام : إنما قلنا اللطيف ، قيل : إن اللطيف هو الشيء الدقيق ، ثم استعمل فيما هو سبب ، ومبدء للدقيق من القوة على صنعه والعلم به ، فيقال لعامله : إنه دق ولطف بصنعه ، وهو صانع دقيق في صنعه ، والعالم به أنه دق ولطف بدركه ،


بالشيء اللطيف أولا ترى وفقك الله وثبتك إلى أثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف ومن الخلق اللطيف ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان لصغره الذكر من الأنثى والحدث المولود من القديم فلما رأينا صغر ذلك في لطفه واهتداءه للسفاد والهرب من الموت والجمع لما يصلحه وما في لجج البحار وما في لحاء الأشجار والمفاوز والقفار وإفهام بعضها عن بعض منطقها وما يفهم به أولادها عنها ونقلها الغذاء إليها ثم تأليف ألوانها حمرة مع صفرة وبياض مع حمرة وأنه ما لا تكاد عيوننا تستبينه لدمامة خلقها لا تراه عيوننا ولا تلمسه أيدينا علمنا أن خالق هذا الخلق لطيف لطف بخلق ما سميناه

______________________________________________________

وهو عالم دقيق في دركه. وقوله عليه‌السلام ولعلمه : ليس الواو في بعض النسخ فهو بدل للخلق أو علة له ، وقال الجوهري : صغر الشيء فهو صغير وصغار بالضم ، وقال : الجرجس : البعوض الصغار فهو من قبيل عطف الخاص على العام.

قوله عليه‌السلام : في لطفه ، أي مع لطف ذلك المخلوق أو بسبب لطفه سبحانه والسفاد بالكسر : نزو الذكر على الأنثى ، ولجة البحر معظمه ، واللحاء بالكسر والمد : قشر الشجر ، و « إفهام » إما بالكسر أو بالفتح ، ويؤيد الأخير ما في العيون : وفهم بعض عن بعض ، وقال السيد الداماد رحمه‌الله : الدمامة بفتح الدال المهملة وبميمين عن حاشيتي الألف : القصر والقبح ، يقال رجل دميم وبه دمامة إذا كان قصير الجثة ، حقير الجثمان قبيح الخلقة ، وأما الذمامة بإعجام الذال بمعنى القلة ، من قولهم بئر ذمة بالفتح أي قليل الماء ، وفي هذا المقام تصحيف « انتهى ».

وأقول : فلما كان لسائل أن يقول : اللطف بهذا المعنى أيضا يطلق على المخلوق فيقال : صانع لطيف ، فأشار عليه‌السلام إلى جواب ذلك بقوله : بلا علاج ولا أداة ولا آلة ، والحاصل أن لطفه سبحانه ليس على ما يعقل في المخلوقين ، بأي معنى كان ، بل يرجع إلى نفي العجز عن خلق الدقيق ، ونفي الجهل بالدقيق ، فأما كيفية خلقه وكنه علمه


بلا علاج ولا أداة ولا آلة وأن كل صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء.

٢ ـ علي بن محمد مرسلا ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال قال اعلم علمك الله الخير أن الله تبارك وتعالى قديم والقدم صفته التي دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديموميته فقد بان لنا بإقرار العامة معجزة الصفة أنه

______________________________________________________

فهو مستور عنا ، وقال الجزري : في أسماء الله تعالى اللطيف ، وهو الذي اجتمع له الرفق في الفعل والعلم بدقائق المصالح وإيصالها إلى من قدرها له من خلقه ، يقال : لطف له بالفتح يلطف لطفا إذا رفق به ، وأما لطف بالضم يلطف فمعناه صغر ودق.

الحديث الثاني : مرسل والمراد بالقدم وجوب الوجود.

قوله عليه‌السلام فقد بأن لنا بإقرار العامة : الإقرار إما من أقر بالحق إذا اعترف به ، أو من أقر الحق في مكانه فاستقر هو ، فقوله عليه‌السلام : معجزة الصفة على الأول منصوب بنزع الخافض ، وعلى الثاني منصوب على المفعولية ، والمعجزة اسم فاعل من أعجزته بمعنى وجدته عاجزا أو جعلته عاجزا أو من أعجزه الشيء بمعنى فاته ، وإضافتها إلى الصفة المراد بها القدم ، من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وإنما وصفها بالإعجاز لأنها تجدهم أو تجعلهم لنباهة شأنها ، عاجزين عن إدراكهم كنهها ، أو عن اتصافهم بها ، أو عن إنكارهم لها ، أو لأنها تفوتهم ، وهم فاقدون لها.

ويحتمل أن تكون المعجزة مصدر عجز عن الشيء عجزا ومعجزة بفتح الميم وكسر الجيم وفتحها ، أي إقرارهم بعجزهم عن الاتصاف بتلك الصفة ، ويمكن أن يقرأ على بناء المفعول بأن يكون حالا عن العامة أو صفة لها ، أي بإقرارهم موصوفين بالعجز عن ترك الإقرار ، أو والحال أن صفة القدم أعجزتهم وألجأتهم إلى الإقرار فالمقر به والبين شيء واحد ، وهو قوله : أن لا شيء قبل الله ، لكن في الحالية وأول احتمالي الوصفية مناقشة.

وقال بعض الأفاضل : المراد بقوله : إقرار العامة إذعانهم ، أو الإثبات ، وعلى


لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقائه وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو كان معه شيء وذلك أنه لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه ولو كان قبله شيء كان الأول ذلك الشيء لا هذا وكان الأول أولى بأن يكون خالقا للأول ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبدهم وابتلاهم إلى أن يدعوه بها فسمى نفسه سميعا بصيرا قادرا قائما ناطقا ظاهرا باطنا لطيفا خبيرا قويا عزيزا حكيما عليما وما أشبه هذه الأسماء فلما رأى ذلك من أسمائه القالون المكذبون وقد سمعونا

______________________________________________________

الأول متعلق الإذعان إما معجزة الصفة بحذف الصلة ، أو محذوف ، أي إقرار العامة بأنه خالق كل شيء ومعجزة الصفة صفة للإقرار ، أو بدل عنه أي إقرار العامة بأنه خالق كل شيء معجزة الصفة ، أي صفة الخالقية لكل شيء ، أو صفة القدم ، لا يسع أحدا أن ينكره ، وأما على الثاني فمعجزة الصفة من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي الصفة التي هي معجزة لهم عن أن لا يثبتوا له خالقية كل شيء أو المعجزة بمعناه المتعارف والإضافة لامية ، أي إثباتهم الخالقية للكل معجزة هذه الصفة ، حيث لا يسعهم أن ينكروها وإن أرادوا الإنكار ، ويحتمل أن يكون معجزة الصفة فاعل بأن ويكون قوله : إنه لا شيء قبل الله ، بيانا أو بدلا لمعجزة الصفة « انتهى ».

أقول : لا يخفى أنه يدل على أنه لا قديم سوى الله ، وعلى أن التأثير لا يعقل إلا في الحادث ، وأن القدم مستلزم لوجوب الوجود.

قوله عليه‌السلام ثم وصف : أي سمى نفسه بأسماء بالتنوين ، دعاء الخلق بالنصب أي لدعائهم ، ويحتمل إضافة الأسماء إلى الدعاء والأظهر أنه على صيغة الفعل كما في التوحيد والعيون ، وقوله : إلى أن يدعوه متعلق به ، أو بالابتلاء أيضا على التنازع ، لكن في أكثر نسخ الكتاب مهموز.

قوله عليه‌السلام وابتلاهم : أي بالمصائب والحوائج أو ألجأهم إلى أن يدعوه بتلك الأسماء.


نحدث عن الله أنه لا شيء مثله ولا شيء من الخلق في حاله قالوا أخبرونا إذا زعمتم أنه لا مثل لله ولا شبه له كيف شاركتموه في أسمائه الحسنى فتسميتم بجميعها فإن في ذلك دليلا على أنكم مثله في حالاته كلها أو في بعضها دون بعض إذ جمعتم الأسماء الطيبة؟

قيل لهم إن الله تبارك وتعالى ألزم العباد أسماء من أسمائه على اختلاف المعاني وذلك كما يجمع الاسم الواحد معنيين مختلفين والدليل على ذلك قول الناس الجائز عندهم الشائع وهو الذي خاطب الله به الخلق فكلمهم بما يعقلون ليكون عليهم حجة في تضييع ما ضيعوا فقد يقال للرجل كلب وحمار وثور وسكرة وعلقمة وأسد كل ذلك على خلافه وحالاته لم تقع الأسامي على معانيها التي كانت بنيت عليه لأن الإنسان ليس بأسد ولا كلب فافهم ذلك رحمك الله.

وإنما سمي الله تعالى بالعلم بغير علم حادث علم به الأشياء استعان به على حفظ ما يستقبل من أمره والروية فيما يخلق من خلقه ويفسد ما مضى مما أفنى من

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : والدليل على ذلك ، أي على إطلاق اللفظ الواحد على المعنيين المختلفين ، والقول الشائع هو ما فسره عليه‌السلام بقوله : وقد يقال ، وفي التوحيد وغيره السائغ ، أي الجائز ، والعلقم شجر مر ، ويقال : للحنظل ولكل شيء مر علقم.

قوله عليه‌السلام : على خلافه ، أي على خلاف موضعه الأصلي.

قوله : وحالاته ، عطف على الضمير المجرور في خلافه بدون إعادة الجار وهو مجوز ، أو الواو بمعنى مع ، أو يقدر المضاف ، وفي العيون وغيره : على خلافه لأنه لم يقع ، وهو أظهر.

قوله عليه‌السلام : والروية ، عطف على الحفظ ، وقوله : ويفسد عطف على قوله يخلق وقوله : ما مضى بدل من الموصول ، أو قوله : ويفسد حال ، أي فيما يخلق من خلقه والحال أنه يفسد عنه خلقه ما مضى ، قوله : ويعينه كذا في بعض النسخ من التعيين أي من العلم الذي لو لم يحضر العالم ذلك العلم ويعينه ويحصله تعيينا وتحصيلا لا


خلقه مما لو لم يحضره ذلك العلم ويغيبه كان جاهلا ضعيفا كما أنا لو رأينا علماء الخلق إنما سموا بالعلم لعلم حادث إذ كانوا فيه جهلة وربما فارقهم العلم بالأشياء فعادوا إلى الجهل وإنما سمي الله عالما لأنه لا يجهل شيئا فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العالم واختلف المعنى على ما رأيت.

وسمي ربنا سميعا لا بخرت فيه يسمع به الصوت ولا يبصر به كما أن خرتنا الذي به نسمع لا نقوى به على البصر ولكنه أخبر أنه لا يخفى عليه شيء من الأصوات ليس على حد ما سمينا نحن فقد جمعنا الاسم بالسمع واختلف المعنى.

وهكذا البصر لا بخرت منه أبصر كما أنا نبصر بخرت منا لا ننتفع به في غيره ولكن الله بصير لا يحتمل شخصا منظورا إليه فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

وهو قائم ليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء

______________________________________________________

يكون له إلا بحصوله بعد خلوه عنه بذاته كان جاهلا ، وفي بعض النسخ ولغيبة من الغيبة فيكون عطفا على النفي ومفسرا له أو حالا ، وفي العيون وغيره ويعنه وهو الصواب ، وفي بعض نسخ العيون وتفنية ما مضى أي إفناءها ، وفي بعض نسخ التوحيد وتقفية ما مضى بما أفنى أي جعل بعض ما يفنى في قفاء ما مضى ، أي يكون مستحضرا لما مضى مما أعدمه سابقا حتى يفنى ما يفنى بعده على طريقته ، وعلى التقديرين معطوف على الموصول.

قوله عليه‌السلام : لا بخرت ، هو بالفتح والضم الثقب في الأذن وغيرها.

قوله عليه‌السلام : فقد جمعنا ، بسكون العين على صيغة المتكلم أو بفتحها على صيغة الغائب ، والاسم على الأول منصوب ، وعلى الثاني مرفوع.

قوله عليه‌السلام : لا يحتمل شخصا ، أي لا يقبل مثاله ولا ينطبع صورته الذهني وشبحه فيه ، فيدل على أن الإبصار بالانطباع لا بخروج الشعاع ، وفي العيون والتوحيد : لا يجهل شخصا وهو أظهر ، والكبد بالتحريك : المشقة والتعب ، والقضافة بالقاف والضاد المعجمة ثم الفاء : الدقة والنحافة.


ولكن قائم يخبر أنه حافظ كقول الرجل القائم بأمرنا فلان والله هو القائم على كل نفس بما كسبت والقائم أيضا في كلام الناس الباقي والقائم أيضا يخبر عن الكفاية كقولك للرجل قم بأمر بني فلان أي اكفهم والقائم منا قائم على ساق فقد جمعنا الاسم ولم نجمع المعنى.

وأما اللطيف فليس على قلة وقضافة وصغر ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك كقولك للرجل لطف عني هذا الأمر ولطف فلان في مذهبه وقوله يخبرك أنه غمض فيه العقل وفات الطلب وعاد متعمقا متلطفا لا يدركه الوهم فكذلك لطف الله تبارك وتعالى عن أن يدرك بحد أو يحد بوصف واللطافة منا الصغر والقلة فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

وأما الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء فعند التجربة والاعتبار علمان ولو لا هما ما علم لأن من كان كذلك كان جاهلا والله لم يزل خبيرا بما يخلق والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلم فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : وفات الطلب ، أي فات ذلك الشيء عن الطلب فلا يدركه الطلب ، أو فات عن العقل الطلب فلا يمكنه طلبه ، ويحتمل على هذا أن يكون الطلب بمعنى المطلوب « وعاد » أي العقل أو الوهم على التنازع ، أو ذلك الشيء فالمراد أنه صار ذا عمق ولطافة ودقة لا يدركه الوهم لبعد عمقه وغاية دقته ، وتفصيله : أنه يمكن أن يقرأ الطلب مرفوعا ومنصوبا ، فعلى الأول يكون فات لازما أي ضاع وذهب الطلب ، وعلى الثاني فضمير الفاعل إما راجع إلى الأمر المطلوب ، أي لا يدرك الطلب ذلك الأمر كما ورد في الدعاء « لا يفوته هارب » أو إلى العقل على الوجهين المذكورين ، وربما يحمل الطلب على الطالب بإرجاع ضمير الفاعل إلى الأمر ، وربما يقال : يعود ضمير الفاعل في عاد إلى الطلب ، وتقدير القول في قوله : لا يدركه وهم ، أي يعود الطلب أو الطالب متعمقا متلطفا قائلا لا يدركه وهم ، ولا يخفى بعده ، وسنام كل شيء : أعلاه


وأما الظاهر فليس من أجل أنه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنم لذراها ولكن ذلك لقهره ولغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل ظهرت على أعدائي وأظهرني الله على خصمي يخبر عن الفلج والغلبة فهكذا ظهور الله على الأشياء ووجه آخر أنه الظاهر لمن أراده ولا يخفى عليه شيء وأنه مدبر لكل ما برأ فأي ظاهر أظهر وأوضح من الله تبارك وتعالى لأنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت وفيك من آثاره ما يغنيك والظاهر منا البارز بنفسه والمعلوم بحده فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى.

وأما الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما وحفظا وتدبيرا كقول القائل أبطنته يعني خبرته وعلمت مكتوم سره والباطن منا الغائب في الشيء المستتر وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

وأما القاهر فليس على معنى علاج ونصب واحتيال ومداراة ومكر كما يقهر العباد بعضهم بعضا والمقهور منهم يعود قاهرا والقاهر يعود مقهورا ولكن ذلك من الله تبارك وتعالى على أن جميع ما خلق ملبس به الذل لفاعله وقلة الامتناع لما أراد به لم

______________________________________________________

ومنه تسنمه أي علاه ، والذرى بضم الذال المعجمة وكسرها جمع الذروة بهما ، وهي أيضا أعلى الشيء.

قوله عليه‌السلام : لا يخفى عليه شيء ، يحتمل إرجاع الضمير المجرور إلى الموصول ، أي لا يخفى على من أراد معرفته شيء من أموره : من وجوده وعلمه وقدرته وحكمته وعلى تقدير إرجاعه إليه تعالى لعله ذكر استطرادا ، أو إنما ذكر لأنه مؤيد لكونه مدبرا لكل شيء ، أو لأنه مسبب عن علية كل شيء ، أو لأن ظهوره لكل شيء وظهور كل شيء له مسببان عن تجرده تعالى ، ويحتمل أن يكون وجها آخر لإطلاق الظاهر عليه تعالى ، لأن في المخلوقين لما كان المطلع على شيء حاضرا عنده ظاهرا له ، جاز أن يعبر عن هذا المعنى بالظهور ، والعلاج : العمل والمزاولة بالجوارح.


يخرج منه طرفة عين أن يقول له كن فيكون والقاهر منا على ما ذكرت ووصفت فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى وهكذا جميع الأسماء وإن كنا لم نستجمعها كلها فقد يكتفي الاعتبار بما ألقينا إليك والله عونك وعوننا في إرشادنا وتوفيقنا.

باب تأويل الصمد

١ ـ علي بن محمد ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الوليد ولقبه

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام لم يخرج منه طرفة عين : لعله يدل على أن الأشياء في كل آن محتاجة إلى إفاضة جديدة وإيجاد جديد ، وفي التوحيد طرفة عين ، غير أنه يقول له وقد أشار إلى ما أومأنا إليه بهمنيار في التحصيل وغيره ، حيث قالوا : كل ممكن بالقياس إلى ذاته باطل ، وبه تعالى حق كما يرشد إليه قوله تعالى : « كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ » (١) فهو آنا فآنا يحتاج إلى أن يقول له الفاعل الحق : كن ، ويفيض عليه الوجود بحيث لو أمسك عنه هذا القول والإفاضة طرفة عين ، لعاد إلى البطلان الذاتي والزوال الأصلي ، كما أن ضوء الشمس لو زال عن سطح المستضيء لعاد إلى ظلمته الأصلية.

باب تأويل الصمد

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

واعلم أن العلماء اختلفوا في تفسير الصمد ، فقيل : إنه فعل بمعنى المفعول من صمد إليه إذا قصده ، وهو السيد المقصود إليه في الحوائج ، كما ورد في هذا الخبر ، وروت العامة عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية قالا : ما الصمد؟ قال صلوات الله عليه وآله : هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج ، وقيل : إن الصمد هو الذي لا جوف له.

__________________

(١) سورة القصص : ٨٨.


شباب الصيرفي ، عن داود بن القاسم الجعفري قال قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام جعلت فداك ما « الصَّمَدُ » قال السيد المصمود إليه في القليل والكثير.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس

______________________________________________________

وقال ابن قتيبة : الدال فيه مبدلة من التاء وهو الصمت ، وقال بعض اللغويين : الصمد هو الأملس من الحجر لا يقبل الغبار ولا يدخله ولا يخرج منه شيء ، فعلى الأول عبارة عن وجوب الوجود والاستغناء المطلق واحتياج كل شيء في جميع أموره إليه ، أي الذي يكون عنده ما يحتاج إليه كل شيء ، ويكون رفع حاجة الكل إليه ولم يفقد في ذاته شيئا مما يحتاج إليه الكل وإليه يتوجه كل شيء بالعبادة والخضوع وهو المستحق لذلك ، وأما على الثاني فهو مجاز عن أنه تعالى أحدي الذات ، أحدي المعنى ، ليست له أجزاء ليكون بين الأجزاء جوف ، ولا صفات زائدة فيكون بينها وبين الذات جوف ، أو عن أنه الكامل بالذات ، ليس فيه جهة استعداد وإمكان ، ولا خلو له عما يليق به ، فلا يكون له جوف يصلح أن يدخله ما ليس له في ذاته ، فيستكمل به ، فالجوف كناية عن الخلو عما يصلح اتصافه به ، وأما علي الثالث فهو كناية عن عدم الانفعال والتأثر عن الغير ، وكونه محلا للحوادث كما مر عن الصادق عليه‌السلام : أن الرضا دخال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال ، لأن المخلوق أجوف معتمل مركب للأشياء فيه مدخل ، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه لأنه واحد واحدي الذات واحدي المعنى ، وقد ورد بكل من تلك المعاني أخبار.

وقد روى الصدوق في التوحيد ومعاني الأخبار خبرا طويلا مشتملا على معاني كثيرة للصمد ، وقد نقل بعض المفسرين عن الصحابة والتابعين والأئمة واللغويين قريبا من عشرين معنى ، ويمكن إدخال جميعها فيما ذكرنا من المعنى الأول ، لأنه لاشتماله على الوجوب الذاتي يدل على جميع السلوب ، ولدلالته على كونه مبدء للكل يدل على اتصافه بجميع الصفات الكمالية ، وبه يمكن الجمع بين الأخبار المختلفة الواردة في هذا المعنى ، وقد أوردنا الأخبار في كتاب بحار الأنوار.

الحديث الثاني : مجهول كالصحيح ، وقوله : واحد خبر إن والجملتان


ابن عبد الرحمن ، عن الحسن بن السري ، عن جابر بن يزيد الجعفي قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن شيء من التوحيد فقال إن الله تباركت أسماؤه التي يدعا بها وتعالى في علو كنهه واحد توحد بالتوحيد في توحده ثم أجراه على خلقه فهو واحد صمد قدوس يعبده كل شيء ويصمد إليه كل شيء و « وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ».

فهذا هو المعنى الصحيح في تأويل الصمد لا ما ذهب إليه المشبهة أن تأويل الصمد المصمت الذي لا جوف له لأن ذلك لا يكون إلا من صفة الجسم والله جل ذكره متعال عن ذلك هو أعظم وأجل من أن تقع الأوهام على صفته أو تدرك كنه عظمته ولو كان تأويل الصمد في صفة الله عز وجل المصمت لكان مخالفا لقوله عز وجل : « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » (١) لأن ذلك من صفة الأجسام المصمتة التي لا أجواف لها مثل الحجر والحديد وسائر الأشياء المصمتة التي لا أجواف لها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

فأما ما جاء في الأخبار من ذلك فالعالمعليه‌السلامأعلم بما قال وهذا الذي قال عليه‌السلام

______________________________________________________

معترضتان ، تباركت أسماؤه : أي تطهرت عن النقائص أو كثرت صفات جلاله وعظمته أو ثبتت ولا يعتريها التغير من قولهم : برك البعير بالمكان أي أقام ، وكلمة « في » في قوله : في علو كنهه ، تعليلية ، وقوله عليه‌السلام : توحد بالتوحيد ، أي لم يكن في الأزل أحد يوحده ، فهو كان يوحد نفسه ، فكان متفردا بالوجود ، متوحدا بتوحيد نفسه ، ثم بعد الخلق عرفهم نفسه ، وأمرهم أن يوحدوه ، أو المراد أن توحده لا يشبه توحد غيره ، فهو متفرد بالتوحد ، أو كان قبل الخلق كذلك وأجرى سائر أنواع التوحد على خلقه ، إذا الوحدة تساوق الوجود أو تستلزمه ، لكن وحداتهم مشوبة بأنواع الكثرة كما عرفت.

قوله : فهذا هو الصحيح ، من كلام الكليني (ره).

قوله : من ذلك ، أي تفسير الصمد بالصمت فالعالم عليه‌السلام أعلم ، أي هو عليه‌السلام أعلم بتفسيره ومراده ، والجمرة بالتحريك والفتح واحدة جمرات المناسك ، والقصوى : العقبة

__________________

(١) سورة الشورى : ١١.


إن الصمد هو السيد المصمود إليه هو معنى صحيح موافق لقول الله عز وجل « لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ » والمصمود إليه المقصود في اللغة قال أبو طالب في بعض ما كان يمدح به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من شعره :

وبالجمرة القصوى إذا صمدوا لها

يؤمون قذفا رأسها بالجنادل

يعني قصدوا نحوها يرمونها بالجنادل يعني الحصى الصغار التي تسمى بالجمار وقال بعض شعراء الجاهلية شعرا :

ما كنت أحسب أن بيتا ظاهرا

لله في أكناف مكة يصمد

يعني يقصد.

وقال ابن الزبرقان : ولا رهيبة إلا سيد صمد

وقال شداد بن معاوية في حذيفة بن بدر :

علوته بحسام ثم قلت له

خذها حذيف فأنت السيد الصمد

ومثل هذا كثير والله عز وجل هو السيد الصمد الذي جميع الخلق من الجن والإنس إليه يصمدون في الحوائج وإليه يلجئون عند الشدائد ومنه يرجون الرخاء ودوام النعماء ليدفع عنهم الشدائد.

باب الحركة والانتقال

١ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن إسماعيل البرمكي ، عن علي بن عباس الخراذيني ، عن الحسن بن راشد ، عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال ذكر عنده قوم يزعمون أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا

______________________________________________________

والحصا بالفتح والقصر جمع الحصاة « ما كنت أحسب » أي أظن و « رهيبة » اسم رجل « علوته بحسام » الحسام : السيف ، أي رفعته فوق رأسه ، وحذيف : منادي مرخم.

باب الحركة والانتقال

الحديث الأول : ضعيف.


فقال إن الله لا ينزل ولا يحتاج إلى أن ينزل إنما منظره في القرب والبعد سواء لم يبعد منه قريب ولم يقرب منه بعيد ولم يحتج إلى شيء بل يحتاج إليه وهو ذو الطول « لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » أما قول الواصفين إنه ينزل تبارك وتعالى فإنما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة وكل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به فمن ظن بالله الظنون هلك فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : إنما منظره : أي نظره وعلمه وإحاطته بأن يكون مصدرا ميميا أو ما ينظر إليه في القرب والبعد منه سواء ، أي لا يختلف اطلاعه على الأشياء بالقرب والبعد ، لأنهما إنما يجريان في المكانيات بالنسبة إلى أمثالها وهو سبحانه متعال عن المكان ، إذ يوجب الحاجة إلى المكان ، وهو لم يحتج إلى شيء بل يحتاج إليه على المجهول ، أي كل شيء غيره محتاج إليه ، والطول : الفضل والإنعام.

قوله عليه‌السلام فإنما يقول ذلك « إلخ » أي النزول المكاني إنما يتصور في المتحيز وكل متحيز موصوف بالتقدر ، وكل مقتدر متصف بالنقص عما هو أزيد منه وبالزيادة على ما هو أنقص منه ، أو يكون في نفسه قابلا للزيادة والنقصان ، والوجوب الذاتي ينافي ذلك لاستلزامه التجزي والانقسام المستلزمين للإمكان ، وأيضا كل متحرك محتاج إلى من يحركه أو يتحرك به ، لأن المتحرك إما جسم أو متعلق بالجسم ، والجسم المتحرك لا بد له من محرك ، لأنه ليس يتحرك بجسميته ، والمتعلق بالجسم لا بد له في تحركه من جسم يتحرك به ، وهو سبحانه منزه عن الاحتياج إلى المحرك ، وعن التغير بمغير ، وعن التعلق بجسم يتحرك به.

ويحتمل أن يكون المراد بالأول الحركة القسرية ، وبالثاني ما يشمل الإرادية والطبيعية ، بأن يكون المراد بمن يتحرك به ما يتحرك به من طبيعة أو نفس ، وقوله : من أن يقفوا (١) ، من وقف يقف ، أي أن يقوموا في الوصف له وتوصيفه على حد فتحدونه بنقص أو زيادة ، ويحتمل أن يكون من قفا يقفو ، أي تتبعوا له في البحث عن صفاته

__________________

(١) وفي المتن « تقفوا » بصورة الخطاب.


حد تحدونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين « وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ».

٢ ـ وعنه رفعه ، عن الحسن بن راشد ، عن يعقوب بن جعفر ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام أنه قال لا أقول إنه قائم فأزيله عن مكانه ولا أحده بمكان يكون فيه ولا أحده أن يتحرك في شيء من الأركان والجوارح ولا أحده بلفظ شق فم ولكن كما قال الله تبارك وتعالى : « كُنْ فَيَكُونُ » بمشيئته من غير تردد في نفس صمدا فردا لم يحتج إلى شريك يذكر له ملكه ولا يفتح له أبواب علمه.

______________________________________________________

تتبعا على حد تحدونه بنقص أو زيادة ، قوله : « حِينَ تَقُومُ » أي إلى التهجد أو إلى الخيرات أو إلى الأمور كلها « وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ » أي ترددك وحركاتك بين المصلين بالقيام والقعود والركوع والسجود ، والمعنى توكل عليه في جميع أمورك عارفا بأنه عالم بجميع أحوالك في جميع الأوقات ، أو توكل عليه في توصيفه بصفاته فقل في صفته بما وصف به نفسه ، ولا تعتمد في توصيفه على ما يذهب إليه وهمك.

الحديث الثاني : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : فأزيله عن مكانه ، أي لا يتصف بالقيام اتصاف الأجسام لاستلزامه الزوال في الجملة عن مكانه ، كزوال ما يقوم من الأجسام عن مكانه الذي استقر فيه ، ولأن القيام نسبة إلى المكان بخلو بعض المكان عن بعض القائم عنه وشغل بعضه ببعض ، ونسبته تعالى إلى كل الأمكنة سواء.

أقول : ويمكن أن يكون المراد بالمكان : الدرجة الرفيعة التي له سبحانه من التقدس والتنزه والتجرد ، أي نسبة القيام إليه تعالى مستلزم لإزالته عن تجرده وتقدسه وتنزهه سبحانه.

قوله عليه‌السلام : في شيء من الأركان ، أي الأركان البدنية أو النواحي والجوانب أي أركان الخلق « والجوارح » بأن يتحرك رأسه أو عينه أو يده سبحانه « بلفظ شق فم » أي لفظ خارج من فرجة الفم.


٣ ـ وعنه ، عن محمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن إسماعيل ، عن داود بن عبد الله ، عن عمرو بن محمد ، عن عيسى بن يونس قال قال ابن أبي العوجاء لأبي عبد الله عليه‌السلام في بعض ما كان يحاوره ذكرت الله فأحلت على غائب فقال أبو عبد الله ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد وإليهم أقرب « مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » يسمع كلامهم ويرى أشخاصهم ويعلم أسرارهم فقال ابن أبي العوجاء أهو في كل مكان أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان وخلا منه مكان فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما يحدث في المكان الذي كان فيه فأما الله العظيم الشأن الملك الديان فلا يخلو منه مكان ولا يشتغل به مكان ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.

٤ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عيسى قال كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام جعلني الله فداك يا سيدي قد روي لنا أن الله في موضع دون موضع « عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » وأنه ينزل كل ليلة في النصف الأخير من الليل إلى السماء الدنيا وروي أنه ينزل عشية عرفة ثم يرجع إلى موضعه فقال بعض مواليك في ذلك إذا كان في موضع دون موضع فقد يلاقيه الهواء ويتكنف عليه

______________________________________________________

الحديث الثالث : مجهول.

قوله عليه‌السلام : من حبل الوريد ، لعل فيه إشارة إلى أن قربه سبحانه قرب العلية والتأثير والتدبير ، إذ عرق العنق سبب للحياة وبانقطاعه يكون الموت والفناء ، أي هو تعالى أدخل في حياة الشخص من عرق العنق ، إذ هو خالقه ومسبب سائر أسباب حياته

الحديث الرابع : ضعيف ، وسنده الثاني صحيح على الظاهر.

قوله عليه‌السلام : علم ذلك عنده ، أي علم كيفية نزوله عنده سبحانه ، وليس عليكم معرفة ذلك ، ثم أشار إشارة خفية إلى أن المراد بنزوله : تقديره نزول رحمته ، وإنزالها بتقديره بقوله : وهو المقدر له بما هو أحسن تقديرا ، ثم أفاد أن ما عليكم علمه أنه


والهواء جسم رقيق يتكنف على كل شيء بقدره فكيف يتكنف عليه جل ثناؤه على هذا المثال فوقععليه‌السلامعلم ذلك عنده وهو المقدر له بما هو أحسن تقديرا واعلم أنه إذا كان في السماء الدنيا فهو كما هو على العرش والأشياء كلها له سواء علما وقدرة وملكا وإحاطة.

وعنه ، عن محمد بن جعفر الكوفي ، عن محمد بن عيسى مثله.

في قوله تعالى : ( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ ) (١)

٥ ـ عنه ، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن يعقوب بن يزيد ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى « ما يَكُونُ

______________________________________________________

لا يجري عليه أحكام الأجسام والمحيزات من المجاورة والقرب المكاني ، والتمكن في الأمكنة ، بل حضوره سبحانه حضور وشهود علمي وإحاطة بالعلم والقدرة والملك بقوله : وعلم أنه « إلخ ».

قوله : في قوله ... هذا كلام المصنف (ره) أي روي في تفسير هذه الآية الرواية الآتية ، وقيل : عطف على عنوان الباب ، أي باب في قوله ، وهو بعيد.

الحديث الخامس : صحيح.

قوله تعالى « ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ » أي ما يقع من تناجي ثلاثة ، ويجوز أن يقدر مضاف أو يؤول نجوى من متناجين (٢) ويجعل ثلاثة صفة لها « إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ » أي إلا الله يجعلهم أربعة من حيث أنه يشاركهم في الاطلاع عليها « وَلا خَمْسَةٍ » أي ولا نجوى خمسة ، وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة ، أو لأن الله وتر يحب الوتر والثلاثة أول الأوتار ، أو لأن التشاور لا بد له من اثنين يكونان كالمتنازعين ، وثالث يتوسط بينهما.

__________________

(١) سورة المجادلة : ٧.

(٢) وفي نسخة [ ح ] « نجوى بمتناجيين ».


مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ » فقال هو واحد واحدي الذات بائن من خلقه وبذاك وصف نفسه وهو « بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ » بالإشراف والإحاطة والقدرة « لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ » بالإحاطة والعلم لا بالذات لأن الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة فإذا كان بالذات لزمها الحواية.

في قوله ( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) (١)

٦ ـ علي بن محمد ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن الحسن بن موسى الخشاب ، عن بعض رجاله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن قول الله عز وجل : « الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » فقال استوى على كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء.

______________________________________________________

ثم اعلم أنه لما كان القدام والخلف واليمين والشمال غير متميزة إلا بالاعتبار عد الجميع حدين ، والفوق والتحت حدين ، فصارت أربعة ، والمعنى أنه ليست إحاطته سبحانه بالذات ، لأن الأماكن محدودة ، فإذا كانت إحاطته بالذات بأن كانت بالدخول في الأمكنة لزم كونه محاطا بالمكان كالمتمكن ، وإن كانت بالانطباق على المكان لزم كونه محيطا بالمتمكن كالمكان.

الحديث السادس : ضعيف.

واعلم أن الاستواء يطلق على معان : « الأول » الاستقرار والتمكن على الشيء « الثاني » قصد الشيء والإقبال إليه « الثالث » الاستيلاء على الشيء ، قال الشاعر :

قد استوى شبر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

« الرابع » الاعتدال يقال : سويت الشيء فاستوى « الخامس » المساواة في النسبة.

فأما المعنى الأول فيستحيل على الله تعالى ، لما ثبت بالبراهين العقلية والنقلية

__________________

(١) سورة طه : ٥.


وبهذا الإسناد ، عن سهل ، عن الحسن بن محبوب ، عن محمد بن مارد أن أبا عبد الله عليه‌السلام سئل عن قول الله عز وجل : « الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » فقال استوى

______________________________________________________

من استحالة كونه تعالى مكانيا ، فمن المفسرين من حمل الاستواء في هذه الآية على الثاني ، أي أقبل على خلقه وقصد إلى ذلك ، وقد ورد أنه سئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن هذه الآية ، فقال : الاستواء الإقبال على الشيء ، ونحو هذا قال الفراء والزجاج في قوله عز وجل : « ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ » (١) والأكثرون منهم حملوها على الثالث ، أي استولى عليه وملكه ودبره قال الزمخشري : لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك ، فقالوا : استوى فلان على السرير يريدون ملكه ، وإن لم يعقد على السرير البتة ، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ، ونحوه قولك يد فلان مبسوطة ، ويد فلان مغلولة ، بمعنى أنه جواد أو بخيل ، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت ، حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال ، أو لم يكن له يد رأسا وهو جواد قيل فيه يد مبسوطة ، لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قولهم جواد « انتهى ».

ويحتمل أن يكون المراد المعنى الرابع بأن يكون كناية عن نفي النقص عنه تعالى من جميع الوجوه ، فيكون قوله تعالى « عَلَى الْعَرْشِ » حالا وسيأتي توجيهه ، ولكنه بعيد.

وأما المعنى الخامس فهو الظاهر مما مر من الأخبار.

فاعلم أن العرش قد يطلق على الجسم العظيم الذي أحاط بسائر الجسمانيات ، وقد يطلق على جميع المخلوقات ، وقد يطلق على العلم أيضا كما وردت به الأخبار الكثيرة ، وقد حققناه في كتاب السماء والعالم من كتاب بحار الأنوار ، فإذا عرفت هذا فإما أن يكون عليه‌السلام فسر العرش بمجموع الأشياء ، وضمن الاستواء ما يتعدى بعلى

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٩.


من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء.

______________________________________________________

كالاستيلاء والاستعلاء والإشراف ، فالمعنى استوت نسبته إلى كل شيء حالكونه مستوليا عليها ، أو فسره بالعلم ، ويكون متعلق الاستواء مقدرا ، أي تساوت نسبته من كل شيء حالكونه متمكنا على عرش العلم ، فيكون إشارة إلى بيان نسبته تعالى وأنها بالعلم والإحاطة ، أو المراد بالعرش عرش العظمة والجلال والقدرة كما فسر بها أيضا في بعض الأخبار ، أي استوى من كل شيء مع كونه في غاية العظمة ومتمكنا على عرش التقدس والجلالة ، والحاصل أن علو قدره ليس مانعا من دنوة بالحفظ والتربية والإحاطة وكذا العكس.

وعلى التقادير فقوله « اسْتَوى » خبر ، وقوله « عَلَى الْعَرْشِ » حال ، ويحتمل أن يكونا خبرين على بعض التقادير ، ولا يبعد على الاحتمال الأول جعل قوله : على العرش ، متعلقا بالاستواء بأن تكون كلمة « على » بمعنى إلى ، ويحتمل على تقدير حمل العرش على العلم أن يكون قوله على العرش خبرا ، وقوله : استوى ، حالا عن العرش ولكنه بعيد.

وعلى التقادير يمكن أن يقال أن النكتة في إيراد الرحمن بيان أن رحمانيته توجب استواء نسبته إيجادا وحفظا وتربية وعلما إلى الجميع ، بخلاف الرحيمية فإنها تقتضي إفاضة الهدايات الخاصة على المؤمنين فقط ، وكذا كثير من أسمائه الحسنى تخص جماعة كما حققناه في الكتاب المذكور.

ويؤيد بعض الوجوه الذي ذكرنا ما ذكره الصدوق (ره) في كتاب العقائد حيث قال : اعتقادنا في العرش أنه جملة جميع الخلق ، والعرش في وجه آخر هو العلم ، وسئل الصادق عليه‌السلام : عن قول الله عز وجل : « الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » فقال : استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء « انتهى » وإنما بسطنا الكلام في هذا المقام لصعوبة فهم تلك الأخبار على أكثر الأفهام.


٧ ـ وعنه ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الرحمن بن الحجاج قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى « الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » فقال استوى في كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب استوى في كل شيء.

٨ ـ وعنه ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال من زعم أن الله من شيء أو في شيء أو على شيء فقد كفر قلت فسر لي قال أعني بالحواية من الشيء له أو بإمساك له أو من شيء سبقه.

وفي رواية أخرى من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثا ومن زعم أنه في شيء فقد جعله محصورا ومن زعم أنه على شيء فقد جعله محمولا.

في قوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ) (١)

٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن الحكم قال قال أبو شاكر الديصاني إن في القرآن آية هي قولنا قلت ما هي فقال « وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ » فلم أدر بما أجيبه فحججت فخبرت أبا عبد الله عليه‌السلام فقال هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل له ما اسمك بالكوفة؟

______________________________________________________

الحديث السابع : صحيح.

الحديث الثامن : صحيح وآخره مرسل.

قوله : بالحواية من الشيء له ، تفسير لقوله : في شيء ، وقوله : أو بإمساك له ، تفسير لقوله : على شيء ، وقوله : أو من شيء سبقه ، تفسير لقوله : من شيء.

الحديث التاسع : حسن ، ولعل هذا الديصاني لما كان قائلا بإلهين : نور ، ملكه السماء ، وظلمة ملكها الأرض ، أول الآية بما يوافق مذهبه بأن جعل قوله : « وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ » جملة تامة معطوفة على مجموع الجملة السابقة ، أي وفي الأرض إله

__________________

(١) سورة الزخرف : ٨٣.


فإنه يقول فلان فقل له ما اسمك بالبصرة فإنه يقول فلان فقل كذلك الله ربنا « فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ » وفي البحار إله وفي القفار إله وفي كل مكان إله قال فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال هذه نقلت من الحجاز.

باب العرش والكرسي

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي رفعه قال سأل الجاثليق أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال أخبرني عن الله عز وجل يحمل العرش أم العرش يحمله فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام الله عز وجل حامل العرش والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما وذلك قول الله عز وجل « إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا

______________________________________________________

آخر ، ويظهر من بعض الأخبار أنه كان من الدهريين ، فيمكن أن يكون استدلاله بما يوهم ظاهر الآية من كونه بنفسه حاصلا في السماء والأرض ، فيوافق ما ذهبوا إليه من كون المبدإ الطبيعة ، فإنها حاصلة في الأجرام السماوية والأجسام الأرضية معا ، فأجاب عليه‌السلام بأن المراد أنه تعالى مسمى بهذا الاسم في السماء وفي الأرض ، والأكثرون على أن الظرف متعلق بالإله لأنه بمعنى المعبود أو مضمن معناه ، كقولك : هو حاتم في البلد.

باب العرش والكرسي

الحديث الأول : مرفوع ، وقال في القاموس : الجاثليق بفتح الثاء المثلثة. رئيس للنصارى في بلاد الإسلام بمدينة السلام.

قوله تعالى « أَنْ تَزُولا » أي يمسكهما كراهة أن تزولا بالعدم والبطلان ، أو يمنعهما ويحفظهما أن تزولا ، فإن الإمساك متضمن للمنع والحفظ ، وفيه دلالة على أن الباقي في البقاء محتاج إلى المؤثر « إِنْ أَمْسَكَهُما » أي ما أمسكهما « مِنْ بَعْدِهِ » أي من بعد الله أو من بعد الزوال و « من » الأولى زائدة للمبالغة في الاستغراق ، والثانية


وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً » (١) قال فأخبرني عن قوله « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ » (٢) فكيف قال ذلك وقلت إنه يحمل العرش والسماوات والأرض فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام إن العرش خلقه الله تعالى من أنوار أربعة نور أحمر منه احمرت الحمرة ونور أخضر منه اخضرت الخضرة ونور أصفر منه اصفرت الصفرة ونور أبيض منه ابيض البياض وهو العلم الذي حمله الله الحملة وذلك نور من عظمته فبعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من

______________________________________________________

للابتداء.

قوله : فأخبرني عن قوله ... لعله توهم المنافاة من جهتين : « الأولى » أن حملة العرش ثمانية لا هو ، وقلت هو حامله ، والثانية أن الثمانية إذا حملوا عرشه فقد حملوه أيضا لأنه على العرش ، وقلت إنه حامل جميع ما سواه.

قوله عليه‌السلام : وهو العلم ، أي العرش أو البياض أي النور الأبيض ، والأخير أنسب بما مضى في باب النهي عن الصفة في تفسير الأنوار منقولا عن الوالد العلامة ، وعلى الأول لعل المعنى أن العلم أحد معاني العرش ، إذ يظهر من الأخبار أن العرش يطلق على الجسم المحيط بجميع الأجسام ، وعليه مع ما فيه من الأجسام أعني العالم الجسماني ، وقد يراد به جميع ما سوى الله من العقول والأرواح والأجسام ، وقد يراد به علم الله سبحانه المتعلق بما سواه ، وقد يراد به علم الله الذي اطلع عليه أنبيائه ورسله وحججه صلوات الله عليهم خاصة ، ولعل أحد الأخيرين هو المراد في هذا الخبر والذي بعده ، والله يعلم.

قوله عليه‌السلام : أبصر قلوب المؤمنين ، أي ما يبصرون ويعلمون.

قوله عليه‌السلام : عاداه الجاهلون ، لأن الجهل مساوق الظلمة التي هي ضد النور ،

__________________

(١) سورة الفاطر : ٤١.

(٢) سورة الحاقة : ١٧.


جميع خلائقه إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة فكل محمول يحمله الله بنوره وعظمته وقدرته لا يستطيع لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكل شيء محمول والله تبارك وتعالى الممسك لهما أن تزولا والمحيط بهما من شيء وهو حياة كل شيء ونور كل شيء سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

قال له فأخبرني عن الله عز وجل أين هو فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا وهو قوله « ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا » فالكرسي محيط بالسماوات والأرض « وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى وَإِنْ تَجْهَرْ

______________________________________________________

والمعاداة إنما يكون بين الضدين كذا قيل ، والأظهر عندي أن المراد أن ظهوره صار سببا لخفائه كما قيل : يا خفيا من فرط الظهور ، فتأمل « ابتغى » أي طلب ، ولعل المعنى أن نوره سبحانه لما ظهر في عالم الوجود طلبه جميع الخلق ، لكن بعضهم أخطأوا طريق الطلب وتعيين المطلوب ، فمنهم من يعبد الصنم لتوهمه أنه هناك ، ومنهم من يعتقد الدهر لزعمه أنه الإله والمدبر ، فكل منهم يعلمون اضطرارهم إلى مدبر وخالق ورازق وحافظ ويطلبونه ويبتغون إليه الوسيلة لكنهم لعماهم يخطئون ويتحيرون ، ولبسط هذا الكلام مقام آخر.

قوله عليه‌السلام : الممسك لهما ، أي للسماوات والأرض « والمحيط » يجوز جر المحيط بالعطف على ضمير لهما ، و « من » بيان له ، يعني الممسك للشيء المحيط بهما ، أو متعلق بقوله : « أَنْ تَزُولا » يعني الممسك لهما وللمحيط بهما أن تزولا ، وقوله : من شيء ، للتعميم ويجوز رفعه بالعطف على الممسك « ومن » بيان لضمير بهما لقصد زيادة التعميم ، أو بيان المحذوف يعني المحيط بهما مع ما حوتاه من شيء.

قوله عليه‌السلام : وهو حياة كل شيء ، أي من الحيوانات أو الحيات بمعنى الوجود والبقاء مجازا « ونور كل شيء » أي سبب وجوده وظهوره.

قوله عليه‌السلام : فالكرسي ، يمكن أن يكون المراد تفسير الكرسي أيضا بالعلم فتأمل.


بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى » وذلك قوله تعالى : « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ » فالذين يحملون العرش هم العلماء الذين حملهم الله علمه وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلق الله في ملكوته الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليلهعليه‌السلامفقال « وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ » (١) وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييت قلوبهم وبنوره اهتدوا إلى معرفته؟.

٢ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى قال سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فاستأذنته فأذن لي فدخل فسأله عن الحلال والحرام ثم قال له أفتقر أن الله محمول فقال أبو الحسن عليه‌السلام كل محمول مفعول به مضاف إلى غيره محتاج والمحمول اسم نقص في اللفظ والحامل فاعل

______________________________________________________

قوله تعالى : « وَلا يَؤُدُهُ » أي لا يثقل عليه.

قوله عليه‌السلام : هم العلماء ، إذا كان المراد بالعرش عرش العلم كان المراد بالأنوار الأربعة صنوف العلم وأنواعه ، ولا يخرج عن تلك الأنواع أحد ، وإذا كان المراد بالأنوار نور المحبة والمعرفة والعبادة والعلم كما مر فهو أيضا صحيح ، إذ لا يخرج شيء أيضا منها ، إذ ما من شيء إلا وله محبة وعبادة ومعرفة ، وهو يسبح بحمده ، وقال الوالد العلامة قدس‌سره : الظاهر أن المراد بالأربعة العرش والكرسي والسماوات والأرض ، ويحتمل أن يكون المراد بها الأنوار الأربعة التي هي عبارة عن العرش لأنه محيط على ما هو المشهور.

الحديث الثاني : صحيح.

قوله عليه‌السلام : والمحمول اسم نقص ، ليس المراد أن كل ما ورد على صيغة المفعول اسم نقص ، وإلا لانتقض بالموجود والمعبود والمحمود ، بل ما دل على وقوع تأثير وتغيير من غيره ، كالمحفوظ والمربوب والمحمول وأمثالها ، وقيل : لما رأى عليه‌السلام قصور

__________________

(١) سورة الأنعام : ٧٥.


وهو في اللفظ مدحة وكذلك قول القائل فوق وتحت وأعلى وأسفل وقد قال الله « وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها » (١) ولم يقل في كتبه إنه المحمول بل قال إنه الحامل في البر والبحر والممسك السماوات والأرض أن تزولا والمحمول ما سوى الله ولم يسمع أحد آمن بالله وعظمته قط قال في دعائه يا محمول قال أبو قرة فإنه قال « وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ » وقال « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ » فقال أبو الحسن عليه‌السلام العرش ليس هو الله والعرش اسم علم وقدرة وعرش فيه كل شيء ثم أضاف الحمل إلى غيره خلق من خلقه لأنه استعبد خلقه بحمل عرشه

______________________________________________________

فهمه عن إدراك الدلائل العقلية احتج عليه بصورة الألفاظ ومدلولاتها الأولية ، تارة بأن المحمول اسم مفعول فعل به فاعل فعله ، وكل مفعول به فهو مضاف إلى غيره الذي هو فاعله ، وهو محتاج إلى غيره ، وتارة بأن المحمول لكونه اسم المفعول اسم نقص في اللفظ ، والحامل لكونه اسم الفاعل اسم مدحة ، وقوله عليه‌السلام : وكذلك قول القائل فوق « إلخ » يعني أن مثل ذينك اللفظين في كون أحدهما اسم مدح والآخر اسم نقص ، قول القائل : فوق ، وتحت ، فإن فوق اسم مدح ، وتحت اسم نقص ، وكذلك أعلى اسم مدح وأسفل اسم نقص.

قوله عليه‌السلام : خلق ، بالجر بدل من غيره ، وأشار بذلك إلى أن الحامل لما كان من خلقه ، فيرجع الحمل إليه تعالى وهم حملة علمه ، أي وقد يطلق حملة العرش على حملة العلم أيضا ، أو حملة العرش في القيامة هم حملة العلم في الدنيا.

قوله عليه‌السلام : بحمل عرشه ، والحاصل أنه لا يحتاج في حمل العرش إلى غيره بل استعبد أصناف خلقه بأصناف الطاعات ، وحملة العرش عبادتهم حمل العرش من غير حاجة إليهم ، وقوله عليه‌السلام : وخلقا وملائكة معطوفان على خلقه ، ذكر كل ذلك للتنظير أي كما أنه تعالى لا يحتاج إلى تسبيح الملائكة وكتابتهم أعمال العباد وطواف العباد حول

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٨٠ وأصل الآية هكذا « ولله الأسماء الحسنى ... » ويحتمل قريبا وقوع التصحيف في المتن.


وهم حملة علمه وخلقا يسبحون حول عرشه وهم يعملون بعلمه وملائكة يكتبون أعمال عباده واستعبد أهل الأرض بالطواف حول بيته والله « عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى » كما قال والعرش ومن يحمله ومن حول العرش والله الحامل لهم الحافظ لهم الممسك القائم على كل نفس وفوق كل شيء وعلى كل شيء ولا يقال محمول ولا أسفل قولا مفردا لا يوصل بشيء فيفسد اللفظ والمعنى قال أبو قرة فتكذب بالرواية التي جاءت أن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم فيخرون سجدا فإذا ذهب الغضب خف ورجعوا إلى مواقفهم فقال أبو الحسن عليه‌السلام أخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا هو غضبان عليه فمتى رضي وهو في صفتك لم يزل غضبان عليه وعلى أوليائه وعلى

______________________________________________________

بيته ، فكذا لا يحتاج إلى من يحمل عرشه ، وإنما أمرهم بجميع ذلك ليعبدوه ويستحقوا ثوابه.

قوله عليه‌السلام : وهم يعملون بعلمه ، أي بما أعطاهم من العلم ، وقوله عليه‌السلام : والعرش وما عطف عليه مبتدأ خبره محذوف ، أي محمول كلهم ، أو سواء في نسبتهم إليه تعالى قوله عليه‌السلام :

كما قال ، أي استواؤه سبحانه على العرش على النحو الذي قال ، وأراد [ من ] استواء النسبة أو الاستيلاء كما مر لا كما تزعمه المشبهة.

قوله عليه‌السلام : قولا مفردا لا يوصل بشيء ، أي لا يوصل بقرينة صارفة عن ظاهره أو ينسب إلى شيء آخر على طريقة الوصف بحال المتعلق ، بأن يقال : عرشه محمول أو أرضه تحت كذا وجحيمه أسفل ونحو ذلك ، وإلا فيفسد اللفظ لعدم الإذن الشرعي وأسمائه توقيفية ، وأيضا هذا اسم نقص كما مر ، والمعنى لأنه يوجب نقصه وعجزه تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

قوله عليه‌السلام : وهو في صفتك ، أي وصفك إياه أنه لم يزل غضبانا على الشيطان وعلى أوليائه ، والحاصل أنه لما فهم من كلامه أن الملائكة الحاملين للعرش قد يكونون قائمين ، وقد يكونون ساجدين ، يطريان الغضب وضده ، وحمل الحديث على ظاهره


أتباعه كيف تجترئ أن تصف ربك بالتغيير من حال إلى حال وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين سبحانه وتعالى لم يزل مع الزائلين ولم يتغير مع المتغيرين ولم يتبدل مع المتبدلين ومن دونه في يده وتدبيره وكلهم إليه محتاج وهو غني عمن سواه.

٣ ـ محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن الفضيل بن يسار قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله جل وعز « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » فقال يا فضيل كل شيء في الكرسي السماوات والأرض وكل شيء في الكرسي.

______________________________________________________

نبه عليه‌السلام على خطائه إلزاما عليه بقدر فهمه بأنه لا يصح ما ذكرت إذ من غضبه تعالى ما علم أنه لم يزل كغضبه على إبليس فيلزم أن يكون حملة العرش منذ غضب على إبليس إلى الآن سجدا غير واقفين إلى مواقفهم فعلم أن ما ذكرته وفهمته خطاء

والحديث على تقدير صحته محمول على أن المراد بغضبه سبحانه إنزال العذاب وبوجدان الحملة ثقل العرش اطلاعهم عليه بظهور مقدماته وأسبابه ، وبسجودهم خضوعهم وخشوعهم له سبحانه خشية وخوفا من عذابه ، فإذا انتهى تزول العذاب وظهرت مقدمات رحمته اطمأنوا ورغبوا في طلب رحمته ، ثم بعد إلزامه عليه‌السلام بذلك شرع في الاستدلال على تنزيهه سبحانه مما فهمه ، فقال : كيف تجترئ أن تصف ربك بالتغير من حال إلى حال ، وهو من صفات المخلوقات والممكنات ، « لم يزل » بضم الزاء من زال يزول ، وليس من الأفعال الناقصة ، ووجه الاستدلال بما ذكره عليه‌السلام على ما ما ذكر قد مر مرارا فلا نعيده.

الحديث الثالث : كالصحيح ، وفي التوحيد هكذا : يا فضيل السماوات والأرض وكل شيء في الكرسي ، بدون تلك الزيادة ، وإحاطة الكرسي بالسماوات والأرض لا ينافي كون العرش محيطا بالجميع.


٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحجال ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن زرارة بن أعين قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله جل وعز « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » السماوات والأرض وسعن الكرسي أم الكرسي وسع السماوات والأرض فقال بل الكرسي وسع السماوات والأرض والعرش وكل شيء وسع الكرسي.

٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة بن أيوب

______________________________________________________

الحديث الرابع : صحيح.

قوله : السماوات والأرض وسعن ، ولعل سؤال زرارة لاستعلام أن في قرآن أهل البيت كرسيه منصوب أو مرفوع ، وإلا فعلى تقدير العلم بالرفع لا يحسن منه هذا السؤال ، ويروي عن الشيخ البهائي قدس‌سره أنه قال : سألت عن ذلك والدي ، فأجاب رحمه‌الله بأن بناء السؤال على قراءة وسع بضم الواو وسكون السين مصدرا مضافا ، وعلى هذا يتجه السؤال ، وإني تصفحت كتب التجويد فما ظفرت على هذه القراءة إلا هذه الأيام رأيت كتابا في هذا العلم مكتوبا بالخط الكوفي وكانت هذه القراءة فيه ، وكانت النسخة بخط مصنفه.

وقوله عليه‌السلام : والعرش ، لعله منصوب بالعطف على الأرض ، فالمراد بالكرسي العلم أو بالعرش فيما ورد أنه محيط بالكرسي العلم ، وروى الصدوق في التوحيد عن حفص قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » قال : علمه ، وقيل : العرش معطوف على الكرسي أي والعرش أيضا وسع السماوات والأرض ، فالمراد أن الكرسي والعرش كلا منهما وسع السماوات والأرض وقيل : العرش مرفوع بالابتدائية ، أي والعرش وكل شيء من أجزاء العرش ودوائره وسع الكرسي بنصب الكرسي ، وعلى الاحتمالين الأولين قوله : وكل شيء ، جملة مؤكدة لما سبق في التوحيد في آخر الخبر : وكل شيء في الكرسي.

الحديث الخامس : موثق كالصحيح.


عن عبد الله بن بكير ، عن زرارة بن أعين قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » السماوات والأرض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع السماوات والأرض فقال إن كل شيء في الكرسي.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال حملة العرش والعرش العلم ثمانية أربعة منا وأربعة ممن شاء الله.

______________________________________________________

الحديث السادس : مجهول.

قوله عليه‌السلام : والعرش العلم ، جملة معترضة ، والمراد بقوله أربعة منا محمد وعلى والحسن والحسين عليه‌السلام ، والأربعة الأخرى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى على نبينا وعليهم‌السلام كما ورد في الخبر ، وسائر الأئمة داخلون في الحسين عليه‌السلام لأنهم من صلبه ، وقيل : الأربعة الأخيرة سلمان وأبو ذر ومقداد وعمار ، والأول أصوب لما روي عن الكاظم عليه‌السلام أنه قال : إذا كان يوم القيامة كان حملة العرش ثمانية : أربعة من الأولين : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وأربعة من الآخرين محمد وعلي والحسن والحسين.

وفي اعتقادات الصدوق رحمه‌الله : فأما العرش الذي هو جملة الخلق فحملته أربعة من الملائكة ، لكل واحد منهم ثماني أعين ، كل عين طباق الدنيا ، واحد منهم على صورة آدم يسترزق الله تعالى لولد آدم ، والآخر على صورة الثور يسترزق الله تعالى للبهائم كلها ، والآخر على صورة الأسد يسترزق الله للسباع ، والآخر على صورة الديك يسترزق الله للطيور ، فهم اليوم هؤلاء الأربعة ، وإذا كان يوم القيامة صاروا ثمانية ، وأما العرش الذي هو العلم فحملته أربعة من الأولين وأربعة من الآخرين ، فأما الأربعة من الأولين فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، وأما الأربعة من الآخرين ، فمحمد وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام أجمعين ، هكذا روي بالأسانيد الصحيحة عن الأئمة عليهم‌السلام في العرش وحملته « انتهى ».


٧ ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن ابن محبوب ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن داود الرقي قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ » (١) فقال ما يقولون قلت يقولون إن العرش كان على الماء والرب فوقه فقال كذبوا من زعم هذا فقد صير الله محمولا ووصفه بصفة المخلوق ولزمه أن الشيء الذي يحمله أقوى منه قلت بين لي جعلت فداك فقال إن الله حمل دينه وعلمه الماء قبل أن يكون أرض أو سماء أو جن أو إنس أو شمس أو قمر فلما أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم من ربكم فأول من نطق :

______________________________________________________

الحديث السابع : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : وعلمه الماء ، قال السيد الداماد : كثيرا ما وقع اسم الماء في التنزيل الكريم وفي الأحاديث الشريفة على العلم أو على العقل القدسي الذي هو حامله ، واسم الأرض على النفس المجردة التي هي بجوهرها قابلة العلوم والمعارف ، ومنه قوله :عز سلطانه « وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » على ما قد قرره غير واحد من أئمة التفسير ، فكذلك قول مولانا أبي عبد الله عليه‌السلام في هذا الحديث ، الماء تعبير عن الجوهر العقلي الحامل لنور العلم من الأنوار العقلية القدسية « انتهى ».

وأقول : هذه التأويلات في الأخبار جرأة على من صدرت عنه ، والأولى تسليمها ورد علمها إليهم.

ويحتمل أن يكون المراد بحمل دينه وعلمه على الماء : أنه تعالى جعله مادة قابلة لأن يخلق منه الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، الذين هم قابلون وحاملون لعلمه ودينه ، أو أن علمه سبحانه لما كان قبل خلق الأشياء غير متعلق بشيء من الموجودات العينية بل كان عالما بها وهي معدومة ، فلما أوجد الماء الذي هو مادة سائر الموجودات كان متعلقا لعلمه سبحانه به ، وبما يوجد منه ، فلعل هذا الكلام إشارة إلى ذلك ،

__________________

(١) سورة هود : ٧.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمة صلوات الله عليهم فقالوا أنت ربنا فحملهم العلم والدين ثم قال للملائكة هؤلاء حملة ديني وعلمي وأمنائي في خلقي وهم المسئولون ثم قال لبني آدم أقروا لله بالربوبية ولهؤلاء النفر بالولاية والطاعة فقالوا نعم ربنا أقررنا فقال الله للملائكة اشهدوا فقالت الملائكة شهدنا على أن لا يقولوا غدا « إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ » يا داود ولايتنا مؤكدة عليهم في الميثاق.

باب الروح

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن الأحول قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الروح التي في آدم عليه‌السلام قوله « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » (١) قال هذه روح مخلوقة والروح التي في عيسى مخلوقة.

______________________________________________________

مع أنه لا يمتنع أن يكون الله سبحانه أفاض على الماء روحا وأعطاه علما.

وقد أول بعض من سلك مسلك الحكماء : الماء بالمادة الجسمانية تشبيها لها بالماء ، لقبولها الأنواع والأشكال ، وقال : قبلية حمل الدين والعلم إياه على الموجودات المذكورة قبليته بالذات والمرتبة لا بالزمان ، وهي أقوى لأنها بعلاقة ذاتية ، وقال : نثرهم ، أي نثر مهياتهم وحقائقهم بين يدي علمه ، فاستنطق الحقائق بالسنة قابليات جواهرها ، وألسن استعدادات ذواتها ، وفيه إشارة إلى قوله سبحانه « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ » الآية (٢).

أقول : وسيأتي بعض الكلام فيه في كتاب الإيمان والكفر.

باب الروح

أي بيان الروح التي أضافها الله إلى نفسه ، ومعنى إضافتها إليه سبحانه.

الحديث الأول : صحيح.

__________________

(١) سورة الحجر : ٢٩.

(٢) سورة الأعراف : ١٧٢.


٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحجال ، عن ثعلبة ، عن حمران قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « وَرُوحٌ مِنْهُ » (١) قال هي روح الله مخلوقة خلقها الله في آدم وعيسى.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن خالد ، عن القاسم بن عروة ، عن عبد الحميد الطائي ، عن محمد بن مسلم قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ـ عن قول الله عز وجل « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » كيف هذا النفخ فقال إن الروح متحرك كالريح وإنما سمي روحا لأنه اشتق اسمه من الريح وإنما أخرجه عن لفظة الريح لأن الأرواح مجانسة للريح وإنما أضافه إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح كما قال لبيت من البيوت بيتي ولرسول من الرسل خليلي وأشباه ذلك وكل

______________________________________________________

الحديث الثاني : حسن.

الحديث الثالث : مجهول ولعل إخراجه على لفظة الريح عبارة عن التعبير عن إيجاده في البدن بالنفخ فيه ، لمناسبة الروح للريح ومجانسته إياه وإنما أضافه إلى نفسه سبحانه لأنه اصطفاه بتقدسه وتشرفه على سائر الأرواح.

واعلم أن الروح قد تطلق على النفس الناطقة التي تزعم الحكماء أنها مجردة وهي محل للعلوم والكمالات ومدبرة للبدن ، وقد تطلق على الروح الحيواني وهو البخار اللطيف المنبعث من القلب الساري في جميع الجسد ، وتلك الأخبار تحتملهما وإن كانت بالأخير بعضها أنسب ، وقيل : الروح وإن لم تكن في أصل جوهرها من هذا العالم إلا أن لها مظاهر ومجالي في الجسد ، وأول مظهر لها فيه بخار لطيف دخاني شبيه في لطافته واعتداله بالجرم السماوي ، ويقال له : الروح الحيواني ، وهو مستوي الروح الرباني الذي هو من عالم الأمر ومركبة ومطيته قواه ، فعبر عليه‌السلام عن الروح بمظهره تقريبا إلى الأفهام ، لأنها قاصرة عن فهم حقيقته كما أشير إليه بقوله تعالى : « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » (٢) ولأن مظهره هذا هو

__________________

(١) سورة النساء : ١٧١.

(٢) سورة الإسراء : ٨٥.


ذلك مخلوق مصنوع محدث مربوب مدبر.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن بحر ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن محمد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عما يروون أن الله خلق آدم على صورته فقال هي صورة محدثة مخلوقة واصطفاها الله واختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه والروح إلى نفسه فقال « بَيْتِيَ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ».

باب جوامع التوحيد

١ ـ محمد بن أبي عبد الله ومحمد بن يحيى جميعا رفعاه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام أن

______________________________________________________

المنفوخ دون أصله.

الحديث الربع : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : فأضافها إلى نفسه ، أي تشريفا وتكريما ، وروى الصدوق (ره) في العيون بإسناده عن الحسين بن خالد قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الله خلق آدم على صورته؟ فقال : قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مر برجلين يتسابان فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبح الله وجهك ووجه من يشبهك. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك ، فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته ، فلعل الباقر عليه‌السلام أجاب هكذا على تقدير تسليم الخبر ، أو لم يتعرض لنفيه تقية ، وربما يجاب أيضا بأن المراد على صفته ، لأنه مظهر للصفات الكمالية الإلهية ، أو يقال : إن الضمير راجع إلى آدم أي صورته المناسبة له اللائقة به.

باب جوامع التوحيد

الحديث الأول : مرفوع.


أمير المؤمنين عليه‌السلام استنهض الناس في حرب معاوية في المرة الثانية فلما حشد الناس قام خطيبا فقال :

الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرد الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان قدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه فليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه الأمثال كل دون صفاته تحبير اللغات وضل هناك تصاريف الصفات

______________________________________________________

قوله : حشد ، أي جمع ، وفي بعض النسخ بالراء بمعناه.

قوله عليه‌السلام : المتفرد ، أي في الخلق والتدبير أو بسائر الكمالات ، « ولا من شيء خلق » أي ليس إحداثه للأشياء موقوفا على مادة أو شيء ليس هو موجده.

قوله عليه‌السلام : قدرة ، أي له قدرة ، أو هو عين القدرة بناء على عينية الصفات ، وقيل : نصب على التميز ، أو على أنه منزوع الخافض ، أي ولكن خلق الأشياء قدرة ، أو بقدرة ، وفي التوحيد : قدرته فهو مبتدأ « وبأن بها » خبره أو خبره « كافية » ، فكانت جملة استئنافية ، فكأن سائلا سئل وقال : فكيف خلق لا من شيء؟ فأجاب بأن قدرته كافية.

قوله : ولا حد ، أي جسماني أو عقلي ، أو ليس لمعرفة ذاته وصفاته تعالى حد ونهاية حتى يضرب له فيه الأمثال ، إذ الأمثال إنما تصح إذا كان له مشابهة بالممكنات أو مناسبة بينه وبين المدركات بالعقول والمشاعر ، والكلال : العجز والإعياء ، والتحبير التحسين أي أعيى قبل الوصول إلى بيان صفاته أو عنده تزيين الكلام باللغات البديعة الغريبة « وضل هنالك » أي في ذاته تعالى أو في توصيفه بصفاته صفات تصاريف صفات الواصفين ، وأنحاء تعبيرات العارفين ، أو ضل وضاع في ذاته الصفات المتغيرة الحادثة فيكون نفيا للصفات الحادثة عنه تعالى ، أو مطلق الصفات ، أي ليس في ذاته التغيرات الحاصلة من عروض الصفات المتغايرة ، فيكون نفيا لزيادة الصفات مطلقا ، كل ذلك أفاده الوالد العلامة قدس الله روحه « في ملكوته » فعلوت من الملك ، وقد يخص بعالم الغيب وعالم المجردات ، والملك بعالم الشهادة وعالم الماديات ، وأفكر في الشيء وفكر


وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور.

فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له

______________________________________________________

فيه وتفكر بمعنى ، أي تحير في إدراك حقائق ملكوته وخواصها وآثارها وكيفية نظامها وصدورها عنه تعالى الأفكار العميقة ، الواقعة في مذاهب التفكير أو مذاهب التفكير العميقة ، فيكون إسناد الحيرة إليها إسنادا مجازيا.

« دون الرسوخ في علمه » الرسوخ : الثبوت أي انقطع جوامع تفسيرات المفسرين قبل الثبوت في علمه أو عنده ، إشارة إلى قوله تعالى : « وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ » (١) وقد مرت الإشارة إلى توجيهه في باب النهي عن التفكر في ذاته تعالى هذا إذا كان المراد بقوله : في علمه ، في معلومه ، ويحتمل أن يكون المراد في العلم به سبحانه أو في إبانة حقيقة علمه سبحانه بالأشياء.

« وحال دون غيبه المكنون » المكنون : المستور ، والمراد معرفة ذاته وصفاته ، فالمراد بالحجب النورانية والظلمانية المعنوية من كماله تعالى ونقص مخلوقاته أو الأعم منها ومن سائر العلوم المغيبة ، فالحجب أيضا أعم أو المراد أسرار الملكوت الأعلى من العرش والكرسي والملائكة ، الحافين بهما وسائر ما هو مستور عن حواسنا بالحجب الجسمانية ، والتيه : التحير ، والأدنى : الأقرب ، والإضافة في « طامحات العقول ولطيفات الأمور » من إضافة الصفة إلى الموصوف ، والطامح : المرتفع ، والظرف في قوله : في لطيفات ، متعلق بالطامحات ، بأن يكون « في » بمعنى إلى ، أو حال منه فتبارك إما مشتق من البروك بمعنى الثبات والبقاء أو من البركة وهي الزيادة ، والهمة العزم ، ويقال : فلان بعيد الهمة إذا كانت إرادته تتعلق بالأمور العالية ، والمعنى لا تبلغه الهمم العالية الطالبة لأعلى وأبعد ما من شأنها الوصول إليه ، وكذا المراد بغوص

__________________

(١) سورة آل عمران : ٧.


وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود سبحان الذي ليس له أول مبتدأ ولا غاية منتهى ولا آخر يفنى سبحانه هو كما وصف نفسه والواصفون لا يبلغون نعته وحد الأشياء كلها عند خلقه إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها لم يحلل فيها فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن ولم يخل منها فيقال له أين لكنه سبحانه أحاط بها علمه وأتقنها صنعه وأحصاها حفظه لم يعزب عنه خفيات غيوب الهواء ولا غوامض مكنون ظلم الدجى ولا ما في السماوات العلى إلى

______________________________________________________

الفطن : الفطن الغائصة في بحار الفكر لدرك دقائق الأمور.

« ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود » أي ليس له زمان متناه ولا غير متناه لخروجه عن الزمان ، أو ليس له زمان متناه ولا غاية لوجوده وإن امتد الزمان.

« ولا نعت محدود » أي بالحدود الجسمانية أو العقلانية بأن يحاط بنعته « ولا آخر يفنى » أي بعده « هو كما وصف نفسه » أي في كتبه وعلى ألسنة رسله وحججه وبقلم صنعه على دفاتر الآفاق والأنفس ، « حد الأشياء كلها » أي جعل للأشياء حدودا ونهايات أو أجزاء وذاتيات ليعلم بها أنها من صفات المخلوقين ، والخالق منزه عن صفاتهم ، أو خلق الممكنات التي من شأنها المحدودية ليعلم بذلك أنه ليس كذلك ، كما قال تعالى (١) : فخلقت الخلق لأعرف ، أو خلقها محدودة لأنها لم يكن يمكن أن تكون غير محدودة لامتناع مشابهة الممكن الواجب في تلك الصفات التي هي من لوازم وجوب الوجود ، ولعل الأوسط أظهر « ولم يخل منها » أي بالخلو الذي هو بمعنى عدم الملكة ، بقرينة التفريع ، أي الخلو المحل عن الحال والمكان عن المتمكن « فيقال له أين » أي يسأل أين هو ، ويمكن أن يقرأ أين بالتنوين ، أي يقال إنه أين ومكان للأشياء ، ثم بين عليه‌السلام نسبته سبحانه إلى الأشياء وكيفية قربه منها ، بقوله « لكنه سبحانه » إلخ ، أي قربه قرب العلية وإحاطته الإحاطة العلمية ، « لم يعزب » أي لم يغب ، والدجى : جمع دجية بالضم وهي الظلمة.

__________________

(١) أي في الحديث القدسي.


الأرضين السفلى لكل شيء منها حافظ ورقيب وكل شيء منها بشيء محيط والمحيط بما أحاط منها.

الواحد الأحد « الصَّمَدُ » الذي لا يغيره صروف الأزمان ولا يتكأده صنع شيء كان إنما قال لما شاء « كُنْ » فكان ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ولا تعب ولا نصب وكل صانع شيء فمن شيء صنع والله لا من شيء صنع ما خلق وكل عالم فمن بعد جهل تعلم والله لم يجهل ولم يتعلم أحاط بالأشياء علما قبل كونها فلم يزدد بكونها علما علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بعد تكوينها لم يكونها لتشديد سلطان ولا خوف من زوال ولا نقصان ولا استعانة على ضد مناو ولا ند مكاثر ولا شريك مكابر لكن خلائق مربوبون وعباد داخرون.

______________________________________________________

« لكل شيء منها حافظ ورقيب » الظرف خبر لقوله : حافظ ورقيب ، أو متعلق بكل منهما والمبتدأ محذوف أي هو لكل شيء منها حافظ ورقيب ، والأول أظهر فيكون إشارة إلى الملائكة الموكلين بالعرش والكرسي والسماوات والأرضين والبحار والجبال وسائر الخلق.

قوله عليه‌السلام : وكل شيء منها ، أي من السماوات والأرض وما بينهما محيط بشيء منها إحاطة علم وتدبير فيكون تأكدا للسابق على أحد الوجهين أو إحاطة جسمية ، والمحيط بكل من تلك المحيطات علما وقدرة وتدبيرا هو الله الواحد بلا تعدد الأحد بلا مشارك له في الحقيقة « الصمد » المستجمع لجميع كمالاته اللائقة بذاته الأحدية « الذي لا يغيره صروف الأزمان » أي تغيراتها « ولا يتكأده » أي لا يشق عليه « صنع شيء » من الأشياء « كان » وحصل بتكوينه « ابتدع » وخلق لا من مادة « ما خلق » مخترعا « بلا مثال سبق » وقوله : ولا تعب ولا نصب إما عطف على قوله : مثال ، ولا لتأكيد النفي أو مستأنف ولا لنفي الجنس ، والتعب ضد الاستراحة ، والنصب : الإعياء « على ضد مناف » وفي بعض النسخ « مناو » أي معاد « ولا ند » أي مثل « مكاثر » أي يغالبه بالكثرة « ولا شريك مكابر » أي يعارضه بالكبر أو الإنكار للحق ،


فسبحان الذي لا يئوده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما برأ ولا من عجز ولا من فترة بما خلق اكتفى علم ما خلق وخلق ما علم ـ لا بالتفكير في علم حادث أصاب ما خلق ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق لكن قضاء مبرم وعلم محكم وأمر متقن توحد بالربوبية وخص نفسه بالوحدانية واستخلص بالمجد والثناء وتفرد بالتوحيد والمجد والسناء وتوحد بالتحميد وتمجد بالتمجيد وعلا عن اتخاذ الأبناء وتطهر وتقدس عن ملامسة النساء وعز وجل عن مجاورة الشركاء فليس له فيما خلق ضد ولا له فيما ملك ند ولم يشركه في ملكه أحد الواحد الأحد « الصَّمَدُ » المبيد للأبد والوارث للأمد الذي لم يزل ولا يزال وحدانيا أزليا قبل بدء الدهور وبعد صروف الأمور الذي لا يبيد ولا ينفد بذلك أصف ربي فلا إله إلا الله من عظيم ما أعظمه ومن جليل ما أجله ومن عزيز ما أعزه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

______________________________________________________

والدخور الصغار والذل « لا يؤوده » أي لا يثقل عليه « ولا من عجز » أي لم يكتف بخلق ما خلق لعجز ولا فتور ، بل لعدم كون الحكمة في أزيد من ذلك.

ثم أكد عليه‌السلام ذلك بقوله : « علم ما خلق ، وخلق ما علم » أي ما علمه أن الصلاح في خلقه « ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق » بل لم يخلق لعدم الداعي إلى خلقه وإيجاده « لكن » الإيجاد « باقتضاء تام وقضاء مبرم وعلم محكم » وإحاطة بالخير والأصلح « وأمر متقن » أي نظام كامل « استخلص بالمجد والثناء » أي جعلهما مخصوصين بذاته الأحدية.

« وتوحد بالتحميد » أي باستحقاق الحمد من العباد ، أو بتحميد نفسه ، وفي التوحيد فتحمد بالتحميد ، يقال : هو يتحمد علي أي يمنن ، أي أنعم علينا واستحق منا الحمد والثناء بأن رخص لنا في تحميدة ، أو بأن حمد نفسه ولم يكل حمده إلينا والتمجد إظهار المجد والعظمة ، والتمجيد يحتمل الوجهين أيضا « المبيد للأبد » أي المهلك المفني للدهر والزمان والزمانيات « والوارث للأمد » أي الباقي بعد فناء


وهذه الخطبة من مشهورات خطبه عليه‌السلام حتى لقد ابتذلها العامة وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فيها فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس ليس فيها لسان نبي على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به بأبي وأمي ما قدروا عليه ولو لا إبانته عليه‌السلام ما علم الناس كيف يسلكون سبيل التوحيد ألا ترون إلى قوله لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان فنفى بقوله لا من شيء كان معنى الحدوث وكيف أوقع على ما أحدثه صفة الخلق والاختراع بلا أصل ولا مثال نفيا لقول من قال إن الأشياء كلها محدثة بعضها من بعض وإبطالا لقول الثنوية الذين زعموا أنه لا يحدث شيئا إلا من أصل ولا يدبر إلا باحتذاء مثال فدفع عليه‌السلام بقوله لا من شيء خلق ما كان جميع حجج الثنوية وشبههم لأن أكثر ما يعتمد الثنوية في حدوث العالم أن يقولوا لا يخلو من أن يكون الخالق خلق الأشياء من شيء أو من لا شيء فقولهم من شيء خطأ وقولهم من لا شيء مناقضة وإحالة لأن من توجب شيئا ولا شيء تنفيه فأخرج أمير المؤمنين عليه‌السلام هذه اللفظة على أبلغ الألفاظ وأصحها فقال لا من شيء خلق ما كان فنفى من إذ كانت توجب شيئا ونفى الشيء إذ كان كل شيء مخلوقا محدثا لا من أصل أحدثه الخالق كما قالت الثنوية إنه خلق من أصل قديم فلا يكون تدبير إلا باحتذاء مثال.

ثم قوله عليه‌السلام ليست له صفة تنال ولا حد تضرب له فيه الأمثال كل دون صفاته تحبير اللغات فنفى عليه‌السلام أقاويل المشبهة حين شبهوه بالسبيكة والبلورة وغير ذلك من أقاويلهم من الطول والاستواء وقولهم متى ما لم تعقد القلوب منه على كيفية ولم ترجع إلى إثبات هيئة لم تعقل شيئا فلم تثبت صانعا ففسر أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه واحد بلا كيفية وأن القلوب تعرفه بلا تصوير ولا إحاطة

______________________________________________________

الأمد أي الغاية والنهاية ، أو امتداد الزمان « وبعد صروف الأمور » أي تغيرها وفناؤها وهذا ناظر إلى قوله : لا يزال ، كما أن ما قبله ناظر إلى قوله لم يزل.

قوله : لقد ابتذلها ، أي اشتهرت بينهم ، فكأنها صارت مبتذلة ، ولو لا إبانته ،


ثم قوله عليه‌السلام الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود ثم قوله عليه‌السلاملم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن فنفى عليه‌السلام بهاتين الكلمتين صفة الأعراض والأجسام لأن من صفة الأجسام التباعد والمباينة ومن صفة الأعراض الكون في الأجسام بالحلول على غير مماسة ومباينة الأجسام على تراخي المسافة.

ثم قال عليه‌السلام لكن أحاط بها علمه وأتقنها صنعه أي هو في الأشياء بالإحاطة والتدبير وعلى غير ملامسة.

٢ ـ علي بن محمد ، عن صالح بن أبي حماد ، عن الحسين بن يزيد ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن إبراهيم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله تبارك اسمه

______________________________________________________

أي تمييزه الحق عن الباطل « نفيا لقول من قال » أي من الحكماء والدهرية والملاحدة حيث يقولون بقدم الأنواع ، وأن كل حادث مسبوق بآخر لا إلى نهاية « لأن أكثر ما يعتمده الثنوية » لعل المراد بالثنوية غير المصطلح من القائلين بالنور والظلمة ، بل القائلين بالقدم وأنه لا يوجد شيء إلا عن مادة ، لأن قولهم بمادة قديمة إثبات لإله آخر ، إذ لا يعقل التأثير في القديم ، فقال عليه‌السلام : لا من شيء خلق ، فإنه رد عليهم بأن ترديدهم غير حاصر ، إذ نقيض من شيء لا من شيء لا من لا شيء « فنفى » أي نفي لفظة من بإدخال لا عليها ، إذ كانت نفي من توجب شيئا ، فلو دخلت على حرف النفي كما قالوا لزم التناقض « ثم قوله » بالجر عطف على قوله في قوله : ألا ترون إلى قوله. وقوله : ومباينة الأجسام عطف على مماسته أو على الكون ، أو مبتدأ وعلى تراخي المسافة خبره ، ليكون مؤيدا للجملة السابقة فتأمل.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى اسمه ، أي اسمه ذو بركة عظيمة أو ثابت غير متغير ، أو بريء عن العيوب والنقائص ، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر إن ،


وتعالى ذكره وجل ثناؤه سبحانه وتقدس وتفرد وتوحد ولم يزل ولا يزال و « هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ » فلا أول لأوليته رفيعا في أعلى علوه شامخ الأركان رفيع البنيان عظيم السلطان منيف الآلاء سني العلياء الذي عجز الواصفون عن كنه صفته ولا يطيقون حمل معرفة إلهيته ولا يحدون حدوده لأنه

______________________________________________________

« وتعالى ذكره » عن الوصف بما يليق بالإمكان ، وجل ثناؤه سبحانه عن إحصار الألسن وإحاطة الأذهان ، وتقدس عن الاتصاف بما في بقعة الإمكان ، وتفرد بقدرته عن مشاركة الأعوان ، وتوحد بعز جلاله عن مجاورة الأمثال ، واتخاذ الأزواج والولدان وهو بذاته لم يزل ولا يزال لا بإحاطة الدهور والأزمان ، وهو الأول الذي يبتدأ منه وجود كل موجود والآخر الذي ينتهي إليه أمد كل معدود ، وهو باق بعد فناء كل موجود ، والظاهر الغالب على الأشياء والمحيط بها بقدرته وعلمه الشامل ، والباطن الذي لا يصل إليه ولا يحيط به إدراك الأوهام والعقول الكاملة ، فلا أول لأوليته أي لأزليته وقوله : رفيعا ، منصوب على الحالية أو على المدح.

« في أعلى علوه » أي في علوه الأعلى من الوصف والبيان ، أو الأعلى من كل علو يصل إليه ويدركه الأوهام ، والأذهان أو يعبر عنه بالعبارة واللسان.

« شامخ الأركان » أي أركان خلقه أو مخلوقاته العظيمة أو صفاته التي هي بمنزلة الأركان ، أو استعارة تمثيلية بتشبيه المعقول بالمحسوس ، إيضاحا لعلوه ورفعته وكذا قوله عليه‌السلام : رفيع البيان يحتمل الوجوه والأول فيه أظهر.

« منيف الآلاء » أي مشرفها على الخلق بالفيضان من بحر جوده أو زائدها من أناف عليه أي زاد « سني العليا » رفيعة والعليا السماء ورأس الجبل والمكان المرتفع وكل ما علا من شيء ، ولعل المراد هنا كل مرتفع يليق بأن ينسب إليه ، لا يحدون حدوده أي حدود الرب سبحانه ، أي لا يقدرون على تحديده لأنهم إنما يقدرون على التحديد بالكيفيات وأشباهها وهو سبحانه متعال عن الكيفيات والصفات الزائدة وقال السيد الداماد (ره) : الضمير في حدوده يعود إلى الحمل ، يعني : لا يحدون


بالكيفية لا يتناهى إليه.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن المختار بن محمد بن المختار ومحمد بن الحسن ، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال ضمني وأبا الحسن عليه‌السلام الطريق في منصرفي من مكة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق فسمعته يقول من اتقى الله يتقى ومن أطاع الله يطاع فتلطفت في الوصول إليه فوصلت فسلمت عليه فرد علي السلام ثم قال يا فتح من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلط الله عليه سخط المخلوق وإن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه وأنى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحده والأبصار عن الإحاطة به جل عما وصفه الواصفون وتعالى عما ينعته الناعتون نأى في قربه وقرب في نأيه فهو في نأيه قريب وفي قربه بعيد كيف الكيف فلا يقال كيف وأين الأين فلا يقال أين إذ هو منقطع

______________________________________________________

حدود حمل معرفته إذ بالوصف لا يدرك إلى مداه ، وبالصفة لا يدرك منتهاه ، وبالكيفية لا يتناهى إلى حده ولا يخفى بعده.

الحديث الثالث : مجهول وأبو الحسن الثاني كما يظهر من العيون أو الثالث كما يظهر من كشف الغمة وغيره ، « يتقى » أي يخافه كل شيء « يطاع » : أي يجعل الله الخلق مطيعا له.

قوله عليه‌السلام : فلطفت ، أي وصلت إليه بلطف ورفق ، أو بحيل لطيفة ، وقال في المغرب هو قمن بكذا وقمين به أي خليق ، والجمع قمنون وقمناء ، وأما قمن بالفتح فيستوي فيه المذكر والمؤنث والاثنان والجمع.

قوله عليه‌السلام : إذ هو منقطع الكيفوفية ، أي عنده تعالى ينقطع الكيف والأين ، وقيل : يحتمل أن يكون من قبيل الوصف بحال المتعلق ، وعلى صيغة اسم الفاعل أي الكيفوفية والأينونية منقطعة عنه ، ويحتمل أن يكون على صيغة اسم المفعول أي هو منقطع فيه وعنده الكيفوفية والأينونية ، أو اسم مكان أي مرتبته مرتبة انقطع


الكيفوفية والأينونية.

٤ ـ محمد بن أبي عبد الله رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال بينا أمير المؤمنين عليه‌السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له : ذعلب ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب فقال يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك قال ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أره فقال يا أمير المؤمنين كيف رأيته قال ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة ـ لا يوصف باللطف عظيم العظمة لا يوصف بالعظم كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ قبل كل شيء لا يقال شيء قبله وبعد كل شيء لا يقال له بعد شاء الأشياء لا بهمة دراك لا بخديعة في

______________________________________________________

فيها الكيفوفية والأينونية.

الحديث الرابع : مرفوع ، وذعلب اليماني ضبطه الشهيد في قواعده بكسر الذال المعجمة وسكون العين المهملة وكسر اللام.

قوله : بحقائق الإيمان ، أي بحقائق هي الإيمان أو بمحققاته أو بالتصديقات التي هي أركان الإيمان ، أو بالأنوار التي حصلت في القلب من الإيمان ، أو بالإذعانات الحقة الثابتة ، أو بما هو حق الإيمان به « لطيف اللطافة » أي لطافته تعالى خفية لا تصل إليها العقول ، ولا يوصف باللطف الجسماني « لا يوصف بالعظم » أي لا يمكن وصف عظمته أو لا يوصف بعظمته الجسم « لا يوصف بالغلظ » أي ليس جلالته تعالى بمعنى الغلظ في الجثة ، أو ليس جلالته مقرونة بالغلظ في الخلق كما في المخلوقين ، « قبل كل شيء أي » بالعلية وسائر أنواع التقدم « لا يقال شيء قبله » بنحو من أنحاء القبلية وأقسامها الأزلية « وبعد كل شيء » فينتهي وجود كل شيء إليه ، وهو الباقي بعده « لا يقال له بعد » ينتهي وجوده سبحانه إليه ، وقيل : أي لا يقال له بعد على الإطلاق ومنفردا عن ذكر القبل كما يقال : هو الأول والآخر ، ولا يقال له الآخر منفردا عن ذكر الأول « شاء » اسم فاعل أو فعل ماض.

« لا بهمة » أي إرادة وخطور بال ، « لا بخديعة » أي لا بحيلة في إدراكها في


الأشياء كلها غير متمازج بها ولا بائن منها ظاهر لا بتأويل المباشرة متجل لا باستهلال رؤية ناء لا بمسافة قريب لا بمداناة لطيف لا بتجسم موجود لا بعد عدم فاعل لا باضطرار مقدر لا بحركة مريد لا بهمامة سميع لا بآلة بصير لا بأداة لا تحويه الأماكن ولا تضمنه الأوقات ولا تحده الصفات ولا تأخذه السنات

______________________________________________________

الأشياء كلها بعلمه بها وتدبيره لها « غير متمازج بها » بالمجاورة والخلط « ولا بائن منها » مفارقا عنها بالبعد ، فإن القرب والبعد المكانيين وما بحكمهما لا يليقان به سبحانه « ظاهر » أي غالب ، أو بين ، وليس غلبته بكونه سبحانه راكبا فوقها ، أو ليس تبينه بأن يكون ملموسا أو مدركا بحس « متجل » أي ظاهر غير خفي على عباده بالآيات والأدلة ، لا بظهور وانكشاف من رؤية.

وقال في المغرب أهل الهلال واستهل مبنيا للمفعول فيهما إذا أبصر ناء من الأشياء بعيد عنها لعجزها عن الوصول إلى معرفة ذاته وحقيقته ، لا ببعد مسافة ، قريب من الأشياء لعلمه بجميعها لا بمداناة ومقارنة « لطيف » أي يدق عن إدراك المدارك ، لا بدقة جسمانية « لا باضطرار » أي بكونه مجبورا على ما يفعله ، بل إنما يفعل بعلمه ومشيته « مقدر » للأشياء محدد ومصور لها « لا بحركة » أي حركته أو حركة جوارحه أو بحركة ذهنية كما في المخلوقين « لا بهمامة » أي لا بقصد وخطور بال « ولا تحده الصفات » أي توصيفات الناس أو صفات المخلوقين ، والسنة مبدء النوم « سبق الأوقات » بالنصب « كونه » بالرفع ، إذ هو علة لها أو المعنى لم تصل الأزمان إليه بأن تتقدر بها « والعدم وجوده » قيل : المراد أنه علة لإعدام الممكنات كما أنه تعالى علة لوجوداتها لأن عدم العالم قبل وجوده كان مستندا إلى عدم الداعي إلى إيجاده المستند إلى وجوده فوجوده سبق عدم الممكنات أيضا ، أو المراد أزليته أي كل عدم ممكن تفرض أي عدمه السابق المقارن للوجود فهو مقدم عليه ، أو المراد سبق وجوده على عدمه تعالى ، لأن وجوده لما كان واجبا كان عدمه ممتنعا ، فكان وجوده سابقا على عدمه ، وغالبا عليه


سبق الأوقات كونه والعدم وجوده والابتداء أزله بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر

______________________________________________________

وقيل : الأعدام تابعة للملكات ، والملكات مصنوعة له ، فالأعدام كذلك.

« والابتداء أزله » أي أزليته أزلية لا تجتمع مع الابتداء وتنافيه ، فكلما جعلت له ابتداء فهو موجود لأزليته قبله ، أو أن أزليته سبقت بالعلية كل ابتداء ومبتدإ ، « بتشعيره المشاعر » أي بإيجادها وإفاضة وجوداتها وكونها ممكنة موجودة بالإيجاد عرف أنها مخلوقة له فلا يستكمل بها ، ولا يكون مناط علمه الذاتي ، فلا يكون مشاعر له أو لأنا بعد إفاضة المشاعر علمنا احتياجنا في الإدراك إليها ، فحكمنا بتنزهه سبحانه عنها لاستحالة احتياجه تعالى في كماله إلى شيء ، أو لما يحكم به العقل من المباينة بين الخالق والمخلوق في الصفات.

وقال ابن ميثم رحمه‌الله في شرح النهج : لأنه لو كان له مشاعر لكان وجودها له إما من غيره وهو محال ، وإما منه وهو أيضا محال ، لأنها إن كانت من كمالات ألوهيته كان موجدا لها من حيث هو فاقد كما لا ، فكان ناقصا بذاته وهذا محال وإن لم تكن كمالا كان إثباتها له نقصا ، لأن الزيادة على الكمال نقصان ، فكان إيجاده لها مستلزما لنقصانه وهو محال.

واعترض عليه بعض الأفاضل بوجوه : أحدها بالنقض لأنه لو تم ما ذكره يلزم أن لا تثبت له تعالى صفة كمالية كالعلم والقدرة ونحوهما ، وثانيها : بالحل باختيار شق آخر ، وهو أن يكون ذلك المشعر عين ذاته سبحانه كالعلم والقدرة ، وثالثها : أن هذا الكلام على تقدير تمامه استدلال برأسه لم يظهر فيه مدخلية قوله عليه‌السلام بتشعيره المشاعر في نفي المشعر عنه تعالى ، وأن ما استعمله لم تثبت به وقد ثبتت بغيره ثم قال : فالأولى أن يقال قد تقرر أن الطبيعة الواحدة لا يمكن أن يكون بعض أفرادها علة لبعض آخر لذاته ، لأنه لو فرض كون نار مثلا علة لنار فعلية هذه ومعلوليته تلك إما لنفس كونهما نارا فلا رجحان لأحدهما في العلية ، وللأخرى في المعلولية ، بل يلزم أن يكون كل نار علة للأخرى ، بل علة لذاتها ومعلولا لذاتها ،


له وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له

______________________________________________________

وهو محال وإن كانت العلية لانضمام شيء آخر فلم يكن ما فرضناه علة علة بل العلة حينئذ ذلك الشيء فقط ، لعدم الرجحان في أحدهما للشرطية والجزئية أيضا ، لاتحادهما من جهة المعنى المشترك ، وكذلك لو فرض المعلولية لأجل ضميمة.

فقد تبين أن جاعل الشيء يستحيل أن يكون مشاركا لمجعوله ، وبه يعرف أن كل كمال وكل أمر وجودي يتحقق في الموجودات الإمكانية فنوعه وجنسه مسلوب عنه تعالى ، ولكن يوجد له ما هو أعلى وأشرف منه ، أما الأول فلتعاليه عن النقص وكل مجعول ناقص وإلا لم يكن مفتقرا إلى جاعل ، وكذا ما يساويه في المرتبة كآحاد نوعه وأفراد جنسه ، وأما الثاني فلان معطي كل كمال ليس بفاقد له ، بل هو منبعه ومعدنه وما في المجعول رشحه وظله « انتهى ».

وقيل : المراد مشاعر العبادة « وبتجهيره الجواهر » أي بتحقيق حقائقها عرف أنها ممكنة ، وكل ممكن محتاج إلى مبدء ، فمبدأ المبادئ لا يكون حقيقة من هذه الحقائق « وبمضادته بين الأشياء » المتضادة من الحقائق النوعية (١) الصورية الجوهرية أو العرضية وجعلها حقائق متضادة لتحددها بتحديدات من جاعلها لها ، لا يجامع بعضها بعضا لتخالف حقائقها المتحددة بالحدود المتباينة المتنافية ، وكل حقائق مخلوقة بالحدود متحددة ، والإحدى المقدس عن التحددات لا يضاده المحدود المتنزل عن مرتبته ، وكيف يضاد المخلوق خالقه والفائض مفيضه كذا قيل.

وأقول : المراد بالضد إما المعنى المصطلح أي موجودان متعاقبان على موضوع أو محل واحد ، أو المعنى العرفي الذي هو المساوي للشيء في القوة ، فعلى الأول نقول : لما خلق الأضداد في محالها ، ووجدناها محتاجة إليها ، علمنا عدم كونه ضد الشيء ، للزوم الحاجة إلى المحل المنافية لوجوب الوجود ، أو لأنا لما وجدنا كلا من الضدين يمنع وجود الآخر ويدفعه وينفيه ، فعلمنا أنه تعالى منزه من ذلك ، وأما الثاني فلان المساوي في القوة للواجب يجب أن يكون واجبا ، فيلزم تعدد الواجب وقد مر بطلانه

__________________

(١) وفي نسخة « الناعية » بدل « النوعية » وهو خلاف الظاهر.


وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ضاد النور بالظلمة واليبس بالبلل والخشن باللين والصرد بالحرور مؤلف بين متعادياتها ومفرق بين متدانياتها دالة بتفريقها على مفرقها وبتأليفها على مؤلفها وذلك قوله تعالى : « وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا

______________________________________________________

« وبمقارنته بين الأشياء » أي بجعل بعضها مقارنا لبعض كالأعراض ومحالها ، والممكنات وأمكنتها ، والملزومات ولوازمها « عرف أن لا قرين له » مثلها ، لدلالة كل نوع منها على أنواع النقص والعجز والافتقار.

وقيل : أي بجعلها متحددة بتحددات متناسبة موجبة للمقارنة ، عرف أن لا قرين له ، وكيف يناسب المتحدد بتحدد خاص دون المتحدد بتحدد آخر من لا تحدد له ، فإن نسبة اللاتحدد إلى التحددات كلها سواء « ضاد النور بالظلمة » بناء على كون الظلمة أمرا وجوديا ، وعلى تقدير كونها عدم ملكة ففي تسميتها بالضد تجوز ولعل المراد بالضد غير ما هو المصطلح.

والصرد بفتح الراء وسكونها : البرد « فارسي معرب » والحرور بالفتح : الريح الحارة « مؤلف بين متعادياتها » كما ألف بين العناصر المختلفة الكيفيات ، وبين الروح والبدن ، وبين القلوب المتشتتة الأهواء وغير ذلك « مفرق بين متدانياتها » كما يفرق بين أجزاء العناصر وكلياتها للتركيب ، وكما يفرق بين الروح والبدن ، وبين أجزاء المركبات عند انحلالها ، والأبدان بعد موتها ، وبين القلوب المتناسبة [ المتلاصقة ] لحكم لا تحصى ، فدل التأليف والتفريق المذكوران الواقعان على خلاف مقتضى الطبائع على قاسر يقسرها عليهما ، وكونهما على غاية الحكمة ونهاية الإتقان على علم القاسر وقدرته وحكمته وكماله.

قوله عليه‌السلام : « وذلك قوله » يحتمل أن يكون ذكر الآية استشهادا بكون المضادة والمقارنة دليلين على عدم اتصافه بهما ، كما فسر بعض المفسرين الآية بأن الله تعالى خلق من كل جنس من أجناس الموجودات نوعين متقابلين ، وهما زوجان لأن كل واحد منهما مزدوج بالآخر كالذكر والأنثى ، والسواد والبياض ، والسماء والأرض ،


زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (١) ففرق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد له شاهدة

______________________________________________________

والنور والظلمة ، والليل والنهار ، والحار والبارد ، والرطب واليابس ، والشمس والقمر ، والثوابت والسيارات ، والسهل والجبل ، والبحر والبر ، والصيف والشتاء ، والجن والإنس ، والعلم والجهل ، والشجاعة والجبن ، والجود والبخل ، والإيمان والكفر ، والسعادة والشقاوة ، والحلاوة والمرارة ، والصحة والسقم ، والغناء والفقر ، والضحك والبكاء ، والفرح والحزن ، والحياة والموت إلى غير ذلك مما لا يحصى ، خلقهم كذلك ليعلم أن لهم موجدا ليس هو كذلك.

ويحتمل أن يكون استشهادا لكون التأليف والتفريق دالين على الصانع ، لدلالة خلق الزوجين على المفرق والمؤلف لهما لأنه خلق الزوجين من واحد بالنوع فيحتاج إلى مفرق بجعلهما متفرقين ، وجعلهما مزاوجين مؤتلفين ألفه لخصوصهما ، فيحتاج إلى مؤلف بجعلهما مؤتلفين.

وقيل : كل موجود دون الله فيه زوجان اثنان كالمهية والوجود ، والوجوب والإمكان ، والمادة والصورة ، والجنس والفصل ، وأيضا كل ما عداه يوصف بالمتضايفين كالعلية والمعلولية ، والقرب والبعد ، والمقارنة والمباينة ، والتآلف والتفرق والمعاداة والموافقة ، وغيرها من الأمور الإضافية.

وقال بعض المفسرين : المراد بالشيء الجنس ، وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان ، فمن كل جنس نوعان كالجوهر منه المادي والمجرد ، ومن المادي الجماد والنامي ، ومن النامي النبات والمدرك ، ومن المدرك الصامت والناطق ، وكل ذلك يدل على أنه واحد لا كثرة فيه ، فقوله : « لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » أي تعرفون من اتصاف كل مخلوق بصفة التركيب والتضايف والزوجية ، أن خالقهما واحد أحد لا يوصف بصفاتها.

قوله عليه‌السلام : ليعلم أن لا قبل له ، ظاهره نفي كونه سبحانه زمانيا ويحتمل أن يكون المعنى عرفهم معنى القبلية والبعدية ، ليحكموا بأن ليس شيء قبله ولا

__________________

(١) سورة الذاريات : ٤٩.


بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه كان ربا إذ لا مربوب وإلها إذ لا مألوه وعالما إذ لا معلوم وسميعا إذ لا مسموع.

٥ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن شباب الصيرفي واسمه محمد بن الوليد ، عن علي بن سيف بن عميرة قال حدثني إسماعيل بن قتيبة قال دخلت أنا وعيسى شلقان على أبي عبد الله عليه‌السلام فابتدأنا فقال عجبا لأقوام يدعون على أمير المؤمنين عليه‌السلام ما لم يتكلم به قط خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام الناس بالكوفة فقال الحمد لله الملهم عباده حمده وفاطرهم على معرفة ربوبيته الدال على وجوده بخلقه

______________________________________________________

بعده ، والغرائز : الطبائع ومغرزها موجد غرائزها ومفيضها عليها ، ويمكن حملها وأمثالها على الجعل البسيط إن كان حقا.

وقيل : إنما تشهد لتعاليه عن التحدد الذي إنما يكون بها الطبيعة والغريزة لأنه تحدد يلحقه الوجود ، والمتحددة به خالية في ذاتها عن الوجود ، أو لتعاليه عن التحدد مطلقا ، وربما تحمل الغرائز على الملكات والصفات النفسانية كالشجاعة والسخاوة والشهامة وأمثالها ، وتوقيتها تخصيص حدوث كل منهما بوقت ، وبقائها إلى وقت ، و « حجب بعضها عن بعض » أي بالحجب الجسمانية ، أو الأعم ليعلم أن ذلك نقص وعجز وهو منزه عن ذلك ، بل ليس لهم عن الرب حجاب إلا أنفسهم ، لإمكانهم ونقصهم « كان ربا » أي قادرا على التربية ، إذ هو الكمال ، وفعليتها منوطة بالمصلحة ، « وإلها إذ لا مألوه » أي من له الآلة ، أي كان مستحقا للمعبودية إذ لا عابد.

الحديث الخامس : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : ما لم يتكلم ، من تشبيه الله تعالى وادعاء ألوهيته وأمثال ذلك.

قوله عليه‌السلام : الملهم عباده ، أي خواصهم « حمده » أي حمدا يليق به أو الأعم على حسب قابليتهم واستعدادهم « وفاطرهم على معرفة ربوبيته » بإقدارهم على المعرفة واطلاعهم عليها بالعلم بالمقدمات الدالة عليه بالفعل أو بالقوة القريبة منه ، أو بما ألقى عليهم من الإقرار به في الميثاق ، كما يظهر من الأخبار الدال على وجوده بخلقه


وبحدوث خلقه على أزله وباشتباههم على أن لا شبه له المستشهد بآياته على قدرته الممتنعة من الصفات ذاته ومن الأبصار رؤيته ومن الأوهام الإحاطة به لا أمد لكونه ولا غاية لبقائه لا تشمله المشاعر ولا تحجبه الحجب والحجاب بينه وبين خلقه خلقه إياهم لامتناعه مما يمكن في ذواتهم ولإمكان مما يمتنع منه ولافتراق الصانع من المصنوع والحاد من المحدود والرب من المربوب الواحد بلا تأويل عدد والخالق لا بمعنى حركة والبصير لا بأداة والسميع لا بتفريق آلة والشاهد لا بمماسة

______________________________________________________

لإمكانهم واحتياجهم إلى المؤثر « وبحدوث خلقه على أزله » وفي التوحيد أزليته يدل على أن الحدوث علة الحاجة إلى العلة ، وعلى حدوث ما سواه « وباشتباههم » إذ تلك المشابهات في الأمور الممكنة ولوازم الإمكان ، وقيل : المراد اشتراكهم في المهيات ولوازمها ، إذ الاشتراك يدل على التركيب ، وقيل : المراد اشتباههم في الحاجة إلى المؤثر والمدبر.

« لا أمد » في الأزل « ولا غاية » أي في الأبد « والحجاب بينه وبين خلقه » أي إنما الحجاب بينه وبين خلقه كونه خالقا بريئا عن الإمكان ، وكونهم مخلوقة ممكنة قاصرة عن نيل البريء بذاته وصفاته عن الإمكان ، فالحجاب بينه وبين خلقه قصورهم وكماله ، وهذا هو المراد بقوله : لامتناعه مما يمكن في ذواتهم.

« ولا مكان » بالتنوين عوض المحذوف أي لا مكان ذواتهم أو ما في ذواتهم مما يمتنع منه ذاته تعالى ، وقيل : أي يمكن له بالإمكان العام ما يمتنع منه ذواتهم كالوجوب والأزلية ، ولا يخفى ما فيه.

« بلا تأويل عدد » بأن يكون له تعالى ثان من نوعه أو يكون مركبا فيطلق عليه الواحد بتأويل أنه واحد من نوع مثلا « لا بمعنى حركة » أي جسمانية أو نفسانية.

« لا بتفريق آلة » أي لا بآلة مغايرة لذاته أو بإدخال شيء فيها ، فإنه يتضمن التفريق ، وفي التوحيد : السميع لا بأداة البصر ، لا بتفريق آلة ، أي بفتح العين


والباطن لا باجتنان والظاهر البائن لا بتراخي مسافة أزله نهية لمجاول الأفكار ودوامه ردع لطامحات العقول قد حسر كنهه نوافذ الأبصار وقمع وجوده جوائل الأوهام فمن وصف الله فقد حده ومن حده فقد عده ومن عده فقد أبطل أزله ومن قال :

______________________________________________________

أو بعث الأشعة وتوزيعها على المبصرات ، على القول بالشعاع ، أو تقليب الحدقة وتوجيهها مرة إلى هذا المبصر ، ومرة إلى ذلك كما يقال فلان مفرق الهمة والخاطر إذا وزع فكره على حفظ أشياء متباينة ومراعاتها « لا باجتنان » الاجتنان : الاستتار ، أي أنه باطن بمعنى أن العقول والأفهام لا تصل إلى كنهه لا باستتاره بستر وحجاب ، أو علم البواطن لا بالدخول فيها والاستتار بها.

والنهية بضم النون وسكون الهاء وفتح الياء اسم من نهاه ضد أمره ، والمجاول بالجيم جمع مجول بفتح الميم ، وهو مكان الجولان وزمانه ، أو مصدر ، والردع : المنع والكف ، والحسر : الإعياء يتعدى ولا يتعدى ، والمراد هنا المتعدي ، والقمع : القلع والجوائل جمع جائل أو جائلة من الجولان.

قوله عليه‌السلام : فمن وصف الله ، بالصورة والكيف فقد جعله جسما ذا حدود ومن جعله ذا حدود فقد جعله ذا أجزاء ، وكل ذي أجزاء محتاج حادث ، أو من وصف الله وحاول تحديد كنهه فقد جعله ذا حد مركب من جنس وفصل ، فقد صار حقيقته مركبة محتاجة إلى الأجزاء حادثة ، أو من وصف الله بالصفات الزائدة فقد جعل ذاته محدودة بها ، ومن حده كذلك فقد جعله ذا عدد ، إذ اختلاف الصفات إنما تكون بتعدد أجزاء الذات ، أو قال : بتعدد الآلهة ، إذ يكون كل صفة لقدمها إلها غير محتاج إلى علة ، ومن كان مشاركا في الإلهية لا يكون قديما فيحتاج إلى علة أو جعله مع صفاته ذا عدد ، وعروض الصفات المغايرة الموجودة ينافي الأزلية ، لأن الاتصاف نوع علاقة توجب احتياج كل منهما إلى الآخر ، وهو ينافي وجوب الوجود والأزلية ، أو المعنى أنه على تقدير زيادة الصفات يلزم تركب الصانع إذ ظاهر أن الذات بدون ملاحظة الصفات ليست بصانع للعالم ، فالصانع المجموع ، فيلزم تركبه


أين فقد غياه ومن قال علام فقد أخلى منه ومن قال فيم فقد ضمنه

٦ ـ ورواه محمد بن الحسين ، عن صالح بن حمزة ، عن فتح بن عبد الله مولى بني هاشم قال كتبت إلى أبي إبراهيم عليه‌السلام أسأله عن شيء من التوحيد فكتب إلي بخطه الحمد لله الملهم عباده حمده _ وذكر مثل ما رواه سهل بن زياد إلى قوله وقمع وجوده جوائل الأوهام ـ ثم زاد فيه ـ : أول الديانة به معرفته وكمال معرفته توحيده وكمال توحيده نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنه غير الصفة وشهادتهما جميعا بالتثنية الممتنع منه الأزل فمن وصف الله

______________________________________________________

المستلزم للحاجة والإمكان.

وقيل : المعنى فقد عده من المخلوقين « ومن قال : أين فقد غياه » أي جعل له نهاية ينتهي لها إلى أينه أو جعله جسما ذا غايات ونهايات « ومن قال على م؟ » أي على ما وعلى أي شيء هو « فقد أخلى منه » غير ما جعله سبحانه عليه « ومن قال : فيم؟ » أي فيما هو « فقد ضمنه » أي حكم بكونه في شيء محيطة به.

الحديث السادس : مجهول والديانة مصدر دان يدين ، وفي المصادر الديانة « دين دار گشتن » ويعدي بالباء ، والمعنى أول التدين بدين الله معرفته ، أي العلم بوجوده وكماله والتقدس عما لا يليق به وأوليتها ظاهرة لكونها أشرف المعارف ، وتوقف سائر المعارف وصحة جميع الأعمال عليه « وكمال معرفته توحيده » أي اعتقاد كونه متوحدا غير مشارك لغيره في إلهيته وفي صفاته الذاتية فضلا عن المشاركة في الذاتي وكمال توحيده نفي الصفات الزائدة عنه ، لشهادة كل من الصفة والموصوف بمغايرته للآخر ، وفيه رد على الأشاعرة القائلين إن صفاته سبحانه لا عينه ولا غيره.

والمغايرة موجب لأحد أمور : إما كونهما قديمين فيلزم تعدد الواجب ، واحتياج كل من الواجبين إلى الآخر كما مر ، أو حدوث الصفة ، فيلزم كونه تعالى محلا للحوادث ، وكونه ناقصا في ذاته وهو أيضا ينافي الأزلية ، ولو قيل : الصانع هو المجموع فيلزم تركبه وافتقاره مع لزوم تعدد الواجب أيضا ، فمن قال


فقد حده ومن حده فقد عده ومن عده فقد أبطل أزله ومن قال كيف فقد استوصفه ومن قال فيم فقد ضمنه ومن قال علام فقد جهله ومن قال أين فقد أخلى منه ومن قال ما هو فقد نعته ومن قال إلام فقد غاياه عالم إذ لا معلوم وخالق إذ لا مخلوق ورب إذ لا مربوب وكذلك يوصف ربنا وفوق ما يصفه الواصفون.

٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن أحمد بن النضر وغيره عمن ذكره ، عن عمرو بن ثابت ، عن رجل سماه ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن الحارث الأعور قال خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام خطبة بعد العصر فعجب الناس من حسن صفته وما ذكره من تعظيم الله جل جلاله قال أبو إسحاق فقلت للحارث أوما حفظتها قال قد كتبتها فأملاها علينا من كتابه الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن الذي « لَمْ يَلِدْ » فيكون

______________________________________________________

كيف؟ فقد طلب وصفه بصفات المخلوقين ، وقد نفيناه عنه « ومن قال على م؟ فقد حمله » أي جعله محمولا ومحتاجا إلى ما يحمله (١) « ومن قال أين؟ فقد أخلى منه » أي جعله مخصوصا بأين خاص ، وأخلى منه سائر الأيون ، والحال أن نسبته إلى الأيون على السواء « فقد نعته » أي بما يقع في جواب ما هو من مهية وحقيقة كلية أو بصفات المخلوقين ، فلذا سأل عن كنهه « ومن قال إلى م؟ » أي إلى أي زمان يكون موجودا ، « فقد غاياه » أي جعل لوجوده غاية ولا غاية له أزلا وأبدا.

الحديث السابع : مرسل.

قوله عليه‌السلام : ولا تنقضي عجائبه ، أي كلما تأمل الإنسان يجد من آثار قدرته وعجائب صنعته ما لم يكن وجده قبل ذلك ولا ينتهي إلى حد ، أو أنه كل يوم يظهر من آثار صنعه خلق عجيب وطور غريب يحار فيه العقول والأفهام ، والثاني بالتعليل أنسب ، وفيه رد على اليهود حيث قالوا : يد الله مغلولة « فيكون في العز مشاركا » لمشاركة أنسب ، وفيه رد على اليهود حيث قالوا : يد الله مغلولة « فيكون في العز مشاركا » لمشاركة الولد لوالده في العز واستحقاق التعظيم ، أو المعنى أنه ولد فيشاركه في الحقيقة

__________________

(١) كذا في النسخ ومنه يظهر أن نسخة الشارح (ره) « فقد حمله » بدل « فقد جهله ».


في العز مشاركا « وَلَمْ يُولَدْ » فيكون موروثا هالكا ولم تقع عليه الأوهام فتقدره شبحا ماثلا ولم تدركه الأبصار فيكون بعد انتقالها حائلا الذي ليست في أوليته نهاية ولا

______________________________________________________

الأحدية صارت سببا لعزته لأن التوالد عبارة عن كون الشيء مبدء لما هو مثله في نوعه وجنسه ، فيلزم مشاركته معه في الحقيقة ، فيلزم تركبه سبحانه وكونه ممكنا محتاجا ، فينافي عزته ووجوب وجوده « فيكون موروثا » أي يرثه ولده بعد موته كما هو شأن كل والد.

والحاصل أن كل مولود معلول حادث ، وكل حادث بمعرض الهلاك والفناء. وأيضا السبب الحقيقي للتوالد والتناسل حفظ بقاء النوع الذي لا يمكن له البقاء وأيضا السبب الحقيقي للتوالد والتناسل حفظ بقاء النوع الذي لا يمكن له البقاء الشخصي ، فكل مولود لا بد أن يكون كوالده موروثا حادثا هالكا في وقت وإن كان وارثا موجودا في وقت آخر.

« فتقدره شبحا مائلا » أي قائما أو مماثلا ومشابها للممكنات ، إذ الوهم رئيس القوي الحسية والخيالية ، فكل ما يدركه من الذوات يصوره بقوته الخيالية شخصا متقدرا كأنه يشاهده شبحا حاضرا عنده ، ماثلا بين يديه فإن كان تصوره للرب سبحانه على هذا الوجه مطابقا للواقع يلزم كونه تعالى جسما مقداريا محدودا وهو محال ، وإن كان كاذبا فلم يكن أدركه بل أدرك أمرا آخر ، فهو تعالى منزه من أن يقع عليه وهم.

« فيكون بعد انتقالها حائلا » أي متغيرا ، من حال الشيء يحول إذا تغير أي لا تدركه الأبصار ، وإلا لكان بعد انتقالها عنه متغيرا ومنقلبا عن الحالة التي كانت له عند الإبصار من المقابلة والمحاذاة والوضع الخاص وغير ذلك ، أو عن حلوله في الباصرة بزوال صورته الموافقة له في الحقيقة عنها ، وقيل : المراد بانتقالها عنه مرور الأزمنة عليه سبحانه ، وفناء الرائين وحدوث جماعة أخرى متغيرا من حال إلى حال كما هو شأن المبصرات.

وبعض الأفاضل قرأ بعد مضمومة الباء مرفوعة الإعراب ، على أن يكون اسم كان ، والحائل بمعنى الحاجز أي كان بعد انتقال الأبصار إليه حائلا من رؤيته ، ومنهم


لآخريته حد ولا غاية الذي لم يسبقه وقت ولم يتقدمه زمان ولا يتعاوره زيادة ولا نقصان ولا يوصف بأين ولا بم ولا مكان الذي بطن من خفيات الأمور وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير الذي سئلت الأنبياء عنه فلم تصفه بحد ولا ببعض بل وصفته بفعاله ودلت عليه بآياته لا تستطيع عقول المتفكرين جحده لأن من كانت السماوات والأرض فطرته وما فيهن وما بينهن وهو الصانع لهن فلا مدفع لقدرته الذي نأى من الخلق فلا شيء كمثله الذي خلق خلقه لعبادته وأقدرهم على طاعته بما جعل فيهم وقطع عذرهم بالحجج فعن بينة هلك

______________________________________________________

من قرأ خائلا بالخاء المعجمة أي ذا خيال وصورة متمثلة في المدرك ، والتعاور : الورود على التناوب « لم يوصف بأين » أي بمكان فيكون نفي المكان تأكيدا أو بجهة مجازا « ولا بما؟ » (١) إذ ليست له مهية يمكن أن تعرف حتى يسأل عنها بما هو.

قوله عليه‌السلام : بطن من خفيات الأمور ، أي أدرك الباطن من خفيات الأمور ونفذ علمه في بواطنها ، أو المراد أن كنهه تعالى أبطن وأخفى من خفيات الأمور مع أن وجوده أجلى من كل شيء في العقول « بما يرى في خلقه » من آثار تدبيره بحد « ولا ببعض » أي بكونه محدودا بحدود جسمانية أو عقلانية أو بأجزاء وأبعاض خارجية أو عقلية وقيل : أي لم يحسبوا بحد ولا ببعض حد وهو الحد الناقص كالجواب بالفصل القريب دون الجنس القريب ، بل عدلوا عن الوصف بالحد تاما أو ناقصا إلى الرسوم الناقصة وهو الوصف له تعالى بفعاله كما قال الكليم عليه‌السلام في جواب « وَما رَبُّ الْعالَمِينَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا » (٢) الآيات.

قوله عليه‌السلام : بما جعل فيهم ، أي من الأعضاء والجوارح والقوة والاستطاعة « بالحجج » أي الباطنة وهي العقول ، والظاهرة وهي الأنبياء والأوصياء « فعن بينة » أي بسبب بينة واضحة أو معرضا ومجاوزا عنها ، أو عن بمعنى بعد أي بعد وضوح بينة

__________________

(١) وفي المتن « ولا بم ».

(٢) سورة الشعراء : ٢٣.


من هلك وبمنه نجا من نجا ولله الفضل مبدئا ومعيدا ثم إن الله وله الحمد افتتح الحمد لنفسه وختم أمر الدنيا ومحل الآخرة بالحمد لنفسه فقال وقضى « بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » (١).

الحمد لله اللابس الكبرياء بلا تجسيد والمرتدي بالجلال بلا تمثيل والمستوي

______________________________________________________

« وبمنه نجا من نجا » أي بلطفه وتوفيقه وإعداد الآلات وهدايته في الدنيا وبعفوه ورحمته وتفضله في الثواب بلا استحقاق في الآخرة نجا الناجون ، فقوله : ولله الفضل (٢) وفي التوحيد وعن بينة نجا من نجا فالثاني لا يجري فيه « مبدء ومعيدا » مترتب على ذلك أي حال التكليف في الدنيا وحال الجزاء في الآخرة ، ويحتمل أن يكون المراد حال إبداء الخلق وإيجادهم في الدنيا وحال إرجاعهم وإعادتهم بعد الفناء أو مبدءا حيث بدء العباد مفطورين على معرفته قادرين على طاعته ومعيدا حيث لطف بهم ومن عليهم بالرسل والأئمة الهداة.

« وله الحمد » الجملة اعتراضية « افتتح الحمد لنفسه » أي في التنزيل الكريم أو في بدو الإيجاد بإيجاد الحمد ، أو ما يستحق الحمد عليه ، وفي التوحيد : افتتح الكتاب بالحمد ، وهو يؤيد الأول « ومحل الآخرة » أي حلولها وربما يقرأ بسكون الحاء وهو الجدب وانقطاع المطر والمجادلة والكيد ، أو بالجيم وهو أن يجتمع بين الجلد واللحم ماء من كثرة العمل وشدته ، وعلى التقديرين كناية عن الشدة والمصيبة أي ختم أمر الدنيا وشدائد الآخرة وأهوالها بالحمد لنفسه على القضاء بالحق فعلم أن الافتتاح والاختتام بحمده من محاسن الآداب.

وفي التوحيد : ومجيء الآخرة ، أي ختم أول أحوال الآخرة وهو الحشر والحساب ويمكن أن يقدر فعل آخر يناسبه ، أي بدء مجيء الآخرة « وقضى بينهم » أي بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار ، ويظهر من الخبر أن القائل هو الله ، ويحتمل أن يكون الملائكة بأمره تعالى.

« بلا تمثيل » أي بمثال جسماني ، وهذا وما تقدمه دفع لما يتوهم من أن

__________________

(١) سورة الزمر : ٧٥.

(٢) كذا في النسخ ، وكأنه سقط هنا شيء وكذا فيما بعده.


على العرش بغير زوال والمتعالي على الخلق بلا تباعد منهم ولا ملامسة منه لهم ليس له حد ينتهى إلى حده ولا له مثل فيعرف بمثله ذل من تجبر غيره وصغر من

______________________________________________________

الكبر والعظم والجلالة ونحوها لا تكون إلا في الأجساد والأشباح ذوات المقادير والأوضاع ، ولا شك أنه سبحانه منزه عن الجسمانيات وصفاتها ، فنبه على أن كبريائه وجلاله على وجه أعلى وأشرف مما يوجد في المحسوسات والمتمثلات.

قوله : بلا زوال (١) أي بغير استواء جسماني يلزمه إمكان الزوال أو لا يزول اقتداره واستيلاؤه أبدا « المتعالي عن الخلق » بالشرف والعلية والتنزه عن صفاتهم ، لا بما يتوهم من تراخي مسافة بينهما كالفلك بالنسبة إلى الأرض أو بمماسة كالماء والهواء بالنسبة إليهما أو قولهعليه‌السلام: ولا ملامسة نفي لما يتوهم من نفي التباعد من تحقق الملامسة ونحوها ، قضية للتقابل بينهما قياسا على الجسمانيات ، فإن المتقابلين كليهما منفيان عنه وإنما يتصف بأحدهما ما يكون قابلا للاتصاف بهما ، كما يقال : الفلك ليس بحار ولا بارد ، والجدار ليس بأعمى ولا بصير « ليس له حد ينتهي إلى حده » أي الحدود الجسمانية فينتهي هو إلى حده على بناء الفاعل أو الحد المنطقي فينتهي على بناء المفعول إلى تحديده به أو لأحد لتوصيفه ونعته ، بل كلما بالغت فيه فأنت مقصر.

« ذل من تجبر غيره » قوله : غيره ، حال عن فاعل تجبر وكذا قوله : دونه ، حال عن فاعل تكبر والضميران راجعان إليه سبحانه ، أي ذل له كل من تجبر غيره ، فإن كل ما يغايره ممكن مخلوق ذليل للخالق الجليل.

« وصغر » كل « من تكبر دونه » فإن جميع ما سواه موصوف بالصغار أو الصغر لدى خالقه الكبير المتعال ، أو المعنى أن عز المخلوق ورفعته إنما يكون بالتذلل والخضوع اللائقين به ، وبهما يكتسب إفاضة الكمال من خالقه فإذا تجبر وتكبر استحق الحرمان والخذلان فيزداد صغرا إلى صغره ، وذلا إلى ذلة ، فلا يرتفع من درجة

__________________

(١) كذا في النسخ ، لكن في المتن « بغير زوال » ولعله موافق لنسخة الشارح (ره) كما في نظائره.


تكبر دونه وتواضعت الأشياء لعظمته وانقادت لسلطانه وعزته وكلت عن إدراكه طروف العيون وقصرت دون بلوغ صفته أوهام الخلائق الأول قبل كل شيء ولا قبل له والآخر بعد كل شيء ولا بعد له الظاهر على كل شيء بالقهر له والمشاهد لجميع الأماكن بلا انتقال إليها لا تلمسه لامسة ولا تحسه حاسة « هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ » أتقن ما أراد من خلقه من الأشباح كلها لا بمثال سبق إليه ولا لغوب دخل عليه في خلق ما خلق لديه ابتدأ ما أراد ابتداءه وأنشأ ما أراد إنشاءه على ما أراد من الثقلين الجن والإنس ليعرفوا بذلك ربوبيته وتمكن فيهم طاعته.

نحمده بجميع محامده كلها على جميع نعمائه كلها ونستهديه لمراشد أمورنا

______________________________________________________

النقص إلى الكمال ، ولا يزال في الدارين هابطا في دركات النقص والوبال.

« لعظمته » أي عند عظمته أو عنده بسبب عظمته ، والاحتمالان جاريان فيما بعده « طروف العيون » جمع طرف وهو تحريك الجفن بالنظر أو جمع طارف بمعنى طامح ، وفي الفائق : طرفت عينه أي طمحت « والظاهر على كل شيء » أي الغالب عليه بالقهر له على الإيجاد والإفناء ، وإجراء كل ما أراد فيه.

« هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ » أي مستحق لأن تعبده وتخضع له السماوات وما فيها وتتواضع لعظمته وتنقاد لسلطانه وعزته لربوبيته لها « وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ » أي مستحق لأن تخضع له وتعبده الأرض وما فيها وما عليها وتنقاد لسلطانه وعزته « أتقن » أي أحكم ما أراد من خلقه متعلق بأراد أو بيان لما « من الأشباح » بيان لما على الأول ولخلقه على الثاني ، ويحتمل أن تكون من الأولى تبعيضية ، والأشباح : الأشخاص المتغايرة والصور المتباينة النوعية والشخصية.

« لا بمثال » في التوحيد بلا مثال ، أي لا في الخارج ولا في الذهن « سبق » أي ذلك المثال « إليه » تعالى ، أو سبق الله إلى ذلك المثال ، وربما يقرأ على بناء المفعول أي سبق غيره تعالى إلى خلق ذلك المثال ، « ولا لغوب » أي تعب ، ويمكن إرجاع ضمير


ونعوذ به من سيئات أعمالنا ونستغفره للذنوب التي سبقت منا ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله بعثه بالحق نبيا دالا عليه وهاديا إليه فهدى به من الضلالة واستنقذنا به من الجهالة « مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً » ونال ثوابا جزيلا ومن يعص الله ورسوله « فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً » واستحق عذابا أليما فأنجعوا بما يحق عليكم من السمع والطاعة وإخلاص النصيحة وحسن المؤازرة

______________________________________________________

لديه إليه تعالى وإلى الخلق ، فالظرف على الأول متعلق بخلق ، وعلى الثاني بدخل « ويمكن » على التفعيل أي بإيجاد القوة والقدرة عليها وتركيب العقول المميزة فيهم ، وفي بعض النسخ بالتاء من باب التفعل بحذف إحدى التائين ، والمحامد جمع محمدة وهي ما يحمد به من صفات الكمال ، وقال الفيروزآبادي : المراشد مقاصد الطرق.

« دالا عليه » أي على الله أو على الحق الذي بعث به ، والأول أظهر.

« وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ » وضع الظاهر موضع الضمير لتعظيمها ، والالتذاذ بذكرهما أو ليعلم تقديم الله على الرسول ، ولا يتوهم كونهما في درجة واحدة.

ولعل أحد هذه الوجوه علة الذم فيما رواه مسلم عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بئس الخطيب أنت ، قل : ومن يعص الله ورسوله فقد غوى فقال رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله: بئس الخطيب أنت ، قل : ومن يعص الله ورسوله فقد غوى مع أنه قد ورد في كثير من الخطب بالضمير أيضا.

« فأنجعوا » في بعض النسخ بالنون والجيم من قولهم أنجع أي أفلح ، أي أفلحوا بما يجب عليكم من الأخذ سمعا وطاعة ، أو من النجعة بالضم وهي طلب الكلاء من موضعه ، وفي بعضها بالباء الموحدة فالخاء المعجمة ، قال الجزري : فيه : أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبا وأبخع طاعة ، أي أبلغ وأنصح في الطاعة من غيرهم كأنهم بالغوا في بخع أنفسهم أي قهرها وإذلالها بالطاعة ، وقال الزمخشري في الفائق : أي أبلغ طاعة من بخع الذبيحة إذا بالغ في ذبحها ، وهو أن يقطع عظم رقبتها ، هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في كل مبالغة ، فقيل : بخعت له نصحي وجهدي وطاعتي.

« وإخلاص النصيحة » أي لله ولكتابة ولرسوله وللأئمة ولعامة المسلمين


وأعينوا على أنفسكم بلزوم الطريقة المستقيمة وهجر الأمور المكروهة وتعاطوا الحق بينكم وتعاونوا به دوني وخذوا على يد الظالم السفيه ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر واعرفوا لذوي الفضل فضلهم عصمنا الله وإياكم بالهدى وثبتنا وإياكم على التقوى وأستغفر الله لي ولكم.

باب النوادر

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن النعمان ، عن سيف بن عميرة عمن ذكره ، عن الحارث بن المغيرة النصري قال سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى : « كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ » (١) فقال ما يقولون فيه؟

______________________________________________________

وإخلاصها تصفيتها من الغش ، والموازرة المعاونة أي المعاونة الحسنة على الحق.

« وأعينوا على أنفسكم » أي على إصلاحها أو ذللوها وأقهروها فالمراد النفس الأمارة بالسوء ، وفي التوحيد أعينوا أنفسكم أي على الشيطان.

« وتعاطوا الحق » أي تناولوه بأن يأخذه بعضكم من بعض ليظهر ولا يضيع « دوني » أي عندي وقريبا مني أو قبل الوصول إلى أو حالكون الحق عندي.

« وخذوا على يد الظالم » أي امنعوه عن الظلم وأقهروه على تركه ، والسفيه من يتبع الشهوات النفسانية ، وذو الفضل : العترة الطاهرة ، أو يشمل غيرهم من العلماء والصلحاء والذرية الطيبة والوالدين وأرباب الإحسان على قدر مراتبهم ، عصمنا الله وإياكم عن اتباع الباطل بالهدي إلى الحق.

باب النوادر

الحديث الأول : مرسل.

قوله تعالى « إِلاَّ وَجْهَهُ » ، قيل فيه وجوه :

الأول : أن المعنى كل شيء فإن بائد إلا ذاته ، وهذا كما يقال هذا وجه الرأي

__________________

(١) سورة القصص : ٨٨.


قلت يقولون يهلك كل شيء إلا وجه الله فقال سبحان الله لقد قالوا قولا عظيما إنما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه.

______________________________________________________

ووجه الطريق ، قاله الطبرسي (ره) ، وقال : في هذا دلالة على أن الأجسام تفنى ثم تعاد على ما قاله الشيوخ في الفناء والإعادة.

الثاني : ما ذكره الطبرسي أيضا : أي كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه ، فإنه يبقى ثوابه عن ابن عباس.

الثالث : أن كل شيء هالك فإن الممكن في حد ذاته معدوم حقيقة إلا ذاته سبحانه ، فإنه الموجود بالذات بالوجود الحقيقي.

الرابع : أن المعنى كل شيء هالك وإنما وجوده وبقائه وكماله بالجهة المنسوبة إليه سبحانه ، فإنه علة لوجود كل شيء وبقائه وكماله ، ومع قطع النظر عن هذه الجهة فهي فانية باطلة هالكة ، وهذا وجه قريب خطر بالبال وإن قال قريبا منه بعض من يسلك مسالك الحكماء على أذواقهم المخالفة للشريعة.

الخامس : أن المعنى كل شيء هالك أي باطل إلا دينه الذي به يتوجه إليه سبحانه ، وكل ما أمر به من طاعته ، وقد وردت أخبار كثيرة على هذا الوجه.

السادس : أن المراد بالوجه : الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم ، لأن الوجه ما يواجه به ، والله سبحانه إنما يواجه عباده ويخاطبهم بهم عليهم‌السلام ، وإذا أراد العباد التوجه إليه تعالى يتوجهون إليهم ، وبه أيضا وردت أخبار كثيرة منها هذا الخبر.

السابع : أن الضمير راجع إلى الشيء أي كل شيء بجميع جهاته باطل فإن إلا وجهه الذي به يتوجه إلى ربه وهو روحه وعقله ومحل معرفة الله منه ، التي تبقى بعد فناء جسمه وشخصه ، وربما ينسب هذا إلى الرواية عنهم عليهم‌السلام ، وأما وصفه عليه‌السلام قولهم بالعظم ، فالظاهر أنه لإثباتهم له سبحانه وجها كوجوه البشر ، ومن قال ذلك فقد كفر ، وقيل : كان مرادهم فناء كل شيء غير ذاته تعالى فاستعظمه وأنكره عليه‌السلام ، إذ من المخلوقات ما لا يفنى ، ولا يخفى بعده.


٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن صفوان الجمال ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل « كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ » (١) قال من أتى الله بما أمر به من طاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو الوجه الذي لا يهلك وكذلك قال « مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ » (٢).

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن سنان ، عن أبي سلام النخاس ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال نحن المثاني الذي أعطاه الله

______________________________________________________

الحديث الثاني : صحيح.

قوله : فهو الوجه ، الضمير راجع إلى الموصول أي من أتى بجميع ما أمر الله به فهو وجه الله في خلقه ، وهم الأئمة عليهم‌السلام كما أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في زمانه وجه الله ، ثم استشهد عليه‌السلام بقوله تعالى : « مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ » فهو وجه الله الذي من توجه إليه توجه إلى الله فيرجع إلى الوجه السادس ، أو الضمير راجع إلى الإتيان أي الإتيان بما أمر الله هو الجهة التي يتوجه بها إلى الله ، والاستشهاد من جهة أن العمل بما أتى به الرسول طاعة الله وتوجه إليه ، مع أنه في أكثر النسخ كذلك فلا يكون تعليلا بل بيانا لأن طاعة الرسول صلى الله عليه‌السلام أيضا توجه إلى الله ، فلا تهلك ولا تضيع فيرجع إلى الخامس لكن الأول أظهر.

الحديث الثالث : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : نحن المثاني ، إشارة إلى قوله عز وجل : « وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ » (٣) والمشهور بين المفسرين أنها سورة الفاتحة ، وقيل : السبع الطوال ، وقيل : مجموع القرآن لقسمته أسباعا ، وقوله : من المثاني بيان للسبع والمثاني من التثنية أو الثناء ، فإن كل ذلك مثنى تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه ، أو مثنى بالبلاغة والإعجاز ، أو مثن على الله بما هو أهله من صفاته العظمى

__________________

(١) سورة القصص : ٨٨.

(٢) سورة النساء : ٧٩.

(٣) سورة الحجر : ٨٧.


______________________________________________________

وأسمائه الحسني ، ويجوز أن يراد بالمثاني القرآن أو كتب الله كلها ، فتكون من للتبعيض. وقوله (١) « وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ » إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو العام على الخاص ، وإن أريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر ، هذا ما قيل في تفسير ظهر الآية الكريمة ، ويدل عليها بعض الأخبار أيضا وأما تأويله عليه‌السلام لبطن الآية فلعل كونهم عليهم‌السلام سبعا باعتبار أسمائهم فإنها سبعة ، وإن تكرر بعضها ، أو باعتبار أن انتشار أكثر العلوم كان من سبعة منهم إلى الكاظم عليه‌السلام ، ثم بعد ذلك كانوا خائفين مستورين مغمورين لا يصل إليهم الناس غالبا إلا بالمكاتبة والمراسلة ، فلذا خص هذا العدد منهم بالذكر.

فعلى تلك التقادير يجوز أن تكون المثاني من الثناء لأنهم الذين يثنون عليه تعالى حق ثنائه بحسب الطاقة البشرية ، وأن يكون من التثنية لتثنيتهم مع القرآن كما قال الصدوق (ره) حيث قال : معنى قوله : نحن المثاني أي نحن الذين قرننا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى القرآن وأوصى بالتمسك بالقرآن ، وبنا أخبر أمته أنا لا نفترق حتى نرد حوضه « انتهى » أو لتثنيتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو لأنهم عليهم‌السلام ذو جهتين جهة تقدس وروحانية وارتباط تام بجنابة تعالى ، وجهة ارتباط بالخلق بسبب البشرية ويحتمل أن يكون السبع باعتبار أنه إذا ثني يصير أربعة عشر موافقا لعددهم عليهم‌السلام إما باعتبار التغاير الاعتباري بين المعطي والمعطي له إذ كونه معطي إنما يلاحظ مع جهة النبوة والكمالات التي خصه الله بها وكونه معطي له ، مع قطع النظر عنها ، أو يكون الواو في قوله : والقرآن ، بمعنى مع فيكونون مع القرآن أربعة عشر ، وفيه ما فيه. ويحتمل أن يكون المراد بالسبع في ذلك التأويل أيضا السورة ، ويكون المراد بتلك الأخبار أن الله تعالى إنما أمتن بهذه السورة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقابلة القرآن العظيم لاشتمالها على وصف الأئمة عليه‌السلام ومدح طريقتهم وذم أعدائهم في قوله سبحانه

__________________

(١) أي في الآية التي ذكرها الشارح (ره) في كلامه.


نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن وجه الله نتقلب في الأرض بين أظهركم ونحن عين الله في خلقه ويده المبسوطة بالرحمة على عباده عرفنا من عرفنا وجهلنا من جهلنا وإمامة المتقين

٤ـ الحسين بن محمد الأشعري ومحمد بن يحيى جميعا ، عن أحمد بن إسحاق ، عن سعدان بن مسلم ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل :

______________________________________________________

« صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ » إلى آخر السورة ، فالمعنى نحن المقصودون بالمثاني.

وقال في النهاية : فيه فأقاموا بين ظهرانيهم وبين أظهرهم ، قد تكررت هذه اللفظة في الحديث ، والمراد بها أنهم أقاموا بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم ، وزيدت فيه ألف ونون مفتوحة تأكيدا ، ومعناه أن ظهرا منهم قدامه وظهرا وراءه فهو مكنوف من جانبيه ومن جوانبه إذا قيل بين أظهرهم ، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا.

« وهم عين الله » أي شاهده على عباده ، فكما أن الرجل ينظر بعينه ليطلع على الأمور كذلك خلقهم الله ليكونوا شهداء منه عليهم ، ناظرين في أمورهم ، والعين يطلق على الجاسوس وعلى خيار الشيء أيضا ، قال في النهاية في حديث عمر : إن رجلا كان ينظر في الطواف إلى حرم المسلمين فلطمه علي عليه‌السلام فاستعدى عليه فقال : ضربك بحق أصابته عين من عين الله ، أراد خاصة من خواص الله عز وجل ، ووليا من أوليائه « انتهى » وإطلاق اليد على النعمة والرحمة والقدرة شائع ، فهم نعم الله التامة ورحمته المبسوطة ومظاهر قدرته الكاملة.

قوله عليه‌السلام : وإمامة المتقين ، بالنصب عطفا على ضمير المتكلم في جهلنا ثانيا ، أي جهلنا من جهل إمامة المتقين أو عرفنا وجهلنا أولا أي عرف إمامة المتقين من عرفنا ، وجهلها من جهلنا ، أو بالجر عطفا على الرحمة أي يده المبسوطة بإمامة المتقين ولعله من تصحيف النساخ ، والأظهر ما في نسخ التوحيد : ومن جهلنا فإمامة اليقين أي الموت على التهديد ، أو المراد أنه يتيقن بعد الموت ورفع الشبهات.

الحديث الرابع : مجهول وسموا بالاسم لأنهم يدلون على قدرة الله تعالى


« وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها » (١) قال نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا.

٥ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن إسماعيل ، عن الحسين بن الحسن ، عن بكر بن صالح ، عن الحسن بن سعيد ، عن الهيثم بن عبد الله ، عن مروان بن صباح قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن الله خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا وجعلنا عينه في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة ووجهه

______________________________________________________

وعلمه وسائر كمالاته ، فهم بمنزلة الاسم في الدلالة على المسمى أو يكون بمعناه اللغوي من الوسم بمعنى العلامة ، أو لأنهم المظهرون لأسماء الله والحافظون لها والمحيطون بمعرفتها ، أو المظاهر لها والله يعلم.

الحديث الخامس : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : فأحسن خلقنا ، حيث خلقهم من الطينة الطاهرة أو من حيث إكمالهم عليهم‌السلام وعصمتهم من الخطإ والزلة ، ويمكن أن يقرأ خلقنا بالضم « فأحسن صورنا » أي جعلنا ذوي صورة حسنة وأخلاق جميلة ، وحلانا بالكمالات النفسانية ، « ولسانه الناطق في خلقه » لما كان اللسان يعبر عما في الضمير ويبين ما أراد الإنسان إظهاره أطلق عليهم عليهم‌السلام لسان الله لأنهم المعبرون عن الله يبينون حلاله وحرامه ومعارفه وسائر ما يريد بيانه للخلق « وبابه الذي يدل عليه » لما كان المريد للقاء السلطان لا بد له من إتيان بابه ولقاء بوابه ليوصلوه إليه فسموا أبواب الله ، لأنه لا بد لمن يريد معرفته سبحانه وطاعته من أن يأتيهم ليدلوه عليه وعلى رضاه ، فلذا شبهوا بالباب وسموا الأبواب ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا مدينة العلم ـ أو مدينة الحكمة وعلي بابها.

وروي عن الباقر عليه‌السلام في معنى كونهم باب الله : معناه أن الله احتجب عن خلقه بنبيه والأوصياء من بعده ، وفوض إليهم من العلم ما علم احتياج الخلق إليه ، ولما

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٨٠.


الذي يؤتى منه وبابه الذي يدل عليه وخزانه في سمائه وأرضه بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض.

______________________________________________________

استوفى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علي عليه‌السلام العلوم والحكمة قال : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، وقد أوجب الله على الخلق الاستكانة لعلي عليه‌السلام بقوله : « ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ » (١) أي الذي لا يرتابون في فضل الباب وعلو قدره.

وقال في موضع آخر : « وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها » (٢) يعني الأئمة عليهم‌السلام الذين هم بيوت العلم ومعادنه وهم أبواب الله ووسيلته والدعاة إلى الجنة والأدلاء عليها إلى يوم القيامة ، رواه الكفعمي عنه عليه‌السلام.

« وخزانة في سمائه وأرضه » أي خزان علمه من بين أهل السماء والأرض فنعطي علمه من نشاء ونمنعه من نشاء.

ويحتمل الأعم إذ جميع الخيرات يصل إلى الخلق بتوسطهم ، وقيل : أي عندهم مفاتيح الخير من العلوم والأسماء التي تفتح أبواب الجود على العالمين.

« بنا أثمرت الأشجار » إذ الغاية في خلق العالم المعرفة والعبادة كما دلت عليه الآيات والأخبار ، ولا يتأتى الكامل منهما إلا منهم ، ولا يتأتيان من سائر الخلق إلا بهم ، فهم سبب نظام العالم ، ولذا يختل عند فقد الإمام لانتفاء الغاية وقد قال سبحانه : لولاك لما خلقت الأفلاك ، قيل : ويحتمل أن يكون أثمار الأشجار وإيناع الأثمار وجرى الأنهار « إه » كناية عن ظهور الكمالات النفسانية والجسمانية ، ووصولها إلى غايتها المطلوبة ، وظهور العلم وأمثاله ، وقال في النهاية أينع الثمر يونع وينع يينع فهو مونع ويانع إذا أدرك ونضج وأينع أكثر استعمالا ، والعشب بالضم الكلاء الرطب.

__________________

(١) سورة البقرة : ٥٨.

(٢) سورة البقرة : ١٨٩.


وبعبادتنا عبد الله ولو لا نحن ما عبد الله

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن عمه حمزة بن بزيع ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل « فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ » (١) فقال إن الله عز وجل لا يأسف كأسفنا ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون وهم مخلوقون مربوبون فجعل رضاهم رضا نفسه وسخطهم سخط نفسه لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه فلذلك صاروا كذلك وليس أن ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه لكن هذا معنى ما قال من ذلك وقد قال من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها (٢) وقال « مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ » (٣) وقال « إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ » (٤) فكل هذا

______________________________________________________

« وبعبادتنا عبد الله ولو لا نحن ما عبد الله » أي بمعرفتنا وعبادتنا التي بها نعرفه ونعبده ونهدي عباده إليها ونعلمها إياهم ، عبد الله لا بغيرها مما تسميه العامة عبادة ومعرفة ، أو أنه لو لا عبادتنا لم يوجد أحد ، لأن الله خلق العالم لعبادتنا فلم يوجد الدنيا فلم يعبد الله أحد ، أو المراد أن العبادة الخالصة مع الشرائط لا تصدر إلا منا ، فلولانا ما عبد الله إذ المعنى أن ولايتنا شرط لقبول العبادة فلولانا نحن ما عبد سبحانه عبادة مقبولة.

الحديث السادس : حسن ، وقال في القاموس : الأسف محركة شدة الحزن ، أسف كفرح وعليه غضب « انتهى » وقد مر مرارا أنه سبحانه لا يتصف بصفات المخلوقين ، وهو متعال عن أن تكون له كيفية ، فإطلاق الأسف فيه سبحانه إما تجوز باستعماله في صدور الفعل الذي يترتب فينا مثله على الأسف ، وإما مجاز في الإسناد أو من مجاز الحذف أي أسفوا أولياءنا ، والخبر محمول على الأخيرين.

__________________

(١) سورة الزخرف : ٥٥.

(٢) من الأحاديث القدسية ، ذكره المحدث الحرّ العاملي (ره) في الجواهر السنية ص ٣٤٥ ط نجف.

(٣) سورة النساء : ٧٩.

(٤) سورة الفتح : ١٠.


وشبهه على ما ذكرت لك وهكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك ولو كان يصل إلى الله الأسف والضجر وهو الذي خلقهما وأنشأهما لجاز لقائل هذا أن يقول إن الخالق يبيد يوما ما لأنه إذا دخله الغضب والضجر دخله التغيير وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة ثم لم يعرف المكون من المكون ولا القادر من المقدور عليه ولا الخالق من المخلوق تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه فافهم إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

واستشهد عليه‌السلام بأمثاله في كلامه سبحانه ، ثم استدل على استحالة الحزن والضجر عليه كسائر الكيفيات بأن الاتصاف بالممكن المخلوق مستلزم للإمكان وكل ما هو ممكن في عرضة الهلاك ، ولا يؤمن عليه الانقطاع والزوال ثم إذا جوز عليه الزوال لم يعرف المكون المبدأ على الإطلاق من المكون المخلوق ، ولا القادر على الإطلاق السرمدي من المقدور عليه المحدث ، ولا الخالق من المخلوق ، لأن مناط هذا التميز والمعرفة الوجوب والقدم الدالان على المبدئية والقدرة والخالقية والإمكان والعدم الدالان على المكونية والمقدورية والمخلوقية ، بل هو الخالق للأشياء لا لحاجة منه إلى خلقه في وجوده أو كمالاته ، لكونه المبدأ الأول الأزلي الإحدى المتقدس عن التكثر بجهة من الجهات كالفعلية والقوة وغيرها ، فإذا كان كذلك استحال عليه الحد الموقوف على المهية الإمكانية والكيف كذا قيل.

أو أنه إذا كان خالقا لجميع ما سواه غير محتاج إليها لا يمكن أن يكون متصفا بالحد والكيف ، إذ الحد والكيف إن كانا منه سبحانه فهو محتاج إليهما ، فتكون خالقيته للحاجة ، وإن كانا من غيره فالغير مخلوق له ، وهو محتاج إليه في الاتصاف بهما.


٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي نصر ، عن محمد بن حمران ، عن أسود بن سعيد قال كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام فأنشأ يقول ابتداء منه من غير أن أسأله نحن حجة الله ونحن باب الله ونحن لسان الله ونحن وجه الله ونحن عين الله في خلقه ونحن ولاة أمر الله في عباده.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن حسان الجمال قال حدثني هاشم بن أبي عمارة (١) الجنبي قال سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول أنا عين الله وأنا يد الله وأنا جنب الله وأنا باب الله

______________________________________________________

الحديث السابع : مجهول.

الحديث الثامن : مجهول بهاشم بن أبي عمار الحيتي وفي بعض النسخ الجنبي والجنب حي من اليمن.

قوله عليه‌السلام : وأنا جنب الله ، لعل المراد بالجنب الجانب والناحية وهو عليه‌السلام التي أمر الله الخلق بالتوجه إليه ، والجنب يجيء بمعنى الأمير ، وهو أمير الله على الخلق أو هو كناية عن أن قرب الله تعالى لا يحصل إلا بالتقرب بهم ، كما أن من أراد أن يقرب من الملك يجلس بجنبه ، وقد ورد المعنى الأخير عن الباقر عليه‌السلام.

قال الكفعمي : قوله : جنب الله ، قال الباقر عليه‌السلام : معناه أنه ليس شيء أقرب إلى الله تعالى من رسوله ، ولا أقرب إلى رسوله من وصيه ، فهو في القرب كالجنب ، وقد بين الله تعالى ذلك في كتابه في قوله : « أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ » (٢) يعني في ولاية أوليائه.

وقال الطبرسي في مجمعه : الجنب القرب ، أي يا حسرتى على ما فرطت في قرب الله وجواره ، ومنه قوله تعالى : « وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ » (٣) وهو الرفيق في السفر ، وهو الذي يصحب الإنسان بأن يحصل بجنبه لكونه رفيقه قريبا منه ملاصقا له ، وعن الباقر عليه‌السلام : نحن جنب الله « انتهى ».

__________________

(١) والصحيح « أبي عمّار » كما في الشرح.

(٢) سورة الزمر : ٥٦.

(٣) سورة النساء : ٣٦.


٩ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن عمه حمزة بن بزيع ، عن علي بن سويد ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ » (١) قال جنب الله أمير المؤمنين عليه‌السلام وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهي الأمر إلى آخرهم.

١٠ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن جمهور ، عن علي بن الصلت ، عن الحكم وإسماعيل ابني حبيب ، عن بريد العجلي قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول بنا عبد الله وبنا عرف الله وبنا وحد الله تبارك وتعالى ومحمد حجاب الله تبارك وتعالى :

______________________________________________________

الحديث التاسع : حسن.

قوله عليه‌السلام : جنب الله أمير المؤمنين ، أي جنب الله في هذه الأمة أمير المؤمنين صلوات الله عليه وكذا الأوصياء بعده ، والحاصل أن المراد بجنب الله الحجج في كل أمة « بالمكان » خبر كان أو حال.

الحديث العاشر : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : ومحمد حجاب الله ، أي واسطة بين الله وبين خلقه ، كما أنه لا يمكن الوصول إلى المحجوب إلا بالوصول إلى الحجاب ، فكذلك هو بالنسبة إلى جميع خلقه لا يمكنهم الوصول إلى الله سبحانه وإلى رحمته إلا بالتوصل به ، وقيل : المراد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله النور المشرق منه سبحانه ، وأقرب شيء منه ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أول ما خلق الله نوري ومنه الحجاب لنور الشمس ، أو المراد أنه النور المشرق منه سبحانه ولتوسطه بينه وبين النفوس النورية يكون حجابا له سبحانه ، لأنه بالوصول إليه وغلبة نوره على أنوارهم يعجز كل منها عن إدراك ما فوقه « انتهى » أو يعلم بالاطلاع على هذا النور وعجزه عن إدراكه أنه لا يمكنه الوصول إلى نور الأنوار ، فهو بهذا المعنى حجاب عنه سبحانه.

__________________

(١) سورة الزمر : ٥٦.


١١ ـ بعض أصحابنا ، عن محمد بن عبد الله ، عن عبد الوهاب بن بشر ، عن موسى بن قادم ، عن سليمان ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل « وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (١) قال إن الله تعالى أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ولكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته حيث يقول « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا » (٢) يعني الأئمة منا.

ثم قال في موضع آخر « وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » ثم ذكر مثله

______________________________________________________

الحديث الحادي عشر : مجهول مرسل.

قوله عليه‌السلام : من أن يظلم ، أي من أن يتوهم جواز مظلوميته سبحانه وإمكانه حتى يحتاج إلى نفيه ، فهذه المظلومية مظلومية المنتجبين من عباده « خلطهم بنفسه » أي ذكرهم مع ذكره ، وجعل ظلمهم ظلمه وولايتهم ولايته حيث يقول « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا » يعني الأئمة عليهم‌السلام فجعل الولاية وأولوية التصرف في الأمور للرسول والأئمة من بعده ، وأسند هذه الولاية التي أثبتها لهم إلى نفسه ابتداء شرفا وتعظيما لهم ، ثم أسند مظلوميتهم وإزالتهم عن مكانتهم هذه إلى نفسه في موضع آخر ، فقال : « وَما ظَلَمُونا » الآية ثم ذكر سبحانه مثله في كتابه من إسناد ما لهم من الرضا والغضب والأسف وأمثالها إلى نفسه في مواضع كثيرة ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه ذكر إسناد الظلم إلى نفسه في موضع آخر أيضا ، إذ هذه الآية متكررة في القرآن ، وقيل : « ثم قال » كلام زرارة ، والقائل هو عليه‌السلام ، أي قال : وقرأ هذه الآية في مجلس آخر وذكر بعدها ما ذكر سابقا ولا يخفى بعده.

__________________

(١) سورة البقرة : ٥٧.

(٢) سورة المائدة : ٥٥.


باب البداء

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحجال ، عن أبي إسحاق ثعلبة ، عن زرارة بن أعين ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال ما عبد الله بشيء مثل البداء.

______________________________________________________

باب البداء

الحديث الأول : صحيح.

قوله : ما عبد الله بشيء مثل البداء ، أي الإيمان بالبداء من أعظم العبادات أو أنه ادعى إلى العبادة من كل شيء ، واعلم أن البداء مما ظن أن الإمامية قد تفردت به وقد شنع عليهم بذلك كثير من المخالفين ، والأخبار في ثبوتها كثيرة مستفيضة من الجانبين ولنشر إلى بعض ما قيل في تحقيق ذلك ثم إلى ما ظهر لي من الأخبار مما هو الحق في المقام :

اعلم أنه لما كان البداء ممدودا في اللغة بمعنى ظهور رأي لم يكن ، يقال : بدا الأمر بدوا : ظهر ، وبدا له في هذا الأمر بداء أي نشأ له فيه رأي كما ذكره الجوهري وغيره ، فلذلك يشكل القول بذلك في جناب الحق تعالى لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله ، وهذا محال ، ولذا شنع كثير من المخالفين على الإمامية في ذلك نظرا إلى ظاهر اللفظ من غير تحقيق لمرامهم ، حتى أن الناصبي المتعصب الفخر الرازي ذكر في خاتمة كتاب المحصل حاكيا عن سليمان بن جرير إن أئمة الرافضة وصفوا القول بالبداء لشيعتهم ، فإذا قالوا إنه سيكون لهم أمر وشوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا : بد الله تعالى فيه.

وأعجب منه أنه أجاب المحقق الطوسي (ره) في نقد المحصل عن ذلك لعدم


______________________________________________________

إحاطته قدس‌سره كثيرا بالأخبار بأنهم لا يقولون بالبداء ، وإنما القول به ما كان إلا في رواية رووها عن جعفر الصادق عليه‌السلام أنه جعل إسماعيل القائم مقام بعده فظهر من إسماعيل ما لم يرتضه منه ، فجعل القائم مقامه موسى عليه‌السلام ، فسئل عن ذلك فقال : بدا لله في إسماعيل ، وهذه رواية ، وعندهم أن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا « انتهى ».

فانظر إلى هذا المعاند كيف أعمت العصبية عينه حيث نسب إلى أئمة الدين الذين لم يختلف مخالف ولا مؤالف في فضلهم وعلمهم وورعهم وكونهم أتقى الناس وأعلاهم شأنا ورفعة ، الكذب والحيلة والخديعة ، ولم يعلم أن مثل هذه الألفاظ المجازية الموهمة لبعض المعاني الباطلة قد وردت في القرآن الكريم وأخبار الطرفين ، كقوله تعالى : « اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ » (١) و « مَكَرَ اللهُ » (٢) و « لِيَبْلُوَكُمْ » (٣) و « لِنَعْلَمَ » (٤) و « يُرِيدُ اللهُ » (٥) و « وَجْهُ اللهِ » (٦) و « جَنْبِ اللهِ » (٧) إلى غير ذلك مما لا يحصي ، وقد ورد في أخبارهم ما يدل على البداء بالمعنى الذي قالت به الشيعة أكثر مما ورد في أخبارنا ، كخبر دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على اليهودي ، وإخبار عيسى عليه‌السلام (٨) وأن الصدقة والدعاء يغيران القضاء وغير ذلك.

وقال ابن الأثير في النهاية في حديث الأقرع والأبرص والأعمى : بدا لله عز وجل أن يبتليهم ، أي قضى بذلك ، وهو معنى البداء ههنا ، لأن القضاء سابق ، والبداء

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥.

(٢) سورة آل عمران : ٥٤.

(٣) سورة الأنعام : ١٦٥ وساير السور الكريمة.

(٤) سورة سبأ : ٢١.

(٥) سورة آل عمران : ٧٣ وساير السور الكريمة.

(٦) سورة البقرة : ١١٥ وساير السور الكريمة.

(٧) سورة الزمر : ٥٦.

(٨) سيأتي تفصيل هذين الخبرين في الذيل.


______________________________________________________

استصواب شيء علم بعد أن لم يعلم ، وذلك على الله غير جائز « انتهى ».

وقد قال سبحانه : « هُوَ الَّذِي قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ » (١) وقال المحقق الطوسي (ره) في التجريد : أجل الحيوان الوقت الذي علم الله بطلان حياته فيه ، والمقتول يجوز فيه الأمران لولاه ، ويجوز أن يكون الأجل لطفا للغير لا للمكلف ، وقال العلامة (ره) في شرحه : اختلف الناس في المقتول لو لم يقتل ، فقالت المجبرة : إنه كان يموت قطعا وهو قول العلاف ، وقال بعض البغداديين : إنه كان يعيش قطعا ، وقال أكثر المحققين : إنه كان يجوز أن يعيش ويجوز أن يموت ثم اختلفوا فقال قوم منهم : لو كان المعلوم منه البقاء لو لم يقتل له أجلان ، وقال الجبائيان وأصحابهما وأبو الحسين : إن أجله هو الوقت الذي قتل فيه ليس له أجل آخر لو لم يقتل ، فما كان يعيش إليه ليس بأجل له الآن حقيقي بل تقديري « انتهى » وقال تعالى : « يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ » (٢).

وقال الناصبي الرازي في تفسيره في هذه الآية قولان :

الأول : أنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ ، قالوا : إن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه ، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر ، وهو مذهب عمرو بن مسعود ، ورواه جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والثاني : أنها خاصة في بعض الأشياء دون البعض ، ففيها وجوه :

« الأول » : أن المراد من المحو والإثبات نسخ الحكم المتقدم وإثبات حكم آخر بدلا عن الأول « الثاني » أنه تعالى يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة ، لأنهم مأمورون بكتبة كل قول وفعل ويثبت غيره « الثالث » أنه تعالى

__________________

(١) الآية في سورة الأنعام : ٢ وأصل الآية هكذا : « هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا مسمّى .... ».

(٢) سورة الرعد : ٣٩.


______________________________________________________

أراد بالمحو أن من أذنب أثبت ذلك الذنب في ديوانه ، فإذا تاب عنه محي عن ديوانه « الرابع » يمحو الله ما يشاء ، وهو من جاء أجله ويدع من لم يجيء أجله ويثبته « الخامس » أنه تعالى يثبت في أول السنة ، فإذا مضت السنة محيت وأثبت كتاب آخر للمستقبل « السادس » يمحو نور القمر ويثبت نور الشمس « السابع » يمحو الدنيا ويثبت الآخرة « الثامن » أنه في الأرزاق والمحن والمصائب يثبتها في الكتاب ثم يزيلها بالدعاء والصدقة ، وفيه حث على الانقطاع إلى الله تعالى « التاسع » تغير أحوال العبد فما مضى منها فهو المحو ، وما حصل وحضر فهو الإثبات « العاشر » يزيل ما يشاء من حكمه ، لا يطلع على غيبة أحد ، فهو المتفرد بالحكم كما يشاء ، وهو المستقبل بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة والإغناء والإفقار ، بحيث لا يطلع على تلك الغيوب أحد من خلقه ، واعلم أن هذا الباب فيه مجال عظيم.

فإن قال قائل : ألستم تزعمون أن المقادير سابقه قد جفت بها القلم ، فكيف يستقيم مع هذا المعنى المحو والإثبات؟

قلنا : ذلك المحو والإثبات أيضا مما قد جفت به القلم ، فلا يمحو إلا ما قد سبق في علمه وقضائه محوه ، ثم قال : قالت الرافضة : البداء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده ، وتمسكوا فيه بقوله « يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ » انتهى كلامه لعنه الله.

ولا أدري من أين أخذ هذا القول الذي افترى به عليهم ، مع أن الكتب الإمامية المتقدمين عليه كالصدوق والمفيد والشيخ والمرتضى وغيرهم رضوان الله عليهم مشحونة بالتبري عن ذلك ، ولا يقولون إلا ببعض ما ذكره سابقا أو بما هو أصوب منها كما ستعرف ، والعجب أنهم في أكثر الموارد ينسبون إلى الرب تعالى ما لا يليق به ، والإمامية قدس الله أسرارهم يبالغون في تنزيهه تعالى ويفحمونهم بالحجج البالغة ، ولما لم يظفروا في عقائدهم بما يوجب نقصا يباهتونهم ويفترون عليهم بأمثال تلك


______________________________________________________

الأقاويل الفاسدة ، وهل البهتان والافتراء إلا دأب العاجزين ، ولو فرض أن بعضا من الجهلة المنتحلين للتشيع قال بذلك ، فالإمامية يتبرءون منه ومن قوله كما يتبرءون من هذا الناصبي وأمثاله وأقاويلهم الفاسدة.

فأما ما قيل في توجيه البداء فقال الصدوق (ره) في كتاب التوحيد : ليس البداء كما تقوله جهال الناس بأنه بداء ندامة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، ولكن يجب علينا أن نقر لله عز وجل بأن له البداء ، معناه أن له أن يبدأ بشيء من خلقه فيخلقه قبل شيء ، ثم يعدم ذلك الشيء ويبدأ بخلق غيره ، أو يأمر بأمر ثم ينهى عن مثله أو ينهى عن شيء ثم يأمر بمثل ما نهى عنه ، وذلك مثل نسخ الشرائع وتحويل القبلة وعدة المتوفى عنها زوجها ، ولا يأمر الله عباده بأمر في وقت ما إلا ويعلم أن الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك ، ويعلم أن في وقت آخر الصلاح لهم في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به ، فإذا كان ذلك الوقت أمرهم بما يصلحهم ، فمن أقر لله عز وجل بأن له أن يفعل ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويخلق مكانه ما يشاء ، ويقدر ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، ويأمر بما يشاء كيف يشاء ، فقد أقر بالبداء ، وما عظم الله بشيء أفضل من الإقرار بأن له الخلق والأمر والتقديم والتأخير وإثبات ما لم يكن ومحو ما قد كان ، والبداء هو رد على اليهود لأنهم قالوا إن الله قد فرغ من الأمر ، فقلنا إن الله كل يوم في شأن يحيى ويميت ويرزق ويفعل ما يشاء ، والبداء ليس من ندامة ، وإنما هو ظهور أمر ، تقول العرب : بدا لي شخص في طريقي أي ظهر ، وقال الله عز وجل : « وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ » (١) أي ظهر لهم ومتى ظهر لله تعالى ذكره من عبد صلة لرحمه زاد في عمره ، ومتى ظهر له قطيعة رحم نقص من عمره ، ومتى ظهر له من عبد إتيان الزنا نقص من رزقه وعمره ، ومتى ظهر له التعفف عن الزنا زاد في رزقه وعمره.

__________________

(١) سورة الزمر : ٤٧.


______________________________________________________

ومن ذلك قول الصادق عليه‌السلام : ما بدا لله كما بدا له في إسماعيل ابني ، يقول :ما ظهر له أمر كما ظهر له في إسماعيل إذ اخترمه قبلي ، ليعلم بذلك أنه ليس بإمام بعدي.

وقال شيخ الطائفة عظم الله أجره في كتاب الغيبة بعد إيراد الأخبار المشتملة على البداء في قيام القائم عليه‌السلام : الوجه في هذه الأخبار ـ إن صحت ـ أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقت هذا الأمر في الأوقات التي ذكرت ، فلما تجدد ما تجدد تغيرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر ، وكذلك فيما بعد ، ويكون الوقت الأول وكل وقت يجوز أن يؤخر مشروطا بأن لا يتجدد ما تقتضي المصلحة تأخيره إلى أن يجيء الوقت الذي لا يغيره شيء ، فيكون محتوما.

وعلى هذا يتأول ما روي في تأخير الأعمار عن أوقاتها والزيادة فيها عند الدعاء وصلة الأرحام ، وما روي في تنقيص الأعمار عن أوقاتها إلى ما قبله عند فعل الظلم وقطع الرحم وغير ذلك ، وهو تعالى وإن كان عالما بالأمرين فلا يمتنع أن يكون أحدهما معلوما بشرط ، والآخر بلا شرط ، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل ، وعلى هذا يتأول أيضا ما روي من أخبارنا المتضمنة للفظ البداء ، ويبين أن معناها النسخ على ما يريده جميع أهل العدل ، فيما يجوز فيه النسخ ، أو تغير شروطها إن كان طريقها الخبر عن الكائنات ، لأن البداء في اللغة هو الظهور ، فلا يمتنع أن يظهر لنا من أفعال الله تعالى ما كنا نظن خلافه أو نعلم ولا نعلم شرطه.

فمن ذلك ما رواه سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أحمد بن محمد ابن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : علي بن الحسين وعلي بن أبي طالب قبله ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد عليهم‌السلام : كيف لنا بالحديث مع هذه الآية : « يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ » فأما من قال بأن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد كونه فقد كفر « انتهى ».


______________________________________________________

وقد قيل فيه وجوه أخر :

الأول : ما ذكره السيد الداماد قدس الله روحه في نبراس الضياء حيث قال : البداء منزلته في التكوين منزلة النسخ في التشريع ، فما في الأمر التشريعي والأحكام التكليفية نسخ فهو في الأمر التكويني والمكونات الزمانية بداء ، فالنسخ كأنه بداء تشريعي ، والبداء كأنه نسخ تكويني ، ولا بداء في القضاء ، ولا بالنسبة إلى جناب القدس الحق والمفارقات المحضة من ملائكته القدسية ، وفي متن الدهر الذي هو ظرف مطلق الحصول القار والثبات البات ووعاء عالم الوجود كله ، وإنما البداء في القدر وفي امتداد الزمان الذي هو أفق التقضي والتجدد ، وظرف التدريج والتعاقب ، وبالنسبة إلى الكائنات الزمانية ، ومن في عالم الزمان والمكان وإقليم المادة والطبيعة وكما أن حقيقة النسخ عند التحقيق انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع استمراره لا رفعه وارتفاعه عن وعاء الواقع ، فكذا حقيقة البداء عند الفحص البالغ انبتات استمرار الأمر التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة ، ومرجعه إلى تحديد زمان الكون وتخصيص وقت الإفاضة ، لا أنه ارتفاع المعلول الكائن عن وقت كونه وبطلانه في حد حصوله « انتهى ».

الثاني : ما ذكره بعض الأفاضل في شرحه على الكافي وتبعه غيره من معاصرينا : وهو أن القوي المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة ، لعدم تناهي تلك الأمور ، بل إنما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا وجملة فجملة مع أسبابها وعللها على نهج مستمر ونظام مستقر ، فإن ما يحدث في عالم الكون والفساد فإنما هو من لوازم حركات الأفلاك المسخرة لله تعالى ، ونتائج بركاتها فهي تعلم أنه كلما كان كذا كان كذا ، فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم ، وربما تأخر بعض الأسباب الموجب لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه بقية الأسباب لو لا ذلك السبب ، ولم يحصل لها


______________________________________________________

العلم بتصدقه الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت ، لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، ثم لما جاء أو أنه واطلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأول فيمحي عنها نقش الحكم السابق ، ويثبت الحكم الآخر ، مثلا لما حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا ، الأسباب تقتضي ذلك ولم يحصل لها العلم بتصدقه الذي سيأتي به قبل ذلك الوقت ، لعدم اطلاعها على أسباب التصدق بعد ، ثم علمت به وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا يتصدق ، فتحكم أولا بالموت وثانيا بالبرء ، وإذا كانت الأسباب لوقوع أمر ولا وقوعه متكافئة ، ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد ، لعدم مجيء أوان سبب ذلك الرجحان بعد ، كان لها التردد في وقوع ذلك الأمر ولا وقوعه فينتقش فيها الوقوع تارة واللاوقوع أخرى ، فهذا هو السبب في البداء والمحو والإثبات والتردد وأمثال ذلك في أمور العالم ، فإذا اتصلت بتلك القوي نفس النبي أو الإمام عليهم‌السلام وقرأ فيها بعض تلك الأمور فله أن يخبر بما رآه بعين قلبه ، أو شاهده بنور بصيرته ، أو سمع بإذن قلبه ، وأما نسبة ذلك كله إلى الله تعالى فلان كلما يجري في العالم الملكوتي إنما يجري بإرادة الله تعالى بل فعلهم بعينه فعل الله سبحانه ، حيث إنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، إذ لا داعي لهم على الفعل إلا إرادة الله جل وعز لاستهلاك إرادتهم في إرادته تعالى ، ومثلهم كمثل الحواس للإنسان ، كلما هم بأمر محسوس امتثلت الحواس لما هم به ، فكل كتابة تكون في هذه الألواح والصحف فهو أيضا مكتوب لله عز وجل بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأول ، فيصح أن يوصف الله عز وجل نفسه بأمثال ذلك بهذا الاعتبار ، وإن كان مثل هذه الأمور يشعر بالتغير والنسوخ ، وهو سبحانه منزه عنه ، فإن كلما وجد أو سيوجد فهو غير خارج عن عالم ربوبيته.

الثالث : ما ذكره بعض المحققين حيث قال : تحقيق القول في البداء أن الأمور كلها عامها وخاصها ومطلقها ومقيدها ومنسوخها وناسخها ومفرداتها ومركباتها


______________________________________________________

وإخباراتها وإنشاءاتها ، بحيث لا يشذ عنها شيء منتقشة في اللوح ، والفائض منه على الملائكة والنفوس العلوية والنفوس السفلية قد يكون الأمر العام المطلق أو المنسوخ حسب ما تقتضيه الحكمة الكاملة من الفيضان في ذلك الوقت ، ويتأخر المبين إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه ، وهذه النفوس العلوية وما يشبهها يعبر عنها بكتاب المحو والإثبات ، والبداء عبارة عن هذا التغيير في ذلك الكتاب.

الرابع : ما ذكره السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في جواب مسائل أهل الري ، وهو أنه قال : المراد بالبداء النسخ ، وادعى أنه ليس بخارج عن معناه اللغوي.

أقول : هذا ما قيل في هذا الباب ، وقد قيل فيه وجوه أخر لا طائل في إيرادها والوجوه التي أوردناها بعضها بمعزل عن معنى البداء ، وبينهما كما بين الأرض والسماء وبعضها مبتنية على مقدمات لم تثبت في الدين ، بل ادعي على خلافها إجماع المسلمين وكلها يشتمل على تأويل نصوص كثيرة بلا ضرورة تدعو إليه ، وتفصيل القول في كل منها يفضي إلى الإطناب ، ولنذكر ما ظهر لنا من الآيات والأخبار بحيث تدل عليه النصوص الصريحة ، ولا تأبى عنه العقول الصحيحة.

فنقول وبالله التوفيق : إنهم عليهم‌السلام إنما بالغوا في البداء ردا على اليهود الذين يقولون إن الله قد فرغ من الأمر ، وعلى النظام ، وبعض المعتزلة الذين يقولون إن الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن ، معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده ، والتقدم إنما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها ، وإنما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة ، وعلى بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية ، وبأن الله تعالى لم يؤثر حقيقة إلا في العقل الأول ، فهم يعزلونه تعالى عن ملكه ، وينسبون الحوادث إلى هؤلاء ، وعلى آخرين منهم قالوا : إن الله سبحانه أوجد جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهرية لا ترتب فيها باعتبار الصدور ، بل إنما ترتبها في الزمان فقط ، كما أنه لا تترتب


______________________________________________________

الأجسام المجتمعة زمانا وإنما ترتبها في المكان فقط ، فنفوا عليهم‌السلام كل ذلك وأثبتوا أنه تعالى كل يوم في شأن من إعدام شيء وإحداث آخر وإماتة شخص وإحياء آخر إلى غير ذلك لئلا يترك العباد التضرع إلى الله ومسألته وطاعته والتقرب إليه بما يصلح أمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدق على الفقراء وصلة الأرحام وبر الوالدين والمعروف والإحسان ما وعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك.

ثم اعلم أن الآيات والأخبار تدل على أن الله تعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات : أحدهما اللوح المحفوظ الذي لا تغير فيه أصلا ، وهو مطابق لعلمه تعالى ، والآخر لوح المحو والإثبات فيثبت فيه شيئا ثم يمحوه لحكم كثيرة لا تخفى على أولي الألباب ، مثلا يكتب فيه أن عمر زيد خمسون سنة ومعناه أن مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلا يمحى الخمسون ويكتب مكانه ستون ، وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون ، وفي اللوح المحفوظ أنه يصل وعمره ستون ، كما أن الطبيب الحاذق إذا اطلع على مزاج شخص يحكم بأن عمره بحسب هذا المزاج يكون ستين سنة ، فإذا شرب سما ومات أو قتله إنسان فنقص من ذلك ، أو استعمل دواء قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب ، والتغيير الواقع في هذا اللوح مسمى بالبداء ، إما لأنه مشبه به كما في سائر ما يطلق عليه تعالى من الابتلاء والاستهزاء والسخرية وأمثالها ، أو لأنه يظهر للملائكة أو للخلق إذا أخبروا بالأول خلاف ما علموا أولا.

وأي استبعاد في تحقق هذين اللوحين؟ وأية استحالة في هذا المحو والإثبات حتى يحتاج إلى التأويل والتكلف. وإن لم تظهر الحكمة فيه لنا لعجز عقولنا عن الإحاطة بها ، مع أن الحكم فيه ظاهرة.

منها : أن يظهر للملائكة الكاتبين في اللوح والمطلعين عليه لطفه تعالى بعباده وإيصالهم في الدنيا إلى ما يستحقونه فيزدادوا به معرفة.


______________________________________________________

ومنها : أن يعلم العباد بأخبار الرسل والحج عليهم‌السلام أن لأعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات في صلاح أمورهم ، ولأعمالهم السيئة تأثيرا في فسادها فيكون داعيا لهم إلى الخيرات ، صارفا لهم عن السيئات ، فظهر أن لهذا اللوح تقدما على اللوح المحفوظ من جهة ، لصيرورته سببا لحصول بعض الأعمال ، فبذلك انتقش في اللوح المحفوظ حصوله ، فلا يتوهم أنه بعد ما كتب في هذا اللوح حصوله لا فائدة في المحو والإثبات.

ومنها : أنه إذا أخبر الأنبياء والأوصياء أحيانا من كتاب المحو والإثبات ثم أخبروا بخلافه يلزمهم الإذعان به ، ويكون في ذلك تشديد للتكليف عليهم ، وتسبيبا لمزيد الأجر لهم ، كما في سائر ما يبتلي الله عباده به من التكاليف الشاقة ، وإيراد الأمور التي تعجز أكثر العقول عن الإحاطة بها ، وبها يمتاز المسلمون الذين فازوا بدرجات اليقين عن الضعفاء الذين ليس لهم قدم راسخ في الدين.

ومنها : أن تكون هذه الأخبار تسلية لقوم من المؤمنين المنتظرين لفرج أولياء الله وغلبة الحق وأهله ، كما روي في قصة نوح عليه‌السلام حين أخبروا بهلاك القوم ثم أخر ذلك مرارا.

وكما روي في فرج أهل البيت عليهم‌السلام وغلبتهم عليهم‌السلام ، لأنهم عليهم‌السلام لو كانوا أخبروا الشيعة في أول ابتلائهم باستيلاء المخالفين وشدة محنتهم أنه ليس فرجهم إلا بعد ألف سنة أو ألفي سنة ليئسوا ورجعوا عن الدين ، ولكنهم أخبروا شيعتهم بتعجيل الفرج ، وربما أخبروهم بأنه يمكن أن يحصل الفرج في بعض الأزمنة القريبة ليثبتوا على الدين ويثابوا بانتظار الفرج كما سيأتي في باب كراهية التوقيت من كتاب الحجة عن علي بن يقطين ، قال : قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : الشيعة تربى بالأماني منذ مائتي سنة ، قال : وقال يقطين لابنه علي بن يقطين : ما بالنا قيل لنا فكان ، وقيل لكم فلم يكن؟ قال : فقال له علي : إن الذي قيل لنا ولكم كان من مخرج واحد غير


______________________________________________________

أن أمركم حضر فأعطيتم محضه فكان كما قيل لكم ، وإن أمرنا لم يحضر فعللنا بالأماني ، فلو قيل لنا إن هذا الأمر لا يكون إلا إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لقست القلوب ولرجع عامة الناس عن الإسلام ولكن قالوا ما أسرعه وما أقربه تألفا لقلوب الناس وتقريبا للفرج.

وقد ذكرنا كثيرا من الأخبار في ذلك في كتاب بحار الأنوار في كتاب النبوة ، لا سيما في أبواب قصص نوح وموسى وشعياء عليهم‌السلام ، وفي كتاب الغيبة.

فأخبارهم عليهم‌السلام بما يظهر خلافه ظاهرا من قبيل المجملات والمتشابهات التي تصدر عنهم بمقتضى الحكم ، ثم يصدر عنهم بعد ذلك تفسيرها وبيانها ، وقولهم يقع الأمر الفلاني في وقت كذا معناه إن كان كذا ، وإن لم يقع الأمر الفلاني الذي ينافيه ولم يذكروا الشرط كما قالوا في النسخ قبل الفعل ، وقد أوضحناه في باب ذبح إسماعيل عليه‌السلام من الكتاب المذكور.

فمعنى قولهم عليهم‌السلام : ما عبد الله بمثل البداء ، أن الإيمان بالبداء من أعظم العبادات القلبية لصعوبته ومعارضته الوساوس الشيطانية فيه ، ولكونه إقرارا بأن له الخلق والأمر، وهذا كمال التوحيد ، أو المعنى أنه من أعظم الأسباب والدواعي لعبادة الرب تعالى كما عرفت ، وكذا قولهم ما عظم الله بمثل البداء يحتمل الوجهين وإن كان الأول فيه أظهر.

وأما قول الصادق عليه‌السلام : لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه ، فلما مر أيضا من أن أكثر مصالح العباد موقوفة على القول بالبداء إذ لو اعتقدوا أن كل ما قدر في الأزل فلا بد من وقوعه حتما لما دعوا الله في شيء من مطالبهم ، وما تضرعوا إليه وما استكانوا لديه ، ولا خافوا منه ، ولا رجوا إليه إلى غير ذلك مما قد أومأنا إليه ، وأما إن هذه الأمور من جملة الأسباب المقدرة في الأزل أن يقع الأمر بها لا بدونها فمما لا يصل إليه عقول أكثر الخلق ، فظهر أن


______________________________________________________

هذا اللوح وعلمهم بما يقع فيه من المحو والإثبات أصلح لهم من كل شيء.

بقي هيهنا إشكال آخر : وهو أنه يظهر من كثير من الأخبار أن البداء لا يقع فيما يصل علمه إلى الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، ويظهر من كثير منها وقوع البداء فيما وصل إليهم أيضا ويمكن الجمع بينها بوجوه :

الأول : أن يكون المراد بالأخبار الأولة عدم وقوع البداء فيما وصل إليهم على سبيل التبليغ ، بأن يؤمروا بتبليغه فيكون إخبارهم بها من قبل أنفسهم لا على وجه التبليغ.

الثاني : أن يكون المراد بالأولة الوحي ويكون ما يخبرون به من جهة الإلهام واطلاع نفوسهم على الصحف السماوية وهذا قريب من الأول.

الثالث : أن تكون الأولة محمولة على الغالب فلا ينافي ما وقع على سبيل الندرة.

الرابع : ما أشار إليه الشيخ قدس الله روحه : من أن المراد بالأخبار الأولة عدم وصول الخبر إليهم وأخبارهم على سبيل الحتم ، فيكون أخبارهم على قسمين :

« أحدهما » ما أوحي إليهم أنه من الأمور المحتومة ، فهم يخبرون كذلك ولا بداء فيه.

« وثانيهما » ما يوحى إليهم لا على هذا الوجه ، فهم يخبرون كذلك ، وربما أشعروا أيضا باحتمال وقوع البداء فيه ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الإخبار بالسبعين « يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ » وهذا وجه قريب.

الخامس : أن يكون المراد بالأخبار الأولة أنهم لا يخبرون بشيء لا يظهر وجه الحكمة فيه على الخلق ، لئلا يوجب تكذيبهم بل لو أخبروا بشيء من ذلك يظهر وجه الصدق فيما أخبروا به كخبر عيسى عليه‌السلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث ظهرت الحية (١) دالة على صدق مقالهما ، وسيأتي بعض القول في ذلك في باب ليلة القدر إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) أقول : أمّا خبر عيسى عليه‌السلام فهو ما رواه الصدوق (ره) في الأمالي عن ـ


٢ ـ وفي رواية ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ما عظم الله بمثل البداء.

______________________________________________________

الحديث الثاني : مرسل.

قوله عليه‌السلام : ما عظم الله. لأنه إثبات لقدرته وتدبيره وحكمته ، وإذعان في أمر يأبى عنه العقول القاصرة وقد مر القول فيه.

__________________

أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنّ عيسى روح الله مرّ بقوم مجلبين ، فقال ما لهؤلاء؟ قيل يا روح الله إن فلانة بنت فلان تهدى إلى فلان بن فلان في ليلتها هذه.

قال يجلبون اليوم ويبكون غدا! فقال قائل منهم : ولم يا رسول الله؟ قال لأنّ صاحبتهم ميّتة في ليلتها هذه ، فقال القائلون بمقالته صدق الله ورسوله وقال أهل النفاق : ما أقرب غدا! فلما أصبحوا جاءوا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء فقالوا يا روح الله إن التي أخبرتنا أمس أنّها ميّتة لم تمت! فقال عيسى على نبينا وآله وعليه السلام : يفعل الله ما يشاء فاذهبوا بنا إليها ، فذهبوا يتسابقون حتى قرعوا الباب ، فخرج زوجها فقال له عيسى عليه‌السلام : استأذن لي على صاحبتك ، قال : فدخل عليها وأخبرها أنّ روح الله وكلمته بالباب مع عدّة قال فتخدرت فدخل عليها فقال لها : ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت : لم أصنع شيئا إلا وقد كنت أصنعه فيما مضى ، إنه كان يعترضنا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها ، وإنه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري وأهلي في مشاغل ، فهتف فلم يجبه أحد ، ثم هتف فلم يجب حتى هتف مرارا ، فلما سمعت مقالته قمت متنكرة حتى نلته كما كنّا ننيله ، فقال لها : تنحي عن مجلسك ، فإذا تحت ثيابها أفعي مثل جذعة عاض على ذنبه ، فقال عليه‌السلام : بما صنعت صرف عنك هذا.

وأما خبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو ما رواه الكليني (ره) في الكافي وسيأتي في كتاب الزكاة في باب « إن الصدقة تدفع البلاء » عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : مرّ يهودي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : السام عليك! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : عليك ، فقال أصحابه : إنما سلم عليك بالموت فقال : الموت عليك! فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : وكذلك رددت ، ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن هذا اليهودي يعضه أسود في قفاء


٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم وحفص بن البختري وغيرهما ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال في هذه الآية « يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ » قال فقال وهل يمحى إلا ما كان ثابتا وهل يثبت إلا ما لم يكن؟

٤ ـ علي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال الإقرار له بالعبودية وخلع الأنداد وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء.

______________________________________________________

الحديث الثالث : حسن.

« وهل يمحى إلا ما كان ثابتا » استدل عليه‌السلام بهذه الآية على تحقق البداء بالمعنى المتقدم ، بأن المحو يدل على أنه كان مثبتا في اللوح فمحي وأثبت خلافه ، وكذا العكس ، ويدل على أن جميع ذلك بمشيته سبحانه ، وأكثر الأخبار يشمل النسخ أيضا فلا تغفل.

الحديث الرابع : حسن.

قوله عليه‌السلام : الإقرار له بالعبودية ، أي بأن لا يدعو الربوبية كما يدعون لعيسى عليه‌السلام ، وقيل : لا يخفى ما فيه من المبالغة في إثبات البداء بجعله ثالث الإقرار بالألوهية والتوحيد ، ولعل ذلك لأن إنكاره يؤدي إلى إنكاره سبحانه خصوصا بالنسبة إلى الأنبياء عليهم‌السلام لأنه لقربهم من المبادئ كثيرا ما يفاض عليهم من كتاب المحو والإثبات الثابت الذي سيمحى بعد ، وعدم ثبوت ما سيثبت بعد ، والظاهر أن التقديم والتأخير بحسب الزمان في الحوادث ، ويحتمل ما بحسب الرتبة أيضا ، أو يقدمه يعني يوجده ويؤخره ، أي يمحوه ولا يوجده.

__________________

فيقتله. قال فذهب اليهودي فاحتطب حطبا كثيرا فاحتمله ثم لم يلبث أن انصرف ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ضعه ، فوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود ، قال : يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال : ما عملت عملا إلا حطبي هذا حملته فجئت به وكان معي كعكتان ( أي قرصان من الخبز ) فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بها دفع الله عنه ، وقال : إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان.


٥ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن ابن بكير ، عن زرارة ، عن حمران ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل : « قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ » (١) قال هما أجلان أجل محتوم وأجل موقوف.

______________________________________________________

الحديث الخامس : حسن أو موثق.

قوله تعالى : « قَضى أَجَلاً ».

قال الرازي في تفسيره : اختلف المفسرون في تفسير الأجلين على وجوه : « الأول » أن المقضي آجال الماضين والمسمى عنده : آجال الباقين. « الثاني » أن الأول أجل الموت والثاني أجل القيامة لأن مدة حياتهم في الآخرة لا آخر لها.« الثالث » أن الأجل الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث « الرابع » أن الأول النوم والثاني الموت « الخامس » أن الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد ، والثاني مقدار ما بقي من عمر كل أحد. « السادس » وهو قول حكماء الإسلام : إن لكل إنسان أجلين أحدهما : الآجال الطبيعية ، والثاني الآجال الاخترامية ، أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا عن العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني ، وأما الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بالأسباب الخارجية كالغرق والحرق وغيرهما من الأمور المنفصلة « انتهى ».

وما صدر من معدن الوحي والتنزيل مخالف لجميع ما ذكر ، وموافق للحق ، والأجل المقضي هو المحتوم الموافق لعلمه سبحانه ، والمسمى هو المكتوب في لوح المحو والإثبات ويظهر من بعض الروايات العكس.

قوله عليه‌السلام : هما أجلان أي متغايران أجل محتوم ، أي مبرم محكم لا يتغير وأجل موقوف قبل التغير والبداء لتوقفه على حصول شرائط وارتفاع موانع كما عرفت.

__________________

(١) سورة الأنعام : ٢.


٦ ـ أحمد بن مهران ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن علي بن أسباط ، عن خلف بن حماد ، عن ابن مسكان ، عن مالك الجهني قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى أولم ير « الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً » (١) قال فقال لا مقدرا ولا مكونا قال وسألته عن قوله : « هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً » فقال كان مقدرا غير مذكور.

٧ ـ محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول العلم علمان فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه وعلم علمه ملائكته ورسله فما علمه ملائكته ورسله فإنه سيكون لا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله وعلم

______________________________________________________

الحديث السادس : ضعيف والمراد بالخلق في الآية الأولى ، إما التقدير أو الإيجاد والأحداث العيني ، وعلى الأول معناه قدرنا الإنسان أو وجوده ، ولم يكن تقدير نوع الإنسان مسبوقا بكونه مقدرا أو مكونا في فرد ، وعلى الثاني أوجدناه ولم يكن إيجاده مسبوقا بتقدير سابق أزلي ، بل بتقدير كائن ولا مسبوقا بتكوين سابق ، وقوله : كان مقدرا غير مذكور أي غير مذكور ومثبت في الكتاب الذي يقال له كتاب المحو والإثبات ، أو غير مذكور لما تحت اللوح المحفوظ ، أو المراد غير موجود إذ الموجود مذكور عند الخلق ، والحاصل أنه يمكن أن يكون هذا إشارة إلى مرتبة متوسطة بين التقدير والإيجاد ، أو إلى الإيجاد ، ولما كان هذا الخبر يدل على أصل التقدير في الألواح ومراتبه التي يقع فيها البداء ، ذكره المصنف في هذا الباب.

الحديث السابع : مجهول كالصحيح.

« فما علمه ملائكته » أي على سبيل الوحي أو الحتم أو التبليغ أو غالبا كما مر

__________________

(١) كذا في النسخ ، والآية في سورة مريم : ٦٧ وأصلها هكذا « أولا يذكر الإنسان أنّا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ».


عنده مخزون يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء ويثبت ما يشاء.

٨ ـ وبهذا الإسناد ، عن حماد ، عن ربعي ، عن الفضيل قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ويؤخر منها ما يشاء.

٩ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن جعفر بن عثمان ، عن سماعة ، عن أبي بصير ووهيب بن حفص ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن لله علمين علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو من ذلك يكون البداء ـ وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه.

١٠ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو له.

١١ ـ عنه ، عن أحمد ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن داود بن فرقد ، عن عمرو بن عثمان الجهني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله لم يبد له من جهل.

______________________________________________________

تفصيله « يقدم منه ما يشاء » أي من العلم المخزون وبسببه يقدم ويؤخر ما يشاء في كتاب المحو والإثبات ، إذ هذا التغيير مسبوق بعلمه ذلك ، وإثباته في اللوح المحفوظ.

الحديث الثامن : مجهول كالصحيح.

« أمور موقوفة عند الله » أي مكتوبة في لوح المحو والإثبات موقوفة على شرائط يحتمل تغييرها.

الحديث التاسع : مجهول.

« من ذلك يكون البداء » أي بسبب ذلك العلم يحصل البداء في كتاب المحو.

الحديث العاشر : صحيح.

الحديث الحادي عشر : مجهول.


١٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن منصور بن حازم قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس قال لا من قال هذا فأخزاه الله قلت أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله قال بلى قبل أن يخلق الخلق.

١٣ ـ علي ، عن محمد ، عن يونس ، عن مالك الجهني قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه.

١٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابنا ، عن محمد بن عمرو الكوفي أخي يحيى ، عن مرازم بن حكيم قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله بخمس خصال بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة.

______________________________________________________

الحديث الثاني عشر : صحيح « فأخزاه الله » ظاهره الدعاء ، ويحتمل الإخبار أي أخزاه الله ومنع لطفه منه بسوء اختياره حتى قال بهذا القول ، ويدل الخبر على حدوث العالم.

الحديث الثالث عشر : مجهول « ما في القول بالبداء » أي الاعتقاد به وإظهاره وإنشاؤه من الأجر والفوائد « ما فتروا » ولم يمسكوا عن الكلام فيه ، لأنه مناط الخوف والرجاء ، والباعث على التضرع والدعاء والسعي في أمور المعاش والمعاد والعلم بتصرف رب العباد وتدبيره في عالم الكون والفساد.

الحديث الرابع عشر : مرسل « ما تنبأ نبي » أي لم يصر نبيا « والمشية » أي أن الأشياء تحصل بمشيته « والسجود » أي استحقاقه للعبادة ، واختصاصه بها ، أو أنه يسجد له ما في السماوات والأرض وينقاد له ، وقدرته نافذة في الجميع « والعبودية » أي بأن لا يدعي ما ينافي العبودية ، أو باختصاص العبودية والعبادة له ، فيكون تعميما بعد التخصيص ، أو التوحيد ونفي الشريك « والطاعة » أي في جميع الأوامر والنواهي وهو ناظر إلى العصمة.


١٥ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن محمد ، عن جعفر بن محمد ، عن يونس ، عن جهم بن أبي جهمة عمن حدثه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله عز وجل أخبر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بما كان منذ كانت الدنيا وبما يكون إلى انقضاء الدنيا وأخبره بالمحتوم من ذلك واستثنى عليه فيما سواه.

١٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الريان بن الصلت قال سمعت الرضا عليه‌السلام يقول ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء.

١٧ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد قال سئل العالمعليه‌السلامكيف علم الله قال علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى فأمضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما أراد فبعلمه كانت المشيئة وبمشيئته كانت الإرادة وبإرادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الإمضاء والعلم متقدم على المشيئة والمشيئة ثانية والإرادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء.

فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء فالعلم في المعلوم قبل كونه والمشيئة في المنشإ قبل عينه

______________________________________________________

الحديث الخامس عشر : مرسل « واستثنى عليه » أي بأن قال إلا بأن أريد غيره أو أمحوه ، والحاصل أنه ميز له المحتوم وغيره ، وهذا يؤيد أحد الوجوه المتقدمة في الجمع بين الأخبار.

الحديث السادس عشر : حسن ، ويدل على تحريم الخمر في جميع الشرائع ولا ينافي كونها في أول بعض الشرائع حلالا ، ثم نزل تحريمها كما يدل عليه بعض الأخبار.

الحديث السابع عشر : ضعيف ، وهو من غوامض الأخبار ومتشابهاتها ولعله إشارة إلى اختلاف مراتب تقدير الأشياء في الألواح السماوية أو اختلاف مراتب تسبب أسبابها إلى وقت حصولها.


والإرادة في المراد قبل قيامه والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالحواس من ذوي لون وريح ووزن وكيل وما دب ودرج من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس.

فلله تبارك وتعالى فيه البداء مما لا عين له فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء والله « يَفْعَلُ ما يَشاءُ » فبالعلم علم الأشياء قبل كونها وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها وبالإرادة ميز أنفسها في ألوانها وصفاتها وبالتقدير قدر أقواتها وعرف أولها وآخرها وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلهم عليها وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها و « ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ».

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : قبل تفصيلها وتوصيلها ، أي من لوح المحو والإثبات أو في الخارج.

قوله عليه‌السلام : فإذا وقع العين المفهوم المدرك ، أي فصل وميز في اللوح أو أوجد في الخارج ، ولعل تلك الأمور عبارة عن اختلاف مراتب تقديرها في لوح المحو والإثبات ، وقد جعلها الله من أسباب وجود الشيء وشرائطه لمصالح ، كما قد مر بيانها ، فالمشية كتابة وجود زيد وبعض صفاته مثلا مجملا ، والإرادة كتابة العزم عليه بتة مع كتابة بعض صفاته أيضا ، والتقدير تفصيل بعض صفاته وأحواله ، لكن مع نوع من الإجمال أيضا ، والقضاء تفصيل جميع الأحوال وهو مقارن للإمضاء ، أي الفعل والإيجاد والعلم بجميع تلك الأمور أزلي قديم ، فقوله « بالمشية عرف » على صيغة التفعيل ، وشرح العلل كناية عن الإيجاد.

وقال بعض الأفاضل : الظاهر من السؤال أنه كيف علم الله ، أبعلم مستند إلى الحضور العيني والشهود في وقته لموجود عيني أو في موجود عيني كما في علومنا ، أو بعلم مستند إلى الذات ، سابق على خلق الأشياء ، فأجاب عليه‌السلام بأن العلم سابق على وجود المخلوق بمراتب ، فقال : علم وشاء وأراد وقدر وقضاء ، وأمضى ، فالعلم ما به ينكشف الشيء والمشية ملاحظته بأحوال مرغوب فيها يوجب فينا ميلا دون المشية


______________________________________________________

له سبحانه لتعاليه عن التغير والاتصاف بالصفة الزائدة ، والإرادة تحريك الأسباب نحوه ، وبحركة نفسانية فينا بخلاف الإرادة فيه سبحانه ، والقدر : التحديد وتعيين الحدود والأوقات ، والقضاء : هو الإيجاب ، والإمضاء هو الإيجاد ، فوجود الخلق بعد علمه سبحانه بهذه المراتب وقوله : فأمضى ما قضى ، أي فأوجد ما أوجب وأوجب ما قدر ، وقدر ما أراد ، ثم استأنف البيان على وجه أوضح فقال : بعلمه كانت المشية وهي مسبوقة بالعلم ، وبمشيته كانت الإرادة وهي مسبوقة بالمشية ، وبإرادته كان التقدير والتقدير مسبوق بالإرادة ، وبتقديره كان القضاء والإيجاب وهو مسبوق بالتقدير ، إذ لا إيجاب إلا للمحدد والموقوت بقضائه وإيجابه كان الإمضاء والإيجاد ، ولله تعالى البداء فيما علم متى شاء ، فإن الدخول في العلم أول مراتب السلوك إلى الوجود العيني ، وله البداء فيما علم متى شاء أن يبدو ، وفيما أراد وحرك الأسباب نحو تحريكه متى شاء قبل القضاء والإيجاب ، فإذا وقع القضاء والإيجاب متلبسا بالإمضاء والإيجاد فلا بداء فعلم أن في العلوم العلم قبل كون المعلوم وحصوله في الأذهان والأعيان ، وفي المشاء المشية قبل عينه ووجوده العيني.

وفي أكثر النسخ المنشأ ولعل المراد الإنشاء قبل الإظهار كما في آخر الحديث وفي المراد الإرادة قبل قيامه ، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها وحضورها العيني في أوقاتها والقضاء بالإمضاء هو المبرم الذي يلزمه وجود المقتضي.

وقوله : من المعقولات ، يحتمل تعلقه بالمبرم ويكون قوله ذوات الأجسام ابتداء الكلام ، ويحتمل كونه من الكلام المستأنف وتعلقه بما بعده ، والمعنى أن هذه الأشياء المحدثة لله فيه البداء قبل وقوع أعيانها ، فإذا وقع العيني فلا بداء فبالعلم علم الأشياء قبل كونها وحصولها ، وأصل العلم غير مرتبط بنحو من الحصول للمعلوم ولو في غيره بصورته المتجددة ، ولا يوجب نفس العلم والانكشاف بما هو علم ، وانكشاف الأشياء إنشاؤها وبالمشية ومعرفتها بصفاتها وحدودها إنشائها إنشاء قبل الإظهار ، والإدخال


______________________________________________________

في الوجود العيني وبالإرادة وتحريك الأسباب نحو وجودها العيني ميز بعضها عن بعض بتخصيص تحريك الأسباب نحو وجود بعض دون بعض ، وبالتقدير قدرها وعين وحدد أقواتها وأوقاتها وآجالها ، وبالقضاء وإيجابها بموجباتها أظهر للناس أماكنها ودلهم عليها بدلائلها ، فاهتدوا إلى العلم بوجودها حسب ما يوجبه الموجب بعد العلم بالموجب ، وبالإمضاء والإيجاد أوضح تفصيل عللها وأبان أمرها بأعيانها ، وذلك تقدير العزيز العليم ، فبالعليم أشار إلى مرتبة أصل العلم ، وبالعزيز إلى مرتبة المشية والإرادة وبإضافة التقدير إلى العزيز العليم إلى تأخره عن العز بالمشية والإرادة اللتين يغلب بهما على جميع الأشياء ، ولا يغلبه فيهما أحد مما سواه وبتوسيط العزيز بين التقدير والعلم إلى تأخره عن مرتبة العلم ، وتقدم مرتبة العلم عليه ، كتقدمه على التقدير.

وقال بعضهم : أشار عليه‌السلام بقوله إلى ستة مراتب بعضها مترتب على بعض :

أولها : العلم لأنه المبدأ الأول لجميع الأفعال الاختيارية ، فإن الفاعل المختار لا يصدر عنه فعل إلا بعد القصد والإرادة ، ولا يصدر عنه القصد والإرادة إلا بعد تصور ما يدعوه إلى ذلك الميل وتلك الإرادة والتصديق به تصديقا جازما أو ظنا راجحا ، فالعلم مبدء مبادئ الأفعال الاختيارية ، والمراد به هنا هو العلم الأزلي الذاتي الإلهي أو القضائي المحفوظ عن التغير فينبعث منه ما بعده ، وأشار إليه بقوله : علم ، أي دائما من غير تبدل.

وثانيها : المشية ، والمراد بها مطلق الإرادة ، سواء بلغت حد العزم والإجماع أم لا ، وقد تنفك المشية فينا عن الإرادة الحادثة.

وثالثها : الإرادة وهي العزم على الفعل أو الترك بعد تصوره وتصور الغاية المترتبة عليه من خير أو نفع أو لذة ، لكن الله بريء عن أن يفعل لأجل غرض يعود إلى ذاته.

ورابعها : التقدير فإن الفاعل لفعل جزئي من أفراد طبيعة واحدة مشتركة ، إذا عزم على تكوينه في الخارج كما إذا عزم الإنسان على بناء بيت ، فلا بد قبل الشروع


______________________________________________________

أن يعين مكانه الذي يبنى عليه ، وزمانه الذي يشرع فيه ، ومقداره الذي يكونه عليه من كبر أو صغر أو طول أو عرض ، وشكله ووضعه ولونه وغير ذلك من صفاته وأحواله وهذه كلها داخلة في التقدير.

وخامسها : القضاء والمراد منه هنا إيجاب الفعل واقتضاء الفعل من القوة الفاعلة المباشرة ، فإن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، وهذه القوة الموجبة لوقوع الفعل منا هي القوة التي تقوم في العضلة والعصب من العضو الذي توقع القوة الفاعلة فيها قبضا وتشنيجا ، أو بسطا وإرخاء أو لا ، فيتبعه حركة العضو فتتبعه صورة الفعل في الخارج من كتابة أو بناء أو غيرهما ، والفرق بين هذا الإيجاب وبين وجود الفعل في العين كالفرق بين الميل الذي في المتحرك وبين حركته ، وقد ينفك الميل عن الحركة كما تحس يدك من الحجر المسكن باليد في الهواء ، ومعنى هذا الإيجاب والميل من القوة المحركة أنه لو لا هناك اتفاق مانع أو دافع من خارج ، لوقعت الحركة ضرورة ، إذ لم يبق من جانب الفاعل شيء منتظر ، فقوله : وقضى ، إشارة إلى هذا الاقتضاء والإيجاب الذي ذكرنا أنه لا بد من تحققه قبل الفعل قبلية بالذات لا بالزمان ، إلا أن يدفعه دافع من خارج ، وليس المراد منه القضاء الأزلي لأنه نفس العلم ، ومرتبة العلم قبل المشية والإرادة والتقدير.

وسادسها : نفس الإيجاد وهو أيضا متقدم على وجود الشيء المقدر في الخارج ولهذا يعده أهل العلم والتحقيق من المراتب السابقة على وجود الممكن في الخارج فيقال : أوجب فوجب ، فأوجد فوجد ، ثم أراد عليه‌السلام الإشارة إلى الترتيب الذاتي بين هذه الأمور ، لأن العطف بالواو سابقا لم يفد الترتيب فقال : فأمضى ما قضى ، ولما لم يكن أيضا صريحا في الترتيب صرح بإيراد باء السببية فقال : فبعلمه كانت المشية « إلخ » ثم لما كانت الباء أيضا محتملة للتلبس والمصاحبة وغيرهما ، زاد في


______________________________________________________

التصريح فقال : والعلم متقدم المشية (١) أي عليها.

وقوله : والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء ، أراد به أن التقدير واقع على القضاء الجزئي بإمضائه وإيقاع مقتضاه في الخارج ، ثم بين عليه‌السلام أن البداء لا يقع في العلم الأزلي ولا في المشية والإرادة الأزليتين ولا بعد تحقق الفعل بالإمضاء ، بل لله البداء في عالم التقدير الجزئي وفي لوح المحو والإثبات ، ثم أراد أن يبين أن لهذه الموجودات الواقعة في الأكوان المادية لها ضرب من الوجود والتحقق في عالم القضاء الإلهي قبل عالم التقدير التفصيلي ، فقال : فالعلم في المعلوم لأن العلم وهو صورة الشيء مجردة عن المادة ، نسبته إلى المعلوم به نسبة الوجود إلى المهية الموجودة فكل علم في معلومه بل العلم والمعلوم متحدان بالذات ، متغايران بالاعتبار ، وكذلك حكم قوله : والمشية في المشاء ، والإرادة في المراد قبل قيامه ، أي قبل قيام المراد قياما خارجيا.

وقوله : والتقدير لهذه المعلومات ، يعني أن هذه الأنواع الطبيعية والطبائع الجسمانية التي بينا موجودة في علم الله الأزلي ، ومشيته وإرادته السابقتين على تقديرها وإثباتها في الألواح القدرية والكتب السماوية ، فإن وجودها القدري أيضا قبل وجودها الكوني. في موادها السفلية عند تمام استعداداتها وحصول شرائطها ومعداتها وإنما يمكن ذلك بتعاقب أفراد وتكثر أشخاص فيما لا يمكن استبقاؤه إلا بالنوع دون العدد ، ولا يتصور ذلك إلا فيما يقبل التفصيل والتركيب والتفريق والتمزيج فأشار بتفصيلها إلى كثرة أفرادها الشخصية وبتوصيلها إلى تركبها من العناصر المختلفة وأراد بقوله : عيانا ووقتا ، وجودها الخارجي الكوني الذي يدركه الحس الظاهري فيه عيانا.

وقوله : والقضاء بالإمضاء ، يعني أن الذي وقع فيه إيجاب ما سبق في عالم التقدير جزئيا أو في عالم العلم الأزلي كليا بإمضائه هو الشيء المبرم الشديد من جملة المفعولات

__________________

(١) كأنه سقط لفظة « على » من نسخة الشارح ففسره بما ذكر.


______________________________________________________

كالجواهر العلوية والأشخاص الكريمة وغير ذلك من الأمور الكونية التي يعتني لوجودها من قبل المبادئ العلوية ، ثم شرح المفعولات التي تقع في عالم الكون التي منها المبرم ومنها غير المبرم ، القابل للبداء قبل التحقق وللنسخ بعده وبين أحوالها وأوصافها ، فقال : ذوات الأجسام ، يعني أن صورها الكونية ذوات أجسام ومقادير طويلة عريضة عميقة ، لا كما كانت في العالم العقلي صورا مفارقة عن المواد والأبعاد ، ثم لم يكتف بكونها ذوات أجسام لأن الصورة التي في عالم التقدير العلمي أيضا ذوات أبعاد مجردة عن المواد بل قيدها بالمدركات بالحواس من ذوي لون وريح وهما من الكيفيات المحسوسة.

وبقوله : ما دب ودرج ، أي قبل الحركة ، وهي نفس الانفعالات المادية لتخرج بهذه القيود الصور المفارقة سواء كانت عقلية كلية أو إدراكية جزئية.

ثم أورد لتوضيح ما أفاده من صفة الصور الكونية التي في هذا العالم الأسفل أمثلة جزئية بقوله : من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس ، ثم كر راجعا إلى ما ذكره سابقا من أن البداء لا يكون إلا قبل الوقوع في الكون الخارجي بل إنما يقع في عالم التقدير تأكيدا بقوله : فلله تبارك وتعالى فيه البداء ، أي فيما من شأنه أن يدرك بالحواس ولكن عند ما لم يوجد عينه الكوني فأما إذا وقع فلا بداء.

وقوله : والله يفعل ما يشاء ، أي يفعل في عالم التكوين ما يشاء في عالم التصوير والتقدير ، ثم استأنف كلاما في توضيح تلك المراتب بقوله : فبالعلم علم الأشياء ، أي علما عاما أزليا ذاتيا إليها أو عقليا قضائيا قبل كونها في عالمي التقدير والتكوين وبالمشية عرف صفاتها الكلية وحدودها الذاتية وصورها العقلية ، فإن المشية متضمنة للعلم بالمشيء قبل وجوده في الخارج ، بل المشية إنشاء للشيء إنشاء علميا كما أن الفعل إنشاء له إنشاء كونيا ، ولذا قال : وإنشاؤها قبل إظهارها أي في الخارج على المدارك الحسية ، وبالإرادة ميز أنفسها ، لأن الإرادة كما مر هي العزم التام على


باب

في أنه لا يكون شيء في السماء والأرض إلا بسبعة

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ومحمد بن يحيى

______________________________________________________

الفعل بواسطة صفة مرجحة ترجح أصل وجوده أو نحوا من أنحاء وجوده فيها يتميز الشيء في نفسه فضل تميز لم يكن قبل الإرادة « وبالتقدير قدر أقواتها » لأنه قد مر أن التقدير عبارة عن تصوير الأشياء المعلومة أولا على الوجه العقلي الكلي جزئية مقدرة بإقدار معينة متشكلة بإشكال وهيئات شخصية مقارنة لأوقات مخصوصة على الوجه الذي يظهر في الخارج قبل إظهارها وإيجادها.

قوله : وبالقضاء ، وهو إيجابه تعالى لوجودها الكوني « أبان للناس أماكنها » ودلهم عليها لأن الأمكنة والجهات والأوضاع مما لا يمكن ظهورها على الحواس البشرية إلا عند حصولها الخارجي في موادها الكونية الوضعية ، وذلك لا يكون إلا بالإيجاب والإيجاد الذين عبر عنهما بالقضاء والإمضاء كما قال « وبالإمضاء » وهو إيجادها في الخارج « شرح » أي فصل عللها الكوني « وأبان أمرها » أي أظهر وجودها على الحواس الظاهرة و « ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ » أي وذلك الشرح والتفصيل والإبانة والإظهار صورة تقدير الله العزيز الذي علم الأشياء قبل تقديرها في لوح القدر ، وقبل تكوينها في مادة الكون.

هذا ما ذكره كل على آرائهم وأصولهم ولعل رد علم هذه الأخبار على تقدير صحتها إلى من صدرت عنه أحوط وأولى ، وقد سبق منا ما يوافق فهمنا ، والله الهادي إلى الحق المبين.

باب في أنه لا يكون شيء في السماء والأرض إلا بسبعة

الحديث الأول : مجهول بسنديه.


عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ومحمد بن خالد جميعا ، عن فضالة بن أيوب ، عن محمد بن عمارة ، عن حريز بن عبد الله وعبد الله بن مسكان جميعا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب وأجل فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر.

______________________________________________________

ويمكن حمل الخصال السبع على اختلاف مراتب التقدير في الألواح السماوية أو اختلاف مراتب تسبب الأسباب السماوية والأرضية أو يكون بعضها في الأمور التكوينية وبعضها في الأحكام التكليفية ، أو كلها في الأمور التكوينية ، فالمشية وهي العزم والإرادة وهي تأكدها في الأمور التكوينية ظاهرتان ، وأما في التكليفية فلعل عدم تعلق الإرادة الحتمية بالترك عبر عنه بإرادة الفعل مجازا.

والحاصل أن الإرادة متعلقة بالأشياء كلها لكن تعلقها بها على وجوه مختلفة ، إذ تعلقها بأفعال نفسه سبحانه بمعنى إيجادها والرضا بها ، وبطاعات العباد بمعنى إرادة وجودها والرضا بها ، أو الأمر بها ، وبالمباحات بمعنى الرخصة بها ، وبالمعاصي إرادة أن لا يمنع منها بالجبر لتحقق الابتلاء والتكليف ، كما قال تعالى : « وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا » (١) أو يقال تعلقها بأفعال العباد على سبيل التجوز باعتبار إيجاد الآلة والقدرة عليها ، وعدم المنع منها ، فكأنه أرادها ، وربما تأول الإرادة بالعلم وهو بعيد ، وبالقدر تقدير الموجودات طولا وعرضا وكيلا ووزنا وحدا ووصفا وكما وكيفا ، وبالقضاء : الحكم عليها بالثواب والعقاب ، أو تسبب أسبابه البعيدة كما مر.

والمراد بالإذن أما العلم أو الأمر في الطاعات ، أو رفع الموانع وبالكتاب الكتابة في الألواح السماوية أو الفرض والإيجاب كما قال تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ » (٢) و « كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ » (٣) » وبالأجل : الأمد المعين والوقت المقدر عنده تعالى ،

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٠٧.

(٢) سورة البقرة : ١٨٣.

(٣) سورة الأنعام : ١٢.


ورواه علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن حفص ، عن محمد بن عمارة ، عن حريز بن عبد الله وابن مسكان مثله.

٢ ـ ورواه أيضا ، عن أبيه ، عن محمد بن خالد ، عن زكريا بن عمران ، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال لا يكون شيء في السماوات ولا في الأرض إلا بسبع بقضاء وقدر وإرادة ومشيئة وكتاب وأجل وإذن فمن زعم غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عز وجل.

______________________________________________________

وقيل : المراد بالمشية القدرة وهي كون الفاعل بحيث إن شاء فعل ، وإن لم يشأ لم يفعل وبالقدر تعلق الإرادة وبالقضاء الإيجاد ، وبالإذن دفع المانع ، وبالكتاب العلم وبالأجل وقت حدوث الحوادث ، والترتيب غير مقصود ، إذ العلم مقدم على الكل بل المقصود أن هذه الأمور مما يتوقف عليه الحوادث.

الحديث الثاني : مجهول.

قوله : أورد ، الترديد من الراوي.

فائدة :

قال العلامة قدس الله روحه في شرحه على التجريد : يطلق القضاء على الخلق والإتمام قال الله تعالى : « فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ » (١) أي خلقهن وأتمهن وعلى الحكم والإيجاب كقوله تعالى : « وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ » (٢) أي أوجب وألزم ، وعلى الإعلام والأخبار كقوله تعالى « وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ » (٣) أي أعلمناهم وأخبرناهم ، ويطلق القدر على الخلق كقوله تعالى : « وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها » (٤) والكتابة كقول الشاعر :

واعلم بأن ذا الجلال قد قدر

في الصحف الأولى التي كان سطر

__________________

(١) سورة فصلت : ١٢.

(٢) سورة الإسراء : ٢٣.

(٣) سورة الإسراء : ٤.

(٤) سورة فصلت : ١٠.


______________________________________________________

والبيان كقوله تعالى : « إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ » (١) أي بينا وأخبرنا بذلك.

إذا ظهر هذا فنقول للأشعري : ما تعني بقولك أنه تعالى قضى أعمال العباد وقدرها؟ إن أردت به الخلق والإيجاد فقد بينا بطلانه ، وأن الأفعال مستندة إلينا وإن عنى به الإلزام لم يصح إلا في الواجب خاصة ، وإن عنى به أنه تعالى بينها وكتبها وعلم أنهم سيفعلونها فهو صحيح لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبينه لملائكته ، وهذا المعنى الأخير هو المتعين للإجماع على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره ، ولا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبائح ولا ينفعهم الاعتذار بوجوب الرضا به من حيث إنه فعله ، وعدم الرضا به من حيث الكسب ، لبطلان الكسب أولا ، وثانيا نقول : إن كان الكفر كسبا بقضائه تعالى وقدره وجب الرضا به من حيث هو كسب وهو خلاف قولكم ، وإن لم يكن بقضاء وقدر بطل إسناد الكائنات بأجمعها إلى القضاء والقدر « انتهى ».

وقال شارح المواقف : اعلم أن قضاء الله عند الأشاعرة هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال ، وقدره إيجاده إياها على وجه مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها ، وأما عند الفلاسفة فالقضاء عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام ، وهو المسمى عندهم بالعناية التي هي مبدء لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها ، والقدر عبارة عن خروجها إلى الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرر في القضاء ، والمعتزلة ينكرون القضاء والقدر في الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد ، ويثبتون علمه تعالى بهذه الأفعال ولا يسندون وجودها إلى ذلك العلم بل إلى اختيار العباد وقدرتهم « انتهى ».

__________________

(١) سورة النمل : ٥٧.


______________________________________________________

وقال السيد المرتضى رضي‌الله‌عنه في كتاب الغرر والدرر : إن قال قائل : ما تأويل قوله تعالى : « وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ » (١) فظاهر الكلام يدل على أن الإيمان إنما كان لهم فعله بإذنه وأمره وليس هذا مذهبكم فإن حمل الإذن ههنا على الإرادة اقتضى أن من لم يقع منه الإيمان لم يرده الله تعالى منه ، وهذا أيضا بخلاف قولكم : ثم جعل الرجس الذي هو العذاب على الذين لا يعقلون ، ومن كان فاقدا عقله لا يكون مكلفا فكيف يستحق العذاب وهذا بالضد من الخبر المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنه قال : أكثر أهل الجنة البله.

يقال له : في قوله : إلا بإذن الله وجوه :

« منها » أن يكون الإذن الأمر ، ويكون معنى الكلام أن الإيمان لا يقع من أحد إلا بعد أن يأذن الله فيه ويأمر به ، ولا يكون معناه ما ظنه السائل من أنه لا يكون للفاعل فعله إلا بإذنه ، ويجري هذا مجرى قوله تعالى : « وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ » (٢) ومعلوم أن معنى قوله ليس لها في هذه الآية هو ما ذكرناه وإن كان الأشبه في الآية التي فيها ذكر الموت أن يكون المراد بالإذن العلم.

ومنها : أن يكون هو التوفيق والتيسير والتسهيل ، ولا شبهة في أن الله تعالى يوفق لفعل الإيمان ويلطف فيه ويسهل السبيل إليه.

ومنها : أن يكون الإذن العلم من قولهم أذنت لكذا وكذا إذا سمعته وعلمته ، وآذنت فلانا بكذا وكذا إذا أعلمته ، فتكون فائدة الآية الأخبار عن علمه تعالى بسائر الكائنات ، وأنه ممن لا تخفى عليه الخفيات ، وقد أنكر بعض من لا بصيرة له أن يكون الإذن بكسر الألف وتسكين الذال عبارة عن العلم ، وزعم أن الذي هو العلم

__________________

(١) سورة يونس : ١٠٠.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٥.


______________________________________________________

الإذن بالتحريك ، واستشهد بقول الشاعر : « إن همي في سماع وأذن » وليس الأمر على ما توهمه هذا المتوهم ، لأن الإذن هو المصدر ، والإذن هو اسم الفعل ، ويجري مجرى الحذر في أنه مصدر ، والحذر بالتسكين الاسم على أنه لو لم يكن مسموعا إلا الإذن بالتحريك لجاز التسكين ، مثل مثل ومثل وشبه وشبه ونظائر ذلك كثيرة.

ومنها : أن يكون الإذن العلم ومعناه إعلام الله المكلفين بفضل الإيمان وما يدعو إلى فعله فيكون معنى الآية : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإعلام الله تعالى لها ما يبعثها على الإيمان ، ويدعوها إلى فعله ، فأما ظن السائل دخول الإرادة في محتمل اللفظ فباطل ، لأن الإذن لا يحتمل الإرادة في اللغة ، ولو احتملها أيضا لم يجب ما توهمه لأنه إذا قال أن الإيمان لم يقع إلا وأنا مريد له لم ينف أن يكون مريدا لما لم يقع وليس في صريح الكلام ولا في دليله شيء من ذلك.

فأما قوله تعالى : « وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ » فلم يعن به الناقصي العقول ، وإنما أراد تعالى الذين لم يعقلوا ويعلموا ما وجب عليهم علمه من معرفة خالقهم تعالى والاعتراف بنبوة رسله عليهم‌السلام والانقياد إلى طاعتهم ووصفهم بأنهم لا يعقلون تشبيها ، كما قال تعالى : « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ » (١) وكما يصف أحدنا من لم يفطن لبعض الأمور أو لم يعلم ما هو مأمور بعلمه بالجنون وفقد العقل ، فأما الحديث الذي أورده السائل شاهدا له فقد قيل فيه : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يرد بالبله ذوي الغفلة والنقص والجنون وإنما أراد البله عن الشر والقبيح ، وسماهم بلهاء عن ذلك من حيث لا يستعملونه ولا يعتادونه لا من حيث فقد العلم به ، ووجه تشبيه من هذه حاله بالأبله ظاهر.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨.


باب المشيئة والإرادة

١ ـ علي بن محمد بن عبد الله ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن محمد بن سليمان الديلمي ، عن علي بن إبراهيم الهاشمي قال سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام يقول لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى قلت ما معنى شاء قال ابتداء الفعل قلت ما معنى قدر قال تقدير الشيء من طوله وعرضه قلت ما معنى قضى قال إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن

______________________________________________________

باب المشية والإرادة

الحديث الأول : ضعيف ، ورواه البرقي في المحاسن بسند صحيح هكذا : حدثني أبي عن يونس عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : قلت : لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقضى فقال : لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى ، قلت : فما معنى شاء؟ قال : ابتداء الفعل قلت : فما معنى أراد؟ قال : الثبوت عليه ، قلت : فما معنى قدر؟ إلى آخر الخبر ولعله سقط الإرادة من الكتاب.

وقوله عليه‌السلام : ابتداء الفعل ، أي أول الكتابة في اللوح ، أو أول ما يحصل من جانب الفاعل ويصدر عنه مما يؤدي إلى وجود المعلول ، وعلى ما في المحاسن يدل على أن الإرادة تأكد المشية ، وفي الله سبحانه يكون عبارة عن الكتابة في الألواح وتسبيب أسباب وجوده ، وقوله : تقدير الشيء ، أي تعيين خصوصياته في اللوح أو تسبيب بعض الأسباب المؤدية إلى تعيين المعلول وتحديده وخصوصياته « وإذا قضاه أمضاه (١) » أي إذا أوجبه باستكمال شرائط وجوده وجميع ما يتوقف عليه المعلول أوجده « وذلك الذي لا مرد له » لاستحالة تخلف المعلول عن الموجب التام كذا قيل.

الحديث الثاني : موثق كالصحيح.

__________________

(١) في المتن : « إذا قضى أمضاه » ولعله نقله بالمعنى.


أبان ، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام شاء وأراد وقدر وقضى قال نعم قلت وأحب قال لا قلت وكيف شاء وأراد وقدر وقضى ولم يحب قال هكذا خرج إلينا.

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : هكذا خرج إلينا ، أي هكذا وصل إلينا من النبي وآبائنا الأئمة صلوات الله عليهم ، ولما كان فهمه يحتاج إلى لطف قريحة ، وكانت الحكمة تقتضي عدم بيانه للسائل اكتفى عليه‌السلام ببيان المأخذ النقلي عن التبيين العقلي.

وكلامه عليه‌السلام يحتمل وجوها :

الأول : أن يكون المراد بالقضاء والقدر والمشية والإرادة فيما يتعلق بأفعال العباد علمه سبحانه بوقوع الفعل وثبته في الألواح السماوية وشيء منها لا يصير سببا للفعل وأما المحبة فهو أمره سبحانه بالشيء وإثابته عليه ، فهو سبحانه لا يأمر بالمعاصي ولا يثيب عليها فصح إثبات القضاء وأخوانها مع نفي المحبة.

الثاني : أن يقال لما كانت المشية والإرادة وتعلقهما بإيقاع الفعل في الإنسان مقارنا لمحبته وشوقه وميل قلبه إلى ذلك ، توهم السائل أن له سبحانه صفة زائدة على ما ذكره ، وهي المحبة والشوق وميل القلب ، أجاب عليه‌السلام بأنه ليس له تعالى محبة بل إسنادها إليه مجاز ، وهي كناية عن أمره أو عدم نهيه أو ثوابه ومدحه.

الثالث : ما قيل : أن عدم المنافاة بين تعلق الإرادة والمشية بشيء وإن لا يحبه لأن تعلق المشية والإرادة بما لا يحبه بتعلقهما بوقوع ما يتعلق به إرادة العباد بإرادتهم وترتبه عليها ، فتعلقهما بالذات بكونهم قادرين مريدين لأفعالهم وترتبها على إرادتهم وتعلقها بما هو مرادهم بالتبع ولا حجر في كون متعلقهما بالتبع شرا غير محبوب له ، فإن دخول الشر وما لا يحبه في متعلق إرادته بالعرض جائز فإن كل من تعلق مشيته وإرادته بخير وعلم لزوم شر له شرية لا تقاوم خيريته تعلقتا بذلك الشر بالعرض وبالتبع وذلك التعلق بالتبع لا ينافي أن يكون المريد خيرا محضا ، ولا يتصف بكونه شريرا ومحبا للشر ، وسيأتي مزيد تحقيق لذلك في شرح الأخبار الآتية.


٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عن واصل بن سليمان ، عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول أمر الله ولم يشأ وشاء ولم يأمر أمر إبليس أن يسجد لآدم وشاء أن لا يسجد ولو شاء لسجد ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل منها ولو لم يشأ لم يأكل.

______________________________________________________

الحديث الثالث : مجهول.

قوله عليه‌السلام : وشاء أن لا يسجد. أقول : توجيه تلك الأخبار على أصول العدلية لا يخلو من صعوبة وقد يوجه بوجوه :

الأول : حملها على التقية لكونها موافقة لأصول الجبرية وأكثر المخالفين منهم ويؤيده ما رواه الصدوق في العيون والتوحيد بإسناده عن الحسين بن خالد قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله إن الناس ينسبوننا إلى القول بالتشبيه والجبر لما روي من الأخبار في ذلك من آبائك الأئمة عليهم‌السلام؟ فقال : يا بن خالد أخبرني عن الأخبار التي رويت عن آبائي الأئمة عليهم‌السلام في التشبيه أكثر أم الأخبار التي رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك؟ فقلت : بل ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك أكثر ، قال : فليقولوا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول بالتشبيه والجبر إذا؟ قلت له : إنهم يقولون إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقل من ذلك شيئا ، وإنما روي عليه ، قال عليه‌السلام : فليقولوا في آبائي عليهم‌السلام إنهم لم يقولوا من ذلك شيئا ، وإنما روي عليهم ، ثم قال عليه‌السلام : من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك ، ونحن منه براء في الدنيا والآخرة ، يا بن خالد إنما وضع الأخبار عنا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغروا عظمة الله فمن أحبهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبنا « الخبر ».

الثاني : أن يقال : المراد بالمشية العلم ، ويؤيده ما في كتاب فقه الرضا حيث قال عليه‌السلام : قد شاء الله من عباده المعصية وما أراد ، وشاء الطاعة وأراد منهم ، لأن المشية مشية الأمر ومشية العلم ، وإرادته إرادة الرضا وإرادة الأمر ، أمر بالطاعة ورضي بها ، وشاء المعصية يعني علم من عباده المعصية ولم يأمرهم بها « الخبر ».


______________________________________________________

الثالث : أن يقال : المراد بمشية الطاعة هداياته وألطافه الخاصة التي ليست من ضروريات التكليف ، وبمشية المعصية خذلانه وعدم فعل تلك الألطاف بالنسبة إليه وشيء منهما لا يوجب جبره على الفعل والترك ، ولا ينافي استحقاق الثواب والعقاب.

الرابع : ما قيل : إن المراد تهيئة أسباب فعل العبد بعد إرادة العبد ذلك الفعل.

الخامس : أن يقال : لما اقتضت المصلحة تكليف من علم الله منه المعصية وكلفه مع علمه بذلك ووكله إلى اختياره ففعل تلك المعصية فكأنه شاء صدوره منه ، وكذا في الطاعة إذا علم عدم صدوره منه ، فسمي ذلك مشية مجازا ، وهذا مجاز شائع كما إذا أمر المولى عبده بأوامر وخيره في ذلك ومكنه على الفعل والترك مع علمه بأنه لا يأتي بها ، فيقال له : أنت فعلت ذلك إذ كنت تعلم أنه لا يفعل ومكنته ووكلته إلى نفسه.

السادس : أن يقال أن المراد بمشيته عدم جبره على فعل الطاعة أو ترك المعصية وبعبارة أخرى سمى عدم المشية مشية العدم كما سيأتي في كلام الصدوق (ره) وهذا قريب من الوجه السابق بل يرجع إليه.

السابع : أنه إسناد للفعل إلى العلة البعيدة ، فإن العبد وقدرته وأدواته لما كانت مخلوقة لله تعالى فهو جل وعلا علة بعيدة لجميع أفعاله.

الثامن : ما أومأنا إليه في الخبر السابق من المشية بالتبع ، وربما يحقق بوجه أوضح حيث حقق بعضهم الأمر بين الأمرين ، أن فعل العبد واقع بمجموع القدرتين ، قدرة الله وقدرة العبد ، والعبد لا يستقل في إيجاد فعله بحيث لا دخل لقدرة الله تعالى فيه ، بمعنى أنه أقدر العبد على فعله بحيث يخرج عن يده أزمة الفعل المقدور للعبد مطلقا ، كما ذهب إليه المفوضة أو لا تأثير لقدرته فيه ، وإن كان


______________________________________________________

قادرا على طاعة العاصي جبرا لعدم تعلق إرادته بجبره في أفعاله الاختيارية كما ذهب إليه المعتزلة وهذا أيضا نحو من التفويض وليس قدرة العبد بحيث لا تأثير له في فعله أصلا ، سواء كانت كاسبة كما ذهب إليه الأشعري ، ويؤول مذهبه إلى الجبر ، أم لا تكون كاسبة أيضا بمعنى أن لا تكون له قدرة واختيار أصلا ، بحيث لا يكون فرق بين مشي زيد وحركة المرتعش كما ذهب إليه الجبرية ، وهم جهم بن صفوان ومن تبعه.

فهذا معنى الأمر بين الأمرين ، ولما كان مشية العبد وإرادته وتأثيره في فعله جزءا أخيرا للعلة التامة ، وإنما يكون تحقق الفعل والترك مع وجود ذلك التأثير وعدمه فينتفي صدور القبيح عنه تعالى ، بل إنما يتحقق بالمشية والإرادة الحادثة ، وبالتأثير من العبد الذي هو متمم للعلة التامة ، ومع عدم تأثير العبد والكف عنه بإرادته واختياره لا يتحقق فعله بمجرد مشية الله سبحانه وإرادته وقدره إذ لم يتحقق مشية وإرادة وتعلق إرادة منه تعالى بذلك الفعل مجردا عن تأثير العبد فحينئذ الفعل لا سيما القبيح مستند إلى العبد ، ولما كان مراده تعالى من أقداره العبد في فعله وتمكينه له فيه صدور الأفعال عنه باختياره وإرادته إذا لم يكن مانع أي فعل أراد واختار من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، ولم يرد منه خصوص شيء من الطاعة والمعصية ، ولم يرد جبره في أفعاله ليصح تكليفه لأجل المصلحة المقتضية له ، وكلفه بعد ذلك الأقدار بإعلامه بمصالح أفعاله ومفاسده في صورة الأمر والنهي ، لأنهما منه تعالى من قبيل أمر الطبيب للمريض بشرب الدواء النافع ونهيه عن أكل الغذاء الضار ، فمن صدور الكفر والعصيان عن العبد بإرادته المؤثرة واستحقاقه بذلك العقاب لا يلزم أن يكون العبد غالبا عليه تعالى ، ولا يلزم عجزه تعالى كما لا يلزم غلبة المريض على الطبيب ولا عجز الطبيب إذا خالفه المريض وهلك ، ولا يلزم أن يكون في ملكه أمر لا يكون بمشية الله تعالى وإرادته ، ولا يلزم الظلم في عقابه ، لأنه فعل


______________________________________________________

القبيح بإرادته المؤثرة وطبيعة ذلك الفعل توجب أن يستحق فاعله العقاب.

ولما كان مع ذلك الإعلام من الأمر والنهي بوساطة الحجج عليهم‌السلام اللطف والتوفيق في الخيرات والطاعات من الله جل ذكره فما فعل الإنسان من حسنة فالأولى أن يسند وينسب إليه تعالى لأنه مع أقداره وتمكينه له وتوفيقه للحسنات أعلمه بمصالح الإتيان بالحسنات ومضار تركها والكف عنها بأوامره ، وما فعله من سيئة فمن نفسه لأنه مع ذلك أعلمه بمفاسد الإتيان بالسيئات ومنافع الكف عنها بنواهيه وهذا من قبيل إطاعة الطبيب ومخالفته فإنه من أطاعه وبرأ من المرض يقال : عالجه الطبيب ، ومن خالف وهلك يقال : أهلك نفسه بمخالفته للطبيب.

فمعنى قوله : أمر الله ولم يشأ ، أنه أعلم العباد وأخبرهم بالأعمال النافعة لهم كالإيمان والطاعة ، ولم يشأ صدور خصوص تلك الأفعال عنهم ، كيف ولو شاء ولم يصدر عن بعضهم لزم عجزه ومغلوبيته تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بل إنما شاء صدور الأفعال عنهم بقدرتهم واختيارهم أي فعل أرادوه ، فما شاء الله كان.

ومعنى قوله : شاء ولم يأمر ، أنه شاء صدور الأفعال عن العباد باختيارهم أي فعل أرادوه ، ولم يأمر بكل ما أرادوا بل نهاهم عن بعضه وأعلمهم بمضرته كالكفر والعصيان.

فقوله : أمر إبليس أن يسجد لآدم ، أي أعلمه بأن سجدته لآدم نافع له ، وكفه عنه ضار له ، وشاء أن لا يسجد يعني لم يشأ خصوص السجود عنه ، ولو شاء خصوص السجود عنه لسجد ، لاستحالة عجزه وغلبة إبليس عليه ، بل إنما شاء صدور أيهما كان من السجود وتركه ، أي كفه بإرادته واختياره ، ولما لم يسجد إبليس ، أي كف عن السجود بإرادته ، فهو تعالى لأجل ذلك شاء كفه ، ولما كان الكف إنما يتحقق بمشية إبليس وإرادته المؤثرة وهي جزء أخير للعلة التامة فلذا يستحق إبليس الذم والعقاب ، والقبيح صادر عنه لا عن الله تعالى ، وكذا الكلام في نهي آدم عن أكل الشجرة.


٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن المختار بن محمد الهمداني ومحمد بن الحسن ، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا ، عن الفتح بن يزيد الجرجاني ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال إن لله إرادتين ومشيئتين إرادة حتم وإرادة عزم ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء أوما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى وأمر إبراهيم أن يذبح

______________________________________________________

أقول : هذا ما حققه بعضهم وله وجهان :

« الأول » : أن يكون المراد أنه تعالى يوجد الفعل بعد إرادة العبد لقولهم : لا مؤثر في الوجود إلا الله ، فإرادة العبد شرط لتأثيره تعالى ، وهذا مخالف لقول الإمامية بل عندهم أن أعمال العباد مخلوقة لهم.

« والثاني » : أن يكون العباد موجدين لأعمالهم بشرط عدم حيلولته سبحانه بينهم وبين الفعل ، ولتوفيقه وخذلانه سبحانه أيضا مدخل في صدور الفعل ، لكن لا ينتهي إلى حد الإلجاء والاضطرار ، ونسبة المشية إليه سبحانه لتمكينهم وأقدارهم وعدم منعهم عنه لمصلحة التكليف فيرجع إلى بعض الوجوه السابقة ، وهو موافق لمذهب الإمامية ، والله تعالى يعلم حقائق الأمور.

الحديث الرابع : مجهول ، وقال الصدوق نور الله ضريحه في كتاب التوحيد بعد إيراد هذا الخبر : إن الله تعالى نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة ، وقد علم أنهما يأكلان منها لكنه عز وجل شاء أن لا يحول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقدرة ، كما منعهما من الأكل منها بالنهي والزجر ، فهذا معنى مشيته فيهما ولو شاء عز وجل منعهما من الأكل بالجبر ، ثم أكلا منها لكان مشيتهما قد غلبت مشية الله كما قال العالم : تعالى الله عن العجز علوا كبيرا « انتهى ».

والكلام في هذا الخبر كالكلام في سابقه والمراد بإرادة الحتم الإرادة المستجمعة لشرائط التأثير المنجزة إلى الإيجاب والإيجاد ، وكذا المشية ، والمراد بإرادة العزم الإرادة المنتهية إلى طلب المراد والأمر والنهي ، وينفك أحدهما عن الآخر كما


إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عن درست بن أبي منصور ، عن فضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول شاء وأراد ولم يحب ولم يرض ـ شاء أن لا يكون شيء إلا بعلمه وأراد مثل ذلك ولم يحب أن يقال ثالث ثلاثة ولم يرض « لِعِبادِهِ الْكُفْرَ »

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام قال الله يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء

______________________________________________________

مر ، وهذه الرواية تدل على أن الذبيح إسحاق ، وقد اتفق عليه أهل الكتابين ، وذهب إليه بعض العامة وقليل من أصحابنا ، ولعل الكليني (ره) أيضا مال إليه ، والمشهور أنه إسماعيل عليه‌السلام وعليه دلت الأخبار المستفيضة ، ويمكن حمل هذا الخبر على التقية ، وربما يأول بأنه عليه‌السلام أمر أولا بذبح إسحاق ثم نسخ وأمر بذبح إسماعيل ، والإقدام على الذبح وفعل مقدماته إنما وقع فيه.

وروى الصدوق قدس‌سره هذا الخبر في التوحيد ، وفيه هكذا : وأمر إبراهيم بذبح ابنه وشاء أن لا يذبحه وليس فيه ذكر واحد منهما.

الحديث الخامس : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : أن لا يكون شيء إلا بعلمه ، قيل : أي شاء بالمشية الحتمية أن لا يكون شيء إلا بعلمه ، وعلى طباق ما في علمه بالنظام الأعلى وما هو الخير والأصلح ولوازمها ، وأراد الإرادة الحتمية مثل ذلك ولم يحب الشرور اللازمة التابعة للخير والأصلح ، كان يقال : ثالث ثلاثة ، وأن يكفر به ولم يرض بهما وقيل : لم يحب ولم يرض أي لم يأمر بهما بل جعلهما منهيا عنهما ، ولم يجعلهما بحيث يترتب عليهما النفع ، بل بحيث يترتب عليهما الضرر ، وتمام الكلام في ذلك قد مر في شرح الأخبار السابقة.

الحديث السادس : صحيح.

قوله سبحانه : بمشيتي ، أي بالمشية التي خلقتها فيك وجعلتك مريدا شائيا ،


وبقوتي أديت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا « ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ » وذاك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني وذاك أنني لا أسأل عما أفعل « وَهُمْ يُسْئَلُونَ ».

______________________________________________________

أو بما شئت أن أجعلك مختارا مريدا وبقوتي التي خلقتها فيك أديت فرائضي ، وقيل لعل المراد بها القوة العقلانية « وبنعمتي » التي أنعمتها عليك من قدرتك على ما تشاء ، والقوي الشهوانية والغضبية التي بها حفظ الأبدان والأنواع وصلاحها « قويت على معصيتي » وقوله « جعلتك سميعا بصيرا » ناظر إلى الفقرة الثانية ، وقوله : قويا إلى الثالثة.

وقوله : « ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ » لأنه من آثار ما أفيض عليه من جانب الله « وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ » لأنه من طغيانها بهواه.

وقوله : وذاك أني أولى بحسناتك منك « إلخ » بيان للفرق ، مع أن الكل مستند إليه ومنتهى به بالأخرة ، وللعبد في الكل مدخل بالترتب على مشيته وقواه العقلانية والنفسانية ، بأن ما يؤدي إلى الحسنات منها أولى به سبحانه ، لأنه من مقتضيات خيريته سبحانه وآثاره الفائضة من ذلك الجناب بلا مدخلية للنفوس إلا القابلية لها ، وما يؤدي إلى السيئات منها أولى بالأنفس لأنها مناقص من آثار نقصها لا تستند إلى ما فيه منقصة.

وقوله : « وذاك أني (١) لا أسأل عما أفعل « وَهُمْ يُسْئَلُونَ » بيان لكونه أولى بالحسنات بأن ما يصدر ويفاض من الخير المحض من الجهة الفائضة منه لا يسأل عنه ، ولا يؤاخذ به فإنه لا مؤاخذة بالخير الصرف ، وما ينسب إلى غير الخير المحض ومن فيه شرية ينبعث منه الشر يؤاخذ بالشر ، فالشرور وإن كانت من حيث وجودها منتسبة إلى خالقها ، فمن حيث شريتها منتسبة إلى منشإها وأسبابها القريبة المادية ، هذا ما ذكره بعض الأفاضل في هذا المقام.

ويمكن أن يقال : كونه تعالى أولى بحسناته لأنها بألطافه وتوفيقاته وتأييداته

__________________

(١) وفي المتن « وذاك أنّني » بنونين.


باب الابتلاء والاختبار

١ ـ علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن حمزة بن محمد الطيار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما من قبض ولا بسط إلا ولله

______________________________________________________

ويمكن أن يكون قوله عليه‌السلام : بقوتي إشارة إلى ذلك أيضا ، وللعبد مدخلية ضعيفة فيها بإرادته واختياره بخلاف المعاصي ، فإنها وإن كانت بالقدرة والآلات والأدوات التي خلقها الله فيه وله ، لكنه سبحانه لم يخلقها للمعصية بل خلقها للطاعة ، وصرفها في المعصية موجب لمزيد الحجة عليه ، وأما خذلانه ومنع التوفيق فليس فعلا منه تعالى بل ترك فعل لعدم استحقاقه لذلك واختيار المعصية بإرادته وسوء اختياره ، فظهر أن العبد أولى بسيئاته منه سبحانه.

وقوله : « وذاك أني » يمكن أن يكون تفريعا لا تعليلا ، أي لأجل ما ذكر لا يسأل سبحانه عن معاصي العباد ولا يعترض عليه وهم يسألون ، ولو كان تعليلا يحتمل أن يكون المراد أنه لوضوح كمال علمه وحكمته ولطفه ورحمته ليس لأحد أن يسأله عن سبب فعله وحكمة التكاليف ، والعباد لنقصهم وعجزهم وتقصيرهم يسألون ، وليس على ما زعمه الأشاعرة من أن المراد أنه لا اعتراض لأحد على المالك فيما يفعله في ملكه ، والعالم ملكه تعالى وملكه فله أن يفعل فيه كل ما يريده سواء كان خيرا أو شرا أو عبثا ، وهم لا يقولون بالمخصص والمرجح في اختياره تعالى لشيء ، قائلين إن الإرادة يخصص أحد الطرفين من غير حاجة إلى المخصص والمرجح لأنه لا يسأل عن اللمية ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

باب الابتلاء والاختبار

الحديث الأول : حسن.

والقبض في اللغة : الإمساك والأخذ ، والبسط : نشر الشيء ويطلق القبض على المنع والبسط على العطاء ، ومن أسمائه تعالى القابض والباسط ، لأنه يقبض الرزق


فيه مشيئة وقضاء وابتلاء

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن فضالة بن أيوب ، عن حمزة بن محمد الطيار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إنه ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه إلا وفيه لله عز وجل ابتلاء وقضاء.

باب السعادة والشقاء

١ ـ محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق

______________________________________________________

عمن يشاء ويبسطه لمن يشاء ويقبض الأرواح عند الممات ويبسطها عند الحياة.

وهنا يحتمل أن يكون المراد بهما ما هو من فعله تعالى كالقبض والبسط في الأرزاق بالتوسيع والتقتير ، وفي النفوس بالسرور والأحزان أو بإفاضة المعارف عليها وعدمها ، وفي الأبدان بالصحة والألم ، وفي الأعمال بتوفيق الإقبال إليها وعدمه ، وفي الدعاء بالإجابة له وعدمها ، وفي الأحكام بالرخصة في بعضها والنهي عن بعضها ، أو ما هو من فعل العباد كقبض اليد وبسطها ، والبخل والجود وأمثالها ، فالمراد بالمشية والقضاء أحد المعاني المذكورة في الباب السابق ، والابتلاء والامتحان والاختبار في حقه تعالى مجاز ، أي يعاملهم معاملة المختبر مع صاحبه لا ليعلم مال حالهم وعاقبة أمرهم ، لأنه علام الغيوب ، بل ليظهر منهم ما يستحقون به الثواب والعقاب.

الحديث الثاني : حسن.

باب السعادة والشقاء

الحديث الأول : مجهول كالصحيح.

قوله : خلق السعادة ، السعادة : ما يوجب دخول الجنة والراحة الأبدية واللذات الدائمة ، والشقاوة ما يوجب دخول النار والعقوبات الأبدية والآلام الدائمة ، وقد تطلق السعادة على كون خاتمة الأعمال بالخير ، والشقاوة على كون


خلقه فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا وإن عمل شرا أبغض عمله ولم يبغضه وإن كان شقيا لم يحبه أبدا وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه فإذا أحب الله شيئا لم يبغضه أبدا وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا.

٢ ـ علي بن محمد رفعه ، عن شعيب العقرقوفي ، عن أبي بصير قال كنت بين

______________________________________________________

الخاتمة بالشر ، والمراد بخلق السعادة والشقاوة تقديرهما بتقدير التكاليف الموجبة لهما ، أو أن يكتب في الألواح السماوية كونه من أهل الجنة ، أو من أهل النار ، موافقا لعلمه سبحانه ، التابع لما يختارونه بعد وجودهم وتكليفهم بإرادتهم واختيارهم والمراد بالخلق ثانيا الإيجاد في الخارج.

« فمن خلقه الله سعيدا » أي علمه وقدره سعيدا ، وخلقه عالما بأنه سيكون سعيدا.

« لم يبغضه أبدا » أي لا يعاقبه ، ولا يحكم بكونه معاقبا.

« وإن عمل شرا أبغض عمله » أي يذم عمله ، ويحكم بأن هذا الفعل مما يستحق به العقاب « ولم يبغضه » بأن يحكم بأن هذا الشخص مستحق للعقاب لعلمه سبحانه بأنه سيتوب ، ويصير من السعداء.

« وإن كان شقيا » في علمه تعالى بأن يعلم أنه يموت على الكفر والضلال « لم يحبه أبدا » أي لا يحكم بأنه من أهل الجنة ولا يثني عليه ، وإن عمل الأعمال الصالحة لما يعلم من عاقبته ولكن يحكم بأن عمله حسن عند ما يعمل صالحا ، وأن هذا العمل مما يستحق عامله الثواب إن لم يعمل ما يحبطه « وأبغضه » أي يحكم بأنه من أهل النار لما يعلم من عاقبة أمره ، فإذا أحب الله شيئا سواء كان من الأشخاص أو الأعمال « لم يبغضه أبدا » وكذا العكس بالمعنى الذي ذكرنا للحب والبغض.

الحديث الثاني : مرفوع وهو في غاية الصعوبة والإشكال ، وتطبيقه على مذهب العدلية يحتاج إلى تكلفات كثيرة.

والعجب أن الصدوق قدس‌سره رواه في التوحيد ناقلا عن الكليني بهذا


يدي أبي عبد الله عليه‌السلام جالسا وقد سأله سائل فقال جعلت فداك يا ابن رسول الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم الله لهم في علمه بالعذاب على عملهم فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أيها السائل حكم الله عز وجل لا يقوم له أحد من خلقه

______________________________________________________

السند بعينه هكذا : عن أبي بصير قال : كنت بين يدي أبي عبد الله عليه‌السلام جالسا وقد سأله سائل فقال : جعلت فداك يا بن رسول الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم الله لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أيها السائل علم الله عز وجل لا يقوم أحد من خلقه بحقه ، فلما علم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم ، ولم يمنعهم أطاقه القبول منه ، لأن علمه أولى بحقيقة التصديق ، فوافقوا ما سبق لهم في علمه ، وإن قدروا أن يأتوا خلالا ينجيهم عن معصيته ، وهو معنى شاء ما شاء وهو سر ، ولا أدري أن نسخته كانت هكذا أو غيره ليوافق قواعد العدل ، ويشكل احتمال هذا الظن في مثله.

وبالجملة على ما في الكتاب لعل حمله على التقية أو تحريف الرواة أولى ولنتكلم على الخبر ظاهرا وتأويلا ، ثم نكل علمه إلى من صدر عنه ونسب إليه صلوات الله عليه.

فنقول : السؤال يحتمل وجوها :

« الأول » : أنه سئل عن سبب أصل السعادة والشقاوة وصيرورة بعض الخلق كفارا وبعضهم مؤمنين وفرقة فساقا وأخرى صالحين.

« الثاني » أن يكون الشبهة الواردة عليه من جهة أن العلم لما كان تابعا للمعلوم فتوهم أنه يجب تأخره عن المعلوم فكيف تقدم عليه.

« الثالث » : أن يكون الشبهة عليه من جهة أن العلم إما حصولي أو حضوري وحصول الصورة لا يتصور في حقه تعالى ، والحضور إنما يكون بعد وجود المعلوم.

وحاصل الجواب على الأول أن حكم الله بالسعادة والشقاوة وأسبابهما من غوامض مسائل القضاء والقدر ، وعقول أكثر الخلق عاجزة عن الإحاطة بها ، فلا يجوز


بحقه فلما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معرفته ووضع عنهم ثقل

______________________________________________________

الخوض فيها كما قال الصدوق (ره) في رسالة العقائد : الكلام في القدر منهي عنه كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لرجل قد سأله عن القدر؟ فقال : بحر عميق فلا تلجه ، ثم سأله ثانية فقال : طريق مظلم فلا تسلكه ، ثم سأله ثالثة فقال : سر الله فلا تتكلفه وقال عليه‌السلام في القدر : ألا إن القدر سر من سر الله ، وحرز من حرز الله ، مرفوع في حجاب الله ، مطوي عن خلق الله ، مختوم بخاتم الله ، سابق في علم الله ، وضع الله عن العباد علمه ، ورفعه فوق شهاداتهم ، لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية ، ولا بقدرة الصمدانية ، ولا بعظمة النورانية ، ولا بعزة الوحدانية ، لأنه بحر زاخر مواج خالص لله عز وجل ، عمقه ما بين السماء والأرض ، عرضه ما بين المشرق والمغرب ، أسود كالليل الدامس ، كثير الحيات والحيتان ، يعلو مرة ويسفل أخرى ، في قعره شمس تضيء لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد ، فمن تطلع عليها فقد ضاد الله في حكمه ونازعه في سلطانه وكشف عن سره وستره ، وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.

وأما على الثاني فالجواب عنه وإن كان ظاهرا إذ تابعية العلم لا تستدعي تأخره عن المعلوم زمانا ، فلعله لم يجب عنه لقصور فهم السائل.

وأما الثالث فغموض المسألة وعجز أكثر الخلق عن الوصول إلى كنه علمه سبحانه ظاهر ، وقد تحير فيه الحكماء والمتكلمون ، ولم يأتوا فيه بشيء يسمن ويغني من جوع ، وسبيل أهل الديانة فيه وفي أمثاله الإقرار به جملة ، وعدم الخوض في كيفيته وترك التفكر في حقيقته فإنه كما لا يمكن إدراك حقيقة ذاته تعالى ، فكذا لا تصل عقول الخلق إلى كنه صفاته التي هي عين ذاته سبحانه.

ويحتمل أن يكون المراد أن تكاليفه تعالى شاقة لا يتيسر إلا بهدايته وتوفيقه سبحانه « وهب لأهل محبته » الإضافة إلى الضمير إضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول ، أي الذين أحبهم لعلمه بأنهم يطيعونه ، أو الذين يحبونه ووضع عنهم ثقل العمل


العمل بحقيقة ما هم أهله ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم ومنعهم إطاقة القبول منه فوافقوا ما سبق لهم في علمه ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه لأن علمه أولى بحقيقة التصديق وهو معنى شاء ما شاء وهو سره

______________________________________________________

بالتوفيقات والهدايات والألطاف الخاصة بحقيقة ما هم أهله ، أي بحسب ما يرجع إليهم من النيات الصحيحة والأعمال الصالحة والطينات الطيبة « ووهب لأهل المعصية » الهبة هنا على سبيل التحكم أو يقال إعطاء أصل القوة لطف ورحمة ، وباستعمال العبد إياها في المعصية تصير شرا ، أو أنهم لما كانوا طالبين للمعصية راغبين فيها ، فكأنهم سألوا ذلك ووهبهم والأوسط أظهر.

« القوة على معصيتهم » أي المعصية التي يفعلونها بإرادتهم واختيارهم لسبق علمه فيهم ، إذ علم أن التكليف لا يتم إلا بإعطاء الآلة والقوة ، وإلا لكانوا مجبورين على الترك.

« ومنعهم أطاقه القبول منه » قيل : هو مصدر مضاف إلى الفاعل عطفا على ضمير فيهم ، أي لعلمه بأنهم يمنعون أنفسهم أطاقه القبول ، ولا يخفى ما فيه لفظا ومعنى.

أقول : ويحتمل أن يكون عطفا على السبق ويكون اللام فيهما لام العاقبة كما في قوله تعالى : « لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا » (١) أي وهب لهم القوة مع أنه كان يعلم عدم إطاعتهم وتصييرهم أنفسهم بحيث كأنهم لا يطيقون القبول منه ، أو منعهم بصيغة الماضي ويكون المراد ترك الألطاف الخاصة ، فلما لم يلطف لهم فكأنه منعهم القبول كما في قوله تعالى : « خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ » (٢) وكذا قوله : ولم يقدروا ، أي قدرة تامة لسهولة كما كانت للفريق الأول عند الألطاف الخاصة ، لأن علمه أولى بحقيقة

__________________

(١) سورة القصص : ٨.

(٢) سورة البقرة : ٧.


٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى بن عمران الحلبي ، عن معلى بن عثمان ، عن علي بن حنظلة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم بل هو منهم ثم يتداركه السعادة وقد يسلك بالشقي في طريق السعداء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم بل هو منهم ثم يتداركه الشقاء إن من كتبه الله سعيدا

______________________________________________________

التصديق ، أي إنما صاروا كذلك لأن علمه تعالى لا يتخلف ، لا لأن العلم علة ، بل لأن علمه سبحانه لا محالة يكون موافقا للمعلوم ، فمعنى مشية الله تعالى وسرها هو هذا المعنى ، أي علمه مع التوفيق لقوم والخذلان لآخرين على وجه لا يصير شيء منهما سببا للإجبار على الطاعة أو المعصية.

هذا غاية ما يمكن من القول في تأويل هذا الخبر وإن كان ظاهره أن الله لما علم من قوم أنهم يطيعونه سهل عليهم الطاعة ، ولما علم من قوم المعصية إن وكلوا إلى اختيارهم جعلهم بحيث لم يمكن أن يتأتى منهم الطاعة ، والقول بظاهره لا يوافق العدل ، وللسالكين مسالك الحكماء والصوفية هيهنا تحقيقات طويلة الذيل ، دقيقة المسالك لم نذكرها لئلا تتعلق بقلوب نواقص العقول والأفكار والله يعلم حقائق الأسرار.

الحديث الثالث : مجهول.

قوله عليه‌السلام : يسلك بالسعيد ، على بناء المفعول والباء للتعدية ، والفاعل هو الله بالخذلان أو الشيطان « ما أشبهه بهم » تعجبا من كمال مشابهتهم بهم في الأعمال ثم يحكمون بعد تكرر مشاهدة ذلك أنه منهم « إن من كتبه الله » أي علم الله منه السعادة وكتب له ذلك في اللوح المحفوظ ، لا لوح المحو والإثبات ، فلا ينافي ما ورد في الأدعية الكثيرة « إن كنت كتبتني شقيا فامح من أم الكتاب شقائي » فإن المراد به لوح المحو والإثبات ، والفواق بالضم وقد يفتح الفاء : ما بين الحلبتين من الوقت ، لأن الناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب ، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع.


وإن لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة.

باب الخير والشر

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن محبوب وعلي بن الحكم ، عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن مما أوحى الله إلى موسى عليه‌السلام وأنزل عليه في التوراة أني « أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا » خلقت الخلق

______________________________________________________

والحاصل أن السعادة والشقاوة الأخرويتين إنما تكون بحسن العاقبة وسوءها والمدار عليهما ، فينبغي للإنسان أن يطلب حسن العاقبة ويسعى فيه ، ويتضرع إليه تعالى في أن يرزقه ذلك ، رزقنا الله وسائر المؤمنين حسن عاقبة المتقين.

باب الخير والشر

الحديث الأول : صحيح.

والخير والشر يطلقان على الطاعة والمعصية وعلى أسبابهما ودواعيهما ، وعلى المخلوقات النافعة كالحبوب والثمار والحيوانات المأكولة والضارة كالسموم والحيات والعقارب ، وعلى النعم والبلايا ، وذهبت الأشاعرة إلى أن جميع ذلك من فعله تعالى ، والمعتزلة والإمامية خالفوهم في أفعال العباد ، وأولوا ما ورد في أنه تعالى خالق الخير والشر بالمعنيين الأخيرين.

قال المحقق الطوسي قدس‌سره : ما ورد أنه تعالى خالق الخير والشر ، أريد بالشر ما لا يلائم الطباع وإن كان مشتملا على مصلحة ، وتحقيق ما ذكره أن للشر معنيين : أحدهما : ما لا يكون ملائما للطبائع كخلق الحيوانات المؤذية ، والثاني ما يكون مستلزما للفساد ، ولا يكون فيه مصلحة ، والمنفي عنه تعالى هو الشر بالمعنى الثاني لا الشر بالمعنى الأول ، وقال الحكماء : ما يمكن صدوره من الحكيم إما أن يكون كله خيرا ، أو كله شرا ، أو بعضه خيرا وبعضه شرا ، فإن كان كله خيرا وجب عليه تعالى خلقه ، وإن كان كله شرا لم يجز خلقه ، وإن كان بعضه خيرا وبعضه


وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب فطوبى لمن أجريته على يديه و « أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا » خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده فويل لمن أجريته على يديه.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن حكيم ، عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول إن في بعض ما أنزل الله من كتبه أني « أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا » خلقت الخير وخلقت الشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول كيف ذا وكيف ذا.

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن بكار بن كردم ، عن مفضل بن عمر وعبد المؤمن الأنصاري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال الله عز وجل

______________________________________________________

شرا فإما أن يكون خيره أكثر من شره ، أو شره أكثر من خيره ، أو تساويا ، فإن كان خيره أكثر من شره وجب على الله خلقه ، وإن كان شره أكثر من خيره أو كانا متساويين لم يجز خلقه ، وما نرى من المؤذيات في العالم فخيرها أكثر من شرها.

ثم اعلم أن المراد بخلق الخير والشر في هذه الأخبار إما تقديرهما أو خلق الآلات والأسباب التي بها يتيسر فعل الخير وفعل الشر ، كما أنه سبحانه خلق الخمر وخلق في الناس القدرة على شربها ، أو كناية عن أنهما يحصلان بتوفيقه وخذلانه ، فكأنه خلقهما أو المراد بالخير والشر النعم والبلايا ، أو المراد بخلقهما خلق من يعلم أنه يكون باختياره مختارا للخير أو الشر ، ولا يخفى بعد ما سوى المعنى الثاني والثالث ، وأما الحكماء فأكثرهم يقولون لا مؤثر في الوجود إلا الله ، وإرادة العبد معدة لإيجاده تعالى الفعل على يده ، فهي موافقة لمذاهبهم ومذاهب الأشاعرة ويمكن حملها على التقية.

الحديث الثاني : حسن على الظاهر.

الحديث الثالث : مجهول ، ويدل كالسابق على النهي عن الخوض في هذه المسائل والاعتراض عليها.


« أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا » خالق الخير والشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول كيف ذا وكيف هذا قال يونس يعني من ينكر هذا الأمر بتفقه فيه.

باب

الجبر والقدر والأمر بين الأمرين

١ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمد وغيرهما رفعوه قال كان أمير المؤمنين عليه‌السلام جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه ـ ثم قال له يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا

______________________________________________________

وقوله : قال يونس ، كلام محمد بن عيسى وهو تفسير لقوله عليه‌السلام : من يقول كيف ذا وكيف ذا ، أي كيف أجرى على يد هذا الخير وأجرى على يد هذا الشر؟ وغرض يونس أن الويل لمن أنكر كون خالق الخير والشر هو الله تعالى بتفقهه وعلمه اتكالا على عقله ، وأما من سأل عن عالم ليتضح له الأمر ، أو يخطر بباله من غير حدوث شك له أو يؤمن به مجملا وهو متحير في معناه ، معترف بجهل معناه لقصور عقله عن فهمه فلا ويل له.

باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين

الحديث الأول : مرفوع لكن رواه الصدوق (ره) في العيون بأسانيد عنه عليه‌السلام ، ومذكور في رسالة أبي الحسن الثالث عليه‌السلام إلى أهل الأهواز ، وسائر الكتب الحديثية والكلامية ، وأشار المحقق الطوسي (ره) في التجريد إليه ، ورواه العلامة قدس‌سره في شرحه عن الأصبغ بن نباتة بأدنى تغيير.

وصفين كسجين اسم موضع قرب الرقة شاطئ الفرات ، بها الواقعة العظمى


بقضاء من الله وقدر فقال له الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال له مه يا شيخ فو الله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.

فقال له الشيخ وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا فقال له وتظن أنه كان قضاء حتما وقدرا لازما إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من

______________________________________________________

بين أمير المؤمنين عليه‌السلام ومعاوية لعنه الله ، وجثا كرمي أي جلس على ركبتيه ، وقال الفيروزآبادي : التلعة ، ما ارتفع من الأرض ، ومسيل الماء « انتهى » وبطن الوادي أسفله ، والمطمئن منه.

قوله : عند الله أحتسب عنائي ، العناء بالفتح والمد : التعب والنصب ، ويمكن أن يكون استفهاما إنكاريا ، أي كيف أحتسب أجر مشقتي عند الله وقد كنت مجبورا في فعلي؟ أو المعنى فلا نستحق شيئا ، ولعل الله يعطينا بفضله من غير استحقاق للتفضل أيضا ، وفي رواية الأصبغ بعده : ما أرى لي من الأجر شيئا فيؤيد الثاني « فقال له : مه » أي اسكت والمسير مصدر ميمي بمعنى السير « وأنتم سائرون » أي بقدرتكم وإرادتكم المؤثرة « وفي مقامكم » أي بإزاء العدو بصفين « ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين » كما زعمته الجبرية الصرفة « ولا إليه مضطرين » كما ذهب إليه الأشاعرة كما سيأتي تحقيقهما ، ولما توهم الشيخ من الجوابين التدافع والتنافي قال : فكيف لم نكن « إلى آخره » فأجاب عليه‌السلام بقوله : فتظن أنه كان قضاء حتما لا مدخل لاختيار العبد وإرادته فيه كما يقضي ويوجد الأشياء ، ليس كذلك بل قضاءان يخير العبد ويكله إلى إرادته ، وأيده بما يستحقه من الألطاف الخاصة حتى أتى بالفعل وقد مر أنه قد يحمل القضاء على العلم أو الثبت في الألواح السماوية ، وشيء منها لا يصير سببا للجبر والقدر ، اللازم هو تعلق إرادته بفعله الذي لا مدخل لإرادة الغير


الله وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب

______________________________________________________

فيه ، وهنا ليس كذلك ، ثم أبطل مذهب الجبرية والأشاعرة بقوله : إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، لأن الثواب نفع مقارن للتعظيم والمحمدة ، والعقاب ضرر مقارن للإهانة واللوم ، ولا يتصوران مع الجبر بمعنييه ، وإلا كان سفها ، ثم بقوله : والأمر والنهي ، لأنهما عبارتان عن إعلام الناس بمصالح بعض الأعمال ومنافعها وبمفاسد بعضها ومضارها ، ليختار العبد ما فيه المصلحة والمنفعة ، ويترك ما فيه المفسدة والمضرة ، وظاهر أن ذلك الإعلام في صورة الجبر وعدم تأثير الاختيار والإرادة سفه وعبث ، تعالى عن ذلك.

ثم بقوله : والزجر من الله ، وزواجر الله : بلاياه النازلة على العصاة بإزاء عصيانهم ، وأحكامه في القصاص والحدود ونحو ذلك والتقريب ظاهر مما مر.

ثم بقوله : وسقط الوعد والوعيد ، أي المقصود منهما من إتيان الحسنات وترك السيئات ، لأن ذلك لا يعقل من المجبور في أفعاله ، فالوعد والوعيد سفه وعبث ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ثم بقوله عليه‌السلام : فلم تكن لأئمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ، لأن المحمدة هو الثناء على الجميل الاختياري ، واللائمة ما يقابله من الذم على القبيح الاختياري ومعلوم بديهة أنه لا يستحقهما المجبور.

وأما قوله عليه‌السلام : ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، فيحتمل وجوها : « الأول » أن يكون هذا متفرعا على الوجوه السابقة ، أي إذا بطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر والوعد والوعيد لكان المحسن أولى « إلخ » ووجه الأولوية أنه لم يبق حينئذ إلا الإحسان والعقوبة الدنيوية ، والمذنب كالسلطان القاهر الصحيح الذي يكون في غاية التنعم يأتي


______________________________________________________

بكل ما يشتهيه من الشرب والزنا والقتل والقذف وأخذ أموال الناس وغير ذلك وليس له مشقة التكاليف الشرعية والمحسن كالفقير المريض الذي يكون دائما في التعب والنصب ، من التكاليف الشرعية من الإتيان بالمأمورات والانتهاء عن المنهيات ومن قلة المؤنة وتحصيل المعيشة من الحلال في غاية المشقة فحينئذ الإحسان الواقع للمذنب أكثر مما وقع للمحسن ، فهو أولى بالإحسان من المحسن ، والعقوبة الواقعة على المحسن أكثر مما وقع على المذنب فهو أولى بالعقوبة من المذنب.

الثاني : أن يكون المعنى أنه لو فرض جريان المدح والذم واستحقاقهما واستحقاق الإحسان والإثابة والعقوبة وترتبها على الأفعال الاضطرارية الخارجة عن القدرة والاختيار ، لكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن وبالعكس ، لأن في عقوبة المسيء على ذلك التقدير جمع بين إلزامه بالسيئة القبيحة عقلا ، وجعله موردا لملامة العقلاء وعقوبة عليها وكل منهما إضرار وإزراء به وفي أثابه المحسن جمع بين إلزامه بالحسنة الممدوحة عقلا ويصير بذلك ممدوحا عند العقلاء ، وإثابته عليها وكل منهما نفع وإحسان إليه ، وفي خلاف ذلك يكون لكل منهما نفع وضرر ، وهذا بالعدل أقرب وذاك بخلافه أشبه.

الثالث : ما قيل إنه إنما كان المذنب أولى بالإحسان لأنه لا يرضى بالذنب كما يدل عليه جبره عليه ، والمحسن أولى بالعقوبة لأنه لا يرضى بالإحسان لدلالة الجبر عليه ، ومن لا يرضى بالإحسان أولى بالعقوبة من الذي يرضى به ولا يخفى ما فيه.

الرابع : أنه لما اقتضى ذات المذنب أن يحسن إليه في الدنيا بإحداث اللذات فيه ، فينبغي أن يكون في الآخرة أيضا كذلك لعدم تغير الذوات في النشأتين ، وإذا اقتضى ذات المحسن المشقة في الدنيا وإيلامه بالتكاليف الشاقة ففي الآخرة أيضا


تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان

______________________________________________________

ينبغي أن يكون كذلك.

الخامس : ما قيل لعل وجه ذلك أن المذنب بصدور القبائح والسيئات منه متألم منكسر البال لظنه أنها وقعت منه باختياره ، وقد كانت بجبر جابر وقهر قاهر فيستحق الإحسان ، وأن المحسن لفرحانه بصدور الحسنات عنه وزعمه أنه قد فعلها بالاختيار أولى بالعقوبة من المذنب ، وفي حديث الأصبغ هكذا : ولم تأت لأئمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها.

« تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان » أي أشباههم ، لأن عبدة الأوثان الذين كانوا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا جبرية لقوله تعالى : « وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها » (١) أي جعلنا الله مجبورا عليها وقوله : « وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ » (٢) وأمثال ذلك في القرآن كثيرة.

وقيل : إنما كانوا إخوانهم لأن القول بما يستلزم بطلان الثواب والعقاب في حكم القول بلازمه ، والقول ببطلان الثواب والعقاب قول عبدة الأوثان ، وأما كونهم خصماء الرحمن لأنهم نسبوا إليه سبحانه ما لا يليق بجنابة من الظلم والجور والعبث وأية خصومة وعداوة تكون أشد من ذلك. وقيل : إنكار الأمر والنهي إنكار للتكليف والمنكرون للتكاليف خصماء المكلف الآمر والناهي.

وقيل : لما نسب الله سبحانه في آيات كثيرة أفعال العباد إليهم ، وصرح في كثير منها ببراءته من القبائح والظلم ، وهؤلاء يقولون نحن برآء من القبائح وأنت تفعلها فلا مخاصمة أعظم من ذلك « وحزب الشيطان » لأنه لعنه الله قال : « رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي »

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٨.

(٢) سورة النحل : ٣٥. وأصل الآية هكذا « وقال الذين أشركوا لو شاء الله .... ».


وقدرية هذه الأمة ومجوسها

______________________________________________________

وأيضا أنه لعنه الله يبعثهم على تلك العقائد الفاسدة ، أو لما لزمهم بطلان الأمر والنهي والتكليف فيجوز له متابعة الشيطان في كل ما يدعوهم إليه ، وقوله : وقدرية هذه الأمة ، يدل على أن المجبرة هم القدرية ، ولا خلاف بين الأمة في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذم القدرية ، لكن كل من الجبرية والتفويضية يسمون خصومهم بها ، وفي أخبارنا أطلقت عليهما ، وإن كان على التفويضية أكثر ، قال في المقاصد : لا خلاف في ذم القدرية وقال شارحه : قد ورد في صحاح الأحاديث لعنة القدرية على لسان سبعين نبيا ، والمراد بهم القائلون بنفي كون الخير والشر كله بتقدير الله ومشيته ، سموا بذلك ، لمبالغتهم في نفيه وكثرة مدافعتهم إياه ، وقيل : لإثباتهم للعبد قدرة الإيجاد وليس بشيء ، لأن المناسب حينئذ القدري بضم القاف ، وقالت المعتزلة : القدرية هم القائلون بأن الشر والخير كله من الله تعالى وبتقديره ومشيته ، لأن الشائع نسبة الشخص إلى ما يثبته ويقول به كالجبرية والحنفية والشافعية لا إلى ما ينفيه.

ورد بأنه صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : القدرية مجوس هذه الأمة ، وقوله : إذا قامت القيامة نادى مناد أهل الجمع : أين خصماء الله ، فتقوم القدرية ، ولا خفاء في أن المجوس هم الذين ينسبون الخير إلى الله والشر إلى الشيطان ، ويسمونهما : يزدان ، وأهريمن ، وأن من لا يفوض الأمور كلها إلى الله ، ومعترض لبعضها فينسبه إلى نفسه ، يكون هو المخاصم لله تعالى ، وأيضا من يضيف القدر إلى نفسه ويدعي كونه الفاعل والمقدر أولى باسم القدري ممن يضيفه إلى ربه.

فإن قيل : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لرجل قدم عليه من فارس : أخبرني بأعجب شيء رأيت؟ فقال : رأيت أقواما ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم : لم تفعلون ذلك؟ قالوا قضاء الله علينا وقدره؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ستكون في آخر أمتي أقوام يقولون بمثل مقالتهم ، أولئك مجوس أمتي ، وروى الأصبغ بن نباتة : أن شيخا قام إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام بعد انصرافه من صفين ثم ذكر نحو هذا


______________________________________________________

الخبر إلى قوله « ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ » فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما؟ قال : هو الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله تعالى « وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ » (١) وعن الحسن بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى العرب وهم قدرية يحملون ذنوبهم على الله ، ويصدقه قوله تعالى : « وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها » (٢).

قلنا : ما ذكر لا يدل إلا على أن القول بأن فعل العبد إذا كان بقضاء الله تعالى وقدره وخلقه وإرادته ، يجوز للعبد الإقدام عليه ، ويبطل اختياره فيه واستحقاقه للثواب والعقاب والمدح والذم عليه قول المجوس ، فلينظر أن هذا قول المعتزلة أم المجبرة ، ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور ، ومن وقاحتهم أنهم يروجون باطلهم بنسبته إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وأولاده رضي الله عنهم ، وقد صح عنه أنه خطب الناس على منبر الكوفة فقال : ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره ، وأنه قال لمن قال : إني أملك الخير والشر والطاعة والمعصية؟ تملكها مع الله أو تملكها بدون الله؟ فإن قلت : أملكها مع الله فقد ادعيت أنك شريك الله ، وإن قلت أملكها بدون الله فقد ادعيت أنك أنت الله؟ فتاب الرجل على يده.

وأن جعفر الصادق عليه‌السلام قال لقدري : أقرء الفاتحة ، فقرأ فلما بلغ قوله : « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » قال له جعفر : على ما ذا تستعين بالله وعندك أن الفعل منك ، وجميع ما يتعلق بالأقدار والتمكين والألطاف قد حصلت وتمت؟ فانقطع القدري والحمد لله رب العالمين « انتهى ».

وقال العلامة قدس‌سره في شرح التجريد بعد إيراد خبر الأصبغ : قال أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي : فوجه تشبيهه عليه‌السلام المجبرة بالمجوس من وجوه :

أحدها : أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية ، معلومة البطلان

__________________

(١) سورة الإسراء : ٢٣.

(٢) سورة الأعراف : ٢٨.


______________________________________________________

وكذا المجبرة.

وثانيها : مذهب المجوس أن الله تعالى يخلق فعله ثم يتبرأ منه ، كما خلق إبليس وانتفى منه ، وكذا المجبرة قالوا : إن الله تعالى يفعل القبيح ثم يتبرأ منها.

وثالثها : أن المجوس قالوا : إن نكاح الأمهات والأخوات بقضاء الله وقدره وإرادته ووافقهم المجبرة ، حيث قالوا : إن نكاح المجوس لأمهاتهم وأخواتهم بقضاء الله وقدره وإرادته.

ورابعها : أن المجوس قالوا : إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس والمجبرة قالوا : إن القدرة الموجبة للفعل غير متقدمة عليه ، فالإنسان القادر على الخير لا يقدر على ضده وبالعكس « انتهى ».

أقول : وقد يعطف خصماء الرحمن على عبدة الأوثان فالمراد بهم المعتزلة المفوضة أي الأشاعرة الجبرية إخوان المفوضة ، الذين هم خصماء الرحمن ، لأنهم يدعون استقلال قدرتهم في مقابلة قدرة الرحمن ، وأنهم يفعلون ما يريدون بلا مشاركة الله في أعمالهم بالتوفيق والخذلان ، والأخوة بينهما باعتبار أن كلا منهما على طرف خارج عن الحق الذي هو بينهما ، وهو الأمر بين الأمرين ، فهما يشتركان في البطلان ، كما أن المؤمنين إخوة لاشتراكهم في الحق.

وقيل في وجه الأخوة : إنه يقال للمتقابلين إنهما متشابهان كما قيل ، إن قصة سورة براءة تشابه قصة سورة الأنفال وتناسبها ، لأن في الأنفال ذكر العهود وفي البراءة نبذها ، فضمت إليها « انتهى » وعلى هذا يكون قوله : وحزب الشيطان ، وقوله : قدرية هذه الأمة ، وقوله : مجوسها ، كلها معطوفات على العبدة لا الإخوان ، وأوصافا للمفوضة لا الجبرية ، على الوجوه المتقدمة ، ويكون الحديث مشتملا على نفي طرفي الإفراط والتفريط معا ، وهذا الوجه وإن كان بعيدا لكنه يكون أتم فائدة.

ويؤيده أيضا ما رواه الصدوق (ره) في التوحيد بإسناده عن علي بن سالم عن


إن الله تبارك وتعالى كلف تخييرا ـ ونهى تحذيرا وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرهاولم يملك مفوضا ولم يخلق السماوات « وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما

______________________________________________________

أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرقي أتدفع من القدر شيئا؟ فقال : هي من القدر ، وقال عليه‌السلام : إن القدرية مجوس هذه الأمة ، وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه ، وفيهم نزلت هذه الآية : « يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ » (١) ويعضده أيضا أن قدماء المحدثين إنما يطلقون القدرية على المفوضة كالمصنف ، حيث قابل في عنوان الباب بين الجبر والقدر ، وقد عد أصحاب الرجال من كتب هشام بن الحكم كتاب الجبر والقدر ، وكتاب الرد على المعتزلة « إن الله كلف تخييرا » أي أمره جاعلا له مخيرا بين الفعل والترك بإعطاء القدرة له على الإتيان بما شاء منهما ، من غير إكراه وإجبار « ونهى تحذيرا » أي طلبا للاحتراز عن فعل المنهي عنه ، لا بالإكراه على الترك « وأعطي على القليل كثيرا » ترغيبا إلى الطاعة وترك المعصية « ولم يعص مغلوبا » على بناء المفعول : أي لم يقع العصيان عن طاعته بمغلوبيته عن العبد بل بما فيه الحكمة من عدم إكراهه وإجباره ، أو لا يقع العصيان بمغلوبية العاصي ، فإنه لا عصيان مع عدم الاختيار ، « ولم يطع مكرها » على صيغة اسم الفاعل ، أي لم تقع طاعته بإكراهه المطيع على الطاعة وربما يقرأ على صيغة المفعول ، فيكون ردا على المفوضة أيضا ، لأنه إذا استقل العبد ولم يكن لتوفيقه تعالى مدخل في ذلك فكأنه سبحانه مكره فيه.

ويمكن أن يقرأ الفعلان على بناء الفاعل ويكون الفاعل المطيع والعاصي ، وهما بعيدان « ولم يملك » على بناء التفعيل والمفعول القدرة والإرادة والاختيار ، أو على بناء الأفعال بمعنى إعطاء السلطنة « مفوضا » بحيث لم يحصرهم بالأمر والنهي أو لم يكن له مدخل في أفعالهم بالتوفيق والخذلان ولم يخلق السماوات ، إلخ إشارة إلى قوله سبحانه : « وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ

__________________

(١) سورة القمر : ٤٨.


باطِلاً » ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا « ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ » فأنشأ الشيخ يقول :

______________________________________________________

كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » (١) وهذا إما رد على عبدة الأوثان المذكورين سابقا بتقريب ذكر إخوانهم ، أو المجبرة إذ الجبر يستلزم بطلان الثواب والعقاب والتكليف المستلزم لكون خلق السماوات والأرض عبثا وباطلا ، أو المفوضة أيضا لأن التفويض على أكثر الوجوه الآتية ينافي غرض الإيجاد ، وكون بعثة الأنبياء والرسل مع الجبر باطلا ظاهر ، بل مع التفويض على بعض الوجوه.

أقول : وروى الصدوق في التوحيد والعيون هذه الرواية عن أبي الحسن الثالث عن آبائه عليهم‌السلام ، وعن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام بسندين آخرين وعن ابن عباس بسند آخر ، وزاد في الرواية بالسند الأخير ، فقال الشيخ : فما القضاء والقدر اللذان ساقانا وما هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلا بهما؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الأمر من الله والحكم ، ثم تلا هذه الآية « وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » (٢) أي أمر ربك.

وقال الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج بعد إيراد هذه الرواية : وروي أن الرجل قال : فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال : الأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية ، والمعونة على القربة إليه والخذلان لمن عصاه ، والوعد والوعيد والترغيب والترهيب ، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا ، أما غير ذلك فلا تظنه فإن الظن له محيط للأعمال ، فقال الرجل : فرجت عني بذلك يا أمير المؤمنين فرج الله عنك ، وفي رواية ابن نباتة الذي أورده العلامة وغيره : فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللذان

__________________

(١) سورة ص : ٢٨.

(٢) سورة الإسراء : ٢٣.


أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبسا

جزاك ربك بالإحسان إحسانا

٢ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن حماد بن عثمان ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله قال من زعم أن الله يأمر بالفحشاء ـ فقد

______________________________________________________

ما سرنا إلا بهما؟ فقال : هو الأمر من الله تعالى والحكم ، وتلا قوله تعالى : « وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ » فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول. وذكر البيتين.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : من زعم ، أي ادعى ، وقال : وأكثر استعماله في الباطل « إن الله يأمر بالفحشاء » اقتباس من قوله تعالى : « وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ » (١).

قال بعض المفسرين : الفاحشة : الفعلة المتناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف حيث كان المشركون يطوفون عراة ، ويقولون : لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب ، فكانوا إذا نهوا عنها اعتذروا واحتجوا بأمرين : تقليد الآباء ، والافتراء على الله ، فأعرض عن الأول لظهور فساده ، ورد الثاني بقوله : « قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ » أي بأمر يجد العقل السليم قبحه ، بل لا يأمر إلا بمحاسن الأعمال والعقائد ، فالأمر بمعناه ، وقال الطبرسي (ره) : قال الحسن : إنهم كانوا أهل إجبار فقالوا : لو كره الله ما نحن عليه الطبرسي (ره) : قال الحسن : إنهم كانوا أهل إجبار فقالوا : لو كره الله ما نحن عليه لنقلنا عنه ، فلهذا قالوا : والله أمرنا بها فأقول : الأمر في الخبر أيضا يحتمل الوجهين ، فعلى الأول إشارة إلى فساد قول الأشاعرة من نفي الحسن والقبح العقليين ، وتجويز أن يأمر بما نهى عنه مما يحكم العقل بقبحه ، وأن يأمر بالسوء والفحشاء ، فإن إبطال حكم العقل فيما يحكم به بديهة أو بالبرهان باطل ، والأمر بالقبيح قبيح ، ومن جوز القبيح على الله فقد كذب عليه ، وعلى الثاني رد على الأشاعرة أيضا من حيث قولهم بالجبر.

__________________

(١) سورة الأعراف.


كذب على الله ومن زعم أن الخير والشر إليه فقد كذب على الله.

٣ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال سألته فقلت الله فوض الأمر إلى العباد قال الله أعز من ذلك قلت فجبرهم على المعاصي قال الله أعدل وأحكم من ذلك قال ثم قال قال الله يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني ـ عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار ، عن يونس بن عبد الرحمن قال قال لي أبو الحسن الرضا عليه‌السلام يا يونس لا تقل بقول القدرية فإن القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول إبليس فإن أهل

______________________________________________________

وقوله : ومن زعم أن الخير والشر إليه ، الظاهر إرجاع الضمير إلى الموصول ، فيكون ردا على المفوضة والمعتزلة القائلين باستقلال العبد في أفعاله ، وعدم مدخلية الرب سبحانه فيها ، وهذا أيضا كذب على الله تعالى لمخالفته للآيات الكثيرة الدالة على هدايته وتوفيقه وخذلانه ومشيته وتقديره ، ويحتمل إرجاع الضمير إلى الله فيكون ردا على المجبرة فينبغي حمل الفقرة الأولى حينئذ على المعنى الأول.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور.

قوله : الله أعز من ذلك أي أغلب وأقدر من أن يكون غيره فاعلا مستقلا في ملكه ، بغير مدخلية له سبحانه في ذلك الفعل.

قوله : وأحكم ، أي الجبر مناف للحكمة.

الحديث الرابع : مجهول.

والمراد بالقدرية هنا من يقول بأن أفعال العباد ووجودها ليست بقدر الله وقضائه بل باستقلال إرادة العبد به واستواء نسبته إلى الإرادتين وصدور أحدهما عنه لا بموجب غير الإرادة كما ذهب إليه بعض المعتزلة ، فإنهم لم يقولوا بقول أهل الجنة من إسناد هدايتهم إليه سبحانه ، ولا بقول أهل النار من إسناد ضلالهم إلى شقوتهم ، وظاهره


الجنة قالوا « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ » وقال أهل النار « رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ » وقال إبليس « رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي » فقلت والله ما أقول بقولهم ولكني أقول لا يكون إلا بما شاء الله وأراد وقدر وقضى فقال يا يونس ليس هكذا لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى يا يونس تعلم

______________________________________________________

هنا أن المراد بالشقوة ما يصير مرجحا للأعمال السيئة من خبث الطينة وقلة العقل ، وسوء الفهم ، مما يرجع إلى العبد ، أو هذا أيضا يرجع إلى الله بناء على أن الله تعالى خالق السعادة والشقاوة ومقدرهما ، ويحتمل أن يكون المراد بالشقوة استحقاق العذاب بسبب الأعمال السيئة فإن. ذلك يصير سببا لمنع اللطف والهداية الخاصة ، ولا بقول إبليس من إسناد الإغواء إليه سبحانه ، وهذا الخبر يدل على أن غرضه من الإغواء كان هو الخذلان ومنع اللطف ، إذ ظاهر الخبر أنه عليه‌السلام استشهد بقوله وقول أهل النار لتقريره سبحانه إياهما ، ويحتمل أن يكون غرضه عليه‌السلام أنهم اخترعوا قولا ليس قول أهل الخير ولا قول أهل الشر.

قوله : ولكني أقول لا يكون إلا بما شاء الله ، أقول : في أكثر النسخ الباء موجودة في كلام يونس دون كلامه عليه‌السلام ، فالفرق بينهما بالباء إذ كلام يونس يدل على العلية والسببية واستقلال إرادة الله سبحانه ومشيته في فعل العبد ، فيوهم الجبر فلذا أسقط عليه‌السلام الباء ، وقيل : كان غرض يونس من إدخال الباء بيان أن الله تعالى أعطى العبد القدرة والاختيار ، ثم هو فعل الفعل بما أعطاه الله وهو مستقل في الفعل ، فأراد عليه‌السلام نفي التفويض فأسقط الباء ، وفي بعض النسخ بدون الباء فلا يعقل فرق إلا بنحو التقرير ، لكن في تفسير علي بن إبراهيم : ولكني أقول لا يكون إلا ما شاء الله وقضى وقدر ، فقال : ليس هكذا يا يونس ، ولكن لا يكون إلا ما شاء الله وقدر وقضاء فيكون الاختلاف بينهما في الترتيب ، فإن القدر مقدم على القضاء كما في الأخبار ، فلذا غير عليه‌السلام الترتيب ليكون الترتيب الذكري موافقا للترتيب الواقعي ، ولعل التوافق صدر من النساخ ثم ألحقوا الباء لحصول الاختلاف.


ما المشيئة قلت لا قال هي الذكر الأول فتعلم ما الإرادة قلت لا قال هي العزيمة على ما يشاء فتعلم ما القدر قلت لا قال هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء قال ثم قال والقضاء هو الإبرام وإقامة العين قال فاستأذنته أن أقبل رأسه وقلت فتحت لي شيئا كنت عنه في غفلة.

٥ ـ محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : هي الذكر الأول ، أي الإثبات مجملا في لوح المحو والإثبات ، وقيل العلم القديم.

قوله : هي العزيمة ، العزيمة : تأكد الإرادة ، ولعل المراد بها هنا الإثبات ثانيا مع بعض الخصوصيات أو الأخذ في خلق أسباب وجوده البعيدة ، وقيل : المعنى أن المشية فينا هي توجه النفس إلى المعلوم بملاحظة صفاته وأحواله المرغوبة ، الموجبة لحركة النفس إلى تحصيله ، وهذه الحركة النفسانية فينا وانبعاثها لتحصيله هي العزم والإرادة وفي الواجب تعالى ما يترتب عليه أثر هذا التوجه ، ويكون بمنزلته.

قوله عليه‌السلام : هي الهندسة ، الهندسة : على وزن دحرجة مأخوذ من الهنداز ( معرب انداز ) فأبدلت الزاي سينا لأنه ليس في كلام العرب دال بعدها زاي ، فالهندسة ( معرب اندازه ) أي المقدار ، والمهندس مقدر مجاري القناة حيث تحفر ، ثم عمم في تحديد مجاري الأمور كلها ، فالقدر إثبات خصوصيات ما أراد إيجاده في اللوح من أزمنة بقائه ووقت فنائه وأشباه ذلك ، أو ترتيب أسباب وجوده إلى حيث ينتهي إلى علله الخاصة المعينة لخصوصياته ، أو فينا عبارة عن تعيين حدود ما يريده من عرضه وطوله وسمكه وإحكامه على وجه يبقى زمانا طويلا أو قصيرا ، وفيه تعالى ما يناسبه من ترتيب الأسباب ، والقضاء هو الإبرام أي إحكام المراد ، وإقامة عينه أي إيجاده ، وفي أفعال العباد إقدار العبد وتمكينه ورفع الموانع عنه.

الحديث الخامس : مجهول كالصحيح.


إليه وأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ولا يكونون

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : فقد جعل لهم السبيل ، قال بعض المحققين : أي كل ما تعلق به الأمر جعل للمأمور سبيل إلى تركه بإعطاء القدرة له ، وإمكان المأمور به.

فإن قيل : المأمور به واجب ضروري الوجود عند اجتماع أسباب وجوده وممتنع ضروري العدم عند عدم اجتماع أسباب الوجود ، فلا إمكان له؟

قيل : المقصود الإمكان قبل الإرادة الحتمية ، وهي من أسباب الوجود ، فلا وجوب قبلها ، ولزوم وقوع العدم عند عدم استجماع الشرائط لا ينافي الإمكان ، فإن الممكن الذي لا يلحقه وجوب لعلته الموجبة ، لا إيجاب لعدمه من عدم علته ، كما لا تأثير من عدم علته في عدمه ، فالممكن مع إمكان وجوده بوجود علته يكون معدوما لعدم علته فوجوب عدمه عبارة عن ضرورة عدم انفكاك العدم عن العدم ، لا ضرورة عدم حاصل فيه بإيجاب من موجب ، وبخلاف وجوب وجوده فوجوب الوجود من الفاعل لا يجامع الإمكان بمعنى عدم ضرورة نسبة الوجود ومقابله إلى الماهية ولو بإيجاب من الموجب ، ولزوم العدم يجامع الإمكان بمعنى عدم ضرورة أحدهما للماهية ولو بإيجاب موجب ، ومرجع هذا اللزوم إلى ما هو بمنزلة الوجوب اللاحق ، فالممكن بإمكانه مجردا من إيجاب موجب إنما يكون معدوما وهذا الإمكان مصحح الطلب.

والحاصل أن مناط الوجود للممكن ، الوجوب الحاصل لوجوده من علته الموجبة أي إيجابها إياه ، ومناط العدم للممكن عدم إيجاب موجب إياه لا إيجاب موجب لعدمه ، وإذا كان المعدوم يمكن وجوده بموجبه صح طلب إيجاده بإيجابه بموجبه ، وطلب الكف عن إيجاده بعدم إيجابه بموجبه ، وكذا لزوم عدم إرادة الفاعل لعدم أسبابها لا ينافي الأمر بإرادته « انتهى ».

ولعل المراد بالإذن رفع الموانع التي من جملتها تعلق الإرادة الحتمية من الله تعالى بضده.


آخذين ولا تاركين إلا بإذن الله.

______________________________________________________

والحق أن تأثير جميع المؤثرات مشروطة بذلك كإحراق النار فإنه مشروط بعدم تعلق إرادته سبحانه بعدمه ، فإذا تعلقت لم تؤثر كما لم تحرق إبراهيم عليه‌السلام ، وتأثير السيف في قطع اللحم وشبهه مشروط بذلك ، فكما أن الإحراق والقطع مشروطان بشرائط كثيرة من قابلية المادة ومجاورة المؤثر وغيرهما فكذا مشروطان بعدم تعلق الإرادة الحتمية من ذي القدرة القاهرة والقوة الغالبة بخلافهما ، ولا يتأتى التصديق بمعجزات الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم إلا بذلك ، وبه يستقيم مدخلية إرادة الله سبحانه في أعمال العباد مع اختيارهم ، وهو المراد بالتخلية.

أقول : وروى الشيخ أحمد الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام أن أبا الحسن موسى عليه‌السلام قال : إن الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه ، فأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به ، وما نهاهم عنه من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه ، وما جبر الله أحدا على معصيته ، بل اختبرهم كما قال : « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » (١).

قوله عليه‌السلام : ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه ، أي بتخليته وعلمه « انتهى » والظاهر أن التفسير من المؤلف (ره).

أقول : ويومي إلى ما ذكرنا ما ذكره الشيخ السعيد المفيد في كتاب المقالات حيث قال : إن الإرادة التي هي قصد الإيجاد أحد الضدين الخاطرين ببال المريد موجبة لمرادها ، وأنه محال وجودها وارتفاع المراد بعدها بلا فصل ، إلا أن يمنع من ذلك من فعل غير المريد ، وهذا مذهب جعفر بن حرب وجماعة من متكلمي البغداديين وهو مذهب البلخي ، وعلى خلافه مذهب الجبائي وابنه والبصريين من المعتزلة والحشوية وأهل الأخبار.

__________________

(١) سورة الملك : ٢.


٦ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن حفص بن قرط ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ـ ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله فقد كذب على الله ومن كذب على الله أدخله الله النار.

٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن عثمان بن عيسى ، عن

______________________________________________________

وقال الشيخ أبو علي الطبرسي رحمه‌الله : في قوله تعالى : « وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ » (١) اختلفوا في تفسير الإذن على أقوال : « الأول » أن يكون الإذن هو الأمر أي يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا تموت أحد إلا بهذا الأمر « الثاني » أن المراد به الأمر التكويني كقوله : « أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (٢) ولا يقدر على الحياة والموت أحد إلا الله « الثالث » أن يكون الإذن هو التخلية والإطلاق ، وترك المنع بالقهر والإجبار ، وبه فسر قوله تعالى : « وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ » (٣) أي بتخليته ، فإنه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر « الرابع » أن يكون الإذن بمعنى العلم ومعناه إن نفسا لا تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه.

« الخامس » قال ابن عباس : الإذن هو قضاء الله وقدره ، فإنه لا يحدث شيء إلا بمشية الله وإرادته.

الحديث السادس : مجهول.

قوله : بغير مشية الله ، أي التخلية وعدم تعلق الإرادة الحتمية بخلافه ، فإن من زعم استقلال الخلق وعدم قدرته تعالى على صرفهم عن أفعالهم ، وعدم مدخليته سبحانه في أعمالهم بوجه فقد أخرج الله من سلطانه ، وعزله عن التصرف في ملكه.

الحديث السابع : مرسل.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٥.

(٢) سورة يس : ٨٢.

(٣) سورة البقرة : ١٠٢.


إسماعيل بن جابر قال كان في مسجد المدينة رجل يتكلم في القدر والناس مجتمعون قال فقلت يا هذا أسألك قال سل قلت يكون في ملك الله تبارك وتعالى ما لا يريد قال فأطرق طويلا ثم رفع رأسه إلي فقال لي يا هذا لئن قلت إنه يكون في ملكه ما لا يريد إنه لمقهور ولئن قلت لا يكون في ملكه إلا ما يريد أقررت لك بالمعاصي قال فقلت لأبي عبد الله عليه‌السلام سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا وكذا فقال لنفسه نظر أما لو قال غير ما قال لهلك.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن الحسن زعلان ، عن أبي طالب القمي ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت أجبر الله العباد على المعاصي قال لا قلت ففوض إليهم الأمر قال قال لا قال قلت فما ذا قال لطف من ربك بين ذلك.

______________________________________________________

قوله : أقررت لك بالمعاصي ، أي جوزت لك فعل المعاصي ، إذ ليس لك فيها اختيار وهي بإرادته سبحانه ، أو أقررت لك بأن المعاصي بإرادته تعالى.

قوله عليه‌السلام : لنفسه نظر ، أي تأمل واحتاط لنفسه ، حيث لم يحكم بما يوجب هلاكه من القول بالقدر الذي هو مذهبه ، أو نفي مذهبه ، ومذهب الجبرية أيضا وإن لم يفهم الواسطة ، ويمكن أن يكون تفطن بالواسطة عند الإلزام عليه.

الحديث الثامن : مرسل.

قوله : أجبر الله ، الهمزة للاستفهام.

قوله عليه‌السلام : لطف من ربك ، أي رحمة وتوفيق ، وقيل : أمر دقيق لا تصل إليه العقول ، وهو الأمر بين الأمرين ، والظاهر أنه غير اللطف الذي هو مصطلح المتكلمين بل ما قررنا سابقا وسيأتي مزيد توضيح له ، واللطف على اصطلاح المتكلمين هو ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية ، ولا حظ له في التمكين ، ولا يبلغ الإلجاء ومتكلمو الإمامية والمعتزلة اتفقوا على وجوبه على الله عقلا وخالفهم في ذلك الأشاعرة وقالوا بعدم وجوبه.


______________________________________________________

واستدل المثبتون عليه بأن اللطف مما يتوقف عليه غرض المكلف من المكلف وكل ما يتوقف عليه الغرض يكون واجبا ، أما الأولى فظاهر ، لأن غرض المكلف من المكلف إيقاعه ما كلف به ، وهو يتوقف على كل ما يقر به إلى فعله ويبعده عن تركه ، وأما الثانية فلأن المريد من غيره فعلا من الأفعال إذا علم المريد أن المراد منه لا يفعل الفعل المطلوب إلا بفعل يفعله المريد مع المراد منه من نوع ملاطفة أو مكاتبة أو سعى إليه أو إرسال من غير مشقة عليه في ذلك لو لم يفعل ما يتوقف عليه إيقاع ذلك الفعل منه ، مع تصميم إرادته إيقاعه منه ، لكان هذا المريد ناقضا لغرضه عند العقلاء ، ونقض الغرض قبيح لذم العقلاء على ذلك ، وإذا أردنا تمشية هذا التقرير في حقه سبحانه ، قلنا : إنه كلف العباد بالأوامر والنواهي فكان غرضه من التكليف المذكور إيقاع الطاعة وارتفاع المعصية من المكلفين ، فإذا علم أنهم لا يفعلون ذلك إلا بفعل يفعله بهم بحيث يحصل به تقريبهم إلى إيقاع ذلك منهم ، لو لم يفعل ذلك مع توقف غرضه عليه كان ناقضا لغرضه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فوجب في حكمته تعالى وعنايته فعل الألطاف المقربة للمكلفين إلى فعل الطاعات المبعدة لهم عن المعاصي وهو المطلوب.

ثم إن هذه الألطاف تكون من فعله تعالى خاصة كإرسال الرسل ونصب الأئمة وإظهار المعجزات على أيدي الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، فيجب عليه فعل ذلك ، وقد يكون من فعل المكلفين كأتباعهم الرسل وطاعتهم الأئمة وامتثالهم لأوامرهم ، والانتهاء عند نواهيهم فيجب عليه إعلامهم بذلك وإيجابه عليهم ليتم الامتثال ويحصل القول ، ويستكمل الألطاف ، وقد يكون من فعل غيرهما كقبول الرسل للرسالة ، وتحمل الإمام للإمامة ، وقيامهما بأعبائهما ، فيجب عليه في ذلك الإيجاب على ذلك الغير وإثابته عليه ، لأن تكليف شخص لنفع غيره من غير نفع له قبيح عقلا.

أقول : هذا هو اللطف الذي أوجبه أصحابنا ، ويشكل الجزم بوجوب كل لطف


٩ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن غير واحد ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام قالا إن الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون قال فسئلا عليهما السلام هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة قالا نعم أوسع مما بين السماء والأرض.

١٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن صالح بن سهل ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سئل عن الجبر والقدر

______________________________________________________

بالنسبة إلى كل مكلف ، نعم لا بد من الألطاف التي لا يصح التكليف عقلا بدونها كالإعلام والأقدار والتمكين ورفع الموانع التي ليس رفعها في وسع المكلف ، وأما وجوب كل ما يقرب إلى الطاعة ويبعد عن المعصية فيشكل القول بوجوبها ، بل الظاهر عدم تحقق كثير من الألطاف الغير المفضية إلى حد الإلجاء كابتلاء أكثر المرتكبين للمعاصي مقارنا لفعلهم ببلاء ، وإيصال نفع عاجل بأكثر المطيعين ، وتواتر الأنبياء والمرسلين والحجج في كل أرض وصقع ، وأيضا فحينئذ لا معنى للخذلان الذي يدل عليه كثير من الأخبار ، إذ مع علمه تعالى بعدم نفع اللطف لا تأثير للخذلان في الفعل والترك ، ومع النفع يفوت اللطف ، ونقض الغرض إنما يتحقق إذا كان الغرض فعل المكلف به ، ولعل الغرض تعريضهم للثواب والعقاب ، وليس هذا مقام بسط الكلام في تلك المسائل ، وإنما نشير إلى ما ظهر لنا من الأخبار في كل منها.

الحديث التاسع : مرسل كالصحيح.

قوله عليه‌السلام : والله أعز ، أي إنما قدروا على الفعل لأن الله سبحانه خلى بينهم وبين إرادتهم ، ولو أراد غيره حتما لصرفهم إذ هو سبحانه أعز من أن يريد أمرا حتما ثم لا يكون ذلك الأمر ، وهذا الخبر أيضا يدل على أن القدرية المفوضة.

الحديث العاشر : ضعيف.


فقال لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو من علمها إياه العالم.

______________________________________________________

قوله : التي بينهما ، مبتدأ « لا يعلمها » خبره ، أشار عليه‌السلام إلى دقة المنزلة بين المنزلتين وغموضها ، كما يظهر لمن تأمل فيها ، فإنها أصعب المسائل الدينية ، وقد تحير فيها العلماء من كل فرقة ، قال إمامهم الرازي : حال هذه المسألة عجيبة فإن الناس كانوا فيها مختلفين أبدا بسبب أن ما يمكن الرجوع إليه فيها متعارضة متدافعة ، فمعول الجبرية على أنه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد ، ومعول القدرية على أن العبد لو لم يكن قادرا على فعله لما حسن المدح والذم والأمر والنهي ، وهما مقدمتان بديهيتان.

ثم من الدلائل العقلية اعتماد الجبرية على أن تفاصيل أحوال الأفعال غير معلومة للعبد ، واعتماد القدرية على أن أفعال العباد واقعة على وفق قصودهم ودواعيهم وهما متعارضان ، ومن الإلزامات الخطابية أن القدرة على الإيجاد كما لا يليق بالعبد الذي هو منبع النقصان ، فإن أفعال العباد يكون سفها وعبثا فلا يليق المتعالي عن النقصان ، وأما الدلائل السمعية فالقرآن مملوء مما يوهم بالأمرين ، وكذا الآثار وأن أمة من الأمم لم تكن خالية من الفرقتين ، وكذا الأوضاع والحكايات متدافعة من الجانبين ، حتى قيل : إن وضع النرد على الجبر ووضع الشطرنج على القدر ، إلا أن مذهبنا أقوى بسبب أن القدح في قولنا لا يترجح الممكن إلا بمرجح [ لا ] يوجب انسداد باب إثبات الصانع.

ونحن نقول : الحق ما قال بعض أئمة الدين : أنه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ، وذلك لأن مبني المبادئ القريبة لأفعال العبد على قدرته واختياره ، والمبادئ البعيدة على عجزه واضطراره ، فإن الإنسان مضطر في صورة مختار ، كالقلم في يد الكاتب ، والوتد في شق الحائط ، وفي كلام بعض العقلاء : قال الحائط للوتد : لم تشقني؟ قال : سل من يدقني « انتهى » وإنما أوردت كلامه لبيان حيرتهم واعترافه بالأمر بين الأمرين ، وإن لم يبين معناه على وجه يرفع الإشكال من البين.


١١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد ، عن يونس ، عن عدة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال له رجل جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي فقال الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها فقال له جعلت فداك ففوض الله إلى العباد ـ قال فقال لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر والنهي فقال له جعلت فداك فبينهما منزلة قال فقال نعم أوسع ما بين السماء والأرض.

١٢ ـ محمد بن أبي عبد الله وغيره ، عن سهل بن زياد ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام إن بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة قال فقال لي اكتب « بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » قال علي بن الحسين قال الله عز وجل يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء وبقوتي أديت إلي

______________________________________________________

الحديث الحادي عشر : مرسل كالصحيح.

ويظهر منه أن التفويض هو إهمال العباد وعدم توجه الأمر والنهي إليهم ، ولذا قال بعضهم : التفويض غير معنى القدر والجبر المقابل لكل منهما معنى آخر ، وأقول : يحتمل أن يكون المراد لو كان أهملهم بعد الأمر والنهي ولم يوجه إليهم الألطاف والتوفيقات ، لكان إهمالهم مطلقا أولى ، والحاصل أن أمرهم ونهيهم وإرسال الرسل إليهم دليل على أنه سبحانه متوجه إلى إصلاحهم ، معتن بشأنهم ليوصلهم إلى ما يستحقونه من الدرجات ، وإهمالهم حينئذ ينافي ذلك الغرض ، فيكون قريبا من دليل اللطف المتقدم ، وقيل : أي لم يحصرهم بسلطنته وملكه ويلزم خروجهم باعتبار التفويض من سلطان الله تعالى ، ولما كانت السلطنة علة للأمر والنهي فعبر عنها بهما مجازا تسمية للسبب باسم المسبب ، ولا يخفى بعده ، وقيل : أي التفويض مستلزم للعجز ، والعاجز غير قابل للربوبية والأمر والنهي ، وهو قريب من الأول مضمونا وبعدا.

الحديث الثاني عشر : ضعيف على المشهور ، والاستطاعة تطلق على ثلاثة معان « الأول » القدرة الزائدة على ذات القادر « الثاني » آلة تحصل معها القدرة على الشيء


فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا « ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ » وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني وذلك أني لا أسأل عما أفعل « وَهُمْ يُسْئَلُونَ » قد نظمت لك كل شيء تريد.

١٣ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن حسين بن محمد ، عن محمد بن يحيى عمن حدثه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين قال قلت وما أمر بين أمرين قال مثل ذلك رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته فتركته ففعل تلك المعصية ـ فليس حيث لم يقبل منك فتركته كنت أنت الذي أمرته بالمعصية.

١٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن علي بن الحكم ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال الله أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون والله أعز من أن يكون في سلطانه ما لا يريد.

______________________________________________________

كالزاد والراحلة وتخلية السرب وصحة البدن في الحج « الثالث » التفويض مقابل الجبر وهو المراد ههنا ، وقوله : قد نظمت ، كلام الرضا عليه‌السلام ويحتمل السجاد عليه‌السلام أيضا لكنه بعيد ، وقد مر الكلام في الخبر في باب المشية والإرادة.

الحديث الثالث عشر : مرسل ويدل على أن الأمر بين الأمرين هو مدخليته سبحانه في أعمال العباد بالتوفيق والخذلان كما سيأتي.

الحديث الرابع عشر : صحيح.

قوله عليه‌السلام : ما لا يطيقون ، أي ما لا يكون الإتيان به مقدورا لهم ، ويكونون مجبورين على خلافه كما تقوله الجبرية.

قوله : ما لا يريده ، أي ولو بالعرض كما مر أو يريد خلافه.

فذلكة

اعلم أن مسألة خلق الأعمال من أعظم المسائل الإسلامية وأصعبها وأهمها ، وقد جرى بين الإمامية والمعتزلة والأشاعرة في ذلك مناقشات طويلة ومباحثات كثيرة ،


______________________________________________________

وقد صنع أكثرهم في ذلك رسائل مفردة ، والذي يتحصل من مذاهبهم أن أفعال العباد دائرة بحسب الاحتمال العقلي بين أمور :

الأول : أن يكون حصولها بقدرة الله وإرادته من غير مدخل لقدرة العبد فيه وإرادته.

الثاني : أن يكون بقدرة العبد وإرادته من غير مدخل لقدرة الله تعالى وإرادته فيه ، أي بلا واسطة ، إذ لا ينكر عاقل أن الأقدار والتمكين مستندان إليه تعالى ، إما ابتداء أو بواسطة.

الثالث : أن يكون حصولها بمجموع القدرتين ، وذلك بأن يكون المؤثر قدرة الله بواسطة قدرة العبد أو بالعكس ، أو يكون المؤثر مجموعها من غير تخصيص إحداهما بالمؤثرية ، والأخرى بالآلية ، وذهب إلى كل من تلك الاحتمالات ما خلا الاحتمال الثاني من محتملات الشق الثالث طائفة.

أما الأول ففيه قولان : « الأول » مذهب الجبرية البحتة وهم جهم بن صفوان وأتباعه ، حيث ذهبوا إلى أن الفعل من الله سبحانه بلا تأثير لإرادة العبد وقدرته فيه ولا كسب ، بل لا فرق عندهم بين مشي زيد وحركة المرتعش ، ولا بين الصاعد إلى السطح والساقط منه ، « والثاني » مذهب أبي الحسن الأشعري وأتباعه فإنهم لما رأوا شناعة قول الجهمية فروا منه بما لا ينفعهم وقالوا : أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله وحده ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنه يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد ، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له ، وقالوا : نسبة الفعل إلى العبد باعتبار قيامه به لا باعتبار إيجاده له ،


______________________________________________________

فالقائم والآكل والشارب عندهم بمنزلة الأسود والأبيض.

والثاني وهو استقلال العبد في الفعل مذهب أكثر الإمامية والمعتزلة ، فإنهم ذهبوا إلى أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرتهم ، لكن أكثر المعتزلة قائلون بوجوب الفعل بعد إرادة العبد ، وبعضهم قالوا : بعدم وجوب الفعل بل يصير أولى ، قال المحقق الطوسي قدس‌سره : ذهب مشايخ المعتزلة وأبو الحسين البصري وإمام الحرمين من أهل السنة إلى أن العبد له قدرة قبل الفعل وإرادة بها تتم مؤثريته ، فيصدر عنه الفعل ، فيكون العبد مختارا إذ كان فعله بقدرته الصالحة للفعل والترك ، وتبعا لداعيه الذي هو إرادته ، والفعل يكون بالقياس إلى القدرة وحدها ممكنا وبالقياس إليها مع الإرادة يصير واجبا ، وقال المحمود الملاحمي وغيره من المعتزلة : إن الفعل عند وجود القدرة والإرادة يصير أولى بالوجود حذرا من أن يلزمهم القول بالجبر لو قالوا بالوجوب ، وليس ذلك بشيء لأن مع حصول الأولوية إن جاز له الطرف الآخر لما كانت الأولوية بأولوية ، وإن لم يجز فهو الواجب وإنما غيروا اللفظ دون المعنى « انتهى ».

واختلف في نسبة احتمالي الشق الثالث وتحقيقهما ، ففي المواقف وشرحه : أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ، وقالت المعتزلة : بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار ، وقالت طائفة بالقدرتين ، ثم اختلفوا فقال الأستاد ، يعني أبا إسحاق الإسفرائيني : بمجموع القدرتين ، على أن تتعلقا جميعا بالفعل نفسه وجوز اجتماع المؤثرين على أثر واحد ، وقال القاضي ، يعني الباقلاني : على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته أعني كونه طاعة ومعصية ، إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا يوصف بها أفعاله تعالى كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله وتأثيره ، وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره ، وقالت الحكماء وإمام الحرمين : هي واقعة على سبيل


______________________________________________________

الوجوب وامتناع التخلف بقدرة يخلقها الله في العبد إذا قارنت حصول الشرائط وارتفاع الموانع ، والضابط في هذا المقام أن المؤثر إما قدرة الله أو قدرة العبد على الانفراد كمذهبي الأشعري وجمهور المعتزلة ، أو هما معا وذلك إما مع اتحاد المتعلقين كمذهب الأستاد منا والنجار من المعتزلة ، أو دونه وحينئذ فإما مع كون إحداهما متعلقة للأخرى ، ولا شبهة في أنه ليس قدرة الله متعلقة لقدرة العبد ، إذ يستحيل تأثير الحادث في القديم ، فتعين العكس وهو أن تكون قدرة العبد صادرة عن قدرة الله وموجبة للفعل ، وهو قول الإمام والفلاسفة ، وإما بدون ذلك وهو مذهب القاضي لأن المفروض عدم اتحاد المتعلقين « انتهى ».

واعترض عليه المولى جمال الدين محمود وغيره : بأن جعل المذهب المنسوب إلى الإمام والفلاسفة كون المؤثر مجموع القدرتين دون مذهب المعتزلة تحكم بحت إذ لا فرق بين هذين المذهبين في أن المؤثر الحقيقي في الفعل هو قدرة العبد ، وتلك القدرة الحادثة مخلوقة للقدرة القديمة الإلهية ، ثم قال : الصواب في الضبط أن يقال المؤثر إما قدرة الله تعالى وحدها وهو مذهب الشيخ الأشعري ، وإما قدرة العبد وحدها وهو مذهب جمهور المعتزلة والإمام والفلاسفة ، وإما هما معا أما مع اتحاد المتعلقين وهو مذهب الأستاد ، أو بدون ذلك بأن تتعلق القدرة القديمة بنفس الفعل والحادثة بصفته ، وهو مذهب القاضي « انتهى ».

ثم اعلم أن هذا المذهب الذي نسبوا إلى الحكماء من أن العلة القريبة للفعل الاختياري إنما هو العبد وقدرته ، لكن قدرته مخلوقة لله وإرادته حاصلة بالعلل المترتبة منه تعالى قول بعضهم ، وقال جم غفير منهم : لا مؤثر في الوجود إلا الله ، وموجد أفعال العباد هو الله سبحانه ، وقالوا : إن الفعل كما يسند إلى الفاعل كإسناد البناء إلى البناء قد يسند إلى الشرط كإسناد الإضاءة إلى الشمس والسراج مثلا فبعض الأفعال الصادرة عن الطبائع النوعية كالحركات الطبيعية والقسرية والأفعال


______________________________________________________

الاختيارية للإنسان وغيره بل الأفعال الصادرة عن النفوس الفلكية والعقول المجردة بناء على القول بوجودهما ، فكل من هذه الأمور لا سيما إرادة النفوس الحيوانية والإنسانية والفلكية بل العقول مع عدم المانع شرط وواسطة لصدور تلك الأفعال من مفيض الوجود ، وإسنادها إلى تلك المبادئ من قبيل إسناد الفعل إلى الشرائط والوسائط ، لا إلى الفاعل والموجد ، وهذا قريب من مذهب الأشاعرة.

إذا عرفت هذه المذاهب فاعلم أن تأثير قدرة العبد وإرادته في الأفعال الاختيارية من أجلى البديهيات وسخافة مذاهب الأشاعرة ومن يحذو حذوهم لا يحتاج إلى بيان وبطون الأوراق والصحف والزبر من علمائنا والمخالفين مشحونة بذلك.

قال العلامة الحلي قدس الله روحه : الإمامية قسموا الأفعال إلى ما يتعلق بقصودنا ودواعينا وإرادتنا واختيارنا بحركتنا الاختيارية الصادرة عنا ، كالحركة يمنة ويسرة ، وإلى ما لا يتعلق بقصودنا ودواعينا وإرادتنا واختيارنا كالآثار التي فعلها الله تعالى من الألوان وحركة النمو والتغذية والنبض وغير ذلك ، وهو مذهب الحكماء ، والحق أنا نعلم بالضرورة أنا فاعلون ، يدل عليه العقل والنقل ، أما العقل فإنا نعلم بالضرورة الفرق بين حركتنا الاختيارية والاضطرارية وحركة الجماد ونعلم بالضرورة قدرتنا على الحركة الأولى كحركتنا يمنة ويسرة ، وعجزنا عن الثانية كحركتنا إلى السماء وحركة الواقع من شاهق ، وانتفاء قدرة الجماد ، ومن أسند الأفعال إلى الله تعالى ينفي الفرق بينهما ، ويحكم بنفي ما قضت الضرورة بثبوته ، وقال أبو الهزيل العلاف : ـ ونعم ما قال ـ حمار بشر أعقل من بشر ، فإن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنه يظفر ، ولو أتيت به إلى جدول كبير وضربته فإنه لا يظفر ويروع عنه ، لأنه فرق بين ما يقدر عليه وبين ما لا يقدر عليه وبشر لا يفرق بين المقدور له وغير المقدور له « انتهى ».

وإذا كان الحكم بذلك ضروريا فالشبه الموردة في مقابلة ذلك لا يصغي إليها


______________________________________________________

وإن كانت قوية ، وكثير من أحوال الإنسان وأموره إذا أمعن النظر فيها يصل إلى حد يتحير العقل فيها ، كحقيقة النفس وكيفية الإبصار مع كونهما أقرب الأشياء إليه ، لا يمكنه الوصول إلى حقيقة ذلك ، وينتهي التفكر فيها إلى حد التحير وليس ذلك سببا لأن ينفي وجودهما وتحققهما فيه ، ولا نطيل الكلام بإيراد الدلائل ودفع الشبهات ، فإن هذا الكتاب ليس محل إيرادها ، وإنما نومئ إلى بعض مسائل الكلامية إجمالا لتوقف فهم الأخبار التي نحن بصدد شرحها عليه.

ثم اعلم أن الحق أن المعتزلة أيضا خرجوا من الحق للإفراط من الجانب الآخر ، فإنهم يذهبون إلى أنه تعالى لا مدخلية له في أعمال العباد أصلا ، سوى خلق الآلات والتمكين والأقدار حتى أن بعض المعتزلة قالوا : إن الله لا يقدر على عين مقدور العبد ، وبعضهم قالوا : لا يقدر على مثله أيضا ، فهم عزلوا الله عن سلطانه ، وكأنهم أخرجوا الله من ملكه وأشركوا من حيث لا يعلمون ، والأخبار الواردة ينفي مذهب هؤلاء وذمهم أكثر من الأخبار الدالة على ذم الجبرية ونفي مذهبهم ، وفي أكثر الأخبار أطلقت القدرية عليهم كما عرفت ، وأطلقوا عليهم المفوضة ، فهم عليه‌السلام نفوا وأبطلوا الجبر والتفويض معا ، وأثبتوا الأمر بين الأمرين وهو أمر غامض دقيق.

وللناس في تحقيق ذلك مسالك :

الأول : ما ذكره الشيخ الأجل المفيد طيب الله رمسه حيث قال في تحقيق الأمر بين الأمرين : الجبر هو الحمل على الفعل والاضطرار إليه بالقسر والغلبة ، وحقيقة ذلك إيجاد الفعل في الخلق من غير أن تكون له قدرة على دفعه ، والامتناع من وجوده فيه ، وقد يعبر عما يفعله الإنسان بالقدرة التي معه على وجه الإكراه له على التخويف والإلجاء أنه جبر ، والأصل فيه ما فعل من غير قدرة على امتناعه منه حسبما قدمناه ، وإذا تحقق القول في الجبر على ما وصفناه ، كان مذهب أصحاب المخلوق هو بعينه لأنهم يزعمون الله تعالى خلق في العبد الطاعة من غير أن يكون


______________________________________________________

للعبد قدرة على ضدها ، والامتناع منها ، وخلق فيه المعصية كذلك ، فهم المجبرة حقا والجبر مذهبهم على التحقيق ، والتفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال والإباحة لهم مع ما شاءوا من الأعمال ، وهذا قول الزنادقة وأصحاب الإباحات والواسطة بين القولين أن الله أقدر الخلق على أفعالهم ومكنهم من أعمالهم وحد لهم الحدود في ذلك ورسم لهم الرسوم ، ونهاهم عن القبائح بالزجر والتخويف ، والوعد والوعيد ، فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبرا لهم عليها ، ولم يفوض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها ، ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها ، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض « انتهى » وأقول هذا معنى حق لكن تنزيل الأخبار عليه لا يخلو من بعد.

الثاني : ما ذكره بعض السالكين مسلك الفلاسفة حيث قال : فعل العبد واقع بمجموع القدرتين والإرادتين ، والتأثيرين من العبد ومن الرب سبحانه ، والعبد لا يستقل في إيجاد فعله بحيث لا مدخل لقدرة الله فيه أصلا ، بمعنى أنه أقدر العبد على فعله بحيث يخرج عن يده أزمة الفعل المقدور للعبد مطلقا ، كما ذهب إليه المفوضة أو لا تأثير لقدرته فيه وإن كان قادرا على طاعة العاصي جبرا ، لعدم تعلق إرادته بجبره في أفعاله الاختيارية كما ذهب إليه المعتزلة ، وهذا أيضا نحو من التفويض ، وقول بالقدر وبطلانه ظاهر ، كيف ولقدرة خالق العبد وموجده تأثير في فعل العبد بلا شبهة كما يحكم به الحدس الصائب ، وليس قدرة العبد بحيث لا تأثير له في فعله أصلا سواء كانت كاسبة كما ذهب إليه الأشعري ، ويؤول مذهبه إلى الجبر كما يظهر بأدنى تأمل أم لا تكون كاسبة أيضا بمعنى أن لا تكون له قدرة واختيار أصلا بحيث لا فرق بين مشي زيد وحركة المرتعش كما ذهب إليه الجبرية وهم الجهمية ، وقال : هذا معنى الأمر بين الأمرين ، ومعنى قول الحكماء الإلهيين : لا مؤثر في الوجود إلا الله ، فمعناه أنه لا يوجد شيء إلا بإيجاده تعالى وتأثيره في وجوده ، بأن يكون فاعلا قريبا له ،


______________________________________________________

سواء كان بلا مشاركة تأثير غيره فيه كما في أفعاله سبحانه كخلق زيد مثلا ، أو بمشاركة تأثير غيره فيه كخلقه فعل زيد مثلا ، فجميع الكائنات حتى أفعال العباد بمشيته تعالى وإرادته وقدره ، أي تعلق إرادته وقضاؤه ، أي إيجاده وتأثيره في وجوده ، ولما كانت مشية العبد وإرادته وتأثيره في فعله بل تأثير كل واحد من الأمور المذكورة آنفا في أفعاله جزءا أخيرا للعلة التامة لأفعاله ، وإنما يكون تحقق الفعل والترك مع وجود ذلك التأثير وعدمه فينتفي صدور القبيح عن الله تعالى ، بل إنما يتحقق بالمشية والإرادة الحادثة ، وبالتأثير من العبد الذي هو متمم للعلة التامة ، ومع عدم تأثير العبد والكف عنه بإرادته واختياره لا يتحقق فعله بمجرد مشية الله تعالى وإرادته وقدره ، بل لا يتحقق مشية وإرادة وتعلق إرادة منه تعالى بذلك الفعل ، ولا يتعلق جعله وتأثيره في وجود ذلك الفعل مجردا عن تأثير العبد فحينئذ الفعل لا سيما القبيح مستند إلى العبد ، ولما كان مراده تعالى من إقدار العبد في فعله وتمكينه له فيه صدور الأفعال عنه باختياره وإرادته ، إذا لم يكن مانع أي فعل أراد واختار من الإيمان والكفر والطاعة والمعصية ، ولم يرد منه خصوص شيء من الطاعة والمعصية ، ولم يرد جبره في أفعاله ليصح تكليفه لأجل المصلحة المقتضية له ، ولا يعلم تلك المصلحة إلا الله تعالى وكلفه بعد ذلك الأقدار بإعلامه بمصالح أفعاله ومفاسده في صورة الأمر والنهي ، لأنهما من الله تعالى من قبيل أمر الطبيب للمريض بشرب الدواء النافع ، ونهيه عن أكل غذاء الضار ، وذلك ليس بأمر ونهي حقيقة ، بل إعلام بما هو نافع وضار له ، فمن صدور الكفر والعصيان عن العبد بإرادته المؤثرة واستحقاقه بذلك العقاب ، لا يلزم أن يكون العبد غالبا عليه تعالى ، ولا يلزم عجزه تعالى ، كما لا يلزم غلبة المريض على الطبيب ، ولا عجز الطبيب إذا خالفه المريض وهلك ، ولا يلزم أن يكون في ملكه أمر لا يكون بمشيته تعالى وإرادته ، ولا يلزم الظلم في عقابه ، لأنه فعل القبيح بإرادته المؤثرة ، وطبيعة ذلك الفعل توجب أن يستحق فاعله العقاب ،


______________________________________________________

ولما كان مع ذلك الإعلام من الأمر والنهي بوساطة الحجج البينة اللطف والتوفيق في الخيرات والطاعات من الله جل ذكره ، فما فعل الإنسان من حسنة فالأولى أن يسند وينسب إليه تعالى ، لأن مع أقداره وتمكينه له وتوفيقه للحسنات أعلمه بمصالح الإتيان بالحسنات ، ومضار تركها والكف عنها بأوامره ، وما فعله من سيئة فمن نفسه ، لأنه مع ذلك أعلمه بمفاسد الإتيان بالسيئات ومنافع الكف عنها بنواهيه وهذا من قبيل إطاعة الطبيب ومخالفته ، فإنه من أطاعه وبريء من المرض يقال له : عالجه الطبيب وصيره صحيحا ، ومن خالفه وهلك يقال له : أهلك نفسه بمخالفته للطبيب ، فظهر إسناد الحسنات إلى الله تعالى وإسناد السيئات إلى العبد ، فهذا معنى الأمر بين الأمرين وينطبق عليه الآيات والأخبار من غير تكلف « انتهى » وهذا المحقق وإن بالغ في التدقيق والتوفيق بين الأدلة لكن يشكل القول بتأثيره سبحانه في القبائح والمعاصي مع مفاسد أخر ترد عليه ، ذكرها يفضي إلى الإطناب.

الثالث : ما ذكره أيضا أكثر السالكين مسلك الفلاسفة ونسب إلى المحقق الطوسي أيضا حيث قالوا : قد ثبت أن ما يوجد في هذا العالم فقد قدر بهيئته وزمانه في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده ، وقد ثبت أن الله تعالى قادر على جميع الممكنات ولم يخرج شيء من الأشياء عن مصلحته وعلمه وقدرته وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة وإلا لم يصلح لمبدئية الكل ، فالهداية والضلال والإيمان والكفر والخير والشر والنفع والضرر وسائر المتقابلات كلها منتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإرادته ومشيته بالذات أو بالعرض ، وأفعالنا كسائر الموجودات وأفاعيلها بقضائه وقدره وهي واجبة الصدور بذلك منا ، ولكن بتوسط أسباب وعلل من إدراكنا وإرادتنا وحركاتنا وسكناتنا وغير ذلك من الأسباب العالية الغائبة عن علمنا ، وتدبيرنا الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا ، فاجتماع تلك الأمور التي هي الأسباب والشرائط مع ارتفاع الموانع علة تامة يجب عندها وجود ذلك الأمر المدبر والمقضي المقدر ، وعند تخلف شيء


______________________________________________________

منها أو حصول مانع بقي وجوده في حيز الامتناع ، ويكون ممكنا وقوعيا بالقياس إلى كل واحد من الأسباب الكونية.

ولما كان من جملة الأسباب وخصوصا القريبة منها إرادتنا وتفكرنا وتخيلنا وبالجملة ما نختار به أحد طرفي الفعل والترك فالفعل اختياري لنا فإن الله أعطانا القوة والقدرة والاستطاعة ليبلونا أينا أحسن عملا ، مع إحاطة علمه ، فوجوبه لا ينافي إمكانه واضطراريته لا تدافع كونه اختياريا كيف وأنه ما وجب إلا باختياره ولا شك أن القدرة والاختيار كسائر الأسباب من الإدراك والعلم والإرادة والتفكر والتخيل وقواها وآلاتها كلها بفعل الله تعالى لا بفعلنا واختيارنا ، وإلا لتسلسلت القدر والإرادات إلى غير النهاية ، وذلك لأنا وإن كنا بحيث إن شئنا فعلنا ، وإن لم نشأ لم نفعل ، لكنا لسنا بحيث إن شئنا شئنا ، وإن لم نشأ لم نشأ ، بل إذا شئنا فلم تتعلق مشيتنا بمشيتنا بل بغير مشيتنا فليست المشية إلينا ، إذ لو كانت إلينا أإلى مشية أخرى سابقه ، وتسلسل الأمر إلى غير النهاية ، ومع قطع النظر عن استحالة التسلسل نقول : مشياتنا الغير المتناهية بحيث لا تشذ عنها مشية لا يخلو إما أن يكون وقوعها بسبب أمر خارج عن مشيتنا أو بسبب مشيتنا ، والثاني باطل لعدم إمكان مشية أخرى خارجة عن تلك الجملة ، والأول هو المطلوب ، فقد ظهر أن مشيتنا ليست تحت قدرتنا كما قال الله عز وجل : « وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ » (١) فإذن نحن في مشيتنا مضطرون وإنما تحدث المشية عقيب الداعي ، وهو تصور الشيء الملائم تصورا ظنيا أو تخيليا أو علميا ، فإذا أدركنا شيئا فإن وجدنا ملائمته أو منافرته لنا دفعة بالوهم أو ببديهة العقل انبعث منا شوق إلى جذبه أو دفعه ، وتأكد هذا الشوق هو العزم الجازم المسمى بالإرادة ، وإذا انضمت إلى القدرة التي هي هيئة للقوة الفاعلة انبعثت تلك القوة لتحريك الأعضاء الأدوية من العضلات وغيرها ،

__________________

(١) سورة الإنسان : ٣٠.


______________________________________________________

فيحصل الفعل فإذا تحقق الداعي للفعل الذي تنبعث منه المشية تحققت المشية ، وإذا تحققت المشية التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ، ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة ، فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة ، والقدرة محركة ضرورة عند انجزام المشية والمشية تحدث ضرورة في القلب عقيب الداعي ، فهذه ضروريات يترتب بعضها على بعض ، وليس لنا أن ندفع وجود شيء منها عند تحقق سابقه ، فليس يمكن لنا أن ندفع المشية عند تحقق الداعي للفعل ، ولا انصراف القدرة عن المقدور بعدها ، وفنحن مضطرون في الجميع ، ونحن في عين الاختيار مجبورون على الاختيار « انتهى ».

والظاهر أن هذا عين الجبر ، وليس من الأمر بين الأمرين في شيء ، واحتياج الإرادة إلى إرادة أخرى ممنوع ، وتفصيل الكلام في ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدمات وإيراد إشكالات وأجوبة تفضي إلى التطويل ، مع أن أمثال هذه شبه في مقابلة البديهة ولا وقع بمثلها.

ومثل هذا التوجيه ما قيل : أنه لا دخل لإرادة العبد في الإيجاب ، بل هي من الشروط التي بها يصير المبدأ بإرادته موجبا تاما مستجمعا لشرائط التأثير ، وهذا القدر كاف لوقوع فعل العبد بإرادته ، وكونه مستندا إليها وعملا له.

وما قيل : أن لإرادة العبد مدخلية في الإيجاب لا بالمشاركة فيه ، بل بأنه أراد وقوع مراد العبد وأوجبه على أنه مراده ، فلها مدخلية في الإيجاب لا بالمشاركة فيه ، وبهذه المدخلية ينسب الفعل إلى العبد ويكون عملا له ، فهذان الوجهان وأضرابها مما تركنا ذكرها حذرا من الإطالة مشتركة في عدم رفع المفاسد ، وعدم إيصال طالب الحق إلى المقاصد.

الرابع : ما ذكره الفاضل الأسترآبادي رحمه‌الله تعالى حيث قال : معنى الأمر بين الأمرين أنهم ليسوا بحيث ما شاءوا صنعوا بل فعلهم معلق على إرادة حادثة متعلقة


______________________________________________________

بالتخلية أو بالصرف ، وفي كثير من الأحاديث أن تأثير السحر موقوف على أذنه تعالى وكان السر في ذلك أنه لا يكون شيء من طاعة أو معصية أو غيرهما كالأفعال الطبيعية إلا بإذن جديد منه تعالى ، فتوقف حينئذ كل حادث على الإذن توقف المعلول على شروطه ، لا توقفه على سببه.

أقول : وهذا معنى يشبه الحق وسنشير إليه.

الخامس : أن يكون الجبر المنفي ما ذهب إليه الأشعري والجهمية ، والتفويض المنفي هو كون العبد مستقلا في الفعل ، بحيث لا يقدر الرب تعالى على صرفه عنه كما ينسب إلى بعض المعتزلة ، والأمر بينهما هو أنه جعلهم مختارين في الفعل والترك مع قدرته على صرفهم عما يختارون.

السادس : أن يقال : الأمر بين الأمرين هو أن الأسباب القريبة للفعل بقدرة العبد ، والأسباب البعيدة كالآلات والأدوات والجوارح والأعضاء والقوي بقدرة الله سبحانه ، فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين.

وفيه : أن التفويض بهذا المعنى لم يقل به أحد حتى يحتاج إلى نفيه.

السابع : أن المراد بالأمر بين الأمرين كون بعض الأشياء باختيار العبد وهي الأفعال التكليفية ، وبعضها بغير اختياره كالصحة والمرض والنوم واليقظة وأشباهها.

ويرد عليه ما أوردنا على الوجه السابق.

الثامن : أن التفويض المنفي هو تفويض الخلق والرزق وتدبير العالم إلى العباد كقول الغلاة في الأئمة عليه‌السلام ، ويؤيده ما رواه الصدوق في العيون بإسناده عن يزيد بن عمير قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو ، فقلت : يا بن رسول الله روي لنا عن الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام أنه قال : لا جبر ولا تفويض ، أمر بين أمرين فما معناه؟ فقال : من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر ، ومن


______________________________________________________

زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام فقد قال بالتفويض ، فالقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك ، فقلت له : يا بن رسول الله ، فما أمر بين أمرين؟ فقال : وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه ، فقلت له : فهل لله عز وجل مشية وإرادة في ذلك؟ فقال : أما الطاعات فإرادة الله ومشيته فيها الأمر بها والرضا لها ، والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها ، قلت : فلله عز وجل فيها القضاء؟ قال : نعم ، ما من فعل يفعله العباد من خير وشر إلا ولله فيه قضاء ، قلت : فما معنى هذا القضاء؟ قال : الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.

التاسع : ما ظهر لنا من الأخبار المعتبرة المأثورة عن الصادقين عليهم‌السلام ، وهو أن الجبر المنفي قول الأشاعرة والجبرية كما عرفت ، والتفويض المنفي هو قول المعتزلة إنه تعالى أوجد العباد وأقدرهم على أعمالهم وفوض إليهم الاختيار ، فهم مستقلون بإيجادها على وفق مشيتهم وقدرتهم ، وليس لله سبحانه في أعمالهم صنع.

وأما الأمر بين الأمرين فهو أن لهداياته وتوفيقاته تعالى مدخلا في أفعالهم بحيث لا يصل إلى حد الإلجاء والاضطرار ، كما أن لخذلانه سبحانه مدخلا في فعل المعاصي وترك الطاعات ، لكن لا بحيث ينتهي إلى حد لا يقدر معه على الفعل أو الترك ، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه في أحواله المختلفة ، وهو مثل أن يأمر السيد عبده بشيء يقدر على فعله وفهمه ذلك ، ووعده على فعله شيئا من الثواب وعلى تركه قدرا من العقاب ، فلو اكتفى من تكليف عبده بذلك ولم يزد عليه مع علمه بأنه لا يفعل الفعل بمحض ذلك ، لم يكن لوما عند العقلاء لو عاقبه على تركه ، ولا ينسب عندهم إلى الظلم ، ولا يقول عاقل أنه أجبره على ترك الفعل ، ولو لم يكتف السيد بذلك وزاد في ألطافه والوعد بإكرامه والوعيد على تركه ، وأكد ذلك ببعث من يحثه على الفعل ويرغبه فيه ويحذره على الترك ، ثم فعل ذلك الفعل بقدرته واختياره فلا


______________________________________________________

يقول عاقل أنه جبره على الفعل ، وأما فعل ذلك بالنسبة إلى قوم وتركه بالنسبة إلى آخرين فيرجع إلى حسن اختيارهم وصفاء طويتهم أو سوء اختيارهم وقبح سريرتهم أو إلى شيء لا يصل إليه علمنا ، فالقول بهذا لا يوجب نسبة الظلم إليه سبحانه ، بأن يقال : جبرهم على المعاصي ثم عذبهم عليها ، كما يلزم الأولين ، ولا عزله تعالى من ملكه واستقلال العباد ، بحيث لا مدخل لله في أفعالهم ، فيكونون شركاء لله في تدبير عالم الوجود كما يلزم الآخرين.

ويدل على هذا الوجه أخبار كثيرة كالخبر الأول لا سيما مع التتمة التي في الاحتجاج ، والخبر الثامن والثالث عشر من هذا الباب ، بل أكثر أبواب (١) هذا الباب ، والأبواب السابقة واللاحقة ، وبه يمكن رفع التنافي بينها كما أومأنا إليه في بعضها ، وقد روي في الاحتجاج وتحف العقول فيما أجاب به أبو الحسن العسكري عليه‌السلام في رسالته إلى أهل الأهواز حيث قال عليه‌السلام : قال الصادق عليه‌السلام : لا جبر ولا تفويض ، أمر بين أمرين ، قيل : فما ذا يا بن رسول الله؟ قال : صحة العقل وتخلية السرب ، والمهلة في الوقت ، والزاد قبل الراحلة ، والسبب المهيج للفاعل على فعله ، فهذه خمسة أشياء ، فإذا نقض العبد منها خلة كان العمل عنه مطرحا بحسبه وأنا أضرب لكل باب من هذه الأبواب الثلاثة وهي الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين مثلا يقرب المعنى للطالب ويسهل له البحث من شرحه ، ويشهد به القرآن بمحكم آياته وتحقيق تصديقه عند ذوي الألباب وبالله العصمة والتوفيق.

ثم قال عليه‌السلام : فأما الجبر فهو قول من زعم أن الله عز وجل جبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه ورد عليه قوله : « وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » (٢) وقوله جل ذكره : « ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ » (٣) مع آي كثيرة في مثل هذا ، فمن زعم أنه مجبور على المعاصي فقد

__________________

(١) والظاهر « الأخبار » بدل الأبواب.

(٢) سورة الكهف : ٤٩.

(٣) سورة الحج : ١٠.


______________________________________________________

أحال بذنبه على الله عز وجل وظلمه في عقوبته له ، ومن ظلم ربه فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه لزمه الكفر بإجماع الأمة.

والمثل المضروب في ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه ، ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ، ويعلم مولاه ذلك منه ، فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ، ولا يملكه ثمن ما يأتيه به ، وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن ، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور ، فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة أن يعاقبه ، فلما صار العبد إلى السوق وحاول أخذ الحاجة التي بعثه المولى للإتيان بها وجد عليها مانعا يمنعه منها إلا بالثمن ، ولا يملك العبد ثمنها ، فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجته ، فاغتاظ مولاه لذلك وعاقبه على ذلك ، فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته ، وإن لم يعاقبه كذب نفسه ، أليس يجب أن لا يعاقبه والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا.

ثم قال عليه‌السلام بعد كلام طويل : فأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه‌السلام وخطىء من دان به فهو قول القائل : إن الله فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم ، وفي هذا كلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهدية عليهم‌السلام من عترة آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنهم قالوا : لو فوض الله إليهم على جهة الإهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا به من الثواب ، ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب ، إذ كان الإهمال واقعا ، فتنصرف هذه المقالة على معنيين : إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة ، كره ذلك أم أحبه فقد لزم الوهن ، أو يكون جل وتقدس عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي ففوض أمره ونهيه إليهم وأجراهما على محبتهم ، إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته ، فجعل الاختيار إليهم في


______________________________________________________

الكفر والإيمان ، ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ، ونهيه ، وادعى مالك العبد أنه قادر قاهر عزيز حكيم ، فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أو أمره عظيم الثواب ، وأوعده على معصيته أليم العقاب ، فخالف العبد إرادة مالكه ولم يقف عند أمره ونهيه ، فأي أمر أمره به أو نهي نهاه عنه لم يأتمر على إرادة المولى ، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه ، وبعثه في بعض حوائجه ، وفيها الحاجة له ، فصدر العبد بغير تلك الحاجة خلافا على مولاه ، وقصد إرادة نفسه واتبع هواه ، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه فإذا هو خلاف ما أمره به ، فقال العبد : اتكلت على تفويضك الأمر إلى فاتبعت هواي وإرادتي ، لأن المفوض إليه غير محصور عليه ، لاستحالة اجتماع التفويض والتحصير.

ثم قال عليه‌السلام : من زعم أن الله فوض قبول أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز ، وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير أو شر وأبطل أمر الله تعالى ونهيه ، ثم قال : إن الله خلق الخلق بقدرته ، وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر والنهي وقبل منهم اتباع أمره ورضي بذلك منهم ، ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها ، ولله الخيرة في الأمر والنهي ، يختار ما يريد ويأمر به ، وينهى عما يكره ، ويثيب ويعاقب بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه ، لأنه العدل ومنه النصفة والحكومة ، بالغ الحجة بالأعذار والإنذار ، وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده ، اصطفى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعثه بالرسالة إلى خلقه ، ولو فوض اختيار أموره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن الصلت وأبي مسعود الثقفي ، إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قالوا : لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يعنونهما بذلك.

فهذا هو القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض ، بذلك أخبر أمير المؤمنين عليه‌السلام حين سأله عباية بن ربعي الأسدي عن الاستطاعة؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام


______________________________________________________

تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية ، فقال له : قل يا عباية! قال : وما أقول؟ قال : إن قلت تملكها مع الله قتلتك ، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك ، قال :وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال : تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن ملكها كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملكك ، والمالك لما عليه أقدرك ، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون : لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فقال الرجل : وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال : لا حول بنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله ، قال : فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه ، إلى آخر الخبر بطوله.

وأقول أكثر أجزاء هذا الخبر يدل على ما ذكرنا في الوجه التاسع ، وأما ما ذكر في معنى التفويض ، فيحتمل أن يكون راجعا إلى الوجه الأول ، لكن الظاهر أن غرضه عليه‌السلام من نفي التفويض نفي ما ذكره المخالفون من تفويض اختيار الإمام عليه‌السلام ونصبه إلى الأمة وتفويض الأحكام إليهم بأن يحكموا فيها بآرائهم ، وقياساتهم واستحساناتهم ، ولهذا أجمل عليه‌السلام في الكلام ، وقال في هذا كلام دقيق ، وبين ذلك أخيرا بذكر قريش واصطفائهم فلا تغفل.

فيمكن أن يعد هذا وجها عاشرا لنفي الجبر والتفويض ، وإثبات الواسطة.

ويؤيد ما ذكرنا أيضا ما رواه الشيخ أبو الفتح الكراجكي في كتاب كنز الفوائد إن الحسن البصري كتب إلى الإمام الحسن بن علي عليهما‌السلام : من الحسن البصري إلى الحسن بن رسول الله أما بعد فإنكم معاشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة ، مصابيح الدجى وأعلام الهدى ، والأئمة القادة ، الذين من تبعهم نجا والسفينة التي يؤول إليها المؤمنون ، وينجو فيها المتمسكون ، قد كثر يا بن رسول الله عندنا الكلام في القدر ، واختلافنا في الاستطاعة ، فعلمنا ما الذي عليه رأيك ورأي آبائك فإنكم ذرية بعضها من بعض ، من علم الله علمتم ، وهو الشاهد عليكم ، وأنتم الشهداء


______________________________________________________

على الناس والسلام؟ فأجابه صلوات الله عليه من الحسن بن علي إلى الحسن البصري : أما بعد فقد انتهى إلى كتابك عند حيرتك وحيرة من زعمت من أمتنا وكيف ترجعون إلينا وأنتم معنا بالقول دون العمل ، واعلم أنه لو لا ما تناهى إلى من حيرتك وحيرة الأمة من قبلك لأمسكت عن الجواب ، ولكني الناصح ابن الناصح الأمين ، والذي أنا عليه أنه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر ، ومن حمل المعاصي على الله فقد فجر ، إن الله سبحانه لا يطاع بإكراه ، ولا يعص بغلبة ، ولا أهمل العباد من الملكة ولكنه عز وجل المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم ، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن الله عز وجل لهم صادا ، ولا عنها مانعا ، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء سبحانه أن يمن عليهم فيحول بينهم وبينها فعل ، وإن لم يفعل فليس هو حملهم عليها إجبارا ولا ألزمهم بها إكراها ، بل احتجاجه عز ذكره عليهم أن عرفهم وجعل لهم السبيل إلى فعل ما دعاهم إليه ، وترك ما نهاهم عنه ، ولله الحجة البالغة والسلام.

وفي تحف العقول هكذا : أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أن الله يعلمه فقد كفر ، إلى قوله عليه‌السلام : وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبرا ولا ألزموها كرها ، بل من عليهم بأن بصرهم وعرفهم وحذرهم وأمرهم ونهاهم لا جبلا لهم على ما أمرهم به ، فيكونوا كالملائكة ، ولا جبرا لهم على ما نهاهم ، ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين والسلام على من اتبع الهدى.

وأقول : قال السيد بن طاوس قدس‌سره في كتاب الطرائف : روى جماعة من علماء الإسلام عن نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا ، قيل : ومن القدرية يا رسول الله؟ قال : قوم يزعمون أن الله قدر عليهم المعاصي وعذبهم عليها.

وروى صاحب الفائق وغيره من علماء الإسلام عن محمد بن علي المكي بإسناده قال : إن رجلا قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبرني بأعجب شيء رأيت؟ قال : رأيت قوما ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم : لم


باب الاستطاعة

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن الحسن بن محمد ، عن علي بن محمد القاساني ، عن علي بن أسباط قال سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الاستطاعة فقال يستطيع العبد بعد أربع خصال أن يكون مخلى السرب صحيح الجسم سليم الجوارح له سبب وارد من الله قال قلت جعلت فداك فسر لي هذا قال أن يكون العبد مخلى السرب صحيح الجسم سليم الجوارح يريد أن يزني فلا يجد امرأة ثم يجدها

______________________________________________________

تفعلون؟ قالوا : قضاء الله علينا وقدره ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ستكون من أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم ، أولئك مجوس أمتي.

وروى صاحب الفائق وغيره عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي ويقولون إن الله قد قدرها عليهم ، الراد عليهم كشاهر سيفه في سبيل الله.

أقول : الأخبار الواردة في ذلك أوردناها في كتابنا الكبير ، وإنما أوردنا هنا بعضها تأييدا لما ذكرنا في شرح الأخبار ، إذ المصنف (ره) إنما اقتصر على الأخبار الموهمة للجبر ، ولم يذكر مما يعارضها إلا قليلا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

باب الاستطاعة

الحديث الأول : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : أن يكون مخلى السرب ، والسرب بالفتح والكسر : الطريق والوجهة ، وبالكسر البال والقلب والنفس ، أي مخلى الطريق مفتوحة ، وهو كناية عن رفع الموانع والزواجر كزجر السلطان وأمثاله « صحيح الجسم » أي من الأمراض المانعة عن الفعل « سليم الجوارح » التي هي آلات الفعل « له سبب وارد من الله » من عصمته أو التخلية بينه وبين إرادته « فسر لي هذا » أي السبب الوارد ففسره عليه‌السلام


فإما أن يعصم نفسه فيمتنع كما امتنع يوسف عليه‌السلام أو يخلي بينه وبين إرادته فيزني فيسمى زانيا ولم يطع الله بإكراه ولم يعصه بغلبة.

______________________________________________________

بالعصمة والتخلية ، فيكون ذكر وجدان المرأة استطرادا « ولم يطع الله بإكراه » بل بإرادته وعصمة الله من أسباب إرادته « ولم يعصه بغلبة » منه ، بل بإرادته مع تخلية الله بينه وبين إرادته ، فلو لم يخل الله بينه وبين اختياره ، وأراد منعه لم يمكنه الفعل فلم يكن الله في ذلك مغلوبا منه.

ويحتمل أن يكون المراد بتخلية السرب أن يكون مخلى بالطبع ، فارغ البال غير مشغول الخاطر بما يصرفه عن الفعل ، وبصحة الجسم أن لا يكون له مرض لا يقدر معه على الفعل ، وبسلامة الجوارح أن لا يكون في الجارحة التي يحتاج إليها في الفعل آفة ، كقطع الذكر في مثل الزنا ، وبالسبب إذنه تعالى أي رفع الموانع ، فقوله : فلا يجد امرأة ، مثال لتخلف السبب عن الثلاث وقوله : ثم يجدها ، بيان لوجوده ، فقوله إما أن يعصم نفسه ، أي يعصم المكلف نفسه لكن في المقابلة بينه وبين أن يخلي تكلف.

وفيما أجاب به أبو الحسن الثالث عليه‌السلام قال الصادق عليه‌السلام : لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين ، وهي صحة الخلقة وتخلية السرب والمهلة في الوقت والزاد مثل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على فعله ، ثم فسر عليه‌السلام صحة الخلقة بكمال الخلق للإنسان بكمال الحواس وثبات العقل والتميز وإطلاق اللسان بالنطق قال : وأما تخلية السرب فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ، ويمنعه العمل مما أمر الله به ، وأما المهلة في الوقت وهو العمر الذي يمتع به الإنسان من حد ما يجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت ، وذلك من وقت تميزه وبلوغ الحلم ، إلى أن يأتيه أجله ، فمن مات على طلب الحق فلم يدرك كماله فهو على خير ، وأما الزاد فمعناه البلغة والجدة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به ، والراحلة للحج والجهاد وأشباه ذلك ، والسبب المهيج هو النية التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال


٢ ـ محمد بن يحيى وعلي بن إبراهيم جميعا ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم وعبد الله بن يزيد جميعا ، عن رجل من أهل البصرة قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن

______________________________________________________

وحاستها القلب ، فمن فعل فعلا وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك لم يقبل الله منه عملا إلا بصدق النية ، إلى آخر الخبر الطويل الذي أوردته في الكتاب الكبير وفيه فوائد جمة.

الحديث الثاني : مرسل.

واعلم أن المتكلمين اختلفوا في أن الاستطاعة والقدرة هل هما في العبد قبل الفعل أو معه؟ فذهبت الإمامية والمعتزلة إلى الأول والأشاعرة إلى الثاني ، واستدل كل من الفريقين على مذهبهم بدلائل ليس هذا موضع ذكرها ، والحق أن ما ذهب إليه الإمامية ضرورية إذ القطع حاصل بقدرة القاعد في وقت قعوده على القيام ، والقائم في حال قيامه على القعود بالوجدان ، ويدل عليه أخبار كثيرة :

منها ما رواه الصدوق عن عوف بن عبد الله عن عمه قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الاستطاعة؟ فقال : وقد فعلوا ، فقلت : نعم زعموا أنها لا تكون إلا عند الفعل ، واردة في حال الفعل لا قبله ، فقال : أشرك القوم.

وفي الصحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول : لا يكون العبد فاعلا إلا وهو مستطيع ، وقد يكون مستطيعا غير فاعل ، ولا يكون فاعلا أبدا حتى يكون معه الاستطاعة.

وفي الصحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما كلف الله العباد كلفة فعل ، ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة ، ثم أمرهم ونهاهم فلا يكون العبد آخذا ولا تاركا إلا باستطاعة متقدمة قبل الأمر والنهي ، وقبل الأخذ والترك وقبل القبض والبسط.

وفي الصحيح أيضا عن هشام عنه عليه‌السلام قال : لا يكون من العبد قبض ولا بسط إلا باستطاعة متقدمة للقبض والبسط.


______________________________________________________

وفي الصحيح أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول وعنده قوم يتناظرون في الأفاعيل والحركات ، فقال : الاستطاعة قبل الفعل ، لم يأمر الله عز وجل بقبض ولا بسط إلا والعبد لذلك مستطيع ، والأخبار في ذلك كثيرة.

والأشاعرة إنما قالوا بعدم القدرة قبل الفعل وكونها مع الفعل لأنهم يقولون بعدم تأثير قدرة العبد وإرادته في الفعل أصلا.

إذا عرفت هذا فاعلم أن هذا الخبر ظاهرا موافق لمذهب الأشاعرة ، ومخالف لمذهب الإمامية ، والأخبار الصحيحة السالفة تنفيه ، ويمكن تأويله بوجوه :

الأول : حمله على التقية إذ أكثر المخالفين يرون رأي الأشعري ويتبعونه في أصول مذهبهم ، ويؤيده أن ما ذكر فيه من الدليل على نفي الاستطاعة من عمدة دلائل الأشاعرة على نفي اختيار العبد حيث قالوا : القدرة على الأثر بمعنى التمكن على فعله وتركه ، إما حال وجود الأثر وحينئذ يجب وجوده ، فلا يتمكن من الترك وإما حال عدمه فيجب عدمه فلا يتمكن من الفعل ، وأجيب بأنا نختار أنها حال عدم الأثر لكنها عبارة عن التمكن من الفعل في ثاني الحال ، فلا ينافيه العدم في الحال ، بل يجتمع معه.

الثاني : أن يقال المراد بالاستطاعة في الخبر الاستعداد التام الذي لا يكون إلا مع الأثر والمراد بآلة الاستطاعة جميع ما يتوقف عليه الأثر فعلا كان أو تركا ، فاستطاعة الفعل لا يكون إلا مع الفعل ، واستطاعة الترك لا يكون إلا مع الترك ، وبعبارة أخرى : المراد بالاستطاعة الاستقلال بالفعل ، بحيث لا يمكن أن يمنعه مانع عنه ، ولا يكون هذا إلا في حال الفعل إذ يمكن قبل الفعل أن يزيله الله تعالى عن الفعل بصرفه عنه ، أو إعدامه أو إعدام الآلة ، والحاصل أن استطاعة الشيء التمكن منه وانقياد حصول ذلك الشيء له ، واستطاعة أحد الطرفين لا يستلزم استطاعة الآخر بخلاف القدرة ، فإن القدرة على أحد الطرفين تلزمه القدرة على الآخر ، والقدرة


الاستطاعة فقال أتستطيع أن تعمل ما لم يكون قال لا قال فتستطيع أن تنتهي عما قد كون قال لا قال فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام فمتى أنت مستطيع قال لا أدري قال فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام إن الله خلق خلقا فجعل فيهم آلة الاستطاعة

______________________________________________________

على الفعل تسبقه بمراتب بخلاف الاستطاعة ، قال إمامهم الرازي في الجمع بين رأيي الأشاعرة والمعتزلة في تلك المسألة : القدرة قد تطلق على القوة العضلية التي هي مبدء الآثار المختلفة في الحيوان بحيث متى انضم إليها إرادة كل واحد من الضدين حصل دون الآخر ، ولا شك في أن نسبتها إلى الضدين على السواء ، وقد تطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير ، ولا شك في امتناع تعلقها بالضدين وإلا اجتمعا في الوجود ، بل هي بالنسبة إلى كل مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور آخر لاختلاف الشرائط بحسب مقدور مقدور ، فلعل الأشعري أراد بالقدرة المعنى الثاني ، فحكم بأنها لا تتعلق بالضدين ، ولا هي قبل الفعل ، والمعتزلة أرادوا بها المعنى الأول فذهبوا إلى أنها تتعلق بالضدين وأنها قبل الفعل « انتهى » وهذا الكلام متين لكنه لا يصلح جامعا بين القولين ، لأن الأشعري لا يقول بتأثير قدرة العبد وإرادته ، ولذا قال بمقارنتها للفعل.

الثالث : أن يكون المعنى أن في حال الفعل تظهر الاستطاعة ، ويعلم أنه كان مستطيعا قبله ، بأن أذن الله له في الفعل ، كما ورد أن بعد القضاء لا بداء.

قوله عليه‌السلام : أن تعمل ما لم يكون ، أي بعد حصول الترك في زمان الترك لا تستطيع الفعل ، بل تستطيع الترك ، وتمت علته وحصل ، فلا تستطيع الفعل حينئذ ، إذ لم يحصل منك ولا من الله ما يتوقف عليه حصول الفعل قبله ، فصار الترك حينئذ واجبا بعلله التي منها إرادة العبد الترك.

قوله عليه‌السلام : أن تنتهي عما قد كون ، أي بعد وجود الفعل ووجوبه بعلله التي منها إرادته كيف يستطيع الترك ، فالقدرة على الفعل والترك قبلهما واستطاعتهما أي وجوبهما ولزومهما في وقتهما كما مر في الوجه الثاني « فجعل فيهم آلة الاستطاعة »


ثم لم يفوض إليهم فهم مستطيعون للفعل وقت الفعل مع الفعل إذا فعلوا ذلك الفعل فإذا لم يفعلوه في ملكه لم يكونوا مستطيعين أن يفعلوا فعلا لم يفعلوه لأن الله عز وجل أعز من أن يضاده في ملكه أحد قال البصري فالناس مجبورون قال لو كانوا مجبورين كانوا معذورين قال ففوض إليهم قال لا قال فما هم قال علم منهم فعلا فجعل فيهم آلة الفعل فإذا فعلوه كانوا مع الفعل مستطيعين قال البصري أشهد أنه الحق وأنكم أهل بيت النبوة والرسالة.

٣ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن سهل بن زياد وعلي بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد جميعا ، عن علي بن الحكم ، عن صالح النيلي قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام هل للعباد من الاستطاعة شيء قال فقال لي إذا فعلوا الفعل كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم قال قلت وما هي قال :

______________________________________________________

أي ما يتوقف عليه حصولها من تخلية السرب وصحة الجسم وسلامة الجوارح ونحو ذلك على حسب الأعمال المستطاع لها « ثم لم يفوض إليهم » بحيث يكونون مستقلين لا يمكنه صرفهم عنه ، أو بحيث لا يكون له مدخل في أفعالهم بالتوفيق والخذلان ، أو المراد بالتفويض عدم الحصر بالأمر والنهي « لم يكونوا مستطيعين » أي بالاستقلال بحيث لا مدخل لتوفيق الله وخذلانه فيه ، أو لم يحصل لهم العلة التامة للفعل وإن كان باختيارهم ، ويمكن حمله على ما إذا كان الترك لعدم الآلات وللموانع الصارفة من قبل الله تعالى ، وعلى هذا ينطبق التعليل غاية الانطباق ، إذ استقلال العبد على هذا الوجه بحيث لا يتوقف فعله على شيء من قبل الله تعالى ، وعدم قدرته سبحانه على صرفه عنه ، قول بوجود أضداد له تعالى في ملكه ، وعلى الأول أيضا ظاهر ، وعلى الثاني يحتاج إلى تكلف ، وربما يقال : التعليل لعدم التفويض ، ولا يخفى بعده « فجعل فيهم آلة الفعل » أي قدرتهم وإرادتهم وقواهم وجوارحهم التي هي من أسباب وجود ذلك الفعل.

الحديث الثالث : ضعيف ، والكلام في صدر الخبر ما مر في الخبر السابق.


الآلة مثل الزاني إذا زنى كان مستطيعا للزنا حين زنى ولو أنه ترك الزنا ولم يزن كان مستطيعا لتركه إذا ترك قال ثم قال ليس له من الاستطاعة قبل الفعل قليل ولا كثير ولكن مع الفعل والترك كان مستطيعا قلت فعلى ما ذا يعذبه قال بالحجة البالغة والآلة التي ركب فيهم إن الله لم يجبر أحدا على معصيته ولا أراد إرادة حتم الكفر من أحد ولكن حين كفر كان في إرادة الله أن يكفر وهم في إرادة الله وفي علمه أن لا يصيروا إلى شيء من الخير قلت أراد منهم أن يكفروا قال ليس هكذا أقول ولكني أقول علم أنهم سيكفرون فأراد الكفر لعلمه فيهم وليست هي إرادة حتم إنما هي إرادة اختيار.

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : مثل الزنا (١) ، هذا مثال لقوله : إذا فعلوا الفعل ، وليس مثالا لتفسير الاستطاعة ، ولما توهم السائل من قوله عليه‌السلام : كانوا مستطيعين بالاستطاعة التي جعلها الله فيهم ، ومن أن الاستطاعة مع الفعل لا قبله الجبر قال : فعلى ما يعذبه؟ أي الزاني والمراد بالحجة البالغة أوامر الله تعالى ونواهيه وإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام لإعلام الناس بالأفعال النافعة والضارة ، والمراد بالآلة التي ركب فيهم القدرة والإرادة المؤثرتين اللتين خلقهما الله تعالى في العباد.

قوله : كان في إرادة الله أن يكفر ، أي إرادة بالعرض لأنه لما أراد أن يعطي العبد إرادة واختيارا ويخليه واختياره وهو أراد المعصية فهو سبحانه أراد ما صار سببا لكفره إرادة بالعرض أو يقال إرادته سبحانه علة بعيدة للكفر ، أو يقال : لما خيره وخلاه مع علمه بأنه يكفر بإرادته فكأنه أراد كفره مجازا كما مر تفصيله.

قوله عليه‌السلام : أن لا يصيروا إلى شيء من الخير ، أي باختيارهم وإرادتهم المؤثرة ولما توهم السائل من قوله عليه‌السلام : إنه تعالى شاء منهم أن يكفروا ، أي جبرهم عليه أو ذلك مقصوده منهم ، أجاب عليه‌السلام بأن ليس مرادي ذلك ، بل مرادي أن الله أراد بحسب مصلحة التكليف أن يكلهم إلى اختيارهم وإرادتهم ، وعلم أن إرادتهم يتعلق

__________________

(١) كذا في النسخ وفي المتن « الزاني » بدل « الزنا ».


٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن بعض أصحابنا ، عن عبيد بن زرارة قال حدثني حمزة بن حمران قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الاستطاعة فلم يجبني فدخلت عليه دخلة أخرى فقلت أصلحك الله إنه قد وقع في قلبي منها شيء لا يخرجه إلا شيء أسمعه منك قال فإنه لا يضرك ما كان في قلبك قلت أصلحك الله إني أقول إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون ولم يكلفهم إلا ما يطيقون وأنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيئته وقضائه وقدره قال فقال هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي أو كما قال.

______________________________________________________

بالكفر فتعلق إرادته بكفرهم من حيث تعلق إرادته بما يصير سببا لإرادتهم الكفر مع علمه بذلك ، وهذا لا يستلزم كون الكفر مقصوده ومطلوبه منهم ، فإن دخوله في القصد بالعرض لا بالذات ، وتعلق الإرادة بالكفر بالعرض ليست موجبة للفعل إيجابا يخرجه عن الاختيار ، لأن هذا التعلق من جهة إرادتهم واختيارهم وما يتعلق بشيء من جهة الإرادة والاختيار لا يخرجه عن الاختيار ، وقيل : الفرق بين كلام الإمام وكلام السائل أن في كلامه عليه‌السلام عديت الإرادة بفي وفي كلام السائل بمن ، والتعدية بفي تفيد التمكين مع القدرة على المنع ، والتعدية بمن ، تفيد الطلب إما تكليفا وإما تكوينا ، فالظرفان متعلقان بالإرادة كالظرف في قوله لعلمه.

الحديث الرابع : مرسل.

قوله : فإنه لا يضرك ، هذا إما لأنه عليه‌السلام كان مطلعا على ما في قلبه وأنه حق ، أو المراد أنه إذا كان في قلبك شيء ثم رجعت عنه إلى قولنا لم يضرك ، وقوله أو كما قال ، ترديد من السائل بين العبارة المنقولة وما في حكمها من العبارات الدالة على تصديق معتقده بوجه من الوجوه.


باب البيان والتعريف ولزوم الحجة

١ ـ محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن ابن الطيار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله احتج على الناس بما آتاهم وعرفهم.

محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج مثله.

٢ ـ محمد بن يحيى وغيره ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن أبي عمير ، عن محمد بن حكيم قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام المعرفة من صنع من هي قال من صنع الله ليس للعباد فيها صنع.

______________________________________________________

باب البيان والتعريف ولزوم الحجة

الحديث الأول : حسن بسنده الأول ، مجهول كالصحيح بسنده الثاني.

قوله عليه‌السلام : بما آتاهم ، أي من العقول والآلات والأدوات والجوارح والقوي وعرفهم من أصول الدين وفروعه كما قال تعالى : « أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (١).

الحديث الثاني : مجهول.

والمراد بالمعرفة أما العلم بوجوده سبحانه فإنه مما فطر الله العباد عليه إذا خلوا أنفسهم عن المعصية ، والأغراض الدنية كما قال تعالى : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ » (٢) وبه فسر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، أي من وصل إلى حد يعرف نفسه فيوقن بأن له خالقا ليس مثله ، ويحتمل أن يكون المراد كمال المعرفة فإنه من قبل الله تعالى بسبب كثرة الطاعات والعبادات والرياضات ، أو المراد معرفة غير ما يتوقف عليه العلم بصدق الرسل فإن ما سوى ذلك

__________________

(١) سورة البلد : ٨ ـ ١٠.

(٢) سورة لقمان : ٢٥.


______________________________________________________

إنما نعرفه بما عرفنا الله على لسان أنبيائه وحججه صلوات الله عليهم ، أو يقال : المراد بها معرفة الأحكام الفرعية لعدم استقلال العقل فيها ، أو المعنى أنها إنما تحصل بتوفيقه تعالى للاكتساب ، وذهب الحكماء إلى أن العلة الفاعلية للمعرفة تصوريا كان أو تصديقيا ، بديهيا كان أو نظريا ، شرعيا كان أو نظريا ، شرعيا كان أو غيره ، إنما يفيض من الله تعالى في الذهن بعد حصول استعداد له بسبب الإحساس أو التجربة أو النظر والفكر والاستماع من المعلم أو غير ذلك ، فهذه الأمور معدات والعبد كاسب للمعرفة لا موجد لها ، والظاهر من أكثر الأخبار أن العباد إنما كلفوا بالانقياد للحق وترك الاستكبار عن قبوله ، فأما المعارف فإنها بأسرها مما يلقيه الله سبحانه في قلوب عباده بعد اختيارهم للحق ، ثم يكمل ذلك يوما فيوما بقدر أعمالهم وطاعاتهم حتى يوصلهم إلى درجة اليقين ، وحسبك في ذلك ما وصل إليك من سيرة النبيين وأئمة الدين في تكميل أممهم وأصحابهم فإنهم لم يحيلوهم على الاكتساب والنظر ، وتتبع كتب الفلاسفة وغيرهم ، بل إنما دعوهم أولا إلى الإقرار بالتوحيد وسائر العقائد ، ثم إلى تكميل النفس بالطاعات والرياضات ، حتى فازوا بما سعدوا به من أعالي درجات السعادات.

قال الفاضل المحدث أمين الدين الأسترآبادي في الفوائد المدنية : قد تواترت الأخبار عن أهل بيت النبوة متصلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن معرفة الله بعنوان أنه الخالق للعالم ، وأن له رضا وسخطا ، وأنه لا بد من معلم من جهته تعالى ليعلم الخلق ما يرضيه وما يسخطه من الأمور الفطرية التي وقعت في القلوب بإلهام فطري إلهي ، وذلك كما قالت الحكماء : الطفل يتعلق بثدي أمه بإلهام فطري الهي ، وتوضيح ذلك أنه تعالى ألهمهم بتلك القضايا ، أي خلقها في قلوبهم وألهمهم بدلالات واضحة على تلك القضايا ، ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى فيه ، وبالجملة لم يتعلق وجوب ولا غيره من التكليفات إلا بعد بلوغ خطاب الشارع ، ومعرفة الله قد حصلت لهم قبل بلوغ الخطاب بطريق إلهام بمراتب ، وكل من بلغته


______________________________________________________

دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقع في قلبه من الله يقين بصدقه ، فإنه قد تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأنه ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه ، قبله أو تركه.

وقال في موضع آخر : قد تواترت الأخبار أن معرفة خالق العالم ومعرفة النبي والأئمة عليهم‌السلام ليستا من أفعالنا الاختيارية ، وأن على الله بيان هذه الأمور وإيقاعها في القلوب بأسبابها ، وأن على الخلق بعد أن أوقع الله تلك المعارف الإقرار بها والعزم على العمل بمقتضاها.

ثم قال في موضع آخر : قد تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام بأن طلب العلم فريضة على كل مسلم كما تواترت بأن المعرفة موهبية غير كسبية ، وإنما عليهم اكتساب الأعمال فكيف يكون الجمع بينهما؟ أقول : الذي استفدته من كلامهم عليهم‌السلام في الجمع بينهما : أن المراد بالمعرفة ما يتوقف عليه حجية الأدلة السمعية من معرفة صانع العالم ، وأن له رضا وسخطا ، وينبغي أن ينصب معلما ليعلم الناس ما يصلحهم وما يفسدهم ، ومن معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد بالعلم الأدلة السمعية كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : العلم أما آية محكمة أو سنة متبعة أو فريضة عادلة ، وفي قول الصادق عليه‌السلام : إن من قولنا أن الله احتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ، ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب وأمر فيه ونهى ، وفي نظائره إشارة إلى ذلك ، ألا ترى أنه عليه‌السلام قدم أشياء على الأمر والنهي ، فتلك الأشياء كلها معارف ، وما يستفاد من الأمر والنهي كله هو العلم ، ويحتمل أيضا أن يراد بها معرفة الأحكام الشرعية وهو الذي ذهب إليه بعض أصحابنا حيث قال : المراد بهذه المعرفة التي يعذب ويثاب مخالفها وموافقها « انتهى ».

لكن المشهور بين المتكلمين من أصحابنا والمعتزلة والأشاعرة أن معرفته تعالى نظرية واجبة على العباد ، وأنه تعالى كلفهم بالنظر والاستدلال فيها ، إلا أن الأشاعرة قالوا : تجب معرفته تعالى نقلا بالنظر ، والمعرفة بعده من صنع الله تعالى


٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن ابن فضال ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن حمزة بن محمد الطيار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل « وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ » قال حتى

______________________________________________________

بطريق العادة ، وسائرهم قالوا : تجب معرفته سبحانه عقلا بالنظر والمعرفة بعده من صنع العبد يولدها النظر ، كما أن حركة اليد تولد حركة المفتاح ، وهم قد اختلفوا في أول واجب على العباد ، فقال أبو الحسن الأشعري : هو معرفته تعالى إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينية ، وعليه يتفرع كل واجب من الواجبات الشرعية ، وقيل هو النظر في معرفته تعالى لأن المعرفة تتوقف عليه ، وهذا مذهب جمهور المعتزلة وقيل : هو أول جزء منه ، لأن وجوب الكل يستلزم وجوب أجزائه ، فأول جزء من النظر واجب ومقدم على النظر المقدم على المعرفة ، وقيل : هو القصد إلى النظر ، لأن النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد المقدم على أول جزء من أجزاء النظر ، وقال شارح المواقف : النزاع لفظي إذ لو أريد الواجب بالقصد الأول ، أي أريد أول الواجبات المقصودة أولا وبالذات فهو المعرفة اتفاقا ، وإن أريد أول الواجبات مطلقا فالقصد إلى النظر ، لأنه مقدمة للنظر الواجب مطلقا فيكون واجبا أيضا.

الحديث الثالث : حسن موثق.

قوله سبحانه : « وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً » (١) أي يسميهم ضلالا أو يؤاخذهم مؤاخذتهم ، أو يسمهم بسمة الضلالة يعرف بها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها أنهم من الضالين ، أو يخذلهم بسلب اللطف والتوفيق منهم « بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ » قيل : يحتمل أن تكون الهداية هيهنا بمعنى الإيصال إلى المطلوب ، فمعناه أنه تعالى لا يخذل قوما أو لا يحتج على قوم ولا يحكم بضلالتهم بعد أن أوصلهم إلى المطلوب حتى يعرفهم ما يرضيه فيعملوا به ، وما يسخطه فيجتنبوا عنه ، أي حتى يوفقهم لكل خير ويعصمهم

__________________

(١) سورة التوبة : ١١٥.


يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه وقال « فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » (١) قال بين لها ما تأتي وما تترك وقال « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً » (٢) قال عرفناه إما آخذ وإما تارك وعن قوله « وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى » (٣) قال عرفناهم فاستحبوا العمى على الهدى وهم يعرفون وفي رواية بينا لهم.

______________________________________________________

من كل شر فما بعد « حتى » داخل فيما قبلها ، ويحتمل أن يكون بمعنى إراءة الطريق فمعناه أنه تعالى لا يخذل قوما أو لا يحكم بضلالتهم بعد إذ هداهم إلى الإيمان إلا بعد أن يعلمهم ما يرضيه وما يسخطه فما بعد « حتى » خارج عن حكم ما قبلها « انتهى ».

وفيه دلالة على أن التعريف من الله فيما يرضيه وفيما يسخطه من الشرائع والواجبات والسنن والأحكام ، لكن لا ينافي ما مر ، وقوله : وقال فألهمها ، من كلام ثعلبة وضميره راجع إلى حمزة ، أي وسأله عن قوله تعالى : « فَأَلْهَمَها » والضمير راجع إلى النفس ، والمراد : بفجورها وتقويها ، ما فيه فجورها وما فيه تقويها ، وقوله عليه‌السلام : بين لها ما تأتي وما تترك ، أي المراد بالإلهام هو بيان أن الله تعالى وإعلامه بما ينبغي للنفس أن تأتي به مما ينفع لها بالأمر ، وبما ينبغي لها أن تتركه مما يضرها بالنهي فالنشر على خلاف ترتيب اللف ، قال البيضاوي : إلهام الفجور والتقوى إفهامهما ، وتعريف حالهما ، والتمكين من الإتيان بهما « إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ » أي سبيل الخيرات والطاعات « إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ».

قال البيضاوي : هما حالان من الهاء ، وإما للتفصيل أو التقسيم أي هديناه في حالتيه جميعا أو مقسوما إليهما بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ فيه ، وبعضهم كفور بالإعراض عنه ، أو من السبيل ووصفه بالشكر والكفر مجاز « قال : عرفناه » بالتشديد أي السبيل « إما آخذ » تفسير للشاكر « وإما تارك » تفسير للكفور ، وهذا شامل لجميع الواجبات الأصولية والفروعية ، وكذا قوله : « وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ » شامل لهما ، والهداية هنا بمعنى إراءة الطريق ، وفي رواية : بينا لهم ، أي مكان عرفناهم.

__________________

(١) سورة الشمس : ٨.

(٢) سورة الإنسان : ٣.

(٣) سورة فصلت : ١٧.


٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن ابن بكير ، عن حمزة بن محمد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (١) قال نجد الخير والشر.

٥ ـ وبهذا الإسناد ، عن يونس ، عن حماد ، عن عبد الأعلى قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة قال فقال لا قلت فهل كلفوا المعرفة قال لا على الله البيان « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها » و « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها » قال وسألته عن قوله « وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ » (٢) قال حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه.

______________________________________________________

الحديث الرابع : حسن موثق أيضا.

« نجد الخير » أي عرفناه سبيلهما ، والنجد في الأصل الطريق الواضح المرتفع ، وفيه دلالة على أن الهداية تطلق على إراءة طريق الشر أيضا لأنها هداية إلى اجتنابه وتركه ، أو هو على التغليب وقال السيد الداماد (ره) إذا أريد تخصيص الهداية بالخير قيل أي نجدي العقل النظري والعقل العملي ، وسبيلي كمال القوة النظرية وكمال القوة العملية ، أو نجدي المعاش والمعاد ، أو نجدي الدنيا والآخرة ، أو نجد الجنة والعقاب والثواب والفناء المطلق في نور وجه الله البهجة الحقة للقاء بقائه.

الحديث الخامس : مجهول.

قوله : هل جعل في الناس أداة ، أي آلة من العقل والفهم ينالون بها بدون التعريف والتوقيف المعرفة بأحد المعاني المتقدمة ، « فهل كلفوا المعرفة » أي بالنظر والاستدلال « على الله البيان » أي وعليهم القبول كما روي في التوحيد عن الصادق عليه‌السلام قال : ليس لله على الخلق أن يعرفوا قبل أن يعرفهم ، وللخلق على الله أن يعرفهم ، ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا ، ثم أشار عليه‌السلام إلى أن تكليفهم بالمعرفة أو بكمالها تكليف بالمحال ، بقوله : « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها » والوسع أوسع من الطاقة ، و « لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها » أي ما آتاها علمه ، وظاهره أن المعارف توقيفية ، وتكليفهم بتحصيلها تكليف بالمحال وقد سبق الكلام فيه.

__________________

(١) سورة البلد : ١٠.

(٢) سورة التوبة : ١١٥.


٦ ـ وبهذا الإسناد ، عن يونس ، عن سعدان رفعه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله لم ينعم على عبد نعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله فمن من الله عليه فجعله قويا فحجته عليه القيام بما كلفه واحتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه ومن من الله عليه فجعله موسعا عليه فحجته عليه ماله ثم تعاهده الفقراء بعد بنوافله ـ ومن من الله عليه فجعله شريفا في بيته جميلا في صورته فحجته عليه أن يحمد الله تعالى على ذلك وأن لا يتطاول على غيره فيمنع حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله.

باب

اختلاف الحجة على عباده

١ ـ محمد بن أبي عبد الله ، عن سهل بن زياد ، عن علي بن أسباط ، عن الحسين بن زيد ، عن درست بن أبي منصور عمن حدثه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع المعرفة والجهل والرضا والغضب والنوم واليقظة.

______________________________________________________

الحديث السادس : مرفوع.

قوله عليه‌السلام : فحجته عليه القيام بما كلفه ، أي ما يحتج به عليه بعد التعريف قوة القيام بما كلف به ، أو المحتج له القيام بالمكلف به ، وهذا أظهر وأوفق بما بعده من جعل التعاهد للفقراء بنوافل ماله والحمد على شرفه وجماله ، وعدم التطاول على غيره ، من الحجة وحينئذ ينبغي حمل قوله « فحجته عليه ماله » على أن المحتج له إصلاح ماله وصرفه في مصارفه وحفظه عن التضييع والإسراف فيه.

باب (١)

ليس الباب في بعض النسخ ، وإنما لم يعنون لأنه من الباب الأول ، وإنما أفرد لامتياز حديثه بخصوصية كما لا يخفى.

الحديث الأول : ضعيف

« المعرفة والجهل » أقول : قد مر الكلام فيهما سابقا ونقل إجماع المتكلمين على وجوب

__________________

(١) كذا في النسخ ومنه يظهر أنّ عنوان الباب غير موجود في النسخ التي عنده (ره).


______________________________________________________

النظر في معرفة الله تعالى ، بل إجماع الأمة عليه ، وإنما اختلفوا في أن وجوبها عقلي أو شرعي ونسب إلى البراهمة أنها تحصل بالإلهام ، وإلى الملاحدة أنها تحصل بالتعليم ، وإلى المتصوفة أنها تحصل بتصفية الباطن والرياضات ، وربما يقال : إن النظر في معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله والعقائد الدينية على ما تفعله المتكلمون بدعة في الدين ، لم ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة والخلفاء الراشدين ، ولو كانوا قد اشتغلوا بها لنقل إلينا لتوفر الدواعي على نقله كما نقل اشتغالهم بالمسائل الفقهية على اختلاف أصنافها ، وأجيب بمنع عدم النقل بل تواتر أنهم كانوا يبحثون عن دلائل التوحيد وما يتعلق به ، والقرآن مملوء منه ، وهل ما يذكر في كتب الكلام إلا قطرة من بحر مما نطق به الكتاب الكريم؟ نعم أنهم لم يدونوها ولم يشتغلوا بتقرير المذاهب وتحرير الاصطلاحات ، ولم يبالغوا في تفصيل الأسئلة وتلخيص الجوابات لاختصاصهم بصفاء النفوس وقوة الأذهان ، ومشاهدة الوحي المقتضية لفيضان أنوار العرفان ، والتمكن من مراجعة من يفيدهم ويدفع عنهم ما عسى أن يعرض لهم من الشكوك والشبهات في كل حين ، مع قلة عناد المعاندين وندرة تشكيك المشككين ، بخلاف زمان من بعدهم إلى زماننا هذا ، حيث كثرت المذاهب والمقالات ، وشاعت المنازعات والمجادلات ، فاجتمع بالتدريج لأهل الأعصار التالية جميع ما حدث في الأزمان والقرون الخالية ، فاحتيج إلى تدوين مسائل الكلام وتقرير كل ما أورد على كل حجة من النقض والإبرام.

قالوا : فإن ادعى أن هذا التدوين بدعة فرب بدعة حسنة ، وذلك بعينه كالاشتغال بتدوين الفقه وأصوله ، وترتيب أبوابه وفصوله ، فإنه حدث بعد ما لم يكن فكما ليس ذلك بقادح في الفقه ليس هذا بضائر للكلام ، وقد أمر الله سبحانه بالنظر في آيات كثيرة كقوله تعالى : « قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » (١) وقوله تعالى : « فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها » (٢) فأمر بالنظر وهو

__________________

(١) سورة يونس : ١٠١.

(٢) سورة الروم : ٥٠.


______________________________________________________

للوجوب ، ولما نزل : « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ » (١) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويل لمن لاكها بين لحيتيه ولم يتفكر فيها ، فقد أوعد بترك التفكر في دلائل المعرفة ، فيكون واجبا ، إذ لا وعيد على ترك غير الواجب.

أقول : قال الشيخ المفيد قدس الله روحه في كتاب المقالات : المعرفة بالله تعالى اكتساب وكذلك المعرفة بأنبيائه عليهم‌السلام وكل غائب ، وإنه لا يجوز الاضطرار إلى معرفة شيء مما ذكرناه وهو مذهب كثير من الإمامية والبغداديين من المعتزلة خاصة ، ويخالف فيه البصريون من المعتزلة والمجبرة والحشوية من أصحاب الحديث ، وقال في موضع آخر منه : العلم بالله عز وجل وأنبيائه عليهم‌السلام وبصحة دينه الذي ارتضاه وكل شيء لا تدرك حقيقته بالحواس ، ولا تكون المعرفة به قائمة في البداهة وإنما يحصل بضرب من القياس لا يصح أن يكون من جهة الاضطرار ، ولا يحصل على الأحوال كلها إلا من جهة الاكتساب ، كما لا يصح وقوع العلم بما طريقه الحواس من جهة القياس ، ولا يحصل العلم في حال من الأحوال بما في البداهة.

ثم قال رحمه‌الله : العلم بصحة جميع الأخبار طريقه الاستدلال وهو حاصل من جهة الاكتساب ، ولا يصح وقوع شيء منه بالاضطرار ، والقول فيه كالقول في جملة الغائبات ، وإلى هذا القول ذهب جمهور البغداديين ويخالف فيه البصريون والمشبهة وأهل الأخبار ، وأما العلم بالحواس فهو على ثلاثة أضرب ، فضرب هو من فعل الله تعالى ، وضرب من فعل الحاس ، وضرب من فعل غيره من العباد ، فأما فعل الله تعالى فهو ما حصل للعالم به عن سبب من الله ، كعلمه بصوت الرعد ولون البرق ووجود الحر والبرد وأصوات الرياح وما أشبه ذلك مما يبده ذو الحاسة من غير أن يتعمد لإحساسه ، ويكون بسبب من الله سبحانه ، ليس للعباد فيه اختيار ، فأما فعل الحاس فهو ما حصل له عقيب فتح بصره أو الإصغاء بإذنه أو التعمد لإحساسه بشيء من حواسه

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٩٠.


______________________________________________________

أو يفعله السبب الموجب لإحساس المحسوس ، وحصول العلم به ، وأما فعل غير الحاس من العباد فهو ما حصل للحاس بسبب من بعض العباد كالصائح بغيره وهو غير متعمد لسماعة أو المولم له فلا يمتنع من العلم بالألم عند إيلامه وما أشبه ذلك ، وهذا مذهب جمهور المتكلمين من أهل بغداد ومخالف فيه من سميناه « انتهى ».

وأقول : الغرض من إيراد هذه الوجوه أن تطلع على مذاهب القوم في ذلك ، وإن كان للنظر فيها مجال واسع ، ولنتكلم على الخبر فنقول : قد عرفت الوجوه التي يمكن حمل أمثال هذا الخبر عليه ، ولنعد بعضها :

الأول : أنه يصح على القول بأن جميع العلوم والمعارف فائضة من قبل الله سبحانه بحسب استعدادات العباد وقابلياتهم إما بلا واسطة أو بتوسط الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، وإنما الواجب على الخلق أن يخلو أنفسهم عن الأغراض الدنية والحمية والعصبية ، ويصيروا طالبين للحق ثم بعد إفاضة الحق عليهم أن يقروا بها ظاهرا ولا ينكروا ولا يكونوا كالذين قال الله سبحانه فيهم : « جَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ » (١).

قال المحقق الطوسي روح الله روحه القدوسي : ولا بد فيه أي في العلم من الاستعداد ، أما الضروري فبالحواس ، وأما الكسبي فبالأول ، وقال العلامة رفع الله مقامه في شرحه : قد بينا أن العلم أما ضروري وإما كسبي ، وكلاهما حصل بعد عدمه ، إذ الفطرة البشرية خلقت أولا عارية عن العلوم ، ثم يحصل لها العلم بقسميه فلا بد من استعداد سابق مغاير للنفس ، وفاعل للعلم ، فالضروري فاعله هو الله تعالى إذ القابل لا يخرج المقبول من القوة إلى الفعل بذاته ، وإلا لم ينفك عنه ، وللقبول درجات مختلفة في القرب والبعد ، وإنما يستعد النفس للقبول على التدريج فينتقل من أقصى مراتب البعد إلى أدناها قليلا قليلا لأجل المعدات التي هي الإحساس بالحواس على اختلافها ، والتمرن عليها وتكرارها مرة بعد أخرى ، فيتم الاستعداد

__________________

(١) سورة النمل : ١٤.


______________________________________________________

لإفاضة العلوم البديهية الكلية من التصورات والتصديقات بين كليات تلك المحسوسات وأما النظرية فإنها مستفادة من النفس أو من الله تعالى على اختلاف الآراء ، لكن بواسطة الاستعداد بالعلوم البديهية ، أما في التصورات فبالحد والرسم ، وأما في التصديقات فبالقياسات المستندة إلى المقدمات الضرورية « انتهى ».

وظاهر كلام المصنف أن الإفاضة من المبدأ الفياض ، وليس من فعل النفس بالتوليد كما ذهب إليه المعتزلة.

وقال صاحب الفوائد المدنية رحمه‌الله : هنا إشكال كان لا يزال يخطر ببالي من أوائل سني ، وهو أنه كيف تقول بأن التصديقات فائضة من الله تعالى على النفوس الناطقة ، ومنها كاذبة ومنها كفرية ، هذا إنما يتجه على رأي جمهور الأشاعرة القائلين بجواز العكس بأن يجعل الله كل ما حرمه واجبا وبالعكس ، المنكرين للحسن والقبح الذاتيين ، لا على رأي محققيهم ، ولا على رأي المعتزلة ، ولا على رأي أصحابنا؟ والجواب أن التصديقات الصادقة فائضة على القلوب بلا واسطة أو بواسطة ملك ، وهي تكون جزما أو ظنا ، والتصديقات الكاذبة تقع في القلوب بإلهام الشيطان ، وهي لا تتعدى الظن ولا تبلغ إلى حد الجزم ، وفي الأحاديث تصريحات بأن من جملة نعماء الله تعالى على بعض عبادة أنه يسلط ملكا يسدده ويلهمه الحق ، ومن جملة غضب الله على بعض أنه يخلى بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل ، وبأن الله تعالى يحول بين المرء وبين أن يجزم جزما باطلا « انتهى ».

وعلى ما ذكره يكون المراد بالمعرفة العلم اليقيني المطابق ، والجهل يشمل البسيط والمركب ، ونسبته إليه سبحانه من جهة التخلية ، ولا يرد على شيء من تلك الوجوه عدم معاقبة الكفار والمخالفين على عقائدهم الباطلة ، لأنهم إما موقنون في أنفسهم منكرون ظاهرا فيعاقبون على الإنكار أو غير موقنين لتقصيرهم في المبادئ ، فلذا يعاقبون.


______________________________________________________

ويؤيده ما رواه الصدوق في التوحيد عن عبد الرحيم القصير قال : كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله عليه‌السلام اختلف الناس جعلت فداك بالعراق في المعرفة والجحود ، فأخبرني جعلت فداك أهما مخلوقان؟ فكتب عليه‌السلام : اعلم رحمك الله أن المعرفة من صنع الله عز وجل في القلب مخلوقة ، والجحود صنع الله في القلب مخلوق ، وليس للعباد فيهما من صنع ، فلهم فيهما الاختيار من الاكتساب ، فبشهوتهم الإيمان اختاروا المعرفة ، فكانوا بذلك مؤمنين عارفين ، وبشهوتهم الكفر اختاروا الجحود فكانوا بذلك كافرين جاحدين ضلالا ، وذلك بتوفيق الله لهم وخذلان من خذله الله ، فبالاختيار والاكتساب عاقبهم الله وأثابهم ، إلى آخر الخبر.

إذ ظاهره أن المفيض للمعارف هو الرب تعالى ، وللنظر والتفكر والطلب مدخل فيها ، وإنما يثابون ويعاقبون بفعل تلك المبادئ وتركها ، ويحتمل أن يكون المعنى أن المعرفة ليست إلا من قبله تعالى ، إما بإلقائها في قلوبهم أو ببيان الأنبياء والحجج عليهم‌السلام ، وإنما كلف العباد بقبول ذلك وإقرارهم به ظاهرا وتخلية النفس قبل ذلك لطلب الحق عن العصبية والعناد ، وعما يوجب الحرمان عن الحق من تقليد أهل الفساد ، فهذا هو المراد بالاختيار من الاكتساب ، ثم بين عليه‌السلام أن لتوفيق الله وخذلانه أيضا مدخلا في ذلك الاكتساب أيضا كما مر تحقيقه.

الثاني : أن يخص بمعرفة الخالق والإقرار بوجوده سبحانه ، فإنها فطرية كما عرفت ، وروي في قرب الإسناد من معاوية بن حكيم عن البزنطي قال : قلت للرضا عليه‌السلام : للناس في المعرفة صنع؟ قال : لا ، قلت : لهم عليها ثواب؟ قال : يتطول عليهم بالثواب كما يتطول عليهم بالمعرفة ، وروي في المحاسن بسند صحيح عن صفوان قال : قلت للعبد الصالح : هل في الناس استطاعة يتعاطون بها المعرفة؟ قال : لا ، إنما هو تطول من الله ، قلت : أفلهم على المعرفة ثواب إذا كان ليس لهم فيها ما يتعاطونه بمنزلة الركوع والسجود الذي أمروا به ففعلوه؟ قال : لا إنما هو تطول من الله عليهم


______________________________________________________

وتطول بالثواب. وفي الصحيح أيضا عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ » (١) قال : كان ذلك معاينة فأنساهم المعاينة وأثبت الإقرار في صدورهم ، ولو لا ذلك ما عرف أحد خالقه ولا رازقه ، وهو قول الله : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ » (٢).

الثالث : أن يعم بحيث يشمل جميع أصول الدين ، ويكون المراد أن الهداية إنما هو من الله سبحانه كما قال : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ » (٣) لأن الله تعالى أعطى العقل وأقام الحجج على وجوده وعلمه وقدرته وحكمته في الآفاق والأنفس ، ثم بعث الأنبياء عليهم‌السلام ليبينوا للناس ما لا يفي به عقولهم ، وأيدهم بالمعجزات الباهرات ، ثم نصب لهم الأوصياء فترجع أسباب الهداية كلها إليه سبحانه ، وليس للعباد فيها مدخلية تامة ، ويكون المراد بالجهل الجهل ببعض الأمور كمن لم تقم عليه حجة من المستضعفين في الإمامة وغيرها ، فيعذرهم أو بالجميع كالمجانين.

الرابع : أن يكون المراد سوى ما يتوقف عليه العلم بحقية الرسل عليهم‌السلام ، فالمراد أن ما سوى ذلك توقيفية يعرفها الله بتوسطهم عليهم‌السلام ولم يكلفهم تحصيلها بالنظر كما قررنا سابقا.

الخامس : أن يكون المراد بالمعرفة كمالها ، وبالجهل مقابله فإنهما بتوفيق الله سبحانه وخذلانه بأسباب راجعة إلى العبد كما دلت عليه الأخبار وشهدت به التجربة والاعتبار.

السادس : أن تحمل على العلم بالأحكام الشرعية ردا على المخالفين القائلين بجواز استنباطها بقياس العقول واستحساناتها ، كما روى البرقي في المحاسن بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ليس على الناس أن يعلموا حتى يكون الله هو المعلم لهم ، فإذا علمهم فعليهم أن يعلموا ، وقد مضت الأخبار الدالة على النهي عن

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٧٢.

(٢) سورة الزخرف : ٨٧.

(٣) سورة القصص : ٥٦.


باب حجج الله على خلقه

١ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن أبي شعيب المحاملي ، عن درست بن أبي منصور ، عن بريد بن معاوية ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ليس لله على خلقه أن يعرفوا وللخلق على الله أن يعرفهم ولله على الخلق إذا عرفهم أن يقبلوا.

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحجال ، عن ثعلبة

______________________________________________________

اتباع الأهواء والعمل بالقياس في الدين.

السابع : حمله على التقية لموافقته ظاهر المذاهب الأشاعرة وأشباههم ، لكن لا ضرورة فيه ، وحمله على بعض الوجوه السابقة أظهر.

والرضا كيفية نفسانية تنفعل بها النفس وتتحرك نحو قبول شيء ، سواء كان ذلك الشيء مرغوبا لها أو مكروها ، والغضب حالة نفسانية تنفعل بها النفس وتتحرك نحو الانتقام ، وقد يطلقان على نفس الانفعالين ، والنوم حالة تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة ، بحيث تقف الحواس عن أفعالها ، لعدم انصباب الروح الحيواني إليها ، واليقظة زوال تلك الحالة.

وأقول : لعل تخصيص تلك الستة من بين سائر الصفات النفسانية لأنها مما يتوهم فيها كونها بالاختيار ، أو يقال : أنها أصول الكيفيات النفسانية فيظهر سائرها بالمقايسة ، كاللذة والألم ، والإرادة والكراهة والحياة والموت ، والصحة والمرض ، والفرح والغم ، والحزن والهم ، والبخل والحقد وأشباهها ، والأول أظهر.

باب حجج الله على خلقه

الحديث الأول : ضعيف.

ويعرف شرحه مما مر في الأخبار السابقة ، وهذه الأخبار وأمثالها مما يدل على الحسن والقبح العقليين.

الحديث الثاني : مجهول.


ابن ميمون ، عن عبد الأعلى بن أعين قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام من لم يعرف شيئا ـ هل عليه شيء قال لا.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن داود بن فرقد ، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم.

______________________________________________________

قوله من لم يعرف ، على بناء المعلوم من المجرد أو المجهول من باب التفعيل « شيئا » على العموم أي شيئا من الأشياء بإرسال الرسل أو الوحي أو الإلهام ، هل يجب عليه شيء يؤاخذ بتركه ويعاقب عليه؟ أو المراد من لم يعرف شيئا خاصا بتعريفه سبحانه هل يجب ذلك الشيء عليه ويؤاخذ بتركه؟ والجواب بنفي الوجوب أما على الأول فلقوله تعالى : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً » (١) ولأن من لم يعرف شيئا حتى المعرفة بالله سبحانه التي من صنع الله كما مر على بعض الوجوه كيف يؤاخذ بعدم المعرفة به ، وبما يترتب عليه كما قيل ، وأما على الثاني فللآية ولأن مؤاخذة الغافل عن الشيء من غير أن ينبه عليه وعقابه على تركه قبيح عقلا ، وقيل : إفاضة المعرفة من الله لا يعاقب على عدمها ، وإنما يعاقب على ترك التحصيل كما مر في بعض الوجوه ، ويدل على أن الجاهل معذور ، وعلى أن من لم تبلغه الدعوة ولم تتم عليه الحجة غير معاقب.

الحديث الثالث : مجهول.

قوله : ما حجب الله عن العباد ، وفي التوحيد « علمه » وظاهره عدم تكليف العباد في التفكر في الأمور التي لم تبين لهم في الكتاب والسنة ، وربما يحمل على ما ليس في وسعهم العلم به كأسرار القضاء والقدر وأمثالها ، وعلى التقادير يدل على أن الجاهل بالحكم مع عدم التقصير في تحصيله معذور.

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٥.


٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن علي بن الحكم ، عن أبان الأحمر ، عن حمزة بن الطيار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال لي اكتب فأملى علي إن من قولنا إن الله يحتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم رسولا وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى أمر فيه بالصلاة والصيام فنام رسول الله

______________________________________________________

الحديث الرابع : حسن موثق.

قوله عليه‌السلام : اكتب ، يدل على استحباب كتابة الحديث ولعل الأمر هنا للاعتناء بشأن ما يمليه لئلا ينسى شيئا منه ، والإملاء الإلقاء على الكاتب ليكتب ، وأصله من المضاعف فأبدل الثاني ياء ، كما قال تعالى على الأصل : « وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ » (١) « بما آتاهم » أي من العقول « وعرفهم » ولعل المراد هنا معرفة الله سبحانه التي عرفها العباد بفطرهم عليها ، أو بنصب الدلائل الواضحة في الآفاق والأنفس عليها ، ويدل عليه قوله عليه‌السلام : ثم أرسل إليهم ، فإن إرسال الرسول إنما يتأخر عن هذا التعريف

« وأنزل عليهم » وفي التوحيد « عليه » بإرجاع الضمير إلى الرسول وخص الصلاة والصيام بالذكر لأنهما من أعاظم أركان الإيمان والإسلام ، فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا النوم رواه العامة والخاصة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نام في المعرس حتى طلعت الشمس ، ومن أنكر سهو النبي لم ينكر هذا كما ذكره الشهيد (ره) لكنه ينافي ظاهرا ما عد من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه كان ينام عينه ولا ينام قلبه ، فيلزم ترك الصلاة متعمدا.

وأجيب عنه بوجوه : « الأول » أن المراد لا ينام قلبه في الأكثر وهذه الإنامة كانت لمصلحة فكان كنوم الناس.

الثاني : ما ذكره بعض العامة أن المراد أنه لا يستغرقه النوم حتى يصدر منه الحدث.

الثالث : ما قال بعضهم أيضا إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر أن عينيه تنامان وهما اللتان نامتا هيهنا ، لأن طلوع الفجر يدرك بالعين لا بالقلب ، ولا يخفى ما فيه إذ ظاهر

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٢.


صلى الله عليه واله عن الصلاة فقال أنا أنيمك وأنا أوقظك فإذا قمت فصل ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون ليس كما يقولون إذا نام عنها هلك وكذلك الصيام أنا أمرضك وأنا أصحك فإذا شفيتك فاقضه ـ ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق ولم تجد أحدا إلا ولله عليه الحجة ولله فيه المشيئة ولا أقول إنهم ما شاءوا صنعوا ثم قال إن الله يهدي ويضل

______________________________________________________

أن الغرض اطلاعه عليه‌السلام على ما يخفى على النائم ، سواء كان مما يدرك بالعين أم لا كما يدل عليه قصة ابن أبي رافع وغيرها ، وأوردناها في الكتاب الكبير.

الرابع : ما يخطر بالبال وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن مكلفا بالعمل بما يعلمه من غير الجهات التي يعلم بها سائر الخلق ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلم كفر المنافقين ولم يكن مأمورا بالعمل بما يقتضيه هذا العلم من قتلهم والاجتناب عنهم وعدم مناكحتهم وغيرها من الأحكام ، وكان الأئمة عليه‌السلام يعلمون كون السم في الطعام أو الذهاب إلى العدو يوجب القتل أو هزيمة الأصحاب ولم يكونوا مكلفين بالعمل بهذا العلم ، فلا يبعد أن يكون مع العلم بالفجر الصلاة ساقطة عنه أو مأمورا بتركها لتلك المصلحة ، ويمكن أن يعد هذا الوجه الأخير جوابا خامسا وسيأتي بعض القول فيه في كتاب الصلاة إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : أنا أنمتك ، في بعض النسخ أنيمك على صيغة المضارع كما في التوحيد وهو أصوب ، وهذا الكلام وما بعده لبيان أن الله تعالى لم يضيق على العباد في التكاليف بل وسع عليهم فيها ، فكيف يتوهم أنه جبرهم على المعاصي أو كلفهم ما لا يعلمون أو لا يطيقون؟ وقوله عليه‌السلام : ولله عليه الحجة ، كالدليل على ذلك ، فإنه لا حجة على المجبور ولا على الجاهل لكونهما معذورين ، وقوله : ولله فيه المشية ، إشارة إلى نفي التفويض كما عرفت ، كما صرح به بقوله : ولا أقول إنهم ما شاء واصنعوا ، بل لا بد من إذنه تعالى وتوفيقه أو خذلانه وتخليته كما مر ، أو المراد نفي التفويض بمعنى عدم الحصر بالأمر والنهي ، وهو بعيد.

« إن الله يهدي ويضل » قيل : أي يثيب ويعاقب أو يرشد في الآخرة إلى طريق


______________________________________________________

الجنة والنار للمطيع والعاصي كما قيل في قوله تعالى : « سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ » (١) أو ينجي ويهلك كما فسر قوله تعالى : « لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ » (٢) بالنجاة وفسرت الضلالة في قوله تعالى : « فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ » (٣) وفي قوله : « أَإِذا ضَلَلْنا » (٤) بالهلاك أو يكون نسبة الهداية والإضلال إليه مجازا باعتبار أقداره على الخيرات والمعاصي ، والأظهر أن المراد بهما التوفيق للخيرات لمن يستحقه ، وسلبه وخذلانه ممن لا يستحقه كما مر.

وقال المحقق الطوسي (ره) في التجريد : الإضلال إشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة ، والإهلاك والهدى مقابل ، والأولان منفيان عنه تعالى ، وقال العلامة قدس‌سره في الشرح : يطلق الإضلال على الإشارة إلى خلاف الحق والبأس الحق بالباطل ، كما تقول : أضلني فلان عن الطريق إذا أشار إلى غيره ، وأوهم أنه هو الطريق ويطلق على فعل الضلالة في الإنسان كفعل الجهل فيه ، حتى يكون معتقدا خلاف الحق ، ويطلق على الإهلاك والبطلان كما قال الله تعالى : « فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ » بمعنى فلن يبطلها ، والهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني ، فيقال بمعنى أعمالهم بمعنى فلن يبطلها ، والهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني ، فيقال بمعنى نصب الدلالة على الحق كما تقول : هداني إلى الطريق ، وبمعنى فعل الهدى في الإنسان حتى الدلالة على الحق كما تقول : هداني إلى الطريق ، وبمعنى فعل الهدى في الإنسان حتى يعتقد المشي على ما هو به ، وبمعنى الإثابة كقوله تعالى : « سَيَهْدِيهِمْ » يعني سيثيبهم والأولان منفيان عنه تعالى بمعنى الإشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة ، لأنهما قبيحان والله تعالى منزه عن فعل القبيح ، وأما الهداية فإن الله نصب الدلالة على الحق وفعل الهداية الضرورية في العقلاء ولم يفعل الإيمان فيهم لأنه كلفهم به ويثيب على الإيمان ، فمعاني الهداية صادقة في حقه تعالى إلا فعل ما كلف به ، وإذا قيل : إن الله تعالى يهدي ويضل ، فإن المراد به أنه يهدي المؤمنين بمعنى أنه يثيبهم ، ويضل

__________________

(١) سورة محمد : ٥.

(٢) سورة إبراهيم : ٢١.

(٣) سورة محمد : ٤.

(٤) سورة السجدة : ١٠.


______________________________________________________

العصاة بمعنى أنه يهلكهم ويعاقبهم ، وقول موسى عليه‌السلام : « إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ » (١) فالمراد بالفتنة الشدة والتكليف الصعب ، « تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ » أي تهلك من تشاء وهم الكفار « انتهى ».

وقال الفاضل المحدث الأسترآبادي (ره) في حاشيته على هذا الحديث : يجيء في باب ثبوت الإيمان أن الله خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيمانا بشريعة وكفرا بجحود ، ثم بعث الله الرسل يدعو العباد إلى الإيمان به ، فمنهم من هدى الله ومنهم من لم يهد الله ، وأقول : هذا إشارة إلى الحالة التي سمتها الحكماء العقل الهيولاني ومعنى الضال هو الذي انحرف عن صوب الصواب ولما لم يكن قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب صوب صواب امتنع حينئذ الانحراف عنه ، ولما حصل أمكن ذلك ، فيكون الله تعالى سببا بعيدا في ضلالة الضال ، وهذا هو المراد بقوله عليه‌السلام : « يضل ».

وقال في الفوائد المدنية : وأما أنه تعالى هو المضل فقد تواترت الأخبار عنهم عليهم‌السلام بأن الله يخرج العبد من الشقاوة إلى السعادة ولا يخرجه من السعادة إلى الشقاوة ، فلا بد من الجمع بينهما ، ووجه الجمع كما يستفاد من الأحاديث وإليه ذهب ابن بابويه : أن من جملة غضب الله تعالى على العباد أنه إذا وقع منهم عصيان ينكت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب وأناب يزيل الله تعالى تلك النكتة ، وإلا فتنتشر تلك النكتة حتى تستوعب قلبه كله ، فحينئذ لا يرد قلبه إلى موضعه دليل.

لا يقال : من المعلوم أنه مكلف بعد ذلك ، فإذا امتنع تأثر قلبه بكون تكليفه بالطاعة من قبيل التكليف بما لا يطاق؟.

لأنا نقول : من المعلوم أن انتشار النكتة لا ينتهي إلى حد تعذر التأثر ، ومما يؤيد هذا المقام ما اشتمل عليه كثير من الأدعية المأثورة عن أهل بيت النبوة صلوات

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٥٥.


______________________________________________________

الله عليهم من الاستعاذة بالله من ذنب لا يوفق صاحبه للتوبة بعده أبدا. ثم أقول : هيهنا دقيقة أخرى وهي أنه يستفاد من قوله تعالى : « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » (١) أي نجد الخير ونجد الشر ، ومن نظائره من الآيات والروايات ، ومن قوله تعالى : « أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ » (٢) ومن نظائره من الآيات والروايات أن تصوير النجدين وتمييز نجد الخير من نجد الشر من جانبه تعالى ، وأنه تعالى قد يحول بين المرء وبين أن يميل إلى الباطل ، وقد لا يحول ويخلي بينه وبين الشيطان ليضله عن الحق ويلهمه الباطل ، وذلك نوع من غضبه ، ويتضرع على اختيار العبد العمى بعد أن عرفه الله تعالى نجد الخير ونجد الشر ، فهذا معنى كونه تعالى هاديا ومضلا ، وبالجملة أن الله يقعد أولا في أحد أذني قلب الإنسان ملكا ، وفي أحد أذنيه شيطانا ثم يلقى في قلبه اليقين بالمعارف الضرورية ، فإن عزم الإنسان على إظهار تلك المعارف والعمل بمقتضاها يزيد الله في توفيقه ، وإن عزم على إخفائها وإظهار خلافها يرفع الملك عن قلبه ويخلي بينه وبين الشيطان ليلقي في قلبه الأباطيل الظنية ، وهذا معنى كونه تعالى مضلا لبعض عباده « انتهى ».

وقال بعض المحققين في جواب استدلال الأشاعرة بقوله تعالى : « يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ » (٣) على مذهبهم الفاسد : هذا مدفوع بما فصله الأصحاب في تحقيق معنى الهداية والضلالة ، وحاصله أن الهدى يستعمل في اللغة بمعنى الدلالة والإرشاد نحو « إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى » (٤) وبمعنى التوفيق نحو « وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً » (٥) وبمعنى الثواب نحو « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ » (٦) وبمعنى الفوز والنجاة نحو « لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ » (٧)

__________________

(١) سورة البلد : ١٠.

(٢) سورة الأنفال : ٢٤.

(٣) سورة النحل : ٩٣.

(٤) سورة الليل : ١٢.

(٥) سورة محمد : ١٧.

(٦) سورة يونس : ٩.

(٧) سورة إبراهيم : ٢١.


وقال وما أمروا إلا بدون سعتهم وكل شيء أمر الناس به فهم يسعون له وكل شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم ثم تلا عليه‌السلام « لَيْسَ

______________________________________________________

وبمعنى الحكم والتسمية نحو « أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ » (١) يعني أتريدون أن تسموا مهتديا من سماه الله ضالا ، وحكم بذلك عليه.

والإضلال يأتي على وجوه : « أحدهما » الجهل بالشيء يقال : أضل بعيره إذا جهل مكانه « وثانيها » الإضاعة والإبطال يقال : أضله أي إضاعة وأبطله ، ومنه قوله تعالى : « أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ » (٢) أي أبطلها « وثالثها » بمعنى الحكم والتسمية يقال أضل فلان فلانا أي حكم عليه بذلك ، وسماه به « ورابعها » بمعنى الوجدان والمصادفة ، يقال : أضللت فلانا أي وجدته ضالا ، كما يقال : أبخلته أي وجدته بخيلا ، وعليه حمل قوله تعالى : « وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ » (٣) أي وجده ضالا وحمل أيضا على معنى الحكم والتسمية وعلى معنى العذاب « وخامسها » أن يفعل ما عنده يضل ويضيفه (٤) مجازا لأجل ذلك كقوله تعالى : « يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً » (٥) أي يضل عنده كثير « وسادسها » أن يكون متعديا إلى مفعولين نحو « فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا » (٦) « لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ » (٧) وهذا هو الإضلال بمعنى الإغواء وهو محل الخطاب (٨) بيننا وبينهم ، وليس في القرآن ولا في السنة شيء يضاف إلى الله تعالى بهذا المعنى « انتهى ».

« وما أمروا إلا بدون سعتهم » أي أقل من طاقتهم ، بل السعة أوسع من الطاقة وهو يتضمن السهولة ، ويحتمل أن يكون دون بمعنى عند « ولكن الناس لا خير فيهم » إذ وسع عليهم هذه التوسعة ، ومع ذلك لا يطيعونه ، أو المراد أن ما لم يقع

__________________

(١) سورة النساء : ٨٨.

(٢) سورة محمد : ١.

(٣) سورة الجاثية : ٢٣.

(٤) كذا في النسخ وفي شرح مولى محمد صالح « يضيفه إلى نفسه ... » وهو الظاهر.

(٥) سورة البقرة : ٢٦.

(٦) سورة الأحزاب : ٦.

(٧) سورة الزمر : ٨.

(٨) وفيه أيضا « الخلاف » بدل « الخطاب ».


عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ » فوضع عنهم « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ » (١) قال فوضع عنهم لأنهم لا يجدون.

______________________________________________________

من المأمور به ليس لأنهم لا يسعون بل لأنه لا خير فيهم ، ويحتمل أن يكون المراد بالناس العامة المجبرة حيث ينسبون ربهم إلى الجور والظلم ، مع هذه التوسعة التي جعلها الله في التكاليف.

وقيل : المعنى المخالفون لا خير فيهم ، حيث تمسكوا في أصول الدين وفروعه بمفتريات أوهامهم ، وتركوا اتباع من جعله الله مبينا وهاديا لهم « ثم تلا عليه‌السلام » استشهادا لقوله : لم تجد أحدا في ضيق ، وقوله : وما أمروا إلا بدون سعتهم « لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ » لكمال فقرهم « ما يُنْفِقُونَ » في سبيل الجهاد « حَرَجٌ » فوضع عنهم تكليف الخروج والحرج والإثم للقعود عن الجهاد والتأخر عن الخروج « ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ » وهم الضعفاء والمرضى « مِنْ سَبِيلٍ » إلى معاتبتهم ومؤاخذتهم وتكليفهم ما ليس في وسعهم ، وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على أن اتصافهم بصفة الإحسان ودخولهم في المجاهدين بالقلب واللسان ، وإن تخلفوا عنهم بالأبدان صار منشأ لنفي الحرج عنهم كما قال سبحانه : « إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ». « وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » يغفر لهم خطيئاتهم ولا يكلفهم بما لا يطيقون « وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ » من فقراء الصحابة « لِتَحْمِلَهُمْ » إلى الجهاد بتحصيل الراحلة والزاد لينفروا معك « قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ » قال : فوضع عنهم الجهاد والحرج لأنهم لا يجدون ما يركبون وما ينفقون.

قيل : والمقصود من ذكر الآية أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، فكيف يكلف الناس على اختلاف عقولهم وأهوائهم أن يكتسبوا المعارف والأحكام بأوهامهم ، ولا يبين لهم ذلك بهاد يهديهم ومرشد يرشدهم ، والله يعلم حقائق الأمور.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩١ ـ ٩٢.


باب الهداية أنها من الله عز وجل

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن إسماعيل ، عن إسماعيل السراج ، عن ابن مسكان ، عن ثابت بن سعيد قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام يا ثابت ما لكم وللناس كفوا عن الناس ولا تدعوا أحدا إلى أمركم فو الله لو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلالته ما استطاعوا

______________________________________________________

باب الهداية أنها من الله عز وجل

الحديث الأول : مجهول.

قوله عليه‌السلام : ما لكم وللناس؟ الواو للعطف على الضمير المجرور بإعادة الجار ، والعامل معنوي يشعر به كلمة الاستفهام وحروف الجر الطالبان للفعل ، والمعنى : ما تصنعون أنتم والناس ، ثم إن أخبار هذا الباب تشتمل على أمرين :

الأول : ترك المجادلة والمخاصمة والاحتجاج في مسائل الدين ، والآيات والأخبار في ذلك متعارضة ظاهرا إذ كثير منها دالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفضل الهداية والتعليم ، ودفع شبه المخالفين ، وكثير منها تدل على رجحان الكف عن ذلك وعدم التعرض لهم والنهي عن المراء والمجادلة والمخاصمة.

ويمكن الجمع بينها بوجوه : « الأول » حمل أخبار النهي على التقية والاتقاء على الشيعة فإنهم لحرصهم على هداية الخلق ودخولهم في هذا الأمر كانوا يلقون أنفسهم في المهالك ، ويحتجون على المخالفين بما يعود به الضرر العظيم عليهم وعلى أنفسهم في المهالك ، ويحتجون على المخالفين بما يعود به الضرر العظيم عليهم وعلى أئمتهم عليهم‌السلام ، كما كان من أمر هشام بن الحكم وأضرابه ، فنهوهم عن ذلك وأزالوا التوهم الذي صار سببا لحرصهم في ذلك من قدرتهم على هداية الخلق بالمبالغة والاهتمام في الاحتجاج فيها ، بأن الهداية بمعنى الإيصال إلى المطلوب من قبل الله تعالى ، ولو علم الله المصلحة في جبرهم على اختيار الحق لكان قادرا عليه ولفعل ، فإذا لم يفعل الله ذلك لمنافاته للتكليف وغير ذلك من المصالح ، فلم تتعرضون أنتم للمهالك ، مع عدم


على أن يهدوه ولو أن أهل السماوات وأهل الأرضين اجتمعوا على أن يضلوا عبدا

______________________________________________________

قدرتكم عليه ، وقد منع الله نبيه صلوات الله عليه من ذلك وقال : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ » (١) وأما إظهار الحق فإنما يجب مع عدم التقية ، مع أنه قد تبين الرشد من الغي وتمت الحجة عليهم بما رأوا من فضل الأئمة وعلمهم وورعهم وكمالهم ، وفجور خلفائهم الجائرين وبغيهم ، وانتشرت الأخبار الدالة على الحق بينهم ، ويكفي ذلك لهدايتهم إن كانوا قابلين ، ولإتمام الحجة عليهم إن كانوا متعنتين.

« الثاني » أن يكون الأمر بها عند عدم ظهور الحق واشتباه الأمر على الناس والنهي عنها ، أو تجويز تركها عند وضوح الحق وظهور الأمر كما أشرنا إليه.

« الثالث » أن يحمل أخبار الأمر على ما إذا كان لظهور الحق وهداية الخلق ، وأخبار النهي على ما إذا كان للمراء والمخاصمة ، وإظهار الفضل والكمال ، والتعنت والغلبة ، وإن كان بالباطل ، وهذا من أخس صفات الذميمة وأرذلها.

« الرابع » يمكن حمل بعض أخبار النهي على المسائل التي نهي عن الخوض فيها كمسألة القدر وكنه صفات الباري تعالى وأشباه ذلك.

« الخامس » أن يكون النهي محمولا على مجادلة من يعلم أنه لا يؤول إلى الحق لشدة رسوخه في باطله.

« السادس » أن يكون بعضها محمولا على من لا تقدر على إلقاء الحجج ودفع الشبه فيكون مخاصمته سببا لقوة حجة الخصم ورسوخه في ضلالته ، ويدل عليه ما رواه الكشي عن عبد الأعلى قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن الناس يعيبون علي بالكلام وأنا أكلم الناس؟ فقال : أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم ، وأما من يقع ثم لا يطير فلا ، وعن الطيار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : بلغني أنك كرهت مناظرة الناس؟ فقال : أما كلام مثلك فلا يكره من إذا طار يحسن أن يقع ، وإن وقع يحسن أن يطير ، فمن كان هكذا لا نكرهه ، وعن حماد قال : كان أبو الحسن عليه‌السلام يأمر محمد

__________________

(١) سورة القصص : ٥٦.


______________________________________________________

ابن حكيم أن يجالس أهل المدينة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن يكلمهم ويخاصمهم حتى كلمهم في صاحب القبر ، وكان إذا انصرف إليه قال : ما قلت لهم؟ وما قالوا لك؟ ويرضي بذلك منه ، وعن هشام بن الحكم قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : ما فعل ابن الطيار؟ قال : قلت : مات ، قال : رحمه‌الله ولقاه نضرة وسرورا فقد كان شديد الخصومة عنا أهل البيت.

ويؤيد الوجه الثالث ما روي في تفسير الإمام عليه‌السلام قال : ذكر عند الصادق عليه‌السلام الجدال في الدين ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين عليهم‌السلام قد نهوا عنه؟ فقال الصادق عليه‌السلام : لم ينه عنه مطلقا ، لكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن ، أما تسمعون إليه يقول : « وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (١) وقوله تعالى : « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (٢) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين ، والجدال بغير التي هي أحسن محرم ، وحرمه الله على شيعتنا ، وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول : « وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى » قال الله تعالى : « تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » (٣) فجعل علم الصدق والإيمان بالبرهان ، وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن ، قيل : يا بن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن والتي ليست بأحسن؟ فقال : أما الجدال بغير التي هي أحسن أن تجادل مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله تعالى ، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه ، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم ، وعلى المبطلين ، أما المبطلون فيجعلون الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلة

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٤٦.

(٢) سورة النحل : ١٢٥.

(٣) سورة البقرة : ١١١.


______________________________________________________

وضعف في يده حجة له على باطله ، وأما الضعفاء منكم فتعمى قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل ، ثم ذكر عليه‌السلام له احتجاجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أرباب الملل الباطلة.

ومما يؤيد سائر الوجوه ما رواه الصدوق في الخصال عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : إياك والخصومات فإنها تورث الشك وتحبط العمل ، وتردي صاحبها ، وعسى أن يتكلم الرجل بالشيء لا يغفر له ، وفي المجالس عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إياك والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عز وجل وتورث النفاق وتكسب الضغائن وتستجيز الكذب.

وما رواه الشيخ في مجالسه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال لأصحابه : اسمعوا مني كلاما هو خير لكم من الدهم الموقفة (١) : لا يتكلم أحدكم بما لا يعنيه ، وليدع كثيرا من الكلام فيما يعينه ، حتى يجد له موضعا ، فرب متكلم في غير موضعه جنى على نفسه بكلامه ، ولا يمارين أحدكم سفيها ولا حليما ، فإنه من مارى حليما أقصاه ، ومن مارى سفيها أرداه ، وفي المحاسن عن أبي بصير قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ادعوا الناس إلى ما في يدي؟ فقال : لا ، قلت : إن استرشدني أحد أرشده؟ قال : نعم ، إن استرشدك فأرشده ، فإن استزادك فزده ، فإن جاحدك فجاحده.

وروى السيد بن طاوس في كشف المحجة نقلا من كتاب عبد الله بن حماد عن عاصم الحناط عن أبي عبيدة الحذاء قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام وأنا عنده : إياك وأصحاب الكلام والخصومات ومجالستهم ، فإنهم تركوا ما أمروا بعلمه ، وتكلفوا ما لم يؤمروا بعلمه حتى تكلفوا علم السماء ، يا أبا عبيدة خالط الناس بأخلاقهم وزائلهم بأعمالهم ،

__________________

(١) هذا هو الظاهر الموافق للمصدر ولنسخة الشارح (ره) ، وفي نسخة « الدرهم الموقفة » وهو مصحّف ، والدهم جمع الأدهم : الأسود من الخيل والدواب ، والموقّفة ـ بتشديد القاف ـ : التي في قوائمها خطوط سود.


______________________________________________________

ومن الكتاب المذكور عن جميل قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : متكلمو هذه العصابة من شرار من هم منهم ، إلى غير ذلك من الأخبار التي أوردتها في كتاب بحار الأنوار.

وقال شارح التجريد القوشجي في سياق أدلة النافين لوجوب النظر شرعا : وثانيها : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن الجدل كما في مسألة القدر ، روي أنه صلوات الله عليه خرج على أصحابه فرآهم يتكلمون في القدر ، فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال : إنما هلك من كان قبلكم بخوضهم في هذا ، عزمت عليكم أن لا تخوضوا فيه أبدا ، وقال صلوات الله عليه : إذا ذكر القدر فأمسكوا ، ولا شك أن النظر جدل ، فيكون منهيا عنه لا واجبا ، وأجيب : بأن ذلك النهي الوارد عن الجدل إنما هو حيث كان الجدل تعنتا ولجاجا بتلفيق الشبهات الفاسدة لترويج الآراء الباطلة ، ودفع العقائد الحقة وإراءة الباطل في صورة الحق بالتلبيس والتدليس ، كما قال تعالى : « وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ » (١) وقال : « بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ » (٢) وقال « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ » (٣) ومثل هذا الجدال لا نزاع في كونه منهيا عنه ، وأما الجدل بالحق لإظهاره وإبطال الباطل فمأمور به ، قال الله تعالى : « وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (٤) ومجادلة الرسول لابن الزبعرى ، وعلي عليه‌السلام للقدري مشهورة إلى آخر ما قال.

الثاني : أن الهداية من الله سبحانه ، ولا يقدر الخلق عليها ، وهو حق ، ومحمول على الإيصال إلى المطلوب ، وهو مما لا يقدر عليه غيره تعالى ، وأما الهداية بمعنى إراءة الطريق فهي شأن الأنبياء والأوصياء والعلماء ، وربما يحمل على أن مفيض العلم

__________________

(١) سورة الغافر : ٥.

(٢) سورة زخرف : ٥٨.

(٣) سورة الحج : ٣ و ٨.

(٤) سورة النحل : ١٢٥.


يريد الله هدايته ما استطاعوا أن يضلوه كفوا عن الناس ولا يقول أحد عمي وأخي وابن عمي وجاري فإن الله إذا أراد بعبد خيرا طيب روحه فلا يسمع معروفا إلا عرفه ولا منكرا إلا أنكره ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره.

٢ ـ علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن حمران ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده وإذا أراد بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله ثم

______________________________________________________

هو الله تعالى كما مر ، والأول أظهر ، وهو المراد بقوله عليه‌السلام : على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلالته ، والمراد بإرادة الضلالة أن يكله إلى نفسه ، ويمنعه الألطاف الخاصة التي لا يستحقها ، فيختار الضلالة ، فإرادة الضلالة إرادة بالعرض وعلى المجاز ، وربما تأول الإرادة بالعلم الأزلي ، أو بالعذاب والهلاك كما مر ، وكذا إرادة الهداية توفيقه وتأييده بما يصير سببا لاختياره الاهتداء ، وربما تأول بالإثابة والإرشاد إلى طريق الجنة في الآخرة.

« ولا يقول أحد عمي » أي هذا عمي ويلزمني هدايته « فإن الله إذا أراد بعبد خيرا » أي استحق الألطاف الخاصة « طيب روحه » من خبث العقائد الباطلة « إلا عرفه » أي أيقن أنه حق « إلا أنكره » أي لم يذعن به ، وعلم أنه باطل « ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره » المراد بالكلمة ولاية الأئمة عليهم‌السلام ووجوب متابعتهم فبها يتم نجاته لأنه يأخذ عنهم ما ينجيه من العقائد والأعمال الحقة ، أو الإخلاص وصدق النية في طلب الحق ، وترك الأغراض الباطلة ، وقيل : أي كلمة التقوى وهي المعرفة الكاملة.

الحديث الثاني : مجهول.

قوله عليه‌السلام : إذا أراد بعبد خيرا ، أي لطفا يستحقه بحسن اختياره ، وقيل : أي علما « نكت في قلبه نكتة » أي أثر في قلبه تأثيرا وأفاض عليه علما يقينيا ينتقش


تلا هذه الآية « فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ » (١)

______________________________________________________

فيه من قولهم : نكت الأرض بالقضيب إذا أثر فيها ، وسمي اليقين بالنور إذ به يظهر حقائق الأشياء على النفس ، وفتح مسامع القلب كناية عن تهيئة لقبول ما يرد عليه من المعارف « ووكل به ملك يسدده » ويلهمه الحق ، ويدفع عنه استيلاء الشيطان بالشبهات ، « وإذا أراد بعبد سوءا » أي منع لطفه لعدم استحقاقه « نكت في قلبه » أي يخليه والشيطان ، فينكت الشيطان في قلبه نكتة سوداء من الجهالة والضلالة ، وما يصير سببا لعدم قبول الحق وسد مسامع قلبه ، أي لا يوفقه لقبول الحق ولا يفعل به ما فعل بمن استحق الألطاف الخاصة ، فكأنه سبحانه سد مسامع قلبه ، وهو مثل قوله سبحانه : « خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ » (٢) « ووكل به شيطانا » أي يخلي بينه وبين الشيطان لعدم قبوله هداية الرحمن ، وإعراضه عن الحق بعد البيان.

قوله تعالى « فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ » قال البيضاوي : أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان « يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » فيتسع له ويفسح ما فيه مجالة وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة لحلوله فيها ، مصفاة عما يمنعه وينافيه « وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً » بحيث ينبو (٣) عن قبول الحق ، فلا يدخله الإيمان « كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ » شبهه مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة.

وقال الطبرسي : قد ذكر في تأويل الآية وجوه : « أحدهما » أن معناه من يرد الله أن يهديه إلى الثواب وطريق الجنة يشرح صدره في الدنيا للإسلام ، بأن يثبت عزمه عليه ويقوي دواعيه على التمسك ، ويزيل عن قلبه وساوس الشيطان ، وإنما يفعل ذلك لطفا ومنا عليه وثوابا على اهتدائه بهدي الله ، وقبوله إياه ونظيره قوله سبحانه

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٢٥.

(٢) سورة البقرة : ٧.

(٣) نبا الطبع عن الشيء : نفر ولم يقبله.


______________________________________________________

« وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً » (١) و « يَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً » (٢) و « مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ » عن ثوابه وكرامته « يَجْعَلْ صَدْرَهُ » في كفره « ضَيِّقاً حَرَجاً » عقوبة له علي تركه الإيمان من غير أن يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان وسالبا إياه القدرة عليه ، بل ربما يكون ذلك سببا داعيا له إلى الإيمان فإن من ضاق صدره بالشيء كان ذلك داعيا له إلى تركه ، وقد وردت الرواية الصحيحة أنه لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن شرح الصدر ما هو؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نور يقذفه الله في قلب المؤمن ، فينشرح له صدره ، وينفسخ قالوا : فهل لذلك من أمارة فيعرف بها؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله.

وثانيها : أن معنى الآية من يرد الله أن يثبته على الهدى يشرح صدره من الوجه الذي ذكرناه جزاء له على إيمانه واهتدائه ، وقد يطلق لفظ الهدى والمراد به الاستدامة كما قلناه في : اهدنا الصراط المستقيم « وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ » أي يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده لاختياره الكفر ، وتركه الإيمان « يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً » بأن يمنعه الألطاف التي ينشرح لها صدره لخروجه من قبولها ، بإقامته على كفره.

وثالثها : أن معنى الآية من يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التي وعدها المؤمن يشرح صدره لتلك الزيادة لأن من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة ، ومن يرد أن يضله عن تلك الزيادة بمعنى يذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن تصح عليه « يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً » لمكان فقد تلك الزيادة لأنها إذا اقتضت في المؤمن ما قلناه ، اقتضى في الكافر ما يضاده ، وتكون الفائدة في ذلك الترغيب في الإيمان والزجر عن الكفر ، وقد روي عن ابن عباس أنه قال : إنما سمي قلب الكافر حرجا لأنه لا يصل الخير إلى قلبه ، وفي رواية أخرى : لا تصل الحكمة إلى قلبه ، ولا يجوز أن يكون

__________________

(١) سورة محمد : ١٧.

(٢) سورة مريم : ٧٦.


______________________________________________________

المراد بالإضلال في الآية الدعاء إلى الضلال ، ولا الأمر به ، ولا الإجبار عليه ، لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يأمر بالضلال ، ولا يدعو إليه ، فكيف يجبر عليه ، والدعاء إليه أهون من الإجبار عليه ، وقد ذم الله سبحانه فرعون والسامري على إضلالهما عن دين الهدى في قوله : « وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى » (١) وقوله : « وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ » (٢) ولا خلاف في أن إضلالهما إضلال أمر وإجبار ودعاء ، وقد ذمهما الله سبحانه عليه مطلقا ، فكيف يتمدح بما ذم عليه غيره.

وقوله : « كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ » فيه وجوه : « أحدها » أن معناه كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه ، وكان قلبه يصعد إلى السماء نبوا عن الإسلام والحكمة عن الزجاج « وثانيها » أن معنى يصعد كأنه يتكلف مشقة في ارتقاء صعود « وثالثها » أن معناه كأنما ينزع قلبه إلى السماء لشدة المشقة عليه في مفارقه مذهبه « انتهى ».

وروى الصدوق في التوحيد والعيون وغيرهما بإسناده عن حمدان بن سليمان قال :

سألت الرضا عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ » قال : من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به ، والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه ، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيقا حرجا حتى يشك في كفره ويضطرب من اعتقاده قلبه حتى يصير كأنما يصعد في السماء « كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ».

وفي معاني الأخبار بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله عز وجل : « وَمَنْ يُرِدْ

__________________

(١) سورة طه : ٧٩.

(٢) سورة طه : ٨٥.


٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن فضال ، عن علي بن عقبة ، عن أبيه قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول اجعلوا أمركم لله ولا تجعلوه للناس فإنه ما كان لله فهو لله وما كان للناس فلا يصعد إلى الله ولا تخاصموا الناس لدينكم فإن المخاصمة ممرضة للقلب إن الله تعالى قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ

______________________________________________________

أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً » فقال : قد يكون ضيقا وله منفذ يسمع منه ويبصر والحرج هو الملتئم الذي لا منفذ يسمع به ولا يبصر منه.

الحديث الثالث : حسن.

قوله عليه‌السلام : اجعلوا أمركم ، أي دينكم قولا وفعلا خالصا « لله » طالبين لمرضاته « ولا تجعلوه للناس » رياء وسمعة ، وللغلبة عليهم وإظهارا للفضل والكمال « فإنه ما كان لله فهو لله » أي يصل إليه ويقبله ، وقيل : ما كان لله في الدنيا فهو في الآخرة أيضا لله يطلب الثواب منه « وما كان للناس فلا يصعد إلى الله » أي لا يقبله ، أو لا يصعد به ليكتب في ديوان المقربين كما قال سبحانه : « إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ » (١) وقال : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ » (٢) فإن صعودهما إليه مجاز عن قبوله إياهما ، أو صعود الكتبة بصحيفتهما « فإن المخاصمة ممرضة » بفتح الميم والراء ، اسم مكان أو بضم الميم وكسر الراء اسم فاعل ، أي موجبة لحدوث أمراض الشك والشبهة والأخلاق الذميمة من الحقد والحسد وغيرهما في القلب ، والقلب المستعد لقبول الحق يكفيه أدنى تنبيه ، والقلب المطبوع على الباطل لا تنجع (٣) فيه أعلى مدارج الخصومات من العالم النبيه بل يضره ويصير سببا لمزيد رسوخه فيما هو فيه ، ثم أيد عليه‌السلام ما ذكره بقوله تعالى لنبيه صلوات الله عليه في عدم ترتب الهداية على مبالغته ومجادلته :

« إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ » قال الطبرسي رحمه‌الله أي أحببت هدايته أو

__________________

(١) سورة المطففين : ١٨.

(٢) سورة فاطر : ١٠.

(٣) أي لا تؤثر ولا تدخل.


وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » (١) وقال « أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » (٢)

______________________________________________________

أحببته لقرابته ، والمراد بالهداية هنا اللطف الذي يختار عنده الإيمان ، فإنه لا يقدر عليه إلا الله لأنه إما أن يكون من فعله خاصة أو بإعلامه ، ولا يعلم ما يصلح المرء في دينه إلا الله تعالى ، فإن الهداية التي هي الدعوة والبيان قد أضافه سبحانه إليه في قوله : « وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » (٣).

وقيل : إن المراد بالهداية في الآية الإجبار على الاهتداء أي أنت لا تقدر على ذلك ، وقيل : معناه ليس عليك اهتداؤهم وقبولهم الحق « وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » بلطفه ، وقيل : على وجه الإجبار.

وقال رحمه‌الله في قوله تعالى « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً » (٤) معناه الأخبار عن قدرة الله تعالى على أن يكره الخلق على الإيمان ، كما قال : « إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ » (٥) ولذا قال بعد ذلك « أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » ومعناه أنه لا ينبغي أن تريد إكراههم على الإيمان ، مع أنك لا تقدر عليه ، لأن الله تعالى يقدر عليه ولا يريده لأنه ينافي التكليف ، وأراد بذلك تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتخفيف ما يلحقه من التحسر والحرص على إيمانهم عنه « انتهى ».

وروى الصدوق رحمه‌الله في كتاب العيون بإسناده عن الرضا عليه‌السلام أنه قال له المأمون : ما معنى قول الله جل ثناؤه : « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ، وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ » فقال الرضا عليه‌السلام : حدثني أبي عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : إن المسلمين

__________________

(١) سورة القصص :٥٦.

(٢ـ٤) سورةيونس :٩٩.

(٣) سورة الشوري :٥٢.

(٥) سورة الشعراء :٤.


ذروا الناس فإن الناس أخذوا عن الناس وإنكم أخذتم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إني سمعت أبي عليه‌السلام يقول إن الله عز وجل إذا كتب على عبد أن يدخل في هذا الأمر كان أسرع

______________________________________________________

قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو أكرهت يا رسول الله من قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا ، وقوينا على عدونا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما كنت لألقى الله ببدعة لم يحدث إلى فيها شيئا وما أنا من المتكلفين ، فأنزل الله تبارك وتعالى يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً » على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا كما يؤمن عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة ، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقوا مني ثوابا ولا مدحا ولكني أريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرين ليستحقوا مني الزلفى والكرامة ، ودوام الخلود في جنة الخلد أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، وأما قوله عز وجل : « وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ » فليس على تحريم الإيمان عليها ، ولكن على أنها ما كانت لتؤمن إلا بإذن الله ، وإذنه أمره لها بالإيمان ، ما كانت مكلفة متعبدة وإلجاؤه إياها إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبد عنها ، فقال المأمون : فرجت عني يا أبا الحسن فرج الله عنك.

« ذروا الناس » أي اتركوا المخالفين ولا تتعرضوا لمعارضتهم ومجادلتهم ، أو لدعوتهم أيضا تقية فإنهم أخذوا دينهم من الناس واتبعوهم وظنوا أن فعلهم وقولهم حجة ، فلا يتركون دينهم بقولكم ، وأنتم أخذتم دينكم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطة المعصومين من أهل بيته عليه‌السلام ، والغرض إما بيان المباينة بين المسلكين والبعد بين الطريقتين لبيان أن حجة الشيعة لا يؤثر فيهم فلا ينبغي لهم التعرض للمهالك لذلك أو هو تسلية للشيعة بأنكم لما كنتم على الحق فلا تبالوا بمخالفة من خالفكم ، أو الغرض أنه إن كان غرضكم هدايتهم فقد سبق أنه من الله ، وإن كان لتبين حجية مذهبكم فحجتكم واضحة لا نحتاج إلى ذلك.

وقيل : المعنى ذروا مخالطة الناس وموافقتهم ، فإنكم على الحق وإنهم على الباطل ، ولا يخفى بعده.


إليه من الطير إلى وكره.

٤ ـ أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن صفوان بن يحيى ، عن محمد بن مروان ، عن فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ندعو الناس إلى هذا الأمر فقال لا يا فضيل إن الله إذا أراد بعبد خيرا أمر ملكا فأخذ بعنقه فأدخله في هذا الأمر طائعا أو كارها.

تم كتاب العقل والعلم والتوحيد من كتاب الكافي ويتلوه كتاب الحجة في الجزء الثاني من كتاب الكافي تأليف الشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني رحمة الله عليه.

______________________________________________________

« إذا كتب على عبد » أي علم إيمانه وكتبه في اللوح ، ووكر الطائر : عشه.

الحديث الرابع : مجهول.

والنهي عن الدعوة أما للتقية أو محمول على ترك المبالغة فيها لمن لا يرجى نفعها فيه « طائعا أو كارها » أي سواء كان في أول الأمر راغبا فيه أم لا ، إذ كثيرا ما نرى رجلا في غاية التعصب في خلاف الحق ، ثم يدخل فيه بلطف من ألطافه تعالى كالأحلام الصادقة أو غيرها ، وقيل : إشارة إلى اختلاف مراتب الألطاف ، وقيل : أي أدخله في معرفة هذا الأمر والعلم بحقيته بالاطلاع على دلائله ، سواء كان راغبا فيه أو كارها له ، فإن عند الاطلاع على الدلائل ، والانتقال إلى وجه الدلالة يحصل العلم بالمدلول ، وإن لم يكن المطلع راغبا وكان كارها.

انتهى ما وفق الله سبحانه لتعليقه على كتاب التوحيد من كتاب الكافي : أفقر العباد إلى عفو ربه الغني محمد باقر بن محمد تقي الملقب بالمجلسي عفا الله عن جرائمهما في سابع شهر ربيع الثاني من سنة ثمان وتسعين بعد ألف الهجرية على غاية الاستعجال وتوزع البال ووفور الأشغال ، والحمد لله على كل حال والصلاة على سيد المرسلين محمد وآله خير آل.


كتاب الحجة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(باب الاضطرار إلى الحجة)

١ ـ قال أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني مصنف هذا الكتاب رحمه‌الله حدثنا

علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن العباس بن عمر الفقيمي ، عن هشام بن

______________________________________________________

الجزء الثاني من شرح الصول الكافي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى محمد وآله خيرة الورى

أما بعد فهذا هو المجلد الثاني من كتاب مرآة العقول في شرح أخبار الرسول صلى الله عليه وعليهم أجمعين من كتاب الكافي.

كتاب الحجة

باب الاضطرار إلى الحجة

أي لا بد في كل زمان من حجة معصوم ، عالم بما يحتاج إليه الخلق إما نبي أو وصي نبي ، وهذا المطلوب مبين في كتب الكلام بالبراهين العقلية والنقلية.

الحديث الأول مجهول ، وهو جزء من حديث طويل أوردناه في الكتاب الكبير وقد مضى بعض أجزائه في كتاب التوحيد.


الحكم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل قال إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ثبت أن له سفراء في خلقه يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم ـ فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جل وعز وهم الأنبياء عليهم‌السلام وصفوته من خلقه حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم مؤيدين

______________________________________________________

« من أين أثبت » على صيغة المخاطب وربما يقرأ على بناء المفعول وهو بعيد « متعاليا عنا » أي عن مشابهتنا والاشتراك معنا في الحقيقة والصفة ، وقوله : متعاليا ثانيا أريد به تعاليه عن العبث واللغو ، أو عن أن يشاهده الخلق ويلامسوه ، فقوله : « لم يجز » صفة موضحة ، وعلى الأول يحتمل أن يكون خبرا بعد خبر لكان ، ثم إنه يحتمل أن يكون المراد بالملامسة والمباشرة معنييهما الحقيقيين ، أو إدراكه بحقيقته فإنه يستلزم حصول حقيقته سبحانه في الذهن ، أو إدراكه على وجه الكمال ، والمراد بالخلق أكثرهم ، أو إدراك كل أحد على ما ينبغي ويليق به بالمعنى بلا واسطة.

وقوله : ثبت ، جواب لما ، والسفراء : جمع سفير من سفر بين القوم أي أصلح ، أو من السفر بمعنى الكشف والإيضاح « على مصالحهم ومنافعهم » أي الدنيوية والأخروية « وما به بقاؤهم » من أمور المعاش ، أو الأعم منها ومن العبادة والمعرفة ، فإن بقاء الخلق بهما « غير مشاركين للناس » أي في التقدس والقرب والكمالات.

ثم اعلم أنه عليه‌السلام أشار بذلك إلى براهين شتى على اضطرار الناس إلى الرسل نذكر منها وجهين جامعين :

الأول : أنه لما ثبت وجود الصانع تعالى وحكمته وأنه لا يفعل العبث ، ولو لم يكن الخلق مكلفين بمعرفته وعبادته ليفوزوا بهما بالمثوبات الأخروية والكمالات النفسانية ، لكان خلقهم عبثا ، إذ يعلم كل عاقل أن اللذات الدنيوية المشوبة


______________________________________________________

بأنواع المحن والآلام لا تصلح علة لهذا الخلق والنظام ، وأما معرفته سبحانه فلا يمكن حصولها للخلق إلا بوحيه سبحانه ، لتعاليه عن مشاركة الخلق في حقائقهم ، ومشابهته لهم حتى يعرفوا حقيقته بذلك كما تعرف سائر الخلق به ، وهو متعال عن أن يدرك بالحواس أيضا حتى يعرف بذلك ، وكذا معلوم أن ما يوجب القرب والكمال من الأخلاق والأعمال مما لا تفي بها القوي البشرية والعقول الإنسانية فلا بد في معرفة جميع ذلك من وحي من الله سبحانه وتلقى الوحي منه تعالى لا يتيسر لجميع الخلق ، إذ لا بد من نوع مناسبة بين الموحي والموحى إليه حتى يفهم ما يلقى إليه فلذا أرسل الله تعالى من عباده أقواما من جهة روحانيتهم وتقدسهم وتنزههم عن الأدناس البشرية يناسبون الملإ الأعلى وبهذه الجهة يتلقون الوحي من ربهم جل وعلا ، ومن جهة بشريتهم وتجسمهم ومشاكلتهم للخلق في صورهم وأجسامهم ومعاشرتهم لهم في ظواهر أحوالهم ، يلقون الوحي إليهم.

وأيضا لو كان الله تعالى يلقي الوحي إلى سائر الخلق كما ألقى إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج وغيرها ، وإلى موسى عند الشجرة ، لم تتم الحجة عليهم ، لأنه لم تكن لهم قابلية أن يعرفوا أن ذلك الوحي من قبله سبحانه وليس من الشياطين ، بخلاف ما إذا سمعوا من بشر مثلهم يأتي بما لا يقدرون على الإتيان بمثله ، فثبت أنه لا بد من سفراء بينه سبحانه وبينهم ، ولا بد أن يكونوا من نوع البشر ، وأن يكونوا مع مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب مباينين لهم في سائر أحوالهم وأطوارهم وأخلاقهم مقدسين منزهين روحانيين ليضاهئوا الملإ الأعلى كما مر ذكره فيما مضى ، ومعصومين مؤيدين بالمعجزات ليكونوا حجة على غيرهم.

وهذا مما خطر ببالي القاصر ، وهو بيان شاف ، وبرهان كاف لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

الثاني : ما ذكره السالكون مسلك الحكماء وهو مبني على مقدمات عقلية :

أوليها : أن لنا خالقا صانعا قادرا على كل شيء.


______________________________________________________

والثانية : أن الله جل اسمه متعال عن التجسم والتعلق بالمواد والأجسام ، وعن أن يكون مبصرا أو محسوسا بإحدى الحواس خلافا للكرامة ومن يحذو حذوهم.

والثالثة : أنه تعالى حكيم عالم بوجوه الخير والمنفعة في النظام ، وسبيل المصلحة للخلائق في المعيشة والقوام والبقاء والدوام.

والرابعة : أن الناس محتاجون في معاشهم ومعادهم إلى من يدبر أمورهم ويعلمهم طريق المعيشة في الدنيا ، والنجاة من العذاب في العقبى وذلك لأنه من المعلوم أن الإنسان لا تتمشى معيشته لو انفرد وحده شخصا واحدا كغيره من أنواع الحيوان يتولى أمره من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجاته ، وأنه لا بد من أن يكون مستغنيا بآخر من نوعه يكون ذلك أيضا مستغنيا مكفيا به وبنظيره ، فيكون هذا يزرع لهذا وهذا يطحن لذاك ، وذلك يخبز لآخر وآخر يخيط لغيره ، وهذا يبني وهذا يتخذ الحديد ، وهذا ينجر وعلى هذا القياس ، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيا ولهذا اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات للمعاملات والمناكحات وسائر المعاونات والمشاركات.

وبالجملة لا بد في وجود الإنسان وبقائه من المشاركة ، ولا تتم المشاركة إلا بالمعاملة ، ولا بد في المعاملة من سنة وقانون عدل ، ولا بد للسنة والعدل من سان ومعدل ، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم وأهواءهم في ذلك ، فيختلفون ، فيرى كل أحد منهم ما له عدلا وما عليه ظلما وجورا ، ولا بد أن يكون هذا المعدل والإنسان بشرا لا ملكا ، لأن الملك لا يراه أكثر الناس إلا أن يتشكل بشرا ، لأن قواهم لا تقوى على رؤيته على صورة الملكية ، وإنما رآهم الأفراد من الأنبياء بقوتهم القدسية.

ثم لو فرض أن يتشكل بحيث يراه سائر الخلق كجبرئيل في صورة دحية كان ملتبسا عليهم كالبشر كما قال تعالى : « وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ


من عند الحكيم العليم بالحكمة ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل

______________________________________________________

ما يَلْبِسُونَ » (١) فلا بد أن يكون الإنسان له خصوصية ليست لسائر الناس حتى يستشعر الناس فيه أمرا لا يوجد لهم ، فيتميز به منهم ، فيكون له المعجزات التي أخبرنا بها والحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع البشر ، ويتحصل وجوده أشد من كثير من المنافع التي لا ضرورة فيها للبقاء كإنبات الشعر على الحاجبين ، وتقعير الأخمص للقدمين ، وما يجري مجراهما من منافع الأعضاء التي بعضها للزينة وبعضها للسهولة في الأفعال والحركات ، كما يظهر من علم التشريح ، ووجود هذا الإنسان الصالح لأن يسن ويشرح ممكن وتأييده بالآيات والمعجزات الموجبة لإذعان الخلق له أيضا ممكن فلا يجوز أن تكون الغاية الأولى (٢) تقتضي تلك المنافع ، ولا تقتضي هذه التي هي أصلها وعمدتها.

فإذا تمهدت هذه المقدمات فثبت وبين أنه واجب أن يوجد نبي وأن يكون إنسانا ، وأن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس وهي الأمور الخارقة للعادات ، ويجب أن يسن للناس سننا بإذن الله وأمره ووحيه ، وإنزال الملك إليه ، ويكون الأصل الأول فيما يسنه تعريفه إياهم أن لهم صانعا قادرا واحدا لا شريك له ، وأن النبي عبده ورسوله ، وأنه عالم بالسر والعلانية وأنه من حقه أن يطاع أمره ، وأنه قد أعد لمن أطاعه الجنة ، ولمن عصاه النار ، حتى يتلقى الجمهور أحكامه المنزلة على لسانه من الله والملائكة بالسمع والطاعة.

ففي هذا الحديث الشريف تصريح وتلويح إلى جميع ذلك كما لا يخفى على المتأمل.

قوله : « ثم ثبت ذلك » أقول : يحتمل هذا الكلام وجوها :

الأول : أن يكون المعنى أن الدليل المتقدم إنما يدل على وجوب النبي

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩.

(٢) في نسخة « المنامة » بدل « الغاية ».


والأنبياء من الدلائل والبراهين لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم

______________________________________________________

أو الحجة في كل عصر ، وأما تعيين الأشخاص المعينة فإنما يثبت بما أتوا به من الدلائل والبراهين ، أي الآيات والمعجزات وخوارق العادات ، وغلبتهم في العلوم على أهل عصرهم ، وقوله عليه‌السلام : « لكيلا يخلو » تعليل لقوله : ثم ثبت ، ووجه التعليل أنه ما دامت الأرض باقية والناس موجودين فيها لا بد لهم من حجة لله عليهم يقوم بأمرهم ، ويهديهم إلى سبيل الرشاد مؤيدا بما يدل على صدقه وعدالته ووجوب متابعته.

الثاني : أن يكون ذلك إشارة إلى وجود الآمرين والناهين الموصوفين بالأوصاف المذكورة ، والمراد أن الدليل السابق إنما دل على وجوب إقامة الحجة في الأرض في الجملة ، وأما عدم خلو دهر طويل أو زمان قصير من حجة فإنما ثبت بقول الأنبياء والرسل ، فإن كلامهم وأخبارهم عن الله دليل وبرهان حيث أخبروا أن أرض الله لا تخلو من حجة فمن في قوله « مما » للسببية ، والظرف متعلق بقوله : ثم ثبت ، أو بكل من « فثبت » و « ثم ثبت » على التنازع.

الثالث : أن يكون المقصود بالدليل أولا إثبات الأنبياء عليهم‌السلام ، وبقوله : ثم ثبت إثبات الأوصياء ، وهذا يحتمل وجهين : « أحدهما » أنه قد ثبت الأوصياء في كل دهر بما أتت به الأنبياء من قبل الله من النص عليهم ، فيكون ثبوت الأنبياء عليهم‌السلام بالعقل والأوصياء بالنقل « وثانيهما » أن يكون المراد أن الأوصياء بعد الأنبياء أيضا ثبت إمامتهم بما أتت به الأنبياء من المعجزات ، وفي بعض النسخ : مما أثبت ، ولا يخفى توجيهه على الوجوه إن قرأ معلوما أو مجهولا.

ويزيد على الأخير أنه يمكن تعميمه بحيث يشمل الدليل العقلي المتقدم الدال على وجوب الأنبياء عليه‌السلام.

قوله عليه‌السلام : تكون معه علم ، بفتحتين أي علامة ودليل ، وربما يقرأ بكسر الأول وسكون الثاني.


يدل على صدق مقالته وجواز عدالته.

٢ ـ محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى ، عن منصور بن حازم قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله قال صدقت قلت إن من عرف أن له ربا فينبغي له

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : على جواز عدالته ، أي جريان حكمه العدل.

الحديث الثاني : مجهول كالصحيح.

قوله : من أن يعرف بخلقه ، قد سبقت الوجوه المحتملة في هذه الفقرة ، وحاصلها : أنه تعالى أجل من أن يعرف بتعريف خلقه ، إذ المعرفة موهبية وعلى الخلق إراءة السبيل ، والموصل هو الله سبحانه « بل الخلق يعرفون بالله » على بناء المعلوم أي إنما يعرفونه بإفاضته وهدايته وتوفيقه ، أو من أن يعرف بصفات خلقه ومشابهتهم بل إنما يعرفونه بما عرف به نفسه من الصفات اللائقة ، أو بل الخلق يعرفون الحقائق الممكنة وأحوالها بالله ، أي بسبب خلقه لها أو بسبب فيضان معرفتها منه عليهم على قدر عقولهم.

وقيل : إشارة إلى ما ذكره المحققون من أن المقربين يعرفون الحق بالحق لا بالاستدلال بمخلوقاته عليه ، ويمكن أن يقرأ « يعرفون » على بناء المجهول بل هو أظهر ، أي الأنبياء والحجج عليه‌السلام إنما تعرف حقيقتهم ورسالتهم وحجيتهم بما أتاهم من المعجزات والبراهين ، أو به يعرف جميع الخلق بما أشرق منه عليهم من نور الوجود.

« قال صدقت » بالتخفيف ، وربما يقرأ بالتشديد ، إذ كلامه مأخوذ منهم عليهم‌السلام كما مر ولا يخفى بعده ، وقوله : فقد ينبغي لأن يعرف (١) أن لذلك الرب رضا وسخطا أي ينبغي له أن يعرفه بصفات كماله وتنزهه عن النقائص ، ومنها حكمته وعلمه وقدرته

__________________

(١) وفي المتن « فينبغي له أن يعرف » وكأنّه نقله بالمعنى أو من تصحيف الناسخ أو من جهة اختلاف النسخ وقد مرّ ويأتي أيضا نظائر هذا الاختلاف في موارد كثيرة.


أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة وأن لهم الطاعة المفترضة.

وقلت للناس تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجة من الله على خلقه قالوا بلى قلت فحين مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كان الحجة على خلقه فقالوا القرآن فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به

______________________________________________________

وإرادته للخير ، وكراهته للشر والقبيح ، وأنه لا يخل بالحسن ، ولا يأتي بالقبيح ، فلا يخل باللطف إلى عباده ، وإنما يتم بالأمر بالحسن والنهي عن القبيح الموجبين للرضا بالطاعة ، والسخط على المعصية ، وإنما يعرف أمره ونهيه وإرادته وكراهته بالوحي ، أو بإرسال الرسول ، فمن لم يأته الوحي فعليه طلب الرسول ، فإذا طلب اطلع عليه بالآيات والحجج الدالة على رسالته.

قوله : وقلت للناس ، أي للعامة مناظرا لهم في الإمامة « فقالوا القرآن » أي هو كاف لرفع حاجة الخلق ، ولا حاجة إلى غيره كما قال إمامهم : حسبنا كتاب الله « فنظرت » في نفسي بدون أن أقول لهم ، أو بتقدير القول « في القرآن فهو إذا يخاصم به المرجئي » أي لا يغني عن المبين له ، إذ يخاصم به الفرق المختلفة حتى يغلب كل منهم خصمه بما يجده في القرآن لإجماله وإغلاقه ، وكونه ذا وجوه ومحامل.

وفي النهاية : المرجئة فرقة من فرق الإسلام ، يعتقدون أنه لا يضر مع الأيمان معصية كما أنها لا ينفع مع الكفر طاعة ، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله أرجأ تعذيبهم عن المعاصي أي أخره عنهم ، والمرجئة تهمز ولا تهمز ، وكلاهما بمعنى التأخير ، يقال : أرجأت الأمر وأرجأته إذا أخرته فتقول من الهمز رجل مرجىء ، وهم المرجئة وفي النسب مرجئي مثل مرجع ومرجعة ومرجعي ، وإذا لم تهمز قلت رجل مرج ومرجئة ومرجي ، مثل معط ومعطية ومعطي ، انتهى.

وقد تطلق المرجئة على كل من أخر أمير المؤمنين عن مرتبته ، وقد عرفت


حتى يغلب الرجال بخصومته فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم فما قال فيه من شيء كان حقا فقلت لهم من قيم القرآن فقالوا ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم قلت كله قالوا لا فلم أجد أحدا يقال إنه يعرف ذلك كله إلا عليا عليه‌السلام وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا لا أدري وقال هذا لا أدري وقال هذا لا أدري وقال هذا أنا أدري فأشهد أن عليا عليه‌السلام كان قيم

______________________________________________________

إطلاق القدري على الجبري والتفويضي ، والزنديق هو النافي للصانع أو الثنوي.

قوله : إلا بقيم ، في الفائق : قيم القوم : من يقوم بسياسة أمورهم ، والمراد هنا من يقوم بأمر القرآن ويعرف ظاهره وباطنه ومجمله ومؤولة ومحكمة ومتشابهه وناسخه ومنسوخه بوحي إلهي أو بإلهام رباني ، أو بتعليم نبوي ، فلما سألهم عن القيم ذكروا جماعة لم يكونوا يعرفون من القرآن إلا أقله ، والقيم لا بد أن يكون عالما بجميع القرآن وسائر الأحكام ، ويكون منصوصا عليه ، معصوما عن الخطإ والزلل حتى تجب متابعته وقبول قوله ، وأيضا لم يدع أحد منهم سماع جميع ذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنما ادعوا سماع مسائل قليلة مما يحتاج إليه الناس فيما سمعوا تفسيره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يذهب أحد إلى كون أحد منهم عالما بجميعه بالنقل ، أو العلم المقرون بالعصمة إلا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث كان يدعي ذلك على رؤوس الأشهاد ، ومجامع جماهير المسلمين ، وإذ لا بد من عالم ولم يدع غيره ، بل علم عدمه في غيره ، وهو كان يدعيه ويبينه بدلائل نقلية وعقلية ، وآيات وعلامات إعجازية ، علم أنه قيم القرآن ، وكونه عليه‌السلام أعلم الأمة متفق عليه بين فرق المسلمين ، حتى قال الآبي في كتاب الإكمال وهو من أعاظم علماء المخالفين ومتعصبيهم لقد كان : في علي عليه‌السلام من الفضل والعلم وغيرهما من صفات الكمال ما لم يكن في جميع الأمة حتى أنه لو لم يقدم عليه طائفة من الأمة أبا بكر لكان هو أحق بالخلافة ، انتهى.

وما في الخبر بعد تنقيحه وتفصيله يرجع إلى الدلائل المفصلة في كتب الكلام ، على وجوب نصب الإمام وعصمته لحفظ الشرائع والأحكام.

وقوله : فأشهد أن عليا عليه‌السلام « اه » لازم لجزاء مقدر أقيم مقامه والتقدير


القرآن وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن ما قال في القرآن فهو حق فقال رحمك الله

٣ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن إبراهيم ، عن يونس بن يعقوب قال كان عند أبي عبد الله عليه‌السلام جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين ومحمد بن النعمان وهشام بن سالم والطيار وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب فقال أبو عبد الله عليه‌السلام يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته فقال هشام يا ابن رسول الله إني أجلك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك فقال أبو عبد الله إذا أمرتكم بشيء فافعلوا.

قال هشام بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك علي فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متزرا بها من صوف وشملة مرتديا بها والناس يسألونه فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت أيها العالم إني رجل غريب تأذن لي في مسألة فقال لي نعم

______________________________________________________

اعلم أن القائل أنا أدري هو القيم دونهم فأشهد ... اه

الحديث الثالث : مجهول.

وعمرو بن عبيد من رؤساء المعتزلة ، والإجلال : التعظيم « إذا أمرتكم » الأمر مفهوم من ألا التحضيضية ، والمراد أن إطاعة الأمر أوجب من رعاية الإجلال والاستحياء.

وفي النهاية : الحلقة : الجماعة من الناس مستديرين كحلقة الباب وغيره ، والشملة بالفتح : كساء يشتمل به « فاستفرجت » أي طلبت الفرجة وهي الخلل بين الشيئين ، أو طلبت منهم الإفراج عن الطريق أي انكشافهم عنه فانكشفوا عنه لأجلي ، « أيها العالم » أي بزعم الناس ، ووصف المسألة بالحمق على سبيل التجوز مبالغة ، وربما يقرأ حمقاء بضم الحاء وسكون الميم بدون ألف مصدرا وإنما لم يذكر اللمس


فقلت له ألك عين فقال يا بني أي شيء هذا من السؤال وشيء تراه كيف تسأل عنه فقلت هكذا مسألتي فقال يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء قلت أجبني فيها قال لي سل.

قلت ألك عين قال نعم قلت فما تصنع بها قال أرى بها الألوان والأشخاص قلت فلك أنف قال نعم قلت فما تصنع به قال أشم به الرائحة قلت ألك فم قال نعم قلت فما تصنع به قال أذوق به الطعم قلت فلك أذن قال نعم قلت فما تصنع بها قال أسمع بها الصوت قلت ألك قلب قال نعم قلت فما تصنع به قال أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح والحواس قلت أوليس في هذه الجوارح غنى عن القلب فقال لا قلت وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة قال يا بني إن الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك قال هشام فقلت له :

______________________________________________________

لأنه ليست له جارحة مخصوصة ظاهرة ، أو لقلة الاشتباه فيه ، مع أنه يعرف بالمقايسة ، والمراد بالقلب النفس الناطقة المتعلقة أولا وبالذات بالروح الحيواني المنبعث عن القلب الصنوبري الذي نسبته إلى أعضاء الحس والحركة كنسبة النفس إلى قوي الحس والحركة في أنه ينبعث منه الدم والروح البخاري إلى سائر الأعضاء ، فالنفس رئيس القوي وإمامها ، والقلب وهو مستقرها وعرش استوائها بإذن الله رئيس سائر الأعضاء وإمامها ، أو المراد بالقلب القوة العقلية التي للنفس الإنسانية أو ما يشمل القوي الحسية الباطنة التي هي كالآلات للقوة العقلية في فكرتها وسائر تصرفاتها كما قيل.

وأما شك الحواس وغلطها فقيل : معناه أن العقل والوهم المشوب بالحس يغلط ، أو يشك بسبب من الأسباب ، ثم يعلم النفس بقوة العقل ما هو الحق المتيقن كما يرى البصر العظيم صغيرا لبعده ، والصغير كبيرا لقربه ، والواحد اثنين لحول في العين ، والشجرة التي في طرف الحوض منكوسة لانعكاس شعاع البصر من الماء إليها


فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح قال نعم قلت لا بد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح قال نعم فقلت له يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك قال فسكت ولم يقل لي شيئا.

______________________________________________________

والسمع يسمع الصوت الواحد عند الجبل ونحوه مما فيه صلابة أو صقالة صوتين ، لانعكاس الهواء المكيف بكيفية السمع إلى الصماخ تارة أخرى ، ويقال للصوت الثاني : الصداء ، وكما تجد الذائقة الحلو مرا لغلبة المرة الصفراء على جرم اللسان ، وكذا تشمئز الشامة من الروائح الطيبة بالزكام ، فهذه وأمثالها أغلاط حسية يعرف القلب حقيقة الأمر فيها.

وقيل : معناه أن النفس مع هذه القوي الحسية الظاهرة ، تحتاج إلى قوة حاكمة عليها ، إذ من شأنها من حيث هذه القوي هذه الإدراكات التصورية دون التصديقات واليقينيات ، فلا يستيقن إلا بقوة أخرى هي الحاكمة باليقينيات ، وهي القوة التي بها تخرج عن الشك إلى اليقين ، فإنما أقام الله القلب بإعطاء هذه القوة لتخرج بها النفس عن تلك المرتبة التي شأنها بحسبها الشك وعدم الاستيقان إلى مرتبة اليقين ، ثم إذا كان بحكمته لا يخل بإعطاء ما تحتاج إليه نفسك في وصولها إلى كمالها القابلة ، كيف يخل بما يحتاج إليه الخلق كلهم ، لخروجهم عن حيرتهم وشكهم إلى الاستيقان بما فيه بقاؤهم ونجاتهم عن الضلال والهلاك ، فأول هذا الكلام تنبيه على حكمته المقتضية للصلاح والخير وإعطاء ما يحتاج إليه المستكمل في الخروج من النقصان إلى الكمال ، والوصول إلى النجاة عن الضلال ، وآخره الاستدلال من تلك الحكمة على إقامة الإمام الذي إنما يحصل نجاة الخلق عن حيرتهم وشكهم بمعرفته ، والأخذ عنه ، والاهتداء بهداه.


ثم التفت إلي فقال لي أنت هشام بن الحكم فقلت لا قال أمن جلسائه قلت لا قال فمن أين أنت قال قلت من أهل الكوفة قال فأنت إذا هو ثم ضمني إليه وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتى قمت قال فضحك أبو عبد الله عليه‌السلام وقال يا هشام من علمك هذا قلت شيء أخذته منك وألفته فقال هذا والله مكتوب في « صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى »

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه عمن ذكره ، عن يونس بن يعقوب قال كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فورد عليه رجل من أهل الشام فقال إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض وقد جئت لمناظرة أصحابك فقال أبو عبد الله عليه‌السلام كلامك من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من عندك فقال من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن عندي فقال أبو عبد الله عليه‌السلام فأنت إذا شريك رسول الله قال لا قال فسمعت الوحي عن الله عز

______________________________________________________

قوله : فقلت لا ، قال ذلك تورية للمصلحة ، ويمكن أن يكون غرضه لا ـ أخبرك به.

الحديث الرابع : مرسل.

وذكر الفرائض بعد الفقه تخصيص بعد التعميم لغموض مسائلها بالنسبة إلى سائر أبواب الفقه ، وكون اختلاف الأمة فيها أكثر من غيرها ، وشدة اعتناء المخالفين بها ، ومدخلية علم الحساب فيها ، وهو [ غير ] مأخوذ من الشارع ، وربما يقال : المراد بالفرائض الواجبات وهو بعيد « لمناظرة أصحابك » إنما نسب المناظرة إلى الأصحاب رعاية للأدب و « من » في قوله : « من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » للابتداء أو للتعليل أو للتبعيض.

قوله عليه‌السلام : فأنت إذا شريك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يدل على بطلان الكلام الذي لم يكن مأخوذا من الكتاب والسنة ، وأنه لا يجوز الاعتماد في أصول الدين على الأدلة العقلية ، وقيل : لما كان مناظرته في الإمامة والمناط فيها قول الشارع قال له ذلك ، لأنه إذا بني أمرا لا بد فيه من الرجوع إلى الشارع على قول الرسول وقوله


وجل يخبرك قال لا قال فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لا فالتفت أبو عبد الله عليه‌السلام إلي فقال يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم ثم قال يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته قال يونس فيا لها من حسرة فقلت جعلت فداك إني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول ويل لأصحاب

______________________________________________________

معا ، فيلزمه أن يجعل نفسه شريكه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رسالته وفي شرعه للدين ، فلما نفى الشركة « قال عليه‌السلام فسمعت الوحي عن الله » أي المبين لأصول الدين ، على الأول ، أو للإمامة على الثاني ، إعلام الله بها أو بتبيين وتعيين ممن أوجب الله طاعته كطاعة رسول الله أو إعلام الله إما بوساطة الرسول أو بالوحي بلا واسطة ، وما بوساطة الرسول فهو من كلامه لا من عندك ، فتعين عليك في قولك من عندي أحد الأمرين إما الوحي إليك بسماعك عن الله بلا واسطة ، أو وجوب طاعتك كوجوب طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما نفاهما بقوله « لا » في كليهما لزمه نفي ما قاله ومن عندي ، ولذا قال عليه‌السلام هذا خاصم نفسه قبل أن يتكلم ، وقيل : مخاصمة نفسه من جهة أنه اعترف ببطلان ما يقوله من عنده ، لأن شيئا لا يكون مستندا إلى الوحي ولا إلى الرسول ، ولا يكون قائله في نفسه واجب الإطاعة لا محالة ، بل يكون باطلا.

وأقول : يحتمل أن يكون الكلام الذي ردد عليه‌السلام الحال فيه بين الأمرين الكلام في الفروع من الفقه والفرائض ، لأنه لا مدخل العقل فيها ، ولا بد من استنادها إلى الوحي ، فمن حكم فيها برأيه يكون شريكا للرسول في تشريع الأحكام ، والتعميم أظهر.

« لو كنت تحسن الكلام » أي تعلمه كما ورد : قيمة المرء ما يحسنه « يا لها من حسرة » النداء للتعجب والمنادي محذوف ، ولام التعجب متعلق باعجبوا ، و « من حسرة » تميز من الضمير المبهم بزيادة من ، والحسرة أشد التلهف على الشيء الفائت ، وقوله : فقال يونس ، إما علي الالتفات أو بتقدير « قلت » بعده ، أو قال ذلك عند الحكاية للراوي.


الكلام يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله فقال أبو عبد الله عليه‌السلام إنما قلت فويل لهم إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون.

ثم قال لي اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله قال فأدخلت حمران بن أعين وكان يحسن الكلام وأدخلت الأحول وكان يحسن الكلام وأدخلت هشام بن سالم وكان يحسن الكلام وأدخلت قيس بن الماصر وكان عندي أحسنهم كلاما وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين عليه‌السلام فلما استقر بنا المجلس وكان أبو عبد الله عليه‌السلام قبل الحج يستقر أياما في جبل في طرف الحرم في فازة له مضروبة قال فأخرج أبو عبد الله عليه‌السلام رأسه من فازته فإذا هو ببعير يخب

______________________________________________________

وقوله : « هذا ينقاد وهذا لا ينقاد » أي إنهم يزنون ما ورد في الكتاب والسنة بميزان عقولهم وقواعدهم الكلامية ، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، فإنهم كثيرا ما يتركون ظواهر الكتاب والسنة لمناقضة آرائهم إياها ، فيقولون : هذا ينقاد لما وافق عقولهم ، وهذا لا ينقاد لما خالفها ، وهو المراد أيضا بقوله : « هذا ينساق وهذا لا ينساق ».

وقيل : المعنى هذا ينجر إلى أمر كذا من محال أو تناقض أو دور أو تسلسل ، وهذا لا ينساق ، أي لا ينجر إليه ، وقيل : هذا ينقاد وهذا لا ينقاد ، إشارة إلى ما يقوله أهل المناظرة في مجادلاتهم : سلمنا هذا ولكن لا نسلم ذلك ، وهذا ينساق وهذا لا ينساق إلى قولهم للخصم : أن يقول كذا وليس له أن يقول كذا.

« وهذا نعقله » أي تقبله عقولنا « إن تركوا ما أقول » أي ما ثبت من الشارع في الدين « فلما استقر بنا المجلس » الباء إما بمعنى في ، والمعنى على القلب ، أي استقررنا فيه أو الإسناد على المجاز ، وإما للمصاحبة أو للتعدية ، وعلى الوجوه : المعنى كنا لم ننتظر حضور غيرنا ، والفازة بالفاء والزاي مظلة بعمودين ، والخبب : ضرب من العدو


فقال هشام ورب الكعبة قال فظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل كان شديد المحبة له.

قال فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطت لحيته وليس فينا إلا من هو أكبر سنا منه قال فوسع له أبو عبد الله عليه‌السلام وقال ناصرنا بقلبه ولسانه ويده ثم قال يا حمران كلم الرجل فكلمه فظهر عليه حمران ثم قال يا طاقي كلمه فكلمه فظهر عليه الأحول ثم قال يا هشام بن سالم كلمه فتعارفا ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام لقيس الماصر كلمه فكلمه فأقبل أبو عبد الله عليه‌السلام يضحك من كلامهما مما قد أصاب الشامي.

فقال للشامي كلم هذا الغلام يعني هشام بن الحكم فقال نعم فقال لهشام يا غلام سلني في إمامة هذا فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال للشامي يا هذا أربك أنظر لخلقه أم خلقه لأنفسهم فقال الشامي بل ربي أنظر لخلقه قال ففعل بنظره لهم ما ذا قال أقام لهم حجة ودليلا كيلا يتشتتوا أو يختلفوا يتألفهم ويقيم أودهم

______________________________________________________

ذكرهما الجوهري « هو شديد المحبة له » أي هشام له عليه‌السلام أو بالعكس ، قال الجوهري : اختط الغلام أي نبت عذاره « فتعارفا » في أكثر النسخ بالعين والراء المهملتين والفاء ، أي تكلما بما عرف كل منهما صاحبه وكلامه بلا غلبة لأحدهما على الآخر ، وفي بعضها بالواو والفاء أي تعوق كل منهما عن الغلبة وفي بعضها بالفاء والراء والقاف وهو ظاهر ، وفي بعضها بالعين والراء والقاف أي وقعا في العرق كناية عن طول المناظرة مما قد أصاب الشامي بالنصب أي من المغلوبية والخجلة ، أو بالرفع فما مصدرية أي إصابة الشامي وخطىء قيس ، فالضحك لعجز قيس « فغضب هشام » لسوء أدب الشامي بالنسبة إلى جنابه عليه‌السلام « أربك أنظر » يقال : نظر له كضرب وعلم نظرا : أعانه ، والنظرة بالفتح الرحمة « كيلا يتشتتوا » أي لا يتفرقوا في مذاهبهم ومسالكهم وآرائهم ، والأود : بالتحريك الاعوجاج ، أي يزيل اعوجاجهم وانعطافهم عن الحق بإقامتهم.


ويخبرهم بفرض ربهم قال فمن هو قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال هشام فبعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الكتاب والسنة قال هشام فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة في رفع الاختلاف عنا قال الشامي نعم قال فلم اختلفنا أنا وأنت وصرت إلينا من الشام في مخالفتنا إياك قال فسكت الشامي فقال أبو عبد الله عليه‌السلام للشامي ما لك لا تتكلم قال الشامي إن قلت لم نختلف كذبت وإن قلت إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف أبطلت لأنهما يحتملان الوجوه وإن قلت قد اختلفنا وكل واحد منا يدعي الحق فلم ينفعنا إذن الكتاب والسنة إلا أن لي عليه هذه الحجة فقال أبو عبد الله عليه‌السلام سله تجده مليا.

فقال الشامي يا هذا من أنظر للخلق أربهم أو أنفسهم فقال هشام ربهم أنظر لهم منهم لأنفسهم فقال الشامي فهل أقام لهم من يجمع لهم كلمتهم ويقيم أودهم ويخبرهم بحقهم من باطلهم قال هشام في وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الساعة؟

______________________________________________________

قوله : فلم اختلفت أنا وأنت؟ فإن عارض بأنه مع قولك أيضا الاختلاف واقع بيننا وبينك فلم ينفع وجود الإمام؟ يجاب بأنه لا بد في لطف الله تعالى وحكمته أن يعين لهم حجة إذا رجعوا إليه يرتفع الاختلاف عنهم ، فإذا لم يرجعوا إليه وحصل الاختلاف كان التقصير منهم ولم يكن لهم علي الله حجة.

قوله : وكل منا يدعي الحق ، أي يدعى في قوله إنه الحق دون قول مخالفيه ، ولما لم يبق له سبيل إلى النقض التفصيلي والدخل في مقدمة من المقدمات أراد سلوك سبيل المعارضة بالمثل أو النقض الإجمالي والأول أظهر ، وفي النهاية : يقال : أبطل إذا جاء بالباطل ، وقال : المليء بالهمز : الثقة الغني ، وقد ملأ فهو مليء وقد أولع الناس بترك الهمزة وتشديد الياء « انتهى » والمراد هنا تجده غنيا بالعلم ، مقتدرا على المناظرة ، وقيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي حملوا علما أو بمعنى فاعل من مليء كعلم وحسن أي امتلاء.


قال الشامي في وقت رسول الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والساعة من فقال هشام هذا القاعد الذي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء والأرض وراثة عن أب عن جد قال الشامي فكيف لي أن أعلم ذلك قال هشام سله عما بدا لك قال الشامي قطعت عذري فعلي السؤال.

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام يا شامي أخبرك كيف كان سفرك وكيف كان طريقك كان كذا وكذا فأقبل الشامي يقول صدقت أسلمت لله الساعة فقال أبو عبد الله عليه‌السلام

______________________________________________________

قوله : قال الشامي في وقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي ظاهرا وكان الرسول ، وفي بعض النسخ بعد ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أظهر ، ولعله سقط من النساخ لتوهم التكرار.

قوله : تشد إليه الرحال ، هو جمع الرحل وهو ما يستصحبه المسافر من الأثاث ، والقتب للبعير ، والظرف متعلق بتشد بتضمين معنى التوجه ، أي يتوجه إليه علماء كل بلد للاستفادة منه.

قوله : وراثة عن أب عن جد ، أي هذه الحالة وهي الإمامة المستلزمة للعلم بالمغيبات ، والأخبار بأخبار السماء والأرض وراثة عن أب عن جد إذ كل منهم عليهم‌السلام وارث ووصي لمن تقدمه ، أو الأخبار وراثة ، وقوله : « يخبرنا » على الأول بيان لطريق العلم بكونه وصيا وإماما ، فإن الأخبار معجزة ، وقوله : فكيف لي أن أعلم ذلك أي الإخبار بالمغيبات؟ فأجاب بأن طريقه السؤال عما لا طريق إلى علمه إلا من قبل الله ، وعلى الثاني : الأخبار إنما يكون طريقا إلى العلم لأنه إذا كان هو من بين الأمة عالما بما يخفى على غيره ولا يخفى عليه ما يعلمه غيره فيكون أولى بالخلافة والإمامة ، ولهذا قال : سله عما بدا لك على التعميم في المسؤول عنه تعميما لا يحيط به النقل ، ولا تحصره الرواية ، ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى العلم بإمامته عليه‌السلام ، أما على الأول فبأن يحمل على أنه لم يفهم مقصود هشام من قوله يخبرنا ، وعلى الثاني فبأن الإخبار وراثة لا يكون دليلا عليها ، والجواب ما مر والأول أظهر.


بل آمنت بالله الساعة إن الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ويتناكحون والإيمان عليه يثابون فقال الشامي صدقت فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنك وصي الأوصياء.

ثم التفت أبو عبد الله عليه‌السلام إلى حمران فقال تجري الكلام على الأثر فتصيب والتفت إلى هشام بن سالم فقال تريد الأثر ولا تعرفه ثم التفت إلى الأحول

______________________________________________________

قوله : إن الإسلام قبل الإيمان ، سيأتي معانيهما في كتاب الإيمان والكفر ، ويدل على أن الإسلام هو الاعتقاد بالتوحيد والرسالة والمعاد وما يلزمها سوى الإمامة ، والإيمان هو الاعتقاد القلبي بجميع العقائد الحقة التي عمدتها الإقرار بجميع أئمة الحق عليهم‌السلام ، ويدل على أن الأحكام الدنيوية تترتب على الإسلام ، وأما الثواب الأخروي فلا يكون له إلا بالإيمان ، فالمخالفون لا يدخلون الجنة أبدا ، وعلى أنه يجوز نكاح المخالفين وإنكاحهم ، ويكون التوارث بينهم وبين المؤمنين ، وعلى عدم دخول الأعمال في الإيمان ، وسيأتي الكلام في جميع ذلك في مظانها إنشاء الله تعالى ، وقبلية الإسلام بالنسبة إلى الإيمان إما ذاتي كتقدم الكلي على الجزئي والكل على الجزء ، أو المعنى أنه يمكن حصول الإسلام قبل الإيمان بالزمان وإن أمكن مقارنتهما ، والحاصل أن النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق.

قوله عليه‌السلام : تجري الكلام على الأثر ، أي على الأخبار المأثورة عن النبي وأئمة الهدى صلوات الله عليهم فتصيب الحق ، وقيل : على حيث ما يقتضي كلامك السابق ، فلا يختلف كلامك بل يتعاضد.

أقول : ويحتمل أن يكون المراد على أثر كلام الخصم ، أي جوابك مطابق للسؤال ، والأول أظهر.

« تريد الأثر » أي تريد أن تبني كلامك على الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا تعرفه ، لعدم التتبع في الأخبار ، أو عدم القدرة على الاستنباط « قياس » بالقياس


فقال قياس رواغ تكسر باطلا بباطل إلا أن باطلك أظهر ثم التفت إلى قيس الماصر فقال تتكلم وأقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبعد ما تكون منه تمزج

______________________________________________________

الفقهي أو المنطقي ، « رواغ » أي ميال عن الحق ، أو مميل كثير الميل عما يوجب غلبة الخصم عليك ، من قولهم راغ عن الشيء أي مال وحاد ، ومنه روغان الثعلب « إلا أن باطلك أظهر » أي أغلب على الخصم ، أو أوضح أو أشبه بالصواب « وأقرب ما يكون » أقرب مرفوع بالابتداء ومضاف إلى الموصول ، و « يكون » تامة أو ناقصة بتقدير الخبر ، والضمير المستتر فيه لما و « من » صلة لأقرب أو تبعيضية ، وأبعد خبر وضمير « منه » للخبر ، والجملة حال عن فاعل تتكلم ، أو كلمة « ما » مصدرية أي أقرب أوقات كون كلامك من الخبر أبعدها.

ويحتمل أن يكون أبعد منصوبا على الحالية سادا مسد الخبر كما في قولهم :

أخطب ما يكون الأمير قائما ، على اختلافهم في تقدير مثله كما هو مذكور في محله.

قال الرضي رضي‌الله‌عنه في شرحه على الكافية بعد نقل الأقوال في ذلك : واعلم أنه يجوز رفع الحال الساد مسد الخبر عن أفعل المضاف إلى « ما » المصدرية الموصولة بكان أو يكون ، نحو أخطب ما يكون الأمير قائم ، هذا عند الأخفش والمبرد ، ومنعه سيبويه والأولى جوازه ، لأنك جعلت ذلك الكون أخطب مجازا فجاز جعله قائما أيضا ، ثم قال : ويجوز أن يقدر في أفعل المذكور زمان مضاف إلى ما يكون لكثرة وقوع ما المصدرية مقام الظرف ، نحو قولك : ما ذرّ شارق (١) فيكون التقدير أخطب ما يكون الأمير قائم ، أي أوقات كون الأمير ، فتكون قد جعلت الوقت أخطب وقائما كما يقال : نهاره صائم وليله قائم ، انتهى.

وعلى التقادير : المراد بيان بعد كلامه عن الأثر وأن كلما يزعمه أقرب إلى الخبر فهو أبعد منه ، وقال بعض الأفاضل : أي تتكلم وكلامك أقرب ما يكون من الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبعد ما يكون منه ، أي مشتمل عليهما تمزج الحق القريب

__________________

(١) ذرّ : بمعنى طلع والشارق : الشمس.


الحق مع الباطل وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل أنت والأحول قفازان حاذقان قال يونس فظننت والله أنه يقول لهشام قريبا مما قال لهما ثم قال يا هشام لا

______________________________________________________

منه من الخبر مع الباطل البعيد عنه ، ولو اكتفيت بالحق عن الباطل لأصبت ، وقليل الحق يكفي عن كثير الباطل.

ويحتمل وجهين آخرين « أحدهما » كون الضمير في قوله : أبعد ما يكون منه ، راجعا إلى الكلام ، والمعنى يتكلم والحال أن أقرب ما يكون من الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبعد ما يكون من كلامك « وثانيهما » أن يكون راجعا إلى الخبر ، ويكون المعنى والحال أن أقرب ما تكون من الخبر عن رسول الله أبعد ما يكون من الخبر عنه في كلامك وبحسب حملك وتنزيلك ، والأول أظهر ، وفي بعض النسخ أقرب ما تكون بلفظ الخطاب ، أي أقرب حالك التي تكون عليها من الخبر أبعد حالك عنها ، وحاصله أنه إذا أردت القرب من الخبر والموافقة له تقع في المخالفة والبعد عنه.

« قفازان » بالقاف والفاء المشددة والزاي من القفز وهو الوثوب ، أي وثابان من مقام إلى آخر غير ثابتين على أمر واحد ، وقيل : هو من القفيز وهو المكيال ، والمراد علم الميزان ، وفي بعض النسخ بالراء المهملة من القفر وهو المتابعة والاقتفاء وفي بعضها بتقديم الفاء على القاف من فقرت البئر أي حفرته ، والفقر أيضا : ثقب الخرز للنظم ومناسبتها ظاهرة « لا تكاد تقع » أي لا يقرب وقوعك على الأرض ومغلوبيتك « تلوى رجليك إذا هممت بالأرض » أي قصدت الوقوع على الأرض تنزلا لمماشاة الخصم ، أو قربت من الوقوع مجازا ، ولويت الحبل فتلته ، ولوى الرجل رأسه : أمال ، والحاصل أنك كلما قربت من الأرض وخفت الوقوع عليها لويت رجليك كما هو شأن الطير عند إرادة الطيران ، ثم طرت ولم تقع ، والغرض أنك لا تغلب من خصمك قط ، وإذا قرب أن يغلب إليك ويعجزك تجد مفرا حسنا فتغلب عليه.

والزلة هي ما وقع منه في زمن الكاظم صلوات الله عليه من مخالفته عليه‌السلام حين


تكاد تقع تلوي رجليك إذا هممت بالأرض طرت مثلك فليكلم الناس فاتق الزلة والشفاعة من ورائها إن شاء الله

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبان قال أخبرني الأحول أن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام بعث إليه وهو مستخف قال فأتيته فقال لي يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه قال فقلت له إن كان أباك أو أخاك خرجت معه قال فقال لي فأنا أريد أن أخرج

______________________________________________________

أمره بترك الكلام تقية واتقاء وإبقاء عليه وعلى نفسه صلوات الله عليه ، كما روى الكشي عن أبي يحيى الواسطي عن عبد الرحمن بن حجاج قال : سمعته يؤدي إلى هشام بن الحكم رسالة أبي الحسن عليه‌السلام قال : لا تتكلم فإنه قد أمرني أن آمرك أن لا ـ تتكلم قال : فما بال هشام يتكلم وأنا لا أتكلم؟ قال : أمرني أن آمرك أن لا تتكلم أنا رسوله إليك ، قال أبو يحيى : أمسك هشام بن الحكم عن الكلام شهرا ثم تكلم ، فأتاه عبد الرحمن بن الحجاج فقال : سبحان الله يا أبا محمد تكلمت وقد نهيت عن الكلام؟فقال : مثلي لا ينهى عن الكلام ، قال أبو يحيى : فلما كان من قابل أتاه عبد الرحمن بن الحجاج فقال له يا هشام : قال لك أيسرك أن تشرك في دم امرئ مسلم؟ قال : لا ، قال : فكيف تشرك في دمي؟ فإن سكت وإلا فهو الذبح ، فما سكت حتى كان من أمره ما كان صلى الله عليه ، وذكر نحوا من ذلك بأسانيد ، وله قصة طويلة في مناظرته في بيت يحيى البرمكي وهارون خلف الستر ، وأن ذلك صار سبب موته ، لكن فيه مدائح كثيرة تغلب ذمه ، ولعل هذه الزلات التي كانت لشدة حبهم ورسوخهم في الدين مقرونة بالشفاعة والمغفرة كما وعده عليه‌السلام ، وقد أشبعت الكلام في ذلك في الكتاب الكبير.

الحديث الخامس : موثق كالصحيح.

« إن طرقك طارق منا » أي دخل عليك بالليل خوفا من الظلمة طارق منا أهل البيت يدعوك إلى معاونته في رفع شر الظلمة أتخرج معه لمعاونته؟ وقد يطلق الطارق على مطلق النازل ليلا كان أو نهارا « فقلت له : إن كان أباك أو أخاك » أي إن كان


أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي قال قلت لا ما أفعل جعلت فداك.

قال فقال لي أترغب بنفسك عني قال قلت له إنما هي نفس واحدة

______________________________________________________

الطارق أو مرسله إماما مفترض الطاعة كأبيك وأخيك يدعوني إلى الخروج معه خرجت معه.

واعلم أن الأخبار في حال زيد مختلفة ، ففي بعضها ما يدل على أنه ادعى الإمامة فيكون كافرا ، وفي كثير منها أنه كان يدعو إلى الرضا من آل محمد وأنه كان غرضه دفع هؤلاء الكفرة ورد الحق إلى أهله ، وربما يقال : إنه كان مأذونا عن الصادق عليه‌السلام باطنا وإن كان ينهاه بحسب الظاهر تقية وفيه بعد ، وقيل : كان جهاده لدفع شرهم عنه وعن أهل البيت عليهم‌السلام كجهاد المرابطين في زمن الغيبة لدفع الكفرة ، أو كمجاهد المرء عدوه على سبيل الدفع عن نفسه وحرمه وماله ، وإجماله في القول لئلا تتخلف عنه العامة وتتضرر منه الخاصة ، ولعل حمله على أحد هذه الوجوه أولى ، فإن الأصل فيهم كونهم مشكورين مغفورين ، وقد وردت الأخبار في النهي عن التعرض لأمثالهم بالذم ، وأنهم يوفقون عند الموت للرجوع إلى الحق ، والاعتقاد بإمام العصر « أترغب بنفسك عني » أي أترغب عني ولا تميل إلى بسبب نفسك ، وخوفا عليها أن تقتل ، أو المعنى أتعد نفسك أرفع من أن تبايعني أو ترى لنفسك فضلا فتحافظ عليها ما لم تحافظ علي ، أو فتظن أنك أعرف بأمر الدين مني وأن ما تراه في ترك الخروج لدفع شر هؤلاء أولى مما أراه من مجاهدتهم لدفعهم ، قال في النهاية : فيه ، إني لأرغب بك عن الأذان ، يقال رغبت بفلان عن هذا الأمر إذا كرهته وزهدت له فيه ، وفي القاموس : رغب بنفسه عنه بالكسر : رأى لنفسه عليه فضلا.

« إنما هي نفس واحدة » أي ليس لي نفسان إن أتلفت إحداهما في معصية الله تداركت بالأخرى طاعة الله ، فلا بد لي من أن أنظر لها ولا أضيعها ، وقيل : المعنى لست إلا رجلا واحدا ليس لي أتباع فلا ينفعك نصرتي ، ويحتمل أن يراد أن الحجة نفس واحدة ، ومعلوم أن أخاك أو ابن أخيك حجة فكيف تكون أنت حجة ، و


فإن كان لله في الأرض حجة فالمتخلف عنك ناج والخارج معك هالك وإن لا تكن لله حجة في الأرض فالمتخلف عنك والخارج معك سواء.

قال فقال لي يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي ولم يشفق علي من حر النار إذا أخبرك بالدين ولم يخبرني به فقلت له جعلت فداك من شفقته عليك من حر النار لم يخبرك خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار وأخبرني أنا فإن قبلت نجوت وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار ثم قلت له جعلت فداك أنتم أفضل أم

______________________________________________________

الأول أظهر.

ثم أخذ في الاستدلال على أنه لا ينبغي أن يخرج معه بقوله : « فإن كان لله في الأرض حجة فالمتخلف عنك ناج » لأنك لست بذاك « والخارج معك هالك » لأن إمامي منعني عن الخروج ، أو لأن إجابة من ليس بحجة إلى الخروج والطاعة والانقياد له مع وجود الحجة هلاك وضلال « وإن لا تكن لله حجة » فأجابه غير الحجة والتخلف عنه سواء في الدين ، وليس شيء منهما مكلفا به وفي الإجابة إلقاء النفس إلى التهلكة ، ولا مفسدة في التخلف ، فقال له زيد ـ معرضا عن إبطال حجته مفصلا ، مقتصرا على الإشارة إليه إجمالا ـ بأنه لو كان هذا الخروج الذي أريده محظورا لأخبرني به أبي عليه‌السلام ، وأنه مع كمال شفقته علي لم يكن يخبرك وأمثالك بما يتعلق بالدين ، ولا يخبرني به ، أو المراد أنه كيف أخبرك وأمثالك بالإمام ولم يخبرني به؟ فقال له الأحول على طريقة الجدل : لعله لم يخبرك لشفقته عليك مخافة أن لا تقبله ، وأخبرني لعدم الداعي إلى عدم القبول « وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار » وإنما قال ذلك تنزلا ، لأنه كيف يتصور عدم علمه بإمامة أخيه في مدة حياة والده عليه‌السلام وبعده.

وفي النهاية : الخوان بالكسر : الذي يؤكل عليه ، معرب ، وقال : البضعة بالفتح القطعة من اللحم.


الأنبياء قال بل الأنبياء قلت يقول يعقوب ليوسف « يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً » لم لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمهم ذلك فكذا أبوك كتمك لأنه خاف عليك قال فقال أما والله لئن قلت ذلك لقد حدثني صاحبك بالمدينة أني أقتل وأصلب بالكناسة وإن عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي.

فحججت فحدثت أبا عبد الله عليه‌السلام بمقالة زيد وما قلت له فقال لي أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه ولم تترك له مسلكا يسلكه.

باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة عليهم‌السلام

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن أبي يحيى الواسطي ، عن هشام بن سالم

______________________________________________________

قوله : « أما والله لئن قلت ذلك » الظاهر أن هذا على سبيل الإنكار ، وقيل : لما كان بناء كلام الأحول على ظنه بزيد أنه غير مقر بالإمامة ، وغير عارف بإمامه ، ولم تكن المصلحة في إظهار حاله والتصريح ببطلان ظنه ومقالة ، أعرض عن التعرض لجوابه ، وقال تنبيها له على أن مجاهدته ليس لنيل الرئاسة ولا لجهله بالإمامة كما ظنه ، بل لأمر آخر « والله لئن قلت ذلك » وظننت بي ما ظننت « فلقد حدثني صاحبك » الذي هو الحجة « بالمدينة » وأنا أو إليه وآخذ عنه « إني أقتل وأصلب بالكناسة » بالضم اسم موضع بالكوفة ، والغرض أنه يعلم من قول من لا يشك في صدقه مصير أمره ، وإنما يريد المجاهدة لما يجوز له بمراضاة من الحجة ومشورته.

« أخذته من بين يديه » أي لم تترك له طريق جواب أصلا ، وقيل : ذكر الجهات الست إشارة إلى الست الفقرات التي تكلم بها الأحول.

باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة عليهم‌السلام

الحديث الأول : ضعيف

وقوله : درست إما معطوف على هشام ، والضمير في عنه راجع إلى الإمام عليه‌السلام ، أو إلى هشام ، ينقله عنه بواسطة أيضا ، أو على أبي يحيى والضمير راجع إلى هشام.


ودرست بن أبي منصور عنه قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث إلى أحد وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : الأنبياء والمرسلون ، أي مجموع الصنفين علي التداخل ينقسم إلى الأربع لأكل منهما ، فلا ينافي ما سيأتي في الباب الآتي من الفرق بين النبي والرسول ، ويحتمل أن يكون هذا التقسيم مبنيا على اصطلاح آخر ، والأول أظهر.

قال شارح المقاصد : النبوة هو كون الإنسان مبعوثا من الحق إلى الخلق ، فإن كان النبي مأخوذا من النباوة وهو الارتفاع لعلو شأنه واشتهار مكانه أو من النبي بمعنى الطريق لكونه وسيلة إلى الحق ، فالنبوة على الأصل كالأبوة ، وإن كان من النبإ بمعنى الخبر لإنبائه عن الله تعالى ، فعلى قلب الهمزة واوا ثم الإدغام كالمروة ، وقال : النبي هو إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحى إليه ، وكذا الرسول وقد يخص بمن له شريعة وكتاب ، فيكون أخص من النبي ، واعترض بما ورد في الحديث من زيادة عدد الرسل على عدد الكتب ، فقيل : هو من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشريعة السابقة ، والنبي قد يخلو عن ذلك كيوشع عليه‌السلام ، وفي كلام بعض المعتزلة أن الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك ، والنبي هو المخبر عن الله بكتاب أو إلهام أو تنبيه في منام ، انتهى.

أقول : وسيأتي تحقيق القول في ذلك.

قوله : فنبي منبأ في نفسه ، أقول : الفرق بينه وبين الثاني لا يخلو من إشكال ، ويمكن توجيهه بوجهين :

الأول : أن يكون المراد بقوله : منبأ في نفسه لا يعدو غيرها ، أنه لا يتعلق بنبوته شيء غير نفسه ، لا ملك يسمع صوته أو يعاينه ، ولا أحد يبعث إليه والثاني ليس بمقصود على ذلك ، بل يسمع كلام الملك أيضا بحيث لا يراه في اليقظة ، فيكون


عليهم‌السلام ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد أرسل إلى طائفة قلوا أو كثروا كيونس قال الله ليونس « وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ » (١) قال يزيدون

______________________________________________________

القسمان مشتركين في عدم البعثة إلى أحد ، وإنما الفرق بسماع الصوت في اليقظة وعدمه ، والتشبيه بلوط عليه‌السلام في محض كونه عليه إمام ، لأن لوطا كان من المرسلين ، وكان مبعوثا على أمة عذبوا بمخالفته.

والوجه الثاني : أن يكون الأول من لم يبعث إلى أحد أصلا ، والثاني من يكون مبعوثا لكن لا من قبل الله ، بل من قبل الإمام بأن يكون لوطا مبعوثا من قبل إبراهيم عليه‌السلام إليهم لا من قبل الله ، وإن كان نبيا فيكون التشبيه كاملا ، ويكون قوله سبحانه « وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ » (٢) يعني به أنه من المرسلين من قبل الإمام ، والمراد بعدم المعاينة عدمها عند إلقاء الحكم وسماع الصوت المشتمل على بيان الحكم الشرعي ، فلا ينافي رؤية لوط عليه‌السلام الملائكة المرسلين (٣) لتعذيب قومه وسماعه أصواتهم ، ويمكن أن يكون المراد رؤيتهم بصورتهم الأصلية ، وهو عليه‌السلام رآهم في صورة البشر ، أو رؤيتهم عند معرفة أنهم ملائكة ، فيمكن أن يكون حين عرفهم لم يكن يراهم ، ولكن يسمع أصواتهم والظرف في قوله : في اليقظة ، متعلق بيسمع الصوت ولا يعاينه على التنازع.

وقوله تعالى « أَوْ يَزِيدُونَ » مما يوهم الشك وهو محال على الله سبحانه.

وأجيب بوجوه : « الأول » أن المعنى أو يزيدون في تقديركم ، بمعنى أنه إذا رآهم الرائي منكم قال : هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة ألف « الثاني » أن أو بمعنى الواو « الثالث » أن أو بمعنى بل « الرابع » أنه للإبهام على المخاطبين « الخامس » ما قيل : إنه لما كان إرسال يونس إلى قومه أمرا مستمرا وكان قومه في بعض أوقات

__________________

(١) سورة الصافات : ١٤٧.

(٢) سورة الصافات : ١٣٣.

(٣) المقرّبين خ ل.


ثلاثين ألفا وعليه إمام والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أولي العزم وقد كان إبراهيم عليه‌السلام نبيا وليس بإمام حتى قال الله : « إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي » فقال الله « لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » (١) من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما.

______________________________________________________

الإرسال مائة ألف وزادوا بالتوالد في بعض الأوقات إلى أن صاروا مائة وثلاثين ألفا استعمل « أو » لبيان أن المرسل إليهم على قسمين ، ففي بعض الأوقات مائة ألف ، وفي بعضها يزيدون ، ولم يذكر قدر الزيادة إشارة إلى أنه في كل وقت من أوقات الزيادة غير ما في الأوقات الأخرى ، فبين عليه‌السلام أن منتهى الزيادة ثلاثون ألفا.

وقال الطبرسي (ره) : واختلف في الزيادة على مائة ألف كم هي؟ فقيل : عشرون ألفا عن ابن عباس ومقاتل ، وقيل : بضع وثلاثون ألفا عن الحسن والربيع ، وقيل : سبعون ألفا عن مقاتل بن حيان.

قوله : وعليه إمام ، أي موسى عليه‌السلام والإمام من تكون له الرئاسة العامة ويتبعه كل من يأتي بعده إلى أن تنسخ شريعته ، وهذا المعنى ثابت لجميع أولو العزم ، ولأئمتنا صلوات الله عليهم ، وقوله عليه‌السلام : من عبد صنما أو وثنا لم يكن إماما ، إما تفسير لقوله تعالى : « لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » أو متفرع ومترتب عليه وهذا أنسب بسائر الأخبار ، فيكون تعريضا لأئمة المخالفين الذين كانوا في أكثر عمرهم مشركين ، فعلى الأول المراد بالظلم الكفر والشرك ، وبالعهد الإمامة ، وعلى الثاني فالظلم على عمومه والعهد شامل للإمامة وما في حكمها ، وهو في الأصل ما يكتب للولاة ، من عهد إليه كعلم إذا أوصاه ، وهنا كناية عن خلافة الله في أرضه.

وقال الطبرسي (ره) قال مجاهد : العهد الإمامة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام ، أي لا يكون الظالم إماما للناس فهذا يدل على أنه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالما لأنه لو لم يرد أن يجعل أحدا منهم إماما للناس

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٤.


______________________________________________________

لوجب أن يقول في الجواب : لا ، أو لا ينال عهدي ذريتك ، وقال الحسن : إن معناه أن الظالمين ليس لهم عند الله عهد يعطيهم به خيرا وإن كانوا قد يعاهدون في الدنيا فيوفي لهم ، وقد يجوز في العربية أن يقال لا ينال عهدي الظالمين ، لأن ما نالك فقد نلته ، وقد روي ذلك في قراءة ابن مسعود ، واستدل أصحابنا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوما عن القبائح ، لأن الله سبحانه نفي أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم ، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه وإما لغيره ، فإن قيل : إنما نفى أن يناله في حال ظلمة ، فإذا تاب فلا يسمى ظالما ، فيصح أن يناله؟ فالجواب أن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما ، فإذا نفى أن يناله فقد حكم بأنه لا ينالها ، والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت ، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها ، فلا يناله الظالم وإن تاب فيها بعد ، انتهى كلامه رفع الله مقامه.

فإن قلت : على القول باشتراط بقاء المشتق منه في صدق المشتق كيف يستقيم الاستدلال؟

قلت : لا ريب أن الظالم في الآية يحتمل الماضي والحال ، لأن إبراهيم عليه‌السلام إنما سأل ذلك لذريته من بعده ، فأجاب تعالى بعدم نيل العهد لمن يصدق عليه أنه ظالم بعده ، فكل من صدق عليه بعد مخاطبة الله تعالى لإبراهيم بهذا الخطاب أنه ظالم ، وصدر عنه الظلم في أي زمان من أزمنة المستقبل يشمله هذا الحكم ، أنه لا يناله العهد.

فإن قلت : تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية؟

قلت : العلية لا تدل على المقارنة ، إذ ليس مفاد الحكم إلا أن عدم النيل إنما هو للاتصاف بالظلم في أحد الأزمنة المستقبلة بالنسبة إلى صدور الحكم فتدبر.

وقال بعض الأفاضل : في الخبر دلالة علي أن المراد بالظالم من ظلم وسبق ظلمه ، حيث قال : من عبد صنما ولم يقل من لم يعبد ، ولم يدخل الفاء في الخبر


٢ ـ محمد بن الحسن عمن ذكره ، عن محمد بن خالد ، عن محمد بن سنان ، عن زيد الشحام قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول إن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا وإن الله اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا وإن الله اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا وإن الله اتخذه خليلا قبل أن يجعله إماما فلما جمع له الأشياء قال « إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً » قال فمن عظمها في عين إبراهيم قال « وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » قال لا يكون السفيه إمام التقي.

______________________________________________________

دلالة على عدم إرادة معنى الشرط ، وأيضا فكما كان الخليل عليه‌السلام يسأل الإمامة ويريدها لظالم حين ظلمه إنما يدخل في سؤاله الذي سبق ظلمه ، وهو غير متلبس به ، فأجاب بإخراج من ظلم وسبق منه الظلم ، ويحتمل أن يكون مراد الخليل عليه‌السلام أخذ العهد لذريته بالإمامة ، في ضمن عهد إمامته ، والجواب من يفعل منهم ظلما لا ينال عهد الإمامة ، فذريته على العموم لا يصح إدخالهم في العهد ، فإن من ذريته من يعبد الصنم والوثن.

الحديث الثاني : ضعيف ، وتقدم النبوة على الرسالة ظاهر ، وكذا الرسالة على الخلة فإنها فراغ القلب عن جميع ما سوى الله ، وعدم التوسل في شيء من الأمور إلى سواه ، وكل رسول لا يلزم أن تكون له هذه الدرجة ، والإمامة التي هي الرئاسة العامة لجميع الخلق ، وكون من بعده من الأنبياء تابعين له أفضل من الجميع.

قوله عليه‌السلام : فلما جمع له ، على بناء المعلوم أو المجهول « الأشياء » أي المذكورة سابقا.

قوله عليه‌السلام : لا يكون السفيه ... هذا تفسير لنفي إمامة الظالم بحمل الظلم على السفاهة ، سواء كان بفقدان العقائد الحقة واختيار الباطل ، وهم الظلمة على أنفسهم ، أو بارتكاب القبائح الشنيعة وهم الظلمة على أنفسهم أو على غيرهم ، أو بيان لسببه ، أو لما يترتب عليه.


٣ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن يحيى الخثعمي ، عن هشام ، عن ابن أبي يعفور قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم « أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » وعليهم دارت الرحى : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى جميع الأنبياء.

٤ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسين ، عن إسحاق بن عبد العزيز أبي السفاتج ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سمعته يقول إن الله اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيا واتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا واتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا واتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما فلما جمع له هذه الأشياء ـ وقبض

______________________________________________________

قيل : وفيه دلالة على عموم الإمامة بالنسبة إلى كل الناس كما هو الظاهر من قوله تعالى : « إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ».

الحديث الثالث : موثق

« وعليهم دارت الرحى » أي رحا النبوة والرسالة والشريعة والدين ، وسائر الأنبياء تابعون لهم فهم بمنزلة القطب للرحى ، وقيل : كنى بالرحى عن الشرائع لدورانها بين الأمم مستمرة إلى يوم القيامة ، وشبه أولو العزم بالماء الذي تدور عليه الرحى ، أو كنى بالرحى عن الأفلاك ، فإنها تدور وتدوم بوجود الأنبياء ودوام آثارهم ولولاهم لما دارت ولما بقيت كما ورد في الحديث القدسي في حق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله : لولاك لما خلقت الأفلاك.

الحديث الرابع : ضعيف.

قوله : وقبض يده ، الظاهر أن الضمير المستتر والبارز راجعان إلى الباقر عليه‌السلام ، والكلام من الراوي أي لما قال عليه‌السلام فلما جمع له هذه الأشياء قبض يده الشريفة ، أي ضم أصابعه إلى الكف لبيان اجتماع هذه الخمسة له ، أي العبودية التي هي إخلاص العبادة لله ، والعمل بما يقتضيه ، وهذا غاية كمال الممكن ، وقد وصف الله المقربين من عباده بذلك حيث قال : « سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ » (١) وقال :

__________________

(١) سورة الإسراء : ١.


يده قال له : يا إبراهيم « إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً » فمن عظمها في عين إبراهيم عليه‌السلام قال يا رب « وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ».

باب

الفرق بين الرسول والنبي والمحدث

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن زرارة قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا » ما الرسول وما النبي قال النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا

______________________________________________________

« عَبْداً مِنْ عِبادِنا » (١) إلى غير ذلك من الآيات ، والنبوة (٢) والرسالة والخلة والإمامة ، وضم الفعل إلى القول بهذه الإشارات شائع في الاستعمالات كما لا يخفى علي المتدبرين في فهم الروايات ، وقيل : لعل المراد أخذ يده ورفعه من حضيض الكمالات إلى أوجها ، هذا إذا كان الضمير في يده راجعا إلى إبراهيم وإن كان راجعا إلى الله فقبض يده كناية عن إكمال الصنعة وإتمام الحقيقة في إكمال ذاته وصفاته ، أو تشبيه للمعقول بالمحسوس للإيضاح ، فإن الصانع منا إذا أكمل صنعة الشيء لرفع يده عنه ولا يعمل فيه شيئا لتمام صنعته ، وقيل : فيه إضمار أي قبض إبراهيم هذه الأشياء بيده ، أو قبض المجموع في يده ، ولا يخفى ما في جميع ذلك من التكلف والتعسف.

قوله : فمن عظمها أي الإمامة.

باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث

الحديث الأول : صحيح.

قوله عليه‌السلام : الذي يرى في منامه ، الغرض بيان مادة الافتراق لإثبات العموم ، أي يصدق على هذا الفرد « ولا يعاين الملك » أي في اليقظة ، والمعنى : لا يعاينه حين سماع صوته ، فلا ينافيه الخبر الآتي ، ويدل على أنه كان في قراءة أهل البيت عليهم‌السلام :

__________________

(١) سورة الكهف : ٦٥.

(٢) عطف على قوله : « أي العبودية ..... ».


يعاين الملك والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك قلت الإمام ما منزلته قال يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك ثم تلا هذه الآية « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ » ولا محدث.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن إسماعيل بن مرار قال كتب الحسن بن العباس المعروفي إلى الرضا عليه‌السلام جعلت فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام قال فكتب أو قال الفرق بين الرسول والنبي والإمام أن الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه‌السلام والنبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع

______________________________________________________

« ولا محدث » وقيل : يحتمل أن يكون بيانا للمراد من الآية ، أقول : هذا بعيد جدا وإن أمكن توجيهه بأن الأئمة في هذه الأمة لما كانوا بمنزلة الأنبياء الذين كانوا في الأمم السابقة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ، وفسر بالأئمة عليهم‌السلام ، فذكر الأنبياء المتقدمين وبيان حكمهم مشتمل على ذكر الأئمة عليهم‌السلام على هذا الوجه ، لكن أوردنا في كتابنا الكبير أخبارا أصرح من هذه الأخبار ، في كون هذه الكلمة في القرآن ، ولا استبعاد في سقوط بعض القرآن عما جمعه عثمان كما سيأتي تحقيقه في كتاب القرآن إن شاء الله تعالى.

الحديث الثاني : مجهول

قال : فكتب ... القائل أما الحسن أو إسماعيل فإن أحدهما شك في أن جوابه عليه‌السلام كان بعنوان المكاتبة أو المكالمة « ينزل عليه جبرئيل » ذكره على المثال أو على التعيين ، فيكون الملك في سائر الأخبار محمولا عليه « وينزل عليه الوحي » أما تفسير لما سبق أو تعميم بعد التخصيص على الاحتمال الأول ، أو المراد الوحي بلا واسطة الملك ، « وربما رأى الشخص » أي النبي الذي ليس برسول لا يجتمع له السماع والرؤية في حالة واحدة كما مر ، ويرى في المنام أيضا ولا يرى الشخص ، أي جبرئيل عليه‌السلام على الاحتمال الثاني مطلقا ، وإن كان ينافيه بعض الأخبار ، أو عند إلقاء الحكم كما


والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن الأحول قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرسول والنبي والمحدث قال الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه ويكلمه فهذا الرسول وأما النبي فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أسباب النبوة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل عليه‌السلام من عند الله بالرسالة وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حين جمع له النبوة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل ويكلمه بها قبلا ومن الأنبياء من جمع له النبوة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه من غير أن يكون يرى في اليقظة وأما

______________________________________________________

مر ، فالفرق بينه وبين بعض الأنبياء غير مذكور هنا ، قيل : أي الإمامة باعتبار هذه المرتبة ، كما أن النبوة باعتبار الرؤية في المنام ، والرسالة باعتبار نزول جبرئيل عليه‌السلام ورؤية شخصه وسماع كلامه في اليقظة ، فمتى فارقت الإمامة النبوة والرسالة لم يكن الإسماع والكلام من غير معاينة ولا في المنام كما سيأتي.

الحديث الثالث : صحيح.

قال الفيروزآبادي : رأيته قبلا محركة وبضمتين ، وكصرد وعنب ، وقبيلا كأمير : عيانا ومقابلة « ويأتيه الروح » أي جبرئيل للخبر السابق ، أو روح القدس كما سيأتي.

واعلم أن تحقيق الفرق بين النبي والإمام عليهم‌السلام واستنباطه من تلك الأخبار لا يخلو من إشكال ، وكذا الجمع بينهما وبين سائر الأخبار التي سيأتي بعضها وأوردنا أكثرها في كتاب البحار ، في غاية الإشكال ، والذي ظهر لي من أكثرها : هو أن الإمام لا يرى الحكم الشرعي في المنام ، والنبي قد يراه فيه ، وأما الفرق بين الإمام والنبي وبين الرسول ، أن الرسول يرى الملك عند إلقاء الحكم والنبي غير الرسول والإمام عليه‌السلام لا يريانه في تلك الحال ، وإن رأياه في سائر الأحوال ، ويمكن أن يخص الملك الذي لا يريانه بجبرئيل عليه‌السلام ، ويعم الأحوال لكن فيه أيضا منافرة لبعض الروايات ، ومع قطع النظر عن الأخبار لعل الفرق بين الأئمة عليهم‌السلام وغير


______________________________________________________

أولي العزم من الأنبياء أن الأئمة عليهم‌السلام نواب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يبلغون إلا بالنيابة ، وأما الأنبياء وإن كانوا تابعين لشريعة غيرهم لكنهم مبعوثون بالأصالة وإن كانت تلك النيابة أشرف وأعلى رتبة من تلك الأصالة ، وربما يفرق بينهما بأن الملك يلقي إلى النبي على وجه التعليم ، وإلى الإمام عليه‌السلام للتنبيه.

وبالجملة لا بد لنا من الإذعان بعدم كونهم أنبياء ، وأنهم أفضل وأشرف من جميع الأنبياء سوى نبينا صلوات الله عليه وعليهم ، ومن سائر الأوصياء عليهم‌السلام ، ولا نعرف سببا لعدم اتصافهم بالنبوة إلا رعاية جلالة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يصل عقولنا إلى فرق بين بين النبوة والإمامة ، وما دلت عليه الأخبار فقد عرفته والله يعلم حقائق أحوالهم صلوات الله عليهم.

قال الشيخ المفيد قدس الله روحه في شرح عقائد الصدوق رحمه‌الله : أصل الوحي هو الكلام الخفي ثم قد تطلق على كل شيء قصد به إلى إفهام المخاطب على السر له من غيره ، والتخصيص له به دون من سواه ، فإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرسل خاصة دون من سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال الله تعالى : « وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ » الآية (١) ، فاتفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا مناما وكلاما (٢) سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص ، وقال تعالى : « وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ » الآية (٣) يريد به الإلهام الخفي إذ كان خاصا بمن أفرده دون من سواه ، فكان علمه حاصلا للنحل بغير كلام جهر به المتكلم فأسمعه غيره.

وساق (ره) الكلام إلى أن قال : وقد يرى الله في المنام خلقا كثيرا ما يصح تأويله ويثبت حقه لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي ، ولا يقال في هذا الوقت لمن أطلعه الله على علم شيء أنه يوحى إليه ، وعندنا أن الله يسمع الحجج بعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله كلاما يلقيه إليهم أي الأوصياء في علم ما يكون ، لكنه لا يطلق عليه

__________________

(١) سورة القصص : ٧.

(٢) وفي المصدر « كان رؤيا أو كلاما ».

(٣) سورة النحل : ٦٨.


______________________________________________________

اسم الوحي لما قدمناه من إجماع المسلمين على أنه لا يوحى لأحد (١) بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنه لا يقال في شيء مما ذكرناه أنه وحي إلى أحد ، ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحيانا ويحظره أحيانا ويمنع السمات بشيء حينا ويطلقها حينا ، فأما المعاني فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدمناه.

وقال رحمه‌الله في كتاب المقالات (٢) : أن العقل لا يمنع من نزول الوحي إليهم عليهم‌السلام وإن كانوا أئمة غير أنبياء ، فقد أوحى الله عز وجل إلى أم موسى عليه‌السلام « أَنْ أَرْضِعِيهِ » ، الآية ، فعرفت صحة ذلك بالوحي ، وعملت عليه ولم تكن نبيا ولا رسولا ولا إماما ، ولكنها كانت من عباد الله الصالحين ، وإنما منعت من نزول الوحي إليهم والإيحاء بالأشياء إليهم للإجماع على المنع من ذلك والاتفاق على أنه من زعم أن أحدا بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله يوحى إليه فقد أخطأ وكفر ، ولحصول العلم بذلك من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أن العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء عليهم‌السلام ، وإنما منع ذلك الإجماع والعلم بأنه خلاف دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار ، والإمامية جميعا على ما ذكرت ليس بينها فيه على ما وصفت خلاف.

ثم قال رحمه‌الله : « القول في سماع الأئمة عليهم‌السلام كلام الملائكة الكرام وإن كانوا لا يرون منهم الأشخاص (٣) » وأقول بجواز هذا من جهة العقل ، وأنه ليس يمتنع في الصديقين من الشيعة ، المعصومين من الضلال ، وقد جاءت بصحته وكونه للأئمة عليهم‌السلام ومن سميت من شيعتهم الصالحين الأبرار الأخيار واضحة الحجة والبرهان ، وهو مذهب فقهاء الإمامية وأصحاب الآثار منهم ، وقد أباه بنو نوبخت وجماعة من الإمامية لا معرفة لهم بالأخبار ، ولم يتعمقوا (٤) النظر ولا سلكوا طريق الصواب.

__________________

(١) [ لا وحي لأحد ] خ ل.

(٢) وهو المعروف بكتاب أوائل المقالات المطبوع مرتين بتبريز.

(٣) هذا عنوان الباب وبعده من كلام المفيد (ره).

(٤) وفي المصدر « ولم يمنعوا ».


المحدث فهو الذي يحدث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه.

٤ ـ أحمد بن محمد ومحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن علي بن حسان ، عن ابن فضال ، عن علي بن يعقوب الهاشمي ، عن مروان بن مسلم ، عن بريد ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه‌السلام في قوله عز وجل « وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ » ولا محدث قلت جعلت فداك ليست هذه قراءتنا فما الرسول والنبي والمحدث قال الرسول الذي يظهر له الملك فيكلمه والنبي هو الذي يرى في منامه وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة قال قلت أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في النوم حق وأنه من الملك قال يوفق لذلك حتى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء.

______________________________________________________

ثم قال رحمه‌الله تعالى : وأقول : منامات الرسل والأنبياء والأئمة عليهم‌السلام صادقة لا تكذب ، وأن الله تعالى عصمهم عن الأحلام وبذلك جاءت الأخبار عنهم عليهم‌السلام ، وعلى هذا القول جماعة من فقهاء الإمامية وأصحاب النقل منهم ، وإما متكلموهم فلا أعرف منهم نفيا ولا إثباتا ، ولا مسألة فيه ولا جوابا ، والمعتزلة بأسرها تخالفنا فيه ، انتهى.

الحديث الرابع : ضعيف ، وأحمد بن محمد كأنه العاصمي.

قوله عليه‌السلام : يوفق لذلك ، أي يعطيه أسباب تلك المعرفة ويهيئها له من معجزة مقارنة له أو إفاضة علم ضروري به « لقد ختم الله بكتابكم » الظاهر أن هذا لرفع توهم النبوة في الحجج عليهم‌السلام ، لاشتراكهم مع الأنبياء في سماع صوت الملك ، أو لبيان أنه لا بد من محدثين بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لحفظ الملة وهداية الأمة ، إذ في الأمم السابقة كان في كل عصر جماعة من الأنبياء يحفظون شريعة النبي الذي سبقهم من أولي العزم ، ويدعون الناس إلى ملته ، فلما انقطعت النبوة بعد نبينا فلا بد من محدثين يأتون بما كانوا يأتون به.

وقيل : نبه بذلك على أن كيفية ذلك إنما يحتاج إلى علمه من يكون نبيا ، أو من يحتمل نبوته وهو لكم مفروغ عنه ، لانقطاع النبوة بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يخفى ما فيه.


باب

أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام

١ ـ محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن أبي عمير ، عن الحسن بن محبوب ، عن داود الرقي ، عن العبد الصالح عليه‌السلام قال إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف.

٢ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء قال سمعت الرضا عليه‌السلام يقول إن أبا عبد الله عليه‌السلام قال إن الحجة لا تقوم لله عز وجل على خلقه إلا بإمام حتى يعرف.

______________________________________________________

باب أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلابإمام

الحديث الأول : صحيح.

قوله عليه‌السلام : إن الحجة لا تقوم ، أي في الدنيا بحيث يجب عليهم الإتيان بما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه ، فإن التعريف شرط التكليف ، أو في الآخرة بحيث يحتج عليهم لم فعلت كذا؟ ولم تركت كذا؟ « إلا بإمام حتى يعرف » على المعلوم من بناء التفعيل أي حتى يعرف الناس ما يحتاجون إليه ، فيكون دليلا على المدعى أو على بناء المجهول بالتخفيف أو بالتشديد ، والضمير راجع إلى الله أو إلى الدين أو الحق المعلومين بقرينة المقام ، أو إلى الإمام إذ لو لم يكن إماما منصوبا من قبل الله مؤيدا بالمعجزات لم تعرف حقيته وحجيته ، وفي بعض النسخ « حي » مكان « حتى » فالوجوه أيضا محتملة في البناء ، لكن الضمير راجع إلى الإمام ، والتقييد بالحي للرد على العامة القائلين بأن الإمام بعد الرسول القرآن كما قال إمامهم : حسبنا كتاب الله ، وفي بعض النسخ : « حق » مكانه ردا على المخالفين القائلين بإمامة خلفاء الجور.

الحديث الثاني : ضعيف.


٣ ـ أحمد بن محمد ، عن محمد بن الحسن ، عن عباد بن سليمان ، عن سعد بن سعد ، عن محمد بن عمارة ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن البرقي ، عن خلف بن حماد ، عن أبان بن تغلب قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق.

باب

أن الأرض لا تخلو من حجة

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن أبي عمير ، عن الحسين بن أبي العلاء قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام تكون الأرض ليس فيها إمام قال لا قلت يكون إمامان قال لا إلا وأحدهما صامت.

______________________________________________________

الحديث الثالث : مجهول.

الحديث الرابع : صحيح ، والحجة : البرهان ، والمراد بها هنا الإمام عليه‌السلام إذ به تقوم حجة الله على الخلق « قبل الخلق » أي قبل جميعهم من المكلفين كآدم عليه‌السلام إذ كان قبل خلق حواء وخلق ذريته « ومع الخلق » لعدم خلو الأرض من الإمام ، وبعدهم إذ القائم أو أمير المؤمنين عليهما‌السلام آخر من يموت من الخلق ، أو يكون الحجة قبل كل أحد ومعه وبعده ، وقيل : حجية الحجة قبل إيجاد الخلق في الميثاق ، ومعهم في الدنيا وبعد موتهم في القيامة ، وأقول : يحتمل على بعد أن يكون المعنى : هو قبل الخلق بالعلية ، ومعهم بالزمان ، وبعدهم بالغائية ، ولعل المصنف (ره) حمله علي المعنى الثالث.

باب أن الأرض لا تخلو من حجة

الحديث الأول : حسن.

« إلا وأحدهما صامت » أي ساكت عن الدعوة والتعريف وادعاء الإمامة ، والناطق إمام عليه في الحال كالسبطين عليهما‌السلام.


٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير ، عن منصور بن يونس وسعدان بن مسلم ، عن إسحاق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام كيما إن زاد المؤمنون شيئا ردهم وإن نقصوا شيئا أتمه لهم.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن ربيع بن محمد المسلي ، عن عبد الله بن سليمان العامري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما زالت الأرض إلا ولله فيها الحجة يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله.

______________________________________________________

الحديث الثاني : حسن موثق.

« إن الأرض لا تخلو » أي عن إمام سابق « إلا وفيها إمام » أي لا حق بشرط بقاء زمان التكليف ، والواو للحال والاستثناء مفرغ متصل ، أي لا تخلو على حال من الأحوال إلا هذه الحالة ، أو لا تخلو من أحد إلا وفيها إمام ، أو لا تمضي إلا وفيها إمام ، من قولهم خلا الدهر أي مضى ، ونسبة المضي إليها مجاز بل الزمان يمضي عليها ، وهذا عندي أظهر ، أو من الخلق فيكون المراد إن آخر من يموت الحجة « كيما إذا زاد المؤمنون شيئا » أي من العقائد أو الأعمال سهوا أو خطأ « ردهم ، وإن نقصوا شيئا » لقصورهم عن الوصول إليه « أتمه لهم » ويحتمل أن يكون المراد بالمؤمنين المدعين للإيمان المبتدعين في الدين.

الحديث الثالث : مجهول.

قوله عليه‌السلام : ما زالت الأرض ، من زال يزول فعلا تاما أي من حال إلى حال ، فإن الأرض دائما في التغير والتبدل ، أو من زال يزال فعلا ناقصا فكلمة إلا زائدة.

قال ابن هشام في المغني عند ذكر معاني « إلا » والرابع : أن يكون زائدة ، قاله الأصمعي وابن جني ، وحملا عليه قوله :

حراجيج ما تنفك إلا مناخة

على الخسف أو ترمي بها بلدا قفرا (١)

وابن مالك وحمل عليه قوله :

أرى الدهر إلا مجنونا بأهله

وما صاحب الحاجات إلا معذبا

« انتهى » يعرف كيضرب أو على التفعيل.

__________________

(١) الشعر في جامع الشواهد وكذا الشعر الآتي.


٤ ـ أحمد بن مهران ، عن محمد بن علي ، عن الحسين بن أبي العلاء ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قلت له تبقى الأرض بغير إمام قال لا.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن ابن مسكان ، عن أبي بصير ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال قال إن الله لم يدع الأرض بغير عالم ولو لا ذلك لم يعرف الحق من الباطل.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إن الله أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل.

٧ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي أسامة وعلي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن الحسن بن محبوب ، عن أبي أسامة وهشام بن سالم ، عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاق عمن يثق به من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال اللهم إنك لا تخلي أرضك من حجة لك على خلقك.

______________________________________________________

الحديث الرابع : ضعيف.

« تبقى الأرض بغير إمام » أي تبقى صالحة معمورة ، أو تبقى مقرا للناس فأجاب عليه‌السلام بنفي البقاء حينئذ لفقد ما هو المقصود من الخلق من العبادة والمعرفة حينئذ مع فقد الزواجر عن الفساد المنجر إلى الخراب والهلاك ، وقيل : تبقى فعل ناقص بمعنى تكون.

الحديث الخامس : صحيح.

« ولو لا ذلك » استدلال على عدم خلو الأرض من عالم باستلزام الخلو عدم المعرفة المقصودة من الخلق والإيجاد ، وعدم العبادة الموقوفة على المعرفة.

الحديث السادس : ضعيف.

قوله عليه‌السلام : إن الله أجل وأعظم ، أي أجل وأعظم من أن لا يكون حكيما لطيفا بعبادة ، أو لا يكون قادرا على الإتيان بمقتضى الحكمة واللطف فيخل بمقتضاهما ويترك الأرض بغير إمام عادل.

الحديث السابع : مجهول.


٨ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال والله ما ترك الله أرضا منذ قبض آدم عليه‌السلام إلا وفيها إمام يهتدى به إلى الله وهو حجته على عباده ولا تبقى الأرض بغير إمام حجة لله على عباده.

٩ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي علي بن راشد قال قال أبو الحسن عليه‌السلام إن الأرض لا تخلو من حجة وأنا والله ذلك الحجة.

١٠ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أتبقى الأرض بغير إمام قال لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت.

١١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال قلت له أتبقى الأرض بغير إمام قال لا قلت فإنا نروى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنها لا تبقى بغير إمام إلا أن يسخط الله تعالى على أهل الأرض أو على

______________________________________________________

الحديث الثامن : مجهول.

« ما ترك الله أرضا » التنكير باعتبار تعدد الأزمنة أي الأرض في زمان ، وقيل : « في » في قوله « فيها » بمعنى علي ، والمراد جزءا من الأرض فيها مكلف.

الحديث التاسع : ضعيف ، وأبو الحسن هو الثالث عليه‌السلام.

الحديث العاشر : مجهول.

وقال الفيروزآبادي : ساخت قوائمه ثاخت والشيء رسب ، والأرض بهم سوخا وسووخا وسوخانا : انخسف ، انتهى. والمراد هنا غوصها في الماء إما حقيقة أو كناية عن هلاك البشر وذهاب نظامها.

الحديث الحادي عشر : مجهول.

قوله عليه‌السلام : « لا تبقى » أي ليس مراد أبي عبد الله عليه‌السلام السخط الذي تبقى معه


العباد فقال لا لا تبقى إذا لساخت.

١٢ ـ علي ، عن محمد بن عيسى ، عن أبي عبد الله المؤمن ، عن أبي هراسة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله.

١٣ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء قال سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام هل تبقى الأرض بغير إمام قال لا قلت إنا نروى أنها لا تبقى إلا أن يسخط الله عز وجل على العباد قال لا تبقى إذا لساخت.

باب

أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن ابن الطيار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة.

______________________________________________________

الأرض وأهله ، بل السخط الذي تصير به الأرض منخسفة ذاهبة غير منتظمة ، ارتفع عنها التكليف.

الحديث الثاني عشر : ضعيف.

الحديث الثالث عشر : ضعيف.

باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة.

الحديث الأول : ضعيف.

قوله عليه‌السلام « لكان أحدهما الحجة » أقول : نظيره من طرق العامة ما رواه مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان ، وذلك لأنه كما يحتاج الناس إلى الحجة من حيث الاجتماع لأمر له مدخل في نظامهم ومعاشهم ، كذلك يحتاجون إليه من حيث الانفراد لأمر له مدخل في معرفة مبدئهم ومعادهم وعباداتهم ، وأيضا الحكمة الداعية إلى الأمر بالاجتماع وسد باب الاختلاف المؤدي إلى الفساد جارية هيهنا ، وإنما تتم بحجية أحدهما ، ووجوب إطاعة الآخر له.


٢ ـ أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى جميعا ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن عيسى بن عبيد ، عن محمد بن سنان ، عن حمزة بن الطيار ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال لو بقي اثنان لكان أحدهما الحجة على صاحبه.

محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عيسى مثله.

٣ ـ محمد بن يحيى عمن ذكره ، عن الحسن بن موسى الخشاب ، عن جعفر بن محمد ، عن كرام قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام وقال إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله عز وجل أنه تركه بغير حجة لله عليه.

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي ، عن علي بن إسماعيل ، عن ابن سنان ، عن حمزة بن الطيار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول لو لم يبق في الأرض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة أو الثاني الحجة الشك من أحمد بن محمد.

٥ ـ أحمد بن محمد ، عن محمد بن الحسن ، عن النهدي ، عن أبيه ، عن يونس بن يعقوب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما.

______________________________________________________

الحديث الثاني : ضعيف بسنديه.

الحديث الثالث : مرسل.

وآخر من يموت إما القائم عليه‌السلام أو أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجعته ، لما ورد أنه دابة الأرض.

الحديث الرابع : ضعيف.

الحديث الخامس : مجهول.


باب

معرفة الإمام والرد إليه

١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء قال حدثنا محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة قال قال لي أبو جعفر عليه‌السلام إنما يعبد الله من يعرف الله فأما من لا يعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالا قلت جعلت فداك فما معرفة الله قال تصديق الله عز وجل وتصديق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وموالاة علي عليه‌السلام والائتمام به

______________________________________________________

باب معرفة الإمام والرد إليه

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« إنما يعبد الله من يعرف الله » أي معرفته تعالى كما ينبغي شرط لصحة العبادة ، « فإنما يعبده هكذا » كأنه أشار بذلك إلى عبادة جماهير الناس أو إلى جهة الخلف ، أي يمشون على خلاف جهة الحق أو إلى جهة الشمال ، فإنها طريق أهل الضلال ، أو إشارة إلى العبادة على غير المعرفة ، وقيل : غمض عينيه أو أشار بيده إلى عينه لبيان العمى ، وقوله : « ضلالا » تميز أو حال على المبالغة ، أو بأن يقرأ بضم الضاد وتشديد اللام جمعا ، وإنما أدخل التصديق بالرسول وموالاة الأئمة والبراءة من أعدائهم في معرفة الله تعالى لاشتراط قبول معرفته سبحانه بها ، أو لأن من لم يصدق بتلك الأمور لم يعرف الله بصفاته الكمالية ، من اللطف والحكمة والرحمة كما لا يخفى على من تأمل فيما أسلفنا في الأبواب السالفة ، وموالاة الأئمة متابعتهم بتسليم الأمر إليهم بالإمامة واتخاذهم أئمة والاقتداء بهم والانقياد لهم ، والبراءة من أعدائهم المفارقة عنهم اعتقادا قلبا ولسانا وإطاعة ، وقيل : إنما اعتبر معرفة الإمام فيما لا تتم العبادة إلا به من المعرفة ، لأنه ما لم يعرف استناد الأمر والنهي والطلب إليه سبحانه لا ـ يكون الإتيان بالعمل عبادة له تعالى ، وإنما تحصل تلك المعرفة بالأخذ عن الحجة ، وما لم يعرف الحجة امتنع الأخذ عنه فيجب على من يريد أن يعبده إمام ، فعليه معرفة


وبأئمة الهدى عليهم‌السلام والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم هكذا يعرف الله عز وجل.

٢ ـ الحسين ، عن معلى ، عن الحسن بن علي ، عن أحمد بن عائذ ، عن أبيه ، عن ابن أذينة قال حدثنا غير واحد ، عن أحدهما عليهما‌السلام أنه قال لا يكون العبد مؤمنا حتى يعرف الله ورسوله والأئمة كلهم وإمام زمانه ويرد إليه ويسلم له ثم قال كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول؟.

______________________________________________________

الإمام كما كان يجب عليه الإقرار به تعالى موحدا ، ورسوله مصدقا له في جميع ما جاء به.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : لا يكون العبد مؤمنا ، أي مصدقا بالمعارف التي تجب عليه فلا يفلح إلا بها ، ما لم يحصل له معرفة الله والتصديق بوجوده ووحدته وصفاته اللائقة به ، ومعرفة رسوله بالرسالة ، والتصديق بجميع ما جاء به ، ومعرفة الأئمة عليهم‌السلام كلهم وإمام زمانه بالإمامة ، ووجوب الرد إليه والأخذ عنه وإطاعته ، وذلك لأنه إنما يحصل له المعرفة من جهتهم وبتعريفهم وهدايتهم ، فكل عبد يحتاج في معرفته إلى إمام زمانه ، ومعرفته إنما يتيسر له غالبا بالنقل من الإمام السابق عليه ، فيحتاج في معرفة إمام زمانه إلى معرفة الأئمة كلهم.

وقوله « ويرد إليه ويسلم له » بيان لجهة الاحتياج إلى معرفة إمام زمانه وقوله : « كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول » إشارة إلى أن سبب اعتبار معرفة الأئمة كلهم هو توقف معرفة الزمان على معرفة الأئمة السابقين كلهم ، لأن إمامة كل لا حق إنما تعرف بنص السابق عليه ، أو أن طريق المعرفة واحدة ، فلو علم إمامة إمام زمانه بالمعجزة فقد تواترت المعجزات عن السابقين ، وأما معرفة إمام الزمان ومدخليتها في الإيمان ، فلما تواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وما قيل : من أن المراد بالأول هو الله تعالى فلا يخفى ما فيه.


٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن زرارة قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق فقال إن الله عز وجل بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس أجمعين رسولا وحجة لله على جميع خلقه في أرضه فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله واتبعه وصدقه فإن معرفة الإمام منا واجبة عليه ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما (١) فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما قال قلت فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله ويصدق رسوله في جميع ما

______________________________________________________

الحديث الثالث : صحيح.

قوله عليه‌السلام : فكيف تجب عليه معرفة الإمام ، أي على الانفراد بل يجب عليه أن يؤمن بالله ورسوله أولا ثم بالإمام ، والغرض أن معرفتهما أوجب عليه بل لا سبيل له إلى معرفته إلا بمعرفتهما ، فلا ينافي أن يعاقب بتركها أيضا إذا ترك الجميع ، وقيل : المراد أنه إنما تجب عليه معرفة الإمام إذا كان قابلا لمعرفة الله ورسوله ، غير معذور في تركهما بأن يكون كامل العقل ، فإنه يجب عليه معرفة الإمام وإلا فلا ، لفقدان العقل الذي هو مناط التكليف ، وفيه بعد ، وقيل : هذا استدلال على وجوب معرفة الإمام على المسلمين دون غيرهم بأن من لم يؤمن بالله ورسوله ولم يصدق الله ورسوله ، لم تكن معرفة الإمام مطلوبة منه لأن معرفة الإمام للتعريف وتبيين ما جاء به الرسول لصدقه ورده إليه ، والتسليم والانقياد له ، واجتماع كلمة المسلمين وكونهم جماعة ليظهروا باتفاقهم على غيرهم ، فلم تكن مطلوبة من غيرهم.

ولعل المراد أن معرفة الإمام مطلوبة لا لذاتها بل لحفظ الشريعة والاقتداء به فيها ، فوجوبها بالحقيقة على المؤمن بالله وبرسوله ، فإن المطلوب من غير المؤمن أن يؤمن بالله وبرسوله ثم إذا أسلم فعليه أن يعرف الإمام ويطيعه.

قوله : فما تقول فيمن يؤمن « إلخ » لعله إنما أعاد السؤال طلبا للتأكيد والتنصيص أو ذكره تعجبا واستبعادا ، وقيل : سؤال عن أنه إذا كان المؤمن مصدقا للرسول في

__________________

(١) في الموضعين عطف على المنفي.


أنزل الله يجب على أولئك حق معرفتكم قال نعم أليس هؤلاء يعرفون فلانا وفلانا قلت بلى قال أترى أن الله هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء والله ما أوقع ذلك في قلوبهم إلا الشيطان لا والله ما ألهم المؤمنين حقنا إلا الله عز وجل.

٤ ـ عنه ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن عمرو بن أبي المقدام ، عن جابر قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف الله وعرف إمامه منا أهل البيت ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منا أهل

______________________________________________________

جميع ما أنزل الله أي مفصلا ، أي حاجة له في الإمام؟

وقوله عليه‌السلام : أليس هؤلاء يعرفون فلانا وفلانا؟ إشارة إلى جهة احتياجهم إلى الإمام بعد تصديقهم النبي في جميع ما أنزل الله ، وهو أن هؤلاء العارفين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أضلهم الشيطان حتى أطاعوا فلانا وفلانا وانقادوا إليهم ، واتخذوهم أئمة فانجر إلى ما انجر إليه من الظلم والطغيان والضلال والعصيان ، فالمصدق للنبي في جميع ما أنزل الله ليس يأمن من الشيطان وإضلاله ، فيحتاج إلى الإمام لرفع الأوهام والشبه الفاسدة التي يلقيها الشيطان في أذهانهم ، وتستحسنها نفوسهم على وفق أهويتها الباطلة وأمانيها الفاسدة.

أقول : ويحتمل أن يكون المراد أن المخالفين أيضا قائلون بوجوب معرفة الإمام فاعتقدوا لذلك بإمامة هؤلاء ، وإن أخطأوا في تعيين الإمام ، أو المعنى أنهم لما تفطنوا بوجوب الخليفة وتمكنوا من معرفته ، فما المانع لهم من الاهتداء لما هو الحق فيه؟ ليس المانع إلا الشيطان لأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك وأعطاهم آلة المعرفة ، فوجب عليهم تحصيل معرفة الإمام.

الحديث الرابع : مختلف فيه.

« إنما يعرف الله ويعبده » أي معرفة وعبادة صحيحتين « من عرف الله وعرف إمامه » أي من جمع بين المعرفتين فمعرفة الله بدون معرفة الإمام كلا معرفة والعبادة بدون معرفتهما باطلة « ويعرف الإمام » الواو للحال عن المنفي أو النفي ، داخل على


البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا.

٥ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن جمهور ، عن فضالة بن أيوب ، عن معاوية بن وهب ، عن ذريح قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الأئمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إماما ثم كان الحسن عليه‌السلام إماما ثم كان الحسين عليه‌السلام إماما ثم كان علي بن الحسين إماما ثم كان محمد بن علي إماما من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال قلت ثم أنت جعلت فداك فأعدتها عليه ثلاث مرات فقال لي إني إنما حدثتك لتكون

______________________________________________________

مجموع المعرفتين « فإنما يعرف » ويعبد « غير الله » إذ مع عدم معرفة الله يعرف ويعبد من يكون مطابق معرفته وهو غير الله ، ومع عدم معرفة الإمام يعرف ويعبد إلها لا يكون حكيما ولا رؤوف رحيما بعباده وهو غير الله ، مع أنه لا يمكن معرفة الله إلا بمعرفة الإمام وأخذ معرفة الله عنه.

الحديث الخامس : ضعيف.

قوله : قلت ثم أنت؟ تصديق أو استفهام ، والسكوت على الأول تقرير ، وعلي الثاني إما للتقية أو لأمر آخر.

قوله : إني إنما حدثتك ، يحتمل أن يكون الغرض الامتنان عليه بأنك بعد معرفة ذلك صرت من شيعتنا وهم الشهداء كما قال الله تعالى : « الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ » (١) وقال : « وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ » (٢) أو الغرض نهيه عن الإذاعة ، أي إنما أخبرتك لتكون من المؤمنين لا لأن تذيع وترده علي ، أو تحريصه على التبليغ والتبيين عند عدم التقية ، فإنه إذا فعل ذلك كان من شهداء الله على خلقه تنبيها لهم ، أو المعنى إني إنما أخبرتك لتكون شاهدا لي عند الله بأني بلغت ذلك أو

__________________

(١) سورة الحديد : ١٩.

(٢) سورة البقرة : ١٤٣.


من شهداء الله تبارك وتعالى في أرضه.

٦ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه عمن ذكره ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال إنكم لا تكونون صالحين حتى تعرفوا ولا تعرفوا حتى تصدقوا ولا تصدقوا حتى تسلموا أبوابا أربعة لا يصلح.

______________________________________________________

شاهدا لله ببيانه للخلق على لساننا.

الحديث السادس : ضعيف وسيأتي بأدنى اختلاف في كتاب الإيمان والكفر بهذا السند.

« إنكم لا تكونون صالحين » أي لا صلاح ولا نجاة ولا قبول عند الله إلا بالمعرفة ، إذ لا صلاح إلا بالعبادة لمن يستحق أن يعبد ، ولا عبادة إلا بالمعرفة ، « ولا تعرفوا » بصيغة النهي ومعناه النفي ، والظاهر « ولا تعرفون » كما فيما سيأتي ، أي لا معرفة إلا بالتصديق لله ولرسوله وللحجج عليهم‌السلام ، ولا تصديق إلا بالتسليم والرضا بما من جانب المصدق به أعني الأبواب الأربعة ، وقيل : المراد بالتسليم الانقياد للأئمة عليهم‌السلام والرضا بما يصدر منهم « وأبوابا » منصوب بتقدير : ألزموا ، أو خذوا ، أو اعلموا.

وفي الأبواب الأربعة وجوه : « الأول » ما سمعته من الوالد قدس‌سره وهو أنها إشارة إلى الأربعة المذكورة في الآية الآتية ، أي التوبة ، والإيمان ، والعمل الصالح ، والاهتداء بولاية أهل البيت عليهم‌السلام ، وأصحاب الثلاثة هم التاركون للرابعة ، مع أنهم أصحاب الثلاثة على وجه آخر أيضا لقولهم بخلافة الخلفاء الثلاثة.

الثاني : أن يكون المراد بها الأربعة الذين كانوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكساء فحمل الثلاثة علي الخلفاء أنسب.

الثالث : أن يكون المراد بالأربعة الأصول الخمسة ، بجعل العدل داخلا في التوحيد ، فإنه يرجع إلى صفاته تعالى ، وبالثلاثة ما سوى الإمامة.

الرابع : أن أحد الأربعة ما يتعلق بمعرفة الله تعالى وتصديقه ، وثانيها ما يتعلق بتصديق رسوله ، وثالثها ما يتعلق بموالاة ولي الأمر من أهل البيت عليهم‌السلام ، و


أولها إلا بآخرها ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيها بعيدا إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود فمن وفى لله عز وجل بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل ما وعده ـ إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى وشرع لهم فيها المنار وأخبرهم كيف يسلكون فقال « وَإِنِّي

______________________________________________________

رابعها ما يتعلق بالبراءة من أعدائهم.

الخامس : أن يكون المراد بها المذكورات في أول الخبر من الصلاح والمعرفة ، وهي معرفة الله ، والتصديق ، أي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والتسليم أي الرضا والطاعة والانقياد لولي الله وحججه.

« لا يصلح أولها » المراد إما الأول والآخر الحقيقيين أو الأعم منهما ومن الإضافيين ، أي لا يتم كل سابق إلا بلا حقه ، وتطبيقهما على كل من المعاني ظاهر « ضل أصحاب الثلاثة » أي الذين يرون الاكتفاء بالثلاثة الأول من الأربعة ، والغناء عن الرابع ، « وتاهوا » أي ضلوا « تيها بعيدا » عن الحق أو عن العقل « إن الله لا يقبل إلا العمل الصالح » أي إنما يقبل من الأعمال العمل الصالح فعليكم أن تكونوا صالحين بالإتيان به على الوجوب المطلوب الذي بالخروج عنه يخرج عن الصلاح ، وإنما يقبل الله ما يكون الإتيان به وفاء بالشروط التي شرطها على عباده ، والعهود التي عهد إليهم بها « فمن وفي لله تعالى بشرطه » عليه « واستعمل » فيما سيأتي واستكمل « ما وصف في عهده » إليه « نال ما عنده » من الثواب على الأعمال الصالحة المقبولة المأتي بها على وجه يتحفظ به صلاحها ، ومن أخل بشيء منها لم يصح عمله ولم يقبل منه ما فعله ، ولم ينل ما عند الله من الثواب ، واستحق الخذلان والعقاب ، فلا تكونون صالحين إلا بالوفاء بما شرط عليكم وعهد إليكم من المعرفة والتصديق والتسليم ، أو الأربعة المذكورة في الآية أو غيرهما مما تقدم ، فهذا القول توضيح وتبيين لما سبقه.

وقوله : « إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى » إلخ ، بيان للشرط و


لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » (١) وقال « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » (٢) فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا وأشركوا من حيث لا يعلمون.

______________________________________________________

العهد منه سبحانه حيث قال : « وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ » أي من الكفر « وَآمَنَ » أي بالله وبرسوله وصدق الله ورسوله « وَعَمِلَ صالِحاً » أي عملا صالحا أمر به « ثُمَّ اهْتَدى » أي بعد التوبة والإيمان ، والعمل بما كلف به من الأعمال الصالحة ، سلك طريق الهدي الذي أمر بسلوكه من الأخذ عن الحجة فيما يحتاج إلى أخذه ، واتباع من أمر بمتابعته وجعل إماما على المسلمين بإعلام من الله ورسوله ، وفي الدلالة على تأخر الاهتداء عن التوبة والإيمان والعمل الصالح وانفصاله عنها بقوله ، ثم أشار إلى أن المراد بالاهتداء فيما يجب بعدها ، وإنما الواجب بعدها ما يجب بعد زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المراجعة في المعارف الإلهية والأحكام الشرعية إلى المنصوب لذلك من جانب الله واتباعه في أوامره ونواهيه الشرعية ، وحيث قال : « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » أي إنما نتقبل الأعمال الصالحة من الطاعات والعبادات من المتقين.

ولا يخفى دلالته على مغايرة التقوى للإتيان بها والتقوى المغايرة للإتيان بها أخذها عن مأخذها والتجنب عن الأخذ عن غيره ، والدخول من غير الباب ، وتشريك الطواغيت له سبحانه في الأعمال والعبادات ، كما قال تعالى في آية أخرى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ » (٣).

« هيهات » تأكيد لقوله : ضل أصحاب الثلاثة ، وهو اسم فعل بمعنى بعد « وأشركوا من حيث لا يعلمون » حيث أشركوا مع الإمام المنصوب من قبل الله الطواغيت والفراعنة ، وقد أشير إلى ذلك في آيات كثيرة نحو قوله تعالى « وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ » (٤) وقوله

__________________

(١) سورة طه : ٨٥.

(٢) سورة المائدة : ٣١.

(٣) سورة التوبة : ١١٩.

(٤) سورة الأعراف : ٣٠.


إنه من أتى البيوت من أبوابها اهتدى ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردى وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله وطاعة رسوله بطاعته فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله وهو الإقرار بما أنزل من عند الله عز وجل « خُذُوا زِينَتَكُمْ

______________________________________________________

عز وجل : « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ » (١).

« إنه من أتى البيوت » إشارة إلى تأويل قوله تعالى « وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها » (٢) وأن المراد بها بيوت العلم والحكمة ، وبالأبواب الأوصياء عليهم‌السلام لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا مدينة العلم أو الحكمة وعلي بابها.

« وصل الله » إلخ ، إشارة إلى قوله تعالى « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » (٣) حيث لم يفصل ولم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم ، مع تكراره في السابق للدلالة على أنهما تكليف واحد ، متعلق بأحدهما ، ففي زمان الرسول يتعلق بالرسول ، وبعده يتعلق بولي الأمر ، ودليل على أن المراد بأولى الأمر ليس أمراء السرايا ونحوهم كما توهمه المخالفون ، إذ لا ريب أنه تعالى لا يحكم بطاعة غير المعصوم عموما ، وطاعة رسوله بطاعته على الوجه السابق في قوله تعالى : « أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ » (٤) وقوله سبحانه : « مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ » (٥) أو مطلقا في آية أولي الأمر أيضا ، فلا يكون عدم تكرار « أطيعوا » منظورا في الأول أيضا ، ويحتمل أن يكون المراد بوصل طاعة ولي الأمر بطاعة الرسول إدخالها فيه ، وجعل كل منهما مشروطا بالآخر ، وكذا وصل طاعة الرسول بطاعة الله ، وهذا نوع من الاستدلال أشاروا عليهم‌السلام إليه في مواضع كاشتراط قبول الصلاة بإيتاء الزكاة ، حيث قرنهما الله في الآيات ، والإيمان بالأعمال الصالحة لذلك.

« وهو » أي طاعة ولاة الأمر « الإقرار بما أنزل » بصيغة المجهول « من عند الله عز وجل » في الآيات الآتية أو السابقة أو الأعم ، وعلى الوسط « خُذُوا زِينَتَكُمْ » اقتباس من الآية دلالة على أن المراد بالزينة معرفة الإمام وولايته ، وبالمسجد الصلاة أو

__________________

(١) سورة التوبة : ٣١.

(٢) سورة البقرة : ١٨٩.

(٣) سورة النساء : ٥٩.

(٤) سورة الأنفال : ٢٠.

(٥) سورة النساء : ٨٠.


عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ » والتمسوا البيوت التي « أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ » فإنه أخبركم أنهم « رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ » إن الله قد استخلص الرسل لأمره ثم استخلصهم

______________________________________________________

مطلق العبادة ، وقد ورد في بعض الروايات تأويل الزينة باللباس وبثياب التجمل وبالسواك ، والجمع بينها بأن الزينة شاملة لكل ما يزين به الإنسان روحه وبدنه ، لقبول العبادة وكمالها ، فزينة الروح والنفس بالعقائد والأخلاق الحسنة ، والبدن بما ذكر.

« والتمسوا البيوت » أي اطلبوها ، ويدل على أن المراد بالبيوت بيوت الأئمة عليهم‌السلام الصورية أو المعنوية ، فإنه قد ورد أنه ليس المراد بها البيوت المبنية بالطين والمدر « فإنه أخبركم » تعليل لكون المراد بها بيوتهم بأن الله تعالى وصف أهل تلك البيوت بصفات يخصهم ، حيث قال : « يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ » فضمير أنهم راجع إلى أهل البيوت بقرينة المقام ، وتفسير البيوت بالأئمة عليهم‌السلام ، فإنهم منازل نور الله ، وجعل كلمة « في » في قوله « فيها » للسببية ، وتفسير الرجال بأصحابهم الملتمسين للبيوت بعيد.

« لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ » أي اشتراء فإن أصل التاجر الحاذق بالأمر ، والحذق إنما يحتاج إليه كثيرا في الشراء ، لأن الأول اشتراء مجهول بمعلوم ، والثاني بيع معلوم بمعلوم ، ربما تولاه من لا بصيرة له وضرر ولا بيع الترقي فيه ، باعتبار أن البيع أهم عند التجار من الاشتراء ، لأن الأول اتفاقي والثاني باختيارهم « يَخافُونَ يَوْماً » أي عذاب يوم « تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ » ظهرا لبطن ، ومن جانب إلى جانب ، كتقلب الحية على الرمضاء ، وذلك لشدة مصائبه وعظم نوائبه.

« إن الله قد استخلص الرسل لأمره » قال الجوهري : استخلصه لنفسه استخصه « انتهى » أي جعلهم خالصين عن الأغراض الدنيوية والعلائق البدنية ، مخصوصين برسالته لأمر التبليغ والإنذار وهداية الخلق « ثم استخلصهم » أي ولاة الأمر المتقدم


مصدقين بذلك في نذره فقال « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ » (١) تاه من جهل واهتدى من أبصر وعقل.

______________________________________________________

ذكرهم « مصدقين بذلك » الأمر الذي بعث به الرسول كائنين « في » جملة « نذره » فإن النذير يشمل النبي والإمام كما قال تعالى : « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ » أي طائفة وأهل عصر وزمان « إِلاَّ خَلا » أي مضي « فِيها نَذِيرٌ » ويحتمل أن يكون « بذلك » متعلقا بقوله : استخلصهم ، لا صلة للتصديق ، ويكون إشارة إلى الأمر ، أي بسبب الأمر الذي بعث له الأنبياء وهو تكميل الخلق وهدايتهم.

ويحتمل أن يكون على الأول النذر مصدرا بمعنى الإنذار كما قيل في قوله تعالى : « فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ » (٢) أي إنذاري ، فكلمة « في » للتعليل ، والظرف متعلق باستخلصهم.

ويحتمل أيضا أن يكون الضمير في قوله عليه‌السلام : استخلصهم ، راجعا إلى الأنبياء أيضا ، فالمراد بالنذر الأوصياء ، أي استخلصهم أولا لأمر تبليغ الشرائع ، ثم استخلصهم مصدقين لله بذلك ، أي بالأمر الذي أمروا بتبليغه في نذره بعدهم ، وهم الأوصياء ، أو المراد أنه استخلصهم أولا لعبادته وقربه ، ثم لما أكملهم استخصهم لإنذاره ورسالته وقيل : هذا تعليل لما سبق حيث أمرهم بالتماس البيوت ومعرفتها ومعرفة أهلها ، ثم قال : وذلك غير متعسر عليكم ، فإنه تعالى أخبركم أنهم رجالا « لا تُلْهِيهِمْ » « إلخ » وليس هذا وصفا للرسل ، فإنهم إنما يوصفون بالرسالة وتبليغ الأمر والإنذار ، فإن الله قد استخلصهم واستخصهم لأمره وتبليغه والرسالة فيه ، وبعد تصديقهم بذلك استخصهم في نذره كما قال تعالى : « وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ » أي مضى وأرسل ، فالتعبير اللائق بهم الرسول والنذير ، فقوله تعالى : « رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ » تعبير عن غيرهم وهم ولاة الأمر « انتهى » ولا يخفى ما فيه من التعسف.

« تاه » أي تحير وضل عن إمام زمانه « من جهل » الكتاب والسنة « واهتدى » إلى الإمام « من أبصر » بعين قلبه طريق النجاة « وعقل » وفهم ما نزل على الرسل ، ثم بين عليه‌السلام أن الإبصار الذي يوجب الهداية ما هو بأبصار القلوب لا بأبصار العيون بقوله

__________________

(١) سورة الفاطر : ٢٢.

(٢) سورة القمر : ١٦.


إن الله عز وجل يقول « فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ » (١) وكيف يهتدي من لم يبصر وكيف يبصر من لم يتدبر اتبعوا رسول الله وأهل بيته وأقروا بما نزل من عند الله واتبعوا آثار الهدى فإنهم علامات الأمانة والتقى واعلموا أنه لو أنكر رجل عيسى ابن مريم عليه‌السلام وأقر بمن سواه من الرسل لم يؤمن اقتصوا الطريق بالتماس المنار والتمسوا من وراء الحجب الآثار

______________________________________________________

تعالى : « فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ » الضمير في أنها للقصة ، أو مبهم يفسره الأبصار ، وفي « تعمى » راجع إليه ، أو الظاهر أقيم مقامه ، أي ليس الخلل في مشاعرهم ، وإنما ألفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد ، وذكر الصدور للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر.

ثم بين عليه‌السلام أن الاهتداء لا يكون إلا بأبصار القلب والتميز بين الحق والباطل ، ولا يكون ذلك الإبصار إلا بالتدبر والتفكر في الآيات والأخبار « اتبعوا رسول الله » فذلكة للبحث ونتيجة لما سبق ، و « آثار الهدى » الأئمة عليهم‌السلام ، فإنهم علامة الهداية أو الدلائل الدالة على إمامتهم ووجوب متابعتهم « فإنهم علامات الأمانة » أي المتصفون بها ، أو بأقوالهم وأفعالهم تعلم أحكام الأمانة والتقوى ، ثم بين عليه‌السلام وجوب الإقرار بجميع الأئمة عليهم‌السلام ، واشتراط الإيمان به بأنه لو أقر رجل بجميع الأنبياء وأنكر واحدا منهم لم ينفعه إيمانه كما قال تعالى : « لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » (٢) فكذلك من أنكر واحدا من الأئمة عليهم‌السلام لم ينفعه إقراره بسائر الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، لأن كلمة الأنبياء والأوصياء متفقة ، وكل منهم مصدق بمن سواهم ، فإنكار واحد منهم إنكار للجميع.

« اقتصوا الطريق » يقال : قص أثره واقتصه إلى اتبعه ، أي اتبعوا طريق الشيعة والدين ، أو اتبعوا أثر من تجب متابعته في طريق الدين بطلب المنار الذي به يعلم الطريق وهو الإمام ، والمنار بفتح الميم : محل النور الذي ينصب على الطريق ليهتدي به الضالون في الظلمات « والتمسوا » أي اطلبوا « من وراء الحجب » أي حجب الشكوك

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٤٦.

(٢) سورة البقرة : ٢٨٥.


تستكملوا أمر دينكم وتؤمنوا بالله ربكم.

٧ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن محمد بن الحسين بن صغير عمن حدثه ، عن ربعي بن عبد الله ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسباب فجعل لكل شيء سببا وجعل لكل سبب شرحا وجعل لكل شرح علما وجعل لكل علم بابا ناطقا عرفه من عرفه وجهله من جهله

______________________________________________________

والشبهات والفتن التي صارت حجابا بين الناس وفهم الحق « الآثار » أي آثار الهداية ودلائلها ، وهم الأئمة عليهم‌السلام ، أو دلائل إمامتهم أو المعنى إن لم يتيسر لكم الوصول إلى الإمام فاطلبوا آثاره وأخباره من رواتها وحملتها ، أو اطلبوا الإمام المحجوب بحجاب التقية والخوف حتى تصلوا إليه ، فإذا فعلتم ما ذكر فقد أكملتم أمر دينكم بمعرفة الأئمة عليهم‌السلام ومتابعتهم ، وآمنتم بالله حق الإيمان وإلا فلستم بمؤمنين.

الحديث السابع : مجهول.

« أبي الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب » (١) أي جرت عادته سبحانه على وفق قانون الحكمة والمصلحة أن يوجد الأشياء بالأسباب ، كإيجاد زيد من الآباء والمواد والعناصر ، وإن كان قادرا على إيجاده من كتم العدم دفعة بدون الأسباب ، وكذا علوم أكثر العباد ومعارفهم ، جعلها منوطة بشرائط وعلل وأسباب ، كالمعلم والإمام والرسول ، والملك واللوح والقلم ، وإن كان يمكنه إفاضتها بدونها ، وكذا سائر الأمور التي تجري في العالم ، ففيما هو عليه‌السلام بصدد بيانه من الحاجة إلى الإمام « الشيء » حصول النجاة والوصول إلى درجات السعادات الأخروية أو الأعم « والسبب » المعرفة والطاعة و « الشرح » الشريعة المقدسة و « العلم » بالتحريك أي ما يعلم بالشرع ، أو بالكسر أي سبب علم وهو القرآن والباب الناطق الذي به يوصل إلى القرآن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه والأئمة صلوات الله عليهم بعده.

فظهر أنه لا بد في حصول النجاة والوصول إلى الجنة الصورية والمعنوية من

__________________

(١) كذا في النسخ وفي المتن « الأسباب ».


ذاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن.

٨ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان بن يحيى ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول كل من دان الله عز وجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول وهو ضال متحير والله شانئ لأعماله ومثله كمثل شاة ضلت عن راعيها وقطيعها فهجمت ذاهبة وجائية يومها فلما

______________________________________________________

معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام ، ويحتمل أن يكون العلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والباب الإمام ، فقوله : « ذاك » راجع إليهما معا ، والأول أظهر.

الحديث الثامن : صحيح.

قوله عليه‌السلام : كل من دان الله ، أي أطاع الله بزعمه أو عبد الله أو عامل الله « يجهد فيها نفسه » أي يجد ويبالغ فيها ويحمل على نفسه فوق طاقتها ، قال في المغرب : جهده حمله فوق طاقته من باب منع وأجهد لغة قليلة ، والجهد المشقة « ولا إمام له من الله » أي منصوب من قبل الله بأن لا يعتقد إمامته ، ولا يكون عمله بالأخذ عنه « وهو ضال متحير » حيث لم يأخذها عن مأخذها الموجب لصحة المعرفة ، فعمله لم يكن لله « والله شانئ » سبحانه مبغض لأعماله ، بمعنى أنها غير مقبولة عند الله وصاحبها غير مرضي عنده سبحانه « ومثله » أي في أعماله وحيرته.

وقال الفيروزآبادي : هجم عليه هجوما : انتهى إليه بغتة ، أو دخل بغير إذن ، وفلانا : أدخله كما هجمه ، والشيء : سكن وأطرق ، وفلانا طرده « انتهى ».

فهو على بناء المعلوم أي دخلت في السعي والتعب بلا روية ولا علم.

« ذاهبة وجائية » متحيرة في جميع يومها ، فإن ذلك العامل لما لم يكن على ثقة من المعرفة بالعمل ، يكون في معرض الشك والحيرة.

« فلما جنها الليل » أي حان حين خوفه وأحاطت ظلمة الجهل به ولم يعرف من يحصل له الثقة به ، وطلب من يلحق به لحق على غير بصيرة لجماعة يراهم مجتمعين على من لا يعرف حاله وحن إليهم واغتر بهم ظنا منه أنهم على ما هو عليه.


جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها فباتت معها في مربضها فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها فهجمت متحيرة تطلب راعيها وقطيعها فبصرت بغنم مع راعيها فحنت إليها واغترت بها فصاح بها الراعي الحقي براعيك وقطيعك فأنت تائهة متحيرة عن راعيك وقطيعك فهجمت ذعرة متحيرة

______________________________________________________

قوله : مع غير راعيها ، أي الشاة وفي بعض النسخ « مع راعيها » فالضمير راجع إلى الغنم.

وفي القاموس : الحنن : الشوق ، وتوقان النفس ، والذعر : الفزع والخوف ، والحاصل أنه عليه‌السلام ذكر هذا التشبيه على سبيل التمثيل ، وهو عبارة عن تشبيه هيئة منتزعة من أشياء متعددة بهيئة أخرى ، ولا بد من اشتماله على تشبيهات متعددة للأجزاء بالإجزاء ، ففي هذا التمثيل شبه عليه‌السلام الإمام بالراعي ، والأمة بالغنم ، والجاهل الذي لا إمام له بالشاة التي ضلت عن راعيها وقطيعها ، وشبه عبادته وسعيه لطلب الإمام من غير بصيرة بتهجم تلك الشاة ذاهبة وجائية ، لاشتراكهما في الضلال والتحير مع السعي والتردد ولحوقه كل يوم بطائفة لتحيره في أمره بلحوق الشاة الضالة بالقطيع ، وتنفره عما يرى منهم من سوء العقائد والأعمال ، وأشياء يخالف ما في يده منهما بإنكار الشاة راعيها وقطيعها ، وتنفر طائفة عنه محقين كانوا أو مبطلين ، لما يرون منه من رسوخه في الضلال وعدم استعداده لقبول ما هم عليه ، إما للتقية أو لعدم تجويز تأثير النصح فيه ، بصياح الراعي بالشاة النافرة : الحقي براعيك وقطيعك الشيطان الذي يجعله ثابتا في الضلالة ، بالذئب المهلك.

فالتشبيه والتمثيل في غاية الحسن والتمام ، وهو وصف لحال الفرق الشاذة عن الشيعة الإمامية كالزيدية والفطحية والواقفية وأمثالهم ، فإنهم لما تركوا الإمام الحق ، وضلوا عنه ذهبوا إلى عبد الله الأفطح وأمثاله ، فسألوهم عن مسائل ووجدوهم مخالفين لما وصل إليهم من أئمة الحق قولا وفعلا ، فتركوهم وذهبوا إلى طائفة أخرى من فرق الشيعة الضالة فلم يقبلوهم ، أو إلى الفرقة الإمامية فلم يثقوا بهم وردوهم لعدم خلوص


تائهة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها وكذلك والله يا محمد من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من الله عز وجل ظاهر عادل أصبح ضالا تائها وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق واعلم يا محمد أن

______________________________________________________

نيتهم واستعدادهم لقبول الحق ، فاغتنم الشيطان ضلالهم وحيرتهم ووسوس إليهم أن هذه الفرق كلهم ضالة فألحق بالمخالفين ، فهلك هلاكا لا يرجو النجاة ، وكالمخالفين الذين تركوا أمير المؤمنين وتحيروا في خلافته فذهبوا إلى خلفاء الجور فلما رأوا منهم خلاف سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطريقته ذهبوا إلى أهل الحق امتحانا من غير بصيرة فردوهم تقية أو لغير ذلك ، فوسوس إليهم الشيطان وردوهم إلى الكفر الأصلي ، أو سد عليهم الحق حتى هلكوا في الحيرة والضلالة ، أو تركوا جميع المذاهب وذهبوا إلى الإلحاد.

كما روي أن ابن أبي العوجاء كان من تلامذة الحسن البصري ، فانحرف عن التوحيد ، فقيل له : تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ فقال : إن صاحبي كان مخلطا كان يقول بالقدر ، وطورا بالجبر ، وما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه.

قوله عليه‌السلام : إذا اغتنم الذئب ضيعتها ، أي ضياعها وكونها بلا راع وحافظ فيكون مصدرا ، وقيل : الضمير راجع إلى قطيع الغنم ، أي ما ضاع منها وقيل : إنما اكتفي براعيين وقطيعين للإشارة إلى أن كل طريق من طرق الضلالة إما مشتمل على الإفراط أو على التفريط ، والوسط هو الحق.

قوله : ظاهر ، أي بين حجيته بالبرهان وإن كان غائبا ، وقال الفاضل التستري (ره) : الظاهر أنه بالطاء المهملة ، ويؤيده ما في بعض الروايات : إن الله طهرنا وعصمنا « انتهى ».

وقال الجوهري : الميتة بالكسر : كالجلسة والركبة يقال : مات فلان ميتة حسنة « انتهى ».


أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا فأعمالهم التي يعملونها « كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ».

٩ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن جمهور ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن الهيثم بن واقد ، عن مقرن قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين « وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا

______________________________________________________

أقول : وهذا الخبر صريح في كفر المخالفين لإنكارهم أصلا عظيما من أصول الدين ، ونفاقهم لأنهم يقرون ظاهرا بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وينكرون في القلب عمدتها وأضلوا ، « فأعمالهم » إلى آخره ، تضمين للآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : « مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ » أي حملته وطيرته « فِي يَوْمٍ عاصِفٍ » أي شديدة ريحه ، ووصف اليوم بالعصف للمبالغة « لا يَقْدِرُونَ » أي يوم القيامة « مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ » لحبوطه « ذلِكَ » أي ضلالهم مع حسبانهم أنهم يحسنون « هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ » لكونهم في غاية البعد عن طريق الحق.

الحديث التاسع : ضعيف.

قوله تعالى : « وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ » اعلم أن للمفسرين أقوالا شتى في تفسير الأعراف وأصحابه ، قاما تفسير الأعراف فلهم فيه قولان :

الأول : أنها سور بين الجنة والنار ، أو شرفها وأعاليها.

والثاني : أن المراد على معرفة أهل الجنة والنار رجال ، والأخبار تدل عليهما ، وربما يظهر من بعضها أنه جمع عريف كشريف وأشراف ، فالتقدير على طريقة الأعراف رجال ، أو علي التجريد ، أو معنى الأعراف العارفون بالله تعالى وبحججه عليهم‌السلام ، وتكرار كلمة على للاستعلاء كما في قولهم فلان مهيمن على قومه وحفيظ عليهم ، فالأعراف جمع عارف كناصر وأنصار ، وطاهر وأطهار.

ثم القائلون بالأول اختلفوا في أن الذين على الأعراف من هم؟ فقيل : إنهم الأشراف من أهل الطاعة والثواب ، وقيل : إنهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة


بِسِيماهُمْ » (١) فقال نحن على الأعراف نعرف أنصارنا بسيماهم ونحن الأعراف الذي

______________________________________________________

من أهل الثواب ، فالقائلون بالأول منهم من قال إنهم ملائكة يعرفون أهل الجنة والنار ، ومنهم من قال : إنهم الأنبياء وأجلسهم الله على أعالي ذلك السور تمييزا لهم عن سائر أهل القيامة ، ومنهم من قال : إنهم الشهداء ، والقائلون بالثاني ، منهم من قال : إنهم أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، ومنهم من قال : إنهم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن إمامهم ، وقيل : إنهم مساكين أهل الجنة ، وقيل : إنهم الفساق من أهل الصلاة ، ويظهر من الأخبار التي أوردتها في الكتاب الكبير الجمع بين القولين ، وأن الأئمة عليهم‌السلام يقومون على الأعراف ليميزوا شيعتهم من مخالفيهم ، ويشفعوا الفساق محبيهم وأن قوما من المذنبين أيضا يكونون فيها إلى أن يشفع لهم.

وفي هذا الخبر أيضا إشارة إلى إطلاقات الأعراف ومعانيها ، وأن الرجال هم عليهم‌السلام كما قيل : إن الأعراف مأخوذ من العرفان ، وهو يطلق على الموضع المشرف المعين بإشرافه على اطلاع من عليه.

فبهذه الجهة قال عليه‌السلام : نحن على الأعراف ، ويطلق على حامل المعرفة المتأمل فيها ، الذي إنما يعرف غيره بوساطته كالحجج من الرسل والأنبياء ، وولاة الأمر عليهم‌السلام ، وعلى هذا الإطلاق قال : ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله تعالى إلا بسبيل معرفتنا.

ويطلق على المعرف الذي إنما يتم المقصود بمعرفته ، وعلى هذا قال : نحن الأعراف يعرفنا الله يوم القيامة على الصراط ، فإن أريد ظاهر الآية فالأعراف هو المعبر عنه بالسور بين الجنة والنار ، ومن عليه من الرجال الحجج عليهم‌السلام الذين يعرفون كلا بسيماهم ، وإنما ينال المقصود بمعرفتهم ، وهم الحافظون لها المحيطون بأطرافها ويستحقون أن يطلق عليهم الأعراف لاشتمالهم عليها وإحاطتهم بها.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٤٦.


لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا ونحن الأعراف يعرفنا الله عز وجل : يوم القيامة على الصراط فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه.

______________________________________________________

فقوله : ونحن الأعراف كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا كلام الله الناطق ، ولعل قوله عليه‌السلام : ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا ، بالنظر إلى أحوال الدنيا ، وقوله : ونحن الأعراف يعرفنا الله تعالى ، بالنظر إلى أحوال العقبى.

وقوله : « وعرفناه » الظاهر أنه من المجرد أي مناط دخول الجنة معرفتهم بنا بالحجية والولاية ، ومعرفتنا إياهم بكونهم أنصارنا وموالينا ، وربما يقرأ من باب التفعيل ، أي مناط دخول الجنة معرفتهم بنا وبإمامتنا وتعريفنا ما يحتاجون إليه.

وقيل في تأويل الآية : إن قوله تعالى : « وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ » بيان لحال المقربين والحجج في الدنيا ، فإن معرفة الطائفتين والتميز بينهما بالسيماء والعلامة إنما تكون في الدنيا ، وأما في الآخرة فالامتياز بين الفريقين في غاية الظهور لا يحتاج إلى أن يعرف بالسيماء ، وكذا قوله : « لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ » يناسب حالهم في الدنيا وكذا قوله : « وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » يعني إذا أرادوا أهل النار الذين عرفوهم بسيماهم وما هم عليه من الكفر أو الفسق ظاهرا كان أو باطنا استعاذوا بالله ودعوا الله أن لا يجعلهم من القوم الظالمين. وأما قوله تعالى : « وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ » فيحتمل الوقوع في الدارين ، وكذا قوله : « وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ » الآية وإن كان الظاهر فيه كونه حكاية قولهم في الآخرة ، بأن يكون معناه : ونادى أصحاب الآخرة رجالا كانوا يعرفونهم في الدنيا بسيماهم وقالوا ذلك القول ولكن يجوز حمله علي الوقوع في الدنيا ، أو على ما هو أعم.

وعلى أي تقدير لا ينافي كون ما سبق من المذكورات إخبارا عن حال العارفين في الدنيا ، فقوله عليه‌السلام : نحن على الأعراف ، تنبيه على أن معنى « عَلَى الْأَعْرافِ » علي المعرفة ، وأن كلمة « على » هنا للاستعلاء المعنوي لا المكاني ، وفيه إشارة إلى أن


إن الله تبارك وتعالى لو شاء لعرف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنهم « عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ » فلا سواء من اعتصم الناس به ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون

______________________________________________________

أنصارهم أهل الجنة ، وأعداءهم أهل النار ، وهم يعرفون الفريقين في الدنيا بسيماهم ، لا بظواهر أعمالهم وقوله عليه‌السلام : « ونحن الأعراف الذي لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا » أراد بالأعراف ما يعرف به الشيء سواء كان ما به المعرفة ذاتا أو صفة من باب تسمية الشيء باسم سببه. أما قوله : ونحن الأعراف يعرفنا الله ، فأراد بالأعراف هاهنا نفس المعروف بالذات ، كما يطلق العلم على الصورة العلمية ، وهي المعلومة بالذات فإنه تعالى بهم يعرف أمتهم وأتباعهم إلى آخر ما حققه ولا نطيل الكلام بإيراده.

قوله عليه‌السلام : « ولكن جعلنا أبوابه » أي أبواب معرفته وعلمه « وصراطه » الذي يعرف طريق عبادته « وسبيله » الذي به يعرف الوصول إلى قربه وجنته ، والحاصل أنه تعالى كان قادرا على أن يعرف العباد جميع ذلك بنفسه ، لكن كانت المصلحة مقتضية لأن يجعلنا وسيلة فيها « ولا سواء » أي ليس بمستو من اعتصم الناس أي المخالفون به ولا سواء من اعتصمهم به ، نظير قوله تعالى : « وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ » (١) وفيه مبالغة في نفي التساوي ، أو الثاني تكرار للأول والشق الآخر محذوف فيهما ، أي لا سواء من اعتصموا به ومن اعتصمتم به ، ولا يستوي صنع الناس وصنعكم (٢) في الاعتصام.

أقول : ويحتمل أن يكون المراد بالناس جميعهم من المحقين والمبطلين ، وكذا من اعتصموا به ، أي ليس الذين يعتصم الناس بهم متساوين ، ولا سواء المعتصمون بهم أو ما ينتفعون به منهم.

وفيه : أنه لا بد من حمل الناس ثانيا على المخالفين ، وكونه في كل من الموضعين بمعنى آخر بعيد ، ثم بين عليه‌السلام عدم المساواة على الوجوه كلها فقال : حيث ذهب الناس

__________________

(١) سورة فاطر : ٢٢.

(٢) وفي بعض النسخ « منع الناس ومنعكم » والظاهر هو المخطار.


كدرة يفرغ بعضها في بعض وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربها لا نفاد لها ولا انقطاع.

١٠ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن علي بن محمد ، عن بكر بن صالح ، عن الريان بن شبيب ، عن يونس ، عن أبي أيوب الخزاز ، عن أبي حمزة قال قال أبو جعفر عليه‌السلام يا أبا حمزة يخرج أحدكم فراسخ فيطلب لنفسه دليلا وأنت بطرق السماء أجهل منك بطرق الأرض فاطلب لنفسك دليلا.

______________________________________________________

إلى عيون كدرة يفرغ « على بناء المجرد المعلوم أو الأفعال معلوما أو مجهولا » بعضها في بعض أو من بعض ، قال الجوهري : فرغ الماء بالكسر يفرغ فراغا مثل سمع يسمع سماعا أي انصب وأفرغته أنا « انتهى ».

والحاصل أنه عليه‌السلام شبه العلم بالماء لأنه سبب للحياة الروحاني ، كما أن الماء سبب للحياة البدني ، وقد شبه به في كثير من الآيات الفرقانية ، وشبه علوم علماء المخالفين وخلفائهم بالمياه النابعة من العيون القليلة الماء المكدرة بالطين وغيره ، ينقطع ينعها وينفد ماؤها بأخذ شيء قليل منها ، لأنهم خلطوا شيئا قليلا وصل إليهم من الحكم والشرائع ، بالشبه الباطلة والأوهام الفاسدة ، وإن أجابوا عن قليل من المسائل ينتهي علمهم ، ولا يجيبون فيما سواها ، ويفرغ بعضها في بعض ، أي يأخذ هذا عن هذا وهذا عن هذا ولا ينتهي علمهم إلى من يستغني بعلمه عن علم غيره ، فهي قاصرة كما وكيفا ، وشبه علوم أهل البيت عليهم‌السلام بالمياه الجارية عن عيون صافية تجري بأمر ربها ، لا نفاد لها ولا انقطاع ، إذ بحار العلوم والحكم فائضة أبدا على قلوبهم من منابع الوحي والإلهام ، ولا تشوب بالآراء والأوهام.

الحديث العاشر : ضعيف.

والمراد بطرق السماء ، الطرق المعلومة بالوحي ، النازل من السماء ، أو الطرق الموصلة إلى الجنة التي في السماء ، أو الطرق المؤدية إلى سماء المعرفة والكمال ، والأعرفية ظاهرة إذ الأمور المحسوسة أوضح من الأمور المعقولة.


١١ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن أيوب بن الحر ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » (١) فقال طاعة الله ومعرفة الإمام.

١٢ ـ محمد بن يحيى ، عن عبد الله بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن أبان ، عن أبي بصير قال قال لي أبو جعفر عليه‌السلام هل عرفت إمامك قال قلت إي والله قبل أن أخرج من الكوفة فقال حسبك إذا.

١٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن إسماعيل ، عن منصور بن يونس ، عن بريد قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول في قول الله تبارك وتعالى : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » (٢) فقال ميت لا يعرف شيئا و « نُوراً

______________________________________________________

الحديث الحادي عشر : صحيح.

قوله عليه‌السلام : طاعة الله ، قيل : لما كانت الحكمة استكمال النفس الإنسانية بحسب قوتيه العلمية ، والعملية وإنما استكمالها بالمعارف الحقة والتحلي بالفضائل من الصفات ، والإتيان بالحسنات ، والسلامة عن الرذائل وارتكاب السيئات ، وقد أمر الله سبحانه عباده بجميعها ، وبين لهم منهجها وسبيلها ، وتجمعها طاعة الله المنوطة بمعرفة الإمام ، ففسرها بطاعة الله ومعرفة الإمام.

الحديث الثاني عشر : مجهول.

قوله عليه‌السلام : « حسبك إذا » فإن من عرف إمامه وتمسك به قولا وفعلا فقد استكمل بواعث النجاة.

الحديث الثالث عشر : موثق.

وفسر الميت بالجاهل ، ويعلم منه تفسير الحي بالعالم ، « ونورا يمشي به في الناس » بإمام يأتم به بعد معرفته ومن « مثله » وصفته أنه « فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » بالذي لا يعرف الإمام فإن من لا يعرفه لا يمكنه الخروج من ظلمات الجهل.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٦٩.

(٢) سورة الأنعام : ١٢٣.


يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » إماما يؤتم به « كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » قال الذي لا يعرف الإمام.

١٤ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن أورمة ومحمد بن عبد الله ، عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال أبو جعفر عليه‌السلام دخل أبو عبد الله الجدلي على أمير المؤمنين فقال عليه‌السلام يا أبا عبد الله ألا أخبرك بقول الله عز وجل : « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما

______________________________________________________

وقوله : « يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ » المراد به المشي العقلاني والسعي الروحاني في درجات المعارف الإلهية ، والمراد بالناس المقربون ، وسائر الناس نسناس أو الأعم ، أي كائنا بين الناس معدودا منهم ، أو المراد بالمشي فيهم المعاملة والمعاشرة معهم بهدايتهم ورعايتهم والتقية منهم ، وسائر ما يجري بينه وبينهم ، ومن كان عالما حيا لا يعرف الإمام فهو في الظلمات كالأموات لا يتخلص منها ولا ينتفع بعلمه.

الحديث الرابع عشر : ضعيف ، لكن هذا المضمون مروي بطرق كثيرة مستفيضة.

ورواه الثعلبي في تفسيره عن أبي عبد الله الجدلي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ورواه الطبرسي عن مهدي بن نزار عن أبي القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وقال في قوله تعالى : « مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ » أي بكلمة التوحيد والإخلاص عن قتادة ، وقيل : بالإيمان « فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها » قال ابن عباس : أي فمنها يصل الخير إليه ، والمعنى فله من تلك الحسنة خير يوم القيامة وهو الثواب والأمان من العقاب ، فخير هيهنا اسم وليس بالذي هو بمعنى الأفضل ، وهو المروي عن الحسن وعكرمة وابن جريج ، وقيل : معناه فله أفضل منها في عظم النفع ، فإنه يعطى بالحسنة عشرا ، وقيل : هو رضوان الله ورضوان من الله أكبر « وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ » قرئ فزع بالتنوين ويومئذ بفتح الميم وبغير تنوين بكسر الميم وبفتحها ، قال الكلبي : إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها وأهل الجنة آمنون من ذلك الفزع « وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ » أي بالمعصية الكبيرة التي هي الكفر والشرك ، عن ابن عباس وأكثر المفسرين « فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ »


كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » (١) قال بلى يا أمير المؤمنين جعلت فداك فقال الحسنة معرفة الولاية وحبنا أهل البيت والسيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت ثم قرأ عليه هذه الآية.

باب فرض طاعة الأئمة

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن حريز ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته ثم قال إن الله تبارك وتعالى يقول :

______________________________________________________

أي ألقوا في النار منكوسين « هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » أي هذا جزاء فعلكم وليس بظلم « انتهى ».

والحاصل : أنه لما كانت معرفة الولاية والإمامة مناط الحسنة لأنها إنما تكون حسنة بالأخذ عن مأخذها المنتهى إلى الله سبحانه ، حتى يكون الإتيان بها طاعة له وبدونه تكون سيئة ، وطاعة للطواغيت وأهل الغي والضلال ، فسر الحسنة بمعرفة الولاية وحب أهل البيت عليهم‌السلام الداعي إلى متابعتهم والأخذ عنهم ، والسيئة بإنكار ولايتهم وبغضهم عليهم‌السلام مع أن الإقرار بإمامتهم وحبهم من أعظم أركان الإيمان ، والشرط الأعظم لقبول جميع الأعمال.

باب فرض طاعة الأئمة عليهم‌السلام

الحديث الأول : حسن.

وذروة الأمر بالضم والكسر : أعلاه ، والأمر الإيمان أو جميع الأمور الدينية أو الأعم منها ومن الدنيوية « وسنامه » بالفتح أي أشرفه وأرفعه مستعارا من سنام البعير لأنه أعلى عضو منه ، « ومفتاحه » أي ما يفتح ويعلم به سائر أمور الدين ، « وباب الأشياء » أي سبب علمها أو ما ينبغي أن يعلم قبل الدخول فيها ، أو ما يصير سببا للدخول في منازل الإيمان ، وعلى بعض الوجوه تعميم بعد التخصيص.

« ورضا الرحمن » بالكسر والقصر بمعنى ما يرضى به « بعد معرفته »

__________________

(١) سورة النمل : ٩٠ ـ ٨٩.


« مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً » (١).

٢ ـ الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي الصباح قال أشهد أني سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول أشهد أن عليا إمام فرض الله طاعته وأن الحسن إمام فرض الله طاعته وأن الحسين إمام فرض الله طاعته وأن علي بن الحسين إمام فرض الله طاعته وأن محمد بن علي إمام فرض الله طاعته.

٣ ـ وبهذا الإسناد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي قال حدثنا حماد بن عثمان ، عن بشير العطار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول نحن قوم فرض الله طاعتنا

______________________________________________________

أي الإمام أو الرحمن تعالى شأنه والأول أظهر « ومن تولى » أي عن طاعته « حفيظا » أي تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها ، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، والاستشهاد بالآية إما لأن طاعة الرسول عليه‌السلام إنما كانت تجب من حيث الخلافة والإمامة التي هي رئاسة عامة ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إماما على الناس في زمانه مع رسالته ، فبهذه الجهة تجب طاعة الإمام بعده ، أو لعلمه عليه‌السلام بأن المراد بالرسول فيها أعم من الإمام ، أو لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بطاعة الأئمة عليهم‌السلام بالنصوص المتواترة ، فطاعتهم طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعته طاعة الله ، فطاعتهم طاعة الله ، أو علم عليه‌السلام أن المراد بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله طاعة الله ، فطاعتهم طاعة الله ، أو علم عليه أن المراد بطاعة الرسول طاعته في تعيين أولي الأمر بعده وأمره بطاعتهم ، أو لأنهم عليهم‌السلام لما كانوا نواب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفاءه فحكمهم حكمه في جميع الأشياء ، إلا ما يعلم اختصاصه بالرسالة وهذا ليس منه.

الحديث الثاني : ضعيف.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور.

« فرض الله طاعتنا » أي بالآيات الكريمة كقوله تعالى « وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » وبما جرى من ذلك على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « بمن لا يعذر الناس » أي

__________________

(١) سورة النساء : ٨٠.


وأنتم تأتمون بمن لا يعذر الناس بجهالته.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد بن عيسى ، عن الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » (١) قال الطاعة المفروضة.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن سنان ، عن أبي خالد القماط ، عن أبي الحسن العطار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول أشرك بين الأوصياء والرسل في الطاعة.

٦ ـ أحمد بن محمد ، عن محمد بن أبي عمير ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي الصباح الكناني قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام نحن قوم فرض الله عز وجل طاعتنا لنا الأنفال و

______________________________________________________

المخالفون أو الأعم « بجهالته » لوضوح الأمر وإن خفي عليهم فبتقصيرهم أو لكونه من أعظم أركان الإيمان وربما يخص بغير المستضعفين.

الحديث الرابع : مرسل.

قوله : الطاعة المفروضة ، أي الإمامة التي هي رئاسة عامة على الناس ، وفرض الطاعة من الله والانقياد لهم ، فإنه خلافة من الله ، وملك وسلطنة عظيمة لا يدانيه شيء من مراتب الملك والسلطنة.

الحديث الخامس : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : « أشرك » على صيغة الأمر أو الماضي المجهول أو المعلوم ، والفاعل الضمير الراجع إلى الله بقرينة المقام ، والأوسط أظهر ، أي وجوب الطاعة غير مختص بالأنبياء بل الأوصياء أيضا مشتركون معهم.

الحديث السادس صحيح.

والأنفال جمع نفل بالفتح وبالتحريك وهو الزيادة ، والمراد هنا ما جعله الله تعالى للنبي في حياته وبعده للإمام زائدا على الخمس وغيره مما اشترك فيه معه غيره ، قال في مجمع البيان : قد صحت الرواية عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنهما قالا : الأنفال

__________________

(١) سورة النساء : ٥٤.


لنا صفو المال ونحن الراسخون في العلم ونحن المحسودون الذين قال الله « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ » (١).

٧ ـ أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن الحسين بن أبي العلاء قال ذكرت لأبي عبد الله عليه‌السلام قولنا في الأوصياء إن طاعتهم مفترضة قال فقال نعم هم الذين قال الله تعالى « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » (٢) وهم الذين قال الله

______________________________________________________

كل ما أخذ في دار الحرب بغير قتال ، وكل أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال ، وميراث من لا وارث له ، وقطائع الملوك إذا كانت في أيديهم بغير غصب ، والآجام وبطون الأودية ، والأرضون الموات وغير ذلك مما هو مذكور في مواضعه.

وقالا عليهما‌السلام : هي لله وللرسول ، وبعده لمن قام مقامه ، يصرفه حيث شاء من مصالح نفسه ، ليس لأحد فيه شيء « انتهى ».

« ولنا صفو المال » أي خالصة ومختاره ، من صفا يا ملوك أهل الحرب وقطائعهم وغير ذلك مما يصطفي من الغنيمة ، كالفرس الجواد والثوب المرتفع ، والجارية الحسناء والسيف الفاخر وأضرابها ونحن « الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » الممدوحون في القرآن كما سيأتي وكذا يأتي ذكر المحسودين إنشاء الله.

الحديث السابع : حسن كالصحيح.

« وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » قال الطبرسي رحمه‌الله : للمفسرين فيه قولان : أحدهما أنهم الأمراء ، والآخر أنهم العلماء ، وأما أصحابنا فإنهم رووا عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أن أولي الأمر هم الأئمة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أوجب الله طاعتهم بالإطلاق ، كما أوجب طاعته وطاعة رسوله ، ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلا من ثبتت عصمته ، وعلم أن باطنه كظاهره وأمن منه الغلط والأمر بالقبيح ، وليس ذلك بحاصل في الأمراء ولا العلماء سواهم ، جل الله سبحانه أن يأمر بطاعة من يعصيه ، وبالانقياد للمختلفين بالقول والفعل ، لأنه محال أن يطاع المختلفون كما أنه محال

__________________

(١) سورة النساء : ٥٤.

(٢) سورة النساء : ٥٩.


عز وجل : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا » (١).

______________________________________________________

أن يجتمع ما اختلفوا فيه.

ومما يدل على ذلك أيضا أن الله سبحانه لم يقرن طاعة أولي الأمر بطاعة رسوله ، كما قرن طاعة رسوله بطاعته إلا وأولو الأمر فوق الخلق جميعا ، كما أن الرسول فوق أولي الأمر وفوق سائر الخلق ، وهذه صفة أئمة الهدى من آل محمد عليهم‌السلام الذين ثبتت إمامتهم وعصمتهم ، واتفقت الأمة على علو رتبتهم وعدالتهم « انتهى ».

قوله تعالى : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ » الآية ، أقول : هذه الآية عمدة ما استدل به أصحابنا رضي الله عنهم على إمامة أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وتقريره يتوقف على بيان أمور :

الأول : أن الآية خاصة وليست بعامة لجميع المؤمنين ، وبيانه أنه تعالى خص الحكم بالولاية بالمؤمنين المتصفين بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حال الركوع ، ومعلوم أن تلك الأوصاف غير شاملة لجميع المؤمنين ، وليس لأحد أن يقول : أن المراد بقوله : « وَهُمْ راكِعُونَ » أن هذه شيمتهم وعادتهم ، ولا يكون حالا عن إيتاء الزكاة ، وذلك لأن قوله : « يُقِيمُونَ الصَّلاةَ » قد دخل فيه الركوع فلو لم يحمل على الحالية لكان كالتكرار ، والتأويل المفيد أولى من البعيد الذي لا يفيد ، وأما حمل الركوع على غير الحقيقة الشرعية بحمله على الخضوع من غير داع إليه سوى العصبية لا يرضى به ذو فطنة سوية ، مع أن الآية على أي حال تتأدى بسياقها على الاختصاص.

وقد قيل فيه وجه آخر : وهو أن قوله : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ » خطاب عام لجميع المؤمنين ودخل في الخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره ، ثم قال : « وَرَسُولُهُ » فأخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته ثم قال : « وَالَّذِينَ آمَنُوا » فوجب أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه ، وإلى أن يكون كل واحد من المؤمنين ولي نفسه وذلك محال ، وفيه : بعض المناقشات والأول أسلم منها.

__________________

(١) سورة المائده : ٥٥.


______________________________________________________

الثاني : أن المراد بالولي هنا الأولى بالتصرف ، والذي يلي تدبير الأمر ، كما يقال : فلان ولي المرأة وولي الطفل ، وولي الدم ، والسلطان ولي أمر الرعية ويقال لمن يقيمه بعده : هو ولي عهد المسلمين ، وقال الكميت يمدح عليا عليه‌السلام :

ونعم ولي الأمر بعد وليه

ومنتجع التقوى ونعم المؤدب

وقال المبرد في كتاب العبارة عن صفات الله : أصل الولي الذي هو أولى أي أحق ، والولي وإن كان يستعمل في معان آخر كالمحب والناصر لكن لا يمكن إرادة غير الأولى بالتصرف والتدبير هيهنا ، لأن لفظة إنما تفيد التخصيص ، ولا يرتاب فيه من تتبع اللغة وكلام الفصحاء أن التخصيص ينافي حمله على المعاني الأخر ، إذ سائر المعاني المحتملة في بادئ الرأي لا يختص شيء منها ببعض المؤمنين دون بعض ، كما قال تعالى : « وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ » وبعض الأصحاب استدل على ذلك بأن الظاهر من الخطاب أن يكون عاما لجميع المكلفين من المؤمنين وغيرهم ، كما في قوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ » (١) وغير ذلك ، فإذا دخل الجميع تحته استحال أن يكون المراد باللفظة الموالاة في الدين ، لأن هذه الموالاة يختص بها المؤمنون دون غيرهم ، فلا بد إذا من حملها على ما يصح دخول الجميع فيه ، وهي معنى الإمامة ووجوب الطاعة وفيه كلام.

الثالث : أن الآية نازلة فيه عليه‌السلام ، والأخبار في ذلك متواترة من طرق الخاصة والعامة ، وعليه إجماع المفسرين ، وقد رواها الزمخشري والبيضاوي وإمامهم الرازي في تفاسيرهم مع شدة تعصبهم وكثرة اهتمامهم في إخفاء فضائله ، إذ كان هذا في الاشتهار كالشمس في رائعة النهار.

قال محمد بن شهرآشوب في مناقبه : أجمعت الأمة على أن هذه الآية نزلت في علي عليه‌السلام لما تصدق بخاتمه وهو راكع ، لا خلاف بين المفسرين في ذلك ، ذكره الثعلبي

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٣.


______________________________________________________

والماوردي والقشيري والقزويني والرازي والنيسابوري والفلكي والطوسي والطبرسي في تفاسيرهم ، عن السدي والمجاهد والحسن والأعمش وعتبة بن أبي حكيم وغالب بن عبد الله وقيس بن ربيع وعباية بن ربعي وعبد الله بن العباس وأبي ذر الغفاري ، وذكره ابن البيع في معرفة أصول الحديث عن عبد الله بن عبيد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب ، والواحدي في أسباب نزول القرآن عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والسمعاني في فضائل الصحابة عن حميد الطويل عن أنس ، وسلمان بن أحمد في معجمه الأوسط عن عمار ، وأبو بكر البيهقي في المصنف ومحمد بن الفتال في التنوير وفي الروضة عن عبد الله بن سلام وأبي صالح والشعبي ومجاهد ، والنطنزي في الخصائص عن ابن عباس ، والإبانة عن الفلكي عن جابر الأنصاري وناصح التميمي وابن عباس والكلبي في روايات مختلفة الألفاظ متفقة المعاني ، وفي أسباب النزول عن الواحدي أن عبد الله بن سلام أقبل ومعه نفر من قومه وشكوا بعد المنزل عن المسجد ، وقالوا : إن قومنا لما رأونا صدقنا الله ورسوله رفضونا ولا يكلموننا ولا يجالسوننا ولا يناكحوننا ، فنزلت هذه الآية ، فخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المسجد فرأى سائلا فقال : هل أعطاك أحد شيئا؟ قال : نعم خاتم فضة ، وفي رواية : خاتم ذهب ، قال : من أعطاكه؟ قال : أعطانيه هذا الراكع « انتهى ».

وأقول : روى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن عباية بن ربعي عن أبي ذر الغفاري قال : إني صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما من الأيام الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا ورفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم أشهد أني سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يعطني أحد شيئا وكان علي في الصلاة راكعا ، فأومأ إليه بخنصره اليمنى ، وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل فأخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بمرأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يصلي ، فلما فرغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن أخي موسى سألك فقال : « رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي


______________________________________________________

وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي » (١) فأنزلت عليه قرآنا ناطقا : « سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا » اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري ، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري ، قال أبوذر: فما استتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلامه حتى نزل جبرئيل عليه‌السلام من عند الله عز وجل فقال :يا محمد اقرأ قال : وما أقرأ؟ قال : اقرأ : « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا » الآية.

وقال السيد بن طاوس في كتاب سعد السعود : رأيت في تفسير محمد بن العباس بن علي بن مروان أنه روى نزل آية « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ » في علي عليه‌السلام من تسعين طريقا بأسانيد متصلة كلها أو جلها من رجال المخالفين لأهل البيت عليه‌السلام « انتهى ».

وأقول : روى السيوطي في تفسيره الدر المنثور أخبارا كثيرة في ذلك أوردتها مع سائر ما ورد في ذلك في كتابنا الكبير.

وأما إطلاق لفظ الجمع على الواحد تعظيما فهو شائع ذائع في اللغة والعرف ، وقد ذكر المفسرون هذا الوجه في كثير من الآيات الكريمة كما قال تعالى : « وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ » (٢) و « إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً » (٣) و « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ » (٤) وقوله : « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » (٥) مع أن القائل كان واحدا وأمثالها ومن خطاب الملوك والرؤساء : فعلنا كذا ، وأمرنا بكذا ، ومن الخطاب الشائع في عرف العرب والعجم إذا خاطبوا واحدا : فعلتم كذا ، وقلتم كذا ، تعظيما.

وقال الزمخشري : « فإن قلت » : كيف صح أن يكون لعلي عليه‌السلام واللفظ لفظ جماعة؟ « قلت » : جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحدا ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبه على أن سجية المؤمنين تجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وهم في الصلاة ، لم يؤخروه إلى الفراغ منها « انتهى ».

__________________

(١) سورة طه : ٣٢.

(٢) سورة الذاريات : ٤٧.

(٣) سورة النوح : ١.

(٤) سورة الحجر : ٩.

(٥) سورة آل عمران : ١٧٣.


٨ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن محمد ، عن معمر بن خلاد قال سأل رجل فارسي أبا الحسن عليه‌السلام فقال طاعتك مفترضة فقال نعم قال مثل طاعة علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال نعم.

٩ ـ وبهذا الإسناد ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن الأئمة هل يجرون في الأمر والطاعة مجرى واحد قال نعم.

١٠ ـ وبهذا الإسناد ، عن مروك بن عبيد ، عن محمد بن زيد الطبري قال : كنت

______________________________________________________

على أنه يظهر من بعض روايات الشيعة أن المراد به جميع الأئمة عليهم‌السلام ، وأنهم جميعا قد وفقوا لمثل تلك القضية كما سيأتي بعضها في باب : ما نص الله عز وجل على رسوله وعلى الأئمة ، وأيضا كل من قال بأن المراد بالولي في هذه الآية ما يرجع إلى الإمامة قائل بأن المقصود بها علي عليه‌السلام ، ولا قائل بالفرق ، فإذا ثبت الأول ثبت الثاني ، هذا ملخص استدلال القوم ، وأما تفصيل القوم فيه ودفع الشبه الواردة عليه فموكول إلى مظانه كالشافي وغيره.

الحديث الثامن : صحيح.

قوله : مثل طاعة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، أي في كون الافتراض بالنص من الله تعالى أو في عموم الافتراض لجميع الخلق أو في التأكيد والقدر والمنزلة وترتب الآثار عليها وجودا وعدما.

الحديث التاسع : ضعيف على المشهور.

« هل يجرون » بصيغة المجهول ومن باب الأفعال ، أو المعلوم من المجرد « في الأمر » أي أمر الخلافة والوصاية أو في كونهم أولي الأمر ، أو في وجوب طاعة الآمر فقوله : « والطاعة » عطف تفسير « مجرى » اسم مكان من المجرد أو من باب الأفعال ، أو مصدر ميمي من أحدهما.

الحديث العاشر : (١)

__________________

(١) كذا في النسخ.


قائما على رأس الرضا عليه‌السلام بخراسان وعنده عدة من بني هاشم وفيهم إسحاق بن موسى بن عيسى العباسي فقال يا إسحاق بلغني أن الناس يقولون إنا نزعم أن الناس عبيد لنا لا وقرابتي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما قلته قط ولا سمعته من آبائي قاله ولا بلغني عن أحد من آبائي قاله ولكني أقول الناس عبيد لنا في الطاعة موال لنا في الدين فليبلغ الشاهد الغائب.

١١ ـ علي بن إبراهيم ، عن صالح بن السندي ، عن جعفر بن بشير ، عن أبي سلمة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول نحن الذين فرض الله طاعتنا لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يعذر الناس بجهالتنا من عرفنا كان مؤمنا ومن أنكرنا كان

______________________________________________________

« عبيد لنا » أي أرقاء يجوز لنا بيعهم ونحو ذلك ، أو نحن آلهتهم « لا وقرابتي » يدل على جواز القسم بغير الله ، فما ورد من النهي فلعله محمول على ما إذا كان يمين صبر في الدعاوي الشرعية « ولا سمعته » أي مشافهة « عبيد لنا في الطاعة » أي كالأرقاء في أن فرض الله عليهم طاعتنا ليسوا أرقاء حقيقة وليست طاعتهم لنا عبادة ، لأنه بإذن من هو الأعلى و « موال لنا » بفتح الميم جمع مولى « في الدين » والمولى هنا بمعنى الناصر أو التابع أو المعتق بالفتح ، فإنه بسبب موالاتهم أعتقهم الله من النار ، فكلمة « في » للسببية والأول أظهر « فليبلغ » على التفعيل أي أنا راض بذلك ولا أرى فيه مفسدة ، أو لا بد من ذلك لتصحيح عقائد الشيعة ودفع افتراء المفترين.

الحديث الحادي عشر (١) :

« ومن أنكرنا » أي حكم وجزم بعدم وجوب ولايتنا وإمامتنا ، فالثالث من شك في ذلك من المستضعفين كما سيأتي تحقيقه في كتاب الإيمان والكفر ، فقوله : من طاعتنا الواجبة ، أي القول بوجوب طاعتنا أو المراد بالثالث الفساق من الشيعة فإنهم ناقصون في المعرفة ، وإلا لم يخالفوا إمامهم ، فإن ماتوا على ذلك يفعل الله بهم ما يشاء من العذاب أو العفو ، ويؤيده ظاهر قوله : من طاعتنا الواجبة ، وقيل : المراد بقوله : من أنكرنا ،

__________________

(١) كذا في النسخ.


كافرا ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا حتى يرجع إلى الهدى الذي افترض الله عليه من طاعتنا الواجبة فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء.

١٢ ـ علي ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن محمد بن الفضيل قال سألته عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل قال أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر قال أبو جعفر عليه‌السلام حبنا إيمان وبغضنا كفر.

١٣ ـ محمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عيسى ، عن فضالة بن أيوب

______________________________________________________

من جحدنا بعد الاطلاع على قول الله وقول الرسول فينا ، فالجحود بعد وضوح الأمر فينا رد على الله وعلى الرسول ، والراد عليهما كافر ، والضالون علي قسمين أسوأهما المتهاونون بأمر الدين ، التاركون لطلب المعرفة بلا استضعاف « فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء » من عقابه ونكاله ، وأما المستضعفون الذين استثناهم الله تعالى « إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ » فمن يمت على حد ضلاله يفعل الله به ما يشاء من العفو والخذلان.

الحديث الثاني عشر : مجهول ، بل صحيح إذ الظاهر أن محمد بن الفضيل هو محمد بن القاسم بن الفضيل ، فضمير سألته راجع إلى الرضا عليه‌السلام ، وقيل : راجع إلى الصادق عليه‌السلام وهو بعيد ، وقيل : إلى محمد بن الفضيل فيكون كلام يونس وهو أبعد.

« حبنا إيمان » يطلق حبهم في الأخبار كثيرا على اعتقاد إمامتهم ، فإن من ادعى حبهم وأنكر إمامتهم فهو عدو مخلط ، إذ يفضل أعداءهم عليهم ، وبغضهم إنكار إمامتهم كما عرفت ، فالشاك والمستضعف متوسط بينهما والحمل فيهما على الحقيقة ، ويحتمل أن يكون الحب والبغض على معناهما ، والحمل على المجاز أي حبهم يدعو إلى الإيمان لأنه إذا أحبهم أطاعهم في القول والفعل ، وهو يستلزم الإيمان وكذا البغض ، وإن كان بغضهم في نفسه أيضا كفرا.

الحديث الثالث عشر : ضعيف على المشهور.


عن أبان ، عن عبد الله بن سنان ، عن إسماعيل بن جابر قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام أعرض عليك ديني الذي أدين الله عز وجل به قال فقال هات قال فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله والإقرار بما جاء به من عند الله وأن عليا كان إماما فرض الله طاعته ثم كان بعده الحسن إماما فرض الله طاعته ثم كان بعده الحسين إماما فرض الله طاعته ثم كان بعده علي بن الحسين إماما فرض الله طاعته حتى انتهى الأمر إليه ثم قلت أنت يرحمك الله قال فقال هذا دين الله ودين ملائكته.

١٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب ، عن هشام بن سالم ، عن أبي حمزة ، عن أبي إسحاق ، عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام اعلموا أن صحبة العالم واتباعه دين يدان الله به وطاعته مكسبة للحسنات ممحاة للسيئات وذخيرة للمؤمنين ورفعة فيهم في حياتهم وجميل بعد مماتهم.

______________________________________________________

« والإقرار » بالرفع أي ديني الإقرار ، وهو مبتدأ وخبره محذوف ، وقيل : بالنصب على المفعول معه وعامله فعل معنوي ، لأن معنى أشهد يكون مني الشهادة وهذا يؤيد مذهب أبي علي الفارسي حيث جوز نحو هذا لك وأيا لك خلافا لسيبويه ، حيث ذهب إلى أنه لا بد للمفعول معه من تقدم جملة ذات فعل عامل أو اسم فيه معنى الفعل « حتى انتهى » متعلق بقوله « قلت ».

« هذا دين الله » يمكن أن تكون الإضافة في الموضعين على نهج واحد ، أي دين ارتضاه الله وملائكته أو في الأول بمعنى الدين الذي قرره الله تعالى للعباد وكلفهم به ، والثاني بمعنى الدين الذي كلفت الملائكة به وأخذ منهم الميثاق عليه كما يظهر من بعض الأخبار ، أو المعنى دين فرض الله التدين به ودين نزلت به ملائكته.

الحديث الرابع عشر : مجهول.

قوله عليه‌السلام : إن صحبة العالم أي الكامل في العلم ، وهو الإمام عليه‌السلام أو الأعم منه ومن سائر العلماء الربانيين ، والمكسبة بالفتح : اسم مكان أو مصدر ميمي أو بالكسر اسم آلة وكذا الممحاة « وجميل » أي ذكر أو أجر جميل.


١٥ ـ محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن صفوان بن يحيى ، عن منصور بن حازم قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إن الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله قال صدقت قلت إن من عرف أن له ربا فقد ينبغي له أن يعرف أن لذلك الرب رضا وسخطا وأنه لا يعرف رضاه وسخطه إلا بوحي أو رسول فمن لم يأته الوحي فينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنهم الحجة وأن لهم الطاعة المفترضة فقلت للناس أليس تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو الحجة من الله على خلقه قالوا بلى قلت فحين مضىصلى‌الله‌عليه‌وآلهمن كان الحجة قالوا القرآن فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتى يغلب الرجال بخصومته فعرفت أن القرآن لا يكون حجة إلا بقيم فما قال فيه من شيء كان حقا فقلت لهم من قيم القرآن قالوا ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم قلت كله قالوا لا فلم أجد أحدا يقال إنه يعلم القرآن كله إلا عليا صلوات الله عليه وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا لا أدري وقال هذا لا أدري وقال هذا لا أدري وقال هذا أنا أدري فأشهد أن عليا عليه‌السلام كان قيم القرآن وكانت طاعته مفترضة وكان الحجة على الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن ما قال في القرآن فهو حق فقال رحمك الله فقلت إن عليا عليه‌السلام لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن الحجة بعد علي الحسن بن علي وأشهد على الحسن أنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك أبوه وجده وأن الحجة بعد الحسن الحسين وكانت طاعته مفترضة فقال رحمك الله فقبلت رأسه وقلت وأشهد على الحسين عليه‌السلام أنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده ـ علي بن الحسين وكانت طاعته مفترضة فقال رحمك الله فقبلت رأسه وقلت وأشهد على علي بن الحسين أنه لم يذهب حتى ترك حجة من بعده ـ محمد بن علي أبا جعفر وكانت

______________________________________________________

الحديث الخامس عشر : مجهول كالصحيح ، وقد مر شرح صدر الخبر في باب الاضطرار إلى الحجة.


طاعته مفترضة فقال رحمك الله قلت أعطني رأسك حتى أقبله فضحك قلت أصلحك الله قد علمت أن أباك لم يذهب حتى ترك حجة من بعده كما ترك أبوه وأشهد بالله أنك أنت الحجة وأن طاعتك مفترضة فقال كف رحمك الله قلت أعطني رأسك أقبله فقبلت رأسه فضحك وقال سلني عما شئت فلا أنكرك بعد اليوم أبدا.

١٦ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن محمد بن خالد البرقي ، عن القاسم بن محمد الجوهري ، عن الحسين بن أبي العلاء قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الأوصياء طاعتهم مفترضة قال نعم هم الذين قال الله عز وجل « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » (١) وهم الذين قال الله عز وجل « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ » (٢).

١٧ ـ علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن حماد ، عن عبد الأعلى قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول السمع والطاعة أبواب الخير السامع المطيع لا حجة عليه والسامع العاصي لا حجة له وإمام المسلمين تمت حجته واحتجاجه يوم يلقى الله عز وجل ثم قال يقول الله تبارك وتعالى : « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » (٣).

______________________________________________________

قوله : فضحك ، لعل الضحك لتكرار التقبيل واهتمامه في ذلك والأمر بالكف والإمساك عن ذكره بالإمامة للتقية والخوف عليه في زمانه « فلا أنكرك » من الإنكار بمعنى عدم المعرفة ، أي لا أجهل حقك واستحقاقك لأن يجاب في كل مسألة بحق جوابها من غير تقية.

الحديث السادس عشر : ضعيف ، وقد مر عن الحسين باختلاف في وسط السند.

الحديث السابع عشر : مجهول كالحسن.

قوله : السمع والطاعة ، أي لما قاله الإمام « والطاعة » له « أبواب الخير » أي موجب للدخول في جميع الخيرات « يوم يلقى الله » متعلق بقوله : « تمت » أو خبر « واحتجاجه » مبتدأ وقوله تعالى : « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » أي باسم إمامهم وعلى التقديرين ، إما المراد كل من كان في عصر إمام أو من اتبعه من أصحابه فالإمام أعم من إمامهم

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) سورة المائدة : ٥٥.

(٣) سورة الإسراء : ٧١.


باب

في أن الأئمة شهداء الله عز وجل على خلقه

١ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن يعقوب بن يزيد ، عن زياد القندي ، عن سماعة قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِ

______________________________________________________

الهدى وإمام الضلالة.

ويؤيد الأول ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بإمامهم الذي بين أظهرهم وهو قائم أهل زمانه ، وروى علي بن إبراهيم عن الباقر عليه‌السلام في تفسيرها قال : يجيء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قومه وعلي عليه‌السلام في قومه ، والحسن عليه‌السلام في قومه ، والحسين عليه‌السلام في قومه ، وكل من مات بين ظهراني قوم جاءوا معه ، وروى العياشي مثله بأسانيد.

ويؤيد الثاني ما رواه الصدوق في المجالس عن الحسين عليه‌السلام أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال : إمام دعا إلى هدى فأجابوه إليه ، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها ، هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، وهو قوله تعالى : « فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ » (١) وروى العياشي عن الصادق عليه‌السلام : سيدعى كل أناس بإمامهم ، أصحاب الشمس بالشمس ، وأصحاب القمر بالقمر ، وأصحاب النار بالنار ، وأصحاب الحجارة بالحجارة ، وفي المحاسن عنه عليه‌السلام أنتم والله على دين الله ثم تلا هذه الآية ، ثم قال : على إمامنا ، ورسول الله إمامنا ، كم إمام يجيء يوم القيامة يلعن أصحابه ويلعنونه ، فعلى الأول الاستشهاد بالآية لأنه إذا دعي يوم القيامة كل أهل عصر باسم إمامهم فثبت حينئذ كونه إماما لهم ، أو يدعون معه ليتم عليهم حجته ، وعلى الثاني لأن كل قوم إذا دعوا مع رئيسهم وإمامهم فإمام الحق يتم حجته حينئذ على الرؤساء والمرؤوسين.

باب في أن الأئمة شهداء الله عز وجل على خلقه

الحديث الأول : ضعيف.

« فَكَيْفَ » قال الطبرسي ـ ره ـ : أي فكيف حال الأمم وكيف يصنعون « إِذا جِئْنا

__________________

(١) سورة الشورى : ٧.


أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً » (١) قال نزلت في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصة في كل قرن منهم إمام منا شاهد عليهم ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد علينا.

٢ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن عمر بن أذينة ، عن بريد العجلي قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل

______________________________________________________

مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ » من الأمم « بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ » يا محمد « عَلى هؤُلاءِ » يعني قومه « شَهِيداً » ومعنى الآية : أن الله تعالى يستشهد يوم القيامة كل نبي على أمته ، ويستشهد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمته ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : « خاصة » يمكن أن يكون المراد تخصيص الشاهد والمشهود عليهم جميعا بهذه الأمة ، فالمراد بكل أمة كل قرن من هذه الأمة ، أو المراد تخصيص الشاهد فقط ، أي في كل قرن يكون أحد من الأئمة شاهدا على من في عصرهم من هذه الأمة ، وعلى جميع من مضي من الأمم ، وقيل : لعل المراد أن الآية نزلت فيهم خاصة لا أن الحكم مخصوص بهم ، فإن الآية شاملة لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والسلام ولسائر الأمم.

الحديث الثاني : ضعيف.

قوله تعالى : « وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ » قال الطبرسي قدس‌سره الوسط العدل ، وقيل : الخيار ، قال : صاحب العين : الوسط من كل شيء أعدله وأفضله ، ومتى قيل : إذا كان في الأمة من ليست هذه صفته فكيف وصف جماعتهم بذلك؟ فالجواب : أن المراد به من كان بتلك الصفة ، لأن كل عصر لا يخلو من جماعة هذه صفتهم ، وروى بريد عن الباقر عليه‌السلام قال : نحن الأمة الوسط ، ونحن شهداء الله على خلقه ، وحجته في أرضه ، وفي رواية أخرى قال : إلينا يرجع الغالي وبنا يلحق المقصر ، وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل بإسناده عن سليم بن قيس عن علي عليه‌السلام أن الله

__________________

(١) سورة النساء : ٤١.


« وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ » (١) قال نحن الأمة الوسطى ونحن شهداء الله على خلقه وحججه في أرضه قلت قول الله عز وجل : « مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ » (٢)

______________________________________________________

تعالى إيانا عنى بقوله : « لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ » فرسول الله شاهد علينا ، ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه ، ونحن الذين قال الله : « وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً » وقوله : « لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ » فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : « وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ » (٣).

والثاني : لتكونوا حجة على الناس فتبينوا لهم الحق والدين ، ويكون الرسول شهيدا مؤديا للدين إليكم.

والثالث : أنهم يشهدون للأنبياء على أمهم المكذبين لهم بأنهم قد بلغوا ويكون الرسول عليكم شهيدا ، أي شاهدا عليكم بما يكون من أعمالكم ، وقيل : حجة عليكم ، وقيل : شهيدا لكم بأنكم قد صدقتم يوم القيامة فيما تشهدون به ، ويكون على بمعنى اللام كقوله : « وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ » (٤) انتهى.

وأقول : في بعض الروايات أنها نزلت : أئمة وسطا ، والحاصل أن الخطاب إنما توجه إلى الأئمة عليه‌السلام أو إلى جميع الأمة باعتبار اشتمالهم علي الأئمة ، فكأن الخطاب توجه إليهم فقوله عليه‌السلام : نحن الأمة الوسطى ، أن الأمة (٥) إنما اتصفوا بهذه الصفة بسببنا وهذا أظهر بالنظر إلى لفظ الآية ، والثاني أظهر بالنظر إلى الأخبار. « ونحن شهداء الله » أي في الآخرة أو الأعم منها ومن الدنيا « وحججه في أرضه » في الدنيا.

قوله تعالى : « مِلَّةَ أَبِيكُمْ » أقول : قبله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٣.

(٢) سورة الحج : ٧٨.

(٣) سورة الزمر : ٦٩.

(٤) سورة المائدة : ٣.

(٥) وفي نسخة « الأئمة » بدل « الأمة ».


قال إيانا عنى خاصة « هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ » في الكتب التي مضت وفي هذا القرآن « لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ » فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الشهيد علينا بما بلغنا عن الله عز وجل ونحن الشهداء على الناس فمن صدق صدقناه

______________________________________________________

وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ ، وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » وقال البيضاوي : ملة منتصب على المصدر لفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف ، أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، أو على الإغراء أو على الاختصاص ، وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو كالأب لأمته من حيث أنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة ، أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته فغلبوا على غيرهم ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : إيانا عنى ، أي هم المقصودون بخطاب : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » لكما لهم في الإيمان ، ولا يخفى أن الأمر بالجهاد والاجتباء بهم أنسب وكذا « مِلَّةَ أَبِيكُمْ » لا يحتاج إلى ما تكلفوا في تصحيحه ، وكذا سائر أجزاء الآية ، أو هم المقصودون بالذات بهذا الخطاب وإن دخل غيرهم فيه بالتبع ، أو هم العاملون بهذا الخطاب أو خطاب الأمة به لاشتمالهم عليهم‌السلام ، فيرجع إلى أنهم المقصودون بالذات به.

« هُوَ سَمَّاكُمُ » الضمير راجع إلى الله ، وقيل : إلى إبراهيم وهو بعيد ، « لِيَكُونَ الرَّسُولُ » عليكم شهيدا » في الآية « شَهِيداً عَلَيْكُمْ » ولعله من النساخ أو هو نقل بمعنى ، أو كان في قراءتهم عليهم‌السلام هكذا.

وقال الطبرسي ـ ره ـ أي بالطاعة والقبول ، فإذا شهد لكم به صرتم عدولا تشهدون علي الأمم الماضية بأن الرسل قد بلغوهم رسالة ربهم وأنهم لم يقبلوا فيوجب لكافرهم النار ولمؤمنهم الجنة بشهادتهم ، وقيل : معناه ليكون الرسول شهيدا عليكم في إبلاغ رسالة ربه إليكم وتكونوا شهداء علي الناس بعده بأن تبلغوا إليهم ما بلغه الرسول إليكم ، انتهى.

وما ذكره عليه‌السلام أظهر وأحق بالقبول « فمن صدق » بالتشديد ويحتمل التخفيف ،


يوم القيامة ومن كذب كذبناه يوم القيامة.

٣ ـ وبهذا الإسناد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي ، عن أحمد بن عمر الحلال قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » (١)

______________________________________________________

وكذا قوله : « كذب كذبناه » أي في دعوى التصديق يوم القيامة.

الحديث الثالث : ضعيف ، لكن مضمونه مروي بطرق مستفيضة بل متواترة من طرق الخاص ، أوردت أكثرها في الكتاب الكبير ، ورواه صاحب كشف الغمة وابن ـ بطريق في المستدرك ، والسيد بن طاوس في الطرائف ، والعلامة في كشف الحق بطرق متعددة من كتب المخالفين.

وقال السيد في كتاب سعد السعود : وقد روي أن المقصود بقوله جل جلاله : « وشاهد منه » هو علي بن أبي طالب ، محمد بن العباس بن مروان في كتابه من ستة وستين طريقا بأسانيدها.

وقال إمامهم الرازي في تفسيره : قد ذكروا في تفسير الشاهد وجوها : « أحدها » أنه جبرئيل عليه‌السلام يقرأ القرآن علي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « وثانيها » أن ذلك الشاهد لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « وثالثها » أن المراد هو علي بن أبي طالب والمعنى أنه يتلو تلك البينة وقوله : « منه » أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه ، والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، انتهى.

وروى السيوطي من مشاهير علماء المخالفين أيضا في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة عن علي عليه‌السلام قال : ما من رجل من قريش إلا نزلت فيه طائفة من القرآن فقال رجل : ما نزل فيك؟ قال : أما تقرأ سورة هود : « أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » رسول الله على بينة من ربه ، وأنا شاهد منه.

قال الطبرسي (ره) في مجمع البيان : المراد بالبينة القرآن وبمن كان على

__________________

(١) سورة هود : ١٧.


فقال أمير المؤمنين صلوات الله عليه الشاهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على بينة من ربه.

٤ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن بريد العجلي قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام قول الله تبارك وتعالى : « وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » (١) قال نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه وحججه في أرضه قلت قوله تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ » (٢) قال إيانا عنى ونحن

______________________________________________________

بينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل : المعنى به كل محق يدين بحجة وبينة ، وقيل : هم المؤمنون من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » أي ويتبعه من يشهد بصحته منه ، واختلف في معناه فقيل : الشاهد جبرئيل يتلو القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الله ، وقيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل : لسانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي يتلو القرآن بلسانه وقيل : الشاهد منه علي بن أبي طالب عليه‌السلام يشهد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو المروي عن أبي جعفر وعلي بن موسى الرضا عليهما‌السلام ، ورواه الطبري بإسناده عن جابر بن عبد الله عن علي عليه‌السلام ، وقيل : الشاهد ملك يسدده ويحفظه ، وقيل : بينة من ربه حجة من عقله ، وأضاف البينة إليه تعالى لأنه ينصب الأدلة العقلية والشرعية « وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » يشهد بصحته وهو القرآن ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : الشاهد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي في تبليغه إلى الأمة ما أمر بتبليغه ، أو « على » بمعنى اللام أي المصدق له أو هو عليه‌السلام شاهد بعلومه ومعجزاته وكمالاته إلى حقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يخفى أن « يتلوه » يدل على أنه المبلغ والخليفة بعده على أمته و « منه » يدل على غاية الاختصاص بينهما كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : علي مني وأنا منه.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٣.

(٢) سورة الحج : ٧٨ ـ ٧٧.


المجتبون ولم يجعل الله تبارك وتعالى « فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » فالحرج أشد من الضيق « مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ » إيانا عنى خاصة و « سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ » الله سمانا المسلمين من قبل في الكتب التي مضت وفي هذا القرآن : « لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ » فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الشهيد علينا بما بلغنا عن الله تبارك وتعالى ونحن الشهداء على الناس فمن صدق يوم القيامة صدقناه ومن كذب كذبناه.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حماد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عمر اليماني ، عن سليم بن قيس الهلالي ، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال إن الله تبارك وتعالى طهرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا.

______________________________________________________

قوله : « من حرج » (١) في بعض النسخ « من ضيق » فعلى الأول المراد بقوله : فالحرج أشد من الضيق أنه ليس المراد نفي الضيق مطلقا إذ في بعض التكاليف الشرعية صعوبة وعسر ، وعلى الثاني فالمعنى بنفي الحرج هنا نفي الضيق مطلقا ، لا معناه المتبادر فإنه الضيق الشديد ، كما هو المراد به في قوله تعالى : « ضَيِّقاً حَرَجاً » (٢) أو المعنى أنه وإن نفى الله سبحانه هنا الحرج لكن مطلق الضيق منفي واقعا وإنما خص الحرج هنا بالنفي لحكمة الله عز وجل « سمانا » الضمير راجع إليه تعالى.

الحديث الرابع (٣) مختلف فيه وحسن عندي.

« إن الله تعالى طهرنا » أي من الشرك والعقائد الفاسدة ، والأخلاق الرديئة « وعصمنا » أي من المعاصي والذنوب « وجعلنا مع القرآن » حيث تعمل بما فيه أو يدل على فضلنا ووجوب طاعتنا « وجعل القرآن معنا » لأنه عندهم لفظا ومعنى كما سيأتي في الأخبار.

__________________

(١) كذا في النسخ ولا يخفى أنّ قوله « من حرج » في الحديث الرابع وكأنّ المؤلّف رحمه‌الله جعله من تتمّة الحديث الثالث وذلك من جهة وقوع السقط في النسخ التي بيده أو غير ذلك ، والله أعلم.

(٢) سورة الأنعام : ١٢٥.

(٣) كذا في النسخ والصحيح « الخامس » بدل « الرابع ».


باب

أن الأئمة عليهم‌السلام هم الهداة

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد وفضالة بن أيوب ، عن موسى بن بكر ، عن الفضيل قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ » (١) فقال كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم.

٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير ، عن ابن أذينة ، عن بريد العجلي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ » فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنذر ولكل زمان منا هاد يهديهم إلى ما جاء به نبي الله

______________________________________________________

باب أن الأئمة عليهم‌السلام هم الهداة

الحديث الأول : ضعيف كالموثق.

الحديث الثاني : حسن.

وقال الطبرسي قدس الله روحه عند تفسير هذه الآية : فيه أقوال : « أحدها » أن معناه إنما أنت منذر ، أي مخوف وهاد لكل قوم ، وليس إليك إنزال الآيات ، فأنت مبتدأ ومنذر خبره ، وهاد عطف على منذر ، وفصل بين الواو والمعطوف بالظرف « والثاني » أن المنذر محمد والهادي هو الله « والثالث » أن معناه إنما أنت منذر يا محمد ولكل قوم نبي وداع يرشدهم « والرابع » أن المراد بالهادي كل داع إلى الحق ، وروي عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا المنذر وعلي الهادي ، يا علي بك يهتدى المهتدون ، وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون « هاد » مبتدأ « ولكل قوم » خبره على قول سيبويه ويكون مرتفعا بالظرف على قول الأخفش ، انتهى.

« رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنذر » أي لكل أمة من أولهم إلى آخرهم ، ولكل قرن

__________________

(١) سورة الرعد : ٧.


صلى الله عليه واله ثم الهداة من بعده علي ثم الأوصياء واحد بعد واحد.

٣ ـ الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن جمهور ، عن محمد بن إسماعيل ، عن سعدان ، عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ » فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنذر وعلي الهادي يا أبا محمد هل من هاد اليوم قلت بلى جعلت فداك ما زال منكم هاد بعد هاد حتى دفعت إليك فقال رحمك الله يا أبا محمد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب ولكنه حي يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضى.

______________________________________________________

ووقت من الزمان « هاد » أو هو صلى‌الله‌عليه‌وآله كان منذرا لأهل عصره ولكل عصر بعده هاد ، فتسميته صلى‌الله‌عليه‌وآله منذرا والإمام هاديا لعله إشارة إلى أن الأنبياء عليهم‌السلام يتقدمونهم أولا من الشرك وما يوجب دخول النار وشدائد العقوبات ، والأوصياء عليهم‌السلام يكملونهم ويهدونهم إلى ما يستحقون به أرفع الدرجات ، بل يجعلهم النبي ظاهرا من المسلمين ويميز الوصي المؤمنون من المنافقين.

الحديث الثالث : ضعيف.

« وعلي الهادي » أي أول الهداة علي عليه‌السلام.

« حتى دفعت » علي بناء المجهول أي الهداية والإمامة والخلافة.

« ثم مات ذلك الرجل » أي الرسول الذي نزلت عليه الآية « ماتت الآية » أي فات بيانها وبقيت مجهولة « مات الكتاب » المنزل علي الرسول وفات بيانه وصار كالميت لعدم الانتفاع به ، ولعدم إمكان العمل بموجبه ولكنه لا يجوز فوات بيانه مع وجود المكلف به ، إذ حكمه وتكليف العمل به باق إلى يوم القيامة ، أو المراد بموت الكتاب سقوط التكليف بالعمل به ، فالمعنى أنه لو نزلت آية على رسول وبعد موت ذلك الرجل لم يكن مفسر لها فصارت مبهمة علي الأمة ، لزم سقوط العمل بالكتاب ، إذ تكليف الجاهل محال ، لكن الكتاب حي ، أي حكمه باق غير ساقط عن المكلفين ضرورة واتفاقا ، يجري حكمه على الباقين كجريانه علي الماضين ، وعلى التقديرين الكلام مشتمل على قياس استثنائي ينتج رفع التالي رفع المقدم.


٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن منصور ، عن عبد الرحيم القصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى « إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ » فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المنذر وعلي الهادي أما والله ما ذهبت منا وما زالت فينا إلى الساعة.

باب

أن الأئمة عليهم‌السلام ولاة أمر الله وخزنة علمه

١ ـ محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن أبي زاهر ، عن الحسن بن موسى ، عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن بن كثير قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول نحن ولاة أمر الله وخزنة علم الله وعيبة وحي الله.

______________________________________________________

الحديث الرابع : مجهول.

« ما ذهبت » أي الهداية أو الآية يعني حكمها باق « إلى الساعة » أي الآن أو إلى يوم القيامة.

باب أن الأئمة عليهم‌السلام ولاة أمر الله وخزنة علمه

الحديث الأول : ضعيف.

« ولاة أمر الله » أي أمر الخلافة والإمامة ، وقال الفيروزآبادي : العيبة : زبيل من أدم وما يجعل فيه الثياب ، ومن الرجل موضع سره ، وفي النهاية : العرب تكني عن القلوب والصدور بالعياب ، لأنها مستودع السرائر كما أن العياب مستودع الثياب ، انتهى.

فالمراد بعيبة وحي الله أن كل وحي نزل من السماء على نبي من الأنبياء فقد وصل إليهم وهو محفوظ عندهم.


٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن علي بن أسباط ، عن أبيه أسباط ، عن سورة بن كليب قال قال لي أبو جعفر عليه‌السلام والله إنا لخزان الله في سمائه وأرضه لا على ذهب ولا على فضة إلا على علمه.

٣ ـ علي بن موسى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ومحمد بن خالد البرقي ، عن النضر بن سويد رفعه ، عن سدير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قلت له جعلت فداك ما أنتم قال نحن خزان علم الله ونحن تراجمة وحي الله ونحن الحجة البالغة على من دون السماء ومن فوق الأرض.

______________________________________________________

الحديث الثاني : مجهول.

قوله عليه‌السلام : لخزان الله في سمائه وأرضه ، أي خزنة العلوم المكتوبة في الألواح السماوية والعلوم الكائنة في الأرض من الكتب المنزلة ، وخزنة علوم حقائق الأجرام السماوية والملائكة وأحوالهم ، وحقائق ما في الأرض من الجمادات والنباتات وأحوالها ، أو المراد : نحن الخزنة من بين أهل السماء وأهل الأرض أو نحن المعروفون بذلك عند أهلهما.

« إلا علي علمه » الاستثناء منقطع.

الحديث الثالث : مجهول.

قوله : ما أنتم؟ أي من جهة الفضل والخواص التي بها تمتازون من سائر المخلوقات ، والتراجمة بفتح التاء وكسر الجيم جمع ترجمان بضم التاء وكسر الجيم وفتحهما ، وفتح التاء وضم الجيم ، وهو من يفسر الكلام بلسان آخر ، وقد يكون الجمع بغير هاء ، والمراد هنا مفسر جميع ما أوحى الله تعالى إلى الأنبياء ومبينها.

« نحن الحجة البالغة » أي التامة الكاملة « على من دون السماء » التخصيص بهم لظهور كونهم مكلفين بذلك ، ولنقص عقول المخاطبين عما ورد في كثير من الأخبار أنهم الحجة على جميع أهل السماء والأرض ، أو المراد دون كل سماء فيشمل أكثر الملائكة ، وأراد نوعا من الحجة يختص بغير الملائكة.


٤ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن النضر بن شعيب ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال الله تبارك وتعالى استكمال حجتي على الأشقياء من أمتك من ترك ولاية علي والأوصياء من بعدك فإن فيهم سنتك وسنة الأنبياء من قبلك وهم خزاني على علمي من بعدك ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لقد أنبأني جبرئيل عليه‌السلام بأسمائهم وأسماء آبائهم.

٥ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن محمد بن خالد ، عن فضالة بن أيوب ، عن عبد الله بن أبي يعفور قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام يا ابن أبي يعفور إن

______________________________________________________

الحديث الرابع : مجهول.

« استكمال حجتي » أي كمال احتجاجي يوم القيامة مبالغة « على الأشقياء » متعلق بحجتي أو باستكمال ، أو خبر استكمال « من ترك » من للسببية والظرف خبر على غير الاحتمال الأخير ، ومتعلق بالظرف المتقدم عليه ، ويمكن أن يقرأ من ترك ، بالفتح اسم موصول فيكون بدلا من الأشقياء « من بعدك » حال عن الأوصياء « فإن فيهم » أي في علي والأوصياء « سنتك » أي سيرتك والطريقة والشريعة التي جئت بها والسيرة والطريقة والشريعة التي جاءوا بها من قبلك وهم حفظتها وحملتها.

« وهم خزاني على علمي » تتمة للتعليل أي على العلم الذي أنزلتها عليك وعلي الأنبياء من قبلك ، وهذا إما تعليل لاستكمال الحجة على من ترك ولايتهم ، فإن من هيئ له جميع الأسباب وترك المراجعة إليها والأخذ منها كانت الحجة عليه كاملة غاية الاستكمال ، أو تعليل لشقاوة تارك ولايتهم ، فإن من ترك ولاية من فيه سنن جميع الأنبياء كان تاركا لجميعها وترك جميع الأنبياء وسننهم أعلى مراتب الشقاوة.

الحديث الخامس : صحيح.

« إن الله واحد » لا شريك له أو بسيط مطلق ليس فيه تركيب أصلا ، ولا صفات


الله واحد متوحد بالوحدانية متفرد بأمره فخلق خلقا فقدرهم لذلك الأمر فنحن هم يا ابن أبي يعفور فنحن حجج الله في عباده وخزانه على علمه والقائمون بذلك.

٦ ـ علي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن موسى بن القاسم بن معاوية ومحمد بن يحيى ، عن العمركي بن علي جميعا ، عن علي بن جعفر ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن الله عز وجل خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا

______________________________________________________

زائدة « متوحد » أي متفرد في الوحدانية أو في الخلق والتدبير بسبب الوحدانية « متفرد بأمره » أي بأمر الخلق أو في جميع أموره أو أمر تعيين الخليفة والأوسط أظهر ، وعلى الأولين المراد بذلك الأمر غير هذا الأمر ، وعلي الأخير المراد أنه لم يدع أمر تعيين الخليفة إلى أحد من خلقه كما زعمه المخالفون ، بل هو المتفرد بنصب الخلفاء.

ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى قبل خلق الخلق كان متفردا بالأمر والتدبير ، فلما أراد الخلق خلق أو لا خلقا مناسبا للخلافة وقدرهم لها ، ففيه إشارة إلى تقدمهم على ما سواهم من الخلق ، وقوله : « فقدرهم » أي جعلهم بعد خلقهم على أحسن خلق وأفضل صورة ليناسبوا « لذلك الأمر » والولاية « فنحن » أي الأولياء ، ليشمل الرسل والأنبياء ، أي الخلق المقدرون لذلك الأمر ، أو الأولياء من أهل البيت أو مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « هم » أي خلق مقدرون لذلك من غير ادعاء الانحصار على أول هذين الاحتمالين ، أو بادعائه بحسب سبق الخلق وتقدمه على ثانيهما ، لما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : أول ما خلق الله نوري ، وإنه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا وعلي من نور واحد ، ويؤيد الوجه الأخير أخبار كثيرة أوردتها في كتاب بحار الأنوار في أبواب بدو خلقهم عليهم‌السلام وباب حدوث العالم. « والقائمون بذلك » أي بذلك الأمر المتقدم.

الحديث السادس : صحيح ، وقد مر شرح أكثر الفقرات في باب النوادر من كتاب التوحيد.


وجعلنا خزانه في سمائه وأرضه ولنا نطقت الشجرة وبعبادتنا عبد الله عز وجل ولولانا ما عبد الله.

باب

أن الأئمة عليهم‌السلام خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى

١ ـ الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن أحمد بن محمد ، عن أبي مسعود ، عن الجعفري قال سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه.

٢ ـ عنه ، عن معلى ، عن محمد بن جمهور ، عن سليمان بن سماعة ، عن عبد الله بن القاسم ، عن أبي بصير قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام الأوصياء هم أبواب الله عز و

______________________________________________________

قوله عليه‌السلام : ولنا نطقت الشجرة ، أي يمكننا استنطاقها بكل ما نريد بالإعجاز كما ورد في معجزات كل من النبي والأئمة صلوات الله عليهم كثير منها ، أو المعنى إنا نستنبط من الأشجار وأوراقها علوما جمة لا يعلمها غيرنا ، وهذا أيضا وارد في بعض الأخبار.

باب أن الأئمة عليهم‌السلام خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه

التي منها يؤتى.

الحديث الأول : ضعيف.

والجعفري كأنه القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، أو ابنه داود أبو هاشم الجعفري ، وكونهم خلفاء الله لأنه تعالى فرض طاعتهم وجعل أمرهم أمره ، ونهيهم نهيه ، وطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته.

الحديث الثاني : ضعيف.

ووصفوا عليهم‌السلام بكونهم أبوابا لأنهم طرق إلى معرفة الله وعبادته ، ولا يمكن الوصول إلى قربه تعالى ورضوانه إلا بهم.


جل التي يؤتى منها ولولاهم ما عرف الله عز وجل وبهم احتج الله تبارك وتعالى على خلقه.

٣ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن عبد الله بن سنان قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله جل جلاله « وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا

______________________________________________________

قال الفاضل الأسترآبادي : فيه تصريح بأنه لا يمكن معرفة الله حق معرفته في صفاته وأفعاله إلا من طريق أصحاب العصمة عليهم‌السلام ، فعلم أن فن الكلام المبني على مجرد الأحكام العقلية غير نافع.

الحديث الثالث : ضعيف. على المشهور لكن مضمونه مروي بأسانيد كثيرة.

فالمراد بالذين آمنوا الذين صدقوا بالله ورسوله وبجميع ما يجب التصديق به حق التصديق ، وعملوا جميع الأعمال الصالحة ، ولم يخلو بشيء منها ، وهم الأئمة عليهم‌السلام « لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ » أي يجعلهم خلفاءه فيها ، وقيل : يخلفون من قبلهم ، « كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » من أنبياء بني إسرائيل جعلهم خلفاءه في الأرض ، أو المعنى لنورثنهم أرض الكفار من العرب والعجم فنجعلهم سكانها وملوكها ، كما استخلف بني إسرائيل إذا هلك الجبابرة بمصر ، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وقال تعالى بعد ذلك « وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ » يعني دين الإسلام الذي أمرهم أن يدينوا به « وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً » في الدنيا والآخرة « يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً » قيل : أي لا يخافون غيري ، وقيل : أي لا يراؤون بعبادتي أحدا.

قال الطبرسي (ره) : اختلف في الآية فقيل : أنها واردة في أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقيل : هي عامة في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمروي عن أهل البيت عليهم‌السلام أنها في المهدي من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وروى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين عليه‌السلام أنه قرأ الآية وقال : هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل الله ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة ، وهو الذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي ، اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت


الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » (١) قال هم الأئمة.

باب

أن الأئمة عليهم‌السلام نور الله عز وجل

١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن علي بن مرداس قال حدثنا صفوان بن يحيى والحسن بن محبوب ، عن أبي أيوب ، عن أبي خالد الكابلي قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا » (٢) فقال

______________________________________________________

ظلما وجورا.

وروي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

فعلى هذا يكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي وأهل بيته ، وتضمنت الآية البشارة لهم بالاستخلاف والتمكن في البلاد ، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي منهم ، فيكون المراد بقوله « كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » هو أن جعل الصالح للخلافة خليفة مثل آدم وداود وسليمان ، ويدل على ذلك قوله : « إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » (٣) و « يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً » (٤) وقوله : « فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » (٥) وعلى هذا إجماع العترة الطاهرة ، وإجماعهم حجة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إني تارك فيكم الثقلين ، وأيضا فإن التمكن في الأرض على الإطلاق ، ولم يتفق فيما مضى فهو منتظر ، لأن الله عز اسمه لا يخلف وعده.

باب أن الأئمة عليهم‌السلام نور الله عز وجل في أرضه (٦)

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا » المشهور بين المفسرين أن المراد بالنور هنا القرآن ، سماه نورا لما فيه من الأدلة والحجج الموصلة إلى الحق ، فشبه بالنور الذي يهتدى به إلى الطريق.

__________________

(١) سورة النور : ٥٥.

(٢) سورة التغابن : ٨.

(٣) سورة البقرة : ٣٠.

(٤) سورة ص : ٢٦.

(٥) سورة النساء : ٥٤.

(٦) كذا في النسخ ولعلّ جملة « في ارضه » زائدة من النسّاخ.


يا أبا خالد النور والله الأئمة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة وهم والله نور

______________________________________________________

وأقول : لما كان النور في الأصل ما يصير سببا لظهور شيء فسمي الوجود نورا لأنه يصير سببا لظهور الأشياء في الخارج ، والعلم نورا لأنه سبب لظهور الأشياء عند العقل ، وكل كمال نورا لأنه يصير سببا لظهور صاحبه وأنوار النيرين (١) والكواكب نورا لكونها أسبابا لظهور الأجسام وصفاتها للحس ، وبهذه الوجوه يطلق على الرب تعالى النور ، ونور الأنوار ، لأنه منبع كل وجود وعلم وكمال ، فإطلاقه على الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام لأنهم أسباب لهداية الخلق وعلمهم وكمالهم بل وجودهم ، لأنهم العلل الغائية لوجود جميع الأشياء.

وأما نسبة الإنزال إليهم ، فإما لإنزال أرواحهم المقدسة إلى أجسادهم المطهرة ، أو أمرهم بتبليغ الرسالات ودعوة الخلق ومعاشرتهم بعد كونهم روحانيين في غاية التقدس والتنزه كما قال تعالى : « أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً » (٢) وفي بعض الأخبار أن الله أنزل نورهم فأسكنه في صلب آدم ، وقيل : إنزال النور إيقاع ولائهم وحبهم في قلوب المؤمنين ، وقيل : لما كان المراد بالنور ما يهتدى به من العلم والكاشف عنه المبين أو المثبت فيه ، الحافظ له من النفوس الزكية التي هي ينابيع العلوم والكتاب المشتمل عليها ، أو الروح الذي أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويكون مع الأئمة بعده وهو مناط المعارف الحقيقية ، والمراد بقوله : « إنا أنزلنا » على تقدير حمل النور على النفوس القدسية : أنزلنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كونها أنوارا ، وأن متابعتهم واقتفاءهم مناط الاهتداء ، وهم الأئمة من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على الحقيقة من غير تجوز ، وعلى سائر التقادير فقوله : « أنزلنا » أي أنزلناه وهو منزل عليه حقيقة علما كان أو كتابا ، أو روحا ، والأئمة عليهم‌السلام هم حملته وحفظته وذووه.

وإطلاق النور عليهم كإطلاق كتاب الله وكلامه في قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنا

__________________

(١) كذا في الأصل وفي المخطوطتين « النيران » بدل « النيرين » والظاهر هو المختار.

(٢) سورة الطلاق : ١٠.


الله الذي أنزل وهم والله نور الله في السماوات وفي الأرض والله يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم والله ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله عز وجل نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم والله يا أبا خالد لا يحبنا عبد ويتولانا حتى يطهر الله قلبه ولا يطهر الله قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلما لنا فإذا كان سلما لنا سلمه الله من شديد الحساب وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر.

٢ ـ علي بن إبراهيم بإسناده ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تعالى « الَّذِينَ

______________________________________________________

كتاب الله الناطق ، لكونه حامل علم الكتاب وحافظه ، ولكونه مستكملا به وموصوفا به ومتحدا معه ، فكأنه هو ، وقوله : « لنور الإمام » أي هدايته ، وتعريفه المعارف الإلهية أو ولايته ومعرفته ، وقيل : الإضافة للبيان أي هم أنور وأكشف من الشمس « وهم والله ينورون قلوب المؤمنين » بتعريف المعارف إياهم وتثبيتها في قلوبهم « ويحجب الله نورهم عمن يشاء » أن لا يطهره عن دنس الخباثة لشقاوته وسوء اختياره فيظلم قلوبهم ، ولا تتنور بنور معرفتهم لحجاب خباثتهم عن التنور به.

وقوله : حتى يسلم لنا ، من الإسلام أو التسليم ، والسلم بالكسر خلاف الحرب أي سالما محبا لنا.

الحديث الثاني : مرسل.

« الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ » قال الطبرسي رحمه‌الله : أي يؤمنون به ويعتقدون نبوته وفي « الأمي » أقوال :

أحدها : أنه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

وثانيها : أنه منسوب إلى الأمة ، والمعنى أنه على جبلة الأمة قبل استفادة الكتابة ، وقيل : أن المراد بالأمة : العرب لأنها لم تكن تحسن الكتابة.


يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ »

______________________________________________________

وثالثها : أنه منسوب إلى الأم ، والمعنى أنه على ما ولدته أمه قبل تعلم الكتابة.

ورابعها : أنه منسوب إلى أم القرى وهو مكة ، وهو المروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام « انتهى ».

وأقول : اختلفوا في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هل كان يقدر أن يقرأ ويكتب أم لا؟

والذي يقتضيه الجمع بين الأخبار أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن تعلم الخط والقراءة من أحد من البشر ، لكنه كان قادرا على الكتابة وعالما بالمكتوب بما علم به سائر الأمور من قبل الله تعالى ، ولم يكن يقرأ ويكتب ليكون حجته علي قومه أتم وأكمل.

« الَّذِي يَجِدُونَهُ » قال الطبرسي : معناه يجدون نعته وصفته ونبوته مكتوبا في الكتابين ، لأنه مكتوب في التوراة في السفر الخامس : « إني سأقيم لهم نبيا من إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه ، فيقول لهم كلما أوحيته به » وفيها أيضا مكتوب : « وأما ابن الأمة فقد باركت عليه جدا جدا ، وسيلد اثنا عشر عظيما وأؤخره لأمة عظيمة » وفيها أيضا : « أتانا الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران ».

وفي الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع ، منها : « نعطيكم فارقليط آخر يكون معكم آخر الدهر كله » وفيه أيضا قول المسيح للحواريين : « أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ، إنه نذيركم بجميع الحق ويخبركم بالأمور المزمعة ويمدحني ويشهد لي ».

« وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ » هذا من تتمة المكتوب أو ابتداء من قول الله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ » أي ثقلهم ، شبه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديد بالثقل « وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ » أي العهود التي كانت في ذمتهم ،


إلى قوله « وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ » (١) قال النور في هذا الموضع علي أمير المؤمنين والأئمة عليهم‌السلام.

٣ ـ أحمد بن إدريس ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن ابن فضال ، عن ثعلبة بن ميمون ، عن أبي الجارود قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام لقد آتى الله أهل الكتاب خيرا كثيرا قال وما ذاك قلت قول الله تعالى : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ

______________________________________________________

جعل تلك العهود بمنزلة الأغلال التي تكون في الأعناق للزومها ، وقيل : يريد بالأغلال ما امتحنوا به من قبل نفوسهم في التوبة وفرض ما يصيبه البول من أجسادهم وما أشبه ذلك من تحريم السبت ، وتحريم العروق والشحوم ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، ووجوب القصاص دون الدية.

« وَعَزَّرُوهُ » أي عظموه ووقروه « وَاتَّبَعُوا النُّورَ » قال (٢) معناه : القرآن الذي هو نور في القلوب كما أن الضياء نور في العيون ، ويهتدى به في أمور الذين كما يهتدون بالنور في أمور الدنيا « الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ » أي عليه وقد تقوم « مع » مقام « على » وقيل : في زمانه وعلى عهده ، وقال البيضاوي : معه ، أي مع نبوته ، وإنما سماه نورا لأنه بإعجازه ظاهر أمره ، مظهر غيره ، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها ، ويجوز أن يكون معه متعلقا باتبعوا ، أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة ، انتهى.

أقول : على ما فسره عليه‌السلام لا حاجة إلى التكلف في المعية ، والتجوز في الإنزال مشترك كما عرفت ، على أنه يحتمل أن يكون المراد أنهم القرآن لانتقاش ألفاظه ومعانيه في أرواحهم المقدسة واتصافهم بصفاته المرضية ، واجتنابهم عما فيه من الرذائل المنهية.

الحديث الثالث : ضعيف.

والمراد بأهل الكتاب الذين آمنوا بموسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كعبد الله بن سلام وأضرابه ، والضمير في قوله : « من قبله » وفي قوله : « به » للقرآن كالمستكن في قوله

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٥٧.

(٢) اي قال الطبرسي رحمه‌الله.


يُؤْمِنُونَ » إلى قوله « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا » (١) قال فقال قد آتاكم الله كما آتاهم ثم تلا : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ » (٢) يعني إماما تأتمون به.

٤ ـ أحمد بن مهران ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن علي بن أسباط والحسن بن محبوب ، عن أبي أيوب ، عن أبي خالد الكابلي قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله تعالى : « فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا » (٣) فقال يا أبا خالد النور والله الأئمة عليهم‌السلام يا أبا

______________________________________________________

تعالى « وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ » أي بأنه كلام الله « إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا » استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به « إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ » استئناف آخر للدلالة علي أن إيمانهم به ليس مما أحدثوا حينئذ بل تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ » مرة على إيمانهم بكتابهم ، ومرة على إيمانهم بالقرآن « بِما صَبَرُوا » بصبرهم وثباتهم على الإيمانين ، أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده ، أو على أذى المشركين وأذى من هاجرهم من أهل دينهم.

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » قال الطبرسي (ره) : أي اعترفوا بتوحيد الله وصدقوا بموسى وعيسى « اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ » محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ابن عباس ، وقيل : معناه يا أيها الذين آمنوا ظاهرا آمنوا باطنا « يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ » أي يعطكم نصيبين « مِنْ رَحْمَتِهِ » نصيبا لأيمانكم من تقدم من الأنبياء ، ونصيبا لأيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ » أي هدى تهتدون به ، وقيل : النور القرآن ، انتهى.

وأقول : علي تأويله عليه‌السلام لعل المراد آمنوا برسوله فيما أتى به من ولاية الأئمة عليهم‌السلام ، وسيأتي تأويل الكفلين بالحسنين عليهما‌السلام.

الحديث الرابع : ضعيف.

__________________

(١) سورة القصص : ٥٤.

(٢) سورة الحديد : ٢٨.

(٣) سورة التغابن : ٨.


خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين ويحجب الله نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم ويغشاهم بها.

٥ ـ علي بن محمد ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الحسن بن شمون ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم ، عن عبد الله بن القاسم ، عن صالح بن سهل الهمداني قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام في قول الله تعالى : « اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ » (١) فاطمة عليها‌السلام « فِيها مِصْباحٌ » الحسن « الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ » الحسين

______________________________________________________

« ويغشاهم بها » أي بالظلمة.

الحديث الخامس : ضعيف بالسند الأول ، صحيح بالسند الثاني.

« اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » أي منورهما بنور الوجود والعلم والهداية ، والأنوار الظاهرة ، وقيل : أي ذو نور السماوات والأرض ، والنور الأئمة عليهم‌السلام ، فهم نور السماوات حين كانوا محدقين بالعرش ، والأرض بعد ما أنزلوا صلب آدم « مَثَلُ نُورِهِ » أي صفة نور الله العجيبة الشأن « كَمِشْكاةٍ » أي مثل مشكاة وهي الكرة الغير النافذة التي يوضع فيها المصباح وقيل : المشكاة الأنبوبة (٢) في وسط القنديل ، والمصباح : الفتيلة المشتعلة « فِيها مِصْباحٌ » الحسن.

أقول : في تفسير علي بن إبراهيم هكذا « فِيها مِصْباحٌ » الحسن و « الْمِصْباحُ » الحسين « فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ » كان فاطمة كوكب « إلخ ».

فالمصباح المذكور في الآية ثانيا المراد به غير المذكور أولا وهو الحسين عليه‌السلام ، ولعل فيه إشارة إلى وحدة نوريهما ، وشبهت فاطمة عليها‌السلام مرة بالمشكاة ومرة بالقنديل من الزجاجة ، ووجه التشبيه فيهما متحد وعند كونها عليها‌السلام ظرفا لنور الحسين عليه‌السلام شبهت بالزجاجة ، لزيادة نوره باعتبار كون سائر الأئمة من ولده عليه‌السلام ،

__________________

(١) سورة النور : ٣٥.

(٢) الأنبوبة : ما بين العقدتين من القصب أو الرمح ، ويستعار لكل أجوف مستدير كالقصب.


« الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ » فاطمة كوكب دري بين نساء أهل الدنيا « يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » إبراهيم عليه‌السلام « زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ » لا يهودية ولا نصرانية

______________________________________________________

فلذا غير التشبيه.

وعلى ما في الكتاب قد يتوهم أن المراد بالزجاجة الحسين عليه‌السلام ، فيوجه بما ذكره بعض الأفاضل حيث قال : مثل النور الحقيقي الذي هو من عالم الأمر بالنور الظاهري الذي هو من عالم الخلق ، والنور ضياء بنفسه ومضيء لما يطلع عليه ويشرق عليه ، فمثل الجوهر الروحاني المناط للانكشافات العقلية بالمصباح ، وحامله بالمشكاة ، والحامل لمادته والمشتمل عليها التي منها مدده وحفظه عن الانقطاع والنفاد بالزجاجة التي هي وعاء مادة نور المصباح التي هي الزيت ، ففي الأنوار الحقيقية التي هي النفوس القدسية والأرواح الزكية للأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام الحسن عليه‌السلام مصباح ، وفاطمة عليه‌السلام مشكاة فيها المصباح ، والحسين عليه‌السلام الزجاجة فيها مادة نور المصباح ، ويجيء منها مدده ، والزجاجة كوكب دري والمراد به فاطمة عليها‌السلام ، فإن الزجاجة يعني الحسين عليه‌السلام مجمع النور الفائض من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، الواصل إليه ابتداء ووساطة ، كما كانت عليها‌السلام مجمع ذلك والمعنى عنها بالمشكاة كوكب دري لإحاطتها بالنور كله ، والزجاجة أيضا لإحاطتها بجميع النور كأنها كوكب دري « يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » إبراهيم أي المشبه بالشجرة فيما ضرب له المثل إبراهيم ، لأن ابتداء ظهور ذلك النور منه ، ومواد العلوم من أثمار تلك الشجرة.

قال البيضاوي « دُرِّيٌ » مضيء متلألئ كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدر ، أو فعيل كمريق من الدرء فإنه يدفع الظلام بضوئه ، أو بعض ضوئه بعضا من لمعانه إلا أنه قلبت همزته ياءا « يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » أي ابتداء ثقوب المصباح من شجرة الزيتون المتكاثرة نفعه بأن رويت ذبالته بزيتها « لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ » يقع


« يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ » يكاد العلم ينفجر بها « وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ » إمام منها

______________________________________________________

الشمس عليها حينا دون حين ، بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي تكون على قلة جبل أو صحراء واسعة ، فإن ثمرته تكون أنضج وزيتها أصفى أو نابتة في شرق المعمورة وغربها بل وفي وسطها وهو الشام ، فإن زيتونة أجود الزيتون ، أولا في مضحي تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها ، أو في مقناة تغيب عنها دائما فتتركها نيا « انتهى ».

وأقول : هذا ما يتعلق بالمشبه به ، وأما تطبيقه على المشبه فإن إبراهيم عليه‌السلام لكونه أصل عمدة الأنبياء وهم عليهم‌السلام أغصانه وتشعبت منه الغصون المختلفة من الأنبياء والأوصياء من بني إسرائيل وبني إسماعيل ، واستنارت منهم أنوار عظيمة في الفرق الثلاث من أهل الكتب من اليهود والنصارى والمسلمين ، فكان إبراهيم عليه‌السلام كالشجرة الزيتونة من جهة تلك الشعب والأنوار ، ولما كان تحقق ثمار تلك الشجرة وسريان أنوار هذه الزيتونة في نبينا وأهل بيته صلوات الله عليهم أكمل وأكثر وأتم ، لكونهم الأئمة الفضلي ، وأمتهم الأمة الوسطى وشريعتهم وسيرتهم وطريقتهم أعدل السير وأقومها كما قال تعالى : « وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً » (١) كما أن اليهود كانوا يصلون إلى المغرب والنصارى إلى المشرق ، فجعل قبلتهم وسط القبلتين ، وكذا في حكم القصاص والديات وسائر الأحكام جعلوا وسطا فشبه إبراهيم عليه‌السلام من جهة تشعب هذه الأنوار العظيمة منه بزيتونة لم تكن شرقية ولا غربية ، أي غير منحرفة عن الاعتدال إلى الإفراط والتفريط ، المتحققين في الملتين والشريعتين ، وأومأ بالشرقية إلى النصارى ، وبالغربية إلى اليهود لقبلتيهم ، ويمكن أن يكون المراد بالآية الزيتونة التي تكون في وسط الشجرة في شرقها ، فلا تطلع الشمس عليها بعد العصر ، ولا غربية لا تطلع الشمس عليها في أول اليوم ، فيكون التشبيه أتم وأكمل « يَكادُ زَيْتُها » أي زيت الشجرة أو الزيتونة ، والمراد بالزيتونة في المشبه المادة البعيدة للعلم ، وهي الإمامة والخلافة التي منبعهما إبراهيم حيث قال سبحانه : « إِنِّي جاعِلُكَ

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٣.


بعد إمام « يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ » يهدي الله للأئمة من يشاء « وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ

______________________________________________________

لِلنَّاسِ إِماماً » وسرى في ذريته المقدسة ، وبالزيت المواد القربية من الوحي والإلهام ، وإضاءة الزيت انفجار العلم من تلك المواد « وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ » أي وحي أو تعليم من البشر أو سؤال ، فإن السؤال مما يقدح نار العلم.

« نُورٌ عَلى نُورٍ » قال البيضاوي أي نور متضاعف فإن نور المصباح زاد في إنارته صفا الزيت وزهرة القنديل ، وضبط المشكاة لأشعته « انتهى » وفي المشبه كل إمام يتلو إماما يزيد في إنارة علم الله وحكمته بين الناس.

أقول : ويؤيد هذا التأويل ما رواه ابن بطريق (ره) في العمدة والسيد ابن طاوس رضي‌الله‌عنه في الطرائف من مناقب ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال : المشكاة فاطمة ، والمصباح الحسن والحسين عليهم‌السلام و « الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ » فاطمة عليها‌السلام كوكبا دريا بين نساء العالمين « يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » الشجرة المباركة إبراهيم عليه‌السلام « لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ » لا يهودية ولا نصرانية « يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ » قال : يكاد العلم أن ينطق منها « وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ » قال : منها إمام بعد إمام « يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ » قال : يهدي لولايتهم من يشاء.

وذكر الطبرسي قدس‌سره في تأويلها أقوالا :

أحدها : أنه مثل ضربه الله لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فالمشكاة صدره ، والزجاجة قلبه ، والمصباح فيه النبوة « لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ » أي لا يهودية ولا نصرانية « يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » يعني شجرة النبوة وهي إبراهيم عليه‌السلام « يكاد » محمد يتبين للناس ولو لم يتكلم به ، كما أن ذلك الزيت يضيء « وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ » أي تصيبه النار ، وقد قيل : أيضا أن المشكاة إبراهيم عليه‌السلام ، والزجاجة إسماعيل ، والمصباح محمد كما سمي سراجا في موضع آخر « مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » يعني إبراهيم لأن أكثر الأنبياء من صلبه « لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ » لا نصرانية ولا يهودية لأن النصارى تصلي إلى المشرق ، واليهود تصلي إلى المغرب « يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ » أي يكاد محاسن محمد تظهر قبل أن يوحى إليه « نُورٌ عَلى نُورٍ » أي نبي من نسل نبي وقيل : إن المشكاة عبد المطلب ،


لِلنَّاسِ » قلت « أَوْ كَظُلُماتٍ » قال الأول وصاحبه « يَغْشاهُ مَوْجٌ » الثالث « مِنْ فَوْقِهِ

______________________________________________________

والزجاجة عبد الله ، والمصباح هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا شرقية ولا غربية بل مكية ، لأن مكة وسط الدنيا ، وروي عن الرضا عليه‌السلام أنه قال : نحن المشكاة ، والمصباح محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يهدي الله لولايتنا من أحب ، وفي كتاب التوحيد لأبي جعفر ابن بابويه (ره) بالإسناد عن عيسى بن راشد عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام في قوله : « كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ » قال : نور العلم في صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ » الزجاجة صدر علي عليه‌السلام صار علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى صدر على ، علم النبي عليا « يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » نور العلم « لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ » لا يهودية ولا نصرانية « يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ » قال : يكاد العالم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يتكلم بالعلم قبل أن يسأل « نُورٌ عَلى نُورٍ » أي إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في أثر إمام من آل محمد ، وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة « الخبر ».

وثانيها : أنها مثل ضربه الله للمؤمن ، والمشكاة نفسه والزجاجة صدره والمصباح الإيمان والقرآن ، في قلبه « يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ » هي الإخلاص لله وحده لا شريك له ، فهي خضراء ناعمة كشجرة التفت بها الشجرة فلا يصيبها الشمس على أي حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غربت ، وكذلك المؤمن قد اختزن من (١) أين يصيبه شيء من الفتن فهو بين أربع خلال ، إن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن حكم عدل ، وإن قال صدق ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي بين قبور الأموات « نُورٌ عَلى نُورٍ » كلامه نور وعلمه نور ومدخله نور ومخرجه نور ، ومصيره إلى نور يوم القيامة عن أبي بن كعب.

وثالثها : أنه مثل القرآن في قلب المؤمن فكما أن هذا المصباح يستضاء به وهو كما هو لا ينقص ، فكذلك القرآن تهتدي به ويعمل به كالمصباح فالمصباح هو القرآن والزجاجة قلب المؤمن ، والمشكاة لسانه وفمه ، والشجرة المباركة شجرة الوحي « يَكادُ

__________________

(١) اختزن الطريق : أخذ أقربه. وفي المصدر : قد احترز.


مَوْجٌ » ظلمات الثاني « بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ » معاوية لعنه الله وفتن بني أمية « إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ »

______________________________________________________

زَيْتُها يُضِيءُ » يكاد حجج القرآن تتضح وإن لم يقرأ ، وقيل : تكاد حجج الله على خلقه تضيء لمن تفكر فيها وتدبرها ولو لم ينزل القرآن « نُورٌ عَلى نُورٍ » يعني أن القرآن نور مع سائر الأدلة قبله فازدادوا نورا على نور « يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ » أي يهدي الله لدينه وإيمانه من يشاء أو لنبوته وولايته « انتهى ».

وأقول : لما ضرب الله الأمثال للمؤمنين وأئمتهم عليهم‌السلام ضرب مثلين للكافرين والمنافقين وأئمتهم ، فالمثل الأول قوله : « وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ » والثاني قوله : « أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ » فقوله « أَوْ كَظُلُماتٍ » ، عطف على قوله « كَسَرابٍ » ، وأو للتخيير ، فإن أعمالهم لكونها لاغية كالسراب ، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات ، فإن شئت شبهتهم بذلك أو للتنويع فإن الظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة.

« فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ » أي عميق منسوب إلى اللجج وهو معظم الماء « يَغْشاهُ » أي يغشى البحر « مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ » مترادفة متراكمة « مِنْ فَوْقِهِ » أي من فوق الموج الثاني سحاب تغطي النجوم وتحجب أنوارها.

وأما تأويله عليه‌السلام فيحتمل وجهين :

الأول : أن المعنى أن الظلمات المذكورة في الآية أولا أبو بكر ، ويغشاه موج : إشارة إلى صاحبه يعني عمر ، فإنه أتم بدع الأول وأكملها ، وزاد على الظلمة ظلمة ، وعلى الحيرة حيرة ، ومن فوقه موج : عبارة عن عثمان وهو الثالث ، حيث زاد على بدعهما وإضلال الناس عن الحق ، وقوله : ظلمات الثاني ، أي لفظ الظلمات الواقع ثانيا في الآية ، الموصوف فيها بأن بعضها فوق بعض إشارة إلى معاوية وفتن بني أمية.

وقوله : إذا أخرج يده المؤمن ، بيان للثمرة المترتبة على تلك الظلمات ، المتراكمة من حيرة المؤمنين واشتباه الأحكام الظاهرة عليهم ، فإن اليد أظهر أجزاء


المؤمن في ظلمة فتنتهم « لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً » إماما من ولد فاطمة

______________________________________________________

الإنسان له ، ويحتمل أن يكون فتن بني أمية مبتدأ ، خبره : إذا أخرج يده ، أي قوله إذا أخرج يده ، إشارة إلى فتن بني أمية ، ويحتمل أيضا أن يكون المراد بالثاني عمر ، والظلمات مضافا إليه ، أي ظلمات عمر فتنة بعضها فوق بعض ، فيكون قوله : ومعاوية ابتداء كلام آخر ، أي إذا أخرج يده إشارة إلى معاوية وفتن بني أمية ، وإنما كرر عمر لأنه رأس الفتنة ورئيس النفاق ، ولا يخفى بعد هذين الوجهين.

والثاني أن يكون المراد أن قوله تعالى : « أَوْ كَظُلُماتٍ » إشارة إلى الأول وصاحبه الأولين ، ويغشاه موج إلى الثالث يعني عثمان الذي من فوقه موج ، يعني من بعده ، إشارة إلى ما وقع بعده من عشائره من بني أمية وظلمات الثاني بعضها فوق بعض بالإضافة ، أي كظلمات عمر ، وتكراره لما مر فقوله : معاوية وفتن بني أمية ، ابتداء كلام آخر ، ويحتمل أن يكون « من » في قوله « مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ » ، إلى قوله : فتن بني أمية كلاما واحدا ، فالمراد بالموج معاوية وبالظلمات فتن بني أمية ، وعبر عنهم بظلمات الثاني لأنهم كانوا من ثمرات ظلمه وجوره على أهل البيت عليهم‌السلام.

أقول : ويؤيد الثاني أن علي بن إبراهيم أورد في تفسيره هذا الخبر هكذا : أي كظلمات فلان وفلان « فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ » يعني نعثل وفوقه موج طلحة والزبير « ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ » معاوية وفتن بني أمية إلى آخر الخبر ، ونعثل كناية عن عثمان.

قال ابن الأثير في النهاية : كان أعداء عثمان يسمونه نعثلا تشبيها له برجل من مصر كان طويل اللحية اسمه نعثل ، وقيل : النعثل : الشيخ الأحمق.

وذكر الضباع : وروى صاحب كتاب تأويل الآيات الظاهرة بإسناده عن الحكم بن حمران قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله عز وجل : « أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ » قال : فلان وفلان « يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ » قال : أصحاب الجمل وصفين والنهروان


عليها‌السلام « فَما لَهُ مِنْ نُورٍ » (١) إمام يوم القيامة.

وقال في قوله « يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ » (٢) أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة.

علي بن محمد ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن موسى بن القاسم البجلي ومحمد بن يحيى ، عن العمركي بن علي جميعا ، عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى عليه‌السلام مثله.

٦ ـ أحمد بن إدريس ، عن الحسين بن عبيد الله ، عن محمد بن الحسين وموسى بن عمر ، عن الحسن بن محبوب ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي الحسن عليه‌السلام قال سألته عن قول الله تبارك وتعالى « يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ » (٣) قال يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام بأفواههم قلت قوله تعالى « وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ » قال يقول والله متم الإمامة والإمامة هي النور وذلك قوله عز وجل « فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا » (٤) قال النور هو الإمام.

______________________________________________________

« مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ » قال : بنو أمية « إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها » قال : بنو أمية إذا أخرج يده يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام في ظلماتهم « لَمْ يَكَدْ يَراها » أي إذا نطق بالحكمة بينهم لم يقبلها منهم أحد إلا من أقر بولايته ثم بإمامته « وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ » أي من لم يجعل الله له إماما في الدنيا فما له في الآخرة من نور ، إمام يرشده ويتبعه إلى الجنة.

الحديث السادس : مجهول.

« يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ » قال الطبرسي (ره) : أي يريدون إذهاب نور الإيمان والإسلام بفاسد الكلام ، الجاري مجرى تراكم الظلام ، فمثلهم فيه كمثل من حاول إطفاء نور الشمس بفيه « وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ » أي مظهر كلمته ومؤيد نبيه ومعلى دينه وشريعته.

__________________

(١) سورة النور : ٤٠.

(٢) سورة الحديد : ١٢.

(٣) سورة الصف : ٨.

(٤) سورة التغابن : ٨.


باب أن الأئمة هم أركان الأرض

١ ـ أحمد بن مهران ، عن محمد بن علي ومحمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد جميعا ، عن محمد بن سنان ، عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال ما جاء به علي عليه‌السلام آخذ به وما نهى عنه أنتهي عنه جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الفضل على جميع من خلق الله عز وجل المتعقب عليه في شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله

______________________________________________________

باب أن الأئمة هم أركان الأرض

الحديث الأول : ضعيف بسنديه على المشهور.

« ما جاء به على آخذ به » لأنه واجب الإطاعة من الله ومن رسوله ، ولأن ما جاء به مما جاء به رسول الله وما نهى عنه مما نهى عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الفضل » إما بيان لما جرى له صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفضل ، فكما أن له صلى‌الله‌عليه‌وآله الفضل على جميع الخلق ، كذا لعلي عليه‌السلام الفضل على الجميع ، وإما بيان للفرق بين ما له صلى‌الله‌عليه‌وآله من الفضل وبين ما لعلي عليه‌السلام منه بفضله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الجميع حتى على علي عليه‌السلام ، وفضل علي عليه‌السلام على غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله « والمتعقب عليه في شيء من أحكامه » أي الطالب لعثرته والمعيب عليه في شيء منها كالطالب لعثرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعيب عليه ، و « على » للإضرار ، والمراد المتقدم عليه في شيء بأن يجعله عقبه وخلفه ، وأراد التقدم عليه ، أو يجعل حكمه عقبه وينبذه وراء ظهره ، فلا يعمل به ، أو تعقبه بمعنى أنه تأخر عنه ولم يلحق به ولم يقبل أحكامه ، أو المراد به شك في شيء من أحكامه ، والأول أظهر ثم الأخير.

وكلمة « على » على بعض الوجوه بمعنى عن ، وعلى بعضها بتضمين معنى يتعدى به ، قال الفيروزآبادي : تعقبه أخذه بذنب كان منه ، وعن الخبر شك فيه وعاد السؤال عنه ، واستعقبه وتعقبه طلب عورته أو عثرته.

« في صغيرة أو كبيرة » صفتان للكلمة أو الخصلة أو المسألة أو نحو ذلك على حد


كان أمير المؤمنين عليه‌السلام باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلك بغيره هلك وكذلك يجري الأئمة الهدى واحدا بعد واحد جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيرا ما يقول أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق

______________________________________________________

الشرك بالله أي في حكمه إذ لا واسطة بين الإيمان والشرك ، والكائن عليه مشرف على الدخول في الشرك كما ترى في كثير منهم كالمجسمة والمصورة والصفاتية وأضرابهم ، فإنهم أشركوا من حيث لا يعلمون.

« أن تميد » أي كراهية أن تميد أو من أن تميد ، بتضمين الأركان معنى الموانع ، وفي القاموس ماد يميد ميدا : تحرك وزاغ « انتهى ».

وفيه إيماء إلى أن المراد بالرواسي في قوله تعالى : « وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ » (١) الأئمة عليهم‌السلام في بطن القرآن ، والمراد بالميد إما ذهاب نظام الأرض واختلال أحوال أهلها كما يكون عند فقد الإمام قبل القيامة ، أو حقيقته بالزلازل الحادثة فيها.

وقيل : المراد بمن فوق الأرض الأحياء ، بمن تحت الثرى الأموات ، لأنهم الأشهاد يوم القيامة ، وقد مر منا الكلام فيهما.

قوله عليه‌السلام : كثيرا ما يقول ، أي حينا كثيرا وما زائدة للتأكيد عند جميع البصريين ، وقيل : اسم نكرة صفة لكثير أو بدل منه ، وعلى التقادير يفهم منها التفخيم بالإبهام « أنا قسيم الله » أي القسيم المنصوب من قبل الله للتميز بين أهل الجنة وأهل النار بسبب ولايته وتركها ، أو هو الذي يقف بين الجنة والنار فيقسمهما بين أهلهما بسبب ولايته وعداوته كما دلت عليه صحاح الأخبار ، والأخبار بذلك متواترة من طرق الخاصة والعامة. قال في النهاية في حديث علي عليه‌السلام : أنا قسيم النار ، أراد أن الناس فريقان فريق معي ، فهم على هدى ، وفريق على فهم ضلال ، فنصف معي في الجنة ونصف علي في النار ، وقسيم : فعيل بمعنى فاعل كالجليس والسمير « انتهى » « وأنا الفاروق » أي

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٣١.


الأكبر وأنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح والرسل

______________________________________________________

الذي فرق بين الحق والباطل كما ذكره الفيروزآبادي ، أو الفارق بين أهل الجنة وأهل النار « وأنا صاحب العصا والميسم » قال في النهاية : الميسم هي الحديدة التي يوسم بها ، وأصله موسم فقلبت الواو ياءا لكسرة الميم « انتهى ».

وهذا إشارة إلى أنه عليه‌السلام الدابة التي أخبر بها في القرآن بقوله : « وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ » (١) وروي عن ابن عباس وابن جبير وغيرهما قراءة تكلمهم بالتخفيف وفتح التاء وسكون الكاف من الكلم بمعنى الجراحة.

وقال الطبرسي روح الله روحه : هي دابة تخرج بين الصفا والمروة فتخبر المؤمن بأنه مؤمن والكافر بأنه كافر ، وعند ذلك يرتفع التكليف ولا تقبل التوبة ، وهو علم من أعلام الساعة ، وروى محمد بن كعب القرظي قال : سئل علي عليه‌السلام عن الدابة؟ فقال : أما والله ما لها ذنب وإن لها اللحية ، وفي هذا إشارة إلى أنها من الإنس ، وعن حذيفة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله السلام قال : دابة الأرض طولها ستون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب ، فتسم المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن ، وتسم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما‌السلام ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم ، حتى يقال يا مؤمن ويا كافر « انتهى ».

وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال له : قم يا دابة الله ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله أيسمي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ فقال : لا والله ما هو إلا له خاصة ، وهو الدابة التي ذكرها الله في كتابه : « وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ » الآية ، ثم قال : يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعداءك ، فقال رجل

__________________

(١) سورة النمل : ٨٢.


______________________________________________________

لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن العامة يقولون إن هذه الدابة إنما تكلمهم فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : كلمهم الله في نار جهنم إنما هو يكلمهم من الكلام.

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : قال رجل لعمار بن ياسر : يا أبا اليقظان آية في كتاب الله قد أفسدت قلبي وشككتني؟ قال عمار : أية آية هي؟ قال : قوله : « وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ » الآية ، فأية دابة هذه؟ قال عمار : والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يأكل تمرا وزبدا ، فقال له : يا أبا اليقظان هلم ، فجلس عمار وأقبل يأكل معه ، فتعجب الرجل منه ، فلما قام عمار قال له الرجل : سبحان الله يا أبا اليقظان حلفت أنك لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس حتى ترينيها؟ قال عمار : قد أريتكها إن كنت تعقل.

وروى الحسن بن سليمان من كتاب البصائر لسعد بن عبد الله بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين في خطبة طويلة : أنا دابة الأرض ، وأنا قسيم النار ، وأنا خازن الجنان ، وأنا صاحب الأعراف « الخبر ».

وفي كتاب سليم بن قيس الهلالي عن أبي الطفيل قال : سألت أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الدابة؟ فقال : يا أبا الطفيل إله عن هذا (١) فقلت : يا أمير المؤمنين أخبرني به جعلت فداك! قال : هي دابة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وتنكح النساء ، فقلت : يا أمير المؤمنين من هو؟ قال : رب الأرض الذي يسكن الأرض قلت : يا أمير المؤمنين من هو؟ قال : الذي قال الله : « وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ » (٢) والذي « عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ » (٣) والذي « صَدَّقَ بِهِ » (٤) قلت : يا أمير المؤمنين فسمه لي ، قال : قد سميته لك يا أبا الطفيل « الخبر ». وأقول : الأخبار في ذلك كثيرة أوردتها في كتاب البحار.

وقيل : « أنا صاحب العصا والميسم » أي الراعي لكل الأمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومميز من يطيعه ويكون من قطيعة ، بالميسم الذي يعرفون به عن المتخلف عنه و

__________________

(١) أي أعرض عنه ولا تسئل ، من لهى عنه : ترك ذكره وأعرض عنه.

(٢) سورة هود : ١٧.

(٣) سورة الرعد : ٤٣.

(٤) سورة الزمر : ٣٣.


بمثل ما أقروا به لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولقد حملت على مثل حمولته وهي حمولة الرب وإن

______________________________________________________

الخارج عنهم ، ولا يخفى ما فيه.

« ولقد أقرت لي » أي أذعنت لي بالولاية والفضل كما أذعنت له صلى‌الله‌عليه‌وآله « ولقد حملت على مثل حمولته » على بناء المجهول ، والحمولة بالفتح ما يحمل عليه من الدواب أي حملني الله على ما حمل عليه نبيه من التبليغ والهداية والخلافة ، أو يكون خبرا عن المستقبل ، أتى بالماضي لتحقق وقوعه ، أي يحملني الله في القيامة على مثل مراكبه من نوق الجنة وخيولها ، فتناسب الفقرة التالية لها ، وشهد كثير من الأخبار بها أو في الرجعة ، كما رواه الراوندي في الخرائج بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال الحسين بن علي عليهما‌السلام لأصحابه قبل أن يقتل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي : يا بني إنك لتساق إلى العراق وهي أرض قد التقى فيها النبيون وأوصياء النبيين ، وعلى أرض تدعي غمورا وإنك لتشهد بها ويستشهد معك جماعة من أصحابك ، لا ـ يجدون ألم مس الحديد ، وتلا « يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً » (١) يكون الحرب عليك وعليهم بردا وسلاما ، فأبشروا فو الله لئن قتلونا فإنا نرد إلى نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم أمكث ما شاء الله فأكون أول من تنشق الأرض عنه فأخرج خرجة توافق ذلك خرجة أمير المؤمنين وقيام قائمنا وحياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم لينزلن علي وفد من السماء من عند الله لم ينزلوا إلى الأرض قط ، ولينزلن علي جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجنود من الملائكة ، ولينزلن محمد وعلي وأنا وأخي وجميع من من الله عليه في حمولات من حمولات الرب ، خيل بلق من نور لم يركبها مخلوق ، ثم ليبرزن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لواءه وليدفعنه إلى قائمنا عليه‌السلام مع سيفه ، ثم أنا أمكث بعد ذلك ما شاء الله « الخبر ».

ويمكن أن يقرأ على بناء المعلوم ، أي حملت أحمالي على مثل ما حمل صلى‌الله‌عليه‌وآله أحماله عليه في ولاية الأمر الجاري على وفق أحكام الله وحكمه ، أو حملت اتباعي وشيعتي على ما حمل صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه عليه من أحكام القرآن ، ويمكن أن يقرأ على

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٦٩.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعى فيكسى وأدعى فأكسى ويستنطق وأستنطق فأنطق على حد منطقه ولقد أعطيت خصالا ما سبقني إليها أحد قبلي علمت المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني أبشر بإذن الله و

______________________________________________________

بناء المجهول الغائب وعلي بالتشديد ، والقائم مقام الفاعل مثل حمولته ، والتأنيث باعتبار المضاف إليه ، فالحمولة بمعنى الحمل لا المحمول عليه ، أي حمل الله علي من أعباء الإمامة وأسرار الخلافة مثل ما حمل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال الفيروزآبادي : الحمولة ما احتمل عليه القوم من بعير وحمار ونحوه كانت عليه أثقال أو لم تكن ، والأحمال بعينها ، والحمول بالضم : الهوادج أو الإبل عليها الهودج والواحد حمل بالكسر ويفتح « انتهى ».

وقوله : وهي حمولة الرب ، على كل من المعاني ظاهر.

« يدعى » بصيغة المجهول أي في القيامة « وادعى وأكسى » أي مثل دعائه وكسائه « ويستنطق » بصيغة المجهول أي للشهادة أو للشفاعة أو للاحتجاج على الأمة أو الأعم « على حد منطقه » أي على نهجه وطريقته في الصواب والنفاذ ، والمنطق بكسر الطاء مصدر ميمي « خصالا » أي فضائل « ما سبقني إليها أحد » أي من الأوصياء أو من الرسل أيضا ، فالمراد بقوله « قبلي » قبل ما أدركته من الأعصار « علمت المنايا » أي آجال الناس « والبلايا » أي ما يمتحن الله به العباد من الشرور والآفات أو الأعم منها ومن الخيرات « والأنساب » أي أعلم والد كل شخص فأميز بين أولاد الحلال والحرام « وفصل الخطاب » أي الخطاب الفاصل بين الحق والباطل أو الخطاب المفصول الواضح الدلالة على المقصود ، أو ما كان من خصائصه صلوات الله عليه من الحكم المخصوص في كل واقعة ، والجوابات المسكتة للخصوم في كل مسألة ، وقيل : هو القرآن ، وفيه بيان الحوادث من ابتداء الخلق إلى يوم القيامة.

« فلم يفتني ما سبقني » أي علم ما سبق من الحوادث أو العلوم النازلة على الأنبياء أو الأعم « ولم يعزب » كينصر ويضرب أي لم يغب عني علم ما غاب عن مجلسي


أؤدي عنه كل ذلك من الله مكنني فيه بعلمه

الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن جمهور العمي ، عن محمد بن سنان قال حدثنا المفضل قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ثم ذكر الحديث الأول.

٢ ـ علي بن محمد ومحمد بن الحسن ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن الوليد شباب الصيرفي قال حدثنا سعيد الأعرج قال دخلت أنا وسليمان بن خالد على أبي عبد الله عليه‌السلام فابتدأنا فقال يا سليمان ما جاء عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يؤخذ به وما نهى عنه ينتهى عنه جرى له من الفضل ما جرى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الفضل على جميع من خلق الله المعيب على أمير المؤمنين عليه‌السلام في شيء من أحكامه كالمعيب على الله عز وجل وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلك بغيره هلك وبذلك جرت الأئمة عليهم‌السلام واحد بعد واحد جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بهم والحجة البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى.

وقال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام أنا قسيم الله بين الجنة والنار وأنا الفاروق الأكبر وأنا صاحب العصا والميسم ولقد أقرت لي جميع الملائكة والروح بمثل ما أقرت لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولقد حملت على مثل حمولة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي حمولة الرب وإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعى فيكسى ويستنطق وأدعى فأكسى وأستنطق فأنطق على حد منطقه ولقد أعطيت خصالا لم يعطهن أحد قبلي علمت علم المنايا والبلايا والأنساب وفصل الخطاب فلم يفتني ما سبقني ولم يعزب عني ما غاب عني أبشر بإذن الله وأؤدي عن الله عز وجل كل ذلك مكنني الله فيه بإذنه.

______________________________________________________

في هذا العصر وفي الأعصار الآتية « أبشر بإذن الله » أي عند الموت أولياءه أو الأعم « وأؤدي عنه » كل ما أقول لا عن رأي وهوى « كل ذلك من الله » أي من فضله علي « بعلمه » أي بسبب ما يعلم من المصلحة في تمكيني وبالعلم الذي أعطانيه.

الحديث الثاني : ضعيف.

وفي أكثر النسخ فيه « المعيب على أمير المؤمنين » على بناء التفعيل ، من عيبه إذا نسبه إلى العيب « بإذنه » أي بتوفيقه وتيسير أسبابه.


٣ ـ محمد بن يحيى وأحمد بن محمد جميعا ، عن محمد بن الحسن ، عن علي بن حسان قال حدثني أبو عبد الله الرياحي ، عن أبي الصامت الحلواني ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام ما جاء به آخذ به وما نهى عنه أنتهي عنه جرى له من الطاعة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والفضل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله المتقدم بين يديه كالمتقدم بين يدي الله ورسوله والمتفضل عليه كالمتفضل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باب الله الذي لا يؤتى إلا منه وسبيله الذي من سلكه وصل إلى الله عز وجل وكذلك كان أمير المؤمنين عليه‌السلام من بعده وجرى للأئمة عليهم‌السلام واحدا بعد واحد جعلهم الله عز وجل أركان الأرض أن تميد بأهلها وعمد الإسلام ورابطة على سبيل هداه لا يهتدي هاد إلا بهداهم ولا

______________________________________________________

الحديث الثالث : ضعيف أيضا.

« فضل أمير المؤمنين » على المصدر مبتدأ والموصول خبره ، أي مزيته وفضله عليه‌السلام مشاركته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في وجوب الأخذ بما جاء به ، والانتهاء عما نهى عنه ووجوب طاعته بعد رسول الله ، أو يقرأ « فضل » على بناء التفعيل المجهول أي علي جميع الخلق أو الأمة فقوله : « ما جاء » بيان له « والفضل لمحمد » أي الفضل عليه لمحمد دون غيره ، أو الفضل على العموم على جميع الأنبياء والأوصياء والأئمة مخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو ذلك الفضل بعينه هو فضل محمد لأنهما نفس واحدة « المتقدم » عليه لعله إشارة إلى قوله سبحانه : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ » (١) وإن كان في الآية على القراءة المشهورة على التفعيل وهنا على التفعل ، كما قرأ به يعقوب ، فيؤيد الخبر تلك القراءة ، وعلى المشهورة أي لا تقدموا أمرا ولا تقطعوه قبل أن يحكم الله ورسوله به ، والمراد هنا إما هذا أو من يرى لنفسه الفضل عليه ، ويريد أن يكون متبوعا له فهو كمن يرى الفضل لنفسه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويريد أن يكون متبوعا له « والمتفضل » التفعل هنا للتكلف ، أي المفضل نفسه بدون استحقاق.

« وعمد الإسلام » العمد بفتحتين وضمتين جمع العمود وهو الأسطوانة أي لا ـ

__________________

(١) سورة الحجرات : ١.


يضل خارج من الهدى إلا بتقصير عن حقهم أمناء الله على ما أهبط من علم أو عذر أو نذروالحجة البالغة على من في الأرض يجري لآخرهم من الله مثل الذي جرى لأولهم ولا يصل أحد إلى ذلك إلا بعون الله.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام أنا قسيم الله بين الجنة والنار لا يدخلها داخل إلا على حد قسمي وأنا الفاروق الأكبر وأنا الإمام لمن بعدي والمؤدي عمن كان قبلي لا يتقدمني أحد إلا أحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وإني وإياه لعلى سبيل واحد إلا أنه هو

______________________________________________________

يقوم الإسلام إلا بإمامتهم « ورابطة » بالضمير الراجع إلى الإسلام ، والوحدة لكونهم كنفس واحدة ، أو لأن في كل زمان واحد منهم ، أي هم يشدون الإسلام على سبيل هدايته ، أو بالتاء صفة للجماعة أي الجماعة الذين يشدون الناس على سبيل هداية الله لئلا يتعدوه ، أو المرابطين في ثغر الإسلام لئلا يهجم الكفار وأهل البدع على المؤمنين فيضلوهم « أو عذر أو نذر » أي محو إساءة أو تخويف ، وهما مصدران لعذر إذا محي الإساءة وأنذر إذا خوف ، أو جمعان لعذير بمعنى المعذرة ، ونذير بمعنى الإنذار « ولا يصل أحد إلى ذلك » أي إلى مرتبة فضلهم أو إلى معرفة تلك المرتبة « إلا بعون الله » أي بتوفيقه « لا يدخلها » أي النار أو كل من الجنة والنار وفي بعض النسخ لا يدخلهما وهو أظهر.

« على حد قسمي » الحد : الفصل بين الشيئين يميز بينهما ، والقسم بالفتح : التقسيم ، وفي بعض النسخ على أحد قسمي بصيغة التثنية مضافة إلى ياء المتكلم ولعله أصوب « عمن كان قبلي » أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « وإني وإياه لعلى سبيل واحد » أي متساويان في جميع وجوه الفضل « إلا أنه هو المدعو باسمه » أي النبي والرسول ، فإني لست بنبي ولا رسول ، وإنما فضله على ذلك ، أو أنه تعالى سماه في القرآن وناداه باسمه ولم يسمني ، أو المقصود بيان غاية الاتحاد بينهما على سياق قوله تعالى : « وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ » (١) أي ليس بيني وبينه فرق إلا أنه مدعو باسمه وأنا مدعو باسمي ، فلا

__________________

(١) سورة آل عمران : ٦١.


المدعو باسمه ولقد أعطيت الست علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب وإني لصاحب الكرات ودولة الدول.

______________________________________________________

فرق في المسمى بل في الاسم ، وهذا وجه حسن.

« والوصايا » أي أعلم ما أوصى به الأنبياء أوصياءهم وأممهم من الشرائع وغيرها.

« وإني لصاحب الكرات ودولة الدول » هذه الخامسة ويحتمل وجوها :

الأول : أن يكون المعنى أني صاحب الحملات في الحروب فإنه عليه‌السلام كان كرارا غير فرار ، وصاحب الغلبة فيها ، فإنه كان الغلبة في الحروب بسببه ، أو إني صاحب الغلبة على أهل الغلبة في الحروب ، قال الفيروزآبادي : الكرة المرة والحملة ، وقال : الدولة انقلاب الزمان والعقبة في المال ، ويضم أو الضم فيه والفتح في الحرب ، أو هما سواء ، أو الضم في الآخرة والفتح في الدنيا ، والجمع دول مثلثة ، وأدالنا الله من عدونا ، من الدولة والإدالة الغلبة ، ودالت الأيام : دارت ، والله يداولها بين الناس.

الثاني : أن المراد إني صاحب علم كل كرة ودولة ، أي أعلم أحوال أصحاب القرون الماضية والباقية إلى يوم القيامة من أهل الدين والدنيا.

الثالث : أن المعنى إني أرجع إلى الدنيا مرات شتى لأمور وكلني الله بها ، وكانت غلبة الأنبياء على أعاديهم ونجاتهم من المهالك بسبب التوسل بنوري وأنوار أهل بيتي ، أو يكون دولة الدول أيضا إشارة إلى الدولات الكائنة في الكرات والرجعات ، فأما الرجعات فقد دلت عليها كثير من الروايات ، نحو ما روى في بصائر سعد بن عبد الله وغيره بالإسناد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام في خطبة طويلة رواه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال فيها : وإن لي الكرة بعد الكرة والرجعة بعد الرجعة ، وأنا صاحب الرجعات وصاحب الصولات والنقمات والدولات العجيبات ، إلى آخر الخطبة ، وغيرها من الأخبار التي أوردتها في الكتاب الكبير.


وإني لصاحب العصا والميسم والدابة التي تكلم الناس.

باب

نادر جامع في فضل الإمام وصفاته

١ ـ أبو محمد القاسم بن العلاء رحمه‌الله رفعه ، عن عبد العزيز بن مسلم قال كنا مع الرضا عليه‌السلام بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيديعليه‌السلامفأعلمته خوض الناس فيه فتبسمعليه‌السلامثم قال يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم إن الله عز وجل لم يقبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن

______________________________________________________

وقوله : « وإني لصاحب العصا » إلى آخره هي السادسة « والدابة » تفسير لصاحب العصا والميسم كما عرفت.

باب نادر جامع في فضل الإمام عليه‌السلام وصفاته

الحديث الأول : مرفوع ، ورواه الصدوق في كثير من كتبه بسند آخر فيه جهالة ، وهو مروي في الاحتجاج وغيبة النعماني وغيرهما.

والبدء بفتح الباء وسكون الدال مهموزا : أول الشيء ، والمقدم بفتح الدال مصدر كالقدوم ، وتبسمه عليه‌السلام للتعجب عن ضلالتهم وغفلتهم عن أمر هو أوضح الأمور بحسب الكتاب والسنة ، أو عن استبدادهم بالرأي فيما لا مدخل للعقل فيه ، وقال الجوهري : خاض القوم في الحديث أي تفاوضوا فيه.

« وخدعوا » على المجهول « عن آرائهم » كلمة « عن » إما تعليلية أي بسبب آرائهم ، أو ضمن فيه معنى الإغفال ، فالمراد بالآراء ما ينبغي أن يكونوا عليها من اعتقاد الإمامة ، وفي بعض نسخ الكتاب وأكثر نسخ سائر الكتاب « عن أديانهم » وهو أظهر.

« إن الله لم يقبض » : بين عليه‌السلام أن الإمام لا بد أن يكون منصوصا عليه ، وليس


فيه تبيان كل شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا فقال عز وجل : « ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ » (١)

______________________________________________________

تعيينه باختيار الأمة بوجهين :

الأول : الآيات الدالة على أن الله تعالى أكمل الدين للأمة وبين لهم شرائعه وأحكامه ، وما يحتاجون إليه ، ومعلوم أن تعيين الإمام من الأمور المهمة في الدين بإجماع الفريقين ، ولذا اعتذر المخالفون للاشتغال بتعيين الإمام قبل تجهيز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأن تعيينه كان أهم من ذلك.

والثاني : أن للإمامة شرائط من العصمة والعلم بجميع الأحكام ، وغير ذلك مما لا يحيط به عقول الخلق ، فلا يعقل تفويضها إلى الأمة ، ولا بد من أن يكون الإمام منصوصا منصوبا من قبل الله تعالى ، ولا خلاف بين الأمة في أنه لم يقع النص على غير أئمتنا عليهم‌السلام ، فلا بد من أن يكونوا منصوصين منصوبين للإمامة من الله ومن رسوله.

« فيه تبيان كل شيء » إشارة إلى قوله تعالى في سورة النحل : « وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ » ثم فسر ذلك بقوله : « بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا » ولا ريب أن الإمامة وتعيين الإمام شيء مما يحتاج إليه الناس غاية الاحتياج ، وقال الجوهري يقال : أعطه هذا المال كملا أي كله.

« ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ » قال البيضاوي : « من » مزيدة وشيء في موضع المصدر لا المفعول به ، فإن فرط لا يعدي بنفسه ، وقد عدي بفي إلى الكتاب « انتهى » ووجه الاستدلال ما مر ، وهو مبني على كون المراد بالكتاب القرآن كما ذهب إليه أكثر المفسرين ، وقيل : المراد به اللوح ، ويحتمل الاستدلال بالآيتين وجها آخر ، وهو أنه تعالى أخبر بيان كل شيء في القرآن ، ولا خلاف في أن غير الإمام لا يعرف

__________________

(١) سورة الأنعام : ٣٨.


وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » (١)

______________________________________________________

كل شيء من القرآن فلا بد من وجود الإمام المنصوص ، والأول أظهر.

« وأنزل في حجة الوداع » قال بعض العامة ناقلا عن عمر : أن هذه الآية نزلت يوم عرفة في حجة الوداع في عرفات ، وقال مجاهد : نزلت يوم فتح مكة وذهبت الإمامية إلى أنها نزلت في غدير خم يوم الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع ، بعد ما نصب عليا عليه‌السلام للخلافة بأمر الله تعالى ، وقد دلت على ذلك الروايات المستفيضة من طرقنا وطرق العامة ، فقد روى السيد ابن طاوس قدس‌سره في كتاب الطرائف نقلا من مناقب ابن المغازلي الشافعي ، وتاريخ بغداد للخطيب عن أبي هريرة قال : من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة كتب الله له صيام ستين شهرا ، وهو يوم غدير خم لما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقال : ألست أولى بالمؤمنين؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال له عمر : بخ بخ يا بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله عز وجل : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » ورواه الصدوق (ره) في مجالسه أيضا.

وروى السيد أيضا في كتاب كشف اليقين نقلا من كتاب محمد بن أبي الثلج من علماء المخالفين بإسناده عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : أنزل الله عز وجل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بكراع الغميم (٢) « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » في علي عليه‌السلام « وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » (٣) » فذكر قيام رسول الله بالولاية بغدير خم ، قال : ونزل جبرئيل عليه‌السلام بقول الله عز وجل : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » بعلي أمير المؤمنين في هذا اليوم ، أكمل لكم معاشر المهاجرين والأنصار دينكم وأتم عليكم نعمته ورضي لكم الإسلام دينا ، فاسمعوا له وأطيعوا تفوزوا وتغنموا.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

(٢) كراع الغيم : واد بين مكة والمدينة.

(٣) سورة المائدة : ٦٧.


وأمر الإمامة من تمام الدين ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق وأقام لهم عليا عليه‌السلام علما وإماما وما ترك لهم شيئا يحتاج إليه الأمة إلا بينه فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب الله فهو كافر.

به هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم إن الإمامة

______________________________________________________

وروى السيوطي في تفسيره الدر المنثور عن ابن مردويه وابن عساكر بإسنادهما عن أبي سعيد الخدري قال : لما نصب رسول الله صلى الله عليه آله عليا يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ».

وروي أيضا عن ابن مردويه والخطيب وابن عساكر بأسانيدهم عن أبي هريرة قال : لما كان يوم غدير خم وهو الثامن عشر من ذي الحجة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فأنزل الله : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » والأخبار في ذلك كثيرة أوردتها في كتاب بحار الأنوار.

« وأمر الإمامة » أي ما يتعلق بها من تعيين الإمام في كل زمان « من تمام الدين » أي من أجزائه التي لا يتم إلا بها ، فإكمال الدين بدون بيانه غير متصور « ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله » أي كما لم يفرط الله تعالى في البيان لم يفرط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في التبليغ ، و « المعالم » جمع معلم بالفتح أي ما يعلم به الدين ، كنصب الإمام وبيان الأحكام ، والقصد : الوسط بين الطرفين وإضافته إلى السبيل وإضافة السبيل إلى الحق بيانيتان ، وتحتملان اللامية.

« علما » أي علامة لطريق الحق « إلا بينه » لعلي عليه‌السلام وللناس بالنص عليه والأمر بالرجوع إليه « فهو كافر » يدل على كفر المخالفين « هل يعرفون » الاستفهام للإنكار ، وهذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين المذكورين ، والحاصل أن نصب الإمام موقوف على العلم بصفاته وشرائط الإمامة ، وهم جاهلون بها ، فكيف يتيسر لهم نصبه ، ومن شرائطها العصمة ولا يطلع عليها إلا الله تعالى كما استدل


أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه‌السلام بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره فقال « إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً » (١) فقال الخليلعليه‌السلامسرورا بها « وَمِنْ ذُرِّيَّتِي » قال الله تبارك وتعالى : « لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال « وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَ

______________________________________________________

عليه في الشافي ببراهين شافية ، لا يناسب الكتاب إيرادها.

« وأمنع جانبا » أي جانبه وطريقه الموصل إليه أبعد من أن يصل إليه يد أحد « خص الله بها إبراهيم » أي بالنسبة إلى الأنبياء السابقين « سرورا بها » مفعول له لقال ، والإشادة : رفع الصوت بالشيء يقال : أشاده وأشاد به إذا أشاعه ورفع ذكره « فصارت في الصفوة » مثلثة أي أهل الطهارة والعصمة من صفا الجو إذا لم يكن فيه غيم ، أو أهل الاصطفاء والاختيار الذين اختارهم الله من بين عباده لذلك لعصمتهم وفضلهم وشرفهم « نافِلَةً » النفل والنافلة : عطية التطوع من حيث لا تجب ، ومنه نافلة الصلاة ، والنافلة أيضا : ولد الولد والزيادة ، وهي على المعنى الأول حال عن كل واحد من إسحاق ويعقوب ، وعلى الأخيرين حال عن يعقوب ، أما على الثاني فظاهر ، وأما على الأول فلان يعقوب زيادة على من سأله إبراهيم عليه‌السلام وهو إسحاق.

« وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ » موصوفين بالصلاح ظاهرا وباطنا قابلين للخلافة والإمامة « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً » للخلائق « يَهْدُونَ » الناس إلى الحق « بِأَمْرِنا » لا بتعيين الخلق « وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ » أي جميعها لكونه جمعا معرفا باللام « وَإِقامَ الصَّلاةِ » من قبيل عطف الخاص على العام للإشعار بفضلهما ، وحذفت التاء من إقام

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٤.


إِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ » (١).

فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله تعالى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال جل وتعالى : « إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ » (٢) فكانت له خاصة فقلدها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان

______________________________________________________

للتخفيف مع قيام المضاف إليه مقامها « وَكانُوا لَنا عابِدِينَ » عطف على « أوحينا » أو حال من ضمير إليهم بتقدير قد ، وتقديم الظرف للحصر.

« قرنا فقرنا » منصوبان على الظرفية « إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ » أي أخصهم به وأقربهم منه من الولي بمعنى القرب أو أحقهم بمقامه « لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ » في عقائده وأقواله وأعماله ظاهرا وباطنا ، ولم يخالفوه أصلا ، وهم أوصياؤه والأنبياء من ولده عليهم‌السلام « وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا » حق الإيمان وهم أوصياؤه عليهم‌السلام « وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ » ينصرهم لإيمانهم وإرشادهم عباد الله إلى صراطه المستقيم ، وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما رواه في نهج البلاغة عنه في بعض خطبه حيث قال : وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا ، وهو قوله تعالى : « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ » (٣) وقوله تعالى : « إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ » الآية ، فالاستدلال بالآية مبني على أن المراد بالمؤمنين فيها الأئمة عليهم‌السلام ، ويحتمل أن يكون المراد به أن تلك الإمامة انتهت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو لم يستخلف غير علي عليه‌السلام بالاتفاق.

« فكانت » أي الإمامة « له خاصة » أي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه « فقلدها » بتشديد اللام « عليا » أي جعلها لازمة في عنقه لزوم القلادة « بأمر الله » متعلق بقلد « على رسم ما فرض الله » الرسم السنة والطريقة ، أي على الطريقة التي فرضها الله في السابقين ، بأن ينصب كل إمام بعده إماما لئلا يخلو زمان من حجة ، والظرف إما متعلق بالظرف الأول أو بقلد « فصارت في ذريته » الضمير لعلي عليه‌السلام « بقوله » الظرف متعلق بأتاهم ، أو بصارت.

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٧٣.

(٢) سورة آل عمران : ٦٨.

(٣) سورة الأنفال : ٧٥.


بقوله تعالى : « وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ » (١) فهي في ولد علي عليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟.

______________________________________________________

« وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ » أقول : قبل هذه الآية قوله تعالى : « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ » فإن المجرمين يقسمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا في الدنيا أو في القبور غير ساعة لاستقلالهم مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسيانا « كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ » أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق ، فالمراد بالخبر أن الذين يحبونهم في القيامة ووصفهم الله بأنهم أوتوا العلم والإيمان هم النبي والأئمة عليهم‌السلام.

ويحتمل أن يكون المراد أن مصداقه الأكمل هم : بأن يكون المراد بالموصول في الآية جميع الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم ، كما ذكره المفسرون ، قال البيضاوي : من الملائكة والإنس.

« لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ » أي في علمه أو قضائه أو اللوح أو القرآن « إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ » فهذا يوم البعث الذي كنتم منكرين له ، وهذا الجواب وإن لم يتضمن تحديد مدة لبثهم ، لكن فيه دلالة بحسب قرينة المقام على أنها زائدة على ما قالوه كثيرا ، حتى كأنها لا يحيط به التحديد ، وربما يوهم ظاهر الخبر أن المخاطب الأئمة : ، والمراد لبثهم في علم الكتاب ، لكن لا يساعده سابقه كما عرفت ، وإن كان مثل ذلك في نظم القرآن كثيرا ، وقال علي بن إبراهيم هذه الآية مقدمة ومؤخرة وإنما هو « وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ » انتهى.

« إذ لا نبي بعد محمد » هذا إما تعليل لكون الخلافة فيهم والتقريب أنه لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يجعل الإمامة في غيرهم بعد جعل النبي فيهم ، أو لكونهم أئمة لا أنبياء ، أو لامتداد ذلك إلى يوم القيامة والتقريب ظاهر.

__________________

(١) سورة الروم : ٥٦.


إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومقام أمير المؤمنين عليه‌السلام وميراث الحسن والحسين عليه‌السلام إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين إن الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن دين

______________________________________________________

« إن الإمامة هي منزلة الأنبياء » أي مرتبة لهم ولمن هو مثلهم أو كانت لهم فيجب أن ينتقل إلى من يشابههم ، وقيل : المعنى أنها منزلة بمنزلة نبوة الأنبياء ، فكما لا تثبت النبوة لأحد باختيار الخلق كذلك لا تثبت الإمامة باختيارهم « وإرث الأوصياء » أي ميراث انتقل من الأنبياء إليهم ، ومن بعضهم إلى بعض ، والإرث أصله الواو ، وهو في الأصل مصدر ، وكثيرا ما يطلق على الشيء الموروث كما هنا « إن الإمامة خلافة الله » إلخ خليفة الرجل من يقوم مقامه ، فلا بد أن يكون عالما بما أراد المستخلف ، عاملا بجميع أوامره مناسبا له في الجملة « زمام الدين » الزمام : الحيط الذي يشد في طرفه المقود وقد يسمى المقود زماما ، وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية « أس الإسلام » الأس والأساس أصل البناء « والنامي » صفة المضاف أو المضاف إليه والأول أظهر ، ونمو الأصل يستلزم نمو الفرع ، وقد يقال : هو من نميت الحديث أنميه مخففا إذا أبلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير وهو بعيد ، « والسامي » العالي المرتفع ، وفرع كل شيء أعلاه.

« بالإمام تمام الصلاة » إلخ ، إذ هو الآمر بجميعها ومعلم أحكامها ، والباعث لإيقاعها على وجه الكمال ، وشرط تحقق بعضها ، والعلم بإمامته شرط صحة جميعها ، والفيء : الغنيمة لأنها كانت في الأصل للمسلمين ، لأن [ الله ] خلقها لهم وغصبها الكفار ، ففائت ورجعت إليهم ، وتوفيره قسمته على قانون الشرع والعدل ، والثغور : الحدود الفاصلة بين بلاد المسلمين والكفار « والأطراف » أعم منه « يحل حلال الله »


الله ويدعو إلى سبيل ربه « بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » والحجة البالغة الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.

الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الساطع والنجم الهادي في غياهب الدجى وأجواز البلدان والقفار ولجج البحار الإمام الماء العذب على الظمإ

______________________________________________________

أي يبين حليته وكذا التحريم ، والذب : المنع والدفع ، وحذف المفعول للتعميم « ويدعو إلى سبيل ربه » إشارة إلى قوله تعالى : « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » ففسر عليه‌السلام المجادلة بالتي هي أحسن بالبراهين القاطعة ، كما فسر الحسن بن علي العسكري عليه‌السلام الجدال بالتي هي أحسن بالبرهان القاطع وبغير التي هي أحسن بالجدل وإلزام الخصم بالباطل ، فالمراد بالحكمة والموعظة الحسنة الأمثال والمواعظ والخطابات النافعة كما ذكره الله تعالى عند بيان حكمة لقمان عليه‌السلام أمثال ذلك ، وفسر الأكثر الحكمة بالبرهان والموعظة بالخطابيات والمجادلة بالجدليات.

وقال الجوهري : جلل الشيء تجليلا أي عم ، والمجلل : السحاب الذي يجلل الأرض بالمطر ، أي يعم وهي في الأفق هو ما ظهر من نواحي السماء ، شبه الإمام في عموم نفعه واهتداء عامة الخلق به ، وعدم وصول أيدي العقول والأفهام إلى كنه قدره ومنزلته بالشمس المجللة بنورها العالم ، وهي في الارتفاع بحيث لا تنالها الأيدي ، وتكل الأبصار عن رؤيتها ، فالظاهر أنه استعارة تمثيلية ، والزاهر المضيء ويقال : سطع الغبار والرائحة والصبح يسطع سطوعا إذا ارتفع ، « والغيهب » : الظلمة وشدة السواد ، « والدجى » بضم الدال : الظلمة والإضافة بيانية للمبالغة ، واستعبر لظلمات الفتن والشكوك والشبه « والأجواز » جمع الجوز وهو من كل شيء : وسطه ، « والقفار » جمع القفر وهي مفازة لا نبات فيها ولا ماء ، والمراد هنا الخالية عن الهداية ، أو المراد بأجوازها ما بينها ، وفي الاحتجاج : البيد القفار ، وهو أظهر ، وفي بعض نسخ


والدال على الهدى والمنجي من الردى الإمام النار على اليفاع الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك من فارقه فهالك الإمام السحاب الماطر والغيث الهاطل والشمس المضيئة والسماء الظليلة والأرض البسيطة والعين الغزيرة والغدير والروضة.

الإمام الأنيس الرفيق والوالد الشفيق والأخ الشقيق والأم البرة بالولد الصغير ومفزع العباد في الداهية النآد.

______________________________________________________

الكتاب « والقفار(١)» وهو أيضا حسن ، ولجة الماء بالضم : معظمه « والظمأ » بالتحريك شدة العطش ، وربما يقرأ بالكسر والمد جمع ظامئ وهو بعيد ، والردى : الهلاك « واليفاع » ما ارتفع من الأرض ، « والاصطلاء » افتعال من الصلي بالنار وهو التسخن بها « والهطل » بالفتح والتحريك : تتابع المطر وسيلانه.

والسماء تذكر وتؤنث ، وهي كل ما علاك فأظلك ، ومنه قيل : لسقف البيت : سماء ، ووصفها بالظليلة للإشعار بوجه التشبيه ، وكذا البسيطة ، أو المراد بها المستوية ، فإن الانتفاع بها أكثر ، « والغزيرة » الكثيرة ، يقال غزرت الناقة أي كثر لبنها ، شبهه عليه‌السلام في وفور علمه الذي هو حياة للأرواح بالعين في نبوع الماء الذي هو حياة للأبدان منها ، « والروضة » الأرض الخضرة بحسن النبات « والرفيق » مأخوذ من الرفق وهو ضد العنف والخرق ، و « الشفيق » من الشفقة ، ووصف الأخ بالشفيق لبيان أن المشبه به الأخ النسبي قال الجوهري : هذا شفيق هذا إذا انشق الشيء بنصفين ، فكل واحدة منها شفيق الآخر ، ومنه قيل : فلان شفيق فلان ، أي أخوه.

« في الداهية النئاد » هو بفتح النون والهمزة والألف والدال المهملة ، مصدر : ناده الداهية كمنعه إذا فدحته وبلغت منه كل مبلغ ، فوصفت الداهية به للمبالغة ، قال الفيروزآبادي : نادت الداهية فلانا : دهمته ، والناد : كسحاب والنادي : كحبالى :

__________________

(١) اي بواو العطف كما هو في المتن كذلك ومنه يظهر ان نسخة الشارح (ره) البلدان القفار بلاواو.


الإمام أمين الله في خلقه وحجته على عباده وخليفته في بلاده والداعي إلى الله والذاب عن حرم الله.

الإمام المطهر من الذنوب والمبرأ عن العيوب المخصوص بالعلم الموسوم بالحلم نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين.

الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب.

فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره هيهات هيهات ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسأت العيون وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألباء وكلت

______________________________________________________

الداهية ، وقال الجوهري : الناد والنادي : الداهية ، قال الكميت :

وإياكم وداهية نادى

أظلتكم بعارضها المخيل « انتهى »

« أمين الله » أي على دينه وعلمه وغيرهما « والذاب عن حرم الله » الحرم بضم الحاء وفتح الراء جمع الحرمة وهي ما لا يحل انتهاكه وتجب رعايته ، أي يدفع الضرر والفساد عن حرمات الله ، وهي ما عظمها وأمر بتعظيمها ، من بيته وكتابه وخلفائه وفرائضه ونواهيه وأو أمره ، و « البوار » الهلاك ، والحمل على المبالغة كالفقر السابقة.

« ولا يوجد منه بدل » أي في زمانه « هيهات » أي بعد البلوغ إلى معرفة الإمام « هيهات » أي بعد إمكان اختياره غاية البعد ، « والحلوم » كالألباب : العقول ، و « ضلت » و « تاهت » و « حارت » متقاربة المعاني ، وخسأ بصره كمنع خسأ وخسوءا أي كل ، ومنه قوله تعالى : « يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً » (١).

ويقال : تصاغرت إليه نفسه أي صغرت ، والتقاصر مبالغة في القصر أو هو إظهاره كالتطاول ، و « حصر » كعلم : عي في المنطق ، و « الأدباء » جمع أديب وهو المتأدب

__________________

(١) سورة الملك : ٤.


الشعراء وعجزت الأدباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله وأقرت بالعجز والتقصير وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه لا كيف وأنى وهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين فأين الاختيار من هذا وأين العقول عن هذا وأين يوجد مثل هذا؟.

أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الأباطيل فارتقوا مرتقى صعبا دحضا تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم راموا

______________________________________________________

بالآداب الحسنة ، وقد شاع إطلاقه على العارف بالقوانين العربية ويقال : ما يغني عنك هذا أي ما ينفعك ويجديك ، و « الغناء » بالفتح : النفع « لا » تصريح بالإنكار المفهوم من الاستفهام ، حذفت الجملة لدلالة ما قبلها على المراد أي لا يوصف بكله إلى آخر الجمل.

« كيف » تكرار للاستفهام الإنكاري الأول تأكيدا « وأنى » مبالغة أخرى بالاستفهام الإنكاري عن مكان الوصف وما بعده « وهو بحيث النجم » الواو للحال والضمير للإمام عليه‌السلام والباء بمعنى في ، وحيث ظرف مكان ، والنجم مطلق الكواكب ، وقد يخص بالثريا ، وهو مرفوع على الابتداء وخبره محذوف ، أي مرئي ، لأن حيث لا يضاف إلا إلى الجمل « من يد المتناولين » الظرف متعلق بحيث ، وهو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.

« كذبتهم » بالتخفيف أي قالت لهم كذبا ، أو بالتشديد أي إذا رجعوا إلى أنفسهم شهدت بكذب مقالهم « ومنتهم الأباطيل » أي أوقعت في أنفسهم الأماني الباطلة ، أو أضعفتهم قال الجوهري : الأمنية واحدة الأماني تقول منه : تمنيت الشيء ومنيت تمنية ، وفلان يتمنى الأحاديث أي يفتعلها وهو مقلوب من المين وهو الكذب ، وقال : منه السير أضعفه وأعياه ، ويقال : مكان دحض ودحض بالتحريك أي زلق ، وفي القاموس رجل جائر بائر أي لم يتجه لشيء ، ولا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا « انتهى ».


إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة فلم يزدادوا منه إلا بعدا « قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » ولقد راموا صعبا وقالوا إفكا و « ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً » ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة « وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ».

رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته إلى اختيارهم والقرآن يناديهم « وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا

______________________________________________________

« فلم يزدادوا منه » أي من الإمام الحق « إلا بعدا » وفي بعض النسخ بعد ذلك : وقال الصفواني في حديثه : « قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » ثم اجتمعا في الرواية.

أقول : رواة نسخ الكليني كثيرة أشهرهم الصفواني والنعماني فبعض الرواة المتأخرة منهم عارضوا النسخ وأشاروا إلى الاختلاف ، فالأصل برواية النعماني ولم يكن فيه : « قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » وكان في رواية الصفواني فأشار هنا إلى الاختلاف « قاتَلَهُمُ اللهُ » دعاء عليهم بالهلاك والبعد عن رحمة الله ، لأن من قاتله الله فهو هالك بعيد عن رحمة الله أو تعجب عن شناعة عقائدهم وأعمالهم « أَنَّى يُؤْفَكُونَ » قال الراغب : أي يصرفون عن الحق في الاعتقاد إلى الباطل ، ومن الصدق في المقال إلى الكذب ، ومن الحسن في الفعل إلى القبيح ، والإفك الكذب ، وكل مصروف عن وجهه.

« وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ » في طلب الإمام باختيارهم « فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ » وهو الإمام ومعرفته « وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ » أي عالمين بذلك السبيل ، أو قادرين على العلم فقصروا.

« وَيَخْتارُ » أي ما يشاء « ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » كلمة « ما » نافية ، وقيل : موصولة ، مفعول ليختار ، والعائد محذوف ، والمعنى يختار الذين كان لهم فيه الخيرة والخيرة بمعنى التخيير « سُبْحانَ اللهِ » تنزيها له أن ينازعه أحد في الخلق ويزاحم اختياره « وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ » أي عن إشراكهم في الخلق والاختيار.

قال السيد في الطرائف : روى محمد بن مؤمن الشيرازي في تفسير قوله تعالى :


يُشْرِكُونَ » (١) وقال عز وجل « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ » الآية (٢) وقال : « ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا

______________________________________________________

« وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ » قال : إن الله تعالى خلق آدم من طين حيث شاء ، ثم قال : « وَيَخْتارُ » إن الله تعالى اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق فانتجبنا ، وجعلني الرسول وجعل علي بن أبي طالب عليه‌السلام الوصي ، ثم قال : « ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » يعني ما جعلت للعباد أن يختاروا ولكني اختار من أشاء ، فأنا وأهل بيتي صفوة الله وخيرته من خلقه ، ثم قال : « سُبْحانَ اللهِ ( وَتَعالى ) عَمَّا يُشْرِكُونَ » يعني تنزيه الله عما يشرك به كفار مكة ، ثم قال : « وَرَبُّكَ » يا محمد « يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ » من بغض المنافقين لك ولأهل بيتك « وَما يُعْلِنُونَ » من الحب لك ولأهل بيتك.

وأقول : ليس قوله : « من أمرهم » في القرآن ولا في العيون ومعاني الأخبار وغيرهما من كتب الحديث ، ولعله زيد من النساخ ، وعلى تقديره يمكن أن يكون في قراءتهم عليهم‌السلام كذلك ، أو زاده عليه‌السلام تفسيرا.

« أَمْ لَكُمْ كِتابٌ » أي من السماء « فِيهِ تَدْرُسُونَ » أي تقرءون « إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ » أي إن لكم ما تختارونه وتشتهونه ، قيل : أصله أن لكم بالفتح لأنه المدروس ، فلما جئت باللام كسرت ، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس أو استينافا ، وتخير الشيء واختياره : أخذ خيره.

« أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا » أي عهود مؤكدة بالإيمان « بالِغَةٌ » متناهية في التأكيد « إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ » متعلق بالمقدر في لكم أي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها حتى نحكمكم في ذلك اليوم ، أو مبالغة أي أيمان علينا تبلغ ذلك اليوم « إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ » جواب القسم لأن معنى « أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا » أم أقسمنا لكم.

« سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ » أي بذلك الحكم قائم يدعيه ويصححه م « أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ »

__________________

(١) سورة القصص : ٦٨.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٦.


صادِقِينَ » (١) وقال عز وجل : « أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها » أم « طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ » (٢) أم « قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ

______________________________________________________

يشاركونهم في هذا القول « فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ » في دعواهم إذ لا أقل من التقليد ، قال البيضاوي : قد نبه سبحانه في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبثوا به من عقل أو نقل أو وعد أو محض تقليد على الترتيب تنبيها على مراتب النظر وتزييفا لما لا سند له « أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها » المانعة من دخول الحق فيها.

قيل : تنكير القلوب لأن المراد قلوب بعض منهم ، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصة بها ، لا تجانس الأقفال المعهودة.

أم « طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ » هذا من كلامه عليه‌السلام اقتبسه من الآيات وليس في القرآن بهذا اللفظ ، و « أم » منقطعة في مقابلة قوله : « والقرآن يناديهم » أي ختم الله على قلوبهم فهم لا يعلمون ما في متابعة القرآن وموافقة الرسول من السعادة ، وما في مخالفتهما والقول بالرأي من الشقاوة.

أم « قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ » هذا أيضا اقتباس ، وفي القرآن « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ » أي سماع انقياد وإذعان فكأنهم لا يسمعون أصلا وبعد ذلك في القرآن : « إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ » أي شر البهائم « عِنْدَ اللهِ » « الصُّمُ » عن الحق « الْبُكْمُ » عنه « الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ » الحق فقد عد من لم يعمل بالآيات ولم يتفكر فيها شر البهائم ، لإبطالهم عقولهم التي بها يتميزون عنها ، ومن جملة تلك الآيات ما دل على المنع من القول في الدين بالرأي والاختيار وبعد تلك الآيات قوله : « وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً » قال البيضاوي : سعادة كتبت لهم أو انتفاعا بالآيات « لَأَسْمَعَهُمْ » سماع تفهيم « وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ » وقد علم أن لا خير فيهم « لَتَوَلَّوْا » ولم ينتفعوا به أو ارتدوا بعد التصديق والقبول

__________________

(١) سورة القلم : ٤٢ ـ ٣٧.

(٢) سورة محمد ( ص ) : ٢٣.


مُعْرِضُونَ » (١)

______________________________________________________

« وَهُمْ مُعْرِضُونَ » لعنادهم انتهى.

ويمكن أن يكون غرضه عليه‌السلام تأويل الآيات بالإمامة بأن يكون المراد بقوله : « أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ » في إمامة علي عليه‌السلام ثم قال : « لَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ » إمامة علي عليه‌السلام وبطلان أئمة الضلال بأصرح مما في القرآن « وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ » كذلك وهم على هذه الشقاوة « لَتَوَلَّوْا » صريحا وارتدوا عن الدين ظاهرا ، ولم تكن المصلحة في ذلك ، فلذا لم يسمعهم كذلك ، وبالجملة لا بد أن يكون المراد بالإسماع إسماعا زائدا على ما لا بد منه في إتمام الحجة إما بزيادة التصريح ، أو بالألطاف الخاصة التي لا يستحقها المعاندون.

وأورد ههنا إشكال مشهور وهو أن أمير المؤمنين المذكورتين في الآية بصورة قياس اقتراني ينتج : لو علم الله فيهم خيرا لتولوا وهذا محال ، لأنه على تقدير أن يعلم الله فيهم خيرا لا يحصل منهم التولي بل الانقياد ، وقد ظهر من كلام البيضاوي لذلك جواب. والجواب الحق أنه ليس المقصود في الآية ترتب قياس اقتراني حتى يلزم أن يكون منتجا مشتملا على شرائط الإنتاج ، وليس مشتملا عليها لعدم كلية الكبرى ، إذ قوله تعالى : « وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا » ليس المراد أنه على أي تقدير أسمعهم لتولوا ، بل على هذا التقدير الذي لا يعلم الله فيهم الخير لو أسمعهم لتولوا ولذا لم يسمعهم إسماعا موجبا لانقيادهم ، والجملة الثانية مؤكدة للأولى ، أي عدم إسماعهم في تلك الحالة ، لأنه لو أسمعهم لتولوا ، ويحتمل أن يكون في قوة استثناء نقيض التالي فيكون قياسا استثنائيا.

وينسب إلى المحقق الطوسي رحمه‌الله أنه أجاب عن هذا الإشكال بأن المقدمتين مهملتان وكبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية ، ولو سلم فإنما ينتجان لو كانت الكبرى لزومية وهو ممنوع ، ولو سلم فاستحالة النتيجة ممنوعة ، لأن علم الله تعالى فيهم خيرا محال ، إذ لا خير فيهم ، والمحال جاز أن يستلزم المحال.

__________________

(١) سورة الأنفال : ١.


______________________________________________________

وقال بعض الأفاضل هذا الجواب وأصل السؤال كلاهما باطل لأن لفظ « لو » لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني ، وإنما يستعمل في القياس الاستثنائي ، المستثنى منه نقيض التالي (١) لأنه معتبر في مفهوم « لو » فلو صرح به كان تكرارا ، وكيف يصح أن يعتقد في كلام الحكيم تعالى وتقدس أنه قياس أهملت فيه شرائط الإنتاج ، فأي فائدة تكون في ذلك ، وهل يركب القياس إلا لحصول النتيجة؟ بل الحق أن قوله تعالى : « وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ » وارد على قاعدة اللغة ، وهي أن امتناع الشرط (٢) يعني أن سبب عدم الإسماع في الخارج عدم العلم بالخير فيهم من غير ملاحظة أن علة العلم بانتفاء الجزاء ما هي ، ثم ابتدأ قوله : « وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا » كلاما آخر على طريقة قوله عليه‌السلام : « نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه » يعني أن التولي لازم على تقدير الإسماع ، فكيف على تقدير عدمه ، فهو دائم الوجود ، وهذه الطريقة غير طريقة أرباب الميزان الذين يستعملون لفظ « لو » في القياس الاستثنائي ، وغير طريقة أهل اللغة الذين يستعملونه لامتناع الجزاء لأجل امتناع الشرط ، وبناء هذه الطريقة على أن لفظ « لو » يستعمل للدلالة على أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة مع وجود الشرط وعدمه ، وذلك إذا كان الشرط مما يستبعد استلزامه لذلك الجزاء ، ويكون نقيض ذلك الشرط أنسب وأليق باستلزامه ذلك الجزاء ، فيلزم استمرار وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه فيكون دائم الوجود في قصد المتكلم.

وقال التفتازاني : يجوز أن تكون الشرطية الثانية أيضا مستعملة على قاعدة

__________________

(١) كذا في النسخ وفي شرح مولى محمّد صالح هكذا : « المستثنى منه نقيض التالي لأنّها لامتناع غيره ولهذا لا يصرح باستثاء نقيض التالي لأنه مهتبر ... » ومنه يظهر وقوع السقط في نسخ الكتاب.

(٢) وفي الشرح المذكور هكذا « وهي أن « لو » لامتناع الجزاء لإجل امتناع الشرط.


أم « قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا » بل هو « فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ».

فكيف لهم باختيار الإمام والإمام عالم لا يجهل وراع لا ينكل معدن

______________________________________________________

اللغة كما هو مقتضى أصل « لو » فتفيد أن التولي منتف بسبب انتفاء الإسماع ، لأن التولي هو الإعراض عن الشيء وعدم الانقياد له ، فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق منهم التولي والإعراض عنه ، ولم يلزم من هذا تحقق الانقياد له.

فإن قيل : انتفاء التولي خير وقد ذكر أن لا خير فيهم؟

قلنا : لا نسلم أن انتفاء التولي بسبب انتفاء الإسماع خير ، وإنما يكون خيرا لو كانوا من أهله بأن سمعوا شيئا ثم انقادوا له ولم يعرضوا ، انتهى.

أقول : ويحتمل على ما أشرنا إليه من حمل قوله : « لَأَسْمَعَهُمْ » على الهدايات والألطاف الخاصة ، أن يحمل قوله سبحانه « وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ » على غير ذلك من أصل الاستماع الذي هو شرط التكليف ، فلا يتكرر الوسط فلا يلزم الإنتاج.

وهذا قريب من أحد الوجوه التي ذكرها ابن هشام في المغني ، حيث أجاب عن ذلك بثلاثة وجوه : « الأول » : أن التقدير لأسمعهم إسماعا نافعا ، ولو أسمعهم إسماعا غير نافع لتولوا فاختلف الوسط « والثاني » : ما ذكره البيضاوي « والثالث » : لو علم الله فيهم خيرا وقتا ما لتولوا بعد ذلك ، وأشار البيضاوي إليه أيضا ، وفي الأخيرين ما ترى ، وسيأتي في باب : أنه لا يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم‌السلام ، عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : إن من علم ما أوتينا تفسير القرآن وأحكامه ، وعلم تغيير الزمان وحدثانه ، إذا أراد الله بقوم خيرا أسمعهم ، ولو أسمع من لم يسمع لولي معرضا كان لم يسمع « الخبر » وفيه تأييد لما ذكرنا أولا فتفطن.

« أم « قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا » أم منقطعة على نحو ما سبق ، مقتبسا مما ذكره الله في قصة بني إسرائيل أي بل قالوا سمعنا كلام الله ورسوله في تعيين الإمام وعصيناهما.

« بل هو فضل الله » أي الإماتة أو السماع ومعرفة الإمام.

« عالم لا يجهل » أي شيئا من الأشياء التي تحتاج الأمة إليها « وراع » أي حافظ


القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة مخصوص بدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ونسل المطهرة البتول لا مغمز فيه في نسب ولا يدانيه ذو حسب في البيت من قريش

______________________________________________________

للأمة ، وفي بعض النسخ بالدال « لا ينكل » من باب ضرب ونصر وعلم أي لا يضعف ولا يجبن « معدن » بفتح الدال وكسرها « القدس » بالضم وبضمتين وهو البراءة من العيوب « والطهارة » وهي البراءة من الذنوب.

« والنسك » أي العبادة والطاعة أو أعمال الحج ، قال في النهاية : النسيكة : الذبيحة وجمعها نسك ، والنسك أيضا الطاعة والعبادة ، وكل ما يتقرب به إلى الله تعالى ، والنسك ما أمرت به الشريعة والورع ما نهت عنه ، والناسك : العابد ، وسئل تغلب عن الناسك؟ فقال : هو مأخوذ من النسيكة وهي سبيكة الفضة المصفاة ، كأنه صفى نفسه لله تعالى ، وفي القاموس : النسك مثلثة ، وبضمتين : العبادة ، وكل حق لله عز وجل ، ونسك الثوب أو غيره غسله بالماء فطهره.

« والزهادة » عدم الرغبة في الدنيا « مخصوص بدعوة الرسول » أي بدعوة الخلق نيابة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كما قال تعالى : « أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي » (١) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (٢) لا يبلغه إلا أنا أو رجل مني ، أو بدعاء الرسول إياه قبل سائر الخلق أو للإمامة أو بدعاء الرسول له كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم وال من والاه ، وقوله : اللهم أذهب عنهم الرجس ، وقوله : اللهم ارزقهم فهمي وعلمي وغيرهما.

وقال البغوي : البتل : القطع ، ومنه سميت فاطمة البتول لانقطاعها عن النساء فضلا ودينا وحسبا و « لا مغمز فيه في نسب » المغمز مصدر أو اسم مكان من الغمز بمعنى الطعن ، وهذا من شرائط الإمام عند الإمامية.

« في البيت من قريش » أي في أشرف بيت من بيوت قريش ، أو في بيت عظيم هو قريش ، بأن تكون كلمة « من » بيانية وعلى التقديرين يدل على أن الإمام لا بد أن يكون قرشيا.

__________________

(١) سورة يوسف : ١٠٨.

(٢) أي في قصة تبليغ سورة البراءة.


والذروة من هاشم والعترة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والرضا من الله عز وجل شرف الأشراف والفرع من عبد مناف نامي العلم كامل الحلم مضطلع بالإمامة

______________________________________________________

وفي أخبار العامة أيضا دلالة عليه ، فقد روى مسلم في صحيحه عشرة أحاديث تدل على ذلك ، منها ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان.

ومنها ما روي عن جابر بن سمرة قال : دخلت مع أبي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسمعته يقول : إن هذه الأمة لا تنقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة ، ثم تكلم بكلام خفي علي ، قال : قلت لأبي : ما قال؟ قال : كلهم من قريش.

وعن ابن سمرة أيضا بإسناد آخر أنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : لا ـ يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة ويكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.

قال الآمدي : الشروط المختلفة فيها في الإمامة ستة منها القرشية وهو المشهور عندنا بل مجمع عليه.

« والذروة من هاشم » يحتمل الوجهين السابقين ، وذروة كل شيء بالضم والكسر : أعلاه ، قيل : المراد أن يكون من فاطمة المخزومية أم عبد الله وأبي طالب والزبير ، قال حسان في ذم ابن عباس.

وإن سنام المجد من آل هاشم

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

وقال الجوهري : عترة الرجل أخص أقاربه ، وعترة النبي بنو عبد المطلب ، وقيل : أهل بيته الأقربون ، وهم أولاده وعلى وأولاده وقيل : عترته الأقربون والأبعدون عنهم ، انتهى.

« والرضا من الله » أي المرضي من عنده « شرف الأشراف » أي أشرف من كل شريف نسبا وحسبا ، وفرع كل شيء : أعلاه « نامي العلم » أي علمه دائما في الزيادة لأنه محدث « كامل الحلم » أي العقل والأناءة والتثبت في الأمور لا يستخفه شيء من المكاره ولا يستفزه الغضب « مضطلع بالإمامة » أي قوي عليها من الضلاعة وهي


عالم بالسياسة مفروض الطاعة قائم بأمر الله عز وجل ناصح لعباد الله حافظ لدين الله.

إن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى « أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » (١) وقوله تبارك وتعالى : « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » (٢) وقوله في طالوت :

______________________________________________________

القوة يقال : اضطلع بحمله أي قوي عليه ونهض به « عالم بالسياسة » أي بما يصلح الأمة من قولهم سست الرعية أي أدبتهم وأصلحتهم « قائم بأمر الله » لا بتعيين الأمة أو بإجراء أمر الله تعالى على خلقه « وحكمه » معطوف على المضاف أو المضاف إليه ، تأكيدا أو تخصيصا بعد التعميم ، أو المراد بالحكم الشرائع وبالعلم غيرها.

« في قوله تعالى » متعلق بمقدر أي ذلك مذكور في قوله تعالى ، ويحتمل أن تكون كلمة « في » تعليلية « أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ » الآية صريحة في أن المتبوع يجب أن يكون أعلم من التابع ، وأنه لا بد أن يكون الإمام غير محتاج إلى الرعية في علمه ، ولا ريب أن غير أمير المؤمنين عليه‌السلام من الصحابة لم يكونوا كذلك و « أَمَّنْ لا يَهِدِّي » بتشديد الدال وقرأ بفتح الهاء وكسرها ، والأصل يهتدي فأدغمت وفتحت الهاء أو كسرت لالتقاء الساكنين « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ » يدل على فضل العلم والحكمة ، وتفضيل المفضول قبيح عقلا ، وقد فسرت الحكمة في الأخبار بمعرفة الإمام « وقوله تعالى في طالوت » هو اسم أعجمي عبري وقيل : أصله طولوت من الطول ، والمشهور أنه لما سأل الله إشموئيل عليه‌السلام لقومه أن يبعث لهم ملكا أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم ، فلم يساوها إلا طالوت فقال : هو الملك عليكم ، فقال قومه : « أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا » ويستأهل الإمارة « وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ » لشرافة النسب وكثرة الأموال ، لأنه كان من أولاد بنيامين ولم يكن فيهم النبوة والملك ، وكانوا من أولاد لاوي بن يعقوب وكانت النبوة فيهم ، ومن أولاد يهودا وكان الملك فيهم « وَلَمْ

__________________

(١) سورة يونس : ٣٥.

(٢) سورة البقرة : ٢٦٩.


« إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ

______________________________________________________

يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ » الذي عليه مدار الملك والسلطنة ، إذ كان فقيرا راعيا أو سقاء يسقي على حمار له من النيل ، أو دباغا يعمل الأديم على اختلاف الأقوال فيه فقال لهم نبيهم « إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » فدلت الآية على أن الاصطفاء وإيتاء الملك الحق إنما يكون من الله وبتعيينه ، وأن مناط الاصطفاء شيئان : العلم والجسم ، ومعلوم أن الجسم غير مقصود في نفسه بل لكونه ملزوما للشجاعة والمهابة عند العدو ، فدلت على أن الإمام لا بد أن يكون أعلم وأشجع من جميع الأمة ، ولا ريب في أن كلا من أئمتنا عليهم‌السلام كانوا أعلم وأشجع ممن كان في زمانهم من المدعين للخلافة.

قال البيضاوي : لما استبعدوا تملكه لفقره وسقوط نسبه رد عليهم ذلك « أولا » بأن العمدة فيه اصطفاء الله وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم « وثانيا » بأن الشرط فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على مقاومة العدو ومكائدة الحروب وقد زاده فيهما « وثالثا » بأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق فله أن يؤتيه من يشاء « ورابعا » بأنه واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه ، عليم بمن يليق بالملك ، انتهى.

وأقول : إذا تأملت في كلامه ظهر لك وجوه من الحجة عليه كما أومأنا إليه « أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ » في سورة النساء هكذا : « وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ » فالتغيير إما من النساخ أو منه عليه‌السلام نقلا بالمعنى ، أو لكونه في قراءتهم عليهم‌السلام هكذا ، ولعل الغرض من إيراد هذه الآية أن الله تعالى امتن على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بإنزال الكتاب والحكمة وإيتاء نهاية العلم وعد ذلك فضلا عظيما ، وأثبت ذلك الفضل لجماعة من تلك الأمة بأنهم المحسودون على ما آتاهم الله من فضله ، ثم بين أنهم من آل إبراهيم عليه‌السلام.

والفضل : العلم والحكمة والخلافة ، مع أنه يظهر من الآيتين ، أن الفضل


اللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » (١) وقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنزل « عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً » (٢) وقال في الأئمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته صلوات الله عليهم « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً » (٣).

وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاما فلم يعي بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب فهو معصوم مؤيد موفق مسدد قد أمن من الخطايا والزلل والعثار يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه و « ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ».

______________________________________________________

والشرف بالعلم والحكمة ، ولا ريب في أنهم عليهم‌السلام كانوا أعلم ممن ادعى الخلافة في زمانهم.

« أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ » أم منقطعة ، وعلى تأويله عليه‌السلام : الناس : الأئمة عليهم‌السلام « فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » هو الإمامة ووجوب الطاعة ، فكيف لا تؤتى آل محمد؟ أو هم داخلون في آل إبراهيم وأشرفهم « فَمِنْهُمْ » أي من الأمة « مَنْ آمَنَ بِهِ » أي بالملك أو بالإيتاء و « الصدود » الإعراض والمنع « وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً » أي نارا مسعرة يعذبون بها إن لم يعذبوا في الدنيا.

« شرح صدره » أي وسعه وفتحه لذلك أي لأمور عباده « فلم يعي » بفتح اليائين وسكون المهملة ، أي لم يعجزه « بعده » أي بعد الاختيار أو بعد الإلهام أو بعد كل واحد من الشرح والإيداع والإلهام « ولا يحير » مضارع حار من الحيرة ، وفي بعض النسخ : ولا تحير ، مصدر باب التفعل « فيه » أي في الجواب « مؤيد » من الأيد بمعنى القوة أي بالملائكة أو الأعم « مسدد » بروح القدس كما سيأتي.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٤٧.

(٢) راجع سورة النساء : ١١٣.

(٣) سورة النساء : ٥٣.


فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه تعدوا وبيت الله الحق ونبذوا « كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ » وفي كتاب الله الهدى والشفاء فنبذوه واتبعوا أهواءهم فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم فقال جل وتعالى : « وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » (١) وقال « فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ » (٢) وقال « كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ » (٣) وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.

______________________________________________________

« وبيت الله » يدل على جواز الحلف بحرمات الله ، فما ورد من المنع عن الحلف بغير الله إما مخصوص بغير هذه أو بالدعاوي « كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ » الحق والكتاب أو ليسوا من ذوي العلم بل هم من البهائم « بِغَيْرِ هُدىً » قال البيضاوي : في موضع الحال للتوكيد أو التقييد ، فإن هوي النفس قد يوافق الحق ، انتهى.

« إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي » بالهدايات الخاصة أو إلى الجنة في الآخرة « الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى « فَتَعْساً لَهُمْ » أي ألزمهم الله هلاكا أو أتعسهم تعسا ، والتعس بالفتح وبالتحريك : الهلاك ، والعثار : السقوط ، والشر والبعد والانحطاط « وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ » أي أبطلها فلم يجدوا لها أثرا عند ما يجد العاملون أثر أعمالهم.

« كَبُرَ مَقْتاً » قبل ذلك في سورة المؤمن : « كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً » وقال البيضاوي : فيه ضمير « من » وإفراده للفظ ، ويجوز أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر على حذف مضاف ، أي وجدال الذين يجادلون كبر مقتا ، أو بغير سلطان وفاعل كبر كذلك أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال ، فيكون قوله : « يَطْبَعُ اللهُ » إلخ استينافا للدلالة على الموجب لخذلانهم.

__________________

(١) سورة القصص : ٥٠.

(٢) سورة محمد ( ص ) : ٨.

(٣) سورة الفاطر : ٣٥.


٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن إسحاق بن غالب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة عليهم‌السلام وصفاتهم إن الله عز وجل أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا عن دينه وأبلج بهم عن سبيل منهاجه ومنح (١) بهم عن باطن ينابيع علمه فمن عرف من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله واجب حق إمامه وجد طعم حلاوة إيمانه وعلم فضل طلاوة إسلامه لأن الله تبارك وتعالى نصب الإمام علما لخلقه وجعله حجة على أهل مواده وعالمه وألبسه الله تاج الوقار وغشاه من نور الجبار يمد بسبب إلى السماء لا ينقطع عنه مواده

______________________________________________________

الحديث الثاني : صحيح.

« من أهل بيت نبينا » حال عن الأئمة أو بيان لها ، وتعدية الإيضاح وما بعده بعن لتضمين معنى الكشف ونحوه ، والإيلاج : الإيضاح ، وإضافة السبيل إلى المنهاج إما بيانية أو المراد بالسبيل العلوم ، وبالمنهاج العبادات التي توجب وصول قربه تعالى ، والمنهاج : الطريق الواضح ، وميح بتشديد الياء ، والمائح الذي ينزل البئر فيملأ الدلو وهو أنسب ، والتشديد للمبالغة ، وفي بعض النسخ منح بالنون من المنحة العطية.

« واجب حق إمامه » الإضافة من قبيل : جرد قطيفة ، والمعنى ما يجب عليه من معرفة الإمام وحقه بحسب قابليته ، إذ معرفة كنه ذلك ليس في وسع أكثر الخلق ، وفي القاموس : الطلاوة مثلثة : الحسن والبهجة والقبول « على أهل موادة » المادة الزيادة المتصلة ، أي الذين يصل إليهم رزقه تعالى وتربيته أو هداياته وتوفيقاته الخاصة ، والضمير لله وكذا في « عالمه » بفتح اللام ، وهو معطوف على المواد ، أو على الأهل عطف تفسير أو عطف الأعم على الأخص ، قال في النهاية : ومنه حديث عمر : أصل العرب ومادة الإسلام أي الذين يعينونهم ويكثرون جيوشهم ويتقوى بزكاة أموالهم ، وكل ما أعنت به قوما في حرب أو غيره فهو مادة لهم.

« يمد بسبب » السبب : الحبل وما يتوصل به إلى الشيء ، أي يجعل الله بينه

__________________

(١) يظهر من كلام الشارح أن في النسخة التي عنده « ميح » بالياء ، ووفي بعض نسخ الكتاب « فتح ».


ولا ينال ما عند الله إلا بجهة أسبابه ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته فهو عالم بما يرد عليه من ملتبسات الدجى ومعميات السنن ومشبهات الفتن فلم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقه من ولد الحسين عليه‌السلام من عقب كل إمام يصطفيهم لذلك ويجتبيهم ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم كلما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماما علما بينا وهاديا نيرا وإماما قيما وحجة عالما أئمة من الله « يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ » حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه يدين بهديهم العباد وتستهل بنورهم البلاد وينمو ببركتهم التلاد جعلهم الله حياة للأنام

______________________________________________________

وبين سماء المعرفة والقرب والكمال سببا يرتفع به إليها من روح القدس ، والإلهامات والتوفيقات قال الله تعالى : « مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ » (١) قيل : أي فليمدد حبلا إلى سماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانه « لا ينقطع عنه موادة » أي الزيادات المقررة له من الهدايات والإلهامات ، والضمير راجع إلى الإمام أو إلى الله أو إلى السبب على بعد في الأخير « من ملتبسات الدجى » التباس الأمور : اختلاطها على وجه يعسر الفرق بينها ، والدجى جمع الدجية وهي الظلمة الشديدة ، أي عالم بالأمور المشتبهة في ظلم الجهالة والفتن « ومعميات » بتشديد الميم المفتوحة يقال : عميت الشيء أي أخفيته ، ومنه المعمى « ومشبهات الفتن » أي الفتن المشبهة بالحق أو الأمور المشبهة بالحق بسبب الفتن.

والقيم على الشيء : المتولي عليه ، والمتولي لأموره ومصالحه ، ومنه : قيم الخان ، ومنه أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن ، أي الذي يقوم بحفظها ومراعاتها يؤتي كل شيء ما به قوامه « وبه يعدلون » أي بالحق ، والرعاة جمع الراعي وهو الحافظ والحامي « يدين » أي يعبد « بهديهم » بضم الهاء وفتح الدال أو بفتح الهاء وسكون الدال وهو السيرة الحسنة « وتستهل » أي تتنور وتستضيء « بنورهم البلاد » أي أهلها « وتنمو ببركتهم التلاد » التألد والتليد والتلاد : كل مال قديم وخلافه الطارف والطريف ، والتخصيص به لأنه أبعد من النمو ، أو لأن الاعتناء به

__________________

(١) سورة الحج : ١٥.


ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام ودعائم للإسلام جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها.

فالإمام هو المنتجب المرتضى والهادي المنتجى والقائم المرتجى اصطفاه الله بذلك واصطنعه على عينه في الذر حين ذرأه وفي البرية حين برأه ظلا قبل

______________________________________________________

أكثر ، ويحتمل أن يكون كناية عن تجديد الآثار القديمة المندرسة ، وفي القاموس : التألد كصاحب والتلد بالفتح والضم والتحريك والتلاد والتليد والاتلاد والمتلد : ما ولد عندك من مالك أو نتج.

« جرت بذلك » الباء للسببية ، وذلك إشارة إلى مصدر جعلهم أو إلى جميع ما تقدم فيهم « مقادير الله » أي تقدير الله « على محتومها » حال عن المقادير أي كائنة على محتومها ، أو متعلق بجرت أي جرت بسبب تلك الأمور المذكورة الحاصلة فيهم تقديرات الله على محتومها ، أي قدرها الله تقديرا حتما لا بداء فيها ولا تغيير « والهادي المنتجي » أي المخصوص بالمناجاة ، وإيداع الأسرار ، قال الجوهري : انتجى القوم وتناجوا أي تساروا وانتجيته أيضا إذا اختصصته بمناجاتك « والقائم » أي بأمر الإمامة « المرتجي » أي للخير والشفاعة في الدنيا والآخرة « واصطنعه على عينه » أي خلقه ورباه وأحسن إليه ، متعينا بشأنه ، عالما بكونه أهلا لذلك قال الله تعالى : « وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي » (١) قال البيضاوي : أي ولتربي ويحسن إليك وأنا راعيك وراقبك ، وقال غيره : على عيني أي بمرأى مني ، كناية عن غاية الإكرام والإحسان ، وقال تعالى : « وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي » (٢) قال البيضاوي : أي واصطفيتك لمحبتي مثله فيما خوله من الكرامة بمن قربه الملك واستخلصه لنفسه.

« في الذر حين ذرأه » الذر بالفتح صغار النمل ، الواحدة ذرة ، أستعير هنا لما يشبهها من الأجسام الصغار التي تعلقت بها الأرواح في الميثاق كما سيأتي ، وذرأه بالهمز كمنعه إذا خلقه ، وربما يقرأ بالألف المنقلبة عن الواو ، أي فرقه وميزه حين أخرجه من صلب آدم « والبرية » بتشديد الياء : المخلوقون من برأه كمنعه إذا خلقه ، وهو

__________________

(١) سورة طه : ٣٩.

(٢) سورة طه : ٤١.


خلق نسمة عن يمين عرشه محبوا بالحكمة في علم الغيب عنده اختاره بعلمه وانتجبه لطهره بقية من آدم عليه‌السلام وخيرة من ذرية نوح ومصطفى من آل إبراهيم وسلالة من إسماعيل وصفوة من عترة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يزل مرعيا بعين الله يحفظه و

______________________________________________________

في الأصل مهموز وقد تركت العرب همزها ، وربما يجعل من البري كالرمي وهو نحت السهم ونحوه ، فأصلها غير مهموز.

وقوله : « ظلا » حال أو مفعول ثان لبراءة ، بتضمين معنى الجعل ، والمراد بالظل الروح قبل تعلقه بالبدن « قبل خلقه نسمة (١) » أي قبل تعلقه بالجسد ، ومن يقول بتجرد الروح يأول كونه عن يمين العرش إما بتعلقه بالجسد المثالي ، أو العرش بالعلم ، أو العظمة والجلال ، واليمين بأشرف جهاته « محبوا بالحكمة » على صيغة المفعول ، أي منعما عليه ، وهو حال مقدرة لظلا بقرينة قوله : « في علم الغيب » أي كان يعلم أنه يحبوه العلم والحكمة ، أو المراد أعطاه الحكمة [ لعلمه ] بأنه أهل لها.

ثم اعلم أن ظاهر اللفظ أن الذر في عالم الأرواح والبرء في عالم الأجساد ، فقوله : ظلا ، متعلق بالأول وفيه بعد ، ويحتمل أن يكون كلاهما في عالم الأرواح ، ويكون المراد بالذر تفريقهم في الميثاق وبالبر أخلق الأرواح ، والحبوة العطية.

« اختاره بعلمه » أي بأن أعطاه علمه أو بسبب علمه بأنه يستحقه « وانتجبه لطهره » أي لعصمته أو لأن يجعله مطهرا ، وعلى أحد الاحتمالين الضميران لله ، وعلى الآخر للإمام « بقية من آدم » أي انتهى إليه خلافة الله التي جعلها لآدم حيث قال : « إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ».

والخيرة بكسر الخاء وسكون الياء وفتحها : المختار « ومصطفى من آل إبراهيم » إشارة إلى قوله تعالى : « إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ » (٢) الآية ، والسلالة ـ بالضم ـ : الذرية وصفوة الشيء مثلثة ما صفا منه « لم يزل مرعيا بعين الله » أي

__________________

(١) وفي المتن « قبل خلق نسمة » بدون الضمير ، وما اختاره الشارح أظهر.

(٢) سورة آل عمران : ٢٣.


يكلؤه بستره مطرودا عنه حبائل إبليس وجنوده مدفوعا عنه وقوب الغواسق ونفوث كل فاسق مصروفا عنه قوارف السوء مبرأ من العاهات محجوبا عن الآفات معصوما من الزلات مصونا عن الفواحش كلها معروفا بالحلم والبر في يفاعه.

______________________________________________________

بحفظه وحراسته أو بعين عنايته ، والكلاءة : الحراسة ، والطرد : الدفع ، والحبائل جمع الحبالة بالكسر : المصائد ، والوقوب : الدخول ، والغسق : أول ظلمة الليل ، والغاسق : ليل عظم ظلامه ، ولعله إشارة إلى قوله تعالى : « وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ » وفسر بأن المراد به ليل دخل ظلامه في كل شيء ، وتخصيصه لأن المضار فيه يكثر ويعسر الدفع ، فالمعنى أنه يدفع عنه الشرور التي يكثر حدوثها بالليل غالبا ، أو المراد دفع شرور الجن والهوام المؤذية ، فإنها تقع بالليل غالبا كما تدل عليه الأخبار ، أو المراد عدم دخول مظلمات الشكوك والشبه والجهالات عليه.

« ونفوث كل فاسق » أي لا يؤثر فيه سحر الساحرين من قوله تعالى : « وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ » أو يكون كناية عن دفع وساوس شياطين الإنس والجن والأول أظهر ، وما ورد من تأثير السحر في النبي والحسنين صلوات الله عليهم فمحمول على التقية ، وردها أكثر علمائنا ، ويمكن حمله على أنه لا يؤثر فيهم تأثيرا لا يمكنهم دفعه ، فلا ينافي تلك الأخبار لو صحت « مصروفا عنه قوارف السوء » من اقتراف الذنب بمعنى اكتسابه ، أو المراد الاتهام بالسوء ، من قولهم : قرف فلانا عابه أو اتهمه ، وأقرفه وقع فيه وذكره بسوء ، وأقرف به عرضه للتهمة.

والمراد بالعاهات والآفات : الأمراض التي توجب نفرة الخلق وتشويه الخلقة ، كالعمى والعرج (١) والجذام والبرص وأشباهها ، ويحتمل أن يراد بالثاني الآفات النفسانية وأمراضها « في يفاعه » أي في صغره وبدو شبابه ، يقال : يفع الغلام : إذا راهق ، وفي بعض النسخ : بالباء الموحدة والقاف أي في بلاده التي نشأ فيها ، أو في جميع

__________________

(١) وفي نسخة « القرح » بدل « العرج ».


منسوبا إلى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه مسندا إليه أمر والده صامتا عن المنطق في حياته.

فإذا انقضت مدة والده إلى أن انتهت به مقادير الله إلى مشيئته وجاءت الإرادة من الله فيه إلى محبته وبلغ منتهى مدة والدهعليه‌السلامفمضى وصار أمر الله إليه من بعده وقلده دينه وجعله الحجة على عباده وقيمه في بلاده وأيده بروحه وآتاه علمه وأنبأه فصل بيانه واستودعه سره وانتدبه لعظيم أمره وأنبأه فضل بيان علمه ونصبه علما لخلقه وجعله حجة على أهل عالمه وضياء لأهل دينه والقيم على عباده رضي الله به إماما لهم استودعه سره واستحفظه

______________________________________________________

البلاد ، فإنها كلها له والأول أظهر للمقابلة بقوله « عند انتهائه » أي كماله في السن أو عند إمامته « مسندا إليه أمر والده » أي يكون وصيه.

« إلى أن انتهت » في غيبة النعماني ليس « إلى أن » فيكون « انتهت » جزاء الشرط وهو أصوب ، وعلى هذه النسخة « فمضى » جزاء الشرط ، « وإلى » متعلق بمقدر ، أي تسببت الأسباب إلى أن انقضت ، أو يضمن الانقضاء معنى الانتهاء « إلى مشيته » الضمير راجع إلى الله والضمير في قوله : « به » راجع إلى الولد ، ويحتمل الوالد أي انتهت مقادير الله بسبب الولد إلى ما شاء وأراد من إمامته « وجاءت الإرادة من عند الله فيه إلى محبته » الضمير راجع أيضا إلى الله أي إلى ما أحب من خلافته « وأيده بروحه » أي بروح القدس كما سيأتي « وأنبأه فصل بيانه » أي البيان الفاصل بين الحق والباطل ، كما قال تعالى : « إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ » (١) وفي بعض النسخ بالضاد المعجمة أي زيادة بيانه « وانتدبه » أي دعاه وحثه ، وفي أكثر كتب اللغة أن الندب الطلب ، و

__________________

(١) سورة الطارق : ١٣.


علمه واستخبأه حكمته واسترعاه لدينه وانتدبه لعظيم أمره وأحيا به مناهج سبيله وفرائضه وحدوده فقام بالعدل عند تحير أهل الجهل وتحيير أهل الجدل بالنور الساطع والشفاء النافع بالحق الأبلج والبيان اللائح من كل مخرج على طريق المنهج الذي مضى عليه الصادقون من آبائه عليهم‌السلام فليس يجهل حق هذا العالم إلا شقي ولا يجحده إلا غوي ولا يصد عنه إلا جري على الله جل وعلا.

______________________________________________________

الانتداب الإجابة ، ويظهر من الخبر أن الانتداب أيضا يكون بمعنى الطلب كما في مصباح اللغة ، حيث قال : انتدبه للأمر فانتدب يستعمل لازما ومتعديا.

« واستخبأه » بالخاء المعجمة والباء الموحدة مهموزا أو غير مهموز تخفيفا أي استكتمه ، وفي بعض النسخ بالحاء المهملة أي طلب منه أن يحبوا الناس الحكمة « واسترعاه لدينه » أي طلب منه رعاية الناس وحفظهم لأمور دينه ، أو اللام زائدة « عند تحيير أهل الجهل (١) » أي عند ما يحير أهل الجهل الناس بشبههم ، وفي بعض النسخ تحير على التفعل وهو أنسب « وتحبير أهل الجدل » أي تزيينهم الكلام الباطل عند المناظرة ، في القاموس : تحبير الخط والشعر وغيرهما : تحسينه « بالنور الساطع » الباء للسببية أو بدل أو عطف بيان لقوله : « بالعدل » وكذا قوله : « بالحق » بالنسبة إلى قوله : بالنور ، أو متعلق بالنافع ، والباء للسببية « الأبلج » الأوضح « من كل مخرج » « من » تعليلية.

__________________

(١) وفي نسخة الأصل من الكافي « عند تحيّر أهل الجهل وتحقير أهل الجدل ».


باب

أن الأئمة عليهم‌السلام ولاة الأمر وهم الناس المحسودون

الذين ذكرهم الله عزوجل

١ ـ الحسين بن محمد بن عامر الأشعري ، عن معلى بن محمد قال حدثني الحسن بن علي الوشاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن ابن أذينة ، عن بريد العجلي قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

______________________________________________________

باب أن الأئمة عليهم‌السلام ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين

ذكرهم الله عز وجل

الحديث الأول : ضعيف.

« وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » قد تقدم القول فيه في باب فرض طاعة الأئمة عليهم‌السلام ، وقال ابن شهرآشوب رحمه‌الله في المناقب : الأمة على قولين في معنى « أولي الأمر » في هذه الآية :

أحدهما : أنها في أئمتنا عليهم‌السلام « والثاني » أنها في أمراء السرايا ، وإذا بطل أحد الأمرين ثبت الآخر ، وإلا خرج الحق عن الأمة ، والذي يدل على أنها في أئمتنا صلوات الله عليهم أن ظاهرها يقتضي عموم طاعة أولي الأمر من حيث عطف الله تعالى الأمر بطاعتهم على الأمر بطاعته وطاعة رسوله ، ومن حيث أطلق الأمر بطاعتهم ولم يخص شيئا من شيء لأنه سبحانه لو أراد خاصا لبينه ، وفي فقد البيان منه تعالى دليل على إرادة الكل ، وإذا ثبت ذلك ثبتت إمامتهم ، لأنه لا أحد تجب طاعته على ذلك الوجه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا الإمام ، وإذا اقتضت وجوب طاعة أولي الأمر على العموم لم يكن بد من عصمتهم ، وإلا أدى إلى أن يكون قد أمر بالقبيح ، لأن من ليس بمعصوم لا يؤمن منه وقوع القبيح ، فإذا وقع كان الاقتداء به قبيحا ، وإذا ثبت


مِنْكُمْ » (١) فكان جوابه :

______________________________________________________

دلالة الآية على العصمة ووجوب الطاعة بطل توجهها إلى أمراء السرايا ، لارتفاع عصمتهم ، وقال بعضهم هم علماء الأمة وهم مختلفون وفي طاعة بعضهم عصيان بعض ، وإذا أطاع المؤمن بعضهم عصى الآخر ، والله تعالى لا يأمر بذلك ، ثم إن الله تعالى وصف أولي الأمر بصفة تدل على العلم والإمرة جميعا في قوله : « وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ » (٢) فرد إليهم الأمن أو الخوف للأمراء ، والاستنباط للعلماء ، ولا يجتمعان إلا لأمير عالم ، انتهى.

قوله عليه‌السلام : كان جوابه ، قيل : سئل عليه‌السلام عن معنى أولي الأمر فأجاب السائل ببيان آية أخرى ليفهم به ما يريد مع إيضاح وتشييد ولا يخفى ما فيه.

وأقول : سوء الفهم وإشكال الحديث إنما نشأ من أن المصنف (ره) أسقط تتمة الحديث وذكرها في موضع آخر ، وفي تفسير العياشي بعد قوله : « إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً » (٣) « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً » قال : قلت : قوله : في آل إبراهيم : « وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » ما الملك العظيم؟ قال : أن جعل منهم أئمة ، من أطاعهم أطاع الله ، ومن عصاهم عصى الله ، فهو الملك العظيم قال : ثم قال « إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً » قال : إيانا عنى ، أن يؤدى الأول منا إلى الإمام الذي بعده الكتب والعلم والسلاح « وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ » الذي في أيديكم ثم قال للناس : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ » إيانا عنى خاصة ، فإن خفتم تنازعا في الأمر فارجعوا إلى الله وإلى الرسول وأولي

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) سورة النساء : ٨٣.

(٣) أي في آخر الحديث.


« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً » (١) يقولون لأئمة الضلالة والدعاة إلى النار « هؤُلاءِ أَهْدى » من آل محمد « سَبِيلاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ » يعني الإمامة والخلافة

______________________________________________________

الأمر منكم ، هكذا نزلت ، وكيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر ويرخص لهم في منازعتهم ، إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم : « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ».

أقول : فظهر أنه عليه‌السلام شرع في تفسير الآيات المتقدمة على تلك الآية وبين نزولها فيهم عليه‌السلام ليتضح نزول هذه الآية فيهم أشد إيضاح وأبينه.

« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ » قال البيضاوي : نزلت في يهود كانوا يقولون إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعو إليه محمد ، وقيل : في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وفي جمع من اليهود خرجوا إلى مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله ، فقالوا : أنتم أهل كتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا ، فلانا من مكركم فاسجدوا آلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا ، والجبت في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل ما عبد من دون الله ، وقيل : أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه ، فقلبت سينه تاء.

والطاغوت يطلق لكل باطل من معبود أو غيره « وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا » لأجلهم وفيهم « هؤلاء » إشارة إليهم « أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً » أي أقوم دينا وأرشد طريقا « فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً » يمنع العذاب عنه بشفاعة أو غيرها ، انتهى.

أقول : وعلى تأويله عليه‌السلام الجبت والطاغوت : الأول والثاني ، « والذين كفروا » سائر خلفاء الجور ، ولا ينافي ذلك ما مر من نزول الآية ، لأن الله تعالى لما ذم المخالفين للرسول ولعنهم فهو جار فيمن خالف أهل بيته ، لأنهم القائمون مقامه.

« أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ » قال البيضاوي « أم » منقطعة ، ومعنى الهمزة إنكار

__________________

(١) سورة النساء : ٥١.


« فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً » نحن الناس الذين عنى الله والنقير النقطة التي في وسط النواة « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ » (١) نحن الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين « فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » يقول جعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمة فكيف

______________________________________________________

أن يكون لهم نصيب من الملك ، أو جحد لما زعمت اليهود من أن الملك سيصير إليهم « فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً » أي لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا ما يوازي نقيرا ، وهو النقرة في ظهر النواة ، وهذا هو الإغراق في بيان شحهم ، فإنهم بخلوا بالنقير وهم ملوك فما ظنك بهم إذا كانوا أذلاء متفاقرين.

أقول : ويحتمل أن يكون المراد بالنقطة في كلامه عليه‌السلام النقرة ، وقال الطبرسي رحمه‌الله : قيل : المراد بالملك هنا النبوة.

« أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ » قال الطبرسي : معناه بل أيحسدون الناس ، واختلف في معنى الناس هنا فقيل : أراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حسدوه على ما أعطاه من النبوة وإباحة تسعة نسوة وميلة إليهن ، وقالوا لو كان نبيا لشغلته النبوة عن ذلك ، فبين الله سبحانه أن النبوة ليست ببدع في آل إبراهيم « وثانيها » أن المراد بالناس النبي وآله عليهم‌السلام عن أبي جعفر عليه‌السلام ، والمراد بالفضل فيه النبوة ، وفي آله الإمامة ، انتهى.

وأقول : روى ابن حجر في صواعقه قال : أخرج أبو الحسن المغازلي عن الباقر عليه‌السلام أنه قال في هذه الآية : نحن الناس والله ، ولا يخفى أن تفسيرهم عليهم‌السلام أنسب بلفظ الناس.

« فكيف يقرون به في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمد » ومحمد أفضل من إبراهيم ، فكيف يستبعدون ذلك ، أو آل محمد من آل إبراهيم فلم لا يشملهم؟

« يقول جعلنا منهم الرسل » إما تفسير لإيتاء مجموع الكتاب والحكمة والملك

__________________

(١) سورة النساء : ٥٤.


يقرون به في آل إبراهيم عليه‌السلام وينكرونه في آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً »

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي الحسن عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى : « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ » قال نحن المحسودون.

٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن محمد الأحول ، عن حمران بن أعين قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام قول الله عز وجل : « فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ » فقال النبوة قلت « الْحِكْمَةَ » قال الفهم والقضاء قلت « وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » فقال الطاعة.

______________________________________________________

العظيم ، أو على اللف والنشر المرتب ، ويؤيد الأخير ما سيأتي.

« فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ » أي بالإيتاء أو بالملك العظيم ، وضمير « منهم » للأمة ، ويقال صد صدودا أي أعرض ، وصد فلانا عن كذا صدا أي منعه وصرفه « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا » أي الآيات النازلة في الأئمة أو هم عليهم‌السلام كما سيأتي « بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها » أي في الصفة « إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً » أي قويا غالبا على جميع الأشياء « حَكِيماً » يعاقب ويثيب على وفق حكمته.

الحديث الثاني : مجهول.

الحديث الثالث : حسن.

وفسر الكتاب بالنبوة لاستلزامه لها ، ولعل المراد بالفهم الإلهام وبالقضاء العلم بالحكم بين الناس ، أو الفهم فهم مطلق العلوم ، والمعارف إشارة إلى الحكمة النظرية ، والقضاء إلى الحكمة العلمية « قال الطاعة » أي فرض طاعته على الخلق.


٤ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن حماد بن عثمان ، عن أبي الصباح قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ » فقال يا أبا الصباح نحن والله الناس المحسودون.

٥ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة ، عن بريد العجلي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى « فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » قال جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمة فكيف يقرون في آل إبراهيم عليه‌السلام وينكرونه في آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قال قلت « وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » قال الملك العظيم أن جعل فيهم أئمة من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله فهو الملك العظيم.

باب

أن الأئمة عليهم‌السلام هم العلامات التي ذكرها الله عز و

جل في كتابه

١ ـ الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن أبي داود المسترق قال حدثنا داود الجصاص قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول « وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ

______________________________________________________

الحديث الرابع : ضعيف.

الحديث الخامس : حسن.

باب أن الأئمة عليهم‌السلام هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل

في كتابه

الحديث الأول : ضعيف.

« وَعَلاماتٍ » قال الطبرسي (ره) أي وجعل لكم علامات أي معالم يعلم بها الطرق ، وقيل : العلامات الجبال يهتدى بها نهارا « وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ » ليلا والمراد بالنجم الجنس ، وقيل : إن العلامات هي النجوم أيضا لأن من النجوم ما يهتدى بها ، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها ، وقيل : أراد بها الاهتداء في القبلة ، انتهى.


يَهْتَدُونَ » (١) قال النجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والعلامات هم الأئمة عليهم‌السلام.

٢ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن أسباط بن سالم قال سأل الهيثم أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن قول الله عز وجل : « وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ » فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله النجم والعلامات هم الأئمة عليهم‌السلام.

٣ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء قال سألت الرضا عليه‌السلام عن قول الله تعالى « وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ » قال نحن العلامات والنجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

______________________________________________________

وعلى تأويله عليه‌السلام ضمير « هم » وضمير « يهتدون » راجعان إلى العلامات وهو أظهر ، لأن قبل هذه الآية « وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » فكان الظاهر على التفسير المشهور « وأنتم تهتدون » فعلى تأويله عليه‌السلام لا يحتاج إلى تكلف الالتفات ، وهذه المعاني بطون للآيات لا تنافي كون ظواهرها أيضا مرادة ، فإنه كما أن لأهل الأرض جبالا وأنهارا ونجوما وعلامات يهتدون بها إلى طرقهم الظاهرة ، وبها تصلح أمور معاشهم ، فكذا لهم رواسي من الأنبياء والأوصياء والعلماء بهم تستقر الأرض وتبقى ، ومنابع للعلوم والمعارف بها يحيون الحياة المعنوية وشمس وقمر ونجوم من الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام بهم يهتدون إلى مصالحهم الدنيوية والأخروية ، وقد تضمنت الآيات ظهرا وبطنا ، الوجهين جميعا.

الحديث الثاني : ضعيف على المشهور.

الحديث الثالث : كذلك.

__________________

(١) سورة النحل : ١٦.


باب

أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة عليهم‌السلام

١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن أحمد بن محمد بن عبد الله ، عن أحمد بن هلال ، عن أمية بن علي ، عن داود الرقي قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى : « وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ » (١) قال الآيات هم الأئمة والنذر هم الأنبياء عليهم‌السلام.

٢ ـ أحمد بن مهران ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، عن موسى بن محمد العجلي ، عن يونس بن يعقوب رفعه ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عز وجل « كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها » (٢) يعني الأوصياء كلهم.

______________________________________________________

باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة عليهم‌السلام

الحديث الأول : ضعيف.

« الآيات » جمع الآية وهي العلامة ، وهم عليهم‌السلام علامات لسبيل الهداية ودلائل لعظمة الله سبحانه وقدرته وحكمته ، والنذر جمع النذير بمعنى المنذر ، والمشهور في تفسير الآيات : الحجج والبينات أو المعجزات ، أو ما خلقه الله في الآيات والأنفس دالا على وجوده وقدرته وعلمه وحكمته.

وفي الصحاح : ما يغني عنك هذا ، أي ما يجدي عنك وما ينفعك.

الحديث الثاني : ضعيف.

« يعني الأوصياء » أي هم المقصودون في بطن الآية أو هم داخلون فيها.

فإن قيل سابق الآية : « وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ، كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ » وآل فرعون إنما كذبوا بموسى؟

قلنا : وإن كذبوا بموسى لكن تكذيبهم بموسى يوجب تكذيبهم بأوصيائه

__________________

(١) سورة يونس : ١٠١.

(٢) سورة القمر : ٤٢.


٣ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن محمد بن أبي عمير أو غيره ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قلت له جعلت فداك إن الشيعة يسألونك عن تفسير هذه الآية « عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ » قال ذلك إلي إن شئت أخبرتهم وإن

______________________________________________________

كهارون ويوشع ، بل الأنبياء والأوصياء المتقدمين عليه ، لأن كلهم أخبروا بموسى ، أو المعنى أن نظير ذلك التكذيب في هذه الأمة التكذيب بالأوصياء عليهم‌السلام ، مع أنه ورد في تفسير الإمام عليه‌السلام أن موسى عليه‌السلام كان يخبر قومه بالنبي وأوصيائه عليهم‌السلام ، ويأمرهم بالإيمان بهم ، وقيل : التكذيب بواحد من الأئمة تكذيب بالجميع لاشتراكهم في الحق والصدق والدين.

الحديث الثالث : مجهول.

« عَمَّ يَتَساءَلُونَ » قال البيضاوي : أصله « عما » فحذف الألف ، ومعنى هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه ، كأنه لفخامته خفي جنسه فيسأل عنه ، والضمير لأهل مكة كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ، أو يسألون الرسول والمؤمنين عنه استهزاء أو للناس « عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ » بيان للشأن المفخم أو صلة يتساءلون ، وعم متعلق بمضمر مفسر به « كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ » ردع عن التساؤل « ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ » تكرير للمبالغة ، انتهى.

وأقول : تأويله عليه‌السلام مذكور في بعض كتب المخالفين ، روى السيد في الطرائف نقلا من تفسير محمد بن مؤمن الشيرازي بإسناده عن السدي يرفعه قال : أقبل صخر بن حرب حتى جلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمد هذا الأمر لنا من بعدك أم لمن؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا صخر الأمر بعدي لمن هو مني بمنزلة هارون من موسى عليهما‌السلام ، فأنزل الله : « عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ » يعني يسألك أهل مكة عن خلافة علي بن أبي طالب « الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ » منهم المصدق بولايته وخلافته ، ومنهم المكذب قال « كلا » وهو ردع عليهم « سيعلمون » أي سيعرفون خلافته بعدك أنها حق [ تكون ] « ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ » أي يعرفون خلافته وولايته إذ يسألون عنها في قبورهم ، فلا


شئت لم أخبرهم ثم قال لكني أخبرك بتفسيرها قلت « عَمَّ يَتَساءَلُونَ » قال فقال هي في أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه يقول ما لله عز وجل آية هي أكبر مني ولا لله من نبإ أعظم مني.

باب

ما فرض الله عز وجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكون

مع الأئمة عليهم‌السلام

١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن أحمد بن عائذ ، عن ابن أذينة ، عن بريد بن معاوية العجلي قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل :

______________________________________________________

يبقى ميت في شرق ولا غرب ولا في بر ولا في بحر إلا ومنكر ونكير يسألان عن ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الموت ، يقولان له : من ربك؟ ومن نبيك؟ ومن إمامك؟

وروى مثله ابن شهرآشوب عن تفسير القطان بإسناده عن السدي مثله.

وروى محمد بن العباس بن مروان في تفسيره بإسناده إلى علقمة قال : خرج يوم صفين رجل من عسكر الشام وعليه سلاح وفوقه مصحف ، وهو يقرأ « عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ » فأردت البراز إليه فقال علي عليه‌السلام : مكانك ، وخرج بنفسه فقال له : أتعرف النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون؟ قال : لا ، فقال عليه‌السلام : أنا والله النبإ العظيم الذي فيه اختلفتم ، وعلى ولايتي تنازعتم ، وعن ولايتي رجعتم بعد ما قبلتم وببغيكم [ هلكتم ] بعد ما بسيفي نجوتم ، ويوم الغدير قد علمتم ويوم القيامة تعلمون ما علمتم ، ثم علاه بسيفه فرمى رأسه ويده.

باب ما فرض الله عز وجل ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الكون

مع الأئمة عليهم‌السلام

الحديث الأول : ضعيف.

« وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ » قال الطبرسي (ره) في مصحف عبد الله وقراءة ابن


« اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ » (١) قال إيانا عنى.

______________________________________________________

عباس : من الصادقين ، وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ثم قال : أي مع الذين يصدقون في أخبارهم ولا يكذبون ، ومعناه كونوا على مذهب من يستعمل الصدق في أقواله ، وصاحبوهم ورافقوهم ، وقد وصف الله الصادقين في سورة البقرة بقوله : « وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » إلى قوله « أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ » (٢) فأمر سبحانه بالاقتداء بهؤلاء ، وقيل : المراد بالصادقين هم الذين ذكرهم الله في كتابه وهو قوله : « رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ » يعني حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب عليه‌السلام « وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ » (٣) يعني علي بن أبي طالب ، وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كونوا مع الصادقين ، مع علي وأصحابه ، وروى جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله : « كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ » قال : مع آل محمد عليهم‌السلام ، انتهى.

وأقول : التمسك بتلك الآية لإثبات الإمامة في المعصومين بين الشيعة معروف ، وقد ذكره المحقق الطوسي طيب الله روحه القدوسي في كتاب التجريد ، ووجه الاستدلال بها أن الله أمر كافة المؤمنين بالكون مع الصادقين ، وظاهر أن ليس المراد به الكون معهم بأجسادهم بل المعنى لزوم طرائقهم ومتابعتهم في عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم ، ومعلوم أن الله تعالى لا يأمر عموما بمتابعة من يعلم صدور الفسق والمعاصي عنه ، مع نهيه عنها ، فلا بد من أن يكونوا معصومين لا يخطئون في شيء حتى تجب متابعتهم في جميع الأمور ، وأيضا اجتمعت الأمة على أن خطاب القرآن عام لجميع الأزمنة لا يختص بزمان دون زمان ، فلا بد من وجود معصوم في كل زمان ليصح أمر مؤمني كل زمان بمتابعتهم.

فإن قيل : لعلهم أمروا في كل زمان بمتابعة الصادقين الكائنين في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يتم وجود المعصوم في كل زمان.

قلنا : لا بد من تعدد الصادقين أي المعصومين لصيغة الجمع ، ومع القول بالتعدد

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٠.

(٢) سورة : البقرة ١٧٧.

(٣) سورة الأحزاب : ٢٣.


______________________________________________________

يتعين القول بما تقول الإمامية ، إذ لا قائل بين الأمة بتعدد المعصومين في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع خلو سائر الأزمنة عنهم ، مع قطع النظر عن بعد هذا الاحتمال عن اللفظ وسيأتي تمام القول في ذلك في أبواب النصوص على أمير المؤمنين صلوات الله عليه.

والعجب من إمامهم الرازي كيف قارب ثم جانب وسدد ثم شدد وأقر ثم أنكر وأصر حيث قال في تفسير تلك الآية : أنه تعالى أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين فلا بد من وجود الصادقين لأن الكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء فهذا يدل على أنه لا بد من وجود الصادقين في كل وقت ، وذلك يمنع من إطباق الكل على الباطل ، فوجب أن أطبقوا على شيء أن يكونوا محقين فهذا يدل على أن إجماع الأمة حجة.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال المراد بقوله : كونوا مع الصادقين ، أي كونوا على طريقة الصادقين الصالحين كما أن الرجل إذا قال لولده كن مع الصالحين لا يفيد إلا ذلك ، سلمنا ذلك لكن نقول : إن هذا الأمر كان موجودا في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط وكان هذا أمرا بالكون مع الرسول فلا يدل على وجود صادق في سائر الأزمنة ، سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما تقول الشيعة.

فالجواب عن الأول : أن قوله : كونوا مع الصادقين أمر بموافقة الصادقين ونهى عن مفارقتهم ، وذلك مشروط بوجود الصادقين ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فدلت هذه الآية على وجود الصادقين ، وقوله : إنه محمول على أن يكونوا على طريقة الصادقين ، فنقول : إنه عدول عن الظاهر من غير دليل ، قوله : هذا الأمر مختص بزمان الرسول قلنا : هذا باطل لوجوه « الأول » أنه ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى قيام


______________________________________________________

القيامة فكان الأمر في هذا التكليف كذلك « والثاني » أن الصيغة تتناول الأوقات كلها ، بدليل صحة الاستثناء « والثالث » لما لم يكن الوقت المعين مذكورا في لفظ الآية لم يكن حمل الآية على البعض أولى من حملها علي الباقي ، فإما أن لا يحمل على شيء فيفضي إلى التعطيل وهو باطل ، أو على الكل وهو المطلوب « والرابع » أن قوله : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ » أمر لهم بالتقوى وهذا الأمر إنما يتناول من يصح منه أن لا يكون متقيا وإنما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ ، فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطإ وجب كونه مقتديا بمن كان واجب العصمة ، وهم الذين حكم الله بكونهم صادقين وترتب الحكم في هذا يدل على أنه إنما وجب على جائز الخطإ كونه مقتديا به ، ليكون مانعا لجائز الخطإ عن الخطإ وهذا المعنى قائم في جميع الأزمان ، فوجب حصوله في كل الأزمان ، قوله : لم لا يجوز أن يكون المراد هو كون المؤمن مع المعصوم الموجود في كل زمان ، قلنا : نحن معترف بأنه لا بد من معصوم في كل زمان إلا أنا نقول إن ذلك المعصوم هو مجموع الأمة ، وأنتم تقولون أن ذلك المعصوم واحد منهم ، فنقول : هذا الثاني باطل ، لأنه تعالى أوجب على كل من المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين ، وإنما يمكنه ذلك لو كان عالما بأن ذلك الصادق من هو ، لأن الجاهل بأنه من هو لو كان مأمورا بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق ، لأنا لا نعلم إنسانا معينا موصوفا بوصف العصمة ، والعلم بأنا لا نعلم هذا الإنسان حاصل بالضرورة ، فثبت أن قوله « كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ » ليس أمرا بالكون مع شخص معين ، ولما بطل هذا بقي أن المراد منه الكون مع جميع الأمة ، وذلك يدل على أن قول مجموع الأمة صواب وحق ولا نعني بقولنا الإجماع حجة إلا ذلك ، انتهى كلامه.

والحمد لله الذي حقق الحق بما جرى على أقلام أعدائه ، ألا ترى كيف شيد ما ادعته الإمامية بغاية جهده ثم بأي شيء تمسك في تزييفه والتعامي عن رشده ،


______________________________________________________

وهل هذا إلا كمن طرح نفسه في البحر العجاج رجاء أن يتشبث للنجاة بخطوط الأمواج ، ولنشر إلى شيء مما في كلامه من التهافت والاعوجاج.

فنقول كلامه فاسد عن وجوه :

أما أو لا فلأنه بعد ما اعترف أن الله تعالى إنما أمر بذلك لتحفظ الأمة عن الخطإ في كل زمان ، فلو كان المراد ما زعمه من الإجماع كيف يحصل العلم بتحقق الإجماع في تلك الأعصار مع انتشار علماء المسلمين في الأمصار ، وهل يجوز عاقل إمكان الاطلاع على جميع أقوال آحاد المسلمين في تلك الأزمنة ، ولو تمسك بالإجماع الحاصل في الأزمنة السابقة ، فقد صرح بأنه لا بد في كل زمان من معصوم محفوظ عن الخطإ.

وأما ثانيا : فبأنه على تقدير تسليم تحقق الإجماع والعلم به في تلك الأزمنة فلا يتحقق ذلك إلا في قليل من المسائل ، فكيف يحصل تحفظهم عن الخطإ بذلك.

وأما ثالثا : فبأنه لا يخفى على عاقل أن الظاهر من الآية أن المأمورين بالكون ، غير من أمروا بالكون معهم ، وعلى ما ذكره يلزم اتحادهما.

وأما رابعا : فبأن المراد بالصادق إما الصادق في الجملة ، فهو يصدق على جميع المسلمين فإنهم صادقون في كلمة التوحيد لا محالة ، أو في جميع الأقوال ، والأول لا يمكن أن يكون مرادا لأنه يلزم أن يكونوا مأمورين باتباع كل من آحاد المسلمين كما هو الظاهر من عموم الجمع المحلى باللام ، فتعين الثاني وهو لازم العصمة ، وأما الذي اختاره من إطلاق الصادقين على المجموع من حيث المجموع ، من جهة أنهم من حيث الاجتماع ليسوا بكاذبين ، فهذا احتمال لا يجوزه كردي لم يأنس بكلام العرب قط.

وأما خامسا : فبأن تمسكه في نفي ما يدعيه الشيعة في معرفة الإمام لا تخفى سخافته ، إذ كل جاهل وضال ومبتدع في الدين يمكن أن يتمسك بهذا في عدم وجوب اختيار الحق والتزام الشرائع ، فلليهود أن يقولوا : لو كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيا


٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال سألته عن قول الله عز وجل « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ » قال الصادقون هم الأئمة والصديقون بطاعتهم.

٣ ـ أحمد بن محمد ومحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن منصور بن يونس ، عن سعد بن طريف ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أحب أن يحيا حياة تشبه حياة الأنبياء ويموت ميتة تشبه ميتة الشهداء

______________________________________________________

لكنا عالمين بنبوته ، ولكنا نعلم ضرورة أنا غير عالمين به ، وكذا سائر فرق الكفر والضلالة ، وليس ذلك إلا لتعصبهم ومعاندتهم ، وتقصيرهم في طلب الحق ، ولو رفعوا أغشية العصبية عن أبصارهم ، ونظروا في دلائل إمامتهم ومعجزاتهم ، ومحاسن أخلاقهم وأطوارهم لأبصروا ما هو الحق في كل باب ، ولم يبق لهم شك ولا ارتياب ، وكفى بهذه الآية على ما قرر الكلام فيها دليلا على لزوم الإمام في كل عصر وزمان.

الحديث الثاني : صحيح.

« والصديقون » عطف على الصادقين أي الصديقون في قوله تعالى : « مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ » هم الأئمة ، وإنما سموا بذلك لطاعتهم للأنبياء في جميع ما أتوا به قبل كل أحد ، وعصمتهم من الخطإ فهم صادقون من جهة القول ، صديقون من جهة الفعل ، فضمير طاعتهم راجع إلى الصديقين ، أو عطف على الأئمة ، أي الصادقون هم الأئمة وهم الصديقون ، فالعطف للتفسير إشارة إلى أن المراد بالصديقين أيضا هم عليه‌السلام ، والضمير كما مر ويؤيده أن في بصائر الدرجات بدون العاطف ، ويحتمل الأخير وجها آخر ، وهو أن يكون المراد بالصديقين الشيعة ، فيحتمل إرجاع الضمير إلى الأئمة أو الصادقين إضافة إلى المفعول.

الحديث الثالث : مختلف فيه كالموثق.


ويسكن الجنان التي غرسها الرحمن فليتول عليا وليوال وليه وليقتد بالأئمة من بعده فإنهم عترتي خلقوا من طينتي اللهم ارزقهم فهمي وعلمي وويل للمخالفين لهم من أمتي اللهم لا تنلهم شفاعتي.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن النضر بن شعيب ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة الثمالي قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الله تبارك وتعالى يقول استكمال حجتي على الأشقياء من أمتك من ترك ولاية علي ووالى أعداءه وأنكر فضله وفضل الأوصياء من بعده فإن فضلك فضلهم وطاعتك طاعتهم وحقك حقهم ومعصيتك معصيتهم وهم الأئمة الهداة من بعدك جرى فيهم روحك وروحك ما جرى فيك من ربك وهم عترتك من طينتك ولحمك ودمك

______________________________________________________

« غرسها الرحمن » أي بقدرته ورحمانيته بلا توسط غارس ، وفيه إيماء إلى أن دخول الناس الجنة بمحض الرحمة لا باستحقاقهم ، ويقال : تولاه إذا اتخذه وليا أي إماما ، والموالاة ضد المعاداة ، والولي المحب والناصر ، وضمير « فإنهم » لعلي والأئمة ، والدعاء بعدم إنالة الشفاعة مع أنها من فعله إما لأن المراد به الأمر بالشفاعة ، أو عدم إدخالهم في الشفاعة الإجمالية منه صلى‌الله‌عليه‌وآله للأمة ، أو المقصود به الأخبار عن عدم الإنالة لا الدعاء.

الحديث الرابع : مجهول.

والاستكمال : الإتمام ، وهو مبتدأ « وعلى الأشقياء » خبره « من ترك » بفتح الميم بدل الأشقياء ، والولاية بالكسر : المحبة والطاعة ، وبالفتح : الإمارة والسلطنة ، « فإن فضلك فضلهم » أي كل ما ثبت لك من العلم والعصمة وسائر الفضائل فهو فضلهم ، وثابت لهم « وطاعتك طاعتهم » أي لو لم يطيعوهم لم يطيعوك ، أو أن فرض الطاعة كما ثبت لك ثبت لهم « وحقك » على الناس « حقهم » أي تجب رعاية حقهم لرعاية حقك ، فإن مودتهم أجر الرسالة ، أو لهم على الناس حق كمالك عليهم ، وفي الفقرات نوع قلب للمبالغة « جرى فيهم روحك » بالضم أي روح القدس ، أو من سنخ روحك و


وقد أجرى الله عز وجل فيهم سنتك وسنة الأنبياء قبلك وهم خزاني على علمي من بعدك حق علي لقد اصطفيتهم وانتجبتهم وأخلصتهم وارتضيتهم ونجا من أحبهم ووالاهم وسلم لفضلهم ولقد أتاني جبرئيل عليه‌السلام بأسمائهم وأسماء آبائهم وأحبائهم والمسلمين لفضلهم.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن فضالة بن أيوب ، عن أبي المغراء ، عن محمد بن سالم ، عن أبان بن تغلب قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أراد أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل جنة عدن التي غرسها الله ربي بيده فليتول علي بن أبي طالب وليتول وليه وليعاد عدوه وليسلم للأوصياء من بعده فإنهم عترتي من لحمي ودمي

______________________________________________________

مثله ، والحمل على المبالغة « وروحك » بالفتح وهو الراحة والرحمة ونسيم الريح ، كناية عن الألطاف الربانية « ما جرى » أي نحو ما جري أو قدره « ولحمك ودمك » كناية عن غاية القرابة الجسمانية والروحانية والعقلانية « سنتك » أي طريقتك من الهداية والرئاسة ، والتكميل والإرشاد « لقد اصطفيتهم » اللام جواب القسم لأن قوله « حق علي » بمنزلة القسم ، أو حق خبر مبتدإ محذوف وقوله : « لقد اصطفيتهم » استيناف بياني والانتجاب : الاختيار « ولقد أتاني » من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الحديث الخامس : مجهول.

والعدن : الإقامة ، وقيل : جنة العدن اسم لمدينة الجنة ، وهي مسكن الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل ، والناس سواهم في جنات حواليها ، وقيل : هي قصر لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو إمام عدل ، وقيل : للعدن نهر على حافتيه جنات عدن والأول أصوب « فليتول » أي يعتقد ولايته وإمامته « وليتول » أي يحب ، ويحتمل أن يكون الأول أيضا بمعنى المحبة ، والتسليم للأوصياء إطاعتهم في الأوامر والنواهي ، وقبول كل ما يصدر منهم قولا وفعلا « فإنهم » أي الأوصياء أو هم مع


أعطاهم الله فهمي وعلمي إلى الله أشكو أمر أمتي المنكرين لفضلهم القاطعين فيهم صلتي وايم الله ليقتلن ابني لا أنالهم الله شفاعتي.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن موسى بن سعدان ، عن عبد الله بن القاسم ، عن عبد القهار ، عن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدنيها ربي ويتمسك بقضيب غرسه ربي بيده فليتول علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأوصياءه من بعده فإنهم لا يدخلونكم في باب ضلال ولا يخرجونكم من باب هدى فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم وإني سألت ربي ألا يفرق بينهم وبين الكتاب حتى يردا علي الحوض هكذا وضم بين إصبعيه وعرضه ما بين صنعاء إلى أيلة فيه

______________________________________________________

على « القاطعين فيهم » أي بسببهم أو في حقهم « صلتي » أي بري وإحساني ، إذ مودتهم عليهم‌السلام أجر الرسالة والإقرار بإمامتهم ومتابعتهم قضاء لحق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله « وأيم » بفتح الهمزة وسكون الياء مبتدأ مضاف ، وأصله أيمن جمع يمين ، وخبره محذوف وهو يميني ، والمقصود الحلف بكل « ما » حلف بالله ، والمراد بالابن الحسين عليه‌السلام ، وربما يقرأ بصيغة التثنية إشارة إلى الحسن والحسين عليهما‌السلام.

الحديث السادس : ضعيف.

« والقضيب » : الغصن ، واليد : القدرة « فإنهم أعلم منكم » أي في كل ما تريدون تعليمهم فيه ، فلا يرد أن العالم قد يعلم الأعلم « أن لا يفرق بينهم وبين الكتاب » أي يجعلهم الحافظين للكتاب ، المفسرين له ، العاملين به ، الداعين إليه وإلى العمل به ، والمراد بالإصبعين السبابتان في اليدين « وصنعاء » ممدودة قصبة في اليمن.

« وأيلة » في أكثر النسخ هنا بفتح الهمزة وسكون الياء المثناة التحتانية ، قال في القاموس : إيلة جبل بين مكة والمدينة قرب ينبع ، وبلد بين ينبع ومصر ، وحصن معروف ، وإيلة بالكسر : قرية بباخرز وموضعان آخران « انتهى » وفي أكثر روايات


قدحان فضة وذهب عدد النجوم.

٧ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن جمهور ، عن فضالة بن أيوب ، عن الحسن بن زياد ، عن الفضيل بن يسار قال قال أبو جعفر عليه‌السلام وإن الروح والراحة والفلج والعون والنجاح والبركة والكرامة والمغفرة والمعافاة واليسر والبشرى والرضوان والقرب والنصر والتمكن والرجاء والمحبة من الله عز وجل

______________________________________________________

الحوض في سائر الكتب : بضم الألف والباء الموحدة واللام المشددة ، وهي بلد قرب بصرة في الجانب البحري ولعله موضع البصرة اليوم.

« والقدحان » بضم القاف وسكون الدال جمع قدح بالتحريك ، وهو إناء يروي الرجلين ، أو اسم يجمع الصغار والكبار ، و « عدد » منصوب بنزع الخافض ، أي بعدد ، ويعبر بعدد النجوم عن الكثرة بحيث لا يحصى ، لأن ما يحصل به المجرة من النجوم لا يمكن إحصاؤه.

الحديث السابع : ضعيف.

وكأنه سقط منه « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » كما يظهر من آخر الخبر.

والروح بالفتح نسيم الريح ، والمراد هنا روح الجنة أو النفخات القدسية ، والفلج بالجيم بمعنى الغلبة ، وفي بعض النسخ بالحاء المهملة وهو محركة الفوز والنجاة والبقاء في الخير كما في القاموس ، والعون : الإعانة على الخيرات ، والنجاح : الفوز بالمطلوب ، والبركة : الثبات في الخير أو النماء والزيادة في الخيرات الدنيوية والسعادات الأخروية ، والكرامة : الشرف والقرب عند الله ، والمعافاة : دفع الله عنه مكاره الدنيا والعقبى ، واليسر : رفع العسر فيهما ، والبشرى : الإخبار بما يسر أي عند الموت أو الأعم ، والرضوان بالكسر والضم ، أي الرضا من الله والقرب منه تعالى ، والنصر على الأعداء الظاهرة والباطنة ، والتمكن : أي الاقتدار على جلب المنافع ودفع المكاره ، أو المنزلة عند الله.

وقوله : « من الله » متعلق بالجميع أو بالأخير فقط ، « حقا علي » أي حق


لمن تولى عليا وائتم به وبرئ من عدوه وسلم لفضله وللأوصياء من بعده حقا علي أن أدخلهم في شفاعتي وحق على ربي تبارك وتعالى أن يستجيب لي فيهم فإنهم أتباعي ومن تبعني فإنه مني.

باب

أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهم‌السلام

١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن عبد الله بن عجلان ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » (١)

______________________________________________________

حقا علي وثبت ولزم ، ويحتمل أن يكون حقا تأكيدا للجملة السابقة نحو : لا إله إلا الله حقا احترازا عمن انتحل التولي ولم يتصف به ، فيكون « على » ابتداء الكلام أي واجب ولازم على إدخالهم في شفاعتي ، وحق على ربي أي واجب عليه أن يستجيب دعائي فيهم ، ويمكن أن يقرأ حق بصيغة الماضي المجهول « فإنهم اتباعي » في جميع الأمور « ومن تبعني » كذلك « فإنه مني » وكعضوي بل كنفسي كما قال تعالى : « فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي » (٢) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : علي مني وأنا من علي.

باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهم‌السلام

الحديث الأول : ضعيف على المشهور.

« فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ » قال الطبرسي (ره) : فيه أقوال : « أحدهما » أن المعنى بذلك أهل العلم بإخبار من مضي من الأمم ، سواء كانوا مؤمنين أو كفارا وسمي العلم ذكرا لأن الذكر منعقد بالعلم « وثانيها » أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب عن ابن عباس ومجاهد ، أي فاسألوا أهل التوراة والإنجيل إن كنتم لا تعلمون ، يخاطب مشركي مكة ، وذلك أنهم كانوا يصدقون اليهود والنصارى فيما كانوا يخبرون به من كتبهم ،

__________________

(١) سورة النحل : ٤٥.

(٢) سورة إبراهيم : ٣٦.


قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذكر أنا والأئمة أهل الذكر وقوله عز وجل : « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ » (١) قال أبو جعفر عليه‌السلام نحن قومه ونحن المسئولون.

______________________________________________________

لأنهم كانوا يكذبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لشدة عداوتهم « وثالثها » أن المراد به أهل القرآن ، لأن الذكر هو القرآن عن ابن زيد ، ويقرب منه ما رواه جابر ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال : نحن أهل الذكر ، وقد سمى الله رسوله ذكرا في قوله : « ذِكْراً رَسُولاً » على أحد الوجهين ، انتهى.

وأقول : يظهر من الأخبار لكونهم عليهم‌السلام أهل الذكر وجه آخر ، وهو أن الذكر القرآن وهم أهل القرآن كما يومي إليه آخر الخبر ، وروى الصفار في البصائر بأسانيد جمة عن الباقر عليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنه قال : الذكر القرآن ونحن أهله ، ونحن المسؤولون ، وهذا التفسير مما روته العامة أيضا.

روى الشهرستاني في تفسيره المسمى بمفاتيح الأسرار عن جعفر بن محمد عليه‌السلام أن رجلا سأله فقال : من عندنا يقولون في قوله تعالى : « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » أن الذكر هو التوراة وأهل الذكر هم علماء اليهود؟ فقال عليه‌السلام : والله إذن يدعوننا إلى دينهم ، بل نحن والله أهل الذكر الذين أمر الله تعالى برد المسألة إلينا ، قال : وكذلك نقل عن علي عليه‌السلام أنه قال : نحن أهل الذكر.

وروى السيد في الطرائف ، والعلامة في كشف الحق نقلا عن تفسير محمد بن مؤمن الشيرازي من علماء الجمهور ، واستخرجه من التفاسير الاثني عشر عن ابن عباس في قوله تعالى : « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ » قال : هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، هم أهل الذكر والعلم والعقل والبيان ، وهم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ، والله ما سمي المؤمن مؤمنا إلا كرامة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، قالا : ورواه سفيان الثوري عن السدي عن الحارث.

« وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ » قال الطبرسي (ره) : أي وأن القرآن الذي أوحي

__________________

(١) سورة الزخرف : ٤٣.


٢ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن أورمة ، عن علي بن حسان ، عن عمه عبد الرحمن بن كثير قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » قال الذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحن أهله المسئولون قال قلت قوله : « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ » قال إيانا عنى ونحن أهل الذكر ونحن المسئولون.

٣ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء قال سألت الرضا عليه‌السلام فقلت له جعلت فداك « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » فقال نحن أهل الذكر ونحن المسئولون قلت فأنتم المسئولون ونحن السائلون قال نعم قلت حقا علينا أن نسألكم قال نعم قلت حقا عليكم أن تجيبونا قال لا ذاك إلينا

______________________________________________________

إليك لشرف لك ولقومك من قريش عن ابن عباس والسدي ، وقيل : ولقومك ، أي للعرب لأن القرآن نزل بلغتهم ، ثم يختص ذلك الشرف الأخص فالأخص من العرب ، حتى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم ، ثم لبني هاشم أكثر من غيرهم مما يكون لقريش « وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ » عن شكر ما جعله الله لكم من الشرف ، وقيل : تسألون عن القرآن وعما يلزمكم من القيام بحقه ، انتهى.

وأقول : على تفسيره عليه‌السلام يحتمل أن يكون الذكر في الآية بمعنى المذكر « وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ » أي أنت وقومك عن معاني القرآن إلى آخر الزمان ، وهذا أنسب بظاهر الخطاب كما لا يخفى على ذوي الألباب.

الحديث الثاني : ضعيف.

« إيانا عنى » تفسير لقوله تعالى : « لِقَوْمِكَ ».

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور.

« ذاك إلينا » أي لم يفرض علينا جواب كل سائل وكل سؤال ، بل إنما يجب عند عدم التقية وتجويز التأثير ، وكون السائل قابلا لفهم الجواب ، فلا ينافي ما مر من وجوب تعليم الجهال على العلماء ، ولعل الاستشهاد بالآية على وجه التنظير أي


إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل أما تسمع قول الله تبارك وتعالى : « هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ » (١).

٤ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ » فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذكر وأهل بيته عليهم‌السلام المسئولون وهم أهل الذكر.

______________________________________________________

كما أن الله تعالى خير سليمان بين المن وهو العطاء والإمساك في الأمور الدنيوية ، كذلك فوض إلينا في بذل العلم ، ويحتمل أن يكون في سليمان عليه‌السلام أيضا بهذا المعنى أو الأعم.

قال البيضاوي : « هذا عَطاؤُنا » أي هذا الذي أعطيناك من الملك والبسط والتسلط على ما لم يسلط به غيرك عطاؤنا « فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ » فأعط من شئت وامنع من شئت « بِغَيْرِ حِسابٍ » حال من المستكن في الأمر ، أي غير محاسب علي منه ، وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك ، أو من العطاء أو صلة وما بينهما اعتراض ، والمعنى أنه عطاء جم لا يكاد يمكن حصره.

الحديث الرابع : صحيح ، ولعل فيه إسقاطا أو تبديلا لإحدى الآيتين بالأخرى من الرواة أو النساخ.

وربما يأول بتقدير مضاف أي فرسول الله ذو الذكر أو المذكر ، لأن اللام في قوله : « لَكَ وَلِقَوْمِكَ » للتعليل لا للانتفاع ، لأنه لا يختص به وبقومه ، بل هو شامل للعالمين « وأهل بيته » عطف على رسول الله « والمسؤولون » نعت لأهل بيته ، أو مبتدأ وخبر ، والفرض أن العمدة والمقصود الأصلي في هذا الخطاب كون أهل بيته المسؤولون وقوله : « وهم أهل الذكر » إشارة إلى تفسير الآية الأخرى يعني أنهم جامعون لكونهم ذكرا ولكونهم أهل الذكر.

__________________

(١) سورة ص : ٣٨.


٥ ـ أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد ، عن ربعي ، عن الفضيل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله تبارك وتعالى : « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ » قال الذكر القرآن ونحن قومه ونحن المسئولون.

٦ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن محمد بن إسماعيل ، عن منصور بن يونس ، عن أبي بكر الحضرمي قال كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام ودخل عليه الورد أخو الكميت فقال جعلني الله فداك اخترت لك سبعين مسألة ما تحضرني منها مسألة واحدة قال ولا واحدة يا ورد قال بلى قد حضرني منها واحدة قال وما هي قال قول الله تبارك وتعالى : « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » من هم قال نحن قال قلت علينا أن نسألكم قال نعم قلت عليكم أن تجيبونا قال ذاك إلينا.

٧ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان بن يحيى ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال إن من عندنا يزعمون أن قول الله عز وجل « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » أنهم اليهود والنصارى

______________________________________________________

الحديث الخامس : صحيح.

« الذكر القرآن » بيان لمرجع الضمير ، وضمير « قومه » للمخاطب في ذلك « ونحن المسؤولون » أي المقصود بالسؤال أو منهم.

الحديث السادس : حسن موثق.

والكميت بن زيد من الشعراء المشهورين وكان مداحا لأهل البيت عليهم‌السلام « ولا واحدة » بتقدير الاستفهام « قال بلى » إما مبني على حضور الواحدة بعد نسيان الكل أو حمل أول الكلام على المبالغة.

الحديث السابع : صحيح.

« إن من عندنا » أي من المخالفين « أنهم » بالفتح بدل « أن قول الله » والضمير


قال إذا يدعونكم إلى دينهم قال قال بيده إلى صدره نحن أهل الذكر ونحن المسئولون.

٨ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الوشاء ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال سمعته يقول قال علي بن الحسين عليه‌السلام على الأئمة من الفرض ما ليس على شيعتهم وعلى شيعتنا ما ليس علينا أمرهم الله عز وجل أن يسألونا قال « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » فأمرهم أن يسألونا وليس علينا الجواب إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا.

٩ ـ أحمد بن محمد ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال كتبت إلى الرضا عليه‌السلام كتابا فكان في بعض ما كتبت قال الله عز وجل : « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » وقال الله عز وجل : « وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِ

______________________________________________________

لأهل الذكر « إلى صدره » متعلق بقال بتضمين معنى الإشارة ، أو القول بمعنى الفعل كما هو الشائع.

الحديث الثامن : صحيح.

« على الأئمة عليهم‌السلام من الفرض » مثل خشونة الملبس وجشوبة المأكل كما سيأتي « وعلى شيعتنا » التفات أو ابتداء كلام من الرضا عليه‌السلام.

الحديث التاسع : صحيح.

« ما كان المؤمنون » أي ما استقام لهم « أن ينفروا » كلهم إلى أهل العلم لطلبه لأن ذلك يوجب اختلال نظام معاشهم « فَلَوْ لا » أي فهلا « نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ » كثيرة « طائِفَةٌ » قليلة « لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ » من مخالفة الرب « إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ».

واستدل به على أن طلب العلم واجب كفائي ، وعلي حجية خبر الواحد ، وفي الآية وجه آخر ، وهو أنها نزلت في شأن المجاهدين أي ما كان لهم أن ينفروا كافة إلى الجهاد ، بل يجب أن ينفر من كل فرقة طائفة ليتفقه الباقون ولينذروا


فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » (١) فقد فرضت عليهم المسألة ولم يفرض عليكم الجواب قال قال الله تبارك وتعالى : « فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ » (٢)

باب

أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هم الأئمة عليهم‌السلام

١ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن المغيرة ، عن عبد المؤمن بن القاسم الأنصاري ، عن سعد ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عز وجل : « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ » (٣) قال أبو جعفر عليه‌السلام إنما نحن « الَّذِينَ يَعْلَمُونَ » و « الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ » عدونا وشيعتنا « أُولُوا الْأَلْبابِ ».

٢ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله عز وجل « هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ

______________________________________________________

قومهم إذا رجع النافرون إليهم ، فتدل على أن الجهاد واجب كفائي.

« قال » أي كتب « قال الله تبارك وتعالى » لعله عليه‌السلام فسر الآية بعدم وجوب التبليغ عند اليأس من التأثير كما هو الظاهر من سياقها ، والحاصل أن عدم الجواب للتقية والمصلحة ، وقيل : لعل المراد أنه لو كنا نجيبكم عن كل ما سألتم فربما يكون في بعض ذلك ما لا تستجيبونا فيه ، فتكونون من أهل هذه الآية ، فالأولى بحالكم ألا نجيبكم إلا فيما نعلم أنكم تستجيبونا فيه.

باب أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هم الأئمة صلوات الله عليهم

الحديث الأول : مجهول.

الحديث الثاني : صحيح.

« هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ » الاستفهام للإنكار والمراد يعلمون كل ما تحتاج إليه

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٣.

(٢) سورة القصص : ٥٠.

(٣) سورة الزمر : ٩.


لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ » قال نحن الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وعدونا الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وشيعتنا أُولُوا الْأَلْبابِ.

باب

أن الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم‌السلام

١ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن أيوب بن الحر وعمران بن علي ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال نحن الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ونحن نعلم تأويله.

______________________________________________________

الأمة « وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ » جميع ذلك « إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ » أي أصحاب العقول السليمة ، فإنهم يعلمون فضل أهل العلم على غيرهم ، ومصداقهم الشيعة ، لأنهم اختاروا إمامة الأعلم وفضلوه على غيره ، وبالجملة هذه الآية تدل على إمامة أئمتنا عليهم‌السلام ، إذ تدل على أن مناط الفضل ومعياره العلم ، ولا ريب في أن أئمتنا عليهم‌السلام في كل عصر كانوا أعلم من المدعين للخلافة من غيرهم.

باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم‌السلام

الحديث الأول : (١)

نحن « الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » إشارة إلى قوله سبحانه : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ » أي أصله « وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ » واختلف في تفسير المحكم والمتشابه ، فقيل : المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة ، والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقرن به ما يدل على المراد منه لالتباسه ، وقيل : المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا ، والمتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا ، وقيل : المحكم ما يعلم تعيين تأويله ، والمتشابه ما لم يعلم تعيين تأويله كقيام الساعة.

قال تعالى : « فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ » أي ميل عن الحق « فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ

__________________

(١) كذا في النسخ.


٢ ـ علي بن محمد ، عن عبد الله بن علي ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عن عبد الله بن حماد ، عن بريد بن معاوية ، عن أحدهما عليهما‌السلام في قول الله عز وجل : « وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » (١) فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الراسخين في العلم قد علمه الله عز وجل جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل وما كان الله لينزل

______________________________________________________

مِنْهُ » أي يحتجون به على باطلهم « ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ » أي لطلب الضلال والإضلال وإفساد الدين على الناس ، وروي عن الصادق عليه‌السلام أن الفتنة هي الكفر « وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ » أي ولطلب تأويله على خلاف الحق.

« وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » قال الطبرسي رحمه‌الله : أي الثابتون في العلم ، الضابطون له المتقنون فيه ، واختلف في نظمه وحكمه على قولين : « أحدهما » أن الراسخون معطوف على الله بالواو على معنى أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله وإلا الراسخون في العلم ، فإنهم يعلمونه « ويقولون » على هذا في موضع النصب على الحال ، وتقديره قائلين « آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا » وهذا قول ابن عباس ومجاهد والربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير ، واختيار أبي مسلم ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، والقول الآخر : أن الواو في قوله « وَالرَّاسِخُونَ » واو الاستئناف فعلى هذا القول يكون تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ، والوقف عند قوله : « إِلاَّ اللهُ » ويبتدأ بـ « وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ » فيكون مبتدأ وخبرا ، وهؤلاء يقولون أن الراسخين لا يعلمون تأويله ، ولكنهم يؤمنون به « كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا » معناه المحكم والمتشابه جميعا من عند ربنا ، « وَما يَذَّكَّرُ » أي وما يتفكر في آيات الله ولا يرد المتشابه إلى المحكم « إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ » أي ذوو العقول.

الحديث الثاني : ضعيف.

« من التنزيل » أي المدلول المطابقي أو التضمني ، والتأويل أي المعنى الالتزامي ، ما يوافق ظاهر اللفظ ، والتأويل ما يصرف إليه اللفظ لقرينة أو دليل عقلي أو نقلي ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ٦.


عليه شيئا لم يعلمه تأويله وأوصياؤه من بعده يعلمونه كله والذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم الله بقوله : « يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا » والقرآن خاص وعام ومحكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ فالراسخون في العلم يعلمونه.

______________________________________________________

« وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ » مبتدأ وجملة الشرط والجزاء خبره ، وقيل : قوله : فأجابهم خبر ، وفيه بعد لخلو الشرط عن الجزاء إلا بتقدير ، والمراد بالذين لا يعلمون الشيعة ، أي الشيعة والمؤمنون.

« إذا قال العالم » أي الإمام عليه‌السلام « فيه » (١) أي في القرآن وفي تأويل المتشابه ، وفي بعض النسخ « فيهم » أي الإمام الذي بين أظهركم ، فالظرف حال عن العالم « بعلم » أي بالعلم الذي أعطاه الله وخصه به « يَقُولُونَ » أي الشيعة في جواب الإمام بعد ما سمعوا التأويل منه « آمَنَّا بِهِ » فالضمير في قوله : فأجابهم راجع إلى الراسخين ، أي أجابهم من قبل الشيعة ، ويحتمل إرجاعه إلى الشيعة على طريقة الحذف والإيصال أي أجاب لهم ، وقيل : معنى فأجابهم : قبل قولهم ومدحهم ، فالضمير راجع إلى الشيعة.

وفي بعض النسخ « والذين يعلمون » بدون حرف النفي ، أي الذين يعلمون من الشيعة بتعليم الإمام والأول أصوب ، وقيل على الأول : الذين عطف على « أوصيائه من بعده » بتقدير والذين لا يعلمون تأويله يعلمونه كله « فيهم » حال للعالم ، والمراد أن الشيعة الإمامية يعلمون تأويل ما تشابه كله بشرطين : « الأول » أن يكون الإمام العالم حاضرا فيهم لا غائبا عنهم ، فإن الغائب لا يفيد قوله العلم إلا إذا تواتر ، وقلما يكون « والثاني » أن يعلمهم الإمام العالم بأن لا يكون كلامه في تأويل ما تشابه عن تقية ، وقوله : فأجابهم الله لإفادة أن جملة يقولون استئناف بياني لجواب سؤال مقدر ، ولا يخفى ما فيه.

__________________

(١) هذا التفسير على ما في بعض النسخ وفي المتن « فيهم ».


٣ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن أورمة ، عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن بن كثير ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال « الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » أمير المؤمنين والأئمة من بعده عليهم‌السلام.

باب

أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم

١ ـ أحمد بن مهران ، عن محمد بن علي ، عن حماد بن عيسى ، عن الحسين بن المختار ، عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول في هذه الآية « بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ » (١) فأومأ بيده إلى صدره.

______________________________________________________

الحديث الثالث : ضعيف.

« أمير المؤمنين » أي بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

باب أن الأئمة ( ع ) قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم

الحديث الأول : ضعيف.

« بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ » قال الطبرسي قدس‌سره : يعني أن القرآن دلالات واضحات في صدور العلماء وهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنون به ، لأنهم حفظوه ووعوه ورسخ معناه في قلوبهم ، وقيل : هم الأئمة من آل محمد عليهم‌السلام عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام ، وقيل : إن « هو » كناية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي إنه في كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب « آياتٌ بَيِّناتٌ » في صدور العلماء من أهل الكتاب لأنه منعوت في كتبهم بهذه الصفة ، انتهى.

« فأومأ بيده إلى صدره » الإيماء للإشارة إلى أن المراد بالذين أوتوا العلم الأئمة الذين أنا منهم عليهم‌السلام ، فالمراد بالعلم علم جميع القرآن ظهره وبطنه ومحكمه ومتشابهه ، بحيث لا يذهب عنهم بسهو ولا نسيان.

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٤٨.


الحديث الثاني : ضعيف.

٢ ـ عنه ، عن محمد بن علي ، عن ابن محبوب ، عن عبد العزيز العبدي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل « بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ » قال هم الأئمة عليهم‌السلام.

٣ ـ وعنه ، عن محمد بن علي ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، عن أبي بصير قال قال أبو جعفر عليه‌السلام في هذه الآية « بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ » ثم قال أما والله يا أبا محمد ما قال بين دفتي المصحف قلت من هم جعلت فداك قال من عسى أن يكونوا غيرنا؟

______________________________________________________

الحديث الثالث : ضعيف.

« قال أبو جعفر عليه‌السلام هذه الآية » أي قرأها ، وفي بعض النسخ « في هذه » أي قرئها وفسرها.

قوله عليه‌السلام : « أما والله » أما بالتخفيف حرف استفتاح ، وأبو محمد كنية أخرى لأبي بصير ، وكلمة « ما » في قوله : « ما قال » نافية أي لم يقل أن الآيات بين دفتي المصحف أي جلديه الذين يحفظان أوراقه ، بل قال في صدور الذين أوتوا العلم ، ليعلم أن للقرآن حملة يحفظونه عن التحريف في كل زمان ، وهم الأئمة عليهم‌السلام ، ويحتمل على هذا أن يكون الظرف في قوله : « في صدور » متعلقا بقوله « بينات » فاستدل عليه‌السلام به على أن القرآن لا يفهمه غير الأئمة عليهم‌السلام ، لأنه تعالى قال : الآيات بينات في صدور قوم ، فلو كانت بينة في نفسها لما قيد كونها بينة بصدور جماعة مخصوصة.

ويحتمل أن تكون كلمة ( ما ) موصولة فيكون بيانا لمرجع ضمير ( هو ) في الآية ، أي الذي قال تعالى إنه آيات بينات هو ما بين دفتي المصحف لكنه بعيد جدا.

« من عسى أن يكونوا » الاستفهام للإنكار.


٤ ـ محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن يزيد شغر ، عن هارون بن حمزة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سمعته يقول : « بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ » قال هم الأئمة عليهم‌السلام خاصة.

٥ ـ عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن محمد بن الفضيل قال سألته عن قول الله عز وجل : « بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ » قال هم الأئمة عليهم‌السلام خاصة.

باب

في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة عليهم‌السلام

١ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن جمهور ، عن حماد بن عيسى ، عن عبد المؤمن ، عن سالم قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ

______________________________________________________

الحديث الرابع : صحيح على الظاهر.

الحديث الخامس : مجهول.

باب في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة عليهم‌السلام

الحديث الأول (١).

« ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ » قال الطبرسي (ره) أي القرآن أو التوراة أو مطلق الكتب الذي اصطفيناه من عبادنا ، قيل : هم الأنبياء وقيل : هم علماء أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمروي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام أنهما قالا : هي لنا خاصة وإيانا عنا ، وهذا أقرب الأقوال.

« فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ » اختلف في مرجع الضمير على قولين : « أحدهما » أنه يعود إلى العباد واختاره المرتضى رضي‌الله‌عنه « والثاني » أنه يعود إلى المصطفين ، ويؤيده ما ورد في الحديث عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في الآية : أما

__________________

(١) كذا في النسخ.


بِإِذْنِ اللهِ » قال السابق بالخيرات الإمام والمقتصد العارف للإمام والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام.

٢ ـ الحسين ، عن معلى ، عن الوشاء ، عن عبد الكريم ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن قوله تعالى : « ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا » فقال أي شيء تقولون أنتم قلت نقول إنها في الفاطميين قال ليس

______________________________________________________

السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة ، فهم الذين قالوا « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ » (١).

وروى أصحابنا عن زياد بن المنذر عن أبي جعفر عليه‌السلام أما الظالم لنفسه منا فهو عمل عملا صالحا وآخر سيئا ، وأما المقتصد فهو المتعبد المجتهد ، وأما السابق بالخيرات فعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام ، ومن قتل من آل محمد شهيدا بإذن الله ، انتهى.

والظاهر من أخبار هذا الباب وغيرها مما ذكرناه في كتابنا الكبير أن الضمائر راجعة إلى أهل البيت عليهم‌السلام وسائر الذرية الطيبة ، والظالم الفاسق منهم ، والمقتصد الصالح منهم ، والسابق بالخيرات الإمام ، ولا يدخل في تلك القسمة من لم تصح عقيدته منهم أو ادعى الإمامة بغير حق ، أو الظالم من لم تصح عقيدته ، والمقتصد من صحت عقيدته ولم يأت بما يخرجه عن الإيمان ، فعلى هذا الضمير في قوله تعالى : « جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها » راجع إلى المقتصد والسابق ، لا الظالم ، وعلى التقديرين المراد بالاصطفاء إن الله تعالى اصطفى تلك الذرية الطيبة بأن جعل منهم أوصياء وأئمة ، لأنه اصطفى كلا منهم ، وكذا المراد بإيراث الكتاب أنه أورثه بعضهم ، وهذا شرف للكل إن لم يضيعوه.

الحديث الثاني : ضعيف.

« أي شيء تقولون » أي معشر الزيدية القائلين بأن كل من خرج بالسيف

__________________

(١) سورة الفاطر : ٢٩.


حيث تذهب ليس يدخل في هذا من أشار بسيفه ودعا الناس إلى خلاف فقلت فأي شيء الظالم لنفسه قال الجالس في بيته لا يعرف حق الإمام والمقتصد العارف بحق الإمام والسابق بالخيرات الإمام.

٣ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن ، عن أحمد بن عمر قال سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن قول الله عز وجل « ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا » الآية قال فقال ولد فاطمة عليها‌السلام والسابق بالخيرات الإمام والمقتصد العارف بالإمام والظالم لنفسه الذي لا يعرف الإمام.

٤ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن أبي ولاد قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ

______________________________________________________

من أولاد فاطمة عليها‌السلام فهو إمام مفترض الطاعة ، وكان سليمان ممن خرج مع زيد فقطعت إصبعه ، ولم يخرج معه من أصحاب أبي جعفر عليه‌السلام غيره ، لكن قالوا : أنه تاب من ذلك ورجع إلى الحق قبل موته ، ورضي أبو عبد الله عليه‌السلام منه بعد سخطه ، وتوجع بموته.

« ليس حيث تذهب » أي من شموله لكل الفاطميين « من أشار بسيفه » أي دل الناس على إمامته جبرا بسيفه أو رفع سيفه للدعوة إلى إمامته ، قال الفيروزآبادي أشار إليه : أو ما ، وأشار عليه بكذا أمره به ، وأشار النار وبها : رفعها.

الحديث الثالث : ضعيف على المشهور.

قوله عليه‌السلام : « ولد فاطمة » أي هم معظمهم وأكثرهم ، وإلا فالظاهر دخول أمير ـ المؤمنين صلوات الله عليه فيهم.

الحديث الرابع : صحيح.

« الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ » قال الطبرسي (ره) قيل : نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، وقيل : هم من آمن من اليهود ، وقيل : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.


أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ » (١) قال هم الأئمة عليهم‌السلام.

______________________________________________________

« يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ » قال : اختلف في معناه على وجوه « أحدها » أنهم يتبعونه يعني التوراة أو القرآن حق اتباعه ، ولا يحرفونه ثم يعملون بحلاله ويقفون عند حرامه « وثانيها » أن المراد يصفونه حق صفته في كتبهم لمن يسألهم من الناس ، وعلى هذا يكون الهاء راجعة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « وثالثها » ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام إن حق تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنة والنار ، يسأل في الأول ويستعيذ في الأخرى « ورابعها » أن المراد يقرءونه حق قراءته ، يرتلون ألفاظه ويفهمون معانيه « وخامسها » أن المراد يعملون حق العمل به فيعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه ، « أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ » أي بالكتاب ، وقيل : بالنبي ، انتهى.

وأقول : على تفسيره عليه‌السلام لعل المراد الذين أورثناهم القرآن لفظا ومعنى ، فإن جميع القرآن عندهم وعلم جميعه مختص بهم ، وجملة « يَتْلُونَهُ » خبر المبتدأ و « حَقَّ تِلاوَتِهِ » قراءته كما نزل به جبرئيل بدون زيادة ولا نقصان في اللفظ ، ولا في حركاته وسكناته ، وبدون تغيير في ترتيب نزوله مع فهم جميع معانيه ظهرا وبطنا ، ومعلوم أن قراءته على الوجه المذكور مخصوص بهم عليهم‌السلام ، لما سيأتي أنه لا يجمع القرآن غيرهم ، ولا يعلم معاني القرآن إلا هم ، وهم المؤمنون به حقا إذ من لم يعرف جميع معانيه لا يؤمن به حق الإيمان.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٠.


باب

أن الأئمة في كتاب الله إمامان إمام يدعو إلى الله

وإمام يدعو إلى النار

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسن بن محبوب ، عن عبد الله بن غالب ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال لما نزلت هذه الآية « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » (١) قال المسلمون يا رسول الله ألست إمام الناس كلهم أجمعين قال فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا رسول الله إلى الناس أجمعين ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس فيكذبون ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي وسيلقاني ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء.

______________________________________________________

باب أن الأئمة في كتاب الله إمامان إمام يدعو إلى الله وإمام يدعو

إلى النار

الحديث الأول : صحيح.

« يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » قال الطبرسي (ره) فيه أقوال : « أحدها » أن معناه نبيهم ، وهذا معنى ما رواه ابن جبير عن ابن عباس ، وروي أيضا عن علي عليه‌السلام أن الأئمة إمام هدى وإمام الضلالة ، ورواه الوالبي عنه : بأئمتهم في الخير والشر « وثانيها » معناه بكتابهم الذي أنزل عليهم « وثالثها » بمن كانوا يأتمون به من علمائهم وأئمتهم ، ويجمع هذه الأقوال ما رواه الخاص والعام عن الرضا عليه‌السلام بالأسانيد الصحيحة أنه روي عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : فيه يدعى كل أناس بإمام زمانهم ، وكتاب ربهم وسنة نبيهم « ورابعها » بكتابكم الذي فيه أعمالهم « وخامسها » بأمهاتهم ، انتهى.

« فيكذبون » على بناء التفعيل بصيغة المجهول « فهو مني » أي من حزبي وأعواني ومعي في الآخرة.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧١.


٢ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين ، عن محمد بن يحيى ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال إن الأئمة في كتاب الله عز وجل إمامان قال الله تبارك وتعالى « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا » (١) لا بأمر الناس يقدمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم قال « وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ » (٢) يقدمون أمرهم قبل أمر الله وحكمهم قبل حكم الله ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عز وجل.

______________________________________________________

الحديث الثاني : ضعيف كالموثق.

« وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً » أي يقتدي بهم في أقوالهم وأفعالهم يهدون الخلق إلى طريق الجنة بأمرنا « لا بأمر الناس » تفسير لقوله تعالى « بِأَمْرِنا » أي ليس هدايتهم للناس وإمامتهم بنصب الناس وأمرهم بل هم منصوبون لذلك من قبل الله تعالى ، ومأمورون بأمره ، أو ليس هدايتهم بعلم مأخوذ من الناس أو بالرأي ، بل بما علم من وحي الله سبحانه وإلهامه كما بينه بقوله : « يقدمون أمر الله قبل أمرهم » والظاهر إرجاع الضمير إلى أنفسهم كما يؤيده الفقرات الآتية ، ويحتمل إرجاعه إلى الناس.

« وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ » قال الطبرسي قدس‌سره : هذا يحتاج إلى تأويل لأن ظاهره يوجب أنه تعالى جعلهم أئمة يدعون إلى النار ، كما جعل الأنبياء أئمة يدعون إلى الجنة ، وهذا ما لا يقول به أحد ، فالمعنى أنه أخبر عن حالهم بذلك وحكم بأنهم كذلك ، وقد تحصل الإضافة على هذا الوجه بالتعارف ، ويجوز أن يكون المراد بذلك أنه لما أظهر حالهم على لسان أنبيائه حتى عرفوا ، فكأنه جعلهم كذلك ، ومعنى دعائهم إلى النار أنهم يدعون إلى الأفعال التي يستحق بها دخول النار من الكفر والمعاصي ، انتهى.

وقوله : « خلاف » مفعول مطلق بغير اللفظ ، أو مفعول له كأنهم قصدوا الخلاف.

__________________

(١) سورة المزمل : ٢١.

(٢) سورة القصص : ٤١.


باب

أن القرآن يهدي للإمام (١)

١ ـ محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب قال سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن قوله عز وجل : « وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ

______________________________________________________

باب إلى نادر

الحديث الأول : صحيح.

« وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ » فيه وجوه « الأول » أن المعنى لكل شيء « مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ » من المال « جَعَلْنا مَوالِيَ » وراثا يلونه ويحوزونه فمن للتبيين « الثاني » لكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون « الثالث » لكل أحد جعلنا موالي مما ترك أي وارثا ، على أن « من » صلة موالي لأنهم في معنى الوارث ، وفي « ترك » ضمير كل وفسر الموالي بقوله : « الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ » كأنه قيل : من هم؟ فقيل : « الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » هكذا قرأ الكوفيون وقرأ الباقون « عاقدت » وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط ، فقرن خبره وهو « فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ » بالفاء ، ويجوز أن يكون منصوبا على شريطة التفسير ، ويجوز أن يعطف على « الوالدان » ويكون المضمر في « فآتوهم » للموالي.

قال المفسرون : المراد بالذين عقدت مولى الموالاة ، كان الرجل يعاقد الرجل فيقول دمي دمك ، وهدمي هدمك ، وثاري ثارك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، وترثني وأرثك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ، فنسخ ذلك بقوله : « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ » والميراث بالمعاقدة والمعاهدة المسمى بضمان الجريرة منسوخ عند الشافعي مطلقا لا إرث له ، وعندنا ثابت عند عدم الوارث النسبي والسببي ، فلا حاجة إلى القول بنسخ الآية.

__________________

(١) هذا العنوان غير موجود في بعض نسخ الكافي ، ومن تفسير الشارح الباب بالنادر يظهر أيضا أنّ نسخته كذلك.


وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ » (١) قال إنما عنى بذلك الأئمة عليهم‌السلام بهم عقد الله عز وجل أيمانكم

______________________________________________________

وقال بعضهم : المعاقدة هنا هي المصاهرة ، وما ذكره عليه‌السلام في الخبر هو المتبع ، فيكون إشارة إلى إرث الإمام عليه‌السلام عند فقد سائر الوراث.

« بهم عقد الله عز وجل أيمانكم » لعل المراد بالإيمان العهود الإيمانية ، وعقد الحبل والعهد شده وأحكامه ، أي بولايتهم والإقرار بإمامتهم شد الله عهود أيمانكم ، وحكم بكونكم مؤمنين في الميثاق وفي الدنيا ، فيكون بيانا لحاصل المعنى ، ويكون المراد في الآية عقدت أيمانكم بولايتهم دينكم أو عقدت أيديكم بيعتهم وولايتهم.

قال في النهاية في حديث ابن عباس في قوله : « والذين عاقدت أيمانكم » المعاقدة المعاهدة ، والميثاق والأيمان جمع يمين القسم أو اليد.

وقال الطبرسي رحمه‌الله في حجة القراءتين ، قال أبو علي : الذكر الذي يعود من الصلة إلى الموصول ينبغي أن يكون ضميرا منصوبا ، فالتقدير والذين عاقدتهم أيمانكم ، فجعل الأيمان في اللفظ هي المعاقدة ، والمعنى على الحالفين الذين هم أصحاب الأيمان ، والمعنى الذين عاقدت حلفهم أيمانكم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فعاقدت أشبه بهذا المعنى ، لأن لكل نفس (٢) من المعاقدين يمينا على المخالفة ، ومن قال عقدت أيمانكم كان المعنى عقدت حلفهم أيمانكم فحذف الحلف وأقام المضاف إليه مقامه ، والذين قالوا « عاقدت » حملوا الكلام على اللفظ ، لأن الفعل لم يسند إلى أصحاب الأيمان في اللفظ وإنما أسند إلى الأيمان.

__________________

(١) سورة النساء : ٣٣.

(٢) وفي المصدر « لكل نفر .... ».


٢ ـ علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن موسى بن أكيل النميري ، عن العلاء بن سيابة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : « إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » قال يهدي إلى الإمام.

باب

أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة عليهم‌السلام

١ ـ الحسين بن محمد ، عن المعلى بن محمد ، عن بسطام بن مرة ، عن إسحاق بن حسان ، عن الهيثم بن واقد ، عن علي بن الحسين العبدي ، عن سعد الإسكاف ، عن الأصبغ بن نباتة قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ما بال أقوام غيروا سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدلوا عن وصيه لا يتخوفون أن ينزل بهم العذاب ثم تلا هذه الآية : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ » (١) ثم قال نحن النعمة التي

______________________________________________________

الحديث الثاني : مجهول.

« لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » أي للملة التي هي أقوم الملل ، والطريقة التي هي أقوم الطرائق ، وفسر في الخبر بالإمام ، لأنه الهادي إلى تلك الملة وولايته الجزء الأخير بل الأعظم منها ، وهو المبين لتلك الطريقة والداعي إليها ، والقرآن يهدي إليه في آيات كثيرة كما عرفت.

باب أن النعمة التي ذكرها الله في كتابه عز وجل هم الأئمة عليهم‌السلام

الحديث الأول : ضعيف.

« بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً » قال الطبرسي (ره) : يحتمل أن يكون المراد ألم تر إلى هؤلاء الكفار عرفوا نعمة الله بمحمد ، أي عرفوا محمدا ثم كفروا به ، فبدلوا مكان الشكر كفرا ، وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده وبنا يفوز من فاز ، ويحتمل أن يكون المراد جميع نعم الله على العموم بدلوها

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٣٤.


أنعم الله بها على عباده وبنا يفوز من فاز يوم القيامة.

٢ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد رفعه في قول الله عز وجل : « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » :

______________________________________________________

أقبح التبديل ، واختلف في المعنى بالآية فروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن عباس وابن جبير وغيرهم أن المراد بهم كفار قريش كذبوا نبيهم ، ونصبوا له الحرب والعداوة ، وسأل رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن هذه الآية؟ فقال : هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة ، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ، وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر « وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ » أي أنزلوا قومهم دار الهلاك بأن أخرجوهم إلى بدر ، وقيل : أنزلوهم دار الهلاك أي النار بدعائهم إلى الكفر ، وقال الزمخشري : أي بدلوا نعمة الله كفرا لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا ، أو أنهم بدلوا نفس النعمة كفرا ، على أنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوب النعمة موصوفين بالكفر ، ثم ذكر حديث الأفجرين عن عمر كما مر ، وقال « جَهَنَّمَ » عطف بيان لدار البوار ، انتهى.

أقول : فيمكن حمل الأخبار على أن نعمة الله أهل البيت عليهم‌السلام ، والإقرار بولايتهم شكر تلك النعمة ، فبدلوا هذا الشكر بالكفران وإنكار الولاية ، أو بدلوا النعمة بالكفر أي بقوم هم أصول الكفر وهم أعداء أهل البيت ، فتركوا ولايتهم ، وقالوا بولاية أعدائهم.

الحديث الثاني : ضعيف.

« فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » فإن قيل : الآيات السابقة على تلك الآية مشتملة على نعم مخصوصة ليس فيها ذكر النبي والوصي ، فكيف تحمل هذه الآية عليهما.

قلت : ذكر بعض النعم لا ينافي شمول الآلاء جميع النعم التي أعظمها النبي والوصي ، مع أنه قد ورد في الآيات السابقة بحسب بطونها بهم عليهم‌السلام أيضا كما روي


أبالنبي أم بالوصي تكذبان نزلت في الرحمن.

٣ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن جمهور ، عن عبد الله بن عبد الرحمن ، عن الهيثم بن واقد ، عن أبي يوسف البزاز قال تلا أبو عبد الله عليه‌السلام هذه الآية « فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ » قال أتدري ما آلاء الله قلت لا قال هي أعظم نعم الله على خلقه وهي ولايتنا.

______________________________________________________

عن الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى : « الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ » قال : ذاك أمير المؤمنين عليه‌السلام قال الراوي : قلت : « عَلَّمَهُ الْبَيانَ »؟ قال : علمه بيان كل شيء يحتاج الناس إليه ، وفسر عليه‌السلام « النَّجْمُ » بالرسول « وَالشَّجَرُ » بالأئمة عليهم‌السلام وقال عليه‌السلام : « السماء » رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « والميزان » أمير المؤمنين نصبه لخلقه ، قلت : « أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ » قال : لا تعصوا الإمام « وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ » قال : أقيموا الإمام العدل « وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ » قال : لا تبخسوا الإمام حقه ولا تظلموه.

وقد ورد في روايات كثيرة تأويل الشمس والقمر بالرسول وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما ، فحمل الآلاء في تلك الآية على النبي والوصي غير بعيد.

« نزلت في الرحمن » لعله من كلام الراوي.

الحديث الثالث : ضعيف.

« واذكروا آلاء الله » هذا غير موافق لما عندنا من القرآن ، إذ فيه في موضع من الأعراف « فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (١) وفي موضع آخر « فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » (٢) وفي آل عمران وغيرها « وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ » والظاهر أنه كان بالفاء فصحفه النساخ « هي أعظم نعم الله » أي هي المقصودة بالذات فيها ، إذ الولاية أعظمها.

__________________

(١) سورة الأعراف : ٦٨.

(٢) سورة الأعراف : ٧.


٤ ـ الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن محمد بن أورمة ، عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن بن كثير قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عز وجل : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً » الآية قال عنى بها قريشا قاطبة الذين عادوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصبوا له الحرب وجحدوا وصية وصيه.

______________________________________________________

الحديث الرابع : ضعيف « قاطبة » أي جميعا ولا يستعمل إلا حالا.


إلى هنا انتهى الجزء الثاني حسب تجزئتنا ويتلوه الجزء الثالث إن شاء الله وأوّله : « باب أن الأئمة عليهم‌السلام ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين ذكرهم الله عزّ وجلّ »

والحمد لله أولا وآخرا


الفهرست

رقم الصفحة

عناوين الأبواب

عدد الأحاديث

١

باب النهي عن الجسم والصورة

٨

٩

باب صفات الذات

٦

١٣

باب آخر وهو من الباب الأول

٢

١٥

باب الإرادة أنها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل

٧

٢٤

باب حدوث الأسماء

٤

٣٧

باب معاني الأسماء واشتقاقها

١٢

٥٠

باب آخر وهو من الباب الأول إلا أن فيه زيادة وهو الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء الله وأسماء المخلوقين

٢

٦٠

باب تأويل الصمد

٢

باب الحركة والانتقال

٩٠

٦٧

في قوله تعالى : مايكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم

٦٨

في قوله تعالى : هو الذي في السماء إله وفي الأرض إله

٧١

في قوله تعالى : هو الذي في السماء اله وفي الارض اله

٧٢

باب العرش والكرسي

٧

٨٢

باب الروح

٤

٨٤

باب جوامع التوحيد

٧

١١١

باب النوادر

١١


رقم الصفحة

عناوين الأبواب

عدد الأحاديث

١٢٢

باب البداء

١٧

١٤٩

باب في أنه لا يكون شيء في السماء والأرض إلا بسبعة

٢

١٥٥

باب المشيئة والإرادة

٦

١٦٤

باب الابتلاء والاختبار

٢

١٦٥

باب السعادة والشقاء

٣

١٧١

باب الخير والشر

٣

١٧٣

باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين

١٤

٢١٣

باب الاستطاعة

٤

٢٢١

باب البيان والتعريف ولزوم الحجة

٦

٢٢٧

باب اختلاف الحجة على عباده

١

٢٣٤

باب حجج الله على خلقه

٤

٢٤٣

باب الهداية أنها من الله عز وجل

٤

كتاب الحجة

٢٥٦

باب الاضطرار إلى الحجة

٥

٢٨٠

باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة عليهم‌السلام

٤

٢٨٧

باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث

٤

٢٩٣

باب أن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام

٤

٢٩٤

باب أن الأرض لا تخلو من حجة

١٣

٢٩٨

باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة

٥

٣٠٠

باب معرفة الإمام والرد إليه

١٤

٣٢٣

باب فرض طاعة الأئمة عليهم‌السلام

١٧


رقم الصفحة

عناوين الأبواب

عدد الأحاديث

٣٣٧

باب في أن الأئمة شهداء الله عز وجل على خلقه

٥

٣٤٤

باب أن الأئمة عليهم‌السلام هم الهداة

٤

٣٤٦

باب أن الأئمة عليهم‌السلام ولاة أمر الله وخزنة علمه

٦

٣٥٠

باب أن الأئمة عليهم‌السلام خلفاء الله عز وجل في أرضه وأبوابه التي منها يؤتى

٣

٣٥٢

باب أن الأئمة عليهم‌السلام نور الله عز وجل

٦

٣٦٦

باب أن الأئمة هم أركان الأرض

٣

٣٧٦

باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته

٢

٤٠٧

باب أن الأئمة عليهم‌السلام ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين ذكرهم الله عز وجل

٥

٤١٢

باب أن الأئمة عليهم‌السلام هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه

٣

٤١٤

باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة عليهم‌السلام

٣

٤١٦

باب ما فرض الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله من الكون مع الأئمة عليهم‌السلام

٧

٤٢٦

باب أن أهل الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهم‌السلام

٩

٤٣٢

باب أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هم الأئمة عليهم‌السلام

٢

٤٣٣

باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة عليهم‌السلام

٣

٤٣٦

باب أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم

٥


رقم الصفحة

عناوين الأبواب

عدد الأحاديث

٤٣٨

باب في أن من اصطفاه الله من عباده وأورثهم كتابه هم الأئمة عليهم‌السلام

٤٤٢

باب أن الأئمة في كتاب الله إمامان إمام يدعو إلى الله وإمام يدعو إلى النار

٢

٤٤٤

باب أن القرآن يهدي للإمام

٢

٤٤٦

باب أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة عليهم‌السلام

٤

مرآة العقول - ٢

المؤلف:
الصفحات: 454