عهد

الإمام الباقر عليه‌السلام



هلاك الوليد بن عبد الملك :

وتوفي الوليد لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأُولى سنة (٩٦ ه‍) وهو ابن خمسين سنة تقريباً وولي عشر سنين تقريباً ، بدير مرّان وحُمل ودُفن بدمشق ، وله تسعة عشر ولداً ذكراً! وكان الوليد طوالاً أسمر أفطس به أثر جدريّ خفيّ ، بمقدّم لحيته شمط ، ليس في رأسه ولا لحيته غبرة. وكان لحّاناً في العربية ، فيه حرج وحيرة.

وأحصى أهلَ الديوان فألقى منهم بشراً كثيراً بلغت عدّتهم عشرين ألفاً! فأجرى الأرزاق على العميان والمساكين والمجذَمين ، وهو أوّل من عمل البيمارستان (المشفى) للمرضى ، ودار الضيافة للغرباء ، وأوّل من أجرى الإفطار في المساجد في شهر رمضان. وكان ممّن أحدث قتل العصاة! وأوّل من أخذ بالقذف والظنّة وقتل بهما الرجال! وفي سنة (٩٤) في ولايته قامت الزلازل أربعين صباحاً فهدمت كلّ شيء! فانكسر الخراج في عهده فلم يُحمل إليه شيء كثير (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٠ و ٢٩١ و ٢٩٢.


وقال فيه ابن العبري الملطي : إنّه منع الكتّاب النصارى من كتابة الدفاتر بالروميّة ، ولكن بالعربية وكان صاحب بناء واتّخاذ للضياع والمصانع ، وجعل لكلّ ضرير قائداً ولكلّ مقعد خادماً وأعطى المجذومين ومنعهم من السؤال والتكدّي من الناس. ومع ذلك كان يمرّ بالبقّال فيقف عليه يأخذ منه حزمة بقل ويقول له : بكم هذا؟ فيقول : بفَلس. فيقول : زد عليها! وكان لحّاناً (١).

وقال المعتزلي : روى أهل السيرة : أنّ الوليد ذكر عليّاً عليه‌السلام فقال : لعنهِ الله (بكسر الهاء) كان لِصّ ابن لِصّ! فعجب الناس وقالوا : ما ندري أيّهما أعجب : لحنه فيما لا يلحن فيه أحدٌ أو نسبته عليّاً إلى اللصوصيّة (٢)!

أيّام سليمان بن عبد الملك :

كان سليمان بن عبد الملك أخو الوليد بالرملة من فلسطين ، وأنشأ بها قصره والمسجد الجامع ، وكان نزول الناس في بلد اللُدّ فأمرهم بالبناء معه بالرملة وانتقالهم إليها ، ومن امتنع من ذلك قطع الميرة عنهم ، بل أخذ بهدم منازلهم حتّى انتقلوا ، وخرّب بلد اللُدّ!

وكان بها يوم مات أخوه الوليد بدير مُرّان ، وحُمل إلى دمشق وصلّى عليه ابن عمه عمر بن عبد العزيز بن عبد الملك ودفنه ثمّ أخذ البيعة لسليمان ، فصار سليمان إلى دمشق.

وكان بمكّة في أصل جبل ثبير ثقبة ينبع منها ماء عذب ، وعلم سليمان بذلك فكتب إلى عامل مكّة خالد بن عبد الله القسري يأمره أن يجري له عيناً من الثقبة حتّى تظهر بين زمزم والركن الأسود يباهي بها زمزم! وهو يريد الحجّ بعدها.

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١١٣.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٥٨.


فعمل خالد بركة بفم الثقبة نُسبت إليه فقيل بركة القسري ، عملها بحجارة منقوشة ، واشتقّ من هذه البركة عيناً تجري في قصب من رصاص! إلى المسجد الحرام ، حتّى أظهرها في فوّارة تسكب في ساقية رخام بين الركن وزمزم.

ولمّا جرت وظهر ماؤها ، أمر خالد بنحر جُزر بمكّة قسمت بين الناس ، وعمل طعاماً دعا إليه الناس ، ثمّ صعد المنبر فقال : أيّها الناس احمدوا الله وادعوا لأمير المؤمنين الذي سقاكم الماء العذب بعد المالح الأُجاج الذي لا يطاق شربه (يعني زمزم).

فلم يجتمع على ذلك الماء اثنان من الناس ، بل ما زالوا أكثر ما كانوا على شرب زمزم! فلمّا رأى خالد ذلك تكلّم في خطبته على أهل مكّة بكلام قبيح يعنّفهم به على إقبالهم على زمزم وتركهم ذلك الماء.

ثمّ لم يُقم خالد بمكّة إلّاقليلاً حتّى سخط على امرأة قرشية فقذفها وأقبح في لفظه ، وبلغ ذلك سليمان فسخط على خالد ، فولّى طلحة بن داود الحضرمي على مكّة وأمره أن يعزل خالداً ويضربه بالسياط ثمّ يقيّده بالحديد ويحمله إلى سليمان ، ففعل الحضرمي ذلك (١).

وتزامن أن شرب عامل المدينة عثمان بن حيّان المرّي الخمر فقرف على عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان ، وبلغ ذلك سليمان ، فقلّدها أبا بكر بن محمّد بن حزم ، فضربه حدّين للخمر وللقذف أو القرف (٢) وحجّ سليمان سنة (٩٧ ه‍) فمرّ بالمدينة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، وفي مروج الذهب ٣ : ١٧٩ ، ذكر سبباً آخر : أنّ قرشياً هرب من خالد إلى سليمان فكتب إليه أن لا يعرض له فلمّا أتاه بالكتاب ضربه مئة سوط قبل أن يقرأ الكتاب!

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٤.


سليمان يستفتي أبا حازم :

قال ابن قتيبة : حجّ سليمان ومعه محمّد بن شهاب الزُهْري ، ودخل المدينة زائراً لقبر رسول الله! فأقام بها ثلاثة أيّام ، وسأل : أمّا هاهنا رجل ممّن أدرك أصحاب رسول الله؟ فقيل : بلى هاهنا رجل يقال له أبو حازم ، فبعث إليه فجاءه وهو أقور أعرج وله عصا ، فدخل ووقف منتظراً للإذن وطال فطرح عصاه وجلس ... وطال المقال بينهما إلى أن قال له سليمان : يا أبا حازم ، مسألة : ما تقول فيها؟ قال : إن كان عندي علم أخبرتك به وإلّا فهذا الذي عن يسارك (الزُهْري) يزعم أنّه ليس شيء يُسأل عنه إلّاوعنده به علم! فقال سليمان : ما تقول في سلام الإمام من صلاته أواحدة أم اثنتان؟ فإن العلماء لدينا قد اختلفوا في ذلك علينا أشد الاختلاف! قال : أرميك في هذا بخبر شاف! ثمّ روى عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص عن أبيه أنّه شهد رسول الله يسلّم عن يمينه حتّى يُرى بياض خدّه الأيمن يجهر به ، ثمّ عن يساره كذلك!

فقال له الزهري : أيّها الرجل! اعلم ما تحدّث به ، فإنّ الحديث عن رسول الله صعب شديد إلّابالتثبّت واليقين! ثمّ التفت الزهري إلى سليمان وقال له : أصلحك الله ما سمعت بهذا الحديث من حديث رسول الله قطّ! فقال له أبو حازم : هذا من الثلث الذي لم يبلغك وبقي عليك سماعه! ثمّ قام (١).

وصار سليمان إلى الحجّ وعاد منه إلى بيت المقدس فنفى عنها المجذومين (٢).

وكان الحجّاج لما عزل يزيد بن المهلّب الأزدي عن خراسان وولّاها قتيبة بن مسلم الباهلي وأمره أن يستوثق بني المهلّب ويشخصهم إليه ، فأشخص إليه

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٠ ـ ١١٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.


قتيبة ولد المهلّب حبسهم جميعاً وطالبهم بستّة آلاف ألف (مليون) درهم ، وعذّبهم في ذلك أشدّ العذاب ، ثمّ فرّوا من حبسه إلى الوليد بالشام ، فكأ نّه ساعدهم في ذلك خليفة الحجّاج يزيد بن أبي مسلم.

فلمّا مات الحجّاج واستخلفه هذا وولّى سليمان استقدم هذا وكان قصيراً خفيف البدن دميم الخلقة ، فاستصغره واستحقره. وكان سليمان قد قرّب إليه يزيد بن المهلّب الأزدي فقال له : خذه إليك فعذّبه بألوان العذاب حتّى تستخرج منه الأموال. وكان ابن المهلّب يعرف له جميل فعله به فقام وقال : يا أمير المؤمنين أنا أعلم به ، ما كان هذا ممّن يحوي المال. فتركه.

وكان قد اجتمع عنده خالد القسري وابن حيّان المرّي ، وسخط سليمان كذلك على موسى بن نُصير اللخمي عامل إفريقية وفاتح الأندلس وما والاها فأخذه سليمان بمئة ألف دينار وعزله ، واجتمع معهم عند سليمان الحكم بن أيوب ويوسف بن عمر الثقفي ، فدفعهم وأصحابهم إلى ابن المهلّب وأصحابه وأمره أن يعذّبهم حتّى يستخرج منهم أموالهم. ثمّ أعاده سليمان على العراق وخراسان!

فصار ابن المهلّب إلى العراق وعزل عمّال الحجّاج وعذّبهم ، ثمّ استخلف على العراق ونفذ إلى خراسان ، فتتبّع أصحاب قتيبة الباهلي وقراباته وسامهم سوء العذاب يطالبهم بالأموال التي صارت إليهم. وخالفه أهل جرجان فحاصرهم حتّى نزلوا على حكمه فقتل منهم مقتلة عظيمة (١)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٤ ـ ٢٩٦. وفي تاريخ خليفة : لم تكن جرجان يومئذ مدينة وإنّما هي جبال محيطة ، وفي البحر جزيرة تحوّل إليها صول ملك جرجان ، وكان ابن المهلّب في ثلاثين ألفاً ، فحاصر صولاً ، فكان صول يخرج في الأيّام فيقاتلهم شهوراً حتّى صالحهم يزيد على خمس مئة ألف درهم يؤدونها كلّ عام ، وبعثوا إليه بألف رأس (؟) وطيالسة وثياب ، وخلّف عليهم يزيد جمعاً من المسلمين وتركهم.


ثمّ رجع إلى جرجان ثمّ إلى نيسابور ، فولّى أخاه مدركاً على بلخ ، وأخاه محمّداً على مرو ، وابنه مخلّداً على سمرقند.

ولمّا اختلّ أمر عمّال الحجّاج أخلّ الجند الذين كانوا مع محمّد بن القاسم الثقفي بالسِند بمراكزهم وعادوا إلى بلادهم ، فوجّه الحجّاجُ سليمانَ حبيب بن المهلّب إليها فأخذ القاسم وقيّده وحبسه (١)!

أول أمر بني العباس :

بعد وفاة عبد الله بن العباس غادر ابنه علي بن عبد الله الحجاز إلى الشام فنزل في بلدة الحُميمة من أرض الشراة من نواحي دمشق ، ورُزق بها أولاداً منهم محمّد بن علي (٢).

__________________

فغدروا بهم وقتلوهم ، فحلف إن ظفر بهم أن يأكل خبزاً من طحين مطحون بدمائهم! ثمّ سار إليهم فتحصّنوا منه ، فقاتلهم شهوراً اخرى حتّى أَعطوا بأيديهم ونزلوا على حكمه ، فسبى ذراريهم ، وقاد منهم اثني عشر ألفاً إلى وادي الأندرهز من جرجان يجري فيه ماء وعليه أرحاء ، فقتلهم هناك ثمّ أجرى الماء على الدماء لتطحن الأرحاء بدمائهم فيطحن ويختبز ويأكل منه لحلفه!

قال : وخالفه اصطهبد طبرستان فغزاه ، فسأله الصلح فأبى ، فاستعان الاصطهبد بأهل الجبال والديلم فالتقوا عند سند الجبل فاقتتلوا قتالاً شديداً ثمّ هزمهم الله فصعدوا الجبل وسألوا الصلح ، فصالحهم ابن المهلب على أربعمئة رجل (؟) مع كلّ منهم كسوة : برنس وطيلسان وشقة حرير وجام فضة! ومعهم أربعمئة حمل زعفران أو قيمته! وسبعمئة ألف درهم كلّ عام. تاريخ خليفة : ٢٠١ ، وانظر تفاصيل ذلك في تاريخ الطبري ٦ : ٥٣٢ ـ ٥٤١ ، حوادث (٨٨ ه‍).

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٠.


وقدم إلى دمشق أبو هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة (١) ومن معه سنة (٩٧ ه‍) على سليمان ، فقضى حوائجه وحوائج من معه وأجازه ، فعاد على بلاد فلسطين ، وبعث سليمان قوماً إلى بلاد لخم وجذام بفلسطين وأرسل معهم لبناً مسموماً ليسقوه أبا هاشم ، وكأنّه ظنّ به ظنوناً! فلمّا مرّ أبو هاشم بهم واستسقاهم سقوه ذلك اللبن ثمّ قوّضوا من ذلك الموضع ، فلمّا استقر في جوفه أحسّ بالسمّ فأرسل عليهم فلم يجدوهم.

فأمرهم أبو هاشم أن يعرّجوا على الحُميمة بأرض الشراة من نواحي دمشق إلى ابن عمه محمّد بن علي بن عبد الله بن العباس ، فلمّا قدم عليه قال له : يابن العم! هذه وصيّة أبي إليّ ، وفيها : أنّ الأمر صائر إليك وإلى ولدك ، على ما سمع وروى عن أبيه علي بن أبي طالب ، فاقبضها إليك. ولتكن دعوتكم بخراسان ، ولا تعدُ مرو ومرو الرود وأبيورد ونَسا ، فإنّي أرجو أن تتمّ دعوتكم ويُظهر الله أمركم ، وإيّاك من نيسابور وطوس وأبر شهر! (فلعلّها كانت تتشيّع لأبناء الحسين عليه‌السلام) وأقصِ قيس وتميم وقرِّب أهل الحيّ من ربيعة! وليكن دُعاتك اثني عشر نقيباً!

__________________

(١) كان بينه وبين ابن عمّه زيد بن الحسن بن علي عليه‌السلام كلام فشكاه زيد إلى الوليد بن عبد الملك وأراد قتله! فوفد السجاد عليه‌السلام على الوليد وسأله إطلاقه فأطلقه له ، كما عن منتقلة الطالبيين المخطوط : ٤٢ في شرح الأخبار ٣ : ٢٨٤ في الحاشية ١. ومع هذا وقف بعد وفاة السجاد على الباقر عليهما‌السلام وحوله جماعة من الناس يستفتونه ، فحسده أبو هاشم وشتمه وشتم أباه! وقال تدَّعون وصية رسول الله بالأباطيل وهي لنا دونكم! فقال له الباقر عليه‌السلام : قل ما بدا لك! فأنا ابن فاطمة وأنت ابن الحنفية!

فوثب الناس إلى أبي هاشم بحصى المسجد ونعالهم يرمونه ويضربونه حتّى أخرجوه من المسجد! كما في شرح الأخبار ٣ : ٢٨٤ ، وعليه فهو ناصبي خبيث ، ومنه دعوة الكيسانية.


فإذا دخلت سنة مئة فابعث رسلك ودعاتك. ثمّ هذا الرجل ميسرة النبّال مولى الأزد فاجعله صاحبك بالعراق ، فهم أهل اختلاف فلا يكن رسولك إلّامنهم ، وهم شيعتك ومحبّوك! فأ مّا الشام فليست بلادكم! ثمّ دفع الكتاب إليه ثمّ مات (١).

سليمان في غزو الرومان :

أغار الروم على اللاذقية من نواحي حمص فذهبوا بما فيها ثمّ أحرقوها! وبلغ ذلك سليمان فعاد من الحجّ وخرج إلى ناحية دابق من نواحي قنّسرين (من قرى حلب) وانتدب أخاه مَسلمة بن عبد الملك وأمره أن يقصد القسطنطينية فيقيم عليها حتّى يفتحها! فسار مَسلمة حتّى فتح مدينة الصقالبة (/ زگرُب) ثمّ بلغ القسطنطينية وأقام عليها حتّى زرع وأكل ممّا زرع ، وأصاب المسلمين برد وجوع ، وبلغ سليمان ما فيه مَسلمة ومن معه فأمدّهم بعمرو بن قيس في البر وعمر بن هُبيرة الفزاري في البحر حتّى بلغ خليج القسطنطينية ووجّه سليمان لأوائل سنة (٩٩ ه‍) ابنه داود إلى أرض الروم ، ومَسلمة منيخ على القسطنطينية ، ففتح داود في طريقه حصن المرأة من نواحي مالطا.

وكان سليمان رجلاً طويلاً أبيض قصيف البدن لم يشب ، وله جمال وفصاحة مقال ، ولكنّه كان أكولاً لا يكاد يشبع ... ومرض فكتب كتاباً وعهد إلى ابن عمّه عمر بن عبد العزيز ثمّ لأخيه يزيد بن عبد الملك (سبط يزيد بن معاوية وبه سمّى) ، وأحضر أهل بيته وقال لهم : بايعوا لمن في هذا الكتاب. ثمّ دفع الكتاب إلى رجاء بن حَيوة الكندي ليأخذه إلى مسجد دابق ، فأخذه ودعا مَن بها من أهل بيت سليمان وقال لهم : بايعوا مَن في هذا الكتاب ، ثمّ قرأ الكتاب فلمّا بلغ

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٦ ـ ٢٩٨.


إلى اسم عمر بن عبد العزيز قال هشام بن عبد الملك : لا والله لا ابايع! فقال رجاء : إذاً أضرب عنقك! ثمّ أخذ بضبع عمر فأجلسه على المنبر ، فقاموا وبايعوه ، فلمّا فرغوا من البيعة قال لهم : قوموا إلى صاحبكم فقد مات ، فقاموا ودفنوه في عاشر صفر سنة (٩٩ ه‍). وكان له عشرة من الولد الذكور (١) وكان قد بايع لابنه أيوب ولكنّه مات قبله.

فلمّا ولّى عمر بن عبد العزيز أمر من كان له حميم في حصار قسطنطينية أن يبعثوا إليهم بدوابّ وطعام وبعث معهم فأغاثهم وأذن بعودتهم فعادوا (٢).

وذكر ابن العبري الملطي بعض تفاصيل الجيش فقال : سار مَسلمة في مئة وعشرين ألفاً وعبر الخليج وحاصر مدينة القسطنطينية ، وكان ملكهم يومئذ ثاوذوسيوس ، فلمّا اشتد الحصار بأهلها أرسلوا إلى مَسلمة يعطونه عن كلّ رأس ديناراً ، فأبى إلّاأن يفتحها عنوة. فقالت الروم للبطريرك لاون : إن صرفت المسلمين عنّا نُملّكك علينا! فاستوثق منهم ، وأتى إلى مَسلمة وطلب منه الأمان لنفسه وذويه ، ووعده أن يفتح له المدينة ولكن عليه أن يتنحّى بجيشه عنهم ليطمئنّوا ثمّ يكرّ عليهم! فقبل مسلمة ووعده بذلك! ثمّ ارتحل مَسلمة إلى بعض القرى ، فدخل لاون ولبس التاج وقعد على سرير الملك ، واعتزل الملك ثاوذوسيوس إلى بعض الكنائس.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٩ و ٣٠٠. وفي مروج الذهب ٣ : ١٨٢ : أنّه دعا رجاء بن حَيوة ومحمّد بن شهاب الزهري ومكحولاً وغيرهم من العلماء الذين كانوا في عسكره ، فكتب وصيّته وأشهدهم عليها. وأ نّه لمّا فُرغ من دفنه قام الزهري فقرأ عليهم الكتاب. فكان أوّل من بايعه يزيد بن عبد الملك ، وقام هشام وسعيد وانصرفا بلا بيعة ثمّ بايعا بعد يومين.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٠٤. وفي تاريخ مختصر الدول : ١١٤ ذكر عدد الجيش : مئة وعشرين ألفاً!


وكان مَسلمة قد تنحّى بطعام جيشه ثمّ أمر كلّ فارس أن يحمل معه مدّين من الطعام على عجز فرسه ليكرّ على القسطنطينية! وأعدّ لاون الرجال والسفن فنقلوا كلّ طعام المسلمين في ليلة إلى القسطنطينية ولم يتركوا منه إلّاما لا يذكر! ونزل مَسلمة بفناء القسطنطينية ثلاثين شهراً ، واستجاش لاون البُلغار والإفرنج في السفن على المسلمين ، والرومان يحاربونهم من الداخل ، فلقى المسلمون ما لم يلقه أي جيش آخر حتّى أكلوا الدواب والجلود وأُصول الشجر والورق! ونزل الشتاء فلم يقدر سليمان أن يمدّهم حتّى مات (١).

من بدع عهد سليمان وعلّة موته :

قال المسعودي : من أحداث عهد سليمان بمكّة على يد خالد القَسري أنّه بلغه قول شاعر :

يا حبّذا الموسم من موقف

وحبّذا الكعبة من مسجد

وحبّذا اللاتي تزاحمننا

عند استلام الحجر الأسود

فأمر خالد بالتفريق في الطواف بين الرجال والنساء! وأدار صفوف الناس في الصلاة حول الكعبة ، وقد كان قبل ذلك بخلافه!

والتزم سليمان الثياب الرقاق والوشي : جُباباً وأردية وسراويل وعمائم وقلانس ، فلا يدخل عليه أحد من أهل بيته إلّافي الوشي ، بل وعمّاله وأصحابه

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري الملطي : ١١٤ ، وقال : أصبح لاون محارباً لمَسلمة ، وقد خدعه خديعة لو كانت امرأة لعُيّبت بها! وسلم مَسلمة من ذلك بأقلام الإسلام! فمرّوا عليه مرور الكرام! نعم سبق المسعودي في التنبيه والإشراف : ١٤١ بمثل مقال هذا الملطي ، وسمّاه : تيدوس الأرمني وسمّى الخادع : أليون بن قسطنطين المرعشي ، وقال : قفل مَسلمة في سنة (١٠٠ ه‍) بعد خطب طويل وعلى كره شديد!


وكلّ من في داره ، ولا أحد من خدّامه حتّى الطباخ إلّافي الوشي ، فعُمل في أيّامه الوشي الجيّد باليمن والكوفة والاسكندرية ولبس الناس جميعاً الوشي!

وكان شبعه من الطعام في كلّ يوم مئة رطل بالعراقي! وخرج من الحمّام فاستعجل الطعام فقدّم إليه عشرون خروفاً أكل أجوافها مع أربعين خبز رقاق! وربّما يأتيه الطبّاخون بالسفافيد التي فيها الدجاج المشوي ، وعليه جبّة الوشي الثقيلة ، فلنهمه وحرصه يقبضها بكمه! وكان عند الرشيد العباسي جبابه وفي أكمامها آثار دهون الدجاج ، وأعطى جبّة منها للأصمعي فكان يلبسها (١)!

وقال ابن الوردي : قيل : أكل مرّة جَدياً وستّ دجاجات وسبعين رمانة وكثيراً من الزبيب. وقيل في سبب موته : إنّ رجلاً من نصارى دابق أتاه بزنبيل كبير مملوء تيناً وآخر مملوء بيضاً مسلوقاً ، فأخذ يأكل تينة وبيضة وهكذا حتّى فرغا مرض بالتخمة ، فلمّا اشتدّ مرضه أوصى بالخلافة لعمر بن عبد العزيز بن مروان ، وامّه ليلى ابنة عاصم بن عمر بن الخطاب (٢).

وقال السيوطي : كان بنو اميّة أماتوا الصلاة بتأخيرها عن أوّل وقتها فأحيا سليمان الصلاة لأوّل مواقيتها (وكان بنو اميّة قد أشاعوا الغناء) فأخذ سليمان ينهى عن الغناء (٣)!

عمر بن عبد العزيز عزيز سليمان :

وكان قد اتخذ عمر بن عبد العزيز له كالوزير فكان يمتثل أوامره في الخير ،

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٢ ، وشرح النهج للمعتزلي ١٨ : ٣٩٩ وقال : كان هذا الديراني صديقه من قبل.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٦٩.


ومع ذلك كان الغالب عليه رجاء بن حَيوة الكندي فلمّا اشتدّ مرضه قال لرجاء : مَن لهذا الأمر بعدي؟ أَستخلف ابني؟ قال : ابنك (الكبير داود) غائب (في حصار الروم لا تدري أهو حيّ أم ميّت) والآخر صغير ، قال : فمن ترى؟ قال : عمر بن عبد العزيز. قال : أتخوّف أن لا يرضى به إخوتي ، قال : فاجعلها بعده لأخيك يزيد بن عبد الملك ، واكتب بذلك كتاباً تختم عليه وتدعوهم إلى بيعته مختوماً! فدعا بقرطاس وكتب العهد ودفعه إليه ، فخرج إليهم ، فقالوا : لا نبايع ، فرجع فأخبره ، فقال مُر صاحب الشرط والحرس فاجمعهم ومرهم ومن أبى فاضرب عنقه! فأمرهم فبايعوا ، ومات سليمان ففتح الكتاب فلمّا سمعوا : وبعده يزيد بن عبد الملك ، تراجعوا وتراضوا.

فلمّا أصعدوا عمر على المنبر جلس عليه طويلاً لا يتكلّم ثمّ مدّ يده إليهم فبايعوه ثمّ خطبهم خطبة قصيرة ثمّ نزل ، فأتوه بمركب الخليفة فقال : لا حاجة لي فيه إيتوني بدابّتي فأتوه بدابّته ، فانطلق إلى منزله ودعا بدواة وكُتب فكتب إلى عمّال الأمصار (١).

وقال ابن كثير : أخذ سليمان يستشير عمر بن عبد العزيز في بعض اموره ، وقال له : إنّا قد ولينا ما ترى وليس لنا علم بتدبيره ، فما رأيت من مصلحة العامة فمُر به فليكتب. فكان من ذلك أنّه ردّ الصلوات إلى مواقيتها (٢) فذلك ليس من سليمان بل من عمر.

وإنّما غضب سليمان على عمر بن عبد العزيز ثلاث مرّات :

الأُولى : أنّ عامل سليمان على خراج مصر كان اسامة بن زيد التنوخي ، فقدم عليه بما اجتمع عنده من الخراج وقال له : يا أمير المؤمنين ، إني ما جئتك

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

(٢) البداية والنهاية ٩ : ١٧٨.


حتّى نهكت الرعيّة وجهِدت ، فإن رأيت أن ترفق بها وترفّه عليها وتخفّف من خراجها ما تقوى به على عمارة بلادها فافعل ، فإنّه يستدرك ذلك في العام المقبل.

فقال له سليمان : هبلتك امّك؟ إحلب الدَرّ ، فإن انقطع فاحلب الدم (١). أو : احلب الدَرّ حتّى ينقطع ، واحلب الدم حتّى ينصرم! ثمّ قال : هذا اسامة لا يرتشي ديناراً ولا درهماً!

فقال له عمر بن عبد العزيز : أنا أدلّك على من هو شرّ من اسامة ولا يرتشي ديناراً ولا درهماً! قال سليمان : ومَن هو؟ قال : هو عدو الله إبليس! فغضب سليمان حتّى قام من مجلسه (٢)!

والمرّة الثانية : ما نقله السيوطي عن الإصفهاني : أنّ عمر بن عبد العزيز في مشورته لسليمان كان يشير عليه أن لا يقتل الخوارج وإنّما يحبسهم رجاء توبتهم ، فقال أحدهم لسليمان : يا فاسق ابن فاسق! فدعا سليمان بعمر ليسمعه ثمّ قال له : فماذا ترى عليه؟ فلمّا عزم عليه قال : أرى أن تشتمه كما شتمك! فأبى سليمان وأمر بقتله (٣).

والثالثة : ذكروا أنّ غلماناً لسليمان نازعوا غلماناً لعمر بن عبد العزيز ، فتعدّى غلمان عمر على غلمان سليمان ، فرفعوا ذلك إلى سليمان وأوغروه على عمر ، فقال له سليمان غاضباً : ألا تُنصف غلماني؟! فاعتذر عمر قال : ما سمعت بهذا إلّافي مقامي هذا وما علمت به قبل هذا الوقت. فقال سليمان : كذبت لقد علمته! فقال عمر : أنا كذبت؟! والله ما كذبت ولا تعمّدت كذباً منذ شددت مئزري على نفسي. وإنّ في الأرض عن مجلسك لسعة! ثمّ خرج عمر وتجهّز للسفر إلى

__________________

(١) الوزراء والكتّاب للجهشياري : ٣٢.

(٢) النجوم الزاهرة ١ : ٢٣٢.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨٦ عن حلية الأولياء للإصفهاني.


مصر! فبلغ ذلك سليمان فندم على ما كان من قوله وأرسل إليه رجلاً يقول له : لا تعاتب أمير المؤمنين على قوله ولا تذكر له هذا. فترك عمر الخروج ولكنّه أقلّ الاختلاف إلى سليمان (١).

وقد مرّ الخبر عن السيوطي عن الإصفهاني : أنّ الوليد كان قد عزم على خلع أخيه سليمان من عهد أبيه ، فأبى عمر بن عبد العزيز وصمّم على ذلك فطيّن عليه الوليد يريد موته ، فعرفها له سليمان (٢) واحتمله واستوزره ثمّ عهد إليه لذلك.

ولا نجد تفصيل عهد سليمان إلّاعند ابن قتيبة ، ونجد فيه القول بالقدر بمعنى الجبر قال فيه : وإنّ المقادير كلّها خيرها وشرّها من الله ، وإنّه هو الهادي وهو الفاتن ، لم يستطع أحد مَن خلقه الله لرحمته غواية ، ولا لمن خلقه لعذابه! هداية ... وإنّ سليمان كانت له بلايا وسيّئات لم يكن له عنها محيص! ولا دونها مقصر! بالقدر السابق والعلم النافذ في محكم الوحي (٣)! أجل ، فلمّاذا يعتذر من بلاياه وسيّئاته ولمن؟!

واستخلف عمر بن عبد العزيز :

في قرية حُلوان بمصر ، من ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، وُلد لعبد العزيز بن مروان والي مصر ولد سمّاه باسم جدّه لُامه عمر ، حُفّظ القرآن وهو صغير ، وشجّته دابّة في جبهته وهو غلام فأصبح أشجّ بني مروان. وبعثه أبوه

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٠.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ عن حلية الأولياء لأبي نعيم الإصفهاني.

(٣) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٢ ـ ١١٥.


إلى المدينة ليتأدّب بها فكان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة مسعود الهُذلي ابن أخ عبد الله بن مسعود يسمع منه علم الحديث. فكان صالحاً إلّاأ نّه كان يبالغ في التنعّم ، فكانوا لا يعيبونه إلّابالإفراط في التنعّم والاختيال في مشيته (١).

ولذا روى الصفّار بسنده عن عبد الله التميمي : أنّ عمر بن عبد العزيز كان من أمجن (٢) الناس وهو شاب ، فمرّ وعليه نَعلان على شراكهما فضّة! وكنت مع علي بن الحسين عليه‌السلام فنظر إليه وقال لي : يا عبد الله بن عطاء أترى هذا المترف! إنّه لن يموت حتّى يلي الناس! قلت : إنّا لله! هذا الفاسق؟! قال : نعم! لا يلبث إلّا يسيراً حتّى يموت ، فإذا مات لعنه أهل السماء واستغفر له أهل الأرض (٣)!

ولمّا كان بمصر قبل أن يصرفه أبوه إلى المدينة كان يرى أباه يخطب فيمضي في خطبته حتّى يأتي على النيل من علي عليه‌السلام فيتلجلج ويقصّر في الأمر ، فسأل أباه عن ذلك! فقال له : أو فطنت لذلك؟ قال : نعم! فقال : يا بُني ،

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ، وفي شرح النهج للمعتزلي ١٩ : ٣٤٣ : كان يجعل المسك على قدميه ونعليه! وفي مروج الذهب ٣ : ١٨٦ : عن المدائني قال : كان يُشترى لعمر الحُلّة بألف دينار فلا يستحسنها وإذا لبسها استخشنها!

(٢) كذا في مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٥٥ مرسلاً ، وفي سائر المصادر : أحسن ، وأجمل!

(٣) بصائر الدرجات للصفّار القمي (٢٧٩ ه‍) : ١٧٠ ، الحديث ٤ ، الباب ٢ وهو أقدم مصدر وليس فيه إلّاهذا عن عبد الله بن عطاء التميمي عن السجاد عليه‌السلام وليس عن الباقر عليه‌السلام ، وكذلك في دلائل الإمامة : ٨٨ مسنداً ، والمناقب كما مرّ مرسلاً ، وفي الخرائج والجرائح ٢ : ٥٨٤ ، الحديث ٤ كذلك. وقبله في ١ : ٢٧٦ ، الحديث ٧ عن أبي بصير (المكفوف) ولكنّه خبر موصوف فيه عمر بن عبد العزيز وفيه : هذا الغلام! وهذا لم يكن إلّافي عهد السجاد عليه‌السلام قبل عزله عن المدينة سنة (٨٦ ه‍) ويقول : يعيش أربع سنين في الحكم! وكان حكمه أقل من ثلاث سنين. فهو غير صحيح وخبر السجاد عليه‌السلام هو الصحيح.


إنّ الذين حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم تفرّقوا عنّا إلى أولاده (١)!

هكذا جاء الخبر عنه أبتر بلا سؤال منه لأبيه عمّا يعلم من علي عليه‌السلام ، ولذا جاء عنه أيضاً : أنّه كان مستمراً على شيء من ذلك في علي عليه‌السلام لما كان بالمدينة يلازم عُبيد الله بن عبد الله الهُذلي ، فبلغ ذلك عنه إلى شيخه عُبيد الله فلمّا حضره قال له : متى علمت أنّ الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟! قلت : لم أسمع ذلك. فقال : فما هذا الذي بلغني عنك في علي؟! فقلت : معذرة إلى الله وإليك! ثمّ تركت ذلك (٢).

وبتفصيل أكثر قال : كنت غلاماً أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود (كذا!) فمرّ بي يوماً وأنا مع الصبيان ألعب وألعن عليّاً! ودخل المسجد ، فتركت الصبيان وتبعته لأدرس عليه وردى ، فلمّا رآني قام فصلّى وأطال ، فلمّا انفتل من صلاته التفت إليّ كالحاً في وجهي! فقلت له : ما بالُ الشيخ؟! فقال لي : يا بني ، أنت اللاعن علياً اليوم! قلت : نعم! قال : فمتى علمت أنّ الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟! فقلت : وهل كان علي من أهل بدر؟! فقال : ويحك! وهل كانت بدر إلّا له! فقلت له : لا أعود! فقال : الله ؛ لا تعود! قلت : نعم ، ولم أعد بعدها (٣)!

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٥ : ٢٠. وشرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٢١.

(٢) الكامل في التاريخ ٥ : ٢٠.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٥ : ٥٨ ـ ٥٩ مرسلاً ، ثمّ قال : وكنت أحضر منبر المدينة وأبي يخطب الجمعة وهو يومئذ أمير المدينة ، فكنت أسمعه يمرّ في خطبه تهدر شقاشقه حتّى يأتي إلى لعن علي فيجمجم ويعرض له من الحصر والفهاهة ما الله عالم به! فقلت له يوماً : يا أبت أنت أفصح الناس وأخطبهم! فما بالي أراك إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عييّاً! فقال : يا بني ، إنّ من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم ، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتّبعنا منهم أحد!


ولمّا توفى أبوه عبد العزيز بن مروان بمصر على عهد عبد الملك (٨٦ ه‍) طلبه عبد الملك إلى دمشق وزوّجه ابنته فاطمة (١) وكان العهد من مروان لعبد الملك ثمّ لعبد العزيز ولكنّه مات قبله ، فكأنّ هذا التزويج من عبد الملك كان دفعاً للتهمة عن نفسه أو تطييباً لخاطر عمر. وكان قد عمل لفاطمة ثوباً منسوجاً بالذهب منظوماً بالدرر واليواقيت أنفق عليه مئة ألف دينار (٢)! وأمر عمر أن تُسرج تلك الليلة سُرجه بالغالية بدل الدهن حتّى طلوع الشمس (٣).

سنُّ سبِّ علي عليه‌السلام ، ومنعُه :

من أقبح ما يذكر في تاريخ معاوية سنّه سبّه لعلي (٤) ، كان في آخر خطبة

__________________

قال : فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلّمي ، فأعطيت الله عهداً : لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لُاغيّرنه.

ولم نجد ـ فيما بأيدينا ـ في المدينة ذكراً لولاية عبد العزيز بن مروان ، ولذلك قدّمنا ما قرّرناه ، وقد مرّ عن السيوطي : أنّ عمر كان قد حفظ القرآن في مصر ثمّ أرسله أبوه إلى المدينة ، فلم يكن صبيّاً يقرأ القرآن على عبيد الله بن عبد الله بل علم الحديث ، وهو كان من ملازمي ابن عباس في الحديث لا القرآن ، ولنا أن نتمثل هذا القدر من تشيّع الرجل من تتلمذه على ابن عباس فهو مصدر الأثر فيهما.

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٤.

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٦.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٩ : ٣٤٣.

(٤) الفكر السامي ١ : ٢٧٦ في ترجمة معاوية ، وقال : ولولا أنّه في صحيح مسلم ما صدّقت بوقوعه منه! ثمّ اعتذر له بعدم العصمة! كما عنه في دروس في فقه الإمامية للدكتور الشيخ الفضلي ١ : ٧٩.


الجمعة يقول : «اللهمّ إنّ أبا تراب قد ألحد في دينك! وصدّ عن سبيلك! فالعنه لعناً وبيلاً وعذّبه عذاباً أليماً»! وكتب بذلك إلى الآفاق! فكانت هذه الكلمات يُشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز (١) أمّا قبل خلافته فحتّى هو في ولايته أو إمارته على المدينة لم يذكر عنه ترك لذلك في خطبه ، على رغم ما زعمه عن معلّمه وأبيه ، ولعلّه ليأسه من موافقتهم بل خوفه من بأسهم.

أمّا علي عليه‌السلام فقد كان يتعالى عن مثل هذا الإسفاف في خُطبه ، بل نقل عنه الصدوق أنّه عليه‌السلام كان في آخر خطبه يتلو هذه الآية : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (٢) ويسبقها بدعاء المغفرة للمؤمنين والمسلمين ، ويفتتحها بقوله : «الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكّل عليه ونشهد أن ...» (٣).

وعمر بن عبد العزيز لمّا تولّى شايع علياً عليه‌السلام في خطبه يفتتحها بقوله : «الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونسغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلله فلا هادي له ، وأشهد أن ...» (٤) وترك لعن علي عليه‌السلام على المنابر وجعل مكانه : «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِاخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» (٥) أو : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى ...) أو جعلهما جميعاً ،

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٥٦ عن الجاحظ.

(٢) النحل : ٩٠.

(٣) كتاب من لا يحضره الفقيه ١ : ٤٣٢ في صلاة الجمعة.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨٧ عن الإصفهاني في حلية الأولياء.

(٥) الحشر : ١٠.


فاستعمل الناس ذلك في الخطبة (١) فحلّ هذا الفعل عند الناس محلاً حسناً وأكثروا بسببه مدحه (٢) ومنهم الخزاعي قال :

وليت فلم تشتم علياً ، ولم تُخف

بريّاً ، ولم تتبع سجيّة مجرم!

وقلت فصدّقت الذي قلت بالذي

فعلت ، فأضحى راضياً كلّ مسلم (٣)

ونقل المعتزلي عن عمر قال : وقرت كلمة أبي في عليّ عليه‌السلام في صدري مع ما قاله معلّمي لي أيّام صغري ، فأعطيت الله عهداً : لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لُاغيّرنّه! فلمّا منّ الله عليَّ بالخلافة أسقطت ذلك وجعلت مكانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى ...) وكتبت بذلك إلى الآفاق فصار سنّة (٤) أو لم يعلم أنّ علياً عليه‌السلام قد سبقه في ذلك! وأن حفيده الباقر عليه‌السلام قد أقره فيما قرّره (٥) ولم يذكر في الخبر أنّه تقرير لأيّهما.

ولم يحلّ هذا العمل عند الكلّ محلاً حسناً ، بل لمّا كفّ عمر عن شتم علي عليه‌السلام قال الناس : ترك السنة (٦)! واستصغر أمره الجاحظ بقوله : إنّهم كانوا

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٨٤ ، ومناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٥٧ ، واليعقوبي ٢ : ٣٠٥ ، وفي السيوطي : ٢٩٠.

(٢) الكامل في التاريخ ٥ : ٢٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٥ ، وفي الأغاني ٩ : ٢٥٨ ، ومناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٥٧ ، وشرح النهج للمعتزلي ٤ : ٥٩ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٢ ، والخزاعي هو المعروف بكثير عزّة والذي كان كيسانياً.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٤ : ٥٩.

(٥) وسائل الشيعة ٧ : ٣٤٢ ، الحديث الأوّل ، باب ٢٥ ، عن الكافي ٣ : ٤٢٢.

(٦) شرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٢٢ عن الزهري ، وفي مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٥٧ : قالها عمرو بن شعيب.


يلعنون علياً عليه‌السلام على منابرهم ، وكان شتم علي عليه‌السلام عادة لهم ، فلمّا نهى عمر عن ذلك عُدّ محسناً ومُدح من كفّ عنه ، وجعلوه بما نقص من تلك الامور الفضيعة في عداد الأئمة الراشدين (١).

وكأنّه لم يكتفِ بالكفّ عن سبّه عليه‌السلام بل قال بتفضيله وأولويته بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيما رواه الكلبي قال : إنّ ميمون بن مهران التابعيّ (٢) رفع إلى عمر قضيّة اختصام أب المرأة وزوجها في وقوع طلاقها لأنّه حلف بطلاقها (٣) أنّ علياً عليه‌السلام خير هذه الامة وأولاها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فجمع عمر بن عبد العزيز بني أُمية وبعض بني هاشم وفيهم بعض أبناء عقيل بن أبي طالب (؟) ثمّ سأل أباها وزوجها عن حلفه فقال : نعم! فنظر بنو أُمية إليه شزراً ونظروا في وجه عمر. فقال لهم ما تقولون؟ فقال أحدهم : هذا حكم في فرج فلسنا نجترئ على القول فيه. قال له : قل ما عندك فإنّ القول جائز (نافذ) عليّ في مجلسي ما لم يحقّ باطلاً أو يبطل حقّاً! فقال : لا أقول شيئاً! فالتفت عمر إلى الرجل من بني عقيل وقال له : فما تقول أنت وقولك وحكمك ماضٍ! فقال : برّ قسمه ولم تطلق امرأته! فقال عمر : وأ نّى علمت ذلك؟

قال : يا أمير المؤمنين ، نشدتك الله! ألم تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لفاطمة وهو عائد لها : ما تشتهين؟ قالت : نعم أشتهي عنباً! فقال : اللهمّ ائتنا به مع أفضل امتي منزلة عندك! فطرق الباب علي ودخل ومعه مكتل تحت ردائه. فسأله عنه فقال : عنب التمسته لفاطمة! فكبّر رسول الله مرّتين ، ثمّ دعا : اللهمّ كما سررتني بأن خصصت علياً بدعوتي فاجعل فيه شفاء بنيّتي! ثمّ قال لها : كلي على اسم الله يا بنية! فأكلت ، فما خرج رسول الله حتّى برأت واستقلّت!

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٥ : ٢٥٦ عن الجاحظ ، ويلاحظ شروع مصطلح الأئمة الراشدين.

(٢) انظر ترجمته في قاموس الرجال ١٠ : ٣٢٧ برقم ٧٩٠٩ ، وفي حلية الأولياء ٤ : ٩٢ ـ ٩٦.

(٣) وهذه من البوادر الاولى للحلف بالطلاق.


فقال له عمر : أشهد لقد سمعته ووعيته فصدقت وبررت! ثمّ قال لزوجها : يا رجل خذ بيد امرأتك ، فإن عرض لك أبوها فاهشم أنفه! فمضى الرجل بامرأته. وكأنّما ألقم بني امية حجراً. وكتب بذلك إلى ميمون بن مهران (١).

والخبر عن الكلبي الكوفي النسّابة (م ٢٠٤ ه‍) ومع ذلك لم ينسب الرجل من ولد عقيل من هو؟ ولا اريد بذلك أن اشكّك في صحّة الخبر ، إلّاأنّ الحديث النبويّ فيه شاذّ غريب ، وبمعناه الحديث الطير المشويّ المستفيض ، فكان البرهان به أقوى وأولى. ومع ذلك لا نجد أيّ تعقيب عليه من الأمويين الحاضرين. ولا أظنّ بالكلبيّ شيئاً ، أجل أحتمل أن يكون عمر قد افتعل الخبر لأمر خير.

ونلفت النظر إلى أنّ عمر أفاد من الخبر أنّ علياً عليه‌السلام خير هذه الامة ليس فحسب ، بل وأولاها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن لم يكن الخبر هذا نصّاً جليّاً فيه فقد روى عنه النصّ الجليّ فيه :

فقد روى الأمويّ الإصفهاني مسنداً عن يزيد بن عيسى بن مورق الهاشميّ بولاء جدّه مورق لعليّ عليه‌السلام ما يشير إلى معرفته بولاء عمر لعلي عليه‌السلام قبل ولايته ، قال : لمّا ولى عمر بن عبد العزيز دخلت عليه في قرية خناصرة (٢) ، فسألني : مَن أنت؟ قلت : مولى علي! فوضع يده على صدره وقال : أنا والله مولى علي! ثمّ أسند فقال : أشهد على عدد ممّن أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يقولون : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» (٣).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي عن الكلبي ٢٠ : ٢٢٢ ـ ٢٢٥.

(٢) الخناصرة : قصبة كورة من أعمال حلب نحو البادية تحاذي قِنّسرين ، كما في معجم البلدان.

(٣) الأغاني ٨ : ١٥٦.


وكأنّ رفعه للعن علي عليه‌السلام استتبع أنّ بلغه أن قوماً تنقّصوا منه لذلك ، فخطبهم وقال : حدّثني غزال بن مالك الغِفاري عن امّ سلمة قالت : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عندي إذ أتاه جبرئيل فناداه (وحادثه) فتبسّم ضاحكاً. فسألته : ما أضحكك؟ قال : «أخبرني جبرئيل أنّه مرّ بعليّ وهو نائم قد بدى بعض جسده قال : فرددت عليه ثوبه ، فوجدت برد إيمانه وصل إلى قلبي» (١).

وكأنه بولغ لديه في زهد بعض الصحابة فقال : ما علمنا أحداً في هذه الامة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أزهد من علي بن أبي طالب (٢).

فدك وفاطمة عليها‌السلام والمظالم :

كما روى عمر بن عبد العزيز الحديث النبوي في ولاية علي عليه‌السلام ، كذلك روى حديثه في ابنته فاطمة عليها‌السلام لبني امية ولعمرو بن قيس السكوني (٣) الكندي قائد الصائفة في جماعة من أهل أنطاكية (٤) لما وصلوا إليه وعاتبوه على عزمه على ردّ فدك على ولد فاطمة عليها‌السلام قال لهم :

إنّكم جهلتم وعلمت ، ونسيتم وذكرت ؛ إنّ أبابكر بن محمّد بن عمرو بن حزم حدّثني (يوم كنت بالمدينة) عن أبيه محمّد بن عمرو ، عن جده عمرو بن حزم الأنصاري : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «فاطمة بَضعة منّي! يسخطني ما أسخطها ويرضيني ما أرضاها» وإنّ فدك كانت صافية على عهد أبي بكر ، ثمّ صار أمرها

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٢٦٩ عن النطنزي والخطيب الخوارزمي.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٠٨ ـ ١٠٩ عن كتاب اللؤلؤيّات.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٠٨.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٠٤ ، وفي الشافي ٤ : ١٠٢ ، وتلخيصه ٣ : ١٢٨ : أهل الكوفة! غلطاً.


إلى مروان ، فوهبها لأبي عبد العزيز ، فورثتها أنا وإخواني فسألتهم أن يبيعوني حصّتهم منها فمنهم من باعها ومنهم من وهبها لي حتّى استجمعتها ، فرأيت أن أردّها على ولد فاطمة.

فقالوا : فإن أبيت إلّاهذا فأمسك الأصل واقسم الغَلّة! فقبل بهذا.

هذا وقد نصب عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم والياً على المدينة فكتب إليه : إذا ورد عليك كتابي هذا فاقسم (غلّة فدك) في ولد فاطمة من علي عليه‌السلام (١).

__________________

(١) الشافي في الإمامة ٤ : ١٠٢ وتلخيصه ٣ : ١٢٧ ـ ١٢٨ عن محمّد بن زكريا الغلّابي البصري بسنده. ولم يسمّ كتاباً ، وقد أكثر الخبر عنه الجوهري البصري في كتاب السقيفة وفدك ، كما عنه في شرح النهج للمعتزلي ، وفيه ١٦ : ٢١٦ عنه بسنده أيضاً قال : كان أبو بكر يأخذ غَلّتها فيدفع إليهم ما يكفيهم ويقسم الباقي ، وعمر كذلك ، وعثمان كذلك ، وعلي عليه‌السلام كذلك (والحسن عليه‌السلام كذلك) وبعد موت الحسن (عليه‌السلام صادرها معاوية) فأقطع ثلثها لمروان بن الحكم وثلثها لعمرو بن عثمان ، وثلثها لابنه يزيد ، ثمّ خلصت لمروان فوهبها لابنه عبد العزيز .. فلمّا ولّى عمر بن عبد العزيز كانت أوّل ظُلامة ردّها على الحسن بن الحسن (المثنّى). وهو غير صحيح ، بل الصحيح ما مرّ أعلاه (وانظر وقارن بتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٧ عن مغيرة).

وكذلك لا يصحّ ما في المسترشد في الإمامة للطبري الإمامي : ٥٠٣ : ردّ على الباقر عليه‌السلام فدكاً ، فقيل له : طعنت على الشيخين! قال : هما طعنا على أنفسهما!

ولعلّه اختزل ما نقل في كشف الغمة ٢ : ٢٤٢ : قيل له : نقمت على أبي بكر وعمر فعلهما وطعنت عليهما ونسبتهما إلى الظلم والغصب! وهم علماء السوء من مشايخ أهل الشام وقريش ، فقال لهم : قد صحّ عندي وعندكم : أنّ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ادّعت فدكاً وكانت في يدها ، وما كانت لتكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! مع شهادة علي وامّ أيمن وامّ سلمة. وفاطمة عندي صادقة في ما تدّعي وإن لم تُقم البيّنة ، وهي «سيّدة نساء أهل الجنة»


نقل ذلك المرتضى في «الشافي» وعنه تلميذه الطوسي في تلخيصه ، بلا زيادة ولا تعيين لمبلغ الغلّة ، وقد روى الطوسي في «الأمالي» بسنده عن ابن عقدة عن ابن اسحاق عن ابن حزم : أنّ عمر كتب إليه : أن زِد ستة آلاف دينار على غلّة فدك : أربعة آلاف دينار ، فاقسمها في بني هاشم من ولد فاطمة خاصة (١).

وكأنّ هذا هو ما اختصره المسعودي فقال : كتب إلى عامله بالمدينة : أن اقسم في وُلد علي بن أبي طالب عشرة آلاف دينار. فكتب إليه : إنّ علياً قد وُلد له في عدة قبائل من قريش. ففي أيّ من وُلده؟! فكتب إليه : لو كتبت إليك في شاة تذبحها لكتبت إليَّ : سوداء أم بيضاء! إذا أتاك كتابي هذا فاقسم في ولد علي من فاطمة «رضوان الله عليها» عشرة آلاف دينار ، فطالما تخطّتهم حقوقهم! والسلام (٢).

فقال له أخوه سهل بن عبد العزيز : إنّ هذا منك طعن على الخلفاء قبلك! فأجابه عمر : دَعني ؛ فإنّي لمّا كنت على المدينة سمعت أنّ النبيّ قال : «من آذى فاطمة فقد آذاني» وسألت عنه حتّى علمته (٣).

__________________

فلو كنت بدل أبي بكر وادّعت فاطمة كنت اصدّقها على دعواها ، فأنا اليوم أردّها على ورثتها أتقرّب بذلك إلى رسول الله وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين يشفعون لي يوم القيامة. فسلّمها إلى الباقر عليه‌السلام. ولكنّه قال : ردّها بغلّاتها ، فهو الصحيح فقط وليس برقبتها.

(١) أمالي الطوسي : ٢٦٦ ، الحديث ٢٨ ، المجلس ١٠.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٨٤ ـ ١٨٥.

(٣) الملاحم والفتن لابن طاووس : ١١٩ عن كتاب حماد بن عثمان عن الصادق عليه‌السلام.


أو قال له أخوه : إنّ بني امية لا ترضى منك أن تفضّل عليهم بني فاطمة! فأجابه : بل افضّلهم ؛ لأنّي سمعت حتّى لا ابالي أن لا أسمع ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : «إنّما فاطمة شُجنة (شعبة غصن) منّي ، يسرّني ما أسرّها ، ويسوءني ما أساءها» فأنا أبتغي سرور رسول الله وأتّقي مساءته (١) فوالله إنّي لحقيق أن أطلب رضا رسول الله ، ورضاه ورضاها في رضا ولدها (٢).

وروى الإربليّ مرفوعاً قال : لمّا استخلف عمر بن عبد العزيز خطب فقال : أيّها الناس ، إنّي أردّ عليكم مظالمكم! وإنّ أوّل ما أردّ منها ما كان في يدي : قد رددت فدك على ولد رسول الله وولد علي بن أبي طالب (٣) ففي البداية كانت هذه الكلمة ثمّ انتهت إلى ردّ غلّاتها عليهم دون الرقبة كما مرّ ذلك.

قال : وقيل : إنّه حمل من بيت المال سبعين حِملاً من الفضة والذهب والعين من مال الخمس سهم رسول الله وسهم ذوي القربي فردّها على بني هاشم ، سلّمها إلى محمّد بن علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن ، ممّا حازه أبو بكر وعمر وبعدهما عثمان ومعاوية ويزيد وعبد الملك ، فاستغنى بنو هاشم في تلك السنين وحسنت أحوالهم (٤).

__________________

(١) قرب الاسناد : ١٠٧ ، وط ٢ : ١٧٢ بسنده عن الصادق عن أبيه الباقر عليه‌السلام ، وعليه المعوّل وليس على ما جاء في الخصال ١ : ١٠٥ : أن عمر زار المدينة فزاره الباقر عليه‌السلام ووعظه فردّ عليه فدك.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٨٠.

(٣) كشف الغمة ٢ : ٢٤٢. وبهامشه مصادر عديدة.

(٤) كشف الغمة ٢ : ٢٤٣ ، وردّ الخمس في المناقب ٢ : ٢٣٩. بل وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٥.


ثمّ عمّم ردّ المظالم ، فأخرج سجلّات عبد الملك بكثير من الإقطاعات بالأملاك والضياع ، وأمر المنادي فنادى : الصلاة جامعة ، وأمر مولاه مزاحم بحمل الكتب معه إلى المسجد ، وجاء ومعه مقصّ! فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، فإنّ هؤلاء (الخلفاء) قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لهم أن يعطوناها! وما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم. وإنّي قد رأيت أنّه ليس عليّ الآن في ذلك دون الله! وقد بدأت بنفسي والأقربين من أهل بيتي. ثمّ التفت إلى مولاه مزاحم وقال له : اقرأ يا مزاحم. فجعل مزاحم يقرأ كتباً فيها إقطاعات بالضياع والنواحي فيأخذها عمر فيقصّها بالمقصّ بيده ، وهكذا إلى نداء الظهر (١).

أسند هذا الخبر المعتزليّ في موضع وقال في موضع آخر : لمّا أفضت الخلافة إليه أخرج بمحضر من الناس سجلّات عبد الملك بكثير من الأملاك لأبيه عبد العزيز ، وقال لهم : هذه كتبت من غير أصل شرعي ، فأنا اعيدها إلى بيت المال ، ثمّ مزّقها بمحضرهم! قال : وذلك أنّ أباه عبد العزيز كان قد ملك بولاية مصر وغيرها في سلطان أخيه عبد الملك ضياعاً كثيرة بمصر والشام والعراق والمدينة ، من غير طاعة الله! ثمّ تركها لابنه عمر. فكان عمر ينفق منها في وجوه البرّ والقربات إلى الله! إلى أن أفضت الخلافة إليه فأفضى بها إلى بيت المال (٢).

ومنها جوهر جليل لم يكن لأحد مثله! وهبها عبد الملك لابنته فاطمة في عَرسها بعمر ، فقال لها : اختاري إمّا أن تردّي جوهرك وحليّك إلى بيت مال المسلمين ، وإمّا أن تأذني لي في فراقك! فإني أكره أن اجتمع بكِ وبه في بيت واحد! فاختارته وأمرت به فحُمل إلى بيت المال (٣) بلا تفصيل لتلك الحليّ والحلل.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٩٩.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ٢٠ : ٧٤ وتمامه : فكان يقال له : السعيد ابن الشقي.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٧ : ٩٩ مسنداً.


وقد مرّ عن ابن قتيبة : أنّ عبد الملك كان قد عمل لابنته فاطمة لعرسها ثوباً منسوجاً بالذهب منظوماً بالدرر واليواقيت أنفق عليه مئة ألف دينار! قال : فقال عمر لها : اختاريني أو اختاري الثوب الذي عمله لك أبوكِ ، فإن اخترتِ الثوب فلست بصاحبك! وإن اخترتني فإنّي آخذ الثوب فأجعله في آخر بيت المال ، فإن وصلتُ إليه أنفقته في مصالح المسلمين فإنّما هو من أموال المسلمين أُنفِقت فيه ، وإن بقي الثوب ولم أحتج إليه فلعلّ مَن يأتي بعدي يردّه عليكِ! فقالت له : يا أمير المؤمنين افعل ما بدا لك (١).

وكأنّ عبد الملك لم يكن يُملّك النساء من العقار شيئاً ، وكأنّه قد سجّل ذلك في سجلّ كتبه في ذلك ، فجاء بعض نساء الخلفاء إلى سليمان بن عبد الملك تطلب ميراثاً من العقار ، فأجابها سليمان : ما إخال النساء يرثن من العقار شيئاً! وكان عمر حاضراً فقال له : سبحان الله! وأين كتاب الله! فقال سليمان لغلامه ، يا غلام ، اذهب فائتني بسجلّ عبد الملك الذي كتب في ذلك .. فقال له عمر : لكأ نّك تحضر لي المصحف! وكان أيوب بن سليمان وليّ عهد أبيه حاضراً وهذا قبل موته فقال لعمر : والله ليوشكنّ الرجل يتكلّم عند أمير المؤمنين بمثل هذا الكلام فلا يشعر حتّى يفارقه رأسه! فأجابه عمر : إذا أفضى الأمر إليك وإلى أمثالك كان ما يدخل على الإسلام أشدّ من هذا القول! ثمّ قام فخرج (٢).

فعمر بن عبد العزيز لم يكن في هذا على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، ولكنّه لم يكن يسجد إلّاعلى التراب (٣) ، فكأ نّه في ذلك على مذهب شيعة

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٦. ولعلّ النقل السابق مجمل عن هذا المفصَّل ، فلم يتكرّر.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٨ : ١٤٤ ، وأشار إلى توريثهن في عهد عمر ، اليعقوبي ٢ : ٣٠٦.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١١ : ١٩٥ مرسلاً.


أبي تراب عليه‌السلام ، كما كان كذلك في حكم سهام الأخماس كما مرّ ، وكما كان على تحريم الطِّلاء (النبيذ) (١).

وكانت زوجته فاطمة قد أسمت ابنها باسم أبيها عبد الملك ، وكأنّه كان يستعجل على أبيه لردّ المظالم ، فقال له أبوه عمر : إنّ أهل بيتك هم أهل العدّة والعدد وقِبلهم ما قِبلهم ، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشارهم (ثورتهم) عليّ ، ولكنّي انصف في كلّ يوم للرجل والاثنين فيكون أنجع له (٢).

وذات يوم تفرّغ لهم وأفهمهم ما قاله لابنه ، قال يوماً لحاجبه : لا تدخلنّ علي اليوم إلّامروانياً ، فلمّا اجتمعوا قال : يا بني مروان ، إنّي لأحسب ثلث أموال هذه الامة أو ثلثيها في أيديكم ، فقال أحدهم : والله لا يكون ذلك حتّى يُحال بين رؤوسنا وأجسادنا! والله لا نكفّر أسلافنا ولا نُفقر أولادنا! فقال لهم عمر بعذره : والله لولا أن تستعينوا عليَّ بمن أطلب هذا الحقّ له لأضرعت خدودكم! ثمّ قال لهم : قوموا عنّي (٣).

وكان عبد العزيز أوّل مرواني أقرّ لأوّل مرّة بمرّ الحقّ على عثمان أنّه آثر نفسه وأهله بأموال المسلمين قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قُبض وترك الناس على نهر مورود .. ثمّ وليه ثالث فكرى منه ساقية لنفسه وأهله ، فلم يزل الناس بعده يكرون منه السواقي حتّى تركوه يابساً لا قطرة فيه (٤).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٩ عن ابن سيرين.

(٢) شرح النهج للمعتزلى ١٧ ٩٨ عن الاخبار الموفقيات لابن بكار ونحو السيوطى ٢٨٦ ـ ٢٨٧.

(٣) شرح النهج للمعتزلى ١٧ ١٠٣

(٤) شرح النهج للمعتزلى ١٧ ١٠٣ ١٠٤ قالها لعمته عاتكة بنت مروان.


فكأنّه غرّ هذا بعضهم فتناول من معاوية ، فضربه عمر ثلاثة أسواط (١) مع أنّه لم يسلّم لمعاوية تسليمه حكمه لابنه يزيد ، فلم يكن يرتضي له لقب أمير المؤمنين ... بل لمّا ذكره عنده رجل فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية! فقال له عمر : تقول : أمير المؤمنين! وأمر به فضرب عشرين سوطاً (٢)!

وليسير بسيرة علي عليه‌السلام في الصدقات (الزكوات) كتب إلى واليه أو قاضيه على المدينة أبي بكر بن محمّد بن عمر بن حزم الأنصاري أن يرسل إليه بكتاب صدقة علي عليه‌السلام ، وكان يومئذ زيد بن الحسن أكبرهم فبعث ابن حزم إليه يسأله ذلك فقال له : إنّ الوالي بعد علي كان الحسن ثمّ الحسين ثمّ علي بن الحسين ثمّ محمّد بن علي ، فابعث إليه. فبعث ابن حزم إلى أبي جعفر فأرسل أبو جعفر به مع ابنه جعفر حتّى دفعه إليه (٣) فأرسله إلى عمر.

وعمر بن عبدالعزيز هو الذي وقف على كتاب علي عليه‌السلام إلى محمّد بن أبي بكر بمصر ، في خزائن بني مروان لمّا تولّى ، فهو الذي أظهر أنّها من أحاديث علي عليه‌السلام ، وإلّا فمعاوية كان يقول : هذه من كتب أبي بكر كانت عند ابنه محمّد! نقله المعتزليّ عن الثقفي وقال : الأليق أن يكون ذلك هو عهد علي عليه‌السلام إلى الأشتر (٤)

عمر بن عبد العزيز وولاية خراسان :

في تصفح عمر بن عبد العزيز كتب سليمان بن عبد الملك وجد كتاباً

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : عن ابن ميسرة.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

(٣) اصول الكافي ١ : ٣٠٥ ـ ٣٠٦ بثلاثة طرق ، وقارن بتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٧٦ عن الزهري و ٢٨٨ عن البُرجمي.

(٤) شرح النهج للمعتزلي ٦ : ٧٢ عن الثقفي.


ليزيد بن المهلّب الأزدي والي خراسان إلى سليمان ، يذكر له فيه : أنّه اجتمع عنده عشرون ألف ألف (مليون). وكأن ابن المهلّب كان يعرف أنّه معزول ، فحمل كلّ ما كان له واستخلف ابنه مخلّداً وصار إلى البصرة وعليها عديّ بن أرطاة عامل عمر ، وقد سبقه كتاب عمر إليه أن يبعث إليه ابن المهلّب ، فأوصل عديّ إليه كتاب عمر فقال : سمعاً وطاعة فحمله إليه مستوثقاً منه. فلمّا وصل إليه قال له : إنّي وجدت لك كتاباً إلى سليمان تذكر فيه أنّه اجتمع عندك عشرون ألف ألف (مليون) فأين هي؟ فأنكر ذلك ثمّ قال : دعني أجمعها لك! قال : تأخذها من الناس مرّة اخرى؟! لا ولا نُعمى عين.

ثمّ ولّى عمر الجرّاح بن عبد الله الحكمي على خراسان وأمره أن يحمل إليه مخلّد المهلّبي ، فحمله إليه ، وكان مخلّد قد انتشرت عنه أخبار عيشته المترفة حتّى بلغت عمر ، وبلغ مخلّداً تغيّر عمر إلى عيشة زاهدة ، فتغيّر مخلّد ودخل على عمر بثياب مشمّرة وقلنسوة بيضاء كالعبّاد الزهّاد! فقال له عمر : هذا خلاف ما بلغني عنك! فقال : أنتم الأئمة إذا أسبلتم أسبلنا وإذا شمّرتم شمّرنا!

وقدمت على الجرّاح في خراسان وفود من التبّت من نواحي الصين يسألونه أن يبعث إليهم من يعرض عليهم الإسلام ، فوجّه إليهم السليط بن عبد الله الحنفي التميمي.

وبلغ عمر عن الجرّاح أنّه يظهر العصبية (العربية) فهو يُغزى الموالي (الفرس) بلا عطاء ، ومن أسلم منهم يأخذ منهم الجزية على بدعة بني امية ، فكتب عمر إليه أن : استخلف عبد الرحمن بن نُعيم الغامدي وأقدم. ففعل ذلك. وكتب عمر إلى عبد الرحمن بعهده على خراسان (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠١ ـ ٣٠٢.


عمر والشعر والشعراء :

كان الخلفاء قبل عمر قد عوّدوا الشعراء ومنهم جرير الخطفي ، يتعاهدونه بالجوائز والصلات : أربعة آلاف دينار وتوابعها من الحملان والكسوة! فقدم على عمر أوّل ما استخلف ، فرأى الناس من قريش وبني امية وغيرهم لا يدخلون ولا يصِلون ، حتّى قدم عون بن عبد الله الهُذلي وكان من خيار الناس وعبّادهم وعليه جبّة صوف (/ بداية التصوّف) وعمامة صوف قد أسدلها من خلفه ، فجعل يتخطّى رقاب الناس من قريش وبني امية وغيرهم ، لا يُمنع ولا يُحجب حتّى دخل على عمر وخرج.

فلمّا خرج توسّل به جرير بأبيات ، فعاد عون إلى عمر ليستأذن له وهو يخاف أن لا يسلم من هجوه! فلمّا علم عمر بذلك أذن له فأنشده شعره ، ثمّ قال له عمر : يا جرير ، ارفع إلينا حاجتك! فقال جرير : هي ما عوّدتني الخلفاء قبلك. قال : وما هي؟ قال : أربعة آلاف دينار وتوابعها من الحملان والكسوة! فقال عمر : أأنت من أبناء المهاجرين؟ قال : لا. قال : أفمن أبناء الأنصار؟ قال : لا. قال : أمن فقراء المسلمين؟ قال : نعم! قال : فأكتب لك إلى عامل بلدك أن يُجرى عليك ما يُجرى على فقرائهم! قال : أنا أرفع من هذا! فوصله بأربعة دنانير من نفقته الخاصّة! فقال : وأين تقع منّي هذه يا أمير المؤمنين! قال : إنّها من خالص مالي ولقد أجهدت لك نفسي!

فلمّا خرج سأله الناس : ما وراءك؟ قال : جئتكم من عند خليفة يعطي الفقراء ويمنع الشعراء (١).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١١٦ ـ ١١٨. وجاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨٩ : أنّه خصّه من ماله بخمسين ديناراً! وفيه : ٢٨٢ : عن حلية الأولياء : أنّ نفقته كانت كلّ يوم درهمين!


ولم يُنقل عن رقيب جرير الخطفي : الفرزدق الأسدي البصري لقاء بعمر أو ثناء له ، اللهمّ إلّاثلاثة أبيات قالها في رثائه ، يقول فيه : قوام الحقّ والدين! وقسطاس الموازين (١)! فما ترك شيئاً!

مصرع عمر بن عبد العزيز :

في عهد عمر بن عبد العزيز لم يظهر كُرْه لحكمه ، إلّاأ نّه ظهر منه إقرار لولاية عهد يزيد بن عبد الملك سبط يزيد بن معاوية ، فترك لذلك ثمانون فارساً أكثرهم من بني ربيعة الكوفة ، مع بسطام اليشكري الهمداني الشهير بشوذب ، لا ينكرون على عمر إلّاإقراره لعهد يزيد ، استشعاراً منهم أن يكون كجدّه لُامّه يزيد بن معاوية! هذا فيما رواه الطبري عن مبعوثي شوذب إلى عمر قالا له : أخبرنا عن يزيد لِمَ تقرّه خليفة بعدك؟! قال : صيّره غيري! قالا : أفرأيت لو وليت مالاً لغيرك ثمّ وكلته إلى غير مأمون عليه ، أتراك كنت أدّيت الأمانة إلى من ائتمنك؟! قال : أنظراني ثلاثاً. فخاف بنو مروان أن يخلع يزيد ويخرج منهم ما هو بأيديهم من الأموال ، فدسّوا إليه من سقاه سمّاً! فلم يلبث أن مات (٢)!

وقال اليعقوبي : قيل : إنّ أهل بيته سمّوه! خوفاً منه أن يخرج الأمر عنهم (٣).

وقال المسعودي : وتوفى عمر بدير سِمعان من أعمال حمص مما يلي قنّسرين ، فيما قيل : مسموماً من قبل أهله! يوم الجمعة لعشر بقين من رجب سنة (١٠١) وله تسع وثلاثون سنة.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٩٥.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٥٥٥ ـ ٥٥٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٨.


وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر ، وكان أسمر حسن الوجه نحيف الجسم ، حسن اللحية ، غائر العينين ، بوجهه أثر من ضربة دابة في صباه ، قد وخطه الشيب (١) وقال : قبره مشهور في هذا الموضع إلى هذه الغاية (كتابة مروج الذهب) يغشاه كثير من الناس من الحاضرة والبادية ، لم يتعرّض أحد لنبشه كما تعرّضوا لقبور غيره من بني امية (٢) ونقل ابن الوردي وأيّد أنّ دير سمعان الآن (كتابة تاريخه) هو المعروف بدير النُقيرة من نواحي معرة النعمان وقبره بها مشهور يزار ، وأنا زرته مراراً (٣).

وقال السيوطي : لأنّ عمر شدّد على بني امية وانتزع من أيديهم كثيراً ممّا غصبوه ، تبرّموا منه ، وكان هو قد أهمل التحرّز ، فسقوه سمّاً ، فكان وفاته بالسم.

ثمّ نقل عن مجاهد قال : عدت عمر بن عبد العزيز ، فقال لي : ما يقول الناس فيّ؟ قلت : يقولون : إنّه مسحور! قال : ما أنا بمسحور ، ثمّ دعا غلاماً له فقال له : ويحك! ما حملك على أن تسقيني السمّ؟ قال : على أن اعتق وقد اعطيت بذلك ألف دينار! فقال له : هاتها واذهب حيث لا يراك أحد! فجاءه بها وذهب ، فألقاها عمر في بيت المال (٤).

وكان عمر يومذاك في قرية خناصرة ، والوليّ بعده بسابق عهد من سليمان أخوه يزيد بن عبد الملك بدمشق ، فكأنّ عمر شعر به من وراء الغلام ،

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٧٦ ، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٠ : كان آخر خليفة أصلع! بعد مروان وعثمان!

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٨٢.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٢.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.


فأمر كاتبه أن يكتب إليه فيما يكتب : فعليك بتقوى الله والرعيّة الرعيّة ، فإنّك لن تبقى بعدي إلّاقليلاً! والسلام (١).

وكان مرضه عشرين يوماً (٢).

ونقل المعتزلي عن رسالة الجاحظ قال عمر : لولا بيعة في أعناق الناس (أخذها سليمان) ليزيد بن عبد الملك (ابن عاتكة) لجعلت هذا الأمر شورى بين القاسم بن محمّد بن أبي بكر ، وسالم بن عبد الله بن عمر! وحفيد عمرو بن سعيد الأشدق! فقال الجاحظ : لم يكن عنده من يصلح للشورى أحد من بني هاشم؟! بل دبّر الأمر ليبايع لأخيه أبي بكر بن عبد العزيز من بعده ، فعاجلوه بالسم!

قال : وكان قد قدم عليه عبد الله بن الحسن المثنّى ، فلمّا رأى بيانه وكماله وعرف نسبه وموضعه وكيف ذلك في صدور المؤمنين وقلوب المسلمين ، قال له : إلحق بأهلك فإني أخاف عليك طواعين أو طواغيت الشام ، وسنلحقك بحوائجك على ما تشتهي! ولم يَدْعه يبيت بالشام ليلة واحدة! لأنّه كره أن يروه ، ويسمعوه فلعله يبذّر في قلوبهم بذراً!

وكان ـ مع جهله بالكلام وقلة اختلافه إلى أهل النظر ـ من أعظم خلق الله قولاً بالجبر! وكان يضع في ذلك الكتاب (٣) ولعل منه أنّه لما مرض قيل له : لو تداويت؟ فقال : لقد علمت الساعة التي سقيت فيها ، ولو كان شفائي أن أمسح شحمة اذني ما فعلت (٤)!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٢ عن حلية الأولياء للإصفهاني.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ٥٦٥ ، وهذا خلاف الأعراف الشرعية.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٥ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ عن رسالة الجاحظ ، وخالفه غيلان الدمشقي فاستتابه ، كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩١ عن الحلية ، ونحوه في مختصر تاريخ الدول : ١١٥.


ونقل السيوطي عن الاصفهاني عن عمر بن اسيد قال : والله ما مات عمر حتّى أغنى الناس ، وحتّى أن الرجل كان يأتينا بالمال يقول : اجعلوا هذا حيث ترون ، فنجد عمر قد أغنى الناس (١).

هذا ، ولكنّه زاد في اعطيات أهل الشامات عشرة دنانير دون أهل العراق (٢)!

نعم ، جعل على الكوفة عبد الحميد العدوي حفيد جدّه لُامه عمر بن الخطاب (٣) ، وكتب إليه : أما بعد ، فإنّ أهل الكوفة أصابهم بلاء وشدة في أحكام الله ، وسنّة خبيثة! سنّها عليهم عمّال السوء! وإن قوام الدين العدل والإحسان ، فلا يكن شيء أهم إليك من نفسك فلا تحملها قليلاً من الإثم ، ولا تحمل خراباً على عامر ، وخذ من العامر ما يطيق وأصلح غيره حتّى يعمر ، ولا تأخذ من العامر إلّا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض.

ولا تأخذ من اجور الضرّابين ، ولا هدية النوروز والمهرجان ، ولا ثمن المصحف ، ولا من اجور البيوت ، ولا من (مهور) النكاح! ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض.

ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب حتّى تراجعني فيه! ومن أراد من الذرية الحج فعجّل له مئة (دينار) ليحجّ بها ، والسلام (٤).

وكأنّه بما أظهر من العدل والإحسان وإيتاء ذوي قربى النبيّ ومنع لعن الوصيّ عليه‌السلام ، كان يتوقع من الإمام الباقر عليه‌السلام الكلام الجميل مدحاً وتقريضاً ، فلمّا لم يجد ذلك بدأ هو فكتب إلى أبي جعفر عليه‌السلام يختبره ، فأجابه الإمام بكلام فيه وعظ

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨١ عن حلية الأولياء.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٦.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٠٦.

(٤) انظر الإمام الصادق لأسد حيدر ١ : ١٦٤.


وتحذير! وجاء في هذا الخبر لدى اليعقوبي أن عمر كان يعلم للإمام كتاباً إلى سليمان من قبل ، فأمر بإخراجه فاخرج فوجد فيه مدحاً وتقريظاً! فأنفد به إلى عامله على المدينة (ابن حزم) وقال له : أحضر محمّد بن علي وقل له : هذا كتابك إلى سليمان تقرّظه! وهذا كتابك إليّ مع ما أظهرتُ من العدل والإحسان!

فأحضره أمير المدينة (ابن حزم) وعرّفه ما كتب به عمر فقال الباقر عليه‌السلام : إنّ سليمان كان جبّاراً فكتبت إليه بما يُكتب إلى الجبّارين! وإنّ صاحبك أظهر أمراً! فكتبت إليه بما شاكله! وكتب العامل إلى عمر بذلك فقال عمر : إنّ أهل هذا البيت لا يُخليهم الله من فضل (١)!

وعن عمرو بن عبيد قال : مات عمر بن عبد العزيز وخلّف أحد عشر ذكراً وتركته سبعة عشر ديناراً! كُفّن منها بخمسة دنانير واشتري موضع قبره بدينارين ، وما أصاب كلّ ولد إلّاأقل من دينار (٢).

وفد عمر وخبره عند الروم :

مرّ عن المسعودي : أن البطريرك أليون (لاون) بن قُسطنطين تغلّب بالحيلة على ملك الروم بالقُسطنطينية تيودوس (ثاوذوسيوس) الأرمني ، وولِى عمر فاستردّ عسكَر المسلمين (مئة ألف) المحاصِر للقسطنطينية بإمرة مَسلمة بن عبد الملك (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٠٥.

(٢) انظر شرح النهج للمعتزلي ٢ : ١٠٠ ـ ١٠١ وللخبر تتمة. قالها للمنصور العباسي ، وقد قال عبد العزيز بن عمر للمنصور إنّ أباه ترك أربعمئة دينار ، كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٨٠ فالرواية السابقة مبالغة.

(٣) التنبيه والإشراف : ١٤١.


وقال : ثمّ بعث عمر وفداً إلى ملك الروم (أليون / لاون) في حقّ من مصالح المسلمين يدعوه إليه.

فدخلوا عليه أوّل يوم وهو جالس على سرير ملكه وعليه التاج ، والبطارقة عن يمينه وشماله ، وسائر الناس بين يديه على مراتبهم ، وله ترجمان يترجم له ويفسّر فأدى إليه ما قصدوا له.

فتلقّاهم بجميل وأجابهم بأحسن جواب ، وانصرفوا عنه في ذلك اليوم.

فلمّا كان الغد أتاهم رسوله يدعوهم ، فدخلوا عليه وإذا به ليس على سريره وبلا تاج على رأسه وكأنّه في كارثة ، وقال لهم : هل تدرون لماذا دعوتكم؟ قالوا : لا ، قال : إنّ صاحب مَسلحتي (المخفر الحدودي) التي تلي بلادكم جاءني كتابه الآن : بأنّ ملك العرب قد مات! فبكوا ، فسألهم : تبكون له أو لأنفسكم؟ قالوا : له ولأنفسنا. فقال لهم : لا تبكوا له وابكوا لأنفسكم ؛ فإنّه قد خرج إلى خير ممّا خلّف! فلقد كانت تأتيني أخباره ظاهراً وباطناً! فلم أجد أمره مع ربّه إلّا واحداً ، ولقد بلغني برّه وصدقه وفضله (١).

وهكذا أعلمهم استحكام استعلاماته عن المسلمين ظاهراً وباطناً! وسرعتها. والخبر هكذا مبتور عن مَن استخلفه بعده ، اللهمّ إلّاقوله : إنّ أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلّاقليلاً! فكأ نّه يشير إلى كونه أهل خير بين أهل شرّ قبله وبعده!

وعاد يزيد ، في يزيد الجديد :

حتّى في كنيته أبي خالد! وكان بنو امية قد أشاعوا غناء الإماء في الرحاب الطاهرة مكّة وطيبة! وحجّ يزيد بن عبد الملك على عهد أخيه سليمان ، وكان

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٨٥ ـ ١٨٦.


صاحب لهو وقصف ، وأسمعوه غناء حَبابة المغنّية الشهيرة فشغف بها حتّى اشتراها بأربعة آلاف دينار! فلمّا بلغ ذلك إلى سليمان قال : لقد هممت أن أحجر على يزيد! وسمع بذلك يزيد وهو يريد استمالته فردّها (١) ومع ذلك عهد إليه بعد عمر.

ومع ذلك وصفه ابن قتيبة : أنّه كان محبوباً في قريش بجميل مأخذه في نفسه وهديه وتواضعه! وقصده! فكان الناس لا يشكّون في أنّه إذا صار الأمر إليه أن يسير بسيرة عمر.

وكان قوم من أشراف قريش وخيار بني امية! بعد الإنكار لسيرة عمر والنفار منها قد سكنت قلوبهم إلى هديه واطمأنت إلى عدله ، وعادت قلوبهم إلى الرضا بأمره والقنوع بقصده فيهم ، وتقصيره في إدراك العطايا والمطامع عليهم (٢).

أضف إلى ذلك ما مرّ من خبر خروج شوذب الشاكري بثمانين فارساً من ربيعة الكوفة إلى جوخى ثمّ الجزيرة ، واعتراضهم على عمر في تقريره لعهد يزيد ، فلعله لذلك اشير عليه بالتظاهر بسيرة عمر ، فلمّا مات عمر وصلّى عليه يزيد قال : والله ما عمر بأحوج إلى الله منّي! سيروا بسيرة عمر! فأقام أربعين يوماً يسير بسيرة عمر ، ثمّ أعاد تاريخُ شهادةِ الزور بالبصرة نفسَه فأقام له الأمويون أربعين شيخاً شهدوا له : ما على الخلفاء عذاب بل ولا حساب (٣) وكان كلامهم هذا موافقاً لهواه فانخدع بهم وانهمك في اللذات والطرب ، ولم يراقب (٤).

وقال ابن قتيبة : حال عمّا كان يُظنّ به وسار بسيرة أخويه الوليد وسليمان وأخذ مأخذه واحتذى مثاله حتّى كأ نّه لم يمت الوليد بعد ، فعظم ذلك على الناس ،

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري الملطي : ١١٥.

(٢) الإمامة والسياسة ٢ : ١٢٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٢٩٤ ، وقبله ابن كثير ٩ : ٢٣٢.

(٤) سمط النجوم العوالي ٣ : ٢٠٩ ، وانظر الإمام الصادق لأسد حيدر ١ : ١٦٨.


وجاءه بذلك قوم من أشراف قريش وخيار بني امية! فاتّهم نفراً منهم بالخلع والخروج وحوّلهم على عمّه محمّد بن مروان فأسكنهم السجون عشرين شهراً حتّى سمّهم فماتوا جميعاً! ومعهم ثلاثون رجلاً من سائر قريش أغرمهم مئة ألف ألف (مليون!) وباع لذلك أموالهم ورباعهم حتّى صيّرهم عالة يتكفّفون الناس متفرّقين في كور الشام وآفاق البلاد! وجملة من الناس ممن كان يألف هؤلاء القوم اتهمهم بمصاحبتهم ومصانعتهم فصلب جملة منهم (١) ممّا يورث اتّهامه بأ نّه إنّما تظاهر بسيرة عمر ليستظهر من هؤلاء بواطنهم فيؤاخذهم بها ويعاقبهم عليها!

وطبيعي أنّ ذلك كان بعد أن عزل جميع عمّال عمر وكتب إليهم : أمّا بعد فإنّ عمر بن عبد العزيز كان مغروراً! فدعوا ما كنتم تعرفون من عهده ، وأعيدوا الناس إلى طبقتهم الأُولى! (فاستخرِجوا الخراج) أخصبوا أم أجدبوا! أحبّوا أم كرهوا! حيوا أم ماتوا (٢) ولعامله على اليمن : خذها منهم ولو صاروا حرضاً (هالكين) والسلام (٣).

وانتقم من ابن حزم :

مرّ الخبر : أن سليمان كان أكولاً ولم يُعرف بشرب الخمور ، وأن عامله على المدينة عثمان بن حيّان المُرّي كان قد شرب الخمر فقرف على عبد الله بن عمرو بن عثمان ، فشكاه إلى سليمان ، فعزله واستعمل أبا بكر بن محمّد بن حزم الأنصاري فضربه حدَّين للخمر وللقرف (٤) وكأنّ عثمان المُرّي شكاه إلى يزيد بن

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) العقد الفريد ٣ : ١٨٠.

(٣) الكامل في التاريخ ٥ : ٢٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٩٤.


عبد الملك ، وكان ابن حزم هو الذي جرى على يديه استعطاف عمر بن عبد العزيز لبني فاطمة من بني أبي طالب من بني هاشم ، ولمّا استولى يزيد قطع عنهم ذلك ، وعزل أبا بكر بن حزم الأنصاري واستبدل عنه بعبد الرحمان بن الضحّاك الفهري ، وكتب إليه مع عثمان بن حيّان المري : أن يجمع بينه وبين أبي بكر بن حزم في الحدَّين اللذَين أجراها أبو بكر على عثمان المرّي ، فإن وجد أن أبا بكر كان قد ظلمه أقاده منه! ففعل وتحامل على أبي بكر فجلده حدَّين قوداً لعثمان المرّي (١)!

وانتصر لفاطمة بنت الحسين عليه‌السلام :

وكان عبد الرحمان الفهري القرشي والي المدينة تراءى له أن يزيد الجديد يريد تصغيراً لشأن بني هاشم بل بني فاطمة بالخصوص.

وكانت فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام قد توفى عنها زوجها الحسن المثنّى ولها منه ثلاثة أبناء : عبد الله ، فالحسن المثلث ، فإبراهيم. ثمّ تزوّجها ـ كيفما كان ـ عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان الأموي وتوفّى عنها ولها منه : محمّد الديباج فالقاسم فرقية (٢). واليوم ، بعد اللتيّا والّتي ، وبعد ستة أولاد وأكثر من ستّ وخمسين عاماً لها طمع فيها والي المدينة عبد الرحمان الفهري فخطبها ، فأبَته ، فأرسل إليها رجالاً يهدّدها : بالله لئن لم تستجيبي لأضربنّ أكبر ولدك (عبد الله) بالسياط!

فما رأت بدّاً إلّاأن تكتب إلى يزيد بن عبد الملك تشكوه إليه ، فكتبت إليه ، فلمّا قرأ كتابها قال : لقد ارتقى ابن الحجّام! مرتقىً صعباً! مَن يسمعني ضربه وأنا على فراشي هذا!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٢.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٢٢ ـ ١٢٣.


ثمّ كتب إلى عبد الواحد بن بشر النضري في الطائف أن يتولى المدينة ويعذّبه حتّى يُسمعه ضربه! ويأخذ عبدَ الرحمان بأربعين ألف دينار! ففعل ذلك فرأوا عبد الرحمان وقد علّق بعنقه خرقة صوف يسأل الناس أن يعينوه (١).

خروج ابن المهلّب وقمعه :

مرّ الخبر أن يزيد بن المهلب الأزدي والي خراسان كان قد كتب إلى سليمان بن عبد الملك بوجود أموال ثقال عنده ، فلمّا مات سليمان وولِي عمر بن عبد العزيز رأى ذلك الكتاب ، فطلبه إليه وطالبه بها وأنكرها فحبسه. فلمّا مات عمر في رجب سنة (١٠١ ه‍) هرب يزيد من السجن وصار بأنصاره إلى البصرة ، وعليها عديّ بن أرطاة الفزاري ، وكان قد بلغه هروب ابن المهلّب من سجن دمشق فأخذ عديّ إخوة ابن المهلّب وسجنهم ، فلمّا وصل إلى البصرة طلب من عديّ تخليتهم فأبى.

وبذل ابن المهلّب من الأموال العظيمة لديه فاجتمع حوله جمع عظيم وكثر أتباعه.

وكتب يزيد بن عبد الملك إلى عديّ بن أرطاة يأمره بأخذ يزيد بن المهلّب ، فحاربه في شهر رمضان في داخل البصرة. وسار ابن المهلّب إلى عديّ فقبض عليه وسجنه ، وغلب على البصرة والأهواز وفارس وكرمان ، وخلع يزيد بن عبد الملك ، وحمل معه ابن أرطاة الفزاري أسيراً في الحديد ومعه جماعة إلى واسط فحبسهم بها.

فندب يزيدُ لقتال ابن المهلّب أخاه مَسلمة بن عبد الملك وابنَ أخيه العباسَ بن الوليد بن عبد الملك في جيش كثيف. وخرج يزيد بن المهلّب

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٢ ـ ٣١٣.


عن البصرة وواسط في جموع كثيفة عظيمة فالتقوا بالعقر من بلاد بابل فاقتتلوا قتالاً شديداً. واصيب ابن المهلّب في بطنه فأصبح مبطوناً شديد العلة مصفرَّ الوجه حتّى كان مَسلمة يسمّيه الجرادة الصفراء! ولم يبرح مع ذلك حتّى قتل وعدة من إخوته في جمع من أهل العراق ، وانهزم الجمع وولّوا الدبر ، وذلك في سنة (١٠٢) في الثاني عشر من شهر صفر.

وكان ابن المهلّب قد خلّف بواسط أهل بيته مع ابنه معاوية وجمعٍ من أنصاره ، فلمّا انتهى خبر مقتله إلى ابنه معاوية أخرج عديّ بن أرطاة الفزاري ومن معه من السجن وقتلهم ، ثمّ أعدّ سفناً فركبها بمن معه من أهل بيته وأنصاره إلى البصرة ثمّ في البحر إلى قندابيل من أرض السند. فوجّه مَسلمة بن عبد الملك لاتّباعه جمعاً مع هلال بن أحوز المازني فلحقهم بها فقتل جمعاً منهم وأسر نفراً يسيراً من الباقين ، فحملهم إلى يزيد بدمشق ومعهم خمسون امرأة حبسهنّ بدمشق (١) ونادى مناديه : من كان له قِبل آل المهلّب دم فليقم ولينتقم منهم (عشوائياً وليس شرعياً) فدفعهم إليهم نحواً من ثمانين. ثمّ عزل أخاه مَسلمة عن العراق في آخر تلك السنة ، وجمع العراقَين لعمر بن هبيرة الفزاري (٢).

وكان ذلك بعد انقضاء حرب ابن المهلّب وقتلهم ، فلقي جماعة من آل المهلب أسرى في الحديد في طريقهم إلى الشام فردّهم ، وكتب فيهم كتاباً إلى يزيد بأن الإحسان إليهم يعمّ قومهم ، فأبى يزيد وسبّه وشتمه ، فعاوده الفزاري وكتب إليه : إنّهم ليسوا بعشيرتي وما أردت إلّاالنظر لأمير المؤمنين في تأ لّف عشائرهم لئلّا تفسد قلوبهم وطاعتهم. فقبل بذلك يزيدُ وفكّ الفزاريُّ أسرهم (٣).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٠٨ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٠ ـ ٣١١ ، والتنبيه والاشراف : ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

(٢) تاريخ خليفة : ٢١٠.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٢.


وكان العراق حتّى يومئذ على مساحة عثمان بن حُنيف الأنصاري على عهد عمر بن الخطاب ، ففي سنة (١٠٥ ه‍) قبل موته كتب يزيد إلى عمر بن هبيرة يأمره أن يمسح السواد فمسحه ، ثمّ وضع الخراج على النخل والشجر ، وأعاد ما أبطله ابن عبد العزيز من تسخير الناس في أعمال الدولة ، وأعاد أخذ الهدايا في النيروز والمهرجان (١) في وسط السنة الشمسية وغزا عمر بن هبيرة الروم فهزمهم وأسر منهم سبعمئة أسير (٢).

ولاية عهده لأخيه هشام :

جعل يزيد ولاية عهده لأخيه هشام بن عبد الملك وولّاه أرض الجزيرة ، ثمّ بدا له أن يولّي عهده لابنه الوليد بن يزيد ويخلع أخاه هشاماً على أن يجعل له الجزيرة طُعمة! وانتدب لتحسين ذلك له خالد بن عبد الله القسري ، وأجاب هشام لذلك ولكنّه حسَّن له أن يبقى على عهده وإنّما يولي الوليد بعده ، وعاد بذلك إلى يزيد فأجاب إلى ذلك ، وجعل العهد بعد أخيه هشام لابنه الوليد بن يزيد (٣).

التقيّة في قول الشعبي وابن سيرين :

قال المسعودي : لما ولّى يزيدُ بن عبد الملك عمرَ بن هبيرة الفزاري على العراق وخراسان ، واستقام أمره ، ففي سنة ثلاث ومئة بعث ابنُ هبيرة إلى الحسن بن أبي الحسن يسار البصري ومحمّد بن سيرين (مولى أنس بن مالك) وعامر بن شُرَحبيل الشعبي فقال لهم :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٣ ـ ٣١٤.


إنّ يزيد بن عبد الملك «خليفة الله» استخلفه الله! على عباده ، وأخذ ميثاقهم بطاعته! وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة ، وقد ولّاني ما ترون يكتب إليّ بالأمر من أمره فانفّذه ، وأُقلده ما تقلّده من ذلك ، فما ترون؟

قال المسعودي : فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه «تقيّة»! وتأخّر الحسن! حتّى قال له عمر : فما تقول أنت يا حسن! فقال :

يابن هبيرة! خفِ الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله! إنّ الله يمنعك من يزيد وإنّ يزيد لا يمنعك من الله ، ويوشك أن يبعث عليك ملكاً فيزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك! فلا ينجيك إلّاعملك!

يابن هبيرة! إنّي احذّرك أن تعصي الله ، فإنّ الله إنّما جعل هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده فلا تركبنّ دين الله وعباده بسلطان الله! فإنّه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

فلم يؤاخذه ابن هبيرة بل ضاعف في جائزة الحسن ، فلمّا رأى الشعبي ذلك قال : سفسفنا في الأقوال فسفسف لنا في الأموال (١).

يزيد اللهو واللعب :

حجّ يزيد بن عبد الملك أيّام أخيه سليمان ، فعرضوا عليه جارية مغنّية تدعى حُبابة وغنّت له فأحبّها بل وشُغف بحبّها فاشتراها بأربعة آلاف دينار! فلمّا بلغ ذلك إلى أخيه سليمان قال : لقد هممت أن أحجر على يزيد! فلمّا سمع بذلك يزيد وهو يريد استمالة أخيه سليمان فردّ الجارية ، واشتراها رجل من مصر.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٠٢ وقال : وكان أبوه يسار مولى امرأة من الأنصار ، ومات سنة (١١٠ ه‍).


فلمّا أفضت الخلافة إليه قالت له امرأته سعدة (أو جدّته ـ امّ سعيدة العثمانية ـ المسعودي) : هل بقي شيء تتمنّاه من الدنيا؟ فقال : نعم ، حَبابة ؛ فأرسلت في طلبها إلى مصر فاشترتها وزيّنتها وأجلستها وراء الستر ودخلت هي عليه وأعادت عليه كلمتها فقال : قد أعلمتكِ! فرفعت الستر وقالت : هذه حَبابة! وقامت وتركتها عنده فحظيتا عنده (١).

وكان لسهيل بن عبد الرحمان بن عوف الزهري المدني بالمدينة جارية مغنّية يقال لها سلّامة. وكان عبد الرحمان بن عبد الله بن عمار يقال له القسّ لكثرة عبادته ، ومرّ بمنزل سهيل فسمع غناء سلّامة فهواها واجتمعا فعُرفت بسلّامة القُسّ (٢) وهواها يزيد فاشتراها منه بثلاثة آلاف دينار ، ثمّ أُعجب بها حتّى غلبت على أمره!

قال المسعودي : ثمّ غلبت عليه حَبابة ، فوهب سلّامة لُامّ سعيد!

ولما احتجب عن الناس وأقبل على الشرب واللهو ، وعمّ الناس الظلم والجور ، قال له أخوه مَسلمة :

إنّما مات عمر أمسِ ، وقد كان من عدله ما قد علمت ، فينبغي أن تُظهر للناس! العدل وترفض هذا اللهو ، فقد اقتدى بك عمّالك في سائر أفعالك وسيرتك!

قال : فارتدع عما كان عليه وأظهر الإقلاع والندم وأقام مدّة على ذلك ، فغلظ ذلك على حَبابة ، فبعثت إلى الشاعر الأحوص والمغنّي مَعبد واحتالت بهما لاستمالته فاستمالته وعاد إلى لهوه وقصفه ورفض ما كان عليه. وطلب منها

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١١٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ١٩٦ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٤.


أن تغنّي له بشعر خاصّ فقالت له : هذا شعر لا أعرف أحداً يغنّي به إلّاالمغنّي المكي الأحول! فوجّه يزيد إلى صاحب مكّة : إذا أتاك كتابي هذا فادفع إلى فلان بن أبي لهب ألف دينار لنفقة طريقه واحمله على دوابّ البريد (ليكون أسرع) ففعل ذلك! فغنّى له فوصله وكساه وردّه إلى مكّة مكّرماً!

وكان يُقعد حَبابة عن يمينه وسلّامة عن يساره ، فغنّته حَبابة ثمّ سلّامة فطرب طرباً شديداً حتّى قال : اريد أن أطير فرحاً! فقالت له حَبابة : يا مولاي! فعلى من تدع الامة وتدعنا (١)؟! وأهوى ليطير! فقالت له : يا أمير المؤمنين إنّ لنا فيك حاجة! فقال : والله لأطيرنّ! فقالت : فعلى من تدع الملك والامّة؟! قال لها : عليك والله! وأخذ يدها فقبّلها! فخرج خادمه وهو يقول : سخنت عينك! ما أسخفك!

وخرج بهما يوماً إلى ناحية الاردن يتنزّه ، فرمى حَبابة بحبّة عنب استقبلتها بفيها فدخلت حلقها فشرقت ومرضت بها وماتت ، فتركها ثلاثة أيام لا يدفنها حتّى نتِنت وهو يشمّها ويقبّلها وينظر إليها ويبكي! فلمّا دفنت بقي بعدها أُسبوعين ثمّ أوصى أن يدفن إليها ثمّ مات فدفن إلى جانبها سنة مئة وخمس (٢) في الخامس والعشرين من شعبان بإربد من بلاد البلقاء وله ثلاث وثلاثون سنة! وصلّى عليه أخوه هشام بن عبد الملك (٣) وقال اليعقوبي : كان ابن سبع وثلاثين سنة وصلّى عليه ابنه الوليد بن يزيد! ودفن بالبلقاء وخلف عشرة ذكور (٤) وقال المسعودي : كان ابن تسع وثلاثين سنة! وكان طويلاً جسيماً أبيض مدوّر الوجه ،

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ١٩٧ ـ ١٩٩.

(٢) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١١٥ ـ ١١٦.

(٣) تاريخ خليفة : ٢١٣.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٤.


فتىّ الشباب ، شديد الفخر! ظاهر الكبر! يحبّ اللهو ويستعمل الحُجّاب ، لا يعرف صواباً فيأتيه ولا خطأ فيدعه (١).

ولذا تذكّرت زينب بنت أبي سلمة المخزومي وتجرّأت أن تحدّث عن امّها امّ سلمة أنّها قالت : دخل النبيّ عليَّ وعندي غلام من آل المغيرة المخزومي فسألني : يا امّ سلمة مَن هذا؟ قالت : قلت له : هذا الوليد (ابن أخي) فقال : قد اتخذتم الوليد حناناً! غيّروا اسمه فإنّه سيكون في هذه الامة فرعون يقال له الوليد (٢).

وأصبح هشام الخليفة والإمام :

عاد الأمويون من خلال عبد الملك بن مروان إلى تحالفهم الجاهلي مع بني مخزوم ، لمّا تزوّج بامّ هشام بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، فولدت له رابع أبنائه : عبد العزيز فالوليد فيزيد فهشام ، وكما تُرك تسمية يزيد لأُمّه عاتكة بنت يزيد بن معاوية فسمّته بأبيها ، كذلك تُرك تسمية هشام لُامّه فسمّته بأبيها.

وكان هشام في شهر رمضان سنة (١٠٥ ه‍) بقرية زيتونة من قرى الجزيرة ، إذ جاءه بريد دمشق فسلّم عليه بالخلافة (٣) وأتاه بالخاتم والقضيب فركب إلى دمشق ، وعمره أربع وثلاثون سنة (٤).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٧٧.

(٢) انظر الإمام الصادق لأسد حيدر ١ : ١٧٧ ـ ١٧٨ عن مسند أحمد ودلائل النبوة وتاريخ الذهبي وابن كثير.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٦.

(٤) مختصر تاريخ الدول : ١١٦.


وكان أبيض أصفر أحول ، رَبعة البدن ، شكس الأخلاق خشن الجانب ، لا يغيب عنه شيء من أمر مملكته ويباشر الامور بنفسه ، جامعاً للأموال قليل البذل للسؤال (١) فسلك الناس جميعاً في أيامه مذهبه ، فمنعوا ما في أيديهم ، وقلّ الإفضال ، وانقطع الرفد ، فلم يُر زمان أصعب من زمانه! ومع ذلك استجاد الكساء والفرش ، وفي أيّامه عُملت قطفُ الخزّ. واستجاد الخيل ، وأقام حلبات السباق بها ، فاجتمع له فيها من خيله وغيرها أربعة آلاف فرس ، حتّى ذكر الشعراء ذلك في شعرهم ، ولم يعرف ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس! إلّاأ نّه عمّر الأرض ، واتّخذ في طرق مكّة القنوات والبُرك (٢).

وقد مرّ الخبر أن يزيد بن عبد الملك أراد خلع أخيه هشام عن العهد لما بعده ، فأقنعه خالد بن عبد الله القسري البجلي اليماني الشامي بأن يقدّم ابنه الوليد ويجعل العهد بعده لهشام ، ففعل ذلك. فاليوم عزل هشام أخاه مَسلمة بن عبد الملك عن العراقَين وولّاها خالد القسري باليد التي كانت له عنده (٣) فولّى أخاه أسدَ بن عبد الله القَسري على خراسان في شهر ربيع الآخر من سنة (١٠٦ ه‍) ثمّ حجّ هشام فمات طاووس بن كيسان اليماني فصلّى عليه هشام قبل الموقف (٤) وكان معه أخوه مَسلمة بن عبد الملك.

هشام والباقر عليه‌السلام في المسجد الحرام :

مرّ الخبر عن حجّ هشام على عهد أبيه عبد الملك متزامناً مع حجّ الإمام

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٧٩.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٠٥ وقال : وأزال آثارها داوود بن علي العباسي في صدر دولتهم!

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٣ ـ ٣١٤ و ٣١٦. أي في مقابل نعمته ومنّته عليه.

(٤) تاريخ خليفة : ٢١٦ ـ ٢١٧.


السجاد عليه‌السلام ، وفي هذه السنة الثانية من عهده أعاد حجّه فتزامن مع حجّ الإمام الباقر عليه‌السلام (١) وكان مع هشام نافع مولى عبد الله بن عمر ، فنظر نافع إلى أبي جعفر عليه‌السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع :

يا أمير المؤمنين! مَن هذا الذي قد تداكّ عليه الناس؟ فقال : هذا محمّد بن علي نبيّ أهل الكوفة!

فقال : لآتينّه فلأسألنّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلّانبي أو ابن نبي أو وصي نبيّ!

قال : فاذهب إليه لعلّك تخجله! فجاء نافع حتّى أشرف على أبي جعفر متكئاً على الناس وقال :

يا محمّد بن علي : إنّي قرأت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان! وقد عرفت حلالها وحرامها! وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلّانبي أو ابن نبي أو وصي نبي! فرفع أبو جعفر رأسه وقال له : سل عمّا بدالك!

قال : أخبرني كم بين عيسى وبين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من سنة؟

قال : أما في قولك فستمئة سنة وأ مّا في قولي فخمسمئة سنة.

قال : فأخبرني عن قول الله عزوجل لنبيّه : «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» (٢) فمن سأل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبينه وبين عيسى خمسمئة سنة؟

فتلا أبو جعفر عليه‌السلام هذه الآية : «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ

__________________

(١) ذلك أنّه تملك من سنة (١٠٦ ه‍) إلى (١٢٥ ه‍) ولم يحج إلّاهذه السنة كما في تاريخ خليفة : ٢١٣ ـ ٢٣٢.

(٢) الزخرف : ٤٥.


الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا» (١) فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث أسرى به إلى بيت المقدس (وليس المعراج؟) أن حشر الله عزّ ذكره الأوّلين والآخرين من النبيين والمرسلين ، ثمّ أمر جبرئيل عليه‌السلام فأذّن شفعاً وأقام شفعاً (بخلاف أهل السنة) وقال في أذانه : «حيّ على خير العمل» ثمّ تقدم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فصلّى بالقوم ، فلمّا انصرف قال لهم : ما كنتم تعبدون وعلامَ تشهدون؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلّاالله وحده لا شريك له ، وأ نّك رسول الله ، اخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا! ثمّ سكت. فقال نافع : صدقت يا أبا جعفر.

ثمّ قال : فأخبرني عن قول الله عزوجل : «أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا» (٢) فقال عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى لمّا أهبط آدم إلى الأرض ، وكانت السماوات رتقاً لا تمطر شيئاً ، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت شيئاً ، فلمّا أن تاب الله عزوجل على آدم عليه‌السلام أمر السماء فتفطّرت بالغمام ثمّ أمرها فأرخت عزالَيها ، ثمّ أمر الأرض فأنبتت الأشجار وأثمرت الثمار وتفهّقت بالأنهار ، فكان ذلك رتقها وهذا فتقها. ثمّ سكت. فقال نافع : صدقت يابن رسول الله!

ثمّ قال : فأخبرني عن قول الله عزوجل : «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ» (٣) أيُّ أرض تبدَّل يومئذ؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : تبدّل بأرض تبقى خبزةً يأكلون منها حتّى يفرغ الله عزوجل من الحساب!

__________________

(١) الإسراء : ١.

(٢) الأنبياء : ٣٠.

(٣) إبراهيم : ٤٨.


فقال نافع : إنّهم يومئذ لمشغولون عن الأكل! فقال أبو جعفر : أهم يومئذٍ أشغل أم إذ هم في النار! قال نافع : بل إذ هم في النار. قال : فو الله ما شغلهم إذ دعوا بالطعام فاطعموا الزقوم ، ودعوا بالشراب فسقوا الحميم! قال نافع : صدقت يابن رسول الله.

ثمّ قال : ولقد بقيت مسألة واحدة : أخبرني عن الله تبارك وتعالى متى كان؟ قال : ويلك متى لم يكن حتّى اخبرك متى كان؟ سبحان من لم يزل ولا يزال فرداً صمداً لم يتّخذ صاحبة ولا ولداً!

فولّى نافع من عنده وهو يقول : أنت والله أعلم الناس حقّاً حقّاً! فلمّا وصل إلى هشام سأله : ما صنعت؟ قال : دعني ، فهذا والله أعلم الناس حقّاً حقّاً ، وهو ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حقّاً ، ويحقّ لأصحابه أن يتّخذوه نبيّاً (١)!

وأخرجه الكليني بسنده عن أبي حمزة الثُمالي قال : حججنا مع أبي جعفر عليه‌السلام. وعن أبي الربيع ، ولعلّه كان مع هشام فنقل ما عن جانبه ، وجمعهما الراوي عنهما الحسن بن محبوب السرّاد الأزدي الكوفي.

وأخرج مختصره المفيد بسنده عن عبد الرحمان بن عبد الله الزُهري ، وأنّ هشاماً أمر مولاه سالماً أن يسأل الإمام عليه‌السلام (٢).

وأرسل مختصره أيضاً الحلبي ، وأنّ الذي كان مع هشام هو أبو مجاشع الأبرش بن الوليد القضاعي الكلبي وأمره هشام أن يسأل الإمام عليه‌السلام ثمّ أكمله بتكملة خبر الكليني (٣).

__________________

(١) روضة الكافي : ١٠٣ ـ ١٠٥ ، الحديث ٩٣.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٦٣ ـ ١٦٤ وبهامشه مصادر عديدة اخرى. وقبله شرح الأخبار ٣ : ٢٨٠.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٤ ـ ٢١٥.


وعليه ، فلو كان هشام القم حجراً من شاعره الفرزدق الأسدي البصري يوم لقائه بالإمام السجاد عليه‌السلام على عهد أبيه عبد الملك ، فاليوم القم حجراً من الإمام الباقر عليه‌السلام وهو خليفة ، وبلا تقية منه في الأذان والإقامة و «حيّ على خير العمل» فما رأى الإمام تلك الأيام أيام تقية ولا كان أمر بها يومئذ.

بل أُرسل الحلبي عن أبي حمزة الثمالي قال : أقبل الناس ينثالون عليه وعند هِشام عِكرمة غلام ابن عباس فقال : مَن هذا؟ كأن عليه سيماء أهل العلم! لُاجربنّه! وقام إليه فلمّا مثل بين يديه قال له : يابن رسول الله ، لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره فما أدركني ما أدركني الآن! فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : ويلك يا عُبيد أهل الشام! إنّك بين يدي (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ). ثمّ قام على صَعدة من الأرض بين الباب والحجر أو الملتزم وقد حزَّم وسطه على المِئزر بعمامة خز! والوقت ضحى والشمس على الرؤوس فصعَّد كفه وطرفه نحو السماء ودعا ، وانثال الناس عليه يستفتونه عن المعضلات ويستفتحون به أبواب المشكلات ، فلم يَرُح حتّى أفتاهم في ألف مسألة (١).

ولئن كان الفرزدق الشاعر الأسدي البصري قرأ شعره في مديح الإمام السجّاد عليه‌السلام معلناً ، فهنا الكميت بن زيد الأسدي البصري أيضاً ابن اخت الفرزدق قرأ شعره على الباقر عليه‌السلام غير معلن ، فتوجّه الباقر عليه‌السلام إلى جهة الكعبة ودعا له ثلاثاً : اللهم ارحم الكميت واغفر له. ثمّ جمع له من أهل بيته مئة ألف درهم وقال له : يا كميت ، هذه مئة ألف قد جمعتها لك من أهل بيتي.

فقال الكميت : لا والله لا يعلم أحد أني أخذت منها ، حتّى يكون الله عزوجل هو الذي يكافيني؟ ثمّ قال له : ولكن تكرمني بقميص من قُمصك. فأعطاه (٢).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ١٩٨ ، والآية ٣٦ من النور.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٤.


ولئن كان هشام يتقوّل في الكلام على الباقر عليه‌السلام بأ نّه نبيّ أهل العراق! فإنّ أبا حنيفة النعمان كان قد حجّ ورأى أبا جعفر عليه‌السلام قاعداً في المسجد (الحرام) فاستأذنه : أجلس؟ فقال له أبو جعفر : أنت رجل مشهور (كذا) ولا أُحبّ أن تجلس إليّ! ولكنّه لم يلتفت إلى نهي أبي جعفر وجلس وسأله : أنت الإمام؟ فاتّقاه الإمام (هنا) وقال له : لا! قال : فإنّ قوماً بالكوفة يزعمون أنّك إمام! قال : فما أصنع؟ قال : تكتب إليهم تخبرهم! قال : لا يطيعون ؛ إنّما نستدلّ على من غاب بمن حضرنا منهم ، وقد أمرتك أن لا تجلس فلم تطعني! فكذلك لو كتبت إليهم ما أطاعوني! فلم يقدر أبو حنيفة الكلام (١)!

وكأنّه بدأ الباقر عليه‌السلام يعلّم طالبي علومه التورية في كلامهم لدفع تلك المضايقات!

فقد أرسل الحلبي عن كَهمس عن جابر بن يزيد الجعفي عن بداية رحلته من الكوفة إلى الباقر عليه‌السلام بالمدينة لطلب علومه قال : لمّا دخلت عليه سألني : من أين أنت؟ فقلت له : من أهل الكوفة. قال : ممّن؟ قلت : من جُعُف. قال : وما أقدمك إلى هاهنا؟ قلت : طلب العلم. قال : ممّن؟ قلت له : منك! قال : فإذا سألك أحد : من أين أنت؟ فقل : من أهل المدينة! قلت : أيحلّ لي أن أكذب! قال : هذا ليس كذباً! من كان في مدينة فهو من أهلها حتّى يخرج (٢) فهذا أوّل تعليم بحقّ التورية لدفع الضرر غير المحتمل ، المحتمل من قبل الحاكم الظالم ، فلعلّه شعر به من قبل هشام ولا سيّما بعد ما رأى.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٦ عن الطبري الإمامي.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٧.


الباقر عليه‌السلام عند هشام بالشام :

روى الطبريّ الإمامي بسنده عن الصادق عليه‌السلام خبراً جاء فيه : أنّ مَسلمة بن عبد الملك كان مع أخيه هشام لمّا حجّ في أوّل خلافته سنة (١٠٦ ه‍) ، وكان الصادق مع أبيه الباقر عليهما‌السلام ، وسمع مَسلمة من الصادق عليه‌السلام يقول لمن حوله : الحمد لله الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً ، وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده وخلفاؤه! فالسعيد من اتّبعنا والشقيّ من عادانا وخالفنا!

فانصرف مَسلمة إلى أخيه هشام وأخبره بما سمع من الصادق عليه‌السلام! وكأنّ هشاماً لم يَر من حِشمته أن يبادر بمؤاخذته على كلمته فلم يعرض لهم حتّى انصرف إلى دمشق ، وانصرف الصادق مع أبيه الباقر عليهما‌السلام إلى المدينة ، فأنفذ بريداً إلى عامل المدينة خاله (إبراهيم بن هشام المخزومي) بإشخاص الباقر والصادق معه ، فأشخصهم إليه.

قال الصادق عليه‌السلام : فلمّا وردنا مدينة دمشق حجبنا ثلاثة ثمّ في اليوم الرابع أذن لنا ، فدخل أبي أمامي وأنا خلفه ، وإذا به قد قعد على سرير الملك ، وخاصّته وجنده وقوف على أرجلهم سماطان متسلّحان (١).

وروى الكليني بسنده عن أبي بكر الحضرمي (٢) قال : لمّا صار أبو جعفر عليه‌السلام بباب هشام قال لمن بحضرته من بني امية وأصحابه : إذا رأيتموني وبّخت محمّد ابن علي عليه‌السلام وسكتُّ فليقبل عليه كلّ رجل منكم فليوبّخه! ثمّ أمر أن يؤذن له.

فلمّا دخل أبو جعفر عليه‌السلام عمّهم بالسلام جميعاً ثمّ جلس! وترك السلام على هشام بالخلافة وجلس بغير إذن فازداد هشام حنقاً عليه فأقبل عليه

__________________

(١) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣٠٦ ، الباب ٧ : خروجه إلى الشام.

(٢) انظر ترجمته في قاموس الرجال ٦ : ٥٦٩ برقم ٤٤٨٦ وهو عبد الله بن محمّد الكوفي.


وأخذ يوبّخه يقول له : يا محمّد بن علي! لا يزال الرجل منكم يشقّ عصا المسلمين ويدعو إلى نفسه ويزعم أنّه الإمام! سفهاً وقلّة علم!

ولمّا سكت أقبل عليه من القوم الرجل يوبّخه ثمّ آخر حتّى آخرهم.

فلمّا سكت القوم نهض عليه‌السلام قائماً ثمّ قال لهم : أيّها الناس! أين تذهبون وأين يراد بكم؟! بنا هدى الله أوّلكم ، وبنا يختم آخركم! فإن يكن لكم ملك معجَّل فإنّ لنا ملكاً مؤجّلاً ، وليس بعد ملكنا ملك ؛ لأنّا أهل العاقبة في قوله سبحانه : (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١)).

قال الصادق عليه‌السلام : وكان هشام قد نصب غرضاً على رأس رمح وكان أشياخ قومه يرمون ، فنادى أبي قال له : يا محمّد! ارمِ مع أشياخ قومك الغرض! فقال له : إنّي قد كبرت عن الرمي ، فهل ترى أن تعفيني؟ فقال : وحقّ من أعزّنا بدينه ونبيّه محمّد لا أعفيك! ثمّ أومأ إلى شيخ من بني أُمية : أن أعطِه قوسك.

فعند ذلك تناول أبي قوس ذلك الشيخ وتناول منه سهماً ووضعه في كبد القوس ثمّ انتزع ورمى وسط الغرض فنصب سهمه فيه! ثمّ تناول الثانية ورمى الثانية فيه فشقّ فواق السهم السابق إلى نصله ، ثمّ تابع الرمي إلى تسعة أسهم لاحقتها في جوف سابقتها! فلم يتمالك هشام إلّاأن ناداه : أجدت ـ يا أبا جعفر ـ وأنت أرمى العرب والعجم! هلّا زعمت أنّك كبرت عن الرمي! ثمّ أطرق إطراقةً إلى الأرض يتروّى فيها ، وأنا وأبي واقفَين حذاه مواجهَين له! وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يرى الناظر الغضب في وجهه ، فلمّا طال وقوفنا غضب أبي ونظر إلى السماء نظر غضبان!

فلمّا رأى هشام ذلك من أبي ناداه : يا محمّد إليَّ! فمشى أبي إلى سرير

__________________

(١) سورة الأعراف : ١٢٥ ، والقصص : ٨٣. والخبر في أُصول الكافي ١ : ٤٧١.


هشام وأنا أتبعه ، فلمّا دنا من هشام قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثمّ اعتنقني وأقعدني على يمين أبي ، ثمّ أقبل بوجهه على أبي وقال له : يا محمّد! لا تزال قريش تسود العرب والعجم مادام فيها مثلك! لله درّك! مَن علّمك هذا الرمي وفي كم تعلّمته؟! فقال أبي : قد علمتُ أنّ أهل المدينة يتعاطونه في أيّام حداثتي فتعاطيته ثمّ تركته ، فلمّا أراد أمير المؤمنين! منّي ذلك عدت فيه فقال : ما رأيت قطّ مثل هذا الرميّ مذ عقلت! وما أظن أن يكون في الأرض أحد يرمي مثل هذا الرّمي! ثمّ سأله : أيرمي جعفر مثل رميك؟

فقال أبي : إنّا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً (١)) والأرض لا تخلو ممّن يُكمل هذه الأُمور التي يقصر غيرنا عنها!

وكانت علامة غضب هشام أنّه إذا غضب احمرّ وجهه وانقلبت عينه اليمنى فاحولّت (أي اشتدّ الحَول فيها) فلمّا سمع ذلك من أبي صار كذلك فأطرق هنيهة ثمّ رفع رأسه وقال لأبي : ألسنا بني عبد مُناف نسبنا ونسبكم واحد؟!

فقال أبي : نحن كذلك! ولكنّ الله جلّ ثناؤه اختصّنا من مكنون سرّه وخالص علمه بما لم يخصّ به أحداً غيرنا!

فقال : أليس الله جلّ ثناؤه بعث محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة : أبيضها وأسودها وأحمرها؟ فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافّة؟ وذلك قول الله تبارك وتعالى : (وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (٢)) فمن أين ورثتم هذا العلم ، وليس بعد محمّد نبيّ ولا أنتم أنبياء؟!

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) آل عمران : ١٨٠.


فقال أبي : ذلك من قوله تبارك وتعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لَاتُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١)) فالذي لم يحرّك به لسانه لغيرنا أمره الله أن يخصّنا به من دون غيرنا ، فلذلك ناجى أخاه علياً من دون أصحابه ، فأنزل الله بذلك قرآناً في قوله : (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (٢)) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله له : سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي! فلذلك قال علي بن أبي طالب بالكوفة : علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ، ففتح كلّ باب ألف باب! فكما خصّ الله نبيّه خصّ نبيّه أخاه علياً من مكنون سرّه بما لم يخصّ به أحداً من قومه ، حتّى صار إلينا ، فتوارثناه من دون أهلنا.

فقال هشام : إنّ علياً كان يدّعي علم الغيب! والله لم يُطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادّعى ذلك؟

فقال أبي : إنّ الله جلّ ذكره أنزل على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً بيّن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة (كذا) في قوله تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٣)) وفي قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (٤)) وفي قوله : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ (٥)) وأوحى الله إلى نبيّه أن لا يبقي في غيبه وسرّه ومكنون علمه شيئاً إلّايناجي به علياً ، وأمره أن يؤلّف القرآن من بعده ، ويتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه من دون قومه ، وقال لأصحابه : «حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى (جسدي) غير أخي علي فإنّه منّي وأنا منه له مالي وعليه ما عليَّ ، وهو قاضي دَيني ومنجز وعدي»!

__________________

(١) القيامة : ١٦.

(٢) الحاقة : ١٢.

(٣) النحل : ٨٩.

(٤) يس : ١٢.

(٥) الأنعام : ٣٨.


ثمّ قال لأصحابه : «علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله». ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلّاعند علي عليه‌السلام ، ولذلك قال رسول الله لأصحابه : «أقضاكم علي» وقال عمر بن الخطاب : لولا علي لهلك عمر! يشهد له عمر ويجحده غيره!

فأطرق هشام طويلاً ، ثمّ رفع رأسه فقال لأبي : سل حاجتك. فقال : خلّفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي! فقال : قد آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم ، ولا تقم ، سِر من يومك فقام أبي وقام هشام فاعتنقه أبي ودعا له! وفعلت ، أنا كفعل أبي وخرجنا (١).

أجوبة الباقر عليه‌السلام للنصراني في الشام :

في خبر الطبريّ الإمامي عن الصادق عليه‌السلام قال : كان بباب (قصر) هشام بالشام ميدان ، فلمّا خرجنا من عنده إلى الميدان إذا في آخر الميدان عدد كثير من الناس قعود ، فسأل أبي حُجّاب الباب. قال : مَن هؤلاء؟ فقال الحُجّاب : هؤلاء القسّيسون والرُّهبان ، ولهم عالم يقعد لهم في كلّ سنة يوماً واحداً يستفتونه فيفتيهم.

فعند ذلك لفّ أبي رأسه بفاضل ردائه (كذا) وأنا فعلت مثل فعل أبي ، ثمّ أقبل نحوهم حتّى قعد نحوهم ، وقعدت وراء أبي ، وأقبل أعداد من المسلمين فأحاطوا بنا.

ورفع هذا الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي ، فأقبل بعض غلمان هشام وأحاطوا بنا.

__________________

(١) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣٠٧ ـ ٣٠٩.


وأقبل عالم النصارى وقد شدّ حاجبيه بحريرة صفراء ، فقام إليه جميع القسّيسين والرّهبان يحيّونه وجاءوا به إلى صدر المجلس فقعد فيه وأحاط به أصحابه ، فأدار نظره فرآنا فقال لأبي : أمِنّا؟ أم من الامّة المرحومة؟ فقال أبي : بل من هذه الامّة المرحومة. فقال : من أيّهم أنت من علمائها أم من جهّالها؟ فقال أبي : لست من جُهّالها! فقال : أسألك؟ فقال أبي : سل.

فقال : من أين ادّعيتم أنّ أهل الجنّة يطعمون ويشربون ولا يُحدثون ولا يبولون؟! وما الدليل والشاهد على ما تدّعونه من شاهد لا يُجهل؟

فقال أبي : دليل ما ندّعي من شاهد لا يُجهل : الجنين في بطن أُمّه يطعم ولا يحدث!

فاضطرب النصراني اضطراباً شديداً وقال : هلّا زعمت أنك لست من علمائها؟ قال : بل لست من جهّالها. وأصحاب هشام يسمعون ذلك. فقال : أسألك عن مسألة أُخرى؟ قال أبي : سل.

فقال : من أين ادّعيتم أنّ فاكهة الجنّة أبداً غضّة طريّة موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة؟ وما الدليل عليه من شاهد لا يُجهل؟

فقال أبي : دليل ما ندّعي : أنّ ترابنا أبداً يكون غضّاً طريّاً موجوداً غير معدوم عند جميع أهل الدينا.

فاضطرب اضطراباً شديداً وقال : هلّا زعمت أنّك لست من علمائها؟ قال : بل لست من جُهالها. فقال : أسألك عن مسألة أُخرى؟ قال : سل.

فقال : أخبرني عن ساعة لا هي من ساعات الليل ولا هي من ساعات النهار؟

فقال أبي : هي ساعة ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يفيق فيها المغمى عليه ، ويرقد فيها الساهر ويهدأ فيها المبتلى .. فصاح النصراني : والله لأسألك عن مسألة لا تهتدي إلى الجواب عنها أبداً! قال أبي : سل.


فقال : أخبرني عن مولودَين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد ، وعمّر أحدهما خمسون سنة ، وعمّر الآخر مئة وخمسون سنة في دار الدنيا.

فقال له أبي : عِزراً وعزيراً ولدا في يوم واحد ، فلمّا بلغ خمسة وعشرين عاماً مرّ عزراً على حماره راكباً على قرية بأنطاكية (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا (١)) وكان الله قد هداه واصطفاه ، فلمّا قال ذلك القول غضب الله عليه (كذا) (فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ (٢)) سخطاً عليه بما قال : ثمّ بعثه على حماره بعينه ، وطعامه وشرابه ، وعاد إلى داره وأخوه عُزير لا يعرفه فاستضافه فأضافه ، وعزر شاب في سنّ خمس وعشرين سنة ، فلم يزل عِزر يذكّره أخاه وولده وهم يذكرون ما يذكّرهم ويقولون له : ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون! ويقول له أخوه عزير : ما رأيت شاباً في سنّ خمسة وعشرين سنة أعلم منك بما كان بيني وبين أخي عِزر أيام شبابي! فمن أهل الأرض أنت أم من أهل السماء؟!

فحينئذ قال له أخوه عِزرا : يا عُزير أنا عِزر! سخط الله عليَّ (كذا) بقول قلته بعد أن هداني واصطفاني! فأماتني مئة سنة ثمّ بعثني! لتزدادوا بذلك يقيناً أنّ الله على كلّ شيء قدير ، وهاهوذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت بها من عندكم أعادها الله تعالى كما كانت! فعندها أيقنوا بذلك (٣). وأعاشه الله بينهم خمسة وعشرين سنة ثمّ قبضه الله وأخاه في يوم واحد.

فعند ذلك نهض عالم النصارى قائماً ، فقام النصارى على أرجلهم فقال لهم : جئتموني بأعلم منّي وأقعدتموه معكم حتّى هتكني وفضحني ، وأعلم

__________________

(١) و (٢) البقرة : ٢٥٩.

(٣) وهذه هي العلّة في ذلك دون غضب الله وسخطه عليه وقد هداه الله واصطفاه كما مرّ ، ولعلّهما من زيادات الرواة.


المسلمين بأنّ لهم من يحيط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا! فلا أقعد لكم سنة إن عشت ولا اكلّمكم من رأسي كلمة واحدة! ثمّ تفرقوا. وبقي أبي قاعداً مكانه وأنا معه ، حتّى تفرّق الناس ، فنهض أبي وأنا معه ، فانصرفنا إلى المنزل الذي كنّا فيه.

ورُفع خبر ذلك إلى هشام ، فوافانا رسول هشام بالجائزة ، ولكنّه أمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا. وذلك أنّ الناس خاضوا وماجوا فيما دار بين أبي وبين عالم النصارى. فركبنا دوابّنا منصرفين (١).

ولما توجّه تلقاء ماء مَدين (٢) :

في خبر الطبريّ الإمامي عن الصادق عليه‌السلام قال : سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مَدين على طريقنا إلى المدينة : أنّ ابنَي أبي تراب الساحرَين!

__________________

(١) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣٠٩ ـ ٣١١ ، وجاء في آخر الخبر السابق عن اصول الكافي عن أبي بكر عبد الله بن محمّد الحضرمي الكوفي : فأمر به إلى الحبس ، فلمّا صار إليه تكلّم لمن فيه فلم يبقَ في الحبس رجل إلّاحنّ إليه. فرفع صاحب الحبس ذلك إلى هشام ، فأمر به فحُمل هو وأصحابه (كذا) على البريد ليُردّوا إلى المدينة. ونهى أن تخرج لهم الأسواق حتّى للطعام بل وحتّى للشراب (كذا) فساروا بلا طعام ولا شراب ثلاثة أيام حتّى انتهوا إلى مدين ...

هذا ، والخبر موقوف على الحضرمي الكوفي بلا إسناد إلى حاضر ناظر مباشر ، فلعلّه كان بوسائط وزيادات الرواة ، ولا يكفي في رجحانه كونه في اصول الكافي.

وفي الدر النظيم : ١٩٠ للشيخ يوسف العاملي تلميذ المحقق الحلّي ، روى خبر النصراني عن أبي بصير عن الباقر عليه‌السلام وأنّ ذلك كان في بهو عظيم فيه خلق كثير.

(٢) بينها وبين تبوك ستّ مراحل ، مراصد الإطلاع ٣ : ١٢٤٦ ، وانظر أطلس تاريخ الإسلام للدكتور مونس.


محمّد بن علي وجعفر بن محمّد الكذّابَين فيما يُظهران من الإسلام ؛ وردا عليَّ ، فلمّا صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسّيسين والرُّهبان من كفّار النصارى! وأظهرا لهم دينهم ومرقا من الإسلام إلى دين النصارى ، وتقرّبا إليهم بالنصرانية! فكرهت أن انكّل بهما لقرابتهما! فإذا قرأت كتابي هذا فنادِ في الناس : برئت الذمّة ممّن يشاريهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلّم عليهما! فإنّهما قد ارتدّا عن الإسلام! ورأى أمير المؤمنين أن يقتلهما شرّ قِتلة!

فلمّا شارفنا مدينة مَدين قدّم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلاً ويشروا لدوابّنا علفاً ولنا طعاماً ، فلمّا قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا! وشتمونا وقالوا : لا نزول لكم عندنا ولا شراء ولا بيع! يا كفّار يا مشركين! يا مرتدّين يا كذّابين! يا شرّ الخلائق أجمعين! ووقف غلماننا على الباب.

فلمّا انتهينا إليهم كلّمهم أبي وقال لهم بليّن القول : اتّقوا الله ولا تغلطوا ، فلسنا كما بلغكم ، ولا نحن كما تقولون. فأسمَعونا كلماتهم السابقة! فقال لهم : فهبنا كما تقولون افتحوا الباب وشارونا وبايعونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى! فقالوا : أنتم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس! لأنّ هؤلاء يؤدّون الجزية وأنتم ما تؤدّون! فقال لهم أبي : فافتحوا لنا الباب وخذوا منّا الجزية كما تأخذون منهم! فقالوا : لا نفتح ، ولا كرامة لكم! حتّى تموتوا على ظهور دوابّكم جياعاً وتموت دوابّكم تحتكم!

فثنى أبي رجله عن سرجه ونزل وقال لي : يا جعفر مكانك لا تبرح. ثمّ صعد الجبل المطلّ على مدينة مَدين ، وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع. فلمّا صار في أعلاه استقبل بوجهه وجسده المدينة ثمّ وضع إصبعيه في اذنه ثمّ نادى بأعلى صوته : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ* وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا


فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١)) ثمّ قال لهم : فنحن والله بقية الله في أرضه!

فأمر الله ريحاً سوداء مظلمة فهبّت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والنساء ، فما بقي أحد من الرجال والنساء إلّاصعد السطوح وفيهم شيخ منهم كبير السنّ ، فلمّا نظر إلى أبي على الجبل نادى بأعلى صوته : اتقوا الله يا أهل مدين ، فإنّه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب عليه‌السلام حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تُنزلوه جاءكم من الله العذاب ، فإنّي أخاف عليكم ذلك ، وقد أعذرَ من أنذر!

ففزعوا ، وفتحوا الباب ، وارتحلنا في اليوم الثاني. وكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام ، فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره أن يأخذ الشيخ فيقتله. وكتب إلى عامل المدينة أن يحتال في سمّ أبي في طعام أو شراب! ولكنّه مضى هشام ولم يتهيّأ له في أبي شيء من ذلك (٢).

وفي خبر الحضرمي : أنّ هشاماً بعث إلى مدين من حمل الشيخ فلم يُدرَ ما صنع به (٣).

وفي خبر الراوندي «في قصص الأنبياء» عن الصدوق بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : كتب هشام إلى عامله بمدين بحمل الشيخ إليه ، فحمله إليه ، فمات في الطريق (٤).

__________________

(١) سورة هود : ٨٤ ـ ٨٦.

(٢) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣١١ ـ ٣١٣.

(٣) اصول الكافي ١ : ٤٧٢.

(٤) قصص الأنبياء : ١٤٢ ـ ١٤٥ والصدوق يرويه عن علي بن إبراهيم القمي عن أبيه إلى أبي بصير. وفي تفسيره ١ : ٩٨ ـ ٩٩ خبر آخر موقوف على عمر بن عبد الله الثقفي في محاجة الباقر عليه‌السلام مع النصراني فقط!


وقد روى الراوندي في «الخرائج والجرائح» خبراً مرسلاً عن الصادق عليه‌السلام أيضاً : أن عالم النصارى واجتماعهم عليه كان على باب دَير عظيم في مَدين في طريقهم إلى الشام ، وهناك كانت مسائله من الإمام الباقر وجوابه له ، فأسلم على يديه! ثمّ ارتحلوا إلى الشام ، فلمّا عادوا وأغلقوا دونهم باب القلعة ، فاخبر الشيخ الراهب المسلم بذلك فحمل إلى الإمام طعاماً كثيراً مخالفاً أمر الوالي ، فأمر الوالي بتقييد الشيخ فقيّدوه ليحملوه إلى الشام. قال الصادق عليه‌السلام : فاغتممت وبكيت ، فقال والدي : لا بأس بالشيخ فإنّه يُتوفّى في أوّل منزل ينزله (١).

وهذا أولى وأقرب وأنسب أن يكون هذا اللقاء عند دَير في مَدين وليس في ميدان بباب قصر هشام بدمشق الشام. ولم يُعهد مثل ذلك هنالك في أيّ خبر آخر ، ولا في سفح جبل بدمشق بلا ذكر لدير أو كنيسة هناك ، كما في خبر آخر.

هذا ابن أبي تراب :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة ورأى علياً عليه‌السلام نائماً على التراب وقد تترّب وجهه ، فناداه : قُم يا أبا تراب ، رفقاً ولطفاً به. إلّاأنّ أنداده ولا سيّما معاوية بن أبي سفيان اتّخذوا ذلك كنايةَ إهانة أو توهين ، وبها عُرف فيهم وفي أتباعهم وأشياعهم وأوليائهم.

وقد مرّ الخبر أنّ عمر بن عبد العزيز عزّ عليه ذلك خلافاً لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فمنع عن سبّ عليّ بن أبي طالب وطالبهم بالكفّ عن مثل ذلك.

ولكن مرّ الخبر آنفاً قُبيل هذا عن الطبري الإمامي عن الصادق عليه‌السلام : أنّ هشاماً أوعز إلى المدن ولا سيّما إلى مَدين : أنّ ابني أبي تراب الكذّابين ...

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٢٩١ ـ ٢٩٣.


فلعلّ هناك كان ما نقله الحلبي بثلاثة طرق عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا أشخص أبي محمّد بن علي عليه‌السلام إلى دمشق (في ذلك السفر) سمع الناس يقولون :

هذا ابن أبي تراب (فلعلّه كان في مَدين مبنيّاً على وصف هشام لهم) فأسند ظهره إلى جدار.

ثمّ حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ عليه‌السلام (كذا) ثمّ قال : اجتنبوا أهل الشقاق وذريّة النفاق ، وحشو النار وحصب جهنّم ، عن البدر الزاهر والبحر الزاخر ، والشهاب الثاقب والصراط المستقيم (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (١)).

أبصِنو رسول الله تستهزئون؟! أم بيعسوب الدين تلمزون؟! وأيّ سبيل بعده تسلكون؟! وأيّ حزن بعده تدفعون؟! هيهات هيهات! برز والله بالسبق وفاز بالخصل (الهدف) واستولى على الغاية ، وأحرز الخطار (الجائزة) فانحسرت عنه الأبصار (حسداً) وخضعت دونه الرقاب ، وفرَع (اعتلى) الذروة العليا ، فكذّب من رام السعى وأعياه الطلب (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٢)) وأنشد :

اولئك قوم إن بنوا أحسنوا البِنا

وإن عاهدوا أوفوا ، وإن عقدوا شدّوا

أقلّوا عليهم ـ لا أباً لأبيكم ـ

من اللوم ، أو سدّوا المكان الذي سدّوا

وأ نّى يُسدّ ثلمة أخي رسول الله إذا صدقوا؟! وشقيقه إذا نسبوا ، ونديده (مثله) إذا أقبلوا ، وذي قرنى كنزها إذا فتحوا ، ومصلّي القبلتين إذ تحرّفوا! والمشهود له بالإيمان إذ كفروا! والمدعوّ لنبذ عهد المشركين إذ نكلوا ، والخليفة

__________________

(١) النساء : ٤٧.

(٢) سبأ : ٥٢.


على المهاد ليلة الحصار إذ جزعوا! والمستودع الأسرار ساعة الوداع (١) (إذ خالفوا وفارقوا) إلى آخر كلامه عليه‌السلام.

وقد مرّ أن حجّ هشام كان في السنة الثانية من حكمه أي في سنة ستّ ومئة (٢) وأ نّه لما رجع من الحج فأنفذ بريداً يريد إشخاص الباقر عليه‌السلام إليه بدمشق (٣) أي كان ذلك سنة (١٠٧ ه‍). وقال خليفة : وفي ذلك العام وقع طاعون شديد بالشام حتّى بالبقر والدوابّ والهوام (٤) فلعلّه من سخط الله لوليّه الباقر عليه‌السلام.

وقد مرّ أن هشاماً عزل أخاه مَسلمة عن العراق وولّاها خالد بن عبد الله القّسري ، فولّى هذا أخاه أسداً على خراسان ، ففي هذه السنة (١٠٧ ه‍) غزا أسد غرجستان فأصابهم مجاعة فرجعوا مجهودين (٥) وغزا بلاد سجستان فاستشهد جمع منهم وانكسروا ورجع الجيش مجهودين (٦) فلعلّ ذلك أيضاً من آثار سخط الله لوليّه الباقر عليه‌السلام.

ثمّ جعل مَسلمة على أرمينية :

وفي سنة (١٠٧ ه‍) ولّى هشام أخاه مَسلمة على آذربايجان وأرمينية. وولّى هشام على إفريقية عُبيدة بن عبد الرحمن القيسي ، فغزا في البحر ، فغنم أموالاً جليلة مع عشرين ألف عبد (٧).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) تاريخ خليفة : ٢١٧.

(٣) عن دلائل الإمامة في بحار الأنوار ٤٦ : ٣٠٦ ، الباب ٧.

(٤) تاريخ خليفة : ٢١٧ واليعقوبي ٢ : ٣٢٨.

(٥) تاريخ خليفة : ٢١٧.

(٦) النجوم الزاهرة ١ : ٣٣٢ ولعلّ سجستان مصحفة عن غرجستان.

(٧) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٨.


وفي سنة (١١٠ ه‍) مات الفرزدق الشاعر البصري وبها في رجب مات الحسن البصري وفي شوال مات محمّد بن سيرين ، ثمّ وهب بن منبّه وإبراهيم بن محمّد بن طلحة (١).

وبدأ العباسيون بخراسان :

وفي سنة (١١١ ه‍) بدأ سليمان بن كثير الخزاعي وأصحابه بخراسان يدعون إلى «بني هاشم» بدل «بني أُمية» وكثر مجيبوهم ، فأرسل محمّد بن علي بن عبد الله بن العباس إليهم مولاه بُكير بن ماهان ، فدعاهم إلى خلع بني امية والبيعة «لبني هاشم» فأجابوه ، وكثر أصحابه وأشياعه ، ومنهم أبو سلمة حفص بن سليمان الخلّال (بيّاع الخلّ) وارتضاه ابن ماهان لاستخلافه بعده ، وكتب بذلك إلى محمّد بن علي فأقرّه ، فكتب بكير بذلك إلى أصحابه يأمرهم بالسمع له والطاعة فأجابوه.

وبلغ خبرهم إلى والي خراسان أسد بن عبد الله القسري فقبض على جمع منهم فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم! وشاع خبرهم فخافوه (٢).

كرامة الصادق في عهد الباقر عليه‌السلام :

روى الطبري الإمامي بسنده إلى الليث بن سعد الفهمي المصري (٩٣ ـ ١٧٧ ه‍) قال : حججت سنة (١١٣ ه‍) فأتيت مكة ، فلما صلّيت العصر رقيت أبا قُبيس ، وإذا أنا برجل جالس يدعو يقول : يا ربّ يا ربّ يا ربّ حتّى انقطع نفَسه ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٩.


ثمّ قال : ربّ ربّ حتّى انقطع نفَسه ، ثمّ قال : يا الله يا الله حتّى انقطع نفَسه ، ثمّ قال : يا حيّ يا حيّ حتّى انقطع نفَسه ، ثمّ قال : يا رحيم يا رحيم حتّى انقطع نفَسه ، ثمّ قال : يا أرحم الراحمين سبع مرّات فانقطع نفَسه ، ثمّ قال : اللهمّ إنّي أشتهي من هذا العنب فأطعمنيه ، وإنّ بُرديّ قد أُخلقا فاكسني.

قال الليث : فوالله ما استتمّ كلامه حتّى نظرت إلى سلّة مملوءة عنباً ، وليس على وجه الأرض يومئذ عنب! وإذا ببردين جديدين موضوعين لم أر مثلهما في الدنيا! فأراد أن يأكل فقلت له : أنا شريكك! فقال لي : وَلِمَ؟ قلت : لأنّك دعوت وأنا اؤمّن! فقال : تقدّم فكُل ولا تُخبِّئ شيئاً! فتقدّمت فأكلت عنباً لم آكل مثله قط وإذا هو عنب لا عجْم له ، فأكلنا حتّى شبعنا ولم تتغيّر السلّة ، وقال : لا تدّخر ولا تخبّئ منه شيئاً!

ثمّ قال لي خذ أحد البُردين ، ثمّ أخذ أحد البُردين ودفع إليّ الآخر. فقلت له : أنا في غنى عنه. فقال لي : فتوارَ عنّي حتّى ألبسهما. فتواريت عنه فاتّزر بأحدهما وارتدى بالآخر ، ثمّ أخذ البردين اللذين كانا عليه فجعلهما على يديه ونزل فاتبعته حتّى إذا كان بالمسعى لقيه رجل فقال له : اكسني يابن رسول الله! كساك الله فإنني عريان! فدفعهما إليه. فقلت له : مَن هذا [الذي قلت له : يابن رسول الله]؟! فقال : هذا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

قال الليث : فطلبته بعد ذلك لأسمع منه شيئاً فلم أقدر عليه (١).

__________________

(١) دلائل الإمامة : ٢٧٧ ، الحديث ٢١٣ ونقله بعده الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٥٣ عن أمالي الكلوداني والوسيلة لعمر الملّا بلا ذكر السنة. وذكره ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول ٢ : ٥٩ و ٦٠ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ١٦١ وذكره عن ابن الجوزي وابن بشكوال وبهامشه مصادر أُخرى ، وذكره سبط ابن الجوزي ٢ : ٤٤٩ ـ ٤٥١ بسنده ، وبهامشه مصادر أُخرى.


ولا يخفى أن هذا كان على عهد الباقر عليه‌السلام ، وللصادق عليه‌السلام ثلاثون عاماً ، وللّيث بن سعد عشرون عاماً وهو صاحب مالك بن أنس والذي نشر مذهبه بالفسطاط من مصر ومنه في كل افريقيا.

وسائر أخبار عام (١١٤ ه‍):

وهذه السنة كان عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية قد أعدّ للغزو في البحر مئة وثمانين مركباً ، فأغزاها بإمرة المستنير بن الحارث ولكنّ الشتاء عاجلهم فعجّلوا بالرجوع وعادوا بريح طيبة ، ثمّ جاءتهم ريح عاصف فغرقت مراكبهم حتّى لم يسلم منها إلّاسبعة عشر مركباً (١).

وكان على أرمينية وآذربايجان قبل مَسلمة الجرّاح بن عبد الله الحكمي ، فأعاده هشام هذا العام وعزل أخاه مَسلمة ، فبدأ الجرّاح ببلدة البيضاء للخزر فافتتحها وانصرف إلى بَردة (بارتاف ألبانيا) ، فجمع مارتيك بن خاقان الخزر جموعاً كثيرة وصاروا إلى أردبيل فحاصروها ، فزحف الجرّاح من بَردة (بارتاف ألبانيا) إلى حصار أردبيل في شهر رمضان سنة (١١٢ ه‍) فقاتلهم قتالاً شديداً حتّى قُتل وقد استخلف عليهم أخاه الحجّاج الحرشي ، وغلب الخزر فنصبوا المجانيق على أردبيل وهم يقاتلونهم ، فلمّا طال الحصار استسلموا فدخلها الخزر فقتلوا المقاتلين وسبوا ذراريهم.

فوجّه هشام إليهم سعيد بن عمرو الحَرشي ومعه فرسان العرب ، فتوجّه سعيد إلى بَردة (ألبانيا) فجمع إليه مَن هناك من عسكر المسلمين وسار بهم إلى البلقان ثمّ إلى آذربايجان. فتوجّه إليهم عسكر الخزر ومعهم عجلات كثيرة عليها

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٢٠.


غنائمهم وسباياهم من أردبيل ، وعاد طليعة الحرشي إليه وأخبره أنهم نيام ، فحضّض أصحابه وسار إليهم فاستنفذ العجلات بما عليها. ثمّ أُخبر بعجلات كثيرة أُخرى للخزر في ناحية ورثان وعليها سبايا وغنائم ، فبيّتهم كذلك وقاتلهم واستنقذ العجلات بما عليها فأدخلها بلدة ورثان ، ثمّ بيّت طاغيتهم مارتيك بن الخاقان ومن معه فقتل منهم مقتلة عظيمة حتّى هرب مارتيك بن الخاقان وهُزم من بقي منهم معه ، فكتب بالفتح إلى هشام (١).

وقال اليعقوبي : إن سعيد بن عمرو الحرشي كان على مقدمة مَسلمة بن عبد الملك ، ولما التقى بعسكر الخزر كان معهم عشرة آلاف من أُسارى المسلمين ، فحاربهم فقتل عامّتهم وهزم الباقين واستنقذ الأُسارى المسلمين. وعقّب اليعقوبي قال : فعل ذلك مرّة بعد أُخرى. فهو بهذا أشار إلى أنّ ذلك لم يكن في مرّة واحدة. إلّاأ نّه قال بشأن مارتيك بن الخاقان : أن الحَرشي قتله ووجّه برأسه إلى هشام (٢).

وخالفه خليفة فقال : إنّ هشاماً عزل سعيد بن عمرو الحَرشي وأعاد أخاه مَسلمة على أرمينية وآذربايجان ، فخرج في شوال سنة (١١٢ ه‍) في طلب الأتراك في شدّة الثلوج والأمطار ، حتّى أحاط بحيزان قرب شيروان فعرض عليهم الصلح فأبوا وقاتلوه ثمّ سألوه الأمان ، فحلف لهم أن لا يقتل منهم لا رجلاً ولا كلباً! فنزلوا على حكمه فاستثنى منهم كلباً ورجلاً واحداً ثمّ قتلهم أجمعين!

ثمّ سار إلى سوران فسأله ملكهم الصلح فصالحهم ، ثمّ انصرف إلى غزالة. وجمع الخاقان جيوش الخزر وتوجّه إليه فلم يشعر مَسلمة حتّى اطّلعوا عليه

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٢٠ ، ٢٢١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٧.


وأحاطوا به ، واقتتلوا قتالاً شديداً حتّى حال بينهم الليل ، فبات المسلمون يحيون ، وهرب الخاقان وانصرف الخزر ، فاستخلف مَسلمة عليهم مروان بن محمّد بن مروان وقفل راجعاً ، فلمّا هل المحرّم لسنة (١١٤ ه‍) عزله هشام وولّى مروان (١).

والجُنيد المُرّي على سمرقند والسند :

وقبل هذا كان هشام ولّى الجُنيد بن عبد الرحمن المُرّي على سمرقند وغزو طخارستان (١١٢ ه‍) ، فولّى الجنيد سورة بن أبجر الدارمي على سمرقند ، وخرج هو غازياً إلى طخارستان ، فجاش الترك هناك وخرجوا إليه بخاقانهم حتّى التقوه قبل سمرقند فاقتتلوا قتالاً شديداً حتّى أمسوا فتحاجزوا ، كتب الجُنيد إلى سورة يأمره بالمسير إليه فأتاه فلقيه الترك فقاتلوه حتّى قتلوا عامّة جيشه ، ثمّ لقيهم الجُنيد فقاتلهم فهزموا ، ومضى الجُنيد حتّى دخل سمرقند (٢).

وأقام الجُنيد مدّة ثمّ غزا الكيرج في السند فهرب الراه ملك الكيرج ، فافتتحها الجُنيد وغنم وسبى ، ثمّ وجّه عماله إلى بلاد المرمذ والمندل ودهنج والبروص وسُرَست والبيلمان ومالبه ، وغيرها من البلاد ، وعظم أمره ببلاد السند ثمّ صار إلى أرض الصين ووقف على أوّل حصن فيه ودعى ملكه إلى الإسلام فأبى فقاتله ورمى حصنه بالنفط والنار ، ولم يزل يقاتله حتّى طلب الصلح فصالحه.

وجاء فيج (پيك / بريد) من الروم إلى هشام يخبره أن المسلمين أسروا عدداً منهم ومعهم أبقاراً وحميراً ، فكتب هشام بذلك إلى الجُنيد! فكتب الجُنيد إليه : إنّي نظرت في ديواني فوجدت ما أفاء الله عليَّ : ستّمئة وخمسين ألف رأس من السبي! وحملت ثمانين ألف ألف درهم ، وقد فرّقت في الجند أمثالها مراراً!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٢٢ ، ٢٢٣.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٢٠.


وكان هشام قد كتب إلى الجُنيد أن يكاتب خالد القسري بالعراق ، وأقام الجُنيد عدّة سنين : ثمّ استعمل خالد القسري مكانه تميم بن زيد العتبي ، وكان الجُنيد قد خلّف في بيت ماله ثمانية عشر (مليون) فوجّه تميم العتبي بها إلى خالد. ثمّ ثار عليه أهل البلاد فكثرت حروبه وفشا القتل فيهم. فكتب خالد القسري إلى هشام أن يولّي الحكم بن عوانة الكلبي فولّاه ، فخرج إليها بجماعة من وجوه الناس معهم عمرو بن محمّد بن القاسم الثقفي فاتح السند الأوّل ، وقدم الحكم وبلاد الهند قد غُلب عليها إلّاأهل حصن قَصة ، وبعد حروب شديدة أجلى القوم المتغلّبين ، وبنى بلدة سمّاها المحفوظة ، وهدأت البلاد وسكنت (١).

مروان في أرمينية وآذربايجان :

في سنة (١١٤ ه‍) سار مروان بن محمّد بن مروان إلى الصقالبة (زاگرب / الروس) فأغار عليهم فقتل وسبى (٢) وفي سنة (١١٧ ه‍) أرسل بعثاً إلى جبل القبج واللان فافتتحوا ثلاثة حصون منها ، وأرسل بعثاً آخر إلى مملكة تومان شاه ، فنزل تومان على حكمه فبعث به مروان إلى هشام فأعاده هشام إلى مروان ، فأعاده مروان إلى مملكته (٣) وصار إلى حصن ملك السرير الذهبي فصالحه على ألف وخمسمئة غلام سود الشعور! ثمّ دخل إلى أرض زريگران فصالحه ملكها ، ثمّ صار إلى خُمرين فحاربوه فقاتلهم فقتل منهم خلقاً عظيماً حتّى فتح أكثر البلد! ثمّ عاد إلى مدينة الباب فأقام هناك (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٦ ، ٣١٧.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٢٣.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٢٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١٨.


وفي هذه السنة توفيت سكينة (أُميمة) بنت الحسين عليه‌السلام ومولى الحسن بن علي : سعيد بن يسار ، بالمدينة. وقتادة بن دعامة بواسط بالعراق.

وفي السنة التالية (١١٨ ه‍) مات علي بن عبد الله بن العباس بالشام (وله اثنان وعشرون ولداً).

وفيها غزا مروان بن محمّد بلدان أرمينية وملكهم يُدعى ورتنيس وله قلعة قصدها محمّد بن مروان من جهات ثلاث ، فترك ورتنيس قلعته إلى الخزر في خُمرين ، فنصب المسلمون المجانيق على قلعته ، وخافه أهل خُمرين فقتلوا ورتنيس وبعثوا برأسه إلى مروان بن محمّد ، فنصبه مروان لأهل قلعته ، فاستسلموا له ، فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم!

وفي السنة التالية (١١٩ ه‍) خرج مروان من أرض اللان إلى الخزر فمرّ ببلنجر وسمندر يقصد القلعة البيضاء التي فيها خاقانهم فهرب. فقصد هزار طرخان وأصحابه فقاتلهم وقتلهم (١).

وخزي المخزوميّ الناصبي :

كان للإمام السجاد عليه‌السلام خمسة عشر من الأولاد أربعة إناث وأحد عشر ذكراً : محمّد الأكبر الباقر عليه‌السلام ومحمّد الأصغر وعبد الله والحسن والحسين الأكبر والحسين الأصغر وعبد الرحمن وسليمان وزيد وعمر وعلي أصغر أبنائه بل أولاده ، والباقر وعبد الله الباهر لفاطمة بنت الحسن عليه‌السلام وما عداهما لأُمّهات أولاد (٢).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٢٥ ـ ٢٢٧.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٥٥.


وكان الحسين بن علي بن الحسين فاضلاً ورعاً وروى حديثاً كثيراً عن أبيه وأخيه الباقر عليهما‌السلام ، وممّا رواه عنه حفيده يحيى بن سليمان عن عمّه إبراهيم بن الحسين عن أبيه الحسين قال : كان إبراهيم بن هشام المخزومي والي المدينة يجمعنا يوم الجمعة قريباً من المنبر ، فيقع في علي يشتمه! (بعد منع عمر بن عبد العزيز!) قال : فحضرت يوماً وقد امتلأ ذلك المكان فلصقت بالمنبر فأُغفيت ، فرأيت رجلاً عليه ثياب بيض انفرج له القبر فخرج منه وقال لي : يا أبا عبد الله! ألا يحزنك ما يقول هذا؟ قلت : بلى والله! قال : فانظر ما يصنع الله به! فنظرت فإذا به ذكر علياً ، فرُمى به من فوق المنبر ، فمات (١) سنة (١١٥ ه‍) (٢).

وأمر هشام بقتل جابر الجعفي :

وقبل وفاة الإمام الباقر عليه‌السلام علينا أن نقف على آخر ما روى عنه عليه‌السلام لجابر بن يزيد الجعفي الكوفي حفاظاً على حياته من جور هشام الشام :

ما رواه الكليني بسنده عن النعمان بن بشير الكوفي قال : كنت مزاملاً لجابر بن يزيد الجعفي في المدينة فدخل على أبي جعفر الباقر عليه‌السلام فودّعه ، وخرج وهو مسرور. ثمّ ارتحلنا إلى الكوفة على قلعة فيد حتّى وردنا الاخيرجة أول منزل يوم الجمعة فصلينا الزوال ، ثمّ ارتحلنا رواحلنا فإذا برجل طوال آدم معه كتاب ناوله جابراً فتناوله وإذا هو من محمد بن علي إلى جابر بن يزيد ، وعليه طين أسود رطب ، فقبّله ووضعه على عينيه وقال له : متى عهدك بسيدي؟ قال الساعة بعد الصلاة

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٧٤.

(٢) الأعلام للزركلي ١ : ٧٨ ، كذا هنا ، وقد نقلوا فيه أنّه عُزل وغُرّم ثمّ مات. وشتمُ الإمام علي عليه‌السلام علناً بعد أكثر من عشرين عاماً من منع ابن عبد العزيز ، ممّا يُبعد صحة هذا الخبر.


ففك الخاتم وأقبل يقرؤه ويقبض وجهه حتى أتى على آخره. فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً حتّى وافينا الكوفة. فبتّ ليلتي فلما أصبحت أتيته إعظاماً له فخرج عليَّ وقد علّق في عنقه كعاباً وركب قصبة ويقول : أجد منصور بن جمهور أميراً غير مأمور (١) فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً ولم أقل له ، واجتمع علينا الصبيان والناس وأقبل يدور مع الصبيان والناس يقولون : جُنّ جابر جُنّ جابر!

فوالله ما مضَت الأيام حتّى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إلى واليه (خالد بن عبد الله القسري البجلي) : أن انظر رجلاً يقال له : جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه! فسأل جلساءه عنه فقالوا له : أصلحك الله كان رجلاً له علم وفضل وحديث ، وحجّ فجُنّ ، فهو ذا في الرحبة على القصب يلعب مع الصبيان! فأشرف الوالي عليه فإذا هو كذلك فقال : الحمد لله الذي عافاني من قتله (٢)!

ثمّ عاد بعد هذا إلى رشده ، وسيأتي خبر عنه عن سقوط بني أُمية وقيام العباسيين.

وفاة الإمام الباقر عليه‌السلام :

اتفقت روايتا الجهضمي (٢٥٠ ه‍) والفاريابي (بعد ٣٠٠ ه‍) في تاريخ

__________________

(١) منصور بن جمهور الكلبي الشامي ، لما ولي الخلافة يزيد بن الوليد الأموي افتعل عنه كتاباً بولايته على العراق فوليها أربعين يوماً ثمّ عُزل فرحل إلى السند وبنى بها مدينة المنصورية منسوبة إليه ، كما في تاريخ خليفة : ٢٤١ ، ولذا كان جابر يقول عنه : أمير غير مأمور! وستأتي أخباره.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٣٩٦ ، الحديث ٧.


وفاة الإمام الباقر عليه‌السلام على (١١٤ ه‍) (١) فوافقهما الكليني (٢) والمفيد (٣) وتبعه الطبرسي (٤) ومن بَعده.

هذا وقد روى الكليني وعنه المفيد ـ بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا حضرت أبي الوفاة قال : ادع لي شهوداً ، فدعوت له أربعة شهود من قريش فيهم نافع مولى عبد الله بن عمر (٥) وقال فيه ابن قتيبة : هلك سنة (١١٧ ه‍) (٦). ولذا قال في وفاة الباقر عليه‌السلام : سنة (١١٧ ه‍) (٧). وهي رواية الواقدي (٨) وقول اليعقوبي (٩) والطبري في «ذيل المذيّل» (١٠) ولم يذكر خبر وفاته عليه‌السلام في تاريخه إلّاأ نّه ذكر خبراً عن عمر بن علي (بن الحسين) قال : مشيت مع (أخي) محمّد بن علي إلى داره فقلت له : إنّه قد طال ملك هشام وسلطانه حتّى قرب من العشرين (١١). هذا وقد اتفقوا على أنّ هشاماً إنّما تخلّف سنة (١٠٥ ه‍) فلا أقلّ من اقتراب الوفاة من العشرين بعد المئة.

__________________

(١) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٧٩ و ٨٠.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٦٩.

(٣) الإرشاد ٢ : ١٥٨ ولم يذكره في مسارّه.

(٤) إعلام الورى ٢ : ٤٩٨.

(٥) أُصول الكافي ١ : ٣٠٧ ، الحديث ٨.

(٦) المعارف : ٤٦٠ ونافع : هو من أهل أبرشهر / نيشابور.

(٧) المعارف : ٢١٥.

(٨) الطبقات ٥ : ٣٢٤.

(٩) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٠.

(١٠) ذيل المذيّل : ٦٤١ ـ ٦٤٢.

(١١) تاريخ الطبري ٧ : ٢٠٨.


وقد نقل الدينوري : أنّ هشاماً قال لزيد بن علي : ما فعل أخوك البقرة؟! فقال زيد : سمّاه رسول الله «باقر العلم» وأنت تسمّيه بقرة! لقد اختلفتما إذاً (١) ولقاء زيد بهشام في الشام إنّما كان قبل قتله بسنتين على الأكثر ولا أقلّ منها ، وظاهر لفظه : ما فعل أخوك .. السؤال عن حاله حيّاً وليس بعد وفاته بأكثر من خمس سنين.

ولعلّه لذا نجد نقلاً وقولاً آخر بوفاته في (١١٨ ه‍) لدى ابن سعد (٢) ثمّ ابن الخيّاط (٣) وعنه لدى ابن عساكر وعن ابن المديني والهيثم بن عدي والقاسم بن سلّام وأبي عمر الضرير ويحيى بن مَعين (٤).

بل في «فرق الشيعة» : قال بعضهم : إنّه توفي في سنة تسع عشرة ومئة ، وهو ابن ثلاث وستين سنة .. وكانت إمامته أربعاً وعشرين سنة (٥).

__________________

(١) عيون الأخبار لابن قتيبة ١ : ٢١٢ وعنه في إعلام الورى ١ : ٤٩٤ ومناقب الحلبي ٤ : ٢١٣ وعنه في بحار الأنوار ٤٦ : ١٩٦.

(٢) الطبقات ٥ : ٣٣٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٢٦.

(٤) ترجمته عليه‌السلام في تاريخ دمشق : ١٢٨ و ١٦٦ بأرقام : ٥ و ٧ و ٨١ إلى ٨٦. وفي روضة الواعظين ١ : ٢٤٨ ، : قبض في ذي الحجة. وزاد الكفعمي في المصباح : سابع ذي الحجة ، كما عنه في بحار الأنوار ٤٦ : ٢١٧ ، وفيه : سمّه هشام بن عبد الملك! وإنّما جاء خبر السمّ في السرج الذي سمّه وقدمه له زيد بن الحسن فأخبره الباقر عليه‌السلام بفعله ومع ذلك ركبه ونزل متورماً وعاش ثلاثاً ثمّ مضى ، في خبر الخرائج والجرائح ١ : ٦٠٤ ، الحديث ١١ وفيه أنّ ذلك كان في زمان عبد الملك! فهو من الإفك!

وفي مناقب الحلبي ٤ : ٢٢٨ : قال ابن بابويه : سمّه إبراهيم بن الوليد بن يزيد! وإنّما ولي سنة (١٢٧ ه‍).

(٥) فرق الشيعة : ٦١ للنوبختي (ق ٣ ه‍).



عهد

الإمام الصادق عليه‌السلام



زيد ، الوليد الشهيد ، والإمامة :

روى الزيدي أبو الفرج الإصفهاني الأموي بسنده عن خالد مولى آل الزبير قال : كنّا عند علي بن الحسين عليه‌السلام فدعا زيداً ، ابناً له ، فأتاه وعثر فكبا لوجهه ونزف دمه فأخذ يمسح دمه ويقول له : أُعيذك بالله أن تكون زيداً المصلوب بالكُناسة!

ويوماً آخر روى لمن حضره عن أبيه عن جدّه علي عليه‌السلام قال : يخرج بظهر الكوفة (الكُناسة) رجل يقال له : زيد ، في ابّهة (الملك) لا يسبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون إلّامن عمل بمثل عمله! يخرج يوم القيامة وأصحابه ومعهم شبه الطوامير حتّى يتخطّوا أعناق الخلائق ، تتلقّاهم الملائكة تقول : هؤلاء حلفاء الحقّ ودعاة الخلق! ويستقبلهم رسول الله فيقول : «يا بَنيَّ! قد عملتم ما امرتم به فادخلوا الجنة بغير حساب» (١).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٨٨ ـ ٨٩. وفي فرحة الغري : ٥١ عن ابن عقدة عن أبي حمزة الثمالي مثل الأوّل وفي موسم الحج ، وعنه في بحار الأنوار ٤٦ : ١٨٣.


ولو لم يعلم زيد بذلك يومئذ لصغره فقد نقل الكشي بسنده عن أبي الجارود الذي أصبح بعد ذلك رأس الزيدية قال : كنت عند أبي جعفر الباقر عليه‌السلام إذ أقبل زيد بن علي ، فلمّا نظر إليه أبو جعفر قال : هذا سيّد أهل بيتي (١) وبطريق الصدوق عنه صحّحه قال : هذا سيّد من أهل بيته! والطالب بأوتارهم ، لقد أنجبت امّ ولدتك يا زيد (٢).

وهذه الجملة الأخيرة جاء بها الإصفهاني في خبر عن سعيد بن خيثم الهلالي العامري : أنّ أبا جعفر عليه‌السلام لمّا نظر إلى أخيه زيد تمثّل قائلاً :

لعمرك ما إن أبو مالك

بوان ، ولا بضعيف قواه

ولا بالألدّي في قوله

يعادي الحكيم إذا ما نهاه!

ولكنّه سيّد بارع

كريم الطباع وحلو ثناه

إذا سدته سدت مطواعة!

ومهما وكلت إليه كفاه

أبو مالك قاصر فقره

على نفسه ، ومُشيع غناه

ثمّ قال له : لقد أنجبت أُمّ ولدتك يا زيد! اللهم اشدد أزري بزيد (٣).

والصدوق بطريق آخر عن جابر الجعفي قال : كنت عند الباقر عليه‌السلام وعنده أخوه زيد إذ دخل عليه معروف بن خرّبوذ المكّي (وكان يتعاطى الشعر) فقال له عليه‌السلام : أنشدني من طرائف ما عندك. فأنشدها له ، فوضع الباقر يده على كتفي زيد وقال له : هذه صفتك يا أبا الحسين (٤)! ولعلّه عليه‌السلام كان يتمثل بها بعد هذا لمّا يرى زيداً.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٣١ ، الحديث ٤١٩.

(٢) أمالي الصدوق : ٤١٥ ، الحديث ٥٤٤ ، وامّه أمة سندية كما في مثالب العرب للكلبي : ١٠٧ من هدية المختار كما في مقاتل الطالبيين : ٦٨.

(٣) الأغاني ٢٠ : ١٤٧ ، وعنه في قاموس الرجال ٤ : ٥٧٨ ، والشعر للمتنخّل العبدي في رثاء أبيه أبي مالك.

(٤) أمالي الصدوق : ٩٤ ، الحديث ٧٣ ، وفي العيون ملحقاً بالباب ٤٧ : ٤٨٠ ، الحديث ١٩١.


وروى الراوندي مرسلاً عن محمّد بن أبي حازم (؟) ولعلّه ابن أبي حمزة الثمالي (١) قال : كنت عند أبي جعفر الباقر عليه‌السلام فمرّ بنا زيد بن علي فقال أبو جعفر : أما والله ليخرجنّ بالكوفة وليُقتلنّ وليطافنّ برأسه ، ثمّ يؤتى به فيُنصب على قصبة في هذا الموضع. وأشار إلى موضع صلب فيه. وفي رواية قال : سيخرج زيد أخي بعد موتي يدعو الناس إلى نفسه (٢).

بل يظهر من خبر أنّ جمعاً من الشيعة كانوا يزعمون أنّ زيداً صاحب الأمر منذ عصر الباقر عليه‌السلام ، ذلك ما حكي عن ابن أبي عياش بسنده عن محمّد بن مسلم الثقفي : أنّ قوماً كانوا يزعمون أنّ زيداً صاحب الأمر ، فدخلت عليه وقلت له ذلك فقال : لا ، ولكنّي من «العترة». ثمّ دخلت على الباقر عليه‌السلام.

وعنه في خبر آخر يقرّ بصاحب الأمر في عصره ومن بعده لابنه يحيى قال : سألت أبي عن الأئمة؟ فقال : الأئمة اثنا عشر ، أربعة من الماضين وثمانية باقون. أمّا الماضون :

فعليّ والحسن والحسين وعلي بن الحسين ، والباقون : أخي الباقر وبعده جعفر الصادق (٣).

وفي آخر عنه قبل قيامه في عهد الصادق عليه‌السلام ، عن عُمارة بن زيد الأنصاري قال : سألت زيد بن علي : أنت صاحب الأمر؟ قال : لا ، ولكنّي من «العترة» فقلت له : فبمن تأمرنا؟ فأشار إلى الصادق جعفر عليه‌السلام (٤).

وفي آخر عن سليمان بن خالد قال : انتهيت إلى زيد وهو يقول : جعفر إمامنا في الحلال والحرام (٥).

__________________

(١) انظر قاموس الرجال ٩ : ٦٣٠٤ وروى عنه ابن أبي عمير.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ٢٧٨ ، الحديث ٩.

(٣) انظر قاموس الرجال ٤ : ٥٧٤ ـ ٥٧٥ عن المقتضب ، ونحسب الصواب : كفاية الأثر.

(٤) المصدر السابق : ٥٦٧ كذلك أيضاً.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٣٦١ ، الحديث ٦٦٨.


وفي آخر : أنّ سورة بن كُليب كان من أصحاب الباقر عليه‌السلام ، وكأنّه لم يتعيّن الصادق عليه‌السلام بعده ، فأخذ يسأل بعض أهل البيت مسائله وفيهم زيد فيجيبوه عن بعضها وليس كلّها حتّى وجد الصادق عليه‌السلام يجيبه كأبيه ، وعرفه زيد بذلك فسأله : كيف علمتم أنّ صاحبكم (الصادق) على ما تذكرونه؟ قال سورة : فقلت له : على الخبير سقطت ؛ كنّا نأتي أخاك محمّد بن علي نسأله فيقول : قال الله عزوجل في كتابه وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا مضى أخوك أتيناكم آل محمّد وأنتم فيمن أتينا فتخبرونا ببعض ولا تخبرونا بكلّ الذي نسألكم عنه! حتّى أتينا ابن أخيك جعفر فقال لنا كما كان قال أبوه. فتبسّم زيد وقال : إنّ قلت هذا فوالله إن كتب عليّ عليه‌السلام عنده (١).

وطبيعي أنّ الصادق عليه‌السلام يحبّ لعمّه زيد النصر بالفعل وليس الفشل والقتل ، فلمّا نظر إليه يوماً ومعه امّه قال له : يا عمّ اعيذك بالله أن تكون المصلوب بالكُناسة! ولعلّ امّ زيد لم تسمع ذلك من أبيه السجّاد وأخيه الباقر عليهما‌السلام فقالت له بقِصر معرفتها به : والله ما يحملك على هذا القول غير الحسد لابني!

فقال عليه‌السلام : يا ليته حسدٌ! يا ليته حسد! يا ليته حسدٌ! (بل) حدّثني أبي عن جدّي أنّه قال : يخرج من ولده رجل يقال له زيد يقتل بالكوفة ويُصلب بالكناسة! تفتح لروحه أبواب السماء ويبتهج به أهل السماوات ... ويسرح من الجنة حيث يشاء (٢).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٦ ، الحديث ٧٠٦.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٤٨٠ ، الحديث ١٩٠ الباب ٤٧ وفي أماليه : ٩٤ ، الحديث ٧٢ ، وفيه : تُجعل روحه في حوصلة طير أخضر! وهذا المعنى إنّما هو من أخبار غير الشيعة ، وناقشها البلاغي في مقدّمة تفسيره : آلاء الرحمن. وأيضاً فيه : يخرج من قبره! وقد أحرقوه وذرّوا رماده. فلعلّ ذلك من علائم افتعال الخبر ، والله العالم.


فالإمام عليه‌السلام لا يحبّ له القتل ولكنّه يبشره بمقام الشهادة حديثاً عن جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويناسب ذلك التخيير شرعاً ، ونجد هذا فيما رواه الكشي بسنده عن زرارة بن أعين الفقيه : أنّه كان عند الصادق عليه‌السلام وعنده عمّه زيد فقال له زيد : يا فتى ما تقول في رجل من آل محمّد استنصرك؟ قال : فقلت له : إن كان مفروض الطاعة نصرته ، وإن كان غير مفروض الطاعة فلي أن أفعل ولي أن لا أفعل! فخرج زيد ، وقال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : أخذته والله من بين يديه ومن خلفه وما تركت له مخرجاً (١) فهو تقرير من الإمام لفقه زرارة حكم المسألة.

ويظهر من الخبر أنّ استنصار زيد كان قد بدأ يومئذ في المدينة قبل خروجه منها إلى الشام والعراق ، ولكنّه إنّما على عهد الصادق بعد أبيه الباقر عليهما‌السلام وليس على عهده.

وعليه فلا يصحّ ما أرسله الكليني عن موسى بن بكر عن من حدّثه عن أبي جعفر الجواد عليه‌السلام :

أنّ زيد بن علي دخل على أبي جعفر محمّد بن علي ومعه كتب من أهل الكوفة يدعونه فيها إلى أنفسهم ويخبرونه باجتماعهم ويأمرونه بالخروج إليهم! فقال له أبو جعفر : هذه الكتب ابتداء منهم أو جواب ما كتبت إليهم ودعوتهم إليه؟ فقال : بل ابتداء من القوم ؛ لمعرفتهم بحقّنا وبقرابتنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولما يجدون في كتاب الله عزوجل من وجوب مودّتنا وفرض طاعتنا (كذا)! فقال له أبو جعفر : المودّة للجميع والطاعة لواحد منّا! (وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَايُوقِنُونَ (٢)) فلا تعجل ولا تسبقنّ الله فتعجزك البلية فتصرعك!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٥٢ ، الحديث ٢٤٨.

(٢) الروم : ٦٠.


فعند ذلك غضب زيد وقال : ليس الإمام منّا من جلس في بيته وأرخى ستره وثبط عن الجهاد! ولكنّ الإمام منّا من جاهد في الله حقّ جهاده ومنع حوزته ودفع عن رعيّته وذبّ عن حريمه ... (١) هذا ، ولا شاهد له من التاريخ والحديث ، بل الشواهد كلّها عليه وليست له ولا واحد ، كما رأيت وترى.

خوارج العراق على خالد :

خالد بن عبد الله القسري البجلي اليمني الشامي النصراني المسلم (٢) كانت له يد على الوليد بن عبد الملك قبل ملكه وقد مرّ خبره ، فلمّا ملك الوليد ملّك خالداً على مكّة سنة (٨٩ ه‍) فلم يزل والياً عليها حتّى مات الوليد سنة (٩٦ ه‍) (٣) وولي سليمان فأقرّ خالداً ثمّ عزله (٤) ثمّ ولي هشام فولّى خالداً العراقين سنة (١٠٦ ه‍) (٥).

وفي سنة (١١٩ ه‍) آخر سنة من إمارة القسري أمدّه هشام برجل من بني القَين معه ستمئة من فرسان الشام مدداً لعسكر الكوفة في ثغر الهند ، وقدموا الحيرة ، إذ خرج من الموصل على خالد بهلول بن بشر الملقّب بكُثارة ، وكان مشهوراً بالبأس عند هشام بن عبد الملك.

وكان قد حجّ بهلول في ذلك العام ، وفي طريقه في قرية صُريفين من قرى السواد اشترى غلامه خلاًّ فاعطي خمراً فاستقال فما أقالوه فشكاه إلى عامل خالد

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٥٦ ، الباب ٨١ ، الحديث ١٦.

(٢) الأعلام للزركلي ٢ : ٢٩٧.

(٣) تاريخ خليفة : ١٩٧ و ١٩٨.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٠٣.

(٥) تاريخ خليفة : ٢١٦ و ٢٢٧.


على القرية فلم يجب إلى ذلك بل قال له : الخمر خير منك ومن قومك! فلمّا عاد من الحج جمع حوله أربعين رجلاً أمّروه عليهم ، وتظاهروا بأ نّهم من قبل هشام إلى خالد القسري ، وأخذوا من دوابّ البريد ، حتّى مرّوا بتلك القرية فبدأ بعاملها فقتله ، فهرب أهلها إلى الطرق وخرج البريد إلى خالد بخبرهم وكان في واسط.

وقال مَن معه في وصف خالد : الذي يهدم المساجد ويبني البيع والكنائس! ويولّي المجوس (ومنهم عامل القرية) على المسلمين! وينكح المسلمات لأهل الذمّة! فنريد أن يريحنا الله منه.

فخرج خالد من واسط إلى الحيرة إلى القائد القينيّ الشامي وقال له : اخرجوا إلى هؤلاء الخوارج (الأربعين) فمن قتل منهم أحداً أعفيته من الخروج إلى الهند وأعطيته ضعف عطائه من الشام! فخرجوا إليهم فالتقوا بهم على الفرات ، وخرج بهلول إليه وعرف مكانه فطعنه في شقّ درعه فقتله! وولّى جيشه منهزمين حتّى باب الكوفة! وتبعهم الخوارج يقتلون منهم ، ثمّ عادوا نحو الموصل.

فأرسل القسري خلفهم قائداً من بني شيبان ومعه من عسكر الكوفة ، فالتقوا بهم فحمل البهلول على قائدهم فاستجار به فكفّ عنه ، وانهزم أصحابه إلى خالد بالحيرة! وارتحل البهلول إلى الموصل ، ثمّ توجّه إلى هشام بالشام ، وبلغه ذلك فوجّه إليه هشام جنداً من الشام ، وجنّد له عامل الجزيرة جنداً منها ، وجنّد له خالد جنداً من العراق حتّى صاروا عشرين ألفاً! واجتمعوا بالكُحيل بين الموصل والجزيرة ، وكان البهلول في سبعين ، فخلّف عليهم دعامة الشيباني وقاتلهم حتّى قُتل أكثر أصحابه وقُتل ، فلمّا أصبحوا هرب بهم الشيباني.

ثمّ خرج على خالد صاحب الأشهب الغزي في ستّين فارساً ، فوجّه إليهم خالد القسري : السمط البجلي في أربعة آلاف! فهزم الخوارج نحو الكوفة فتلقّاهم الناس بالحجارة حتّى قتلوهم.


ثمّ خرج عليه وزير السختياني بالحيرة حتّى غلب على بيت مالها ، وجعل لا يمرّ بأحد إلّاقتله ولا بقرية إلّاأحرقها! فأخرج خالد إليه قائداً ومعه شرطة الكوفة فقاتلوهم حتّى أسروا الوزير وهزم جمعه ، واستبقاه خالد فكتب إليه هشام بإحراقه ومن مَعه ، فأخرجهم إلى المسجد وشدّهم في أطنان القصب وصبّ عليهم النفط ، ثمّ أخرجهم إلى الرحبة ورماهم بالنار فاضطربوا حتّى احترقوا وماتوا (١). وفي السنة ذاتها : (١١٩ ه‍) وبالطريقة نفسها ترخّص فأحرق بياناً ومولاه المغيرة وهما :

بيان النهدي والمغيرة البجلي :

لمّا توفّي محمّد بن الحنفية سنة (٨١ ه‍) وقد ادّعيت له المهدوية ، قال ابن كرب من أصحابه بغيبته ورجعته ، وممّن تبعه رجل من البربر في المدينة يدعى حمزة بن عُمارة البربري ، ثمّ فارقه وقال بالوهية ابن الحنفية! وأ نّه هو رسوله أو الإمام وأ نّه ستنزل عليه أسباب من السماء يملك بهنّ الأرض! وتبعه على ذلك ناس من المدينة والكوفة!

وقال لهم حمزة : من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه! وأحلّ لهم جميع المحارم! وهو نكح ابنته (٢)! وكان ذلك على عهد الباقر عليه‌السلام فكان يدّعي لأصحابه : أنّ أبا جعفر يأتيه في كلّ ليلة! وكان يصدّقه بعضهم أنّه أراه إيّاه! فنقل ذلك بريد بن معاوية العجلي إلى الباقر عليه‌السلام فقال : كذب ، عليه لعنة الله! وما يقدر الشيطان أن يتمثّل في صورة نبيّ ولا وصيّ نبي (٣). فكذّبه وبرئ منه فبرئت الشيعة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٣٠ ـ ١٣٤.

(٢) فرق الشيعة : ٢٧ و ٢٨ ، والمقالات والفرق : ٣٢.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٠٤ ، الحديث ٥٤٨ ، و : ٣٠٠ ، الحديث ٥٣٧ في تكذيبه عن الصادق عليه‌السلام كذلك.


منه. وتبعه على رأيه رجلان من نهد من بني تميم ، يقال لأحدهما : صائد وللآخر بيان ، وكان تبّاناً يبيع التبن بالكوفة ، ثمّ ادّعى هذا أنّ الباقر عليه‌السلام أوصى إليه (١).

وكان بيان يفتري الكذب على السجّاد عليه‌السلام وبلغ ذلك إلى الباقر عليه‌السلام فأعلن لعنه وقال : أشهد أنّ أبي كان عبداً صالحاً ، وأنّ بناناً لعنه الله كان يكذب على أبي (٢) وجاء في خبر أنّ هشام بن الحكم حكى للصادق عليه‌السلام نموذجاً من شرك بيان وكفره وغلوّه قال : كان بيان يتأوّل قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) : أنّ إله السماء غير إله الأرض ، وأنّ آلهة الأرض يعرفون فضل إله السماء ويعظّمونه! فقال عليه‌السلام : كذب بيان عليه لعنة الله! لقد صغّر عظمة الله عزوجل (٣).

ولعلّه بلغه أنّ الباقر عليه‌السلام كذّبه وبرئ منه ولعنه فادّعى النبوة عن أبي هاشم بن الحنفية وكتب إليه يدعوه إلى الإقرار بنبوّته ويقول له : «أسلم تَسلم! وترتقي في سلّم! وتنجُ وتغنم! فإنّك لا تدري و (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ (٤))! و (مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ (٥)) وقد أعذر من أنذر ، وكان اسم رسوله بكتابه إليه عمرو بن عفيف الأزدي! فأمر أبو جعفر عليه‌السلام رسول بيان فأكل قِرطاسه الذي جاء به» (٦).

__________________

(١) فرق الشيعة : ٢٨ والمقالات والفرق : ٣٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٠١ ، الحديث ٥٤١. وكذا في خبرين آخرين عن الصادق عليه‌السلام : ٣٠٥ ، الحديث ٥٤٩ وعن الرضا عليه‌السلام : ٣٠٢ ، الحديث ٥٤٤.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٠٤ ، الحديث ٥٤٧. والآية ٨٤ من سورة الزخرف.

(٤) الأنعام : ١٢٤.

(٥) المائدة : ٩٩.

(٦) فرق الشيعة : ٣٤ ، وفي المقالات والفرق : ٣٧ ، وجاءت دعوته الباقر عليه‌السلام في ميزان الاعتدال والملل والنحل : ١٥٣.


وبلغ خبره إلى خالد القسري فطلبه وأصحابه فظفر به وخمسة عشر رجلاً من أصحابه ، فأخذهم إلى مسجد الكوفة وشدّهم فيه بأطنان القصب وصبّ عليهم النفط وألهب فيهم النار! وأفلت رجل منهم فخرج يشتد ، ثمّ التفت فرأى أصحابه تأخذهم النار فكرّ بنفسه راجعاً حتّى ألقى بنفسه فيهم فاحترق معهم (١).

وروى الطبري خبراً عن مولى عمرو بن حريث المخزومي : سعيد بن مرداد بند : أنّ خالد القسري أمر بسريره فاخرج إلى المسجد الجامع بالكوفة ، وأمر بأطنان قصب ونفط فأُحضرا ، ثمّ أُتي ببيان (التبّان التميمي النهدي) والمغيرة بن سعيد (مولى خالد البجلي) في ستّة رهط أو سبعة ، فأمر المغيرة أن يحتضن طناً من القصب فتأنّى فضربوا رأسه بالسياط فاحتضن الطنّ فشدّ به ، ثمّ صبّ عليه وعلى القصب نفط ثمّ الهب فيه النار فاحترق! ثمّ أمر رهطه كذلك فاحترقوا ، ثمّ أمر بياناً آخرهم فبادر إلى ذلك فأحرقه. وزعم أنّ مالك بن أعيَن الجهني منهم ولكنّه صدقه عن نفسه فأطلقه.

وروى عن محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (قاضي الكوفة قبل ذلك) : أنّ رجلاً من أهل البصرة كان قد قدم علينا يطلب العلم ، فانطلقت معه يوماً إلى المغيرة بن سعيد (البجلي) وكنت قد أمرت جاريتي أن تشتري لنا سمكاً بدرهمين ، فأخبرني بذلك المغيرة! فنهضنا عنه. وكان قد نظر في السحر (٢).

__________________

(١) فرق الشيعة : ٢٨ ، وفي المقالات والفرق : ٣٣ وكأنّ الأشعري شعر بتهافت ما جاء هنا في فرق الشيعة من حرقهم مع ما جاء فيه قبل من قتل بيان وصلبه ؛ فحذفه هناك ، اللهمّ إلّاأن نقول بحرق أصحابه وقتله وصلبه هو فقط ، بعيداً.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٢٨ و ١٢٩.


وفي خبر الكشيّ أنّ الصادق عليه‌السلام قال : لعن الله يهودية كان يختلف إليها يتعلّم منها السحر والشعبذة والمخاريق ، وكان يكذب على أبي ، فسلبه الله الإيمان (١).

ومن خبر آخر عن الباقر عليه‌السلام يعلم أنّه كان قد اوتي علماً : قال سلمان الكناني : قال لي الباقر عليه‌السلام : إنّ مَثَل المغيرة مَثَل بلعم! قلت : ومَن بلعم؟ قال : الذي قال الله عزوجل فيه : (الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (٢)).

وكان أصحابه متستّرين بأصحاب الباقر عليه‌السلام ، فكان المغيرة يأمرهم فيأخذون من أصحاب الباقر عليه‌السلام كتبهم فيدفعونها إلى المغيرة ، فكان يدسّ فيها الغلوّ والكفر والزندقة (والتناسخ) ويسندها إلى الباقر عليه‌السلام! ثمّ يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثّوها في «الشيعة» فقال فيه الصادق عليه‌السلام : «كلّ ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذلك ممّا دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم» (٣).

وجاء التلميح إلى نماذج من غلوّه فيهم في قوله عليه‌السلام : لعن الله المغيرة بن سعيد إنّه كان يكذب على أبي! لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا ، لعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وبيده نواصينا وإليه مآبنا ومعادنا (٤).

وعنه عليه‌السلام قال : إنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي! إنّا إذا حدّثنا قلنا : قال الله عزوجل وقال

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٥ ، الحديث ٤٠٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٧ ، الحديث ٤٠٦ ، والآية من الأعراف : ١٧٥.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٥ ، الحديث ٤٠٢.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٣ ، الحديث ٤٠٠.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاتّقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ... لا تقبلوا علينا حديثاً إلّاما وافق القرآن والسنة ، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة (١).

وعليه فهذا هو سبب صدور هذه الأخبار عنهم في عرض المرويات عنهم على الشواهد لها من الكتاب أو من السنة أو من سائر أحاديثهم عليهم‌السلام ، وإلّا فتردّ ولا تُقبل.

ولم يكن كفره من قبيل التحلّل من الفرائض بل الزيادة فيها : قال بنقض الوضوء بالرعاف والقيء ونتف شعر الإبط (٢) وبقضاء الحائض لما فاتها من الصلاة (٣) وحدّث بذلك عن الباقر عليه‌السلام : أنّ نساء آل محمّد إذا حضن قضين الصلاة (٤).

ونقل المعتزلي عن النوفلي : أنّه قال للباقر عليه‌السلام : أَخبِر الناس أنّي أعلم الغيب! واطعمك العراق! فأسمعه الباقر ما كره وزجره زجراً شديداً! وقال مثلها لأبي هاشم ابن الحنفية فأشفى به على الموت ضرباً! فتعالج حتّى برئ ، ثمّ قال لمحمّد بن عبد الله بن الحسن نحوها فلم يجبه فطمع فيه ، فادّعى أنّ علي بن الحسين عليه‌السلام أوصى إلى محمّد ذي النفس الزكية ، ثمّ قدم بها إلى الكوفة وبثّ بها في أصحابه (٥).

وطبّق عليه حديث النبيّ في القائم المهدي : «يواطئ اسمه اسمي» وزاد عليه : «واسم أبيه اسم أبي». فهو أوّل من زاد هذا لذلك!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٤ ، الحديث ٤٠٠.

(٢) التهذيب ١ : ٣٤٩.

(٣) فروع الكافي ٣ : ١٠٥.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٧ ، الحديث ٤٠٧.

(٥) شرح النهج للمعتزلي ٨ : ١٢١.


وإنّما قال بهذا بعد وفاة الباقر عليه‌السلام ، وأظهر المقالة بذلك ، فبرئ منه الصادق عليه‌السلام فبرئت منه «الشيعة» ورفضوه ، فهو سمّاهم «الرافضة» فهو أوّل من سمّاهم بها!

ثمّ ترقى الأمر بالمغيرة إلى أن زعم أنّه رسول نبيّ وأنّ جبرئيل يأتيه بالوحي من عند الله! فأخذه خالد القسري فسأله عن ذلك فأقرّ به ودعاه إليه! فاستتابه خالد فأبى أن يرجع من قوله (١).

وروى الطبري عن سليمان بن مهران الأعمش قال : كان المغيرة بن سعيد يخرج إلى المقبرة فيتكلّم (بكلمات) فيُرى على القبور مثل الجراد! وسمعته يقول : لو أردت أن أُحيي عاداً وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً لأحييتهم (٢)! وصحّحه الدينوري : قال الأعمش : قلت للمغيرة : هل كان عليّ يُحيي الموتى؟ فقال : لو شاء لأحيا عاداً وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً! وكان صاحب نيرنجات (٣).

ذكروا أنّه كان مولى بجيلة ، ونصّ النوبختي أنّه كان مولى خالد القسري البجلي (٤) فهو ليس العجلي كما قالوا! بل البجليّ مولاهم بل مولى القسري وجاسوسه المدسوس بين بني علي عليه‌السلام ليدسّ الكفر في كتب الأخبار من أنصارهم كما مرّ عن الصادق عليه‌السلام ، وليشقّوا به عصاهم ، وليشرخوا به شرخاً بين أتباعهم ومذهبهم كما فعلوا ذلك فعلاً ، فلمّا قضوا به وطرهم قضوا عليه قبل أن يكشف نفسه فيكشفهم ، كان كلّ ذلك عام (١١٩ ه‍).

__________________

(١) فرق الشيعة : ٦٢ و ٦٣ ، وفي المقالات والفرق : ٧٦ و ٧٧ وفيهما : فقتله وصلبه!

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٢٨.

(٣) عيون الأخبار ٢ : ١٤٨ ، والنيرنج معرّب نيرنگ بالفارسية أي الحيلة.

(٤) فرق الشيعة : ٦٣ ، وفي المقالات والفِرق : ٧٧.


تسليط الثقفي لتسقيط القسري :

لمّا دخلت سنة العشرين بعد المئة للهجرة بلغت عن خالد إلى هشام أُمور أنكرها ، منها : أنّه فرّق في من أراد مبلغ ستة وثلاثين ألف ألف (مليون) درهم! فاستعظمها. ومنها : أنّ خالداً كأنه سمع قائلاً يشير إلى تشريفه ببني امية فقال : ما زادت امية في شرف قَسر (قبيلته) إلّاهكذا! وجمع بين إصبعيه!

فلمّا بلغ هشاماً ذلك كتب إليه : «أمّا بعد ؛ فقد بلغني مقالتك ؛ وإنّما أنت من بَجيلة ، الحقيرة الذليلة! وستعلم ـ يابن النصرانية ـ أنّ الذي رفعك سيضعك»!

وكان الناظر في أُمور خالد : حسّان النبطي فاستحضره هشام وحلف له بالله الذي لا إله إلّاهو ليصدقنّه أو ليقتلنّه! فأتاه حسّان بصناديق وقائع على خالد وفيها : أنّه فرّق فيمن أراد ستة وثلاثين ألف ألف درهم! فاستعظمها هشام.

وكان عامل هشام على اليمن يوسف بن عمر الثقفي ، فكتب إليه هشام كتاباً بخطّ يده لم يُطلع عليه أحداً يأمره بالنفوذ إلى العراق ساتراً خبره حتّى يقدمها ، فيقبض على خالد وأصحابه ، فيأخذه بستة وثلاثين ألف ألف درهم.

فاستخلص يوسف سبعة نفر واستسرّ أمرهم حتّى قدم بهم العراق سنة (١٢٠ ه‍) عشيّة قبل صلاة العشاء. وخلّف على رحالهم اثنين وصار إلى المسجد الجامع في خمسة نفر وقف بهم قبال المحراب ، فلمّا اقيمت الصلاة تقدّم خالد ليصلّي ، فتقدم إليه يوسف فأخرجه من المحراب وتقدّم وأحرم وقرأ بعد الفاتحة الواقعة ، وفي الثانية بعد الفاتحة : «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ» (١) ثمّ أقبل على الناس بوجهه فعرّفهم نفسه (٢) وقرأ عليهم كتاب هشام إليه ، ودخل هو وأصحابه

__________________

(١) يلاحظ أنّه أتمّ السورتين ولم يكتفِ ببعضها.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.


دار الإمارة وأخذ أصحاب خالد ونزعه ثيابه وملابسه وألبسه جبّة صوف وجمع يديه إلى عنقه بقيود جامعة ، وحبسهم يطالبهم بالستة والثلاثين مليون درهم.

وبلغ ذلك الناس فاجتمع جماعة دهاقين العراق ومياسير الناس وقالوا ليوسف : نحن نتحمّل هذا المال عن خالد ونؤدّيه. فقبل يوسف ذلك منهم ، فلمّا حملوا المال إليه عاد فطالب خالداً بالمال.

وعزل يوسف طارق بن أبي زياد عامل خالد على فارس وطالبه بعشرين مليوناً ، وعزل الزبير عامل خالد على إصفهان والريّ وقومس وطالبه بمثله ، وعزل أبان بن الوليد البجلي وطالبه بعشرة ملايين ، وعزل بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عامل خالد على البصرة وسجنه يطالبه بمثله ، فهرب من سجنه إلى هشام بالشام ، فأعاده هشام إلى يوسف فعذّبه حتّى قتله ، واستصفى داره بالبصرة وجعل داره بالكوفة سجناً! وكان الحكم بن عوانة عامل خالد على السند ومعه عمرو بن محمد بن القاسم الثقفي ، فلمّا بلغ الحكم أخبار يوسف استخلف الثقفيّ على الخيل وأوغل بخيله في بلاد السند ولم يزل يقاتل حتّى قتل (١).

فروى الأموي الزيديّ بثلاثة طرق : أنّ خالداً ادّعى (بالتعذيب) أموالاً على رجال من بني هاشم وغيرهم ، أحدهم من خؤولة هشام من بني مخزوم هو أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، فاجتنبوه لخؤولته لهشام فلم يؤاخذ بشيء من ذلك. وثانيهم من بني زهرة هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، ومن بني هاشم هم : داوود بن علي بن عبد الله بن العباس ، ومحمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب ، وزيد بن علي عليهما‌السلام ، فكتب يوسف بهم إلى هشام (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٩٠.


زيد عند هشام بالشام :

فروى الأموي الزيديّ بطرقه الثلاثة : أنّ هشاماً كان يومئذ بالرُّصافة من رقة الشام ، وأنّ زيداً كان قد تخاصم مع (عبد الله) بن الحسن بن الحسن على ولاية صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى هشام بالرُّصافة ، ومع زيد محمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب (١).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٩٠ وفيه : الحسن بن الحسن ، وصحّحناه من الطبري ٦ : ١٦٣ وفي : ١٦١ : بني الحسن بن الحسن. و (بني) محذوفة من المقاتل. ومحمّد بن عمر بن علي كان قد صاهر ابن عمّه السجّاد عليه‌السلام كما في قاموس الرجال ٩ : ٤٨٨. وعلي عليه‌السلام أوقف عيونه السبعة صدقة في مرجعه من صفّين وجعل ولايتها وولاية صدقات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبنائه من بني فاطمة عليها‌السلام ، فتولّاها بعد الحسين عليه‌السلام ابن أخيه وصهره الحسن المثنّى ، كما في الإرشاد ٢ : ٢٣ عن الزبير بن بكار ولكن في نسب قريش : ٤٦ ، وفي أنساب الأشراف ٢ : ٧٤ ثمّ ابنه جعفر بن الحسن ، فخاصمه عن بني الحسين زيد بن علي إلى الوالي إبراهيم بن هشام المخزومي (ق ١١٤ ه‍) فلمّا مات جعفر قال عبد الله بن الحسن : من يكفينا زيداً؟ فقال الحسن المثلث : أنا أكفيكه! قال : كلّا إنّا نخاف لسانك ويدك ، ولكنّي أنا. فتنازعا إلى الوالي. حتّى ولّى هشام خالد بن عبد الملك بن الحارث الأموي المدينة بعد إبراهيم المخزومي (عام ١١٤ ه‍ إلى ١١٩ ه‍ : تاريخ خليفة : ٢٣٢) فتنازعا (الطبري ٧ : ١٦٣ ـ ١٦٤) ثمّ شخص زيد إلى هشام بن عبد الملك فلم يأذن له ، فجعل يرفع إليه القصص ويكتب هشام في أسفلها : ارجع إلى أميرك ، حتّى أذن له يوماً بعد مدّة طويلة (الطبري ٧ : ١٦٥) وروى عن أبي عبيدة القاسم بن سلّام البصري : أنّ يوسف بن عمر عذّب خالد بن عبد الله فادّعى خالد أنّه استودع داوود بن علي وزيد بن علي وآخرَين من قريش : جمحي ومخزومي مالاً عظيماً. فكتب يوسف بذلك إلى هشام ، فكتب هشام إلى (ابن خاله محمّد) ابن إبراهيم بن هشام المخزومي وهو عامله على المدينة (١١٩ ه‍ ـ ١٢٦ ه‍ : تاريخ خليفة : ٢٣٢) يأمره بحملهم إليه.


فلمّا وصل كتاب يوسف إلى هشام أحضرهم فذكر لهم ما كتب به يوسف إليه فأنكروا ، فقال لهم هشام : فإنّا باعثون بكم إلى يوسف يجمع بينكم وبين خالد (١)!

وقال اليعقوبي : إنّ هشاماً أقدم زيداً فقال له : إنّ يوسف بن عمر الثقفي في الكوفة كتب إليّ يذكر أنّ خالد بن عبد الله القَسري ذكر له أنّ له عندك وديعة ستمئة ألف درهم! فقال زيد : ما لخالد عندي شيء! قال : فلابدّ من أن تشخص إلى يوسف بن عمر حتّى يجمع بينك وبين خالد! قال : لا تُوجّه بي إلى عبد ثقيف! يتلاعب بي! فقال : لابدّ من إشخاصك إليه! فكلّمه زيد بكلام كثير ، فقال له هشام : لقد بلغني أنّك تؤهّل نفسك للخلافة وأنت ابن أمة!

فقال له زيد : ويلك! أمكان امّي يضعني؟! والله لقد كان إسحاق ابن حرّة وإسماعيل ابن أمة ، فاختصّ الله «عزوجل» ولد إسماعيل فجعل منهم العرب ، فما زال ذلك يُنمى حتّى كان منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ قال له : اتّقِ الله يا هشام! (كذا بلا لقب) فقال : أوَ مثلك يأمرني بتقوى الله؟! فقال : نعم! إنّه ليس أحد دون أن يأمر بها ، ولا أحد فوق أن يسمعها! فأمر هشام بإخراجه فأخرجوه وهو يقول : والله إنّي لأعلم أنّه ما أحبّ الحياة أحد قطّ إلّا ذلّ (٢).

__________________

فدعا (محمّد بن) إبراهيم زيداً وداوود فسألهما عمّا ذكر خالد ، فحلفا ما أودعهما خالد شيئاً ، فصدّقهما وقال : لكن كتاب أمير المؤمنين قد جاء بما تريان فلابد من إنفاذه ، فحملهما إلى الشام (الطبري ٧ : ١٦٢).

(١) مقاتل الطالبيين : ٩٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٥.


ومع وجود أصل الكتاب المعروف بمقاتل الطالبيين بخطّ أبي الفرج الإصفهاني لدى المفيد (١) ما أفاد شيئاً عن علّة وصول زيد عند هشام إلّاأ نّه قال : جمع له هشام أهل الشام وأمرهم أن يتضايقوا في المجلس حتّى لا يتمكّن زيد من الوصول إليه ، ودخل زيد عليه فقال له : إنّه ليس من عباد الله أحد فوق أن يوصى بتقوى الله ، ولا من عباده أحد دون أن يوصى بتقوى الله ، وأنا أُوصيك بتقوى الله فاتّقه يا أمير المؤمنين (٢).

فقال له هشام : أنت المؤمّل نفسك للخلافة الراجي لها (٣) فما أنت وذاك ـ لا أُمّ لك ـ وإنّما أنت ابن أمة!

فقال له زيد : إنّي لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند الله من نبيّ بعثه الله وهو ابن أمة ، فلو كان ذلك يُقصّر عن منتهى غاية ، لم يُبعث ، وهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، فالنبوة أعظم منزلة عند الله أم الخلافة يا هشام! (كذا بلا لقب) وبعدُ فما يقصر برجل أبوه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ابن علي بن أبي طالب؟!

فوثب هشام من مجلسه ودعا بقهرمانه لإخراجه ، فخرج زيد وهو يقول : إنّه لم يكره قوم قط حرّ السيوف إلّاذلّوا (٤).

ورووا عن زيد قال : شاهدت هشاماً ورجل عنده يسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٩٠.

(٢) ولا محمل له إلّاالتقية ، فكيف ينكرها الزيدية؟!

(٣) ممّا يدلّ على سبق ذلك قبل سفرته هذه بعد وفاة أخيه الباقر عليه‌السلام ، وعليه فالقضية سياسية ولست مالية ، وإنّما هي شكلية صورية لتشويه الصورة.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٧٢ ـ ١٧٣ ، وقبله مثله في مروج الذهب ٣ : ٢٠٦. ولعلّه من الكلام الكثير المذكور في قول اليعقوبي السابق.


فقلت له : ويلك يا كافر ؛ أما إنّي لو تمكّنت منك لاختطفت روحك وعجّلت بك إلى النار! فقال لي هشام : يا زيد ؛ مَه عن جليسنا (١). فلم ينكر ذلك ولم يغيّره (٢).

وانفرد بالرواية عن ابن منبّه بأنّ هشاماً أمر بضرب زيد ثمانين سوطاً (٣).

ثمّ حمل زيداً إلى الكوفة :

روى الأموي الزيديّ بطرقه الثلاثة : أنّ هشاماً دعا كاتبه فأمره أن يكتب إلى يوسف بن عمر الثقفي في الكوفة : أمّا بعد ، فإذا قدم عليك زيد و... فاجمع بينهم وبين (خالد القسري) فإن أقرّوا بما ادّعى عليهم فسرّح بهم إليّ! وإن هم أنكروا فاسأل (خالداً) البيّنة ، فإن لم يقمها فاستحلفهم بعد صلاة العصر بالله الذي لا إله إلّاهو ما استودعهم (خالد) وديعة ولا له قبلهم شيء ، ثمّ خلّ سبيلهم.

فقالوا لهشام : إنّا نخاف أن يتعدّى كتابك ويطول علينا! قال : كلّا أنا باعث معكم رجلاً من الحرس ليأخذه بذلك ويعجل حتّى يفرغ.

ثمّ سرّح بهم إلى يوسف ، وكان يومئذ بالحيرة ، فلمّا قدموا عليه ودخلوا وسلّموا ، أجلس زيداً قريباً منه ولاطفه في المسألة ؛ ثمّ سألهم عن الأموال فانكروا ، فأمر يوسف بإخراج خالد إليهم ، فلمّا جيء به قال له يوسف : يا خالد ، هذا زيد بن علي وهذا محمّد بن عمر بن علي اللذان ادّعيت قِبلهما ما ادّعيت. قال : مالي قِبلهما قليل ولا كثير! فقال له يوسف : أفَبي كنت تهزأ أم بأمير المؤمنين (٤)؟!

__________________

(١) تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، الباب ٧.

(٢) كشف الغمة ٣ : ١٢٣ عن دلائل الإمامة للحميري.

(٣) تذكرة الخواص ٢ : ٤١٥ ونبّه على أنّ المخاصِم لزيد كان عبد الله بن الحسن المثنّى وهو الصحيح.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٩٠ ـ ٩١.


ورواه الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف ، ثمّ قال : وقال عطاء بن مسلم الخفّاف : إنّ زيداً قال ليوسف : أنّى يودعني خالد مالاً وهو يشتم آبائي على منبره (بمكّة) فأرسل يوسف فأحضر خالداً في عباءة وقال له : هذا زيدٌ ، وقد زعمت أنّك قد أودعته مالاً ، وقد أنكر! فنظر خالد في وجههما ثمّ قال ليوسف : أتريد أن تجمع مع إثمك فيّ إثماً في هذا؟! وكيف اودعه مالاً وأنا أشتم آباءه على المنبر (بمكّة) فشتمه يوسف ثمّ أمر بردّه.

وعن أبي عبيدة معمّر بن المثنّى البصري قال : قال له يوسف : فهل عندك بيّنة بما ادّعيت؟ قال : لا ، فقالوا له : فما دعاك إلى ما ادّعيت؟ قال : غلّظ يوسف العذاب عليّ فادّعيت ما ادّعيت وأمّلت أن يأتي الله بفرج قبل قدومكم (١).

وقال اليعقوبي : قال زيد ليوسف : لِم أشخصتني من عند أمير المؤمنين (!) قال يوسف : ذكر خالد بن عبد الله أنّ له عندك ستمئة ألف درهم! قال زيد : فأحضِر خالداً. فأحضَره وعليه حديد ثقيل ، فقال له يوسف : هذا زيد بن علي فاذكر ما لك عنده! فقال خالد : والله الذي لا إله إلّاهو مالي عنده قليل ولا كثير ، ولا أردتم بإحضاره إلّاظلمه (٢)!

ثمّ أخرج يوسف زيداً ومن معه إلى المسجد بعد صلاة العصر استحلفهم فحلفوا له. فكفّ عن زيد ولكنّه بسط يده على من سواه منهم فلم يقدر منهم على شيء ، فكتب إلى هشام يعلمه الحال. فكتب إليه هشام : أن خلِّ سبيلهم (٣).

وكتب إليه : «إذا جمعت بين زيد وبين خالد فلا يقيمنّ عندك ساعة واحدة! فإنّي رأيته رجلاً حلو اللسان سديد البيان خليقاً بتمويه الكلام! وأهل العراق

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٥.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٢ عن أبي مخنف.


أسرع شيء إلى مثله». فأقبل يوسف على زيد وقال له : إنّ أمير المؤمنين! أمرني أن اخرجك من الكوفة ساعة قدومك! قال : فأستريح ثلاثاً؟ قال : ما إلى ذلك سبيل! قال : فيومي هذا؟! قال : ولا ساعة واحدة! فأرسل معه رسلاً أخرجوه وتمثّل يقول :

منخرق الخُفّين يشكو الوجأ

تنكبه أطراف مرو حِداد

شرّده الخوف وأزرى به

كذاك من يكره حرّ الجِلاد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

فبلغ رسل يوسف بزيد إلى عُذيب الهجانات ثمّ انصرفوا (١).

وعاد إلى البلاد :

ولحقه قوم من «الشيعة» فقالوا له : إنّا نرجو أن تكون المنصور! وأن يكون هذا الزمان زمان هلاك بني أُمية! فاطّلع على أمره داود بن علي فقال له : يا أبا الحسين : إنّ أهل الكوفة أصحاب عليّ وأصحاب الحسين ، فاحذرهم! وصدّقه محمّد بن عمر بن علي فلم يقبل (٢).

وقال لهما : اعزلوا متاعي عن متاعكم ، وذلك بالقادسية. فقال له محمّد بن عمر : ما تريد؟ قال : أُريد أن أرجع إلى الكوفة ، فوالله لو علمت أنّ رضا الله «عزوجل» عنّي في أن أقدح ناراً بيدي حتّى إذا اضطرمت رميت نفسي فيها لفعلت! وما أعلم شيئاً أرضى لله «عزوجل» عنّي من جهاد بني امية (٣)! فرجع معهم إلى الكوفة ومعه ابنه يحيى ، ورجع من معه إلى المدينة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٢) أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٤ ، الحديث ٢٤٦.

(٣) تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ ، الباب ٧.


وفصّل الطبري عن أبي عُبيدة قال : اتبعه «الشيعة» إلى الثعلبية ، وقالوا له : نحن أربعون ألفاً لا يتخلّف عنك أحد! فقال له داود بن علي : يابن عم ، إنّ هؤلاء يغرّونك من نفسك! أليس قد خذلوا من كان أعزّ عليهم منك : جدّك علي بن أبي طالب ، حتّى قُتل! وبايعوا الحسن من بعده ثمّ وثبوا عليه فانتزعوا رداءه من عنقه وانتهبوا فُسطاطه وجرحوه! أو ليس قد أخرجوا جدّك الحسين وحلفوا له بأوكد الأيمان ، ثمّ خذلوه وأسلموه ، ثمّ لم يرضوا بذلك حتّى قتلوه! فلا ترجع معهم.

فقال زيد لداوود : إنّ علياً كان يقاتله معاوية بدُهائه ونكرائه بأهل الشام ، وإن الحسين قاتله يزيد بن معاوية والأمر مُقبل عليهم.

فقال داوود : إني لخائف إن رجعت معهم أن لا يكون أحد أشدّ عليك منهم ، وأنت أعلم.

فقالوا له : إنّ هذا يزعم أنّه وأهل بيته أحقّ منكم بهذا الأمر ، ولا يريد أن تظهر أنت!

فمضى داوود (ومحمّد بن عمر) إلى المدينة ، ورجع زيد معهم الكوفة (١) ومعه ابنه يحيى.

ولم يكن عبد الله بن الحسن ممّن اتّهم على لسان خالد القسري ، فلم يكن معهم إلى الكوفة بل عاد من الشام إلى المدينة ، فلمّا عاد هؤلاء إلى المدينة وعلم بعودة زيد إلى الكوفة كتب إليه : يابن عم ، إنّ أهل الكوفة نُفُخ العلانية خائروا السريرة ، يهيجون في الرخاء ويجزعون في اللقاء ، يتقدّمون بألسنتهم ولا تشايعهم قلوبهم ، لا يبيتون بعُدّة ولا يبوؤن بدولة!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٧ ـ ١٦٨.


ولقد تواترت إليّ كتبهم بدعوتهم فصممت عن ندائهم ، وألبست قلبي غشاءً عن ذكرهم ، يأساً منهم وإطّراحاً لهم. وما لهم مثَل إلّاكما قال علي بن أبي طالب : «إن اهملتم خُضتم ، وإن حوربتم خُرتم ، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم وإن أجبتم إلى مشاقّة نكصتم» (١).

ولم يُعلم عن الصادق عليه‌السلام أيّ شيء مثل هذا.

منازله ومصاهرته ودعوته وبيعته :

قال البلاذري : نزل بالكوفة في منزل حُميد بن دينار من موالي بني أحمس ، ثمّ في منزل نصر بن خُزيمة العبسي ، ثمّ تحوّل إلى منزل نصر بن عبد الرحيم البارقي ثمّ إلى بني يربوع ثمّ بني بكر بن وائل (٢).

وزاره في بعض هذه الدور شيعة الكوفة رجالاً ونساءً ، ومنهن من الأزد أُمّ عمرو ابنة الصلت الأزدي أرملة عبد الله بن أبي العنبس الأزدي وكانت ترى رأي «الشيعة» فبلغها مكان زيد فأتته لتسلّم عليه ، وهي امرأة أرملة مسنّة ولكنّها جميلة جسيمة ولا يتبيّن عليها عمرها ، وهي حجازية فصيحة ، فسألها عن نسبها فأخبرته ، فخطبها فعرضت عليه ابنتها ، فواعدها موعداً ثمّ ذهب إليها فتزوّج ابنتها ، فولدت له جارية ماتت بعد ذلك (٣) فكان ينزل فيهم أيضاً.

__________________

(١) تاريخ الطبري عن النُميرى البصري ٧ : ١٦٩ وأنساب الأشراف ٤ : ٢٤٩. والخطبة في نهج البلاغة : ١٧٩. وخبر الكتاب عن أبي إسحاق الإصفهاني!

(٢) أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٦ ، الحديث ٢٤٧.

(٣) روى البلاذري : أنّ يوسف الثقفي بعد قتل زيد جاء بيعقوب هذا وطلب منه ابنته زوجة زيد فأبى أن يأتيه بها فقتله! ثمّ طلبها من عرّيفهم فأبى فكسر يديه ورجليه! أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، الحديث ٢٧٤.


وتزوّج اخرى ابنة يعقوب بن عبد الله السُلمي من بني فرقد (١) ، فكان ينزل فيهم أيضاً.

وينزل في بني غُبر ، ثمّ إلى دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري الكلبي في بني سلول ، وفي بني نهد ، وبني تغلب. وأقبلت «الشيعة» يختلفون إليه ويبايعونه في أكثر من عشرة أشهر ، حتّى أحصى ديوانه خمسة عشر ألف رجل من الكوفة. وأرسل إلى أهل السواد وحتّى الموصل رجالاً يدعون إليه ، وصار هو إلى البصرة شهرين ثمّ عاد إلى الكوفة.

وكانت دعوته لبيعته : إنّا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجهاد الظالمين ، والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين ، وقسم الفي بالسواء وردّ الظالمين ، وإقفال المجمَّرين (المجاهدين في الثغور) ونصرنا «أهل البيت» على من جهل حقّنا و «نصب» لنا. فهل تبايعون على ذلك؟

فإذا قالوا : نعم ، وضع يده على يد الرجل وقال له : عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفينّ ببيعتي ، ولتقاتلنّ عدوّي ، ولتنصحنّ في السرّ والعلانية! فإذا قال : نعم ، مسح يده على يده ودعا : اللهمّ اشهد (٢)! ويقول لهم :

__________________

قال : وامرأة أعانت زيداً فأمر بقتل زوجها وبقطع يديها ورجليها ، فقالت : اقطعوا رجلي أوّلاً حتّى أجمع عليّ ثيابي! فقطع يدها ورجلها فنزفت حتّى ماتت ، ثمّ قتل زوجها!

(١) روى البلاذري : أنّ يوسف الثقفي بعد قتل زيد بعث فهدم دارها وحُملت إليه فأمر بشق ثيابها عليها فصاحت عليه : ما أنت بعربي! أتعرّيني وتضربني لعنك الله! فأمر بجلدها حتّى ماتت تحت السياط ، فأمر أن تُلقى في العَراء! فأخذها قومها الأزد ودفنوها بين قبورهم. أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٤ ـ ٢٦٥ ، الحديث ٢٧٤.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٧١ ـ ١٧٣ وفي أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ، الحديث ٢٤٧ وهو خبر الكلبي عن أبي مخنف.


قولوا : خرجنا غضباً لله ودينه ، ولا تقولوا : خرجنا غضباً لكم!

وكتب إلى الآفاق كتباً يصف فيها جور بني أُميّة وسوء سيرتهم ، ويحثّهم على الجهاد ويدعوهم إليه.

وبعث إلى سليمان بن مهران الأعمش (م ١٤٨ ه‍) فقال معتذراً : لو وثقت بثلاثمئة رجل منهم لغيّرنا لك جوانبها!

وبعث إلى زبيد بن الحارث اليامي الهمداني يدعوه إلى الجهاد معه فقال للرسول : أخبره أنّ نصرته حقّ وحظّ ، ولكنّي أخاف أن يُخذل كما خُذل جدّه الحسين عليه‌السلام.

وأجابه من فقهائهم (الموالي) : أبو هاشم الرماني يحيى بن دينار ويزيد بن أبي زياد مولى بني هاشم (م ١٣٧ ه‍) وهاشم بن البريد ، وبعث إلى أبي حنيفة النعمان فسأل عن الفقهاء معه فاخبر بهم ، فبعث إليه بمال وقال : لست أقوى على الخروج (١).

وكتب إلى قاضي المدائن : هلال بن خبّاب فأجاب (٢).

وكان زيد قد حفظ على الكميت بن زيد الأسدي البصري قصيدته التي أنشأها وأنشدها للباقر عليه‌السلام :

ما لقلب متيمّ مستهام

غير ما صبوةٍ ولا أحلام

__________________

(١) أنساب الأءاف ٤ : ٢٤٧ ، الحديث ٢٤٩. وقال الخوارزمي الحنفي في مناقب ابي حنيفة ١ : ٢٥٥ ط الهند : قال أبو حنيفة : إنّه إمام حقّ ، ولو علمت أنّ الناس لا بسم الله الرحمن الرحيم ذلونه كأ خذلوا آباءه كاهدت معه! وقال للرسول (الفضل بن الزبف الأسدي) ابسط عذري عنده وأرسل معه مالاً (ثلاثغ ألف دينار أو درهم) فقيل له : فهرس اًلّفت عنه؟ قال : فبكى وقال : عرضت ودائع الناس عندي عط أض ليط فلم يقبل! فخفت أن أموت ث هلاً؟!

(٢) أنساب الاشراف ٤ : ٢٤٦ ، الحديث ٢٤٧ ، وراجع عنوان : من بايعه من الفقهاء ص كتاب زيد اللاك يد للمقرّم : ١٢٧ ـ ١٣١.


ومنها يقول للباقر عليه‌السلام :

ما ابالي ـ إذا حفظت أبا القا

سم فيكم ـ ملامةَ اللُوّام

وكان الكميت أعمش العين فكتب الأموي الزيدي أنّ زيداً كتب إليه :

أن اخرج معنا يا اعيمش ؛ ألست القائل ... وذكر له البيت ، فكتب الكميت إليه معتذراً منه :

تجود لكم نفسي بما دون وثبة

تظلّ لها الغربان حولي تحجّلُ (١)!

فأشعره أنّ شجاعة الشاعر في شعوره وأشعاره وإشعاره! وليس إلى حدّ الاستشهاد!

إلى الرضى من آل محمّد :

وليس في هذه الأخبار أيّ دعوة إلى الإمام الصادق عليه‌السلام بظاهر الكلام أو بكناية : «الرضا من آل محمّد» أيّ الرضى المرضيّ منهم ، ممّا ظاهره الدعوة لنفسه.

وهذا ما جاء في خبر أنّه عرضه المأمون العباسي على الرضا عليه‌السلام ظاناً أنّ زيداً ممّن ادّعى الإمامة بغير حقّها وأ نّه ادّعى ما ليس حقاً له. فأجابه الرضا عليه‌السلام :

إنّما جاء ما جاء في من ادّعى الإمامة بغير حقها ، في من يدّعي أنّ الله تعالى

__________________

(١) عن الأغاني ١٧ : ٣٤ في ترجمة الكميت. وندم بعد مقتل زيد فقال :

دعاني ابن الرسول فلم أُجبه

فلهفي اليوم للرأي الغبين

على ألا أكن عاضدت زيداً

حفاظاً لابن آمنة الأمين

دعاني ابن الرسول فلم أُجبه

أيا لهفي على القلب الفروق

حذارَ منيّة لابُدّ منها

وهل دون المنيّة من طريق؟!

كما في أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٠ ، الحديث ٢٤١.


نصّ عليه ، ثمّ يدعو إلى غير دين الله فيضلّ عن سبيله بغير علم. وكان زيد أتقى لله من ذلك ، إنّه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد ، فلقد حدّثني أبي موسى بن جعفر : أنّه سمع أباه جعفر بن محمّد عليهما‌السلام يقول : رحم الله عمّي زيداً ، إنّه دعا إلى الرضا من آل محمّد (١).

وزاد العياشي عنه عليه‌السلام : وأنا الرضا. ثمّ قال العياشي : وتصديق ذلك ما حدثنا به عليّ بن الحسن عن عامر بن عيسى السيرافي بمكّة في ذي الحجّة سنة (٣٨١ ه‍) بسنده عن المتوكّل بن هارون البجلي : أنّه لقى يحيى بن زيد فقال له :

يابن رسول الله! إنّ أباك ادّعى الإمامة وخرج (لذلك) وقد جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في من ادّعى الإمامة كاذباً!

فقال : مه يا عبد الله إنّ أبي كان أعقل من أن يدّعي ما ليس بحقّ ، وإنّما قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد

عليهم‌السلام وعنى بذلك ابن عمّي جعفراً!

قال المتوكّل : قلت : فهو اليوم صاحب الأمر؟ قال : هو أفقه بني هاشم.

وقبله نقل عن زيد نفسه كان يقول لهم : «من أراد الجهاد فإليّ ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر» ثمّ قال : ولو ادّعى الإمامة لنفسه لم ينفِ كمال العلم عن نفسه (٢).

ومن خبر آخر يظهر أنّ هذا قد بدا عن زيد لابنه يحيى على عهد الباقر عليه‌السلام ، قال : سألت أبي عن الأئمة فقال : الأئمة اثنا عشر! أربعة من الماضين وثمانية من الباقين! قلت : فسمّهم قال : أمّا من الماضين : فعلي بن أبي طالب ، والحسن

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٧٧ ، الباب ٤٧ ، الحديث ١٨٧ عن المبرّد النحوي البصري الأزدي.

(٢) قاموس الرجال ٤ : ٥٦٦ و ٥٦٥ عن مقتضب الأثر ، ولكن ليس في المنشور منه! فلعلّه كفاية الأثر.


والحسين وعلي بن الحسين عليهم‌السلام ، ومن الباقين : أخي الباقر! وبعده جعفر الصادق ، وبعده ابنه موسى ، وبعده ابنه علي ، وبعده ابنه محمّد ، وبعده ابنه علي ، وبعده ابنه الحسن ، وبعده ابنه المهدي. فقلت : يا أبه ألست منهم؟ قال : لا ، ولكنّي من العترة. قلت : من أين عرفت أسماءهم؟ قال : عهد معهود عهده إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

إذن فلابدّ من الإذن لخروجه ؛ ولذا جاء في الخبر السابق عن الرضا عن جدّه الصادق عليهما‌السلام قال : ولقد استشارني (زيد) في خروجه ، فقلت له : يا عمّ ؛ إن رضيت أن تكون المقتول «المصلوب بالكُناسة» فشأنك (٢) فهو إذن بتطبيق حديث جدّه النبيّ وأبيه السجاد وأخيه الباقر عليهم‌السلام عليه ، ترخيصاً تخييرياً ، وليس فرضاً ولا واجباً عينياً ولا تعيينياً ولا تعيّنياً. وعليه فقوله بعده : «ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه» إنّما يُحمل على من بايعه للقتال ثمّ سمع واعيته واستغاثته ولم يجبه ، وليس من سمع واعيته ، وإنّما هو خطأ النسخة.

وإنّما جاء الخبر هكذا وليس فيه كيفية اتّصال زيد بالإمام عليه‌السلام ، فلابدّ أنّه كان مراسلة من الكوفة.

ومن أين جاءت الرافضة؟ :

طبيعيّ أن يكون قد تسرّب هذا ونحوه إلى الشيعة بالكوفة ، فروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف : أنّهم مرّوا ـ ولعلّه بالموسم ـ إلى جعفر بن محمّد عليه‌السلام فقالوا له : إنّ زيد بن علي فينا (في الكوفة) يبايَع ، افترى لنا (وليس علينا)

__________________

(١) قاموس الرجال ٤ : ٥٧٥ وراجع الحاشية السابقة.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٧٧ ، الباب ٤٧ ، الحديث ١٨٧.


أن نبايعه؟ فقال لهم : «نعم ، بايعوه» ثمّ قال الأزدي : ولكنّهم كتموا ما أمرهم به (١) والصحيح : ما أذن لهم فيه.

قال : وكان (هؤلاء) يزعمون أنّ أبا جعفر محمّد بن علي هو الإمام ، وكان قد هلك (!) يومئذ ، وكان ابنه جعفر بن محمّد حيّاً (٢) فقالوا : هو أحقّ بالأمر بعد أبيه! فهو إمامنا اليوم ، ولا نتّبع زيد بن علي فإنّه ليس بإمام. ففارقوه كما فارقوا من قبل المغيرة بن سعيد البجلي ، فهم يزعمون أنّه هو الذي سمّاهم «الرافضة» فسمّاهم زيد «الرافضة» أي لأنّهم رفضوه أو رفضوا الوفاء ببيعتهم له.

وذلك : أنّه اجتمعت جماعة من رؤوسهم إليه وقالوا له : رحمك الله! ما قولك في أبي بكر وعمر؟

قال زيد : ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرّأ منهما ، ولا يقول فيهما إلّاخيراً!

فقالوا : فلِمَ تطلبُ بدم أهل هذا البيت؟! (أليس) لأنّهما وثبا على سلطانكم فنزعاه من أيديكم؟!

قال زيد : إنّ أشدّ ما أقول فيما ذكرتم هو : أنّا كنا أحقّ بسلطان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من الناس أجمعين ، وأنّ القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه (ولكن) لم يبلغ ذلك بهم عندنا كفراً.

قالوا : فإن كان اولئك لم يظلموك فلم يظلمك هؤلاء ، فلِمَ تدعو إلى قتال قوم ليسوا بظالمين لك؟!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨١ ، ونسبه البلاذري في أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٩ ، الحديث ٢٥١ خطأ إلى أخيه الباقر عليه‌السلام وزاد أنّ سؤالهم كان بطلب من زيد نفسه.

(٢) من قوله : كان حيّاً ، يفهم أنّه لم يكن حيّاً يوم كتابة أبي مخنف له ، أي يوم تأليفه لكتابه في أخبار زيد الشهيد ، أي كان ذلك بعد وفاة الصادق عليه‌السلام في (١٤٨) وقبل وفاته هو في (١٥٨ ه‍).


فقال : إنّ هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم ، فهم ليسوا كأُولئك. وإنّما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه لتُحيا ؛ وإلى أن تطفأ البدع ، فإن أنتم أجبتمونا سُعدتم ، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل. ففارقوه (١).

ولعلّ هؤلاء الكوفيين كانوا قد سمعوا من سَدير الصيرفي الكوفي قوله : أنّه دخل مع أبي المقدام ثابت الحدّاد وسالم بن أبي حفصة وسلمة بن كُهيل وكثير النّواء ومعهم جمع آخرون على الباقر عليه‌السلام ، فقالوا له : نحن نتولّى علياً وحسناً وحسيناً ونتبرّأ من أعدائهم. فقال الباقر عليه‌السلام : نعم. فقالوا : ونتولّى أبا بكر وعمر ونتبرّأ من أعدائهم! فالتفت إليهم زيد فقال لهم : أتتبرّؤون من فاطمة؟! ثمّ قال لهم : بترتم أمرنا بتركم الله (٢) فكانوا يتوقّعون اليوم أن يسمعوا منه مثله ، فأجابهم بما مرّ ، ممّا قال فيه علماؤنا : جوابه باطل لجلج! لكن لابدّ من تأويله ، بالتقية من جمهور أصحابه (٣) ذلك أنّه لاتَسعه المصارحة معهم بحقيقه معتقده لكي لاينفضّوا من حوله فيستغفر لأُولئك القدماء من الخلفاء. ولعلّه بعد مصارحته السابقة بمحضر الباقر عليه‌السلام تعلّم منه التأكيد على التقية خوفاً أو مداراة فتقيّد بها بعد ذلك ولا سيّما هنا.

كتاب هشام إلى الثقفي :

رفعت عيون هشام إليه ما وقفوا عليه من أُمور زيد في الكوفة ، فكتب إلى يوسف الثقفي يقول :

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٠ ـ ١٨١ عن الكلبي عن أبي مخنف ، ويدلّ الخبر على عدم تشيّعه للباقر والصادق عليهما‌السلام.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٣٦ ، الحديث ٤٢٩.

(٣) قاموس الرجال ٤ : ٥٨١ برقم ٣٠٥٥.


أمّا بعد ، فقد علمتَ بحال أهل الكوفة في حبّهم «أهل هذا البيت» ووضعهم إيّاهم في غير مواضعهم! لأنّهم افترضوا طاعتهم على أنفسهم ، ووظّفوا عليهم شرائع دينهم ، ونحلوهم علم ما هو كائن! حتّى حملوهم ـ من تفريق الجماعة ـ على حال استخفّوهم فيها إلى الخروج!

وقد قدم! زيد بن علي على أمير المؤمنين! في خصومة عمر بن (علي) ففصل أمير المؤمنين بينهما! ورأى رجلاً جَدلاً لسنا ، خليقاً بتمويه الكلام وصوغه ، واجترار الرجال بحلاوة لسانه وبكثرة مخارجه في حججه ، وما يدلي به عند لَدد الخصام من السطوة على الخصم بالقوة الحادّة لنيل الفلج!

فعجِّل إشخاصه إلى الحجاز ولا تخلّه والمقام قِبلك ، فإنّه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لين لفظه وحلاوة منطقه ـ مع ما يدلى به من القرابة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وجدَهم مُيَّلاً إليه ، غير متّئدة قلوبهم ولا ساكنة أحلامهم ولا مصونة أديانهم! وإخراجه وتركه (من التحامل عليه والأذى له) ـ مع السلامة للجميع والحقن للدماء و «الأمن» من الفُرقة ـ أحبّ إليّ من أمر فيه سفك دمائهم وانتشار كلمتهم وقطع نسلهم!

فادعُ إليك أشراف أهل المصر وأوعدهم العقوبة في الأبشار! واستصفاء الأموال! فإنّ من له منهم عقد أو عهد معي سيبطئ عنه ، ولا يخفّ معه إلّا الرُّعاع وأهل السواد ومن تُنهضه الحاجة! فبادهم بالوعيد ، واعضضهم بسوطك وجرّد فيهم سيفك! وأخِف الأشراف قبل الأوساط والأوساط قبل السفلة ... ولا تستوحش لكثرتهم!

واعلم أنّ من حجّتك عليهم توفيتَك أُعطية ذرّيتهم وأطماعهم! ونهيَك جندك (جند الشام) أن ينزلوا دورهم وحريمهم! فأمير المؤمنين! يسأل إلهه


ومولاه ووليّه أن يصلح منهم ما كان فاسداً ، وأن يسرع بهم إلى النجاة والفوز ، إنّه سميع قريب (١).

وقالوا : إنّ يوسف بن عمر لم يعلم برجوع زيد من الطريق إلى الكوفة إلّا بعد أن كتب رجل من بني أُمية إلى هشام يذكر له أمر زيد ، فكتب هشام إلى يوسف يقول له : إنّك لغافل! وزيد غارز ذَنبه بالكوفة يبايَع له! فألحِح في طلبه فأعطه الأمان ، فإن لم يقبل فقاتله!

وكان يوسف استخلف على الكوفة الحكَم بن الصلت العقيلي وانتقل هو إلى الحيرة ، فكتب يوسف إلى الحكم بطلب زيد فلم يعلم به.

فطلب يوسف رجلاً من المماليك الخراسانيين وكان ألكن (بالعربية) فأعطاه خمسة آلاف درهم ، وأمره أن يلطف لبعض «الشيعة» فيخبره أنّه قد قدم من خراسان حبّاً «لأهل البيت» وأنّ معه مالاً يريد أن يقوّيهم به! فلم يزل المملوك يلقى «الشيعة» ويخبرهم عن المال الذي معه حتّى أدخلوه على زيد. فخرج فدلّ يوسف على موضعه (٢) إلّاأنّ زيداً لم يكن ليقيم بمقام معلوم.

واستبق الموعد زيد :

روى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف الأزدي : أنّ زيداً أمر أصحابه بالاستعداد والتأهّب للخروج ، ومن كانوا يريدون الوفاء ببيعتهم له أخذوا فيما أمرهم به من ذلك ... ولمّا استتبّ له الخروج واعد أصحابه لليلة الأربعاء أوّل

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٩ ـ ١٧١ عن غير أبي مخنف ، ونقله البلاذري عن كتب سالم كاتب هشام في أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٦ ، الحديث ٢٤٨ صدره إلى قوله : مُيّلاً إليه ، ولم يذكر الطبري مصدره.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٨. وأنساب الأشراف ٤ : ٢٥٣ ، الحديث ٢٥٤.


ليلة (؟!) من شهر صفر لسنة اثنتين وعشرين بعد المئة للهجرة ، وبلغ ذلك إلى الوالي الثقفي وهو بالحيرة ، وعلى شرطه بالكوفة عمرو بن عبد الرحمن من القارّة وامّه من ثقيف ، ومعهم جيش من الشام عليهم عُبيد الله بن العباس الكندي (١).

وبلغه خبر من بايع زيداً من أهل المدائن وواسط ، فشحن واسطاً بالخيول وحصّنها وتوثق من أبوابها واشتد عليهم ، وكذلك المدائن (٢) وكذلك الكوفة بل أشدّ كما سيأتي.

وقد مرّ الخبر أنّ زيداً كان ينزل فيمن ينزل عليه على عامر البارقي وطعمة التميمي وامّه من بني بارق وهو نازل فيهم ، فانطلق سُراقة بن مالك البارقي إلى يوسف بن عمر بالحيرة فأخبره بنزول زيد بدارهما في بني بارق! فبعث يوسف يطلب زيداً بدارهما فلم يوجد عندهما واخذا إليه ، واستبان منهما أمر زيد وأصحابه (دون مكانه). وتخوّف زيد أن يؤخذ فعجّل (٣) الأجل المعهود إلى اسبوع قبله.

وبلغ يوسف بن عمر : أنّ زيداً قد عزم على الخروج قريباً ، فبعث إلى الحكم بن الصلت يوم الثلاثاء لثمان بقين من شهر صفر (٤) وأمره أن يجمع أهل الكوفة في المسجد الأعظم ويحصرهم فيه! فبعث الحكم إلى العُرفاء والشُرط والمناكب والمقاتلين فأدخلهم المسجد ، يوم الثلاثاء قبل خروج زيد بيوم. ثمّ نادى مناديه : ألا إنّ الأمير يقول : من أدركناه في رحله فقد برئت منه الذمّة! فادخلوا المسجد الأعظم. فأتى بقية الناس إلى المسجد الأعظم (٥).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٨ ، الحديث ٢٥١.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٠ عن أبي مخنف ، ومقاتل الطالبيين : ٩٢.

(٤) كذا هنا ، وسيأتي أنّه كان المحرم.

(٥) تاريخ الطبري ٧ : ١٨١ ، ومقاتل الطالبيين : ٩٢ كلاهما عن الكلبي عن أبي مخنف.


وطلبوا زيداً من جملة مظانّه في دار معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري مساء الثلاثاء ليلة الأربعاء وكانت ليلة شديدة البرد ، وكان زيد هناك فخرج منها ليلاً ، وأخرجوا معهم أطنان القصب فكانوا يُشعلونها وينادون بشعارهم شعار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر : «يا منصور أمت ، أمت يا منصور».

فأمر الحكم بن الصلت فغلّقت أبواب المسجد على أهل الكوفة ، وغلقت الأبواب الكبار لدروب السوق. وكان يومئذ على أربعة أرباع الكوفة : على رُبع أهل المدينة إبراهيم بن عبد الله بن جرير بن عبد الله البجلي! وعلى ربيعة وكندة المنذر بن محمّد بن الأشعث بن قيس الكندي ، وعلى أسد ومذحج عمرو بن أبي بذل العبدي ، وعلى تميم وهمدان محمّد بن مالك الخَيواني الهمداني.

وبعث الحكم بن الصلت إلى يوسف بن عمر فأخبره الخبر ، وكان معه جيش الشام (وهم ستمئة) فأمر يوسف مناديه أن ينادي فيهم : من يذهب إلى الكوفة فيقترب من هؤلاء القوم فيأتيني بخبرهم؟ فانتدب له جعفر بن العباس الكندي الشامي فركب في خمسين فارساً منهم ، وأقبل إلى جَبّانة (محلّة) سالم السلولي وفيها زيد وأصحابه من الكوفة فاستخبر خبرهم ، ثمّ رجع إلى يوسف فأخبره بهم.

وكان من كبار أصحاب زيد نصر بن خزيمة العبسي (من رهط عمّار بن ياسر) وسمع نداء زيد وأصحابه فأقبل إليهم بأصحابه ، وكان عمر بن عبد الرحمن صاحب شرطة الكوفة مع خيله من جُهينة قد سدّ الطريق إلى مسجد بني عدي ، فلمّا رآه نصر العبسي ناداه بشعارهم فلم يجيبوا فشدّ عليهم بأصحابه ، فقتل نصر عبد الرحمن رئيس الشرطة وانهزم من معه ، وأقبل نصر ومن معه إلى زيد وأصحابه. فما زالو كذلك حتّى طلع الفجر.


وأصبح زيد فكان جميع من وافاه تلك الليلة مئتين وثمانية عشر رجلاً! فقال زيد : سبحان الله! أين الناس؟! فقيل له : هم محصورون في المسجد الأعظم! فقال : لا والله ما هذا عذر لمن بايعنا (١)!

يوم القتال الأول : الأربعاء :

ولمّا أصبح زيد وأصحابه وفي ميمنتهم أبو الجارود زياد بن المنذر الهمْداني ، فرفع طنّاً من أطنان القصب وبها اللهب ونادى بشعارهم ، وكان معهم أبو مَعمر سعيد بن خَيثم العبدي وكان رجلاً صيّتاً فبعثه زيد ومعه القاسم التّبعي وصدّام لينادوا الناس بشعارهم ، فتوجّهوا في الصحراء إلى دور عبد القيس. وكان الكندي الشامي وأصحابه الخمسون الشاميون بعد لم يعودوا إلى الحيرة فواجهوهم فقاتلوهم ، فقتل صدّام وارتثّ القاسم التّبعي فاخذ أسيراً إلى الحكم بن الصلت ، فكلّمه فلم يرد عليه ، فأمر به فاخرج إلى باب دار الإمارة وضربت عنقه ، فكان أوّل قتيل من أصحاب زيد رضي الله عنهم.

وكان على شرطة يوسف الثقفي : العباس بن سعيد المُرّي الغطفاني ، فجهّز ثلاثمئة من الرجّالة الرُماة بالنُشّاب ، وجهّز ألفي فارس وجعل عليهم العباس بن سعيد المُرّي الغطفاني وأرسلهم إلى الكوفة لحرب زيد. ومعهم خمسمئة من جيش الشام ، فهم جميعاً ألفان وثمانمئة فارس وراجل.

ولما أصبح يوسف الثقفي استدعى القرشيين وأشراف الناس وارتفع بهم إلى تلّ قرب الحيرة نحو الكوفة (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨١ ـ ١٨٣ ، ومقاتل الطالبيين : ٩٢ ـ ٩٣.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٩٣ و ٩٤.


وكان رجل من بني نهد النجاري اشترى لزيد فرساً أدهم بهيم بخمسة وعشرين ديناراً ، فركبه زيد وخرج من جبّانة سالم إلى جبّانة بني صائد من همدان ، وإذا فيها خمسمئة من جيش الشام ، فحمل عليهم زيد بمن معه فهزمهم!

ثمّ مرّ زيد بدار أنس بن عمرو الأزدي فناداه زيد : يا أنس اخرج إليّ رحمك الله ، فقد (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً). فلم يخرج هذا وقد أجاب لمّا نادوه! فناداه زيد : ما أخلفكم! قد فعلتموها؟! الله حسيبكم!

ثمّ مضى إلى الكُناسة وبها جماعة من جيش الشام فهزمهم! ثمّ خرج إلى الجبّانة (المقبرة) ويوسف الثقفي على تلّ بينها وبين الحيرة ومعه حزام بن مرّة المزني في مئة من المجفّفة ، وزمزم بن سُليم الثعلبي في مئة منهم. وزيد في مئتين ، فلو أراد يوسفَ لقتله! ولكن الريان بن سلمة في جمع من جيش الشام كان يتبع أثر زيد فلم يقصد يوسف الثقفي.

بل أخذ يميناً على مصلى خالد القسري حتّى عاد إلى الكوفة فطلع عليهم جمع من جيش الشام! فلمّا رأوهم دخلوا زقاقاً فمضوا فيه ، وإنّما تخلّف منهم رجل فقتلوه ، واقتطعوا آخر ونجا سائرهم ، فأسروا الرجل وذهبوا به إلى يوسف الثقفي فقتل.

ولما رأى زيد خذلان أهل كوفان قال لنصر العبسي : يا نصر! أتخاف أن يكونوا قد فعلوها حسينية! فقال : أما أنا فوالله لأضربنّ معك بسيفي هذا حتّى أموت جعلني الله لك الفداء! إنّ الناس مَحصورون في المسجد الأعظم فامض بنا نحوهم (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٣ ـ ١٨٤.


زيد يُريد أهل المسجد :

كان عبيد الله بن العباس الكندي على جيش الشام يحاصرون المسجد الأعظم وبلغهم أنّ زيداً خرج بجمعه نحو المسجد وأقبل إليهم ، فخرج إليهم جيش الشام فالتقوا على باب عمر بن سعد الزهري فبرز الكندي فخرج إليه واصل الحنّاط فاضطربا بسيفهما وقال الحنّاط : خذها وأنا الغلام الحنّاط وانهزم الكندي وأصحابه نحو دار عمرو بن حريث المخزومي. وجاء زيد وأصحابه حتّى انتهوا إلى باب المسجد المعروف بباب الفيل وهو مغلق ، فجعل أصحاب زيد يُدخلون راياتهم من فوق الأبواب وينادون : يا أهل المسجد اخرجوا من الذلّ إلى العزّ في الدين والدنيا. فإنّكم لستم في دين ولا دنيا! فصعد جمع من جيش الشام إلى سطوح المسجد وجعلوا يرمونهم بالحجارة! فانصرف زيد عنهم بمن معه إلى دار الرزق.

فأتاهم الريّان بن سلمة بجمع من جيش الشام فقاتلهم عندها قتالاً شديداً وقتل وجُرح منهم ناس كثير ، وتبعهم أصحاب زيد من دار الرزق إلى المسجد مساء يوم الأربعاء أسوأ ظنّاً بأنفسهم ، وانصرف الريان بن سلمة عند المساء إلى الحيرة ، وانصرف زيد فيمن معه إلى دار الرزق (١).

يوم القتال الثاني : الخميس :

وفي غداة يوم الخميس دعا يوسف الثقفي الريّان بن سلمة فأتاه وليس عليه سلاحه أي غير مستعدّ للقتال ، فقال له يوسف : أفٍ لك من صاحب خيل! اجلس ، إذ لم يجده حاضراً للقتال تلك الساعة. ثمّ دعا صاحب شرطته العباس بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٤ ـ ١٨٥ ، ومقاتل الطالبيين : ٩٤ ـ ٩٥.


سعيد (١) المرّي الغطفاني (٢) فجعله على جيش الشام وبعثهم لقتال زيد ، فسار حتّى انتهى إلى زيد عند دار الرزق ، وهناك خشب كثير للتجّار مضايق للطريق (٣).

فروى الأموي الزيدي عن سعيد بن خيثم العبدي قال : كان قد بايع زيداً أكثر من اثني عشر ألفاً ، فغدروا به ، وكنّا نحن مع زيد في خمسمئة (في اليوم الثاني) وأهل الشام في اثني عشر ألف. فخرج زيد إليهم وصاحب لوائه عبد الصمد السعدي وجدّه صهر العباس بن عبد المطلب! وقد قسّم زيد أصحابه يمنة ويسرة على أحدهما معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري. وعلى الأُخرى نصر بن خزيمة العبسي.

وكان رجل من بني عبس الشام مع يوسف الثقفي يدعى نائل بن فروة ، فلمّا سمع بنصر العبسي قال : والله لئن ملأت عيني من نصر بن خزيمة لأقتلنّه أو ليقتلني! وكان ليوسف سيف لا يمرّ بشيء إلّاقطعه فقال له : خذ هذا السيف ، فدفعه إليه لذلك. فلمّا التقى أصحابه بأصحاب زيد وأبصر نائل نصراً فأقبل نائل إلى نصر فضربه على فخذه فقطعه! وضربه نصر ضربة فقتله ، ثمّ مات نصر «رحمه‌الله» ففقد زيد به أحد ركنيه.

ولمّا رأى العباس المُرّي أصحاب زيد (الخمسمئة) نادى بجيش الشام معه : يا أهل الشام الأرض الأرض! فنزل منهم ناس كثير واقتتلوا قتالاً شديداً في المعركة حتّى قتل منهم سبعون رجلاً! ثمّ إن زيداً وأصحابه هزموهم ، فانصرفوا عنهم بأسوأ حال. وعباس المرّي يناديهم أن اركبوا فإنّ الخيل لا تطيق الرجال في المضيق ، فركبوا وانصرفوا.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٥.

(٢) المعارف : ٢١٦ ، وتاريخ خليفة : ٢٤٠.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٥.


فلمّا كان العشيّ (العصر) عبّأهم يوسف ثمّ سرّحهم نحو زيد ، فأقبلوا حتّى التقوا ، فحمل عليهم زيد فكشفهم ، ثمّ تبعهم حتّى أخرجهم إلى السبخة ، ثمّ شدّ عليهم حتّى أخرجهم من بني سليم فأخذوا على المسنّاة (لسدّ السيول) فلمّا صاروا بين بارق وبين رؤاس خرج عليهم زيد بأصحابه فقاتلوهم قتالاً شديداً.

وخرج منهم رجل كلبيّ من الشام على فرس ثمّ على بغلة ، فلم يزل يشتم فاطمة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! فبكى زيد حتّى ابتلّت لحيته وقال : أما أحد يغضب لفاطمة بنت رسول الله؟ أما أحد يغضب لرسول الله؟ أما أحد يغضب لله؟! فاستتر له الراوي سعيد بن خيثم العبدي خلف النظّارة الواقفين حتّى صار وراء الكلبي الشامي فضرب عنقه فوقع رأسه ، وأخذ الراوي بغلته إلى زيد فنفّله زيد إياها وقال له : أدركت ثأرنا ، فوالله أدركت شرف الدنيا والآخرة وذخرها!

وقاتل معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري يومئذ قتالاً شديداً بين يدي زيد حتّى قتل بين يديه. ففقد زيد عضده الثاني.

وبعث العباس المُرّي إلى يوسف الثقفي يشكو إليه ما يلقى الشاميون معه من أصحاب زيد ، ويسأله أن يبعث إليه بالرّجالة الرّماة بالنُشّاب (الثلاثمئة) فبعثهم إليه مع سليمان بن كيسان ، فجعلوا يرمون زيداً وأصحابه ، وثبت لهم زيد في أصحابه (١).

مصرع زيد ومقتله ومدفنه :

روى الأموي الزيدي بطرقه الثلاثة قال : لمّا كان عند جنح الليل جاء سهم فأصاب جانب جبهته اليسرى ، فنفذ إلى الدماغ ، فتراجع زيد وتراجع معه

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٩٥ ـ ٩٦ ، وتاريخ الطبري ٧ : ١٨٥ ـ ١٨٦ ولم يلمّ بخبر شتم الزهراء عليها‌السلام.


أصحابه ، وظنّ جيش الشام أنّهم رجعوا للمساء فتراجعوا عنهم. فانصرف زيد حتّى بلغ سكّة البريد في دور بني شاكر من همدان وأرحب ، فادخل دار حرّان بن أبي كريمة مولى لبني شاكر.

وانطلق ناس من أصحابه فجاؤوا بسفيان مولى بني رؤاس رجل يتطبّب ليعالج السهم ، فلمّا رآه قال له : إنّك إن نزعته متّ! فقال : الموت أيسر عليّ ممّا أنا فيه! فأخرج الكلبتين وانتزع السهم فمات رضى الله عنه.

فقال القوم : أين ندفنه ونواريه؟ فقال بعضهم : نحتزّ رأسه ونلقيه بين القتلى! وكان ابنه يحيى حاضراً فأبى وقال : لا والله لا يأكل لحم أبي السباع! قال الراوي سلمة بن ثابت الليثي : فقلت : نحمله إلى العباسيّة فندفنه فيها. فقبلوا رأيي. قال :

فانطلقنا وحفرنا له حتّى إذا مكنّا له دفنّاه (بلا غسل ولا كفن) ثمّ أجرينا عليه الماء (تغطية).

قال : وكان معنا عبد سندي مملوك لزيد ، وقال غيره : بل هو عبد حبشي كان مولى لعبد الحميد الرؤاسي قد بايع زيداً ، وقال غيره : بل كان هناك نبطي يسقي زرعه فرآهم حيث دفنوه ، فلمّا أصبح ذهب إلى الحكم بن الصلت فدلّهم على موضع قبره ، فاستخرجوه وحملوه على جمل وشدّوه بالحبال ، وعليه قميص هروي أصفر ، وأقبلوا به إلى باب القصر فألقوه هناك ، وكان رحمه‌الله بديناً فخرّ كأنه جبل! فحزّوا رأسه! وحصلوا على نصر بن خزيمة العبسي ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري وزياد الهندي من أنصار زيد فحزّوا رؤوسهم ، وصلبوهم بالكُناسة بالكوفة.

ووجّهوا برأس زيد وخبره مع زهرة بن سليم إلى هشام بالشام ، فما أن وصل إلى ضيعة ابن أُم الحكم حتّى اصيب بالفالج! فانصرف مفلوجاً وحمله غيره إلى هشام بالرُّصافة من رقة الشام.


وبقي زيد بن علي مصلوباً بالكُناسة ، واسترسل جلده من بطنه ومن خلفه! حتّى ستر عورته (١).

فكانت شهادته ودفنه ليلة الجمعة السادس والعشرين من شهر محرّم الحرام سنة (١٢٢ ه‍) (٢).

وأعطى يوسف الثقفي لمن جاء برأس نصر العبسي : ألف درهم! ولمن جاء برأس معاوية الأنصاري : سبعمئة درهم! وكان مناديه قد نادى : مَن جاء برأس فله خمسمئة درهم! وأرسل يوسف الثقفي الشاميين إلى دور الكوفيين يلتمسون جرحى أصحاب زيد ، فكانوا يخرجون النساء إلى صحن الدار ويطوفون البيوت يلتمسون الجرحى!

وأمر الثقفي بحراسة جسد زيد لكي لا يُنزل فيدفن.

وأمر هشام أن يَنصب رأسه على باب مدينة دمشق! ثمّ أرسل به إلى المدينة! فصُلب بالمدينة! في سنة ثلاث وعشرين ومئة (٣) وواليها محمّد بن هشام بن إسماعيل المخزومي ابن خال هشام الأموي (٤). وكان عمره يوم شهادته ستّاً وخمسين سنة (٥).

خطبة الثقفي منتصراً ، وحالته :

كان مصرع زيد ومقتله ودفنه ليلة الجمعة السادس والعشرين من المحرّم ، والعثور على قبره يوم الجمعة.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٩٦ ـ ٩٨ ، وتاريخ الطبري ٧ : ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٩٢ ، وأنساب الأشراف ٤ : ٢٥٢ ، الحديث ٢٥٤.

(٣) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٧ ـ ١٨٩.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٣٢.

(٥) على أن يكون مولده سنة (٦٧ ه‍) كما في زيد الشهيد للمقرم : ٩ ـ ١٢ ، ١٥٣.


فروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف : أنّ يوسف الثقفي أقبل (لزوال الجمعة من الحيرة) حتّى دخل الكوفة فصعد المنبر فأطال الخطبة وقال فيها : والله ما أطلت منبري إلّالأُسمعكم عليه ما تكرهون! فإنّكم أهل بغي وخلاف! ما منكم إلّا من حارب الله ورسوله! إلّاحُكيم بن شريك المحاربي (كان سعى بزيد إليه) يا أهل المِدرة الخبيثة! وإنّي والله ما تُقرن بي الصعبة ولا يُقعقع لي بالشِنان! ولا اخوَّف بالذئب أو الذنب! هيهات! حُبيتُ بالساعد الأشدّ! أبشروا ـ يا أهل الكوفة ـ بالصَغار والهَوان ؛ فلا عطاء لكم عندنا ولا رزق! ولقد هممت أن أُخرب بلادكم ودوركم! وأُحربكم أموالكم! ولقد سألت أمير المؤمنين! أن يأذن لي فيكم ، ولو أذن لقتلت مقاتلتكم ولسبيت ذراريكم (١)!

يا أهل الكوفة! إنّ يحيى بن زيد يتنقّل في حِجال نسائكم ، كما كان يفعل أبوه! والله لو أبدى لي صفحته لعرقت خُصييه كما عرقت خُصيي أبيه (٢) أو قال : ووالله لو ظفرت بيحياكم لعرقت ... (٣).

ثمّ وكّل الثقفي بخشبة صلب زيد لكلّ ليلة مئة رجل ، وكلّهم أربعمئة رجل ، وبنى لهم حول جذع زيد دكّة من آجر (٤).

وكان هشام حين بلغه أنّ زيداً بويع في الكوفة ، أمدّ يوسف الثقفي بثمانية آلاف مع عامر بن ضبارة المُرّي. واجتمع إلى زيد في أوّل الليل أربعمئة ، ثمّ أصبح وهم أقل من ثلاثمئة! ثمّ آب إليه بعضهم ، ودعا نصر العبسي القيسي قومه من

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٩١ ، وأنساب الأشراف ٤ : ٢٦٨ ، الحديث ٢٧٥ قال : قالوا.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٩ عن أبي عبيدة معمر بن المثنّى البصري.

(٣) أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٨ ، الحديث ٢٧٥.

(٤) أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٥ ، الحديث ٢٧٤.


قيس فتكاملوا معه ألف رجل فقاتل بهم (١) فلمّا قتل زيد طلب يوسف الثقفي ابنه يحيى فلم يقدر عليه (٢) وعثر على امّ ولد لزيد ومعها منه ثلاثة صبيان ، فكتب فيهم إلى هشام ، فأمره أن يُدفعوا إلى أقرب الناس إليه ، فدفعوا إلى الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ورثى هذا زيداً بقصيدة (٣).

وكان يوسف الثقفي دهره سكران من الخمر لا يفيق ، فكان يسمّى نصر بن خزيمة : نصر بن سبّار ، وجبانة سالم : أجمة سالم وهي على بعد خمسة عشر فرسخاً من جبانة سالم في الكوفة! وصحّحهما له عبد الله بن عياش الهمداني (٤).

موقف الإمام الصادق عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن الصادق عليه‌السلام أنّه كان يرغّب في تأييد عمّه زيد ولا يوجب ذلك ممّا أفاد التخيير لا الإلزام ، ومن ذلك ما رواه الصدوق بسنده عن عبد الله بن سيابة الكوفي قال : خرجنا (من الكوفة) ونحن سبعة نفر إلى المدينة ، فدخلنا على الصادق عليه‌السلام فقال لنا : أعندكم خبر (عن) عمّي زيد؟ وكانوا قد علموا بموعده في هلال شهر صفر ، قال : فقلنا : قد خرج أو هو خارج. ولعلّ الترديد من الترديد في هلال شهر صفر في العراق عن المدينة. قال : فقال الصادق : فإن أتاكم خبر فأخبروني. ولم ينكر عليهم خروجهم إلى الحجاز!

__________________

(١) أنساب الأشراف ٤ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ، الحديث ٢٥٩ و ٢٦٠.

(٢) أنساب الأشراف ٤ : ٢٦١ ، الحديث ٢٦٦.

(٣) أنساب الأشراف ٤ : ٢٦٧ ، الحديث ٢٧٤.

(٤) أنساب الأشراف ٤ : ٢٥٧ ، الحديث ٢٥٨.


قال : فمكثنا أيّاماً وإذا برسول بسّام الصيرفي (الكوفي مولى بني أسد) بكتاب فيه : أما بعد ، فإنّ زيد بن علي خرج يوم الأربعاء (غرة صفر (١)) فمكث الأربعاء والخميس وقُتل يوم الجمعة (٢).

قال : فدخلنا على الصادق عليه‌السلام ودفعنا إليه الكتاب ، فقرأه وبكى ثمّ قال : «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» عند الله أحتسب عمّي ، إنّه كان نعم العم ، إنّ عمّي كان لدنيانا وآخرتنا ، مضى ـ والله ـ عمّي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول الله وعلي والحسن والحسين عليهم‌السلام (٣).

وأخو هذا الراوي عبد الله بن سيابة : عبد الرحمن روى ابن أبي عمير عنه قال : دفع إليّ الصادق عليه‌السلام دنانير وأمرني أن اقسمها في عيالات من اصيب مع عمّه زيد ، فقسمتها فأصاب عيال عبد الله بن الزبير الرّسان أربعة دنانير (٤).

ودخل أخو عبد الله الشهيد هذا : فُضيل الرسّان على الصادق عليه‌السلام في بيت جوف بيت! فقال له : يا فُضيل! قُتل عمّي زيد؟ قال : قلت : نعم جعلت فداك! قال : رحمه‌الله! أما إنّه كان مؤمناً وكان عارفاً وكان عالماً وكان صدوقاً! أما إنّه لو ظفر لوفى ، أما إنّه لو ملك لعرف كيف يضعها (٥).

وبعد مقتله تفرّق الباقون من أنصاره منهم الفُضيل بن يسار الكوفي مولى بني نهد وقد قتل ستة من الشاميين ، قال : لمّا قتل زيد اكتريت راحلة وتوجّهت

__________________

(١) هذا يُحمل على الموعد الأوّل قبل التغيير إلى الأربعاء لسبع بقين من المحرم كما في مقاتل الطالبيين : ٩٢.

(٢) اعلن عن قتله نهار الجمعة في خطب الصلاة ، والقتل كان في ليلة الجمعة كما مرّ خبره.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٨١ ، الباب ٤٧ ، الحديث ١٩٢.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٨ ، الحديث ٦٢٢.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٥ ، الحديث ٥٠٥.


نحو المدينة ، فدخلت على الصادق عليه‌السلام وفي نفسي أن لا اخبره بقتل زيد فيجزع عليه! ـ وكان ذلك قبل وصول رسول الصيرفي بكتابه ـ فقال لي : ما فعل عمّي زيد؟ فخنقتني العبرة! فقال : قتلوه؟ قلت : إي والله قتلوه! فقال : وصلبوه؟ قلت : إي والله وصلبوه! فأقبل يبكي ودموعه تنحدر على ديباجتي خدّه كأ نّها الجمان (حبّات فضة).

ثمّ قال لي : يا فُضيل! شهدتَ مع عمّي قتال أهل الشام؟ قلت : نعم. قال : فكم قتلت منهم؟ قلت : ستّة : قال : فلعلّك شاك في دمائهم؟! فقلت : لو كنت شاكاً ما قتلتهم. فقال : مضى ـ والله ـ عمّي زيد وأصحابه شهداء على ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه (١) ثمّ انتقل الفضيل إلى البصرة.

ومن الناجين من أنصار زيد : سليمان بن خالد الأقطع وعمار الساباطي ، فروى الكشيّ بسنده عنه قال : حين خرج زيد كان في ناحية وأنا وسليمان في ناحية ، فسأله رجل : زيد خير أم جعفر (الصادق)؟ فقال سليمان : والله ليوم من جعفر خير من زيد أيام الدنيا! فحرك الرجل دابته إلى زيد فمضيت نحوه ، فقصّ عليه القصّة فانتهيت إلى زيد وهو يقول : جعفر إمامنا في الحلال والحرام (٢).

ومن الناجين أبو الجارود زياد بن المنذر الهمْداني ولكنّه بقي على زيديته فكان رأسهم.

دعاؤه على الهاجي زيداً :

ذكر ابن عساكر بسنده عن محمد بن راشد الأزدي من رواة أبي مخنف : أنّ رجلاً من أهل الكوفة رحل إلى المدينة ودخل إلى الصادق عليه‌السلام فقال له :

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٨٣ ، الحديث ١٩٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٦١ ، الحديث ٦٦٨.


يابن رسول الله هذا حُكيم (بن عياش الأعور) الكلبي بالكوفة ينشد الناس هجاءكم! قال : فهل علقت منه بشيء؟ قال : نعم وأنشده :

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة

وما كان «مهدي» على الجذع يصلب

وقستم بعثمان علياً سفاهة

وعثمان خير من علي وأطيب

فرفع أبو عبد الله يديه إلى السماء وهما ينتفضان رعدة وقال : اللهمّ إن كان كاذباً فسلّط عليه كلباً!

فخرج حكيم من الكوفة فأدلج فافترسه الأسد وأكله.

وبشّر بذلك الصادق عليه‌السلام وهو في مسجد رسول الله فقال : الحمد لله الذي صدقنا وعده! وسجد شكراً (١).

يحيى بن زيد إلى خراسان :

روى الأموي الزيدي بخمسة أسانيد قد تتداخل عن سلمة بن ثابت الليثي الأسدي. وروى الطبري عن الكلبي عن أبي مخنف عن سلمة بن ثابت قال : انصرفنا من دفن زيد في الحُفَر التي يؤخذ منها الطين. إلى جبّانة السُبيع

__________________

(١) تاريخ دمشق ١٥ : ١٣٤ وذكر البلاذري البيت الأوّل وقال : فلما ظهر السفّاح العباسي أخذ ذلك الشاعر وأخذ يضرب رأسه بعمود بيده حتّى تناثر دماغه ثمّ أمر فاحرق بالنار! أنساب الأشراف ٤ : ٢٤٠ ، الحديث ٢٤١ ، إلّاأ نّه لم يصرّح باسمه وإنّما : قال بعض الشعراء. فلعلّه آخر ونقله المعتزلي في شرح النهج ١٥ : ٢٣٨ عن رسائل الجاحظ فهو أقدم مصدر ، وأقدم من روى الخبر منّا الطبري الإمامي في دلائل الإمامة : ٢٥٣ ، الحديث ١٧٧ ، ثمّ الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ثمّ الإربلي في كشف الغمّة ٣ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، وبهامشه مصادر أُخر.


(من همدان) ومعنا ابنه يحيى ، ولم يزل الناس يتصدّعون عنّا حتّى بقينا في رهط لا يكونون عشرة ، ومع يحيى أبو الصبّار العبدي ، فقلت له : أين تريد؟ فهذا الصبح قد غشيك! فقال : اريد النهرين : نهري كربلاء.

فخرجنا نحن والرهط معه من الكوفة وسمعنا أذان المؤذّنين ، وبلغنا النُخيلة فصلينا فيها الصبح ، ثمّ توجّهنا نحو نينوى ، فقال : إنّي اريد دار سابق مولى بشر بن عبد الملك ، فانتهينا إلى نينوى ليلاً وأتينا منزل سابق فدعوته على الباب فخرج إلينا ، فخلّفته عنده ، وذلك آخر عهدي به (١).

وروى الطبري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى البصري قال : قال رجل أسدي ليحيى بن زيد : إنّ أهل خراسان لكم «شيعة» فالرأي أن تخرج إليها. فلمّا سكن الطلب خرج يحيى في نفر من «الزيدية» إلى خراسان (٢) فخرج يحيى إلى المدائن في طريقه إلى خراسان ، ونزل بها على دهقان من أهلها إلى أن خرج منها إلى الريّ.

وبلغ ذلك يوسف بن عمر فسرّح في طلبه حريث الكلبي فورد المدائن وقد خرج منها يحيى ففاته (٣).

وكان الإمام السجّاد عليه‌السلام قد أملى على ابنيه زيد والباقر خمسة وسبعين دعاءً ، وهي التي تسمّى «الصحيفة السجادية» فورثها الصادق عن الباقر عليهما‌السلام ، وورثها عن زيد ابنه يحيى ، وكأنّه أدرك دعاءً منها في الصحيفة عند الصادق عليه‌السلام فكان يطلبه منه فيأبى عليه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٧ ومقاتل الطالبيين : ١٠٤.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٨٩.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٠٤.


وكان زيد قبل شهادته قد حوّل صحيفته إلى ابنه يحيى وأوصاه بصونها ومنعها عن غير أهلها (١).

وكان متوكّل بن هارون الثقفي البلخي قد تشرّف للحج سنة شهادة زيد وتردّد على الصادق عليه‌السلام ورأى حزنه على عمّه زيد ، وسمعه يقول عن يحيى أنّه سيقتل ويصلب كما قتل أبوه وصُلب! وكتب عنه وجوهاً من العلم ، وأخرج له دعاءً أملاه عليه وحدّثه أنّ أباه الباقر عليه‌السلام أملاه عليه وأخبره أنّه من دعاء أبيه السجّاد عليه‌السلام من أدعية «الصحيفة الكاملة» وتوجّه إلى خراسان فالتقى في طريقه بيحيى فسلّم عليه ، فسأله : من أين أقبلتَ؟ قال : من الحج ، فسأله عن أهله وبني عمّه بالمدينة ، وأحفى السؤال عن الصادق عليه‌السلام ، فأخبره بخبره وخبرهم وحزنهم على أبيه زيد عليه‌السلام.

فقال : فهل سمعته يذكر شيئاً من أمري؟ قال : نعم ، قال : خبِّرني بمَ ذكرني؟ فقال له : جعلت فداك ، ما أحبّ أن استقبلك بما سمعته منه! فقال : أبالموت تخوّفني؟! هات ما سمعته. فقال له : سمعته يقول : إنّك تقتل وتصلب كما قتل أبوك وصُلب! فتغيّر وجهه ثمّ تلا قوله سبحانه : «يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ» (٢).

ثمّ قال : يا متوكّل! إنّ الله عزوجل أيّد هذا الأمر بنا وجعل لنا العلم والسيف فجُمعا لنا ، وخُصّ بنو عمّنا بالعلم وحده!

فقلت له : يابن رسول الله ، أهم أعلم أم أنتم؟ فأطرق إلى الأرض مليّاً ثمّ رفع رأسه وقال : كلّنا له علم! غير أنّهم يعلمون كلّما نعلم ولا نعلم كلّما يعلمون!

فقلت له : جعلت فداك إنّي رأيت الناس أميل إلى ابن عمّك جعفر منهم إلى أبيك وإليك؟!

__________________

(١) مقدمة الصحيفة السجادية : ١٦ ، ط. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الرعد : ٣٩.


فقال : إنّ عمّي محمّد بن علي وابنه جعفراً دعوا الناس إلى الحياة ونحن دعوناهم إلى الموت!

ثمّ قال لي : أكتبت من ابن عمّي شيئاً؟ قلت : نعم. قال : أرنيه. فأخرجت له الدعاء فقال لي : أتأذنُ لي في نسخه؟ ثمّ رمى بصحيفتي إلى غلام معه وقال له : اكتب هذا الدعاء بخطّ حسن بيّن لعلّي احفظه ، فإنّي كنت أطلبه من جعفر «حفظه الله» فيمنعنيه!

ثمّ استخرج صحيفة مختومة وقبّل الخاتم وبكى ثمّ فضّه ونشر الصحيفة ووضعها على عينه وأمرّها على وجهه وقال لي : يا متوكل ، والله لولا ما ذكرت من قول ابن عمي أنني اقتل واصلب لما دفعتها إليك ولكنّي أعلم أنّ قوله حقّ أخذه عن آبائه وأ نّه سيصح ، فخفت أن يقع هذا العلم إلى بني أُمية ، فاقبضها وتربّص بها ، فإذا قضى الله من أمري وأمر هؤلاء القوم ما هو قاضٍ فهي أمانة لي عندك توصلها إلى ابني عمّي محمّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن ، فإنّهما القائمان في هذا الأمر بعدي!

فلمّا قُتل يحيى (١) صرت إلى المدينة والتقيت بأبي عبد الله عليه‌السلام وناولته الصحيفة فأخرج لي مثلها وقال لي : هذا إملاء جدّي وخط أبي بمشهد منّي ، فإذا هما أمر واحد ، ثمّ استأذنته عليه‌السلام أن أدفع الصحيفة إلى ابني عبد الله بن الحسن ، فقال : نعم فادفعها إليهما. ثمّ وجّه إليهما فجاءا فقال لهما : هذا ميراث ابن عمّكما يحيى من أبيه قد خصّكما به دون إخوته. ثمّ قال لهما : وأنتما فلا تأمنا! فو الله إنّي لأعلم أنّكما ستخرجان كما خرج وستقتلان كما قُتل! فقاما وهما يُحوقلان : لا حول ولا قوة إلّابالله العلي العظيم (٢).

__________________

(١) سيأتي في حوادث سنة (١٢٥ ه‍) أي بعد مقتل أبيه بثلاث سنين.

(٢) الصحيفة السجادية : ٩ ـ ١٩ ، ط. المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام.


مصير يحيى في خراسان :

كان خالد بن عبد الله القَسري قد جعل على خراسان أخاه أسد القسري فمات عليها قبل عزل خالد عن الكوفة سنة عشرين بعد المئة الهجرية ، فاستخلف على خراسان جعفر بن حنظلة البهراني (١).

قال اليعقوبي : ولمّا قُتل زيد تحرّكت «الشيعة» في خراسان وجعلوا يذكرون للناس أفعال بني امية وما نالوا من آل رسول الله ، حتّى لم يبقَ بلد إلّا فشت فيه هذه الأخبار.

واستخبر يوسف بن عمر : أنّ يحيى بن زيد هرب إلى خراسان فتوارى في بلخ ، فكتب يوسف إلى هشام بالشام بحال يحيى ، وبلغه اضطراب خراسان عليه وكثرة مَن بها ممّن يميل معه ويأتيه. فكتب هشام إلى يوسف بن عمر : ابعث إليّ برجل له علم بخراسان! فبعث إليه بعبد الكريم بن سليط الحنفي التميمي. فسأله عن أمر خراسان وأهلها ومَن بها ممّن يصلح أن يوليه عليها. فكان إذا سمّى له رجلاً من ربيعة قال : إنّ ربيعة لا يُسدّ بها الثغور! ولمّا سمّى له نصر بن سيّار الليثي تفأل باسمه وقال : كأ نّه نصر وسيّار! وكان على كورة من كور خراسان ، فالتفت هشام إلى الغلام وقال له : يا غلام اكتب عهده ، فكتب العهد له وولّاه البلد وعزل جعفر البهراني (٢).

وكتب هشام إلى نصر بشأن يحيى بن زيد ، فأَعدّ نصر جيشاً وجعل عليهم هُدبة بن عامر السعدي ووجّهه بهم إلى يحيى في بلخ ، فطلبوه حتّى ظفروا به فأتوا به إلى نصر فحبسه في حصن في مرو يسمّى «كُهندژ» (٣) أي القلعة القديمة.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٣٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٦.


وأعقب هشاماً ابن أخيه الوليد :

كان يزيد بن عبد الملك قد عقد ولاية العهد لأخيه هشام ثمّ لابنه الوليد ، وظهر من الوليد استخفاف بالدين وتهاون به وشرب الشراب والمجون ، فبدأ هشام يعتبه وينتقصه ويقصّر به ويتنكّر له (١).

وكانت الملاحاة لا تزال تجري بينه وبين هشام ، حتّى دخل الوليد يوماً على هشام فلم يجده في مجلسه ، ثمّ خرج هشام فلم يقم له الوليد ، فقال له هشام : كيف أنت يا وليد؟ قال : صالح! قال : ما فعلت طنابيرك وما فعل جلساؤك جلساء السوء؟! قال : إن كانوا شرّاً من جلسائك فعليهم لعنة الله! فغضب هشام وقال للغلام : أقيموه! فأخذوا بيده وأقاموه من مجلسه (٢).

فكان الوليد يقول لأصحابه : إنّ أبي قدّم هذا العمّ المشؤوم على أهل بيته فصيّره وليّ عهده ، ثمّ هو يصنع بي ما ترون ، لا يعلم أنّ لي في أحد هوى إلّاعبث به. ثمّ خرج بهم ومعه ناس من خاصّته ومواليه إلى قرية في بريّة الشام تسمّى الأزرق ، فلم يزل مقيماً بها حتّى مات هشام (٣).

في يوم الأربعاء التاسع من شهر ربيع الأول سنة (١٢٥ ه‍) وله ثلاث وخمسون سنة ، وكان بخيلاً حسوداً فظّاً غليظاً ، شديد القسوة ، بعيد الرحمة ، طويل اللسان (٤).

وقال المسعودي : توفي في الرُّصافة من أرض قنّسرين بالبرّ وكان أحول خشناً فظّاً غليظاً (٥) وكان أبيض إلى الصفرة ، وأحول شديد الحوَل ، خشن الجانب ،

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العربي : ١١٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٧.

(٣) مختصر تاريخ الدول لابن العبري : ١١٧.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٨.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٢٠٥.


شكِس الأخلاق ، جامعاً للأموال وقليل البذل للنوال ، ربعة من الرجال حسن البدن يخضب لحيته بالسواد (١) فشا الطاعون في زمانه حتّى هلك عامّة الناس! وذهب البقر والدّواب. وصُنع له أصناف الثياب الأرمني والوشمي والخزّ وغيره (٢) فسلك الناس في أيّامه مذهبه فمنعوا ما في أيديهم وقلّ الإفضال وانقطع الرّفد ، فلم يُرَ زمان أصعب من زمانه! وكان يستجيد الخيل ويقيم حلبات السباق بها ، حتّى اجتمع له فيها من خيله وغيره أربعة آلاف فرس ، ولم يعرف ذلك لأحد من الناس في جاهلية ولا إسلام. واصطنع الرجال وعُدد الحرب وقوّى الثغور ، واتّخذ القنوات والبُرك في طريق الحجّ إلى مكّة (٣).

ولمّا دخل هشام في سكرات الموت ، ركب رجلان من البريد من الرُّصافة إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك في قرية الأزرق فسلّما عليه بالخلافة ، فوجم ثمّ قال : أمات هشام؟! قالا : نعم ، فأرسلهم إلى الخزّان : أن احتفظوا بما في أيديكم! وكان له كاتب في سجن هشام يدعى عياض فخرج من سجنه وختم أبواب الخزائن ، فأفاق هشام وطلب شيئاً فمنعوه! فقال : إنّا لله! كأ نّا كنّا خُزّاناً للوليد! ثمّ مات. فأنزله عياض عن فراشه! وما وجدوا له قمقماً يسخّن له فيه الماء لغسله حتّى استعاروه ولا وجدوا له كفناً حتّى كفنه مولاه غالب ، والوليد يُنشد :

كِلناه بالصاع الذي كاله

وما ظلمناه به إصبعا (٤)!

__________________

(١) التنبيه والاشراف : ٢٧٩

(٢) تاريخ اليعقوبى ٢ : ٣٢٨.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٠٥.

(٤) تاريخ مختصر الدول ١١٧


وأنشأ مجاهراً :

طاب يومي ولذّ شرب السلافة

إذ أتانا نعي من بالرصافة

وأتانا البريد ينعى هشاماً

وأتانا بخاتم للخلافة

فاصطحبنا من خمر عانة صرفاً

ولهونا بقينة عزّافة (١)

مصير يحيى في ولاية الوليد :

إنّ نصر بن سيار الليثي لما أخذ يحيى بن زيد كتب بخبره إلى هشام بن عبد الملك ، فاتفق وصول الرسول هلاك هشام وتولّى الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، فكتب هذا إليه أن خلّ سبيله (٢).

فانطلق يحيى بمن معه إلى بيهق من أرض أبرشهر ، فاجتمع إليه قوم من «الشيعة» نحو مئة وعشرين رجلاً ، فرجع معهم إلى نيشابور.

وكان عامل نيشابور عمرو بن زرارة القَسْري ، فخرج إليه وقاتله ، فهزمه يحيى وأصحابه وأخذوا أسلحتهم ، ثمّ اتبعوهم حتّى لحقوا عمرو بن زرارة فقتلوه.

وسار يحيى إلى بادغيس ثمّ إلى مرو الرود ، وبلغ ذلك نصر الليثي فسار إليه في جموعه فلقيه بالجوزجان فحاربه محاربة شديدة ، وأصابت يحيى نشّابة فجرحته وصرعته وبادروا إليه فاحتزّوا رأسه. وقاتل بعده أصحابه حتّى قُتلوا عن آخرهم (٣).

__________________

(١) الأغاني ٦ : ٩٩

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣١ وفي مقاتل الطالبين : ١٠٥ : لمااطلق يحيى بن زيد وفك حديده ، صار جماعة من مياسفر «الشيعة» الى الحداد الذي فك قيده من رجله فسألوه اياه فقال لهم إياه ، فقال لهم اجمعوا ثمنه بينكم ، وتزايدوا حتى بلغ عشرين ألف درهم ورضوا بذلك! وأعطوه المال ، فقطعه لهم قطعة قطعة وقسمها بينم ، فاتخذوا منها فصوصاً للخواتيم يتبركون بها

(٣) تاريخ اليعقوبى ٢ : ٣٣٢.


وفصّل الأموي الزيدي فقال : أقبل يحيى بسبعين رجلاً من بيهق إلى أبرشهر وعليها عمرو بن زرارة ، فكتب عمرو بذلك إلى نصر بن سيار ، فكتب نصر إلى عامليه على طوس وسرخس : أن يمضيا إلى عامله على أبرشهر : عمرو بن زرارة وهو أمير عليهم فيقاتلوا يحيى بن زيد ، فاجتمعوا إلى عمرو في أبرشهر فصار في زهاء عشرة آلاف! وما مع يحيى بن زيد إلّاسبعين فارساً ، ومع ذلك هزمهم واستباح عسكرهم وغنم دوابّهم.

ثمّ مرّ على هراة حتّى نزل بأرض الجوزجان ، فسرّح نصر بن سيار إليه سلم بن أحوز في ثمانية آلاف فارس من أهل الشام وغيرهم ، فالتقوا في قرية يقال لها : ارغون فاقتتلوا ثلاثة أيام ولياليها أشدّ قتال حتّى قتل أصحاب يحيى كلهم ، ثمّ رماه عيسى مولى بني عنزة بنشّابة فأصاب جبهة يحيى كأبيه زيد ، فوقع صريعاً فنزل إليه سوره بن محمد فاحتزّ رأسه وسلبه العنزي.

وحملوه إلى الجوزجان فصلبوه على باب المدينة. وأرسل نصر بن سيار برأسه إلى الوليد بن يزيد (١) وكتب الوليد إلى يوسف الثقفي في الكوفة : أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر عجل أهل العراق (زيد) فأحرقه وانسفه في اليمّ نسفاً ؛ والسلام.

فعند ذلك أمر يوسف الثقفي فراش بن حوشب فأنزله من جذعه فأحرقه بالنار ، ثمّ جعله في قواصر وحملها في سفينة فذرّاها في الفرات (٢) عام (١٢٥ ه‍)

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٠٧ ، ١٠٨ وتمامه : ولم يزل يحيى مصلوباً حتّى قام أبو مسلم الخراساني فأنزله وغسّله وكفّنه وحنّطه ودفنه ، ثمّ تتبّع قتلته من الديوان فلم يدع أحداً ممن شهد قتله. وفي مروج الذهب ٣ : ٢١٢ : وقبره مشهور مزور إلى اليوم : (٣٣٣ ه‍).

(٢) مقاتل الطالبيين : ٩٨.


فلما بلغ ذلك الصادق عليه‌السلام قال : إنّ الله أذن في هلاك بني أُمية بعد إحراقهم زيداً بسبعة أعوام (١).

وكان الوليد قد عزل عمّال هشام سوى يوسف الثقفي لأنّ أُمّه بنت محمد بن يوسف أخ الحجاج بن يوسف الثقفي! ولأ نّه وجد في ديوان هشام كتباً من عمّاله يؤيّدونه على خلع الوليد من ولاية عهده سوى يوسف فإنه أشار عليه بعكس ذلك! فأقرّه على عمله (٢).

الخراساني في خراسان :

وتتبّع يوسف الثقفي عمّال خالد القَسري في خراسان فحبسهم ، ومنهم عيسى بن معقل العجلي ، وكان يخدمه أبو مسلم إبراهيم بن عثمان فكان يتردّد إليه في السجن ، وكان عيسى العجلي قد بلغته دعوة بني العباس ومال إليها. وكذا سليمان بن كثير ومالك بن الهيثم وقحطبة بن شبيب الطائي ، وترافق هؤلاء للحجّ ، وفي منصرفهم في أوائل سنة (١٢٥ ه‍) مرّوا على محمد بن علي بن عبد الله بن العباس في الحُميمة ، فلما تكلم مع أبي مسلم غيّر اسمه إلى عبد الرحمن ، وقال لمن معه : إنّي لأحسب هذا الغلام صاحبنا! فاقبلوا قوله وانتهوا إلى أمره! بل هو هو صاحب الأمر لا شك فيه (٣)! ولن تلقوني بعد وقتي هذا فأنا ميت في سنتي هذه. وسيُقتل ابني إبراهيم فإذا قضى فصاحبكم (ابني) عبد الله فإنه القائم بهذا الأمر

__________________

(١) روضة الكافي : ١٤٢ ، الحديث ١٦٥ ولفظه : أيام ، وأثبتنا الصحيح أي من عام (١٢٥ ه‍) إلى (١٣٢ ه‍) هلاك بني أُمية.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٢٧.


وصاحب هذه الدعوة الذي يؤتيه الله الملك ويكون على يده هلاك بني أُمية. وصاحبكم هذا عبد الرحمن (أبو مسلم) فاسمعوا له وأطيعوا فإنه القائم بهذه الدولة.

وفي آخر هذه السنة (١٢٥ ه‍) توفّى محمد بن علي العباسي ، فعاد أبو مسلم ومعه قحطبة بن شبيب إلى إبراهيم بن محمد بن علي العباسي في الحُميمة ، فجدّد تأمير أبي مسلم عليهم ، وقال لقحطبة : وأنت والله الذي ستلقى عامر بن ضبارة المُري ونباتة بن حنظلة الكلابي ـ من عمّال بني أُمية ـ فتقاتل عساكرهما فتهزمهما ويفتح الله لك حتى تصير إلى الفرات (في العراق) لا تُردّ لك راية! فعادوا إلى خراسان في أوائل سنة (١٢٦ ه‍).

وكان نصر بن سيّار الليثي قد قدّم المضرية على ربيعة واليمن والأزد ورئيسهم يومئذ جديع بن علي الأزدي الكرماني ، فوثب هذا بهم على نصر بن سيّار وقال له : لا ندعك وفعلك. فأخذه نصر فحبسه ، فأتت ربيعة والأزد حتّى أخرجوه من مجرى كنيف! واجتمعوا عليه على نصر فحاربه بهم وانتصر عليه فمال إليه أبو مسلم وجعل يمايل أصحابه ويدعوهم إلى «آل محمد» ويقول لجُديع : ادع إلى «آل محمد» ولم يزل بهم حتّى أظهروا دعوة «بني هاشم / بني العباس» بخراسان (١).

ثمّ خرج أبو مسلم في جماعة أصحابه إلى قرية ارعونه (كذا) من أرض الجوزجان ، ويحيى بن زيد لا يزال مصلوباً بها ، فأنزل جثّته فصلّى عليها في جماعة أصحابه ودفنه هناك ، وقبره مشهور مزور. وأظهر أهل خراسان النياحة عليه سبعة أيام! ثمّ لم يولد في تلك السنة بخراسان مولود إلّاوسمّي بزيد أو يحيى ، لما داخل أهل خراسان من الحزن والجزع عليه (٢) فسوادهم لهما من يومئذ (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣٢ ، ٣٣٣.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢١٣.

(٣) المحبّر لابن حبيب : ٤٨٤ ، ط. الهند.


الوليد بن يزيد :

عزل الوليد عمّال هشام وعذّبهم أنواع العذاب ، خلا يوسف بن عمر الثقفي في العراق ، وسلّم إليه خالد بن عبد الله القَسري فلم يزل يوسف يعذّبه حتّى قتله.

وعقد لابنه الحكم بولاية العهد بعهده وولّاه دمشق ، وعقد من بعده لعثمان ابنه الآخر وولّاه على حمص ، وضمّ إليه الفقيه ربيعة بن عبد الرحمن وجعله قائماً بأمره.

وعزل عن المدينة ومكة والطائف خال هشام : إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي ، وولّى بمكانه خاله يوسف بن محمد الثقفي (١) ابن أخ الحجاج. وعذّب إبراهيم ومحمد ابني هشام حتّى ماتا (٢).

وقد كان الوليد حين ولّى كتب إلى الناس شِعراً :

ضمنت لكم إن لم تعقني منيتي

بأنّ سماء الضرّ عنكم ستَقلع (٣)

وزاد عشرة في عطاء الناس ، وعشرة أُخرى لأهل الشام خاصّة (٤) وأخرج لعيالات الناس الطيب والكسوة وكسى الزمنى والعميان وأجرى عليهم الأرزاق (٥). فلمّا عمّ استهتاره وظلمه وجوره هجاه حمزة بن بيض بقوله :

وصلت سماء الضُّر بالضرّ بعد ما

زعمت سماء الضرّ عنّا ستَقلع

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣٣.

(٣) البدء والتاريخ ٣ : ٥١.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٧٦.

(٥) مختصر تاريخ الدول : ١١٧.


فليت هشاماً كان حياً يسومنا

وكنّا كما كنّا نرجّي ونطمع

يا وليد الخنا تركت الطريق

واضحاً ، وارتكبت فجّاً عميقاً

وتماديت واعتديت واسرفس

ت وأغويت وانبعثت فسوقاً

أنت سكران ما تُفيق فما تَر

تِق فتقاً وقد فتقت الفتوقا (١)

مصير الوليد بن يزيد :

قال اليعقوبي : كان الوليد مُهملاً لأمره قليل العناية بأطرافه ، وكان صاحب ملاه وقيان واظهار للقتل والجور ، وتشاغل عن أُمور الناس ، وشرب ومجون.

وبلغ من مجونه أنّه وجّه «مُهندساً» ليبني له بيتاً على البيت الحرام بمكة ليجلس فيه للهوه!

فلما ظهر كل هذا منه ، مع قتله لخالد القَسري اليمني ، وتعذيبه إبراهيم ومحمد ابني هشام المخزومي حتّى ماتا ، واستذمامه إلى الناس وحتّى في أهل بيته ، تصدّى له ابن عمّه يزيد بن الوليد بن عبد الملك فاستمال معه جماعة من أهل بيته فمايلوه على خلع الوليد ، وشايعه على ذلك بنو خالد القسري وجماعة من اليمانية واجتمع إليه جماعة وبايعوه لذلك.

وكان الوليد بن يزيد قد نزل قصراً بقرية تعرف بالبَخراء ، فزحف إليه يزيد بن الوليد رويداً رويداً ، بعساكره يتلو بعضها بعضاً ، وقاتلوه فقاتلهم (٢) على أميال من تدمر ، وذلك يوم الخميس لليلتين بقيتا من جُمادى الآخرة سنة (١٢٦ ه‍) وهو ابن خمس وثلاثين سنة.

أقبل يزيد بن الوليد ليلاً في أربعين رجلاً حتّى دخلوا دمشق وكسروا باب المقصورة ودخلوا على واليها فأوثقوه ، واستعجلوا في حمل الأموال ، ونادى

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٥ : ١٣٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣٤.


مناديه : من ينتدب لحرب الوليد فله ألفان! فانتدب إليه ألفان. وصبّحوا بخيلهم الوليد بقصر البخراء في البرية على أميال من تدمر. وكان أخو يزيد : العباس بن الوليد بقرب حِمص فكتب إليه الوليد بن يزيد يستنصره فخرج إليه ، فحبسه عسكر يزيد بن الوليد ونادى مناديهم : من أتى العباس بن الوليد فهو آمن فتفرق جند الوليد بن يزيد. فلما أحاطوا بالوليد أخذ المصحف وقال : اقتل كما قتل ابن عمي عثمان! ونادى مناديهم : اقتلوا اللوطي قِتلة قوم لوط! فقُتل وأتوا برأسه إلى ابن عمه يزيد بن الوليد فقال : انصبوه للناس ، فقيل له : لا تفعل ، إنما يَنصب رأس الخارجي! فحلف لينصبنّه ، فوضع على رمح ونصب على درج مسجد دمشق ، ثمّ أمر فطيف به في دمشق.

وكانت الجمعة فصلّى بهم يزيد بن الوليد وخطب فقال : أيها الناس ، إني والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ، ولا حرصاً على الدنيا ، ولا رغبة في الملك ، وما بي إطراء نفسي ولا تزكية عملي .. ولكنّي خرجت غضباً لله ودينه وداعياً إلى كتابه وسنة نبيّه ، حين درست معالم الهدى وطفئ نور أهل التقوى ، وظهر الجبار العنيد المستحل للحرمة والراكب البدعة والمغيّر السنة.

ثمّ دعاهم إلى بيعته فبايعوه لأول رجب (١٢٦ ه‍) وامّه ام ولد اسمها شاه آفريد بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى (١).

وقد ألحد ورمى المصحف :

نقل المسعودي عن المبرّد النحوي : أن الوليد بن يزيد قال شعراً ولعلّه سكراً :

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٣٦ ـ ٢٤٠.


تلعّب بالخلافة هاشمي

بلا وحي أتاه ولا كتاب

فقل لله : يمنعني طعامي

وقل لله : يمنعني شرابي!

فلم يُمهل بعد قوله هذا إلّاأياماً حتّى قُتل!

وقبله : قرأ ذات يوم قوله سبحانه : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ* مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ) فنصب المصحف غرضاً لنشّابه وأقبل يرميه وهو يقول :

أتوعد كل جبّار عنيد!

فها أنا ذاك جبّار عنيد!

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل : يا ربّ مزّقني الوليد

ودخل عليه بعض حجّابه فقال له : يا أمير المؤمنين! إنّ بالباب جمعاً من وفود العرب ومن قريش! والخلافة تُجلّ عن هذه المنزلة وتُبعد عن هذه الحال! فقال لهم : اسقوه! فأبى ، فأمر بقمع (محقان) فجعلوه في فيه وسقوه حتّى أسكروه (١)!

وهو أول من حَمل المغنّين من البلدان إليه : ابن سُريج ، وابن عائشة مولى قريش ، وابن محرز ، ودحمان ، وطويس ، والفريض ، ومعبد ، فغلبت شهوة الغناء عليه وعلى خاصته والعامة ، واتّخذ القيان لذلك ، فكان صاحب سماع للغناء واللهو والطرب والشرب ، وكان ماجناً خليعاً (٢)! آيساً من رحمة ربّه يقول :

اسقني ـ يا يزيد ـ بالقر قارة

قد طربنا وحنّت الزُمّارة

اسقني إسقني فإنّ ذنوبي

قد أحاطت ، فما لها كفّارة!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢١٦ و ٢١٧.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢١٣.


واشتدّ طربه لغناء ابن عائشة فجرّده وقام إليه يقبّله عضواً عضواً حتّى أهوى إلى ذكره يقبّله فجعل ابن عائشة يضمّه بين فخذيه ويقول الوليد له : والله لا زلت حتّى اقبّله! فلم يزل حتّى قبّل رأس ذكره وصاح : وا طرباه! وا طرباه! ثمّ نزع ثيابه فألقاها على ابن عائشة ودفع إليه ألف دينار وحمله على بغلته (١).

فلما حاصروه في قصره قال لهم : ألم أرفع المؤون عنكم؟! ألم اعط فقراءكم؟! ألم أزد في اعطياتكم؟! فقالوا : إنّا ما ننقم عليك في أنفسنا إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرّم الله من شرب الخمر ونكاح امهات أولاد أبيك (٢)!

وروى السيوطي قال : نظر أخوه سليمان بن يزيد إلى رأسه وقال : بُعداً له ، أشهد أنّه كان شروباً للخمر ماجناً فاسقاً ، ولقد راودني على نفسي! وعن الذهبي : اشتهر بالخمر والتلوّط (٣).

أيام يزيد بن الوليد :

بعد قتل يزيد بن الوليد لابن عمّه الوليد بن يزيد بخمسة أيام تملّك في مستهل رجب سنة (١٢٦ ه‍) ، وبايع لأخيه إبراهيم بن الوليد بولاية عهده ووجّهه إلى الأُردن ، لكنهم كانوا قد أمّروا عليهم عمّ يزيد : محمد بن عبد الملك ، فواقفوه للقتال ، ولكن إبراهيم أرسل إليهم عبد الرحمن بن مُصاد يقول لهم : علامَ تقتلون أنفسكم؟ أقبلوا إلينا نجمع لكم الدنيا والآخرة! وأنا أضمن لكل رجل منكم ألف دينار! فتفرقوا عن محمد بن عبد الملك إلى ابن أخيه إبراهيم بن الوليد. ثمّ خرج بالأُردن على يزيد : أخوه عمر بن الوليد ، وفي قنّسرين أخوه الآخر

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢١٥.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١١٨ وتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٠٠.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٠٠ ، ٣٠١.


بشر بن الوليد ؛ وفي حمص أخوه الآخر العباس بن الوليد وساعده سليمان بن هشام ، وأبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية وشايعهم أهل حمص ، وقتلوا عاملهم عبد الله بن شجرة الكندي ، وقتل أهل مصر أميرهم حفص بن الوليد الحضرمي ، وأخرج أهل المدينة عاملهم عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز! فاضطربت البلدان وعمّتها الفتن. وكان في بيت المال يوم ولي أربعون ألف ألف (مليون) دينار ففرقها كلّها يزيد (١).

وفي شعبان سنة (١٢٦ ه‍) خرج سعيد بن بهدل النمري بالجزيرة في العراق ، ولأول شهر رمضان نزل بعض كور الموصل ، وكان قد خرج أبو كرب الحميري وتسمّى أمير المؤمنين في جمع كثير ، ولكنّه لما تبيّن له أن سعيداً كان قد خرج قبله سلّم أمره إليه فاجتمع إليه خمسمئة رجل ، فسار سعيد إلى شهرزور والتقى فيها بشيبان اليشكري الهمداني وكان قد خرج بجمع وتسمّى أمير المؤمنين ، ولكنّه لما تبيّن له أنّ سعيداً خرج قبله سلّم له وسار معه.

وكان مروان بن محمد بن مروان بن الحكم والياً على أرمينية ، فلما علم بقتل يزيد للوليد لم يبايع له وقبل بيعة من معه لنفسه فبايعوه (٢) فكان هذا أول أمره.

وعلى رأس ستة أشهر من حكم يزيد بن الوليد أي في العشرين من ذي الحجة عام (١٢٦ ه‍) قيل إنّ إبراهيم بن الوليد سمّ أخاه يزيد (٣) وكان الفقيه لدى يزيد أبو العلاء برد بن سنان ، وكان قد نهاه أن يدخل في الخلافة ، وكان حاضراً عند احتضار يزيد ، إذ دخل عليه مولاه قَطَن وقال له : أنا رسول من وراء بابك

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣٥ و ٣٣٦.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٤٢ ، ٢٤٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٣٦.


يسألونك بحق الله لما ولّيت أمرهم أخاك إبراهيم! فقال يزيد : يا أبا العلاء ، إلى من ترى أن أعهد؟! فقال أبو العلاء : أمر نهيتك عن الدخول في أوله فلا اشير عليك في آخره! وغُشى على يزيد فقعد قطَن وافتعل على لسانه عهداً لأخيه إبراهيم ، ودعا أُناساً فأشهدهم عليه (١) فكأنه لم يعهد إليه قبل هذا!

ومات يزيد بن الوليد فصلّى عليه أخوه إبراهيم ، ودفن بدمشق بين باب الجابية وباب الصغير. وكان أحول يذهب إلى أقوال المعتزلة في الأُصول الخمسة : التوحيد والعدل ، والوعيد والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٢).

أيام مروان بن محمد :

مرّ الخبر عن خروج مصعب بن الزبير من البصرة سنة (٧٢ ه‍) لحرب عبد الملك بن مروان إلى مسكن على شاطئ دجلة ، فقال المسعودي : كان على مقدمة عبد الملك الحجاج بن يوسف ، ثمّ قال : وقيل : بل كان على ساقته .. وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان فنازل إبراهيم بن الأشتر (٣) وقال : كان لمصعب جارية تُدعى ريّاً أو طرونة فصارت بعد مقتله لمحمد بن مروان فأولدها مروان بن محمد (٤) وعاد فقال : كان محمد بن مروان على مقدمة أخيه عبد الملك وإبراهيم النخعي على مقدمة مصعب ، وكان لإبراهيم أُمّ ولد تدعى زيادة فصارت إلى محمد بن مروان. ثمّ قال : وقيل : بل كانت حاملة من إبراهيم فجاءت بمروان على

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٤١.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٢٠ و ٢٢١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ١٠٥ و ١٠٦.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٢٣٢.


فراش محمد بن مروان (١) ونقل السيوطي عن ابن عساكر أن الوليد بن عبد الملك تزوّجها بعد عمّه محمد فولدت له إبراهيم فهو أخو مروان بن محمد لأُمّه (٢) ومع ذلك لم يسلّم له مروان كما لم يسلّم لأخيه يزيد بن الوليد قبله ، مستنداً إلى ولاية عهد الوليد بن يزيد لابنه الحكَم بن الوليد ثمّ عثمان بن الوليد فالخلافة لهما ولا يصح ليزيد بن الوليد ثمّ لإبراهيم بن الوليد حبسهما.

وكان مع مروان بن محمد بالجزيرة ستة وعشرون ألفاً من قيس وسبعة آلاف من ربيعة! فلما أتاه وفاة يزيد بن الوليد وتولّى أخيه إبراهيم بن الوليد دعا قيساً وربيعة فأعطاهم عطيّاتهم ، وولّى على قيس إسحاق بن مسلم العقيلي وعلى ربيعة المساور بن عقبة ، واستخلف على الجزيرة أخاه عبد العزيز بن محمد بن مروان وخرج منها إلى الشام ، ولقيه في طريقه خمسة آلاف آخرون من قيس مع وجوههم ، فساروا معه إلى حلب ، وبلغ ذلك إلى إبراهيم بن الوليد فأرسل أخويه بشراً ومسروراً ابني الوليد بن عبد الملك لمواجهة مروان بن محمد ، وتواجه القوم فحمل عليهم مروان بمن معه فانهزم بشر ومسرور بغير قتال فأسرهما وكثيراً من أصحابهما ثمّ أعتقهم.

ثمّ سار مروان إلى حمص فبايعوه وخرج جمع منهم معه إلى عسكر سليمان بن هشام بن عبد الملك فقاتله حتّى حوى عسكره. وبلغ ذلك إلى إبراهيم بن الوليد فخرج من دمشق بجمعه ومعه الأموال حتّى نزل باب الجابية وتهيّأ للقتال ، ودخل بعضهم إلى السجن بدمشق فقتلوا الحكم وعثمان ابني الوليد وليَّي العهد المخلوعين ليقطعوا حجة مروان بن محمد.

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٢٨١.

(٢) تاريخ الخلفاء : ٣٠٦.


وكان معهما في السجن أبو محمد بن عبد الله بن يزيد بن معاوية ، فثار أهل دمشق وأخرجوا هذا من السجن فوضعوه على المنبر فخطبهم وبايعهم لمروان ؛ وبلغ ذلك إلى إبراهيم بن الوليد فهرب ، فجاء مروان إلى دمشق ونبش قبر يزيد بن الوليد فصلبه لقتله الوليد بن يزيد ، وعاد مروان إلى الجزيرة فظهر له إبراهيم وخلع نفسه وبايعه فأمّنه ، وعاد فسكن الرّقة على شاطئ الفرات.

وأرسل مروان بن محمد : زامل بن عمرو فأخذ خالداً والوليد ابني يزيد بن الوليد فقتلهما (١) قصاصاً بإزاء الحكم وعثمان ابني يزيد بن الوليد! لأوائل سنة (١٢٧ ه‍).

ثورة «الشيعة» والزيدية بالكوفة! :

في أيام يزيد بن الوليد سنة (١٢٦ ه‍) عزل يوسف بن عمر عن الكوفة وولّاها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز (٢) وفي ولايته على الكوفة قدمها عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيّار ومعه أخواه الحسن ويزيد. فلما مات يزيد وسلّم إبراهيم لمروان بن محمد قام هلال بن الورد العجلي مولاهم ومعه ناس من «الشيعة» فدعوا إلى بيعة عبد الله بن معاوية الجعفري ، فبايعوه ، وأتوا به وأدخلوه القصر ، وبايعه أهل الكوفة ومن فيهم من أهل الشام بالكوفة ، وأقام أياماً يبايعه الناس ، وأتته بيعة المدائن ومن كل وجه من العراق. فقاتله عبد الله بن عمر فقُتل ناس كثير من أهل اليمن مع عبد الله بن معاوية الجعفري حتّى انهزم ودخل القصر ، وقاتل الزيدية في الكوفة عنه قتالاً شديداً حتى أخذوا لهم

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٤٣ ، ٢٤٤.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٤٩.


الأمان ليأخذوا حيث شاؤوا من البلاد ولا يتبعوا فأعطوهم ذلك ، فرحّلوهم ومن معهم من «شيعته» ومن تبعه من أهل الكوفة والسواد والمدائن (١)! فخرجوا إلى اصطخر فارس (٢).

أخبار خوارج العراق وولاية ابن هبيرة :

مرّ الخبر عن خروج سعيد بن بهدل النمري في شمال العراق وأ نّه التحق به سائر الخوارج فاجتمع إليه نحو خمسمئة رجل سار بهم إلى شهرزور ، وفي سنة (١٢٧ ه‍) حضرته الوفاة في شهرزور فقال لهم : اختاروا منكم عشرة للقيادة ، فاختاروا أربعة منهم وقال لهم : اختاروا ، فاختاروا اثنين منهم ، فقال لهما اختارا فاختارا شيبان الضحاك بن قيس المحلمي فبايعوه.

وأقبل الضحاك يريد الكوفة وقد اجتمع إليه ثلاثة أو أربعة آلاف حتّى نزل دير الثعالب. ثمّ أقبل حتى نزل بشاطئ الفرات وعبر بجمعه ، فوجد عامل الكوفة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ومن معه من أهل الشام والكوفة قد خندقوا ، وذلك في يوم الأربعاء لليال خلون من شعبان سنة (١٢٧ ه‍) ، فأنزل من كل كردوس معه عصابة نشطوا للقتال ، فلم يلبث أهل الشام أن انهزموا وعبروا الخنادق إلى الكوفة ، ثمّ رجعوا يوم الخميس إلى مواقفهم ، فحملوا عليهم فانهزم أهل الشام أيضاً وقتل منهم أخو عبد الله : عاصم بن عمر بن عبد العزيز. ونادى منادي الضحاك الخارجي : يا أهل الشام ، قد أجّلناكم ثلاثاً ، فمن دخل فيما دخلنا فيه فله مالنا ، ومن أحبّ أن يتوجه حيث شاء من الأرض فليتوجّه آمناً. فمن أتاهم

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٤٤ ، ٢٤٥.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٥٢.


ألحقوه بهم ومن شخص لم يعرضوا له ، وخرجوا متوجّهين في كل وجه حتّى لم يبق بالكوفة أحد منهم. وأصبح عبد الله بن عمر فخرج متوجهاً إلى الواسط.

فبعث الضحاك حسناء الشيباني إلى دار الامارة فأصاب خزائن كثيرة سلاحاً وأموالاً.

فلما كان أول يوم من شهر رمضان استخلف الضحاك على الكوفة رجلاً يدعي ملحان وسار هو بجمعه حتّى نزل بواسط على عبد الله بن عمر ، فقاتله ستة أشهر أو سنة حتّى أرسل ابن عمر إليه فصالحه على أن يعطيه ما يُرضيه ويقرّه على عمله ، وأتى ابن عمر إلى الضحاك حتّى صلّى خلفه (١).

محمّد بن عبد الله الحسني :

يظهر من خبر الأموي الزيدي : أنّ عبد الله المحض ابن الحسن المثنّى ابن الحسن المجتبى عليه‌السلام كان لا يخلو من دعوى المهدوية ، بأن قال : دعتني عمّتي فاطمة بنت علي عليه‌السلام فقالت لي : يا بُني إنّ أبي عليّ بن أبي طالب كان يذكر أنّ أصغر ولده يدرك المهدي! وأنا أصغر ولده! وقد كان يصف علامات فيه ولست أراها في أحد غيرك! فإن كنت أنت ذاك فاشفني من بني أُمية (٢)!

هذا ما نسب على لسان عبد الله المحض إلى عمّة أبيه الحسن المثنّى : فاطمة بنت علي عليه‌السلام ، اللهمّ إلّاأن يكون في الخبر سقط أو حذف.

وأما ابنه محمّد فامّه هند بنت أبي عُبيدة بن عبد الله بن زمعة من سادات قريش وأجوادها (٣) ولذا زوّجها عبد الملك بن مروان لابنه عبد الله ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٤٥ ، ٢٤٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٦٣.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٩٨.


فمات عنها (١) فرجعت هند بميراثها منه. فقال عبد الله بن الحسن لأُمه فاطمة بنت الحسين : اخطبي لي هنداً. فقالت له : أتطمع في هند وقد ورثت من عبد الله بن عبد الملك ما ورثته ، وأنت تَرِب لا مال لك؟! إذن تردّك! فتركها ، وخطبها هو من أبيها فتزوّجها وأقام عندها سبعاً ثم غدا على امّه فاطمة في غير ثيابه الأُولى! فقالت له : يا بُنيّ من أين لك هذا؟ قال : من عند التي زعمتِ أنها تردّني (٢)!

وكأنّها كانت تدّعي عليه الحمل منه ولا تلد إلى أربع سنين! وكأنه أراد أن يتزوّج عليها فاتّهمها أنها تدّعي عليه الحمل منه خوفاً من أن يتزوج عليها ، فشكاها بذلك إلى أبيها! فجاءها أبوها أبو عبيدة وقال لها : أنت متحابلة (تدّعين الحبل) على عبد الله بن الحسن فرقاً أن يتزوّج عليك؟! فسدّت بوجهه باب بيتها وقالت له : يا أبه أنا لا أكذب عليه فوربّ الكعبة البيت الحرام إني لحامل! ثمّ ولدت ابنها على رأس أربع سنين (٣)! فسمّاه محمّداً ، وكان ذلك في سنة مئة للهجرة ، على عهد عمر بن عبد العزيز ، ففرض له شرف العطاء.

وكانت فاطمة بنت الحسين عليه‌السلام أُم عبد الله هي التي تقبّل نساء بنيها وأهل بيتها حتّى قال لها بنوها : نخشى أن نُسمّى بني القابلة! فقالت لهم : إنَّ لي طلبة لو ظفرت بها لتركت ما ترون! فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها محمّد بن عبد الله قالت لهم : يا بَنيّ إني كنت أطلب أمراً وظفرت به! فلست بعائدة بعد اليوم إن شاء الله تعالى!

وذلك أنّه ولد محمّد وبين كتفيه خال أسود عظيم كهيئة البيضة (٤) كخاتم النبوة!

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٩٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٦٠.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٥٩.

(٤) مقاتل الطالبيين : ١٦٠ ـ ١٦١.


وجاءت فاطمة بنت علي عليه‌السلام فنظرت إليه وأدخلت إصبعها في فيه فإذا عقدة في لسانه! فكان الولد يكون عندها أكثر مما يكون عند أُمه ، حتّى تخرّج من الكتّاب.

فعملت طعاماً وأرسلت إلى نفر من أهل بيتها فتغدّوا عندها ثمّ أخرجت سفطاً مختوماً وقالت لهم :

إنّ أخي الحسين عليه‌السلام كان قد دفع إليّ هذا السفط بخاتمه ولا أدري ما فيه ولكني إذا وُلد الغلام أرى أن أدفعه إليه ، ثمّ دفعت السفط إليه بمحضر القوم ، فقال الناس فيه كأنه المهدي!

ثمّ أخذه أبوه وأخاه إبراهيم إلى عبد الله بن طاووس بن كيسان اليماني وقال له : حدّثهما لعلّ الله أن ينفعهما! ولقى محمّد نافعاً ابن عمر! وسمع منه وكذا أبا الزياد ، وحدّث عنهما وعن غيرهما قليلاً (١).

وكان يروى أنّه يملك رجل اسمه اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واسم أُمّه على ثلاث أحرف أولها هاء وآخرها دال! فيطبّقون ذلك على محمّد بن عبد الله بن الحسن وأُمّه هند! فيسمى بالمهدي! وهو يتوارى ويراسل الناس بالدعوة إلى نفسه (٢).

ثمّ رووا عن أبي هريرة قوله : إنّ المهدي اسمه محمّد بن عبد الله : وزادوا : وفي لسانه رتّة! ذلك أنّه كان يتلجلج الكلام في صدره فيضرب بيده عليه ليستخرج منه الكلام (٣)!

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٦٣.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٦٢.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٦٤ ، فهذا أول ما زيد في الحديث النبوي : واسم أبيه اسم أبي! ليصدق عليه!


وشاع ذلك حتّى لهج العوام يسمونه المهدي منذ أن كان غلاماً ، فكان يستخفي ويتغيّب ، وأمّلوه ورجوه وسُرّوا به وأحبّوه وجعلوا يتذاكرونه في مجالسهم وتباشرت «الشيعة» به (١).

واعتزل في البصرة أبو حذيفة واصل بن عطاء البصري عن شيخه أبي الحسن البصري في القول بالمنزلة بين المنزلتين الإيمان والكفر ، وفي آراء وأقوال اخر ، ثمّ أرسل رسلاً إلى الناس داعين إلى مقالته ، وقدم منهم أبو أيوب بن الأدبر البصري رسولاً إلى المدينة داعياً إلى مقالته ، ودعا إليه محمّد بن عبد الله بن الحسن في جمع من آل أبي طالب فاستجابوا له (٢). وكانوا ينبزون المعتزلة بالقدرية ، فكانوا يقولون في محمّد إنّه قدري ، وذكر ذلك لأخيه موسى بن عبد الله فقال : لا ، وإنّما كان يشتمل الناس (٣) أي يستميلهم إليه ، وإلّا فلم يكن معتزلياً ولا قدرياً واقعاً.

دعوى محمّد بن عبد الله المهدوية :

بدأت دعوة من دعا إلى محمّد بن عبد الله من أبيه عبد الله وهو ومن دعا إليه من أهله ، عقيب قتل الوليد بن يزيد الأحول الناقص والفتن بعده (٤) فعند مقتل الوليد بن يزيد واختلاف كلمة بني مروان خرج دعاة بني هاشم إلى النواحي ، وكان أوّل ما يظهرونه فضل عليّ بن أبي طالب وولده وما لحقهم من القتل والخوف والتشريد (٥).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٦٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٦١.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٦٩.

(٤) مقاتل الطالبيين : ١٧٤.

(٥) مقاتل الطالبيين : ١٥٨.


فروى الأموي الزيدي عن المدائني بسنده قال : إنّ نفراً من بني هاشم منهم عبد الله بن الحسن وابناه محمّد وإبراهيم ، ومحمّد بن عبد الله بن عمر بن عثمان ، وإبراهيم الإمام والسفّاح والمنصور وصالح بن علي ، اجتمعوا بالأبواء في طريق مكّة.

فقال لهم صالح بن علي : إنكم القوم الذين إليهم تمتد أعين الناس ، وقد جمعكم الله في هذا الموضع ، فاجتمعوا على بيعة أحدكم ثمّ تفرقوا في الآفاق وادعوا الناس ، لعلّ الله أن ينصركم ويفتح عليكم.

وقال أبو جعفر المنصور : لمَ تخدعون أنفسكم ، والله لقد علمتم أنّ الناس ليسوا أسرع إجابة ولا أميل أعناقاً إلى أحد منهم إلى هذا الفتى وأشار إلى محمّد بن عبد الله! فصدَّقوه وبايعوه ، ثمّ لم يجتمعوا إلى أيام مروان بن محمّد ، ثمّ اجتمعوا يتشاورون فجاء رجل إلى إبراهيم فشاوره بشيء فقام وأشار إلى من معه من العباسيين فقاموا معه.

ثمّ تبيّن أنّ الرجل قد قال لإبراهيم الإمام : لقد اخذت لك البيعة بخراسان ، وجُمّعت لك الجيوش!

فخافه عبد الله بن الحسن وكتب إلى مروان بن محمّد يبرأ إليه من إبراهيم الإمام وما قد يُحدث (١).

وروى الأموي الزيدي عن النميري البصري بثلاثة طرق قال : لمّا اجتمع بنو هاشم قام فيهم عبد الله بن الحسن فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : إنكم «أهل البيت» قد فضّلكم الله بالرسالة واختاركم لها ، وأكثركم بركة ـ يا ذرية محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بنو عمه وعترته فأنتم أولى الناس بالفزع في أمر الله ... وأنتم ترون كتاب الله معطّلاً ، وسنة نبيّه متروكة ، والباطل حياً والحق ميتاً! فقاتلوا لله في

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٧٣ ـ ١٧٤.


الطلب برضاه بما هو أهله قبل أن ينزع منكم اسمكم وتهونوا عليه كما هانت عليه بنو إسرائيل وقد كانوا أحبّ خلقه إليه! وقد علمتم أنّا لم نزل نسمع أنّ هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً خرج الأمر من أيديهم! وقد قتلوا صاحبهم (الوليد بن يزيد) فهلمّوا نبايع محمّداً فقد علمتم أنّه «المهدي».

فقالوا : لم يجتمع أصحابنا بعد ، ولسنا نرى أبا عبد الله جعفر بن محمّد!

فقال لهم عبد الله بن الحسن : لا ترسلوا إلى جعفر! فإنّه يفسد عليكم! فأبوا عليه ذلك ، فأرسل إليه فأبى أن يأتي! فقام وقال : أنا آت به الساعة! ولم يذكر الخبر موضع اجتماعهم إلّاأ نّه قال : فخرج بنفسه إلى خباء الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب ، وكان أبو عبد الله جعفر عنده فقام له وصدّره لأنّه أسنّ منه! ثمّ خرج به إلى جمعهم وأوسع له عبد الله إلى جانبه ثمّ قال له : قد علمت ما صنع بنا بنو أُميّة ، وقد رأينا أن نبايع لهذا الفتى!

فقال عليه‌السلام : لا تفعلوا فإنّ الأمر لم يأت بعد!

فغضب عبد الله وقال : لقد علمتَ خلاف ما نقول ، ولكنّه يحملك الحسد لابني على خلاف ذلك!

فروى عن المدائني بسنده قال : إنّ جعفراً عليه‌السلام قال لعبد الله : والله إنّ هذا الأمر ليس إليك ولا إلى ابنيك. وكان السفّاح والمنصور أمامه فأشار إلى السفّاح وقال : وإنّما هو لهذا ثمّ لهذا ثمّ لولده من بعده ، لا يزال فيهم حتّى يؤمّروا الصبيان ويشاوروا النساء!

فقال عبد الله : يا جعفر! والله ما أطلعك الله على غيبه! وما قلت هذا إلّا حسداً لابني!

فقال : لا والله ما حسدت ابنك ، وإنّ هذا ـ وأشار إلى المنصور ـ يقتله على أحجار الزيت ، ثمّ يقتل أخاه بعده بالطفوف وقوائم فرسه في الماء! ثمّ قام مغضباً يجرّ رداءه. وتفرّق الناس ولم يجتمعوا.


فتبعه المنصور وقال له : أتدري ما قلت يا أبا عبد الله! قال : إي والله أدريه وإنّه لكائن!

فكان المنصور يقول : فانصرفت لوقتي ورتّبت أعمالي وأُموري!

وكان المنصور قد ارتدى رداءً أصفر ، وأخذ الصادق عليه‌السلام وهو خارج بيد عبد الله بن جعفر بن المسور بن مخرمة القرشي وقال له : أرأيت صاحب الرداء الأصفر؟ يعني المنصور ، ثمّ قال : فوالله إنّا نجده يقتل محمّداً (١)!

وحجّ المعتزلة يدعون إلى محمّد :

مرّ الخبر عن المسعودي أنّ يزيد بن الوليد الأحول الناقص كان يذهب إلى ما يذهب إليه المعتزلة في الأُصول الخمسة ، وأ نّه هلك بعد الحج لسنة (١٢٦ ه‍). ثمّ يظهر من خبر رواه الكليني والطوسي : أنّ الصادق عليه‌السلام حجّ لسنة (١٢٧ ه‍) وحجّ رؤساء المعتزلة : واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وحفص بن سالم مولى يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري الذي ولّاه الخليفة اللاحق العراق ، وذلك لأوّل سنة بعد قتل الخليفة المعتزلي ، وبعد أن دخل محمّد بن عبد الله الحسني معهم في الاعتزال ، وبعد أن زادوا في الحديث النبوي : «يواطئ اسمه اسمي» : «واسم أبيه اسم أبي» ليواطئ اسم محمّد بن عبد الله.

فدخلوا على الصادق عليه‌السلام وأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد فقال : قَتل أهل الشام خليفتهم (الوليد بن يزيد) وضرب الله بعضهم ببعض وشتّت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين وعقل ومروءة ، وهو موضع ومعدن للخلافة ، وهو محمّد بن عبد الله بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ثمّ نظهر أمرنا معه وندعو

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٧١ ـ ١٧٣.


الناس إليه ، فمن بايعه كنّا معه وكان معنا ، ومن اعتزلَنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغيه وردّه إلى الحق وأهله.

وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك فإنّه لا غنى بنا عن مثلك ، لفضلك وكثرة «شيعتك»!

فلمّا فرغ التفت أبو عبد الله إلى سائرهم وقال لهم : أكلّكم على مثل ما قال عمرو؟ قالوا : نعم.

فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ قال : إنّما نسخط إذا عصي الله ، فإذا اطيع رضينا. ثمّ التفت إلى عمرو وقال له : يا عمرو! أخبرني لو أن الأُمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤونة ، فقيل لك : ولِّها من شئت. مَن كنت تولّي؟ قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين. قال : بين كلّهم؟ قال : نعم. قال : بين فقهائهم وخيارهم؟ قال : نعم. قال : قريش وغيرهم؟ قال : نعم. قال : العرب والعجم؟ قال : نعم.

قال : يا عمرو! أخبرني أتتولى أبا بكر وعمر أو تتبرّأ منهما؟ قال : أتولّاهما؟ قال : يا عمرو ، إن كنت رجلاً تتبرّأ منهما فإنّه يجوز لك الخلاف عليهما ، أما إن كنت تتولّاهما فقد خالفتهما! فقد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحداً! ثمّ ردّها أبو بكر عليه ولم يشاور أحداً! ثمّ جعلها عمر شورى بين ستة فأخرج منها الأنصار غير أُولئك الستة من قريش! ثمّ أوصى الناس فيهم بشيء ما أراك ترضى به أنت ولا أصحابك! قال : وما صنع؟ (كأنه لا يدري) قال : أمر صُهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، وأنّ أُولئك الستة يتشاورون ليس فيهم سواهم أحدٌ إلّاابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء ، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيام قبل أن يفرغوا ويبايعوا أن تُضرب أعناق الستة جميعاً! وإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيّام وخالف اثنان أن تُضرب أعناق الاثنين! أفترضون بذاك فيما تجعلون من الشورى في المسلمين؟!


قالوا : لا ، قال : يا عمرو ، دع ذا.

أرأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعوا إليه ثمّ اجتمعت الأُمّة لكم ولم يختلف عليكم فيها رجلان ، فأفضيتم إلى المشركين الذين لم يسلموا ولم يؤدّوا الجزية ، أفعندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون به فيهم بسيرة رسول الله في المشركين في حربه؟ قالوا : نعم! قال : فماذا تصنعون؟ قالوا : ندعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية. قال : وإن كانوا أهل الأوثان وعبدة النيران والبهائم وليسوا بأهل الكتاب؟ قالوا : سواء!

قال : فأخبرني عن القرآن فاقرأ منه : (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) فقرأ : (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (١)) فقال الصادق عليه‌السلام : فاستثنى الله واشترط : (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) أفهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟ قال : نعم! قال : فعن مَن أخذت هذا؟ قال : من الناس؟ قال : فدع ذا.

ثمّ قال له : ما تقول في الصدقة؟ فقرأ الآية : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ (٢)) إلى آخرها. فقال الصادق عليه‌السلام : نعم فكيف تقسّمها بينهم؟ قال : أقسّمها على ثمانية أجزاء فاعطي كلّ جزء من الثمانية جزءاً منها. فقال عليه‌السلام : فإن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف رجلاً واحداً أو رجلين وثلاثة ، جعلت لهذا الواحد مثلما تجعل للعشرة آلاف؟! قال : نعم!

فقال : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقسم صدقة البوادي في أهل البوادي وصدقة الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسّمها فيهم بالسوية وإنّما يقسّمها على قدر ما

__________________

(١) التوبة : ٢٩.

(٢) التوبة : ٦٠.


يحضره منهم وعلى ما يرى. فإن كان في نفسك شيء في ما قلت فإنّ فقهاء أهل المدينة (دون مكة) ومشيختهم لا يختلفون في أنّ رسول الله كان يصنع ذلك.

ثمّ أقبل عليه وقال له : يا عمرو اتقِ الله! وأنتم أيّها الرهط فاتقوا الله.

ثمّ قال : إنّ أبي كان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنّة رسوله ، وقد حدّثني : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه ؛ فهو ضالّ متكلّف (١).

وهذا آخر خبر أبتر لا يخبر عن أي جواب أو ردّ فعل لهم عليه أو سكوتهم وخروجهم من عنده ، وليس فيه أنّه عليه‌السلام أخبرهم اليوم أو أخبر عمراً بمقتل محمّد بن عبد الله.

إلّاأنّ ذلك يظهر من خبرين رواهما الأموي الزيدي عن النميري البصري عن عثمان بن صخر الثقفي : أنّ أبا رجاء صاحب الحمّام نقل له عن عمرو بن عبيد قوله له : إنّ أمرنا (مع محمّد بن عبد الله) ينفسخ وإنّ جهادنا معه يذهب باطلاً! فانطلق معه إليه فقال له : يا أبا عثمان! ما يقول أبو رجاء؟ قال : صدق! فقلت : وكيف تقول ذلك؟ قال : لأنه المقتول بالمدينة!

ونقل عنه عن محمّد بن الهذيل قال : سمعت من أصحابنا (المعتزلة) من لا احصي يذكرون : أنّ عمرو بن عبيد كان يقول : كيف يكون محمّد بن عبد الله هو المهدّي وهو يُقتل (٢)؟!

وعليه فهذا هو السرّ في اعتزال المعتزلة عن محمّد بن عبد الله الحسني بعد إقبالهم عليه لإقباله عليهم.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥٤ ، والتهذيب ٦ : ١٤٨.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٦٦.


بقية أخبار الخوارج :

في سنة (١٢٨ ه‍) خرج في أذربيجان بسطام بن ليث التغلبي في نيف وأربعين رجلاً ، فقدم إلى بلد ثمّ أتى قردى ثمّ انصرف إلى نصيبين ثمّ عاد إلى أرمينية وأذربيجان وهو في نحو مئتي رجل ، وعليها عاصم بن زيد فوجّه إليه أخاه عبد الملك في ستّة آلاف ، فهزمهم بسطام بعد أن قتل رؤساءهم!

ثمّ سار إلى شهرزور ثمّ توجّه إلى العراق فلقي عزيز بن أبي المتوكل في نحو من ألفين فهزمهم بسطام! فبلغ خبره إلى الضحّاك بالعراق فبعث إليه شجرة الشيباني فقتل بسطام وعامّة أصحابه وعاد الشجرة (١).

ثمّ سار الضحاك سنة (١٢٨ ه‍) إلى الموصل فقاتل عاملها واستولى عليها ، وبلغ ذلك إلى مروان بن محمّد وكان قد جعل ابنه عبد الله على الجزيرة فكتب إليه أن يخرج لحرب الضحاك إلى نصيبين فخرج عبد الله إليها ، وسار إليه الضحاك فحاصره فيها نحواً من شهرين (٢).

وكان الضحاك قد جعل على الكوفة المثنّى بن عمران العائذي القرشي. ووجه مروان بن محمّد في سنة (١٢٨ ه‍) يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري والياً على العراق. فسار حتّى نزل هيت ، وبلغ خبره إلى المثنّى العائذي فوجّه إليه منصور بن جمهور فيمن معه من الخوارج حتّى نزل الأنبار ، وسار ابن هبيرة إلى عين التمر والتقوا في الغمر فاقتتلوا حتّى هزم المنصور وأصحابه ، وأقبل ابن هبيرة إلى الروحاء فخرج إليه المثنّى العائذي فقاتله ابن هبيرة فقتل منهم كثيرين حتّى هزمهم ، فخرجوا من الكوفة ، ومضى منصور بن جمهور بجمعه إلى السند.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٤٧.


وأقبل ابن هبيرة حتّى نزل النخيلة فخرج إليه عبيدة بن سوار التغلبي فاقتتلوا قتالاً شديداً حتّى قتل عبيدة ومن معه من الخوارج.

ثمّ سار ابن هبيرة إلى واسط وعليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والياً للضحّاك الخارجي ، فوثب أهل المدائن فسدّوا عليه باب قصره باللبن ، فدخل ابن هبيرة عليه القصر وأرسله إلى مروان بن محمّد في حرّان فحبسه بها (١).

ابن هبيرة والإمام الصادق عليه‌السلام :

وسخط ابن هبيرة على مولاه رفيد حتّى حلف عليه ليقتلنّه! فهرب منه إلى الحجاز وجاز الناس إلى الصادق عليه‌السلام فأعلمه خبره. فقال له : انصرف واقرأه منّي السلام! وقل له : إنّي قد أجرت عليك مولاك رفيداً فلا تهجه بسوء! قال رفيد : فقلت له : جعلت فداك! شاميّ خبيث الرأي! فقال : اذهب إليه وقل كما أقول لك!

قال رفيد : فأقبلت حتّى كنت في بعض البوادي فاستقبلني أعرابي وقال لي : إني أرى وجه مقتول! وطلب يدي فرآها وقال : يد مقتول! ثمّ قال : أبرز رجلك ، فأبرزت له رجلي فرآها وقال : رجل مقتول! ثمّ قال : أبرز جسدك ففعلت فنظر وقال : جسد مقتول! ثمّ قال لي : أخرج لي لسانك! ففعلت فلمّا رآه قال : لا بأس عليك! فإنّ في لسانك رسالة لو كانت إلى الجبال الرواسي لانقادت لك! فمضيت.

حتّى وقفت على باب ابن هبيرة بالكوفة واستأذنت عليه ، فلمّا دخلت عليه قال : أتتك بحائن رجلاه! يا غلام السيف والنطع! ثمّ أمر بي فكُتّفت وشُدّ رأسي وقام عليَّ السياف ليضرب عنقي! فقلت له : أيّها الأمير! إنك لم تظفر بي عَنوة ، وإنّما جئتك من ذات نفسي ، وهاهنا أمر أذكره لك ثمّ أنت وشأنك! فاخلني!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.


فأمر من حضر فخرجوا فقلت له : إنّ جعفر بن محمّد يقرئك السلام ويقول لك : قد أجرت عليك مولاك رفيداً فلا تهجه بسوء! فقال : الله! لقد قال لك جعفر هذه المقالة وأقرأني السلام؟!

فحلفت له ، فردّدها عليَّ ثلاثاً ، ثمّ حلّ أكتافي وقال : لا يقنعني منك حتّى تفعل بي ما فعلت بك! قلت : ما تنطلق يدي ولا تطيب به نفسي! فقال : والله ما يقنعني إلّاذاك! ففعلت به ما فعل بي ثمّ أطلقته.

فناولني خاتمه وقال : اموري في يدك فدبّر فيها ما شئت (١).

ميلاد الكاظم عليه‌السلام :

ولد الصادق عليه‌السلام في (٨٣ ه‍) ولم يؤرّخ متى تزوج إلّاأ نّه كان قد أدرك الزواج إذ دخل على الباقر عليه‌السلام ابنٌ لعكاشة بن محصن الأنصاري ورأى الصادق عليه‌السلام قد أدرك الزواج ولم يتزوج فقال للباقر عليه‌السلام : لِمَ لا تزوّج أبا عبد الله (كذا) فقد أدرك التزويج؟ وكان بين يدي الباقر صُرّة مختومة فيها دنانير ، فقال : سيجيء نخّاس من البربر ينزل دار ميمون فنشتري له بهذه الصرة جارية. ثمّ أمر رجلاً من أصحابه بذلك فاشتراها بالصرّة وفيها سبعون ديناراً ، وهي حميدة البربرية. وفي سنة (١٢٨) أو (١٢٩) رزق منها ابنه موسى عليه‌السلام في الأبواء (٢).

نهاية الضحاك الخارجي مع مروان :

وسار مروان بن محمّد إلى نصيبين ، فرحل من عين الوردة إلى الأكدر حتّى نزل على فرسخين من عسكر الضحاك قريباً من صلاة الظهر. ثمّ أقبل مروان

__________________

(١) أُصول الكافي ١٠ : ٤٧٣.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٧٦.


فالتقوا فاقتتلوا حتّى غابت الشمس وقتل الضحاك في المعركة ولا يعلم به وحجز بينهم الليل ورجع الفريقان إلى معسكرهم ، وقتل منهم نحو ستة آلاف أكثرهم من الخوارج وقتل منهم ثمانمئة امرأة!

وأصبح مروان فنصب راية أمان ودعا إليها ، وخرج الخيبري من قواد الخوارج ونادى فيهم : من أراد الموت والجنّة فلينتدب معي ، فانتدب إليه ثلاثمئة وخمسون فارساً فحملوا على مروان في القلب ، وشدّ رجل منهم على مروان فضربه على عاتقه وضرب مروان على يده فولّى هارباً!

وهاجت يومئذ ضبابة شديدة حتّى ما كان المرء يرى سوطه أو عرف فرسه! ومضى فلّ مروان في كل وجه. وكان ابنه عبد الله قد التحق به من حصن نصيبين فجعله على ميمنته فثبت فيها ، وإسحاق بن مسلم على ميسرته وهما لا يعلمان حال مروان. وكان في حرس مروان رجل بربري يقال له : سليمان بن مسروح فقام ونادى في العبيد : من اتبعني فهو حر! فاجتمع إليه ثلاثة أو أربعة آلاف رجل من العبيد وغيرهم ، فقتل الخيبري الخارجي ، وانجلت الضبابة عن مجنبتي مروان. وعلموا بقتل الضحاك فخرج مولى لمروان إليه حتّى أخبره خبره فرجع مروان إلى عسكره.

واجتمع فلّ الضحاك والخيبري على شيبان اليشكري الهمْداني فارتحل وتابعوه راجعاً حتّى نزل زامين من أرض الموصل وخندقوا على أنفسهم ، فتابعه مروان فقاتلهم عشرة أشهر ثمّ خرج شيبان إلى شهرزور ثمّ إلى ماه ثمّ على الصيمرة ثمّ كرمان ثمّ جزيرة لانت في بحر فارس بين عمان والبحرين ثمّ خرج إلى عمان فقاتلوه فقتل بها (١) سنة (١٢٩ ه‍).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٤٩ ، ٢٥٠ و ٢٥٢. وبحر فارس / الخليج الفارسي.


وكان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيّار ومعه أخواه الحسن ويزيد خرجوا من الكوفة إلى اصطخر ، فخرجوا بها في سنة (١٢٩ ه‍) فوجّه إليه ابن هبيرة : عامر بن ضبارة المرّي الغطفاني فلقيه باصطخر فهزمه ، فخرج إلى خراسان ، وكان أبو مسلم الخراساني قد ظهر بها فحبسه واخوته (١).

الإباضية من حضرموت إلى مكة :

في سنة (١٢٩ ه‍) اجتمعت الإباضية من الخوارج على عبد الله بن يحيى الأعور الكندي في حضرموت ، وتسمّى طالب الحق ، وكان على حضرموت إبراهيم بن جبلة الكندي فأخرجوه بغير قتال ، وكان أكثر أصحابه من أهل البصرة ، ثمّ خرج إلى صنعاء وهو في ألفين منهم ، وكان على صنعاء القاسم بن عمر الثقفي في نحو ثلاثين ألفاً ، فالتقوا في الجالح من قرى أبين فاقتتلوا قتالاً شديداً وانهزم القاسم! ودخل الأعور صنعاء فأخذ الخزائن والأموال وأقام أشهراً.

ثمّ وجّه أبا حمزة المختار بن عوف الأزدي من أزد البصرة في عشرة آلاف إلى مكة وأمره أن يقيم بها ، وكان على مكة والمدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك ، ومشى بينهم عبد الله بن الحسن المثنّى حتّى أخذ عليهم أن لا يحدثوا حدثاً حتّى ينقضي أمر الموسم ، فأجابوا.

فلمّا عادوا من المواقف إلى مكة خطب أبو حمزة ، وكان جلّ أصحابه شباب فقال لهم :

يا أهل مكة! تعيّروني بأصحابي تزعمون أنهم شباب؟! وهل كان أصحاب رسول الله إلّاشباباً؟! أما إني عالم بتتابعكم فيما يضرّكم في معادكم ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٥٢ ، ٢٥٣ و ٢٥٥ وقال : كان ذلك في رمضان سنة (١٢٩ ه‍) وفي سنة (١٣٠ ه‍) قتله وخلّى عن أخويه.


ولولا اشتغالي بغيركم ما تركت الأخذ على أيديكم! نعم ، هم شباب مكتهلون في شبابهم ، غبيّة عن الشرّ أعينهم ، بطيّة عن الباطل أرجلهم ، فانظر إليهم في جوف الليل منثنية أصلابهم بمثاني القرآن ، إذا مرّ أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقاً إليها ، وإذا مرّ بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأنّ زفير جهنّم في آذانهم ، قد وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم ، وقد أكلت الأرض جباههم وأيديهم ورُكبهم. مصفرّة ألوانهم ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام ، ومستقلين ذلك في جنب الله موفون بعهد الله منجزون لوعد الله ، إذا رأوا سهام العدوّ قد فُوِّقت ورماحهم قد اشرعت وسيوفهم قد انتُضيت ، وأبرقت الكتيبة وأرعدت بصواعق الموت ، استهانوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله ، ومضى الشباب منهم قدماً .. فكم من عين في منقار طائر بكى صاحبها من خشية الله ، وكم من كفّ قد بانت بمعصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده في جوف الليل لله ، وكم من خدّ رفيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد! فرحمة الله على تلك الأبدان وأدخل أرواحها الجنان.

ثمّ قال : الناس منّا ونحن منهم! إلّاعابد وثن ، أو كفرة أهل الكتاب ، أو سلطاناً جائراً أو شادّاً على عضده! أيها الناس! سألناكم عن ولاتكم هؤلاء ، فقلتم فيهم الذي نعرف والله ، قلتم : أخذوا المال من غير حلّه فوضعوه في غير حقّه ، وحازوا في الحكم واستأثروا بحقوقنا وفيئنا فجعلوه دولة بين أغنيائهم وذوي شرف الدنيا منهم ، وجعلوا مقاسمنا وحقوقنا في مهور النساء وفروج الإماء!

فقلنا لكم : تعالوا إلى هؤلاء الذين ظلمونا وظلموكم وجاروا في الحكم فحكموا بغير ما أنزل الله ، فقلتم : لا نقوى على ذلك ، وددنا أنّا أصبنا من يكفينا! فقلنا : نحن نكفيكم ثمّ الله راع علينا إن ظفرنا لنعطينّ كل ذي حقّ حقّه.


وجئنا فاتّقينا الرماح بوجوهنا والسيوف بصدورنا ، فعرضتم دونهم فقاتلتمونا! فوالله لو قلتم : لا نعرف الذي تقولون ولا نعلمه ؛ لكان أعذر لكم ، مع أنّه لا عذر للجاهل! ولكن أبى الله إلّاأن ينطق بالحق على ألسنتكم ليأخذكم به في الآخرة (١).

الإباضية من مكّة إلى المدينة :

في آخر سنة (١٢٩ ه‍) صدر الناس من الحج ، فخرج معهم واليها الأموي عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وكتب إلى مروان بن محمّد بخذلان أهل مكّة ، وكان مروان قد جعل على المدينة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز الأموي فكتب إليه أن يوجّه جيشاً إلى مكة لحرب أبي حمزة الإباضي ، فاستعمل عبد العزيز بن عمر : عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان الأموي وجعل راية قريش مع إبراهيم بن عبد الله بن مطيع العدوي وخرجوا.

وبلغ الخبر إلى أبي حمزة الإباضي فقدّم بلَج بن عُقبة من أزد البصرة في ثلاثين ألف فارس ، واستخلف على مكّة أبرهة بن الصبّاح الحميري ، وتقدّم المدنيون إلى قُديد بقرب مكة فالتقوا فيها بالخوارج ، فقال لهم بلج الأزدي : خلّوا طريقنا نأتي هؤلاء الذين «بغوا» علينا وجاروا في الحكم ، ولا تجعلوا حدّنا بكم فإنّا لا نريد قتالكم. فأبى المدنيون وقاتلوهم فانهزموا وقد قتل من قريش فقط ثلاثمئة رجل.

ولحقهم أبو حمزة فمضى حتّى دخل المدينة يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر صفر سنة (١٣٠ ه‍).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٥١ ـ ٢٥٢.


وسار بلَج الأزدي يريد الشام لحرب مروان ، فأرسل مروان : محمّد بن عطية السعدي في أربعة آلاف لقتالهم ثمّ الأعور باليمن! فأقبل ابن عطية فلقى بلَجاً بوادي القرى فاقتتلوا ، فقُتل بلج وعامة أصحابه وانهزموا إلى المدينة ولحقهم ابن عطية يقتل منهم حتّى دخل المدينة. وكان أبو حمزة الإباضي عاد إلى مكّة ومعه خمسة عشر ألفاً بالأبطح ، فسار ابن عطية إلى مكّة وفرّق خيله على أبي حمزة فأتته خيل من أسفل مكّة وخيل من منى وأتاه هو من أعلى الثنية ، فاقتتلوا حتّى كاد أن ينتصف النهار ، وخرجت عليهم الخيول من بطن الأبطح فألجؤوهم إلى معسكرهم وقتل أبرهة بن الصباح وأبو حمزة وقتل منهم مقتلة عظيمة.

وبلغ الخبر إلى عبد الله بن يحيى الأعور فسار في ثلاثين ألفاً إلى صعدة ، ونزل إليه ابن عطية إلى تَبالة فالتقوا فانهزم الأعور إلى جَرش ، وسار إليه ابن عطية فالتقوا واقتتلوا إلى الليل ، فلمّا أصبحوا نزل الأعور إليه في نحو ألف رجل من حضرموت فقاتلوا حتّى قتلوا وقُتل ابن الأعور وأرسل ابن عطية برأسه إلى مروان بالشام.

وسار ابن عطية إلى صنعاء ، فثار عليه يحيى السبّاق الحميري فأخذ الجَنَد فقاتلوه فانهزم إلى عدن فجمع إليه ألفين ، فسار إليه ابن عطية وقاتله حتّى قتله ومن معه وعاد ابن عطية إلى صنعاء. فخرج عليه بساحل البحر يحيى بن حرب الحميري ، فبعث إليه ابن عطيّة أبا امية الكندي فقتل يحيى ومن معه. وكان الأعور قد استخلف على حضرموت عبد الله بن سعيد خليفة في عدد كثير ، فصبّحهم ابن عطيّة فقاتلهم حتّى الليل ثمّ أتاه كتاب مروان يأمره بموسم الحج ، فصالحهم وخلّف عليهم ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد ، وانطلق لموسم الحج لسنة (١٢٩ ه‍) في خمسة عشر رجلاً من وجوه أصحابه وأقبل عجِلاً حتّى نزل بقرية شبام من أودية بني مراد فبيّتوهم فقتلوهم!


وبلغ خبرهم إلى عبد الرحمن بن يزيد فأرسل عليهم شعيب البارقي في خيل وأمره أن يقتل من وجد! فقتل الرجال والأطفال وبقر بطون النساء ونهب الأموال وعقر النخل وأحرق القرى وانصرف إلى عبد الرحمن (١)!

مروان بن محمّد ومحمّد الحسني :

روى الأموي الزيدي عن النميري البصري بسنده عن أبي العباس الفلسطيني قال : قلت لمروان بن محمّد : خذ محمّد بن عبد الله بن الحسن ، فإنّه يدّعي هذا الأمر ويتسمّى بالمهدي. فقال : ما هو بالمهدي ، ولا هو من بني أبيه وإنّه لابن أُم ولد!

وبعث إلى عبد الله بن الحسن بمال واستكفّه! وأوصى عامله بالحجاز (؟) أن لا يعرض لمحمّد بطلب ولا إخافة ، إلّاأن يستظهر حرباً أو شقاً لعصا. وكان المال عشرة آلاف دينار وقال له : اكفف عني ابنيك!

ولما بعث مروان : عبد الملك بن عطية السعدي لقتال الخوارج (الإباضية) ودخل المدينة سنة (١٢٨ ه‍) لم يلقه في أهل المدينة عبد الله بن الحسن وابناه محمّد وإبراهيم ، فكتب إلى مروان بذلك وأ نّه قد همّ بهم أن يقتلهم! فكتب مروان إليه : أن لا تعرض لعبد الله ولا لابنيه ، فليسوا بأصحابنا الذين يظهرون علينا أو يقاتلونا ... وإن استتر (محمّد) منك بثوب فلا تكشفه عنه ؛ وإن كان جالساً على جدار فلا ترفع إليه رأسك!

فاتّفق أن اجتاز عبد الملك بن عطية بجناح مشرف على الطريق ، وكان فيه محمّد بن عبد الله الحسني فاطلع عليه من خوخة ، ورآه بعض من مع ابن عطية

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٥٥ ـ ٢٥٧.


فقال له : ارفع رأسك فانظر إلى محمّد بن عبد الله بن الحسن! فطأطأ رأسه وأجابه : إنّ أمير المؤمنين (مروان بن محمّد) قال لي : إن استتر منك بثوب فلا تكشفه ، وإن كان جالساً على جدار فلا ترفع إليه رأسك! ومضى لسبيله (١).

جابر الجعفي ، وابن هُبيرة وقحطبة :

مرّ خبر الكليني عن رفيد مولى يزيد بن هُبيرة الوالي الأموي على العراق ، وأ نّه كيف رحّب برسالة الإمام الصادق عليه‌السلام إليه وأ نّه سلّم رُفيداً خاتمه وتدبير اموره. ويظهر أنّ الخبر عن ظفر بني العباس كان قد سرى من الصادق عليه‌السلام إلى رواته في الكوفة ومنهم جابر بن يزيد الجعفي فكان في مسامحة من الوالي ابن هبيرة يذكر بعض أطراف حديثه عنهم.

فقد نقل اليعقوبي عن حُميد بن زياد بن شبيب الطائي الملقّب بقحطبة ، عن أبيه قال : دخلت مسجد الكوفة في أيام بني أُميّة وعليَّ فرو غليظ! فرأيت فيه حلقة وفي صدر القوم شيخ يحدثهم ، فجلست إلى الحلقة وإذا به يذكر آخر أيام بني أُميّة! والذين يلبسون السواد ويخرجون عليهم! فقال : يكون ويكون إلى أن قال : ويخرج منهم رجل يقال له : قحطبة! ثمّ التفت إليّ وأشار وقال : كأ نّه هو هذا الأعرابي! ثمّ قال : ولو شئت أن أقول هو هو لقلت! قال قحطبة : فخفت على نفسي فتنحيّت ناحية حتّى انصرف فالتقيته فلمّا رآني أعاد قوله : لو شئت أن أقول إنّك أنت هو ، لقلت! فتركته وسألت عنه فقيل لي : هو جابر بن يزيد الجعفي (٢).

ولعلّ هذا كان عام (١٢٨ ه‍) وفيها توفي (٣) فلم يدرك العباسيين.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٤.

(٣) رجال النجاشي ١ : ١٢٨ برقم ٣٣٢.


قال اليعقوبي : وقدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم في خراسان ومع قحطبة من إبراهيم بن محمّد بن علي العباسي عهد وسيرة يعمل عليها ، فجهّزه أبو مسلم ووجّهه لقتال بني أُمية إلى جرجان (١) ومعه ابناه حُميد وحسن. وكان أبو مسلم أظهر دعوة بني هاشم (بني العباس) في شهر رمضان سنة (١٢٩ ه‍).

فلمّا بلغت دعوته هذه لإبراهيم الإمام ، إلى مروان بن محمّد ، أرسل رسلاً إلى الحُميمة يطلبون إبراهيم بن محمّد ، واشير لهم إلى إبراهيم في المسجد فأخذوا بأبواب المسجد ، فلمّا أتوا به إلى مروان ، ردّهم في طلب أبي العباس الذي لقّب بعد ذلك بالسفّاح فوجدوه قد تغيّب ، فأمر مروان بإبراهيم فغُطّي وجهه بقطيفة بل أدخل رأسه في جراب نورة حتّى مات. وكان معه في الحُميمة أبو جعفر المنصور ومعه ابناه جعفر ومحمّد وهما صبيّان ، وكان يلاعبهما ويداعبهما عثمان بن عروة بن محمّد بن عمّار بن ياسر. ودُفن إبراهيم الإمام في حرّان (٢).

ويظهر من سوى اليعقوبي أنّ ذلك كان في سنة (١٣٠ ه‍) بعد ما يلي من الحوادث :

حوادث خراسان :

قال خليفة : ظهر أبو مسلم في رمضان سنة (١٢٩ ه‍) فقبض على عبد الله بن معاوية الجعفري وأخويه (٣) وسار أبو مسلم في أكثر من عشرة آلاف إلى مرو ، إلى نصر بن سيار الليثي عامل مروان على خراسان ، وكان قد خرج عليه جُديع بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٥٥.


علي الأزدي الكرماني بمن معه من الأزد وتميم ، وأرسل ابنه علي بن جديع على نصر بن سيّار ، فاصطلح نصر معه على أبي مسلم فإذا فرغوا نظروا في أُمورهم.

فلمّا رأى أبو مسلم ذلك دسّ إلى الكرماني من خدعه فصالحه وبايعه وسار معه إلى نصر ، فاقتتلوا يومهم وليلتهم ، فلمّا أصبحوا غدا عليهم أبو مسلم من ورائهم ، فلمّا رأى نصر ذلك أرسل إلى أبي مسلم أنّه يبايعه! فسار إليه أبو مسلم في أكثر من عشرة آلاف ، وخرج نصر من باب آخر له ، وهرب أصحابه يميناً وشمالاً! فسار أبو مسلم من ليلته إلى موضع ثقل نصر بأقصى مرو فأخذ أهله وولده الصغار وهرب ولده الكبار. وانتهى نصر إلى سرخس ، فأرسل إليه أبو مسلم إبراهيم بن بسّام مولى بني ليث ، فأرسل أهل طوس إلى نصر أنهم معه ، فأرسل نصر إليهم ابنه تميماً في نحو ثلاثة آلاف مدداً لهم ، فأرسل أبو مسلم زياد بن شبيب الشهير بقحطبة الطائي فأتاهم من أعلى طوس ، فواجهه عاصم بن عُمير ومعه أكثر الناس فهزمه قحطبة ، وعاد عاصم إلى نصر فارتحل نصر إلى قومس ، ثمّ ارتحل من قومس إلى ناحية وكتب إلى يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده ، وذلك في سنة (١٣٠ ه‍) (١).

وقال اليعقوبي : غلب أبو مسلم على عسكر الكرماني وظهر أمره واستكثف جمعه ، وجدّ في قتال نصر بن سيّار الليثي مراراً حتّى فلّ جمعه وأظهر دعوة بني هاشم في رمضان سنة (١٢٩ ه‍) وضعف أمر نصر في خراسان فكتب إلى مروان يصف حاله وضعف من معه وقوة أبي مسلم وظهوره عليه.

فكتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة بالعراق أن يمدّ نصراً بالرجال ، فقعد يزيد ، فتابع مروان وأوعده ، فوجّه بابنه داود بن يزيد وهو حدث السنّ في

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٥٤ و ٢٥٥.


جيش عظيم ، فكتب مروان إلى ابن هبيرة ينكر عقده اللواء لابنه داود لحداثة سنّه ويأمره أن ينفد إليه من يحلّ لواءه ويعقده لعامر بن ضُبارة المُرّي على الجيش ، ففعل ابن هبيرة ذلك ونفّذ الجيش ، وجعل على مقدمته نُباتة بن حنظلة الكلابي.

وكان قد خرج بالأهواز سليمان بن حبيب بن المهلّب الأزدي ، فوجّه يزيد بن عمر بن هُبيرة نباتة بن حنظلة الكلابي ، فقاتل سليمان حتّى هزمه إلى فارس ، فوجّه يزيد بن عمر إليه عامر بن ضبارة المُرّي (١)!

وفي شهر رمضان أو شوال قدم أبو مسلم إلى نيشابور فوجّه عمّاله إلى البلدان : فاستعمل سُباع بن معمر الأزدي على سمرقند ، واستعمل أبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان ، وجعل أبا نصر مالك بن الهيثم الخزاعي على شرطه ، ووجّه محمّد بن الأشعث الخزاعي إلى الطبَسين (٢).

مقتل إبراهيم العباسي والإمام الصادق عليه‌السلام :

كان مروان قد أقام في حرّان ، وكان قد وكّل بطريق الشام إلى خراسان من يبحث عن رسل أبي مسلم إلى إبراهيم العباسي. قال المسعودي : وقوى أمر أبي مسلم وغلب على أكثر خراسان ، وضعف أمر نصر بني سيّار في خراسان فخرج عنها إلى الري ، فلمّا صار بين خراسان والري كتب كتاباً إلى مروان يذكر فيه خروجه من خراسان ، وأنّ هذا الأمر الذي أزعجه سينمو حتّى يملأ البلاد. ووصل كتابه إلى مروان في حرّان فلم يستتم قراءته حتّى مثل بين يديه من كان قد وكّلهم بالطرق ، ومعهم رسول من خراسان من أبي مسلم إلى إبراهيم بن محمّد الإمام ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.


ومعه كتابه إليه يخبره فيه بخبره وما آل إليه أمره ، فقرأ مروان الكتاب ثمّ سأل الرسول : كم دفع لك صاحبك؟ قال : كذا ، فقال : شيء يسير! وهذه عشرة آلاف درهم لك وامض بالكتاب إلى إبراهيم وخذ جوابه فأتني به ولا تعلمه بشيء ممّا جرى ، فقبل وفعل.

فلمّا عاد الرسول إليه بجواب إبراهيم إلى أبي مسلم بخطه يأمره فيه بالجد والاجتهاد والحيلة على عدوه وغير ذلك ، احتبس مروان الرسول ، وكتب إلى عامله على دمشق الوليد بن معاوية بن عبد الملك يأمره أن يكتب إلى عامل البلقاء فيسير في خيل إلى القرية المعروفة بالحُميمة والكرّار ليأخذ إبراهيم فيشدّه وثاقاً ويبعث به إليه في خيل كثيفة.

فوجّه الوليد إلى عامل البلقاء فأخذ إبراهيم من مسجد القرية ولفّفه وحمله إلى الوليد ، فحمله إلى مروان وحين مثل بين يديه جرى بينه وبين مروان خطب طويل وأنكر إبراهيم كلّ ما ذكره له مروان من أمر أبي مسلم. فأخرج إليه الرسول والكتاب وقال له : يا منافق! أتعرف هذا؟! وأليس هذا كتابك إلى أبي مسلم جواباً عن كتابه إليك؟! فلمّا رأى إبراهيم ذلك أمسك عن الكلام وعلم أنّه أتي منه. وحبسه مروان في حرّان شهرين (١).

ولما علم إبراهيم أن لا نجاة له من مروان ، كان له مولى خوارزمي يدخل عليه يسمى سابق فكتب إبراهيم وصيته إلى أخيه أبي العباس عبد الله بن محمّد ، وأوصاه بالقيام بالدولة والجدّ والحركة ، وأن لا يكون له بعده بالحُميمة لبث ولا عرْجة حتّى يتوجّه إلى الكوفة فإنّ هذا الأمر صائر إليه لا محالة وبذلك بلغتهم الرواية! وأطلعه على أمر الدعاة والنقباء في خراسان ، ورسم له رسماً أوصاه فيه أن يعمل عليه ولا يتعداه. وفي دخول لمولاه سابق عليه دفع الوصية بجميع

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٤٣ ـ ٢٤٤.


ذلك إليه وأمره أن لا يدفعها إلى أخيه أبي العباس إلّاإذا حدث به حدث من مروان في ليل أو نهار ، فيجدّ السير إلى الحُميمة حتّى يدفعها إليه (١).

واختصره ابن الوردي بقوله : لمّا أمسكه مروان نعى نفسه إلى أهل بيته وأمرهم بالمسير إلى أهل الكوفة مع أخيه السفاح وأوصى إليه بالخلافة وأوصاهم بالسمع له والطاعة (٢).

وقال ابن العبري : لمّا أحسّ بالطلب نعى نفسه إلى أخيه أبي العباس وأوصى إليه وأمره بالمسير بأهل بيته إلى الكوفة (٣).

وكان معه في الحبس جماعة من بني أُمية : العباس بن الوليد بن عبد الملك ، وعبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي مروان على العراق قبل ابن هبيرة. ومن بني هاشم (بني العباس) : عبد الله بن علي وعيسى بن علي وعيسى بن موسى ، ومعهم غلامان صغيران ، وادخل عليهم في الحبس جماعة من موالي مروان ، ثمّ خرجوا من عندهم وقد قتلوهم سوى الصغيرين ، فقالا : إنّهم خنقوا الأمويّين بالمخادّ على وجوههم ، وأما إبراهيم فإنهم جعلوا رأسه في جراب كان فيه نورة مسحوقة فاضطرب حتّى خمد ومات (٤).

فلمّا قضى إبراهيم نحبه أسرع سابق سيره إلى الحُميمة حتّى نعاه إلى أخيه أبي العباس ودفع إليه الوصية ، فأمره أبو العباس باظهار النعي وستر الوصية. ثمّ أظهر أبو العباس أهل بيته على أمره ونعاهم إلى مؤازرته وفيهم أخوه عبد الله

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٥٢.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨١.

(٣) مختصر تاريخ الدول : ١٢٠.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٢٤٤.


المنصور وابن أخيه عيسى بن موسى وعمّه عبد الله بن علي ، ثمّ توجّه بهم إلى العراق والتحق بهم منهم غيرهم (١).

واختار ابن العبري في عامل القبض على إبراهيم العباسيّ خبراً آخر قال : في سنة (١٣١ ه‍) حجّ إبراهيم بن محمّد الإمام ومعه أخواه أبو جعفر المنصور وأبو العباس (السفّاح) وولد المنصور ، وعمّهم ومواليهم على ثلاثين نجيباً وعليهم الثياب الفاخرة والرجال والأثقال : فشهر أمرهم في أهل الشام والبوادي والحرمين ، وقد انتشر في الدنيا ظهور أمرهم في خراسان ، وبلغ كل ذلك إلى مروان ، فأمر عامله فوجّه خيلاً إلى إبراهيم فهجموا عليه وأخذوه وحملوه إلى سجن حرّان. وكان قد أحسّ بالطلب فأوصى إلى أخيه أبي العباس وأمره بالمسير بأهل بيته إلى الكوفة (٢).

عرض الخلافة على الصادق عليه‌السلام :

ويظهر من خبر رواه الحلبي أن داعيتهم في الكوفة بل نقيب دعاتهم في العراق بمركزية الكوفة : أبو سلمة حفص بن سليمان الخلّال كان قد حجّ تلك السنة ، فلعلّه كان بالمدينة وبلغه سجن إبراهيم وقبل قتله أضمر الرجوع عن ما كان عليه من الدعوة العباسية إلى آل أبي طالب (٣). وكأنه كان مقرّراً من قبل نقل أمرهم إليه إلى الكوفة ، فأخبر الصادقَ عليه‌السلام بقرارهم وعرَض الخلافة عليه! فأخبره الإمام عليه‌السلام أنّ إبراهيم الإمام لا يصل إلى العراق من الشام ، بل ينتقل هذا الأمر منه إلى أخيه الأصغر (أبي العباس) ثمّ الأكبر (أبي جعفر) ثمّ يبقى في ولده (٤).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٥٢.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٥٣.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٥٠.


وسنرى أنّه لم ييأس بهذا من الإمام عليه‌السلام.

ونقل الشهرستاني : أنّ أبا مسلم أيضاً بعد موت إبراهيم العباسي ، كتب إلى الصادق عليه‌السلام : أنا أدعو الناس إلى مودتكم أهل البيت ، فإن شئت فلا أحد أفضل منك للخلافة! فأجابه الصادق عليه‌السلام : «ما أنت من رجالي! ولا الزمان زماني» (١).

وروى الكليني بسنده عن الفضل الكاتب قال : كنت عند أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام إذ أتاه رسول أبي مسلم (الخراساني) بكتابه إليه ، فلمّا قرأه قال له : ليس لكتابك جواب! اخرج عنّا! فخرج الرجل ، وأخذ بعضنا يسار بعضاً فقال لنا : بأي شيء تسارّون؟! يا فضل! فإنّ الله عزّ ذكره لا يعجل لعجلة العباد (٢) فيبدو أنّه عليه‌السلام علم منهم الاستعجال لحكمهم.

__________________

(١) الملل والنحل ١ : ١٥٤ بتحقيق الگيلاني.

(٢) روضة الكافي : ٢٢٩ ، الحديث ٤١٢. ويظهر من خبر رواه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٥٠ : أن أبا مسلم كانت له سابقة لقاء وهدية للإمام الصادق عليه‌السلام قبل هذا : روى عن زكّار بن أبي زكّار الواسطي قال : دخل رجل على أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام فقبّل رأسه! وكانت عليه ثياب بيض حسنة ، فمسّ الصادق عليه‌السلام ثيابه وقال : ما رأيت أحسن منها ولا أشدّ بياضاً! فقال : جعلت فداك! هذه ثياب بلادنا ، وجئتك منها بخير من هذه! فقال الصادق عليه‌السلام لمولاه معتِّب : اقبضها منه ، فقبضها منه وخرج الرجل والصادق قال وهو يتابعه بنظره : صدق الوصف وقرب الوقت! ثمّ قال : هذا صاحب الرايات السود التي يأتي بها من خراسان! ثمّ قال لمعتِّب : يا معتِّب الحقه فسله : ما اسمه؟ ثمّ قال : إن كان عبد الرحمن فهو والله هو! فرجع معتِّب فقال : قال : اسمي عبد الرحمن.

قال زكّار : فلمّا ولى بنو العباس أتيته فنظرت إليه فإذا هو أبو مسلم عبد الرحمن!

وهنا : ونقل السيّد الخرسان عن كتابه : منتقلة الطالبيين : أنّ عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين ، لما ظهر أبو مسلم بخراسان وأظهر الولاء لابن عمه يحيى بن زيد ،


ومن ذلك ما رواه النعماني بسنده عن أبي بكر الحضرمي الكوفي : وقد حضر المدينة مع أبان بن تغلب الكوفي وذلك حين ظهرت الرايات السود بخراسان ، وكان ذلك في شهر رمضان ، قال : دخلت أنا وأبان على الصادق عليه‌السلام فقلنا : ما ترى في ذلك؟ قال : اجلسوا في بيوتكم ، فإذا رأيتمونا قد اجتمعنا على رجل فانهضوا إلينا بالسلاح (١).

سقوط جرجان وإصفهان وهمدان :

إنّما قال اليعقوبي أنّ الجيش الذي جهّزه ابن هبيرة لنصرة نصر بن سيّار بخراسان كان جيشاً عظيماً بلا حصر كما مرّ ، وحصره المسعودي قال : كان نباتة بن حنظلة الكلابي على المقدمة في نحو ثلاثين ألفاً ، واتّجه عاملاً على جرجان ، وأمير الجيش عامر بن ضُبارة المُري في نحو أربعين ألفاً والياً على إصفهان! وسيّر أبو مسلم إليهما قحطبة بن شبيب الطائي في جيوش كثيفة! فقتل وفلّ الكلابي على جرجان ، وقتل وفلّ عامر المرّي على إصفهان ، ثمّ سار في جيوشه نحو العراق (٢).

__________________

قصده وعرّفه بنفسه فأجرى له أرزاقاً كثيرة وعظّمه أهل خراسان ، ونقل عن غاية الاختصار : ١٥١ : أنّ أبا مسلم دعاه إلى أن يبايع له ـ ولعلها كانت بعد هلاك إبراهيم العباسي ـ فأبى ذلك فألحّ عليه حتّى نفر منه ذلك وتراجع عنه إلى خلفه فسقط فتضعضعت رجله وعرجه بها. ثمّ دعاه محمد بن عبد الله الحسني لمثلها فأبى فحلف أن يقتله! ثمّ وفد بعد ذلك على السفّاح فعرف له ذلك وأقطعه ضيعة في بندشير أو بندجين المدائن غلة سنتها ثمانون ألف دينار ، ومات بها وله (٣٧) عاماً. بحار الأنوار ٤٦ : ١٦١.

(١) كتاب الغيبة للنعماني : ١٣١.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٨٣.


بينما قال خليفة : لقى قحطبة نباتة الكلابي بجرجان في ذي الحجة سنة (١٣٠ ه‍) فقاتل نباتة حتّى قتل هو وابنه حبّة ، وثار أهل جرجان على مَن بها من أهل المساجد وبني تميم فقتلوهم! وبلغ ذلك إلى نصر في قومس فارتحل منها إلى ناحية وكتب إلى مروان وابن هُبيرة يستمدّهما (١).

وتوجّه قحطبة بعد قتل نباتة من جرجان باتجاه العراق ، وكان عامر بن ضبارة المرّي في اصطخر فارس فوجّه ابن هبيرة ابنه داود بن يزيد إلى ابن ضبارة فسارا من اصطخر إلى إصفهان لمواجهة قحطبة ، وبعث ابن هبيرة مالك بن أدهم الباهلي في خيل عظيمة وسانده بمصعب الأسدي وعطيف السلمي متساندين. فنزل بعضهم ماه وبعضهم همدان ، ثمّ انضمّوا إلى نهاوند ، فوجّه قحطبة ابنه الحسن إلى تلك الجيوش فحاصرها في نهاوند. والتقى قحطبة عامر بن ضبارة وداود في رستاق جاپلق من إصفهان في يوم السبت لسبع بقين من شهر رجب سنة (١٣١ ه‍) فقتل عامر وانهزم داود إلى أبيه ، والتحق قحطبة بابنه الحسن في نهاوند. فلمّا قتل عامر واستمد نصر من ابن هبيرة ولم يأته مدد ، انحاز نصر إلى الريّ وعمره خمس وثمانون سنة فمرض بها ، وسار مريضاً إلى همدان فلمّا وصل ساوة مات فدفن بها واجري الماء على قبره. وكان قد كتب إلى مروان بقتل ابن ضبارة فوجّه إليه مروان عشرة آلاف من قيس عليهم الحوثرة بن سهيل الباهلي فالتحق بالجيوش في نهاوند وعين ابن هبيرة عليهم مالك بن أدهم الباهلي. وحاصرهم قحطبة أربعةأشهر حتّى أصابهم الجوع وأكلوا دوابّهم.

وكان قد التحق بهم أهل خراسان الذين هربوا مع نصر بن سيّار ، واضطرّ مالك الباهلي إلى أن يصالح قحطبة الطائي على التسليم والسلامة وصالحه

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٥٥.


الطائي على ذلك ، ولكنّه لمّا افتتحها صلحاً في غرة ذي القعدة أو آخر شوال سنة (١٣١ ه‍) أقام رجالاً على أبواب المدينة فلم يدع أحداً له نباهة من أهل خراسان ومنهم بنو نصر بن سيار إلّاقتلهم وقال : إني لم اصالح على أهل خراسان إنّما صالحت أهل الشام! وادّعى مالك أنّه صالح على أهل خراسان وأهل الشام.

هذا وقد بدأ الطاعون بالبصرة في آخر جمادى الآخرة ورجب واشتدّ في شعبان ورمضان وشوال ثمّ خفّ (١) ، وبلغ كل يوم ألف جنازة ، وهو خامس عشر طاعوناً وقع في الإسلام في دولة بني أُمية (٢).

وابن هبيرة وعسكر خراسان إلى الكوفة :

قال خليفة : لمّا فرغ قحطبة من نهاوند توجّه إلى ابن هبيرة الفزاري بالعراق ، وسار الحسن بن قحطبة على مقدمة أبيه فنزل حُلوان ، وأتاه أبوه فاجتمع القوم جميعاً ، ثمّ نزل قحطبة إلى خانقين ، وذلك في آخر ذي القعدة سنة (١٣١ ه‍). وقدّم ابن هبيرة مقدمة عليها عبيد الله بن العباس الليثي من المدائن إلى حُلوان فنزل بينهما في راز الروز على نهر يقال له تامرا ، وانتهى إليهم حوثرة بن سهيل بجمعه ، وانضمّ إليهم من خرج من نهاوند من أصحاب عامر بن ضبارة وغيرهم من المرتزقة في ثلاث وخمسين ألفاً ، فكان بين العسكرين أربعة فراسخ (= ٢٢ كم) تلتقي طلائعهم أياماً ، ثمّ تنكّبهم قحطبة متوجهاً إلى الموصل ، فظنّ ابن هبيرة أنهم يريدون الكوفة ، فنادى فيهم بالرحيل حتّى بلغ براز الروز على ستة فراسخ من

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٥٨ ـ ٢٦٠.

(٢) النجوم الزاهرة ١ : ٣٩٦ عن المدائني البصري.


خندقهم السابق ، وقد تركوا أطعمتهم وأعلافهم ، ثمّ تبيّن أنها خدعة وأ نّهم صاروا بالعراء وقد نزل قحطبة منازلهم في خندقهم! فأقام نحواً من عشرين يوماً حتّى استجمّ وأسمن ، وذلك في الصيف وقد احمرّ البُسر وقلّت المياه. ثمّ سار حتّى بلغ باحُمشا فوجد مخاضة قليلة الماء فأخاض وقطع دجلة إلى الفرات فنزل بالفلاة ، وتبعه ابن هبيرة بجمعه حتّى نزل على مسنّاة الفرات من أرض الفلوجة العليا ، وذلك في يوم الثلاثاء لثامن محرم الحرام سنة (١٣٢ ه‍).

ثمّ عبر قحطبة الفرات ومعه سبعمئة من جمعه إلى أهل العراق وهم لا يشعرون به حتّى صار على المسناة مشرفاً عليهم وأزالهم عن مكانهم فانهزم العراقيون إلى فم نهر واسط ثمّ سوراء فقطعوا مخاضتها ، فذهبت أثقال كثيرة وغرق كثير منهم ، ثمّ اجتمعوا فنادى منادي الشام : من أراد الشام فهلمّ فذهب إليه كثير منهم ، ونادى آخر : من أراد الجزيرة .. ونادى آخر : من أراد الكوفة .. و : من أراد الواسط (١).

وقال اليعقوبي : قدم قحطبة العراق فوافى بها عسكراً لابن هبيرة فاستباحه حتّى صار إلى الزاب في الفلوجة العليا على رأس أربعة وعشرين فرسخاً (١٣٠ كم تقريباً) من الكوفة ، فالتقى بعسكر ابن هبيرة ليلة الخميس لتسع خلون من المحرم سنة (١٣٢ ه‍) فاقتتلوا ساعة من الليل ، ثمّ انهزم ابن هُبيرة حتّى رجع إلى واسط وتحصّن بها وأدخل الأنزال والطعام ، وانصرف إليها فلول عساكره.

ولمّا فرغ قحطبة من قتاله قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ ثمّ قال : أيّها الناس ، إنّا والله ما خرجنا إلّالإقامة الحق وإزالة دولة الباطل ، وقد أعلمتكم أنّ الإمام محمّد بن علي بن عبد الله بن عباس أعلمني أنّي ألقى نباتة بن

__________________

(١) النجوم الزاهرة ١ : ٣٩٦ عن المدائني البصري.


حنظلة الكلابي ، وعامر بن ضبارة المرّي فأهزمهما واستبيح عسكرهما! وقد رأيتم صدق ما أخبرتكم! وإنّ الإمام أعلمني أنّي لا أعبر الفرات وأنكم تعبرونه ، فلا يُفقد من الجيش أحد غيري! وإنّه لا كذب فيما قال!

فإذا فقدتموني فأمير الناس حُميد بن قحطبة ، فإن غاب فالحسن بن قحطبة ، والسلام على من اتّبع الهدى ورحمة الله وبركاته.

فلمّا كان السحر عبروا الفرات ، وكان الماء قد كثر ، فغار بقحطبة فرسه وسقط عليه الجُرف فغرق (١)!

وأصبح عسكره يوم الأربعاء (أو الخميس) وقد فقدوا أميرهم فالتمسوه حتّى أخرجوه وفي جبهته طعنة فدفنوه ، وتولّاهم الحسن بن قحطبة وتوجهوا إلى الكوفة حتّى دخلوها صباح عاشوراء يوم الجمعة ، وكذلك ابن هبيرة ما زال بواسط (٢).

وقال اليعقوبي : دخل الكوفة حُميد بن قحطبة بعد فقد أبيه بأربع ليال ، وقد أخذ محمّد بن عبد الله القسري البجلي الكوفة لبني هاشم (بني العباس) وأظهر دعوتهم والسواد ، وشرّد من كان بها من بني امية وأصحابهم. ووليها أبو سلمة حفص بن سليمان الخلّال ، واستعمل العمّال.

وقدم أبو العباس وإخوته وأهل بيته الكوفة في المحرّم سنة (١٣٢ ه‍) فأدخلهم أبو سلمة في دار الوليد بن سعد (مولاهم) وكتم أمرهم فلم يطلع عليهم أحد إلى شهرين (محرم وصفر) (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٤.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.


السفّاح في العراق ورسل الخلّال في الحجاز :

قال المسعودي : قدم أبو العباس الكوفة في أهل بيته سرّاً ، والمسودّة في الكوفة مع أبي سلمة ، فأنزلهم جميعاً دار الوليد بن سعد في بني أود حيّ من اليمن (من حزب آل مروان ومواليهم!) وأخفى أبو سلمة أمر أبي العباس ومن معه ووكّل عليهم وكيلاً.

هذا وقد خاف انتقاض الأمر وفساده عليه ، فدعا محمّد بن عبد الرحمن بن أسلم (مولى النبيّ) وكتب كتاباً واحداً في نسختين ، إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وإلى أبي محمّد عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، يدعو كل واحد منهما إلى الشخوص إليه (إلى الكوفة) ليصرف الدعوة إليه ويجتهد في بيعة أهل خراسان له! وقال له : العَجل العَجل! (وأوصاه بالصادق مقدماً ثمّ عبد الله المحض).

فقدم محمّد بن عبد الرحمن المدينة فدخل على الصادق عليه‌السلام ليلاً ودفع كتابه إليه فقال له : وما أنا وأبو سلمة؟! وأبو سلمة «شيعة» لغيري! فقال : تقرأ كتابه وتجيبه بما رأيت. فدعا أبو عبد الله بسراج ثمّ أخذ كتاب أبي سلمة فوضعه على السراج حتّى احترق وقال للرسول : عرّف صاحبك بما رأيت! ثمّ تمثّل بقول الكميت بن زيد الأسدي :

أيا موقداً ناراً لغيرك ضوءها

ويا حاطباً في حبل غيرك تحطب!

فخرج الرسول من عنده إلى عبد الله بن الحسن ، فدفع كتابه إليه ، فقبله ولما قرأه ابتهج به (ووعده خيراً).

وفي غد ذلك اليوم ركب عبد الله حماره إلى منزل أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق ، فقال له : يا أبا محمّد أمر ما أتى بك! قال : نعم ، وهو أجلّ من أن يوصف! فقال : وما هو يا أبا محمّد؟ قال : هذا كتاب أبي سلمة يدعوني إلى ما أقبله ، وقد قدمْت عليه «شيعتنا» من أهل خراسان!


فقال له أبو عبد الله : يا أبا محمّد ، ومتى كان أهل خراسان «شيعة» لك؟! أأنت بعثت أبا مسلم إلى خراسان؟! وأنت أمرته بلبس السواد؟! وهؤلاء الذين قدموا العراق أنت كنت سبب قدومهم أو وجّهت فيهم؟! وهل تعرف منهم أحداً؟! (فيُعلم أنهم كانوا قد قدموا العراق).

فنازعه عبد الله بن الحسن الكلام إلى أن قال : إنّما يريد القوم ابني محمّداً لأنه «مهديّ» هذه الأُمة.

فقال أبو عبد الله جعفر : والله ما هو «مهديّ» هذه الأُمة ، ولئن شهر سيفه ليقتلن!

فنازعه عبد الله القول حتّى قال له : والله ما يمنعك من ذلك إلّاالحسد!

فقال أبو عبد الله : والله ما هذا إلّانصح منّي لك ، ولقد كتب إليّ أبو سلمة بمثل ما كتب به إليك فلم يجد رسولُه عندي ما وجد عندك ، ولقد أحرقتُ كتابه من قبل أن أقرأه!

فانصرف عبد الله من عند الصادق عليه‌السلام مغضباً.

ولم ينصرف رسول أبي سلمة إليه إلّابعد أن بويع السفّاح بالخلافة (١).

وقال الحلبي : قرأت في بعض التواريخ : لمّا أتى كتاب أبي سلمة الخلّال إلى الصادق عليه‌السلام بالليل قرأه ثمّ وضعه على المصباح فأحرقه ، وظن الرسول أنّ حرقه له تغطية وستر وصيانة للأمر ، ولم يجد جواباً فقال : هل من جواب؟ فقال : الجواب ما قد رأيت!

وبلغ ذلك شاعره أبا هريرة الأبّار فقال شعراً :

ولمّا دعا الداعون مولاي لم يكن

ليثني عليه عزمَه بصواب

ولمّا دعوه بالكتاب أجابهم

بحرق الكتاب دون ردّ جواب

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٥٣ ـ ٢٥٤.


وما كان مولاي كشارى ضلالة

ولا ملبساً منها الردى بثياب

ولكنّه لله في الأرض «حجّة»

دليل إلى خير وحسن مئاب

ونقل قبله عن «رامش افزاى» : أنّه لمّا أقبلت الرايات ووصل الجند إليه كتب إليه بقوله وأخبره : أنّ سبعين ألف مقاتل وصل إلينا فننتظر أمرك! فأجابه أيضاً أن الجواب كما شافهتُك!

ونقل قبله عن ابن كادش العكْبري في «مقاتل العصابة العلوية» أنّه لمّا بلغ أبا سلمة موت إبراهيم الإمام وجّه بكتبه إلى الحجاز إلى جعفر بن محمّد ، وعبد الله بن الحسن وزاد : محمّد بن علي بن الحسين (كذا) يدعو كل واحد منهم إلى الخلافة!

وبدأ بجعفر فلمّا قرأ الكتاب أحرقه وقال : هذا الجواب : فأتى عبد الله بن الحسن فلمّا قرأ الكتاب قال : أنا شيخ ولكن ابني محمّداً «مهديّ» هذه الأُمة! وركب حماره وأتى جعفراً فخرج إليه ووضع يده على عنق حماره! وقال : يا أبا محمّد ما جاء بك في هذه الساعة؟ فأخبره ، فقال : لا تفعلوا ، فإنّ الأمر لم يأت بعد! فغضب عبد الله بن الحسن وقال : لقد عملت خلاف ما تقول ولكنّه يحملك على ذلك الحسد لابني! فقال : لا والله ما ذلك يحملني (١).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٤٩ و ٢٥٠. وفيه في الخبرين الأول والآخر : أبو مسلم الخلّال! خطأ. والأخوان أبو العباس وأبو جعفر يوم موت أخيهم إبراهيم كانوا في حُميمة الشام ثمّ ارتحلوا إلى العراق ، وهذا الخبر خلط خبر الرسائل بخبر تواجد الأخوين بمحضر الصادق عليه‌السلام يومئذ وأ نّه أشار إليهما وقال : هذا وإخوته وأبناؤه دونك! فهذا خلط وخبط. وفيه ذكر محمّد بن علي بن الحسين! ولعلّ الصحيح : عمر بن علي بن الحسين الأشرف ، كما في الفخري لابن الطقطقي : ١٥٤ ، وانظر الورزاء والكتاب للجهشياري : ٨٦.


وقال اليعقوبي : قيل : إنّ أبا سلمة إنّما أخفى أبا العباس وأهل بيته بدار الوليد بن سعد الأودي ليدبّر ليصيّر الأمر إلى بني علي بن أبي طالب ، فكتب مع رسول له كتاباً إلى جعفر بن محمّد ، فأرسل إليه : لست بصاحبكم وإنّ صاحبكم بأرض الشراة (فهل كان ذلك قبل قدومهم الكوفة؟!).

ثمّ أرسل إلى عبد الله بن الحسن يدعوه إلى ذلك فقال : أنا شيخ كبير ، وابني محمّد أولى بهذا الأمر! وأرسل إلى جماعة بني أبيه وقال لهم : بايعوا لابني محمّد! فإنّ هذا كتاب أبي سلمة حفص بن سليمان إليّ.

فقال جعفر بن محمّد : أيّها الشيخ! لا تسفك دم ابنك! فإني أخاف أن يكون المقتول بأحجار الزيت! وأقام أبو سلمة ينتظر رجوع رسله إليه (١).

سقوط الأهواز ومحاصرة واسط :

مرّ أن قحطبة الطائي استخلف من بعده لقيادة الرايات السود الخراسانية العباسية ابنه الحسن فهو قادها إلى الكوفة ، ونقيب الدعاة العباسيين بها أبو سلمة الخلّال ، وذلك ليوم عاشوراء العاشر من محرم لعام (١٣٢ ه‍) ، وقد أرسل الخلّال رسله إلى المدينة فهو ينتظرهم ، وقبل آخر الشهر أعاد الحسنَ بن قحطبة لمحاصرة ابن هبيرة في واسط ، قال خليفة : أتاهم في آخر المحرم ، وفي صفر ارتاد لعسكره منزلاً وجاء بالعمال ليخندق عليهم ، فقال الناس لابن هبيرة : دعنا نقاتل القوم ، وما زالوا به حتّى استعمل ابنه داود ومحمّد بن نُباتة الكلابي ومِعن بن زائدة في القلب بمقابلة الحسن الطائي ، وفتح الأبواب ، وخرج حوثرة بن سهيل بمواجهة خازم بن خزيمة ، فقاتلوا حتّى أمسوا ، وكان مع الحسن أخوه يزيد بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٩.


قحطبة فقتل (١) وكان الحسن على المدينة الغربية ، فأتبعه أبو سلمة بمالك بن الأدهم الباهلي فأناخ على المدينة الشرقية.

وكان عبد الواحد أخو يزيد بن عمر بن هبيرة عامله على الأهواز ، فوجّه أبو سلمة إليه هشام بن إبراهيم مولى بني ليث ، فقاتله حتّى فضّ جمعه وانهزم عبد الواحد إلى عامل أخيه على البصرة سلم بن قتيبة الباهلي (٢).

إعلان الخلافة العباسية :

أخرج الخلّال من الكوفة أفواجاً من العسكر العباسي مع ذينك القائدين : الحسن الطائي ومالك الباهلي ، ولم يُخرج كلهم ، ولم يخرج الدعاة معهم ومنهم أبو حميد الطوسي وأبو الجهم بن عطية وأبو شراحيل وأبو غانم بن ربعي ، وسلمة بن محمّد وعبد الله بن بسّام ومحمّد بن موسى ، سبعة. وكان أبو حميد الطوسي يعرف غلام أبي العباس (السفّاح) (٣) فبعد شهرين من وصوله وأهله إلى الكوفة وإقامتهم بدار الوليد الأودي ، التقى أبو حميد بغلام فسأله عنهم ،

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٦١ ـ ٢٦٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٩ وسمّاه المسعودي : سابق الخوارزمي ووصف أُولئك السبعة بالقواد ٣ : ٢٥٥.

وكان من وجوه الدعاة بالكوفة يقطين بن موسى مولى بني أسد ، وولد له ابنه علي بن يقطين سنة (١٢٤ ه‍) و (عرّفه عرّيف بني أسد فطلبه ابن هبيرة والي مروان ، وعلم فهرب ، وهربت أُمّ عليّ به وبأخيه عبيد إلى المدينة ، وكذلك أبوهم يقطين فتشيع علي هناك لجعفر عليه‌السلام ، ومع ذلك لما ظهر أمر السفّاح عاد إليه إلى الكوفة فكان في خدمته ويتشيع ويقول بالإمامة ويحمل خمس ماله إلى جعفر عليه‌السلام ، كما في الفهرست للطوسي : ٢٣٤ برقم ٥٠٦).


فأخبره بسوء وضعهم وأنهم في «سرداب» (كذا) فصار معه إليهم. وكأنّه كان قد علم بوصية إبراهيم بن محمّد إلى أخيه عبد الله بن محمّد ابن الحارثية (١) ولم يعرفه هو! فسألهم عنه قال : أيكم عبد الله بن محمّد ابن الحارثية؟ فهم أشاروا إلى أبي العباس ، فسلّم عليه بالخلافة (٢).

ثمّ خرج فأخبر أصحابه بموضعه ، فمضوا سرّاً من أبي سلمة ، حتّى سلّموا على أبي العباس بالخلافة ، وقد حمل أبو حميد الطوسي معه ثياباً سوداً فألبسه وأخرجه إلى المسجد الجامع ، والعباسيون اثنان وعشرون رجلاً (٣).

وبلغ الخبر أبا سلمة فلحقهم وقال لهم : استعجلتم! وأرجو أن يكون خيراً (٤) وإني إنّما كنت أدبّر لاستقامة الأمر ، وإلّا فلا أعمل شيئاً فيه.

وكان أبو العباس حييّاً فلمّا بويع وصعد المنبر ارتج عليه فأقام مليّاً لا يتكلم! فصعد إليه عمّه داود بن علي وقام دونه بمرقاة فخطب ، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وقال :

أيها الناس! تقشّعت حنادس الفتنة ، وانكشف غطاء الدنيا! وأشرقت أرضها وسماؤها! وطلعت الشمس من مطلعها! وعاد السهم إلى النزعة وأخذ القوسَ باريها ، ورجع الحق إلى نصابه في «أهل بيت نبيكم»! أهل الرأفة بكم والرحمة لكم والتعطّف عليكم.

__________________

(١) هي ابنة عبد الله بن المدان الحارثي ، وكانت زوجة عبد الملك بن مروان! ثمّ تزوّجها محمّد بن علي العباسي ، فأبو العباس السفاح من إخوة أبناء عبد الملك المرواني لأُمهم! كما في مروج الذهب ٣ : ٢٥١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٠.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.


ألا وإن ذمة الله وذمة رسوله وذمة «العباس» لكم! أن نسير فنحكم في الخاصة والعامة منكم بكتاب الله وسنة رسوله.

وإنّه ـ والله ـ أيها الناس! ما وقف هذا الموقف بعد رسول الله أحد أولى به من «علي بن أبي طالب» وهذا القائم خلفي! فاقبَلوا ـ عباد الله ـ ما آتاكم بشكر ، واحمدوه على ما فتح لكم : أبدلكم عن مروان عدوِّ الرحمان حليفِ الشيطان! بالفتى الشاب المتمهّل المتكهّل ، المتّبع لسلفه والخلف من أئمته وآبائه الذين هدى الله! فبهداهم اقتدى مصابيح الدجى وأعلام الهدى وأبواب الرحمة ومفاتيح الخير ومعادن البركة وساسة الحق وقادة العدل! ثمّ نزل.

فتكلّم أبو العباس فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد ، ووعد من نفسه خيراً ، ثمّ نزل (١).

وقال المسعودي : أتاه وجوه القواد فبايعوه ، وعلم أبو سلمة بذلك فحضر وبايعه ، وقُدّمت له الخيول وضربوا له مصافاً فركب أبو العباس ومن معه ودخلوا الكوفة في أحسن زيّ إلى دار الإمارة ، وذلك يوم الجمعة لاثنتي عشر يوماً مرّ من ربيع (الأول أو) الآخر سنة (١٣٢ ه‍). ثمّ دخل المسجد الجامع من دار الإمارة فصعد المنبر.

فحمد الله وأثنى عليه وذكر تعظيم الربّ ومنّته ، وفضل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقاد الولاية والوراثة حتّى انتهت إليه! ووعد الناس خيراً وسكت. وكان عمه داود بن علي على المنبر دون أبي العباس.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٠ ـ ٣٥١. واكتفى خليفة بنقل قوله : أيّها الناس ، إنّه والله ما علا منبرَكم هذا بعد علي بن أبي طالب خليفة غير ابن أخي هذا! فلعلّه من تحوير التخفيف والتلطيف!


فقال : إنّه ـ والله ـ ما كان بينكم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خليفة إلّاعلي عليه‌السلام! ثمّ أمير المؤمنين هذا الذي خلفي (١)!

وكان بنو امية يخطبون قعوداً! وخطب أبو العباس قائماً ، فضجّ الناس وقالوا : أحييتَ السنة يابن عمّ رسول الله (٢)! ثمّ نزلا وخرجا إلى معسكر أبي سلمة في حجرته ، واستخلف على الكوفة عمّه داود بن علي (٣) بعد أن صلّى بالناس الجمعة وبويع البيعة العامة (٤).

وقال ابن الوردي : كانت له خطبتان : الأُولى : أنّه دخل دار الإمارة يوم الجمعة ١٢ ربيع الأول ، ثمّ خرج وخطب وصلّى بالناس ، ثمّ صعد المنبر ثانياً وصعد عمه داود بن علي فقام دونه هذه المرة فخطبا ، ثمّ نزل وعمه أمامه وأجلس أخاه أبا جعفر المنصور يبايع الناس ودخل هو إلى دار الإمارة ، ثمّ خرج فعسكر بحمام أعين ، واستخلف على الكوفة عمه داود ، وأقام هو بالمعسكر أشهراً (٥).

وروى السيوطي عن المدائني بسنده : أنّه بويع بالخلافة وصلّى بالناس الجمعة في ثالث ربيع الأول وقال في خطبته : الحمد لله الذي اصطفى الاسلام لنفسه فكرّمه وشرّفه وعظّمه ، واختاره لنا وأيده بنا! وجعلنا أهله وكهفه وحصنه! والقوام به والذابّين عنه! ثم ذكر قرابتهم في آيات القرآن!

إلى أن قال : فلمّا قبض الله نبيّه قام بالأمر أصحابه (كذا بخلاف ما مضى!) إلى أن وثب بنو حرب ومروان فجاروا واستأثروا ، فأملى الله لهم حيناً حتّى آسفوه

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٥١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٥٦.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٦٢.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨١.


فانتقم منهم بأيدينا! وردّ علينا حقّنا! ليمنّ بنا (عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) وختم بنا كما افتتح بنا! وما توفيقنا «أهل البيت» إلّابالله!

يا أهل الكوفة! أنتم محلّ محبتنا ومنزل مودّتنا ، لم تفتروا عن ذلك ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور. فأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا. وقد زدت في اعطياتكم «مئة مئة»! فاستعدّوا! فأنا «السفّاح» المبيح! والثائر المبير (١)!

فهي بداية تلقّبه بلقب «السفّاح» أي سفّاك دماء الأعداء في السفوح والوديان!

ومن السنّة التي أعادها السفّاح أنّه أعاد التختّم إلى يمينه ، حيث كان عبد الله بن العباس يتختّم بها ، وإنّما أوّل من نقل الخاتم وتختّم في يساره معاوية (٢) فحيث أبطل بدعة معاوية قال له أحمد بن يوسف : لو أمرت بلعنه على المنابر كما سنّ اللعن على علي عليه‌السلام! فتمثّل بقول لبيد :

فلمّا دعاني عامر لأسبّهم

أبيت ، وإن كان ابن علياء ظالماً (٣)!

بيعة أبي مسلم لأبي العباس :

وجّه السفّاح أخاه المنصور في ثلاثين فارساً إلى أبي مسلم في مرو لأخذ بيعته ، فلم يحفل به أبو مسلم ولم يلقه ، فانصرف واجداً عليه إلى أخيه السفّاح وشكاه إليه ، فقال السفّاح : قد عرفت موضعه من إبراهيم الإمام ، وهو صاحب الدولة والقائم بأمرها! فما الحيلة فيه (٤)؟!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٤٧.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٢٥٧ عن الأغاني.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١.


قتال مروان بالموصل ثمّ الشام :

فوجهه ثمّ قال السفّاح لمن حوله : من خرج إلى مروان فهو ولي عهدي (١) فاستجاب له عمّه عبد الله بن علي السفّاح لقتال مروان إلى الزاب قرب الموصل (٢) وزحف مروان بمن معه من أهل الشام والجزيرة في مئة ألف إلى مئة وخمسين ألفاً ، حتّى نزل الزاب دون الموصل ، فالتقوا يوم السبت ١١ جمادى الثانية (١٣٢ ه‍) ، وقد حشد بنو امية بأنفسهم وأتباعهم من فرسان الشام والجزيرة (٣).

وسار مروان حتّى نزل على الزاب الصغير وعقد عليه الجسر ، وأتاه عبد الله بن علي في عساكر أهل خراسان وقوادهم ، وقد كردس مروان خيله كراديس ألفاً وألفين (٤).

وقال ابن الوردي : كان على شهرزور من جهة بني العباس أبو عون الأزدي ، فسار مروان يطلبه ، فوصل إلى الزاب فنزل به في مئة وعشرين ألفاً وحفر خندقاً حوله ، وسار أبو عون من شهرزور إلى الزاب بما عنده من الجموع ، وأردفه السفّاح مرّات بعساكر مع مقدّمين : عمّه عبد الله بن علي وعبد الله الطائي وسلمة بن محمّد ، فلمّا قدم عمّه عبد الله على أبي عون تخلّى له أبو عون عن سرادقه وما فيه.

ثمّ إن مروان عقد جسراً على الزاب وعبر إلى جهة عبد الله بن علي ، فسار عبد الله إلى مروان ، وجعل على ميمنته أبا عون وعلى ميسرته الوليد بن معاوية. وكل عسكره عشرون ألفاً!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٥.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٦٣.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٢٤٥.


والتقوا واشتدّ القتال ، وداخل الفشل عسكر مروان ، واختل كل أمر أراده ، حتّى انهزم وغرق منهم خلق كثير (١) فيهم ثلاثمئة من بني امية. ومضى مروان مهزوماً إلى الموصل ، فلمّا رأى أهلها تولّي الأمر عنه أظهروا السواد ومنعوه من دخولها (٢)!

وقالوا : الحمد لله الذي أتانا بأهل بيت نبيّنا (٣)!

فقطع الجسر وأتى الجزيرة فأخذ بيوت الأموال والكنوز (٤) وأتى حرّان وأقام بها أكثر من عشرين يوماً (فدخل شهر رجب) فلمّا دنا منه عسكر السفاح (٥) خرج بأهله وسائر بني أُمية عنها وعبر الفرات (٦) وكان قد أنفق على قصره بها عشرة آلاف ألف درهم! فنزل عبد الله بن علي على باب حرّان واحتوى على خزائن مروان وأمواله وهدم قصره (٧) فلمّا اجتاز مروان ببلاد قنّسرين وبها قبائل تنوخ تناوشوا ساقته ، فذهب إلى حمص (٨) فجعل لا يمرّ بجند من أجناد الشام إلّاانتهبوه حتّى صار إلى دمشق وهو يريد أن يتحصّن بها (٩) وكان السفاح قد كتب إلى

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٤٥.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٦٣.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٦) قال المسعودي هنا : وقد كان أهل حرّان حين أُزيل لعن علي بن أبي طالب رضى الله عنه عن المنابر يوم الجمعة امتنعوا عن إزالته وقالوا : لا صلاة إلّابلعن أبي تراب وأقاموا على ذلك سنة!

(٧) مروج الذهب ٣ : ٢٤٥.

(٨) مروج الذهب ٣ : ٢٤٩.

(٩) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٦.


عمّه عبد الله بن علي باتباع مروان ، فسار في أثره إلى دمشق (١) وقد استخلف في حرّان موسى بن كعب التميمي. وأرسل السفاح عمّه الآخر صالح بن علي ليلتقي بأخيه عبد الله فيكون معه فاجتمعا وسارا إلى دمشق فحاصروها ، وكان على دمشق الوليد بن معاوية (٢) بن مروان بن عبد الملك خليفة مروان بها ، ومضى مروان إلى فلسطين هارباً (٣) وفي المسعودي : الوليد بن معاوية بن عبد الملك في خمسين ألف مقاتل ، ولكن وقعت بينهم العصبية في فضل اليمن على نزار ونزار عليهم (٤).

مقتلة بني امية بفلسطين :

ثم انصرف عبد الله بن علي إلى فلسطين لمتابعة مروان ، فلمّا صار بنهر أبي فطرس بين الأُردن وفلسطين ، وكأنه علم بتجمّع أكثر بني امية هنا فأرسل إليهم أن يغدوا عليه لأخذ عطاياهم ، فاجتمع إليه ثمانون رجلاً منهم! فجلس وأذن لهم ، وقد أعدّ شاعره العبدي بقصيدة لهم ، وأعدّ لكل رجل منهم رجلين بأيديهم الأعمدة! فدخلوا عليه وهو مطرق ملياً ، وأجلس منهم إلى جانبه النعمان بن يزيد بن عبد الملك ، ثمّ قام العبديّ فأنشد قصيدته وفيها :

أما الدعاة إلى الجنان فهاشم

وبنو امية من دعاة النار

فكذّبه النعمان بن يزيد فصدقه عبد الله العباسي ثمّ أقبل عليهم فذكر لهم قتل الحسين عليه‌السلام وأهل بيته ، ثمّ صفّق بيده ، فضرب القوم رؤوسهم بالعمد حتّى أتوا عليهم! فناداه أحدهم :

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٦.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٢٤٦.


عبد شمس أبوك وهو أبونا

لا نناديك من مكان بعيد

فالقرابات بيننا واشجات

محكمات القوى بعقد شديد!

فقال عبد الله : هيهات! قطع ذلك قتل الحسين! ثمّ أمر فطرحوا عليهم البُسط ودعا بالطعام فاكل وأكلوا ثمّ قال : يوم كيوم الحسين بن علي! ولا سواء (١).

سقوط دمشق وإحراق بني أُمية :

ثمّ انصرف عبد الله بن علي إلى دمشق في شهر رمضان سنة (١٣٢ ه‍) فحاصرها حتّى استغاث الناس بيحيى بن بحر أن يطلب لهم الأمان. فخرج إليه لذلك فأجابه إليه ودعا بدواة وقرطاس ليكتب له بذلك ، وإذا بسور دمشق قد اعتلاه جنوده! فقال يحيى : أوَ غدراً؟ فهدّده عبد الله ثمّ ندم فأعطاه علماً للأمان فدخل ونادى في الناس بالأمان! ومع ذلك قتل كثير منهم ثمّ نادى المنادي : الناس آمنون إلّاخمسة : أبان بن عبد العزيز وصالح بن محمّد ومحمّد بن زكريا والوليد بن معاوية ويزيد بن معاوية. وصار عبد الله إلى المسجد الجامع فخطبهم فذكر جور بني امية وعداوتهم وأنهم اتخذوا دين الله هزواً ولعباً ، ووصف ما استحلوا من المآثم والمحارم والمظالم ، وما سارو به من تعطيل الأحكام وازدراء الحدود والاستيثار بالفيء وارتكاب القبيح ، ثمّ انتقام الله منهم وتسليط سيف الحق عليهم.

ثمّ وجّه ناساً فنبشوا قبور بني امية فأخرجوهم وأحرقوهم! ما تركوا منهم أحداً!

ثمّ صار إلى الرصافة حيث مات هشام بن عبد الملك ، فوجده قد جعلوه في مغارة على سرير وطلّوه بما يبقيه! فأمر به فأخرج وقال للناس : إنّ أبي علي بن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٥.


عبد الله بن عباس سقط عنه رداؤه يوماً فرأيت في ظهره آثار سياط فسألته عنها فقال : إنّ الأحول (هشاماً) أخذني ظلماً فضربني ستين سوطاً! فأنا عاهدت الله إن ظفرت به أن أضربه بكل سوط سوطين! ثمّ أمر فضرب مئة وعشرين سوطاً ، وتناثر لحمه فجمعه وأحرقه (١)! وتتبّع قتل بني امية فلم يفلت إلّاالرضيع أو من هرب.

وفي قنّسرين جمع أبو الورد بن كوثر جمعاً عظيماً وتمرّد ، فسار إليه عبد الله بن علي من دمشق ، واقتتلوا قتالاً شديداً حتّى كثرت القتلى بينهم وحتّى قتل أبو الورد فانهزم أصحابه ، فجدّد عبد الله بيعتهم وعاد إلى دمشق (٢).

وفي حوران تمرّد بنو مرّة وعليهم حبيب بن مرّة حيث لجأ إليه رجل من بني امية فنصبه عليهم ، وجمع حوله جمعاً ونصب راية بني امية البيضاء. فزحف إليه عبد الله بن علي وقاتله حتّى قتله وفرّق جمعه (٣).

سقوط واسط وابن هُبيرة :

مرّ الخبر أن بداية محاصرة ابن هُبيرة في الواسط كان في آخر المحرم عام (١٣٢ ه‍) ثمّ بويع السفّاح يوم الجمعة ثاني أو ثالث عشر ربيع الأول ، وبعث عمّه عبد الله بن علي إلى الموصل في العاشر من جمادى الآخرة ، وفي آخر شهر رجب بعث أخاه المنصور لنصرة الحسن بن قحطبة الطائي في محاصرة ابن هُبيرة ، فعادوا إلى القتال في شعبان ورمضان وشوال ، وفي آخر شوال قال لهم ابن قحطبة إنّهم آمنون على كل شيء ، ثمّ توالى عنه أربعة رجال يقولون لهم : القوم يعطونكم ما تريدون وما بقي أحد إلّاوقد دخل في الطاعة!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٣ ـ ١٨٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٧.


ففي أول ذي القعدة كتبوا بينهم صلحاً على : أنّ ابن هُبيرة على أمره مع خمسمئة من أصحابه بالمدينة الشرقية إلى خمسين يوماً ـ العشرين من ذي الحجة ـ فإن شاء دخل في الطاعة وإن شاء لحق بمأمنه! ثمّ فتحوا الأبواب. وبعد يومين دخل جمع فأخذوا كل دابة عليها سمة «لله» أي لبيت المال وقالوا : هذه للامارة (١).

فالتقى ابن هُبيرة بالمنصور وسلّم عليه بالامارة فقال له المنصور : يا يزيد ، إن بني هاشم تتجاوز عن المسيء وتأخذ بالفضل ، ولست أنت عندنا كغيرك! فأمير المؤمنين أرغب شيء في الصنيعة إلى مثلك! فأبشر بما يسرّك (٢)!

فقال له ابن هُبيرة : إن إمارتكم محدثة فأذيقوا الناس حلاوتها وجنّبوهم مرارتها تجتذبوا قلوبهم ، وما زلت منتظراً لهذه الدعوة! ثمّ قام من عنده (٣).

وقال اليعقوبي : كان يزيد قد استعدّ لحصار سنتين وأدخل الأقوات والعلوفة لعشرين ألف مقاتل ، ولكنّه لما دام الحصار والقتال عشرة أشهر وجّه السفراء وطلب الأمان فأُجيب إلى ذلك وكتب له كتاب أمان بشروط سألها وختمه السفاح نفسه! وخرج ابن هُبيرة إلى المنصور فبايعه ، وكان يركب كل يوم في ألف فارس وألف راجل! فشكاه عسكر المنصور فأمره أن يقللهم فقلّلهم إلى خمسمئة راجل! فطلب منه حاجب المنصور أبو غسان أن يقللهم فقللهم إلى ثلاثين راكباً وثلاثين راجلاً!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٦٢.


وكان أبو مسلم من خراسان يكتب إلى السفّاح يحرّض على قتل ابن هُبيرة ويقول : لا يستقيم الأمر إلّابقتله!

ثمّ وجدت كتب! لابن هُبيرة إلى محمّد بن عبد الله الحسني يعلمه أن معه عشرين ألف مقاتل! وأن قبله أموالاً وعُدّة وسلاحاً وأن يبايع له! فاخذت الكتب إلى السفّاح فقال : نقض عهده وأحدث ما أحلّ به دمه! وكتب إلى أخيه المنصور أنّه غدر ونكث ونقض العهود وكثرت كتبه بذلك فاضرب عنقه! فقال المنصور للحسن بن قحطبة الطائي أن يتولّى ذلك فقال : إن قتلته أنا ثارت العداوة العصبية بين قومه وقومي فيضطرب عليكَ من بعسكرك من هؤلاء وهؤلاء! ولكن أنفذ إليه برجل مضري! فأمر المنصور بذلك خازم بن خزيمة التميمي فوافاه بجمعه في قصره ، ولما رآهم قال : إنّ في وجوه القوم لغدرة! ودنوا إليه فقام دونه ابنه داود فضربوه بالسيف وصاروا إليه فقتلوه (١).

وكان ذلك بعد منتصف ذي القعدة ، ثمّ قعد الحسن بن قحطبة في مسجد حسّان النبطي على دجلة ، وبعث إلى أبان وبشر ابني عبد الملك بن مروان ، وثلاثة من قوّاد ابن هُبيرة وثلاثة من كتابه ومواليه فأُخذوا إليه فقتلهم (٢) وتفرّق جمعهم!

وكان على بخارى شريك بن شيخ المهري وكان قد بايع لبني العباس ، ولما بلغه الغدر بابن هُبيرة قال : ما على هذا بايعنا «آل محمّد» أن نسفك الدماء ونعمل غير الحق! وثار بجمعه ، فوجّه إليه أبو مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله حتّى قتله (٣) وفضّ جمعه.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٤.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٤.


متابعة مروان في مصر ومصيره :

مرّ مروان من فلسطين إلى مصر ، فلمّا بلغه سقوط دمشق عبر النيل وقطع الجسر وسار يريد الحبشة ، ووجّه عبد الله بن علي أخاه صالح بن علي في طلب مروان ، فجاء صالح وقد عبر مروان ، فسرّح صالح في أثره عامر بن إسماعيل الحارثي المذحجي فلقيه في قرية بوصير (١) من كورة اشمون من صعيد مصر ، فلم يزل مواقفاً له والحرب بينهما. وانصرف عبد الله بن علي راجعاً إلى دمشق وصالح في قتال مروان (٢) ثمّ هجموا على عسكره وهم يضربون الطبول ويكبّرون وينادون : يالثارات إبراهيم (العباسي) فظن عسكر مروان أن قد احيط بهم (٣) ، فانهزموا وطُعن مروان برمح فصُرع ، وسبق إليه منهم بقّال كوفي فاحتزّ رأسه لثلاث بقين من ذي الحجة ، واحضر الرأس قدام صالح بن علي فأمر أن ينفض فسقط لسانه فبادرت إليه هرة فأخذته! وأرسله صالح إلى السفّاح (٤) فحمل إليه فلمّا وضع بين يديه قال لمن حضره : أيكم يعرف هذا؟ فقال سعيد بن جعدة : هذا رأس مروان بن محمّد بن مروان خليفتنا بالأمس (٥)! فنصب على قناة بباب المسجد فانقطع رجاء شيعة بني امية (٦).

وكان مروان قد أوصى إلى خادم له أنّه إذا قُتل يدخل بسيفه على نسائه وبناته فيقتلهنّ! وكان قد أدخلهنّ في كنيسة بوصير ، فرأوه يحاول الدخول عليهن

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٦٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٦.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٢٤٦.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٢.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٦.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٦٤.


شاهراً سيفه! فأخذوه وسئل عن أمره فأخبرهم ، فأرادوا قتله فقال لهم : لا تقتلوني وأدلكم على ميراث رسول الله! وإن كذبت فاقتلوني! فأخرجهم من القرية إلى موضع رمل فكشفوا فإذا البُرد والمِخصرة والقضيب قد دفنها مروان كي لا تصير إلى بني العباس ، فوجّه بها عامر الحارثي إلى عبد الله العباسي فوجّه بها إلى السفّاح ، فكانت في بني العباس (١).

وكان عمره يوم قتل سبعين عاماً ، وكان شديد الشهلة أبيض مشرّباً بحمرة ، ضخم الهامة والمنكبين ، كثير اللحية ، صابراً على التعب والنصب (ولذا قيل له الحمار) اصطفى قبائل قيس ، وانحرف عن قبائل اليمن وباداها العداوة فحاربوه (٢) وكانت امّه من جواري مصعب بن الزبير (٣) أو إبراهيم بن مالك الأشتر النخعي تدعى زيادة (٤) كردية (٥) اصطفاها أبوه محمّد بن مروان بن الحكم.

مصير ابنيه عبد الله وعبيد الله :

توجها نحو الصعيد ثمّ إلى بلاد النوبة ، ولحق بهما جماعة من أصحابهم حتّى صاروا في أربعة آلاف ، وجماعة من نسائهم من البنات والأخوات وبنات العم. ودخلوا بلاد النوبة ، وأخذوا في بلاد العدو ، فلقوا جيشاً من الأحباش فقاتلوهم حتّى صاروا إلى بلاد بجاوة فقاتلوهم ، فتراجعوا يريدون اليمن ، وتفرّق الأخوان في طريقين بينهما جبل ومع كل منهما خيل منهم ، فلقى عُبيد الله جيشاً من

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٤٦.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٦٤ و ٢٦٧.

(٤) التنبيه والإشراف : ٢٨١.

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٣.


الأحباش فقاتلهم فقُتل وأسر كثير من أصحابه فسلبوهم وتركوهم حفاة عراة ، فكان الرجل منهم يبول في يده ويشربه أو يعجن به الرمل ويأكله حتّى أهلك العطش كثيراً منهم! ولحق من بقي منهم بعبد الله وجمعه وهم من العرى والشدة في أشدّ منهم! ومعه حُرمه ما يواريهن شيء! حتّى وافوا باب المندب ، فجمع لهم الناس شيئاً فأقاموا بها شهراً ثمّ خرجوا إلى مكة في صورة الحمّالين (١).

وإنّما فرّا وتبعهما الأربعة آلاف منهم لأن مروان كان قد صيّر الأمر بعده إلى ابنه الثاني عبد الله ثمّ الرابع عبيد الله (٢) وبكره عبد الملك وبه كان يكنّى والثالث محمّد (٣) فلم يولّهما شيئاً ولذا لم يتبعهما أحد. وفي عهد ابن طولون كان من كتابه بعض أعقابهما بفسطاط مصر يعرفون ببني المهاجر (٤).

مصير بنات مروان :

ثمّ وجّه عامر الحارثي المذحجي الأُسارى من بنات مروان وجواريه إلى صالح بن علي العباسي ، فلمّا ادخلن عليه قامت ابنته الكبرى فقالت له : يا عمَّ أمير المؤمنين. حفظ الله من أمرك ما يحب لك حفظه ، وأسعدك في الامور كلّها بخواص نعمه ، وعمّك بالعافية في الدنيا والآخرة. نحن بناتك وبنات أخيك وابن عمّك! فليسعنا من عدلكم ما وسعكم من جورنا!

فأجابها صالح : إذن لا نستبقي منكم أحداً لا رجلاً ولا امرأة!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٧ ـ ٣٤٨ وانظر التنبيه والإشراف : ٢٨٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٦٠ والتنبيه والإشراف : ٢٨٥.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٤٧.

(٤) التنبيه والإشراف : ٢٨٤.


ألم يقتل أبوك بالأمس ابن أخي إبراهيم بن محمّد بن علي بن عبد الله العباس في حرّان؟!

ألم يقتل هشام بن عبد الملك : زيد بن علي بن الحسين بن علي ، وصلبه في كناسة الكوفة وقتل امرأته بالحيرة على يدي يوسف بن عمر الثقفي؟!

ألم يقتل الدعيّ عبيد الله بن زياد : مسلم بن عقيل بن أبي طالب بالكوفة؟!

ألم يقتل يزيد بن معاوية : الحسين بن علي ، على يدي عمر بن سعد مع من قتل من أهل بيته بين يديه؟!

ألم يخرج بحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا حتّى ورد بهنّ على يزيد بن معاوية ، وقبل مقدمهنّ بعث إليه برأس الحسين بن علي قد نصب دماغه على رأس رمح يطاف به في كور الشام ومدائنها حتّى قدموا به على يزيد بدمشق؟! كأ نّما بعث إليه برأس رجل من أهل الشرك! ثمّ أوقف حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله موقف السبي يتصفحهنّ جنود الشام الجفاة الطغام ، ويطلبون منه أن يهب لهم حرم رسول الله استخفافاً بحقّه وجرأة على الله عزوجل وكفراً بأنعمه؟! فما الذي استبقيتم منّا «أهل البيت» لوعد لنا فيه عليكم؟!

فقالت : يا عمَّ أمير المؤمنين إذن ليسعنا عفوكم! فقال : فقد وسعكم العفو! فعرض عليها التزويج فطلبت منه أن يردّهم إلى حرّان فوعدها ذلك والحقهنّ بحرّان ، فلمّا دخلن حرّان ومررن على ديار مروان علت أصواتهنّ بالبكاء عليه وشقّ الجيوب والعويل والصياح (١).

وفي اليعقوبي : أنّه لما قتل صالح مروان بن محمّد حوى أمواله وخزائنه ، ووجّه برأسه إلى أبي العباس ، وحمل يزيد بن مروان ونسوة منهم وبناته إليه ،

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٤٧ و ٢٤٨.


فلمّا صرن إلى الكوفة حبس الرجال وأطلق النساء. ثمّ اخذ عبد الله بن مروان بمكّة فحُمل إليه وحُبس معهم (١).

كاتب الأمويين عند الصادق عليه‌السلام :

علي بن أبي حمزة البطائني من موالي الأنصار بالكوفة كان له صديق من كتاب (ديوان) بني أُمية بالكوفة (؟) وحجّا لموسم الحج لهذه السنة (١٣٢ ه‍) وقد عرف الكاتب معرفة البطائني بالصادق عليه‌السلام. قال البطائني فقال لي : استأذن لي على أبي عبد الله. فاستأذنت له فأذن له ، فلما أن دخل سلم وجلس ثمّ قال : جعلت فداك! إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم (بني أُمية) فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً. أغمضت في مطالبه؟

فقال الصادق عليه‌السلام : لولا أن بني أُمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم ؛ لما سلبونا حقّنا! ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّاما وقع بأيديهم. فقال الفتى : جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال : إن قلت لك تفعل؟ قال : أفعل. قال : فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم ، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ، ومن لم تعرف تصدقت به ، وأنا أضمن لك على الله الجنة! فأطرق الفتى طويلاً ثمّ رفع رأسه وقال : لقد فعلت جعلت فداك!

قال البطائني : فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّاخرج منه ، حتّى ثيابه التي كانت على بدنه! فقسمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا له بنفقة! فما أتى عليه إلّاأشهر قلائل حتّى مرض ، فكنا نعوده ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١.


فدخلت إليه يوماً وهو في سياق الموت ، فلما فتح عينيه ورآني قال لي : يا علي وفى لي والله صاحبك! ثمّ مات.

فتولينا أمره ، وخرجت حتّى دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فلما نظر إليّ قال لي : يا علي ، وفينا والله لصاحبك! فقلت : صدقت جعلت فداك ، هكذا ـ والله ـ قال لي عند موته (١).

بنو علي عليه‌السلام عند بني العباس :

مرّ الخبر عن اجتماع بني هاشم : بني العباس وبني علي عليه‌السلام : بني الحسن والحسين عليهما‌السلام بدعوة عبد الله المحض إلى البيعة لولده محمّد بن عبد الله الحسني ، في أواخر أيام الأمويين ، وإباء الصادق عليه‌السلام لذلك واستجابة السفّاح والمنصور لذلك (٢).

والآن وقد نجحت دعوة العباسيين واعلنت بيعة السفاح في الكوفة وإقامته بالحيرة ، وبعثه عمّه عبد الله بن علي لمقاتلة مروان ومتابعته في الشام ودخوله بدمشق في أوائل شهر رمضان (١٣٢ ه‍) وبعث إلى المدينة الحسين بن جعفر بن تمّام بن العباس ، فخرج عنها الوالي الأموي يوسف بن عروة بن محمّد بن عطية السعدي (٣).

فلم يعلم عنه أيّ خبر عن طلبه البيعة لهم ، فضلاً عن أيّ مطالبة برحلة أعلامها إلى السفّاح في الحيرة ، إلّاأنّ اليعقوبي يقول : قدم عبد الله بن الحسن

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ١٠٦ ، الحديث ٤ ، والتهذيب ٦ : ٣٣١ ، الحديث ٩٢٠ وقارنه بمثله عن أبي بصير في أُصول الكافي ١ : ٤٧٤ ، الحديث ٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٣ ـ ١٧٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٠.


ومعه أخوه الحسن بن الحسن بن الحسن ، على السفّاح فآثره وأكرمه وبرّه ووصله الصِلات الكثيرة. ولم يكن معه ابنه محمّد ، فسأله عنه فقال له : يا أمير المؤمنين! ما عليك من محمّد شيء تكرهه.

وقال له الحسن المثلّث : يا أمير المؤمنين! أرأيت إن كان الله قضى لمحمّد أن يلي هذا الأمر! ثمّ أجلبت عليه ومعك أهل الأرض والسماوات أكنت دافعاً له؟! وإن كان لم يقض ذلك لمحمّد ثمّ أجلب محمّد عليك ومعه أهل الأرض والسماوات أيضرك محمّد؟! قال : لا والله ، ولا القول إلّاما قلت! قال : فلم تنغِّص نعمتك على هذا الشيخ ومعروفك عنده؟! فقال : لا تسمعني ذاكراً له بعد اليوم!

وقال عبد الله : يا أمير المؤمنين! إنا نحميها (خلافتكم) عن كل قذاة يخل ناظرك منها!

فقال : بك أثق وعلى الله أتوكل! وطفئ بذلك أمر محمّد في خلافة السفّاح (١).

الصادق عليه‌السلام في الحيرة :

ثمّ لا نرى في مصادر التاريخ أي خبر عن محضر الصادق عليه‌السلام يومئذ في الحيرة إلّا : ما رواه الكليني أنّه دخل على السفّاح في الحيرة ثمّ حكى ذلك قال : دخلت عليه وقد شك الناس في الصوم ، وهو ـ والله ـ من شهر رمضان ، والمائدة

__________________

(١) انظر اليعقوبي ٢ : ٢٦٠. وفي أنساب الأشراف ٢ : ٨٧ : أنّ السفاح أقطع للحسن المثلث عين مروان بذي خشب ، وأقطع عبد الله قطائع بلغت غلّتها مئة ألف! ولم ينقل مثل ذلك للصادق عليه‌السلام! بل فيه أيضاً : ١٣ : أنّ السفاح خطب من عبد الله بن الحسن بنتاً لمحمد ابنه لولد السفّاح محمد فزوّجها له بولاية الجد!


بين يديه ، فسلّمت عليه فقال : يا أبا عبد الله أصمت اليوم؟ فقلت : لا فقال : فادنُ فكُل ، فدنوت فأكلت وقلت له : الصوم معك والفطر معك! فقال له رجل : تفطر يوماً من شهر رمضان؟! قال : إي والله ، أن أُفطر يوماً من شهر رمضان أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي (١).

فيعلم منه أن سفره إليه كان في شهر رمضان ، فيبدو أن ذلك كان في أوائل عهد الحسين بن جعفر العباسي بالمدينة ، ولعلّ السفاح تعمّد إدخاله إليه يومئذ وحينئذ لاختبار موقف الإمام عليه‌السلام ماذا يفعل.

ويظهر من خبر آخر أنّ والي الكوفة يومئذ ما زال كان عمّ السفاح : داود بن علي قبل أن يولّيه المدينة ، والسفّاح وداود لم يمنعا الناس بعد من اللقاء بالإمام عليه‌السلام ، ولذا كان يرى الناس لكلامه فيهم أثراً ونفوذاً ، ذلك ما رواه الكليني بسند صحيح عن داود بن زربي البندار الخندقي الذي أصبح بعد من أخص الناس بالرشيد (٢) بالتقية ، عن مولى لعليّ بن الحسين عليه‌السلام قال : لما قدم أبو عبد الله الصادق الحيرة كنت بالكوفة ، فأتيته وقلت له : جعلت فداك! لو كلّمت داود بن علي أو بعض هؤلاء ، فأدخل في بعض هذه الولايات! فقال : ما كنت لأفعل. فانصرفت إلى منزلي.

ثمّ تفكّرت فحسبت أنّه ما منعني ذلك إلّامخافة أن أظلم أو أجور ، والله لآتينّه واعطيّنه الطلاق والعتاق والأيمان المغلّظة أن لا أجورنّ على أحد ولا أظلمنّ ولأعدلنّ!

__________________

(١) الكافي ٤ : ٨٣ الباب ٩ ، الحديث ٩ و ٨٢ ، الحديث ٧ ، والتهذيب ٤ : ٣١٧ ، الباب ٧٢ ، الحديث ٣٣.

(٢) جامع الرواة ١ : ٣٠٣.


فأتيته فقلت : جعلت فداك! إني فكرت في إبائك عليَّ فظننت إنّك إنّما منعتني وكرهت ذلك مخافة أن أظلم أو أجور! وإن كل امرأة لي طالق وكل مملوك لي حرّ إن ظلمت أحداً أو جُرت على أحد بل إن لم أعدل.

فنظر إلى السماء وقال : تنال هذه السماء أيسر عليك من ذلك (١).

ويعلم منه أن هذا المولى لم يكن من خواص شيعته ولذا حلف له بالطلاق والعتاق الباطل والفاسد لديه.

ثمّ يظهر من خبر آخر أنّ الخليفة بعد هذا منع الناس من الدخول عليه عليه‌السلام ، وذلك :

ما أخرجه الراوندي عن هارون بن خارجة عن رجل من أصحابنا من أهل الكوفة : أنّه أيضاً ارتكب ما لا يصحّ عند الصادق عليه‌السلام من الطلاق الثلاث ، ثمّ سأل أصحابه (الشيعة) فقالوا : ليس بشيء ، وكان ذلك في أيام السفاح والإمام إذ ذاك بالحيرة. وارتابت المرأة فقالت : لا أرضى (بالرجوع) حتّى تسأل أبا عبد الله. فذهب إلى الحيرة وتحيّر كيف يصل إليه حتّى رأى سوادياً من سواد الكوفة عليه جبة صوف يبيع خياراً (فيعلم انه كان صيفاً) ، فقال له : خيارك هذا كلّه بكم؟ قال : بدرهم ، فأعطاه درهماً وطلب منه أن يعيره جبّته فأخذها ولبسها وأخذ ينادي : من يشتري خياراً ويدنو من منزل الإمام عليه‌السلام ، فإذا غلامه يناديه : يا صاحب الخيار! ولما دنا من الإمام عليه‌السلام قال له : ما أجود ما احتلت! أي شيء حاجتك؟ فأخبره بخبره فقال : ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء (٢).

__________________

(١) فروع الكافي ٥ : ١٠٧ ، الحديث ٩ ، وعنه في وسائل الشيعة ١٢ : ١٣٦.

(٢) الخرائج والجرائح ٢ : ٦٤٢ ، الحديث ٤٩ ، وعنه في وسائل الشيعة ١٥ : ٣١٩ ، الحديث ١٩ ، وفي بحار الأنوار ٤٧ : ١٧١ ، الحديث ٦.


وكأنّ المنصور كان يومئذ بالحيرة فروى الصدوق أنّه قال للصادق عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، ما بال الرجل من «شيعتكم» يستخرج ما في جوفه في مجلس واحد حتّى يُعرف مذهبُه؟! وكأنه يريد التشديد والتأكيد على مزيد التقية. فقال عليه‌السلام : ذلك من حلاوة الايمان في صدورهم يبدونه تبدّياً (١)!

تشيّع هشام لدى الإمام عليه‌السلام :

هشام بن الحكم الكوفي بن يزيد الكندي مولاهم ، سبقه عمّه عمر بن يزيد على الصادق عليه‌السلام فكان من شيعته. وفي عهد السفّاح في أوائل الدولة العباسية لمّا كانوا بالحيرة واستقدموا الصادق عليه‌السلام إليها ، كان عمر بن يزيد مولى كندة الكوفة يتردّد عليه ، وعلم بذلك ابن أخيه هشام وطمع في مناظرة الإمام ، فسأل عمّه عمر أن يدخله معه عليه ليناظره! فوعده أن يستأذن له عليه ، واستأذنه فأذن له ، فخرج إليه وأعلمه أنّه قد أذن له.

فبادر هشام فاستأذن ودخل مع عمّه عمر على الإمام ، فلما تمكّن في مجلسه سأله الصادق عليه‌السلام عن مسألة ، حار هشام فيها فسأل الإمام أن يؤجّله لجوابها فأجّله ، وخرج هشام يسعى في طلب الجواب أياماً ولم يقف عليه ، وعاد إلى الإمام فأخبره بها. ثمّ سأله عن مسائل أُخرى فيها فساد مذهبه وأصل عقيدته ، وكان يذهب في الدين مذهب الجهمية! فتحيّر هشام مرة أُخرى وخرج من عنده متحيراً مغتماً أياماً لا يفيق من حيرته!

ثمّ سأل هشام عمّه عمر أن يستأذن له على الإمام عليه‌السلام ثالثة ، فدخل عمر عليه واستأذن له ، وكأن الإمام رأى أن الأصلح عدم إكثار تردده عليه فقال لعمّه

__________________

(١) انظر بحار الأنوار ٤٧ : ١٦٦ عن كتاب صفات الشيعة للشيخ الصدوق رحمه‌الله.


عمر : لينتظرني غداً عصراً في موضع كذا (في الحيرة) لالتقى معه فيه إن شاء الله. قال عمر : فخرجت إلى هشام فأخبرته بأمره عليه‌السلام ، فسرّ بذلك واستبشر.

قال عمر : وبعد ذلك رأيت هشاماً فسألته عمّا كان؟ فأخبرني : أنّه سبق الصادق عليه‌السلام إلى الموضع ، وأقبل الإمام على بغلة ، وقرب مني وأبصرته فهالني منظره وأرعبني ، حتّى بقيت لا ينطلق لساني لما أردت ولا أجد شيئاً أتفوّه به! ووقف عليَّ أبو عبد الله ملباً ينتظر ما أُكلّمه فلا يزيد في وقوفه إلّاتهيّباً وتحيراً! ثمّ ضرب بغلته وسار حتّى دخل سكة من سكك الحيرة. وتيقّنت أنّ ما أصابني من هيبته لم يكن إلّامن قبل الله «عزوجل» من عِظم موقعه ومكانه من الربّ الجليل.

قال عمر : فرجع هشام إلى الصادق عليه‌السلام وترك مذهبه ودان بالحق ، ثمّ فاق أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام (١).

زيارته لمرقدي علي والحسين عليهما‌السلام :

وما رواه الكليني وابن قولويه بسندهم عن يزيد بن عمر : أنّ الصادق عليه‌السلام كان قد وعده زيارة علي عليه‌السلام وهو بالحيرة ، فركب ومعه ابنه إسماعيل والراوي (٢).

وما رواه الطوسي بسنده عن مبارك الخباز : أنّه عليه‌السلام لما قدم الحيرة قال له : أسرجوا البغل والحمار ، فركب (البغل) وركب الراوي (الحمار) حتّى دخل الجرف (الجوف) فنزل وصلّى ركعتين ، فسأله الراوي عنه فقال : هو موضع قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، الحديث ٤٧٦.

(٢) الكافي ٤ : ٥٧١ ، الحديث ١ ، وكامل الزيارات : ٣٤.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٤ ، الحديث ٧١.


وكأنّه عليه‌السلام في كل زيارة كان يصحب واحداً أو أكثر من أصحابه ليدلّهم على القبر ، ويصحب غيرهم في الزيارة الأُخرى ليكثر عارفوه وزائروه ، فرواها هؤلاء وغيرهم (١).

وداود بن علي على الحجاز :

وكان عامل مروان على الحجاز الوليد بن عروة بن عطية السعدي مقيماً بمكّة ، ولم يعلم بقتل مروان وبيعة السفّاح ، وولّى السفّاح على الحجاز للموسم (١٣٢ ه‍) عمّه داود بن علي ، فلمّا علم الوليد هرب ، وقدم داود فخطب فذكّرهم بما فضّلهم الله به فظلمهم الظالمون ثمّ قال : إنّما كانت لنا فيكم تبعات وطلبات ، وقد تركنا ذلك كلّه ، فأنتم آمنون بأمان الله أحمركم وأسودكم وصغيركم وكبيركم ، وقد غفرنا التبعات ووهبنا الظلامات ، فلا وربِّ هذه البنية (الكعبة) لا نُهيج أحداً.

وكان معه سُديف بن ميمون مولاهم فقال : أصلح الله الأمير أدنني منك وأذن لي في الكلام فأذن له ، فصعد المنبر دونه بمرقاة فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد ثمّ قال : أيزعم الضُلّال أن غير «آل رسول الله» أولى بتراثه؟! ولِمَ وبِمَ؟!

معاشر الناس! ألكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة! الشركاء في النسب والورثة للسلَب ، مع ضربهم في الفيء لجاهلكم ، وإطعامهم في اللأواء جائعكم ، وإيمانهم بعد الخوف سائلكم؟! لم يُر مثل العباس بن عبد المطلب اجتمعت له الامة بواجب حقّ الحرمة ، أبو رسول الله بعد أبيه! وجلدة ما بين عينيه يوم خيبر (كذا!) لا يردّ له أمراً! ولا يعصي له قسماً!

__________________

(١) الإمام الصادق عليه‌السلام للمظفر : ١٢٨.


إنكم والله ـ معشر قريش ـ ما اخترتم لأنفسكم مَن اختار الله لكم طرفة عين قط! ثمّ نزل.

وكان إتيان داود قبل الموسم فقام بأمر الموسم ، وبعده وجّه إلى مَن مِن بني اميّة بمكّة فقتل جماعة منهم ، وأوثق آخرين بالحديد ووجّههم إلى الطائف فقُتلوا هناك ، وحبس آخرين حتّى ماتوا! ثمّ صار إلى المدينة في أوائل سنة (١٣٣ ه‍) (١).

ولما دخل المدينة خطب فقال في خطبته : أيها الناس ؛ أغرّكم الإمهال حتّى حسبتموه الإهمال. هيهات منكم وكيف بكم والسوط في كفّي والسيف مُشهَر.

حتّى يبيد قبيلة فقبيلة

ويعض كلُّ مثقَّف بالهام!

ويقمن ربّات الخدور حواسراً

يمسحن عرض ذوائب الأيتام (٢)!

مقتل المعلّى مولى الصادق عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن دعاوي المغيرة بن سعيد مولى خالد بن عبد الله السري البجلي والي الكوفة قبيل المئة والعشرين للهجرة ، وأ نّه كان قد ادّعى علم الغيب وطلب من الإمام الباقر عليه‌السلام تصديقه فزجره بشدّة ، فقال لمحمد بن عبد الله الحسني مثله فسكت عنه فطمع فيه فادّعى أنّ الإمام السجاد عليه‌السلام قد أوصى إلى محمّد وسمّاه النفس الزكية ، وقدم بها إلى الكوفة وبثّ بها أصحابه (٣)

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١ ، ٣٥٢.

(٢) عن الكامل للجزري ٣ : ٥٥٤.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ٨ : ٢١.


فيظهر من ابن الغضائري أنّ ممّن أجابه وتبعه معلّى بن خنيس (١) مولى بني أسد (٢) ثمّ لمّا أحرق المغيرةَ مولاه خالد القسري البجلي والي الكوفة سنة (١١٩ ه‍) أي في أوائل إمامة الإمام الصادق عليه‌السلام التحق المعلّى بالمدينة واهتدى إليه وتقرّب لديه.

فكان يُرى يوم العيد لا يصلّي العيد رسمياً بل يخرج إلى الصحراء ويمدّ يده نحو السماء ويقول : اللهم هذا مقام خلفائك وأصفيائك ، وموضع أُمنائك الذين خصصتهم بها ، ابتزّوها وأنت المقدّر للأشياء ، لا يُغالب قضاؤك ، ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك كيف شئت وأنّى شئت ، علمك في إرادتك كعلمك في خلقك ، حتّى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مستترين. يرون حكمك مبدّلاً وكتابك منبوذاً وفرائضك محرّفة عن جهات شرايعك ، وسنن نبيّك صلواتك عليه متروكة. اللهم العن أعداءهم من الأوّلين والآخرين والغادين والرائحين والماضين والغابرين ، اللهم والعن جبابرة زماننا وأشياعهم وأتباعهم وأحزابهم وأعوانهم ، إنك على كل شيء قدير (٣).

فكأنّ الصادق عليه‌السلام رآه موالياً معلناً البراءة من أعدائهم يذيع الصعب من حديثهم فنهاه عن ذلك وحذّره أنّه سيقتل لذلك ، قال له : يا معلّى إنّ لنا حديثاً من حفظه علينا حفظ الله عليه دينه ودنياه! يا معلّى لا تكونوا اسراء في أيدي الناس بحديثنا إن شاؤوا منّوا عليكم وإن شاؤوا قتلوكم! يا معلّى إنّه من كتم الصعب من حديثنا جعله الله نوراً بين يمينه وزوّده القوة في الناس ، ومن أذاع الصعب من حديثنا لم يمت حتّى يعضّه السلاح أو يموت بخبل! يا معلّى أنت مقتول فاستعد (٤)!

__________________

(١) انظر قاموس الرجال ١٠ : ١٥٨ برقم ٧٦٤٣.

(٢) رجال النجاشي : ٤١٧ برقم ١١١٤.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٨١ ، الحديث ٧١٥ وتوهم من نسبه إلى الإمام السجاد عليه‌السلام.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٨ ، الحديث ٧٠٩.


وكأنّ هذا كان قبل قتله بسنة ، وأخبر به الصادق عليه‌السلام صاحبه أبا بصير الأسدي الكوفي ، ذلك أنّ المعلّى كان من مواليهم ، ولكنّه استكتمه قال له : يا أبا محمّد اكتم عليّ ما أقول لك في المعلّى! ثمّ قال : أما إنّه ما ينال درجتنا إلّابما ينال منه داود بن علي (العباسي ، وذلك قبل ولايته المدينة) قلت : وما الذي يصيبه من داود؟ قال : يدعو به فيأمر به فيضرب عنقه ويصلبه! قلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون! قال : ذلك (في العام) القابل.

قال أبو بصير : فلمّا كان القابل ولّي (داود) المدينة فقصد قصد المعلّى فدعاه وسأله عن «شيعة» أبي عبد الله وأن يكتبهم له! فقال : إنّما أنا رجل أختلف في حوائجه وما أعرف له صاحباً! فقال : تكتمني! أما إنك إن كتمتني قتلتك! قال المعلّى : تهدّدني بالقتل! والله لو كانوا تحت قدمي ما رفعت قدمي عنهم! وإن أنت قتلتني لتسعدنّي واشقيك (١)!

فلمّا أراد قتله قال له المعلّى : إنّ لي ديناً كثيراً أو مالاً فأخرجني إلى الناس حتّى أشهد بذلك! وكان على شرطة المدينة رجل يسمّى السيرافي فأمره داود العباسي أن يخرجه ، فأخرجه إلى السوق ، فلمّا اجتمع الناس قال : أيها الناس! أنا معلّى بن خُنيس فمن عرفني فقد عرفني ، واشهدوا أنّ ما تركت من مال عين أو دين أو أَمة أو عبد أو قليل أو كثير فهو لجعفر بن محمّد!

وكأنّ داود كان قد أمر السيرافي إذا قال ذلك بقتله فشدّ عليه فقتله (٢) ثمّ صلبه وصادر أمواله!

هذا والصادق عليه‌السلام كان قد حجّ تلك السنة (١٣٢ ه‍) ولا زال مجاوراً بمكّة ، وعاد داود إلى المدينة فاستغلّ غيبته عليه‌السلام. وكان معه إسماعيل بن جابر

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٨٠ ، الحديث ٧١٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٧ ، الحديث ٧٠٨.


الخثعمي (١) فقال له : يا إسماعيل ، اخرج إلى مُرّة (على مرحلة) أو عُسفان (على مرحلتين) فسل (المسافرين من المدينة) : هل حدث بالمدينة حدث؟ قال : فلم ألق أحداً في مُرّة فمضيت إلى عسفان فلم ألق أحداً فرحلت منها فلقيت عيراً تحمل زيتاً فقلت لهم : هل حدث بالمدينة حدث؟ قالوا : لا ، إلّا قتل عراقي (كوفي)؟ يقال له المعلّى بن خنيس! فانصرفت إلى أبي عبد الله فلمّا رآني قال لي : يا إسماعيل قتل المعلّى بن خُنيس؟ قلت : نعم! قال : أما والله لقد دخل الجنة (٢)!

وقدم الإمام عليه‌السلام من مكّة إلى المدينة في شهر ربيع الأول سنة (١٣٣ ه‍) وذكر له قتل المعلّى بن خنيس ، فقام مغضباً يجرّ ثوبه! وكان ابنه إسماعيل حاضراً فقال له : يا أبة أين تذهب؟ قال : (حتّى) لو كانت نازلة لأقدمت عليها! ثمّ خرج وتبعه ابنه إسماعيل! حتّى دخل على داود بن علي العباسي فقال له : يا داود! لقد أتيت ذنباً لا يغفره الله لك! قال : وما ذاك الذنب! قال : قتلت رجلاً من أهل الجنة. ثمّ قال : إن شاء الله!

وكان رجل من بني امية قد تزوّج ابنة الإمام ؛ فقال له داود : وأنت قد أتيت ذنباً لا يغفره الله لك! قال : وما ذاك الذنب؟ قال : زوّجت فلاناً الأموي ابنتك! قال : إن كنت زوجته فقد زوّج رسول الله عثمان ، ولي برسول الله أُسوة!

فقال داود : ما أنا قتلته؟ قال : فمن قتله؟! قال : قتله السيرافي! قال : فأقِدنامنه! قال : نعم!

__________________

(١) قاموس الرجال ٢ : ٣٢ برقم ٧٨٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٦ ، الحديث ٧٠٢ و ٧١٤.


فلمّا كان من الغد غدا إلى السيرافي فأخذه ليقتله فأخذ يصيح : يا عباد الله! يأمروني أن أقتل لهم الناس ثمّ يقتلوني! ثمّ قال لابنه إسماعيل : يا إسماعيل شأنك به! قال : فخرج إسماعيل والسيف معه حتّى قتله وهو قاعد (١). ولعلّه عليه‌السلام كان وليّ دم المعلّى بضمان الجريرة ويدلّ عليه :

ما رواه الكليني قال : جاء رجل إلى الصادق عليه‌السلام وقال : إن المعلّى بن خنيس ذهب بحقّي! يدّعي ديناً عليه! فقال : ذهب بحقّك الّذي قتله. ثمّ قال للوليد بن صُبيح : قُم إلى الرجل فاقض له من حقّه (٢).

وكأنّه كان من المتوقع حيث تنصّل داود العبّاسي من الأمر بقتل المعلّى وألقاه على عهدة عمدة شرطته السيرافي وأقاد الإمام منه! أن يردّ على الإمام عليه‌السلام ما صادره من أمواله التي كانت بيد وكيله المعلّى ، ولم يردّها.

فكان ما رواه الكليني أيضاً بسنده عن معتّب مولى الصادق عليه‌السلام قال : دخل الصادق عليه‌السلام على داود بن علي وقال له : قتلت مولاي وأخذت مالي! قال : ما أنا قتلته ولا أخذت مالك! فقال عليه‌السلام : لأدعونّ الله على من قتل مولاي وأخذ مالي! فقال داود : إنك لتهدّدني بدعائك! كالمستهزئ به.

قال معتّب : فلم يزل ليلته راكعاً وساجداً ، فلمّا كان في السحر سمعته يقول في سجدته : اللهم إني أسألك بقوتك القوية ، وبمحالك الشديد ، الذي كل خلقك له ذليل ، أن تصلّي على محمّد وأهل بيته وأن تأخذه الساعة الساعة! فما رفع رأسه حتّى سمعنا الصيحة من دار داود بن علي!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٩ ، الحديث ٧١٠ و ٧١١.

(٢) الكافي : ٥ الباب ١٩ ، الحديث ٨ ، وفي التهذيب : ٦ ، الحديث ٣٨٦ باب الديون.


قال : فرفع أبو عبد الله رأسه وقال : إني دعوت الله بدعوة فبعث الله عزوجل عليه ملكاً فضرب رأسه بمرزبة من حديد انشقت منها مثانته فمات (١) في شهر ربيع الأول سنة (١٣٣ ه‍) (٢).

وكأنّه عليه‌السلام أراد إرشاد شيعته إلى الاعتبار بما صار إليه المعلّى بمخالفة التقية لئلّا يبتلوا بمثل ما ابتلى به! فلمّا دخل عليه المفضّل بن عمر الجعفي مولاهم (٣) وكان كالمعلّى عالياً في التشيّع مجاهراً ، وكان في أيام صلب المعلّى فقال للإمام عليه‌السلام : يابن رسول الله! ألا ترى إلى هذا الخطب الجليل الذي نزل ب «الشيعة» في هذا اليوم! قال : وما هو؟ قال : قتل المعلّى بن خنيس! قال : رحم الله المعلّى قد كنت أتوقّع ذلك ؛ لأنه أذاع سرّنا (٤).

وأقل منه ما عن حفص التمّار قال : دخلت على أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أيام صلب المعلّى بن خنيس رحمه‌الله فقال لي : يا حفص ، إني أمرت المعلّى فخالفني (في التقية) فابتلي بالحديد (٥).

واستخلف عن داود العباسي ابنه موسى بن داود العباسي (٦).

__________________

(١) اصول الكافي ٢ : ٥١٣ ، الحديث ٥ ، واختيار معرفة الرجال : ٣٧٦ ، الحديث ٧٠٨.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦٨ بلا ذكر السبب. وفي أنساب الاشراف ٢ : ٨٧ : ١٣ صفر. كذلك بلا سبب.

(٣) رجال البرقي : ٣٤.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٨٠ ، الحديث ٧١٢ ثمّ شدّد على إذاعة أسرارهم وذلك لحاجة المخاطب إليه!

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٨ ، الحديث ٧٠٩ ومخالفة التقية ليست محرمة بالضرورة دائماً.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٧٠.


ومن أخبار ابن خنيس : ما أرسله عنه العياشي (١) وأسنده الصدوق : أنّ الصادق عليه‌السلام في ليلة من الليالي بعد مطرة خرج ومعه جراب كبير من جلود الأغنام فيه شيء يحمله ، فتبعه المعلّى ، وفي أثناء الطريق سقط منه شيء ، فتقدم المعلّى وسلّم عليه فأجابه وعرفه وكان الجو مظلماً فقال للمعلى : التمس بيدك (في الأرض) فما وجدته فادفعه إليّ. فالتمس المعلّى الأرض بيديه فإذا هو خبز منتثر فدفعه إليه وطلب منه أن يحمل الجراب عنه فقال : أنا أولى به منك! ولكن امضِ معي. فمضى معه حتّى أتى سقيفة بني ساعدة وفيها قوم نيام من الفقراء ، فجعل الإمام يدس الرغيف والرغيفين يدخله تحت ثيابهم حتّى أتى على آخرهم ثمّ انصرف.

فقال له المعلّى : هل هؤلاء ممن يعرف هذا الأمر (الإمامة)؟ قال : لا ، لو عرفوا كان الواجب علينا أن نواسيهم حتّى في الملح! ثمّ قال : إنّ الله لم يخلق شيئاً إلّا وله خازن يخزنه إلّاالصدقة ، فإن الربّ تبارك وتعالى يليها بنفسه! وإنّ صدقة الليل (السر) تطفئ غضب الربّ وتمحو الذنب وتهون الحساب ، وصدقة النهار (الجهار) تزيد في العمر وتنمي المال (٢).

ومن صدقته في النهار ما نقله المجلسي عن الصوري عن إسحاق بن إبراهيم كان مع المعلى بن خنيس عند الصادق عليه‌السلام إذ دخل رجل من أهل خراسان فقال له : يابن رسول الله ، أنا من مواليكم «أهل البيت» وبيني وبينكم شقة بعيدة ، وقد قلّ ما بيدي فلا أقدر أن أتوجه إلى أهلي إلّاأن تعينني! فنظر الصادق عليه‌السلام إلى من عن يمينه وشماله وقال لهم : ألا تسمعون ما يقول أخوكم؟ وإنما المعروف ابتداءً ، وأ مّا ما أعطيت بعد ما سأل فإنما هو مكافأة لما بذل من وجهه ..

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ١٠٧ تفسير الآية ١٠٧ من التوبة.

(٢) ثواب الأعمال : ١٧٣ وله تتمة عن عيسى وعن الباقر عليه‌السلام ، واللفظ للعياشي.


وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «والذي فلق الحبة وبرأ النسمة وبعثني بالحق نبياً لما يتجشم من مسألته إياك أعظم مما ناله من معروفك».

قال إسحاق الراوي : فجمعوا للخراساني في المجلس خمسة آلاف درهم ودفعوها إليه (١).

فهذان الخبران من عهد أواخر الأمويين وأوائل العباسيين قبل قتل المعلّى بن خنيس.

موت إسماعيل بن جعفر عليه‌السلام :

يبدو أنّ إسماعيل بن جعفر عليه‌السلام بعد مباشرته بأمر أبيه الإمام للاقتصاص من قاتل المعلّى ، توفي هو بعد ذلك في السنة نفسها (١٣٣ ه‍) قبل وفاة أبيه الصادق عليه‌السلام بخمس عشرة سنة (٢) بالعريض من نواحي المدينة فحمل على رقاب الناس إلى أبيه. فروي أنّه عليه‌السلام جزع عليه جزعاً شديداً وحزن عليه حزناً عظيماً ، ثمّ تقدّم سريره بلا حذاء ولا رداء إلى البقيع ، وأمر بوضع سريره على الأرض مراراً كثيرة ، فكان يكشف عن وجهه وينظر إليه يريد بذلك تحقيق أمر وفاته عند الظانين خلافته له بعده ، وإزالة الشبهة عنهم في حياته.

ولما مات إسماعيل رضى الله عنه انصرف عن القول بإمامته بعد أبيه من كان يظنّ ذلك أو يعتقده من أصحاب أبيه عليه‌السلام ، وأقام على حياته شرذمة لم تكن من خاصة أبيه ولا من الرواة عنه بل كانوا من الأطراف والأباعد (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٦١ ، ٦٢ عن كتاب قضاء الحقوق للصوري.

(٢) بحار الأنوار ٤٧ : ٢٥٥ بالحاشية بقلم السيّد الخرسان إلّاأ نّه قال : قبل وفاة الصادق بعشرين سنة تقريباً! وهو وهم.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢١٠.


وكان لإسماعيل ابنان محمد وعلي وكانا صغيرين ، فيظهر من خبر الكشي عن الكاظم عليه‌السلام : أنهما مكثا عند جدّهما مدّة حتّى ضجر منهما ، وكان أخو إسماعيل لأُمه عبد الله بن جعفر الأفطح فحولهما إليه وقال له : إليك ابنَي أخيك فقد ملآني بالسفه (الغضب) يعني محمداً وعلياً ابني إسماعيل (١).

وزعم بعضهم : أنّه عليه‌السلام كان قد أشار إلى إمامة ابنه إسماعيل ، فلما مات قال : إنّ الله بدا له في إمامة إسماعيل! وخرج سليمان بن جرير المتكلّم يكذّب بالبداء ، فمال بعضهم إليه وقالوا بمقالته وقالوا : كذبنا جعفر! فليس إماماً! لأنّ الإمام لا يكذب ولا يقول ما لا يكون (٢).

وكان إسماعيل قد تزوّج بأُم ولد وله مولى يدعى مبارك فهذا ادّعى أنّ الصادق عليه‌السلام كان قد أشار بالإمامة إلى مولاه إسماعيل ، فلما توفي جعلها لابنه محمّد ، ذلك أنّها لاتنتقل إلى أخٍ بعد الحسنين عليهما‌السلام ، وتبعه بعضهم فسموا المباركية نسبة إليه (٣).

بقية حوادث سنة (١٣٣ ه‍):

تفرق بنو أُمية بعد قتل مروان فصار جماعة منهم إلى عبد الرحمن بن حبيب العقبى في إفريقية ، وبنى هذا على مقاومة السفّاح ، فخالفه أخوه إلياس بن حبيب ووثب عليه جماعة من أهل البلاد منهم عقبة بن الوليد الصدفي ، ودعا إلياس إلى بني العباس فبايعوه ، فأخذ من صار إلى إفريقية من بني امية وحبسهم وكتب بخبرهم إلى السفّاح.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٥ ، حديث ٤٧٨.

(٢) فرق الشيعة : ٦٤ ، وفي المقالات والفرق : ٧٨ ويراجع في تأويله للبداء والتقية كما يجترّه النواصب اليوم.

(٣) المقالات والفرق : ٨٠ ، ٨١.


ووثب أهل الموصل على عاملهم فانتهبوه وأخرجوه! فولّى السفّاح أخاه يحيى بن محمّد على الموصل وضمّ إليه أربعة آلاف رجل من أهل خراسان ، فقدمها أوائل سنة (١٣٣ ه‍) فاعترض الناس يوم جمعة حتّى قتل ثمانية عشر ألف عربي وعبيدهم ومواليهم ، وجرت دماؤهم فغيّرت ماء دجلة (١)! وقال ابن الوردي : كان معه أربعة آلاف زنجي ، وقتل من أهلها أحد عشر ألفاً ثمّ قتل صبيانهم ونساءهم ، وأنكح نساءهم الزنوج معه وهنّ عربيات! فقالت له إحداهنّ : أما تأنف للعربيات أن ينكحهنّ الزنوج! فتأثر وجمعهم فقتلهم! فنقله السفّاح إلى فارس! وولّاها أخاه إسماعيل بن محمّد (٢).

وكان عامل مروان على أرمينية إسحاق بن مسلم العقيلي فاستخلف عليها مسافر بن كثير ، وولّى السفّاح عليها محمّد بن صول ، فحاربه حتّى قتله واستولى على أرمينية ، وكان على قلعة الكلاب ومدينتها ورد بن صفوان السامي ، فلمّا رأى أهل البلقان اشتعال الحروب زحفوا إليها وجمعوا إليهم لفيفاً من الصعاليك وغيرهم بالقلعة ، فوجّه ابن صول إليهم صالح بن صبيح الكندي فحاصرهم حتّى قتل منهم جمعاً كثيراً.

وكان قد تغلب على السند منصور بن جمهور ، فأرسل إليها السفّاح موسى بن كعب التميمي فنفد موسى في عشرين ألف مقاتل ، فصار إلى قندابيل ثمّ كاتب موسى من كان مع منصور من القبائل وكاتبتهم قبائلهم ثمّ زحف موسى بجمعه إليه فانهزم منصور وأدركه فقتله (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٧.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٨.


وكان على الروم بالقسطنطينية قسطنطين بن اليون ، فلمّا رأى اشتغال المسلمين نزل بجمعه على ملطية ، فقاتله أهلها قتالاً شديداً وألحّ عليهم حتّى نزلوا على أمانه ، فأخرجهم إلى مأمنهم ، وهدمها بما فيها من دار الإمارة والمسجد الجامع.

فبعث السفّاح محمّد بن النضر الحميري بجمع معه إلى طوالة من أرض الروم (١) ثغراً.

وفي ابن الوردي : أنّ قسطنطين استولى على ملطية وقاليقلا (٢) ولم يذكر إخراج المسلمين منها وتخريبها.

وقال : فيها ولّى السفّاح عمّه سليمان بن علي البصرة وكور دجلة والبحرين وعمان ، فقتل سليمان بالبصرة جماعة من بني امية وألقاهم في الطرق تأكلهم الكلاب! وتشتّت من بقي منهم واختفوا في البلاد (٣).

وبنى بالأنبار وانتقل إليها :

أنِف السفّاح بعد بيعته أن يحصر نفسه بقصر دار الإمارة بالكوفة وآثر عليها الحيرة ، واختار القرار بالأنبار لقربها النسبيّ من ديار الأغيار! ولذا بدأ العمل في شراء الأراضي والدور وبنائها وقصر دار الإمارة بها على ما يرام ، منذ بداية العهد العباسي السفّاحي وهو ينتظر في الحيرة أول فرصة لإمكان الانتقال إليها ، بوزارة وزيره المميّز أبي سلمة الخلّال مولى همْدان.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٦٨.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٣ و ١٨٤.


وكأنّ هذا الإمكان حصل لأواخر السنة الثالثة لعهده أي في ذي الحجة سنة (١٣٤ ه‍) (١) وفي اليعقوبي : كان قد اشترى من الناس أشرية كثيرة بنى فيها ، فأقطعها أهل بيته وقوّاده. ثمّ رفع إليه أهل تلك الأرضين والمنازل أنهم لم يقبضوا أثمانها (٢)! فأمر فضربت مضارب خيمه وأخبيته بظاهرها وبرّها حتّى استوفى القوم أثمان أراضيهم ، ثمّ عاد إلى قصره بها (٣).

اختلال أمر الخلّال وقتله :

لقّب بنو العباس أنفسهم ب «آل محمّد» وأبا مسلم الخراساني ب «أمين آل محمّد» وأبا سلمة الخلّال ب «وزير آل محمّد» فكان أبو مسلم يكتب إليه : «للأمير حفص بن سليمان وزير آل محمّد من أبي مسلم أمين آل محمّد» ثمّ علم أبو مسلم عن أبي سلمة اموراً أنكرها وذكر له تدبيره والتماسه صرف الدولة إلى بعض الطالبيين ، فكتب أبو مسلم إلى السفّاح من خراسان : أن اقتل أبا سلمة فإنّه العدوّ الغاش الخبيث السريرة (٤) فلمّا أبطأ في ذلك ...

كتب إلى عمّه داود بن علي (قبل موته) وإلى أخيه المنصور يسألهما أن يشيرا على السفّاح بقتل الخلّال ، فكلّماه في ذلك فقال لهما : ما كنت لُافسد كثير إحسانه وعظيم بلائه وصالح أيامه بزلّة كانت منه (٥) وكره السفّاح أن يوحش

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤.

(٢) ولعلّ هذا مما أساء ظنّه بوزيره الخلّال بأنه يريد إساءة ظنّ رعيّته به!

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٨.

(٤) انظر تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٢.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٢٧٠.


أبا مسلم بقتله الخلّال أو يوجد له سبيلاً إلى الاحتجاج به عليه! فكتب السفّاح إلى أبي مسلم : أن وجّه أنت من يقتله! فوجّه أبو مسلم لذلك مراد بن أنس الضبّي.

وكان الخلّال يسمر عند السفّاح ، فجلس الضبّي له على بابه فلمّا خرج ثار إليه فضرب عنقه (١).

وقال المسعودي : بل وجّه جماعة من ثقات أصحابه لإعمال الحيلة لقتل الخلّال! وكان أديباً عالماً بتدبير السياسة فكها ممتعاً! فكان السفّاح يأنس به ويسمر عنده. فقيل : إنّ أبا سلمة انصرف ليلة من عند السفّاح في مدينته بالأنبار وليس معه أحد! فوثب عليه أصحاب أبي مسلم فقتلوه! فلمّا اتصل خبره بالسفّاح أنشأ يقول :

إلى النار فليذهب! ومن كان مثله

على أي شيء فاتنا منه نأسف (٢)؟!

وذلك كان في أوائل ما بعد التخلّص من مروان بمصر ، وفراغ أخيه المنصور وقائده الحسن بن قحطبة من شرّ ابن هبيرة بواسط ، فولّى أخاه المنصور الجزيرة والموصل إلى الثغور ، فخرج حتّى صار إلى الرقة فاختط بها الرافقة على شط الفرات وهندسها له قائده أدهم بن محرز الباهلي. وكذلك ولّاه أرمينية وآذربايجان ، فولّى الحسن الطائي الجزيرة ثمّ أرمينية (٣).

وسليمان الأموي بعد أبي سلمة :

كان سليمان بن هشام بن عبد الملك قد خرج على مروان ، ثمّ استأمن من السفّاح فآمنه ، فقدم عليه ومعه ولداه. وكان السفّاح يجلس بالعشيّات ويأذن

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٧١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٨.


لخواصّه وأهل بيته ، ويجلس سليمان وابنيه معه على الكراسي والنمارق! وبلغ ذلك إلى سُديف بن ميمون مولاهم وكان مع داود بن علي وكان شاعراً ، فنظم شعراًفي ذلك وارتحل إليه بزيّ أعرابي حتّى أناخ ناقته وعقلها بباب قصر السفّاح بالأنبار وانتظر الإذن ، وإذا بأبي الجهم من خواص قوّاد السفّاح يهمّ بالدخول عليه فقال له : استأذن لي على أمير المؤمنين وأنا مولاه سُديف! فقال له : اذهب وضع عنك ثياب سفرك وعُد ، وسأستأذن لك عليه ، فقال له : إني آليت أن لا أضع عني ثوباً ولا أحلّ لثاماً حتّى أنظر إلى وجهه! فدخل أبو الجهم على السفّاح وأخبره به فأذن له ، فدخل أعرابي فوقف وسلّم عليه بإمرة المؤمنين ثمّ تقدّم فقبّل يديه وبين رجليه! ثمّ تأخّر واندفع يقول شعراً :

أصبح الملك ثابت الأساس

بالبهاليل من بني العباس!

يا أمير «المطهِّرين من الرج

س» ويا منتهى كل رأس!

أنت «مهديّ» هاشم وهداها!

كم اناس رجوك بعد إياس!

لا تقيلنّ «عبد شمس» عثاراً

واقطعن كل رقلةٍ وغِراس!

أفنِها أيها الخليفة واحسم

عنك بالسيف شأفة الأرجاس!

أنزلوها بحيث أنزلها اللّ

ه بدار الهوان والإتعاس!

ولقد ساءني وساء قبيلي

قربهم من نمارق وكراسي!

خوفهم أظهر التودّد منهم

وبهم منكمُ كحزّ المواسي!

واذكروا مصرع «الحسين» وزيد

وقتيلاً بجانب المِهراس (١)

والقتيل الذي بحرّان أَمسى رهن رمسٍ في غربة وتناسي (٢)

نِعم كلب الهراش مولاك لولا

حلّهُ من حبائل الإفلاس!

__________________

(١) المهراس موضع كان يجتمع فيه الماء من جبل احد ويقصد به حمزه قتيل اميه

(٢) يعنى ابراهيم بن محمد الامام العباسى القتيل فى سجن حران


فقام سليمان بن هشام وقال : يا أمير المؤمنين! إنّ مولاك هذا يحرّضك منذ مثل بين يديك على قتلي وقتل ابنيّ! وأنا قد تبيّنت ـ والله ـ إنك تريد أن تغتالنا!

فقال السفّاح : لو أردت ذلك ما كان يمنعني منكم على غير غيلة! فأما إذ سبق ذلك إلى قلبك فلا خير فيك! ثمّ التفت إلى أبي الجهم وقال له : يا أبا الجهم أخرجه وبنيه فاقتلهم وائتني برؤوسهم! فأخرجهم وقتلهم وأتاه برؤوسهم (١)!

زحف الروم إلى ثغر أرمينية الرابعة :

في جمادى الآخرة من سنة (١٣٤ ه‍) خرجت الروم وعليهم البطريق كوشان إلى أرمينية الرابعة ، فبعث عبد الله بن علي الحارث بن عبد الرحمن الحرشي ، فوجّه مقاتل بن حُكيم العتكي ، فأرسل ابنه مخلّد بن مقاتل! فلقى الروم بأرمينية الرابعة وانهزم مخلّد وأسلم عسكره للعدو!

ففي السنة التالية (١٣٥ ه‍) كتب السفّاح إلى عمّه عبد الله بن علي يأمره بضرب البعوث لثغور الشام إلى الروم ، فولّى عبد الله : سعد بن عبد الرحمن الرحبي ، فجعل رجالاً على أفواه الدروب وفي قرية دابق (٢). وكتب السفّاح إليه بغزو الروم ، فرحل عبد الله بن علي إلى دابق وعسكر بها وتوافت إليه الجنود (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٦٠. وذكرها ابن الوردي ونسبها إلى شبل بن عبد الله على عبد الله بن علي عمّ السفّاح في فلسطين لقتل نحو التسعين من الأمويين! إلّاأ نّه قال : فأنشد ، فلعلّه كان إنشاداً لما أنشأه سُديف للسفّاح! تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٣.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٦٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٢.


وفي اليعقوبي : كتب السفّاح إلى عمّه عبد الله بن علي : أن العدوّ قد كلب بالغفلة عنه! وأمره أن ينفذ بالجيوش التي معه فيبثهم في نواحي الثغور. فزحف عبد الله ولم يزل يعبّئ حتّى قطع الدرب عليهم (١).

أبو مسلم بعد قتل أبي سلمة :

ولما استسلم السفّاح لسفح دم وزيره الخلّال الخراساني بطلب رقيبه أبي مسلم الخراساني فخلا له الجوّ ، استأذنه للقدوم إليه ثمّ إلى الحج لسنة (١٣٦ ه‍) فأذن له (٢) وقدم عليه فأكرمه وأعظمه. وكان أخوه المنصور حاضراً ودخل أبو مسلم فسلّم على السفّاح ولم يسلم على المنصور وأراد الخروج فقال له السفّاح : لِمَ لَم تسلّم على مولاك؟! يعني المنصور! فقال : قد رأيته ولكنّه في مجلس الخليفة لا يقضى حقّ أحد غيره (٣)!

فلمّا حضر الموسم استأذنه للحج فأذن له فحجّ وحجّ معه المنصور ، فلمّا خرجا اشتدت العلّة (الجدري) بالسفّاح ، فقيل له : صيّر ولاية عهدك إلى أبي جعفر. وكان عنده عمّه عيسى بن علي يصلّي عنه بالناس ، وبعد صلاة العشاء خرج رسول السفّاح إليه بكتاب عليه عنوانه : من عبد الله و «وليّه» إلى «آل رسول الله» و «الأولياء» وجميع المسلمين (والكتاب مغلق ، وحضر عمّه عيسى عنده فقال له) : يا عمّ إذا خرجت نفسي فسجّني بثوبي واكتم موتي حتّى يقرأ هذا الكتاب على الناس ، فإذا قرئ فخذ بيعة المسمّى فيه ، فإذا بايع الناس فخذ في أمري وجهّزني وصلّ عليَّ وادفنّي. خذ هذا الكتاب وامض راشداً.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٥١.


هذا وهو ابن ست وثلاثين وقد خلّف بنتاً وابناً غير بالغ ، وتوفي في ثاني أيام عيد الأضحى سنة (١٣٦ ه‍) (١) وكان طويلاً أبيض أقنى حسن الوجه جعد الشعر له وفرة ، يهون عليه أن يسفك دماء عالم من أعدائه بلا أن يعاين ذلك (٢) وكانت وفاته بالجدري (٣) وصلّى عليه عمّه عيسى ودفنه بالأنبار العتيقة ، وكان قد عقد العهد في ثوب وختم عليه ودفعه إلى عمّه عيسى لأخيه المنصور ثمّ عيسى بن موسى (٤).

ربيعة الرأي والإمام الصادق عليه‌السلام :

مات أمير الحجاز داود بن علي العباسي في غرة شهر ربيع الأول (٥) واستخلف ابنه موسى فعزله السفّاح وولّى خاله زياد بن عُبيد الله الحارثي فقدم المدينة في جمادى الأُولى سنة (١٣٣ ه‍) إلى موت السفاح (٦) سنة (١٣٦ ه‍) وفيها مات ربيعة الرأي ابن أبي عبد الرحمن مولى آل المنكدر (٧) وكان فقيه المدينة!

ويظهر من خبر أنّ الصادق عليه‌السلام كان يحضر مجلس زياد الحارثي هذا ، ولعله كان في أوائل أمره ولذا سأل عن تحريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للمدينة ، وكان ربيعة الرأي أيضاً حاضراً فسأله : يا ربيعة ما الذي حرّم رسول الله من المدينة؟ فقال : بريد في

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٢.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٩٣.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٢٠ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤ ، والسيوطي : ٣١٣.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٤.

(٥) تاريخ خليفة : ٢٦٨.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٧٠.

(٧) تاريخ خليفة : ٢٧٢.


بريد. والبريد لم يكن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما هو معرّب عن الفارسية بعد ذلك (١). فروى الصدوق بسنده عنه عليه‌السلام قال : فقلت لربيعة : أكانت البريد على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فسكت ولم يُجبني! فأقبل زياد عليَّ وقال : فما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال : فقلت : حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المدينة من الصيد : ما بين لابتيها. فقال : وما «لابتيها»؟ قلت : ما أحاطت به الحِرار (من الشرق والغرب : حَرّة واقم وحَرّة ليلى) فقال : ومن الشجر؟ قلت : من (جبل) عير إلى (جبل) وَعِير (٢).

وشتم رجلٌ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسأل الوالي (الحارثيّ) عبدَ الله بن الحسن والحسنَ بن زيد وغيرَهما فقالوا : يُقطع لسانه! وقال ربيعة الرأي : بل يُؤدّب! وسأل الوالي الصادق عليه‌السلام فقال لهم : أرأيتم لو ذكر (رجل بالسوء) رجلاً من أصحاب النبيّ فما كان الحكم فيه؟ قالوا : مثل هذا! فقال : فليس بين النبيّ وبين رجل من أصحابه فرق؟ فقال الوالي (الحارثي) فكيف الحكم فيه؟ قال :

أخبرني أبي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «الناس فيّ أُسوة سواء ، فمن سمع أحداً يذكرني (بسوء) فالواجب عليه أن يقتل من شتمني ، ولا (يجب أن) يرفع إلى السلطان ، والواجب على السلطان إذا رفع إليه أن يقتل من نال مني».

فقال الوالي (الحارثي) : فبحكم أبي عبد الله أخرجوا الرجل فاقتلوه (٣).

__________________

(١) في مجمع البحرين ٣ : ١٣ عن الفائق للزمخشري : البريد في الأصل كلمة فارسية أصلها : بريده دُم ، أي محذوفة الذنب ، لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب ، فعُرّبت ثمّ سميت بها المسافة.

(٢) معاني الأخبار : ٣٣٧.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٨٤.


ويظهر من خبر آخر أن بعض أصحاب الصادق عليه‌السلام كان يجاهر بما هو عليه ، ذلك ما رواه الكشي عن زرارة بن أعين بن سنسن الرومي أنّه التحق في (مسجد) المدينة بحلقة مذاكرة فيها ربيعة الرأي وحضرها عبد الله بن محمّد الباقر عليه‌السلام وكان يعرف زرارة من فقهاء أصحاب أخيه الصادق عليه‌السلام فقال له : يا زرارة ؛ سل ربيعة عن شيء مما اختلفتم! فقال : إنّ «الكلام» يورث الضغائن! وسمعه ربيعة الرأي فقال له : سل يا زرارة! قال : فقلت : بِمَ كان رسول الله يضرب في الخمر؟ قال : بالنعل وجريد النخل! فقلت : لو أن رجلاً شارب خمر أُخذ وقدّم إلى الحاكم ما كان (يحكم) عليه؟ قال : يضربه بالسوط وذلك لأنّ عمر ضرب بالسوط!

فتكلم عبد الله بن محمّد الباقر قال : يا سبحان الله يضرب رسول الله بالجريد ويضرب عمر بالسوط ، فيُترك ما فَعل رسول الله ويؤخذ ما فعل عمر (١)؟!

واستخلف المنصور وخالفه عمّه عبد الله :

مرّ خبر اليعقوبي في وصية السفّاح بعهده إلى عمّه عيسى بن علي العباسي حيث كان المنصور أخوه ووليّ عهده في الحج ، فأخذ له عيسى البيعة على من حضر بالأنبار من العباسيين والقواد. ثمّ أرسل إليه بعهده مع محمّد بن الحصين العبدي. وكان المنصور راجعاً فوافاه بعد وفاة أخيه السفاح بأُسبوعين (في أواخر ذي الحجة) في منزل يقال له زكية ، فقال المنصور : يزكو أمرنا إن شاء الله! ثمّ دعا من معه إلى بيعته في المنزل التالي : صفية ، وقال : يصفو لنا أمرنا ، وأسرع سيره (٢).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٥٣ ، الحاديث ٢٤٩.

(٢) تاريخ اليعقوبى ٢ : ٣٦٤.


وكان أبو مسلم قبله بمرحلة فكتب إليه المنصور : إنّه قد حدث حدَث ليس يغيب عنه مثلك ؛ فالعجل العجل (١) ولعلّه لحضور أبي مسلم أخّر البيعة إلى المنزل اللاحق. وقد اكتمل يومئذ أربعين عاماً ، وامه سلامة البربرية (٢) ابنة بشير من مولّدي البصرة (٣).

وقال ابن العبري : أن أبا مسلم كان متقدماً في الطريق على أبي جعفر المنصور ، فلمّا أتاه خبر وفاة السفّاح لم يرجع إلى المنصور ولم يقم حتّى يلحقه وإنّما كتب إليه يعزّيه عن أخيه بلا تهنئة له بالخلافة! وصار له الذكر بين الأعراب إذ كان يكسوهم ويصلح آبارهم والطرق ، فخافه المنصور وهجر النوم وأجمع الرأي على المكيدة به ليقتنصه (٤) فلعل أبا مسلم كان لاحقاً بالمنصور ثمّ تعدّاه سابقاً ولم يعرّج عليه. ولكنّه بايعه (٥).

وكتب الوصيّ عيسى بن علي إلى أخيه بمصر صالح بن علي يعرّفه الحادثة في ابن أخيه أبي العباس السفّاح ، وما كان من عهده إلى أخيه المنصور ومبايعتهم له واجتماعهم عليه ، وأمره أن يبايع له.

وكان السفّاح قبل وفاته قد كتب إلى عمّه على الشام عبد الله بن علي أن يغزو صائفة الروم ويقطع الدرب عليهم ، وكان قد قطع الدرب إلى بلاد الروم ، حيث بعث إليه أخوه عيسى حاجب أخيه السفاح غسّان بن يزيد بن زياد ليبايع عبدُ الله لابن أخيه المنصور ، فلحقه وقد قطع الدرب فرجع إلى قنسّرين حتّى صار

__________________

(١) الامامه والسى اسى ه

(٢) مروج الذهب ٣ : ٢٨١.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٩٥.

(٤) مختصر تاريخ الدول : ١٢٠ ـ ١٢١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٤ ـ ٣٦٥.


إلى قرية دلوك ، وكان معه حُميد بن قحطبة الطائي فأحضره وجماعة من القواد الذين كانوا معه وقال لهم : أما تشهدون أن أبا العباس قال : من خرج إلى مروان فهو وليّ عهدي؟ فشهدوا له بذلك ، وبايعوه وبايع له أكثر أهل الشام ، وكتب بذلك إلى أخيه عيسى بن علي ، وتوجّه إلى حرّان يريد العراق.

وكان على حرّان موسى بن كعب فلم يستجب له وتحصّن منه ، فحاصره أربعين يوماً ثمّ خرج بالأمان إلى العراق (١).

توجيه أبي مسلم لقتل العمّ :

قال اليعقوبي : في غرة محرم الحرام لعام (١٣٧ ه‍) قدم المنصور إلى الحيرة ، وصلّى بالناس الجمعة ، ثمّ شخص مع أبي مسلم إلى بلدة أخيه السفّاح بالأنبار فاستولى على خزائن السفّاح وضمّ إليه أطرافه.

وبلغه أمر عمّه عبد الله بن علي وتوجّهه إلى العراق ، فاستدعى أبا مسلم وقال له : ليس لعبد الله بن علي غيري أو غيرك! فقال له أبو مسلم : يا أمير المؤمنين! إنّ أمر عبد الله بالشام أقل وأذل ، وأمر خراسان أجل! ثمّ قام وانصرف إلى رحله وقال لكاتبه : ما الرأي إلّاأن أمضي إلى خراسان واخلّي بين هذين الكبشين فأيهما غلب وكتب إلينا كتبنا إليه وأطعنا ، فيرى أنا قد أنعمنا عليه وعملنا له عملاً. فقال له كاتبه : اعيذك بالله أن تمكّن أهل خراسان من الطعن عليك وأن يروا أنك نقضت أمراً بعد توكيده! فقال له : ويحك! إني نظرت فيمن قتلت صبراً سوى من قتل في المعارك فوجدتهم مئة ألف من الناس! فلم يزل به كاتبه حتّى أجاب المنصور إلى الخروج إلى عمّه ، وعسكر في خلق عظيم ، ثمّ صار إلى الجزيرة. وسمّاه عبد الله بن علي : أبا مجرم.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٥.


وكان مع عبد الله بن علي أخوه عبد الصمد ، فنقل اليعقوبي (العباسي) عنه بواسطة السندي بن شاهك قوله : كنت عند عبد الله بن علي إذ دخل حاجبه وقال : رسول أبي مجرم! بالباب؟ فقال : ايذن له.

فدخل رجل كريه الوجه قبيح المنظر كثير الشعر عظيم العقب كثير حشو الخفتان ، ولم يسلّم على عبد الله وإنّما سلم سلاماً عاماً وقال : إن الأمير أبا مسلم يقول : علامَ تقاتلني وأنت تعلم أني لا اقاتلك؟

وخرج عبد الله بعسكره إلى نصيبين لمقاتلة أبي مسلم ، وكأنّ عبد الله شك في إخلاص حُميد بن قحطبة له فأراد قتله وبلغ ذلك إلى حُميد فاحتال حتّى صار إلى أبي مسلم ، وخاف عبد الله أن يفعل نظراؤه مثله. وفي نصيبين واقع أبو مسلم عبد الله بن علي عدة وقائع حتّى فرق جمعه ، وكان أخو عبد الله سليمان بن علي على البصرة ، وأمر أبو مسلم أن لا يعترض أحد لعبد الله فهرب إلى أخيه سليمان بالبصرة واختفى عنده. واستولى أبو مسلم على خزائنه وأمواله ولم يرسلها إلى المنصور. وأرسل المنصور إليه مولاهم يقطين بن موسى (أبا علي بن يقطين) مهنئاً له بالفتح. وبعث باسحاق بن مسلم العقيلي ومحمّد بن عمرو النصيبي التغلبي ليحصوا ما حصل في يد أبي مسلم من الأموال والخزائن ، فأ مّا يقطين فحلف له بالطلاق قال : امرأتي طالق ثلاثاً! إن كان أمير المؤمنين وجّهني إليك إلّامهنئّاً بالفتح! فقال للرجلين : ويلي على ابن سلامة! (يريد أُم المنصور) اوتمنُ على الدماء ولا اوتمنُ على الأموال! وشتمهما واستخفّ بهما. فرجعا إلى المنصور وأخبراه بخبره! فولّى المنصور هشام بن عمرو العقيلي مكان أبي مسلم بخراسان (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.


قتل المنصور لأبي مسلم :

كان المنصور حين قتال أبي مسلم لعبد الله بن علي العباسي عمّ المنصور ، قد انتقل من الأنبار إلى رومية المدائن ، ولما غضب أبو مسلم على المنصور لطلب إحصائه أموال عبد الله ، لم يرجع إلى المنصور مع مروره بقرب المدائن بينه وبينه فرسخان (١١ كم تقريباً) فلم يلقه ونفذ لوجهه وجازه إلى حُلوان يريد خراسان ، فطلب المنصور من عيسى بن موسى العباسي أن يلحق أبا مسلم فيترضّاه للقاء المنصور (١).

وقال الدينوري : قدم المنصور من الأنبار إلى المدائن ، وخرج أبو مسلم إلى خراسان مجابناً له ، فكتب إليه المنصور : قد اردت مذاكرتك في أُمور لا تحملها الكتب! فأقبِل فإنّ مقامك عندنا قليل! فلم يلتفت أبو مسلم إلى كتابه.

فبعث المنصور إليه جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي ، وكان أبو مسلم يعرفه ، فقال له : أيها الأمير ، ضربتَ الناس لأهل هذا البيت ، ثمّ تنصرف على مثل هذه الحال ، إن الأمر عند أمير المؤمنين لم يبلغ ما تكره ، ولا أرى أن تنصرف على هذه الحال.

قال : وذكروا : أن جريراً لم يزل بأبي مسلم حتّى أقبل به راجعاً. وكان المنصور يومئذ برومية المدائن ، فأمر الناس أن يتلقّوه. وأذن له فدخل على دابته فرحّب به وعانقه وأجلسه على سريره وقال له : كدت أن تخرج ولم أُفضِ إليك بما اريد!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٦. وقال خليفة : بعث المنصور خلف أبي مسلم : سلمة بن سعيد وكان أبو مسلم زوج خالته ، فلحقه قبل وصوله إلى الريّ! فسأله الرجوع إلى المنصور فقدم معه.


فقال أبو مسلم : قد أتيت يا أمير المؤمنين فليأمرني بأمره. قال : انصرف إلى منزلك وضع ثيابك وادخل الحمّام ليذهب عنك كلالُ السفر.

وأقام أبو مسلم أياماً وفي كل يوم يأتي المنصور فيريه من الإكرام ما لم يُرِه قبل ذلك ، وهو ينتظر به الفرصة. وأقبل أبو مسلم فلمّا صار إلى الزقاق الداخلي قيل له : إن أمير المؤمنين! يتوضّأ ، فلو جلست! وكان على حرس المنصور عثمان بن نُهيك فاستدعاه المنصور ومعه حرب بن قيس وشبيب بن رياح المرورودي وقال لهم : إذا عاتبته فعلا صوتي فلا تخرجوا ، وإذا صفقت بيدي فدونك يا عثمان! وجعلهم في قطعة من الحجرة في ستر خلف محلّ أبي مسلم. وقيل له : أن قد جلس أمير المؤمنين فقام ليدخل ومعه سيفه! فقيل له : انزع سيفك! فقال : ما كان يُصنع بي هذا! فقيل : وما عليك! فنزع سيفه ، وعليه قباء أسود وتحته جبّة خزّ (فكان شتاءً).

فدخل فسلّم وجلس على وسادة ليس في المجلس غيرها ، وخلف ظهره القوم خلف ستر. فقال أبو مسلم : يا أمير المؤمنين صُنع بي ما لم يُصنع بأحد ، نُزع سيفي من عنقي! قال : ومن فعل ذلك قبّحه الله! ثمّ أقبل يعاتبه يقول له : فعلت وفعلت؟ فقال : يا أمير المؤمنين لا يقال مثل هذا لي على حسن بلائي وما كان مني! فقال المنصور : يابن الخبيثة! والله لو كانت أمة أو امرأة مكانك لبلغت ما بلغت في دولتنا ، ولو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلاً! ألست الكاتب إليّ تبدأ بنفسك ، والكاتب إليّ تخطب ابنة علي ابن عمي وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن العباس ، لقد ارتقيت ـ لا أُمّ لك ـ مرتقى صعباً ، يقول ذلك وترتعد يده. ثمّ صفق بيده ، فخرج عثمان لقتله فأكبّ أبو مسلم إلى رجل المنصور يقبّلها فدفعه برجله ، وضربه شبيب على عاتقه فأسرعت فيه ثمّ اعتوره القوم بأسيافهم فقتلوه وهو يستغيث ، ثمّ أمر المنصور فلفّ في مَسح ووُضع ناحية.


وكان أبو مسلم قال لعيسى بن موسى أن يركب معه إلى المنصور ، فقال له : أنت في ذمتي! ولكنّه أبطأ عليه. والآن قيل : إن عيسى بن موسى بالباب ، فقال المنصور : أدخلوه ، فلمّا دخل قال : أين أبو مسلم؟ قال : كان هاهنا فخرج! فقال : يا أمير المؤمنين قد عرفت طاعته ومناصحته ورأي إبراهيم الإمام فيه! فقال المنصور : يا أنوك (أحمق) والله ما أعرف عدواً أعدى لك منه! هاهو ذا في البساط! فقال عيسى : إنا لله وإنّا إليه راجعون.

ثمّ أمر المنصور أن يطرح رأسه إلى قوّاده بالباب! فبعضهم اتكأ على سيفه فمات وهمَّ كثير منهم أن يبسطوا سيوفهم على الناس وأرادوا القتال ، فلمّا علم المنصور بذلك أمر لهم بالعطاء وأجزل الصلات للقواد والرؤساء وعهد إليهم : من أحبّ منكم أن يكون هاهنا معنا نأمر بإلحاقه بالديوان في ألف من العطاء ، ومن أحبّ أن يلحق بخراسان كتبنا له خمسمئة ترد عليه في كل عام وهو في بيته!

فقالوا : رضينا يا أمير المؤمنين كل ما فعلت فأنت الموفق. فمنهم من رضي بالمقام معه ومنهم من لحق بخراسان (١) قال اليعقوبي : وكان ذلك في شعبان سنة (١٣٧ ه‍) (٢) وقال خليفة : لأربع بقين منه (٣).

وذكر ابن العبري : أنّه كان يُخبز في مطبخه ثلاثة آلاف قرص خبز ومئة شاة سوى البقر والطير ، وله ألف طبّاخ ، وآلات مطبخه تُحمل على ألف ومئتي رأس من الدواب ، وقَتل ستمئة ألف صبراً سوى من قتل في الحروب (٤).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٦١ ـ ١٦٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٨.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٢.

(٤) تاريخ مختصر الدول : ١٢١.


وقال ابن الوردي : خلّف أبو مسلم باقي عسكره في حلوان وإنّما قدم المدائن في ثلاثة آلاف منهم. وكان بعد هزيمته لعبد الله بن علي كتب إليه المنصور بصرفه عن خراسان وولايته بمكان عبد الله على الشام ومصر ، فلم يجب أبو مسلم لذلك وتوجه إلى خراسان (١).

وكانت له ثلاث نساء (٢) له من إحداهن فاطمة (٣).

ما بعد قتل أبي مسلم :

في أوّل خطبة للمنصور بعد قتله أبا مسلم قال : إن أبا مسلم بايعنا وبايع لنا على أنّه من نكث بيعتنا فقد أباح لنا دمه! ثمّ هو نكث بيعته ، فحكمنا عليه لأنفسنا حكمه على غيره لنا ، ولم تمنعنا رعاية حقه من إقامة الحق عليه. ولما انتهى قتل أبي مسلم إلى خراسان والجبال اضطربت ، واجتمعوا على رجل يسمى سنباد من نيشابور حتّى صار في عسكر عظيم ، فسار فيهم إلى الري فغلب عليها وعلى قومِش (سمنان ودامغان) وكانت لأبي مسلم بالري خزائن فاستولى عليها ، وكثر جمعه بأهل الجبال وطبرستان.

واتصل خبره بالمنصور فسرّح إليه جمهور بن مراد العجلي في عشرة آلاف وتلاه بالعساكر! فالتقوا في طرف المفازة بين همْدان والري فاقتتلوا قتالاً شديداً حتّى قتل ستون ألفاً منهم وقتل سنباد فولّى سائر أصحابه ، وسبى منهم سبايا وذراري كثيرة ، كل ذلك في غضون شهرين (٤).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٥.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٢١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٩٣.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ومختصره في تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٨.


مصير عبد الله بن علي العباسي :

كان على البصرة سليمان بن علي فلجأ إليه أخوه عبد الله بن علي مختبئاً عنده ، كان ذلك قبل شهر رمضان (١) وبلغ المنصور مكان عمّه عبد الله بن علي عند أخيه سليمان بن علي بالبصرة ، فوجّه المنصور إلى سليمان يطلبه منه فأنكر أن يكون عنده. ثمّ طلب له الأمان فأعطاه ، وكان كاتب سليمان عبد الله بن المقفّع البصري المولى فأمره سليمان أن يكتب نسخة الأمان فوضعها ابن المقفّع بأغلظ العهود والمواثيق أن لا يناله بمكروه وأن لا يحتال عليه بحيلة ، وفيها : فإن أنا فعلت أو دسست فالمسلمون براء من بيعتي وفي حِلٍّ من الأيمان والعهود التي أخذتها عليهم! وقدم سليمان بن علي من البصرة بهذه النسخة إلى المنصور ، فكتب المنصور له الأمان عليها ، وعاد سليمان بها إلى البصرة إلى أخيه عبد الله بن علي ، وكان معه بالبصرة أخوهما عيسى بن علي فظهر عبد الله بهما إلى المنصور بالحيرة فقدما به عليه ليوم الغدير الثامن عشر من ذي الحجة سنة (١٣٧ ه‍). وكان عيسى ابن موسى وليَّ عهد السفّاح بعد المنصور فأمر المنصور بحبس عبد الله عنده.

وسأل المنصور يوماً عيسى بن موسى عن عمّه عبد الله فقال : قد مات! فوجّه إلى جماعة من بني العباس وفيهم إسماعيل وعبد الصمد وعيسى أبناء علي ، وقال لهم : إنّي كنت دفعت أخاكم عبد الله بن علي إلى عيسى بن موسى وأمرته أن يحتفظ به ويكرمه ويبرّه! وقد سألته عنه فذكر أنّه قد مات! فأنكرت ستر خبر موته عني وعنكم.

فقال القوم : إن عيسى قتله ، ولو كان عبد الله مات حتف أنفه ما ترك أن يعلمك ويعلمنا فجمع بينهم فطالبوه بدمه ، فقال المنصور : إيت ببيّنة عادلة!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٧٣.


على ما ذكرت من أمر عبد الله ، وإلّا أقدتك منه! فقال : إنّما أردت بما قلت الراحة من حراسته ، فأخّروني إلى العشي. فأخّروه. فحضر بالعشي وأحضر عبد الله معه صحيحاً سوياً ، فاتهمه المنصور أنّه أراد أن يعرف ما عندهم فإذا احتملوا ذلك قتله! (وذلك ليحتج به لعزله عن العهد).

ثمّ أمر المنصور فبني له بيت في الدار ، ثمّ أجرى الماء على أساس ذلك البيت فسقط على عبد الله فمات (١٤٩ ه‍).

وسأل المنصور عن كاتب نسخة الأمان له : مَن كتبه؟ فقيل : عبد الله بن المقفّع (١) فأضمر قتله. وقد كان ابن المقفّع قد طار صيته في المصنّفين (٢) ولذا استكتبه سليمان العباسي.

الغلاة من أصحاب أبي الخطاب :

كان من موالي بني أسد في الكوفة رجل يدعى محمد الأجدع بن أبي زينب مقلاص ، وتولّى الصادق عليه‌السلام فأخذ يحمل رسائل المسائل للشيعة بالكوفة إليه عليه‌السلام بالمدينة ويأتيهم بجواباتها (٣) فلذا أو لأنّه كان يعمل الزرود ويبردها قيل له البرّاد ، وقيل : بل كان بزّازاً. ويروي لهم عن الإمام عليه‌السلام (٤) ويظهر من خبر عن الكاظم عليه‌السلام : أن الصادق عليه‌السلام استعمل الأجدع لحمل رسائله إلى شيعته بالكوفة (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.

(٢) التنبيه والإشراف : ٦٦.

(٣) الكافي ٥ : ١٥٠.

(٤) قاموس الرجال ٩ : ٥٩٤ عن الغضائري والطوسي.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٢٩٤ ، الحديث ٥١٨.


وكان لا يحفظ لفظ الإمام فيزيد فيه من عنده ، ويبلغ الإمام ذلك فينهاه فلا يقبل منه (١). فعزله الإمام عليه‌السلام وتبرّأ منه. وكان أول فساده أن كان لا يصلي المغرب حتّى يغيب الشفق وتشتبك النجوم ، وتبعه أصحابه (٢).

وترأس سبعين رجلاً منهم إلى الحج فدخل بهم على الصادق عليه‌السلام ، فقال لهم : ألا اخبركم بفضائل المسلم؟ قالوا : بلى جعلنا فداك! قال : من فضائل المسلم أن يقال : فلان قارئ لكتاب الله عزوجل ، وفلان ذو حظّ من ورع ، وفلان يجتهد في عبادته لربّه. فهذه فضائل المسلم. ثمّ قال : ما لكم والرئاسات ، إنما للمسلمين رأس واحد ، فإياكم والرجال (٣).

ثمّ كتب إليه : بلغني أنك تزعم أنّ الزنا رجل وأنّ الخمر رجل! وأنّ الصلاة رجل وأنّ الصيام رجل! وليس كما تقول (بل) إنا أصل الحق وفروع الحق طاعة الله ، وعدونا أصل الشر وفروعهم الفواحش (٤).

ثمّ زعم لهم أنّهم عليهم‌السلام يعلمون الغيب فهم أنبياء! ثمّ زعم أنهم أرباب! وبلغ الإمام عليه‌السلام فتبرّأ منهم وأمر أصحابه بذلك وقال : «لا والله ما هي إلّاوراثة ورواية عن رسول الله».

وكأنّ أبا الخطّاب بلغه ذلك فأراد أن يحول دون وصول أتباعه إلى الإمام عليه‌السلام فأسقط عنهم الحج وأمرهم أن يلبّوا للإمام وهم بالكوفة ، فأخبر مصادف بذلك الإمام عليه‌السلام فخرّ إلى الأرض ساجداً وألصق جؤجؤ صدره بالأرض وأقبل يبكي ويكرر كثيراً : بل أنا عبد لله قنّ داخر! ثمّ رفع رأسه ودموعه تسيل

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٩٥ ، الحديث ٥٢٢ و ٥٢٠.

(٢) المصدر : ٢٩٤ ، الحديث ٥١٨.

(٣) المصدر : ٢٩٣ ، الحديث ٥١٦.

(٤) المصدر : ٢٩١ ، الحديث ٥١٢.


على لحيته وحدّثهم : أنّ رجلاً قال لرسول الله : السلام عليك يا ربّي! فقال له : ما لك لعنك الله! ربّي وربّك الله (١) وأوّل أبو الخطاب لهم قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ (٢)) قال : هو الإمام (٣)!

فمن هذا ونحوه قال عليه‌السلام : اللهم العن أبا الخطاب فإنه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي! اللهم أذقه حرّ الحديد (٤)!

لم أجد تحديداً لتاريخ استجابة هذا الدعاء للإمام عليه‌السلام ، ويظهر من خبر الكشيّ أنّ ذلك كان قبل موسم الحج لسنة (١٣٨ ه‍) (٥) في أوائل خلافة المنصور لعامين منها وهو بالأنبار ، وعلى الكوفة ابن عمّه عيسى بن موسى العباسي (٦) فبلغه أنّهم يدعون الناس سرّاً إلى نبوة أبي الخطّاب ، وأنهم أباحوا المحظورات ، إلّاأنّ كل رجل منهم ـ وهم سبعون ـ قد لزم اسطوانة في مسجد الكوفة يرون الناس أنهم قد لزموها للعبادة وأظهروا التعبّد. فبعث إليهم رجلاً من أصحابه في رجّالة وخيل ليأخذوهم ويأتوه بهم.

فقال لهم أبو الخطاب : إنّ رماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا يضرّكم ولا يعمل فيكم ولا يحتك في أبدانكم! وقاتلوهم بالحجارة وما معكم من السكاكين والقصب ، فإنّ قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح وسائر السلاح! وجعل يقدّمهم عشرة عشرة للقتال!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٩٨ و ٢٩٩ ، الحديث ٥٢٩ و ٥٣٠ و ٥٣١ و ٥٣٤.

(٢) الزخرف : ٨٤.

(٣) المصدر : ٣٠٠ ، الحديث ٥٣٨.

(٤) المصدر : ٢٩٠ ، الحديث ٥٠٩.

(٥) المصدر : ٢٩٦ ، الحديث ٥٢٤.

(٦) منذ عام (١٣٤ ه‍) حتى عام (١٤٦ ه‍) كما في تاريخ خليفة : ٢٦٩ و ٢٧٨.


فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً صاح به سائرهم : يا سيدنا! أما ترى ما يحلّ بنا من هؤلاء القوم! ولا ترى قصبنا لا يعمل فيهم ولا يؤثر بل ينكسر كلّه! وقد عمل فينا سلاحهم وقتل منّا من ترى!

فقال لهم : يا قوم! قد بليتم وامتحنتم وأذن في قتلكم وشهادتكم! فقاتلوا على أحسابكم ودينكم! ولا تعطوا بأيديكم فتذلّوا ، فإنكم لا تتخلصون من القتل! فموتوا كراماً أعزّاء ، واصبروا فقد وعد الله الصابرين أجراً عظيماً!

فقاتلوا حتّى قُتلوا عن آخرهم ، وأُسر أبو الخطاب فأُتي به عيسى بن موسى العباسي فأمر بقتله وصلبه وصلب أصحابه ، وبعد مدة أمر بإحراقهم فاحرقوا ، وبعث برؤوسهم إلى المنصور ، فصلبت على باب المدينة ثلاثة أيام ، ثمّ أُحرقت (١).

لم يفلت منهم إلّارجل واحد أصابته جراحات فسقط بين القتلى يعدّ فيهم ، فلما جنّه الليل خرج من بينهم فتخلّص ، وهو سالم بن مكرّم الجمّال ، فرحل إلى الصادق عليه‌السلام وتاب ، فقال له الإمام : لا تكتن بأبي خديجة بل بأبي سلمة ، فكان ممن يروى عنه عليه‌السلام (٢).

وكأنّه اغترّ بظاهر صلاتهم في المسجد بعض الشيعة منهم مراد بن خارجة قال للصادق عليه‌السلام : جعلت فداك خفّ المسجد! قال : وممّ ذلك؟ قال : بهؤلاء الذين قُتلوا فيه! (يعني أصحاب أبي الخطاب) فأطرق ملياً ثمّ رفع رأسه إليه وقال له : كلّا ؛ إنهم لم يكونوا يصلّون (٣) وكأنّه اكتفى بذلك.

__________________

(١) فرق الشيعة : ٦٩ ، ٧٠ والمقالات والفرق : ٨١ ، ٨٢ وفيهما : مدينة بغداد ، وهو وهم.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٥٢ ، ٣٥٣ ، حديث ٦٦١ ، وفرق الشيعة : ٧٠ ، والمقالات : ٨١.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٠٧ ، حديث ٥٥٤ بالمعنى.


وفي موسم الحج لسنة (١٣٨ ه‍) حجّ جمع من شيعة الكوفة فدخلوا على الصادق عليه‌السلام منهم حنّان بن سدير الصيرفي وميسّر النخعي المدائني الكوفي بياع الثياب الزطّية الهندية فقال : جُعلت فداك! عجبت لقوم كانوا يأتون معنا إلى هذا الموضع (عند الإمام) فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم! قال : مَن هم؟ قال : أبو الخطّاب وأصحابه! وكان الإمام متكئاً فجلس ورفع يده مؤكّداً وقال : على أبي الخطّاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين! أشهد بالله أنّه فاسق كافر مشرك! وأنه يُحشر مع فرعون في أشدّ العذاب غدواً وعشياً! ثمّ استدرك حزنه على ضلال أصحابه فقال : أما والله إني لأنفس على أجساد أُصيبت معه (١).

وكان عبد الله بن بكير الرجاني سمع الصادق عليه‌السلام يقول : لما قتل علي عليه‌السلام أصحاب النهروان أصبح بعض أصحابه يبكون عليهم ، فقال علي لهم : أتأسون عليهم؟ قالوا : لا ، إلّاأنا ذكرنا الأُلفة التي كنّا عليها ، والبلية التي أوقعتهم ، فلذلك رفقنا عليهم. قال : لا بأس. فذكر عبد الله بن بكير عند الصادق عليه‌السلام مقتل أبي الخطاب يوماً فرقّ وبكى ، فقال عليه‌السلام : أتأسى عليهم؟ قال : لا ، ثمّ ذكر له ما سمعه منه بشأن أصحاب النهروان ، فقال : لا بأس (٢).

هذا ، ولكنّه للمزيد من التأكيد على التبرّي منهم قال : لعن الله أبا الخطاب ، ولعن من قتل معه ، ولعن من بقي منهم! ولعن الله من دخل قلبه رحمة لهم (٣)!

ولما تبرّأ الإمام عليه‌السلام من المغالين فيهم قال له سدير الصيرفي الكوفي : جُعلت فداك فما أنتم؟ قال : «نحن قوم معصومون ، أمر الله بطاعتنا ونهى عن

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٩٦ ، الحديث ٥٢٤.

(٢) المصدر : ٢٩٣ ، الحديث ٥١٧.

(٣) المصدر : ٢٩٥ ، الحديث ٥٢١ وفي من بقي منهم انظر الأشعري والنوبختي.


معصيتنا ، فنحن الحجة البالغة على من فوق الأرض دون السماء ، نحن تراجمة وحي الله وخزّان علمه (١) فلعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا (٢) والله لو أقررت بما يقول فيّ (غلاة) أهل الكوفة لأخذتني الأرض! وما أنا إلّاعبد مملوك لا أقدر على ضرّ ولا نفع وإنما أنا إمام من أطاعني .. ومن قال : إنّا أنبياء فعليه لعنة الله! ومن شك في ذلك فعليه لعنة الله» (٣).

وسمّاهم السفلة فقال للمفضّل بن عمر الجعفي الكوفي : إياك والسفلة! فإنما «شيعة» جعفر : من عفّ بطنه وفرجه ، واشتدّ جهاده (لنفسه) وعمل لخالقه ، ورجا ثوابه وخاف عقابه (٤).

المفضّل الجعفي بعد أبي الخطّاب :

روى الكشي عن ابن أبي عمير : أنّه لما أحدث أبو الخطّاب ما أحدث خرج جمع من «الشيعة» بالكوفة إلى الصادق عليه‌السلام وطلبوا إليه أن يقيم لهم رجلاً يفزعون إليه في أمر دينهم وما يحتاجون إليه من الأحكام. فقال لهم : لا تحتاجون إلى ذلك ، فمتى ما احتاج أحدكم يعرّج إليّ ويسمع مني وينصرف فأصروا وألّحوا فقال لهم : قد أقمت عليكم المفضّل (ابن عمر الجعفي مولاهم) ، فاسمعوا منه وأقبلوا عنه ، فإنّه لا يقول على الله وعليَّ إلّا الحق.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٠٦ ، الحديث ٥٥١.

(٢) المصدر : ٣٠٢ ، الحديث ٥٤٢.

(٣) المصدر : ٣٠٠ ، ٣٠١ ، الحديث ٥٣٨ و ٥٣٩.

(٤) المصدر : ٣٠٦ ، الحديث ٥٥٢.


فلم يمض عليه شيء كثير حتى أُشيع عنه أنّه يقرّب إليه أصحاباً هم أصحاب حَمام وشراب حرام ويقطعون الطريق ولا يصلون (١).

واجتمع أبو بصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم الثقفي مولاهم الطحّان ، وزرارة بن أعين الشيباني مولاهم الرومي وابن أخيه عبد الله بن بكير ، وحجر بن زائدة الثقفي ، فكتبوا فيما بينهم كتاباً إلى الصادق عليه‌السلام قالوا فيه : إنّ المفضّل يجالس الشُطّار وأصحاب الحَمام وقوماً يشربون الشراب! فينبغي لك أن تكتب إليه تأمره أن لا يجالسهم. وحملوا الكتاب معهم إلى الصادق عليه‌السلام.

فكتب كتاباً إلى المفضّل وختمه ودفعه إليهم وأمرهم أن يدفعوا الكتاب إلى المفضل بأيديهم! فجاؤوا بالكتاب إلى المفضّل ودفعوه إليه ففكّه وقرأه ثمّ دفعه إلى زرارة فإذا فيه : بسم الله الرحمنِ الرحيمِ ، اشترِ كذا وكذا .. ولم يذكر قليلاً ولا كثيراً مما قالوا فيه! ودفعه زرارة إلى محمد بن مسلم حتّى دار الكتاب إلى الكلّ. فقال لهم المفضّل : فما تقولون؟! قالوا : هذا مال عظيم حتّى ننظر وتجمع ونحمل إليك. وأرادوا الإنصراف ، فقال المفضّل حتى تتغدّوا عندي ، فحبسهم لغدائه.

ووجّه المفضّل إلى أصحابه الذين سعوا بهم فجاءوا ، فقرأ عليهم كتاب الصادق عليه‌السلام فرجعوا ، ثمّ عادوا وقد حمل كل واحد منهم على قدر قوته ألفاً وألفين وأقل وأكثر ، فأحضروا ألفي دينار وعشرة آلاف درهم! قبل أن يفرغ هؤلاء من الغداء! فقال لهم المفضّل : تأمروني أن أطرد هؤلاء من عندي ، تظنّون أن الله تعالى يحتاج إلى صلاتكم وصومكم (٢)!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٢٧ ذيل الحديث ٥٩٢.

(٢) المصدر : ٣٢٦ صدر الحديث ٥٩٢.


بل أودع الصادق عليه‌السلام لدى المفضّل أموالاً وأموره أن إذا تنازع رجلان من شيعته في شيء أن يفتدى مشكلتهما بماله حتّى يصلح بينهما ، كما فعل بنزاع رآه بين عبد الرحمن سائق الحاج وختن له ، كما روى الكليني (١).

عبد الرحمن المرواني في الأندلس :

كان عامل أفريقية لمروان بن محمّد الأموي : عبد الرحمن بن حبيب الفهري. وبعد قتل مروان قدم على عبد الرحمن جماعة من امية منهم لؤي والعاص ابنا الوليد بن يزيد ، وبلغ عنهما شيء إلى عبد الرحمن الفهري ففتك بهما ، وكان معهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك فخافه فهرب منه ، وقطع مضيق جبل طارق إلى الأندلس ومعه مولاه بدر ، وعاملها يوسف بن عبد الرحمن الفهري.

وكان قد اشتدت العصبية بين من بها من اليمانية والنزارية ودامت عدّة سنين ، فطمع عبد الرحمن الأموي في الغلبة عليها ، وكاتب اليمانية ودعاهم إلى نفسه ، وسيّر إليهم مولاه بدراً فبايعوه. وبلغ أمره إلى يوسف الفهري فسار إليه في أنصاره من النزارية وغيرهم واقتتلوا فقتل أصحابه قتلاً ذريعاً وهزم يوسف ، سنة (١٣٩ ه‍) فاستولى عبد الرحمن الأموي على الأندلس ، وهي مملكة عظيمة فيها مدن كثيرة وعمائر متصلة نحواً من أربعين يوماً في مثلها (٢).

تحصين المنصور ثغور الشام :

في سنة (١٣٨ ه‍) خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلاد الإسلام فأخذ ملطية عنوة وهدم سورها ، ولكنّه عفا عمّن بها من المقاتلة والذرية.

__________________

(١) أُصول الكافي ٢ : ٢٠٩ ، الحديث ٤.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٨٦ ـ ٢٨٧.


ففي سنة (١٤٠ ه‍) أرسل المنصور قائده الحسن بن قحطبة الطائي ومعه عبد الوهاب بن إبراهيم العباسي أخ المنصور ، في سبعين ألفاً ، إلى ملطية ليعمّروها ، فعمّروها في ستة أشهر. وسار إليهم ملك الروم قسطنطين في مئة ألف حتّى نزل نهر جيحان ، فبلغهم كثرة المسلمين فعادوا خائبين.

وأمر المنصور كذلك بعمارة سور المصّيصة وسمّاها المنصورة ، وبنى بها جامعاً وأسكنها ألف جندي (١) وأسكن في ملطية أربعة آلاف من الجند وأكثر فيها من السلاح والذخائر ، وبنى كذلك حصن قلوذية (٢).

ووسّع المسجد الحرام والتقى بالإمام عليه‌السلام :

كان على مكّة والمدينة زياد بن عبيد الله الحارثي من أخوال السفّاح فأقره المنصور ، وشكى الناس إليه ضيق المسجد الحرام فأمره المنصور بشراء الدور حوله من جهة دار الندوة إلى باب بني جُمح فامتنع الناس من البيع ، فذكر ذلك للصادق عليه‌السلام ، فقال له : سلهم : أهم نزلوا على البيت أم البيت نزل عليهم؟ فإن للبيت فناءه. فهدمت المنازل وادخلت دار الندوة فيه حتّى صار المسجد ضِعفه مما يلي دار الندوة إلى باب بني جُمح. ووسّع كذلك مسجد الخيف وبناه ، وفرغ من ذلك سنة (١٤٠ ه‍) فحجّ المنصور لينظر ما زاد في المسجد الحرام (٣).

وهنا خبر طريف يكشف عن حضور الصادق عليه‌السلام وأهل بيته عند زياد الحارثي أمير المدينة :

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ٢ : ١٨٥.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٢١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٩.


روى الصدوق عن الصادق عليه‌السلام قال : كنت وجماعة من أهل بيتي عند زياد بن عبيد الله الحارثي فقال لنا : يا بني عليّ وفاطمة! ما فضلكم على الناس؟ فسكتوا ، فقلت : إن من فضلنا على الناس أنا لا نحبّ أن نكون من أحد سوانا! وليس أحد من الناس لا يحبّ أن يكون منّا إلّاأشرك!

وبمثل هذا الجواب الجادّ الحاد أجاب أميره المنصور بحضوره ولعلّه في سفره هذا ، لما وقع عليه ذباب فذبّه عنه ، ثمّ وقع عليه فذبّه عنه ، ثمّ وقع عليه فذبّه عنه ثالثة ثمّ قال للإمام عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، لأي شيء خلق الله الذّباب؟ فقال عليه‌السلام : ليذلّ به الجبّارين (١) وليس في الخبر أي ردّ من المنصور فكأنه تحمّله على مضض.

ولعلّه لذا أوعز إلى حاجبه الربيع بن يونس لما وقف ببابه أهل مكة وأهل المدينة : أن يأذن لأهل مكة قبل أهل المدينة ، ففعل الربيع ذلك فقال له الإمام عليه‌السلام : أتأذن لأهل مكة قبل أهل المدينة؟! فقال الربيع : مكة العُش! فقال عليه‌السلام : عُشّ والله طار خياره وبقي شراره (٢).

ولم يمنعه ذلك أن يتظاهر بتأييد الصادق عليه‌السلام له ، بأن أحضره يوم الجمعة فخرج إلى الصلاة متوكئاً على يده أمام الناس ليريهم ذلك. وكان ممن تولّى الإمام عليه‌السلام من موالي ولاة بني امية : رزّام مولى خالد بن عبد الله القسري البجلي ، ولكنّه كأنه لم يرَ الإمام أو لم يعرفه يومئذ ، فسأل : مَن هذا الذي بلغ من خطره أن يعتمد على يده أمير المؤمنين! قيل : هذا أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام فقال : لوددت أن خدّ أبي جعفر (المنصور) نعل لجعفر!

__________________

(١) علل الشرائع ٢ : ٢٠٨ ، الباب ٢٤٩ ، الحديث ١ ، وفي حلية الأولياء ٣ : ١٩٨ ، وصفة الصفوة ٢ : ١٧٠ ، وفي تاريخ دمشق نسبه إلى مقاتل بن سليمان.

(٢) نثر الدر ١ : ٣٥٢ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ٢٣٧.


فكأنّه عزم على أن يقرّر المنصور بعلم الإمام عليه‌السلام فقام حتّى وقف بين يدي المنصور وقال : أسأل أمير المؤمنين؟ قال المنصور : سل هذا ـ كذا بلا تعريف به! فقال : إنّي أُريدك بالسؤال! وأصرّ المنصور قال : سل هذا! كذا بلا تعريف به! واكتفى رزّام بذلك والتفت إلى الإمام وقال له : أخبرني عن الصلاة وحدودها. وقد حضرت الصلاة.

فقال الإمام عليه‌السلام : للصلاة أربعة آلاف حدّ لست تؤاخَذ بها.

فقال رزّام : أخبرني بما لا يحلّ تركه ولا تتم الصلاة إلّابه.

فقال الصادق عليه‌السلام : لا تتم الصلاة إلّالذي طُهر سابغ وتمام بالغ ، غير زائغ ولا نازع. عرف فوقف ، وأخبت فثبت. فهو واقف بين اليأس والطمع والصبر والجزع ، كأنّ الوعد له صُنع والوعيد به وقع. بذل عرضه وتمثل غرضه ، وبذل في الله مهجته وتنكّب إليه المحجة. مرتغم بارتغام يقطع علائق الاهتمام ، بعين من له قصَد وإليه وفَد ومنه استرفَد! فإذا أتى بذلك كانت هي الصلاة التي بها امر وعنها اخبر ، وإنّها هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر! وسكت.

وهنا اضطرّ المنصور أن يعرّف به بكُنيته قال : يا أبا عبد الله! لا نزال من بحرك نغترف وإليك نزدلف ، تبصّر من العمى وتجلو بنورك الطخياء! فنحن نعوم في طامي بحرك وسبحات قدسك (١)!

وعقّب اليعقوبي على حَجّة المنصور هذه قال : وكان قد بلغه أن محمّد بن عبد الله بن الحسن قد تحرك (٢). فروى الآبي قال : قال المنصور للصادق عليه‌السلام : يا أبا عبد الله ألا تعذرني من عبد الله بن حسن وولده يبثّون الدُعاة ويريدون الفتنة!

__________________

(١) عن فلاح السائل عن كنز الفوائد في بحار الأنوار ٤٧ : ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٩.


فقال عليه‌السلام : قد عرفت ما بيني وبينهم! فإن تُقنعك منّي آية من كتاب الله تلوتها عليك! قال : هات. فتلا عليه‌السلام قوله سبحانه : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَايَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَايَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَايُنْصَرُونَ (١)) فقال المنصور : كفاني وقام إليه فقبّل ما بين عينيه (٢).

ولكنّه كأنه لم يكفه هذا التأمين له من الصادق عليه‌السلام فكان يضايق عليه في غير الموسم ، فيقول عليه‌السلام لعنبسة بن مصعب من زواره في الموسم : أشكو إلى الله وحدتي وتقلقلي من أهل المدينة حتّى تَقدموا وأراكم وأُسَرَّ بكم! فليت هذا الطاغية أذن لي فاتخذت قصراً فسكنته وأسكنتكم معي وأضمن له أن لا يجيء من ناحيتنا مكروه أبداً (٣)!

وكان سليمان بن خالد من نخع الكوفة مع زيد بن علي ثمّ نجا إلى المدينة فاهتدى إلى الباقر ثمّ الصادق عليهما‌السلام ، واهتدى به ابن اخته العَيص بن القاسم الأسدي فدخل معه على الصادق فقال له : من هذا الفتى؟ قال : هذا ابن أُختي. قال : فيعرف أمركم (الإمامة) قال : نعم. ثمّ قال عليه‌السلام : يا ليتني وإياكم بالطائف أُحدثكم وتؤنسوني ونضمن لهم أن لا نخرج عليهم (٤).

__________________

(١) الحشر : ٥٩.

(٢) نثر الدر ١ : ٣٥٢ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ٢٤٥. وقد قال اليعقوبي : إنّه في سفره هذا أخذ معه عبد الله بن الحسن وقومه ، ويرجح أنّ ذلك كان في (١٤٤ ه‍).

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٦٥ ، الحديث ٦٧٧ ومثله في روضة الكافي كما في بحار الأنوار ٤٧ : ١٨٥.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ، الحديث ٦٦٩ وكأنه عليه‌السلام أراد بهذا التأكيد له على أن ليس من شرط الإمام الخروج بالسيف ، خلافاً للزيدية.


ولذا كان الإمام عليه‌السلام يكتفي في لقاء المنصور بالأقل ، فكتب إليه المنصور : لم لا تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟ فأجابه : ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له! ولا أنت في نعمة فنهنئك ولا تراها نقمة فنعزّيك بها! فما نصنع عندك؟!

فكتب المنصور إليه : تصحبنا لتنصحنا! فأجابه : «من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك».

فلمّا جاء جواب الإمام قال : والله لقد ميّز لي منازل الناس من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة ، وإنّه ممن يريد الآخرة لا الدنيا (١) فلعلّ هذا كان من التأمين للمنصور لكي لا يلاحق الإمام عليه‌السلام.

أراد المنصور نصرة فقه مالك :

مرّ الخبر أنّ الصادق عليه‌السلام كان يقول لزوّاره من الحُجّاج في الموسم : أشكو إلى الله وحدتي وتقلقلي من أهل المدينة. أي قلّة من يزوره منهم.

وممن كان يزوره من فقائهم مالك بن أنس الأصبحي ، وحتّى آمن بدينه وعلمه وعبادته وورعه حتّى كان يقول : ما رأت عين ولا سمعت اذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد علماً وعبادة وورعاً (٢)!

وقال : ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وورعاً وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال : إما صائماً وإمّا قائماً وإمّا ذاكراً! وكان

__________________

(١) التذكرة الحمدونية ١ : ١١٣ ، الحديث ٢٣٠ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ٢٥٠ وبهامشه مصادر اخرى. وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٦ نسب القول إلى مقاتل بن سليمان!

(٢) تهذيب التهذيب ٢ : ٨٩ ، الحديث ١٥٦ ومناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٦٩.


من عظماء البلاد وأكابر الزهّاد الذين يخشون ربّهم ، وكان كثير الحديث طيّب المجالسة كثير الفوائد. فإذا قال : قال رسول الله ، اخضرّ مرّة واصفرّ أُخرى حتّى لينكره من لا يعرفه (١). فهو يعترف بشرف الصادق عليه‌السلام في العلم ، فهو أعلم منه.

إلّاأ نّه لم يردّ بذلك على المنصور لما أمره أن يضع للناس كتاباً يحملهم الخليفة عليه وقال له : ضعه فما أحد اليوم أعلم منك (٢)!

وممّا جاء في ذلك : أنّ المنصور لما حجّ وقد وضع مالك بعض كتابه ورأى بعضه المنصور ـ فلعلّه في حُجة لاحقة ـ أحضره وقال له : قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي صنّفتها ، فتنسخ ، ثمّ أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة وآمرهم بأن يعملوا بما فيه ولا يتعدوه إلى غيره!

فقال له : يا أمير المؤمنين! لا تفعل هذا ؛ فإنّ الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق إليهم واتوا به ، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم (٣).

فالمنصور ـ أولاً ـ حاكم نظامي كسائر الحكام النظاميين ، شهد اختلاف الفقهاء على عهده ، فما أحبّ ذلك الضجيج الذي أثاروه بجدالهم ونقاشهم ، وذهاب كل فريق منهم مذهباً يخالف الآخر وتمسكه بمذهبه بحيث يراه الوحيد الجدير بأن يتّبع ، ويرى غيره باطلاً أو فاسداً مفسداً!

وثانياً : يهمّه أن يتوحد الناس في مملكته تحت قانون واحد يؤخذ به قاصيهم ودانيهم ، ويُعمل به في كل ناحية من نواحي هذه المملكة الواسعة.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٩٧.

(٢) الزرقاني في مقدمته لشرحه لموطّأ مالك ١ : ٨ ، وانظر الإمام الصادق لأسد حيدر ١ : ٢٢٩.

(٣) حجة الله البالغة للدهلوي : ٤٥.


وثالثاً : أراد أن يخالف سنة أسلافه الامويين الذين كانوا لا ينظرون إلى أهل المدينة نظر المطمئن إلى ولائهم لدولتهم وسلطانهم ، وقد بهره ما رآه في كتاب هذا الفقيه من دار الهجرة من العلم المستمد من الرواية عن النبي وأصحابه! فأراد أن يتقرّب إليهم بتقرّبه إلى فقيههم.

ورابعاً : لا يرغب بل يحذر أن يكون هذا الفقيه منهم من آل علي عليه‌السلام ، بل رغب في الحدّ من نفوذهم بصرف الناس عن فقههم إلى فقه من قد أقرّ لهم بالأعلمية ، فيصرفه عن ذلك.

إلّاأنهم رووا : أنّ المنصور حين سمع مقالة مالك أكبره وشكره ودعا له بالتوفيق (١).

ويبدو أنّ ذلك كان بعد أن عدل عما قاله أخوه السفّاح في أوّل خطبة له من تفضيل علي عليه‌السلام إلى غيره ، وجرّب مالكاً عليه : كما أخرج السيوطي عن ابن عساكر عن مالك قال : دخلت على المنصور فسألني : من أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قلت : أبو بكر وعمر! قال : أصبت! فهذا رأي أمير المؤمنين!

وصرف في خطبته على منبر عرفة في يوم عرفة آية إكمال الدين عن علي أمير المؤمنين قال : أيها الناس! ارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... (٢)).

ويبدو أنّه كذلك صرف «أهل البيت» أيضاً عن آل علي إلى آل العباس لما روى لابنه الذي سمّاه محمّداً ولقّبه بالمهدي : عن أبيه عن جدّه ابن العباس

__________________

(١) انظر مقدمة القمي للروضة البهية ١ : و ، ز ، ط القاهرة.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٩.


عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح : من ركب فيها نجا ومن تأخر عنها هلك» (١).

هذا وفي تسمية ابنه بمحمد وتلقيبه بالمهدي قد قلّد عبد الله بن الحسن المثنّى ، كذباً وزوراً.

لماذا المنصور الدوانيقي :

روى السيوطي عن ابن عساكر : أنّ صاحب الرصد قبض يوماً على المنصور قبل الخلافة وأمره أن يزن له درهمين ، فاستعفاه فلم يعفه وأصرّ وألحّ ، فلمّا أعياه أمرُه وزَن الدرهمين ، ثمّ كان يتدقّق في وزن الدراهم حتّى لُقّب بأبي الدوانيق (٢).

وأشار الشهيد الأول إلى إشارة الإمام السجاد عليه‌السلام على الخليفة الأموي بضمّ الدرهم البغلي إلى الدرهم الطبريّ وقسمتها نصفين ، فصار الدرهم ستة دوانيق ، كل عشرة تساوي سبعة مثاقيل (٣).

وأكثر منه بياناً قال العلامة : كانت الدراهم في صدر الإسلام صنفين : سوداً وطبرية ، وكانت السود كل درهم ثمانية دوانيق ، والطبرية أربعة دوانيق ،

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٧ ويشهد لهذا ما رواه الأموي الزيدي قال في ثورة محمّد بن عبد الله بالمدينة قدم قادم على المنصور وقال : هرب محمّد! فقال : كذبت فإنا «أهل البيت» لا نفرّ!

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٩.

(٣) البيان : ١٨٥ ، ونحوه في مفتاح الكرامة ٣ : ٨٨ ، ورياض المسائل ٥ : ٩١ ، وجواهر الكلام ١٥ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، كما في وسائل الشيعة ٩ : ١٤٩ بالحاشية.


فجُمعا في الإسلام (؟) وجُعلا درهمين متساويين كل درهم ستة دوانيق. فالدراهم التي يعتبر فيها النصاب هي الدراهم التي كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل بمثقال الذهب ، فكل درهم نصف مثقال وخُمسه ... والدانق ثمان حبّات من أوسط حبّات الشعير (١).

وكان الفقهاء على عهد المنصور يقولون في زكاة مئتي درهم : خمسة على وزن سبعة. فلم يفهم المنصور هذا لماذا؟ وتحجّج به على الصادق عليه‌السلام كما يلي :

كان عامله على المدينة إلى سنة (١٤١ ه‍) زياد الحارثي ، وفي هذه السنة عزله وولّاها محمّد بن خالد بن عبد الله القسري البجلي إلى سنة (١٤٣ ه‍) (٢) وبعد توليته كتب إليه : أن اجمع فقهاء المدينة فسلهم عن علة الزكاة لم صارت في المئتين درهماً خمسة دراهم على وزن سبعة؟! وليكن في من تسأل عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمّد ، فإن أجابوا ، وإلّا فاضرب جعفر بن محمّد خمسين دِرّة على تضييعه علم آبائه!

قال الراوي : فجمعهم وسألهم عن ذلك فلم يعرفوا ، وإنّما قال الصادق عليه‌السلام : إنّ الله لما فرض الزكاة على الناس كان الناس يومئذ يتعاملون في الذهب والفضة بالأواقي ، فأوجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل أربعين أوقية : أوقية. فإذا حُسبت وُجدت في كل مئتين خمسة على وزن سبعة لا أقل ولا أكثر ، وكانت قبل اليوم على وزن ستة حين كانت الدراهم خمسة دوانيق.

فقال له عبد الله بن الحسن : من أين لك هذا؟ قال : قرأته في كتاب امك فاطمة عليها‌السلام وانصرف.

__________________

(١) قواعد الأحكام ٥ : ١٢١.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٨٣.


ثمّ بعث القسري إليه : أن ابعث إليّ كتاب فاطمة. فقال : إني إنّما أخبرتك أني قرأته ، ولم أخبرك أنّه عندي (١).

وهو عليه‌السلام إنّما قال : قرأته في كتاب فاطمة عليها‌السلام جواباً للتحدي : من أين لك هذا. فهذا التحدي ونحوه هو ما ألجأهم إلى الاستناد إلى مصحف فاطمة عليها‌السلام ، ولعلّ هذا الخبر من البوادر الأُولى لذلك تاريخياً ، والاستناد إنّما كان تاريخياً لا فقهياً.

ومن حوادث هذه السنة (١٤١ ه‍) وفاة أبان بن تغلب (٢) من خواص أصحاب السجّاد والباقر والصادق عليهم‌السلام فإلى شيء من أخباره :

وفاة أبان بن تغلب :

أبو سعيد مولى بني جُرير من بني بكر بن وائل. تقدّم في كل فن من العلم من اللغة والنحو والأدب والقرآن ، وكان قارئاً من وجوه القرّاء ، وله كتاب تفسير غريب القرآن ، وتقدم في الفقه والحديث عن السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام وعن أنس بن مالك وإبراهيم النخعي والأعمش وسماك بن حرب وعطية العوفي ومحمّد بن المنكدر (٣).

__________________

(١) مع الأمر بالضرب إنّما في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٢٨ ، وبدونه مسنداً في الكافي ٣ : ٥٠٧ ، وعلل الشرائع ٢ : ٧٣ ، الباب ١٠١ ، الحديث ١ بطريق آخر ، وفي بحار الأنوار ٤٧ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ وعقّبه المجلسي ببيانين منه ومن أبيه ، وعنه في مصابيح الأنوار ٢ : ٤٣٦ ، وفي هامش المناقب ، وببيان آخر في وسائل الشيعة ٩ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ، الباب ٤ ، الحديث الأوّل من أبواب زكاة الذهب والفضة.

(٢) الفهرست للطوسي : ٧ ، والنجاشي : ١٣ برقم ٧ ، وتاريخ خليفة : ٢٧٥.

(٣) رجال النجاشي : ١٠ ـ ١١.


وسمع من عبد الله بن شريك العامري عن أبيه سيرة علي عليه‌السلام يوم الجمل ويوم صفين في قتل المدبرين والجرحى ، فسأله عن اختلاف السيرتين فقال : إن أهل الجمل قتل قائدهم طلحة والزبير ، وإن معاوية كان قائماً يعينهم (١) فكأنه كان في دور تعلّم التشيع. وله كتاب في صفين.

وبلغ من العلم على عهد الباقر عليه‌السلام أن قال له : اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس ، فإني أحب أن يرى في «شيعتي» مثلك (٢) وكذا قال له الصادق عليه‌السلام : جالس أهل المدينة ، فإني احب أن يروا في «شيعتنا» مثلك (٣).

فكان إذا قدم المدينة اخليت له سارية من سواري المسجد وتقوّضت حلقات الناس من غيره إليه (٤) فشكى من أمره إلى الصادق عليه‌السلام قال له : إني أقعد في المسجد (النبوي).

فيجيء الناس (سوى شيعتكم) فيسألوني فأكره أن اجيبهم بما جاء عنكم وإن لم اجبهم لا يقبلون مني! فقال له عليه‌السلام : أخبرهم بما علمت من قولهم (٥).

وجاءه شابّ فقال له : يا أبا سعيد ، أخبرني كم كان مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبي؟

فقال له أبان : كأنك تريد أن تعرف فضل علي بمن تبعه من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢١٨ ، الحديث ٣٩٢.

(٢) رجال النجاشي : ١٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٠ ، الحديث ٦٠٣.

(٤) رجال النجاشي : ١١.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٠ ، الحديث ٦٠٢.


فقال الرجل : هو ذاك! فقال : والله ما عرفنا فضلهم إلّاباتباعهم إياه!

وكان أبو البلاد حاضراً فقال كلمة في عظيم منزلة أبان في التشيع. فقال له أبان :

يا أبا البلاد ، أتدري من «الشيعة»؟ «الشيعة» الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذوا بقول علي عليه‌السلام ، وإذا اختلف الناس عن علي أخذوا بقول جعفر بن محمّد عليه‌السلام.

وكأنه كان أكبر من الصادق عليه‌السلام عمراً وراوياً عن كثير غيره فعابه بعضهم لروايته عن الصادق عليه‌السلام فقال لهم : كيف تلوموني في روايتي عن رجل ما سألته عن شيء إلّاقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

وعن مبلغ رواياته عنه قال الصادق عليه‌السلام لأبان بن عثمان الأحمر البجلي : إن أبان بن تغلب روى عنّي ثلاثين ألف حديث! فاروها عنه!

ولذا لما دخل عليه مع ابنه محمّد ، قال محمّد : فلمّا بصر به أمر بوسادة له وقام إليه ورحّب به وصافحه واعتنقه ثمّ جلس إليه وساء له (١).

وكان الصادق عليه‌السلام في موسم الحج قبل المواقف يستقر أياماً في جبل في طرف الحرم في خيمة صغيرة ، وقد اجتمع حوله أبان بن تغلب والأحول مؤمن الطاق محمّد بن علي وحُمران بن أعين مولى شيبان ، وقيس بن الماصر وهشام بن سالم الجواليقي وهشام بن الحكم مولى كندة ، ويونس بن يعقوب البجلي عنده في الخيمة.

وكان يونس قد استأنس إلى مزاولة الكلام ولكنّه سمع الصادق عليه‌السلام يقول : ويل لأصحاب الكلام ، يقولون : هذا نعقله وهذا لا نعقله ، هذا ينقاد وهذا لا ينقاد ، هذا ينساق وهذا لا ينساق. فترك يونس الكلام (٢).

__________________

(١) رجال النجاشي : ١١ ـ ١٢.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٧١ ، الباب الأوّل ، كتاب الحجة ، الحديث ٤.


واليوم ورد رجل من أهل الشام فاستأذن فأذن له فدخل وسلم وأذن له بالجلوس فجلس ، ثمّ قال له : حاجتك أيها الرجل؟ قال : بلغني أنك عالم بكل ما تُسأل عنه ، فصرت إليك لُاناظرك! قال : في ماذا؟ قال : في مقاطع القرآن ورفعه ونصبه وخفضه وإسكانه (١).

ثمّ قال ليونس : اخرج إلى الباب فانظر من ترى من المتكلمين فأدخله. قال يونس : فأَدخلت الأحول الطاقي محمّد بن علي ، وحُمران بن أعين مولى شيبان ، وقيس بن الماصر وهشام بن سالم الجواليقي ، فلمّا استقر بنا المجلس أخرج الصادق عليه‌السلام رأسه من الخيمة فإذا هو براكب على بعير يخبّ ، فقال : هشام (بن الحكم) ورب الكعبة! فورد هشام بن الحكم وهو أول ما اختطّت لحيته وكلّنا أكبر سنّاً منه ، فوسّع له الصادق عليه‌السلام وقال له : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده (٢).

ثمّ قال لحُمران : يا حُمران! دونك الرجل! فقال الرجل : إنّما أُريدك لا حُمران! قال : فإن غلبت حُمران فقد غلبتني! فأقبل الشامي يسأل حُمران حتّى ملّ وحُمران يجيبه. فقال الصادق للشامي : كيف رأيته؟ قال : رأيته حاذقاً ، ما سألته عن شيء إلّاأجابني فيه.

ثمّ قال : يا أبا عبد الله ، اريد أن اناظرك في العربية. فالتفت إلى أبان بن تغلب وقال له : ناظِره. فناظره فما ترك الشاميّ يكشّر!

فقال الشامي للصادق عليه‌السلام : اريد أن اناظرك في الفقه. فالتفت إلى زرارة بن أعين مولى شيبان أخي حُمران وقال له : يا زرارة ، ناظِره ، فناظره فما ترك الشامي يكشّر ....

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٧٥ ، الحديث ٤٩٤.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٧١ ـ ١٧٢.


ثمّ ناظره في التوحيد هشام بن سالم الجواليقي ، وفي الاستطاعة حمزة الطيار مولى فزارة ، وفي الإمامة هشام بن الحكم مولى كندة ، فتركه لا يُحير جواباً ، وبقي الصادق عليه‌السلام يضحك حتّى بدت نواجذه! فقال الشامي : كأنك أردت أن تخبرني أنّ في «شيعتك» مثل هؤلاء الرجال! قال : هو ذاك.

ثمّ قال له : يا أخا أهل الشام ، إن الله أخذ ضغثاً من الحق وضغثاً من الباطل ، فمغثهما ثمّ أخرجهما للناس ، ثمّ بعث أنبياء يفرّقون بينهما ، وجعل بعد الأنبياء أوصياء ، ولو كان كل واحد من الحق والباطل قائماً بشأنه على حدة ما احتاج الناس إلى نبي ولا وصيّ ، ولكن الله خلطهما وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمة من عباده!

فقال الشامي : قد أفلح من جالسك. ثمّ قال : اجعلني من شيعتك وعلّمني.

فقال الصادق لهشام بن الحكم : يا هشام ، علّمه فإني احبّ أن يكون تلميذاً لك. فكان الشامي يأتي هشاماً بهدايا أهل الشام ، وهشام يزوّده بهدايا أهل العراق (١).

أو قال الشامي للصادق عليه‌السلام : صدقت ، ثمّ قال : الساعة أسلمت لله! قال الصادق : بل قل : آمنت بالله ، فإن الإسلام قبل الإيمان ، بالإسلام يتناكحون ويتوارثون ، وبالإيمان يثابون! فقال الشامي : فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلّاالله ، وأن محمّداً رسول الله ، وأنك وصيّ الأوصياء (٢).

فمن هذا الخبر يظهر أن أبان بن تغلب على حفظه لثلاثين ألف حديث لم يقدمه الإمام في الفقه على زرارة ، وإنّما قدمه في العربية!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٧٦ ـ ٢٧٨ ، الحديث ٤٩٤.

(٢) أُصول الكافي ١ : ١٧٣ ، الباب الأوّل ، الحديث ٤ ، كتاب الحجة.


وكان عليه‌السلام يحوّل أهل الكوفة للأخذ منه والرواية عنه : فعن مسلم أو سليم بن أبي حبة قال : كنت في خدمة الصادق عليه‌السلام عنده ، فلمّا أردت أن افارقه ودّعته وقلت له : احبّ أن تزوّدني. فقال : ائت أبان بن تغلب فإنه قد سمع مني حديثاً كثيراً فما روى لك فاروه عنّي (١).

وحجّ جميل بن درّاج فذكر أباناً عند الصادق عليه‌السلام ونعاه إليه فقال : رحمه‌الله ، أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان (٢).

* * *

مرّ الخبر عن اليعقوبي : أن مكان عمّه الخارج عليه عبد الله بن علي عند أخيه والي البصرة سليمان ، فطلبه منه فأنكر ذلك ، ثمّ طلب له الأمان على نسخة وضعها له كاتبه عبد الله بن المقفّع (٣) بأغلظ العهود والمواثيق ، ثمّ قدم به عليه مع أخيهما عيسى بن علي يوم الغدير سنة (١٣٧ ه‍) بالحيرة (٤).

وقيل : كان في كتاب الأمان : إن أنا نلت من عبد الله بن علي أو أحد ممن أقدمه معه! بصغير أو كبير أو أوصلت إلى أحد منهم ضرراً سراً أو علانية تصريحاً أو كناية أو بحيلة فأنا نفي من محمّد بن علي بن عبد الله ومولود لغير رَشدة (٥).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٣١ ، الحديث ٦٠٤ ، ورجال النجاشي : ١٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٣٠ ، الحديث ٦٠١ ، والفهرست للطوسي : ٦ ، والنجاشي : ١٠.

(٣) كان اسم أبيه مباركاً ، وكان فارسياً من كرمان ، وكان من كتّاب الحساب للحجّاج فاتهمه بشيء وضربه بالسياط حتّى تقفعت يداه أي تشنّجت فدُعي المقفّع! كما في هامش بحار الأنوار ٣ : ٤٢ ، عن وفيات الأعيان ١ : ٤١٧ ، وذكر قتله في (١٤٢ ه‍) ، وقبله في البخلاء للجاحظ البصري : ٣٦٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٨.

(٥) امراء البيان : ١٠٨ ـ ١٠٩.


مع ذلك نراه حبس عمّه عبد الله ، وعزل عن البصرة عمّه سليمان ، وولّى بمكانه سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلّب الأزدي البصري في شهر رمضان سنة (١٣٩ ه‍) وأمره بقتل ابن المقفّع ، وكان سفيان واجداً على ابن المقفّع لأنه كان يضحك منه ويعبث به معتصماً وممتنعاً عليه بعيسى وسليمان ابني علي العباسي ، فكان سفيان حاقداً عليه ، فلمّا كوتب في أمره بما كوتب عزم على قتله (١) وسيأتي خبره ، وقبله نذكر هنا بعض أخباره مع الصادق عليه‌السلام :

ابن المقفّع ومعارضة القرآن :

أرسل الطبرسي عن هشام بن الحكم مولى بني كندة (٢) قال : اجتمع أبو شاكر عبد الله الديصاني الزنديق ، وعبد الكريم بن أبي العوجاء ، وعبد الملك البصري وصاحبه عبد الله بن المقفّع عند بيت الله الحرام (في الموسم) يستهزئون بالحاج!

وقال لهم ابن أبي العوجاء : إن في نقض القرآن إبطال نبوة محمّد ، وفي إبطال نبوته إبطال الإسلام وإثبات ما نحن عليه! فتعالوا ينقض كل واحد منّا ربع القرآن ، فنجتمع من قابل في هذا الموضع وقد نقضنا القرآن كلّه! فاتفقوا على ذلك وافترقوا.

فلمّا كان من قابل (وقد حجّ الصادق عليه‌السلام فلعلّها عام ١٤٠ ه‍) اجتمعوا عند بيت الله الحرام.

فقال ابن أبي العوجاء : أما أنا فمنذ افترقنا أُفكر في هذه الآية : (فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً (٣)) فما أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً ، فشغلتني هذه الآية عن التفكير فيما سواها.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٨ : ٢٧٠.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٦ ، الحديث ٤٧٥.

(٣) يوسف : ٨٠.


فقال عبد الملك : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَايَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (١)) فلم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال أبو شاكر : وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا (٢)) فلم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفّع : يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر ، فأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية : (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِىَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٣)) فلم أبلغ غاية المعرفة بها ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

فبينماهم كذلك إذ مرّ بهم الصادق عليه‌السلام فقرأ عليهم : (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٤)).

فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا : لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت أمر وصية محمّد إلّاإلى جعفر بن محمّد ، والله ما رأيناه قط إلّاهبناه واقشعرّت جلودنا لهيبته! ثمّ تفرقوا مقرّين بالعجز (٥).

__________________

(١) الحج : ٧٣.

(٢) الأنبياء : ٢٤.

(٣) هود : ٤٤.

(٤) الإسراء : ٨٨.

(٥) الاحتجاج ٢ : ١٤٢ ـ ١٤٣.


ولا يكشف الخبر عن من قال ما قال بشأن الصادق عليه‌السلام فكشف عن سابق معرفته بحقّه.

وروى الصدوق بسنده خبراً آخر يكشف عن سابق معرفة المقفّع على ابن أبي العوجاء في الموسم أيضاً : عن أبي منصور المتطبّب عن صاحبه قال : كنت مع ابن أبي العوجاء وابن المقفّع في المسجد الحرام وفي موضع الطواف منه جعفر بن محمّد جالس ، ونظر ابن المقفّع إلى موضع الطواف وأومأ بيده إلى الطائفين وقال لنا : ترون هذا الخلق؟ فما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلّاذلك الشيخ الجالس! يعني جعفر بن محمّد (وهو دون الخامسة والخمسين من عمره) قال : فأما الباقون فرُعاع وبهائم!

فقال له ابن أبي العوجاء : وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟

قال : لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم! (هكذا مجملاً بلا بيان).

فقال ابن أبي العوجاء : لابدّ من اختبار ما قلت فيه ، منه!

فقال ابن المقفّع : لا تفعل ، فإني أخاف أن يُفسد عليك ما في يدك! فقال ابن أبي العوجاء : ليس رأيك هذا ، ولكنّك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه المحل الذي وصفته له!

فقال ابن المقفّع : أما إذا توهمت هذا عليّ فقم إليه وتحفّظ ما استطعت من الزلل ، ولا تثن عنانك إلى إرسال يسلّمك إلى عقال ، وسمه مالك أو عليك.

فقام ابن أبي العوجاء إليه ، وبقيت أنا وابن المقفّع ننتظره حتّى رجع إلينا فقال :

يابن المقفّع! ما هذا بشر : وإن كان في الدنيا روحاني يتروّح إذا شاء باطناً ويتجسّد إذا شاء ظاهراً فهو هذا! فقال : وكيف ذاك؟ قال : جلست إليه ، فلمّا لم يبقَ عنده غيري ابتدأني فقال :


إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء (يعني أهل الطواف) وهو على ما يقولون : فقد سلموا وعطبتم! وإن يكن الأمر على ما تقولون ، وليس كما تقولون ؛ فقد استويتم أنتم وهم!

فقلت له : يرحمك الله وأي شيء نقول وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلّا واحداً (نفاقاً).

قال : كيف يكون قولك وقولهم واحداً وهم يقولون : إنّهم يدينون بأن للسماء إلهاً وأنها عمران ، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد! وهم يقولون إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً!

قال ابن أبي العوجاء : فقلت له : إن كان الأمر كما تقول فما منعه أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته ، حتّى لا يختلف منهم اثنان؟! فلِم احتجب عنهم وأرسل الرسل؟! ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به.

فقال لي : وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نشوئك ولم تكن ، وكبرك بعد صغرك ، وقواك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك ، وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك ، ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك ، وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك ، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك ، وعزمك بعد إبائك وإبائك بعد عزمك ، وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك ، ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك ، ورجاك بعد يأسك ويأسك بعد رجائك ، وخاطرك بما لم يكن في وهمك وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك ... وما زال يعد عليَّ قدرته في نفسي التي لا أدفعها ، حتّى ظننت أنّه سيظهر على ما بيني وبينه (١) (أي على ضميري).

__________________

(١) التوحيد : ١٢٦ ـ ١٢٧.


ومن خبر المفضل بن عمر الجعفي الكوفي عن ابن أبي العوجاء هذا يظهر أنّه التقى الصادق عليه‌السلام مناظراً له غير مرة ، وكان مع صاحبه ـ ولعلّه ابن المقفّع ـ في روضة المسجد النبوي الشريف ، وتذاكرا ابتداء الأشياء فزعم ابن أبي العوجاء أن ذلك كان بلا صنعة ولا تدبير ولا صانع ولا تقدير ؛ بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبّر ، فهي على هذا لم تزل ولا تزال!

وسمعهما المفضل فلم يتمالك نفسه غضباً حتّى صاح به منكراً عليه قائلاً له : يا عدو الله! أنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصوّرك في أتم صورة ونقلك في أحوالك حتّى بلغ بك إلى حيث انتهيت ، وألحدت في دين الله!

فقال : يا هذا ، إن كنت من أهل الكلام كلّمناك .. وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق.

فلقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت .. فهو يسمع كلامنا ويصغى إلينا ويتعرّف حجّتنا حتّى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أنّا قطعناه ، دحض حجّتنا بكلام يسير وخطاب قصير ، يُلزمنا به الحجّة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه ردّاً! فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه ، فإنه ما أفحش في خطابنا ولا تعدى في جوابنا ، وإنّه الحليم الرزين والعاقل الرصين ، لا يعتريه خرق ولا نزق ، وما هكذا يخاطبنا ولا بمثل دليلك يجادلنا.

قال المفضّل : فخرجت من المسجد مفكّراً فيما بلي به الإسلام وأهله من كفر هذه العصابة.

ودخلت على مولاي (الصادق عليه‌السلام) فرآني منكسراً فقال : مالك؟ فأخبرته بما سمعته من هذين الدهريَّين وبما رددت عليهما.

فقال : يا مفضل لألقينّ عليك من حكمة الباري «جلّ وعلا وتقدّس اسمه» في خلق العالم والسباع والبهائم والطير والهوام ، وكل ذوي روح من الأنعام ،


والنباتات والشجرة المثمرة وغير ذات الثمر ، والحبوب والبقول ، المأكول من ذلك وغير المأكول ، ما يعتبر به المعتبرون ، ويحنّ إلى معرفة المؤمنون ، ويتحيّر فيه الملحدون. فبكّر عليَّ غداً. فانصرفت من عنده فرحاً مسروراً (١).

ثمّ بكّر إليه غداً وبعد غد إلى أربعة أيام إلى زوالها ، فأملى عليه مما قال ما عُرف بكتاب توحيد المفضّل.

وقد مرّ في الخبر الثاني في هذا العنوان ما كان يمثل أول معرفة لابن أبي العوجاء بالصادق عليه‌السلام. إلّاأن المفيد انفرد بما أفاد إغراءً آخر عن ابن المقفّع لابن أبي العوجاء بالصادق عليه‌السلام مما ظاهره أنّه أول إغراء منه له به عليه‌السلام :

عن ابن قولويه عن الكليني عن القمي عن الفُقيمي : أن نفراً من الزنادقة منهم ابن أبي العوجاء وابن الأعمى وابن طالوت وابن المقفّع كانوا في الموسم بعد الحج مجتمعين في المسجد الحرام ، والصادق عليه‌السلام إذ ذاك يفتي الناس ويجيب عن مسائلهم بالحجج والبيّنات ويفسّر لهم القرآن. فقال القوم لابن أبي العوجاء : «هذا الجالس علّامة زمانه! وقد ترى فتنة الناس به! فهل لك في تغليطه بسؤاله عمّا يفضحه عند المحيطين به»؟! مما ظاهره عدم سابق معرفة له به عليه‌السلام. ولكنّه قال :

فتقدم إليه وفرّق الناس عنه حتّى وقف عليه وقال له : أبا عبد الله! لابدّ لكل من كان به سُعال أن يسعل! فهل تأذن لي بالسؤال؟ قال عليه‌السلام : سل إن شئت!

فقال : إلى كم تدوسون هذا البيدر! وتلوذون بهذا الحجر؟ وتعبدون هذا البيت! المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر! من فكّر في هذا وقدّر علم أنّه فعل غير حكيم ولاذي نظر! فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامه وأبوك اسّه ونظامه!

__________________

(١) توحيد المفضل : ٣٩ ـ ٤٤ ، وشرحه المرحوم العلّامة الشيخ ميرزا محمّد الخليلي النجفي في أربعة أجزاء ، باسم : من أمالي الإمام الصادق عليه‌السلام.


فقال عليه‌السلام : إن من أضلّه الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذ به ، وصار الشيطان وليّه وربّه ، يورده موارد الهلكة. (إنّ) هذا بيت استعبد الله به خلقه! ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثّهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله قبلة للمصلّين له ، فهو شعبة من رضوانه ، وطريق يؤدّي إلى عرفانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه قبل دحو الأرض بألفي عام. فأحقّ من يُطاع في ما أمر وينتهى عمّا زجر هو الله عزوجل المنشئ للأرواح والصور!

فقال ابن أبي العوجاء : أبا عبد الله ، ذكرت الله فأحلت على غائب!

فقال عليه‌السلام : يا ويلك! كيف يكون عنّا غائباً من هو مع خلقه شهيد ، وهو إليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم وإسرارهم ، لا يخلو منه مكان ولا يشغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان. تشهد بذلك له آثاره وتدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جاءنا بهذه العبادة ؛ فإن شككت في شيء من أمره فسل عنه أوضحه لك.

فسكت ابن أبي العوجاء وجاء إلى أصحابه وقال لهم : سألتكم أن تلتمسوا لي خُمرة فألقيتموني على جَمرة! وقالوا له : لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك! وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه!

فأومأ بيده إلى الناس وكانوا محلَّقين فقال : إنّه ابن من حلق رؤوس من ترون (١)! وعلى ذكر ابن المقفّع في مقدمة الخبر هذا ، يظهر منه أنّه كان ذلك قبل مقتله.

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ١٩٩ ـ ٢٠١ ، عن الكليني في الكافي ٤ : ١٩٧ ، الحديث ١ ، ولكن الخبر هنا أتمّ وأكمل ، وكذا الصدوق في الأمالي والعلل بدون المقدّمة فليس فيه ذكر ابن المقفّع وأصحابه ، ولذا نقلته من الإرشاد. وانظر بعض الأخبار عنه في أمالي المرتضى ١ : ١٣٤ ـ ١٣٧.


مقتل ابن المقّفع :

ذكر ابن الخياط العصفري البصري : أن سفيان بن معاوية المهلّبي الأزدي تولّى البصرة مرتين الأُولى سنة (١٣٤ ه‍) ثمّ سنة (١٣٧ ه‍) (١) وكأنّ قتله لابن المقفّع كان في ولايته الثانية ، كما يلي :

استأذن عليه جمع من أهل البصرة فيهم ابن المقفّع (فلعلّه استأمنه قياساً على ولايته الأُولى) وكان سفيان قد أعدّ له عُدّة قتله في حجرة في دهليز داره ، فأدخل ابن المقفّع قبلهم وجلس غلامه بدابته على باب سفيان ، فلمّا دخل عدل به إلى الحجرة وعنده غلمانه وتنور نار مستعرة! وقال له سفيان : أتذكر يوم قلت لي : امي مغتلمة (٢) أجل أُمّي مغتلمة إن لم أقتلك قِتلة لم يُقتل بها أحد! ثمّ أمر بقطع يديه ورجليه وإلقائها في النار ثمّ أتبعها جسده وأطبق عليه التنّور! وخرج إلى الناس ، وخرجوا من عنده دون ابن المقفّع.

وتخلّف غلامه ينتظره فلم يخرج ، فأخبر بذلك عيسى وسليمان ابني علي العباسي ، فخاصما سفيان في أمره فجحد دخوله عليه ، فاشخصاه إلى المنصور وأقاموا البيّنة على دخول ابن المقفّع عليه سليماً. ثمّ لم يخرج من عنده. فأجّل المنصور الحكم تلك الليلة إلى غد. وجاءه سفيان ليلاً وقال له : يا أمير المؤمنين! اتقِ الله في متّبع أمرك! فقال له : لا تخف! وفي غد قال لهم : أرأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفّع ثمّ خرج ابن المقفّع عليكم من هذا الباب من ينصب لي نفسه حتّى أقتله بسفيان؟! وهكذا ذهب دمه هدراً!

ذكر ذلك المعتزلي في شرح النهج ، في شرح كلمة له عليه‌السلام قال : ربّ عالم

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٧٦ و ٢٨٤.

(٢) أي ذات شهوة كثيرة للرجال!


قد قتله جهله وعلمه معه لا ينفعه! فقال : كما جرى لابن المقفّع ، وفضله مشهور وحكمته أشهر من أن تُذكر ، ولو لم يكن له إلّا «كتاب اليتيمة» لكفى (١).

ونقل ابن خلكان مقتله وقال : قال له سفيان : لا حرج عليّ في المثلة بك وأنت زنديق قد أفسدت الناس (٢).

وذكر المسعودي : أن دبشليم ملك الهند القديم هو الواضع لكتاب «كليلة ودمنة» الذي ترجمه ابن المقفّع (٣) بعد أن نُقل من الهندية إلى الفارسية لأنوشيروان مع الشطرنج (٤) وقال : نقل ابن المقفّع من الفارسية الفهلوية إلى العربية كتب ماني وابن ديصان ومرقيون في تأييد المذاهب المانوية والديصانية والمرقيونية ، فكثرت بذلك الزنادقة وظهرت آراؤهم في الناس (٥).

وفي صيت ابن المقفّع في التصنيف قال الجاحظ : أنّه كان يؤلف الكتاب الكثير المعاني الحسن النظم فينسبه إلى نفسه فلا يرى الارادات تيمّم نحوه ولا الأسماع تُصغي إليه! ثمّ يؤلف ما هو أنقص منه مرتبة وأقل فائدة فيُنحله إلى ابن المقفّع أو سهل بن هارون ممن قد طارت أسماؤهم في المصنّفين ، فيُسارعون إلى نسخها ويُقبلون عليها ، لا لشيء إلّالنسبتها إلى القدماء (٦).

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ١٨ : ٢٦٩ ، ٢٧٠. واليتيمة وسائر آثاره الباقية طبعت ونُشرت باسم : الآثار الكاملة له ، للدكتور عمر الطبّاع السوري ، بيروت دار الأرقم. وانظر كتاب : ابن المقفّع بين حضارتين ، للدكتور حسين علي جمعة.

(٢) وفيات الأعيان ٢ : ١٥٢ ، وفي تاريخ مقتله انظر : ابن المقفّع بين حضارتين : ٦٤.

(٣) مروج الذهب ١ : ٩٦.

(٤) مروج الذهب ١ : ٢٩٤.

(٥) مروج الذهب ٤ : ٢٢٤.

(٦) التنبيه والإشراف : ٦٦.


آذربايجان وأرمينية والخزر :

كان على شُرَط السفّاح عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي (١) في سنة (١٤٠ ه‍) ولّاه المنصور على خراسان فبلغه أنّه جعل يتتبّع شيعتهم حتّى قتل منهم مقتلة عظيمة ، فوجّه المنصور بابنه المهدي إلى الريّ سنة (١٤١ ه‍) واستعمل على خراسان اسيد بن عبد الله الخزاعي ووجّه معه بالجيوش فالتقوا في مرو ، فهزم عسكر الأزدي وهرب فأسره وأرسله إلى المنصور فقتله وصلبه.

وولّى المنصور آذربايجان يزيد بن حاتم المهلّبي البصري فكان أول من نقل قومه اليمانية من البصرة إلى آذربايجان ، فأنزل الروّاد الأزدي في تبريز ومرّ بن علي الطائي في نيريز ، وفرّق قبائل اليمن. وولّى المنصور أرمينية يزيد بن اسيد السُلمي ، فكتب إليه يعلمه أن رأس طرخان ملك الخزر قد أقبل إليه في خلق عظيم! فوجّه إليه المنصور جبرئيل بن يحيى البجلي في عشرين ألفاً من أهل الشام والجزيرة والموصل ، فواقع الخزر وانهزم إلى خِرس ، وانتهى الخبر إلى المنصور فأخرج سبعة آلاف من أهل السجون ، وبعث فجمع من كل بلد خلقاً عظيماً معهم بنّاءون فبنوا مدن : كمخ والمحمدية وباب واق وعدّة مدن اخرى جعلها ردءاً للمسلمين وأنزل بها المقاتلين ، فقوي المسلمون بتلك المدن وأقاموا بالبلاد ساكنين وردّوا المحاربين.

ثمّ وجّه المنصور بالحسن بن قحطبة الطائي عاملاً على أرمينية ، فتحركت عليه الصَنّارية بها ، فكتب إلى المنصور بخبرهم وكثرتهم ، فوجّه إليه عامر بن إسماعيل الحارثي في عشرين ألفاً ، فأقام يحاربهم أياماً حتّى رزقهم الله الظفر عليهم ، فقتلوا منهم في يوم واحد ستة عشر ألف إنسان ، وانصرف بالأسرى إلى تفليس فقتلهم ، فولّى المنصور مولاه واضح على أرمينية فأقام بها.

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٧٢.


ووثب أهل طبرستان وأظهروا الخلع والعصيان في جيش عظيم! فوجّه المهدي العباسي إليهم من الريّ بعسكرين مع خازم بن خزيمة التميمي وروح بن حاتم المهلّبي البصري فهزموهم وفتحوا طبرستان سنة (١٤٢ ه‍).

وفاة إسماعيل بن جعفر :

مرّ في أخبار الحسن عليه‌السلام أنّ أباه علياً عليه‌السلام بعد مقتل طلحة بن عُبيد الله التيمي بالبصرة ، زوجّ ابنه الحسن عليه‌السلام بنتاً من طلحة تدعى أُم إسحاق فلما رزق الحسن عليه‌السلام منها ابناً سمح لها أن تسمّيه باسم أبيها طلحة ، كما سمّى الآخر منها باسم أخيه الحسين عليه‌السلام ، ثمّ لُقّب بالأثرم (١) وعند وفاته أوصى إلى الحسين عليه‌السلام أن يتزوّجها فتربيا عنده عليه‌السلام ، ثمّ صاهر الأثرم عمه عمر الأطرف بن علي عليه‌السلام ابنته أُم حبيب (٢) فرزق منها فاطمة فتزوجها الباقر لابنه الصادق عليهما‌السلام فرزق منها ابنته أُم فروة وابناه عبد الله وإسماعيل (٣) فعبد الله أكبر أبنائه وبه كان يكنى ، ولكنه كأ نّه لأنه من أسباط طلحة التيمي لذا مال إلى قول الحشوية بأن المصيبين هم الذين قعدوا عن حربهم وأنهم يتولونهم جميعاً ويردون أمرهم إلى الله ، والأخير من قول المرجئة (٤) وإلى قول الزيدية ولذا خرج مع محمد الحسني كما سيأتي.

وأما ابنه الآخر منها : إسماعيل ؛ فقد روى الأهوازي بسنده عن عمّار بن

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٠.

(٢) شرح الأخبار ٣ : ٣٠٩.

(٣) عمدة الطالب : ٢٣٣ والتبس على المفيد فقال : فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين عليه‌السلام خطأ.

(٤) الإرشاد ٢ : ١٨٤ ، ١٨٥.


حيان عن الصادق عليه‌السلام أنّه أخبر عن برّ ابنه إسماعيل به وقال : لقد كنت أحبّه وقد ازداد إليّ حباً (١).

ولذا لما شوهد بمكة أيام الموسم مع قوم يشربون فيهم إسماعيل بن جعفر! فذكر ذلك للصادق عليه‌السلام قال : لقد ابتلى ابني بشيطان يتمثل بصورته (٢) فهو برّأه من ذلك وخطّأ ظاهر الحال.

لكنه يظهر من خبر آخر عن الرضا عليه‌السلام أنّه كان يشرب النبيذ (٣) وكأنّه لهذا لم يستعظم ذلك من رجل قرشيّ تاجر إلى اليمن ، كان إسماعيل قد سمع الناس يقولون فيه أنّه يشرب الخمر! ومع ذلك استشار أباه الصادق عليه‌السلام أن يأتمنه على رأسمال يبتاع به له بضاعة من اليمن ، فقال الإمام له : يا بني أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ قال إسماعيل : هكذا يقول الناس ، فقال : لا تفعل. وعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره فاستهلكها ولم يأته بشيء منها (٤).

ومنه ما روى النعماني والكشي بسنده عن الفيض بن المختار الجعفي مولاهم أنّه سمع الصادق عليه‌السلام يقول لإسماعيل : أليس كثيراً ما أقول لك إلزمني فلا تفعل؟! فقام إسماعيل وخرج (٥).

وفي خبر له آخر كأنما يتبرّأ الإمام عليه‌السلام من ابنه إسماعيل يقول : والله ما أمرت ولا علمت ولا رضيت (٦).

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٢٦٨ عن كتاب الزهد للأهوازي.

(٢) كمال الدين : ٧٠.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٧٢ ـ ٤٧٤ ، الحديث ٨٩٩ كما فسّره في بحار الأنوار ٢٥ : ١٦٠.

(٤) الكافي ٦ : ٢٩٩ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٦٧ ، الحديث ٣٨.

(٥) كتاب الغيبة للنعماني : ٢٢٤ ، الباب ٢٣ ، الحديث ٢. والكشي : ٣٥٤ ، الحديث ٦٦٣.

(٦) المصدر : ٣٩٠ ، الحديث ٧٣٤.


ونرى فيض بن المختار يقول : قلت : جعلت فداك ، فما على اسماعيل أن لا يلزمك إذا كنت متى مضيت أُفضيت الأشياء إليه من بعدك ، كما أُفضيت الأشياء إليك من بعد أبيك؟! فقال لي : يا فيض ، إنّ إسماعيل ليس مني ما كنتُ من أبي! قلت : جعلت فداك ، قد كنت لا أشك في أنّ الرحال تُحطّ إليه من بعدك (١)! وفي الكشي : قد كنا لا نشك أن الرحال ستحطّ إليه من بعدك وقد قلت فيه ما قلت (٢)!

وروى النعماني بسنده عن إسحاق بن عمار الصيرفي قال : وصف أخي إسماعيل للصادق عليه‌السلام دينه واعتقاده فبدأ بالشهادتين ثمّ وصف الأئمة واحداً واحداً حتّى انتهى إليه فقال : وإسماعيل من بعدك. فقال : أما إسماعيل فلا (٣) وذكره الكشي باسم : إسماعيل بن عامر ولعلّه هو ابن عمّار ، لولا زيادة فيه عن حمّاد بن عثمان قال : قلت لإسماعيل : فما دعاك إلى أن تقول : وإسماعيل؟ قال : أمرني به المفضّل (٤) هذا وقد روى الكشي قبله عنه (حمّاد) قال : كان المفضّل قد انقطع مع أصحاب أبي الخطّاب يقول في إسماعيل بقولهم ، فسمعت الصادق عليه‌السلام يقول له : يا كافر! يا مشرك! مالك ولابني؟! يعني إسماعيل. ثمّ رجع بعد ذلك (٥) ولو كان خطّابياً حقاً صح كفره وشركه ، ولا يتعدّى الأمر في إسماعيل نفسه أكثر من العصيان والفسق كما مرّ ، وذلك لا يمنع ما يأتي في موته :

__________________

(١) كتاب غيبة النعماني : ٢٢٥ ، الباب ٢٣ ، الحديث ٢.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٥٤ ، الحديث ٦٦٣.

(٣) كتاب الغيبة للنعماني : ٢٢٤ ، الباب ٢٣ ، الحديث ١.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٣٢٥ ، الحديث ٥٩٠.

(٥) المصدر : ٣٢١ ، الحديث ٥٨١.


سجد سجدة طويلة ثمّ رفع رأسه فنظر إليه قليلاً ثمّ سجد سجدة أطول ثمّ رفع رأسه وقد حضره الموت فغمّضه وربط لحييه وغطّى عليه بملحفة (١) وجزع عليه ، فلما رأى الأرقط ذلك وهو ابن عمّ الإمام قال له : يا أبا عبد الله قد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعزيه بذلك ، فارتدع عن الجزع ثمّ صدّقه وشكره (٢).

ثمّ أمر بتهيئته ، فلما فُرغ من أمره دعا بكفنه وكتب في حاشية الكفن : إسماعيل يشهد أن لا إله إلّاالله (٣) ودخل عليه زرارة بن أعين الرومي مولى بني شيبان فقال له : يا زرارة جئني بأخيك حُمران وأبي بصير وداود الرقي ، قال : فخرجت فاحضرت من أمرني بإحضاره ، ودخل عليه المفضل بن عمر ولم يزل يدخل الناس واحداً واحداً حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً ، فلما احتشد المجلس قال لداود : يا داود ، اكشف لي عن وجه إسماعيل! فكشف عن وجهه ، فقال له : يا داود ، أحيٌّ هو أم ميت؟! قال داود : يا مولاي هو ميت! فجعل يعرض ذلك على رجل رجل حتّى أتى على آخر من في المجلس وكل يقول : هو ميت يا مولاي! فقال : اللهمّ اشهد.

ولما فرغوا منه قال للمفضل : يا مفضل ، احسَر عن وجهه! فحسر عن وجهه فكرّر : أحيٌّ هو أم ميت؟ قال : ميت! قال : اللهمّ اشهد عليهم.

ثمّ حُمل إلى قبره ، فلما وُضع في لحده قال للمفضل : يا مفضل ، اكشف عن وجهه ، وقال للجماعة : أحي هو أم ميت؟! قلنا له : ميت ، فقال : اللهم اشهد ، واشهدوا ، فإنه سيرتاب المبطلون. ثمّ تلا قوله سبحانه : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) وكان ابنه موسى عنده فأومى إليه وتلا : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ

__________________

(١) كمال الدين : ٧٢ و ٧٣ عن أبي كهمس.

(٢) كمال الدين : ٧٢.

(٣) كمال الدين : ٧٢ و ٧٣ عن أبي كهمس.


الْكَافِرُونَ (١)) ثمّ حثونا عليه التراب ، ثمّ أعاد علينا القول فقال : هذا الميت المحنّط المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟ قلنا : إسماعيل. قال : اللهم اشهد.

ثمّ أخذ بيد ابنه موسى وقال : هذا هو الحق والحق معه إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.

ثمّ قال : والله ليظهرن عليكم صاحبكم وليس في عنقه لأحد بيعة. ولا يظهر صاحبكم حتّى يشك فيه أهل اليقين! ثمّ تلا قوله سبحانه : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيم* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٢)) وأرخى نفسه عند القبر فقعد وقال : رحمك الله وصلّى الله عليك وقال : هكذا صنع رسول الله بولده إبراهيم (٣).

ثمّ لما فرغوا من جنازته جلس الإمام وجلسوا حوله فرفع رأسه وقال فيما قال : على أن لفراق المألوف حرقةً لا تدفع ولوعةً لا تُردّ ، وإنما يتفاضل الناس بحسن العزاء وصحّة الفكر .. ثمّ تمثّل بقول الشاعر :

فلا تحسبن أني تناسيت عهده

ولكنّ صبري ـ يا اميمُ ـ جميل (٤)

وقال : إني سألت الله في إسماعيل أن يبقيه بعدي فأبى (٥) وهذا أعم من الإمامة ، ولكن :

جاء في أصل زيد النرسي عنه عليه‌السلام قال : إني ناجيت الله في إسماعيل ابني أن يكون من بعدي ، فأبى ربي إلّاأن يكون ابني موسى.

__________________

(١) الصف : ٨.

(٢) كتاب الغيبة للنعماني : ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، أرسله أولاً ثمّ ذكر طرقه إليه ، وأرسله الحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٢٧ في الردّ على السبعية الاسماعيلية في الإمامة.

(٣) الكافي ٣ : ١٩٤ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٦٤.

(٤) كمال الدين : ٧٣.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٢١٧ ، الحديث ٣٩١.


وفيه أيضاً : ما زلت أبتهل إلى الله عزوجل في إسماعيل ابني أن يحييه لي فيكون القيّم من بعدي ، فأبى ذلك ربّي ، وإنّ هذا شيء ليس إلى الرجل منا أن يضعه حيث يشاء ، وإنما ذلك عهد من الله عزوجل يعهده إلى من يشاء ، فشاء الله أن يكون ابني موسى وأبى أن يكون إسماعيل.

وانفرد هذا بما اشتهر أنّه قال : ما بدا لله بَداء أعظم من بداء بدا له في إسماعيل ابني (١).

وإنما البَداء بمعنى الظهور بعد الخفاء لا بعد النصّ ، نعم يظهر من الخبر التالي أن بعضهم كان ادّعى ذلك على الصادق عليه‌السلام فكذّبه : روى النعماني بسنده عن الوليد بن صُبيح قال له : إنّ عبد الجليل حدّثني بأنك كنت أوصيت إلى إسماعيل قبل موته بثلاث سنين؟ فقال عليه‌السلام : يا وليد ، لا والله ، فإن كنتُ فعلت فإلى موسى (٢).

ومع ذلك تمسك الزيدية بخبر البداء على بطلان أخبار «الأئمة اثنا عشر» وأنّ الصادق عليه‌السلام قد نصّ على إسماعيل ، كما ذكر اعتراضهم الصدوق.

ثمّ أجابهم : بمَ قلتم : إنّ جعفر بن محمد عليه‌السلام نصّ على إسماعيل بالإمامة؟ وما ذلك الخبر؟ ومن رواه؟ ومن تلقّاه بالقبول؟ ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً. وإنما هي حكاية من قال بإمامة إسماعيل وليس لها أصل. أما الخبر بذكر «الأئمة الاثني عشر» فقد رواه الخاص والعام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام. وأما قوله : «ما بدا لله في شيء كما بدا له في ابني إسماعيل» فإنه يقول : ما ظهر أمر من الله كما ظهر منه في ابني إسماعيل إذ اخترمه في حياتي ليُعلم بذلك أنه ليس بإمام بعدي.

__________________

(١) أصل زيد النرسي (ضعيف) في الأُصول الستة عشر : ٤٩ وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٦٩.

(٢) كتاب الغيبة للنعماني : ٢٢٦.


ثمّ قال : وكيف ينصّ الصادق عليه‌السلام على إسماعيل بالإمامة مع قوله فيه : أنّه «عاص لا يشبهني ولا يشبه أحداً من آبائي» ثمّ ذكر الخبرين السابقين في ذلك (١).

ومع كل ذلك أقام على القول بحياته واستخلافه الامامة شرذمة من الأباعد والأطراف ، ولم يكونوا من خاصة الصادق عليه‌السلام ولا من الرواة عنه ، ويقول المفيد عنهم : وهم اليوم شذّاذ لا يُعرف منهم أحد يومى إليه.

ثمّ ادّعى ابنه محمد الإمامة في أبيه وبعده فيه ، فانتقل فريق منهم إلى هذا وسُمّوا بالإسماعيلية ، والمعروف اليوم منهم هم الذين يزعمون أنّ الإمامة بعد إسماعيل في ولده محمد ثمّ في ولده إلى آخر الزمان (٢).

وكانت وفاة إسماعيل في سنة (١٤٢ ه‍) أي قبل وفاة الصادق بستّ سنين (٣) وسنّ موسى الكاظم عليه‌السلام في المراهقة دون الحلم ، إذ كان يوم وفاة أبيه دون العشرين عاماً.

ومن أخبار المنصور :

خرج المنصور في سنة (١٤٢ ه‍) إلى البصرة للحج ، وعند الجسر الكبير بها أتاه الخبر بأن أهل اليمن وثبوا على عاملهم عبد الله بن الربيع وضعف عنهم فهرب منهم. وأن عامل السند عيينة بن موسى التميمي خلعه وتمرّد. فوجّه بعمر بن حفص هزارمرد وعسكر معه إلى السند ، ووجّه بمعن بن زائدة الشيباني وعسكر معه إلى اليمن ، وانصرف المنصور عن الحجّ ينتظر أخبارهم.

__________________

(١) كمال الدين : ٦٩ ، ٧٠.

(٢) الارشاد ٢ : ٢١٠ وانظر شرح الأخبار للقاضي الإسماعيلي ٣ : ٣٠٩ ، ٣١٠ ثمّ ٣٤٩ ـ ٤٤١.

(٣) تحفة الأزهار لابن شدقم ، كما في منتهى الآمال المعرّب ٢ : ٢٠٨.


فقدم معن إلى اليمن وقتل منهم قتلاً فاحشاً وأقام بها تسع سنين ، وتوجه عمر هزار مرد إلى الديبل ، وطلب عيينة الصلح فصالحه وبعث به إلى المنصور ، فهرب منهم في الطريق إلى الرُّخج من سجستان ، فقتله قوم من اليمانية وذهبوا برأسه إلى المنصور وأقام عمر هزارمرد بالمنصورة سنتين.

ثمّ ولّى المنصور عليها هشام بن عمرو التغلبي ، فاستخلف عليها أخاه بسطاماً ، وتوجّه بعسكره إلى الملتان ، وخرج إليه صاحبها بعسكره فكانت بينهما وقعة عظيمة وانهزم صاحب ملتان ، فدخلها هشام وسبى منها سبياً كثيراً ، وعمل السفن على نهر السند وحمل عليها عسكره إلى القندهار حتّى فتحها وسبى منها أيضاً ، وهدم صنمهم وبنى بموضعه مسجداً ، وقدم إلى المنصور بما لم يقدم به أحد من السند (١).

وفي هذه السنة وهي سنة (١٤٤ ه‍) انصرف المهدي من خراسان إلى العراق ، فخرج المنصور لاستقبال ابنه المهدي إلى نهاوند ، ثمّ عاد به إلى الهاشمية ثمّ الكوفة ثمّ الحيرة ، وبها عائلة عمّه السفّاح وابنته ريطة وتزوّجها هناك (٢).

عصر تدوين كتب العلوم :

قال الذهبي : إلى ما قبل هذا العصر كان الأئمة يروون العلم من صحف غير مرتبة ، أو يتكلمون من حفظهم ، وفي سنة (١٤٣ ه‍) شرع علماء الإسلام بتدوين الحديث والفقه والتفسير : فصنّف ابن جُريح بمكة ، ومالك الموطّأ بالمدينة (وقد مرّ خبره) والأوزاعي بالشام ، وابن أبي عروبة وحمّاد بن سلمة وغيرهما بالبصرة ، ومعمّر باليمن ، وسفيان الثوري وأبو حنيفة بالكوفة.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧١ ـ ٣٧٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٤.


ودوّنت كتب اللغة والعربية والتاريخ ، وصنّف محمّد بن إسحاق المغازي (١).

دخل ابن اسحاق على المنصور بالحيرة وبين يديه ابنه المهدي ، فقال له المنصور : يابن اسحاق أتعرف هذا؟ قال : نعم ، هذا ابن أمير المؤمنين! قال : فاذهب وصنّف له كتاباً منذ خلق الله تعالى آدم عليه‌السلام إلى يومك هذا! فذهب ابن اسحاق وصنّف له كتاباً مطوّلاً وجاءه به ، فلمّا رآه المنصور قال : يابن اسحاق لقد طوّلته ، اذهب فاختصره. فاختصره (٢) ثمّ سمع منه ذلك أهل الكوفة (٣) منهم راويته الكوفي زياد بن عبد الله البَكّائي (١٨٣ ه‍) وقد قيل : إن لقاء ابن اسحاق بالمنصور وتعريفه بابنه المهدي وتكليفه بالكتابة له كان قبل إرسال المهدي إلى الريّ سنة (١٤١ ه‍) فكلّف المنصور ابن اسحاق بملازمة ابنه المهدي ، فصحبه طويلاً وسافر معه إلى خراسان حيث حدّث بالريّ وأملى وممن استملى منه في الريّ يونس بن بكير (م ١٩٩ ه‍) ومن روايته عن سلمان الفارسي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن علياً خير الوصيين ، وسبطاه خير الأسباط (٤)! وابن اسحاق معدود في كتب رجال الشيعة من رواة السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام (٥).

وأسّس بغداد العاصمة :

وفي هذه السنة (١٤٤ ه‍) صار المنصور إلى بغداد وقال : ما أرى موضعاً أصلح لبناء مدينة من هذا الموضع بين دجلة والفرات ، والبصرة والابلّة وفارس

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٦.

(٢) انظر مقدمة سيرة ابن هشام ١ : ي.

(٣) معجم الأُدباء ١٨ : ٦ ، ووفيات الأعيان ٤ : ٢٧٧.

(٤) مقدمة سيرة ابن اسحاق لسهيل زكار : ١٣.

(٥) راجع موسوعة التاريخ الإسلامي ١ : ٢٨ ـ ٣١.


وما والاها ، والموصل والجزيرة والشام ، ثمّ مصر والمغرب ، والجبال وخراسان. وفي غرب دجلة اختطّ المدينة مدوّرة ولها أربعة أبواب : باب على دجلة إلى خراسان ، وباب على نهر الصراة التي تأخذ من الفرات وتصبّ في دجلة ، هي باب البصرة ، وباب إلى الكوفة ، وباب إلى الشام. وعرض أسفل السور سبعون ذراعاً ، وعلى كل باب قباب مذهّبة! يُصعد إليها بالخيل! وأحضر لبنائها البنّائين والمهندسين والفعلة من كل بلد ، ثمّ أقطع مواليه وقواده القطائع داخل المدينة ، فدروب المدينة تُنسب إليهم ، وأقطع آخرين على أبواب المدينة ، وأقطع الجند أرباض المدينة وأخذهم بالبناء (١).

ولما عزم على البناء أمر بنقض المدائن وايوان كسرى ، فنقضت ناحية من القصر الأبيض وحُمل نقضه إلى بغداد ، فنظروا فكان مقدار ما يلزمهم لنقضه وحمله أكثر من ثمن الجديد فأعرضوا عنه. وجعل بغداد مدورة لكي لا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض! وعمل لها سورين الخارج أقصر والداخل أعلى ، وبنى قصره في وسطها وبجنبه المسجد الجامع وقبلته منحرفة إلى باب البصرة (٢)! وكان يعمل له لبناء بغداد في كل يوم خمسون ألف رجل (٣).

وقيل : إن الذي عيّن له موقع بغداد هو المنجّم الفارسي نوبخت ، واصطحبه المنصور وهو أوّل خليفة اصطحب المنجّمين وعمل بأحكام النجوم ، كما يأتي عن السيوطي في وفاة المنصور.

ولما ضعفت صحة نوبخت قال له المنصور : أحضر ابنك ليقوم مقامك ، فأحضره وكان اسمه طويلاً بالفارسية ، فقال له : كل ما ذكرت فهو اسمك؟

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

(٢) تاريخ مختصر الدول لابن العبري : ١٢٢.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٠٨.


قال : نعم! قال : ما صنع أبوك شيئاً ، فخيّره بين اختصار اسمه وبين تكنيته بأبي سهل ، فتكنّى بأبي سهل وعرف بأبي سهل النوبختي نسبة إلى أبيه (١).

وفي سنة (١٤٤ ه‍) توفي في الكوفة من فقهائها وقضاتها عبد الله بن شبرمة الضبي (٢) وله أخبار مع الصادق عليه‌السلام :

الصادق عليه‌السلام وابن شُبرمة :

عبد الله بن شُبرمة الضبّي ، عدّه الطوسي في أصحاب السجاد عليه‌السلام (٣) فله سابق معرفة بالصادق عليه‌السلام ، ويظهر من خبر في «الكافي» أنّ بني العباس استقضوه في أوّل أمرهم بالكوفة ، فلما استقدموا الصادق عليه‌السلام إلى الحيرة للسفاح ، خرج يوماً منها إلى عيسى العباسي بالكوفة فالتقى به بينهما ومعه قاضيه ابن شبرمة ، وقال هذا له : يا أبا عبد الله ، سألني الأمير عن شيء لم يكن عندي فيه شيء ... (٤).

وحجّ على عهد الصادق عليه‌السلام ودخل مسجد الخيف بمنى فرأى الصادق عليه‌السلام في حلقة فيها نحو مئتي رجل ، فدخل فيهم وقال : يا أبا عبد الله ، إنا نقضي بالعراق (وكأنه لا يعرفه) فنقضي بما نعلم من الكتاب والسنة ، ولكن قد ترد علينا المسألة فنجتهد فيها بالرأي؟

فأعرض عنه الصادق عليه‌السلام إلى من عن يمينه يحدّثهم ، فلمّا رأى الناس ذلك أقبل بعضهم على بعض وتركوا الإنصات وتحدثوا ما شاء الله.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٥ ، وانظر مقدمة فِرق الشيعة لمحمد بن موسى النوبختي.

(٢) رجال الطوسي : ٩٧ ، والكنى والألقاب ١ : ١٩٨ ، وقاموس الرجال ٦ : ٣٩٧ ، وانظر تاريخ خليفة : ٢٧٦.

(٣) رجال الطوسي : ٩٧.

(٤) الكافي ٧ : ٣٧٨.


ثمّ قال ابن شُبرمة : يا أبا عبد الله ، إنا قضاة العراق! نقضي بالكتاب والسنة ، وترد علينا أشياء نجتهد فيها بالرأي؟

فأعرض عنه الصادق عليه‌السلام إلى من عن يساره يحدثهم ، ولما رأى الناس ذلك تركوا الإنصات وأقبل بعضهم على بعض يتحدثون.

فمكث ابن شُبرمة ماشاء الله ثمّ عاد لمثل قوله ، ففي هذه المرّة الثالثة أقبل عليه أبو عبد الله وقال له : أي رجل كان علي بن أبي طالب؟ فقد كان عندكم بالعراق ولكم به خبر. فقال ابن شبرمة فيه إطراءً وقولاً عظيماً. فقال له أبو عبد الله : فإن علياً أبى أن يُدخل الرأي في دين الله ، وأن يقول في شيء من دين الله بالرأي والمقاييس (١).

وحجّ المنصور ومعه عدّة من الفقهاء والقضاة فيهم ابن شُبْرمة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وفي الطواف أخبره حاجبه الربيع بن يونس أن أحد مواليه مات وأحد مواليه قطع رأسه بعد موته! فسأل الفقهاء والقضاة : ما تقولون؟ فقالوا : ما عندنا في هذا شيء! ثمّ رأوا الصادق عليه‌السلام دخل السعي فأخبروا به المنصور فقال للربيع : إذهب إليه وسله عن ذلك.

فلحقه الربيع وسأله عن ذلك فقال : قل له : عليه مئة دينار. فرجع الربيع وأبلغ المنصور ذلك فقالوا له : فاسأله : كيف صار عليه مئة دينار؟ فرجع إليه فسأله ذلك فقال : في النطفة عشرون وفي العلقة عشرون وفي المضغة عشرون وفي العظم عشرون وفي اللحم عشرون ، ثمّ أنشأه الله خلقاً آخر ، وهذا ميت بمنزلة جنين قبل أن ينفح الروح في بطن أُمه.

__________________

(١) المحاسن للبرقي ١ : ٣٣٢ ، الحديث ٧٧.


فرجع إليه فأخبره بالجواب فأعجبهم ذلك ، ثمّ قالوا : ارجع إليه وسله : هل الدية لورثته؟ أم لا؟ فرجع وسأله ذلك فقال : لا ، لأنه اتي إليه في بدنه بعد موته ، فيُحجّ بها عنه أو يُتصدّق بها أو تصيَّر في سبيل من سُبل الخير (١).

وكما ألجأتهم مواجهة دعاوى عبد الله بن الحسن إلى الاستناد أحياناً إلى مصحف امهم فاطمة ، كذلك ألجأتهم مواجهة هؤلاء الفقهاء والقضاة أصحاب القياس والرأي ، إلى الاستناد إلى «الجامعة».

فقد روى الكليني بسنده عن أبي شيبة قال : سمعت أبا عبد الله يقول : ضلّ علم ابن شُبْرمة عند «الجامعة» فهو إملاء رسول الله وخط علي عليهما‌السلام ، إن «الجامعة» لم تدع لأحد كلاماً ، فيها علم الحلال والحرام (٢).

وتوفي في موسم الحج من هذه السنة (١٤٤ ه‍) عمرو بن عُبيد الكابلي مولى تيم البصرة المعتزلي صاحب الحسن البصري في مرّان (٣) قرب مكة.

ذكر ذلك الليثي البصري والمسعودي ولم يعيّنا قبل الموسم أم بعده. ويظهر من خبر ذكره الأموي الزيدي : أن ذلك كان بعد الموسم :

دعوة الحسني ومعتزلة البصرة :

قال : اجتمع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد المعتزليان في دار عثمان بن عبد الرحمن المخزومي البصري فتذاكروا الجور ، فقال عمرو : فمن يقوم بهذا الأمر ممن يستوجبه وهو له أهل؟ فقال واصل : يقوم به من أصبح خير هذه الأُمة! محمّد بن عبد الله بن الحسن! فقال عمرو : ما أرى أن نبايع ولا أن نقوم إلّا

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٨٥.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٧٥.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٦ ، ومروج الذهب ٣ : ٣٠٣.


مع من اختبرناه وعرفنا سيرته. فقال واصل : والله لو لم يكن في محمّد بن عبد الله أمر يدل على فضله إلّاأن أباه عبد الله بن الحسن قد رآه أهلاً لهذا الأمر وقدّمه فيه على نفسه ، في سنّه وفضله وموضعه ، لكان يستحق ذلك ، فكيف بحال محمّد في نفسه وفضله!

ثمّ خرج هذان وجماعة من معتزلة البصرة معهما إلى موسم الحج فأتوا إلى عبد الله بن الحسن في السويقة ، فسألوه أن يخرج لهم ابنه محمّداً ليكلّموه. فضرب عبد الله لهم فسطاطاً ، وشاور ثقاته فاجتمعوا على أن يخرج إليهم أخاه إبراهيم ، فأخرجه إليهم وعليه ريطتان وبيده عُكازة حتّى أوقفه عليهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ ذكر أخاه محمّداً وحاله ودعاهم إلى بيعته.

فقالوا : اللهمّ انا نرضى برجل هذا رسوله! فبايعوه ثمّ انصرفوا إلى البصرة (١).

فيظهر من هذا الخبر أن ذلك كان بعد الموسم ، فلمّا وصلوا إلى مرّان مات عمرو بن عبيد! وهذا الخبر يفسّر لنا سوابق معتزلة البصرة لاستقبال إبراهيم الحسني داعية لأخيه محمّد. ويظهر منه أيضاً تواصل واصل لهذه الدعوة من قبل ، ومدى أثره في عمرو ، وأ نّه كان أكثر أثراً من كلام هشام بن الحكم مع عمرو في الإمامة قبل هذا ، كما يلي :

كلام هشام وعمرو بن عُبيد :

مرّ الخبر عن حج الإمام الصادق عليه‌السلام ، وأ نّه قبل المواقف كان يضرب له خيمة صغيرة بسفح جبل في طرف الحرم ، واجتمع عنده من أصحابه حُمران بن

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٩٦.


أعين مولى شيبان ومؤمن الطاق محمّد بن علي وهشام بن سالم الجواليقي وحمزة الطيّار مولى فزارة وجماعة فيهم هشام بن الحكم مولى كندة وهو شاب ، وسمع شامي بصيت علم الصادق عليه‌السلام فجاءه يناظره فأجلسه الإمام ، وقال لهشام : يا هشام! قال : لبيّك يابن رسول الله. قال : ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عُبيد وكيف سألته؟

فقال هشام : إني اجلّك واستحيي منك فلا يعمل لساني بين يديك!

قال الصادق عليه‌السلام : إذا أمرتكم بشيء فافعلوه. فقال هشام : نعم ، بلغني ما كان فيه عمرو بن عُبيد وجلوسه في مسجد البصرة ، وعظم ذلك عليّ! فخرجت إليه حتّى دخلت البصرة يوم الجمعة ، وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة حول عمرو بن عُبيد وهم يسألونه وعليه شملة صوف سوداء مئتزراً بها (فلعلّها رسمية عباسية) وشملة هو مرتد بها. فقعدت في آخر القوم.

ثمّ جثوت على ركبتي وقلت : أيها العالم! أنا رجل غريب فأذن لي أن أسألك مسألة. قال : نعم. قلت له : ألك عين؟ قال : يا بُني! أي شيء هذا من سؤال؟ قلت : هكذا مسألتي. قال : يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء! قلت : أجبني فيها. قال : نعم. قلت : فما ترى بها؟ قال : الأشخاص والألوان. قلت : فلك أنف؟ قال : نعم. قلت : فما تصنع به؟ قال : أشمّ به الرائحة ، قلت : فلك فم؟ قال : نعم. قلت : فما تصنع به؟ قال : أذوق به الطعم. قلت : ألك قلب؟ قال : نعم. قلت : فما تصنع به؟ قال : اميّز به كل ما ورد على هذه الجوارح. قلت : أليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال : لا. قلت : وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال : يا بني ، الجوارح إذا شكّت في شيء رأته أو ذاقته أو شمّته ، ردّته إلى القلب فيتيقّن اليقين ويبطل الشك. قلت وإنّما أقام الله القلب لرفع شك الجوارح؟ قال : نعم. قلت : فلابدّ من القلب وإلّا لم تستيقن الجوارح؟ قال : نعم.


فقلت له : يا أبا مروان! إن الله لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لها الصحيح ويتيقّن لها ما شكّت فيه ، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكّهم واختلافاتهم لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك وشكّك؟!

فسكت هنيهة ثمّ التفت إليّ وقال لي : أنت هشام؟ قلت : لا! قال : أجالسته؟ قلت : لا. قال : فمن أين أنت؟ قلت : من الكوفة. قال : إذن فأنت هو! ثمّ دعاني إليه حتّى أضمّني إليه وأقعدني في مجلسه! وما نطق حتّى قمت.

فضحك الصادق عليه‌السلام ثمّ قال : يا هشام ، مَن علّمك هذا؟ قلت : يابن رسول الله هو شيء جرى على لساني! فقال : يا هشام ، هذا مكتوب ـ والله ـ في صحف إبراهيم وموسى (١).

ومن حوادث سنة (١٤٤ ه‍) حجّ المنصور وقبضه على آل الحسن وكبيرهم عبد الله بن الحسن ، وله أخبار مع الصادق عليه‌السلام قبل ذلك ، فإليها :

عبد الله بن الحسن والصادق عليه‌السلام :

روى الحلبي عن عبد الرحمن بن كثير الكوفي القرشي قال : نظر الصادق عليه‌السلام إلى رجل قصده فقال له : يا هذا ، إنك دخلت مدينتنا هذه تسأل عن الإمام ، فاستقبلك فتية من ولد الحسن عليه‌السلام فأرشدوك إلى عبد الله بن الحسن ، فسألته هنيهة ثمّ خرجت. ثمّ استقبلك فتية من ولد الحسين عليه‌السلام فقالوا لك : يا هذا إن رأيت أن تلقى جعفر بن محمّد فافعل. فقال : كان كما ذكرت. قال : فارجع إلى عبد الله بن الحسن فاسأله عن عمامة رسول الله ودرعه. فذهب الرجل.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٧١ ـ ٢٧٣ ، الحديث ٤٩٠ ، ومنه الحديث : ٤٩٤.


ورجع إلى الصادق عليه‌السلام فأخبره أنّه ذهب فسأله عن عمامة رسول الله ودرعه فأخرج من كندوجه (صندوقه) درعاً فلبسها وقال : هكذا كان رسول الله يلبس الدرع.

فقال الصادق عليه‌السلام : ما صدق! ثمّ أخرج خاتمه فضرب به الأرض فإذا بدرع وعمامة سقطا من جوف الخاتم (١).

وكثير من بقايا الزيدية كانوا قد التفّوا حول عبد الله المحض أملاً في خروج ابنه محمّد ، ومنهم عبد الله النجاشي ، ودخل هذا يوماً على الصادق عليه‌السلام ـ مع صاحبه عمار السجستاني ـ فقال له : اتذكر يوماً مررت على دار قوم سال ميزابهم عليك ، فطرحت نفسك في النهر بثيابك فاجتمع عليك الصبيان يصيحون عليك ويضحكون منك؟! فما دعاك إلى ما صنعت؟! وخرج من عنده فقال لصاحبه عمار : يا عمّار ، هذا صاحبي لا غيره (٢) يعني عبد الله بن الحسن.

وبمثل ذلك اهتدى إليه محمّد بن الأشعث الكوفي وابنه جعفر ، فقال هذا يوماً لصفوان بن يحيى : إن سبب دخولنا في هذا الأمر : أن المنصور قال لأبي : محمّد بن الأشعث : يا محمّد ، ايتني برجل له عقل يؤدي عني! فعرّفه بخاله فلان بن مهاجر ، قال : فأتني به. فأتاه بخاله. فقال له : يابن مهاجر ؛ خذ هذا المال واذهب به إلى المدينة ، فالق عبد الله بن الحسن وجعفر بن محمّد وأهل بيتهما وقل لهم : إني رجل غريب من خراسان ، وبها شيعة من شيعتكم ، وقد وجّهوا إليكم بهذا المال ، فادفع إلى كل واحد منهم كذا وكذا وقل : إني رسول وأُحب أن يكون معي خطوطكم بقبض ما قبضتم.

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٤١ فهي كانت عندهم إعجازياً وليس عادياً طبيعياً.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٤٠.


فأخذ المال ومضى ، فلمّا رجع قال للمنصور : هذه خطوطهم بقبض الأموال ، ما خلا جعفر بن محمّد ، فإني رأيته يصلّي في مسجد الرسول فجلست خلفه وقلت في نفسي : ينصرف فاذكر له ذلك.

فعجّل والتفت إليّ وقال له : يا هذا ، قل لصاحبك : اتقِ الله ولا تغرّ أهل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنهم قريبو عهد بدولة بني مروان وكلهم محتاج! فقلت : وما ذاك أصلحك الله؟ قال : ادن مني ، فدنوت فأخبرني بجميع ما جرى بيني وبينك حتّى كأنه كان ثالثنا!

فقال المنصور : يابن مهاجر! اعلم أنّه ليس من «أهل بيت» نبوة إلّاوفيهم محدَّث ، وإن جعفر بن محمّد محدَّثنا اليوم!

فكانت هذه الدلالة سبب قولنا بهذه المقالة (١) يعني الإمامة.

هذا ما رواه الكليني مسنداً عن جعفر بن محمّد الأشعث عن خال أبيه فلان بن المهاجر ، إنّما فيه أنهم قالوا بإمامة الصادق عليه‌السلام وليس فيه أن ابن مهاجر هاجر ما كان عليه من القول.

بل أرسل الراوندي عن مهاجر بن عمار الخزاعي قال : بعثني أبو الدوانيق إلى المدينة بمال كثير وأمرني أن أتضرّع لأهل هذا البيت وأحفظ مقالتهم! فدخلت المسجد بالمدينة ولزمت الزاوية القبلية (الجنوبية) لم أكن اتنحّى عنها في ليل ولا نهار. وكان حول قبر الرسول سُوّال (يتسوّلون من الزائرين!) فأخذت إليهم الدراهم ، وإلى من هو فوقهم! الشيء بعد الشيء! حتّى أني ناولت شباباً من بني الحسن ومشيختهم ، وحتّى أني تأ لّفتهم وتأ لّفوني سرّاً!

ثمّ بعد ما نلت حاجتي ممن كنت اريد من بني الحسن وغيرهم ، دنوت من أبي عبد الله (الصادق عليه‌السلام) وهو يصلي ـ ولم أكن أتسمّى باسمي ولا أتكنّى لهم ـ

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٤٧٥ ، الحديث ٦.


فلمّا قضى صلاته التفت إليّ وناداني : تعال يا مهاجر! وقال لي : قل لصاحبك : يقول لك جعفر : كان أهل بيتك إلى غير هذا أحوج منهم إلى هذا! تجيء إلى قوم شباب محتاجين فتدسّ إليهم ، فلعلّ أحدهم يتكلم بكلمة تستحلّ بها سفك دمه؟! فلو بررتهم ووصلتهم وأغنيتهم كانوا إلى هذا أحوج مما تريد منهم!

فلمّا أتيت أبا الدوانيق قلت له : جئتك من عند ساحر كذاب كاهن ، كان من أمره كذا وكذا! فقال : صدق والله! لقد كانوا إلى غير هذا أحوج! ثمّ قال لي : وإياك أن يسمع هذا الكلام منك إنسان (١)!

وعليه فقد أعدّ المنصور العدّة لآل الحسن بأسوأ التقارير بل الأقارير إن صحّ التعبير ، ولذا أخذهم أخذ جائر جابر.

دعوة الحسني ، وموقف الصادق عليه‌السلام :

روى الكليني بسنده عن موسى بن عبد الله الحسني : أن أخاه محمّداً كان قد اختفى في جبل الأشقر من جبال جُهينة على ليلتين من المدينة. وفي أواخر سنة (١٤٤ ه‍) أخذ أبوه عبد الله في أمره وأجمع على لقاء أصحابه ، ورأى أنّه لا يستقيم أمره إلّابلقاء الصادق عليه‌السلام.

قال موسى : فانطلقت معه حتّى أتينا أبا عبد الله عليه‌السلام فلقيناه خارجاً يريد المسجد ، فاستوقفه أبي وكلّمه ، فقال له أبو عبد الله : ليس هذا موضع ذلك ، نلتقي إن شاء الله. فرجع أبي مسروراً ، وأقام حتّى إذا كان الغد أو بعده بيوم.

انطلقنا حتّى أتيناه فدخل عليه أبي وأنا معه ، فابتدأ الكلام وقال : قد علمت جعلت فداك أن السنّ لي عليك! وأن في قومك من هو أسنّ منك ، ولكن الله عزوجل قد قدّم لك فضلاً ليس هو لأحد من قومك! وقد جئتك معتمداً

__________________

(١) الخرائج والجرائح ٢ : ٦٤٦.


لما أعلم من برّك ، واعلم ـ فديتك ـ أنك إذا أجبتني لم يتخلّف عني أحد من أصحابك ، ولم يختلف عليّ اثنان ، من قريش ولا غيرهم.

فقال له أبو عبد الله : إنك تجد غيري أطوع لك منّي ، ولا حاجة لك فيّ ؛ فوالله إنك لتعلم أني اريد البادية أو أهمّ بها فأثقل عنها ، وأُريد الحجّ فما ادركه إلّا بعد كدّ وتعب ومشقة على نفسي! فاطلب غيري وسله ذلك ، ولا تُعلمهم أنك جئتني.

فقال له : إن الناس مادّون أعناقهم إليك ، وإن أجبتني لم يتخلّف عنّي أحد ، ولك أن لا تكلَّف قتالاً ولا مكروهاً. وهجم علينا ناس فدخلوا وقطعوا كلامنا ، فقال أبي : جُعلت فداك ما تقول؟ قال : نلتقي إن شاء الله. فقال : أليس على ما احب؟! فقال : على ما تحب إن شاء الله من صلاحك. فانصرف حتّى جاء البيت ، فبعث رسولاً إلى محمّد أعلمه أنّه قد ظفر له بوجه حاجته وما يطلب!

ثمّ عاد بعد ثلاثة أيام فدخلنا عليه فجلست أنا في ناحية الحجرة ، ودنا أبي إليه فقبّل رأسه ثمّ قال له :

جعلت فداك قد عدت إليك راجياً مؤمّلاً ، قد انبسط رجائي وأملي ، ورجوت درك حاجتي!

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : يابن عم ، إني اعيذك بالله من التعرّض لهذا الأمر الذي أمسيت فيه! وإني لخائف عليك أن يُكسبك شرّاً ؛ فلمّا قال الصادق عليه‌السلام ذلك جرى الكلام بينهما حتّى أدّى بأبي إلى ما لم يكن يريده من قوله : بأي شيء كان الحسين أحقّ بها من الحسن؟!

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : رحم الله الحسن ورحم الحسين ، ولكن كيف ذكرت هذا؟

قال : لأن الحسين عليه‌السلام إذا كان يعدل كان ينبغي له أن يجعل (الوصية) في الأسنّ من وُلد الحسن!


فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى لما أن أوحى إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أوحى إليه بما شاء ولم يؤامر أحداً من خلقه ، وأمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً عليه‌السلام بما شاء ففعل ما امر به ، ولسنا نقول فيه إلّاما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من تبجيله وتصديقه ، فلو كان آمرَ الحسينَ أن يصيّرها (الوصية) في الأسنّ أو ينقلها في ولدهما لفعل ذلك الحسين ، وما هو بالمتّهم عندنا بالذخيرة لنفسه! ولكنّه مضى لما أُمر به ، وهو عمّك ، فإن قلت فيه خيراً فما أولاك به ، وإن قلت هُجراً فيغفر الله لك.

أطعني ـ يابن عمّ ـ واسمع كلامي ، فوالله الذي لا إله إلّاهو لا آلوك نُصحاً وحرصاً ، ولا أراك تفعل ، وما لأمر الله من مردّ! والله إنك لتعلم أنّه الأحول الأكشف الأخضر المقتول بسُدّة أشجع عند بطن مسيلها!

فقال أبي : ليس هو ذلك ، وليقومنّ بثار بني أبي طالب جميعاً ، والله ليجازين بالسنة سنة وباليوم يوماً وبالساعة ساعة!

فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : يغفر الله لك! ما أخوفني أن يلحق بصاحبنا هذا البيتُ : «منّتك نفسك في الخلاء ضلالاً» لا والله لا يملك أكثر من حيطان المدينة ، وحتّى إذا أحفل وأجهد لا يبلغ عمله الطائف ، ولابدّ للأمر أن يقع! فاتّقِ الله وارحم نفسك وبني أبيك ، فوالله إني لأراه أشأم شيء أخرجه أصلاب الرجال إلى أرحام النساء! والله إنّه المقتول بسُدّة أشجع بين دورها! والله لكأ نّي به صريعاً مسلوباً بزّته!

قال موسى : ثمّ التفت إليّ وقال : ولا ينفع هذا الغلام ما يسمع! وليخرجنّ معه فيقتل صاحبه ويهزم هذا ويمضي. وتخرج معه راية اخرى ـ بالبصرة ـ فيقتل كبشها ويتفرّق جيشها! ولقد علمت بأن هذا الأمر لا يتم ، وإنك لتعلم ونعلم أن ابنك الأحول الأخضر الأكشف ، المقتول بسُدّة أشجع بين دورها عند بطن مسيلها! فإن أطاعني فليطلب عند ذلك الأمان من بني العباس حتّى يأتيه الله بالغريم.


فقام أبي وهو يقول : بل يغني الله عنك ... وما أردت بهذا إلّاامتناع غيرك وأن تكون ذريعتَهم إلى الامتناع عنّا!

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الله يعلم ، ما اريد إلّانصحك ورشدك ، وما عليّ إلّا الجهد. فأدبر أبي يجرّ ثوبه مغضباً ، ولحقه أبو عبد الله عليه‌السلام وقال له : اخبرك أني سمعت عمّك ـ وهو خالك (١) ـ يذكر أنك وبني أبيك ستقتلون ، فإن أطعتني ورأيت أن تدفع بالتي هي أحسن فافعل ، فوالله الذي لا إله إلّاهو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الكبير المتعال على خلقه ، لوددت أني فديتك بأحبّ أهل بيتي وولدي إليّ! وما يعدلك عندي شيء ؛ فلا ترى أني غششتك! فخرج أبي من عنده مغضباً آسفاً (٢).

تحيّر المنصور لأخذ الأخوين :

نقل البلاذري : أنّ المنصور استشار وليّ العهد عيسى بن موسى العباسي في أمر محمد وإبراهيم ، قال : إنّ محمداً وإبراهيم قرّا في مكمنهما وهدءا في مربضهما يلتمسان لي الغوائل ويتربصان بي الدوائر ، وأنا أُريد أن أبعثهما من مربضهما واستنهضهما من مكمنهما وأنصب لهما الحرب فقد بهضني أمرهما. وظننت أني إذا أخذت أباهما وعمومتهما وقراباتهما أظهرا لي سلماً أو حرباً؟ فما الرأي فيما ذكرت لك؟

__________________

(١) لعلّه في الأصل : ابن عمك وهو ابن خالك ، وهو الباقر عليه‌السلام ، فام عبد الله فاطمة بنت الحسين ، فعلي بن الحسين خاله وهو ابن عمّه أيضاً. يريد تذكيره بانتسابه إليهم بالأب والأُم.

(٢) اصول الكافي ١ : ٣٥٨ ـ ٣٦١ ، الحديث ١٧.


فقال عيسى : يا أمير المؤمنين! من الصواب أن تولّي المدينة رجلاً من أهل بيتك له مكر ونكر ، وتأمره بطلبهما والبحث عنهما وإذكاء العيون عليهما حتى يظفرك الله بهما!

فقال : يا أبا موسى ، إنهما لم يُظهروا عدواتهما لنا فهي باطنة ، فإن استكفيت أمرهما رجلاً من أهل بيتي منعته الرحم من المكروه إليهما وحجزته القرابة من طلبهما!

قال : فولّ المدينة رجلاً من خراسان له حدّ وجِد ، ومُره أن يقعد لهما بكل مرصد ولا يفتر عنهما!

فقال : يا أبا موسى ، إنّ محبة «آل أبي طالب» ممتزجة بمحبّتنا في قلوب أهل خراسان ، فإن ولّيت أمرها رجلاً من خراسان حالت محبته لهما بينه وبين طلبهما والفحص عنهما! ولكنّ أهل الشام قاتلوا علياً على أن لا يتأمر عليهم ثمّ مات علي وهلك الذين قاتلوه ، فقام من بعده بنوه يطلبون الأمر فقام أبناء أهل الشام الذين قاتلوه فمنعوا بنيه الأمر وسفكوا دماءهم ، للبغض الذي ورثوه عن آبائهم! فالرأي أن اولّي المدينة رجلاً من أهل الشام!

فولّاها رياح بن عثمان المرّي وشحذه على طلبهما.

فلما قدم المدينة صعد المنبر فقال لهم : يا أهل يثرب! لا مقام لكم فاربعوا! أنا ابن عم مسلم بن عقبة الفهري الشديد الوطأة عليكم! الوبيل الوقعة بكم! الخبيث السيرة فيكم! ثمّ أنتم اليوم عقب الذين حصدهم السيف! وايم الله لأحصدنّ منكم عقب الذين حصد! ولألبسنّ الذلّ عقب من ألبس (١).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ١١٧ ـ ١١٨ ، الحديث ١١٨.


اعتقال آل الحسن :

قال المسعودي : كان إخوة محمّد الحسني وولده قد تفرقوا في البلدان يدعون إلى إمامته وبيعته :

فمضى أخوه إبراهيم إلى البصرة (١) فأجابه الزيدية والمعتزلة بها والأهواز وغيرهما.

ومضى أخوه الآخر إدريس إلى المغرب فأجابه خلق من الناس فدسّ المنصور من سمّه ، وقام ابنه إدريس المثنّى مقامه فعُرفوا بالأدارسة.

ومضى أخوه الآخر يحيى إلى الريّ ثمّ طبرستان فظهر في أيام الرشيد.

وسار أخوه الآخر موسى إلى الجزيرة فلم يُعرف مصيره (٢).

وسار ابنه عبد الله ـ باسم جده ـ إلى خراسان ، فعُرف فطُلب فهرب إلى السند فقُتقل بها.

وتوجّه ابنه علي بن محمّد إلى مصر فقُتل بها.

وسار ابنه الحسن إلى اليمن فعُرف فطُلب واخذ فحُبس حتّى مات (٣).

وبلغ المنصور أن محمّداً قد تحرك وكاتب أهل البلدان وكاتبوه (٤) ، فخرج عام (١٤٤ ه‍) حاجاً ، وعاد من حجّه إلى الربذة دون المدينة ، وطلب

__________________

(١) هنا في المسعودي : ومعه عيسى بن زيد بن علي. بل هو كان على شرطة محمّد عند ظهوره بالمدينة ، كما يأتي.

(٢) كذا في المسعودي ، وقد مرّ عن الصادق عليه‌السلام أنّه يخرج مع محمّد فيهزم ، وأ نّه روى الخبر بعد ذلك بالمدينة.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٩٦.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٤.


محمّداً فلم يظفر به ، فأخذ به أباه عبد الله مع جماعة من أهل بيته فأوثقهم في الحديد وحملهم إليه على الإبل بغير وطاء (١).

وروى الكليني بسنده عن موسى بن عبد الله الحسني قال : قدمت رسل المنصور فأخذوا أبي عبد الله بن الحسن ، وعمومتي : سليمان بن الحسن ، وحسن بن الحسن المثنى ، وإبراهيم بن الحسن وداود بن الحسن ، وعلي بن الحسن ، وسليمان بن داود ، وعلي بن إبراهيم ، وحسن بن جعفر بن الحسن ، وطباطبا إبراهيم بن إسماعيل بن الحسن ، وعبد الله بن داود. فصفّدوا في الحديد ، ثمّ حُملوا في محامل بلا وطاء ، واوقفوا بالمصلّى لكي يشتمهم الناس! فرقّ الناس لهم للحال التي هم فيها ، فانطلقوا بهم إلى باب جبرئيل (٢).

وروى عن خديجة بنت عمر بن علي بن الحسين : أنهم لما أوقفوهم عند باب جبرئيل طلع عليهم أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام ورداؤه يجرّ على الأرض غضباً والتفت إلى أبناء الأنصار وقال ثلاثاً : لعنكم الله يا معاشر الأنصار! ما على هذا عاهدتم رسول الله ولا بايعتموه! أما والله إن كنت حريصاً ـ أن لا يقع ـ ولكنّي غُلبت وليس للقضاء مدفع! ثمّ أدخل نعله في رجله والأُخرى بيده ورداؤه يجرّ على الأرض (٣).

وقال موسى : وتوجّه إلى المحمل الذي فيه أبي ، عبد الله بن الحسن يريد كلامه ، فأهوى إليه الحرسيّ ومنعه أشد منع ودفعه وقال له : تنحّ عن هذا! ـ فقال له الإمام عليه‌السلام ـ : إن الله سيكفيك ويكفي غيرك! فلم يخرج الحرسيّ بهم من زقاق (بني هاشم) إلى البقيع حتّى رمحته ناقته فدقت وركه فمات بها (٤)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٠.

(٢) اصول الكافي ١ : ٣٦١.

(٣) اصول الكافي ١ : ٣٦١. وقارن بما في مقاتل الطالبيين : ١٤٨ ، ١٤٩.

(٤) اصول الكافي ١ : ٣٦١.


وقالت خديجة : فحُمّ الإمام عليه‌السلام عشرين ليلة لم يزل يبكي الليل والنهار حتّى خفنا عليه (١).

واتي المنصور بهم ، وأحضر عبد الله وقال له : دلّني على ابنك (محمّد) وإلّا قتلتك!

فقال عبد الله : لقد امتُحنت بأشدّ مما امتحن الله به خليله إبراهيم! وإنّ بليّتي لأعظم من بليّته! لأن الله عزوجل أمره أن يذبح ابنه ، وكان ذلك طاعة لله عزوجل ومع ذلك قال : (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (٢)) وأنت تريد منّي أن أدلّك على ابني (محمّد) لتقتله! وقتله سخط لله!

فقال المنصور له : يابن اللخناء وأنت تقول هذا!

فقال عبد الله : ليت شعري أيّ الفواطم لخَّنت يابن سلامة! أفاطمة بنت الحسين (أُمه)؟! أم فاطمة بنت رسول الله؟! أم جدتي فاطمة بنت أسد بن هاشم جدة أبي؟! أم فاطمة ابنة عمرو بن عائد المخزومي جدّة جدتي؟!

قال المنصور : ولا واحدة من هؤلاء (٣)!

ويظهر من خبر الكليني عن موسى بن عبد الله الحسني كأنه لم يكن معهم إلى الربذة ، ويظهر من خبر أبي الفرج الإصفهاني بسنده عنه أنّه كان معهم قال : لما صرنا بالربذة أرسل المنصور إلى أبي أن أرسل إليّ أحدكم. فأرسلني إليه وأنا يومئذٍ حدث السن ، فلمّا نظر إليّ قال : لا أنعم الله بك عيناً! ثمّ أمر غلامه بضربي

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٣٦١ ، كذا ، وهذا بظاهره ينافي أخبار إحضاره عليه‌السلام بعدهم إلى المنصور بالربذة ، فظاهرها المبادرة والاتصال وليس الانفصال البعيد.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٠ والآية من الصافات : ١٠٦. وفي الكتاب : العظيم ، خطأ.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٠.


بسوطه فضربني حتّى غشي عليّ ، ثمّ رفعت السياط عني. ثمّ قال لي : أتدري لِمَ هذا؟ هذا فيض فاض مني فأفرغت عليك منه سجلاً (دلواً) ومن ورائه الموت أو تفتدي منه! فانطلِق فائتني بأخويك!

قلت : يا أمير المؤمنين! تبعثني إلى رياح بن عثمان المرّي (١) فيضع عليّ العيون والرصد ، فلا أسلك طريقاً إلّااتبعني رسوله ، ويعلم أخواي بذلك فيهربان مني.

فأرسل معي حرساً أمرهم أن يكتبوا إليه بخبري وكتب إلى رياح : لا سلطان لك على موسى!

فقدمت المدينة فنزلت دار ابن هشام (؟) فأقمت بها شهوراً.

وعن المدائني قال : وكتب رياح إلى أبي جعفر : إن موسى مقيم يتربّص بك الدوائر وليس عنده شيء مما تحب. فأمره أن يحمل موسى الحسني إليه. فحمله إلى المنصور (٢) وقال للرسل معه : إن رأيتم أحداً لحقكم من المدينة في طلبكم فاضربوا عنق موسى (٣).

وقال البلاذري : قالوا : إنّ رياح المري أخذهم فحبسهم وضيق عليهم ، فلما حجّ المنصور سنة (١٤٤ ه‍) حملهم المريّ يتلقى بهم المنصور فتلقاهم بالربذة

__________________

(١) قال خليفة : ٢٧٦ : في سنة (١٤٤ ه‍) ولّى المنصور رياح بن عثمان المرّي على المدينة. وقد كان أبوه واليها للمروانيين فشبّب بامرأة من قريش وشرب خمراً فعزلوه وضربوه حدّين! ولعلّه لهذا ولّاه المنصور!

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٧٦ وتمامه : بلغ ذلك محمّداً فعجل بالخروج قبل أن يتم أمر دعاته الذين أنفذهم إلى الآفاق ، فأرسل وأنقذ أخاه موسى من أيديهم. وسيأتي خبره.


وأخبره بخبرهم ، فدعا بهم المنصور ، فلما أغلظ له عبد الله الحسني أمر باصطفاء ماله وبيع متاعه وصيّره في بيت المال بالمدينة (١). ثمّ مضى بالقوم معه إلى مكة ، ثمّ انصرف بهم معه إلى العراق (٢). ويكفينا هنا خبر «الكافي» إلّاأنّ هذا يتلاءم مع خبر الكليني عن خديجة بحمى الصادق عليه‌السلام عشرين يوماً.

المنصور بالربذة مع الصادق عليه‌السلام :

روى الاربلي عن الحميري عن عبد الله بن أبي ليلى قال : كنت مع المنصور بالربذة ، وبعث عليَّ فدعاني ، فلمّا انتهيت إلى الباب سمعته يقول : عجّلوا! عليّ به! قتلني الله إن لم أقتله! سقى الله الأرض من دمي إن لم أسقِ الأرض من دمه! فسألت الحاجب : مَن يعني؟ قال : جعفر بن محمّد! وكان قد وجّه إليه فإذا هو قد اتي به مع عدّة جلاوزة! ورأيته وشفتاه تتململ ، ثمّ رُفع الستر فادخل.

ولكن لما نظر إليه المنصور قال له : مرحباً يابن عمّ! مرحباً يابن رسول الله! وما زال يرفعه حتّى أجلسه على وسادته! ثمّ دعا بالطعام فاتي بجدْي فأخذ يُلقمه بيده ، ثمّ قضى حوائجه ، وأمر بصرفه إلى داره (٣).

وروى ابن طاووس عن الصفّار عن إبراهيم بن جَبَلة قال : لما نزل المنصور بالربذة ، وكان قد أحضر جعفر بن محمّد إليها وأنزله في منزل بها ، وكان يأتي بها مسجد أبي ذر. وكنت عند المنصور فالتفت إليّ وقال لي : يابن جَبَلة! قُم إلى جعفر بن محمّد حتّى تضع ثيابه في عنقه وتأتيني به سحباً!

قال إبراهيم : فخرجت حتّى أتيت منزله فلم اصبه ، فطلبته في مسجد

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٩٢ ، الحديث ٩٧.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ٩٢ ، الحديث ٩٨.

(٣) كشف الغمّة ٣ : ٢٢٤ عن دلائل الحميري وفي الخرائج والجرائح ٢ : ٦٤١.


أبي ذر فوجدته في باب المسجد ، فأخذت بكُمّه وقلت له : أجب أمير المؤمنين! فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون! دعني اصلّي ركعتين فتركته صلّاهما وأنا خلفه ثمّ بكى بكاءً شديداً ثمّ دعا : «اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كلّ شدّة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعُدّة ، كم من أمر يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة أنزلته بك وشكوته إليك فكشفته عنّي ...» ثمّ التفت إليّ وقال لي : اصنع ما امرت به! فقلت : والله لا أفعل حتّى ولو ظننتُ أني اقتل! وإنّما أخذت بيده فذهبت به وأنا لا أشك أنّه يقتله! فلمّا انتهيت به إلى باب الستر دعا فقال : يا إله جبرئيل .. فلمّا أتمّ دعاءه أدخلته على المنصور.

فاستوى جالساً وقال : قدّمت رجلاً وأخّرت اخرى تقول : أتنحّى عن محمّد (الحسني) فإن يظفر فإنّما الأمر لي! وإن تكن الاخرى كنت قد أحرزت نفسي! ثمّ قال : أما والله لأقتلنّك!

فقال الصادق عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! ما فعلت ، فارفق بي! فوالله لقلّ ما أصحبك.

فأذن المنصور له أن ينصرف. وكان عمّه عيسى بن علي العباسي عنده فالتفت إليه وقال له :

يا أبا العباس! الحقه فسله : أبي؟ أم به؟ فخرج يشتدّ حتّى لحقه فقال له : يا أبا عبد الله ، إن أمير المؤمنين يقول لك : أبك؟ أم به؟ فقال : لا ، بل بي. فرجع وأخبر المنصور (فاطمأن).

قال إبراهيم : ثمّ خرجت فوجدت الصادق قاعداً ينتظرني وهو يحمد الله ، فعلّمني ما دعا به (١).

__________________

(١) مهج الدعوات : ١٨٨ عن كتاب فضل الدعاء للصفّار ، وكأن المنصور لم يكتف بالمرّة الاولى فأعاد إحضار الإمام عليه‌السلام ، ومختصره في الخرائج والجرائح ٢ : ٦٤٧.


المنصور إلى العراق :

بلغ المنصور أن منصور الكلابي وثب ببني كلاب في الرقّة ، فانصرف على طريق الشام إلى بيت المقدس ، ثمّ إلى الجزيرة حتّى نزل خارج الرقّة ، واسر الكلابي فأحضره وقتله ، وصار إلى الحيرة ، فحبس عبد الله بن الحسن وأهل بيته (بالهاشميّة)!

وبلغ ابنه محمّداً شدّة ما يلقى أبوه وأهل بيته في الحبس فكتب إليه يستأذنه أن يظهر حتّى يضع يده في أيديهم؟ فأرسل إليه أبوه : يا بني ، إن ظهورك يؤدّي بك إلى القتل ولا يحييني ، فأقم بمكانك حتّى يريح الله بفرج (١)!

وذكر ابن العبري : أن المنصور أخذ من أولاد الحسن بن علي اثني عشر إنساناً ورحّلهم من المدينة إلى الكوفة وحبسهم في بيت ضيق ، لا يتمكّن أحد من مقعده ، يبول بعضهم على بعض وحتّى يتغوّط ، ولا يدخل عليهم رَوح الهواء ، ولا تخرج عنهم رائحة القذارة (٢).

كان ذلك كما مرّ في مرور المنصور بعد حجّه بالربذة في أواخر سنة (٤٤ ه‍) أو أوائل سنة (١٤٥ ه‍) وبعد ستة أشهر لأول شهر رجب الحرام يظهر محمّد الحسني ويُظهر أمره ، وقد بدأ المنصور انتقاله إلى مدينته ببغداد. وبها يستقدم الصادق عليه‌السلام أكثر من مرّة ، وقبلها بالحيرة والكوفة ومنها بحضور أبي حنيفة ، وعليه فنقدّم هنا بعض أخبار لقائه بالصادق عليه‌السلام :

أبو حنيفة والصادق عليه‌السلام :

روى الطوسي بسنده عن ابن شُبْرُمة قاضي الكوفة قال : دخلت أنا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٠.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٢٢.


وأبو حنيفة على جعفر بن محمّد (عليهما‌السلام) فسلّمت عليه ثمّ قلت له : أمتع الله بك ، هذا رجل من أهل العراق له فقه وعقل! فقال جعفر عليه‌السلام : لعلّه هو الّذي يقيس الدين برأيه؟! ثمّ أقبل عليّ فقال : هذا النعمان بن ثابت؟ فقال أبو حنيفة : نعم ، أصلحك الله (١) قال ابن شُبْرُمة : ولم أكن أعرف اسمه إلّاذلك اليوم (٢).

ثمّ قال له : يا نعمان! هل تُحسن أن تقيس رأسك؟ قال : لا. قال : فما أراك تُحسن شيئاً ولا فرضك إلّامن عند غيرك! فهل عرفت كلمة أوّلها كفر وآخرها إيمان؟ قال : لا. قال : فهل عرفت ما الملوحة في العينين والمرارة في الاذنين والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين؟ قال : لا. قال ابن أبي ليلى (وليس ابن شُبْرُمة) فقلت : جعلت فداك! فسِّر لنا جميع ما وصفت.

فقال : حدّثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن الله تبارك وتعالى خلق عيني ابن آدم من شحمتين فجعل فيهما الملوحة ، ولولا ذلك لذابتا فالملوحة تلفظ ما يقع في العين من القذى. وجعل المرارة في الاذنين حجاباً للدماغ ، فليس من دابة تقع فيه إلّاالتمست الخروج! ولولا ذلك لوصلت إلى الدماغ! وجعل العذوبة في الشفتين منّاً من الله عزوجل على ابن آدم ليجد بذلك عذوبة الريق وطعم الطعام والشراب. وجعل البرودة في المنخرين لئلّا تدع في الرأس شيئاً إلّاأخرجته.

قلت : فما الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان؟ قال : قول الرجل : لا إله إلّا الله فأوّلها كفر وآخرها إيمان.

ثمّ قال : يا نعمان ، إياك والقياس ، فقد حدّثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من قاس شيئاً بشيء قرنه الله عزوجل مع إبليس في النار!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٤٥ ، المسألة ٣٣ ، الحديث ١.

(٢) الأخبار الموفّقيات : ٧٦ وأبو حنيفة مولى تيم.


فإنه أول من قاس على ربّه» (١) حين قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٢)) فدعوا الرأي والقياس وما قاله قوم وليس له في دين الله برهان ؛ فإن دين الله لم يوضع بالآراء والمقاييس (٣).

وروى الصدوق بسنده عن رجال من أهل الكوفة قال : دخلت على أبي حنيفة فإذا غلام من كندة يستفتيه في مسألة كنت رأيته عند أبي عبد الله عليه‌السلام واستفتاه فأفتاه ، وأفتاه أبو حنيفة فيها بخلاف ما أفتاه أبو عبد الله عليه‌السلام. فقمت إليه وقلت له : يا أبا حنيفة ، إني كنت العام حاجّاً وذهبت إلى أبي عبد الله مسلّماً عليه فوجدت هذا الغلام يستفتيه في هذه المسألة بعينها فأفتاه بخلاف ما أفتيته!

فقال أبو حنيفة : وما يعلم جعفر بن محمّد! أنا أعلم منه! أنا لقيت الرجال وسمعتهم ، وجعفر بن محمّد صحفي أخذ العلم من الكتب!

قال الرجل : فحججت ولقيت أبا عبد الله عليه‌السلام فحكيت له الكلام ، فضحك ثمّ قال : أما قوله : إني رجل صحفي ، فقد صدق ، قرأت في صحف آبائي إبراهيم وموسى.

فما لبثت أن استأذن أبو حنيفة فأذن له فدخل وسلّم واستأذن للجلوس ، فأقبل الصادق عليه‌السلام على أصحابه يحدّثهم ولم يلتفت إليه! فأعاد ثانية وثالثة ثمّ جلس بلا إذن منه.

فالتفت الصادق عليه‌السلام إليه وقال له : أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، قال : فبمَ تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : يا أبا حنيفة ؛ أتعرف كتاب الله حقّ معرفته والناسخ والمنسوخ؟ قال : نعم! قال : يا أبا حنيفة ؛ لقد ادّعيت علماً!

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ١١٤ ، الباب ٨١ ، الحديث ٦.

(٢) الأعراف : ١٢.

(٣) علل الشرائع ١ : ١١٠ ـ ١١١ ، الباب ٨١ ، الحديث ٤.


ويلك! ما جعل الله ذلك إلّاعند أهل الكتاب الذين أنزل عليهم ، ويلك! ولا هو إلّا عند الخاص من ذرية نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ورّثك الله من كتابه حرفاً! فإن كنت كما تقول ـ ولست كما تقول ـ فأخبرني عن قول الله عزوجل : (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١)) أين ذلك من الأرض؟ قال : أحسبه ما بين مكّة والمدينة.

فالتفت أبو عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابه وقال لهم : تعلمون أن الناس يُقطع عليهم بين مكّة والمدينة ، فتؤخذ أموالهم ولا يؤمّنون على أنفسهم ويُقتلون! قالوا : نعم ، وسكت أبو حنيفة.

ثمّ قال له : يا أبا حنيفة ، أخبرني عن قول الله عزوجل : (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً (٢)) أين ذلك من الأرض؟ قال : الكعبة. قال : أتعلم أن الحجّاج بن يوسف حين وضع المنجنيق على ابن الزبير في الكعبة فقتله ، كان آمناً فيها؟ فسكت أبو حنيفة.

ثمّ قال له : يا أبا حنيفة ، إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب الله ولم تأت به الآثار والسنّة كيف تصنع؟ فقال : أصلحك الله ، أقيس وأعمل فيه برأيي! قال : يا أبا حنيفة ، إنّ أوّل من قاس ابليس الملعون ، قاس على ربّنا تبارك وتعالى فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٣)) فسكت أبو حنيفة.

فقال له : يا أبا حنيفة ، أيّهما أرجس : البول أو الجنابة؟ فقال : البول ، قال : فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول؟! فسكت.

فقال له : يا أبا حنيفة ، أيهما أفضل : الصلاة أو الصوم؟ قال : الصلاة. قال : فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟! فسكت.

__________________

(١) سبأ : ١٨.

(٢) آل عمران : ٩٧.

(٣) الأعراف : ١٢ وسورة ص : ٧٦.


فقال : يا أبا حنيفة ، أخبرني عن رجل كانت له أُم ولد وله منها ابنة ، وكانت له حرّة لا تلد ، فزارت الصبية بنت ام الولد أباها ، فقام الرجل بعد فراغه من صلاة الفجر فواقع أهله التي لا تلد ، وخرج إلى الحمام ، فأرادت الحرّة أن تكيد ام الولد وابنتها عند الرجل ، فقامت إليها بحرارة ذلك الماء فوقعت عليها وهي نائمة فعالجتها كما يعالج الرجل المرأة فعلقت بالجنين ، فأي شيء عندك فيها؟ قال : لا والله ما عندي فيها شيء.

فقال : يا أبا حنيفة ، أخبرني عن رجل كانت له جارية فزوّجها من مملوك له ، وغاب المملوك ، فولد له من أهله مولود ، وولد للمملوك مولود من ام ولد له ، فسقط البيت على الجاريتين ، ومات المولى ، فمَن الوارث؟ فقال : جعلت فداك ، لا والله ما عندي فيها شيء!

ثمّ تكلم أبو حنيفة بما جاء له ، قال : أصلحك الله ؛ إن عندنا بالكوفة قوماً يزعمون أنك تأمرهم بالبراءة من (بعض الصحابة)! قال عليه‌السلام : يا أبا حنيفة ، معاذ الله! لم يكن هذا! فما تأمرني؟! قال : تكتب إليهم. قال : بماذا؟ تسألهم الكفّ عنهما! قال : لا يطيعوني! قال : بلى أصلحك الله إذا كنت أنت الكاتب وأنا الرسول أطاعوني!

قال : يا أبا حنيفة ؛ أبيت إلّاجهلاً! كم بيني وبين الكوفة من الفراسخ؟ قال : أصلحك الله ، ما لا يحصى! فقال : كم بيني وبينك؟ قال : لا شيء! قال : أنت دخلت عليَّ في منزلي فاستأذنت للجلوس ثلاث مرات فلم آذن لك فجلست بغير إذني خلافاً عليَّ! فكيف يطيعني اولئك وهم هناك وأنا هاهنا؟! فقام وقبّل رأس الصادق عليه‌السلام وخرج وهو يقول : إنّه أعلم الناس (١).

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ١١١ ـ ١١٣ ، الباب ٨١ ، الحديث ٥.


وسُئل : مَن أفقه من رأيت؟ فقال : جعفر بن محمّد. ثمّ قال : لما أقدمه المنصور إلى الحيرة ، بعث إليّ وقال : يا أبا حنيفة ، إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمّد! فهيّئ له من مسائلك الشداد.

فهيّأت له أربعين مسألة! ثمّ بعث إليّ فأتيته ودخلت عليه فإذا جعفر جالس عن يمينه ، فلمّا بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر (المنصور) فسلّمت عليه فأومى إليّ فجلست. ثمّ التفت إلى الصادق عليه‌السلام وقال له : يا أبا عبد الله ، هذا أبو حنيفة! قال : أعرفه. ثمّ التفت إليّ فقال : يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك.

فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا. فربّما تابعنا وربّما تابعهم وربّما خالفنا جميعاً. حتّى أتيت على الأربعين مسألة ، فما أخلَ بشيء! ثمّ قال أبو حنيفة : أليس إنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس (١)؟!

ولما لم يجد المنصور في مثل هذه الجلسة ما يكسر به فتنة الناس بالصادق عليه‌السلام كما قال ، استقدمه لذلك مرّة اخرى ، فلمّا وافى بابه خرج إليه الحاجب وقال له : اعيذك بالله من سطوة هذا الجبّار! فإني رأيت غضبه عليك شديداً! فقال الصادق عليه‌السلام : عليّ من الله جُنّة واقية تعينني عليه إن شاء الله ، استأذن لي عليه. فاستأذن له ، فأذن له.

فلمّا دخل سلّم ، فردّ عليه‌السلام ثمّ قال له : يا جعفر! قد علمت أن رسول الله قال لأبيك عليّ بن أبي طالب : «لولا أن تقول فيك طوائف من امتي

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٧٧ عن مسند أبي حنيفة لأبي القاسم البغار ، وسير أعلام النبلاء ٩ : ٥٤٣.


ما قالت النصارى في المسيح ، لقلت فيك قولاً لا تمرّ بملأ إلّاأخذوا من تراب قدميك يستشفون به»!

وقال علي عليه‌السلام : «يهلك فيّ اثنان ولا ذنب لي : محبٌّ غالٍ ، ومُفرّط قالٍ» وإنّما قال ذلك اعتذاراً منه أنّه لا يرضى بما يقول فيه الغالي.

ولقد تعلم أنت ما يقال فيك من الزور والبهتان! وإمساكك عن ذلك ورضاك به يسخط الديّان! فقد زعم أوغاد الحجاز ورُعاع الناس أنك حبر الدهر وناموسه ، وحجة المعبود وترجمانه ، و «عيبة علمه» وميزان قسطه ، ومصباحه الذي يقطع به الطالب عرض الظلمة إلى ضياء النور ، وأن الله لا يقبل من عامل جهل حدّك في الدنيا عملاً! ولا يرفع له يوم القيامة وزناً! فنسبوك إلى غير حدّك. وقالوا فيك ما ليس فيك! فقل ، فإن أول من قال الحق جدّك ، «وأول من صدقه عليك أبوك» وأنت حريّ أن تقتفي آثارهما وتسلك سبيلهما.

فهو طلب منه التبرّي عن مثل هذه الأقوال ، فأجابه الصادق عليه‌السلام بقوله : أنا فرع من فروع الزيتونة ، وقنديل من قناديل بيت النبوة ، وأديب (مؤدّب) السَّفرة ، وربيب الكرام البررة ، ومصباح من مصابيح المشكاة التي فيها نور النور ، وصفو الكلمة الباقية في عقب المصطفين إلى يوم الحشر!

فالتفت المنصور إلى جلسائه وقال : هذا قد أحالني على بحر موّاج لا يدرك طرفه ولا يبلغ عمقه ، يحار فيه العلماء ويغرق فيه السُّبحاء! ويضيق بالسابح عرض الفضاء! هذا الشجى المعترض في حلوق الخلفاء الذي لا يجوز نفيه ولا يحلّ قتله! ولما لم يتمكّن من تبرّؤ الصادق عليه‌السلام من تلك المقامات حاول أن يشرك فيها نفسه وأهله ولا يتخلّف عنه ويتهدّده أيضاً فقال : ولولا ما يجمعني وإياه من شجرة طاب أصلها وبسق فرعها ، وعذب ثمرها ، وبوركت في الذر وقدّست في الزّبر! لكان عنّي إليه ما لا يُحمد في العواقب لما يبلغني من شدة عيبه لنا وسوء القول فينا!


فقال الصادق عليه‌السلام : لا تقبل في ذي رحمك ، وأهل الرعاية من أهل بيتك : قول من حرّم الله عليه الجنة وجعل مأواه النار ، فإن النمّام شاهد زور وشريك إبليس في الإغراء بين الناس ، وقد قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (١)).

ونحن لك ولملكك دعائم وأركان ، ما أمرت بالعرف والإحسان ، وأمضيت في الرعية بأحكام القرآن! وأرغمت بطاعتك لله أنف الشيطان ، وإن كان يجب عليك في سعة فهمك وكثرة علمك ومعرفتك بآداب الله : أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمّن ظلمك ، فإن المكافي ليس بالواصل ، إنّما الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها ، فصل رحمك يزد الله في عمرك ، ويخفّف عنك الحساب يوم حشرك!

فقال المنصور : قد صفحت عنك لقدرك! وتجاوزت عنك لصدقك.

ثمّ قال له : فحدّثني بحديث من نفسك أتّعظ به ، ويكون لي زاجَر صدق عن الموبقات!

فقال الصادق عليه‌السلام : عليك بالحلم فإنه ركن العلم ، واملك نفسك عند أسباب القدرة ؛ فإنك إن تفعل ما تقدر عليه كنت كمن شفى غيظاً أو تداوى حقداً ، أو يحبّ أن يذكر بالصولة. واعلم بأنك إن عاقبت مستحقاً (للعقوبة) فغاية ما توصف به ليس إلّاالعدل ، ولا أعرف حالاً أفضل من حال العدل ، و (لكن) الحال التي توجب الشكر (على الناس) أفضل من الحال التي توجب الصبر!

فقال المنصور : وعظت فأحسنت وقلت فأوجزت.

ثمّ قال : فحدثني عن فضل جدّك علي بن أبي طالب عليه‌السلام حديثاً لم تؤثره العامة.

__________________

(١) الحجرات : ٦.


فقال الصادق عليه‌السلام : حدثني أبي عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لما اسري بي إلى السماء عهد إليّ ربّي «جل جلاله» في علي عليه‌السلام ثلاث كلمات : فقال : يا محمّد ، فقلت : لبّيك ربّي وسعديك ، فقال عزوجل : «إنّ علياً إمام المتقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، ويعسوب المؤمنين ، فبشّره بذلك» فبشّره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فخرّ علي عليه‌السلام ساجداً شكراً لله عزوجل ، ثمّ رفع رأسه فقال : يا رسول الله ، بلغ من قدري حتّى أني اذكر هناك؟! قال : نعم ، وإن الله يعرفك ، وإنك لتُذكر في الرفيق الأعلى»!

فقال المنصور : (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) (١).

فالصادق عليه‌السلام حدّث المنصور بحديث قدسي ضمن الحديث النبوي بشأن الوصيّ مما لا يراه الله ورسوله فتنة للناس بعلي عليه‌السلام ، وأرادها المنصور للإمام تهديداً فعاد تأييداً! واستطردنا فيه لما استطرفناه منه ، وهو يحكي لنا نموذجاً آخر من لقاءات المنصور بالصادق عليه‌السلام قبل بغداد فيما يظهر لنا من الخبر. وليس في خبر هاتين المجلسين شيء عن كيفية استقدام الإمام عليه‌السلام إلى العراق ، فلعلّ ذلك كان بعد ما يلي :

الصادق عليه‌السلام في الكوفة :

مرّ الخبر عن إرسال المنصور إبراهيم بن جبلة لجلب الصادق عليه‌السلام لدى المنصور في الربذة ، وهنا يروي الربيع بن يونس الحاجب : أن المنصور بعث إبراهيم بن جبلة ليُشخص جعفر بن محمّد عليه‌السلام من المدينة إلى الكوفة ، فلمّا وافى

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٧٠٩ ـ ٧١٢ ، الحديث ١٠ ، المسألة ٨٩ مسنداً عن الربيع بن يونس الحاجب ، ونقله المظفّر في كتابه : الإمام الصادق ١ : ١١٦ ـ ١١٨ ثمّ استنبط منه ستة نقاط مهمة فراجع.


إلى حضرة المنصور ، دخلت فأخبرته بقدوم إبراهيم بجعفر بن محمّد عليه‌السلام فدعا المنصور المسيّب بن زهير الضبّي ودفع إليه سيفاً (خاصاً) وقال له : إذا دخل جعفر بن محمّد فخاطبتهُ وأومأت إليه ، فاضرب عنقه!

قال الربيع : كنتُ إذا حججت الاقي الصادق واعاشره فكان صديقاً لي! فلمّا سمعت ذلك من المنصور خرجت إليه وقلت له : يابن رسول الله ، إنّ هذا الجبّار قد أمر فيك بأمر أكره أن اواجهك به ، فإن كان في نفسك شيء تقوله أو توصيني به! فقال لي : لا يروّعك ذلك ، فإنه لمّا يراني يزول ذلك كلّه! ثمّ أخذ بمجامع الستر وبدأ بالدعاء : يا إله جبرئيل و....

ثمّ دخل ، فنظرت إلى المنصور فما شبّهته إلّابنار صُبَّ عليها ماء فخمدت! ودنا منه جعفر بن محمّد عليه‌السلام إلى سريره ، فوثب المنصور فأخذ بيده ورفعه على السرير ، ثمّ قال له : يا أبا عبد الله ، يعزّ عليَّ تعبك! وإنّما أحضرتك لأشكو إليك أهلك : قطعوا رحمي وطعنوا في ديني ، وألبّوا الناس عليَّ! ولو ولّى هذا الأمر غيري ممّن هو أبعد رحماً مني لسمعوا له وأطاعوا (يشير إلى بني الحسن بعد حبسهم وقبل قتالهم).

فقال له جعفر عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! فأين يُعدل بك عن سلفك الصالح : إنّ أيوب ابتُلي فصبر ، وإنّ يوسف ظُلم فغفر ، وإنّ سليمان اعطي فشكر!

فقال المنصور : قد صبرت وغفرت وشكرت! ثمّ قال : يا أبا عبد الله حدّثنا حديثاً كنت سمعته منك في صلة الأرحام. قال : نعم.

حدثني أبي عن جدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «البرّ وصلة الأرحام عمارة الدنيا وزيادة الأعمار»! قال : ليس هذا هو. قال : نعم.

حدّثني أبي عن جدي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «رأيت رحماً متعلقة بالعرش تشكو إلى الله تعالى من قاطعها ، فقلت لجبرئيل : يا جبرئيل ، كم بينهم؟ قال : سبعة آباء» قال : ليس هذا هو. قال : نعم.


حدّثني أبي عن جدّي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «احتضر رجل بارّ في جواره رجل عاق ، فقال الله عزوجل لملك الموت : يا ملك الموت كم بقي من أجَل العاق؟ قال : ثلاثون سنة ، قال : حوّلها إلى هذا البار»! (فكأنه كان هذا هو الحديث الذي سمعه المنصور منه سابقاً فرضي الآن به).

فقال للغلام : يا غلام ، ائتيني بالغالية (العِطر الغالي) فأتاه بها ، فجعل يطيّبه بيده ، ثمّ دفع إليه أربعة آلاف! ودعا بدابّته فأتاه بها ، فجعل يقول : قدّم قدّم. إلى أن أتى بها إلى عند سريره فركب جعفر بن محمّد عليه‌السلام وعدوت أنا بين يديه فسمعته يحمد الله ويدعو بدعائه ، فطلبت منه الدعاء فقال : ليس هذا موضعه. فلمّا كان العشاء ذهبت إليه فعلّمني الدعاء (١).

ظهور محمّد الحسني بالمدينة :

كان من أعلام المبايعين له عبد الحميد بن جعفر ، وعُبيد الله بن عمر العدوي ، وعبيد الله بن عمر بن أبي ذئب ، واستبطأ هؤلاء خروجه فدخلوا عليه وقالوا له : ما تنتظر للخروج؟! والله ما تجد هذه الامة أحداً أشأم منك عليها! ما يمنعك أن تخرج؟! ولو وحدك (٢)!

وقد مرّ الخبر : أن المنصور بعث أحدثهم سنّاً موسى بن عبد الله من الربذة إلى المدينة ليأتيه بخبر أخويه محمّد وإبراهيم ، وأرسل معه حرساً أمرهم أن يكتبوا إليه بخبرهم ، وكتب إلى رياح بن عثمان المُرّي عامله على المدينة : أن لا سلطان لك على موسى. فأقام موسى شهوراً ، فكتب رياح المُرّي إلى المنصور :

__________________

(١) مهج الدعوات : ١٩٢ مسنداً ، وعدّها المرة الرابعة لإحضار المنصور الإمام عليه‌السلام.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٦ و ١٨٨.


إن موسى مقيم يتربّص بك الدوائر وليس عنده شيء مما تحبّ! فأمره المنصور أن يحمله إليه ، فحمله (١) وقال للرسل : إن رأيتم أحداً لحقكم من المدينة في طلبكم فاضربوا عنق موسى! وبلغ ذلك إلى أخيه محمّد فظهر (٢) محمّد وهو على حمار ومعه مئتان وخمسون راجلاً. فأقبل حتّى إذا خرج من زقاق ابن خضير جاء على التمّارين ودخل من بيّاعي الأقفاص إلى السجن في دار ابن هشام (؟) فدقه وأخرج من كان فيه. وذلك في مساء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة (١٤٥ ه‍) هذا وعليه قلنسوة صفراء قد اعتمّ عليها وجُبّة صفراء وقد شدّ عليها عمامة اخرى شدّ بها حِقوبه متوشحاً سيفاً (٣).

وكان رياح المُرّي قد أحسّ بخبر محمّد ، فبعث على جعفر الصادق عليه‌السلام والحسين بن علي بن الحسين ، وعلي بن عمر بن علي ، والحسن بن الحسين ، ورجال من قريش فيهم إسماعيل بن أيوب المخزومي وابنه ، وكان رياح المُرّي في دار مروان وكان على حرسه عقبة بن مسلم بن عقبة الفهري ، فلمّا سمع التكبير من أصحاب الحسني وثب وقال لرياح : أطعني في هؤلاء فاضرب أعناقهم!

فقام الحسين بن علي بن الحسين وقال له : والله ما ذلك لك فإنا على السمع والطاعة! وقام رياح فدخل الدار فاختفى بها. وتسوّر القوم على كناسة في زقاق عاصم بن عمر وتفرقوا (٤).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٦٠.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٦.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٧٧. وخروجه بين جمادى ورجب أشاع مقولة : العجب كل العجب بين ... كما في أنساب الأشراف ٢ : ٩٨ ، الحديث ١٠٥.

(٤) مقاتل الطالبيين : ١٧٦ ـ ١٧٧.


وكان رياح قد صعد إلى مشربة في دار مروان ، وأمر فهدمت الدرج إليها ، ودخل أصحاب محمّد فصعدوا إليه وأنزلوه وأخذوا معه أخاه العباس بن عثمان ، وعقبة بن مسلم بن عقبة الفهري (١).

فكان أول ما سئل عنه رياح المُرّي أمر موسى بن عبد الله ، فعرّفهم خبره.

فنادى محمّد : من لي بموسى؟ ثمّ أنفذ فوارس مع ابن خضير ، فاستدار بهم حتّى أتى القوم من أمامهم كأنهم أقبلوا من الطرق فلم ينكروهم حتّى خالطوهم فأخذوا منهم موسى الحسني (٢).

ودخل محمّد المسجد قبل الفجر فخطبهم على المنبر ، فاعترضه بلغمه فلم ير له موضعاً فرفع رأسه ورمى به إلى سقف المسجد! ثمّ نزل فصلّى بهم (٣) ولما خطبهم قال : يا أهل المدينة ، إني والله ما خرجت فيكم للتعزّز بكم فلغيركم أعزّ (وأمنع) منكم ، وما أنتم بأهل قوة ولا شوكة ، ولكنكم أهلي وأنصار جدّي فحبوتكم بنفسي ، والله ما مصر يُعبد الله فيه إلّاوقد أخذ لي دُعاتي فيه بيعة أهله ، ولولا ما انتُهك بي ووُترت به ما خرجت (٤)!

وقال : أما والله لقد أحيا زيد بن علي ما دُثر من سنن المرسلين وأقام عمود الدين إذ اعوج ، ولن ننحو إلّاأثره ولن نقتبس إلّانوره! فزيد إمام الأئمة! وأولى من دعا إلى الله بعد الحسين بن علي عليهما‌السلام (٥) ثمّ نزل فصلّى بهم.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٧٨.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٦.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٧٨.

(٤) أنساب الأشراف ٢ : ٩٦ ، الحديث ١٠٥.

(٥) تيسير المطالب للسيد أبي طالب عن مسعدة بن صدقة. فقد أعلن أن حركته زيدية ، يرى زيداً بعد الحسين أفضل من السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام.


وكان على مكة السريّ بن عبد الله بن الحارث بن العباس ، فوجّه محمد إلى مكة الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر والياً عليها. فقدّم أمامه عبد الله بن عدي العَبْشمي وهذا قدم أمامه مولاه شلجم ، فتنحى السريّ للحسن حتّى قتل محمّد (١).

صداه والإعداد له ببغداد :

كان المنصور في الكوفة أو الهاشمية لما أمر أمير المدينة المرّي بتسريح موسى بن عبد الله الحسني إليه ليزجّه مع أبيه في سجنه ، وأخبروه بإشراف بناء عاصمته بغداد على الافتتاح ، في أواخر جمادى الثانية أي منتصف عام (١٤٥ ه‍) ، فصار إليها ونزل بها بباب الكوفة التي سمّيت باب الذهب ، ولم يستقر بها إلّاأياماً حتّى أتاه الخبر بخروج محمّد الحسني بالمدينة (٢) بعد تسع ليالٍ وأعطى المخبر ٩ آلاف درهم (٣).

وكان المنصور نازلاً في دَير على شاطئ دجلة من مدينته مدينة السلام ، نائماً في بيته في وقت الهاجرة ، وبوّابه يومئذ غلامه التركي حمّاد ، إذ وصلت خريطة بيد حاجبه الربيع بن يونس بخبر خروج محمّد الحسني ، فحملها الربيع إلى بيت المنصور وقال لحمّاد : يا حمّاد ، افتح الباب. فقال : الساعة هجع أمير المؤمنين! قال : افتح ، ثكلتك امك! فسمع المنصور كلامه فنهض وفتح الباب وتناول الخريطة فقرأها ، ثمّ تلا قوله سبحانه : (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ٩٧ ، الحديث ١٠٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٤.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ٩٨ ، الحديث ١٠٥.


وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللهُ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (١)).

ثمّ جمع أهله وأمرهم أن يدخلوا على عمّه عبد الله بن علي العباسي في السجن فيخبروه بخروج محمّد الحسني ويشاوروه لحربه ، فدخلوا إليه وأخبروه وشاوروه فقال لهم : إن البخل قد قتل ابن سلامة (المنصور)! فمروه فليُخرج الأموال وليُعط الأجناد ، فإن غلَب فما أوشك أن يعود إليه مالهُ ، وإن غُلب لم يقدم صاحبه على درهم! وأن يعجّل الساعة ليأتي الكوفة فيجثم على أكبادهم فإنهم «شيعة أهل البيت» ثمّ يحفظها بالمسالح ، فمن خرج منها أو أتاها ضرب عنقه! ثمّ ليبعث إلى سلم بن قتيبة بالريّ ليأتيه ، وليكتب إلى أهل الشام فليأمرهم ليحملوا إليه على البريد أهل البأس والنجدة ، فليحسن جوائزهم ويوجّهم مع مسلم بن قتيبة. ففعل المنصور كل ذلك.

ثمّ دعا ابن أخيه عيسى بن موسى العباسي وأمره بالمسير لقتال محمّد ، ومعه ابن أخيه محمّد ابن السفاح ، ومحمّد بن زيد بن علي ، والقاسم بن الحسن بن زيد الحسني ، ومحمّد بن عبد الله الجعفري ، وحُميد بن قَحْطبة الطائي ، فنفذ عيسى ومعه أربعة آلاف (٢). وقال المنصور لعيسى : إن فاتك محمد واختفى في المدينة فاقتل منهم من ظفرت به (٣). وقال : لا أُبالي أيّهما قتل صاحبه! ذلك لأنّ عيسى كان ولي عهد السّفاح لما بعد المنصور فالمنصور يكرهه (٤).

__________________

(١) المائدة : ٦٤ فكأنه يحسبهم كاليهود!

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٧٩ ـ ١٨٠.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ١٠٨ ، الحديث ١١٠.

(٤) تذكرة الخواص ٢ : ٩٠ ، والكامل للجزري ٥ : ٥٤٤.


محمّد الحسني والصادق عليه‌السلام :

روى الكليني بسنده عن موسى بن عبد الله الحسني قال : لما ظهر أخي محمّد ودعا الناس إلى بيعته فكنت ثالث ثلاثة بايعوه (١) ثمّ لم يختلف عليه عربي ولا أنصاري ولا قرشي. وكان من ثقاته عيسى بن زيد بن علي ، وكان جعله على شرطته ، وكان قد تخلّف عن بيعته وجوه قومه ، فشاور عيسى أن يبعث إليهم. فقال عيسى : إن دعوتهم دعاءً يسيراً لم يجيبوك ، أو تغلظ عليهم فخلّني وإياهم ، وابعث إلى رئيسهم وكبيرهم (يعني الصادق عليه‌السلام) فإنك إذا أغلظت عليه علموا جميعاً أنك تمرّ بهم على الطريق التي أمررت عليها أبا عبد الله عليه‌السلام!

قال موسى : فما لبثنا أن اتي بأبي عبد الله عليه‌السلام حتّى اوقف بين يديه! فقال له عيسى بن زيد : أسلم تَسلم! فقال أبو عبد الله : أحدَثت نبوة بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! فقال محمّد : لا ، ولكن بايع تأمن على نفسك ومالك وولدك! ولا تكلّف حرباً! قال أبو عبد الله : ما فيّ حرب ولا قتال ، ولقد تقدّمت إلى أبيك وحذّرته الذي حاق به! ولكن لا ينفع حذر من قدر! يابن أخي : عليك بالشباب ودع عنك الشيوخ! فقال محمّد : ما أقرب ما بيني وبينك في السن! قال أبو عبد الله : إني لم آتِ لأتقدم عليك في السنّ أو في الذي أنت فيه. فقال محمّد : لا والله لابدّ من أن تبايع! فقال أبو عبد الله : يابن أخي ما فيّ طلب ولا حرب ، وإني لأُريد الخروج إلى البادية وتكلّمني أهلي في ذلك غير مرّة ، فيثقل عليَّ ولا يمنعني منه إلّاالضعف.

فقال : يا أبا عبد الله ، والله قد مات أبو الدوانيق (يعني المنصور)!

فقال أبو عبد الله : فما تصنع بي وقد مات؟ قال : اريد الجمال بك! قال : مالي إلى ما تريد سبيل! لا والله ما مات أبو الدوانيق إلّاأن يكون مات موت النوم!

__________________

(١) وانما تأخر لصغره.


قال : والله لتبايعنّي طائعاً ، أو مكرهاً ولا تحمد في بيعتك! فأبى إباءً شديداً فأمر به إلى الحبس!

فقال عيسى بن زيد : قد خرب السجن وليس عليه اليوم غلق ، فإن طرحناه فيه خيف أن يهرب منه!

فضحك أبو عبد الله ثمّ قال : لا حول ولا قوة إلّابالله العلي العظيم! أوَ تراك تسجنني؟!

قال : نعم ؛ والذي أكرم محمّداً بالنبوة لاسجنّنك ولُاشدّدنّ عليك!

فقال عيسى : احبسوه في مخبأ دار ريطة (بنت عبد الله بن محمّد بن الحنفية زوجة زيد بن علي)!

وقال أبو عبد الله : أما والله إني سأقول ثمّ أصدق! فقطع عليه عيسى وقال : لو تكلمت لكسّرت فمك! فوثب محمّد وصاح بعيسى قال : احبسه واغلظ عليه وشدّد!

فقال له أبو عبد الله : أما والله لكأني بك خارجاً من سُدّة أشجع إلى بطن الوادي ، وقد حمل عليك فارس قد أعلم على نفسه ، على فرس كميت ، فطعنك فلم يصنع فيك شيئاً ، وضربت خيشوم فرسه فطرحته ، وحمل عليك آخر خارج من زقاق آل أبي عمار الدؤليّين ، عليه ظفيرتان قد خرجتا من تحت بيضته ، كثير شعر الشاربين ، فهو والله صاحبك فلا رحم الله رِمّته (عظامه البالية).

فقال محمّد : يا أبا عبد الله! حسبت فأخطأت (فنسب علمه إلى المحاسبات الفلكية!).

وقام إليه السرّاقي فدفع في ظهر الصادق عليه‌السلام حتّى أدخله السجن.

واصطفى محمّد ما كان للصادق عليه‌السلام من مال! وكذا أموال رجال من قومه ممن لم يَقُم معه (١).

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٣٦٢ ـ ٣٦٣.


محمّد الحسني وإسماعيل الجعفري :

قال موسى بن عبد الله الحسني : كان بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر مع أخي محمّد ، وجاؤوا بعمّهم إسماعيل بن عبد الله بن جعفر ليبايع ، وهو شيخ كبير ضعيف قد ذهبت رجلاه فهم يحملونه حملاً! وقد ذهبت إحدى عينيه! فدعاه محمّد إلى بيعته! فقال إسماعيل : يابن أخي ، إني شيخ كبير ضعيف وأنا إلى برّك وعونك أحوج! فقال : لابدّ من أن تبايع! قال إسماعيل : وأي شيء تنتفع به من بيعتي؟! والله إني لُاضيق عليك مكان اسم رجل إن كتبته! قال : لابدّ لك أن تفعل!

وكأنه علم بامتناع أبي عبد الله عليه‌السلام وحبسه ، فقال له : ادع لي جعفر بن محمّد عليه‌السلام فلعلّنا نبايع جميعاً! فلمّا طمع فيها محمّد دعا إليه جعفر عليه‌السلام فلمّا جيء به قال له إسماعيل :

جعلت فداك! إن رأيت أن تبيّن له لعلّ الله يكفّه عنّا.

قال أبو عبد الله : قد أجمعت أن لا اكلّمه! فليرَ فيّ برأيه!

فقال إسماعيل : أنشدك الله ، هل تذكر يوماً أتيت أباك محمّد بن علي عليهما‌السلام وعليَّ حلتان صفراوان ، فأدام نظره إليّ وبكى! فقلت له : ما يبكيك؟ فقال لي : يُبكيني أنك في كِبر سنّك تُقتل ضياعاً فلا ينتطح في دمك عنزان! قلت : فمتى ذاك؟ قال : إذا نظرت إلى الأحول مشؤوم قومه ، ينتمى من آل الحسن ، على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو إلى نفسه وقد تسمّى بغير اسمه ـ المهدي ـ فأحدث عهدك واكتب وصيتك! فإنك مقتول في يومك أو في غده!

فقال أبو عبد الله : نعم! وهذا ـ وربّ الكعبة ـ لا يصوم من شهر رمضان هذا إلّا أوّله! فأستودعك الله يا أبا الحسن وأعظم الله أجرنا فيك ، وأحسن الخلافة على من خلّفت ، وإنا لله وإنا إليه راجعون!


قال موسى : فردّ جعفر (الصادق عليه‌السلام) إلى الحبس ، وحملوا إسماعيل إلى الحبس ، فوالله ما أمسينا حتّى دخل عليه بنو أخيه معاوية بن عبد الله بن جعفر ، فتوطّؤوه حتّى قتلوه!

وبعث محمّد فخلّى سبيل جعفر عليه‌السلام ثمّ استهلّ شهر رمضان (١).

وخرج الصادق عليه‌السلام من المدينة إلى مالفه بالفُرع (على ثمانية بُرُد إلى مكة) معتزلاً ، ثمّ عاد بعد (٢).

هذا في حين أن مالك بن أنس لما استفتى في ذلك وقيل له : وفي أعناقنا بيعة المنصور! قال : إنّما بايعتم مكرهين ، وليس على مُكره يمين. فأسرع الناس إلى بيعة محمّد ، ولكنّه لزم داره ولم يحضر القتال (٣).

كتاب المنصور إليه وجوابه :

نقل «الكامل» عن الكلبي قال : لما بلغ المنصور خروج محمد (الحسني) كتب إليه :

من أمير المؤمنين أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...* ... فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٤)) ولك عليَّ عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله! إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك فأنت آمن ، وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتّبعك ، على دمائهم وأموالهم ،

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

(٢) تذكرة الخواص ٢ : ٤٥٨ عن الواقدي.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٩٠ ، وانظر تاريخ الطبري حوادث سنة (١٤٥ ه‍) ، وتاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٧.

(٤) المائدة : ٣٣ و ٣٤.


وأعطيك ألف ألف (مليون) درهم! وانزلك أيّ البلاد أحببت ، واطلق مَن في حبسي من أهلك! وإن شئت أن تستوثق لنفسك فابعث إليّ من شئت ليأخذ لك الأمان والمواثيق والعهود ، والسلام.

فكتب إليه محمد بن عبد الله : من محمد بن عبد الله «المهدي» إلى عبد الله بن محمد (العباسي) : (طسم* تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* ... مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (١)) وأنا أعرض عليك الأمان مثل ما عرضت عليَّ! وإنما ادّعيتم هذا الأمر بنا ، وخرجتم له «بشيعتنا» وحظيتم بفضلنا ، وإنّ أبانا كان هو «الوصي والإمام» فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟!

ثمّ قد علمت أنّه لم يطلب هذا الأمر أحد له نسبنا وشرفنا! لسنا من أبناء «الطلقاء» ولا الطرداء ولا اللعناء! ولا يمتّ أحد من بني هاشم بمثل ما نمتّ به من القرابة والسابقة والفضل! فإنا بنو فاطمة بنت رسول الله في الإسلام دونكم ، ووالدنا علي أول الناس إسلاماً وأول من صلّى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .. فأنا أوسط بني هاشم نسباً وأشرفهم أباً! لم تنازع في «أُمهات الأولاد» ولم تعرق فيّ «العجم»!

وأما قولك عن الإمان فأيّ الأمانات تعطيني؟! أمان عمّك عبد الله بن علي؟! أو أمان أبي مسلم؟! أو أمان (يزيد بن عمر) ابن هُبيرة؟! والسلام.

فكتب إليه المنصور : أما بعد ، فقد وقفت على كتابك فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء! لتضلّ به الجفاة والغوغاء! ولم يجعل الله النساء كالعمومة والإناث «كالعصبة» والأولياء! فإنّ الله جعل العمّ أباً! وزعمت أنك لم تلدك أُمهات الأولاد ، فقد فخرت على من هو خير منك! وما خياركم إلّامن أُمهات الأولاد ، لأ نّه ما ولد فيكم بعد رسول الله مثل علي بن الحسين وأُمه أُم ولد ، وهو خير منك

__________________

(١) القصص : ١ ـ ٦.


ومن جدك! وكذا محمد بن علي بن الحسين أُمه أُم ولد (كذا!) وما كان فيكم مثله ولا مثل ابنه جعفر وأُمه أُم ولد (كذا!). وأما قولكم : إنكم بنو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فالله يقول : (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ (١)) وأنتم بنو ابنته وهي لا تحوز «الميراث» مع «العصبة» (٢).

مواجهة الحسني والعباسيّين :

مرّ الخبر أن عيسى بن موسى العباسي عمّ المنصور حمل معه محمّد بن زيد بن علي ، والقاسم بن الحسن بن زيد ، فلمّا وصل منزل فيد قبل المدينة ، كتب كتاب أمان لمحمد الحسني ولأهل المدينة معه ، وبعث به مع هذين. وكان محمّد الحسني قد أشاع فيهم موت المنصور ليجرّيهم على القيام معه. فلمّا وصل هذان إلى المدينة تقدم محمّد بن زيد فناداهم : والله لقد تركت أمير المؤمنين حياً! وهذا عيسى بن موسى قد أتاكم يعرض عليكم الأمان. وتكلم القاسم بن الحسن بمثل ذلك. فقال أهل المدينة : قد خلعنا أبا الدوانيق! وعكس الأمر محمّد الحسني فكتب إلى عيسى يدعوه إلى طاعته ويعطيه الأمان!

وحين دنا عيسى العباسي من المدينة قال محمّد لأهل المدينة : أشيروا عليَّ في الخروج من المدينة أو المقام بها. فاختلفوا عليه ، فترك الخروج وأقام ، فخندق على المدينة على خندق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخندق على أفواه السكك.

__________________

(١) الأحزاب : ٤٠.

(٢) الكامل للمبرّد ٢ : ٣٨٣ ـ ٣٨٥ وأنساب الأشراف ٢ : ٩٩ ـ ١٠٥ ، الحديث ١٠٦ وبهامشه مصادر أُخرى وتعليقات قيّمة ، وتذكرة الخواص ٢ : ٨٣ ـ ٩٠ وبهامشه مصادر أُخرى وتعليقات حقة.


وسلك عيسى بطن فراة حتّى ظهر على الجُرف فنزل قصر سليمان بن عبد الملك ، صبيحة اثنتي عشرة ليلة من شهر رمضان سنة (١٤٥ ه‍) يوم السبت ، وكان يريد تأخير القتال إلى شهر شوال ، وبلغه أن محمّداً يقول : إنّ أهل خراسان على بيعتي ، وقد بايعني حميد بن قحطبة الطائي وسنفلت منهم! فعاجلهم عيسى ، يوم الاثنين للنصف من شهر رمضان فأحاط بهم.

وكان عيسى بن زيد بن علي على شرطة محمّد الحسني فتولّى قتال عيسى العباسي ، وجلس محمّد في أول القتال في المصلّى ، فلمّا اشتدّ الأمر بينهم جاء محمّد فباشر القتال بنفسه ، فقال عيسى العباسي لحميد بن قحطبة : أراك مداهناً! وأمره بالتجرّد لقتال محمّد فتولّى قتاله. وجعل محمّد ابن السفّاح بإزاء جُهينة ، وكثير بن حُصين الخزاعي بإزاء صالح ويزيد ابني معاوية بن عبد الله بن جعفر ، فأرسلا إليه يطلبان الأمان فلم يؤمّنهما عيسى العباسي فهربا! ورماهم أهل خراسان بالنشاب فأكثروا فيهم الجراح فتفرقوا عن محمّد ، واقتتلوا إلى الظهر ، فتراجع محمّد إلى دار مروان فصلّى فيها الظهر واغتسل وتحنّط للقتل. واستمر القتال إلى العصر ، فقال عيسى العباسي لحميد بن قحطبة : أراك قد أبطأت في أمر هذا الرجل! فولّ حربه حمزة بن مالك. فقال : أحين قتلت الرجال ووجدت ريح الفتح! ثمّ دخل على محمّد من زقاق أشجع ، فلمّا قابله محمّد قال له : ألم تبايعني؟! فما هذا؟! قال : هكذا نفعل بمن يفشي سرّه إلى الصبيان!

وكان محمّد يفري الناس بسيفه ما يقاربه أحد إلّاقتله ، ودهمته الخيل فوجد الموت فتحامل على جفن سيفه فكسره ، وضربه رجل بسيفه دون شحمة أُذنه اليمنى فبرك لركبتيه وجعل يذب عن نفسه ويقول : ويحكم! أنا ابن نبيّكم! مُحرج مظلوم! وصاح حميد بن قحطبة : لا تقتلوه! فكفّوا عنه حتّى جاءه حميد فحزّ رأسه (١).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٨٠ ـ ١٨٣.


هذا ما رواه الأموي الزيدي. وجاء في خبر أخيه موسى الحسني : كان على مقدمة محمّد : يزيد بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فهزم ، وتقدّم عيسى العباسي إلى المدينة فنزل بجبل ذُباب ، ودخل العسكر العباسي من خلفنا ، وخرج محمّد في أصحابه حتّى بلغ السوق ، ثمّ تبعهم حتّى انتهى إلى مسجد بيّاعي الخامات ، ثمّ استقدم حتّى انتهى إلى شعب فرارة ، ثمّ دخل إلى هُذيل ، ثمّ مضى إلى بني أشجع ، فهناك خرج عليه الفارس الذي أخبره به أبو عبد الله (الصادق عليه‌السلام) من خلفه من سكة هُذيل فطعنه فلم يصنع فيه شيئاً ، وحمل على الفارس فضرب خيشوم فرسه بالسيف فطعنه الفارس فأنفذ سنانه في درع محمّد ، وانثنى عليه محمّد يضربه فهو مدبر على الفارس يضربه إذ خرج عليه حميد بن قحطبة من زقاق آل أبي عمّار (العمّاريين) فطعن محمّداً طعنة أنفذ سنانه فيه وانكسر رمحه ، وحمل محمّد على حميد فطعنه حميد بزجّ رمحه فصرعه ، ثمّ نزل إليه فضربه حتّى أثخنه وقتله وأخذ رأسه (١).

وجاء حتّى وضع رأسه بين يدي عيسى العباسي ، وأقبل على القوم قائد منهم فقال : أما إنّه خالف أمير المؤمنين وشقّ عصا المسلمين! وإن كان لصوّاماً قوّاماً!

ثمّ دعا عيسى العباسي بالقاسم بن الحسن بن زيد وقدّمه بالبشارة إلى المنصور ، ثمّ دعا بابن أبي الكرام الجعفري فأرسله برأس محمّد إليه.

ثمّ بعثت ابنته فاطمة وأُخته زينب إلى عيسى العباسي : إنكم قد قضيتم حاجتكم في قتل هذا الرجل ، فلو أذنتم لنا فواريناه! فأرسل إليهما : أن وارياه راشدتين. فبعثتا إليه من حمله ودفنه في البقيع (٢) وكان سميناً أسمر (٣).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٦٥.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٨٥.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٦.


وفي علّة هزيمة أصحاب محمّد ذكر اليعقوبي العبّاسي : أن أسماء ابنة عبد الله بن عُبيد الله بن العباس ، كان لها مولى يدعى مجيب العامري ، عقدت خمارها الأسود على قصبة وأعطتها لمجيب وأمرته أن ينصب القصبة على مئذنة المسجد ، ثمّ وجهته أن يدخل عسكر محمّد فيصيح بهم : قد دخل المسودّة المدينة ، فلمّا رأى الناس العلم الأسود على مئذنة المسجد انهزموا إلّاقليلاً (١).

وكان عَلم محمّد الحسني أصفر وعليه صورة حيّة (٢) وقبض المنصور على علي بن محمّد الحسني فسمّى له أصحاب أبيه فحبسهم (٣). بل سجن القرشيين وجلد الأعراب ، أمّا الموالي معه فقطع أيديهم (٤).

بعد أن نصب ألوية في مواضع متفرقة ونادى مناديه : من أتى لواءً من الألوية المنصوبة فهو آمن (٥)!

ومرّ خبر البلاذري أنّ السفّاح كان قد تزوّج لابنه محمد ابنة لمحمد الحسني تدعى زينب ، وكان عمّه ابن السفّاح مع هذا الجيش ، فلما قُتل محمد الحسني أرسل محمد ابن السفّاح إلى عمتها زينب بنت عبد الله بن الحسن : إني أُريد أن أدخل بأهلي فافرغوا لي من أمرها! فأرسلت عمتها إلى عيسى بن موسى : أنّ محمداً (العباسي) أرسل إليّ بكذا ، وقد قتلتم بالأمس أباها ويعرس بها اليوم!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٩٠.

(٣) مقاتل الطالبيين : ١٩٧.

(٤) الأخبار الموفقيات : ١٨٦.

(٥) أنساب الأشراف ٢ : ١١٢ ، الحديث ١١٣.


فأرسل عيسى إلى محمد العباسي فلما لقيه تناوله بسوطه وقال له : يا مائق! ما يؤمنك أن تشتمل على سكين فإذا أفضيت إليها قتلتك (١)؟!

ومرّ أن محمد الحسني كان قد أرسل عنه الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر عاملاً على مكة ، وكان عليها السريّ بن عبد الله العباسي فاختفى ، فلما بلغهم مقتل محمد الحسني بالمدينة ظهر السريّ العباسي فخرج الحسن الجعفري منها (٢).

وكان قد أرسل عثمان بن إبراهيم التميمي إلى اليمامة ليأخذها ، فلم يبلغها حتى قتل محمد الحسني (٣).

إبراهيم الحسني إلى البصرة :

مرّ خبر الأموي الزيدي عن بيعة عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء في جمع من معتزلة البصرة بعد موسم الحج لسنة (١٤٤ ه‍) في السويقة على يد إبراهيم لأخيه محمّد بمحضر أبيهما عبد الله الحسني (٤) ولم يذكر الخبر أن إبراهيم هاجر معهم إلى البصرة.

لكنه روى عن النميري البصري عن مطهر بن الحرث قال : أقبلنا من مكة مع إبراهيم بن عبد الله نريد البصرة فدخلها قبلنا بليلة ثمّ دخلناها.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٢ : ١١٣ ، الحديث ١١٦ قال : ثمّ تزوّجها محمد بعد ذلك ثمّ مات عنها فتزوجها عيسى بن موسى! وخلط السبط فقال : دخل بها ليلة قتل أبوها! تذكرة الخواص ٢ : ٩٤.

(٢) أنساب الأشراف ٢ : ١١٤ ، الحديث ١١٦.

(٣) أنساب الأشراف ٢ : ١١٥ ، الحديث ١١٦.

(٤) مقاتل الطالبيين : ١٩٦.


ولقد غاب بالنيل (نيل البصرة) وواسط والمدائن والأنبار والموصل ، وما دخل الكوفة قط (١).

ويظهر من الخبر أنّه وإن لم يهاجر مع معتزلة البصرة إليها ، إلّاأن ذلك كان بعدهم بقليل فمرّ بتلك المدن ثمّ عاد فاستقر بالبصرة ، بلا تعيين لتاريخه. واستخفى في دار أبي مروان مولى يزيد بن عمر بن هبيرة ، وإبراهيم بن درست الفقمي ومعاذ بن عون الله. ودعا الناس وهو في دار أبي فروة ، وأول من بايعه بها نُميلة بن مُرّة ، وعفو الله بن سفيان ، وعبد الواحد بن زياد ، وعبد الله بن يحيى الرقاشي وعمر بن سلمة الهجيمي ، ثمّ ندبوا الناس إليه ، فأجابهم فتيان العرب منهم المغيرة بن الفزع السعدي التميمي ، حتّى قيل أن ديوانه أحصى أربعة آلاف ، وشهر أمره فخرج من البصرة إلى واسط في دار أبي مروان مولى بني سليم. ثمّ عاد إلى البصرة.

وجاءه كتاب أخيه محمّد يخبره أنّه قد ظهر ، ويأمره بالخروج فاغتمّ لذلك ، فقال له عفو الله بن سفيان : قد اجتمع لك أمرك ومعك أنا وجماعة منهم الطهوي والمُضاء والمغيرة ، نخرج ليلاً فنقصد السجن فنفتحه فتصبح ومعك عالم من الناس! فطابت نفسه.

وأخذ المنصور أهل الكوفة بلبس السواد حتّى البقّالين! وولّى سلماً مولى حميد بن قحطبة أمر المتهمين منهم بالميل إلى إبراهيم وأمره بقتلهم. فكان ينصب سلماً على منازلهم ليلاً فيقتلهم ويأخذ خواتيمهم (٢).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢١١ ، وفيه ذكر بغداد ، هذا وهي بعد غير مسكونة! وكأنه يؤكد على عدم دخوله ولا مروره بالكوفة نفياً لقصة قصّها اليعقوبي ٢ : ٣٧٦ ـ ٣٧٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢١٢ ـ ٢١٣.


خروج إبراهيم الحسني بالبصرة :

وأحسّ المنصور بالشر فوجّه سبعمئة فارس بقيادة جابر بن توبة معونة لوالي البصرة.

وبعد المغرب لأول رمضان بهنيهة ارتفعت تكبيرة وتتابع التكبير ، وصار إبراهيم الحسني في أربعة عشر فارساً فوقفوا في مقبرة بني يشكر الهمدانيين ، وكان فيها قصب يباع ، فأقاموا في كل ناحية من المقبرة أطناناً ألهبوا فيها النار فأضاءت المقبرة ، وبدأ أصحابهم الذين كانوا وعدوهم يأتونهم ، فكلما جاءت طائفة كبّروا ، منذ أول الليل إلى نحو من نصفه ينتظر نميلة بن مرة السعدي ومن وعده من بني تميم ، حتّى جاءوه وتمّ لهم ما أرادوه.

وبعد ما ذهبت طائفة من الليل نحو من نصفه مضوا إلى دار الإمارة ، وقد حملوا معهم النار فألقوه في الرحبة وأدنى القصر فأحرقوه ، ووجدوا دواب أصحاب جابر بن توبة وهي سبعمئة فأخذوها. والأمير سفيان بن معاوية المهلّبي الأزدي طلب الأمان له ولمن معه فنزلوا على الأمان إلى إبراهيم فتركهم (١).

وكان بالبصرة أبناء سليمان بن علي العباسي : محمّد وجعفر فجمعوا من مواليهم ومن والاهم نحو من ثلاثة آلاف وتوجهوا إلى أصحاب إبراهيم (٢) وقد دخل إبراهيم المسجد فصلّى وخطب ، فبينا هو يتكلم إذ أتاه آت فقال : هذا جعفر ومحمّد ابنا سليمان قد أقبلا في مواليهما! فصاح إبراهيم بصاحبيه المُضاء والطهوي وقال لهما : اذهبا فقولا لهما : يقول لكما ابن خالكما : إن أجبتما جوارنا ففي الأمن والرحب لا خوف عليكما ولا على أحد تؤمّنانه! وإن كرهتما جوارنا فاذهبا حيث شئتما ولا تسفكا دماً بيننا وبينكم.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٧.


فخرجا بأصحابهما إليهما فالتقوا عند دار ميّة الثقفية فتواقفوا وكلمهم المُضاء والطهوي (١).

فجعل أصحاب سليمان العباسي ينضحونهم بالنبل والنشاب! فوضع الطهوي جبهته على قربوس سرج فرسه وانتضى سيفه وشدّ عليهم ، فضرب يد صاحب علمهم فأبانها وسقط العلم فانهزموا (٢) وخرجا إلى ميسان فتحصّنا في خندق هناك.

وقبض إبراهيم على بيت المال وغيره ، ووجّه إلى الأهواز المغيرة بن الفزع السعدي التميمي فأخرج عاملها محمّد بن الحصين وغلب على البلد. ووجّه يعقوب بن الفضل المطلبي إلى فارس فدخلها وأخرج منها إسماعيل بن علي العباسي عمّ المنصور ، ووجّه هارون بن سعد العجلي إلى واسط فاستولى عليها وحواليها ، ووجّه بُرد بن لبيد اليشكري الهمْداني إلى كسكر فغلب عليها. وتكاثر أصحابه حتّى أحصى ديوانه ستين ألفاً (٣).

وفي أواخر شهر رمضان أو ليلة الفطر التحق به بالبصرة عيسى بن زيد بن علي من فلّ أخيه محمّد فأخبره بخبر أخيه ، ولحقه أخوه موسى ، قال : اخذت المدينة واجلينا هرباً في البلاد ، فانطلقت إلى البصرة حتّى لحقت بأخي إبراهيم فوجدت عيسى بن زيد عنده (٤) فخرج بالناس يوم العيد وفيه الانكسار ، فصلّى

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢١٥.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٧.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧٧ وكان في بيت المال : ألفا ألف درهم ، وفرض لكل شخص خمسين. مقاتل الطالبيين : ٢١٦.

(٤) اصول الكافي ٢ : ٣٦٥.


بهم وأخبرهم بقتل محمّد (١) وقال : اللهم انك تعلم أن محمّداً إنّما خرج غضباً لك وايثاراً لحقك ونفياً لهذه المسوّدة (العباسيين) فارحمه واغفر له واجعل الآخرة خير مردّ ومنقلب له من الدنيا. ثمّ جرض بريقه وترادّ كلامه في فيه وتلجلج ثمّ انفجر باكياً منتحباً ، فبكى الناس (٢) ثمّ رفع صوته وقال : اللهم انك ذاكر اليوم آباء بأبنائهم وأبناءً بآبائهم ، فاذكرنا عندك بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اللهم وحافظ الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء ، احفظ ذرية محمّد نبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله. فارتجّ المصلّى بالبكاء (٣) ثمّ دعا إلى نفسه بعد أخيه فتبعوه (٤) وأفتى أبو حنيفة بالخروج معه وكان يجهر به بل كتب إليه يدعوه إلى الكوفة واعتذر هو عن الحضور بودائع كانت عنده للناس ، كما فعل يوم زيد بن علي كما مرّ واعتذر الأعمش بعمشه (٥).

وفي ذي القعدة قام للقتال :

بقي إبراهيم الحسني بالبصرة نافذ الحكم شهري رمضان وشوال ، ولأول ذي القعدة استخلف ابنه الحسن وخرج منها إلى باخمرا من سواد الكوفة لقتال المنصور (٦) في ثلاثين ألفاً (٧). وقال اليعقوبي : بل استخلف نُميرة بن مُرة الأسعدي أو السعدي التميمي ، وكان ديوانه قد أحصى ستين ألفاً ، فأخذ على كسكر.

__________________

(١) تاريخ الطبري ، حوادث سنة (١٤٥ ه‍).

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٢٨.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٢٤.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٨.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٢٤٠.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٧٧.

(٧) تاريخ مختصر الدول : ١٢٢.


وكان المنصور قد كتب إلى عيسى بن موسى العباسي يستعجل قدومه ، فلمّا وصله قال له : يا أبا موسى! أنت أولى بالفتح من جعفر ومحمّد ابني سليمان العباسي ، فانفذ ليكمل الله! الظفر على يديك. وبعثهما معه ، فخرج في ثمانية عشر ألفاً (١)! فعسكر إبراهيم في ماجور يريد المنصور ، وعلى ميسرته يزيد بن لبيد اليشكري الهمْداني ، وعلى ميمنته عيسى بن زيد بن علي ومعه الزيدية فلم يرضوا بالبيات على العباسيّين ، ولا برجوع إبراهيم إلى البصرة ليمدّهم بالأمداد ، ولا بحفر الخندق حولهم ، ولا بأن يجعل العسكر كراديس فإذا هُزم كردوس ثبت كردوس متحجّجين بقوله سبحانه : (كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ (٢)).

نزل إبراهيم إلى قرية باخمرا ، وصار عيسى العباسي إلى قرية سُحا ، وقدّم حميد بن قحطبة الطائي للقتال أيضاً ، والتحمت الحرب أشد حرب والدائرة على العباسيّين ، وظهر وانتصر إبراهيم انتصاراً كبيراً على العباسيّين حتّى هزم عسكرهم عدّة مرات ، وزحف حتّى قرب من الكوفة (٣) ، حيث تبع أصحاب إبراهيم عسكر عيسى العباسي وهزموهم هزيمة قبيحة حتّى وصل أوائلهم إلى الكوفة! فأمر المنصور بإعداد الابل والدواب على جميع أبواب الكوفة ليهرب عليها!

وكان إبراهيم واقفاً على فرسه ينظر إلى أصحاب عيسى العباسي وقد ولّوا ومنحوا اكتافهم لأصحاب إبراهيم. ونكص عيسى العباسي برايته وأصحاب إبراهيم يقتلون فيهم ، وعلى إبراهيم قباء أصفر فأذاه الحر فحلّ أزراره.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٢٨ ، ٢٢٩ ، ٢٤٢ ، ٢٤٣ و ٢٥١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٨.


وكان محمّد بن السفّاح معسكراً في ناحية ، فلمّا رأى أصحابه منهزمين لفّ أعلامه وانهزم على مسنّاة إلى الكوفة ، وكان في المسنّاة تعريج ، فنظر أصحاب إبراهيم إليهم وكأنهم من خلفهم فتصايحوا : الكمين الكمين! فانهزموا! وصبر إبراهيم ومعه أربعمئة يضاربون دونه. وحسر إبراهيم عن لُبّته فأتته نُشّابة عائرة فأصابت لُبّته ، فاعتنق فرسه وكرّ راجعاً وأطاف به الزيدية ، وأكبّوا عليه يقبّلون يديه ورجليه وهم يقولون : أردنا أن نجعلك مليكاً فأبى الله إلّاأن يجعلك شهيداً! ونظر الأقطع مولى عيسى العباسي إلى ذلك فعلم أنّه إبراهيم ، وجعل أصحابه يقاتلون دونه لا يبالون ، فلمّا قُتلوا أتاه واحتزّ رأسه وجعله في مِخلاته وأتى مولاه عيسى العباسي وقال له : هذا رأس إبراهيم في مِخلاتي! فقال عيسى لابن أبي الكرام الجعفري معه : اذهب فانظر فإن كان رأسه فاحلف لي بالطلاق حتّى أُصدّقك! فأتاه فأخرجه له ورجع إلى عيسى بخبره ، فأمر أن ينادى فيهم بالأمان فنودي به.

وصار جمع منهم إلى عيسى بن زيد بن علي وانتظروه ما يفعل ، فصبر ملياً ثمّ قال : ما بعد هذا بقاء! وعاد بهم إلى قصر (خراب) ، فلمّا انتصف الليل افتقدوه ، وتوارى في الكوفة في دار علي بن صالح وتزوّج ابنته.

وكان قتل إبراهيم في ارتفاع النهار يوم الاثنين للخامس والعشرين من ذي القعدة سنة (١٤٥ ه‍) وكان مقتله بباخمرا إلى الكوفة على ثمانية عشر ميلاً (٩ كم تقريباً) فأوصل الرأس إلى المنصور بالكوفة ليلة الثلاثاء ، فلمّا أصبح أمر به فاخرج في سفط أحمر في منديل أبيض وأمامه مناد ينادي : هذا رأس الفاسق ابن الفاسق! وكان أقنى خفيف العارضين قد أثر السجود في أنفه وجبهته ، مخضوباً بالحناء ، فنُصب بالسوق ، ثمّ ارسل برأسه إلى مصر (١) وعمره يومئذ

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٣٠ ـ ٢٣٣ و ٢٦٩ ـ ٢٨٤.


ثمان وأربعون سنة (١) وبعد قتل محمّد وإبراهيم تلقّب بالمنصور (٢) وفرّ موسى بن عبد الله أخو إبراهيم مع ابن أخيه عبد الله الأشتر بن محمّد إلى السند (٣).

وكان معه الحسين بن زيد بن علي ففرّ إلى المدينة واختفى ثمّ ظهر بشفاعة أخيه محمّد بن زيد بن علي وكان مع المنصور (٤)!

ولما خرج محمد بالمدينة كان رياح المرّي قد دفع لما كان معه من المال إلى أبي بكر بن أبي سبرة عامله على قبائل أسد وطيء ، فلما قُتل محمد أُخذ أسيراً فطُرح في حبس المدينة ، ولما خرج عيسى بن موسى من المدينة خلف كثير بن الحصين العبدي ، ثمّ وليها عبد الله بن الربيع الحارثي ، فعاث جنده وأفسدوا ، فوثب بهم أهل المدينة وقتلوا منهم وطردوا باقيهم وأخرجوا الحارثي من المدينة! وانتهبوا متاعه. واجتمع الرعاع والسودان فقلّدوا رئاستهم إلى أسود منهم يُدعى أُوتيوا! ويدعونه أمير المؤمنين! وكسروا باب السجن وأخرجوا من فيه.

واجتمع القرشيون فخرجوا إلى الحارثي بأكثر ما نُهب منه وأرضوا من بقي من جنده ، ثمّ أمكنتهم الفرصة فقبضوا على أُوتيوا وأوثقوه ، وتفرق السودان ، ومات أُوتيوا في السجن فإما قتل قتلاً أو مات جوعاً! ثمّ ولّى المنصور ابن عمّه جعفر بن سليمان (٥) بعد انتهاء أمر البصرة.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٧.

(٢) التنبيه والإشراف : ٢٩٥.

(٣) اصول الكافي ١ : ٣٦٥ ، وانظر بشأن الأشتر مقاتل الطالبيين : ٢٠٦.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٢٥٧.

(٥) أنساب الأشراف ٢ : ١٢٢ ، الحديث ١٢٤.


المنصور والإمام الصادق عليه‌السلام :

روى الأموي الزيدي بسنده عن الصادق عليه‌السلام : أن المنصور لما انتصر على إبراهيم بن عبد الله الحسني في باخمرا ، حشر كل محتلم من بني هاشم من المدينة إلى الكوفة ، وحجبهم شهراً (آخر شهر من عام ١٤٥ ه‍) يتوقعون فيه القتل. ثمّ خرج إليهم حاجبه الربيع بن يونس وقال لهم : أدخلوا على أمير المؤمنين! رجلين منكم من ذوي الحجى. فقام إليه الصادق عليه‌السلام ومعه الحسن بن زيد بن الحسن ومع أن المنصور كان مسبوقاً بلقاء الصادق عليه‌السلام كراراً ومراراً مع ذلك لما صار اليوم بين يديه قال له : أنت الذي تعلم الغيب؟! قال : لا يعلم الغيب إلّاالله! قال : أنت الذي يُجبى إليك الخراج؟! قال : اليك يا أمير المؤمنين! يُجبى الخراج. قال : أتدرون لم دعوتكم؟ قال : لا ، قال : أردت أن اروّع قلوبكم وأعقر نخلكم وأهدم رباعكم واترككم بالسراة (الصحراء) لا يقربكم أحد من أهل الحجاز والعراق ؛ فإنهم مَفسدة لكم!

فقال عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! إن سليمان اعطي فشكر ، وإن أيوب ابتلي فصبر ، وإن يوسف ظُلم فغفر ، وأنت من ذلك النسل! فتبسم وقال : أعد عليَّ! فأعدت ، فقال : مثلك فليكن زعيم القوم ، وقد عفوت عنكم! ووهبت لكم جرم أهل البصرة!

ثمّ قال : حدّثني الحديث الذي حدّثتني به! عن أبيك عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قال : حدّثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : صلة الأرحام تعمّر الديار وتطيل الأعمار وإن كانوا كفّار! فقال : ليس هذا!

فقال : حدّثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الأرحام معلّقة بالعرش تنادي : اللهم صِل من وصلني واقطع من قطعني! قال : ليس هذا.


فقال : حدّثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله عزوجل يقول : أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت له اسماً من اسمي! فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته بتّة! قال : ليس هذا.

قال : حدّثني أبي عن آبائه عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن ملكاً من الملوك في الأرض كان بقي من عمره ثلاث سنين فوصل رحمه فجعلها الله ثلاثين سنة! فقال : هذا الحديث أردت.

ثمّ قال : أيّ البلاد أحبّ إليك؟ فوالله لأصلنّ رحمي إليكم! قال : فقلنا : المدينة (١).

وقد مرّ الخبر : أن محمّداً الحسني كان قد صادر أموال الصادق عليه‌السلام وكان منها عين تسمى عين أبي زياد ، وصادرها بعد محمّد عيسى بن موسى العباسي ، فهنا قال الصادق للمنصور : يا أمير المؤمنين! اردد عليَّ عين أبي زياد آكل من سعفها! فقال : إياي تتكلّم بهذا الكلام؟! لُازهقنّ نفسك!

فقال عليه‌السلام : لا تعجل! قد بلغت ثلاثاً وستين ، وفيها مات أبي وجدي علي بن أبي طالب ، فعليّ كذا وكذا إن آذيتك بشيء أبداً! وإن بقيت بعدك إن آذيت الذي يقوم مقامك!

فكأنه رقّ له وأعفاه ، وسرحهم إلى المدينة (٢).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٣٣ ، ٣٣٤. وفي بحار الأنوار ٤٧ : ١٦٣ ، الحديث ٣ و ١٨٧ ، الحديث ٣٥ عن أمالي الطوسي بتغيير في أوله ، عن عوالي اللآلي وفيه : دخلت أنا وعبد الله بن الحسن ، والصحيح : زيد بن الحسن. وفي ١٩٣ ، الحديث ٣٩ عن مهج الدعوات بتغيير في أوله ، واختزله في : ٢٠٦ الحديث ٤٧ عن كشف الغمة عن الجنابذي البغدادي.

(٢) مقاتل الطالبيين : ١٨٤ عن النميري البصري. والطبري في حوادث (١٤٥ ه‍).


ذو الدمعة والأفطح والكاظم عليه‌السلام :

منذ قتل زيد بن علي رحمه‌الله بالكوفة ، ترك ذريّة صغاراً منهم الحسين وله أربع سنين ، بُعث به إلى المدينة فتكفّله الصادق عليه‌السلام فنشأ في حجره وربّاه وكان مقيماً عنده ، فأخذ عنه علماً كثيراً (١).

روى ذلك الاموي الزيدي ، ثمّ روى بسنده عنه قال : مررت بعبد الله بن

__________________

وبشأن عين أبي زياد روى الكليني في فروع الكافي (٣ : ٥٦٩ ، الحديث ٢) بسنده عن الراوي قال : قلت للصادق عليه‌السلام : جعلت فداك ، بلغني أنك كنت تفعل في غلّة عين أبي زياد شيئاً احب أن أسمعه منك. قال : نعم ، كنت إذا أدركت الثمرة آمر أن يُثلم في حيطانها ليدخل الناس ويأكلوا. وكنت آمر أن يوضع في كل يوم عشر بنيّات (؟) يقعد على كل بنيّة عشرة ، كلما أكل عشرة جاء عشرة اخرى ، يُلقى لكل نفس منهم مُدّ من رطب.

وكنت آمر لمن لا يقدر أن يجيء فيأكل منها من جيران الضيعة الشيخ والعجوز والصبيّ والمريض والمرأة ، لكل انسان منهم بمدّ.

فإذا كان الجذاذ وفّيت الوكلاء والقوّام والرجال اجرتهم ، وأحمل الباقي إلى المدينة (فهي ضيعة خارج المدينة) ففرقت في أهل البيوتات والمستحقين : الراحلتين والثلاثة والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم. وكان غلّتها أربعة آلاف دينار ويحصل لي بعد ذلك أربعمئة دينار (من كل ألف مئة!).

فلذلك طمع فيها محمّد الحسني ثمّ المنصور ، وطلبها الإمام عليه‌السلام ولم يردّها ، بل كانوا يبيعون تمرها.

فروى الكليني فيه (٥ : ٢٢٩ ، الحديث ٥) بسنده عن جميل بن صالح قال : إنهم عرضوا تمرها للبيع ، فأمرت مصادف أن يسأل الصادق عليه‌السلام هل أشتري منهم؟ فقال له : قل له : فليشتره فإنه إن لم يشتره اشتراه غيره.

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٥٧.


الحسن وهو يصلي في مصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأشار بيده إليّ وهو يصلّي ، فأتيته ، فلمّا انصرف قال لي : رأيتك محتاراً! فأردت أن أعظك لعلّ الله ينفعك بها!

إن الله قد وضعك موضعاً لم يضع به أحداً إلّامن هو مثلك! وإنك قد أصبحت في حداثة سنّ ، والناس يبتدرونك بأبصارهم ، والخير والشر يبتدران إليك! فإن تأت بما يُشبه سلفك فما نرى شيئاً أسرع إليك من الخير! وإن تأت بما يخالف ذلك فو الله لا ترى شيئاً أسرع إليك من الشرّ! وإنّه قد توالى لك آباء ، وإن أدنى آبائك زيد بن علي الذي لم أر فينا ولا في غيرنا مثله! فعليّ فحسين فعليّ عليهم‌السلام.

وكأنه بهذا ونحوه استدرجه إلى مقالة الزيدية بالخروج بالسيف ، وإلى ابنه محمّد بن عبد الله الحسني ، وكأنّ الحسين وهو مقيم بدار الصادق عليه‌السلام أثّر بدوره في عبد الله الأفطح بن الصادق عليه‌السلام فأخرجه معه مع محمّد الحسني بالمدينة ثمّ إلى البصرة مع أخيه إبراهيم ، ثمّ رجعا أدراجهما إلى المدينة وتواريا ، ثمّ لما لم يذكر في من طُلب ظَهرا. وكان الحسين يكثر البكاء على أبيه وأخيه يحيى ، وسألْته امه : ما أكثر بكاءَك! فقال : وهل ترك السهمان والنار سروراً يمنعني من البكاء! يعني بالسهمين ما قتل به أبوه وأخوه ، ولعله بالنار يعني البكاء توبة مما فعل بخروجه معهما.

وروى الاموي الزيدي عنه قوله : شهد مع محمّد بن عبد الله من ولد الحسين بن علي أربعة : أنا وأخي عيسى ، وعبد الله وموسى بن جعفر عليه‌السلام (١).

ونقل هذا المامقاني ولم يعلّق عليه! فعلّق عليه المحقق الشوشتري قال : لكنه خبر مختلَق ، لاشتماله على أن الكاظم عليه‌السلام خرج مع محمّد ، وحاشاه أن يفعل

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٥٧ ـ ٢٥٨.


مثل ذلك ، وحاشا أباه أن يأذن له بذلك .. أما خروج عبد الله الأفطح فهو ممكن لأنه كان مخالفاً لأبيه (١) كما ذكر ذلك في ترجمته.

هذا مع أن محمّداً سجن الإمام عليه‌السلام إلزاماً له على بيعته ، ثم صادر أمواله بما فيها عين أبي زياد.

ويظهر أن المنصور كان يعرف انحراف الأفطح عن أبيه ولذا لم يحتج به عليه ، ولو كان معه موسى لكان لا يترك الاحتجاج به عليه.

ثمّ هو خبر انفرد به الأموي الزيدي ، ولا عهد لنا به عند غيره.

خطبة الوالي المغمور والخليفة المنصور :

لما قتل عيسى العباسي محمّداً الحسني بالمدينة ولّى عليها كُثير بن الحُصين الداري فمكث شهراً فعزله وولّى عليها عبد الله بن الربيع الحارثي (٢) ولا نجد فيما بأيدينا أن يولّاها يومئذ من يُدعى شَبّة بن عقال.

إلّا أن الطوسي روى عن المفيد ـ وليس في أماليه ـ أنّه وليها بعد قتل الأخوين محمّد وإبراهيم ، ولّى المنصور على المدينة رجلاً يقال له شَبَّة بن عقال ، أي لأواخر عام (١٤٥ ه‍) فلمّا حضرت الجمعة قال في خطبته :

أما بعد ، فإن علي بن أبي طالب شقّ عصا المسلمين وحارب المؤمنين! وأراد الأمر لنفسه ومنعه من أهله! فحرمه الله امنيته وأماته بغصّته! وهؤلاء ولده يتّبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له! فهم في نواحي الأرض مقتّلون وبالدماء مضرّجون!

__________________

(١) قاموس الرجال ٣ : ٤٥٥ برقم ٢١٦١. بل كان عمر الكاظم يومئذٍ دون ١٦ عاماً! ولد (١٢٩ ه‍).

(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٦ و ٢٨٣.


فقام إليه رجل عليه إزار قومسي سحيق (بالي)! فقال : ونحن نحمد الله ونصلّي على محمّد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى رسل الله وأنبيائه أجمعين.

أما ما قلت من خير فنحن أهله ، وما قلت من سوء فأنت وصاحبك (المنصور) به أولى وأحرى! يا من ركب غير راحلته وأكل غير زاده ارجع مأزوراً (مذنباً). ثمّ أقبل على الناس فقال لهم : ألا انبئكم بأخفّ الناس يوم القيامة ميزاناً وأبينهم خسراناً؟ هو من باع آخرته بدنيا غيره وهو هذا الفاسق.

فلم ينطق الوالي بحرف بل نزل من المنبر وخرج من المسجد!

قال الراوي : عبد الله بن سليمان التميمي : فسألت عن الرجل فقيل لي : هذا جعفر بن محمّد (١).

هذا وقد مرّ خبر حشر بقايا الهاشميين يومئذٍ إلى المنصور بالكوفة وحبسهم بها أكثر من شهر ، ثمّ وصف لباس الصادق عليه‌السلام بما مرّ لا يناسب المعهود من لباسه وزيّه حسب سائر الأخبار حتّى أن الصوفية كانوا ينكرون عليه ذلك! ثمّ سكوت الوالي وخروجه بلا صلاة يكاد لا يصدَّق ، وهو خبر انفرد به الطوسي مما لا يوافق سائر المصادر.

نعم ، نقل المسعودي عن المنصور خطبة بمعنى هذه قال : لما أخذ المنصور عبد الله بن الحسن وإخوته والذين معه من أهل بيته ، صعد المنبر بالهاشمية فقال : يا أهل خراسان! أنتم «شيعتنا» وأنصارنا وأهل دعوتنا ، ولو بايعتم غيرنا لم تبايعوا خيراً منّا! إن ولد ابن أبي طالب تركناهم والخلافة فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير! فقام فيها علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) فما أفلح!

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٥٠ ، المجلس ٢ ، الحديث ٦٦. وإنما نرى اسم شبّة بن عقال خطيباً مادحاً للمهدي العباسي ، في مروج الذهب ٣ : ٣١٣ أميراً على المدينة.


إذ حكّم الحكمين فاختلفت عليه الامة وافترقت الكلمة! ثمّ وثب عليه أنصاره وثقاته و «شيعته» فقتلوه!

ثمّ قام بعده الحسن بن علي (رضي الله عنه) فوالله ما كان برجل! دسّ إليه معاوية : إني أجعلك وليّ عهدي ، وعُرضت عليه الأموال فقبلها وخلعها (الخلافة) وانسلخ له مما كان فيه وسلّمه إليه! وأقبل على النساء يتزوّج اليوم واحدة ويطلق غداً اخرى! فلم يزل كذلك حتّى مات على فراشه!

ثمّ قام من بعده الحسين بن علي (رضي الله عنه) فخدعه أهل كوفة العراق أهل الشقاق والنفاق والإغراق في الفتن ، أهل هذه المدرة السوء فرّق الله بيني وبينها ، فخذلوه وأبرؤوا أنفسهم منه ، فأسلموه حتّى قتل.

ثمّ قام من بعده زيد بن علي ، فخدعه أهل الكوفة وغرَّوه ، فلمّا أظهروه وأخرجوه أسلموه .. فقُتل وصلب بالكُناسة.

ثمّ وثب بنو امية علينا فابتزّونا شرفنا وأذهبونا عزّنا ، وما كان ذلك كلّه إلّا فيهم وبسبب خروجهم! فنفونا عن البلاد مرّة بالطائف ومرّة بالشام ومرّة بالشَّراة (١) إلى آخر خرطياته مما يدلل على نصبه العداء لعلي وابنيه السبطين عليهم‌السلام ، فما أشبه الليلة من بني العباس بالبارحة من بني امية ومروان!

بل كان المنصور يتمنّى إخلاص مثل الحجّاج لبني مروان : فقد ذُكر أن المنصور بعد قتل الأخوين محمّد وإبراهيم قال يوماً لجلسائه : تالله ما رأيت رجلاً أنصح من الحجّاج لبني مروان! فقام المسيّب بن زهير الضبّي وقال : يا أمير المؤمنين! ما سبقنا الحجّاج بأمر تخلفنا عنه ، والله ما خلق الله خلقاً أعزّ علينا من نبيّنا وقد أمرتنا بقتل أولاده! فأطعناك وفعلنا ذلك! فهل نصحناك أم لا؟!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٠٠ ـ ٣٠١.


فقال المنصور : اجلس لاجلست (١)!

وهكذا انتهت سنة (١٤٥ ه‍) وبدأت سنة (١٤٦ ه‍) وفيها توفي محمّد بن السائب الكلبي النسّابة (٢). وكان قد سمع بعض الفتاوى الخاصة عن الصادق عليه‌السلام بعنوان عالم «أهل البيت» فأتى المدينة والتقى به وتعرّف على أمره وإمامته ودان بحبّه حتّى مات ، كما فيما يلي :

ابن السائب والإمام الصادق عليه‌السلام :

روى الكليني بسنده عن الكلبي النسّابة (محمّد) : أنّه ما كان يعرف من أمر الإمامة شيئاً وإنّما كان سمع بعض الفتاوى الخاصة عن الصادق عليه‌السلام بعنوان عالم «أهل البيت» فأحبّ أن يتعرّف عليه ، فأتى المدينة ودخل المسجد فرأى فيه جماعة من قريش فسألهم عن عالم «أهل البيت» فقالوا : عبد الله بن الحسن! فأتى منزله واستأذن عليه فخرج إليه وقال له : ادخل ، فدخل وسلّم عليه فسأله : مَن أنت وما حاجتك؟ قال : أنا الكلبي النسّابة وقد جئت أسألك ، فقال له : أمررت بابني محمّد! قال : بدأت بك. قال : سل. فقال : ما يقول الشيخ في المسح على الخفّين؟ قال : قد مسح قوم صالحون! ونحن «أهل البيت» لا نمسح! قال : ما تقول في أكل الجرّي أحلال هو أم حرام؟ قال : حلال : إلّاأنا «أهل البيت» نعافه! قال : فما تقول في شرب النبيذ؟ قال : حلال : إلّاأنا «أهل البيت» لا نشربه! قلت : أخبرني عن رجل قال لامرأته : أنت طالق عدد نجوم السماء؟! قال : تبين بعدد رأس الجوزاء (الثلاثة) والباقي وزر وعليه عقوبة! فقام وخرج من عنده.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٢٩٨.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٨.


ودخل المسجد فرأى جماعة من قريش فسلّم عليهم وقال : مَن أعلم «أهل البيت»؟ قالوا : عبد الله بن الحسن! فقال : قد أتيته فلم أجد عنده شيئاً! فرفع رجل منهم رأسه وقال : ائت جعفر بن محمّد عليه‌السلام فهو أعلم «أهل البيت»! فقال له : ويحك إياه أردت ، ولامه بعض من حضر!

فمضى إلى منزله وقرع الباب فخرج إليه غلام فقال له : ادخل يا أخا كلب! فأدهشه! فدخل وهو مضطرب! ونظر فإذا شيخ على مصلّاه ، فسلّم عليه فسأله : من أنت؟ قال : أنا الكلبي النسابة! قال : يا أخا كلب أفتنسب نفسك؟ قال : نعم أنا فلان بن فلان بن فلان ، فقال له : قف ، ويحك أتدري من فلان بن فلان؟ ثمّ ذكر أسماء وقال : أتعرف هذه الأسماء؟ قال : لا والله جعلت فداك ، قال : كذب العادلون بالله وضلّوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراناً مبيناً! يا أخا كلب ، إنّ الله عزوجل يقول : (وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً (١)) أفتنسبها أنت؟ قال : لا جعلت فداك ، فإن رأيت أن تكفّ عن هذا؟ قال : إنّما قلتَ فقلتُ. واسأل عمّا جئت له.

قال : ما تقول في المسح على الخفّين؟ فتبسّم ثمّ قال : إذا كان يوم القيامة وردَّ الله كلَّ شيء إلى شيئه ، وردّ جلد الغنم إلى الغنم ، فترى أين يذهب مسح هؤلاء؟! ثمّ قال : سل. فقال : أخبرني عن أكل الجرّي. فقال : إن الله عزوجل مسخ طائفة من بني إسرائيل فممّا أخذ منهم بحراً الجرّي والمارماهي والزمار. ثمّ قال : سل. فقال : ما تقول في النبيذ؟ فقال : إن أهل المدينة شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تغيّر الماء وفساد طبايعهم ، فأمرهم أن ينبذوا فيه ، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له فيعمد إلى كفّ من التمر فيقذف به في الشنّ ، فمنه شربه

__________________

(١) الفرقان : ٣٨.


ومنه طهوره ، فقال : إنا ننبذ فنطرح فيه العُكَر وما سوى ذلك ونشربه؟ فقال : شُه شُه! تلك الخمرة المنتنة!

فقال له : أخبرني عن رجل قال لامرأته : أنت طالق عدد نجوم السماء؟ قال : ويحك أما تقرأ سورة الطلاق؟ قال : بلى. قال : فاقرأ. فقرأ : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ (١)) قال : أترى هنا في السورة : نجوم السماء؟! قال : لا ، فرجل قال لامرأته : أنت طالق ثلاثاً؟ قال : تُردّ إلى كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله. ثمّ قال : لا طلاق إلّاعلى طُهر من غير جماع ، وبشاهدين مقبولين. ثمّ نهض عليه‌السلام.

فقام الكلبي وخرج وهو يضرب بيده على الاخرى وهو يقول : إن كان شيء (من الحق) فهذا.

قال الراوي سماعة بن مِهران : فلم يزل الكلبي يدين الله بحبّ «آل البيت» حتّى مات (٢).

وافتتح المنصور بغداد :

بعد مقتل إبراهيم الحسني بثلاثة أشهر في شهر ربيع الأول سنة (١٤٦ ه‍) استوطن المنصور بغداد (٣) وأخذ في تكميل عمارتها. وهنا لأول مرّة نشاهد اسم خالد بن برمك وأن المنصور استشاره في نقض ايوان كسرى بالمدائن ونقل آجرُه إلى بغداد ، فقال خالد : هو من أعلام الإسلام فلا أرى ذلك! فقال له المنصور : يا خالد ، مِلت إلى أصحابك العجم! وأمر بنقض القصر الأبيض ، فنقضوا ناحية منه ، فكان ما يغرمون على نقضه وحمله أكثر من قيمة المنقوض المحمول!

__________________

(١) الطلاق : ١.

(٢) اصول الكافي ١ : ٣٤٩ ، ٣٥١.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٩.


فتركه المنصور ، فقال خالد : أرى أن لا تبطل ذلك لئلّا يقال إنك عجزت عن تخريب ما بناه غيرك! فلم يلتفت المنصور إلى ذلك.

ونقل أبواب مدينة الواسط فجعلها لبغداد (١).

وكان وليّ العهد بعد المنصور عيسى بن موسى العباسي ، فولّاه الكوفة ، ولقّب ابنه محمّداً بالمهديّ وولّاه خراسان وأشخص معه وجوهاً من صحابته والجند ، وعاد إليه قوّاد خراسان فذكروا له فعال المهدي ومدحوه ، وسألوه أن يولّيه عهده بعده. فكتب بذلك إلى عيسى العباسي بالكوفة! فكتب إليه عيسى يعظّم عليه نقض الأيمان ونكث العهود! فعزله المنصور عن الكوفة واستقدمه إلى بغداد ، وأخذ يثير عليه جنوده يوماً بعد يوم يصيرون إلى بابه! فلمّا رأى ذلك خاف على نفسه فرضى وسلّم!

ودخلت سنة (١٤٧ ه‍) فدعى المنصور إلى بيعة المهديّ بالعهد وبعده لعيسى ، وأتت الكتب إلى المهدي بذلك (٢) وأرسل المنصور خالد بن برمك والياً على الموصل (٣).

وعاقب مالك بن أنس :

مرّ الخبر أن مالك بن أنس وافق قيام محمّد الحسني وأفتى الناس بالخروج معه عن بيعة المنصور لأنهم كانوا مُكرهين «وليس على مُكره يمين».

وفي سنة (١٤٦ ه‍) عزل المنصور عن المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١١٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٧٩ ـ ٣٨٠.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٧.


وولّاها جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس حتّى سنة (١٤٩ ه‍) (١).

قال ابن قتيبة : بعثه المنصور إليها ليسكن هيجها وفتنتها ويجدّد بيعة أهلها. فدسّوا إليه من قال له : إن مالك بن أنس كان يفتي الناس بأن أيمان البيعة لا تلزمهم ، لاستكراهكم إياهم عليها ، وزعموا أنّه كان يفتي بذلك جميع أهل المدينة ، بحديث رواه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه».

فدسّ جعفر بن سليمان إليه بعض من لم يكن مالك يخاف أن يؤتى من قبله ، فسأله عن ذلك فأفتى مالك بذلك ، فلم يشعر مالك إلّاورُسل جعفر بن سليمان فأتوه به منتهك الحرمة مزال الهيبة! فأمر به فضُرب سبعين سوطاً! وبلغ بمالك ألم الضرب حتّى أضجعه.

فلمّا بلغ ذلك إلى المنصور أعظمه وأنكره ولم يرضه ، وكتب إليه يستقدمه إلى بغداد فأبى ، فكتب إليه : أن وافني بالموسم العام القابل إن شاء الله فإني خارج إلى الموسم (٢) فحجّ سنة (١٤٧ ه‍) فالتقى مالك به ، وسيأتي خبره. والآن إذ انتقل المنصور إلى بغداد أحضر الصادق عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٨٣.

(٢) الإمامة والسياسة للدينوري : ١٧٧ ـ ١٧٨ وأرّخ ذلك بسنة (١٦١ ه‍) وهو غير صحيح ، لما مرّ أن جعفر العباسي إنّما كان على المدينة من (١٤٦ ه‍) إلى (١٤٩ ه‍).

(٣) وهذه هي السنة الأخيرة من حياة الصادق عليه‌السلام ، ولذا جاء في آخر الخبر اللاحق عنه عليه‌السلام قوله : وما أرى هذه السنة تتمّ لي. هذا ، وقد أرّخ الكليني ميلاد الرضا عليه‌السلام بسنة وفاة جدّه الصادق عليه‌السلام : (١٤٨ ه‍) ، أُصول الكافي ١ : ٤٨٦ وعليه فهذا أوان زواج الكاظم بأُم الرضا عليه‌السلام ، قبل وفاة الصادق بسنة. إلّاأنّ هذا يقتضي أن يكون في خبر زواجه


الإمام عليه‌السلام والمنصور ببغداد :

روى ابن طاووس عن كتاب عتيق وجد فيه : أن الحسن بن علي بن يقطين روى عن أبيه : أنّه بعد المئتين للهجرة وبعد قتل المأمون لللأمين ، روى له محمّد بن الربيع عن أبيه الربيع بن يونس حاجب المنصور : أن المنصور كان قد أعد لنفسه في قصره ببغداد قبة سمّاها الحمراء ، ولكنّه لما سكن قصره بعد قتل الأخوين محمّد وإبراهيم ، غيّر اسمها من الحمراء إلى الخضراء. وفي ليلة من الليالي وقد مضى أكثرها! دعا أباه الربيع وقال له : سِر الساعة إلى جعفر بن محمّد ابن فاطمة عليهم‌السلام! ـ ولا يذكر الخبر كيف احضر إلى بغداد ـ فأتني به على الحال التي تجده عليه لا يُغيّر شيئاً ممّا هو عليه!

هنا قال محمّد : وكنت أنا أفضَّ ولد أبي وأغلظَهم قلباً! فدعاني أبي وقال لي : امضِ إلى جعفر بن محمّد بن علي عليه‌السلام فتسلّق عليه حائطَه ، ولا تستفتح عليه باباً فيغيّر بعض ما هو عليه ، ولكن انزل عليه نزولاً ، فأت به على الحال التي هو فيها! هذا وقد ذهب الليل إلّاأقلّه.

__________________

ذكر لأبيه الصادق عليه‌السلام ولا ذكر له فيه مما يرجح كونه بعده. وميلاد الرضا عليه‌السلام في (١٤٨ ه‍) يقتضي كونه عند وفاته ابن خمس وخمسين ، كما ذكره الكليني وقال : اختلف في تاريخه. ثمّ روى بسنده عن ابن سنان قال : قبض الرضا وهو ابن تسع وأربعين ـ الكافي ١ : ٤٩٢ وهذا يؤيد خبر نصر الجهضمي في «تاريخ أهل البيت» : ولد بعد وفاة الصادق عليه‌السلام بخمس سنين أي في (١٥٣ ه‍) : ٨٣ وكذا خبر الصدوق عن غياث بن أُسيد في عيون أخبار الرضا ١ : ١٠٠ ، الحديث ١ ، باب مولد الرضا عليه‌السلام. وهذا ينسجم مع عدم ذكر الصادق في زواج الكاظم عليهما‌السلام ، وعمر الكاظم يومئذ (٢٥) سنة وليس ذلك كثيراً مستبعداً. ولذا فنحن مع خبر الكليني عن ابن سنان المتأيد برواية «تاريخ أهل البيت» نؤجّل ذكر زواج الكاظم عليه‌السلام إلى سنة (١٥٢ ه‍).


فاصطحب محمّد معه بعض الشاكرية (الخدم) وحمل معهم سُلّماً ، قال : فأتيته وأمرت بنصب السلّم ثمّ تسلّقت عليه الحائط فنزلت عليه داره ، فوجدته قد ائتزر بمنديل وعليه قميص وهو قائم يصلّي ، فلمّا سلّم من صلاته قلت له : أجب أمير المؤمنين! فقال : دعني ألبس ثيابي! قلت : ليس إلى ذلك سبيل ؛ قال : فأدخل المغتسل وأتطهّر! قلت : وليس إلى ذلك سبيل فلا تشغل نفسك فإني لا أدعك تغيّر شيئاً! قال : فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله! وكان قد جاور السبعين! فلمّا مشى بعض الطريق ضعف ، فرحمته وأمرت شاكرياً أن يقدم له دابته فركبها وصرنا إلى القصر ، فسمعت المنصور يقول لأبي الربيع : ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل.

قال محمّد : وكان أبي يتشيّع! فلمّا وقعت عينه على جعفر بن محمّد عليه‌السلام وهو بتلك الحال بكى!

فقال له جعفر عليه‌السلام : يا ربيع ؛ أنا أعلم ميلَك إلينا ، فدعني اصلي ركعتين. قال : شأنَك وما تشاء. فصلّى ركعتين خفّفهما (هما صلاة الغداة) ثمّ دعا بعدهما بدعاء طويل ، والمنصور في كل ذلك يستحث أبيَ الربيع.

فلمّا فرغ من دعائه بطوله أخذ أبي الربيع بذراعيه فأدخله على المنصور ، فوقف بين يديه! فلمّا نظر إليه قال : وأنت يا جعفر! ما تدع بغيك وحسدك وإفسادك على أهل هذا البيت من بني العباس! وما يزيدك الله بذلك إلّاشدّة حسد ونكد ، ما تبلغ به ما تقدّره!

فقال له : والله يا أمير المؤمنين! ما فعلت شيئاً من هذا! ولقد كنت في ولاية بني امية وأنت تعلم أنّهم أعدى الخلق لنا ولكم ، وأ نّهم لا حقّ لهم في هذا الأمر ، فوالله ما بغيت عليهم ، ولا بلغهم عني سوء ، مع جفاهم الذي كان بي. وكيف ـ يا أمير المؤمنين ـ أصنع الآن هذا وأنت ابن عمّي وأمسّ الخلق بي رحماً! وأكثرهم عطاءً وبرّاً! فكيف أفعل هذا؟! عزوجل الحمد لله اينج الحمد لله الله رينت


وكان المنصور على بساط صوفٍ متلبّد وتحته سيفٌ ذو فِقار ، فأطرق ساعة ثمّ قال : أبطلت وأثمت! وكان عن يساره مِرفقة جرمقانية فرفع ثنيها وأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه وقال : هذه كتبك إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي وأن يبايعونك دوني!

فقال : والله ـ يا أمير المؤمنين ـ ما فعلت ، ولا أَستحلّ ذلك! ولا هو من مذهبي ؛ وإني لممّن يعتقد طاعتك على كل حال! وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته ، فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت! فهو منّي قريب!

فقال : لا ، ولا كرامة! ثمّ أخذ مقبض السيف فسلّ منه مقدار شبر! ثمّ ردّ السيف وقال :

يا جعفر! أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشق عصا المسلمين! تريد أن تريق الدماء! وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء!

فقال : لا والله ـ يا أمير المؤمنين! ـ ما فعلت ، ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي! فانتضى ذراعاً من السيف ، ثمّ أقبل يعاتبه وجعفر (عليه‌السلام) يعتذر! ثمّ انتضى السيف إلّايسيراً منه! ثمّ أغمد السيف ، وأطرق ساعة ، ثمّ رفع رأسه وقال له : أظنك صادقاً!

ثمّ قال لي : يا ربيع هات العيبة (الوعاء) فأتيته بها ، وكانت مملوّة من العطور الغالية فقال لي : أدخل يدك فيها وضعها في لحيته! وكانت لحيته بيضاء ففعلت ذلك حتّى اسودّت لحيته! ثمّ قال لي : احمله على دابّة فارهة من دوابّي التي أركبها وشيّعه إلى منزله مكرّماً ، وأعطه عشرة الآف درهم ، وإذا ذهبت به إلى المنزل خيّره بين المقام عندنا فنكرمه والانصراف إلى مدينة جدّه رسول الله.


قال الربيع : فخرجنا من عند المنصور وأنا مسرور بسلامة جعفر (عليه‌السلام) ومتعجّب مما أراد المنصور وما صار إليه من أمره. وقال لي جعفر (عليه‌السلام) : إنك كنت قد طلبت منّي أرضى بالمدينة وأعطيتني بها عشرة آلاف دينار! فلم أبعك. فالآن وهبتها لك! قلت : يابن رسول الله إنّما رغبتي الآن في الدعاءين الأول والثاني فإذا علّمتني إياهما فهو البرّ ولا حاجة لي الآن في الأرض! فقال : إنّا أهل بيت لا نرجع في معروفنا! فنحن ننسخك الدعاء ونسلّم لك الأرض! فصرت معه إلى المنزل فكتب لي بعهدة الأرض وأملى عليَّ دعاء رسول الله يوم الأحزاب وما دعا به بعد ركعتي الغداة.

وقلت له : أما خفت أبا جعفر المنصور وما أعدّ لك؟! قال : وما أعد؟! خيفة الله دون خيفته والله في صدري أعظم منه!

قال الربيع : ولما وجدت من المنصور خلوة وطيب نفس سألته عمّا كان عليه من قتل جعفر (عليه‌السلام) ثمّ ما صار إليه. فقال : ويحك يا ربيع! هذا ستره أولى وليس هو مما ينبغي أن يحدّث به ، ولااحبّ أن يبلغ ولد فاطمة فيفتخرون ويتيهون بذلك علينا! حسبنا ما نحن فيه ، ولكن لا اكتمك شيئاً ، انظر من في الدار فنحّهم. فنحّيت كلّ من في الدار. ثمّ قال لي : ارجع ولا تبقِ أحداً! ففعلت. ثمّ قال لي : فليس الآن إلّاأنا وأنت ، والله لئن سمعت ما ألقيه إليك من أحد لأقتلنك وولدك وأهلك أجمعين! ثمّ قال : يا ربيع ، قد كنت مصرّاً على قتل جعفر وأن لا أسمع ما يقول ولا أقبل له عذراً ، وكان أمره أغلظ عندي وأهم من أمر عبد الله بن الحسن ، وإن كنت أعلم منه ـ ومن آبائه على عهد بني امية ـ أنّه ممن لا يخرج بالسيف!

(ولكن) لما هممت به في المرّة الاولى تمثّل لي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فإذا هو حائل بيني وبينه باسط كفّيه حاسر عن ذراعيه قد عبس وقطّب في وجهي! فصرفت وجهي عنه.


ثمّ هممت به في المرة الثانية وانتضيت من السيف أكثر من المرة الاولى فإذا أنا برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد قرب مني ودنا شديداً وهمّ بي أن لو فعلت لفعل! فأمسكت.

ثمّ انتضيت السيف في الثالثة فتمثّل لي رسول الله باسطاً ذراعيه قد تشمّر واحمرّ وعبَس وقطّب ، حتّى كاد أن يضع يده عليَّ ، فخفت والله لو فعلت لفعل ، فكان منّي ما رأيت!

وهؤلاء من بني فاطمة لا يجهل حقّهم إلّاجاهل لا حظّ له في الشريعة! ثمّ قال لي : فإياك أن يسمع هذا منك أحد!

قال محمّد بن الربيع : فما حدّثني به أبي حتّى مات المنصور (١).

فالمنصور إذ يقول : «لا يجهل حقّهم إلّاجاهل لا حظّ له في الشريعة» هل يعترف على نفسه بأ نّه يجهل حقّهم؟! بل إنّما يدّعي أنّه لا يجهل حقّهم! إلّاأن حقّهم ليست الإمامة العامة والحكومة والخلافة ، وإنّما على مستوى العشرة آلاف درهم وأن يسوّد لحيته بعطوره الغالية الخاصّة! وأن يخيّره في البقاء ببغداد والعودة إلى المدينة. ومحمّد بن الربيع إذ يصف أياه بأ نّه كان يتشيّع لا يعني إلّامثل هذا أو نحوه دون التشيّع بالمعنى الخاص حتّى بعد ما رأى من كرامات الإمام واستجابة دعواته ، ولا ابنه محمّد ، نعم هو يروي الخبر لآخر من موالي بني العباس هو الحسن بن علي بن يقطين الذي كان قد انقطع عن ولاء مواليه العباسيّين إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

والخبر احتوى على تخيير المنصور للإمام عليه‌السلام بين الرحيل والمقام ، ثمّ لم يذكر ما حصل.

وهنا خبر آخر يرجح أنّه كان في هذه السفرة بقصر المنصور ببغداد أيضاً :

يدعيه محمّد بن عبيد الله الاسكندري أنّه كان من ندماء المنصور وخواصّه وأصحاب سرّه ، فدخل عليه ورآه مغتماً يتنفّس بارداً مفكّراً ، فسأله عن علّة

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ١٩٥ ، ١٩٩ ، عن مهج الدعوات : ١٩٢ عن الكتاب العتيق.


فكرته فقال له : يا محمّد ، لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مئة! وقد بقي سيّدهم وإمامهم! قال : من هو؟ قال : جعفر بن محمّد الصادق! قال : إنّه رجل أنحلته العبادة واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة!

قال : يا محمّد ؛ قد علمت أنك تقول بإمامته! ولكن الملك عقيم! وقد آليت على نفسي أن لا امسي عشيّتي هذه حتّى أفرغ منه! ثمّ دعا سيّافاً وقال له : إذا أنا أحضرت أبا عبد الله الصادق وشغلته بالحديث ، ثمّ وضعت قلنسوتي عن رأسي ، فهي العلامة بيني وبينك فاضرب عنقه!

ثمّ أحضر أبا عبد الله عليه‌السلام في تلك الساعة وهو يحرّك شفتيه بالدعاء ، وإذا «بالقصر» يموج كالسفينة ؛ وبادر المنصور حافي القدمين مكشوف الرأس تصطكّ أسنانه وترتعد فرائصه ويصفرّ ويحمرّ ، فأخذ بعضد أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وأجلسه على سريره وجثا بين يديه ، كالعبد بين يدي مولاه! وقال : ما الذي جاء بك في هذه الساعة يابن رسول الله؟! قال : يا أمير المؤمنين ، جئتك طاعة لله عزوجل ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولأمير المؤمنين أدام الله عزّه! قال : ما دعوتك والغلط من الرسول. ثمّ قال : سل حاجتك. قال : أسألك أن لا تدعوني لغير شغل! قال : لك ذلك وغير ذلك ؛ ثمّ قام أبو عبد الله وانصرف سريعاً.

قال الراوي : ونام المنصور وانتبه في نصف الليل وقضى صلاته ثمّ قال لي : لما حضر أبو عبد الله الصادق (ولعلّه عند دخوله) رأيت تنّيناً عظيماً قد حوى بذنَبه «قصري» وقد وضع شفته العليا في أعلاه والسفلى في أسفله ويقول : يا منصور! إن الله قد بعثني إليك وأمرني إن أنت أحدثت في أبي عبد الله الصادق حدثاً فأنا أبتلعك ومن في دارك جميعاً! فطاش عقلي وارتعدت فرائصي واصطكّت أسناني (١)!

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٢٠١ ، ٢٠٣ ، عن مهج الدعوات : ٢٥١.


فلعلّه بعد هذا وفّى بوعده للإمام عليه‌السلام أن لا يدعوه لغير شغل! فعاد إلى بلاده المدينة ، وإن كان الخبر أبتر عن ذكر ذلك. والغريب خلوّ الخبر عن ذكر الربيع الحاجب ، ولم يكن حضوره في الخبر السابق آخر حضور ، بل آخره ما يأتي في الخبر التالي في حج المنصور لموسم عام (١٤٧ ه‍) بالمدينة.

آخر لقاء المنصور بالإمام بالمدينة :

رواه الكنجي الشافعي بسنده عن الحسن بن الفضل عن أخيه عبيد الله بن الفضل عن أبيه الفضل بن الربيع عن أبيه الربيع بن يونس الحاجب : أن المنصور حجّ سنة (١٤٧ ه‍) فقدم المدينة (أي قبل الحج) فقال : ابعث إلى جعفر بن محمّد من يأتيني به (فهو لا يأتيه!) فأمسك عنه رجاء أن ينساه ، فأغلظ عليه في الثانية فجاء به إلى بابه ودخل عليه وقال له : جعفر بن محمّد بالباب يا أمير المؤمنين! قال : ائذن له. فأذن له فدخل وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته! فقال : لا سلّم الله عليك يا عدوّ الله! تلحد في سلطاني! وتبغيني الغوائل في ملكي! قتلني الله إن لم أقتلك!

قال جعفر عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين! إنّ سليمان اعطي فشكر ، وإنّ أيوب ابتلي فصبر ، وإنّ يوسف ظلم فغفر ، وأنت من ذلك السنخ!

فنكس رأسه طويلاً ثمّ رفعه وقال : إليّ وعندي ـ يا أبا عبد الله ـ البريء الساحة ، السليم الناحية ، القليل الغائلة ، جزاك الله من ذي رحم أفضل ما يجزي ذوي الأرحام عن أرحامهم! ثمّ تناوله بيده حتّى أجلسه معه على مفرشه ثمّ قال : يا غلام عليَّ بالمتحِفة ـ وهي مدهن كبير فيه الغالية ـ فاتي به فاخذ يعطّره حتّى قطرت من لحيته ، ثمّ قال : يا ربيع ، ألحق أبا عبد الله جائزته وكسوته ، ثمّ قال : في حفظ الله وكلاءته ، فانصرف الصادق عليه‌السلام.


ثمّ لحقه الربيع وسأله عمّا دعا به فقال له : إنك رجل لك ودّ ومحبة ، ثمّ علّمه الدعاء (١).

وزاد القاضي المغربي قال : وعلم المنصور كثرة أتباع الصادق عليه‌السلام وسُعي به واكّد عليه ، فأرسل عليه ، فلمّا دخل رآه يحرّك شفتيه فقال له : يا جعفر! ما تقول؟ أتسبّني وتلعنني؟! قال : يا أمير المؤمنين! لا والله ما سببتك ولا لعنتك! قال : فما حرّكت به شفتيك؟ قال : دعوت الله عزوجل. قال : بم دعوت؟ قال : قلت : اللهم إنك تكفي من كل شيء ، ولا يكفي منك شيء ، فاكفنيه! يا كافي كلّ شيء! فقال المنصور : لا والله ما مثلك يُترك!

فقال أبو عبد الله : يا أمير المؤمنين! إنّي بلغت من السنين ما لم يبلغه أحد من آبائي في الإسلام ، وما أراني أن أصحبك إلّاقليلاً ، وما أرى هذه السنة تتمّ لي! فلا تعجل عليَّ فتبوء بإثمي!

فرقّ المنصور له وخلّى سبيله ، وتوفي في تلك السنة (٢).

__________________

(١) كفاية الطالب : ٤٥٥ ، وأسنده السبط كذلك في تذكرة الخواص ٢ : ٤٤٧ واختزل الدعاء ، ونقله الاربلي في كشف الغمة ٣ : ١٦١ ، عن مطالب السؤول للشافعي ٢ : ٥٨ ـ ٥٩ بدعاء مختصر ، وبهامشهما مصادر اخرى كثيرة مسندة ومرسلة مؤرخة وغير مؤرخة ، وعن كشف الغمة في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٨٢ ، الحديث ٢٨. وأرسله المالكي في الفصول المهمة : ٣٤١ وخلطه بقصة التحليف باليمين للساعي عليه وموته ، مما ليس في المصادر السابقة ، بل إنّما هو خبر آخر مرّ عن صفوان الجمال بالكوفة وليس هنا. نعم ، سبقه بالخلط المفيد في الإرشاد ٢ : ١٨٣.

(٢) شرح الأخبار للقاضي النعمان ٣ : ٣٠٧ ثمّ قال : كانت وفاته سنة (١٤٨ ه‍). ومثله في كشف الغمة ٣ : ١٧٢ ـ ١٧٣ مسنداً عن إسحاق بن الصادق عليه‌السلام ، وفي آخره : فمات في شوّال ، وكان المنصور يحسبها عليه.


وأنِس المنصور بمالك بن أنس :

نقل ابن قتيبة عن مطرف من أصحاب مالك بن أنس عنه قال : لما وقفنا بمنى (١) أتيت سرادق المنصور وعرّفتهم بنفسي واستأذنت عليه ، فدخل الآذن وخرج فأدخلني ، فقلت له : إذا انتهيت إلى قبة أمير المؤمنين! فأعلمني. فمرّ من سرادق إلى سرادق ومن قبة إلى اخرى ، في كلها أصناف الرجال بأيديهم السيوف المشهورة والأعمدة المرفوعة ، حتّى قال لي الآذن : هو في تلك القبة ، ثمّ تركني وتأخّر عني.

فمشيت حتّى انتهيت إلى قبّته فإذا هو قد لبس ثياباً مقتصدة لا تشبه ثيابه! وقد نزل عن مجلسه إلى بساط دونه تواضعاً لدخولي عليه! وليس معه في القبة إلّا قائم على رأسه بالسيف مصلت! فلمّا دنوت منه رحّب بي وقرّب وقال : هاهنا إليّ فلم يزل يدنيني حتّى أجلسني إليه وألصق ركبتي بركبته! ثمّ قال :

يا أبا عبد الله! والله الذي لا إله إلّاهو ما أمرت بالذي كان ولا علمته قبل أن يكون ، ولا رضيته لمّا بلغني (يعني ضربي) فحمدت الله تعالى على كلّ حال ثمّ نزّهته عن الأمر والرضا به. ثمّ قال :

يا أبا عبد الله ؛ لا يزال أهل الحرمَين بخير ما كنتَ بين أظهرهم! وإني إخالك أماناً لهم من عذاب الله وسطوته! ولقد دفع الله بك عنهم وقعة عظيمة ؛ فإنهم أسرع الناس إلى الفتن وأضعفهم عنها (قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقد أمرت أن يؤتى بعدوّ الله (جعفر العباسي) من المدينة على قتب ، وأمرت بضيق مجلسه والمبالغة في امتهانه! ولابدّ أن انزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه!

__________________

(١) قال ابن قتيبة ٢ : ١٧٠ : وذلك في سنة (١٤٨ ه‍). بل المعروف المشهور عند سائر المؤرخين : (١٤٧ ه‍).


فقلت له : عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه ، قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ قال لي : يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودوّن منه كتباً ، وتجنّب شدائد عبد الله بن عمر ورُخص عبد الله بن عباس ، وشواذّ بن مسعود ، واقصد إلى أواسط الأُمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة ، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثّها في الأمصار ، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها!

فقلت له : أصلح الله الأمير ، إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في علمهم رأينا.

فقال المنصور : يُحملون عليه ونضرب عليه هاماتهم بالسيف ، ونقطع طيّ ظهورهم بالسياط ، فتعجّل وضْعها ، وسيأتيك محمّد ابني المهدي العام القابل إلى المدينة ليسمعها عنك ، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله.

ثمّ أمر لي بألف دينار ذهباً ، وبكسوة عظيمة! وأمر لابني (عبد الله) بألف دينار! ثمّ استأذنته فأذن لي ، فقمت فودّعني ودعا لي ، ثمّ مشيت منطلقاً ، فلحقني الخصيّ بالكسوة فوضعها على منكبي! فناداه المنصور بلّغها رحل أبي عبد الله (١).

واختصر الخبر قبل هذا فقال : قال المنصور لمالك بن أنس : يا أبا عبد الله ، إني رأيت رأياً. فقال مالك : يوفّق الله أمير المؤمنين إلى الصواب من الرأي ويلهمه الرشاد من القول ويعينه على فعل الخير ، فما رأى أمير المؤمنين؟

قال المنصور : رأيت أن اجلسك في هذا البيت فتكون من عُمّار بيت الله الحرام ، وأحمل الناس على علمك وأعهد إلى أهل الأمصار يوفدون وفودهم إليك ، ويرسلون رسلهم في أيام حجتهم إليك ، لتحملهم من أمر دينهم على الحق والصواب إن شاء الله ، فإنما العلم علم أهل المدينة ، وأنت أعلمهم!

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٧٨ ، ١٨٠.


فقال مالك : أمير المؤمنين أعلى عيناً وأرشد رأياً وأعلم بما يأتي وما يذر ، وإن أذن لي قلت.

قال المنصور : نعم ، فحقيق أن نسمع منك ونصدر عن رأيك.

فقال مالك : أما أهل مكة فليس بها أحد ، واما أهل العراق فقد قالوا قولاً تعدّوا فيه طورهم! وإنّما العلم علم أهل المدينة كما قال الأمير! و (لكن) لكلّ قوم سلف أئمة ، فإن رأى أمير المؤمنين ـ أعزّ الله نصره ـ إقرارهم على حالهم فليفعل.

فقال المنصور : أما أهل العراق فلا يقبل أمير المؤمنين منهم صرفاً ولا عدلاً! وإنّما العلم علم أهل المدينة ، وقد علمنا أنك إنّما أردت خلاص نفسك ونجاتها.

فقال مالك : أجل يا أمير المؤمنين ، فاعفني يعف الله عنك.

فقال المنصور : قد أعفاك أمير المؤمنين (من الإجلاس بمكة) وايم الله ما أجد أعلم منك ولا أفقه بعد أمير المؤمنين (١)!

وللدينوري هنا خبر آخر يفيد أن المنصور كان إلى جانب ما بلغه عن مالك ، بلغه عن ابن أبي ذؤيب (٢) أصعب منه ، وعن ابن سمعان بعكسهما ، وقد مرّ مجلسه السابق مع مالك بلا عتاب ، فليجمعهم هذه المرة ليكون فيه بعض العتاب عليه ، والخبر عن مالك قال :

بعد مفارقتي للمنصور وخروجي عنه ، أتاني رسوله بمنى ليلاً قال : أجب أمير المؤمنين! فلم أشك أنّه للقتل! فعهدت عهدي واغتسلت وتوضأت ولبست كفني وتحنّطت ثمّ نهضت فدخلت عليه في السرادق ، وهو قاعد على فراش قيل إنّه كان من فرش هشام بن عبد الملك كان قد أهداه إليه صاحب القسطنطينية ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١.

(٢) محمّد بن عبد الرحمن العامري المدني توفي في (١٥٩ ه‍).


لا يُعلم ثمنه ولا يدرى ما قيمته ، قد نظّم بالدرّ الأبيض والياقوت الأحمر والزمرّد الأخضر! والشمع تحترق لديه ، وبين يديه ابن أبي ذؤيب وابن سمعان ، وهو ينظر في صحيفة بيده.

فلمّا صرت بين يديه سلمت فرفع رأسه ونظر إليّ وتبسّم بغضب ، ثمّ رمى بالصحيفة وأشار إلى موضع عن يمينه أقعد فيه ، فقعدت ، ورفعت رأسي فإذا أنا بواقف عليه درع وبيده سيف مشهور يلمع! والتفت عن يميني فإذا أنا بواقف بيده جرز (گرز / عمود) من حديد! ثمّ التفتّ عن يساري فإذا أنا بواقف عليه درع وبيده سيف مشهور ، وهم على استعداد.

ثمّ التفت هو إلينا وقال : يا معشر الفقهاء! أما بعد! فقد بلغ أمير المؤمنين عنكم ما أخشن صدره وضاق به ذرعه! وكنتم أحقّ الناس بالكفّ من ألسنتكم والأخذ بما يُشبهكم ، وأولى الناس بلزوم الطاعة والمناصحة في السرّ والعلانية لِمن استخلفه الله عليكم!

قال مالك فاستعذت بالله وتلوتُ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (١)).

فقال المنصور : على ذلكم ، فأي الرجال أنا عندكم؟ أمِن أئمة العدل؟ أم من أئمة الجور؟

فقلت : يا أمير المؤمنين أما أنا فمتوسل إليك بالله تعالى ومتشفّع إليك بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبقرابتك منه أن تعفيني عن الكلام في هذا! فقال لي : قد أعفاك أمير المؤمنين!

ثمّ التفت إلى القاضي ابن سمعان وقال له : أيها القاضي ، ناشدتك الله تعالى أي الرجال أنا عندك؟

__________________

(١) الحجرات : ٦.


فقال ابن سمعان : يا أمير المؤمنين ، أنت ـ والله ـ خير الرجال ، تحجّ بيت الله الحرام ، وتجاهد العدو ، وتؤمّن السبل ، ويأمن الضعيف بك أن يأكله القوي ، وبك قوام الدين ، فأنت خير الرجال!

فالتفت إلى ابن أبي ذؤيب وقال له : ناشدتك الله ، أي الرجال أنا عندك؟

قال : أنت ـ والله ـ عندي شرّ الرجال! استأثرت بمال الله ورسوله وسهم «ذوي القربى» واليتامى والمساكين! وأهلكت الضعيف ، وأتعبت القوي وأمسكت أموالهم ، فما حجتك غداً بين يدي الله؟!

فقال له المنصور : ويحك ما تقول؟! أتعقل؟! انظر ما أمامك! قال : نعم رأيت أسيافاً ، وإنّما هو الموت ولابدّ منه ، فعاجلُه خير من آجله! (فأشار المنصور واخرجا).

فالتفت إليّ وقال لي : إني لأجد عليك رائحة الحنوط! قلت : أجل ، لمّا نُمى إليك عني ما نُمى ـ من الفتوى ـ وجاءني رسولك بالليل ظننته القتل ، فاغتسلت وتطيّبت ولبست ثياب كفني!

فقال المنصور : سبحان الله! ما كنت لأثلم الإسلام وأسعى في نقضه! أو ما تراني أسعى في (رفع) أود الإسلام وإعزاز الدين؟! عائذاً بالله مما قلت يا أبا عبد الله ؛ انصرف راشداً مهدياً.

قال فبتّ ليلتي ، فلمّا أصبحنا أمر المنصور بثلاث صرر في كل صرّة خمسة آلاف دينار! ودعا برجل من شرطته وقال له : اقبض هذا المال وادفع لكل رجل منهم صرّة ، أما مالك بن أنس إن أخذها فبسبيله ، وإن ردّها فلا جناح عليه! وابن سمعان (القاضي) إن أخذها فهي عافيته ، وإن ردّها فأتني برأسه! وابن أبي ذؤيب إن ردّها فبسبيله وإن أخذها فأتني برأسه. فردّها ابن أبي ذؤيب فسلم! وأخذها ابن سمعان فسلم ، وأما أنا فكنت محتاجاً إليها فأخذتها ،


ثمّ رحل المنصور إلى بغداد (١).

وممن سمع منه وروى سليمان بن مِهران الأعمش مولى بني أسد في الكوفة ، سمع من مالك في واسط ومكة نحواً من خمسين حديثاً ، ولم يسمع مالك منه إلّاحروفاً معدودة ، كما عن «الأنساب» للسمعاني (٢) ومات سليمان سنة (١٤٨ ه‍) (٣) فهنا نقف على طرف من أخباره.

سليمان الأعمش والكوفي :

أبوه مِهران كان من سبي دماوند ، وذكروا أنّه كان ممن حضر معركة كربلاء مع مواليه بني أسد ، وولد ابنه سليمان يوم عاشوراء ، فعمره عند وفاته ٨٨ عاماً قرأ القرآن على يحيى بن وثّاب فكان لا يلحن ولا في حرف واحد فكان يقرئ القرآن ، رأساً فيه ، وروي عن شعبة قوله : إن الأعمش أحبّ إليّ من عاصم! يعني عاصم بن أبي النجود الكوفي الاصفهاني في القراءة! وختم عليه القرآن أبان بن تغلب النحوي ، وأبو عبيدة من أحفاد عبد الله بن مسعود ، وطلحة بن مصرف اليامي من فقهاء الكوفة. وكان هو عالماً بالفرائص : ولم يكن في زمانه من طبقته أكثر حديثاً منه ، بل كان محدّث أهل الكوفة في عصره حتّى يقال انه ظهر له أربعة آلاف حديث ، بلا كتاب! وكان يتشيع ، وقالوا : كان يسمّى المصحف ، لصدقه ، وجرير يقول فيه : الديباج الخسرواني! ثقة به (٤).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٧٢ ، ٧٤. وهذا يؤيد أن لقاءه بالإمام عليه‌السلام بالمدينة كان قبل الحج كما مر.

(٢) قاموس الرجال ٥ : ٢٩٩ برقم ٣٤١٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٨ ، والمعارف لابن قتيبة : ٤٩٠.

(٤) عن تاريخ بغداد ٩ : ٣ ـ ١٣.


ولعل تشيّعه من خلال بعض حديثه بلغ هشام بن عبد الملك فكتب إليه أن : اكتب إليّ بمناقب عثمان ومساوئ علي! فلمّا ناوله رسوله كتابه وقرأه قام إلى شاة له وقرّب الكتاب إلى فمها فلاكته فقال للرسول : هذا جوابه! فقال الرسول : إنّه هدّدني إن لم أرجع إليه بالجواب يقتلني! وتوسّل إليه باخوته يقولون له : إفده من القتل! فلمّا ألحّوا عليه كتب إليه : أما بعد فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتك! ولو كان لعليّ مساوئ أهل الأرض ما ضرّتك! فعليك بخويصة نفسك! والسلام (١).

ومن تلك الأحاديث حديث «علي قسيم الجنة والنار» والذي كان أبو حنيفة يستبعده ، ولذا لما دخل على الأعمش في علته التي قُبض فيها بل في يومه ، مع ابن أبي ليلى قاضي الكوفة ، وعنده القاضي شريك بن عبد الله ـ وهو راوي الخبر ـ سألوه عن حاله ، فذكر ضعفاً شديداً ، وذكر ما يتخوّف من خطيئاته ، وأدركته رقة فبكى ، فأقبل عليه أبو حنيفة وقال له : يا أبا محمّد ؛ اتقِ الله وانظر لنفسك! فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة! وقد كنت تحدّث بأحاديث في عليّ بن أبي طالب لو رجعت عنها كان خيراً لك!

فقال الأعمش : مثل ماذا يا نعمان؟! قال : مثل حديث عباية الأسدي : «أنا قسيم النار»!

فقال الأعمش : أوَ لمثلي تقول ذا يا يهودي! ثمّ قال : أقعدوني وسنّدوني! فأقعدوه وسنّدوه فقال :

كان الحجاج يشتم علياً شتماً مقذعاً ، وفي إمرته حدّثني أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخُدري قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان يوم القيامة يأمر الله عزوجل فأقعد أنا وعلي

__________________

(١) حياة الحيوان للدميري الشافعي ١ : ٥٨٥.


على الصراط ويقال لنا : أدخلا الجنة من آمن بي وأحبكما! وأدخلا النار من كفر بي وأبغضكما.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما آمن بالله من لم يؤمن بي ، ولم يؤمن بي من لم يتولّ علياً! وتلا : (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (١)).

وقال : والذي إليه مصيري حدّثني موسى بن طريف الأسدي خيرهم قال : سمعت إمام الحيّ عباية بن ربعي الأسدي قال : سمعت أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام يقول : أنا قسيم النار! أقول : هذا وليي فدعيه ، وهذا عدوي فخذيه.

قال شريك القاضي : فجعل أبو حنيفة إزاره على رأسه وقال لمن معه : قوموا بنا لا يجيئنا أبو محمّد بأطمّ من هذا! وخرجوا. فما أمسى الأعمش حتّى فارق الدنيا (٢) سنة (١٤٨ ه‍) وفيها بعده توفي محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي الحاضر هنا ، فإلى بعض أخباره :

وقضى القاضي ابن أبي ليلى :

مرّ في الخبر السابق : أنّ محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى كان حاضراً الأعمش في احتضاره مع أبي حنيفة ، ولا نراه يجاري أبا حنيفة في إنكاره على الأعمش تشيّعه في بعض حديثه ، بل :

روى الصدوق بسنده عنه عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا يؤمن عبد حتّى يكون ذاتي أحبّ إليه من ذاته ، وأهلي أحبّ إليه من أهله ،

__________________

(١) سورة ق : ٢٤.

(٢) أمالي الطوسي : ٦٢٨ ـ ٦٢٩ ، الحديث ٧ ، المسألة ٣٠ وفيه حضور القاضي عبد الله بن شُبرمة ، وقد مرّ موته قبل.


وعترتي أحبّ إليه من عترتي» فأُعجب به رجل فقال له : يا أبا عبد الرحمن ، ما تزال تجيء بحديث يحيي الله به القلوب (١).

وأسند الإصفهاني عن أبيه عبد الرحمن أنّه كان يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : في علي بن أبي طالب ثلاث خصال ، ثمّ يروي : «لُاعطين الراية غداً رجلاً ...» وحديث الطير والغدير (٢).

ولروايته حديث الغدير روى المفيد أنّه قام إلى علي عليه‌السلام ـ ولعلّه بعد النهروان ـ فقال : يا أمير المؤمنين ، إني سائلك لآخذ عنك! فإنا قد أكثرنا الأقاويل فيك ، وأوثقهُ عندنا ما سمعناه من فيك! وقد انتظرنا أن تقول في أمرك هذا شيئاً فلم تقله : ألا تحدثنا عن أمرك هذا أكان بعهد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو شيء رأيته؟! إنا كنا نقول : لو رجعت إليكم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينازعكم فيها أحد! والله ما أدري إذا سئلت ما أقول؟ أزعم أن القوم كانوا أولى بما كانوا فيه منك! فعلامَ نصبك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد حجة الوداع فقال : «أيها الناس! من كنت مولاه فعلي مولاه»؟! وإن تك أولى منهم فعلام نتولّاهم؟!

فقال عليه‌السلام : إن الله تعالى قبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا يوم قبضه أولى الناس منّي بقميصي هذا! ولقد كان من نبيّ الله إليّ عهد : لو خزموني بأنفي لأقررت ، سمعاً وطاعة لله! وإن أوّل ما انتقصناه بعده : إبطال حقّنا في «الخمس» فلمّا رق أمرنا طمعت رعيان البهم من قريش فينا. وقد كان لي على الناس حقّ لو ردّوه إليّ عفواً قبلته وقمت به وكان إلى أجل معلوم .. وإنّما يُعرف الهدى بقلة من يأخذه من الناس! فإذا سكتّ فاعفوني ، فكفّوا عنّي ما كففت عنكم! فقال عبد الرحمن : يا أمير المؤمنين ، فأنت لعمرك كما قال الأول :

__________________

(١) أمالي الصدوق : ٤١٤ ، الحديث ٥٤٢ المسألة ٥٤.

(٢) عن حلية الأولياء ٤ : ٣٥٦.


لعمرك قد أيقظت من كان نائماً

وأسمعت من كانت له اذنان (١)

وقد كان عبد الرحمن مع عمار بن ياسر والحسن عليه‌السلام لما أرسلهما علي عليه‌السلام إلى الكوفة قبل الجمل من ذي قار إلى القادسية ، ففيها سمع عماراً يقول :

ما تركت في نفسي حسرة أهم إليّ من أن لا نكون نبشنا عثمان من قبره ثمّ أحرقناه بالنار (٢)!

ولعلّه لروايته نحو هذا قال عبد الله بن حكيم للحجّاج : إن أردتم أن تنظروا إلى رجل سبّ أمير المؤمنين عثمان فهذا! وأشار إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى (٣)!

ولذا ، روى الأعمش قال : رأيت جلاوزة الحجّاج ضربوا عبد الرحمن بن أبي ليلى على كتفيه حتّى اسودّتا ثمّ أقاموه للناس على سبّ علي والمختار وابن الزبير ، والجلاوزة معه يقولون له : سبّ الكذّابين! فجعل يقول : ألعن الكذّابين ، عليّ والمختار وابن الزبير. فقوله : «علي» هو ابتداء الكلام ، ولذا قال أصحاب العربية : افتح سمعك تعلم ما يقول (٤)!

وأنعم أبو نعيم الاصفهاني فرواه عنه قال : رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى محلوقاً على المصطبة وهم يقولون له : العن الكذّابين! وكان رجلاً ضخماً به ربو فقال : اللهم العن الكذّابين ، آه! وتنفّس وقال : عليّ والمختار وابن الزبير (٥).

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، الحديث ٢ ، المسألة ٢٦.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ١٤ : ١١.

(٣) عن العقد الفريد ٥ : ٣٢.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ١٠١ ، الحديث ١٦٠.

(٥) عن حلية الأولياء ٤ : ٣٥١.


ولعلّه بعد هذا كان يتّقيه فإذا أراد الحديث عنه قال : حدّثنا رجل من قريش (١) أو من أصحاب رسول الله أو من البدريين ، وكان أصحابه يعرفونه فلا يسألونه عنه (٢).

ولعلّه لذلك اشترك في خروج عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث الكندي على الحجّاج وبني امية ، وكان يحثّ الناس ليلة الجماجم ثمّ فقد تلك الليلة (٣) وقيل قتل أو غرق تلك الليلة في نهر دُجيل (٤).

ولم أعثر على تاريخ تولية الأمويين لابنه محمّد على قضاء الكوفة ، وكيف رضي به بنو العباس كذلك (٥) وقد مرّ خبر مصاحبته للمنصور في الحج في خبر ذبح بعض موالي المنصور لآخر منهم بعد موته (٦).

ومن أخباره مع الصادق عليه‌السلام أنّه قال له : يابن عبد الرحمن ، أتقضي بين الناس (٧)؟ قال : نعم يابن رسول الله. قال : فبأي شيء تقضي؟ قال : بكتاب الله وإلّا فمن سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما لم أجده فيهما آخذ بما اجتمع عليه الصحابة ، وإذا اختلفوا آخذ بقول من أردت واخالف الباقين. قال : فهل تخالف علياً فيما بلغك أنّه قضى به؟ قال : ربما خالفته إلى غيره منهم!

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٣٩١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٢٥.

(٣) تاريخ خليفة : ١٨١ سنة (٨٢ ه‍).

(٤) النجوم الزاهرة ١ : ٢٦٥ وأبوه بلال أو يسار أسلم وشهد أحداً فما بعدها.

(٥) المعارف : ٤٩٤.

(٦) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٨٥.

(٧) في النص : يا عبد الرحمن ، وقد قتل سنة (٨٢ ه‍) فالصحيح ما أثبتناه.


قال أبو عبد الله : فما تقول يوم القيامة إذا قال رسول الله فيك : يا ربّ إن هذا بلغه عني قول فخالفه؟!

قال : وأين خالفت قوله يابن رسول الله؟! قال : بلغك أن رسول الله قال : «أقضاكم علي»؟! قال : نعم. قال : فإذا خالفت قوله ألم تخالف قول رسول الله؟! فسكت واصفرّ لونه (١).

ولذا لما قال له نوح بن دُرّاج : أكنت تاركاً قولاً قلته أو قضاءً قضيته لقول أحد؟ قال : لا. إلا لقول رجل واحد؟ قال : مَن هو؟ قال : جعفر بن محمّد عليه‌السلام (٢).

ومن ذلك أنّه كان قد ردّ شهادة محمّد بن مسلم الثقفي الكوفي الطحّان لأمرّما ، وكأنّ أبا كهمس الكوفي هو الذي أبلغ ذلك إلى الصادق عليه‌السلام ، فقال له الإمام عليه‌السلام : إذا صرت إلى الكوفة فأت ـ محمّد ـ بن أبي ليلى وقل له : أسألك عن ثلاث مسائل لا تفتني فيها بالقياس ولا تقل قال أصحابنا ، فإذا لم يكن عنده فيها شيء فقل له : يقول لك جعفر بن محمّد : ما حملك أن رددت شهادة رجل هو أعلم منك بأحكام الله وأعرف منك بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! قال : ومن هو؟ قال : محمّد بن مسلم.

قال أبو كهمس : ففعلت كما أمرني الصادق عليه‌السلام ، فلمّا عجز قلت له قوله فقال : ومن هو؟ قلت : محمّد بن مسلم! فأرسل إليه وأجاز (أنفذ) شهادته (٣).

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ٤١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٧٠.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٩٠.


ولعلّه لهذا لما قدم إليه رجل خصماً له وقال : إن هذا باعني هذه الجارية ، فحين كشفت عن رَكبها لم أجد عليه شعراً وقالت : لم يكن لها ذلك قط. فقال له محمّد بن أبي ليلى : إن الناس يحتالون لهذا بالحيل ليذهبوا به فما كرهت منه؟! فقال له الرجل : أيها القاضي : إن كان عيباً فاقضِ لي به. قال : فإني أجد أذى في بطني فاصبر حتّى أخرج إليك ؛ ثمّ دخل وخرج من باب آخر إلى محمّد بن مسلم الثقفي فقال له : أي شيء تروون عن أبي جعفر عليه‌السلام في المرأة لا يكون على ركبها شعر أيكون ذلك عيباً؟!

قال الثقفي : أما هذا نصاً فلا أعرفه ، ولكن حدثني أبو جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : كلّ ما كان في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب! فقال ابن أبي ليلى : حسبك! ثمّ رجع إلى القوم فقضى لهم بالعيب (١).

ولأ نّه استمرّ قاضياً مع بداية العباسيّين فقد روي عنه عن داود بن علي بن عبد الله بن العباس عن أبيه عن جده قال : ما أنزل الله تعالى آية في القرآن فيها : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلّاوعلي أفضلهم (٢).

وعن أبيه عن جدّه بلال أو يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن سُبّاق الامم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : مؤمن آل فرعون وصاحب يس وعلي بن أبي طالب ، فهم الصديقون وعلي أفضلهم (٣) وفي آخر : الصديقون ثلاثة : مؤمن آل فرعون وحبيب النجار وعلي بن أبي طالب ، وعلي أفضلهم (٤) وتوفي محمّد بن عبد الرحمن سنة (١٤٨ ه‍).

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢١٥ ، الحديث ١٢ ، والتهذيب ٧ : ٦٥ ، الحديث ٢٨٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ : ٦٥.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١١.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٣ : ١٠٨.


وصايا الصادق ووفاته عليه‌السلام :

وفي عام (١٤٨ ه‍) مضى الإمام الصادق عليه‌السلام وهو في ٦٥ سنة (١).

قال اليعقوبي : وكان أهل العلم الذين سمعوا منه إذا رووا عنه قالوا : أخبرنا العالم (بل) كان أعلمهم بدين الله وأفضل الناس (٢).

وقال المسعودي : توفي أبو عبد الله جعفر بن محمّد .. سنة (١٤٨ ه‍) ودفن بالبقيع مع أبيه وجدّه ، وله ٦٥ سنة. وقيل إنّه سُمّ (٣) ونسبه الحلبي إلى الصدوق قال : سمّه المنصور (٤) وكان ربع القامة أزهر الوجه ، جعد الشعر حانكه أنزع أشمّ الأنف ، رقيق البشرة ، على خدّه خال أسود (٥).

وفي سمّ الإمام عليه‌السلام بعد قول الصدوق ، أرسل ابن طاووس في الصلوات في كل يوم من شهر رمضان : اللهم صلّ على جعفر بن محمّد .. وضاعفِ العذاب على من شرك في دمه (٦) ورسم الكفعمي لهم جدولاً فكتب فيه : مسموماً بالعنب (٧).

__________________

(١) تاريخ أهل البيت : ٨١ ، وأُصول الكافي ١ : ٤٢٧ في شهر شوال ، وفي ٤٧٥ عن أبي بصير. وتاريخ خليفة : ٢٧٨ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٧ ، وقال : وله كلام في صنعة الكيمياء وسمي الصادق لصدقه. وفي منتهى الآمال ٢ : ٢٠٣ عن جنات الخلود : توفي في ٢٥ من شوال.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨١ ثمّ كرّس صفحتين من أقواله وكلماته.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٢٨٥ وفيه : محمّد بن جعفر لعشر سنين خلت من خلافة المنصور ، وهما وهمان.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٠٢.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٠٣.

(٦) الإقبال ١ : ٢١٤.

(٧) المصباح للكفعمي : ٥٢٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢.


وأرسل نجل الطبرسي : أنّه عليه‌السلام في مرضه الذي توفي فيه ذبل حتّى كأ نّه لم يبقَ منه إلّارأسه ، فدخل عليه بعض أصحابه (؟) فلمّا رآه كذلك بكى ، فسأله الصادق عليه‌السلام : لأيّ شيء بكى؟ قال : كيف لا أبكي وأراك على هذه الحال؟ قال : إن المؤمن إن قطّعت أعضاؤه كان خيراً له ، وإن ملك ما بين الشرق والغرب كان خيراً له (١).

وكان له يومئذ من الولد : ام فروة ، وخمسة بنين : عبد الله وموسى ومحمّد وعلي وإسحاق (٢) وزاد المفيد أسماء : أسماء وفاطمة والعباس (٣) وزاد الواقدي : يحيى وفاطمة الصغرى (٤) وكان له من الموالي : مسلم ومصادف ومعتّب (٥) بن قشير. ولعلّهم كانوا على التوالي ليس جمعاً.

وكان من أحفاد السجاد عليه‌السلام : الحسن الأفطس بن علي بن علي بن الحسين عليه‌السلام. وكان يعادي الصادق عليه‌السلام حتّى أنّه حمل عليه مرّة بشفرة يريد قتله بها! ومع ذلك روى الطوسي بسنده عن مولاة له عليه‌السلام تسمّى سالمة : أنّه لما حضرته الوفاة اغمي عليه مرّة ثمّ أفاق فأوصى لجمع بمبالغ منهم الحسن الأفطس ، فقالت له سالمة : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد قتلك؟! فقال لها : أتريدين أن لا أكون من الذين قال الله فيهم (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٦)).

__________________

(١) مشكاة الأنوار : ٣٥.

(٢) تاريخ أهل البيت : ١٠٥.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢٠٩.

(٤) تذكرة الخواص ٢ : ٤٥٧.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٠٣ ، وفي تذكرة الخواص ٢ : ٤٥٨ : أن المنصور ضرب المعتّب ألف سوط فمات!

(٦) الرعد : ٢١.


يا سالمة! إن الله تعالى خَلق الجنة فطيّبها وطيّب ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة ألف عام! ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم (١)!

ولعلّه مرّة اخرى فتح عينيه وقال لهم : اجمعوا ليّ كلّ من بيني وبينه قرابة! فجمعوهم فنظر إليهم ثمّ قال لهم : إن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة (٢).

ومنذ مولد ابنه موسى كان يوصي به أصحابه بالإمامة في أخبار كثيرة ، آخرها ما في مرضه الذي توفي فيه إذ دخل عليه يزيد بن أسباط ، وكان عنده موسى عليه‌السلام فأشار إليه وقال : يا يزيد ، أترى هذا الصبيّ ـ أي الولد ـ؟ أخبرك أن يوسف إنّما كان ذنبه عند إخوته الحسد له حتّى طرحوه في الجبّ ، حين أخبرهم أنّه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر وهم له ساجدون! وكذا لابدّ لهذا الغلام من أن يُحسد!

ثمّ دعا عبد الله وإسحاق ومحمّداً والعباس وأشار إلى موسى وقال لهم : هذا وصيّ الأوصياء ، وعالم علم العلماء ، وشهيد على الأموات والأحياء! ثمّ تلا قوله سبحانه : (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (٣)).

إلّا أنّه عليه‌السلام عند موته كأ نّه سجّل وصيّة سمى أوصياءه فيها : المنصور وواليه على المدينة جعفر بن سليمان ، وابنيه عبدالله وموسى ، وامّه حميدة. وفي خبر آخر : المنصور وأبناءه : عبد الله وموسى ومحمّد ومولى له (٤) وسيأتي ما يفسّره. وتعييناً

__________________

(١) الغيبة للطوسي : ١٩٦ ، الحديث ١٦١.

(٢) المحاسن للبرقي (م ٢٨٠ ه‍) ١ : ١٥٩ ، الحديث ٢٢٥ وفيه قبله مثله عنه عليه‌السلام عن جدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرض موته بعد إفاقته عيناً! وقبله مثله مختصراً عن الباقر عليه‌السلام. والصدوق في عقاب الأعمال والأمالي.

(٣) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٤٦ ، والآية من الزخرف : ١٩.

(٤) أُصول الكافي ١ : ٣١٠ ، وبعد القبض على عبد الله المحض وكبار أبنائه ، تكفّل الصادق عليه‌السلام من صغارهم : يحيى بن عبد الله المحض وربّاه ، فكان يحيى إذا حدّث عنه يقول :


للوصي الحق منهم قال لابنه موسى : يا بني إن أخاك [عبدالله] سيجلس مجلسي ، ويدعي الإمامة بعدي وإنه أول أهلي لحاقاً بي [بالموت] فلا تنازعه بكلمة (١).

وعملياً تصدّى الكاظم عليه‌السلام لتجهيز أبيه بلا مخاصم ، وكان الصادق عليه‌السلام يُحرم للحجّ في ثوبين من نسيج قرية بمصر تسمى شطاً ونسبتها شَطوية ، وكان أوصى أن يكفّن فيها وفي قميص من قمصانه ، وفي بُرد اشتراه بأربعين ديناراً ، وفي عِمامة ورثها من جدّه السجاد عليه‌السلام ، فعمل الكاظم عليه‌السلام بكلّ ذلك (٢).

هذا ، وقد روى الطوسي في كتابيه بسند صحيح عن معاوية بن عمار قال : أمرني أبو عبد الله أن أعصر بطنه ثمّ أوضّيه بالأُشنان ، ثمّ أغسل رأسه ولحيته بالسدر ثمّ أُفيض منه على جسده وأُدلكه به ثلاثاً ، ثمّ أغسله بالماء القراح ، ثمّ

__________________

حدّثني حبيبي جعفر بن محمد ، كما في مقاتل الطالبيين : ٣٠٩ ، وقبله أسند عنه قال : أوصى جعفر بن محمد إلى ابنه موسى وأُمي وإليّ فأينا كان الوصي؟ بل زاد قبله قال : فكان يلي أمر تركاته والأصاغر من ولده ناظراً على أيديهم! لكنه انفرد بهذا غيرمؤيد بغيره. وذكر في الخبر الأول : محمّد بن سليمان ، والمقصود به والي المنصور على المدينة يومها ، وهو بلا خلاف : جعفر بن سليمان العباسي ، وأخوه محمّد إنّما كان على البصرة ولا علاقة له ، فهو سهو أو وهم.

كما ذكر في خبر آخر فيه : ٤٧٣ : مرسلاً عن المفضّل بن عمر : أن المنصور وجّه إلى واليه على الحرمين : الحسن بن زيد : أن أحرق على جعفر بن محمّد داره! فألقى النار في داره بالباب والدهليز فخرج يتخطى النار ويقول : أنا ابن أعراق الثرى أنا ابن إبراهيم خليل الله! هكذا مبتوراً! ولا نجد فيما بأيدينا في كل ولاته على الحرمين أو أحدهما اسم الحسن بن زيد! والخبر مرسل لا مؤيد له غير موافق للتاريخ. إلّاقاضياً بالمدينة بعد الصادق عليه‌السلام في رمضان عام (١٤٩ ه‍) كما في تاريخ خليفة : ٢٨٦. ولا يشفع للخبر أنّه في أُصول الكافي فهو مرسل.

(١) فرق الشيعة : ٧٧ ، والمقالات والفرق : ٨٨ ، واختيار معرفة الرجال : ٢٥٥ ، الحديث ٤٧٢.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٧٥ ـ ٤٧٦ ، الحديث ٨.


بالكافور ثمّ بالقراح وفيه سبع وُريقات سدر (١) وعليه فلا تصحّ أخبار «الإمام لايغسله إلّاالإمام» إلّابمعنى سواء باشر بنفسه أو أمر من يفعل أو برضاه إن غاب.

ثمّ حُمل على عواتق الرجال وكواهلهم يشيّعونه إلى البقيع وحُفر له بجنب أبيه وجدّه ، فلمّا حثّوا التراب على ضريحه اندفع شاعره أبو هريرة الأبّار العجلي البصري برثائه قال :

أقول وقد راحوا به يحملونه

على كاهل من حامليه وعاتق

أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى

ثبيراً ثوى من فوق علياء شاهق

غداة حثا الحاثون فوق ضريحه

تراباً ، وأولى كان فوق المَفارق

أيا صادق ابن الصادقين ؛ أليّةً

بآبائك الأطهار ، حلفة صادق

لحقّاً بكم ذوالعرش أقسم في الورى

فقال ، تعالى الله : «ربّ المشارق»

نجوم هي «اثنا عشرة» كنّ سُبّقاً

إلى الله في علم من الله سابق (٢)

ومنذ سنة (١٤٦ ه‍) ولّى المنصور على المدينة جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس ، وعزله سنة (١٤٩ ه‍) (٣) فكتب إليه بوفاة الصادق عليه‌السلام.

وكان من كتّاب المنصور أبو أيوب الخَوزي (٤) المورياني (٥) ، فروى الكليني بسنده عنه قال : في جوف الليل بعث عليَّ المنصور فأتيته فإذا هو على كرسيّ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٠٣ ، الحديث ٨٨٢ ، والاستبصار ١ : ٢٠٧ ، الحديث ٧٢٩.

(٢) مقتضب الأثر للجوهري ق ٤ : ٥٢.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٣.

(٤) لعله هو إبراهيم بن يزيد الخوزي كما في تاريخ خليفة : ٢٧٩. وفي اليعقوبي ٢ : ٣٨٩ : كان المنصور على عهد بني أُمية عاملاً لسليمان بن حبيب المهلّبي الأزدي ، فعتب على المنصور فأمر بضربه وحبسه! فتخلصه كاتب سليمان : أبو أيوب ، فحفظ المنصور له ذلك فلما استخلف استوزره! وفي سنة (١٥٤ ه‍) سخط عليه فاستصفى أمواله وقتله!

(٥) كما في تاريخ خليفة : ٢٨٧.


وفي يده كتاب وبين يديه شمعة ، فلمّا سلّمت عليه رمى إليّ بالكتاب وقال لي : هذا كتاب (جعفر) بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمّد قد مات ، ثمّ استرجع ثلاث مرات ثمّ قال : وأين مثل جعفر؟!

ثمّ قال لي : اكتب إليه إن كان أوصى إلى رجل فقدِّمه واضرِب عنقه! فكتبت الكتاب وارسل.

قال : فرجع إليه الجواب : إنّه قد أوصى إلى خمسة : أبي جعفر المنصور و (جعفر) بن سليمان ، وعبد الله وموسى وحميدة. وفي آخر : ذكر أنّه أوصى إلى أبي جعفر المنصور وعبد الله وموسى ومحمّد بني جعفر ومولاة له. فقال المنصور : ليس إلى قتل هؤلاء سبيل (١)! هذا في بغداد.

وفي النجف الأشرف كان جماعة من متفقّهة الشيعة يستمعون إلى أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار ، إذ أقبل إليهم أعرابي ـ وكأنّه عرفهم من شيعة جعفر ـ فقال لهم : أنا جئت من المدينة وقد مات جعفر بن محمّد ، فشهق أبو حمزة وضرب بيديه وسأل الأعرابي : فهل سمعت بوصية له إلى من؟ قال : نعم ، أوصى إلى المنصور وإلى ابنيه عبد الله وموسى!

فقام إلى جوار مرقد علي عليه‌السلام فصلّى ، ثمّ فسّر لهم : أنّه لما أدخل الصغير مع الكبير دلّ على أن الكبير ذو عاهة وإلّا لكان يكتفي به ، وأما المنصور فإنما هو لستر الأمر عليه (٢) وقد أجاد الاجتهاد!

وكان أربعة إخوة من صلحاء موالي بني أسد هم من صلحاء موالي الصادق عليه‌السلام : شهاب ووهب وعبد الرحمن وعبد الخالق أبناء عبد ربّه (٣) كلهم خيار

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣١٠ ـ ٣١١. وفيه : أبو أيوب النحوي ، تصحيف.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ٣٢٨ ، الحديث ٢٢.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤١٣ ، الحديث ٧٧٨.


فاضلون كوفيون فقال الصادق يوماً لشهاب : يا شهاب ، كيف أنت إذا نعاني إليك محمّد بن سليمان! قال : فمكثت ماشاء الله ثمّ كنت يوماً بالبصرة إذ لقيني محمّد بن سليمان (العباسي والي البصرة ، وكأنّه كان يعرفه بالتشيّع لجعفر) فقال لي : يا شهاب! عظّم الله أجرك في أبي عبد الله! وفي خبر آخر : كنت عنده فألقى إليّ كتاباً وقال : أعظم الله أجرك في جعفر بن محمّد! قال : فذكرت الكلام فخنقتني العبرة (١) ونقله الحلبي وزاد عنه : وما كنت يوم قالها لي أعرف محمّد بن سليمان (٢).

ولما دخل على المنصور : إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس قال له : أما علمت ما نزل بأهلك؟! قال : وما ذاك يا أمير المؤمنين! قال : توفي سيدهم وعالمهم وبقية الأخيار منهم! قال : ومن هو؟ قال : هو جعفر بن محمّد! فقال له : أعظم الله أجر أمير المؤمنين وأطال لنا بقاءه!

فقال : إنّ جعفر كان ممّن قال الله فيهم : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (٣)) فهو ممّن اصطفى الله ، ومن السابقين بالخيرات (٤)! صدق الله العلي العظيم ، ولكن كذب المنصور الأثيم! إذ هو بهذا كان يعني التعتيم على قتله للإمام العظيم ، ثمّ أمره بقتل وصيّه من بعده لو تعيّن.

بعض أوصافه ولباس الصوف :

روى الكليني بسنده عن هشام بن سالم الجواليقي قال : كان أبو عبد الله عليه‌السلام إذا ذهب شطر من الليل أخذ جراباً أعدّ فيه خبزاً ولحماً وحمله على عاتقه

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤١٤ ، الحديث ٧٨١ ـ ٧٨٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٤٢٣.

(٣) فاطر : ٣٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٣.


ومعه صُرر الدراهم ، وذهب بها إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فيقسمه فيهم وهم لا يعرفونه ، فلمّا مضى عليه‌السلام وفقدوا ذلك علموا أنّها كانت منه عليه‌السلام (١).

وأرسل الورّام عن الفضل بن قرة أنّ الصادق عليه‌السلام كان يصرّ صُرر الدنانير ويقول للرسول : اذهب بها إلى فلان وفلان من أهل بيته وولد أبيه! وقل لهم : بُعثت هذه لكم من العراق! فعاد وقد قال لهم ذلك فقالوا : أما أنت فجزاك الله خيراً بصلتك قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأما جعفر! فحكم الله بيننا وبينه! فيخرّ أبو عبد الله ساجداً ويقول : اللهم أذلّ رقبتي لولد أبي (٢)!

ورسوله بها أبو جعفر الخثعمي قال : أعطاني أبو عبد الله صُرّة فيها خمسون ديناراً وقال لي : ادفعها إلى (فلان : رجل من بني هاشم) ولا تعلمه بي. فأتيته فجزّى معطيها خيراً وقال : ما يزال كل حين يبعث بها فيكون ممّا نعيش به إلى قابل! ولكن جعفر! في كثرة ماله لا يصلني بدرهم (٣)!

وهذان الخبران مشمولان للخبر الأول في أنّه لما مضى وفقدوه عرفوه أنّه الصادق عليه‌السلام.

بل روى الكليني بسنده عن الكاظم عليه‌السلام قال : كان أبي يبعث امّي و (امّه) ام فروة تقضيان حقوق أهل المدينة (٤) مما يدل على أنّه عليه‌السلام لم يكن يكتفي في ذلك بنفسه والرجال بل يرسل النساء للنساء أيضاً.

ومن وصفه في نفسه : أنّه كان يحفي شاربه (٥) ويختضب خضاباً

__________________

(١) الكافي ٤ : ٨ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٨.

(٢) تنبيه الخواطر ٢ : ٢٦٦.

(٣) أمالي الطوسي : ٦٧٧ ، المسألة ٣٧ الحديث ١٢.

(٤) الكافي ٣ : ٢١٧ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٩.

(٥) الكافي ٦ : ٤٨٧ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٧.


قانياً (١) ويلبس قلنسوة بيضاء (٢) وكان يقول عن أبيه وجدّه أنّهم كانوا إذا قاموا للصلاة يلبسون أغلظ ثيابهم ، ويقول : ونحن نفعل ذلك. وكان عليه في الشتاء جبة صوف بين قميصين غليظين خشنين (٣).

وكأنّ بعضهم لم يفهم خصوص الصلاة فقال له : أصلحك الله ، ذكرتَ أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يلبس الخشن من القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك ، ونرى عليك اللباس الجديد! فقال له : إنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يلبس ذلك في زمان لا يُنكر ، ولو لبس مثل ذلك اليوم شُهّر به! فخير لباس كل زمان لباس أهله (٤)!

وأشدّ منه ما شكاه هو عليه‌السلام قال : بينا أنا في الطواف فإذا رجل يجذب ثوبي ، وإذا هو عبّاد بن كثير البصري فقال لي : يا جعفر! تلبس مثل هذه الثياب وأنت في هذا الموضع ، مع المكان الذي أنت فيه من علي؟!

فقلت : ثوب فرُقُبيّ اشتريته بدينار! وكان علي عليه‌السلام في زمان يستقيم له ما لبس فيه. ولو لبست مثل لباسك هذا في زماننا لقال الناس : هذا مُراءٍ مثل عبّاد (٥)!

ومثله سفيان بن سعيد الكوفي المعروف بالثوري ، إذ مرّ في المسجد الحرام فرأى الصادق عليه‌السلام وعليه ثياب حسان كثيرة القيمة ، فقال : والله لآتينّه ولأوبخنّه! فدنا منه وقال له : يابن رسول الله! والله ما لبس رسول الله مثل هذا اللباس ، ولا عليّ ، ولا أحد من آبائك! وكان على سفيان ثوب غليظ خشن (ولعلّه كان شتاءً).

__________________

(١) الكافي ٦ : ٤٨١ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٦.

(٢) الكافي ٦ : ٤٦٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٥.

(٣) الكافي ٦ : ٤٥٠ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٤٢.

(٤) الكافي ٦ : ٤٤٤ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٥٤.

(٥) الكافي ٦ : ٤٤٣ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٣٦١.


فقال عليه‌السلام : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمن قتر مُقتر ، وكان يأخذ (ذلك) لقتره وإقتاره. وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عَزاليها (فم القربة) فأحق أهلها بها أبرارها ، ثمّ تلا قوله سبحانه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ (١)) فنحن أحقّ من أخذ منها ما أعطاه الله.

ثمّ اجتذب بيد سفيان فجرّها إليه وقال : غير أني يا ثوري ما ترى عليَّ من ثوب إنّما لبسته للنّاس ، ثمّ أخرج الثوب الذي على جلده غليظاً وقال : وهذا لبسته لنفسي! ثمّ أزاح الثوب الغليظ الخشن على سفيان وأرى تحته ثوباً ليّناً وقال : وأنت لبست هذا الأعلى للناس وهذا لنفسك تُسرها (٢)!

ورووا الخبر عنه قال : دخلت على جعفر بن محمّد وعليه جُبّة خزّ سوداء وكساء خز ، فجعلت أنظر إليه تعجباً! فقال لي : يا ثوري مالك تنظر إلينا؟ لعلّك تعجب مما ترى؟! فقلت له : يابن رسول الله ، ليس هذا من لباسك ولا لباس آبائك!

فقال : يا ثوري ، كان ذلك زمان إقتار وافتقار ، فكانوا يعملون على قدر اقتاره وافتقاره ، وهذا زمان قد أسبل كل شيء عزاليه (فم القربة) ثمّ حسر ردان جبّته فإذا تحتها جبّة صوف بيضاء يقصر الردان عن الردان وقال : يا ثوري لبسنا هذا لله تعالى وهذا لكم ، فما كان لله أخفيناه ، وما كان لكم أبديناه (٣) ثمّ لم يتكلم عن كشف الإمام عن لباس الثوري «صوفيّاً» مُرائياً!

وقد نقل العامة والخاصة أن أول من قيل له «الصوفي» هو أبو هاشم

__________________

(١) الأعراف : ٣٢.

(٢) الكافي ٦ : ٤٤٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٣٦٠.

(٣) مطالب السؤول ٢ : ٥٦ ، وعنه في كشف الغمة ٣ : ١٥٥.


الكوفي الذي لبس الصوف كالرهبان وتقلّد قولهم بالاتحاد والحلول (١) وذلك في أواخر القرن الهجري الأول. وبدأ سفيان الثوري طلب الحديث بالكوفة فكان يتشيع ، ولكنّه خرج لطلب الحديث إلى البصرة فالتقى بأيوب وابن عون فترك التشيع (٢) ولزم التصوّف ، وعرّفه ابن حجر بالعابد وقال : وربّما دلّس (٣) ثمّ أوصى أن تدفن كتبه لأنّه ندم على أشياء كتبها عن قوم وقال : حملني عليه طلب شهرة الحديث (٤) ومنه حديث طويل يشتمل على حديث كذب عن الباقر وأربعة أحاديث كذب عن الصادق عليهما‌السلام «حدّث بها عن الثوري رواته من البصرة ، في قدح علي عليه‌السلام ومدح من تقدّمه من الخلفاء! ختمها الصادق عليه‌السلام بقوله لهم : من كذب علينا «أهل البيت» حشره الله يوم القيامة يهودياً أعمى!» (٥) مما يكشف عن تاريخ انتشار مثل هذه الأخبار عنهم عليهم‌السلام.

وكأنّ جمعاً من «الصوفيّة» ممّن يظهرون التزهّد ويدعون الناس أن يكونوا على مثل الذي هم عليه من التقشّف ، تكشّف لهم حصر صاحبهم الثوري أمام الإمام عليه‌السلام ، فأتوه وقالوا له :

إن صاحبنا (الثوري) حُصر عن كلامك ولم تحضره حُججه! فقال لهم : فهاتوا حُججكم! فقالوا : إن حُججنا من كتاب الله! فقال لهم : فأدلوا بها فإنها أحق ما اتُّبع وعُمل به.

__________________

(١) حديقة الشيعة للأردبيلي : ٥٦٠.

(٢) ذيل المذيل للطبري : ٦٥٧.

(٣) تقريب التهذيب لابن حجر وعنه في سفينة البحار ٤ : ١٩٠.

(٤) حلية الأولياء ٧ : ٣٨.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٣٩٢ ـ ٣٩٧ ، الحديث ٧٤١.


فقالوا : يقول الله تبارك وتعالى مخبراً عن قوم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (١)) وقال : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٢)) فنحن نكتفي بهذا.

فحاجّهم الإمام عليه‌السلام من القرآن والسنّة بحديث ضاف في أربع صفحات ختمه بهذه الآية : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٣)).

__________________

(١) الحشر : ٩.

(٢) الإنسان : ٨.

(٣) الكافي ٥ : ٦٥ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٧ : ٢٣٣ ـ ٢٣٧ ، والآية من سورة يوسف : ٧٦.


عهد

الإمام الكاظم عليه‌السلام



إمامة الكاظم عليه‌السلام والأفطح :

نقل الصدوق عن الصادق عليه‌السلام في ابنه عبد الله الأفطح : إنّه ليس على شيء مما أنتم عليه! فأنا أبرأ منه! برئ الله منه (١)! ولذا لما دخل عليه يوماً وهو يحدث أصحابه سكت حتّى خرج فسُئل عن ذلك فقال : أو ما علمتم أنّه من المرجئة؟! بل قال فيه يوماً : هذا مرجئ كبير! وفسّر المفيد المرجئة هنا قال : الذين يقفون في عثمان وعلي عليه‌السلام (٢) وقال فيه في «الإرشاد» : كان يميل إلى مذاهب المرجئة ، وزاد : وكان يخالط الحشوية (٣).

__________________

(١) الاعتقادات للصدوق : ١١٣.

(٢) الفصول المختارة : ٣١٢ وفيه «يقعون في عليّ وعثمان» والصحيح ما أثبتناه. وفي فرق الشيعة : ٦ : المرجئة : القائلون بأن أهل القبلة كلّهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالإيمان.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢١٠ ، وفي فرق الشيعة : ١٥ : الحشوية : هم الذين يتولون علياً وطلحة والزبير ويخطّئون حربهم ويردون أمرهم إلى الله ، ويصوّبون قعود القاعدين عنهم.


وقد مرت أخبار انتصاره لمحمد بن عبد الله الحسني وخروجه معه ، ثمّ اختفائه حتّى علم عدم الطلب عليه فظهر. وبعد وفاة الصادق عليه‌السلام صار كما أخبر به يدّعي الإمامة ، فلم ينازعه الكاظم عليه‌السلام.

وروى الكليني بسنده عن هشام بن سالم الجواليقي : أن المنصور الدوانيقي كان قد عيّن له عيوناً جواسيس بالمدينة ينظرون من تتّفق عليه شيعة جعفر عليه‌السلام فيضربون عنقه! هذا وقد اجتمع الناس على عبد الله بن جعفر الأفطح على أنّه صاحب الأمر بعد أبيه ؛ لأنهم رووا عن أبيه الصادق عليه‌السلام : «أن الأمر في الكبير ما لم تكن به عاهة!».

قال هشام : فاتّفقت أنا وصاحب الطاق (محمّد بن علي الأحول الصرّاف الكوفي ، فلعلّهم التقوا في ذي القعدة لموسم الحج) فدخلنا على عبد الله الأفطح نسأله عما كنّا نسأل عنه أباه.

فسألناه عن الزكاة في كم تجب؟ فقال : في مئتين خمسة. فقلنا : ففي مئة؟ قال : درهمان ونصف (١)! فخرجنا من عنده ضُلّالاً وقعدنا باكين حيارى لا ندري إلى أين نتوجه ولا من نقصد ، ونقول : إلى الخوارج؟ إلى المرجئة؟ إلى الزيدية؟ إلى المعتزلة؟ إلى القدرية؟ (ولا نجد اسمهما فيمن روى نصّ الصادق على الكاظم عليهما‌السلام) فنحن كذلك إذ رأيت رجلاً شيخاً لا أعرفه يومي إليّ بيده ، فخفت أن يكون عيناً من عيون المنصور فقلت للأحول : هذا إنّما يريدني وإني خائف على نفسي وعليك فتنحّ عنّي لا تعين على نفسك فتهلك! فتنحّى عنّي. وقمت فتبعت الشيخ وقد عزمت على الموت ، وذلك أني ظننت أني لا أقدر على الخلاص منه.

فما زلت أتبعه حتّى ورد بي على باب دار وخلّاني ومضى ، فإذا خادم بالباب فقال لي : ادخل رحمك الله ؛ فدخلت فإذا أبو الحسن موسى عليه‌السلام فابتدأني

__________________

(١) بل المئتان أول نصاب ولا نصاب للزكاة قبلها ، وإنّما قال بها الأفطح قياساً خلافاً للإجماع.


قائلاً : لا إلى الخوارج ، ولا إلى المرجئة ولا إلى الزيدية ولا إلى المعتزلة ولا إلى القدرية ، إليّ إليّ.

فقلت له : جعلت فداك ، مضى أبوك فمن لنا بعده؟ وإن عبد الله (أخاك) يزعم أنّه هو من بعد أبيه؟ قال : إن عبد الله يريد أن لا يُعبد الله! فقلت : فمن لنا بعد أبيك؟ فأنت هو؟ أم عليك إمام؟ قال : لا! فداخلني من هيبته أكثر من ما كان يحلّ بي من أبيه! فقلت له : جعلت فداك ، أسألك عمّا كنت أسأل أباك؟ قال : سل تُخبر ولا تُذع فإن أذعت فهو الذبح! فقلت جعلت فداك ، إن شيعة أبيك ضُلّال ، فالقي إليهم وأدعوهم إليك؟ قال : من آنست منه رشداً فألقِ إليه وخذ عليه الكتمان ، فإن أذاعوا فهو الذبح! وأشار إلى حلقه! فخرجت من عنده.

فلقيت أبا جعفر الأحول فقال لي : ما وراءك؟ فحدثته بالقصّة ، ثمّ لقينا أبا بصير الكوفي والفضيل بن يسار البصري (فدللناهما عليه) فدخلا عليه وسألاه وسمعا كلامه فقطعا عليه بالإمامة. ثمّ لقينا أفواجاً من «الشيعة» فكل من دخل عليه قطع عليه بالإمامة.

وقلّ دخول الناس على عبد الله الأفطح فسأل عن ذلك فاخبر : أن هشاماً الجواليقي صدّهم عنك! فأقعد لي غير واحد في المدينة ليضربوني (١)!

تحيّر المأمور وشيعة نيشابور :

عُرف انتشار التشيع لأهل البيت في خراسان عامة ، والآن لأول مرّة

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ، الحديث ٧ ، وعنه في الإرشاد ٢ : ٢٢١ ـ ٢٢٣ ، وسها قلم المفيد في آخره فذكر زرارة بدلاً عن أبي بصير ، وعلّق عليه المجلسي في بحار الأنوار ـ ط. حجر ـ قال : ذكر زرارة هنا غريب ، إذ غيبته عن المدينة معروفة.


في الأخبار نقف على الشيعة الجعفرية في نيشابور خاصّة ؛ وتسرّى التحيّر فيهم بعد الصادق عليه‌السلام :

روى الراوندي عن داود بن كثير بن أبي خالدة الرقي الكوفي الأسدي مولاهم (١) أن وافداً من خراسان (٢) ورد إلى الكوفة وزار أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام ، فروى الرقي عنه : أن جماعة من أهل خراسان اجتمعوا وسألوه أن يحمل لهم مسائلهم عن فتاوى ومشاورات وأموالاً ومتاعاً إلى الإمام بالمدينة (الصادق عليه‌السلام) وفيها منديل ودرهم من امرأة تسمى شطيطة. فلمّا زار مرقد علي عليه‌السلام رأى في ناحيته جماعة وجدهم من متفقهة الشيعة حول شيخ يسمعون منه ، وسألهم عنه فقالوا : هو أبو حمزة الثمالي. قال : فبينا نحن جلوس إذ أقبل أعرابي قال : جئت من المدينة وقد مات جعفر بن محمّد. فسأله أبو حمزة : هل سمعت له بوصية؟ قال : أوصى إلى ابنه عبد الله ، وإلى ابنه موسى ، وإلى المنصور! ففسّر أبو حمزة ذلك وأ نّه عليه‌السلام دلّ بذلك على الصغير (موسى) وستر الأمر بالمنصور (٣)!

إلّا أنّ الخراساني قال : لم أفهم ما قال حتّى وردت المدينة وسألت عن وصيّ الصادق عليه‌السلام فقيل لي : ابنه عبد الله ، فقصدته فوجدت باباً مكنوساً مرشوشاً عليه بوّاب ، فاستأذنت وبعد إذنه دخلت فإذا عبد الله على منصّة! فسألته : أنت وصيّ الإمام المفترض الطاعة؟ قال : نعم!

__________________

(١) رجال الطوسي : ٣٤٩ في أصحاب الكاظم عليه‌السلام.

(٢) كذا في هذا الخبر المختصر بالنسبة إلى مفصّله ومطوّله عن أبي علي الحسن بن راشد البغدادي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣١٥ وفيه : الشيعة في نيشابور ، واسم الرسول الوافد : محمّد بن علي النيشابوري.

(٣) وقد مرّ الخبر إلى هنا في وفاة الصادق عليه‌السلام.


فسألته : كم الزكاة في المئتين من الدراهم؟ قال : خمسة. قلت : فكم في المئة : قال : درهمان ونصف! فسألته : عن رجل طلّق امرأته بغير شهود وقال : بعدد نجوم السماء؟ قال : يقع الطلاق ثلاثاً بعدد الجوزاء! ثمّ قال لي : احمل ما معك! فقلت : ما معي شيء! وخرجت إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ رجعت إلى بيتي. ذلك لأ نّه لم يفهم تفسير الثمالي. قال : فإذا بغلام واقف سلّم عليَّ وقال : أجب من تريده ، فجاء بي حتّى أدخلني على موسى بن جعفر عليه‌السلام وكان على حصير الصلاة ، كنّاني بأبي جعفر وأجلسني قريباً ، فرأيت دلائله أدباً وعلماً ومنطقاً ، ثمّ قال لي : ألم يقل لك أبو حمزة بظهر الكوفة كذا وكذا ، فحينئذٍ فهمت وقلت : نعم ، فقال : كذلك المؤمن إذا نوّر الله قلبه كان علمه على وجهه (أي صحيحاً) ، ثمّ قال : قُم إلى ثقات أصحاب الماضي (الصادق عليه‌السلام) فسلهم عن نصّه (عليَّ) ثمّ احمل إليّ ما معك.

قال : فلقيت منهم جماعة كثيرة شهدوا بالنصّ على موسى عليه‌السلام. ثمّ حملت ما معي إلى حضرته ، فأومى بيده إلى كيس وقال لي : افتحه ، ففتحته ، فقال لي : اقلبه. فقلّبته حتّى ظهر الدرهم المعوج لشطيطة ، فأخذه ثمّ قال : افتح الرزمة ففتحتها ، فأخذ منها منديلها ، وحين أعطتنيه قالت : (اللهُ لَايَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ (١)) فكذلك قال عليه‌السلام ، ثمّ قال : يا أبا جعفر ، اقرأ على شطيطة منّي السلام. ثمّ دفع إليّ صرة فيها دراهم وقال : وادفع إليها هذه الصرة ، واردد ما معك إلى أهله وقل لهم : قد قبله ووصلكم به.

يظهر من الخبر : أن الخراساني أخبر بهذا داود الرقي في طريقه إلى خراسان ، وكأنّ الرقّي توقع منه أن يكاتبه بما يكون في خراسان بل نيشابور ، قال : كاتبني من خراسان : أنّه وجد جماعة ممّن حمّلوه المال قد ضلوا بدعوى

__________________

(١) الأحزاب : ٥٣.


الأفطح ، إلّاأن شطيطة بقيت تتوقع عودته فهي على أمرها! قال : فلمّا رأيتها أقرأتها سلام مولانا عليها وقبوله منها دون غيرها وسلّمت إليها الصرة فجعلْتها لتجهيزها وكفنها ، وماتت بعد ثلاثة أيام (١).

زرارة يبحث عن إمامه :

ذكر الطوسي : أن سُنسُن كان من رهبان الروم (٢) ولعلّه كان في عسكرهم فاسر وانتهى رقّه هو أو ابنه أعيَن إلى رجل من بني شيبان بالكوفة ، وكان أعيَن مسلماً وتعلّم القرآن فأعتقه مولاه ، وعرض عليه أن يُلحقه بنسبه ، فأبى وبقي على ولائه. وأبناؤه : بُكير وحُمران ، وزُرارة ، وضُريس ، وعبد الرحمن وعبد الله وعبد الملك. وأبناء زُرارة : الحسن والحسين ورومي! وعبد الله وعُبيد ويحيى (٣).

وكان حُمران وزرارة قبل أن يروا أمر أهل البيت عليهم‌السلام من تلامذة الحكَم بن عُتيبة الكوفي مولى كندة ، المتوفى (١١٥ ه‍) (٤) ويظهر من خبر أن الحكَم كان معترفاً بعلم علي عليه‌السلام وروى لهم عن علي بن الحسين عليه‌السلام : أن علم علي عليه‌السلام في آية من القرآن. ثمّ كتمهم الآية ، وكان حُمران أسبقهم إلى كشف ذلك عن الباقر عليه‌السلام فقال : إن مثَل علي مثَل صاحب موسى وصاحب سليمان ، وليس رسولاً ولا نبيّاً ، وإنّما هو محدَّث (٥).

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٣٢٨ ـ ٣٣١ ، الحديث ٢٢.

(٢) الفهرست : ١٤١ ، ط. الهند.

(٣) الفهرست : ١٤١ ـ ١٤٢ ، ط. الهند.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٢١٠ ، الحديث ٣٧٠ وتاريخ الوفاة من المعارف : ٤٦٤.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ٧٧ ، الحديث ٣٠٥ ، وبصائر الدرجات ، الباب ٥ ـ ٦ ، الحديث ٧ بالمعنى.


وكأنّه عليه‌السلام زاد : وإن الأوصياء محدَّثون ، فعاد حُمران إلى الحكَم وأخبره بذلك ، وبلغ خبرهما إلى الباقر عليه‌السلام ، فلمّا حجّ زرارة وهو شاب أمرد فدخل سرادق أو فسطاط الباقر عليه‌السلام وهو يحتجم فقصده وسلّم عليه فردّ عليه‌السلام فسأله : أمِن بني أعيَن أنت؟ قال : نعم أنا زرارة بن أعيَن! قال : إنّما عرفتك بالشبَه! أحجّ حُمران؟ قلت : لا ، وهو يقرئك السلام ، قال : فإذا لقيته فاقرأه مني السلام وقل له : لِمَ حدّثت الحكم بن عتيبة عني : أن الأوصياء محدّثون! لا تحدّثه وأشباهه بمثل هذا الحديث (١)!

فزرارة إنّما روى هكذا عن السجّاد عليه‌السلام بواسطة الحكم والتبس الأمر على الطوسي فقال : لهم روايات عن علي بن الحسين والباقر والصادق عليهم‌السلام نذكرهم في كتاب الرجال (٢) وذكرهم فيه كذلك بينما مرّ في هذا الخبر أنّه كان شاباً أمرد حين التقى بالباقر عليه‌السلام ، فبعيد أن يكون راوياً من قبل عن أبيه عليه‌السلام وبعد الباقر كان لدى الصادق عليه‌السلام وعنده عمّه زيد بن علي فقال له : يا فتى! ما تقول في من استنصرك من آل محمّد؟ فقال له : إن كان مفروض الطاعة نصرته وإلّا فلا أن أفعل ولي أن لا أفعل (٣).

ومع وفرة أخبار الصادق في المهدي عليهما‌السلام لم أقف على خبر لزرارة عن الصادق عليه‌السلام صريح في تأخّر المهدي عليه‌السلام عن عصره ، ولذا روى الكشي عن العياشي بسنده عن ابن مُسكان عن زرارة أنّه سأل الصادق عليه‌السلام : إن كان هذا الأمر قريباً صبر (الرجل) حتّى يخرج مع القائم ، وإن كان فيه تأخير ... فقال عليه‌السلام :

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٧٨ ، الحديث ٣٠٨ ، وانظر وقارن : ١٧٩ ، الحديث ٣١٢ ولا يتنافى هذا مع أن يكون حُمران بدوره إنّما سبق آل أعين إلى المعرفة بالإمامة عن طريق أبي خالد الكابلي كما في رسالة في آل أعيَن للأبطحي : ٢٧ وأن تكون سبقتهم اختهم ام الأسود من جهة الكابلي كذلك أيضاً : ٢١.

(٢) الفهرست : ١٤٣ ، ط. الهند.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ١٥٢ ، الحديث ٢٤٨.


يكون إن شاء الله! فقال زرارة : إلى سنة؟ قال : يكون إن شاء الله! قال : إلى سنتين؟ قال : يكون إن شاء الله! فوطّن زرارة نفسه على أنّه يكون إلى سنتين (١)! وفي خبر آخر روى عن هشام بن سالم الجواليقي عن زرارة قال له : لا ترى على أعوادها غير جعفر! قال : فلمّا توفي الصادق عليه‌السلام خفت أن يجحدنيه فأتيته وذكّرته به فقال : والله إني ما كنت قلت ذلك إلّابرأيي (٢).

وفي وفاة إسماعيل بن الصادق عليه‌السلام مرّ خبر النعماني عن زرارة قال : دخلت عليه وعن يمينه سيّد ولده موسى ، وقدّامه جسد مغطّى عليه ، فقال لي : يا زرارة جئني بأخيك حُمران وأبي بصير وداود الرقي ، فأحضرت من أمرني بإحضاره ، ودخل المفضل بن عمر ، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلاً .. فلمّا وضع إسماعيل في لحده أشهد من حضر على موته ثمّ قال : اللهم اشهد واشهدوا فإنّه سيرتاب المبطلون! ثمّ تلا قوله سبحانه : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) ثمّ أومى إلى ابنه موسى وتلا : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (٣)) ثمّ أخذ بيد موسى وقال : هذا هو الحق والحق معه ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثمّ ذكر النعماني طرق الخبر وزاد من طريق الحسن بن منذر قوله عليه‌السلام : والله ليظهرن عليكم صاحبكم وليس في عنقه لأحد بيعة ، ولا يظهر صاحبكم حتّى يشك فيه أهل اليقين! ثمّ تلا قوله سبحانه : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٤)).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٥٨ ، الحديث ٢٦١.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ١٥٦ ، الحديث ٢٥٨.

(٣) الصف : ٨.

(٤) سورة ص : ٦٧ ـ ٦٨ ، والخبر في كتاب الغيبة للنعماني : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، وأرسله الحلبي في مناقب آل أبي طالب ١ : ٣٢٧ في الإمامة والرد على السبعية الإسماعيلية.


وقد مرّ أن وفاة إسماعيل كان عام (١٤٢ ه‍) أي قبل وفاة الصادق عليه‌السلام بستّ سنين ، وعليه فزرارة مطّلع على النصّ على الكاظم عليه‌السلام من يومئذ. وهذا النصّ أخرجه النعماني في كتابه «الغيبة» معاصراً للصدوق بل ومتقدماً عليه بشيء ، إلّا أنّه كان في حلب من الشام ، فهل خفي ذلك على مثل الصدوق حتّى قال في «كمال الدين» : «فأما زرارة فإنّه ... لم يكن سمع بالنصّ على موسى عليه‌السلام بحيث يقطع الخبر عذره».

وإنّما اعتذر بذلك عن زرارة ردّاً على اعتراض من الزيدية أورده الصدوق ، قالوا : لو كان خبر «الأئمة اثنا عشر» صحيحاً ، لما كان الناس بعد الصادق يشكّون في الإمامة حتّى قال بعضهم بعبد الله وبعضهم بإسماعيل ، وبعضهم تحيّر ... ولم يعرفوا أن إمامهم موسى عليه‌السلام وفي هذه المدّة مات فقيههم زرارة وهو يقول والمصحف على صدره : اللهم إني أئتمّ بمن أثبت إمامته هذا المصحف!

فقال الصدوق : نحن لم ندّع أن جميع الشيعة عرف في ذلك العصر الأئمة الاثني عشر بأسمائهم ، وإنّما قلنا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر أن الأئمة بعده الاثنا عشر الذين هم خلفاؤه. وأن علماء الشيعة قد رووا هذا الحديث بأسمائهم ، ولا يُنكر أن يكون فيهم واحد أو اثنان أو أكثر لم يسمعوا بالحديث. فأما زرارة .. وهل يفعل الفقيه المتدّين عند اختلاف الأمر عليه إلّاما فعله زرارة؟!

ثمّ روى بسنده عن إبراهيم بن محمّد الهمداني قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يابن رسول الله ، أخبرني عن زرارة هل كان يعرف حقّ أبيك؟ قال : نعم. قلت : فلِم بعث ابنه عُبيد بن زرارة ليعرف إلى من أوصى الصادق عليه‌السلام؟! فقال عليه‌السلام : إنّ زرارة كان يعرف أمر أبي ونصّ أبيه عليه (مما يؤيد خبر النعماني ويردّ نفي الصدوق) وإنّما بعث ابنه ليتعرّف من أبي : هل يجوز له أن يرفع التقية في إظهار أمره ونصّ أبيه عليه (كذلك أيضاً) وإنّه لما أبطأ عنه ابنه وطلب بإظهار قوله في أبي


لم يحب أن يقدم على ذلك دون أمره ، فرفع المصحف وقال : اللهم إنّ إمامي من أثبت هذا المصحف إمامته من ولد جعفر بن محمّد عليهما‌السلام (١).

فلعلّه بلغه ما بلغ معاصره أبا حمزة الثمالي عند مرقد علي عليه‌السلام من وصية الصادق عليه‌السلام إلى الخمسة ، فتوصّل بذلك إلى مدى تقية الإمام عليه‌السلام في ذلك ، وهنا يعود إلى الذاكرة ما ذكره الصدوق قال : وهل يفعل الفقيه المتدين عند «إبهام» الأمر عليه إلّاما فعله زرارة؟!

بل إنّما هذا هو المردّ الوحيد لحمل فعل زرارة الفقيه على الصحيح ، وإلّا فحتّى بغضّ الطرف عن خبر النعماني ، وخبر الصدوق عن الرضا صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤيد له.

ففي باب النصّ على أبي الحسن موسى عليه‌السلام في «الكافي» نجد ست عشر خبراً ليس فيها خبر عن زرارة بل عن آل أعيَن ، إلّاأن أكثر من عشرة منها عن الكوفيين : ثلاثة عن الفيض بن المختار الجعفي (مولاهم) الكوفي : الخبر الأول والتاسع والأخير ، واثنان منها عن المفضل بن عمر الجعفي (مولاهم) الكوفي ، الخبر الرابع والثامن ، واثنان منها عن صفوان بن مهران الجمال الأسدي (مولاهم) الكوفي ، الخبران ٦ و ١٥ ، والأخير يشمل منصور بن حازم الكوفي أيضاً ، والخبر الثالث عن عبد الرحمن بن الحجّاج الكوفي ، والخبر ١١ عن يعقوب السرّاج الكوفي ، والخبر ١٢ عن سليمان بن خالد الكوفي الكندي مولاهم الأقطع (٢) فهؤلاء سبعة كوفيين رواة النصوص على الكاظم عليه‌السلام ، فكيف خفيت على زرارة ومن حوله ومن حضره منهم؟!

نعم روى الكشي بسنده عن إسماعيل بن عامر الكوفي أنّه لما دخل على

__________________

(١) كمال الدين : ٧٤ ـ ٧٥.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٣٠٧ ـ ٣١١.


الصادق عليه‌السلام وعدّد لديه أئمته حتّى انتهى إليه قال له : وإسماعيل من بعدك! فقال له : أما ذا فلا! وروى إسماعيل ذلك لحمّاد بن عثمان فسأله : ما دعاك إلى ذلك؟ قال : أمرني به المفضّل بن عمر (١)!

إلّا أن الكشيّ روى عن حمّاد هذا : أن المفضّل كان قبل قتل أبي الخطاب وأصحابه يقول معهم بذلك! فلمّا عاتبه الصادق عليه‌السلام على ذلك عتاباً أكيداً شديداً عاد عن ذلك (٢) حتّى أنّه لما مات إسماعيل عزّاه الصادق به (٣) وبعده روى عن الكاظم عليه‌السلام (٤) وكان بابه (٥) بل وكيلاً عنه كما كان قبله وكيلاً عن أبيه الصادق عليه‌السلام بعد مقتل أبي الخطاب ، كما مرّ.

ومن وكالته عن الكاظم عليه‌السلام : ما رواه الطوسي عن موسى بن بكير خادم الكاظم قال : لم أكن أرى شيئاً يصل إليه إلّامن ناحية المفضّل ، ولربما رأيت الرجل يجيء بالشيء فيقول له : أوصله إلى المفضّل. منهم هشام الأحمر قال : حملت أموالاً إلى المدينة إلى الكاظم عليه‌السلام فقال لي : ردّها فادفعها إلى المفضّل بن عمر ، فرددتها حتّى حططتها على بابه (٦).

هذا ، وقد وضح الصبح لذي عينين حسب الخبر السابق عن هشام الجواليقي بعد حدود شهر واحد من وفاة الصادق عليه‌السلام لموسم الحجّ لتلك السنة (١٤٨ ه‍) ولأوائل سنة (١٤٩ ه‍) مات الأفطح ، كما في خبره. وقد أرّخ النجاشي

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٢٥ ، الحديث ٥٩٠.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٣٢١ ، الحديث ٥٨١.

(٣) أُصول الكافي ٢ : ٩٢ ، الحديث ١٦ باب الصبر.

(٤) رجال الطوسي : ٣٦٠ برقم ٢٣.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٥٠.

(٦) الغيبة للطوسي : ٣٤٧ ، الحديث ٢٩٨ ـ ٢٩٩.


وفاة زرارة بسنة (١٥٠ ه‍) (١) إلّا أنّ الكشي نقل عن ابن قولويه عن أصحاب زرارة قالوا : توفي أبو عبدالله عليه‌السلام وزرارة مريض ثمّ مات في مرضه ذلك بعده بشهرين (٢).

وفيه عنه بسنده إلى علي بن يقطين قال : لما كانت وفاة أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام اختلف الناس فقال قائل بعبد الله بن جعفر وقال قائل بأبي الحسن (الكاظم عليه‌السلام). فدعا زرارة ابنه عُبيداً وقال له : يا بني ، الناس مختلفون في هذا الأمر فشد راحلتك وامضِ إلى المدينة حتّى تأتيني بصحّة هذا الأمر! فشدّ راحلته ومضى إلى المدينة ، واعتلّ زرارة (٣). فهل نقول : اختلفت حالته لاختلاف الناس؟!

وفيه عن العياشي بسنده عن عمّة زرارة قالت : لما اشتدّ به الأمر قال لي : ناوليني المصحف ، فناولته وفتحته فوضعته على صدره ، فأخذه بيده وقال لي : يا عمّة ، اشهدي أن ليس لي إمام غير هذا الكتاب (٤)!

ولكنّه روى بسنده عن جميل بن درّاج قال : حضره جماعة فحكوا لي أنّه دعا بالمصحف فقبّله ووضعه على صدره وقال : اللهم إنّي ألقاك يوم القيامة وإمامي من بيّنت له في هذا المصحف إمامته ، اللهم إنّي أحلّ حلاله واحرّم حرامه واومن بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وخاصّه وعامّه ، على ذلك أحيا وعليه أموت إن شاء الله (٥) اللهم إني مصدق بما جاء به نبيّك محمّد فيما أنزلته عليه

__________________

(١) رجال النجاشي : ١٧٥ برقم ٤٦٣.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ١٤٢ ـ ١٤٣ ، الحديث ٢٢٣.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ١٥٣ ، الحديث ٢٥١.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ١٥٦ ، الحديث ٢٥٦.

(٥) اختيار معرفة الرجال : ١٥٤ ، الحديث ٢٥٢.


وبيّنته لنا على لسانه ، وإني مصدّق بما أنزلته عليه في هذا المصحف الجامع ، وإن عقيدتي وديني هو ما بيّنته في كتابك وما يأتيني به ابني عُبيد ، فإن أمتّني قبل ذلك فهذه شهادتي على نفسي وإقراري بما يأتي به ابني عُبيد ، وأنت الشهيد بذلك عليَّ! ثمّ مات زرارة ، ثمّ قدم عُبيد.

فقصدناه لنسلّم عليه ، فسألوه عن الذي قصده فأخبرهم : أنّ صاحبهم أبو الحسن الكاظم عليه‌السلام (١).

فذكر محمّد بن حكيم ذلك للكاظم عليه‌السلام فقال : إني لأرجو أن يكون زرارة ممن قال الله تعالى فيهم : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ (٢)).

وأما إخوة زرارة : بكير وحُمران وعبد الرحمن وعبد الملك فلم يتمالكوا دون أن هلكوا في زمن الصادق عليه‌السلام (٣) وعلى ما مرّ فما روي عن الصادق عليه‌السلام من الترحّم على زرارة لا يُحمل على موته قبله (٤).

تحرش استاد شيش بخراسان :

في سنة (١٤٩ ه‍) فرغوا من بناء بغداد (٥) وخرج استادشيش بخراسان (٦)

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٥٣ ، الحديث ٢٥١.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ١٥٦ ، الحديث ٢٥٥. والآية ١٠٠ من سورة النساء.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ١٦١ ، الحديث ٢٧٠.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ١٣٦ ، الحديث ٢١٧.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٧.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٧٩.


وخرجت معه جيوش خراسان عن الطاعة ، واستولى بهم على أكثر مدنها ، واستفحل الشر واشتدّ الأمر على المنصور وعظم الخطب. وكان أجشم المروزي على من تبقى من جيوش خراسان فقابله وقاتله فقُتل أجشم واستبيح معسكره.

فجهّز المنصور لحربه خازم بن خزيمة في جيش عرمرم يسدّ الفضاء! وبلغ ضريبة الجيش الخراساني ثلاثمئة ألف مقاتل فارس وراجل!

فالتقى الجمعان وصبر الفريقان حتّى قيل قتل فيها سبعون ألفاً من الفئتين ، واسر منهم أربعة عشر ألفاً ، وانهزم استادشيش والتجأ إلى الجبال ، فأمر الأمير خازم بقتل الأسرى فقتلوهم ، ثمّ حاصروا استادشيش مدّة حتّى سلّم نفسه ومعه ثلاثون ألفاً ، فأطلقوهم وقيّدوه (١) وأرسلوه إلى المنصور في بغداد.

قصّة شقيق البلخي الصوفي :

هو أبو علي شقيق بن إبراهيم الأزدي البلخي ، كان من رؤوس الغزاة بخراسان ، حتّى قتل في غزاة كولان سنة (١٩٤ ه‍) ومع ذلك كان يزهد ويتأ لّه حتّى عُدّ شيخ خراسان (٢) في التصوّف ، ومن أشهر من صحبه لذلك حاتِم بن عنوان بن يوسف الأصم من أهل بلخ ، ولذا عُدّ بدوره من قدماء مشايخ خراسان في التصوّف ، وله ابن يدعى خوش نام بن حاتِم ، مات سنة (٢٣٧ ه‍) (٣).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٨.

(٢) سير اعلام النبلاء ٩ : ٣١٣ برقم ٩٨.

(٣) طبقات الصوفية : ٩١ برقم ١١.


فروى الطبري الإمامي عن خوش نام هذا عن أبيه الأصم عن شيخه شقيق البلخي قال : في سنة (١٤٩ ه‍) خرجت حاجاً فنزلت القادسية (من الكوفة إلى مكّة) وإذا بشابّ أسمر شديد السمرة ، حسن الوجه ، عليه ثوب صوف مشتمل بشملة في رجليه نعلان (ومعه ركوة ماء) جلس منفرداً من الناس. فقلت في نفسي : هذا الفتى من «الصوفية» يريد أن يكون كلاًّ على الناس ، فوالله لأمضينّ إليه ولُاوبخنّه! فدنوت منه فلمّا رآني قال : يا شقيق! اجتنبوا كثيراً من الظنّ! فأردت أن استحلّه فغاب عن عيني! ورحلنا إلى واقصة.

فهناك رأيته يصلّي ودموعه تتحادر وأعضاؤه تضطرب! فمضيت إليه لأعتذر منه ، فلمّا انصرف من صلاته التفت إليّ وقال : يا شقيق (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (١)) فتركته.

فلمّا نزلنا زبالة إذا به قائم على البئر وبيده ركوته يريد أن يستقي ماءً فسقطت ركوته في البئر! فرفع طرفه إلى السماء وقال شعراً :

أنت ربّي إذا ظمئت إلى الما

ء ، وقوتي إذا أردت الطعاما!

فوالله لقد رأيت البئر ارتفع ماؤها وعليه الركوة فأخذها وملأها وتوضأ منه وصلّى أربع ركعات ، ثمّ مال إلى كثب رمل هناك فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب! فقلت له : يا هذا أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك ورزقك.

فناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر لا ألذّ منه ولا أطيب ريحاً! فشبعت ورويت لأيام لا أشتهي فيها طعاماً ولا شراباً! ثمّ افتقدته.

حتّى دخلنا مكّة .. وإذا له غاشية وموالٍ وغلمان والناس يسلّمون عليه ويتبرّكون به! فسألت بعضهم عنه فقال لي : هو موسى بن جعفر بن محمّد بن

__________________

(١) سورة طه : ٨٢.


علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. فقلت : هذا من «الأبدال» قد تكلّم عن سرّي مرّتين (١).

فهل حجّ الكاظم عليه‌السلام عام (١٤٩ ه‍) عن طريق العراق منفرداً؟! وتواعد مع غلمانه ومواليه وغاشيته أن يحجّوا من المدينة إلى مكّة فيلتقي بهم؟! لا أرى شقيق إلّا صوفياً أراد أن يصف نفسه بأ نّه التقى ببعض «الأبدال» وشرب من شرابهم الغيبيّ! وهذه أول بادرة لمصطلح «الأبدال» من مصطلحات العرفان الصوفي.

وحجّ المنصور وقتل عمّه :

قال المسعودي : في سنة (١٤٩ ه‍) أراد المنصور الحجّ ، وكان يحبّ أن يقتل عيسى بن موسى عمّه عبد الله بن علي فيُظهر الغضب على عيسى ويقتله بعمّه فيستريح منهما جميعاً ، فحوّل عمّه عبد الله إلى وليّ عهده عيسى بن موسى وأمره بقتله (٢).

فتظاهر للمنصور أنّه قتله ، ولم يقتله! وحجّ عيسى مع المنصور فكلّم بنو علي المنصور في أخيهم عبد الله فقال لهم : هو عند عيسى بن موسى ، فأتوه فسألوه عنه فقال : قتلته! فرجعوا إلى المنصور وقالوا : إن عيسى زعم أنّه قتله!

__________________

(١) دلائل الإمامة : ٣١٧ ، الحديث ٣٦٣ وأشار إليه الحلبي في مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٢٧. ونقله الأربلي في كشف الغمة ٣ : ٢٥٨ ـ ٢٦٠ عن مطالب السؤول للشافعى ٢ : ٦٢ ـ ٦٤.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٠٥ وفيه : أن عيسى استفتى عبد الله بن شُبرمة ، ومحمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وفي تاريخ خليفة : ٢٧٦ : في (١٤٤ ه‍) مات ابن شُبرمة ، وفيه : ٢٧٨ : في (١٤٨ ه‍) مات ابن أبي ليلى. فالخبر مدخول.


فأظهر المنصور الغضب عليه وقال : والله لأقتلنّه به! فدعا به وقال له : لِمَ قتلت عمّي؟! قال : أنت أمرتني بقتله! قال : لم آمرك بذلك ، فأخرج كتابه إليه وقال : هذا كتابك إليّ فيه! قال : لم أكتبه! فقال : بل لم أقتله وهو عندي. قال : إذن ادفعه إلى المهلّب بن أبي عيسى فدفعه إليه فحبسه عنده (١).

وقال اليعقوبي : سأله يوماً عن عمّه عبد الله فقال : قد مات! فوجّه إلى جماعة من بني العباس وفيهم إسماعيل وعبد الصمد وعيسى أبناء علي أُخوة عبد الله وقال لهم : إني كنت دفعت أخاكم عبد الله بن علي إلى عيسى بن موسى وأمرته أن يحتفظ به ويكرمه ويبرّه! وقد سألته عنه فقال : إنّه قد مات! فأنكرت ستر خبر موته عني وعنكم!

فقال القوم : لو كان مات عبد الله حتف أنفه ما ترك عيسى أن يعلمك ويعلمنا ، بل قتله!

فجمع بينهم وبين عيسى فطالبوه بدمه ، فقال المنصور له : ائت لموته ببينة عادلة وإلّا أقدتك!

فقال : إنّما أردت بما قلت الراحة من حراسته! فأخّروني إلى العشي ، فأخّروه ، فحضر بالعشيّ وأحضر معه عبد الله سوياً صحيحاً! فاتهمه المنصور أنّه أراد أن يعرف ما عندهم فإذا احتملوا ذلك قتله!

ثمّ أمر المنصور فبُني لعمّه عبد الله في الدار بيت ، وأجرى على أساسه الماء فسقط عليه فمات عام (١٤٩ ه‍) (٢) وتحجّج بذلك لخلع عيسى بن موسى عن ولاية عهده بعهده ، وعقدها لابنه المهديّ.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٠٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦٨ ـ ٣٦٩.


وفاة أبي حمزة الثُمالي :

نقل النجاشي عن الجعابي التميمي أن أبا حمزة ثابت بن دينار الكوفي كان أبوه دينار من موالي المهلّب بن أبي صفرة العتيكي الأزدي ، وانخرط أبناؤه : حمزة ومنصور ونوح مع زيد بن علي فقتلوا معه. وهو من قبل لقى السجّاد عليه‌السلام فروى عنه «رسالة الحقوق» وله كتاب «تفسير القرآن» ثمّ روى عن الباقر ثمّ الصادق ثمّ الكاظم عليهم‌السلام (١).

ونقل الكشي عن العياشي عن ابن فضّال قال : إن أبا حمزة مات بعد الصادق عليه‌السلام بسنة أو نحوها. وكان يشرب النبيذ ، فرحل عامر بن عبد الله الأزدي إلى الصادق عليه‌السلام وسأله عن المسكر فقال : كل مسكر حرام. فقال عامر : لكن أبا حمزة يشرب (النبيذ)! فبلغ ذلك إلى أبي حمزة فمرّ عليه جالساً على باب الفيل للمسجد الجامع بالكوفة مع حُجر بن زائدة الثقافي ، فقال له : يا عامر! أنت قلت للصادق : أبو حمزة يشرب النبيذ وحرّشته عليّ! فنقل له قوله ، فقال أبو حمزة : الآن أستغفر الله منه وأتوب إليه (٢).

ومرّ خبره أنّه كان مع جمع من الشيعة مجتمعين في مسجد حول مرقد علي عليه‌السلام يفسّر لهم القرآن ويحدّثهم ، إذ وصل إليهم أعرابي فأخبره بوفاة الصادق عليه‌السلام ووصيته إلى الخمسة ، وأنّ أبا حمزة استنبط منها أنّه أوصى بالحقيقة إلى ابنه الكاظم عليه‌السلام. فلعلّه هو أيضاً كزرارة لم يكن قد علم بالنصوص غير القليلة التي رواها غير واحد من الكوفيين على الكاظم عليه‌السلام.

ويظهر من خبر الكشي أنّ أبا بصير يحيى بن إسحاق الأسدي (مولاهم) تشرّف بالحجّ لسنة (١٤٩ ه‍) مع قائده علي البطائني وقد اعتلّ أبو حمزة.

__________________

(١) رجال النجاشي : ١١٥ ـ ١١٦ برقم ٢٩٦.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٠١ ، الحديث ٣٥٣ ـ ٣٥٤.


فحدّث قائده علي البطائني : أنهما دخلا على (الكاظم عليه‌السلام (١)) فسأل أبا بصير عن أبي حمزة فقال : خلّفته عليلاً ، فقال : فإذا رجعت إليه فاقرأه منّي السلام وأعلمه أنّه يموت يوم كذا (؟) من شهر كذا (؟) فقال : والله لقد كان فيه انس وهو لكم شيعة. قال : صدقت (ولكن) ما عندنا خير لكم. قال : فهل من شيعتكم معكم؟ قال : إن هو خاف الله وراقب نبيّه وتوقّى الذنوب كان معنا في درجتنا!

قال علي البطائني : فلمّا رجعنا ما لبث أبو حمزة إلّايسيراً حتّى توفي في تلك السنة (٢) أي في أوائل عام (١٥٠ ه‍) وخلّف أبناء ثلاثة : محمّداً وعلياً والحسين كلّهم فضلاء ثقات (٣) ثمّ توفي أبو بصير :

وأبو بصير يحيى الأسدي (مولاهم):

مرّ خبر الكشي عن علي بن أبي حمزة البطائني من أصحاب أبي بصير وقوّاده : أن الكاظم عليه‌السلام سأله عن صاحبه أبي حمزة الثُمالي ثمّ أخبره بيوم وفاته فلمّا عاد إلى البلاد أخبر الثُمالي بذلك ، وتوفي الثُمالي في أوائل عام (١٥٠ ه‍) ثمّ توفي صاحبه أبو بصير يحيى بن أبي القاسم إسحاق الأسدي (مولاهم) في السنة نفسها كما ذكر الطوسي والنجاشي (٤) وكان من أصحاب الباقر والصادق وأدرك الكاظم عليهم‌السلام.

__________________

(١) في النص : على أبي عبد الله ، ويبدو لي أن الصحيح ما أثبتناه.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٠٢ ، الحديث ٣٥٦.

(٣) المصدر السابق : ٢٠٣ ، الحديث ٣٥٧.

(٤) رجال الطوسي : ٣٣٣ برقم ٩ ، ورجال النجاشي : ٤٤١ برقم ١١٨٧.


وكان مقرئاً للقرآن ، ولعلّه لعماه بالولادة لم تتحرّج امرأة أن تتعلّم منه القرآن ، فمازحها يوماً بشيء ، ثمّ قدم على الباقر عليه‌السلام فقال له : يا أبا بصير ، أي شيء قلت للمرأة؟ قال : قلت بيدي هكذا ، وغطيت وجهي! فقال عليه‌السلام : لا تعودنَّ إليها (١)!

ولما خلفه الصادق عليه‌السلام قال أبو بصير : أردت أن يعطيني من دلالة الإمامة مثل ما أعطاني أبوه ، فدخلت عليه جنباً! فقال لي : يا أبا محمّد! أما كان لك شغل بما كنت فيه! تدخل عليَّ وأنت جنب! فقلت : ما عملته إلّاعمداً! فقال : أو لم تؤمن؟! قلت : بلى ولكن ليطمئنّ قلبي. قال : فقم واغتسل. فعند ذلك قلت إنّه إمام ، وقمت واغتسلت وعدت إلى مجلسي (٢).

وهو أسدي نقل عن علباء بن درّاع الأسدي الكوفي أنّه ولى البحرين لبني امية فأفاد عبيداً ودواب وسبعين أو سبعمئة ألف دينار! فلمّا سقطوا حمل ذلك كلّه إلى المدينة (سنة ١٣٢ ه‍ ظ) ودخل على الصادق عليه‌السلام وقال له : علمتُ أن الله عزوجل لم يجعل ذلك لهم وأ نّه لك! فقال له : هاته ، فحمل المال حتّى وضعه بين يديه! فقال له : قد قبلناه منك وأحللناك منه ووهبناه لك! وضمنّا لك على الله الجنة!

وكأنّ ضمان الجنة له كان كناية عن دنوّ أجله ، وحضره مولاهم أبو بصير الأسدي فقال له : إن الصادق عليه‌السلام قد ضمن لي الجنة فأَذكِره ذلك. فلمّا دخل أبو بصير عليه قال له : حضرتَ علباء عند موته؟ قال : قلت : نعم فأخبرني أنّك

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٧٣ ، الحديث ٢٥٩.

(٢) كشف الغمة ٣ : ٢١٢ عن كتاب الدلائل لمحمد بن عبد الله الحميري (ق ٣ ه‍) ، وعنه في دلائل الإمامة للطبري الإمامي : ٢٦٥ برقم ١٩٥ والخرائج والمناقب. وفي لفظ الإرشاد ٢ : ١٨٥ : نظر إليّ ... فكيف وهو مكفوف البصر؟! والمراد به يحيى وليس ليث المرادي كما في قاموس الرجال ٨ : ٦٢٩.


ضمنت له الجنة وسألني أن أذكّرك ذلك! قال : صدق! قال : فبكيت وقلت : جعلت فداك! ألست الكبير السنّ الضرير البصر؟ فاضمنها لي! قال : قد فعلت! قال : اضمنها لي على آبائك! قال : قد فعلت! قال : فاضمنها لي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! قال : قد فعلت! قال : اضمنها لي على الله؟ قال : قد فعلت (١)! إلّاأ نّه بقي حتّى أدرك الكاظم عليه‌السلام ثمّ توفي في (١٥٠ ه‍).

ومحمّد بن مسلم الثقفي الكوفي :

نقل الكشي عن العياشي عن ابن فضّال قال : إن زرارة وأبا حمزة ومحمّد بن مسلم ماتوا بعد الصادق عليه‌السلام بسنة أو نحوها في سنة واحدة (٢) وكان محمّد بن مسلم الثقفي أعور طحّاناً بالكوفة (٣) وهو من ثقيف الطائف قصيراً (٤) طويل اللحية (٥).

أقام بالمدينة أربع سنين يدخل على الباقر عليه‌السلام يسأله حتّى قال : سمعت من أبي جعفر ثلاثين ألف حديث! وحتّى ما كان في «الشيعة» أحد أفقه منه (٦)! وكان رجلاً شريفاً موسراً فقال له الباقر عليه‌السلام : يا محمّد تواضع! فلمّا انصرف إلى الكوفة أخذ قوصرة من تمر مع الميزان وجلس على باب المسجد الجامع

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٠٠ ، الحديث ٣٥١ ـ ٣٥٢ وفيه الباقر عليه‌السلام وهو لم يدرك سقوط الأمويين! وجاء الصحيح في ١٧٠ ، الحديث ٢٨٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٠١ ، الحديث ٣٥٣.

(٣) المصدر : ١٦١ ، الحديث ٢٧٢.

(٤) المصدر : ١٦٤ ، ذيل الحديث ٢٧٧.

(٥) المصدر : ١٦٦ ، الحديث ٢٧٩.

(٦) المصدر : ١٦٣ ، الحديث ٢٧٦ ، و ١٦٧ ، الحديث ٢٨٠.


وجعل ينادي عليه! فأتاه قومه يقولون له : فضحتنا! فقال : إن مولاي أمرني بأمر فلن أبرح حتّى أفرغ من بيع باقي هذه القوصرة. ثمّ قالوا له : إذا أبيتنا إلّاأن تشتغل ببيع وشراء فاقعد في الطحّانين! فهيّأ رحاً وجملاً وجعل يطحن للناس! وكان من العُبّاد في زمانه (١).

وعلى عهد إمامة الصادق عليه‌السلام أخذ يتردّد عليه بالمدينة حتّى قال : لقيت جعفر بن محمّد عليهما‌السلام فسمعت منه ستة عشر ألف حديث أو مسألة (٢) حتّى قال فيه عليه‌السلام : ما أحد أحيا أحاديث أبي إلّازرارة وأبو بصير ومحمّد بن مسلم وبريد العجلي ، هؤلاء امناء أبي على حلال الله وحرامه ، وهم السابقون إلينا في الدنيا ، هؤلاء حفّاظ الدين ، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا الأمر (التشيع) كان أبي ائتمنهم على حلال الله وحرامه ، وكانوا عيبة علمه. هم أصحاب أبي حقاً ، وكذلك اليوم هم عندي مستودع سرّي ، ونجوم «شيعتي» بهم يكشف الله كل بدعة ، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأويل «الغالين»! ثمّ بكى وقال : هم بريد العجلي وزرارة وأبو بصير ومحمّد بن مسلم. من عليهم صلوات الله ورحمته أحياءً وأمواتاً. هم من الذين قال الله فيهم : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (٣)).

وفيه بسنده عن ابن أبي يعفور الكوفي قال : قلت للصادق عليه‌السلام : إنّه لا يمكن القدوم (إليك) وألقاك كلّ ساعة ، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه فما أفعل؟ قال : فما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي! فإنه قد سمع من أبي وكان وجيهاً عنده (٤) وأدرك الكاظم ثمّ توفي كما مرّ.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٦٥ ، ذيل الحديث ٢٧٨.

(٢) المصدر : ١٦٣ ، الحديث ٢٧٦ ، و ١٦٧ ، الحديث ٢٨٠.

(٣) المصدر : ١٣٦ و ٧٣٧ ، الحديث ٢١٨ ـ ٢٢٠. والآيتان من الواقعة : ١٠ ـ ١١.

(٤) المصدر : ١٦١ ، الحديث ٢٧٣.


شاعره جعفر بن عفّان الطائي :

ومن المتوفين في الخمسين بعد المئة (١) بعد وفاة الصادق عليه‌السلام بعامين شاعره راثي الحسين عليه‌السلام جعفر بن عفّان الطائي الكوفي المكفوف.

روى الكشي بسنده عن زيد الشحّام قال : كنّا عند الصادق عليه‌السلام ونحن جماعة من الكوفيين (ولعلّه في موسم الحج) إذ دخل عليه جعفر بن عفّان ، فقرّبه وأدناه إليه ثمّ قال له : يا جعفر ، قال : لبّيك جعلني الله فداك! قال : بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين عليه‌السلام وتُجيد؟ فقال : نعم ، جعلني الله فداك. فقال : قل ، فأنشده (٢) ولعلّها داليّته :

ألا يا عين فابكي ألف عام

وزيدي ، إن قدرت على المزيد

إذا ذُكر الحسين فلا تَمِلّي

وجودي الدهر بالعبرات ، جودي

فقد بكت الحمائم من شجاها

بكت لأليفها الفرد الوحيد

بكين وما درين ، وأنتَ تدري

فكيف تهمّ عينُك بالجُمود

أتنسى سبط أحمد حين يمسي

ويصبح بين أطباق الصعيد (٣)

أو أنشد تائيّته :

ليبك على الإسلام من كان باكياً

فقد ضُيّعت أحكامه واستُحِلّتِ

غداة حسين للرماح دريئة

وقد نهلت منه السيوف وعلّتِ (٤)

فبكى الإمام عليه‌السلام ومن حوله حتّى صارت دموعه على وجهه ولحيته ، ثمّ قال لجعفر : والله لقد شهد لك ملائكة الله المقربون هاهنا يسمعون كلامك

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٣١٤ حاشية العلّامة الخرسان.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٩ ، الحديث ٥٠٨.

(٣) أخبار شعراء الشيعة للمرزباني : ١١٥.

(٤) أدب الطف للشبّر ١ : ١٩٢.


في الحسين عليه‌السلام ، ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر (كذا) ولقد أوجب الله تعالى لك ـ يا جعفر ـ في ساعتك الجنة بأسرها وغفر الله لك! ثمّ قال له : يا جعفر ، ألا أُزيدك؟! قال : نعم ، قال : ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلّاأوجب الله له الجنة وغفر له (١).

ولما قام الأخوان الحسنيّان بالمدينة والبصرة وقُتلا ، قال شاعر بني العباس مروان بن أبي حفصة لهم شعراً قال فيه :

أنى يكون؟! وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

فروى الأموي الإصفهاني الزيدي عن محمّد بن يحيى التغلبي قال : مررت يوماً على باب جعفر بن عفّان الطائي وهو جالس على الباب فسلّمت عليه ، فقال مرحباً يا أخا تغلب ، اجلس ، فجلست ، وكان قد بلغه قول مروان ، فقال لي : أما تعجب من ابن أبي حفصة لعنه الله حيث يقول (وحكى شعره) فقلت : بلى والله ، واني لأتعجّب منه وأُكثر اللعن عليه ، فهل أجبتَه بشيء؟ قال : نعم قد قلت

لِمْ لا يكون؟! وإن ذلك كائن

لبني البنات وراثة الأعمام

للبنت نصف كامل من ماله

والعمّ متروك بغير سهام

ما «للطليق» وللتراث؟! وإنّما

صلّى «الطليق» مخافة الصمصام (٢)!

ولعلّه توفي قبل أن يُنقل القول هذا لبني العباس ، وإلّا فلا خلاص له منهم.

نسبة الجعفرية :

كان قاضي الكوفة منذ عهد هشام بن عبد الملك : محمد بن عبد الرحمن بن

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٩ ، الحديث ٥٠٨.

(٢) الأغاني ٩ : ٤٥ ويعني بالطليق العباس إذ أطلقه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر من أساره وقيوده.


أبي ليلى (١) ثمّ أقرّه أبو العباس السفاح حتّى مات (٢) ثمّ أقره المنصور حتّى مات القاضي سنة (١٤٨ ه‍) (٣) ومرّ خبر الكشي عن ابن قولويه بسنده عن أبي كهمَس : أن محمد بن مسلم الثقفي القصير شهد عند ابن أبي ليلى بشهادة فردّ شهادته ، فكلّف الإمام أبا كهمس أن يسأل ابن أبي ليلى ثلاث مسائل فلما يتوقف فيها يبلّغه عنه قوله : ما حملك أن رددت شهادة رجل أعرف منك بأحكام الله وأعرف بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : محمد بن مسلم الطائفي القصير؟ فلما أبلغه ذلك أرسل فدعاه فأجاز شهادته (٤).

فلما مات ابن أبي ليلى ، استقضى المنصور شريك بن عبد الله النخعي ، فما زال حتّى مات المنصور (٥) بل حتّى سنة (١٧٨ ه‍) (٦) فشهد عنده محمد بن مسلم الثقفي مع أبي كُريبة الأزدي ، فنظر مليّاً في وجهيهما ثمّ قال : «جعفريان» فردّ شهادتهما! وذلك هو ردّها من قبل عند ابن أبي ليلى!

فقالا ـ أو قال الثقفي وتابعه الأزدي ـ نسبتنا إلى أقوام لا يرضون بأمثالنا أن يكونوا من إخوانهم ؛ لما يرون من خفّة ورعنا! ونسبتنا إلى رجل (جعفر) لا يرضى بأمثالنا أن يكونوا من «شيعته» فإن تفضّل وقبلنا فله المنّ علينا والفضل!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٣٥.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٢.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٨.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ١٦٣ ، ١٦٤ ، الحديث ٢٧٧.

(٥) تاريخ خليفة : ٢٨٦.

(٦) تاريخ خليفة : ٢٩٨.


فتبسّم شريك ثمّ قال : إذا كانت الرجال فلتكن من أمثالكم! ثمّ قال لكاتبه : يا وليد! أجز شهادتهما هذه المرة! فلما حجّا أخبرا الإمام بالكلام فقال : ما لشريك؟ قيدّه الله بشراكين من نار (١).

فهذه هي أولى بوادر إطلاق نسبة «الجعفرية» على شيعة جعفر عليه‌السلام.

وبهذا قال القاضي النعمان المغربي المصري الإسماعيلي (م ٣٦٣ ه‍) : إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليه‌السلام نسبت «الجعفرية» من فرق الشيعة .. وفي ذلك يقول السيّد إسماعيل الحميري البصري شعراً :

 «تجعفرت» باسم الله ، والله اكبر

وأيقنت أن الله يعفو ويغفر

في شعر طويل ، وقال يعتذر إليه :

أيا راكباً ـ نحو المدينة ـ جَسرة

همرجانة يُطوى بها كلّ سبسب

إذا ما ـ هداك الله ـ عاينت «جعفراً»

فقل لوليّ الله وابن المهذَّب

ثمّ أكملها عشرة أبيات (٢) وقال : وتتابعوا على ذلك في الرجوع في أيام جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، فسُمّوا «بالجعفرية» (٣).

وروى الصدوق (م ٣٨٦ ه‍) بسنده عن حيّان السرّاج رواية شعر السيد ابن محمّد الحميري عنه قال : كنت أعتقد غيبة محمّد بن الحنفية زماناً ، حتّى منّ الله عليَّ بالصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام وهداني به إلى سواء الصراط وأنقذني من النار! حيث صحّ عندي ـ بالدلائل التي شاهدتها منه ـ أنّه حجة الله عليَّ وعلى جميع

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ١٦٢ ، الحديث ٢٧٤.

(٢) شرح الأخبار ٣ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤. ثمّ فسّر : الجسرة الطويلة ، والمهرجانة السريعة ، والسبسب بالصحراء الواسعة.

(٣) شرح الأخبار ٣ : ٢٩٨.


أهل زمانه ، وأ نّه الإمام الذي فرض الله طاعته وأوجب الاقتداء به! فتبت إلى الله تعالى ذكره على يديه ، وقلت قصيدتي التي أوّلها :

فلمّا رأيت الناس في الدين قد غووا

 «تجعفرت» باسم الله في مَن «تجعفروا»

وناديت باسم الله ، والله اكبر

وأيقنت أن الله يعفو ويغفر

ودِنت بدين الله ما كنت دائناً

به ، ونهاني سيد الناس «جعفر»

وأتمّها عشرة أبيات ثمّ قال : إلى آخر الأبيات وهي طويلة. قال : وقلت بعدها قصيدة أُخرى :

أيا راكباً ـ نحو المدينة ـ جَسرة

عذافرة يُطوى بها كل سبسب (١)

ثمّ أتمها عشرين بيتاً ، ولا نجده فيما وجد من كتاب «أخبار شعراء الشيعة» للمرزباني الخراساني (م ٣٨٤ ه‍) ولكنّه خصّه بكتابه «أخبار السيّد الحِميري» وفيه نقل عن رواية السيّد الآخر : خلف الحادي عن السيّد قال : حدثّني علي بن شجرة عن أبي بُجير (عبد الله بن النجاشي الأسدي والي الأهواز للمنصور) عن الصادق عليه‌السلام : قدم أبو خالد الكابلي من كابل إلى المدينة وقال بإمامة محمّد بن الحنفية ، ثمّ سمعه يقول لعليّ بن الحسين عليهما‌السلام : يا سيدي! فسأله عن السبب فيه فأخبره بمحاكمته إلى الحجر الأسود ، قال : فسمعتُ الحجر يقول لي : يا محمّد ؛ سلّم الأمر لابن أخيك فإنه أحق منك!

وكان السيّد يمدح أبا بُجير الأسدي قال : وكان إمامياً فكان يعيّرني بمذهبي ويأمل منّي تحولاً إلى مذهبه (٢).

__________________

(١) كمال الدين : ٣٠ ـ ٣٥.

(٢) أخبار السيّد الحِميري : ١٦٤ ، كما في الغدير ٣ : ٣٥٥.


وكأنّه في أثناء ذلك كان ما أرسله الحلبي عن داود بن كثير الرقي قال : بلغ السيّد أنّه ذُكر عند الصادق عليه‌السلام فقال : السيّد كافر (أي بالحجّة) فأتاه وقال له : يا سيدي! أنا كافر! مع شدّة حبّي لكم ومعاداة الناس فيكم؟! قال : وما ينفعك وأنت كافر بحجة الدهر والزمان؟!

ثمّ أخذه بيده وأدخله بيتاً ، فإذا في البيت قبر! فصلّى ركعتين ، ثمّ ضرب بيده على القبر فانشق وخرج منه شخص ينفض التراب عن رأسه ولحيته! فسأله الصادق : من أنت؟ قال : أنا محمّد بن علي المسمّى بابن الحنفية! قال : فمن أنا؟ قال : جعفر بن محمّد حجة الدهر والزمان! فخرج السيّد يقول : «تجعفرت» باسم الله في من «تجعفرا» (١) وهذا هو ما أشار إليه في خبر الصدوق عنه قال : «بالدلائل التي شاهدتها منه» وهو يشبه إنطاق الحجر الأسود الذي سمعه عنه من قبل.

وكأنّه قصد أبا بُجير الأسدي مرّة أُخرى ولم يخبره بذلك حتّى قال له : لو كان مذهبك الإمامة لقلتَ فيها شعراً! فأنشده قصيدته تلك ، فسجد لله شكراً ، ثمّ قال له : الحمد لله إذ لم يذهب حبّي لك باطلاً ، ثمّ أمر له بمال وكُراع ورقيق.

وكان راويتاه حيان السرّاج وخلف الحادي كيسانيين ، فلمّا حدّث الحاديَ بحديث ابن بُجير الأسدي قال له : فأنت على ما كنتُ أعرف أو على هذا المذهب (الجعفري) فما صارحه بل مازحه منشداً :

خذا جنب هَرشى أو قفاه ، فإنه

كلا جانبي هَرشى لهنّ طريق (٢)

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٦٦ ، وكان اللقاء بمكة في الموسم ، كما في طبقات الشعراء : ٣٣ لابن المعتز ، كما عنه في الغدير ٣ : ٣٥.

(٢) عن أخبار السيّد الحميري في الغدير ٣ : ٣٥٥ ـ ٣٥٦.


ولعلّه لعلّة كهذه أو نحوها تظاهر بسابقته وخفيت لاحقته على المتكلم الشهير محمّد بن علي الصيرفي الكوفي الأحول مؤمن الطاق ، فناظره في ابن الحنفية حتّى غلبه فقال مرّة أُخرى :

تركت «ابن خولة» لا عن قَلىً

وإني لكالكلف الوامق

وإني له حافظ في المغيب

أدين بما دان في «الصادق»

بل يشير به إلى حديث ابن بُجير الأسدي عن الصادق عليه‌السلام ، في أربعة أبيات أُخرى ، فقال له المؤمن : أحسنت ، الآن اوتيت رشدك ، وبلغت أشدّك ، وتبوّأت من الخير موضعاً ، ومن الجنة مقعداً (١)!

وروى الخبر والشعر الأمويُ الزيدي في «الأغاني» ثمّ أنكر رجوعه عن الكيسانية (٢).

فعارضه المفيد إذ أفاد : في هذا الشعر دليل على رجوع السيّد الحِميري عن مذهب الكيسانية ، وقوله بإمامة الصادق عليه‌السلام ، ووجود الدعوة ظاهرة من الشيعة في أيامه إلى إمامته (٣).

ويبدو أنّه بعد هدايته التقى به الصادق عليه‌السلام فقال له : إن امك سمّتك سيّداً ، ووُفّقت في ذلك ، فأنت سيّد الشعراء ، فأنشد السيّد في ذلك :

ولقد عجبت لقائل لي مرّة

علّامةٌ فهمٌ من الفقهاء

سمّاك قومك سيّداً ، صدقوا به

أنت الموفّق سيّد الشعراء

في أربعة أبيات اخرى (٤)

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٦٧ عن المرزباني.

(٢) الأغاني ٧ : ٢٣٥.

(٣) الإرشاد ٢ : ٢٠٨ ، ونحوه في كشف الغمة ٢ : ٧٨ و ٣ : ١٩٦.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، ذيل الخبر ٥٠٧.


ويبدو أنّ إطلاق السيّد على العلوي كان معهوداً في عصر الإربلي (ق ٧ ه‍) فقال : وبتسميته «السيّد» يُتوهّم أنّه علوي ، بل غلب عليه هذا الاسم ولم يكن علوياً (١) وكأنّه غفل عن نقل الكشي ما مرّ خبره (٢).

ومات أبو حنيفة النعمان :

وفي سنة (١٥٠ ه‍) مات أبو حنيفة النعمان بن ثابت (٣) مولى تيم اللات من بكر بن وائل ، وهو ابن تسعين سنة (٤) وثابت ابن زوطا وهو من أهل كابل ، وهو الذي أسره الرق فاعتق ، وولد له ثابت على الإسلام. وأدرك النعمان بالكوفة : أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى ، وبالمدينة : سهل بن سعد الساعدي وعامر بن واثلة الأصقع ، ولكنّه لم يلقهم ولم يأخذ عنهم. وعيب عليه بضعف عربيّته إلّا أنّه ذو منطق حتّى نقل عن الشافعي عن مالك بن أنس سأله : أرأيت أبا حنيفة؟ قال : نعم ، رأيته رجلاً لو كلّمته في هذه السارية أن يثبتها ذهباً لقام بحجّته! توفي في رجب من هذه السنة وهو يوم ولد الشافعي محمّد بن إدريس المطّلبي. مات ببغداد ودُفن بها ، وله ضريح وعليه قبّة.

__________________

(١) كشف الغمة ٣ : ٨٠.

(٢) وما نقله كان ذيلاً للحديث : ٥٠٧ بسنده عن محمّد بن النعمان ولعلّه الأحول الصيرفي الطاقي : أنّه حضر السيّد محتضراً بالكوفة وهو على الكيسانية ، وكان الصادق عليه‌السلام منصرفاً من عند المنصور بالكوفة فأخبره خبر السيّد فحضره ، وكان معقود اللسان فأنطقه ، فقال له : قل الحق يكشف الله ما بك! فقال : «تجعفرت» .. وهذا ما أعرض عنه الصدوق والمرزباني والمفيد والحلبي الساروي ، فتبعتهم.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٩.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٣٠٤.


وفيها مات ببغداد أيضاً محمّد بن إسحاق بن يسار المطّلبي (مولاهم) وهو ثبت في الحديث عند الأكثر ، أخرج عنه مسلم حديثاً واحداً في الرجم ، وطعن فيه مالك ولذا لم يرو عنه البخاري (١).

مِعن للخوارج بخراسان :

كان على اليمن للمنصور مِعن بن زائدة الشيباني وقد أسنّ ، فرأى المنصور أن يستنصر به على الخوارج عليه في أطراف خراسان ، ففي سنة (١٥١ ه‍) كتب إليه أن يقدم عليه ، فاستخلف ابنه زائدة وقدم على المنصور ببغداد ، وكان المهديّ ابن المنصور بخراسان ، فأنفذ مِعن إليه وانصرف المهدي. وأقام معن لقتال الخوارج هناك حتّى قتل منهم خلقاً عظيماً وحتّى تصوّر أنّه قد أفناهم.

وتجرّد لبناء دار له في بلدة بُست ، فدخل جمع من الخوارج في هيئة البنّائين وأدخلوا سيوفهم في طنان القصب ، فلمّا توسّطوا الدار أخرجوا سيوفهم وحملوا عليه فقتلوه. وكان معه ابن أخيه يزيد بن مربد فتجرّد لقتالهم فقتل منهم خلقاً عظيماً. ثمّ شخص إلى بغداد في موكب ضخم من عشيرته وموالي عمّه ، فلم يظفر الخوارج له بغرّة ، فتبعوه إلى بغداد ، فلمّا صار على الجسر شدّوا عليه ، فترجّل وقاتلهم فقتل منهم كثيراً ثمّ أمّن الناس (٢).

الهُنّائي بالبحرين :

كان مِعن الشيباني لما توجه إلى اليمن قتل بها جمعاً من ربيعة ، وكان بالبحرين كثير منهم ، وكان على البحرين للمنصور أبو الساج فخرجوا عليه وقتلوه

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٨.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٤ ـ ٣٨٥.


سنة (١٥٢ ه‍) فوجّه المنصور عليهم عُقبة بن سلم الهُنّائي ، فقتل بها كثيراً من ربيعة اقتصاصاً لما فعل مِعن باليمن! وسبى كثيراً منهم وهم عرب مع مواليهم! ودفع خمسين منهم إلى رسول الخليفة المنصور إليه ليبيعهم بالبصرة! فقدم بهم البصرة ووقف بهم في المربد وأظهر أنّه يريد صلبهم وضرب أعناقهم. وكان سوّار بن عبد الله العنبري قاضي البصرة فأحضره وحبسهم وكتب إلى المنصور بخبرهم فكتب إليه بعفوهم (١)!

طبيبان من جندي شاپور للمنصور :

بعد افتتاح بغداد وسُكنى المنصور بقبّته الخضراء بها ، اصيب بضعف في المعدة فسوء استمراء وقلّة شهوة للطعام ، وكلما عالجه الأطباء زادت الأدواء ، فوصفوا له البيمارستان (المشفى) في جندي شاپور قرب الأهواز في خوزستان. وأفضل أطبائه النصارى جورج يوس بن جبرئيل بن بخت يَشوع (٢) (يسوع / عيسى) فكتب إلى عامله في جندي شاپور بإنفاذه إليه. وكان شيخاً وله زوجة أضعف منه لا تقدر على القيام.

فأحضره العامل وأكرمه وأبلغه الأمر ، فوصّى ابنه بخت يَشوع بالبيمارستان ، واستصحب معه تلميذه عيسى بن شهلاثا إلى المنصور ببغداد ، ولما حضر دعا له بالفارسية والعربية ، فأخبره المنصور بمرضه فقال له : أنا ادبّرك بمشيّة الله وعونه ، فأمر المنصور الربيع بانزاله في أحسن دوره كأحد أهله. ولم يزل جورجيوس يتلطّف له في تدبيره حتّى برئ وفرح ، وأمر خادمه سالماً

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٥.

(٢) نقل ابن أبي اصيبعة عن السُريانية : أن لفظ بخت تعني العبد ، وعندي أن البخت لفظة فارسية تعني الحظ والسعد. تاريخ مختصر الدول : ١٣٠ ، بالحاشية ٢.


أن يحمل إليه ثلاثة آلاف دينار وثلاثاً من الجواري الروميات الحسان! فردهنّ فسأله المنصور : لماذا؟ قال : نحن معاشر النصارى لا يجوز لنا أن نتزوّج بأكثر من امرأة واحدة ، فمادامت المرأة حيّة لا نأخذ غيرها!

وفي سنة (١٥٢ ه‍) مرض جورجيوس فاستأذن المنصورَ للانصراف إلى أهله وولده وليموت فيهم. فقال له المنصور : يا حكيم! إتق الله وأسلم وأنا أضمن لك الجنة! فقال جورج : قد رضيت بحيث آبائي ، سواء في الجنة أو في النار! ثمّ خلّف لديه تلميذه عيسى بن شهلاثا وشهد له بالمهارة. فأمر المنصور لجورج بعشرة آلاف دينار وخادم وأذن له بالعودة ، واتّخذ تلميذه عيسى طبيباً خاصاً.

فأخذ عيسى بأذية المطارنة والأساقفة ومطالبتهم بالرشاوى ، حتّى سافر مع المنصور إلى نصيبين ، فكتب عيسى إلى مطرانها قوفريان والتمس منه أن ينفذ إليه من آلات البيعة هناك أُموراً جليلة ثمينة لها قدر ، وتوعّده وهدّده إن منعه ذلك وكتب إليه : ألست تعلم أن أمر الخليفة في يدي إن أردتُ شفيته وإن أردتُ أمرضتُه! فتوصل المطران بكتابه إلى الربيع الحاجب وشرح له وأقرأه كتابه! وأوصله الربيع إلى الخليفة وأوقفه على الأمر ، فأمر المنصور بمصادرة أمواله وتأديبه ونفيه ، ففُعل به ذلك ، ثمّ نفي أقبح نفي (١).

وفي خبر الحلبي أن بخت يشوع عجز عن علاج مغَص الخليفة ، وأراد أن يريه مهارته فأخذ ماءً وصبّ عليه دواء فعقده جليداً ثمّ صبّ عليه دواء فأذابه فقال للخليفة : هذا طبّي إلّاأني عجزت عنك ، اللهم إلّاأن يكون رجل مستجاب الدعوة ذو منزلة عند الله يدعو لك. فقال الخليفة : عليَّ بموسى بن جعفر عليه‌السلام فلمّا أتوه به سمع أنين الخليفة قبل أن يصل إليه فدعا له وزال المغص عنه.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٤ ـ ١٢٥.


فلمّا دخل عليه قال له : عليك بحق جدك المصطفى بمَ دعوت لي؟ قال : قلت : اللهم كما أريته ذلّ معصيته فأره عزّ طاعتي لك (١) فلعلّ هذا هو العلّة لعدم تعرض المنصور للكاظم عليه‌السلام طوال عشرة أعوام حتّى هلك سنة (١٥٨ ه‍).

زواج الكاظم بامّ الرضا عليهما‌السلام :

قبل نقل أخبار إحضار الصادق عليه‌السلام إلى بغداد وقوله للمنصور : «وما أرى هذه السنة تتم لي» علّقت عليه ذكر الاختلاف في عمر الرضا عليه‌السلام بين خمس وخمسين سنة ، ذكره الكليني وقال : الا أن هذا التاريخ هو أقصد إن شاء الله (٢) ولم يعلّل. وبين ما رواه هو بسنده عن ابن سنان قال : قُبض الرضا عليه‌السلام وهو ابن تسع وأربعين سنة وأشهر (٣) المتأيد بخبر نصر الجهضمي في «تاريخ أهل البيت» : أنّه ولد بعد وفاة الصادق عليه‌السلام بخمس سنين (٤) وكذا خبر الصدوق عن غياث بن اسيد (٥). والمتأيد أيضاً بعدم ذكر للصادق عليه‌السلام في خبر زواج الكاظم عليه‌السلام ، ولذا رجّحنا تأجيله إلى هنا أي إلى عام (١٥٢ ه‍) قبل ميلاد الرضا عليه‌السلام بسنة.

ثمّ اختلف الخبر في زواج الكاظم بأُم الرضا عليهما‌السلام بين : شرائها له ، وبين هبتها له من امه حميدة ، ولا أستبعد الجمع بينهما بأن يكون الرضا عليه‌السلام اشتراها لُامه ثمّ وهبتها امّه له ، فإلى الخبرين :

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٨٦.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٤٩٢.

(٤) تاريخ أهل البيت : ٨٣ ونقل فيه المحقّق خبر ابن سنان عن ابن الخشاب ، ولم يذكر الكافي.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٠٠ ، باب مولد الرضا عليه‌السلام ، الحديث الأوّل.


رجل من أهل المدينة نخّاس يجلب الجواري إليها للبيع ، رحل إلى المغرب (العربي فيما بعد) واشترى جارية وصيفة من أقصى المغرب واصطحبها لمقرّه ، فلقيتْه امرأة من أهل الكتاب (النصارى) ورأت معه الوصيفة فكأ نّها تفرّست فيها شيئاً ، فسألت الرجل : ما هذه الوصيفة معك؟ قال : اشتريتها لنفسي! فقالت : إن هذه الجارية ما ينبغي أن تكون عندك! بل إنّما ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض! فلا تلبث حتّى تلد منه غلاماً ما يولد مثله بشرق الأرض ولا غربها!

ثمّ اشترى الرجل سبع جوار اخرى وحملهن معه إلى المدينة. فروى الكليني بسنده عن هشام بن الأحمر أنّه دخل على الكاظم عليه‌السلام فقال له : هل علمت أحداً قدم من المغرب؟ قال : لا ، قال : بلى قد قدم ، فانطلق بنا إليه. قال : فركب وركبت معه حتّى انتهينا إلى الرجل فإذا هو رجل من أهل المدينة ومعه رقيق ، فقلت له : اعرض علينا. فعرض علينا سبع جوار ، وأبوالحسن يقول : لا حاجة لي فيها ، ثمّ قال له : إعرض علينا. فقال : ما عندي إلّاجارية مريضة وأبى أن يعرضها ، فانصرف الكاظم عليه‌السلام.

قال هشام : ثمّ أرسل عليّ في الغد وأرسلني إليه وقال لي : قل له : كم كان غايتك فيها؟ فإذا قال كذا وكذا فقل : قد أخذتها! فأتيته فقال : ما أنقُصها من كذا وكذا ، فقلت : قد أخذتها. فقال : هي لك ، ما عندي أكثر من هذا! فأخبَرني عن قول المرأة من أهل الكتاب بالمغرب ـ كما مرّ قال : فأتيت بها إلى الكاظم عليه‌السلام (١).

وكأنّه عليه‌السلام اشتراها لُامّه حميدة المصفّاة ، وكانت جارية مولّدة نشأت بين العرب وتأدّبت بآدابهم ، واسمها بالعربية : تُكتم. وكانت أفضل امرأة في دينها وعقلها وإعظامها لمولاتها حميدة ، حتّى أنّها من إجلالها لمولاتها

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٨٦ ـ ٤٨٧ ، باب مولد الرضا عليه‌السلام ، الحديث الأوّل ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٩٧ ، الباب ٣ ، الحديث ٩.


ما جلست بين يديها منذ ملكتها ، فكأ نّها رأتها تناسب ابنها الكاظم عليه‌السلام وعمره (٢٤) عاماً فقالت له : يا بُني ، إني ما رأيت جارية أفضل من تُكتم ، فلا أشك أنّ الله سيظهر نسلها ، وقد وهبتها لك فاستوصِ بها خيراً ، فتزوّجها (١).

الإباضية بأفريقية :

كان للمنصور على افريقية الياس بن حبيب الفهري فقُتل ، فولّى ابن أخيه حبيب بن عبد الرحمن الفهري فوثب عليه عاصم الإباضي فقتله ، وقد كثرت الإباضية بها فولّوا عليهم منهم عبد الأعلى المعافري فغلبوا على البلد واستفحل أمرهم بالقيروان. فولّى المنصور محمّد الخزاعي فقدم إلى طرابلس. وزحف إليه المعافري من القيروان فقتل المعافري وأرسل الخزاعي برأسه إلى المنصور ببغداد ، وصار هو إلى القيروان. وكان بها جند من خراسان عليهم هاشم الخراساني خرج على الخزاعي فأخرجوه ، وولّوا عليهم منهم عيسى بن موسى الخراساني! ثمّ ولّوا الحسن بن حرب ، فكتب المنصور إليه بولاية البلد ، ثمّ ولّى عمر بن حفص المهلّبي الأزدي ، فوثب به يعقوب الكندي الإباضي من خارج قيروان فحاصروا المهلّبي حتّى قتلوه سنة (١٥٣ ه‍) (٢).

ميلاد الرضا عليه‌السلام :

ضمن حوادث سنة (١٤٧ ه‍) قبل وفاة الصادق عليه‌السلام بسنة ، وقبل أخبار إحضاره عليه‌السلام إلى بغداد ، علّقت على القول بمولد الرضا عليه‌السلام بُعيد وفاة جدّه

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٩٣ ـ ٩٤ ، الباب ٢ ، الحديث ٧.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦.


الصادق عليه‌السلام ، بترجيح خبرَي الكليني عن ابن سنان (١) ونصر الجهضمي (٢) بما يقتضي ترجيح زواج الكاظم عليه‌السلام في عام (١٥٢ ه‍) وفي عنوانه أعدنا القول بما يقتضي ترجيح مولد الرضا عليه‌السلام في عام (١٥٣ ه‍).

وقد نصّ الصدوق عليه بسنده عن غياث بن أُسيد عن جماعة من أهل المدينة قالوا : ولد الرضا عليه‌السلام بالمدينة سنة (١٥٣ ه‍) بعد وفاة الصادق عليه‌السلام بخمس سنين ، لإحدى عشر ليلة خلت من ربيع الأوّل (٣) ونقله عنه الطبرسي ولكنّه غيّر الربيع الأوّل إلى ذي القعدة بلا ذكر علّة (٤) وتُرك المنقول عنه وإنّما اشتهر ما نقله الطبرسي مصحّفاً!

امّه : ام ولد ولدت بين العرب ونشأت مع أولادهم وتأدّبت بآدابهم ، واسمها بالعربية : تُكتم ، فلمّا ولدت الرضا سمّاها الطاهرة ، وكان الرضا تام الخلقة بادناً يرتضع كثيراً ، وكان لُامه من صلاتها وتسبيحها أوراد نقصت بكثرة الرضاع ، فقالت : أعينوني بمرضع. فقالوا : أهل نقص الدَرّ؟ فقالت : لا ولكن نقص وردي لصلاتي وتسبيحي (٥).

تتمة أخبار المغرب :

وخرج المنصور من بغداد إلى القدس وولّى يزيد بن حاتم المهلّبي الأزدي

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٤٩٢.

(٢) تاريخ أهل البيت : ٨٣ ونقل المحقّق فيه خبر ابن سنان عن ابن الخشاب.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٠٠ ، باب مولد الرضا عليه‌السلام ، الحديث الأوّل.

(٤) إعلام الورى ٢ : ٤٠.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٩٤ ، الباب ٢ ، الحديث ٧.


المغرب سنة (١٥٤ ه‍) ، فخرج يزيد المهلّبي إلى الشامات والجزيرة واستنفر من حضر ثمّ خرج إلى مصر فافريقية فطرابلس في خلق عظيم ، وقامت الحرب بينه وبين يعقوب الكندي الإباضي بطرابلس أياماً ، حتّى قُتل وخلق عظيم من أصحابه ، ودخل يزيد المهلّبي القيروان سنة (١٥٥ ه‍) ونادى فيهم بالأمان ، وأقام إلى آخر خلافته المنصور والمهديّ وموسى (١).

وطالقان وديلمان وكاشغر :

وبلغ المنصور تمرّد أهل طالقان وديلمان ، فوجّه إليهم بعمرو بن العَلاء التميمي البصري ، ففتح الطالقان وديلمان وسبى منهم سبايا كثيرة ، ثمّ صار إلى طبرستان فأقام بها (وتوفي ١٥٤ ه‍ (٢)).

ووجّه المنصور بمولاه ليث إلى فرغانة وعليها ملك ببلدة كاشغر ، فحاربهم محاربة شديدة حتّى صالحوه على مال كثير.

وكان عبد الله بن عبد الملك بن مروان قد بنى بثغر الروم حصن المَصّيصة ، كان الروم يأتون عليهم متى ما شاءوا ويستبيحونهم ، فبنى المنصور عليها سوراً وخندق حوله وأسكنها جيشاً مقاتلاً وحمل إليها جمعاً من المحبوسين.

وبهذه الحجج جمع أموال الناس حتّى ما ترك عند أحد زيادة وفضلاً ، فكان مبلغ ما أخذ ثمانمئة ألف ألف (مليون) درهم (٣).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٠٤ ، وفي تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٩ : وقيل : مات (١٦٨ ه‍) وهو أحد القرّاء السبعة.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٧.


وفي (١٥٥ ه‍) أراد المنصور معرفة عدد أهل العراقَين الكوفة والبصرة فأمر بعدّ دورهما وقسمة خمسة دراهم على كل دار ، فلمّا عرف عددهم جباهم كل دار أربعين درهماً (١) فقال بعضهم :

يا لقومي ما لقينا من أميرالمؤمنينا

قسّم الخمسة فينا وجبانا أربعينا

فبنى بها للمصرَين سوراً وخندقاً من أموال أهلهما (٢).

وفي (١٥٦ ه‍) أغزى زفر بن عاصم الهلالي إلى الروم فأغار على قونية وقُنبة (٣) وتوفي حمزة بن حبيب الكوفي أحد القرّاء السبعة ، وعنه أخذ الكسائي (٤).

وفي (١٥٧ ه‍) مات عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (٥) كان من سبى اليمن فنزل الشام بدمشق في الأوزاع فنُسب إليهم (٦) والأوزاع كانت قرية على طريق باب الفراديس من دمشق ، وهم بطن من همْدان أو ذي الكلْاع ، وسكن قرية حنتوش على باب بيروت فدفن في قبلة مسجدها (٧).

وفاة أبي مخنف لوط المؤرّخ :

في عام (١٥٧ ه‍) أو (١٥٨ ه‍) توفي أبو مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن سالم الأزدي الغامدي الكوفي المؤلّف لأخبار التواريخ المختلفة في صدر

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٣.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨١.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٩.

(٥) تاريخ خليفة : ٢٨٢.

(٦) مروج الذهب ٣ : ٣٠٤.

(٧) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٠.


الإسلام (١) وبخاصة لأخبار طلب البيعة ليزيد بن معاوية من الحسين عليه‌السلام وإبائه وخروجه من المدينة إلى مكة ثمّ إلى العراق فكربلاء فقتله بها ، ثمّ أسر اسرته وسبيهم إلى الكوفة ثمّ الشام ثمّ عودتهم إلى المدينة ، والتي أسماها بكتاب «مقتل الحسين» والذي رواه عنه هشام بن محمد بن السائب الكلبي الكوفي النسابة (م ٢٠٤ أو ٢٠٦ ه‍) وعنه الطبري في تاريخه ثمّ المفيد في «الإرشاد» بالعمدة (٢).

وقد حقّقت الكتاب وفي مقدمته ترجمت له واستظهرت مولده نحو الثمانين للهجرة ، وبدايته بمتابعة أخبار مقتل الحسين عليه‌السلام نحو المئة للهجرة وفراغه منها نحو المئة والعشرين فطبيعي أن العباسيين أفادوا من هذا الكتاب وأخباره لإثارة ثورتهم على الأمويين ، من دون أن يكون لدينا أي مؤشّر إلى قيام أي ارتباط أو علاقة عضوية بين أبي مخنف والدعوة العباسية. وامتاز تحقيقي للكتاب بدراسة أسناد تلك الأخبار بالتفصيل في مقدمة الكتاب.

حجّ المنصور وهلاكه بمكّة :

حجّ المنصور بعد وفاة الصادق عليه‌السلام في سنة (١٥٢ ه‍) (٣) وبلغ خبر ارادته الحجّ لسنة (١٥٨ ه‍) إلى مكة والمدينة ، وكان علي بن أبي حمزة البطائني بمحضر الكاظم عليه‌السلام فقال : لا والله لا يرى أبو جعفر بيت الله أبداً! فقدم البطائني الكوفة وسمعهم يتحدثون عن حجّ المنصور فأخبرهم بكلام الإمام عليه‌السلام. وخرج المنصور فلما بلغ الكوفة وخرج حتى بلغ البستان ، اجتمع أصحابه إليه وقالوا له : فهل بقي شيء بعد هذا؟! وخرج البطائني بنفسه للحجّ فلما بلغ المنصور إلى

__________________

(١) فوات الوفيات ٢ : ١٤٠ ، والأعلام للزركلي ٣ : ٨٢١.

(٢) والذي استخرجته وحققته وعلّقت عليه ونشر بعنوان : وقعة الطف لأبي مخنف.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٠ ، واليعقوبي ٢ : ٣٩٠.


بئر ميمون في أول الحرم كان الإمام عليه‌السلام قد حجّ ، قال البطائني : فأتيته فوجدته ساجداً طويلاً ثمّ رفع رأسه إليّ وقال لي : اخرج فانظر ما يقول الناس. فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر المنصور ، فعُدت إليه وأخبرته فقال : الله أكبر! ما كان ليرى بيت الله أبداً (١).

وكان المنصور قد عهد إلى ابنه محمّد الذي لقّبه بالمهديّ ، واصطحبه معه من بغداد إلى الكوفة ، وفي الطريق في قصر عبدويه انقضّ كوكب فتطيّر ، وأحضر ابنه المهديّ وأوصاه بوصاياه بالمال والسلطان ، وعزّة أهل بيته وكرامتهم ، والتكاثر من مواليه ، والتحذير من تدخل النساء في أمره ، ثمّ ودّعه. ثمّ سار إلى الكوفة وكلّما سار منزلاً اشتدّ وجعه (٢).

وكانت علّته من بطنه. وهو أوّل خليفة قرّب المنجّمين وعمل بأحكام النجوم (٣) ، وأوّل من تُرجمت له الكتب من العجمية والسُريانية كإقليدس وكليلة ودَمنة! وهو أوّل من استكثر من الموالي واستعملهم على الأعمال وقدّمهم على العرب ، وكان أمر ولد عليّ والعباس قبله واحداً فكان هو أوّل من أوقع الفرقة بينهم (٤) حتّى قال له عمّه عبد الصمد بن علي العباسي : لقد هجمتَ بالعقوبة حتّى كأ نّك لم تسمع بالعفو؟! فقال : لأنّ آل أبي طالب لم تُغمد سيوفهم ، ونحن بين قوم قد رأونا بالأمس سوقة واليوم خلفاء ، فلا تتمهّد هيبتنا في صدورهم إلّاباستعمال العقوبة ونسيان العفو (٥)!

__________________

(١) قرب الأسناد : ٢٦٤ ، الحديث ١٢٥٩.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٢٣.

(٣) والناس على دين ملوكهم ، فانتشر في الناس ذلك ، ولذا انتشر عن الصادق عليه‌السلام النهي عنه.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٨ ، ٣٢٦.

(٥) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٣ عن ابن عساكر.


هذا ، وقد روى عنه عن أبيه عن جدّه عن ابن عباس عن النبيّ عن الله قال : «وعزّتي وجلالي لأنتقمنّ من الظالم في عاجله وآجله! ولأنتقمنّ ممّن رأى مظلوماً يقدر أن ينصره فلم يفعل»! وعنه عن النبيّ قال : «كلّ سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلّاسببي ونسبي» (١)!

وكان معه الفضل بن الربيع حاجبه ، وكان قد نهاه أن لا يدخل أحد من العامة منازله في الطريق فبعث إليه في منزل وهو في قبّة مبنية ووجهه إلى الحائط وقال له : ألم أنهك أن تدع العامة يدخلون هذه المنازل فيكتبوا فيها ما لا خير فيه؟! قال : وما هو يا أمير المؤمنين! قال : أما ترى المكتوب على الحائط :

أبا جعفر حانت وفاتك ، وانقضت

سنوك ، وأمر الله لابدّ نازل

أبا جعفر ، هل كاهن أو منجّم

يردّ قضاء الله؟ أم أنت جاهل!

قال : قلت له : والله ما أرى على الحائط شيئاً! قال : إذاً هي نفسي نُعيت إلى الرحيل ، فبادر بي إلى الحرم. فرحلنا وقد ثقل حتّى بلغنا بئر ميمون بداخل الحرم (٢) فمات بها من مكة قبل يوم التروية بيوم السبت لستّ أو سبع من ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومئة ، وله أربع وستون سنة (٣) ، وأملى وصيّة طويلة لابنه المهديّ (٤) ومات قبل السحر ، وحُمل إلى مكة ، وصلّى عليه عيسى بن موسى العباسي ، وحفروا له مئة قبر ليعمّوا على الناس ، ودُفن في غيرها (في باب

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الصولي : ٣٢٧ وفيه عنه : أن النبيّ كان يتختّم في يمينه!

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٠٧.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٢ ـ ٣٩٤.


المصلّى) ولإحرامه دُفن مكشوف الرأس (١) وخلّف ستمئة ألف ألف (مليون) درهم وأربعمئة عشر ألف ألف (مليون) دينار ، وكان مع هذا ممسكاً وينظر فيما لا ينظر فيه العوام وخلّف بنتاً وستة أبناء (٢) وكان طويلاً أسمر نحيفاً خفيف العارضين ، يخضب بالسواد ، لا يبالي أن يحفظ ملكه بهلاك غيره ، وما خلّف من الأموال لم يجتمع مثله لخليفة قبله ولا بعده ، وهو تسعمئة ألف ألف (مليون) وستون ألف ألف (مليون) واستوزر خالد بن برمك. ثمّ أبا أيوب الخوزي المورياني وكان مولاه الربيع حاجبه ثمّ استوزره (٣) وبموته بمكة اطلق سفيان الثوري وعبّاد بن كثير من الحبس (٤).

ومن مواليه حمّاد التركي قال : سمع المنصور جلبةً في بعض دوره فقال لي : انظر ما هذا؟ فذهبت فإذا بعض غلمانه جالساً وحوله الجواري وهو يضرب لهنّ بالطنبور وهنّ يضحكن! فأخبرته ، فسألني : وما الطنبور؟ فوصفته له ، فسأل : وما يدريك؟ قلت : كنت رأيته بخراسان. فقام يمشي إليهنّ فلمّا رأينه تفرّقن ، فأمر أن يضرب بالطنبور على رأس الغلام حتّى تكسّر ، وباعه! فلم يُر في داره شيء من العبث واللهو واللعب (٥) ظاهراً!

فلم يكن يظهر لندمائه بشرب ولا غناء بل يجلس وبينه وبين الندماء ستارة ، وبينهم وبينها عشرون ذراعاً ، وبينها وبينه كذلك (٦).

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٣.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٠٨.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣١٨ ، وقال : دُفن بين بئر ميمون والحجون.

(٥) تاريخ مختصر الدول : ١٢٣.

(٦) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٥ عن الصولي عن إسحاق الموصلي.


ولما مات المنصور أنفذ الربيع وصيّته إلى المهدي مع مولاهم مَنارة فأوصلها إليه في اثني عشر يوماً وأخذ الربيع البيعة له على من حضر من القوّاد والهاشميين العباسيّين (١).

المهديّ بعد أبيه المنصور :

وأحضر المهدي القوّاد والهاشميين العباسيّين وأصحابهم فبايعوه ، وقرأ عليهم وصيّة أبيه وهي طويلة ، وأظهر جزعاً عليه ، ووفدت الوفود عليه تعزّيه. وعاد الربيع لأوّل المحرم لعام (١٥٩ ه‍) ومفاتيح الخزائن معه وكان المنصور قد قبض من كثير من الناس أموالهم فأمر المهدي الربيع بإحضار دفتر القبوض ، فوجّه إلى كل من كان أبوه قبض شيئاً من ماله استحضرهم لمنتصف المحرم حيث جلس للناس عامة ، وقال لهم : هذه أموالكم مبارك لكم فيها! فحلّلوا أمير المؤمنين! من إبطائها عنكم! ثمّ أمر بإخراج من في المحابس من «الطالبيين» وغيرهم من سائر الناس ، ووصلهم وكساهم. وكان في الحبس من أيام السفاح عبد الله بن مروان الحمار ، فأخرجه وأعطاه عشرة آلاف درهم وخلّاه (٢).

المهدي ومظلمة فدك :

ويظهر من خبر رواه الكليني كأنّ الكاظم عليه‌السلام كان قد قصد المهديّ بعد المنصور :

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٢.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٤.


روى بسنده عن علي بن أسباط قال : لما ورد أبو الحسن عليه‌السلام على المهديّ ورآه يردّ المظالم ، قال له : يا أمير المؤمنين ؛ فما بال مظلمتنا لا تُرد؟ فقال : وما ذاك يا أبا الحسن؟ قال : إنّ الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فدك وما والاهما ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، أنزل على نبيّه : (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (١)) فلم يدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن هم؟ فراجع جبرئيل وراجع جبرئيل ربّه فأوحى الله إليه : أن ادفع فدك إلى فاطمة.

فدعاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لها : يا فاطمة ، إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك. فقالت : قد قبلت ذلك يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فلمّا ولّى أبو بكر أخرج عنها وكلاءها ، فأتته فسألته أن يردّها عليها فقال لها : ايتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك! فجاءت بأمير المؤمنين عليه‌السلام وأُمّ أيمن فشهدا لها. فكتب لها بتركه لها.

فخرجت والكتاب معها ، فلقيها عمر فسألها : ما هذا معك يا بنت محمّد؟ قالت : كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة! فقال : أرينيه. فأبت ، فانتزعه من يدها ونظر فيه فتفل فيه ومحاه وخرّقه!

فقال المهدي : يا أبا الحسن حُدّها لي. فقال : حدّ منها جبل احد ، وحدّ منها عريش مصر ، وحدّ منها سِيف البحر ، وحدّ منها دومة الجندل! فقال له : كل هذا؟! قال : نعم ، فإنّ هذا كلّه مما لم يُوجَف عليه بخيل ولا ركاب! فقال : هذا كثير ، وسأنظر فيه (٢) فهي مسألة فيها نظر! ثمّ لم يرد ما قلّ أو كثر.

__________________

(١) الإسراء : ٢٦ ، وهي مكية ، ويحتمل أنّها انزلت تذكيراً بها.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٥٤٣ ، باب الأنفال والفيء والخمس وحدوده ، الحديث ٥.


أحداث المهدي وبعض المحدّثين وحديثه :

كان العهد من السفّاح بعد المنصور لعيسى بن موسى العباسي ، فاشتراه منه المهديّ بعشرة آلاف درهم! فبايع لابنه موسى ثمّ لابنه هارون بعد موسى (١) وبسط يده في العطاء فأذهب كل ما خلّفه له أبوه المنصور وهو ستمئة ألف ألف (مليون) درهم وأربعة عشر ألف ألف (مليون) دينار! وقيل : إنّه فرّق في عشرة أيام من صلب ماله! عشرة آلاف ألف (مليون) درهم (٢).

وأظنّ أن الربيع لما أَطلق سفيان بن سعيد الثوري التميمي البصري من حبسه بعد المنصور ، أمره أن يأتي خليفته المهدي ببغداد فيسلّم عليه ، فأتاه ولكنّه لم يسلّم عليه بالخلافة بل سلّم تسليم العامّة! فأقبل المهدي عليه بوجه طلِق وقال له : يا سفيان! تفر منّا هاهنا وهاهنا تظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟! فقد قدرنا عليك الآن ، أفما تخشى أن نحكم فيك بهوانا؟!

فقال سفيان : إن تحكم فيّ يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل! هذا والربيع قائم على رأس المهدي متكّئ على سيفه يرقب أمره! فقال له : يا أمير المؤمنين! ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟! ائذن لي أن أضرب عنقه! فقال المهدي : ما يريد هذا وأمثاله إلّاأن نقتلهم فنشقى بسعادتهم! ولكن اكتب له بالقضاء في الكوفة! فكتب عهده ودفعه إليه ، فأخذه وهرب فلم يوجد حتّى توفي بالبصرة سنة (١٦١ ه‍) (٣).

وكأنّه استدعى قاضي الكوفة السابق شريك بن عبد الله النخعي ليحدّث أولاد المهدي ويعلّمهم ، فأبى أولاً ، ثمّ لما أكل من مأكلهم قبل بذلك ، بل بلغ به

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٥.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٢٢ ـ ٣٢٣.


الحال أن قال الفضل بن الربيع : كتب بأرزاقه إلى الجهبذ (المحاسب) فضايقه في النقص ، فقال له الجهبذ : إنك لم تَبع بَزّاً! فقال شريك : بلى والله لقد بعت أكبر من البزّ ، لقد بعت ديني (١)!

كما باع دينه لدنيا المهدي العباسيّ : غياث بن إبراهيم المحدّث لما علم أن المهديّ يحبّ سبق الحمام ، فحدّثه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا سبق إلّا في حافر أو نصل» وزاد فيه : «أو جناح» فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم! فلمّا قام وأدبر ليخرج نظر المهديّ إلى قفاه وقال له : أشهد أنّ قفاك قفا كذّاب (٢)!

وحدّث المهديّ هو عن أبيه عن جده عن ابن عباس : أنّ وفداً من العجم (الفُرس من اليمن عن أمر كسرى) قدموا على النبيّ وقد أحفَوا لحاهم وأعفوا شواربهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «خالفوهم : اعفو لحاكم وأحفوا شواربكم» ثمّ فسّر الشوارب قال : أخذ ما سقط منها على الشفة ، ولعلّه كان يمتثل ذلك.

وخطب فقرأ فيها قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ... (٣)) فاستنّها الخطباء إلى اليوم ، فهو أوّل من سنّ ذلك.

المهدي وآل زياد بالبصرة :

هلك المنصور وعلى البصرة سعيد بن دعلج ، فولّاها المهدي : عبد الملك بن أيوب النُميري ، ونقل ابن دعلج إلى سجستان (٤) فلمّا عهد إلى ابنه هارون

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣١١.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٢.

(٣) الأحزاب : ٥٦.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٩٠ ـ ٢٩١.


الرشيد عهد بولاية البصرة إليه (١) وكان آل أبي بكرة بالبصرة ينتمون بالنسب إلى ثقيف ، وبالولاء إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بنُفيع بن مسروح أحد مواليه ، هذا وأبناء عمومتهم آل زياد ينتمون إلى امية من قريش (٢).

وكان على ديوان المظالم للمهدي : مولاه سلام (٣) فتقدم إليه رجال من آل أبي بكرة فيهم الحكم بن سمرقند بظلامة ، فقدّمهم إلى المهدي ، وتقربوا إليه بولائهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال لهم المهدي : إنّ هذا اعتزاء (نسبة) ما تقرّون به إلّا عند حاجة تعرض لكم وعند اضطراركم للتقرب به إلينا! فقال الحكم : يا أمير المؤمنين ، فإنّا نسألك أن تردّنا معشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله ، وتأمر بآل زياد بن عُبيد (الثقفي) فيخُرجوا من نسبهم الّذي ألحقهم به معاوية (من أُمية) رغبة عن قضاء رسول الله : «إنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر» فيُردّوا إلى نسبهم من عُبيد في موالي ثقيف!

وقوّى ذلك أنّه قدم عليه رجل من آل زياد يسمّى الصُغدي بن سلم بن حرب! وقال للمهدي : أنا ابن عمّك! وانتسب إلى زياد! فغضب المهدي وقال له : يابن سُميّة الزانية! متى كنت ابن عمّي؟! وأمر به فوجِئ في عنقه واخرج.

وكان ممن حضره موسى بن عيسى بن موسى (العباسي) والتفت المهدي اليهم وسألهم : من عنده علم عن آل زياد؟ فما كان عندهم شيء من ذلك ، ونهض الناس. ولحق موسى بن عيسى برجل عالم بهم فسأله عنهم فأخبره خبرهم ، فطلب منه أن يكتبه له ليذهب به إلى المهدي ففعل ذلك.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ١٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ١٢٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٩٢.


فأمر المهديّ ابنه هارون الرشيد أن يكتب إلى والي البصرة يأمره أن يخرج آل زياد من ديوان قريش بل والعرب ، وأن يعرض ولد أبي بكرة على ولاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن أقرّ منهم تركه ، ومن انتمى إلى ثقيف اصطفى ماله! وأن يجعل الممتحِن منهم والمستبرئ لما عندهم : الحكم بن سمرقند (١).

فكتب بذلك إلى عبد الملك بن أيوب النُميري القيسي ، فكره أن يخرج أحد من قومه قيس إلى سواهم ، فلم ينفّذه (٢)! فعزله وولّى محمّد بن سليمان العباسي (٣) وكتب إليه كتاباً في آل زياد وأمره أن يقرأ في المسجد على جماعة الناس ، وكان في نسخة الكتاب ما يلي :

أما بعد ، فإنّ أحقّ ما حمل عليه ولاة المسلمين أنفسهم وخواصّهم وعوامهم في أُمورهم وأحكامهم ، هو العمل بينهم بما في كتاب الله والاتباع لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والصبر على ذلك والمواظبة عليه والرضا به فيما وافقهم وخالفهم ، للذي فيه من إقامة حدود الله ومعرفة حقوقه واتباع مرضاته ، وإحراز جزائه وحسن ثوابه ، ولما في مخالفة ذلك والصدود عنه وغلبة الهوى لغيره من الضلال والخسار في الدنيا والآخرة!

وقد كان من رأي معاوية بن أبي سفيان في استلحاقه زياد بن عُبيد عبد آل علاج من ثقيف ، وادّعائه ما أباه بعد معاوية عامة المسلمين وكثير منهم في زمانه ، لعلمهم بزياد وأبي زياد وأُمه ، من أهل الرضا والفضل والورع والعلم. ولم يدعُ معاوية إلى ذلك ورع ولا هدى ولا اتباع سنّة هادية ، ولا قدوة من أئمة الحق ماضية ، إلّاالتصميم على مخالفة الكتاب والسنة والعُجب بزياد في جَلده ونفاذه!

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ١٢٩ ـ ١٣٠.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ١٣٢.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٣ ، ٢٩٠.


وما رجا من معونته ومؤازرته إياه على باطل ما كان يركن إليه في سيرته وآثاره وأعماله الخبيثة! ولقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وقال : «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً» (١).

ولعمري ما وُلد زياد في حجر أبي سفيان ولا على فراشه ، ولا كان عُبيد عبداً لأبي سفيان ولا سُميّة أمة له ولا كانا في ملكه ولا صارا إليه لسبب من الأسباب (المملّكة) ... فخالف معاوية بقضائه في زياد واستلحاقه إياه وما صنع فيه وأقدم عليه (خالف) أمر الله «جلّ وعزّ» وقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتّبع في ذلك هواه ، رغبة عن الحق ومجانبة له ، وقد قال الله عزوجل: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنْ اللهِ إِنَّ اللهَ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢)).

وقد رأى أمير المؤمنين! أن يردّ زياداً ومن كان من ولد امّهم إلى نسبهم المعروف ، يلحقهم بأبيهم عُبيد وأُمهم سميّة ، ويتّبع في ذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أجمع عليه الصالحون وأئمة الهدى ، ولا يجيز لمعاوية ما أقدم عليه مما يخالف كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فاعلم أن ذلك رأي أمير المؤمنين! في زياد وما كان من ولد زياد ، فألحقهم بأبيهم زياد بن عُبيد وامهم سُميّة واحملهم عليه ، وأظهره لمن قِبلك من المسلمين حتّى يعرفوه ويستقيم فيهم. وإن أمير المؤمنين! قد كتب بذلك إلى قاضي البصرة وصاحب ديوانهم ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. كتبه معاوية بن عبيد الله (٣) سنة تسع وخمسين ومئة.

__________________

(١) الصرف : التوبة ، والعدل : المعادل فدية وكفارة.

(٢) القصص : ٥٠.

(٣) الأشعري الطبراني من طبرية الأُردن من الشام. التنبيه والإشراف : ٢٩٧.


فلمّا وصل الكتاب إلى محمّد بن سليمان وقّع بإنفاذه (١) في آل أبي بكرة ، فعرضهم الحكَم بن سمرقند ، فأقرّوا بالولاء ، إلّاثلاثة نفر فاصطفيت أموالهم (٢) إلّافي الغائبين منهم (٣) ورشوهم آل زياد فتركوهم (٤)!

وفتحوا باربَد وأفنوهم! :

في سنة (١٦٠ ه‍) تطوع نحو ألفين من أهل البصرة مع عبد الملك بن شهاب المسمعي لغزو الهند في البحر ، فتوجّه مع المتطوّعة معه في مراكبهم إلى بَلد باربَد من الهند ، وبعد وصولهم بيوم نهضوا إليهم ، وهم وثنيّون يعبدون وثناً لهم يُدعى بَدّ ، فناهضوهم ، فأقاموا عليها يومين ونصبوا عليها المنجنيقات حتّى دخلت خيلهم عليهم من كل ناحية حتّى ألجؤوهم إلى معبدهم ، فأشعلوا فيها النيران بالنفط (محمولاً معهم من البصرة) فاحترق منهم من احترق حتّى قتلوا جميعاً! وغنموا فيئهم وسبوا سبيهم. وأقاموا إلى أن يطيب البحر لركوبهم ، فأصابهم داء في أفواههم حتّى مات منهم ألف! ثمّ لما أمكنهم الرجوع انصرفوا حتّى بلغوا بعض سواحل بحر فارس فعصفت عليهم ريح ليلاً فكسرت عامة مراكبهم ، فغرق بعض ونجا بعض ، فقدموا بسبيهم إلى البصرة على الوالي محمّد بن سليمان العباسي (٥).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ١٣٠ ـ ١٣٢.

(٢) المصدر السابق ٨ : ١٣٠.

(٣) المصدر السابق ٨ : ١٢٩.

(٤) المصدر السابق ٨ : ١٣٠.

(٥) المصدر السابق ٨ : ١٢٨.


البَرم بخراسان ، واليشكري بالجزيرة :

في سنة (١٦٠ ه‍) خرج بخراسان يوسف البَرم بعسكر معه ، وكان على العسكر في خراسان سعيد بن سلَم بن قتيبة فقاتله حتّى هزمه واستباح معسكره (١) وفضّوا جموعه وحملوه إلى المهدي فصلبه (٢).

وخرج في باجرما (الشام ـ العراق) عبد السلام بن هاشم اليشكري الهمْداني بعسكره إلى نصيبين ، (في شمال العراق) وكان على خراجها المنهال بن عمران الكلابي فدفع بعشرين ألفاً من خراجها إلى اليشكري فشكره وانصرف عنها إلى رأس العين وفيها بنو تميم فمنعوه ، فأخذ إلى آمد فتلقاه عيسى بن موسى الخراساني فانهزم عسكر اليشكري ثمّ تراجعوا فانهزم عسكر عيسى وقُتل ، فكتب المهدي إلى عامل الجزيرة داود الربذي ومعه ألف رجل ، وأعانه الأتراك فساروا إلى اليشكري فقتلوهم.

وفي أثناء ذلك كتب المهدي إلى اليشكري قال : إني قد عجبت من إحداثك وبغيك ... مع شتمك أبا الحسن علي بن أبي طالب ووقوعك فيه وتَنقّصك إياه وولايتك من عاداه! فالله عصيت ونبيّه عاديت ؛ فقد أتاك حديث صادق عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فكنت المكذّب بذلك والحائد عنه ... فاعمل لنفسك أو دع.

وأجابه اليشكري : من عبد السلام بن هاشم إلى محمّد بن عبد الله! سلام على من اتّبع الهدى .. وقد علمت أني إنّما حكّمتُ حين تركتَ الأُمة تائهة مائجة ، لا حدودَها أقمتَ ولا حقوقها أدّيتَ ، اشتغلت بإمائك وتنوّقت (تأنّقت)

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٨٣.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٢٦.


في بنائك ، تغدو مع البُزاة والفهود والجنائب والكتائب لإدمان صيدك ، فإذا انثنيت من صيدك دخلت بَهوك فتغدّيت وغنّيت! فسبحان الله ما أفحش هذا ممن يدّعي خلافة الله (١)!

ونقل السيوطي عن الصولي عن المغنّي إبراهيم الموصلي قال : كان المهدي في أوّل أمره إلى سنة على ما كان عليه أبوه المنصور يحتجب عن الندماء ، ثمّ ظهر لهم وقال : إنّما اللذّة مع مشاهدتهم (٢) فكان أوّل من ظهر لهم من بني العباس (٣).

وهو أوّل من أمر بتصنيف كتب الجدل للردّ على الملحدين والزنادقة وتتبّعهم وأفنى منهم خَلقاً كثيراً (٤).

تسليم موسى بن عبد الله الحسني :

مرّ صدر خبر الكليني عن موسى بن عبد الله الحسني في صدر أخبار أخيه الأكبر محمّد الحسني ، وبقي ذيله لعهد المهدي العباسي. فيظهر من الخبر : أن أخبار إطلاق السجناء من قِبل المهدي بعد المنصور وصلت إلى مسامع موسى الحسني قال : فكنت شريداً طريداً تضيق عليَّ البلاد ، فلمّا ضاقت عليَّ الأرض واشتدّ بي الخوف ذكرت ما قال لي أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : فجئت إلى المهدي وقد حجّ (عام ١٦٠ ه‍) وهو يخطب الناس في ظلّ الكعبة ، فما شعر إلّاوأني قمت من تحت المنبر فقلت له : يا أمير المؤمنين! لي الأمان وأدلك على نصيحة لك عندي؟ قال : نعم ، ما هي؟ قلت : أدلك على موسى بن عبد الله بن الحسن

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٩٢ ـ ٢٩٣.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٣.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٥.

(٤) المصدر : ٣٢٨.


(المثنّى) فقال لي : نعم ، لك الأمان. فقلت له : أعطني ما أثق به. فأخذت منه عهوداً ومواثيق وتوثّقت لنفسي ثمّ قلت : أنا موسى بن عبد الله! فقال لي : إذاً تُكرم وتُحبا! فقلت له : حوّلني إلى بعض أهلك يقوم بأمري عنك. فقال : انظر من تريد؟ فقلت : عمّك العباس بن محمّد العباسي. فقال العباس : لا حاجة لي فيك. فقلت : ولكن لي فيك حاجة فأسألك بحقّ أمير المؤمنين إلّاقبلتني! فقبلني شاء أو أبى. وقال لي المهدي : من يعرفك؟ فقلت : هذا موسى بن جعفر (عليه‌السلام فكان حاضراً) وهذا الحسن بن زيد الحسني ، وهذا الحسن بن عبد الله بن العباس يعرفونني ، فقالوا له : نعم وكأنه لم يغب عنّا.

قال موسى : وهنا كذبتُ على جعفر (الصادق عليه‌السلام) كِذبة! قلت : يا أمير المؤمنين! ولقد أخبرني بهذا المقام أبو هذا (موسى بن جعفر عليه‌السلام) وأمرني أن أقرئك السلام وقال : إنّه إمام عدل وسخاء!

قال موسى : فأمر لموسى بن جعفر بخمسة آلاف دينار! فوصل بها عامة أصحابه ووصلني وأحسن صلتي حيث أمر لي منها بألفي دينار!

ثمّ قال موسى الحسني : فحيث ما ذكر وُلد محمّد بن علي بن الحسين (الباقر عليه‌السلام) فقولوا : صلّى الله وملائكته وحملة عرشه والكرام الكاتبون عليهم ، وخُصّوا أبا عبد الله الصادق بأطيبِ ذلك ، وجزى الله موسى بن جعفر عليه‌السلام عنّي خيراً ، فأنا والله بعد الله مولاهم (١)!

وعليه فالكاظم عليه‌السلام حجّ مع حجّ المهدي العباسي في أوائل أمره سنة (١٦٠ ه‍) وحضر خطبته في المسجد الحرام وقبل صلته ووصل بها عامة أصحابه ، وخصّ مسبّبها موسى الحسني بصلة خاصّة ، ولم ينكر عليه جهراً كذبه على أبيه

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٦٥ ، ٣٦٦ ، الحديث ١٧.


الصادق عليه‌السلام بوصف المهدي بالعدل والسخاء ، ولعلّه أنكرها سرّاً ، بل لعلّ قائلها أقرّ له بكذبه كما أقرّ في هذا الخبر. بل لعلّ الكاظم عليه‌السلام هو الذي أشار على المهدي برفع بناء المقاصير من المساجد الجوامع ، وتقصير منابرها بمقدار منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما مرّ خبرها.

بين الكاظم عليه‌السلام وأبي يوسف :

يظهر من خبر للصدوق : أن القاضي أبا يوسف كان مع المهدي العباسي ، ولعلّه كان في هذه السفرة حيث قال للإمام : اريد أن أسألك عن شيء. قال : هات. قال : ما تقول في التظليل للمُحرم؟

قال : لا يصلح. قال : فيضرب خباءه فيدخل فيه؟ قال : نعم. قال : فما فرقٌ بين هذا وذاك؟

فقال الكاظم عليه‌السلام : ما تقول في الطامث تقضي الصلاة؟ قال : لا. قال : فتقضي الصوم؟ قال : نعم. قال : ولِمَ؟ قال : إنّ هذا جاء هكذا. فقال الإمام : وكذلك المحرم ، فأُسكت أبو يوسف فقال له المهدي : ما أراك صنعت شيئاً! قال : يا أمير المؤمنين! رماني بحجّة (١).

المهدي والكعبة والمسجدان :

كانت أستار الكعبة تُجدّد دون أن يُرفع الستار السابق ، فلكثرة أستارها خاف سدنتها عليها الانهدام ، فلمّا حجّ المهدي سنة (١٦٠ ه‍) أنهوا إليه ذلك ، فأمر فجُردّت واقتصر على كسوته (٢).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٥ ، الحديث ٨٨.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٢٩.


قال اليعقوبي : وكساها القُباطي والخزّ والديباج ، وطلّى جدرانها من أعلاها إلى أسفلها بالمسك والعنبر. ولم تكن في وسط المسجد ، فاشترى من مجاوريها دورهم ومنازلهم وهدمها وزادها في المسجد وصيّر الكعبة في الوسط. وكتب إلى عامله على مصر مولاه واضح أن يحمل ما يُحتاج إليه من الذهب والفسيفساء وسلاسل القناديل والآلات فيسلّمها إلى محمّد بن عبد الرحمن ويقطين بن موسى (أبي علي بن يقطين) فحُمل في البحر من مصر : أربعمئة وأربع وثمانون اسطوانة بطول عشرة أذرع ، وبنى في المسجد أربعمئة طاق وثمانية وتسعين طاقاً! وجعل أبواب المسجد ثلاثة وعشرين باباً! وصار بين الصفا والمروة سبعمئة وأربع وخمسون ذراعاً! وبنى المعلمَين الذَين يُسعى بينهما بالهرولة بين الصفا والمروة. وصار طول المسجد من باب بني جُمح إلى باب بني هاشم إلى العلَم الأخضر : أربعمئة ذراع وأربع أذرع ، وصار مجموع الذرع المكسّر للمسجد : مئة وعشرين ألف ذراع! من باب بني شيبة إلى الكعبة ستون ذراعاً ومن الكعبة إلى باب الصفا تسعون ذراعاً.

وفي المدينة وسّع مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ضعف ما كان عليه ، وكذلك حمل إليه عُمد الرخام والفسيفساء والذهب ، ورفع سقفه ، وألبس خارج القبر الرخام (١).

وبقيت دار امتنع أربابها على يقطين بن موسى أن يبيعوها لتربيع المسجد الحرام ، ولم يجوّز الفقهاء ذلك. فقال له علي بن يقطين : يا أمير المؤمنين! لو كتبت إلى موسى بن جعفر عليه‌السلام لأخبرك بوجه الأمر في ذلك.

فكتب إلى والي المدينة : أن سل موسى بن جعفر عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها ، فكيف المخرج عن ذلك؟ فقال له

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.


الإمام عليه‌السلام : اكتب : إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى ، وإن كان الناس هم النازلون بفنائها فهي أولى بفنائها. فلمّا وصل الكتاب إليه وقرأه قبله وأمر بهدم الدار. فأتى أهل الدار إلى الإمام عليه‌السلام وسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دارهم. فكتب إليه أن : ارضخ لهم شيئاً. فأرضاهم (١).

مناوشات الروم

في سنة (١٦١ ه‍) خرج من الروم البطريرك ميخائيل بعسكره من ناحية درب الحَدث ، فأتى على قرية عقَبة حرْتَنا فظفر بأهلها ، ثمّ أتى قرية غزران فقتل منهم وسبى ثمّ أحرقها بالنار! ثمّ أتى قرية مرعش وفيها مرابطون فخرجوا وقاتلوه فلم يعمل شيئاً ، وأتى إلى جيحان فلحقه ملالة بن حكمة فلحقه بالدرب بمن معه ، فقُتلوا جميعاً.

وفي سنة (١٦٢ ه‍) غزاهم الحسن بن قحطبة الطائي فأتى بطنة ومنها بثّ سراياه ، فسبوا منهم وهدموا وحرقوا ، ووجّه ابنه محمّد بن الحسن إلى عمورية ثمّ لحقه هو بجمعه فكانت بينهم مناوشات ثمّ انصرفوا.

وفي سنة (١٦٣ ه‍) غزاهم هارون الرشيد فأصاب غنائم وسبايا وانصرف عنهم (٢).

وفي سنة (١٦٤ ه‍) غزاهم عبد الكبير العدوي فانهزم ، فحبسه المهدي.

وفي سنة (١٦٥ ه‍) غزاهم هارون الرشيد حتّى بلغ خليج القُسطنطينية (٣) وكان ملكهم لاوان وهلك وابنه صغير فملكت أُمه ايريني امرة لاوان ، فلمّا بلغها

__________________

(١) بحار الأنوار ١٠ : ٢٤٥ عن تفسير العياشي.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٨٧ ـ ٢٨٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٦.


أن المسلمين بلغوا إلى الخليج جزعت وطلبت الصلح من الرشيد ، فجرى بينهم الصلح على الفدية ، وأن تقيم له الأسواق والأدلّاء لطريقهم ، ومقدار الفدية لكل سنة سبعون ألف دينار ، فأجابته إلى ذلك ، ورجع عنها (١).

وفي الأعوام التالية :

وفي سنة (١٦٧ ه‍) أمر المهدي عبد الحميد بن الضحاك بأخذ الفداء من الروم (على ما مرّ من قرار الفدية).

وفي سنة (١٦٨ ه‍) أمر المهدي علي بن سليمان العباسي ببناء قلعة الحدَث بالثغر فبناها (٢).

ووجّه المهدي رسلاً إلى الملوك يدعوهم إلى الطاعة ، فدخل أكثرهم في طاعته ، منهم ملك طبرستان : الاصبهبد ، وملك طخارستان : شروين ، وملك فرغانة وملك أشروسنة أفشين ، وملك كابل وملك باميان : شيرو ، وملك السُغد : الإخشيد ، وملك الترك : طرخان ، وملك التغز : خاقان ، وملك التبّت ، وملك الصين فغفور ، وملك سجستان : رتبيل ، وملك السند : الرآن ، وملك الهند : فور.

وخرج إلى بيت المقدِس ، فلمّا صار في قِنّسرين وفيها قبائل تنوخ من قُضاعة ، وهم يدّعون أنهم أخوال المهدي فقدّموا إليه هدايا وهم نصارى ، فقال لهم : لا أرضى عنكم حتّى تسلموا فأسلموا ، وارتدّ أحدهم فقتل فثبتوا.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول لابن العبري الملطي : ١٢٦ ويقول : ولو كانت ذات همة لأمكنها محاصرة المسلمين ومنعهم من الخروج والفتك بهم!

(٢) تاريخ خليفة : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.


وأمر المهدي بجباية أسواق بغداد وجعل لذلك سعيد الجُرشي ، وكان أول من جبى الأسواق (١).

وفي آخر سنة (١٦٨ ه‍) أصاب الناس ظلمة وتراب أحمر على وجوههم وفي فرشهم ، وأصابهم وباء وموت كثير (٢).

المضايقة على الزنادقة :

قال السيوطي : في سنة مئة وست وستين جدّ المهديّ في تتبّع الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وإبادتهم ، وحتّى القتل على التهمة (٣).

ونقل المسعودي عن العبدي الخراساني : أنّ القاهر بالله العباسي طلب منه أخبار خلفاء بني العباس ، فقال في المنصور : هو أول خليفة ترجمت له كتب أرسطاطاليس من المنطقيات وغيرها ، وتُرجم له كتاب المجسطي لبطلميوس ، وكتاب الارتماطيفي وكتاب الاقليدس ، وسائر الكتب القديمة من اليونانية والرومية والفهلوية والفارسية والسُريانية ، واخرجت للناس فنظروا فيها وتعلقوا بتعلمها (٤). وانتشرت كتب ماني وابن ديصان ومرقيون مما نقله عبد الله بن المقفّع وغيره ، وتُرجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية ، وما صنّفه في ذلك : ابن أبي العوجاء ، وحمّاد عجرد ، ويحيى بن زياد ، ومطيع بن إياس من تأييد المذاهب المانوية والديصانية والمرقونية.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩٧ ـ ٣٩٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠١.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٠.

(٤) مروج الذهب ٤ : ٢٢٣.


فكثر بذلك الزنادقة وانتشرت آراؤهم في الناس. فكان المهدي أوّل من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب على الملحدين من الجاحدين وغيرهم ، وأقاموا البراهين على المعاندين ، وأزالوا شبَه الملحدين وأوضحوا الحق للشاكّين. وأمعن في قتل الملحدين والمداهنين ، والذاهبين عن الدين لظهورهم في أيامه وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته (١).

ويظهر من خبر الكشي عن العياشي عن يونس بن عبد الرحمن عن هشام بن الحكم مولى كندة : أنّه على عهد المهدي كتب له ابن المفضّل أو ابن المقعد الفِرق صنفاً صنفاً ، ثمّ أمر فقرئ الكتاب على الناس ، فسمع يونس الكتاب يُقرأ على باب الذهب ببغداد ، ومرة اخرى ببلدة الوضّاح البربري مولى بني امية ، حتّى قال في كتابه : وفرقة منهم يقال لهم الزُرارية نسبة إلى زُرارة بن أعين ، وفرقة يقال لهم العَمّارية نسبة إلى عمّار الساباطي ، وفرقة يقال لهم اليعفورية نسبة إلى عبد الله بن يعفور ، وفرقة يقال لهم الجواليقية نسبة إلى هشام بن سالم الجواليقي ، وفرقة أصحاب سليمان الأقطع ، فجعل لرؤوس أصحاب الصادق عليه‌السلام لكل واحد فرقة! فزعم هشام بن الحكم : أن أبا الحسن الكاظم عليه‌السلام بعث إليه قال : كفّ هذه الأيام عن «الكلام» فإن الأمر شديد! ولذا لم يُذكر يومئذ هشام بن الحكم وأصحابه. قال هشام : فانتهيت إلى قوله وكففت عن الكلام حتّى مات المهدي وسكن الأمر (٢) وعليه فالمهدي ضلّل الناس بعطف أصحاب الصادق عليه‌السلام على فِرق الزنادقة!

__________________

(١) المصدر ٤ : ٢٢٤.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٥ ، الحديث ٤٧٩ وهذه الفرق مختلفة تهويلاً وهي التي تسرّبت إلى كتب الفِرق وتكرر المضمون في ٢٦٩ ، الحديث ٤٨٥ وفي ٢٧٠ ، الحديث ٤٨٨ اتّهمه إسماعيل بن زياد الواسطي بأ نّه ما سكت وقال : مثلي لا يُنهى عن الكلام! وفي ٤٨٦ عن الرضا عليه‌السلام : أنّه كان حسداً منهم له ، وهو عبد ناصح.


المهدي استقدم الكاظم عليه‌السلام :

أسند الكليني عن محمّد بن سنان : أنّه دخل على الكاظم عليه‌السلام قبل أن يُستقدم إلى العراق بسنة وعليّ ابنه جالس بين يديه ، قال : فقال لي : يا محمّد ، أما إنّه ستكون في هذه السنة حركة (من الحكومة) قلت : وما يكون جعلت فداك؟ قال : أصير إلى هذا الطاغية (المهدي) أما إنّه لا يبدأني بسوء منه ولا من الذي يكون بعده (١) وبهذا عُرف أنّه عليه‌السلام يعني المهدي ثمّ ابنه موسى الهادي ، فإنّه بقي سليماً معهما.

وحيث ذكر في الخبر : أن ابنه علياً كان جالساً بين يديه ، يستظهر أنّ الرضا عليه‌السلام يومئذٍ كان خُماسياً تقريباً ، وحيث اخترنا مولده في (١٥٢ ه‍) يبدو أن استقدام المهدي للكاظم عليه‌السلام إلى بغداد كان في أواخر عصره.

وروى الحميري بإسناده عن أبي قتادة القمي عن أبي خالد الزُبالي منسوباً إلى منزل زُبالة من منازل المدينة إلى الكوفة قال : قدم أبو الحسن موسى عليه‌السلام زُبالة ومعه جماعة من أصحاب المهدي ، بعثهم المهدي لإشخاصه إليه ، وأمرني بشراء حوائج له ، ونظر إليّ وأنا مغموم فقال لي : يا أبا خالد ، مالي أراك مغموماً؟ قلت : جعلت فداك ، هو ذا تصير إلى هذا الطاغية ولا آمنه عليك!

فقال : يا أبا خالد ، ليس عليَّ منه بأس ، وإذا كان شهر كذا ويوم كذا فانتظرني في أوّل الميل (علامة المسافة) فإني أُوافيك إن شاء الله! قال : فما كانت لي همّة إلّاإحصاء الشهور والأيام ، ثمّ غدوت إلى أوّل الميل في اليوم الذي وعدني ، فلم أزل انتظره إلى أن كادت الشمس أن تغيب ولم أرَ أحداً! فشككت ووقع في قلبي أمر عظيم! ثمّ نظرت قرب الميل فإذا سواد قد رُفع لي فانتظرته

__________________

(١) أُصول الكافي ٢ : ٣١٩ ، الحديث ١٦ باب النصّ على الرضا عليه‌السلام.


فإذا به أبو الحسن عليه‌السلام على بغلة أمام القِطار فقال لي : إيه يا أبا خالد! قلت : لبّيك جعلت فداك! قال : لا تشكنّ ، ودّ ـ والله ـ الشيطان أنّك شككت! قلت : قد كان والله ذلك جعلت فداك! ثمّ قلت : الحمد لله الذي خلّصك من الطاغية! فقال : يا أبا خالد ، إن لهم (وليس له) إليّ عودة لا أتخلّص منهم (وليس منه) (١) ورواه الكليني (٢) والراوندي (٣) كذلك.

وحين نصل إلى الحلبي نراه يفصّل عن الزُبالي ما يلي : قال : نزل أبو الحسن الكاظم عليه‌السلام منزلنا زُبالة في سنة مُجدبة في يوم شديد البرد لا نقدر على عود نستوقد به ـ وكان الزُبالي زيدياً ـ فقال له : يا أبا خالد ، ائتنا بحطب نستوقد به. قال : قلت : والله ما أعرف في هذا الموضع عوداً واحداً! فقال : كلّا يا أبا خالد ؛ ترى هذا الفجّ (بين الجبلين) خُذ فيه فإنّك تلقى أعرابياً معه حملان حطباً فاشترهما منه ولا تماكِسه.

قال أبو خالد : فركبت حماري وانطلقت حتّى لقيت الأعرابي ومعه الحملان حطباً فاشتريتهما منه وأتيتهُ بهما ، وأتيته بما عندنا نطعَم منه ، ثمّ قال الكاظم عليه‌السلام : نقدم عليك في شهر كذا في يوم كذا عند الميل. وفي اليوم الموعود ركبت حماري وجئت حتّى نزلت عند الميل ولزقت به ، فإذا أنا براكب أمام القِطار ، فقصدت إليه فإذا به يهتف بي : يا أبا خالد ، قلت : لبّيك جُعلت فداك. قال : أتراك وفَيناك بما وعدناك؟ وانطلقت معه حتّى نزل في القبّتين اللتين كان نزل فيهما ، ثمّ قال لي : يا أبا خالد ، سلني حاجتك.

__________________

(١) قرب الاسناد للحميري : ٢٥٧ ، الحديث ١٢٤٨.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٧٧ ـ ٤٧٨ ، الحديث ٣ باب مولد الكاظم عليه‌السلام ، وعن دلائل الإمامة للحميري أيضاً في كشف الغمة ٣ : ٣٩٨.

(٣) الخرائج والجرائح ١ : ٣١٥ ، الحديث ٨.


فقلت : جُعلت فداك اخبرك بما كنت فيه : كنت زيديّ المذهب حتّى قدمتَ عليَّ وسألتني الحطب وذكرتَ مجيئك في هذا اليوم ، فعلمت أنّك الإمام الذي فرض الله طاعته!

فقال : يا أبا خالد «من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وحوسب بما عمل» (١).

فالخبر كما ترى إنّما يقتصر على ذكر منزل زُبالة ذهاباً وإياباً ثمّ لا يذكر إلى أين ولماذا؟ إلّابقرينة المقارنة مع الأخبار الأُخرى. ولم يذكر فيها التواريخ ولا الفترة بين الذهاب والإياب ، إلّاأنّ ذكر الشهر يشير إلى احتمال ذلك نحو شهر ، ولم يذكر فيها عدم إصابة المهديّ للإمام بسوء ، ولم يذكر فيها شيء عن حبس الإمام عليه‌السلام.

وجاء في «عمدة الطالب» لنسّابة آل أبي طالب : أنّه حبسه ، فرأى أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام في منامه يقول له : يا موسى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (٢)) فانتبه من نومه وعرف أنّ المراد موسى الكاظم عليه‌السلام فأمر بإطلاقه (٣).

وفصّله الذهبي عن الصّولي عن الموصليَ عن الفضل بن الربيع عن أبيه الربيع بن يونس : أنّ المهدي حبس الكاظم عليه‌السلام ثمّ أرسل عليَّ في الليل ، وكان المهدي من أحسن الناس صوتاً بالقرآن فلمّا جئته سمعته يقرأ هذه الآية .. ولما رآني قال لي : عليَّ الآن بموسى بن جعفر! فجئته به ، فقام إليه وعانقه وأجلسه إليه

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣١٩ في المغيّبات.

(٢) سورة محمّد : ٢٢.

(٣) عمدة الطالب لابن عَنبة : ١٨٥ ، وعنه في بحار الأنوار ٤٨ : ٢٤٨.


وقال له : يا أبا الحسن ، رأيت في نومي أمير المؤمنين علياً يقرأ عليَّ الآية ، أفتؤمّنني أن لا تخرج عليَّ؟! فقال : والله ما فعلت ولا هو من شأني! فصدّقه! ثمّ قال لي : يا ربيع ؛ أعطه ثلاثة آلاف دينار ، ورُدّه إلى أهله.

قال الربيع : فأحكمت أمره بالليل خوف العوائق ، فما أصبح إلّاوهو بالطريق (١).

وعليه ، فعدم إصابته بسوء في الخبر الأسبق بمعنى عدم القتل وطول الحبس ، وهذا إنّما كان في جلب المهديّ للإمام عليه‌السلام هذه المرة التي استظهرنا أنّها في أواخر خلافته ، دون تعدّد ذلك.

هذا ، إلّاأن الحلبي أرسل قائلاً : لما بويع المهدي دعا ـ ابنَ ـ حميد بن قحطبة الطائي نصف الليل وقال له : إنّ إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهرُ من الشمس! ولكنّي متوقف في حالك عندي! فقال له : أفديك بالمال والنفس! فقال : هذا لسائر الناس! قال : فأفديك بالمال والأهل والولد والروح! فلم يكتفِ وسكت! فقال : أفديك بالمال والأهل والولد والنفس والدين! فعاهده على ذلك ، ثمّ أمره بقتل الكاظم عليه‌السلام غيلة! وذهب ليرتكب ذلك.

ونام المهدي ، ثمّ انتبه مذعوراً! فأرسل إلى ـ ابن ـ حميد الطائي فنهاه عمّا أمره ، بل أكرم الإمام عليه‌السلام ووصله. لأنّه رأى في منامه علياً عليه‌السلام يقرأ عليه الآية (٢).

__________________

(١) سِيرَ أعلام النبلاء ٦ : ٢٧٢ برقم ١١٨ ، وأقدم منه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١٣ : ١٣٠ ـ ١٣١ برقم ٦٩٨٧ ، وعنه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ٢ : ٤٦٤ وبهامشه مصادر عديدة ، وكشف الغمة ٣ : ٢٥٧ ـ ٢٥٨ وبهامشه مصادر اخرى.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٢٥. وفي الكتاب : حميد بن قحطبة ، وأثبتنا الصحيح ، بدلالة السياق.


وأكثر الظن أنّ هذا الخبر المرسل المصحّف ، محرّف عن الخبر المسند السابق ، وهو أولى.

ومات المهدي وخلفه موسى :

كان المهدي دون الخمسين من عمره وله ثمانية بنون : موسى وهارون ، وعلي وعُبيد الله ، وإسحاق ويعقوب وإبراهيم ، وسمّى الأخير بلقب أبيه المنصور (١).

وكان قد عهد لابنه البكر الأكبر موسى وهو يومئذ في جُرجان ، ورأى من هارون ما عزم به على خلع موسى الهادي عن ولاية العهد والبيعة للرشيد ، وبعث بذلك إلى موسى أن يعود إليه فأبى وامتنع حتّى من القدوم إليه! فسار المهدي يريده (٢) في (١١) محرم سنة (١٦٩ ه‍) إلى الجبال ، فنزل قرية من أرض ماسبيدان يقال لها رُدين ، وخرج يتصيد ، واتبعت كلابه ضبياً فاقتحم الظبي باب خربة وتبعت الكلاب الظبي وتبعها الفرس وهو عليه فصدم به بباب الخربة ، وحُمل إلى مضاربه فتوفى في (٢٢) من محرم سنة (١٦٩ ه‍) (٣) وكان ابنه الرشيد معه فصلّى عليه ، ودفن هناك تحت شجرة جوز كان يجلس تحتها (٤).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٢.

(٢) تاريخ مختصر الدول : ١٢٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠١.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٣. وكانوا قد بنوا له قبة ارتفاعها ثمانية أمتار أُزيلت في سنة (٣٥٢ ه‍. ش) ومكانها اليوم حديقة «پارك كودك» كما في كتاب تاريخ واليان پشتكوه (ايلام) : ٦٧ لابراهيم يعقوبي.


المهدي والفاطميون :

بعد قيام الأخوين الحسنيّين محمّد وإبراهيم بالمدينة والبصرة واعتزازهم كثيراً بجدّتهم فاطمة عليها‌السلام ، كأ نّه استتبع من العباسيّين اتهام الموالين لهم بالفاطمية! فيظهر من خبر رواه الأندلسي أنّ الربيع الوزير كان أحياناً يذكر فاطمة عليها‌السلام في مجالس الرجال بسوء المقال! ووشى لدى المهدي على قاضي الكوفة شريك بن عبد الله النخعي الهمْداني بالفاطمية ، فاستحضره المهدي وقال له : بلغني أنّك فاطميّ! قال : اعيذك بالله أن تكون أنت غير فاطمي! إلّاأن تعني فاطمة بنت كسرى! قال : بل أعني فاطمة بنت محمّد! قال : فأنت تلعنها؟! قال : معاذ الله! قال : فما على من يلعنها؟ قال : لعنه الله! قال : فالعن هذا وأشار إلى الربيع!

قال : يا أمير المؤمنين ، لا والله ما ألعنها! فالتفت شريك إليه وقال له : يا ماجن! فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيّد المرسلين في مجالس الرجال (١)؟!

الكاظم عليه‌السلام والمهدي والخمر :

مرّ الخبر عن منادمة المهدي لندمائه وقوله : إنّما اللذة في المشاهدة! وكأنّه سوّلت له نفسه أن يناقش الإمام عليه‌السلام في نصّ القرآن بتصريح تحريم الخمرة. فقال له : إنّ الناس إنّما يعرفون النهي عن الخمرة في كتاب الله عزوجل ولا يعرفون التحريم لها! فقال عليه‌السلام : بل هي محرمة في كتاب الله عزوجل يا أمير المؤمنين! فقال : في أي موضع يا أبا الحسن؟!

فقال : قول الله عزوجل : (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ (٢)).

__________________

(١) العقد الفريد ٢ : ١٧٨ ، وعنه في مناقب آل أبي طالب ٣ : ٣٨٣.

(٢) الأعراف : ٣٣.


فما ظهر منها يعني الزنا المعلن والرايات التي كانت تُرفع للفواجر الفواحش في الجاهلية. وأما ما بطن فهو يعني ما نكح الآباء ، فإنّه قبل أن يبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كان للرجل زوجة ومات عنها تزوّجها ابنه إن لم تكن امّه ، فحرّم الله ذلك.

وأما «الإثم» فقد قال الله في موضع آخر : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ (١)) فالإثم في كتاب الله هو الخمر والميسر واثمهما كبير كما قال الله عزوجل.

وكان مولاه علي بن يقطين حاضراً ، وكان المهدي يتّهمه «بالرفض» فالتفت إليه وناداه : يا علي بن يقطين ، هذه والله فتوى هاشمية! فقال علي : الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم «أهل البيت»! فردّ عليه المهدي : صدقت يا «رافضي» (٢).

دعوة الزيدية ببغداد :

بلغ المهدي : أنّ عليّ بن العباس بن الحسن المثنّى وامّه من نسل أبي بكر ، قدم إلى بغداد يدعو إلى نفسه سرّاً! واستجاب له جماعة من الزيدية ، فأمر المهدي بطلبه حتّى أخذه فحبسه ، حتّى قدم إليه الحسين بن علي بن الحسن المثلث فتشفّع فيه فشفّعه ظاهراً ، ولكنّه أمر أن يدس إليه شربة سمّ عملت فيه ثمّ أطلقه له ، فأخذه الحسين الحسني إلى المدينة فمات بها بعد ثلاثة أيام (٣).

__________________

(١) البقرة : ٢١٩.

(٢) الكاص ٦ : ٤٠٦ ، وعنه ص تمهيد ار الأنوار ٤٧ : ١٤٩ ، ويكشف عن أوائل انتشار نف «الرافضة».

(٣) مقاتل الطالبيغ : ٤٠٣ ، ط. صقر.


نقل ذلك الأموي الزيدي وزاد : أنّ الحسين الحسني لما وصل إلى قصر المهدي على الجمل واستأذن ، قال المهدي للآذن : ويلك أدخله على جمله! فأدخله حتّى أناخه في وسط الدار ، فوثب المهدي إليه فسلّم عليه وعانقه وأجلسه إلى جنبه وأخذ يسائله عن أهله حتّى قال له : يابن عم ما جاء بك؟ قال : ما جئت وورائي أحد يعطيني درهماً! قال : أفلا كتبت إلينا! قال : أحببت أن احدث بك عهداً!

فدعا له المهدي بعشرة بُدر دنانير وعشرة بُدر دراهم وعشرة تخوت ثياب فدفعها إليه ، وخرج بها.

حتّى طرحها بداره ببغداد ، وجاء غرماؤه ، فلم يزل يعطيهم حتّى لم يبقَ من ذلك المال إلّاشيء يسير. ثمّ انحدر إلى الكوفة فنزل في «خان» بقصر ابن هبيرة ، وعرفه صاحب «الخان» فشوى له سمكاً وحمله إليه مع خبز «رقاق» فأعطاه بقية ما معه (١) وكانت أربعين ألف دينار ففرقها بين بغداد والكوفة! وخرج منها بفروة ليس تحتها قميص عليه (٢).

أيام موسى الهادي العباسي :

خلّف محمّد المهدي العباسي من الولد الذكور ثمانية : موسى وهارون ، وعلياً وعُبيد الله ، وإسحاق ويعقوب وإبراهيم ومنصوراً (٣) وكان قد أخذ البيعة بولاية عهده لابنه موسى ولقّبه بالهادي ، ثمّ لهارون ولقّبه بالرشيد. وكان المهدي قد أرسل موسى في عسكر جرجان ، وكان هارون معه حين هلاكه ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، ط. صقر.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٢.


فأخذ هارون البيعة لأخيه موسى وأرسل بها إليه مع وصيفهم نصير ، فبلغه ذلك بعد وفاة أبيه بثمانية أيام.

وكان المهدي قد بنى قرب بغداد بقرية يقال لها : عيسى آباد (معمورة عيسى) فارتحل موسى من جرجان بعد ثلاثة أيام إلى العراق حتّى نزل في عيسى آباد واتّخذها منزلاً واستتم بناءها.

ثمّ قطع ما كان يجريه المهدي للطالبيين من الاعطية والأرزاق ، بل كتب إلى الآفاق بطلبهم وحملهم إليه ، بل ألحّ في طلبهم حتّى أخافهم خوفاً شديداً .. فلمّا كثر من يطلبهم واشتدّ خوفهم تحرك جمع منهم إلى ملوك النواحي فقبلوهم ووعدوهم النصر والمعونة.

وكانت خراسان ساكنة هادئة الامور والملوك في الطاعة ، ولكن الهادي ولّى عليهم خاله الغطريف بن عطاء فظهرت منه امور قبيحة وضعف شديد فاضطربت البلاد (١).

واضطربت اليمن عليه .. ولم تزل مضطربة على عهد موسى الهادي كلّه.

وكان أهل الجوف من مصر قتلوا عاملهم موسى بن مصعب ، فولّى عليهم الفضل بن صالح ، فكفّ عن طلبهم ولم يُهج أحداً فسكّنهم. ثمّ خرج عليه بناحية أهناس من قرى صعيد مصر دحية بن الأصبغ في خلق كثير فقطع الطرق وأخاف السبل وتغلّب على الخراج ، فوجّه الفضل إليه عبد الله بن علي المرادي وسفيان فلقيا دحية في صحراء بُويط وناوشاه الحرب فانهزم دحية وأخذه أسيراً إلى الفضل ، فقتله وصلبه وأرسل برأسه إلى موسى (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٥.


وجاء في أخبار خطيب بغداد : أن موسى لما كان صغيراً كانت شفته العليا تتقلّص ، فوكّل أبوه به خادماً كلما رآه مفتوح الفم قال له : موسى أطبق فمك ، فيفيق على نفسه ويضم شفتيه ، فشهر بلقب : موسى أطبق! نقله السيوطي وزاد عنه : أن أباه كان قد أوصاه بتعقيب الزنادقة ، فجدّ في أمرهم حتّى قتل منهم خلقاً كثيراً.

وأردف عن الذهبي : أنّ الهادي كان يركب حماراً فارهاً ولا يقيم ابّهة للخلافة ، وكان يلعب ويتناول المسكر! وقال غيره : بل هو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة والأعمدة والقِسيّ الموترة ، فاتبعه عمّاله في ذلك (١).

وقال المسعودي : بويع وهو دون خمس وعشرين سنة .. وكان قاسي القلب ، شرس الأخلاق ، صعب المرام (٢) ، طوالاً جسيماً أبيض أشدّ الناس بدناً وأجرأهم مقدماً في تسرّع وجبرية يُنسب بهما إلى الهَوْج! واستوزر مولاه الربيع بن يونس واستقضى أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الأوسي صاحب أبي حنيفة (٣) ويجالس عيسى بن دأب من الحجاز ، وكان أكثر أهل عصره أدباً وعلماً ومعرفة بأخبار الناس وأيامهم (٤) ثمّ هلك الربيع بن يونس ، فقيل : إنّه كانت له جارية أهداها المهدي لابنه الهادي ، فلأجلها سقى الهادي الربيع شربة مسمومة قتله بها (٥).

وحضره أبو الخطّاب السعدي ينشده قصيدة في مدحه إلى أن قال :

يا خير من عقدت كفّاه حُجزته

وخير من قلّدته أمرها مُضر!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٦ ـ ٣٣٧.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٢٥.

(٣) التنبيه والإءاف : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٣٢٥.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٣٢٦.


ولم يستثن في شعره! فقال له الهادي : ويلك ، إلّامَن؟ ففكّر الشاعر وقال :

إلّاالنبيّ رسولَ الله ، إنّ له

فضلاً ، وأنت بذاك الفخر تفتخر

فقال له : الآن أصبت وأحسنت! وأمر له بخمسين ألف درهم.

ونقل الصولي بسنده عن المطلّب المُرّي : أنّهم قدموا على الهادي شهوداً على رجل شتم قريشاً وتجاوزهم إلى ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأحضر الفقهاء وأحضر الرجل وشهدوا عليه ، فتغيّر وجهه ثمّ روى عن أبيه عن جدّه عن ابن عباس قال : من أراد هَوان قريش أهانه الله! ثمّ قال للشاتم : وأنت تخطّيت إلى ذكر النبيّ عليه الصلاة والسلام! ثمّ حكم بقتله (١) ولم ينتظر فتاوى وأحكام الفقهاء ولا أبا يوسف!

خروج الحسين الحسني :

روى الأموي الزيدي باسناده قال : كان سبب خروج الحسين بن علي بن الحسن المثلث بن الحسن المثنّى بن الحسن المجتبى عليه‌السلام : أنّ موسى الهادي ولّى المدينة إسحاق بن عيسى بن علي العباسي ، فاستخلف عليها عبد العزيز العُمري من ولد عمر بن الخطاب ، فأفرط في التحامل على الطالبيّين حتّى أخذ كل واحد منهم بكفالة قريبه ونسيبه! فجعل الحسن بن محمّد بن عبد الله المحض في ضمان عمّه يحيى بن عبد الله المحض والحسين بن علي الحسني ، وطالبهم بالعرض كل يوم في المقصورة ، وولّى عليهم للعرض أبا بكر بن عيسى الحائك من موالي الأنصار! فكان عليهم أن يجتمعوا في مقصورة المسجد النبوي حتّى يأتي هذا المولى فيستعرضهم.

ففي يوم جمعة حبسهم في المقصورة إلى العصر ثمّ عرضهم فكان الحسن بن محمّد الحسني غائباً منذ ثلاثة أيام ، فقال ليحيى والحسين : لتأتيانّي به أو لأحبسنّكما!

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٩ ـ ٣٤٠ والصلاة بَتراء!


ثمّ مضى ابن الحائك فأخبر العُمريّ فدعا بهما فوبّخهما وتهدّدهما! أنّه إن لم يجئ به الحسين ليضربّنه ألف سوط ، وإن وقعت عينه على الحسن بن محمّد ليقتلنّه من ساعته! وخرجا من عنده وهما مغضبان.

ثمّ وجّه الحسين إلى الحسن بن محمّد قال : يابن عمي ، قد بلغك ما كان بيني وبين هذا الفاسق ، فامض حيث أجبت! وقال الحسن : لا والله بل أجيء الساعة إليك حتّى أضع يدي في يده!

ثمّ وجّه إلى بني الحسن وفتيانهم ومواليهم فاجتمعوا ستة وعشرين رجلاً من ولد علي عليه‌السلام ونفر من مواليهم وعشرة من الحجّاج ، وكان بينهم وبين مسيرهم إلى مكة للحجّ عشرة أيام. ولم يتخلّف عنه من الطالبيّين إلّاالكاظم عليه‌السلام (١).

ثمّ يسند الإصفهاني الأُموي الزيدي عن ابن القطّان : أنّه سمع من يحيى بن عبد الله المحض (الذي فرّ من المعركة) ومن الحسين الحسني قولهما : ما خرجنا حتّى شاورنا أهل بيتنا ، وحتّى موسى بن جعفر عليه‌السلام فأمرنا بالخروج (٢)! وهنا يسند عن عنيزة القصباني : أنّه رأى أن موسى بن جعفر عليه‌السلام جاء إلى الحسين صاحب الفخّ وركع عليه وقال له : أحبّ أن تجعلني في حلّ من تخلّفي عنك! فقال له : أنت في سعة (٣).

بل أسند الكليني عن عبد الله بن المفضل مولى ابن جعفر : أنّ الحسين دعا الكاظم إلى بيعته بعد أن احتوى على المدينة! ولكنّه لم يُكرهه عليها ، كما يأتي.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٩٤ ـ ٢٩٧.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٠٤.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.


قيام الحسين الحسني بالمدينة :

وتواعدوا أذان المؤذّن للصبح ، وأن يتنادوا : أحَد أحَد! وهنا يذكر الخبر : أن لمّا أذّن المؤذن للصبح دخلوا المسجد يتنادون أحد أحد ، وبعده يعود لينصّ على وجود منارة مُقامة عند رأس النبيّ في موضع الجنائز ، وأنّ المؤذّن كان قد صعدها ليؤذن فصعد إليه عبد الله بن الحسن الأفطس بسيفه وأمره أن يترك التثويب ب «الصلاة خير من النوم» إلى «حيّ على خير العمل» فلمّا رأى المؤذّن السيف في يده أذّن بها. فلعلّه كان الأذان الثاني للصلاة ، والأول كان للإعلام بدخول الوقت.

قال : فلمّا سمع عبد العزيز العُمري ذلك أحسّ بالشر ودُهش ، وأراد أن يقول : أغلقوا الباب وأسرجوا لي البغلة وأتوني بجبّتي واسقوني ماءً! قال : أغلقوا البغلة الباب وأطعموني جبّتي الماء! ثمّ اقتحم إلى دار جدّه عمر بن الخطاب وخرج منه إلى زقاق عاصم بن عمر ومضى هارباً على وجهه يسعى ويضرط حتّى نجا!

فصلّى الحسين بالناس الصبح ، ثمّ دعا بالحسن بن محمّد الحسني ودعا بالشهود وقال لهم : هذا الحسن قد جئت به ، فهاتوا العُمري فقد خرجت مما عليَّ ومن يميني. ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال :

أنا ابن رسول الله على منبر رسول الله وفي حرم رسول الله ، أدعوكم إلى سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. أيّها الناس ، أتطلبون آثار رسول الله في العود والحجر وتتمسّحون بهما وتضيّعون بَضعة منه (١)!

فأنا ابايعكم على كتاب الله وسنّة رسول الله ، وعلى أن يطاع الله ولا يُعصى. وأدعوكم إلى الرضا من آل محمّد ، وعلى أن نعمل فيكم بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٩٧.


والعدل في الرعية ، والقَسمْ بالسوية. وعلى أن تقيموا معنا وتجاهدوا عدوّنا. فإن نحن وفَينا لكم وفَيتم لنا ، وإن نحن لم نفِ لكم فلا بيعة لنا عليكم (١) فبايَعوه على ذلك.

وكان على مسلحة السلطان بالمدينة خالد البربري فأقبل في سلاحه ومعه أصحابه حتّى وقفوا على باب جبرئيل ، فقصده يحيى بن عبد الله بسيفه ، وأراد خالد النزول إليه ، فبدره يحيى بضربة على جبينه فقطع البيضة والمغفر والقُلنسوة وأطار قحف رأسه وسقط ، ثمّ حمل على من معه فانهزموا وتفرقوا (٢)!

وكان الهادي قد أرسل عمّه سليمان بن المنصور أميراً للحج (٣) وحجّ معه موسى بن عيسى والعباس بن محمّد العباسيين ولكنّهم بدؤوا بمكة. وكان الهادي قد أرسل عسكراً إلى الموسم مع مولاه مبارك التركي وهذا بدأ بالمدينة للزيارة ، فلمّا عسكر خارج المدينة بلغه خبر الحسين الحسني ، فأرسل إليه ليلاً : إني والله ما احبّ أن تبتلي بي ولا أبتلي بك ، فابعث الليلة إليّ عشرة من أصحابك يبيّتون عسكري ، حتّى انهزم وأعتلّ بالبيات. وطلب دليلاً يدلّه على غير الطريق العام ، فوجد الدليل. ووجّه الحسين عشرة من أصحابه فصيّحوا في نواحي عسكره ، ومضى به دليله حتّى انتهى به إلى مكة ، فصار مبارك مع اولئك القادة من العباسيّين واعتلّ لهم بالبيات (٤)!

وبعد أن احتوى على المدينة دعا الكاظم عليه‌السلام إلى بيعته فأتاه ، ولكنّه قال له : يابن عمّ! إنّ ابن عمّك ، يعني محمّد بن عبد الله المحض ، كلّف عمّك أبا عبد الله

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٢٩٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٩٧ ، ٢٩٨.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٩٤ ، واليعقوبي ٢ : ٤٠٦.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٢٩٩.


الصادق عليه‌السلام البيعة ، فخرج من أبي عبد الله ما لم يكن يريد (من إخباره بقتله) فلا تكلّفني ما كلّفه فيخرج مني ما لا اريد!

فقال له الحسين : إنّما عرضت عليك أمراً ، فإن أردته دخلت فيه ، وإن كرهته لم أحملك عليه ـ! والله المستعان! ثمّ ودّعه ، فقال له أبو الحسن موسى حين ودّعه : يابن عمّ ، إنك مقتول! فأجدّ الضّراب ، فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويسرّون شركا! وإنا لله وإنّا إليه راجعون ، عند الله أحتسبكم من عصبة! ثمّ خرج (١).

خروجه إلى مكة وقتاله ومقتله :

واستعدّ الحسين للخروج إلى مكة ، بمن تبعه من أهله ومواليه وأصحابه زهاء ثلاثمئة ، واستخلف على المدينة دينار الخزاعي ، وخرج بهم (٢) وكان أمير مكة عُبيد الله بن قُثم العباسي (٣) فكأ نّه توافق مع أمير الحاج سليمان بن المنصور ، فقدّموا العباس بن محمّد العباسي لمواجهة الحسين ، فلمّا قرب ركب الحسين إلى مكة وصاروا بالبُلْدح وفخّ تلقاهم العباس بعسكره ، فعرض عليه العفو والأمان والصلة! فأبى شديداً ، ثمّ أقعد رجلاً على جمل وأملى عليه فناداهم : يا معشر المسوِّدة ، هذا الحسين ابن رسول الله وابن ابن عمّه ، يدعوكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٦٦.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٢٩٩.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٩٤.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٢٩٩.


أمّا موسى بن عيسى العباسّي فإنّه دعا أبا العرجا الجمّال أن يُحضره جِماله. قال : فجئته بمئة جمل ذكر ، فختم على أعناقها لكي لا تفتقد ، ثمّ تهيّأ للمسير إلى الحسين صاحب فخّ ، فسار حتّى بلغنا بستان بني عامر فنزل ، ثمّ قال لي : اذهب إلى عسكر الحسين حتّى تراه وتخبرني بكل ما رأيت! فمضيت ودرت فما رأيت خللاً ولا فللاً! وما رأيت إلّامصليّاً أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف ، أو مُعدّاً للسلاح! قال : فجئته فأخبرته ، فضرب يداً على يد وبكى حتّى ظننت أنّه سينصرف ثمّ قال : هم والله أكرم عند الله وأحقّ منّا بما في أيدينا! ولكن الملك عقيم! ولو أنّ صاحب القبر (يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله) نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف! ثمّ نادى لغلامه : يا غلام ، اضرب بطبلك. ثمّ سار إليهم.

والتحق به مبارك التركي بعسكره ، فغضب عليه موسى العباسي لانهزامه عن الحسين بالمدينة حتّى حلف ليجعلنّه سائساً للاصطبل (١).

وقاد عسكر العباسيّين : العباس بن محمّد ، وموسى بن عيسى ، وجعفر ومحمّد ابنا سليمان ، ومبارك التركي ، والحسن الحاجب ، والحسين بن يقطين (أخو علي بن يقطين) ومنارة. والتقوا يوم التروية صباحاً.

وأمر موسى بالتعبئة ، فصار محمّد بن سليمان في الميمنة ، وموسى في الميسرة ، وسليمان بن المنصور والعباس بن محمّد في القلب. وبدؤوا بموسى فحملوا عليه فاستطرد لهم شيئاً إلى بطن الوادي ، فحمل عليهم محمّد بن سليمان من خلفهم فطحنهم طحنة واحدة حتّى قتل أكثر أصحاب الحسين الحسني ، وجعلوا ينادونه : يا حسين لك الأمان! فيقول : ما أُريد الأمان ، واستمرّ يحمل عليهم حتّى قُتل. رماه حمّاد التركي بسهم فقتله ، فوهب له محمّد بن سليمان مئة خلعة ومئة ألف درهم!

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٠١.


أما الحسن بن محمّد الحسني (مسبّب الحرب) فأصابته نُشّابة في عينه فاستمرّ يقاتلهم ، فناداه محمّد بن سليمان : يابن خال اتقِ الله في نفسك فلك الأمان! فقال : والله مالكم أمان ولكنّي أقبل منكم! ثمّ كسر سيفه وأقبل إليهم ، فحمل عليه عُبيد الله بن العباس بن محمّد فطعنه ، وقتله أبوه صبراً (١).

ويظهر من خبر أنّ الكاظم عليه‌السلام كان في الموسم في الحج ، ومعه جماعة من ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام فأحضرهم موسى العباسي ، ثمّ جاء جنده برؤوس القتلى وفيها رأس الحسين الحسني ، فقال موسى العباسي لموسى بن جعفر عليه‌السلام : هذا رأس الحسين؟ فلم يتكلّم أحد منهم بشيء إلّاالكاظم عليه‌السلام قال : نعم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون! مضى والله مسلماً صالحاً ، قوّاماً صوّاماً ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، ما كان في أهل بيته مثله! فلم يجيبوه بشيء!

ولما بلغ العُمريّ بالمدينة مقتل هؤلاء عمد إلى دورهم فأغار على أموالهم فجعلها في الصوافي المقبوضة ، وأحرق الدور!

وأنهى موسى العباسي موسم الحج ورجع إلى المدينة فجلس للناس وأمرهم بالوقيعة في آل أبي طالب ، فجعل الناس يوقعون عليهم ، حتّى لم يبقَ أحد.

ويظهر من خبر آخر أنّ موسى بن عبد الله المحض الذي فرّ إلى السند ثمّ عاد فاستأمن المهدي العباسي ، لم يخرج مع سائر بني الحسن ، وأقبل اليوم إلى موسى العباسي وعليه مِدرعة وإزار غليظ ، وفي رجليه نعلان من جلود الإبل وهو أشعث أغبر ، لم يسلّم على موسى العباسي وجلس مع الناس. وعرفه السريّ بن عبد الله العباسي فاستأذن من موسى العباسي ليعرّف موسى الحسني بنفسه ويكسف باله ، فأذن له ، فناداه : يا موسى ، قال قد أسمعت فقل.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٠٠ ، ٣٠١.


فقال له : كيف رأيت مصارع البغي الذي لا تدَعونه لبني عمكم المنعِمين عليكم! والله ما يزيدكم البغي إلّاذلة! ولو كنتم مثل بني عمّكم ـ الحسين عليه‌السلام يعني الكاظم عليه‌السلام ـ سلمتم وكنتم مثله! فقد عرف حق بني عمّه وفضلهم عليه ، فهو لا يطلب ما ليس له! فأنشد موسى الحسني يقول :

فإنّ الأُولى تُثنى عليهم ، تُعيبني

(اولاك بنو عمّي ، وعمُّهُم أُبي)

وإنك إن تمدحهمُ بمديحة

(تُصدّق ، وإن تمدح أباك تكذَّب!)

وأسروا منهم رجالاً وحملوهم إلى موسى الهادي ببغداد ، وفيهم رجل من بني زُرارة بن أعيَن ، والعذافر الصيرفي ، وسابق القلانسي (من حُجّاج شيعة الكوفة) فأمر بقتلهم ، وكان فيهم رجل من موالي العباسيين وأقرّ بذلك فقال له الهادي : والله لأقطّعنك مِفصلاً مِفصلاً بهذا السكّين! ومعه سكين أشار به. وكان عليلاً فغلبته علّته حتّى مات بها ، وسلم المولى من القتل بالتقطيع بالسكّين بيد الخليفة (١)!

وانهزم منهم يحيى بن عبد الله المحض ربيب الصادق عليه‌السلام فاستتر مدّة يجول في البلدان يطلب موضعاً يلجأ إليه (٢) وكان يصلّي قصراً (٣)! وصحبه جماعة من أهل الكوفة ومنهم من يذهب مذهب الزيدية «البترية» في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان في ست سنين من خلافته ويكفّره في باقي عمره! ويمسح على الخفّين

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٠٢ ـ ٣٠٣.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٠٩.

(٣) المصدر السابق : ٣١٠.


ويشرب النبيذ مخالفاً ليحيى (١) ثمّ استسلم يحيى لأمان الرشيد فحُمل إليه ، فأجازه بجوائز سنيّة كان مبلغها مئتي ألف دينار (٢) وكان الحسين صاحب فخّ خلّف مئتي ألف دينار ديناً فقضى بها دَين الحسين (٣).

أدارسة المغرب :

قال اليعقوبي : وهرب إدريس أخو يحيى إلى المغرب فغلب على فاس وناحية تُتاخم الأندلس واجتمع أهلها عليه ، فقيل : إنّ موسى الهادي أهدى إليه سواكاً مسموماً على يد من وجّهه إليه ، فمات ، وله جنين في بطن أُم ولد له ، فلمّا وُلد سمّته باسمه : إدريس الثاني ، فورث تلك المملكة ووُلده بعده حتّى اليوم (٤).

وذكر ابن الوردي : أنّهم احتزّوا رؤوس رؤساء أصحابه نحو مئة رأس ، واختلط المنهزمون بالحجّاج ومنهم إدريس بن عبد الله المحض وخرج مع الحجاج إلى مصر وعليها واضح الشيمي العباسي مولاهم ، فحمل إدريس على البريد إلى طنجة بالمغرب. وبلغ ذلك إلى الهادي فقتل مولاه واضحاً! ثمّ أرسل الرشيد من اغتال إدريس بالسم. فلمّا ولدت حظيّته ابناً سمّوه باسم أبيه ، ثمّ استقلّ بملكه (٥).

__________________

(١) المصدر السابق : ٣١١.

(٢) المصدر السابق : ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٣) المصدر السابق : ٣٢١.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٥ وقال : بايع أباه في الموسم خلق كثير وافاه منهم خمسئة بعد الموسم! وقال : وكان له كمال ومجد ومذهب جميل!

(٥) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٣ وصحّف فيه فخ إلى وجّ!


موسى الهادي ، والكاظم عليه‌السلام :

أرسل ابن طاووس عن أبي الوضّاح عن أبيه عبد الله النهشلي قال : حُمل الأسرى من أصحاب الحسين الحسني إلى موسى الهادي ، فلمّا بصر بهم تمثل يقول :

بني عمّنا لا تُنطقوا الشعر بعدما

دفنتم بصحراء الغميم القوافيا

فلسنا كمن كنتم تصيبون نيله

فنقبل ضيماً أو نحكّم قاضيا

ولكنّ حكم السيف فينا مسلّط

فنرضى إذا ماأصبح السيف راضيا

وقد ساءني ما جرّت الحرب بيننا

بني عمّنا ، لو كان أمراً مُدانيا

فإن قلتمُ : إنا ظلمنا. فلم نكن

ظلمنا ، ولكن قد أسأنا التقاضيا

ثمّ جعل ينال من الطالبيين إلى أن ذكر موسى بن جعفر عليه‌السلام فنال منه وقال : والله ما خرج حسين إلّاعن أمره! ولا اتّبع إلّامحبّته ؛ لأنّه «صاحب الوصية» في هذا البيت! قتلني الله إن أبقيت عليه!

وكان أبو يوسف يعقوب القاضي حاضراً وجريئاً عليه فقال له : يا أمير المؤمنين ، أقول؟ أم أسكت؟ فلم يتكلّم الهادي دون أن قال : قتلني الله إن عفوت عن موسى بن جعفر! ولولا ما سمعت من المهدي والمنصور فيما أخبر به عما كان في جعفر من الفضل المبرّز عن أهله في دينه وعلمه وفضله ، وما بلغني عن «السفّاح» فيه من تقريظه وتفضيله لنبشت قبره وأحرقته بالنار إحراقاً.

فقال أبو يوسف : نساؤه طوالق ، وعُتق جميع ما يملك من الرقيق ، وتصدّق بما يملك من المال ، وحُبس دوابه ، وعليه المشي إلى بيت الله الحرام إن كان مذهب موسى بن جعفر عليه‌السلام الخروج ، ولا يذهب إليه ، ولا مذهب أحد


من ولده ، ولا ينبغي أن يكون هذا منهم. وما كان بقي من الزيدية إلّاهذه العصابة التي خرجت مع الحسين وقد ظفر أمير المؤمنين بهم. ولم يزل يرفّق به حتّى سكّن غضبه.

وكان علي بن يقطين حاضراً فكتب بصورة الأمر إلى أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام ، فلمّا ورد الكتاب عليه وأصبح أحضر أهل بيته وجمعاً من «شيعته» وأطلعهم على ما ورد عليه من الخبر ثمّ استشارهم بهذا الصدد ، فقالوا : نشير عليك أن تباعد شخصك عن هذا الجبّار وتغيّب شخصك دونه ، فإنه لا يؤمن شرّه وعاديته وغشمهُ ، ولا سيما وقد توعّدك!

فقال لهم : ليفرّج عن روعكم ، إنّه لا يرد أوّل كتاب من العراق (بعد هذا) إلّا بموت موسى بن المهدي وهلاكه! فقالوا : وما ذاك أصلحك الله؟! فقال : سأُخبركم عنه :

بينما أنا جالس في مصلّاي بعد فراغي من وردي (نوافل الليل أو التعقيبات) وقد تنوّمت عيناي ، إذ سنح لي جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي ، فشكوت إليه موسى بن المهدي وذكرت له ما جرى منه في أهل بيته وأ نّى مشفق من غوائله.

فقال لي : لتطب نفسك يا موسى ، فما جعل الله لموسى عليك سبيلاً! ثمّ أخذ بيدي وقال قد أهلك الله آنفاً عدوّك فليحسن شكرك لله! ثمّ استقبل الكاظم عليه‌السلام القبلة ورفع يديه إلى السماء يدعو ....

وكان جماعة ممن حضر من خاصة الكاظم عليه‌السلام من أهل بيته و «شيعته» يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس (آبنوش) لِطاف وأميال (للكتابة) فأخرجوا وكتبوا ما دعا به.


ثمّ تفرق القوم فما اجتمعوا إلّالقراءة الكتاب الوارد بموت موسى الهادي والبيعة لهارون الرشيد (١).

موسى الهادي وهارون الرشيد :

قال اليعقوبي العباسي : كان لموسى الهادي من الأولاد الذكور ستة : جعفر ، وإسماعيل ، وعبد الله ، وسليمان ، وعيسى ، وموسى ، ثمّ ولد له العباس (٢) فعزم على خلع أخيه هارون من العهد بعده وتصيير ابنه جعفر وليّ العهد ، ودعا قوّاده إلى ذلك ، فسارع بعضهم وقوّوا عزمه في ذلك منهم محمّد بن فرّوخ الأزدي ، فوجّهه الهادي في عسكر كثير ليستنفر من بالجزيرة والشام ومصر والمغرب ويدعوهم إلى ذلك ومن أبى يقتله! وتوقف أغلب قوّاده وأشاروا عليه أن لا يفعل (منهم يحيى بن خالد البرمكي).

فقال له الهادي : بلغني أنّك ترضى هارون للخلافة وتعدّ نفسك لوزارته! والله لآتينّ عليكما قبل ذلك! قال : ثمّ حبسه وحبسني في موضع ضيق لا أقدر أن

__________________

(١) مهج الدعوات : ٢٦٨ ـ ٢٨١ ، وعنه في بحار الأنوار ٩٤ : ٣١٧ ـ ٣٢٧ والدعاء هو الشهير بالجوشن الصغير ، وذكر الخبر عنه بدون الدعاء في ٤٨ : ١٥٠ ـ ١٥٣ بتعاليق الخرسان القيّمة ، مسنداً عن الطوسي عن ابن الغضائري عن غير الصدوق ، والخبر موجود في أمالي الطوسي : ٤٢١ ، الحديث ٩٤٤ ، المسألة ١٥ عن الغضائري عن الصدوق ، والصدوق بطريقين في كتابيه : الأمالي : ٤٥٩ ، الحديث ٦١٢ ، المسألة ٦٠ ، الحديث ٢ وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢١٧ ، الحديث ٨٩ بمختصر الدعاء بلا نقل لشعر الهادي وتهديده ولا لكلام القاضي أبي يوسف. ومثله في مهج الدعوات أيضاً : ٣٤ ـ ٣٥ بطريقين عن الصدوق كذلك ، وعنه في بحار الأنوار ٩٤ : ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، وأُخرى عن الأماليين والعيون ٩٥ : ٢٠٩.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٦.


أمدّ رجلي فيه! حتّى جاءتني السيدة الخيزران فقالت لي : إنّ هذا الرجل! قد خَفِت الليلة وأحسبه قد قضى! فتعال انظره ، ففُتح عليَّ الباب ، وجئت فوجدته قد قضى ، فمضيت إلى هارون فأخرجته من حبسه ، وأصبح القوّاد فبايعوه (١).

ونقل المسعودي عن هارون : أنّ أباه المهدي أحضر الحُكيم بن إسحاق الصيمَري وكان يعبِّر الرؤيا فقال له : رأيت في منامي أنّي دفعت قضيبين إلى ابنَيّ موسى وهارون ، فأورق أعلى قضيب موسى قليلاً وأورق قضيب هارون كلّه! فقال الحُكيم : يملك موسى وتقل أيامه ، ويمك هارون فيبلغ آخر ما عاش خليفة. فلمّا ملك موسى قال لأخيه هارون : كأ نّي بك تحدِّث نفسك بتمام الرؤيا وتؤمّل ما أنت بعيد عنه ومن دون ذلك خرط القتاد! فقال هارون : إن وصل الأمر إليّ صيّرت أولادك أعلى من أولادي وزوّجتهم بناتي وبذلك أقضي حقّ المهدي! فانجلى عن موسى الغضب وبان السرور في وجهه ، وقال لخَزّانه : يا خَزّاني احمل إلى أخي الساعة ألف ألف دينار ، وإذا جُمع الخراج فاحمل إليه نصفه (٢)!

وأفاد قبله : أنّ خيزران زوجة المهدي ولدت ابنيه موسى وهارون بالريّ ، وادّعى المنجّم أنّ مولد الهادي يقتضي قصر عمره! وأنّ يحيى البرمكي علم ذلك ، وكان القيّم بأمر الرشيد فأراده الهادي أن يهدي الرشيد ليخلع نفسه لابنه جعفر ، فأقنعه البرمكي أنّ الناس لا يسلّمون الأمر لابنه جعفر وهو لا يبلغ الحلم ولا يرضون به لصلاتهم وحجّتهم وغزوهم ، فتسمو إليها نفوس أجلّة أهله فتخرج الخلافة من بني أبيه! بل الآكد له أن يترك أخاه على عهده ويبايع لابنه جعفر بعده ، ثمّ إذا بلغ ابنه جعفر مبلغ الرجال والهادي حيّ سأل أخاه هارون أن يقدّمه على نفسه! فرضى بذلك الهادي.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٣٤.


ولكنّه بعد ذلك عزم على خلع أخيه هارون رضي أم كره. فأشار البرمكي على هارون : أنّ قضية مولد الهادي قصيرة على ما أوجبه مولده! فعليه أن يستأذن الهادي للخروج للصيد فيطيل اشتغاله به ، ففعل وسار إلى بلاد الأنبار وهيت على شاطئ الفرات. وكتب الهادي إليه بالقدوم فتعلل الرشيد عليه ، فسنح للهادي أن يخرج إليه نحو الحديثة فمرض هناك وثقل في علّته ، فعاد إلى بغداد. ولعلّه هنا حبس يحيى بن خالد البرمكي وأراد قتله ، فمات الهادي بعلّته (١).

وقالوا في سبب وفاته : أنّه لما ولي الخلافة كانت أُمّه الخيزرانة تستبدّ بالأُمور دونه ، وذات يوم كلّمته في أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلاً فأبى عليها ، فألحّت عليه فأصرّ على الإباء ، فقالت : إذن والله لا أسألك حاجة أبداً! وقامت غاضبة! فقال لها : ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك؟! أما لك مصحف يذكّركِ أو مغزل يشغلكِ أو بيت يصونكِ؟! والله لئن بلغني أنّه وقف ببابكِ أحد من قوّادي لأقتلنّه! فانصرفت وهي لا تعقل.

فلمّا مرض أمرت ممرّضاته من جواريها بالجلوس على وجهه ، فمات (٢).

ونقله السيوطي : قال لها : أما لكِ ... أو سبحة! (يشير إلى تداولها يومئذ) ثمّ بعث إليها بطعام مسموم أطعمت منه كلبها فانتثر لحمه! فلمّا وعك أوعزت فغمّوا وجهه بالبساط وجلسوا على جوانبه حتّى مات! وقيل : بل كانت في جوفه قرحة! وقيل : بل كان مع نديم له على جرف فيه أُصول قصب مقطوع فدفع عليها نديمه وتعلق به النديم فوقعا عليه فدخل القصب في منخريهما فماتا (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٣٣.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٢٨ ، وانظر تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٣٧ وظاهر أنّ الأخير اختلُق للتبرير!


وكأنّ المسعودي قصد أن يُسعد الهادي وامه الخيزرانة فنقل : أنّه أشار إليهم أن يحضروها فجاءت حتّى جلست عند رأسه فقال لها : إنّي قد كنت نهيتكِ عن أشياء وأمرتكِ بأُخرى مما أوجبتْه سياسة الملك لا حكم الشرع ببرّكِ! وكنت لكِ بذلك صائناً برّاً وصولاً ولم أكن بكِ عاقاً! وأنا هالك في هذه الليلة مما قضى به مولدي بالري! وسيلي أخي هارون! ثمّ قبض على يدها ووضعها على صدره ثمّ قضى هكذا (١)!

ومات ببغداد في منتصف شهر ربيع الأول سنة (١٧٠ ه‍) وله (٢٤) عاماً ، وصلّى عليه أخوه هارون (٢).

وفي اليعقوبي : توفى في ليلة الرابع عشر من ربيع الأول (يوم هلاك يزيد بن معاوية) وهو ابن (٢٦) عاماً ، ودفن بقصرهم في عيسى آباد ضاحية بغداد (٣) وفي المسعودي : توفى في عيسى آباد ضاحية بغداد للثامن عشر من ربيع الأول سنة (١٧٠ ه‍) (٤) وله (٢٥) سنة (٥).

ولمّا مات الهادي أتى يحيى بن خالد البرمكي يبارك للرشيد ملكه وهو يخلّصه من سجنه ، فبينا هو يكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشّره بمولود له فسمّاه عبد الله ولقّبه المأمون (من أُمّ ولد خراسانية تسمّى المراجل) وكان قائدهم خزيمة بن خازم السلمي يعلم بعهد جعفر بن الهادي فهجم عليه وأخرجه من

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٣٣ ، فما أحلاه من خبر يطهّرهم جميعاً!

(٢) تاريخ خليفة : ٢٩٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٦.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٣٢٤.

(٥) التنبيه والاشراف : ٢٩٧.


فراشه وأخذه بخلع نفسه لعمّه الرشيد بالتهديد والوعيد : لتخلعنّها أو لأضربنّ عنقك! وأحضر معه شهوداً فخلع نفسه وأشهدهم عليه ، وحظى بها خزيمة لدى يحيى والرشيد ، فلمّا ولّي الرشيد استوزر يحيى البرمكي. ولما صلّى على أخيه الهادي وعاد إلى بغداد ، توقف عند الجسر ودعا بغوّاصين وقال لهم :

كان أبي المهدي اشترى خاتماً بمئة ألف دينار ، ثمّ وهبه لي ، فلمّا استخلف أخي الهادي أرسل رسولاً إليّ يطلب مني الخاتم وأنا هاهنا ، فأخرجتُه وألقيتُه في دجلة هنا ، فأخرِجوه لي! فغاصوا عليه حتّى أخرجوه له ، فسُرّ به (١) سروراً رابعاً بعد خلاصه من حبس الهادي والخلافة والولادة.

وفي خلافته ووزارة البرمكي أنشأ إبراهيم الموصلي يقول :

ألم تر أنّ الشمس كانت مريضة

فلمّا أتى هارون أشرق نورها

تلبّست الدنيا جمالاً بملكه

فهارون واليها ، ويحيى وزيرها

فأعطاه هارون مئة ألف درهم! والبرمكي خمسين ألفاً (٢)! وهكذا البذخ!

تعزية الكاظم عليه‌السلام للخيزران :

أرسل الحميري : أنّ الكاظم عليه‌السلام كتب إلى الخيزران أُم الخليفة يعزّيها بابنها موسى ويهنّيها بابنها هارون : إلى أُمّ أمير المؤمنين! من موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين. أما بعد ، أصلحكِ الله وأمتع بكِ ، وأكرمكِ وحفظكِ ، وأتمّ النعمة في الدنيا والآخرة لكِ برحمته.

__________________

(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٤ عن كتاب الأوراق للصولي. والسيوطي لعلّه لتقليل غلواء عطائه للشعراء أرسل : أنّه كان يتصدّق كل يوم بألف درهم! بل قال : كان يصلي كل يوم مئة ركعة : ٣٤١ ، فهل من مصدّق؟! وذكر الشعر المسعودي في مروج الذهب ٣ : ٣٣٧.


ثمّ إنّ الأُمور ـ أطال الله بقاءكِ ـ كلّها بيد الله عزوجل يمضيها ، ويقدّره بقدرته فيها والسلطان عليها ، توكّل بحفظ ما فيها وتمام باقيها ، فلا مقدّم لما أخّر منها ولا مؤخر لما قدَّم ، استأثر بالبقاء وخلق خلقه للفناء ، أسكنهم دنيا سريعاً زوالها قليلاً بقاؤها ، وجعل لهم مرجعاً إلى دار لا زوال لها ولا فناء.

لم يكن ـ أطال الله بقاك ـ أحد من قومكِ وخاصّتكِ وحرمكِ ، أشدّ لمصيبتكِ إعظاماً ، وبها حزناً ولكِ بالأجر عليها دعاءً ، وبالنعمة التي أحدث الله لأمير المؤمنين! أطال الله بقاءه دعاءً ، بتمامها ودوامها وبقائها ، ودفع المكروه فيها ، منّي والحمد لله ؛ لما جعلني الله عليه من معرفتي بفضلكِ والنعمة عليكِ ، وبشكري بلاءكِ وعظيم رجائي لكِ ، أمتع الله بكِ وأحسن جزاءكِ!

فإن رأيتِ ـ أطال الله بقاكِ ـ أن تكتبي إليّ بخبركِ في خاصة نفسكِ ، وحال جزيل هذه المصيبة وسلوتكِ عنها فعلتِ ، فإنّي بذلك مهتم ، وإلى ما يجيء من خبركِ وحالكِ فيه متطلّع ، أتمّ الله لك أفضل ما عوّدكِ من نعمته ، واصطنع عندكِ من كرامته. والسلام عليكِ ورحمة الله وبركاته.

وكتب يوم الخميس لسبع ليال خلون من شهر ربيع الآخر ، سنة سبعين ومئة (١).

نقل المجلسي هذا وقال : أقول : انظر إلى شدّة التقية على عهده عليه‌السلام ، حتّى أحوجته إلى أن يكتب بمثل هذا الكتاب ، لموت كافر لا يؤمن بيوم الحساب! فهذا يفتح لك ـ من التقية ـ كلّ باب (٢).

__________________

(١) قرب الأسناد : ٢٣٥ ، الحديث ١١٨٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٨ : ١٣٥.


الخليل بن أحمد الفراهيدي :

أسعفنا التاريخ عن الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي البصري : أنّه ولد بها سنة مئة للهجرة ، وتوفي في سنة (١٧٠ ه‍) (١) وزعم المترجمون له : أنّه كان خارجياً إباضياً أولاً ، ثمّ بتأثير فيه من أيوب السختياني محدّث البصرة وفقيهها عدل عن إباضيّته إلى مذهب أهل السنة ، لكنّه لم يلبث أن عدل عن السنية إلى التشيّع ، فقد نقل القفطي عن النيشابوري : أنّ الخليل كان يتشيّع لجعفر بن محمّد عليه‌السلام (٢). وظهرت آثار تشيّعه في شعره ؛ فقد قال الصادق عليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين» (٣) وكان عليه‌السلام يكذّب أحكام النجوم خلافاً لالتزام المنصور الدوانيقي ، وقد نقل الزبيدي عن الفراهيدي الأزدي قوله شعراً :

أبلغا عنيَ المنجّم أنّي

كافر بالذي قضته الكواكب

عالم أنّ ما يكون وما كا

ن بحكم من المهيمن واجب

شاهد أنّ من يفوِّض أو يجبِر

زارٍ على المقادير كاذب

وقال في وصاياه بالنحو والعَروض والحديث المسند :

فاطلب النحو للحجاج ، وللشعر مقيماً ، والمسندِ المرويّ

قيمة المرء كل ما يحسن المرءُ ، قضاءً من الامام علي

وارفض القول من طغام جفو عنه فعادوه ؛ نُصبةً للنبيّ (٤)

__________________

(١) الخليل بن احمد الفراهيدي ، د. مهدي اگزومي : ٤٣.

(٢) إنباء الرواة بأنباء النحاة ، فى الخليل بن احمد للمخزومي : ٤٥ ـ ٤٦

(٣) أُصول الكاص ١ : ١٦٠ ، الباب ٥٣ ، اگ ديث ١٣ : اكق والقدر.

(٤) الخليل بن احمد للمخزومي : ٤٩.


فهو يرى الجفاء والمعاداة لعلي عليه‌السلام من الطغام نصباً لنبيّ الإسلام ويوصي ب «الرفض» لهؤلاء! وفي الأبيات الأُولى تجده يشهد بكذب المفوضة والمجبّرة ذهاباً إلى ما ذهب إليه الإمامية على لسان الصادق عليه‌السلام كما مرّ الخبر.

وفي رسالة آل أعيَن : ذكر من روايات الخليل : جزء فيه خطبة النبيّ يوم الغدير بروايته (١).

وروى الصدوق بسنده عن أبي زيد الأنصاري البصري النحوي قال : سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت : لِمَ هجر الناس علياً عليه‌السلام وقرباه من رسول الله قرباه ، وموضعه من المسلمين موضعه ، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟! فقال : والله إنّ نوره بهر أنوارهم! وغلبهم على صفو كلّ منهل! والناس إلى أشكالهم أميل ، أما سمعت الأول حيث يقول :

وكل شكل لشكله أِلف

أما ترى الفيل يأ لَف الفيلا (٢)؟!

ويظهر من خبر أسنده الطوسي عن يونس بن حبيب النحوي البصري العثماني ، أنّه بعد حياة الخليل أعلمه خليله محمّد بن سلام الجُمحي : أنّه قال للخليل : أُريد أن أسألك عن مسألة فتكتمها عليَّ! ولا نعلم لماذا؟! فقال : إنّ قولك يدل على أنّ الجواب أغلظ من السؤال ، فتكتمه أنت أيضاً؟ وهذا معلوم العلّة ، قال : قلت : نعم ، أيام حياتك. قال : سل. قال : قلت : ما بال أصحاب رسول الله كأ نّهم كلّهم بنو امّ واحدة ، وعليّ بن أبي طالب من بينهم كأ نّه ابن عَلَّة (ضَرّة)؟!

قال : إنّ علياً عليه‌السلام تقدّمهم إسلاماً ، وفاقهم علماً ، وبذَّهم (فاقهم) شرفاً ،

__________________

(١) رسالة في آل أعين لأبي غالب الزراري : ٨٣.

(٢) أمالي الصدوق : ٣٠٠ ، الحديث ٣٤١.


ورجحهم زهداً ، وطالهم (طال عليهم) جهاداً ، فحسدوه والناس إلى أشباههم وأشكالهم أميل منهم إلى من بان عنهم (١).

ولعلّه لكتمانه مثله طمع فيه سليمان بن علي العباسي والي البصرة (من ١٣٣ ه‍ إلى ١٣٩ ه‍) أن يقبل تعليم أبنائه ، وبعث إليه بهدايا يتأ لّفه بها ، فأخرج كِسرة خبزة يابسة وقال للرسول : مادامت هذه عندي فلا حاجة بي إلى سليمان ، ثمّ نظم له شعراً قال فيه :

أبلغ سليمان : أني عنه في سعة

وفي غنىً ، غير أنّي لست ذا مال!

سخّى بنفسي أنّي لا أرى أحداً

يموت هزلاً ، ولايبقى على حال (٢)

بل غادر البصرة للتطواف في بوادي نجد والحجاز وتهامة يسمع من أعرابها ، ثمّ عاد فأ لّف أقدم وأقوم قاموس للّغة «كتاب العين» حتّى قيل في «جمهرة اللغة» لابن دُريد : إنّه العين مغيّراً ، وفي «تهذيب» الأزهري : أنّه العين بصياغة أُخرى : وفي «تكملة» الخارزنجي : أنّه منقول العين! وله «كتاب العروض» (٣) وهو واضعه ومبتكره في بلدة العروض بالحجاز اقتباساً من ضرب الصفّارين (٤).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٠٧ ـ ٦٠٨ ، الحديث ٤ ، المسألة ٢٨. ومع هذا لم يذكره في من لم يرو ، ولا في الفهرست لروايته خطبة الغدير ، وقد ذكره ابن النديم في فهرسته بتشيّعه : ٤٨ ، كما في قاموس الرجال ٤ : ٢٠٤.

(٢) معجم الأُدباء : ١١ (الخليل).

(٣) قاموس الرجال ٤ : ٢٠٤.

(٤) ميزان الذهب للهاشمي : ١٠ ، وراجع الشيعة وفنون الإسلام للصدر : ١١٦ و ١٣٩ ـ ١٤٠ والأصل تأسيس الشيعة له ، في واضع اللغة والعروض.


أحداث عهد الرشيد :

زحف خاقان الترك في خلق عظيم ، وخالف أهل طالقان ، فولّى الرشيد الفضل بن يحيى خراسان فشخص إليها والتقى بعسكر الخاقان والتحمت الحرب بينهما ، حتّى ضرب الفضل بسيفه على وجه الخاقان فانهزم واستباح الفضل عسكره وغنم أمواله ، وافتتح الطالقان مرّة أُخرى.

وكان يحيى بن عبد الله المحض قد هرب حتّى دخل أرض الديلم ، فأخذ يتعقّبه صاحب الديلم ، وعرض الفضل بن يحيى الأمان عليه فقبله منه فأمنه وحمله معه إلى الرشيد فحبسه (١).

نصّ الأمان والقضاة وأبي البختري :

نص إعطاء لأمان ليحيى بن عبد الله المحض الحسني كان من الفضل بن يحيى البرمكي ، وكان قد عرض نصّ الأمان بالمدينة على مالك بن أنس وابن الدرآوردي وغيرهم فقالوا : إنه مؤكد لا علّة فيه. ولكن هارون كان يريد فتوى بنقضه فأمر مولاه مسروراً أبا هاشم أن يجمع لذلك الفقهاء والقضاة ببغداد فجمعهم ، وفيهم صاحبا أبي حنيفة : القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، والحسن بن زياد اللؤلؤي وأبو البختري وهب بن وهب المدني القرشي ، وأخرج لهم مسرور الكبير الأمان وناوله للشيباني فنظر فيه فقال : هذا أمان مؤكد لا حيلة فيه! فصاح عليه مسرور : هاته! ثمّ دفعه إلى الحسن اللؤلؤي فنظر فيه وقال خافتاً : هو أمان! فاستلبه منه أبو البختري وقال لمسرور : إنه قد شق عصا الطاعة وسفك الدم ، فأمانه منتقض باطل! فاقتله ودمه في عنقي!

فدخل مسرور إلى الرشيد فأخبره فقال له : إذهب فقل له : فإن كان باطلاً

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، وفي ابن الوردي ١ : ١٩٥ : أنّها كانت سنة (١٧٢ ه‍).


فخرّقه بيدك! فجاءه مسرور فقال له ذلك وناوله سكيناً (ليشق أديمه) فأخذ السكين وجعل يشقه سَيوراً ويده ترتعد! فأخذه مسرور إلى الرشيد وصرفهم ، ومنع الشيباني من الفتيا وولّى أبا البختري قضاء بغداد مع أبي يوسف ، ووهب له ألف ألف (مليون) وستمئة ألف (١)!

وأكرمه الرشيد فحمله معه إلى الحج فلما قدم المدينة ودخل مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقبائه الأسود وهو متمنطق بمنطقة وخنجر! أعظم أن يرقى المنبر كذلك ، فتقدم إليه أبو البختري وقال : حدثني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال : نزل جبرئيل على النبي وعليه قباء ومنطقة مخنجراً فيها بخنجر! فتجرّأ الرشيد على الصعود كذلك على منبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وكذّبه يحيى بن مَعين فأخذته الشرطة ثمّ أفرجوا عنه.

وكان الرشيد يطيّر الحمام إذ دخل عليه أبو البختري فقال له الرشيد : هل تحفظ في هذا شيئاً؟ قال : حدثني هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن خالته عائشة : أن النبي كان يطيّر الحمام! وقال : لا سبق إلّافي خفّ أو حافر أو جناح! وعرف الرشيد زيفه فقال له : اخرج عني! ثمّ قال : لولا أنه رجل من قريش لعزلته (٢)!

بقية أحداث الرشيد :

أقرّ الرشيد على البصرة محمّد بن سليمان العباسي ، فصنع هذا اسطولاً بحرياً للبصرة في أكثر من ثلاثة عشر مركباً جعل عليها يحيى بن سعد السعدي

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣١٨ ، ٣١٩.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٤٨٢ ـ ٤٨٦ وعنه في قاموس الرجال ١٠ : ٤٥٩ ، ٤٦٠ برقم ٨١٢٢ وقول الرشيد : هو من قريش يذكِّر بما في اختيار معرفة الرجال : ٣٠٩ ، الحديث ٥٥٩ عنه قال : إن النار تستأمر في قرشي سبع مرات! فقال الرضا عليه‌السلام : لقد كذب على الله وملائكته ورسله. ثمّ ذكر أن أُم أبي البختري عرضت نفسها على الصادق عليه‌السلام فتزوّجها.


التميمي ، فسار في البحر إلى عمان وعاد بلا جهاد (١) ذلك أنّ غلة محمّد بن سليمان بالبصرة بلغت كل يوم مئة ألف درهم ، ومات في سنة (١٧٣ ه‍) فكان مبلغ ما قبضه الرشيد من أمواله خمسين ألف ألف درهم ونيفاً سوى الضياع والدور والمستغلات! وفيها ماتت أُمّ الرشيد خيزران ، وكانت غلّتها مئة وستين (مليون) درهم (٢).

وفي أواخر العام الأوّل من حكمه سنة (١٧١ ه‍) أمر مولاه فرج الخصي التركي فحصّن حصن طرسوس على ثغر الروم وأسكنها الناس. وأغزى إليها سليمان بن عبد الله الأصم فدخل بلاد الروم وغنم وسلم ، وقبلها قدمت الروم لفداء أسراها (٣) وكانت الثغور تابعة للجزيرة وقنسّرين فعزلها عنهما وجعلهما حيّزاً واحداً أسماها العواصم (٤).

ومرّ خبر عيسى بن شهلاثا الطبيب النصراني من جنديشاپور للمنصور وطرده. وفي سنة (١٧١ ه‍) مرض الرشيد بصداع شديد لم يعالجه أطباؤه ، فقال ليحيى البرمكي : اطلب لي طبيباً ماهراً فوصف له بَخْتْ يَشوع بن جورج يوس الطبيب النصراني الجندي شاپوري السابق للمنصور. فأرسل البريدَ لطلبه من جنديشاپور ، فجاء وأُدخل على الرشيد وعالجه فأكرمه وخلع عليه ووهبهه أموالاً وافرة وجعله رئيس أطبّائه ومنهم : يوحنّا بن ماسويه السُرياني النصراني ولّاه الرشيد ترجمة الكتب الطبية القديمة (٥).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٩٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٣٧.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٥٦ و ٢٩٥.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٤.

(٥) تاريخ مختصر الدول : ١٣٠ ـ ١٣١ ، وفيه : وهناك بختيشوعان آخران : بختيشوع بن جبرئيل وبختيشوع بن يوحنّا.


ومرّ في آخر أخبار بني مروان : أنّ عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك دخل بلاد المغرب وتقرّب إلى الناس بها وهو أعور حتّى تملكهم واستولى بهم على الأندلس وقرطبة ، ودام ملكه ثلاثاً وثلاثين عاماً ، ففي عام (١٧٠ ه‍) أمر ببناء جامع قرطبة بموضع كنيسة هناك! بمئة ألف دينار! ثمّ مات بعد سنة في (١٧١ ه‍) (١).

ونقل السيوطي عن الذهبي قال : أخبار الرشيد يطول شرحها ... وله أخبار في الغناء واللهو واللذات المحظورة! ومغنيّه المعروف إبراهيم الموصلي (٢).

وفي عام (١٧٥ ه‍) غزا عبد الملك بن صالح العباسي الروم من الصفصاف فغنم نحو عشرين ألف رأس وعاد من درب الحدث وفي سنة (١٧٦ ه‍) فتح بلدة دبسة من الروم وفي (١٧٨ ه‍) بلغت الغنائم مئتين وثلاثة وخمسين ألف دينار (٣).

استخلافه ابنه الأمين :

سبق أنّ موسى العباسي كان قد ضيّق على أخيه هارون الرشيد بحبسه ، فلمّا مات في (١٧٠ ه‍) بشّرته أُمّه بموت الهادي وولادة ابن له من جاريته الخراسانية : مراجل ، فسمّاه عبد الله ولقّبه بالمأمون. وبعده بستة أشهر ولدت له زوجته زبيدة ابنه محمّداً الأمين (٤).

فلمّا بلغ الأمين خمس سنين عزم على عقد العهد له ، فدعا قوّاده ومعهم

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٤.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٤٤.

(٣) تاريخ خليفة : ٢٩٧ ـ ٢٩٨.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٧.


عبد الصمد بن علي العباسي وأخرج لهم الأمين وجعل له وسادة وأقامه عليها وأمره أن يحمد الله ويصلّي على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ففعل. ثمّ قام عبد الصمد فقال لهم : لا يغرنكم صغر سنّه فإنّها الشجرة المباركة! أصلها ثابت وفرعها في السماء! ثمّ قام العباسيون فتكلّموا مؤيّدين ، ثمّ نُثرت عليهم الدنانير والدراهم وبيض العنبر وفأر المسك (١).

سنة الموت بمكة :

سنة (١٧٤ ه‍) كانت بمكة سنة الموت في الموسم ، وكان الكاظم عليه‌السلام قد حجّ تلك السنة ، فدخل عليه الحارث بن المغيرة النضري فسأله الإمام عن المرضى من أصحابه ، فقال له : عثمان بن عيسى من أوجع الناس ثمّ عدّد عليه ثمانية آخرين منهم ، فأمر بإخراج عيسى وأربعة آخرين وكفّ عن أربعة فماتوا ودُفنوا ، واخرج الآخرون فعافاهم الله (٢).

وقال لخالد بن نجيح : انظر ما عندك فابعث به إليّ ولا تقبل من أحد شيئاً ، وافرغ مع من كان لك معه عمل ممّا بينك وبينه حتّى يجيئك كتابي. ثمّ خرج إلى المدينة وبقي خالد بمكة ، فمرض ومات بعد أُسبوعين (٣).

فتنة البطّيخة بالشام :

وفي (١٧٦ ه‍) في بلقاء الشام قطع رجل من بني القين من مضر بطيخة من حائط لرجل من جذام ولخْم من اليمانيين! فدام القتال بينهم نحو سنتين!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٠٨.

(٢) بحار الأنوار ٤٨ : ٥٥ عن بصائر الدرجات : ٧٣ ، الباب ١ ، الحديث ٦.

(٣) المصدر السابق.


وكان على دمشق عبد الصمد بن علي العباسي فسعى للصلح بينهم ، فأجاب بنو القين واستمهل اليمانيون ، ثمّ ساروا إلى بني القين فقتلوا منهم ستمئة! واستنجد بنو القين بني القيس فساروا معهم إلى البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمئة! فعزل الرشيد عبد الصمد وولّاها إبراهيم بن صالح العباسي (١).

وفي سنة (١٧٥ ه‍) مات شريك بن عبد الله النخعي قاضي الكوفة إلى أيام المهدي ثمّ عزله الهادي ، وذكر عنده معاوية بالحلم فقال : إنّ مَن سفه الحقّ وقاتل علي بن أبي طالب فليس بحليم (٢).

وفي سنة (١٧٨ ه‍) أو (١٧٩ ه‍) توفي مالك بن أنس الأصبحي القحطاني ، وكان طويلاً أشقر ودفن بالبقيع (٣) وكان ابن تسعين سنة ، وطال به حمل أُمه ثلاث سنين (٤)! وكأنّها كرامة؟!

حركات الخوارج :

خرج صحصح الشيباني وباسير التميمي فمكث شهرين ثمّ قتل (٥) وخرج الوليد بن طريف التغلبي في ثلاثين رجلاً في شاطئ الفرات من الجزيرة إلى رأس العين فأشعل فيها النار ، ثمّ ذهب إلى باعريابا من نصيبين ثمّ تلّ أبي الجوزا فواجهه بزار التغلبي أيضاً فقُتل رجال من أصحابه وانهزم بزار إلى نصيبين. فذهب الوليد إلى دارا ففدوها منه بعشرين ألفاً! ثمّ كذلك آمد! ثمّ كذلك ميّافارقين!

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٥.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٣٩ ، وتاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٥.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٥ ـ ١٩٦.

(٤) مروج الذهب ٣ : ٣٣٩.

(٥) تاريخ خليفة : ٣٠٠.


ثمّ عبر إلى أرمينية وأرزن الروم ففدوها منه كذلك بعشرين ألفاً! ثمّ أتى خلاط وحاصرها عشرين يوماً ثمّ فدوها بثلاثين ألفاً! ثمّ عاد إلى حُلوان فواجهه يحيى الحرشي بأصحابه فقتل بعض أصحابه وهزمه ، ثمّ أتى حولايا ثمّ السودقانية ثمّ عبر إلى غربي دجلة فأتى بلد ففدوها بمئة ألف! ثمّ عاد إلى نصيبين في سنة (١٧٨ ه‍) فدخلها من ثلمة حائط أغفلوها فواجهه إبراهيم بن خازم فقتلوه وغسلوا رأسه ونصبوه يومين على الرمح ، وأباح الوليد نصيبين خمسة أيام! فقتل بها خمسة آلاف ، ونهب دواباً ومتاعاً كثيراً ، ثمّ فدوها منه بخمسين ألفاً! ثمّ خرج إلى البرية فقابله يزيد بن مزيد الشيباني فقتل يزيد الوليد وهزم جمعه (١).

وكان الفُضيل الشيباني يتولّى بني شيبان فخرج من راذان في عشرين فارساً إلى بلد الجزيرة ، فصالحوه على مئة ألف ، ثمّ أتى بلد نعمان دون نصيبين فقتل بها اثني عشر رجلاً من تغلب! وكثر جمعه إلى خمسمئة فأتى بهم نصيبين ثمّ كأ نّه تصدّق عليهم! ثمّ أتى دارا فصالحهم على خمسة آلاف! ثمّ أتى آمد فصالحهم على عشرين ألفاً! ثمّ عبر إلى ميافارقين فصالحهم على عشرة آلاف! ثمّ أتى أرزن الروم فأقام عليهم عشرين ليلة ثمّ صالحهم على عشرين ألفاً! ثمّ أتى خلاط فنصيبين فالموصل فالزّاب ، وكان تعقّبه معمّر بن عيسى العبدي في (١٢) ألفاً حتّى لحقه بالزاب فعقره وقتل أصحابه (٢).

وفاة السيّد الحميري :

في سنة (١٧٨ ه‍) أو (١٧٩ ه‍) توفي السيّد إسماعيل بن محمّد الحميري

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٢) تاريخ خليفة : ٣٠٠.


البصري وهو سبط يزيد بن المفرّغ الحميري (١). روى الكشي : أنّه اسودّ وجهه عند الموت فقال يخاطب علياً عليه‌السلام : أهكذا يُفعل بأوليائكم يا أمير المؤمنين؟! فابيضّ وجهه حتّى صار كالقمر ليلة البدر! فأنشأ يقول :

أبا حسن تفديك نفسي واسرتي

ومالي ، وماأصبحت في الأرض أملكُ

أبا حسن إنّي بفضلك عارف

وإنّي بحبل من ولاك لممسك

فأنت وصيّ المصطفى وابن عمه

وإنّا نعادي مبغضيك ونترك

مُواليك ناج مؤمن بيِّن الهدى

وقاليك معروف الضلالة مشرك

ولاحٍ لحاني في علي وحزبه

فقلت : لحاك الله إنك أعفك (٢)

احبّ الذي من مات من أهل ودّه

تلقّاه بالبشرى لدى الموت يضحك

ومن مات يهوى غيره من عدوّه

فليس له إلّاإلى النار مسلك (٣)

ويسبقه ويلحقه في الكشي خبران ثانيهما فيه حضور الصادق عليه‌السلام في سكرات موت الحميري وأ نّه ما زال حتّى ذلك الحين كيسانياً ، وأنّ الإمام اشترط عليه أن يقول بالحق ليكشف الله ما به ويرحمه ، فتجعفر السيد وقعد حياً! وأنّ الإمام كان قد انصرف يومئذ من عند المنصور إلى الكوفة! ممّا يُستبعد جدّاً.

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٦ وقال : هو حفيد ابن المفرّغ ، وهو قول الأصمعي ، وعدّله المرزباني فقال : بل سبطه ، كما في كتابه : أخبار السيد الحميري : ١٥١ تحقيق الأميني.

وفي تاريخ وفاته قال : (١٧٣ ه‍) : ١٥٢. وابن الوردي تبع ابن الجوزي في المنتظم ٩ : ٣٩ برقم ، ٩٦١ ، كما في الغدير ٣ : ٢٨٦.

(٢) أعفك : أحمق.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٧ ، الحديث ٥٠٦ عن محمّد بن رشيد الهروي ، وعنه المرزباني ، وعنه الطوسي في أماليه : ٤٩ ، الحديث ٦٣ ، وعنه بشارة المصطفى : ٧٦.


وأولهما يحتوي على ترحّم الإمام على السيّد مكرّراً ممّا ظاهره موت السيّد قبل الصادق عليه‌السلام ممّا يخالف تاريخ وفاتهما ، فهما مردودان.

وقد نقل الكشي الخبر الأسبق عن محمّد بن رشيد الهروي ، وعنه المرزباني ، وعنه الطوسي في «الأمالي» وفيه في موضع آخر عن الحسين بن عون حفيد أبي الأسود الدؤلي قال : دخلت على السيّد الحميري عائداً في علّته التي مات بها ، فوجدته في سكرات الموت ، وعنده «العثمانية» من جيرانه ، وكان السيّد عريض الوجه رحيب الجبهة جميل الصورة ، وبدت في وجهه مثل نقطة المداد من السواد وما زالت تزداد حتّى طبّقت وجهه بالسواد ، فظهر من أُولئك «النواصب» سرور وشماتة ، وعلى من حضره من «الشيعة» غُمّة! ولكنّه لم يلبث إلّا قليلاً حتّى بدت في وجهه لَمعة بيضاء وازدادت حتّى أسفر وجهه بل أشرق ، فافترّ السيّد يضحك ويقول :

كذب الزاعمون أنّ علياً

لن ينجّي محبّه من هَنات

قد وربّي دخلت جنة عدن

وعفا لي الإله عن سيّئاتي

فابشروا اليوم أولياء علي

وتولّوا عليَّ حتّى الممات

ثمّ من بعده تولّوا بنيه

واحداً بعد واحد بالصفات

ثمّ تشهّد بالشهادات الثلاث ثمّ غمّض عينيه وفاضت روحه. وكان اذينة اليماني حاضراً فروى عن الفُضيل بن يسار البصري عن الباقر والصادق عليهما‌السلام قالا : حرام على روح أن تفارق جسدها حتّى ترى الخمسة : محمّداً وعلياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فتقرّ عينها أو تسخن!

وانتشر الخبر هذا بين الناس فشهدوا الجنازة من موافق ومفارق (١).

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٦٢٧ ، الحديث ٦ ، المجلس ٣٠.


وكانت داره بالرُميلة ببغداد بين البصريين بها وهم عثمانيون يومئذٍ (١) وإنّما كان له من الأولاد أربع بنات كلّ واحدة تحفظ من شعره أربعمئة قصيدة (٢) فلمّا اعتلّ كتب شعراً ، وقال لغلامه : إذا أنا متّ فأعلم البصريين بموتي ولا أظن يحضرني منهم إلّارجل أو رجلان! فاذهب إلى الكوفيين وأنشدهم هذا :

يا أهل كوفان ؛ إني وامق لكمُ

مذ كنت طفلاً إلى السبعين والكِبر

كتبت شعري إليكم سائلاً لكم

إذ كنت انقل من داري إلى الحُفر :

أن لا يليني سواكم أهلُ بصرتنا

الجاحدون! أو الحاوون للبِدر

ولا السلاطين ؛ إنّ الظلم حالفهم

فعُرفهم صائر لا شك للنّكُر

وكفّنوني بياضاً لا يخالطه

شيء من الوشي أو من فاخر الحبر

ولا يشيّعني «النُصّاب» إنّهمُ

شرّ البريّة من أُنثى ومن ذكر

عسى الإله ينجّيني برحمته

ومدحي الغرر المنجين من سقر

فلمّا مات فعل الغلام ذلك فأتى منهم خلق عظيم معهم سبعون كفناً ، وكفاهم مؤونته الرشيد بأكفان على يد أخيه علي بن المهدي كفّنه بها ثمّ صلّى عليه ، وهو يعلم بمذهبه فكبّر عليه خمساً! ثمّ أمر بحمله إلى بستان من قطيعة الربيع بن يونس الحاجب بالكرخ فدفن بها ، ووقف ابن المهدي عليه حتّى سُطّح قبره على مذهبه ، كل ذلك بأمر الرشيد (٣) ولعلّه لإرهاب الشيعة بأ نّه يعلم بهم!

وكان الرشيد قد رُفع إليه أنّ السيّد «رافضي» فأحضره وسأله فقال : إن كان «الرافضي» هو الذي يحبّ بني هاشم ويقدّمهم على سائر الخلق

__________________

(١) الأغاني ٧ : ٢٩٧.

(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز : ٣٦ ، كما في الغدير ٣ : ٣٤٩.

(٣) انظر الغدير ٣ : ٣٨٦ ـ ٣٨٧ عن الأغاني وأخبار المرزباني الخراساني.


فما أعتذر منه ولا أزول عنه ؛ وإن كان غير ذلك فما أقول به ، ثمّ استأذن لينشده شعراً في ذلك فأذن له فأنشده :

علي وأبوذر ومقداد وسلمان

وعباس ـ وعمّار ـ وعبد الله ، إخوان

دُعوا فاستودعوا علماً فأدّوه وما خانوا

أُدين الله ذا العزّة بالدين الذي دانوا

وعندي فيه إيضاح عن الحق وبرهان

وما يجحد ما قد قلت في السبطين إنسان

وإن أنكر ذو «النصب» فعندي فيه عرفان

وإن عدّوه لي ذنباً ونال الوصلَ هجران

فلا كان لهذا الذنب عند القوم غفران

وكم عدّت إساءاتٌ لقوم ، وهي إحسان

وسرّي فيه ـ يا داعي دين الله ـ إعلان

فحبّي لك إيمان وميلي عنك كفران

فعدّ القوم ذا «رفضاً» فلا عدوّا ولا كانوا!

فوصله الرشيد ومن حضره من بني العباس. ومدحه مرة اخرى بقصيدة فأمر له ببدرتين ففرّقهما ، وبلغ ذلك إلى الرشيد فقال : أحسب أبا هاشم تورّع عن قبول جوائزنا (١)!

ونقل الأُموي الزيدي : أنّ المنصور أجلس ابنه المهديّ يوماً يعطي قريشاً صلات وهو وليّ عهده ، فبدأ ببني هاشم (بني العباس) ثمّ سائر قريش ،

__________________

(١) أخبار السيد الحميري : ١٦٣ ، وانظر الغدير ٣ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤.


وكان يحجبه الربيع حاجب المنصور فرفع السيّد إليه رقعة مختومة وقال له : إنّ فيها نصيحة للأمير فأوصلها إليه! فأوصلها فإذا فيها :

قل لابن عباسٍ سميّ محمّد

لا تُعطينّ «بني عدي» درهماً!

واحرم «بني تيم بن مرّة» إنّهم

شرّ البرية آخراً ومقدّماً!

إن تعطهم لا يَشكروا لك نعمة

ويكافؤوك بأن تُذمّ وتُشتما!

وإن ائتمنتهمُ أو استعملتهم

خانوك ، واتخذوا خراجك مغنماً!

ولئن منعتهمُ لقد بدؤوكمُ

بالمنع إذ ملكوا ، وكانوا أظلما

منعوا تُراث محمّد أعمامه

وابنيه وابنته عديلة مريما

وتأمّروا من غير أن يُستخلفوا

وكفى بما فعلوا هنالك مأثما

لم يشكروا لمحمد إنعامه

أفيشكرون لغيره إن أنعما

والله منّ عليهم بمحمد

وهداهمُ وكسا الجنوب وأطعما

ثمّ انبروا «لوصيّه» ووليّه

بالمنكرات ، فجرّعوه العلقما

فلمّا قرأها المهدي أمر بوقف العطاء وإدخال السيد إليه ، فلمّا رآه ضحك وقال له : قد قبلنا نصيحتك (١) فلمّا ولي المهدي لم يمدحه بل هجاه فاخذ فاعتذر إليه فرضي عنه فمدحه (٢).

وتعدّدت أخبار السيّد الحميري مع المنصور ، ونرجّح أن نرجع هنا عوداً على بدءٍ : نشأة السيّد بالبصرة :

أبوه محمّد بن يزيد الحِميري ، وأُمه من أزد عُمان (٣) وولد إسماعيل

__________________

(١) الأغاني ٧ : ٢٦٣ ، وعنه في الغدير ٣ : ٣٦٣.

(٢) الغدير ٣ : ٣٨٣.

(٣) الغدير ٣ : ٣٣٢.


بعُمان (١) ثمّ نزلا بمنازل بني ضبّة بالبصرة (٢) وأصبحا خارجيَّين إباضيَّين لا يُدرى من عُمان أم بالبصرة. ويأبى الإباضية اليوم عن لعن علي عليه‌السلام ولكن من أخباره في قديمهم ما رواه المرزباني بسنده عن العبّاسة بنت السيّد : أنّ أباها قصّ عليها أنّه لمّا كان صبيّاً كان يسمع أبويه يثلبان أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام. وقبله ينقل عن إسماعيل راوية السيّد أنّه قال : كان أبواي إباضيّين ، قلت : فكيف صرت «شيعياً»؟ قال : «غاصت عليَّ الرحمة فاستنقذتني» كذا إجمالاً بلا تفصيل. إلّاأ نّه يقول : كنت أخرج عنهما وأبقى جائعاً حتّى إذا أجهدني الجوع رجعت فأكلت ثمّ خرجت فأبيت في المساجد! لحبّي فراقهما وبغضي إياهما! فإذا بات في البيت كانت أُمه توقظه بالليل وتقول له : إنّي أخاف عليك أن تموت على مذهبك هذا! فتدخل النار! فقد لهجت بعلي وولده! فلا دنيا ولا آخرة! حتّى لقد نغّصت امّي عليَّ مطعمي ومشربي!

قال : فلمّا كبرت قليلاً وبدأت أقول الشعر ، قلت لأبويّ : إنّ لي عليكما حقّاً يصغر عند حقّكما عليَّ (فمن حقّي عليكما) أن إذا حضرتكما تُجنّباني ذكر أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بسوء فإن ذلك يزعجني وأكره عقوقكما بمقابلتكما! فتواعدني أبي بالقتل (٣)!

وكان من وجهاء البصرة عُقبة بن سَلَم الهُنائي حتّى أنّ محمّد بن أبي العباس العباسي والي البصرة استخلف عليها عُقبة بن سَلَم ، وهو بدوره استخلف عليها ابنه نافع بن عُقبة ، في عهد المنصور (٤) فلمّا تهدّد محمّد الحميري ابنه السيّد إسماعيل

__________________

(١) عن لسان الميزان ١ : برقم ١٣٥٩.

(٢) الغدير ٣ : ٣٣٣.

(٣) أخبار السيد الحميري : ١٥٣ ـ ١٥٤.

(٤) تاريخ خليفة : ٢٨٤.


قال : أتيت الأمير عُقبة بن سَلَم فأخبرته خبري ، فأعدّ لي منزلاً أمر لي فيه بما أحتاج إليه ، وأجرى عليَّ جراية تفضُل على مؤونتي.

ويظهر من خبر أنّ ذلك كان لأواخر أمر بني امية أو أوائل بني العباس ، فقد نقل الأُموي الإصفهاني : أنّ السيّد أنشد قصيدة تهنئة لأبي العباس السفّاح بالكوفة ، كنّى فيها عن قتل عبد الله بن علي العباسي في الشام لطغام بني أُمية فقال :

دونكموها يا بني هاشم

فجدّدوا من آيها الطامسا

لم يُبقِ «عبد الله» بالشام من

آل أبي العاص امرءاً عاطسا

فلست من أن تملكوها إلى

هبوط عيسى منكم آيسا

في أكثر من عشرة أبيات ، فأمر له بجارية وخادم وآخر يحمل له بدرة دراهم ، وآخر يسوس له فرسه ، وآخر يحمل له تختاً من صنوف الثياب ، وأن يُجروها له كلّ سنة (١).

ولأواخر السفّاح أو أوائل المنصور أنشد قصيدة قصد بها بني امية ذماً حتّى «ابن أروى» قال :

ملك ابن هند و «ابن أروى» قبله

ملكاً أمرّ بحلّة الإبرام

وبلغ ذلك المنصور فاستدعاه واستنشده فأنشده إياها فقال له : شكر الله لك يا إسماعيل حبّك لأهل البيت! ومدحك لهم ، وجزاك عنّا خيراً. ثمّ التفت إلى حاجبه الربيع وقال له : ادفع إلى إسماعيل فرساً وعبداً وجارية وأعطه كل شهر ألف درهم (٢).

__________________

(١) الغدير ٣ : ٣٨٣ ، عن الأغاص ٧ : ٢٥٩.

(٢) أخبار السيّد اگ مفي : ١٦٢.


وكان في المنزل الذي أنزله به عُقبة بن سَلَم الهُنّائي حتّى توفي أبواه فورثهما (١) ثمّ غادر البصرة إلى الكوفة (حدود ١٤١ ه‍) وأخذ يتردّد فيها على سليمان بن مِهران الأعمش (٢) الكوفي المتوفى في (١٤٨ ه‍) فيكتب عنه فضائل علي عليه‌السلام ويخرج من عنده ويقولها شعراً (٣) حتّى قال ابن المعتز : كان السيّد أحذق الناس في سَوق الأحاديث والأخبار في المناقب شعراً ، حتّى أنّه لم يترك لعليّ فضيلة تعرف إلّانقلها شعراً ، وكان يُملّه الحضور في محضر لا يذكر فيه آل محمّد صلوات الله عليهم (٤) ويقول :

إني لأكره أن أطيل بمجلس

لا ذكر فيه لفضل آل محمّد

لا ذكر فيه لأحمد ووصيّه

وبنيه ذلك مجلس بخس ردي

إنّ الذي ينساهم في مجلس

حتّى يفارقه لغير مسدّد (٥)

ثمّ انتقل إلى بغداد فاشترى بها داراً مع البصريين العثمانيين بمحلة الرُميلة ، ومات بها كما مرّ.

خروج جُراشة الشيباني :

وفي سنة (١٧٩ ه‍) خرج جُراشة بن شيبان (الشيباني) إلى البندنيجين (مندلي) ثمّ إلى دينور فخرج إليه الليث فقتل جراشة من أصحابه بضعة وثلاثين

__________________

(١) الغدير ٣ : ٣٣٣.

(٢) الغدير ٣ : ٣٨٥.

(٣) أخبار السيّد الحميري : ١٧١ ، والأغاني ٧ : ٢٧٧.

(٤) طبقات الشعراء : ٣٢.

(٥) الأغاني ٧ : ٢٨٦ ، والغدير ٣ : ٣٤٧


رجلاً وهزمه وعاد جراشة إلى حلوان وعليها مالك بن علي الخزاعي ، فكتب إليه الليث : أنّ جراشة قد توجّه إليك مغلولاً مهزوماً في نفر يسير ، فخرج إليه وكان ذلك قبل الفطر من سنة (١٨٠ ه‍) فلقيه في موضع قنداب على ستة فراسخ من حُلوان ، فقتل من الخوارج خمسة وأربعون رجلاً ، ثمّ جُرح مالك الخزاعي فسقط وانهزم أصحابه ، فأتبعهم الخوارج فقتلوا من أصحابه مئة وخمسين رجلاً! ثمّ أتى جراشة شهرزور ، فخرج تجارها وخندقوا على أنفسهم منه فحاصرهم ثمانية عشر يوماً ، ثمّ تصالحوا على شيء! ثمّ خرج جراشة إلى سنداباد وأرسل إلى نهاوند وهمدان جباة يجبون خراجهما.

فوجّه الفضل بن يحيى البرمكي إبراهيم بن جبرائيل إليه في ألفين ، ولقيه جُراشة في مئة وثمانين رجلاً! فاقتتلوا قتالاً شديداً حتّى جُرح جُراشة وقتل من أصحابه مئة وخمسون رجلاً! ثمّ أخذ جراشة إلى قرميسين (كرمانشاهان) ثمّ أخذ طريق شهرزور في ستين رجلاً! فسار إليها تسعين فرسخاً في ثلاثة أيام! ثمّ عبر دجلة إلى الأنبار ثمّ القادسية. وأقبل خالد بن يزيد في ألفين مدداً لإبراهيم فنزل العذيب ، وخرج جراشة إلى وادي السباع فالعذيب فالبرية ، وعاد إبراهيم إلى القطقطانة قرب الكوفة ثمّ قصر بني مقاتل ، ثمّ عين التمر فوادي البردان ثمّ إلى ثميل ، وأتاه عيونه فأخبروه أنّ جراشة عاد إلى وادي البردان ، فعاد إبراهيم إلى وادي البردان ، فخرج جراشة إلى الجنيبة ثمّ عاد إلى ثميل. فأتبعه إبراهيم إلى ثميل بموضع الرمانتين ، ومضى جراشة إلى عين أبعد ، وأتوا جراشة وهو نائم فقتلوه وثلاثة عشر رجلاً من أصحابه وفلّ جمعهم (١).

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٣٠٠ ـ ٣٠١.


محمّد بن إسماعيل والإسماعيلية :

الظاهر لي أنّ الباقر عليه‌السلام لمّا ولد له الصادق عليه‌السلام سمّاه جعفراً وكنّاه بأبي عبد الله ، ويبدو لي أنّ الصادق عليه‌السلام لمّا ولد له بكر أبنائه سمّاه عبد الله ثمّ ولد له إسماعيل ، فهما أكبر أبنائه ، وأنّ الباقر عليه‌السلام خطب له امّهما فاطمة من أخيه الحسين بن علي بن الحسين (١).

وولد لإسماعيل ابنان سمّاهما محمّداً وعلياً ، كانا صغيرين لمّا مات أبوهما إسماعيل ، فكانا عند جدّهما الصادق عليه‌السلام زماناً ثمّ كأ نّه جزع منهما فقال لعمّهما عبد الله الأفطح : إليك ابنَي أخيك! فقد ملآني بالسفه! فإنّهما شرَك الشيطان (٢)!

وقد مرّ في ذكر الأفطح أنّه لم يكن مؤتمّاً بإمامة أبيه الصادق عليه‌السلام ، فطبيعي أنّه لم يربّ محمّداً وعلياً ابني أخيه إسماعيل على إمامة جدّهما الصادق ولا عمّهما الكاظم عليهما‌السلام ، بل كانا مجانبَين ومجافيين له.

وكأنّ محمّداً التقى ببقايا الغلاة الخطّابية فنفى عندهم إمامة عمّيه الكاظم والأفطح بحجة أنّ جدّ الصادق عليه‌السلام كان إماماً ثمّ انتقلت عنه الإمامة في حياته إلى ابنه إسماعيل فكان الأمر في حياة إسماعيل له ، فلمّا توفي إسماعيل قبل أبيه جعل الصادق عليه‌السلام الأمر لمحمد بن إسماعيل ، ولمّا كانت الإمامة لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسنين عليهما‌السلام ، لم تنتقل إلى أخوَي إسماعيل : عبد الله وموسى. بل إنّ اولي العزم سبعة : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد ثمّ علي ثمّ محمّد بن إسماعيل! وإن آدم لم يكن منهم فلم يستحق الجنة فجعلها الله لمحمد بن إسماعيل (وأبيه) وتأوّل لهما قوله سبحانه : (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ (٣))

__________________

(١) انظر قاموس الرجال ٩ : ١١٨.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٥ ، الحديث ٤٧٨.

(٣) البقرة : ٣٥.


يعني : موسى بن جعفر وولده من بعده فمحمّد بن إسماعيل هو القائم المهدي ، ومعناه عندهم أنّه يهديه الله ليقوم بشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمّد! فالأئمة سبعة كما أنّ السماوات سبع والأرضون سبع والإنسان سبع : قلبه وظهره وبطنه ويداه ورجلاه! ورأسه سبع : عيناه وأُذناه ومنخراه وفمه ولسانه ، فالأئمة كذلك ، فهم سبعيّة! ثمّ تشعّبت منهم القرامطة (١).

وكان محمّد بن إسماعيل يكتب إلى الشيعة في كرخ بغداد ، وإلى أعمال إصفهان كتباً يدعوهم فيها إلى نفسه بمثل ما مرّ ، وظفر عيون المأمون ببعض هذه الكتب ورفعوها إليه (٢) فهو كان حياً على عهد المأمون بعد هارون.

علي بن إسماعيل والكاظم عليه‌السلام :

كانت خزاعة من حلفاء بني هاشم في الجاهلية والإسلام ، وكان منهم من الأنصار أُهبان بن أوس ، ومن ولده جعفر بن محمّد بن الأشعث ، الذي مرّ في أخبار الصادق عليه‌السلام أنّ جعفر بن الأشعث الخزاعي قال لصفوان بن يحيى البجلي عن سبب دخوله في التشيع والقول بالإمامة بلا معرفة سابقة : أنّ الدوانيقي قال له : يا محمّد ، ابغِ لي رجلاً يؤدّي عني ، فدلّه على خاله ابن المهاجر وأتاه به فأرسله إلى المدينة وآل أبي طالب ولا سيما الصادق عليه‌السلام ، فأخبره الصادق بكل ما جرى بينه وبين المنصور حتّى كأ نّه ثالثهم! فاعترف المنصور بأ نّه محدَّث من أهل البيت! فكانت هذه الدلالة سبب قول جعفر الخزاعي بمقالة الإمامة (٣).

__________________

(١) انظر فرق الشيعة : ٦٨ ـ ٧٤.

(٢) ءح ال رضي الله عنهم ج للمعك ض ١٦ : ١١١.

(٣) أُصول الكاص ١ : ٤٧٥ ، وانظر قاموس الرجال ٢ : ٦٦٢ ـ ٦٦٥ ، برقم ١٥٠٧.


أجل ، قال بالإمامة إلّاأ نّه لم يعتزل العمل للمنصور وبنيه حتّى اختاره الرشيد مؤدّباً لابنه الأمين.

ومن أقدم ما جاء ذلك فيه «كتاب نسب آل أبي طالب» ليحيى بن الحسن الحسيني العبيدلي النسّابة (١) ثمّ «كتاب المبيّضة في أخبار آل أبي طالب» لأحمد بن عبيد الله الثقفي البغدادي (٢) وعنهما الإصفهاني وقال : وحدثني غيرهما ببعضه وجمعت بعضه إلى بعض ، قالوا : أوكل الرشيد ابنه الأمين إلى جعفر الخزاعي ، وكان وزيره يحيى بن خالد البرمكي ، فخاف إن أفضت الخلافة إلى الأمين أن يأتمن مربّيه الخزاعي وتزول دولة البرامكة (٣). وكان البرمكي قد عرف تشيّع جعفر الخزاعي ، فتظاهر له بأ نّه على مذهبه! فسرّبه جعفر وأفضى إليه باموره ومنها ما هو عليه في الكاظم عليه‌السلام! فلمّا وقف البرمكي على مذهبه سعى به إلى الرشيد! ولكن الرشيد كان يرعى له موضعه من نصرة الخلافة ظاهراً وموضع أبيه قبله ، فكان يتردّد في أمره.

ودخل الخزاعي يوماً إلى الرشيد فأكرمه ، وجرى كلامهما بما فيه حرمته وحرمة أبيه ، وأمر له الرشيد بعشرين ألف دينار! وكان البرمكي قد علم منه إخراجه خمس أمواله إلى الكاظم عليه‌السلام فلمّا أمسى قال للرشيد : يا أمير المؤمنين! قد كنت أخبرك عن جعفر الخزاعي ومذهبه فتكذّب القول دفاعاً عنه! واليوم حصل أمر فيه القول الفصل! إنّه لا يصل إليه مال من جهة من الجهات إلّا ويخرج

__________________

(١) رجال الطوسي : ٥١٧ في من لم يرو عنهم عليهم‌السلام ، ورجال النجاشي : ٤٤١ ، برقم ١١٨٩ وقال : بل روى عن الرضا عليه‌السلام! وتوفي في (٢٧٠ ه‍ ظ).

(٢) توفي في (٣١٩ ه‍) كما في هدية العارفين للبغدادي.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٣٣.


خمسه ويوجّه به إلى موسى بن جعفر (١)! فلست أشك اليوم في أنّه قد فعل ذلك بما أمرت به اليوم من العشرين ألف دينار!

وعرف جعفر الخزاعي سعي البرمكي به إلى الرشيد ، وكانت الأموال في بُدر ، فدفعها بخواتيمها إلى جاريته. وأرسل الرشيد عليه ليلاً ، فلمّا جاءه رسوله خشي أنّه إنّما دعاه ليقتله! فاغتسل وتحنّط بكافور ولبس بردة فوق ثيابه وأقبل إلى الرشيد. فلمّا رآه ورأى البردة عليه وشمّ كافوره قال له : ما هذا؟ قال : يا أمير المؤمنين! لما جاءني رسولك في هذه الساعة لم آمن أن يكون قد قدح في قلبك ما يقال عليَّ فأرسلت إليّ لتقتلني! قال : كلّا ولكن اخبرت أنّك تبعث من كل ما يصير إليك بخُمسه إلى موسى بن جعفر! وأنك قد فعلت ذلك في العشرين ألف دينار؟! فقال جعفر : يا أمير المؤمنين! تأمر بعض خدمك يذهب فيأتيك بها بخواتيمها.

فقال الرشيد لخادم له : خذ خاتم جعفر وانطلق به حتّى تأتيني بهذا المال. وسمّى له جعفر جاريته التي عندها المال ، فدفعت إليه البُدر بخواتيمها فأتى بها إلى الرشيد. فحينئذ قال له جعفر : هذا أول ما تعرف به كذب من سعى بي إليك. قال : صدقت يا جعفر ، انصرف آمناً فإني لا أقبل فيك قول أحد.

ثمّ كان من احتيال البرمكي لإسقاط جعفر الخزاعي أن قال ليحيى بن أبي مريم : دُلّني على رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها. فدلّه على عليّ بن إسماعيل بن جعفر (٢).

فحمل البرمكي مالاً إلى علي بن إسماعيل ليشخص إليه. وأحسّ الكاظم عليه‌السلام

__________________

(١) فهذا الخبر من بوادر أخبار تواتر أخماس الشيعة إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٣ ، الباب ٢٨ ، الحديث ٨٣. وتجاوزه المفيد والطوسي إلى مقاتل الطالبيين.


بذلك ، فدعاه وقال له : إلى أين يابن أخي؟ قال : إلى بغداد. قال : ما تصنع؟ قال : أنا مملق وعليَّ دَين. قال : فأنا أقضي دينك. فلم يلتفت إلى ذلك. فقال له : انظر يابن أخي! لا تؤتم أولادي! وأمر له بثلاثمئة دينار وأربعة آلاف درهم ، فأخذها وقام وانصرف.

وقال الكاظم عليه‌السلام لمن حضره : والله ليسعينّ في دمي ويؤتمن أولادتي! فقالوا له : جعلنا الله فداك! فأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله؟! قال : نعم حدّثني أبي عن آبائه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ الرحم إذا قطعت فوَصلت قطعها الله» (١).

كلام هشام والكاظم عليه‌السلام :

ضمن أخبار إحضار الصادق عليه‌السلام في عصر السفاح في الحيرة في أوائل الدولة العباسية ، مرّ الخبر عن بداية معرفة هشام بن الحكم الكوفي الكندي مولاهم بالصادق عليه‌السلام. وبمناسبة وفاة عمرو بن عبيد المعتزلي البصري مرّ خبر مناظرة هشام معه بالبصرة في الإمامة. وبمناسبة مضايقة المهدي العباسي على أصحاب الأهواء وصنوف الفرق مرّ أن أرسل إليه الكاظم عليه‌السلام : أن كُفّ هذه

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٣٣ ـ ٣٣٤ عن أحمد البغدادي الثقفي في كتابه المبيّضة ، وعن ابن عقدة عن العُبيدلي النسابة في كتابه نسب آل أبي طالب كما مرّ أعلاه ، وفضّل نقله المفيد في الإرشاد ٢ : ٢٣٧ والطوسي في الغيبة : ٢٦ ـ ٢٨ ، الحديث ٦ ، على ما في أُصول الكافي ١ : ٤٨٥ ، الحديث ٨ باب مولد الكاظم عليه‌السلام ، وفيه : أنّ ذلك كان في مكة في عمرة رجب في دار الإمام بالحوبة بوساطة علي بن جعفر لمحمد بن إسماعيل ، وأ نّه مات ، بينما مرّ أنّه كان حيّاً زمان المأمون!


الأيام عن الكلام فإنّ الأمر شديد! فكفّ عن الكلام حتى مات المهدي وسكن الأمر. وهنا نقف على بعض أواخر أخباره :

كان في الكوفة في أوائل اهتدائه إلى الامامة ، ثمّ أمّ الواسط مدة ، ويبدو أنه من الواسط رحل إلى البصرة لمناظرة ابن عبيد ، وبعد رواج التجارة والكلام في بغداد انتقل إليها ، وناظر وتاجر بها. وهنا في عهد الكاظم عليه‌السلام جعله الوسيط بينه وبين العباسي علي بن يقطين ، فإذا أراد شيئاً من الحوائج لنفسه أو لبعض ما يعنيه من أُموره كتب إلى علي بن يقطين : اشتر لي كذا واتّخذ لي كذا ، وليتولّ ذلك هشام بن الحكم! وأحياناً كان يمده برأس مال لتجارته بلا مشاركة في ربحه ، فمثلاً : سرّح إليه خمسة عشر ألف درهم وقال له : «اعمل بها ، وكُل أرباحها ، وردّ إلينا رأس المال» ففعل هشام ذلك ، وكان يصلّي على أبي الحسن الأول (١).

وفي بعض مواسم الحج قام هشام بحاجة الكاظم عليه‌السلام فكتب إليه : جعل الله ثوابك الجنة (٢).

وكان ينوي في أعمال الخير يقول : اللهمّ ما حملت وأعمل من خير ، مفترض وغير مفترض فجميعه عن رسول الله وأهل بيته الصادقين «صلواتك عليه وعليهم» حسب منازلهم عندك ، فتقبّل ذلك منّي وعنهم ، وأعطني من جزيل جزاك به حسب ما أنت أهله (٣)!

وكان يحيى البرمكي يتظاهر بإحياء العلوم وحملته وتقريبهم ، وقد قرّر لهم مجلساً في داره كل يوم أحد يحضره المتكلمون من كل فرقة وملّة فيتناظرون في أديانهم ويشاركهم يحيى أحياناً.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٩ ، الحديث ٤٨٤ عن الحسن بن علي بن يقطين.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٧٠ ، الحديث ٤٨٧.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٧٤ ، الحديث ٤٩٢.


وبلغ ذلك إلى الرشيد فسأله عنه فقال : يا أمير المؤمنين! ما شيء مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ بي من الكرامة والرفعة أحسن موقعاً عندي من هذا المجلس ؛ فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتجّ بعضهم على بعض ، فيعرف المحقّ منهم ويتبيّن لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.

فقال الرشيد : أنا احبّ أن أحضر هذا المجلس واسمع كلامهم ، على أن لا يعلموا بحضوري. قال : ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء (١).

واختار الرشيد يوماً ، وأحضر البرمكي هشام بن الحكم ، وسأله يحيى قال له : يا هشام ، أخبرني عن نفسين اختصما وتنازعا واختلفا في حكم الدين هل يخلوان من أن يكونا محقّين أو مبطلين أو يكون أحدهما محقاً والآخر مبطلاً.

قال هشام : ليس يجوز أن يكونا محقّين.

فقال يحيى : فأخبرني عن علي والعباس لما اختصما في الميراث إلى أبي بكر ، أيهما كان المحق؟

فروي عن هشام قال : كانا محقّين جميعاً ، كما نطق به القرآن في قصة داود عليه‌السلام حيث قال : (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ (٢)) أتقول إن الملكين كانا مخطئين؟! أو أيهما كان مصيباً وأ يّهما كان مخطئاً؟! فجوابك هو جوابي بعينه.

قال يحيى : إنهما في الحقيقة لم يختصما ولا اختلفا في الحكم ، وإنما أظهرا ذلك لينبّها داود على الخطيئة ويعرّفاه الحكم ويوقفاه عليه ، فهما أصابا معاً.

فقال هشام : كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة ، وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبّها أبا بكر على غلطه ويوقفاه

__________________

(١) كمال الدين : ٣٦٢.

(٢) سورة ص : ٢٢.


على خطيئته ويدلّاه على ظلمه لهما في الميراث ، وإنما كان ذلك منهما على حدّ ما كان من الملكين! فاستحسن الرشيد ذلك (١).

فكان يحيى يشرّف أمر هشام عند هارون ويردّه عن إيذائه. ثمّ وجد البرمكي على هشام من طعنه على الفلاسفة ، وكان ميل هارون إلى هشام أحد ما غيّر قلب يحيى على هشام ، وأحبّ أن يغري به هارون ويحمله على قتله! فقال له : يا أمير المؤمنين! إنا كنا نرى أن هشاماً ممن يرى القعود عن الجهاد ، ثمّ استبطنت أمره فإذا هو يزعم أنّ لله في أرضه إماماً غيرك مفترض الطاعة! قال الرشيد : سبحان الله! قال يحيى : نعم ؛ ويزعم أنه لو أمره بالخروج لخرج!

فقال هارون ليحيى : فاجمع عندك المتكلمين وأكون أنا من وراء الستر بيني وبينهم لا يفطنون بي فلا يمتنع كل واحد منهم أن يبدي صفحته لهيبتي. فوجّه يحيى فأشحن المجلس من المتكلمين منهم : ضرار بن عمرو ، وسليمان بن جرير ، وعبد الله بن يزيد الإباضي ، ورأس الجالوت (الكاثوليك) وموبدان موبد (كبير موابدة المجوس) فتساءلوا وتناظروا وتناهوا إلى مشادّة في كلامهم كل يقول لصاحبه : لم تُجب ، ويقول هو : قد أجبت. فقال لهم يحيى : أترضون بهشام حكماً فيما بينكم؟ قالوا : أيها الوزير ، قد رضينا ولكن أتى لنا به وهو عليل! قال : فأنا أوجه إليه فأسأله أن يتجشّم المجيء ، فوجّه إليه فأحضره ، فأخبره كل فريق منهم بموضع مقطعه ، فحكم لبعض على بعض.

ثمّ قال يحيى لهشام : إن رأيت أن تبين عن فساد اختيار الناس لإمام ، وأن الإمامة في آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله دون غيرهم. فاعتذر هشام فألحّ يحيى عليه ، فبدأ هشام الكلام وساق ذكر ذلك وأطال.

__________________

(١) الفصول المختارة : ٤٩ ، ٥٠.


فلما فرغ من الكلام في فساد اختيار الناس للإمام ، قال يحيى لسليمان بن جرير : سل أبا محمد عن شيء من هذا الباب ، فقال سليمان لهشام : أخبرني هل كان علي بن أبي طالب مفروض الطاعة؟ قال : نعم. قال : فإن أمرك الذي بعده (اليوم) بالخروج معه بالسيف أفتفعل وتطيعه؟ قال : لا يأمرني ، قال : فإن أمرك ، وأصرّ وألحّ على ذلك ، فقال هشام : هل هو إلّاأن أقول لك : إن أمرني فعلت فتنقطع ولا تكون عندك زيادة. وأنا أعلم ما تحت قولي وما يؤول إليه جوابي! فتمعّر وجه هارون (١).

وكان جعفر بن يحيى البرمكي جالساً مع الرشيد خلف الستر ، فقال له هارون : ويحك يا جعفر من يعني بهذا؟ قال : يا أمير المؤمنين! يعني به موسى بن جعفر! قال : ما عنى بها غير أهلها! ثمّ عضّ على شفته وقال : أمثل هذا حيّ ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟! فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مئة ألف سيف! وعلم يحيى أن هشاماً قد حضره أجله! فدخل الستر ، فقال هارون ليحيى : يا عباسي ؛ ويحك مِن هذا الرجل (إن فاتك) فقال : يا أمير المؤمنين! حسبك! تُكفى تكفى! ثمّ خرج إلى هشام فغمزه ، فعلم هشام أنه قد حضر أجله ؛ فقام يريهم أنه يقضى حاجة فلبس نعليه وانسلّ ومرّ ببيته وأمرهم بالتوارى ، وهرب (٢).

وقال صاحبه يونس بن عبد الرحمن : بلغنا أن هارون قال ليحيى : شدّ يدك على هذا وأصحابه! (ثمّ حجّ) وبعث إلى موسى عليه‌السلام فحبسه ، فكان هذا من سبب حبسه مع أسباب أُخرى. ثمّ صار هشام إلى الكوفة (٣).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٨ ـ ٢٦٢ ، الحديث ٤٧٧.

(٢) كمال الدين : ٣٦٨.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٢ ، الحديث ٤٧٧.


وكان هارون قد بعث على إخوانه وأصحابه فأخذ الخلق به! ووافى هشام الكوفة وكان يعرف بها بشير النبّال من حملة الحديث من أصحاب الصادق عليه‌السلام فأخبره الخبر ، ثمّ اعتل علة شديدة ، فقال له بشير : آتيك بطبيب؟ قال : لا ، أنا ميت (١)! ثمّ أجابهم إليه ، فأدخل عليه جماعة من الأطباء فكان إذا دخل الطبيب عليه وأمره بشيء ، سأله : يا هذا هل وقفت على علتي؟ فإذا أخبره كذّبه فيسأله عن علته فيقول : علّتي فزع القلب مما أصابني من الخوف! كان (كأنه) قدّم ليضرب عنقه ، فأفزع ذلك قلبه (٢).

فلما حضره الموت قال لبشير : إذا فرغت من جهازي فاحملني في جوف الليل وضعني بالكُناسة ، ثمّ اكتب عليَّ رقعة : هذا هشام بن الحكم الذي يطلبه أمير المؤمنين! مات حتف أنفه! ففعل بشير ذلك ، فلما أصبح أهل الكوفة رأوه فحضره العامل وأحضر القاضي والمعدّلين وكتبوا بذلك محضراً إلى الرشيد ، فخلّى عن من كان أُخذ به من إخوته وأصحابه (٣).

قال الفضل بن شاذان النيشابوري : مات هشام بالكوفة سنة (١٧٩ ه‍) (٤) وحيث مرّ الخبر الذي أسنده الكشي عن صاحب هشام : يونس بن عبد الرحمن : أن وصف هشام للإمام وتطبيقه من قبل جعفر البرمكي على الكاظم عليه‌السلام كان من أسباب حبس الرشيد له ، حمل بعضهم على أن رووا أنهم سألوا الرضا عليه‌السلام عن هشام بن الحكم ، فقال عليه‌السلام : هو ضال مضل ، شرك في دم أبي الحسن عليه‌السلام هكذا

__________________

(١) كمال الدين : ٣٦٨.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، الحديث ٤٧٦.

(٣) كمال الدين : ٣٦٨.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، الحديث ٤٧٥.


رووا عنه! وسمع به موسى بن صالح المشرقي فسأل الرضا عليه‌السلام عن ذلك وقال : فما تقول فيه يا سيدي نتولاه؟ قال : نعم! فأعاد عليه : نتولاه قطعاً؟! قال : نعم تولّوه! نعم تولّوه! وكان مع هذا المشرقي السائل أصحابه فقال له الإمام عليه‌السلام : اخرج الآن إليهم وقل لهم : قد أمرني بولاية هشام بن الحكم! فخرج المشرقي بين يدي الإمام إليهم وقال لهم : ألم أخبركم غير مرة : أن هذا رأيه في هشام بن الحكم (١)؟!

ونفي حفص القاضي إلى الكوفة :

أبو عمر حفص بن غياث الكوفي ، أسند النجاشي عن ابنه عمر كتاب أبيه عن الصادق عليه‌السلام وهو نحو (١٧) حديثاً (٢) منها قوله عليه‌السلام : فوالله لو أن سجد حتى ينقطع عنقه ما قبل الله «عزوجل» منه عملاً إلّابولايتنا أهل البيت (٣) وعن الكاظم عليه‌السلام قال لي : يا حفص ، من مات من أوليائنا و «شيعتنا» ولم يحسن القرآن عُلّم في قبره ليرفع الله به من درجته (٤).

ثمّ طلبه الرشيد فولّاه قضاء بغداد الشرقية (وأبو يوسف على غربيها) فقبل ولكنه قال : ما وليت القضاء حتى حلّت لي الميتة! ولئن يدخل الرجل اصبعه في عينه فيقتلعها فيرى بها خير له من أن يكون قاضياً! فلما قيل له : الخليفة يدعوك! قال : أنا أجير للخصوم فحتى أفرغ منهم! فلم يقم حتى قاموا!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٦٨ ، الحديث ٤٨٣.

(٢) رجال النجاشي : ١٣٤ برقم ٣٤٦.

(٣) روضة الكافي : ١١١ ، الحديث ٩٨ وهو حديث طويل.

(٤) أُصول الكافي ٢ : ٦٠٦ ، الحديث ١٠ ، باب فضل حامل القرآن.


وكان لأُم جعفر زبيدة زوج الرشيد وكيل مجوسي يدعى المرزبان فاشترى لها جملاً من خراساني بثمانين ألف درهم ، وما طلته بالثمن ، فشكاه الخراساني إلى حفص القاضي فقضى بحبسه حتى يقضى فحبسه السندي بن شاهك ، وبلغ خبره إلى زبيدة فأمرته بإخراجه فأخرجه ، وبلغ خبره إلى حفص القاضي فقال : لا أجلس للقضاء حتى يردّ مرزبان إلى الحبس! فخاف السندي الرشيد وطلب من زبيدة أن ترده إلى الحبس حتى يكلّم حفصاً القاضي فيه ، فرجع مرزبان إلى الحبس ، وقالت زبيدة للرشيد : إن قاضيك هذا أحمق! استخفّ بوكيلي وحبسه! فولّ أمره إلى أبي يوسف! ثمّ سجل حفص حكم المال على المرزبان ، وبلغ ذلك إلى زبيدة فقالت للرشيد : لا أنا ولا أنت حتى تعزل حفصاً! وألحّت عليه ، فعزله عن قضاء الشرقية وولّاه قضاء الكوفة! فمكث عليها (١٣) عاماً ومات (١٩٤) أو (١٩٥) أو (١٩٦ ه‍).

ولم يوّله الرشيد القضاء حتى علم أنه يسمّى الشيعة «الرافضة» وأنه لا يزوّجهم! ويقول : لأن الطلاق الثلاث عندهم واحدة (١)!

وسيأتي : أن أيام حبس الكاظم عليه‌السلام ببغداد كان الرشيد بعيداً عنها برقّة الشام ، وخبر حفص القاضي يقضي يكون الرشيد في بغداد ، فيترجّح أن ذلك كان قبل قبضه على الكاظم عليه‌السلام.

القبض على الكاظم عليه‌السلام :

في سنة (١٧٩ ه‍) كان على البصرة سليمان بن جعفر بن المنصور العباسي فاستبدله الرشيد بأخيه عيسى بن جعفر ، فاستخلف المهلّب بن المغيرة (٢).

__________________

(١) تاريخ بغداد ٨ : ١٨٨ ـ ١٩٠ وعنه في قاموس الرجال : ٥٨٩ ـ ٥٩٢ برقم ٢٣٣٣.

(٢) تاريخ خليفة : ٣٠٦.


وكأنّ الرشيد كان قد نذر الحج أو العمرة شكراً لظفره بوليد التغلبي الخارجي فاعتمر الرشيد لشهر رمضان وانصرف منها وقدم المدينة (١) فاستقبله الأشراف وفيهم الإمام الكاظم عليه‌السلام وانصرفوا من استقباله. وليلاً مضى الرشيد إلى المسجد وصار إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وكأنّه اصطحب معه الإمام الكاظم عليه‌السلام ومعه عيسى بن جعفر وجعفر بن يحيى العباسيان ، جاؤوا معه إلى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقال هارون للكاظم عليه‌السلام : تقدّم ، فأبى ، فتقدّم هارون فسلّم ثمّ قام فتنحّى ناحية ، فقال عيسى العباسي للكاظم عليه‌السلام : تقدّم ، فأبى ، فتقدم عيسى فسلّم ثمّ وقف مع هارون. فقال جعفر العباسي للكاظم عليه‌السلام : تقدّم ، فأبى ، فتقدّم جعفر فسلّم ثمّ وقف مع هارون.

ثمّ تقدّم الكاظم عليه‌السلام فقال : السلام عليك يا أبه! أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك ، وهداك وهدى بك ، أن يصلّي عليك.

فالتفت هارون لعيسى العباسي وقال له : سمعت ما قال؟! قال : نعم! قال هارون : فأشهد أنّه أبوه حقاً (٣)!

وروى الكليني الخبر قال : تقدّم هارون إلى قبر النبيّ وقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يابن العمّ! مفتخراً بذلك. فتقدّم الكاظم عليه‌السلام إلى القبر فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبة! فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه (٤).

__________________

(١) انظر تارو الطقي ٧ : ٢٦١ ، واليعقوض ٢ : ٤٣ ، وأُصول الكاص ١ : ٤٧٦

(٢) الإرشاد ٢ : ٢٣٩ ، قال : ويقال ....

(٣) كامل الزيارات : ١٨ ، الباب ٣ ، وعنه ص تمهيد ار الأنوار ٤٨ : ١٣٦

(٤) الارشاد ٢ : ٢٣٤ ، الكاص ٤ : ٥٥٣ ، وكامل الزيارات : ٥٦.


وكان مع الرشيد وزيره يحيى بن خالد البرمكي فسمعه عند قبر رسول الله يقول كالمخاطب له : بأبي أنت وأُمي يا رسول الله ، إنّي أعتذر إليك من أمر قد عزمت عليه ، إنّي أُريد أن آخذ موسى بن جعفر فأحبسه ، لأنّي خشيت أن يُلقى بين أُمتك حرباً تسفك فيها دماؤهم!

فلمّا عاد البرمكي إلى محلّه زاره يعقوب بن داود فحدّثه الوزير بهذا الخبر وقال له : فأنا أحسب أن الرشيد يأخذ موسى بن جعفر غداً.

فلمّا كان الغد أرسل الرشيد إلى الفضل بن الربيع الحاجب أن يقبض على الكاظم عليه‌السلام ويحبسه. فوجده في المسجد قائماً يصلّي في مقام رسول الله ، فأمر بالقبض عليه ، وحبْسه (١).

فقبض عليه وهو عند رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائماً يصلّي فقُطعت صلاته عليه ، فاخذ وهو يقول لرسول الله : يا رسول الله إليك أشكو ما ألقى! وبكي ، فبكى الناس لبكائه وضجّوا! حتى اوقف بين يدي الرشيد فحطاه وشتمه (٢)!

إلى سجن البصرة :

ثمّ أمر الرشيد أن تهيّأ له قبّتان ، فهُيّئ له قبّتان ، فأمر حسّان السَروي أن إذا جنّ عليه الليل يصير به في قبة إلى البصرة فيسلّمه إلى عيسى بن جعفر العباسي أميرها. ثمّ لما صار النهار وجّه مع القبة الأُخرى بجماعة علانية إلى الكوفة ليعمّي على الناس أمْره.

وهنا أسند الصدوق إلى عبد الله بن مرحوم قال : خرجت من البصرة إلى

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٨ ، الحديث ٨٥.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٢٩ ، الحديث ٩٢.


المدينة ، وفي الطريق لقيت أبا إبراهيم (الكاظم عليه‌السلام) يُذهب به إلى البصرة ، وأرسل عليَّ فدخلت إليه ، فدفع إليّ كتباً أُوصلها إلى ابنه علي بالمدينة وقال لي : فإنّه وصيي وخير بنيّ والقائم بأمري (١).

وعن كتاب الأوراق لأبي بكر الصُولي قال : إنّ هارون قرّر للكاظم عليه‌السلام أيام حبسه كل سنة ثلاثمئة ألف درهم ، ولنُزله (ضيوفه) عشرين ألفاً (٢).

(كان ذلك في أوائل عشر ليال بقين من شوال سنة (١٧٩ ه‍)) (٣) فقدم حسّان البصرة في (٧ ذي الحجة) بيوم قبل يوم التروية نهاراً جهاراً ، ودفعه إلى عيسى بن جعفر العباسي ، فعُرف ذلك وشاع خبره. وحبسه عيسى في بيت من بيوت المجلس الذي كان يجلس فيه ، وأقفل عليه ، فكان لا يفتح عليه الباب إلّا للطعام أو للطهور.

والكاظم عليه‌السلام في أيامه هذه في هذه الدار التي كان هو في إحدى بيوتها كان يسمع من ضروب الفواحش والمناكير ما لم يكن يخطر بباله! كما يذكر الراوي (٤).

وأقام الرشيد بالمدينة إلى وقت الحج فحجّ بالناس ، ومشى من مكة إلى عرفات ماشياً ، ثمّ عاد إلى المشاعر ثمّ منى ثمّ مكة ماشياً! ثمّ انصرف على طريق البصرة (٥). وكان يحيى بن خالد البرمكي احتفر نهراً بالبصرة سمّاها سَيحان ،

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ج ١ ، الباب ١١ ، الحديث ٢٥.

(٢) كما في تذكرة الخواص ٢ : ٤٨٠.

(٣) في أُصول الكافي ١ : ٤٧٦ : حمله من المدينة لعشر ليال بقين من شوال ، ويؤيده ما أسنده الصدوق قال : اخذ أبو الحسن الكاظم قبل يوم النفر بخمسين يوماً.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٣٠ ، الحديث ٩٢.

(٥) تاريخ الطبري ٧ : ٢٦١.


فحمل الرشيدَ منصرفه من مكة إلى البصرة لينظر إلى نهره سيحان ويفتتحه ، فقدمها في (أوائل) المحرم سنة (١٨٠ ه‍) ونزل قصر عيسى العباسي بالخُريبة ، ثمّ ركب إلى الأنهار وأمر بسدّ أفواه نهرَي معقل والابُلّة ليجري الماء إلى سَيحان ويستحكم أمرُه ونظر إليه.

وفي اليوم الثاني والعشرين من المحرم شخص عن البصرة فقدم بغداد.

ثمّ بدا له أن يعود بالعاصمة إلى عاصمتهم الأُولى الحيرة فشخص إليها ، وأقطع لمن معه قِطعاً منها ، وسكنها وأخذوا يبنون بها المنازل حتّى أربعين يوماً ، إذ بدا له سوء مجاورة أهل الكوفة له! فعاد إلى بغداد (١).

وفي بعض أيامه بالحيرة خرج إلى جهة النجف يتصيّد فرأى ضِباءً فأرسل عليها الصقور والكلاب ، فجاولتها ساعة ثمّ لجأت الظباء إلى أكَمة ، فتراجعت عنها الكلاب والصقور ، فلما هبطت الظباء من الأكمة عادت عليها الكلاب والصقور فعادت الظباء إلى الأكمة ، فتراجعت عنها الكلاب والصقور ، وتكرر ذلك مرة أُخرى! فأمر الرشيد أن يُحضروا له من الكوفة من يكون له علم بالأكَمة ، فأتوه بشيخ كبير من بني أسد فقال : كان آبائي يقولون هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب عليه‌السلام فنزل هارون وتوضأ وصلّى عند الأكمة ، ثمّ أمر أن يُبنى عليها بناء مربع في كل جهة باب (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

(٢) إرشاد القلوب ٢ : ٤٣٥ ، ٤٣٦ وفيه : أنّ هذا البناء من أوائل عام (١٨٠ ه‍) بقي إلى أيام السلطان عضد الدولة البويهي حيث أزالها وعمّر بمكانها عمارة جليلة بأموال كثيرة وبمدة تقرب من سنة! أقام بعساكره بذلك الطرف حتى أُقيم بناؤه ، ثمّ عاد إلى بغداد. وأظن قوياً أن الرشيد هو الذي أقام بناء على قبر جدّه العباس وبقربه قبر فاطمة بنت أسد وقبور أبنائها أئمة البقيع. ولعلّه لذا بقي قبره معروفاً بقبّته بطوس خراسان.


وكان عيسى العباسي قد جعل عيوناً على الكاظم عليه‌السلام يرفعون عنه إليه ، فرفع بعضُهم إليه : أنّه يسمعه يقول في دعائه كثيراً : اللهمّ إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك ، وقد فعلت ، اللهمّ فلك الحمد (١) فباشر عيسى العباسي ذلك بنفسه يتسمّع إليه في دعواته لعلّه يدعو على الرشيد أو على عيسى ، فما يسمع منه إلّا أنّه يدعو لنفسه بالرحمة والمغفرة.

فكتب عيسى إلى الرشيد : «إنّي قد اجتهدت أن آخذ عليه حجة فما أقدر على ذلك ، حتّى إني لأتسمّع عليه إذا دعا لعلّه يدعو عليَّ أو عليك ، فما أسمعه يدعو إلّالنفسه يسأل الله الرحمة والمغفرة ، فخذه منّي وسلّمه إلى من شئت ، وإلّا خلّيت سبيله!». فوجّه الرشيد إلى البصرة من تسلّمه منه إلى بغداد ، وأمر حاجبه الفضل بن الربيع بحبسه عنده فحبسه عنده.

وبعد مدّة طويلة أمره الرشيد بشيء في شأن الكاظم عليه‌السلام فأبى الفضل ذلك! فأمره أن يسلّمه إلى الفضل بن يحيى (البرمكي) وأمر البرمكي أن يتسلّمه منه فيحبسه عنده ، فتسلّمه منه وحبسه عنده (٢).

الكاظم عليه‌السلام في سجون بغداد :

حدثت بين أهالي دمشق عصبية وهاجت وتفاقم أمرها واغتنمها لصوصهم ، وبلغ ذلك إلى الرشيد فاغتمّ بذلك وقال لجعفر البرمكي : إمّا أن أخرج أنا أو تخرج أنت؟ قال جعفر : بل أقيك بنفسي! ثمّ شخص في جلّة القوّاد والسلاح

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٤٠.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٣٥ ، وعنه المفيد في الإرشاد ٢ : ٢٤٠ وزاد : وجعله في حجرة من داره وعليه رصد ، فكان عليه‌السلام في أكثر أيامه صائماً ويحيي الليل كلّه اجتهاداً بالصلاة والدعاء وقراءة القرآن ، ولا يصرف وجهه عن القبلة ، فأكرمه الفضل بن يحيى ووسّع عليه.


حتّى قتل اللصوص ولم يدع بها فرساً ولا رمحاً إلّاصادره ، فعادوا إلى الأمن ، واستخلف على الشام عيسى بن العكّي ، وولّى على البلقاء وما يليها صالح بن سليمان العباسي ، وعاد إلى الرشيد ببغداد فقبّل يديه ورجليه (١) وولّاه الرشيد على خراسان وسجستان.

ثمّ استخلف الرشيد ببغداد ابنه الأمين وولّاه العراقين ، وشخص منها إلى الرَّقة بالشام على طريق الموصل ، فلمّا نزل البَردان عزل عيسى العباسي عن البصرة وولّاه على خراسان ، وعزل عنها جعفر البرمكي بعد عشرين ليلة من توليته عليها! ولمّا وصل إلى الموصل وكان قد غضب عليها لكثرة الخوارج منها فأمر بهدم سورها! ثمّ مضى إلى الرّقة فنزلها واتّخذها وطناً! وكان الفضل بن يحيى البرمكي على طبرستان والرويان والري فعزله عنها وولّاها عبدَ الله بن خازم السُّلمي (٢).

ولم يكن الفضل البرمكي بتلك الأماكن وإنّما كان ولّاها رجالاً عنه ، وهو مقيم ببغداد ، وغضب عليه الرشيد لأنّه أراده على شيء في أمر الكاظم عليه‌السلام فلم يفعله ، بل بلغه عنه أنّه عنده في رفاهية وسعة ودعة (٣)!

هذا ما أسنده الإصفهاني الاموي ، وعنه المفيد وزاد : اتصل خبر توسعة الفضل البرمكي بالرشيد وهو بالرّقة (على شرق الفرات بالشام) فكتب إليه يُنكر عليه توسعته على موسى ، بل يأمره بقتله! فتوقّف عن ذلك ولم يقدم عليه! فاغتاظ الرشيد منه (٤).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٧ : ٢٦٢ ـ ٢٦٣.

(٢) تاريخ الطبري ٧ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٣٥.

(٤) الإرشاد ٢ : ٢٤١.


وكان كاتب رسائله إسماعيل بن صُبيح الحرّاني (١) فدعاه وأمره أن يكتب كتاباً إلى العباس بن محمّد العباسي ببغداد يأمره فيه بأمره في الفضل بن يحيى ، وكتاباً إلى السندي بن شاهَك (٢) يأمره بطاعة العباس بن محمّد العباسي ، ودعا مولاه مسروراً وسلّم إليه الكتابين وأمره أن ينفذ بهما على البريد (٣) إلى بغداد فيدخل من فوره إلى دار الفضل بن يحيى البرمكي على الكاظم (عليه‌السلام) فيعرف خبره ، فإن كان الأمر على ما بلغه من توسعة الفضل على الكاظم (عليه‌السلام) أوصل إلى العباس بن محمّد العباسي كتابه ، وإلى السندي بن شاهَك كتابه.

فقدم مسرور إلى دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد ، فنزل ودخل على موسى بن جعفر عليه‌السلام فوجده على ما بلغ الرشيد ، فمضى من فوره إلى السندي بن شاهَك فأوصل إليه كتابه ، ثمّ إلى العباس بن محمّد العباسي وأوصل إليه كتابه ، ثمّ لم يلبث شيئاً دون أن خرج يركض ركضاً إلى الفضل بن يحيى البرمكي فأركبه معه وخرج به مشدوهاً حتّى دخل به على العباس. وتوجّه السندي إلى دار العباس ومعه العُقابان (٤) والسياط ، وأمر العباس بن محمّد العباسي بتجريد ثياب الفضل البرمكي ثمّ ضربه مئة سوط! فضرب

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٣٠٨.

(٢) اسمه إسماعيل ، كما في اختيار معرفة الرجال : ٥٩٨ ، الحديث ١١١٩ ، وهو مدير شرطة الرشيد.

(٣) كانوا يرتّبون في كلّ مرحلة اصطبلاً وخيلاً وسائساً ، فإذا وصل حامل البريد نزل عن فرسه المُعيَّى وركب الفرس المستريح وهكذا في كل المَراحل حتّى يصل ، فهو معنى قولهم : خرج على البريد أو حُمل فلان على البريد.

(٤) هما خشبتان لضبط الرِجل للجَلد ، كما في لسان العرب.


حتّى تغيّر لونه وذهبت نخوته. وكتب مسرور بالخبر إلى الرشيد ، فكتب بتسليم موسى عليه‌السلام إلى السندي بن شاهَك (١).

فجعل السنديّ الإمام في دار جوف دور حُرمه. وكان للسندي مولى كان من أشدّ الناس بغضاً لآل أبي طالب فدعاه وقال له : يا بشّار ، إنّي أُريد أن ائتمنك على ما ائتمنني عليه هارون! هذا موسى بن جعفر قد دفعه إليّ وقد وكّلتك بحفظه!

قال بشّار : فأقفلت عليه أقفالاً ، وكنت إذا خرجت لحاجة أجلست امرأتي بالباب فلا تفارقه حتّى أرجع! ثمّ حوّل الله ما كان في قلبي من البغض حبّاً! فكان يبعثه الإمام لقضاء بعض حوائجه أحياناً (٢).

بل كان السنديّ قد استخدم موسى بن إبراهيم المروزي لتعليم أولاده ، فتولّى الإمام عليه‌السلام وتطرّق إليه وسمع منه وروى عنه كتاباً (٣) وتسبّب في ولاية أبناء السندي (٤)!

ولعلّ بعض هؤلاء قالوا للإمام وهو محبوس : لو كتبت إلى فلان يكلّم فيك الرشيد؟ فحدّثهم عن أبيه عن آبائه : أنّ الله أوحى إلى داود : يا داود! إنّه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني وعرفت ذلك منه ؛ إلّاقطعت عنه أسباب السماء وأسخت الأرض من تحته (٥).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٣٥ ، وعنه في الإرشاد ٢ : ٢٤١.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٣٩ ، الحديث ٨٢٧.

(٣) رجال النجاشي : ٤٠٧ برقم ١٠٨٢.

(٤) منهم علي بن إسماعيل السندي كما في اختيار معرفة الرجال : ٥٩٨ ، الحديث ١١١٩.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١٤.


شفاعة البرمكي ، وقتل الإمام عليه‌السلام :

كل ذلك ويحيى بن خالد البرمكي أبو الفضل وزير للرشيد ، وبلغه خبر ابنه الفضل فركب إلى الرشيد بالرَّقة ودخل عليه وقال له : إنّ الفضل حدَث وأنا أكفيك ما تريد (من قتل الكاظم عليه‌السلام) وقد غضضتَ من الفضل بلعنك إيّاه! فشرّفه بإزالة ذلك. فقبل منه ذلك.

ثمّ أقبل على من حضر وقال لهم : إنّ الفضل بن يحيى كان قد عصاني في شيء (قتل الكاظم عليه‌السلام) فلعنته ، وقد تاب وأناب فتولّوه. فقالوا : نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت.

ثمّ خرج يحيى البرمكي بنفسه على البريد إلى بغداد ودعا بالسندي بن شاهَك وأمره بأمره (١).

وهنا قطع المفيد ما نقله من هذا الخبر عن «مقاتل الطالبيين» إلى ما أسنده الصدوق عن أحمد بن عبيد الله بن عمّار الثقفي البغدادي (٢) عن النوفلي عن أبيه قال : ثمّ بعث الرشيد بسمّ في رطب إلى السنديّ وأمره أن يقدّمه إليه ويحتمّ عليه تناوله منه ، ففعل فمات صلوات الله عليه (٣) وفي ثان قال : سلّمه إلى السنديّ فقتله بالسمّ (٤) وفي ثالث : أنّه قد سمّ في سبع أو تسع تمرات (٥) وفي رابع : سمّه السنديّ

__________________

(١) مقاتل الطالبيغ : ٣٣٥.

(٢) توص ص (٣١٩ ه‍) وله كتب م رضي الله عنهم ا : كتاب ا كل عام وانتم بخير بيضّة ص أخبار آل أض طالب ، كأ ص هديّة العارفغ للبغدادي.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٣٢ ، الحديث ٩٢.

(٤) المصدر ١ : ٢٤٣ الحديث ٩٥

(٥) المصدر ١ : ٢٤٧ الحديث ٩٧.


بأمر الرشيد (١) وفي خامس : أنّ السمّ اجتمع في بطن راحته فاخضّر لونه (٢).

ولذا قال المفيد : والذي تولّى به السنديّ قتل الإمام عليه‌السلام كان سمّاً جعله في رطب أو طعام ، أكل منه فأحسّ بالسمّ ، ولبث موعوكاً ثلاثاً. ولمّا حضرته الوفاة سأله السندي أن يأذن له أن يكفّنه فأبى وقال : إنّا أهل بيت مهور نسائنا وحجّ صرورتنا وأكفان موتانا ، من طاهر أموالنا (٣) وعندي كفني ، وأُريد أن يتولى غسلي وجهازي مولاي (فلان المدني) وسأل السنديّ أن يحضره من مشرعة القصب عند دار العباس بن محمّد العباسي ليتولّى غسله وتكفينه بكفنه الذي عنده (٤).

وإنّما قدّم المفيد السمّ بالرطب على الطعام لأنّ أربعة من تلك الأخبار الخمسة في الرطب ، وإنّما الخامس منها ما أسنده الصدوق عن عبد الله القروي قال : قدّم الفضل بن يحيى (!) إليه مائدة ، فرفع الإمام عليه‌السلام يده وقال : اللهمّ إنّك تعلم أنّي لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي! فأكل فمرض ، فلمّا كان الغد جاءه (البرمكي؟!) بالطبيب ، وكان السمّ قد اجتمع في بطن راحة يده فعرضها عليه ، فانصرف الطبيب إليهم وقال : والله لهو أعلم منكم بما فعلتم به (٥).

وكأنّ الخبر من غير خبير بأنّ الإمام عليه‌السلام كان قد تسلّمه السنديّ من البرمكي! وأيضاً ينافي ما سيأتي خبره عن الرضا عليه‌السلام بأنّ أباه الكاظم عليه‌السلام لم يعلم بالسمّ تفصيلاً وإنّما إجمالاً ، فلا عبرة بالخبر.

__________________

(١) المصدر ١ : ٢٥٠ ، الحديث ١٠٠.

(٢) المصدر ١ : ٢٦١ ، الحديث ١٠٥.

(٣) ولا يخفى ما فيه من التعريض بهم بأنّ أموالهم غير طاهرة.

(٤) الإرشاد ٢ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٦١.


آخر رسالة للكاظم عليه‌السلام :

أسند الكليني بطرق ثلاث إلى علي بن سويد السائي المدني قال : كان أبو الحسن موسى عليه‌السلام في الحبس وأنا كتبت إليه كتاباً أسأله عن حاله وعن مسائل كثيرة ، فتأخّر عليَّ الجواب أشهراً ، ثمّ أجابني بجواب هذه نسخته :

بسم الله الرحمنِ الرحيم، الحمد لله العلي العظيم ، الذي بعظمته ونوره أبصرَتْه قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة ، بالأعمال المختلفة والأديان المتضادة ، فمصيب ومخطئ ، وضال ومهتدي ، وسميع وأصم ، وبصير وأعمى ، فالحمد لله الذي عرّف وصف دينه بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أمّا بعد ، فإنّك امرؤ أنزلك الله من (آل محمّد) بمنزلة خاصة ، وحفظ ما استرعاك من دينه ، وما أُلهمك من رشدك ، وبصّرك من أمر دينك ، بتفضيلك إيّاهم ، وبردّك الأُمور إليهم. كتبت تسألني عن أُمور كنتُ منها في تقية ومن كتمانها في سعة ؛ فلمّا انقضى سلطان الجبابرة ، وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها العُتاة على خالقهم (بقتلى) رأيت أن افسّر لك ما سألتني عنه ، مخافة أن تدخل الحيرة على ضعفاء «شيعتنا» مِن قِبل جهالتهم. فاتّقِ الله «عزّ ذكره» وخُصّ بهذا الأمر أهله ، واحذر أن تكون سبب بلية على الأوصياء أو حادث عليهم ، بإفشاء ما استودعتك وإظهار ما استكتمتك ، ولن تفعل إن شاء الله.

إنّ أوّل ما انهي إليك أنّي أنعى إليك نفسي في لياليّ هذه! غير جازع ولا نادم! ولا شاكّ في ما هو كائن ، ممّا قد قضى الله «عزوجل» وحتّم ... (١).

__________________

(١) روضة الكافي : ١٠٧ ، وفي اختيار معرفة الرجال صدره في : ٣ ، الحديث ٤ ، وذيله في : ٤٥٥ ، الحديث ٨٥٩. وصدره أيضاً في قرب الاسناد : ٢٦٠.


ونقل الكشي صدر هذا الخبر وذيله ، وبعده أورد ذيل ما نقل عن كتاب ابن بندار القمي عن عبد الله بن طاووس أنّه سأل الرضا عن أبيه الكاظم عليهما‌السلام فقال : سمّه (يحيى البرمكي) بالرّطب. قال : فقلت له : أفما كان يعلم أنّها مسمومة؟ قال : غاب عنه المحدّث. قلت : ومَن المحدّث؟ قال : ملَك أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مع الأئمة صلوات الله عليهم. ثمّ قال : وليس كل ما طُلب وُجد (١).

ووجه الجمع بين الخبر السابق وهذا اللاحق هو قوله في السابق : «في لياليّ هذه» بالإجمال. وفي اللاحق ينفي علمه بالسمّ بالتفصيل بعلّة غيبة محدّثه فإنّه قد يُطلب فيوجد وقد يُطلب فلا يوجد ، وذلك قولهم عليهم‌السلام : «إذا شاؤوا علموا» (٢).

هل اطلق الإمام ثمّ حُبس؟ :

مرّ خبر أبي الفرج (٣) الذي اعتمده المفيد (٤) والطوسي (٥) وليس فيه سوى نقل الإمام عليه‌السلام من البصرة إلى بغداد إلى حبس الفضل بن الربيع ثمّ الفضل بن يحيى البرمكي ثمّ السندي بن شاهَك ، بلا إطلاق.

إلّاأنّ الصدوق نقل عن القمّيين قالوا : خاف موسى عليه‌السلام من ناحية هارون أن يقتله! فلمّا جنّه ليله صلّى أربع ركعات ودعا فقال : «يا مخلّص الشجر من بين

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٦٠٤ ، الحديث ١١٢٣.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٢٥٧ ، الحديث ٤ و ٢٥٨ ، الحديث ١ و ٢ و ٣.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٣٣ ـ ٣٣٦.

(٤) الإرشاد ٢ : ٢٣٧ ـ ٢٤٣.

(٥) الغيبة : ٢٦ ـ ٣١.


رمل وطين ، يا مخلّص اللبن من بين فرث ودم ، يا مخلّص الولد من المشيمة والرحم ، يا مخلّص النار من بين الحديد والحجر ، يا مخلّص الروح من بين الأمعاء والأحشاء! يا سيدي نجّني من حبس هارون ونجّني من يده!

وكان هارون نائماً فرأى في منامه أنّ رجلاً أسود أتاه وبيده سيفه حتّى وقف على رأسه وقال له : يا هارون! أطلق موسى بن جعفر وإلّا ضربت علاوتك بهذا السيف! فقام هارون خائفاً ودعا حاجبه وقال له : اذهب إلى السجن فأَطلق موسى بن جعفر! فخرج الحاجب إلى صاحب السجن وقال له : إنّ الخليفة يدعو موسى بن جعفر فأطلق عنه. فصاح السجّان : يا موسى! إنّ الخليفة يدعوك! فقام موسى عليه‌السلام فزعاً مذعوراً آيساً من حياته حزيناً مغموماً باكياً! وهو يقول : لا يدعوني في جوف هذا الليل إلّالشرّ يريده بي! وجاء إلى هارون ترتعد فرائصه حتّى سلّم عليه ، فردّ الرشيد عليه‌السلام وقال له : ناشدتك بالله! هل دعوت في جوف هذه الليلة بدعوات؟ قال : نعم. قال : ما هنّ؟ فذكر له دعاءه فقال هارون : قد استجاب الله دعوتك ، ثمّ خلع عليه وسلّمه إلى حاجبه ليكون معه في الدار!

فكان يدخل على هارون في كل خميس ... إلى أن حبسه الثانية» (١).

ولعلّ المراد بالدار دار حاجبه الفضل بن الربيع بجوار دار الرشيد ، فكان فيه ما رواه الصدوق بعده : أنّ الإمام عليه‌السلام كان كلّ يوم بعد ابيضاض الشمس يسجد (في صحن الدار) سجدة إلى وقت الزوال! وكان هارون يصعد سطح داره فيشرف عليه فيتراءى له ثوب مطروح في ذلك الموضع من صحن الدار! فسأل الفضل بن الربيع يوماً : يابن الربيع ؛ ما ذلك الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟! قال :

يا أمير المؤمنين! إنّما هو موسى بن جعفر له كل يوم بعد طلوع الشمس سجدة إلى

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٠ ـ ٢٤٢ ، الحديث ٩٥.


وقت الزوال! فقال هارون : أما إنّ هذا من رُهبان بني هاشم! فقال ابن الربيع : فما لك قد ضيّقت عليه بالحبس؟! قال : هيهات! لابدّ من ذلك (١) ثمّ حبسه الثانية ، فلم يطلقه حتّى سلّمه (الثالثة) إلى السندي فقتله بالسم (٢).

وعليه فلو كان له إطلاق فإنّما من السجن إلى دار الحاجب الفضل فقط ، فلم يمرّ بدار بشر الحافي في بغداد (٣).

واستشهدوا ، لتبرئتهم من جرمهم :

شاعت فيما بين الناس مزاعم على السنديّ بن شاهَك بأ نّه يُكثر من فعل المكروه بالإمام عليه‌السلام حتّى بلغت مسامع السنديّ ، فحاول إبطالها :

فروى الحميري والكليني عن رجل قال : جمعنا السندي ثمانين رجلاً من الوجوه المنسوبين إلى الخير ، فأدخلنا على موسى بن جعفر (عليه‌السلام) وقال لنا : يا هؤلاء! إنّ الناس يزعمون أنّه قد فُعل مكروه بموسى بن جعفر! ويكثرون في ذلك! فانظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ وهذا منزله وفراشه ، موسّع عليه! وهذا هو صحيح موسّع عليه في جميع أُموره! وإنّما يُنتظر به أن يقدم أمير المؤمنين! (من الرَّقة) فيناظره!

فبدأ موسى بن جعفر (عليه‌السلام) فقال لنا : أما ما ذكر من التوسعة وما أشبهها فهو على ما ذكر! غير أنّي أُخبركم ـ أيها النفر ـ أنّي قد سُقيت السمّ في سبع تمرات! وأنا سأخضّر غداً ، وأموت بعد غد!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٣ ، الحديث ٩٦.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٣ ، ذيل الحديث ٩٥.

(٣) كما في مفتاح الكرامة : ١٩. وانظر قاموس الرجال ٢ : ٣٢٦ ، برقم ١١١٠.


قال الراوي : فنظرنا إلى السنديّ فرأيناه يرتعد مثل السعفة (١) كان هذا بعد السمّ وقبل الوفاة. وكرر ذلك بعد وفاته :

فقد أسند الصدوق عن عمر بن واقد البغدادي (٢) : أنّ السنديّ كان يعرفه بمعرفة الكاظم عليه‌السلام ، فأرسل عليه ليلاً وسأله : أتعرف موسى بن جعفر؟ قال : كانت بيني وبينه صداقة منذ دَهر ، فسأله عن من يعرفه ببغداد ممّن يُقبل قوله ، قال : فسميت له أقواماً ، فبعث عليهم وجاء بهم ، ثمّ سألهم عَن مَن يعرفون ممن يعرف موسى بن جعفر ، فسمّوا له أقواماً ، فبعث عليهم وجاء بهم حتّى أصبحنا نيفاً وخمسين رجلاً ، وصلّينا.

وخرج كاتب السنديّ بطومار فكتب أسماءنا وأوصافنا وأعمالنا ومنازلنا ، ثمّ خرج السنديّ وأقامنا وأدخلنا معه على موسى بن جعفر عليه‌السلام ميتاً مغطّىً فقال لي : يا أبا حفص! اكشف الثوب عن وجهه ، فكشفته ، فرأيته ميتاً فاسترجعت ، فقال السنديّ للقوم : أكلّكم يشهد أنّ هذا موسى بن جعفر؟ فدنوا ونظروا إليه وقالوا : نعم نشهد أنّه موسى بن جعفر. فقال لغلامه : اطرح على عورته منديلاً واكشف سائر بدنه ، ففعل ذلك ، فقال لنا : أترون به أثراً تنكرونه؟ قلنا : لا نراه إلّا ميتاً ولا نرى به شيئاً. فقال : فلا تبرحوا حتّى تغسّلوه وتكفّنوه وتدفنوه (٣) ولا منافاة بين الخبرين السابق وهذا.

__________________

(١) قرب الأسناد : ٢٦ ، الحديث ١٢٥٥ ، وأُصول الكافي ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ، الحديث ٢ ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٦ ، الحديث ٩٨.

(٢) فهل هو والد محمّد بن عمر الواقدي صاحب المغازي؟ من المحتمل.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٧ ـ ٢٤٩ ، الحديث ٩٩ ، وفي كمال الدين ١ : ٣٨ : واكفْنه وادفنه.


واختصر الخبر أبو الفرج فقال : فلمّا مات الكاظم أدخل السنديّ عليه الفقهاء وفيهم الهيثم بن عدي ووجوه أهل بغداد لينظروا إليه لا أثر به ويشهدوا له بذلك (١).

هذا ، ولم يتبصّر العنبري البصري بغيبة الرشيد برقّة الشام فرووا عنه قال : لمّا توفي الكاظم عليه‌السلام جمع الرشيد الحكّام وبني العباس وشيوخ الطالبيين وسائر أهل المملكة؟! سبعون رجلاً من (شيعته؟!) وقال لهم : قد مات موسى بن جعفر حتف أنفه ، وما كان بيني وبينه ما أستغفر الله منه في أمره فانظروا إليه. فدخلوا عليه ونظروا إليه وليس به أثر خنق ولا جراحة (٢).

الإمام لا يغسله إلّاإمام؟ :

أسند الكليني والصدوق والطوسي عن الصادق : أنّ علياً غسّل فاطمة عليهما‌السلام وعلّل ذلك قال : فإنّها صدّيقة فلم يكن يغسّلها إلّاصدّيق (٣).

وروي عن الرضا عليه‌السلام : أنّ الله مكّن علي بن الحسين عليهما‌السلام أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه (٤).

وروى الحلبي عن الكاظم : أنّ الصادق عليهما‌السلام أوصاه أن يغسّله ولا يغسّله أحد غيره قال : فإنّ الإمام لا يغسّله إلّا الإمام (٥).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٣٦ ، وعنه في الإرشاد ٢ : ٢٤٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٧ ، الحديث ١٠٤ ، وقبله في كمال الدين ١ : ٣٩.

(٣) راجع موسوعة التاريخ الإسلامي ٤ : ١٥٣.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٤٦٤ ، الحديث ٨٨٣.

(٥) بحار الأنوار ٤٧ : ١٢٧ عن مناقب آل أبي طالب.


وروي عن أحمد بن عمر الخلّال قال للرضا عليه‌السلام : إنّ الواقفة يحاجّونا بأنّ الإمام لا يغسله إلّاإمام ، فما أقول لهم؟ قال : قل لهم : إنّي غسّلته (١).

واحتجّ به المأمون على هرثمة بن حبيب ، فقال هرثمة : إنّ الإمام لا يجوز أن يغسله إلّاإمام مثله ، فإن تعدّى متعدّ وغسَّل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدّي غاسله ، ولا تبطل إمامة الذي بعده لأنّه غُلب على غسل أبيه. ولو ترك الرضا عليه‌السلام بالمدينة لغسَّله ابنه محمّد ظاهراً ، والآن لا يغسّله إلّاهو من حيث يخفى (٢).

رواه الصدوق وقبله قال : إنّ الصادق عليه‌السلام إنّما نهى أن يغسّل الإمام إلّامَن يكون إماماً ، ولم يقل : إنّ الإمام لا يكون إلّاالذي يغسّل مَن قبله من الأئمة ، فإن دخل من يغسّل الإمام في نهيه فغسّله لم تبطل بذلك إمامة الإمام بعده. على أنّا قد روينا أنّ الرضا قد غسّل أباه موسى عليهما‌السلام من حيث خفى على الحاضرين تغسيله إلّا من اطّلع عليه (٣).

وما أشار إلى روايته هو ما أسنده إلى عمر بن واقد قال : كان المسيّب بن زهير (؟) موكّلاً بالكاظم عليه‌السلام يخدمه ، فقبل وفاته بثلاثة أيام دعاه وقال له : إنّي في هذه الليلة ظاعن إلى مدينة جدّي لأعهد إلى ابني علي وأجعله وصيّي وخليفتي وآمره بأمري! قال : فقلت له : يا مولاي! تأمرني أن أفتح لك أقفال الأبواب والحرس معي على الأبواب؟! قال : إنّي أدعو الله عزوجل باسمه العظيم الذي دعا به آصف (وصي سليمان) حين جاء بسرير بلقيس إلى سليمان قبل أن يرتدّ

__________________

(١) الإمام زين العابدين عليه‌السلام للمقرم : ٤٠٣.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٤ ، الباب ٦٣ ، ط. قم.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٨ ذيل الحديث ١٠٤.


إليه طرفه ، حتّى يجمع الله بيني وبين ابني علي! ثمّ دعا ، ثمّ فقدته عن مصلّاه ، ثمّ رأيته عاد وأعاد الحديد على رجليه.

ثمّ قال لي : يا مسيّب ، إنّي راحل إلى ربي في ثالث هذا اليوم ، وإنّ ابني علياً هو إمامك ومولاك بعدي ، فاستمسك بولايته ، فإنّك لن تظلّ ما لزمته ، قال : فقلت : الحمد لله.

وفي ليلة اليوم الثالث دعاني فقال لي : إنّي على ما عرّفتك من رحيلي إلى الله عزوجل ، فإذا دعوت بشربة ماء فشربتها أتلون ألواناً أصفر وأحمر وأخضر ، ويرتفع بطني وانتفخ ، فلا تُظهر ذلك لأحد إلّابعد وفاتي.

فلمّا دعا بالشربة وشربها دعاني وقال لي : يا مسيّب ، إنّ هذا الرجس السندي سيزعم أنّه يتولّى غسلي ودفني ، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً.

ثمّ أنهيت الخبر إلى الرشيد (برقّة الشام؟!) فوافى السنديّ ؛ فوالله لقد رأيتهم يغسّلونه وأيديهم لا تصل إليه! ويحنّطونه ويكفّنونه ولا يصنعون به شيئاً! وكان عهدي بسيّدي الرضا عليه‌السلام وهو غلام (متى وأين؟!) فرأيته وهو أشبه الأشخاص بالكاظم عليه‌السلام يتولّى غسله وتحنيطه وتكفينه وهم لا يعرفونه إلّاأنه يُظهر المعاونة لهم!

ثمّ قال لي : يا مسيّب! مثلي مثل يوسف ومثلهم مثل إخوته إذ «دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون» (١).

ولا كلام في إمكانه ، وإنما في وقوعه ، ولم يعتمده الصدوق بل حمل أخبار «لا يلي ..» على النهي التشريعي لا النفي التكويني الوقويع ، وكذا لم يعتمده المفيد بل روى قوله عليه‌السلام : «أُريد أن يتولى غُسلي وجهازي مولاي (فلان)

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٦ ذيل الحديث ١٠٢.


المدني الذي ينزل في مشرعة القصب» ففعل ذلك (١). وكذا لم يعتمده الطوسي تبعاً لشيخه المفيد.

بل أسند عن أُمّ ولد محرّرة للحسين بن علي بن يقطين مولى الأسديين والعباسيين : أنّ الكاظم عليه‌السلام كان له موسى يُسمى سعيد كان يخدمه في حبسه ويختلف إليه في حوائجه.

وحضره حين وفاته (فهو المولى المدني الموصى به لتجهيزه) فروت عنه أنّه عليه‌السلام مات كما يموت الناس صار من قوة إلى ضعف إلى أن قضى نحبه عليه‌السلام (٢) فهل أبصر المسيّب الرضا عليه‌السلام وما رأى هذا؟!

تاريخ الوفاة :

أسند الصدوق عن غياث بن أُسيد عن شيوخ من أهل المدينة : أنّ موسى عليه‌السلام حُبس بدار المسيّب التي فيها السدرة بباب الكوفة من بغداد. ومضى عليه‌السلام يوم الجمعة لخمس خلون من رجب سنة (١٨٣ ه‍) وعمره (٥٥) سنة (٣).

ويبدو أنّه هو مستند الكليني لما أرسله في كتابه (٤) إلّاأنّ الصدوق بعد هذا لم يلبث كثيراً حتّى أسند عن سليمان بن حفص المروزي قال : توفي في حبس الرشيد ببغداد لخمس ليال بقين من رجب (٥).

__________________

(١) الارشاد ٢ : ٢٤٣ عن مقاتل الطالبيين : ٣٣٦.

(٢) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٤ الحديث ٣.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٦ ، الحديث ١٠٠.

(٤) أُصول الكافي ٢ : ٤٧٦.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٦ ، الحديث ١٠٣. وقبله مثله في فرق الشيعة : ٨٥ ، وعنه في المقالات والفرق : ٩٣.


والمفيد في «الإرشاد» قال بالأول (١) ، ثمّ أعرض عنه وقال بالثاني في «مسارّ الشيعة» (٢) وتبعه الطبرسي (٣) والحلبي (٤) فشاع هذا وعليه العمل اليوم.

أخبار التشييع والدفن :

في آخر خبر أبي الفرج : واخرج فوضع على الجسر ببغداد ، فنودي عليه : هذا موسى بن جعفر قد مات فانظروا إليه! فاجتمع الناس يتفرّسون في وجهه. وقال بعض الطالبيين : نودي عليه : هذا موسى بن جعفر الذي تزعم «الرافضة» أنّه لا يموت ؛ فانظروا إليه (٥)!

وزاد المفيد : أنّ يحيى البرمكي أمر بهذا النداء وذلك أنّ قوماً زعموا أنّ موسى عليه‌السلام هو القائم المنتظر وجعلوا حبسه هو الغيبة المذكورة للقائم! ولذا أمر يحيى بهذا النداء (٦)! وبهذا أفاد المفيد أوّلاً : أنّ دعوة الواقفة بدأت وامتدّت مع امتداد توقيف الكاظم قبل وفاته عليه‌السلام. وثانياً : كأ نّهم هم السبب في مدّ ذلك النداء المُشين ، لا عدوان الظالمين إلّاخوفاً من دعوة المهدوية!

لكن هذا لولا ما أسنده الصدوق عن عبد الله الصيرفي قال : حُمل موسى عليه‌السلام على نعش إلى مجلس الشرطة ، فأقام السندي عليه أربعة نفر (من الشرطة لابسي

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢١٥.

(٢) مسارّ الشيعة : ٧٢ من المجموعة.

(٣) إعلام الورى ٢ : ٧.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٤٨.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٣٣٦.

(٦) الإرشاد ٢ : ٢٤٣.


سوادهم) فنادوا عليه : ألا من أراد أن يرى الخبيث بن الخبيث موسى بن جعفر فليخرج! هذا إمام «الرافضة» فاعرفوه!

ويظهر من الخبر أنّ المجلس ومجلس الشرطة كان في الجانب الشرقي من دجلة وليس الشيعة به إلّاقلّة وأكثرهم في الجانب الغربي ، وكانوا قد وضعوا الجنازة على الجسر ، وكان قصر سليمان بن المنصور العباسي عمّ الرشيد على الشط ، وخرج من قصره فسمع الصياح والضوضاء فسأل من معه من وُلده وغلمانه عن الضوضاء والصياح ، فقالوا : هذا السنديّ بن شاهَك ينادي على نعش موسى بن جعفر! فخاف أن يعبروا بالجنازة والنداء إلى الجانب الغربي وبها الشيعة كثير ، فخاف الفتنة! فقال لولده : إذا عبروا به إلى الجانب الغربي فانزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم ، فإن مانعوكم فخرّقوا ما عليهم من السواد واضربوهم!

فلمّا عبروا به إلى الجانب الغربي نزلوا إليهم فأخذوه من أيديهم وخرّقوا عليهم سوادهم وضربوهم! ثمّ وضعوه على مفترق الطرق ، وأقام سليمان المنادين ينادون : ألا ومن أراد أن يرى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج!

وكان سليمان العباسي قد أَعدّ لنفسه حِبرة يمنية كتب عليها القرآن كلّه بألفين وخمسمئة دينار! فأمر بغسله وحنّطه بحنوط فاخر وكفّنه بكفنه ، وحضر الخلق ، فاحتفى هو ومشى في جنازته نازعاً زيّه الرسمي مشقوق الجيب ، شيّعوه إلى مقابر قريش (١).

__________________

(١) تمام الخبر : ثمّ كتب بخبره إلى الرشيد (برقّة الشام) فأجابه الرشيد : يا عمّ وصلتك رحمٌ ، وأحسن الله جزاءك ، والله ما فعل السنديّ ما فعله لعنه الله عن أمرنا! عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥٢ ، الحديث ١٠١.


وكان من الشيعة الحاضرين الحسين بن علي الرّواسي ، فروى عنه يونس بن عبد الرحمن : أنّ السنديّ كان قد خلّف عنه في تشييع الإمام رجلاً يدعى أبا المُضاء ، فلمّا وُضع الإمام على شفير القبر جاءه رسول السنديّ وأمره أن يكشف وجهه للناس قبل دفنه ليروه صحيحاً لم يحدث به حدث! قال : وكشف عن وجه مولاي فرأيته وعرفته ، ثمّ غطّوه ودفنوه (١) وكان أخضر حالكاً كثّ اللحية (٢).

وكان داود بن زربي قد عرض على الكاظم عليه‌السلام قبل القبض عليه مالاً فأخذ بعضه وأعرض عن بعض وتركه عنده ، فسأله عنه فقال : سيطلبه منك صاحب هذا الأمر (بعدي) فلمّا جاء نعيه بعث الرضا عليه‌السلام إليه من يطلب منه ذلك الباقي ، فدفعه إليه (٣).

البرامكة ودعوى التشيّع؟! :

لم نعلم من أزد البصرة إلّاالانحياز إلى جانب الجمل في وقعة الجمل ثمّ الأمويين ثمّ المروانيين ، وبرز من قوّادهم المهلّب بن أبي صفرة أمير خراسان الكبرى وله أبناء عشرة لم نعلم عنهم التشيّع ، وأحدهم محمّد بن عبّاد من أحفاد المهلّب أصبح محدّث البصرة (٤).

فروى الطوسي عن محمّد بن خالد البرقي القمي عن محمّد بن عباد المهلّبي هذا عن موسى بن يحيى البرمكي (بعد نكبتهم)! ما يحتوي إيمانهم بظهور الدلائل والمعجزات من الكاظم عليه‌السلام إلّاأ نّه يتضمّن تبرئة أبيه يحيى البرمكي من سمّ الإمام

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٣ ، الحديث ٢.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٤٨.

(٣) أُصول الكافي ٢ : ٣١٣ ، الحديث ١٣.

(٤) توفي في (٢٢٠ ه‍) تقريباً.


قال : لما حبس هارون الرشيد موسى عليه‌السلام وأظهر الدلائل والمعجزات في الحبس! دعا يحيى البرمكي وقال له : يابا علي! أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب (من الكاظم عليه‌السلام) ألا تدبِّر في أمر هذا الرجل تدبيراً يريحنا من غمّه؟! قال يحيى : يا أمير المؤمنين! الذي أراه هو أن تمنّ عليه بصلة رحمه ، فوالله لقد أَفسد علينا قلوب شيعتنا!

فقال له هارون : انطلق إليه وأبلغه عني السلام وقل له : يقول لك ابن عمّك! إنّه قد سبق منّي فيك يميني أنّي لا اخليك حتّى تقرّ لي بالإساءة! وتسألني العفو عمّا سلف منك! وليس عليك في إقرارك عار ولا في مسألتك إياي منقصة. وهذا يحيى بن خالد ثقتي ووزيري وصاحب أمري ، فسله بقدر ما أخرج من يميني وانصرف راشداً!

فأخبر موسى بن يحيى البرمكي عن أبيه يحيى : أنّ الكاظم عليه‌السلام قال له : يا أبا علي ، إنّما بقي من أجلي أُسبوع ، ائتني وأوليائي (!) الزوال من يوم الجمعة ، فصل عليَّ أنت وأوليائي فرادى! ثمّ قال : وأبلغه عني : يقول لك موسى بن جعفر : يأتيك رسولي يوم الجمعة فيخبرك بما يرى! وستعلم غداً مَن المعتدي على صاحبه ، والسلام! وقال ليحيى : وإنّي رأيت في نجمك ونجم ولدك ونجم هارون أنّه يأتي عليكم! فانظر إذا سار هذا الطاغية إلى الرَّقة وعاد إلى العراق فاحذره لنفسك أن لا يراك ولا تراه!

فبكى يحيى حتّى احمرّت عيناه! ثمّ خرج من عنده حتّى دخل على هارون فأخبره بقصّته وما ردّ عليه. فقال هارون : ما أحسن حالنا إن لم يدّع النبوة بعد أيام! ثمّ خرج هارون إلى المدائن! فلمّا كان يوم الجمعة توفي موسى عليه‌السلام ، فأُخرج للناس ينظرون إليه (ومع ذلك) قالت فرقة (الواقفة) بأ نّه لم يمت (١).

__________________

(١) كتاب الغيبة للطوسي : ٢٤ ـ ٢٦ ، الحديث ٥.


فهو يزعم تشيّعه وأبيه ولا يرى الكاظم عليه‌السلام مسموماً وإنّما مظلوماً بظلم الرشيد مع دفاع يحيى ، وينفرد بذكر خروج الرشيد إلى المدائن بينما كان يومئذ برَقّة الشام! فالخبر مسطّر لتطهير البرمكي كاملاً ليس إلّا ، وكأنّه انطلى ذلك على رواته حتّى الشيخ الطوسي!

القاضي نوح بن درّاج الكوفي :

وقبل قتل الكاظم عليه‌السلام ، في سنة (١٨٢ ه‍) مات القاضي نوح بن درّاج الكوفي النبطي مولى النخع.

كان أبوه بقّالاً في الكوفة ، وكان هو يكتب الحديث. وكان أخوه جميل متعبّداً سجّاداً ، ومع ذلك افتقده عن المسجد ، فسأله : لِمَ لا تحضر المسجد؟ فقال : ليس لي إزار! فذلك هو الذي حمله على الدخول في القضاء بالكوفة لبني العباس (١).

وكان القاضي ابن شُبْرمة فادّعى رجل أرضاً فيها نخيل وأقام شهوداً ، فسألهم ابن شُبْرمة عن عدد النخيل فقالوا : لا نعلم ، فردّ شهادتهم ، وذلك في المسجد الجامع بالكوفة ونوح حاضر ، فقال لابن شُبرمة : أنت تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين عاماً ولا تعلم كم اسطوانة فيه! فردّ القاضي المدعى والشهود وقضى له بها ثمّ قال شعراً :

كادت تزلّ بها من حالق قدم

لولا تداركها نوح بن دُرّاج (٢)

فكأنّ هذا حملهم على عرض القضاء عليه فقبله.

وعلى عهد المهدي العباسي مات له مولى له بنت واحدة وخلّف أثاثاً ومتاعاً وضياعاً كثيرة ، وكان المهدي يحسب أنّ البنت ترث النصف والباقي له

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٥٢ ، الحديث ٤٦٩.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ٣١٥ ـ ٣١٦.


لولايته ، وقضى نوح بالمال كلّه للبنت ، فلمّا بلغ ذلك إلى المهدي دعاه وسأله : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : قضيت بقضاء علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) فإنّه قضى للبنت بالمال كلّه فقيل له في ذلك فقال : أعطيتها النصف بفريضة الله ، وأعطيتها الآخر بقوله تعالى : (وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ (١)) سل القضاة والفقهاء عن هذا فإن كنت كاذباً فافعل ما شئت!

فأمر المهدي بإحضار جماعة من فقهاء الكوفة من القضاة وغيرهم منهم ابن أبي ليلى وشريك فأحضروا إلى بغداد فسألهم عن ذلك فرووا ذلك عن علي بن أبي طالب بأسانيد كثيرة. فقال المهدي لنوح : قد أجزت حكمك في هذه المرة فإن عُدت قتلتك (٢)!

كان ذلك على عهد محمّد المهدي العباسي ، ثمّ ملك موسى الهادي ومات وعلى الكوفة موسى بن عيسى العباسي ، فلمّا ملك الرشيد أرسله إلى مصر وولّى ابنه العباس بن موسى على الكوفة (٣) ونوح بن درّاج تلك الأيام على القضاء ، فكأ نّه عاد لمثل ما سبق منه. واجتمع لدى الوالي العباس بن موسى : هاشم الصيداني وإسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة وعليّ بن ظبيان وأبوبكر بن عياش بن سالم المقرئ ، فقال العباس لابن عياش : يا أبا بكر ، أما ترى ما أحدث نوح في القضاء؟! إنّه طرح العُصبة.

فقال ابن عياش : وما عسى أن أقول لرجل قضى بالكتاب والسنة! وكان العباس مستنداً فاستوى جالساً وقال : وكيف قضى بالكتاب والسنة؟!

__________________

(١) الأنفال : ٧٥.

(٢) الملاحم والفتن لابن طاووس : ١٨٨ عن المرزباني الخراساني.

(٣) تاريخ خليفة : ٣٠٦.


فروى ابن عياش : أنه لما قتل حمزة بعث رسول الله عيناً فأتاه بابنة حمزة فسوّغها الميراث كلّه (١) أي لم يورّث العُصبة إخوة حمزة.

وكأنّ الرشيد كان غافلاً عن ذلك ، فروى الصدوق أنه سأل الكاظم عليه‌السلام عن ذلك ، ويظهر من الخبر أنه كان في الموسم بمكة ، فاستند الإمام إلى قول علي عليه‌السلام قال : «ليس مع ولد الصلب ـ ذكراً كان أو انثى ـ لأحد سهم. إلّاللأبوين والزوج أو الزوجة» وأن هذا لا يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث ، ولم ينطق به الكتاب ، إلّاأن تيماً وعدياً وأُمية قالوا : «العمّ والد» وأياً منهم بلا أثر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومن قال بقول علي عليه‌السلام من العلماء فقضاياهم خلاف قضايا هؤلاء ، هذا نوح بن درّاج يقول في هذه المسألة بقول علي عليه‌السلام وقد حكم به ، وقد ولّاه الخليفة أقضية الكوفة.

فأمر الخليفة بإحضاره ، واحضار من يقول بخلافه : إبراهيم المدني وسفيان الثوري والفضيل بن عياش السمرقندي المكي المجاور ، فلعلّهم كانوا في الموسم بمكة فأقروا أنه قول علي عليه‌السلام في هذه المسألة. فقال لهم : فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن درّاج؟ فقالوا : جَسِر نوح وجبنّا (٢)! فهل هم جسروا بعد هذا أم ظلوا وأظلّوا السبيل؟! ولو جَسِروا لنُقل.

قالوا : ونقلوه للقضاء ببغداد الشرقية ، وفقد بصره غير ظاهر واستمر قاضياً كذلك ثلاث سنين ثمّ ظهر أمره فصُرف عن القضاء ، وتوفي في (١٨٢ ه‍) (٣) سنة وفاة علي بن يقطين ، قبل وفاة الكاظم عليه‌السلام.

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣١٠ ، ٣١١ وفيه : وورّثها.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٢٣ ، ٢٢٤ ، الباب ٢٨ ، الحديث ٩١.

(٣) عن الذهبي في قاموس الرجال ١٠ : ٤٠٩ ، برقم ٨٠٤٨. وكان من موالي النخع من همدان بالكوفة. وانظر تقريب التهذيب ٢ : ٣٠٨ برقم ١٦٤ ، والعقد الفريد ٥ : ١١٨ ، والجرح والتعديل ٨ : ٤٨٤.


فرقة الغلاة في الكاظم عليه‌السلام :

صنّف النوبختي الغلاة إلى متقدمين ومتأخرين ، والمتقدمين منهم إلى عشرة أصناف ختمهم بالبشيرية نسبة إلى بشير بن محمّد (١) الكوفي مولى بني أسد (٢).

وكانت معه شعبدة ومخاريق ، ويقول لأصحابه : إنّ أبا الحسن (الكاظم) عندي ، فإن أحببتم أن تروه فهلمّوا أعرضه عليكم! فكان يدخلهم البيت ويقول لهم : هل ترون في البيت مقيماً غيري وغيركم؟ فيقولون : ليس في البيت أحد ، فيخرجهم ثمّ يسبل ستراً ، وعنده صورة شخص كأ نّها صورة أبي الحسن الكاظم عليه‌السلام في ثياب حرير قد طلّاها بالأدوية وعالجها بحيل عملها فيها فيقيمها ، ثمّ يدخلهم ثمّ يرفع الستر بينه وبينهم فينظرون إلى صورة شخص قائم كأ نّه شخص أبي الحسن عليه‌السلام لا ينكرون منه شيئاً! ويقف هو بقربه يريهم أنّه يدنو منه كأ نّه يسارّه ويناجيه ويكلّمه ، ثمّ يغمزهم أن يتنحّوا! فيتنحّون ، ويُسبل الستر بينه وبينهم فلا يرون شيئاً! فهلكوا بها (٣).

ويقول لهم : إنّه قائم موجود بينهم غير أنّهم محجوبون عن إدراكه ، يتراءى لأهل النور بالنورانية ولأهل الكدورة بالكدورة في مثل خلقتهم الإنسانية البشرية (٤) وقالوا بالحلول فزعموا أنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يلد ولم يولد وإنّما هو ربّ حلّ في كل من انتسب إليه ، محتجب في هذه الحجب! وقالوا

__________________

(١) فرق الشيعة والمقالات والفرق : ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) المقالات والفرق : ٩١ ، ولعلّ عنه الكشي في اختيار معرفة الرجال : ٤٧٨ ، الحديث ٩٠٦.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٠ ، الحديث ٩٠٧. وانظر المقالات والفرق.

(٤) المصدر السابق : ٤٧٧ ـ ٤٧٨.


بالتناسخ وأنّ الأئمة عندهم أحد واحد وإنّما هم ينتقلون من بدن إلى بدن (١).

فقال رجل لأبي الحسن (الكاظم) عليه‌السلام : إنّي سمعت محمّد بن بشير يقول : إنّك لست الذي هو إمامنا وحجّتنا في ما بيننا وبين الله تعالى! (وكأنّه يشير إلى قوله بالتناسخ أو الحلول).

فقال عليه‌السلام : هذا سابّ لرسول الله ولآبائي ولي ، وأي سبّ لا يفوقه هذا القول! حلّ ـ والله ـ دمه وأباحه لمن سمع منه ذلك! فقال الرجل : فما عليَّ من الوزر إن لم أقتله ولم أخف أن يُغمز به برئ؟ قال : أضعاف مضاعفة! أما علمت أنّ أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من ردّ عن الله وعن رسوله ونصر الله ورسوله بظهر الغيب! ثمّ لعنه ثلاثاً وقال : أذاقه الله حرّ الحديد وقتله أخبث ما يكون من قِتلة (٢) ولم يقتله الرجل.

وقال لعليّ البطائني! يا علي ، ما من أحد اجترأ أن يتعمّد الكذب علينا إلّا أذاقه الله حرّ الحديد!

إنّ بياناً (التبّان) كذب على علي بن الحسين عليه‌السلام فأذاقه الله حرّ الحديد!

وإنّ أبا الخطّاب كذب على أبي فأذاقه الله حرّ الحديد.

وإنّ محمّد بن بشير لعنه الله يكذب عليَّ! برئت إلى الله منه! اللهم إنّي أبرأ إليك ممّا يدّعيه فيّ محمّد بن بشير! اللهمّ أرحني منه! اللهمّ إني أسألك أن تخلّصني من هذا الرجس النجَس محمّد بن بشير ، فقد شارك الشيطان أباه في رحم أُمه (٣)!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٧٩ عن سعد بن عبد الله ، وفي المقالات والفرق : ٩٢.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٢ ، الحديث ٩٠٨ عن سعد بن عبد الله القمي الأشعري ، وليس في كتابه المقالات والفرق.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٨٣ ، الحديث ٩٠٩ عن سعد بن عبد الله ، وليس في المقالات.


ولم يُقتل ، بل قُبل قوله في أصحابه فلمّا حُبس الكاظم عليه‌السلام قالوا : إنّه لم يُحبس ولم يَمُت (ولا يموت) بل غاب واستتر ، وهو القائم المهدي ، وأ نّه لمّا أراد الغيبة جعل محمّد بن بُشير وصيّه وأعطاه خاتمه وعلمه وجميع ما تحتاج إليه رعيته من أمر دينهم ودنياهم! وفوّض جميع أمره إليه وأقامه مقام نفسه واستخلفه على الأُمة ، فهو الإمام بعده! مفترض الطاعة على الأُمة إلى وقت خروج موسى وظهوره عليه‌السلام ، فما يلزم الناس من حقوق في أموالهم وغير ذلك ممّا يتقربون به إلى الله تعالى فالفرض عليهم أداؤه إلى محمّد بن بشير إلى قيام القائم ؛ وزعموا أنّ علي بن موسى عليه‌السلام وكلّ من ادّعى الإمامة من ولده مبطلون كاذبون ، ونفوهم عن أنسابهم وكفّروهم لدعواهم الإمامة.

بل كفّروا القائلين بإمامتهم واستحلوا دماءهم وأموالهم! وزعموا أنّ الفرض عليهم من الله تعالى إقامة الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان ، وأنكروا الزكاة والحج وسائر الفرائض.

وقالوا بإباحة المحارم والفروج والغلمان ، واعتلّوا في ذلك بقول الله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً (١)) والمواساة بينهم واجبة في كل ما ملكوه من مال أو فرج أو غير ذلك!

ثمّ قال في موسى عليه‌السلام بالربوبية وادّعى لنفسه أنّه نبي (٢)! ووسمّوا بالبشيرية.

__________________

(١) الفرقان : ٥٢.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٧٨ ـ ٤٨٠ ، الحديث ٩٠٦ و ٩٠٧ ، وتمامه : ثمّ رُفع خبره إلى هارون أو الخليفة بعده وأ نّه زنديق ، فأخذه وأراد قتله فرغّبه ابن بشير في ما يصنع له لسقي بساتينه ، فاستبقاه ، فصنع له دوالي متتالية وجعل بين ألواحها زيبقاً وعلّقها ، فكانت تعمل بلا عامل! فقرّبه الخليفة وجعل له مرتبة حتّى انكسر منها لوح وخرج الزيبق فتعطلّت ،


ثمّ اختلفت الفِرق فيه :

مرّ الخبر أنّه كان من دعاوي البشيرية المهدوية للكاظم عليه‌السلام ، ورووا في ذلك روايات عن أبيه قال فيه : «هو القائم المهدي بعدي! فإن يدَهدَه رأسه من جبل فلا تصدّقوا موته فإنّه صاحبكم القائم»!

وآخرون رووا في ذلك خبراً عن أبيه قال فيه : «إنّ ابني هذا فيه شَبَه من عيسى بن مريم»! فقالوا : بأ نّهم ما قتلوه وما مات ولكن شُبّه عليهم. وآخرون أتمّوا الخبر أنّه قال : «وإن ولد العباس يأخذونه فيحبسونه مرّتين ، فيُقتل في المرة الثانية» فقد قُتل (١).

واعتلّ آخرون بالحديث النبوي المزوّر من قبل بني الحسن للتطبيق على محمّد بن عبد الله الحسني أنّه قال : «... رجل من ولدي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي» فادّعوا ابناً لعبد الله الأفطح يدعى محمّداً وجّهه إلى اليمن ثمّ تحوّل إلى خراسان فهو حيّ مقيم بها وقد ورث الإمامة من أبيه وهو محمّد بن عبد الله فهو القائم المنتظر! وآخرون قالوا : بل مات وله ولد فالإمامة في ولده!

وآخرون تحيّروا فقالوا : قد روينا أخباراً كثيرة (٢) تدلّ على أنّ الكاظم عليه‌السلام

__________________

وظهرت منه الإباحات ، فعذّبه بأنواع العذاب ثمّ قتله. قال البطايني : فما رأيت أحداً قُتل بأسوأ قتلة من محمّد بن بشير! المصدر : ٤٨١ و ٤٨٣ ولما مات أوصى إلى ابنه سميع بن محمّد فهو الإمام بعده! وكان هاشم بن أبي هاشم قد تعلّم منه بعض خوارقه فكان بعده من الدعاة إليه! المصدر : ٤٧٨ ـ ٤٧٩ و ٤٨٢. وليس في الفرق ولا المقالات والفرق.

(١) فرق الشيعة : ٨٠ ، وفي المقالات والفرق : ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) جمعها السيّد على العلوي الموسوي نحو أربعين خبراً بكتاب «نصرة الواقفة» أوردها الطوسي في كتاب الغيبة وردّها : ٤٣ ـ ٦٣.


القائم المهدي ، بحيث لا يجوز لنا تكذيبها ، ومن ناحية أُخرى ورد علينا من خبر وفاته مثل الذي ورد علينا من خبر وفاة الماضين من آبائه ، فهو أيضاً ممّا لا يجوز إنكاره وردّه لتواتره وشهرته ووضوحه ، فعند هذا وقفنا عن الإقرار بحياته وعن إطلاق الموت عليه ، فنحن مقيمون على إمامته حتّى يصحّ لنا مَن بعده. ثمّ صدّقوا روايات أصحابه في إمامة ابنه علي الرضا عليه‌السلام وشاهدوا منه أُموراً قطعوا بها بإمامته.

وزعم قوم أنّه لمّا خاف على نفسه القتل منهم خرج من الحبس ولم يره أحدهم ولم يعلموا به ، فادّعوا موته ولبّسوا على الناس برجل آخر مات لديهم فأخرجوه ودفنوه باسمه كذباً ، وإنّما اختفى وغاب. وقال آخرون : إنّه مات ولكنّه القائم برجعته. وقال آخرون : إنّه مات ورجع كما عاد عيسى عليه‌السلام وهو مختفٍ ، ثمّ اختلفوا فقال قوم : إنّه له مواضع شتى إلى أوان ظهوره. وقال آخرون : بل هو في موضع ويلقاه ويراه من يوثق به من أصحابه فيعرفونه ويأمرهم وينهاهم. وقال آخرون منهم : هو حيّ وقد استخلف ابنه الرضا وولده بعده وعلى الناس القبول منهم والسمع والطاعة لهم والانتهاء إلى أمرهم ، فهم خلفاؤه واحداً بعد واحد إلى خروجه وظهوره وليسوا بأئمة (١)! فهذه فِرق الواقفة ، والذين قطعوا بموته وإمامة ابنه الرضا عليه‌السلام وُسموا لذلك بالقطعية.

في عهد الباقر عليه‌السلام لم نعثر على وكلاء له ، وإنّما بدأنا نجدهم على عهد الصادق عليه‌السلام في الكوفة بلا ذكر مال وغيره لديهم ، وإنّما نجد ذلك على عهد الكاظم عليه‌السلام.

منهم في الكوفة أحمد بن أبي بشر السراج المولى الكوفي ، ومعه آخر

__________________

(١) فرق الشيعة : ٧٩ ـ ٨٢ ، وفي المقالات والفرق : ٨٨ ـ ٩١.


لم يُذكر وكان الكاظم عليه‌السلام في الحبس فاجتمع عندهما من الزكوات (كذا) وما يجب عليهم ثلاثون ألف دينار! فاتّخذا بذلك دوراً واشتريا غلّات وعقدوا عقوداً! فلمّا مات موسى عليه‌السلام وانتهى الخبر إليهما أنكرا موته وقالا : إنّه هو القائم فلا يموت! وأذاعاه في الشيعة واعتمدته طائفة منهم (١) وآخر الخبر أنّهما تابا وبعثا بالأموال إلى الرضا عليه‌السلام.

ولعلّ ثانيهما هو عثمان بن عيسى الرُؤاسي الكلابي العامري مولاهم الكوفي ، كان وكيل الكاظم عليه‌السلام وله ستون سنة وفي يده أموال ، فتوقّف فترة ، ثمّ لمّا سمع بسخط الرضا عليه‌السلام عليه تاب إليه وبعث بأمواله إليه (٢).

ومنهم علي بن أبي حمزة البطايني وزياد بن مروان القندي ، وقد أسند الكشي عن يونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين قال : مات أبو الحسن الكاظم عليه‌السلام وليس من قُوّامه (وكلائه) أحد إلّاوعنده المال الكثير ، فسبّب ذلك جحودهم موته ووقفهم عليه ، كان عند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار (٣) وعند زياد القندي سبعون ألف دينار (٤) فرّق الكشي بينهما في خبرين ثمّ جمعهما في خبر واحد عنه قال : وأنا لمّا رأيت ذلك وتبيّنت الحقّ وعرفت أمر الرضا عليه‌السلام دعوت الناس إليه ، فبعثا إليّ يقولان : كُفّ عن هذا ونضمن لك عشرة آلاف دينار! فقلت لهما : ما كنت لأدع أمر الله والجهاد على كلّ حال!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٥٩ ، الحديث ٨٧١.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٧ ، الحديث ١١١٧. وقال : كوفي سكن الحيرة ومات بها ، ونقل خبره الصدوق في علله وعيونه والطوسي في الغيبة وقالوا : كان بمصر ، مصحّفاً!

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٤٠٥ ، الحديث ٧٥٩.

(٤) اختيار معرفة الرجال : ٤٦٧ ، الحديث ٨٨٨.


فأظهرا لي العداوة وناصباني (١) ولعلّه لذلك كان أحمد بن محمّد بن عيسى يقع في يونس اليقطيني ثمّ رأى رؤيا فاستغفر الله من وقيعته فيه كما ذكر الفضل بن شاذان النيشابوري (٢) وكذا كان علي بن حديد المدائني الكوفي ، ولكنّه كان فطحياً وهذا رأيه (٣).

وفي قول يونس اليقطيني : «تبيّنت الحق» دلالة على ما أسنده الكشي عنه قال : إنّه كان يرجو أن يقول له الرضا عليه‌السلام إنّ أباه حيّ! فرحل إليه ودخل عليه وحلّفه بحقّ الله ورسوله وحق آبائه وسمّاهم حتّى انتهى إليه أنّه إذا أخبره بحياة أبيه فإنّه لا يُخرج إلى الناس! قال : ثمّ سألته عن أبيه أحيّ أم ميّت؟! فقال عليه‌السلام : والله الذي لا إله إلّاهو قد هلك! قلت : هلاك غيبة أو هلاك موت؟ فقال : والله هلاك موت! قلت : جعلت فداك فلعلّك مني في «تقية»؟! قال : سبحان الله! قد والله مات!

قال : وحيث كان هو في المدينة ومات أبوه في بغداد قلت له : فمن أين علمت موته؟

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٣ ، الحديث ٩٤٦. وابن بابويه في الإمامة والتبصرة : ٧٥ ، الحديث ٦٦ ، وابنه الصدوق في علل الشرائع ١ : ٢٧٦ ، الباب ١٧١ ، وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١١٠ ، الباب ٣١ ، وعلّق عليه فيهما قال : لم يكن الإمام ممن يجمع الأموال ، ولم تكن هذه أموال الفقراء ، وإنّما كانت أموالاً يصله بها مواليه إكراماً وبرّاً به منهم ، وقد حصلت في وقت الرشيد فلم يقدر على تفريقها لئلّا يحقّق على نفسه قول من كان يسعى به إلى الرشيد أنّه تحمل له الأموال ليحمل على الخروج عليه ، ولولا ذلك لفرّقها.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٦ ، الحديث ٩٥٢.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٧٠ ، الحديث ١٠٧٨.


قال : جاءني منه (من أمر الإمامة) ما علمت به أنّه قد مات! قلت : فأوصى إليك؟ قال : نعم. قلت : فأنت الإمام؟ قال : نعم (١).

فهو في تبيّنه كان يرجو أن يكون الواقفون على حقّ وصدق ، مع علمه بقول الرضا عليه‌السلام بوفاة أبيه إلّاأ نّه كان يحتمل فيه التقية ، فهي كانت أرضية مساعدة للوقف.

إلّا أنّ يونس اليقطيني كان مستأنساً بيقينه بصدق الرضا عليه‌السلام بلا دلائل فلم يطلبها منه.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٤ ، الحديث ٩٤٧.


عهد

الإمام الرضا عليه‌السلام



محاجة الواقفة والرضا عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن توقّف لفيف من الشيعة عن الإذعان بمفاد الشياع المفيد للعلم بوفاة بل شهادة الكاظم عليه‌السلام ، تبعاً لجمع من وكلائه في الكوفة طمعاً بأمواله لديهم! منهم أحمد بن أبي بشر السرّاج المولى وعلي البطايني مولى الأنصار ومعهم حسين بن أبي سعيد المُكاري الموالي الكوفيون.

وكأنّ الأولين حينما عصاهما يونس اليقطيني وأخذ يكذّبهما ويدعو إلى الرضا عليه‌السلام ، رأيا أن يحجّا فيحاجّا الإمام مباشرة عسى ولعلّهما يتشبّثا بشيء ، وحملا معهما الحسين المكاري.

وبدأ البطايني فسأل الإمام : ما فعل أبوك؟ قال : مضى. قال : موتاً؟ قال : نعم. قال : فإلى من عَهد؟ قال : إليّ. قال : فأنت إمام مفترض الطاعة من الله؟ قال : نعم.

فالتفت ابن السرّاج وابن المكاري إلى ابن البطايني وقالا له : إي قد والله أمكنك من نفسه!


فقال الرضا عليه‌السلام : ويلكم! وبمَ أمكنت؟ أتريد أن آتي بغداد وأقول لهارون : أنا إمام مفترض الطاعة؟! والله ما ذاك عليَّ ، وإنّما قلت ذلك لكم لما بلغني من اختلاف كلمتكم وتشتّت أمركم ، لئلّا يصير سرّكم في يد عدوّكم.

فقال ابن البطايني : لقد أظهرت شيئاً ما كان أحد من آبائك يظهره ولا يتكلم به!

قال عليه‌السلام : بلى والله لقد تكلّم به خير آبائي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما أمره الله أن ينذر عشيرته الأقربين ، جمع من أهل بيته أربعين رجلاً وقال لهم : إنّي رسول الله إليكم ، وكان أشدّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمّه أبو لهب ، فقال لهم النبيّ : إن خدشني منه خدش فلست بنبيّ! وهذا أوّل ما ابدع لكم من آية النبوة! وأنا أقول : إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام ، وهذا أوّل ما ابدع لكم من آية الإمامة!

قال ابن البطايني : إنّا رُوينا عن آبائك : أنّ الإمام لا يلي أمره إلّاإمام مثله.

فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : فأخبرني عن الحسين بن علي عليه‌السلام كان إماماً أو غير إمام؟ قال : كان إماماً! قال : فمن ولي أمره؟ قال : علي بن الحسين. قال : وأين كان علي بن الحسين؟ قال : كان بالكوفة محبوساً بيد عبيد الله بن زياد ، خرج وهم لا يعلمون حتّى ولى أمر أبيه ثمّ انصرف.

فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : إنّ الذي أمكن علي بن الحسين أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه يمكِّن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثمّ ينصرف ، وليس في حبس ولا في أسار!

ولم يكن يومئذ للرضا عليه‌السلام ولد ، فقال له ابن البطايني : فإنّا روينا أنّ الإمام لا يمضي حتّى يرى عقبه؟

قال عليه‌السلام : أما رويتم في هذا الحديث غير هذا؟ قال : لا. قال : بلى والله لقد رويتم فيه : «إلّاالقائم» وأنتم لا تدرون لِمَ قيل ذلك وما معناه.


قال ابن البطائني : بلى والله إنّ هذا لفي الحديث.

فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : ويلك كيف اجترأت عليَّ بشيء تدع بعضه؟! ثمّ قال له : يا شيخ اتقِ الله ولا تكن من الصادّين عن دين الله (١)!

وكأنّ الحسين بن أبي سعيد المكاري هنا أراد استدراك الموقف فقال للرضا عليه‌السلام : أسألك عن مسألة؟ قال له : إنك لست من أتباعي ما أخالك تسمع مني ، سل.

فقال له : رجل حضرته الوفاة فقال : ما ملكته قديماً فهو حرّ ، وما لم أملكه قديماً فلا؟

قال الرضا عليه‌السلام : ويلك أما تقرأ هذه الآية : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٢)) (والعرجون القديم لا يكون إلّافي ستة أشهر) فما ملك الرجل قبل ستة أشهر فهو قديم ، وما ملك بعد الستة أشهر فليس بقديم.

وكأنّه احتج على الإمام عليه‌السلام بما رووه ما ظاهره أنّ القائم أبوه الكاظم ، فقال عليه‌السلام : أما علمت أنّ الله «جلّ وعلا» أوحى إلى عمران : أنّي واهب لك ذكراً ، فوهب له مريم ثمّ وهب لمريم عيسى ، فعيسى من مريم ، وأنا وأبي شيء واحد ؛ أنا من أبي وأبي مني.

فقال ابن المكاري : أبَلغ الله بك من قدرك أن تدعي ما ادّعى أبوك؟! فتحت بابك وقعدت للناس تفتيهم! ولم يكن أبوك يفعل هذا. فقال عليه‌السلام : ليس عليَّ بأس من هارون! أطفأ الله نور قلبك وأدخل الفقر بيتك!

فهم كانوا يحاولون حمله عليه‌السلام على سدّ بابه ولو تلويحاً بشدّة بطش الرشيد ، فلمّا لم يفلحوا في ذلك أخذ البطايني يقول لأتباعه : إنّ أبا الحسن الكاظم سيعود

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٦٣ ، الحديث ٨٨٣.

(٢) يس : ٣٩.


إلى ثمانية أشهر! وانقضت وخسر هنالك المبطلون ؛ وزار الرضا عليه‌السلام من أهل الكوفة في العمرة محمّد بن الفضيل الصيرفي فسأله الرضا عليه‌السلام عنهم فقال له : جعلت فداك ، إني خلّفت ابن أبي حمزة وابن أبي سعيد وابن مهران من أشدّ أهل الدنيا عداوة لله تعالى! ثمّ قال الإمام في علي البطايني : أما استبان لكم كذبه؟! أليس هو الذي قال : إنّ أبا الحسن عليه‌السلام يعود إلى ثمانية أشهر؟!

وكأنّ دعاء الإمام على الحسين بن أبي سعيد بلغهم في الحسين بن مهران البغدادي ، فقال محمد : جعلت فداك ، إنّا نروي أنّك قلت لابن مهران : أذهب الله نور قلبك وأدخل الفقر بيتك! فقال عليه‌السلام : فكيف حاله؟ قال : سيدي أشدّ حال! هم مكروبون ببغداد ، ولم يقدر الحسين أن يخرج للعمرة. فسكت عليه‌السلام (١).

وأجاب الإمام عن شبهاتهم :

مرّ الخبر عن شبهات الواقفة ، فمنها : ما مرّ آنفاً من جوابه عليه‌السلام لمحاجّة ابن المكاري بتمثيله بوعد الله لعمران بعيسى عليه‌السلام إذ كان بواسطة لا مباشرة.

ومنه ما أسنده الكشي عن داود بن كثير الرقّي الشامي أنّه إنّما كان يتلجلج في صدره الشك في أمر إمامة الرضا عليه‌السلام من حديث سمعه من ذُريح المحاربي قال : سمعت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام قال : سابعنا قائمنا إن شاء الله! فرحل إلى الرضا عليه‌السلام ودخل عليه وعرضه عليه فقال : صدقت وصدق ذُريح وصدق أبو جعفر عليه‌السلام ثمّ قال : يا داود بن أبي خالد! أما والله لولا أن موسى قال للعالم : (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً (٢)) ما سأله عن شيء! كذلك أبو جعفر لولا أن قال : إن شاء الله ، لكان كما قال.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٠٥ ، الحديث ٧٦٠ ، وانظر نظيره في الغيبة : ٦٩ ، الحديث ٧٤.

(٢) الكهف : ٦٩.


قال داود : فقطعت بإمامته (١) مقتنعاً بدلالة «إن شاء الله» على الاستثناء بالمشية الإلهية ، فلعلّها من موارد البَداء من الله لعباده. ولقناعة الرقّي بهذا وعلم الإمام به اكتفى ، وإلّا كان له أن يقول : إنّما أراد السابع من وُلده وهو الرابع من ولدي كما في أخبار أُخرى.

ومنها : ما رووه في شبَه الكاظم عليه‌السلام بالأنبياء السابقين ، ومنهم الحسن بن قياما الصيرفي الواسطي ، دخل على الرضا عليه‌السلام وقال له : جعلت فداك ما فعل أبوك؟ قال : مضى كما مضى آباؤه عليهم‌السلام. قال : فكيف أصنع بحديث حدّثني به زُرعة بن محمّد الحضرمي عن سماعة بن مهران عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ ابني هذا فيه شبَه من خمسة أنبياء! يُحسد كما حُسد يوسف عليه‌السلام ، ويغيب كما غاب يونس ، وذكر ثلاثة آخرين.

فقال عليه‌السلام : كذب زُرعة وليس هكذا حديث سماعة إنّما قال : «صاحب هذا الأمر فيه شبَه من خمسة أنبياء» يعني القائم ، ولم يقل : «ابني» (٢).

فأبدى شبهة ثانية : قال : هل تخلو الأرض من إمام فيها؟ قال : لا. قال : فيكون فيها اثنان؟ قال : لا إلّاوأحدهما صامت لا يتكلم. قال : وإنّما هي في العقب وليس لك ولد فلست بإمام! قال : فوالله لا تمضي الأيام والليالي حتّى يولد لي ذكر من صلبي يقوم مقامي يحيى الحق ويمحق الباطل (٣).

ومنها : أنّ أبالسة الوقف كانوا يلبّسون على الشيعة أنّ الرضا عليه‌السلام في قوله بوفاة أبيه يعمل بالتقية ، ومنه ما احتمله يونس اليقطيني فقال له : «لعلّك منّي في تقية» فنفاها بتأكيده كما مرّ خبره.

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٣٧٣ ، الحديث ٧٠٠.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٧٧ ، الحديث ٩٠٤.

(٣) اختيار معرفة الرجال : ٥٥٣ ، الحديث ١٠٤٤. وفي أُصول الكافي ١ : ٣٢٠ ، الحديث ٤ في مكاتبة والحديث ٧ بزيادة.


ومنهم من كان نجومياً فلمّا رأى وقف الواقفة عن اعتبار أخبار وفاة الكاظم عليه‌السلام وانحراف غير قليل من أصحابه معهم وقف هو معهم أولاً ، ثمّ نظر في نجومه فزعم أنّها قطعت بموته فقطع به وخالف أصحابه ، وهو أبو خالد السجستاني (١).

وقد أسند الكشي عن الصادق عليه‌السلام قال في ابنه موسى عليه‌السلام : يَضل به بعد موته قوم من شيعتنا جزعاً عليه فيقولون : لم يمت ، فينكرون الأئمة من بعده (٢) فهم جزعاً على الإمام السابق ينكرون الإمام اللاحق بلا حقّ!

خليط من الاستتار والإظهار :

أسند الصدوق عن أبي الحسن الطيّب قال : لما توفي الكاظم عليه‌السلام دخل الرضا عليه‌السلام السوق فاشترى كبشاً وكلباً وديكاً! فكتب صاحب الخبر بالمدينة بذلك إلى الرشيد فقال : قد أمنّا جانبه (٣).

ثمّ فتح بابه ودعا إلى نفسه فخاف عليه أصحابه فقالوا له : إنك قد أظهرت أمراً عظيماً وإنّا نخاف عليك هذا الطاغي! قال : ليجهد جهده فلا سبيل له عليَ (٤)!

فكتب عبد الله بن مصعب الزبيري الذي ولّاه الرشيد اليمن (٥) كتب إلى الرشيد : إنّ علي بن موسى قد فتح بابه ودعا إلى نفسه! فقال هارون : وا عجباً!

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٦٦١٢ ، الحديث ١١٣٩.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٤٦٢ ، الحديث ٨٨١.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٥ ، الحديث ٤.

(٤) أُصول الكافي ١ : ٤٨٧ ، الحديث ٢.

(٥) تاريخ خليفة : ٣٠٥.


إنّ علي بن موسى قد اشترى كبشاً وكلباً وديكاً! ويُكتب فيه بما يكتب (١)!

وكأنّ يحيى البرمكي لم يكن هنا حاضراً واعتماداً على الخبر قال للطاغية : هذا علي بن موسى قد قعد وادعى الأمر لنفسه! يسأل الرشيد ماذا يفعل؟ فقال : ما يكفينا ما صنعنا بأبيه! تريد أن نقتلهم جميعاً؟!

وكان الرشيد عند قتله للكاظم عليه‌السلام قد حلف على أنّه إن ادعى الإمامة أحد بعد موسى عليه‌السلام ضربت عنقه صبراً! وكان قد سمعه منه عيسى بن جعفر العباسي ، فلمّا خرج مع الرشيد من الرّقة للحج سنة (١٨٦ ه‍) ذكّره بحلفه وقال له : وهذا عليّ ابنه يدّعي هذا الأمر ويقال فيه ما يقال في أبيه! فنظر الرشيد إليه مغضباً وقال : فما ترى؟! تريد أن أقتلهم كلّهم (٢)؟!

تولية عهد الرشيد لولديه :

كانت شهادة الكاظم عليه‌السلام لمنتصف عام (١٨٦ ه‍) كما مرّ ، وكأنّه عليه‌السلام قبل ذلك كان قد أخبر الرشيد بأنه سيولّي عهده لابنيه الأمين والمأمون ، فيختلف أمرهما ويظهر تعاد بهما وتتشتّت كلمتهما ، ولا يبرح ذلك حتى تُقتل القتلى بينهما وتُسفك الدماء وتهتك ستور النساء! وحتى يتمنّى كثير من الأحياء أنهم لو كانوا في عداد الموتى!

وأخبر به الرشيد علياً الكسائي البصري ، قال : فقلت : يا أمير المؤمنين! أيكون ذلك لأثر وقع لأمير المؤمنين في مولدهما؟ أو لأمر رؤي في مولدهما (من المنجّمين)؟ فقال : لا والله إلّابأثر واجب حملته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء!

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٥ ، الحديث ٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٦ ، الباب ٥ ، الحديث ٣ و ٤.


هذا ما رواه المسعودي (١) وقبله نقله الدينوري أنه قالها للأصمعي البصري ثمّ قال : قالوا : (بعد ما جرى بينهما ذلك) كان المأمون يقول : محمد كان أبوه الرشيد سمع من موسى بن جعفر بن محمد جميع ما جرى بيننا (٢).

وروى المسعودي عن الأصمعي البصري مسامر الرشيد : أنه كان يسامره ليلة ، إذ قال الرشيد لمسرور الخادم : عليَّ بيحيى البرمكي ، فما لبث أن أتاه ، فقال له : قد عنيت بتصيير العهد إلى من أرضى سيرته وأحمد طريقته وأثق بحسن سياسته ، وآمن ضعفه ووهنه وهو عبد الله (المأمون) وبنو هاشم (بنو العباس) مائلون بأهوائهم إلى محمد (الأمين) وفيه ما فيه من الانقياد لهواه والتصرّف بطويّته والتبذير لما في يده ومشاركة الاماء والنساء في رأيه! فأشر عليَّ في هذا الأمر. فأشار عليه يحيى فنحّاني الرشيد إلّاأني كنت أسمعهما ، فناظرا طويلاً حتى افترقا على أن يعقد الأمر لمحمد وبعده لعبد الله.

فخرج الرشيد حاجاً سنة (١٨٦ ه‍) ومعه وليّا عهده الأمين والمأمون ، وكتب الشرطين بينهما وعلّقهما في الكعبة. وكان تحليفهما لدى أبيهما في الكعبة ، فلما حلف الأمين بما حلف وأراد الخروج من الكعبة ردّه جعفر البرمكي واستحلفه : إن غدر بأخيه المأمون خذله الله ، فحلف له به ، حتى فعل ذلك ثلاثاً (٣)!

وفي السنة نفسها (١٨٦ ه‍) (قبل هذا) كان قد ثار أبو الخصيب النسأي من نسأ خراسان ، وقد تغلّب على طوس وسرخس ومرو ، فخرج إليه علي بن عيسى بن ماهان بجمعه فقابله وقاتله حتى فلّ جمعه (٤).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٥١.

(٢) الأخبار الطوال : ٣٨٩.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٥٣. ونصّ الكتابين في اليعقوبي ٢ : ٤١٦ ـ ٤٢١.

(٤) تاريخ خليفة : ٣٠٢ ، ٣٠٣.


نكبة البرامكة ومكوّناتها :

وعلمت أُم الأمين بأ نّه ولّاه العراق وولّى المأمون خراسان وفيه العدد والقوّاد ، فدخلت عليه وعاتبته على ذلك. فقال : إني ولّيت ابنك السلم وعبد الله الحرب ، وصاحب الحرب أحوج إلى الرجال من المسالم ، ومع هذا فإنّا نتخوّف ابنك على أخيه عبد الله ، ولا نتخوّف عبد الله عليه.

فلمّا ادخلا الكعبة ليحلفا للرشيد بالوفاء ، وقام الأمين ليخرج ردّه جعفر البرمكي وحلّفه : إن غدر بأخيه المأمون خذله الله! ثلاثاً! وعلمت أُمه بذلك فضغنت على جعفر البرمكي ، فحرّضت الرشيد عليه حتّى بعثته على قتله (١).

ونقل تفصيله المسعودي قال : إنّ العباسة عشقت جعفر وكتبت إليه فردّها ، فقصدت أُمه وألقت إليها ما تريده من الشرف لابنها بمصاهرة الرشيد ، وأ نّه أمان لها ولولدها من السقوط وزوال النعمة! فوعدتها أُم جعفر. ثمّ أقبلت على ابنها جعفر بوصف وصيفة تشتريها له ، ووعدته ليلة كذا ، وبعثت بذلك إلى العباسة فاستعدت وسارت إليها في تلك الليلة. وانصرف جعفر من سهره مع الرشيد نشوان بل سكران ، من فضل شرابه ، وسأل عنها فأُدخلت عليه فحبلت منه ، ثمّ عرّفته بنفسها! ثمّ ولدت غلاماً فوكلته إلى حاضنة تسمى برّة ووكلت بها خادماً يسمى رياش ثمّ وجّهت بهما إلى مكة ثمّ إلى اليمن. وأخبرت زبيدة بذلك الرشيد ، فحجّ ووكّل من يبحث ويفحص فوجد الخبر صحيحاً ، فعاد إلى بغداد ثمّ صار إلى الأنبار ومعه السندي بن شاهك. فلمّا عزم على النكبة ردّ السندي بأمر سرّي إلى بغداد ليوكّل بدور البرامكة وأبنائهم وكتّابهم وقراباتهم من يحفظ عليهم أنفاسهم ريثما يأتيه أمره.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٥٢ ـ ٣٥٤.


ولمّا انصرف من عنده جعفر دعا الرشيد ياسر الخادم وأمره أن يمضي إلى جعفر فيأتيه برأسه! فمضى ياسر الخادم فوجد جعفر على لهو وغناء وشراب ، فأخبره فقال لعلّه يمازحني بهذا! قال : لا بل هو جاد! قال : فهو إذاً سكران! قال : لا بل كان شاعراً ما يقول : قال : فارجع إليه فإن كان على رأيه فارجع ونفّذ! قال : لا سبيل إلى ذلك! قال : فأصير معك فإن لم يقبل عذرك ولم يرض إلّابرأسي رجعتَ ففعلت! فقبل بهذا ومضيا إليه ودخل إليه ياسر فقال الرشيد : ائتني به وإلّا قتلتك قبله! فأخرج جعفر منديلاً من جيبه وعصّب عينيه به ومدّ عنقه فضربه ياسر وأخذ رأسه إلى الرشيد. فطلب منه الرشيد أن يأتيه بأعوانه فأتاه بهم فأمرهم أن يقتلوا ياسراً لقتله جعفراً! وقال : لا أقدر أن أنظر إلى قاتل جعفر (١) وكان ذلك في غرة شهر صفر من سنة (١٨٧ ه‍).

وأرسل برأس جعفر وجسده إلى بغداد وأمر أن يُشق جسده نصفين فيجعلان على الجسرين مع رأسه (٢) وقبض على أبيه يحيى وأخيه الفضل وبعث بهما إلى سجن الرَّقة حتّى يموتا. وكتب إلى عمّاله بالقبض على من يعرف منهم وقبض أموالهم (٣) وجميع أولادهم ومواليهم وغلمانهم ، وصادر أموالهم في معسكرهم من مضارب وخيام وسلاح وغيره ، فما دار عليهم أُسبوع حتّى قتل منهم وحواشيهم ألف رجل! وشتّت شملهم في البلاد لا يرجعون إلى أوطانهم ولا يقدرون على كسرة خبز (٤) إلّابالصدقات!

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٧٦ ـ ٣٨٠.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٣) تاريخ مختصر الدول : ١٢٩.

(٤) إعلام الناس بما وقع للبرامكة من بني العباس : ١٦٤ ـ ١٧٤.


وكتب الرشيد إلى يحيى البرمكي في حبسه قوله سبحانه : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ ...) (١) أما عن مصداقه كان يقول : لو علمت يميني بالسبب الذي له فعلت هذا ؛ لقطعتها! ولذا اختلف الناس فيه (٢) وبهذا التأكيد على كتمانه ترجّح سبب العبّاسة الناموسي.

الإمام الرضا عليه‌السلام والبرامكة :

نقل الكليني : أنّ الرضا عليه‌السلام حجّ لموسم الحج السابق سابقاً الرشيد سنة (١٨٦ ه‍) وكان على يسار الطريق إلى مكة جبل يُدعى فارعاً ، نظر إليه وقال : باني فارع وهادمه يُقطّع إرباً إرباً! قال الراوي : فلم ندرِ ما يقول. ثمّ وصل الرشيدونزل هناك وأمر جعفر البرمكي أن يُبنى له مجلس على الجبل ثمّ أمر بهدمه ، فعرفنا معنى باني فارع وهادمه! فلمّا عاد إلى العراق قُطّع إرباً إرباً (٣).

فلمّا وقف بعرفة كان يدعو ثمّ طأطأ رأسه ، فسُئل عن ذلك فقال : إنّي كنت أدعو الله على البرامكة بما فعلوا بأبي! فاستجاب الله لي اليوم فيهم (٤)!

فلمّا أفاض إلى منى مرّ يحيى البرمكي مع قوم من آله ، فقال عليه‌السلام : مساكين هؤلاء لا يدرون ما يحلّ بهم في هذه السنة (٥)؟! أي قبل فوات عام على هذا الكلام ، بل بعد (٥٠) يوماً.

__________________

(١) النحل : ١١٢. اليعقوبي ٢ : ٤٢٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٢.

(٣) أُصول الكافي ١ : ٤٨٨.

(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٥ ، الحديث ١ و ٢ الباب ٥٠

(٥) في أُصول الكافي ١ : ٤٩١ ، الحديث ٩.


الروم وثغورهم :

في سنة (١٨٢ ه‍) ثار الروم على ملكهم قُسطنطين بن لاون فخلعوه وسملوا عينيه ، ولكنّهم ملّكوا امّه إيريني. وفي صيفها غزا المسلمون ثغورهم حتّى بلغوا مدينة أفسوس التي يدّعون أنّها مدينة أصحاب الكهف ، فكأ نّها حملت الملكة إيريني إلى الرشيد أموالاً لتردّ المسلمين عنها حتّى عام (١٨٧ ه‍) حيث خلعها الروم وملّكوا عليهم نيقيفور ، فكتب إلى الرشيد : من نيقيفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب! أما بعد ، فإنّ الملكة إيريني حملت إليك من أموالنا ما كنت أنت حقيقاً بحمل أضعافه إليها ، لكن ذلك من ضعف النساء وحمقهن! فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما أخذت ، وإلّا فالسيف بيننا وبينك! فلمّا وصل كتابه إلى الرشيد وقرأه غضب وكتب بظهره : من هارون أمير المؤمنين إلى نيقيفور زعيم الروم ، قد قرأت كتابك ، والجواب ما تراه دون ما تسمعه!

هذا والرشيد بالرَقّة ، فسار من يومه إلى ثغور الروم حتّى نزل على هِرقلة فأحرق وخرّب (١).

فسأله نيقيفور المصالحة على خراج يحمله كل سنة (٢) وعاد الرشيد إلى الرَقّة فنقض نيقيفور عهده ، فكرّ الرشيد بمشقة شديدة حتّى أناخ بديارهم فخضعوا فعاد عنهم (٣).

وأرسل عليهم في الصيف (١٨٨ ه‍) ابنه القاسم المؤتمن ومعه قوّاد من العباسيين ، فحاصروا حصوناً ، وأصابهم عوز وجوع ، وطلب نيقيفور

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٢٩ وفي تواريخنا : إلى نيقيفور كلب الروم!

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٩.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٤٦.


منه الصلح على أن يدفعوا إليهم أسراهم ثلاثمئة وعشرين مسلماً ، فقبل وعاد (١).

فلمّا دخلت سنة (١٨٩ ه‍) أغار الروم على أدرنه والكنيسة السوداء وعين زربه.

ففي العام التالي (١٩٠ ه‍) غزا الرشيد الروم حتّى أقام في طُوانة وفرّق قواده في بلادهم ، فبعث إليه نيقيفور بثلاثين ألف دينار جزية عن رأسه ورأس ابنه ، فانصرف الرشيد (٢) وكان عسكره مئة وخمساً وثلاثين ألفاً (٣).

وفي سنة (١٩٠ ه‍) وثب أهل حِمص على واليهم وخلعوه ، فخرج الرشيد نحوهم إلى منبج فلقيه وفد منهم يستقيلونه ، فعفا عنهم. ونفذ في الصيف إلى الروم ففتح هِرقلة والمطامير (٤).

ومات الفُضيل بن عياض :

قال المسعودي : في سنة (١٨٧ ه‍) توفي أبو علي الفُضيل بن عياض الخراساني (٥) السمرقندي (٦) كان قوياً من قُطاع الطرق بين سَرَخْس وأبيورد ، وعِشق جارية ، وصعد جدارها إليها فسمع من يتلو : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ (٧)) فتأثر وقال : يا رب قد آن!

__________________

(١) تاريخ خليفة : ٣٠٣ ، وتاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٣.

(٢) تاريخ خليفة : ٣٠٤.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٠ وقال : سوى الأتباع والمتطوعة!

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٨.

(٥) مروج الذهب ٣ : ٣٥٤.

(٦) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٩٩.

(٧) الحديد : ١٦.


فرجع وأوى إلى خربة فإذا فيها ركب يقول بعضهم : نرتحل ، ويقول آخرون : إنّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا فحتى نُصبح. فعرّفهم بنفسه وآمنهم (١).

ثمّ قدم العراق فالكوفة وسمع من المنصور بن المعتمر وغيره ، ثمّ انتقل إلى مكة وتعبّد بها وأقام حتّى مات. وفي سنة حجّ الرشيد ، وأدخلوه إليه مع سفيان بن عُيينة ، فلمّا عرف الرشيد قال له : أنت يا حسن الوجه! الذي في عنقك ويدك أمر هذه الأُمة؟! لقد تقلّدت أمراً عظيماً! فبكى الرشيد!

ثمّ أمر لهم ببُدر فقبلوها غير فضيل فقال له الرشيد : يا أبا علي ، إن لم تستحلّها فأعطها ذادَين وأشبع بها جائعاً واكسُ بها عرياناً! فاستعفاه وخرج ، فقال له سفيان : ألا أخذتها وصرفتها في أبواب البر؟! فقال له : يا أبا محمّد! أنت فقيه البلد المنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط! لو طابت لأُولئك لطابت لي (٢).

وله كتاب أخبار عن الصادق عليه‌السلام ذكر طريقه إليه النجاشي (٣) ولا يُستبعد أن يكون هو ما دعي بمصباح الشريعة ، قال النوري : أعتقد أنّه جمعه من ملتقطات كلامه في مجالس وعظه ونصيحته ، فلو فُرض فيه شيء يخالف مضمونه بعض ما في غيره وتعذر تأويله فهو منه على حسب مذهبه العامي ، لا من كذبه وفريته فإنّه قد وثّقه النجاشي (٤).

وروى الصدوق أنّه كان يفتي بالتعصيب لعصبة الأب والعمّ ، وأحضره الرشيد فأقرّ أنّه خلاف قول علي عليه‌السلام ، وأ نّه قد جبُن عن الفتوى بقوله عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) سفينة البحار ٧ : ١٠٣.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

(٣) رجال النجاءك : ٣١٠ ، رقم ٨٤٧.

(٤) مستدرك الوسائل ١٩ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٢٣ ـ ٢٢٤.


الرشيد من الرقّة إلى الرّي :

ثمّ خرج الرشيد إلى الريّ ومعه ابنه القاسم ، فمرّ ببغداد فلمّا صار إلى الجسر ورأى جسد جعفر البرمكي لا زال مصلوباً أمر بإحراقه! فلمّا صار في كرمانشاهان بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون ، وكتب إلى ابنه الأمين ببغداد يأمره بالخروج إلى الري والإقامة بها. وعزل منصور بن يزيد الحميري عن خراسان وولّاها علي بن عيسى بن ماهان ، وضمّ إليه جماعة من القوّاد منهم رافع بن الليث الليثي ، ولكنّه أمره أن لا يستعمله على بلد بعيد ، وخالف علي بن عيسى فاستعمل رافعاً على سمرقند ، فلم يحُل عليه الحول حتّى خلع وعصى ، وعلي بن عيسى في مرو.

فوجّه الرشيد هرثمة بن أعينَ في أربعة آلاف كأ نّه مدد لعليّ بن عيسى ولكنّه أمره أن يرسل إليه علي بن عيسى مقيداً ، فدخل هرثمة المدينة وصار إلى دار الإمارة بجنوده ، وأخرج كتاب المأمون ودفعه لعليّ بن عيسى ليقرأه ، فلمّا قرأه قال : أفأنت سامع مطيع؟ قال : نعم ، فدعا بقيد ثقيل فقيّده ، ثمّ أخرجه وبعث به مع رسل إلى الرشيد فحُبس (١).

أرمينية في عهد الرشيد :

كان الرشيد قد ولّى الفضل بن يحيى البرمكي على أرمينية ، فقدمها وتوجّه في ناحية باب الأبواب (/ دربند) إلى قلعة حمزين ليغزوها فهزموه ، فاستخلف على عمله عمر بن أيوف الكناني وانصرف هو إلى بغداد ، ثمّ وجّه سعيد بن محمّد الحرّاني اللِّهبي على حرب أرمينية وأبا الصباح على خراجها ، فلمّا تولّى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٥.


أبو الصباح استيفاء خراج برذعة قتلوه وانتقضت أرمينية ، وخرج بها خارجي يدعى أبا مسلم الشاري ، فوجّه الفضل عبد الملك بن خليفة الحرشيّ في خمسة آلاف لقتال الشاري ، فلقوه في رويان واقتتلوا فهزمهم الشاري وانصرف فأخذ قلعة الكلاب (١).

وقد مرّ الخبر عن إيداع الإمام الكاظم عليه‌السلام بأمر الرشيد من الفضل بن الربيع عند الفضل بن يحيى فاتّهمه الرشيد بمسامحة الإمام فأمر بجلده مئة سوط وجرّده من الولاية. فاستعمل بدله على أرمينية العباس بن جرير البجلي ، فوجّه معدان الحمصي إلى أبي مسلم الشاري الخارجي في ستة آلاف والتقيا فقتل مِعدان الحمصي ، وصار الشاري إلى أردبيل ثمّ نزل البيلقان.

فوجّه الرشيد يحيى الحرشي في اثني عشر ألفاً ، ويزيد بن مزيد الشيباني في عشرة آلاف ليجتمعوا على محاربة أبي مسلم الشاري ، ومات الشاري فقام مقامه مولاه السكن بن موسى البيلقاني في البيلقان ، فلمّا بلغه قدوم يحيى الحرشي اختار خيار خيله وجعل عليهم ابنه الخليل بن السكن ووجّه بهم إلى الحرشي ، فأسره الحرشي وزحف إلى البيلقان ، فلمّا بلغ الخبر إلى السكن هرب إلى قلعة الكلاب ، وطلب أهل البيلقان الأمان من الحرشي فآمنهم وهدم حصنها. وحاصر يزيد الشيباني حصن الكلاب ، وبها مع السكن ثمانية آلاف فأستأمنوه فآمنهم ، وأرسل بالسكن إلى الرشيد.

ثمّ ولّى الرشيد أرمينية سعيد بن سلم الباهلي ، وكان على باب الأبواب (/ دربند) النجم بن هاشم فخالفوه في تلعّبه ببطارقة الأرمن ، فعزله سعيد وعيّن عاملاً وأمره بقتل النجم فقتله ، فوثب ابنه حيّون بن النجم وعصى وكاتب خاقان

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٦.


ملك الخزر ، فزحف إليه في خلق عظيم أغار بهم على المسلمين فقتل وسبى خلقاً عظيماً ، وحرّق البلاد ، وقتل النساء والصبيان (١).

هذا ما سرده اليعقوبي بلا عدد ولا تاريخ معيّن ، وعند ابن العبري أنّ ذلك كان (١٨٣ ه‍) أي سنة قتل الإمام الكاظم عليه‌السلام ، قال : فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة وسبوا أكثر من مئة ألف رأس! وانتهكوا أمراً عظيماً لم يُسمع بمثله في الأرض (٢) والسيوطي قال : في (١٨٣ ه‍) خرج الخزر على أرمينية فأوقعوا بأهل الإسلام ، وسفكوا وسبوا أكثر من مئة ألف نسمة! فجرى على الإسلام أمر عظيم لم يُسمع قبله مثله (٣)!

اليمن خلال عشر سنين :

كان من عبيد الرشيد قبل خلافته حمّاد البربري ، فلمّا استخلف أعتقه ، ثمّ ولّاه اليمن سنة (١٧٩ ه‍) وفيها وثب باليمن الهيصم الهمْداني في جبل مِسور ومعه عمر الحِميري في عَشتان ، والصّباح بناحية حَراز ، فكانت بينهم وبين حمّاد البربري وقائع اتصلت الحرب فيها تسع سنين ، وأسر حمّاد عمر الحمِيري من عَشتان فوجّه به إلى الرشيد.

وأخيراً وبعد تسع سنين وأكثر من عشرين ألف قتيل من الناس ، نزل الهيصم من معقله بجبل مِسور إلى قرية من القرى متنكّراً يتجسّس الأخبار ، وعرفه رجل من البلد فصار إلى حماد البربري وأعلمه بذلك ، فوجّه معه قائداً يدعى حَراد فأخذ الهيصم وحمله على جمل وأدخله إلى صنعاء ، ثمّ وجّه به إلى الرشيد فضرب عنقه.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٦ ـ ٤٢٧.

(٢) مختصر تاريخ الدول : ١٣٩.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٤٥.


وانصرف حماد البربري إلى صبّاح ، واستفرد فطلب الأمان فأسره ، وأسر ستمئة رجل من أصحاب الهيصم الهمْداني ووجّه بهم إلى الرشيد ، فقتلهم جميعاً! وصلب صبّاحاً والهيصم معاً (١).

الرشيد إلى مثواه البعيد :

في شعبان سنة (١٩٢ ه‍) خرج هارون يريد خراسان حتّى نزل في قرميسين (كرمانشاهان) في شهر رمضان فأقام وصام فأفطر بها ، ثمّ قصد الري فرآها في شهر ذي الحجة فضحّى بها ، ثمّ خرج منها إلى جرجان (گرگان) وقد اعتلّ فلم يصل قرية سناباد من طوس خراسان إلّاوهو شديد العلة (٢) في سنة (١٩٣ ه‍) فأرسل إلى طبيب فارسي هناك وأعدّ قوارير شتى وخلط قارورة مائه بينها ، فلمّا انتهى الطبيب إلى قارورته قال لهم : ليوص صاحب هذه القارورة فإنّه هالك! ولا بُرء له من هذه العلة! فلمّا سمعه الرشيد أنشد :

ما للطبيب يموت بالداء الذي

قد كان يُبرئ مثلَه فيما مضى؟!

إنّ الطبيب بطبّه ودوائه

لا يستطيع دفاع محذور القضا

ودعا بحمار يركبه فلمّا صار عليه لم يثبت على ظهره! فقال : أنزلوني ، صدق المُرجفون! ثمّ دعا بأكفان فاختار منها ما أراد ، ثمّ أمر بحفر قبره فلمّا حُفر اطّلع عليه وتلا قوله سبحانه : (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَه* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه (٣)) وقال : وا سوأتاه من رسول الله (٤)!

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١٢ ـ ٤١٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣٠.

(٣) الحاقة : ٢٨ ـ ٢٩ ، والخبر في مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٠.


وكان إنّما أخرجه خروج رافع بن الليث وإخوته عليه في سمرقند ، وكان معه ابنه المأمون فسيّره إلى مرو مع جمع من قوّاده ، فأسروا بشير بن الليث أخا رافع وأوصلوه للرشيد بطوس ، فقال له : والله لو لم يبقَ من أجلي إلّا أن أُحرّك شفتي بكلمة ، لقلت : اقتلوه! ثمّ دعا بجزّار وأمره أن يفصله عضواً عضواً (١).

ثمّ دعا من بعسكره من العباسيين فأوصاهم بالأمين والمأمون وأقطع لهم رباعاً وضياعاً وأموالاً كثيرة (٢) فلمّا فرغ من ذلك اغمي عليه ثمّ مات ، وله (٤٤) سنة ، فدفن هناك.

وكان تام الخلقة أبيض أقرب إلى السمن طويلاً جميلاً قد خالطه الشيب ، وله وفرة. واختلّت أُموره بعد البرامكة وبان للناس سوء سياسته وقبح تدبيره (٣).

وكان طبيبه الخاص بختيشوع النصراني وابنه جبرئيل ويوحنّا بن ماسويه السُرياني الذي تولّى تعريب الكتب الطبّية القديمة وكان يدرّسها ويجتمع لديه تلامذة كثيرون (٤).

وكان وفاة الرشيد آخر جمادى الأُولى أو أول جمادى الآخرة (٥) ولكن اليعقوبي (العباسي) قال : لأوّل جمادى الأُولى ، وصلّى عليه ابنه صالح ،

__________________

(١) مختصر تاريخ الدول : ١٣٠.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٦٦.

(٣) التنبيه والإشراف : ٢٩٩.

(٤) مختصر تاريخ الدول : ١٣٠ ـ ١٣١.

(٥) تاريخ خليفة : ٣٠٥.


ووصل نعيه إلى بغداد في (١٨) جمادى الأُولى (١) وقيل : توفي في (٣) جمادى الآخرة ووصل خبره بغداد في منتصفها (١٢) يوماً (٢).

ومن مروياته في جلسة خاصة مع بني أعمامه العباسيين قال لهم : بلغني : أنّ العامة يظنون فيّ بغض عليّ بن أبي طالب! ووالله ما أُحبّ أحداً حبّي له! ولكن هؤلاء (أبناؤه) أشدّ الناس بغضاً لنا وطعناً علينا وسعياً في إفساد ملكنا! بعد أخذنا بثارهم! ومساهمتنا إياهم ما حويناه! حتّى إنّهم لأميَل إلى بني أُمية منهم إلينا!

ثمّ قال : فأما وُلده لصلبه فهم سادة الأهل ، والسابقون إلى الفضل ؛ ولقد حدّثني أبي المهدي عن أبيه المنصور عن محمّد بن علي عن أبيه علي بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عباس أنّه سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول في الحسن والحسين : «من أحبّهما فقد أحبّني ومن أبغضهما فقد أبغضني» (٣).

وأنا أكاد أقطع بأنه من الأحاديث التي كانوا يثيرون بها الناس على بني أُمية.

ونقل السيوطي : أنّ الرشيد اجتمع بولديه المأمون والأمين لدى مالك بن أنس ليسمعوا منه كتابه الموطّأ (٤) متابعاً بذلك سياسة المنصور في نصرة فقه مالك على فقه أهل البيت عليهم‌السلام.

بدايات خلافة الأمين :

في طوس مات الرشيد ومعه الفضل بن الربيع ، فقام بأخذ البيعة للأمين ممّن حضر من العباسيّين وقوّادهم ، وذلك لأول جمادى الأُولى سنة (١٩٣ ه‍)

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٠.

(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٤.

(٣) تاريخ الخلفاء للسيوطي عن الأوراق للصولي : ٣٥١.

(٤) المصدر : ٣٥٢.


هذا والأمين في بغداد ، وبلغها رجاء الخادم في ٢٢ من جمادى الأُولى فجُمع الناس ، وصعد المنبر إسحاق بن عيسى العباسي فنعى الرشيد إليهم وذكّرهم بعهده إلى ابنه الأمين ، فبايع الناس ، وذلك يوم الأربعاء ، فلمّا كان يوم الجمعة خطب الأمين فنعى أباه الرشيد ورثاه ، ثمّ أمرهم بالنصح وحثهم على الطاعة ثمّ نزل.

ولأول جمادى الآخرة قدم الفضل بن الربيع بوصية الرشيد وبيوت أمواله وخزائنه (١) وعمره (٢٢) عاماً (٢) وكان أخوه المأمون بمرو خراسان فكتب إلى الأمين بالطاعة والخضوع وامتثال أمره ونهيه ، انقياداً لما تقدم من العهد (٣) وأورد ابن الوردي : أنّ الأمين كان بمرو ، وأخوه صالح مع أبيه الرشيد فصلّى عليه ثمّ كتب إليه مع خادمهم رجاء وأرسل إليه خاتم الخليفة والبردة والقضيب ، فتحول إلى بغداد ، وكانت أُمه زبيدة بالرَّقة ومعها بعض خزائن الرشيد فحملتها إليه فخرج الأمين ومعه أعيان بغداد إلى الأنبار يتلقّاها (٤).

وقال السيوطي : كان شاباً حسن الصورة أبيض جميلاً طويلاً ، قويّاً شجاعاً ، فصيحاً بليغاً ، ذا أدب وفضيلة ، وقد كان سيّئ التدبير كثير التبذير ، أرعن ضعيف الرأي لا يصلح للإمارة (فضلاً عن الخلافة) ففي ثاني يوم بيعته أمر ببناء ميدان بجوار قصر المنصور للّعب بالكرة (٥).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٣ ـ ٤٣٤.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٨٧.

(٣) التنبيه والإشراف : ٣٠٠.

(٤) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠١.

(٥) تاريخ الخلفاء : ٣٥٥.


وكانت أُمه زبيدة في أيام الرشيد قد تقدّمت بحفر عين المُشاش فأرادت عمرة رمضان لذلك. وأمدّها ابنها الأمين بعشرين ألف مثقال ذهباً! فجُعلت صفائح لباب الكعبة وعتبتها ، وبَنت زبيدة المصانع وجعلت الحياض والسقايات. وأظهر الأمين إرادة الحج فصرفه الفضل بن الربيع.

وكان عبد الملك صالح العباسي والياً على الجزيرة وجند قنّسرين والعواصم وثغور الروم في عهد الرشيد ، وغضب عليه الرشيد فعزله وصادر أمواله وحبسه وابنه عبد الرحمن وكاتبه قُمامة ، فأخرجهم الأمين ، وردّ عليه أمواله وضياعه ، وولّاه كل ما كان إليه. وغضب الرشيد على علي بن عيسى بن ماهان من قوّاده فصادر أمواله وحبسه ، فأخرجه الأمين وردّ عليه أمواله وولّاه شرطته.

وكان قد غلب على ناحية جرزان من أرمينية إسماعيل بن شعيب مولى محمّد بن مروان الأموي ، وبناحية أُخرى يحيى بن سعيد ، فولّاها الأمين أسد بن يزيد الشيباني فاحتال عليهما حتّى أخذهما.

وكان رافع بن الليث على سمرقند على عهد الرشيد فعصى واستمال أهل الشاش وفرغانة وخُجندة وأشروسنة وبخارى وخوارزم وخُتّل وصغانيان وسائر كور بلخ والسغد وطخارستان وماوراء النهر والترك والمتغزغز إلى ثغور التبّت! وتحصّن بسمرقند ، وكان الرشيد قد وجّه إليه قائده هرثمة بن أعيَن في جيش ، فلم يزل هرثمة محارباً له وقتل جمعاً منهم وأخذ بأكظامهم حتّى ضرع رافع إلى الأمان فآمنه ، فخرج إليه بولده وأهل بيته وأمواله في المحرم سنة (١٩٤ ه‍) ، فكتب هرثمة بذلك إلى المأمون وكتب المأمون بذلك إلى الأمين (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٤ ـ ٤٣٦.


وفاة أبي بكر بن عياش :

قال المسعودي : في سنة (١٩٣ ه‍) توفي أبو بكر بن عياش الكوفي الأسدي (مولاهم) بعد موت الرشيد بقليل (١) ملك موسى الهادي العباسي فولّى الكوفة موسى بن عيسى العباسي (٢) وكان عنده عبد الله بن مصعب بن الزبير ، ودخل عليه ابن عياش المقرئ الحنّاط فدعا له بمتّكأ وأدناه ، ولم يعرفه الزبيري فسأل موسى العباسي : من هو؟ قال : هذا فقيه الفقهاء ورأس هذا البلد! فقال الزبيري : إنّه لا كثير ولا طيب ، فلا يستحق كل ما فعلته به! فغضب العباسي وقال للزبيري : اسكت ، فبأبيك (جدك) غُدر ببيعتنا (بيعة علي عليه‌السلام) وبقوله الزور اخرجت امّنا (عائشة) وبابنه (عبد الله) هُدمت كعبتنا! وأحرى أن يخرج بك الدجّال فينا (٣)!

ثمّ لمّا مات موسى الهادي العباسي وملك الرشيد أرسل موسى بن عيسى إلى مصر وولّى الكوفة ابنه العباس بن موسى ، ونوح بن درّاج تلك الأيام على قضائها ، وقضى بكل الإرث للبنت ولم يورّث عمّها بالتعصيب ، ودخل أبو بكر بن عياش على العباس العباسي فقال له : يا أبا بكر ، أما ترى ما أحدث نوح في القضاء؟! إنّه طرح العصبة.

فقال ابن عياش : وما عسى أن أقول لرجل قضى بالكتاب والسنة؟! وكان العباس مستنداً فجلس مستوياً وقال متعجباً : وكيف قضى بالكتاب والسنة؟! فروى ابن عياش له أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما قُتل حمزة بعث علياً فأتاه بابنة حمزة فسوّغها الميراث كلّه (٤).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٨٩.

(٢) تاريخ خليفة : ٢٩٤.

(٣) تاريخ بغداد ١٤ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

(٤) التهذيب ٦ : ٣١٠ ـ ٣١١ وقد مرّ الخبر في نوح بن درّاج.


وكان يقول في علي عليه‌السلام : لقد ضَرب علي ضربةً ما كان في الإسلام أعزّ منها ؛ ولقد ضُرب علي ضربة ما ضرب في الإسلام أشأم منها (١)!

وقد روى عن الصادق عليه‌السلام ، يدل عليه ما أسنده الكليني عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : اشتريت محملاً فأعطيت بعض الثمن وتركته عند صاحبه ثمّ جئته لآخذه فإذا به قد باعه! فتحاكما إلى ابن عياش وكان يعرف ابن الحجّاج بالتشيع فقال له : بقول من تحب أن أقضي بينكما أبقول صاحبك أو غيره؟ قال : بل بقول صاحبي. قال : فقد سمعته يقول : من اشترى شيئاً فجاء بالثمن فيما بينه وبين ثلاثة أيام ، وإلّا فلا بيع له (٢).

ومع ذلك كان ينظر إليهم كاليهود والنصارى! قال أحمد بن يونس : قلت لابن عياش : لي جار «رافضي» مريض فأعوده؟ قال : لا تنو فيه الأجر بل كما تعود اليهودي والنصراني!

وقال «لرافضي» : هل في الدنيا قوم أجهل منكم؟! تزعمون أنّ هذا الأمر كان لصاحبكم (علي عليه‌السلام) فتركه في حياته وسلّمه لغيره ، ثمّ أنتم تبغون أن تأخذوا به له بعد وفاته (٣)!

ونقله الشيخ الشوشتري في «قاموس الرجال» وعلّق عليه (٤).

بداية تغيّر الأمين على المأمون :

قال السيوطي : قيل : إنّ الفضل بن الربيع حثّ الأمين على خلع المأمون

__________________

(١) الإرشاد ١ : ١٠٥.

(٢) فروع الكافي ٥ : ١٧٢.

(٣) تاريخ بغداد ١٤ : ٣٧٥ ـ ٣٧٧.

(٤) قاموس الرجال ١١ : ٢٣٩ برقم ٩٨.


عن ولاية العهد من بعده وأن يستبدل ذلك بولاية عهد ابنه موسى. فبدأ الأمين بعزل أخيه القاسم المؤتمن عن العهد بعد المأمون وعمّا كان ولّاه الرشيد. فلمّا بلغ ذلك إلى المأمون قطع مراسلاته إلى الأمين. وأخذ الأمين يستميل القوّاد بالعطاء وبايع بولاية العهد لابنه موسى ولقّبه بالناطق بالحق ، هذا وهو طفل رضيع! ثمّ أرسل إلى المأمون رسولاً يذكر له أنّه قد سمّى ابنه الناطق بالحق ويطلب منه أن يقدم ذكر موسى على ذكر المأمون. فردّ المأمون ذلك وأباه ودعا الرسول إلى نفسه فبايعه بالخلافة سرّاً. فطلب منه أن يناصحه في العراق ويكتب بالأخبار إليه. فلمّا عاد الرسول وأخبر الأمين بامتناع المأمون عزم على إسقاط اسمه من ولاية العهد (١).

قال المسعودي : فأخذ الأمين يعمل الاحتيال لخلع المأمون ، فكتب إليه يأمره بتسليم بعض عمله إلى من عيّن فامتنع عليه ، فكتب إليه يأمره بالمصير إليه لمعاونته على تدبير الملك أي ليكون معاون الخليفة ، فذكر أُموراً يعتلّ بها ، فأرسل إليه رسولاً يسأله تقديم ابنه موسى على المأمون في ولاية العهد ويذكر له ترغيباً وترهيباً ، فأبى عليه. والفضل بن سهل كان يقوّي عزمه على المقاومة (٢).

ولما همّ بخلعه شاور عبد الملك بن صالح العباسي فأشار عليه يقول : لا يجتمع فحلان في أجمة ، ولكنّه شاور من قوّاده عبد الله بن حازم فحذّره ، فجمع قوّاده لذلك منهم هرثمة بن حازم فحذّره كذلك ودخل علي بن عيسى بن ماهان فتبسّم الأمين وقال : لكن شيخ هذه الدعوة وباب هذه الدولة! لا يخالف إمامه ولا يوهن طاعته ، ورفعه إليه ، فكان علي بن عيسى أول من أجاب من القواد لخلع المأمون (٣).

__________________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠٠.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٨٩.


وقال اليعقوبي العباسي : كان الذي يحرّضه علي بن عيسى بن ماهان والفضل بن الربيع ، وزيّنا له أن يخلع المأمون ويبايع لابنه بولاية العهد من بعده ، ففعل ذلك وبايع لابنه موسى وذلك لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر سنة (١٩٤ ه‍) ، وجمع العهود التي كان كتبها الرشيد بينهما فأحرقها. ومع ذلك كتب إلى المأمون يأمره بالقدوم عليه مع جميع قوّاده! فكتب إليه يعلمه أن لا سمع له في هذا ولا طاعة. فكتب بذلك إلى القواد بخراسان ، فكتبوا إليه : إنّما يلزمنا الوفاء لك ما وفيت لأخيك ، وقد نقضت العهود وأحدثت الأحداث واستخففت بالأيمان والمواثيق (١).

الأمين وطلب الخِصيان :

ذكر الطبري قال : لما ملك محمّد الأمين طلب الخصيان وابتاعهم وغالى فيهم ، وصيّرهم لخلوته في ليله ونهاره ، وقوّام طعامه وشرابه وأمره ونهيه ، وسمّاهم «الجرادية» وفرض لهم رواتب ، وجمعاً من الأحباش وسماهم «الغرابية» ورفض النساء الحرائر والإماء. ووجّه إلى جميع البلدان في طلب المُلهين ، وضمّهم إليه وأجرى لهم الأرزاق. وقسّم ما في بيوت أمواله وما يحضره من الجواهر بين جلسائه ومحدّثيه وخصيانه. وأمر ببناء مجالس لمتنزّهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصور الخلد والمعلّى وعبدويه وبستان موسى والخيزرانية ورقّة وكلواذه وباب الأنبار وبناوري والهوب. ونافس في ابتياع الدواب الفارهة والطيور والوحوش والسباع! واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقوّاده ، واستخفّ بهم.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٦.


وابتنى الأمين سفينة عظيمة أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف (مليون) درهم ، واتّخذ سفينة أُخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدُّلفين ، ونظم أبو نؤاس له شعراً في ذلك.

وكانت هناك نوع من السفن فيها مرامي نيران يُرمى بها العدو ، تسمى الحرّاقة ، فأمر الأمين أن يصنع له خمس حرّاقات في دجلة على هيئة الفرس والأسد والفيل والحية والعُقاب وأنفق في عملها أموالاً عظيمة ، ونظم أبو نؤاس الحسن بن هاني له شعراً في ذلك (١).

وأمر يوماً أن يفرش له على دكة في قصر الخلد ، فبُسط له عليها بساط بلون الزرع ورسمه ، وطُرحت عليه فرش ونمارق مثله ، وهُيّئ له من أواني الذهب والفضة والجوهر شيء عظيم! وأمر قيّمة جواريه أن تهيّئ له مئة من جواريه فيصعدن إليه عشراً عشراً بأيديهن العيدان وهن يغنّين بصوت واحد (٢).

واستعان المأمون بقوّاده :

وانتهت أخبار الأمين هذه إلى المأمون فجمع قوّاده وقال لهم : قد علمتم ما كان قد شرط أبي عليَّ وعلى محمّد ، وقد نكث ونقض العهود ، وأوجد السبُل إلى خلعه بنكثه ونقضه ، وتعرّضه لأموالي وأسبابي وأعمالي ، وتحريقه الشروط والعهود التي عليه ، واستخفافه بحقّ الله فيما نكث من ذلك ، و «اشتغاله بالخصيان».

فاتّفق رأيهم على مراسلته ، فإن رجع وإلّا خلعوه.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٠٨ ـ ٥٠٩.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥١٢.


وبلغ ذلك إلى الأمين فجمع قوّاده وذكر لهم خلع المأمون إيّاه وندبهم إلى الخروج عليه. فاختاروا عصمة بن أبي عصمة السُبيعي ، فسيّر الأمين معه جيشاً كثيفاً ، فخرج حتّى صار إلى حدّ خراسان! ثمّ وقف. وبلغ خبره إلى الأمين فكتب إليه يحثه على المسير فكتب إليه جواباً قال فيه : لقد اخذت علينا البيعة أن لا ندخل خراسان ، واخذت عليك أن لا تدخلها ولا ترسل أحداً إليها! فإن جاءني أحد من قبل المأمون قاتلته وإلّا فلا أجوز الحدّ!

فدعا الأمين بعلي بن عيسى بن ماهان وولّاه خراسان ودفع إليه قيد فضة! وقال له : إذا قدمت خراسان فقيّد بهذا القيد المأمون واحمله إليّ ومن معه ، وضمّ إليه من القواد والجند أربعين ألف مرتزق! وحُملت إليه الأموال.

وكان المأمون قد ولّى من قوّاده طاهر بن الحسين (مولى خزاعة) على كورة بوشنج ، فلمّا بلغه خبر ابن ماهان سنة (١٩٥ ه‍) ندب إليه طاهر بن الحسين وأزاح علته بالأموال والسلاح وأنفذه في خمسة آلاف إلى الريّ يستقبل علي بن عيسى ، فالتقيا بالري (من الري على خمسة فراسخ منه ـ ابن العبري).

وخرج علي بن عيسى وعليه طيلسان أسود طويل وركب برذوناً في نفر يسير يدور حول عسكره ، ورآه طاهر بن الحسين فأسرع إليه في جماعة من أصحابه حتّى لاقاه ، فدافع عن علي أصحابه ثمّ انصرف منهزماً ، فأتبعه طاهر وحده حتّى أدركه وضربه بسيفه حتّى أثخنه وسقط إلى الأرض ، فنزل إليه واحتزّ رأسه ورجع به إلى عسكره! ونصب الرأس على رمح وأمرهم ينادون على عسكره : قُتل أميركم! فانهزموا وأسلموا الخزائن والأسلحة وحوى عسكر طاهر كل ما كان في عسكر ابن ماهان! واستأمن إليه كثير منهم (في عاشر شعبان ١٩٥ ه‍) (١).

__________________

(١) التنبيه والإشراف : ٣٠٠.


ووجّه طاهر بالرأس مع رجل من أصحابه وكتب بالفتح إلى المأمون بمرو ، وسقط الرأس من الحامل قبل مرو بميلين ، فطلبوه فوجدوه فحُمل إلى الفضل بن سهل فحمله إلى المأمون ، ثمّ قرئ كتاب الفتح على الناس ، وخلع المأمون الأمين وطلب منهم البيعة له بالخلافة فبايعوه؟ وسلّموا عليه بها.

وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله ثمّ قال : أيها الناس! إني قد جعلت لله على نفسي أن أُطيعه فيكم ، ولا أسفك دماً لا تحلّه حدوده وفرائضه ، ولا آخذ مالاً ولا أثاثاً ولا نِحلة تحرم عليَّ ، ولا أحكم بهواي في غضبي ولا رضاي ... فإن غيّرت أو بدّلت كنت للغِير مستأهلاً وللنكال متعرضاً! وأعوذ بالله من سخطه وأرغب إليه في المعونة على طاعته وأن يحول بيني وبين معصيته (١)!

وقال المسعودي : إنهما التقيا ، وجعل الخزاعي جيشه كراديس ، واختار من الخوارزمية ومن معهم سبعمئة فصمد بهم في القلب ، وكان مع ابن ماهان من الفرسان العباس بن الليث مولى المهدي العباسي فخرج إلى طاهر وقصده طاهر وضمّ يديه على سيفه وضربه به بيديه جميعاً فقتله وانهزم جيش ابن ماهان ، واختلط الناس فقصد داود سياه إلى ابن ماهان فضربه بسيفه فصرعه ونزل إليه طاهر بن الراجي فذبحه وتمالأ عليه الرجال وتنازعوا في خاتمه ورأسه! ولضربة طاهر الخزاعي بيديه سمّي «ذا اليمينين» وأُتي طاهر برأس ابن ماهان وجثته فأمر بطرح جثته في بئر ، ولبس خاتمه وكتب إلى الفضل بن سهل بالفتح (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٦ ـ ٤٣٨.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٩٠ ـ ٣٩١ ، وفي مختصر تاريخ الدول : ١٣٣ : داود شاه بدل داود سياه.


ميلاد الجواد عليه‌السلام :

مرّ الخبر عن ذكر الرضا عليه‌السلام للواقفة أنّه سيرزق ولداً يلي أمر الإمامة من بعده ، كان ذلك في أوائل ما بعد وفاة الكاظم عليه‌السلام عام (١٨٣ ه‍) ، وبعد ١٢ عاماً في سنة (١٩٥ ه‍) تحقّق ما أخبر به وبشّر (١) بميلاد ابنه محمّد الجواد عليه‌السلام في شهر رمضان المبارك ، من أُمه سبيكة النوبية ، وروى أنها كانت من أهل بيت مارية أُم إبراهيم ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

هذا ما ذكره الكليني ، ولم يعيّن اليوم ، وذكره الطبري الإمامي قال : ليلة الجمعة للنصف من رمضان (٣) ونقل الطوسي عن أحمد بن عياش الجوهري البغدادي (م ٤٠١ ه‍) أنّه ولد يوم الجمعة لعشر خلون من رجب (٤) وعليه العمل.

وبلاد النوبة من بلاد السودان ، ولذا كان الجواد عليه‌السلام أسمر شديد السمرة.

وقد مرّ في ميلاد الباقر عليه‌السلام أن جدّه الحسين عليه‌السلام كنّاه بأبي جعفر ، فاستنّ به الرضا وكنّى الجواد كذلك أبا جعفر ، فكان أبا جعفر الثاني.

طاهر وهرثمة إلى بغداد :

لمّا قوي طاهر بن الحسين بما صار في يده من الأموال والسلاح والكراع (الأعتدة) كتب المأمون إليه أن يقصد العراق. وكان قد اجتمع في حُلوان قبل همدان جمع من الجند والقوّاد الذين كانوا مع ابن ماهان ، فوجّه الأمين

__________________

(١) تاريخ أهل البيت عليهم‌السلام : ٨٥.

(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٩٢.

(٣) دلائل الإمامة : ٢٠١.

(٤) مصباح المتهجد : ٨٠٤ ـ ٨٠٥ ، وليس في مقتضب الأثر.


عبد الرحمن بن جَبلة وأمره أن يضم إليه من كان في حُلوان فيلاقي طاهراً ، فلقى طاهراً بهمدان في ذي القعدة سنة (١٩٥ ه‍) فقتله طاهر واستباح كل ما في عسكره. فوجّه الأمين إليه محمّد بن حُميد بن قحطبة الطائي (مولاهم) فبلغ بجمعه إلى حلوان ثمّ تراجع عنه (١).

وأمده المأمون بجيش كثيف مع هرثمة بن أعيَن وكتب معه إلى طاهر : أن يخلّي بين هرثمة وبين المسير إلى بغداد ، وأ مّا هو فيسير إليها ولكن عن طريق الأهواز ، فسار طاهر وافتتح الأهواز والبصرة وواسط والمدائن واحتوى على الكوفة ونزل بظهر الغربيّ من بغداد يحاصرها سنة (١٩٦ ه‍) وسار هرثمة حتّى نزل ظهر الشرقي من بغداد سنة (١٩٦ ه‍) (٢) نازلاً بجيشه ممّا يلي النهروان بقرب باب خراسان وثلاثة أبواب أُخرى. وطاهر ممّا يلي باب المحوّل والكُناسة والياسرية ، وهو قد نزل ببستان بجانب باب الكباش الطاهري ، ثمّ نقل طاهر من الياسرية حتّى نزل إلى باب الأنبار وضيّق الحصار على أهل بغداد سنة (١٩٦ ه‍) وترك الأمين قدماء أصحابه وفرّق في المحدَثين من قوّاده خمسمئة ألف درهم (٣).

وكان على كل عشرة من المقاتلين المُشاة عريف ، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب ، وعلى كل عشرة نقباء قائد ، وعلى كل عشرة قواد أمير. فيأتي العريف قدّامه عشرة من المقاتلة على رؤوسهم خوذ الخوص ودُرق البواري! وهم خلق من العيّارين وأهل السجون! وهم عُراة إلّامن تبّان ومئزر ، وقد اتخذوا لرؤوسهم دواخل من الخوص سموها الخوذ ، ودرقاً من الخوص والبواري قد قُيّرت

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٣٨.

(٢) التنبيه والإشراف : ٣٠١.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.


وحُشيت بالرمل والحصى! وبعث هرثمة زهير بن المسيب الضبّي من الجانب الشرقي فنزل الماطر نحو كلواذة ونزل في رَقّة كلواذه والجزيرة ونصب المنجنيقات على بغداد ، وأخذ يَعشر أموال التجار في السفن الواردة من الواسط والبصرة. وخيله على خيول فارهة وبجواشن ودروع وتجافيف وسواعد ورماح ودُرق «تبّتية» فانهزم العراة ثمّ تحاصروا وأخذتهم السيوف فقُتل منهم خلق كثير. وانحاز إلى جانب طاهر المحاربون الذين بباب الأنبار وباب الحرب وباب قُطربُل ، فتقدمت قوات طاهر إلى أوساط الجانب الغربي من بغداد وأعملوا المنجنيقات ، فكثر الحريق والهدم ببغداد والكرخ ، وأخذ الناس يتنقلون من موضع إلى موضع وقد عمّهم الخوف.

ولم تزل الحرب قائمة بين الفريقين أربعة عشر شهراً ، وضاقت بغداد بأهلها ، وتعطّلت المساجد وتُركت الصلوات ، وحوصر الأمين بقصره في الجانب الغربي ، وكانت في بعض الأيام وقائع تفانى فيها من الفريقين خلق كثير.

منها وقعة بشارع الرقيق هلك فيها خلق كثير وكثرت القتلى في الشوارع والطرقات ، وانتُهبت الدور ، والفوز لمن نجا بنفسه وبما يسلم معه إلى معسكر طاهر فيأمن على نفسه (١).

الوقائع الحاسمة :

تقدم طاهر وضايق القوم وأقبل يقتطع من بغداد الشارع بعد الشارع ويصير أهل تلك الناحية في حيّزه ومعاونين له في حربه ، وجعل يحفر الخنادق بينه وبين أصحاب الأمين وجنده وحاميته وهم العُراة أصحاب خوذ الخوص ودُرق

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٠٣ ـ ٤٠٥.


البواري كما مرّ ، وأصحاب طاهر في إقبال وقوة ، وأصحاب الأمين في إدبار ونقص ، وأصحاب طاهر يهدمون وأصحاب الأمين يأخذون من الدور الأبواب والأخشاب والثياب وينهبون المتاع ، وقطع الطاهر عنهم موادّ الأقوات القادمة من الطرق من الواسط والبصرة ، فكان رطل الخبز عندهم بدرهم وعند طاهر وأصحابه عشرون رطلاً بدرهم! فاشتدّ الجوع وضاقت النفوس وأيسوا من الفرج ، وتقدم طاهر في مواضع كثيرة ، واشتدّ القتال وعمل السيف والنار وتبادرت الرؤوس ، وفني خلق من العُراة أصحاب مِخلاة الحجارة والآجر (الطابوق أو القرميد) وخوذ الخوص ودرق الحُصُر والبواري ورماح القصب وأعلام الخِرق وبوقات القصب وقرون البقر!

وضاق الحال بالأمين واشتدّ به الحصار فأمر قائدَين من قوّاده ذُريح والهرش أن يتتبعا أصحاب الأموال والودائع والذخائر من المسلمين وغيرهم ، فاجتبيا بذلك أموالاً كثيرة ، وفرّ الأغنياء وهربوا بذريعة الحج. واشتدّ به الحال فباع ما في خزائنه سرّاً وفرقه أرزاقاً في من معه.

واجتمع هؤلاء العراة أصحاب الأمين يوماً فكانوا نحو «مئة ألف» برماحهم القصب ، ونفخوا في أبواقهم القصب وقرون البقر ، وزحفوا من مواضع كثيرة نحو قوات طاهر ، وبعث طاهر إليهم بعدد من قواده وأُمرائه في وجوه كثيرة ، وكثر القتل والقتال إلى الزوال على قوات طاهر ، ثمّ ظهر قواد المأمون على هؤلاء العراة بعد الزوال ، فغرق منهم واحرق وقُتل نحو «عشرة آلاف»!

والأمين باقٍ في مدينة المنصور ، فلمّا اشتدّ الأمر عليه شاور من حضره من خواصّه للنجاة بنفسه ، منهم السندي بن شاهَك ، فقال له بعضهم : تُكاتب طاهراً لعله يجيبك إلى ما تريد منه (١).

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤٠٦ ـ ٤١٠.


وقال لهم : إني لُافارقكم بقلب موجع ونفس حزينة وحسرة عظيمة ، وإني محتال لنفسي ، فأسأل الله أن يلطف بي بمعونته!

ثمّ كتب إلى طاهر : أما بعد ، فإنك عبد مأمور تنصّحت فنصحت ، وحاربت فنُصرت ، وقد يُغلب الغالب ويُخذل المفلح. وقد رأيتُ الصلاح في معاونة أخي! والخروج إليه من هذا السلطان! إذ كان أولى به وأحق! فأعطني الأمان على نفسي وأُمي وجدتي وولدي وخدمي وحاشيتي وأنصاري وأعواني! حتّى أخرج إليك وأتبرّأ من هذا الأمر إلى أخي! فإن رأى لي الوفاء بأمانك ، وإلّا كان أولى وأحق!

فلمّا وصل كتابه إلى طاهر وقرأه قال : الآن لما ضيّق خناقه وانهزم فُسّاقه؟! لا والذي نفسي بيده حتّى يضع يده في يدي وينزل على حكمي!

فلمّا بلغه ذلك كتب إلى هرثمة يسأله النزول على حكم أمانه (١) وراسل هرثمة ، فوعده هرثمة بكل ما يحب ، وأ نّه يمنعه من كل من يريد قتله (٢) كان ذلك في حدود العشرين من المحرم سنة (١٩٨ ه‍).

مصير الأمين :

كان قد بقي مع الأمين أبناء الجند وفتيانهم نحو سبعة آلاف مقاتل ، وتوافقوا فيما بينهم ودخل عليه بعضهم فقالوا له : نحن سبعة آلاف رجل ، وفي اصطبلك سبعة آلاف فرس! وليس معك من ينصحك سوانا ، فتحمل كل واحد منا على فرس ونفتح أبواب المدينة (فهم يدخلون) ونحن نخرج في هذه الليلة ـ الخامسة والعشرين من المحرم ١٩٨ ه‍ ـ ولا يُقدم علينا أحد إلى أن نأتي الجزيرة في ديار

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٣٩٩.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤١١.


ربيعة (الموصل) فنجبي الأموال ونجمع الرجال ، ثمّ نتوسط الشام ثمّ مصر فنتكاثر من الأموال والرجال ، فنُعيد الدولة جديدة! فوافقهم.

ولكن كان لطاهر في جوف ديار الأمين غلمان وخدم من خاصة الأمين يبعثون إليه بالأخبار ساعة فساعة ، فخرج هذا الخبر إلى طاهر من وقته! وكان مع الأمين سليمان بن المنصور والسندي بن شاهَك وابن نُهيك فأرسل إليهم وهدّدهم ليزيلوا الأمين عن هذا الرأي ، فأزالوه عنه.

وكان هرثمة قد وعده أن يأتيه الليلة في حَرّاقة إلى مشرعة باب خراسان ، فيصير به إلى عسكره هو ومن أحبّ. وبلغ ذلك إلى طاهر. وأتاه هرثمة في الحرّاقة إلى باب خراسان ، فدعا محمّد بفرسه وخرج بطيلسان أسود وقدّامه شمعة حتّى وصل إلى باب خراسان والمشرعة والحرّاقة واقفة فنزل إلى الحرّاقة واستقبله هرثمة فقبّل ما بين عينيه ، ولم يكن مع هرثمة من رجاله إلّاقليل.

وكان قد بلغ إلى طاهر خروجه ، فبعث بالملّاحين في الزوارق ، ونزل بعضهم في الماء عراة فغاصوا تحت الحرّاقة فقلبوها ، وتعلق هرثمة بزورق وصعد من الماء إليه ومضى إلى عسكره.

أمّا الأمين فقد شق ثيابه وسبح ، وكان غلام طاهر قرين الديراني قد عسكر في السراة ، فوقع الأمين إليهم فأخذه بعضهم ومضوا به إلى قائدهم قرين وحملوه إلى طاهر ، فقيل : قُتل في الطريق ، وأخذوا رأسه ومضوا به إلى طاهر.

فلمّا أصبح طاهر أمر برأسه فنصب على باب الحديد نحو قطرُبُل في غربيّ بغداد ، ودفنت جُثته في بستان هناك. ثمّ حُمل رأسه في منديل إلى المأمون في خراسان (١) بل في مرو.

__________________

(١) مروج الذهب ٣ : ٤١١ ـ ٤١٤ ومثله في اليعقوبي ٢ : ٤٤٠ وفيه : قريش الدنداني بدل قرين الديراني.


وكتب طاهر إلى المأمون كتاباً جاء فيه : أما بعد ، فإنّ المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النسب واللُّحمة ، فقد فرّق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة! لمفارقته عصمة الدين وخروجه من الأمر الجامع للمسلمين ، قوله عزوجل : (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ولا طاعة لأحد في معصية الله ، ولا قطيعة إذا ما كانت القطيعة في ذات الله. ثمّ بشره بانتصاره عليه. وكتب كتاباً آخر يشرح له خبره منذ شخص من خراسان في بلد بعد بلد ويوم بعد يوم (١).

وأمر المأمون بنصب الرأس على خشبة في صحن داره بمرو ، وأمر بإعطاء أرزاق جنوده شريطة لعن الأمين ، وبايعوه البيعة العامة. ثمّ أمر بتطييب الرأس وجعله في سفط وردّه ليدفن إلى جسده (٢).

ثمّ أرسل طاهر بابني الأمين موسى وعبد الله إلى المأمون ، وأبطأ أرزاق جنده فثاروا عليه وأحرقوا باب البستان الذي هو فيه ، وكأنّه لم يجد لهم شيئاً في خزائن الأمين ، ثمّ اعتذر إليه قوّاده ، فاستدان لهم من سعيد بن مالك من مشايخ بغداد عشرين ألف دينار وقال له سعيد : هي صلة لك ، فأمر لجنده برزق أربعة أشهر (٣).

المأمون وابنا سهل :

كانت تلك الانتصارات للمأمون بالعمدة على يد طاهر بن الحسين مولى الخزاعيين حلفاء الهاشميين ثمّ العباسيين منهم ، وقد مرّ أنّ بدايتها كان انتصاره

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٢.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤١٤.

(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٤٩٧.


على الخمسين ألفاً ممّن كان مع علي بن عيسى بن ماهان ، وكان طاهر من قوّاد الفضل بن سهل فرأى المأمون عَود الفضل في ذلك إلى الفضل بن سهل ، فعقد له على المشرق من جبل همدان طولاً ومن بحر الديلم (بحر الخزر) إلى بحر فارس (الخليج الفارسي) عرضاً ، ولقّبه «ذاالرياستين» : رياسة السيف والقلم (عسكرياً وسياسياً) وولّى أخاه الحسن بن سهل على ديوان الخراج (وزارة المالية) (١).

وذكر الطبري عن الموصلي قال : لما أرسل طاهر برأس الأمين إلى المأمون قال الفضل بن سهل للمأمون في طاهر : إنا أمرناه أن يبعث به أسيراً فبعث به عقيراً! فسلّ بهذا علينا ألسنة الناس وسيوفهم! فقال له المأمون : فاحتل في الاعتذار منه (٢)!

وكأنه كان من احتياله للتنصّل من قتل أخيه الأمين أن عمد المأمون إلى ما كان افتتحه طاهر بن الحسين من كور الجبال وفارس والأهواز والبصرة والكوفة والحجاز واليمن ، فولّاها الحسن بن سهل أخا الفضل بن سهل ، وكتب إلى طاهر ببغداد بتسليم كل ما بيده من أعمال كل البلدان إلى خلفاء الحسن بن سهل. وأن يشخص هو عنها إلى الرقّة والياً عليها والموصل والجزيرة والشام والمغرب ، وجعل إليه حرب الخارج عليه نصر بن شبث (أو : شبيب).

فقدّم الحسن بن سهل خليفته على خراج العراق : عليّ بن أبي سعيد إلى بغداد (وقد مرّ خبر ضمان طاهر لعسكره أرزاق أربعة أشهر) فدافع طاهر علياً عن تسليم الخراج إليه حتّى وفّاهم أرزاقهم ، ثمّ سلّم العمل إلى أبي سعيد وخرج إلى الرقّة في جُمادى الأُولى (١٩٩ ه‍) (٣).

__________________

(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٢ في سنة (١٩٦ ه‍).

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٠٧.

(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٥٢٧ ـ ٥٢٨.


وكان السريّ بن منصور الشيباني أبو السرايا من رجال هرثمة بن أعيَن ، فماطله في أرزاقه فغضب منه أبو السرايا (١) فخالف السلطان ونابذه وعاث في نواحي سواد العراق ، ثمّ صار إلى ناحية في طريق الحجاز خائفاً على نفسه ومعه غلمانه وفيهم أبو الشوك وأبو الهرماس وسيّار ، وكان علويّ الرأي يتشيّع (٢).

قيام محمّد بن إبراهيم طباطبا :

من أبناء الحسن المجتبى عليه‌السلام من سمّاه باسمه الحسن فلُقّب بالمثنّى ، وابنه إبراهيم ، ثمّ ابنه اسماعيل سمّى ابنه باسم أبيه إبراهيم ، فقيل : كان طفلاً وخيّره أبوه بين قميص وقبا ، فقال : «طباطبا» يعني : قباقبا (٣) وسمّى إبراهيم هذا ابنه محمّداً ، فهو محمّد بن إبراهيم الحسني طباطبا.

وكان محمّد هذا يقارب الناس ويكلّمهم بشأنهم وشأن الهاشميين والعباسيين.

وكان نصر بن شبيب (أو : شبث) من أهل الجزيرة ، في بدء أمره قد قدم حاجّاً ، وكان حسن المذهب «متشيعاً» فلمّا ورد المدينة سأل عن بقايا «أهل البيت» ومن له ذِكر منهم ، فذُكر له بعضهم ومنهم محمّد بن إبراهيم الحسني. فدخل إليه وقال له : حتّى متى توطأون بالخسف؟! وتُهتضم «شيعتكم»؟! ويُنزى على حقكم؟! وذاكره مقتل أهل بيته وغصب الناس إياهم حقوقهم ، وأكثر من القول في هذا المعنى ، إلى أن أجابه محمّد بن إبراهيم وواعده لقاءه بالجزيرة.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٢٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٤٦ وزاد في المعارف : ٣٨٧ : أنّه قتل عامل الأنبار.

(٣) عمدة الطالب : ١٧٢ ، وإليه نُسب السادة الطباطبائيون الحسنيون.


ثمّ جمع محمّد بن إبراهيم نفراً من أصحابه وشيعته لذلك وخرج بهم إلى الجزيرة (شمال العراق) حتّى قدم على نصر بن شبيب للموعد.

فجمع نصر أهله وعشيرته وعرض عليهم ذلك فأجابه بعضهم وأبى آخرون منهم ، ومنهم ابن عمّه فإنه خلا به وقال له : إن جميع هذا البلد (جزيرة ابن عمر) أعداء لآل أبي طالب! فإن أجابوك طائعين الآن فرّوا عنك غداً منهزمين! وحتّى إن ظفر صاحبك فإن كان غير عدل فما حاجتك إلى تعريض نفسك وأهلك لما لا قوام لهم به ، وإن كان عدلاً كنت عنده بمنزلة الآخرين من أصحابه! وبهذا فترفي نيّته وثناه عن رأيه.

فصار ابن شبث إلى ابن طباطبا وتشبّث عنده باختلاف الناس عليه ورغبتهم عن «أهل البيت» وأ نّه لو كان يظن بهم ذلك ما كان يعده بنصرهم ، وعرض عليه أن يقوّيه بخمسة آلاف دينار! فاستغنى محمّد بالله عنه وعن ماله وانصرف عنه إلى الحجاز (١).

لقاء ابن طباطبا بأبي السرايا :

مرّ الخبر عن أبي السرايا الشيباني : أنّه كان من كيان القائد العباسي هرثمة ، وماطله هرثمة في أرزاق جنوده فتمرّد بهم ، ثمّ أوى إلى ناحية في طريق الحجاز. فلمّا مضى ابن طباطبا راجعاً إلى الحجاز لقى في طريقه أبا السرايا فدعاه إلى نفسه فأجابه وسُرّ بذلك وتواعدا ظهر الكوفة.

فانحدر ابن طباطبا إلى الكوفة يدعو من يثق به إلى ما يريد ، حتّى اجتمع له بشر كثير ، وتأهب لذلك وانتظر موافاة أبي السرايا.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ عن نصر بن مزاحم وغيره.


وأقبل أبو السرايا لموعده على طريق البر في جريدة من فوارس معه لا راجل فيهم حتّى دخل إلى عين تمر ، ثمّ أخذ على النهرين حتّى وصل إلى نينوى حيث قبر الحسين عليه‌السلام وكانت ليلة ذات ريح ورعد ومطر ، فترجّلوا حتّى سلّموا على الحسين عليه‌السلام وجعل أبو السرايا يتمثل بأبيات في رثائه والأخذ بثاره. وكان هناك جماعات يزورون الحسين عليه‌السلام وفيهم بعض الزيدية ، فناداهم : من كان هاهنا من الزيدية فليقم إليّ! فوثبت إليه جماعات من الناس فدنوا منه ، فخطبهم خطبة طويلة ذكر فيها «أهل البيت» وفضلهم وما خُصوا به ، وذكر فعل الأُمة بهم وظلمهم لهم وقال :

أيها الناس! هبكم لم تحضروا الحسين فتنصروه ، فما يُقعدكم عمّن أدركتموه ولحقتموه؟ وهو غداً «خارج طالب بثأره» وحقّه وتراث آبائه! ولإقامة دين الله! فما يمنعكم من نصرته ومؤازرته؟! إنني خارج في وجهي هذا إلى الكوفة للقيام بأمر الله والذبّ عن دينه والنصر «لأهل بيت نبيّه»! فمن كان له نية في ذلك فليلتحق بي! ثمّ مضى بأصحابه إلى الكوفة (١).

خروج محمّد للقاء أبي السرايا :

في اليوم الذي واعد محمّد بن إبراهيم أبا السرايا للاجتماع به بظهر الكوفة ، أظهر نفسه ، وكان قد تواعد مع أصحابه بالكوفة فانبثّوا مثل الجراد على غير نظام ولا قوة ولا سلاح! إلّاالعصيّ والسكاكين والآجر (الحجر) (٢).

وكان الوالي العباسي على الكوفة الفضل بن العباس بن عيسى العباسي ،

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤٦ ـ ٣٤٧ عن نصر بن مزاحم.

(٢) المصدر السابق : ٣٤٧.


وكانت له دار بظهر الكوفة فخرج إليها وخندق حول داره وأقام مواليه في السلاح للحرب (١).

وخرج ابن طباطبا بمن معه إلى ظَهر الكوفة ينتظرون أبا السرايا فتأخر عليهم حتّى أيسوا منه وشتمه بعضهم ، وأخيراً طلع عليهم من ناحية الجُرف خيل يتقدمهم علَمان أصفران ، وإذا هو أبو السرايا ومن معه ، فتنادى الناس بالبشارة وكبّروا.

ولما أبصر أبو السرايا ابن طباطبا ترجّل وأقبل إليه حتّى انكبّ عليه وقال له : ادخل البلد فما يمنعك منه أحد! ودخلوا إلى موضع بالكوفة يُعرف بقصر الصرّتين! فهناك خطب الناس ودعاهم إلى البيعة إلى «الرضا» أو «الرضيّ من آل محمّد» والدعوة إلى كتاب الله وسنة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والسيرة بحكم كتاب الله ، فازدحم الناس وتكابّوا عليه وبايعه جميع الناس. وكان ذلك في العاشر من جمادى الأُولى سنة (١٩٩ ه‍) (٢).

ويُظنّ من هذا التاريخ أنّ زيارتهم لمرقد الحسين عليه‌السلام لعلها كانت في نصف رجب ولذا كان الزوّار مجتمعين بما فيهم الزيدية كما مرّ خبره آنفاً.

وهل كان معهم علي الأعرجي؟ :

روى الأموي الزيدي عن نصر بن مزاحم وغيره : أنّ نصر بن شبيب لما ورد المدينة وسأل عن من له ذِكر من بقايا «أهل البيت» ذُكر له ثلاثة ، منهم :

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٤٨ وهذا التاريخ أتى به الأموي الزيدي بطرقهم عن زيد بن علي ، وحتّى عن جابر الجعفي عن الباقر عليه‌السلام! وقال : يباهى الله به الملائكة!


علي بن عبيد الله بن الحسين (١) بن علي بن الحسين عليهما‌السلام ثمّ قال : فأما علي بن عبيد الله (الأعرج) فإنه كان مشغولاً بالعبادة لا يأذن لأحد (٢) ثمّ ناقض نفسه فقال : وخرج محمّد بن إبراهيم وبرز وظهر إلى ظهر الكوفة ومعه علي بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين عليهما‌السلام (٣) إلّاأن يكون سواه.

صحب علي الأعرجي الكاظم عليه‌السلام وكتب كتاباً كلّه عنه عليه‌السلام في الحج ، واختصّ به وكان أزهد آل أبي طالب في زمانه وأعبدهم (٤) وفي أوائل عهد الرضا عليه‌السلام كان يحب أن يدخل فيسلّم عليه إلّاأ نّه كان يتّقي عليه ، وكان يعلم أنّ سليمان بن جعفر يلتقي بالإمام عليه‌السلام فشكى إليه ذلك. قال سليمان : فاعتل الرضا عليه‌السلام علة خفيفة وعاده الناس ، فالتقيت بعلي بن عبيد الله وقلت له : قد جاءك ما تريد : قد اعتلّ أبو الحسن علة خفيفة وقد عاده الناس ، فإن أردت الدخول عليه فاليوم. فجاء إلى أبي الحسن عائداً ، فلقيه أبو الحسن بكل ما يحبّ من التكرمة والتعظيم ، ففرح بذلك علي بن عبيد الله فرحاً شديداً.

ثمّ مرض علي بن عبيد الله فعاده أبو الحسن وأنا معه ، فجلس حتّى خرج من كان في البيت ثمّ خرج.

وكان علي متزوجاً ابنة عمه أُم سلمة ابنة عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين عليهما‌السلام ، قال سليمان : فأخبرتني مولاة لها : أنّه لما خرج أبو الحسن خرجت أُم سلمة وانكبّت على موضعه تقبّله وتتمسح به! ثمّ أخبرني علي بن عبيد الله بفعلها ، فأخبرتُ به أبا الحسن فقال : يا سليمان إن ولد علي وفاطمة عليهما‌السلام

__________________

(١) هنا في الطبعتين : الحسن ، ويتكرر ذكره فيهما : الحسين ، وأثبتنا الصحيح.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٤٤.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٤٧.

(٤) رجال النجاشي : ٢٥٦ برقم ٦٧١.


إذا عرَّفهم الله هذا الأمر لم يكونوا كالناس! يا سليمان إنّ علي بن عبيد الله وامرأته وولده من أهل الجنة (١)!

وفي «عمدة الطالب» : أنّ أبا الحسن علي بن عبيد الله الأعرج ، أُمه أُم ولد ، وكان كريماً ورعاً من أهل الفضل والزهد ، بل كان مستجاب الدعوة ، ولذا أوصى إليه ابن طباطبا ، فإن لم يقبل فلأحد ابنيه عبيد الله ومحمّد ، فلم يقبل وصيته له ولا لابنيه ولم يأذن لهما في الخروج معه (٢) وعبّر النجاشي عن هذا قال : لما أراده ابن طباطبا ليبايع أبو السرايا له بعده أبى عليه. وكان مع ابن طباطبا محمّد بن محمّد بن زيد بن علي ، فردّ (الأعرجي) الأمر إليه (٣).

مصير الكوفة وأميرها العباسي :

أنفذ ابن طباطبا أبا السرايا إلى قصر الأمير العباسي الفضل بن العباس وأمره أن لا يبدأه بقتال حتّى يدعوه إلى بيعته. فصار إليه ومعه أهل الكوفة كالجراد المنتشر ، فدعاهم فلم يُصغوا. وكان بين شُرفتين من سور القصر غلام أسود يرمى فلا يسقط له سهم ، فقتل أو جرح رجلاً ممن مع أبي السرايا فوجّه به إلى ابن طباطبا فأمره بقتالهم ، فأمر أبو السرايا غلامه أن يرمي الرامي فرماه بين عينيه فسقط على رأسه فمات وفرّ سائرهم. ومضى الفضل بن العباس إلى الحسن بن سهل ببغداد ، وفُتح باب القصر فدخل من مع أبي السرايا ينتهبون فمنعهم أبو السرايا (٤).

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٥٩٣ ، الحديث ١١٠٩ ، وفي أُصول الكافي ١ : ٣٧٧ ذيل الخبر.

(٢) عمدة الطالب : ٣٢١.

(٣) رجال النجاشي : ٢٥٦ برقم ٦٧١.

(٤) مقاتل الطالبيين : ٣٤٩ عن نصر بن مزاحم وغيره.


جنود بغداد إلى الكوفة :

لما وصل الفضل العباسيّ عامل الكوفة منكفئاً إلى الحسن بن سهل ببغداد ، دعا الحسن زهير بن المسيّب وندبه إلى المسير نحو أبي السرايا وضمّ إليه الرجال وأمده بالأموال ، وأن يودّعه فوراً ويمضي لوجهه ولا ينزل إلّابالكوفة! فسار ابن المسيّب ومعه ابنه أزهر حتّى ورد قصر ابن هُبيرة فنزل به ، وأخرج له مقدمة وجّهها مع ابنه أزهر حتّى نزل سوق أسد.

ووصل الخبر إلى أبي السرايا فخرج من الكوفة بالفوارس من أصحابه عصراً حتّى وصل ليلاً إلى معسكر أزهر بسوق أسد وهم غارّون آمنون فبيَّتَهم وطحنهم وأكثر القتل فيهم ، وانقطع الباقون في الليل منهزمين حتّى وافوا زهيراً بقصر ابن هبيرة. وغنم أبو السرايا أسلحتهم ودوابهم وعاد إلى الكوفة.

وكأن الخبر وصل إلى بغداد فوافت خريطة من جند الحسن إلى ابن المسيّب يأمره أن لا ينزل إلّابالكوفة. فزحف زهير ومضى حتّى نزل قبل القنطرة في عشية باردة.

ووصل خبره إلى الكوفة ونادى أبو السرايا في الناس بالخروج ، فخرجوا حتّى صادفوا زهيراً على قنطرة الكوفة ، فنزلوا وباتوا يوقدون النيران يستدفئون بها ، ويتحارسون طول ليلتهم حتّى أصبحوا.

فلمّا أصبح ابن المسيّب نهد إليهم بعسكره ، وأصوات الطبول والبوقات مثل الرعد العاصف وهم على تعبئة حسنة من الدروع والبيض والجواشن وحلف زهير أن لا يتغدى إلّافي المسجد الجامع بالكوفة! وأبو السرايا يسكّن من معه ويحثهم.

وكان مع أهل الكوفة الحسن بن هذيل الزيدي من أصحاب الحسين الحسني قتيل فخّ ، فأخذ يمرّ عليهم ناحية فناحية ويناديهم : يا معشر «الزيدية» السعيد من حاط دينه والرشيد من وفى لله بعهده وحفظ محمّداً في «عترته» ونحو هذا.


ووقف أبو السرايا على القنطرة فخرج إليه رجل من أهل بغداد وجعل يشتمه بالزنا ، فلمّا همّ أن ينصرف حمل عليه أبو السرايا حتّى قتله ثمّ حمل على عسكرهم حتّى خرج من خلفهم ثمّ رجع ودعا بغلام من غلمانه ونفر من أصحابه وأمره أن يمضي بهم حتّى يصير من وراء جنود بغداد كميناً ، فمضى الغلام مع من معه قاصداً لما أمره به. ووقف أبو السرايا على القنطرة طويلاً حتّى ظنّ أن الكمين الذي بعثه قد انتهى إلى حيث أمره. ثمّ ضرب فرسه وأومأ بيده نحو الكمين الذي بعثه وصاح بأهل الكوفة! احملوا ، وحمل وتبعوه ، والتفت عسكر زهير نحو إشارة أبي السرايا! وكان إلى جانبه غلامه سيّار فخالط هو وغلامه العسكر وتبعه أهل الكوفة ، ثمّ صاح بغلامه أن يحمل على صاحب العلم فحمل عليه حتّى قتله وسقط علمهم وانهزموا! وتبعهم أبو السرايا يناديهم : من نزل عن فرسه فهو آمن! فأخذوا يترجّلون وأصحاب أبي السرايا يركبون ، وتبعوهم حتّى جاوزوا قرية «شاهي» من قرى الكوفة. وكان أبو السرايا يتابع ابن المسيّب فالتفت إليه هنا وناداه : ويحك! أتريد هزيمة أكثر من هذه؟! إلى أين تتبعني؟! فتركه أبو السرايا وعاد.

وصار أهل الكوفة إلى عسكر زهير بن المسيّب وقد أُقيمت مطابخه وأُعدّت ، فغنموا من عسكره غنيمة لم يغنموا مثلها ، وأكلوا ذلك الطعام وقد أصابهم جهد وجوع شديد. وعاد أبو السرايا ومن معه إلى الكوفة وقد لبسوا السلاح ، وركبوا الخيول وفي صدورها رؤوس كثيرة وعلى الرماح ، ومعهم خلق كثير من الأسرى (١).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٤٩ ـ ٣٥٢ عن نصر بن مزاحم وغيره.


جنود بغداد إلى الكوفة ثانية :

تسيّب ابن المسيّب حتّى استتر في بغداد ، وبلغ خبره إلى الحسن بن سهل فأمر بإحضاره ، وادخل عليه وبيده عمود حديد فلمّا رآه رماه به فشتر عينه وأمر بقتله فشفعوا له حتّى عفى عنه.

ثمّ دعا الحسن عبدوس بن عبد الصمد وضمّ إليه ألف فارس وثلاثة آلاف راجل فحلف له أن يبيح الكوفة ويقتل مقاتليها ويسبى ذراريها ثلاثاً! وأمره الحسن أن لا يأخذ على الطريق الذي انهزم فيه ابن المسيّب ، لئلّا يرى أصحابه بقايا قتلى عسكره فيجبنوا من ذلك ، فأخذ الطريق الجامع.

وبلغ خبره إلى أبي السرايا ، فصلّى الظهر ثمّ جرّد من يثق به من فرسانه وأغذّ السير بهم حتّى قرب من الطريق الجامع ، فوقف وفرّق أصحابه ثلاث فرق : فهو في جانب السوق وغلامه سيّار على الطريق الجامع وغلامه أبو الهرماس على طريق القُريّة ، وجعل شعارهم : يا فاطمي يا منصور! وليحملوا دفعة واحدة من جوانب عسكر عبدوس.

ففعلوا ذلك وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وجعل الجُند يتهافتون في الفرات طلباً للنجاة فغرق كثير منهم والفصل شتاء. ولقى أبو السرايا عبدوس فكشف خوذته عن رأسه وصاح : أنا أبو السرايا وحمل عليه ، فولّى عبدوس وتبعه أبو السرايا حتّى ضربه على رأسه وخرّ عن فرسه صريعاً! وانهزم الجمع وولّوا الدبر. وانتهبوا عسكر عبدوس فأصابوا منهم غنيمة عظيمة ، وانصرفوا إلى الكوفة بأسلحة وقوة.

وبلغ خبرهم إلى ابن طباطبا بالكوفة وهو طريح فراش الموت ، ودخل عليه أبو السرايا فقال له ابن طباطبا : أنا أبرأ إلى الله مما فعلت! فما كان لك أن تبيّتهم ولا نقاتلهم حتّى تدعوهم! وما كان لك أن تأخذ من معسكرهم إلّاما أجلبوا به من السلاح علينا.


فقال أبو السرايا : يابن رسول الله ، كان هذا من تدابير الحرب ولا اعاود مثله (١)!

مصير ابن طباطبا وخليفته :

روى الاموي الزيدي عن نصر بن مزاحم وغيره قالوا : لما دنا أجل ابن طباطبا وعنده أبو السرايا قال له : اوصيك بتقوى الله والمقام على الذبّ عن دينك ، ونصرة «أهل بيت» نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله! فإنّ أنفسهم موصولة بنفسك ، وولّ الناس الخيرة في من يقوم مقامي من «آل علي» فإن اختلفوا فالأمر إلى علي بن عبيد الله (الأعرج) فإني قد بلوت طريقته ورضيت دينه! ثمّ مات ، وكتم أبو السرايا موته حتّى كان الليل فأخرجه مع نفر من «الزيدية» إلى «الغريّ» فدفنه هناك.

فلمّا كان الغد جمع الناس فخطب ونعى إليهم محمّدَ بن إبراهيم وعزّاهم عنه ، فأعظموا موته وارتفعت أصواتهم بالبكاء عليه ، ثمّ قال لهم : وقد أوصى أبو عبد الله إلى من اختاره وهو أبو الحسن علي بن عبيد الله (الأعرج) فإن رضيتم به وإلّا فاختاروا لأنفسكم (٢).

هذا وقد مرّ الخبر عن «عمدة الطالب» : أن ابن طباطبا أوصى بالأمر إليه ، فإن لم يقبل فلأحد ابنيه عبيد الله ومحمّد ، فلم يقبل وصيته ولا أذن لابنيه بالخروج إليه (٣) وعن النجاشي قال : أراده ابن طباطبا ليبايع له أبو السرايا بعده فأبى عليه ، وردّ الأمر إلى محمّد بن محمّد بن زيد بن علي (٤).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ عن نصر بن مزاحم وغيره.

(٢) المصدر السابق : ٣٥٤.

(٣) عمدة الطالب : ٣٢١.

(٤) رجال النجاشي : ٢٥٦ برقم ٦٧١.


وافترض أبو الفرج حضور محمّد بن محمّد بن زيد وهو غلام حدث السن! قال : فقام وقال : يا آل عليّ! إنّ دين الله لا يُنصر بالفشل ، وليست يد هذا الرجل عندنا بسيئة وقد أدرك الثأر وشفى الغليل! وافترض أبو الفرج حضور علي بن عبيد الله (الأعرج) وأنّ محمّداً قال له : امدد يدك نبايعك فقد وصّانا بك! فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال له فيما قال : فامض رحمك الله لأمرك واجمع شمل ابن عمك ، فقد قلّدناك الرياسة علينا وأنت «الرضا» عندنا الثقة في أنفسنا! ورضي به أبو السرايا فجذبوا يده وبايعوه (١).

عمّال الزيدي على البلاد :

قال أبو الفرج الزيدي : ثمّ فرّق محمّد بن محمّد بن زيد ـ وهو غلام حدث السنّ ـ عمّاله :

فولّى إسماعيل بن علي بن إسماعيل الجعفري خلافته على الكوفة ، وولّى روح بن الحجاج شرطته ، وولّى أحمد بن السريّ الأنصاري رسائله ، وولّى عاصم بن عامر القضاء ، وولّى نصر بن مزاحم المنقري التميمي السوق. وعقد لابراهيم بن موسى بن جعفر على اليمن ، وولّى أخاه زيد بن موسى بن جعفر الأهواز ، وولّى العباس بن محمّد الجعفري البصرة ، وعقد لجعفر بن محمّد بن زيد بن علي والحسين بن إبراهيم الحسني على واسط ، وولّى الحسين بن الحسن الحسيني الأفطس مكة والموسم ، فخرجوا إلى أعمالهم ، وتوجّه الأفطس إلى مكة للموسم فلم يمنعه أحد فأقام الحج سنة (١٩٩ ه‍).

وخرج إبراهيم بن موسى بن جعفر إلى اليمن فكانت بينهم وقعة في مدة يسيرة ثمّ أذعنوا له بالطاعة!

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٤.


وخرج جعفر الزيدي والحسين الحسني إلى واسط ، وكان عليها نصر البجلي فخرج إليهما وتقاتلا قتالاً شديداً ثمّ انهزم البجلي ، فدخلا واسط وتألفا الناس وجبيا الخراج.

وخرج الجعفري صاحب البصرة إليها ، وخرج زيد بن موسى بن جعفر إلى الأهواز واجتمع بالجعفري بالبصرة في طريقه إلى الأهواز ، وكان على البصرة الحسن بن علي المأمون البادغيسي فخرج إليهما يقاتلهم فقاتلوه حتّى هزموه وحووا عسكره. ودخل زيد بن موسى البصرة فأحرق دور بني العباس بها فلُقّب بزيد النار (١)!

ابن أعين لأبي السرايا واستيلاؤه على المدائن :

كان المأمون بعد قتل الأمين أوكل أمر العراق إلى الحسن بن سهل وأرسل طاهر بن الحسين إلى الجزيرة ، واستردّ إليه هرثمة بن أعين ، واشتغل ابن سهل بأمر ابن طباطبا وأبي السرايا وخرج هرثمة نحو خراسان ، وكأنه اضطرّ ابن سهل إلى هرثمة ، وخشي أن لا يجيبه إلى ما يريد وكان السندي بن شاهَك أقرب إليه فدعا الحسن بالسنديّ وكتب معه إلى هرثمة يأمره بالقدوم عليه وسأله التعجيل وترك التلوّم.

فخرج السندي بكتاب الحسن إلى هرثمة فلحقه في حُلوان (في طريق كرمانشاهان) فأوصل الكتاب إليه يسأله فيه العود إلى بغداد لحرب أبي السرايا ، فامتنع وأبى. وتوسّل ابن سهل إليه بالمنصور بن المهدي العباسي فكتب كتاباً إلى هرثمة بذلك ، فلمّا قرأه أخذ يدعو على الحسن وقال : فعل الله بالحسن بن سهل

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٥.


وفعل! فإنه عرّض هذه الدولة للذهاب وأفسد ما صلح منها! نوطئ نحن الخلافة ونمهّد لهم أكنافها ، ثمّ يستبدّون بالأُمور ويستأثرون بالتدبير علينا! فإذا انفتق عليهم فتق بسوء تدبيرهم وإضاعتهم الأُمور أرادوا أن يصلحوه بنا! ثمّ أمر فضربوا الطبول وانكفؤوا بالخيول حتّى صار إلى النهروان قُبيل بغداد. وكان أولياء العباسيين وقوّاد أهل بغداد تواعدوا لاستقباله ، فاستقبلوه إلى النهروان وترجّلوا ودعوا له ، فدخل بغداد في جمع عظيم ودخل منزله.

وأمر الحسن فنقلوا إليه دواوين الجيوش ليختار منهم ، وأطلق له بيوت الأموال! وجعل معسكره في الياسرية ، فصار في نحو ثلاثين ألف ما بين فارس وراجل ، ثمّ نادى بالرحيل إلى الكوفة.

وكان على المدائن الحسين بن علي أبو البط عامل بغداد ، فعقد لها أبو السرايا لمحمد بن إسماعيل بن الأرقط من أحفاد علي بن الحسين عليه‌السلام ومعه العباس الطبطبي والمسيّب في جمع عظيم ، وبلغ خبرهم إلى أبي البط فخرج بجمعه إليهم فالتقوا في ساباط المدائن واقتتلوا قتالاً شديداً ، حتّى هُزم أبو البط واستولى محمّد بن إسماعيل الحسيني على المدائن (١).

فوجّه الحسن بن سهل : عليّ بن أبي سعيد وحمّاد التركي بجمع معهم إلى المدائن ، فقاتلوا محمّد بن إسماعيل الحسيني فهزموه واستردّوا المدائن. وكأن الخبر بلغ إلى أبي السرايا فمضى من فوره ليلاً يريد المدائن ، فوجد المسوِّدة (العباسية) قد استولوا عليها ووجد أصحابه قد اخرجوا منها ، وكانت بينهم مناوشة ومعه غلامه أبو الهرماس فأصابه حجر عرّادة فقُتل ، فدفنه بها وعاد نحو قصر ابن هبيرة (٢).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٦ ـ ٣٥٧ عن نصر بن مزاحم وغيره.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٦١.


ابن أعيَن يلاحق أبا السرايا :

قالوا : لما خرج ابن أعيَن لأبي السرايا عسكر في شرقيّ نهر صَرصر .. فلمّا صار أبو السرايا في رحب قصر ابن هُبيرة ، صار هرثمة إليه فلحقه هناك فقاتله قتالاً شديداً فهُزم أبو السرايا فمضى حتّى نزل الجازيّة فتبعه هرثمة وكسر الفرات فصبّه في الآجام والغيظان في شرقي الكوفة فقطع الفرات عن الجازية ، ثمّ نهد هرثمة من نحو الرصافة إلى الكوفة.

وخرج إليه أبو السرايا فعبّأ له أصحابه ، على الميمنة الحسن بن هُذيل ، وللميسرة جُرير بن الحصين ، وهو في القلب فحمل حملة في من معه فانهزم أصحاب هرثمة حتّى عبروا الفرات ، فعاد أبو السرايا بهم إلى الكوفة. وأخبره جاسوسه أنّ هرثمة يريد حربه في تاسع ذي القعدة فخرج فيه إلى نحو الرصافة تحت القنطرة وعبّأهم ولم يبعد حتّى أقبلت خيل هرثمة فاقتتلوا قتالاً شديداً ، وقُتل الحسن بن الحسين بن زيد بن علي ، وقُتل غلام أبي السرايا : أبو كُتلة ، وكشف أبو السرايا رأسه وجعل يحرّضهم ثمّ حمل فخرج إليه قائد من قوّادهم فتناوشا حتّى ضربه أبو السرايا فقدّ بيضته إلى سرج فرسه ، فانهزمت المسوّدة (العباسيّة) هزيمة قبيحة ، وتبعهم أهل الكوفة حتّى بلغوا قرية تُدعى صعنب ، فنادى أبو السرايا : يا أهل الكوفة ، احذروا كرّهم بعد الفرّة فإن «العجم» قوم دُهاة!

وكان هرثمة قد خلّف من عسكره خمسة آلاف عليهم عبيد الله بن الوضّاح ، فناداهم : يا «أهل خراسان» وحثّهم وحمل بهم على أهل الكوفة فقتل منهم مقتلة عظيمة. وكان عبد سندي أسود قد أسر هرثمة فوجدوه فقتلوا العبد وحلّوا وثاق هرثمة وعاد إلى معسكره. وتكررت الوقائع في كل يوم أو يومين (١).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٦١ ـ ٣٦٣ عن نصر بن مزاحم وغيره.


مَكر هرثمة وخطبة أبي السرايا ومصيره :

وصاح هرثمة : يا أهل الكوفة! إن كان قتالكم إيانا كراهة لإمامنا ، وإن أحببتم إخراج الأمر من ولد العباس فانصبوا إمامكم ونتّفق ليوم الاثنين نتناظر فيه! فناداهم أبو السرايا ويحكم إنّ هذه حيلة من هؤلاء «الأعاجم» فاحملوا عليهم! فامتنعوا وقالوا : لا يحلّ لنا قتالهم وقد أجابوا! فعاد بهم إلى الكوفة ، في آخر يوم من عام (١٩٩ ه‍).

فلمّا كان يوم الجمعة للحادي عشر من محرم سنة (٢٠٠ ه‍) خطبهم أبو السرايا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال لهم : يا أهل الكوفة! يا قتلة عليّ ويا خذلة الحسين! إنّ المعتزّ بكم لمغرور وإنّ المعتمد على نصركم لمخذول ، وإنّ الذليل لمن أعززتموه! والله ما حمد علي عليه‌السلام أمركم فنحمده ، ولا رضي مذهبكم فنرضى به ، ولقد حكّمكم فحكمتم عليه ، وائتمنكم فخنتم أمانته ووثق بكم فحلتم عن ثقته ؛ ثمّ لم تنفكّوا عليه مختلفين! ولطاعته ناكثين! إن قام قعدتم وإن قعد قمتم ، وإن تقدّم تأخّرتم وإن تأخّر تقدّمتم ، خلافاً عليه وعصياناً لأمره! حتّى سبقت فيكم دعوته فخذلكم الله بخذلانكم إياه! إنّما أنتم كفيء الظل تهزمكم الطبول بأصواتها وتملأ قلوبكم الخِرق «بسوادها» أما والله لأستبدل بكم قوماً يعرفون الله حق معرفته ، ويحفظون محمّداً في «عترته» ثمّ أنشأ يقول شعراً :

ومارست أقطار البلاد فلم أجد

لكم شبهاً فيما وطئت من الأرض!

خلافاً وجهلاً وانتشار عزيمة

ووهناً وعجزاً في الكريهة والخفض!

لقد سبقت فيكم إلى الحشر «دعوة»

فلا عنكم راض ، ولا فيكم مرضي!

سأبعد داري عن قلاً عن دياركم

فذوقوا إذا ولّيت عاقبة البغض!

فقام جمع منهم وقالوا : لقد صبرنا في ركابك وثبتنا مع لوائك حتّى أفنتنا الوقائع وما بعد فعلنا غاية إلّاالموت ، فامدد يدك نبايعك على الموت لا نرجع


حتّى يفتح الله لنا أو يقضي قضاءه! فأعرض عنهم ولم يجبهم إليه ، ولكنّه نادى فيهم بالخروج لحفر الخندق.

فخرج الناس لحفر الخندق عليهم يوم السبت (١٢ محرم عام ٢٠٠ ه‍) وأوعز إلى قوم من أهل الكوفة من الأعراب ، وإلى نفر من العلويين معه فارتحل هو ومحمّد بن محمّد بن زيد في أواخر الثلث الأول من ليلة الأحد (١٣ محرم) إلى القادسية ، فأقام بها ثلاثاً حتّى لحق به من أراد من أصحابه ثمّ مضى على طريق البرّ أسفل الفرات نحو البصرة وهو يرى أنها في حكمه! هذا وقد قصدها خلق كثير من المسوّدة (العباسية) فتغلّبوا بها ونفوا عمّاله عنها ، ولقيه أعرابي منها فأخبره خبرها ، فعدل عنها وأراد أن يسير إلى واسط فأخبره الرجل أنها بمثل ما ذكر له عن البصرة! فاستشاره أين يسلك؟ فقال له : أرى أن تعبر دجلة إلى ما بين جوخى والجبل ، فيلحق بك من أراد صحبتك من أعراب السواد وأكراده ومن يرى رأيك من أهل الأمصار والطساسيج (القرى).

فسلك أبو السرايا ذلك الطريق ، فجعل لا يمرّ بناحية إلّاجبى خراجها وباع ما جمع من غلّاتها ، حتّى صار إلى الشوش ، ثمّ عمد إلى الأهواز ، وكان عليها الحسن بن علي المأموني فوجّه إلى أبي السرايا : أنّه يكره قتاله ويسأله الانصراف عنه إلى حيث يريد ، فأبى أبو السرايا إلّاقتاله ، فخرج المأموني إليه ، وخرج أهل الشوش فأتوهم من خلفهم ، وثبت العلويون مع محمّد بن محمّد بن زيد و «الزيدية» ثمّ هُزموا وتبعهم أصحاب المأموني يقتلونهم حتّى تقطعت دوابّهم وأجنّهم الليل فتفرقّوا.

ومضى أبو السرايا إلى طريق خراسان حتّى نزلوا قرية تدعى «برقان» وكان يتقلّد تلك الناحية حمّاد الگُندگوش ، فأخبره رجل بخبرهم فأعطاه عشرة آلاف درهم! ووجّه إليهم خيلاً ولحقهم بنفسه فآمنهم على أنفسهم على


أن يرسلهم إلى الحسن بن سهل ببغداد ، وقبلوا منه ذلك فحملهم إليه ، فقتل الحسن أبا السرايا وغلامه أبا الشوك ثمّ أمر برأسه فصُلب في الجانب الشرقي وصُلب بدنه في الجانب الغربي ومعه غلامه أبو الشوك.

وحُمل محمّد بن محمّد إلى المأمون فتعجّب المأمون من حداثة سنّه ، لكنّه أمر له بدار مفروشة وخادم فأسكنه فيها أربعين يوماً ، ثمّ دسّ إليه شربة مسمومة فكان تختلف حشوته حتّى توفي في مرو (١).

أمّا أهل الكوفة فإنهم لما افتقدوا أبا السرايا ومن معه خرج جمع منهم إلى هرثمة فسألوه الأمان للناس ، فأجابهم وآمنهم وولّى عليهم غسّان بن الفرج ، وأقام أياماً بظهر البلد حتّى أمنوا ثمّ ارتحل إلى بغداد (٢).

جمع من الشيعة عند الرضا عليه‌السلام :

في سنة (١٩٩ ه‍) سنة أبي السرايا ولعلّه في موسم الحج ، حضر ستة عشر رجلاً من شيعة بغداد معهم المتكلمان : هشام بن الحكم ويونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين ، على باب أبي الحسن الثاني الرضا عليه‌السلام فخرج إليهم مسافر غلام الرضا عليه‌السلام فاستأذنوه للدخول إليه ، فدخل إليه وخرج وقال : يونس بن عبد الرحمن وآل يقطين (يدخلون) ثمّ يدخل الباقون رجلاً رجلاً.

قال الراوي : هشام بن إبراهيم الجبلي المشرقي البغدادي : سلّمنا وجلسنا ، فقال له جعفر بن عيسى : يا سيدي نشكو إلى الله وإليك ما نحن فيه من أصحابنا! فقال : وما أنتم فيه منهم؟ قال : جعفر : هم والله يا سيدي يزندقوننا ويكفّروننا

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٦٣ ـ ٣٦٦ عن نصر بن مزاحم وغيره.

(٢) المصدر السابق : ٣٦٤.


ويتبرأون منا! فقال : وهكذا كان أصحاب علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر وموسى ، ولقد كان أصحاب زرارة يكفّرون غيرهم وغيرهم كانوا يكفّرونهم!

قال الراوي هشام المشرقي البغدادي : وكان الشيخان يونس وهشام حاضرَين ، فقلت له : يا سيدي نستعين بك على هذين الشيخين يونس وهشام فهما علّمانا هذا الكلام ، فإن كنا يا سيدي على هدى ففزنا ، وإن كنا على ضلال فهذان أضلّانا فمرنا نتركه ونتوب إلى الله منه ، وادعُنا إلى دين الله نتّبعك يا سيدي.

فقال : ما أعلمكم إلّاعلى هدى! جزاكم الله على الصحبة القديمة والحديثة خيراً!

فقال جعفر : إن صالحاً وأبا الأسد حكيا أنهما حكيا لك شيئاً من الكلام ، فقلتَ لهما : ما لكما والكلام إنه يثنيكم إلى الزندقة! فقال : ما قلت لهما ذلك ، أنا قلت ذلك؟! والله ما قلت لهما!

وقال يونس : جعلت فداك ؛ إنهم يزعمون أنا زنادقة! فقال له : لو كنت مؤمناً فقالوا : هو زنديق ما كان يضرك منه؟! ولو كنت زنديقاً فقالوا لك : هو مؤمن ما كان ينفعك من ذلك؟!

فقال جعفر : عندنا «كتاب الجامع» فيه جميع ما تكلم الناس فيه عن آبائك عليهم‌السلام وإنما نتكلم عليه ، وقلتُ مثله فقال : فإذا كنتم لا تتكلمون بكلام آبائي عليهم‌السلام فتريدون أن تتكلموا بكلام أبي بكر وعمر (١)؟!

محمّد بن سليمان على المدينة :

لم يذكر الأموي الزيدي تعيين أبي السرايا أو محمّد بن محمّد الزيدي

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٤٩٨ ، ٤٩٩ ، الحديث ٩٥٦.


عاملاً على المدينة ، وذكره الطبري قال : والذي وجّهه إلى المدينة محمّد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنّى ، وكان الوالي على مكة والمدينة داود بن عيسى العباسي ، ولم يقاوم أحد محمّد بن سليمان (١).

وروى الصدوق بطريق إلى محمّد بن الأثرم الذي جعله محمّد بن سليمان على شرطته قال : اجتمع عليه أهل بيته وغيرهم من قريش فبايعوه ، ثمّ قالوا له : لو بعثت إلى أبي الحسن علي بن موسى عليه‌السلام فكان معنا وكان أمرنا واحداً. قال محمّد بن الأثرم : فقال لي محمّد بن سليمان : اذهب إليه فاقرأه السلام وقل له : إنّ أهل بيتك اجتمعوا وأحبوا أن تكون معهم ، فإن رأيت أن تأتينا فافعل.

قال ابن الأثرم : وكان أبو الحسن علي بن موسى يومئذٍ في حمراء الأسد (على ثمانية أميال من المدينة) فذهبت إليه فأديت إليه ما أرسلني به ، فقال لي : اقرأه مني السلام وقل له : إذا مضى عشرون يوماً أتيتك. قال ابن الأثرم : فعدت وأبلغت محمّد بن سليمان ما أجاب به أبو الحسن علي بن موسى. ثمّ مكثنا أياماً فلمّا كان اليوم الثامن عشر من ذلك جاءنا ورقاء بن جميل قائد الجلودي فقاتلنا وهُزمنا ، وخرجت أنا هارباً نحو الصورَين (من ضواحي المدينة) ورأيت أبا الحسن فقال لي : مضت العشرون يوماً أم لا (٢)؟!

وحسين الحسيني الأفطس على مكة :

مرّ الخبر أنّ محمّد بن محمّد الزيدي ولّى ابن عمه الحسين بن الحسن بن زيد مكة. وكان العباسيون يكسون الكعبة سوادهم ، فأمر أبو السرايا أن يصنع

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣١ ـ ٥٣٢.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٧ ، الحديث ٩.


للكعبة كِسوة من قزّ رقيق أبيض ويكتب عليها : «أمر به الأصغر بن الأصغر أبو السرايا داعية «آل محمّد» لكسوة بيت الله الحرام وأن يطرح عنه كسوة الظلمة من ولد العباس لتطهر من كسوتهم. وكتب في سنة تسع وتسعين ومئة» ووجّه بها إلى الأفطس ليكسو بها الكعبة (١).

فمضى حسين بن الحسن يريد مكة ، فلمّا بلغ داود بن عيسى العباسي توجيه أبي السرايا الحسين بن الحسن إلى مكة لإقامة الحجّ للناس قال : لا أستحل القتال في الحرم ، وانحاز داود من مكة إلى ناحية المُشاش في طريق العراق ، وافتعل كتاباً من المأمون بتولية ابنه محمّد بن داود على صلاة الموسم وقال له : اخرج (يوم التروية) فصلّ بالناس بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبِت بمنى وصلّ بهم الصبح ، ثمّ اركب دوابك إلى عرفة فخذ على يسارك في شعب عمرو إلى طريق المُشاش ببستان ابن عامر.

وتوقّف حسين بن الحسن في منزل سَرف يرهب أن يدخل مكة فيقاتل دونها ، فخرج إليه قوم من أهلها ممن يميل إلى الطالبيين فأخبروه أنّ مكة ومنى وعرفة قد خلت من السلطان وأنهم قد خرجوا إلى العراق. فدخل حسين بن الحسن فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة ثمّ مضوا إلى عرفة فأدركوا عرفة مساءً فوقفوا بها ساعة ليلاً ، ثمّ عاد إلى المزدلفة سحراً فصلّى بهم فجراً ، ثمّ أقام أيام الحج بمنى وبقي بها حتّى انقضت سنة (١٩٩ ه‍) (٢).

فلمّا تفرق الحجاج وفي أول يوم من المحرم عام (٢٠٠ ه‍) دخل حسين الأفطس بجمعه إلى المسجد الحرام وطُرحت له نمرقة خلف المقام فأمر بنزع

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٦.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٢ ـ ٥٣٣.


كسوة الكعبة ثمّ كساها الثوبين الرقيقين من القزّ الذَين بعث بهما أبو السرايا ، وأمر بالكسوة السابقة فقُسّمت بين العلويين من أصحابه وأتباعهم على قدر منازلهم عنده ، ثمّ عمد إلى ما في خزانة الكعبة من مال فأخذه. ثمّ لم يسمع بوديعة لأحد من ولد العباس عند أحد إلّاهجم عليه في داره ، فإن وجد شيئاً أخذه وإلّا حوّله على رجل معه من أهل الكوفة يدعى محمّد بن مَسلمة أنزله في دار خالصة عند الحنّاطين ، فيحبسه ويعذّبه حتّى يفتدي نفسه بما يقدر عليه ، ويقر بمحضر الشهود أنّ ذلك «للمسودّة» من بني العباس وأتباعهم ، وحتّى عمّ ذلك خلقاً كثيراً ، فسمي ذلك الدار «دار العذاب» وخاف الناس فهرب منهم خلق كثير من أهل النعم ، فتعقّبوهم بهدم دورهم (١)!

محمّد بن جعفر بعد محمّد بن محمّد :

شاطر بعض أبناء الصادق عليه‌السلام في تفريق شيعة أبيه بعده ، منهم محمّد بن جعفر أخو موسى عليه‌السلام من أُم واحدة هي حميدة. دخل ذات يوم على أبيه وهو صبي صغير فاشتدّ يعدو نحوه فعثر بقميصه وسقط لوجهه ، فقام الإمام وحمله وقبّل وجهه ومسح التراب عنه بثوبه وضمه إلى صدره وقال : قال لي أبي محمّد بن علي : «يا جعفر إذا ولد لك ولد يُشبهني فسمّه باسمي وكنّه بكنيتي فهو شبيهي وشبيه رسول الله وعلى سنّته» وكان يحيى بن أبي السمط حاضراً فاكتفى بهذا كأ نّه نصّ في إمامة محمّد بن جعفر ، فقال بعده بإمامته ، وتبعه بعض شيعة أبيه فقيل لهم «السمطية» نسبة إلى ابن أبي السمط يحيى (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٦ ـ ٥٣٧.

(٢) فرق الشيعة : ٧٦ ، وعنه في المقالات والفرق : ٨٦.


هذا وقد قال فيه المفيد : إنّه كان يرى رأي الزيدية في الخروج بالسيف (١) فلعلّه إنّما رأى رأيهم في هذا فقط ، وإلّا فهو قد وافق قول ابن أبي السمط بإمامته ، بل ترجّى أن يكون هو القائم المهديّ! فقد نقل الزيدي الأموي : أنّه أصاب إحدى عينيه شيء فأثّر فيها فسرّ بذلك وقال : إنّي لأرجو أن أكون القائم المهدي! فقد بلغني أنّ في إحدى عينيه شيئاً! وأ نّه يدخل في هذا الأمر وهو له كاره (٢)! وهو يعني بهذا نفسه يدعى أنّه لم يدخل في دعوى الحكم والدولة بل وإمرة المؤمنين إلّا كارهاً لها!

فإنّه لمّا بلغ الأفطس هزيمة هرثمة لأبي السرايا وفراره من الكوفة والبصرة ، وطرْد من بهما من العلويين والطالبيين ، وعودة الولاية بها للعباسيين ، اجتمع هو وأهله على محمّد بن جعفر فقالوا له : أبرز شخصك نبايع لك بالخلافة ، فإنك إن فعلت ذلك لم يختلفوا عليك! فأبى ، ووافقهم ابنه علي بن محمّد فلم يزل هو والأفطس على محمّد بن جعفر حتّى غلباه على رأيه (٣).

وخالفه الإصفهاني فلم يذكر ذلك ، بل روى عن ابن عقدة الزيدي بسنده : أنهم جاؤوه على كتاب بسبّ جميع «أهل البيت» بما فيهم فاطمة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرؤوه عليه ، فقام ودخل بيته فخرج عليهم وقد تقلّد سيفه ولبس درعه وهو يتمثل يقول :

لم أكن من جُناتها ، علم الله

وإني بحرّها اليوم صالي

وبايعه الطالبيون بإمرة المؤمنين : الحسين بن الحسن الأفطس ، ومحمّد بن

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢١١.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٥٩ وانفرد بهذه الدعوى المرفوعة خلافاً للمرويات فيه (عج).

(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٧.


الحسن السَيلق ، وعلي بن الحسين بن عيسى بن زيد ، وعلي بن الحسين بن زيد ، وعلي بن جعفر (ابنه) ومحمّد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى (١) وقد مرّ أنّه كان على المدينة لأبي السرايا ، فيُعلم أنّ هذا كان بعد هزيمته وفراره من المدينة إلى مكة. وأرّخه الطبري بالسادس من ربيع الثاني من عام (٢٠٠ ه‍) (٢).

فلمّا ظهر ودعا إلى نفسه ودُعي أمير المؤمنين! وبويع بالخلافة بمكة ، دخل عليه ابنا أخيه موسى بن جعفر : علي عليه‌السلام وإسحاق فقال له علي عليه‌السلام : يا عم! لا تكذِّب أباك (الصادق) وأخاك (الكاظم) فإنّ هذا الأمر لا يتم! فأبى. قال إسحاق : ثمّ خرج أبو الحسن عليه‌السلام وخرجت معه إلى المدينة ، فلم نلبث إلّاقليلاً حتّى قدم الجُلودي (٣) لحربه وقتاله.

سقوط حكم العلوي بمكة :

مرّ خبر مصير محمّد بن سليمان الحسني بالمدينة وهزيمته بقتال ورقاء بن جميل من قوّاد عيسى بن يزيد الجُلودي القائد العباسي ، فورقاء هذا بعد أن فرغ من أمر محمّد بن سليمان بالمدينة توجّه تلقاء مكة. وكان على اليمن إسحاق بن موسى العباسي وقد خرج منها نحو مكة فنزل قريباً منها في طريق العراق وهو في الخيل والرجال ، والتقى به ورقاء بن جميل في أصحابه ومن كان معه من أصحاب الجُلودي فقالوا له : ارجع معنا إلى مكة ونحن نكفيك قتال محمّد بن جعفر العلوي.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٩. وفيه : علي بن جعفر بن محمد ، والصحيح : ما أثبتناه ، فإنّ علي بن جعفر لم يكن معهم.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٧ ، الباب ٤٧ ، الحديث ٨.


فعاد معهم إلى مكة حتّى نزلوا بمنزل المُشاش إلى جهة عرفات. وعرف بالخبر أصحاب محمّد بن جعفر العلوي فبعثوا إلى من حولهم من الأعراب ففرضوا لهم وخندقوا بأعلى مكة ليقاتلوا فيه ، فاجتمع إلى محمّد بن جعفر من كان معه من غوغائها ومن سودان أهل المياه ومن فرضوا له من الأعراب ، فعبّأهم في بئر ميمون.

وأقبل إليهم إسحاق بن موسى العباسي وورقاء بن جميل قائد الجُلودي بمن معهما من القواد والجند فقاتلهم ببئر ميمون فكان بينهم قتلى وجرحى يوماً وآخر حتّى بدأت هزيمة أصحاب العلوي ، فلمّا رأى ذلك أحضر قاضي مكة ورجالاً من قريش وأرسلهم يسألون لهم الأمان حتّى يخرجوا من مكة ويذهبوا حيث شاؤوا. فأجابهم إسحاق وورقاء إلى ذلك في ثلاثة أيام ، وذلك في جمادى الآخرة (٢٠٠ ه‍).

وكان الجُلودي قد أرسل ورقاء والياً على مكة ، فدخلها في اليوم الثالث ، وتفرّق الطالبيون من مكة فذهب كل قوم ناحية (١).

إبراهيم بن موسى على اليمن :

يظهر من خبر أنّ إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه‌السلام والذي كان يكنى به أبوه الكاظم عليه‌السلام كان يواكب الواقفة في التوقف عن الإذعان بوفاته ؛ فقد روى الصدوق بسنده عن بكر بن صالح قال : سألته : ما قولك في أبيك؟ فقال : هو حي! قلت : فما قولك في أخيك أبي الحسن؟ قال : هو صدوق ثقة! قلت : فإنه يقول إنّ أباكما قد مضى! قال : هو أعلم وما يقول (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٦ ، الباب ٥ ، الحديث ٤.


وروى الكليني قبله مثله بسنده عن علي بن أسباط أنّه أخبر الرضا عليه‌السلام فقال له : إنّ رجلاً عنى أخاك إبراهيم ، فذكر له (أخوك إبراهيم) أنّ أباك في الحياة وأنت تعلم ذلك؟ فقال الرضا عليه‌السلام : سبحان الله يموت رسول الله ولا يموت موسى؟! قد ـ والله ـ مضى كما مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن الله تبارك وتعالى لم يزل منذ قُبض نبيه وهلم جَرّاً يمن بهذا الدين على «أولاد الأعاجم» ويصرفه عن قرابة نبيّه وهلم جَرّاً! فيعطي هؤلاء ويمنع هؤلاء. لقد قضيت عنه في هلال ذي الحجة ألف دينار بعد أن أشفى على عتق مماليكه وطلاق نسائه! ولكن سمعت منه ما لقي يوسف من إخوته (١) وهو الحسد!

وقد مرّ الخبر أنّ محمّد بن محمّد الزيدي عقد له على اليمن ، وبلغه ذلك وهو وجماعة من أهل بيته بمكة ، فخرج بهم يريد اليمن ، ووالي اليمن المقيم بها من قِبل المأمون : إسحاق بن موسى العباسي ، وكان قد بلغه ما كان من فعل عمه داود بن عيسى العباسي بمكة والمدينة حيث كره القتال بها ، فلمّا سمع بإقبال إبراهيم بن موسى العلوي وقربه من صنعاء كره قتاله ، فخرج بجميع من في عسكره من الخيل والرجال من اليمن إلى طريق نجد وخلّى اليمن وأقبل يريد مكة ، حتّى نزل المُشاش فعسكر هناك.

ودخل إبراهيم صنعاء وصنع بها من قتل الناس والسبي وأخذ الأموال ما أصبح يقال له الجزّار لكثرة من قتل من الناس (٢).

قال المفيد : وتقلّد الإمرة على اليمن في أيام المأمون من قِبل محمّد بن محمّد بن زيد بن علي الذي بايعه أبو السرايا بالكوفة ، ومضى إليها ففتحها

__________________

(١) أُصول الكافي ١ : ٣٨٠ ، الباب ٩٠ الحديث ٢ وصدره في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٩ ، الباب ٢٩ الحديث ١٠٥.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٦.


وأقام بها مدّة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان ، فاخذ له الأمان من المأمون ، وكان كريماً شجاعاً سخياً (١).

وقال التستري : أراد المفيد بذلك الفضل النفساني لا الديني ، فإنّ تقلده إمرة اليمن من قبل أبي السرايا مخالف لطريقة الأئمة عليهم‌السلام (٢).

وكان مع إبراهيم بن موسى رجل من ولد عقيل بن أبي طالب ، فوجهه إبراهيم في جند كثيف ليحجّ بالناس سنة (٢٠٠ ه‍). وكان الحسن بن سهل قد أرسل أبا إسحاق بن هارون الرشيد ومعه قواد كثيرون أميراً للموسم ، منهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان ، أميراً على اليمن ، وعيسى بن يزيد الجُلودي في قواده وجنوده. فلمّا وصل العَقيلي إلى سنان بن عامر بلغه ذلك فأقام هناك ، فمرت به قافلة من التجار من بغداد ومعهم كسوة الكعبة وطيبها ، فأخذها وأموالهم وسلبهم وعراهم وتركهم ، فدخلوا مكة كذلك وبلغ ذلك إلى أبي إسحاق وذلك في الخامس من ذي الحجة عام (٢٠٠ ه‍) فشاور القواد فقال الجلودي : أنا أخرج إليه في خمسين من نخبة أصحابي وخمسين أختارهم من سائر القواد. فخرج في مئة منهم حتّى صبّح العقيلي وأصحابه في بستان ابن عامر فأحدق بهم وأخذ منهم كسوة الكعبة والطيب وأموال التجار ، ثمّ قنع كل واحد منهم عشرة أسواط وخلّاهم فرجعوا إلى اليمن عراة ومات أكثرهم في الطريق عرياً وجوعاً (٣)!

__________________

(١) الإرشاد ٢ : ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٢) قاموس الرجال ١ : ٣٠٦ برقم ٢١٨. وإليه ينتهي نسب السيدين الشريفين الرضي والمرتضى.

(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٥٤١.


مصير محمّد بن جعفر العلوي :

خرج محمّد بن جعفر إلى بلاد جُهينة على الساحل ، وأقام حتّى انقضى موسم الحج لعام (٢٠٠ ه‍) وهو يجمع الجموع. وكان والي المدينة يومئذ هارون بن المسيّب ، فلمّا علم بموضع محمّد بن جعفر وتجميعه الجموع أراد أن يرسل إليه فيأخذه. فلمّا علم بذلك محمّد بن جعفر توجّه بمن اجتمع عنده إلى ميقات الشجرة قرب المدينة يريدها ، فلمّا علم بذلك هارون بن المسيّب خرج إليه بمن معه فقاتله ، فقتل من أصحاب محمّد بن جعفر بشر كثير ، وأصابت نشّابة عينه ، فعاد بمن بقي معه إلى موضعه السابق في بلاد جُهينة عند الساحل (١).

وروى الأموي الزيدي ، عن أحمد بن عبيد الله بن عمّار ، عن علي بن محمّد بن سليمان النوفلي ، ووصفه أبو الفرج : بأنّ علي بن محمّد كان يقول بالإمامة ، وأنّ أكثر حكاياته بل سائرها لا تتجاوز أباه محمّد بن سليمان النوفلي موقوفة عليه ، وهو يومئذٍ مقيم بالبصرة لا يعلم بشيء من أخبار القوم إلّاما يسمعه من ألسنة العامة فيسطره في كتابه! قال : إنّهم رجعوا فأقاموا في جبل ثَبير مدّة ، وطلب هارون بن المسيب من ابن أخي محمّد بن جعفر : علي بن موسى أن يرسله إليه فأرسله فلم يُصِغ إلى رسالته وأقام على الحرب.

ثمّ روى عن محمّد بن علي بن حمزة : أن الجُلودي وجّه إليه خيلاً ، وكان الموضع حصيناً لا يوصل إليه فحاصروه في موضعه ثلاثة أيام فنفد ماؤهم وزادهم ، فجعل أصحابه يتفرقون ويتسللون يميناً وشمالاً ، فلمّا رأى ذلك لبس بُرداً ونعلاً وصار إلى مضرب عسكر الجُلودي فدخل إليه وسألهم الأمان لأصحابه (٢).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٩.

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٦٠.


ونهب دار الرضا عليه‌السلام؟! :

جبل ثَبير مضاف إلى أرض بهذا الاسم وهو من نواحي المدينة ، ولذا نسب هذا الخروج الثاني لمحمد بن جعفر العلوي إلى المدينة في أكثر من خبر ، ومنه ما رواه الصدوق عن علي بن إبراهيم القمي ولعلّه عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن ياسر خادم المأمون : أنّه لما خرج محمّد بن جعفر بن محمّد بالمدينة (ثبير المدينة أو ميقات الشجرة) أمر الجُلودي من أرسله إليه أن يغير على دور آل أبي طالب وأن يسلب نساءهم ولا يدع على واحدة منهن إلّاثوباً واحداً!

فصار (المأمور) إلى باب دار أبي الحسن (الرضا عليه‌السلام) فهجم على داره مع خيله! فأدخل أبو الحسن النساء كلهن في بيت ووقف على باب البيت! فقال (مأمور) الجلودي لأبي الحسن : لابدّ من أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني الأمير! فقال أبو الحسن : أنا أسلبهن لك وأحلف أني لا أدع عليهن شيئاً إلّا أخذته! فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتّى سكن.

فدخل أبو الحسن فلم يدع عليهن شيئاً حتّى أقراطهن وخلا خيلهن وأزرارهن إلّاأخذه منهن ، وجمع ما كان في الدار من قليل وكثير ، فدفعها إليه (١) فيبدو أنّ ذلك كان في هذه الأيام وبلغ ذلك إلى محمّد بن جعفر فاضطرّ لقبول أمان المأمون.

قبول العلوي أمان المأمون :

كان مع الجُلودي القائد رجاء بن أبي الضحاك الخراساني ابن عمّ الفضل

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦١ ، الباب ٤٠ الحديث ٢٤ وفي الخبر نسب المباشرة إلى الجُلودي وهو كان بمكة وأرسل ولم يباشر ، ونسب الأمر إلى هارون الرشيد والصحيح : هارون بن المسيّب أمير المدينة ، والراوي رأى اسم هارون فحسبه الرشيد خطأ!


والحسن ابني سهل ، فأرسل إليه محمّد بن جعفر يطلب منه الأمان ، فضمن له رجاء الأمان على المأمون وعلى الفضل بن سهل وأن لا يُهاج وأن يوفى له بالأمان ، فقبل محمّد بن جعفر بذلك ودخل به إلى مكة وذلك في العشرين من ذي الحجة الحرام عام (٢٠٠ ه‍).

فجمع الجُلودي الناس من قريش وغيرهم عند مقام إبراهيم عليه‌السلام ووضعوا منبراً رقاه الجلودي ، وألبس محمّد بن جعفر قباءً أسود وقلنسوة سوداء وأقاموه تحت الجُلودي بدرجة فقال للناس : أيها الناس ، أنا محمّد بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام وبعد ، فإنّه كان لعبد الله المأمون أمير المؤمنين! في رقبتي بيعة بالسمع والطاعة بالرضا والرغبة ، وكنت أحد الشهود الذين شهدوا في الكعبة لهارون الرشيد على ابنيه محمّد الخلوع وعبد الله المأمون أمير المؤمنين! ألا وقد كانت فتنة غشيت عامة الأرض منّا ومن غيرنا! وكان نُمي إلى خبرٌ أن عبد الله المأمون قد توفي! فذلك هو الذي دعاني إلى أن بايعو لي بإمرة المؤمنين وأنا قبلت ذلك! ألا وقد بلغني وصحّ عندي أنّه حي سوي! ألا وإني أستغفر الله مما دعوتكم إليه من البيعة ، فقد خلعت نفسي من بيعتي التي بايعتموني ، كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي هذه! وقد أخرجت نفسي من ذلك وردّ الله الحق إلى الخليفة المأمون ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة على محمّد خاتم النبيين ، والسلام عليكم أيها المسلمون. ثمّ نزل (١).

وكان معه جماعة من الطالبيين قاتلوا هارون بن المسيب (بالمدينة) قتالاً شديداً ، فيهم الحسين بن الحسن الحسيني الأفطس ، ومحمّد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى ، ومحمّد بن الحسن السيلق ، وعلي بن الحسين بن عيسى بن زيد ، وعلي بن الحسين بن زيد ، وعلي بن (محمّد بن) جعفر فقتلوا

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ : ٥٤٠.


من أصحاب هارون بن المسيب مقتلة عظيمة. فوجّه الجلودي إليهم فحملهم مقيدين في محامل بلا وطاء إلى خراسان (١).

وفي سنة (٢٠١ ه‍) استخلف الجلودي على مكة ابنه محمّد بن عيسى وخرج بهم إلى بغداد (٢) فخرجت عليهم بنو نبهان أو الغاضريون في منزل زبالة إلى العراق ، فحاربوهم حرباً صعبة حتّى استنقذوهم منه ، فمضوا هم بأنفسهم إلى الحسن بن سهل في بغداد ، فأنفذهم إلى خراسان (٣) بمرو مع ابن عمه رجاء بن أبي الضحاك الخراساني (٤) وكان عليه نحو من ثلاثين ألف دينار فقضاها (٥).

حمدويه لإبراهيم في اليمن :

قال اليعقوبي : خلّف الجلودي ابنه بمكة وأخذ محمّد بن جعفر وخرج به بنفسه إلى المأمون في مرو ، فلمّا صار إلى جرجان ورد كتاب المأمون عليه يأمره بالرجوع إلى الحجاز.

فرجع ووجّه حمدويه بن علي إلى اليمن لدفع إبراهيم بن موسى بن جعفر المتغلّب بها ، وكان حمدويه قد استخلف على مكة يزيد بن محمّد المخزومي ، فحارب إبراهيم بمن معه حمدويه في وقائع منكرة تأخذ من الفريقين ، ثمّ خرج إبراهيم من اليمن يريد مكة.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥٩ ـ ٣٦٠ وفيه : علي بن جعفر ، وأثبتنا الصحيح ، فإنّ علي بن جعفر لم يكن معهم.

(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٤٠.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٣٦٠.

(٤) تاريخ الطبري ٨ : ٥٤٠.

(٥) مقاتل الطالبيين : ٣٦٠.


وكان ملك تبّت قد بعث إلى المأمون بصنم من ذهب فبعث المأمون به وبذهب آخر إلى الكعبة ، فلمّا بلغ خبر مجيء إبراهيم إلى مكة أرسل المخزومي إلى حَجَبة الكعبة فأخذ الذهب المبعوث من الصنم وغيره. وضربه دراهم ودنانير ليصرفه في حربه ، وخندق في مكة على نفسه.

وصار إبراهيم إلى مكة فبعث بعض أصحابه فدخلوا مكة من الجبال فهرب المخزومي ، فلحقه بعض أصحابه فقتله ، ودخل إبراهيم إلى مكة فغلب عليها ، وغلب حمدويه على ناحية من اليمن واستمال جماعة منهم ثمّ خلع عن نفسه طاعة المأمون.

وكان أخو إبراهيم : زيد بن موسى بن جعفر قد تغلّب على البصرة وصار معه جماعة من القيسية وغيرهم ، فنهب دوراً وأموالاً كثيرة للناس (من بني العباس) فكان الجلودي قد انصرف إليه لحربه ، فلمّا قرب الجلودي حاربوه يومهم ثمّ انهزموا ، فأخذا الجلودي زيداً وحمله إلى المأمون ، فمنّ عليه المأمون وأطلقه (١).

اضطرابات بالاسكندرية وغيرها :

لم أعلم فيما لديّ دوافع هجرة جماعية أندلسية إلى الاسكندرية ، إلّاأنّ اليعقوبي قال : قدم الأندلسيون في أربعة آلاف مركب! فأرسوا في رمال موانئ الاسكندرية وهم زهاء ثلاثة آلاف رجل!

وكان بنو مُدلِج وبنو لَخم ورئيسُهم أحمد بن رحيم اللخمي قد غلبوا على الاسكندرية.

ثمّ وثب رجل من قوات السلطان على رجل من الأندلسيين فثارت عصبيّتهم فوثبوا على صاحب الشرطة بالاسكندرية فقتلوه ، وحاربوا أهلها حتّى

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩.


خلّوا الديار والأموال وأجلوهم عن منازلهم ، وأجلوا بني مُدْلج وبني لَخْم عن البلد فصار البلد كلّه لهم ، ورأسّوا عليهم عبد الله الصوفي فأخذ يقتل المسلمين ويسفك الدماء فعزلوه ورأّسوا الكناني (١).

وتغلّب على نصيبين وما والاها أحمد الربعي ، وبالموصل السيّد بن أنس ، وفي ميّافارقين موسى اليشكري ، وبأرمينية محمّد بن عتّاب وعبد الملك السلمي ، وبآذربايجان محمّد الأزدي ويزيد اليمني ومحمّد الهمداني وعثمان بن إفكل وعلي الطائي! وبالجبل أبو دُلف العجلي ومرّة الرُديني وعلي بن بَهلول ومحمّد بن زهرة وسنان ، وبالسلسلة وناحيتها بسطام الربعي ، وبكفرتوثا ورأس عين حبيب بن الجهم ، وبكيسوم وما والاها من ديار مضر نصر بن شبث النصري ، وبقورس وما والاها العباس الهلالي ، وفي كور قنّسرين عثمان العبْسي وبحاضرة حلب منع التنوخي ، وبمعرة النعمان وتلّ منس وما والاها من إقليم حِمص الحوازي التنوخي ، وبحماة وما والاها حرّاق البهراني ، وبشيزَر وما والاها بنو بسطام ، وبمدينة حِمص بنو السمط ، وبالثغور الشامية أدنة والمصّيصة ثابت الخزاعي ، وبقصبة الفسطاط والصعيد من مصر السريّ ، وبأسفل الأرض منها عبد العزيز الجروي ، وفي فلسطين والأُردن ودمشق جماعة من سائر القبائل ، وبالحوفين القيسية واليمانية (٢).

وبعد عام من قتل المسلمين في بغداد ملكهم الأمين ، كأ نّما سرى ذلك إلى الروم فقتلوا ملكهم أَليون وملك عليهم ميخائل (٣) ولذلك شُغلوا عن التدشين على المسلمين.

وهنا نختم الكلام في المجلد السابع ، وفي الثامن نبدأ بأخبار تولية المأمون عهده للرضا عليه‌السلام

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٤٥ ـ ٤٤٦.

(٣) تاريخ ابن الوردي ١ : ٢٠٣.



فهرس الكتاب

عهد الامام الباقر عليه السلام

هلاك الوليد بن عبدالملك......................................................... ٩

أيّام سليمان بن عبدالملك........................................................ ١٠

سليمان يستفتي أبا حزم......................................................... ١٢

أول أمر بني العباس............................................................. ١٤

سليمان في غزو الرومان......................................................... ١٦

من بدع عهد سليمان وعلّة موته.................................................. ١٨

عمر بن عبدالعزيز عزيز سليمان.................................................. ١٩

استخلف عمر بن عبدالعزيز..................................................... ٢٢

سنُّ سبِّ علي عليه السلام ، ومنعُه............................................... ٢٥

فدك وفاطمة عليها السلام والمظالم................................................ ٣٠

عمر بن عبدالعزيز وولاية خراسان................................................. ٣٧

عمر والشعر والشعراء........................................................... ٣٩

مصرع عمر بن عبدالعزيز........................................................ ٤٠

وفد عمر وخبره عند الروم........................................................ ٤٤


عاد يزيد ، في يزيد الجديد....................................................... ٤٥

انتقم من ابن حزم............................................................... ٤٧

انتصر لفاطمة بنت الحسين عليه السلام........................................... ٤٨

خروج ابن المهلّب وقمعه......................................................... ٤٩

ولاية عهده لأخيه هشام......................................................... ٥١

التقيّة في قول الشعبي وابن سيرين................................................. ٥١

يزيد اللهو واللعب.............................................................. ٥٢

أصبح هشام الخليفة والامام...................................................... ٥٥

هشام والباقر عليه السلام في المسجد الحرام......................................... ٥٦

الباقر عليه السلام عند هشام بالشام.............................................. ٦٢

أجوبة الباقر عليه السلام للنصراني في الشام........................................ ٦٦

لما توجّه تلقاء ماء مدين.......................................................... ٦٩

هذا ابن أبي تراب............................................................... ٧٢

ثمّ جعل مسلمة على أرمينية...................................................... ٧٤

بدأ العباسيون بخراسان.......................................................... ٧٥

كرامة الصادق في عهد الباقر عليه السلام......................................... ٧٥

سائر اخبار عام (١١٤ هـ)...................................................... ٧٧

الجُنيد المُرّي على سمرقند والسند................................................... ٧٩

مروان في أرمينية وآذربايجان....................................................... ٨٠

خزي المخزوميّ الناصبي.......................................................... ٨١

أمر هشام بقتل جابر الجعفي..................................................... ٨٢

وفاة الامام الباقر عليه السلام.................................................... ٨٣


عهد الامام الصادق عليه السلام

زيد ، الوليد الشهيد ، والامامة................................................... ٨٩

خوارج العراق على خالد......................................................... ٩٤

بيان النهدي والمغيرة البجلي...................................................... ٩٦

تسليط الثقفي لتقسيط القسري................................................. ١٠٢

زيد عند هشام بالشام......................................................... ١٠٤

ثمّ حمل زيداً إلى الكوفة........................................................ ١٠٧

عاد إلى البلاد................................................................ ١٠٩

منازله ومصاهرته ودعوته وبيعته................................................. ١١١

إلى الرضى من آل محمّد........................................................ ١١٤

من أين جاءت الرافضة؟....................................................... ١١٦

كتاب هشام إلى الثقفي....................................................... ١١٨

استبق الموعد زيد.............................................................. ١٢٠

يوم القتال الأول : الأربعاء..................................................... ١٢٣

زيد يُريد أهل المسجد.......................................................... ١٢٥

يوم القتال الثاني : الخميس..................................................... ١٢٥

مصرع زيد ومقتله ومدفنه...................................................... ١٢٧

خطبة الثقفي منتصراً ، وحالته.................................................. ١٢٩

موقف الامام الصادق عليه السلام.............................................. ١٣١

دعاؤه على الهاجي زيداً........................................................ ١٣٣

يحيى بن زيد إلى خراسان....................................................... ١٣٤


مصير يحيى في خراسان......................................................... ١٣٨

أعقب هشاماً ابن أخيه الوليد.................................................. ١٣٩

مصير يحيى في ولاية الوليد...................................................... ١٤١

الخراساني في خراسان.......................................................... ١٤٣

الوليد بن يزيد................................................................ ١٤٥

مصير الوليد بن يزيد.......................................................... ١٤٦

قد ألحد ورمى المصحف........................................................ ١٤٧

أيام يزيد بن الوليد............................................................ ١٤٩

أيام مروان بن محمد............................................................. ١٥١

ثورة «الشیعة» والزيدية بالكوفة!................................................ ١٥٣

أخبار خوارج العراق وولاية ابن هبيرة............................................. ١٥٤

محمّد بن عبدالله الحسني........................................................ ١٥٥

دعوى محمد بن عبدالله المهدوية.................................................. ١٥٨

حجّ المعتزلة يدعون إلى محمد..................................................... ١٦١

بقية أخبار الخوارج............................................................ ١٦٥

ابن هبيرة والامام الصادق عليه السلام........................................... ١٦٦

ميلاد الكاظم عليه السلام..................................................... ١٦٧

نهاية الضحاك الخارجي مع مروان................................................ ١٦٧

الإباضية من حضرموت إلى مكة................................................ ١٦٩

الإباضية من مكّة إلى المدينة.................................................... ١٧١

مروان بن محمد ومحمد الحسني...................................................... ١٧٣

جابر الجعفي ، وابن هُبيرة وقحطبة.............................................. ١٧٤


حوادث خراسان.............................................................. ١٧٥

مقتل ابراهيم العباسي والامام الصادق عليه السلام................................ ١٧٧

عرض الخلافة على الصادق عليه السلام......................................... ١٨٠

سقوط جرجان وإصفهان وهمدان................................................ ١٨٢

ابن هبيرة وعسكر خراسان إلى الكوفة........................................... ١٨٤

السفّاح في العراق ورسل الخلّال في الحجاز........................................ ١٨٧

سقوط الاهواز ومحاصرة واسط.................................................. ١٩٠

إعلان الخلافة العباسية........................................................ ١٩١

بيعة أبي مسلم لأبي العباس..................................................... ١٩٥

قتال مروان بالموصل ثمّ الشام.................................................... ١٩٦

مقتلة بني اُمية بفلسطين........................................................ ١٩٨

سقوط دمشق وإحراق بني اُمية.................................................. ١٩٩

سقوط واسط وابن هُبيرة....................................................... ٢٠٠

متابعة مروان في مصر ومصيره................................................... ٢٠٣

مصير ابنيه عبدالله وعبيدالله.................................................... ٢٠٤

مصير بنات مروان............................................................. ٢٠٥

كاتب الأمويين عند الصادق عليه السلام........................................ ٢٠٧

بنو علي عليه السلام عند بني العباس............................................ ٢٠٨

الصادق عليه السلام في الحيرة.................................................. ٢٠٩

تشيّع هشام لدى الامام عليه السلام............................................ ٢١٢

زيارته لمرقدي علي والحسين عليهما السلام........................................ ٢١٣

داود بن علي على الحجاز...................................................... ٢١٤


مقتل المعلّى مولى الصادق عليه السلام........................................... ٢١٥

موت اسماعيل بن جعفر عليه السلام............................................. ٢٢٢

بقية حوادث سنة (١٣٣ هـ)................................................... ٢٢٣

بنى بالانبار وانتقل اليها........................................................ ٢٢٥

اختلال أمر الخلّال وقتله....................................................... ٢٢٦

سليمان الاموي بعد أبي سلمة.................................................. ٢٢٧

زحف الروم إلى ثغر أرمينية الرابعة............................................... ٢٢٩

أبو مسلم بعد قتل أبي سلمة.................................................... ٢٣٠

ربيعة الرأي والامام الصادق عليه السلام......................................... ٢٣١

استخلف المنصور وخالفه عمّه عبدالله............................................ ٢٣٣

توجيه أبي مسلم لقتل العمّ...................................................... ٢٣٥

قتل المنصور لأبي مسلم........................................................ ٢٣٧

ما بعد قتل أبي مسلم.......................................................... ٢٤٠

مصير عبدالله بن علي العباسي.................................................. ٢٤١

الغلاة من أصحاب أبي الخطاب................................................. ٢٤٢

المفضّل الجعفي بعد أبي الخطّاب................................................. ٢٤٧

عبدالرحمن المرواني في الأندلس.................................................. ٢٤٩

تحصين المنصور ثغور الشام..................................................... ٢٤٩

وسّع المسجد الحرام والتقى بالامام عليه السلام.................................... ٢٥٠

أراد المنصور نصرة فقه مالك.................................................... ٢٥٤

لماذا المنصور الدوانيقي......................................................... ٢٥٧

وفاة أبان بن تغلب............................................................ ٢٥٩


ابن المقفّع ومعارضة القرآن...................................................... ٢٦٥

مقتل ابن المقفّع............................................................... ٢٧٢

آذربايجان وأرمينية والخزر....................................................... ٢٧٤

وفاة اسماعيل بن جعفر......................................................... ٢٧٥

من أخبار المنصور............................................................. ٢٨١

عصر تدوين كتب العلوم....................................................... ٢٨٢

أسّس بغداد العاصمة.......................................................... ٢٨٣

الصادق عليه السلام وابن شُبرمة................................................ ٢٨٥

دعوة الحسني ومعتزلة البصرة.................................................... ٢٨٧

كلام هشام وعمرو بن عبيد.................................................... ٢٨٨

عبدالله بن الحسن والصادق عليه السلام......................................... ٢٩٠

دعوة الحسني ، وموقف الصادق عليه السلام..................................... ٢٩٣

تحيّر المنصور لأخذ الاخوين.................................................... ٢٩٦

اعتقال آل الحسن............................................................. ٢٩٨

المنصور بالربذة مع الصادق عليه السلام......................................... ٣٠٢

المنصور الى العراق............................................................. ٣٠٤

أبو حنيفة والصادق عليه السلام................................................ ٣٠٤

الصادق عليه السلام في الكوفة................................................. ٣١٢

ظهور محمّد الحسني بالمدينة..................................................... ٣١٤

صداه والإعداد له ببغداد....................................................... ٣١٧

محمّد الحسني والصادق عليه السلام............................................. ٣١٩

محمّد الحسني وإسماعيل الجعفري................................................. ٣٢١


كتاب المنصور إليه وجوابه...................................................... ٣٢٢

مواجهة الحسني والعباسيّين...................................................... ٣٢٤

ابراهيم الحسني الى البصرة...................................................... ٣٢٨

خروج ابراهيم الحسني بالبصرة................................................... ٣٣٠

في ذي القعدة قامم للقتال...................................................... ٣٣٢

المنصور والامام الصادق عليه السلام............................................ ٣٣٦

ذوالدمعة والأفطح والكاظم عليه السلام.......................................... ٣٣٨

خطبة الوالي المغمور والخليفة المنصور............................................. ٣٤٠

ابن السائب والامام الصادق عليه السلام........................................ ٣٤٣

افتتح المنصور بغداد........................................................... ٣٤٥

وعاقب مالك بن أنس......................................................... ٣٤٦

الامام عليه السلام والمنصور ببغداد.............................................. ٣٤٨

آخر لقاء المنصور بالامام بالمدينة................................................ ٣٥٤

أنس المنصور بمالك بن أنس.................................................... ٣٥٦

سليمان الأعمش والكوفي...................................................... ٣٦١

قضى القاضي ابن أبي ليلى..................................................... ٣٦٣

صايا الصادق ووفاته عليه السلام............................................... ٣٦٩

بعض أوصافه ولباس الصوف................................................... ٣٧٥

عهد الامام الكاظم عليه السلام

إمامة الكاظم عليه السلام والأفطح.............................................. ٣٨٣

تحيّر المأمور وشيعة نيشابور..................................................... ٣٨٥


زرارة يبحث عن إمامه......................................................... ٣٨٨

تحرش استاد شيش بخراسان..................................................... ٣٩٢

قصّة شقيق البلخي الصوفي..................................................... ٣٩٦

حجّ المنصور وقتل عمّه........................................................ ٣٩٨

فاة أبي حمزة الثُمالي............................................................ ٤٠٠

أبو بصير يحيى الاسدي (مولاهم)............................................... ٤٠١

محمّد بن مسلم الثقفي الكوفي................................................... ٤٠٣

شاعره جعفر بن عفّان الطائي.................................................. ٤٠٥

نسبة الجعفرية................................................................. ٤٠٦

مات أبو حنيفة النعمان........................................................ ٤١٢

معن للخوارج بخراسان......................................................... ٤١٣

الهُنائي بالبحرين............................................................... ٤١٣

طبيبان من جندي شابور للمنصور.............................................. ٤١٤

زواج الكاظم باُمّ الرضا عليهما السلام............................................ ٤١٦

الاباضية بأفريقية.............................................................. ٤١٨

ميلاد الرضا عليه السلام....................................................... ٤١٨

تتمة أخبار المغرب............................................................. ٤١٩

طالقان وديلمان وكاشغر....................................................... ٤٢٠

وفاة أبي مخنف لوط المؤرّخ...................................................... ٤٢١

حجّ المنصور وهلاكه بمكّة...................................................... ٤٢٢

المهديّ بعد أبيه المنصور........................................................ ٤٢٦

المهدي ومظلمة فدك.......................................................... ٤٢٦


أحداث المهدي وبعض المحدّثين وحديثه.......................................... ٤٢٨

المهدي وآل زياد بالبصرة....................................................... ٤٢٩

فتحوا باربد وأفنوهم!.......................................................... ٤٣٣

البرم بخراسان ، واليشكري بالجزيرة............................................... ٤٣٤

تسليم موسى بن عبدالله الحسني................................................. ٤٣٥

بين الكاظم عليه السلام وأبي يوسف............................................ ٤٣٧

المهدي والكعبة والمسجدان..................................................... ٤٣٧

مناوشات الروم............................................................... ٤٣٩

في الاعوام التالية.............................................................. ٤٤٠

المضايقة على الزنادقة.......................................................... ٤٤١

المهدي استقدم الكاظم عليه السلام............................................. ٤٤٣

مات المهدي وخلفه موسى..................................................... ٤٤٧

المهدي والفاطميون............................................................ ٤٤٨

الكاظم عليه السلام والمهدي والخمر............................................. ٤٤٨

دعوة الزيدية ببغداد........................................................... ٤٤٩

أيام موسى الهادي العباسي..................................................... ٤٥٠

خروج الحسين الحسني......................................................... ٤٥٣

قيام الحسين الحسني بالمدينة..................................................... ٤٥٥

خروجه إلى مكة وقتاله ومقتله................................................... ٤٥٧

أدارسة المغرب................................................................ ٤٦١

موسى الهادي ، والكاظم عليه السلام............................................ ٤٦٢

موسى الهادي وهارون الرشيد................................................... ٤٦٤


تعزية الكاظم عليه السلام للخيزران.............................................. ٤٦٨

الخليل بن أحمد الفراهيدي...................................................... ٤٧٠

أحداث عهد الرشيد........................................................... ٤٧٣

نصّ الأمان والقضاة وأبي البختري............................................... ٤٧٣

بقية أحداث الرشيد........................................................... ٤٧٤

استخلافه ابنه الأمين.......................................................... ٤٧٦

سنة الموت بمكة............................................................... ٤٧٧

فتنة البطّيخة بالشام........................................................... ٤٧٧

حركات الخوارج............................................................... ٤٧٨

وفاة السيّد الحميري........................................................... ٤٧٩

خروج جُراشة الشيباني......................................................... ٤٨٧

محمّد بن اسماعيل والاسماعيلية................................................... ٤٨٩

علي بن اسماعيل والكاظم عليه السلام........................................... ٤٩٠

كلام هشام والكاظم عليه السلام............................................... ٤٩٣

نفي حفص القاضي الى الكوفة................................................. ٤٩٩

القبض على الكاظم عليه السلام................................................ ٥٠٠

إلى سجن البصرة............................................................... ٠٢

الكاظم عليه السلام في سجون بغداد............................................ ٥٠٥

شفاعة البرمكي ، وقتل الامام عليه السلام....................................... ٥٠٩

آخر رسالة للكاظم عليه السلام................................................. ٥١١

هل اُطلق الامام ثمّ حُبس؟..................................................... ٥١٢

استشهدوا ، لتبرئتهم من جرمهم................................................. ٥١٤


الامام لا يغسله إلّا إمام؟...................................................... ٥١٦

تاريخ الوفاة.................................................................. ٥١٩

أخبار التشييع والدفن.......................................................... ٥٢٠

البرامكة ودعوى التشيّع؟!...................................................... ٥٢٢

القاضي نوح بن درّاج الكوفي.................................................... ٥٢٤

فرقة الغلاة في الكاظم عليه السلام.............................................. ٥٢٧

ثمّ اختلفت الفرق فيه.......................................................... ٥٣٠

عهد الامام الرضا عليه السلام

محاجة الواقفة والرضا عليه السلام................................................ ٥٣٧

أجاب الامام عن شبهاتهم...................................................... ٥٤٠

خليط من الاستتار والاظهار.................................................... ٥٤٢

تولية عهد الرشيد لولديه....................................................... ٥٤٣

نكبة البرامكة وكوّناتها.......................................................... ٥٤٥

الامام الرضا عليه السلام والبرامكة.............................................. ٥٤٧

الروم وثغورهم................................................................. ٥٤٨

مات الفُضيل بن عياض....................................................... ٥٤٩

الرشيد من الرقّة إلى الرّي....................................................... ٥٥١

أرمينية في عهد الرشيد......................................................... ٥٥١

اليمن خلال عشر سنين....................................................... ٥٥٣

الرشيد إلى مثواه البعيد......................................................... ٥٥٤

بدايات خلافة الأمين.......................................................... ٥٥٦


وفاة أبي بكر بن عياش........................................................ ٥٥٩

بداية تغيّر الأمين على المأمون................................................... ٥٦٠

الأمين وطلب الخصيان........................................................ ٥٦٢

استعان المأمون بقوّاده.......................................................... ٥٦٣

ميلاد الجواد عليه السلام....................................................... ٥٦٦

طاهر وهرثمة إلى بغداد......................................................... ٥٦٦

الوقائع الحاسمة................................................................ ٥٦٨

مصير الأمين................................................................. ٥٧٠

المأمون وابنا سهل............................................................. ٥٧٢

قيام محمّد بن ابراهيم طباطبا.................................................... ٥٧٤

لقاء ابن طباطبا بأبي السرايا.................................................... ٥٧٥

خروج محمّد للقاء أبي السرايا................................................... ٥٧٦

هل كان معهم على الاعرجي؟.................................................. ٥٧٧

مصير الكوفة وأميرها العباسي.................................................. ٥٧٩

جنود بغداد إلى الكوفة........................................................ ٥٨٠

جنود بغداد إلى الكوفة ثانية.................................................... ٥٨٢

مصير ابن طباطبا وخليفته...................................................... ٥٨٣

عمّال الزيدي على البلاد...................................................... ٥٨٤

ابن أعين لأبي السرايا واستيلاؤه على المدائن...................................... ٥٨٥

ابن أعين يلاحق أبا السرايا..................................................... ٥٨٧

مكر هرثمة وخطبة أبي السرايا ومصيره............................................ ٥٨٨

جمع من الشيعة عند الرضا عليه السلام.......................................... ٥٩٠


محمّد بن سليمان على المدينة................................................... ٥٩١

حسين الحسيني الأفطس على مكة.............................................. ٥٩٢

محمّد بن جعفر بعد محمّد بن محمّد.............................................. ٥٩٤

سقوط حكم العلوي بمكة...................................................... ٥٩٦

ابراهيم بن موسى على اليمن................................................... ٥٩٧

مصير محمّد بن جعفر العلوي................................................... ٦٠٠

نهب دار الرضا عليه السلام؟!.................................................. ٦٠١

قبول العلوي أمان المأمون...................................................... ٦٠١

حمدويه لابراهيم في اليمن...................................................... ٦٠٣

اضطرابات بالاسكندرية وغيرها................................................. ٦٠٤

موسوعة التاريخ الاسلامي - ٧

المؤلف:
الصفحات: 620