بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستمد ونستعين

الحد لله ربّ العالمين

وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطّاهرين المعصومين

ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدّين (١)

__________________

(١) خطبة الكتاب.


تنبيهات الإستصحاب


تنبيهات الإستصحاب

* التنبيه الثاني : جريان الإستصحاب في الزمان والزمانيات

* التنبيه الثالث : عدم جريان الإستصحاب في الأحكام العقليّة

* التنبيه الرابع : الإستصحاب التعليقي

* التنبيه الخامس : استصحاب أحكام الشرائع السابقة

* التنبيه السادس : الأصل المثبت

* التنبيه السابع : أصالة تأخّر الحادث

* التنبيه الثامن : استصحاب صحّة العبادة عند الشك في طروّ المفسد

* التنبيه التاسع : عدم جريان الإستصحاب في الأمور الإعتقادية

* التنبيه العاشر : دوران الأمر بين التمسك بالعام أو استصحاب حكم المخصّص

* التنبيه الحادي عشر : لو تعذّر بعض المأمور به فهل يستصحب وجوب الباقي؟

* التنبيه الثاني عشر : جريان الإستصحاب حتى مع الظن بالخلاف



* التنبيه الثاني

استصحاب الزّمان والزّمانيّات

(٢٣٢) قوله ( دام ظلّه ) : ( إنّه قد علم من تعريف الاستصحاب ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٠٣ )

__________________

(١) قال المحقق الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى أنّ عمدة الاستصحاب هي الأخبار ، ومن المعلوم أنّ الملاك فيها إنّما هو صدق نقض اليقين بشيء بالشّك فيه ، ولا يتفاوت فيه الأمور القارّة والتّدريجيّة ، بداهة صدق نقضه به فيما إذا توقّف بسبب الشّكّ في انقطاع حركة أو مشي أو جريان دم أو نحوها من سائر الأمور التدريجيّة الغير القارّة بعد القطع بتحقّقها من ترتّب آثارها عليها ، والسّرّ أنّها وإن كانت غير مجتمعة الأجزاء بحسب الوجود ، إلّا أنّ وحدتها أو تشخّصها لا ينثلم بذلك ما دامت متّصلة لم يتخلّل العدم فيها فيفصلها ، فكلّ واحد من هذه الأمور ما لم ينقطع واحد بالشّخص حقيقة ، فإذا قطع بثبوته وتحقّقه ثمّ شكّ في ارتفاعه وانقطاعه بذلك ، كان الشّكّ متعلّقا حقيقة باستمرار ما تعلّق به اليقين.

ولا يخفى أنّ البقاء بالمعنى الّذي ذكره أيضا يصدق في غير الزّمان من الأمور التّدريجيّة ، لما عرفت أنّه ما دام متّصلا يكون واحد بالشّخص ، وهو لا يكاد يكون موجودا إلّا بوجود واحد شخصيّ والبقاء إنّما يكون بهذا المعنى في الزّمانيّات ، ضرورة صدقه حقيقة على غيرها من المجرّدات ونفس الزّمان ، فهو بقول مطلق عبارة عن استمرار الوجود الواحد على اختلاف نحوه بالتّعدّد والتّصرّم جزءا فجزءا والاستقرار والقرار ، بل يظهر من ذلك عدم تفاوت الأمور القارّة والتدريجيّة بحسب سائر الأدلة ، بل بحسب التّعريف بالإبقاء كما لا يخفى.

فانقدح أنّ البقاء في الزّمان ونحوه من الأمور التّدريجيّة من الزّمانيّات كغير الزّمانيّات على


أقول : لا يخفى عليك أنّ الكلام في هذا الأمر أيضا متعلّق بالمتيقّن سابقا وما عرفته في الأمر الأوّل من الحيثيّة ملحوظ فيه وفي سائر ما سيمرّ عليك من الأمور ، فمجمل القول فيه :

__________________

نحو الحقيقة وليس على المسامحة ، نعم بعض الأمور التدريجية الّذي يكون مع تخلّل العدم والفصل بين أجزائه كأبعاض كلام واحد عرفي وان لم يكن بواحد شخصي حقيقة ، ويكون البقاء فيه على المسامحة ، إلّا أنّه كذلك عرفا ما لم يقع بين اجزائها فصل يعتدّ به بحسب العرف ، والملاك في الباب هو الوحدة العرفيّة لصدق نقض اليقين بالشك حقيقة معها ، كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر أنّ الإستصحاب يجري في إثبات الّليل والنّهار ، ويجدي في إثبات ما لهما من الآثار كوجوب الإمساك وجواز الإفطار ، وإن كان لا يجدي في إثبات ما أخذ في موضوعه وقوعه في أحدهما إلّا على القول بالأصل المثبت مطلقا » انتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٤٢.

* وقال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره :

« قلت : لمّا كان جريان الإستصحاب في الأمور غير القارّة بمكان من الإشكال ـ كيف! والمأخوذ في موضوع الإستصحاب هو البقاء والقرار ، فكيف يجري فيما أخذ في حقيقته عدم القرار؟ ـ أفرد المصنّف رحمه‌الله أمرا لبيان توجيه جريان الإستصحاب فيها وجعل الكلام فيه في مقامات ثلاث :

تارة : في جريان الإستصحاب في نفس الزمان.

وأخرى : في الزماني.

وثالثا : في الأمر المستقرّ الذي أخذ الزّمان قيدا له.

والفرق بين الأوّل والثاني في غاية الوضوح ، وأمّا الثاني والثالث فالفرق بينهما : بأن الزّمان في الأوّل أخذ قيدا له بحسب التكوين ، وفي الثاني أخذ قيدا له بحسب التشريع » إنتهى.

أنظر قلائد الفرائد : ٢ / ٢٧٤.


أنّه إمّا أن يكون من الزّمان ، أو غيره. وعلى الثّاني : لا يخلو أيضا إمّا أن يكون متصرّم الوجود كالزّمان فيتجدّد شيئا فشيئا كالتّكلّم ، والكتابة ، والمشي ، بل مطلق ما يكون من قبيل الحركة ، ويسمّى بالزّماني من حيث كون التّميز بين أشخاصه بالزّمان ، أو لا يكون كذلك. وعلى الثّاني : لا يخلو أيضا : إمّا أن يؤخذ أحد القسمين في موضوع حكمه أو لا.

لا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأخير ، فلا ينبغي التّكلّم فيه ، إنّما الإشكال في جريان الاستصحاب في سائر الأقسام ، فنقول :

أمّا القسم الأوّل ، فالّذي يقتضيه التّحقيق عدم جريان الاستصحاب فيه بالنّظر إلى الدّقة العقليّة ؛ لأنّك قد عرفت غير مرّة : أنّ الشّرط في تحقّق الاستصحاب موضوعا هو اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة بحيث لم يكن الفارق بينهما إلّا باليقين والشّكّ ، وإلّا لم يصدق البقاء على الالتزام بالحكم في زمان الشّك ولا النّقض على عدم الالتزام به فيه ؛ لأنّ معنى البقاء هو وجود ما كان موجودا في الزّمان الأوّل في الزّمان الثّاني بعينه.

ومن المعلوم أنّ هذا المعنى لا يتصوّر بالنّسبة إلى الزّمان ؛ لأنّ وجود كلّ قطعة منه يتوقّف على انعدام ما قبله ، فيكون وجود جزئه بحسب التّدريج والتّصرّم بحيث لا استقرار لها في الوجود ، فكلّ ما شكّ في وجود جزء منه فيرجع إلى الشّك في الوجود ابتداء ، فيكون من الشّك في الحدوث حقيقة ، ولازمه عدم صدق البقاء مثلا إذا شكّ في جزء في أنّه من اللّيل أو النّهار ، فلا ريب في أنّ العلم بكون ما قبله نهارا لا ينفع بالنّسبة إلى الزّمان المشكوك ؛ لأنّه غيره قطعا. هذا ما يقتضيه التّحقيق في المقام.


ولكن يظهر من جماعة بل الأكثرين : جريان الاستصحاب في هذا القسم ، بل قد عرفت فيما تقدّم : أنّ المحدّث الأسترآبادي حكى اتّفاق الأمّة ، بل الضّرورة على اعتبار استصحاب اللّيل والنّهار (١). ولعلّه مبنيّ على ما ستعرفه ، هذا بناء على اشتراط إحراز الموضوع في باب الاستصحاب بالدّقة العقليّة.

في إمكان توجيه استصحاب الليل والنهار

وأمّا بناء على المسامحة في موضوع الاستصحاب ، فيمكن توجيه استصحاب الليل والنّهار ونحوه بأحد وجهين :

أحدهما : أن يتصرّف في المستصحب فيجعل النّهار مثلا أمرا خارجيّا واحدا ويجعل بقاؤه وارتفاعه عبارة عن : عدم وجود جزئه الأخير ووجوده ، أو عن عدم تجدّد جزء مقابله وتجدّده بادّعاء كون النّهار عند العرف عبارة عن هذا المعنى ، فالنّهار عند العرف مثلا عبارة عن : قطعة من الزّمان وهو ما بين الطّلوع والغروب له استقرار بحسب الوجود ، فإذا شكّ في تجدّد جزء الأخير منه فيحكم ببقائه. ومرجع هذا الوجه كما ترى ، إلى التّصرف في المستصحب مع بقاء لفظ البقاء على حاله.

ثانيهما : أن يتصرّف في لفظ البقاء ويدّعى شموله للمقام تسامحا ، ولعلّ ما عليه الأكثرون : من إجراء استصحاب اللّيل والنّهار في باب الصّوم وغيره مبنيّ على ذلك ، ولكن لا يخفى عليك أنّ بناء على أحد هذين الوجهين إنّما ينفع

__________________

(١) الفوائد المدنيّة : ٢٨٨ ط جماعة المدرسين.


استصحاب النّهار مثلا بالنّسبة إلى الأحكام المترتّبة على نفس بقاء النّهار ، وأمّا الحكم المترتّب على كون الجزء المشكوك من النّهار فلا ينفع فيه الاستصحاب ؛ إذ إثباته إنّما هو بإثبات كون الجزء المشكوك من النّهار وهو ممّا لا يجوز بناء على عدم التّعويل على الأصل المثبت فتأمل.

نعم ، بناء على جواز التّعويل عليه فلا ريب في جواز إثباته ، وعليه ليس التّخلّص عن الإشكال منحصرا فيما ذكر ؛ لأنّ هنا استصحابات أخر بالنّسبة إلى الأمور المتلازمة مع الزّمان ، كطلوع الشّمس وغروبها ، وذهاب الحمرة ونحوها ، فيستصحب أعدامها الملازمة مع اللّيل أو النّهار ، فيمكن من إجراء الاستصحاب فيها إثبات الزّمان المشكوك ، ولا يحتاج إلى ما عرفت : من الوجهين بالنّسبة إلى الزّمان بعد هذه الملاحظة كما لا يخفى ، وإن كنّا محتاجين بالنّسبة إلى ما يريد استصحابه من الأمور المتجدّدة ؛ حيث إنّ وجودها كوجود الزّمان ممّا يتجدّد شيئا فشيئا.

هذا مقتضى ما ذكره ( دام ظلّه ) في ردّ المحدّث الأسترآبادي عند التّكلّم في الأقوال ، ولكن مقتضى ما صرّح به في مجلس البحث ويظهر ممّا ذكره في المقام عدم الاحتياج فيها إلى الالتزام بأحد الوجهين ؛ لأنّ المراد بالطّلوع مثلا هو طلوع الشّمس من الأفق وبالغروب هو غروبها عنه ، وهذا ليس ممّا يوجد تدريجا. هكذا ذكره في مجلس البحث ، وتحقيق أحد المسلكين ممّا يحتاج إلى التّأمّل في الجملة فتأمّل.


ثمّ إنّه يظهر من بعض أفاضل من تأخّر (١) للتخلّص عمّا ذكرنا في استصحاب الزّمان التّعلّق باستصحابات أخر فذكر ما حاصله :

أنّا لا نحتاج إلى استصحاب نفس الزّمان ؛ لأنّ هنا استصحابات أخر يستغنى بها عن استصحاب الزّمان ،

أحدها : ما عرفته : من استصحاب الأمور الملازمة مع الزّمان ، وقد عرفت : أنّ التّشبّث باستصحابها لإثبات الزّمان لا يجوز على ما يقتضيه التّحقيق.

نعم ، لو فرض ترتّب حكم على نفس عدم الغروب مثلا ترتّب عليه باستصحاب عدمه على ما صرّح به الأستاذ العلّامة في مجلس البحث.

ثانيها : استصحاب عدم ضدّ الزّمان المشكوك فإذا شكّ في بقاء النّهار يتمسّك باستصحاب عدم الدّليل وإذا شكّ في بقاء اللّيل يتمسّك باستصحاب عدم النّهار وهكذا. وهذا ليس كرّا على ما فرّ ؛ لأن المحذور الّذي كان يرد بالنّسبة إلى استصحاب نفس الزّمان لا يرد بالنّسبة إلى استصحاب عدم ضدّه ؛ لأنّه لا يعقل الحكم بأنّ العدم يتجدّد شيئا فشيئا كما لا يخفى.

وفيه أوّلا : أنّ هذا إنّما يتمّ بالنّسبة إلى نفس الحكم المترتّب على عدم الضدّ ، وأمّا الحكم المترتّب على وجود ضدّه كما هو محلّ الكلام ، فلا ينفع فيه هذا الاستصحاب إلّا على القول بجواز التّعويل على الأصل المثبت الغير الجائز عندنا.

وثانيا : أنّ المحذور اللّازم على تقدير استصحاب نفس الزّمان يلزم على هذا التّقدير أيضا.

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٦٧.


توضيح ذلك : أنّ القطع بعدم الدّليل في الزّمان الّذي يقطع بكونه من النّهار إنّما هو من حيث انطباق عدمه على النّهار ، لا بمعنى كون النّهار موجودا في زمان لم يوجد فيه اللّيل ؛ لاستحالة أن يصير الزّمان مظروفا وظرفا كما يحكم به ضرورة العقل ، ولا بمعنى كونه مصداقا له ؛ ضرورة بطلان صيرورة الوجود مصداقا للعدم ، بل بمعنى اعتباره ممّا يقارنه حقيقة ، فمعنى القطع بعدم اللّيل في ذلك الزّمان هو القطع بعدم كونه ليلا ولازم هذا المعنى ـ كما لا يخفى ـ أن يكون الشّك في الزّمان المشكوك في أنّه من اللّيل أو النّهار كما هو المشاهد بالعيان ، لا أنّ اللّيل وجد فيه أم لا ؛ ضرورة أنّه لو كان ليلا يكون نفسه لا ظرفه فالقطع بعدم كون الزّمان السّابق ليلا لا ينفع في صدق البقاء بالنّسبة إلى الزّمان المشكوك ، فيكون حال المستصحب العدمي في الزّمان كحال المستصحب الوجودي ، فلا مسرح للاستصحاب في العدمي أيضا إلّا بالالتزام بأحد الوجهين اللّذين عرفتهما بالنّسبة إلى الاستصحاب الوجودي. هذا ملخّص ما أفاده شيخنا الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في مجلس البحث وهو لا يخلو عن بعض المناقشات.

ثالثها : استصحاب الحكم المترتّب على الزّمان كوجوب الصّوم وجواز الإفطار إلى غير ذلك ؛ لأنّه كان متيقّنا قبل الشّك في انقضاء الزّمان فلا يحتاج حينئذ إلى استصحاب الزّمان أصلا ؛ لأنّ المقصود من استصحاب الزّمان هو ترتيب الآثار الشّرعيّة عليه ، فإذا أجري الاستصحاب في نفسها فلا يحتاج إلى استصحاب الزّمان.

فإن قلت : الشّك في بقاء الحكم المفروض مسبّب عن الشّك في بقاء الزّمان ، فكيف يمكن رفع الشّك عنه بإجراء الاستصحاب في نفسه؟


قلت : قد عرفت غير مرّة وستعرف أيضا : أنّ الأصل في الشّك المسبّب لا يجري فيما أمكن إجراء الأصل بالنّسبة إلى الشّك السّببي بحيث يرفع الشّك المسبّب حكما ، وأمّا إذا لم يمكن ذلك فلا مانع عنه.

وهذا التّوجيه يظهر من الأستاذ العلّامة في « الكتاب » أيضا فانظر إلى قوله : ( فالأولى التّمسك في هذا المقام ... إلى آخره ) (١) حتّى تعلم حقيقة الحال وإن كان صرّح في ردّ المحدّث المقدّم ذكره في ذلك المقام بعدم تعقّل ذلك هذا.

ولكنّك خبير بفساد هذا الوجه أيضا ؛ لأنّك قد عرفت غير مرّة : أنّه مع الشّك في بقاء الموضوع لا يمكن إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم لا مع استصحاب الموضوع ولا بدونه.

وأمّا ما قرع سمعك : من أنّه مع عدم إمكان إجراء الاستصحاب في الشّك السّببي لا مانع من إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الشّك المسبّب ، فإنّما هو في غير الشّك في الموضوع والحكم ، وأمّا بالنّسبة إليهما فلا معنى له. وهذا مع وضوحه قد أقمنا عليه البرهان فيما مضى وسنقيم عليه فيما سيأتي أيضا إن شاء الله هذا.

وبالحريّ أن نشير إلى شرح بعض أجزاء ما وقع من الأستاذ العلّامة من الكلام في هذا القسم قبل الخوض في بيان حكم القسمين الأخيرين.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٠٥.


(٢٣٣) قوله : ( ولعلّه المراد بقوله في المكاتبة المتقدّمة في أدلّة الاستصحاب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٠٥ )

بيان المراد من المكاتبة وانه هل ينطبق على الاستصحاب أم لا؟

أقول : المراد من مرجع الضّمير هو الاستصحاب الحكمي ، وتوضيح تفريع قوله عليه‌السلام ( صم للرّؤية وأفطر للرّؤية ) (١) على قوله عليه‌السلام : ( اليقين لا يدخله الشّك ) (٢) ـ بناء على إرادة الاستصحاب الحكمي كما هو المفروض ـ :

هو أنّه لمّا جاز فعل المفطر بمقتضى استصحاب الجواز فيما لو شكّ في دخول رمضان ووجب الصّوم بمقتضى استصحاب وجوبه فيما شكّ في دخول الشّوال ، فلا بدّ من أن يكون وجوب الصّوم للرّؤية ـ وإلّا كان نقض اليقين بالشّك ـ ومن أن يكون وجوب الإفطار ـ بناء على كونه حكم يوم العيد لا حرمة الصّوم ـ أو جوازه للرّؤية وإلّا كان نقضا لليقين بوجوب الصّوم بالشّك هذا.

ولكنّك خبير بما فيه من المناقشة سواء أريد من استصحاب وجوب الصّوم استصحاب الحكم التّكليفي ـ كما هو الظّاهر على ما عرفته ـ أو استصحاب الشّغل مسامحة.

أمّا لو أريد منه الأوّل. فيتوجّه عليّه :

__________________

(١ و ٢) التهذيب : ج ٤ / ١٥٩ باب ٤١ ـ « علامة أوّل شهر رمضان وآخره ودليل دخوله » ـ ح ٤٤٤ / ١٧. والإستبصار : ج ٢ / ٦٤ باب ٣٣ ـ « علامة أوّل يوم من شهر رمضان » ـ ح ٢١٠ / ١٢.

عنهما الوسائل : ج ١٠ / ٢٥٥ باب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ـ ح ١٣.


أوّلا : كون التّكليف بالصّوم في كلّ يوم تكليفا مستقلّا غير مربوط بالتّكليف به في الآخر ، فلا يعقل صيرورة اليقين بوجوب الصّوم في يوم موجبا لصدق دخول الشّك بالنّسبة إليه فيما لو لم يصم في اليوم المشكوك كونه من الرّمضان ، فلا يصلح لتفريع قوله عليه‌السلام : ( وأفطر للرّؤية ) على قوله : ( اليقين لا يدخله الشّك ) ، فيتعيّن حينئذ الرّجوع إلى أصالة عدم الوجوب والبراءة لا إلى أصالة الوجوب.

وثانيا : أنّ التّعلّق باستصحاب الحكم مع الشّك في موضوعه قد عرفت فساده مرارا هذا. إذا أريد استصحاب الوجوب.

وأمّا إذا أريد استصحاب الشّغل.

فيتوجّه عليه أيضا :

أوّلا : أنّا ذكرنا مرارا : أنّه لا معنى لاستصحاب الاشتغال حتّى فيما كان المورد مورد قاعدة الاشتغال ووجوب الاحتياط.

وثانيا : أنّه يتمّ على فرض تسليم ما هو المشهور بينهم : من إجراء الأصلين ، أعني : استصحاب الاشتغال ، وقاعدة الاشتغال ، فيما لو كان المورد مورد قاعدة الاشتغال لا في مثل المقام ؛ لأنّك قد عرفت أنّه بناء على كون التّكليف بالصّوم في كلّ يوم تكليفا مستقلّا ، لا مسرح لجريان قاعدة الاشتغال ، بل المتعيّن هو الرّجوع إلى البراءة على تقدير كون صوم يوم العيد حراما تشريعيّا كما هو المفروض ، وإلّا فالحكم التّخيير لدوران الأمر بين المحذورين.

نعم ، لو قلنا إنّ التّكليف بالصّوم في شهر رمضان تكليف واحد بحيث يكون صوم كلّ يوم جزءا من المكلّف به ، كما ربّما يتوهّم من بعض كلماتهم في باب نيّة


صوم الشّهر (١) ـ وإن كان خلاف الإجماع ـ كان المتعيّن حينئذ الرّجوع إلى قاعدة الاشتغال والحكم بوجوب صوم يوم الشّك ، وإن قلنا بالبراءة في الشّك في الجزئيّة في الشّبهة الحكميّة ؛ لأنّ المفروض من الشّبهة الموضوعيّة كما هو ظاهر ، وهذا ليس من الاستصحاب في شيء ، فيتعيّن حينئذ أن يكون المراد هو عدم جواز رفع اليد عن اليقين باشتغال الذّمّة بالشّك في البراءة ، بل يلزم تحصيل القطع به. وأين هذا من استصحاب الشّغل؟ وممّا ذكرنا كلّه يظهر : تطرّق المناقشة إلى استصحاب الجواز فيما تردّد بين شعبان ورمضان.

ثمّ إنّ ما ذكره الأستاذ العلّامة هنا ينافي ما ذكره في طيّ الاستدلال بالرّواية عند التّكلّم في الأخبار ، فإنّه جعلها هناك من أدلّة المختار بتقريب : كون المراد منها هو استصحاب الاشتغال لا قاعدته ، وهذا كما ترى ينافي ما ذكره في المقام. وإن أردت الوقوف على تفصيل الكلام في الرّواية فارجع إلى ما ذكره ( دام ظلّه ) وذكرناه ثمّة (٢) ، هذا مجمل القول في حكم القسم الأوّل.

وأمّا الكلام في القسم الثّاني فمجمله : أنّ حكمه حكم القسم الأوّل بالنّظر إلى الدّقة العقليّة لجريان ما عرفت من وجه المنع فيه في هذا القسم أيضا بعينه ، وأمّا بالنّظر إلى المسامحة العرفيّة فالأمر فيه أوضح لوجودها بالنّسبة إلى أكثر أمثلته ، ولا يلزم فيه التّعويل على الأصل المثبت ولا غيره من المحاذير كما لا يخفى.

__________________

(١) أنظر رسائل المرتضى : ج ٢ / ٣٥٥ وكذا الإنتصار : ٦١ والخلاف : ج ١ / ٣٧٥ مسألة ٣ وجواهر الكلام : ج ١٦ / ٢٠٠.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ٧١ ، وانظر بحر الفوائد : ج ٣ / ٣٨.


ثمّ قد يناقش في بعض أمثلة الفرض لا من جهة ما ذكر بل من جهة أخرى ، كما في استصحابي الحيض على ما في « الكتاب » سيّما المثال الأخير ؛ فإنّ استصحاب بقاء اقتضاء الطّبيعة لا يثبت خروج الدّم من المرأة ، كما أنّه لا يثبت اتّصاف الدّم الخارج بالحيضيّة عند الشّك في اليأس. ومن هناك لم يذكرهما في « الكتاب » على وجه الجزم فتأمّل.

وتوهّم : كون الشّك في بقاء المستصحب ناشئا من وجود جزء آخر والأصل عدمه ، فيكون حاكما على الاستصحاب الوجودي مانعا عن جريانه ، مندفع. مضافا إلى عدم إمكان إثبات ارتفاع الكلّي بنفي الفرد بما ذكره ( دام ظلّه ) من الوجهين في « الكتاب » فلا يكون إذن مانع عن جريان الاستصحاب في هذا القسم حيثما يساعد العرف على الحكم بالاتّحاد فيه.

وجعل الموجودات المتعدّدة الغير المجتمعة موجودا واحدا حتّى يتعلّق الشّك ببقائه وارتفاعه فاسد ؛ فإنّ حكم العرف بذلك ليس دائميّا ؛ فإنّه كثيرا ما يحكمون بتعدّد الوجودات وتباينها من جهة تعدّد الدّواعي الموجبة للفعل المستمرّ ، أو لطول الفصل وعدم الاشتغال بالفعل ، وإن كان الدّاعي واحدا أو لغيرهما من الأمور ، فإذا شكّ في بقاء القاري على صفة القراءة من جهة الشّك في حصول الصّارف مع اقتضاء الدّاعي قراءته في زمان الشّك أيضا ، فلا إشكال في جواز الاستصحاب بناء على المسامحة ، ولو مع تخلّل فصل قصير لا يعتدّ به.

وأمّا لو شكّ في قراءته من جهة الشّك في حصول داع آخر ؛ لاشتغاله بعد القطع بانتفاء الدّاعي الموجود أوّلا ، أو شكّ في قراءته بعد رفع يده عنها في زمان طويل وإن كان الدّاعي متّحدا ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب.


وهذا الّذي ذكرنا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا وليس مختصّا بالمقام أيضا ؛ لأنّ مسامحة العرف في موضوع الاستصحاب غير مختصّ بالمقام ، ولكنّك عرفت : عدم اطّراده فكلّما قطع ـ بمساعدة العرف ـ على الحكم بالوحدة ، فلا إشكال ـ بناء على كون المناط هو الصّدق العرفيّ المبني على المسامحة ـ وكلّما لم يقطع بذلك فيرجع فيه إلى استصحاب العدم ، سواء قطع بعدم المساعدة أو شكّ في ذلك ؛ لأنّ معه أيضا لا يعلم صدق النّقض على عدم الالتزام بآثار الوجود.

والقول : بأنّ الشّك في مساعدة العرف موجب لإلغاء الاستصحاب بالنّسبة إلى العدم أيضا ، فيتعيّن الرّجوع إذن إلى أصل آخر غير استصحاب الوجود والعدم ، فاسد جدّا ؛ لأنّ المانع من استصحاب العدم مع كون المورد مورده بحسب الدّقة لم يكن إلّا استصحاب الوجود بمساعدة العرف ، وشمول حكم الشارع بعدم جواز نقض اليقين بالشّك له الحاكم على استصحاب العدم ، فإذا لم يجر استصحاب الوجود من جهة الشّك في بقاء الموضوع أو القطع بانتفائه لم يكن المانع موجودا قطعا ، فيتعيّن الرّجوع إلى استصحاب العدم ، وليس هنا استصحاب وجودي واقعي يحتمل وجوده في صورة الشّك في بقاء الموضوع حتّى يشكّ في وجود المانع لاستصحاب العدم ؛ لأنّ مع الشّك في الموضوع لا يجري الاستصحاب واقعا ، لا أنّه محتمل الوجود والجريان لكنّا لا نعلم به.

هذا حاصل ما أفاده ( دام ظلّه العالي ) في مجلس البحث وهو كما ترى ، لا يخلو عن مناقشة ؛ لأنّ الغرض منه : إن كان القطع بانتفاء الدّلالة مع الشّك في بقاء الموضوع عند العرف ، فهو جيّد لا محيص عنه. وإن كان القطع بانتفاء الإرادة ـ


على ما يقتضيه ظاهره ـ فتطرّق المنع إليه جليّ ، فافهم. هذا مجمل القول في القسم الثّاني.

وأمّا الكلام في القسم الثّالث وهو ما إذا كان الزّمان أو الزّماني قيد الحكم فملخّصه :

أنّه إن كان الشّك في الحكم من جهة الشّك في انقضاء الزّمان أو الزّماني وعدمه ، فيرجع إلى القسم الأوّل أو الثّاني ، فهو خارج عن مفروض البحث ، وإن كان الشّك في بقاء الحكم مع القطع بارتفاع الزّمان والزّماني الّذي هو محلّ البحث ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ؛ لأنّ المقيّد مع فرض كونه مقيّدا لا يعقل بقاؤه مع فرض انتفاء القيد ، بل ربّما يقال : إنّ قضيّة التّقييد هي الدّلالة على انتفاء الحكم عند انتفاء القيد بالدّلالة اللّفظية من باب المفهوم ، لكنّه توهّم فاسد ليس المقام مقام التّكلّم فيه.

والحاصل : أنّ البقاء عبارة عن الوجود الثّانوي لما كان موجودا في الزّمان الأوّل ، وهذا لا يعقل في المقيّد بعد انتفاء قيده.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) سابقا في حكم القسم الأوّل من قوله ( دام ظلّه العالي ) : ( فيجري في القسمين الأخيرين بطريق أولى ) (١)(٢)

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٠٣.

(٢) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« قد يقال ـ بل قيل ـ : إن كلامه هذا من أولويّة جريان الإستصحاب في القسمين الأخيرين على تقدير جريانه في القسم الأوّل ينافي ما ذكره في القسم الثالث من القطع بعدم الجريان ،


لا يخلو عن مناقشة ، إلّا أن يكون مبنيّا على جريان الاستصحاب في الزّمان بناء على الدّقة ، لكنّه مع ذلك لا أولويّة في البين ، مضافا إلى عدم وجود قائل بهذه المقالة ظاهرا.

(٢٣٤) قوله : ( وقد تقدّم الاستشكال ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٠٨ )

أقول : وقد تقدّم أيضا منه ( دام ظلّه ) ما يدفع الاستشكال المذكور : من جهة بناء الاستصحاب على المسامحة العرفيّة ، فيصدق معها البقاء على وجود الحكم في الزّمان الثّاني فيما ساعد العرف على المسامحة ، كما أنّك عرفت اختصاصه بالشّك في المقتضي.

وأمّا الشّك في الرّافع ـ سواء فرض في وجوده أو رافعيّته ـ فلا يرد عليه الإشكال المذكور أصلا ، إلّا أنّ الشّك في وجود الرّافع في الأحكام الشّرعيّة لا يتصوّر إلّا من جهة الشّك في النّسخ ، وقد عرفت : خروج استصحاب عدم النّسخ عن الاستصحاب الاصطلاحي ، وإن أدرجوه فيه من باب التّسامح كاستصحاب العموم والإطلاق ونحوهما.

والشّك في رافعيّة الموجود إنّما يتصوّر غالبا بالنّسبة إلى الأحكام الوضعيّة كالطّهارة ، والنّجاسة ، والملكيّة ، والزّوجيّة ، إلى غير ذلك ، إلّا أن يقال : إنّه بناء على

__________________

وفي القسم الأوّل من ميله إلى الجريان لكن بضرب من التردّد والإشكال فينبغي أن تكون الأولويّة بالعكس.

وفيه : أن قطعه بعدم الجريان في القسم الثالث من جهة أخرى لا من حيث خصوص الإشكالين المتقدّمين في الزمان والزّمانيّات ، فالأولويّة في محلّها باعتبار إشكال استصحاب الزمان والزماني » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢١٧.


القول بعدم جعلها ، يرجع الشّك إلى الشّك في رافعيّة الموجود للأحكام التّكليفيّة الّتي انتزعت منها الأحكام الوضعيّة ، لكن ظاهر كلام الأستاذ العلّامة في المقام تخصيص الكلام بالشّك في الحكم التّكليفي ابتداء فتدبّر ، وإن كان كلامه في السّابق في مطلق الحكم الشّرعي فراجع.

(٢٣٥) قوله : ( إذا علم أنّ الشّارع أمر بالجلوس ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٠٨ )

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« ومحصّل مرامه : انّ الإستصحاب على قسمين :

الأوّل : مجرّد التعويل على اليقين السابق.

الثاني : عدم الإعتداد باحتمال الرّافع.

والأوّل من الأغلاط ولا سبيل اليه ؛ حيث ان اليقين بالوجود في كلّ مقام مجامع لليقين بالعدم ـ على ما عرفت ـ ولا ترجيح لأحد اليقينين على الآخر ، فالذي ينفع في المقامات إنّما هو الأخذ بالمقتضي وعدم الأعتداد باحتمال المانع.

ولمّا كان شك في الأمور الخارجيّة أبدا شكّا في الرّافع لم يتعارض الإستصحابان فيها وجرى أصل عدم وجود الرافع.

وقد عرفت مثل هذا الكلام من غيره من المحققين في استصحاب حال الإجماع في مسألة المتيمّم ؛ فإن القدر المتيقن إنّما هو إستباحة الصلاة قبل وجدان الماء ، والأخذ بهذا اليقين معارض بالأخذ باليقين بالعدم حال وجد ان الماء الثابت أوّلا ، فمعنى تعارض الإستصحابين :

انه لا مرجّح لأحدهما على الأخر ، فلا يمكن اعتبار اليقين بالوجود من حيث هو هو ، فاندفع ما يتوهّم : من أنه أراد إجراء استصحاب الحكم الثابت للمقيّد بالزمان في غير المقيّد ، بل إنّما غرضه عدم الجريان بمجرّد احتمال التّقييد ، فلا مجال له ، إلّا إذا علم عدم التّقييد وكان الشك في البقاء من غير هذه الجهة وهو احتمال الرّافع ؛ حيث انّ الإستاذ العلامة أعلى الله


أقول : حاصل ما ذكره على ما يستفاد من مطاوي كلماته : هو أنّ المستصحب : إمّا من الأمور الشّرعيّة ، أو غيرها ممّا تعلّق به الحكم الشّرعي. وعلى الأوّل : إمّا أن يكون الشّك في بقاء المستصحب من جهة الشّك في المقتضي بأقسامه ، أو من جهة الشّك في الرّافع بأقسامه. فإن كان الشّك في بقاء الحكم الشّرعي من حيث المقتضي فلا يعتبر الاستصحاب فيه ؛ من جهة تعارض استصحابي الوجود السّابق والعدم الأزليّ في زمان الشّك فيتساقطان.

كما لو علم من دليل مهمل وجوب الجلوس في مكان إلى الزّوال وشك بعده في وجوب الجلوس ؛ فإنّ مقتضى استصحاب وجوب الجلوس الثّابت قبل الزّوال هو وجوب الجلوس بعد الزّوال أيضا ، ومقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس الأزليّ الّذي لم يقطع بانقلابه إلى الوجود بعد الزّوال هو عدم وجوبه فيه ؛ لأنّ انقلاب العدم إلى الوجود في الجملة لا يستلزم انقلاب مطلق العدم الأزلي ، وإنّما يستلزم انقلاب العدم المطلق ؛ لأنّ الموجبة الجزئية إنّما تناقض السّالبة الكليّة ،

__________________

في الفردوس مقامه خفى عليه مراده من تعارض الإستصحابين أورد عليه بوجوه ثلاثة.

[ ويرد على الايراد الاوّل ] : ان المقصود حصر الاستصحاب في صورة الشك في الرّافع وأنه حيث حيث احتمل دخل الزمان الخاص في الحكم فلا مسرح للإستصحاب حيث انه حينئذ ليس إلّا مجرّد ثبوت الحكم في زمان ، والإعتماد على مجرّد الوجود معارض باليقين بالعدم في غير ذلك الزمان ، وأمّا اذا كان الشك في الرّافع أو عدم الرّافعيّة كما هو المطّرد في جميع الموجودات الخارجيّة ، وكيف يخفى على أحد أن استصحاب العدم ـ على تقدير كون الزمان قيدا ـ لا يعارض استصحاب الوجود؟ ـ على تقدير الظرفيّة وعدم المدخليّة ـ مع ان من أجلى الضروريّات أن المعتبر في التعارض الاجتماع في محلّ واحد » [ ويأتي الايراد على الوجهين الآخرين في التعاليق الآتية ] إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤.


لا السّالبة الجزئية. فوجوب الجلوس قبل الزّوال لا يناقض عدم وجوبه ، بعده فإذا لم يناقضه والمفروض أيضا عدم دلالة الدّليل على الوجوه فيه فيرجع إلى استصحاب العدم الأزليّ الّذي لم يعلم بانتفاضه إلّا قبل الزّوال ، فهنا شكّ واحد وهو الشّك في وجوب الجلوس بعد الزّوال مسبوق بيقينين : أحدهما : اليقين بوجوب الجلوس قبل الزّوال. ثانيهما : اليقين بعدم وجوب الجلوس بعد الزّوال في الأزل ، ولا ترجيح لأحد اليقينين على الآخر.

فإن قلت : المرجّح هو اتّصال اليقين الأوّل بالشّك ، دون الثّاني لفصل اليقين الأوّل بينهما.

قلت : هذا غلط ؛ لأن كلّا من اليقين متّصل بالشّك ؛ لأنّ اليقين الأوّل إنّما صار فصلا بين اليقين بالعدم المطلق والشّك ، لا بين العدم المقيّد بالزّمان المشكوك.

والكاشف عن ذلك ـ مضافا إلى وضوحه وظهوره ـ : هو أنّ هذا الشّك موجود في زمان اليقين بالوجود أيضا ؛ فإنّ الشّك في وجوب الجلوس بعد الزّوال موجود قبل الزّوال أيضا ، وكذا الشّك في وجوب صوم يوم الجمعة موجود في يوم الخميس أيضا الّذي يقطع بوجوب الصّوم فيه ، فلو كان اليقين بالوجود متّصلا وفاصلا دون اليقين بالعدم الأزلي لما جامع الشّك اليقين بالوجود ، والملازمة ظاهرة.

فما ذكره في العبارة من قوله : « واليقين المتّصل به هو عدم التّكليف ، فيستصحب إلى وقت الزّوال » (١) لا يكون المقصود منه نفي جريان استصحاب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٠٩ نقلا عن مناهج الأحكام للفاضل النراقي أنظر المناهج


الوجود من جهة عدم الاتّصال ، بل إثبات اتّصال اليقين بالعدم بالشّك أيضا فتدبّر (١). هذا إذا كان الشّك من حيث المقتضي.

وأمّا إذا كان الشّك من حيث الشّك في الرّافع للحكم الشّرعي سواء كان في وجوده أو وصفه ، كما إذا شكّ بعد خروج المذي في بقاء الطّهارة ، أو شكّ بعد الغسل مرّة في بقاء النّجاسة في المحلّ ، فالّذي يقتضيه القاعدة ـ بالنّظر إلى ما ذكرنا في الشّك في المقتضي ـ : هو الحكم بتعارض الاستصحابين في المقام أيضا ،

__________________

ص ٢٣٧.

(١) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره بعد أن نقل الحاشية المزبورة من استاذه المحقق الآشتياني ـ لكن من الحاشية القديمة من بحر الفوائد المطابقة إلى حدّ كبير للحاشية الصغيرة الموجودة عندنا والتي هي البحر القديم المنتشر مخطوطه في المحافل العلميّة آنذاك ـ :

« أقول : الحاشية طويلة مغلوطة أرى إيجاز نقله بالمعنى أولى ولعلّه ـ والله أعلم ـ أراد أن يقول : أن المتّصل بالأوّل دون الثاني هو زمان المشكوك فإنه متصل بزمان المتيقن الوجودي وصار فاصلا بينه وبين زمان المتيقّن العدمي.

وأمّا نفس الشك فهو بالنسبة إلى اليقينيّين على حدّ سواء ، فالشك في وجوب الجلوس بعد الزوال يكون مع اليقينيّين قبل الزوال كما هو كذلك بعد الزوال ولو كان الإتصال مختصّا بأحدهما دون الآخر لما إجتمعا معه.

ثم الذي يقتضيه قاعدته كون الشك في الرّافع أيضا كذلك إلّا ان استصحاب عدم وجود الرّافع للحكم الشرعي حاكم على الأصلين المتعارضين لتسبّب الشك فيهما عن الشك فيه.

أمّا لو كان المستصحب من الأمور الغير الشرعيّة فالذي يقتضيه النظر هو حجّية الإستصحاب الوجودي لسلامته عن المعارضة بالإستصحاب العدمي ولمّا بلغ التعليق إلى هذا المقام ولم يبق في القرطاس مجال للنقض والإبرام ختمنا الكلام والسلام » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشي : ٣٧٦.


أعني : استصحاب الطّهارة قبل المذي مثلا ، واستصحاب عدمها الأزليّ الّذي لم يقطع بانقلابه إلى الوجود إلّا قبل مجيء المذي ، إلّا أنّ استصحاب عدم وجود الرّافع للحكم الشّرعي حاكم على الأصلين المتعارضين لتسبّب الشّك فيهما عن الشّك فيه فلا يرجع إذن إلى أصل آخر ، بل يؤخذ حينئذ بمقتضى الاستصحاب الوجودي ، وإن كان المستند فيه استصحاب عدم الرّافع ولولاه لما حكم به ، بل يحكم بالرّجوع إلى سائر الأصول وفرض المتعارضين كأن لم يكونا.

وما ذكرنا في بيان الاستصحابين المتعارضين في المقام أولى ممّا ذكره الفاضل النّراقي : من استصحاب الطّهارة وعدم سببيّة الوضوء بعد المذي ؛ لسلامة ما ذكرنا عمّا أورد عليه الأستاذ العلّامة ثانيا وثالثا ، مضافا إلى عدم استقامته من جهة عدم التّقابل.

نعم ، لو جعل الاستصحاب الوجودي استصحاب السّببيّة ، والعدمي عدم السّببيّة لاستقام من حيث التّقابل ، إلّا أنّه لم يسلم عمّا أورد عليه الأستاذ العلّامة كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما لو كان المستصحب من الأمور الشرعيّة.

وأمّا لو كان من الأمور الغير الشّرعيّة فالّذي يقتضيه النّظر : هو حجيّة الاستصحاب الوجودي فيها لسلامته عن المعارضة بالاستصحاب العدمي ؛ لأنّ الوجود فيها ليس بجعل الشّارع حتّى يقال : إن المتيقّن من انقلاب العدم إلى الوجود قبل كذا أو بعد كذا ، بل الوجود بقول مطلق مناقض فيها لمطلق العدم. وهذا معنى ما ذكره : من عدم استصحاب حال العقل في الأمور الغير الشّرعيّة ، وإلّا فأصل الاستصحاب العدمي موجود فيها قطعا ، كما في غير المسبوق بالوجود


المشكوك وجوده ، هذا ملخّص ما ذكره قدس‌سره.

ولكنّك خبير بفساده ؛ لعدم إمكان الجمع بين استصحاب وجود الشّيء وعدمه في زمان واحد مع بقاء الاستصحاب ، وهو ثبوت ما كان ثابتا في الزّمان الأوّل بعينه في الزّمان الثّاني بالمعنى الأعمّ من بقاء الوجود أو العدم حتّى يشمل الاستصحاب العدمي أيضا.

توضيح ما ذكرنا : من عدم إمكان الجمع : هو أنّه لا إشكال ولا ريب أنّ الوجود المطلق والعدم المطلق نقيضان لا يمكن اجتماعهما أصلا ، كما أن الوجود المطلق مع العدم في الجملة ، والعدم المطلق مع الوجود في الجملة أيضا نقيضان ؛ لأنّ السّالبة الجزئية نقيض للموجبة الكليّة ، كما أنّ الموجبة الجزئية نقيض للسّالبة الكليّة ، وإنّما الّذي يمكن اجتماعه هو مطلق الوجود مع مطلق العدم ، وبعبارة أخرى : الوجود المقيّد والعدم المقيّد.

وبعد ذلك نقول : إنّ الحكم الشّرعي الّذي فرض ثبوته في الزّمان الأوّل الّذي يريد استصحابه في الزّمان الثّاني كوجوب صوم يوم الخميس مثلا ، أو وجوب الجلوس إلى الزّوال مثلا لا يخلو : إمّا أن يؤخذ الزّمان قيدا له ، أو ظرفا له ، أو يهمل من الجهتين ، بمعنى : أنّا لا ندري أنّ الزّمان قيد له أو ظرف له ، وإن كان الأمر لا يخلو عن أحدهما في الواقع.

فإن فرض الزّمان قيدا له ، فلا مجال لاستصحابه بعد الزّمان المفروض ؛ لما عرفت : من عدم تعقّل بقاء المقيّد من حيث إنّه مقيّد مع فرض انتفاء القيد ، فلو كان موجودا في الزّمان الثّاني فهو وجود آخر غير ما كان ثابتا ، فلا دخل له بالاستصحاب كما لا يخفى ، فالمتعيّن حينئذ الرّجوع إلى استصحاب العدم الأزلي.


فإن فرض ظرفا له بمعنى : كون الزّمان ظرفا للطّلب لا للمطلوب ، فإن فرض في دليل الحكم إذن إطلاق أو عموم فيرجع إليهما ولا معنى للاستصحاب أصلا لا الوجودي ، ولا العدمي ، كما هو واضح.

وإن لم نفرض له إطلاق واحتملنا اختصاص مصلحة الحكم بالزّمان الأوّل ـ إن لم يوجب الخروج عن الفرض ـ فلا معنى للاستصحاب العدمي ، بل يتعيّن حينئذ الرّجوع إلى الاستصحاب الوجودي ؛ لأنّ جريان استصحاب العدمي مبنيّ على احتمال اختصاص الوجود بالزّمان الأوّل ، وإلّا فلا يجامع العدم معه على ما عرفت. والمفروض أنّ الشارع حكم بإهمال هذا الاحتمال ، فلا معنى لاستصحاب العدم بعده المبنيّ على الاحتمال المذكور.

وإن فرض مهملا فلا يجري استصحاب الوجود للشّك في بقاء الموضوع.

وإن فرض حكم العرف بالبقاء مسامحة ، فلا معنى لاستصحاب العدم ؛ لأنّ حكم العرف مبنيّ على البناء على أخذ الزّمان ظرفا وقد عرفت : أنّه لا يجري بالملاحظة المذكورة استصحاب العدم.

نعم ، هنا كلام ـ على تقدير مساعدة العرف على الحكم بالبقاء بالنّسبة إلى الوجود في صورة إهمال القضيّة ـ في أنّه هل يوجب الإهمال في الوجود ـ من حيث كون الزّمان ظرفا أو قيدا ـ القدح في استصحاب العدم أيضا أم لا؟

لكنّك قد عرفت : أنّ الحقّ عدم قدحه فيه ؛ لأنّ القادح فيه هو حكم الشارع بالبناء على تعميم الوجود بالنّسبة إلى زمان الشّك ، فإذا لم يمكن ذلك في المقام ـ حسب ما هو قضيّة الفرض ـ فلا مانع من إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى العدم فتأمّل.


وممّا ذكرنا كلّه يظهر : أنّ ربط نقل كلام الفاضل المذكور بما ذكره من القسم الثّالث إنّما هو من جهة كون ما ذكره منه على بعض التّقادير ، ولكن مقتضى التّأمّل في كلامه يعطي كون مراده هو الفرض الثّالث الّذي أهمله الأستاذ العلّامة ولم يتعرّض لحكمه أصلا ، لكنّك عرفت : أنّه لا ينفعه أيضا.

(٢٣٦) قوله : ( وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢١٢ ) (٢)

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان جريان الإستصحاب بعد ملاحظة كون الوضوء علّة تامّة وكون الشك في رافعيّة المذي قد اعترف به وانّما التعارض على تقدير كون الشك في مقدار السببيّة كما في مسئلة المتيمّم الواجد للماء ، مع انّ كون الوضوء علّة تامّة مع كون الشك في رافعيّة المذي تناقض صرف ؛ حيث انه يحتمل حينئذ أن يكون لعدم مصادفة المذي للوضوء مدخليّة في التأثير كما هو مقتضي الناقضيّة المشكوك فيها ، فكيف يقال : انه علّة تامّة في الفرض؟ » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٥.

* وقال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره :

« قلت : إنّ هذا وكذا الإيراد الثالث مناقشة في الامثلة الّتي ذكرها لفرض التعارض فيما كان الشكّ في الرافع ووجد فيه الأصل الحاكم.

وملخّصه : ان الشكّ في الطهارة بعد المذي إن كان من جهة الشكّ في مقدار استعداد تأثير الوضوء ـ وبعبارة أخرى : كان الشكّ فيه في المقتضي ؛ بأن فرض عدم المذي جزء المقتضي ، لا وجوده مانعا عنه ؛ نظير الشك في مقدار تأثير الوضوء في حال التقيّة ، وكذلك وضوء المستحاضة ـ فلا مسرح لجريان استصحاب عدم كون المذي رافعا ؛ لأنّ المفروض كون الشك في المقتضي لا الرّافع لكي يتشبّث بالأصل فيه.

وإن كان الشكّ فيها من جهة الشك في الرافع بعد القطع بتأثير الوضوء في إحداث الطهارة


__________________

المستمرّة وكونه محرز التأثير لو لا ما جعله الشارع رافعا ، فلا معنى لاستصحاب عدم السببيّة بعد المذي ؛ لأنّ المفروض وجوده القطع بالسببيّة وعدم الشك في مقدار تأثير السبب ؛ هذا.

أقول : لو أبدل الفاضل النراقي رحمه‌الله* استصحاب عدم جعل السببيّة للوضوء باستصحاب عدم الطهارة ، لكان سالما عمّا أورد المصنّف رحمه‌الله عليه.

ولعلّ النكتة في عدم التبديل ـ مع أنّ مقتضى السياق ، جعل المعارض استصحاب عدم الطهارة دون عدم جعل السببيّة ـ أحد الوجهين :

أحدهما : عدم تحقّق الحالة السابقة ؛ لعدم طهارة المكلف بوصف كونه واجدا للمذي ؛ لأنّه في أي زمان فرض مع هذا الوصف لكان عدم الطهارة فيه بمحلّ الشك.

وإن شئت قلت : إن عدم الطهارة في هذا المكلّف قبل الوضوء وإن كان محرز الوجود ، لكن وجود المذي يوجب تنويع المكلّف ، وبناء على حصول التنويع يتعدّد الموضوع ، ومع تعدّده لا مسرح لتحقّق الاستصحاب ؛ فتأمّل.

والثاني : إنّه إن قلنا : بانّ الطهارة عبارة عن عدم الحدث ، يكون من مقولة الأعدام ، ولا معنى لإتيان الأمر العدمي تاليا لأصل العدم ؛ هذا.

ولكن هنا أصل آخر لا مسرح لإيراد المصنّف رحمه‌الله عليه ؛ وهو أصالة عدم تأثير الوضوء حال صدور المذي.

توضيح ذلك : أنّا نفرض الوضوء محرز السببيّة ، والشكّ فيه بعد المذي من جهة الشك في الرّافع دون الشّكّ في مقدار تأثيره ، لكن نقول : إنّ الشك في التأثير كما يتحقق في الصورة الأخيرة ، كذلك يتحقّق في الصورة الأولى أيضا. غاية ما هنا أنّ الشكّ في تأثير السبب حينئذ إنّما هو منبعث من الشك في الرّافع ، فالمعارض لاستصحاب الطهارة إنّما هو استصحاب عدم تأثير الوضوء. وفي قبال الثاني أصل حاكم عليه وهو أصالة عدم الرافع » إنتهى. أنظر قلائد الفرائد : ٢ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

(*) مناهج الأحكام : ٢٣٨.


ما ذكره الاستاذ في الجواب الثاني

والثالث لا دخل له بأصل المطلب

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) من الجواب الثّاني والثّالث لا دخل له بالجواب عن أصل المطلب ، وإنّما هو مناقشة في بعض الأمثلة من حيث التّطبيق على ما ذكره من الكليّة وفيما ذكره من الرّجوع إلى أصل الحكم في بعضها ، وملخّص ما ذكره في الجواب الثّاني : هو أنّه لا يخلو :

إمّا أن يجعل الشّك في المذي من قبيل الشّك في الرّافع بعد القطع بإطلاق سببيّة السّبب ووجود المقتضي ـ كما هو الواقع ومقتضى كلامه أيضا ـ فلا معنى لاستصحاب عدم السّببيّة بعد المذي للقطع بوجودها على فرض القطع برافعيّة المذي فضلا عن الشّك فيها ؛ لأنّ معنى السّبب ما يقتضي الوجود ويؤثّر فيه لو لا المانع ، فمرجعه إلى قضيّة شرطيّة يصدق مع صدق الشّرط وكذبه والشّك فيهما. نعم ، لو جعل معارض استصحاب الطّهارة الثّابتة قبل المذي استصحاب عدمها الأزلي بعد المذي ، كان هذا الإيراد مدفوعا عنه كما عرفت سابقا أيضا.

وأمّا إن يجعل الشّك فيه من قبيل الشّك في المقتضي كما في الوضوءات المفيدة لمجرّد الإباحة لا الطّهارة ، كوضوء المستحاضة ، ومن به السّلس ، والمبطون ، وفي حالة التّقيّة في وجه ، فهو وإن كان موجبا لدخول ما ذكره في أمثلة الفرض ، إلّا أنّه لا معنى حينئذ لاستصحاب عدم جعل الشّيء رافعا ؛ لأنّ المفروض كون الشّك من حيث المقتضي وفي استعداد الوضوء ، لا في الرّافع بعد القطع ببقاء


الاستعداد حتّى يرجع إلى استصحاب عدم جعل الشّيء رافعا ، فقوله ( دام ظلّه ) : « لأنّ المتيقّن تأثير السّبب مع عدم ذلك الشّيء ... إلى آخره » (١) بيان لما ذكره في سابقه : من عدم معنى لاستصحاب عدم جعل الشّيء رافعا ، لا أنّه أراد بذلك بيان عدم جواز الرّجوع إلى أصالة بقاء السّببيّة من جهة الشّك في موضوعها وتعيّن الرّجوع إلى أصالة عدم التّأثير والسّببيّة حتّى يقال : إنّه رجوع إلى الجواب الأوّل. فعدّه جوابا ثانيا ممّا لا معنى له هذا.

ولكن ما ذكره ( دام ظلّه ) بعده من الاستدراك بقوله : « إلّا أن يتمسّك باستصحاب وجود المسبّب ... إلى آخره » (٢)(٣) لم يعلم له معنى محصّل.

أمّا أوّلا : فلأنّ أصل فرضه هو إيقاع المعارضة بين الأصل في المسبّب وأصالة عدم تأثير السّبب بعد وجود ما يشكّ في رافعيّته فلم يكن فرضه غير ما ذكره ( دام ظلّه ) حتّى يبقى مجال للاستدراك.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الشّك في بقاء المسبّب على هذا التّقدير مسبّب عن الشّك في تأثير السّبب فمع جريان الأصل بالنّسبة إليه تبيّن حال المسبّب وجودا وعدما ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢١٣.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢١٣.

(٣) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : هذا إن قلنا بجريان الإستصحاب في الشك في المقتضي ولا تتوهّم حكومة أصالة عدم التّأثير على استصحاب وجود المسبّب ، فإنّ أثر هذا الأصل ليس إلّا عدم الحكم بثبوت الأثر في زمان الشكّ استنادا إلى ذلك المؤثّر ، فلا ينافيه الحكم ببقائه لأجل الاستصحاب ، فليتأمّل » انظر حاشية فرائد الأصول : ٣٩٥.


فلا مجرى للأصل فيه على ما هو الأصل في كلّ شكّ سببيّ وشكّ مسبّبي هذا.

ولكن يمكن الذّب عن الأوّل ـ حسب ما صرّح به ( دام ظلّه ) في مجلس البحث ـ : بأنّ الإيراد لم يكن مبنيّا على فرض جعل التّعارض بين الأصلين في تأثير السّبب حتّى يكون على خلاف فرض الفاضل النّراقي ويكون الاستدراك في غير محلّه ، بل المقصود من الإيراد الأوّل : هو أنّه إذا فرض الشّك في مقدار تأثير السّبب واستعداده فلا يعقل تسبّب الشّك عن الشّك في الرّافع حتّى يرجع إلى استصحاب عدمه الحاكم على الأصل العدمي ، فأصالة عدم تأثير السّبب سليم عن معارضة أصالة عدم الرّافع ، فمن هذه الجهة لا مانع لها ، إلّا أنّ المانع لها استصحاب نفس المسبّب كما هو المفروض في كلام الفاضل المعاصر ، فقوله : ( إلّا أن يتمسّك ... إلى آخره ) (١) استثناء عن عدم المانع عن أصالة عدم التّأثير.

وعن الثّاني :

أمّا أوّلا : فبأنّ الكلام مبنيّ على الغمض عن ملاحظة الحاكم والمحكوم.

وأمّا ثانيا : فبأنّ مجرّد تسبّب الشّك في بقاء المسبّب عن الشّك في مقدار تأثير السّبب لا يوجب رفع اليد عن الأصل في المسبّب ؛ لأنّ إثبات رفع المسبّب بأصالة عدم تأثير السّبب في الزّمان المشكوك تأثيره فيه حتّى يترتّب عليه الحكم الشّرعي المترتّب على عدمه تعويل على الأصل المثبت ؛ إذ عدم المسبّب المترتّب على عدم السّبب في زمان الشّك من اللّوازم العقليّة لا الشّرعية.

وقد عرفت وستعرف أيضا : أنّه لا يجوز التّعويل على الأصول المثبتة بناء

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣ / ٢١٣.


على حجيّة الاستصحاب من باب الأخبار.

نعم ، على القول باعتباره من باب العقل لا فرق بين الآثار. كما أنّك قد عرفت وستعرف أيضا : أنّ تسبّب أحد الشكّين عن الآخر إنّما يمنع عن العمل بالأصل في الشّك المسبّبي إذا أمكن إعمال الأصل في الشّك السّببي بحيث يقتضي رفع الشّك المسبّب شرعا ، وأمّا لا مع ذلك فيتعيّن الرّجوع إلى الأصل في الشّك المسبّبي ، إلّا بالنّسبة إلى الأصل الموضوعي والحكمي.

هذا ملخّص ما ذكره ( دام ظلّه ) في مجلس البحث للذّب عن الإيرادين ، وأنت خبير بأنّه لا يخلو عن تأمّل.

(٢٣٧) قوله : ( وأمّا ثالثا : فلو سلّم ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢١٣ )

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : تسليمه يبتني على المغالطة ، الّتي نشأ منها توهّم المعارضة بين استصحاب الوجود والعدم ، من أخذ الحالين ـ اي كون الطهارة قبل المذي وبعده ـ قيدا تارة وإهماله أخرى : أنّ إجراء أصالة عدم جعل المذي رافعا ، مبني على فرض كون الطّهارة أمرا مستمرّا باقيا بعد المذي ، لو لم يجعل المذي رافعا لها ، واستصحاب عدم جعل الشّارع الوضوء سببا للطّهارة بعد المذي مبنيّ على ملاحظة الطّهارة المقيّدة بما بعد المذي ، امرا مغايرا للطّهارة المعلومة سابقا محتاجا إلى جعل مغاير لجعل تلك الطّهارة ، ومن الواضح أنّه لا يتفرّع ثبوت هذه الطهارة المقيّدة على أصالة عدم جعل المذي رافعا ، لأنّ اثر هذا الأصل عدم ارتفاع تلك الطهارة ، لا ثبوت هذه الطهارة. غاية الأمر أنا نعلم أنّه لو لم يكن المذي رافعا للطهارة ، لكانت هذه الطهارة مجعولة في حقّ المكلّف ، كما أنا نعلم أنّه لو لم يكن الطهارة محقّقة ، لكان المذي رافعا للطّهارة السّابقة الحاصلة للمكلّف ، ومرجعه إلى أنا نعلم إجمالا أنّ الشارع إمّا جعل


في الجواب الثالث عما أفاده الفاضل النّراقي

__________________

المذي حدثا ، أو الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، وإجراء أصالة العدم في أحدهما ليس بأولى من الأخر ، فليتأمّل ». أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣٩٥.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« لا يخفى أنه لو سلّم جريان استصحاب العدم ومعارضته لاستصحاب الوجود يكون استصحاب عدم جعل الشيء رافعا حاكما عليهما لا محالة ؛ لأن مرجع جميع الشكوك المتصوّرة في المقام إلى الشك في رفع الحادث أثر المقتضي وعدمه ؛ إذ لو كان منشأ الشك :

الشك في اصل المقتضي وكيفية جعله لم يعقل أن يشك في الرّافع من هذه الجهه أي : من قبل وجود الشيء المشكوك الرافعيّة.

وبالجملة : لا فرق بين الشك في رافعيّة الموجود في مثل المذي وبين وجود الرّافع المعلوم الرّافعيّة كالبول في ان منشأ الشك : الشك في رفع أثر المقتضي فلا وجه للتفكيك بينهما ؛ لأن رفع أثر المقتضي إنّما يتحقق بتحقّق أمرين : كون الشيء رافعا بحقيقته وكونه موجودا ، والشك في كلّ منهما شك في الرافع ، وليس الشك في المثال المفروض في جعل الشارع للحكم المستصحب بعد وجود ما هو مشكوك الرّافعيّة إلّا من جهة الجهل بجعله رافعا أم لا ، وهذا واضح بعد التنبيه عليه » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٤١.

* وقال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انه حيث كان المفروض ان الشك إنّما هو من جهة احتمال الرّافعيّة ، فاحتمال كون المجموع هو الحدث ناش عن احتمال الرّافعيّة بالضّرورة لا العلم الإجمالي بوجود أحد الحكمين.

وتوهّم : ان العمل بوجود أحد الحكمين مع احتمال طروّ المزيل يمنع من جريان الإستصحاب أوضح فسادا فتفطّن » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٥.


أقول : ذكر ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : أنّ هذا التّسليم والجواب مبنيّان على كون المراد من عدم التّأثير هو عدم التّأثير الفعلي لا عدم التّأثير الشّأني ، ومعنى رافعيّة الشّيء للطّهارة : هو حكم الشارع عقيبه بالحدث ، كما أنّ معنى عدم رافعيّته هو حكم الشارع عقيبه بالطّهارة ، ولا نعني بعدم تأثير الوضوء بعد المذي ، إلّا حكم الشارع عقيبه بكون المكلّف محدثا ، كما أنّه لا نعني ببقاء تأثير الوضوء بعد خروج المذي إلّا حكم الشارع بالطّهارة في هذه الحالة ، وهو معنى عدم رافعيّة المذي على ما عرفت.

فالشّك في تأثير الوضوء بالمعنى المذكور عين الشّك في رافعيّة المذي ، وإن كان قد يضاف إلى الوضوء ، وقد يضاف إلى المذي ، إلّا أنّهما عبارتان عن معنى واحد ، فمرجع الشّك في المقام إلى الشّك في أنّ المجعول في حقّ المكلّف أيّ شيء؟ الطّهارة الموافقة لاحتمال عدم رافعيّة المذي وبقاء تأثير الوضوء؟ أو الحدث الموافق لاحتمال رافعيّته وعدم تأثير الوضوء؟ فاحتمال تأثير الوضوء ورافعيّة المذي كلاهما مسبّبان عن الشّك في المجعول الشّرعي بعد خروج المذي ، وليس الأوّل مسبّبا عن احتمال عدم الثّاني على ما تخيّله الفاضل المتقدّم ذكره.

نعم ، ذلك يستقيم فيما إذا كان الشّك في بقاء الحكم الشّرعي من جهة الشّك في وجود الرّافع المعلوم الرّافعيّة ، كما إذا شكّ في خروج البول ، أو كون الخارج بولا أو مذيا مع فرض معلوميّة حكم المذي في الشّريعة ؛ فإنّ الشّك في بقاء الطّهارة وعدمه حينئذ مسبّب عن الشّك في وجود البول وعدمه ، أو كون الخارج بولا وعدمه ، وليس أحد الشّكين عين الآخر ، ولا مسبّبين عن أمر ثالث ؛ لعدم معقوليّة أمر ثالث في المقام ؛ لأنّ الشّك ليس في المجعول الشّرعي كما هو


المفروض حتّى يقال : إنّ احتمال وجود الطّهارة واحتمال وجود الرّافع مسبّبان عن الشّك في المجعول الشّرعي ، وأنّه الطّهارة أو الحدث.

فما ذكره : من فرض وجود الحاكم إنّما يستقيم في هذه الصّورة ، إلّا أنّ التّعارض فيها لا يمكن أن يجعل بين استصحاب الطّهارة واستصحاب عدم تأثير الوضوء ، بل لا بدّ أن يجعل بين استصحاب الطّهارة قبل زمان وجود ما يشكّ في بوليّته واستصحاب عدمها الأزلي ، ولكن لا بدّ من التّأمّل في أنّ كلامه هل يشمل مطلق الشّك في الرّافع حتّى في وجوده؟ أو مختصّ بالشّك في رافعيّة الموجود؟

والإنصاف : أنّ كلامه مشتبه المراد فيظهر من بعض مواضعه شموله له ، ومن بعض مواضعه الأخر عدم الشّمول فراجع إلى ما ذكره في « المناهج » (١) ؛ فإنّ المقام يطول بذكر كلامه ؛ فإنّه قد أطنب في المقام غاية الإطناب هذا.

ولكنّك خبير بأنّ الشّك في بقاء الطّهارة وعدمه في الحكم الجزئي وإن كان مسبّبا عن الشّك في وجود الرّافع وعدمه ، إلا أنّه ليس المقام مقام جريان الأصلين ، أي : استصحابي الوجود والعدم ، حتّى يرجع إلى استصحاب عدم الرّافع ويجعل حاكما على الاستصحابين ؛ لأنّ العلم الإجمالي : بأنّ حالة الشّخص في صورة الشّك ليست بخارجة عن الحدث والطّهارة مانع عن جريانهما ، فيكون هنا استصحاب واحد ليس إلّا ، وهو استصحاب عدم وجود الرّافع. فإن ترتّب حكم شرعيّ عليه وإلّا فلا يعمل به أيضا ؛ لعدم التّعويل على ما لا يترتّب عليه أثر شرعيّ من الأصول.

__________________

(١) مناهج الأحكام : ٢٣٨.


وهذا هو المراد من قوله ( دام ظلّه ) : ( إلّا أن الاستصحاب مع هذا العلم الإجمالي ... إلى آخره ) (١)(٢) أعني : استصحابي الوجود والعدم لا الاستصحاب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢١٣.

(٢) قال المحقق الأصولي الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« قوله : ( غير جار ) خبر أنّ ، والباء في ( بجعل أحد الأمرين ) متعلّق بالعلم الإجمالي يعني المانع من إجراء استصحاب عدم جعل الطهارة في حالة الشك في تحقق المزيل ليس هو حكومة استصحاب عدم وجود المزيل عليه ، بل المانع هو العلم الإجمالي بجعل الشارع في هذه الحالة في حقّ المكلّف أحد الأمرين : الطهارة أو الحدث ، ومع هذا العلم الإجمالي لا مجرى للإستصحاب في أحد الأمرين المعلوم أحدهما إجمالا لأنه لا أولويّة لاستصحاب عدم جعل الطهارة على استصحاب عدم جعل الحدث ، اللهم إلّا أن يقال : المحتاج إلى الجعل هو الطهارة ، وأمّا الحدث وهو عدم الطهارة فلا يحتاج إلى الجعل ، فعدم جعل الطهارة المشكوك فيه يكون مجرى للإستصحاب فالمانع هو الحكومة » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشى : ٣٧٨.

* وقال المحقق شيخ الكفاية الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى أن هذا الإستدراك لا يرتبط بسابقه ولا يستقيم ، والظاهر انه كان مقدّما على قوله : ( نعم ، يستقيم ... ) وكان وضعه هنا من قلم الناسخ كما لا يخفى على المتأمّل » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٤٥.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« هذه العبارة ليست موجودة في بعض النسخ وقد ألحقت في بعض النسخ في هامش الكتاب وفي بعضها في المتن ، ولا يخفي انه غير مرتبط بهذا المقام.

نعم ، يناسب أن تلحق قبل قوله : ( نعم ، يستقيم ... ) وظنّي أن المصنّف ألحقها هناك وكتبها في هامش كتابه واشتبه موضع الردّة على النسّاخ وكم له من نظير وجدناه في كتب المصنّف


الحاكم ، وهو مبنيّ على ما ذكره ( دام ظلّه ) في مسألة العلم الإجمالي : من أنّ العلم الإجمالي مانع عن أصل جريان الأصول في أطرافها ، لا أنّها جارية مع العلم الإجمالي ، ويكون الوجه في عدم العمل بها تساقطها بعد التّعارض كما هو أحد ٣ / ١١٢ المسلكين اللّذين عرفتهما في الجزء الثّاني من التّعليقة في الشّك في المكلّف به في الشّبهة المحصورة.

لا يقال : إنّ هذا العلم متحقّق على قول المشهور أيضا ؛ فإنّه لا يعقل الفرق في وجوده بين القولين كما لا يخفى.

لأنّا نقول : العلم المذكور وإن كان موجودا على كلّ تقدير ، إلّا أنّ من المعلوم أنّه لا أثر له على ما ذهب إليه المشهور ؛ لأنّ المفروض ـ على قولهم وقولنا ـ عدم

__________________

وغيره.

وكيف كان : هذا الكلام في حد نفسه غير مستقيم ؛ لأنه لما جعل استصحاب عدم تأثير الوضوء في الطهارة كاستصحاب عدم جعل المذي رافعا كليهما محكوما ؛ لأن الشك فيهما ناش عن الشك في ان المجعول في هذه الحالة في حق المكلّف هو الحدث أو الطهارة ، لزم أن يحكم بجريان استصحاب الطهارة ؛ لانه سليم عن المعارض ، والعلم الإجمالي بجعل الشارع أحد الأمرين في حق المكلّف غير مانع عن جريان هذا الإستصحاب ، وإنّما يمنع العلم الإجمالي من إجراء الأصلين في طرفي العلم في الشبهة المحصورة من جهة أن إجراءهما يوجب طرح العلم ، وهذا غير ما نحن فيه ؛ لأن الأصل في أحد الطرفين محكوم بالفرض غير جار ، ويبقى الأصل في الطرف الآخر بلا مزاحم ولا مانع ؛ إذ بجريانه لا يلزم طرح العلم الإجمالي فليتأمّل.

والأولى إسقاط هذه العبارة من متن الكتاب » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٤١.


وجود الحالة السّابقة لاستصحاب العدم في أمثال الفرض ، بل المتحقّق على المشهور والمختار : استصحاب واحد وحالة سابقة واحدة ، ومن الواضح : أنّ العلم الإجمالي إذا لم يكن له أثر على كلّ تقدير لم يكن قادحا في اعتبار الأصل ، وحال العلم بوجود أحد من الحدث والطّهارة في زمان الشّك بالنّسبة إلى ما اخترناه من هذا القبيل ؛ لأنّه على تقدير كون الموجود هو الطّهارة لا يكون هناك ما ينافي الحالة السّابقة كما لا يخفى هذا.

ولو لا ما ذكرنا لزم سدّ باب اعتبار الاستصحاب في جميع المقامات ؛ لأن في جميع موارد الشّك يعلم المكلّف بأنّه إمّا أن يكون المستصحب باقيا واقعا على ما كان أو معدوما ويكون المحلّ مشغولا بضدّه ، وهذا بخلاف البناء على ما ذكره ؛ الفاضل المتقدّم ذكره ؛ فإنّ العلم الإجمالي ـ على ما ذكره ـ يكون مؤثّرا على كلّ تقدير ؛ فإنّه على أحد التّقديرين مناف للاستصحاب الوجودي ، وعلى الأخر مناف للاستصحاب العدمي كما لا يخفى.

فإذا بني على أنّ اليقين النّاقض لليقين السّابق أعمّ من اليقين الإجمالي والتّفصيل كان اللّازم الحكم بعدم جريان كلا الاستصحابين ، كما أنّه إذا بني على أنّ العلم بالحرمة أو القذارة الّذي جعل غاية للحليّة الظّاهريّة والطّهارة الظّاهريّة أعمّ من الإجمالي والتّفصيلي لم تجر أصالة الحليّة والطّهارة بالنّسبة إلى شيئين علم بحرمة أحدهما أو نجاسته هذا.

ولكن لا بدّ من أن يعلم أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) هنا مبنيّ على ما أطلق القول به في بعض كلماته : من أنّ العلم الإجمالي رافع لاعتبار الأصل مطلقا سواء كان استصحابا أو غيره ، وأمّا بناء على ما تقدّم منه ( دام ظلّه ) في الجزء الأوّل من


التّعليقة عند التّكلم في دليل الانسداد : من الفرق في هذا المعنى بين الاستصحاب وغيره من الأصول حسب ما عرفت تفصيل القول في وجهه منّا ثمّة في الجزء الأوّل من التّعليقة فلا ، هذا.

وربّما يقال بالفرق بين الفرض في المقام وما ذكره هنا : من جريان أحد الاستصحابين ، وهو لا يخلو عن تأمّل فراجع وتأمّل. هذا ملخّص ما ذكره ( دام ظلّه ) مع توضيح منّا.

تنبيهات

ولكن لا يخفى عليك أنّه بقي هنا أمور لم ينبّه عليها ( دام ظلّه ) لا بأس بالتّنبيه عليها.

الأوّل : أنّ ما أورده ( دام ظلّه العالي ) على الفاضل المتقدّم ذكره أخيرا : من أنّ الاستصحاب مع هذا العلم الإجمالي غير جار ليس مختصّا بالشّك في الحكم الجزئي ، بل يجري في الشّبهات الحكميّة الكليّة والشّبهات الموضوعيّة أيضا بناء على ما ستعرف إثباته منّا عن قريب من جريان ما ذكره من تعارض الاستصحابين في الشّبهات الموضوعيّة.

الثّاني : أنّ ما ذكره الفاضل المتقدّم ذكره : من أنّ الاستصحاب الوجودي في غير الأمور الشّرعيّة جار وسليم عن المعارض بعدم جريان استصحاب حال العقل فيه ، لم يعلم له معنى محصّل ؛ إذ غاية توجيه ما عرفت منّا في وجهه : من أنّ الوجود فيه ليس جعليّا حتّى يجعل له حدّ وزمان فيكون رافعا للعدم بقول مطلق وينتقض العدم به كذلك ، وهو كما ترى خال عن التّحصيل.


لأنّه إن أريد به أنّ الأمر الغير الشّرعي ممّا لا يقبل الانعدام بل إذا وجد يبقى أبد الآباد.

ففيه ـ مضافا إلى أنّه مصادمة للضّرورة والوجدان ـ : أنّه لو كان الأمر كذلك لما جرى الاستصحاب فيه ؛ لأنّ الاستصحاب مختصّ بما يشكّ في بقائه القابل للانعدام وإلّا لم يعقل معنى للشّك فيه كما لا يخفى ، وبالجملة : لم يظنّ بمن دونه في المرتبة أن يقول بهذه المقالة فضلا عنه.

وإن أريد أنّ الأمر الغير الشّرعي قابل للانعدام أيضا تارة : من جهة تماميّة استعداده للبقاء ، وأخرى : من جهة وجود الرّافع له مع بقاء الاستعداد قطعا ، إلّا أنّه فرق بين الوجودين في كيفيّة ارتفاع العدم الأزلي بهما.

ففيه : أنّه لم يعقل الفرق بينهما بعد تسليم جريان ما ذكره في الأمر الغير الشّرعي أيضا ، فإذا شكّ في بقاء الأمر الخارجي من جهة الشّك في تماميّة استعداده ، فيقال ـ في مورد الشّك ـ : أنّ القدر المتيقّن من انتقاض عدمه بالوجود إنّما هو في هذا المقدار ، وأمّا في غيره فالأصل بقاء العدم الأزلي ، وكذا إذا شككنا في بقاء ما كان موجودا في السّابق من الأمور الغير الشّرعيّة من جهة الشّك في وجود الرّافع لها يقال بالنّسبة إليه بما عرفته في الحكم الجزئي.

ومنه يظهر : ورود الإيراد عليه على تقدير القول : بأنّ الشّك في بقاء الأمور الغير الشّرعيّة لا بدّ أن يكون قائما من جهة الشّك في وجود الرّافع لها حسب ما هو قضيّة ميل الأستاذ إليه في طيّ كلماته في مجلس البحث ، مع كون فساده من الأمور الواضحة كما لا يخفى.

وبالجملة : كلّما نتأمّل لم نعقل الفرق بين الأمور الشّرعيّة وغيرها في جريان


ما ذكره في الأمور الشّرعيّة من التّعارض والرّجوع إلى الأصل الحاكم في بعض الصّور فتدبّر.

الثّالث : أنّ الفاضل المذكور ذكر في طيّ كلماته إيرادا على نفسه يرجع حاصله إلى أنّه : إذا بني على عدم اعتبار الاستصحاب في الأمور الشّرعيّة فما وجه ذهابك إلى اعتبار الاستصحاب مطلقا واختيارك القول باعتباره كذلك مع أنّك في الحقيقة من المفصّلين؟

ثمّ أجاب عنه بما يرجع حاصله إلى أنّ : قوله بعدم اعتبار الاستصحاب في الأمور الشّرعيّة إنّما هو من جهة التّعارض ، لا من جهة عدم شمول أصل الدّليل له ؛ فإنّ الأوّل غير مناف للاعتبار بل مثبت له ؛ حيث إنّ التّعارض والتّساقط فرع الاعتبار ؛ إذ لا تعارض إلّا بين الدّليلين كما لا يخفى ، فعدم العمل بالاستصحاب لمكان المعارضة عين الالتزام بحجيّة المتعارضين ، كما أنّ عدم العمل بخبر من جهة تعارضه عين القول بحجيّته ، وإلّا لزم عدم وجود القول بحجيّة الاستصحاب مطلقا ؛ لأنّه لم يقل أحد بحجيّة الاستصحاب بمعنى وجوب العمل به فعلا حتّى في مورد التّعارض ، بل لزم القول بعدم حجيّة شيء من الأمارات والأصول بقول مطلق ؛ إذ لا أقلّ من تعارضها ولو في مورد نادر. هذا ملخّص ما ذكره في الجواب عن الإيراد المذكور مع توضيح منّا.

ولكنّه لا يخفى عليك أنّه لا يخلو عن مناقشة واضحة ؛ ضرورة وضوح الفرق بين التّعارض الدّائمي والاتّفاقي فتدبّر.


* التنبيه الثالث (١)

عدم جريان الاستصحاب في الاحكام العقليّة

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« إن المناط في جريان القاعدة الشريفة ـ وهي الأخذ بالإقتضاء وعدم الإعتداد باحتمال المانع ـ إنّما هو كون الشك من جهة الرّافع والمزيل ، من غير فرق بين كون المستصحب موضوعا أو حكما شرعيّا أو عقليّا أو عرفيا ، ومن الواضح انّ الموضوع بمنزلة العلّة الماديّة للحكم وعدم الرّافع إنّما له مدخليّة في العلّة الفاعليّة ، بل قد عرفت : ان الرّافع بوجوده يؤثّر في إزالة الأثر لا أن عدمه دخيل في التأثير.

وكيف كان : فالعلّة الفاعليّة لا يعقل مدخليّتها في الموضوع ؛ ضرورة تأخير الفاعل عن المادّة رتبة ، فمخالفة الخبر والقضيّة للواقع يقتضي قبحه والإشتمال على إنجاء النبي ـ مثلا ـ يمنع من تأثيرها في القبح قطعا ، وحيث شك في كون الإشتمال على مصلحة أخرى أيضا هل هو رافع له أم لا؟

فمقتضى الإستصحاب عدم الاعتناء بهذا الإحتمال والبناء على ما يقتضيه المخالفة للواقع ، ولا فرق من هذه الجهة بين ما يستقلّ العقل بإدراكه وبين ما يتوقّف على بيان الشارع أو تشريعه ؛ فإنّ الحكم في القضيّة الواقعيّة في جميع المراحل على نسق واحد ، ووجود المقتضي والشرط وعدم المانع لا يختلف بها حال الموضوع وهو معروض الحكم في نفس الأمر وإنّما يختلف بوجود العلّة وعدمها حال الحكم وجودا وعدما.

وبما حقّقناه تبيّن ما فيما أفاده الاستاذ العلّامة أعلى الله مقامه حيث قال : ( انّ المتيقّن السابق إذا كان ممّا يستقلّ بإدراكه العقل كحرمة الظلم وقبح التكليف بما لا يطاق ونحوهما من المحسنات والمقبّحات العقليّة فلا يجوز استصحابه لأن الإستصحاب ... إلى آخره ). » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٥.


(٢٣٨) قوله : ( المتيقّن السّابق إذا كان ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢١٥ )

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« ظاهر كلامه اختصاص عنوان هذا البحث بالمستقلّات العقليّة وبما كان منها مبنيّا على قاعدة التحسين والتقبيح.

والظاهر انه لا وجه لهذا الإختصاص ، بل يجري أيضا في الإستلزامات العقليّة ، كما إذا علم بوجوب شيء من جهة كونه مقدّمة لواجب ، أو حرمته ؛ لكونه ضدّا لواجب ثم شك في بقاء ذلك الوجوب أو الحرمة.

وكذا يجري في المستقلّات غير المبنيّة على قاعدة التحسين والتقبيح ، كما إذا علمنا بعدم وجوب شيء من جهة كونه موردا لنهي فعلي منجّز يمتنع معه الأمر به ؛ لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي على القول بأنه من قبيل التكليف المحال بالمحال ، ثم لو فرضنا الشك في تعلّق الأمر به بزوال النهي عنه فإنه محل البحث أيضا » إنتهى

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٤٣.

* وقال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

وفيه : انّ الحكم توقّفه على معرفة الموضوع من الضروريّات ، ولكن دعوى إعتبار كل ما له دخل في ثبوته في الموضوع وتقيّده به واضحة الفساد ، بل لا معنى لإعتبار العلّة الفاعليّة بشؤونها في العلّة المادّيّة ، فإن أراد أنّ القضايا الواقعيّة لا يعقل فيها سوى الموضوع بقيوده والمحمول والنسبة ، فهو مكابرة للوجدان ؛ ضرورة ان المقتضي والشرط وعدم المانع عن الموضوع أجانب في تلك المرحلة ، وإن زعم انّ القضيّة المعقولة كذلك وإن لم يكن القضيّة النّفس الأمريّة كذلك فهو أيضا بديهي الفساد ؛ حيث انّ العلم تابع للمعلوم ، مع انه لو سلّم ذلك لم يمنع من جريان الإستصحاب ؛ حيث انّ المستصحب إنّما هو الحكم بمعنى المحمول لا بمعنى التصديق بالضّرورة والمحمول قد عرفت انه إنّما يثبت في الواقع لما لا يقيّد بشيء من العلل ومن المعلوم انه يمكن أن يقع الشك في المقتضي والشرط والمانع ، فحيث أدرك العقل


__________________

ثبوت حكم في حال من الأحوال وشك في وقت آخر في بقاءه لحدوث ما يحتمل كونه مزيلا جرى الإستصحاب.

نعم ، لو كان الشك من جهة الزوال ما يحتمل إشتراطه أو للشك في مقدار تأثير السبب ومن جهة الجهل بالموضوع لم يجري الإستصحاب.

ودعوى : ان الموضوع لا بد من معرفته تفصيلا ، واضحة السقوط ؛ فانه لا مانع من الحكم على ما يحتمل دخل بعض ما يقارنه فيه ، فاذا تبدّل الحال يقع الشك لأجل عدم معرفته الموضع تفصيلا ، وعدم خلوّ الحكم العقلي عن كونه ضروريّا أو منتهيا إليه لا ربط له بذلك ؛ فإنّ الحكم الشرعي أيضا إمّا يدرك بالضرورة أو بما ينتهي إليها.

وبالجملة : فاستناد التصديق بالحكم إلى الضرورة لا يقتضي معرفة موضوعه تفصيلا ، بل يمكن أن يكون ثبوت الحكم لشيء على بعض التقادير ضروريّا ، وعلى التقدير الآخر مشكوكا فيه ، مع أنّ الشأن إنّما هو في إثبات إعتبار جميع ماله دخل في الحكم في موضوعه بحسب الواقع ولا دخل للإدراك في ذلك ؛ فإنه ليس موضوعا وإنّما هو ثبوت لتحقّق الحكم.

ثم إن هذا الإشكال بعينه جار في الأحكام الشرعيّة ؛ حيث انّ دخل جميع ماله تأثير في الحكم في الموضوع وكونها قيودا له لا يختلف باختلاف كون الحكم متوقّفا على جعل الشارع أو بيانه أو عدم كونه كذلك.

ولا يمكن التفصّي عنه : بانّ المرجع في موضوعات أحكام الشرع هو العرف ؛ فإن التسامح العرفي يجري في المقامين.

ألا ترى انّ الكريّة ـ مع انّها ليست من الأحكام الشرعيّة ـ يتسامح في موضوعها؟ كما انّ الرفع الحقيقي غير متحقّق في كثير من موارد الإستصحاب ، مع انّها ليست أمورا شرعيّة ؛ فإن انتهاء الأمد ليس رافعا للزمان ، بل الموت ليس رافعا للحياة ولا الوجود رافعا للعدم وإنّما الرّفع فيها عرفي ويكفي ذلك في جريان الأصل.


أقول : قد عرفت شطرا من الكلام فيما يتعلّق بالمقام في طيّ كلماتنا السّابقة عند التّكلّم في أقسام الاستصحاب باعتبار الأمور المأخوذة فيه ، ولا بأس في أن نتكلّم فيه بعض التّكلّم في المقام أيضا تبعا لشيخنا ( دام ظلّه ) لعلّ به يحصل توضيح المرام فنقول :

إنّ الثّابت أوّلا قد يكون من مقولة الموضوع ، وقد يكون من مقولة الحكم. وعلى الثّاني : قد يكون عقليّا ، وقد يكون شرعيّا. وعلى الثّاني : قد يكون مستكشفا عن عقليّ ، وقد لا يكون كذلك. لا كلام في جريان الاستصحاب في الأوّل وفي الثّاني من قسمي الأخير ، إلّا على إشكال يأتي دفعه وفي خروجهما عن محلّ الكلام في المقام ، وإنّما الكلام في جريان الاستصحاب في الحكم العقلي وفي الحكم الشّرعي التّابع له المتّحد معه موضوعا المستند إليه في الاستكشاف.

ثمّ الكلام فيهما قد يقع : في جريان الاستصحاب في أنفسهما. وقد يقع : في

__________________

والحاصل : ان الملاك في جريان الإستصحاب هو صدق النّقض والإبقاء والتسامح من هدم الجهة لا ينافي كون المستصحب أمرا غير مجعول أو ممّا يستقلّ العقل بإدراكه فالتسامح العرفي جار في جميع الموارد ، ويكفي ذلك في صدق البقاء والنقض وإن لم يكن كذلك على الموازين العقليّة من جهة ما يتخيّل من اعتبار كلّ ما له دخل في الحكم قيدا للموضوع.

والحاصل : ان إدراك الحكم مرحلة مغايرة لمرحلة تشخيص الموضوع ، وكون الحكم مدركا بالعقل واستقلاله به لا ينافي مسامحة العرف في موضوعه ومخالفته لما هو الميزان في موضوع حكمه وكون المناط في جريان الأصل هو الميزان العرفي في الموضوعات ، ويشبه المقام ما يقال : انّ كون المسمّى شرعيّا لا ينافي كون التسمية عرفيّة ، فالصلاة وإن انتفت في نظر الشارع بانتفاء بعض شروطها أو أجزاءها إلّا أن العرف يحكم ببقاءها مسامحة » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.


إجراء الاستصحاب في موضوعهما فيما كان الشّك فيهما من جهة الشّك في الموضوع على ما هو الشّأن في استصحاب الموضوع. فبالحريّ أن نحرر البحث في مقامات أربع :

الأوّل : في إمكان جريان الاستصحاب في نفس الحكم العقليّ كحرمة الظّلم العقليّة ، أي : إلزام العقل بتركه وتقبيحه ارتكابه مع قطع النّظر عن حكم الشّرع به.

الثّاني : في إمكان جريان الاستصحاب في الحكم الشّرعي المستند إلى الحكم العقلي المستكشف بقاعدة التّطابق.

الثّالث : في إمكان الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي فيما علم به سابقا وشكّ في بقائه ؛ ليترتّب عليه الحكم العقلي.

الرّابع : في إمكان جريانه فيه ليترتّب عليه الحكم الشّرعي المشارك للحكم العقلي في الموضوع بالفرض.

الاستصحاب لا يجري في الاحكام العقليّة

فنقول : أمّا الكلام في المقام الأوّل : فالحق عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي وعدم إمكانه سواء كان من مقولة الإنشاء ـ على ما هو محلّ البحث ـ أو الإدراك والتّصديق بأنحائهما وأقسامهما ، وجوديّا كان ، أو عدميّا ، قطعيّا كان أو ظنيّا. أمّا عدم إمكان جريانه في حكمه الإنشائي ؛ فلأنّ المعتبر في الاستصحاب موضوعا ـ على ما هو من الأمور الجليّة الّتي لا يعتريها ريب ـ الشّك في بقاء ما ثبت.

ومن المعلوم بالضّرورة والوجدان عدم تعقّل الشّك في بقاء الحكم لنفس


الحاكم بشيء سواء كان عقلا أو شرعا أو غيرهما ؛ لأنّه بعد الرّجوع إلى نفسه : إمّا أن ينشأ ما أنشأه أوّلا في الزّمان الثّاني فلا معنى للاستصحاب ، أو لا ينشأه فلا معنى للاستصحاب أيضا ؛ للقطع بعدم الحكم واقعا ؛ إذ واقعه إنّما هو بنفس إنشاء الحاكم ولا يعقل شكّ المنشيء في إنشاءه بمعنى شكه في بقاء ما أنشأه أوّلا ؛ إذ لا يعقل بالنّسبة إلى نفس الحاكم الثّبوت النّفس الأمري حتّى يعقل شكّه فيه ، نظير سائر الأمور الثّابتة بحسب الواقع ، فالشّك إنّما يتعقل بالنّسبة إلى ما يتصوّر له واقعيّة مع قطع النّظر عن حكم الشّاك وعدم حكمه ـ سواء كان من الموضوع أو حكم حاكم آخر ـ فإنّه يمكن عروض الشّك في بقائه نظير سائر المحمولات الثّابتة للموضوعات الواقعيّة.

فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ ما قرّرنا لا يختصّ بالاستصحاب في الحكم العقلي ، بل يجري بالنّسبة إلى جميع الأحكام بالنّسبة إلى الحاكم بها ؛ فإنّهم إن علموا بوجود ما كان علّة تامّة في حكمهم في الزّمان الأوّل ، يحكمون في الزّمان الثّاني أيضا. وإن لم يعلموا سواء قطعوا بعدمها أو شكّوا فيها ، لم يحكموا قطعا كما لا يخفى. وإن كنت في ريب ممّا ذكرنا لك فافرض نفسك حاكما بشيء وانظر هل ترى منها الشّك في الحكم في زمان؟

والوجه في ذلك : أنّ الحاكم بشيء لا يستقلّ في الحكم به إلّا بعد إحراز جميع ما له مدخل في حكمه ، فإن وجده في الزّمان الثّاني يحكم به كما حكم في الزّمان الأوّل ، وإلّا فلا يحكم به قطعا سواء كان قاطعا بعدمه ، أو شاكّا أو ظانّا ؛ لأنّ حكمه تابع لإنشائه ومن مقولات أفعال نفسه ، لا التّحقّق الموضوع واقعا حتّى يستلزم احتمال وجوده احتمال وجود الحكم على ما هو قضيّة التّبعيّة ، فالحكم


من الحاكم بالنّسبة إلى موضوعه مترتّب عليه ما دام معلوما.

ومن المعلوم أنّ الحكم العارض للموضوع بوصف العلم به يرتفع واقعا في صورة الشّك بحيث لو فرض ثبوت الحكم في صورة الشّك لم يعقل أن يكون هو هذا الحكم ، بل لا بدّ أن يكون حكما آخر في موضوع آخر.

ومن هنا يعلم أنّه ليس للعقل حكمان : حكم واقعيّ يحكم به في الموضوع الواقعي ، وحكم ظاهريّ يحكم به عند الشّك في حكمه الواقعي ، كما ربّما تخيّله بعض من لا خبرة له.

نعم ، حكم العقل على موضوع يوجد في صورة القطع بشيء وفي صورة الشّك فيه ممّا لا ينكر ، لكنّه لا دخل له بالحكم الظّاهري للعقل ، كحكمه بقبح التّشريع مثلا على القول : بكونه إدخال ما لم يعلم كونه من الدّين سواء علم بعدم كونه من الدّين أو شكّ في ذلك على ما أسمعناك شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة هذا كلّه.

مضافا إلى أنّه لو فرض شكّ للعقل في بقاء حكمه فلا يتصور إلّا من حيث الشّك في بقاء الموضوع من حيث ارتفاع وجود ما يحتمل مدخليّته ، أو الشّك في ارتفاع ما علم مدخليّته ، أو وجود ما يحتمل مدخليّة عدمه ، أو الشّك فيه مع القطع بمدخليّته ، وسيجيء اشتراط بقاء الموضوع في إجراء الاستصحاب.

وإلى أنّه لا معنى لإجراء الاستصحاب في الحكم العقلي مع قطع النّظر عمّا ذكر أيضا ؛ لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليه حتّى يجري الاستصحاب فيه بناء على ما عرفت غير مرّة وستعرف إن شاء الله : من أنّ استصحاب ما لم يترتّب عليه أثر شرعيّ إذا لم يكن نفسه حكما شرعيّا ممّا لا معنى له. هذا محصّل الكلام في الحكم


العقلي بمعنى الإنشاء.

ومنه يعرف الكلام في عدم إمكان جريان الاستصحاب في حكمه بمعنى الإدراك أيضا ؛ لعين ما عرفت سابقا : من عدم تعقّل الشّك في بقائه ؛ لأنّه في الزّمان الثّاني : إمّا أن يدرك ما أدركه أوّلا أو لا يدرك قطعا ، ولا يعقل الشّك في أنّه يدرك أو لا يدرك.

نعم ، المدرك ممّا يشكّ في بقائه سواء كان من مقولة الحكم ، أو الموضوع ، لكنّه لا دخل له بالإدراك الّذي نتكلّم فيه فتدبّر. هذا مجمل القول في المقام الأوّل.

* * *


عدم جريان استصحاب الحكم الشرعي المنكشف من حكم العقل (١)

وأمّا الكلام في المقام الثّاني : وهو إمكان جريان الاستصحاب في الحكم الشّرعي التّابع للحكم العقلي ، أي : المستكشف منه بقاعدة التّلازم بينهما ، فالّذي صرّح به الأستاذ العلّامة : إمكان جريان الاستصحاب فيه مع قطع النّظر عن تسبّب الشّك فيه عن الشّك في الموضوع وتردّده بين ما هو باق واقعا قطعا وبين ما هو

__________________

(١) وعلّق المحقّق المؤسس الطهراني قدس‌سره على كلمة استاذه الشيخ الأعظم قدس‌سره : ( فإن قلت : فكيف يستصحب الحكم الشرعي مع انه كاشف عن حكم عقلي مستقلّ ... إلى قوله : وإن كان موردا للقبح ) [ فرائد : ٣ / ٢١٦ ] :

« وفي كلّ من الإعتراض والجواب نظر :

أمّا الأوّل : فلأن المنشأ للإعتراض إنّما هو كون القضيّة الواقعيّة على نسق واحد في اعتبار القيود في موضوعها ولا دخل لكونها مدركة بالعقل في ذلك ، فيتوجّه الإشكال حتى لو لم يكشف الحكم الشرعي عن الحكم العقلي المستقلّ.

وأمّا الثاني : فلما عرفت : من ان التسامح في الموضوع لا ينافي استقلال العقل بإدراك الحكم.

وأمّا التفريع الذي افاده بقوله : ( ومن هنا ... إلى آخره ).

ففيه : ان البراءة الأصليّة يستصحب وإن لم يكن لتحقّقها مدرك غير قبح الخطاب بالنّسبة إلى غير المميّز والمجنون ، فحيث ثبت عدم تكليف بالنسبة إلى الشخص عقلا قبل التميز فالشك في اشتغال الذمّة بعد البراءة شك في الرّافع ولا حاجة في جريان الإستصحاب إلى بيان الشارع للعدم الأزلي ، ولهذا سمّوه باستصحاب حال العقل ولم يتأمّل أحد في جريان الأصل من هذه الجهة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٧.


مرتفع كذلك ؛ لأنّ الحاكم به ليس هو المكلّف حتّى لا يمكن وقوع الشّك فيه ، بل غيره وقد عرفت : أنّه لا شبهة في طريان الشّك في بقاء حكم الغير فمع قطع النّظر عمّا هو قضيّة التّحقيق من لزوم إحراز (١) الموضوع في الاستصحاب لا ضير في الاستصحاب المذكور.

لا يقال : إذا فرض كون حكم الشّرع تابعا لحكم العقل ، فكيف يمكن احتمال بقاء الحكم الشّرعي مع القطع بانتفاء الحكم العقلي المتبوع له.

لأنّا نقول : معنى تبعيّة الحكم الشّرعي للحكم العقلي هو اتّحاد موضوعهما لا كون الحكم العقلي موضوعا للحكم الشّرعي ، فلو فرض إذا شكّ في ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة واحتمل كونه ممّا ينتفي في الزّمان اللاحق لم يكن هناك مانع عن استصحاب الحكم الشّرعي مع القطع بعدم وجود الحكم العقلي ؛ لإمكان الشّك في بقاء الحكم الشّرعي واحتمال بقائه من جهة احتمال بقاء ما هو الموضوع له.

لا يقال : إذا فرضت كون الموضوع في حكم العقل هو الشّيء بوصف كونه معلوما ، فلا بدّ أن يكون هو الموضوع في حكم الشّرع أيضا ؛ لأنّ حكم الشّرع المستكشف من حكم العقل لا يمكن أن يكون موضوعه غير ما هو الموضوع في حكم العقل ، فكما لا يعقل الشّك في بقاء الحكم العقلي من جهة أخذ العلم في موضوعه جزءا كذلك لا يعقل الشّك في بقاء الحكم الشّرعي أيضا ، لا من جهة أنّ الموضوع في الحكم الشّرعي هو حكم العقل حتّى يمنع عنه ، بل من جهة وحدة الموضوع فيهما.

لأنّا نقول : أمّا أوّلا : فلأنّ وحدة الموضوع في حكم العقل والشّرع لا يقتضي

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


عدم احتمال بقاء الحكم الشّرعي في موضع الدّوران ؛ فإنّ العلم الّذي يكون معتبرا في الحكم والإنشاء إنّما هو علم الحاكم لا علم غيره ، فإذا كان الحاكم العقل فلا بدّ في حكمه من علمه بما هو المناط له في زمان الحكم. وإن كان الحاكم الشّرع فالمعتبر هو علمه لا علم المكلّف. ومن المعلوم أنّ تحقّق الموضوع وبقاءه عنده ممّا هو محتمل قطعا ، فيحتمل وجود حكمه أيضا فكون العلم مأخوذا في موضوع حكم العقل لا ربط له بالمقام ، ولا يمنع من الشّك في بقاء الحكم الشّرعي كما هو ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الكلام إنّما هو بعد فرض عروض الشّك في الموضوع للعقل من أوّل الأمر ، وأنّه لا يدرى بأيّ موضوع تعلّق حكمه ، وإلّا فقد عرفت : أنّ الشّك في معروض الحكم ، وأنّه أيّ شيء ممّا لا يعقل عند العقل فتدبّر.

لا يقال : كيف يدّعى أخذ العلم في موضوع حكم العقل وأنّه لا واقعيّة له حتّى يشكّ في بقائه وعدمه ، مع أنّ من المشاهد المحسوس شكّنا كثيرا في وجود المصالح والمفاسد في الأفعال المقتضية لحكم الشارع؟

لأنّا نقول : قد اشتبه عليك الأمر في حكم العقل ؛ فإنّ المراد من حكم العقل في المقام ليس هو المصالح والمفاسد الكامنة في الأشياء الباعثة على حكم الشارع ؛ فإنّها من ذاتيّات الأشياء ، ومن الأمور الثّابتة في الواقع بحيث لا ربط للعقل فيها أصلا ، وإنّما المراد من حكم العقل في المقام : هو ما ذكروه في مسألة التّحسين والتّقبيح وجعلوه محلّا للنّزاع ثبوتا وعدما وكونه دليلا على حكم الشارع على تقدير الثّبوت أم لا ، الّذي قسّموه إلى أقسام خمسة من الاقتضائي والتّخييري. ومن المعلوم أنّ هذا إنشاء محض من العقل لا واقعيّة له أصلا.


فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الشّك وإن كان متصوّرا في بقاء الحكم الشّرعي المستكشف من حكم العقل من جهة قاعدة الملازمة ، إلّا أن الشّك فيه يرجع دائما إلى الشّك في بقاء موضوعه فلا يجري الاستصحاب فيه من هذه الجهة.

لا يقال : لو كان الأمر كما ذكرت : من عدم تعقّل جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ولا في الأحكام الشّرعيّة المستندة إليها لزم عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة الغير المستندة إليها المستكشفة من الطّريق الشّرعي بناء على ثبوت عكس قاعدة التّطابق ـ حسب ما هو قضيّة التّحقيق الّذي عليه المحقّقون بل العدليّة قاطبة ـ لأنّه بناء على هذا لا بدّ من أن يكون الموضوع في جميع القضايا الشّرعيّة هو الموضوع في القضايا العقليّة الثّابتة في مواردها لأنّ هذا هو معنى التّطابق ؛ ضرورة أنّ الحكم بشيء في موضوع من حاكم وفي موضوع آخر من حاكم آخر لا يسمّى تطابقا هذا. مضافا إلى أنّ قضيّة دليل التّطابق هو ذلك ، فإذا حكمت بجريان الاستصحاب في الفرض يلزمك الحكم بجريانه في الحكم الشّرعي مطلقا ، بل في الحكم العقلي أيضا.

وبعبارة أخرى : لو فرض تسليم انعكاس قضيّة التّطابق : إمّا أن تقول : بأنّ الموضوع في حكم الشارع غير الموضوع في حكم العقل. وإمّا أن تقول : بالتّفصيل في جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة بين الثّابت في موضوع أوّلا وبالذّات وبين الثّابت فيه ثانيا وبالعرض بواسطة حكم الشارع. وإمّا أن تقول : بالجريان مطلقا ، أو عدمه مطلقا. لا سبيل لك إلى أحد الأوّلين : أمّا الأوّل ، فظاهر. وأمّا الثّاني : فلوجود مناط المنع في كلا القسمين.

لأنّا نقول : لا ملازمة بين منع جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة


مطلقا والأحكام الشّرعيّة المستندة إليها ، وبين منع جريانه في الأحكام الشّرعيّة الغير المستندة إليها من غير فرق بين القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، وبين القول باعتباره من باب الظّن.

أمّا على الأوّل : فلأنّا نختار تغاير الموضوع في القضيّتين لا بمعنى افتراق أحد الموضوعين عن الآخر بحيث يلزم وجود الحكم الشّرعي في مورد دون الحكم العقلي حتّى ينافي قضيّة التّطابق بين العقل والشّرع ، بل بمعنى كون الموضوع في القضيّة الشّرعيّة ما هو مشتمل على الموضوع في القضيّة العقليّة ويتصادق معه ؛ لأنّ هذا المقدار يكفي في التّطابق ؛ إذ لم يدلّ دليل لا من العقل ولا من النّقل على أنّه يجب على الشارع أن يجعل الموضوع في القضيّة نفس ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة.

بل قد قيل وصرّح به الأستاذ العلّامة في مجلس البحث : أنّ الموضوع في القضايا الشّرعيّة الّتي لا يستقلّ فيها العقل ـ على ما هو مفروض البحث ـ لا بدّ أن يكون غير الموضوع في القضيّة العقليّة دائما ؛ فإنّ الموضوع في القضايا العقليّة ليس إلّا الموضوع الأوّلي والعلّة التّامة ؛ ضرورة إلقاء (١) الوسائط في نظر العقل ، فلو كان الموضوع في القضيّة الشّرعيّة هو ذلك أيضا لزم حكم العقل به ، ولم يعقل الاحتياج إلى توسيط حكم الشارع في الاستكشاف ، وإن كان فيه ما فيه ؛ ضرورة

__________________

(١) الصحيح « الغاء » وقد مرّ منه ذلك في عدّة مواضع ، بمشتقّاتها ولم ننبّه عليه إتّكالا على فطانة الباحث فليعلم ، وإن كانت صحيحة أيضا بضرب من التسامح ، إلّا انهم تعارفوا في هذه الأزمنة أن يكتبوها بالغين دون القاف.


إمكان الجهل تفصيلا بالعلّة عند العقل مع علم الشارع بها من حيث إحاطته بجميع الأشياء.

فعلى ما ذكرنا : يمكن أن يحكم الشارع على شيء بحكم كان مشتملا على ما هو الموضوع في حكم العقل بحيث كان المناط في حكمه ما هو الموضوع في حكم العقل ، ويقطع ببقاء ما هو الموضوع في حكمه في الزّمان الثّاني مع الشّك في بقاء نفس حكمه : من جهة احتمال زوال ما هو المناط له الّذي يكون موضوعا في القضيّة العقليّة.

حيث إنّك قد عرفت : أنّ الموضوع في القضيّة الشّرعيّة لا يلزم أن يكون موضوعا أوّليّا وعلّة تامّة حتّى يمتنع اجتماع القطع به مع الشّك في الحكم ، كما هو حال الموضوع في القضيّة العقليّة فإذن يمكن القطع ببقاء الموضوع في القضيّة الشّرعيّة مع الشّك في بقاء الحكم من جهة الشّك في بقاء ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة ؛ ضرورة أنّ الموضوع العقلي وإن لم يكن موضوعا في القضيّة الشّرعيّة ، إلّا أنّ الحكم وجودا وعدما بحسب الواقع تابع له ، إذ هو العلّة فيه بالفرض ، فالشّك فيه مع القطع ببقاء الحكم ممّا لا يمكن اجتماعهما على هذا الفرض.

فمعنى أعميّة الموضوع الشّرعي عن الموضوع العقلي ـ كما في « الكتاب » ـ أعميّته من حيث الذّات ، فإذن يمكن إجراء الاستصحاب في الحكم الشّرعي والحكم بشمول الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك له ؛ لأنّ الالتزام بالحكم المشكوك في الزّمان الثّاني التزام بالحكم في موضوعه ، فيصدق على عدمه : أنّه


نقض للحكم الثّابت أوّلا ، وعلى وجوده : أنّه إبقاء للحكم الثّابت أوّلا فيشمله أخبار الباب.

نعم ، قد يشكّ في مورد في بقاء الحكم الشّرعي من جهة الشّك في بقاء موضوعه فلا يجري الاستصحاب فيه ، لكنّه لا دخل له بقاعدة التّطابق ولهذا قد يفرض مثله في استصحاب الموضوع الخارجي أيضا ؛ فإنّه قد يكون الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في بقاء موضوعه ، فلا يجري الاستصحاب فيه ، ولا نقول بجريان الاستصحاب في الحكم الشّرعي الغير المستند إلى الحكم العقلي مطلقا حتّى يكون عدم جريانه في بعض الموارد نقضا علينا ، بل المدّعى : أنّه لا مانع من إجراء الاستصحاب في الحكم الشّرعي المذكور من جهة قاعدة التّطابق ، لا أنّه لا مانع عنه مطلقا.

وهذا بخلاف الحكم الشّرعي المستند إلى القضيّة العقليّة ؛ فإنّ الموضوع فيه لا يمكن أن يكون غير ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة على ما عرفت تفصيل القول فيه ، فالشّك في الحكم الشّرعي الكلّي لو فرض لا يمكن أن يكون من غير جهة الشّك في الموضوع ، فلا معنى لإجراء الاستصحاب فيه ، هذا كلّه على القول باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن سواء كان من باب الظّن الشّخصي ، أو النّوعي بقسميه ، فالحق : عدم الفرق بين القسمين من الحكم الشّرعي على تقدير فرض الشّك في موضوع حكم العقل ، كما ربّما يتوهّمه من لا خبرة له ؛ لأنّ مع الشّك في المناط لا يمكن الظّن بالحكم سواء كان هو الموضوع له كما في الحكم الشّرعي المستند إلى الحكم العقلي ، أو ما كان متصادقا معه كما في الحكم الشّرعي


الغير المستند إليه ، وإن فرض الظّن ببقاء المناط من جهة الغلبة ونحوها وإن كان في غير محلّه ، لم نعقل الفرق أيضا بين القسمين ، هذا كلّه على فرض إمكان الشّك للعقل فيما هو الموضوع لحكمه ، وإلّا فثبوت الفرق أيضا جليّ على تقدير حصول الظّن بالمناط ، هذا كلّه بالنّسبة إلى الحكم الشّرعي المستند إلى الحكم العقلي.

وأمّا نفس الحكم العقلي فلا يمكن استصحابه ولو على تقدير القول بإمكان الشّك في موضوع حكم العقل مع الظّن ببقائه ؛ إذ قد عرفت : أنّ الحكم العقلي إنّما يتبع القطع بالموضوع ، فحال الشّك فيه والظّن به سواء في نظره فلا حكم له معهما قطعا. هذا مجمل القول في المقام الأوّل والثّاني.

عدم معقوليّة جريان الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي

ليترتّب عليه الحكم العقلي

وأمّا الكلام في المقام الثّالث : وهو إجراء الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي ليترتّب عليه الحكم العقلي ؛ حيث إنّ الشّك في بقاء ما هو الموضوع في القضيّة العقليّة وارتفاعه ممّا لا سترة فيه ، كما إذا حكم العقل بشرب مائع من حيث كونه مضرّا ومهلكا ، ثمّ شكّ في زمان في بقاء الضّرر فيه ، فالحقّ : أنّه أيضا ممّا لا يعقل ـ سواء على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، أو الظّن ـ لا من جهة عدم تعقّل الشّك في بقاء الموضوع ، كيف؟ وقد عرفت : أنّه من الأمور الواضحة الّتي لا سترة فيها ، بل من جهة ما عرفت ـ في طيّ كلماتنا السّابقة ـ : من أنّ الحكم العقلي إنّما يتبع القطع بالموضوع.


ففي صورة عدم القطع به لا يحكم قطعا ـ سواء شكّ في الموضوع أو ظنّ به ـ فتعبّد الشارع حينئذ ممّا لا نعقل له معنى أصلا : من جهة أنّ أمره ظاهرا ببقاء الموضوع إنّما ينفع بالنّسبة إلى الأحكام المحتملة للبقاء في زمان الشّك ولو لم يكن من الآثار الشّرعيّة بناء على القول بحجيّة الاستصحاب بالنّسبة إلى غير الأمور الشّرعيّة أيضا هذا.

مضافا إلى ما عرفت غير مرّة وستعرف أيضا تفصيلا : من عدم حجّية الاستصحاب بالنّسبة إلى غير الآثار الشّرعيّة إذا لم يكن المستصحب من الأحكام الشّرعيّة ، وكذا الظّن ببقاء الموضوع لا يمكن أن يكون ظنّا ببقاء الحكم العقلي ؛ لما عرفت : من القطع بعدم الحكم له عند عدم القطع بالموضوع هذا ما يقتضيه النّظر الجليّ.

وأمّا ما يقتضيه النّظر الدّقيق فهو : أنّ الموضوع في القضايا العقليّة دائما هو الشّيء بوصف كونه معلوما ، فالعلم دائما جزء للموضوع في القضايا العقليّة ، فالشّك في الموضوع ، أو الظّن به ممّا لا يعقل بالنّسبة إليها ، وإلّا لزم انفكاك الظّن بالعلّة عن الظّن بالمعلول ؛ لما عرفت غير مرّة : من أنّ العقل يحكم دائما على الموضوع الأوّلي ، وبمثل هذا فليحرر المقام.

ومن التّأمّل فيه يظهر فساد التّفصيل في المقام بين القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن أو التّعبّد بتوهّم : أنّه على الأوّل يحكم بترتّب الحكم العقلي عليه ؛ نظرا إلى عدم الفرق على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن بين الآثار الشّرعيّة والعقليّة ، وعلى الثّاني يحكم بعدم ترتيبه ؛ لعدم حجيّة الاستصحاب بالنّسبة إلى غير الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب.


توضيح الفساد : أنّ مع الظّن ببقاء المستصحب إن أمكن الظّن ببقاء ما هو لازمه ولو كان غير شرعيّ ، لا بدّ من القول باعتبار الاستصحاب فيه. وأمّا إذا لم يمكن ذلك كما في المقام ـ على ما عرفت تفصيل القول فيه ـ فلا يعقل القول بوجوب الالتزام به بواسطة الظّن بالموضوع.

نعم ، قد يحكم العقل حكما قطعيّا جزميّا بشيء في صورة الظّن ببعض الموضوعات ، كما في الضّرر الأخروي المظنون ، أو الدّنيوي بناء على القول : بأنّه يحكم العقل بوجوب دفعه مع قطع النّظر عن دليل الانسداد ، بل في صورة احتمال بعض الموضوعات ولو كان موهوما ، كما في الضّرر الموهوم الأخروي ، لكنّه لا دخل له بحديث الظّن بحكم العقل.

لأنّك قد عرفت : أنّه يحكم حكما قطعيّا في صورة الظّن أو الوهم مثل ما يحكم به في صورة القطع ، لا أنّه يظنّ بحكمه الثّابت في موضوع القطع ، فكلّ من الظّنّ والوهم حينئذ موضوع لحكمه وإنشائه كالقطع ، فهذا لا دخل له بما نحن في صدده : من إثبات الظّن بالحكم العقلي من جهة تعلّق الظّن بموضوعه من جهة الاستصحاب.

وكذا يظهر فساد ما قيل : من تسليم تعبّد الشارع بحكم العقل في الفرض وخروجه عن كونه عقليّا ، كما ربّما يستظهر من « الكتاب » : من حيث عدم امتناع إلزام الشارع بالالتزام بالحكم العقلي الثّابت أوّلا في صورة الشّك في بقاء موضوعه ؛ ضرورة امتناع تعبّد الشارع بالحكم العقلي مع القطع بانتفائه وإن كان من باب التّعبّد بموضوعه ؛ إذ تعبّد الشارع إنّما هو مع احتمال التّعبّد به للوجود وإلّا فلا معنى للتّعبّد فافهم. هذا مجمل القول في المقام الثّالث.


جريان الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي ليترتّب

عليه الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي

وأمّا الكلام في المقام الرّابع : وهو إجراء الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي ليترتّب عليه الحكم الشّرعي المستكشف من الحكم العقلي ، فالظّاهر أنّه لا إشكال فيه ؛ لأن الشّك في بقاء الموضوع مستلزم للشّك في بقاء الحكم الشّرعي أيضا : من حيث إنّ الحاكم فيه غير المكلّف الشّاك ، فيعقل الشّك في بقاء الحكم على ما عرفت في المقام الثّالث ، وليس فيه مانع آخر أيضا ؛ لما عرفت سابقا : من فساد ما يتوهّم : من أنّ مقتضى قاعدة التّطابق أن يكون الموضوع في الحكم الشّرعي نفس حكم العقل ، أو كون قطع المكلّف بالموضوع معتبرا في حكم الشارع موضوعا ، كما أنّه معتبر في حكم العقل كذلك.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا : من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ولا في الشّرعي المستند إليه بين أن يكون وجوديّا أو عدميّا ؛ لوجود مناط المنع في الثّاني أيضا ، فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيه ، كما لا يمكن في الأوّل أيضا ، فلا يمكن إذن استصحاب عدم وجوب الجزء المنسي على النّاسي حين التّذكر ، كما لا يمكن استصحاب تحريم التّصرف في مال الغير ووجوب ردّ الأمانة إلى أربابها.

نعم ، لا إشكال في جريان الاستصحاب في الأمر العدمي الّذي لم يكن مستندا إلى القضيّة العقليّة ، وإن كانت في مورده كما في استصحاب عدم التّكليف


الأزلي ؛ فإنّ العدم الأزلي قد يتصادق مع حكم العقل بالعدم أيضا ، كما في حقّ الصّغير الغير القابل للتّكليف الّذي يستقلّ العقل بعدم ثبوت التّكليف عليه من الشارع لقبح التّكليف في حقّه وليس مستندا إليه لسبقه بالفرض عليه ، فحينئذ لا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا الأمر العدمي لو لم يكن له مانع من جهة أخرى كعدم العلم ببقاء الموضوع ، كما قد يدعى بالنّسبة إلى الصّغير ؛ حيث إنّ عدم التّكليف الثّابت في حقّ الصّغير غير عدمه في حقّ الكبير ؛ لتباينهما موضوعا كما لا يخفى. وعدم ترتّب حكم عليه من حيث كون الحكم المقصود بالإثبات حكما عقليّا أو شرعيّا مترتّبا على الشّك ؛ فإنّه لا يجوز إجراء الاستصحاب حينئذ إمّا مطلقا ، أو بالنّسبة إلى الحكم المقصود بالإثبات.

وهذا لا يضرّ ما نحن بصدده : من إثبات عدم إمكان جريان الاستصحاب في الحكم العقلي وما هو مستند إليه من الوجودي والعدمي ، دون ما لم يستند إليه ، بمعنى : أنّه لا يكون فيه مانع من هذه الجهة وإن كان له موانع كثيرة من جهات أخر.

وهذا بخلاف الأمر الوجودي ؛ فإنّه لا يمكن أن يكون في مورد حكم العقل مستندا إلى غير حكم العقل.

ومنه يظهر :

الوجه في تخصيص استصحاب حال العقل باستصحاب البراءة الأصليّة ؛ فإنّ مرادهم ليس استصحاب حكم العقل بها من حيث الاستناد إليه ، بل استصحاب ما حكم العقل به أيضا في بعض أزمنة ثبوته.


واندفاع ما أورده عليهم بعض أفاضل من تأخّر (١) : من أنّ الحكم العقلي قد يكون وجوديّا ، وقد يكون عدميّا ، وقد يكون وضعيّا ، وقد يكون تكليفيّا. فلا معنى لاختصاص جريان الاستصحاب في الحكم العقلي بالعدمي ؛ حيث إنّك قد عرفت :

أنّ مرادهم ليس استصحاب حكم العقل ، وإنّما هو استصحاب ما ثبت في مورد حكم العقل ، لا استصحاب حكم العقل حتّى يتوجّه عليه ما أفاده قدس‌سره.

نعم ، لو كان المراد ما هو الظّاهر من عبارة الكتب لتوجّه عليهم إيراده لكن عرفت أنّ مرادهم ليس على طبق ظاهره وأنّ المعنى المذكور لا يتصوّر بالنّسبة إلى الأمر الوجودي فلذا خصّوه بالعدمي.

هذا حاصل ما ذكره الأستاذ العلّامة في دفع ما أورده الفاضل المذكور على القوم : في تخصيصهم استصحاب حكم العقل بالبراءة الأصليّة.

ولكنّه لا يخلو عن تأمّل يعرف وجهه من التّأمّل فيما ذكرناه في طيّ كلماتنا السّابقة المتعلّقة بالمقام فلا نعيد فيه الكلام.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر لك : فساد ما سلكه جماعة من التّمسّك باستصحاب الحكم العقلي كثيرا في الأصول وفي الفروع ، ونحن نشير إلى جملة منها حتّى تعرف حقيقة الحال فيما نطوي ذكره في هذا المضمار.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٦٦.


لا وجه لاستصحاب البراءة الأصليّة رغم اشتهاره

فمنها : استصحاب البراءة الّذي قد اشتهر بينهم وقد تمسّكوا به في باب البراءة في الأصول لإثبات اعتبار أصالة البراءة في قبال الأخبار به ، وفي كثير من الفروع في الفقه يقف عليه من راجع إلى كلماتهم.

وأنت خبير بفساد التّمسك به ؛ حيث إنّ خلو الذّمّة الّذي يحكم به العقل الرّاجع إلى حكمه بقبح العقاب من غير وصول البيان إلى المكلّف ليس قابلا للاستصحاب ؛ لعدم الشّك فيه أصلا ، حتّى يجري الاستصحاب فيه ، بل العقل يحكم به دائما ، فلا معنى لأن يقال : إنّه قبل الشّرع أو العثور عليه كان المكلّف عالما ببراءة ذمّته عن الغسل في يوم الجمعة ، أو الاستهلال مثلا فتستصحب البراءة عند الشّك في حدوث الاشتغال.

توضيح الفساد :

أنّه إن أريد من العلم بالبراءة في الزّمان السّابق هو العلم بعدم استحقاق العقاب كما هو الظّاهر.

ففيه : أنّ هذا المعنى ممّا لا يعرضه الشّك أبدا لاستقلال العقل به في الزّمان الثّاني أيضا لوجود ما هو العلّة التّامة لحكمه به فيه وهو عدم وصول البيان.

وإن أريد بالمستصحب عدم التّكليف الأزلي ؛ من حيث عدم الموضوع ، أو عدم قابليّته كما في غير المميّز.

ففيه : أنّا نقطع بانتفاء هذا الموضوع في حال الشّك ، فلا معنى لاستصحابه.


وإن أريد به عدم التّكليف الأزلي المتحقّق في حالتي التّميز وعدمه ، والمجامع لموضوعي حكم العقل والشّرع.

ففيه : أنّ هذا ليس استصحابا في حكم العقل حقيقة على ما عرفت الكلام فيه ؛ لأنّ المراد بالبراءة المستصحبة حينئذ هو عدم تعلّق التّكليف به بحسب الواقع المجامع لحكم العقل فإن أريد منه ترتيب ما يترتّب شرعا على عدم اشتغال الذّمة بالتّكليف الواقعي فلا بأس به مع اجتماع شروط الاستصحاب : من إحراز الموضوع وغيره.

وإن أريد منه الحكم بعدم استحقاق العقاب على مخالفته التّكليف المشكوك فلا إشكال في فساده :

أمّا أوّلا : فلما عرفت : أنّ الموضوع في حكم العقل بعدم استحقاق العقاب ليس هو عدم التّكليف الواقعي ، بل ما هو موجود في صورة العلم بعدم التّكليف والشّك فيه قطعا ، فلا معنى لإجراء الاستصحاب بالنّسبة إليه ؛ إذ الاستصحاب إنّما يجري بالنّسبة إلى الأحكام المترتّبة على الأمور الواقعيّة من الأعدام والوجودات لا ما يترتّب على الأمور المعلومة ، أو على ما يوجد في صورة الشّك قطعا ؛ إذ في الأوّل لا إشكال في انتفاء الحكم ، وفي الثّاني لا إشكال في ثبوت الحكم فلا يمكن إذن إجراء الاستصحاب.

وأمّا ثانيا : فلما عرفت غير مرّة : أنّ الاستصحاب لا يثمر بالنّسبة إلى غير الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب الغير الشّرعي فتدبّر.

ثمّ إنّه لا تنافي بين ما ذكرنا هنا من عدم جريان استصحاب البراءة وبين ما ذكرنا سابقا في توجيه كلماتهم في تخصيص استصحاب حال العقل بالبراءة


الأصليّة ؛ لما عرفت : أنّ مرادهم من البراءة ثمّة هو عدم التّكليف ، لا حكم العقل بقبحه أو المؤاخذة عليها ، كما هي المراد من البراءة في المقام وإن أمكنت الخدشة فيما ذكروه ثمّة أيضا من غير الجهة المذكورة ، كعدم العلم ببقاء الموضوع ، وكون المقصود من استصحاب عدم التّكليف وإثباته هو نفي المؤاخذة ، وهو ليس من أحكامه إلى غير ذلك ، لكن لا تعلّق له بمحلّ البحث كما لا يخفى.

ومنه يعلم : أنّ البراءة الممنوعة استصحابها من جهة كونها حكما عقليّا إنّما هو نفي المؤاخذة ليس إلّا ، فيمكن أن يقال حينئذ : إنّ المراد بالبراءة عندهم في الأصول والفروع هو عدم التّكليف وخلوّ الذّمة واقعا ، فلا يتوجّه عليهم ما ذكرنا وإن توجّه عليهم الإيرادان الأخيران ، ولعلّه الظّاهر من كلماتهم في موارد استعمال استصحاب البراءة ، وهذا وإن لم يكن جاريا أيضا إذا كان المقصود به إثبات عدم المؤاخذة ، إلّا أنّ وجه المنع فيه ليس كونه استصحابا في الأحكام العقليّة ، بل ما عرفت : من عدم كون المؤاخذة من الآثار المترتّبة على عدم التّكليف واقعا فافهم.


في انّ حال استصحاب الاشتغال حال استصحاب البراءة

ومنها : استصحاب الاشتغال الّذي جرى في الاشتهار مجرى استصحاب البراءة ، كما في موارد العلم الإجمالي بالتّكليف فيما يحكم العقل فيه بوجوب الاحتياط بعد الإتيان ببعض أطراف الشّبهة ؛ فإنّه قد يتمسّك حينئذ لوجوب الإتيان بباقي الأطراف باستصحاب شغل الذّمّة بالتّكليف.

وفيه أيضا : أنّ شغل الذّمّة الّذي يحكم به العقل الّذي يعبّر عنه بوجوب الاحتياط أيضا ليس ممّا يقبل الشّك حتّى يجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّ العلّة في حكم العقل بوجوب الاحتياط في أوّل الأمر وقبل الإتيان ببعض أطراف الشّبهة هو احتمال الضّرر في كلّ محتمل ، وهو متحقّق بعد الإتيان ببعض المحتملات ؛ ضرورة عدم صلاحيّته لرفعه ، مع أنّه على تقديره نقطع بارتفاع الموضوع ، فيستقلّ العقل بالحكم بوجوب الاحتياط وعلى تقدير ارتفاع الاحتمال لا يحكم بوجوبه قطعا ، فليس هنا مورد يشكّ في حكم العقل بوجوب الاحتياط حتّى يتمسّك باستصحابه.

نعم ، الاشتغال بمعنى بقاء التّكليف الواقعي المتعلّق بذمّة المكلّف وعدم الإتيان به واقعا ممّا يمكن وقوع الشّك فيه نظير سائر الأمور الواقعيّة ، لكن استصحابه إنّما ينفع في ترتيب الآثار الشّرعيّة على بقاء الواجب في ذمّة المكلّف مثل عدم جواز فعل النّافلة ونظيره ، وأمّا بالنّسبة إلى الحكم بوجوب الإتيان بباقي الأطراف بالوجوب العقلي الإرشادي فلا ، لما عرفت : من كونه مترتّبا على عدم


العلم بإتيان الواجب لا على عدم إتيانه في الواقع ، مضافا إلى كونه من الآثار العقليّة لا الشّرعيّة.

نعم ، لو قلنا باعتبار الأصول المثبتة أمكن إثبات وجوب الطّرف الباقي بالوجوب الشّرعي ولا يقدح فيه كون الحاكم بوجوب الإتيان بعد إثباته أيضا العقل ؛ لأنّ الحكم الشّرعي الثّابت بالاستصحاب يترتّب عليه جميع آثاره من العقليّة والشّرعيّة وغيرهما حسب ما ستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله تعالى.

وبالجملة : البراءة والاشتغال قد يراد بهما حكم العقل فلا يمكن إجراء الاستصحاب فيهما ، وقد يراد بهما عدم التّكليف الواقعي وعدم سقوطه في الواقع فحالهما حينئذ حال سائر الموضوعات والأمور الّتي يراد استصحابها ، فإن ترتّب عليهما حكم شرعيّ فهو ، وإلّا فلا معنى لاستصحابهما سواء كان من جهة ترتيب الحكم على ما هو موجود في صورة الشّك قطعا ، أو من جهة كونه أثرا غير شرعيّ.

والّذي ظهر لي بالتتبّع في كلماتهم كون مرادهم من استصحابي البراءة والاشتغال هو المعنى الثّاني لهما مع إرادتهم لترتيب ما هو مترتّب على العنوان الأعمّ من المؤاخذة على تقدير المصادفة في الثّاني وعدمها على تقدير ثبوت التّكليف في الأوّل ، فيتوجّه عليهم حينئذ ما عرفت : من عدم جريانه أيضا وإن كان المستصحب لا دخل له بالعقل.

وممّا ذكرنا كلّه ظهر لك : أنّ ما ربّما يستفاد من كلام الأستاذ العلّامة : من عدم الحاجة إلى استصحابي البراءة والاشتغال المشعر بتسلّم جريانهما والغناء عنهما ليس في محلّه ، كما أنّه ظهر لك : أنّ ذكر استصحاب البراءة والاشتغال في المقام إنّما هو على تقدير كون المراد بهما المعنى الأوّل لا الثّاني والله العالم.


الاستصحاب لنفي وجوب تقليد الأعلم

ومنها : ما تمسّك به جماعة في مسألة وجوب تقليد الأعلم دليلا على نفيه من أنّا نفرض هناك مجتهدين متساويين في العلم ، فيستصحب التخيير وجواز الرّجوع إلى كلّ واحد منهما بعد صيرورة أحدهما أفضل وأعلم ، ويتم المدّعى في غير الصّورة بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

وفيه : أنّ حكم العقل بالتّخيير وجواز الرّجوع إلى كلّ واحد من المجتهدين في صورة المساوات إنّما هو من جهة قبح التّرجيح بلا مرجّح ، وهذا المناط ليس بموجود بعد وجود الأفضليّة ، فلا شك في حكم العقل للقطع بانتفائه فلا مجرى للاستصحاب.

نعم ، لو كان التّخيير بينهما في صورة المساوات شرعيّا أمكن استصحابه به بعد ارتفاع المساوات مع قطع النّظر عن المناقشة فيه بتغير الموضوع ، أو احتمال تغيّره المانعين عن جريان الاستصحاب.

عدم جواز العدول عن مجتهد إلى غيره

ومنها : ما تمسّك به جماعة أيضا في مسألة عدم جواز العدول عن مجتهد إلى غيره اختيارا مع مساواتهما في الفضيلة من حيث العلم والعدالة للقول بعدم الجواز كما هو المشهور : من أنّا نفرض أوّلا وحدة المجتهد الّذي يجوز الرّجوع إليه ، فيستصحب تعيّن تقليده بعد فرض وجود غيره أيضا ويتم المدّعى في غير


الصّورة بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

وفيه أيضا : أنّ حكم العقل بالتّعيين في صورة وحدة المرجع بالعرض ، إنّما هو من جهة انحصار الكلّي في الفرد وعدم إمكان الرّجوع إلى غيره لعدم وجود موضوعه بالفرض ، وهذا المناط قد ارتفع في الزّمان الثّاني قطعا ، فكيف يمكن استصحاب التّعيّن وعدم جواز العدول مع أنّه لو كان المناط موجودا لم يجز التّمسك بالاستصحاب أيضا للقطع ببقاء الحكم؟

استصحاب عدم وجوب الأجزاء المنسيّة بعد التذكّر

ومنها : ما عرفت عن بعض فيما تقدّم : من التّمسك باستصحاب عدم وجوب الأجزاء المنسيّة بعد التّذكر الثّابت في حال النّسيان فيكون حكمه حكم الشّك في الإتيان بالجزء بعد تجاوز المحلّ لا قبله هذا.

وفيه ما عرفت : من أن حكم العقل بعدم وجوب الجزء عليه في حال النّسيان ، وكونه معذورا في تركه إنّما هو من جهة عدم قابليّته لتوجّه الخطاب إليه ، وهذا المناط مرتفع في صورة التّذكر قطعا ، فمقتضى حكم العقل لزوم الإتيان به عند التّذكر ليحصل المطلوب الواقعي.

نعم ، لو قام دليل على اختصاص جزئيّته بحال التّذكّر ، أو ادّعي اختصاص الأدلّة المثبتة للجزئية بها ـ كما ادّعاه بعض ـ أو احتمل ذلك ، كان هنا كلام آخر لا دخل له بالاستصحاب ، وقد مضى تفصيل القول فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الثّاني من التّعليقة عند التّكلّم في فروع مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.


تصحيح عبادة الجاهل ، بالإستصحاب

ومنها : ما تمسّك به بعض الأفاضل ممّن تأخّر لإثبات صحّة عبادة الجاهل المركّب : من استصحاب عدم وجوب الواقع عليه بعد الالتفات الّذي كان ثابتا قبله بحكم العقل بقبح تكليفه.

وفيه : أنّ العقل إنّما حكم بقبح توجيه التّكليف الواقعي إليه من جهة غفلته عنه وعدم قابليّة له لا رفع التّكليف عنه في الواقع ، وإلّا فيلزم التّصويب الباطل عند أهل الصّواب.

مضافا إلى ما عرفت مرارا : من عدم إمكان أخذ العلم في التّكليف الواقعي ، فلازم بقاء الأمر الواقعي وجوب امتثاله بعد ارتفاع الغفلة عنه ، مع أنّه لو حكم العقل برفع التّكليف الواقعي عنه لم يكن معنى لاستصحابه أيضا كما لا يخفى.

(٢٣٩) قوله : ( وأمّا الثّالث (١) : فلم يتصوّر فيه الشّك ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٢١٨ )

__________________

(١) كذا وفي الكتاب « وأمّا المثال الثالث ».

(٢) قال المحقق الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« الظاهر انه أراد أن شرطيّة العلم للتكليف ممّا لا يتطرّق إليه الشكّ في زمان ، مع إمكان أن يراد أنّه لو فرض شكّ في الشّرطيّة في حال ليس شكّا في بقاء العقل بها ، بل لا حكم للعقل في هذا الحال بلا إشكال ، ضرورة عدم استقلال العقل بها مع الشّك فيها ، كما لا يخفى » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٤٥.

* وقال المؤسس الطهراني قدس سره :


__________________

« وأمّا المثال الثالث فالشك في شرطيّة العلم من جهة احتمال اختصاص الحكم بمرتبة من الأهتمام يتنجّز باعتبارها على الجاهل كما هو الحال في النفوس المحترمة ؛ فإن الجاهل في الشبهة الموضوعيّة ليس معذورا في الإتلاف.

ومن هذا القبيل وجوب الفحص عن الإستطاعة والنّصاب في الحجّ والزكاة ، مع انّ الشبهة موضوعيّة ؛ فإن مرجعه إلى عدم معذوريّة الجاهل وتنجّز الحكم بمجرّد تحقق موضوعه على الملتفت ، وإلى هذا يرجع وجوب الإحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة على توهّم الأخباريّين من الأخبار وغيرها.

فإنّ هذا الحكم على تقدير صحّته ليس تكليفا واقعيّا ، بل إنّما هو حكم ظاهري ومرجعه إلى تنجّز الحرمة الواقعيّة على تقدير ثبوتها على الجاهل وعدم معذوريّته ، وهذا معنى انّ الأخبار الدالّة على وجوب الإحتياط بيان ، وإلّا فالجهل بالواقع لا يرتفع بها بالضرورة ، وكون وجوب الإحتياط أصلا أوضح من أن يخفى على ذي مسكة ، وكيف يرتفع حكم الجاهل ما هو موضوعه ، مع ان مرجعه إلى علّيّة الشيء لإعدام نفسه ، وكون الشيء مزيلا لنفسه أظهر فسادا من اجتماع النقيضين.

وإذا تبيّن لك انّ الحكم يمكن أن يكون بمثابة لا يتوقّف تنجّزه على العلم فحيث شك في كون حكم من الأحكام كذلك فلا مناص عن التعويل على استصحاب عدم كونه كذلك ولو لم يصح هذا لكان قول الأخباريّين موافقا للأصل ، مع أنّ المعلوم المسلّم بين الفريقين : انّ الأصل الأوّلي هو البراءة ؛ فإنه هو استصحاب حال العقل الذي لا ريب فيه ، فمع الشك في وجوب الإحتياط لا يعوّل إلّا على أصالة عدم كون هذا الحكم بمثابة ينجّز على الجاهل وهو من قبيل أصالة عدم كون المرأة قرشيّة ونبطيّة.

وبما حقّقناه ظهر أيضا : انه لا مناص عن التمسّك بالإستصحاب عند الشك في الإشتغال والبراءة ؛ فإنّ مجرّد الشك في الإشتغال لا حكم له لإختلافه باختلاف كون المعلوم سابقا هو


أقول : لعلّ المراد هو الشّكّ البدوي ، وإلّا فقد عرفت : أن الشّك في حكم العقل غير متصوّر في مورد من الموارد حتّى في المثالين الأوّلين ؛ لأنّ العقل إمّا يحكم بقبح الأوّل وحسن الثّاني مطلقا ، أو يحكم بهما بشرط عدم الاضطرار والخوف. وعلى كلّ تقدير لا معنى للشّك كما هو ظاهر ، والقول : بأنّه يحكم بهما في الجملة ، والمتيقّن منه ما لم يكن هناك خوف واضطرار ، قد عرفت فساده بما لا مزيد عليه ، وأنّه لا يتصوّر الإهمال في موضوع الحكم في نظر الحاكم.

نعم ، قد يتصوّر الشّك في الحكم الشّرعي في المثالين : من جهة الشّكّ في عروض ما يرتفع معه موضوع الحكم حقيقة كالاضطرار مثلا ، لكنّه لا تعلّق له بالشّك في حكم العقل ، بل ولا في حكم الشارع في موضوعه ، وهكذا الحال في المثال الثّالث ؛ فإنّه لا يخلو : إمّا أن يقول : بأنّ الشّرط في تنجّز التّكليف عند العقل هو العلم التّفصيلي بحيث يكون دائرا مداره ، ففي صورة عدم حصوله لا معنى لتنجّز التّكليف سواء كان هناك علم إجمالي أو لا ، أو يقول : بأنّ الشّرط فيه عنده هو الأعمّ من العلم الإجمالي والتّفصيلي حسب ما هو قضيّة التّحقيق ، فلا يعقل شكّ في بقاء الشّرطيّة على كلّ تقدير.

نعم ، ربّما يستصحب نفس التّكليف المعلوم بالإجمال بعد الإتيان ببعض أطراف العلم الإجمالي ، ولكنّه لا دخل له بالاستصحاب في الحكم العقلي ؛ لأنّه استصحاب في الحكم الشّرعي ، مع أنّك قد عرفت : عدم جريانه أيضا على بعض التّقادير والوجوه.

__________________

البراءة والإشتغال ولا معنى للتعويل على الإستصحاب إلّا ذلك وقد أوضحنا الحال فيه فيما مرّ » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩.


وهذا الّذي ذكرنا من استصحاب التّكليف المعلوم بالإجمال في صورة الإتيان ببعض أطرافه هو الّذي وقع في كلام جماعة ونبّه الأستاذ العلّامة على فساده فيما سيأتي ، لا استصحاب التّكليف المعلوم بالتّفصيل فيما صار معلوما بالإجمال ؛ فإنّه لم يقع في كلام أحد ولم ينبّه الأستاذ العلّامة على فساده أيضا في طيّ كلامه ، وإن كان فساده واضحا على تقدير وقوع التّوهم فيه كما لا يخفى ؛ ضرورة كونه استصحابا في الحكم الشّرعي أيضا ، مع أنّ المراد به إن كان هو الحكم الواقعي ، فلا يتصوّر الشّك في بقائه ، وإن كان الحكم الفعلي فيتبع حكم العقل بشرطيّة العلم للتّنجز من حيث الإطلاق أو الاشتراط ، فلا يتصوّر الشّك فيه أيضا ، هذا. فالعبارة كما ترى لا تخلو عن مناقشة.

* * *


* التنبيه الرابع (١) :

الاستصحاب التعليقي ( التقديري )

(٢٤٠) قوله : ( توضيح ذلك : أنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السّابق بالفعل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٢١ )

أقول : لا يخفى عليك أن المستصحب : قد يكون موضوعا ، وقد يكون حكما. وعلى الأوّل لا يخلو :

إمّا أن يكون الحكم المترتّب على استصحابه ممّا كان موجودا معه في الزّمان السّابق وجودا منجّزا فعليّا.

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الأصولي الشيخ محمد هادي الطهراني قدس‌سره :

« انّ مقتضي اختصاص الشك في الرّافع بهذا الأصل فساد ما اشتهر من الإستصحاب التقديري لإثبات حرمة العصير الزّبيبي بالغليان ؛ ضرورة انّ يبوسة العنب ليست رافعة لحكم من أحكامه وإنّما الشك على تقدير تحقّقه ناش عن عدم معرفة الموضوع واحتمال أن يكون العنب عنوانا للحكم يدور هذا الحكم مداره ، فمع ظهور انّ الموضوع هو الجامع بين العنب والزبيب لا حاجة إلى الإستصحاب ؛ لعدم إحتمال المزيل ومع الجهل لا مجرى للإستصحاب.

وإلى ما حقّقناه ينظر ما عن بعض الأجلّة قدس‌سره : من انه يشترط في حجّيّة الإستصحاب ثبوت أمر أو حكم وضعي أو تكليفي في زمان من الأزمنة قطعا ثم يحصل الشك في ارتفاعه بسبب من الأسباب ولا يكفي مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الإعتبارات فالإستصحاب التقديري باطل » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.


وإمّا أن يكون مترتّبا على وجوده في الزّمان الّذي أريد استصحابه فيه بحيث يكون للزّمان المذكور مدخليّة فيه ، فيمكن فرض وجود تقديريّ لهذا الحكم في الزّمان السّابق مع المستصحب وهو كثير جدّا ، كاستصحاب حياة العبد الغائب مثلا في عيد رمضان لإثبات وجوب فطرته ، واستصحاب حياة الوارث عند موت مورثه إلى غير ذلك.

وعلى الثّاني لا يخلو أيضا : إمّا أن يكون له وجود فعليّ منجّز مطلق لا تعليق فيه أصلا ، وإمّا أن يكون له وجود على بعض التّقادير وعلى بعض الوجوه.

لا إشكال في جريان الاستصحاب في الشّق الأوّل من القسمين ، بل لا خلاف فيه ، إنّما الإشكال والخلاف في الشّق الثّاني من القسمين الّذي يسمّى استصحابه بالاستصحاب التّعليقي والتّقديري في لسان جمع من مشايخنا هذا.

ولكن لا يبعد أن يكون هذا الاصطلاح منهم مختصّا بالشّق الثّاني من القسم الثّاني ؛ لأنّ المستصحب فيه من الشّق الأوّل لا تعليق فيه أبدا غاية ما هناك ترتّب الحكم على وجوده الثّانوي ، وهذا لا تعلّق له بالتّعليق في المستصحب ، وإنّما هو من التّعليق في حكمه على بعض الوجوه وإن توهّم منعه أيضا ، بل من حيث إنّ استصحاب الموضوع لا معنى له إلّا ترتيب الحكم المترتّب عليه على ما عرفت غير مرّة والمفروض عدم ترتيب الحكم المفروض عليه في السّابق إلّا على نحو التّعليق فيلحق حكما بالاستصحاب التّعليقي وإن لم يكن من أفراده.

وكيف كان : المشهور على عدم الفرق بين الاستصحاب التّعليقي والتّنجيزي


في الحكم ، حكاه العلّامة الطّباطبائي (١) في الرّسالة الّتي صنّفها في « مسألة العصير الزّبيبي » وغيره بانيا على حجيّة الاستصحاب التّعليقي مفصّلا الكلام فيه غاية التّفصيل.

وعن السيّد السّند في « المناهل » حاكيا له عن والده قدس‌سرهما في مجلس البحث (٢) : عدم اعتبار الاستصحاب التّعليقي متمسّكا في ظاهر كلامه : بأنّ مجرّد قابليّة ثبوت الشّيء ببعض الاعتبارات لا يكفي في استصحابه ، بل يشترط في الاستصحاب القطع بثبوت المستصحب في الزّمان السّابق ، وهذا المعنى غير موجود في الاستصحابات التّقديريّة هذا.

__________________

(١) هو الفقيه الجليل السيد مهدي بحر العلوم أعلى الله مقامه المتوفي سنة ١٢١٢ ه‍ وكان يذكر في الكتب بالعلّامة الطباطبائي كما في الجواهر وكتب المحقق النراقي والشيخ الأعظم ومن في طبقته ثم شاع التعبير عنه بالسيد بحر العلوم في طبقة تلامذه الشيخ الأعظم كما في كتب المحدّث النوري ونظراءه.

نعم تلقيبه ببحر العلوم أمر متقدم جدّا لقّبه بذلك شيخه الفيلسوف الشهيد السيد مهدي الإصفهاني الخراساني ( المتوفي سنة ١٢١٧ ه‍ ) لكن شياعه بشكل واسع على الألسنة كان متأخّرا كما ذكرنا.

والعلامة الطباطبائي اليوم في الكتب الفقهيّة يطلق على ثلاث من الأعلام : السيد بحر العلوم كما تقدم وسيّد الرياض وسيّد العروة والأوّلان معاصران وكيف كان فالتمييز بالقرينة.

(٢) أنظر المناهل للسيد محمّد المجاهد : ٦٥٢ ( كتاب الأطعمة والأشربة ).


في أن تقديريّة الوجود لا تمنع عن جريان الاستصحاب أصلا

ولكن الحقّ عدم الفرق بين القسمين من الاستصحاب ، وأن تقديريّة الوجود لا يؤثّر فرقا أصلا على ما عليه الأستاذ العلّامة أيضا.

أمّا أوّلا : فلأنّه إن أريد ممّا ذكره في بيان المنع : أنّ الوجود التّعليقي ليس قسما من الوجود ، بل هو داخل في العدم وإنّما له شأنيّة الوجود ، أو واسطة بين الوجود والعدم. (١)

ففيه : ما لا يخفى ؛ ضرورة أنّ الوجود على تقدير أيضا قسم من الوجود في مقابل العدم المطلق ، ولا تجمع معه بل هما متناقضان.

نعم ، يجامعه العدم على تقدير ، ولذا بنينا تبعا للمحقّقين ـ في قبال من توهّم عدم اجتماع التّعليق مع الإنشاء عقلا فيجعل التّنجيز شرطا عقليّا في أبواب المعاملات من العقود والإيقاعات ـ على عدم كون التّنجيز شرطا عقليّا ؛ إذ الإنشاء على تقدير قسم من الإنشاء يساعده العرف والعقلاء بحيث لا مجال لإنكاره ، فكيف يمكن القول بعدم اجتماع التّعليق مع الإنشاء؟

ولعلّ المتوهّم توهّم : أنّ التّعليق في الإنشاء يرجع إلى ترديد المنشيء في أصل الإنشاء فلا يمكن أن يصدر منه الإنشاء.

وأنت خبير بفساد هذا التّوهّم وأنّ التّعليق يرجع إلى المنشأ لا الإنشاء كما أفسدنا ؛ لما عرفت أيضا توهّم من ذهب إلى : أنّ الواجب المشروط عار عن الطّلب ، وأن الطّلب يتحقّق بعد وجود الشّرط ؛ لأنّ الطّلب على بعض التّقادير أمر موجود فعلا وإن لم يوجد التّقدير أصلا ، كما يشهد به الوجدان والعيان ؛ ضرورة عدم توقّف صدق الشّرطيّة على صدق الشّرط.

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


وبالجملة : القول : بأنّ الوجود التّقديري ليس له حظّ من الوجود وإنّما هو من العدم المحض ممّا لا يحتاج فساده إلى إقامة برهان وترتيب قياس لأنّه ممّا يشهد به الضّرورة.

وإن أراد ممّا ذكره مع تسليم كون الوجود التّقديري أيضا نحوا من الوجود أنّ المعتبر في جريان الاستصحاب الوجود التّنجيزي ، ولا يكفي فيه الوجود التّعليقي.

ففيه : أنّه لا شاهد لهذه الدّعوى أصلا ، بل الدّليل على خلافها ؛ فإنّه بعد تسليم : أنّ الوجود التّقديري أيضا نحو من الوجود ؛ نظرا إلى أنّ اختلاف الوجودات وتعدّدها ـ من حيث إنّ وجود كلّ شيء بحسبه ـ لا يمنع مانع من الحكم ببقائه في زمان الشّك في ارتفاعه والالتزام بمقتضاه ؛ فإنّه لا فرق في هذا اللّحاظ بينه وبين الوجود التّنجيزي أصلا ، فيشمله أخبار الباب ودليل العقل أيضا بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب العقل ؛ إذ لا يعقل الفرق على تقديره أيضا بين أنحاء الوجود كما لا يخفى.

وأمّا ثانيا : فلأنّا نسلّم كون المعتبر في جريان الاستصحاب هو الوجود التّنجيزي وأنّه لا يكفي الوجود التّعليقي ، إلّا أنّا نقول : إنّ في جميع موارد الاستصحابات التّعليقيّة يكون موجود منجّز يجري الاستصحاب فيه ويكفي عن إجرائه في الموجود التّعليقي.

توضيح ذلك : أنّه إذا قال الشارع العنب يحرم ماؤه إذا غلى يكون هناك ثلاثة أشياء : لازم ـ وهو حرمة ماء العنب على تقدير الغليان ـ وملزوم ، وملازمة الّتي تعبّر عنها بسببيّة الغليان للتّحريم.

أمّا اللّازم : فقد عرفت : أنّ له وجود تقديري يمكن إجراء الاستصحاب فيه


إذا شكّ في ارتفاعه.

وأمّا الملازمة (١) : فهي أمر موجود متحقّق لا حظّ للتّعليق والتّقدير فيها أصلا ؛ لأنّ مرجعها إلى الشّرطيّة الّتي تصدق مع صدق الشّرط وكذبه.

ومن المعلوم أنّ المنتج فيها بعد فرض صدق الشّرط هو صدق المشروط والتّالي أيضا ، فإذا أثبتنا وجودها بالاستصحاب في الزّمان الثّاني وفرضنا صدق الملزوم ، يلزمه الحكم بثبوت اللّازم أيضا.

هذا ملخّص ما ذكره الأستاذ العلّامة في إثبات عدم الفرق في اعتبار الاستصحاب بين التّعليقي منه والتّنجيزي ، وإن كان بإجراءه في موارد الاستصحاب التّعليقي فيما يفيد فائدته كالملازمة الّتي بين المقدّم والتّالي هذا.

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان الشك إنّما هو في عموم الملازمة لهذه الصورة لا في بقاءها بعد حدوثها ، فما علمنا بتحقّقها سابقا نعلم ببقاءها ولا نحتاج في إبقاءها إلى الإستصحاب ولكن الشك في تحقّق الملزوم لدوران الأمر بين أن يكون هو العنب بهذا الوصف وبين أن يكون هو الأعم من الرطب واليابس ، فالشك في الحدوث حتى بالنسبة إلى الوجود التقديري.

ومن الغريب انه [ أي الأستاذ الأنصاري ] قال :

( فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان ... إلى قوله : في بقاءها بعد صيرورته زبيبا ). [ فرائد : ٣ / ٢٢٣ ]

وفيه : ان هذا إنّما يدل على ان الشك في غير محلّه وأنّ الذي يدلّ على شمول سائر الأحكام الثابتة للعنب للزبيب أيضا يدلّ على عموم هذا الحكم والمستند ليس هو الإستصحاب ، وإنّما المناط هو استفادة أنّ وصف العنبيّة لا مدخل له في الأحكام ولو وقع الشك لم يجر الإستصحاب بالنسبة إلى سائر الأحكام أيضا ؛ فإنّه إسراء لا إبقاء » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦٠.


ولكن قد يناقش فيما أفاده ( دام ظلّه ) على كلّ من التّقديرين اللّذين ذكرهما ويورد عليه بإيرادين وإشكالين بل على الثّاني بإشكالات :

أمّا على الأوّل :

فأمّا أوّلا : فبأنّ مرجع الشّك في بقاء اللّازم دائما إلى الشّك في بقاء الموضوع ، وإلّا لم يكن معنى للشّك في بقائه ، إلّا من جهة الشّك في ارتفاع الملازمة بالنّسخ وهو خارج عن محلّ الكلام كما لا يخفى. ومنه المثال المشهور المتقدّم ذكره ؛ فإنّ الشّك في بقاء الحرمة فيما صار العنب زبيبا إنّما هو من جهة الشّك في مدخليّة وصف العنبيّة في الحكم المذكور ، وإلّا لم يكن هنا شكّ في الحرمة.

وأمّا ثانيا : فبمعارضة الاستصحاب التّعليقي باستصحاب ضدّ المستصحب الّذي كان منتفيا قبل حصول المعلّق عليه كاستصحاب الإباحة قبل الغليان في المثال المذكور (١) ، بل ترجيح الثّاني في بعض الأمثلة كما في المثال المذكور بالشّهرة والعمومات هذا.

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« قد تبيّن انّ مرجع الوجوه إلى وجه واحد وليس كما زعمه [ الأستاذ ] : من أنّها وجوه متعدّدة ، كما أنّه ظهر فساد ما اعترض به عليها ؛ فإنه حيث ما يقع الشك في مدخليّة وصف العنبيّة في الحكم ولم يعلم انّ الموضوع أعمّ يتوقّف ولم يفرّق أحد بين هذا الحكم التقديري وسائر الأحكام الفعليّة ولا معنى للحكومة ؛ فإن مقصود المستدل ان الشك في الموضوع فلا ترجيح لإستصحاب الحرمة الثابتة في حال الرطوبة على استصحاب الإباحة وإلّا فعلى تقدير كون الشك في الرّافع بعد العلم بالحدوث فلا إشكال في حكومة الأصل السببي فتفطّن » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦١.


في الذّبّ عن الإيرادين الّذين أوردا على التقدير الأوّل

ولكن يمكن الذّب عنهما :

أمّا عن الأوّل : فبالمنع من رجوع الشّك في بقاء اللّازم دائما إلى الشّك في بقاء الموضوع ؛ إذ كثيرا ما يشكّ في بقائه من جهة الشّك في حدوث ما يرفعه ، أو رافعيّة ما حدث في الخارج مع القطع ببقاء الموضوع ، كما في الأحكام التّنجيزيّة ؛ إذ الدّليل الدّال على ثبوت اللّازم للملزوم لا يلزم أن يكون مطلقا حتّى يرجع إلى إطلاقه بالنّسبة إلى المشكوك ، مع أنّه لو سلّم رجوع الشّك في بقاء اللّازم دائما إلى الشّك في بقاء الموضوع فإنّما هو بالنّظر إلى الدّقة العقليّة ، وليس إحراز الموضوع في باب الاستصحاب مبنيّا عليها عند المشهور.

فإذا أريد استصحاب صحّة منجّزات المريض وعدم تزلزلها وتوقيفها على إجازة الورثة باستصحاب الصّحة الثّابتة في حال الصّحة ، لم يكن لمانع المنع من التّمسّك بالاستصحاب المذكور من جهة تبدّل الموضوع ، وأنّ الصّحيح غير المريض ؛ فإنّه وإن كان غيره بالدّقة العقليّة ، إلّا أنّ أهل العرف لا ينظرون إلى هذا التّغيير ، ويجعلون الموضوع في الحكم الأعم من الصّحيح والمريض ويحكمون بأنّ الالتزام بصحّة معاملة المريض إبقاء للحكم وعدمه نقض له.

نعم ، لا إشكال في عدم حكمهم باتّحاد الموضوع في بعض المقامات كما قد يدّعى في المثال المقدّم ذكره في مسألة العنب ، لكنّه لا ينفع الخصم أصلا ؛ إذ مثله قد يوجد في الأحكام التّنجيزيّة أيضا كما بالنّسبة إلى الأحكام المترتّبة فعلا على ماء العنب في المثال المذكور.


وبالجملة : لا فرق في باب الاستصحاب بين الأحكام التّنجيزيّة المترتّبة على الموضوع ، والأحكام التّعليقيّة المترتّبة عليه ، فإن كان تغيّر الموضوع في الآن الثّاني مانعا عن التّمسّك بالاستصحاب ، فلا فرق بينهما ، وإلّا فلا فرق أيضا.

والقول : بأنّ الشّك في استصحاب الحكم التّعليقي مسبّب دائما عن الشّك في بقاء الموضوع دون الحكم التّنجيزي كما ترى ، مع أنّ لنا أن نستصحب الموضوع في بعض المقامات كاستصحاب حياة العبد الغائب في يوم العيد في الحكم بوجوب فطرته على المولى ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه خروج عن الفرض ؛ حيث إنّه ليس من الاستصحاب التّعليقي في شيء هذا كله.

مضافا إلى أنّه لو سلّم جميع ما ذكر لم يكن له دخل بمطلب الخصم ؛ فإنّ المانع عنده نفس التّعليق من حيث عدم صدق الوجود المحقّق معه ، وأين هذا من رجوع الشّك في بقاء الحكم المعلّق إلى الشّك في بقاء الموضوع دائما؟

هذا محصّل ما استفدنا من كلام الأستاذ العلّامة في الذّب عن الإيراد الأوّل. وهو كما ترى ، لا يخلو عن بعض المناقشات والله العالم.

وأمّا عن الثّاني : فبأنّه لا معنى للمعارضة المذكورة ؛ إذ الأصل في الحكم المعلّق حاكم على الأصل في ضدّه ، فكيف يعارض معه؟ إذ الشّك في ثبوت ضدّه وعدمه مسبّب عن الشّك في بقائه هذا. مع أنّه لا معنى للتّرجيح بالشّهرة على تقدير عدم التّسبّب ؛ إذ لا معنى للرّجوع إلى المرجّحات في تعارض الأصول.

وأمّا التّرجيح بالعمومات فيرد عليه ـ مضافا إلى ما عرفت في التّرجيح بالشّهرة ـ : أنّ المراد بالعمومات إن كان هي العمومات الاجتهاديّة على أبعد الاحتمالين.


ففيه : أنّه على فرض وجود مثل هذا العموم لا معنى للرّجوع إلى الاستصحاب ؛ فإنّ مجاري الأصول مختصّة بما إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي.

وإن كان المراد بها عمومات الحليّة والبراءة.

ففيه : أنّه على فرض القول بالتّرجيح في تعارض الأصول وجعل موافقة العموم من المرجّحات لا معنى للتّرجيح بهذا النّحو من العموم ؛ لأنّه ليس في مرتبة المتعارضين حتّى يرجّح أحدهما به ؛ فإنّ الاستصحاب حاكم على أصالة الحليّة ، كما أنّ الدّليل الاجتهادي حاكم عليه ، فالتّحقيق في تعارض الأصلين بعد فرض اتّحاد مرتبتهما : هو الحكم بتساقطهما والرّجوع إلى غيرهما من الأصول الّتي لم يرجع إليها على تقدير عدم ابتلاء أحد الأصلين بالآخر وستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله. هذا مجمل القول فما يرد على التّقرير الأوّل وما يذبّ عنه.

وأمّا ما يرد على التّقرير الثّاني فوجوه :

الأوّل : أنّه لا فائدة في استصحاب الملازمة والسّببيّة لإثبات اللّازم في زمان الشّك ولا يفيد فائدة استصحاب نفسه ، إلّا على تقدير القول باعتبار الأصول المثبتة الممنوع عندنا ؛ لأنّ ملازمة بقاء الملازمة مع صدق الملزوم صدق اللّازم عقليّة لا شرعيّة ، فإثبات صدق اللّازم باستصحاب الملازمة عين ما أنكره الأستاذ العلّامة غير مرّة على المتمسكين بالاستصحاب في أمثال المقام.

الثّاني : أنّه لا معنى لاستصحاب الملازمة ؛ لأنّ المراد بها العليّة التّامّة وهي غير قابلة لوقوع الشّك فيها ، فكلّما يقع الشّك ، فلا بدّ من أن يكون من جهة الشّك في بقاء الموضوع.


الثّالث : أنّ الملازمة بالبيان الّذي ذكره ( دام ظلّه ) اعتباريّة محضة لا يمكن أن تصير موردا للاستصحاب بنفسها على ما عرفت تفصيل القول فيه في طيّ أدلّة الأقوال هذا.

وأجاب الأستاذ العلامة :

عن الوجه الأوّل : بأنّ ما ذكر إنّما يتمّ فيما لو كان أصل الملازمة عقليّة ، وأمّا إذا كانت شرعيّة فلا ؛ إذ اقتضاء صدق الملزوم لصدق اللّازم حينئذ شرعيّ لا عقليّ حتّى لا يمكن إثباته بعد إثبات الملازمة بالأصل.

وعن الثّاني : ببعض ما عرفت من الوجوه في التّفصّي عن الإيراد الأوّل على التّقرير الأوّل.

وعن الثّالث : بأنّ المراد من السّببيّة هي تأثير المقدّم في التّالي ، لا المعنى المعروف الّذي وقع الكلام في جعله في قبال الحكم التّكليفي. وهذا المعنى وإن كان أمرا واقعيّا كشف عنه الشارع إلّا أنّه قابل للاستصحاب فتأمّل هذا.

وقد يدّعي من لا خبرة له في قبال القائلين بحجيّة الاستصحاب التّعليقي : أنّ الوجود التّعليقي وإن كان نحوا من الوجود ، إلّا أنّ أخبار الاستصحاب منصرفة إلى الوجود التّنجيزي ولا يشمل الوجود التّعليقي ، وأنت خبير بما فيه.


* التنبيه الخامس

__________________

(١) قال المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« ان نسخ الشريعة لا يمنع من استصحاب عدم نسخ ما لم يعلم بنسخه من أحكامه ؛ فإنّ نسخ الشرع عبارة عن نسخ النبوّة فإنه حيث استقلّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشريعة يتجدّد الدين ، حيث انه قادر على النسخ والتقرير.

والحاصل : انّ تبدّل الطريقة إنّما هو باعتبار تبدّل من يضاف إليه ، فاستقلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدين عبارة أخرى عن تبدّل الشريعة وإن اتّفقت موافقتها للشرع المنسوخ في بعض الأحكام.

فاندفع ما يتوهّم : من ان الدين والشرع إنّما يصدق نسخه حيث نسخ جميع الأحكام فإن بعض الأحكام ليس إلّا بعض الشريعة ولا يصدق نسخ الشريعة بنسخه.

وأضعف من هذا التوهّم : أنّ الحكم الثابت لجماعة غير ما يثبت لآخرين فإن النسبة تتعدّد الأطراف.

ومن المعلوم ان المكلّف أحد أطراف الحكم التكليفي وهذا هو السّر في الحاجة إلى التشبّث بدليل الإشتراك في الشك في شمول الحكم للغائبين والمعدومين وإلّا لكفى في ذلك دليل الحكم.

ويندفع : بان المكلّف إنّما يوجب تعدده بتعدّد الحكم حيث كان التعدّد في العنوان الكلّي ، وأمّا التعدّد الشخصي فلا يوجب تعدّد الحكم ؛ فإنّه إنّما يتعلّق بالكلّي لا بالأشخاص ولا حاجة إلى دليل الإشتراك ، إلّا لإحراز عموم المكلّف لقصور دليل الحكم إذا كان على سبيل المخاطبة لجماعة مخصوصين عن ذلك كما في بعض الأخبار.

وحيث احتمل اختصاص المخاطب بالحكم لخصوصيّة فيه منتفية في غيره فلا مجال للحكم بالإشتراك والتسرية ، إلّا إذا كان الإحتمال مندفعا بأصل من الأصول.


استصحاب أحكام الشرائع السابقة

(٢٤١) قوله : ( وفيه أوّلا : أنّا نفرض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٢٥ )

الجواب عن هذا المانع يرجع إلى وجوه

أقول : حاصل ما ذكره دام ظلّه في الجواب عن هذا المانع يرجع إلى وجوه :

الأوّل : أنّ ما ذكره على فرض تماميّته إنّما يمنع عن اعتبار الاستصحاب في حقّ من لم يدرك الشّريعتين ، وأمّا في حقّ من أدركهما فلا ، كما لا يخفى. وبه ينتقض كلّيّة الكبرى المدّعاة للخصم حسب ما هو قضيّة ظاهر كلامه.

ولكن قد يقال : إنّ المدّعى منع اعتبار الاستصحاب فيمن لم يدرك الشّريعتين لا الأعمّ منه وممّن أدركهما ـ على ما يفصح عنه دليله ـ إذ اعتبار الاستصحاب في حقّ من أدرك الشّريعتين لا ثمرة له بالنّسبة إلينا أصلا ، وتتميم المدّعى فيمن لم يدرك بضميمة أدلّة الاشتراك ـ حيث إنّ مفادها غير مختصّ بالحكم الواقعي ، بل يشمل جميع الأحكام من الواقعيّة ، والظّاهريّة ، والفروعيّة ، والأصوليّة ، أو بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ـ فيه ما سيجيء من التّأمّل فيه فتأمّل.


الثّاني : النّقض باستصحاب عدم النّسخ في شريعتنا ؛ فإنّه لو كان مجرّد تعدّد الأشخاص مانعا لمنع من جريان استصحاب عدم النّسخ في شريعتنا أيضا ؛ إذ استصحاب عدم النّسخ ليس مختصّا بمن كان موجودا في زمان ورود الحكم ومكلّفا به ثمّ يشكّ في نسخ الحكم وارتفاعه ، بل يجري في حقّ من كان معدوما في ذلك الزّمان ويشكّ في نسخ بعض الأحكام في أوّل أزمنة تكليفه ، اللهمّ إلّا أن يلتزم الخصم في هذه الصّورة بعدم جريان الاستصحاب وهو كما ترى.

الثّالث : أنّ المستصحب ليس هو الحكم الشّخصي المتعلّق بمكلّف خاصّ حتّى لا يكون قابلا للبقاء بعد فرض انعدامه من حيث استحالة بقاء المحمول من حيث هو محمول وعروض مع فرض انتفاء موضوعه ومعروضه ، وإنّما هو سنخ الحكم ونوعه ؛ من حيث وقوع الشّك في ارتفاعه في أصل الشّريعة بحيث لو فرض وجود جميع المكلّفين لم يكن أحد مكلّفا به ، وبقائه بحيث لو فرض وجود جميعهم فعلا بشرائط التّكليف لم يبق أحد لم يكلّف به (١).

ومن المعلوم أنّ تعلّقه سابقا بأشخاص معيّنين مع كون فرض الشّك في ارتفاع نوعه مع القطع باشتراك الكلّ فيه على تقدير بقائه في الشّريعة بحيث لا يحتمل اختصاص أحد به لا يمنع من جريان الاستصحاب فيه في هذا الفرض.

فما يجري فيه الاستصحاب لا يجري فيه أدلّة الاشتراك ؛ إذ المفروض القطع بثبوت الاشتراك على تقدير ثبوت الحكم وعدم مدخليّة خصوصيّة أحد فيه ،

__________________

(١) قال المحقق الإصفهاني قدس‌سره :

« حقيقة الحكم أمر تعلّقي بذاته ، فلا يعقل ثبوت سنخ الحكم ونوعه ثم تعلّقه بمن يستجمع شرائط التكليف فيما بعد ». أنظر نهاية الدراية : ج ٥ / ١٨٥.


وما يجري فيه أدلّة الاشتراك لا يجري فيه الاستصحاب ؛ لأنّ التّعدّي عن مكلّف إلى غيره مع اختصاص الحكم والإنشاء به ظاهرا لا يمكن أن يستند إلى الاستصحاب ، بل لا بدّ له من دليل آخر : من ضرورة أو إجماع أو غيرهما من الأدلّة.

فإن قلت : التّكليف أمر نسبيّ إضافيّ له نسبة إلى المكلّف ـ بالكسر ـ ونسبة إلى المكلّف ـ بالفتح ـ ونسبة إلى المكلّف به ، ومن المعلوم استحالة تحقّق الأمر النّسبي بدون المنتسب إليه ؛ لأنّه قضيّة الإضافة والنّسبة ، فكما أنّه لا يعقل وجود للحكم بدون الحاكم ، كذلك لا يعقل له وجود بدون المحكوم ، فإذن نقول : تحقّق الحكم سابقا بدون تعلّقه بمكلّف أمر مستحيل عقلا ، فإذا فرض انعدام من كلّف بالحكم سابقا ، فكيف يستصحب في حقّ من يشكّ في كونه مكلّفا بتكليفه؟ وإن هو إلّا إجراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر الّذي لا يصدق معه الاستصحاب قطعا ، بل يكون من القياس الّذي اتّفقوا على حرمة العمل به. فالقول : بأنّ المستصحب هو الحكم الكلّي بعد فرض كونه نسبيّا ممّا لا يكون له معنى محصّل ؛ إذ الكلّي في ضمن الفرد عين الفرد.

قلت : التّكليف وإن كان أمرا نسبيّا إضافيّا ، إلّا أنّ المفروض كون إنشاء الحكم في السّابق على نحو يعلم عدم مدخليّة مكلّف خاصّ فيه ، فلو فرض عدم تكليف شخص به فليس من جهة قصور في الحكم ، بل من جهة اجتماع شرائط التّكليف فيه بحيث لو فرض اجتماعه لشرائط التّكليف كلّف به قطعا.

غاية الأمر : أنّه لمّا لم يوجد بعض المكلّفين في السّابق لم يتعلّق به الحكم ـ من جهة عدم قابليّة المحلّ لا من جهة قصور الحكم وعدم قابليّته ـ وتعلّق بمن كان قابلا ، فإذا شكّ في ارتفاع هذا المعنى فيحكم بمقتضى الاستصحاب ببقائه


وفعليّته بالنّسبة إلى جميع من كان جامعا لشرائط التّكليف وإن لم يكن موجودا في السّابق ، فحديث كون التّكليف إضافيّا لا دخل له بالمقام ؛ إذ الكلام ليس مبنيّا على إنكاره ولا منافيا له.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته إنّما يجري فيما لم نقل باشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، وإلّا ـ كما هو الحقّ المحقّق عند جميع الأصحاب على ما ينادي كلمتهم به بأعلى صوتها ـ فلا ؛ إذ الحكم كان متعلّقا سابقا بأمّة عيسى عليه‌السلام وإجرائه في حقّ أمّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إثبات للحكم في غير موضوعه.

قلت : العنوان المذكور ليس أمرا ثابتا في الواقع تعلّق الحكم بالمكلّفين بملاحظته ـ حتّى يقال بانتفائه عند انتفائه سواء كان في حقّ من أدرك الشّريعتين أو لم يدركهما ـ بل هو أمر انتزاعيّ من وجوب إطاعة نبيّ خاصّ فيما جاء به من الأحكام ، فهو أمر متأخّر عن الحكم منتزع عنه ، فكيف يمكن أن يؤخذ في موضوعه؟

فإن قلت : إنّ ما ذكرته على فرض صحّته إنّما يجري فيما إذا كان الشّك في النّسخ ليس إلّا ؛ إذ ما ذكرته من الوجه لجريان الاستصحاب في أحكام الشّريعة السّابقة لا يجري إلّا فيه ، وأمّا إذا كانت القضيّة الدّالة على الحكم في حقهم مهملة محتملة لمدخليّة بعض أوصافهم في موضوع الحكم الغير المعلوم وجودها في حقّنا فلا معنى لجريان الاستصحاب ؛ لرجوع الشّك حينئذ إلى الشّك في بقاء الموضوع الّذي لا يجري معه الاستصحاب عند المحقّقين ، بل عند الكلّ. فإذن يختصّ الاستصحاب بما إذا كان الدّليل الدّال على الحكم مطلقا بحيث يشمل جميع الأزمنة لتحقّق الشّك في النّسخ ، ومعه لا يحتاج إلى الاستصحاب ، بل


لا يجري الاستصحاب. فإذا لم يعلم أنّ الدّليل الدّال على الحكم كان مهملا أو مطلقا ، فلا بدّ من الحكم بعدم جريان الاستصحاب مطلقا وهو المطلوب.

قلت : أمّا أوّلا : فلأن المعتبر في تحقّق النّسخ ظهور الحكم في الاستمرار أوّلا وإن لم يكن معتبرا في نفسه ـ على ما عرفت تفصيل القول فيه في طيّ كلماتنا السّابقة ـ فلا يلزم أن يكون في مورد الشّك في النّسخ ظهور معتبر حتّى لا يجري معه الاستصحاب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إطلاق القول : بأنّه لا يمكن إحراز الشّك في بقاء الحكم وارتفاعه بالنّسبة إلى الشريعة السّابقة أصلا ؛ لاحتمال مدخليّة بعض أوصاف أهل الشّريعة فيه ممّا لا معنى له كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فبأنّ إطلاق القول : بعدم اعتبار الاستصحاب فيما إذا كانت القضيّة مهملة فاسد جدّا. وإنّما يصحّ المنع من اعتبار الاستصحاب على التّقدير المذكور على القول بلزوم إحراز الموضوع بالدّقّة العقليّة ، وأمّا بناء على المشهور : من كفاية إحرازه ولو بالمسامحة العرفيّة ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه على التّقدير المذكور كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أن ما ذكره بعض أفاضل من تأخّر من المانع لا توجّه له أصلا.


ما ذكره الفصول في تسرية الاحكام الثابتة للحاضرين

ثمّ إنّه بقي الكلام فيما شبه به المقام وقاسه به بقوله : ( ولذا يتمسّك به في تسرية الأحكام الثّابتة للحاضرين ... إلى آخره ) (١).

فنقول : أمّا ما ذكره من عدم جواز استصحاب الحكم الثّابت للحاضرين في حقّ الغائبين فحسن متين لا شبهة فيه أصلا ، مع الغضّ عن رجوعه إلى إثبات حكم موضوع إلى موضوع آخر ؛ ضرورة اعتبار اختلاف الزّمان في الاستصحاب ، فلا يمكن توهّم جريان الاستصحاب فيه أصلا ، وهذا بخلاف المقام فاقتباس حكم المقام منه قياسا عليه في غير محلّه ، كما أن التّقريب به في غير محلّه أيضا ، فذكره في المقام لعلّه سهو من قلمه الشّريف ( قدّس الله نفسه الزّكية ).

وأمّا ما ذكره في عدم جواز استصحاب الحكم الثّابت للموجودين في حقّ المعدومين.

فإن فرض الشّك فيه من حيث الشّك في بقاء نوع الحكم وارتفاعه من حيث النّسخ بحيث يعلم عدم مدخليّة خصوصيّة مكلّف فيه ؛ فلا إشكال في جريان الاستصحاب في حقّهم على ما عرفت تفصيل القول فيه.

وإن فرض الشّك فيه من جهة الشّك في ثبوت الحكم الثّابت للموجودين في حقّ المعدومين بحيث يقطع بتعلّق الحكم بالمعدومين على فرض وجودهم مع

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٢٥ والكلام لصاحب الفصول انظر فصوله : ٣١٥.


الموجودين ، فحينئذ لا مجال للتّمسك بالاستصحاب ، بل لا بدّ من التّشبّث بذيل دليل الاشتراك كما ذكرنا بالنّسبة إلى الحكم الثّابت للحاضر في حقّ الغائب هذا.

ويستفاد من كلام الأستاذ العلّامة ( دامت إفادته ) في المقام : جواب آخر على حذو ما ذكره بالنّسبة إلى استصحاب حكم الشّريعة السّابقة وهو : إجراء الاستصحاب فيمن بقي من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين ، ويتمّ الحكم في المعدومين بقيام الضّرورة على اشتراك أهل الزّمان الواحد في الشّريعة الواحدة.

ولكن قد يتأمّل فيما ذكره ؛ بأنّ أدلّة الاشتراك إنّما يثبت اشتراك المعدومين مع الموجودين ، وكذا اشتراك أهل الشّريعة الواحدة في التّكليف سواء كان واقعيّا أو ظاهريّا مع اتّحاد الموضوع ، فإذا ثبت كون تكليف الموجودين في السّفر القصر ، فيحكم : بأن تكليف المعدومين بعد وجودهم القصر في السّفر لا مطلقا ، وكذلك إذا ثبت أنّ حكم الموجودين في الشّك في التّكليف هي الإباحة ، فيحكم : بأنّ تكليف غيرهم أيضا الإباحة والبراءة في الشّك في التّكليف ، لا في مطلق الشّك وإن كان في المكلّف به.

وكذا الكلام بالنّسبة إلى أهل الشّريعة الواحدة ، فإذن نقول : إذا ثبت تكليف بعض أهل الشّريعة الواحدة بالاستصحاب فلا يجوز أن يحكم باشتراك غيره معه ، إلّا بعد فرض دخوله في موضوع الاستصحاب ، فإذا قال الإمام لبعض الموجودين عند السّؤال عن حكم المذي بعد القطع بالطّهارة بالبناء عليها ، فيحكم باشتراك غيره معه إذا خرج منه المذي بعد القطع بالطّهارة لا مطلقا ، فإذن لا يمكن الحكم


باشتراك من لم يوجد مع بعض الموجودين في الحكم الثّابت له بالاستصحاب هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ خصوصيّة الأسبقيّة في الوجود ملغاة بحكم أدلّة الاشتراك ، فكلّ حكم ثبت في حقّ بعض الموجودين من حيث وجوده السّابق يثبت في حقّ غيره أيضا فتدبّر. وكان الأستاذ العلّامة في مجلس البحث يتمسّك للاشتراك بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

فإن كان المراد إثبات حجّية الاستصحاب في حقّ من لم يوجد في الزّمان الأوّل بالاستصحاب فهو ممّا لا معنى له بعد فرض عدم وجود الحالة السّابقة في حقهم.

وإن كان المراد إثبات الاشتراك في الحكم المستفاد فقد عرفت حاله ، مع أنّه قد يقال عليه : بأنّ اتّحاد الحكم الواقعي في حقّهم لا ينافي التّفكيك بحسب الحكم الظّاهري حسب ما هو أحد القولين فيما ثبتت ملازمة في حكم بين شيئين ، وقد مال إليه الأستاذ العلّامة أيضا على ما هو ببالي عند قراءتي عليه مسألة الإجماع.

(٢٤٢) قوله : ( ومنها : ما اشتهر أنّ هذه الشّريعة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٢٧ )

المراد بناسخيّة شريعة خاتم الأنبياء لسائر الشرائع

أقول : حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) هو أنّ المراد من كون شريعة خاتم الأنبياء ( عليه وعليهم الصّلاة والسّلام ) ناسخة لجميع الشّرائع : إمّا نسخها لجميع الأحكام الثّابتة في الشّريعة السّابقة ولو بتغيير في متعلّقاتها شطرا ، أو شرطا ، أو بعضها ، أو


جميعها من حيث كيفيّة الالتزام بمعنى وجوب الالتزام بكلّ حكم من حيث إنّه جاء نبيّنا به وإن كان بعضها ممّا جاء به النّبي السّابق أيضا.

فإن كان المراد الأوّل :

ففيه : أنّ دعوى كون شريعة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناسخة لجميع أحكام الشّريعة السّابقة فاسدة بالإجماع ، بل يمكن دعوى الضّرورة على فسادها ، ويشهد له الآيات والأخبار أيضا ، فمن الآيات قوله تعالى : وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (١) فتدبّر.

وقوله تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ (٢) الآية فتأمّل ، وغيرهما. ومن الأخبار ما ورد عنهم المرويّة في « الاحتجاج » (٣) ممّا تدلّ على أنّ جملة من المحرّمات كشرب الخمر ، واللّواط ، ونكاح المحارم ، وغيرها كانت محرّمة في جميع الشّرائع ، بل العقل يستقلّ بثبوت بعض الأحكام في جميع الشّرائع كالمستقلّات العقليّة. وبالجملة : لا إشكال في فساد هذه الدّعوى.

وإن كان المراد الثّاني :

ففيه : أنّ الشّبهة إن لم تصل إلى حدّ الشّبهة المحصورة ، بل كانت غير محصورة فلا إشكال في عدم قدح العلم الإجمالي فيها وعدم إيجابه سقوط

__________________

(١) آل عمران : ٥٠.

(٢) البقرة : ١٨٣.

(٣) الاحتجاج : ٢ / ٩٣.


الأصل عن الاعتبار ، وإن كانت محصورة فالمتيقّن من المعلوم بالإجمال ما علم تفصيلا بالدّليل ، وأمّا الزّائد عليه فلا يعلم به ، فيحكم ببقائه بحكم الاستصحاب.

فإن قلت : الزّائد عليه وإن لم يتعلّق به العلم بخصوصه ، إلّا أنّه من أحد أطراف العلم وهو يكفي في إسقاط الاستصحاب بالنّسبة إليه ، غاية الأمر : تردّد الأمر في المعلوم بالإجمال بين الزّائد على القدر المعلوم بالدّليل وبين ما علم به ، ومجرّد هذا التّردّد لا يخرج الزّائد عن أطراف العلم الإجمالي حتّى يعمل فيه بالاستصحاب.

قلت : قد عرفت غير مرّة في الجزء الثّاني من التّعليقة ، بل في الجزء الأوّل أيضا : أن تردّد المعلوم بالإجمال بين الزّائد والنّاقص لا يؤثّر شيئا بالنّسبة إلى المقدار الزّائد ، بل لا بدّ من الرّجوع فيه إلى الأصل الموجود فيه من البراءة أو الاستصحاب لرجوع الشّك فيه إلى الشّك البدوي.

فإن قلت : ما ذكر إنّما يستقيم فيما احتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيما علم تفصيلا وليس الأمر كذلك في المقام ؛ لأنّا نعلم بنسخ كثير من الأحكام السّابقة والمعلوم منها تفصيلا قليل في الغاية فيعلم بوجود المنسوخ في غيره.

قلت : أوّلا : نمنع من كون المعلوم بالإجمال زائدا على ما وقفنا عليه ، ودعوى العلم بذلك مجازفة لا شاهد لها أصلا.

وثانيا : سلّمنا كونه زائدا عليه ، ولكن من الواضح البديهيّ أنّه ليس بأزيد من جميع الأحكام المعلومة في شرعنا ؛ فإنّها من أطراف العلم الإجمالي أيضا ، فإذا وجب الأخذ بها سواء كانت ناسخة أو لم يكن ثمّة مانع من الرّجوع إلى الأصل بالنّسبة إلى مشكوك البقاء ؛ حيث إنّه من أطراف العلم لا من موارده ـ وهذا مع


وضوحه قد أشبعنا القول فيه في مطاوي كلماتنا في أجزاء التّعليقة ـ وأنّ العلم الإجمالي إنّما يؤثّر في سقوط الأصل من الاعتبار فيما لم يجب الالتزام بمقتضاه في بعض الأطراف من جهة أخرى ، فالرّجوع إلى الأصل في المشكوكات لا مانع عنه بعد فرض وجوب الالتزام بسائر الأطراف من جهة العلم التّفصيلي المتعلّق بها.

والمقام نظير ما إذا علم بطهارة أشياء ، ثمّ حصل العلم بنجاسة بعضها الغير المعيّن الموافق من حيث المقدار للمعلوم بالإجمال ؛ واحتمل كونه هو المعلوم بالإجمال ، فإنّه لا إشكال في جواز الرّجوع إلى استصحاب الطّهارة في باقي الأطراف ؛ لأنّ الأصل فيه لا يعارض الأصل فيما علم بنجاسته بعدم الاحتياج في الحكم بنجاسته ووجوب الاجتناب عنه إلى إثبات كون النّجاسة الواصلة إليه غير النّجاسة الّتي علم بها إجمالا (١).

__________________

(١) قال العالم الرّباني المحقق الماهر الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« ومن الغريب : ان الأستاذ العلامة قدس‌سره زعم : ( أن المصحّح للإستصحاب ـ على تقدير بقاء العلم الاجمالي في المقام ـ عدم الحاجة إلى أصالة عدم النسخ في الأحكام المعلومة في شرعنا بالأدلّة ؛ فإنه يجب العمل بها سواء كان من موارد النسخ ام لا ؛ لما تقرّر في الشبهة المحصورة : من الأصل في بعض الأطراف إذا لم يكن جاريا أو لم يحتج اليه فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر ) هذا محصّل كلامه.

وفيه : ان الأحكام الثابتة في شرعنا ليست من أطراف الشبهة ؛ ضرورة أن وجوب العلم والنسخ متناقضان ، فعدم الحاجة إلى الأصل إنّما هو لخروج هذه الأحكام من الأطراف ، والإستغناء عن الأصل إنّما يدفع اثر العلم الإجمالي حيث كان المورد من الأطراف كما إذا


فإن قلت : قد ذكرت في الجزء الثّاني من التّعليقة : أنّ حصول العلم بمثل المعلوم بالإجمال في ضمن بعض الأطراف معيّنا بعد العلم الإجمالي لا يوجب جواز الرّجوع إلى الأصل في غيره من أطراف الشّبهة ، كما إذا علم بوصول النّجاسة إلى بعض معيّن من الأواني الّتي علم بوصول النّجاسة إلى بعضها الغير المعيّن ؛ لأنه يجب الاجتناب عن غيره ، وإلّا أمكن التّفصّي عن وجوب الاحتياط عن الشّبهة المحصورة في غالب الموارد بتنجيس بعض معيّن من أطرافها.

قلت : ما ذكرنا ثمّة إنّما هو فيما لو علم بوصول النّجاسة إلى بعض معيّن من أطراف الشّبهة غير ما علم به إجمالا لا ما إذا علم بنجاسة بعضها المعيّن بعد العلم الإجمالي واحتمل انحصار كونها المعلوم بالإجمال فيه ؛ فإنّه لا يجب الاجتناب حينئذ عن باقي الأطراف فتأمّل ، والمقام من هذا القبيل.

وبالجملة : المدّعى عدم الاحتياج إلى الأصل في وجوب الالتزام بالنّسبة إلى الأحكام المعلومة في شريعتنا ، لا أنّا نقطع بكونها من الأحكام الباقية الغير المنسوخة.

فإن قلت : ما ذكر إنّما يستقيم فيما لم يترتّب هناك أثر بالنّسبة إلى ما علم ثبوته في شرعنا من الأحكام من حيث كونها غير منسوخة ، وإلّا فيحتاج إلى إجراء الأصل بالنّسبة إليها لا محالة ، فيقع التّعارض مع الأصل في الأحكام

__________________

كان مضطرّا إلى ارتكاب بعض الأطراف قبل العلم الإجمالي بالنجاسة على سبيل التعيين والخصوصيّة ؛ فإن العلم الإجمالي حينئذ لا أثر له ؛ لاحتمال أن يكون المتنجّس ما إضطرّ إلى ارتكابه فلا يتنجّز التكليف على جميع التقادير ولا يتعقّل هذا المعنى في المقام » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.


المشكوكة فيتساقطان ، أو يحكم بعدم جريانها في هذا الفرض ؛ نظرا إلى أحد المسلكين في كيفيّة تأثير العلم الإجمالي.

قلت : لا معنى لمنع جريان الأصل في الأحكام المعلومة في شريعتنا على تقدير ترتّب أثر على كونها من الأحكام الغير المنسوخة ؛ لأنّ من الالتزام بهذا الأثر لا يلزم شيء أصلا ، والعلم الإجمالي لا أثر له بالنّسبة إليه جزما ، وإنّما أثره المنع من إثبات وجوب الالتزام ببعض الأحكام في شريعتنا فيما لو توقّف وجوب الالتزام به عليه ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فلا مانع من الرّجوع إلى الأصل ، هذا كلّه لو كان المراد هو المعنى الثّاني.

وإن كان المراد المعنى الثّالث أي : نسخ الجميع باعتبار وجوب الالتزام. ففيه : أوّلا : المنع من كون مقتضى التّدين بدين نبيّ وجوب الالتزام بكلّ حكم جاء به من حيث إنّه جاء به ، وإنّما الّذي يجب على المكلّف الالتزام بحكم الله الّذي علم به من قول أيّ نبيّ كان ؛ لأنّ قول الرّسول طريق إلى الأحكام الواقعيّة كحكم العقل. ومن المعلوم أنّ جهة الطّريقيّة لا يقتضي أخذها في الحكم المترتّب على ذي الطّريق.

وبالجملة : مقتضى كون قول الرّسول طريقا عدم وجوب الالتزام به من حيث هو هو وعدم كونه ناسخا لقول الرّسول السّابق عليه بهذا الاعتبار.

كيف؟ وقد ورد في حقّ عيسى بن مريم عليه‌السلام أنّه قال لأمّته : إنّي ما جئت إلّا لأكمل شريعة موسى عليه‌السلام ولا ينافي ذلك وجوب تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنّسبة إلى جميع ما ثبت منه أصلا وفرعا ، والالتزام به من حيث إنّ الالتزام بكونه حكم الله عين تصديقه كما هو ظاهر.


وثانيا : سلّمنا ذلك لكن نقول : إنّا نثبت بالاستصحاب كون الحكم عند نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على طبق الحكم عند النّبي السّابق سواء كان اعتبار الاستصحاب من باب الظّن ، أو التّعبّد :

أمّا على الأوّل : فلأنّه يظنّ بالاستصحاب ببقاء الحكم السّابق في شريعتنا.

وأمّا على الثّاني : فلأنّ المستفاد من الأخبار هو الحكم كليّة بإبقاء ما ثبت في السّابق ، فالثّابت في الشّريعة السّابقة حكم ظاهريّ في شريعتنا بمقتضى الأخبار هذا.

ولكن يمكن أن يورد على ما ذكرنا : بأنّ بعد تقيّد جميع الأحكام في الشّريعة السّابقة بالقيد المذكور يكون الثّابت في شريعتنا مثله لا محالة لا عينه ؛ لاستحالة ذلك ، فلا معنى لإجراء الاستصحاب لتغيّر الموضوع قطعا هذا.

ويمكن التّفصّي عنه : بأنّ المستصحب ليس هو الحكم المقيّد بالقيد المذكور وإنّما هو ذات المقيّد أي : حكم الله الكلّي مع قطع النّظر عن جميع الخصوصيّات وتقييده بالقيد المذكور ليس من خصوصيّاته المقوّمة له ، وإنّما هو من لوازم العلم به من تبليغ النّبي السّابق.

هذا ملخّص ما ذكره ( دام ظلّه ) في مجلس البحث وذكر : أنّه المراد من قوله :

( ولكن يدفعه : ... إلى آخره ) (١) والمقام يحتاج إلى مزيد تأمّل.

(٢٤٣) قوله : ( وفيه : أنّه إن أريد بالذّاتي ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٢٨ )

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣ / ٢٢٨.


بيان معنى الذاتي والمراد منه في كلماتهم

أقول : توضيح ما ذكره ( دام ظلّه ) في الجواب عمّا ذكره الفاضل القمّي يحتاج إلى بيان معنى الذّاتي والمراد منه في كلماتهم.

فنقول : إنّ الذّاتي يطلق في لسانهم على معنيين : أحدهما : ما لا يمكن تخلّفه عن الشّيء عقلا بمعنى كون الذّات علّة تامّة له وهذا هو المعروف في ألسنتهم.

ثانيهما : ما يكون الذّات مقتضيا له وإن أمكن تخلّفه عنه من جهة الموانع والمزاحمات ، ولك أن تجعل القسمين قسما واحدا بتعميم الاقتضاء بالنّسبة إلى الفعلي والشّأني.

إذا عرفت هذا فنقول : إن كان المراد من الذّاتي في كلامه المعنى الأوّل ـ حسب ما هو ظاهر إطلاقه ـ فلا إشكال في عدم كون الحسن والقبح بالمعنى المذكور مبنى للاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة ، بل وقوع الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة مقتضي لبطلان الحسن والقبح بالمعنى المذكور ، ولهذا أبطلوا القول به مطلقا ؛ لوقوع النّسخ في الأحكام الشّرعيّة ، مع أنّ مقتضاه عدم جوازه على القول بعدم إمكان البداء في حقّ الحكيم تعالى ـ كما استقرّ عليه مذهب العدليّة ـ بل على القول به أيضا على بعض الوجوه ، إلّا على القول بعدم وجود الملازمة بين الحسن والقبح والحكم الشّرعي مطلقا الفاسد عند المحقّق القمّي قدس‌سره و (١) هذا لا سترة فيه أصلا.

وإن أريد به المعنى الثّاني ، ففيه : أنّه لا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبار.

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


فإنّه إن كان ابتناء الحكم الشّرعي على الحكم العقلي وتطابقهما مانعا عن جريان الاستصحاب بناء على الشّبهة الّتي عرفت اندفاعها ، فلا معنى للفرق بينهما ؛ إذ كما يمكن ارتفاع الحسن الثّابت في العقل مثلا ثبوتا ثانويّا بارتفاع الوجه الّذي هو الموضوع الأوّلي له الصّادق على الفعل ، كذلك يمكن ارتفاعه على القول بكونه ذاتيّا بالمعنى المذكور بواسطة وجود المانع والمزاحم.

وإن لم يكن ابتناء الحكم الشّرعي على العقلي مانعا ، فلا معنى للفرق بينهما أيضا كما لا يخفى هذا.

وقد يقال : إنّ القول بتبعيّتهما للاعتبار أوضح في المانعيّة فتأمّل.

مع أنّ إطلاق القول بتبعيّة الحسن والقبح للوجوه والاعتبار ممّا لا معنى له ـ كما أوضحنا القول فيه فيما كتبناه في سالف الزّمان في مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين وقد أشرنا إليه في الجزء الأوّل من التّعليقة عند التّكلّم في مسألة التّجري (١) ـ مع أنّه لو كان مانعا لمنع من استصحاب عدم النّسخ في هذه الشّريعة أيضا.

وبالجملة : ابتناء الاستصحاب على مسألة التّحسين والتّقبيح العقليّين والأقوال في كيفيّة ثبوتها للأفعال ممّا لا معنى له جزما.

ثمّ إنّ هنا وجهين آخرين للقول بعدم حجيّة الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم الثّابت في الشّريعة.

الأوّل : أنّه لو جرى الاستصحاب في أحكام الشّريعة السّابقة ، لوجب الفحص عن حكمها في كلّ مسألة من المسائل بالرّجوع إلى الكتب المنزلة على

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٢٢.


النّبي السّابق ، وهو خلاف السيرة المستمرّة بين العلماء ( رضوان الله تعالى عليهم ).

الثّاني : أنّه وإن كان الاستصحاب بحسب الموضوع محقّقا بالنّسبة إلى الأحكام الثّابتة في الشّريعة السّابقة إلّا أنّ الأخبار غير منصرفة إليه ، فلا يحكم باعتباره من هذه الجهة.

ويمكن الجواب عن الأوّل : بأنّ عدم الفحص عن الحكم في الشّريعة السّابقة إنّما هو من جهة عدم وجود ما يرجع إليه في تحصيله لتغيّر الكتب المنزلة الموجودة في أيدي أهلها ، فليس ما يتكفّل لبيان ذلك ممّا يجوز الأخذ منه إلّا الكتاب العزيز والقرآن العظيم والفرقان الكريم المنزل من ربّ العالمين على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وما ورد من نبيّنا ( صلّى الله عليه وأهل بيته المعصومين المطهّرين ) ومن المعلوم أنّ كلّ أحد يتفحّص عن الدّليل في الكتاب والسّنة.

وعن الثّاني : بمنع الانصراف ، فتدبّر.

(٢٤٤) قوله : ( ويرد عليه بعد الإغماض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٢٩ )

كيفيّة الاستدلال بالآية لاعتبار قصد التقرّب وغيره

أقول : لا يخفى عليك أنّه شاع بين المتأخّرين من الأصحاب ـ على ما وقفنا عليه من كلامهم ـ التّمسك بالآية بضميمة الاستصحاب على أنّ الأصل في الواجب أن يكون تعبّديّا مشروطا صحّته على قصد القربة والامتثال ، وبين جماعة من المتقدّمين على ما حكاه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه العالي ) التّمسك بها على اشتراط الخلوص في النّيّة بمعنى خلوّها عن الضّمائم من الرّياء وغيره ، وتقريب الاستدلال بها على اشتراط الخلوص في النّية ظاهر غير محتاج إلى البيان ، بعد


جعل المراد من الإخلاص : هو تنزيه العمل من الرّياء ونحوها ، وجعل الدّين عبارة عن القصد.

وأمّا تقريب الاستدلال بها على المطلب الأوّل فيكون من وجهين :

أحدهما : استظهار ذلك من لفظ الخلوص من باب المطابقة ، أو من باب الأولويّة ودلالة الأخص على الأعمّ بعد جعل « اللّام » للغاية ، فتدلّ على ثبوت الملازمة في الشّريعة السّابقة بين وجوب شيء واشتراط قصد القربة في صحّته ، فيستصحب هذه الملازمة ويحكم ببقائها في شريعتنا أيضا حسب ما هو المحكيّ في وجه الاستدلال.

ثانيهما : استظهاره من لفظ نفس العبادة مع قطع النّظر عن قوله : مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ* (١) بناء على عدم تحقّقها بدون التّقريب ؛ حيث إنّ الإتيان المأمور به على قسمين :

أحدهما : ما يقتضي مجرّد رفع العقاب كالإسقاط الّذي ليس من إتيان المأمور به في شيء لكن لا يحصل به الغرض من المأمور به ، فيقتضي سقوطه ورفع العقاب عن تركه حيث علم أنّ المقصود أعمّ من المطلوب ، وهذا ليس من الإطاعة والامتثال في شيء ، وليس المكلّف مستحقّا للثّواب في شيء ، وهذا المعنى لا يحتاج إلى قصد القربة أصلا ، بل يكفي مجرّد إتيان المأمور به بأيّ وجه اتّفق ، وهو لا يتحقّق إلّا في الواجبات التّوصّليّة.

ثانيهما : ما يقتضي استحقاق الأجر والثّواب وهو لا يعقل تحقّقه بدون قصد

__________________

(١) الأعراف : ٢٩ ، والبيّنة : ٥.


الإطاعة كما لا يخفى ، والعبادة ما لا ينفكّ عن هذا المعنى ، ففي أصل العبادة مأخوذ قصد التّقرب فيكون الحال حينئذ على تقدير كون معناها قصد التّقرب مؤكّدة لا منتقلة كما لا يخفى هذا.

بل ربّما يقال : إنّ العبادة لا يتحقّق مع الضّميمة ، فالاستدلال بها على المطلب الثّاني أيضا لا يحتاج إلى التّمسّك بلفظ الإخلاص ، فالحال مؤكّدة مطلقا.

ولكن فيه ما لا يخفى سيّما بناء على تعميم الضّميمة. هذا ملخّص ما يستفاد من كلامهم في تقريب دلالة الآية على المدّعى.

ولكنّك خبير بما في الاستدلال بها على المطلبين ، لعدم دلالتها على شيء منهما.

أمّا أوّلا : فلأنّ الظّاهر من « اللّام » في قوله : لِيَعْبُدُوا اللهَ (١) هي « لام » الإرادة الّتي تدخل على المفعول به. والمراد كما في قوله : لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ (٢) و لِيُبَيِّنَ لَكُمْ (٣) ونحوهما ، ويشهد له مضافا إلى ظهور هذا المعنى منها في أمثال المقام عطف قوله : لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ (٤) الآية.

وبالجملة : استعمال « اللّام » في هذا المعنى كثير في الغاية في الكتاب والسّنة والعرف ، ويشهد له السّياق وذيل الآية ، فلا بدّ من أن يحمل عليه ، والمراد

__________________

(١) البيّنة : ٥.

(٢) الاحزاب : ٣٣.

(٣) النساء : ٢٦.

(٤) ابراهيم : ٣٧.


من العبادة ليست هي العبادة الّتي في مقابل المعاملة ، بل المراد هي العبوديّة أي : وما أمروا إلّا بجعل عبوديتهم لله.

والمراد من الإخلاص ليس قصد القربة في الواجب ولا تنزيه العمل من الرّياء ونحوه ، بل عدم الشّرك به وجعل الشّريك له في العبوديّة ، فالآية تدلّ على وجوب التّوحيد عليهم لا على وجوب قصد القربة عليهم في كلّ واجب ، أو تنزيه القصد من الرّياء ونحوها من الضّمائم ، والمراد من الدّين ليس هو القصد ؛ إذ لم يثبت استعماله فيه أصلا ، بل المراد منه إمّا خصوص الأصول كما هو الظّاهر ، أو هي مع الفروع. فالآية مشتملة على بيان تكليفهم بأصل الأصول وعمود الفروع فلا دخل لها بالمقام أصلا كما لا يخفى.

ويشهد لما ذكرنا أمور :

أحدها : ظهوره من الآية بالبيان الّذي عرفته مضافا إلى ملاحظة صدرها.

ثانيها : دلالة كثير من الآيات الّتي فيها لفظ الإخلاص ، بل لم يوجد آية مشتملة عليه وكان المراد منها غيره كما في قوله تعالى : أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ (١) وقوله : قُلِ اللهَ أَعْبُدُ (٢) الآية وغيرهما.

ثالثها : تفسير المفسّرين ؛ فإنّهم فسّروها بما ذكرنا ، كما يعلم من الرّجوع إلى كتب التّفسير للخاصّة والعامّة.

__________________

(١) الزمر : ٣.

(٢) الزمر : ١٤.


لا يقال : كون المراد من الإخلاص ما يقابل الشّرك لا ينافي الاستدلال بها على وجوب خلوص العمل من الضّمائم سيّما الرّياء ؛ فإنّه قد ورد : أنّه من الشّرك الخفي (١).

لأنّا نقول : قد عرفت : أنّ المراد من الآية بملاحظة صدرها وذيلها ونظائرها وما ورد في تفسيرها ليس وجوب العمل على وجه الإخلاص وعدم الشّرك في العمل حتّى يقال : إنّ الرّياء أيضا نوع من الشّرك بالمعنى الأعمّ ، بل المراد منها : وجوب التّوحيد واختيار عبوديّة الله معتقدين بعدم الشّريك له ؛ حيث إنّ المأمور فيها هم الكفّار المعتقدون بأنّ له جلّ شأنه وعزّ اسمه شريكا يشفع لهم عنده تعالى.

ومن المعلوم أنّ ضمّ غير عنوان المأمور به إليه في القصد ولو كان رياء ليس شركا بالله بمعنى الاعتقاد بغيره وجعله مستحقّا لأن يعبد كما لا يخفى ، وإلّا وجب الحكم بكفر من كان هذا شأنه كما في أكثر النّاس إن لم يكن جلّهم وإن كان شركا بمعنى آخر لا ينافي الإيمان ، وعليه يحمل ما ورد في بعض الأخبار.

وأمّا ثانيا : فلأنّه على فرض تسليم كون المراد من الإخلاص ما هو مقابل الرّياء ونحوها من الضّمائم لا دلالة للآية على وجوب قصد التّقرب عليهم في كلّ واجب ؛ فإنّ الحصر إنّما هو باعتبار القيد لا القيد والمقيّد معا ، فيصير المحصّل منها : أنّهم ما أمروا بإيقاع العبادة بوجه من الوجوه إلّا على وجه الإخلاص ، فالآية إنّما تدلّ على وجوب الإخلاص عليهم في كلّ عبادة ، لا على

__________________

(١) مصباح الشريعة : ٣٢ ، عنه مستدرك الوسائل : ج ١ / ١٠٧ باب « تحريم قصد الرياء والسمعة في العبادة » ـ ح ١٤.


كون كلّ ما أمروا به عبادة يجب فيها قصد التّقرب ، كما هو مراد الأكثر حسب ما نسب إليهم.

نعم ، الآية بهذا البيان تدلّ على اعتبار الإخلاص في العبادة على ما عليه الاتّفاق ظاهرا في الجملة.

نعم ، لو كان المراد الحصر بالنّسبة إليهما جميعا ، بمعنى : عدم أمرهم بشيء إلّا بالعبادة وعدم أمرهم بإيقاعها على وجه ، إلّا على وجه الإخلاص لم يكن إشكال في دلالتها على المطلبين مع الغضّ عمّا عرفته أوّلا ، لكن إثبات هذا المعنى في غاية الإشكال ، بل الظّاهر من الآية خلافه كما لا يخفى.

وأمّا ثالثا : فلأنّه على فرض تسليم كون « اللّام » للغاية وجعل المراد من العبادة والإخلاص بالمعنى المذكور في تقريب الاستدلال ، نقول : إنّه لا دلالة للآية على المدّعى أيضا ؛ لأنّ المحصّل منها على هذا التّقدير : أنّهم ما أمروا في الشّريعة السّابقة بشيء من الأشياء إلّا لغاية عبادة الله على وجه الإخلاص ، بمعنى : أنّ الغاية في نظر الشّارع في أمرهم بها هو ترتّب عبادة الله على وجه الإخلاص على إتيانهم بها لما فيها من المصالح المقتضية لتكميل نفوسهم الموجبة لذلك.

وهذا المعنى كما ترى ، لا دخل له بوجوب قصد القربة عليهم في كلّ واجب ، بل لا ينافي كون جميع الواجبات في شريعتهم توصّليّا لا يشترط فيها قصد التّقرب أصلا ؛ إذ حاصل المعنى المذكور يرجع إلى أنّ الفائدة في نظر الشارع في أمر الأمم السّابقة بالواجبات هي سببيّة فعلها للقرب إلى الواجب العقلي ، وهي عبادة الله بقصد التّقرب.


وهذا معنى ما تقرّر عند العدليّة : أنّ الواجبات السّمعيّة بأسرها لطف في الواجبات العقليّة ؛ من حيث إنّ فعلها من جهة ما يترتّب عليها يوجب القرب إلى فعل المحسّنات العقليّة وترك المقبّحات العقليّة كما قضى به قوله جلّ شأنه وعزّ اسمه : إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ (١).

وبما عرفت : ينبغي أن يفسّر القضيّة المعروفة ، لا بما قد يرتكبه المتعسّف الخالي عن التّأمّل : من أنّ معناها كون فعل الواجبات السّمعيّة موجبة للوصول إلى ما فيها من المصالح المقتضية لإيجاب الشارع الفعل بحكم العقل من باب كونه حكيما لطيفا ؛ إذ نفس ما في الفعل ليس طاعة ومعصية حتّى يكون الفعل المحصّل له لطفا ، مع أنّ معنى اللّطف هو القرب لا الوصول كما لا يخفى.

فإن قلت : كيف يجامع هذا المعنى مع قوله تعالى : أخيرا : يُقِيمُوا الصَّلاةَ (٢) الآية مع أنّ إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة ليستا من الواجبات العقليّة؟ على أنّ المقصود من الآية هو الإخبار عن كونهم مأمورين بها لا كونها فائدة للأمر بواجباتهم.

قلت : أوّلا : يمكن القول بكون الصّلاة واجبا عقليّا لما فيها من التّضمّن لشكر المنعم فتدبّر.

وثانيا : أنّه ليس اللّازم فيما ذكرنا كون فعل الواجب أوّلا وبالذّات موجبا للقرب إلى الواجب العقلي ، بل يكفي فيه مجرّد إيجابه القرب إليه ولو بواسطة

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

(٢) البيّنة : ٥.


إيجابه القرب إلى واجب سمعيّ يوجب القرب إلى الواجب العقلي على ما صرّح به جماعة هذا.

وأمّا ما ذكر أخيرا : من عدم مناسبة جعل « اللّام » للغاية لذيل الآية.

ففيه : أنّه ردّ لا مخلص عنه ، إلّا أنّه لا دخل له بما ذكرنا ؛ إذ ما ذكر إيراد على أصل الاستدلال بالآية على ما عرفته منّا وكلامنا مبنيّ على الغضّ عمّا أوردنا أوّلا وثانيا.

فإن قلت : إذا فرضت كون التعبّد غاية في كلّ ما وجب عليهم فيجب تحصيلها فيه ؛ لأنّ تحصيل ما هو الغرض للشّارع في الأوامر واجب كنفس الإتيان بالواجب ، فإذا ثبت وجوب قصد القربة في كلّ واجب ثبت بحكم الإجماع على عدم وجوب قصد القربة مستقلّا أنّه كان شرطا في صحّة كلّ واجب عليهم ، فيثبت المطلوب.

قلت : ما ذكرته إنّما يصحّ فيما إذا كانت الغاية من الأفعال المقدورة للمكلّف المتوقّف حصولها على إتيانها لا ما إذا كانت من الأمور المترتّبة عليه قهرا كما في المقام ؛ فإنّ غاية الواجبات ليست نفس التّعبّد ، بل هو القرب إليه الّذي يعبّر عنه باللّطف في لسانهم ، ومن المعلوم أنّ ترتب هذا المعنى على فعل الواجبات أمر قهريّ لا دخل لاختيار المكلّف فيه أصلا كما لا يخفى.

فإن قلت : ما ذكرته إنّما يصحّ على تقدير تسليم كون امتثال أمر الله تبارك وتعالى واجبا عقليّا في كلّ واجب حتّى التّوصّليّات ، ومن المعلوم أنّ العقل لا يحكم بوجوب هذا المعنى في التّعبّديات الّتي تثبت اشتراط صحّتها بقصد القربة فضلا عن التّوصّليات ، غاية الأمر حكمه بوجوب الإتيان بالتّعبّديات بداعي


التخلّص عن العقاب والفرار عنه. ومن المعلوم أنّ هذا المعنى غير التّعبّد على وجه الإخلاص.

قلت : الّذي يحكم به العقل هو وجوب إطاعة الله تعالى في كلّ واجب على ما هو قضيّة قوله تعالى : أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (١) فإنّه لا اختصاص لحكم العقل والشّرع بوجوب الإطاعة بالواجبات التّعبّدية ، بل يشملها والتّوصّلية قطعا.

ومن المعلوم أنّ الإطاعة والامتثال لا يتحقّق بدون التّقرب ، وليس المراد من التّقرب هو الإتيان بما أمر به الله تعالى من حيث كونه مستحقّا للعبوديّة ؛ لأنّ هذه المرتبة من المراتب الّتي لا يحكم العقل والشّرع بوجوبها قطعا ، ولا يشترط في صحّة العمل جزما ؛ لأنّه لا يمكن تحصيله إلّا للأولياء ، بل هو مجرّد الإتيان بما أمر به لداعي التّقرب إليه ولو من جهة الفرار عن مؤاخذته ، لكفاية هذا المعنى في تحقّق الامتثال وصحّة العمل على ما تقرّر تفصيل القول فيه في الفقه ، فإذن نقول : إن الّذي يحرّك العقل به المكلّف إلى فعل الواجبات ليس إلّا خوف العقاب على تركها بحيث لا يكون الدّاعي له في الإقدام على الفعل إلّا هذا المعنى ؛ لأنّه أمر مركوز في أذهان جميع النّاس بل جميع الحيوانات فضلا عن الإنسان ، غاية الأمر : أنّه لو كان الواجب توصّليا يمكن رفع موضوع حكم العقل بوجوب الإطاعة وهو أمر الشارع بغير الامتثال. فلا يحكم به من هذه الجهة ، لا أنّه يحصل الامتثال بمجرّد الإتيان بالمأمور به ، أو يكون حكم العقل بوجوب الإطاعة مختصّا

__________________

(١) النساء : ٥٩.


بالواجبات التّعبديّة. هذا ملخّص ما ذكره ( دام ظلّه العالي ).

ولكن يمكن المناقشة فيه : بأنّ تحريك العقل إلى فعل الواجب وإن لم يكن إلّا من جهة دفع الضّرر عن النّفس ـ حسب ما هو قضيّة جبلّة العاقل ـ إلّا أنّ مجرّد هذا المعنى لا يدلّ على وجوب ملاحظة هذا المعنى في العمل وقصده فيه بحيث لو فرض إتيانه به لا على الوجه المذكور من جهة علمه بعدم اشتراطه في صحّة العمل شرعا لم يكن آتيا بالواجب ، بل فعل فعلا لغوا.

وبالجملة : فرق بين حكم العقل بوجوب ملاحظة التّقرب وهو إتيان الفعل تخلّصا عن العقاب في العمل بأن يوقعه على هذا الوجه ، وبين كون العلّة في حكمه وتحريكه هو وجود الضّرر في الشّرك. والّذي نسلّمه هو الثّاني ، والّذي ينفع في المقام هو المعنى الأوّل فتدبّر.

وأمّا رابعا : فلأنّه لو بني على كون المراد من الآية ما ذكر في تقريب الاستدلال بها على المدّعى لم يحتج إلى الاستصحاب أصلا ، بل لا يجري جزما ؛ لكفاية قوله تعالى : وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (١) في إثبات الحكم في شريعتنا من غير أن يتمسّك بالاستصحاب بناء على كون المراد منها الثّابتة الّتي لا تنسخ ، لا الحقّ المستقيم كما ذكره جماعة منهم : الأردبيلي في « آيات الأحكام » (٢).

__________________

(١) البيّنة : ٣.

(٢) زبدة البيان في فقه القرآن للفقيه المقدّس الأردبيلي : ٢٨.


* التنبيه السادس :

( الأصل المثبت ) (١)

__________________

(١) قال العالم الربانى الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« إن الأصل حيث انه وظيفة للجاهل لا يعقل ان يترتّب عليه إلّا الجهة التي أسّس الأصل لها ، فقاعدة الشك بعد الفراغ ـ مثلا ـ يثبت بها صحّة ما فرغ منها ولا يترتّب عليها وقوع ما يتوقّف الصحّة عليه ، فإذا كان الشك في الصحّة من جهة الشك في التطهير عن الحدث أو الخبث فمع البناء على صحّة العمل السابق يجب التطهير للأعمال اللاحقة وحيث انّ الإستصحاب عبارة عن الإعتماد على اليقين الحاصل بما يقتضيه الشيء وعدم الإعتداد باحتمال المانع ، فلا يترتّب عليه إلّا ما هو من مقتضياته ، وأمّا ما يستقلّ بالإقتضاء فمقتضى هذا الأصل التعويل على إقتضاءه لا ترتيبه على اقتضاء آخر ، فحيث شك في زوال حياة زيد بالموت بعد العلم بثبوته يجب البناء على عدم المزيل ، وهذا إنّما يترتّب عليه ما هو من مقتضياته يعني : ما لا يستقلّ بالإقتضاء كبقاء امواله على ملكه ، وامّا إنبات اللحيّة ـ مثلا ـ فلأن اللحية مباينة في الوجود للشخص كالثمرة بالنسبة إلى الشجر والحمل بالنسبة إلى الحامل ومن المعلوم ان اليقين بأحد المتلازمين مغاير لليقين بالآخر وإلى هذا ينظر ما أفاده كاشف الغطاء قدس‌سره في تعارض الأصلين يعني : انه لا مرجّح لترتيب أثر المثبت على الثابت مع استقلاله بالإقتضاء كما في الأمثلة ، وإنّما الذي يترتّب عليه ما لم يستقل بالإقتضاء.

توضيح ذلك :

أنّ الأصل المثبت عندنا عبارة عمّا يترتّب عليه ما يستقلّ بالوجود والعدم أو كان منتزعا من غير ما استصحب وعلم بوجوده لا ما ترتّب عليه أثر غير شرعي كما هو الشائع في ألسنة الأواخر ؛ فإنه على ما حقّقناه أصل عقلائي قرّره الشارع ، بل لو كان أصلا شرعيّا لم يكن وجه


__________________

لإختصاص الأثر الشرعي بالتّرتب عليه عدى ما يتوهّم : ان الحكم بثبوت ما لا يرجع إلى الشارع في مرحلة الظاهر لا معنى له ؛ فإن تنزيل شيء مقام آخر إنّما يتصوّر بالنسبة إلى ما يرجع إلى الشارع.

ويندفع : بان الحكم بثبوت الأمر غير الشرعي أيضا مرجعه إلى الآثار الشرعيّة كما هو الحال في البيّنة والدليل ؛ فانه لا إشكال في ان الشارع يجعلهما حجة ويتنزل مؤيّدهما منزلة المعلوم مع أنّ مؤيّدهما لا يجب أن يكون أمرا شرعيّا ، بل لا يثبت بالبيّنات إلّا الموضوعات ، بل الأصول الموضوعيّة إنّما تثبت الموضوعات في مرحلة الظاهر ، ومرجع إثباتها ترتّب الأحكام الشرعيّة عليها ؛ فإنّ استصحاب الحياة إنّما يثبت به الحياة أوّلا ومرجعه إلى ترتّب الأحكام الشّرعيّة ؛ لأن المستصحب هو الأحكام ، فلا فرق بين ان يثبت بالاستصحاب حياة زيد فيترتّب عليه الحكم الشرعي وبين أن يثبت باستصحاب حياته نبات لحيته ليترتّب عليه آثاره الشرعيّة فلو كان المانع من ثبوت نبات اللحية بالأصل انه امر غير شرعي شاركه الحياة التي يجري فيها الإستصحاب وإن شئت قلت : انه لا فرق من هذه الحيثيّة بين أن يكون نبات اللحية متعلّقة للإستصحاب وبين ان يترتّب على استصحاب الحياة ، بل الفارق إنّما هو إستقلال اللحية بالإقتضاء وعدم كونها من شؤون الحياة ؛ فإن لها وجودا مغايرا لوجود الشخص ، بل نقول : إن الأصل لا يترتّب عليه إلّا الأثر العقلي ولا يعقل أن يترتّب عليه الأثر الشرعي فإن الحكم المترتّب عليه إنّما هو حكم ظاهري وهو في الحقيقة ليس حكما ، بل إنّما هو تصرّف في المرحلة الثالثة من مراحل الحكم بالتنجيز والدفع فتنزيل مشكوك البقاء منزلة المعلوم لا معنى له ، إلّا إنّ ما كان يترتّب على العلم عقلا من تنجيز التكليف الواقعي بحكم العقل مثلا لا يزول بطروّ الشك في البقاء ، فالشاك في البقاء منزّل منزلة العالم في ترتيب الآثار العقليّة الثابتة للعلم بالذات ، ألا ترى ان الإستصحاب حيث تعلّق بنفس الأحكام التكليفيّة لم يتعقّل أن يترتّب عليه أثر شرعي ؛ فإنّ الحكم الشرعي ليس له أثر


__________________

شرعي وإنّما تنجّزه أثر العلم ، فكما انه يتنجّز بالعلم فكذا يتنجّز على الجاهل بالبقاء ، والقول : بان أثر استصحاب التكليف إثبات حكم شرعي مماثل للحكم الواقعي ، كلام ظاهري ؛ ضرورة انه لم يجعل الشارع للحكم الشرعي أثرا مماثلا له ، بل لا معنى له والوجوب الظاهري المترتّب على استصحاب الوجوب الواقعي حقيقته تنجّز الوجوب الواقعي على تقدير ثبوته في الواقع على الجاهل بالبقاء ، وكذا الحال في الأحكام الوضعيّة ؛ فإن استصحاب الطهارة أثره كون المصلّي معذورا في الإتيان بالصلاة الفاقدة لها إذا علم بحدوثها وشك في ارتفاعها وهذا معنى البناء على الطهارة حال الشك في ارتفاعها ولا معنى لثبوت الطهارة للشاك إلّا ذلك ، ومن المعلوم أن كون الشخص معذورا في ترك الصلاة مع الطهارة أثر للجهل عقلا فترتيبه على الإستصحاب ليس من ترتّب الأثر الشرعي.

وبالجملة : فالأصول كالأدلّة لا يثبت بها إلّا الأثر العقلي الثابت للعلم والجهل بالذات ؛ فإن جعل الوظيفة للجاهل كما هو مقتضى الاصول العمليّة وما دلّ على إعتبار الأدلة الأجتهادية فإنه أيضا اصل لإعتبار الجهل في موضوعه مرجعه إلى التصرّف في اثبات العذر ونفيه ، فكيف يتوهّم : انه لا بد من أن يكون ما يترتّب على الأصل الشرعي أثرا شرعيّا وأن الشارع ليس له إلّا ترتّب الآثار الشرعيّة على الأصول ، مع انه لو تمّ لمنع من ثبوت أمر غير شرعي بالدليل والبيّنة أيضا.

وبما حقّقناه ظهر : اندفاع ما أورده الأستاذ العلّامة قدس‌سره على القوم في التمسّك باستصحاب حال العقل حيث زعم : ان عدم استحقاق العقاب المقصود إثباته في المقام حكم عقلي لا سبيل إليه ، إلّا قبح العقاب بلا بيان والإستصحاب بناء على حجّيّته من باب التعبّد لا يصلح لأن يثبت به إلّا الأثر الشرعي ، هذا محصّل ما أفاده في أوّل مبحث أصالة البراءة [ الفرائد : ٢ / ٥٩ ـ ٦٠ ].

وفيه : ما عرفت : من ان ترتب الأثر الشرعي على الأصل لا معنى له الّا إثبات استحقاق


عدم ترتّب الآثار غير الشرعيّة على الاستصحاب والدليل عليه

__________________

العقاب ودفعه ، وهذا معنى ما اشتهر : من ان المترتّب على الأصول والأدلّة غير العلميّة أحكام ظاهريّة ؛ فإن الحكم الظاهري ليس إلّا التنجّز والدفع وذلك ممّا يرجع إلى الشارع في الجملة.

والحاصل : انه لو كان ترتّب استحقاق العقاب وعدمه على الأصل مانعا عن جريانه لم يجر في شيء من المقامات حيث انه لا معنى لشيء من الأصول إلّا ذلك وكذا الحال في الأدلّة الغير العلميّة وليس كون الأصل مثبتا بهذا الإعتبار كما اشتهر في هذه الأزمنة ، بل المثبت عند أهل الصّناعة : ما يترتّب عليه ثبوت شيء يستقلّ بالتحقّق ولم يكن من شؤون [ المستصحب ] المعلوم كاللحية المغايرة لحياة زيد ، فباستصحابها لا يحكم بإنباتها ، وكالغسل المغاير للماء فباستصحابه لا يحكم بتحقّقه فيما لو كان الماء باقيا لا نغسل به ، وكقتل شخص لو كان باقيا في مكان رمي بما لو كان باقيا فيه لقتل وهكذا في ما لا يتناهى من الفروع.

وأمّا ما لا إستقلال له في مرحلة التحقّق فليس ترتّبه على المستصحب إثباتا كما إذا عقد النكاح الوليّ أو الوكيل لمن لا يعلم ببقاءه إلى زمان العقد ؛ فإنه لا ريب في الحكم بتحقّق علقة الزوجيّة باستصحاب الحياة ، وكذا يحكم بدخول المبيع في ملكه وانتقال الثمن عنه إذا اشترى له شيئا ، مع انه ليست الزوجيّة والملكيّة من الآثار الشرعيّة لبقاء حياة الشخص.

والفرق : ان التعويل على اقتضاء الشيء والبناء على بقاء الشيء على ما هو عليه ليس إلا الاستلزام بجميع ما هو من شؤونه وأطواره وإن كان مغايرا لذاته ، والزوجيّة مثلا ليس غير الأمر المستصحب وهو أحد الطرفين والطرف الآخر المعلوم هو العقد المعلوم تحقّقه من اهله ، ولكن الغسل ليس أمرا منتزعا من الماء والجسم الذي لا يعلم ملاقاته له وجريانه عليه. وبهذا يظهر السرّ في جميع الموارد بعون الله تعالى » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦٢ ـ ٢٦٤.


(٢٤٥) قوله : ( قد عرفت : أنّ معنى عدم نقض اليقين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٣٣ )

__________________

(١) قال المحقق شيخ الكفاية الخراساني قدس‌سره :

« قد عرفت : انّ حرمة نقض اليقين كناية عن لزوم الالتزام بالمتيقّن عملا ، وقضيّته التّعبّد به لو كان من مقولة الأحكام الشرعيّة والامور المجعولة بنفسها ، من دون اعتبار تجشم أمر آخر أصلا لعدم الحاجة كما لا يخفى والتّعبّد بآثاره الشّرعيّة لو كان من الأمور الخارجيّة الغير المجعولة لعدم معقوليّة التّعبّد بها ، إلّا بمعنى التعبّد بآثارها القابلة له وهي آثارها الشّرعيّة دون العقليّة والعادية ، فلا وجه لجعله قدس‌سره معناه مطلقا هو ترتيب الآثار الشّرعيّة ، كيف! وقد لا يكون للحكم المتيقّن أثر شرعي أصلا ، وآثاره العقليّة من قبيل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ كما قلنا لا يكون قابلة للجعل ، وقد صرّح به هاهنا.

نعم يترتّب عليه بعد الفراغ عن جعله جميع آثاره الشّرعيّة وخصوص ما كان من آثاره العقليّة أو العادّيّة ، موضوعه مطلق الحكم ولو كان ظاهريّا. وكيف كان : فلا سبيل إلى التّنزيل ما لم يكن مورده بنفسه حكما شرعيّا ، أو ذا أثر شرعيّ ، فلا مجال للاستصحاب بلا شبهة ولا ارتياب فيما كان من الموضوعات غير ذي أثر شرعيّ أصلا ولو بواسطة حكم شرعي ، كما هو أوضح من أن يخفى ، كما لا كلام فيما له أثر شرعي بلا واسطة إنّما الإشكال ، بل الخلاف بين الأعلام فيما كان له الأثر الشّرعي بواسطة غير شرعيّة.

فاعلم انّه ربّما يقال : انّه لا مجال للإشكال في كفاية الانتهاء إلى أثر شرعي ولو بوسائط في صحّة التّنزيل ، فكما يصحّ تنزيل الموضوع بملاحظة أثره المترتّب عليه بلا واسطة صحّ تنزيله بملاحظة الأثر مع الواسطة ، ويدلّ عليه جعل الأمارات على الموضوعات ولو فيما لم يكن له أثر إلّا بالواسطة ، فانّه أيضا ليس إلّا تنزيل الموضوعات بلحاظ آثاره الشّرعيّة ، ولو لم يصحّ التنزيل إلّا بالأثر بلا واسطة لما كان سبيل إلى ترتيب الأثر بالواسطة بواسطة قيام الأمارة عليها كان هناك أثر بلا واسطة أو لا كما لا يخفى ، وهو كما ترى.


__________________

وبالجملة : إنّما لا يعقل تنزيل الموضوع بلا ملاحظة الأثر الشّرعي ، وامّا معها فهو بمكان من الإمكان ولو كان الأثر مع الواسطة ، وسرّه : أنّ الأثر كما كان أثرا لها ، كان أثرا لذيها ، غاية الأمر يكون تنزيله بلحاظه تنزيلا لها.

إن قلت : فرق بين التّنزيل في مورد الأمارات ومورد الأصول التّعبديّة ، وهو أنّ الأمارة تكون حاكية من الواسطة كما تكون حاكية عن ذيها ، فشمول دليل الحجّيّة لها ايضا في مورد لا أثر فيه إلّا بالواسطة ، إنّما هو بملاحظتها بنفسها ، فإنّها أيضا من الموضوعات الّتي كانت لها آثار شرعيّة دون ذيها ، وهذا بخلاف الأصل فانّه ليس في البين في مورده إلّا نفس الجعل والتّنزيل شرعا.

قلت : نعم ، ولكنّه ليس بفارق ، فانّ شمول دليل الأمارة القائمة على موضوع ملزوم عقلا لأمر محكوم بأثر شرعا لتنزيل هذا الأمر ليس إلّا بتبع وجوب تصديقها فيما يحكى فيه ابتداء وبلا واسطة ، لأنّه لا يكاد أن ينتقل الذّهن إلى تنزيل الواسطة إلّا بواسطة تنزيل ذيها كما لا يخفى ، فلا يترتّب الأثر الشّرعي على نبات اللّحية مثلا بعد قيام البيّنة على حياة زيد ، إلّا بتبع وجوب تصديقها في نفس حياته المستتبع لنباتها المرتّب عليه الأثر.

إذا عرفت صحّة تنزيل الموضوع بلحاظ الأثر بالواسطة أيضا ، فعموم دليل التّنزيل أو إطلاقه كخطاب « لا تنقض اليقين » يقتضي شمول التّنزيل لكلّ موضوع متيقّن ، كان له أثر شرعي ولو بواسطة أو وسائط. نعم ، لا يعمّ ما لا أثر له أصلا ولو كان لملزومه أو لملازمة أثر ، إذ ليس أثر ما يلزم الشيء أو يلازمه بأثره ، بل أثر غيره ، ولا يصحّ تنزيل شيء بلحاظ أثر غيره.

هذا ، ولكن التحقيق حسبما يساعد عليه النّظر الدّقيق أن يقال : انّ التنزيل وإن كان يصحّ بلحاظ الأثر مطلقا ولو كان بالواسطة ، ويمكن أن ينهض عليه الدّليل ، وليس ممّا لا يكون إليه السّبيل مثل ما إذا لم يكن له أثر أصلا إلّا أنّه لا يكاد أن ينهض عليه مثل خطاب لا تنقض من دون دلالة ، وذلك لأنّ التفكيكات في مقام التنزيل بين الشيء وملازمه ليس بمستحيل ولا


__________________

ببعيد عن ظاهر دليل تنزيله ، ضرورة انّ خطاب لا تنقض اليقين بحياة زيد مثلا ، فانّه ليس بظاهر في تنزيل نبات لحيته أيضا عند الشّكّ في حياته ، كي يكون التّفكيك بين تنزيل حياته وتنزيل نبات لحيته تعبّدا لو لم نقل بظهوره في تنزيل خصوص حياته ، فلا أقلّ من الإحتمال المانع من الاستدلال له على التّنزيلين ، فلا سبيل إلّا إلى إثبات تنزيل نفس متعلّق اليقين بمثل هذا الخطاب.

إن قلت : نعم لو لم يعمّ متعلّق اليقين لما كان لا أثر له إلّا بواسطة لازمه وفي مثله لا محيص من عدم التّفكيكات ، لأنّه ركيك بل مستحيل ، لأنّ ترتيب أثر الواسطة عند الشّكّ عين تنزيله فإنّه لا معنى محصّل له إلّا ترتيب الأثر وأمّا تخصيصه بعدم إرادة مثل هذا المتعلّق ، فلا وجه له وأنّه بلا مخصّص.

وبالجملة يكون عموم متعلّق اليقين لما لا أثر له إلّا بالواسطة قرينة على دلالة الدّليل على التّنزيل بلحاظ أثرها أيضا كان لذيها أثر بلا واسطة أو لا.

قلت : نعم لو كان المتعلّق أعمّ ممّا لا أثر له بالواسطة ، ومقدار عمومه وسعة دائرته لا يتعيّن إلّا بتعيّن أنّ التنزيل بلحاظ كلا الأثرين أو خصوص الأثر بلا وساطة أمر ، ولا معيّن إلّا بمقدّمات الحكمة وهي غير مقتضية للحاظ كلا الأثرين مع وجود القدر المتيقّن ، وهو لحاظ الأثر بلا واسطة أمر في البين ، فإنّه ممّا لا شبهة فيه ولا شكّ يعتريه ، ومعه لا دلالة أصلا على لحاظ أثر آخر ، وأمّا ترتيب الأثر مطلقا ولو كان بالواسطة في الطّرق والأمارات فإنّما هو لأجل أنّ مفاد دليل اعتبارها لزوم الأخذ بتمام ما هي حاكية وكاشفة عنه من المؤدّى بأطرافه من ملزومه وملازمه ولازمه ، وترتيب الأثر الشّرعي على كلّ واحد منه ، ومنها كان ذا أثر ، غايته أنّه لا يكون قضيّة الدّليل إلّا التّنزيل له ، لكنّه يكفي في شمول دليل الأعتبار لهذه الآثار ، مثلا كون نبات اللّحية ذا أثر كاف في عموم دليل البيّنة لها فيما قامت على حياة زيد وإن لم يترتّب على حياته اثر آخر ، فيكون تنزيلا لنبات لحيته بلسان تصديق البيّنة على حياته.


معنى حرمة نقض اليقين بالشك

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا الأمر لا تعلّق له بأحد الأمور الّتي ذكره ( دام

__________________

وهذا بخلاف مثل خطاب « لا تنقض اليقين » ممّا لا يكون دليلا على الاستصحاب أو غيره من الأصول في الأبواب ، فانّه ليس فيه ما كان له دلالة على التّعبّد بالشّيء بلازمه ، فضلا عن ملزومه ، كما كان في الأمارات من حكايتها عنه بأطرافه وظهور دليل اعتبارها في تصديقها فيما يحكى عنه بأطرافه ، فلا بدّ في موارد الأصول من دلالة من خارج على انّ حرمة نقض اليقين بالشيء مثلا ، إنّما هو بلحاظ الشّيء بلازمه أو به وبملزومه وملازمه ، لما عرفت من جواز التّفكيك بين الشيء ولازمه في مقام التّنزيل والخطاب ليس إلّا قالبا لتنزيله وتنزيله بلحاظ أثر لازمه أيضا وإن كان ممكنا ، إلّا لا بدّ من دلالة عليه ومقدّمات الحكمة مع وجود القدر المتيقّن وهو لحاظ أثره غير مقتضيه له ، فليس الخطاب دليلا إلّا على تنزيله بلحاظ أثره الشرعي بلا واسطة ، بخلاف دليل الأمارة ، فإنّه يدلّ بلسان تصديقها فيما يحكي عنه على ترتيب أثر ذي الأثر من المؤدّى وأطرافه عليه وإن كان ذا ملزومه أو ملازمه ، لا هو ولا لازمه.

ولا يخفى أنّ ترتيب أثر كلّ طرف في مورد الأمارة ولو لم يكن للمؤدّى أثر أصلا أصدق شاهد على انّه ليس مفاد دليل اعتبار تنزيل خصوص المؤدّى كما هو مفاد الأصل ، إذ غاية الأمر صحّة تنزيل الشّيء بلحاظ أثر لازمه ، لما عرفت سرّه. وأمّا تنزيله بلحاظ أثر ملزومه أو ملازمه فكلا كما لا يخفى ، ضرورة أنّ أثرهما لا يكون بأثر له ، وامتناع تنزيل الشّيء بلحاظ أثر غيره واضح ، من دون حاجة إلى مزيد بيان أو إقامة برهان » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٥٠ ـ ٣٥٤.

* أقول : ولصاحب قلائد الفرائد قدس‌سره في قلائده : ٢ / ٣١٩ ـ ٣٤٦ كلام طويل لا يخلو من فوائد ينبغي مراجعته واغتنامه.


ظلّه ) من أركان الاستصحاب إلّا بتكلّف ركيك.

ثمّ إنّك قد عرفت غير مرّة ـ في طيّ كلماتنا السّابقة بعد استحالة إرادة ما هو الظّاهر من الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك أنّ المراد بدلالة الاقتضاء أو بحكم العرف عدم نقض المتيقّن بالشّك ـ : سواء كان من الموضوعات ، أو الأحكام ، لا بمعنى إبقائه واقعا ؛ لاستحالة ذلك أيضا ، بل بمعنى الالتزام بمقتضى بقائه على حسب اختلاف الاقتضاء باختلاف المتيقّن ، فعدم نقض كلّ شيء بحسبه وله معنى يحصل من النّسبة ، لا أن يكون اللّفظ مستعملا في أكثر من معنى واحد.

وبعبارة أخرى : المراد من الأخبار وجوب معاملة المكلّف مع المشكوك المتيقّن سابقا معاملة الباقي واقعا. وهذا المعنى كما ترى ، جعل من الشّارع وإنشاء لجميع الأحكام الشّرعيّة الواقعيّة المترتّبة على المتيقّن واقعا في الظّاهر إن لم يكن قابلا لتعلّق الجعل بنفسه ، كما إذا كان من الموضوعات وجعل نفس المتيقّن السّابق في مرحلة الظّاهر مع ما يترتّب عليه من الأحكام إن كان قابلا لتعلّق الجعل الظّاهري به ، فالمجعول في هذه الأخبار من الشّارع ليس إلّا الحكم الظّاهري على طبق الحكم الثّابت في السّابق على ما هو شأنه ؛ من حيث إنّه شارع في جميع ما يصدر عنه ؛ فإنّه ليس إلّا جعل الحكم والمقصود من المكلّف في الموضوعين ليس إلّا العمل ، كما هو الشّأن في جميع موارد تعلّق الحكم بالمكلّف.

فهذا الاختلاف ليس من جهة استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد ، بل هو أمر ينشأ من النّسبة باعتبار طرفيه ، فالحياة الظّاهريّة مثلا ما جعل الشّارع لها أحكاما في صورة الشّك فيها وهو معنى الحكم بثبوتها ظاهرا وفي مقام الشّك ، وهذا بخلاف الوجوب الظّاهري مثلا ؛ فإنّه ليس معناه إلّا جعل نفسه في مرحلة


الظّاهر ، فمعنى عدم نقض كلّ شيء في حكم الشارع بمعنى وإن لم يكن المطلوب من المكلّف في جميع المقامات إلّا الالتزام والعمل.

وبمثل ما ذكرنا فليحرّر المقام لا بمثل ما حرّره الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه العالي ) فإنّه لا يجري فيما إذا كان المستصحب حكما شرعيّا كما لا يخفى.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت : أنّ مرجع حرمة نقض اليقين بالشّك إلى جعل أحكام شرعيّة ظاهريّة على طبق الحكم الثابت سابقا من حيث كون عدم الالتزام به نقضا له ، يظهر لك : أنّ الّذي يعقل الحكم بكونه مجعولا إنّما هي الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب كما في الموضوع ، أو هي مع نفسه كما في الحكم. وأمّا غيرها من اللّوازم العقليّة والعادية ونحوهما فلا يعقل جعلها قطعا كجعل نفس الموضوع ؛ لأنّ الشّارع من حيث هو شارع لا يمكن له إلّا جعل الحكم الشّرعي وأمّا غيره فلا.

نعم ، الشّارع من حيث إنّه خالق له إيجاد كلّ شيء لكنّه لا دخل له بالمقام ؛ لأنّ الكلام من حيث التّشريع لا من حيث الخلق ، وأمّا ما يترتّب على تلك الأمور الغير الشّرعيّة الملازمة مع المستصحب في الوجود فلا معنى للحكم بثبوتها أيضا لأنّ المفروض أنّ موضوعها لم يكن قابلا للجعل حتّى يحكم بجعله بعموم الأخبار فيترتّب عليه تلك الآثار.

وعدم الالتزام بها مع هذا الفرض ليس نقضا لليقين بما صار موردا للاستصحاب حتّى يحكم بجعلها أيضا ، وموضوعها لم يجعل موردا للتّنزيل الشّرعي حتّى يحكم بأنّ معنى الحكم بثبوته في مقام الشّك هو جعل ما يترتّب عليه عند الشارع في الظّاهر.

نعم ، لو كان المستصحب ممّا يقبل الجعل كالحكم الشّرعي ثبت بجعله في


مقام الظّاهر جميع ما يترتّب عليه من اللّوازم سواء كانت شرعيّة أو غيرها إذا كان موضوعها الأعمّ من الحكم الواقعي والظّاهري ، لا ما كان خصوص الواقعي من حيث هو واقعيّ بحيث يكون مناطه مختصّا به (١).

__________________

(١) علّق الفاضل الكرماني على قول المصنّف : ( وجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يعقل إلّا في الآثار الشرعيّة المجعولة من الشارع لذلك الشيء لأنّها القابلة للجعل دون غيرها ... إلى آخره ) [ الفرائد : ٣ / ٢٣٣ ] قائلا :

« هذا التعليل على ظاهره عليل فإنّا كلّما أجلنا فكرنا متصاعدا ومتنازلا وطولا وعرضا لم نجد وجها لامتناع أن يحكم الشارع على المشكوك المنزّل منزلة المتيقّن بوجوب ترتيب جميع الآثار الشرعيّة والعقليّة والعاديّة ، وما أدري أيّ مانع من أن يقول الشارع إذا كنت متيقنا بوجود زيد ثم شككت في ذلك فيجب عليك ان تحكم بانه موجود الآن متخيّر نابت اللّحية يتحرّك ويسكن وغير ذلك من الأحكام العقليّة والعاديّة والجعل المدّعى عدم قبولها إن أريد به ما ذكرنا فهو في محلّ المنع ، وإن أريد به الثبوت الأوّلي ؛ لأنّ ثبوتها من جهة العقل والعادة لا من جهة الشرع ، فليس الكلام فيه ، فالأولى التعليل بظهور الفاظ التنزيلات في هذا المقدار فيختار.

فإذا قلت : المشكوك بوصف كونه مشكوكا لا أثر له أصلا ، والأثر للموجود ومرآته ليترتّب عليه آثاره هو اليقين ومرجع الحكم بإبقاء اليقين في زمان الشك الى جعل آثار المتيقن للمشكوك المسلوب الأثر في زمان الشك.

ولا شك ولا إرتياب انّ القابل للجعل للمشكوك هو الأثر الشرعي كحرمة المال وحرمة تزويج الزوجة ، وامّا جعل النموّ ونبات اللحية للمشكوك المسلوب الأثر فغير متصوّر.

قلنا : بعد الغضّ عمّا لنا من منع كون المشكوك مسلوب الأثر ، غايته : انه غير معلوم الأثر وهو أعمّ من مسلوب الأثر ، فمرجع الحكم بإبقاء اليقين النهي عن رفع الأثر ان المجعول للمشكوك هو وجوب ترتيب الآثار ، الثابتة للمتيقّن أيّا ما كانت شرعيّة أو عقليّة أو عادية لا


فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ الثّابت بالاستصحاب ـ إذا قلنا باعتباره من باب التعبّد ـ ليس إلّا الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب ترتّبا أوّليا بلا توسّط غيره إذا كان المستصحب من الموضوع. وبعبارة أخرى : الكبريات والمحمولات المترتّبة على المستصحب في الشّريعة من غير واسطة وجميع الآثار إذا كان المستصحب من الحكم الشّرعي بالشّرط الّذي عرفته. وهذا معنى ما اشتهر من أنّ الأصل المثبت لا اعتبار به على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد إذا كان مجراه الموضوع الخارجي.

وأوّل من عنون الأصل المذكور بهذا العنوان على ما حكاه شيخنا ( دام ظلّه ) في مجلس البحث فقيه عصره (١) ، وشاع بين مشايخ ولده (٢) وتلامذته (٣) وتلامذتهم (٤) والمراد ما عرفت ، وقد غفل عنه غير واحد ممّن ذهب إلى اعتبار

__________________

نفس الآثار ، كيف! ولو كانت نفس الآثار مجعولة ولو شرعيّة كانت آثارا واقعيّة للموضوع الذي هو المشكوك كسائر الموضوعات المجعول لها الأحكام فكانت ثابتة ، ولو انكشف الخلاف مع انهم لم يلتزموا بذلك وجعل الأثر الظاهري كلام ظاهري.

وبالجملة : المجعول للمشكوك هو وجوب ترتيب الأثر لا الأثر » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشّي : ٣٨٣.

(١) الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفى سنة ١٢٢٨ ه‍.

(٢) كالفقيه العملاق الشيخ موسى بن جعفر والشيخ حسن والشيخ علي أبناء الشيخ الأكبر.

(٣) وهم كثيرون كالفقيه البطل الشيخ خضر شلّال وبطل الجواهر وسيّد مفتاح الكرامة والشيخ محسن خنفر وحجّة الإسلام الشفتي والفاضل الكلباسي والشيخ أسد الله التستري وصاحب الهداية ( حاشية المعالم ) والسيّد صدر الدين وعشرات غيرهم.

(٤) كثيرون جدّا وقد ملأوا الأقطار وفي طليعتهم : الشيخ الأعظم الأنصاري الدسبولي


الأصول المثبتة فزعم كون القول بعدمه نقصا على الشّارع من حيث لزوم قصر قدرته على جعل الحكم دون غيره ؛ لأنّ لازم نفي اعتبار الأصول المثبتة عدم إمكان إرادة مطلق الأحكام ممّا ورد في المقام من الأخبار هذا.

« في تقسيم المستصحب لكي يتميّز به الأصل المثبت عن غيره »

وإن أردت شرح الكلام في ذلك وتفصيل القول فيه فاستمع لما يتلى عليك فنقول :

المستصحب لا يخلو : إمّا أن يكون من الأحكام الشّرعيّة ، أو الموضوعات. وعلى كلّ تقدير : إمّا أن يريد باستصحابه ترتيب ما رتّب عليه شرعا من الآثار واللّوازم بلا توسيط أمر عقلي ، أو عادي. وإمّا أن يريد باستصحابه ترتيب غيره عليه وإثبات غيره به. وهو على أقسام ؛ لأنّه قد يكون أمرا عقليّا. وقد يكون أمرا عاديا ، وقد يكون أمرا شرعيّا غير ما عرفت.

وعلى التّقادير : إمّا أن يكون بين الأمر المذكور والمستصحب علقة ولزوم ، أو لا يكون بينهما لزوم ، بل يكون اجتماعهما من باب مجرّد الاتّفاق لمكان العلم الإجمالي. وعلى التّقدير الأوّل : إمّا أن يكون لازما للمستصحب ، أو ملزوما له ، أو ملازما معه لأمر ثالث. وعلى جميع التّقادير : إمّا أن يريد بإثبات ذلك الأمر إثبات

__________________

الششتري والسيّد ابراهيم القزويني والشيخ راضي النجفي والشيخ مهدي كاشف الغطاء والشيخ محمد حسن آل ياسين الكاظمي والشيخ محمد حسين الكاظمي والفاضل الإيرواني.


تمامه ، أو إثبات قيده سواء كان وجوديّا أو عدميّا.

وعلى جميع التّقادير : إمّا أن يكون المستصحب مع الأمر المذكور متّحدين في الوجود كالكلّي والفرد ، أو متغايرين في الوجود. وعلى تقدير كون الأمر المقصود بالإثبات لازما شرعيّا مترتّبا على المستصحب بواسطة أمر عقليّ أو عادي إمّا أن يكون الواسطة من الوسائط الخفيّة ، أو غيرها.

وعلى جميع التّقادير : إمّا أن نقول باعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ، أو نقول به من باب الظّن سواء كان المدرك فيه غير الأخبار ، أو هي بناء على كون المقصود منها إثبات حجيّة الاستصحاب من باب الطّريقيّة والكشف.

ونحن نتكلّم أوّلا على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد والحكم الظّاهري ، ثمّ نعقّبه بالكلام على القول باعتباره من باب الظّن والطّريقيّة. (١)

وليعلم قبل الخوض في المسألة : أنّ المقصود بالبحث من الأمر الغير الشّرعي في الشّق الثّاني من الشّقين الأوّلين : هو الّذي لم يكن مجامعا مع المستصحب في الوجود في الزّمان السّابق ، وإلّا فيخرج عن محلّ البحث ؛ لأنّ نسبة الاستصحاب إليه وإلى المستصحب على حدّ سواء بناء على ما جرى عليه ديدنهم واستقرّت عليه طريقتهم : من الجمع في الاستصحاب بين اللّازم والملزوم.

وأمّا بناء على ما عرفت منّا غير مرّة : من عدم جواز الجمع بين الاستصحاب في اللّازم والاستصحاب في الملزوم ـ سواء كان اللّازم من اللّوازم العقليّة أو الشّرعيّة ـ فيعمّ النّزاع اللّازم الموجود مع المستصحب سابقا ، فإذن نقول :

أمّا لو كان المستصحب حكما شرعيّا ، فيترتّب عليه في زمان الشّك جميع لوازمه من الشّرعيّة والعقليّة والعادية بأقسامها ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ المجعول في

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


زمان الشّك إذا كان المستصحب حكما شرعيّا نفسه في الظّاهر ، فلا بدّ من أن يترتّب عليه جميع ما يترتّب على الحكم الواقعي المستصحب دون ما يكون ملزوما له ، أو ملازما معه لأمر ثالث. وإن كان شرعيّا أيضا ؛ لأنّ المجعول بالأخبار ـ على ما مرّت الإشارة إليه ـ ليس إلّا الكبريات. هكذا ذكره الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه العالي ) وقد اشتهر ما ذكره ( دام ظلّه ) بين تلامذته ، بل بين جميع أهل العصر ومن قاربه.

ولكنّك خبير : بأنّه في كمال الإجمال وغاية الاضطراب.

توضيح ذلك : أنّ كلّا من الأثر الشّرعي وغيره الثّابت للحكم الشّرعي المستصحب :

قد يكون لازما لمطلق الحكم الشّرعي الشّامل للواقعي والظّاهري ، بمعنى : أنّه الموضوع فيه كوجوب الإطاعة ، وقبح المعصية في التّكليف الإلزامي ، وقبح العقاب مع الإذن في الفعل فيما لو كان المستصحب حكما غير إلزاميّ ، ووجوب المقدّمة ، وحرمة الضّد ، إلى غير ذلك من الآثار العقليّة المترتّبة على مطلق الحكم الشّرعي في حكم العقل ، وكجواز النّافلة لمن أتى بالفريضة بناء على كون المراد منها الأعمّ من الفريضة الواقعيّة والظّاهريّة.

وقد يكون لازما لخصوص الحكم الواقعي ومترتّبا عليه في حكم العقل أو الشّرع ، كحكم العقل بالإجزاء المترتّب على امتثال التّكليف الواقعي على ما هو عليه ، وحكمه باستحالة عدمه.

فإن كان اللّازم من الأوّل ، فلا إشكال في الحكم به باستصحاب الحكم الواقعي للقطع بتحقّق موضوعه لا لجعله في مرحلة الظّاهر كالمستصحب.


ومنه يظهر : لزوم الحكم بملزومه أيضا إن كان ملزوما له مطلقا.

وإن كان من الثّاني ، فلا إشكال في استحالة الحكم بثبوت اللّازم الغير الشّرعي لاستحالة تعلّق الجعل به ـ على ما عرفت سابقا ـ وفي الحكم بثبوت اللّازم الشّرعي عليه المترتّب عليه بلا توسيط ؛ لأنّ معنى استصحاب الحكم الشّرعي جعله ، وجعل جميع ما يترتّب عليه ممّا يمكن تعلّق الجعل به ظاهرا ، فالحكم الشّرعي من هذه الجهة كالموضوع الخارجي من غير فرق بينهما ؛ لأنّ دليل استحالة جعل الأمر الغير الشّرعي لا يعقل الفرق فيه بين الصّور. وجعل نفس الحكم الواقعي المشكوك بهذه الأخبار أيضا غير معقول ؛ لأنّه مستلزم للخلف كما لا يخفى. والمفروض أيضا عدم ترتيب اللّازم على الحكم بالمعنى الأعمّ حتّى يحكم بوجوده واقعا عند وجود الحكم الظّاهري.

فعلم ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الموضوع للأمر العقلي والعادي لو كان المستصحب في مرحلة الواقع لم يعقل الفرق في استحالة وجودهما بالاستصحاب بين أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو غيره. ولو كان الحكم الأعمّ من المجعول بالاستصحاب لم يعقل الحكم بعدم ترتيبه لو كان المستصحب حكما شرعيّا.

فثبت : أنّه لا فرق بين موارد الاستصحاب أصلا ، إلّا أنّه قد يجعل به الوجود الظّاهري فيمكن تعلّق اللّازم العقلي للأعمّ به كما في الحكم الشّرعي على ما عرفت تفصيل القول فيه. وقد لا يكون كذلك ، كما في الموضوع الخارجي ؛ فإنّه لا ظاهريّة له حتّى يعقل ترتيب الحكم العقلي على وجوده الأعمّ ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ معنى تنزيل الموضوع هو جعل الأحكام الشّرعيّة المترتّبة عليه في الظّاهر.

فإن أراد الأستاذ العلّامة من اللّازم هو المعنى الثّاني.


ففيه ما عرفت : من عدم إمكان تعلّق الجعل بالأمر الغير الشّرعي مطلقا.

وإن أراد منه المعنى الأوّل أي : اللّازم الأعمّ فهو وإن كان ممّا لا محيص عنه إلّا أنّه خلاف الظّاهر من كلامه كما لا يخفى ؛ إذ الظّاهر سيّما بقرينة المقابلة هو إرادة المعنى الثّاني ، فتأمّل.

هذا مجمل القول فيما لو كان المستصحب حكما شرعيّا.

وأمّا لو كان غيره من الموضوع الخارجي أو المستنبط على تقدير تعميم الاستصحاب بالنّسبة إليه فاللّوازم الشّرعيّة المترتّبة عليه بلا واسطة متيقّنة الجعل في الظّاهر بمقتضى أخبار الاستصحاب.

الأصل المثبت وبيان وجه عدم اعتباره

نعم ، قد يقال : إنّ الموضوع المستنبط ليس له أثر كذلك أبدا ، وأمّا غيرها فالحقّ عدم اقتضاء الأخبار تعلّق الجعل بالنّسبة إليها وإن كانت من اللّوازم الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة إلّا في الوسائط الخفيّة ، أو من الملزومات الشّرعيّة للمستصحب وإن كانت بلا واسطة.

قلنا في المقام دعويان : عدم الحجيّة بالنّسبة إلى غير الآثار الشّرعيّة الثّابتة للمستصحب بواسطة خفيّة مطلقا وإن كان ملزوما شرعيّا له.

والحجيّة بالنّسبة إلى الآثار الشّرعيّة المترتّبة عليه بواسطة خفيّة.

لنا على الأولى أنّك قد عرفت : أنّ معنى وجوب العمل على طبق الحالة السّابقة والالتزام بثبوت المتيقّن ليس إلّا جعل ما كان المستصحب صغرى له في


الشّريعة ، ويكون عدم الالتزام به نقضا للمتيقّن بحكم العرف من حيث اليقين به.

ومن المعلوم أنّ هذا المعنى غير موجود بالنّسبة إلى محلّ الفرض.

أمّا غير اللّازم الشّرعي أو ملزومه من الأمور العقليّة والعاديّة ، فلاستحالة تعلّق الجعل الشّرعي بالنّسبة إليه على ما عرفت تفصيل القول فيه.

وأمّا بالنّسبة إلى الأمر الشّرعي ، فلوضوح ظهور الأخبار في الاختصاص بالأمر الشّرعي المترتّب على المستصحب بلا توسيط أمر آخر.

وأمّا بالنّسبة إلى الملزوم وإن كان شرعيّا ، فلما عرفت : من رجوع الجعل إلى جعل المحمولات والآثار ليس إلّا ، فلا ظهور له بالنّسبة إلى الملزوم وإن كان شرعيّا ، فضلا عمّا يلازم معه لملزوم ؛ ضرورة عدم صدق النّقض بالنّسبة إلى اليقين بشيء لو لم يلتزم المكلّف في زمان الشّك فيه بما لا دخل له به أصلا ، أو له دخل لكن لا من حيث كونه معروضا له ، بل من حيث كونه معروضا له بعنوان له علاقة وربط مع المستصحب.

فإنّ المتيقّن بحياة زيد مثلا ، لو لم يلتزم بالآثار المترتّبة على بياض لحيته في زمان الشّك الّذي هو ملازم لبقاء حياته في ذلك الزّمان والتزم بجميع ما يترتّب على بقائها شرعا بلا واسطة ، لم يصدق ـ في حقّه قطعا ـ أنّه نقض اليقين بالحياة ، فالحكم المترتّب على المستصحب بواسطة ليس مشمولا لأخبار الباب.

نعم ، لو فرض وقوع الواسطة موردا للتّنزيل الشّرعي كان مقتضى تنزيلها جعل أحكامها الشّرعيّة ، لكن المفروض خلاف هذا.

فالقائل بحجيّة الاستصحاب بالنّسبة إلى هذا الأمر :

إن التزم بتعلّق الجعل بالنّسبة إلى الواسطة ، ومن جهته يلتزم بترتيب


آثارها الشّرعيّة.

فقد عرفت : أنّ جعل غير الحكم الشّرعي للشّارع من حيث هو شارع ممّا لا يعقل.

وإن التزم بأنّ نفس الواسطة مورد للتّنزيل الشّرعي.

فقد عرفت : أنّ الكلام في الواسطة الّتي لم تكن لها حالة سابقة وموجودة مع المستصحب في الزّمان السّابق. والمفروض أنّه ليس هنا دليل آخر غير أخبار الاستصحاب يحكم من جهته بوقوع الواسطة موردا للتّنزيل الشّرعي.

وإن التزم بتعلّق الجعل بنفس الحكم الشّرعي من دون التزام بجعل الواسطة ، أو وقوعها موردا للتّنزيل الشّرعي.

ففيه : أنّ هذا الالتزام ممّا لا وجه له مع عدم صدق النّقض على تركه ، وعدم وجود دليل يدلّ على جعله غير الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك هذا.

مضافا إلى ما يقال : من أنّ تعلّق الجعل بالحكم الشّرعي ظاهرا مع كون الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في موضوعه ممّا لا يعقل من دون تنزيل في الموضوع. وأمّا ما ورد في الشّريعة ممّا يدلّ بظاهره على تعلّق الجعل بالحكم الشّرعي مع كون الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في الموضوع مثل ما دلّ على حليّة المشكوك في الموضوع الخارجي وطهارة المشكوك فيه فمؤوّل بإرادة تنزيل الموضوع فتأمّل.

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّه لا وجه للقول باعتبار الاستصحاب في إثبات الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بواسطة أمر عقليّ ، أو عاديّ الّذي يسمّى بالأصل المثبت في ألسنة من عاصرنا وقارب عصرنا ، وفي إثبات الملزومات الشّرعيّة للمستصحبات.


نعم ، لا إشكال في أنّه لو صرّح الشارع باستصحاب أمر لم يكن له إلّا الأثر الشّرعي المترتّب عليه مع الواسطة حكم بترتّبه عليه ، وهذا بخلاف حكمه بعموم الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ؛ فإنّه لا يشمل الموضوع الّذي لا يترتّب عليه حكم شرعيّ بغير واسطة ، ولا يثبت الحكم الشّرعي المترتّب على الموضوع بواسطة إذا كان مشمولا للأخبار من جهة ترتيب بعض الأحكام الشّرعيّة من دون واسطة عليه.

فإن قلت : ما الفرق بين حكم الشارع في مورد خاصّ باستصحاب ما له حكم شرعيّ بواسطة وتصريحه به ، وبين حكمه عموما باستصحاب كلّ ما تعلّق به اليقين سابقا وشكّ في بقائه لاحقا؟ حيث قلت : في الأوّل باعتبار الاستصحاب فيه ، وقلت : في الثّاني بعدم شموله للموضوع الّذي لم يترتّب عليه الحكم الشّرعي من دون واسطة وعدم دلالته على جعل الأثر المترتّب عليه بواسطة فإن جعل الأمر الغير الشّرعي إن كان ممكنا لم يعقل الفرق بين الحكمين ، وجعل الحكم الشّرعي مع الشّك في موضوعه من دون تنزيل في الموضوع إن كان ممكنا لم يعقل الفرق أيضا ، وإن لم يكونا ممكنين لم يعقل الفرق أيضا. وأيضا ما الفرق بين الوسائط الخفيّة وغيرها في المعنى المذكور؟

قلت : الفرق بين الحكمين في غاية الوضوح والظهور بحيث لا ينبغي الارتياب فيه ؛ فإنّ في صورة التّصريح بعدم جواز نقض اليقين بما له حكم شرعيّ مع الواسطة لا بدّ من أن يلتزم بارتكاب خلاف ظاهر صونا لكلام الحكيم عن اللّغويّة والهزليّة :


إمّا بإرجاع تنزيل الموضوع إلى تنزيل ما يلازمه أي : الواسطة والموضوع الأوّلي للحكم الشّرعي إن قلنا بعدم إمكان تعلّق الجعل بالحكم مع كون الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في موضوعه من دون تنزيل في الموضوع.

وإمّا برفع اليد عن الحيثيّة المعتبرة في عدم جواز نقض اليقين بشيء بالشّك في بقائه وهذا بخلاف حكمه عموما بمقتضى الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ؛ فإنّ الحكم بخروج ما لا يترتّب عليه أثر شرعيّ من دون واسطة عنها لا يلزم فيه محذور أصلا حتّى التّخصيص الّذي يقدّم ارتكابه على غيره من أقسام ارتكاب خلاف الظّاهر على تقدير لزومه ؛ فإنّك قد عرفت عدم شمول الأخبار بالنّظر إلى أنفسها ما له أثر شرعي مع الواسطة ، لا أنّه خرج عنه بمخرج خارجيّ.

وأمّا الفرق بين الوسائط الخفيّة وغيرها فستقف عليه إن شاء الله عن قريب.

فإن قلت : الظّاهر من أخبار الباب هو عدم الاعتناء بالشّك وتنزيله منزلة عدمه ، وفرض المتيقّن السّابق موجودا واقعا والمعاملة معه معاملة صورة اليقين به والمفروض أنّه لو فرض اليقين به. كان على المكلّف الالتزام بجميع ما كان مترتّبا على المتيقّن مطلقا من غير فرق بين ذي الواسطة وغيره ، فلا بدّ من أن يقال : إنّه في صورة الشّك أيضا لا بدّ من أن يعامل هذه المعاملة مع المتيقّن سابقا.

قلت : قد عرفت : أن الظّاهر من الأخبار وجوب الالتزام بما كان المكلّف ملتزما به في حالة اليقين بالمستصحب من حيث تيقّنه به ؛ لأنّ عدم الالتزام بغيره لا يسمّى نقضا له ، ومن المعلوم أنّ الالتزام بالحكم المترتّب على المستصحب بالواسطة على فرض وجود اليقين به لا يكون من جهة اليقين به ، بل من جهة اليقين بما يلازمه. والمفروض عدم تعلّق التّنزيل به حتّى يرجع إلى جعل الأحكام


الشّرعيّة المترتّبة عليه ، وعدم صدق نقض اليقين المتعلّق بالملزوم بالشّك على ترك الالتزام به ، فلا معنى للحكم بتعلّق الجعل بالنّسبة إليه. هذا مجمل القول في تقرير الدّليل على الجزء الأوّل من المدّعى.

وجه اعتبار الأصل اذا كانت الواسطة خفيّة

ولنا على [ الثّانية ] (١) أي : الحجيّة بالنّسبة إلى الآثار المترتّبة على المستصحب بواسطة خفيّة سواء كانت عقليّة ، أو عادية : صدق النّقض على ترك الالتزام بها عرفا بحيث لا يعتريه شكّ ، وهذا هو الفارق بين ما له الواسطة الخفيّة والجليّة ؛ إذ لا ملازمة بين صدق النّقض على ترك الالتزام بالأوّل ، وبين صدقه على ترك الالتزام بالثّاني ؛ ضرورة اختلاف الصّدق العرفي بحسب المقامات.

نعم ، لو قيل : بأن جعل الحكم المترتّب على موضوع ووجوب الالتزام به لا يعقل إلّا بعد وجود واقعيّ لموضوعه ، أو جعليّ : بأن يقع موردا للتّنزيل الشّرعي حسب ما ربّما يستفاد من كلام الأستاذ العلّامة في طيّ الجواب عن السّؤال بقوله : ( فإن قلت : الظّاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشّاك ... إلى آخره ) (٢) كان سؤال الفرق بين القسمين متوجها إلّا بأن يلتزم برجوع الجعل فيما كان له واسطة خفيّة إلى نفس الواسطة أيضا فتأمّل.

__________________

(١) في الأصل : « ولنا على الثاني » والصحيح ما اثبتناه والمراد : أي ولنا على الدعوى الثانية ... إلى آخره.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٣٤.


وهذا الّذي ذكرنا هو عمدة الوجه في اعتبار الاستصحاب بالنّسبة إلى الوسائط الخفيّة.

وقد ذكر بعض أفاضل مقاربي عصرنا وجوها أخر لاعتبار الاستصحاب بالنّسبة إلى جملة من أمثلة الفرض حيث قال ـ بعد جملة كلام له ساقها في بيان إثبات عدم اعتبار الأصل المثبت ـ ما هذا لفظه :

« وأمّا التّعويل على أصالة عدم حدوث الحائل على البشرة في الحكم بوصول الماء إليها في الوضوء والغسل ، وعلى أصالة عدم خروج رطوبة لزجة كالودي بعد البول في إزالة عينه بالصّب مع كون الأصل في المقامين مثبتا لأمر عادي فليس لأدلّة الاستصحاب ، بل لقضاء السّيرة والحرج به ، مضافا في الأخير إلى إطلاق الأخبار الدّالّة على كفاية الصّب مطلقا » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأنت خبير بضعف هذه الوجوه كلّها.

أمّا السّيرة ؛ فلأنّها ناشئة من عدم المبالاة على تقدير تسليمها.

وأمّا لزوم الحرج ، فلتوجّه المنع إليه سيّما في المثال الأخير. وأمّا التّمسّك بالإطلاق ؛ فلأنّ الإطلاق في المقام وارد لبيان حكم آخر كما هو غير خفيّ على المتأمّل.

ثمّ إنّه لمّا كان الدّليل على اعتبار الاستصحاب ـ فيما كان له واسطة خفيّة ـ دعوى صدق النّقض على ترك الالتزام به ، فيمكن أن يدّعي مدّع بملاحظته صدق

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٧٨.


النّقض بالنّسبة إلى كلّ ما كان بين واسطته والمستصحب ملازمة عقليّة ، ويقول بمنع اعتباره بالنّسبة إلى ما لم تكن واسطته كذلك على ما استظهره الأستاذ العلّامة من كلام بعض من منع من اعتبار الأصول المثبتة ، أو يدّعي صدق النّقض بالنّسبة إلى كلّ ما يكون بين واسطته والمستصحب ملازمة مطلقا سواء كانت عادية ، أو عقليّة ، فيمنع من اعتباره في صورة واحدة ، وهي : ما إذا كان عدم الانفكاك بينهما من باب مجرّد الاتفاق من غير أن يكون ثمّة لزوم على ما يستفاد من كلام بعض ، إلّا أنّ هذا كلّه خلاف التّحقيق على ما عرفت تفصيل القول فيه.

هذا ملخّص ما يقتضيه التّحقيق في الاستدلال على المرام : من عدم اعتبار الأصل المثبت بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

مسلكان آخران في وجه عدم اعتبار الأصل

المثبت والمناقشة فيهما

وهاهنا مسلكان آخران سلكهما بعض مشايخنا الأعلام (١) في المقام للحكم بعدم جواز الاعتماد على الأصول المثبتة في التّوصل إلى الأحكام :

الأوّل : معارضة الأصل في الملزوم أو أحد المتلازمين لأمر ثالث مع الأصل في اللّازم أو الملازم الآخر. وبعبارة أخرى : معارضة الأصل في المستصحب مع الأصل في عدم الواسطة ، فكما أنّ مقتضى الأوّل ترتيب الحكم المترتّب بالواسطة كذلك مقتضى الثّاني عدم ترتيبه فيتساقطان ، فيرجع إلى أصالة عدم ثبوت الحكم.

__________________

(١) هو الشيخ محمّد حسين الاصفهاني الحائري صاحب الفصول رحمه‌الله.


الثّاني : كون الأخبار مسوقة لإثبات الأمور الشّرعيّة دون غيرها وإن استتبعت أحكاما شرعيّة حيث قال ـ بعد جملة كلام له في بيان عدم اعتبار الأصول المثبتة ـ ما هذا لفظه :

« وما ذكره بعض المحقّقين (١) : ( من أنّ الأصول المثبتة ليست بحجّة ، فالوجه فيه : تنزيله على ما ذكرنا ، فيكون المراد : أنّ الأصول المثبتة لأمور عادية ليست حجّة على إثباتها ، وذلك لتعارض الأصل في جانب الثّابت والمثبت ، فكما أنّ الأصل بقاء الأوّل كذلك الأصل عدم الثّاني وليس في أخبار الباب ما يدلّ على حجيّته بالنّسبة إلى ذلك ؛ لأنّها كما ترى ، مسوقة لتفريع الأحكام الشّرعيّة دون العادية ، وإن استتبعت أحكاما شرعيّة ) (٢). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه

فإن جعلنا قوله أخيرا : ( وليس في أخبار الباب ... ) دليلا مستقلّا يرجع إلى الوجه الثّاني وكان دليلا مستقلّا ، وإن جعلناه متمّما للوجه الأوّل ودفعا لما قد يورد عليه ـ بأنّ مقتضى الأصلين وإن كان بالنّظر إلى أنفسهما هو التّعارض ، إلّا أنّ مقتضى الأخبار تحكيم الأصل في المثبت حسب ما ذكره في دفع التّعارض بين استصحاب الموضوع واستصحاب عدم الحكم المترتّب عليه بلا واسطة ـ فلا معنى لأن ينسب إليه : أنّه جعل ذلك دليلا كما هو واضح على هذا الفرض.

هذا هو الظّاهر بعد ملاحظة ما ذكره قبل هذا الكلام ؛ فإنّه قال في طيّه :

« وبالجملة : فالّذي يثبت بالاستصحاب على ما يستفاد من أخبار الباب :

__________________

(١) يريد به الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء رضوان الله تعالى عليه.

(٢) الفصول الغرويّة : ٣٧٨.


بقاء مورده وحدوث ما يترتّب عليه أوّلا من أحكامه الشّرعيّة ، فيثبت باستصحاب الطّهارة بقاؤها فيترتّب عليه صحّة الصّلاة المأتي بها معها ، وحصول البراءة بها ، وباستصحاب الكرّية بقاؤها ، ويترتّب عليه طهارة ما يرد عليه من المتنجّس ».

إلى أن قال :

« فإنّ هذه الأمور وإن كانت حادثة ومقتضى الاستصحاب عدمها وقضيّة ذلك تعارض الاستصحابين إلّا أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في المقام ثبوت تلك الأمور بالاستصحاب ، ألا ترى أنّ قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة السّابقة : ( ولا تنقض اليقين بالشّك ) بعد قوله : ( فإنّه على يقين من وضوئه ) يعطي البناء على يقينه السّابق وإثبات ما يترتّب عليه من أحكامه الشّرعيّة كصحّة الصّلاة إذا أتى بها ، وبراءة ذمّته منها في مسألة الشّك في بقاء الطّهارة ـ كما هو مورد الرّواية ـ وإن كانت مخالفة للاستصحاب » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأنت خبير بأنّه لا مجال للرّيب بعد التّأمّل في هذا الكلام أنّ مقصوده ممّا ذكره أخيرا هو ما ذكرنا من ثاني شقيّ التّرديد ، وأنّه ليس مقصوده ما ذكره الأستاذ العلّامة : من كونه تتميما للدّليل الأوّل بملاحظة القولين في مدرك الاستصحاب.

ومنه يعلم : أنّ كلامه أخيرا مناقض لما ذكره أوّلا من فرض التّعارض ؛ لأنّه إذا لم يثبت حجّية الأصل في الواسطة ، كيف يمكن إيقاع التّعارض بينه وبين الأصل في الملزوم؟ ومع ثبوته لا معنى لما ذكره أخيرا كما لا يخفى.

نعم ، لو جعل ما ذكره أخيرا دليلا مستقلّا لم يرد عليه إيراد التّناقض كما هو

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٧٧.


واضح ، لكنّه بعيد غاية البعد هذا.

ولكنّك خبير بتطرّق المناقشة إلى كلا الوجهين :

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّه لا معنى للحكم بوقوع التّعارض كلّية ، وفيما يصحّ الحكم بوقوع التّعارض لا ينفع المستدلّ.

توضيح ذلك : أنّك قد عرفت : أنّه إذا كانت بين المستصحب والواسطة علقة ولزوم ـ سواء كانت الواسطة عقليّة أو عادية ـ لا يخلو الأمر بحكم العقل في ثلاث صور : الأولى : أن تكون الواسطة لازمة للمستصحب. الثّانية : أن تكون ملزومة له. الثّالثة : أن تكون ملازمة معه لأمر ثالث.

أمّا الصّورة الأولى ، فلا إشكال في عدم تعارض الأصل في الواسطة مع الأصل في المستصحب على فرض القول بإمكان تعلّق الجعل بها باستصحابه على ما هو لازم القول بالتّعارض ؛ لأنّ الشّك فيها مسبّب عن الشّك فيه. وسيجيء : أنّ الأصل في الشّك المسبّب لا يعارض الأصل في الشّك السّببي.

نعم ، على ما بنينا عليه : من عدم إمكان جعل الواسطة لا إشكال في جريان الأصل في الواسطة وحجيّته وسلامته عن الأصل الحاكم عليه.

نعم ، هنا مسلك آخر للقول باعتبار الأصول المثبتة يمكن أن يحكم ـ بناء عليه ـ بوقوع التّعارض بين الأصل في الملزوم والأصل في الواسطة. وهو : الحكم بحجّية الاستصحاب بالنّسبة إلى الأثر المترتّب على المستصحب بالواسطة : من جهة دعوى صدق النّقض على ترك الالتزام به على ما عرفت في الأثر المترتّب على المستصحب بالواسطة الخفيّة من دون أن يلتزم بتعلّق الجعل الظّاهري بنفس الواسطة ؛ فإنّه بناء على هذا يمكن أن يحكم بوقوع التّعارض بين الأصل في


الملزوم المقتضي لجعل الآثار المترتّبة عليه بالواسطة والأصل في الواسطة المقتضي لعدم جعل تلك الآثار ، وليس الأصل في الأوّل حاكما على الأصل في الثّاني حتّى يقال بتقدّمه عليه ؛ فإنّ المفروض عدم إمكان إثبات الواسطة بالأصل في الملزوم وإن كان الشّك فيها مسبّبا عن الشّك فيه ؛ فإنّ مجرّد تسبّب الشّك لا يكفي في تحكيم الأصل في الشّك السّببي على الأصل في الشّك المسبّب ما لم يقتض الأصل في الأوّل رفع الثّاني كما لا يخفى.

وأمّا الأثر المترتّب على الملزوم بالواسطة فهو وإن كان الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في الملزوم ، إلّا أنّه ليس المقصود إجراء استصحاب العدم فيه ، بل في نفس الواسطة الّتي يكون الشّك في الأثر مسبّبا عن الشّك فيها أيضا أوّلا وبالذّات هذا.

ولكن يمكن أن يتفصّى عمّا ذكرنا بوجهين :

أحدهما : ادّعاء وجود مناط تقديم الحاكم على المحكوم في المقام أيضا ؛ لأنّ الشّك في الأثر الشّرعي مسبّب أوّلا وبالذّات عن الشّك في الملزوم ؛ لتقدّمه بحسب الرّتبة ، فإذا حكم الشارع بثبوته بمقتضى الأصل في الملزوم ثبت كون الأصل في الواسطة ممّا لا يترتّب عليه أثر ، فيكون خروجه عن أخبار الاستصحاب من باب التخصّص لا التّخصيص بناء على ما عرفت : من عدم جريان الأصل الّذي لا يترتّب عليه أثر فتأمّل.

ثانيهما : أنّ الواسطة وإن لم يكن مجعولة بناء على هذا المسلك إلّا أنّها ممّا يتعلّق به التّنزيل بالواسطة فلا معنى أيضا لجريان الأصل فيها كما لا يخفى هذا كلّه. مع أنّه لو بني على معارضة الأصل في اللّازم مع الأصل في الملزوم في اللّوازم العقليّة والعادية لعورض بمعارضته معه في اللّوازم الشّرعيّة فيلزم الحكم بسقوط


الاستصحاب عن الاعتبار مطلقا. ودعوى : الفرق بين اللّوازم مع القول بإمكان تعلّق الجعل بالنّسبة إلى اللّوازم العقليّة والعادية ، فاسدة جدّا كما هو واضح على الأوائل فضلا عن الأواخر.

أمّا في الصّورة الثّانية ، فلا إشكال أيضا في عدم تعارض الأصل في اللّازم مع الأصل في الملزوم وإن كانت الملازمة شرعيّة أيضا ، لأنّ الأصل في الملزوم حاكم على الأصل في اللّازم ، كاستصحاب النّجاسة في الملاقى الحاكم على استصحاب الطّهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ وكاستصحاب الكريّة في الماء الحاكم على استصحاب النّجاسة في المغسول به ، وكاستصحاب بقاء الطّهارة الحاكم على استصحاب بقاء الاشتغال إلى غير ذلك. هذا كلّه لو كان المقصود من الأصل في اللّازم هو ترتيب الأثر المترتّب على مورده.

وأمّا لو قيل : بأنّ المقصود من القول بحجيّة الأصل المثبت في اللّازم : هو إثبات الملزوم به على ما يظهر من كلمات بعض فيثبت باستصحاب الطّهارة في المثال الأوّل : طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ أيضا ، وفي المثال الثّاني : نجاسة الماء أيضا من حيث تسبّب النّجاسة في المغسول به على تقدير ثبوتها عن نجاسته قطعا كما هو المفروض ، وفي المثال الثّالث : كون المكلّف محدثا من حيث تسبّب بقاء الاشتغال واقعا عن كون المكلّف محدثا ، فستعرف الحال فيه من الكلام في حكم الصّورة الآتية هذا.

ولكن صرّح الأستاذ العلّامة : بأنّ مراد القائل بتعارض الأصلين في المقام ليس هو تعارضهما من حيث اقتضاء الأصل في اللّازم إثبات الملزوم ، بل من حيث اقتضائه ترتّب الأثر المترتّب على مورده فيكون تعارضهما من حيث كون


الأصل في الملزوم منافيا لما يلزمه من حكم الواسطة.

وأمّا الصّورة الثّالثة : وهي ما لو كان كلّ من المستصحب والواسطة لازما لأمر ثالث ، كما في موارد العلم الإجمالي بوجود أحد الحادثين ؛ فإنّ عدم كلّ منهما مع وجود الآخر متلازمان للعلم الإجمالي بوجود أحدهما ؛ فإنّ الشّك في أحدهما ليس مسبّبا عن الشّك في الآخر كما لا يخفى. فمقتضى التّحقيق وإن كان تعارض الأصلين فيها مع الغضّ عمّا عرفت في طيّ كلماتنا السّابقة في هذا الجزء والجزء الثّاني : من عدم جريان الأصول في صورة العلم الإجمالي ، إلّا أنّ مجرّد لزوم التّعارض من القول باعتبار الأصول المثبتة في بعض الموارد لا يوجب الحكم بعدم اعتبارها كليّة ، وإلّا لجرى المنع إلى اعتبار أكثر الأمارات بل كلّها كما لا يخفى هذا.

مع أنّه لا ثمرة بين القول باعتبار الأصول المثبتة والقول بعدم اعتبارها ؛ لأنّه إن فرض الكلام بالنّسبة إلى الأثر الّذي ترتّب على مجرى كلّ من الأصلين من غير تعارض بينهما ؛ لعدم لزوم مخالفته عمليّة للعلم الإجمالي ، فلا معنى للقول بعدم اعتبار الأصلين بالنّسبة إلى هذا الأثر وإن فرض الكلام بالنّسبة إلى الأثر الّذي يلزم من الالتزام به مخالفة العلم الإجمالي ، فلا معنى للقول بجواز الالتزام به ولو على القول باعتبار الأصول المثبتة ، بل لا بدّ حينئذ من القول بتساقط الأصلين والرّجوع إلى أصل آخر. هذا كلّه على تقدير القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد.

وأمّا على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن فعدم التّعارض بين الأصلين فيما حكمنا بعدم التّعارض بينهما من الأقسام الثّلاثة أوضح ؛ لاستحالة


تعلّق الظّن بعدم اللّازم مع الظّن ببقاء الملزوم من حيث هو ولو كان بالظّن النّوعي ؛ لمنافاته بالضّرورة لفرض قضيّة اللّزوم بينهما وتسبّب الشّك في أحدهما عن الشّك في الآخر. كما أنّه يستحيل أن تصير الحالة السّابقة في طرف المحكوم مانعة من حصول الظّن من الحالة السّابقة في الملزوم هذا. وقد عرفت جملة من الكلام في ذلك في طيّ كلماتنا السّابقة وستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله في باب تعارض الاستصحابين. هذا ملخّص الكلام على الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثّاني : فلأنّه لا معنى للحكم بكون الأخبار مسوقة لبيان جعل الآثار الشّرعيّة فقط مع تسليم إمكان تعلّق الجعل بغيرها أيضا. هذا مجمل القول في المقام على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار والتّعبّد الظّاهري.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن : فالّذي صرّح به الأستاذ العلّامة في مجلس البحث وفي « الكتاب » والمعروف في الألسنة ويقتضيه فتاوى الأصحاب في الجملة في المسائل الفرعيّة والنظر الدّقيق : هو عدم الفرق بين الأصول المثبتة وغيرها سواء كانت في الأحكام الشّرعيّة ، أو الموضوعات الخارجيّة. وسواء كانت الواسطة عادية ، أو عقليّة ، لا بمعنى تعلّق الجعل الشّرعي بنفس الواسطة على هذا التّقدير حتّى يرجع إلى التّفصيل في إمكان تعلّق الجعل الشّرعي بغير الأمر الشّرعي بين القولين ، كيف! وهو ممّا لا يقول به أحد ؛ إذ ضرورة العقل قاضية بعدم الإمكان مطلقا واستحالة الفرق ، بل لأنّ الظّن باللّازم لمّا يكون ظنّا بالملزوم قهرا لقضيّة الملازمة فيحكم الشارع بحجيّة الظّن من حيث كشفه ومرآتيّته على الإطلاق. وإيجابه الالتزام بمقتضاه بالحيثيّة المذكورة جعل ظاهريّ لجميع آثار ما تعلّق الظّن به ، فبضميمة استحالة الانفكاك بين الظّن بالملزوم والظّن باللّازم يحكم


بتعلّق الجعل بآثار كلّ منهما.

وهنا وجه آخر للحكم بحجيّة الأصل المثبت على هذا التّقدير وهو : أن يقال بتعلّق الجعل أوّلا وبالذّات بنفس الحكم الشّرعي المترتّب على المستصحب بالواسطة ؛ من حيث إنّ الظّن بالمستصحب كما يكون ظنّا بنفس الواسطة ، كذلك يكون ظنّا بالحكم الفرعي المترتّب عليه في الشّريعة أيضا لقضيّة التّرتّب.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا من عدم اعتبار الأصول المثبتة على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد الظّاهري ، واعتباره من باب الظّن ليس مختصّا بالمقام ، بل يجري في جميع ما كان حكما ظاهريّا محضا ومعتبرا من باب الظّن كأصالة البراءة ، والاحتياط ، وقاعدة الشّك بعد الفراغ ، وأصالة الصّحة في فعل المسلم ، ونحوها ؛ فإنّ في اعتبار المثبت منها وعدمه وجهان : مبنيّان على اعتبارها من باب التّعبّد والحكم الظّاهريّ والظّن.

نعم ، على القول باعتبار أصالة الصّحة من باب ظهور حال المسلم أيضا يمكن أن يقال بعدم اعتبار المثبت منها لعدم دليل على اعتبارها من حيث كشفها بقول مطلق ؛ إذ عمدة الدّليل عليها عندنا الإجماع وهو ليس له إطلاق يؤخذ بمقتضاه ويحكم باعتبارها مطلقا.

والحاصل : أنّه إذا قام دليل على اعتبار أمارة بقول مطلق لم يعقل الفرق فيه بين الظّن بنفس موردها وما يلزمه ولو بوسائط عديدة وهذا هو المدّعى ؛ إذ لسنا في صدد ادّعاء الملازمة بين اعتبار الظّن بشيء ولازمه في جميع المقامات كيف! والتّفكيك والتخلّف قد شوهد في جملة من المقامات ، كما في المسألة الأصوليّة ، والفرعيّة ، والقبلة ، والوقت ، والمسألة اللّغويّة ، والفرعيّة ، ولا ضير فيه أصلا ؛ لأنّ


التّفكيك بين المتلازمين في الظّاهر فوق حدّ الإحصاء في الشرعيّات بحيث لا يحتاج من كثرة الوضوح إلى المثال ، وحكاية السّودة والسّمعة معروفة ، إلّا أنّ الحكم فيها محمول على الاستحباب.

والّذي يجمع موارد التّفكيك على سبيل الضّابطة يرجع إلى أمور :

الأوّل : أن يكون الدّليل مقتصرا فيه على ترتيب بعض الأحكام المترتّبة على مورد الظّن ، كما فيما دلّ على وجوب الصّوم عند الشّك في هلال رمضان بشهادة عدل واحد ، فلا يحكم حينئذ بترتيب جميع الآثار عليه ، فلا يلزم منه جواز الإفطار بعد مضي ثلاثين من ذلك اليوم ؛ لأنّه لم يحكم بثبوت الهلاليّة بشهادة العدل الواحد حتّى يلزم منه الحكم المذكور.

الثّاني : أن يقوم الدّليل من الخارج على عدم اعتبار الظّن باللازم كما في الظّن بالمسألة الفرعيّة المستلزم للظّن بالمسألة الأصوليّة إن فرض تسبّب الأولى من الثّانية على القول : بأنّ عدم اعتبار الظّن في الأصول إنّما هو من حيث الخصوص ، لا من حيث الاندراج تحت ما دلّ عموما على حرمة العمل بالظّن.

الثالث : أن يكون الدّليل الدّال على اعتبار الظّن في الملزوم مهملا حاكما باعتبار الظّن في الجملة ، فيكون الحكم بعدم اعتبار الظّن في اللّازم حينئذ من حيث عدم قيام الدّليل على اعتباره ، لا من حيث قيام الدّليل على اعتباره.

وهذا قد يكون في الأحكام الكليّة والشّبهات الحكميّة ، كما في الظّن بالمسألة الفرعيّة المستلزم للظّن بالمسألة الأصوليّة ، أو اللّغوية بناء على كون حرمة العمل بالظّن في الأوّل من حيث عدم قيام الدّليل على الاعتبار.

وقد يكون في الموضوعات الخارجيّة ، كما في الظّن بالقبلة المستلزم للظّن


بالوقت ولو في بعض الأوقات.

فإن قلت : بعد البناء على جواز التّفكيك بين اعتبار الظّن بالملزوم والظّن باللّازم في الشّريعة ، فما يحملك على الحكم بالتّعميم في المقام؟ مع أنّ المتيقّن من اعتبار الظّن الاستصحابي إنّما هو بالنّسبة إلى ما يترتّب على المستصحب من الأحكام الشّرعيّة أوّلا وبالذّات ؛ لأنّ عمدة الدّليل على اعتباره من باب الظّن هو بناء العقلاء ، والمتيقّن من بنائهم إنّما هو بالنّسبة إلى تلك الآثار ، وليس له إطلاق حتّى يتمسّك به ، وكذلك إذا قلنا باعتباره من باب دليل الانسداد الّذي أقاموه لحجيّة مطلق الظّن ؛ فإنّه لا إطلاق له يقتضي بالحجيّة مطلقا سيّما إذا قلنا بكون النّتيجة مهملة.

قلت : دعوى : اختصاص بناء العقلاء على العمل بالظّن الاستصحابي في خصوص الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بدون واسطة أو كون القدر الثّابت منه ذلك ، فاسدة جدّا ؛ إذ بناء العقلاء على الظّن إنّما هو من حيث الطّريقيّة المحضة الّتي لا يفرّقون فيها بين أنحاء الانكشاف ومجرّد كون الدّليل لبيّا لا يقتضي المصير إلى إهماله كما هو واضح على الأوائل ، هذا بالنّسبة إلى بناء العقلاء.

وأمّا دليل الانسداد فالأمر فيه أوضح ؛ لأنّ نتيجة مقدّماته على ما عرفت تفصيل القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة : هي حجيّة الظّن المتعلّق بالحكم الشّرعي الكلّي سواء كان بلا واسطة أو بواسطة هذا. ولكن الّذي استقرّ عليه بناء القائلين باعتبار الاستصحاب من باب الظّن عدم الالتزام باعتبار الأصول المثبتة في جميع الفروع ، وإن كان يظهر منهم الاعتماد عليها في جملة منها كما يقف عليه المتتبّع في كلماتهم ويكفي شاهدا ما ذكره الأستاذ العلّامة في « الكتاب » من


موارد التخلّف.

وهذا كما ترى ، لا يجامع ما ذكرنا ؛ لأنّه إن كان الدّليل على اعتبار الظّنّ الاستصحابي مهملا فلا بدّ من إلقائه والقول بعدم اعتبار الأصول المثبتة مطلقا وفي جميع المقامات وإن كان الدّليل عليه دالّا على اعتبار جهة طريقيّته بقول مطلق ، فلا بدّ من الالتزام باعتبارها في جميع الموارد فما وجه التّفكيك؟

وأمّا ما يقال في توجيه كلماتهم : من أنّ موارد عدم التزامهم بها إنّما هي فيما يكون الواسطة فيها من المقارنات لا اللّوازم ، ويمكن دعوى الفرق في بناء العقلاء بين اللّوازم والمقارنات.

فيدفعه : أنّ المعلوم للمتتبّع في كلماتهم التزامهم في بعض المقامات بآثار المقارنات ، وعدم التزامهم في بعضها بآثار اللّوازم ، مع أنّ دعوى : الفرق في بناء العقلاء بين الوسائط ضعيفة جدّا.

نعم ، قد عرفت : أنّه بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد يمكن التّفصيل بين الوسائط واللّوازم ولم يظهر لي عاجلا ما يدفع الإشكال عنهم ، إلّا بأن يدّعى اختصاص موارد التزامهم بما يكون الواسطة فيه خفيّة مع اختصاص بناء العقلاء على العمل بالظّنّ الاستصحابي بالنّسبة إلى هذا المورد ؛ لأنّ عدم التزامهم بالحكم المترتّب على الوسائط البعيدة معلوم بالوجدان هذا ولكنّ الدّعويين غير نقيّين عن الإشكال والله العالم بحقيقة الحال ، هذا مجمل ما يخطر بالبال في توضيح المقام.


(٢٤٦) قوله : ( وهذه المسألة نظير ما هو المشهور ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٣٥ )

المسألة المذكورة لا دخل لها بالمقام

أقول : لا يخفى عليك أنّه ليس للمسألة كثير دخل بالمقام وليست نظيرا له أصلا. نعم ، يمكن أن يقال بوجود أدنى مناسبة بينهما من حيث إنّه يجب أن يلاحظ في التّنزيل الشّرعي نفس الموضوع الّذي صار موردا للحكم لا ما يلازمه من العنوانات.

توضيح ذلك : أنّ المشهور بين الأصحاب أنّ المحرّم بالرّضاع هي نفس

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« كما إذا حصل الرضاع المحرّم بين أخ زيد وهند ، فتصير هند أخت أخ زيد ، فلو أريد بذلك أن يثبت عنوان أختيّة هند لزيد ؛ نظرا الى أنّ أخت الأخ في النسب ملازم لعنوان الأخت ويحكم بحرمتها على زيد كان نظيرا لما نحن فيه ، هذا غاية توجيه كلام المتن وفيه نظر بيّن ؛ لأن ما هو المسند إلى المشهور في باب الرّضاع ـ كما هو ظاهر المتن ـ إجراء حكم عنوان لعنوان آخر ملازم للعنوان الأوّل في النسب.

ففي المثال يحكم بترتّب حكم الحرمة على عنوان أخت الأخ الذي يلازم عنوان الأخت في النسب.

ويجاب : بأنّ المحرّم في النسب هو عنوان الأخت ، لا أخت الأخ.

وبالجملة : التنظير إنّما يصح لو كان الحكم في الشرع مترتّبا على عنوان الملازم غير المتحقّق وأريد إثبات ذلك العنوان بعموم المنزلة كما وجّهنا الكلام به أوّلا ، لا إذا كان مترتّبا على عنوان وأريد إجراءه على عنوان آخر لم يجعل له حكم في الشرع إلا انه ملازم للعنوان الأوّل ، فافهم » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٧٧.


العنوانات الّتي صارت موردة للتّحريم في الكتاب والسّنة ، فإن حصلت بالرّضاع حكم بالحرمة وإن لم تحصل بالرّضاع تلك العنوانات ، بل حصل ما يلازمها لم يحكم بالحرمة. فأمّ الأخ من الرّضاع ليست محرّمة على الشّخص ؛ فإنّ المحرّم من النّسب هي الأمّ وزوجة الأب لا أمّ الأخ وإن كانت لازمة الحصول مع أحد العنوانين في النّسب ، والمفروض عدم حصولهما وصدقهما على أمّ الأخ من الرّضاع وإذا لم تكن رضيعة للشّخص أيضا ؛ لأنّ دليل التّنزيل وهو قوله عليه‌السلام : « يحرم بالرّضاع ما يحرم من النّسب » (١) وكذا قوله : « الرّضاع لحمة كلحمة النّسب » (٢) لا يقتضي إلّا تحريم ما ذكر. (٣)

__________________

(١) لفظ الحديث في المصادر هكذا : « يحرم من الرّضاع ما يحرم من النسب » أنظر الكافي الشريف : ج ٥ / ٤٣٧ باب « الرضاع » ـ ح ٢ و ٣ ، الفقيه : ج ٣ / ٤٧٥ ـ ح ٤٦٦٥ ، الاستبصار ج ٣ / ١٩٤ باب « مقدار ما يحرم من الرضاع » ـ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ / ٢٩١ باب « من أحل الله نكاحه من النساء وحرم منهن في شرع الاسلام » ـ ح ٥٩ و ٦٠ و ٦١ ، عنهما الوسائل : ج ١٨ / ٢٤٧ باب « ان الرجل لا يملك من يحرم عليه من الإناث » ـ ح ١.

(٢) لم نعثر عليه في المصادر الحديثيّة بهذا اللفظ ، نعم الموجود في كثير من الجوامع الحديثيّة عند الشيعة والسنة « الولاء لحمة كلحمة النسب ».

أنظر الفقيه : ج ٣ / ١٣٣ ـ ح ٣٤٩٤ ، والتهذيب : ج ٨ / ٢٥٥ باب « العتق وأحكامه » ـ ح ١٥٩ ، والاستبصار : ج ٤ / ٢٤ ـ ح ٣ باب ١٣ « ان ولاء المعتق لولد المعتق اذا مات مولاه الذكور منهم دون الإناث ».

عنها الوسائل : ج ٢٣ / ٧٥ « باب انه لا يصلح بيع الولاء ولا هبته » ـ ح ٢.

ومن كتب العامة :

سنن الدرامي : ج ٢ / ٣٩٨ باب « بيع الولاء ».


ويحكى عن غير واحد ، منهم : المحقّق المير داماد : أنّ المحرّم بالرّضاع هو كلّ عنوان يحكم بحرمته في النّسب وإن لم يكن بنفسه موردا للحرمة في الكتاب والسّنة ، بل كانت حرمته باعتبار تحقّق بعض العنوانات الكتابيّة في ضمنه ولم يتحقّق فيه في الرّضاع ؛ لأنّ الموصول للعموم وحمله على العهد على خلاف الأصل ، فيقال : إنّ أمّ الأخ مثلا كانت محرّمة في النّسب ولو من جهة تصادقه مع عنوان آخر ، وكلّ ما كان محرّما في النّسب يحرم بالرّضاع ؛ للحديث الشّريف ، فيحكم بحرمة أمّ الأخ من الرّضاع (١).

فإن قلت : إنّ أمّ الأخ أو أمّ الأخت مثلا لم تكونا محرّمين في النّسب فقد كابرت ؛ لأنّ صدق الأكبر على الأصغر لا يلازم أن يكون صدقا أوّليا ومن دون واسطة ، وإلّا لكذبت أكثر القضايا كما لا يخفى.

وإن قلت : إنّهما وإن صارتا موردتين للحرمة في النّسب ، إلّا أنّا نمنع من تكرّر الأوسط بالنّسبة إلى الرّضاع ؛ لأنّ المحرّم في النّسب هو أمّ الأخ الّتي كانت

__________________

وسنن البيهقي : ج ٦ / ٢٤٠ باب « الميراث بالولاء ».

ومستدرك الحاكم : ج ٤ / ٣٤١ باب « الولاء لحمة كلحمة النسب ».

ومسند الشافعي : ٣٣٨.

وكنز العمّال : ج ١٠ / ٣٢٤ ـ ح ٢٩٦٢٤.

والجامع الصغير : ج ٢ / ٧٢٣ ـ ح ٩٦٨٧.

وغيرها كثير.

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.

(١) الرسالة الرضاعيّة للمحقّق الداماد قدس‌سره المعروفة بضوابط الرضاع والمطبوعة في ضمن كتاب ( كلمات المحقّقين ) : ١٦ ـ ١٧.


أمّا أو زوجة أب ، وهذا المعنى لم يحصل بالرّضاع بالفرض ، فقد ادّعيت ما ليس لك ؛ لأنّه إن كان المراد أنّ المحرّم هو أم الأخ على وجه التّقييد ـ كما هو الظّاهر من الكلام المذكور ـ فمنع من ذلك ؛ لأنّ الواسطة في العروض ليس قيدا للمعروض. وإن كان المراد أنّ المحرّم في النّسب هو أمّ الأخ لعلّة كونها أمّا أو زوجة للأب وهو غير حاصل بالرّضاع.

ففيه : أنّه لا معنى لاشتراط وجود العلّة في فرديّة بعض أفراد الكبرى بالنّسبة إلى جميع الأفراد في عروض الأكبر لها ، فإذا قلت : الخمر حرام لكونه مسكرا ، وكلّ ما كان حراما حكمه كذا ، لا يتوهّم أحد اشتراط وجود الإسكار في عروض الحكم لجميع أفراد المحرّمات هذا ملخّص ما قيل بتوضيح منّا في وجه ما قال به الجماعة خلافا لما عليه المشهور.

ولكنّك خبير بفساده :

أمّا أوّلا : فلما عرفت : أنّ المراد بالموصول العهد لا العموم.

وأمّا ما ذكر في وجه تقريب دليل الجماعة : من أنّ الموصول للعموم حيث لا عهد فلا معنى لحمله على العهد مع عدم العهد كما هو ظاهر.

ففيه : أنّا وإن ذكرنا في محلّه تبعا للمحقّقين : أنّ الموصول للعموم ومقتضاه مع قطع النّظر عن قيام القرينة هو الحكم بالعموم في المقام ، إلّا أنّا ندّعي كون المراد منه في المقام العهد ؛ لوجهين :

أحدهما : ذكر كلمة ( ما ) في القضيّة فإنّه وإن قلنا بكونه موضوعا للأعمّ ممّن يعقل ، إلّا أنّه لا إشكال في ظهوره عند الإطلاق وعدم القرينة فيما لا يعقل ، فذكره في المقام : من جهة الإشارة إلى نفس العنوانات الّتي صارت مورده للتّحريم في


الشّريعة وهي ممّا لا يعقل كما هو واضح.

ثانيهما : قوله عليه‌السلام في المروي : ( الرّضاع لحمة كلحمة النّسب ) (١) فإن الظّاهر منه كون معروض الحرمة في الرّضاع هو معروض الحرمة في النّسب شرعا فتأمّل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الظّاهر من القضيّة بالنّظر إلى الوضع هو تحقّق نفس ما كان في النّسب في الرّضاع ، فإذا تعذّر الحمل عليه فلا بدّ من أن يحمل على ما كان مثله من جميع الجهات ، إلّا ما يعلم إلقاؤه كما في اللّون والقامة وغيرهما ، فإذا كان أمّ الأخ في النّسب موصوفا بكونها أمّا ، فلا بدّ أن يكون في الرّضاع أيضا كذلك للعلم بمدخليّته في الحرمة في النّسب ، بل وإن لم يعلم بذلك حكم باعتباره أيضا ، فالحكم بكون الموصول للعموم وإن كان مسلّما إلّا أنّه لا ينفع في المقام على ما عرفت.

وأمّا ثالثا : فلأنّ من الواضح المعلوم لكلّ أحد أنّ عموم الموصول وغيره إذا قيس بالنّسبة إلى العنوان فإنّما هو باعتبار العنوانات المختلفة بحسب المصداق ، لا العنوانات المتّحدة بحسبه ، فما يكون متّحدا بحسب المصداق من العنوانات لا يمكن أن يكون مشمولا للموصول بجميع أفراده ، بل لا بدّ من أن يكون الدّاخل بعضها ليس إلّا ، فحينئذ نقول :

إنّه لا إشكال أنّ للأعمّ في النّسب عنوانات كثيرة منتزعة كأمّ الأخ ، وأمّ الأخت ، وأخت الخالة ، وبنت الجدّة ، وزوجة الأب ، وعرس الجدّ من الأب ، أو الجدّة منه ، وأخت الخال إلى غير ذلك من العنوانات المنتزعة ، ولا يمكن الحكم

__________________

(١) مرّ آنفا انه لا يوجد خبر بهذا اللفظ لا عند الخاصّة ولا عند العامّة.


بإرادة الجميع من الموصول لما قد عرفت ، فلا بدّ من أن يحكم بأنّ الدّاخل أحدها « بشرط لا » ولمّا لم يمكن الحكم بخروج الأم باتّفاق من الخصم ؛ حيث إنّها الوسط في التّحريم لسائر العنوانات ومن حيث صيرورتها موردة للتّحريم في الكتاب تعيّن الحكم بعدم دخول غيرها من العنوانات المتّحدة معها بحسب المصداق.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّه لا مجال لما توهّمه الجماعة من الحكم بالتّعميم والله العالم. هذا بعض الكلام في المسألة ، وتفصيل القول فيه يطلب من الفقه وقد خرجنا عن وضع التّعليقة بل عن الفنّ إجابة لالتماس من لا أستطيع ردّه.

(٢٤٧) قوله : ( كاستصحاب بقاء الكرّ في الحوض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٣٥ )

بعض أمثلة الأصل المثبت والتعرّض لها

أقول : قد يجعل المستصحب في المثال : الماء باعتبار الكرّية. فيقال : إنّ الماء قبل أخذ جزء منه وطروّ النّقص عليه كان كرّا ، والأصل بقاؤه على كرّيّته.

وهذا خارج عن المقام ولا دخل له بالأصل المثبت ؛ لأنّه من استصحاب الوصف حقيقة لا المتّصف ، لكن إجراؤه وعدمه مبنيّان على المسامحة في إحراز الموضوع وعدمها. وقد يجعل نفس الكرية من غير اعتبار تعلّقها بماء خاص فيقال : إنّ الكريّة كانت موجودة في السّابق في الحوض مثلا بطريق الظّرفيّة والأصل بقاؤها ، فيثبت به كريّة الماء الموجود من باب انطباق الكلّي على الفرد ؛ لأنّ بقاء الكريّة في الحوض ملازم عقلا لكريّة الماء الموجود فيه.

ومن هنا يعلم أنّ جعل الأستاذ العلّامة اللّزوم عاديّا في المثال لا يخلو عن تأمّل ، وكذلك في المثال الثّاني ، للشّق الثّاني بل في جميع ما مثله للأمر العادي ؛


فإنّ عدم المانع الثّابت بالاستصحاب ملازم عقلا لوجود الحادث المفروض وجود المقتضي له وعدم مانع له ، إلّا المشكوك فتدبّر.

(٢٤٨) قوله : ( كاستصحاب الحياة للمقطوع ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٣٦ )

أقول : ما ذكره من الأمثلة إنّما هو على طريق اللّف والنّشر المشوّش ، فالأوّل مثال للثّاني ، والأخيران مثالان للأوّل إن جعل التّوالي عدميّا.

فباستصحاب الحياة إلى زمان وقوع السّيف على المقطوع يثبت كون التّنصيف والسّيف واقعا على الحيّ ، فيثبت بذلك إزهاق الحياة الّذي هو عبارة عن القتل. فالمقصود ليس إثبات نفس التّنصيف للعلم بحصوله ، بل التّنصيف الخاص باعتبار ترتيب الأثر على الخصوصيّة فهي المقصودة بالإثبات ليس إلّا.

كما أنّ باستصحاب عدم خروج دم الاستحاضة عن المرأة في المثال الثّاني للقسم الأوّل ثبت اتّصاف الدّم الموجود بأنّه ليس باستحاضة ، فيترتّب عليه : أنّه حيض بالملازمة الشّرعيّة. فاستصحاب عدم خروج دم الاستحاضة يثبت أمرا غير شرعيّ ، وهو : كون الدّم الموجود ليس باستحاضة ، ويترتّب عليه الحكم الشّرعي : بأنّه حيض.

لكن المقصود من إثبات الواسطة هو إثبات قيدها العدمي وهو عدم استحاضيّته ، لا كونه دما ؛ لأنّه حسّي ، ولا يمكن إثبات ذلك بجريان الاستصحاب في الدّم ؛ لعدم العلم بالحالة السّابقة كما لا يخفى. ولا يعارض باستصحاب عدم خروج دم الحيض فيثبت كون الدّم غير حيض وهو استحاضة ؛ لأنّه لم يثبت من الشّارع : أنّ كلّ دم ليس بحيض فهو استحاضة ، وإنّما ثبت أنّ كلّ دم ليس باستحاضة فهو حيض فتأمّل.


(٢٤٩) قوله : ( إلّا أن يوجّه (١) : بأنّ المقصود في المقام إحراز إسلام الوارث ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٢٣٩ )

أقول : حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) من التّوجيه : هو أنّ الإرث لو كان مرتّبا على موت الشّخص عن وارث مسلم فهو معنى الأصل المثبت. وأمّا لو لم يكن كذلك بل كان المقتضي للتّوريث هو وجود الولد المسلم للشّخص في حال حياته ؛ لأنّ مقتضى التّوريث هي القرابة.

نعم ، من أحد أجزاء العلّة التّامة للحكم بالتّوريث الفعلي حصول الموت أيضا ، فإذا أحرزت الحياة في حال الإسلام ولو بالأصل يجب الحكم بالتّوريث بعد القطع بالموت الحاصل بالفرض ، فحياة المورث في حالة إسلام وارثه ممّا يترتّب عليها شرعا التّوريث عند الموت ، فلم يرد باستصحاب الحياة إثبات الآثار الغير الشّرعيّة حتّى يدخل في الأصول المثبتة. وممّا يدلّ على كون نظر هؤلاء إلى ما ذكرنا أخيرا لا إلى الأصل المثبت الفرع الّذي ذكره المحقّق قدس‌سره في « الشّرائع »

__________________

(١) أقول : ولصاحب الجواهر قدس‌سره مسلك آخر في المقام لاحظ المجلّد : ٤٠ / ٥٠٤.

(٢) قال المحقق الأصولي المؤسس الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان العلاقة هي النبوّة المعلومة ولا تحدث العلاقة بالإسلام حال الحياة وإنّما الإسلام رافع للمانع ولا حاجة إلى إحراز عدمه حال وجود المقتضي ، ألا ترى أنّ كون اللباس من مأكول اللحم لا يجب إحرازه ـ إذا بنينا على أنّ كونه من غير مأكول اللحم مانع وأن ليس شرطا ـ؟ مع انه لا سبيل إلى إحراز ذلك عند الشك لتعارض الأصلين من الجانبين وقد نبي الفقه على الفرق بين المانع والشرط ، وانّ الثاني يجب إحرازه دون الأوّل وهو من أقوى الشواهد على القاعدة الشريفة » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ٢ / ٢٦٦.


قبل هذا الفرع حيث قال :

« لو مات المسلم عن إبنين فتصادقا على تقدّم إسلام أحدهما على موت الأب ، وادّعى الآخر مثله فأنكر أخوه ، فالقول قول المتّفق على تقدّم إسلامه مع يمينه : أنّه لا يعلم أنّ أخاه أسلم قبل موت أبيه (١) ». انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

فإنّه لو كان المدرك للحكم بالتّنصيف في الفرع الّذي ذكره بعده هو الأصل المثبت تعيّن الحكم به في هذا الفرع أيضا ؛ لأنّه يثبت باستصحاب بقاء حياته إلى زمان الإسلام كون موت مورثه بعد الإسلام وكون الإسلام قبله ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن المدرك فيه الأصل المثبت بل ما ذكرنا أخيرا ؛ فإنّه لا يمكن إثبات حياة المورث في حال إسلام وارثه من غير أن يتمسّك بالأصل المثبت.

هذا ملخّص ما يستفاد من كلامه ( دام ظلّه ) في توجيه الاستصحاب في المقام بحيث لا يرجع إلى الأصل المثبت.

ولكنّك خبير بتطرّق المناقشة فيه :

أمّا أوّلا : فللمنع من كون المقتضي للإرث ما ذكره ( دام ظلّه ) ، بل الّذي يقتضيه الدّليل هو ما ذكره أوّلا ؛ إذ لا معنى لجعل الحياة في حال إسلام الوارث مقتضيا للإرث.

وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير البناء على التّوجيه المذكور أيضا لا يمكن إثبات التّنصيف إلّا بالتّعويل على الأصل المثبت ، غاية الأمر : كون الواسطة خفيّة

__________________

(١) شرائع الإسلام : ج ٤ / ٩٠٧ ( نشر استقلال طهران ١٤٠٣ ه‍ ).


على ما اعترف به ( دام ظلّه ) في مجلس البحث فتدبّر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الفرع المذكور قبل هذا الفرع لا شهادة له على ما ذكر ، سيّما إذا فرض العلم بتاريخ موت الأب ؛ لأنّه إنّما هو من جهة استصحاب بقاء الكفر في غير المتّفق على إسلامه قبل الموت إلى زمان الموت ، فإن كان تاريخ الموت معلوما فهو ، وإلّا فيتعارض الأصلان من جانبين فيرجع إلى عدم استحقاق الغير المتّفق على إسلامه.

ولا يعارض بأصالة عدم استحقاق المتّفق على إسلامه قبل الموت مقدار الزّيادة ؛ لأنّ الشّك فيه مسبّب بعد فرض كون نسبته مقتضية لاستحقاق التّمام عن الشّك في استحقاق الآخر ، فإذا حكم بعدم استحقاقه بحكم الأصل ارتفع الشّك عن الأوّل فتدبّر.

ثمّ إنّه ذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : أنّ الفاضل في « القواعد » قد صرّح بما وجّهنا كلام المتمسّكين بالأصل في المقام فراجع إليه (١) ، وعليه يتعيّن إرادتهم لما أفاده ( دام ظلّه ).

__________________

(١) قواعد الأحكام للعلّامة الحلي قدس‌سره ج ٣ / ٤٨٠ جماعة المدرسين ١٤١٩ ه‍.


(٢٥٠) قوله : ( ولا يخفى أنّ الملاقاة معلومة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٤٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه بناء على اشتراط سبق الكريّة في الاعتصام وكون الملاقاة في نفسها مقتضية للتنجّس على ما يستفاد من قوله : ( إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء ) (٢) أو ( لم يحمل خبثا ) (٣) كما في بعض الرّوايات وعليه المشهور ،

__________________

(١) قال العالم الرّباني والفقيه الصّمداني الشيخ هادي الطهراني قدس الله نفسه الشريفة :

« ممّا يتوهّم : انه من الأصول المثبتة ما ذكره جماعة تبعا للمحققين قدس‌سره في كرّ وجد فيه نجاسة لا يعلم سبقها على الكرّيّة وتأخرها ؛ فانّهم حكموا : بان استصحاب عدم الكرّيّة قبل الملاقاة الراجع إلى استصحاب عدم الملاقاة قبل الكرّيّة فيقال : إنّ الملاقاة معلومة فإن كان اللازم في الحكم بالنجاسة إحراز وقوعها في زمان القلّة وإلّا فالأصل عدم التأثير لم يكن وجه لمعارضة الاستصحاب الثاني بالإستصحاب الأوّل ... إلى آخر ما ذكره في الفرائد :

٣ / ٢٤٠.

وفيه ما عرفت : من أنه يكفي في الحكم بالإنفعال العلم بالمقتضي وهي النجاسة ، والشرط وهي الملاقاة ، وعدم العلم بالمانع وهي الكرّية فإنّها عاصمة فكون الملاقاة في زمان القلّة وإن لم يكن سبيل إلى إحرازه بالأصل لكن المناط إنّما هو العلم بالمقتضي والشرط فما لم يعلم بالمانع يحكم بتحقّق الأثر وقد عرفت : انّ الحكم بالميراث عند الجهل بتاريخ الإسلام من هذا الباب.

نعم ، معارضة استصحاب عدم الكرّية حال الملاقاة باستصحاب عدم الملاقاة حال القلّة لا وجه لها ؛ لما عرفت : من أنّ الملاقاة حال القلّة لا أثر لها وإنّما الأثر لنفس الملاقاة وليست القلّة إلّا عدم العاصم ولا يجب إحرازه.

وبالجملة : فليس استصحاب عدم الكرّيّة مثبتا لكون الملاقاة حال القلة كما توهّم » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦٧.

(٢) الكافي الشريف : ج ٣ باب « الماء الذي لا ينجسه شيء » ـ ح ١ و ٢ ، والفقيه : ج ١ / ٩ ـ ح


ولذا حكموا بتنجّس المتمّم كرّا بنجس لم يكن وجه للقول باحتياج الحكم بتنجّس الماء إلى إثبات القلّة ، فيكون إثباته بالأصل من باب الأصل المثبت ؛ لأنّ مجرّد حصول الملاقاة في حالة عدم حصول الكريّة حينئذ علّة لتنجّس الماء ، فاستصحاب عدم الكريّة إلى زمان الملاقاة يقتضي تنجّس الماء من غير احتياج إلى إثبات القلّة.

والحاصل : أنّ ملاقاة غير الكرّ الاستصحابي بمقتضى الأخبار النّاهية عن

__________________

١٢ / والاستبصار ج ١ / ٦ باب « مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء » ـ ح ١ و ٢ و ٣ ، والتهذيب : ج ١ / ٣٩ باب « آداب الاحداث الموجبة للطهارة » ـ ح ٤٦ و ٤٧ و ٤٨ ، عنها الوسائل : ج ١ / ١٥٨ باب « عدم نجاسة الكر من الماء الراكد بملاقاة النجاسة » ـ ح ١ و ٢.

الإنتصار : ٨٥ والناصريّات : ٧٠ والخلاف : ١ / ١٧٣ ـ ١٧٤ في المسألة رقم ١٢٧ والرّواية عاميّة ليس لها أصل في كتب حديثنا إطلاقا.

والسيّد الشريف المرتضى أعلى الله تعالى مقامه نسبها إلى رواة حديث الجمهور صريحا ، نعم الشيخ قدس‌سره في الخلاف نسبها إلى الأئمة عليهم‌السلام غفلة.

والموجود في السنن للبيهقي ١ / ٢٦٠ بهذا اللفظ :

« إذا كان الماء قلّتين لم يحمل خبثا » وفي ص ٢٦٣ : « إذا كان الماء قدر أربعين قلّة لم يحمل خبثا » وأورده الدارقطني في سننه / ٢١ باب « حكم الماء اذا لاقته النجاسة » ـ ح ٤١.

وانظر تحفه الأحوذي : ١ / ١٧٦.

ونصب الرّاية للزيلعي : ١ / ١٦٨.

والدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر : ١ / ٥٥ ـ ح ٤٣.

إلى غير ذلك.

وكيف كان : فما في العوالي : ١ / ٧٦ ـ ح ١٥٦ و ٢ / ١٦ ـ ح ٣٠ ـ أصله من العامّة كما في كثير من أخباره كما لا يخفى على أهله.


نقض اليقين بالشّك كملاقاة الغير الكرّ الواقعي : في كون مقتضاه انفعال الماء الملاقي ، فلا دخل له بالأصل المثبت في شيء ؛ لعدم ترتّب الحكم على غير المستصحب من الوسائط حتّى يكون الالتزام به بإثبات الواسطة من الأصول المثبتة. ولئن سلّم وجود الواسطة كانت من الوسائط الخفيّة قطعا.

نعم ، لو كانت القلّة شرطا في التّأثّر والتّنجّس في الشّريعة ـ كما يظهر من جماعة ـ كان ما ذكره ( دام ظلّه ) وجيها ، فالأولى على التّقدير الأوّل الحكم بكون المعارضة مبنيّة على الأصل المثبت من طرف العكس ؛ فإنّ عدم الملاقاة إلى زمان حصول الكرّية لا يثبت الطّهارة حتّى يعارض استصحاب عدم الكريّة إلى حين الملاقاة إلّا بأن يثبت كون الملاقاة بعد الكريّة ، فيكون من الأصل المثبت كما لا يخفى.

إلّا أن يقال بكون الواسطة خفيّة ، فلا معنى حينئذ للحكم بالطّهارة لاستصحابها ، أو قاعدة الطّهارة بناء على عدم الاعتبار بالأصل المثبت. كما أنّه على الأوّل لم يكن معنى للحكم بالتّنجّس على هذا البناء.

نعم ، المعارضة بناء على أنّ هذا البناء إنّما يستقيم على القول برجوع ما دلّ على عدم تنجّس الكرّ بالملاقاة وما دلّ على تنجّس القليل بالملاقاة إلى التّنويع فتدبّر.


(٢٥١) قوله : ( والظّاهر أنّ مراده النّظر ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٤١ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : ان المستفاد من صريح هذه الكلمات عدم الأعتداد باستصحاب الحياة لإثبات الضمان ؛ فإن هذا معنى تساوي الإحتمالين وإلّا فاستصحاب الحياة على تقدير جريانه يحكم على استصحاب عدم الضّمان ، وقد عرفت : شيوع التعبير عن عدم جريان الأصل بتعارضه من الجانبين.

والحاصل : إنّ المراد بتساوى الإحتمالين عدم صلوح استصحاب الحياة لمثل هذا الأثر وهو كون الشخص قاتلا ولهذا رجّح في « الشرائع » قول الجاني ، مع ان حكومة الأصل في الشك السببي أظهر من أن يخفى على هؤلاء الأساطين كما لا يخفى على من له خبرة بأحكامهم في جميع أبواب الفقه مما لا يحصى من الفروع حيث تراهم لم يتأمّلوا في تحكيم الأصل والسببي وهذا معنى قوله قدس‌سره : ( وفيه احتمال آخر ضعيف ).

يعني : ان احتمال حكومة استصحاب الحياة على استصحاب عدم الضمان ناش عن خفاء كونه أصلا مثبتا ، والغفلة عن أن مجرّد كون الشك سببيا لا يكفي في تحرير الأصل الجاري فيه ، فهذه مبالغة في عدم اعتبار الأصل المثبت.

وهذا هو السرّ في تعقيب جريان الأصل من الجانبين بقوله قدس‌سره :

( وفيه نظر ) يعني : أنّ كون أصالة بقاء الحياة معارضا باستصحاب عدم الضمان مع أنّ الشك في الثاني مسبّب عن الشك في الأوّل يحتاج إلى نظر وليس أمرا واضحا يظهر لكلّ أحد.

وقد عرفت : ان الإحاطة على هذا يختصّ بها الأوحديّ من الناس وليت شعري كيف يتوهّم من هذه الكلمات التي تنادي بعدم اعتبار استصحاب الحياة لإثبات الضمان التزامهم بجريان إستصحاب الحياة ، فهل يستفاد الإثبات في النفي؟

فالذي ينبغي للمصنف قدس‌سره أن يستدلّ بهذه الكلمات على عدم إعتدادهم بالأصول المثبتة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨.


أقول : عدم جزمه بإرادة ما أفاده في وجه النّظر : من حكومة استصحاب الحياة على أصالة عدم الضّمان لو أريد منها الاستصحاب ، ووروده عليها لو أريد منها أصالة البراءة في وجه إنّما هو من جهة ما شوهد في هذا الفرع وفي نظائره منهم : من عدم التفاتهم إلى هذه الحكومة ، بل ترجيحهم المحكوم على الحاكم كما صرّح به المحقّق وغيره.

فيحتمل أن يكون وجه النّظر : تضعيف المعارضة من جهة عدم مساعدة الاستصحاب لإثبات القتل ، فأصالة عدم الضّمان سليمة عن المعارض في المقام لا راجحة على استصحاب الحياة حتّى يطالب وجه التّرجيح ، أو يضعف التّرجيح ـ بناء على الإغماض عن الحكومة ـ فيكون الأصلان في مرتبة واحدة ، وإن حكم بمقتضى استصحاب عدم الضّمان من جهة الرّجوع إلى أصالة البراءة بعد تساقطهما فتدبّر.

(٢٥٢) قوله : ( لكنّ المعلوم منهم ومن غيرهم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٤٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ موارد عدم تمسّكهم بالأصول المثبتة في جنب موارد تمسّكهم بها كالبحر والقطرة ، إنّما الإشكال على ما عرفت في وجه اختلاف حكمهم بحسب الموارد ، مع أنّك قد عرفت : أنّه مما لا وجه له ولا يستقيم بحسب الظّاهر أصلا.

(٢٥٣) قوله : ( وهذا المعنى يختلف وضوحا وخفاء ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٤٤ )

أقول : لا إشكال فيما أفاده من اختلاف مرتبة الوسائط ، فالمعلوم حاله من


حيث الوضوح والخفاء لا إشكال في حكمه ، وما لم يعلم حاله من الرّجوع إلى العرف يحكم بعدم اعتبار الاستصحاب بالنّسبة إليه ؛ نظرا إلى الشّك في صدق النّقض على عدم ترتّب الآثار بالنّسبة إليه فلا ظهور للأخبار بالنّسبة إليه ، فلا بدّ من الرّجوع إلى سائر الأصول.

(٢٥٤) قوله : ( وفيه نظر ) (١). ( ج ٣ / ٢٤٥ )

أقول : وجه النّظر ظاهر ؛ لأنّ دعوى السّيرة مع الالتفات والشّك على عدم الالتفات من دون فحص من الكلّ في جميع الأزمنة ممنوعة كدعوى الإجماع القولي من العلماء مع عدم عنوان المسألة في كلماتهم ، بل هي أولى بالمنع كما لا يخفى.

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« لعلّ وجهه : أن هذا المثال من قبيل خفاء الواسطة فلا حاجة إلى التمسّك بالإجماع والسيرة.

وفيه نظر.

ويمكن أن يكون إشارة إلى ان الاجماع والسيرة يكشفان عن حجّيّة الظن بعدم الحاجب إذا حصل كما هو الغالب ، ونمنع الإجماع والسيرة في غير الصورة المفروضة كما في صورة الشك الحقيقي ، ويشهد لهذا الإحتمال أن المصنّف قيّد المسألة في فتاواه بصورة الظن بالعدم كما ذكرنا.

ويمكن أن يكون إشارة إلى أن المتيقن من مورد الإجماع والسيرة من البناء على عدم الحاجب هو العلم العادي أو الظن المتآخم للعلم بالعدم كما هو الأغلب ، وأمّا في غيره نمنع الإجماع والسيرة على عدم الفحص والبناء على العدم » إنتهى.

انظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٨٦.


نعم ، يمكن القول بعدم الالتفات بدعوى كون الواسطة خفيّة بناء على ما بنى الأمر عليه شيخنا ( دام ظلّه العالي ) : من اعتبار الاستصحاب فيما علم كون الواسطة فيه خفيّة.

نعم ، على القول : باعتباره من باب الظّن تعيّن المصير إليه من دون حاجة إلى الفحص ؛ نظرا إلى كون الشّبهة في الموضوع وإن كان سؤال الفرق بينه وبين نظائره متوجّها.


* التنبيه السابع

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« إن العلم بالزوال لا يمنع من جريان الأصل بالنسبة إلى ما لا يعلم به بالنسبة إليه ، والعلم إجمالا بوقوعه في زمان مردّد بين الأزمنة لا أثر له فيقتصر في رفع اليد عن الأصل على علم الزوال فيه مفصّلا ، وهذا هو المعروف بأصالة تأخّر الحادث ؛ فإن التأخّر ليس إلّا كالتقدّم والتقارن ، فالجميع مخالف للأصل ، ولا وجه لكون التأخّر موافقا للأصل ، بل الأصل عدمه ، لكن لمّا كان مقتضي الأصل الإقتصار على ترتيب الآثار بالنسبة إلى الزّمان المتأخّر حيث انّه هو المعلوم وقوع الزوال بالنسبة إليه ، والقدر المتيقّن من تبدّل الأصل والخروج منه بالنسبة إليه عبّر عنه بأصالة التأخّر ، لا انّ التأخّر من حيث انه نسبة خاصّة بين الحادثين في مقابل التقدّم والتقارن يثبت بالأصل وهذا هو السرّ في عدم ثبوت تأخّر موت زيد في المثال المتقدّم في زمان علم وقوعه فيه بوقوعه فيه.

وزعم الأستاذ ان كونه مثبتا باعتبار انّ الأثر ليس شرعيّا وقد عرفت ما فيه.

ومن الغريب انه قال بعد ما حكم بانه أصل مثبت : ( إلّا أن يقال : إن الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم ، وإذا ثبت بالأصل عدم الشيء سابقا وعلم بوجوده بعد ذلك ، فوجوده المطلق في الزمان اللاحق إذا انضمّ إلى عدمه قبل ذلك الثابت بالأصل تحقق مفهوم الحدوث ) إنتهى. [ الفرائد : ٣ / ٢٤٨ ].

فإن الملزم في كون الأصل مثبتا إنّما هو عدم كون ما يترتب عليه أثرا شرعيا من غير فرق بين أن يكون متولّدا من الأصل بانضمام أمر آخر معلوم وبين غيره والإلتزام بثبوت الموضوع الخارجي بإثبات أحد جزئي مفهومه بالأصل إعتراف باعتبار الأصل المثبت.

والحاصل : إنّ من الواضح ان كون يوم معين يوم الوفاة مثلا ليس مما يثبت بالإستصحاب ولو بانضمام المعلوم إلى المستصحب وهكذا الحال في غيره من الأمثلة ، والّا لثبت القتل


__________________

باستصحاب الحياة بانضمام الأمر المعلوم وهو القدّ نصفين أو الرّمي الموجب لزهوق الرّوح على تقدير الحياة فيقال : إنّ قدّ الحيّ نصفين قتل له ، وقد ثبت أحد جزئي المفهوم بالإستصحاب والآخر بالوجدان ، وتبيّن ممّا حقّقناه : انه لو علم بوجود حادثين متنافيين في التأثير فلا سبيل إلى إثبات تأخّر أحدهما عن الآخر بالإستصحاب.

إلى أن قال :

نعم ، لو ترتّب على جميع التقادير اثر على المعلوم أخذنا به ، كما انه إذا علم بانّ هذا الحدث وقع بعده عمل مشروط بالطهارة فصلّى قبل الزوال وبعده فعلى أي تقدير بطلت الصلاة ووجب التدارك ، وأمّا مع الجهل بتاريخهما فمع العلم بالحالة السابقة على الحالتين يعوّل على استصحاب ضدّها ، ومع الجهل رأسا فالمرجع هو الأصل المتقدّم على الأصلين لتساقطهما.

وتوضيح الحال في هذا المثال الذي اضطربت فيه كلمة الأساطين :

انّ كلّا من الحدث والطهارة أمر وجودي ومقتضى الأصل عدمهما من غير فرق بينهما من هذه الجهة وإنّما يفترقان في انه يكفي في الجريان : الأصل بالنسبة إلى الأوّل مجرّد الجهل به وعدم ثبوته حيث انه مانع بالنسبة إلى الأحكام ، وأمّا الثاني فلا بد من إحرازه فمع التساقط يحكم بفساد كلّ عمل مشروط بالطهارة وبجواز كلّ ما يوجب الحدث حرمته ، فإذا تعارض استصحاب الجنابة والغسل جاز الدخول في المسجد وبطلت الصّلاة إلّا بطهارة جديدة ولم يجز مسّ كتابة القرآن ؛ لأن الطهارة شرط له.

وأمّا لو تعارض الأصلان في الطهارة عن الخبث بني على الطهارة ؛ لأنّها عدميّة بخلاف الطهارة عن الحدث ـ على ما حقّقناه في محلّه ـ فمعنى ما اشتهر : من أنّ المانع يكفي في الجزم بعدمه مجرّد الشك في وجوده ان مقتضي الأصل ذلك.

وامّا الشرط فلا أصل يقتضي الحكم بتحقّقه فحدوث الأثر أو بقاءه ان كان الشك فيهما


هل تجري أصالة تأخّر الحادث؟

(٢٥٥) قوله : ( لا فرق في المستصحب بين أن يكون ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٤٧ )

__________________

مستند إلى الشك في المانع لم يعتدّ به ، وامّا إذا كان مستندا إلى جهة أخرى : كعدم إحراز الشرط والجهل بالإقتضاء فلا يحكم بتحقّق الأثر وهذه طريقة الأساطين قدس‌سرهم في تمام الأبواب ولها أعلام واضحة وأنوار ساطعة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٧٢.

(١) قال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره :

« أقول : أراد قدس‌سره في هذا المقام شرح الكلام في الأصلين المعروفين ، أعني : أصالة تأخّر الحادث وأصالة تقدّمه المعبّر عنه باستصحاب القهقري تارة والإستصحاب المعكوس أخرى.

امّا الأوّل : فمورده ما إذا علم بوجود حادث في زمان وشك [ في ] وجوده قبل ذلك الزمان ، فيحكم من جهة استصحاب عدمه قبل ذلك بسلب وجوده في الزمان المشكوك ، فيترتّب عليه ما هو من أحكام مجرّد عدم التقدّم.

ولا يثبت به وصف التأخّر لكي يترتّب عليه ما هو من أحكام هذا الوصف إلّا على القول بالمثبت.

وممّا يتفرّع على ذلك الأصل : حمل اللفظ على المعنى اللغوي فيما إذا حصل التعارض بين العرف واللغة ، فيثبت باستصحاب عدم تقدّم العرف في زمان صدور الخطاب ظهور اللفظ في المعنى اللغوي.

لا يقال : إنّ هذا اصل مثبت ؛ لأن ظهور اللفظ الثابت به ليس بأثر شرعي.

لأنّا نقول : إنّ مدرك اعتبار هذا الأصل إنّما هو بناء العقلاء لكونه من الأصول الجارية في باب ظواهر الألفاظ ، فلا يفرّق فيه بين المثبت وغيره.


في أصالة تأخّر الحادث وبيان حقيقتها

أقول : من الواضحات الّتي لا ينبغي الارتياب فيها عدم الفرق في جريان الاستصحاب ، بل عدم تعلّقه بعد فرض إحراز ما يعتبر في تحقّق الاستصحاب موضوعا في زمان الاستصحاب ، وهو القطع بوجود الشّيء في زمان والشّك في وجوده في زمان آخر بين أن يقطع بوجود شيء قبل زمان وجوده ، ثمّ يشكّ في بقاء وجوده بعد هذا الزّمان كأن يقطع بوجود ولد لزيد يوم الجمعة في يوم الخميس مثلا ، ويشكّ في زمان القطع في بقائه يوم السّبت.

وأن يقطع بوجوده في زمان وجوده ثمّ شكّ فيه فيما بعد ذلك الزّمان سواء حصلا في زمان واحد ، أو في زمانين وسواء كان الزّمان الّذي يشكّ في بقائه فيه موجودا بالفعل ، أو موجودا في المستقبل بشرط تعلّق حكم على وجوده المستقبل عند إرادة الاستصحاب ، أو حصل القطع والشّك في زمان واحد مع تعدّد زمان متعلّقهما مع عدم زوال الشّك.

وأن يقطع بوجوده في زمان ويشكّ فيه في زمان آخر مع حصولهما في زمان القطع بارتفاعه ، فلو ترتّب أثر على الحكم ببقائه إلى زمان القطع بارتفاعه

__________________

لكن يقتصر الأثر الغير الشرعي الثابت به بمجرّد ظهور اللفظ دون غيره كتعيّن ابتداء زمان حدوث المعنى العرفي وأمثاله ؛ لأن مدرك هذا الأصل وإن كان بناء العقلاء لكن يقتصر في ترتّب الأثر عليه بمقدار ما استقرّ بناءهم عليه وهو ليس إلّا مجرّد إثبات الظهور في اللفظ ، هذا » إنتهى. أنظر قلائد الفرائد : ٢ / ٣٤٦.


في كلّ من الصّور لم يعقل الفرق بينها في الحكم بجريان الاستصحاب وترتّب الأثر ، وإن كان قد يتأمّل الغير المتأمّل في جريانه في القسم الأوّل ، بل يمنعه ؛ نظرا إلى الجمود على ظاهر تعريف الاستصحاب وبعض أخبار الاستصحاب.

ولكنّك خبير بضعفه وكونه في غير محلّه وليس مقصودنا التّكلّم فيه ، وإنّما المقصود بالبحث هو القسم الأخير وهو ما لو كان المستصحب مشكوك البقاء في جزء من الزّمان اللّاحق ، وإن قطع بارتفاعه بعده سواء كان عدميّا أو وجوديّا.

والاستصحاب في هذا القسم هو الّذي يعبّر عنه بأصالة تأخّر الحادث ، يريدون به استصحاب عدم ما علم بحدوثه في زمان قبل ذلك الزّمان من أزمنة الشّك ، فيلزمه عقلا تأخّر حدوث ذلك الحادث على تقدير الثّبوت في نفس الأمر ، فيثبت به أوّل زمان وجوده الّذي يعبّر عنه بالحدوث ، واستصحاب عدم ما علم بحدوثه في أحد الزّمانين بعد العلم بارتفاعه بعدهما إلى أوّل الزّمان المتأخّر ، فيثبت به أصل الوجود في ذلك الزّمان حيث إنّ المفروض عدم العلم به ، لا جريان الاستصحاب في نفس التّأخّر كما قد يتوهّم من العبارة ؛ لعدم إمكان جريان الاستصحاب فيه في طرفيه من الوجود والعدم.

أمّا في الأوّل : فلأنّ التّأخر من أنحاء الوجود وكيفيّاته ، ومن المعلوم ضرورة استحالة انقلاب الشّيء عمّا هو عليه من الحالة.

وأمّا في الثّاني : فلأنّ استصحاب عدم الأمر القائم بموجود بعد القطع بالوجود ، إنّما يمكن بعد القطع بوجود الشّيء مع الغضّ عمّا فيه فيما أمكن اتّصاف الشّيء به في زمان وارتفاعه عنه وهو ممّا لا يعقل بالنّسبة إلى ما هو محلّ البحث على ما عرفت.


والحاصل : أنّ استحالة جريان الاستصحاب في طرف الوجود مستلزم لاستحالة جريانه بالنّسبة إلى طرف العدم أيضا ، مع أنّ محلّ البحث إنّما هو الأوّل.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : أنّ ردّ أصالة التّأخّر ـ بناء على كون المراد منها المعنى الثّاني ـ بعدم وجود الحالة السّابقة للتّأخر حتّى يستصحب الظّاهر في تسليم جريان الاستصحاب فيه على تقدير فرض الحالة السّابقة له ممّا لا يخلو عن تأمّل ، كما أنّ القول بعدم جواز إثبات التّأخّر بالأصل بأيّ معنى من جهة المعارضة باستصحاب عدمه أيضا لا يخلو عن تأمّل. مضافا إلى ما قد يقال علي تقدير إرادة إثباته بالطّريق الأوّل : أنّ الشّك فيه مسبّب عن الشّك في مجرى الأصل المقتضي لإثباته ، فلا معنى لإيقاع التّعارض بينهما.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا في المقام : من عدم تعقّل إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى نفس التّأخّر ليس مختصّا به ، بل يجري بالنّسبة إلى التّقدّم والتّقارن أيضا ؛ فإنّ التّحقيق عدم تعقّل جريان الاستصحاب في أنفسهما أيضا ؛ لما عرفت : من الوجه في استحالة جريانه بالنّسبة إلى التّأخّر ؛ ضرورة جريانه بالنّسبة إليهما أيضا ، فالمراد من أصالة عدم التّقدم هو استصحاب عدم الشّيء إلى زمان القطع بوجوده سواء أريد إثبات عدم تقدّمه بالنّسبة إلى نفس الزّمان ، أو غيره ؛ فإنّه لا بدّ من أن يرجع إلى هذا المعنى ، وإلّا فلا معنى للتمسّك بها كما لا يخفى. هذا مجمل الكلام في المراد من أصالة التّأخر.

وأمّا الكلام في حكمها من حيث الاعتبار والعدم :

فالتّحقيق أن يقال : إنّ كلّ حكم شرعيّ ترتّب على نفس عدم الشّيء في أزمنة الشّك ، فلا يعقل المنع من اعتبار الاستصحاب المذكور بالنّسبة إليه ، وكلّ


حكم شرعيّ ترتّب على تأخّره عن ذلك الزّمان بحسب الوجود ، فلا يحكم باعتبار الاستصحاب بالنّسبة إليه ؛ لاستلزامه التّعويل على الأصول المثبتة الّتي أثبتنا عدم اعتبارها فيما سبق القول فيه ، فلو فرض عدم ترتّب أثر شرعيّ على نفس عدمه في زمان الشّك أصلا ، بل إنّما ترتّب على تأخّره لم يكن معنى للحكم بجريانه حينئذ ؛ حيث إنّك قد عرفت غير مرّة : أنّ الأصل الّذي لا يترتّب الأثر الشّرعي على مجراه بلا توسيط أمر غير شرعيّ لا معنى لجريانه. هذا مجمل القول في تحقيق المقام.

وإن أردت شرح الكلام وتوضيحه فيه بحيث يرفع عنك غواشي الأوهام فاستمع لما نتلو عليك حسب ما يساعدنا التّوفيق من الملك العلّام. فنقول :

إنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ بالنّسبة إلى ما قبله من أجزاء الزّمان ، بمعنى : أنّه يقصد من إجراء استصحاب عدمه في زمان سابق إثبات كون زمان وجوده هو الزّمان المتأخّر ، ويلزمه تأخّر الوجود عن ذلك الزّمان أيضا.

فقد يكون أصل وجوده في الزّمان المتأخّر معلوما ، وإنّما الشّك في مبدأ وجوده الّذي يسمّى بالحدوث.

كما إذا علم بموت زيد يوم الجمعة مثلا ، وشكّ في أنّ أوّل زمان موته هذا اليوم أو سابقه ، وكذا إذا علم بكريّة الماء يوم الجمعة وشكّ في أوّل زمان كريّته هذا اليوم أو سابقه إلى غير ذلك ، ففي هذا القسم لا يترتّب على الاستصحاب إلّا أحكام نفس عدم الحادث في زمان الشّك ، لا أحكام حدوثه في زمان اليقين بوجوده ؛ لأنّه من اللّوازم العقليّة لعدم وجوده قبل زمان اليقين بوجوده ، لا من اللّوازم الشّرعيّة له كما لا يخفى.


نعم ، لا إشكال في ترتيب حكم مطلق الوجود على وجوده في ذلك الزّمان ، إلّا أنّه لا دخل له بالاستصحاب بل هو بمقتضى القطع المفروض بالوجود ، وهذا بخلاف الحدوث ؛ فإنّ مجرّد الوجود لا يكون حدوثا حتّى يقطع به من القطع به كما لا يخفى.

وقد يكون أصل وجوده فيه مشكوكا فيريد باستصحاب عدمه قبله بعد العلم الإجمالي بوجوده في أحد الزّمانين إثبات وجوده فيه.

كما إذا علم بصيرورة ماء حوض كرّا في أحد يومين من الخميس والجمعة ، وهو غير كرّ في يوم السّبت ، أي : علم بكلّ من وجود الكريّة في اليومين وارتفاعها إجمالا ، فيعلم أنّها لو كانت موجودة يوم الخميس ارتفعت يوم الجمعة قطعا فلا يكون فيه كرّا ، ولو لم تكن موجودة فيه كانت موجودة في يوم الجمعة ، فيستصحب عدمه يوم الخميس فيثبت وجودها يوم الجمعة ، ففي هذا القسم أيضا لا يترتّب على الاستصحاب أحكام أصل الوجود في المتأخّر. نعم ، يترتّب عليه أحكام عدمه في الزّمان المتقدّم.

كما أنّه لا إشكال في أنّه يترتّب الحكم الشّرعي على وجوده في أحد الزّمانين لو فرض ترتّب حكم عليه لكنّه ليس من جهة الاستصحاب بل بمقتضى العلم الإجمالي بوجوده في أحد الزّمانين على ما هو قضيّة الفرض ، فالوجود في هذا القسم نظير الحدوث ، وفي الفرض الأوّل في كون كلّ منهما من غير الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب ، وهذا معنى قوله ( دام ظله ) : ( لأنّ وجوده


مساو لحدوثه في كون كلّ منهما موضوعا خارجيّا ... إلى آخره ) (١).

والحاصل : أنّ وجود الشّيء في زمان في عرض وجوده في زمان آخر ، فإذا علم به في أحدهما لا على التّعيين لم يكن معنى لإثبات اليقين بإجراء الأصل في عدمه بالنّسبة إلى أحدهما ، غاية الأمر : أنّه اتّفق كون عدمه بالنّسبة إليه صار على وفق الأصل فلا يترتّب عليه إلّا أحكام عدمه ، فهذا نظير ما لو علم بوقوع نجاسة على أحد جسمين يعلم بطهارة أحدهما ويشكّ في طهارة الآخر ؛ فإنّه لا يمكن إثبات وقوع النّجاسة في مشكوك الطّهارة باستصحاب الطّهارة في معلوم الطّهارة ، وإن كان الحقّ عندنا عدم جريان الأصل المذكور رأسا ، خلافا لجماعة ، إلّا أنّه على فرض الجريان لا يمكن إثبات نجاسة الآخر به.

فلو فرض وقوع نجاسة في الفرض في الحوض يوم الجمعة لا يمكن إثبات طهارته باستصحاب عدم الكريّة في يوم الخميس المقتضي للكريّة يوم الجمعة على خلاف التّحقق ، بل يحكم بنجاسته على القول بكون الملاقاة مقتضيا ، كما أنّه يحكم بنجاسة مائه لو وقع فيه نجاسة يوم الخميس أيضا على القول المذكور ، كما أنّه يحكم بطهارته في الفرضين على القول بلزوم إحراز القلّة في التّأثر ، لكن لا من جهة الاستصحاب بل من جهة قاعدة الطّهارة.

نعم ، يمكن الحكم بالطّهارة أيضا من جهة استصحاب طهارة الماء كما لا يخفى ، ولا يلزم على ما ذكرنا مخالفة العلم الإجمالي الغير المجوّزة فيما ذكرنا في الصّورتين كما لا يخفى.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٤٨ هذا ، ولكن الموجود في الكتاب الى « مساو لحدوثه » وليس فيه بقيّة العبارة المزبورة ولعلّها من النسخة المختصّة بالميرزا « رحمة الله تعالى عليه ».


والحاصل : أنّه لا بدّ من أن يلاحظ ويفرّق في كلّ مورد بين الحكم الشّرعي المترتّب على نفس مجرى الأصل وبين الحكم الشّرعي المترتّب على ما يلازمه ، ٣ / ١٤٠ ولا يجري حكم التّأخّر في القسمين على الاستصحاب الجاري فيهما ، بل ذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : أنّه على فرض جواز إثبات الحكم المترتّب على الحدوث في القسم الأوّل والوجود في الزّمان المتأخّر في القسم الثّاني لا يجوز إثبات الحكم المترتّب على عنوان التّأخّر ؛ لأنّه ملازم للأمرين في القسمين ، لا أن يكون عينهما وإن كان ما ذكره لا يخلو عن تأمّل.

فإن قلت : ليس التّأخّر إلّا عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم ، فإذا فرض القطع بوجوده في زمان وشكّ في وجوده في زمان سابق عليه ، وفرضنا إجراء الأصل ، وحكمنا بعدمه في زمان الشّك ، كان هذا معنى التّأخر وهو عين ما أجري الأصل فيه ، لا أن يكون ملازما له.

نعم ، الفرق بينهما باختلاف اللّفظ ، فتارة يقال ـ علي هذا المعنى ـ التّأخّر وأخرى : الوجود المسبوق بالعدم بحكم الأصل ، فلم يرد بإجراء الأصل إثبات الوجود في زمان من الأزمنة حتّى يكون مثبتا ، بل أريد نفس إثبات العدم إلى زمان القطع بالانقلاب إلى الوجود ، فليس إذن مانع عن إثبات التّأخّر بالأصل كما لا يخفى.

قلت : مجرّد كون التّأخّر عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم لا يخرج الأصل المذكور عن كونه من الأصول المثبتة ؛ ضرورة أنّ إثبات المفهوم الثّابت أحد جزءيه بالوجدان بإجراء الأصل في إثبات جزئه الآخر لا يخرج الأصل المذكور عن الأصول المثبتة ، وهذا معنى ما ذكره ( دام ظلّه ) ، اللهم إلّا أن يدّعى

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


كون الواسطة من الوسائط الخفيّة الموجبة لصدق نقض المستصحب على ترك الالتزام بآثارها في حكم العرف كما هو المشاهد في كثير من المقامات.

كما في استصحاب عدم الهلال في يوم الشّك ؛ فإنّ الحكم به عبارة عند العرف عن الحكم بكون غده من الهلال وأوّل الشّهر. ولهذا يقال عليه : أوّل الشّهر الشّرعي ، مع أنّه لم يرد من الشّرع إلّا الحكم بعدم جعل اليوم المشكوك من الهلال على ما ذكره في « الكتاب » من كون الفرض من أمثلة الوسائط الخفيّة في الأمر السّابق.

نعم ، هنا إشكال على ما ذكرنا وذكره الأستاذ العلّامة : بأنّه إذا كانت الواسطة خفيّة في بعض الموارد ، كان الأمر كذلك في جميع موارد إثبات التّأخّر ؛ لأنّ الواسطة أمر واحد لا يختلف باختلاف الموارد كما لا يخفى. فاللّازم إذن الالتزام باعتبار أصالة التّأخّر بالنّسبة إلى الأحكام المترتّبة على صفة التّأخر أيضا. وهو كما ترى.

وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالنّسبة إلى حادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين وشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر لا بمعنى إجراء الأصل بالنّسبة إلى التقدّم فيقال : الأصل عدم تقدّمه عليه ـ كما قد يتوهّم ـ بل بمعنى استصحاب عدمه إلى زمان القطع به الّذي هو مؤخّر عن زمان القطع بالحادث الآخر كما في جملة من الموارد ، إذن لم يثبت تأخّره عن زمان وجوده للجهل.

والحاصل : أنّ أصالة التّأخّر مرجعها في جميع الموارد إلى استصحاب عدم الحادث اليقيني إلى زمان القطع بانقلابه ، فمنه يظهر ما في كلام الفاضل القميّ رحمه‌الله في « القوانين » : من أن إطلاق أصالة تأخّر الحادث على هذا المعنى لا يكون على


حقيقته ؛ لأنّ تأخّر الحادث إنّما يلاحظ بالنّسبة إلى الزّمان.

ثمّ إنّ الحادثين قد يجهل تاريخهما ، وقد يعلم تاريخ أحدهما ، ومثله في الحكم في الجملة ما لو علم تقدّم أحدهما على الآخر وإن جهل التّاريخان ، أو لم يحتمل تأخّر أحدهما بالخصوص عن زمان معيّن وإن احتمل تقدّمه وتقارنه مع الحادث الآخر المحتمل تأخّره عنه ، فالمقصود من القسم الأوّل وهو مجهولي التّاريخ المقابل للقسم الثّاني هو : ما احتمل التّقدّم والتّأخّر في كلّ منهما.

بيان حكم القسم الأوّل ( صورة جهل تاريخهما )

أمّا القسم الأوّل : فلا إشكال في جريان الأصل بالنّسبة إلى عدم كلّ من المجهولين إلى زمان القطع بانقلابه إلى الوجود ـ لو ترتّب على كلّ منهما أثر شرعيّ ـ فيعمل بكلّ منهما إن لم يكن بينهما تعارض : بأن يحصل من العمل بهما طرح العلم الإجمالي المعتبر ، وإلّا فيحكم بتساقطهما والرّجوع إلى غيرهما من الأصول ، أو عدم جريانهما فيما لو استلزم طرح العلم الإجمالي على القولين ، وإلى عدم أحدهما فيما لو ترتب عليه أثر دون عدم الآخر ، وإن ترتّب على تأخّره عنه ؛ فإنّه لا إشكال أيضا في وجوب الأخذ بما ترتّب عليه أثر شرعيّ بلا توسيط أمر غير شرعيّ.

كما أنّه لا إشكال في عدم جريان الأصل بالنّسبة إلى عدم كلّ منهما لو فرض عدم ترتّب أثر شرعي عليه ، أو ترتّب أثر شرعيّ على تأخّر أحدهما عن الآخر ؛ نظرا إلى عدم المعنى للحكم بعدم نقض ما لا يكون له أثر شرعيّ أصلا ، أو بواسطة أمر غير شرعيّ على ما عرفت تفصيل القول فيه سابقا. مضافا إلى لزوم


التّعارض على التّقدير الثّالث كما لا يخفى.

والحاصل : أنّه لا معنى لإهمال أخبار الاستصحاب بالنّسبة إلى كلّ متيقّن كان موضوعا لحكم في الشّريعة إذا لم يتعارض إجراء الاستصحاب فيه بإجرائه في غيره بحيث لا يجوز معه العمل بهما ، فاللّازم منه هو العمل على ما ذكرنا من التّفصيل والأخذ به وسلوكه في الفرض ، فما ذكرنا ميزان كلّي لا يجوز التّخطّي عنه ـ بناء على القول بعدم اعتبار الأصول المثبتة ـ فلا بدّ للشّخص أن يلاحظ الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على الموضوعات الواقعيّة من حيث ترتّبها على نفس عدم الحادث ـ أو على تأخّره عن الحادث الآخر بحسب الزّمان.

فلو علم بحصول الكريّة للماء وملاقاته للنّجاسة وجهل تاريخهما : بأن وجد كرّا فيه نجاسة يعلم بعدم حصول الكريّة للماء في زمان وعدم وجود النّجاسة فيه أيضا ، ولكن لا يعلم زمان حدوثهما ، فيحتمل تقدّم كلّ منهما على الآخر وتقارنهما ، فتستصحب حينئذ عدم كلّ منهما إلى زمان العلم بهما ويترتّب على كلّ منهما الحكم المترتّب عليه فكلّ حكم ترتّب على الكريّة لم يحكم به ، بل يحكم بما يترتّب على عدم الكريّة من جهة استصحاب عدمها.

كما أنّ كلّ حكم ترتّب على نجاسة الماء أيضا لم يحكم به ، بل يحكم بما ترتّب على عدمها ، فلو غسل بالماء المذكور متنجّس قبل زمان العلم بالكريّة والنّجاسة يحكم بطهارته إذا فرض ورود مائه عليه لا وروده عليه ، وإلّا فيحكم بنجاسته ونجاسة الماء المغسول به كما لا يخفى.

وأمّا الحكم بطهارة الماء ونجاسته ففيه وجهان مبنيّان ـ مع قطع النّظر عن إحراز إثبات التّقارن ـ على لزوم إحراز الكريّة في الحكم بعدم الانفعال قبل


ملاقاة النّجاسة ، أو لزوم إحراز القلّة في الحكم بالانفعال قبل ملاقاة النّجاسة. فعلى الأوّل : يحكم بنجاسته على تأمّل ، وعلى الثّاني بطهارته على تأمّل.

كما أنّه بناء على كون الكريّة مقتضية للاعتصام والقلّة مقتضية للانفعال بحيث لا يكون لأصل الملاقاة اقتضاء أصلا يحكم بطهارته أيضا لا من جهة إثبات التّقارن ، بل من جهة استصحاب طهارة الماء السّالم عن الأصل الحاكم عليه ، كما هو قضيّة الفرض.

ولو علم بوجود الحدث والطّهارة منه وشكّ في المقدّم منهما على الآخر فيحكم من جهة استصحاب عدم تقدّم كلّ منهما بالمعنى الّذي عرفت على حكم كلّ من عدم الحدث والطّهارة إن لم يلزم منه مخالفة قطعيّة ، ولازمه عدم جواز دخوله في الأعمال المشروطة بالطّهارة ، كما أنّ لازمه جواز الدّخول في الأعمال الممنوع من الدّخول فيها من جهة الحدث. هذا كلّه بناء على عدم القول بالأخذ بالضدّ في الشّك في تقدّم أحد الحادثين على الآخر ، وإلّا فحكمه لا يخفى على المتأمّل. وسيجيء ما هو تحقيق القول من المسلكين.

وكذا إذا شكّ كلّ من الرّجل والمرأة المتحاذيين في الصّلاة في تقدّم شروعه في الصّلاة على الآخر وتقدّمه عليه ، فيدفع بالأصل تقدّم الآخر عليه ويحكم بصحّة صلاته ـ بناء على كفاية هذا المقدار في صحّة الصّلاة ـ ولا تعارض بأصالة عدم وجود صلاته حين صلاة الآخر ؛ لعدم ترتّب أثر عليه كما لا يخفى ، هذا بالنّسبة إلى أنفسهما.

وأمّا بالنّسبة إلى غيرهما فلو أراد ترتّب أثر على صلاتهما الصّحيحة واقعا ، فلا يجوز له الحكم بصحّة صلاتهما كما لا يخفى ، بل صلاة أحدهما أيضا. ومثل


الفرض ما إذا شكّ في تقدّم إحدى الجمعتين على الأخرى.

نعم ، لو فرضنا القول بجواز إثبات التّقارن في مجهولي التّاريخ كان الحكم الفساد في المسألتين كما لا يخفى.

تنبيهان في مجهولي التاريخ

ثمّ إنّ هنا أمرين ينبغي التّنبيه عليهما :

الأوّل : أنّه هل يحكم بالتّقارن ويترتّب عليه جميع ما ترتّب عليه شرعا في المقام فيما يحتمل فيه التّقارن كما في المثال الأوّل إذا لم يعلم بتقدّم أحدهما الغير المعيّن ، لا المثال الثّاني ؛ فإنّه لا يحتمل فيه التّقارن أم لا؟ وجهان ، بل قولان مبنيّان على كونه من الأمور الغير الشّرعيّة فلا يجوز إثباته بالأصل ، وكونه من الوسائط الخفيّة ؛ حيث إنّ التّقارن عند العرف عبارة عن نفس عدم تقدّم أحد الحادثين على الآخر ؛ بحيث يحكمون من دون توقّف : بأنّ عدم الالتزام بحكمه نقض لحكم عدم وجود كلّ من الحادثين قبل الآخر.

وهذا هو الوجه بناء على ما عرفت : من التّفصيل في اعتبار الاستصحاب بالنّسبة إلى الآثار المترتّبة على المستصحب بواسطة بين كون الواسطة من الوسائط الخفيّة وغيرها فلعلّ ما بني الأمر عليه في « الرّوضة » لثاني الشّهيدين ( قدّس سرهما ) في مواضع من إثبات التّقارن ، مبنيّ على ذلك ، وإن احتمل ابتناؤه على القول باعتبار الأصول المثبتة ؛ نظرا إلى كون اعتبار الاستصحاب عنده من باب الظّن لا التّعبد.

ثمّ إنّه لا يعارض : بأنّ الأصل عدم التّقارن أيضا ؛ حيث إنّه على خلاف


الأصل ، لا لأنّ الشّك في التّقارن وعدمه مسبّب عن الشّك في تقدّم كلّ من الحادثين على الآخر وعدمه حتّى يمنع من ذلك ويقال : إنّ الشّك فيه في عرض الشّك المذكور وكلاهما مسبّبان عن الشّك في زمان الوجود قياسا على الآخر ، بل لما عرفت من أنّ التّقارن كالتّأخّر والتّقدّم من كيفيّات الوجود وأنحائه ، فلا يعقل أن يجري الأصل في نفسه على ما عرفت تفصيل القول فيه في أوّل المسألة.

فعلى ما ذكرنا يترتّب على الأصل المذكور جميع الآثار المترتّبة على تقارن الحادثين ، فيحكم :

في مسألة الشّك في تقدّم الكريّة والنّجاسة بنجاسة الماء ـ بناء على اشتراط سبق الكريّة في الاعتصام وكون الملاقاة بنفسها مقتضية ـ وفي الفرضين الأخيرين بفساد كلّ من الصّلاتين كما عرفت.

وفي مسألة الشّك في تقدّم رجوع الرّاهن عن الإذن في البيع بالصّحة ـ بناء على كون الإذن السّابق مقتضيا لصحّة البيع الواقع عن المرتهن ما لم يسبق بمنع من الرّاهن ورجوع منه ـ وبالفساد ـ بناء على كون الإذن السّابق مقتضيا للصحّة ـ إذا وقع البيع حال بقاء الإذن وعدم الرّجوع منه فالبيع المقارن للرّجوع إذن ملغى في نظر الشارع.

وهكذا الأمر في سائر المقامات ، فلا بدّ من أن يتأمّل الفقيه بحسب المقامات ويفرّق بين ما يترتّب على التّقارن شرعا ، وبين ما يترتّب على تأخّر أحد الحادثين عن الآخر.

الثّاني : أنّه لا يشترط فيما ذكرنا من الحكم بين مجهولي التّاريخ العلم التّفصيلي باجتماعهما في زمان من الأزمنة ، بل يكفي مجرّد احتمال اجتماعهما


في زمان من الأزمنة وإن قطع بارتفاعهما في زمان الحكم باستصحاب عدمها ، كما إذا علم بوقوع النّجاسة في الماء في أحد اليومين وحصول الكريّة له أيضا في أحدهما مع القطع بارتفاعهما من الماء في اليوم الثّالث ؛ فإنّه لا مانع من استصحاب عدم كلّ منهما لأحكامهما والأحكام المترتّبة على تقارنهما وهذا أمر واضح لا سترة فيه أصلا هذا مجمل الكلام في القسم الأوّل.


الكلام في القسم الثاني ( ما لو علم بتاريخ أحد الحادثين )

وأمّا الكلام في القسم الثّاني (١) : وهو ما لو علم بتاريخ أحد الحادثين ، أو

__________________

(١) قال المؤسس الأصولي الفقيه الرّباني الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وأمّا مع العلم بتاريخ أحدهما فيستصحب معلوم التاريخ ولا يعتدّ باحتمال طروّ الضدّ بعده ؛ بإنّ كلّا من التقدّم والتأخر والتقارن يدفع بالأصل حيث انه لا تلزم مخالفة عمليّة من مخالفة هذا العلم الإجمالي فلو علم بأنّه كان متطهّرا أوّل الزوال استصحب الطهارة.

وان علم بالحدث المردّد بين أن يكون واقعا قبله أو بعده فإن الأصل يجري بالنّسبة إلى خصوصيّات الزّمان ، فهذا الزمان الخاص لا يمكن أن يدفع عنه الطهارة لمكان العلم بتحقّقها فيه وأمّا الحدث فالأصل عدم وقوعه فيه.

ومنه يعلم حال العكس.

وتبيّن من هذا : انه إذا علم بملاقاة الماء مع النجاسة وكرّيّته ولم يعلم التاريخ حكم بالإنفعال لعدم إحراز المانع مع العلم بالسبب.

وأمّا إذا علم تاريخ القلّة ولم يعلم تاريخ الملاقاة حكم بالطهارة ؛ لأصالة عدم وقوع الملاقاة في هذا الزمان الخاص ، والأصل في السّببي حاكم عليه في المسبّب.

كما انه إذا علم تاريخ الملاقاة ولم يعلم تاريخ القلّة فانه يحكم ايضا فيه بالطهارة.

وأمّا إذا تاريخ الكثرة خاصّة أو تاريخ الملاقاة فيما كان قليلا مع عدم معرفة زمان الخروج عن القلّة إلى الكثرة فيحكم بالإنفعال كصورة الجهل بالتاريخ ، بل بالأولويّة.

ومن هذا الباب ما لو علم بإسلام أحد الوارثين في زمان موت المورّث دون الآخر لاشتباه زمان إسلامه وكفره مع العلم بإتّصافه بهما ؛ فانه يرث لعدم ثبوت اقتران المانع بتحقّق السبب.


بما يرجع إليه بحسب الحكم على ما عرفت ، فملخّصه :

أنّه لا إشكال بناء على ما عرفت : من عدم اعتبار الأصول المثبتة على ما هو قضيّة التّحقيق عندنا في جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى مجهول التّاريخ ، وترتيب جميع الأحكام المترتّبة على عدمه في الواقع عليه حتّى في زمان القطع بالحادث الآخر إن كان له حكم في الشّريعة دون الأحكام المترتّبة على تأخّره عن المعلوم التّاريخ. فإذا علم زمان غسل الثّوب النّجس بماء الحوض وشكّ في زمان حصول الكريّة ، فيستصحب حينئذ بقاء عدم الكريّة والقلّة إلى بعد زمان غسل الثّوب ، فيحكم حينئذ بنجاسة الثّوب : إمّا من جهة استصحاب القلّة وعدم

__________________

وأمّا إذا علمنا بانه كان كافرا فأسلم في زمان معيّن ولم نعلم تاريخ الموت ، فلا يرث لأصالة عدم وقوع الموت في هذا الزمان.

وإذا علمنا تاريخ خروجه عن الإسلام إلى الكفر ولم نعلم تاريخ الموت فيرث لأصالة عدم وقوع الموت حال الكفر. وإذا علم تاريخ الموت فمع الجهل بتاريخ حدوث الكفر يرث ومع الجهل بتاريخ الإسلام لا يرث.

وظهر ممّا حقّقنا : انّ ما ورد في الغرقى والمهدوم عليهم مخالف للقواعد وإلّا فمقتضي القاعدة اختلاف الحكم باختلاف العلم بتاريخ أحدهما أو الجهل به ، كما انّ الأصل مع احتمال التقارن عدم التوارث بينهما ومع العلم بسبق أحدهما القرعة ، أو أنّ المرجع قاعدة العدل والإنصاف على الخلاف.

وأمّا الجمعتان فمقتضي القاعدة الحكم بصحّة كلّ منهما حتى مع العلم بسبق إحداهما على الأخرى ؛ فانه من قبيل الإشتباه في المكلّف كواجدي المني في الثوب المشترك.

فتبيّن : انّ فروع الباب تختلف غاية الإختلاف ، فعليك بالتأمّل التام ؛ فإنه من مزالّ الأقدام.

وتحصّل ممّا حقّقنا : أنّ أصالة تأخّر الحادث من الأغلاط وإنّما الثابت هو عدم التقدّم » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٧٦ ـ ٢٧٧.


الكريّة في الماء ، أو من جهة استصحاب نجاسة نفسه.

وإذا علم زمان الكريّة وشكّ في تاريخ الملاقاة ، فيحكم باستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكريّة وبعده ، لكنّه لا ينفع إلّا للحكم بطهارة الماء فيحكم باستصحاب نجاسته.

نعم ، على القول : باعتبار الأصل المثبت يحكم بطهارة الثّوب أيضا.

وإذا علم بوجود الحدث عنه في زمان معيّن وشكّ في زمان الطّهارة أنّه قبل الحدث أو بعده ، فيحكم باستصحاب عدمه قبل زمان الحدث ، لكنّه لا ينفع إلّا لما ترتّب شرعا على نفس عدم الطّهارة في السّابق ، كفساد الصّلاة المأتي بها فيه على تأمّل ، فلا يثبت به طهارته حتّى يترتّب عليه جميع ما ترتّب شرعا على الطّهارة ، بل يحكم بمقتضى الأصل بعدم جواز الدّخول في الأعمال المشروطة بالطّهارة له كما لا يخفى.

نعم ، على القول : باعتبار الأصل المثبت يحكم بالحكم المذكور.

وإذا علم زمان الطّهارة وشك في زمان الحدث ، فيحكم باستصحاب عدمه لترتّب جميع ما رتّب عليه شرعا من الأحكام ، لا لترتيب جميع ما رتّب على تأخّره عن الطّهارة ، فلا يحكم بعدم جواز دخوله في الأعمال المشروطة بالطّهارة من جهة ، وإن جاء الحكم من جهة استصحاب الحدث لو فرض كون الحالة السّابقة على الحادثين هي الطّهارة بناء على الأخذ بالضدّ في المسألة ، أو قاعدة الاشتغال ، ولكنّه لا دخل له بمحطّ البحث كما هو واضح.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّ كلّ حكم شرعيّ يترتّب على عدم الحادث المجهول التّاريخ يجب ترتيبه عليه ، سواء كان قبل زمان معلوم التّاريخ ، أو مقارنه ،


أو بعده ، ولا يترتّب ما ترتّب شرعا على تأخّره عن المعلوم التّاريخ ، كما أنّه لا يترتّب على عدم معلوم التّاريخ في زمان وجود مجهول التّاريخ ما رتّب عليه من الآثار الشّرعيّة ؛ لعدم جريان الاستصحاب فيه بالنّسبة إلى عدمه حتّى يترتّب عليه حكمه باستصحابه ؛ لأنّ المستصحب : إمّا أصل الوجود ، أو وجوده في زمان الآخر.

أمّا الأوّل : فلا يعقل له معنى ؛ لأنّه قبل تاريخه معلوم العدم وفي زمانه مقطوع الوجود ، فلا شكّ في أصل وجوده حتّى يمكن استصحابه.

وأمّا الثّاني : فلأنّه وإن كان مشكوكا إلّا أنّه ليس له حالة سابقة ؛ لأنّ عدم وجوده في الأوّل في زمان الآخر من جهة السّالبة بانتفاء الموضوع.

نعم ، بناء على القول باعتبار الأصول المثبتة يمكن إجراء الأصل في الحادث الآخر وإثبات تأخّره عن المعلوم التّاريخ وتقدّمه وعدم كون وجوده في زمانه.

والقول : بأنّه يمكن إجراء الأصل في معلوم التّاريخ باعتبار الزّمان بأن يقال : إنّ الأصل عدم كون زمان وجوده زمان وجود الآخر ، فيثبت بذلك عدم وجوده في زمانه فيه ، وأصالة عدم كون زمان وجوده غير زمان الآخر لا يترتّب عليه أثر حتّى يصحّ الحكم بالمعارضة ، فيه ما لا يخفى.

ويمكن أن يقال : بمثل ما ذكرنا فيما يكون بحكم معلوم التّاريخ في الجملة ، كما لو لم يحتمل التّأخّر بالنّسبة إلى أحدهما معيّنا. هذا ملخّص ما يقتضيه التّحقيق في القسم الثّاني.


قولان آخران في القسم الثاني

ولكن يظهر من الأصحاب فيه قولان آخران بين إفراط وتفريط :

أحدهما : جريان الأصل في طرف مجهول التّاريخ وإثبات تأخّره عن معلوم التّاريخ ليترتّب عليه أحكام التّأخّر وهو المحكي عن ظاهر المشهور في كلام الأستاذ العلّامة ، منهم : الّذين أشار إليهم بأعيانهم فيه بالنّسبة إلى ما استظهر عنهم في بعض الموارد (١).

وهذا كما ترى ، ليس على ما ينبغي على ما عرفت منّا.

نعم ، كلّ من قال باعتبار الأصول المثبتة يلزمه الالتزام بالمقالة المذكورة ، فما حكي عن ظاهر المشهور في بعض الموارد بناء على ما بنوا عليه في الجملة : من اعتبار الأصول المثبتة في محلّه جزما كما لا يخفى ، وإن كان خلاف التّحقيق عندنا.

نعم ، يبقى الكلام في الموارد الّتي أطلقوا القول فيها بالتّوقف في صورة العلم بالحادثين من غير تفصيل بين العلم بتاريخ أحدهما والجهل به ، فهل يحمل على صورة الجهل بتاريخهما ـ نظرا إلى جعل تفصيلهم في بعض الموارد قرينة لإطلاقهم في بعض آخر ، حملا للنّص على الظّاهر سيّما بعد ملاحظة قول بعضهم بالتّفصيل فيما أطلقوا ـ أو يحمل على الاضطراب في كلماتهم؟ ـ كما كان الأمر

__________________

(١) كالشيخ في المبسوط : ٨ / ٢٧٣ ، وابن حمزة الطوسي في الوسيلة : ٢٢٥ ، والمحقق في الشرائع : ٤ / ١٢٠ ، والعلّامة في القواعد ( الطبعة الحجريّة ) ٢ / ٢٢٩ ، والشهيد الأوّل في الدروس : ٢ / ١٠٨ ، والشهيد الثاني في المسالك : ٢ / ٣١٩.


كذلك في أصل العمل بالأصول المثبتة بحسب الموارد على ما عرفت تفصيل القول فيه سابقا ـ وجهان كما في « الكتاب ».

والحقّ هو الثّاني ؛ لأنّه لا معنى لجعل مجرّد تفصيلهم في بعض الموارد قرينة لسائر الموارد ما لم يعلم من القرينة إرادة التّفصيل منهم سيّما بعد ملاحظة ما يشاهد من الاختلاف والاضطراب في كلماتهم.

وبالجملة : ليس المورد من موارد حمل الظّاهر على النّص كما لا يخفى ، سيّما إذا كان الإطلاق من بعض والتّفصيل من آخر خصوصا إذا كانا في مسألتين ، ولهذا ليس لنا أن ننسب إليهم التّفصيل فيما أطلقوا بحسب القول ، مع أنّ لازم الحمل المذكور ذلك كما لا يخفى.

وقد اعترف الأستاذ العلّامة بذلك ، ولهذا قال في مجلس البحث : إنّه لا يمكننا أن نعمل بأصالة التّأخّر فيما أطلقوا وإن قلنا باعتبار الأصل المثبت أيضا ، بل ذكر : أنّ العمل بالأصل في مجهول التّاريخ فيما أطلقوا القول فيه بالنّسبة إلى الحكم المترتّب على عدمه أيضا في غاية الإشكال ، وإن كان ما ذكره ( دام ظلّه ) لا يخلو عن إشكال ما لم يستظهر إجماع منهم في المسألة على العمل بخلاف الأصل ، فتبيّن ممّا ذكرنا فساد الوجه الأوّل هذا.

وقد يتأمّل فيما ذكره الأستاذ العلّامة من الجمع بين الوجهين ، وإن كان الثّاني مبنيّا على التّنزّل ؛ لأنّ الجزم بالأوّل ينافي الثّاني وإن كان على الوجه المذكور فتأمّل.


نقل كلام صاحب الجواهر والمناقشة فيه

ثانيهما : ما يظهر من بعض مشايخنا (١) تبعا لبعض الأساطين (٢) حسب ما استظهره الأستاذ من كلامه الّذي ستقف عليه : من عدم العمل بالأصل في مجهول التّاريخ مطلقا حتّى بالنّسبة إلى الأحكام المترتّبة على نفس مجرى الأصل ؛ حيث قال ـ في ذيل جملة كلام له في باب الرّهن في مسألة اختلاف الرّاهن والمرتهن في تقدّم الرّجوع عن الإذن في البيع على البيع وتأخّره عنه ـ ما هذا لفظه :

« نعم ، يبقى شيء أشار إليه في « الدّروس » و « الحواشي » وتبعه عليه غيره ، وهو : أنّ كلام الأصحاب يتمّ فيما إذا أطلق الدّعويان ولم يعيّنا وقتا للبيع أو الرّجوع ، وأمّا إذا عيّنا وقتا واختلفا في الآخر فلا يتمّ ؛ لأنّهما إذا اتّفقا على وقوع البيع يوم الجمعة مثلا واختلفا في تقديم الرّجوع عليه وعدمه ، فالأصل التّأخّر وعدم التقدّم ، فيكون القول قول الرّاهن. وينعكس الحكم لو اتّفقا على عدم تقدّم وقت الرّجوع واختلفا في تقديم البيع عليه وعدمه ، وهذه مسألة تأخّر مجهول التّاريخ عن معلومه ، وقد حقّقنا الكلام فيها في مقام آخر ، ولعلّ إطلاق الأصحاب هنا ، وفي مسألة الجمعتين ، ومسألة من اشتبه موتهم في التّقدم والتّأخر ، ومسألة

__________________

(١) بطل الجواهر الشيخ محمّد حسن النجفي أعلى الله مقامه الشريف المتوفي سنة ١٢٦٦ ه‍ أنظر الجواهر : ٢٥ / ٢٦٩ و ٢ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

(٢) الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء المتوفي سنة ١٢٢٨ ه‍ ، أنظر كشف الغطاء : ٢ / ١٠٢.


تيقّن الطّهارة والحدث وغيرها شاهد على أنّ أصالة التّأخّر إنّما تقضي بالتّأخّر على الإطلاق لا بالتّأخّر عن الآخر ومسبوقيّته به ؛ إذ وصف السّبق حادث والأصل عدمه ، فيرجع ذلك إلى الأصول المثبتة وهي منتفية ، فأصالة الرّهن هنا حينئذ بحالها ، إلّا أنّ الإنصاف عدم خلوّ ذلك عن البحث والنّظر خصوصا في المقام » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ مورد استفادة هذا المطلب منه ليس إلّا استشهاده بإطلاق كلمات الأصحاب في المسائل المذكورة حسب ما اعترف به الأستاذ العلّامة ، ولكنّه لا يخفى عليك أنّ كلامه بعد التّأمّل وإعطاء حقّ النّظر فيه كالصّريح في أنّ مقصوده نفي الآثار المترتّبة على تأخّر أحد الحادثين عن الآخر ، وأنّه إنّما استشهد بكلماتهم لذلك على ما يشهد به قوله : « إنّما تقتضي بالتّأخّر على الإطلاق لا بالتّأخّر عن الآخر » (٢) لا لنفي الآثار المترتّبة على عدم أحد الحادثين.

كيف؟ وهو سلّم اقتضاء الأصل المذكور التّأخر على الإطلاق بالمعنى الّذي عرفته منّا في المراد من أصالة التّأخّر ، هذا كلّه. مع أنّ ما نقله من الأصحاب واستشهد به إنّما يكون مبنيّا على مجرّد الاحتمال على ما يشهد به لفظة « لعلّ » سيّما بعد ملاحظة ذيل كلامه فلاحظ وتأمّل.

ثمّ إنّه على تقدير القول بهذه المقالة لا إشكال في ظهور فساده ممّا ذكرنا وفصّلنا القول فيه.

__________________

(١) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام : ج ٢٥ / ٢٦٩.

(٢) نفس المصدر.


تنبيهان

وينبغي التّنبيه على أمرين :

الأوّل : أنّه قد يوجد شيء في زمان ويشكّ في مبدئه ، فيحكم بتقدّمه من جهة أصالة التّقدّم وتشابه الأزمان. وقد يسمّى ذلك بالاستصحاب القهقرى مجازا ، وقد عرفت في طيّ كلماتنا السّابقة : أنّ هذا المعنى غير معتبر عندنا ، وأنّه لا دخل له بالاستصحاب موضوعا ، بل هو على عكس الاستصحاب كما لا يخفى.

نعم ، قد يكون تأخّره ملازما لحدوث حادث آخر قبله فبأصالة عدم حدوثه يحكم بتقدّمه.

فإن كان فيما نقول باعتبار الأصول المثبتة فيه كما في باب الألفاظ فلا إشكال في العمل عليه ، كما إذا شكّ في الوضع اللّغوي بعد العلم بالوضع العرفي ، ولكنّه لا دخل له بالاستصحاب القهقري ، بل ولا دخل له بالاستصحاب. فإنّك قد عرفت : أنّ اعتبار الأصول اللّفظيّة لا دخل له بمسألة الاستصحاب ، بل من باب بناء العقلاء عليها من جهة الظّن.

وإن كان فيما لا نقول باعتبار الأصل المثبت فيه ، فلا إشكال في عدم جواز العمل عليه.

وممّا ذكرنا كلّه تعرف النّظر فيما ذكره الأستاذ العلّامة ؛ فإنّ إثبات التقدّم بأصالة عدم وجود الحادث الآخر الّذي يكون الشّك في التّقدم مسبّبا عنه لا دخل له بالاستصحاب القهقرى كما لا يخفى.

الثّاني : أنّ ما ذكرنا كلّه من الحكم في الشّك في الحادثين إنّما هو مع قطع


النّظر عن الحالة السّابقة قبل العلم بهما ، أي : من حيث اقتضاء نفس الشّك في التّقدّم والتّأخر ؛ إذ هو محطّ البحث في الشّك في الحادث كما لا يخفى.

وأمّا إذا فرض وجود الحالة السّابقة هناك ـ كما فيما علم بصدور حدث وطهارة منه وشكّ في المقدّم منهما مع العلم بكون الحالة السّابقة الطّهارة أو الحدث. وكما فيما غسل الثّوب النّجس بماءين يعلم بطهارة أحدهما ونجاسة الآخر إلى غير ذلك ـ فهل يؤخذ بمقتضى الحالة السّابقة ، أو يؤخذ بخلافها وضدّها ، أو لا يؤخذ بشيء منهما ، بل يرجع إلى الأصول ، أو يفصّل بين العلم بتاريخ أحدهما والجهل بتاريخهما فيؤخذ في الأوّل بالثّاني ، وفي الثّاني بالأوّل؟ وجوه بل أقوال.

في الجملة قد يقال : بأنّ الأوجه ثاني الوجوه ؛ لأنّ مقتضى العلم بوجود الحادثين اللّذين يقتضي أحدهما رفع الحالة السّابقة العلم بارتفاعها ووجود ضدّها ، ولمّا لم يعلم تقدّمه على ما يقتضي حدوث مثل الحالة السّابقة في المحلّ القابل وتأخّره عنه ، فيشكّ من أجل هذا الشّك في ارتفاع الضدّ فيستصحب وجوده.

فإن قلت : قد ذكرت غير مرّة : أنّه يعتبر في الاستصحاب تقدّم زمان المتيقّن على الزّمان المشكوك وتغاير زمانيهما ، وإن اتّحد زمان نفس الوصفين ، وهذا المعنى غير موجود في المقام ؛ لأنّ الّذي تعلّق به العلم هو وجود الضدّ إمّا قبل ما يكون على طبق الحالة السّابقة ، أو بعده ؛ لأنّ هذا المقدار هو القدر المتيقّن ، فيحتمل وجوده في نفس زمان الشّك ، فكيف يحكم مع ذلك بإجراء الاستصحاب فيه؟

قلت : لا إشكال في وجود المعنى المذكور في المقام أيضا ؛ ضرورة أنّ


المشكوك هو ارتفاع الضّد بعد طروّه على المحلّ ، وإلّا لكان الشّك من الشّك السّاري ، مع أنّ من المشاهد بالوجدان وجود اليقين والشّك معا ، فلو لم يتأخّر زمان المشكوك عن المتيقّن لم يمكن اجتماعهما.

والحاصل : أنّ المشكوك ارتفاع الضّد بعد حصوله قطعا ومن المعلوم بداهة أنّ زمان الارتفاع بعد زمان الوجود فتأمّل.

نعم ، لو بني على اعتبار أصالة التّأخر لزم الأخذ على طبق الحالة السّابقة فيما إذا فرض العلم بتاريخ المخالف لها وشك في مبدأ زمان الموافق لها ، فيحكم بمقتضى أصالة التّأخّر على كون زمانه مؤخّرا عن زمان المخالف ، لكن قد عرفت ما في هذا البناء.

ووجه البناء على الحالة السّابقة مطلقا هو تعارض الأصلين ، أي : أصالة عدم وجود كلّ منهما في زمان الآخر وتقدّمه عليه حتّى فيما لو كان أحدهما معلوم التّاريخ ـ بناء على التّوهم الّذي عرفته : من إجراء الأصل في طرف المعلوم أيضا ـ فيتساقطان ، فيبقى الحالة السّابقة سليمة عن الرّافع والأخذ بها سالما عن المعارض هذا وفيه ما لا يخفى.

ووجه البناء على الرّجوع إلى الأصول مطلقا : هو العلم بارتفاع الحالة السّابقة وتساقط الأصلين بعد تعارضهما وعدم جواز الأخذ بالحالة السّابقة أيضا ، لما عرفت في السّؤال الّذي أوردناه على المختار ، فيلزمه الرّجوع إلى سائر الأصول. وفيه أيضا ما لا يخفى ، ووجه التّفصيل مع جوابه أيضا ممّا لا خفاء فيه.

(٢٥٦) قوله : ( نعم ، لو وقع فيه في كلّ من اليومين حكم بطهارته من باب انغسال


الثّوب بماءين مشتبهين ). ( ج ٣ / ٢٤٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الحكم بالطّهارة في الفرض من جهة حصول العلم بها على كلّ تقدير ، ولا تعلّق له بغسل الثّوب النّجس بماءين مشتبهين بالنّجس الّذي وقع فيه الخلاف المعروف ، ويجري فيه الوجوه والأقوال الّتي عرفت الإشارة إليها في كلامنا أخيرا في طيّ الأمر الثّاني. وتنزيل الكلام على انغسال الثّوب بماءين مشتبهين بالمضاف لا تساعده العبارة ونظائرها ؛ فإنّ حقّ التّعبير على تقدير إرادة ما ذكر في التّوجيه أن يقال ـ بدل القول المذكور ـ : نظير الغسل بالمشتبهين بالمضاف ونحو ذلك ، ممّا يرجع إلى تشبيه المقام بالمشتبهين بالمضاف ، لا جعله من بابه. فالتّعبير بما ذكر قرينة واضحة على إرادة المشتبهين بالنّجس كما لا يخفى.

والقول : بأنّ الغرض جعل الفرض من أمثلة انغسال الثّوب النّجس بالماءين المشتبهين بالنّجس مع عدم فرض نجاسة الماء في الفرض أصلا من حيث العلم بزوال النّجاسة الأوّلية من الثّوب وإن كانت الطّهارة الفعليّة مشكوكة ، ممّا يضحك به الثّكلى كما لا يخفى ، فالاعتراف بكونه سهوا من قلمه الشّريف أولى من هذه التّوجيهات الباردة المضحكة.


* التنبيه الثامن :

في استصحاب صحّة العبادة عند الشك في طروّ المفسد (١)

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« انه قد اشتهر التمسّك باستصحاب الصحّة عند الشك في طروّ المفسد بين الأساطين كالشيخ والحلّي والمحقق والعلّامة قدس‌سرهم.

ولا ريب في انه من أظهر مجاري هذا الأصل ؛ فإنّ طروّ الفساد على العمل مما لا إشكال في إمكانه ، وعليه يبتني حرمة الإبطال التي لا مورد لها إلّا أثناء العمل ، والصحّة ضدّ الفساد ، ولا فرق بين استصحاب عدم طروّ المفسد وبين استصحاب الصحّة.

وما وقعت من الوسوسة في هذا الأصل لا يصغى إليها ومنشأها : ما اشتهر : من أنّ الصحّة إمّا موافقة الأمر ، وإمّا ترتّب الأثر.

أمّا الأوّل : فإن كان بالنّظر إلى ما تعلّق بالمجموع فلم يتحقّق وبعد تحقّقه يستحيل زواله ، وإن كان بالنّظر إلى الأمر المتعلّق بالأجزاء فيستحيل أن تخرج عمّا وقعت عليه.

أمّا الثاني : فكون الجزء بحيث يلتئم منه الكلّ بانضمام سائر الأجزاء لا ينفع إذا كان الشك في اعتبار شيء وجودا أو عدما في المركّب ، ولا مناص عن نفي اعتباره بأصالة العدم أو أصالة البراءة.

وبالجملة : تحقّق المركّب وفراغ الذمّة من التكليف به ليس من آثار صحّة الأجزاء المحقّقة ؛ فإنّها أعمّ.

وتندفع : بانه لا إشكال في خروج الأجزاء عن الصلوح للإنضمام من جهة طروّ المفسد ، ولا إشكال في ان هذه الجهة طارية يعوّل على الأصل في الحكم بعدمها » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٧٨.


(٢٥٧) قوله ( دام ظلّه ) : ( قد يستصحب صحّة العبادة عند الشّك في طروّ مفسد كفقد ما يشكّ في اعتبار وجوده في العبادة أو وجود ما يشكّ ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٥٥ )

__________________

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« إعلم أوّلا : ان الكلام هنا ممحّض في صحّة إجراء استصحاب الصحّة مع الإغماض عن الأصول الأخر لو كانت جارية كالبراءة وقاعدة التجاوز ونحوها.

فنقول : قد يقال : إنّ الفعل المركّب المأمور به لا يتصف بوصفف الصحة الّا بعد كمالها تام الأجزاء والشرائط وفي أثناء العمل لا يتصف بصحة ولا فساد ، وهذا الاحتمال بعيد في الغاية ، لأن الامتثال وموافقة الأمر يحصل بالشروع في المركّب شيئا فشيئا إلى أن ، يتمّه بشهادة العقل والعرف.

وقد يقال : إنّ وصف الصحة يعرض لأجزاء المركّب من أوّل الشروع فيه شيئا فشيئا إلّا أنه لا يعلم به بعد تمام العمل ، لأنّ صحّة كلّ جزء مشروطة بانضمام باقي الأجزاء صحيحا إليه ، وحيث إنّه لا يعلم المكلّف بذلك لا يمكنه الحكم باتصاف أجزاء العمل بالصحة إلّا بعد تمامه.

وقد يقال : إنّ كل جزء يوجد يتصف بالصحة في حدّ نفسه من غير توقّف على وجود الأجزاء التالية.

ولا يخفى أنه لا وجه لدعوى جريان استصحاب الصحة في اثناء العمل على الاحتمال الأوّل ، لأنّ وصف الصحة قبل تمام العمل مقطوع العدم على هذا الاحتمال ، وكذا على الإحتمال الثاني لفرض عدم تحقق اليقين بالصحة إلّا بعد تمام العمل فلا متيقن في اثناء العمل حتى يمكن استصحابه ، فانحصر صحة دعوى جريان الاستصحاب في الاحتمال الثالث لأنه بوجود كل جزء نحكم بوصفه بالصحة واقعا بالفرض ، ويمكن أن يشك في الصحة فيما بعده ونقول فيه إنّ المفسد المحتمل قد يكون إفساده بمعنى أنّه مانع عن صحّة الأجزاء


أقول : التمسّك باستصحاب الصّحة قد يكون في الشّك في المانعيّة وجودا أو منعا ، وقد يكون في الشّك في القاطعيّة وجودا أو قطعا ، وقد يكون في الشّك في الجزئية والشّرطيّة ، وقد يكون في الشّك في الرّكنيّة بعد ثبوت أصل الجزئيّة في

__________________

الباقية كما يظهر من المتن ، وقد يكون بمعنى أنه مزيل لوصف الصحة عن الأجزاء الماضية ، وقد يكون بمعنى أنّه مزيل لصحة الأجزاء الماضية مانع عن صحّة الأجزاء التالية ، فإن كان الثاني فلا مانع من جريان استصحاب الصحة عند الشك فيها لفقد ما يشك في شرطيته أو وجود ما يشك في ما نعيته ، وإن كان الأوّل فلا معنى لاستصحاب الصحة عند الشك للعلم بصحة الأجزاء الماضية ، وإنما الشك في وجود الصحة بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة ، فليس هناك شيء يمكن استصحابه كما بيّنه في المتن.

وأمّا على الثالث ، فإنه وإن أمكن إجراء استصحاب الصحّة أعنى صحة الأجزاء السابقة إلّا أنه لا يفيد بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة للزوم إحراز صحتها أيضا وهي مشكوكة من الأصل.

والحاصل : أنه يمكن إجراء استصحاب الصحة على بعض الوجوه ، فيمكن حمل كلام من تمسك به على ذلك الوجه.

لكن الإنصاف عدم جريانه لما عرفت من انحصار مورد جريانه بما إذا شك في الفساد بالمعنى الثاني ، ولا نعلم له مصداقا في الشرعيّات في الصوم والصلاة والحج ونحوها ، إذ ما علم لنا من مفسداتها أو شك فيه مردّد بين كونه مفسدا للسابق فقط أو اللاحق فقط أو هما معا ، والاستصحاب لا يجري إلّا إذا علمنا بأنه من القسم الأول ولم نعلم به.

ثم لا يخفي أنّ الحق من الوجوه الثلاثة المتقدمة لاتصاف العمل بوصف الصحة هو الوجه الثاني ، لأنّ الكلام في المركّب الارتباطي ، ولا معنى للارتباط سوى توقّف صحّة كلّ جزء منه على وجود الآخر وصحته ، وقد عرفت أنه لا معنى لاستصحاب الصحة على ذلك الوجه ، وقد ظهر مما ذكرنا : أنّ المصنّف في اختياره عدم جريان استصحاب الصحة بنى الأمر على الوجه الأوّل من الاحتمال الثالث بدعوى عدم معقوليّة الوجهين الآخرين » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٢٩٥ ـ ٢٩٧.


الشّريعة في الجملة.

وذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) : أنّ المعروف بين الأصحاب سيّما القدماء هو التّمسك بالأصل المذكور في الشّك في المانع والقاطع سواء كان في الشّبهة الموضوعيّة أو الحكميّة ، وأمّا التمسّك به في سائر الموارد ؛ فإنّما يوجد في كلام من تأخّر منهم سيّما في الشّك في أصل الجزئيّة والشّرطية ، ولكن الّذي يظهر منهم : هو التّمسك به في الشّبهة الحكميّة لا الموضوعيّة ؛ إذ هو ممّا لا معنى له كما لا يخفى.

ثمّ طريق التمسّك به في غير الشّك في الجزئية والشّرطيّة وكيفيّة الاستدلال به ظاهر ، وأمّا كيفيّة التّمسك به في الشّك في الجزئية فهي : بأن يفرض دخول المكلّف فيما بعد المشكوك من الأجزاء المعلومة غفلة عن المشكوك ، ثمّ بعد الدّخول فيما بعده التفت إلى الحال ، فيحكم هنا باستصحاب الصّحة وعدم جزئيّة المشكوك ويلحق صورة الالتفات به بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

والوجه في كون كيفيّة التمسّك به ما ذكرنا هو : أنّه لا معنى للتمسّك به في صورة الالتفات ؛ إذ قبل دخوله فيما بعد المشكوك لا يتحقّق مورد للتمسك بالأصل المذكور للقطع ببقاء الصّحة ، وبعد الدّخول فيه يقطع بفساد صلاته : من جهة عدم تمكّنه من إحراز الأمر بالنّسبة إلى الجزء الدّاخل فيه والحال هذه ، فتدبّر.

ثمّ إنّ حكم غير الشّك في القاطعيّة لمّا كان حكم الشّك في المانعيّة فبالحريّ أن نحرّر البحث في مقامين :

أحدهما : في حكم الشّك في المانعيّة وما يشاركه في الحكم.

ثانيهما : في حكم الشّك في القاطعيّة والمبطليّة ، مقدّما للبحث عن الفرق بين المانع والقاطع مفهوما على البحث عن الحكم فيهما ، فنقول :


المراد من المانع هو ما يمنع بوجوده عن تحقّق أصل ماهيّة العبادة من غير أن يكون له مدخل بخصوص جزء من الأجزاء فيكون عدمه معتبرا في الماهيّة كاعتبار وجود الأجزاء والشّرائط فيها بمعنى كونه في عرضها.

وأمّا المراد بالقاطع فهو ما يمنع بوجوده عن الهيئة الاتصاليّة المعتبرة بين الأجزاء عند الشارع ، ويقطع الأجزاء بعضها عن بعض ، ويرفع قابليّة اتّصال كلّ منها بالآخر ؛ فإنّا علمنا من إطلاق الشارع على بعض الأشياء بالقاطع ، والمبطل ، والنّاقض : أنّ للعبادة هيئة اتّصاليّة في نظر الشارع لا يعلم حقيقتها غيره يرفعها بعض الأشياء وإن كان قليلا كالتّكلّم ولو بحرف ، وشرب الماء ولو بقطرة ، ولا يرفعها بعض آخر وإن كان في نظرنا أولى بالرّفع من غيره الرّافع كالتّجشّؤ ، فإذن يمكن الشّك في اتّصاف بعض الأشياء بهذا المعنى.

وإن شئت قلت : في بيان الفرق بينهما : إنّ المانع ما له تأثير في أصل المادّة ، ولهذا يكون عدمه معتبرا فيها. والقاطع ما له تأثير في الصّورة ، أي : الجزء الصّوري. أعني : الاتّصال المعتبر في نظر الشّارع بين كلّ جزء ولا حقه بحيث يكون له مدخل في أصل قابليّة الأجزاء للجزئية والتّركيب وحصول الكلّ من اجتماعها. هذا مجمل الفرق بينهما بحسب المفهوم ، وأمّا تشخيص المصداق فهو بنظر الفقيه والرّجوع إلى الأدلّة كما هو واضح.


حكم الشك في المانعيّة (١)

إذا عرفت هذا فنقول :

أمّا المقام الأوّل : فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه وعدم تعقّله سواء جعل المستصحب صحّة المجموع ، أو الأجزاء السّابقة.

أمّا الأوّل : فظاهر ؛ لأنّ المفروض عدم حصول الكلّ قطعا ، فكيف يستصحب صحّته؟

والحاصل : أنّ مفروض البحث وقوع الشّك في أثناء العمل ، فمعه لا يعقل وجود الكلّ حتّى يستصحب صحّته ، هذا إن أريد بالصّحة المستصحبة الصّحة المنجّزة ، وإن أريد بها الصّحة التّقديريّة بأن يقال : قبل وجود هذا المشكوك لو أتي بمجموع الأجزاء والشّرائط كان موجبا لامتثال الأمر المتعلّق بالمركّب ، والأصل بقاؤه ، فكذلك أيضا قبل الإتيان بالمجموع ؛ لأنّ المفروض الشّك في اعتبار المشكوك في أصل الماهيّة ، فكيف يمكن مع هذا فرض صحّة للباقي؟

وبالجملة : إجراء الاستصحاب في الكلّ في الفرض ممّا لا يعقل له معنى ولم يدّعه أحد أيضا.

وأمّا الثّاني : فللقطع ببقاء صحّة الأجزاء السّابقة ولو مع ترك ما يقطع بجزئيّته ، أو فعل ما يقطع بمانعيّته فضلا عن المقام ؛ لأنّ المراد من صحّة الأجزاء السّابقة إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها من حيث إنّها جزء للمركّب المأمور به ، أو ترتيب الأثر عليها. وعلى أيّ من المعنيين لا معنى لإجراء الاستصحاب فيها.

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


أمّا على الأوّل : فلأنّ المفروض وقوع الأجزاء السّابقة على طبق الأمر بها ، وعدم مدخليّة وجود سائر ما يعتبر في العبادة في المعنى المذكور ؛ لأنّ وقوع كلّ جزء على طبق الأمر المتعلّق به لا يتوقّف على وجود غيره ممّا يعتبر في تحقّق الكلّ ، وإلّا لزم كونه كلّا وخروجه عن الجزئيّة ، وهو خلف.

فلا يعقل بعد فرض الموافقة صيرورتها مخالفة للأمر المتعلّق بها لاستحالة انقلاب الشّيء عمّا وقع عليه ـ حسب ما هو قضيّة العقل على سبيل البداهة ـ هذا. مع أنّه لو فرض احتمال مدخليّة المشكوك في وقوع الواقع على طبق الأمر المتعلّق به لم يعقل مع الاستصحاب أيضا ؛ لتعلّق الشّك حينئذ بنفس الحالة السّابقة وسرايته إليها فإذن لا بدّ لمن يريد الاستصحاب أن يحرز عدم اعتبار المشكوك في وقوع الأجزاء السّابقة على طبق الأمر المتعلّق بها كما لا يخفى.

وأمّا على الثّاني : فلأنّ الأثر المقصود من الجزء من حيث إنّه جزء ليس إلّا كونه بحيث لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في تحقّق الكلّ لتحقّق الكلّ ، كما أنّ فساده كونه بحيث لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في الكلّ لم يتحقّق الكلّ. فإذا قرأ المكلّف الحمد في الصّلاة على الوجه المقرّر في الشّريعة : من مراعاة القراءة وغيرها ممّا يعتبر فيها ، فهو حينئذ بحيث لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في الصّلاة لحقّقت الصّلاة ووجدت في الخارج سواء وجد بعده تمام ما يعتبر في تمام الصّلاة أو لا ؛ ضرورة عدم توقّف صدق الشّرطيّة على الشّرط. وإذا قرأه غير مراع لما اعتبر فيه فهو ليس بهذه المثابة وهكذا الأمر في غيره من الأجزاء.

وما ذكرنا في معنى الصّحة على التّقدير الثّاني ممّا لا شبهة فيه ؛ لأنّه لا يعقل أن يقال : إنّ أثر الجزء من حيث إنّه جزء تحقّق الكلّ به وإلّا لزم الخلف كما لا


يخفى ، وهو محال. فإذا وجد الجزء بالصّفة المذكورة فلا يعقل أن يصير ترك جزء آخر ، أو وجود المانع من أصل العمل سببا لرفع الصّفة المذكورة عنه ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ صحّة الجزء بالمعنى المذكور مرجعها إلى قضيّة شرطيّة لا ينافي صدقها مع القطع بكذب الشّرط ، فإذا كان هذا حال ما يقطع بجزئيّته ومانعيّته ، فكيف بحال المشكوك؟ هذا.

مع أنّه لو فرض احتمال مدخليّة المشكوك في ترتّب الأثر على الجزء بمعنى كونه مشروطا به لسرى الشّك اللّاحق إلى أصل المتيقّن على ما عرفت.

فإن قلت : من معاني الصّحة إسقاط الإعادة وهو ممّا يقبل الاستصحاب ، وإلّا لزم عدم إعادة الأجزاء السّابقة في صورة ترك الجزء عمدا أو إيجاد المانع كذلك وهو خلاف الإجماع ، بل الضّرورة ، فإذا شكّ في مانعيّة شيء فيستصحب هذا المعنى.

قلت : الصّحة بهذا المعنى من لوازم الصّحة بالمعنى الأوّل ؛ لأنّ موافقة الجزء للأمر المتعلّق به يلزمها سقوطه ؛ ضرورة اقتضاء كلّ أمر للأجزاء بالنّسبة إليه ، فإعادة الأجزاء لا يمكن أن يستند إليها بعد فرض تحقّقها على وجهها.

نعم ، قد يجب إعادتها من جهة وجود القاطع لها حسب ما ستقف عليه في المقام الثّاني.

فإن قلت : بناء على ما ذكرت يلزم عدم عروض البطلان للأجزاء السّابقة بعد فرض وجودها على الوجه المطلوب أصلا إلى يوم القيامة ، مع أنّ من المعروف في النّص والفتوى إطلاق المبطل على كثير من الأمور ، ولا يمكن أن يعتبر نسبة البطلان إلى الصّلاة حيث إنّ المفروض عدم وجودها.


قلت : نلتزم بذلك فيما لا يكون البطلان من جهة وجود القاطع الرّافع للاتّصال المعتبر عند الشارع بين الأجزاء ، ومعنى بطلان الأجزاء السّابقة هو : عدم حصول الكلّ على تقدير انضمام سائر الأجزاء إليها من جهة عدم انضمام تمام ما يعتبر فيه إليها ، فليس النّقض من جهتها بل من جهة غيرها ، فنسبة البطلان إليها حقيقة مبنيّة على التّسامح. وأمّا إعادتها حينئذ فإنّما هي من جهة حصول قدح في أصل المادّة : من جهة وجود المانع الّذي اعتبر عدمه فيها فتدبّر.

هذا مجمل القول بالنّسبة إلى المقام الأوّل.

استصحاب الصحّة عند الشك في القاطعيّة

وأمّا الكلام في المقام الثّاني ، فالّذي بنى عليه الأستاذ العلّامة في « الكتاب » وفي مجلس البحث هو جريان الاستصحاب فيه واعتباره ؛ لأنّ المفروض أنّ القاطع بوجوده يمنع من وجود الهيئة المعتبرة في أصل قابليّة الجزء للجزئيّة ، فهو بوجوده يرفع القابليّة المفروضة للأجزاء القائمة بها المعتبر تحقّقها في صحّة الجزء ، فمع الشّك في وجوده يشكّ في ارتفاع القابليّة والهيئة فيبنى على بقاء القابليّة : إمّا من جهة استصحابها ، أو استصحاب الهيئة ، أو استصحاب عدم الرّافع لها.

والحاصل : أنّه لمّا كان بمقتضى الفرض اعتبار عدم القاطع في بقاء صحّة الأجزاء السّابقة على حالها من جهة اعتبار أمر فيها يلزمه رفعه ، نظير ما إذا اعتبر في قابليّة الخلّ لصيرورته جزءا للسّكنجبين وتحقّقه به كونه على صفة يرفعها بعض الأشياء إذا ألقي في الخلّ بعد فرض وجودها على الصّفة المعتبرة ، فإذا شكّ


في وجوده فلا محالة يقع الشّك في بقاء صحّة الأجزاء السّابقة ، فالشّك في تحقّق الكلّ حينئذ ليس من جهة الشّك في انضمام تمام ما يعتبر إليها ، بل من جهة الشّك الرّاجع إليها ؛ لأنّ المفروض عدم اعتبار عدم القاطع في أصل المادّة ، بل اعتباره في تحقّق الاتّصال المعتبر في الأجزاء ، فهو وإن كان معتبرا في الماهيّة أيضا ، إلّا أنّ اعتباره فيها من جهة قدحه في الجزء الصّوري المعتبر بين الأجزاء ، فاعتباره فيها إنّما هو بالعرض لا بالذّات.

وبالجملة : مقتضى الفرض في المقام رفع الصّحة للأجزاء السّابقة بوجود القاطع من جهة اعتبار عدمه في وصف معتبر في الجزء ، ومقتضى الفرض في المقام الأوّل عدم قدح الموجود أو المعدوم في صحّة الأجزاء.

فإن قلت : مقتضى ما ذكرت : من البيان سريان الشّك في القاطع إلى الشّك في أصل المتيقّن ؛ حيث إنّ المفروض اعتبار عدم القاطع في أصل صحّة الأجزاء ، ومع هذا المعنى لا يجري الاستصحاب على ما اعترفت به غير مرّة.

قلت : مقتضى ما ذكرنا قدح القاطع في الأجزاء السّابقة بمعنى رفعه لصحّتها وقابليّة انضمامها لسائر الأجزاء بعد فرض وجودها على تلك القابليّة من أوّل الأمر ، فالاتّصال المعتبر في نظر الشارع بين الأجزاء ليس معتبرا في أصل صحّتها بل في بقائها على حالها فتأمّل.

فإن قلت : كيف تستصحب الهيئة الاتّصاليّة مع أنّها قائمة بالطّرفين والمفروض عدم وجود أحدهما؟ والقابليّة وإن كانت قائمة بكلّ من الطّرفين إلّا أنّ استصحابها غير مجد أيضا ؛ لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليه ؛ لأنّ المقصود من استصحابها هو إثبات بقائها على الوجه الّذي كان عليه من تحقّق الكلّ به على


تقدير انضمام تمام ما يعتبر فيه إليه.

ومن المعلوم أنّ هذا المعنى ليس من الأمور الشّرعيّة.

ومنه يظهر فساد استصحاب عدم القاطع ، بل هو أشدّ فسادا ؛ لأنّ المقصود منه إثبات القابليّة المترتّب عليها تحقّق الكلّ فالاستصحابات المذكورة بأسرها غير جارية : إمّا من جهة عدم المتيقّن السّابق كما في استصحاب الهيئة ، أو من جهة عدم الأثر الشّرعي كما في الأخيرين هذا. مع أنّه لو فرض جريان الأوّلين أو الثّاني لم يكن معنى لاستصحابها ؛ لأنّ الشّك فيها مسبّب عن الشّك في وجود القاطع ، كما أنّ الشّك في الثّاني مسبّب عن الشّك في الأوّل أيضا كما لا يخفى.

قلت : أمّا الهيئة : فهي وإن كانت قائمة بالطّرفين ولا يجوز استصحابها بناء على الدّقة ؛ لعدم وجودها قبل تحقّق الجزء اللّاحق ، لفرض كونها أمرا نسبيّا قائما بالجزءين ، إلّا أن المكلّف لمّا كان عازما على إيجاد الأجزاء اللّاحقة فكأنّها موجودة فعلا بحكم العرف وتنزيله ، فيكون الأمر القائم بها أيضا موجودة بهذه الملاحظة ، فالهيئة وإن لم تكن متيقّن الوجود سابقا بالنّظر إلى الدّقة ، إلّا أنّها متيقّن الوجود بحكم العرف ، وهذا المقدار يكفي في إجراء الاستصحاب ، كما في نظائر المقام مثل استصحاب الكريّة ، والقلّة ، واستصحاب الزّمان ، ونحوها من الاستصحابات المسلّمة بين المثبتين.

لا يقال : لو كان الأمر كما ذكرت يلزمك القول بجريان استصحاب الصّحة في المقام الأوّل أيضا ؛ فإنّ وجود المانع وترك الجزء وإن لم يرفعا صحّة الأجزاء السّابقة حقيقة إلّا أنّهما يرفعانها بحكم العرف من باب المسامحة ، ولذا يحكمون ببطلان الأجزاء السّابقة عند وجود المانع في الأثناء على ما اعترفت به ، فإذا شكّ ٣ / ١٤٧


في وجود المانع ، فيشكّ في بقاء الصّحة للأجزاء السّابقة عرفا وإن لم يكن ذلك ثابتا على الحقيقة ، إلّا أنّ المدار ليس عليها بمقتضى الفرض ، ولا فرق عند التّحقيق في اعتبار المسامحة العرفيّة بين مسامحتهم في المتيقّن وبين مسامحتهم في صدق الشّك.

لأنّا نقول : لا معنى للحكم باعتبار المسامحة العرفيّة في صدق الشّك على فرض تسليم وجودها ، مع أنّه ممّا لا معنى له ؛ إذ لم يقم برهان على اعتبار المسامحة العرفية مطلقا. والقول باعتبارها في بعض الأشياء لا يلزم القول به في غيره فتأمّل ، هذا كلّه. مضافا إلى ما عرفت سابقا : أنّ صحّة الأجزاء السّابقة في صورة القطع بها لا تنفع في تحقّق الكلّ ووجود جميع ما يعتبر ، فكيف بوجودها الاستصحابي؟

وأمّا القابليّة فهي وإن لم يكن من الأمور الشّرعيّة ولا ممّا ترتّب عليه الحكم الشّرعي بلا توسيط ، إلّا أنّ الواسطة في المقام من الوسائط الخفيّة الملقاة في نظر العرف ؛ فإنّ المقصود من بقاء القابليّة عندهم ليس إلّا عدم وجوب الاستئناف وسقوطه بحكم الشارع.

كما أنّ المقصود من عدم بقائها هو وجوب استئناف العمل ، فعدم الالتزام ببقاء القابليّة نقض لعدم وجوب الاستئناف وسقوط الإعادة ، كما أن الحكم بعدم وجوب الاستئناف وسقوط الإعادة التزام ببقاء القابليّة.

ومنه يظهر الجواب عن الإيراد على استصحاب عدم القاطع ؛ فإنّ معنى الحكم بوجوده ليس إلّا الحكم بوجوب الاستئناف ، كما أنّ المقصود من الحكم بعدم وجوده ليس إلّا عدم وجوب الاستئناف هذا.


ولكنّ التّحقيق : أنّ استصحاب عدم القاطع غير جار في المقام لاحتياجه إلى توسيط إثبات القابليّة المترتّب عليها الحكم الشّرعي بواسطة ، ومثل هذا ليس موردا للاستصحاب قطعا ؛ لعدم جريان ما ذكرنا من الميزان فيه.

ومنه ينقدح فساد ما ذكر أخيرا : من أنّ قضيّة تسبّب الشّك في القابليّة والهيئة عن الشّك في وجود القاطع هو عدم جريان الاستصحاب فيهما ؛ فإنّك قد عرفت غير مرّة : أنّ مع جريان الأصل في الشّك السّببي لا يجوز الرّجوع إلى الأصل في الشّك المسبّب. وأمّا مع عدم جريان الأصل فيه ، فلا مانع من الرّجوع إلى الأصل فيه. هذا محصّل ما قرّره الأستاذ العلّامة مع توضيح وتنقيح منّي.

ولكن الإنصاف عدم خلوّه مع ذلك كلّه عن النّظر ؛ لأنّ وجوب الإعادة والاستئناف على تقدير تسليم كون الواسطة خفيّة ليس من الأحكام الشّرعيّة لعدم موافقة المأتي به للمأمور به ، بل من الأحكام العقليّة له. وعلى تقدير تسليم كونه من الأحكام الشّرعيّة لا يكون عدمه من الأحكام الشّرعيّة قطعا ، إلّا أن يرجع الحكم بعدمه إلى جعل حكم شرعيّ آخر فتدبّر.

هذا بعض الكلام في المقام. وقد ذكرنا جملة من الكلام فيه أيضا في الجزء الثّاني من التّعليقة فراجع إليه.

ثمّ إنّ هنا طرق أخر لإثبات صحّة العمل عند الشّك في فساده في المقامين قد أشرنا إليها أيضا في الجزء الثّاني من التّعليقة :

أحدها : قوله تعالى وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (١) وفيه : ما عرفت ثمّة من منع

__________________

(١) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٣٣.


دلالة الآية على حكم المقام بعد فرض دلالتها على الحرمة في صورة الإبطال اليقيني ؛ لاحتمال حصول البطلان بمجرّد وجود الموجود في الأثناء ، أو عدم المعدوم.

ثانيها : استصحاب حرمة القطع. وفيه ما لا يخفى ؛ لأنّ المفروض الشّك في صدق القطع والإبطال ، وإلّا لوجب الحكم بها بمقتضى الآية ، فلا معنى للرّجوع إلى الاستصحاب أيضا.

ثالثها : استصحاب وجوب الإتمام ، ويعلم حاله ممّا ذكرنا في سابقه.

(٢٥٨) قوله : ( وكذا التّمسّك بما عداها ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٥٨ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه لم يسبق من الأستاذ العلّامة في أصالة البراءة التّمسك بما عدا الآية الشّريفة في مسألتنا هذه وإن سبق منه الاستدلال بها في غير المقام.

__________________

(١) قال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره :

« أقول : يحتمل أن يكون مراده رحمه‌الله من تلك العمومات إمّا عموم مثل حديث « لا تعاد » أو عموم أدلة التكاليف بناء على مذهب الأعمّي » إنتهى. أنظر القلائد : ٢ / ٣٥١.


* التنبيه التاسع :

عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقاديّة (١)

__________________

(١) قال الأصولي المؤسس الفاضل الطهراني قدس‌سره :

« انه لا فرق في موارد جريان الأصل بين ان يكون موضوعا أو حكما فرعيّا أو أصوليّا ؛ حيث انّ الواجب في الأصول هو الاعتقاد بمعنى عقد القلب والإلتزام وهذا ممّا يمكن ثبوته حال الشك ، بل هذا أظهر موارد الإستصحاب ؛ حيث إن الشك في النسخ مما قامت الضرورة على جريان الإستصحاب فيه ، فهل يمكن الرّيب في انّ الأمم السابقة حيث كانوا يحتملون نسخ أديانهم كان عليهم الإلتزام بما إلتزموا به إلى أن يثبت الخلاف ، وهل يجوّز ذو مسكة جواز الإعراض عن الدّين الثابت بمجرّد احتمال النّسخ؟ كلّا ثمّ كلّا.

وكشف السّر : أنّ الواجب في الأصول أمران :

الأوّل : الإلتزام المعبّر عنه بالإسلام.

والثاني : المعرفة والعلم المعبّر عنه بالإيمان. قال الله تعالى : قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [ الحجرات : ١٤ ].

ومن المعلوم انّ الذي يحصل لضرب السّيف إنّما هو السّلم والتمكين ، وبالضرورة كانوا يكشفون بذلك مع العلم بانّ الذي أقرّ بالشهادتين خوفا إنّما أذعن واعترف وصدّق لا عن علم ، وإلى انّ هذا المقدار يكتفي به اشار قوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [ النساء : ٩٤ ].

نعم ، الذي يوجب النجاة في النشأة الأخرى والفوز بالدرجات إنّما هو الإيمان ، قال الله تعالى : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [ الذاريات : ٥٦ ].

وفي اخبار اهل بيت الوحي عليهم‌السلام أي : ليعرفون ، والمراد : أنّ الدخول في زيّ العبوديّة


(٢٥٩) قوله : ( لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجيّة أو اللّغويّة أو الأحكام الشّرعيّة ) (١). ( ج ٣ / ٢٥٩ )

__________________

وصيرورة الشخص عبدا له مرتبتان :

الأولى : مجرّد التمكين واتخاذه مولى له وهو الإسلام كما هو المناط في كون الشخص رعيّة للسلطان ، وهذا المعنى يحصل بالبيعة.

الثاني : العلم بانه مستحق لذلك وأنّه أهل له وهذا هو الإيمان ، فالمسلم عبد ربّه في المرتبة الأولى والمؤمن بايمانه عبده في الثانية فترقّى إلى تلك الدرجة.

إلى أن قال :

وإلى ما حقّقناه ينظر تعريف الأصول بما يتعلّق بالإعتقاد والفروع بما يتعلّق بالعمل بلا واسطة يعني أنّ المطلوب في الأصول أوّلا إنّما هو الإعتقاد بخلاف الفروع ، فالإعتقاد يطلق في قبال العمل ، وإن كان هو أيضا عملا قلبيّا إختياريا يتعلّق به التكليف.

إلى أن قال :

والمقصود دفع توهّم : انّ ما كان من أصول الدين لا يمكن استصحابه عند الشك في ارتفاعه بالنسخ » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان الإستصحاب في باب اللغات ليس من باب التعبّد ولو كان كذلك في سائر الأبواب ، ولذا كان المثبت منه حجة بلا ارتياب ، بل كان من باب بناء العقلاء وأهل المحاورات عليه ، مع احتمال أن يكون الحجيّة ، لا من باب الاستصحاب بملاحظة الحالة السّابقة في الباب ، بل قاعدة بنوا عليها لدى الشكّ على ما قدّمناه فيما علّقناه على مباحث الظّنّ قديما وحديثا ، فراجع » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٦٨.


بعد إحراز موضوع الإستصحاب لا يفرّق بين أن يكون المستصحب

من الأحكام أو الموضوعات

أقول : لا إشكال بل لا يعقل الإشكال في عدم خصوصيّة للمستصحب في إجراء الاستصحاب في موارد تحقّق موضعه ومحلّه ، سواء قلنا باعتباره من باب الأخبار ، أو الظّن. وهو ما لو وجد هناك يقين وشكّ ، وكان المستصحب ممّا يترتّب على وجوده الواقعي حكم شرعي لا على العلم به ـ إذا لم يعلم كون أخذ العلم من باب الطّريقيّة ؛ فإنّ معروض الحكم حينئذ نفس الواقع أيضا كما لا يخفى ، ولم يكن ممّا يتوقّف الأخبار على ثبوته كمسألة النّبوّة ، ولا ممّا دلّ دليل على عدم حجيّة الظّن فيه كالموضوعات والعقائد من الأحكام الشّرعيّة ؛ فإنّه إذا كان منه لا يحتاج استصحابه إلى ترتّب أثر شرعيّ آخر عليه ، سواء كان التّرتّب بلا واسطة ، أو بواسطة في الجملة ، أو مطلقا على الاختلاف الّذي عرفت تفصيل القول فيه بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ـ فإنّه كيف يعقل الفرق في قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشّك » بين موارد وجود ما ذكرنا من المناط ، مع عدم الإشارة فيه إلى مورد مخصوص؟ وكذا بناء على القول باعتباره من باب الظّن ، فكلّ مورد يمنع فيه من اعتبار الاستصحاب ، فلا بدّ من أن يرجع إلى المنع عن تحقّق ما ذكرنا من المناط.

ثمّ إنّه لا إشكال في وجود هذا المناط في الموضوعات الخارجيّة والأحكام الشّرعيّة العمليّة سواء كانت أصوليّة ، أو فروعيّة في الجملة. وأمّا


الموضوعات اللّغوية والمستنبطة ، فلا إشكال في عدم وجود المناط المذكور فيها بناء على القول بعدم اعتبار الأصول المثبتة ، كما لا يخفى.

ومنه يظهر التّأمّل فيما ذكره الأستاذ العلّامة إلّا أنّك قد عرفت : عدم ابتناء الأصل في باب الألفاظ على التعبّد سواء جرى في الوضع أو المراد ، اللهمّ إلّا إذا ٣ / ١٤٨ فرض حكم شرعيّ مترتّب على بقاء الموضوع اللّغوي بلا واسطة إنّما الكلام والإشكال في المقام كلّه في الأحكام الشّرعيّة الاعتقاديّة.

والكلام فيها يقع :

تارة : في استصحاب نفس وجوب الاعتقاد الّذي يكون هو المراد من الحكم الشّرعي الاعتقادي ، والمقصود بالإثبات من الكلام في الاستصحاب في العقائد.

وأخرى : في متعلّق الاعتقاد كالنّبوّة والإمامة مثلا.

وثالثة : في الأحكام المترتّبة عليهما.

وأمّا استصحاب نفس الاعتقاد فلا يعقل له معنى سواء جعلناه مرادفا لليقين ، أو من عوارضه ، أو من الأفعال الاختياريّة الّتي يمكن وجودها مع فرض الشّك وعدم اليقين أيضا كما لا يخفى.

فالبحث يقع في مواضع ثلاثة : أحدها : في جريان الاستصحاب في وجوب الاعتقاد وعدمه. ثانيها : في جريانه في متعلّق الاعتقاد ، أي : المعتقد. ثالثها : في جريانه في الأحكام المترتّبة على المعتقد.

أمّا الكلام في الموضع الأوّل ، فتوضيح القول فيه يتوقّف على تقديم مقدّمة دقيقة شريفة وهي :


أنّ الاعتقاد بشيء هل هو عين اليقين به واليقين به عين الاعتقاد به ـ بمعنى كونهما عبارة عن معنى واحد وهو التّصديق القلبي فيكون كفر المتيقّن بالعقائد حينئذ بالجحود الظّاهري أو عدم الالتزام الظّاهري ؛ حيث إنّ الإسلام ليس مجرّد الاعتقاد بحسب الباطن بل هو مع الإقرار والالتزام بالمعتقد بحسب الظّاهر فيكون وجوب الاعتقاد حينئذ بمعنى وجوب تحصيله ؛ حيث إنّ نفس اليقين ليس اختياريّا إلّا بالاعتبار المذكور فتدبّر ـ أو غيره ـ وكونه فعلا إختياريّا من أفعال القلب بحيث يكون للمكلّف إيجاده في صورة اليقين بشيء وعدم إيجاده ـ وعلى تقدير كونه غيره ، هل يمكن وجوده في غير موضع اليقين وفي صورة الشّك ، أو يختصّ موضوعه بصورة اليقين؟

فلا بدّ من البحث في موضعين :

أحدهما : في تغاير اليقين والاعتقاد.

ثانيهما : في اختصاص موضوع الاعتقاد باليقين على تقدير التّغاير.

أمّا الكلام في الموضع الأوّل : فالّذي عليه أكثر المتكلّمين ـ على ما حكي ـ : أنّ الاعتقاد ليس مجرّد اليقين ، بل هو أمر قلبيّ إختياري يعرض بعد اليقين في مقابل الاستنكاف والجحود القلبي ، ويدلّ عليه : الوجدان السّليم مضافا إلى دلالة جملة من الآيات والأخبار عليه ، مثل الآيات الواردة في مذمّة جحود من استيقنت أنفسهم واستيقنوا بالوحدانيّة مع جحودها (١) ، والكفر الجحود [ ي ] أمر معروف لا ينبغي إنكاره لأحد ، وهذا هو الّذي اختاره شيخنا في الجزء الأوّل

__________________

(١) إشارة إلى الآية الشريفة رقم ١٤ في سورة النمل : وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا .


من « الكتاب » وفي مجلس البحث مستدلّا بما عرفت.

ولكن قد يقال ـ بل قيل ـ : باتّحاد اليقين والاعتقاد ؛ لأنّ من المشاهد بالوجدان : أنّه ليس ممّا يعرض على النّفس من الأمور الاختياريّة بعد اليقين بنبوّة شخص مثلا ، إلّا الرّضا بنبوّته في مقابل الاستنكاف الباطني ، أو البناء والعزم على إطاعته فيما يأمر وينهى والتّديّن بجميع لوازم النّبوّة بالنّسبة إليه ، ومن المعلوم عدم ربط لهذه الأمور بالاعتقاد ، مع أنّه لو أريد به أحد هذه المعاني فلا مشاحة فيه.

وأمّا القول : بأنّ العقد القلبي بما تعلّق اليقين به أمر لا دخل له باليقين ولا بما ذكر من المعاني ، بل هو بناء قلبيّ على ثبوت المتيقّن في مقابل استنكافه ، فهو ممّا لا يتصوّر له معنى محصّل.

وأمّا المراد بالجحود مع استيقان النّفس الّذي دل على وجوده الكتاب والسّنة فليس المراد منه عدم الاعتقاد ، بل الإنكار الظّاهري الّذي كان دأب الجاحدين ، أو مقابل أحد المعاني الّتي عرفتها. هذا مجمل الكلام في الموضع الأوّل ، وقد مرّ بعض الكلام فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة فراجع إليه.

وأمّا الكلام في الموضع الثّاني : فالّذي بنى عليه الأستاذ العلّامة في مجلس البحث : عدم إمكان وجود الاعتقاد مع الشّك وكونه من عوارض اليقين مع بنائه على كونه مغايرا له ، وهذا كما ترى لا يخلو عن النّظر ؛ لأنّه بعد الاستشهاد على التّغاير بما يقتضي بظاهره باعتقاد المستشهد وجود اليقين مع عدم عقد القلب على مقتضاه بل على خلافه ، كيف يمكن إنكار وجوده في صورة الشّك؟ مع أنّ القطع بالخلاف أولى بالمنع من تعلّق الاعتقاد بما يقطع بخلافه.

فإن قيل : إنّ مع الشّك والتّرديد لا يمكن عقد القلب على أحد الطّرفين. قلنا :


لا يمكن ذلك مع عدم وجود المرجّح للبناء والاختيار لا معه ، مع أنّه منقوض بصورة القطع بالخلاف أيضا كما لا يخفى.

وبالجملة : بعد البناء على كون الاعتقاد غير اليقين يشكل القول بعدم إمكان وجوده في صورة الشّك سيّما مع القول بوجوده في صورة القطع بالخلاف.

إذا عرفت ما قدّمنا لك من المقدّمة فنقول :

إنّه إن قلنا بأنّ الاعتقاد عين اليقين فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب في وجوبه كما عرفت عدم تعقّل جريان الاستصحاب في نفسه ؛ ضرورة ارتفاع اليقين بالشّك ؛ لأنّ مرجع وجوب الاعتقاد على هذا التّقدير إلى وجوب تحصيل العلم به ـ على ما عرفت سابقا ـ ومفروض الكلام في الاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة بعد العجز عن تحصيل العلم ، فمهما يمكن تحصيل الاعتقاد واليقين بالنّبوّة مثلا فلا إشكال في وجوبه ، فإذا حصل العجز عن تحصيل اليقين به فلا معنى لاستصحاب وجوب تحصيل اليقين.

نعم ، لو فرض وقوع الشّك في أصل وجوب تحصيل اليقين في زمان وارتفاعه بعد علمه بوجوبه عليه سابقا أمكن القول بجريان الاستصحاب فيه بعد فرض العجز عن تحصيل العلم بهذا الحكم في الشّريعة فتدبّر.

وإن قلنا بأنّه أمر اختياريّ غير اليقين فإن قلنا بكونه من عوارض اليقين فكذلك لأنّ عوارض اليقين والأحكام المختصّة به لا يعقل بقاؤها بعد فرض عدم ٣ / ١٤٩ اليقين كما هو واضح ، وإن لم نقل بكونه من عوارض اليقين فلا إشكال في إمكان الحكم بثبوته على القول بحجيّة الاستصحاب من باب التّعبد.

وأمّا على القول بحجيّته من باب الظّن فلا بدّ من أن ينظر دليله على فرض


تسليم حصوله هل هو بناء العقلاء أو برهان الانسداد؟ فإنّه يمكن أن يقال علي الأوّل بوجوب اتّباع الظّن في المقام وهذا بخلاف الثّاني ؛ فإنّ برهان الانسداد في الفروع لا يقتضي بحجيّة الظّن فيه وفي نفسه لا يجري على ما عرفت تفصيل القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة : من أنّ قضيّة انسداد باب العلم في الأصول هو التّوقف والتّدين بما هو الثّابت في الواقع ، لا التّديّن بمقتضى الظّن هذا كلّه في استصحاب وجوب الاعتقاد.

وأمّا استصحاب وجود المعتقد المقصود من الموضع الثّاني : فإن ترتّب حكم شرعيّ على وجوده الواقعي لا على العلم به فلا إشكال في الحكم بثبوته على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، إلّا أنّه قد يقال : إنّ الأحكام المترتّبة على العقائد إنّما ترتّب على العلم بها لا على وجودها الواقعي فتأمّل.

وأمّا على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن فقد عرفت ما ينبغي سلوكه على تقدير القول به.

ثمّ إنّ ما ذكر كلّه إنّما هو في غير ما يتوقّف اعتبار الاستصحاب على ثبوته كالنّبوّة ، وأمّا هو فستعرف تفصيل القول فيه ، وأيضا ما ذكر إنّما هو مجرّد فرض وإلّا فلم نقف على مسألة في الأصول يقطع بثبوتها في السّابق ثمّ يشكّ في بقائها كما هو واضح ، بل لا يعقل ذلك في كثير من الموارد لثبوتها بالبراهين العقليّة كما لا يخفى على من له خبرة في الجملة ، هذا مجمل القول في استصحاب العقائد.

وأمّا استصحاب الأحكام المترتّبة عليها المقصود من الموضع الثّالث ، فغير جائز عندنا لما قد عرفت غير مرّة ؛ أنّ الحكم المترتّب على موضوع لا معنى لاستصحابه عند الشّك في هذا الموضوع.


وفذلكة الكلام وحاصله : أنّ الحكم الشّرعي الأصولي عبارة عن وجوب الاعتقاد والتّديّن بالعقائد الحقّة ، وكلام شيخنا ( دام ظلّه العالي ) مشتبه المراد ؛ من حيث إنّ المستصحب نفس هذا الحكم المتعلّق بالاعتقاد ، أو الاعتقاد ، أو المعتقد ، أو أحكامه الشّرعيّة الثّابتة غير وجوب الاعتقاد هذا.

مع أنّ الشّك في بقاء العقائد الحقّة لا يتصوّر بالنّسبة إلى غير النّبوّة ، وأمّا بالنّسبة إليها فلا يتصوّر أيضا إن كان المراد منها الملكات الثّابتة للنّبي القائمة بنفسه الشّريفة الموجبة لسلطنة تصرّفه في الآفاق والأنفس واستحقاقه للرّئاسة الكلّيّة الإلهيّة ؛ فإنّها باقية لا زوال لها أصلا ببقاء نفسه المطمئنّة في جميع عوالمه.

وكذا إذا كان المراد منها تصرّفه الفعلي في الآفاق والأنفس وولايته على النّفوس الخلقيّة ؛ فإنّ الولاية الحقّة المطلقة بالمعنى المذكور ينتقل إلى الوصيّ بعد ارتحال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الوصيّ إلى من بعده من الأوصياء بحسب الطّبقات فليست محتملة للقاء حتّى تستصحب.

نعم ، لو كان المراد منها ما ينتزع من وجوب إطاعته فيما جاء به من الأحكام والشّريعة فهي قابلة للارتفاع فيتعلّق بها الشّك لكن بقاؤها تابع لبقاء الأحكام والشّريعة فلا معنى لإجراء الاستصحاب في نفسها كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ المراد من الاعتقاد إن كان هو العلم أو ما لا يحصل إلّا مع العلم ، فلا يتصوّر الاستصحاب بالنّسبة إلى حكمه كنفسه كما هو ظاهر. وإن كان الأعمّ من العلم والظّن وقلنا بإفادة الاستصحاب للظّن ـ ولو في الشّبهات الحكميّة ولو في مثل هذه المسألة ـ فلا معنى لابتناء المسألة على اعتبار الاستصحاب وعدمه كما هو ظاهر ؛ ضرورة ابتنائها على هذا التّقدير على وجود الظّن.


وإن كان المراد منه ما ينفكّ عن العلم وإن جامعهما كما يجامع الشّك بل العلم بالخلاف ـ على ما قيل : من كونه العقد القلبي الاختياري الّذي يجامع الحالات كالإقرار باللّسان الذي يجامع الحالات كلّها ـ فلا ريب في جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى حكمه. هذا ملخّص الكلام فيما يقتضيه التّحقيق في المقام وبالحريّ أن نصرف العنان إلى بعض الكلام فيما ذكره الأستاذ العلّامة في بيان المرام.

(٢٦٠) قوله : ( والمفروض أنّ وجوب الاعتقاد ). ( ج ٣ / ٢٥٩ )

أقول : هذا مبنيّ على ما ذكره ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : من أنّ الاعتقاد وإن كان غير اليقين ، إلّا أنّه لا يمكن وجوده في غير صورة اليقين. وقد عرفت ما فيه منّا سابقا فراجع.

ثمّ إنّه لا يخفى ما في كلامه ( دام ظلّه ) من الخلط بين استصحاب وجوب الاعتقاد والمعتقد ، فما حرّرنا في هذا المقام من إفراد كلّ منهما بالبحث والكلام أولى.

(٢٦١) قوله : ( بل الظّن غير حاصل فيما كان ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٥٩ )

أقول : الوجه فيما ذكره ( دام ظلّه ) بالنّسبة إلى ما كان ثبوته بالعقل ما ذكره سابقا في طيّ الكلام في جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة : من أنّه على تقدير فرض الشّك فلا بدّ من أن يرجع الشّك إلى الشّك في الموضوع والمناط ومع الشّك فيه لا يعقل الظّن بالبقاء ، وأمّا إذا كان الثّبوت بالدّليل الشّرعي القطعي كالإجماع ونحوه فهو ما ادّعاه في مجلس البحث : من أنّ الدّليل القطعي لا يمكن الشّك في مدلوله إلّا إذا فرض الشّك في موضوعه ، ومعه لا يحصل الظّن وإليه


يرجع ما ذكره في « الكتاب » بقوله : ( لأنّ الشّك ... إلى آخره ) (١) وقد مضى شطر من الكلام فيما يتعلّق بذلك فراجع.

(٢٦٢) قوله : ( نعم ، لو شكّ في نسخه أمكن دعوى الظّن ) (٢). ( ج ٣ / ٢٥٩ )

أقول : قد يتأمّل فيما ذكره من وجهين :

أحدهما : أنّه كيف يتصوّر النّسخ في الحكم الثّابت بالدّليل العقلي أو النّقلي القطعي وفرض ظنيّته من حيث الزّمان يخرجه عن كونه دليلا قطعيّا ؛ ضرورة كون النّتيجة تابعة لأخسّ مقدّمتيها ، ولكن ذكر الأستاذ العلّامة في مجلس البحث : أنّه يمكن فرض تطرّق النّسخ في الدّليل النّقلي القطعي : بأن يكون له قدر متيقّن استفيد بحسب العادة استمرار مفاده فتأمّل.

ثانيهما : أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) بظاهره خروج عن محلّ الفرض ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في جريان الاستصحاب في المسائل الاعتقاديّة لا العمليّة الّتي قد ينشأ الشّك في نسخها من الشّك في أصل نسخ الشّريعة ، وقد تنشأ من جهة الشّك في نسخ نفسها مع بقاء أصل الشّريعة ، والظّاهر أنّ كلامه في الأخير لا الأوّل.

وبالجملة : كلامه ( دام ظلّه ) في المقام لا يخلو عن اضطراب وتشويش ؛ من حيث إنّ بعض أجزائه يقتضي كون المقصود بالبحث هو الحكم الأصولي كما هو

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٥٩.

(٢) قال في قلائد الفرائد [ ٢ / ٣٥٣ ] :

« أقول : يعني لو شك في نسخ حكم ذلك الأمر الإعتقادي ، ولا يخفى ان الإستثناء المزبور منقطع ، كيف! والكلام في السابق إنما هو في بقاء المتديّن به دون الحكم المتعلّق بالأمر الإعتقادي » انتهى.


ظاهر العنوان ومحلّ البحث ، وبعضه الآخر يقتضي كون المقصود بالبحث هو المعتقد كما يظهر من قوله : ( بل الظّن غير حاصل ... إلى آخره ) (١) ، وبعضه يقتضي وقوع البحث في الأحكام الفرعيّة المتعلّقة بالعقائد.

وأنت خبير بأنّ الحريّ أن يحرّر المقام بمثل ما عرفت منّا.

(٢٦٣) قوله : ( وإن انسدّ باب العلم لإمكان الاحتياط ) (٢). ( ج ٣ / ٢٦٠ )

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٥٩.

(٢) قال الفقيه الرباني الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره معلّقا على قول استاذه : ( وأمّا الشرعيّة الإعتقاديّة فلا يعتبر الإستصحاب فيها ... إلى قوله : لعدم ثبوت الشريعة السابقة واللاحقة ) [ الفرائد : ٣ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ].

« وفيه : انه إن كان من باب الأخبار فمؤدّاها إنّما هو ثبوت الحكم الثابت سابقا.

وهو وجوب الإعتقاد بمعنى عقد القلب الذي يجامع الشك ، ودورانه مدار اليقين فاسد وإنّما وجوب تحصيل اليقين تكليف زائد ، فالذي يجب الإعتقاد به إنّما هو الواقع ولا دخل في الحكم الواقعي لليقين وإنّما هو طريق في الإسلام وموضوع في الايمان.

نعم ، من الأصول ما لا يجب فيه تحصيل اليقين وإنّما يجب الإلتزام بها بعد العلم بها كتفاصيل السؤال والحساب والحشر.

وامّا ما هو محلّ البحث أي : النبوّة فالواجب فيه أمران كالتوحيد : الاسلام والإيمان والأوّل بعد ثبوته لا يزول إلّا بقاطع ، هذا إذا كان من باب الأخبار ، وامّا إذا كان من باب الظنّ فلا إشكال فيه في انه ليس من باب الظنّ الشخصي ، بل إنّما هو من باب الظنّ النوعي وعدم اعتبار الظنّ في العقائد لا وجه له ، بل ما ثبت اعتباره من الظنون لا فرق فيها بين الاصول والفروع ، مع انّك قد عرفت : انّ المراد من اعتباره من باب الظّنّ انه أصل عقلائي ولم يتوهّم أحد أنّ الإستصحاب دليل اجتهادي وهذه القاعدة جارية في جميع الموارد من غير فرق


أقول : قد يورد عليه : بأنّه كيف يمكن الاحتياط في الأصول مع أنّه ليس المقصود منها العمل. والاحتياط في الفروع وإن كان ممكنا ، إلّا أنّها خارجة عن محلّ البحث ، على أنّ الاحتياط في الفروع في الفرض موجب للاختلال قطعا

__________________

بين الأصول والفروع ، بل قد عرفت : ان التعويل عليه عند الشك في نسخ النّبوّة أظهر من أن يخفى على ذي مسكة.

ثم إن المنع من حصول الظن فيما كان المستصحب من العقائد الثابتة بالدليل القطعي إستنادا الى ان الشك فيه لا بد أن يكون ناشئا من تغيّر بعض ما يحتمل مدخليّته في المستصحب من الغرائب حيث أنّ الشك في بقاء المستصحب لا بد وأن يكون من جهة إحتمال زوال بعض ماله دخل في وجوده ولو منع ذلك من حصول الظن لم يكن فرق فيه بين ما ثبت بدليل قطعي أو غيره ، وكأنّه أراد أنّ الشك في المقام شك في الموضوع كما مرّ فيما ذكره في منع جريان الإستصحاب في الأحكام العقليّة وقد عرفت ما فيه بما لا مزيد عليه.

ثم إن غلبة نسخ الشرائع إنّما يمنع من حصول الظنّ الشخصي ولو سلّم انّ اعتباره من باب الظنّ النوعي ولا يقدح فيه الظنّ الشخصي على الخلاف.

ثم إن المنع من اعتبار هذا الظنّ استنادا إلى إمكان الإحتياط وإن إنسدّ باب العلم ، غريب ؛ حيث إن اعتبار هذا الظنّ على تقدير القول به ليس من باب الإنسداد بالضرورة ، بل هو في عرض العلم ، مع ان امكان الإحتياط لا معنى له ؛ حيث ان الإلتزام والتديّن بالدين المشكوك في حدوثه حرام ، فكيف يمكن الإحتياط في مرحلة التديّن والإلتزام ـ مع انّ الأمر دائر بين النبوّتين ـ؟

وإن كان المراد : الإحتياط بالنسبة إلى الأعمال ـ فمع أنه خروج عن المبحوث عنه وهو استصحاب أصل الدين من حيث هو كذلك ، ولا ينفع إمكان الإحتياط في الفروع للشك في الأصول ـ فيه : أنّ الأمر كثيرا ما يدور بين الوجوب والحرمة » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.


فيستقلّ العقل بقبح إيجابه على الشارع كما لا يخفى.

فالتّحقيق في وجه منع اعتبار الظّن في الأصول ما عرفت غير مرّة : من أنّ إجراء مقدّمات الدّليل في الفروع لا يثبت الحجيّة في الأصول ، وفي نفسها لا تجري حتّى يثبت حجيّة الظّن فيها ، فلا بدّ من التّوقّف وعدم الالتزام بشيء في الظّاهر مع الالتزام بما هو الثّابت في الواقع.

(٢٦٤) قوله : ( لدفع كلفة الاستدلال ). ( ج ٣ / ٢٦٠ )

أقول : ذكر ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : أنّ إثبات هذا المقصود أي : دفع كلفة الاستدلال عن نفسه وجعل إقامة البرهان على المسلمين ممّا لا معنى له ، ولو بإرادة التّمسك به من باب الإلزام واعتقاد الخصم اعتباره ؛ لأنّ الإلزام إنّما يصحّ بما لا يكون الالتزام به عين بطلان مدّعى المتمسّك أو مستلزما له ، كاستدلال العامّة في مقابلنا بقول الأمير عليه‌السلام والأمر في المقام ليس كذلك ؛ لأنّ اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار عين الالتزام بنسخ الشّريعة السّابقة هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنّه يمكن المناقشة فيما أفاده : بأنّ الشّرط في النّقض عدم لزوم بطلان دعوى المدّعي باعتقاده لا باعتقاد غيره ، وإلّا لم يجز لنا التّمسّك في قبال مخالفينا بأقوال رؤسائهم ولا استدلالهم في قبالنا بأقوال غير أمير المؤمنين عليه‌السلام من الأئمّة الطيّبين الطّاهرين عليه‌السلام فتدبّر هذا. وسيجيء من الأستاذ العلّامة ومنّا الكلام في توضيح ذلك إن شاء الله.

ثمّ إنّ جعل البيّنة على المسلمين لدفع كلفة الاستدلال مبنيّ على كون الكتابي منكرا وقوله مطابقا للأصل وبعد وضوح عدم جريانه كما هو واضح وأوضحه ( دام ظلّه ) في « الكتاب » ، ربّما يناقش في الاستدراك المذكور بقوله : ( إلّا


أن يريد جعل البيّنة على المسلمين ) (١).

(٢٦٥) قوله : ( بناء على أنّ مدّعي الدّين ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٢٦٠ )

أقول : لم يتعرّض الأستاذ العلّامة لردّ هذا المطلب في مجلس البحث ولا فيما سيجيء من كلامه.

ولكنّك خبير بضعفه وظهور فساده لوضوح الفرق بين المقامين ؛ ضرورة أنّ مدّعي النّبوّة لو لم يقدر على إثبات نبوّته بإتيانه المعجزة لغير المعاند لم يكن نبيّا قطعا لقضيّة اللّطف ، وهذا بخلاف مدّعي نبوّة غيره ؛ فإنّ من عدم إمكان إثباته لنبوّته لا يمكن القطع بكذب دعواه وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا كما لا يخفى ، فكيف يدّعي مع ذلك خلافه وحكم العقل به ولا ينافي ذلك عدم وجود القاصر في (٣)

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٦٠.

(٢) قال في قلائد الفرائد : ٢ / ٣٥٦ :

« أقول : قد يقال : إنّ الكتابي أيضا قد يكون مدّعيّا لأنّه مدّع للبقاء ، فيكون أمر المسألة راجعا إلى التداعي فليس للكتابي جعل إقامة البيّنة على المسلمين.

ويمكن دفعه :

أوّلا : بان المدّعي كان عليه إقامة البيّنة إذا لم يكن شاكّا ولو بفرض نفسه كذلك ، والكتابي فرض في نفسه الشك ، كما ينبىء عنه تمسّكه بالإستصحاب ، فإنه لا يكون إلّا في مورد الشك ، وإذا كان أحد المدعيين شاكّا فكان له مطالبة البيّنة من الآخر على ما يدّعيه ، وعدم وجود البيّنة له يكون دليلا قطعيّا على عدمه ، فيكون الدين القديم باقيا بحكم العادة.

وثانيا ـ بعد تسليم عدم فرضه شاكا ـ : بان أحد المدعيين إذا كان يثبت مدّعاه بمجرّد عدم إقامة البيّنة من خصمه كان له أن يتقاعد من إقامة البيّنة على مدّعيه ويجعل إقامة الإستدلال على خصمه » إنتهى.


العقائد وكون السّبيل واضحا للمجاهد كما لا يخفى. وبالجملة مدّعي الدّين الجديد لا يقاس بمدّعي النّبوّة أصلا ضرورة كون العجز عن إثبات النّبوة في حقّ مدّعيها دليلا قطعيّا عند العقل على فساد دعواه.

(٢٦٦) قوله : ( ما حكي عن بعض (١) ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦١ )

__________________

(١) أقول : قيل : المراد ببعض الفضلاء السادة هو السيّد باقر القزويني ـ كما في بحر الآشتياني هنا ـ وقيل : هو السيّد حسين القزويني ، وقيل : هو السيّد محسن القزويني ، وقيل : هو العلّامة الطباطبائي ـ كما في الأوثق : ٥٦١ حيث قال : « رأيت رسالة من بعض تلامذة العلّامة بحر العلوم أن المناظرة جرت بين السيّد بحر العلوم وبين عالم يهودي حين سافر إلى زيارة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام في بلدة ذي الكفل وكانت محلّ تجمّع اليهود آنذاك ـ وقيل : هو السيّد محسن الكاظمي وربّما يقال غير ذلك » إنتهى.

والحق انه لا يمكن أن يكون العلّامة الطباطبائي المعروف ببحر العلوم ، لا لأنّه ـ كما قيل ـ أرفع قدرا من أن يعبّر عنه ببعض الفضلاء أو يجيب بما لا يرتضيه الكتابي ؛ لأنّه سيّد طليق اللسان ماهر بطرق البرهان ، بل وجوده برهان ، بل منّة الله المنّان في ذلك الزمان ؛ فإنّه كذلك حقّا ، بل أعظم قدرا وأجلّ شأنا مما تسطره أقلام الأعلام ـ بل لأنّ المناظرة المزبورة التي أثبتها السيّد محمد جواد العاملي صاحب كتاب مفتاح الكرامة وتلميذ المناظر في رسالته التي خصّصها بما جرى بين السيّد بحر العلوم وخصومه من اليهود المطبوعة في كتاب الفوائد الرجاليّة المعروف برجال السيّد بحر العلوم ج ١ / ٥٠ ـ ٦٥ إنّما جرت في سنة ١٢١١ ه‍ أي قبل سنة من وفاة السيّد الطباطبائي ( بحر العلوم ) بينما انتهى الميرزا القمي من تأليف كتاب القوانين بأكمله بتاريخ ربيع الثاني سنة ١٢٠٥ ه‍.

وهذا يشهد على ان المناظرة المشار إليها في كتاب القوانين قد وقعت قبل هذا التاريخ بعدّة سنوات. ومنه يتبيّن : انه ليس السيّد باقر ابن اخت العلامة الطباطبائي أيضا لأنه كان شابا


أقول : الفاضل المذكور هو السيّد السّند المتبحّر في كثير من العلوم السّيد باقر القزويني (١) ( طيّب الله رمسه ) قد وقعت المناظرة بينه وبين عالم يهوديّ على ما حكاه الأستاذ العلّامة في قرية تسمّى بذي الكفل في قرب المشهد الغرويّ على من شرّفه ألف تحيّة وسلام ، والسيّد المذكور وإن ألزمه وأفحمه ببراهين واضحة ، إلّا أنّ الكتابي لم يرض بما أجاب به عن الاستصحاب الّذي تمسّك به الكتابي ، وأورد عليه : بأنّ موسى بن عمران شخص واحد ادّعى النّبوّة واعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته فعلى المسلمين إثبات نسخ نبوّته.

(٢٦٧) قوله : ( ما ذكره بعض المعاصرين ). ( ج ٣ / ٢٦١ )

أقول : المعاصر المذكور هو الفاضل النّراقي ذكر هذا الجواب في « المناهج » (٢) وهو ظاهر الفساد.

__________________

آنذاك ولو اتفق له نظير القضيّة لشاعت له قبل خاله بالطبع واشتهرت باشتهار ما وقع لخاله حيث تذكر كلّما ذكرت قصّة الخال تشييدا بهما وتخليدا لمواقفهما.

أمّا السيّد محسن القزويني فلم نعرف له ذكرا في هذه الطبقة من الأعلام والفضلاء ولعلّه الكاظمي فاشتبه الناسخ وكتبه القزويني من غير التفات لتكرّر هذه اللفظة في المقام.

على انّه لم يشر أحد من أرباب التراجم إلى انه اتفق ذلك الموقف أو نظيره للسيّد محسن الأعرجي الكاظمي قدس‌سره.

فيترجّح كونه السيّد حسين بن السيّد إبراهيم القزويني صاحب معارج الأحكام المتوفي سنة ١٢٠٨ ه‍ وتؤيّده مناسبة الطبقة. والله العالم.

(١) هو السيّد باقر بن السيّد أحمد القزويني المتوفى سنة ١٢٤٧ ه‍ فقيه فاضل متبحّر وهو ابن اخت بحر العلوم.

(٢) مناهج الأحكام : ٢٣٧.


أمّا أوّلا : فبما عرفت سابقا : من عدم معنى لملاحظة التّعارض بين استصحاب وجود الشّيء وعدمه الثّابت في الأزل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المعارضة الّتي ذكرها لا تستقيم حتّى بناء على ما اختاره بناء على كون النّبوّة من الأوصاف النّفسانية القابلة للارتفاع بالرّافع حتّى يكون المستصحب نفس النبوّة على ما هو مفروض كلامهم لا أمر آخر ، فيكون إذن من قبيل الاستصحاب في الموضوع الخارجي الّذي اعترف باعتبار الاستصحاب فيه لسلامته عن المعارض فتدبّر.

(٢٦٨) قوله : ( وفيه أوّلا ما تقدّم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٢ )

أقول : ما ذكره ( دام ظلّه ) وإن تقدّم منه في الأمر الأوّل في طيّ ما ذكره على المحقّق القميّ إلّا أنّ وروده عليه بناء على ما عليه الأستاذ العلّامة وفاقا للمحقّقين ممّن تأخّر من عدم اعتبار الاستصحاب في الشّك في المقتضي على ما تقدّم منه ( دام ظلّه ) تفصيل القول فيه لا يخلو عن نظر.

نعم ، بناء على ما عليه المشهور من عدم الفرق في اعتبار الاستصحاب بين الشّك في الرّافع والمقتضي لا إشكال في ورود الإيراد عليه.

والقول : بأنّه بناء على تخصيص اعتباره بالأوّل يكون الإيراد المذكور واردا أيضا بعد مساعدة العرف بالحكم بأنّ عدم الالتزام بآثار المتيقّن في الفرض نقض لليقين بالشّك ؛ لأنّ حكمهم به يجعل الفرض من الشّك في الرّافع ، لا يخفى ما فيه وقد تقدّم في طيّ كلماتنا السّابقة ما يوضح فساده فراجع.


(٢٦٩) قوله : ( وثانيا : أنّ ما ذكره من الإطلاق ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٦٣ )

__________________

(١) قال في قلائد الفرائد : ( ٢ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧ ) :

أقول : إن كلامه رحمه‌الله مشتمل على بيان إيرادين :

أحدهما : إن الإطلاق على طبق الأصل ؛ لأنّ الأصل عدم التقييد فلا يحتاج الى الثبوت.

وثانيهما : ان النبوّة المطلقة ومطلق النبوّة سيّان من حيث التردّد بين الإستمرار والتوقيت ، فلا وجه للإلتزام بجريان الإستصحاب على الأوّل دون الثاني.

وحاصل الإيرادين : أنّه إن كان الكلام بالنسبة إلى الواقع ونفس الأمر فهو لا يخلو عن الأمرين : إمّا الموقّت أو الدائم ؛ لعدم تعقّل ثالث بالنسبة إليه ؛ كيف ، والإهمال بالنسبة إلى الواقع محال؟!

وإن كان الكلام بالنسبة إلى عالم البيان ، ففيه : أنّ الحكم بعدم جواز إثبات الإطلاق الذى هو عبارة عن عدم القيد بالاصل محلّ المنع ؛ لأنّ عدم التقييد مطابق للأصل.

ويمكن التفصّي عن كلّ منهما :

أمّا الثاني : فبما هو مزبور في المتن.

وأمّا الأوّل : فبأن يقال : إنّ الإطلاق بين قمسمين : ذكريّ ومعنويّ. ونعني بالأوّل ما إذا صدر أمر بشيء مثلا وشكّ في انّه ذكر معه شيء آخر مصدّرا بكلمة « أو » لكي يكون مفاده التخيير ، أم لا لكي يكون باقيا على التعيّن.

وبالثاني ما هو صفات المدلول والمعنى ؛ كالأمر بعتق الرقبة المعرّاة عن قيد الإيمان. ودوران الأمر بين الإطلاق والتقييد في الثاني بين الوجهين.

أحدهما : ما إذا صدر الأمر بعتق الرقبة وشكّ في تقييدها بالإيمان.

والثاني : ما اذا صدر أمر ولم يعلم أنّ متعلّقة إنّما هو عتق الرقبة أو المؤمنة.

والتمسّك بأصالة عدم التقييد إنّما هو مسلّم في القسم الأوّل والثاني ، دون الثالث : لكونه بمثابة دوران الأمر بين المتبائنين. ومسألة النبوّة من هذا لقبيل ؛ لأنّ ثبوتها إنّما هو في عالم

__________________

الوحي فالشكّ إنّما هو في كيفيّة الوحي. والتعبير في القوانين بما ينبيء عن كونها من قبيل الثاني إنّما هو من ضيق العبارة ».

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« الإنصاف عدم ورود هذا الإيراد عليه ؛ لأن فرض المحقّق القمي رحمه‌الله انه لم يثبت ما سوى مطلق النبوّة بدليل لبّي أو لفظي مجمل مردّد بين المحدودة والمستمرّة لا بلفظ مطلق في مقام البيان حتى يكون الأصل عند عدم ذكر القيد إرادة الإطلاق بمقدّمات الحكمة » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٠٦.


جواب المحقّق القمّي عن استصحاب الكتابي والمناقشة فيه

أقول : حاصل مرامه : أنّه إن كان الكلام بالنّسبة إلى الواقع وقيس الأمر بالنّسبة إليه ، فهو لا يخلو عن الأمرين ؛ لعدم تعقّل أمر ثالث بالنّسبة إليه ؛ ضرورة استحالة الإهمال بالنّسبة إلى الواقع فالأمر بالنّظر إلى الواقع دائما مردّد بين الموقّت والدّائم.

وإن كان الكلام بالنّسبة إلى عالم البيان.

ففيه : أن التّثليث وإن كان صحيحا بالنّسبة إليه ، إلّا أن الحكم بعدم جواز إثبات الإطلاق الّذي عبارة عن عدم التّقييد بالأصل ؛ لأنّ الإطلاق في معنى القيد ممّا لا معنى له ؛ ضرورة اقتضاء الشّك في وجود كلّ شيء البناء على عدمه ، فإذا فرض الإطلاق بمعنى عدم التّقييد فلا معنى لمنع كونه على طبق الأصل.

لا يقال : المدّعى عدم جواز إثبات كون الكلام الصّادر عن المتكلّم مطلقا لا مقيّدا والإطلاق في هذا المقام ليس على طبق الأصل ؛ ضرورة رجوعه إلى الشّك


في الحادث وليس هنا قدر متيقّن ؛ فإنّه ربّما يكون الكلام المطلق أكثر بحسب البيان من الكلام المشتمل على القيد.

لأنّا نقول :

أمّا أوّلا : فلأنّ الكلام إنّما هو على ما ذكره المحقّق المذكور : من أنّ الإطلاق في معنى القيد ، فلا معنى لإجراء الأصل فيه وإثباته من حيث إنّ الإطلاق بمعنى عدم القيد ليس بمعنى القيد ولا على خلاف الأصل ، وإنّما المخالف للأصل الإطلاق بمعنى اقتضاء اللّفظ للانتشار والعموم الذي ينافيه القيد.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأصل وإن لم يقتض الحكم بكون الكلام الصّادر غير مقيّد في جميع موارد دوران الأمر بين صدور المطلق والمقيد من المتكلّم ؛ حيث إنّه ربّما يكون المطلق أكثر من المقيّد ، إلّا أنّه في خصوص المقام يمكن إثبات كون الصّادر هو المطلق بأصالة عدم القيد ؛ حيث إنّ المطلق في المقام بحسب قضيّة الفرض هو قول الله عزوجل للنّبي : أنت نبيّي ، من دون أن يذكر بعده إلى زمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى الأبد.

والموقّت هو القول المذكور مع التّقييد بالأوّل ، والدّائم هو القول المذكور أيضا مع التّقييد بالثّاني ، فوجود أنت نبيّي متيقّن ، ووجود كلّ من القيدين مشكوك ، فينتفي بالأصل ، وإفادة المقيّد وإن كانت ممكنة بكلام أقلّ ممّا يقيّد به المطلق ، إلّا أنّ في خصوص المقام بمقتضى الفرض دار الأمر بين الأقلّ والأكثر ، والتعويل على الأصل المثبت على تقدير لزومه ممّا لا ضير فيه في المقام الّذي هو من الموضوعات الاستنباطيّة.

وبالجملة : لا فرق في جريان أصالة عدم القيد بين المقام وبين ما إذا علم


بصدور كلام مطلق وشكّ في وجود كلام آخر مقيّد له ، هذا ملخّص ما أفاده ( دام ظلّه ) ممّا ذكره ثانيا في بيان مرامه في مجلس البحث.

وأنت خبير بأنّه لا يخلو عن النّظر :

أمّا أوّلا : فلأنّ من الواضح المعلوم لكلّ من راجع كلام المحقّق القميّ رحمه‌الله أنّ مقصوده من كون الإطلاق في معنى القيد إنّما هو بالنّسبة إلى خصوص عالم البيان بالنّسبة إلى خصوص المقام.

حيث إنّه بعد ما بنى جريان الاستصحاب في صريح كلامه في الأمور الشّرعيّة على كون اللّفظ الوارد لبيانها غير مقيّد بأحد القيدين من جهة اختصاص دليل اعتباره ، وهي الغلبة في الأحكام الشّرعيّة بهذا الفرض ، وردّ الاستصحاب الّذي هو محلّ الكلام ـ بأنّه لم يثبت كون الدّليل الدّال على ثبوت مستصحبه من هذا القبيل ـ ذكر ـ دفعا لتوهّم : أنّه يمكن إثبات كونه من القبيل المذكور بأصالة عدم القيد ـ : أنّ الإطلاق في المقام في معنى القيد أي : أنّه لا يمكن إثبات كون الكلام الوارد في بيان النبوّة مطلقا حتّى يجري الاستصحاب فيه ؛ لأنّ مرجعه إلى تعيين الحادث بالأصل.

فليس كلامه في صدد منع جريان مجرّد أصالة عدم القيد ولو لم يثبت به كون الكلام الوارد خاليا عن القيد ، ولا في مقام منع جريان أصالة عدم التّقييد مطلقا حتّى يورد عليه بالموارد الّتي قام الإجماع على الرّجوع إليها واتّفقت كلمتهم فيها عليه حتّى كلام المحقّق المذكور.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره : من أنّ التّعويل على الأصل المثبت في المقام ممّا لا ضير فيه ، لم يعلم له وجه ؛ فإنّ الأصل الّذي يكون معتبرا من باب الظّن في باب


الألفاظ الّذي لا يفرّق بين مثبته وغيره لا دخل له بالأصل المذكور في المقام كما لا يخفى على من له أدنى دراية.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره مناف لما ذكره بعده في توجيه كلام المحقّق القميّ بقوله : ( إلّا أن يريد بقرينة ما ذكره بعد ذلك ... إلى آخره ) (١) ولعمري إنّه ليس توجيها لما ذكره ؛ لأنّ كلامه ينادي بأعلى صوته بذلك ولهذا أوردنا على ما ذكره ( دام ظلّه ) بما عرفت أوّلا.

نعم ، يمكن الإيراد على ما ذكره المحقّق القميّ رحمه‌الله بوجهين :

أحدهما : أنّ اعتبار ما ذكره حسب ما يفصح عنه مقالته إنّما هو من جهة حصول الظّن بالغلبة من حيث اختصاصها بما فرضه على ما ادّعاه وليس دليل اعتبار الاستصحاب عنده مختصّا بالظّن ، بل هو قائل باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار أيضا الشّامل لصورة عدم حصول الظّن ببقاء الحالة السّابقة على ما صرّح به في أوّل القانون.

ثانيهما : أنّه لا مانع من التمسك بأصالة عدم القيد لإثبات كون الكلام الوارد مطلقا وخاليا عن القيد بناء على ما عليه المحقّق : من اعتبار الاستصحاب من باب الظّن حسب ما عرفت في طيّ كلماتنا السّابقة : من أنّه لا ضير في الالتزام باعتبار الأصل المثبت بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن فتأمّل (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٦٣ ناقدا لكلام المحقّق القمّي الوارد في القوانين : ج ٢ / ٧٠.

(٢) وجه التأمّل : ان القادح في تعيين الحادث بالأصل هو التعارض على تقدير اعتبار الأصل المثبت فتدبّر جدّا. « منه دام ظلّه العالي ».


(٢٧٠) قوله : ( أمّا أوّلا : فلأنّ مورد النّقض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٤ )

أقول : لا يخفى عليك عدم توجّه هذا الإيراد عليه ؛ لأنّ له أن يلتزم فيما ذكره ( دام ظلّه ) بعدم جريان الاستصحاب فيه وليس هذا أمرا غريبا.

نعم ، يمكن الإيراد عليه : بأنّ غالب الأحكام الشّرعيّة ليست على ما ذكره فتأمل.

(٢٧١) قوله : ( وأمّا ثانيا ؛ فلأن الشّك ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٦٤ )

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : هذا إذا كان الشك متعلّقا برفعه من حيث هو ؛ فإنّه ليس في الحقيقة شكّا في الرّفع بل في الارتفاع وانتهاء الاستعداد ولم يقل المحقّق رحمه‌الله بجريان الإستصحاب في مثل الفرض بل نفى احتماله بحكم التّتبع والاستقراء وإنما قال بجريان الاستصحاب في الحكم الشّرعي بعد إحراز استعداده للبقاء وهو لا يكون إلّا فيما إذا كان الشكّ في ارتفاعه لا من حيث هو بل بالعرض بحيث لا ينافيه الالتزام ببقاء الحكم ذاتا على حسب ما يقتضيه ظاهر دليله من الإستمرار الذّاتي كمزاحمة تكليف آخر أو حدوث ما يحتمل مانعيّته عقلا أو شرعا عن بقاء التّكليف وهو في الأحكام الشّرعيّة الكلّيّة ـ فضلا عن الجزئيّة ـ فوق حدّ الإحصاء » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٢٢.

* وقال في القلائد : ( ٢ / ٣٥٧ ) :

« أقول : قد تقدّم من المصنّف رحمه‌الله الجواب عن هذه الشبهة : بأن هذا يتمّ لو أخذ الزمان قيدا لا ظرفا ، فراجع : [ فرائد الأصول : ٣ / ٢١٠ ـ ٢١١ ] انتهى.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس سره :

« لقائل أن يقول : يكفي في إجراء الإستصحاب بمذاق المحقّق ظهور دليل الحكم في الإستمرار وإحراز الإستعداد بظاهر الدليل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الاصول : ٣ / ٣٠٧.


أقول : يمكن أن يقال : إنّ مراده من الرّافع أعمّ ممّا ذكره ( دام ظلّه ) وليس المراد منه خصوص ما يقابل المعنى الموجود في النّسخ حتّى يتوجّه عليه ما ذكره ( دام ظلّه ) فتدبّر هذا.

مضافا إلى أنّ ما ذكره إنّما يستقيم في خصوص الشّك في الارتفاع بالنّسخ ، وأمّا إذا شكّ في ارتفاع الحكم الشّرعي بغير النّسخ كارتفاع الطّهارة بالمذي ، أو بالخارج من غير السّبيلين مثلا ، والنّجاسة بالغسل مرّة ، أو بالاستنجاء بالحجر ذي الجهات مثلا ، والزّوجيّة ببعض الألفاظ ، والملكيّة ببعض الأمور ، فلا فتأمل.

ثمّ إنّ تسمية النّسخ بالرّفع الصّوري إنّما هي بالنّسبة إلى الواقع ، وإلّا فبالنّسبة إلى ما يرفعه من الظّهور رافع واقعي فتأمل.

(٢٧٢) قوله : ( وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره في حصول الظّن ). ( ج ٣ / ٢٦٤ )

دفع المناقشات التي أوردها الأستاذ على أجوبة المحقّق القمّي

أقول : قد يقال على ما ذكره : بأنّه لم يدّع ظهور الكلام بنفسه ومقتضى إطلاقه في البقاء والاستمرار ، وإنّما ادّعي حصول الظّن بذلك من ملاحظة الغلبة فهو ظنّ متعلّق بالحكم الواقعي حصل من الغلبة ، كالظّن الحاصل ببقاء الموضوع الخارجيّ من جهتها.

والقول : بأنّ الإتّكال على هذا الظّن خروج عن الاعتماد على الاستصحاب والحالة السّابقة من حيث هي ـ الّذي هو المناط في باب الاستصحاب حسب ما يفصح عنه مقالتهم في تعريفه ـ كلام آخر ـ أورده ( دام ظلّه ) في طيّ الكلام على ما ذكروه في بيان منشأ الظّن الحاصل بالاستصحاب ـ غير ما ذكره هنا : من رجوع


الظّن إلى الظّن اللّفظي الّذي قام الإجماع على اعتباره هذا.

ولكنّك خبير بفساد هذه المقالة ؛ لأنّ الظّن الحاصل من الغلبة الّذي لا دخل له بالظّن اللّفظي هو الظّن الحاصل ببقاء الحكم النّفس الأمري من ملاحظة غلبة بقاء الأحكام الصّادرة من الموالي أو من خصوص الشّارع ، لا الظّن الحاصل بإرادة المتكلّم من اللّفظ المطلق أو الإطلاق والدّوام : من جهة ملاحظة غلبة إرادة الإطلاق والدّوام من المطلقات الّتي علمناها من الخارج ؛ فإنّه ظنّ لفظيّ متعلّق بالإرادة أوّلا وبالذّات ، وإن تعلّق بالحكم أيضا ثانيا وبالعرض فهو كالظّن الحاصل من الشّهرة في الاستعمال بإرادة المعنى المجازي من اللّفظ.

نعم ، يمكن أن يورد على ما ذكره : بأنّه لا دليل على اعتبار هذا الظّن بناء على ما بنى عليه الأمر ( دام ظلّه ) : من أنّ كلّ ظنّ تعلّق بالمراد لا دليل على اعتباره ، وإنّما الّذي قام الدّليل عليه هو اعتبار الظّن الحاصل من نفس اللّفظ بالمراد ولو بضميمة القرينة.

نعم ، بناء على ما عليه جماعة : من اعتبار كلّ ظنّ تعلّق بالمراد من اللّفظ لم يتوجّه عليه الإشكال.

وكيف كان : لا دخل لهذا الظّن بالظّن الاستصحابي سواء قلنا باعتباره من حيث الخصوص أو لا ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ هذا الظّن حاصل من اللّفظ أيضا بملاحظة ما ذكره من الغلبة فهو نظير الظّن الحاصل من اللّفظ بإرادة المعنى المجازي بواسطة شهرة الاستعمال وكثرته أو بواسطة وقوعه فيما يظهر منه ذلك ، كوقوع الأمر عقيب ظنّ الحظر لو توهّمه ، إلى غير ذلك من الظّنون المتعلّقة بالمرادات الحاصلة من اللّفظ بواسطة القرائن المكتنفة بها الكلام المقرون بها ؛ فإنّ


الاعتماد على هذا النّحو من الظّن أيضا ممّا لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه ؛ لاستقرار الطّريقة العرفيّة على الاتّكال عليه في تفهيم المقاصد فتدبّر.

نعم ، هنا كلام آخر على ما ذكره لا دخل له بالمقام وهو : أنّ مع قيام الدّليل الاجتهادي المعتبر لا يبقى محلّ للرّجوع إلى الأصل إلّا مع قطع النّظر عن وجوده ، فكيف حكم بإغنائه عن الاستصحاب المستظهر منه جواز الرّجوع إليه أيضا؟ لكنّه مناقشة لا ربط لها بالمقام مع أنّه يمكن دفعها بالتّأمّل.

فظهر ممّا ذكرنا كلّه : أنّ هذا الإيراد ممّا لا مدفع عنه. فالأولى أن يذكره بدل الإيراد الثّالث ولم يذكره أصلا حتّى يتوجّه عليه ما ذكرناه في الإيرادين والله العالم.

وحاصل ما ذكرناه : إمكان دفع جميع الإيرادات المذكورة في « الكتاب » عن المحقّق القميّ قدس‌سره :

أمّا الأوّل : فلما أسمعناك سابقا في طيّ الأقوال في المسألة وأدلّتها : من ذهاب المحقّق المذكور إلى التّفصيل بين أقسام الشّك في المقتضي وقوله باعتبار الاستصحاب عند الشّك في انقضاء الاستعداد بعد العلم بمقداره ، بخلاف القسمين الآخرين للشّك في المقتضي.

وأمّا الثّاني : فلأنّ ثبوت مطلق النّبوة لا يلازم اللّفظ أصلا فضلا عن كونه مطلقا لفظيّا لا يجتمع فيه شروط التّمسّك بإطلاقه ، وإلّا خرج عن التمسّك بالاستصحاب ؛ لأنّه على تقدير تسليم كون بيان النّبوة باللّفظ ليس هو مضبوطا لنا ، ٣ / ١٥٣ فكما يحتمل بيانها بقول : أنت نبيّي ، كذلك يحتمل بيانها بقول : أنت إلى زمان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّي ، ومورد التّمسك بالاستصحاب على ما أفاده المحقّق المذكور هو


الأوّل بملاحظة ما علم من الخارج من حال مطلقات الشّرع بعد الإغماض عمّا يرد عليه كـ من عدم إمكان اقتباس حكم هذا المطلق الخاص من سائر المطلقات كما سيجيء الإشارة إليه. ومن هنا استدرك في الكتاب من توجّه هذا الإيراد بقوله : « إلّا أن يريد بقرينة ما ذكره ... إلى آخر » (١) ما أفاده ( دام ظلّه ).

وأمّا ما أورد عليه في دفع النّقض بالاستصحاب في الأحكام الشّرعيّة العمليّة من الإيرادات فيمكن دفعه أيضا.

أمّا الإيراد الأوّل : فبأنّ مراده ليس قصر الحكم بجريان الاستصحاب في موارد الشّك في الرّافع ؛ فإنّ الغاية في كلامه غاية للحكم بالاستمرار والبناء عليه في مرحلة الظّاهر ، أي : الاستمرار الحكمي لا لنفس الاستمرار في مرحلة الواقع ، كما أنّ المراد من الرّافع هو الدّليل الخارجي القائم على عدم إرادة الاستمرار من المطلق المردّد المحكوم بإرادة الاستمرار منه بملاحظة الخارجيّة الّتي ذكرها لا الرّافع للحكم واقعا هذا.

وأمّا الثّاني : فبأنّه مبنيّ على ما عرفت خلافه : من القصر بموارد الشّك في الرّافع بالنّسبة إلى نفس المستصحب في مرحلة الواقع ، وإلّا فليس ما أفاده محلّا لإنكاره ولا كلامه مبنيّا على خلافه على ما عرفت توضيحه ، مع أنّ ما أفاده لا يستقيم بالنّسبة إلى موارد الشّك في رافعيّة الموجود في الشّبهات الحكميّة ؛ فإنّها لا ترجع إلى الشّك في تماميّة الاستعداد قطعا.

نعم ، مرجع الشّك بالنّسبة إلى غيرها إلى الشّكّ في الاستعداد حتّى في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٦٣.


موارد الشّك في النّسخ.

وأمّا الثّالث : فلابتنائه على كون مطلق الظّن بإرادة المعنى من اللّفظ ولو بمعونة الأمارة الخارجيّة الغير المعتبرة من الظّنون الخاصّة والظّواهر المعتبرة ، وهو محلّ مناقشة بل منع عند شيخنا بل عند المشهور.

(٢٧٣) قوله : ( أمّا أوّلا : فلأنّ نسخ أكثر النّبوّات ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٦٥ )

__________________

(١) قال صاحب قلائد الفرائد قدس‌سره :

أقول : إن الغلبة في النبوّات :

تارة : تكون في نسخها الواصل في الخارج مع كون ظاهر الخطاب محرز الإطلاق.

وأخرى : في تحديدها بحسب أصل الخطاب.

وعلى التقديرين :

تارة : يكون الخطاب الواصل في حقّ من هو بمحلّ الكلام مجملا.

وأخرى : مطلقا.

وإيراد المصنّف رحمه‌الله على القوانين إنما يرد على الثاني.

لأن غلبة النسخ أو التحديد في سائر الخطابات لا يقدح في إطلاق هذا الخطاب ، ولذا يعمل بأصالة العموم مع غلبة التخصيص في سائر العمومات.

نعم ، لو ثبت كثرة التخصيص في خطاب واحد فهو قادح في التمسّك بأصالة العموم ، فالفرق إنّما هو من حيث إرادة خلاف الظاهر بالنسبة إلى النوع فهو غير قادح ، وبالنسبة إلى الشخص فهو قادح ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل.

وأمّا لو كان مراد القوانين هو الأوّل ـ كما ينبيء عنه سياق كلامه ؛ فإنه فرض الخطاب الواصل في إثبات النبوّة في أوّل كلامه مجملا ـ فإيراد المصنّف رحمه‌الله غير وارد عليه ، كيف! وبعد عدم قدح النسخ أو التحديد ليس هنا إطلاق لكي يرجع إليه ، هذا » إنتهى.


مناقشات في بعض أجوبة المحقّق القمّي عن استصحاب الكتابي

أقول : لمّا أجاب المحقّق القميّ عمّا أورده على نفسه بغلبة التّحديد فقد لزمه ما ذكره ( دام ظلّه ) عليه : من منع غلبة التّحديد ؛ فإنّ القدر الثّابت المسلّم هو نسخ أغلب النّبوّات وهو لا يستلزم التّحديد إن لم يستلزم عدمه هذا.

ولكن لا يخفى أنّ الأستاذ العلّامة لو اكتفى في الإيراد الأوّل على مجرّد ما ذكرنا كان سليما عن الإيراد ، ولكن الظّاهر منه ـ بملاحظة ما ذكره ـ هو إثبات ظهور أدلّتها في الاستمرار بملاحظة أدلّة النّبوات في أنفسها ، أو بملاحظة غيرها ممّا دلّ على الأحكام الشّرعيّة بقول مطلق الّذي علم إرادة الاستمرار والتّأييد منه من الخارج.

فيرد عليه : أنّ بعد العلم بنسخ أكثر النّبوات وأغلبها لا ينفع إطلاق أدلّتها وعدم تحديدها في حصول الظّن بالاستمرار في الفرد المشكوك هذا.

وقد يدّعى التّحديد في أدلّة أغلب النّبوات ؛ فإنّ كلّ نبيّ قد علم بأنّ نبوّته

__________________

أنظر القلائد : ٢ / ٣٥٨.

* وقال سيّد العروة قدس‌سره :

« وفيه : انه بعد ما علمنا بنسخ أكثر النبوّات لا يبقى الظن باستمرار النبوّة المشكوكة البقاء وإن كان ظاهر ادلّتها طرّا الإستمرار من الأوّل قبل النسخ.

وأيضا مجرّد دعوى الخصم ظهور ادلّة النبوّات في الإستمرار لا يقبل منه من دون بيّنة فلم يحرز الإستعداد حتى يجري الإستصحاب على مذاق المحقّق » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٠٨.


محدودة بزمان مجيء النّبي اللّاحق وأخبر أمّته بذلك كما وقع ذلك لحضرة عيسى « على نبيّنا [ وآله ] وعليه‌السلام » بالنّسبة إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما نطق به الكتاب المجيد فيصحّ إذن دعوى الفاضل القميّ التّحديد في أغلب النّبوّات هذا.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكر مناف لما ثبت من أنّ شريعة كلّ نبيّ ناسخة لشريعة من قبله ، اللهمّ إلّا أن يقال بورود مثل ذلك بالنّسبة إلى نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ حيث إنّ من المعروف كون شريعته ناسخة لجميع الشّرائع ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التّحديد في النّبوة لا يستلزم التّحديد في الأحكام والشّريعة الثّابتة للنّبيّ فيكون إطلاق النّسخ بالنّسبة إلى الشّريعة مع تحديد النّبوة مبنيّا على هذا فتأمّل.

وقد يختلج بالبال في دفع أصل الإيراد الّذي أورده ( دام ظلّه ) على الفاضل القميّ كلام لا يبعد كونه مرادا للفاضل القميّ قدس‌سره وهو أن يقال : إنّ مراد الفاضل ممّا ذكره من التّحديد المانع من التمسّك بأدلّة أغلب النّبوات في الفرد المشكوك ليس هو التّحديد بحسب الدّليل ظاهرا بمعنى كون أدلّتها محدودة ، بل المراد هو التّحديد بحسب الواقع فأراد أن يقول ـ بعد ثبوت التّحديد في أغلب النّبوّات بحسب الواقع ـ لا ينفع إطلاق أدلّتها في حصول الظّن بالاستمرار منها بالنّسبة إلى الفرد المشكوك ؛ حيث إنّ حصول الظّن منها كان مستندا إلى العلم بإرادة الاستمرار منها من الخارج فإذا علم خلافه فكيف يعقل حصول الظّن منه؟! وهذا هو الّذي ظهر لي من كلامه بعد التّأمل ، وبعده لا مجال لما أورده عليه أصلا كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما ذكرنا أخيرا وإن كان قريبا ممّا أوردنا على ما استظهرناه من الأستاذ العلّامة أوّلا ، إلّا أنّه لم يكن مبنيّا على بيان مراد الفاضل من التّحديد ، بل كان مبنيّا على كون مراده من التّحديد هو التّحديد بحسب الدّليل.


(٢٧٤) قوله : ( وأمّا ثانيا : فلأنّ غلبة التّحديد ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٦٥ )

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« وفيه : أنّ غلبة التحديد مجدية في مقصود المحقق وهو منع إحراز إستعداد البقاء في نبوّة يراد استصحابه لعدم إحراز غلبة الإستمرار.

وأيضا حصر مورد قاعدة الحمل على الأغلب فيما كان هناك أصناف ثلاثة : غالب ونادر ومشكوك ، ممنوع.

بل مناطه وهو رجحان الظنّ في جانب الغالب يجري فيما كان هنا صنفان غالب ونادر ، ويشك في فرد أنّه عين الفرد النادر أو من الأفراد الغالبة ، فلا ريب انه يظن انه من الغالب » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٠٨.

* وقال المحقق الخراساني قدس سره :

« إنما يكون غلبة التحديد في الأفراد مجدية في إلحاق الضرر المشكوك بالغالب وهو هنا غير مراد لا في المنع عن استصحابه ؛ لعدم إحراز إستعداده للإستمرار مع إستقراء عدمه في غيره من الأفراد.

وبالجملة : فالغلبة إن لم يكن مجدية هاهنا للظن بلحوق المشكوك كما أفاده ، إلّا أنه لا أقلّ من إفادتها المنع عن حصول الظنّ فيه بالإستمرار والمفروض عند القمّي اعتبار إستعداده في جريان الإستصحاب » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٧٢.

* وعلّق عليه المحقّق الأصولي الفاضل الكرماني قائلا :

أقول : من الواضح الجلي ان إحراز الإستعداد للبقاء لم يتوقف على الظن بالبقاء لو سلّم توقّفه على عدم الظنّ بالبقاء دورا فاضحا وتحصيلا لما كان حاصلا.

فالأولى لنا أن نصرف الكلام في هذا المقام عن النقض والإبرام فيما ليس فيه مزيد إهتمام إلى ما يستنتجه الكتابي من استصحابه على علماء الإسلام فإن أراد به الردّ علينا بأن الإستصحاب الذي تعترفون باعتباره وحجّيّته حاكم بأن تكليفكم أيّها المسلمون فعلا أن


أقول : حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) : أنّ الغلبة إنّما تنفع في إلحاق المشكوك بالأعمّ الأغلب إذا علم بوجود فرد آخر يحتمل كونه الفرد النّادر ، أو أفراد يحتمل كون النّادر في ضمنها ليمكن حصول الظّن بكون المشكوك مثل الأغلب في الحكم أو الصّفة. وإن لم يعلم بذلك واحتمل انحصار الفرد في المشكوك فلا يمكن إلحاقه بالأغلب وحصول الظّن بكون المشكوك مثل الأغلب ، وإلّا فيؤدّي إلى اجتماع الظّن والعلم على طرفي النّقيضين وهو محال.

__________________

تكونوا على شريعة موسى « على نبينا وآله وعليه‌السلام » وأخذكم بغيرها خلاف ما يدل عليه دليلكم الذي تسلّمونه وتصدّقونه فليس يرد علينا شيء من ذلك ؛ فإن الإستصحاب يحكم بعدم جواز نقض اليقين بغير اليقين ونحن نقضنا اليقين باليقين على ان اليقين السابق لم يحصل لنا إلّا من هذا اليقين فهو تبع له ومعلول له لو لم يكن لم يكن ، فلا له علينا من هذه الجهة به سبيل.

وإن أراد إظهار معذرة لنفسه في تأبّيه عن قبول الشريعة الغرّاء والطريقة الحنيفيّة البيضاء بأن يقول : تكليفي فعلا بمقتضى الإستصحاب البقاء على المتيقّن السابق حتى يحصل اليقين بالخلاف ولم يحصل فنحن نعذره ، لكن بعد الفحص والبحث والنظر في الأدلّة الدالّة على ثبوت هذا الدين ونبوّة سيد المرسلين وعدم حصول اليقين له اللازم الحصول للجدّ الصادق من غير تقصير في تحصيل المقدّمات وكونه معذورا على هذا التقدير يصدق مع امتناع التقدير ؛ فإن صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط.

وأمّا قبل النّظر والجدّ في تحصيل اليقين بالبحث والفحص فلا ؛ لأنه مخالف لحكم العقل القطعي بوجوب النظر لدفع الضّرر المحتمل.

وبالجملة : لم ينتج الإستصحاب للكتابي فائدة يعضّ بها ويرتجز في مضمار المسلمين بانه لها ، فهو كسراب بقيعة يحسبه الظمأن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، فبالحريّ في هذا المقام ان نختم الكلام بالسلام » إنتهى. أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشّي : ٣٩٢.


مثلا : إذا علم بوجود شياة سوداء مثلا في قطيع غنم أبيض ، فمرّ القطيع على الشّخص في ليلة ظلماء واحدا بعد واحد إلى أن يبقى منه ما يحتمل كونه آخر ٣ / ١٥٤ الشّياة فلا يمكن حصول الظّن حينئذ ـ بعد العلم بكون ما مرّ كلّه أبيضا (١) ـ بكونه أيضا أبيض بملاحظة غلبة البياض في القطيع. وهذا بخلاف ما لو بقي من القطيع ثلاث شياة مثلا يعلم بكون إحداها الفرد النّادر ؛ فإنّه يمكن حصول الظّن من ملاحظة الغلبة ببياض ما يمرّ منها على الشّخص أوّلا.

فإذن نقول في المقام أيضا : إنّه إذا علم تجديد أغلب النّبوات ونسخها وعلم باستمرار إحدى النّبوّات أيضا ، ووقع الكلام في أنّ النّبوة المستمرّة النّبوة الثّابتة لعيسى مثلا « على نبيّنا وآله وعليه‌السلام » حتى لا يكون نبيّنا نبيّا وصاحب شريعة ، أو الثّابتة لغيره حتّى يمكن دعوى النّبوّة لنبيّنا لا يمكن حصول الظّن بعدم بقاء نبوّة عيسى « على نبيّنا وآله وعليه‌السلام » من جهة غلبة النّسخ والتّحديد في النّبوات الثّابتة قبلها ، بل يمكن أن يثبت بأصالة عدم الغير كون الفرد النّادر المستمرّ هو الفرد المشكوك ، كما هو الحال في كلّ ما يكون من قبيل المقام هذا ملخّص ما أفاده ( دام ظلّه ) في « الكتاب » وفي مجلس البحث.

__________________

(١) كذا والصحيح : أبيض.


مناقشة كلام الاستاذ العلّامة في المقام

ولكنّك خبير بعدم خلوّه عن النّظر :

أمّا أوّلا : فلأن المحقّق المذكور حسب ما يفصح عنه مقالته لم يدّع حصول الظّن بعدم بقاء نبوّة من شكّ في بقاء نبوّته ووقع الكلام فيه من جهة غلبة النّسخ والتّحديد في النّبوّات حتّى يورد عليه بما ذكر ، بل الّذي يدّعيه وفي صدد بيانه : هو عدم إمكان دعوى حصول الظّن ببقاء نبوّة من وقع الكلام في بقاء نبوّته ، بملاحظة إطلاق أغلب النّبوّات : من جهة العلم بكون أغلب النّبوات محدودة بحسب الواقع ، فلا يمكن أن يصير الإطلاق موجبا للظّن في المشكوك وهذا كما ترى ، لا دخل له بما ذكره فلا يرد عليه شيء أصلا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكر أخيرا من إمكان إثبات كون المشكوك هو الفرد النّادر ؛ لأصالة عدم وجود فرد غيره ممّا لا معنى له بعد البناء على عدم جواز التّعويل على الأصول المثبتة ، بل مع البناء على جوازه أيضا إذا فرض عدم حصول الظّن من الأصل المذكور بالانحصار فتدبّر.

وحاصل ما ذكرنا في توجيه كلام المحقّق القميّ رحمه‌الله وعدم توجّه شيء من الإيرادين عليه : أنّه قدس‌سره كما ينادي به صريح كلامه في مقام دفع الاعتراض وفساد مقايسة استصحاب النّبوّة باستصحاب الأحكام بالنّسبة إلى كلّ شريعة لا في مقام الاستدلال على فساد استصحاب النّبوّة.

وغرضه ممّا ذكره : أنّه لا يجوز استنباط حكم استصحاب النّبوّة من


استصحاب الأحكام في الجملة سواء أريد من الإطلاق إطلاق الأحكام بقول مطلق ، أو إطلاق النّبوّات ؛ فإنّه على الأول لا يجدي مع العلم بنسخ أكثر النّبوّات وأغلبها الكاشف عن التّحديد الواقعي على تقدير جواز المقايسة بين الحكمين ، وعلى الثّاني لا يفيد على تقدير تسليم الإطلاق اللّفظي ، مع أنّه ممنوع عنده بعد تبيّن حال أغلب النّبوّات بالنّسخ الكاشف عن التّحديد الواقعي ، فأين إرادة الإطلاق من أكثر النّبوّات وأغلبها حتّى يلحق المشكوك المردّد بها؟

وليس غرضه إثبات الظّن بالارتفاع في الخلاف حتّى يتوجّه عليه ما أفاده شيخنا ( دام ظلّه ) ، كما أنّه ليس غرضه من التّحديد التّحديد بحسب اللّفظ حتّى يناقش فيه بما أفاده ، كيف! ونسخ أكثر النّبوّات يستلزم إطلاقها بحسب دليله ، فكيف يستدل بنسخها على تحديدها بحسب البيان اللّفظي؟ فلا بدّ أن يكون المراد التّحديد بحسب الواقع المنكشف من النّسخ فلا يتوجّه عليه شيء من الإيرادين.

(٢٧٥) قوله : ( ويمكن توجيه كلامه : بأنّ المراد ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٦ )

أقول : حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) : هو أنّ مراد المحقّق القميّ قدس‌سره ليس هو الجواب عن استصحاب الأحكام بتحقّق البشارة من النّبي السّابق فلا يجوز إجراء الاستصحاب بعد مجيء من يدّعي كونه المبشّر بنبوّته ، بل مراده أنّه كما أنّ إطلاق أدلّة الأحكام لا تنفع مع اقترانها بالبشارة في حصول الظّن بالاستمرار في زمان الشّك ، كذلك إطلاقها لا تنفع في حصول الظّن المذكور بعد فرض إهمال دليل أصل النّبوّة وعدم ثبوت إطلاقه ؛ لأنّ قضيّة تبعيّة تلك الأحكام للنّبوّة سراية الإهمال في دليل النّبوّة إلى الإطلاق في أدلّة الأحكام ؛ لأنّ الظّن بالمسبّب مع عدم الظّن بالسّبب ممّا لا معنى له ، هذا حاصل ما ذكره من التّوجيه.


ولكنّك خبير بأنّه في كمال البعد عن كلام المحقّق إن لم ندّع صراحته في خلافه هذا. مع أنّه قد يمنع من اقتضاء التّبعيّة سراية الإهمال إلى إطلاق أدلّة الأحكام ، بل قد يجعل الإطلاق فيها المقتضي لحصول الظّن بالبقاء والاستمرار موجبا للظّنّ بالنّسبة إلى بقاء النّبوّة فتأمّل.

(٢٧٦) قوله : ( لأنّ العمل به على تقدير جوازه ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٦ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره مبنيّ على مقدّمتين : إحداهما : ثبوت شرطيّة الفحص للعمل بالأصول في جميع المذاهب. ثانيتهما : عدم وجود القاصر في الأصول أصلا ، كما تدلّ عليه الآية الدّالّة على أنّ من جاهد في الله لهداه سبيله (١) ، والآيات الدّالة على تعذيب الكفّار وخلودهم في النّار بأجمعهم (٢) ؛ فإنّ القصور لا يجامع العذاب قطعا وإن لم يكن منافيا للتّنجيس وسائر الأحكام المترتّبة على الكافر ، والإجماع المدّعى في كلام جماعة على عدم معذوريّة الجاهل في الأصول حتّى من المصوّبة خصوصا في مثل هذه المسألة ، خصوصا لمن كان ناشئا في بلاد الإسلام المخالط للمسلمين القادر على الوقوف على البرهان ، والدّليل الدّال على حقّيّة الإسلام على تقدير اعتبار الإجماع المنقول.

والمقدّمة الأولى وإن كانت ثابتة ظاهرا ـ فتأمّل ـ إلّا أنّ في ثبوت المقدّمة الثّانية إشكالا قد تقدّم تفصيل القول فيه عند التّكلّم في حجيّة الظّن في أصول ٣ / ١٥٥

__________________

(١) إشارة إلى قول الله عزوجل : الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا العنكبوت : ٦٩.

(٢) كما في الآيات ١٤٠ و ١٥٠ و ١٦١ من سورة النساء وكذلك ١٣٠ و ١٣١ من الأنعام الى غير ذلك.


الدّين في الجزء الأوّل من التّعليقة (١) ، وقد بنى الأستاذ العلّامة ثمّة على وجود العاجز عن تحصيل العلم والجاهل القاصر في الأصول فراجع إلى ما ذكره ثمّة (٢) حتّى تقف على حقيقة الحال.

(٢٧٧) قوله : ( ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلا ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٧ )

قطعنا بنسخ الشريعة السابقة كاف لنفي استصحاب الكتابي

أقول : حاصل ما ذكره : أنّه يشترط في الدّليل الإلزامي أن يكون موضوعه متحقّقا في حقّ من يلزمه حتّى يمكن إلزامه به ، ولا يكفي وجوده في حقّ الملزم ، والأمر في الاستصحاب في المقام ليس كذلك ؛ لأنّا قاطعون بنسخ الشّريعة السّابقة ، فلسنا شاكّين في بقائها حتّى يمكن إلزامنا ببقائها بمقتضى الاستصحاب والإلزام بنفس الموضوع ، أي : الشّك ممّا لا يعقل له معنى ؛ لأنّ الشّك من الأمور الوجدانيّة الغير القابلة للإلزام كالقطع والظّن هذا حاصل مرامه.

ولكن قد يقال عليه : بأنّ المعنى المذكور غير مشروط في الدّليل الإلزامي ، وإلّا لزم سدّ باب الاستدلال بالدّليل الإلزامي كلّية ؛ فإنّ في كلّ مورد يستدلّ بالدّليل الإلزامي يمكن للخصم أن يجاب بأنّه قاطع على خلافه ، وحجّيّة كلّ دليل مشروطة بعدم القطع بخلافه ، فالقاطع بخلاف دليل لا يكون الدّليل حجّة عليه سواء كان هذا الدّليل من الأدلّة القطعيّة أو الظّنية ، فلا يجوز لمن لا يقول بحجيّة (٣)

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٢٨٨.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٧٥.


أخبار الآحاد أو الكتاب أو الإجماع أن يلزم بها من هو قاطع بخلافها ، وإن لم يكن قطعه مستندا إلى ما يصلح للاستناد إليه ، فلا يصحّ أن يلزم من يقطع بحدوث العالم زمانا بالبرهان الّذي أقاموه على قدمه بحسب الزّمان وحدوثه بحسب الذّات وهو عدم جواز تخلّف الأثر عن المؤثر ، ولا أن يلزم من يقطع بثبوت الاختيار في أفعال العباد بما أقاموه لإثبات الجبر من الشّبهة المعروفة إلى غير ذلك.

فعلى هذا يصح للكتابي أن يستدلّ بالاستصحاب فيقول : إمّا أن تقيموا البرهان على نسخ الشّريعة السّابقة ، أو التزموا بها بمقتضى الاستصحاب الّذي تدّعون أنّه حجّة ، ومجرّد القطع على خلافه مع عدم استناده إلى دليل يصلح للاستناد إليه ليس بشيء فتأمّل.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّه يمكن إجراء ما تقدّم من الجواب على التّقدير الأوّل في المقام أيضا ؛ لأنّ الاعتماد على الاستصحاب في مقام العمل أو الإلزام مشروط بالفحص فلا يبقى مورد للتّمسك به بعد فرض انفتاح باب العلم في المسألة على ما عرفت سابقا فتدبّر.

(٢٧٨) قوله : ( وإن أراد بيان أنّ مدّعي ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٧ )

أقول : لا يخفى عليك الفرق بين هذا وسابقه ؛ فإنّ المقصود من هذا مجرّد رفع كلفة الاستدلال عن نفسه وجعل إقامة البرهان على المسلمين فليس المقصود منه إلّا مجرّد ذلك. وهذا بخلاف سابقة ؛ فإنّ المقصود منه هو الاستدلال به على بقاء الشّريعة السّابقة على المسلمين القائلين باعتبار الاستصحاب هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنّه ليس للكتابي دفع كلفة الاستدلال عن نفسه


بالاستصحاب ، إلّا بعد إثباته لحجيّة الاستصحاب ، أو ابتناء ما ذكره على إلزام المسلمين.

وهذا غير ما ذكره ( دام ظلّه ) في الجواب عنه : بأنّ مدّعي البقاء أيضا يحتاج إلى الاستدلال كمدّعي الارتفاع ، وإن كان ما ذكره أيضا صحيحا ؛ فإنّه لا إشكال في احتياج مدّعي البقاء إلى الاستدلال ولو كان هو التّمسّك بالأصل الثّابت اعتباره.

(٢٧٩) قوله : ( الثّاني : أنّ اعتبار الاستصحاب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٧ )

أقول : قد عرفت سابقا : الكلام في صحّة استدلال الكتابي بالاستصحاب من باب الأخبار من باب الإلزام على المسلمين ، وأنّ الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) قد منع منه من حيث إنّه يشترط في الدّليل الإلزامي أن لا يكون مقتضى الإلزام به بطلان مدّعى المستدل ، وأنّه لا يخلو عن نظر وإشكال فراجع إلى ما ذكرناه سابقا (١).

(٢٨٠) قوله : ( نعم ، لو ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التّمسك ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٧ )

أقول : قد يورد عليه بلزوم الدّور ؛ فإنّ إثبات عدم منسوخيّة الاستصحاب وغيره من الأحكام الثّابتة في شرعهم يتوقّف على اعتبار الاستصحاب واعتبار الاستصحاب أيضا يتوقّف على إثبات عدم منسوخيّته ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ أصالة

__________________

(١) قبل تعليقتين في ذيل قول المصنّف قدس‌سره :

( ففيه : ان الإستصحاب ليس دليلا ... ).


عدم النّسخ بعد ثبوت الحكم لا يتوقّف على اعتبار الاستصحاب ، بل هي من الأصول الّتي قد جرت بناء العقلاء وأهل كلّ نحلة ودين على العمل بها من حيث الظّن والظّهور ، فلا يتوقّف إثبات اعتبارها على إثبات اعتبار الاستصحاب حتّى يلزم الدّور.

ولكنّك خبير بأنّ هذا خروج عن الفرض ؛ فإنّ مفروض الكلام التّمسك في إثبات عدم نسخ النّبوّة والأحكام الثّابتة في شريعة النّبي بالاستصحاب المبني على الأخبار ، وإلّا لجرى مثل ما ذكر في الحكم بعدم منسوخيّة النّبوّة أيضا ، فأين يبقى مجال للتّمسّك بالاستصحاب من باب الأخبار؟

والحاصل : أنّ ما ذكر من الجواب على خلاف الفرض هذا. مضافا إلى أنّ هنا شيء آخر قد أشار إليه ( دام ظلّه ) في طيّ كلماته السّابقة والتزم به وهو : أنّ بقاء الحكم وارتفاعه تابع لبقاء النّبوّة وارتفاعها ، فإذا لم يمكن إثبات بقائها فلا يجوز الحكم ببقائه فتدبّر.

ولكن يمكن أن يقال : بأنّ ما ذكر من الاستدراك مبنيّ على أنّه بعد ثبوت اعتبار الاستصحاب في الشّريعتين يكون حجّة قطعيّة على كلّ تقدير سواء نسخت الشّريعة السّابقة أم لا ، فلا يحتاج في إثبات اعتباره إذن إلى التّمسّك بالاستصحاب حتّى يلزم إثبات اعتبار الاستصحاب بالاستصحاب هذا.

ولكن قد يقال عليه أيضا : بأنّ العلم بعدم نسخ الاستصحاب على تقدير نسخ الأحكام والشّريعة السّابقة أيضا ـ لفرض العلم بثبوته في كلّ من الشّريعتين ـ لا يسوّغ التّمسك به في إثبات الشّريعة السّابقة ؛ فإنّ ثبوته في الشّريعة اللّاحقة يمنع من التّمسك به في إثبات الشّريعة اللّاحقة فتأمّل. ٣ / ١٥٦


(٢٨١) قوله : ( قد عرفت في صدر البحث (١) ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٨ )

أقول : قد يورد عليه : بأنّه قد تقدّم منه ( دام ظلّه ) في ردّ القائلين باعتبار الاستصحاب من باب الظّن تسليم حصول الظّن فيما إذا شك في نسخ الحكم الكلّي.

وأنت خبير بفساد هذا الإيراد ؛ فإنّه قد ذكر مرارا : أنّ هذا إنّما هو بالنّسبة إلى نسخ الحكم في الشّريعة مع القطع ببقاء الشّريعة لا بالنّسبة إلى الشّك في أصل نسخ الشّريعة ؛ فإنّ مدرك الظّن هي الغلبة ومعلوم عدم وجودها بالنّسبة إلى الثّاني.

(٢٨٢) قوله : ( ونفي الحرج لا دليل عليه ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٨ )

أقول : بل قد يقال : بأنّ مقتضى بعض الأخبار والآية الشّريفة النّافية للحرج والمتضمّنة لسؤال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المعراج ثبوت الحرج في الشّريعة السّابقة هذا.

ولكن قد يقال ـ علي ما ذكره ( دام ظلّه ) وما ذكرنا ـ : أنّ ما ذكر إنّما هو بالنّسبة إلى الحرج الغير البالغ حدّ اختلال النّظم الّذي يستقلّ العقل برفعه حفظا للنّظم الّذي تعلّق غرض الحكيم تعالى ببقائه وعدم اختلاله ، وقد تقدّم منه ( دام ظلّه ) ومنّا في الجزء الأوّل من « الكتاب » (٢) والتّعليقة (٣) : أنّ الاحتياط الكلّي بالنّسبة إلى جميع ما يحتمل ثبوته في الشّريعة موجب لاختلال النّظم قطعا ، اللهمّ إلّا أن يمنع لزوم الحرج المذكور من الاحتياط الكلّي في الشّريعة السّابقة ؛

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : المبحث.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٠٤.

(٣) بحر الفوائد : ج ١ / ١٩٣.


لقلّة الأحكام الثّابتة فيها فتأمّل.

(٢٨٣) قوله : ( خصوصا بالنّسبة إلى قليل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٨ )

أقول : قد يورد عليه : بأنّه لا وجه لهذه الخصوصيّة ؛ لأنّ دليل نفي الحرج لا فرق فيه بين لزومه في حقّ شخص واحد أو جميع المكلّفين ، ولم يظهر في الشّريعة السّابقة فرق في إثبات الحرج ونفيه بين شخص واحد وأشخاص فتأمّل.

(٢٨٤) قوله : ( مدفوعة : بأنّ استقرار الشّرائع ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٦٨ )

أقول : بل كان إمّا بالقطع أو الظّن الاطمئناني الّذي لا يضرّه الاحتمال البعيد على خلافه.

ولكن قد يورد عليه : بأنّ القطع والظّن لم يكونا حاصلين قبل الفحص دائما ففي زمان الشّك كانوا بانين على شريعتهم إلى أن يظهر لهم الحال فتأمّل.

(٢٨٥) قوله : ( إنّا لم نجزم المستصحب وهي نبوّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٦٩ )

__________________

(١) قال المحقق شيخ الكفاية الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى أنّ هذا الوجه ، وكذا ما بعده من الوجهين ليس بوجه آخر في قبال الوجه الأوّل بل أحد شقوقه ، وهو نفي كون الاستصحاب دليلا إسكاتيّا لتقوّمه بالأمرين الوجدانيّين الشّكّ واليقين ، ولا يكاد يلزم الخصم بالوجدانيّات ، بل له أن يدّعي بالارتفاع أو اليقين بالثّبوت على نحو لا يضرّ به القطع بالبقاء فضلا عن الشّك فيه ، كما هو مفاد الوجه الخامس ، كما لا يخفى » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٧٣.

* وقال السّيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« لمانع أن يمنع حصر سبب علمنا بنبوّة موسى عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام في إخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل هي


أقول : قد يورد عليه : بأنّ طريق الجزم بنبوّة الأنبياء السّابقة لا يكون منحصرا في أخبار النّبيّ ونصّ القرآن ، بل يمكن الجزم بها من تواتر نقل دعوى نبوّته مع اقترانها بإظهار المعجزة.

ولكن يمكن أن يقال : بعدم اجتماع شروط التّواتر في جميع الطّبقات ، فلا

__________________

كسائر المتواترات من قصص القرون الخالية والأمم الماضية ، معلوم ثبوتها بالأخبار والتظافر وليست بأقلّ من شجاعة رستم وجود حاتم وعدالة أنو شيروان وسلطنة الأكاسرة والقياصرة وأمثالها من معلوماتنا المتواترة ».

وعلّق عليه مقرّر بحثه الشيخ محمد ابراهيم اليزدي قائلا :

« الإنصاف أنّ نبوّة الأنبياء السلف غير معلومة لنا من غير جهة إخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان وجودهم ودعواهم النبوّة معلوما بالتواتر ، وذلك لأن العلم بنبوّتهم موقوف على العلم بجريان المعجزات على أيديهم وأشياء آخر غير ذلك ونحن لم نعلم بهذه الجملة من غير جهة إخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣١٠.

* وقال المحقق الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس سره :

« وفيه : ان انحصار ثبوت نبوّة عيسى في التلقّي من دين الإسلام إنّما يمنع من ركون المسلمين على استصحاب عدم نسخها والإلتزام بها وهذا لا ينافي ما هو مقصود الكتابي وهو الإفحام في مقام المناظرة ؛ فإن ثبوت حقيّة دين عيسى عليه‌السلام عند المسلمين واعترافهم بها يكفي في مقام مطالبة الكتابي الدليل على النّسخ ، وكون علمهم ناشيا عن القرآن لا ينافي الالتزام بل هذا في الحقيقة إفحام المدّعي النبوّة وصاحب الشريعة لو لم تكن عنده الآيات والبيّنات الواردة على الاستصحاب ؛ ضرورة ان مدّعي النّبوّة إذا كان مرجع دعواه إلى دعوى نسخ ما يعترف بثبوته يمكن بالإستصحاب في مقام المناظرة إلى أن يأتي بالبيّنة ، ثم إن معارضة قول النّصارى بقول اليهود لا معنى لها ، والمنع من أصل النبوّة ـ مع انّه لا سبيل إليه ـ لا يتوقّف على الإستناد إلى قول اليهود » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩٠.


معنى لدعوى وجوده سيّما مع معارضة دعوى بعض الأمم بدعوى أمّة أخرى مكذّبة لها فتدبّر.

(٢٨٦) قوله : ( إنّ مرجع النّبوّة المستصحبة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٦٩ )

أقول : قد يناقش فيما ذكره : بأنّ قيام النّبوة بالنّفس النّاطقة لا يقتضي عدم زوالها بالموت غاية ما هناك عدم اقتضائه للزّوال في قبال ما يعرضها من حيث وجودها في النّشأة الدّنيويّة المقتضي للزّوال بالموت ؛ ضرورة أنّ بقاء النّفس

__________________

(١) قال المؤسس الطهراني قدس‌سره :

وفيه : ان استصحاب النبوّة مرجعه إلى التديّن بها وعقد القلب عليها لا إلى التديّن بجميع ما جاء به ، وعدم قابليّة صفة النبوّة للإرتفاع بديهي الفساد ، وإنّما الباقي هو القرب من الله تعالى.

وأمّا النبوّة فهو من المناصب ولا معنى لنسخ النبوّة إلّا عزل النبي عن منصبه وإقامة شخص آخر مقامه ، وبهذا يتبدّل الإقرار بنبوّة النّبي السابق بالإقرار بنبوّة النبي اللاحق إذا كان دينه ناسخا ، ومن المعلوم أنّ النبوّة أحد ركني الدين ، وأمّا النبوّة المنسوخة فالإقرار بها من قبيل التدين بجميع ما جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس من أصول الدين.

وبالجملة : فالنسخ إنّما يتعلّق بالنبوّة حيث ينسخ الدين ، ونسخ الحكم أمر وراء ذلك ، فكما ان الإيمان بالنبي ليس عبارة عن التديّن بجميع ما جاء به ، بل إنّما هو عبارة عن الإقرار بنبوّته والتديّن بها وعقد القلب عليها فكذا الإستصحاب إنّما يترتّب عليه وجوب البقاء على الإيمان به والإلتزام ببقاء نبوّته ، وانّ الدين إنّما هو الإقرار بنبوّته لا بنبوّة نبيّ آخر.

وأمّا البشارة فلا يوجب كون الأحكام مغيّاة ؛ لما عرفت : من انّ النسخ ليس تحديدا ، بل لا معنى له الّا الرفع ، مع انّ جريان الإستصحاب مع الشك في النسخ ، ممّا لم يتأمّل فيه ذو مسكة ولو قلنا بانه انتهاء الأمد ، ومجرّد دعوى التحديد لا يمنع من الرّكون إلى الإستصحاب ، بل المدّعي إثباته والمنع من الإستصحاب لتوهّم : ان النّسخ ليس رفعا حقيقة مكابرة ومخالفة للضرورة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩٠.


النّاطقة وعدم انعدامها لا يقتضي عدم زوال كلّ ما كان قائما بها ؛ فإنّه ليس معنى القيام بالنّفس كون النّفس علّة تامّة لبقاء ما يقوم بها ، بل ربّما يكون المقتضي للقيام بها شيء ليس دائميّا فحينئذ لا مانع من زوال الوصف القائم بالنّفس من جهة زوال ما يقتضيه.

فيمكن أن يقال : إنّ المصلحة اقتضت بحسب مرتبة النّبي عند الله تبارك وتعالى أن يكون النّبيّ نبيّا إلى مدّة معيّنة ، فبمجيء النّبي اللّاحق ينكشف انتهاء المدّة المذكورة فتأمّل.

مع أنّه قد يقال : بأنّه لا مانع أن يكون النّبوّة من الأمور الاعتباريّة كالولاية والأمارة ونحوهما منتزعة من الأمر بوجوب إطاعة النّبي فليست النّبوّة بناء عليه من الأوصاف حتّى يقال : إنّها قائمة بالنّفس أو بالقوى الظّاهريّة فتأمّل. وقد مضى شطر ممّا يتعلّق بالمقام فيما قدّمناه لك في أوّل المسألة فراجع إليه.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّه بناء على ما ذكره يخرج الاستصحاب المذكور عن محلّ الفرض ؛ فإنّ الكلام كان في حكم الاستصحاب الجاري في الأصول دون الاستصحاب الجاري في الفروع هذا.

ثمّ إنّه يمكن الخدشة فيما ذكره ( دام ظلّه ) بما ستقف عليه من الإشكال فيما ذكره في الجواب الرّابع فتدبّر.

(٢٨٧) قوله : ( أن يقال : إنّا معاشر المسلمين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٧٠ )

__________________

(١) قال الفقيه الرّباني الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :


__________________

« وفيه : ان النبوّة لا إشكال في ثبوتها ، وكونها معلّقة على البشارة لا ينافي الجزم بالوقوع من جهة الجزم بوقوع المعلّق عليه ، فللكتابي إلزام المسلمين ؛ لإعترافهم بنبوّة النّبي السابق وحقّيّة دينه والإمام عليه‌السلام أجلّ من أن يصدر عنه هذا الكلام وقد عرفت معنى كلامه » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩١.

* قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس سره :

« أقول : لا يخفى ما في هذا الجواب من المكابرة فإن تعليق الحكم الثّابت لموضوع خارجي شخصي ببعض أوصافه المتحقّقة باعتقاد المدّعي لا يوجب تعدّد الموضوع فللكتابي أن يقول إنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم عليهما‌السلام الّذي هو شخص خاصّ معهود لا أعلم تفصيلا مقالته وأحكامه ولكن أسألك عن أنّه هل تحقّق له وصف النبوّة التقديريّة الّتي زعمتها أم لا؟

فإن قلت : لا فقد كفرت ، وإن قلت : نعم ، فعليك إثبات نسخه ، وجعل النبوّة في مقام الإقرار معلقا على أمر لا يذعن به الخصم بعد اعترافك بحصول المعلق عليه غير قادح بالإقرار في مقام المخاصمة كما لا يخفى » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الاصول : ٤٢٧.

* وقال المحقق السيّد محمد كاظم اليزدي قدس سره :

[ « لا يخفى أن ايراد الكتابي : وهو أن موسى بن عمران عليه‌السلام أو عيسى بن مريم عليه‌السلام شخص معيّن وجزئي حقيقي اعترف المسلمون بنبوّته على أي نحو كان فتستصحب نبوّته إلى أن يعلم النسخ وارد عليه ظاهرا. ويمكن أن يوجّه بوجه لا يرد عليه ذلك ، وهو أن يقال إن ما اعترف به المسلمون ليس الّا النبوّة المغيّاة بمجيء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا النبوّة المطلقة أو المجملة المحتملة للبقاء ، بل المقيّدة بالغاية التي لا تحتمل البقاء بعدها ، فلم يبق محل للاستصحاب ، وأنت خبير بأنّ هذا الجواب أيضا بعد اللتيا والتي إنما يصح في مقام المجادلة وإلّا فليست النبوة المقيّدة بالغاية نوعا من النبوّة والنبوّة غير المقيّدة بها نوعا آخر كي يصح الاعتراف


أقول : قد يورد عليه : بأنّ كلّا من الاعتقادين اعتقاد مستقلّ غير مربوط بالآخر فلا معنى لتقييد أحدهما بالآخر ، ومدخليّة تبليغ النّبي السّابق مخصوص نبوّة نبيّنا في نبوّته ليس إلّا كمدخليّة سائر ما أمر بتبليغه ، فنحن معتقدون بنبوّته

__________________

باحدهما وإنكار الآخر ، بل هي حقيقة واحدة قد تنسخ وقد لا تنسخ.

وحينئذ فالتحقيق في جواب الكتابي أن يقال : إنّ الاستصحاب حكم الشاك بعد الفحص المعتبر ولا شك للمسلمين في حقّية دينهم بل وكذا أهل الكتاب في الأغلب ، ولو فرض حصول شكّه ، وعليه أن ينظر في صحّة بيّنتنا حتّى يزيل الشك عن نفسه ، ولا محل للعمل بالإستصحاب قبل ذلك ، ولو فرض انه لم يرتفع شكه بعد كمال الفحص والنظر وبذل غاية الجهد فلا غائلة في استصحاب الشريعة السابقة على تقدير العلم بها بالبيّنة في هذا الفرض النادر على أحد الوجوه التي قررناها من ثبوت حجية الاستصحاب عنده في كلتا الشريعتين أو إحداهما أو ثبوت حجية خصوص هذا الاستصحاب بحكم العقل وبناء العقلاء كما عرفت الوجه فيه سابقا ، وليس هذا دليلا على حقّية مذهب الكتابي في هذا الزمان كما أراده بل هذا حكم عمل الشاك الكذائي الذي لم يتحقق وجوده إلّا في فرض نادر غاية الندرة » ] إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣١٢ ـ ٣١٣.

* وقال الشيخ رحمة الله الكرماني قدس سره :

« أقول : هذا الجواب ردّي في الغاية ؛ لان السؤال وقع عن الشخص الواقع في الخارج ولا يمكن إنكار نبوّته ، واختلاف التقدير لا يوجب اختلافا في الشخص الواقع في الخارج.

نعم هذا الجواب يناسب من اعتقد بالموصوف الكلّي وشك في انطباقه على الشخص الواقع في الخارج فيقول : إن كان هذا الشخص فعل كذا فأنا معتقد به وإلّا فلا.

ولا يناسب من اعتقد بالشخص ثم وقع النّزاع بينه وبين غيره في انه فعل كذا ، فعلى من يدّعي انه فعل كذا الإثبات ، لا إنكاره على تقدير عدم فعله ليدفع عنه كلفة الإستدلال وذلك واضح للماهر بقانون المناظرة » إنتهى. أنظر الفرائد المحشي : ٣٩٤.


وتبليغه جميع ما أمر بتبليغه ؛ فإنّ النّبي معصوم فهذان الاعتقادان ثابتان في الواقع بمعنى : أنّه بعد القطع بدعوى شخص النّبوّة وإظهاره المعجزة على طبق دعواه يقطع بكونه نبيّا ويقطع بحكم العقل المستقلّ بعد ثبوت نبوّته أنّه معصوم يبلّغ جميع ما أمر بتبليغه عن الله عزوجل.

(٢٨٨) قوله : ( وأمّا التزامه عليه‌السلام بالبيّنة على دعواه ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٧٢ )

أقول : لمّا كان ظاهر الالتزام بالبيّنة في مقابل الخصم على ما هو المركوز في جميع الأذهان : من وجوب إقامة البيّنة على المدّعى وكفاية الأصل للمنكر

__________________

(١) قال المحقق الربّاني الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« محصّل [ الرواية التي هي ] الكلام الساطع منه انوار النبوّة : انّ عيسى وان كان جزئيّا حقيقيّا إلّا أنّ علمنا به ومعرفتنا له ليس الّا بعنوان الكلّي وممّا يعتبر في هذا العنوان كونه مقرا بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه ويبشّر به أمّته فمن لم ينطبق عليه هذا العنوان لا نعترف به بنبوّته ... إلى أن قال :

فحاصل الجواب : انّ المسمّى بعيسى الذي اعترف بنبوّته نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا مجال لاستصحاب نبوّته ومن لا ينطبق عليه هذا العنوان فهو كذّاب ملعون غير متّصف بصفة النّبوّة ، وقوله عليه‌السلام :

( كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ... ) صريح في انّ الذي نقرّ بنبوّته كلّي منحصر في الفرد كما هو مقتضى إضافة كلمة ( كلّ ) إليه ؛ فإنّ العموم الافرادي لا يتصوّر إلّا في الكلّي ، فما ذكره الكتابي في ردّ جواب بعض السادة حيث ذكر جواب الإمام عليه السلام : من أنّ عيسى بن مريم جزئي حقيقي وأفحمه به ، غلط ؛ حيث انّ كونه جزئيّا لا ينافي كون معرفته بعنوان كلّي ، ولمّا خفي هذا المعنى على الأستاذ قدس سره قال : ( وهذا الجواب بظاهره مخدوش ... ).

وقد عرفت : ان ظاهره في غاية المتانة ومطابق للقواعد وإنّما خفي على الكتابي وغيره ؛ لدّقته وعدم الخبرة بالموازين العلميّة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٨٣.


كون الكتابي منكرا وأصله معتبرا فيكون منافيا لما استظهر من الرّواية : من عدم تسليم الإمام للنّبوّة مطلقا حتّى تصير موردا للاستصحاب إنّما سلّم النّبوّة التّقديريّة الغير القابلة لإجراء الاستصحاب فيها فأراد ( دام ظلّه ) دفع هذا الظّهور بهذا الكلام ولا يخفى كونه في كمال المتانة.

(٢٨٩) قوله : ( إلّا أن يريد الجاثليق ببيّنته نفس الإمام عليه‌السلام. ( ج ٣ / ٢٧٢ )

أقول : لا يخفى عليك المراد من الاستدراك الّذي ذكره ( دام ظلّه ) ؛ حيث إنّ المراد منه نفي الظّهور الّذي ادّعاه من قول الجاثليق من كونه أيضا مدّعيا ؛ فإنّه بعد ما كان المراد من البيّنة في كلامه الإمام عليه‌السلام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى ( على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ) يرجع كلامه إلى التمسّك بنفس الاستصحاب ، فيكون ذلك تقريرا للتّمسك بالاستصحاب هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ كون مراده بالبيّنة نفس الإمام والمسلمين لا يوجب سقوط قوله : ( سلّمنا ... إلى آخره ) (١) من الظّهور المذكور فتدبّر.

(٢٩٠) قوله : ( إمّا لإجماله كما إذا أمر بالجلوس ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٧٣ )

أقول : قد عرفت سابقا : أنّ عدم تعرّض الدّليل لحال الحكم في الزّمان الثّاني وعدم دلالته عليها على وجهين :

أحدهما : أن يكون الدّليل مجملا بالنّسبة إلى الحالة الثّانية.

ثانيهما : أن يكون مهملا بالنّسبة إليها. وهذا قد يكون في الأدلّة اللّفظية ، وقد

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٧١ والخبر في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ / ١٥٦ و ١٥٧.


يوجد في الأدلّة اللّبية كما في المثالين المذكورين في « الكتاب ». وأمّا الإجمال فلا يوجد في الأدلّة اللّبية.

والفرق بين الإجمال والإهمال : أنّ الحكم يمكن أن يكون مرادا من الدّليل المجمل في الزّمان الثّاني وإن كان غير دالّ بالنّسبة إليه قطعا ولا يمكن أن يكون مرادا من الدّليل المهمل على تقدير ثبوته واقعا. وقد مرّ تفصيل الكلام في ذلك في طيّ كلماتنا السّابقة.

* * *


* التنبيه العاشر (١) :

دوران الأمر بين التمسّك بالعام أو استصحاب حكم المخصّص

(٢٩١) قوله : ( بل مانع عنه ؛ إذ المعبّر (٢) في الاستصحاب ... إلى آخره ) (٣). ( ج ٣ / ٢٧٤ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« إن مقتضي ما حقّقناه : من ان مفاد الأخبار إنّما هو استصحاب حكم النّص ـ الذي يعبّر عنه بالعموم والإطلاق ـ انه لو علمنا بمخالفة خاصّ للعام في الحكم ـ في الجملة ـ ولم نعلم حكمه في حال آخر : إن الحكم المستفاد من دليل العام قد ثبت لموضوع مبيّن ونعلم بالمقتضي له تفصيلا وشرائطه وكذا دليل الخاص فحينئذ لا إشكال في الأخذ بما دلّ على حكم الخاصّ فانه لتأخّره يتقدّم على ما تقدّم ، وقد يثبت الحكمان أو احدهما على وجه الإهمال وحينئذ فالمرجع إنّما هو العام من الدليلين لما عرفت : من انّ القاعدة الشريفة إنّما تنفي احتمال المانع.

وبالجملة : فمورد الاستصحاب انّما هو ما دلّ الدليل على ثبوت الحكم على وجه الإطلاق والعموم بمعنى ثبوت الإقتضاء وعدم كون الشك في الشرط وإن كانت الشبهة موضوعيّة أو كان المعوّل موضوعا خارجيّا كالعقد الّذي تأخذ بإطلاقه عند الشك في الطلاق سواء كانت الشبهة حكميّة ـ كما في خليّة وبريّة ـ أو موضوعيّة » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩١ ـ ٢٩٢.

(٢) كذا والصحيح كما في الكتاب : « إذ المعتبر ».

(٣) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :


الدليل الظني المعتبر ليس رافعا لموضوع

__________________

« وفيه : ما عرفت من الأخذ بالمقتضي الذي هو الإستصحاب عندنا وهو الشرط عنده لاختياره حجّيّته عند الشك في الرّافع خاصّة لا يتحقّق إلّا مع عموم الدليل ؛ لما عرفت : من انّ عمومه عبارة عن تماميّة الإقتضاء لا غير ، ولهذا لم يتحقّق التعارض بين العمومات وأدلّة الموانع في شيء من الأبواب.

وأمّا مع قصور الدليل عن إفادة هذا المعنى فضلا عن عدم إحراز الموضوع فلا معنى للإستصحاب.

وأمّا توهّم جريان الإستصحاب فيه من الأمثلة لا يخلو عن أحد الأمرين ؛ فإن تردّد أمر الليل بين الإستتار وذهاب الحمرة مرجعه إلى الجهل بالموضوع ، وكذا لو تردّد الأمر بين ان يكون للتغيير عنوانا يدور مداره كالخمر وبين أن يكون التغيّر كاشفا عن زوال الإعتصام وكون الموضوع هو الماء والملاقاة شرطا والكرّيّة مانعة ؛ فإن عدم جريان الإستصحاب حينئذ أيضا من الواضحات ؛ لعدم تبيّن الموضوع ؛ فإن زوال التغيّر من قبل نفسه ليس مزيلا بالضرورة وأمّا إذا كان الدليل لبّيّا لم يثبت به الّا الحكم على وجه الإهمال فهو أيضا لا يخلو عن الشك في المقتضي والموضوع.

فتبيّن انه لا إشكال في عدم جريان الإستصحاب في القسم الثالث ، فلا إشكال في ان الإستصحاب إنّما يجري في القسم الأوّل الدّال على العموم بمعنى تماميّة الإقتضاء كقولك : ( اكرم العلماء على كلّ حال وفي كلّ زمان ) ؛ فإنه لا يدل إلّا على عدم مدخليّة شيء في اقتضاء العلم للإكرام.

وأمّا انه لا شرط له أو لا يمنع عنه مانع فلا ، ولهذا لا ينافي العموم ذكر شرط أو بيان مانع كقولك : ( إن كانوا عدولا ) و ( لا تكرم الفاسق ) فهل يتوهّم أحد أن عموم حجّيّة فتوى الفقيه ينافي اعتبار الايمان والعدالة وطهارة المولد أو منع الفسق عنه؟! إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ٢ / ٢٩٢.


الأصل وجدانا كالدليل القطعي

أقول : قد يتأمّل فيما ذكره ( دام ظلّه ) : بأنّ الدّليل الظّني المعتبر ليس كالدّليل القطعي رافعا لموضوع الأصل وجدانا حتّى لا يفرّق فيه بين أن يكون على طبق الأصل أو على خلافه ، وإنّما هو رافع لموضوعه بالحكومة الّتي يرجع حقيقة إلى تنزيل الموضوع الموجود منزلة عدمه.

فهذا الدّليل الظّني إن كان على خلاف الأصل فلا ريب في وجود هذا المعنى بالنّسبة إليه ؛ لأنّ معنى الأمر بتصديق خبر العادل القائم على الخلاف أو بالعمل بالعموم الدّال على خلافه : هو أنّ المقصود من الشّك الّذي أمر بالرّجوع فيه إلى الأصل غير هذا الشّك الّذي وجد فيه الخبر أو العموم مثلا ، فرفع اليد عن الأصل حينئذ ليس من التّخصيص.

وأمّا إذا كان على طبق الأصل فلا ينافي مقتضى الأصل حتّى يجعل دليل حجيّة الأمارة القائمة على الخلاف مفسّرا لدليل الأصل. ومن هنا ترى الفقهاء كثيرا ما يجمعون في الاستدلال بين الأصل والدّليل.

نعم ، بناء على ما قد قيل : إنّ العلم الّذي هو رافع لموضوع الأصول وأخذ عدمه فيه أعمّ من الظّن المعتبر كان لما ذكره وجه ، ولكن هذا البناء في غاية الضّعف وليس بمرضيّ عند الأستاذ العلّامة أيضا هذا.

ولكنّك خبير بأنّه لا وجه لهذا التّأمّل ؛ لأن مقتضى دليل حجيّة الأمارة من حيث كشفها عن الواقع هو ترتيب آثار الواقع عليه ورفع اليد عن الحكم المجعول


للواقع من حيث الشّك فيه من حيث كونه مجعولا بلحاظ الشّك ، وكون المراد من الشّك الّذي هو الموضوع في أدلّة الأصول هو غير الشّك الّذي وجد فيه دليل كاشف عن الواقع سواء كان على طبق الأصل أو على خلافه.

وأمّا تمسّك الفقهاء كثيرا بالأصل والدّليل والجمع بينهما في الاعتماد على ما صاروا إليه فليس من جهة بنائهم على جريان الأصل في موضوع وجود الدّليل على الخلاف ، بل من جهة الإغماض عن وجود الدّليل في المسألة ، ولهذا ترى لا يفرّقون في الجمع بين الدّليل والأصل في التّمسك بين الدّليل القطعي والظّني كما لا يخفى على من راجع إلى كلماتهم في موارد الجمع بين الأصل والدّليل.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكره ( دام ظلّه ) بين كون اعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد أو من باب الظّن ؛ فإنّ وجود الدّليل في المسألة مطلقا مانع عن الرّجوع إلى الأصل وإن كان الدّليل أصلا لفظيّا مقيّدا بعدم قيام القرينة على الخلاف والأصل دليلا اجتهاديّا معتبرا من باب الظّن كما حقّق مستقصى في مسألة تعارض الأدلّة وستقف على تفصيل القول فيه إن شاء الله في الجزء الرّابع من التّعليقة.


(٢٩٢) قوله : ( ثمّ إذا فرض خروج بعض ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٧٤ )

أقول : تفصيل القول في المقام وتحقيقه يقتضي شرحا في الكلام فنقول :

إذا ورد عامّ وخاصّ على خلافه ولو حظت النّسبة بينهما بحسب الزّمان فلا يخلو إمّا أن لا يكون لهما شمول بالنّسبة إلى الزّمان أصلا سواء دلّا على عدم الشّمول أو احتملا الشّمول أو يكون لهما شمول بالنّسبة إليه أو يكون لأحدهما شمول بالنّسبة إليه دون الآخر فالصّور أربعة.

ثمّ الشّمول قد يكون بالعموم بمعنى أنّه أخذ كلّ جزء من أجزاء الزّمان يسع لوقوع الفعل فيه موضوعا متعلّقا للحكم المستفاد من الدّليل ، فينحلّ العموم بحسب الزّمان إذن إلى أحكام متعدّدة لا ارتباط بينها ، وقد يكون بالإطلاق واستفيد عموم الحكم بالنّسبة إلى جميع الأزمنة من الحكمة ، وقد يكون بالإطلاق مع التّصريح بما

__________________

(١) قال الفقيه الرباني الشيخ محمد هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انّ كون كلّ زمان فرادا مستقلّا لا يعقل إلّا فيما إذا كان موضوع الحكم زمانا أو مقيّدا به كقولك : ( صم الشهر ، أو كلّ يوم منه ) و ( تعبّد لله في شهر رمضان في كلّ ساعة وآن ) وأمّا إذا كان الموضوع هو العالم كما في المثال فعموم الحكم لا يعقل إلّا بالنسبة إلى أفراده ، ولا معنى للتعميم من حيث الزمان وغيره كالمكان والحالات إلّا انه لا دخل لأمر وراء العلم في ترتّب الحكم عليه فهو بيان لتماميّة اقتضاء العلم للحكم كما هو المدلول عليه بالوضع والحمل ، فقولك : ( في كلّ زمان ) مؤكّد لما استفيد من قولك : ( أكرم العلماء ) فلا فرق بين استفادة هذا النحو من العموم الزماني من الإطلاق وبين استفادته من كلمة ( كل ) ، كما انّ كون كلّ شخص من العلماء موضوعا مستقلّا بمقتضى تعلّق الحكم الكلّي الذي هو العالم فلا فرق بين أن يقال : ( أكرم العالم ) أو ( كلّ عالم ) أو ( العلماء ) الّا في قوّة الدلالة على تماميّة الإقتضاء وبما حقّقناه ظهر حال فروع الباب وما صدر من الأصحاب قدس‌سرهم » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤.


يقتضي عدم العموم الزّماني بالمعنى المذكور وإن اقتضى دوام الحكم كأن يقول المولى لعبده : « أكرم العلماء دائما ».

مثال الأوّل : ما إذا ورد من المولى « أكرم العلماء » أو « أضف الفقهاء » ثمّ ورد النّهي عن إكرام واحد منهم من غير أن يكون هناك ما يستفاد منه الشّمول بالنّسبة إلى أحدهما.

مثال الثّاني : ما إذا ورد « أكرم العلماء في كلّ يوم ». ثمّ ورد « لا تكرم زيدا العالم في كلّ يوم ». أو « ورد أكرم العلماء دائما ». ثمّ ورد « لا تكرم زيدا العالم ـ مثلا ـ دائما » ، أو فهم الشّمول في كلّ منهما من الإطلاق والحكمة فيما يفرض فيه وجود ذلك.

وأمّا مثال ما إذا كان للعام العموم بالنّسبة إلى الزّمان دون الخاص فهو : ما إذا ورد « أكرم العلماء في كلّ يوم ولا تكرم زيدا العالم » إذا لم يكن ثمّة ما يقتضي ٣ / ١٥٨ عمومه بالنّسبة إلى الزّمان.

وأمّا مثال ما إذا كان للخاصّ شمول زماني دون العامّ فهو ما إذا ورد من المولى « أكرم العلماء » ثمّ ورد « لا تكرم زيدا العالم في كلّ يوم » هكذا قيل.

ولكن الحقّ أنّ هذا القسم الأخير ممّا لا معنى له ؛ لأنّ عموم الخاصّ بالنّسبة إلى الزّمان ملازم لعموم العام بالنّسبة إليه كما لا يخفى ، بل اشتمال الخاص على الزّمان ربّما يستظهر منه دلالة العام على العموم ، كما إذا ورد بعد ورود أكرم العلماء : لا تكرم زيدا في يوم الجمعة مثلا ؛ فإنّ التّعرض للزّمان في الخاصّ بإخراجه من حيث الزّمان الخاصّ يقتضي عموم العام بالنّسبة إلى الأزمنة وإلّا لم يكن معنى لملاحظة المتكلّم الزّمان في القضيّة المشتملة على التّخصيص.


كيفية اجتماع العام مع الخاص ودلالتها

أو دلالة أحدهما على العموم الزّماني

إذا عرفت ذلك فنقول : لا إشكال في الرّجوع إلى استصحاب حكم الخاصّ في الصّورة الأولى فيما إذا شكّ في بقائه في زمان من الأزمنة ؛ حيث إنّه لا معنى للرّجوع إلى العام ؛ إذ المفروض عدم عموم له أصلا حتّى يرجع الشّك في بقاء الحكم بالنّسبة إلى الزّمان الثّاني إلى الشّك في زيادة التّخصيص ، كما أنّه لا إشكال في الرّجوع إلى عموم الخاصّ في الصّورة الثّانية والرّابعة وفي خروجهما عن محلّ البحث.

إنّما الإشكال والكلام في الصّورة الثّالثة وهي : ما إذا كان للعام شمول بالنّسبة إلى الزّمان دون الخاصّ فهل يرجع إلى عموم العام بالنّسبة إلى زمان الشّك مطلقا ، أو إلى استصحاب حكم الخاصّ مطلقا ، أو يفصّل بين ما إذا كان شموله للزّمان على الوجه الأوّل من العموم ، أو على الوجه الثّاني منه ، فيحكم في الأوّل بالرّجوع إلى عموم العام ، وفي الثّاني إلى استصحاب حكم الخاص؟

وجوه بل أقوال : ظاهر المحقّق الثّاني في « جامع المقاصد » هو الأوّل ، وظاهر كلام بعض السّادة الفحول (١) حسب ما ستقف عليه هو الثّاني ، وصريح

__________________

(١) هو السيد بحر العلوم أنظر فوائده الأصولية : ١١٦ ـ ١١٧.


الأستاذ العلّامة في « الكتاب » هو الثّالث ، وربّما يستفاد من كلام ثاني الشّهيدين (١) أيضا ، بل نسبه الأستاذ العلّامة في مجلس البحث إلى الأكثرين ، بل المشهور.

أمّا المحقّق الثّاني فاستدلّ في ظاهر كلامه : « بأنّ مقتضى عموم العام للزّمان هو الاقتصار في الخروج عن مقتضاه على قدر ما دلّ المخرج عليه ، فإذا فرض عدم دلالته إلّا على خروج فرد بالنّسبة إلى زمان مّا ، فاللّازم الرّجوع في غيره إلى العام بمقتضى أصالة العموم ، هذا ملخّص ما يستفاد من كلامه المحكيّ في مسألة « خيار الغبن في باب تلقّي الرّكبان » ؛ حيث إنّه استدلّ للفوريّة : بأنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان وإلّا لم ينتفع بعمومه » (٢)(٣). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأورد عليه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) : بالمنع من لزوم الرّجوع إلى العموم

__________________

(١) مسالك الأفهام : ج ٣ / ١٩٠.

(٢) جامع المقاصد : ج ٤ / ٣٨.

(٣) قال الأصولي الجليل المحقق الطهراني قدس‌سره :

« قد عرفت : ان عموم الأزمان في مثله عموم تبعي مرجعه إلى تماميّة الإقتضاء ، ومن المعلوم ان دليل الخيار إن كان قاصرا عن إفادة تماميّة الإقتضاء لم يجر الإستصحاب إلّا في اللزوم ، لكنّ المدرك في خصوص هذا الخيار إنّما هو انصراف المعاملة إلى القيمة العادلة ، فهو مقتضى إطلاق العقد كالحلول والنّقد الغالب ، وهذا المقتضي لا قصور فيه ولا إجمال في دليله.

وأمّا الإستناد إلى لا ضرر فهو من الأغلاط في كلّ ما استدلّوا له به وليس هذا مقام بيانه ، والإستناد إلى الآية الشريفة في إحراز اقتضاء اللزوم قد بيّنا فساده في كتاب ذخائر النبوّة بما لا يزيد عليه » انتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩٤.


فيما إذا لم يكن من القسم الأوّل ؛ فإنّ الحكم بخروج الفرد الخارج دائما عن العام الّذي دلّ على ثبوت الحكم لجميع أفراد موضوعه دائما لا يستلزم تخصيصات عديدة بحسب أجزاء الزّمان الّتي تسع لوقوع الفعل فيها ؛ حيث إنّ المفروض عدم أخذ كلّ جزء من أجزاء الزّمان موضوعا مستقلّا وملحوظا بحياله حتّى يلزم الحكم بعدم ثبوت الحكم لجميعها تخصيصات متعدّدة.

فيرجع الشّك حينئذ في المقدار الّذي لا يدلّ عليه الدّليل المشتمل على التّخصيص إلى الشّك في التّخصيص الزّائد على القدر المعلوم ، بل عموم الحكم من حيث الزّمان في هذا القسم من توابع دخول الفرد في العام ، فإذا فرض خروجه عنه فلا يبقى عموم له بالنّسبة إلى الزّمان ، وإن كان العموم المستفاد عموما أصوليّا استغراقيّا وضعيّا ، إلّا أنّه لم يلاحظ الزّمان فيه على الوجه الّذي ذكرنا.

ومن هنا لم يتأمّل أحد في الحكم بالحليّة بالنّسبة إلى زمان الشّك فيما لو ثبت تحريم فعل بعنوان العموم وخرج منه فرد خاصّ من ذلك الفعل ووقع الشّك في أنّ ارتفاع الحرمة عن ذلك الفرد مختصّ ببعض الأزمنة أو عام لجميعها.

والحاصل : أنّ معنى العموم بحسب الزّمان في هذا القسم أنّ كلّ فرد كان داخلا في هذا العام ومرادا منه فهو مراد منه دائما فالحكم ثابت له كذلك ، فقول المولى : « أكرم العلماء دائما » لا يدلّ إلّا على ما ذكرنا.

فاندفع منه ما ربّما يتوهّم من المناقشة فيما ذكره الأستاذ العلّامة من التّمثيل لهذا القسم بالقضيّة المشتملة على لفظ الدّوام ؛ فإنّ المقصود من دوام الحكم استمراره الّذي يستلزم عدم تعدّده ، وإلّا لم يكن معنى لاستمرار الحكم كما لا يخفى.


نعم ، لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل ؛ لأنّ المفروض أنّ كلّ فرد في كلّ زمان بحسب الملاحظة مستقلّ في الموضوعيّة للحكم ، وهذا بخلاف الفرض ؛ حيث إنّ الزّمان لم يلاحظ إلّا بلحاظ وجود الفعل فيه مجرّدا ، فالّذي يمنع من الرّجوع إلى العموم بالنّسبة إلى الفرد الخارج عدم رجوع الشّك بالنّسبة إلى الزّمان المشكوك إلى الشّك في التّخصيص الزّائد كما هو واضح ولو لم يكن هناك استصحاب يرجع إليه.

وهذا بخلاف الفرض الأوّل ؛ فإنّه لا إشكال في عدم جواز الرّجوع فيه إلى الاستصحاب حتّى لو فرض عدم وجود العموم الحاكم على الاستصحاب على تقدير جريانه ؛ حيث إنّ مقتضى الفرض تعدّد موضوع الحكم بحسب أجزاء الزّمان ، فالفرد في زمان اليقين فرد وفي زمان الشّك فرد آخر في عالم الموضوعيّة ، فلا معنى للرّجوع إلى الاستصحاب من جهة تعدّد الموضوع لا من جهة العموم ، فلو لم يجز الرّجوع إلى العموم ؛ لفرض إجماله من جهة التّخصيص بالمجمل لم يجر الاستصحاب أيضا على عكس المقام ؛ حيث إنّه لا يجوز الرّجوع فيه إلى العموم ولو لم يجز الرّجوع إلى الاستصحاب.

فإن قلت : إذا سلمت العموم بحسب الزّمان سواء كان بمقتضى الحكمة أو ٣ / ١٥٩ باللّفظ الدّال عليه بحيث يكون المخالف له بالنّسبة إلى جميع الأزمنة مستحقّا لعقوبات متعدّدة بحسب أجزاء الزّمان بالنّسبة إلى كلّ فرد فلا بدّ أن يكون في جميع الموارد كلّ جزء من أجزاء الزّمان مقصودا بحياله ، وإلّا لم يكن معنى لتعدّد المخالفة والعقاب ، فلا يستقيم ما ذكرته : من الرّجوع إلى الاستصحاب ، إلّا فيما إذا فرض العموم بدليّا بحسب الزّمان وهو خارج عن الفرض ، فعلى هذا يتعدّد


الموضوع هنا أيضا ؛ لاستحالة تعدّد الطّلب مع وحدة المطلوب.

قلت : تسليم العموم بحسب الزّمان مع كونه تابعا لدخول الفرد في العام لا ينفع عند خروج الفرد عنه كما لا يخفى هذا. مع أنّ ما ذكر إنّما هو بحسب الدّقة والتّحليل العقليّ والاستصحاب ليس مبنيّا عليها ، بل إنّما هو مبنيّ على المسامحة ، ولهذا كثيرا مّا يجرون الاستصحاب فيما ينحلّ إلى الأحكام المتعدّدة في نظر التّحقيق كما لا يخفى على من راجع إلى كلماتهم ، فحينئذ لا يرجع الشّك في المقدار الزّائد من الزّمان إلى الشّك في التّخصيص الزّائد ؛ لفرض وحدة الموضوع ولو بحكم العرف ، وقد عرفت : أنّ المانع منه هو رجوع كلّ فرد من أفراد الموضوع بواسطة ملاحظة الحاكم إلى موضوعات متعدّدة بحسب تقطيع الزّمان.

لا يقال : إنّ المسامحة العرفيّة إنّما ينتفع بها في جريان الاستصحاب ولا ينافي ذلك جريان أصالة العموم أيضا بملاحظة الواقع ، فيكون التّعويل إذن ـ على فرض تسليم جريان الاستصحاب المذكور بالنّظر إلى المسامحة ـ على العموم أيضا. ولعلّ هذا مراد ثاني المحقّقين في « جامع المقاصد » أيضا ، لا نفي جريان الاستصحاب رأسا حتّى لو لم يكن ثمّة عموم ، واعتبار المسامحة في تحقّق موضوع الاستصحاب ، وشمول ( لا تنقض ) لا يلازم اعتبارها بالنّسبة إلى العام أيضا ؛ إذ ليس هنا لفظ حتّى يحكم بصدقه واقعا بنفس المسامحة ، كما في الرّوايات المشتملة على لفظ ( النّقض ) ونحوه ، بل مع وجود اللّفظ كثيرا مّا لا تعتبر المسامحة العرفيّة لعدم إيجابها للصّدق حقيقة ، ولذا يحكم تبعا للمشهور على كون التّحديد في موارده تحقيقيّا لا تقديريّا مع الصّدق المسامحي.

لأنّا نقول : أصالة العموم من الظّواهر المعتبرة عند أهل العرف عند الشّك في


التّخصيص الّذي لا يمكن إلّا مع تكثّر الموضوع ، فإذا فرض بناؤهم على وحدة الموضوع في أمثال المقام فلا معنى لرجوعهم إلى العموم المنافي لفرض حكمهم بجريان الاستصحاب.

والحاصل : أنّه لا يمكن الجمع بين جريان الاستصحاب المبنيّ على وحدة الموضوع والرّجوع إلى العموم المبنيّ على تعدّده ، وأخذ الموضوع واحدا تارة ومتعدّدا أخرى لا معنى له أصلا ، وأخذ الدّوام في القضيّة أو استفادته منها ـ إذا كان الغرض منه استمرار الحكم الواحد بحسب أجزاء الزّمان ـ لا ينافي تعدّد الحكم بحسبها كما هو ظاهر فتدبّر.

هذا ملخّص ما أفاده ( دام ظلّه العالي ) مع توضيح منّا ولكنّه لا يخلو عن غموض وإشكال.

مناقشة ما أفاده المحقّق الثاني قدس‌سره (١)

ثمّ إنّ ما ذكره المحقّق الثّاني في المسألة دليلا على مطلبه لا يخلو عن إشكال مع قطع النّظر عمّا ذكرنا أيضا.

أمّا أوّلا : فلعدم الملازمة بين عموم الأفراد والأزمان عقلا وعرفا فلا معنى للحكم باستتباع الأوّل للثّاني بل العموم بالنّسبة إلى الزّمان لا بدّ من أن يستفاد من أمر آخر غير مجرّد العموم للأفراد الّذي يحصل مضمونه بإطاعته في بعض الأزمنة أيضا مثل الحكمة ونحوها.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مقتضى تبعيّة عموم الأزمان للأفراد هو ارتفاع العموم للأزمان بارتفاع العموم للأفراد بالنّسبة إلى الفرد المخصّص ، ولازمه القول بعدم

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


جواز الرّجوع إلى العموم على ما عرفت هذا.

ويمكن أن يقال : إنّ المراد هو التّبعيّة بحسب أصل الاقتضاء الوضعي أو الظّهور العرفي فلا يفرّق فيه دخول بعض الأفراد وخروجه في الجملة بل مطلقا في أصل الدّلالة بمعنى : أنّ ما يكون ظاهرا في العموم الأفرادي يكون ظاهرا في العموم الأزماني بحسب أصل الوضع أو الظّهور الثّانوي العرفي على حسب اختلاف منشأ الظّهور في الأوّل هذا.

وقد يوجّه أصل كلام المحقّق في المسألة بحيث يوافق ما اختاره الأستاذ العلّامة : بأنّ ما ذكره في المسألة مبنيّ على استفادة العموم ممّا دلّ على وجوب الوفاء بالعقد على الوجه الأوّل ، وإن كان قد أخطأ في هذه الاستفادة فالكلام معه راجع إلى التكلّم في الصّغرى فتأمّل.

ثمّ إنّ المستفاد من سيّد مشايخنا في « الرّياض » (١) في المسألة الّتي عرفتها عن « جامع المقاصد » : التّفصيل بين كون مستند الخيار الإجماع ، فوافق ثاني الشّهيدين في أنّه يتعيّن الرّجوع إلى الاستصحاب ، وأن يكون دليل نفي الضّرر ، فوافق ثاني المحقّقين « قدس‌سرهما » في الحكم بالرّجوع إلى ما دلّ على وجوب الوفاء بالنّسبة إلى زمان الشّك ؛ لاندفاع الضّرر بثبوت الخيار في الزّمان الأوّل هذا.

وفيه ما لا يخفى ؛ لأنّه إن بنى على تعدّد الموضوع بتعدّد الزّمان فلا ريب أنّ المتيقّن حينئذ الرّجوع إلى العموم في زمان الشّك سواء كان مدرك الخيار

__________________

(١) الرّياض ( ط ق ) : ١ / ٥٢١ وج ٨ / ٢٨١ و ٣٠٥ ط آل البيت.


الإجماع أو دليل نفي الضّرر.

وإن بنى على وحدة الموضوع فالمتعيّن الرّجوع في زمان الشّك إلى الاستصحاب لا العموم وإن كان المدرك للخيار هو عموم دليل نفي الضّرر ؛ إذ لم يرد أحد أن يتمسّك لإثبات الخيار في زمان الشّك بنفس دليل الخيار حتّى يقال بعدم دلالة نفي الضّرر على ثبوته ؛ لاندفاعه بثبوته في الزّمان الأوّل ، بل باستصحاب ما دلّ الدّليل على ثبوته في الزّمان الأوّل.

مع أنّه على هذا التّقدير لا بدّ من الحكم بالرّجوع إلى العام فيما كان المدرك ٣ / ١٦٠ الإجماع أيضا كما لا يخفى. ودليل الضّرر لا يدلّ على ثبوت الحكم في الزّمان الّذي لا ضرر فيه حتّى يصير فارقا ، وإنّما مفاده نفي الحكم الضّرري ، لا إثبات الحكم الغير الضّرري فالإثبات يحتاج إلى دليل آخر من عموم ونحوه هذا.

وذكر الأستاذ العلّامة في مجلس البحث : أنّ ما ذكرنا من الرّجوع إلى الاستصحاب في هذا القسم إنّما هو بملاحظة أنّ العموم لا يمنع من الرّجوع إليه حسب ما زعمه جماعة ، وإلّا فربّما لا يحكم بالرجوع إلى الاستصحاب من جهة أخرى كرجوع الشّك إلى الشّك في المقتضي والموضوع كما يدّعي ذلك بالنّسبة إلى المسألة الّتي عرفت الكلام فيها ، وإن أمكن القول بعدم قدحه بالنّظر إلى كفاية المسامحة العرفيّة.

ولكنّه جزم في « المكاسب » في باب خيار الغبن بعدم جريان الاستصحاب ؛ نظرا إلى عدم كفاية المسامحة العرفيّة وعدم اعتبارها (١). وهو كما ترى ، مناف لما

__________________

(١) كتاب المكاسب « الخيارات » : ج ٥ / ٢٠٧.


بنى عليه الأمر في « الكتاب » في باب إحراز الموضوع ، فلعلّ كلامه في « المكاسب » راجع إلى السّالبة الجزئيّة ، فلا ينافي ما في « الكتاب » ؛ فإنّ الغرض منه كفاية المسامحة فيما ساعد العرف على وحدة الموضوع فتأمّل.

ثمّ إنّك قد عرفت : أنّ كلّ مورد لا يحكم فيه بالرّجوع إلى العام مع فرض جريان الاستصحاب لا يحكم بالرّجوع إليه مع فرض عدم جريانه ، فلا بدّ من أن يرجع إلى أصل آخر في المسألة على تقدير الحكم بعدم جريان الاستصحاب ، هذا ملخّص الكلام في دليل القول بالرّجوع إلى عموم العام مطلقا.

حاصل كلام السيّد بحر العلوم في مختاره

وأمّا دليل القول بالرّجوع إلى استصحاب حكم الخاص مطلقا الّذي ذكرنا أنّه يستظهر من كلام بعض السّادة الفحول (١) فهو الّذي تعرّض له في طيّ كلامه الّذي لخصّه بعض أفاضل (٢) من تأخّر وهو الّذي حكاه الأستاذ العلّامة في « الكتاب » (٣) ، والمستفاد منه في ظاهر النّظر صلاحيّة الاستصحاب لتخصيص العام إبتداء فضلا عن صلاحيّته لإبقاء حكم الخاص في زمان الشّك وإن لزم منه التخصيص بالنّسبة إلى العام.

__________________

(١) السيّد بحر العلوم كما مرّ.

(٢) الشيخ محمّد حسين الإصفهاني صاحب الفصول المتوفى سنة ١٢٥٠ ه‍ في فصوله : ٢١٤ ـ ٢١٥ ، وصاحب الفصول أخذه من الفاضل النراقي في عوائده : العائدة ٢٢ / ٢١٥ والمطلب في الفوائد الأصوليّة للسيّد بحر العلوم الفائدة : ٣٥ / ١١٦.

(٣) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٧٦.


وحاصل ما ذكره من الاستدلال : هو كون الاستصحاب الجزئي أخصّ من العام الّذي في مقابله ، فتعيّن الخروج منه به على ما هو المقرّر في محلّه : من وجوب حمل العام على الخاصّ مؤيّدا ذلك باستشهاد الفقهاء في الموارد الّتي ذكرها في مقابل العمومات.

نقل كلام الفصول في تخصيص العام بالاستصحاب والمناقشة فيه

وذكر من لخّص كلامه من الأفاضل بعد نقله وجزمه بفساده ما هذا لفظه :

« بل التّحقيق أنّ هنا مقامين :

الأوّل : تخصيص العام ورفع شموله لبعض ما يتناوله بالاستصحاب.

والثّاني : إبقاء حكم المخصّص بعد قيام دليله في بعض ما يتناوله العام بالاستصحاب.

أمّا المقام الأوّل : فلا ريب في عدم حجيّة الاستصحاب فيه سواء كان موافقا للأصل أو مخالفا له ؛ لأنّ أدلّة حجيّته مقصورة على صورة عدم دلالة دليل على الخلاف وإن كان في أدنى درجة من الحجيّة وعموم العام دليل فلا يصلح الاستصحاب لمعارضته وساق الكلام في الاستدلال على ذلك ».

إلى أن قال ـ بعد نفي الفرق فيما ذكره بين الاستصحاب الموافق للأصل والمخالف ـ :

« نعم ، يستثنى من ذلك استصحاب عدم النّسخ عند سبق المخصّص الغير المستوعب ؛ فإنّه ينهض دليلا على التّخصيص بضميمة مورده لقرب التّخصيص


وبعد النّسخ كما سيأتي.

وأمّا المقام الثّاني : فلا ريب في حجيّة الاستصحاب فيه إذا اشتمل على شرائط الحجيّة من غير فرق بين الموافق منه للأصل والمخالف له وهو ممّا لا خلاف فيه بين القائلين بحجّيّته لكنّه ليس من باب تخصيص العام بالاستصحاب في شيء ، ومن هذا الباب ما ذكره من الأمثلة ؛ فإنّ عمومات البراءة إنّما دلّت على البراءة عند عدم قيام دليل على الاشتغال ، فإذا دلّ الاستصحاب على بقاء الاشتغال أو على بقاء موضوع يتفرّع عليه الاشتغال ثبت الاشتغال وليس شأن الاستصحاب حينئذ تخصيص تلك العمومات ، بل تحقّق عنوان اختصّت تلك العمومات بغيره وكذلك الكلام في عمومات الطّهارة ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« فاتّضح ممّا حقّقناه أنّ الفاضل المذكور قد خلط بين المقامين : من حيث إنّ صدر كلامه يدلّ على مصيره إلى الجواز في المقام الأوّل ، وذيله يدلّ على الجواز في المقام الثّاني ، واتّضح أيضا ضعف دليله وعدم مساعدة ما استشهد به من كلام الأصحاب على دعواه » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وقد يناقش فيما ذكره من التّحقيق والتّفصيل :

أمّا أوّلا : فلأنّ ما ذكره من نفي الرّيب في حجيّة الاستصحاب في إبقاء حكم الخاصّ على إطلاقه حتّى فيما كان العام مشتملا على العموم بالنّسبة إلى الزّمان سيّما على الوجه الأوّل ممّا ليس على ما ينبغي قطعا ، بل قد عرفت عدم جواز

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢١٥ ـ ٢١٤.


الرّجوع إلى الاستصحاب في الفرض ولو لم يجز الرّجوع إلى العموم ، اللهمّ إلّا أن يقال بخروجه عمّا ذكره بقوله : ( إذا اشتمل ... إلى آخره ) (١) سيّما بملاحظة قوله : « لكنّه ليس من تخصيص العام » (٢) والتّحقيق : أنّ مقصوده ممّا ذكره معنى آخر غير ما يقتضيه ظاهره حسب ما يفصح عنه مقالته بعد ذلك.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره من كون شأن الاستصحاب تحقّق عنوان اختصّت تلك العمومات بغيره غير محصّل المراد ؛ فإنّ الاستصحاب لا يوجب تحقّق ذلك العنوان على وجه القطع واليقين كما هو ظاهر كلامه ؛ ضرورة أن استصحاب النّجاسة والحرمة لا يوجب العلم بهما ، كما أنّه لا يوجب تحقّق ما دلّ على ثبوت المستصحب من الدّليل فيما كان ظنيّا وإلّا خرج عن كونه استصحابا وحكما بالبقاء ظاهرا كما هو ظاهر.

وأمّا ثالثا : فبأنّ المأخوذ في موضوع عمومات الأصول عدم العلم بالواقع لا عدم قيام الدّليل على الواقع ولو كان ظنيّا وبينهما فرق ظاهر. نعم ، المأخوذ في ٣ / ١٦١ البراءة العقليّة ما يرتفع بوجود الدّليل المعتبر على التّكليف ولو كان ظنيّا ، بل يرتفع بجميع ما يقتضي التّكليف ولو كان استصحابا ، لكنّه لا دخل له بالمقام ؛ فإنّ الكلام في الأصول الشّرعيّة لا العقليّة فتدبّر.

وأمّا رابعا : فلأنّ ما ذكره أخيرا من خلط الفاضل المذكور بين المقامين بحسب صدر كلامه وذيله من حيث إنّ صدر كلامه يدلّ على الجواز في المقام

__________________

(١) نفس المصدر بالذات.

(٢) المصدر نفسه.


الأوّل وذيله يدلّ على إثبات الجواز في المقام الثّاني يتوجّه عليه : بأنّ التّحقيق عدم تعلّق ما ذكره أخيرا بشيء من المقامين.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّ ما ذكره الفاضل المذكور لا يخلو عن المناقشات وإن أمكن دفعها.

فالتّحقيق في الجواب أن يقال : إن كان المراد من العمومات الّتي حكم بتخصيصها بالاستصحاب العمومات الاجتهاديّة.

ففيه : أنّ من الواضح المعلوم حكومة الأدلّة الاجتهاديّة على الأصول الشّرعيّة فكيف يجعل الأصل معارضا لها فضلا عن الحكم بتقديمه عليها؟

وإن كان المراد منها العمومات الفقاهيّة ـ كما ربّما يظهر ممّا ذكره من الأمثلة والاستشهاد بناء على إرادة عمومات أصالة الحليّة ممّا دلّ على حليّة الأشياء كما هو الظّاهر لا عمومات الحليّة الواقعيّة مثل قوله تعالى : أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ (١) ـ ففيه ما عرفته مرارا وستعرفه تفصيلا : من حكومة الاستصحاب عليها من غير فرق فيما ذكرنا على التقديرين بين الابتداء والاستدامة الّتي هي محلّ الكلام ، ولا بين الاستصحاب الموافق للأصل والمخالف له هذا.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره في تقريب مرامه بقوله : « ولا ينافيه عموم أدلّة حجيّته ... إلى آخره » (٢) ففيه : ما عرفت سابقا : من المناقشة فيما أفاده في أوائل الاستصحاب ،

__________________

(١) المائدة : ٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٧٦ نقلا عن فوائد السيّد بحر العلوم : ١١٦ ـ ١١٧ لكن بوسائط عرفتها.


فلا يحتاج إلى الإعادة والتّطويل هذا.

ولكن يمكن توجيه ما ذكره قدس‌سره بما لا ينافي ما حقّقنا بل ينطبق عليه : من كون المراد بالعمومات هو ما ذكرنا في الشقّ الثّاني ، فيكون المقصود من العمومات التي يرجع إليها في الأمثلة : هو عمومات الحلّية والبراءة والطّهارة عند الشّك ، لا مثل ما دلّ على حلّيّة الأشياء بحسب الذّات من العمومات الاجتهاديّة فقد تسامح في إطلاق التّخصيص على الحكومة على ما عرفته من جماعة في الجزء الثّاني من التّعليقة : من أنّهم أطلقوا التّخصيص على الحكومة تسامحا (١).

ويؤيّد ما ذكرنا من التّوجيه فرضه الكلام في الاستصحاب المخالف للأصل بل يدلّ عليه كما لا يخفى ، ومنه يندفع ما أورد عليه : من عدم الفرق بين الاستصحاب المخالف للأصل والموافق له ؛ ضرورة أنّ ما ذكره بالبيان الّذي عرفته لا يجري في الاستصحاب الموافق للأصل كما لا يخفى.

ومنه يظهر : أنّ ما ذكره السّيد المتقدّم ذكره قدس‌سره لا دخل له بما نحن فيه أصلا ولا ربط له به جزما فليست المسألة إذن ذات أقوال ، بل ذات قولين هذا.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من التّوجيه هو الأقرب من كلامه عند التّأمّل لا ما ذكره الأستاذ العلّامة من التّوجيه وإن كان قريبا ممّا ذكرنا ، إلّا أنّ الفرق أنّه أراد تعميم كلامه للمقام ، وقد عرفت : أنّه على خلاف التّحقيق ؛ فإنّه ممّا لا معنى له بعد التّوجيه المذكور ، مع أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) في بيانه لا يخلو عن تعسّف كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّه بناء على ما ذكرنا في توجيه ما أفاده قدس‌سره لا حاجة

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ٢٢٧.


إلى جعل التّعارض بين الاستصحاب الجزئي وعمومات أدلّة الأصول ؛ إذ لا يشترط في الحاكم أن يكون بحسب النّسبة أخصّ من المحكوم ، بل لا معنى له بناء على ما ذكرنا ؛ إذ الأصل الجزئي بناء على التّوهم المذكور من جعل الأصول في الموارد الجزئية أدلّة بأنفسها تعارض الاستصحاب الجزئي فيكون النّسبة تباينا لا محالة.

نقل كلام الفاضل النّراقي

وقد ذكر بعض أفاضل من قارب عصرنا أو عاصرناه كلاما بعد نقل كلام السّيد المتقدّم وكلاما في الرّد عليه يقرب ممّا ذكره الأستاذ العلّامة لا بأس بذكره والإشارة إلى ما يتوجّه عليه من المناقشة فقال قدس‌سره :

« أقول : مراد الأوّل : أنّ النّجاسة الاستصحابيّة في مورد خاصّ مدلول لعدم نقض هذا اليقين ؛ لأنّه دليل النّجاسة ودليل عدم النّقض قوله : « لا تنقض اليقين » فأفراد عدم نقض اليقين بمنزلة أفراد الأخبار والحكم المستصحب بمنزلة مدلولها ، وقوله : « لا تنقض » بمنزلة آية النّبأ ، فما ذكره صحيح.

وما ذكره الثّاني بقوله : « فيقال ... إلى آخره » فيه : أنّ مقابل النّجاسة المتيقّنة الجزئيّة الماء الدّال هذا الخبر على طهارته وحينئذ يمكن أن يعلّل طهارته بآية النّبأ.

نعم ، ما ذكره الأوّل : بأنّه لا عبرة بأدلّة الأدلّة ، فيه : أنّ التّعارض بين شيئين بتنافي مدلوليهما بخصوصهما ، أو بين عموم أحدهما وخصوص الآخر ، أو بين عمومهما سواء كان أحدهما دليلا لشيء معارض مع الآخر أم لا. ونحن نرى أنّ


عموم « لا تنقض اليقين » مناف لعموم « كلّ ماء طاهر » (١) ؛ لعدم إمكان العمل بالعمومين فيتعارضان ، وكون الأوّل دليل حجيّة الاستصحابات الخاصّة لا ينفي التّعارض.

فإن قلت : نعم ، ولكن استصحاب نجاسة هذا الفرد أخصّ من « كلّ ماء طاهر » فيخصّصه فلا يكون معارضا لدليل هذا الاستصحاب.

قلنا : صلاحيّة استصحابه لتخصيصه فرع حجّيّته وهو فرع شمول قوله : « لا تنقض » ؛ إذ هو بعد علاج التّعارض بينه وبين عموم « كلّ ماء طاهر » وترجيح ذلك ، وهو لم يتحقّق بعد ؛ إذ قوله : « لا تنقض » مع عموم « كلّ ماء » في مرتبة واحدة من الحجيّة ولا يرد مثل ذلك في دليل حجيّة الأخبار ؛ لأنّ المعارض للخبر الخاصّ إن كان خبرا آخر فيشملهما (٢) آية النّبأ على السّواء وكلّ منهما يقتضي تخصيص الدّليل بالآخر وهو موجب لطرحهما وهو بعينه حكم تعارضهما وإن كان دليلا آخر ، فكما يعارض دليل حجيّة الخبر كذلك يعارض هذا الخبر دليل حجيّة ٣ / ١٦٢ هذا الشّيء ، وبعد العلاج يكون الحاصل بعد ما يحصل من علاج تعارض الخبرين ، وهذا هو السّر في عدم التفاهم إلى معارض معارضات الخبر مع أدلّة حجيّته ».

ثمّ قال : « هذا كلّه على فرض منافاة الاستصحاب مع قوله : « كلّ ماء طاهر » وإلّا فالظّاهر عدمها أيضا ؛ لأنّ مقتضى الاستصحاب الخاصّ وأدلّة حجيّة عدم نقض اليقين بمجرّد الشّك وحكمه بطهارة كلّ ماء ولو مشكوك النّجاسة ليس لأجل

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٥ ـ ح ١ ، عنه الوسائل : ج ١ / ١٣٣ باب « انه طاهر مطهر ، يرفع الحدث ، ويزيل الخبث » ـ ح ٢.

(٢) وفي الأصل : « فنسبتهما إلى آية النبأ على السواء ».


الشّك ، بل لأمر لا نعلمه ، وحكمنا لأجل هذا القول من الإمام عليه‌السلام.

فإن قيل : فيلزم طرح الاستصحاب في أمثال ذلك ، فلو تنجّس التّراب لم يستصحب ؛ لعموم « وترابها طهورا » (١) وكذلك « بول ما يؤكل لحمه » وغيره.

قلنا : نعم ، كذلك لو لا ترجيح الاستصحاب ، ولكن يرجّح للإجماع على عدم زوال النّجاسة إلّا بطروّ المطهّر وهو لم يطرأ ؛ لاستصحاب عدمه الخالي عن المعارض ، وكذا كلّ ما كان من قبيل النّجاسة ، وأمّا ما لم يكن كذلك فلا يرجّح الاستصحاب » (٢). إنتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

في الجواب عمّا أفاده الفاضل النّراقي من وجوه ستّة

وأنت خبير بما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ ما ذكره أوّلا من تسليم ما ذكره السيّد من كون الدّليل في الموارد الخاصّة على الحكم الاستصحاب والدّليل عليه قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشّك » بالبيان الّذي ذكره مجملا متخيّلا أنّه مصحّح لما ذكره غير صحيح ؛ لأنّ النّجاسة المقصودة بالإثبات في المقام ليست هي النّجاسة الواقعيّة ، بل النّجاسة الظّاهريّة ، وهي ليست إلّا حكم الشارع بالبناء على ترتيب آثار النّجاسة الواقعيّة

__________________

(١) علل الشرائع : ج ١ / ١٢٨ ـ ح ٣ من الباب ١٠٦ وأورد في الخصال : ٤٢٦ باب العشرة ، اسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ح ١ كما أورده في معاني الأخبار : ٥٥ باب معاني اسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ح ١.

(٢) عوائد الأيّام : العائدة رقم ٢٢ / ٢١٥ ـ ٢٢٠ واللفظ هنا لكتاب مناهج الأحكام انظر ص ٢٣٦.


عند الشّك ، وهو ليس إلّا معنى قوله : « لا تنقض » مقيسا إلى المورد الخاصّ الّذي من موارده وأفراده ، فليس في المقام أشياء بحيث يصحّ جعل أحدها دليلا ، وثانيها مدلولا ، وثالثها دليلا على الدّليل ، كما لا يخفى.

فتبيّن أنّ ما ذكره فاسد ، وما ذكره الثّاني في تقريب ردّ السيّد بقوله : ( فيقال :

النّجاسة المتيقّنة سابقا لهذا المحلّ باقية شرعا ؛ لقوله : « لا تنقض اليقين » من غير حاجة إلى أمر آخر ، ولا يمكن أن يقال : الماء طاهر ؛ لقوله : إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ (١) إلّا بجعله علّة بعيدة وذكر القرينة في كمال المتانة والصّحة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره ثانيا في ردّ المورد على السيّد بقوله : ( فيه : أنّ مقابل النّجاسة المتيقّنة الماء الدّالّ هذا الخبر في كمال الظّهور من الفساد فإن جعل مقابل النّجاسة المتيقّنة الّتي هي مورد قوله : « لا تنقض الماء » الدّال قوله : ( كلّ ماء طاهر ) على طهارته لا ينفع في عدم جواز جعل الدّليل على الطّهارة آية النّبإ كما لا يخفى على الفطن.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره في ردّ السيّد قدس‌سره بقوله : « نعم ، ما ذكره الأوّل : بأنّه لا عبرة بأدلّة الأدلّة ... إلى آخره ) أظهر بطلانا من أن يخفى ؛ ضرورة أنّه لا بدّ من ملاحظة النّسبة بين نفس المتعارضين ؛ إذ النّسبة بين غيرهما لا دخل لها بحكم تعارضهما هذا. مضافا إلى أنّه يرد عليه ما ذكره السيّد رحمه‌الله بقوله : « وإلّا لم يوجد في الأدلّة الشّرعيّة دليل خاصّ ».

وأمّا رابعا : فلأنّ ما ذكره بقوله : « ولا يرد مثل ذلك في دليل حجيّة الأخبار »

__________________

(١) الحجرات : ٦.


يرد عليه أوّلا : بأنّ لازم ما ذكره عدم تخصيص أحد الخبرين بالآخر إذا كان التّعارض بينهما بالعموم والخصوص كما لا يخفى ، وهو كما ترى.

وثانيا : بأنّ ما ذكره في تعارض الخبر مع غير الخبر يجري في تعارض الاستصحاب الجزئي مع قوله : « كلّ ماء طاهر » ؛ فإنّه كما يعارض قوله : « كلّ ماء طاهر » مع قوله : « لا تنقض اليقين بالشّك » كذلك يعارض الاستصحاب الجزئي مع دليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كلّ ماء طاهر » وهو آية النّبأ.

وأمّا خامسا : فلأنّ ما ذكره بقوله : « وإلّا فالظّاهر عدمها أيضا ... إلى آخره » غير مستقيم جزما ؛ لأنّ مفاد قوله : ( كلّ ماء طاهر ) ليس إلّا إثبات الطّهارة الذّاتيّة للمياه ، وهذا لا ينافي عروض النّجاسة لها بالعارض وبقاء هذه النّجاسة واقعا أو ظاهرا ، وليس لها عموم زمانيّ بأيّ من المعنيين اللّذين عرفتهما على تقدير خروج ماء منه بحسب الذّات حتّى يمنع من الاستصحاب في زمان الشّك وهذا ظاهر غير مخفيّ على الفطن.

وأمّا سادسا : فلأنّ ما ذكر في الجواب عن السّؤال الّذي أورده على نفسه بقوله : « نعم ، كذلك لو لا ترجيح الاستصحاب ... إلى آخره » (١) ممّا لا محصّل له ؛ فإنّه يرجع حقيقة إلى التّفصيل في اعتبار الاستصحاب بين الشّك في وجود المزيل والرّافع المعلوم الرّافعيّة وغيره بالاعتبار في الأوّل دون الثّاني حسب ما يظهر من كلامه قبل هذا ، وهو ليس من باب ترجيح الاستصحاب بالإجماع ؛ إذ لا دخل لمورد الإجماع به ولا معنى لإيقاع التّعارض ثمّ التّرجيح به ، مع أنّ هذا الّذي ذكره

__________________

(١) انظر مناهج الأحكام للفاضل النراقي ص ٢٣٦.


يجري في الاستصحاب مع قوله عليه‌السلام : ( كلّ ماء طاهر ) ؛ لأنّ كلّ شيء تنجّس لا يرفع نجاسته إلّا بالمطهّر إجماعا فتدبّر. هذا ملخّص الكلام في دليل القول الثّاني على فرض وجود القول به.

وأمّا دليل القول بالتّفصيل بين المقامين ـ الّذي اختاره الأستاذ العلّامة ناسبا له إلى من عرفت (١) ـ فقد علم ممّا ذكرنا كلّه من الكلام في النّقض والإبرام وملخّصه : أنّه إذا فرض تقطيع الزّمان بحسب جعل الحاكم في تعلّق الحكم بالفعل المتعلّق بكلّ فرد في كلّ جزء منه ، بحيث يكون الفرد الموجود في كلّ جزء من الزّمان من العامّ غير الفرد الموجود في الجزء الآخر بحسب الجعل في عالم الموضوعيّة ، فلا شبهة في رجوع الشّك بالنّسبة إلى الزّمان المشكوك إلى الشّك في التّخصيص الزّائد على القدر المعلوم ، فلا بدّ من الرّجوع إلى العموم ، بل لو فرض عدم عموم في هذا الفرض من جهة فرض إجماله بإجمال المخصّص ـ على القول بإيجابه الإجمال في العام ـ لم يكن معنى للرّجوع إلى الاستصحاب ؛ لفرض تغيّر الموضوع قطعا بوجود الزّمان المشكوك فلا معنى للاستصحاب.

وإذا فرض عدم تقطيعه على النّحو المفروض وكون عموم الزّمان مستفادا من دخول الفرد ورجوع عموم الزّمان إلى استمرار الحكم الواحد فلا إشكال في ٣ / ١٦٣ تعيّن الرّجوع إلى الاستصحاب في زمان الشّك ؛ لعدم رجوع الشّك إلى الشّك في التّخصيص ؛ لفرض كون العموم تابعا لدخول الفرد ، فإذا فرض خروجه فلا معنى لبقاء العموم بالنّسبة إلى الزّمان.

__________________

(١) وهو الرأي المشهور واختاره الشهيد الثاني كما مرّ.


بل لو فرض عدم جريان الاستصحاب في هذا الفرض ؛ لرجوع الشّك إلى الشّك في المقتضي ونحوه لم يكن معنى للرّجوع إلى العام ؛ لارتفاع العموم بالنّسبة إلى الزّمان قطعا ، فصحّ من ذلك أن يقال : إنّ كلّ مورد لا يرجع فيه إلى الاستصحاب من محلّ الفرض لا يرجع فيه إليه وإن فرض عدم العموم ، وكلّ مورد يرجع فيه إلى الاستصحاب لا يرجع فيه إلى العموم وإن فرض عدم جريان الاستصحاب.

فهذا هو المراد ممّا ذكره ( دام ظلّه ) بقوله : ( لما عرفت : من أنّ مورد جريان العموم ... إلى آخره ) (١) لا أنّ كلّ مورد لا يرجع فيه إلى العموم لا يرجع فيه إلى الاستصحاب وإن فرض عدم العموم ؛ لوضوح فساد ذلك ؛ إذ كثيرا ما لا يعمل بالاستصحاب من جهة وجود العموم أو الإطلاق أو غيرهما من الأدلّة الاجتهاديّة في مقابله بحيث لو لم تكن موجودة يرجع إلى الاستصحاب قطعا هذا.

وأمّا بناء على ما اختاره المحقّق الثّاني فيرجع في القسم الثّاني إلى الاستصحاب لو فرض عدم عموم ثمّة ؛ لأنّ رفع اليد عن الاستصحاب على ما اختاره بواسطة العموم كما لا يخفى.

هذا حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) ولكنّك خبير : بأنّ تصديق ما أفاده ( دام ظلّه ) يحتاج إلى مزيد تأمّل فتأمّل.

(٢٩٣) قوله : ( لأنّه من قبيل الشّك في موضوع الحكم الشّرعي لا في نفسه ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٧٨ )

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٧٧.


أقول : لا إشكال فيما ذكره ( دام ظلّه ) ؛ لأنّه بعد ما ثبت بالدّليل الخارجي حرمة العصير العنبي بعد الغليان ما لم يذهب ثلثاه بالنّار ، فقد خرج هذا الموضوع عن العمومات الاجتهاديّة الدّالة على حلّيّة الأشياء ، فإذا شكّ في تحقّق الثّلثان وعدمه فيشكّ في تحقّق المخرج والخاص وعدمه بعد القطع بثبوت التّخصيص والإخراج ، فهذا ليس له دخل بالشّك في الحكم الشّرعي ؛ لأنّ الحكم الشرعي معلوم معيّن لا شبهة فيه أصلا ، وإنّما الشّك في تحقّق الموضوع ، فيرجع فيه إلى استصحاب عدم تحقّق الثّلثان وبقاء العصير على ما كان عليه ، فهنا ليس مورد التوهّم كونه مخصّصا للعمومات.

وهذا بخلاف الشّك في المثالين الأخيرين ؛ فإنّ الشّك فيهما في أصل الحكم الشّرعي الكلّي ، فيتوهّم الرّجوع إلى العام بالنّسبة إليه ، وإن كان هذا التّوهم فاسدا بناء على ما عرفت : من أنّه إذا خرج فرد من العام ولم يكن له عموم زماني لم يكن معنى للرّجوع إليه في زمان الشّك ، وهذا حاصل مرامه ( دام ظلّه ).

* * *


* التنبيه الحادي عشر :

لو تعذّر بعض المأمور به فهل يستصحب وجوب الباقي (١)؟

(٢٩٤) قوله : ( إلّا أن العرف لا يرونها ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٨٠ )

التوجيه الأوّل ونظرة العرف

أقول : أراد به أنّ المستصحب وإن كان هو الوجوب الأعمّ من الغيري والنّفسي ـ وانطباقه على الثّاني من باب اللّزوم العقلي ، وكان مقتضى القول بعدم اعتبار الأصول المثبتة مطلقا عدم الاعتناء به ـ إلّا أنّ هذه الواسطة في نظر العرف من الوسائط الخفيّة بحيث يبنون على كون معنى إبقاء وجوب الجزء هو الالتزام

__________________

(١) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :

« لا إشكال في عدم جريان القاعدة الشريفة إلّا مع الشك في الرّافع ، فلو لم يعرف الموضوع ودار أمره بين ما علم زواله وبين ما علم بقاءه لم يجر الإستصحاب بهذا المعنى ، فمرجع الشك في بقاء الحكم وزواله عند تعذّر بعض الاجزاء لو كان إلى عدم معرفة الموضوع لم يجر الاستصحاب ، ولكن من الأجزاء ما يختصّ جزئيّته بحال الإختيار كالشرائط والموانع ، ومرجعه إلى ضعف التقيّد في مرحلة الإمتثال فيجري الإستصحاب بمعنى الاخذ بالمقتضي حينئذ ؛ فإن التقيّد لو لم يكن كان الحكم مطلقا ، فكما ان الشك في اصل الجزئيّة والشرطيّة كالمانعيّة يجري فيه الأصل فكذا إذا كان في الشدّة ، ولا ينافي هذا ما أصّلناه من اختصاص الشك في المانع بهذا الأصل ؛ فإن مرجع الشك في الجزء والشرط حينئذ إلى الشك في المانع » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ٢ / ٢٩٥.


بوجوبه النّفسي فلا يرون مغايرة بين الوجوبين أصلا.

(٢٩٥) قوله : ( ويمكن توجيهه بوجه آخر ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٨٠ )

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« هذا الوجه ـ وإن اختاره المصنّف ـ أزيف الوجوه.

حيث إنّ عدّ المركب الفاقد للجزء المتعذّر عين الواجد له في نظر العرف بالمسامحة كما ترى.

ولا إعتبار بهذا التسامح على تقديره بعد العلم بجزئيّته المتعذّر ، وقياسه بعدّ العرف الماء الباقي في الحوض عين الماء السابق الذي قد أخذ مقدار منه بالنسبة إلى معروض الكرّيّة ليس في محلّه.

إذ المقدار المأخوذ من الماء هناك لم يعلم دخلها في تحقّق الكرّ ، فلعلّه كان زائدا على الكرّ بخلاف ما نحن فيه ؛ لفرض الجزئيّة فيه.

[ على انه يشكل ] صحّة استصحاب الكرّيّة أيضا لعدم بقاء الموضوع.

نعم ، يمكن إجراء استصحاب عصمة شخص هذا الماء للعلم بها سابقا ؛ حيث إنّ هذا الماء كان في السابق كرّا أو جزء للكرّ ، وعلى التقديرين كان عاصما معصوما والأصل بقاء وصفه بالعصمة » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الاصول : ٣ / ٣٢٠.

* وقال المحقق الشيخ رحمة الله الكرماني قدس سره :

« رداءة هذا التوجيه غير محتاجة إلى التوضيح ، وليت شعري هل كون الباقي واجبا نفسيّا مع مدخليّة الجزء المفقود في اتصافه بالوجوب النفسي في حال الإختيار التي هي الحالة السابقة للمستصحب غير كون الباقي واجبا تبعيّا والمجموع واجبا نفسيا فيها ، والفرق بين الجزء المفقود والحالات المتبادلة واضح للقطع بمدخليّة ذيها ؛ فإنّها غير مقطوعة المدخليّة ، والتنظير بالماء الكرّ الذي نقص منه مقدار فشك في بقاء الكرّية بغير نظير للقطع بمدخليّة الجزء في الإتصاف بالوجوب النفسي والشك في مدخليّة المقدار المأخوذ من الكرّ في اتّصافه


التوجيه الثاني والفرق بينه وبين التوجيه السابق

أقول : الفرق بين هذا الوجه وسابقه ممّا لا ينبغي أن يخفى على ذي مسكة ، فإنّ المستصحب في الأوّل هو الوجوب القدر المشترك بين النّفسي والغيري ، وفي هذا التّوجيه المستصحب هو الوجوب النّفسي.

وأمّا الفرق بينه وبين التّوجيه الأخير فهو : أنّ المستصحب في هذا التّوجيه هو نفس الوصف القائم بالمحلّ نظير استصحاب كرّيّة ، الماء المشكوك كريّته ولذا يحتاج إلى جعل معروض الوجوب النّفسي بحكم العرف هو غير الجزء المفقود ،

__________________

بالكرّيّة في الحالة السابقة ، فإن كنت إبنا للدليل فاسلك في سواء السبيل ولا تكن على إثبات العليل الوكيل ، والمسلّم من مسامحة العرف عن الجزء المفقود هو الجزء المشكوك المدخليّة في الإتصاف لا ما علم مدخليّته ، ولذا تراهم لا يتسامحون عن الجزء القليل من الماء المفقود من الكر ، فلا يجرون على الباقي أحكام الكرّ ، ولو كان الباقي فاقد القليل فينبغي تنظير ما نحن فيه بكرّ فقد مقدارا ولو قليلا منه ، فإن سامح العرف عنه واستصحبوا أحكام الكرّ ففي ما نحن فيه أيضا كذلك.

ولعمري إن هذا المثال مما يفتضح به التوجيه المذكور لاستصحاب وجوب الجزء.

ثم اعلم ان الفرق بين هذا التوجيه والثالث الآتي على ما يظهر مما يأتي من كلامه وتنظير هذا بالكرّيّة المستصحبة والثالث الآتي بالكرّ المستصحب : هو ان المستصحب في هذا هو الوجوب النفسي وفي الآتي معروضه ، مع انه صدر التوجيهين بالعكس ، فصدّر هنا بمعروض الوجوب النفسي وفي الآتي باستصحاب الوجوب النفسي بحيث يتوهّم ، بل يفهم لو لا التنظير العكس والحريّ بما أراده هو العكس ، فإن فهمت مقاصدي بالإشارة فطوبى لك بالبشارة » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّي : ٣٩٧.


بدعوى كون المفقود من الحالات والكيفيّات الّتي ليست معروضة للطّلب ، كدعوى عدم مدخليّة الجزء المفقود من الماء في كريّة الماء الموجود ، وكونها قائمة بنفس الماء الموجود ، ولذا يجعل معروض المستصحب باعتبار الزّمان السّابق ، ويحمل عليه بهذا الاعتبار فيقال : إنّ هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاؤه على الكريّة ، أو بقاء كريّته.

وهذا بخلاف المستصحب في القسم الأخير ؛ فإنّه ذات المتّصف وإن كان المقصود من استصحابها إثبات قيام الوصف بالمحلّ واتّصافه به ، فاستصحابها نظير استصحاب وجود الكرّ في الحوض ؛ لإثبات قيام الكريّة بالماء الموجود فيه من غير أن يجعل نفس كريّته موردا للاستصحاب ، ولهذا لا يحتاج إلى جعل معروض المستصحب نفس الأجزاء الموجودة ، بل هذا الجعل والتّنزيل على هذا التّقدير ممّا لا معنى له كما لا يخفى.

وهذا بخلاف التّوجيه السّابق ؛ فإنّه لا يمكن استقامته إلّا بجعل مورد الوجوب ادّعاء نفس الأجزاء الباقية ، فالاستصحاب على التّوجيه الأخير لا يتمّ إلّا على القول باعتبار الأصول المثبتة وإن بني على لزوم إحراز الموضوع بالدّقة العقليّة ، وفي الأوّل لا يتمّ إلّا على القول بكفاية إحراز الموضوع بالمسامحة العرفيّة وإن بني على فساد القول باعتبار الأصول المثبتة كما لا يخفى.

نعم ، يشتركان في لزوم الشّك في مدخليّة الجزء المفقود في المطلوبيّة مطلقا أو في حال الاختيار ، وإلّا لم يكن معنى لفرض الاستصحاب والتّكلّم فيه في هذا المبحث كما لا يخفى.


(٢٩٦) قوله : ( وهذا نظير استصحاب الكريّة في ماء ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٨٠ )

التوجيه الثالث والتنظير المزبور

أقول : لا يخفى عليك أنّه لا بدّ أن يكون المراد من تشبيه الفرض بما ذكر من المثال تشبيهه به من حيث ابتناء كلّ منهما على المسامحة العرفيّة في إحراز ٣ / ١٦٤ الموضوع ، وإلّا فلا دخل للمثال بالفرض أصلا ؛ حيث إنّ المفروض في المقام القطع بمدخليّة الجزء المفقود في المستصحب في الزّمان السّابق وفي حال التّمكن منه حتّى على القول بالوضع للأعمّ ؛ إذ لا فرق فيما ذكر بين القول بالوضع للصّحيح والوضع للأعمّ كما لا يخفى ، وإنّما الشّك في مدخليّته في حال عدم التّمكن في الزّمان الثّاني.

وهذا بخلاف المثال ؛ فإنّ مدخليّة الجزء في المستصحب مشكوك من أوّل الأمر أيضا ؛ حيث إنّه لا يعقل أن يتفاوت الأمر فيه بين صورتي الوجود والعدم ، ومجرّد وجوده في الزّمان الأوّل لا يوجب مدخليّته فيه كما لا يخفى.

وهذا بخلاف الفرض ؛ فإنّه يمكن التّفكيك فيه في الجزئيّة بين الحالين كما هو مبنى الكلام ومحلّ البحث ، فالقياس بين المثال والفرض لا يصحّ إلّا على الوجه الّذي ذكرنا.


(٢٩٧) قوله : ( ويظهر فائدة مخالفة التّوجيهات ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٨١ )

وجه ظهور مخالفة التوجيهات والمناقشة فيها

أقول : لا خفاء فيما ذكره ( دام ظلّه ) بعد ملاحظة ما ذكرنا في بيان الفرق بين التّوجيهات ؛ فإنّ مبنى الأوّل لم يكن على إرادة الوجوب النّفسي من المستصحب ، بل على إرادة القدر المشترك القائم بالأجزاء في ضمن الوجوب الغيري القائم بها ، ومن المعلوم أنّ هذا المعنى لا يتفاوت الأمر فيه بين كون الجزء الغير المقدور من معظم الأجزاء أو من غيره.

ومبنى الثّالث وإن كان على إرادة الوجوب النّفسي إلّا أنّه لم يعتبر قيامه بما بقي من الأجزاء بحكم المسامحة العرفيّة حتّى يضرّه انتفاء معظم الأجزاء الّتي بها قوام المركب.

وهذا بخلاف مبنى الثّاني ؛ فإنّه كان على إرادة الوجوب النّفسي للأجزاء الباقية ببناء العرف على جعل متعلّق الوجوب مسامحة غير الجزء المفقود بتنزيله منزلة الحالة التي لا يعرضها الوجوب ، ومن المعلوم عدم جريان هذه المسامحة في صورة بقاء أقلّ قليل من الأجزاء.

وأمّا وجه ظهور مخالفتها فيما كان المفقود شرطا : فلأنّه ليس معروض الوجوب في صورة التّمكن منه حتّى يجعل المستصحب هو الوجوب القدر المشترك القائم بالوجوب النّفسي القائم بالباقي والمفقود في الزّمان الأوّل ، فلازم هذا المعنى عدم جريان الاستصحاب فيما كان المفقود الشّرط على التّوجيه الأوّل ؛ حيث إنّه كان مبنيّا على إرادة القدر المشترك ، وجريانه على التّوجيهين


الأخيرين لعدم ابتنائهما على القدر المشترك. هذا ملخّص ما يقال في توجيه ما ذكره.

ولكن قد يستشكل فيه : بأنّ الشّرط وإن لم يكن معروض الوجوب أصلا ، إلّا أنّ تقييده كان معتبرا في الواجب ؛ ضرورة أنّ معروض الوجوب النّفسي هو المشروط من حيث إنّه مشروط ، لا ذات المشروط والأجزاء مع قطع النّظر عن الشّرط ، وإلّا لم يكن معنى لشرطيّة الشّرط كما لا يخفى. فالأجزاء الغير الملحوظ معها الشّرط في الزّمان الأوّل لم يكن معروضة إلّا للوجوب الغيري ، فيكون حال فقد الشّرط إذن حال فقد الجزء في جريان الاستصحاب في صورة فقده على التّوجيه الأوّل هذا.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) : من ظهور مخالفة التّوجيهات في صورة فقد الشّرط يكون خارجا عن محلّ الفرض ؛ فإنّ الكلام إنّما هو في جريان الاستصحاب في صورة فقد بعض أجزاء المركّب ، اللهمّ إلّا أن يجعل المراد من المركّب الأعمّ من الذّهني والخارجي ـ فتأمّل ـ أو يجعل المركّب كناية عن المأمور به ، والأجزاء كناية عمّا يعتبر فيه مطلقا فتدبّر.


(٢٩٨) قوله : ( وحيث إنّ بناء العرف ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٨١ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان بناء العرف على عدم جريان الاستصحاب في فاقد معظم الأجزاء ، لا يكشف عن فساد التوجيه لعدم اتّباع بناء العرف في بقاء تطبيق المفاهيم على مصاديقها ، وعدم تطبيقها مسامحة أو خطأ بعد التّطبيق ، أو عدمه على التّحقيق والتّدقيق ، فبعد تنقيح مفهوم خطاب « لا تنقض » بحسب الانفهام العرفي ، وأنّه يعمّ الاستصحاب في الفاقد ، لا مجال لاستكشاف بطلان التّوجيه من عدم بناء العرف على عدم جريان الإستصحاب في قاعدة معظم الأجزاء مسامحة أو خطأ ، مع شمول الخطاب له حقيقة بلا ارتياب.

نعم ، لو كان الاستصحاب حجّة من باب بناء العقلاء يكون بناؤهم على عدم الجريان كاشفا عن فساد التّوجيه في خصوص فاقد معظم الأجزاء لا مطلق فاقد الجزء ، وجريان الاستصحاب في فاقد الشّرط وإن لم يكن بهذا التّوجيه ، ضرورة عدم اتّصاف فاقده بالوجوب الغيري ، فانّه مباين للواجب وضدّ له ، لا ممّا يتوقّف عليه ، وكذا ما في ضمنه من القدر المشترك بينه وبين الواجد ، لأنّها من أجزائه التّحليليّة وهي لا يتّصف بالوجوب مقدّمة.

هذا ، مع انّ ما في ضمن الفاقد يكون متّحدا معه وجودا ، بل هو عينه خارجا ، وقد أشرنا إلى أنّ الفاقد يكون مباينا للواجب ، فكيف يكون مقدّمة لوجوده ، إلّا أنّه لم يظهر أنّ ذلك ، أي جريان الاستصحاب فيه ، بملاك جريانه في فاقد الجزء ، بل لعلّه كان بملاك آخر ، مع أنّ اشتراكهما في ملاك لا يمنع عن اختصاص أحدهما بالآخر ، فتدبّر.

ثمّ انّه قد ظهر أيضا بما ذكرنا أنّه لا يكشف بنائهم على استصحاب وصف الكرّيّة ، لا الكرّ عن شيء ، مع انّ الظّاهر انّ بنائهم على ذلك إنّما هو لأجل أنّ استصحاب الكرّ لا يجدي في ترتيب الآثار المهمّة ، إلّا بناء على الأصل المثبت مطلقا ، سواء كان الشّكّ في كرّيّة الموجود أو أصل وجود الكرّ ، كما لا يخفى » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

* وقال المحقق الطهراني قدس سره :


الصحيح من هذه التوجيهات عند الأستاذ ومنافاته

لما سبق منه في فروع الأقلّ والأكثر

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما اختاره ( دام ظلّه ) هنا مناف لما اختاره ( دام ظلّه ) في الجزء الثّاني من « الكتاب » في فروع الأقلّ والأكثر : من جريان الاستصحاب على التّوجيه الأوّل ، وإن كان ما ذكره في المقام : من عدم (١) صحّته ، في كمال المتانة لما عرفت سابقا في باب استصحاب الكلّي ؛ لأنّ الوجوب النّفسي ليس فردا أشدّ من الوجوب الغيري حتّى يكون الشّك راجعا إلى الشّك في التّبدّل ، بل هو فرد آخر مباين له ومناف لنتيجة ما ذكره في المقام ؛ لأنّ نتيجته عدم جريان الاستصحاب على التّوجيه الثّاني مطلقا هذا. مضافا إلى أنّ مقتضى الإنصاف عدم الجزم ببناء العرف على المسامحة في المقام ، كما في مثال الكرّ.

والمقصود من جعل الجزء بمنزلة الشّرط والحالة إن كان بالنّسبة إلى الشّرط الّذي علمت شرطيّته فننقل الكلام بالنّسبة إليه ، وإن كان بالنّسبة إلى ما شكّ في شرطيّته فالقياس به في غير محلّه.

ثمّ إنّه يرد على التّوجيه الأخير ـ مضافا إلى ما ذكره ( دام ظلّه ) ـ ما عرفته

__________________

« قد غفل عن ان الإستصحاب إنما هو لدفع احتمال المزيل والحكم بان الباقي غير الزائل مسامحة مرجعه إلى البناء على عدم الزوال لتنزيل ما زال منزلة العدم وهو مع فساده في نفسه أمر وراء الإستصحاب لو تمّ ؛ فإن احتمال أن يكون تبدّل الحال مزيلا غير حاصل وإنّما الشك في بقاء الموضوع بالفرض » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩٩.


في طيّ كلماتنا السّابقة في بيان الفرق بين التّوجيهات من كونه من الأصول المثبتة.

(٢٩٩) قوله : ( وكذا لا فرق بناء على عدم الجريان ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٨٢ )

النكتة في عدم الفرق بناء على جريان الاستصحاب

بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف أو قبله

أقول : لا يخفى عليك النّكتة في نفي الفرق بين القسمين الأوّلين بناء على القول بجريان الاستصحاب في الفرض ، وبين القسمين الأخيرين بناء على عدم جريانه فيه ؛ فإنّ القسم الثّاني من الأوّلين يتوهّم : عدم جريان الاستصحاب فيه ولو على القول بجريان الاستصحاب في الوجوب المتعلّق بالأجزاء بعد تعذّر الكلّ وارتفاع الوجوب عنه.

والقسم الثّاني من الأخيرين يتوهّم : جريان الاستصحاب فيه ولو على القول بعدم جريان الاستصحاب في الفرض ؛ حيث إنّ المفروض عدم العلم بمدخليّة الجزء المتعذّر في المأمور به حتّى يقال ـ في منع جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى وجوب الباقي ـ بأنّ الوجوب الغيري المتعلّق به ارتفع قطعا ، والنّفسي المقصود إثباته لم يكن ثابتا في الزّمان الأوّل جزما ، وإنّما المحتمل ثبوته بعد تعذّر الجزء.

ثمّ إنّ ملخّص ما ذكره من الوجه في نفي الفرق بين القسمين الأوّلين : هو أنّه لا ريب عند ذوي الأفهام المستقيمة أنّ للأجزاء في القسم الثّاني أيضا نحوا من


الوجوب الّذي لا يعقل الإشكال في تحقّقه وتقرّره على نحو تقرّر سائر ٣ / ١٦٥ الموجودات ضرورة عدم توقّف صدق الشّرطيّة على صدق الشّرط هذا. وإن شئت توضيح القول في ذلك وتفصيله فراجع إلى ما ذكرنا سابقا من الكلام في دفع توهّم عدم جريان الاستصحاب التّعليقي.

وبين القسمين الأخيرين هو : أنّ وجوب الخروج عن عهدة التّكليف في زمان التّمكن عمّا يشكّ في جزئيّته إنّما هو من جهة حكم العقل بعد القطع باشتغال الذّمة بالتّكليف المردّد بين تعلّقه بالأقلّ أو الأكثر ، ومن المعلوم ضرورة عدم وجود هذا المناط في صورة عدم القدرة على الإتيان بالزّائد ؛ لرجوع الشّك إذن إلى الشّك في أصل التّكليف.

واستصحاب الوجوب مع قطع النّظر عن ابتنائه على المسامحة في إحراز الموضوع غير جار فيه كما في القسم الأوّل ؛ حيث إنّ الوجوب الغيري على تقدير ثبوته قد ارتفع قطعا ، والوجوب النّفسي المراد إثباته لم يعلم ثبوته من أوّل الأمر أيضا ، فليس بدّ إذن من جعل المستصحب هو القدر المشترك ، أو الوجوب النّفسي باعتبار إحدى المسامحتين المتقدّمتين.

وأمّا جعل المستند في وجوب الاحتياط استصحاب التّكليف والاشتغال ، ففيه ـ مع ما عرفت سابقا : من فساد التّمسّك به من وجوه ـ : أن التّمسك به في المقام لا يجوز إلّا باعتبار ما ذكرنا فتأمّل (١).

__________________

(١) الوجه في التأمّل : أن الإستصحاب على هذا الوجه وإن كان متوقّفا على إحدى المسامحات أيضا إلّا ان المدّعى عدم إمكان مانعيّة فقد الجزء الثابت جزئيّته بهذا الإستصحاب عن إستصحاب الوجوب بالنّسبة إلى الباقي فتدبّر. ( منه دام ظلّه ).


(٣٠٠) قوله : ( وإن كان بينهما فرق من حيث ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٨٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ مقتضى ما ذكره من الفرق بينهما بما ذكره : هو لزوم الفرق بينهما بحسب الجريان والاعتبار ـ على ما اختاره في الأمر الأوّل ـ حيث إنّك قد عرفت تصريحه فيه بالفرق بين القسمين في جريان الاستصحاب فراجع إليه حتّى تقف على حقيقة الأمر.

(٣٠١) قوله : ( ويحتمل أن يراد منه الاستصحاب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٢٨٤ )

أظهر الاحتمالات

أقول : ذكر الأستاذ العلّامة في مجلس البحث : أنّ هذا الاحتمال هو الأظهر من بين الاحتمالات ؛ فإنّ ظاهر كلامهما التّعويل على الأصل فيما راموه ، فالنّسبة في محلّه ولكن للقاصر فيه تأمّل ، وربّما يساق إلى النّظر ظهوره في التّمسّك بالقاعدة.

(٣٠٢) قوله : ( لكنّه ضعيف احتمالا ومحتملا ) (١). ( ج ٣ / ٢٨٤ )

__________________

(١) قال السيّد اليزدي قدس‌سره :

« أمّا ضعف الإحتمال : فلبعده عن مساق كلام الفاضلين.

وأمّا ضعف المحتمل : فلأن التمسّك بالعموم إنّما يجري فيما إذا ثبت وجوب الجزء بدليل مستقل يكون مخصّصا لعموم وجوب بقيّة الأجزاء ، وليس كذلك الحال بالنسبة الى غسل أبعاض العضو الواحد في الوضوء قطعا ، وإن احتمل بالنسبة إلى مجموع غسل عضو واحد في الوضوء بدعوى عموم وجوب غسل بقيّة الأعضاء لتعلّق الأمر بها بالنسبة إلى كلّ عضو


أقول : أمّا ضعفه احتمالا فأظهر من أن يخفى ، وأمّا ضعفه محتملا : فلأنّ جزئيّة المفقود ليست مقيّدة لإطلاق دليل الأجزاء حتّى يقتصر في تقييده بصورة التمكّن ؛ فإنّ الأوامر في الأجزاء غيريّة تبعيّة كالأمر المتعلّق بالجزء المفقود ، فلا يعقل أن يجعل أحدها مقيّدا للآخر ، وإنّما يكون دليل الجزء المفقود مقيّدا لإطلاق الأمر المتعلّق بالكلّ لو كان له إطلاق هذا كلّه.

مع أنّ هذا الكلام على تقدير صحّته لا تعلّق له بالمقام ؛ فإنّ المقصود الحكم بوجوب غسل ما بقي من اليد ، ومن المعلوم أنّه ليس لغسل كلّ عضو من أعضاء اليد دليل مستقلّ.

نعم ، لو استدلّ لبقاء الوجوب بإطلاق الأمر المتعلّق بالكلّ فيما كان له إطلاق ، وكان الجزء ثابتا بدليل خارجيّ لا إطلاق له كان الاستدلال في محلّه على ما عرفت تفصيل القول فيه في الجزء الثّاني من التّعليقة في فروع الأقلّ والأكثر ، لكنّه لا تعلّق له بما ذكره المتوهّم ولا بالمقام كما لا يخفى.

__________________

مستقلّا في قوله تعالى : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وقوله تعالى : وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ . [ المائدة : ٥ ـ ٦ ] فتأمّل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٢٧.


* التنبيه الثاني عشر (١) :

جريان الاستصحاب حتى مع الظن بالخلاف

(٣٠٣) قوله : ( إنّه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السّابقة ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٢٨٥ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« إنّ القاعدة الشريفة أصل استقلّ العقل بإدراكه وقام البرهان عليه وقرّره الشارع ، فلا يعقل الخروج عنه إلّا بدليل ، والظنّ جهل لا يعوّل عليه ، فهذه الوظيفة ثابتة للجاهل سواء كان غافلا او ملتفتا ، ظانّا أو شاكّا ، بل هذا هو الحال في الأصل مطلقا.

وما يتوهّم من انّ اعتبار الإستصحاب من باب الظنّ قد عرفت فساده ، وحيث خفي هذا المعنى على الأستاذ قدس‌سره وقع في تشويش واضطراب وارتكب تكلّفات سخيفة باردة » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

(٢) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :

وفيه : ان المستفاد من الأخبار إن كان ما حقّقناه وعليه جميع المحقّقين : من انه أصل ، فلا حاجة إلى إثبات عموم الإعتبار ؛ لأن المفروض انّ الظنّ المخالف لم يثبت اعتباره ، فالإجماع مستند إلى هذا البرهان لا انّه دليل مستقلّ ، فالحكم لوضوحه ما خفي على احد لا انّه أمر تعبّدي تلقّوه من صاحب الشريعة يدا بيد كما توهّم.

مع انّا حقّقنا انّ الإجماع من مبتدعات اعداء الدين ولا يعوّل عليه بوجه من الوجوه ، وبما حقّقنا عرفت : انّه لا حاجة إلى معرفة معنى الشك ، مع انّك قد عرفت : انّه حكم ثبت للجاهل وإن كان غافلا فلا ، والتردّد لا دخل له في ثبوت هذه الوظيفة ، وقد حقّقنا : ان الإستصحاب


الكلام في الإستصحاب من حيث الشك المأخوذ في موضوعه

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا الأمر ممّا يتكلّم فيه من حيث الشّك المأخوذ في الاستصحاب ، كما أنّ الأمر السّابق لو كان التكلّم فيه من حيث المستصحب ، والسّابق عليه من حيث الدّليل الدّال على ثبوته في الزّمان الأوّل ، وقد تقدّم بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام في أوّل المسألة من الأستاذ العلّامة ومنّا ، إلّا أنّ الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) أعاد الكلام للتّعرض لما لم يتعرّض له ثمّة ، ولا بأس في أن نكرّر القول فيه أيضا ؛ لترتّب بعض الفوائد عليه من توضيح بعض ما أجمل القول فيه الأستاذ العلامة والإشارة إلى بعض وجوه المناقشات فيما ذكره ( دام ظلّه ) فنقول :

أمّا على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار فلا إشكال في وجوب الرّجوع إليه حتّى مع قيام الظّن الغير المعتبر على خلاف الحالة السّابقة ، فضلا عن صورة تساوي الاحتمالين ؛ فإنّ الظّاهر بل المقطوع عدم اشتراط أحد حصول الظّن الشّخصي من الاستصحاب على القول باعتباره من باب الأخبار.

نعم ، في « القوانين » احتمال ذلك في موضع ، وإن صرّح في موضع آخر بخلافه.

__________________

المعبّر عنه بقاعدة اليقين ليس إلّا الأخذ باليقين ، وخفاء أمر الواقع على المتيقّن بالمقتضي مع انه يوجب الجهل بالأثر لا محالة لا ينافي كون الشخص على يقين من جهة أخرى ، فليس للشك معان عديدة ، بل إنّما هو كناية عن الجهل في بعض المقامات » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٠.


نعم ، ربّما يتوهّم : عدم اعتباره في صورة قيام الظّن على الخلاف وصيرورة الحالة السّابقة مرجوحة من جهة انصراف الأخبار المتضمّنة للفظ الشّك إلى صورة التّسوية ، ولكنّه وهم فاسد وتمحّل بارد.

أمّا أوّلا : فلأنّه لا موجب للانصراف المذكور بعد كون الشّك في اللّغة حسب ما هو قضيّة المحكيّ عن « الصّحاح » حقيقة في الأعم من التّسوية وهو خلاف اليقين ، وإن كان ربّما يظهر من بعض كتب اللّغة تفسيره بخصوص التّسوية ، لكن من المعلوم أنّ المقصود بيان المستعمل فيه لا المعنى الحقيقي أو المعنى الحقيقي ، بحسب اصطلاح أهل المعقول ـ فتأمّل ـ لأنّ الصّالح له ليس إلّا كثرة الاستعمال البالغة حدّا تغلب على ظهور أصالة الإطلاق والحقيقة ويوجب ظهورا ثانويّا للّفظ بالنّسبة إلى ما استعمل فيه كثيرا.

ومن المعلوم عدم الجزم بحصول هذه المرتبة في زماننا فضلا عن زمان صدور الرّواية الّذي هو المتّبع في أمثال المقام ، بل الثّابت استعمال الشّك كثيرا في المعنى الأعمّ في الرّوايات على ما ذكره الأستاذ العلّامة.

نعم ، علم استعماله في خصوص معنى الأخصّ في بعض الأخبار أيضا كالأخبار الواردة في شكوك الصّلاة.

وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير تسليم ظهور الشّك في المعنى الأخصّ مطلقا لا معنى للحكم بإرادته في المقام لوجود صوارف في الأخبار عن هذا الظّهور ٣ / ١٦٦ هي (١) ما ذكره الأستاذ العلّامة في « الكتاب ».

__________________

(١) أي هذه الصوارف الموجودة في الأخبار.


وإن كان قد يتأمّل في الأوّل منها : بأنّ تقابل الشّك واليقين في الأخبار لا يقتضي أن يكون على وجه الإيجاب والسّلب لم لا يكون على وجه التّضاد؟ فتأمّل.

وفي الثالث والرّابع : بأنّهما لا يدلّان على إرادة خلاف اليقين من لفظ الشّك ، فيحتمل كون المراد من كلّ منهما ما هو الظّاهر منه ، أو يتصرّف في لفظ اليقين بقرينة الشّك.

وإن كان ما ذكر أخيرا في غاية الفساد ؛ لأن كلّا من اللّفظين لم يقع في حديث غير ما وقع فيه الآخر حتّى يحتمل ما ذكر ، بل هما واقعان في حديث واحد ، ومن المعلوم ضرورة كون المراد منهما واحدا ، وعلى تقدير وقوعهما في حديثين وحمل كلّ منهما على ظاهره يتم المدّعى أيضا ؛ لأنّ نتيجة العمل بهما بعد عدم تنافيهما هو القول باعتبار الاستصحاب في صورة الظّن بالخلاف أيضا ، غاية الأمر قصور الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك عن الدّلالة عليه هذا.

وأمّا ما ذكر أخيرا : من التّصرف في لفظ اليقين بقرينة لفظ الشّك دون الشّك ، ففيه : ما لا يخفى من الضّعف والفساد من وجهين أو وجوه ، وبالجملة : لا ينبغي الارتياب لمن راجع الأخبار وتأمّل فيها في فساد التّوهم المذكور وكون المراد من الشّك فيها هو مطلق غير العلم هذا.


الإستدلال على المدّعى بوجهين آخرين

واستدلّ الأستاذ العلّامة على المدّعى بوجهين آخرين غير خاليين عن المناقشة والتّأمل.

أحدهما : الإجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار. وفيه : أنّ حصول الاستكشاف عن هذا النّحو من الإجماع في حيّز المنع ، وقد ردّه الأستاذ العلّامة في غير واحد من موارد تمسّكهم به على ما هو ببالي.

ثانيهما : أنّ الظّن الغير المعتبر إن كان ممّا قام دليل على عدم اعتباره بالخصوص كالقياس ونحوه فلا إشكال في عدم قدحه ؛ لأنّ معنى ما قام على عدم اعتباره هو أنّ وجوده كعدمه عند الشّارع بمعنى : أنّ كلّ أثر يترتّب في صورة عدمه لا بدّ من أن يترتّب في صورة وجوده ، فلو لم يكن قائما على خلاف الحالة السّابقة لم يكن إشكال في وجوب الأخذ بها ، فلا بدّ من أن يؤخذ بها في صورة قيامه على خلافها أيضا.

وإن كان ممّا شكّ في اعتباره وحكم بعدم اعتباره من جهة الأصل الأولي فكذلك أيضا ؛ لأنّ مرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السّابق بسببه إلى ما نهي في الأخبار عنه من نقض اليقين بالشّك هذا محصّل ما ذكره ( دام ظلّه ).

وأنت خبير بتطرّق المناقشة فيما ذكره ( دام ظلّه ).

أمّا فيما ذكره على التقدير الأوّل : فبأنّ ارتفاع الشّك بمعنى التّسوية الّذي هو الموضوع للحكم في الأخبار بالفرض بقيام الظّن على الخلاف قهريّ وليس


باختيار المكلّف ، والتّنزيل إنّما هو بالنّسبة إلى الآثار الغير المترتّبة على الموضوع المرتفع بواسطة الظّن المذكور قهرا فتأمّل هذا. وإن شئت توضيح القول في ذلك وتفصيله فراجع إلى الجزء الأوّل من التّعليقة عند التّكلّم في ترتب غير الحجّيّة من الآثار على الظّن الغير المعتبر.

وأمّا فيما ذكره على التّقدير الثّاني : فبأنّ عدم قيام الدّليل على اعتبار الظّن وكونه مشكوك الاعتبار لا يوجب خروج الظّن عن كونه ظنّا ؛ ضرورة استحالة انقلاب الشّيء عمّا هو عليه ، فبعد فرض كون الظّاهر من الشّك من الأخبار هو الاحتمالان المتساويان على ما عليه اصطلاح أهل المعقول الّذي ربّما يدّعى كونه حقيقة فيه في العرف المتأخّر بالتّعيّن لا معنى للقول بدلالة الأخبار على الأخذ بالحالة السّابقة في صورة الظّن بالخلاف ، فلا وجه إذن للحكم بحرمة العمل بالظّن إذا لم تكن على وجه التّدين ، بل يكون حاله حال نفس الاستصحاب في جواز العمل به إذا لم يكن على وجه التّديّن وحرمته إذا كان على هذا الوجه.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر فساد ما ربّما يقال في توجيه ما ذكره ( دام ظلّه ) على التّقديرين : من أنّ المقصود منه أنّ لفظ الشّك وإن كان ظاهرا في المعنى الأخصّ في نفسه مع قطع النّظر عن قيام الدّليل الخارجي على ما هو قضيّة التّسليم ، إلّا أن قضيّة دليل عدم اعتبار الظّن القائم على الخلاف على سبيل الحكومة كون المراد من الشّك في أدلّة الأصول هو المعنى الأعمّ.

توضيح الفساد : أنّ النّهي عن العمل بالظّن على وجه التّشريع لا يقتضي إلّا حرمة العمل بالظّن من حيث التّشريع سواء طابق الاستصحاب أو خالفه إن فرض تحقّقه في الأوّل ، وهذا لا تعلّق له بمسألة الحكومة على أدلّة الأصول كما لا يخفى ،


بل وكذلك الأمر لو فرض كون حرمة العمل بالظّن ذاتيّا كما هو واضح.

ومنه يعلم : أن حكومة دليل اعتبار الظّن الاجتهادي على الاستصحاب فيما لو كان على خلاف الأصل إنّما هو إذا جعل الشّك في أدلّة الأصول هو المعنى الأعمّ ، وأمّا إذا جعل المراد منه المعنى الأخصّ فلا تعلّق لدليل اعتبار الظّن حينئذ بدليل اعتبار الأصل حتّى يجعل حاكما عليه ؛ لأنّ كلّا منهما يثبت حكما في موضوع غير الموضوع الّذي يثبت فيه الحكم الدّليل الآخر.

ولعلّ ما ذكرنا هو الوجه في أمر الأستاذ العلّامة بالتّأمل وإرجاعه إلى ما ذكره في كلّ من التّقديرين أولى وإن كان بعيدا في الغاية. هذا مجمل القول في المقام على تقدير القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن : فالّذي يظهر من الأكثرين عدم اعتبار الظّن الشّخصي ، بل يعملون به في صورة قيام الظّن الغير المعتبر على الخلاف فضلا عن صورة التّسوية كما يظهر من حكمهم بمقتضيات الأصول مطلقا من غير مراعاة الظّن أصلا وعنوانهم مسألة تعارض الأصل والظّاهر ؛ فإنّه ٣ / ١٦٧ أقوى شاهد لما ذكرنا كما هو واضح.

نعم ، قد عرفت عن الشيخ بهاء الدّين ( رحمة الله عليه ) اعتبار الظّن الشّخصي ، وكذا عن الشّهيد رحمه‌الله على ما صرّح به الأستاذ العلّامة في مجلس البحث ؛ حيث إنّه ذكر أن جعل المراد من الظّن في كلامه الظّن النّوعي كما استظهرنا منه في أوّل الكتاب في غاية البعد ، وهو أيضا ظاهر كلّ من جعل منشأ الظّن في الاستصحاب الغلبة وجعل المدرك له دليل الانسداد. ومنه يعلم أنّ مقتضى دقيق النّظر اختلاف الحال في ذلك بحسب اختلاف منشأ الظّن ومداركه.


(٣٠٤) قوله : ( نعم ، يرد على ما ذكرنا من التّوجيه أنّ الشّهيد رحمه‌الله ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٨٨ )

في عدم ورود شيء على التوجيه المذكور

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : حاصل الإيراد : أن الشك الذي حكم بانّه لا يرفع اليد به عن اليقين ليس خصوص الاحتمال الموهوم أو تنزيل إطلاقهم على إرادته بالخصوص مع عدم استقامته في حدّ ذاته لا يجدي في دفع ما يتوهّم من التناقض وإنما المجدي إرادتهم اليقين السّابق والشكّ اللّاحق وعلى هذا التّقدير لا حاجة إلى صرف كلامهم عن ظاهره وحمل الشكّ على إرادة خصوص الاحتمال الموهوم هذا.

ولكنّ الظّاهر أنّ مقصود الشهيد من « الشكّ » هو معناه اللّغوي وهو مطلق الإحتمال المخالف لليقين وغرضه دفع التّنافي بإرادة اليقين السّابق والشّك اللّاحق. وأمّا قوله : ( لأصالة بقاء ما كان ) فهو تعليل لعدم الرّفع ذكره استطرادا. وقوله : ( فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشك ) مسوق لبيان مطلب واقعي بنظره ، ومقصوده من الشكّ في هذا المقام خصوص الاحتمال الموهوم لا لإرادته بعنوان الخصوصيّة من اللّفظ حتّى يتغاير المراد من الشّك في الموضعين بل لأجل كونه من مصاديق الاحتمال المخالف لليقين ، فكأن المصنّف رحمه‌الله فهم من كلامه : أنّه اراد دفع التّنافي بجعل متعلّق النّقض اليقين السّابق بلحاظ أحكامه المظنونة المجامعة مع الشكّ فيكون مآل النّهي عنه لدى التّحليل إلى النّهي عن نقض الظنّ بالإحتمال الموهوم فليتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٣٤.

* وقال المحقق المؤسس الطهراني قدس سره :

« وفيه : أنّ مراد الشهيد قدس‌سره من الظنّ هو الظهور الأصلي وهو الذي يجتمع مع الجهل المعبّر عنه بالشك » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠١.


أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) لا يتوجّه عليه أصلا ؛ لأنّ الشّهيد إنّما دفع التّناقض المتوهّم من قولهم اليقين لا ينقض بالشّك بقوله : « بل المعنيّ به ... إلى آخره » (١) وأمّا قوله : « فيؤول إلى اجتماع الظّن والشّك » (٢) فليس له دخل بأصل دفع التّوهّم ، وإنّما هو بيان لما يحصل بعد ملاحظة الحالة السّابقة على ما يشهد به تفريعه على قوله : « لأصالة بقاء ما كان » (٣) فلم يرد بما ذكره دفع أصل التّوهّم ولا حصول الظّن قبل ملاحظة الحالة السّابقة حتّى يقال : إنّه في محلّ المنع ؛ إذ على فرض وجوده لا تعلّق له بالظّن الاستصحاب كما لا يخفى ، بل أراد بيان ما يحصل في مورد الاستصحاب بعد ملاحظة الحالة السّابقة ، فما ذكره من التّوجيه لا بأس به ولا يتوجّه عليه شيء.

لا يقال : ما ذكر يوجب التّفكيك بين الشّك في قوله أخيرا : فيؤول إلى اجتماع ... إلى آخره » (٤) والشّك الواقع في سابقه وهو في كمال البعد.

لأنّا نقول : نمنع من لزوم التّفكيك ؛ فإنّ المراد من الشّك في المقامين هو خلاف اليقين غاية الأمر تحقّقه في مورد في ضمن فرد ، وإرادته كذلك وتحقّقه في مورد آخر في ضمن فرد آخر وهذا ممّا لا يوجب اختلافا في أصل معنى الشّك هذا. مع أنّ مجرّد لزوم خلاف الظّاهر لا يمنع من التّوجيه كما لا يخفى ، بل قد يقال : إنّ محلّ التّوجيه ما استلزم فيه ارتكاب خلاف الظّاهر.

ثمّ إنّه قد يجاب عن إيراد عدم اجتماع الظّن والشّك كاليقين والشّك بأنّ

__________________

( ١ و ٢ و ٣ ) الذكرى : ج ٢ / ٢٠٧ « ط آل البيت ».

(٤) نفس المصدر.


مراد الشّهيد قدس‌سره من الظّن ليس هو الظّن الشّخصي حتّى يتوجّه عليه ما ذكر ، بل الظّن النّوعي. ومن المعلوم عدم منافاته لقيام الظّن على الخلاف فضلا عن الشّك وقد أشار إليه ( دام ظلّه ) في أوّل « الكتاب ».

ولكنّه أورد عليه في مجلس البحث في المقام : بأنّ هذا التّوجيه ممّا لا معنى له ؛ لأنّ الظّن النّوعي صفة في الأمارة ومن شأنها بحسب طبيعتها ، فلا يعقل الحكم باجتماعه مع الشّك الّذي هو من الأوصاف القائمة بنفس المكلّف ؛ ضرورة لزوم وحدة الموضوع في تحقّق الاجتماع وصدقه فتأمّل.

* * *


خاتمة

في شرائط العمل بالإستصحاب

* إشتراط بقاء الموضوع

* إشتراط الشك في البقاء

* إشتراط عدم العلم بالبقاء أو الإرتفاع



* خاتمة (١)

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« قد تبيّن مما حقّقناه : انّ الإستصحاب يطلق على اربعة أصول فالأخذ بالإقتضاء المعبّر عنه بإستصحاب حكم النّص لا يتعقّل إلّا بعد إحراز الإقتضاء والموضوع ، بل الشروط ؛ لأنّه إنّما يدفع المانع.

وامّا استصحاب حال الشرع المعبّر عنه باستصحاب حال الإجماع تارة وباستصحاب الحال أخرى فهو مبني على عدم اعتبار إحراز الإقتضاء والموضوع ، ولهذا صار من المنكرات ، فاشتراط بقاء الموضوع في استصحاب الحال كاعتبار كون الشك في الرّافع ناش عن الجهل لمحلّ النّزاع ، بل باصطلاحات أهل الفن.

ومن الغريب انّ الأستاذ قدس‌سره زعم أنّ مشكوك البقاء لا بدّ ان يكون عين القضيّة التي علم بتحقّقها سابقا وانّه هو السّبب في اعتبار العلم ببقاء الموضوع ؛ فإنّ الإبقاء إنّما هو بالنّسبة إلى المحمول في محلّ النّزاع ولهذا قال المحققون المنكرون له : انّه إسراء ، ألا ترى انّ المثال المعروف لمحلّ النّزاع وهو واجد الماء في أثناء الصّلاة يحتمل فيه زوال الموضوع الموجب لعدم الإجتزاء ، ومع ذلك يزعم المثبتون جريان الإستصحاب فيه ؛ فإن وجدان الماء ليس من الأحداث فمن حكم ببطلان الصّلاة حينئذ وأوجب الوضوء لم يستدل إلّا بزوال الموضوع المستتبع لزوال الحكم وحيث انه غير قادح في نظر المثبت لاحتماله كون الفقدان واسطة في الثبوت لا موضوعا استصحب وقد أوضحناه فيما تقدّم.

وأعجب من هذا انّه لم يفرّق بين الموضوع ومعروض المستصحب حتّى انّه فسّره به ، مع انّ الشك في بقاء المعروض إذا لم يكن موضوعا لا يمنع من الجريان ، غاية الأمر انه يستصحب ويكتفى به إن كان سببيّا وإلّا فيجري في الحكم أيضا.

توضيح ذلك : ان موضوع العرض ومعروضه وإن كان واحدا ولم يتعقّل التفكيك بينهما إلّا ان


مرجع الشرائط المزبورة إلى شروط جريان الاستصحاب

__________________

الموضوع قد يكون عنوانا كلّيا هو واسطة في العروض لغيره كالحائض التي تعلّق به الحكم الشرعي ؛ فإنّ الأحكام الكلّيّة ليست للمصاديق والموضوع الكلّي هو العنوان العرضي وكذا الحال في الفاقد والواجد بالنسبة إلى المصاديق ، وبهذا الإعتبار يتحقّق الإفتراق بين الموضوع والمعروض ، فالموضوع للأحكام إنّما هو العناوين الكلّيّة لا المصاديق الخارجيّة.

نعم هي بعد انطباق العناوين عليها تكون معروضات لها فحيث كان الإشتباه في تعلّق الحكم الشرعي الكلّي وكانت الشبهة حكميّة واستند الشك في بقاء الحكم في معروضه الخارجي إلى الشك في كون العرض الزائل موضوعا لم يجر الإستصحاب على رأي المحقّقين لأنّه إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، فالمعروض وهو الموجود الخارجي باق قطعا ولكنّ الموضوع لم يعلم ببقاءه وهذا هو الوجه فيما إخترناه : من أنّ الأصل عدم بقاء أحكام الحيض بعد النّقاء وقبل الغسل إن لم يعلم بانّ قوله عزّ من قائل : حَتَّى يَطْهُرْنَ من باب التفعيل أو من المجرّد ؛ فإن مرجعه إلى الجهل بان موضوع الحكم الشرعي هو الحيض بمعنى قذف الدّم الزائل بالنّقاء الذي هو الطّهر وهو بمعنى الحدث الذي لا يزول الّا بالغسل فإنّ الغاية الأوّل هو الطهر وعلى الثاني هو التطهير.

وبالجملة : فاشتراط عدم استناد الشك في البقاء إلى عدم معرفة الموضوع ودوران أمره بين ما علم زواله وبين ما علم بقائه كما في المثال وفي ما دار الأمر بين كون التغيّر واسطة في العروض حتى يطهر الكرّ بزوال التغيّر من قبل نفسه وبين كونه كاشفا على استيلاء النجاسة وزوال الإعتصام بسقوط القوّة عن الكثرة العاصمة باستيلاء النّجاسة بأحد أوصافها على أوصاف الماء إنّما هو إبطال الإستصحاب الحال الذي مرجعه إلى مجرّد التعويل على العلم بالحدث مع الزّوال وقد خفي ما حقّقناه على الأستاذ قدس سره فصدر منه ما لا يخفى وهنه » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠١ ـ ٣٠٢.


(٣٠٥) قوله : ( والتّحقيق : رجوع الكلّ إلى شروط ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٨٩ )

أقول : ما ذكره من التّحقيق بالنّسبة إلى جميع الشّروط الثّلاثة لا يخلو عن مناقشة ؛ لأنّ وجوب الفحص وعدم المعارض ليسا من شرائط الجريان ، بل من شرائط العمل على ما هو الشّأن في جميع الأصول الشّرعيّة غير أصالة الاحتياط ؛ فإنّ التّحقيق : أنّه لا شرط له بعد تحقّق موضوعه على ما عرفت تفصيل القول فيه في مطاوي كلماتنا السّابقة هذا على ما يقتضيه ظاهر كلماتهم : من الاستدلال لوجوب الفحص بالإجماع ، وأمّا بناء على الاستدلال بوجوب الفحص بالعلم الإجمالي يمكن جعل الفحص من شرائط الجريان.

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« ومجمل وجهه : انّه أمّا مع عدم بقاء الموضوع ، فانّما هو إسراء حكم موضوع إلى آخر لا انسحاب حكم الموضوع في الزّمان الثاني واستصحابه ، وامّا مع وجود الدّليل على خلاف اليقين ، فلعدم مقاومة دليله لانتفاء موضوعه به حقيقة على ما سنحقّقه إن شاء الله ، ومع عدم الفحص ، فلاحتمال وجود دليل لا مقاومة لدليله معه ، ومعه لا مجال له إلّا إذا جرت أصالة عدم الدّليل ، ولا سبيل إليها إجماعا إلّا بعد اليأس بالفحص هذا لو كان الاستصحاب من باب التعبّد ، وكذا الحال لو كان من باب الظنّ ، فإنّه على هذا ليس عبارة عن مطلق الظّنّ بالثّبوت في الزّمان الثّاني ، بل خصوص الظّن بالبقاء فيه الناشيء عن ملاحظة الثّبوت في الزّمان الأوّل. ومن المعلوم أنّه لا يكون إلّا مع اتّحاد الموضوع في القضيّة المشكوكة والمتيقّنة ، كما انّ ملاحظة الثّبوت لا يورثه إلّا فيما لم يكن هناك أمارة على الإرتفاع ، كما يظهر من عبارة العضدي أنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّما كان كذلك ، فهو مظنون البقاء ، فتأمّل.

ومنه ظهر : أنّ احتمال الظّفر بالدّليل بالفحص يمنع عن إفادة ملاحظة الثّبوت للظّنّ بالبقاء ، فتأمّل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٨١.


وأمّا عدم المعارض فلو كان المراد منه خصوص ما يكون حاكما على الاستصحاب كالأدلّة الاجتهاديّة مسامحة في الإطلاق فيمكن جعل عدمه شرطا للجريان ، ولكنّ الأمر ليس كذلك على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكره ( دام ظلّه ) بين القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد أو الظّن.

نعم ، لا ريب في أنّ محلّ كلامه وكلام كلّ من ذكر هذه الشّرائط مختصّ بالاستصحاب الجاري في الشّبهة الحكميّة ، وأمّا الجاري في الشّبهة الموضوعيّة فلا إشكال في عدم جريان هذه الشّروط بأجمعها فيه ، وإن جرى فيه بعضها كبقاء الموضوع وعدم المعارض هذا.

ولكن ربّما ينافي ما ذكرنا التّكلم في الاستصحاب الجاري في الموضوع الخارجي في طيّ الكلام في الشّروط حسب ما ستعرف من الأستاذ العلّامة فتأمّل.


(٣٠٦) قوله : ( الأوّل : بقاء الموضوع في الزّمان اللّاحق ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٨٩ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« والمراد ببقاء الموضوع أن يكون الموضوع في القضيّة المشكوكة ، هو الموضوع في القضيّة المتيقّنة بعينه ، كي يكون الشّك في اللاحق في عين ما كان الإنسان على يقين منه في السابق مثلا ، إذا كان على يقين من قيام زيد ثم شكّ في بقاء قيامه ، ولو لأجل الشّكّ في بقائه ، صحّ استصحاب قيامه ، فإنّه ما شكّ إلّا في ثبوت القيام لزيد في الخارج في الآن الثّاني بعد ما كان على يقين منه في الآن الأوّل ، ضرورة أنّ الشكّ في ثبوت النّسبة بين أمرين خارجيّين ، كما قد يكون لأجل الشك في المحمول ، قد يكون لأجل الشك في الموضوع ، مع انّ القطع بأنّ ما هو المعتبر في جريان الإستصحاب من إحراز الموضوع وانسحاب المستصحب في نفس معروضه الّذي كان معروضه في السّابق ، فلا ينافي الشّكّ في وجوده الخارجي مع القطع بإحرازه المعتبر في باب الاستصحاب ، لكونه بوجوده الخارجي موضوعا للمستصحب في المقام ، وهو القيام لأنّ إحرازه ليس إلّا بان يكون الشّكّ في قيام من كان على يقين من قيامه وهو زيد ، والشكّ هاهنا في قيامه لا قيام غيره.

هذا غاية توضيح مرامه وإن كان في كلامه ما ربّما أوقع بعض الطّلبة في الإشتباه فثبّته كيلا تقع فيه وحصل لك بذلك الإنتباه ، فالموضوع هو معروض المستصحب كما افاده ، لكن مع جميع القيود المعتبرة في عروضه عليه عقلا او شرعا أو عرفا ، ووجه اعتبار البقاء بهذا المعنى في جريان الاستصحاب وتحقّقه مطلقا كان من الظنّ أو التعبّد بالأخبار واضح لا يخفى ضرورة انّه بدونه لا يكاد ان يكون الظّن بثبوته في ثاني الحال ظنّا بالبقاء بل بحدوثه لغير ما ثبت له في الزّمان الأوّل بلا إشكال ، ولا التّوقّف عن الحكم بثبوته بالشّكّ بحسب العمل نقضا لليقين بالشكّ بلا ريب ولا شكّ ، ولعمري إعتبار بقاء الموضوع بهذا المعنى أوضح من أن يحتاج إلى مزيد بيان ومؤونة برهان ، بل من الأمور الّتي يكون قياساتها معها


__________________

كما لا يخفى.

وأمّا استدلاله بلزوم انتقال العرض أو كونه بلا موضوع لو لا بقاء الموضوع وهما محالان.

ففيه ما لا يخفى ، فإنّ المحال إنّما هو الانتقال ، والكون في الخارج بلا موضوع بحسب وجود العرض حقيقة ، لا بحسب وجوده تعبّدا كما هو قضيّة الاستصحاب ، ولا حقيقة لوجوده كذلك إلّا ترتيب آثاره الشّرعيّة وأحكامه العمليّة.

ومن المعلوم أنّ مؤونة هذا الوجود خفيفة ليست كمؤونة وجوده الحقيقي هذا ، مع أنّه أخصّ من المدّعى ، فإنّ المستصحب ليس دائما من مقولات الأعراض ، بل ربّما يكون هو الوجود ، وليس هو من إحدى المقولات العشر ، فلا جوهر بالذّات ولا عرض وإن كان بالعرض.

إن قلت : نعم لكنّه ممّا يعرض على الماهيّة كالعرض.

قلت : نعم إلّا انّ تشخّصه ليس بعروضه ، فيستحيل بقاؤه مع تبدّله ، بل يكون القضيّة بالعكس ويكون تشخّص معروضه به ، كما حقّق في محلّه ، بحيث لا ينثلم وحدته وتشخّصه بتعدّد الموجود وتبدّله من نوع إلى نوع آخر ، فينتزع من وجود واحد شخصيّ ماهيّات مختلفة حسب اختلافه نقصا وكمالا ، ضعفا وشدّة ، فصحّ استصحاب هذا الوجود عند الشّك في بقائه وارتفاعه ولو مع القطع بتبدّل ما انتزع عنه سابقا من الماهيّة إلى غير ما ينتزع عنه الآن لو كان هذا.

ثمّ إن المستصحب في موارد الإستصحابات تارة يكون وجود الشّيء الّذي هو مفاد كان التّامّة ، وأخرى وجوده بغيره الّذي هو مفاد كان النّاقصة ، والموضوع على الأوّل هو الماهيّة او الحصّة منها ، وعلى الثّاني الموجود على النّحو الّذي كان معروضا له سابقا ، ففي الشك في قيام زيد بعد اليقين به صحّ استصحاب ثبوته في نفسه وثبوته بغيره ، لإحراز بقاء الموضوع المعتبر في الاستصحاب في كلّ منهما ، ضرورة عدم انسحاب المشكوك فيهما إلّا في مورد كان مورده في حال اليقين به ، وهذا هو المراد ببقاء الموضوع كما عرفت ، لكن لا يخفى أنّ


* الشرط الأوّل في جريان الاستصحاب : بقاء الموضوع

أقول : من الواضحات الّتي لا يعتريها ريب ولا يعرضها شكّ ، بل لم يخالف

__________________

صحّة استصحاب ثبوته ووجوده أو ثبوته بغيره ، لا يكون في كلّ مقام ، بل يختلف باختلاف ما يهمّ من الآثار والأحكام ، فإن كان المهمّ منها مرتّبا بحسب دليله على ثبوت خصوص ذاك القيام ، فلا بدّ من استصحاب وجوده النّفسي ، ولا يكفي استصحاب وجوده الرّبطي إلّا بناء على الأصل المثبت ، وإن كان مرتّبا بحسبه على ثبوت القيام لزيد ، فلا بدّ من استصحاب وجوده الرّبطي لا النّفسي ، إلّا بذاك البناء ، فاتّضح بذلك كلّه أنّ وجود أمر خارجيّ كان موضوعا في باب الإستصحاب أو قيدا لا يستلزم إحرازه المعتبر في هذا الباب القطع بتحقّقه ، بل يجتمع مع الشّكّ في حصوله في الخارج ، كما عرفت بما لا مزيد عليه » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٣٨ ـ ٣٨٣.

* وقال المحقق الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس سره :

« وفيه : ان اشتراط بقاء الموضوع من الأغلاط ، ففي المثال لا يجري هذا الحكم ولا معنى لاعتبار بقاء المعروض ، أمّا مع الشّك في بقاء القيام فيستصحب معروضه إذا كان مشكوكا فيه.

وأمّا مع الشك في نفس المعروض فلا معنى لاعتبار معروض آخر له ، وزيد عبارة عن الفرد الخارجي والفرد هو الكلّي الموجود ، فهو وجود وطبيعة ولا معنى لعروض شيء للفرد الخارجي في الذهن ، مع انّ التقرّر جهة متميّزة عن الوجود الذهني والخارجي ، مع انّ الحياة من عوارض البدن الخارجي وزيد عبارة عن النّفس المتعلّقة بالبدن ، ولو قلنا بانّ حياة النّفس عبارة عن تعلّقها بالبدن فهي عرض لزيد بهذا الإعتبار ، فلا معنى لكونه من العوارض الذهنيّة ، بل إنّما هي من الأعراض الخارجيّة » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٣.
فيه أحد اشتراط بقاء الموضوع ومعروض المستصحب في الزّمان السّابق في جريان الاستصحاب ؛ فإنّ من يجري الاستصحاب مع عدم إحراز الموضوع بطريق القطع ، أو مع القطع بالانتفاء كما في جملة من المقامات الّتي يقف عليها المتتبّع كالاستصحاب في الزّمان ونحوه ، يلتزم بأنّه محرز بحكم العرف ، وأنّ هذا المقدار يكفي في باب الاستصحاب لا أنّه يذهب إلى عدم اشتراطه.

ولكن مع ذلك كلّه لمّا أشكل الأمر على بعضهم في كلّية اشتراط بقاء الموضوع : من جهة عدم وضوح المراد من الموضوع ، أو البرهان على ما ذكروه ، فبالحريّ أن نتكلّم أوّلا في بيان المراد من الموضوع ، ثمّ نعقّبه بالكلام في الدّليل على اشتراطه ، ثمّ نعقّبه بالكلام فيما يحرز به الموضوع ويكتفى به.

فنقول : أمّا المراد من الموضوع فهو المعروض للمستصحب بجميع ما له دخل في عروضه وقيامه به من الخصوصيّات والتّشخّصات الّتي لها مدخليّة في العروض ، فهذا أمر يختلف بحسب القضايا فقد يكون للزّمان والمكان والوصف ونحوها مدخليّة في قضيّة ، وقد لا يكون لها مدخليّة ، وقد يكون المعروض في ٣ / ١٦٨ بعض القضايا الذّات الملحوظة مع الوجود الخارجي فقط ، أو مع خصوصيّة أخرى مضافا عليه.


المعتبر في استصحاب الوجود التقرّر

الماهيّتي لا وجودها في الذهن

وبعبارة أخرى : الماهيّة الموجودة كما في القضايا الّتي يكون المحمول فيها غير الوجود من أعراض الماهيّة الموجودة وأوصافها من الأوصاف الخارجيّة كالقيام والجلوس والمشي والرّكوب ونحوها والأحكام الشّرعيّة ، وقد يكون نفس الماهيّة بحسب تقرّرها الماهيّتي كالقضيّة الّتي يكون المحمول فيها الوجود.

وأمّا القضايا الّتي يكون المحمول فيها غير الوجود الخارجي باعتبار وجود الماهيّة في الذّهن أو الأعمّ من الذّهن والخارج كلوازم الماهيّات فلا تعلّق لها بالمقام ، فالموضوع في استصحاب الوجود هو نفس الماهيّة باعتبار تقرّرها الماهيّتي ؛ ضرورة أنّ عروض الوجود للماهيّة بهذا الاعتبار ، وإلّا استحال عروضه لها سواء اعتبرت بشرط شيء أو بشرط لا كما هو واضح ، ولا يتفاوت الأمر فيما ذكرنا بين القول بأصالة الوجود أو الماهيّة كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى : المراد من بقاء الموضوع في الاستصحاب هو كون القضيّة المشكوكة في الآن اللّاحق عين القضيّة المتيقّنة في الآن السّابق لا تفاوت بينهما أصلا ، إلّا من حيث كون ثبوت المحمول قطعيّا للموضوع في إحداهما ومحتملا في الأخرى سواء كان الموضوع فيها نفس الماهيّة باعتبار ما لها من التّقرّر ـ كما في قولك : زيد موجود ؛ ضرورة أنّ الموضوع فيها ماهيّة زيد القابلة لأن يحمل عليها الوجود والعدم ـ أو الماهيّة باعتبار الوجود كما في قولك. زيد قائم ؛ فإنّ الموضوع


فيها ليس نفس الماهيّة ، بل الماهيّة الموجودة كما لا يخفى.

فالمعتبر في استصحاب الوجود بقاء الماهيّة في الزّمان الثّاني على ما كان عليه في الزّمان الأوّل ؛ إذ لا يعقل اعتبار أزيد من ذلك كما لا يخفى. وفي استصحاب القيام ونحوه بقاء الماهيّة الموجودة ، وفي استصحاب وجوب إكرام زيد العالم إحراز وجوده وعلمه ، وفي استصحاب وجوب إكرامه في الزّمان الخاص إحراز ما ذكر مع الزّمان وهكذا.

غاية الأمر كون الموضوع محرزا في القسم الأوّل دائما لا يقبل الزّوال أصلا ؛ ضرورة استحالة انقلاب الماهيّات وتغيّرها عمّا عليه دائما ؛ ضرورة أنّ الفناء إنّما يلاحظ للشّيء باعتبار الوجود ؛ إذ لا معنى لانعدام الماهيّة مع قطع النّظر عن وجودها كما هو ظاهر واضح.

وممّا ذكرنا من البيان للمراد من الموضوع الّذي يلزم بقاؤه يظهر فساد ما استشكله بعض الأفاضل (١)(٢) في كليّة اعتبار بقاء الموضوع على ما أطبقت عليه

__________________

(١) يريد استاذ استاذه شريف العلماء المازندراني انظر ضوابط الأصول : ص ٣٨٠.

(٢) قال المحقق الأصولي المتبحّر الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« أمّا فساد الإشكال فلما عرفت : من انّ الموضوع عبارة عمّا تعلّق به الحكم الشرعي وليس إلّا الامر الكلي ووجود زيد ليس حكما شرعيّا فلا معنى لاشتراط بقاء موضوعه ، فهذا الاشكال ناش عن الجهل بالصّناعة وعدم الخبرة بمقاصد أهلها ، فزعم انّ المراد بالحكم مطلق المحمول ، فالموضوع هو المعروض بزعمه الفاسد.

وأمّا فساد الدفع فلما عرفت : من أنّ زيدا ليس إلّا الإنسان الموجود في الخارج ولا معنى لاعتبار حالين إلّا في الكلّي مع انّ الوجود الذهني قد عرفت فساده في نفسه وكون الوجود


كلمتهم : من أنّه لا يمكن اعتباره في جميع صور الاستصحاب وموارده حتّى فيما لو كان المستصحب الوجود ، وإلّا لزم إحراز الوجود والعلم به عند إرادة استصحابه ، وهكذا الأمر في الاستصحابات العدميّة ؛ لأنّها مثل استصحاب الوجود حكما كما هو ظاهر.

وبمثل ما ذكرنا فليحرّر المقام لا بمثل ما قرّره الأستاذ العلّامة ؛ فإنّه غير نقيّ عن الإشكال ؛ فإنّ الحكم بكون عروض الوجود الخارجي للماهيّة باعتبار وجودها الذّهني على ما يفصح عنه قوله : « سواء كان تحقّقه في السّابق بتقرّره ذهنا ... إلى آخره » (١) كما ترى ؛ ضرورة استحالة هذا المعنى في عروض الوجود كما لا يخفى.

وأمّا التّقرّر الماهيّتي فلا دخل له بالوجود الذّهني ، بل هو مقابل للوجودين يجامعهما وعدمهما حسب ما حقّق في محلّه ، وإن كان ربّما يتفصّى عن الإشكال المذكور : بأنّ المراد منه اعتبار التّقرر الذّهني في مقام الحمل لا العروض ؛ فإنّ حمل الوجود على زيد في قضيّة : « زيد موجود » موقوف على تصوّر زيد كما يتوقّف على تصوّر الوجود فهذا هو المقصود بما ذكر ، لا أنّ عروض الوجود

__________________

الخارجي عارضا للطبيعة في الذهن سفسطة مضحكة كالتفكيك بين ظرفي العروض والإتّصاف ؛ فإنّ الإتّصاف بالوجود عين عروضه مع انه تحليل صرف ، وإلّا فلا عروض ولا تغاير ، مع انّ الذهن ليس من شأنه إلّا إدراك ما هو الواقع لا أنّ الواقع يتحقّق به ويتوقّف عليه » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٤.

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٩٠.


للماهيّة واقعا في غير مقام الإخبار باعتبار وجودها الذّهني حتّى يتوجّه عليه ما ذكر.

توضيح ذلك : أنّ عروض الوجود للماهيّة يلاحظ بثلاث اعتبارات :

أحدها : عروضه لها باعتبار الواقع مع قطع النّظر عن إبرازه في غالب القضيّة وإظهاره والإخبار عنه.

ثانيها : عروضه لها بالنّظر إلى ما ذكر بعد تصوّر الماهيّة والوجود.

ثالثها : عروضه لها بالنّظر إلى القضيّة من حيث توقّف الحمل على تصوّر الطّرفين.

لا إشكال في استحالة اعتبار الوجود الذّهني في القسم الأوّل ، وكذا في الثّاني ؛ فإنّ حمل شيء على شيء إنّما يلاحظ باعتبار قيامه به وعروضه له بحسب الواقع ، وإن كان بينهما فرق : من حيث عدم إمكان توسّط عروض الشّيء لعروض نفسه ، واستحالة عدم توسّطه في مقام الحمل ؛ فإنّ حمل الوجود على زيد أو القيام عليه إنّما هو باعتبار قيام مبدأ به لا بمعنى أخذه في الموضوع حتّى يكون معنى قولنا : زيد موجود مثلا زيد الموجود موجود كما قد يتوهّم ، بل بمعنى اعتباره في الحمل ، كما أنّه لا إشكال في اعتبار الوجود الذّهني في القسم الثّالث على ما هو قضيّة الفرض هذا.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكر من التفصّي لا يدفع الإشكال الوارد في المقام ؛ لأنّ المقصود بيان ما يعرض الوجود للماهيّة باعتباره حتّى يحكم باشتراط إحرازه

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


عند إرادة استصحاب الوجود ، ومن المعلوم عدم كون المناط في العروض التّقرر الذّهني.

وبالجملة : ما ذكره لا يخلو عن تأمّل. فما ذكرنا من التّحرير للمقام لعلّه أولى ، هذا إذا أريد من استصحاب الوجود استصحابه على وجه الإطلاق ، وأمّا إذا أريد منه استصحاب ما كان له نفس فيمكن أن يقال : إنّ المستصحب هو النّفس من حيث تعلّقها بالبدن العنصري ولو من حيث كونه مركبا لها فتدبّر.

وإن أبيت إلّا عن ظهور قولهم في اشتراط بقاء الموضوع في بقاء وجوده الخارجي ـ مع أنّه كما ترى ، مع الالتزام بأصالة الوجود ـ فلا بدّ من صرف كلامهم إلى غير استصحاب الوجود من جهة استحالة اعتبار هذا المعنى بالنّسبة إليه ٣ / ١٦٩ كما هو ظاهر.

نعم ، على تقدير ابتناء الإشكال على القول بأصالة الوجود وكون الماهيّة من شؤونه (١) [ و] حدوده لم يتوجّه الإشكال بالنّسبة إلى استصحاب عدم الأشياء ؛ ضرورة امتناع القول بأصالة العدم مع استحالة تعلّق الجعل به ، وإن قيل : بأنّ العدم المضاف له حظّ من الوجود كما هو ظاهر فتأمّل.

هذا مجمل القول في بيان المراد من الموضوع الّذي يشترط بقاؤه في جريان الاستصحاب.

__________________

(١) حدوده « ن خ ».


الدليل على إشتراط بقاء الموضوع في الإستصحاب

وأمّا الدّليل على اشتراط بقاء الموضوع فهو أمور :

الأوّل : الإجماع الظّاهر المصرّح به في كلام بعض.

وأنت خبير بأنّه لا معنى للتّمسّك به في المقام وأمثاله ممّا لا يكون الأمر الّذي انعقد الإجماع عليه من الأمور الشّرعيّة كما هو واضح ؛ فإنّ الكلام إنّما هو في كون إحراز الموضوع من شروط جريان الاستصحاب وتحقّق موضوعه ، ومن المعلوم أنّ هذا ليس ممّا يكون بيانه من الشّارع وممّا يؤخذ عنه حتّى يكون الإجماع فيه كاشفا.

نعم ، لو كان الكلام في كونه من شروط العمل بالاستصحاب وعدمه كان الإجماع على شرطيّته كاشفا كالإجماع على سائر الأحكام الشّرعيّة.

الثّاني : الدّليل العقلي (١).

__________________

(١) قال المحقق الأصولي آغا هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انه فرق بين القضيّة الواقعيّة المشكوك فيها بالفرض وبين القضيّة الظاهريّة الأصليّة وليس مؤدى الاصل إلّا وظيفة المتحيّر حال الحيرة لا الحكم بثبوت شيء لآخر في الواقع ، فتوقّف العروض النفس الأمري على بقاء الموضوع واستحالة تحقّق العرض بدون الموضوع وانتقاله أحكام للقضايا الواقعيّة ، وأمّا الأصل فلا يتوقّف جريانه إلّا على أركانه وشرائطه من العلم بالحدوث والجهل بالبقاء ، فالبناء على بقاء مشكوك البقاء ليس بقاء حقيقة حتّى يتوقّف على موضوع ؛ فإنه ليس وجودا ، بل إنّما هو معاملة مع المجهول معاملة المعلوم ، فهذا من


وقد تمسّك به الأستاذ العلّامة وفاقا لجمع من أفاضل المتأخّرين من مشايخه وغيرهم وتقريره ـ كما في « الكتاب » وغيره من كتب الجماعة ـ مع توضيح منّي :

هو أنّه إذا لم يحرز الموضوع ولم يعلم به عند إرادة الاستصحاب وإبقاء الأمر الثّابت سابقا الّذي كان من عوارض الموضوع بالفرض ، فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع ، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السّابق ، وإمّا أن يبقى في الموضوع السّابق. والأوّلان باطلان فيتعيّن الثّالث وهو المطلوب ؛ إذ إبقاؤه فيه لا يمكن إلّا بعد إحرازه.

أمّا بطلان الأوّل : فلاستحالة وجود العرض لا في محلّ وموضوع على ما هو قضيّة عرضيّته.

وأمّا بطلان الثّاني : فلأنّه إن أريد إبقاء نفس الموجود السّابق فيلزم انتقال العرض وهو أيضا ممّا أقيم البرهان على استحالته في محلّه لاستلزامه تحقّق العرض لا في موضوع ولو في آن ما وقد عرفت استحالته.

وإن أريد إبقاء مثل الموجود السّابق فهو أيضا ممّا لا معنى له لكونه مخالفا لقضيّة الاستصحاب والإبقاء ؛ ضرورة أنّ البقاء عبارة عن الوجود الثّانوي لنفس ما كان موجودا أوّلا ، فلا يمكن تحقّقه إلّا مع وحدة الموجود ، وإلّا فيلزم الخلف.

__________________

عجائب الأوهام ، وإنّما الوجه فيه ما عرفت : من ان الشك في الرّافع لا يتحقّق إلّا إذا لم يكن مستندا إلى عدم معرفة الموضوع ودوران أمره بين معلوم الزّوال ومعلوم البقاء هذا هو الحال في الموضوع ». أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٥.


هذا ملخّص ما يقرّر به الدّليل العقلي على اشتراط العلم ببقاء الموضوع في الاستصحاب وعدم جريانه في صورة القطع بانتفائه أو الشّك فيه.

وهو كما ترى ، لا يخلو عن إجمال ومناقشة.

لأنّه إن أريد من بقاء المستصحب وإبقائه في زمان الشّك وجوده وإيجاده واقعا.

ففيه : أنّ الأمر وإن كان كما ذكر على هذا التّقدير ، إلّا أنّه خارج عن محلّ البحث كما لا يخفى.

وإن أريد البقاء الشّرعي وحكم الشارع به في مرحلة الظّاهر.

ففيه : أنّه لا امتناع في تعبّد الشارع المكلّف على الالتزام بالحكم المترتّب على الشّيء مع الشّك فيه ، كما هو واقع في غير الاستصحاب من القواعد المقرّرة للرّجوع إليها عند الشّك كقاعدة الطّهارة والحليّة ونحوهما ، بل مع القطع بعدمه.

لا يقال : كيف يمكن تعبّد الشارع المكلّف على حكم مع القطع بانتفاء ما هو الموضوع له؟ ضرورة اقتضاء انتفاء الموضوع بحكم العقل مع فرض كونه موضوعا انتفاء ما هو المحمول والتّعبّد بالالتزام بمثله ليس التزاما به.

لأنّا نقول : تعبّد الشّارع المكلّف على حكم ثابت لموضوع الّذي يرجع إلى جعل حكم ظاهريّ في حقّه مع القطع ببقاء الموضوع أيضا لا يمكن أن يكون بعين ما كان ثابتا في الموضوع الواقعي ، وإلّا لم يكن حكما ظاهريّا ؛ ضرورة تغاير الإنشاءين والحكمين كما لا يخفى ، فلا يمكن أن يكون أحدهما عين الآخر ، فلم يبق إذن إلّا التّشبّث بذيل ظهور عدم النّقض والبقاء بحكم العرف في اتّحاد الموضوع وبقائه في الزّمان الثّاني.


وإلّا فإمّا أن يعلم بعدم الصّدق كما في صورة القطع بانتفاء الموضوع فيعلم بعدم شمول الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك له ، أو يشكّ فيه كما في صورة الشّك في بقاء الموضوع فيشكّ في الشّمول فيمنع من التّمسّك بها أيضا ، فلا دخل لحديث استحالة بقاء العرض لا في موضوع ولا لاستحالة انتقاله ولا لغيره.

بل لا بدّ من الاستدلال على المدّعى بعدم العلم بصدق الأخبار في صورة عدم إحراز الموضوع على وجه القطع كما ستعرف في الوجه الثّالث ؛ حيث إنّها ليست كأخبار الطّهارة والحلّية حتّى لا يفرّق فيها بين بقاء الموضوع وعدمه ، بل الحكم الظّاهري فيها محمول بقضيّة لا يعلم بصدقها إلّا بعد القطع بإحراز الموضوع ، فهذه مسألة لفظيّة لا ربط لحكم العقل بها ولغيره هذا.

وأمّا ما يقال : في توجيه ما ذكره : بأنّ المراد وإن كان هو الإبقاء الشّرعي الّذي يرجع إلى الحكم الظّاهري للموضوع المشكوك الحكم ، إلّا أنّ ثبوت المحمول في كلّ قضيّة لمّا كان متوقّفا على ثبوت موضوعه بجميع ما له دخل في موضوعيّته ، وقد أخذ في أخبار الاستصحاب على وجه الموضوعيّة احتمال بقاء المستصحب ، ولا بدّ من إحراز هذا الموضوع من الخارج حتّى يجري الاستصحاب ويحكم بتحقّقه ، وكان احتمال وجوده في الزّمان الثّاني منقسما إلى الأقسام المذكورة بالحصر العقلي وانتفاء بعضها كان بحكم العقل ، فلهذا جعل للعقل مدخليّة في المقام.

ففيه : ما لا يخفى على الفطن ، مضافا إلى أنّ قضيّة ما ذكره ليس لزوم إحراز الموضوع على وجه القطع ، بل يكفي فيه احتمال بقاء الموضوع ؛ لأنّ من احتماله ٣ / ١٧٠ يحتمل البقاء ومن احتماله يحتمل الإرادة من أخبار الاستصحاب وإن لم يكن


ظاهرة فيها.

الثالث : حكم العرف بذلك بالنّظر إلى أخبار الاستصحاب ؛ لعدم صدق نقض اليقين بالشّك الّذي نهي عنه في الأخبار إلّا مع اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة من جميع الجهات ، إلّا من حيث قطعيّة ثبوت المحمول للموضوع في الزّمان الأوّل وعدم قطعيّته وكونه مشكوكا في الزّمان الثّاني بحكم العرف الواضح لمن له أدنى خبرة بالمحاورات العرفيّة وقضيّة نفس الأخبار ؛ حيث إنّ قضيّة صراحتها كون القضيّة متيقّنة في زمان ومشكوكة في زمان آخر.

فلو كانت القضيّة المشكوكة غير القضيّة المتيقّنة سواء كان من جهة تبدّل ذات الموضوع أو قيد من قيوده الّذي يرجع حقيقة إلى تبدّل الموضوع أو المحمول لم يتحقّق الاستصحاب موضوعا.

ومنه يعلم أنّه كما يشترط بقاء الموضوع في تحقّق الاستصحاب موضوعا كذلك يشترط وحدة المحمول أيضا.

ثمّ إنّ المغايرة المذكورة إن كانت قطعيّة كان انتفاء موضوع الاستصحاب أيضا قطعيّا وإن كانت محتملة كان تحقّقه محتملا فلا يعلم كون رفع اليد عن الحكم السّابق نقضا لليقين السّابق حتّى يعلم بكونه موردا للنّهي ، فيرجع إلى عدم التّكليف المدلول عليه بالأخبار النّاهية ؛ لأنّ حال أخبار الاستصحاب كحال سائر الأدلّة الدّالّة على ثبوت الحكم للموضوعات الواقعيّة الّتي لا يوجب إلزاما فعليّا منجّزا إلّا مع العلم بتحقّق الموضوع ، بل قد يقال : إنّ مع الشّك في الموضوع يعلم بعدم تحقّق الموضوع لأخبار الاستصحاب وإن كانت هذه المقالة فاسدة جدّا.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا كما هو واضح بين القول باستحالة بقاء العرض لا


في موضوع ، واستحالة انتقاله والقول بإمكانه ؛ لأنّ ما ذكرنا كان مبنيّا على وحدة القضيّة في باب الاستصحاب ، ومن المعلوم عدم الفرق فيه بين القولين في باب العرض ، هذا على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

وأمّا على القول به من باب الظّن فالأمر كذلك ؛ لأنّ الظّن ببقاء المستصحب من جهة نفس الوجودات السّابقة أو غلبته في الموجودات جنسا أو نوعا أو صنفا لا يمكن إلّا مع اتّحاد القضيّتين ؛ ضرورة استحالة الظّن ببقاء نفس الموجود في موضوع وعارضه ارتفاع الموضوع والمعروض ، فإذا قطع بانتفاء الموضوع أو شكّ فيه لم يعقل حصول الظّن به من جهة شيء من الوجهين.

بل قد عرفت وستعرف : أنّه على القول بكفاية إحراز الموضوع بالمسامحة العرفيّة بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار لم يكن معنى للقول بكفايته على القول باعتباره من باب الظّن.

نعم ، ما ذكرنا لا يدلّ على لزوم إحراز الموضوع بطريق القطع ، بل أعمّ منه ومن إحرازه على وجه الظّن كما لا يخفى.

فتحصّل ممّا ذكرنا كلّه : أنّه كما لا يجري الاستصحاب على القولين مع القطع بانتفاء الموضوع ، كذلك لا يجري مع الشّك في بقائه.

هل يكفي إحراز الموضوع بالإستصحاب أم لا؟

فإن قلت : الشّك في بقاء الموضوع إنّما يمنع من استصحاب المحمول أوّلا وبالذّات ، وأمّا مع استصحاب الموضوع فلا ، فيستصحب أوّلا الموضوع ثمّ الحكم المحمول عليه ، فلا يشترط إحراز الموضوع بطريق القطع ، بل يكفي إحرازه


بالاستصحاب ، فهذا حقيقة وإن كان التزاما بلزوم إحراز الموضوع ولو في حال الشّك ، إلّا أنّه يردّ القول بلزوم القطع ببقاء الموضوع وعدم جريان الاستصحاب مع الشّك فيه.

قلت : ما ذكرته في غاية الفساد من وجوه وتوضيح القول فيه يقتضي بسطا في بيان أقسام الشّك الواقع في الحكم حتّى يبيّن فساد التّوهّم المذكور وإن لم يكن لبعضها تعلّق بالمقام كما ستقف عليه.

فنقول : إنّ الشّك في بقاء الحكم :

قد لا يكون مسبّبا عن بقاء الموضوع ، بل على تقدير القطع ببقاء الموضوع أيضا يشكّ في ارتفاع الحكم إمّا من جهة الشّك في المقتضي وتماميّة الاستعداد ، أو من جهة الشّك في الرّافع غاية الأمر كون الموضوع أيضا مشكوك البقاء ، فيكون هنا مشكوكان بشكّين مستقلّين من غير أن يكون أحدهما مسبّبا عن الآخر ، كما يشكّ المقلّد في عدالة مقلّده من جهة الشّك في أمر آخر غير الحياة كصدور الكبيرة منه ، أو يشكّ في بقاء سائر ما له دخل في تقليده من جهة الشّك في زوالها على تقدير الحياة وإن اتّفق الشّك في الحياة أيضا ، وكما يشكّ في بقاء الأحكام الشّرعيّة من جهة الشّك في نسخها وإن كانت موضوعاتها أيضا مشكوكة البقاء في زمان إرادة استصحابها.

وقد يكون مسبّبا عن بقاء الموضوع. وهذا على قسمين :

أحدهما : أن يكون الموضوع معلوما معيّنا في الدّليل الشّرعي شكّ في بقائه ، كما إذا علم أنّ الموضوع لنجاسة الماء هو الماء بوصف التّغير وشكّ في بقاء التّغير في الماء ، وحصل من جهة الشّك في بقاء النّجاسة مع القطع ببقائها على تقدير بقاء


التّغير وهذا يسمّى بالشّبهة الموضوعيّة.

ثانيهما : أن يكون الموضوع في دليل الحكم مردّدا بين ما هو باق جزما ومرتفع كذلك من جهة أحد أسباب التّردد ، كما إذا لم يعلم أنّ الموضوع في نجاسة الماء هو الماء بوصف التّغير أو ذات الماء وكون حدوث التّغير شرطا في النّجاسة من غير أن يكون بقاؤه شرطا في بقائها ، وكما إذا لم يعلم في باب استحالة أعيان النّجسة أنّ المعروض للنّجاسة والموضوع لها هي نفس الذّوات من دون مدخليّة للصّورة النّوعيّة ، أو هي مع الصّورة النّوعيّة مثل أن يشكّ في أنّ المعروض للنّجاسة في الكلب هي ذاته حتّى يكون النّجاسة باقية في صورة صيرورته ملحا ، أو هي مع وصف الكليّة فيكون الموضوع منتفيا فيما صار ملحا إلى غير ذلك من صور الشّك في بقاء الحكم الشّرعي من جهة الشّك فيما هو الموضوع له في الدّليل الشّرعي ٣ / ١٧١ وهذا يسمّى بالشّبهة الحكميّة.

إذا عرفت ما تلونا عليك من الأقسام فنقول في بيان حكمها :

أمّا القسم الأوّل : فلا إشكال في عدم جريان توقّف إجراء الاستصحاب في المحمول فيه على إحراز الموضوع ؛ لفرض عدم تسبّب الشّك فيه عن الشّك في بقاء الموضوع ، بل يمكن جريان الاستصحاب فيه مع القطع بانتفاء الموضوع أيضا فضلا عن صورة الشّك فيه ، وهذا بخلاف القسمين الآخرين ؛ فإنّ الحقّ عدم جريان استصحاب الحكم فيهما على ما ستقف عليه.

فإن قلت : كيف يعقل بقاء العرض لا في موضوعه؟ وكيف يمكن عدم سببيّة الشّك في موضوعه للشّك في بقائه؟ مع أنّ قضيّة الحمل والعروض بحكم العقل بداهة تبعيّة العارض للمعروض غاية الأمر كونه مشكوك البقاء من جهة أمر آخر


أيضا ، فالشّك في الموضوع دائما سبب للشّك في الحكم سواء كان للشّك فيه سبب آخر أيضا أم لا.

قلت : ليس المراد من عدم تسبّب الشّك في المحمول عن الشّك في الموضوع واجتماعه مع القطع بانتفائه أنّه يمكن أن يوجد لا في موضوع ، كيف؟ وهو يحكم بداهة العقل باستحالته ، بل المقصود أنّه قد يقصد باستصحاب الحكم رفع الشّك عنه المسبّب من غير الشّك في بقاء الموضوع ، ويجعل المستصحب الحكم على تقدير بقاء موضوعه ، وهذا أمر لا يرد عليه شيء.

فإن قلت : لو كان فرض بقاء الموضوع نافعا في جريان الاستصحاب في المحمول مع كون الموضوع في الواقع مشكوك البقاء فليلتزم به في الفرضين الآخرين أيضا ، فيثبت قول الخصم أنّه لا يشترط في جريان الاستصحاب إحراز الموضوع بطريق القطع ، بل يجري مع الشّك فيه.

قلت : فرض بقاء الموضوع في الفرضين الأخيرين مستلزم لفرض بقاء الحكم أيضا في القضيّة لتسبّب شكّه عن الشّك فيه فلا معنى للقول فيهما : بأنّ المستصحب هو الحكم على تقدير بقاء الموضوع هذا. مع أنّ لازم ما ذكر الالتزام بلزوم إحراز الموضوع في الاستصحاب بطريق القطع ؛ فإنّ المستصحب على ما ذكر هو الحكم على تقدير بقاء الموضوع. فالقول بأنّه مثبت لقول الخصم فاسد جدّا.

فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ إحراز الموضوع في هذا القسم ليس شرطا في جريان الاستصحاب في الحكم أصلا ، بل يكفي تقدير بقائه وإن كان هو التزاما بلزوم إحراز الموضوع من جهة الشّك المسبّب عن شكّه.


فتبيّن ممّا ذكرنا : أنّ جعل استصحاب الموضوع مقدّمة لإجراء الاستصحاب في المحمول ممّا لا معنى له في الفرض ، بل ذكر الأستاذ العلّامة : أنّ الأمر بالعكس ؛ فإنّ الموضوع الّذي لم يثبت له حكم شرعيّ لم يكن معنى لجريان الاستصحاب فيه بناء على ما عرفت سابقا : من أنّ معنى التّنزيل الشّرعي في الموضوعات الخارجيّة ليس إلّا جعل آثارها الشّرعيّة ظاهرا وإيجاب الشارع الالتزام بها ، فلا بدّ أوّلا من جريان الاستصحاب في حكم الكرّيّة في الشّريعة على تقدير الشّك فيه ، ثمّ إجراء الاستصحاب في الكريّة ، وإلّا لم يكن معنى لإجراء الاستصحاب في الكرّيّة فصار الأمر في هذا القسم على عكس ما يتوهّم.

فإن قلت : لم لا يكون تقدير الحكم للموضوع كافيا في استصحابه ، كما كان الموضوع التّقديري كافيا في استصحاب الحكم حسب ما بنيت عليه الأمر في تصحيح استصحاب الحكم في مفروض البحث ؛ فإنّه لا يعقل فرق بين المتوقّفين في كفاية التّقدير ؛ فإنّ التّوقف موجود بالنّسبة إلى كلّ منهما ، فإن كانت قضيّة وجود المتوقّف عليه محقّقا فيلزمه القول بفساد إجراء الاستصحاب في الفرض ، وإن كانت قضيّة كفاية التّقدير ، فتقدير ترتّب الحكم يكفي في إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع ، ولا يشترط في جريانه ترتيب الأثر الشّرعي عليه فعلا.

قلت : الفرق بين المقامين ممّا لا يكاد أن يخفى ؛ فإنّ مجرّد تقدير ترتّب الأثر الشّرعي لا يكفي للحكم بجريان الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع الّذي معناه جعل آثاره الشّرعيّة ظاهرا ؛ فإنّ هذا ممّا لا بدّ فيه من أثر محقّق ، وهذا بخلاف إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم إذا لم يكن الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في بقاء الموضوع ؛ فإنّه لا إشكال في كفاية تقدير الموضوع لإجراء


الاستصحاب بالنّسبة إليه ؛ إذ غاية ما هناك رجوعه إلى الاستصحاب التّقديري فتأمّل.

ثمّ إنّ هنا إشكالا على ما ذكرنا وذكره الأستاذ العلّامة من المثال للفرض باستصحاب عدالة المقلّد ونحوها مع الشّك في حياته وهو :

أنّ جواز التّقليد وغيره من الأحكام المترتّبة على فتوى المجتهد وقوله إذا كان مترتّبا على العدالة لم يجز إجراء استصحاب الحياة ولو بعد استصحاب العدالة أيضا ؛ لأنّ استصحاب العدالة لا يثبت موضوع العدالة والحكم الشّرعي ليس نفس الحياة بلا توسيط العدالة حتّى يجري الاستصحاب بالنّسبة إلى الحياة. نعم ، يستقيم ما ذكر فيما كان المحمول من الأحكام الشّرعيّة هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الأحكام المترتّبة على عدالة المجتهد إنّما رتّبت حقيقة على المجتهد بشرط عدالته فليست العدالة حقيقة موضوعا للحكم في الأدلّة الشّرعيّة ، وإنّما الموضوع له المجتهد على تقدير عدالته ، فإذا فرض حكم الشارع ببقاء العدالة فلا مانع من استصحاب بقاء المجتهد أيضا ، هكذا ذكر الأستاذ العلامة هذا مجمل القول بالنّسبة إلى القسم الأوّل من أصل التّقسيم.

عدم معقوليّة استصحاب الموضوع لاستصحاب الحكم

وأمّا الكلام في القسم الأوّل من القسم الثّاني فملخّص القول فيه : أنّ استصحاب الموضوع لاستصحاب الحكم ممّا لا يعقل لوجوه :

أحدها : أنّك قد عرفت غير مرّة : أنّه لا معنى لحكم الشارع بوجوب الإلتزام ببقاء الموضوع في زمان الشّك إلّا جعل أحكامه الشّرعيّة ظاهرا ، فلا يبقى


مجال بعده لاستصحاب الحكم ، وإلّا لزم تحصيل الحاصل ؛ حيث إنّ مفاد استصحاب الحكم أيضا جعله ظاهرا الّذي فرض جعله ، فالشّك المسوّغ للرّجوع إلى الاستصحاب لا يبقى بعد فرض استصحاب الموضوع وليس هذا مختصّا بالمقام ، بل يجري في جميع موارد الاستصحاب الحاكم والمحكوم.

فإنّ التّحقيق عندنا عدم جريان الاستصحاب المحكوم فيما يجري فيه الحاكم لا عدم الاحتياج إليه ، بل لا يختصّ بموارد الاستصحاب ، بل يعمّها وجميع موارد وجود الحكومة بين الأصلين كما في موارد استصحاب الطّهارة وقاعدتها ، واستصحاب الحرمة وقاعدة الحلّية وهكذا.

ثانيها : أنّك قد عرفت سابقا أيضا : أنّ المجعول بحكم الشارع بوجوب البناء على بقاء الموضوع الخارجي ليس إلّا الآثار الشّرعيّة المترتّبة على المستصحب بلا واسطة غير خفيّة.

ومن المعلوم أنّ استصحاب الحكم ليس من أحكام الموضوع واقعا حتّى يحكم ترتّبه عليه باستصحابه ، بل الّذي من أحكامه هو نفس الحكم الّذي أريد استصحابه حسب ما هو قضيّة الفرض ؛ فإنّ صحّة استصحاب النّجاسة ليست من أحكام التّغيّر الواقعي في الماء حتّى يحكم بترتّبها على استصحابه ولو كان عقليّا ، وإلّا لزم اجتماعه مع القطع بالتّغيّر ؛ ضرورة استحالة انفكاك المتلازمين مع بداهة استحالة اجتماعه معه كما هو واضح ، بل حكم التّغيّر الواقعي هي النّجاسة الواقعيّة ، فلا يمكن ترتّب استصحاب الحكم إذن على استصحاب الموضوع.

فإن قلت : ليس المراد من كفاية إحراز الموضوع بالاستصحاب في صحّة استصحاب الحكم ترتّب صحّة استصحاب الحكم عليه ، بل المراد : أنّ غاية ما دلّ


الدّليل عليه هو لزوم إحراز الموضوع في استصحاب الحكم سواء كان بالطّريق القطعي أو بإجراء الأصل فيه فباستصحاب الموضوع يتحقّق واقعا ما هو الشّرط في استصحاب المحمول.

وبعبارة أخرى : ليس المراد جعل صحّة استصحاب الموضوع شرطا لجريان الاستصحاب ، حتّى يقال : إنّها ليست من الأحكام الشّرعيّة ، بل المراد : أنّه يتحقّق واقعا باستصحاب الموضوع ما هو الشّرط في إجراء استصحاب الحكم ، وهو وجود الموضوع واقعا أو ظاهرا.

قلت : بعد فرض إرادة إثبات الأحكام بنفس استصحابها لم يكن معنى لإجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع ، إلّا بالتزام كون صحّة استصحاب الحكم من الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على نفس المستصحب واقعا ، وإلّا فلا معنى لاستصحابه بناء على ما عرفت سابقا : من عدم تعقّل الجعل بالنّسبة إلى الموضوع الّذي لا يكون له حكم شرعيّ.

ثالثها : أنّه بعد توقّف جريان الاستصحاب في الحكم على إحراز موضوعه حتّى يتحقّق القطع بصدق البقاء والنّقض كيف يمكن جعل الاستصحاب في الموضوع نافعا في إحرازه؟ ضرورة منع الشّك في الموضوع عن إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم ، ومن المستحيل عقلا رفع الشّك عن الموضوع بواسطة استصحابه. كيف؟ وهو الموضوع في باب الاستصحاب ، فكيف يعقل رفعه به؟

والحاصل : أنّ المانع للحكم بجريان الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم لم يكن إلّا الشّك في الموضوع ، ومن المحال بداهة ارتفاع الشّك بواسطة


الاستصحاب المترتّب على الشّك هذا.

وإن شئت قلت : إنّ ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع واشتراطه في جريانه إنّما هو بحكم العقل ، فالتّغيّر الواقعي مثلا إنّما جاز معه استصحاب النّجاسة بحكم العقل. ومن المعلوم أنّ هذا ليس أمرا جعليّا حتّى يترتّب على استصحاب الموضوع.

هكذا ذكره الأستاذ العلّامة ، وما عرفت منّا من البيان أولى ، بل ما ذكره ( دام ظلّه العالي ) لا يخلو عن مناقشة غير خفيّة على المتأمّل فيما ذكرنا من البيان من أوّل المسألة إلى هنا ، وإليه أشار بقوله : « فتأمّل » (١)(٢) لا إلى ما قد

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٩٣.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« لعلّه إشارة إلى ان استصحاب النجاسة بنفسه حكم شرعيّ تعبّدي وإن كان إجراؤه في الموارد يتوقّف على إحراز موضوعه فيكون استصحاب النّجاسة كإثبات وجوب الإجتناب وغيره من الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على الموضوعات المستصحبة ، مع انّ إثبات الحكم لموضوع يتوقّف على إحرازه عقلا فلا فرق بين الحكم المستصحب وبين غيره من الاحكام الشّرعيّة في انّ إثباته لشيء فرع إحراز ذلك الشّيء ، ولكن يكفي في إحرازه قيام دليل معتبر عليه وإن كان أصلا تعبّديا شرعيّا كالإستصحاب ، وأصالة الصحّة ، فأصالة عدم ذهاب ثلثي العصير الّذي صار دبسا قبل ذهاب ثلثيه أو قبل العلم به أصل موضوعي يتنقح به مجرى استصحاب نجاسته المتيقّنة قبل صيرورته دبسا فيحكم بنجاسة هذا العصير الّذي شكّ في ذهاب ثلثيه بعد صيرورته دبسا بمقتضى استصحاب النّجاسة بعد إحراز موضوعه وهو العصير الّذي لم يذهب ثلثاه بالأصل كما لا يخفى » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الاصول : ٤٣٧.


يتوهّم : من كفاية الاستصحاب في الموضوع ؛ لجريان الاستصحاب في الحكم كما لا يخفى على من له أدنى دراية.

فتعيّن (١) ممّا ذكرنا كلّه : أنّ المتعيّن في هذا القسم إجراء الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع ليس إلّا. هذا مجمل القول بالنّسبة إلى القسم الأوّل من القسم الثّاني.

وأمّا الكلام بالنّسبة إلى القسم الثّاني منه : فالحقّ فيه عدم جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم والموضوع معا : أمّا بالنّسبة إلى الحكم ؛ فلما عرفت في القسم السّابق عليه. وأمّا بالنّسبة إلى الموضوع ؛ فلأنّه إمّا أن يريد باستصحاب الموضوع استصحاب ذات الموضوع ، أو يريد استصحاب الموضوع من حيث كونه موضوعا وبوصف الموضوعيّة.

فإن أريد الأوّل : ففيه : أنّه لا يعقل جريان الاستصحاب فيه مع فرض دوران الأمر فيه بين ما هو مرتفع قطعا وبين ما هو باق جزما ؛ لعدم اليقين السّابق على تقدير ، وإلّا لم يعقل الشّك في بقائه وبقاء الحكم وعدم الشّك اللّاحق على تقدير آخر ، وليس هنا أيضا كلّي يحكم باستصحابه على كون الموضوع هو الفرد الباقي ؛ إذ ليس المفروض دوران الأمر بين الفردين لكلّي واحد.

ولم يتعلّق الحكم بالموضوع من حيث هذا الوصف حتّى يقال : إنّ المستصحب هو كلّي الموضوع ومفهومه ؛ ضرورة استحالة اعتباره في تعلّق الحكم بالموضوع ؛ حيث إنّ وصف الموضوعيّة للموضوع إنّما يعتبر له ، ويعرضه بعد تعلّق الحكم به ، فكيف يمكن اعتباره في أصل تعلّق الحكم؟ وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه

__________________

(١) كذا والظاهر « فتبيّن ».


أصلا ، هذا.

مع أنّه على فرض ذلك لم يكن معنى لجريان الاستصحاب في الكلّي حتّى يثبت به كون الموضوع هو الفرد الباقي ، لعدم جواز التّعويل عندنا على الأصول المثبتة على ما عرفت تفصيل القول فيه سابقا في طيّ بعض التّنبيهات. ٣ / ١٧٣

وممّا ذكرنا كلّه يعرف ما وقع من الأستاذ العلّامة في المقام من المسامحة في البيان ؛ فإنّ ظاهره تسليم كون المقام من استصحاب الكلّي لإثبات الفرد ، وقد عرفت فساده.

وإن أريد الثّاني ، ففيه : أنّ استصحاب الموضوع بالاعتبار المذكور عين استصحاب الحكم ؛ لما عرفت : من أنّ عروض وصف الموضوعيّة على الموضوع متأخّر عن تعلّق الحكم به ، فليس معنى لحكم الشارع باستصحاب الموضوع من حيث إنّه موضوع إلّا حكمه باستصحاب الحكم المترتّب عليه. وقد عرفت : أنّه ممّا لا معنى له في المقام هذا مجمل القول في المقام الثّاني.

الميزان لتشخيص الموضوع في باب الإستصحاب

وأمّا الكلام في المقام الثّالث وهو : بيان ما هو الميزان لتشخيص الموضوع في باب الاستصحاب الّذي عرفت لزوم إحرازه فملخّص الكلام فيه :

أنّ الميزان فيه أحد أمور على سبيل مانعة الخلوّ :

أحدها : العقل ، بأن يقال : إنّ مقتضاه كون القضيّتين متّحدة من جميع الجهات والاعتبارات الّتي يحتمل مدخليّتها في الحكم سواء كانت من الأمور العدميّة ، أو


الوجوديّة.

فإنّ اختلال كلّ جهة يحتمل مدخليّتها في قوام الحكم موجب للشّك في بقاء ما هو المناط والموضوع للحكم في نفس الأمر وإن كان الحكم بالنّظر إلى القضيّة الظّاهريّة اللفظيّة معلّقا على ما هو باق في الزّمان اللّاحق مع اختلال ما يحتمل قوام المصلحة الموجبة للحكم به واقعا ، إلّا أنّ القضيّة اللّفظيّة كاشفة عن القضيّة اللبيّة ، والحكم واقعا إنّما تعلّق بما هو الموضوع فيها في نظر الشّارع.

فاحتمال مدخليّة قيد فيها زال في الزّمان اللّاحق موجب للشّك في بقاء الموضوع ؛ ضرورة أنّ القيود المأخوذة في القضيّة والجهات المعتبرة فيها وإن كثرت يكون لها مدخليّة في موضوعيّة الموضوع ويكون قيودا لها ، فالموضوع في الحقيقة هو الأمر البسيط خارجا ، وهو المقيّد بهذه الأمور المركّب ذهنا وفي التّحليل العقلي ، فإذا انتفى قيد منها فقد انقلب موضوع الحكم إلى موضوع آخر هذا وقد مرّ تفصيل القول في بيان ذلك عند توضيح استدلال بعض الأخباريين على عدم اعتبار الاستصحاب في الشّبهات الحكميّة : بأنّه من أفراد القياس المنهيّ عنه في الشّريعة.

والقول : بأنّه قد يكون القيد المعتبر في القضيّة قيدا للمحمول فلا يستلزم من انتفائه تغيّر الموضوع ، كما إذا قيل التّبريد حسن في الشّتاء بأن يجعل الشّتاء قيدا وظرفا للحسن ، لا للتّبريد قد تقدّم فساده سابقا : من حيث إنّ ما ذكر اعتبار بالنّظر إلى عالم القضيّة ، وإلّا فقيود المحمول راجعة في الحقيقة إلى قيود الموضوع في الأحكام الشّرعيّة ، ولها مدخليّة في موضوعيّته وفي كونه لطفا موجبا لتعلّق الحكم به من جانب الشارع ، وعلى تقدير كونه قيدا للمحمول أيضا منع انتفاؤه من جريان


الاستصحاب ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ المعتبر في الاستصحاب اتّحاد القضيّتين موضوعا ومحمولا.

نعم ، يستقيم ما ذكر بالنّسبة إلى غير الشّرعيّات ، كما في قول القائل : « زيد قائم مستقيما أو منحنيا » ؛ حيث إنّ الاستقامة والانحناء حالان للقيام ، ومثل ذلك وإن كان قد يفرض في الأحكام الشّرعيّة أيضا كما يقال : إنّ الفعل الفلاني واجب بالوجوب التّخييري أو التّنجيزي إلى غير ذلك ، إلّا أنّه لا ينفع في باب الاستصحاب.

فلا فرق بناء على هذا التّقدير بين ما إذا ورد من الشّارع : « الماء ينجس إذا تغيّر » أو ورد : « الماء المتغيّر نجس » إذا فرض احتمال مدخليّة التّغير في النّجاسة حدوثا وبقاء ؛ إذ لا يعقل الفرق باختلاف التّعبير بعد فرض لزوم إحراز ما هو الموضوع للحكم في نفس الأمر بجميع ما له دخل فيه من التشخّصات من حيث توقّف إحراز الموضوع ، المتوقّف عليه صدق النّقيض والبقاء على سبيل القطع.

نعم ، لو كان الشّك من جهة تغيّر الزّمان المجعول ظرفا للحكم كالخيار لم يقدح في جريان الاستصحاب ؛ لابتناء الاستصحاب على إلغاء خصوصيّة الزّمان الأوّل ، والشّك في الحكم من جهة تغييره ، وإلّا لم يكن استصحابا كما هو واضح. فالاستصحاب على هذا لا يجري في الشّبهات الحكميّة ، إلّا في الشّك في الرّافع.

نعم ، يجري في الشّبهات الموضوعيّة بأسرها ؛ لأنّ الموضوع في استصحاب وجود الموضوعات هي الماهيّة الباقية الغير الزّائلة على ما سبق الكلام فيه. هذا ملخّص ما أفاده الأستاذ العلّامة في « الكتاب » وفي مجلس البحث لتقريب هذا الوجه.


ولكنّك خبير بتطرّق المناقشة إلى ما أفاده ( دام ظلّه ) :

أمّا أوّلا : فللمنع من كون جميع ما له دخل في مناط الحكم واقعا من قيود الموضوع في القضيّة الشّرعيّة ؛ إذ قد عرفت : عدم قيام برهان على لزوم كون الموضوع في الدّليل الشّرعي هو المناط الأولي فتدبّر.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا دليل على لزوم متابعة العقل في المقام بعد صدق البقاء على الالتزام بما هو المحمول في الدّليل الشّرعي ؛ لما هو باق جزما أو بحكم العرف ، وإن احتمل مدخليّة شيء فيه في الواقع ولسنا محتاجين في باب الاستصحاب إذا كان اعتباره من باب التّعبّد إلى أزيد من ذلك.

نعم ، على القول باعتباره من باب الظّن لا بدّ من إحراز الموضوع بالدّقة العقليّة ؛ لاستحالة الظّن بالحكم مع الشّك فيما هو المناط فيه سواء على القول باشتراط الظّن الشّخصي ، أو كفاية الظّن النّوعي ؛ لأنّ صدق البقاء والنّقض عرفا لا يعقل أن يكون له جدوى في المقام ؛ ضرورة استحالة إيراث الصّدق العرفي الظّن بالمعلول مع الشّك في العلّة.

وأمّا ثالثا : فلأنّه لو بني على لزوم إحراز ما هو الموضوع والمناط للحكم في الواقع لم يبق فرق بين الشّك في المقتضي والشّك في الرّافع وجودا أو رفعا في الشّبهات الحكميّة ؛ لأنّ عدم الرّافع ممّا يكون له مدخليّة في أصل بقاء المناط الأوّلي ، وإلّا لم يعقل ارتفاع الحكم مع بقاء ما هو العلّة التّامّة له.

وأمّا رابعا : فلأنّ استثناء الشّك في الحكم من حيث الزّمان ، والحكم بأنّ احتمال مدخليّته لا يضرّ في صدق النّقض ممّا لا معنى له ؛ لأنّه لم يفهم من الأخبار إلقاء الزّمان السّابق فيما يحتمل أن يكون له مدخليّة في الحكم ولم يكن من باب


مجرّد الظّرفيّة ، وإلّا فلا بدّ من أن يحكم بعدم قدحه في صورة القطع بمدخليّته في مناط الحكم. وهو كما ترى ، بل أقول : إنّه ممّا لا يعقل مع الالتزام باشتراط بقاء الموضوع كليّة. نعم ، يعقل ذلك بناء على التّخصيص في اشتراط بقاء الموضوع. وهو كما ترى.

وأمّا خامسا : فلأنّ الفرق بين الشّبهات الحكميّة والموضوعيّة ، والحكم بأنّ الموضوع في الشّبهات الموضوعيّة باق بالدّقة العقليّة دائما ممّا لا معنى له ؛ لأنّ المراد بالموضوع في المقام ليس هو خصوص الجوهر ، أي : الماهيّة الّتي لو وجدت في الأعيان وجدت لا في موضوع ، بل أعمّ منه ومن الأعراض القائمة به إذا لم يكن من الأحكام الشّرعيّة ، ومن المعلوم ضرورة إمكان مدخليّة شيء في عروض شيء على الموضوع.

وأمّا سادسا : فبما قيل : من أنّ الوجود في الجواهر من الأجسام إنّما يكون قائما بذاته لا بالماهيّة فتأمّل.

في بيان الميزان الثاني والثالث لتشخيص موضوع الاستصحاب

ثانيها : الرّجوع إلى الدّليل الشّرعي ، فيجعل الموضوع ما حمل عليه الحكم فيه ، فلو ورد : « الماء المتغيّر ينجس » حكم بأنّ الموضوع هو المتلبّس بالتّغيّر ، فإذا زال التّغير يحكم بزوال الموضوع. وهذا بخلاف ما لو ورد : « الماء ينجس إذا تغيّر » ؛ فإنّه يحكم بأنّ الموضوع فيه هو ذات الماء ، والتّغير سبب لعروض النّجاسة له وحدوثها فيه من غير أن يكون بقاؤها شرطا في بقاء النّجاسة بالنّظر إلى القضيّة الشّرعيّة ، وهكذا في سائر الموارد.


فلو كان للدّليل إطلاق نافع فيستغنى عن الرّجوع إلى الاستصحاب ، بل لا يجوز معه الرّجوع إليه.

وإن لم يكن له إطلاق بالنّظر إلى جميع الأحوال ، فيتمسّك بالاستصحاب.

ولازم الاقتصار على هذا المسلك عدم جريان الاستصحاب فيما كان الدّليل لبيّا أو لفظيّا مجملا من جهة بيان الموضوع ؛ لعدم إمكان إحراز الموضوع كما لا يخفى.

ثالثها : الرّجوع في ذلك إلى العرف ، ففي كلّ مورد حكم العرف باتّحاد القضيّتين ، بأن قالوا : هذا كان كذا ، يحكم بجريان الاستصحاب فيه سواء علم كون المشار إليه بالدّقة العقليّة ، أو بالنّظر إلى الأدلّة موضوعا ، أو لم يعلم ذلك إلّا أن يقوم دليل خارجيّ على خلاف مقتضى الاستصحاب.

كما في الإنسان بعد الموت ؛ فإنّ العرف يحكمون باتّحاد مورد الطّهارة والنّجاسة فيه ، ولذا يقولون : بأنّ طهارته ارتفعت بالموت وإن كان بالنّظر إلى الدّقة الموضوع للطّهارة غير الموضوع للنّجاسة وليس هذا مختصّا بالفرض ، بل في أكثر الأحكام المترتّبة في الأدلّة الشّرعيّة على موضوع الحيّ يجعلون الموضوع فيه الأعمّ من الحيّ والميّت ، كما في جواز التّقليد وحليّة النّظر إلى الزّوجة ولمسها ، ونجاسة الحيوان النّجس كالكلب والخنزير إلى غير ذلك.

فإنّ العرف يجعلون الموضوع في هذه الأحكام الأعمّ من الحيّ والميّت وإن كان بالنّظر إلى الدّقة والدّليل الشّرعيّ الموضوع فيها المجتهد ، والزّوجة الغير الصّادقين على من خرج عنه الرّوح قطعا ، والكلب والخنزير الغير الصّادقين على الجماد ، وهكذا. بل يجري في غيرها كما في حكمهم باتّحاد القضيّتين في مورد


استصحاب الكرّيّة والقلّة الّذي عرفت الكلام فيه غير مرّة ، وفي استصحاب الأمور التّدريجيّة والأعراض المتصرّمة.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في مساعدة العرف في الحكم باتّحاد القضيّتين ولو مسامحة وفي كلّ مورد لم يحكموا باتّحاد القضيّتين لم يحكم بجريان الاستصحاب فيه وإن كان الموضوع باقيا بالنّظر إلى الدّقة العقليّة أو الأدلّة الشّرعيّة ، كما في بعض مراتب استحالة المتنجّسات بناء على كون المعروض للنّجاسة فيها الجسم من حيث هو جسم ، كما إذا صارت دخانا ؛ فإنّ الدّخان وإن كان جسما أيضا بالنّظر إلى الدّقة العقليّة ، إلّا أنّه لا يحكم العرف باتّحاد القضيّتين بعد استحالة الخشب إليه كما لا يخفى.

وبالجملة : انفكاك حكم العرف عن الميزانين السّابقين في الجملة ممّا لا شبهة فيه ، كما أنّ أصل وجوده في الجملة أيضا ممّا لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في اعتبار حكم العرف المبتني على المسامحة في المقام ، مع أنّ من المحقّق في محلّه عدم اعتباره في غير المقام ، كما في موارد التّحديدات : كما في الكيل والوزن والمسامحة ونحوها. ومن هنا ذكر المحقّقون : أنّ الأصل في التّحديد أن يكون تحقيقا.

ثمّ اعلم أوّلا : أنّ تشخيص الموضوع في الدّليل الشّرعي إذا كان لفظيّا وإن كان بحكم العرف ، إلّا أنّه لا دخل له بالمقام ولا شبهة في اعتباره من حيث رجوعه إلى تشخيص المراد من اللّفظ بفهم العرف الّذي لا شبهة في اعتباره ، ولا دخل له بمسألة حكم العرف من باب المسامحة في الصّدق وهذا أمر لا سترة فيه أصلا ، والفرق بين المقامين لا يكاد يخفى على من له أدنى دراية.


إذا عرفت هذا فلنشر إلى دليل اعتبار حكم العرف في المقام وإن كان مخالفا لما استفيد من الشّرع والدّقة (١) العقليّة ، ووجه الفرق بين المقام وسائر المقامات الّتي لم نلتزم ولم يلتزم المحقّقون فيها باعتبار المسامحة العرفيّة مع التزامهم به في المقام ، كما يظهر من تمسّكهم باستصحاب الكرّيّة وأمثاله من غير إشكال فيه.

الوجه في اعتبار المسامحة العرفيّة في المقام

فنقول : إنّ الوجه في اعتبار المسامحة العرفيّة في المقام هو : أنّه بعد حكمهم باتّحاد القضيّتين يصدق النّقض على ترك الالتزام بما كان محمولا في القضيّة الأوليّة المتيقّنة قطعا ، كما أنّه يصدق على الالتزام به : أنّه إبقاء للمتيقّن السّابق ٣ / ١٧٥ جزما ، فالمسامحة وإن وقعت منهم في جعل المعروض الأعمّ من الواجد للوصف العنواني الّذي كان موضوعا في الأدلّة الشّرعيّة والفاقد له ، إلّا أنّ صدق النّقض والبقاء على التّقديرين حقيقي غير مبنيّ على المسامحة.

والمفروض أنّ المتّبع بناء على القول باعتبار الاستصحاب ليس إلّا صدق المفهومين بحكم العرف ؛ فإنّه المتّبع في باب الألفاظ.

لا يقال : كيف يعقل أن يكون اتّحاد القضيّتين من باب المسامحة العرفيّة ويكون صدق المفهوم مبنيّا على الحقيقة مع أنّ من المستحيل عقلا اختلاف الحكم المبني والمبنيّ عليه؟

لأنّا نقول : اختلاف حكم المبنيّ والمبنيّ عليه في أمثال المقام ممّا لا ضير فيه ، ألا ترى أنّ الاستعارة بناء على مذهب التّحقيق حقيقة؟ مع أنّ كون المستعار

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


من أفراد المستعار عنه مبنيّ على الادّعاء لا الحقيقة.

لا يقال : لا دليل لاعتبار حكم العرف في باب صدق المفهوم المعيّن على شيء. وأمّا ما قرع سمعك : من أنّ المحكّم في باب الألفاظ هو فهم العرف ، فلا دخل له بالمقام وإنّما هو في تشخيص أصل معنى اللّفظ ومفهومه ، لا في تعيين المصداق بعد إحراز المفهوم.

لأنّا نقول : بعد كون المفهوم عرفيّا وقطع بصدقه عند العرف على شيء يحكم : بأنّ المراد منه ما يشمله قطعا ، وإن أمكن وقوع الشّك في إرادة بعض مصاديقه من جهة الشّك في التشخيص ، ولكن هذا لا ينافي ما ذكرنا بل يدلّ عليه كما لا يخفى.

نعم ، لو كان الصّدق ظنيّا لم يكن معنى لاعتباره في المقام. وبالجملة : بعد حكم العرف في المقام يحصل القطع بكون ترك الالتزام موردا للنّهي في الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك.

وهذا بخلاف حكمهم في باب التّحديدات فإنّ أصل الصّدق هنا مبنيّ على المسامحة فإنّ صدق الفرسخ على ما ينقص عمّا اعتبر شرعا من المسامحة بعشرة ذراع مبنيّ على المسامحة ، وكذا في صدق الرّطل على ما ينقص عنه بمثقالين إلى غير ذلك. ومن المعلوم أنّه لا دليل على اعتبار هذه المسامحة ، بل اللّازم هو اتّباع ما تعلّق به الحكم في الشّريعة وترك الأخذ بما يصدق عليه من باب المسامحة ؛ لاستلزامه الخروج عمّا يقتضيه قواعد اللّفظ.

لا يقال : بعد اعتبار حكم العرف باتّحاد القضيّتين الّذي لا يمكن إلّا بعد فرض اتّحاد الموضوع ، أيّ حاجة إلى الاستصحاب مع كون الشّك في الحكم


مسبّبا عن الشّك في بقاء الموضوع بمقتضى الفرض ، بل لا معنى لجريان الاستصحاب على هذا التّقدير كما لا يخفى.

لأنّا نقول : حكمهم باتّحاد الموضوع في القضيّتين إنّما أوجب صدق ما تعلّق به الحكم في الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بغير اليقين ، لا صدق ما تعلّق به الحكم في الأدلّة الشّرعيّة ، بل في أكثر المقامات عدم صدقه ولو مسامحة يقينيّ.

ألا ترى أنّ العرف يحكمون في الماء المسبوق بالكرّيّة الّذي أخذ منه مقدار يشكّ معه في بقاء الكرّ بأنّه كان كرّا ، ولا يحكمون بأنّه كرّ؟ وعلى تقدير حكمهم في بعض المقامات لا جدوى فيه ؛ لما عرفت : من أنّ أصل صدق ما تعلّق به الحكم إذا كان من باب المسامحة لا اعتداد به ، ولا يجوز رفع اليد به عن أدلّة الأصول.

لا يقال : اعتبار ما ذكر من المسامحة إنّما يتمّ بناء على القول باعتبار الاستصحاب في الشّك في المقتضي ، وأمّا على القول بعدم اعتباره فيه من حيث عدم صدق ما هو المراد من لفظ النّقض الوارد في الأخبار بالنّسبة إليه فلا.

لأنّا نقول : ما ذكر إنّما يتمّ بناء على القول : بأنّ صدق النّقض بعد المسامحة المذكورة من باب المسامحة ، ولكنّك قد عرفت : أنّ صدقه بعد المسامحة في اتّحاد الموضوع مبنيّ على الحقيقة ، فالقول بكفاية إحراز الموضوع في باب الاستصحاب بالمسامحة العرفيّة ليس قولا باعتبار الاستصحاب في الشّك في المقتضي أيضا.

هذا كلّه بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، وإلّا بناء على القول باعتباره من باب الظّن ، فالمتعيّن الاقتصار على الميزان الأوّل على ما عرفت القول فيه. وإن كان هذا خلاف ما وقع من القائلين باعتبار الاستصحاب من


باب الظّن : من إجرائهم الاستصحاب في مقامات لا يمكن إحراز الموضوع فيها إلّا بالمسامحة العرفيّة ، كما في مثال الكرّ وأمثاله.

ولكنّك خبير بأنّه لا ريب في فساده ، اللهمّ إلّا أن يفرض الظّن بعدم مدخليّة ما يحتمل مدخليّته ولو من جهة الغلبة ، فتأمّل.

هذا غاية ما يقال في وجه اعتبار المسامحة العرفيّة في إحراز الموضوع في المقام على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، وفي الفرق بينه وبين مقام التّحديد الّذي حكموا فيه بعدم اعتبار المسامحة.

ولكنّك خبير بعدم خلوّ ما ذكر عن النّظر ؛ لأنّ دعوى كون صدق النّقض حقيقيّا مع ابتنائه على اتّحاد القضيّتين الّذي أحرز بالمسامحة لا يجدي مع كونه خلاف الظّاهر قطعا ، فلو قيل بلزوم الاقتصار على الميزان الثّاني في الأحكام الشّرعيّة والرّجوع إلى حكم العرف الغير المبنيّ على المسامحة في الموضوعات الخارجيّة إن لم يرجع إلى الميزان الأوّل لم يكن خاليا عن الوجه ، فتوجّه حتّى تقف على حقيقة الأمر.

(٣٠٧) قوله : ( وبهذا الوجه يصحّ للفاضلين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٢٩٦ )

__________________

(١) قال المحقق المدقق الطهراني قدس‌سره :


الإستحالة من المطهّرات كما عليه الأكثر

أقول : لا يخفى عليك أنّه اختلفت كلماتهم في باب الاستحالة أنّها من

__________________

« لا يخفى ان العلّامة قدس‌سره جعله منشأ للإشكال ولم يستدل به ؛ فانه أوضح فسادا من أن يخفى على أحد.

توضيح ذلك : انه قد جرت طريقة الفاضلين قدس سرهما على ذكر الوجه الفاسد وإن كان فساده في غاية الوضوح فيقول المحقق قدس سره بعد ذكر حكم المسألة : ( وفيه تردّد والأشبه كذا ) ومن هذا القبيل قول العلّامة قدس سره : ( وفيه إشكال ) وإنّما ذكره منشأ للإشكال والوسوسة ، لا انه استدلّ به عليه ، كيف! ولا يخفى على ذي مسكة : انّ الحيوان ليس منيّا والمواليد من الحيوان والمعدن والنّبات ليست عناصرا وكيف يتوهّم العرف : ان الملح هو الكلب وكون شيء أصلا لشيء لا ينافي التباين.

نعم ، الإستحالة ليس إعداما وإيجادا ، بل لا بد فيها من الباقي في الحالين ، فإن كان المقصود انّ العرف يحكم ببقاء المادّة فهو موافق للموازين العقليّة أيضا ولكن تعلّق النجاسة بالمادّة الباقية لا معنى له ، وحكم العرف بذلك غير معقول ؛ فإن المسامحة إنّما هي في الحكم بالإتّحاد ولا سبيل إليه في الإنقلاب ضرورة عدم حكم العرف بانّ الحيوان هو المنيّ وحيث لم يحكم بذلك فكيف يحكم ببقاء الحكم المتعلّق به والمسامحة في تشخيص الموضوع لا معنى لها؟

والحاصل : ان الوجه المذكور ليس مبنيّا على ما زعمه من الرجوع في تشخيص الموضوع إلى العرف والبناء فيه على المسامحة ، بل إنّما هو مبني على استكشاف ان الباقي في الحالين هو الموضوع وهذا لا ينافي الرّجوع إلى العقل والبناء على المداقّة في معرفة الموضوع » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٨.


المطهّرات مطلقا (١) ، أو ليست منها مطلقا إلّا إذا ثبت الطّهارة من الدّليل الخاصّ الخارجي (٢) ، أو تفصيل (٣) بين استحالة الأعيان النّجسة والمتنجّسة فهي في الأولى من المطهّرات دون الثّانية (٤).

فعن الأكثر المصير إلى الأوّل من حيث تبعيّة النّجاسة للعنوان الّذي تعلّق به ٣ / ١٧٦ الحكم في الشّريعة ، فبعد انتفائه لا معنى للتّمسك بما دلّ على ثبوت النّجاسة. وأمّا الاستصحاب فلا يجري بعد انتفاء الموضوع الّذي تعلّق به الحكم في الأدلّة الشّرعيّة فلا بدّ إذن من الحكم بالطّهارة : إمّا أخذا بما دلّ على طهارة المستحال إليه كالملح ، أو بما دلّ عموما على طهارة الأشياء حتّى تثبت نجاستها.

وعن الفاضلين وبعض آخر المصير إلى الثّاني واستدلّوا له بوجوه :

أحدها : أنّ معروض النّجاسة هي نفس الأعيان النّجسة وذواتها لا أوصافها الزّائلة بالاستحالة ، أو الذّوات باعتبار الأوصاف ، ومن المعلوم أنّ ذوات الأجسام لا ترتفع بارتفاع الأوصاف القائمة بها (٥). وهذا هو الّذي استدلّ به الفاضلان للحكم بالطّهارة الّذي أراد تصحيحه ( دام ظلّه ) بما ذكره من البناء على المسامحة.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكراه ليس مبنيّا على جعل الموضوع هو نفس الذّوات بالمسامحة العرفيّة ، ولم يريدا التّمسّك بالاستصحاب أصلا ، وإنّما ادّعيا كون

__________________

(١) كما عليه المشهور واختاره صاحب البحر.

(٢) كما عليه الفاضلان « المحقّق الحلّي وابن اخته العلّامة » وجماعة.

(٣) كذا والظاهر : أو يفصّل.

(٤) كما عليه الفاضل الهندي وجماعة تأتي الإشارة إليهم.

(٥) انظر المعتبر : ج ١ / ٤٥١ ، ومنتهى المطلب : ج ٣ / ٢٨٧.


الموضوع قطعا ما هو باق جزما.

ثانيها : ما عن الفخر في « الإيضاح » من التّمسك لبقاء النّجاسة باستصحابها (١).

وأنت خبير بأنّه لو جعل الأستاذ العلّامة ما ذكره من المسامحة مصحّحا لاستدلال الفخر بالاستصحاب لكان أولى.

ثالثها : ما عنه وعن غيره : من أنّ الحكم وإن تعلّق في الأدلّة الشّرعيّة بما زال اسمه بعد الاستحالة كالكلب والخنزير والعذرة ونحوها ، إلّا أنّه لا إشكال في أنّ الاسم معرّف وأمارة ، فلا معنى لزوال الحكم بزواله هذا.

وهو كما ترى ، يرجع إلى الوجه الأوّل إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في محلّها.

وعن بعض المتأخّرين (٢) : المصير إلى الثّالث مستدلّا في ظاهر كلامه المحكيّ عنه : بأنّ معروض النّجاسة في الأعيان النّجسة ليس نفس الذّوات لأن للوصف العنواني مدخلا في العروض قطعا ، وهذا بخلاف المتنجّسات ؛ فإنّ النّجاسة فيها محمولة على الجسم ، وليس للعنوان مدخل فيه جزما كما يكشف عنه قوله : إنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس ، هذا (٣).

__________________

(١) إيضاح الفوائد : ج ١ / ٣١.

(٢) الفاضل الهندي في المناهج السويّة ( كتاب الطهارة ) الورقة / ١٢٤ مخطوط وانظر القوانين :

ج ٢ / ٧٤ والفاضل النراقي في مناهج الاحكام : ٢٣٣ ، ومستند الشيعة : ج ١ / ٣٢٦ ، وأنظر الذخيرة للفاضل السبزواري : ١٧٢.

(٣) قال المحقق المدقّق الطهراني قدس‌سره :


ولكنّك خبير بأنّ الحقّ هو ما ذهب إليه الأكثرون : من كون الاستحالة من المطهّرات مطلقا أينما تحقّقت على سبيل القطع والجزم ، فلا يرد النّقض بمثل صيرورة الحنطة المتنجّسة طحينا أو الطّحين عجينا أو العجين خبزا إلى غير ذلك من تغيّر العنوانات الّتي يعلم بعدم مدخليّتها في أصل عروض النّجاسة ، ولا يحكم العرف بتحقّق الاستحالة بالنّسبة إلى موضوع النّجاسة ومعروضها.

والدّليل على ما ذكرنا ظهور القضايا في مدخليّة الوصف العنواني في عروض النّجاسة وكونها تابعة لها حدوثا وبقاء ، وعلى تقدير الشّك يحكم بالطّهارة أيضا من جهة قاعدة الطّهارة ، ولا يجري استصحاب النّجاسة حتّى يكون حاكما

__________________

« ويندفع : بان الحكم بزوال الموضوع يكون بزوال الواسطة في العروض مع بقاء المعروض كما لو تبدّل الكفر بالإسلام ففي هذه الصورة لا يرتفع إلّا ما كان دائرا مدار هذا العنوان وكان واسطة في عروضه ، وقد يكون بانعدامه رأسا وحينئذ يزول جميع ما كان ثابتا له بالضرورة والإستحالة من هذا الباب ، بمعنى ان الذات والحقيقة تتغيّر بها ، فما حدث غير ما كان ، ولا ينافي هذا اشتراكهما في المادّة فكلّ عرض من عوارض المواد يزول باستحالته حيوانا وإن لم يكن عنوان المنويّة واسطة في عروضه له.

وظهرت بما حقّقناه : استحالة بقاء حكم بعد الإستحالة ولا حاجة إلى استظهار مدخليّة الصّور النوعيّة في الإنفعال من الأدلّة وإناطته بخصوصيّات الأجسام ، بل لا سبيل إلى ذلك ، والرجوع إلى العرف في معرفة الموضوع لا معنى له ، بل لا مرجع فيه إلّا الحاكم ، فإذا تعلّق حكم بالعنب ودار الأمر بين ان يكون الوصف عنوانا وواسطة في العروض وبين أن يكون معرّفا وتعلّق الحكم بالجامع بينه وبين الزبيب فلا معنى للرجوع إلى العرف في ذلك ولقد أفاد الأستاذ قدس‌سره في هذا المقام ما لا يخلو عن أنظار تظهر بالتأمّل فيما حقّقنا » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٨.


على القاعدة للشّك في بقاء ما هو الموضوع بعد فرض اشتباه الأمر ، وعدم العلم بمدخليّة الوصف العنواني هذا.

مضافا إلى جواز الاستدلال بما دلّ على حكم المستحال إليه في الجملة من غير فرق بين أن يكون طهارة أو نجاسة ، حلّيّة أو حرمة ؛ فإنّه قد يستحيل الجسم الطّاهر إلى النّجس. وقد يكون الأمر بالعكس ؛ إلّا أن ظاهرهم الاتّفاق على الحكم في استحالة الطّاهر إلى النّجس ، والحلال إلى الحرام.

وممّا ذكرنا تعرف الجواب عن الوجوه الّتي استدلّوا بها للقول بالنّفي مطلقا ، ولا حاجة إلى تطويل الكلام.

وأمّا الجواب عمّا استدلّ به القائل بالتّفصيل ؛ فإنّه لم يقم برهان على كون المعروض للنّجاسة في المتنجّسات هو الجسم من حيث إنّه جسم من غير أن يكون للعنوان المستحيل مدخل فيه ؛ فإنّه وإن اشتهر في كلماتهم ووقع في معاقد إجماعاتهم المنقولة ما ربّما يستظهر منه ذلك في باديء النّظر وهو قولهم : « كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس » إلّا أنّ بعد التّأمّل يعلم عدم كونهم في مقام بيان ما هو المعروض للنّجاسة في الأجسام المنفعلة ، بل في مقام بيان قابليّة كلّ جسم للتّأثر والانفعال ، فلا ينافي كون ثبوت النّجاسة لكلّ واحد منها من حيث الوصف العنواني الثابت له هذا.

مع أنّه لو فرض ظهور معقد الإجماعات المنقولة في ذلك نمنع من اعتباره إذا لم يقم دليل عليه ، ومجرّد عدم الدّليل على كون معروض النّجاسة هو الجسم يكفي في الحكم بالطّهارة من جهة القاعدة كما لا يخفى هذا. مضافا إلى ما ذكره الأستاذ ـ بعد تسليم الظّهور ـ : من أنّه بعد العلم بمستند حكمهم في الكليّة


المذكورة لا معنى للتّعويل على ظهورها ، بل لا بدّ من صرفه لظهور المستند.

ومن المعلوم أنّ المستند في هذه الكليّة في كلماتهم ليس إلّا ما ورد في الموارد الخاصّة كالثّوب والبدن والماء ، ومن الظّاهر أنّ استنباط الكليّة المذكورة منه لا يمكن إلّا باعتبار عموم ما يحدث فيه النّجاسة ، لا ما يقوم به النّجاسة ؛ فإنّه لا يمكن استفادته من ذلك ؛ إذ كما يحتمل كونه الصّورة الجسميّة الباقية بعد ارتفاع الصّورة النّوعيّة ، كذلك يحتمل أن يكون هي الصّورة النّوعيّة المرتفعة بالاستحالة قطعا ، فإذن لا يمكن الجزم بأنّ معروض النّجاسة في المتنجّسات هو الجسم.

لا فرق بين الأعيان النّجسة والمتنجّسة في

الحكم بالطهارة لاجل الإستحالة

نعم ، الفرق بين النّجس والمتنجّس على هذا التّقدير : أنّ موضوع النّجاسة في الأوّل مرتفع بحسب ظاهر الدّليل ، وفي الثّاني مشكوك الارتفاع. ولكن هذا القدر لا يجدي في الفرق بينهما بعد البناء على لزوم إحراز الموضوع في باب الاستصحاب بطريق القطع سواء جعل الميزان فيه العقل ، أو الرّجوع إلى الأدلّة ، أو حكم العرف بالبقاء.

أمّا على الأوّل فظاهر ؛ لاحتماله مدخليّة الصّورة النّوعيّة في عروض النّجاسة في كلا القسمين فيلزم عدم جريان الاستصحاب مطلقا.

وأمّا على الثّاني ؛ فلما قد عرفت : أنّ المثبت لعموم الحكم في باب النّجاسات ليس إلّا الأمر اللّبي الّذي لا يمكن تشخيص الموضوع به حتّى يجري على منواله.


وأمّا على الثّالث ؛ فللعلم بعدم الفرق عند العرف بين النّجس والمتنجّس.

ففي بعض صور الاستحالة يحكمون ببقاء ما هو الموضوع للحكم من غير فرق بين المقامين ، بمعنى حكمهم بشمول الدّليل في الحالة الثّانية لا من جهة الاستصحاب. وفي بعض المراتب يحكمون ببقاء الموضوع في الزّمان الثّاني من غير فرق بين المقامين ، مع احتمالهم لمدخليّة بعض الأوصاف والقيود الّذي يحوجهم إلى التّمسّك بالاستصحاب بالبناء على عدم مدخليّة الحالة المتبدّلة بالمسامحة. وفي بعض المراتب يحكمون بارتفاع الموضوع في الزّمان الثّاني بطريق القطع من غير فرق بين المقامين ، وفي بعض المراتب يشكّون في بقائه فيهما.

فهل ترى من نفسك الفرق عندهم في الحكم ببقاء الموضوع بين الفحم من نجس العين ، أو المتنجّس؟ أو ترى من نفسك الفرق في حكمهم بعدم بقاء الموضوع في صيرورة الشيء النّجس رمادا أو دخانا بين النّجس والمتنجّس؟ أو ترى من نفسك الفرق في حكمهم ببقاء الموضوع في صيرورة الدّخان ماء بين الدّخان من الماء النّجس ، أو المتنجّس؟! حاشاك ثمّ حاشاك من ذلك.

وبالجملة : الحكم بالفرق بين النّجس والمتنجّس في حكم العرف ببقاء الموضوع وعدمه ، والشّك بحسب مراتب الاستحالة لا يصدر إلّا من المكابر المتعسّف ، بل التّحقيق : أنّه لا يعقل الفرق بينهما في بنائهم فتدبّر.

نعم ، الفرق بينهما أنّه فيما لم يحكم بجريان الاستصحاب في مراتب الاستحالة من جهة القطع بانتفاء الموضوع ، أو الشّك فيه يمكن الحكم بالطّهارة في الزّمان اللّاحق في الأعيان النّجسة المستحالة بقاعدة الطّهارة ، وما دلّ على طهارة


المستحال إليه ، وحلّيّته من الأدلّة الاجتهاديّة ، بل يمكن الحكم بالطّهارة فيها مع جريان الاستصحاب أيضا من جهة الدّليل الدّال على طهارة المستحال إليه ؛ إذ ليس هذا من موارد الرّجوع إلى الاستصحاب وعدم الأخذ بالعموم حسب ما عرفت تفصيل القول فيه في طيّ كلماتنا السّابقة فتأمّل.

وفي الأعيان المتنجّسة لا يمكن الحكم بالطّهارة إلّا من جهة القاعدة ؛ لأنّ ما دلّ على طهارة الأشياء أو حلّيّتها إنّما هو في مقام إثبات الطّهارة الذّاتيّة والحلّية الذّاتيّة لها في مقابلة الأعيان النّجسة والمحرّمة بالذّات ، فلا تنافي القطع بنجاستها من جهة الملاقاة فضلا عن الشّك فيها ، هذا كلّه. مضافا إلى إمكان دعوى الإجماع على فساد التّفصيل المذكور ؛ فإنّ أحدا لم يفصّل في حكم الاستحالة إلى زمان السّبزواري والفاضل الهندي بين استحالة الأعيان النّجسة والمتنجّسة (١).

مضافا إلى ما ذكره في « المعالم » : من أولويّة طهارة الأعيان المتنجّسة بالاستحالة (٢).

وإن كان قد يناقش فيه : بأنّها أولويّة اعتباريّة لا يجوز التّمسّك بها سيّما من مثل صاحب « المعالم » الّذي هو من أهل الظّنون الخاصّة ، وما ورد في الجواب عن سؤال « حكم الخشب الّذي يوقد عليه العذرة والعظم المتنجّس : من التّعليل بطهارته : بأنّ النّار والماء قد طهر ... إلى آخره » (٣) وإن كان فيه أيضا إشكال

__________________

(١) انظر المناهج السويّة ( كتاب الطهارة ) للفاضل الهندي الورقة ص ١٢٤ مخطوط ، وذخيرة المعاد للفاضل السبزواري / ١٧٢.

(٢) فقه المعالم : ٤٠٣ في مسألة مطهريّة النار لما أحالته رمادا.

(٣) لم نجد السؤال عن الخشب بل عن الجص فقد أورد المشائخ الثلاثة عن الحسن بن


ليس المقام مقام ذكره.

وبالجملة : الفرق في باب الاستحالة بين الأعيان النّجسة والمتنجّسة في غاية الظّهور من الفساد بعد التّأمّل التّام وإن كان في باديء النّظر بما يرى وجيها.

(٣٠٨) قوله : ( فالتّحقيق : أنّ مراتب تغيّر الصّورة [ في الأجسام ](١) مختلفة ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٣٠٠ )

__________________

محبوب أنه قال :

سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصّص به المسجد ، أيسجد عليه؟ فكتب إليّ بخطّه : « إنّ الماء والنّار قد طهّراه » ، انظر الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٣٣ باب ٢٧ ما يسجد عليه وما يكره ـ ح ٣ ، وأورده الصدوق أيضا في الفقيه : ج ١ / ١٧٥ ـ ح ٨٢٩ ، والطوسي في التهذيب : ج ٢ / ٢٣٥ ح ٩٢٨ ، رواه الوسائل عن الفقيه والتهذيب انظر : ج ٣ / ٥٢٧ ب ٨١ من أبواب النجاسات باب « طهارة ما أن أحالته النار رمادا أو دخانا ... » ـ ح ١.

(١) أثبتناها من الكتاب.

(٢) قال المدقّق الطهراني قدس‌سره :

« إن كون شيء موضوعا لحكم دون آخر لا ضابط له في العرف ولا يعقل ان يكون لذلك ميزان ومناط ، كما انّ نفس الحكم كذلك فانه أمر اختياري للحاكم يدور مدار إختياره ، فلو ثبت حكم للعنب بدليل لبّي واحتمل أن يكون موضوعه هذا العنوان في نظر الحاكم فبأي وجه يحكم العرف بانّ موضوعه الأعم منه ومن الزبيب؟

ولهذا لا يتأمّل أحد في انّ استحباب أكل الرمّان أو البطّيخ مثلا لا يشمل اليابس منهما ، كما انّ استحباب أكل الزبيب لا يشمل العنب وعموم خصوص الحلّيّة والطهارة إنّما هو للعلم بعدم مدخليّة الرطوبة واليبوسة في خصوص الحكمين ، لا لأن العرف يحكم بان الرطب


__________________

واليابس منه مشتركان في كلّ حكم وكون الحالتين عرضيّتين لا تنافي اختلافهما في مرحلة تعلّق الحكم.

وبالجملة : فمرجع الإختلاف الذي زعمه إنّما هو الإختلاف في مراتب المغايرة ، وقد عرفت :

أن ضعف المغايرة لا ينافي الإختلاف في الحكم ، كما انّ شدّة المغايرة لا تنافي الإشتراك فيه.

فتبيّن فساد جميع ما ذكر من الموازين ، وانّه إذا لم يتميّز الموضوع من الأدلّة فلا بد من العمل بالأصول الجارية في موضع الشبهة ، فإذا دار امر موضوع حرمة الوطي بين الحيض بمعنى قذف الدم وبينه بمعنى الحدث فالأصل فيه جواز الوطي بعد الطهر وقبل التطهير وكذا لو تردّد موضوع النّجاسة بالغليان بين العنب والقدر المشترك بينه وبين الزبيب ، فالأصل فيه الإباحة ولا معنى للرجوع إلى العرف في معرفة موضوع الحكم ، وكذا إذا لم يتميّز الذاتي من العرضي ودار أمر الباقي بين ان يكون عين الزائل او غيره ، فالمرجع هو الأصل ولا ميزان في العرف لتشخيص موارد الإشتباه.

واعلم ان الرّجوع إلى العرف إنّما يراد به الرّجوع إلى جهة معلومة بالفطرة إجمالا لا يحيط بجهاتها تفصيلا إلّا الأوحدي من العلماء بل لا يحيط بها في بعض المراحل إلّا الله تعالى والرّاسخون في العلم.

وهذا هو السرّ في كون الكتاب العزيز معجزا للنبوّة ؛ فإنّ إعجازه إنّما هو من جهة انّ التكلّم بما ينطبق على الموازين العرفيّة غاية الإنطباق فوق الطاقة البشريّة.

وقد شاع بين طلبة العصر انّ الرجوع إلى العرف إنّما هو التعويل على ما يفهمه العامي في اوّل نظرته الحمقاء وأنّ التدقيق في فهم المعاني أو معرفة ماهيّات المعاملات خروج عن الموازين العرفيّة.

ولا يخفى ان الرّكون إلى أوهام العامّة لا وجه له ، بل قد عرفت : انّ الرجوع إلى العرف ليس


أقول : قد عرفت بعض الكلام في ذلك في طيّ كلماتنا السّابقة وهو ممّا لا إشكال فيه أيضا ؛ فإنّه قد يفهم من الدّليل ـ ولو بمعونة الخارج ـ : أنّ الموضوع في الحكم الشّرعي في القضيّة الشّرعيّة ما يوجد في العنوان المستحال إليه بالنّسبة إلى بعض مراتب الاستحالة ، أو مطلقا بالنّسبة إلى بعض الأشياء ، وإن كانت القضيّة بظاهرها مقتضية لكون الموضوع هو خصوص العنوان المستحيل ؛ إذ ذلك إنّما يجدي فيما لو لم يقطع كون المراد خلافه ولو بتنقيح المناط القطعي وهذا ممّا لا إشكال في اعتباره وعدم الاحتياج فيه إلى الاستصحاب ، بل عدم جريانه على ما ستقف عليه إن شاء الله ؛ لأنّ فهم العرف بالنّسبة إلى أصل المراد من الألفاظ ممّا لا إشكال في اعتباره وكونه الأصل في ذلك.

وقد لا يفهم من الدّليل ـ ولو بمعونة الخارج ـ كون الموضوع هو الأعمّ في بعض مراتب الاستحالة سواء لم يكن هناك دليل لفظيّ ، أو كان ولم يفهم منه ذلك : إمّا لإجماله ، أو لظهوره في الخلاف مع عدم الصّارف عنه. وهذا ينقسم إلى قسمين :

أحدهما : ما يساعد العرف في الحكم ببقاء الموضوع مسامحة في إلقاء ما يحتمل مدخليّته ، أو يظنّ بظاهر الدّليل المعتبر ، كما في بعض مراتب الاستحالة. وهذا هو الّذي يشكل الحكم باعتبار رجوعه إلى فهم المراد من اللّفظ ، وعدم تعلّقه

__________________

رجوعا إلى الشخص ، وكون العوام أهلا له إنّما هو باعتبار بداهة الجهة في الجملة وكونها جبلّته ، لا أنّ عدم تفطّنهم للدّقائق وإنكارهم لها دليل فسادها.

[ وكيف كان فـ ] التحقيق : ان العرف جهة واقعيّة لا يحكم العقل على خلافها وتقابل الجهة الاخرى المعبّر عنها بالعقليّة من حيث تحمّلها للمسامحة ما لا تتحمله تلك الجهة ». إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٠٩.


بالموضوع الاستنباطي ، وإلّا لم يكن معنى للاحتياج إلى الاستصحاب ، بل رجوعه إلى الحكم بتحقّق المصداق لما هو الموضوع في الدّليل مسامحة المحقّق لموضوع الاستصحاب عندهم ، فهذا لا ربط له بما هو المسلّم عندهم : من اعتبار فهم العرف في باب الألفاظ من حيث الخصوص ، وقد عرفت بعض الكلام منّا في توجيه اعتباره حسب ما ساعدنا التّوفيق من الموفّق العلّام.

ثانيهما : ما لا يساعد العرف على الحكم ببقاء الموضوع فيه ولو مسامحة ، كما في بعض مراتب الاستحالة. وهذا لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ؛ لعدم إحراز الموضوع فيه بكلّ وجه على ما هو قضيّة الفرض.

ثمّ إنّ ما ذكرنا كما يختلف باختلاف مراتب الاستحالة ، كذلك قد يختلف ٣ / ١٧٨ باختلاف الأحكام مع اتّحاد مرتبة الاستحالة ، كما في صيرورة العنب زبيبا ؛ فإنّ الموضوع للحلّيّة والطّهارة لا يختلف بها ، بل يتمسّكون في الحكم بطهارة الزّبيب وحلّيّته بنفس الدّليل من غير رجوع إلى الاستصحاب ، وهذا بخلاف ما لو تعلّق نذر بالعنب ؛ فإنّه يحكم بجريانه بالنّسبة إلى الزّبيب ، بل لا يعقل الحكم فيه بجريان الاستصحاب أيضا إلّا إذا علم أنّ مراد النّاذر هو الأعمّ.

لكن هذا الاختلاف لا يعقل أن يستند إلى نفس اللّفظ ، بل لا بدّ من أن يستند إلى الخارج ، وهذا بخلاف الاختلاف بحسب المرتبة ؛ فإنّه قد يقال بإمكان استناده إلى نفس اللّفظ بملاحظة مراتب الاستحالة ، وإن كان الحكم بما ذكر بالنّسبة إليه في غاية الإشكال أيضا ؛ فإنّ المفروض كون اللّفظ ظاهرا في مدخليّة الوصف العنواني والصّورة النّوعية في عروض الحكم بمعنى : الواسطة في الثّبوت والبقاء.

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ حكم العرف بأعميّة الموضوع بالنّظر إلى الدّليل


الشّرعي غير حكمه ببقاء الموضوع في باب الاستصحاب مسامحة ، ولو مع ظهور اللّفظ عندهم في انتفاء موضوع الحكم المقتضي لانتفائه ، ولا بدّ أن لا يختلط أحدهما بالآخر ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في أنّه إذا فهم العرف من الدّليل كون الموضوع هو العنوان المقصود في صورة الشّك فكيف يبنون على بقاء الموضوع؟

ولكنّه أيضا يندفع بأدنى تأمّل ؛ فإنّهم حين حكمهم ببقاء الموضوع مسامحة يجرّدون النّظر عمّا حكموا به بمقتضى جبلّتهم العرفيّة ، أو بإعلام الشّارع ويجعلون الموضوع في الدّليل الشّرعي هو الأعمّ بالنّسبة إلى خصوص الحكم بتحقّق الإبقاء والنّقض فتدبّر.

(٣٠٩) قوله : ( وممّا ذكرنا يظهر : أنّ معنى قولهم ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٠١ )

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : لا يخفى ما في إرادة المعنيين الّذين ذكرهما المصنّف رحمه‌الله لهذه العبارة من البعد كما لا يخفى على من لا حظ موارد تلفّظهم بهذا القول بل المعنى به في محاوراتهم ليس إلّا ما يتراءى منه في بادي النّظر وإنّما يستدلّون به لرفع الأحكام الثّابتة لموضوعات معلومة مبتنيّة عند خروج تلك الموضوعات عن مسمّياتها عرفا لا بالدّقة العقليّة ، مثلا إذا دلّ الدليل على حرمة أكل التّراب أو وجوب التّصديق بصاع من الحنطة أو اشتراط إطلاق الماء المستعمل في رفع الحدث والخبث وخلوص التراب في التيمّم فعند إمتزاج شيء من التراب في الحنطة أو المضاف في الماء المطلق أو شيء من الحشيش في تراب التيمّم مع استهلاك الممتزج وتبعيّة للممتزج فيه في الإسم نقول : لا أثر للممتزج بعد استهلاكه واضمحلاله فلا يلحقه حكمه بل هو تابع للممتزج فيه في الحكم ؛ لأنّ الأحكام تدور مدار


__________________

الأسماء وأمّا لدى الشكّ في انّه هل لعنوان الكلّيّة أو الحياة دخل في قوام نجاسته أو تعفير ملاقيه ، فلا وقع للاستشهاد بهذه القضيّة ، بل يجب حينئذ تشخيص ما هو مناط الحكم وموضوعه بمراجعة الأدلّة والفحص عنها ، فإن ثبت وإلّا فالعمل على حسب ما يقتضيه القواعد من الاستصحاب أو غيره من الأصول » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٤٢.

* وقال الأصولي المحقق شيخ الكفاية الخراساني قدس‌سره :

« لمّا كان الاسماء حاكية عن المسميّات الّتي يكون هي الموضوعات للأحكام ، والموضوعات يدور عليها الأحكام لانتفائها بانتفائها بلا كلام ، كان الأحكام تدور مدار الأسماء.

لا يقال : انّما تدور مدار الواقعيّات عن موضوعاتها ، لا المحكيّات بأسمائها ، فيمكن بقاؤها مع عدم بقاء صدق الأسماء.

لأنّا نقول : إنّما تدور مدار موضوعاتها الواقعيّة ثبوتا. وأمّا إثباتا فلا تدور إلّا مدار المحكي منها بأسمائها ، والظّاهر أن يكون مقصودهم إثبات الدّوران في مقام إثباتها ، فإنّ الظّاهر أنّه لا مأخذ لقولهم هذا إلّا نفس أدلّة الاحكام ، وهي غير دالّة إلّا على ثبوتها ما دام صدق الأسماء ، لا على الانتفاء فيما صدق لها ، ولا أظنّ مساعدة دليل من خارج ، فإنّه لو كان لظهر وبان ، وكون هذا إجماعا منهم بعيد واحتماله غير مفيد ، وتحصيله عادة مستحيل ، فإنّه لا سبيل إليه إلّا من باب الاتّفاق ، وهو غير كاشف ، لاحتمال أن يكون استنادهم إلى ما هو قضيّة الأدلّة ، كما استظهرناه.

ومن هنا ظهر أنّه لا مجال لتوهّم المنافاة بينه وبين كون المدار في باب الاستصحاب على بقاء العرفي ، صدق عليه الاسم أو لم يصدق عليه ، فإنّ عدم مساعدة دليل الحكم على ثبوته لهذا الموضوع لا ينافي مساعدة دليل آخر عليه ، على أن يكون حكما ظاهريّا له كما في باب


__________________

الاستصحاب ، او واقعيّا كما في غير الباب.

وبالجملة : إن كان مرادهم ما قلنا ، فهو غير مناف لشيء ممّا نحن فيه وإن كان مرادهم ما ينافيه ، فلا دليل عليه ، ولو سلّم فهو أصل وجب عنه العدول بظاهر دليل الإستصحاب على ما بيّناه من كونه بلحاظ الموضوع العرفي ولو لم يصدق عليه الموضوع المأخوذ في الدّليل ، فإنّ دليل الإستصحاب فيما لم يثبت المستصحب بدليل نقلي غير معارض به ولا مزاحم ، وبعدم الفصل قطعا بينه وبين ما إذا ثبت به ، تمّ المقصود وعمّ ولم يعلم بعدم الفصل في موارد هذا الأصل من موارد الإستصحاب وغيرها إن لم يعلم الفصل ، فيجب العمل بدليل الاستصحاب في تمام موارده ، فتأمّل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٨٧.

* وقال صاحب القلائد قدس ‌سره :

« أقول : توضيح المقام :

أن الادلة الدالة على بيان الأحكام لمّا كانت لفظيّة أو راجعة إليها فلا بد من التعبير فيها عن موضوع ذلك الحكم بلفظ من الألفاظ.

وحينئذ تارة : نعلم مدخليّة خصوصيّة مفاد هذا اللفظ الذي عبّر به في هذا الحكم كما إذا ورد ( الكلب نجس ) مثلا.

وأخرى : نعلم عدمها وأن الحكم تعلّق بأمر كلّي وهذا الجزئي المسمّى بالإسم المزبور فرد من أفراده ، وإنّما وقع التعبير به لأنّه محل الحاجة أو لمعلوميّة حكم غيره ، إلى غير ذلك ، كما إذا ورد « الناصبي نجس » مثلا ؛ فإنا نعلم من الخارج أن الكافر نجس وما ذكر من أفراده ولا مدخل للخصوصيّة.

وثالثا : نشك في مدخليّة الخصوصيّة كما في عصير العنب والزبيب.

لا إشكال في صورة العلم. وأمّا صورة الشك فاللازم فيه اتّباع الإسم الذي عبّر به في الدليل ، فالمدار في كلّ الأقسام على الإسم ، لكن الإسم يختلف بالخصوصيّة والعموميّة والكلّيّة


الأحكام تدور مدار الأسماء

أقول : لا يخفى عليك أنّه ( دام ظلّه ) أراد بذلك الكلام بيان أنّ ما اشتهر بينهم من أنّ الأحكام تدور مدار الأسماء ليس مختصّا بما لم يفهم ـ ولو بالقرينة الخارجيّة ـ كون الموضوع للحكم في الدّليل الشّرعي هو الأعمّ ممّا يقتضيه ظاهر اللّفظ بالنّظر إلى الوضع ، أو الظّهور الثّانوي ، بل يعمّه وما علم من الخارج كون الموضوع هو الأعمّ ، مع العلم بعنوانه المعروض للحكم ؛ فإنّ مقصودهم من القضيّة المعروفة هو الحكم بتبعيّة الحكم لما علم أنّه موضوعه ، أو ظنّ بالظّن المعتبر من غير فرق بين أن يكون مستفادا من ظاهر القضيّة ، أو لم يكن مستفادا منه ، بل استفيد من الخارج.

ولمّا كان الاسم أمارة على الموضوع ومعرّفا له ، فلذا حكموا : بأنّ الأحكام تدور مدار الأسماء ، وإلّا فالتّسمية ممّا لا يعقل أن يكون له مدخل في الحكم ،

__________________

والجزئيّة » إنتهى. أنظر قلائد الفرائد : ٢ / ٣٧٤.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس سره :

« الأولى : أن قولهم ـ : الأحكام تدور مدار الاسماء ـ محمول على ظاهره من دورانها مدار صدق عناوين موضوعاتها المأخوذة في أدلّتها.

وتخلّف القاعدة في مثل العنب إذا صار زبيبا ودبسا والحنطة إذا صارت دقيقا أو عجينا أو خبزا من جهة أنا نعلم من الخارج : أن حكم فروع العنب والحنطة حكم أصلهما ، لا أن موضوع الحكم في الدليل أعم من الإسم الأوّل ففي الحقيقة لم تتخلّف القاعدة » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٤٢.


فالمراد من الأسماء إذن هو أسماء الموضوعات مطلقا سواء استفيدت من ظاهر القضيّة أو لا. فكلّما كان هذا الموضوع باقيا يحكم بثبوت الحكم بنفس الدّليل إن كان له عموم أو إطلاق ، وبالاستصحاب إن لم يكن له عموم أو إطلاق ، وإن كان الموضوع بالدّقة العقليّة غير معلوم البقاء.

وكلّما لم يكن هذا الموضوع باقيا لم يحكم بثبوت الحكم ولو بالاستصحاب ، وإن كان الموضوع بالمسامحة العرفية باقيا ، فما ذكروه يمنع من الرّجوع إلى الاستصحاب فيما كان الموضوع للحكم الشّرعي المستفاد من الدّليل ـ ولو بمعونة القرينة الخارجيّة ـ منتفيا ، أو مشكوك الانتفاء ، وإن حكم العرف من باب المسامحة ببقاء ما هو المعروض للحكم في الزّمان الأوّل ، فتأمّل.

(٣١٠) قوله : ( وقد تقدّم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل [ ملحا ](١) من أكثر ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) صحيح ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ جماعة أنكروا مطهّريّة الاستحالة متمسّكا (٢) : بأنّ المعروض للنّجاسة هي الذّوات الباقية في جميع تقادير تغيّر الصّور النّوعيّة ، مع أنّ قضيّة ظاهر اللّفظ كون المعروض هي الذّات المعنونة بالوصف العنواني المذكور في القضيّة ، وإن كان ما ذكروه فاسدا بما عرفت سابقا هذا.

ولكن لا يخفى عليك أنّ ما ذكره هنا لم يتقدّم منه سابقا ؛ فإنّ المتقدّم منه

__________________

(١) أثبتناها من الكتاب.

(٢) كذا والصحيح : متمسّكين.


سابقا : هو نقل استدلال الفاضلين في « المعتبر » و « المنتهى » على بقاء النّجاسة في النّجاسات في صورة الاستحالة : بأنّ النّجاسة قائمة بالأشياء النّجسة لا بأوصاف الأجزاء (١) ، ولم يتقدّم حكاية الخنزير ، ولا نقل عن أكثر أهل العلم ، وكان الأستاذ العلّامة يذكر : أنّ الموجود في الكتابين ما ذكرناه أخيرا ، والنّقل عن أكثر أهل العلم إنّما هو منهما لا منه (٢) ( دام ظلّه ) فتدبّر.

(٣١١) قوله : ( وحينئذ فيستقيم أن يراد من قولهم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٢ )

أقول : أي : ولمّا كان المقصود عدم كون كلامهم في مقام المنع من الرّجوع إلى الدّليل الشّرعي ، أو الاستصحاب فيما فهم في موضع كون الموضوع في نظر الشّارع هو الأعمّ ممّا يقتضيه ظاهر اللّفظ بالنّظر إلى الوضع ، فلك أن تحمل كلامهم على ما ذكرنا سابقا : من جعل المراد من الاسم هو الاسم لما هو الموضوع ولو لم يكن في ظاهر الدّليل.

ولك أن تحمله على معنى آخر وهو تبعيّة الحكم لما هو الموضوع في ظاهر الدّليل بالنّظر إلى القاعدة كليّة ، إلّا أن يفهم من الخارج بإعلام الشارع ، أو بفهم العرف بالمعنى المعتبر الّذي عرفته كون الموضوع هو الأعمّ ، فكلامهم على هذا في مقام تأسيس القاعدة والأصل الغير المنافي للعدول عنه بعد قيام الدّليل على الخلاف في بعض الموارد الشّخصيّة.

__________________

(١) انظر فرائد الأصول : ج ٣ / ٢٩٦ وقد مرّ تخريج عبارة الفاضلين.

(٢) انظر منتهى المطلب : ج ٣ / ٢٨٧ ولم نجده في كلمات المحقّق الحلّي ( رحمه الله تعالى ).


* الثاني ممّا يعتبر في تحقّق الإستصحاب

إشتراط الشك في البقاء (*)

(٣١٢) قوله : ( لكن هذا التّعبير من الحلّي لا يلزم أن يكون ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٤ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) هنا مناف لما استظهره في أوّل المسألة من أمثال هذه العبائر : من كونها مأخوذة من الأخبار وظاهرة في استدلال المعبّر عنها بها.

(٣١٣) قوله : ( وتوضيح دفعه : أنّ المناط ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٠٤ )

__________________

(*) مرّ الشرط الأوّل قبل قليل.

(١) قال في القلائد : ٢ / ٣٧٥ :

« أقول : ملخّص وجه التغاير بينهما :

أوّلا : ان متعلق الشك في الإستصحاب هو البقاء وفي القاعدة هو الحدث.

وثانيا : انه لا بد في القاعدة من التغاير بين زمان حصول الشك واليقين ، بخلاف الإستصحاب ؛ فإنّه ربّما يحصل الشك واليقين فيه في زمان واحد » إنتهى.

* وقال المحقق الخراساني قدس سره معلّقا على قول المصنّف : ( فان مناط الإستصحاب هو اتحاد متعلّق الشك واليقين ... إلى آخره ) :

« فإنه لو لا لحاظ إتحادهما لما كان العمل على خلاف اليقين نقضا له بالشك ولا العمل على طبقه مضيّا على اليقين ، فلا بدّ من عدم ملاحظة الزّمان وأن متعلّقهما مع ملاحظته اثنين ،


__________________

ومتعلّق الشّكّ واليقين في القاعدة وإن كان أيضا متّحدا ، إلّا أنّه مع ملاحظة الزّمان ، فكان إلغاء الشّك والمضي على اليقين في الإستصحاب عبارة عن التّعبّد بثبوت المشكوك في اللاحق كما كان في السّابق ، وفي القاعدة عبارة عن التّعبّد بثبوته فيه سابقا وإن شكّ في ثبوته كذلك لا حقا ، واختلاف مؤدّاهما وإن لم يمنع عن الجمع بينهما في كلام واحد مشتمل على ما يعممهما بمفهومه ويحويهما بمعناه حاك عن حرمة النقض ، ووجوب المضي في الواقع باللحاظين اللّذين كانا موجبين لاختلاف مؤدّي القاعدتين ، كما إذا قيل مثلا ( لا تنقض اليقين بالشّكّ ) الّذي كان له تعلّق بالشّكّ الّذي كان له تعلّق بما تعلّق به اليقين ، فإنّ التعلّق بإطلاقه يعمّ ما إذا كان تعلّقه به بأصل ثبوته الذي لا بدّ فيه من اتحاد المتعلقين ولو مع ملاحظة الزمان أو بقائه الّذي لا بد من اتحادهما مع عدم ملاحظته ، إلّا أنّه لا يكاد يمكن الجمع بينهما فيما إذا لم يكن هناك ما يحكي عنهما بمفهومه ، ويظهر في تحققهما بإطلاقه أو عمومه ، بل كان إرادتهما بالجمع بين اللّحاظين في خطاب واحد قصد به ضرب كلتا القاعدتين ، ضرورة امتناع الإنشاء الواحد بلحاظين متنافيين ونظرين متضادّين ، لحاظ المتيقّن مع زمانه ولحاظه بدونه ، والنّظر إلى ثبوته في زمان قطع بثبوته فيه من دون نظر إلى بقائه ، والنظر إلى خصوص بقائه*.

لا يقال : نعم ، لكن اللحاظ على أحد الوجهين ليس بلازم ، كي يلزم من إرادتهما الجمع بين المتنافيين ، بل الخطاب يكون من دون لحاظ في البين ، فيكون دليلا على القاعدتين.

لأنّا نقول : لا يكاد يكون الخطاب بلا لحاظ مفيدا لفائدة وضربا لقاعدة ، حيث انّ المفروض أنّه ليس فيه لفظ يعمّهما بمفهومه بإطلاقه أو عمومه ، فلا مناص عن اللحاظ أريد به ضرب قاعدة ، وإلّا كان مهملا ، لا دليلا على القاعدة ، وإلّا كان مهملا ، لا دليلا على القاعدة ولا على الإستصحاب بلا ارتياب ، ولا يعقل أن يكون اللّحاظان من حالات اليقين بشيء كي يعمّهما إطلاقه الحالي ، فإنّ الموضوع بجميع حالاته الّتي يراد سراية الحكم اليه معها لا بدّ أن يكون


أقول : قد عرفت بعض الكلام منّا فيما يتعلّق بالمقام عند التّكلم في الأخبار الواردة في الباب عند تعرّض الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) له ، ونتكلّم فيه بعض

__________________

ملحوظا ولو إجمالا ، فكيف يكون لحاظه على نحو واحد.

هذا ، مضافا إلى ما عرفت من المنافاة بينهما ، فافهم.

لكن لا يخفى إناطة ذلك باتّحاد متعلّق الشّكّ واليقين كما نفى عنه الرّيب تارة ، واستظهره أخرى ، وقد ذكرنا وجهه ، ضرورة أنّه لو لا ذلك كان إرادة القاعدتين من هذه الأخبار ، بل استظهارهما منها بمكان من الإمكان لا يحتاج إلى زيادة مؤونة ، بل يكفي إطلاق الشّكّ بحسب أفراده ، وهو سهل مع إطلاقه في مقام البيان ، فيقال : إنّ اليقين في السّابق وإن كان واحدا وهو لحاظه مع زمانه إلّا أنّه يراد من الشّكّ حيث أطلق في المقام أعمّ ممّا كان متعلّقا به أو متعلّقا ببقائه ، فيستفاد كلّ من القاعدة والاستصحاب لا لزوم محذور في البين من الجمع بين اللّحاظين ، فتأمّل جيّدا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

__________________

(*) وعلّق الفاضل الكرماني على مقالة الخراساني قدس‌سره قائلاً :

« أقول : المقطوع لكل أحد أن المقصود هنا أن ننظر في انه هل يمكن تعميم ( لا تنقض ) بحيث يشمل القاعدة أم لا يمكن ، بل يختص مدلوله بالإستصحاب ولا نرى مانعاً منه.

وما ذكره مانعاً كسراب بقيعة ؛ فإن من البيّن أن لا مانع من ضرب قاعدة كلّيّة يشمل قاعدتين بلفظ يشملها بعمومه أو إطلاقه ويكفي إرادة الجامع من القاعدتين من اللفظ من غير إرادة الفصول المميّزة لكلٍّ منهما عن الآخر منه واللحاظ الاجمالي لهما فيه كاف ، ولا يلزم في الشمول إرادة الخصوصيّات المميّزة لكلّ وإرادة دلالة اللفظ عليها وفرض عدم ما يحكي عنهما بمفهومه لو فرض فرضاً واقعاً لا يضرّ بما نحن الآن فيه ؛ فإن الحاكي فيما نحن فيه موجود ، بل لو فرض المانع فيه عن إرادة الجمع كان اللفظ في القاعدة أظهر منه في الاستصحاب وهو غير خاف على ذوي الألباب » انتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشي : ٤٠٤.


الكلام هنا أيضا لعلّه يرفع به الغبار عن وجه المرام فنقول :

إنّه ذكر جماعة من المتأخّرين : أنّه لا إشكال في إمكان الجمع بين القاعدتين ح فإنّهما وإن اختلفتا في كون المقصود في إحداهما الحكم بالحدوث ، وفي الأخرى الحكم بالبقاء ، وفي كون المناط في إحداهما سبق اليقين بشيء في زمان ولحوق الشّك بنفس ما تعلّق به اليقين ، وفي الأخرى وجود الشّيء سابقا والشّك في بقائه ، إلّا أنّ بينهما قدر مشترك يمكن بإرادته إرادتهما ، سواء اعتبر بالنّسبة إلى ما دلّ على عدم الاعتداد بالشّك في قبال اليقين ، أو عدم نقضه بالشّك ، أو وجوب المضي عليه عند الشّك ح فإنّ كون اللّازم من هذا في بعض الموارد الحكم بالحدوث ، كما إذا سرى الشّك إلى نفس ما تعلّق به اليقين ، وفي بعض آخر الحكم بالبقاء كما إذا تعلّق الشّك بالوجود الثّانوي للشّيء مع كون حدوثه يقينيّا في زمان الشّك أيضا لا يوجب عدم الجامع بينهما : فإنّ هذا الاختلاف إنّما حدث بملاحظة خصوص المورد من غير أن يكون مرادا من اللّفظ ، فعدم الاعتداد بالشّك في كلّ شيء ، وكذلك عدم نقض اليقين بشيء بالشّك فيه ، وكذلك المضي ، والجري على مقتضى اليقين المتعلّق بكلّ شيء إنّما هو بحسبه ، فأصل المعنى الّذي استعمل اللّفظ فيه أمر وجداني لا تكثير فيه ، وإنّما جاء الاختلاف من خصوص النّسبة كما يقال إنّ الصّحة في كلّ شيء بحسبه مثلا هذا (١).

__________________

(١) انظر مفاتيح الأصول : ٦٥٧ ، وضوابط الأصول : ٣٧١ ، وخزائن الدربندي : ٨٥ من فنّ الاستصحاب.


مختار الشيخ الأعظم عدم إمكان الجمع بينهما

والوجوه التي أقامها على مختاره

ولكنّ الّذي اختاره الأستاذ العلّامة جازما به : عدم إمكان الجمع بينهما على القول بعدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ، بل على القول بجوازه أيضا بناء على أحد الوجهين اللّذين ستقف عليهما واستدلّ له في ظاهر كلامه في « الكتاب » وفي مجلس البحث بوجوه :

أحدها : ما أجاب عنه المجوّز في طيّ ما عرفته منه من اختلاف المناط في القاعدتين فلا يمكن الجمع بينهما في إرادة واحدة بناء على عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.

توضيح ما ذكره ( دام ظلّه ) : هو أنّه بعد تسليم تغاير المناط في القاعدتين وأنّ معنى عدم الاعتبار بالشّك في إحداهما والمضي على طبق اليقين غيره في الأخرى وأنّهما سنخان من المعنى لا ربط لأحدهما بالآخر أصلا لا معنى للحكم بوجود قدر مشترك بينهما.

نعم ، لا إشكال في اشتراك القاعدتين بحسب اللّفظ وجواز إرادة كلّ منهما على الانفراد من لفظ واحد ، ولكن من المعلوم أنّ مجرّد هذا لا يجدي شيئا ؛ ضرورة أنّ الاشتراك بحسب المعنى لا يعقل أن يلاحظ بحسب اللّفظ الّذي هو من مقولة الأصوات المباين للمعنى ، وإلّا لم يصحّ ما حكموا عليه في كثير من الموارد : من نفي الجامع بين المعنيين هذا.


مع أنّ مجرّد وجود الجامع بينهما لا يقضي بإرادتهما من حيث مناطهما الّذي هو المناط فيهما ، فلا يمكن أن يجعل الأخبار دليلا على القاعدتين ، بل هي على تقدير تسليم الجامع بينهما يدلّ على معنى عار عن مناطهما بالمرّة ، وهذا كما ترى يرجع إلى أنّ الجمع بين القاعدتين يوجب استعمال اللّفظ الدّال على الحكم في المعنيين.

ثانيها : أنّ من المعلوم ضرورة عدم إمكان اجتماع كلّ من اليقين والشّك في إحدى القاعدتين مع اليقين والشّك في الأخرى حتّى يحكم بإمكان إرادة الحكم المتعلّق بهما من لفظ واحد ؛ فإنّ عدالة زيد في يوم الجمعة مثلا لا يعقل أن يكون متعلّقا للشّك في الحدوث في يوم السّبت مثلا وللشّك في البقاء ؛ ضرورة ثبوت التّضاد بينهما.

ثالثها : ما أشرنا إلى نظيره سابقا في مسألة الأصل المثبت ، وهو مبنيّ على تسليم إمكان وجود المناط في القاعدتين في مورد واحد على البدل : من أنّ من الواضح المعلوم أنّ عموم العام إنّما هو بالقياس إلى الأفراد الواقعيّة لا الاعتباريّة ، بمعنى : أنّه لو كان ثمّة شخص خارجيّ وجزئيّ حقيقيّ له اعتبارات ينتزع منها أمور لم يجز أن يقال : إنّ العام يشمل جميع هذه الأمور ؛ ضرورة استحالة إيجاب تعدّد اللّحاظ والاعتبار تعدّد الشّيء بحسب نفس الأمر والواقع ، وإلّا لزم انقلاب الشّيء عمّا هو عليه بحسب الواقع ، وهو محال بالضّرورة من العقل.

فنقول ـ إذن تطبيقا لما ذكر على المقام ـ : أنّ أخذ العدالة في المثال المفروض ـ تارة : مقيّدة باليوم الجمعة حتّى يتحقّق من أجله اليقين والشّك المعتبران في قاعدة الشّك السّاري ، وأخرى : مطلقة معرّاة عن ملاحظة الزّمان


حتّى يتعلّق به اليقين والشّك المعتبران في الاستصحاب ـ لا يوجب تعدّد اليقين والشّك بحسب نفس الأمر والواقع ، بل الموجود في الواقع فرد من اليقين والشّك ليس إلّا ، أو فرد من اليقين وإن سلّم تعدّد الشّك واقعا بملاحظة الاعتبارين على ما يتوهّم وإن كنّا لم نتعلّقه.

وبالجملة : تعدّد اللّحاظ والاعتبار في الشّيء الواحد الشّخصي لا يوجب تكثّره خارجا الموجب لكثرته الخارجيّة ، وإنّما يوجب تكثره بحسب اللّحاظ. ومن المعلوم أنّ إرادة المتكلّم ليس تابعا لما هو من الموهومات الّتي لا واقعيّة لها بحسب الخارج.

رابعها : أنّ ما ذكر إنّما يجدي بالنّسبة إلى بعض الموارد لا جميعها ؛ فإنّ جميع موارد الاستصحاب لا يشترط فيها سبق اليقين على الشّك كما هو المعتبر في القاعدة ؛ لأنّك قد عرفت : أنّ المعتبر في الاستصحاب هو مجرّد الوجود السّابق والشّك في بقائه بعد الزّمان الّذي وجد فيه الّذي يجامع في بعض الأحيان مع حصول الشّك واليقين في زمان واحد.

خامسها : أنّ اعتبار قاعدة الشّك السّاري من حيث هي هي على خلاف الإجماع ؛ فإنّ أحدا لم يقل : بأنّ الشّك بعد اليقين ملغى ، ولم يعمل بمقتضى اليقين أصلا ، ولو حصل الشّك بعد اليقين فورا.

سادسها : وقوع التّدافع من إرادتهما معا والتّعارض الدّائمي الموجب ؛ لعدم إمكان إرادتهما كما ستقف على شرح القول فيه هذا ملخّص ما استفدناه من مطاوي كلماته من « الكتاب » وفي مجلس البحث.


المناقشة في الوجوه المذكورة عدا الوجه السادس

ولكنّك خبير بإمكان المناقشة في جميع ما ذكرناه من الوجوه عدا الوجه السّادس.

أمّا الأوّل : فللمنع من كون الجامع بين القاعدتين مجرّد اللّفظ والصّوت ، بل لكلّ من المضيّ وعدم الاعتناء بالشّك والبقاء على اليقين السّابق والالتزام بمقتضاه معنى يجامع كلّا من القاعدتين ، واستفادة كلّ منهما بمناطه إنّما هي من لوازم النّسبة إلى المورد الخاص ، لا أن تكون مرادة من اللّفظ حتّى يقال : إنّ إرادتهما بمناطهما الملحوظ فيهما من اللّفظ موجب للزوم ما ذكره من المحاذير فتدبّر ، وبدونه لا يجدي نفعا.

وأمّا الثّاني : فلأنّ أحدا لم يدّع اجتماع القاعدتين في شخص المقام حتّى يورد عليه بما ذكر في الإيراد الثّاني ، بل المدّعى شمول الأخبار للقاعدتين أينما وجد كلّ واحد منهما فإذا تيقّن الطّهارة وشكّ في بقائها فيحكم بمقتضى الأخبار بوجوب الالتزام بها ، وإذا شكّ في عدالة زيد بعد اليقين بها في زمان بالشّك السّاري يحكم أيضا بعدم الاعتناء به ، وكذا في سائر المقامات.

وبالجملة : لم نر أحدا حكم باجتماع اليقين والشّك بالمعنيين في مورد واحد ولم يحرز أحد النّزاع فيه ، بل من حكم بدلالة الأخبار على اعتبارهم حكم بها أينما وجدتا بحسب الموارد المتعدّدة.

وممّا ذكرنا يندفع الإيراد الثّالث أيضا والوجه فيه ظاهر.


وأمّا الرّابع : فلأنّ من يقول بدلالتها على اعتبار القاعدتين لا يقول بدلالتها على لزوم تقدّم اليقين على الشّك حتّى يورد عليه بما ذكر ، بل يقول بدلالتها على لزوم الأخذ باليقين بالشّيء وعدم الاعتناء بالشّك فيه سواء وجدا معا أو تقدّم أحدهما على الآخر ، مع أنّ له أن يتمّ المدّعى بالإجماع المركّب فتأمّل.

وأمّا الخامس : فلأنّ قيام الإجماع على عدم اعتبار قاعدة الشّك السّاري أينما وجد لا يضرّ بالحكم باعتبارها فيما لم يقم فيه إجماع على عدم اعتبارها ، مع أنّ كلامنا في الإمكان وعدمه لا في الوقوع وعدمه.

ومنه يظهر عدم ورود ما يقال عليه : بأنّ الإجماع إنّما انعقد على عدم اعتبار القاعدة من حيث هي مطلقا حتّى في مورد العمل على اليقين السّابق ؛ فإنّ عدم الاعتناء بالشّك في هذه الصّورة إنّما هو من جهة ما دلّ على عدم الاعتناء بالشّك بعد الفراغ سواء سبق باليقين أو لا.

هذا ملخّص ما يقال علي ما ذكره ( دام ظلّه ) من الإشكالات وبقي بعض إشكالات أخر على خصوصيّات فيه ستقف عليه بعد نقله.


(٣١٤) قوله : ( واختلاف مؤدّى الإبقاءين (١) ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٥ )

مناقشة دعوى الاستاذ في عدم إرادة القاعدتين

من الحديث المزبور وتوجيهه لها

أقول : قد يورد عليه : بأنّ اختلاف مؤدّى الإبقاءين إن لم يمنع من إرادتهما من العبارة الّتي ذكرها ( دام ظلّه ) فلا يمكن أن يمنع من قوله : « من كان على يقين فشكّ ... (٢) » الحديث. وقوله : « لا تنقض اليقين بالشّك » (٣) الحديث ، وغيرهما من الأخبار والعبائر ؛ ضرورة أنّه إن لم يكن بين المعنيين جامع يحكم بإرادتهما من إرادته من الكلام فلا يجوز إرادتهما بناء على منع استعمال اللّفظ في أكثر من معنى من أيّ كلام فرض ، وإن كان بينهما جامع على الوجه المذكور أمكن إرادتهما من أيّ لفظ فرض ؛ ضرورة أنّ خصوصيّات الألفاظ والأصوات لا يعقل أن يكون لها مدخليّة في الاستحالة والإمكان.

__________________

(*) موافقة لنسخة ( ظ ) من ط مؤتمر تكريم الشيخ كما في الفرائد : ج ٣ / ٣٠٥ وفي النسخ المعتمدة : القاعدتين.

(١) فقرة من حديث الأربعمائة الذي أورده الصدوق في الخصال : ٦١٩ ، عنه الوسائل : ج ١ / ٢٤٧ الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، باب « انه لا ينقض الوضوء إلا اليقين بحصول الحدث دون الظن والشك » ـ ح ٦.

(٢) لم نجدها بهذا اللفظ في جوامع الحديث كما نبّهنا على ذلك فيما مرّ. نعم الموجود منها : « ولا تنقض اليقين أبدا بالشك وإنّما تنقضه بيقين آخر » انظر التهذيب : ج ١ / ٨ ـ ح ١١.

عنه الوسائل : ج ١ / ٢٤٥ الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ـ ح ١.


غاية الأمر : أن يكون بعض الألفاظ ظاهرا أو نصّا في أحد الفردين وبعضها الآخر ظاهرا في الفرد الآخر وبعضها غير ظاهر في أحدهما ، لكن مجرّد هذا لا يعقل أن يكون سببا لاستحالة القدر المشترك حتّى في صورة عدم نصب القرينة فضلا عن صورة نصبها على إرادته.

وبالجملة : ما ذكره ممّا لم يعلم له معنى محصّل.

فإن قيل : إنّ المراد من إرادتهما من كلام واحد هو إرادتهما من أمرين في كلام واحد.

ففيه : أنّ هذا لا يحتاج إلى الاستدراك ولم يتأمّل في جوازه جاهل فضلا عن عالم هذا. مضافا إلى كونه خلاف ظاهر ما ذكره ( دام ظلّه ) إن لم يكن خلاف نصّه ؛ فإنّ من قوله : « لا عبرة به » (١) لا بدّ من أن يراد المعنيان كما هو واضح هذا.

وكان الأستاذ العلّامة يوجّه ما ذكره : بأن المراد من إمكان إرادتهما من كلام واحد ليس هو إرادتهما من حيث المناط المعتبر فيهما بحيث يمكن الاستدلال به على القاعدتين ويجعل مدركا لهما ، بل بمعنى إرادة معنى قدر مشترك لا ربط له بالقاعدتين من حيث المناط المتغير فيهما يجتمع معهما بحسب المورد ولو في أغلب الموارد هذا.

ولكنّك خبير بما فيه أيضا :

أمّا أوّلا : فبأنّه خروج عن الفرض ولا يحتاج إلى الاستدراك ومخالف لظاهر قوله في « الكتاب » إن لم يكن مخالفا لصريحه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٠٥.


وأمّا ثانيا : فبأنّ تخصيص الإمكان بهذا المعنى بالعبارة الّتي ذكرها ممّا لا معنى له ، غاية الأمر : أن يكون إرادة هذا المعنى من قوله : « من كان على يقين فشكّ ... » الحديث. ونحوه خلاف الظّاهر أو الصّريح ، وهو لا يوجب استحالة الإرادة كما لا يخفى ، وبالجملة : ما ذكره ( دام ظلّه ) لا يخلو عن مسامحة.

(٣١٥) قوله : ( قلت : لا ريب في اتّحاد متعلّقي الشّك واليقين ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٦ )

أقول : قد عرفت ما في هذا الجواب في طيّ كلماتنا السّابقة ، وأنّه إنّما يكون جوابا على تقدير كون المراد من السّؤال هو دعوى وجود القاعدتين في مورد واحد ، وهو ليس كذلك ، بل المراد هو دعوى كون المضي بمقتضى اليقين السّابق أمرا يجامع كلّا من القاعدتين في مورد وجودها ، ويكون مفاده بملاحظة التّعلّق ٣ / ١٨١ بمورد معنى إحدى القاعدتين وبملاحظة تعلّقه بمورد آخر معنى الأخرى ، فيكون المضي كلفظ الصّلح له معنى قدر مشترك يحصل منه معاني بحسب التّعلّقات والإضافات.

فكما أنّ إفادة الصّلح نقل العين في مورد ، ونقل المنفعة في مورد آخر ، والإبراء في الثّالث ، إلى غير ذلك لا يوجب تعدّد معنى لفظ الصّلح والحكم بكونه موضوعا بالاشتراك اللّفظي لمعنى البيع والإجارة والإبراء إلى غير ذلك ، بل معناه أمر واحد ، وهو التّسالم الّذي يحصل منه هذه الأمور بحسب التّعلّقات ، كذلك المراد من وجوب المضي على اليقين السّابق أمر واحد لا تكثّر فيه أصلا ، وإنّما يحصل الاختلاف بحسب الموارد من جهة التّعلّقات بحكم العرف.

ومثل ما لو قال المولى لعبده : « إنّ إكرام زيد العالم هكذا ، وعمرو العالم


هكذا ، وبكر العالم هكذا ، وهكذا » ثمّ قال له : أكرم كلّ عالم دخل عليك » ؛ فإنّه لا يرتاب أحد أنّه لم يستعمل قوله : « أكرم » في أكثر من معنى ، فيكون الحال في المقام أيضا كذلك هذا.

مع أنّه يمكن الجمع بين القاعدتين في مورد واحد لكن لا على سبيل الفعليّة بالنّسبة إلى كلّ واحد منهما ، بل على سبيل التّقدير بالنّسبة إلى الاستصحاب على بعض التقادير فتدبّر.

(٣١٦) قوله : ( وقس على هذا سائر الأخبار الدّالّة على عدم ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٧ )

أقول : قد عرفت سابقا ظهور الأخبار بأسرها في وحدة متعلّق اليقين والشّك بل صراحتها في ذلك ؛ لأنّ الشّك فيما لا دخل له بالمتيقّن السّابق لا يتوهّم كونه ناقضا حتّى يرد الأخبار على نفيه ، فلو أريد منها الاستصحاب فلا بدّ من أن يجعل متعلّق اليقين والشّك نفس المتيقّن بقول مطلق معرّاة عن التّقييد بالزّمان السّابق فيه لا المتيقّن السّابق بملاحظة تقييده بالزّمان السّابق ، فلا بدّ أن يكون المراد من الشّيء المتيقّن هو ذاته المعرّاة من اعتبار الزّمان السّابق حتّى يرجع الشّك فيه إلى الشّك في البقاء فينطبق على الاستصحاب.

وأن يجعل المراد منه المتيقّن المقيّد بالزّمان السّابق ، فيكون الشّك متعلّقا به بهذه الملاحظة ، فعلى الأوّل : يكون الأخبار مختصّة بالاستصحاب ، وعلى الثّاني : تكون مختصّة بقاعدة الشّك السّاري كما لا يخفى ، فيكون سائر الأخبار كقوله : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه » في عدم إمكان إرادة المعنيين منها هذا.


ولكنّك خبير بأنّ العبارة قاصرة عن إفادة المراد فتدبّر.

(٣١٧) قوله : ( ثمّ إذا ثبت عدم جواز إرادة المعنيين ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٠٨ )

أقول : قد عرفت عند التّمسّك بالأخبار على اعتبار الاستصحاب الكلام في إثبات ظهورها في الاستصحاب ، لا في غيرها حتّى الأخبار العامّة حتّى قوله : « من كان على يقين فشكّ ... » فضلا عن غيره ممّا كان واردا في خصوص مورد الاستصحاب فراجع.

(٣١٨) قوله : ( أمّا لو أريد منها إثبات عدالته ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٠٩ )

أقول : قد يورد على ما ذكره ( دام ظلّه العالي ) : بأنّه إن كان المراد من الحكم بالاستمرار إلى زمان الشّك إنشاء استمرار ما حكم بحدوثه ظاهرا بإنشاء مستقلّ فيكون من الاستصحاب في الحكم الظّاهري ـ كما تقدّم في تمسّك بعض أفاضل من تأخّر بما دلّ على طهارة الأشياء وحليّتها ـ فلا يكون عدم جوازه مبنيّا على عدم جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ، بل إرادة الإنشاءين من الأمر الواحد

__________________

(١) قال المحقق شيخ الكفاية الخراساني قدس‌سره :

« قد عرفت : انّ الجمع بين القاعدة والاستصحاب ثمّة لا يوجب استعمال الكلام في المعنيين ، ولا يبعد أن يكون الأمر هاهنا أوضح ، فإنّ الشّكّ المتعلّق بما كان اليقين متعلّقا به على قسمين : ( أحدهما ) : ما يتعلّق بعدالة زيد يوم الجمعة مثلا وكان اليقين متعلّقا بها ، مع القطع بعدالته بعد اليوم أو فسقه. ( ثانيهما ) : ما يتعلّق بعدالته فيه وفيما بعده ، فالنّهي عن نقض اليقين بالشّكّ يعمّ بإطلاقه النّقض لكلّ من الشّكّين وقضيّة عدم نقضه بالثّاني المعاملة مع مشكوكه معاملة اليقين بترتّب آثار العدالة عليه ، وربّما أيّد ذلك بالاستدراك بقوله عليه السلام : « ولكن تنقضه بيقين آخر فتدبّر فانّه دقيق » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٨٩.


محال ، ولو قيل بجواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى من جهة استلزامه تقدّم الشّيء على نفسه على ما عرفت تفصيل القول فيه سابقا.

وإن كان المراد منه الحكم بوجوب الالتزام بآثار وجود الشّيء في الزّمان السّابق واللّاحق بعد اليقين بوجوده في زمان مّا لم يقطع بارتفاعه ولو تعلّق الشّك بأصل حدوثه ، كما هو الظّاهر من كلامه إن لم يكن صريحه حسب ما ستقف عليه : من أنّه أحد معاني القاعدة.

ففيه : أنّ إرادة هذا المعنى لا يوجب استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ؛ لإمكان أن يراد من جميع الأخبار عدم الاعتناء بالشّك بعد اليقين ووجوب الالتزام بآثار الشّيء الّذي تعلّق به اليقين إلى أن يقطع بخلافه.

(٣١٩) قوله : ( ثمّ لو سلّمنا دلالة الرّوايات على ما يشمل القاعدتين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٠٩ )

أقول : لا يخفى عليك وضوح ما ذكره ( دام ظلّه ) لأنّه بعد سريان الشّك إلى

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« لا نسلّم ان حصول التعارض في بعض أفراد القاعدتين مسقط للإستدلال بالروايات على القاعدة الثانية ، بل اللازم سقوطهما في مورد التعارض خاصة لو لم يكن ترجيح ، وليس ذلك إلّا كتعارض الإستصحابين بناء على اختصاص الأخبار بالإستصحاب إذا لم يكن أحدهما حاكما على الأخر.

نعم ، لو كان التعارض المذكور حاصلا في جميع موارد القاعدة كان مسقطا للإستدلال لها بهذه الأخبار ، وليس كذلك ؛ لأنّه قد لا يعلم الحالة السابقة على اليقين المبدّل بالشك حتى يجري استصحابها » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٤٤.


ما تعلّق به اليقين يتحقّق مورد الاستصحاب والقاعدة معا ؛ فإنّ الشّك فيه من حيث كونه مسبوقا بالقطع بالعدم الأزلي يكون مجرى لاستصحاب العدم الأزلي ومن حيث كونه مسبوقا بالاعتقاد بالوجود في زمان تعلّق به الشّك في زمان لا حق عليه يكون مجرى القاعدة ، فالشّك في الفرض معارض لفردين من اليقين باعتبار ما فيه من الاحتمالين والطّرفين ، فمن حيث احتمال الوجود معارض باليقين بالعدم الأزليّ ، ومن حيث احتمال العدم معارض باليقين بالوجود.

لا يقال : اليقين بالعدم الأزلي قد انتقض باليقين بالوجود في زمان بالفرض فلا مجرى للاستصحاب إذن وتكون القاعدة سليمة عن المعارض والمنافي.

لأنّا نقول : نمنع من انتقاض اليقين بالعدم الأزلي ومنعه عن جريان الاستصحاب ؛ فإنّه إن أريد من الحكم بالانتقاض الحكم به حين اليقين بالوجود.

ففيه : أنّه لم يحكم أحد بجريان الاستصحاب في حقّ المعتقد حين الاعتقاد ، كما أنّه لا يمكن لأحد الحكم بجريان القاعدة حين اليقين ؛ فإنّ جريان كلّ منهما لا يمكن بدون الشّك.

وإن أريد منه الحكم به حين الشّك المتعلّق بنفس ما تيقّن سابقا بطريق السّريان الّذي هو زمان الحكم بجريان الاستصحاب والقاعدة معا.

ففيه : أنّه لا وجه للحكم بانتقاض اليقين بالعدم الأزلي ؛ فإنّ الشّك في مطابقة الاعتقاد السّابق عين الشّك في انتقاض العدم الأزلي كما هو واضح ظاهر. ٣ / ١٨٢

وبالجملة : قد عرفت سابقا : أنّ اليقين بالوجود إذا كان مقيّدا بزمان ـ وإن كان مطابقا للواقع ـ لا ينقض العدم الأزلي بقول مطلق فضلا عمّا يشكّ في كونه مطابقا للواقع أو لا.


فإن قلت : ستعرف بعد هذا : أنّه على فرض تماميّة القاعدة وقيام الدّليل عليها يكون مقدّما على الاستصحاب : إمّا من باب الحكومة ـ كما يقتضيه اعتبارها على أحد الوجهين ـ أو من باب التّخصيص ـ على ما هو قضيّة اعتبارها على الوجه الآخر ـ فالحكم باعتبار القاعدة لا يوجب التّعارض بينها وبين الاستصحاب المسقط للقاعدة عن الاعتبار.

قلت : هذا الكلام ممّا لا يصدر عن جاهل فضلا عن العالم ؛ فإنّ الحكم بحكومة القاعدة على الاستصحاب ، أو بكونها مخصّصة لعموم ما دلّ على الأخذ بالحالة السّابقة إنّما هو فيما إذا جعل الدّليل على اعتبار القاعدة أمر آخر غير عموم الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ، وإلّا ـ كما هو المفروض ـ فلا يمكن أن يجعل القاعدة حاكمة ، أو مخصّصة كما هو غير مخفيّ على من له أدنى دراية (١).

(٣٢٠) قوله : ( مضافا إلى ما ربّما يدّعى من ظهور الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا الكلام منه ( دام ظلّه ) يشهد : بأنّ ظهور الأخبار

__________________

(١) علّق عليه الفاضل الكرماني الشيخ رحمة الله قدس ‌سره قائلا :

« أقول : قد أتى أستاذنا المحقق في تقريب ما أورده الشيخ الأعظم على شمول الأخبار للقاعدتين بما لا مزيد عليه ، والذي أنا عليه هو الشمول وقد انتقض العدم الأزلي باليقين بالوجود في المثال ، والشك الطاري مسلوب الأثر بالخبر فمن أين عاد العدم الأزلي بعد انقطاعه حسّا وشرعا إلى حكمه قبل انقطاعه من كونه مجرى الإستصحاب؟

ولو لا خروج التعليق عمّا التزمناه من الإيجاز لزدتك ما تقرّ به عينك ، فاجعل المداد على هذا المقدار تكن من ذوي الأبصار » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّى : ٤٠٥.


في الشّك في البقاء غير مجزوم به عنده ، وكلامه في هذا المطلب مضطرب فراجع إلى مجموع كلماته وتتبّع فيها حتّى تقف على حقيقة الأمر.

مدرك قاعدة اليقين سوى عموم الأخبار

(٣٢١) قوله : ( غير عموم هذه الأخبار لها ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا إشارة إلى أن ما تقدّم من الكلام سابقا في دلالة الأخبار على القاعدة وعدمها إنّما هو بحسب العموم ، فلا ينافي التّكلّم في دلالتها عليها في المقام من حيث الخصوص ، ولا يلزم عليه تكرار أصلا هذا.

ولكنّك خبير بأنّه قد تقدّم منه ( دام ظلّه ) الكلام في عدم إمكان دلالة الأخبار على القاعدة ببعض المعاني ولو أريد خصوص القاعدة أيضا.

(٣٢٢) قوله : ( إمّا أن يكون إثبات حدوث المشكوك فيه ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٠ )

أقول : لا يكاد أن يخفى الفرق بين هذه المعاني على من له أدنى دراية.

أمّا الفرق بين المعنى الأوّل والأخيرين فظاهر ؛ لأنّ المقصود منه الحكم بترتيب آثار الحدوث والبقاء جميعا وفيهما ليس المقصود الحكم بترتيب آثار البقاء أصلا.

وأمّا الفرق بين المعنى الثّاني والثّالث فهو : أنّ المقصود في الثّاني هو الحكم بحدوث المشكوك واقعا بالنّسبة إلى جميع ما يترتّب عليه من الآثار حتّى بالنّسبة إلى ما يترتّب عليه في الزّمان اللّاحق ، بمعنى : أنّه لو كان لحدوث الشّيء أثر رتّب عليه في الزّمان المتأخّر حكم بترتّبه عليه بناء على المعنى الثّاني.


وهذا بخلاف المعنى الثّالث ؛ فإنّ المقصود منه ليس إلّا الحكم بصحّة ما يترتّب سابقا على المتيقّن من الأحكام والآثار ، وأمّا الحكم بحدوث المشكوك بحيث يترتّب عليه ما رتّب شرعا عليه في الزّمان اللّاحق فلا ، فهذه المعاني كما ترى مترتّبة بحسب العموم والخصوص ؛ لأنّ كلّ لا حق أخصّ من سابقه (١).

(٣٢٣) قوله : ( فإن أريد الأوّل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١١ )

أقول : قد يورد عليه : بأنّه إذا فرض عدم إمكان الجمع بين الحكم بالبقاء والحدوث فكيف يستظهر عدم الدّليل عليه؟ بل ينبغي القطع بعدم إمكان قيام دليل عليه.

ولكنّك خبير بإمكان التّفصّي عن هذا الإيراد : بأنّ عدم إمكان الجمع بين إرادتهما من كلام واحد وإنشاء واحد لا ينافي الحكم بثبوت المعنيين ، فقيام الدّليلين عليهما أحدهما : يدلّ على وجوب الحكم بالحدوث. ثانيهما : يدلّ على لزوم الحكم بالبقاء كما لا يخفى.

(٣٢٤) قوله : ( لكنّه لا يتمّ إلّا على الأصل المثبت ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ إثبات البقاء ظاهرا بإثبات الحدوث كذلك من الأصل المثبت ؛ فإن ترتّب البقاء على الحدوث على تقدير ثبوته ليس من أحكامه الشّرعيّة ، والأصل المثبت ليس مختصّا بالاستصحاب ، بل كلّ أصل يراد به إثبات

__________________

(١) وعلّق عليه الفاضل الكرماني الشيخ رحمة الله رحمه‌الله قائلا :

« ينبغي أن يراد من زمان الحدوث زمان اليقين ولو طال بعد الحدوث ومن زمان البقاء زمان حصول الشك ولا يكاد يخفى وجهه على من له لبّ غير مشوب فافتهم » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشّي : ٤٠٦.


واسطة ملازمة لما يترتّب عليها الحكم الشّرعي يسمّى بالأصل المثبت سواء كان في الأحكام أو الموضوعات وسواء كان استصحابا أو غيره من الأصول ، كما أنّ نفيه عندنا ليس مختصّا بالاستصحاب أيضا لاتّحاد مناط المنع كما هو واضح لمن له أدنى دراية.

(٣٢٥) قوله : ( لأنّه على تقدير الدّلالة لا يدلّ ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١١ )

أقول : لا يخفى عليك صحّة ما ذكره ( دام ظلّه ) ؛ فإنّ المفروض كون محلّ الوجود المشكوك في الزّمان الثّاني الّذي يسمّى بالبقاء عين زمان الشّك كما هو واضح ، فلا يمكن أن يقال بتجاوز محلّه ، اللهمّ إلّا أن يكون هناك عمل مركّب اشترط فيه شيء يشك في أثناء العمل في بقائه على تقدير الحدوث بحيث يكون محلّ إحرازه حتّى للأجزاء اللّاحقة قبل الدّخول في العمل كالطّهارة للصّلاة فتأمّل.

(٣٢٦) قوله : ( وأضعف منه الاستدلال ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١١ )

أقول : لا يخفى عليك صحّة ما ذكره ( دام ظلّه ) ؛ إذ لا مستند لهذا الأصل إلّا دعوى أصالة الصّحة في جميع الموجودات حتّى الاعتقاد على ما ذكره فقيه عصره في « كشف الغطاء » (١) وستقف على فساد هذه الدّعوى وعدم مستند لها.

(٣٢٧) قوله : ( وحاصل الكلام في هذا المقام ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٣ )

أقول : حاصل ما ذكره ( دام ظلّه ) هو أنّ المحصّل من جميع ما ذكر : عدم

__________________

(١) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء : ج ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠١.


دليل على اعتبار مجرّد الاعتقاد بشيء سابقا مع الشّك في مطابقته للواقع وعدمه من حيث هو هو مطلقا ، سواء كان في الأحكام أو الموضوعات ، حصل عن قصور أو تقصير ، وسواء كان في الموضوع الاجتهادي ، أو التّقليدي ، أو غيرهما.

وهذا ما يقال : إنّ الشّك السّاري لا اعتبار به. نعم ، قد توجد في بعض موارد تلك القاعدة قاعدة أخرى تقتضي البناء على مقتضى تلك القاعدة ببعض معانيها ، ٣ / ١٨٣ لكن لا دخل لها بتلك القاعدة ؛ لأنّ مناطها لا تعلّق له بها ، وهذا ليس معنى اعتبار اليقين السّابق من حيث هو هو ، ولا دخل له به ، وإلّا لجاز التّمسك على اعتبار كثير من الأمور بوجود بعض ما حكم باعتباره في بعض موارده ، وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه.

ثمّ إنّ هنا توهّما آخر لم يشر الأستاذ العلّامة إلى فساده وهو : جريان الاستصحاب في الحكم الاعتقادي الظّاهري المتحقّق باليقين السّابق ، ويسمّى في لسان جماعة ممّن عاصرناه أو قارب عصرنا : بالاستصحاب العرضي.

وهو كما ترى ؛ فإنّ الحكم الظّاهري الثّابت في صورة الاعتقاد على تقدير ثبوته مترتّب على نفس الاعتقاد فبقاؤه مع ارتفاع الاعتقاد ممّا لا يعقل له معنى ، وإلّا لزم قيام العرض بعد معروضه في غير موضوع ، وكلاهما ممّا يشهد بداهة العقل باستحالته (١).

__________________

(١) وعلّق عليه تلميذه الفاضل الكرماني قدس‌سره قائلا :

« أقول : إن ثبت انّ الإعتقاد كما انه علّة لحدوث الحكم أو تنجّزه علّة لبقاءه فهو وإلّا فيمكن أن يقال : علّة البقاء هو الإستصحاب وزوال الإعتقاد لا يضرّ بالبقاء بعد الحدوث أو التنجّز.


* الثالث ممّا يعتبر في جريان الاستصحاب :

إشتراط عدم العلم بالبقاء أو الإرتفاع

(٣٢٨) قوله : ( الثّالث : أن يكون كلّ منها (١) ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٣ )

الموضوع في جميع الأدلّة والأصول يرتفع بحصول العلم في مواردها

أقول : لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب مع وجود العلم في مورده سواء كان على طبق الحالة السّابقة أو على خلافها ، بل لا يعقل الإشكال في ذلك ؛ ضرورة استحالة تعبّد الشارع المكلّف مع علمه على طبق علمه ، أو على خلافه ـ على ما عرفت تفصيل القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة ـ سواء في ذلك على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، أو الظّن.

وهذا ليس مختصّا بالاستصحاب ، بل الموضوع في جميع الأدلّة والأصول

__________________

وما ذكره قدس‌سره : من قيام العرض بعد معروضه في غير الموضوع.

فيه : ان الإعتقاد عرض فكيف يكون موضوعا للعرض فكما يمتنع قيام العرض بلا معروض وفي غير موضوع يمتنع قيام العرض بالعرض.

فالأولى : بكلّ ذي فنّ ان لا يخرج من حدود فنّه ، ومع ذلك ما علّقه قدس‌سره على الفرائد هو أتقن ما رأيناه من التعاليق عليه ، جزاه الله خير الجزاء ورفعه أعلى مدارج العلماء » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشّي : ٤٠٧.

(١) كذا وفي الكتاب « من ».


يرتفع بعد حصول العلم في مواردها ؛ لأنّها بأسرها مجعولة في موضوع عدم العلم ؛ إذ التّعميم محال.

فإن شئت قلت : إنّ الشّك مأخوذ في الاستصحاب مطلقا وارتفاعه بالعلم ضروريّ ، فالدّليل العلمي مطلقا وارد على الاستصحاب بالضّرورة ، ولم يتوهّم أحد خلاف ما ذكرنا.

وأمّا ما يتراءى من جمعهم في التّمسّك بين الدّليل العلمي والاستصحاب كثيرا مّا ، أو غير الاستصحاب من الأصول والأدلّة الظنيّة ؛ فإنّما هو مبنيّ على الإغماض عن وجود الدّليل العلمي في المسألة ـ كما عرفت شرح القول فيه في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ فعدم قيام الدّليل العلمي في المسألة مطلقا شرط في جريان الاستصحاب.

(٣٢٩) قوله : ( إنّما الكلام فيما أقامه الشّارع مقام العلم بالواقع ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٣ )

أقول : لا يخفى عليك ما في هذا الكلام من التّسامح ؛ لأنّ قيام الشّيء مقام العلم لا يوجب حصول العلم منه بالبقاء والارتفاع فيما قام عليه. والعلم بالحجيّة ، أو وجوب العمل ليس له دخل بالعلم بالارتفاع أو البقاء.

ومنه يظهر فساد ما وقع من بعض : من أنّ المراد باليقين ، أو العلم في أدلّة الأصول أعمّ من العلم الوجداني والشّرعي ، فمفاد الدّليل الظنّي المعتبر وإن لم يكن علما بالمعنى الأوّل ، إلّا أنّه علم بالمعنى الثّاني.

ثمّ إنّ المقصود ممّا أقامه الشّارع مقام العلم بالواقع هو كلّ أمر اعتبره الشارع من حيث كشفه الظّني عن الواقع ولو نوعا ، لا كلّ ما أمر بوجوب سلوكه


ولو لم يكن من الحيثيّة المذكورة ؛ فإنّه خارج عن محلّ كلامه هنا.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكره ( دام ظلّه ) بين أن يكون الدّليل قائما على خلاف الحالة السّابقة ، أو على طبقها ؛ فإنّ التّحقيق عدم جريان الاستصحاب في الثّاني أيضا على ما سبق القول فيه ، بل لا معنى للفرق بينهما عند التّأمّل ، وإن كان ربّما يتوهّم الفرق بينهما بما ستقف على فساده وما ذكرنا ؛ وإن كان ربّما يقال : إنّه لا يظهر من كلام الأستاذ العلّامة إلّا أنّه قد صرّح به في مجلس البحث جازما به.

(٣٣٠) قوله : ( لا ريب في العمل به دون الحالة السّابقة لكنّ الشّأن ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٤ )

أقول : بل لم يخالف فيه أحد على التّحقيق ؛ فإنّه وإن كان ربّما يظهر من جماعة كالسيّد السّند المتقدّم ذكره في طيّ الشّبهات والفاضل القميّ وغيرهما خلاف ذلك وأنّه قد يعمل بها دونه ، إلّا أنّ مقتضى التّأمّل في كلامهم عدم إرادتهم ما ينافي ما نحن فيه على ما عرفت في توجيه كلام السيّد المتقدّم ذكره وستعرف في توجيه كلام الفاضل القمّي رحمه‌الله.

ثمّ إنّ ما يحتمل أن يكون وجها للعمل به دون الحالة السّابقة وجوه ذكرها الأستاذ العلّامة ، وذهب إلى كلّ فريق في الحكم بالتّقديم.

أحدها : أن يكون العمل به من باب تخصيص عموم أدلّة الاستصحاب ، وهذا يظهر من جماعة.

ثانيها : من باب التّخصّص وهو ارتفاع موضوع الاستصحاب حقيقة لقيام


الدّليل. المعتبر على خلافه كما في الدّليل العلمي (١) ، ولكن تسمية هذا المعنى

__________________

(١) قال الأصولي المحقق الآخوند الخراساني قدس‌سره معلّقا على قول المصنّف قدس‌سره : ( ولا تخصّصا بمعنى خروج المورد ... إلى آخره ) :

« لا يخفى ان مجرد الدليل على الخلاف وإن لم يوجب خروج المورد عن مورد الإستصحاب إلا أنه يخرجه حقيقة عمّا تعلّق به النهي في أخبار الباب من النقض بالشك ؛ فإنه لا يكون معه نقضا بالشك ، بل بالدليل ، فلا يعمه النهي فيها كما لا يخفى.

وليس أفراد العام هاهنا هو أفراد الشك واليقين كي يقال : ان الدليل العلمي إنما يكون مزيلا للشك بوجوده ، بل أفراده أفراد نقض اليقين بالشك ، والدليل المعتبر ولو لم يكن علميّا يكون موجبا لأن لا يكون النقض بالشك ولو مع الشك ، بل بالدليل*.


__________________

اليقين نفسه ، فلا ينبغي أن يرتاب ان خروج موارد الأمارات المعتبرة من باب التمحيص [] وإن كان المراد منه أخصّ من ذلك وهو ما لم يثبت اعتباره ، ومن اليقين أعمّ منه وهو ما ثبت اعتباره كان خروجها من باب التخصص.

وأمّا الحكومة المخترعة من الشيخ الأعظم فالمتكفّل ببيانها بيانه » إنتهى.

أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد المحشي : ٤٠٧.

إن قلت : نعم لو قلنا باعتباره مطلقا ولو في مورد الاستصحاب ، لكنّه بعد محلّ الإشكال.

قلت : لا مجال للإشكال في اعتباره ، لعموم أدلّة اعتباره بلا مخصّص إلّا على وجه دائر ، فانّه لا وجه لتخصيصها بذلك إلّا شمول عموم الخطاب للمورد معه ، ولا يكاد يشمل إلّا إذا كان نقضا بالدّليل كما عرفت ، وهو يتوقّف على تخصيص دليل الاعتبار ، والمفروض انّه لا وجه له أصلا إلّا شمول العموم للمورد فدار كما لا يخفى.

وبالجملة : العمل بالدّليل على خلاف اليقين عمل بعموم دليل اعتباره من دون لزوم محذور مخالفة دليل ، (١)

بخلاف العمل بالاستصحاب ، فانّه يستلزم إمّا تخصيص العموم بلا وجه أو بوجه دائر ، فظهر أنّ العمل به انّما هو من باب تخصيص دليل الإستصحاب ، وإلّا فمن الواضح انّه لا تعرض للدّليل ، ولا لدليل اعتباره بمدلولهما اللّفظي لبيان حال الاستصحاب ، كما هو معنى الحكومة على ما أفاده في التّعادل والتّرجيح كي يكون العمل بالدليل دونه من باب حكومته أو حكومة دليله على دليله ، وليس إلغاء الاحتمال المخالف المخالف لما قامت به البيّنة ورفع اليد من آثاره الّتي منها الاستصحاب إلّا ملازما لمعنى دليل اعتبارها عن تصديقها ووجوب العمل على طبقها ، ضرورة انّ ذلك يلازم رفع اليد عن العمل على خلافها ، كما انّ وجوب العمل على وفق الحالة السابقة يلازم أيضا عدم وجوب العمل على خلافها وهو مؤدّي البيّنة كما لا يخفى ، فيكون كلّ منهما ينفي الآخر بملاك ينفيه به الآخر وهو المضادة والمنافاة بين إيجاب العمل على وفق احتمال شيء ، وبين إيجابه على طبق احتمال نقيضه


__________________

من غير تفاوت في ذلك بين تفاوتهما بحسب لسان دليلهما وعدم تفاوتهما ، لا أن يكون أحدهما نافيا بمدلوله اللّفظي ، فيكون حاكما دون الآخر ، فلو لا ما ذكرنا من وجه التقديم ، لا يندفع مغالطة المعارضة بينهما أصلا كما لا يخفي.

لا يقال : قضيّة قوله في بعض أخبار الباب « ولكنّه تنقضه بيقين آخر » هو النّهي عن النّقض بغير اليقين والدّليل المعتبر غير موجب لليقين مطلقا ، فكيف يقدّم كذلك.

لأنّا نقول : لا محالة يكون الدّليل موجبا لليقين ، غاية الأمر لا بالعناوين الأوّليّة للأشياء ، بل بعناوينها الطّارية الثّانويّة مثل كونه قام على وجوبه أو حرمته خبر العدل ، أو قامت البيّنة على ملكيّته أو نجاسته بالملاقاة ، إلى غير ذلك من العناوين المنتزعة من سائر الأمارات ، وبأدلة اعتبارها علم أحكام هذه العناوين بلا كلام ، فلا يكون نقض اليقين إلّا باليقين بالخلاف ، ولا منافاة بين الشّكّ فيه من وجه والقطع من وجه آخر.

وبذلك انقدح وجه تقديم الأمارات على سائر الأصول ، وذلك لأنّها أحكام لما شكّ في حكمه ولم يعلم بوجوبه أو حرمته بوجه ، ضرورة أنّ ما علم حكمه ولو من وجه ليس محكوما بالحلّيّة بكلّ شيء لك حلا مثلا ، وقد علم بوجه ، وببعض العناوين حكم المشكوك عند قيام الأمارة ، فما قامت الأمارة المعتبرة على حرمته أو خمريته قد عرفت حرمته ، فدخل في الغاية فلا يعمّه حكم المعنى في « كلّ شيء لك حلال » كما لا يخفى.

إن قلت : الأمارات في قبال الأصول إنّما يكون موجبة للقطع لو كانت معتبرة في هذا الحال ، وهو بعد محلّ الإشكال.

قلت : إنّ عموم دليل اعتبارها يقتضي الاعتبار في قبالها كما في سائر الأحوال ، ولا وجه لتخصيصه في هذا الحال إلّا على وجه محال.

وبذلك تندفع أيضا : مغالطة معارضة ما ذكرنا : بأنّه لا مجال للأمارة أيضا ، مع القطع بالحكم ، وقد قطع بانّ مشكوك الحرمة حلال لعموم « كلّ شيء » فإنّ عمومه لا يعمّه مع الأمارة


تخصّصا لا تخلو عن مسامحة ، بل المتعيّن تسميته بالورود حسب ما سمّاه به ( دام ظلّه ) في غير مورد من كلماته ، واعتذر عنه : بأنّ المراد من التّخصّص في المقام هو عدم الشّمول ولو بملاحظة الدّليل القائم في المسألة ، لا عدم الشّمول الذّاتي كما في قوله : « أكرم العلماء » الغير الشّامل للجهّال.

ثالثها : من باب حكومة ما دلّ على اعتباره على أدلّة الاستصحاب.

__________________

المعتبرة إلّا على وجه محال.

ثمّ إنّ وجه تقديم الاستصحاب على سائر الأصول هو بعينه وجه تقديم الأمارات عليه ، فإنّ المشكوك معه يكون من وجه وبعنوان ممّا علم حكمه وإن شكّ فيه بعنوان آخر ، وموضوع الأصول هو المشكوك من جميع الجهات.

وقد انقدح اندفاع مغالطة المعارضة هاهنا أيضا بما ذكرناه في اندفاعها في تقديم الأمارات على الاستصحاب وسائر الأصول ، فإنّ العمل على وفق أصالة الإباحة في مورد استصحاب الحرمة تخصيص لخطاب « لا تنقض اليقين » ، ضرورة أنّ الحكم على خلافه مع الشّكّ يكون نقضا له بالشّكّ ، بخلاف العمل على الاستصحاب ، فإنّه يوجب خروجه عمّا هو موضوع للأحكام الأصوليّة ، وهو ما شكّ في حكمه من جميع الوجوه حقيقة ، فلا يكون تخصيصا لأدلّتها كما لا يخفى.

فتلخّص : أنّ وجه تقديم الأدلّة على الأصول وتقديم الاستصحاب على ما عداه ، هو عدم لزوم محذور يلزم من العكس وهو التّخصيص بلا وجه ، أو بوجه دائر ، ولعمري لا أرى لأحد بدّا ممّا حقّقناه إلّا القبول والاتباع وإن كان يقرع الأسماع ويثقل على الطباع ، فما هي عليها ، وعليك بالتأمّل التّام فيما ذكرناه في المقام » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٠ ـ ٣٩٢.


الفرق بين الحكومة والورود والتخصيص

والفرق بين هذه الثّلاثة مفهوما لا يكاد يخفى على ذي مسكة ؛

فإنّ الأول : هو رفع الحكم عن الموضوع المندرج تحت ما يشمله بحيث يكون بلسانه ناظرا إلى رفع الحكم مع بقاء الموضوع على حاله ، فيحكم العقل ـ بعد التّنافي بينهما وأرجحيّة التّخصيص برفع اليد عن العام والحكم ـ بأنّ المراد منه غير مورد الخاصّ. ولازمه كما ترى ، وحدة الموضوع حقيقة فهذا لا ينفكّ عن التّعارض بالضّرورة ، لكن هذا فيما إذا لم يكن الخاصّ نصّا بحسب الدّلالة بل كان أظهر ، وإلّا فهو وارد على العام أو حاكم على ما ستقف على تفصيل القول فيه ، فإطلاق القول مبنيّ على ما ذكرنا فتدبّر.

والثّاني : هو الورود وهو كون أحد الدّليلين بوجوده رافعا لموضوع الدّليل الآخر على فرض وجوده كالدّليل العلمي في مقابل الأصول ، ومثله مطلق ما ٣ / ١٨٤ يكون معتبرا في مقابل أصالة البراءة وأصالة الاحتياط والتّخيير على القول باعتبارها من باب العقل إلى غير ذلك من الأمثلة ، فلازم هذا كما ترى المنع من تحقّق التّعارض ؛ لأنّه يشترط فيه وحدة الموضوع وتوارد المتعارضين عليه بطريق التّناقض ، أو التّضاد.

والثّالث : كون أحد الدّليلين بمدلوله اللّفظي ناظرا إلى الدّليل الآخر ومفسّرا لمقدار دلالته بحيث لو لم يكن المحكوم موجودا لكان الحاكم لغوا. وبعبارة أخرى : ما كان أحد الدّليلين بلسانه ناظرا إلى إخراج ما يكون داخلا في موضوع


دليل وتنزيله منزلة عدمه ، والحكم بأنّه ليس داخلا فيه على سبيل الحكومة ، أو إدخال ما يكون خارجا عنه حقيقة.

مثال الأوّل : ما دلّ على عدم الاعتناء بكثرة الشّك ؛ فإنّه حاكم على أدلّة الشكوك على التّوجيه الأوّل ، وما دلّ على اعتبار الظّنون الاجتهاديّة في مورد الأصول المتقدّمة بناء على ما ستقف عليه من حيث اقتضائها تنزيل الشّك منزلة عدمه إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومثال الثّاني : ما دلّ على اعتبارها بالنّسبة إلى تعلّق الحكم فيه باليقين كأدلّة الأصول ؛ فإنّها منزّلة منزلة اليقين على خلاف الحالة السّابقة إذا قامت عليه ، مع أنّها ليست من اليقين.

ثمّ إنّ تطبيق المثال الأوّل على مسألة الحكومة ظاهر ؛ فإنّه لو لم يكن هناك ما يدلّ على جعل حكم للشّك في الصّلاة كان ما دل على عدم اعتبار كثرة الشّك لغوا ، وأمّا تطبيق سائر الأمثلة فستقف عليه.

ثمّ إنّه لا فرق في الحكومة بين أن يكون النّسبة بين الحاكم والمحكوم عموما مطلقا كالمثال الأوّل ، أو من وجه كالمثال الثّاني ؛ فإنّه بعد الحكومة لا معنى لملاحظة النّسبة ، وإنّما النّسبة تلاحظ بين الدّليلين اللّذين يكونان في مرتبة واحدة لا بين الوارد والمورود والحاكم والمحكوم ، بل التّحقيق ـ حسب ما صرّح به الأستاذ العلّامة في مجلس البحث وعرفت تفصيل القول فيه في طيّ أجزاء التّعليقة ـ هو عدم وجود نسبة بين الحاكم والمحكوم أصلا ، كما أنّه لا معنى لملاحظتها بين الوارد والمورود أصلا ؛ إذ النّسبة بين الشّيئين فرع اجتماعهما في موضوع واحد ، والمفروض أنّ الحاكم يحكم بمدلوله اللّفظي بعدم وجود الموضوع


للدّليل المحكوم. ومنه يعلم أنّه لا معارضة بين الحاكم والمحكوم.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا من الوجوه بين أن يكون الدّليلان اجتهاديّين ، أو فقاهيّين ، أو مختلفين على ما هو واضح. مضافا إلى ما أشرنا إليه في طيّ أجزاء التّعليقة وستقف على تفصيل القول فيه.

نعم لازم الدّليل الاجتهادي أن يكون إمّا واردا على الدّليل الفقاهتي أو حاكما فيما لم يكن الدّليل الفقاهتي أخصّ.

وجه تقديم الأدلّة على الإستصحاب

ثمّ إنّك بعد ما عرفت الفرق بين الأمور الثّلاثة ، فيقع الكلام في تحقيق الحال في وجه تقديم الأدلّة على الاستصحاب فنقول : إنّ الكلام يقع في مقامين :

أحدهما : في حكم الاستصحاب مع الدّليل الموجود في مورده على القول باعتباره من باب التّعبّد.

ثانيهما : في حكمه معه على القول باعتباره من باب الظّن.

ولنقدّم في كلّ من المقامين حكم صورة قيام الدّليل على خلاف الحالة السّابقة ، ثمّ نعقّبه بذكر حكم صورة قيام الدّليل على طبق الحالة السّابقة.

أمّا المقام الأوّل : فملخّص القول فيه : أنّه قد يقال : إنّ الدّليل الاجتهادي القائم على خلاف الحالة السّابقة وارد على الاستصحاب بوجوه :

أحدها : من جهة أنّ المراد من الشّك المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو التّحير المرتفع بعد قيام الدّليل المعتبر من جانب الشّارع على خلاف الحالة


السّابقة في الزّمان اللّاحق.

ثانيها : من جهة أنّ نقض اليقين السّابق بالدّليل القائم على الخلاف بملاحظة دليل اعتباره نقض باليقين لا بالشّك ؛ فإنّه وإن لم يوجب القطع بالارتفاع واقعا لفرض كونه ظنيّا ، إلّا أنّه لمّا كان المفروض القطع باعتباره فيكون نقض الحالة السّابقة به نقضا باليقين.

ثالثها : من جهة أنّ الأخبار مسوقة لبيان عدم جواز الرّجوع لما تقرّر عند الشّك من الأصول العمليّة إذا كان له حالة سابقة ، وإن كان الشّك لا يرتفع بعد قيام الدّليل هذا.

ولكنّك خبير بضعف هذه الوجوه :

أمّا الأوّل ؛ فلما عرفت غير مرّة : من أنّ المراد من الشّك في أدلّة الأصول هو خلاف اليقين الموجود في صورة قيام الظّن على الخلاف لا التّحير الّذي هو مجرى التّخيير العقلي هذا. مضافا إلى ما ذكره الأستاذ العلّامة بقوله : « وفيه : أنّه لا يرتفع التّحيّر ولا يصير الدّليل الاجتهادي ... إلى آخره » (١). وإن كان قد يتأمّل فيه : بأنّه بعد تسليم كون الموضوع في دليل الاستصحاب هو التّحيّر يكون تقديم الدّليل عليه من باب الورود ، كما هو الشّأن في تقديم الدّليل على التّخيير العقلي.

وأمّا الثّاني ؛ فلما عرفت غير مرّة أيضا : أنّ المراد من اليقين الّذي جوّز الشارع نقض اليقين السّابق به هو اليقين على خلاف الحالة السّابقة ، لا اليقين بأمر آخر. مضافا إلى أن قطعيّة اعتبار الدّليل في مقابل الاستصحاب مع قطع النّظر عن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣١٥.


حديث الحكومة قابلة للمنع. ومن الغرائب ما ربّما يقال بل قيل : من أنّ قيام الدّليل على اعتبار الظّن يدخله في العلم موضوعا.

وأمّا الثّالث ؛ فلمنع الدّعوى المذكورة ؛ إذ لا شاهد لها أصلا ، ومجرّد القول بكون الاستصحاب حاكما على الأصول بناء على اعتبارها من باب التّعبّد الشّرعي لا يوجب كون الأخبار مسوقة لما ذكره كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّ الوجه الأوّل لا دخل له بهذا الوجه ، فما ربّما يظهر من الأستاذ العلّامة من اتّحادهما لا وجه له ، هذا.

وقد يقال : إنّ الدّليل الاجتهادي القائم على خلاف الحالة السّابقة مخصّص لعموم الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك ؛ من حيث كون كلّ منهما حاكما بحكم في موضوع الشّك ؛ فإنّ النّسبة بين ما قام على اعتبار الأمارة بل نفس الأمارة والعموم المذكور وإن كانت عموما من وجه ، إلّا أنّ بعد قيام الإجماع على عدم الفرق بين موارد الدّليل يصير في حكم الخاص المطلق ؛ من حيث إنّ إخراج مورد الاجتماع منه مستلزم لطرحه كلّية على نحو ما عرفت تقريره في الجزء الثّاني من التّعليقة في بيان : توهّم كون الدّليل الاجتهادي مخصّصا لعمومات البراءة.

ولكنّك خبير بفساده أيضا ؛ لأنّ مفاد ما دلّ على اعتبار الدّليل القائم على خلاف الحالة السّابقة ليس مجرّد العمل به من حيث كون المقوّم عليه مشكوكا ، بل مفاده تنزيل مفاد الأمارة منزلة الواقع ، والحكم بأنّه واقع ، والبناء على عدم الشّك فيه ، وهكذا كما ترى معنى الحكومة لا التّخصيص.

ومنه يظهر الوجه فيما اختاره الأستاذ العلّامة : من حكومة الأدلّة على


الاستصحاب من حيث إنّ أدلّة اعتبارها حاكمة بخروج موردها عن مجاري الأصول ، ومفسّرة لما دلّ على وجوب البناء على الحالة السّابقة ، فما اختاره الأستاذ العلّامة هو المختار وستقف على تفصيل القول فيه في الجزء الرّابع من التّعليقة.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا : أنّ تقديم الدّليل القائم على خلاف الحالة السّابقة على الاستصحاب من باب الحكومة ، وأنّه لا مجرى للاستصحاب في مورده ؛ فإنّه يحكم بعدم وجود الشّك في مورد وجوده فلا يكون ترك العمل بالأصل طرحا له حتّى يحكم بوجود مورده حسب ما هو الميزان في وجود الموضوع ، هذا مجمل القول فيما لو قام الدّليل على خلاف الحالة السّابقة.

وأمّا الكلام فيما لو قام على طبقها فملخّص القول فيه : أنّ حكمه حكم الصّورة السّابقة ؛ فإنّ ما ذكرنا وجها للحكومة فيها يجري بعينه فيه أيضا كما هو ظاهر ؛ ضرورة أنّه لا يختلف مفاد دليل اعتبار الدّليل من حيث كونه منزّلا المشكوك منزلة الواقع بين قيامه على طبق الأصل أو خلافه.

نعم ، القول بالتّخصيص لا يجري في الفرض ، وأمّا القول بالورود فالظّاهر جريانه.

هذا مجمل الكلام على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد.

وأمّا بناء على القول باعتباره من باب الظّن فالّذي ينبغي أن يقال : هو أنّ الأمر لا يخلو على هذا التّقدير : من أنّه إمّا أن نقول باعتباره من باب الظّن الشّخصي حسب ما هو ظاهر شيخنا البهائي ، أو الظّن النّوعي المقيّد بعدم قيام الظّن على الخلاف ولو كان نوعيّا على ما يظهر من بعض ، أو الظّن النّوعي المطلق حسب


ما هو قضيّة مقالة المشهور.

فإن قلنا باعتباره من باب الظّن الشّخصي ، فلا إشكال في كون الدّليل الظنّي القائم على خلاف الحالة السّابقة واردا على الاستصحاب على تقدير منعه عن حصول الظّن من الاستصحاب على ما هو قضيّة تقابلهما لو خلّيا وطبعهما ، بل ذلك غير مختصّ بالدّليل المعتبر ، بل يجري في الأمارة الغير المعتبرة أيضا ، إلّا أنّه لا يسمّى واردا ؛ لأنّ الورود مختصّ ظاهرا برفع الدّليل المعتبر موضوع الدّليل الآخر لا مطلق رفع الأمارة ولو لم يكن معتبرة ، وأمّا لو فرض عدم رفعه للظّن الحاصل منه ، ولكن كان اعتباره من باب الظّن النّوعي المطلق فحكمه حكم الصّورة الثّالثة.

وإن قلنا : باعتباره من باب الظّن النّوعي المقيّد على ما هو قضيّة كلام العضدي على بعض الوجوه فلا إشكال في ورود الدّليل عليه لو حصل منه ظنّ بخلاف الحالة السّابقة ، وأمّا لو لم يحصل منه ظنّ بالخلاف فيدخل في الفرض الثّالث.

وإن قلنا باعتباره من باب الظّن النّوعي المطلق ـ حسب ما هو قضيّة مقالة المشهور على ما استظهره الأستاذ العلّامة فيما سبق ـ فتأتي فيه الوجوه الثّلاثة المتقدّمة على تقدير القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، فالحقّ هو كون الدّليل حاكما عليه ، وإن كان كلّ منهما دليلا اجتهاديّا ؛ إذ الحكومة والورود ليسا من خصائص الدّليل الاجتهادي بالنّسبة إلى الأصول ، بل قد يوجدان بين الأصلين كما يوجدان بين الدّليلين أيضا على ما عرفت بعض الكلام فيه وستعرف تفصيله إن شاء الله تعالى.


نعم ، قد يقال : إنّ هذا إنّما هو على القول باعتبار الاستصحاب من باب الغلبة ، وأمّا بناء على اعتباره من باب بناء العقلاء فالحقّ ورود الدّليل عليه ، كما هو الشّأن في تقديم الخاصّ الظّني السّند النّص بحسب الدّلالة على أصالة العموم في العام بناء على القول باعتبارها من باب بناء العقلاء من حيث الظّهور النّوعي ، فعدم إناطة اعتباره بالظّن الشّخصي ، أو عدم قيام الظّن على الخلاف إنّما ينفع في مقابل الأمارة الغير المعتبرة ، لا الأمارة المعتبرة ؛ لأنّ بناء العقلاء ليس موجودا مع قيام الدّليل على الخلاف هذا.

ولكنّك خبير بعدم الفرق بينهما ؛ إذ عدم بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب في مورد لا يكشف عن عدم جريانه ؛ لأنّ عدم العمل أعمّ من الورود ؛ لأنّه يجامع الحكومة أيضا هذا. وستقف على تفصيل القول فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

كما أنّه قد يقال بورود الدّليل الظّني المعتبر على الاستصحاب مطلقا من غير فرق بين كون المدرك فيه الغلبة ، أو بناء العقلاء من جهة ملاحظة نفس الحالة السّابقة ؛ إذ الغلبة إنّما تلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب ، ولذا يحكم بعدم جريان غلبة الأعمّ إذا كانت في مقابلها غلبة الأخصّ وإن كان هذا فاسدا أيضا : بأنّ هذا خروج عن الفرض كما هو واضح هذا.

وممّا ذكرنا كلّه يعرف ما وقع من الأستاذ العلّامة في المقام من المسامحة في البيان ؛ فإنّ قوله : « وإن أخذ من باب الظّن فالظّاهر أنّه لا تأمّل لأحد في أنّ


المأخوذ ... إلى آخره » (١).

٣ / ١٨٦ مناقض صريح لما حكاه سابقا من المشهور من كون مناط اعتبار الاستصحاب عندهم هو الظّن النّوعي المجامع لقيام الظّن على خلافه ، فكيف يقال مع ذلك كون الدّليل واردا على الاستصحاب؟ لأنّ عدم تأمّل أحد في اشتراط حصول الظّن الشّخصي من الاستصحاب بعدم قيام الظّن على خلافه ولو لم يكن معتبرا ، بل كان ممّا قام الدّليل القطعي على عدم اعتباره لا يجدي نفعا بعد كون المناط الظّن النّوعي المجامع للظّن على الخلاف ، مع أنّه بناء على ما ذكره ( دام ظلّه ) لا معنى للفرق بين الظّن الغير المعتبر القائم على الخلاف والظّن المعتبر القائم عليه مع أنّه كما ترى.

اللهمّ إلّا أن يوجّه ما ذكره : بأنّ مراده هو الظّن المعتبر ومراده من إفادته الظّن هو الظّن المعتبر عند العقلاء. ولكن فيه أيضا ما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره العضدي فقد عرفت : أنّه صرّح ( دام ظلّه ) بكونه مخالفا لظاهر كلماتهم إن بقي على حاله.

وأمّا ما ذكره دام ظلّه في تقرير حكم الغلبة القائمة على خلاف الحالة السّابقة : من كونها واردة على الاستصحاب كغيرها من الأدلّة الاجتهاديّة فقد عرفت ما في إطلاق القول بكون الدّليل الاجتهادي واردا على الاستصحاب بناء على القول باعتباره من باب الظّن سيّما بالنّسبة إلى الغلبة.

وبالجملة : فلا بدّ إمّا من رفع اليد عمّا جزم به سابقا في أمر الاستصحاب بناء

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣١٧.


على القول باعتباره من باب الظّن ، وإمّا من رفع اليد من هذه الكلمات المنافية له بطريق الصّراحة.

وأمّا الاستشهاد لما ذكره : من حديث ورود الدّليل على الاستصحاب بعدم تقديم أحد من الأصحاب الاستصحاب على الأمارة المعتبرة ولو كانت في غاية الضّعف فلا يخفى ما فيه ؛ لأنّ عدم تقديم الاستصحاب من باب حكومة الأمارة عليه. وقد عرفت : أنه لا مجرى للمحكوم بعد وجود الحاكم ولا نسبة بينهما أصلا حتّى يقع التّعارض بينهما ، فما ذكره ( دام ظلّه ) لازم أعمّ لا يمكن الاستشهاد به.

نعم ، الاستشهاد به في قبال من يقول : بأن الاستصحاب في عرض سائر الأدلّة وتقديمها عليه يحتاج إلى مرجّح ، وإلّا فقد يقدّم الاستصحاب عليها ، وقد يحكم بتساقطهما والرّجوع إلى غيرهما في كمال المتانة والجودة ؛ لأنّ الظّاهر منها كون تقديمها على الاستصحاب من حيث الذّات لا لمكان المرجّح هذا مجمل الكلام فيما إذا قام الدليل على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن على خلاف الحالة السّابقة.

وأمّا إذا قام على طبقها بناء على هذا القول فحكمه ما عرفت في الفرض السّابق ؛ لأنّ قضيّة اعتبار الأمارة كون مؤدّاها منزّلة منزلة الواقع وعدم وجود شكّ في موردها بالحكومة ، ولا يعقل الفرق في هذا المعنى بين الصّورتين ؛ لأنّ اعتبارها ليس مختصّا بما إذا قام على خلاف الأصول ومفاد دليل اعتباره أيضا لا فرق في معناه.

فقد تلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الدّليل الاجتهادي الموجود في مورد الاستصحاب حاكم على ما دلّ على الأخذ بالحالة السّابقة مطلقا وأنّه لا تعارض بينه وبين الدّليل أصلا ، هذا.


نقل كلام المحقّق القمّي والفاضل النّراقي في المقام

ولكن قد خالف فيما ذكرنا جماعة من المتأخّرين على ما يظهر من كلماتهم في باديء النّظر قال المحقّق القميّ رحمه‌الله بعد نقل كلام (١) من اشترط في العمل بالاستصحاب عدم قيام الدّليل في مورده ما هذا لفظه :

« أقول : إن أراد من الدّليل ما ثبت رجحانه على معارضه فلا اختصاص لهذا الشّرط بالاستصحاب ، بل كلّ دليل عارضه دليل أقوى منه رجّح عليه فلا حجيّة فيه ويعمل على الدّليل الرّاجح ، فلا مناسبة لذكر ذلك في شرائط الاستصحاب.

وإن أراد من الدّليل ما يقابل الأصل. ففيه : أنّ الإجماع على ذلك إن سلّم في أصل البراءة وأصل العدم فهو في الاستصحاب ممنوع ، ألا ترى أنّ جمهور المتأخّرين قالوا : إنّ مال المفقود في حكم ماله حتّى يحصل العلم العادي بموته؟ استصحابا للحال السّابق مع ما ورد من الأخبار المعتبرة بالفحص أربع سنين ، ثمّ التّقسيم بين الورثة ، وعمل عليها جماعة من المحقّقين فكيف يدّعى الإجماع على ذلك؟

وإن أراد أنّ الاستصحاب من حيث إنّه استصحاب لا يعارض الدّليل القطعي من حيث هو هو إجماعا فله وجه ، كما أنّ العام من حيث إنّه عام لا يعارض الخاصّ من حيث إنّه خاصّ ، والمفهوم من حيث إنّه مفهوم لا يعارض

__________________

(١) هو الفاضل التوني أعلى الله تعالى مقامه الشريف في الوافية / ٢٠٨.


المنطوق كذلك (١) ». انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

ثمّ اعترض على ما ذكره البعض على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن يقف عليه من راجع إلى « القوانين ».

وقال الفاضل النّراقي في « المناهج » بعد نقل ما عرفت من المحقّق القميّ رحمه‌الله ما هذا لفظه :

« ففيه : أنّا نختار الثّاني ، ومنع الإجماع فاسد كما هو ظاهر على المتتبّع ، وما ذكره من مال المفقود فعمل جمهور المتأخّرين بالاستصحاب ليس به نفسه بل لموافقة أخباره أيضا فعملهم عليها مضافا إلى ردّهم دلالة الأخبار المخالفة له » (٢). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأنت بعد التّأمّل فيما ذكرنا تعرف أنّه لا وجه لما ذكراه قدس‌سرهما.

أمّا ما ذكره الفاضل القميّ فلما عرفت : من أنّ الدّليل حاكم على الاستصحاب مطلقا سواء طابق الحالة السّابقة أو خالفها ، وسواء على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، أو الظّن حسب ما اعترف قدس‌سره به على التّقدير الأخير ، فكيف يمكن مع ذلك إيقاع التّعارض بينهما فضلا عن ترجيح الاستصحاب ببعض المرجّحات؟

ومنه يظهر ضعف ما سلّمه على التّقدير الثّالث ؛ فإنّ ما ذكره يتمّ على تقدير وجود الاستصحاب موضوعا مع الدّليل حتّى يقال : إنّ الدّليل راجح بالذّات على

__________________

(١) قوانين الأصول : ج ٢ / ٧٥.

(٢) مناهج الأحكام في أصول الفقه : ٢٣٥.


الاستصحاب مع أنّه قد يقال بمنع ما ذكره على تقدير تسليم وجودهما في موضوع واحد ؛ إذ لا مدرك له بعد كون النّسبة بينهما عموما من وجه ، اللهمّ إلّا أن يتمسّك له ٣ / ١٨٧ بما وجّهنا به القول بكون الدليل مخصّصا للاستصحاب ، فما ذكره رحمه‌الله يرجع إليه عند التّحقيق.

وأمّا ما استشهد لمنع الإجماع : « من عمل جمهور المتأخّرين بالاستصحاب في المفقود ... إلى آخره » (١).

ففيه : أنّه لا دخل له بالمقام ؛ فإنّ الكلام فيما إذا قام الدّليل في مورد الاستصحاب والأخبار المذكورة ليست بأدلّة في مقابل استصحاب حياة المفقود ؛ فإنّها تثبت حكما ظاهريّا مثل : عموم ما دلّ على عدم جواز نقض اليقين بالشّك ، فهي أيضا من الأصول كالاستصحاب ، فعلى هذا لا بدّ من الاستشهاد بتقديم قاعدة الشّك بعد الفراغ على الاستصحاب وغيرها من القواعد والأصول ، وإنّما الدّليل المقابل له ما قام على موت زيد كالبيّنة ونحوها. فهل ترى أحدا قدّم الاستصحاب على البيّنة المعتبرة على الموت؟

وبالجملة : الأخبار المذكورة أخصّ مطلقا من الاستصحاب من حيث كون مفادها حكما ظاهريّا في بعض موارد عموم لا تنقض ، فمن بنى على اعتبار الأخبار قدّمها على الاستصحاب من حيث التّخصيص ، ومن لم يبن علي اعتبارها ، بل طرحها من حيث ضعفها فيعمل بالعموم المذكور من حيث سلامته عن المخصّص.

__________________

(١) قوانين الأصول : ٢ / ٧٥.


ومنه تعرف إيرادا آخر على ما ذكره رحمه‌الله ؛ فإنّه على فرض تسليم كون الأخبار المذكورة من الأدلّة نقول : إنّ وجه عدم عملهم بها ليس من جهة ترجيح العموم عليها عندهم ، بل من جهة طرحهم للأخبار المذكورة.

ومنه يعرف فساد ما قد يقال في توجيه ما ذكره المحقّق القميّ : من أنّ الظّاهر من الأخبار المذكورة اعتبار الظّن الحاصل من الفحص عند الشارع ، فيكون الأخبار أدلّة في مقابل الاستصحاب.

وجه الفساد ـ على فرض تسليم ما ذكر ـ ما عرفت : من أنّ عدم تقديمهم إنّما هو لأجل ضعف الأخبار عندهم لا من جهة ترجيح الاستصحاب عليها هذا.

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ المختار هو الشّق الثّاني من الشّقوق الّتي ذكرنا ، وإثباته لا يتوقّف على ثبوت الإجماع ، مع أنّه لا إشكال في ثبوته هذا.

وأمّا ما أورد عليه الفاضل النّراقي ؛ فلما عرفت غير مرّة أنّ الاستصحاب بناء على القول باعتباره من باب الأخبار ليس إلّا نفس مفاد الأخبار ، وليس هو بنفسه دليلا ، والأخبار دليل عليه كما زعمه بعض السّادة الأجلّاء فيما عرفت من كلامه.

ثمّ على تقدير تسليم تغايرهما كآية النّبأ بالنّسبة إلى آحاد أخبار الآحاد ، يرد عليه : أنّ مفاد أخبار الاستصحاب أيضا مفاد الأصل ، فلا يمكن أن يعارض دليلا فإذا فرض ورود أخبار معتبرة على البناء على موت المفقود بعد الفحص أربع سنين لم يكن أيضا حاكمة عليها ، كما أنّ الاستصحاب لا يكون حاكما عليها هذا. مضافا إلى عدم معنى محصّل لضمّ الأخبار بالاستصحاب.

وبالجملة : لم يظهر معنى محصّل لما ذكره أيضا هذا.


ولكن وجّه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) ما ذكره المحقّق القميّ : بأنّ ما أورده على من اشتراط في العمل بالاستصحاب عدم الدّليل على الخلاف لعلّه كان مبنيّا على ظاهر كلامه في النّظر الابتدائي ؛ فإنّ الظّاهر من التّعارض الّذي ذكره هو التّعارض مع عموم لا تنقض ، فعليه يكون ما ذكره في غاية الوجاهة كما هو ظاهر ، لا ما استظهرنا من كون مراده من الدّليل هو القائم على خلاف الحالة السّابقة أي : على نفس الواقع لا الواقع المشكوك هذا.

ولكنّك خبير بأنّ التّأمّل في كلامه يعطي كون مراده ما استظهره الأستاذ العلّامة لا ما يظهر منه في باديء النّظر ، فالإيراد متوجّه عليه.

ثمّ إنّه كما يرد النّقض عليهما كذلك يرد النّقض على المشترط أيضا زيادة على ما عرفت في التّوجيه : من ظهور كلامه في عدم المعارض ؛ لعموم لا تنقض ؛ فإنّك قد عرفت : أنّه لا معنى للحكم بوجود المعارض في المقام حسب ما هو صريح مقالته بعد ما عرفت : من كون الدّليل حاكما على الاستصحاب فتأمّل.

(٣٣١) قوله : ( ثمّ المراد بالدّليل الاجتهادي ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣١٨ )

أقول : فيكون الدّليل الفقاهتي على ما ذكره ( دام ظلّه ) : هو ما انتفى فيه أحد القيدين ، فالأصول بأسرها أدلّة فقاهتيّة وإن أفادت الظّن في بعض الموارد كالاستصحاب في الشّك في وجود الرّافع.


وجه تسمية الدليل بالإجتهادي والأصل بالفقاهتي

ثمّ إنّه لا إشكال فيما ذكره من الفرق المفهومي بين الدّليلين إلّا أنّ الكلام يقع في مواضع :

أحدها : في وجه تسمية الأوّل بالدّليل الاجتهادي. والثّاني بالفقاهتي.

فنقول : إنّ الوجه فيها يعلم بالمناسبة الّتي ذكروها في تعريف الاجتهاد : بأنّه استفراغ الوسع في تحصيل الظّن بالحكم الشّرعي. وتعريف الفقه : بأنّه العلم بالأحكام الشّرعيّة الفرعيّة بناء على كون المراد من الأحكام الأعمّ من الأحكام الظّاهريّة ؛ فإنّ تحصيل الظّن المعتبر بالحكم الشّرعي لا ينفكّ عن العلم بالحكم الظّاهري كما هو واضح ، فالدّليل الاجتهادي لمّا كان ناظرا إلى الواقع ويحصل الظّن منه به ولو نوعا سمّي بالدّليل الاجتهادي.

وأمّا الأصل فلمّا لم يكن مناط اعتباره حصول الظّن منه ، وإنّما الحاصل ممّا دلّ عليه العلم بالحكم الظّاهري فلذا سمّي بالدّليل الفقاهتي ؛ فإنّ الدّليل الاجتهادي وإن كان يحصل منه العلم بالحكم الظّاهري أيضا ، إلّا أنّه لمّا كان فيه جهة الكشف عن الواقع لا محالة وأرادوا الفرق بينه وبين الأصول في تسمية الدّليل ، فلذا سمّوا الدّليل بالاجتهادي والأصل بالفقاهتي.

ثانيها : أنّ ما ذكر من التّعريف للدّليل الاجتهادي والفقاهتي وإن كان ظاهره الاختصاص بما إذا كان موردهما الحكم النّفس الأمري الفرعي ، إلّا أنّ الأمر ليس


كذلك قطعا ، بل يعمّه وما إذا كان موردهما الحكم الأصولي ، فلو قام الدّليل على حجيّة شيء واقعا سمّي دليلا اجتهاديّا ، كما أنّه لو ثبت حجيّة شيء بالاستصحاب مثلا كان دليلا فقاهتيّا وهذا ظاهر.

ثالثها : أنّ ما ذكر من التّعريف للدّليل الاجتهادي يعمّ الدّليل العلمي والظّني ؛ لأنّ الاجتهاد ـ على ما هو قضيّة التّحقيق الّذي عليه جمع من المحقّقين ـ أعمّ من تحصيل العلم بالحكم الشّرعي ، أو الظّن به. ولذا نقول : إنّ القطعيّات من الفقه كالظّنيات. نعم ، الضّروريّات خارجة.

وأمّا ما ذكرنا سابقا في وجه المناسبة ؛ فإنّما كان مبنيّا على تعريف الأكثرين للاجتهاد من العامّة والخاصّة ومال إليه الأستاذ العلامة بعض الميل في مسألة الاجتهاد والتّقليد : من حيث إن تعريفهم للاجتهاد سواء كان بمعنى الملكة أو الفعليّة ينطبق عليه. وهو كما ترى لا يخلو من وجه.

رابعها : أنّه قد يقال ـ بل قيل بل ربّما يستفاد من مطاوي كلمات الأستاذ العلّامة ـ : أنّ النّسبة بين الحاكم والمحكوم قد يكون عموما من وجه. وقد يكون عموما مطلقا. وأمثلة كلّ منهما كثيرة في الغاية ، ولكنّه كما ترى على خلاف التّحقيق ؛ لأنّ النّسبة فرع اجتماع الدّليلين في موضوع واحد ، والحاكم بمدلوله يرفع موضوع الآخر بالحكومة ، فكيف يمكن أخذ النّسبة بينهما؟

وأمّا ما ربّما يستفاد من كلمات الأستاذ العلّامة فهو مبنيّ على ملاحظة الدّليلين من حيث الواقع مع قطع النّظر عن لسانهما ، فتدبّر.

خامسها : أنّ ما ذكره الأستاذ العلّامة هو المناط في الدّليل الاجتهادي


والفقاهتي ، ولا فرق بعد وجوده بين كون الدّليل الدّالّ على حجيّة الدّليل أو الأصل من حكم العقل أو السّمع ، ولا بين أن لا يكون الشّك مأخوذا في موضوعه وبين أن يكون مأخوذا فيه ، فالاستصحاب بناء على القول باعتباره من باب الظّن دليل اجتهادي وإن كان الشّك مأخوذا في موضوعه.

سادسها : أنّه كما يطلق على ما كان معتبرا من حيث الكشف الدّليل بقول مطلق والدّليل الاجتهادي في مقابل الأصول كذلك يطلق عليه الأمارة أيضا ، لكن ثبوت هذا الإطلاق بالنّسبة إلى الموضوعات أكثر ، بل قد يقال : إنّه لم يطلق الدّليل عليه بالنّسبة إلى الموضوعات.

سابعها : أنّ من لوازم الدّليل الاجتهادي والفقاهتي عدم التّعارض بينهما بل كون الأوّل واردا على الثّاني ، أو حاكما عليه. وأمّا الدّليلان الاجتهاديّان ، أو الفقاهتيان فقد يوجد بينهما الورود والحكومة ، إلّا أنّه لا إشكال في وقوع التّعارض بينهما كما ستقف على تفصيل القول فيه في محلّه.

نعم ، قد أشرنا إلى أنّ ما ذكرنا : من كون الدّليل واردا على الأصل ، أو حاكما عليه إنّما هو فيما لم يكن الأصل أخصّ من الدّليل ، وإلّا فلا بدّ من العمل على الأصل والوجه فيه ظاهر.

ثامنها : أنّ الدّليلين إن علم حالهما من حيث كونهما اجتهاديّين أو فقاهيّين أو كون أحدهما اجتهاديّا والآخر فقاهيّا فهو ، وإن لم يعلم حالهما ولم يكن هناك ما يرجع إليه من الظّنون المعتبرة المشخّصة فيحدث في المسألة إشكال : من حيث إجراء أحكام التّعارض بينهما ، إلّا أنّ هذا قليل في الغاية ؛ لأنّ مصاديق الأدلّة


والأصول معلومة غالبا في الأحكام والموضوعات ، وإنّما الإشكال والخلاف وقع بالنّسبة إلى بعضها ، فلهذا احتيج إلى التّكلّم في تشخيصه وفي بيان حكمه على تقدير عدم العلم به.

ثمّ إنّه لا بدّ من أن يعلم أنّ سبب الاشتباه إنّما هو عدم العلم بأنّ الشارع اعتبر الشّيء من حيث كونه كاشفا ولو بالنّوع ، أو اعتبره لا من حيث كشفه سواء كان كاشفا أم لا ، لا عدم العلم بأنّه كاشف أم لا ، وإن كان هذا أيضا ممكنا إذا كان المدار على الكشف النّوعي.

* * *


تعارض الاستصحاب مع سائر

الأمارات والأصول

والكلام فيها في ثلاث مقامات :

* المقام الأوّل : عدم معارضة الاستصحاب لليد

١ ـ تقدّم اليد على الاستصحاب

٢ ـ تقدّم قاعدة الفراغ والتجاوز عليه

٣ ـ أصالة الصحة في فعل الغير

* المقام الثاني : تعارض الاستصحاب مع القرعة

* المقام الثالث : تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول العمليّة



* المقام الأوّل : عدم معارضة الإستصحاب لليد

(٣٣٢) قوله : ( إنّ اليد ممّا لا يعارضها الاستصحاب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢١ )

ترتيب البحث هنا

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يشكل فيما ذكره : من إطلاق القول بحكومة اليد على الاستصحاب بعد تكلّمه ( دام ظلّه ) في حكم اليد مع الاستصحاب على كلّ من تقدير القول باعتبارها من باب الظّن ، أو التّعبّد.

ثمّ إنّه ينبغي أن يتكلّم أوّلا في كون اليد من الأمارات ثمّ يتكلّم في حكمها على فرض عدم كونها من الأمارات ، لا أن يعكس الأمر كما صنعه ( دام ظلّه ) في « الكتاب ».


* ١ ـ تقدّم اليد على الاستصحاب

(٣٣٣) قوله : ( بيان ذلك : أنّ اليد إن قلنا ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٣٢١ )

أقول : لا فرق في حكومة اليد على الاستصحاب ـ على القول باعتبارها من باب الظّن على ما صرّح به في مجلس البحث ـ بين القول بكون الاستصحاب من باب التّعبد ، أو من باب الظّن.

أمّا على الأوّل : فظاهر. وأمّا على الثّاني : فلوجود التّرتّب بين الظّن الاستصحابي وغيره.

وقد يستشكل ذلك بناء على كون منشأ الظّن فيهما الغلبة ، ويدفع : بأنّ الغلبة الموجودة في اليد أقوى من حيث كونها بمنزلة الأخصّ.

وأمّا على القول باعتبارها من باب التّعبّد فيحكم بتقديمها على

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الشيخ محمد كاظم الخراساني قدس‌سره :

« والتحقيق : ان وجه تقديم اليد إن قلنا باعتبارها من باب الطريقيّة ، وهو ورود دليل اعتبارها من باب الطّريقيّة ، هو ورود دليل اعتبارها على الإستصحاب كما عرفت بما لا مزيد عليه ، وإن قلنا باعتبارها من باب التعبّد ، هو تخصيص دليله بدليلها ، لأنّ النّسبة بينهما وإن كانت عموما من وجه ، إلّا انّ دليلها أظهر في شمول موارد التّعارض من دليله ، للزوم تخصيص الأكثر من تخصيصه بدليله ، بخلاف تخصيصه به ، فافهم.

هذا ، مضافا إلى لزوم المحذور المنصوص وهو اختلال السّوق وبطلان الحقوق ، ومعه يكون تقديمها على الإستصحاب بلا شبهة ولا ارتياب ، ولو لم يكن العكس مستلزما لتخصيص الكثير أو الأكثر ، فتأمّل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٣.


الاستصحاب ، ولو قلنا بكونه من باب الظّن من حيث وجود الاستصحاب في جميع مواردها ، أو غالبها فلا يجوز رفع اليد عنها.

فإن شئت قلت : إنّ العلّة في اعتبارها لزوم الاختلال من إلغائها وهي بعينها موجودة في مورد اجتماعهما ، ولو كان غالبيّا كما هو ظاهر ، فيكون دليل اعتبارها حاكما على دليل الاستصحاب ، أو مخصّصا له ولو كانت النّسبة العموم من وجه بعد عدم إمكان تخصيص دليل اليد بمورد الافتراق فافهم ، وستقف على مزيد بيان لذلك.

(٣٣٤) قوله : ( كما يشير إليه قوله في ذيل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يورد عليه : بأنّه مناف لما سيذكره : من كون المراد من الرّواية العمل باليد من باب الظّن من حيث ورودها لإمضاء ما عليه بناء النّاس.

(٣٣٥) قوله : ( فالأظهر أيضا تقديمها على الاستصحاب ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢٢ )

الدليل على تقديم اليد على الاستصحاب

أقول : الوجه في تقديم اليد على الاستصحاب ـ وإن كان معتبرا من باب الظّن بناء على كون اعتبارها من باب التّعبّد ـ هو الحكم بتخصيص أدلّة اعتبارها ٣ / ١٨٩ لأدلّة اعتباره ، لا كونها حاكمة عليها أو كونها واردة على ما صرّح به ( دام ظلّه ) في أثناء البحث.

ثمّ إنّه يستدلّ عليه بوجوه :

الأوّل : كون النّسبة بينهما عموما وخصوصا مطلقا ؛ حيث إنّ اليد معارضة


في جميع مواردها بالاستصحاب ؛ حيث إنّ الملكيّة يحتاج دائما إلى سبب حادث ، والأصل عدمه. فإن شئت قلت : إنّ اليد معارضة في غالب الأوقات باستصحاب بقاء الملك في ملك الغير ؛ فإنّ في غالب الموارد يعلم بأنّ ما في يد الغير كان ملكا لغيره ، وفيما لم يعلم الحالة السّابقة معارضة باستصحاب عدم تحقّق الملك ، (١) فيخصّص أدلّة الاستصحاب بها حينئذ.

أمّا على تقدير اعتبارها من باب التّعبّد فظاهر ، وأمّا على تقدير اعتباره من باب الظّن ؛ فلأنّه لو بني على تحكيم دليل اعتباره على دليل اعتبار اليد لزم طرحه بالمرّة ، والمفروض ثبوت اعتبارها. ومنه يعلم أنّ ما ذكرنا : من حكومة الدّليل الاجتهادي ، أو وروده دائما ـ على ما أسمعناك في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ على الأصل إنّما هو فيما إذا لم يكن الأصل أخصّ هذا. وأمّا ما يظهر من الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) : من كون النّسبة عموما وخصوصا من وجه فإنّما هو مبنيّ على ملاحظة الاستصحاب الأوّل.

الثّاني : أنّ النّسبة بينهما وإن كانت عموما من وجه إلّا أنّ اليد بالنّسبة إلى الاستصحاب في حكم الأخصّ مطلقا حيث إنّ مورد افتراقها عن الاستصحاب قليل في الغاية ، فلو حكم بدخول مورد الاجتماع تحت أدلّة الاستصحاب دون أدلّة اليد لزم الحكم بورودها لبيان حكم الفرد النّادر ، وهو مستلزم لتخصيص ما لا يجوز ارتكابه ، وهذا بخلاف العكس ؛ فإنّه ليس فيه هذا المحذور ، فيتعيّن من غير فرق في ذلك بين القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، والقول باعتباره من باب الظّن ؛ لاتّحاد الوجه.

الثّالث : أنّ قضيّة التّعليل الوارد في رواية الحفص هو تقديم اليد على

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


الاستصحاب في مورد الاجتماع ؛ فإنّ المحذور اللّازم على تقدير طرح اليد كليّة يلزم على تقدير طرحها في مورد الاجتماع أيضا كما هو واضح.

الرّابع : ورود أكثر أخبار اليد كرواية مسعدة بن صدقة وغيرها في مورد جريان الاستصحاب.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : ضعف ما عن النّراقي في « عوائد الأيام » (١) و « المستند » (٢) : من أنّ اليد كالاستصحاب أصل ومقتضى التّعارض رفع اليد عن المعارض عند عدم المرجّح لا تقديم أحدهما.

قال في « المستند » في مسألة تعارض اليد الفعليّة مع الملكيّة السّابقة :

« والتّحقيق : أنّ اقتضاء اليد للملكيّة يعارض استصحاب الملكيّة ولا يبقى لشيء منهما حكم ، ولكن أصل اليد لا تعارضها شيء وهو باق بالمشاهدة والعيان ، والأصل عدم التّسلّط على انتزاع العين من يده ، وعلى منعه من التّصرّفات الّتي كانت له حتّى بيعها ؛ إذ غاية الأمر عدم دليل على ملكيّته ، ولكن لا دليل على عدم ملكيّته أيضا ، وأصالة عدم الملكيّة بالنّسبة إليه وإلى غيره سواء ، فلا يجري فيه ذلك الأصل أيضا.

إلى أن قال :

« فيبقى أصالة عدم التّسلّط وأصالة جواز تصرّفه خالية عن المعارض » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) عوائد الأيّام / العائدة : ٦٩ / ٧٣٧.

(٢) مستند الشيعة : ج ١٧ / ٤١٦.

(٣) المصدر نفسه.


وأنت خبير بما يتوجّه عليه من الإشكالات ؛ فإنّه يتوجّه عليه :

أوّلا : أنّ اليد الحسّيّة لا أثر لها بعد عدم اقتضائها الملكيّة من جهة المعارضة على ما قرّره.

وثانيا : أنّ صحّة تصرّفاته وسلطنته عليها كالبيع والإجارة ونحوهما موقوفة على الملكيّة ، فإذا فرض عدم اقتضاء اليد لها فالأصل الفساد لا الصّحة ، ولم يعلم معنى محصّل لأصالة عدم التّسلّط إذا فرض إهمال اليد والاستصحاب مع عدم سبق حالة سابقة للتّسلط ونفوذ التّصرّفات ، واحتمال الوكالة والإذن من المالك ونحوهما ممّا يقتضي جواز التّصرّف ، مدفوعة بالأصل السّليم ؛ حيث إنّها حوادث مسبوقة بالعدم.

وثالثا : أنّ أصالة عدم ملكيّة ذي اليد لا يعارضها أصالة عدم ملكيّة غيره إذا لم يترتّب عليها أثر ، بل مع ترتّبه مع عدم حصر الشّبهة فتدبّر ، إلى غير ذلك من الإشكالات.

والإنصاف : أنّ الإشكال في تقديم اليد على الاستصحاب ممّا لا ينبغي لمثل هذا الفاضل سيّما بعد ورود أخبار اليد في مورد الاستصحاب على ما عرفت.


لو تقارنت اليد بالإقرار فالمرجع الإستصحاب

(٣٣٦) قوله : ( وأمّا حكم المشهور : بأنّه لو اعترف ذو اليد ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٢٢ )

__________________

(١) قال شيخ الكفاية المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« والتحقيق في ذلك : ان اليد إنّما كانت أمارة على أصل الملكيّة ، لا على خصوصيّتها ، فإن كانت الدّعوى في نفس الملكيّة بان يدّعي كلّ من ذي اليد وخصمه ملكيّة ما في تحت اليد ، من دون تعرّض لبيان سبب حصولها ، كانت موجبة لتقديم قول ذي اليد ، وإن كانت دعواهما مع التعرّض لبيان سبب ناقل منه إليه كهبة أو بيع أو غيرهما ممّا ينكره الخصم ، كانت غير مجدية في مقام الحكومة ورفع الخصومة ، بل يعامل حينئذ كما لم يكن له يد ، فينتزع عنه العين ، واعطب الخصم ما لم يقم بيّنة على طبق دعواه وصدق مدّعاه حسب اعترافه لكنّ الظاهر انّها مع ذلك لا يخرج عن الأماريّة ، لأصل الملكيّة لذي اليد فيترتّب على العين جميع آثار ملكيته له ، فلا يجوز التّصرّف فيها بدون إذنه ، ويجوز شرائها منه والتصرّف فيها برضاه.

وبالجملة : اليد يكون أمارة على الملكيّة مطلقا ولو في مقام الدّعوى بالنّسبة إلى آثارها من عدم جواز التّصرّف بدون إذن ذي اليد وجوازه معه. وامّا بالنسبة إلى غير المدّعي عن المنكر بتبع أنّه كيف يحرر الدّعوى ، كما لا يخفى » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٤.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس سره :

المسألة مشكلة جدّا وكلمات الفقهاء مختلفة مضطربة في الغاية لا يخفى على من راجعها ، وما وجّهه في المتن : من أنّ ذا اليد بإقراره ينقلب مدّعيا أيضا مشكل ، ولو صحّ لزم أن ينقلب مدعيا فيما إذا قامت البيّنة على الملك السابق ، أو على اليد القديمة ، أو كان الملك السابق لغير ذي اليد مقطوعا به للحاكم ولكلّ أحد ، ولم يقل أكثرهم بذلك وإن كانت كلماتهم هنا


إشكالات على المصنف قدس‌سره

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذه إشارة إلى دفع ما ربّما يستشكل على ما ذكره ( دام ظلّه ) من بعض الوجوه ، فبالحريّ أوّلا : أن نشير إلى ما يورد على ما

__________________

أيضا مختلفة.

وبالجملة : الإلتزام بسقوط حكم اليد وتقديم الإستصحاب عليه لا نعرف له وجها ، وغاية ما يمكن أن يقال ـ في الفرع المذكور ـ :

إن حكمهم بانه لو اعترف ذو اليد بكون المدّعي به للمدّعي في السابق انتزع منه ، يريدون به ما إذا علّل ذو اليد ذلك بانه انتقل من المدّعي إليه ويلتزم في هذه الصورة بسقوط يده إمّا لأجل قصور أدلّة اليد عن شمول مثل ذلك بدعوى إنصرافها إلى غيره ، وإمّا لأجل أنّ ذا اليد هذا يعدّ في العرف مدّعيا ؛ لاقتران يده بدعوى انتقال المال من المدّعي اليه ، وإمّا لأجل أن العقلاء لا يعتدّون باليد المقرونة بالدّعوى المذكورة ، واعتبار اليد في الشرع أيضا مقصور على مواردها المعتبرة عند العقلاء كما يظهر من التعليل المستفاد من رواية حفص بن غياث من قوله : « وإلّا لم يبق للمسلمين سوق » وبعد ذلك كلّه فالمسألة محلّ الإشكال فليتأمّل.

ثمّ انه ذكر في « المستند » وعن غيره أيضا انّه يقدّم الإستصحاب على اليد في مورد واحد من غير إشكال. مستند الشيعة : ١٧ / ٣٤٤.

وهو ما لو كان الإستصحاب مبنيّا لحال اليد كما إذا كان المال في يده سابقا بعنوان الغصب ثم نجد المال بعد ذلك أيضا في يده مع احتمال انه انتقل إليه بوجه صحيح ، فاستصحاب اليد السابقة مقدّم على حكم اليد الفعليّة ؛ لأنه يعيّن حال هذه اليد وأنّها مغصوبة ، لكنّه من الأصول المثبتة ، فإن قلنا بحجّيّة الأصل المثبت مطلقا فلا كلام وإلّا فيقال بها في خصوص المورد من جهة كون الواسطة خفيّة فتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٥٠.


ذكره ( دام ظلّه ) ثمّ نشير إلى ما يمكن أن يذبّ به عنه فنقول :

أمّا ما يورد عليه فوجوه :

الأوّل : ما قرّر في محلّه وعليه المشهور : من أنّه إذا أقرّ ذو اليد ـ في مورد التّداعي ـ بأنّ المال كان سابقا مال المدّعي انتزع من يده ، إلّا أن تقوم بيّنة على انتقاله منه إليه ، من غير فرق بين القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، أو من باب الظّن. وهذا معنى تقديم الاستصحاب على اليد ، فكيف يقال مع ذلك : إنّ اليد مقدّمة على الاستصحاب مطلقا؟

الثّاني : ما ذكره جماعة وهو الحقّ : من أنّه لا يعمل باليد فيما لو علم بأنّ ما في تحتها كان ملكا لشخص معيّن سابقا ، بل إن ادّعى الملكيّة ولم يكن لدعواه معارض فيسمع دعواه ويعمل بها ، لا من جهة اعتبار يده ، بل من جهة صحّة الدّعوى إذا لم يكن لها معارض ، وكونها كالبيّنة في مقابل اليد ، وإلّا فيحكم بتقديم قول من علم بكون المال له سابقا ، وليس هذا كلّه إلّا من جهة تقديم الاستصحاب على اليد. نعم ، لو علم إجمالا يكون المال سابقا لغير ذي اليد لم يقدح في اعتبار اليد.

الثّالث : أنّه لا إشكال كما صرّح به جماعة في أنّه إذا علم حال اليد في زمان ٣ / ١٩٠ وأنّه يد غير ملك بأن علم أنّها يد وديعة ، أو عارية ، أو وكالة إلى غير ذلك ، ثمّ شكّ في زمان آخر بعده أنّها يد ملك أم لا؟ لا يعمل باليد فيحكم بكون ما في تحتها ملكا لذي اليد ، بل يحكم بمقتضى استصحاب بقاء اليد على حالتها الأوّليّة أنّه ملك لمن كان ملكه ، فهذا أيضا من موارد تقديم الاستصحاب على اليد. وبالجملة : موارد تقديم الاستصحاب على اليد كثيرة ، هذا ملخّص ما يقال عليه.


دفع الإشكالات الواردة

ولكن يمكن الذّب عمّا أورد عليه :

أمّا عن الأوّل : فبالمنع من اعتبار اليد فيما إذا كان في موردها إقرار لذي اليد للمدّعي ؛ فإنّه بإقراره بمقتضى ما دلّ على نفوذ إقرار العقلاء على أنفسهم قد أبطل يده وجعل نفسه مدّعيا بمقتضى كلامه من حيث دلالته على انتقال ما في يده من المقرّ له إليه ، وأمّا عدم أخذ ما في يده عنه إذا لم يكن في مقابله مدّع فلا يدلّ على اعتبار يده فيما إذا كان في مقابله مدّع.

وبالجملة : اعتبار دليل اليد لا يشتمل صورة وجود الإقرار حتّى يقال : إنّ الحكم بكون المقرّ له منكرا من باب تقديم الاستصحاب على اليد هذا. ولكن ظاهر رواية الفدك هو اعتبار اليد حتّى في صورة وجود الإقرار فتأمّل.

وأمّا عن الثّاني : فبأنّ الأمر لا يخلو :

إمّا أن نقول بعدم شمول اعتبار اليد لصورة وجود العلم التّفصيلي بأنّ ما في يده لغير ذي اليد من جهة أنّ ما تمسّكوا لاعتبارها أمور لا يشمل المقام ؛ فإنّ ما تمسّكوا له يرجع إلى وجوه ثلاثة ومعلوم أنّ شيئا منها لا يشمل الفرض ، أحدها : الإجماع. ثانيها : الغلبة وظهور حال المسلم. ثالثها : جملة من الرّوايات كرواية الحفص ، والفدك ، ونحوهما.

أمّا الأوّل : فظاهر.

وأمّا الثّاني ؛ فلعدم الدّليل على اعتبارها.


وأمّا الثّالث : فلانصرافه إلى غير الفرض ، مع ما فيه من الإشكال الموجب لسقوط الاستدلال به.

أمّا رواية الحفص (١) : فلأنّه لا ملازمة بين جواز شراء اليد والحلف بأنّه ملك المشتري مع الشّهادة بأنّه ملك البائع ؛ إذ يكفي في جواز الشّراء والحلف كون تصرّف ذي اليد صحيحا ، وهذا لا يستلزم كون ما في تحت اليد ملكا لذي اليد ، مع أنّ عدم الشّهادة لا يستلزم اختلال السّوق كما لا يخفى ، فما ذكره الإمام عليه‌السلام من الملازمة والتّعليل ممّا لا يمكن لنا الإحاطة عليه وهو العالم.

وأمّا رواية الفدك : فلأنّ عدم مطالبة البيّنة ممّن كان في يده المال من المسلمين لا يستلزم عدم مطالبة البيّنة من الزهراء عليها‌السلام حتّى يصير الحكم في حقّ أهل البيت على خلاف الحكم بين المسلمين.

وإمّا أن نقول بشمول بعضها كما هو قضيّة التّحقيق وإن لم نقل بشمول كلّها ؛ فإنّ دعوى : انصراف الرّوايات إلى غير صورة العلم التفصيلي فاسدة جدّا ؛ إذ لا شاهد لها أصلا ، والإشكال في الرّوايتين من حيث عدم فهم ما ذكره الإمام عليه‌السلام على تقدير عدم القدرة على التّفصّي عنه لا يضرّ في ظهورهما على اعتبار اليد مطلقا كما هو واضح هذا.

وإن أردت الوقوف على دفع الإشكال عن الرّوايتين وشرح القول فيهما

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٧ / ٣٨٧ باب ٩ من أبواب الشهادات ـ ح ١ ، والفقيه : ج ٣ / ٥١ باب ١٨ « من يجب رد شهادته ومن يجب قبول شهادته » ـ ح ٢٧ / ٩٢ ، والتهذيب : ج ٦ / ٢٦١ باب « البينات » ـ ح ٦٩٥ / ١٠٠.

عنها الوسائل : ج ٢٧ / ٢٩٢ باب ٢٥ من أبواب كيفيّة ـ ح ٢.


فارجع إلى ما كتبناه في « القضاء » (١) فإنّا قد شرحنا القول فيه فيما يتعلّق بالمقام غاية الشّرح بحيث لم يسبقنا إليه أحد.

فإن قلنا بعدم شمول اعتبار اليد لصورة العلم التّفصيلي في السّابق ـ حسب ما هو ظاهر بعض ـ فلا إشكال ؛ فإنّ أدلّة اعتبار اليد لا يشمل بالذّات صورة العلم حتّى يقال : إنّ الرّجوع بمقتضى الاستصحاب تقديم له عليها كما لا يخفى ؛ فإنّ الموجب لسقوط اليد عن الاعتبار على هذا القول عدم شمول دليلها لصورة العلم حتّى لو فرضنا القول بعدم حجيّة الاستصحاب ، ولازمه عدم الإتّكال على اليد حتّى فيما لم يكن في مقابلها دعوى من غير ذيها على خلافها.

ولذا قيل : بأنّه لا يحكم بالملكيّة في صورة عدم التّداعي إلّا بعد دعوى الملكيّة من ذي اليد فيكون الدّليل على الملكيّة إذن الدّعوى الغير المعارضة بمثلها ؛ حيث إنّ ظاهرهم الاتّفاق على كونها حجّة ، لكنّها لا توجب جعل المدّعي منكرا إذا كانت في مقابلها دعوى من غير ذي اليد على خلافها ؛ فإنّ اعتبارها مقيّد بعدم المعارض ، وإن كان قد يشكل في ذلك ؛ لعدم الدّليل عليه ، فيكون مقتضى الأصل عدم اعتبارها.

وإن قلنا بشمول دليل اعتبارها للفرض فيحكم بتقديمها على الاستصحاب حسب ما هو ظاهر جماعة ، ولا ينافيه ما هو المعروف الّذي يقتضيه التّحقيق : من جواز القضاء بالبيّنة القائمة على الملك للمدّعي في مقابل ذي اليد إذا كانت مستندة إلى الاستصحاب ؛ من حيث إنّه إذا فرض وجوب العمل باليد في مقابل

__________________

(١) كتاب القضاء : ج ٢ / ١٠٥٤ « سماع البيّنة على الملكيّة واليد السابقة » وتعرضه للروايتين ص ١٠٦٣ فما بعد.


الاستصحاب على كلّ أحد فكيف يجوز للشّاهد أن يستند إلى الاستصحاب الّذي هو مرجوح بالنّسبة إليها ويجب الخروج عنه بها؟

وللحاكم أن يقضي بمثل هذه البيّنة ؛ لأنّ عدم جواز اتّكال الشّاهد عليه في تكليف نفسه لا ينافي جواز إخباره بمقتضاه ، فيتحقّق بعد الإخبار صغرى ميزان القضاء للحاكم فيحكم به ، فهو لم يحكم بمقتضى الاستصحاب حتّى يورد عليه بما ذكر ، بل بمقتضى البيّنة الّتي هي من أحد موازين القضاء ، ولذا لا يجوز أن يحكم بمقتضى الاستصحاب إذا فرض علمه بكون الملك للمدّعي في السّابق مثل الشّاهد ، بل يتوقّف على إخبار الشّاهد بالملك حتّى في مورد اشتراكهما في العلم هذا.

ولكنّك خبير بأنّ هذا لا يخلو عن تأمّل ، فإن أردت تحقيق القول فيه فارجع إلى ما حرّرناه في كتاب « القضاء » (١).

وأمّا عن الثّالث : فبأنّا نسلّم تقديم الاستصحاب على اليد في الفرض إذا كانت في مقابلها دعوى ، أو لم يكن ولم يدّع ذو اليد انتقال ما في يده إليه بأحد من ٣ / ١٩١ الأسباب ، بل إطلاق التّقديم مسامحة ؛ فإنّ الاستصحاب الجاري في اليد حاكم على أدلّة اعتبار اليد حتّى على القول باعتبارها من باب الظّن كما في الاستصحاب الجاري في بعض أفراد العام الحاكم عليه ، إلّا أنّه خارج عن محلّ الفرض ؛ فإنّه في الاستصحاب الجاري في مقابل اليد لا في الاستصحاب الجاري في نفس اليد.

وبالجملة : لم نرد إطلاق القول بتقديم اليد على الاستصحاب حتّى يرد علينا

__________________

(١) المصدر السابق.


بهذا الإيراد بل كلامنا في [ غير ](١) هذا الفرض ، وأمّا فيه فلا إشكال في حكومة الاستصحاب على اليد إن سلّم شمول أدلّة اعتبار اليد له بالذّات ، وإلّا كما يقتضيه عدم وجود العلّة المعلّلة بها اعتبار اليد في رواية الحفص بناء على حمل العلّة المذكورة فيها على العلّة الحقيقيّة لا التّقريب فلا إشكال أصلا كما لا يخفى.

(٣٣٧) قوله : ( بل يظهر ممّا ورد في محاجّة علي عليه‌السلام مع أبي بكر ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٣٢٢ )

__________________

(١) أثبتناه من نسخة ( الحاشية الصغيرة ) ٤٧٩ وهو الظاهر كما لا يخفى.

(٢) قال المحقق الأصولي المدقق الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : أنّ وليّ المسلمين ليس له التفتيش عمّا وقع في زمان من قبله ، ومحصّل ما في الإحتجاج : ان الإستيلاء على الفدك من أمير المؤمنين صلوات الله تعالى عليه كان في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا للخليفة مطالبة البيّنة على نقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلّ ما يراه مما كان راجعا إليه تحت يد غيره ، ولم يكن يزعم أبو بكر إلّا انّ ما تركه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدقة ، فالمسلمون بزعمه مصارف للمال لا انّهم يرثونه دون قرابته وأهل بيته ، ومجرّد الإستصحاب لا يكفي في الحكم بوجوب انتزاع المال ممّن تصرّف فيه بتسلط من كان وليّا لذلك وهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا سلطنة للمسلمين من جهة المصرفيّة على ذلك ووليّهم أيضا لا يعلم بكون الإستيلاء على وجه العدوان ، بل يعلم انّه كان بتسليط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس من آثار الخلافة والولاية التعويل على استصحاب بقاء المال على حالة الأصلية لإبطال اليد ؛ فإن تقدّمها على الإستصحاب لا إشكال فيه ، وكان معترفا به ، ولم تحدث اليد بعد رجوع أمر المال اليه فالشك في رجوع أمر المال إليه ، والأصل عدمه ، واستصحاب بقاءه على ملك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو كان مقتضيا لذلك إلّا انّ تقدم اليد عليه ممّا لم يتأمّل فيه ، فالمال إنّما ينتزع من يد أمير المؤمنين عليه‌السلام لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو وارثه مدّعيّا للبقاء ، أو علم وليّ


__________________

المسلمين بكونه غاصبا.

فظهر الفرق بين اعتراف امير المؤمنين عليه‌السلام في المقام بكون فدك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين اعتراف زيد الذي يدّعي عمرو كونه غاصبا مع اعتراف زيد بكون المال قبل استيلاءه عليه لعمرو ، وقد عرفت : انّ المانع بمقتضى اليد إنّما هو قول من كان له المال سابقا بقاعدة من ملك لا الإستصحاب ، فلا منافاة بين ما في الإحتجاج وبين ما عليه الأصحاب قدست أسرارهم.

وأمّا من توهّم : ان الصدّيقة الطاهرة عليها‌السلام حينئذ صارت مدّعيّة فقد غفل من انّه كذّب إمامه جهلا منه بالقواعد الواضحة ؛ فإنّ صاحب اليد ليس مدّعيا قبل معارضة من كان له المال قبله وإنّما يكون كذلك بعد المعارضة ولم يكن للصّديقة الطاهرة عليها‌السلام معارض ولكنّ الغاصب الجاهل بأحكام ما غصبه فعل ما فعل بعد العلم بفساده ببيان خليفة الله « صلوات الله عليه » كفرا وعنادا.

قال الإستاذ قدس‌سره : ( وكيف كان فاليد على تقدير كونها من الأصول التعبّديّة أيضا مقدّمة على الإستصحاب ) وفيه : انّ هذا لا يجامع ما وجّه به ما عليه الأصحاب بمنافاة اليد لاستصحاب عدم الإنتقال ؛ فإنّ مقتضى تقدّمها على الإستصحاب كون ذي اليد منكرا حينئذ ايضا كما لا يخفى.

ثم قال قدس‌سره : ( وإن شئت قلت : ان دليله أخصّ من عمومات الإستصحاب ).

وفيه : ما عرفت : من انه لا منافاة بين اعتبار الإستصحاب في جميع الموارد وبين اعتبار اليد كذلك وأنّ تقديم اليد على الإستصحاب حيث يتقدّم عليه ليس من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب كما أن تقدّم الإستصحاب عليها بعد معارضة من كان له المال ليس تخصيصا لأدلّة اليد ، بل كلّ منهما معتبر مطلقا لكن كلّ منهما يتقدّم على الآخر في الجملة لما حقّقناه ، وكون النسبة بينهما عموما من وجه في غاية الوضوح ، مع انّ مدخليّة جريان الإستصحاب في اعتبار اليد الموافقة له او المخالفة ايضا بديهي الفساد ؛ ضرورة اعتبار اليد وإن لم يجر


رواية فدك الزهراء سلام الله عليها

أقول : الأولى نقل ما يتعلّق بما أفاده من الرّواية. روي في « الإحتجاج » عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

لمّا بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك من أخرج وكيل الزهراء عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها ، فجاءت فاطمة عليها‌السلام إلى أبي بكر فقالت له : يا أبا بكر لم منعتني ميراثي من أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر الله تعالى؟ فقال :

هاتي على ذلك بشهود ، فجاءت بأمّ أيمن ، فقالت : لا أشهد يا أبا بكر حتّى أحتجّ عليك بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنشدك بالله ألست تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

أمّ أيمن امرأة من أهل الجنّة؟ فقال : بلى. قالت : فأشهد أنّ الله تعالى أوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (١) فجعل فدك لفاطمة بأمر الله تعالى ، فجاء علي عليه‌السلام فشهد بمثل ذلك ، فكتب لها كتابا ودفعه إليها.

فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب؟ فقال : إنّ فاطمة ادّعت في فدك وشهدت لها أمّ أيمن وعلي عليه‌السلام فكتبته لها فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزّقه فخرجت

__________________

الإستصحاب في موردها كما إذا لم يعلم الحالة السابقة لما تحت يد الشخص واحتمل مقارنتها لوجوده أو صلوحه لجريان الملك عليه » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣١٥ ـ ٣١٦.

(١) الروم : ٣٨.


الزهراء عليها‌السلام تبكي.

فلمّا كان بعد ذلك جاء علي عليه‌السلام إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال : يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقال أبو بكر : إنّ هذا فيء للمسلمين فإن أقامت شهودا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعله لها ، وإلّا فلا حقّ لها فيه.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام يا أبا بكر أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال لا.

فقال عليه‌السلام : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه وادّعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال : إيّاك كنت أسأل البيّنة. قال عليه‌السلام : فما بال الزهراء عليها‌السلام سألتها البيّنة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ، ولم تسأل المسلمين على ما ادّعوه شهودا كما سألتني على ما ادّعيت عليهم؟ فسكت أبو بكر.

فقال عمر : يا عليّ دعنا من كلامك ؛ فإنّا لا نقوى على حجّتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلّا فهو فيء للمسلمين لا حقّ لك ولا لفاطمة فيها.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال : نعم ، قال : أخبرني عن قول الله عزوجل : إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (١) فيمن نزلت فينا أم في غيرنا؟ قال : بل فيكم.

قال عليه‌السلام : فلو أنّ شهودا شهدوا على فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفاحشة ما

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.


كنت صانعا بها؟ قال : كنت أقيم عليها الحدّ كما أقيم على نساء المسلمين. قال علي عليه‌السلام : كنت إذن عند الله من الكافرين. قال : ولم؟

قال عليه‌السلام : لأنّك رددت شهادة الله لها بالطّهارة وقبلت شهادة النّاس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدك وقبضته في حياته ، ثمّ قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها وأخذت منها فدك وزعمت أنّه فيء للمسلمين ، فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر فرددت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه.

قال : فدمدم النّاس فأنكر بعضهم بعضا وقالوا : والله صدق عليّ عليه‌السلام (١). انتهى موضع الحاجة من الحديث الشّريف اللّائح منه أمارات الصّدق الدّال على حالة من تقدّم عليه عليه‌السلام ما لا يخفى على النّاظر إليه.

ولا يخفى ظهوره فيما سيستظهره ( دام ظلّه ) منه : من عدم قدح تشبّثها عليها‌السلام باليد وكونها عليها‌السلام منكرة دعواها تلقّي الفدك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمان حياته وجعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها عليها‌السلام بأمر الله تعالى بعد نزول الآية الشّريفة : فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (٢) وهو المراد من الميراث في الرّواية كما يدلّ عليه قولها عليها‌السلام : وقد جعله لي أبي في زمان حياته » وشهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام وأمّ أيمن الانتقال بالموت كما هو الظّاهر منه عند الإطلاق ، ولا ينافيه محاجّتها عليه‌السلام على أبي بكر في رواية أخرى طويلة بآيات الإرث ، وقولها عليه‌السلام له : « يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث

__________________

(١) الاحتجاج : ج ١ / ١٢١.

(٢) الروم : ٣٨.


أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريّا » (١).

فإنّه لمّا ادّعى أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث وإنّ تركتنا فيء وصدقة » تمسّكا بشهادة بعض من حضر من المنافقين أرادت ردعه عن هذا الحديث الباطل المجعول ، وإلّا فالواقع ما ذكرته عليه‌السلام في هذه الرّواية من كونه نحلة لها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن أمكن القول : بأنّها في الرّواية الأخرى الطّويلة في مقام المحاجّة أظهرت إبطال دعوى أبي بكر ، وتمسّك بوجهين :

أحدهما : أنّ ما ادّعاه من عدم توريث الأنبياء وأنّ تركتهم صدقة باطل.

ثانيهما : أنّ انتقال الفدك على تقدير الإغماض والتّسليم لم يكن بعنوان ٣ / ١٩٢ الميراث ، بل بعنوان العطيّة والنّحلة.

وكيف ما كان : دعواها ( صلوات الله عليها ) العطيّة على خلاف الاستصحاب قطعا بناء على صيرورة فدك ملكا للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانتقاله منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها عليها‌السلام بعنوان العطيّة ، وهذا بمجرّده وإن لم يكن ممّا استند فيه ذو اليد ملكه إلى تمليك المدّعي والتّلقي عنه فيستظهر منه في باديء النّظر عدم ارتباطه بما أفاده ( دام ظلّه ) ، إلّا أنّه بعد ضمّ المقدّمة الباطلة إليه ـ الّتي ادّعاها أبو بكر : من كون فدك لو لا العطيّة والنّحلة ملكا للمسلمين وكونه وليّا عليهم ، وإن أخذه فدكا من وكيلها عليها‌السلام من باب الولاية عليهم ـ يجعله منه ؛ إذ لا فرق في استناد ذي اليد ملكه إلى التّلقي من المدّعي ، أو من مورّثه ، أو ممّن ينتقل الملك منه إلى المدّعي بسبب آخر على تقدير فساد دعوى ذي اليد ، كما في فرض الرّواية المبني على تسليم

__________________

(١) الاحتجاج : ج ١ / ١٣٨.


مقدّمات واضحة البطلان ، منها : الإغماض عن عصمة الصّديقة الطّاهرة ( سلام الله عليها وعلى أبيها وبعلها وأبنائها الطّيبين الطّاهرين ) هذا كلّه بناء على ما ربّما يستظهر من الحديث الشّريف من دعواها عليه‌السلام العطيّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا بناء على ما ربّما يستظهر منه : من كون تملّك الزهراء عليها‌السلام فدكا بتمليك الله تعالى وأنّه مستثنى من الأنفال كما هو أحد الوجهين في قوله : فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ (١) : من كونه حقّا لها بجعل الله ( تبارك وتعالى ) لا بتمليك النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمفروض الحديث غير منطبق على ما أفاده.

نعم ، بعد ضمّ مقدّمة أخرى وهي أصالة عدم التّخصيص في عموم آية الأنفال تصير فاطمة عليها‌السلام مدّعية وإن توقف بعد ملاحظتها أيضا على عدم توريث الأنبياء عليهم‌السلام وغيره من الأمور الباطلة المشار إليها ، لكنّه لا تعلّق له بالاستصحاب على هذا التّقدير حتّى ينطبق على ما أفاده أو لا ينطبق عليه ، بل على تقدير الإغماض عن العموم لم يجز التّمسّك بالاستصحاب والفرض هذا ؛ لأنّ استصحاب عدم تملّك الصّديقة عليها‌السلام معارض باستصحاب عدم تملّك النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفرض. وكيف ما كان : دخول المسألة فيما أفاده مبنيّ على دعواها عليه‌السلام التّلقّي من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا.

ولكن يمكن أن يقال ـ خروجا عن خلاف المشهور ـ : أنّ مقتضى الاستصحاب وإن كان عدم الانتقال ، إلّا أنّه بمجرّده لا يعارض اليد ، ودعواها عليه‌السلام التّلقّي من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوى لا معارض لها ؛ لأنّ أحدا من المسلمين لم يعارضها

__________________

(١) الروم : ٣٨.


ولم يدّع خلافها. ودعوى أبي بكر إنّما هي من حيث الولاية على المسلمين لا لشخصه ، وإلّا لم يكن معنى لمطالبة البيّنة.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ المراد من المسلم إن كان من كان مؤمنا بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصدّقا لجميع ما جاء به واقعا ، فما ذكر حقّ لا محيص عنه ، إلّا أنّه لم يكن في ذلك الزّمان ، إلّا القليل ممّن رعى الحقّ فيرجع حقيقة إلى إنكار أصل دعوى ولاية أبي بكر ، وصريح الرّواية الإغماض عن ذلك ، وإن كان من يظهر الإيمان بالله والرّسول فيمنع من عدم ادّعاء أحد منهم الفدك وإنكاره على الصّديقة الطّاهرة عليها‌السلام ، ويكفي في ذلك من يروي الحديث المجعول وأقرّ عليه فتدبّر.

ثمّ إنّ إقدامها عليها‌السلام على إقامة البيّنة من أوّل الأمر وشهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام لها لا ينافي تخطئته عليه‌السلام لأبي بكر في مطالبة البيّنة منها عليها‌السلام فإنّ إقدامها عليها‌السلام ربّما يكون من باب المماشاة أو قناعة البيّنة عن اليمين وكفايتها عنها في حقّ ذي اليد كما هو المختار عندنا وجماعة.

وأمّا تعيين البيّنة في حقّها كما هو صريح قول أبي بكر فهو الّذي أبطله الأمير صلوات الله عليه بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّنة على المدّعي واليمين على من ادّعي عليه » فلا تنافي بينهما أصلا كما لا يخفى.

كما أنّ استشهاده عليه‌السلام بآية التّطهير على تخطئة أبي بكر في مطالبة البيّنة وعدم جوازها ولزوم تصديقها عليها‌السلام من حيث العلم بصدقها لا ينافي الإقدام على طيّ الدّعوى بقانون القضاء وميزان فصل الخصومة ؛ فإنّ مبناه على المماشاة أيضا.

وبقوله ( عليه وعلى أخيه ونجلهما الطّاهرين ألف التّحيّة والسّلام ) أخيرا :


أراد بيان مخالفة مطالبة أبي بكر البيّنة من الصّديقة الطّاهرة عليها‌السلام لآية التّطهير ، وقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ميزان القضاء ، فلا تنافي بينهما أصلا هذا. وإن أردت شرح القول فيما يتعلّق بالحديث الشّريف والمقام فارجع إلى ما حرّرناه في كتاب « القضاء والشّهادات » (١).

(٣٣٨) قوله : ( ولا يخفى أنّ عمل العرف عليه (٢) من باب الأمارة ) (٣). ( ج ٣ / ٣٢٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره في كمال الجودة ؛ فإنّ الحكم بأنّ بناء العرف والعقلاء في أمورهم على التّعبد ، فاسد جدّا ؛ لأنّه مخالف لما نشاهد من أنفسنا معاشر العقلاء ، بل قد عرفت ـ في طيّ كلام الأستاذ العلّامة في السّابق ـ أنّه ممّا لا معنى له ؛ لأنّ التّعبّد بشيء يتوقّف على من يتعبّد به ، وإن كان قد يناقش فيه بما لا يخفى.

__________________

(١) كتاب القضاء : ج ٢ / ١٠٦٤.

(٢) كذا وفي الكتاب « عليها ».

(٣) قال المؤسس الأصولي الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انّ عدم كون اعتبار اليد من باب التعبّد وأنّ اعتبارها ذاتي أظهر من أن يستدل له بظاهر النص أو الفتوى ولكن كونها أمارة بالذات أوضح فسادا ، وكيف يمكن سقوط الأمارة عن الإعتبار بجريان أصالة عدم الإنتقال مع انه لا يخفى على ذي مسكة انّ مجرّد صيرورة مال شخص تحت يد غيره لا يجعله مدّعيّا ، بل عدم الإعتداد باليد في صورة المعارضة من البديهيّات عند العوام ، مع انّها لو كانت أمارة لم يكن وجه لتقدّم البيّنة عليها مطلقا بل كانت معارضة لها » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣١٦.


تقدّم البيّنة على اليد

(٣٣٩) قوله : ( وأمّا تقديم البيّنة على اليد ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٢٣ )

أقول : لا يخفى عليك كمال جودة ما ذكره ( دام ظلّه ) : من عدم دلالة تقديم البيّنة على اليد على كون اليد من الأصول لا الأمارات ؛ فإنّك قد عرفت غير مرّة : أنّه قد يوجد الحكومة والورود بين الدّليلين الاجتهاديّين ، كما يوجد التّعارض بينهما. وأمّا ما ذكره في وجه تقديم البيّنة على الاستصحاب ، فالظّاهر منه كونه من باب ورود البيّنة على اليد من حيث كون اعتبارها من جهة الغلبة الموجبة للحوق المشكوك فيما لم يكن هناك أمارة معتبرة تنجيزيّة على الخلاف ، وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك فراجع إليه.

__________________

(١) قال المؤسس الطهراني قدس‌سره :

وفيه : انّ كون اليد أمارة قاطعة للإستصحاب لا معنى له إلّا كونها دالّة على وجود المزيل ، والمزيل إنّما هو السبب الرافع للملك السابق وليس كون البيّنة مبيّنة للسبب إلّا بحكم دليل الإعتبار الذي هو أصل من الأصول ، ومن المعلوم انّ البيّنة أيضا دليل للجاهل بالواقع وكون اليد أمارة على المسبّب والبيّنة على السبب مجازفة صرفة لا ترجع إلى محصّل.

وأيضا لو كانت اليد أمارة لم يكن وجه لعدم سماع قول ذي اليد وإن انقلب مدّعيّا كما توهّمه فيما إذا أقرّ بانه كان لغيره وانتقل منه إليه مع إنكاره الإنتقال ؛ فإنّ المدّعي مع قيام أمارة على دعواه لا وجه لعدم سماع دعواه » إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣١٦.


(٣٤٠) قوله : ( وحال اليد مع الغلبة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٢٣ )

التنبيه على غلط الناسخ

أقول : لا يخفى عليك أنّه كان عليه أن يبدّل الغلبة بالبيّنة ، والظّاهر أنّه غلط ٣ / ١٩٣ من النّاسخ وسيجيء تحقيق القول في حكم تعارض النّص والظّاهر في الجزء الرّابع من التّعليقة إن شاء الله تعالى.

* ٢ ـ تقدّم قاعدة الفراغ والتجاوز على الإستصحاب

(٣٤١) قوله : ( وإمّا لأنّها وإن كانت من الأصول ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢٥ )

أقول : لا فرق في ذلك بين القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن ، أو من باب التّعبّد لما قد عرفت سابقا في وجه تقديم اليد على الاستصحاب بناء على القول باعتبارها من باب التّعبّد وكون اعتباره من باب الظّن فراجع.

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« فكما ان أصالة الحقيقة يكون أمارة عند السيد رحمه‌الله حيث لم يكن هناك أمارة على المجاز ، كانت اليد حجّة إذا لم يكن في البين بيّنة.

ثمّ لا يخفى انّه لا وجه للتّرقي من ذلك بقوله : « بل » حال مطلق الظّاهر والنّصّ ، فإنّ خصوصيّة القطع بخلاف الظّاهر مع النّص منتفية فيها قطعا ، ومع الغض عنها لا خصوصيّة فيهما لم يكن في أصالة الحقيقة مع أمارات المجاز ، إلّا أن يكون أصالة الحقيقة عند السيّد حجّة من باب التعبّد ، فلا يكون وجه للمقايسة بينهما ، لكون اليد حجّة من باب الأمارة ، ولعلّه أشار إليه بقوله : « فافهم » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٤.


(٣٤٢) قوله : ( وربّما يستفاد العموم من بعض ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢٧ )

أقول : لا يخفى عليك الوجه في استفادة العموم من الرّواية الأخيرة ؛ فإنّ قوله : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك » (١) في قوّة العلّة المنصوصة والتّعليل بالصّغرى الدّال على الكبرى المسلّمة المفروغ عنها كما لا يخفى.

وأمّا الوجه في استفادته من الرّواية الثّانية : فبأن يدّعي أنّها في مقام إعطاء الضّابطة والحكم باعتبار المضي والتّجاوز عن الشّيء مطلقا بإلقاء خصوصيّة الصّلاة والطّهور وإن كان لا يخلو عن إشكال.

وأمّا الوجه في استفادته من الرّواية الأولى : فهو دعوى كونها في مقام إلقاء الشّك المتجاوز عن محلّه ، والمراد من الحائل : هو مجرّد الدّخول في حالة مغايرة والانتقال إليها.

ولكنّك خبير بأنّ هذه الاستفادة مشكلة.

__________________

(١) التهذيب : ج ١ / ١٠١ ـ ح ٢٦٥ ـ ١١٤ ـ عنه الوسائل : ١ / ٤٧١ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ـ ح ٧.


تنقيح مضامين الأخبار (١)

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

إعلم ان المستفاد بالتأمّل في الأخبار : ان هاهنا قاعدتين :

إحداهما : قاعدة مضروبة للشك في صحّة الشّيء لأجل الشّك في الاخلال ببعض ما اعتبر فيه شطرا أو شرطا بعد الفراغ عنه.

ثانيهما : قاعدة مضروبة للشّك في وجود الشّيء بعد التّجاوز عن محلّه مطلقا ، او في خصوص أجزاء الصّلاة وما بحكمها كالأذان والإقامة كما ليس ببعيد. وذلك لأن الظّاهر من هذه الصحيحة ورواية إسماعيل بن جابر هو القاعدة الثانية ، كما انّ ظاهر الموثّقة « كلّما شككت فيه ... إلى آخره ـ » هو القاعدة الأولى ، مضافا إلى ما ورد بهذا المضمون في خصوص الوضوء والصّلاة في غير واحد من الأخبار كما في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام :

« كلّما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض » وفي رواية زرارة عنه : « فإذا قمت من الوضوء وفرغت عنه وقد صرت في حال أخرى في الصّلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمى الله ممّا اوجب الله عليك فيه وضوئه ، لا شيء عليك فيه ـ الخبر ـ » إلى غير ذلك من الأخبار.

ولا يخفى أنّ إرجاع الطّائفتين إلى الأخرى بحسب المفاد أو إرجاعهما إلى ما يعمّهما أو ما يعمّ القاعدتين من كلّ منهما ، لا يخلو من تكلّف وتعسّف بلا وجه موجب له أصلا ، مع ما يرد عليه من الإشكال الاتي في خروج أفعال الطّهارات من القاعدة مع التحمّل في اندفاعه وعدم وروده على ما استفدناه من القاعدتين على ما ستطلع عليه.

ثمّ الظّاهر من دليل القاعدة الأولى عدم اختصاصها بباب دون باب بل يعم العبادات والمعاملات والظّاهر من دليل القاعدة الثّانية هو اختصاصها بأجزاء الصّلاة وما يحسب منها كالأذان والإقامة ، أو تخصيصها بغير أجزاء الوضوء او مطلق أفعال الطّهارات بناء على عدم


__________________

الفصل بينها ، وانّه من المسلّمات بالإجماع على ما نقله غير واحد ، وبعض الأخبار الدّال على الإلتفات إلى الشّك ما دام في حال الوضوء مفهوما ومنطوقا مثل صحيحة زرارة المتقدّمة ، أو مفهوما مثل موثقه ابن أبي يعفور بناء على عود ضمير « في غيره » إلى الوضوء لئلا يخالف الإجماع والصّحيحة ، مع انّه أقرب ، وعلى كون المراد من « الشّكّ في شيء » الشّكّ في مركّب شكّ بعد الفراغ عنه وفي بعض ما يتألّف عنه ، فإنّها يدلّ بمفهوم القيد تارة على هذا ، وبمفهوم الحصر أخر على الإعتناء والالتفات في الأثناء.

أمّا إختصاصها بذلك فإنّ قوله « إذا خرجت من شيء » في صحيحة زرارة ، وقوله في رواية ابن جابر : « كلّ شيء شكّ فيه » لو لم يكن ظاهرا في خصوص شيء من افعال الصّلاة بقرينة السّؤال عن الشّكّ في غير واحد منها في صدر كلّ واحد منها ، فلا اقلّ من عدم الظّهور في العموم لغيرها كما لا يخفى فإنّ تكرار السؤال من خصوص الأفعال يمنع عن مفهوم إطلاق شيء بغيرها.

إن قلت : لو سلّم ذلك فإنّما هو في الصّحيحة ، لكون العموم فيها بالإطلاق دون الرّواية فإنّ العموم فيها بالوضع.

قلت : الكلام إنّما هو في المراد من لفظ « الشّيء » هل هو مطلق الشّيء ليدلّ بلفظ كلّ على استيعاب جميع أفراده ، أو خصوص شيء من افعال الصّلاة ليدلّ على استيعاب جميع أفراد خصوص هذا الشيء ، ودلالته على المطلق ليس إلّا بالإطلاق بمقدّمات الحكمة على ما هو التّحقيق ، فالكلّ إنّما هو للدّلالة على الاستيعاب واستغراق تمام أفراد ما يراد من مدخوله أمّا أنّ المراد منه هو المطلق أو المقيّد ، فإنّما هو بالإطلاق مع مقدّمات الحكمة أو مع عدمها كما إذا لم يكن من هذه الجهة في مقام البيان ، أو كان مع وجود القدر المتيقّن في البين كما في المقام ، فإنّ سبق السؤال عن غير واحد من أفعال الصّلاة يوجب كون إرادة شيء من الأفعال منه متيقّنا ، ولذا لو قيد الشّيء بقرينة متّصلة أو منفصلة لا يلزم خلاف أصل في لفظ « كلّ ».


(٣٤٣) قوله : ( إنّ الشّك في الشّيء ظاهر لغة ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٣٢٩ )

__________________

نعم لو أريد من مدخوله الشّيء ، لا شيء خاصّ ، وأريد منه بعض أفراده بمخصّص متّصل كالاستثناء أو منفصل ، كان ذلك على خلاف ما هو الأصل من وضعه للعموم واستيعاب أفراد مدخوله ، فافهم ذلك ، فإنّه مفيد.

وأمّا تخصيصها بغير الطّهارات بناء على تسليم العموم لغير الأفعال ، فإنّما هو لصحيحه زرارة الدّلالة بمنطوقها ومفهومها على الالتفات إلى الشّك في أثناء الوضوء بضميمة عدم الفصل بينه وبين الغسل والتّيمّم ، فأفعال الطّهارات لا يكون موردا لقاعدة التّجاوز تخصيصا أو تخصّصا ، وإنّما يكون في مورد القاعدة الفراغ إذا شكّ فيها بعد الفراغ لاحتمال الإخلال ببعض ما اعتبر فيها شطرا أو شرطا ، فلا تغفل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٥ ـ ٣٩٧.

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« قد ظهر بما ذكرنا في الحاشية السابقة أنّ المراد من الشّكّ في الشّيء في أدلّة قاعدة التجاوز ، الشّكّ في أصل وجوده ، وفي أدلّة قاعدة الفراغ ، الشّكّ فيه باعتبار الشّكّ في بعض ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا ، فيكون المراد من التّجاوز ومن الخروج في الأولى هو التّجاوز والخروج عن محلّ الشّيء ، والمراد من المضي في ادلّة الثّانية مضيّ نفس الشّيء فلا داعي ، إلى حمل الشّكّ في الشّيء في جميع الأخبار على إرادة الشّكّ في وجود الشّيء ، كي يبعد في ظاهر بعض الأخبار ، ولا يصحّ في الآخر إلّا بتوجيه بعيد على ما تعرف عن قريب ، فتدبّر جيّدا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٧.

* وقال المحقق المدقّق الطهراني قدس‌سره :

وفيه من الأنظار ما لا يخفى :

منها : ان ظهور الشك في الشيء فيما ذكر ليس بحسب اللغة ، بل إنّما هو ظهور إنصرافي ، وإلّا فالشك في وجود الشيء لأجل الشك فيما يعتبر فيه شرطا أو شطرا شك في ذلك الشيء حقيقة.


١ ـ معاني الشك في الشيء

أقول : لا يخفى عليك أنّ الشّك في الشّيء يطلق على ثلاثة معان :

أحدها : كون المشكوك نفس الشّيء الّذي دخلت كلمة في « عليه » كما هو الظّاهر الغالب في إطلاقه فيكون « في » إذن للتّعدّي والصّلة ، وهي بهذا المعنى تقدّر في المشكوك كما لا يذكر معه لفظه ، فهذا الإطلاق يكون جاريا على طبق الأصل

__________________

ومنها : انّ التقيّد بالمضيّ والتجاوز لا ينافي كون الشك في اصل الوجود ؛ فإنّ التجاوز والمضيّ ليس على حقيقتهما ؛ ضرورة انّ المعنى الحقيقي لا يمكن إلّا مع وجود الشّيء وهو مع انتفاء ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا مستحيل بالضرورة ، فالأمر بالإمضاء أي : البناء عليه لا يجامع الشك في المضيّ إلّا إذا كان المضيّ المعلوم غير المضيّ المشكوك فيه.

والحاصل : انه لا إشكال في ان مفاد القاعدة البناء على المضيّ مع الشك في مضيّه فلا بدّ من الإختلاف بين المضيّ المعلوم الذي هو موضوع الأصل وبين المضيّ المأمور به الذي هو الحكم ولا فرق بين جهات الشك في الشيء مع انّ الشك في الركوع بعد ما سجد ، وفي السجود بعد ما قام لا إشكال في ظهورها في انّ المشكوك فيها أصل وجودهما.

ومنها : انّ التجاوز عن المحلّ بمعنى يغاير تجاوز الشّيء نفسه لا يمكن إرادته من هذه الروايات وأمّا التجاوز عن المحلّ بمعنى يصدق عليه التجاوز عن الشيء ومضيّه فليس وجها مغايرا لمضيّ الشيء نفسه.

ومنها : فإن إرادة الأعم من الشك في وجود الشيء والشك الواقع في الشيء الموجود لا مانع منها ؛ فإن الشك من جهة الشك في الجزء والشرط في الحقيقة شك في وجود الشيء ؛ ضرورة انتفاء الشيء بانتفاء ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣١٩ ـ ٣٢٠.


في الأفعال المتعدّية بالحروف ، فعلى هذا يكون المراد من « الشّيء » الّذي دخلت عليه هو المشكوك ، سواء كان المراد منه الشّيء باعتبار وجوده ، أو هو باعتبار صحّته ، أو نفس الصّحة والوجود ، أو غيرها من الأشياء.

ثانيها : كون مدخول « في » ظرفا للمشكوك كما يقال : « شككت في الصّلاة في إتيان السّورة » لا نفس المشكوك.

ثالثها : كون مدخولها ظرفا للشّك دون المشكوك باعتبار حصول الشّك فيه في المدخول ، كما يقال : « شككت في الصّلاة في موت زيد ، أو قيام عمرو ، أو جلوس بكر » إلى غير ذلك.

والظّاهر من هذه المعاني عند الإطلاق مجرّدا عن الصّارف هو الأوّل بمقتضى حكم العرف على ما عرفت ، بل قد يدّعى كون لفظة « في » حقيقة فيه ، وإن كانت هذه الدّعوى لا تخلو عن تأمّل.

وبالجملة : ظهورها فيه ممّا لا ينبغي إنكاره ، مضافا إلى كونه مطابقا للاعتبار من حيث إنّ احتياج الشّك إلى المشكوك أكثر من احتياجه إلى المشكوك فيه هذا.

ولكنّك خبير بأنّ مطابقة الاعتبار لا يجدي شيئا ؛ لأنّ المدار في باب الألفاظ على الأقربيّة العرفيّة لا الاعتباريّة ؛ فإنّه لا اعتبار بها أصلا كما لا يخفى.

ثمّ إنّ من المعلوم الّذي لا يحتاج إلى البيان كون هذه المعاني للفظة « في » متضادّة لا يجوز إرادتها من إطلاق واحد ، وعدم وجود قدر مشترك لها حتّى يحكم بإرادتها من إرادته ، مع أنّه لو كان لم يجز استعمال اللّفظ فيه ؛ حيث إنّ المستعمل فيه في الحروف دائما هو الخصوصيّات لا القدر المشترك بينها كما حقّق


مستقصى في محلّه (١).

وبالجملة معاني الحروف معان آليّة ربطيّة جزئيّة لا يجوز جمعها في إطلاق واحد وليست ثمّة وحدة تجمعها حتّى تصير مصحّحة لإرادتها.

إذا عرفت ذلك فنقول : أمّا المعنى الثّالث فلا نتكلّم فيه ؛ إذ لا تعلّق له بالمقام وليس المراد من الأخبار يقينا ، وإنّما الأمر دائر بين الحكم بإرادة المعنى الأوّل من الأخبار ، أو الثّاني ، فالكلام يقع في مقامين :

أحدهما : في تعيين ما هو المراد من المعنيين.

ثانيهما : في بيان حكم كلّ من المعنيين ولازمه.

ما هو المراد من المعنيين الأوّليين؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل :

فملخّص القول فيه : أنّه قد يقال : بكون المراد في جملة من الرّوايات هو المعنى الثّاني لا الأوّل ؛ حيث إنّ الظّاهر من المضي على المشكوك وتجاوزه والخروج عنه كون أصل وجوده مفروغا عنه ، وكون المراد من نسبة وقوع الشّك هو وقوعه فيه باعتبار بعض ما يعتبر فيه شرطا أو شطرا ، فالأخبار المشتملة على هذه الأمور ظاهرة في المعنى الثّاني لا الأوّل ، ولا محتملة لإرادة كلّ من المعنيين على حدّ سواء حتّى توجب الإجمال فيها.

وقد يقال : إنّ المراد منها المعنى الأوّل ؛ فإنّ إمضاء الشّيء لا يستلزم وجوده

__________________

(١) انظر بحث المعاني الحرفيّة في الوضع من ابحاث مقدّمة مباحث الالفاظ من الكتب الأصوليّة.


يقينا ، بل المراد من إمضائه هو الحكم بأنّه كذلك في الواقع ونفس الأمر. وأمّا الخروج والتّجاوز : فالمراد منهما هو الخروج والتّجاوز عن محلّ المشكوك ، وإن كان ظاهرهما التّجاوز عن نفس المشكوك ؛ إذ مورد أكثر الأخبار المشتملة عليها هو الشّك في أصل الوجود ، وتخصيص المورد ممّا لا معنى له وإرادة المعنيين معا أيضا قد عرفت فساده ، فلا بدّ من أن يراد المعنى الثّاني هذا.

ولكنّك خبير بأنّ جميع الرّوايات المذكورة حسبما اعترف به الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في مجلس البحث وفي « الكتاب » ليس موردها ما يوجب إرادة المعنى الأوّل ، بل الّذي ثبت إنّما هو بالنّسبة إلى بعضها ، والمفروض أنّه لا تعارض بين ما يكون ظاهرا في المعنى الأوّل وبين ما يكون ظاهرا في المعنى الثّاني ؛ إذ هما من المثبتين اللّذين لا تعارض بينهما بالذّات ، والمفروض وجود القول من الأصحاب بكلّ من المعنيين ، فيحكم بإرادته.

والقول : بأنّ الرّاجع إلى الأخبار المتأمّل فيها يعلم أنّها بأسرها وردت لبيان ٣ / ١٩٤ مطلب واحد فالمتعيّن إذن الأخذ بالمعنى الأوّل ، لا شاهد له أصلا.

حكم كلّ من المعنيين ولازمه

وأمّا الكلام في المقام الثّاني :

فحاصل القول فيه : أنّه بناء على المعنى الأوّل يختصّ الأخبار بالشّك في الوجود بناء على كون الظّاهر من الشّك في الشّيء بالمعنى الأوّل : هو الشّك في وجوده ؛ من حيث إنّه العنوان الأوّلي له ، وبه يصير الشّيء شيئا. وهذا بخلاف الأوصاف الطّارية عليه بعد الوجود ؛ فإنّه إذا شك فيها لا يستند الشّك إلى


معروضها بالمعنى الأوّل ، بل لا بدّ من أن يكون مبنيّا على المعنى الثّاني.

ومنه يظهر فساد ما قد يقال : إنّه لا ضير في إرادة القدر الجامع من الشّك في الشّيء بأن يراد منه كون الشّك متعلّقا به بنحو من التّعلّق ؛ لما قد عرفت : أنّه لا جامع بين هذين المعنيين ، ومطلق التّعلّق ليس من المعنى الحرفي ، بل من المعنى الاسمي. ومن هنا ذكرنا في الجزء الثّاني من التّعليقة (١) ـ في ردّ من زعم جواز إرادة التّقسيم والتّرديد من قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال » (٢) ـ : أنّ استعمال قوله عليه‌السلام منه في المعنيين موجب لاستعمال اللّفظ في أكثر من معنى ؛ إذ لا جامع بينهما والله العالم وبه الاعتصام.

فالرّواية على هذا المعنى تختصّ بالشّك في الوجود ولا يشمل الشّك في الصّحة ، وعلى المعنى الثّاني يختصّ بالشّك في الصّحة ولا يشمل الشّك في الوجود ؛ لأنّ المفروض كون المشكوك إذن بعض ما يعتبر في الشّيء شطرا أو شرطا. وقد عرفت : أنّه لا جامع بين الشّك في الشّيء بالمعنى الأوّل وبينه بالمعنى الثّاني.

(٣٤٤) قوله : ( بل لا يصحّ ذلك في موثقة ابن أبي يعفور ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢٩ )

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ٢٢.

(٢) انظر محاسن البرقي ج ٢ / ٤٩٥ باب الجبن ـ ح ٥٩٦ ، والكافي : ج ٥ / ٣١٣ باب النوادر ـ ح ٣٩ ـ وج ٦ / ٣٣٩ باب الجبن ـ ح ١ ، والفقيه : ج ٣ / ٣٤١ ـ ح ٤٢٠٨ ، والوسائل عن الكافي والفقيه : ج ١٧ / ٨٨ باب عدم جواز الإنفاق من الكسب الحرام ... » ـ ح ١ وج ٢٥ / ١١٧ باب « جواز أكل الجبن ونحوه ممّا فيه حلال وحرام ... » ـ ح ١ وفي لفظ الرواية اختلاف يسير بين المصادر.


أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يورد عليه : بأنّ المتعيّن في الموثّقة هو المعنى الأوّل بمقتضى ظاهرها ؛ فإنّ الظّاهر من قوله : « إذا شككت في شيء من الوضوء » (١) كون المراد من الشّيء نفس المشكوك الّذي هو جزء الوضوء ، لا كون المراد منه الوضوء وكون المشكوك أجزاءه حتّى يتعيّن إرادة المعنى الثّاني ، ولا ينافيه كون المراد من الغير غير الوضوء بالإجماع ؛ إذ لا تنافي بينهما ، فلا يصير دليلا على كون المراد من الشّيء نفس الوضوء ، بل ربّما قيل بكونه يصير دليلا على كون مرجع الضّمير هو الوضوء فتأمّل.

وبالجملة : كلّما نتأمّل لا نفهم وجها لما ذكره أصلا ، بل أصل إرادة المعنى الثّاني من الرّواية لا يستقيم بظاهرها ؛ لانحصار تصحيحه بجعل قوله : « ومن الوضوء » بيانا للشّيء وهو كما ترى فتدبّر.

(٣٤٥) قوله : ( ولكنّ الإنصاف : إمكان تطبيق ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٢٩ )

أقول : قد عرفت وجه تطبيقه على وجه يمكن إرادة المعنى الأوّل فراجع ، وأمّا الموثّقة الثّانية : فوجه تطبيقها على ما في الرّوايات هو جعل الوضوء أمرا بسيطا في نظر الشّارع لا تركيب له أصلا حتّى يتصوّر فيه المعنى الثّاني وستقف على شرح القول فيه.

__________________

(١) التهذيب : ج ١ / ١٠١ ـ ح ٢٦٢ ـ ١١١ ، عنه الوسائل : ج ١ / ٤٧٠ باب ٤٢ من أبواب الوضوء ـ ح ٢.


٢ ـ ما هو المراد من « محلّ الشيء المشكوك فيه »؟

(٣٤٦) قوله : ( إنّ المراد بمحلّ الفعل المشكوك في وجوده ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك ظهور ما ذكره من التّعميم على القول بكون المناط المستكشف من الأخبار هو مجرّد التّجاوز عن محلّ المشكوك فيلغو الشّك فيه بعده ، وأمّا على القول باعتبار الدّخول في الغير فيمكن الحكم بالتّعميم أيضا فنقول على تقديره : إنّ المراد من الغير هو ما كان مترتّبا على المشكوك إمّا ترتّبا شرعيّا ، أو عقليّا ، أو عرفيّا ، أو عاديّا ، فلا فرق في التّعميم بين القولين.

ثمّ إنّ الدّليل على هذا التّعميم هو كون التّجاوز عن المحلّ ، أو الدّخول في الغير من قبيل غيرهما من الألفاظ الّتي لا بدّ من الرّجوع في المراد منها عموما وخصوصا ، إطلاقا وتقييدا إلى اللّغة ، أو العرف ، أو الشّرع على ما هو الشّأن في جميع موارد تعلّق الحكم باللّفظ. والمفروض عدم ثبوت الحقيقة الشّرعيّة فيها ، فتعيّن الرّجوع فيها إلى اللّغة والعرف ، وليس اختلاف بينهما في المقام حتّى نتكلّم في ترجيح أحدهما على الآخر ، مع أنّه لا إشكال في ترجيح الثّاني ، ومن المعلوم حكم العرف بما ذكرنا من التّعميم.

(٣٤٧) قوله : ( ومحل الرّاء من أكبر قبل أدنى فصل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الرّاء في « أكبر » ليس من الرّاء السّاكن ، فلعلّه سهو


من قلمه الشّريف ، فالمتعيّن المثال له بالكاف (١).

(٣٤٨) قوله : ( فإنّه ربّما يتخيّل انصراف إطلاق الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك فساد هذا التّخيّل ؛ إذ لا وجه له أصلا ؛ إذ لو بني على أنّ المراد بالمحلّ هو المحلّ الشّرعي ، وأنّ المراد بالغير هو الأمر المترتّب شرعا على المشكوك ، فلا بدّ من أن يبتنى على عدم اعتبار غير المحلّ الشّرعي والغير الشّرعي. وهو كما ترى ، مضافا إلى أنّه لا شاهد لهذا الانصراف أصلا كما لا يخفى.

(٣٤٩) قوله : ( مع أنّ فتح هذا الباب بالنّسبة إلى العادة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٠ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ البناء على اعتبار المحلّ مطلقا وبعمومه يلزم منه فروع لا يلتزم بها الفقيه قطعا ، بل لا يبعد كون الالتزام به في بعض الفروض خلاف الضّرورة من الفقه ، والفرق أيضا ممّا لا معنى له.

نعم ، ظاهر جماعة ـ حسبما حكى عنهم الأستاذ العلّامة ـ الالتزام باعتبار العادة في معتاد الموالاة في الغسل ، فإذا شكّ وقت الظّهر أنّ الغسل الّذي فعله سابقا كان تامّا من حيث الأجزاء من حيث كونه ترتيبيّا مع اعتياده عدم الفصل

__________________

(١) قال المحقق الشيخ رحمة الله الكرماني رحمه‌الله :

« لمّا كان الرّاء من أكبر ساكنة في تكبيرة الإحرام لم يجز تحريكها ووصلها وإن كانت في غير هذا الموضع يجوز وصلها وتحريكها فمحلّها بعد الباء بلا فصل يوجب الإبتداء بالساكن ، والحاكم بهذا المحل هو العقل بعد ملاحظة عدم جواز تحريك الرّاء وتعذّر الإبتداء بالساكن فيحكم بأن محلّها بعد الفراغ من الباء بلا فصل.

والعجب من المحقّق الآشتياني حيث قال هنا : ( لا يخفى عليك أن الراء ... إلى آخره ) فقد عرفت : انّ السهو في قلمه لا في قلمه الشريف » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّي : ٤١١.


بين أجزائه ـ كما هو المتعارف ـ بنى على وقوعه تامّا.

ولكن لم يظهر من هؤلاء الالتزام بهذه المقالة في أمثال الفرع ممّا أشار إليه الأستاذ العلّامة وممّا لم يشر إليه من الفروع الكثيرة الغير المخفيّة على المتأمّل ، ولكن لم يفهم المراد ممّا ذكره الأستاذ العلّامة : من أنّ فتح باب اعتبار العادة يوجب مخالفة إطلاقات كثيرة.

فإنّه إن أريد به إطلاقات أوامر الأفعال. ففيه : أنّ الأوامر المتعلّقة بالأفعال لا يقتضي إلّا وجوب إيجادها في الخارج ، أمّا وجوب الإتيان بها وامتثالها عند الشّك فيها فهو حكم عقلي لا دخل له بحديث الإطلاقات والعمومات ؛ من حيث إنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة ، بل لا يمكن استفادة هذا المعنى من هذه الأوامر حسبما قرّر تفصيل القول فيه في محلّه.

وإن أريد به إطلاقات أوامر وجوب الإطاعة. ففيه : أنّ التّمسك بإطلاقاتها في صورة الشّك أيضا ممّا لا معنى له ؛ لأنّ غاية ما يستفاد منها هو أصل وجوب إطاعة الأمر المتوجّه إلى الشّخص. وأمّا الإقدام بالفعل في صورة الشّك ، فلا يمكن أن يستفيد منها ؛ لأنّه من التّمسك بالعمومات والإطلاقات مع الشّك في الموضوع وهو كما ترى هذا.

مع أن هذه الأوامر إمضاء لما يحكم به العقل ، فليست في مقام تأسيس حكم حتّى يتمسّك بإطلاقها. وبالجملة : الحكم بإلقاء العادة من جهة الإطلاق والحكم باعتبارها أيضا مشكل في غاية الإشكال : من عمل جماعة به في الجملة ، وكونه مقتضى قوله في بعض الرّوايات : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » ، ومن كون البناء عليه مستلزم لتأسيس فروع جديدة لم يلتزم بها أحد من الفقهاء.


فالحقّ : أنّ الرّجوع إليه بإطلاقه لا يجوز. وأمّا الحكم بمقتضاه في المورد الّذي حكموا به كما في الغسل ، ومعتاد الاستنجاء حيث حكم بعض الأساطين بعدم اعتبار الشّك فيه بعد الخروج عن بيت الخلاء لمن كان الاستنجاء من عادته فلا يخلو عن إشكال أيضا. وإن لم يكن بمثابة الالتزام بالإطلاق ؛ فإنّا نعلم إنّ حكمهم بعدم الاعتناء بالشّك فيما حكموا به ليس من أجل دليل تعبّدي خاصّ وصل إليهم ، بل من أجل نفس عموم الأخبار المتقدّمة.

٣ ـ هل يعتبر في التجاوز والفراغ الدخول في الغير أم لا؟

(٣٥٠) قوله : ( الدّخول في غير المشكوك إن كان محقّقا ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٣٢ )

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« لا يخفى ان هذا الموضع مشتمل على مطلبين يمكن إفراد كلّ منهما بالبحث :

أحدهما : ان المناط في جريان القاعدة مجرّد صدق التجاوز عن المشكوك والفراغ عنه أم يعتبر مع ذلك تحقق الدخول في الغير؟

الثاني : ان المراد بالغير ما هو؟ هل هو مطلق غير المشكوك فيه كائنا ما كان ، أو الأفعال المعنونة بعنوان خاص عرفي أو شرعي ، أو خصوص الثاني منهما ، أو الفعل المعتدّ به دون الفعل الحقير أو اليسير لكنّ لمّا كان أحد البحثين متفرّعا على الآخر ناسب إدراجهما في موضع واحد.

بيان ذلك : أنّ فائدة البحث الأوّل إنّما تظهر في محل انفكاك عنوان الدخول في الغير عن عنوان التجاوز والفراغ وإلّا فإن لم يكن هناك انفكاك يلغو هذا البحث بالمرة ، وإنّما يتصوّر


__________________

الانفكاك إذا لم يكن المراد بالغير مطلقة وإلّا فكلّما تحقق عنوان التجاوز عن الشيء صدق الدخول في مطلق غيره ، بل إذا كان المراد بالغير أحد المعاني الباقية فحينئذ يمكن صدق التجاوز بمجرد الخروج عن الشيء والدخول في شيء آخر ولكن لم يدخل فيما اريد من الغير من العناوين المذكورة.

وبالجملة : فقد تبيّن وجه صرف المصنّف كلامه في خلال البحث الأول إلى البحث الثاني وأنه مبني للبحث الأوّل ، ومحصّل ما أفاده فيه في المتن : أنّ الظاهر من لفظ « غيره » المذكورة في أخبار الباب وإن كان مطلق غير المشكوك إلّا أنّ الأمثلة المذكورة في خبر اسماعيل بن جابر بملاحظة كونها في مقام التحديد ومقام التوطئة للقاعدة المقرّر بقوله عليه‌السلام بعدها : « كل شيء شك فيه وقد جاوزه » إلى آخره ، تدل على انّ حدّ الغير الذي يعتبر الدخول فيه أمثال الركوع والسجود والقيام ونحوها من الأفعال المعنونة المجعولة أجزاء مستقلة للصلاة دون مثل الهويّ للسجود والنهوض للقيام وأمثالهما من مقدمات الأفعال المذكورة ، فالقاعدة مضروبة لأمثال هذه الأمثلة لا تعم غيرها.

وبعبارة أخرى : خصوصية صدر الخبر تصير قرينة على تخصيص عموم الذيل ، ونحن نقول هذه المسألة سيالة في نظائر المقام مما إذا ذكر في صدر الكلام حكما لمورد خاص وعلّله بعلة عامة ، فهل تكون خصوصيّات المورد وقيوده المأخوذة فيه قرينة لصرف عموم العلة إلى أمثاله مما اشتمل على تلك القيود أم لا ، بل يؤخذ بعمومها بحسب مدلولها في حد نفسه ، فتكون قيود المورد ملغاة فيما يرجع إلى حكمه ، هذا.

ومن جملة أمثلته موثقة ابن أبي يعفور « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء إنّما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه » فانه فرض المسألة في صدرها في مورد تحقق الدخول في الغير ، وعلّق عموم التعليل في ذيلها على مجرد التجاوز ، فيحتمل أن يكون المناط هو الدخول في الغير بقرينة الصدر ، وان يكون المناط


أقول : لا يخفى عليك أنّه ربّما يتراءى في باديء النّظر من هذه العبارة كون الدّخول في الغير أعمّ من التّجاوز عن المحلّ مع وضوح فساده ؛ لأنّ الأمر بالعكس ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنّ المراد من العبارة حسبما يقتضيه التّأمل فيها هو أنّ الدّخول في الغير إن كان محقّقا للتّجاوز عن المحلّ بأن استند التجاوز إليه فلا إشكال ؛ لأنّه مجمع الاخبار المتعارضة بظاهرها وإن لم يكن الدخول في الغير محقّقا للتجاوز عن المحل ، بل تحقّق التّجاوز قبله. ففيه : إشكال ، وكيف كان : الأمر في هذا سهل.

فبالحريّ أن نصرف عنان القلم إلى بيان تعارض الأخبار والجمع بينها. فنقول :

__________________

مجرد التجاوز كما هو مقتضى ظاهر التعليل ، وذكر الدخول في الغير في الصدر من باب المثال ولأنه من الأفراد الواضحة الشائعة اختاره من بين الأمثلة ، وهكذا يكون الاحتمالان فيما نحن بصدده في خبر اسماعيل بن جابر.

والتحقيق أنّ ترجيح أحد الاحتمالين لا يدخل تحت ضابطة كلية يبحث عنه الأصولي ، لأنّ مناط الترجيح أقوائية ظهور الصدر في اعتبار خصوصيات المورد قيدا على ظهور الذيل في الإطلاق أو العكس ، فربما يكون هذا وربما يكون ذاك ، فلا بدّ للفقيه من ملاحظة خصوصيات الموارد ويختار في كل مورد ما يترجّح في نظره من أحد الوجهين ، فنقول فيما نحن فيه إنه لم يظهر لنا أنه عليه‌السلام عند ذكر هذه الأمثلة في مقام التوطئة وبصدد تحديد الغير الذي يعتبر الدخول فيه ليصير ذلك قرينة على صرف العموم إلى أمثال هذه الأمثلة ، وحيث لا صارف لظهور عموم العام يؤخذ بعمومه ويحمل اختياره لتلك الأمثلة على أنها أقرب للأذهان لكونها من الأمثلة الواضحة الشائعة ، فناسب ذكرها أوّلا ليستأنس الذهن بالمطلب ثم ذكر عموم القاعدة بحيث يشمل سائر الأفراد الخفية أو الواضحة » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٦٣ ـ ٣٦٥.


قد عرفت : أنّ النّسبة بين ما دلّ على اعتبار التّجاوز من الأخبار وما دلّ على اعتبار الدّخول في الغير عموم وخصوص مطلق ؛ فإنّ التّجاوز في غالب الأوقات وإن تحقّق بالدّخول في الغير ، إلّا أنّه قد يتحقّق أيضا بدون الدخول في الغير ، كما إذا فرض حرف آخر الكلمة ساكنا شكّ في وجوده بعد أدنى فصل ، ولا إشكال في وقوع التّعارض بين الأخبار الظّاهرة في اعتبار التّجاوز والظّاهرة في اعتبار الدّخول في الغير ؛ لأنّ الأولى تدلّ بظاهرها على كفاية التّجاوز عن المحلّ وعدم اعتبار الدّخول في الغير بمقتضى الحصر الموجود في بعضها ، والثّانية تدلّ بالمفهوم على عدم كفاية التّجاوز عن المحلّ.

والجمع بينهما يمكن بأحد الوجهين :

أحدهما : حمل الإطلاق في الطّائفة الأولى على التّقييد في الطائفة الثّانية على ما هو الأصل في تعارض المطلق والمقيّد ، فيحكم بعدم اعتبار التّجاوز إذا تحقّق بغير الدّخول ، ووجوب الالتفات إلى الشّك.

ثانيهما : حمل التّقييد في الطّائفة الثّانية على كونه واردا مورد الغالب كما في قوله تعالى : وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ (١) فليس لها مفهوم حتّى يعارض الإطلاق في الطّائفة الأولى ، بل يصير إذن من المطلق والمقيّد المثبتين اللّذين لا يحمل المطلق فيهما على المقيّد فيما كان من مقولة الوضع ؛ لعدم ثبوت التّنافي بينهما الّذي هو الدّاعي إلى الحمل كما هو واضح على من له أدنى دراية ، فيحكم إذن باعتبار التّجاوز عن المحلّ وإن انفكّ عن الدّخول في الغير.

__________________

(١) النساء : ٢٣.


والمسألة بالنّظر إلى ملاحظة نفس الجمعين في غاية الإشكال والغموض ، وإن كان ربّما يقال : إنّ الجمع الأوّل أولى ؛ من حيث إنّ الغلبة إنّما تصلح مصحّحة لذكر القيد وعدم إرادة المفهوم منه ، ومجرّد هذا لا يصلح معارضا للظّهور اللّفظي المستفاد من القضيّة المقيّدة ، إلّا أنّ لكلّ من الجمعين مقرّبا ومبعّدا ، فالّذي يقرّب الجمع الأوّل وجوه :

أحدها : قوله عليه‌السلام في موثّقة ابن أبي يعفور : « إنّما الشّك إذا كنت في شيء لم تجزه » (١) ؛ فإنّ الظّاهر منه بمقتضى كونه في مقام الحصر كون المناط مجرّد عدم التّجاوز ، وهو آب عن التّقييد بالدّخول في الغير.

ثانيها : ( ظاهر التّعليل الوارد فيما ورد في الوضوء وهو قوله عليه‌السلام هو « حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » (٢) ؛ فإنّه لا إشكال في وجود العلّة بعد التّجاوز عن المحلّ وإن لم يدخل في الغير كما هو واضح.

ثالثها : قوله عليه‌السلام في بعض الأخبار المذكورة في « الكتاب » : « كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك ... » (٣) الحديث ؛ فإنّ الظّاهر كونه واردا لبيان إعطاء

__________________

(١) التهذيب : ج ١ / ١٠١ باب « صفة الوضوء والفرض منه والسنة والفضيلة فيه » ـ ح ١١١ ، عنه الوسائل : ج ١ / ٤٧٠ باب « ان من شك في شيء من أفعال الوضوء قبل الانصراف وجب ان يأتي بما شك فيه وبما بعده » ـ ح ٢.

(٢) المصدر السابق ـ ح ١١٤ ، عنه الوسائل : ج ١ / ٤٧١ باب « ان من شك في شيء من أفعال الوضوء قبل الانصراف وجب أن يأتي بما شك فيه وبما بعده » ـ ح ٧.

(٣) التهذيب : ج ١ / ٣٦٣ باب « صفة الوضوء والفرض منه » ـ ح ٣٤ ، عنه الوسائل : ج ١ / ٤٧١


الضّابطة ، فهو آب عن التّقييد بالدّخول في الغير فهذه وجوه مقرّبة للجمع الأوّل ، كما أنّها مبعّدة للجمع الثّاني.

والّذي يقرّب الجمع الثّاني ويعيّنه ويبعّد الجمع الأوّل قوله عليه‌السلام في رواية إسماعيل بن جابر : « إن شكّ في الرّكوع بعد ما سجد فليمض وإن شكّ » (١) الحديث ؛ فإنّ الظّاهر كونه في مقام التّحديد للقاعدة الكليّة الّتي ذكرها بعدها بقوله : « كلّ شيء شكّ فيه ... » (٢) الحديث.

وهو يمنع عن حمل القيد على الغالب كما هو واضح ؛ ضرورة أنّه لو لم يكن الدّخول في الغير معتبرا في القاعدة ، بل كان نفس التّجاوز عن المحلّ كافيا لقبح في مقام التّوطئة للقاعدة تحديد عدم الاعتناء بالشّك في الرّكوع بالدّخول في السّجود والشّك في السّجود ، بالدّخول في القيام.

والقول : بأن التّحديد بذلك مبنيّ على الغالب ، مع ما فيه فاسد جدّا ، إذ ليس أغلب صور الشّك في الرّكوع بعد الدّخول في السّجود ، وكذلك ليس أغلب صور الشّك في السّجود بعد القيام كدعوى عدم تحقّق التّجاوز عن المحلّ بالنّسبة إلى ٣ / ١٩٦

__________________

باب « من شك في شيء من أفعال الوضوء قبل الانصراف وجب أن يأتي بما شك فيه وبمل بعده » ـ ح ٦.

(١) التهذيب : ج ٢ / ١٥٣ باب « تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة من المفروض المسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز » ـ ح ٦٠ ، والاستبصار : ج ١ / ٣٥٨ باب « من شك وهو قائم فلا يدري أركع أم لا؟ » ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ج ٦ / ٣١٧ باب « عدم بطلان الصلاة بالشك في الركوع بعد السجود » ـ ح ٤.

(٢) المصدر السابق.


الرّكوع قبل السّجود ، وبالنّسبة إلى السّجود قبل القيام ؛ إذ لا إشكال في تحقّق التّجاوز عن محلّهما بالمعنى الّذي عرفته بمجرّد الهويّ للسّجود والنّهوض للقيام ، فيكشف هذا كلّه عن كون المناط هو الدّخول في الغير لا مجرّد الفراغ والتّجاوز عن محلّ الشّيء كيفما اتّفق.

بل يمكن الاستدلال بالرّواية على المدّعى بالأولويّة بيانه : أنّه لا إشكال في أنّ الهوي للسّجود غيره ، وكذلك لا إشكال في أنّ النّهوض للقيام غيره ، فإذا لم يعتبرهما الشّارع مع كونهما غير المشكوك فعدم اعتباره لمطلق التّجاوز أولى ، اللهمّ إلّا أن يقال : إن التّجاوز عن محلّ الرّكوع والسّجود لا يتحقّق إلّا بالهوي والنّهوض فتدبّر هذا.

مضافا إلى ما ربّما يدّعى من ظهور نفس الذّيل في كون قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) « ودخل في غيره » (٢) مقيّدا لقوله : « وجاوزه » (٣) ومبيّنا للمراد منه ، فلا بدّ من أن يحكم بأنّ المراد من التّجاوز هو التّجاوز المتحقّق بالدّخول في الغير.

والاستدلال بالرّواية على الجمع الثّاني على ما عرفت أولى ممّا بيّنه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في تقريب الاستدلال ؛ فإنّ الظّاهر منه في باديء النّظر كونه في صدد بيان معنى الغير المعتبر بالرّوايات ، وأنّه مطلق الغير ، أو خصوص ما يكون اعتباره في العمل من باب الأصالة لا التّبع.

__________________

(*) المصلّى عليه هنا هو الإمام عليه‌السلام.

(١ و ٢) التهذيب : ج ٢ / ١٥٣ ـ ح ٦٠٢ / ٦٠ ، والاستبصار : ج ١ / ٣٥٨ باب « من شك وهو قائم فلا يدري أركع أم لا؟ » ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ج ٦ / ٣١٧ « باب عدم بطلان الصلاة بالشك في الركوع بعد السجود » ـ ح ٤.

(١ و ٢) التهذيب : ج ٢ / ١٥٣ ـ ح ٦٠٢ / ٦٠ ، والاستبصار : ج ١ / ٣٥٨ باب « من شك وهو قائم فلا يدري أركع أم لا؟ » ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ج ٦ / ٣١٧ « باب عدم بطلان الصلاة بالشك في الركوع بعد السجود » ـ ح ٤.


وهذا كلام آخر في الغير لا دخل له بالمقام حسبما اعترف به ( دام ظلّه ) في مجلس البحث وإن أمكن توجيهه : بأنّ مقتضى التّأمّل فيه صدرا وذيلا إرادة الاستدلال على المدّعى بالأولويّة القطعيّة ، ولكن مع هذا كلّه ما ذكروه من البيان لا يخلو عن تأمّل غير مخفيّ على المتأمّل.

وإذ عرفت : أنّ لكلّ من الجمعين مقرّبا ومبعّدا فاعلم : أنّ المقرّب للجمع الثّاني أقوى من المقرّب للجمع الأوّل.

فإنّ الأوّل يمكن حمله على الغالب سيّما بملاحظة صدره ، وما يذكره الأستاذ العلّامة في بيان دفع الإشكال عن الرّواية لا ينافيه كما هو واضح.

وأمّا الثّاني : فلا ظهور له بحيث يعارض المقرّب للجمع الثّاني.

وأمّا الثّالث : فلأنّ ظهور قوله عليه‌السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » في العليّة ليس بمثابة يعارض ظهور المقرّب للجمع الثّاني ؛ فإنّ التّأويل فيه غير ممكن ، أو في غاية البعد كما هو واضح. ومن هنا رجّح شيخنا الأستاذ العلّامة القول : باعتبار الدّخول في الغير.

ثمّ إنّ في رواية إسماعيل إشكالا لا ينبغي أن يخفى على الفطن ؛ فإنّ ظاهر إطلاقها وجوب الالتفات إلى الشّك في السّجود بعد التّشهد أيضا ما لم يقم ، مع أنّ الظّاهر أنّه لا إشكال في عدم الالتفات إليه عند من لا يرى اختصاص الغير بالرّكن هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المراد من القيام في الرّواية الّذي جعل حدّا لعدم الاعتناء بالشّك في السّجود هو القيام لغير الرّكعة الثّالثة ؛ فإنّ المستكشف من الرّواية هو إلقاء مقدّمات الأفعال لا نفس الأفعال ، ومن المعلوم أنّ التّشهّد


كالسّجود فعل مستقلّ. وبالجملة : القول بإلقاء الدّخول في التّشهّد لا ينطبق على قول من أقوال المسألة.

٤ ـ جريان القاعدة في أفعال الطهارات الثلاث

(٣٥١) قوله : ( وقد نصّ على الحكم في الغسل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٦ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الحكم بخروج الوضوء عن القاعدة مصرّح به في كلام جمع من الأصحاب منهم ثاني الشّهيدين في « تمهيد القواعد » ؛ حيث حكم : بأنّ مقتضى القاعدة عدم الالتفات بالشّك في الجزء السّابق من الوضوء بعد الدّخول في الجزء اللّاحق منه ، إلّا أنّ مقتضى الرّوايات خروج الوضوء عن القاعدة (١).

وأمّا إلحاق الغسل التّرتيبي والتّيمّم بالوضوء فمحلّ خلاف بين الأصحاب ، فعن الأكثر الإلحاق (٢) ، وعن بعض الأساطين عدم الإلحاق (٣) ، بل في « الجواهر » لشيخنا الأستاذ في شرحه على « الشّرائع » عدم عثوره على القول بإلحاق الغسل عن غير السّيد في « الرّياض » (٤) قال : « ومن العجب ما وقع في « الرّياض » : من جريان حكم الوضوء في الغسل فيلتفت إلى كلّ جزء وقع الشّك فيه مع بقائه على

__________________

(١) تمهيد القواعد : ٣٠٥.

(٢) انظر التذكرة : ج ١ / ٢١٢ ، وجامع المقاصد : ج ١ / ٢٣٨.

(٣) الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء.

(٤) رياض المسائل : ج ١ / ١٨١ ط آل البيت.


حال الغسل ، ولم أعثر على مثل ذلك لغيره » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

لكن عن « قواعد » العلّامة ما يدلّ على الإلحاق حيث قال فيه : « ولو شكّ في شيء من أفعال الطّهارة فكذلك أتى به وبما بعده إن لم تجفّ البلل إن كان على حاله ، وإلّا فلا التفات في الوضوء ، والمرتمس والمعتاد على إشكال » (٢). إنتهى كلامه رفع مقامه.

وعن ثاني المحقّقين في شرح قوله : « إن كان على حاله » فهم التّعميم حيث فسّره بقوله : « أي : في فعل الطّهارة من وضوء وغيره » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

وعن بعض من قارب عصرنا : التّفصيل في التّيمّم بين ما كان منه بدل الوضوء فلا يعتني بالشّك الواقع فيه في الأثناء ، وبين ما كان منه بدل الغسل فيعتني بالشّك الواقع فيه في الأثناء كنفس الغسل.

أمّا دليل الأكثرين فهو تنقيح المناط الّذي أشار إليه الأستاذ العلّامة في كيفيّة تطبيق حكم الوضوء على القاعدة. وحاصله : أنّ حكم الشارع بالالتفات إلى الشّك الواقع في أثناء الوضوء إنّما هو من حيث وحدة مسبّبه المشترك بينه وبين الغسل والتّيمم ، فلا بدّ من إلحاقهما به في الحكم المذكور.

وأمّا دليل القول بعدم الإلحاق فهو : أنّ أصل الحكم بالالتفات في الوضوء وأخويه على خلاف القاعدة المستفادة من العمومات على ما عرفت : من ثاني

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٢ / ٣٥٥.

(٢) قواعد الأحكام ج ١ / ٢٠٦.

(٣) جامع المقاصد : ج ١ / ٢٣٧.


الشّهيدين ، وقد خرجنا عنه في الوضوء من جهة قيام الإجماع والأخبار ، فيبقى غيره تحت القاعدة ؛ لعدم ما يقتضي بالخروج عنه بعد عدم كون القياس من مذهبنا.

وأمّا دليل القول بالتّفصيل في التّيمم فهو : أنّ قضيّة البدليّة كون حكم البدل حكم المبدل ، وهذا يقضي بالتّفصيل بين ما كان من التّيمم بدل الوضوء وما كان منه بدل الغسل ، هذا.

ولكنّك خبير بضعف التّفصيل في التّيمم ؛ لوضوح ضعف دليله. وأمّا القول ٣ / ١٩٧ بإلحاقه مطلقا وإلحاق الغسل لا يخلو عن إشكال وإن كان هو الأوجه من القول بعدمه ، وإن كان الأصل معه.

(٣٥٢) قوله : ( إلّا أنّه يظهر من رواية ابن أبي يعفور ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٣٦ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« لكنّه من باب قاعدة الفراغ ، وإنّما كان خارجا من قاعدة التّجاوز تخصّصا أو تخصيصا كما عرفت ، فلو نزلت الموثّقة على هذه القاعدة بأن يكون المراد منها على ما أفاده هاهنا ومرّت الإشارة إليه ، هو ضرب القاعدة للشّكّ المتعلّق بجزء العمل بعد الفراغ عن العمل لتوافق غيرها ممّا ورد في بيان حكم الشّك في الوضوء ، لم يتوجّه الإشكال بمنافاة ما هو ظاهر الموثّقة من كون الوضوء من باب القاعدة مع وجوب الالتفات إلى الشكّ في جزء منه ما دام الاشتغال إجماعا.

وأمّا لزوم التّهافت على هذا التّنزيل في الموثّقة وكذا الموثقة الأخرى المتقدّمة « كلّما شككت ... إلى آخره » فيما إذا شكّ في صحّة بعض الأجزاء بعد الفراغ عنه والانتقال إلى جزء آخر ، كما اذا شكّ في غسل جزء من الوجه بعد الشّروع بغسل اليد مثلا ، فإنّه كما يصحّ


__________________

اعتبار أنّه شكّ في الشّيء قبل المضي لأنّه شكّ في شيء من الوضوء قبل الانتقال عنه إلى حال أخرى فيجب الالتفات إليه ، صحّ اعتبار أنّه شكّ فيه بعد المضي ، لأنّه شك في شيء من غسل الوجه مع التّجاوز عنه ، فيجب عدم الإلتفات إليه.

ولا يخفى عدم اختصاص هذا الإشكال بالطّهارات ، بل يعمّ سائر المركبات ممّا كان له اجزاء مركّبة أو مقيّدة من العبادات والمعاملات ، مثل ما إذا شكّ في جزء من الفاتحة بعد الفراغ عن الصّلاة ، فلا يجدي ما أفاده قدس‌سره في التّفصي عنه في الطّهارات ، مع ما فيه كما ستعرف.

فالتّحقيق في التفصّي عنه أن يقال : انّه أريد من الشّيء في ذيل موثّقة ابن أبي يعفور ، ومن الموصول في الموثقة الأخرى مثل الوضوء والغسل والصّلاة ممّا له عنوان شرعا وعرفا بالاستقلال يقينا وبلا إشكال ، كما يشهد به صحيحة زرارة في الوضوء ومثل خبر « كلّ ما مضي صلاتك وطهورك ... إلى آخره » وغيرهما من الأخبار ، ومعه لا يمكن أن يراد من العموم والإطلاق في الموثقتين الأجزاء المركبة أو المقيّدة ، كي يلزم التّهافت في مدلوليهما الموجب للإجمال.

نعم يعمّ مثل مناسك الحجّ ، لأنّ كلّا منها عمل باستقلاله وفعل على حياله وإن عمّها خطاب واحد ، فانّ العبرة في استقلال الأفعال في الآثار والعناوين ، لا بتعدد الخطاب ووحدته ، فلا يعمّ أدلّة قاعدة الفراغ في مثل غسل جزء من الوجه ، أو قراءة جزء من الفاتحة بعد الفراغ عن غسله وعن قراءتها ، كما يشهد بذلك في الجملة الإجماع على وجوب الالتفات إلى الشكّ في شيء من الوضوء ما دام الاشتغال ، بل وكذا الحال في الغسل والتّيمم.

نعم قاعدة التجاوز المختصّة بأفعال الصّلاة أو المخصّصة بغير الوضوء أو جميع الطّهارات يوجب عدم الالتفات إلى الشكّ في وجود ما اعتبر جزء العمل ولو لأجل الشّكّ في صحّة الموجود ، وانّه واجد لما أخذ فيه شطرا وشرطا ، او فاقد ليستلزم للشّكّ في وجود الصحيح كما مرّ غاية الأمر لو كان الشّكّ فيه بعد الفراغ عن ذاك العمل ، كان العمل محكوما بالصّحة


توجيه كون الحكم في الوضوء على طبق القاعدة والمناقشة في الوجوه

أقول : قد وجّه ظهور كون الحكم في الوضوء على طبق القاعدة من الرّواية ـ لا خارجا عنها بعد ظهور قوله عليه‌السلام في ذيل الرّواية : « إنّما الشّك إذا كنت في شيء

__________________

لقاعدة الفراغ أيضا ، كما كان محكوما بها قاعدة التّجاوز الحاكمة بوجود ما شكّ في وجوده من جزئه بلا تهافت وتناف بينهما أصلا كما لا يخفى.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره في دفع ما في الخبر من الإشكال ، ففيه : مضافا إلى عدم اختصاص إشكال التّهافت في مدلوله الّذي أشار إليه بقوله : « ولكنّ الاعتماد ... إلى آخره » بما إذا شكّ في غسل اليد باعتبار جزء من أجزءه بل يعم ما إذا شك في الفاتحة باعتبار جزء من أجزائها مثلا ، كما أشرنا إليه ، فلا يجدى في دفعه ما أفاد ولو لم يكن فيه خلل ولا فساد ، إذ حال الطّهارات بالنّسبة إلى مالها من الآثار ليس إلّا حال سائر العبادات بالنّسبة إلى آثارها المترتّبة عليها كالانتهاء عن الفحشاء المترتّب على الصّلاة.

وبالجملة وحدة الأثر وبساطته لا دخل لها بمنشئة وسببه ، وإلّا يلزم أن يكون الشّكّ في جزء كلّ عمل قبل الفراغ عن العمل شكّا فيه قبل التّجاوز عن ذاك الجزء باعتبار وحدة سببه وبساطة أثره أمّا الملازمة فلأنّ سائر الأعمال يشارك الطّهارات في وحدة الأثر والمسبب ، فلو كان وحدته فيها يوجب كونه فعلا واحدا في نظر الشارع ، فلم لا يوجب وحدته في غيرها كونه فعلا واحدا وأمّا بطلان التّالي فأوضح من أن يخفى ، ولو سلّم فلا بدّ من بيان اعتباره كذلك ، أي فعلا واحدا ينصب دلالة عليه ، وإلّا فلا سبيل إلى معرفته ، مع وضوح احتمال اعتباره على ما هو عليه حقيقة من التّركيب ، بل لزوم حمله إلّا إذا انحصر رفع الإشكال بذاك الاعتبار ، وقد عرفت عدم الانحصار به ، كما ظهر ممّا بيّنّاه من قضيّة الأخبار ، فتأمّل جيّدا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٣٩٩ ـ ٤٠١.


لم تجزه » (١) في التّعليل للحكم المذكور كما هو من الواضحات الغير المحتاجة إلى البيان ـ بأمور :

أحدها : استلزام الحكم بخروج الوضوء تخصيص المورد وهو قبيح فتدبّر.

ثانيها : الاستدلال لما هو خارج عن القاعدة بالقاعدة وهو أمر قبيح برأسه لا دخل له بقبح تخصيص المورد كما هو واضح لمن له أدنى دراية.

ثالثها : لزوم التّناقض بين المفهوم وعموم التّعليل.

ولكن يتفصّى عن الإشكال المذكور بوجوه :

أحدها : جعل المراد من قوله : « إنّما الشّك إذا كنت ... الحديث » (٢) إلقاء الشّك الواقع في أثناء الشّيء ، فيختصّ مدلوله بالأثناء ، فلا يلزم شيء من المحذورين ؛ لأنّه يصير المعنى حينئذ : إنّما يعتبر الشّك ويلتفت إليه إذا كانت في أثناء الشّيء ، فيدلّ بمفهوم الحصر على إلقاء الشّك بعد الفراغ عن الشّيء المركّب ، وليس هذا مثل قوله : « إذا شككت في شيء ودخلت في غيره ... » (٣) الحديث ، الظّاهر في الشّك في الوجود على ما عرفت تفصيل القول فيه ، بل قوله في المقام ظاهر في الشّك في الأثناء كما هو واضح.

وقد كان الأستاذ العلّامة يدّعي : أنّ إرادة القدر المشترك من الشّك في الأثناء وغيره في المقام ليس فيه محذور أصلا ؛ لوجود الجامع بين الكون في الشّيء وهو مطلق الثّبوت على الشّيء والكون عليه سواء تحقّق بالكون في أثنائه

__________________

(١) مرّ تخريجه قريبا.

(٢ و ٣) مرّ تخريجه قريبا.


أو في محلّه ؛ لأنّه قسم من الكون في الشّيء.

ولكنّك خبير بأنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) لا يخلو عن تأمّل هذا ملخّص هذا الوجه.

وأورد عليه الأستاذ العلّامة : بأنّ لازم هذا التّوجيه عدم الالتفات إلى الشّك الواقع في غسل جزء من الوجه أو اليد بعد الفراغ عن غسلهما لعموم الشّيء وشموله لأجزاء الأجزاء كنفس الأجزاء. ودعوى اختصاصه بالأجزاء الأصليّة ، ممّا لا شاهد لها بعد شمول لفظ الشّيء بحسب اللّغة والعرف وعمومه لمطلق الأجزاء ؛ إذ لا صارف لهذا العموم من الخارج.

ثانيها : ما ذكره الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : من جعل قوله في ذيل الرّواية : « إنّما الشّك إذا كنت ... » (١) الحديث تعليلا لمنطوق صدرها فإذا جعلنا مفهوم الذّيل تعليلا لمنطوق الصّدر وحده لا لمنطوقه ومفهومه لم يلزم عليه شيء من المحاذير ؛ لعدم كون الشّك في أثناء الوضوء إذن داخلا في عموم التّعليل ، حتّى يتوجّه عليه : خروج المورد القبيح على تقدير لزومه على فرض القول بالتّعميم ، أو التّناقض الصّوري الرّاجع إلى تعارض عموم التّعليل مع مفهوم الصّدر بالتّعارض العموم والخصوص الّذي ليس هو في نفسه محذورا مستقلّا ، بل لا معنى لجعله محذورا أصلا كما لا يخفى ، ولا كون الكلام مسوقا لبيان علّيّة حكم الشّك في الأثناء حتّى يرد عليه : لزوم الاستدلال بما هو خارج عن القاعدة بنفس القاعدة هذا ملخّص ما أفاده ( دام ظلّه ) في مجلس البحث.

__________________

(١) مرّ تخريجها كذلك.


ولكنّك خبير بأنّ هذا التّوجيه أيضا لا يخلو من المناقشة ؛ لأنّ الحكم بعدم كون الذّيل تعليلا لمفهوم الصّدر ممّا لا معنى له بعد ظهور الكلام في المفهوم ؛ فإنّ الظّاهر أنّه أراد بيان العلّة لجميع ما حكم به في الرّواية لا لبعضه ، وبالجملة : هذا التّوجيه وإن كان مستقيما على تقدير تماميّته ، إلّا أنّه خلاف ظاهر الرّواية ، فيتوقّف ارتكابه على شاهد من الخارج يشهد عليه.

ثالثها : ما أفاده ( دام ظلّه ) أيضا في مجلس البحث وفي « الكتاب » : من جعل الوضوء في نظر الشارع أمرا بسيطا ـ باعتبار وحدة مسبّبه ـ لا تركيب فيه أصلا ، حتّى يصدق مفهوم التّعليل على الشّك في غسل عضو من الأعضاء ، ويلزم من الالتزام بعدم ثبوت حكمه فيه بالإجماع المحذور الظّاهر اللّزوم على تقدير تسليم التّركيب عند الشارع على ما عرفت تفصيل القول فيه ، وهذا ليس تخصيصا في الشّيء ، ولا في الغير ، ولا ارتكاب مجاز فيهما ولا في غيرهما.

وإن كنّا لو خلّينا وأنفسنا حاكمين بكون الوضوء مركّبا في نظر الشّارع من شرائط وأجزاء كالصّلاة وغيرها ـ حسبما ظهر لنا في أنظارنا : من جهة قصورها ـ فهذا نظير ما حكم به جماعة في الشّك في الكلمات وأجزائها بعد الدّخول في غيرها ، بل في الشّك في الآية بعد الدّخول في غيرها ، بل في الشّك في الحمد بعد الدّخول في السّورة.

كما يظهر من بعض الأصحاب : من أنّ الشّك في القراءة قبل الدّخول في الرّكوع يلتفت إليه ، معلّلين ذلك : بأنّ هذه الأمور في نظر الشّارع بسيطة وإن كانت في نظرنا مركّبة من أفعال ، وإن كان ما ذكروه في محلّ التّأمّل ، بل المنع ؛ نظرا إلى عدم الدّاعي إلى هذا الكلام بعد القول من جماعة كثيرة بجريان القاعدة بالنّسبة


إلى الشّك في حروف الكلمات بعد الدّخول في غيرها ، فضلا عن جريانها بالنّسبة إلى الشّك في الكلمات والآيات بعد الدّخول في غيرهما فضلا عن الشّك في الحمد بعد الدّخول في السّورة.

وهذا بخلاف الفرض فإنّ الدّاعي إلى ارتكاب ما ذكر موجود فيه جزما ؛ نظرا إلى ما عرفت من لزوم المحذور على تقدير عدمه على ما عرفت تفصيل القول فيه.

فإن قلت : تصحيح كلام الشّارع ودفع المحذور عنه لا ينحصر في ارتكاب ما ذكر حتّى يرتكب دفعا للمحذور المذكور ، فيبنى على دفعه بالتزام التّوجيه الثّاني.

وبالجملة : احتمال توجيه آخر غير ما ذكر يمنع من جعل الوجه في دفع الإشكال ما ذكر على سبيل الحصر.

قلت : احتمال توجيه آخر لا ينفع بعد كونه خلافا لظاهر اللّفظ ، وبالجملة : ما ذكر أخيرا : من التّوجيه مع التّوجيه الثّاني نظير دوران الأمر بين المجاز في النّسبة والمجاز في الكلمة.

ثمّ إنّ من مؤيّدات هذا التّوجيه : ما ذكره الأستاذ العلّامة ( دامت إفاضاته ) : من إلحاق جماعة كثيرة الشّك في الغسل والتّيمّم بالوضوء في الحكم المذكور ، وليس في ذلك إلّا من جهة ما استفادوا : من كون الحكم في الوضوء من جهة بساطته عند الشّارع من جهة وحدة مسبّبه ، ولذا ألحقوا الغسل والتّيمّم بالوضوء في الحكم المذكور فتدبّر.


٥ ـ جريان القاعدة في الشروط كجريانها في الأجزاء

(٣٥٣) قوله : ( والأقوى التّفصيل بين الفراغ ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٣٩ )

في أن حكم الشك في الشرط حكم الشك في الجزء أم لا؟

أقول : لا يخفى عليك جودة ما ذكره ( دام ظلّه ) من التّفصيل من الجهتين ، أي : من جهة التّخصيص ببعد الفراغ عن المشروط ، والتّخصيص بالمشروط الّذي فرغ عنه دون غيره.

أمّا الدّليل على التّخصيص من الجهة الأولى ؛ فلعدم صدق أخبار القاعدة قبل الفراغ عن المشروط ، وصدقها على الشّك في الشّرط بعد الفراغ عن المشروط ، سواء في ذلك ما دلّ على اعتبار التّجاوز عن المحلّ ، وما دلّ على اعتبار الدّخول في الغير.

أمّا الأوّل : فظاهر ؛ ضرورة أنّ محل إحراز الشّرط ليس بعد الفراغ عن المشروط بل قبله.

وأمّا الثّاني : فإنّه وإن كان ربّما يتوهّم عدم صدقه على الشّك في الشّرط بعد الفراغ عن المشروط ؛ نظرا إلى أنّ المشروط لا يعدّ مغايرا للشّرط حتّى يحكم بعدم اعتباره ، بل المدار على خروج وقت المشروط ، إلّا أنّ مقتضى التّحقيق صدقه أيضا من حيث إنّ الفراغ عن المشروط يغاير الشّرط بالمعنى الّذي عرفته سابقا قطعا.

وأمّا الدّليل على التّخصيص من الجهة الثّانية : فلاختصاص الأخبار بالدّلالة


على الحكم بوجود الشّرط بالنّسبة إلى المشروط الّذي فرغ عنه ؛ لاختصاص وجود موضوعها بالنّسبة إليه ، بل مقتضاها منطوقا ومفهوما اعتبار الشّك في الشّرط بالنّسبة إلى مشروط آخر كما هو واضح.

توضيح ذلك : أنّ الشارع قد يحكم بإلقاء الشّك في الشّرط من حيث إنّه شكّ في الشّرط وبالنّسبة إلى جميع ما هو مشروط له ، فيرجع حكمه إذن إلى البناء على وجود الشّرط مطلقا ولو قبل الفراغ عن المشروط ، بل قبل الدّخول فيه ، بل قبل كون المكلّف على هيئة الدّاخل في مشروطه ، كما إذا وقع الشّك في وجود بعض ما يعتبر في الشّرط بعد الفراغ عنه ، كالشّك الواقع في غسل بعض الأعضاء في الوضوء ، أو الغسل بعد الفراغ عنهما ، وقد يحكم بوجود الشّرط بعد الفراغ عن مشروطه مطلقا ، بمعنى كون الفراغ عنه علّة للحكم بوجوده المطلق حتّى بالنّسبة إلى غيره ، وقد يحكم بوجوده بعد الفراغ عن المشروط بعنوان يختصّ به بحيث لا يتعدّى إلى غيره وهو عنوان كون الشّك فيه شكّا بعد التّجاوز عن المحلّ ، أو بعد الدّخول في الغير.

أمّا حكمه بإلقاء الشّك في الشّرط على الوجه الأوّل ، فلا ريب في أنّه يقتضي الحكم بصحّة كلّ ما يعتبر فيه من غير فرق ، وكذلك حكمه بإلقاء الشّك في الشّرط على الوجه الثّاني ؛ فإنّه لا إشكال في اقتضائه أيضا الحكم بصحّة كلّ ما يعتبر فيه من الأفعال.

وأمّا حكمه بإلقائه على الوجه الثّالث فلا ريب في عدم اقتضائه إلّا الحكم بوجوده بالنّسبة إلى المشروط الّذي فرغ المكلّف عنه لا بالنّسبة إلى غيره ، من غير فرق في ذلك بين القول باعتبار القاعدة من باب التّعبّد ، والقول باعتبارها من باب


الظّن ؛ فإنّه وإن لم يمكن بناء على الثّاني التّفكيك في حصول الظّن بالنّسبة إلى وجود الشّرط ، إلّا أنّه لا بدّ من التّفكيك في اعتباره من حيث اختصاص الدّليل على اعتباره بعنوان مختصّ بالمشروط الّذي وقع الفراغ عنه.

فهذا نظير الشّك في فعل صلاة الظّهر بعد الدّخول في العصر في إلقاء الشّك فيه بالنّسبة إلى الحكم بصحّة العصر وأنّها وقعت عقيب الظّهر ومترتّبة عليه ، وعدم إلقائه بالنّسبة إلى أصل وجوده بحيث لا يحكم بوجوب الإتيان بها بعد فعل العصر ؛ حيث إنّ الشّك في فعل الظّهر بعنوان ترتّب العصر عليه شكّ في الشّيء بعد الدّخول في الغير ، وبغير ذلك العنوان ليس شكّا فيه بعد الدّخول في الغير ، أو شكّا في الشّيء بعد تجاوز محلّه ، فلا يحكم بإلقائه ، بل يحكم بمقتضى أصالة الاشتغال والإخبار بعدم إلقائه بالنّسبة إليه ، بل المقام أولى بعدم اعتبار الشّك بالنّسبة إلى غير المشروط الّذي وقع الفراغ عنه كما هو واضح.

ثمّ إذا عرفت حكم الأقسام المتصوّرة في المقام لحكم الشارع بإلقاء الشّك في الشّرط المشكوك فيه لم يبق لك إشكال في التّفصيل من الجهة الثّانية ؛ ضرورة كون حكم الشارع بإلقاء الشّك في الشّرط في مفروض البحث من القسم الثّالث لا الثّاني والأوّل.

ولا فرق فيما ذكرنا ـ على ما عرفت سابقا أيضا ـ بين الشّك في الشّرط قبل الدّخول في المشروط مع كون المكلّف على هيئة الدّاخل ، أو بعد الدّخول ، أو الشّك في أثنائه فيحكم بلزوم إحراز الشّرط بالنّسبة إلى ما بقي من العمل إن أمكن ، وإلّا فيحكم بفساد العمل ووجوب إعادته.

نعم ، قد يقال ـ بل قيل ـ : بالنّسبة إلى ما يكون محلّ إحرازه لتمام العمل قبل


الدّخول فيه كالطّهارة بإلقاء الشّك فيه بعد الدّخول في العمل ، فيلحق بالشّك فيه بعد الفراغ من العمل ويحكم بصحّة العمل المدخول فيه ؛ نظرا إلى عموم ما دلّ على لغويّة الشّك بعد التّجاوز عن المحلّ ، أو بعد الدّخول في الغير هذا.

ولكن يردّ هذا القول ما رواه الأستاذ العلّامة في « الكتاب » من صحيحة (١) علي بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام بناء على كون السّؤال فيه عن حكم الفرض حسبما هو الظّاهر منه ، لا عن حكم العمل بالاستصحاب أو غيره ، بل لا بدّ من حمل الرّواية ٣ / ١٩٩ على الفرض ، لأنّ التفصيل بما ذكر في الاستصحاب على خلاف الإجماع كما لا يخفى.

٦ ـ هل يلحق الشك في الصحة بالشك في الإتيان؟

(٣٥٤) قوله : ( بل هو هو ؛ لأنّ مرجعه إلى الشّك في وجود الشّيء ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٣٤٢ )

__________________

(١) مسائل علي بن جعفر عليه‌السلام : ٢٠٦ ـ ح ٤٤٤ ـ وقرب الإسناد للحميري : ١٧٧ ـ ح ٦٥١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١ / ٤٧٣ باب « من تيقن الطهارة وشك في الحدث لم يجب عليه الوضوء وبالعكس يجب عليه » ـ ح ٢.

(٢) قال شيخ الكفاية قدس‌سره :

« لا يخفى انه ليس قضيّة قاعدة التجاوز الحاكمة بوجود المشكوك فيه وتحقّقه الحكم بصحّة الموجود إلّا على القول بالأصل المثبت حيث يستلزم الشّكّ في صحّة الموجود ، الشّكّ في وجود الصّحيح كما مرّت إليه الإشارة ، فلا يترتّب على الموجود آثار الصحّة إلّا على القول


أقول : لا يخفى عليك إنّ إرجاع الشّك في الصّحة إلى الشّك في الوجود بما ذكره الأستاذ العلّامة : من أخذ المشكوك الشّيء الصّحيح لا ذات الشّيء ، لا يجدي في الحكم بشمول الأخبار له ـ على تقدير القول بظهورها في الشّك في أصل الوجود ـ ضرورة عدم رجوع الشّك في الصّحة إلى الشّك في الوجود بالاعتبار المذكور ، من غير فرق في ذلك بين القول بوضع أسماء العبادات للأعمّ حتّى يحتاج إلى اعتبار ما ذكر ، أو للصّحيح حتّى لا يحتاج إلى اعتباره ؛ فإنّه إذا قيل بأنّ منصرف الأخبار هو الشّك في أصل الفعل : بأن شكّ المكلّف في أنّه ركع مثلا أم لا ، لم ينفع القول بوضع لفظ الرّكوع للصّحيح في شمولها لما إذا وقع الشّك في بعض ما يعتبر فيه بعد القطع بوجوده ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ، ولذا استشكل الأستاذ العلّامة في الحكم بالإلحاق.

__________________

إن كان لها آثار غير ما كان للصّحيح.

ومن هنا انقدح ان ليس الشّكّ في الصحّة حكمه حكم الشّكّ في الإتيان ، ولا هو هو ، ولا مرجعه إلى الشّكّ في وجود الشيء الصّحيح ، بل حكمه لازما لحكمه بناء على الأصل المثبت كما انه يكون ملزوما للشك في وجود الصحيح ، هذا مع قطع النّظر عن قاعدة الفراغ ، وامّا بملاحظتها فلا إشكال » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٠٢.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« فيه منع ظاهر ؛ لأن الشك في وجود الشيء ظاهر أو صريح في وجوده بعنوانه الأوّلي لا وجوده بعنوانه الثانوي الطاريء وهو وجود الصحيح.

ألا ترى انه لو قيل : فلان لم يبع داره ، يفهم منه انه ما أوجد البيع أصلا لا انه ما أوجد البيع الصحيح ، ولا ينافي إيجاد البيع الفاسد » إنتهى. انظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٧٦.


(٣٥٥) قوله : ( ومحلّ الكلام ما لا يرجع [ فيه ](١) الشّك ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٣٤٢ )

__________________

(١) أثبتناه من الكتاب.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : توضيح المقام : انّ الشك في صحّة المأتي به لا بدّ وأن يرجع إلى الشّك في الإخلال بشيء من أجزائه وشرائطه فإن كان ذلك الشّيء الّذي يكون الشكّ في الصحة مسبّبا عن الشّك فيه من قبيل أجزاء المركّب فقد تبيّن حكمه من أنّه لا يعتني بالشّكّ فيه بعد تجاوز محلّه فيبتني على صحّة عمله.

وإن كان من قبيل الشّرائط فهو على قسمين : لأنّ الشرط إمّا أن يكون من قبيل الطّهارة والاستقبال والسّتر والتّرتيب والموالاة وغير ذلك من الأفعال الخارجيّة المعتبرة في صحّة المأتي به ، أو يكون من قبيل الأوصاف المعتبرة فيه الغير المنتزعة من فعل مغاير له بالوجود كتأدية حروف القراءة عن مخارجها أو البلوغ إلى مرتبة خاصّة من الانحناء في الرّكوع والسّجود ونحو ذلك.

ومحلّ الكلام في هذا الموضع هو ما اذا نشأ الشكّ في صحّته من احتمال الإخلال بشيء من هذا النّحو من الشرائط الّتي ليست هي بنفسها شيئا قابلا لأن يندرج في موضوع الأخبار الدّالة على عدم الإعتناء بالشكّ في الشيء بعد تجاوز محلّه.

وأمّا القسم الأوّل : فقد بيّن في الموضع الخامس : أنّ حكمه حكم الأجزاء فلا حاجة فيما لو كان الشكّ في صحّة المأتي به راجعا إلى الشكّ في الأخلال بشيء من هذا النحو من الشّرائط إلى التكلّف المحتاج إليه في هذا الموضع من إرجاعه إلى الشّكّ في وجود الشيء الصحيح كما لا يخفى.

ثمّ إنّه قد يتأمّل في بعض الموارد في أنّه هل هو من القسم الأوّل أو الثاني كما لو شكّ بعد الفراغ من الوضوء في صحّته للشكّ في إطلاق ماءه أو إضافته فإنّ هذا الشّرط ـ أي إطلاق


هل يلحق الشك بالصحة بالشك في الوجود أم لا؟

أقول : لا يخفى عليك مراد الأستاذ العلّامة من هذا الكلام ؛ فإنّ مقصوده منه أنّ ما ذكرنا من الكلام في إلحاق الشّك في الصّحة بالشّك في الوجود فإنّما هو فيما إذا لم يكن الشّك في الصّحة مسبّبا عن الشّك في ترك بعض ما يعتبر في الصّحة من الأمور المعدودة أفعالا برأسها ، وإلّا فلا إشكال في الإلحاق ولا كلام فيه ؛ لأنّ قضيّة جريان القاعدة بالنّسبة إلى المشكوك رفع الشّك عن الصّحة على نحو الحكومة من حيث تسبّبه عنه بقضيّة الفرض هذا.

ولكن في المقام سؤال على ما أفاده ( دام ظلّه ) وهو : أنّ الشّك في الصّحة دائما مسبّب عن الإتيان ببعض ما يعتبر فيها شطرا أو شرطا ، فعلا أو تركا ؛ ضرورة عدم وقوع الشّك في صحّة الموجود البسيط من جميع الجهات ، بل استحالته على تقدير تسليم وجود مثله بالنّسبة إلى الأعمال الواقعة في حيّز الطّلب في الشّرع ، فالشّك في صحّة المأتيّ به لا بدّ من أن يرجع إلى الشّك في إتيان بعض ما يعتبر في

__________________

الماء ـ هو في حدّ ذاته شيء محلّ إحرازه حال الوضوء وقد جاوزه إلّا أنّه ليس له في حدّ ذاته وجود مستقلّ كي يندرج في موضوع أخبار الباب بعد البناء على انّ موردها ليس إلّا الشّك في الوجود فالأظهر جعله من القسم الثّاني فعلى هذا يشكل إلغاء الشكّ فيه بناء على إرجاع الشكّ في وصف الصحّة إلى الشكّ وجود الشّيء الصّحيح لا كون أصالة الصّحة في حدّ ذاتها اصلا معتبرا ؛ لأنّه حينئذ كالشكّ في أصلا الوضوء في عدم كونه ملغي إلّا بالنّسبة إلى غاياته الّتي تلبّس بها أو فرغ منها كما عرفت فليتأمّل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٦٦.


صحّة العمل شطرا ، أو شرطا ، فيكون جريان القاعدة بالنّسبة إلى الشّك المسبّبي حاكما على الحكم بالاعتناء بالشّك فيه لمقتضى نفس الأخبار المتقدّمة منطوقا ومفهوما على ما التزمت به ، فيرتفع إذن ثمرة النّزاع ؛ إذ بعد تسليم الفريقين لزوم إلحاق الشّك في الصّحة بالشّك في الوجود لم يكن معنى للنّزاع ؛ في أنّه من جهة جريان القاعدة في نفس الشّك المسبّبي ، أو في الشّك السّببي ، فلا معنى محصّل لما ذكره الأستاذ العلّامة في تحرير محلّ النّزاع.

ولكن يمكن التّفصي عن الإشكال المذكور : بأنّ الشّك في الصّحة دائما وإن تسبّب من الشّك في إتيان العمل على وجهه المعتبر عند الشّارع الّذي يرجع إلى الشّك في إتيان بعض ما يعتبر في صحّة العمل شطرا أو شرطا ؛ لما ذكر : من استحالة وقوع الشّك في صحّة الأمر البسيط ذهنا وخارجا ، إلّا أنّ ما يعتبر في صحّة العمل على وجهين :

أحدهما : ما يكون وجوده مغايرا لوجود المشروط في الخارج.

ثانيهما : ما يكون متّحدا معه في الوجود بحيث لا مغايرة أصلا.

ووجود القسمين ممّا لا مجال لإنكاره وما أخرجه الأستاذ العلّامة من محلّ الكلام هو الأوّل ، ومن المعلوم أنّ من إلحاقه بالشّك في الوجود لا يلزم إلحاق القسم الثّاني ، فإذا قيل بأنّ ظاهر الأخبار هو عدم الاعتناء بالشّك في خصوص أصل الوجود لا معنى للحكم بإلقاء الشّك في الصّحة من جهة القاعدة بالنّسبة إلى القسم الثّاني هذا.

(٣٥٦) قوله : ( مثل موثقة ابن أبي يعفور ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٢ )

أقول : استفادة التّعميم منه ظاهرة على ما أفاده ( دام ظلّه ) سابقا : من عدم


امتناع إرادة الشّك في الوجود والشّك في الواقع في أثناء الشّيء من الرّواية بخلاف ساير الرّوايات. وقد عرفت بعض الكلام في ذلك ، مع أنّ الحكم بالتّعميم المذكور غير ظاهر اللّزوم لما ذكره فتدبّر.

(٣٥٧) قوله : ( أو يجعل أصالة الصّحة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ مراده ( دام ظلّه ) من هذا الكلام مجرّد ذكر وجه للحكم بالتّعميم لا كونه معتقدا بتماميّته ، حتّى يرد عليه : بأنّ الأصل المذكور لا مدرك له ؛ لعدم دليل يدلّ على اعتبار ظهور حال المسلم من حيث هو مطلقا.

(٣٥٨) قوله : ( ويمكن استفادة اعتباره ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٢ )

أقول : لا إشكال في إمكان استفادة اعتبار الشّك في الصّحة بعد الدّخول في الغير بمعنى إيجابه الحكم بوقوع المشكوك ووجوده من التّعليل المذكور ؛ لأنّه بمنزلة الكبرى لكلّ ما يكون المكلّف أذكر بالنّسبة إليه ، فكما أنّه يدلّ على عدم الاعتناء بالشّك في وجود شيء بعد التّجاوز عن محلّه والدّخول في غيره ؛ من حيث إنّ المكلّف الملتفت الباني على الإتيان بالمأمور به لا يترك من الأفعال ما له دخل فيه ، فيظنّ بعد التّجاوز عنه والدّخول في غيره إتيانه إذا شكّ فيه.

وهذا هو المراد من التّعليل في الرّواية ويدلّ على عدم الاعتناء بالشّك في صحّة ما أتي به بعد الدّخول في غيره لعين العلّة المذكورة ؛ فإنّ المكلّف الباني على الامتثال لا يترك ما له دخل في صحّة عمله. فإن شئت قلت : إنّ التّعليل يدلّ على اعتبار ظهور حال المسلم بالنّسبة إلى عمله مطلقا سواء تعلّق بنفسه أو بأجزائه أو بشرائطه.


٧ ـ المراد من الشك في موضوع هذه القاعدة

(٣٥٩) قوله : ( الظّاهر أنّ المراد بالشّك ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٤٤ )

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : ليس الإشكال المزبور مخصوصا بالشكّ السّاري أي الشكّ النّاشيء من سبب مقارن للعمل بحيث لو كان ملتفتا إليه حال الفعل لكان شاكّا كما في المثال المزبور ، بل الإشكال سار في الشّكّ الطّاري بسبب الغفلة عن صورة العمل أيضا إذا كان منشؤه احتمال الإخلال بشيء من أجزاء العمل أو شرائطه جهلا كما لو لم يعلم بوجوب التّرتيب بين الجانبين في الغسل أو غسل المرفقين مع الذّراعين في الوضوء أو شرطيّة الانتصاب أو الاستقلال أو ستر العورة ونحوه في الصّلاة فشكّ عند حصول العلم له في صحّة أعماله الّتي لم يحفظ صورتها ومنشأ الإشكال في جميع هذه الصّور ما أشار إليه المصنّف رحمه‌الله من إطلاق أغلب النّصوص بل وكذا فتاوى الأصحاب في باب الوضوء والصّلاة ونظائرها حيث إنّهم أطلقوا القول بعدم الاعتناء بالشّك بعد الفراغ من العمل من دون تفضيل بين صورة ومن اختصاص التّعليل المستفاد من قوله عليه‌السلام : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » ، حيث إنّ الظّاهر من هذه الرّواية أنّ وجه الحمل على الصّحيح تقديم الظّاهر على الأصل وقد علّله غير واحد من الأعلام أيضا بظهور الحال حيث إنّ حالهما عدم تذكّرهما حال الفعل ، ولكنّ الأظهر هو الحمل على الصّحيح في جميع صور الشّكّ لعدم انحصار وجه الحمل في ظهور الحال ، بل العمدة في حمل الأعمال الماضية الصّادرة من المكلّف ، بل وكذا من غيره على الصّحيح كما ستعرف هي السّيرة القطعيّة وأنّه لو لا ذلك لاختلّ نظام المعاش والمعاد ولم يقم للمسلمين سوق فضلا عن لزوم العسر والحرج المنفيّن في الشّريعة إذ ما من أحد إذا التفت إلى أعماله الصّادرة منه في الأعصار المتقدّمة من عباداته ومعاملاته إلا ويشك في كثير منها لأجل


__________________

الجهل بأحكامها أو اقترانها بأمور لو كان ملتفتا إليها لكان شاكّا ، ألا ترى أنّ جلّ العوام بل العلماء غافلون عن كثير من الأمور المعتبرة في الصّلاة وغيرها من العبادات والمعاملات ويتجدّد لهم العلم بها شيئا فشيئا ولا يمكنهم الجزم باشتمال ما صدر منهم في السّابق على هذه الشّرائط الّتي كانوا جاهلين بها فلو لم يحمل عملهم على الصّحيح وبني على الإعتناء بالشكّ الناشيء من الجهل بالحكم ونظائره لضاق عليهم العيش كما لا يخفى.

وهذا الدليل وإن كان لبّيا يشكل استفادة عموم المدّعي عنه لإمكان منعه بالنّسبة إلى الشّك السّاري ونظائره ممّا لا يلزم من الإعتناء به حرج أو اختلال إلّا أنّه إذا ثبت عدم اختصاص مجرى القاعدة بما إذا كان الظّاهر من حال العامل إيجاده على الوجه الصّحيح على عدم انحصار وجه الحمل على الصّحيح بظاهر الحال فلا يجوز حينئذ رفع اليد عن ظواهر الأخبار المطلقة بسبب التّعليل المستفاد من قوله : « هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ » لأنّ جعله قرينة على التصرّف في سائر الأخبار فرع استفادة العلّيّة المنحصرة منه والمفروض أنّا علمنا من الخارج عدم الإنحصار.

هذا ، مع انّ دلالته عليه في حدّ ذاته لا تخلو عن تأمّل فلا ينبغي الاستشكال في جريان القاعدة في جميع موارد الشكّ ولذا لم يستثن الأصحاب عن مجراها ـ في باب الوضوء ونظائره ـ شيئا من هذه الصّور.

واحتمال غفلتهم عنها أو ترك التعرّض لها مع عموم الابتلاء بها في غاية البعد.

وبما أشرنا إليه من إطلاق كلمات الأصحاب في مجاري هذا الأصل كأغلب النّصوص ظهر أنّ ما ذكره المصنّف رحمه‌الله : ( من أنّ الظّاهر أنّ المراد بالشكّ في موضوع هذا الأصل هو الشكّ الطّاري ... إلى آخره ) لا يخلو عن مناقشة فإنّه إن كان غرضه بيان ما أريد من الشّكّ الوارد في النصوص التّي هي مستند هذا الأصل فسيصرح بأن الأخبار مختلفة وأنّ اختلافها منشأ الإشكال.


أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يورد عليه : بأنّ ما استظهره أوّلا لإيجاب الحكم بعده بأنّ المسألة ذات وجهين لو علم كيفيّة العمل.

ولكنّك خبير بأنّ هذا الإيراد في غير محلّه ؛ لأنّ استظهار أحد الوجهين في المسألة لا ينافي الحكم بثبوت الوجهين لها ، وإنّما المنافي له استشكاله وعدم ٣ / ٢٠٠ ترجيحه لأحد الطّرفين بعد ترجيحه له ، والأمر ليس كذلك فيما ذكره كما لا يخفى.

ثمّ إنّ ما استظهره ( دام ظلّه ) الظّاهر أنّه في كمال الاستقامة لعدم إطلاق للأخبار الواردة في الباب بالنّسبة إلى الفرض بحيث يطمئنّ به النّفس وتركن إليه ، وإن كان بعضها ظاهرا في النّظرة الأولى في الإطلاق ، مضافا إلى ما ذكره ( دام ظلّه ) : من تقدّم قضيّة التّعليل على قضيّة المعلول ؛ حيث إنّ المعلول عموما وخصوصا تابع بحكم العرف لعموم العلّة وخصوصها كما هو ظاهر لمن له أدنى

__________________

وإن أراد بيان المراد من الشّكّ الواقع في كلمات الأصحاب عند تعرضّهم لهذا الأصل فقد أشرنا إلى أنّ كلماتهم في مجاري هذا الأصل كأغلب الأخبار ظاهرها إرادة الإطلاق فليتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٦٧ ـ ٤٦٩.

* وقال المحقق شيخ الكفاية الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى انّ مقتضى الإطلاق أن يكون المراد من الشّك مطلقا ، لا خصوص ما كان بسبب الغفلة عن صورة العمل ، والظّاهر أنّ المراد بقوله « حين يتوضّأ ... إلى آخره » هو أنّه حين الاشتغال غالبا يكون اذكر فالعلة لعدم الالتفات بالشّكّ دائما هو الأذكريّة غالبا لا أنّه حينه يكون أذكر فعلا وإلّا فالتحقيق أن يقال : « إذا كان حين يتوضّأ ... إلى آخره » كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ لا يخفى عدم المناسبة بين استظهاره خصوص الشّكّ الطّاري ، وترديده بين الالتفات إلى الشكّ وعدم الالتفات إذا لم يكن الطّاري ، فتدبّر جيّدا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٠٣.


خبرة بالمحاورات العرفيّة.

(٣٦٠) قوله : ( نعم ، لا فرق بين أن يكون المحتمل ترك الجزء ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٤٤ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« قد يقال : ان قضيّة التعليل هو الفرق بينهما وانّ المعلّل هو خصوص ما إذا كان المحتمل هو ترك الجزء نسيانا ، ضرورة انّ المترتّب على الأذكريّة حين الاشتغال إنّما هو عدم التّرك نسيانا لا عمدا ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ التعليل إنّما هو بأخذ جزئي العلّة وجزئها الآخر ، وهو أنّ الترك عمدا خلاف ما هو بصدده من الإبراء إنّما لم يذكر لكونه واضحا فتأمّل.

بقي شيء وهو أنّ الظّاهر ولو بقرينة قوله في بعض الأخبار ذكرته تذكرا أن المراد بالشّكّ هو خلاف اليقين ، لا خصوص ما تساوي طرفاه ، كما انّه كان كذلك في اخبار الاستصحاب ، بل المتداول ظاهرا في لسان الأخبار في كلّ باب ، ولا ينافي حجّيّة الظّنّ في خصوص افعال الصّلاة على ما هو المشهور ، كما لا يخفى » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٠٣.

* وقال المحقق الأصولي الطهراني قدس سره :

« وفيه : ان المذكور في الرواية حكمة للحكم لا علّة قطعا ؛ فإن كون الفاعل حال العمل أذكر إنّما هو بحسب الإقتضاء ولا إمتناع لغفلة العامل حال العمل عمّا يعمله وليس المقصود إلغاء احتمال الغفلة في كل مقام يتحقّق فيه غلبة الذّكر أو إقتضاءه ولهذا لا نحكم بصدور الفعل عن المكلّف وبراءة ذمّته إذا شكّ في الإتيان بالمكلّف به قبل انقضاء وقته ، وإن كان بحيث يعلم بالإتيان على تقدير الإلتفات وكان احتمال الترك من جهة احتمال الذّهول خاصّة ، وكان من عاداته الإتيان به في ذلك الوقت ولم يتّفق منه ذهول في مدّة مديدة ، فقوله : ( إنّ الترك سهوا خلاف فرض الذّكر ) لا محصّل له ؛ لأن كون الذكر مفروضا خلاف الفرض بالضرورة ، وإنّما المفروض احتمال الغفلة والشك في الذكر ، ومفاد القاعدة عدم الإعتداد


إشكال ودفع

أقول : قد يستشكل فيما ذكره : بأنّ ظاهر التّعليل هو عدم الاعتناء باحتمال عدم الإتيان بشيء من العمل غفلة أو نسيانا بالاحتمال عدم الإتيان بشيء منه عمدا ؛ لأنّ الأذكريّة حين العمل إنّما يصلح علّة لإلقاء الاحتمال الأوّل

__________________

بالشك في العمل من جهة الشك في الإبراء المعلومة دليلا على عدم التعمّد في الترك ، ففساده واضح ؛ فإن المفروض الشك في التعمّد في الترك وعدمه ، والمقصود استفادة الحكم بالصحّة تعبّدا من الرواية وإن أراد انه خلاف ظاهر كونه في مقام الإبراء بحيث يجامع احتمال التعمّد المحوج إلى التعبّد بالصحّة فهو أمر معقول ، ولكنّه حكمة للحكم لا دليل على تقدير وقوعه في الرّواية مع انه لا عين منه ولا أثر ولا ملازمة بين الغاء احتمال الغفلة وبين إلغاء احتمال تعمّد الترك.

والحاصل : انّ المستفاد من الرّواية بقرينة التعليل ليس إلّا عدم الاعتداد بالشك اذا كان ناشئا من احتمال الغفلة وليس فيها ما يشعر بإلغاء احتمال التعمّد في الترك » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٢٣ ـ ٣٢٤.

* وقال المحقق السيّد صاحب العروة قدس سره :

« لا يخفى انّ مقتضى التعليل بقوله عليه‌السلام : ( هو حين يتوضّأ أذكر ) اختصاص القاعدة بما احتمل ترك الجزء نسيانا ؛ إذ الترك العمدي لا ينافيه الأذكريّة كي يحكم بنفيه ، بل يلزم الذكر فإذا كان مورد القاعدة دائر مدار التعليل يخرج الترك العمدي عن موردها ولا ينفع انضمام الكبرى المتقدّمة أعني : قوله : ( فإذا كان أذكر فلا يترك ما يعتبر في صحّة عمله الذي يريد براءة ذمّته ) [ فرائد الأصول : ٣ / ٣٤٣ ] لأنّ تلك الكبرى بالنسبة إلى الترك العمدي خال عن الدليل ، اللهم إلّا أن يدّعى انه يفهم من الأذكريّة حين العمل انه لا ينسى ولا يتناسى ، اعني بالترك العمدي فتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٧٦.


لا الاحتمال الثّاني.

ولكنّك خبير بضعف هذا الإشكال وفساده ؛ لأنّ التّعليل في مقام اعتبار ظهور حال المسلم المريد للامتثال ولمّا كان هذا الظّهور موقوفا على إحراز التّذكّر ، وإلّا فلا ظهور لحال المسلم في إتيانه بالعمل على وجهه وعدم تركه لما له دخل له ؛ من حيث إنّه ليس معصوما من الخطأ والنّسيان ، فلذا جعل العلّة أذكريّة المكلّف حين العمل ، فلا يترك إذا كان أذكر ما له دخل في صحّة عمله عمدا ، فمع ذلك كيف يمكن أن يقال : إنّ التّعليل لا يدلّ على التّعميم وعدم الفرق؟

وبالجملة : فساد الإشكال المذكور ممّا لا يحتاج إلى البيان من جهة كمال وضوحه وظهوره.

(٣٦١) قوله : ( قد يجري [ هنا ](١) أصالة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٤ )

أقول : قد تقدّم الكلام في جريان هذا الأصل وأمثاله وأنّه مبنيّ على اعتبار الأصل المثبت مطلقا ، أو فيما إذا كانت الواسطة خفيّة ـ على تقدير تسليم خفاء الواسطة في المقام ـ وأنّه لا تعلّق للأصل المذكور بالقاعدة أصلا ، وأنّه لا فرق في جريانه بين صور الشّك من حيث وقوعه قبل العمل ، أو في أثنائه ، أو بعده فراجع إليه (٢).

__________________

(١) اثبتناها من الكتاب.

(٢) بحر الفوائد : ج ٣ / ١٣١.


٣ ـ أصالة الصحة في فعل الغير

مدرك أصالة الصحّة :

( آيات الكتاب )

(٣٦٢) قوله : ( ولعلّ مبناه على إرادة الظّن والاعتقاد ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٥ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه يمكن أن يبتني الاستدلال به على وجه آخر ، وهو : أن يراد من القول معناه الحقيقي من حيث كونه منبعثا من ظنّ السّوء فتدبّر.

(٣٦٣) قوله ( دام ظلّه ) : ( والاستدلال به يظهر من المحقّق ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٦ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ظاهر هذا الكلام هو استدلال المحقّق الثّاني بالآية الثّانية (١) ، ولكنّه ليس بمراد قطعا كما هو واضح ، فلا بدّ من أن يجعل مرجع الضّمير الآية الأولى (٢) ، أو الوجه ؛ حيث إنّ المقصود من كون الآيتين بيان الاستدلال بما دلّ على لزوم القصد وصحّته من عموم الآيات ، ولعلّ هذا أقرب.

__________________

(١) قوله تعالى في سورة النساء / ٢٩ ـ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ.

(٢) قوله تعالى في سورة المائدة / ١ ـ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.


(٣٦٤) قوله : ( لكن لا يخفى ما فيه من الضّعف ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٤٦ )

أقول : لا يخفى عليك وجه ضعفه ؛ فإنّك قد عرفت غير مرّة : أنّ التّمسك بالعمومات في الشّبهات الموضوعيّة ممّا لا معنى له ؛ ضرورة أنّ محلّ الكلام في هذا الأصل ومجراه كالأصل السّابق. أي : قاعدة الشّك بعد التّجاوز عن المحلّ ، وبعبارة أخرى : أصالة الصّحة في فعل الغير كفعل النّفس إنّما تجري في الشّبهات الموضوعيّة دون الحكميّة ، فتوهّم جريانها فيهما لا يخفى ما فيه على من له أدنى خبرة.

(٣٦٥) قوله : ( وأضعف منه ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٦ )

أقول : لا يخفى عليك وجه أضعفيّة دلالة الآيتين الأخيرتين على فرض دلالتهما على ما هو المقصود بالبحث ، وأمّا الآيتان الأوّلتان على فرض ظهورهما فيما له تعلّق بالمسألة في الجملة مع أنّ الأولى لا تعلّق لها بها أصلا ؛ فلأنّ المقصود من الحمل على الصّحة هو الحكم بكون الفعل الصّادر عن المسلم ممّا يترتّب عليه الأثر المقصود منه من الملكيّة والزّوجيّة وغيرهما من الآثار والأغراض المقصودة ، لا مجرّد عدم ظنّ السّوء به ، وأنّه فعل ما لا يجوز له في تكليفه كما هو مدلول الآيتين ؛ فإنّه ليس من محلّ الكلام في شيء ؛ لأنّه ممّا انعقد الإجماع بل الضّرورة على عدم جوازه في حقّ خصوص المؤمن مطلقا. أمّا بمعنى عدم جوازه

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« فإنه من باب التمسّك بالعام في الشبهات المصداقيّة ، والتحقيق : عدم جوازه إلّا فيما إذا كان المخصّص لبّيّا ـ كما هو المشهور المنصور ـ فالإستدلال بمثلها في الجملة مما لا بأس به فلا تغفل » إنتهى. انظر درر الفوائد : ٤٠٥.


في نفسه بناء على كونه اختياريّا بالنّظر إلى أسبابه على ما ذهب إليه بعض ، أو بمعنى عدم ترتّب الأثر عليه والبناء على تحقّقه كما هو قضيّة بعض الأخبار وكلمة الأكثرين ، وأيّا ما كان لا تعلّق له بما هو المقصود بالبحث في المقام.

والحاصل : أنّ محلّ النّزاع في أنّه هل يجب البناء في صورة الشّك على أنّ الفعل الصّادر من المسلم ـ ولو كان من أهل السّنة والجماعة ـ ممّا يترتّب عليه الحكم الوضعي والأثر المقصود حتّى عند التّشاح والتّنازع ولو لم يكن البناء على عدمه مستلزما لظّن السّوء ، وحمل قوله على كونه محرما أصلا أو لا يجب ذلك؟ لا في أنّه إذا صدر قول من المؤمن والأخ هل يحرم ظنّ السّوء به والبناء على أنّه فعل حراما أم لا؟ فإنّ ظنّ السّوء بالمؤمن لم يخالف أحد في عدم جوازه حتّى فيما إذا لم يصدر عنه قول ، وستقف على زيادة القول في هذا عن قريب.

(٣٦٦) قوله : ( ولكنّ الإنصاف عدم دلالة [ هذه ](١) الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٧ )

أقول : أمّا عدم دلالة غير المرويّ في « الكافي » عن أمير المؤمنين عليه‌السلام على ما هو المقصود ؛ لأنّه في مقام تحريم ظنّ السّوء بالمؤمن القائل بإمامة الأئمة الاثني عشر كما هو ظاهر لمن له أدنى دراية. وقد عرفت : أنّه خارج عن محلّ الكلام في المقام.

وأمّا هو فقد يقال بل قيل : بدلالته على المدّعى ؛ فإنّ الأحسن من قول المؤمن ما يترتّب عليه الأثر شرعا في مقابل ما لا يترتّب عليه الأثر ، وإن لم يكن محرّما بل كان جائزا للفاضل بحسب تكليفه ، إلّا أنّ قضيّة التّحقيق اتّحاد المقصود

__________________

(١) اثبتناه من الكتاب.


منه مع ما هو المقصود من ساير الرّوايات.

والّذي يدلّ على ذلك أمور :

أحدها : ظهوره فيه بمقتضى السّياق سيّما بعد ملاحظة الإجماع القائم على عدم وجوب حمل فعل الأخ على الأحسن ، بمعنى كون التفصيل مقصودا من فعله في الرّواية فتأمّل.

ثانيها : ذكر « الأخ » في الرّواية ؛ فإنّه ليس إلّا من جهة مدخليّة الأخوّة في الحمل المذكور ، ومن المعلوم أنّه ليس لها مدخليّة إلّا في عدم اتّهامه بحسب تكليفه لا في إتيانه على طبق الواقع الموضوع للآثار ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

ثالثها : عطف قوله : « ولا تظنّن بكلمة ... إلى آخره » لقوله : « ضع أمر أخيك على أحسنه » (١) فإنّه ظاهر كما لا يخفى على من له أدنى دراية في العطف التّفسيري في كون المراد منهما شيئا واحدا.

(٣٦٧) قوله : ( ثمّ إنّه لو فرضنا أنّه يلزم من الحسن ترتيب الآثار ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٣٤٨ )

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٦٢ باب « التهمة وسوء الظن » ـ ح ٣ ، عنه الوسائل : ج ١٢ / ٣٠٢ باب « تحريم تهمة المؤمن وسوء الظن به » ـ ح ٣.

(٢) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« ربّما يتوهّم : التدافع والتنافي بين هذا الشرط وجوابه ، وليس كذلك.

بل مراده : انه لو فرضنا انه يلزم من الحسن ترتيب الآثار وأغمضنا عمّا ذكرنا : من أنّ المراد بالحسن مجرّد رفع الحرج غير ملتزم لترتيب الأثر نقول : إنّا تعبّدنا بمقتضى الخبر على


للصحّة معان بعضها داخل في النّزاع وبعضها خارج

أقول : لا يخفى عليك الفرق بين هذا التّنزّل وسابقه ، وهو أنّه كان الكلام في السّابق أن الرّوايات لا تدلّ إلّا على عدم جواز اتّهام المؤمن ، وأنّه فعل ما هو قبيح باعتقاده وحرام شرعا. وأمّا الدّلالة على أنّ فعله متّصف بصفة الحسن الشّرعي فلا. وفي هذا يكون الكلام في أنّه لو فرضنا دلالتها على وجوب حمل فعل الأخ على أنّه فعل حسن ولو في مقام لا تنفك حسنه واقعا عن ترتيب الآثار الوضعيّة عليه لم ينفع في إثبات ترتيب الآثار الوضعيّة عليه ؛ لعدم دلالتها على ذلك وعدم كونها مسوقة لبيان إثبات الآثار الوضعيّة.

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ هنا معاني للصّحة بعضها خارج عن محلّ النّزاع وإن دلّت عليه كثير من الآيات والأخبار ، وبعضها داخل في محلّ النّزاع لكنّه ليس من مدلول الأخبار والآيات المتقدّمة.

منها : حمل فعله على عدم كونه معصية وقبيحا عنده بمعنى عدم اتّهامه في فعله. وهذا المعنى وإن دلّت عليه الآيات والأخبار الكثيرة ، بل عرفت كونه من ضروريّات الفقه ، إلّا أنّ الكلام ليس فيه.

ومنها : حمله على أنّه حسن واقعا من غير أن يحكم عليه بترتيب الآثار

__________________

الحكم بصفة الحسن لا على ترتيب لوازمه غير الشّرعيّة.

ويستفاد من كلامه هذا عدم إثبات هذا الأصل كسائر الأصول اللازم العقلي والعادي » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٨٨.


الوضعيّة. وهذا وإن أمكن استفادته من الأخبار أيضا ، إلّا أنّه ليس محلّ الكلام أيضا.

ومنها : حمله على أنّه صحيح عند الفاعل بمعنى ترتيب الآثار الوضعيّة المترتّبة على ما كان صحيحا باعتقاد الفاعل عليه. وهذا غير مستفاد من الآيات والأخبار المذكورة ، لكنّه ليس خارجا عن محلّ الكلام كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

ومنها : حمله على أنّه صحيح واقعا بمعنى ترتّب الآثار الشّرعيّة المترتّبة على فعل الصّحيح الواقعي عليه وإن كان الطّريق إليه يختلف باختلاف اعتقاد الحاملين ، وبهذه الملاحظة يعبّر عن هذا المعنى بالصّحيح عند الحامل. وهذا أيضا غير مستفاد من الآيات والأخبار المتقدّمة ، إلّا أنّه من محلّ الكلام قطعا.

(٣٦٨) قوله : ( ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين كون الكلام ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٨ )

الإشكال في تنظير الاستاذ ودفعه

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يقال : إنّ هذا التّشبيه والتّنظير الّذي ذكره في غير محلّه من وجهين :

أحدهما : من جهة ما سيجيء : من أنّ أصالة الصّحة بالمعنى المبحوث عنه في الأفعال الصّادرة عن المسلمين لا يقضي بوجوب ردّ السّلام فيما لو شكّ في أنّ الكلام الصّادر عن المسلم كان سلاما أو شتما.

والوجه فيه : أنّ أصالة الصّحة لا تقتضي إلّا الحكم بترتيب آثار الصّحة على الفعل بعنوانه الّذي صار موضوعا للآثار بعد القطع بصدوره معنونا بالعنوان (١)

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


المذكور والمعلوم صدوره من المسلم في الفرض مجرّد الكلام لا السّلام ، فيجب ترتيب آثار كلام الصّحيح لو كان له أثر لا إثبات كونه سلاما حتّى يجب ردّه على السّامع الّذي توجّه الكلام إليه.

نعم ، لو قطع بصدور السّلام ثمّ شك في كونه صحيحا بحسب القواعد العربيّة ومن حيث كون المقصود منه التّحيّة أو السّخريّة مثلا أو فاسدا حكم بوجوب ردّ السّلام عليه.

ثانيهما : من جهة أنّه لا معنى لشمول الأخبار للمشبّه به أصلا حتّى فيما لو قطع بصدور سلام منه شكّ في كونه فاسدا أو صحيحا ؛ حيث إنّ أخبار الباب إنّما ينفي الحرج عن الفعل المردّد بين ما فيه حرج وما لا حرج فيه. والسّلام الفاسد ليس ممّا فيه حرج على المسلّم قطعا حتّى يبنى على عدم صدوره عنه بمقتضى الأخبار هذا.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ المقصود من الاستشهاد المذكور تقريب منع دلالة الأخبار على المعنى المبحوث عنه من حيث دلالتها على مجرّد نفي الحرج عن الفعل المردّد ، فكما أنّه لا يحكم في الكلام المردّد بين كونه ممّا فيه حرج وبين ما لا حرج فيه إلّا بنفي الحرج ، وأنّه كلام حسن ولا يترتّب عليه الآثار الوضعيّة مع كونه ملازما في الواقع لما له أثر كذلك لا يحكم في البيع المردّد بين ما فيه حرج وبين ما لا حرج فيه ، إلّا بكونه ممّا لا حرج فيه ؛ من حيث إنّه كذلك لا بترتيب الآثار الوضعيّة عليه وإن كان بينهما فرق بالنّسبة إلى المعنى الرّابع ؛ فإنّه بعد البناء على صحّة البيع لم يعقل له معنى إلّا ترتيب الآثار المترتّبة على البيع الغير الرّبوي من النّقل والانتقال.

وهذا بخلاف الكلام المردّد بين كونه سلاما وكلاما ؛ فإنّه لا يحكم من البناء


على صحّته بأنّه سلام فيجب ردّه ؛ فإنّه لا يثبت بأصالة الصّحة العنوانات الغير المعلومة حتّى يترتّب عليها الحكم الشّرعي على ما عرفت في بيان الإشكال.

هذا حاصل ما يقال في دفع الإشكال الأوّل.

وأمّا الإشكال الثّاني : فلا إشكال في دفعه ؛ فإنّ عدم جريان هذا المعنى فيما لو دار الأمر في السّلام بين كونه صحيحا وفاسدا لا يلازم عدم جريانه فيما لو دار أمر الكلام بين كونه سلاما أو شتما ؛ فإنّه لا إشكال في جريانه فيه لكونه دائرا بين ما فيه حرج وما لا حرج فيه وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

(٣٦٩) قوله : ( وممّا يؤيّد ما ذكرنا : جمع الإمام عليه‌السلام في رواية محمّد بن الفضل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٨ )

وجه الإستشهاد بالرواية على ما ذكره الاستاذ في الكتاب

وفي مجلس البحث

أقول : القسامة ـ بالفتح ـ في اللّغة اسم من يخبر عن شيء مع الحلف عليه كما عن « القاموس » (١) وغيره ، وفي عرفهم يطلق على البيّنة العادلة كما ذكره الأستاذ العلّامة فيصير خمسون قسامة بحسب العدد على هذا مائة شاهد ، وذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) أنّ عبارة « القاموس » وإن كانت ظاهرة في الإخبار مع ٢٠٢ / ٣ الحلف ، إلّا أنّه يمكن أن يستفاد منها بالتّأمّل : أنّها تطلق على المخبر عن شيء على سبيل الجزم بحيث لا يأبى عن الحلف عليه.

__________________

(١) لم نجد له أثرا في القاموس.


وجه الاستشهاد بالرّواية على ما ذكره في « الكتاب » وفي مجلس البحث : هو أنّه لو كان المراد من التّصديق هو التّصديق الواقعي بمعنى ترتيب الآثار المترتّبة على الصّدق الواقعي عليه ، والمراد من التّكذيب هو الواقعي مع عدم تصديق القسامة بحسب اعتقادهم لزم التّرجيح بلا مرجّح ، بل ترجيح المرجوح كما هو واضح ، فلا بدّ إذن من أن يكون المراد من التّصديق في الرّواية هو التّصديق الواقعي بمعنى ترتيب آثار الصّدق على الخبر ، ومن التّكذيب هو التّكذيب الواقعي مع التّصديق بحسب اعتقادهم بمعنى التّصديق المخبري لا الخبري ؛ ضرورة أنّ تصديق المشهود عليه بحسب الواقع يلزمه تكذيب القسامة بهذه الملاحظة لامتناع اجتماع تصديقهما بحسب الواقع ونفس الأمر ، إلّا أنّه لا يلزمه تكذيب القسامة بحسب اعتقادهم فيجب تصديقهم بهذه الملاحظة هذا.

ولكنّك خبير بأنّ هذا التّقريب في بيان الاستشهاد لا يسمن ولا يغني ؛ فإنّ المراد منه إثبات أن المقصود من تكذيب السّمع والبصر من الأخ ليس إلّا نفي التّهمة عنه وعدم الحكم بصدور القبيح منه ، أو عدم الحكم بكون ما يصدر منه حسنا بمعنى : أنّه لو رأى بصرك فعلا قبيحا منه بظاهره كشرب الخمر مثلا ، فابن علي كون شربه للتّداوي ، أو سمع سمعك قولا قبيحا منه كالشّتم ، أو الغيبة ، أنّه ممّا يجوز له في تكليفه. فالمراد من تكذيب الحواس هو عدم ترتيب أثر الفعل القبيح على المحسوس ، فإذا رأى أنّه يشرب الخمر يجب تخطئة البصر في أنّه فعل حراما ، فيكون تفريع تكذيب خمسين قسامة على صدر الحديث من باب التّفريع بطريق الأولويّة ؛ فإنّه يجب حمل ذيل الحديث على ما إذا لم يحصل من شهادة القسامة القطع بصدور القول منه فتدبّر.


ومن المعلوم أنّ المناسب لهذا المعنى حمل التّصديق على التّصديق الصّوري ، أي : إظهار التّصديق بحسب اعتقاد المخبر ، ومن التّكذيب هو التّكذيب الواقعي مع تصديق القسامة بحسب اعتقادهم لا ما ذكر من البيان. ولقد أجاد ( دام ظلّه ) في أوّل كلامه حيث جعل المراد من ذيل الرّواية ما ذكرنا لا ما ذكره في المقام.

فإن قلت : تكذيب القسامة في أخبارهم بحسب اعتقاده يوجب تكذيبهم بحسب اعتقادهم ؛ لعدم إمكان اجتماعه مع تصديقهم بحسب اعتقادهم إذا جعل المراد من التّصديق هو التّصديق باعتقاد المخبر.

قلت : هذا الإيراد مشترك الورود ؛ لأنّ التّصديق بحسب الواقع أيضا لا ينفكّ عن التّصديق الصّوري بمعنى إظهار التّصديق فيلزم المحذور أيضا ، فلا بدّ على كلّ من التّقديرين من الالتزام بإمكان اجتماعهما ؛ إذ ليسا كالتّصديقين الواقعيّين حتّى لا يمكن اجتماعهما.

نعم ، قد يتأمّل في اجتماعهما إذا كان الخبران على سبيل التّناقض في مجلس واحد فتدبّر.

فإن قلت : حمل الرّواية على هذا المعنى يوجب التّفكيك بين المراد من التّصديق والتّكذيب.

قلت : نسلّم لزوم التّفكيك إلّا أنّه ممّا قضى به الدّليل فلا ضير فيه.

ولكن يمكن أن يقال : أنّ المقصود من التّفريع بيان حكم القول المظنون الصّدور من المسلم من بيان حكم القول المعلوم الصّدور بطريق الأولويّة لا بيان حكم الإخبار الحسّي من المسلم المخبر عليه من حيث هو.


ومن المعلوم أنّ إلحاقه به إنّما هو بالبناء على عدم صدوره من المسلم وهو عين معنى تكذيب القسامة واقعا وتصديق الأخ واقعا ، فليس المراد من الرّواية إلّا ما ذكره ( دام ظلّه ) هنا ، والاستشهاد إنّما يتمّ بكون المراد من تكذيب القسامة هو التّكذيب الواقعي مع التّصديق المخبري ، وإلّا لزم التّرجيح بلا مرجّح لا تصديق الأخ وتكذيب القسامة معا فتدبّر.

ويمكن استفادة المطلب من صدر الحديث أيضا بقرينة ذكر « الأخ » حسبما عرفت.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك أنّ الرّواية مخصّصة بما دلّ على اعتبار البيّنة العادلة في التّداعي وفي غيره إذا فرض اعتبارها في مقابل تكذيب المخبر عليه ولم يدخل في عنوان التّداعي ، كما إذا شهد جماعة عند الحاكم أنّ فلانا شرب الخمر مثلا وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

كما أنّه لا يخفى عليك أنّ تكذيب خمسين قسامة فيما يكذب إنّما هو فيما لم يحصل العلم من شهادتهم ، وإلّا فلا إشكال في وجوب تصديقهم وعدم جواز تكذيبهم ، ولعلّ هذا التّعبير مع حصول العلم غالبا من شهادة خمسين قسامة إنّما هو من جهة المبالغة فتأمّل.


(٣٧٠) قوله : ( وممّا يؤيّد ما ذكرنا [ أيضا ](١) ما ورد في غير واحد من (٢) الأخبار ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٨ )

رواية ابن سنان لا علاقة لها بالمقام

أقول : لا يخفى عليك أنّ الرّواية ليس لها كثير ارتباط بالمقام ، والمراد من الصّرعة ـ بفتح الفاء ـ هو الوقوع ، ومنه المصرع والصّريع. والمراد بالاسترسال استرسال الغير الواقع ، وإيقاعه في الخطر بحيث يرفع يده عنه ولا يبالي بهلاكه. ومنه ما ورد في الأخبار من قوله : « غبن المسترسل سحت » (٣) فالمراد أنّ الوقوع الّذي كان على وجه الاسترسال لا يستقال ولا يرجع ، فكأنّه عثرة لا إقالة فيه.

(٣٧١) قوله : ( وما في نهج البلاغة (٤) عنه عليه‌السلام : إذا استولى الصّلاح ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ظاهر الرّواية خلاف الإجماع ؛ فإنّ ظنّ السّوء حرام بالإجماع والآيات المتكاثرة والأخبار المتواترة على كلّ حال وفي كلّ

__________________

(١) أثبتناها من الكتاب.

(٢) كذا وفي الكتاب : « الرّوايات ».

(٣) الكافي الشريف : ج ٥ / ١٥٥ باب آداب التجارة ـ ح ١٤ ، والفقيه : ج ٣ / ٢٠٠ باب « غبن المسترسل » ـ ح ٧٧٢ ط دار الأضواء ، و ( ج ٣ / ٢٧٢ ح ٣٩٨٢ ط دار الكتب الإسلامية ) ، والتهذيب : ج ٧ / ٧ ـ ح ٢١ ، عنها الوسائل : ج ١٧ / ٣٩٥ باب « حكم ربح الإنسان على من يعده بالإحسان » ـ ح ٢ و ٤.

(٤) نهج البلاغة : ٤٨٩ ـ الحكمة ١١٤.


وقت ، وجعل الفقرة الثّانية بمعنى ترتيب الأثر ، بمعنى : أنّه لا يجوز ترتيب الأثر على فعل المؤمن عند غلبة الفساد على الزّمان ، وإن حرم أصل ظنّ السّوء به ، بخلاف ما لو غلب الصّلاح عليهما ؛ فإنّه يجب ترتيب الأثر أيضا مع كون هذا التّوجيه أيضا خلاف الإجماع ممّا لا يجدي في شيء ، بل يدلّ على خلاف المدّعى في الجملة كما لا يخفى.

فالمراد من الرّواية وأمثالها ـ والله العالم ـ هو حسن الظّن بالغير بحيث يجعله أمينا وصاحب سرّه فيدلّ على الإرشاد فتدبّر.

قوله : ( فإنّ الجمع بينها وبين الأخبار المتقدّمة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٩ )

الجمع غير ممكن خلافا للأستاذ

أقول : قد عرفت : أنّه لا يمكن الجمع بين ما في « نهج البلاغة » والأخبار المتقدّمة بما ذكره الأستاذ العلّامة كما هو ظاهر.

(٣٧٢) قوله : ( ويشهد له ما ورد : من أنّ المؤمن ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٤٩ )

أقول : المراد من البغي استعمال الحسد. والمراد بتحقّق الظّن : هو التفحّص عن وقوع المظنون ، أو ترتيب آثار الواقع عليه. والمراد بالمضي عند الطّيرة : هو عدم الاعتناء والتّوكّل على الله. وقد ورد في بعض الأخبار : « ثلاث لم يعر منها نبيّ ومن دونه : الطّيرة ، والحسد ، والوسوسة في التّفكّر في الخلق » (١) والرّواية

__________________

(١) انظر الخصال للشيخ الصدوق : ٨٩ باب الثلاثة ـ ح ٢٧.


بظاهرها منافية للخبر المتقدّم في الجملة بناء على ما ذكره الصّدوق في تفسيرها على ما عرفته في الجزء الثّاني (١) من « الكتاب ».

وكيف كان : اضطربت كلمات الأصحاب في كون الحسد بنفسه من المحرّمات أم لا ، كما أنّها اضطربت في أنّ ظنّ السّوء بنفسه من المحرّمات أم لا ، إلّا أنّ ظاهر الأكثر وظاهر جملة من الأخبار المقيّدة بغيرها عدم التّحريم ما لم يترتّب عليها الأثر.

نعم ، ظاهرهم الإجماع على أنّ مجرّد الخطور القلبي ممّا لا بأس به ، وقد ادّعى الإجماع عليه العلّامة المجلسي في « البحار » (٢) صريحا.

__________________

وأورد الكليني قدس‌سره ما يقرب منه في روضة الكافي الشريف : ج ٨ / ١٠٨ وللتأمل في الخبرين مجال واسع لمنافاتهما للعصمة وقبولهما على هذا التقدير مشكل وإن صحّ خبر الروضة سندا ، وتفسير الصّدوق خلاف الظاهر فلا يصار إليه. وكيف كان : فالأفضل بل الأحوط أن يردّ علم ذلك إلى أهله.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٠.

(٢) لم نعثر عليه في البحار في مظانه نعم ، في رياض السالكين : ٢ / ٤١٠ للسيد عليخان المدني الكبير : وأمّا بمعنى الخطرة أو حديث النفس فإن كان طاعة فلا مانع من أن يترتّب عليه رضاه تعالى كما جرت عليه عادته في عموم الفضل والإحسان وإن كان معصية فقد انعقد الإجماع من الأمة على أن لا مؤاخذة به.


مدرك أصالة الصحة

( الاجماع القولي والعملي )

(٣٧٣) قوله : ( الثّالث : الإجماع القولي والعملي ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٥٠ )

الإجماع القولي والعملي والتأمّل فيه

أقول : لا يخفى عليك وضوح تحقّق الإجماع بكلا قسميه على اعتبار أصالة الصّحة بالمعنى المقصود في محلّ البحث ، بل صريح بعض أساطين المشايخ في

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

لا يخفى ان تحصيل الإجماع من اتفاق الفتاوى في مثل هذه المسألة لو فرض بعيد ، لاحتمال أن يكون مبني فتوى الكلّ أو الجلّ على ما هو السّيرة بين عامّة النّاس في الأعصار والأمصار من حمل الأفعال على الصّحيح من دون اختصاص له بالمسلمين ، ومنه يظهر ما في دعوى الإجماع العملي أيضا.

هذا مضافا إلى احتمال أن يكون المبني هو لزوم اختلال النّظام لو لا الحمل عليه ، كما أفاده في الدّليل الرّابع ، نعم سيرة عامّة النّاس بدليل عدم ردعهم عليهم‌السلام عنها يكشف عن إمضائها والرّضا بها ، وإلّا كان عليهم الرّدع عنها ، فالأولى كان التمسّك بسيرة العقلاء كما لا يخفى ، وإن كان الإنصاف استقلال العقل به لأجل اختلال نظام المعاش والمعاد ، كما افاد بعد ملاحظة عدم أصل آخر يعوّل عليه فلا يقال : ان اختلال يرتفع به أيضا ، ومعه لا استقلال للعقل به بخصوصه كما هو المهمّ ، فافهم » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٠٥.


« كشفهه » (١) : أنّ اعتبار أصالة الصّحة في جميع الموجودات ممّا قضى به الإجماع ، بمعنى : أنّ الأصل في جميع الأشياء السّلامة ؛ لأنّ الفساد إنّما هو من جهة الأمر الطّاري على خلاف الطّبيعة الأصليّة بحيث لو لم يكن لوجد الشّيء صحيحا. فإذا شكّ فالأصل عدمه.

ولذا ذكروا في المتاجر (٢) : أنّه يجوز التّجارة فيما لا يعلم صحّته وفساده قبل الاختبار كالبطّيخ والبيض ونحوهما إتّكالا على أصالة الصّحة والسّلامة ، وإن كان ما ذكره قدس‌سره لا يخلو عن مناقشة ظاهرة سواء جعل المدرك في الأصل المذكور الاستصحاب بتقريره المتقدّم ، أو الغلبة.

وبالجملة : قيام الإجماع بكلا قسميه على اعتبار أصالة الصّحة ممّا لا يقبل الإنكار عند المنصف الراجع إلى كلماتهم في باب التّداعي وغيره وسيرة النّاس في معاملاتهم ، إلّا أنّه لا عموم له حتّى ينفع في موارد اختلاف العلماء فيها ، اللهم إلّا أن يقال : إنّهم اتّفقوا بأسرهم على إجراء أصالة الصّحة في جميع الموارد ، غاية الأمر : أنّهم اختلفوا في تقديم بعض الأصول عليها في بعض الموارد ، فالإجماع منعقد على اعتبار أصالة الصّحة في كلّ مورد من الموارد. هكذا ذكره الأستاذ العلّامة في توجيه تعميم الإجماع لجميع الموارد.

ولكنّك خبير بأنّ هذا التّوجيه لا يخلو عن النّظر ؛ فإنّ صريح المحقّق الثّاني وظاهر العلّامة على ما ستقف عليه في « الكتاب » : عدم إجراء أصالة الصّحة قبل

__________________

(١) كشف الغطاء : ج ١ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٢) انظر القواعد والفوائد للشهيد الأوّل : ج ١ / ١٢٩ ونضد القواعد الفقهية للفاضل مقداد : ٧٩ والمناهل ( كتاب البيع ) : ٢٩٤.


إحراز أركان العقد لا لمكان المعارضة ، وظاهر جماعة أيضا تخصيص مفادها بالصّحة عند الفاعل وهي أيضا غير نافع إلّا في قليل من الموارد ، وظاهر جماعة أخرى معارضتها في كثير من الموارد بأصالة البراءة ونحوها ، بل وتقديمها على أصالة الصّحة. ومن المعلوم أنّه لا ينفع الحكم بالجريان بعد البناء على تقديم مثل أصالة البراءة عليها فتأمّل.

* * *


مدرك أصالة الصحة ( العقل المستقل )

(٣٧٤) قوله : ( الرّابع : العقل المستقلّ ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٥٠ )

الدليل الرابع على اعتبار أصالة الصحّة

__________________

(١) قال العالم الكامل الفقيه الرّباني الشيخ هادي الطهراني قدس‌سره :

وفيه : ان اليد أصل معتبر بالذات على ما حقّقناه وقول الإمام عليه‌السلام لا يدلّ على استناد حجّيّتها إلى قيام السوق بها ، بل إنّما المقصود انّ اعتبار اليد معلوم بالفطرة والشاهد عليه عدم اختلال في أمر السوق ، مع انّه ليس لهم ما يركنون إليه غالبا إلّا اليد ولو لا انّها حجّة بالضرورة لم يقدموا على هذه المعاملات وكان حال السوق كما لو تصدّى للبيع من لا بد له على المال ؛ فإنّه لو شاع ذلك لزم الإختلال ؛ إذ لا يركن إلى قول أحد مع عدم الإطمينان فلو لا اليد لما اقدم الناس على المعاملات واختلّ امر السوق لأنّهم يركنون حينئذ إلى مجرّد القول والدّعوى لتوقّف قيام سوقهم عليه كما هو مقتضى ذلك التوهّم ، مع ان ايجاب الاختلال لرفع اليد عن الأصول ، والحكم بمجرّد الإحتمال لا يرجع إلى محصّل ؛ فإنّ الضرورة تقدّر بقدرها ولا يعقل الضابط والتعميم بجميع صور احتمال الصحّة خلاف الإجمال ، بل الضرورة في الجملة.

وبالجملة : فالرواية لا تدل على الإستناد إلى تلك العلّة والأمر في أدلّة نفي الحرج والتوسعة في الدين أظهر ، فهل يتوهّم أحد أنّ الرّكون إلى الأصول وعدم رفع اليد عنها بمجرّد الإحتمال تضييق على الشخص بجهالة؟ كلّا ثمّ كلّا ، بل الإقدام على مخالفتها بالظنّ فضلا عن مجرّد الاحتمال هو الذي ورد فيه قوله تعالى : أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ [ الحجرات : ٦ ]. أنظر محجّة العلماء : ٢ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.


أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا الدّليل مثل السّابق لا اطّراد له ؛ لأنّه مختصّ بموارد لزوم الاختلال من ترك العمل بأصالة الصّحة ، اللهمّ إلّا أن يقال : أنّ العقل مستقلّ بوجوب جعل أصالة الصّحة على الشارع من باب اللّطف ؛ من حيث إنّ في تركه إخلالا بالنّظام نوعا ، وهو يكفي في حكم العقل ، ولا يشترط لزوم الاختلال الشّخصي في جميع موارد تسرية الحكم. وكذا الرّواية تدلّ على ذلك ، وإلّا لوجب تخصيص اعتبار اليد أيضا بما لو استلزم من عدم اعتباره اختلال النّظام هذا.

ولكنّك خبير بما في هذا الاستدراك.

بل قد يقال : إنّه لا يلزم من ترك العمل بأصالة الصّحة اختلال أصلا بعد فرض اعتبار اليد وكون تصرف المسلم محمولا على الصّحة من جهة ما دلّ على اعتبار اليد من الأدلّة الخاصّة.

ولكنّك خبير بأنّ هذا التّخصيص والاعتراض أيضا لا يخلو عن مناقشة ظاهرة ؛ فإنّه على تقدير تسليم عدم اختلال نظم المعاش من ترك العمل بها في غير مورد اليد لا ريب في اختلال نظم المعاد منه ؛ فإنّه يلزم على تقديره عدم مشروعيّة صلاة الجماعة إلّا خلف النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام كما هو واضح ، وهكذا. والالتزام بهذا ونحوه كما ترى ، بل يمكن استكشاف حكم العقل في المقام من التّعليل لاعتبار اليد في رواية الحفص ؛ حيث إنّ الظّاهر منها التّعليل بما هو مسلّم عند العقلاء بالتّقريب الّذي ذكره في « الكتاب ».

ومنه يظهر الوجه فيما أفاده : من إشارة دليل نفي الحرج إلى ذلك بناء على كون المراد منه الحرج النّوعي الغائي لا الشّخصي ، وإلّا فلا إشارة فيه.

نعم ، هو دليل على المدّعى في مورد لزوم الحرج من ترك العمل بالأصل المذكور ، اللهمّ إلّا أن يتمّ الاستدلال بضميمة عدم الفصل فتأمّل.


تنبيهات أصالة الصحّة

التنبيه الأوّل : المدار على الصحّة الواقعيّة أم على الصحّة عند الفاعل؟

التنبيه الثاني : هل يعتبر في جريانها في العقود إستكمال أركان العقد؟

التنبيه الثالث : صحّة كلّ شيء بحسبه وباعتبار آثار نفسه.

التنبيه الرّابع : اعتبار إحراز أصل العمل في أصالة الصحّة.

التنبيه الخامس : عدم جواز الأخذ باللوازم في أصالة الصحّة.

التنبيه السادس : وجه تقديم أصالة الصحّة على استصحاب الفساد.



التنبيه الأوّل : هل يحمل المسلم على الصحّة الواقعيّة

كما هو المشهور أو الصحّة عند الفاعل؟

(٣٧٥) قوله : ( ويظهر من بعض المتأخّرين خلافه : قال في « المدارك » : ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٥٤ )

حمله على الصحّة عند الفاعل

أقول : قال به المحقّق القمّي رحمه‌الله في « القوانين » (١) ، ويظهر من غيره من المتأخّرين أيضا. وأمّا ما استظهره ( دام ظلّه ) من « المدارك » (٢) فهو من جهة تخصيصه اعتبار أصالة الصحّة بصورة علم المدّعي بالفساد ، فيحكم حينئذ بوجوب حمل فعله على الصّحة وإن ادّعى خلافه ، وحكمه بعدم جريانه في صورة جهله مع أنّه لو كان المناط هو الصّحة الواقعيّة لم يكن معنى للتّفصيل المذكور كما ٢٠٤ / ٣ لا يخفى وجهه هذا.

ولكنّي رأيت في موضع آخر من « المدارك » تصريحه بجريان أصالة الصّحة بالنّسبة إلى الواقع ، إلّا أنّه ليس ببالي حتّى أذكره فراجع إليه حتّى تقف على حقيقة الأمر.

__________________

(١) انظر القوانين : ج ١ / ٥١.

(٢) مدارك الأحكام : ج ٧ / ٣١٥.


(٣٧٦) قوله : ( ويظهر ذلك من بعض من عاصرناه في أصوله وفروعه ) (١). ( ج ٣ / ٣٥٤ )

أقول : صرّح دام ظلّه في مجلس البحث : بأنّ مراده من بعض من عاصره هو الفاضل القمّي ، والتّوجيه المذكور أيضا ظاهر ؛ حيث إنّ المسلمين يفعلون على طبق اعتقادهم في الغالب فمن الغلبة يظنّ في مورد الشّك أنّه عمل على طبق اعتقاده وقد صرّح بذلك في « القوانين » (٢) وهو المراد من الظّهور.

(٣٧٧) قوله : ( بل ويمكن استناد هذا الأصل (٣) ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٥٥ )

أقول : لا يخفى عليك وجه الاستناد المذكور أيضا ؛ لأنّ ظهور حال المسلم لا يقتضي إلّا أنّه لا يفعل من حيث كونه مسلما إلّا ما يعتقد كونه جائزا عند الشارع ، فلا يقتضي الحمل على الصّحة الواقعيّة فيما إذا اعتقد الصّحة على خلاف اعتقاد الحامل ، بخلاف ما لو كانا موافقين في الاعتقاد ؛ فإنّه يقتضي الحمل على الصّحة الواقعيّة الّتي طريقها يختلف باختلاف اعتقاد المكلّفين ، هذا حاصل المراد من العبارة.

لكنّك خبير بأنّها لا تخلو عن القصور في البيان. ثمّ إنّك قد عرفت من هذه العبارة أنّ الاستناد المذكور مبنيّ على مجرّد الإمكان ، وإلّا فظاهر كلمات المتمسّكين بهذا الدّليل ـ كما يعلم من الرّجوع إلى كلماتهم في الفروع الفقهيّة ـ

__________________

(١) جامع الشتات : ج ٤ / ٣٧١ و ٣٧٢ ، والقوانين : ١ / ٥١.

(٢) مرّت الإشارة أعلاه اليه.

(٣) كذا وفي الأصل طبعة مؤتمر تكريم الشيخ : « ويمكن إسناد هذا القول إلى كل من استند في هذا الأصل ... الى آخره ».


الاتّفاق على الحمل على الصّحة الواقعيّة (١).

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا إشكال في انّ قضيّة ما هو العمدة من الأدلّة ـ من السيرة والإختلال ـ : ان المحمول عليه الأفعال هو الصحّة الواقعيّة دون الفاعليّة ، انّما الإشكال في انّه هل يعتبر في الحمل عليها علم الفاعل بها ولو ظاهرا بطريق معتبر شرعا ، أو جهل الجاهل بحاله أم لا ، فعلى الاعتبار لو سلّم جهله بها ، فلا حمل على الصحّة أصلا لانتفاء الصحّة الفاعليّة بنفسها وعدم شرط الحمل في الصحّة الواقعيّة : وعلى عدم الاعتبار فلا محيص عن الحمل على الصحّة الواقعيّة كما لا يخفى والظاهر عدم الاعتبار في الكل على الصحّة الواقعيّة مطلقا ولو كان مع جهل الفاعل بها ، إلّا فيما إذا اعتقد صحّة ما هو فاسد واقعا وفساد ما هو صحيح كذلك ، وذلك لنهوض ما هو العمدة من الأدلّة من السّيرة والإختلال عليه وارتفاع الاختلال بالحمل عليها في بعض الصّور وإن كان حاصلا ، إلّا أنّ تعيين ذلك بلا معين ، ترجيح بلا مرجّح.

ثمّ الظّاهر أنّ صاحب المدارك إنّما خالف في ذلك واعتبر علم الفاعل بالصحّة والفساد ، لا في أنّ المحمول عليه ما هو من الصحّة الواقعيّة أو الفاعليّة ، كما هو ظاهر ما أفاده قدس‌سره ولم يحضرني « المدارك » ، والعبارة المحكي عنها في الكتاب غير صحيحة فيما حضرني من النّسخة ، فراجع وتأمّل » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٠٥ ـ ٤٠٦.


(٣٧٨) قوله : ( وأمّا الثّانية : فإن لم يتصادق اعتقادهما ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٥٥ )

الصورة الثانية من صور المسألة (١)

أقول : لا يخفى عدم الإشكال في وجوب الحمل على الصّحة باعتقاد الفاعل فيما إذا كان مخالفا بحسب الاعتقاد للحامل بالاختلاف التّبايني ؛ لأنّه قضيّة الأخبار ، ولا يعارضها غيرها من الإجماع ، والسّيرة ، ولزوم الاختلال.

والحاصل : أنّه لا ينبغي التأمّل في عدم جواز الحمل على الصّحة الواقعيّة باعتقاد الحامل في الفرض.

__________________

(١) تفصيل المسألة : أن الشاك في الفعل الصادر من غيره :

١ ـ يعلم كون الفاعل عالما بالصحة والفساد.

٢ ـ يعلم بجهله وعدم علمه.

وفي هذه الصورة إمّا أن يتصادق اعتقادهما بالصحة في فعل أو لا يتصادق ، والأوّل كما في مثال العقد بالفارسيّة على الخلاف الذي فيه والثاني كما في ما إذا اعتقد أحدهما وجوب الجهر بالقراءة يوم الجمعة والآخر وجوب الإخفات.

٣ ـ يجهل بحاله.


(٣٧٩) قوله : ( فإن قلنا : أنّ العقد الفارسي (١) منه ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٥٦ )

تصادق اعتقادهما بالصحة وسببيّة العقد

لترتّب الآثار عليه وإن كان فاسدا

أقول : بأن تكون الصّحة الظّاهريّة عنده موضوعا لترتيب الآثار في حقّ غيره بحسب الواقع كما هو ظاهر بعض الأصحاب ؛ نظرا إلى دعوى ظهور ما دلّ على ثبوت الأحكام للموضوعات المضافة إلى الغير كالملكيّة ، والزّوجيّة ، ونحوهما على كفاية تحقّقها في اعتقاده.

ثمّ إنّ الوجه في عدم الثّمرة (٢) هو : أنّه لو حمل على الصّحة باعتقاد الفاعل

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : ( بالفارسية ).

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« فانه يجب ترتيب الآثار على كلّ حال ولو مع العلم بالفساد ولكن قد عرفت قيام السّيرة على الحمل في هذه الصّورة مع الجهل ولزوم الإختلال من عدمه ، لكثرة اختلاف النّاس في شروط المعاملات ، مع عدم تفتيش أحد عن انّ المعاملة كانت جامعة لما يعتبر فيها واقعا ، بل يرتّبون عليها الآثار من دون تفتيش عن ذلك ، كان ذلك من باب الحمل على الصحّة مع الجهل ، أو من باب لزوم ترتيب الأثر على كلّ أحد ولو من كان معتقدا بفساده ، فلا وجه لإشكاله قدس‌سره في الحمل سيّما مع اعترافه بتعميم الفتاوي وقد عرفت عدم اختصاص ما هو العمدة من الأدلّة من الاختلال والسّيرة بما إذا كان عالما بجهله بالحال وعدم علمه بالصّحيح والفساد للسّيرة ولزوم اختلال ، لوضوح عدم معرفة غالب السّواد لأحكام المعاملات ، فلو


لزم ترتيب الآثار أيضا فيكون الحمل على الصّحة بحسب الواقع غير محتاج إليه أو ممّا لا معنى له على وجه.

والحاصل : أنّ دليل وجوب الحمل على الصّحة بحسب الواقع لا يجري في الفرض وإن كان ربّما يتأمّل فيه من لا خبرة له.

(٣٨٠) قوله : ( وإن قلنا بالعدم كما هو الأقوى ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٥٦ )

أقول : لا يخفى وجه ما استظهره ( دام ظلّه ) ؛ لأنّ المعنى المذكور وإن كان أمرا ممكنا ، إلّا أنّه خلاف ظاهر الأدلّة على ما سبق شرح القول فيه في مطاوي كلماتنا السّابقة سيّما في الجزء الثّاني من التّعليقة فليرجع إليه.

وأمّا استشكاله ( دام ظلّه ) في الحمل على الصّحة بحسب الواقع على هذا التّقدير ، فالظّاهر أنّه في غير محلّه ؛ لتحقّق السّيرة على الحمل على الصّحة في الفرض من غير ريب وشكّ ، فهل ترى عدم اقتدائهم بمن يرى استحباب السّورة مع احتمال تركه في الصّلاة مع كونها واجبة عندهم بالتّقليد ، أو الاجتهاد؟

حاشا ثمّ حاشا ، فكذلك الأمر في الحمل على الصّحة في المعاملات ؛ فإنّه لا ينبغي الارتياب في استقرار بنائهم على حملها على الصّحة مع علمهم إجمالا

__________________

بني على التّفتيش عن حال معاملاتهم لاختل أمور المعاش والمعاد على العباد ، وانجرّ إلى الفساد في البلاد ، وأمّا بيع أحد المشتبهين فالظّاهر عدم جواز ترتيب الاثر عليه لأحد إذا علم أنّه كذلك عند المالك ، ومع ذلك أقدم على بيعه بناء على تنجّز التكليف المعلوم بينهما ، لأنّ ترتيب الأثر عليه ارتكاب لأحد طرفي الشبهة ، وأمّا لو علم أو احتمل أنّ المالك البائع يعرف الطّاهر منهما وهو ما أقدم على بيعه ، فلا مانع عن الحمل أيضا أصلا كما لا يخفى » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٠٦.


بوجود المخالفة في المسائل بينهم والحاملين بما لا يرجع إلى المتباينين في الواقعة الشّخصيّة.

(٣٨١) قوله : ( وإن جهل الحال فالظّاهر [ الحمل لـ ](١) جريان الأدلّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٥٦ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يمنع من جريان جميع الأدلّة في المقام سيّما الإجماع القولي ولزوم الاختلال لو لا اعتبار أصالة الصّحة ، إلّا أنّك خبير بأنّ عدم جريان جميع الأدلّة على تقدير تسليمه لا يفيد بعد جريان بعضها كالسّيرة ؛ فإنّ فيها غنى وكفاية.

نعم ، قد يستشكل في أنّ الّذي يقضي به دليل الحمل على الصّحة هو ترتيب آثار الصّحة الواقعيّة على فعل المسلم. وأمّا الحكم بأنّ اعتقاده موافق لاعتقاد الحامل عند عدم العلم باعتقاده فلا ، سيّما إذا لم يكن مردّدا بين المتباينين بالنّظر إلى اعتقاد الحامل.

لكنّك خبير بأنّه لا يترتّب على الحمل على الموافقة بحسب الاعتقاد ثمرة بعد الحمل على الصّحة الواقعيّة كما قضت به السّيرة القطعيّة الجارية في أبواب المعاملات : من البيوع ، والإجارات ، والأنكحة ، وغيرها والعبادات. وأمّا وعده ( دام ظلّه ) بالتّكلّم فيما ذكره فهو وعد لم يف به ظاهرا (٢).

__________________

(١) أثبتناه من الكتاب.

(٢) لم ترد في المتن « الفرائد » في بعض النسخ « وسيجيء الكلام فيه » فيحتمل أن يكون الشيخ قد انصرف منها وحذفها فلا وعد حتى يفي به.


(٣٨٢) قوله : ( وإن كان عالما بجهله بالحال ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٥٦ )

أقول : قد عرفت حال الإشكال المتقدّم ، ويمكن القول بجريان أصالة الصّحة في الفرض أيضا على ما اعترف به ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : من جريان السّيرة بالحمل على الصحّة مطلقا.

نعم ، جريانها فيما إذا كان جهله مجامعا لتكليفه بالاجتناب لا يخلو عن تأمّل.

(٣٨٣) قوله : ( وكذا إذا كان جاهلا بحاله ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٥٦ )

أقول : لا يخفى عليك عدم الإشكال في جريان أصالة الصّحة في الفرض أيضا ؛ نظرا إلى جريان السّيرة قطعا إن سلم منع الإجماع القولي ولزوم الاختلال ، ولا يضرّ العلم الإجمالي : بأنّ كثيرا من العوام سيّما أهل البوادي والقرى جاهلون بالحال ؛ إذ ليس هذا العلم الإجمالي أقوى تأثيرا من العلم الإجمالي : بأنّ كثيرا من

__________________

(١) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« لا ينبغي الإستشكال في بعضها كالصّورة الأخيرة ، بل وسابقتها أيضا ؛ إذ الغالب في موارد الحاجة إلى إعمال هذا الأصل إنما هو الجهل بحال الفاعل أو العلم بجهله فإنّ ابتلاء عموم الناس إنّما هو بأفعال العوام المخاطبين معهم من الرّجال والنساء من أهل الصّحاري والبراري والأسواق الّذين لا يعرفون أحكام المعاملات والطّهارات والعبادات مع استقرار السّيرة على إمضاء أعمالهم وحملها على الصّحيح ما لم يعلم فسادها.

فالأقوى لزوم الحمل على الصّحيح مع احتماله مطلقا إلّا في صورة العلم بمخالفة اعتقاد العامل وعدم تصادق الاعتقادين وأمّا في هذا الفرض فقد يقوى في النّظر الحمل على الصّحيح باعتقاده بالنّظر إلى ظاهر حاله والله العالم » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٧٠.


أعمالهم مخالفة للواقع مع عدم قدحه قطعا من حيث عدم الابتلاء دفعة كما هو ظاهر. مع أنّك قد عرفت : إمكان الحمل على الصّحة مع العلم بجهل الفاعل ، مع احتمال مطابقة عمله للواقع اتّفاقا.

* * *


التنبيه الثاني :

هل يعتبر في جريان أصالة الصحّة

في العقود استكمال أركان العقد؟

قوله : ( ولم يعلم الفرق بين دعوى الضّامن الصّغر وبين دعوى البائع إيّاه ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٥٩ )

التضارب بين كلمات المحقق الكركي

أقول : لا يخفى عليك أنّه أراد ( دام ظلّه ) بذلك الكلام الإيراد على العلّامة والمحقّق الثّاني : بأنّ ظاهرهما التّسالم على جريان أصالة الصّحة فيما إذا اختلف البائع والمشتري في الصّغر وعدمه ، فادّعى البائع الصّغر حال البيع والمشتري البلوغ وإن عارضها العلّامة (١) بأصالة عدم البلوغ ، وضعّفها المحقّق الثّاني بأنّه لا معنى للمعارضة الّتي ذكرها بعد جريان أصالة الصّحة (٢) هذا.

ولكن ذكر ( دام ظلّه ) في مجلس البحث : بأنّه لم يظهر من المحقّق الثّاني في باب البيع تسليم جريان أصالة الصّحة ، وإنّما أراد مجرّد الاعتراض على العلّامة : بأنّه لا معنى للمعارضة المذكورة بعد تسليم جريان أصالة الصّحة ، ولكن بزعمي

__________________

(١) انظر قواعد الأحكام : ج ٢ / ٩٧.

(٢) انظر جامع المقاصد : ج ٤ / ٤٥٢.


القاصر : أنّ كلامه في هذا الباب صريح في جريان أصالة الصّحة قبل إحراز الأركان ، وهو مناف صريح لما ذكره في الضّمان والإجارة ، ولذا أورد عليه بعض مشايخنا بثبوت التّنافي بين كلامه في هذا الباب وكلامه في باب الضّمان والإجارة فالمتعيّن إذن نقل كلامهما في باب البيع حتّى يعلم حقيقة الأمر :

قال العلّامة في « القواعد » ـ في الفرض المذكور ـ : « احتمل تقديم قول البائع مع يمينه ؛ لأنّه مدّع للصّحة وتقديم قول المشتري لأصالة البقاء » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وقال في « جامع المقاصد » : « أنّ الاحتمال الثّاني في غاية الضّعف ؛ لأنّ أصالة البقاء مندفعة بالإقرار بالبيع المحمول على البيع الصّحيح شرعا ؛ فإنّ صحّته تقتضي عدم بقاء الصّبوة ، فلا يعدّ معارضا ، كما لا يعدّ احتمال الفساد معارضا ، لأصالة الصّحة في مطلق الإقرار بوقوع عقد البيع.

فإن قلت : [ هنا ](٢) أصلان قد تعارضا للقطع بثبوت وصف الصّبوة سابقا.

قلت : قد انقطع هذا الأصل بالاعتراف بصدور البيع المحمول على الصّحيح ، كما يحكم بانقطاع أصالة بقاء ملك البائع بالاعتراف بصدور البيع لو اختلفا في صحّته وفساده. ولو ثبت في هذه المسألة تعارض الأصلين لثبت تعارضهما فيما لو قالا : تبايعنا ، وادّعى أحدهما الفساد ، والفرق غير واضح ، وكون الصّبوة مستمرّة

__________________

(١) قواعد الأحكام : ج ٢ / ٩٧ والمورد هو الفقيه النجفي في جواهر الكلام ج ٢٣ / ١٩٥.

(٢) أثبتناه من الأصل.


لا دخل له في الفرق » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وهو كما ترى مناف صريح لما ذكره في البابين (٢).

(٣٨٤) قوله : ( والأقوى بالنّظر إلى الأدلّة السّابقة من السّيرة ) (٣). ( ج ٣ / ٣٦٠ ) (٤)

__________________

(١) جامع المقاصد : ج ٤ / ٤٥٢.

(٢) تأييدا لكلام أستاذه فقيه الجواهر قدس‌سره.

(٣) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : هذا هو الحق ، فلا يعتبر في حمل العمل الصّادر من الغير إلّا إحراز مفهومه العرفي القابل للاتّصاف بالصّحيح والفاسد كما ستعرف ، فمتى أحرز صدور عقد قابل للإتّصاف بالصّحيح والفاسد يحمل على الصّحيح ، كما أنّ الأمر كذلك بالنّسبة إلى الأعمال الصّادرة من نفسه فلو شكّ في انّ هذا الّذي اشتراه أو وهبه أو وقفه هل كان حال صغره أو جنونه بنى على الصحّة ، ولكن لا يحرز بذلك ما هو من لوازم الصّحّة ككون البائع بالغا أو مالكا أو مأذونا من المالك أو نحوه ، كما لا يحرز بحمل صلاته على الصّحيح كونه متطهّرا وكون الجهة الّتي صلّى إليها قبلة أو نحو ذلك كما عرفته فيما سبق ، فلو وقع النّزاع في شيء من هذه اللّوازم يجب العمل فيه بالقواعد المقرّرة لفصل الخصومة بالنّسبة إلى ذلك المورد ، فحمل الفعل الصّادر من الغير على الصّحيح إنما يجدي فيما إذا لم يتضمّن دعوى يتفرّع عليها صحّة ما وقع ، ويتفرّع على ذلك أنّه لو ادّعى المشتري مثلا أنّه كان صغيرا حال البيع وادّعي البائع بلوغه ، قدّم قول المشتري ؛ لأصالة عدم البلوغ ، ولا يعارضها أصالة صحّة البيع إذ لا يثبت بهذا الأصل بلوغه كي يجدي في هذه الخصومة ، وإنّما يجدي هذا الأصل فيما إذا كان محلّ نزاعهم صحّة العقد وفساده.

وأمّا في الفرض وإن تعلّق النزاع أوّلا وبالذات في صحّة البيع وفساده ولكن مدّعي الصّغر ـ كمنكر الإذن في بعض الأمثلة الآتية ـ قلب الدّعوى وجعلها فيما يترتّب عليه الصّحة


__________________

والفساد وساعده خصمه على ذلك حيث قابله بالإنكار ، فكأن المتخاصمين تسالما على البطلان على تقدير الصّغر وتشاجرا في تحقّق هذا التقرير وعدمه ، فالقول قول منكر البلوغ في هذه المشاجرة ، ولكن هذا إذا ادّعى صغر نفسه وامّا إذا ادّعى صغر خصمه فالقول قول مدّعي الصّحة ؛ فإنّ دعوى صغر المشتري من البائع أو العكس غير مسموعة ؛ لأنّ هذه الدعوى في الحقيقة اعتراف للخصم بعد نفوذ تصرّفاته وعدم وجوب وفائه بما التزم به ، لا أنّه ادّعاه وقد كذبه الخصم واعترف بنفوذ تصرّفاته في حقّه ووجوب الوفاء عليه بتعهّداته ، فالمسموع من المدّعي حينئذ ليس إلّا ادّعاء بقاء الثّمن أو المثمن في ملكه وعدم استحقاق الخصم له بواسطة المعاملة الواقعيّة بينهما وهذا شيء ينافيه أصالة صحّة المعاملة.

فمن هنا يظهر الفرق بين ما لو ادّعى المدّعي صغر نفسه أو صغر خصمه ، ففي الأوّل ينقلب الدّعوى إنّ أجابه الخصم بالإنكار بخلاف الثّاني ؛ فإنّ ادّعاءه من الخصم غير مسموع إلّا بلحاظ صحّة العقد وفساده كما عرفت.

وملخّص الكلام : أنّه لا يثبت بأصالة الصحّة في فعل الغير أو فعل نفسه شيء ممّا هو من لوازم الصحّة كما تقدّم التّنبيه عليه في صدر المبحث فلو وقع النّزاغ في شيء من تلك اللّوازم فلا بدّ من أن ينظر إلى أن هذه الدّعوى هل هي دعوى مسموعة أم لا؟

فإن كانت مسموعة ـ كادّعاء كونه صغيرا حال العقد أو مكرها أو غير قاصد لمدلول اللّفظ أو ادّعى صدور البيع من المرتهن أو ممّن ادّعي الوكالة عنه بلا إذنه أو نحو ذلك ـ عمل فيه بما يقتضيه موازين القضاء في هذه الخصومة لا في خصومة أخرى متفرّعة عليها فيقدم قوله في الأوّل ؛ لأصالة عدم البلوغ وكذا في المثالين الأخيرين ؛ لأصالة عدم الإذن ، وقول خصمه في المثال الثّاني والثّالث لا لأصالة صحّة العقد ، بل لمخالفة ادّعائه لأصالة الاختيار في فعل الفاعل المختار وأصالة الظّهور كما لا يخفى.

وإن لم تكن مسموعة كادّعاء عدم كون المبيع مملوكا له أو كونه غاصبا أو كون المبيع ممّا لا


الأقوى التعميم وعدم اعتبار استكمال الأركان

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما اختاره ( دام ظلّه ) من التّعميم ممّا لا ريب في استقامته ووضوح صحّته ؛ لأنّ جريان السّيرة على التّعميم ولزوم الاختلال من التّخصيص ممّا لا ينبغي أن يكون محلّا للإنكار ، بل أقول : إنّه يمكن دعوى الإجماع المحقّق قولا على بطلان التّخصيص بما ذكره ثاني المحقّقين ؛ لأنّه معنى عدم اعتبار أصالة الصّحة رأسا ؛ فإنّه بعد إحراز أركان العقد من المتعاقدين الكاملين من الجهات المعتبرة فيهما ، والعوضين الجامعين لجميع ما اعتبر فيهما من الشّروط ، إذا شكّ في وجود ما يبطل العقد ويمنع من صحّته وهو الشّرط المفسد ، مثل الشّرط المنافي لمقتضى العقد ونحوه لم يكن إشكال في الحكم بالصّحة ، لا من جهة أصالة الصّحة بل من جهة أصالة عدم اشتراط هذا الشّرط في ضمن العقد ، وأصالة عدم وجود المانع من صحّته ، ومن المعلوم أنّه لا دخل لها بأصالة الصّحة في فعل المسلم كما هو واضح.

فالإجماع على اعتبار أصالة الصّحة يقتضي الحكم باعتبارها فيما إذا لم يكن هناك أصل يقتضي الحكم بصحّة العقد ؛ إذ دعوى اختصاص الإجماع بما إذا

__________________

يملك أو كون الخصم مكرها أو غير مالك أو غير مأذون منه أو نحو ذلك لا يصغى إليها وإنّما يصغى في مثل هذه الفروض إلى ادّعاء عدم كونه ملتزما بالعوض الّذي يقتضيه العقد على تقدير صحّته فيقدم قول مدّعي الصّحة فليتأمّل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٧١.


كان هناك أصل على طبقها كما ترى ؛ لأنّ مرجع التّخصيص المذكور حقيقة إلى إلقاء أصالة الصّحة وعدم اعتبارها رأسا ، فكيف يمكن أن يراد من الإجماع على اعتبارها؟

ودعوى : أنّ الشّك في الصّحة والفساد وإن كان مسبّبا عن الشّك في وجود المفسد والمبطل ، إلّا أنّه لا يمكن خلوّ العقد عنه إلّا على القول بالأصل المثبت فأصالة الصّحة محتاج إليها ، فاسدة. مضافا إلى منافاتها لمقالة المخصّص بعدم وجود الواسطة أصلا مع أنّه على تقدير وجودها من الوسائط الخفيّة فتدبّر.

(٣٨٥) قوله : ( ولو قيل : إنّ ذلك من حيث الشّك ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٦٠ )

المستند في المقام قاعدة الفراغ دون أصالة الصحة

أقول : لا يخفى عليك أنّه ينبغي للأستاذ العلّامة أن يجيب عن التّوهّم المذكور ثانيا : بأنّا نفرض الكلام فيما إذا وقع الشّك المذكور مع الشّك في بلوغ البائع أيضا ؛ فإنّ الظّاهر جريان السّيرة على الحمل على الصحّة ، كما أنّ الظّاهر عدم الخلاف أيضا في الحمل على الصّحة.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ ذلك ليس من جهة أصالة الصّحة ، بل من جهة قاعدة الشّك بعد الفراغ والتّجاوز عن المحلّ ـ بناء على تعميم القاعدة ـ لما يشمل المقام ولا دخل لها بأصالة الصّحة ، فاستقرار السّيرة على الحمل على الصّحة مسلّم ، إلّا أنّ مستند عمل المسلمين ليس أصالة الصّحة ، بل قاعدة الشّك بعد التّجاوز عن المحلّ حتّى لو فرض القطع ببلوغه وشكّ بعد العقد في بلوغ البائع ؛ فإنّه يوجب الشّك في صحّة عمله أيضا ؛ لأنّ العقد قائم بهما معا ، وبفساد كلّ من الإيجاب


والقبول يفسد أصل العقد كما هو واضح فتدبّر.

(٣٨٦) قوله : ( ثمّ إنّ ما ذكره جامع المقاصد : من أنّه لا وجود للعقد ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٦٠ )

مناقشة كلام الكركي زيادة على ما جاء في كلام الاستاذ

أقول : يرد على ما ذكره زيادة على ما ذكره ( دام ظلّه ) : النّقض بما سلّم جريان أصالة الصّحة فيه ؛ فإنّه كما قال بعدم وجود العقد قبل إحراز شرائط المتعاقدين والعوضين ، كذلك نقول بعدم وجوده قبل إحراز ما هو المبطل له. فإن أجاب : بأنّ وجود العقد محرز في هذا الفرض وإن لم يحرز وجوده شرعا لاستلزامه القطع بالصّحة. نجيب عمّا ذكره : بأنّ وجود العقد فيما فرضه أيضا محرز عرفا. والحاصل : أنّ الفرق في صدق العقد عند الشّك في وجود ما هو المعتبر في صحّته ، أو عدم ما يعتبر فيه ضعيف جدّا.

فإن قال : إنّه يرجع عند الشّك في وجود المبطل إلى الأصل ؛ لأنّ العدم على طبق الأصل ، وهذا بخلاف الوجود ؛ فإنّه على خلاف الأصل. نجيب عنه أوّلا : بأنّ الأصل المذكور لا يثبت وجود العقد لأنّه ليس من الأحكام الشّرعيّة. وثانيا بما عرفت : من أنّه بعد التّمسك بالأصل لا معنى للتمسّك بأصالة الصّحة لارتفاع الشّك عنها بحكم الشّارع بعد البناء على جريان الأصل ، فهذا لا يكون فارقا أيضا.

(٣٨٧) قوله : ( وأمّا ما ذكره من الاختلاف في كون المعقود عليه ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٦٠ )


ترتيب تسلسل البحث وكلام المسالك وما يرد عليه

أقول : لا يخفى عليك ما في العبارة من الإشكال ، فالأولى أن يذكر أوّلا :

حكم التّداعي في المعيّن في التّملّك المجّاني أو المعاوضي ، ثمّ يذكر حكم التّداعي في الكلّي بقسميه.

ثمّ إنّ الفرق في جريان أصالة الصّحة بين كون الدّعوى في التّملك المعاوضي وغيره مشكل ، كما أنّ الفرق بين كون الدّعوى في المعيّن أو الكلّي أشكل ، وإن ذكره في « المسالك » لكنّا كلّما تأمّلنا لم نفهم الفرق بينهما أصلا ، قال فيه ـ بعد جملة كلام له متعلّق بقول المصنّف : « إذا قال بعتك بعبد فقال بحرّ أو قال : فسخت قبل التفرّق وأنكر الآخر فالقول قول من يدعي الصّحة ... إلى آخره » (١) ـ ما هذا لفظه :

« وربّما استشكل الحكم في الأوّل مع التّعيين كبعتك بهذا العبد فيقول : بل بهذا الحرّ ، فإنّ منكر نقل العبد إن كان هو المشتري فهو ينفي ثبوت الثّمن في ذمّته ، وإن كان هو البائع فهو ينفي انتقال عبده عنه ، فالأصل معهما في الموضعين ، ولأنّه يرجع إلى إنكار البيع فيقدّم قول منكره. ثمّ قال : نعم ، لو لم يناف الصّورتين توجّه ما ذكره » (٢). إنتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره قدس‌سره من التّعليل لا فرق فيه عند التّحقيق بين كون الدّعوى في تملّك الكلّي أو الجزئي ؛ فإنّ منكر تملّك العبد الكلّي إن كان المشتري

__________________

(١) وهي عبارة الشرائع.

(٢) مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام : ج ٣ / ٢٦٨.


فهو ينفي ثبوت الثّمن في ذمّته ؛ لأنّ المفروض أنّ شراءه الحرّ لا أثر له ، وإن كان هو البائع فهو ينفي انتقال عبد كلّي منه إلى المشتري. فالتّحقيق هو الحكم بكون الأصل في الصّورتين مع من يدّعي تمليك العبد ؛ لأنّ أصالة الصّحة حاكمة على ما ذكره في « المسالك » : من الأصل على تقدير إثباته وقوع العقد على العبد.

(٣٨٨) قوله : ( ثمّ إنّ تقديم قول منكر الشّرط المفسد ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٦٢ )

التفصيل المذكور يرجع إلى إنكار اعتبار أصالة الصحة مطلقا

أقول : لا يخفى عليك أنّه ( دام ظلّه ) أراد بذلك الكلام الإشارة إلى أنّ التّفصيل المذكور راجع في الحقيقة إلى إنكار اعتبار أصالة الصّحة مطلقا ؛ فإنّ الحكم بالصّحة في صورة الاختلاف في وجود الشّرط المفسد للعقد لا يحتاج إلى أصالة الصّحة في الفعل الصّادر من المسلم ، بل نفس أصالة عدم وجود الشّرط كافية في الحكم بالصّحة على ما أسمعناك شرح القول فيه.

وتوهّم : كون الأصل المذكور من الأصول المثبتة فلا يغني عن أصالة الصّحة ، فاسد جدّا ، مع أنّ كونه مثبتا غير قادح على ما اختاره المحقّق الثّاني قدس‌سره فتأمّل.


التنبيه الثالث :

صحّة كلّ شيء بحسبه وباعتبار آثار نفسه

(٣٨٩) قوله : ( إنّ هذا الأصل إنّما يثبت صحّة الفعل إذا وقع الشّك ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٦٣ )

معنى حمل فعل المسلم على الصحيح

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يقال : بأنّ مقتضى التّرتيب الطّبيعي هو تقديم الأمر الرّابع على الأمر الثّالث في الذّكر ؛ لأنّ اشتراط وجود الصّحيح والفاسد للفعل الصّادر من المسلم في حمله على الصّحيح مقدّم على كون الصّحيح في كلّ فعل إنّما هو بحسبه ؛ لأنّه متأخّر كما ترى عن وجود القسمين له.

وكيف كان : لا إشكال في استقامة ما ذكره ( دام ظلّه ) ووضوح صحّته بحيث لا ينبغي الارتياب فيه ؛ فإنّ معنى حمل فعل المسلم على الصّحيح : هو الحكم بأنّ الصّادر والموجود منه في الخارج هو الفرد المترتّب عليه الأثر الشّرعي ، أو العرفي الممضى عند الشارع ، بمعنى : كونه ممّا يترتّب عليه الأثر المقصود منه عند الشارع ، أو العرف والشّرع معا.

ومن المعلوم الواضح عند كلّ أحد أنّ الأثر المقصود من الأفعال عند الشارع والعرف ليس أمرا واحدا ، بل يختلف باختلاف الأفعال ، فقد يكون المقصود من فعل شيئا ومن فعل آخر شيئا آخر فلا يعقل إذن معنى لحمل فعل


المسلم على الصّحيح إلّا البناء على كونه ممّا يترتّب عليه الأثر المقصود منه عند الشارع أو عند العرف والشّرع.

فصحّة الجزء في مرتبة جزئيّته أو الشّرط في مرتبة شرطيّته كونه بحيث لو انضمّ إليه تمام ما يعتبر في وجود الكلّ ، أو المشروط ، أو في تأثيره فيما وجد في الخارج أثر في مقابل فاسدهما الّذي لا يكون كذلك ، كما أنّ صحّة السّبب مثلا كونه بحيث لو وجد في الخارج ترتّب عليه المسبّب في مقابل فاسده الّذي لا يكون كذلك على التّسامح في الإطلاق.

فإذا شكّ في أنّ الإيجاب الصّادر من المسلم أو القول الصّادر منه في البيع مثلا ، وقع بلفظ الصّريح ، أو العربي ، أو الماضي ، ـ بناء على اعتبارها في تأثير الإيجاب وعدم لغويّته على ما عليه بناء المشهور في العقود اللّازمة ـ بنى على كونه مشتملا للأمور المذكورة ؛ لأنّ الإيجاب مثلا بدونها ليس ممّا يترتّب على العقد المركّب منه ومن القبول الجامع لجميع الشّرائط المعتبرة في ترتّب الأثر عليه أثر على ما هو قضيّة كلام المشهور.

وأمّا إذا شكّ بعد القطع بوجود الإيجاب من البائع مثلا جامعا لجميع الشّرائط المذكورة وغيرها ممّا له مدخل في تأثيره في مرتبة جزئيّة في تحقّق القبول من المشتري لم يكن معنى للحكم بوجوب البناء على وجود القبول من المشتري : من جهة أصالة الصّحة في الإيجاب ؛ لأنّ مع القطع بعدم تحقّق القبول يقطع بصحّة الإيجاب ؛ لعدم ارتباط صحّة أحد الجزءين بوجود الآخر ، بل لا يعقل معنى لذلك ؛ لأنّ جميع الأجزاء في مرتبة واحدة بالنّسبة إلى تحقّق الكلّ لا يعقل أن يجعل وجود أحدها شرطا في تأثير غيره ، وإلّا لزم الخلف كما هو واضح.


وكذلك الكلام فيما إذا شك في حصول الشّرط في تحقّق الشّيء مع القطع بوجود مركّب يكون مع الشّرط المذكور علّة تامّة لوجود الشّيء بحيث يكون اعتباره في ترتّب الأثر في عرض الأجزاء ، لا بأن يكون معتبرا في ٢٠٧ / ٣ صحّة الأجزاء في مرتبة جزئيّتها كشرط الجزء ، كما إذا شكّ في تحقّق القبض في الهبة ، والصّرف ، والسّلم ، والوقف ، بناء على اشتراطه في النّقل والانتقال بعد القطع بتحقّق العقد الجامع لجميع ما يعتبر في صحّته في مرتبة ذاته : من الصّراحة ، والعربيّة ، والماضويّة ، والموالاة بين الإيجاب والقبول ، والتّرتيب بينهما ، إلى غير ذلك ؛ فإنّه لا معنى لأن يحكم بتحقّق الشّرط المزبور بإجراء أصالة الصّحة في المركّب المذكور لمكان القطع بصحّته على فرض القطع بعدم تحقّق الشّرط المذكور فضلا عن صورة الشّك.

وهكذا الأمر فيما إذا شكّ في حصول النّقل والانتقال من جهة الشّك في تحقّق الرّضا ممّن يعتبر رضاه في حصولها ، فأصالة الصّحة في العقد الفضولي فيما شكّ في لحوق الإجازة لا تقتضي بتحقّقها ، فالأصل في هذا الشّك الفساد ، كالشّك في تحقّق القبض فيما يعتبر فيه من العقود ، وقس على ما ذكر جميع ما يرد عليك من الصّور.

فإذا شكّ في تحقّق التّطهير من الغسل الصّادر من المسلم فإن كان الشّك مسبّبا عن الشّك في تحقّق الغسل بالماء المطلق ، أو المضاف ، ونحوه ممّا يعتبر في تحقّق الأثر المقصود من الغسل فلا إشكال في الحمل على الصّحة والحكم بحصول الطّهارة للمغسول ، وإن كان مسبّبا عن الشّك في حصول الغسل مرّتين ، أو مرّة ـ بناء على اعتبار التّعدّد ـ أو حصول العصر وعدمه ـ بناء على اعتباره في


حصول الطّهارة ـ فلا إشكال في عدم جواز الحكم بحصول الطّهارة من جهة حمل الغسل الصّادر من المسلم على الصّحة.

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكره ممّا لا إشكال فيه أصلا ، نعم ، هنا كلام بالنّسبة إلى أصل البناء على عدم الحكم بتحقّق الطّهارة ونحوها من الآثار المقصود إحرازها بإجراء أصالة الصّحة في الجزء يرجع حاصله إلى أنّ عدم جريان أصالة الصّحة في الجزء وعدم اقتضائها تحقّق الأثر المقصود وإن كان حقّا ، إلّا أنّه لا يمنع من الحكم بتحقّقه من وجه آخر.

وهو : إجراء أصالة الصّحة في نفس الأمر المردّد بين ترك الجزء وفعله الصّادر من المسلم ، أو ترك الشّرط وفعله ؛ فإنّ أصالة الصّحة ليست مختصّة بفعل المسلم بل مجراها أعمّ منه ، وهو مطلق الأمر الصّادر منه المردّد بين الفعل والتّرك ، ولذا لو شكّ في أنّ الإمام يقرأ السّورة في الصّلاة مثلا يبني على أنّه يقرؤها ، مع أنّه لم يحرز عنوان فعل له يشكّ في صحّته وفساده ، فليكن هذا على ذكر منك حتّى يأتيك البيان وشرح هذا الكلام منّا بعد هذا إن شاء الله تعالى.


(٣٩٠) قوله : ( وممّا يتفرّع على ذلك أيضا أنّه لو حلف (١) المرتهن ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٣ / ٣٦٤ )

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : ( لو اختلف ).

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : قد أشرنا مرارا إلى أنه لا مانع عن إعمال أصالة الصّحة في مثل هذه الموارد ولكنّها غير مجدية فيما لو تعلّق النّزاع بأمر يتفرّع عليه الصّحة والفساد كإذن المالك ونظائره على ما أوضحناه في صدر المبحث ، فلو اشترى شخص من الرّاهن الرّهن يجوز للثّالث الّذي يحتمل صحّة عملهما وصدوره عن إذن المرتهن شراؤه منه وأخذ ثمنه من البائع حملا لعملهما على الصّحيح.

ولكن لو وقع النّزاع في الإذن فإن كان ذلك من صاحب الحقّ الذي كان يعتبر إذنه كالمرتهن في الفرض قدّم قوله للأصل السّببي الجاري في هذه الخصومة وهو أصالة عدم الإذن بخلاف ما لو إدّعاه غيره كالرّاهن المتصدّي للبيع في الفرض أو المشتري قاصدا بادّعائه بطلان المعاملة فلا يصغى إلى دعوى عدم الإذن ويقدّم قول خصمه المدّعي للصحّة. كما تقدّم تحقيقه فيما سبق.

وكذا يقدم قول مدّعي الصّحة فيما لو اتّفقا على الإذن ولكن ادّعى المرتهن رجوعه قبل البيع لا لأصالة الصّحة لما عرفت : من أن هذا الأصل لا يقتضي تقديم قول مدّعي الصّحة فيما لو تعلّق النّزاع بالسّبب ، ولذا قدّمنا قول منكر الإذن ، بل لأنّ ادّعاء الرّجوع مخالف لأصالة بقاء الإذن وعدم الرّجوع ، وكذا لو اتّفقا على الرّجوع واختلفا في تقدّمه على البيع أو تأخّره ؛ فإنّ دعوى كون الرّجوع بعد الإذن ليست في حدّ ذاتها متعلّقة للنّزاع ؛ إذ لا أثر لها وإنّما مرجعها إلى إنكار ما يدّعيه المرتهن وهو الرّجوع قبل البيع فهو بمنزلة ما لو أنكر الرّجوع رأسا في موافقة قوله للأصل.

وأمّا أصالة صحّة الإذن أو الرّجوع فلا أصل له كما أوضحه المصنّف رحمه‌الله فلا حظ » إنتهى.


__________________

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٧٥.

* وقال المحقق السيّد محمد كاظم اليزدي قدس‌سره :

« ما ذكره من أن معنى صحّة الإذن أنه لو وقع البيع بعده ومقرونا به كان صحيحا حق لا معدل عنه ، وأمّا ما ذكره من أنّ صحّة الرجوع لا يقتضي وقوع البيع بعده فممنوع ، إذ من الواضح أنّ الرجوع بعد وقوع البيع لغو لا محل له ، فصحته ملازم لوقوع البيع بعده فيكون البيع باطلا ، نعم إثبات بطلان البيع به مبني على حجّية الأصول المثبتة بناء على كون أصالة الصحة من الأصول لا الأمارات ، وكذا ما ذكره من أنّ الحكم بصحة البيع لا يقتضي سوى أنه لو صادف إذن المرتهن أثّر أثره ممنوع ، بل معنى صحة البيع الصادر عن البالغ العاقل بقصد ترتيب الأثر الحكم بكونه جامعا لجميع الشرائط خاليا عن جميع الموانع ومنه اقترانه برضا المالك كما هو كذلك بالنسبة إلى جميع الشرائط المشكوكة فيحكم بصحته بمعنى كونه واجدا للشرط المشكوك ، نعم ، يتم ما ذكره في بيع الفضولي عن المالك فإن حمله على الصحة معناه أنه لو تعقبته الاجازة لتم وأثّر أثره.

إذا عرفت ذلك فنقول : إن قلنا بأنّ حمل الرجوع على الصحة لا يثبت بطلان البيع لكونه من الأصل المثبت يبقى أصالة الصحة في البيع سليمة عن المعارض ، وإن قلنا باثباته بطلان البيع إمّا لأجل كونه من الأمارات أو بناء على حجية الأصل المثبت فيقع التعارض بين أصالتي الصحة صحة البيع وصحة الرجوع المقتضية لبطلان البيع ، ولا حكومة بينهما لأنّ منشأ الشك في أحدهما ليس مسببا عن الآخر ، بل كلاهما مسبّب عن أمر ثالث وهو الشك في التقدّم والتأخّر ، فيحكم بتساقط الأصلين من الجانبين ، وليس المرجع حينئذ أصالة فساد البيع كما يظهر من المتن ، بل المرجع أصالة بقاء الاذن إلى حين وقوع البيع فيحكم بأنه وقع صحيحا ، ولا يعارض بأصالة عدم تحقق البيع إلى ما بعد الرجوع إذ لا يترتب عليها فساد البيع ، إلّا بأن يثبت بها وقوع البيع بعد الرجوع ، ولا يمكن إثبات ذلك إلّا على القول بالأصل المثبت ، وهذا


ما فرّعه الاستاذ على القاعدة صحيح

أقول : لا يخفى عليك صحّة ما فرعه دام ظلّه على ما ذكره من القاعدة ؛ لأنّ صحّة كلّ من الإذن والرّجوع صحّة شأنيّة نظير صحّة الأجزاء وسائر الشّرائط ؛ لأنّ صحّة الرّجوع كونه بمرتبة توجب فساد العقد الواقع بعده في مال الرّاجع عن إذنه في مقابل فاسده الّذي لا يكون كذلك ، فإذا لم يقع عقد بعده سواء وقع قبله أم لا فليس هذا ممّا يوجب فساد الرّجوع.

بل قد يقال : بأنّ مرجع الشّك في المقام إلى الشّك في أصل تحقّق موضوع الرّجوع ؛ لأنّ تحقّقه مفهوما يتوقّف على عدم تحقّق المأذون فتأمّل.

__________________

نظير ما تقدم سابقا في متطهّر صلّى وأحدث وشك في تقدم الصلاة على الحدث أو تأخرها عنه ، وقد مر انه تجرى أصالة بقاء الطهارة إلى حين الصلاة وتترتّب عليها صحّتها ، ولا تجري أصالة عدم تحقق الصلاة إلى حين الحدث ليترتّب عليها بطلان الصلاة لأنّه يحتاج إلى إثبات وقوع الصلاة بعد الحدث والأصل لا يثبت التأخر.

لا يقال : إنّ أصالة بقاء الاذن إلى حين البيع لا يثبت وقوع البيع مقارنا للاذن ، وكذا أصالة بقاء الطهارة لا يثبت وقوع الصلاة حال الطهارة.

لأنّا نقول : لا معنى لاستصحاب الاذن أو الطهارة إلّا الحكم بصحة البيع الواقع بعده والصلاة الواقعة بعدها ، لأنّها الأثر الشّرعي الثابت للمستصحب وهذا بخلاف أصالة عدم البيع إلى حين الرجوع وأصالة عدم تحقق الصلاة إلى حين الحدث ؛ إذ ليس أثرها بطلان البيع والصلاة فلا بد من إثبات وصف التأخّر ليترتّب عليه البطلان كما لا يخفى » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٩٢ ـ ٣٩٤.


وهكذا الكلام بالنّسبة إلى الإذن ؛ لأنّ معنى صحّة الإذن كونه بحيث لو وقع المأذون عقيبه ترتّب عليه الأثر فلو لم يقع عقيبه المأذون فلا يوجب هذا فساد الإذن ، بل لا معنى لتوهّم جريان أصالة الصّحة بالنّسبة إلى الإذن في الفرض ، وإن قيل بجريانها بالنّسبة إلى الرّجوع ؛ لأنّ الإذن في حال وجوده قد وجد صحيحا جامعا للشّرائط ، وإنّما الشّك في ارتفاعه وبقائه. فأين مورد جريان أصالة الصّحة في الإذن؟

نعم ، ذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه العالي ) : أنّه يمكن إجراء أصالة الصّحة في الرّجوع في مقامات أخر كما إذا اختلف في أنّ الرّجوع وقع قبل انقضاء العدّة ، أو بعدها أو وقع في حال الإحلال ، أو الإحرام ؛ فإنّ من شرائط تأثير الرّجوع في مرتبة نفسه عند الشارع وفي نظره في الموضعين أن يقع قبل انقضاء العدّة ، وفي حال الإحلال نظير الإيجاب والقبول بالعربي في العقود اللّازمة على مذهب المشهور ، وهذا بخلاف الرّجوع في المقام ؛ فإنّه لا يتفاوت الأمر في صحّته في نفسه بين أن يقع بعد البيع أو قبله فتدبّر.

وكيف كان : لا إشكال في صحّة ما ذكره ( دام ظلّه ) بالنّسبة إلى المقام ، إنّما الإشكال فيما نسبه إلى بعض الأصحاب : من إجراء أصالة الصّحة في الإذن ، كما في الرّجوع ؛ فإنّ الظّاهر أنّ أحدا لم يقل به ، وإنّما الّذي التزم به بعض مشايخنا في شرحه على « الشّرائع » : جريان أصالة الصّحة في الرّجوع ، حيث قال بعد جملة كلام له في الرّد على ما ذكره في « المسالك » ردّا على ثاني المحقّقين ما هذا لفظه :

« وثانيا : أنّه لا ريب في الحكم بحصول الشّرائط بعد وقوع الفعل وإن كان الأصل يقتضي عدمها ، كما لو شكّ في الطّهارة ، أو الاستقبال ، أو التّستّر ، أو نحو


ذلك بعد الصّلاة خصوصا إذا كان أصلها ثابتا ، كما لو تيقّن الحدث بعد الفراغ من الصّلاة ولكن لم يعلم سبقه عليها ، أو بالعكس فقوله : « إنّ الشّرائط لا بدّ من إحرازها بيقين ، أو استصحاب » إن أراد به قبل التّلبس بالفعل فهو مسلّم ، ولكنّه غير ما نحن فيه. وإن أراد بعده فهو واضح المنع ؛ ضرورة اقتضاء أصالة صحّة فعل المسلم ما ذكرنا ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« فقد يتّجه دعوى جريان أصالة صحّة البيع الّتي يكفي فيها احتمال عدم الرّجوع قبله ففي الحقيقة سقوط حقّه بإذنه لا بأصالة الصّحة ، إلّا أنّه يعارض ذلك أصالة الصّحة في رجوعه ؛ ضرورة كونه فعلا من أفعال المسلم الّذي ينبغي حمله على الصّحة الّتي هي هنا الحكم بكونه قبل البيع حتّى يؤثر فسادا فصحيحه ٢٠٨ / ٣ ذلك وفاسده الواقع بعد البيع ؛ لعدم تأثيره » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

وهو كما ترى ، لا إشعار فيه بجريان أصالة الصّحة في الإذن ، كما لا إشعار فيما أهملنا نقله ، بل الظّاهر من مجموعه عدم جريان أصالة الصّحة في الإذن ، وإن صرّح بجريان الاستصحاب فيه في الجملة كما صرّح به غيره. وبالجملة : توهّم جريان أصالة الصّحة في الإذن ممّا لا معنى له ولم يتوهّمه أحد.

وإن كان ما ذكره شيخنا المتقدّم في « شرحه » بالنّسبة إلى أصالة الصّحة في الرّجوع محلّ مناقشة من وجه آخر أيضا : وهو معارضة أصالة الصّحة في الرّجوع مع أصالة الصّحة في البيع ، أو استصحاب الإذن ؛ لأنّ أصالة الصّحة في الرّجوع

__________________

(١) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام : ج ٢٥ / ٢٦٦.


حاكمة على الأصلين كما لا يخفى. مضافا إلى عدم جريان أصالة الصّحة بالنّسبة إلى البيع أصلا بعد الشّك في رضا من يعتبر رضاه ؛ لأنّ الصّحة الشّأنيّة مفروضة قطعا ، وغيرها ليس من آثاره ؛ لأنّ الأصل في بيع مال الغير ، أو ما يتعلّق به حقّ الغير ، الفساد مع قطع النّظر عن إذنه كما عرفته عن قريب.

كما أنّ ما أفاده قدس‌سره ردّا على « المسالك » : من أنّه لا ريب في الحكم بحصول الشّرائط بعد وقوع الفعل ، محلّ مناقشة أيضا ؛ ضرورة افتراق أصالة الصّحة في فعل النّفس الرّاجعة إلى قاعدة الشّك بعد الفراغ مع أصالة الصّحة في فعل الغير ، وقد عرفت تحقيق القول في مقتضى القاعدة عند التّكلّم فيها.

(٣٩١) قوله : ( نعم ، بقاء الإذن إلى أن يقع البيع ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٦٥ )

في ان استصحاب الإذن وأصالة عدم البيع قبل

الرجوع ونحوهما من الأصول المثبتة

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد تكرّر في كلماتهم التّمسك باستصحاب الإذن وأصالة عدم البيع قبل الرّجوع ونحوهما في المقام ، إلّا أنّك خبير بأنّ أكثرها بل كلّها أصول مثبتة لا تعويل عليها عندنا.

نعم ، ذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) : أنّ استصحاب الإذن فيما لو شكّ المأذون حين إرادة البيع في رجوع الآذن عن إذنه ممّا لا ريب فيه وفي إفادته جواز البيع وترتّب الآثار عليه ؛ لأنّه ممّا يترتّب على بقاء الإذن إلى زمان إرادة البيع بلا توسيط أمر عقليّ أو عاديّ. وهذا بخلاف استصحابه بعد وقوع البيع ؛ فإنه


ممّا لا يترتّب عليه صحّة البيع إلّا بإثبات كونه واقعا عن إذن ، وهو ليس من الأحكام الشّرعيّة ، فتدخل بهذا الاعتبار في الأصول المثبتة.

ثمّ ذكر ( دام ظلّه ) : أنّه لا غرابة فيما ذكرنا ولا تعجّب فيه ؛ فإنّه كثيرا مّا يختلف حال الأصل قبل الفعل وبعده ، ألا ترى أنّه لو شكّ أحد المتبايعين في بلوغ صاحبه حين إرادة البيع لم يكن له البيع وترتيب الآثار عليه بخلاف ما لو شكّ هذا الشّك بعد البيع ؛ فإنّه لا يلتفت إلى الشّك المذكور؟ وهكذا الأمر في كثير من المقامات.

ولكنك خبير بإمكان المناقشة فيما ذكره ( دام ظلّه ) وإن كان الفرق الّذي ذكره في المثال في المقيس عليه في غاية الاستقامة ، إلّا أنّ القياس في غير محلّه ؛ حيث إنّ قضيّة قاعدة الشّك بعد الفراغ ، أو أصالة الصّحة في الفعل هو الحكم بصحّة البيع فيما لو شكّ في صحّته وفساده بعد وجوده ؛ حيث إنّه لا وجود لهما قبل الفعل.

وهذا بخلاف المقام الرّاجع إلى التمسّك بالاستصحاب ؛ فإنّ من آثار بقاء الإذن إلى حين وقوع البيع هو الحكم بحصول النّقل والانتقال شرعا ولو كان الشّك حاصلا بعد البيع ، ولا يحتاج إلى إثبات واسطة حتّى يدخل في الأصول المثبتة ، ولو كانت هناك واسطة لم يفرّق بين الصّورتين ، اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الأصل في بيع مال الغير ، أو ما تعلّق به حقّ الغير المانع من بيعه ، الفساد كما في بيع الوقف وأشباهه ، ولا يجوز الحكم بالصّحة إلّا بعد إثبات وقوع البيع عن إذن مجوّزه فتأمّل.


(٣٩٢) قوله : ( والحقّ في المسألة ما هو المشهور ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٦٥ )

وجه صحّة مذهب المشهور

أقول : لا يخفى عليك الوجه فيما أفاده ( دام ظلّه ) بعد التّأمّل فيما ذكرنا : أمّا في الرّجوع والإذن فواضح ، وأمّا في البيع : فلما عرفت : من أنّ صحّته في مرتبة ذاته الّتي يعبّر عنها في لسان جمع بالصّحة الشّأنيّة موجودة قطعا ، وصحّته بمعنى حصول النّقل والانتقال عقليّة ليست من آثاره ، بل من آثار المجموع المركّب منه ومن رضا ذي الحقّ ، ولذا لم يقل أحد بجريان أصالة الصّحة في بيع مال الغير ، أو المرهون فيما إذا شكّ في تحقّق الرّضا رأسا.

وإنّما أوجب التّوهّم في المقام تحقّق الإذن في السّابق فربّما يتوهّم من جهة استصحابه : أنّه يمكن إجراء أصالة الصّحة في المقام.

مع أنّك خبير : بأنّ هذا التّوهّم في كمال الظّهور من الفساد ؛ لأنّ الاستصحاب المذكور لو كان جاريا في المقام لاقتضى الصّحة بنفسه وإن قطع النّظر عنه لم يجر أصالة الصّحة أصلا فهي ساقطة على كلّ تقدير.

وهذا ما يقال : إنّ الأصل الثّانوي في بيع مال الغير وشبهه الفساد ، ولا يجري فيه أصالة الصّحة ، بل لا بدّ في الحكم بصحّته من إحراز الإذن من ذي الحقّ ونحوه.

نعم ، قد يقع الإشكال بل الكلام في بعض الموارد : من جهة الكلام في تشخيص المشروط ، كما في بيع الوقف المشروط صحّته بوجود المسوّغات الشّرعيّة.


فإنّه إن كان شرطا في أصل تأثير العقد كالقصد والعربيّة ونحوهما كان مقتضى الأصل عند الشّك ـ ووقوع النّزاع بعد البيع ـ الحكم بالصّحة.

وإن كان شرطا في النّقل في قبال العقد كما في القبض المعتبر في الوقف ، والهبة ، ونحوهما كان مقتضى الأصل ـ عند الاختلاف والشّك بعد البيع ـ الحكم بالفساد على ما أسمعناك ، وقد ذكرنا ما هو الحقّ عندنا وفصّلنا القول فيه فيما كتبناه في كتاب « الوقف » من أراد الوقوف عليه فعليه بالمراجعة إليه.

* * *


التنبيه الرابع :

اعتبار إحراز أصل العمل

في أصالة الصحّة

(٣٩٣) قوله : ( الرّابع : أنّ مقتضى الأصل ترتيب الشّاك ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٦٧ )

أقول : الفعل الصّادر من المسلم قد لا يكون له صحيح وفاسد سواء تعلّق به ٢٠٩ / ٣ حكم شرعيّ أم لا ، كالغسل من حيث هو غسل ، والتّطهير ونحوهما. وقد يكون له صحيح وفاسد كالغسل بعنوان التّطهير مثلا.

أمّا الأوّل : فلا إشكال في خروجه عن محلّ النّزاع.

وأمّا الثّاني : فهو على وجهين :

أحدهما : ما ترتّب على صحيحة رفع تكليف عن المكلّف وإسقاطه عنه.

ثانيهما : ما لا يكون كذلك ، بل ترتّب عليه آثار أخر.

وفي كلّ منهما قد يترتّب الحكم الشّرعي على ما كان صحيحا ولو عند الفاعل كصّحة صلاة المأموم البعيد عن الإمام المترتّبة على صحّة صلاة غيره القريب عنه ، ولو باعتقاده المخالف لاعتقاد هذا المأموم. وهذا بخلاف صحّة صلاة الإمام ؛ فإنّ المعتبر منها الصّحة الواقعيّة.

والفرق ما استفيد من الدّليل : من أنّ المانع من اقتداء النّائي هو أجنبيّته عن الإمام المرتفعة بتوسّط غيره من المأمومين المشغولين بالصّلاة المحكومة بصحّتها


ولو باعتقادهم ، وهذه بخلاف صلاة الإمام ؛ فإنّ المعتبر فيها ليس ما ذكر.

وكالصّلاة على الميّت المسقطة للتّكليف عن غير المصلّي من المكلّفين بها على الكفاية ، ولو كانت صحيحة باعتقاد المصلّي المخالف لاعتقاد غيره من المكلّفين على ما هو قضيّة كلمة جماعة من الأصحاب.

وقد يترتّب على ما يكون صحيحا واقعيّا وأمثلته كثيرة في كلّ من القسمين ، وقد عرفت حكم القسم الثّاني من القسمين بقسميه مرارا ، ولا إشكال في القسم الأوّل من أوّلهما أيضا.

إنّما الكلام في القسم الثّاني منه فنقول : إنّ رفعه التّكليف عن الغير قد يكون من حيث كون الفاعل نائبا عنه كالحجّ عن العاجز ، وكالصّلاة عن الميّت بالنّسبة إليه. وقد يكون من حيث كونه آلة كإعانة العاجز في وضوئه. وقد يكون من حيث كونه سببا سواء كان بتسبيب من الغير كالصّلاة عن الميّت من جهة استئجار الوليّ ، أو لم يكن له مدخل في إقدامه بالفعل كالصّلاة على الميّت بمعنى كون إقدام المكلّف بمقتضى تكليفه وإتيانه به رافعا للتّكليف عن الغير ، كما هو الحال في جميع الواجبات الكفائية.

لا إشكال في القسم الأخير من هذه الأقسام ، بل لم يخالف أحد في جريان أصالة الصّحة فيه واقتضائها رفع التّكليف عن الغير ، وأمّا غيره من الأقسام المتقدّمة عليه فقد يستشكل فيها : بأنّ الفعل فيها ذو جهتين ، جهة استناد إلى الفاعل ، وجهة استناد إلى غيره.

والّذي يقتضيه أصالة الصّحة في فعل المسلم إنّما هو الحكم بصحّته من الجهة الأولى وترتيب آثار الفعل الصّحيح عليه من هذه الجهة ، كوجوب إعطاء


الأجرة ونحوه فيما لو فرض وقوع الفعل بعنوان الاستئجار ، لا الحكم بحصول براءة ذمّة الغير المترتّب على الجهة الأخرى ؛ فإنّه لا يكفي فيه أصالة الصّحة ، بل لا بدّ من طريق شرعيّ آخر كعدالة الفاعل ، أو إخباره وإن لم يكن عادلا بناء على اعتبار خبر الفاسق في المقام ونحوه ممّا لا يعلم غالبا إلّا من قبل المخبر فتأمّل.

ومن هنا اشترط جماعة العدالة في المتوضّي (١) غيره ، والنّائب عن العاجز في الحجّ ، ومن الميّت في صلاته ، بل نسب اعتبارها إلى المشهور.

وأولى بالإشكال القسم الأوّل وهو ما لو كان الفاعل نائبا عن غيره ؛ فإنّه إن لوحظ الفعل من حيث قيامه بالفاعل ـ على ما هو قضيّة أصالة الصّحة ـ لم يقتض الحكم بصحّة الحكم ببراءة ذمّة المنوب عنه ؛ لأنّه ليس من آثاره ، فإثباته بها يشبه التّعويل على الأصل المثبت. وإن لوحظ من حيث كونه فعل المنوب عنه بالتّنزيل لم يجر فيه أصالة الصّحة ؛ لأنّه ليس فعل الغير. هذا حاصل ما أفاده ( دام ظلّه ) من الإشكال وإن كان بعض مواضع بيانه غير نقيّ عن الاضطراب.

ولكنّك خبير بإمكان التّفصّي عن الإشكال المذكور : بأنّ الصّحة من الجهة الثّانية من آثار الصّحة من الجهة الأولى ؛ إذ لا معنى لحكم الشارع بالبناء على صحّة فعل المتوضّي إلّا البناء على براءة ذمّة العاجز من الوضوء كاستحقاقه الأجرة لو كان فعله بعنوان الاستئجار.

وأمّا حكم بعض باشتراط العدالة في المتوضّي ، وحكم المشهور باشتراط العدالة في النّائب عن الحيّ والميّت فليس من جهة عدم كفاية أصالة الصّحة في الحكم بحصول براءة ذمّة العاجز ، أو المنوب عنه بعد إحراز كون الفاعل في مقام

__________________

(١) كذا والظاهر : الموضّىء غيره والمراد من يوضّىء غيره.


إبراء ذمّتهما ، وكون صدور الفعل عنه بهذا العنوان ـ والشّك في إخلاله ببعض الأمور المعتبرة في صحّته شرعا كما يشكّ في إخلاله ببعض الأمور المعتبرة في المكلّف به فيما يأتي به عن نفسه ـ بل من جهة إحراز كونه في مقام الإبراء بناء على كفاية ما يحصل من عدالته من الظّن في الحكم بحصول المعنى المذكور شرعا ـ على ما ستقف عليه عن قريب إن شاء الله ـ ولم يعلم منهم اشتراط العدالة على تقدير إحراز كون الفعل صادرا عن الفاعل بعنوان الإبراء ، ولو ظهر من بعضهم فلا دليل له أصلا ، هذا مجمل القول في التّفصّي عن الإشكال الوارد بقول مطلق.

وأمّا الإشكال الوارد في خصوص القسم الأوّل فيمكن الذّب عنه : بأنّ الفعل الصّادر عن الغير بعنوان النّيابة وإن كان له اعتباران وجهتان ، إلّا أنّ اعتبار صدوره بعنوان النّيابة لا يوجب خروجه عن فعل الغير واقعا كيف؟ وهو خلاف الحسّ ، فللشّارع أن يأمر المنوب عنه بالبناء على صحّة الفعل الصّادر عنه من حيث كونه فعلا صادرا عن مسلم بعنوان النّيابة عنه ، وكذا من يستأجر عن الغير كالوصيّ والولد الأكبر فيما يستأجر عن الموصي ، أو والده من العبادات البدنية هذا.

فالحقّ أنّ أصالة الصّحة في نفسها تقضي بعدم الفرق بين الأقسام والحكم بحصول براءة الذّمة ورفع التّكليف في جميعها ، إلّا أنّ هنا شيئا يمكن أن يحكم بالنّظر إليه بوجوب رفع اليد عن أصالة الصّحة في مواضع الإشكال من الأقسام المذكورة الّتي عرفتها وهو : أنّ قضيّة آية النّبأ بمقتضى التّعليل هو التّبيّن في جميع ٢١٠ / ٣ ما يصدر من الفاسق والتّثبّت فيه سواء كان قولا أو فعلا ، فلو كلّف الشّخص بإيجاد فعل ولو تسبيبا ووجب عليه ذلك لم يجزيه إيجاده ببدن الفاسق وفعله ، بجعله


واسطة في رفع التّكليف المتوجّه إليه ؛ لاحتمال عدم إتيانه بالفعل على الوجه المعتبر في الشّرع ، والمفروض عدم ما يرفع هذا الاحتمال في الفاسق ؛ لعدم وجود الملكة الرّادعة له بخلاف العادل ؛ فإنّ ما فيه من الملكة الرّادعة تمنع من إقدامه بالمعصية. ومن هنا حكموا بعدم جواز جعله وصيّا وقيّما ووليّا في الأوقاف وغيرها.

لا يقال : إنّ مقتضى التّعليل هو التّبيّن في أمر العادل أيضا ؛ لأنّ ملكة العدالة لا توجب عصمته حتّى ينتفي مقتضى التّعليل عنه ، فالعادل والفاسق سيّان إذن بالنّظر إلى مقتضى الآية.

لأنّا نقول : الأمر وإن كان كما ذكر ـ لو كان المراد من التّبيّن هو التّبيّن العلمي على ما هو قضيّة التّحقيق عندنا : من تقديم ظهور التّعليل على ظهور القضيّة الوصفيّة ، أو الشّرطيّة في المفهوم لو فرض لها مفهوم في المقام ـ إلّا أنّ من المحتمل كون المراد من التّبيّن المعنى الأعمّ الشّامل للاطمئنان أيضا ؛ فإنّ ملكة العدالة في العادل توجب بنفسها الاطمئنان بأمره ، إلّا أنّ البناء على ذلك في غاية الإشكال. وتحقيق الكلام فيما يتعلّق بالمقام وتفصيله يطلب ممّا قدّمناه في الجزء الأوّل من التّعليقة (١) عند الكلام على الاستدلال بآية النّبأ هذا ما يقتضيه التّحقيق عندنا.

وأمّا بناء على ما هو المعروف في ألسنتهم من وجود المفهوم للآية فلا إشكال في اندفاع السّؤال المذكور ، ومن هنا بنوا على كفاية العدالة في النّائب وأمثاله وإن ذكر الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) : أنّ اعتبار العدالة عندهم في هذه

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٥٠.


المقامات ليس من جهة التّفصيل في جريان أصالة الصّحة عندهم فيها بين فعل العادل والفاسق ، بل من جهة اعتبار قول المخبر عن وجود الفعل عنه على الوجه المعتبر ، ولو كان بالإخبار الفعلي والحالي بمعنى كونه على حال لو سئل منه لأخبر بوجود الفعل على الوجه المعتبر ، ولو فرض فقد هذا لم يحكم بصحّة عمله ولو كان عادلا ، فالحجّة إذن غير أصالة الصّحة. هذا ملخّص ما أفاده ( دام ظلّه العالي ).

وهو كما ترى ، مبني على الإشكال الّذي ذكره في جريان أصالة الصّحة في فعل النّائب ونحوه من حيث الحكم بحصول براءة ذمّة المنوب عنه.

ولكنّك خبير بإمكان المناقشة فيما أفاده : بأنّ حمل كلامهم على ما ذكر لا قرينة له أصلا. مضافا إلى أنّه لا دليل على اعتبار خبر العادل بالمعنى المذكور سيّما في الموضوعات الخارجيّة فتدبّر.

لا يقال : لو كان الأمر كما ذكرته : من كون المستند عندهم في اعتبار العدالة في النّائب وأمثاله هو آية النّبأ لزم الحكم بعدم الفرق بين العادل والفاسق لو علم بصدور الفعل منه على الوجه الصّحيح ، أو ظنّ ذلك بالظّن الاطمئناني بناء على كون المراد من التّبيّن ما يشمل ذلك ؛ لأنّ اعتبار العدالة ومانعيّة الفسق في الآية إنّما هو من حيث الطّريقيّة لا الموضوعيّة ، وإلّا لم يكن معنى لتعليل الحكم فيها بإصابة القوم في النّدم على تقدير عدم التّبيّن.

لأنّا نقول : مقتضى القاعدة الالتزام بما ذكر على ما هو صريح غير واحد وإن كان ربّما ينافيه كلمات جماعة في بعض هذه المقامات ، إلّا أنّها ضعيفة فتدبّر.

لا يقال : لو كانت الآية مانعة من التّعويل على أصالة الصّحة في فعل الفاسق فيما يراد تحصيل البراءة عن التّكليف بفعله وأشباهه ممّا حكمت فيه باشتراط


العدالة في الفاعل في إجراء أصالة الصّحة لمنعت من إجرائها في جميع المقامات ، فلا بدّ من أن يجعل ما دلّ على اعتبار أصالة الصّحة مخصّصا لعموم الآية ، كما يخصّص بما دلّ على اعتبار قول الفاسق في بعض المقامات.

لأنّا نقول : نمنع من دلالة الآية على عدم جواز التّعويل على أصالة الصّحة في فعل الفاسق في غير ما حكمنا باشتراط العدالة فيه ؛ لأنّ الآية إنّما تمنع من استئمان الفاسق وإيكال الأمر إليه وتحصيل غرض بواسطته ، لا عن مجرّد حمل فعله على الصّحيح فتأمّل.

هذا ملخّص ما قيل أو يقال في توضيح المرام وبقي بعد هنا خبايا في زوايا لم نتعرّض لها.

وينبغي التّنبيه على أمرين :

أحدهما : أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) في صدر هذا الأمر من التّمثيل لما يجري فيه أصالة الصّحة من الغسل بعنوان التّطهير إنّما هو فيما فرض الشّك في حصوله على الوجه المعتبر في الشّرع ، كما إذا شكّ في إطلاق الماء وإضافته ، أو طهارته ونجاسته ، أو ورود النّجاسة على الماء ، أو وروده عليها فيما كان الماء قليلا إلى غير ذلك من موارد الشّك فيما يوجب لغويّة الغسل بعنوان التّطهير في نظر الشّارع ، لا فيما إذا شكّ في حصول التّعدد وعدمه ، أو العصر وعدمه على القول باعتبارهما كما هو الحقّ في الجملة ، فلا ينافي ما تقدّم منه : من عدم جريان أصالة الصّحة في الغسل للحكم بحصول تمام العدد أو العصر فتدبّر.

ثانيهما : أنّه ذكر ( دام ظلّه ) في طيّ كلماته في مجلس البحث الفرق في إجراء أصالة الصّحة في الواجبات الكفائيّة ، فحكم بإجراء أصالة الصّحة في مثل


الصّلاة على الميّت ونحوها إذا احتمل إخلال المصلّي ببعض الشّروط وإجزائها ، وبعدم إجرائها في مثل غسل الميّت إذا احتمل ترك الغاسل لبعض الغسلات ، أو في كفنه إذا احتمل تركه لبعض ما يعتبر فيه : إمّا عن تقصير ، أو قصور عن اجتهاد ، أو تقليد ، أو غيرهما ؛ لأنّ ما صدر منه من الغسل ، أو الكفن لا يحتمل فساده ، وإنّما الشّك في حصول الزّائد عليه من مقدار الغسل ، أو الكفن.

وهذا نظير الشّك في حصول الغسل الثّاني في باب إزالة النّجاسة فيما يعتبر فيه التعدّد لا نظير الشّك في إطلاق الماء وإضافته ، وإن كان الجزم بالفرق المذكور ـ وإن اقتضاه الاحتياط ـ في غاية الإشكال والله العالم بحقيقة الحال.

* * *


التنبيه الخامس :

عدم جواز الأخذ باللوازم في أصالة الصحّة

(٣٩٤) قوله : ( الخامس : الثّابت من القاعدة المذكورة الحكم بوقوع الفعل ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٧١ )

أقول : لا يخفى عليك صحّة ما ذكره ( دام ظلّه ) : من عدم إثبات الأصل المذكور ، إلّا الآثار الشّرعيّة المترتّبة على الفعل الصّحيح بلا واسطة.

أمّا على القول باعتباره من باب التّعبّد فظاهر ؛ لأنّك قد عرفت مرارا : أنّ تنزيل الشّارع للأمر الغير المحقّق منزلة المحقّق وأمره بالبناء على تحقّقه لا يراد منه ، إلّا الالتزام بما يترتّب عليه من الأحكام وجعلها في مرحلة الظّاهر ، لا جعل ما يترتّب شرعا على غيره وإن كان لازما عقليّا له. وهذا معنى عدم اعتبار الأصل المثبت ؛ فإنّه لا اختصاص له بالاستصحاب بل يشمله وغيره من الأصول كما هو واضح.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن النّوعي ، وهو ظهور حال المسلم ؛ فلعدم دليل على اعتبار هذا الظّهور ، إلّا من حيث كشفه عن صدور الفعل الصّحيح عنه بما هو هو. وأمّا كشفه عن لوازمه الغير الشّرعيّة المترتّب عليها الأحكام الشّرعيّة فليس ممّا قام الدّليل على اعتباره.

وأمّا ما قرع سمعك : من أنّه إذا كان الشّيء معتبرا من باب الظّن والطّريقيّة فلا فرق في وجوب ترتيب الآثار الشّرعيّة عليه بين ما كان مترتّبا على مورده بلا واسطة أو بواسطة ، فإنّما هو فيما قام الدّليل على اعتبار هذا الشّيء بلسان كشفه

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


ولحاظ طريقيّته المطلقة ، لا فيما إذا قام على اعتبار كشفه ببعض الاعتبارات والحيثيّات ؛ فإنّه لا معنى حينئذ للتّعدّي عن مورد وجود الدّليل ؛ فإنّ الأصل في الظّن عدم الاعتبار ، فإذا قام الدّليل من الإجماع والسّيرة على اعتبار ظهور حال المسلم ، والأخذ به في صدور الفعل الصّحيح عنه بالنّسبة إلى ما يترتّب شرعا على الفعل الصّحيح الصّادر من المسلم ، فلا معنى للتّعدّي عنه إلى الحكم بوجوب ترتيب غيره ممّا يترتّب على لوازمه وملزوماته ومقارناته ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ، فلا تغترّ بإطلاق القول بعدم الفرق في اعتبار الأصل بين المثبت منه وغيره إذا كان اعتباره من باب الظّن والظّهور.

ومن هنا صرّح جماعة من الأصحاب كالعلّامة وغيره بعدم اعتبار أصالة الصّحة بالنّسبة إلى غير الآثار الشّرعيّة المترتّبة على الفعل الصّحيح بلا واسطة في مواضع من كلماتهم مع ذهابهم إلى اعتبار أصالة الصّحة من حيث ظهور حال المسلم.

منها : ما حكى شيخنا ( دام ظلّه ) عن العلّامة في « القواعد » (١) في كتاب الإجارة ومورد الاستشهاد الفرع الثّاني وهو الاختلاف في تعيين الأجرة ، أو العوض لا الاختلاف في تعيين المدّة ؛ لأنّ جعله من موارد أصالة الصّحة مبنيّ على القول بفساد الإجارة رأسا كما عليه المشهور ، أو بالنّسبة إلى غير الشّهر الأوّل كما اختاره العلّامة والشّهيد كما هو صريح قول العلّامة في هذا الفرع. وأمّا على القول بالصّحة بالنّسبة إلى التّمام كما عليه بعض الأصحاب فلا تعلّق له بالمقام ، بل يدخل في التّداعي.

ثمّ على القول بالفساد في الفرض يقدّم قول مدّعي الصّحة ، لكن لا يثبت

__________________

(١) قواعد الأحكام : ج ٢ / ٣١٠.


بأصالة الصّحة الأجرة المعيّنة على ما أفاده شيخنا ( دام ظلّه ) ويحتمله كلام العلّامة فتأمّل.

ثمّ إنّه قد يتوهّم الفرق بين الاستصحاب وأصالة الصّحة حتّى على القول بالتّعبّد فيهما من حيث اعتبار المثبت منهما وعدمه ؛ نظرا إلى ابتناء أصالة الصّحة في أغلب مواردها على إثبات الشّروط في الخارج كبلوغ المتعاقدين ونحوه على ما يقع التّصريح به في كلام شيخنا ( دام ظلّه ) فيطالب الفرق بينه من جهة ، وبين الاختلاف في وقوعه على ما يملك حيث حكم بخروج العوضين عن ملك مالكهما في الأوّل ، وبعدم خروجه عن ملك مالكه في الثّاني.

ولكنّك خبير بفساد التوهّم المذكور ووضوح الفرق ؛ فإنّا لا نحكم بوجود الشّرط إلّا من حيث توقّف صحّة المعاملة عليه لا مطلقا ، فلو فرض ترتّب أثر على وجوده بقول مطلق لا يحكم بترتّبه عليه فالحكم بوجود البلوغ في زمان العقد إنّما هو من حيث الحكم بصحّة البيع لا مطلقا ، ومعنى الحكم بصحّة العقد وتحقّق البلوغ من الحيثيّة المذكورة خروج العوض عن ملك مالكهما ، وهذا بخلاف الحكم بصحّة العقد في الثّاني ؛ فإنّه ليس معناه وقوعه على الملك المعيّن وإن استلزمه بمقتضى العلم الإجمالي.

والحاصل : أنّ المناقشة فيما أفاده ( دام ظلّه ) من الاعوجاج ؛ فإنّه في كمال الوضوح.

نعم ، قد يقع الاشتباه في بعض الموارد والصّغريات ، وهذا لا تعلّق له بأصل المطلب ويقع مثله في كثير من المطالب المسلّمة بعد عدم وضوح حال الصّغريات كما هو ظاهر.


تنبيهات

ثمّ إنّ هنا أمورا لم ينبّه عليها الأستاذ العلّامة فبالحريّ أن ننبّه عليها.

جريان أصالة الصّحة في فعل الكافر

الأوّل : أنّ ظاهر كلماتهم في بيان الأصل المذكور اختصاصه في باديء النّظر بفعل المسلم ، فلا يجري في فعل الكافر فيما له صحيح وفاسد لو شكّ في صحّته وفساده ، إلّا أنّ مقتضى عميق النّظر جريانه فيه ؛ فإنّ بعض أدلّته كالكتاب والسّنة وإن كان مختصّا بفعل المسلم على إشكال بالنّسبة إلى بعض الأخبار الواردة في الباب على ما ستقف عليه ، إلّا أنّ العقل من حيث لزوم الاختلال والسّيرة قاضيان بعدم الفرق.

ومنه يعلم إمكان الاستدلال ببعض الأخبار الواردة في الباب أيضا مثل : ما دلّ على اعتبار الأصل المذكور من حيث لزوم الاختلال ، ولا يقدح عدم دلالة الكتاب وأكثر الأخبار ؛ لأنّ فيما ذكرنا غنى وكفاية مع ما عرفت : من عدم دلالتهما على المعنى المقصود من الأصل المذكور بالنّسبة إلى فعل المسلم أيضا. ٢١٢ / ٣

نعم ، ما يدلّان عليه من وجوب نفي فعل القبيح وحرمة ظنّ السّوء مختصّ بفعل المسلم على ما عرفت الإشارة إليه في طيّ كلماتنا السّابقة أيضا هذا كلّه. مضافا إلى إمكان دعوى الإجماع قولا من كلماتهم أيضا.


كلام كاشف الغطاء في المقام

وقد صرّح كاشف الغطاء بعدم الفرق في الأصل المذكور بين فعل المسلم والكافر ، وأرسله إرسال المسلّمات ولم يشر إلى مخالف فيه أصلا ، وإن كان في استدلاله على ذلك بأصالة السّلامة في جميع الموجودات نظر.

قال قدس‌سره : « البحث السّادس والثّلاثون في أنّ الأصل فيما خلقه تعالى من الأعيان من عرض ، أو جوهر ، حيوان أو غير حيوان صحّته ، وكذا ما أوجده الإنسان البالغ العاقل من أقوال أو أفعال فيبنى فيها على وقوعها على نحو ما وظّفت له ، وعلى وفق الطّبيعة الّتي اتخذت لها من مسلم مؤمن ، أو مخالف أو كافر ، كتابي أو غير كتابيّ ، فيبنى إخباره ودعاويه على الصّدق ، وأفعاله وعقوده وإيقاعاته على الصّحة حتّى يقوم شاهد على الخلاف ، إلّا أن يكون في مقابلة خصم ».

وساق الكلام إلى أن قال :

« وتفصيل الحال : أنّ الأصل في جميع الكائنات من جمادات ، أو نباتات ، أو حيوانات ، أو عبادات ، أو عقود ، أو إيقاعات ، أو غيرها من إنشاءات ، أو إخبارات : أن يكون على نحو ما خلقت عليه حقيقتها من التّمام في الذّات ، وعدم النّقص في الصّفات ، وعلى طور ما وضعت له بارئها على وجه ترتّب آثارها فيها على معانيها : من صدق الأقوال وترتّب الآثار على الأفعال » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء : ج ١ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.


ثمّ ذكر وجه افتراق المسلم عن الكافر بوجوه أربعة : يرجع حاصل أحدها إلى أنّه لا دليل على نفي القبيح عن الكافر بخلاف المسلم ، وحاصل باقيها : أنّ الأصل المذكور إنّما هو ثابت بالنّسبة إلى فعل المسلم في الجملة ، لا مطلقا حتّى فيما ثبت عدم صحّة فعله وترتّب الأثر عليه ، أو يحمل على كونه صحيحا في مذهبنا.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره قدس‌سره : من أنّ الأصل في جميع الموجودات الصّحة مستندا إلى ما يرجع حاصله إلى أنّ الفساد إنّما يطرأ على الموجود مطلقا ، وإلّا فهو بالنّظر إلى ذاته وطبيعته يقتضي الصّحة والسّلامة عن النّقض وإن لم يكن خاليا عن النّظر ، بل المنع ـ على ما ستقف عليه أيضا وصرّح به جماعة ـ إلّا أنّ المقصود من ذكر كلامه تحقيق ما حكينا عنه.

جريانها في فعل غير البالغ

الثّاني : أنّه صرّح الأستاذ العلّامة في مجلس البحث بجريان أصالة الصّحة في فعل الغير البالغ أيضا فيما يقسّم فعله إلى قسمين ، ويكون له صحيح وفاسد كهبة من بلغ عشر سنين ، وصدقته ، ووقفه ، وعتقه على القول بصحّتها منه في الجملة ، والظّاهر أنّ الأمر كما ذكره ( دام ظلّه ) وإن كان خلاف ظاهر كلماتهم في باديء النّظر لكنّه غير مناف له بعد التّأمل فيها.

وبالجملة : يدلّ على ما استظهرناه وصرّح به الأستاذ العلّامة : جريان السّيرة على حمل فعله على الصّحيح فيما كان له صحيح عند دوران الأمر بين الصّحيح والفاسد ، وهذا ظاهر لا سترة فيه عند التّأمّل إن شاء الله ، لكن الصّبي مثل الكافر


في خروجه عن تحت الكتاب والسّنة بالنّسبة إلى ما يستفاد منهما ؛ لأنّ الظّاهر منهما نفي فعل القبيح عن الأخ والمسلم ، ومن المعلوم أنّ هذا المدلول لا دخل له بالصّبيّ من وجه أو وجهين فتدبّر.

هل يجب حمل أمر المسلم على الصحيح بالمعنى المبحوث عنه؟

الثّالث : أنّه لا إشكال في أنّ المستفاد من الأخبار الواردة في الباب هو نفي الأمر القبيح عن المسلم بالمعنى الأعمّ من الفعل والتّرك والمردّد بينهما ، وحمل مطلق شغله على الحسن ، وعدم جواز ظنّ السّوء به كذلك ، فهي يشمل ما إذا صدر عنه فعل مردّد بين الحسن والقبيح أو ترك كذلك أو لم يعلم أنّه صدر منه فعل يكون حسنا ، أو ترك يكون قبيحا أو بالعكس ، فالواجب في كلّ مقام حمل ما يصدر منه على ما هو الجائز له شرعا.

وإنّما الإشكال في أنّه هل يجب حمل أمره بالمعنى المذكور على الصّحيح بالمعنى المبحوث عنه في المقام أم لا ، فإذا تردّد ما صدر منه بين الفعل المترتّب عليه الأثر والتّرك الغير المترتّب عليه الأثر ، فيحمل على أنّه الفعل أو لا؟ وجهان ، أوجههما ـ عند الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) في طيّ بعض كلماته في مجلس البحث ـ الأوّل ؛ لجريان السّيرة على ذلك في الجملة ؛ حيث إنّه يحكم بقراءة الإمام للسّورة مثلا أو الإتيان بغيرها من الأجزاء والشّرائط المعلومة الوجوب عند الإمام والمأموم ، أو عند المأموم فقط ، وبإتيان من يقدّم للصّلاة على الميّت بجميع ما كان معتبرا فيها إذا كان هو الملتزم بفعلها.

والقول : بأنّ ذلك من جهة حمل إقدامه إيّاه للصّلاة على الصّحة من حيث


كونه مترتّبا على أفعال من الغسل وغيره قبل الصّلاة فاسد جدّا ؛ لأنّ حمله على الصّحة لا يوجب الحكم بوجود تلك الأفعال إلّا من باب التّعويل على الأصل المثبت ، والحكم بعدم صدور الكبيرة ممّن علم أنّ له ملكة يشكّ في صدور الكبيرة عنه ـ بناء على أنّ العدالة هي الملكة المتّصفة بالكف فعلا كما يقتضيه التّحقيق الّذي عليه جماعة من المحقّقين ـ فإنّه لا يمكن الحكم بعدم صدور الكبيرة عنه إذا كان المشكوك ترك واجب إلّا بالبناء على التّعميم المذكور.

نعم ، لو كان فعل الحرام أمكن دفعه بالأصل ، لكن ترك الواجب لا يمكن دفعه إلّا بأصالة الصّحة ؛ فإنّ مقتضى الأصل هو التّرك لا الفعل ، إلى غير ذلك من الفروع ، ولا مصحّح لها إلّا ما ذكرنا.

والقول : بانتقاضه بعدم بنائهم على الحكم بصدور التّوبة ممّن علم بصدور الكبيرة عنه إذا شكّ في صدور التّوبة عنه فاسد : من جهة أنّ تركه التّوبة لا يوجب عقابا زائدا على ما يستحقّه ترك الواجب أو فعل الحرام ؛ لأنّ وجوب التّوبة عندنا إرشاديّ لا شرعيّ على ما حقّق في محلّه فتدبّر.

ولكنّك خبير بأنّ هذا ربّما ينافي ما اختاره ( دام ظلّه ) سابقا : من أنّه إذا شكّ ٣١٣ / ٣ في وجود مركّب من جهة الشّك في وجود بعض أجزائه أو شرائطه ، كالغسل إذا شكّ في حصوله مرّة ، أو مرّتين ، أو مع العصر ، أو بدونه لا يحكم بوجود المركّب بتمام ما يعتبر فيه وترتيب الأثر المقصود منه عليه ، والمسألة في غاية الإشكال ؛ لعدم تعرض الأصحاب لها وعدم عنوانها في كتبهم.

ودعوى : جريان السّيرة على ما ادّعاه الأستاذ العلّامة على سبيل القطع والجزم بحيث كانت منطبقة عليه في غاية الإشكال والله العالم بحقيقة الحال.


اختصاص جريان القاعدة بالشبهات الموضوعيّة

الرّابع : أنّ من الواضحات الّتي لا يعتريها ريب وشكّ اختصاص القاعدة بالشّك في صحّة فعل المسلم وفساده من حيث الشّبهة الموضوعيّة ، وعدم جريانها فيما لو شكّ فيه من حيث الشّبهة الحكميّة ، إلّا أنّه ربّما يتراءى من كلمات بعضهم كثاني الشّهيدين ومن تقدّم عليه وتأخّر عنه خلاف ما ذكرنا ، إلّا أنّه لا بدّ من أن يحمل كلماتهم على قاعدة الصّحة المستفادة من العمومات الاجتهاديّة فتدبّر. وراجع إلى كلماتهم ؛ فإنّ بعضها آب عن الحمل المذكور ؛ فإنّه قد يوجد في كلماتهم الجمع بين التّمسك بالعمومات وأصالة الصّحة.

* * *


التنبيه السادس :

وجه تقديم أصالة الصحة على استصحاب الفساد

(٣٩٥) قوله : ( السّادس : في بيان ورود هذا الأصل على الاستصحاب ... إلى آخره ) (١) ( ج ٣ / ٣٧٣ )

أقول : لمّا فرغ ( دام ظلّه ) من الكلام في تنقيح أصل القاعدة معنى وموردا أراد التّكلّم فيما كان المقصود بالبحث أصالة ، وهو بيان حكم تعارض الاستصحاب معها. ومن هنا لم يتعرّض لحكم تعارض القاعدة مع غير الاستصحاب من الأدلّة وسائر الأصول ؛ إذ المقصود بيان حكم تعارض الاستصحاب للقاعدة لا حكم تعارض القاعدة لغيرها ، وإن كان هذا بعد التّأمّل

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« لا ينبغي الإشكال في تقديم أصالة الصحة على جميع الإستصحابات الجارية في موردها سواء كان استصحاب الفساد أو سائر الأصول الموضوعيّة ؛ لأنّها مجعولة في مورد تلك الأصول ، فلو لم تتقدّم على أصالة الفساد بقيت بلا مورد وكذا لو لم تتقدّم على سائر الأصول الموضوعيّة إنحصر مجراها في مورد نادر ؛ إذ قلّما يحصل الشك في الفساد إلّا من جهة الشك في فقدان الشرط أو جزء مستصحب العدم أو مانع مستصحب البقاء.

نعم ، قد يفرض نادرا حصول الشك في الصحّة في غير مورد جريان أصل موضوعيّ كما إذا شك في وقوع عقد النكاح حال الإحرام أو حال الإحلال مثلا فلا أصل هنا ما عدا أصالة الفساد ، ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون اعتبار أصالة الصّحة من باب الأمارة أو من باب الأصل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٣٩٧ ـ ٣٩٨.


غير محتاج إلى البيان لمن كان له أدنى بضاعة ودراية ؛ فإنّ المعارض لها إن كان من الأمارات كالبيّنة فلا إشكال في حكومتها على القاعدة ، وإن كانت معتبرة من باب الظّن أيضا وإن كان من الأصول كأصالة البراءة ونحوها فلا إشكال في ورود القاعدة عليها فيما يظهر من جماعة منهم العلّامة في مواضع من كتبه : من ملاحظة التّعارض بين القاعدة وأصالة البراءة ، فممّا لا إحاطة لنا به ؛ فإنّهم أعلم بما أرادوا.

وكيف ما كان : فالكلام في حكم تعارض الاستصحاب والقاعدة ـ ولو توسّعا في الإطلاق ـ من حيث الأخذ بمقتضى القاعدة وعدمه يقع في مقامين على ما تكلّم فيه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ).

أحدهما : في حكم تعارضها مع أصالة الفساد الّتي هي الأصل الأوّلي في المعاملات بالمعنى الأعمّ الشّامل للعقود والإيقاعات والأحكام فيما كان له صحيح وفاسد ، بل في العبادات أيضا ؛ لأنّ مقتضى الأصل عدم وجود المأمور به على وجهه ، أو عدم وجود الجزء المشكوك الوجود أو الشّرط المشكوك الوجود فيما كان الفاعل الغير كما هو المقصود بالبحث في المقام ، وإن كان مقتضى الأصل لا يتفاوت فيه الحال فتدبّر.

وإن كان مقتضى الأصل في العبادات لو شكّ في أصل الجزئيّة والشّرطيّة بمعنى الشّكّ في أصل الحكم الشّرعي البناء على عدمها بمقتضى أصالة البراءة ، كما أنّ مقتضى الأصل اللّفظي المستفاد من العمومات نفي اعتبار ما يشكّ في اعتباره في العقود من حيث الشّبهة الحكميّة ، إلّا أنّ ذلك كلّه لا دخل له بما نحن بصدده من الكلام في الشّبهة الموضوعيّة كما هو واضح.

ثانيهما : في حكم تعارضها مع الاستصحابات الموضوعيّة الّتي تسبّب


الشّك في الصّحة والفساد عن الشّك في مجاريها كاستصحاب عدم البلوغ فيما شكّ في بلوغ أحد المتعاقدين حين العقد ونحوه.

تعارض أصالة الصحّة مع أصالة الفساد

أمّا الكلام في المقام الأوّل وهو حكم تعارضها مع أصالة الفساد الرّاجعة إلى استصحاب عدم ترتّب الأثر المقصود من العقد مثلا ، الّذي يكون عبارة أخرى عن بقاء كلّ من العوضين في ملك مالكه : فلا ريب في كون أصالة الصّحة حاكمة عليه ؛ لأنّ الشّك في ترتّب الأثر المقصود على الفعل الواقع في الخارج وعدمه مسبّب عن الشّك في كونه هو الفعل الجامع لما يعتبر فيه شرعا أو لا ، فإذا قام هناك ما يقضى بكونه هو الفعل الجامع له فيقضى برفع الشّك عن ترتّب الأثر الّذي هو مجرى أصالة الفساد ، وهذا هو المراد من الحكومة ـ على ما عرفت سابقا غير مرّة في طيّ أجزاء التّعليقة وستعرفه أيضا ـ وهذا ليس مختصّا بالمقام ، بل كلّ أصل كان مجراه الشّك السّببي فهو حاكم على ما يجري في الشّك المسبّب عنه ، ولا فرق فيما ذكرنا بين القول باعتبار أصالة الصّحة من باب الظّن وبين القول باعتبارها من باب التّعبّد ؛ لأنّ ما ذكرنا من الوجه في حكومتها على أصالة الفساد يجري على كلا التّقديرين والقولين.

نعم ، حكومتها على القول باعتبارها من باب الظّن والظّهور أوضح كما هو واضح وقد أشار إليه الأستاذ العلّامة أيضا هذا كلّه على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن :


فإن قيل باعتبار أصالة الصّحة من باب الظّن أيضا ـ حسبما هو ظاهر جماعة بل الأكثرين حيث استندوا فيها إلى ظهور حال المسلم ـ فلا إشكال في حكومتها على الاستصحاب أيضا ؛ لأنّ الحكومة ليست مختصّة بالأدلّة والأمارات بالنّسبة إلى الأصول ، بل قد يجري بالنّسبة إلى الأدلّة والأمارات بعضها مع بعض ، والأصول بعضها مع بعض ، ولذا نقول بحكومة البيّنة على أصالة الصّحة وإن كانت معتبرة من باب الظّن أيضا ، فأصالة الصّحة بالنسبة إلى الاستصحاب على القول باعتبارهما من باب الظّن كالبيّنة بالنّسبة إلى أصالة الصّحة على القول باعتبارهما ٢١٤ / ٣ من باب الظّن هذا. وستقف على تفصيل القول في ذلك في محلّه إن شاء الله.

وإن قيل باعتبار أصالة الصّحة من باب التّعبّد فربّما يشكل في حكومتها على الاستصحاب بل ربّما يتوهّم العكس لكن مقتضى النّظر الدّقيق حكومتها عليه في هذا الفرض أيضا ؛ لأنّ مقتضى سببيّة الشّك في مجرى الاستصحاب عن الشّك في مجرى القاعدة هو حكومتها على الاستصحاب وإن كان معتبرا من باب الظّن ؛ فإنّه إنّما يوجب الظّن بالفساد من جهة الشّك في وقوع الفعل جامعا للشّرائط ، فإذا قام ثمّة ما يقتضي باستجماعه للشّرائط فيقتضي رفع الشّك عن الصّحة والفساد الّذي هو مجرى أصالة الفساد هذا.

ثمّ إنّ ما ذكرنا إنّما هو في بيان تحقيق حكومة أصالة الصّحة على الاستصحاب على كلّ تقدير ، وإلّا فلا إشكال في إثبات تقديمها عليه على جميع التّقادير من جهة لزوم لغويّة أصالة الصّحة على تقدير عدمه كما هو واضح ؛ من حيث أخصّيتها من الاستصحاب وورودها في مورده.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : تسامح شيخنا ( دام ظلّه ) في تعبير عنوان المسألة بالورود على من له أدنى دراية.


تعارض أصالة الصحة مع الإستصحابات الموضوعيّة

وأمّا الكلام في المقام الثّاني وهو حكم تعارض القاعدة مع الاستصحابات الموضوعيّة المطابقة لأصالة الفساد فمجمل القول فيه :

أنّه إن جعلنا أصالة الصّحة من الأمارات والاستصحاب من الأصول كما هو الظّاهر ، فلا إشكال في حكومتها عليه أيضا حسبما بنى عليه الأستاذ العلّامة ، وإن قلنا باعتبارهما من باب التّعبّد الظّاهري ، أو من باب الظّن ، أو اعتبار الاستصحاب من باب الظّن ، واعتبار أصالة الصّحة من باب التّعبّد ففي حكومتها على الاستصحاب كما هو المختار.

ويظهر وجهه من إبطال الوجهين الأخيرين ، أو العكس ، أو تعارضهما وتساقطهما والرّجوع إلى أصالة الفساد وجوه.

يستدلّ للثّاني : بأن الشّك في مجرى أصالة الصّحة وهو الشّك في ترتّب الأثر على الفعل الموجود وعدمه مسبّب بالفرض من الشّك في مجرى الاستصحاب ، فيحكم بحكومته عليها على ما عرفت سابقا. وبعبارة أخرى : أصالة الصّحة إنّما يحكم بترتّب الأثر على البيع المشكوك صدوره عن بالغ أو عن غيره مثلا ، ويوجب البناء على صحّته إذا لم يكن هناك ما يبيّن حال البيع المذكور ، ويقضي بكونه صادرا من غير البالغ ، والمفروض وجوده في المقام وهو استصحاب عدم بلوغ البائع ؛ فإنه يقضي بكون البيع صادرا عن غير البالغ ، فالاستصحاب يكون حاكما على أصالة الصّحة سيّما على القول باعتبارها من


باب التّعبد واعتباره من باب الظّن.

بل أقول : بناء على هذا التّوهّم ينبغي القول بحكومة الاستصحاب على أصالة الصّحة ، وإن قيل باعتبارها من باب الظّن واعتباره من باب التّعبّد ؛ لأنّه قضيّة تسبّب الشّك في مجراها عن مجراه على ما عرفت في بيان حكومة أصالة الصّحة على أصالة الفساد على القول باعتبارها من باب الظّن ، واعتبار أصالة الصّحة من باب التّعبّد. ولعلّ إلى هذا الوجه استند من خصّ جريان أصالة الصّحة في العقود بصورة العلم بكمال المتعاقدين ونحوها كثاني المحقّقين فيما تقدّم من كلامه. وإن احتمل الاستناد إلى الوجه الثّالث ، وإن كان ظاهر ما يحكى عنه الاستناد إلى غيرهما : من عدم صدق العقد بدونه ، هذا ملخّص ما يقال في وجه حكومة الاستصحاب على القاعدة.

ولكنّك خبير بضعفه ؛ لأنّ أصالة الصّحة معيّنة ظاهريّة للموضوع من حيث ترتّب الصّحة عليه لا أنّها جارية في نفس الأثر والصّحة. وبعبارة أخرى : أصالة الصّحة تقتضي كون الفعل الموجود هو الفرد الصّحيح منه من حيث هو صحيح ، فإذا شكّ في كون العقد الصّادر صادرا عن بالغ أو غيره ، فيقضي بأنّه صادر عن البالغ من حيث الحكم بإفادته للنّقل والانتقال ، لا وجوب الحكم بصحّته وترتّب الأثر عليه نظير الأصل الحكمي ، فكما أنّ الاستصحاب يقتضي كونه عقدا صادرا من غير البالغ على الزّعم المذكور ومعيّن ظاهري لأحد المحتملين ، كذلك أصالة الصّحة يقتضي كونه صادرا من بالغ ومعيّنة للمحتمل الآخر ، فهما في مرتبة واحدة على الزّعم المذكور هذا كلّه. مضافا إلى ما ستعرف عن قريب : من فساد الزّعم المذكور وعدم صلاحيّة الاستصحاب لتعيين كون العقد صادرا عن غير البالغ.


وللثّالث : بأنّ أصالة الصّحة كما تقضي بكون الفعل هو الفرد الصّحيح ، كذلك أصالة عدم البلوغ مثلا تقضي بكونه هو الفرد الفاسد منه ، فكلّ منهما معيّن ظاهريّ لأحد الموضوعين الضدّين ، وهذا بخلاف أصالة الفساد ؛ فإنّها إنّما تقتضي مجرّد الفساد وعدم ترتّب الأثر ، فلا يعيّن حال الفعل الخارجي فهي بالنّسبة إلى أصالة الصّحة من قبيل الأصل الحكمي بالنّسبة إلى الأصل الموضوعي ، وهذا بخلاف الاستصحابات الموضوعيّة ؛ فإنّها في عرض أصالة الصّحة ، فيحكم إذن بتعارضهما والرّجوع إلى أصالة الفساد.

لا يقال : إنّ أصالة عدم البلوغ لا يقتضي كون البيع صادرا عن غير البالغ ، كما أنّ أصالة الصّحة تقتضي كون البيع صادرا عن البالغ ؛ فإنّ عدم بلوغ العاقد لا يلازم شرعا لكون عقده متّصفا بكونه صادرا عن غير البالغ ، وإنّما يلازم ذلك عقلا بعد فرض صدور العقد عنه على ما هو المفروض ، وإلّا فلا ملازمة بينهما أصلا كما لا يخفى.

ومن المعلوم ـ الّذي مرّ الكلام فيه مشروحا ـ عدم جواز التّعويل على الأصول المثبتة ، فاستصحاب عدم البلوغ لا يقتضي بكون البيع الخارجي صادرا عن غير البالغ ، حتّى يعارض أصالة الصّحة فتنتفي المعارضة إذن بين استصحاب عدم البلوغ من حيث اقتضائه عدم صدور العقد عن البالغ الّذي يرجع في الحقيقة إلى أصالة عدم وجود السّبب الشّرعي ، وأصالة الصّحة ؛ إذ من المعلوم عدم تدافعها ٢١٥ / ٣ لما دلّ على كون الموجود في الخارج سببا ويقتضي سببيّته ؛ لأنّ ما يدلّ على سببيّة الموجود حاكم على ما يدلّ ظاهرا على عدم وجود السّبب الشّرعي ، نظير حكومة ما يدلّ على مانعيّة المذي مثلا على استصحاب عدم وجود الرّافع للطّهارة


لو فرض ثمّة ما يدلّ عليها.

فإن قلت : ما يقضي بعدم وجود السّبب يقضي بعدم سببيّة الموجود أيضا ، وكونه من أفراد غير السّبب ؛ لعدم تعقّل التّفكيك بينهما فهو يعارض بهذا الاعتبار ما يقضي بسببيّته.

قلت : عدم التّفكيك بين العدمين وإن كان مسلّما ، إلّا أنّ تلك الملازمة إنّما جاءت من حكم العقل لا من حكم الشّرع ، فهو كرّ على ما فرّ منه ، ولا يجوز إجراء الأصل أي : استصحاب العدم بالنّسبة إلى نفس الفعل الموجود بأن يقال : الأصل عدم صدوره من بالغ مثلا ؛ لأنّه يرد عليه ـ مضافا إلى إمكان منع أصل جريانه ـ أنّه لا يقضي بكون البيع المفروض صادرا عن غير البالغ لوجهين : أحدهما : كونه أصلا مثبتا كما هو واضح. ثانيهما : كونه معارضا بأصالة عدم صدوره عن غير البالغ ، هذا كلّه. مضافا إلى أنّه لو بني على تلك الملاحظة لزم الحكم باقتضاء أصالة الفساد أيضا ؛ لكون العقد الخارجي صادرا عن غير البالغ مثلا ، وهو كما ترى.

لأنّا نقول : إثبات كون البيع هو البيع الصّادر عن غير البالغ باستصحاب عدم بلوغ البائع بعد فرض العلم بصدور العقد عنه ليس من التّعويل على الأصل المثبت ؛ لعدم واسطة في البين ، ولو فرض ثمّة واسطة فلا ريب في كونها من الوسائط الخفيّة الغير المانعة عن التّعويل على الأصل ؛ لإثبات الحكم المترتّب عليها على ما عرفت تفصيل القول فيه في طيّ كلماتنا السّابقة.

وبالجملة : ليس التّمسك باستصحاب عدم البلوغ لإثبات كون البيع متّصفا بكونه عن غير البالغ ومقيّدا به إلّا كالتّمسّك بالاستصحابات العدميّة لإثبات القيود العدميّة للموضوعات الوجوديّة الّتي تكون كلماتهم مشحونة بها ، كما يعلم من


الرّجوع إليها كاستصحاب عدم صدور الكبيرة ممّن علم بوجود ملكة العدالة له ، بناء على أنّ العدالة هي الملكة مع عدم صدور الكبيرة فعلا ، وكأصالة عدم تعلّق حقّ الغير بالمال الّذي يراد صرفه فيما يكون تعلّق حقّ الغير به مانعا عنه إذا شكّ في تعلّقه به ، وكأصالة عدم تغيّر الماء بالنّجس فيما شكّ في تغيّره به ، وكأصالة عدم الفسق في العالم إذا أمر بإكرام العالم الغير الفاسق إلى غير ذلك من الأمثلة والنّظائر. هذا ملخّص ما يقال في توجيه الوجه الثّالث.

ولكنّك خبير بما فيه :

أمّا أوّلا ؛ فلأنّ دعوى خروج الأصل المذكور عن الأصول المثبتة ممّا لا وجه له أصلا ؛ لأنّ كون العقد صادرا من غير البالغ ليس من الأحكام الشّرعيّة لعدم بلوغ البائع ، وقد مرّ الكلام في نظائره في طيّ كلماتنا السّابقة.

والحاصل : أنّ أصالة عدم البلوغ إنّما يقتضي ترتّب الآثار الشّرعيّة المترتّبة على عدم بلوغه بلا واسطة ، ولا يشخّص حال الموجود الخارجي وكونه مقيّدا بمجراه ، وأمّا تمسّك الأصحاب بأمثال الأصل المذكور ونظائره في أبواب الفقه فإنّما هو من جهة بنائهم على اعتبار الأصول المثبة في الجملة.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّه وإن سلّم عدم المانع في إثبات كون العقد صادرا عن غير البالغ من جهة استلزامه التّعويل على الأصل المثبت ، إمّا من جهة منع الواسطة أو خفائها ، وإمّا من جهة القول باعتبار الأصول المثبتة. إلّا أنّا ندّعي : وجود المانع له من جهة أخرى ، وهو : أنّ الفساد ليس من آثار العقد الصّادر من غير البالغ ومن الأحكام المترتّبة عليه ، حتّى يمكن إثباته ؛ لترتّبه عليه وإن فرض له أثر آخر غير الفساد ، كما أنّ الصّحة من أحكام العقد الصّادر من البالغ.


ومن المعلوم ضرورة أنّ الموضوع الّذي لا يترتّب عليه الأثر الشّرعي أصلا لا يمكن إثباته بالأصل ؛ لأنّ معنى الحكم بثبوت الموضوع ظاهرا ليس إلّا جعل أحكامه في الظّاهر على ما عرفت الإشارة إليه غير مرّة ، وكذا الموضوع الّذي لا يترتّب عليه أثر خاصّ لا يمكن إثباته لترتيب هذا الأثر ؛ لفرض عدم كونه أثرا له ، فلا يعقل تعلّق الخطاب الشّرعي بالالتزام بثبوت الموضوع بالنّسبة إلى هذا الأثر كما هو واضح ، وإن أمكن الحكم بوجوده بالنّسبة إلى الأثر المترتّب عليه لو فرض الأمر كذلك ، والتّفكيك لا محذور فيه إذا كان مبناه على الظّاهر كما هو ظاهر.

وهذا هو المراد بما أفاده ( دام ظلّه ) ؛ لأنّ عدم المسبّب من آثار عدم السّبب لا من آثار ضدّه ، وإن فرضنا أنّه يترتّب عليه آثار أخر ؛ حيث إنّ عدم جواز إثبات الضّد بناء على اعتبار الأصل المثبت من جهة عدم ترتّب الفساد عليه ، وإن فرض له أثر شرعيّ غيره حكم به من جهة ترتّب الحكم المذكور بناء على القول المذكور لا مطلقا. فما أفاده مبنيّ على الإغماض عن مذهب الحقّ من عدم اعتبار الأصل المثبت.

وأمّا الوجه في عدم ترتّب الفساد على العقد الصّادر من غير البالغ ، فهو : أنّ الفساد عبارة عن عدم ترتّب الأثر ، كما أنّ الصّحة عبارة عن ترتّبه ، فإذا استندت الصّحة إلى شيء ، فلا بدّ من أن يستند الفساد إلى نقيضه لا إلى ضدّه ؛ ضرورة أنّ عدم المسبّب مستند إلى عدم السّبب بناء على القول بكون الأعدام معلّلة لا إلى ضدّه ، فإذا استندت الصّحة إلى العقد الصّادر من البالغ فلا بدّ من أن يستند الفساد إلى عدم صدور العقد عن البالغ الّذي هو نقيض صدوره عن البالغ إلى صدوره عن


غير البالغ الّذي هو ضدّ صدوره عن البالغ ، فإذا لم يترتّب الفساد على العقد الصّادر من غير البالغ فلا معنى لإثباته بالأصل.

فإن شئت عبّرت عن المطلب بعبارة أخرى فقلت : إنّ النّقل والانتقال مثلا إنّما هو مسبّب عن العقد التّمام الجامع لجميع الشّرائط المعتبرة فيه ، فعدمه إنّما هو مسبّب من عدم وجود العقد التّام لا من وجود العقد النّاقص ؛ ضرورة أنّ عدم المعلول مستند إلى عدم العلّة التّامة لا إلى العلّة النّاقصة ، وليست من إفراد عدم العلّة التّامّة أيضا ؛ ضرورة استحالة انطباق المعدوم على الموجود وصدقه عليه حقيقة.

وأمّا قول أهل الميزان : إنّ نقيض أحد الضّدين يصدق على عين الآخر كـ « لا إنسان » ؛ فإنّه يصدق على « الحجر » و « لا حجر » ؛ فإنّه يصدق على الإنسان ؛ فإنّما هو توسّع في الإطلاق وتسامح فيه كما بيّن في محلّه ، وإلّا فالحمل المذكور لا ينطبق على حمل « ذي هو » من دون تحمّل ، مع أنّ كون العلّة النّاقصة من أفراد عدم العلّة التّامة لا يجدي نفعا في المقام ؛ لأنّ من إثباته لا يمكن إثبات انطباقه على العلّة النّاقصة كما هو واضح لمن تأمّل فيما ذكرنا من أوّل التّعليقة إلى هنا.

وبالجملة : إسناد الفساد إلى العقد الصّادر من غير البالغ وحمله عليه كإسناده إلى سائر الأشياء الّتي لا ربط لها بالنّقل والانتقال أصلا.

فإن قلت : لو كان الأمر كما ذكرت فما وجه تقسيمهم للعقود إلى الصّحيحة والفاسدة ؛ وعدّهم العقود الفاقدة لبعض الشّرائط الشّرعيّة من الأخيرة ، بل مصداق العقد الفاسد منحصر فيها؟ وهذا أمر لا يمكن إنكاره لأحد ولم ينكره أحد ؛ إذ كلماتهم مشحونة بنسبة الفساد إلى العقود ولم يسمع من أحدهم نسبته إلى غيرها


ممّا لا دخل لها في النّقل والانتقال.

قلت : نسبة الفساد إلى العقود الفاقدة للشّرائط وعدم نسبته إلى غيرها ممّا لا ربط لها بالنّقل والانتقال أصلا وإن كانت مسلّمة ، إلّا أنّها ليست من جهة استناده إليه واقعا وكونه من محمولاته الواقعيّة ، بل إنّما هو من جهة التّوسّع في الإطلاق ؛ لاشتمالها على جملة ممّا يعتبر في العقد الصّحيح التّام ، وإلّا في عدم استناد الفساد إليه واقعا لا فرق بينها وبين غيرها من الأشياء.

فإذا لم يبق في المقام في مقابل أصالة الصّحة المشخّصة للفعل في ضمن الفرد الصّحيح إلّا أصالة عدم وجود العقد عن البالغ الّتي يرجع إلى أصالة عدم وجود السّبب الشّرعي الرّاجعة إلى أصالة الفساد حقيقة الّتي قد عرفت حكم مقابلتها لأصالة الصّحة ، كما إذا شكّ في غير ما يكون مسبوقا بالعدم من الشّرائط بناء على كون عدم الشّرط عين عدم المركّب المشروط به من حيث لحاظ التّركيب معه ذهنا لا مستلزما له بحكم العقل ، كما أنّ عدم الجزء عين عدم الكلّ.

ومن المعلوم أن ما يدلّ على عدم وجود السّبب في الظّاهر لا يعارض ما يدلّ على سببيّة الموجود ؛ لأنّ دلالته على عدم وجوده إنّما هو من حيث عدم قيام ما يدلّ على سببيّة الموجود ، فإذا قام ثمّة ما يدلّ عليها فلا يعارضه.

فإن قلت : أصالة عدم وجود السّبب الشّرعي وإن لم تعارض في نفسها ما يدلّ على سببيّة الموجود ، بل هي نظير أصالة الفساد ، إلّا أنّ الحكم بعدم السّبب من جهة الحكم بعدم وجود الشّرط المشكوك كالبلوغ لا يجامع الحكم ظاهرا بكون الموجود مشتملا عليه ، فيحكم الشّارع بمقتضى استصحاب عدم البلوغ بالبناء على عدم صدور العقد عن البالغ لا يجامع حكمه بالبناء على كون الموجود عقدا


من البالغ ، كما أنّه لا يجامع حكمه بالبناء على وجود عقد من البالغ. فدعوى : حكومة أصالة الصّحة على الاستصحابات الموضوعيّة ، فاسدة.

قلت : نمنع من كون ما يدلّ على عدم وجود صدور العقد عن البالغ في مرتبة ما يدلّ على كون العقد الموجود صادرا عن البالغ ، كما أنّه في مرتبة ما يدلّ على وجود العقد عن البالغ لو فرض ثمّة ما يدلّ عليه ؛ فإنّ الّذي في مرتبة ما يدلّ على كون العقد الموجود صادرا عن غير البالغ. وقد عرفت : أنّه ليس في المقام ما يدلّ عليه.

هذا ملخّص ما أفاده الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) وخطر بالبال في بيان حكومة أصالة الصّحة على الاستصحابات الموضوعيّة وفساد الوجه الثّالث ، وعليك بالتّأمّل وإمعان النّظر فيه لعلّك تجده حقيقا بالقبول.

ثمّ إنّ هذا كلّه إنّما هو فيما لو أردنا تقديم أصالة الصّحة على الاستصحابات الموضوعيّة من حيث الحكومة ، وإلّا فأصل تقديمها عليها على فرض تسليم تعارضهما وكونهما في مرتبة واحدة ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، ولو كان اعتباره من باب الظّن واعتبارها من باب التّعبّد وأخصيّة ما دلّ على اعتبار أصالة الصّحة ممّا دلّ على الاستصحابات كما هو واضح ، فلا معنى للرّجوع إذن إلى أصالة الفساد على تقدير التّعارض أيضا.

* * *


أصالة الصّحة في الأقوال والإعتقادات

(٣٩٦) قوله : ( مع إمكان إجراء ما سلف : من أدلّة تنزيه فعل ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٣٨١ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ ما ذكره ( دام ظلّه ) مناف لما بنى الأمر عليه سابقا في معنى الأخبار الواردة في تنزيه فعل المسلم عن القبيح ، والقول : بأنّ المراد من الأدلّة غير الأخبار ، لا يخفى ما فيه.

وبالجملة : المستند في أصالة القصد واعتقاد مضمون الكلام ليس إلّا بناء العقلاء في كلام كلّ متكلّم ، كما أنّ المستند في أصالة الحقيقة ليس إلّا بناء العرف والعقلاء.

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« حيث يمكن أن يكون المراد من وجوب تصديق المؤمن وعدم اتّهامه وحمل أمر المؤمن على أحسنه ، وتصديقه وعدم اتّهامه بحسب اعتقاده ومن المعلوم أنّ البناء على الصّدق في خبره باعتقاده ، إنّما هو حمل الخبر على أحسنه كما هو مقتضى أخوته ، وهذا غير مستلزم لترتيب الآثار على المخبر به وهو الّذي منع من إجراء ما سلف فيه لما سلفه قدس‌سره.

نعم لو كان لنفس اعتقاد المخبر بالمخبر به حكم وأثر كان يترتّب عليه ولا شاهد على خلافه ،

ولا يخفى أنّ تصديقه بهذا المعنى ليس فيه محذور تخصيص الأكثر لو فرض مساعدة عموم عليه ، فإنّ جميع الموارد الّتي لا يكون الخبر حجّة فيه إنّما لا يكون حجّة بمعنى ترتيب الأثر على المخبر به كما يأتي ، لا بهذا المعنى كما لا يخفى » انتهى. انظر درر الفوائد : ٤١٠.


ثمّ إنّه ( دام ظلّه ) لم يذكر بعض الأقسام في دوران الأمر في اللّفظ الصّادر من المتكلّم ، كما إذا دار الأمر بين كونه غلطا بحسب قواعد اللّغة والعربيّة كإرادة المعنى المجازي منه من دون علاقة ، أو من دون قرينة ، مع كون المقام مقام الحاجة ونصب القرينة ، وكما إذا تكلّم بلفظ في العقود ، أو الإيقاعات مردّد بين أن يكون المراد منه ما هو صحيح في الشّرع ، أو فاسد ؛ فإنّه قد قيل بحمله على ما يكون صحيحا في الشّرع حتّى تعدّى بعض فحكم بذلك حتّى فيما كان اللّفظ ظاهرا في المعنى الفاسد ، لكن هذا كلّه خلاف التّحقيق الثّابت عندنا وإن ذكره جمع كثير ؛ فإنّه ٢١٧ / ٣ لا مستند للأصل المذكور أصلا ، إلّا بناء العرف والعقلاء على ما أسمعناك مرارا ، وليس ممّا له تعلّق بالشّرع وإن أمضاه الشارع في محاوراته وخطاباته.

(٣٩٧) قوله : ( نعم ، يمكن أن يدّعى أنّ الأصل في خبر العدل الحجّيّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٢ )

أقول : لا يخفى أنّ هنا مقامات :

أحدها : أنّ الأصل في خبر المسلم الحجيّة أم لا؟

ذهب ذاهب إلى ثبوت الأصل المذكور ، وربّما ينسب إلى الشّيخ رحمه‌الله والنّسبة في غير محلّه ، وعلى تقدير ثبوتها فهو من جهة ذهابه إلى أنّ الأصل في المسلم العدالة من حيث ظهور الإسلام فيها ، لا أنّ الأصل في خبر المسلم الحجّية وإن كان فاسقا ، وهذا الأصل لم يثبت عندنا ، بل الثّابت بمقتضى آية النّبأ وغيرها عدمه.

ثانيها : أنّ الأصل في خبر العادل الحجيّة أم لا؟

ذهب جماعة إلى ثبوت الأصل المذكور مطلقا في الأحكام والموضوعات إلى أن يجيء المخرج ، كما في مقام التّرافع وغيره في الجملة. والحقّ عدم ثبوت


الأصل المذكور أيضا ؛ لعدم الدّليل عليه. وقد عرفت تفصيل القول فيه في الجزء الأوّل من التّعليقة.

ثالثها : أنّ الأصل في خبر العدلين الحجيّة أم لا؟

ذهب جماعة كثيرة إلى ثبوته سيّما بالنّسبة إلى الموضوعات ، وتمسّكوا له بالاستقراء ، والإجماع ، وبجملة من الأخبار المدّعى ظهورها في المدّعى ، والحقّ إمكان الخدشة في الأصل المذكور أيضا ، وليس المقام مقام بسط القول فيه.

رابعها : أنّ الأصل في خبر أربعة عدول الحجيّة أم لا؟

والظّاهر أنّه لا إشكال في ثبوته بالنّسبة إلى الموضوعات ، وأمّا الأحكام فلا. وتفصيل القول في الشّرح المذكور يظهر من الرّجوع إلى ما ذكرناه في الجزء الأوّل من التّعليقة (١).

(٣٩٨) قوله : ( الرّابع : أنّ الأصل في اعتقاد المخبر الصّحّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٣ )

أقول : لا يخفى ما في العبارة من التّشويش والاضطراب ؛ فإنّ مقتضى القاعدة أن يذكر بدلها ، وأمّا (٢) الاعتقادات فالصّحة فيها يكون من وجهين والأمر سهل.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٤٧.


أصالة الصحّة في الإعتقادات

(٣٩٩) قوله : ( وأمّا إذا شكّ في صحّته بمعنى المطابقة للواقع ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ الاعتقاد من هذه الحيثيّة كالإخبار من حيث احتمال الصّدق والكذب فيه ، ومن المعلوم أنّ أمره أشكل من أمر الخبر ؛ حيث إنّه توهّم فيه ثبوت بعض ما يدلّ عموما على وجوب الحمل على الصّدق بالنّسبة إليه كقوله : « إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم » (١) وغيره.

والقول : بأنّ المراد ممّا دلّ على وجوب تصديق المسلم في إخباره هو تصديقه في اعتقاده من أيّ طريق انكشف قولا كان ، أو فعلا ، أو غيرهما ـ إذ لا مدخليّة لخصوص لفظه ـ لا يخفى ما فيه وستقف بعض الكلام على هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٩٩ باب « آخر منه في حفظ المال وكراهة الإضاعة » ـ ح ١ ، هذا الموجود في الرواية : « فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم » ، عنه الوسائل : ج ١٩ / ٨٢ باب « كراهة ائتمان شارب الخمر وابضاعه وكذا كل سفيه » ـ ح ١.


(٤٠٠) قوله : ( فلو ثبت ذلك أوجب ذلك (١) حجيّة كلّ خبر أخبر به (٢) لما عرفت : [ من ](٣) أنّ الأصل في الخبر كونه كاشفا عن اعتقاد المخبر أمّا لو ثبت حجيّة خبره ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٣ )

إثبات الملازمة بين حجيّة الإعتقاد وحجيّة خبره

أقول : لا يخفى عليك وضوح ما ادّعاه الأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) من الملازمة بين حجيّة الاعتقاد سواء كان في الحدسيّات ، أو في الحسيّات ، وحجيّة خبره من غير عكس ؛ لما عرفت : من قيام الدّليل القطعي على كون الأصل في الخبر : أن يكون على طبق اعتقاد المخبر ، وهو طريق إلى اعتقاده عند العقلاء بحيث لا يلتفتون إلى احتمال خلافه.

والقول : بمنع الملازمة من جهة إمكان اعتبار كاشف آخر غير القول كالكتابة ونحوها ، ممّا لا يخفى فساده ، وهذا بخلاف الخبر ؛ فإنّه ربّما تكون الحجّة في الشّرع تعبّدا خصوص خبره وقوله بحيث لو علم اعتقاده من دون أن يخبر عنه لم يترتّب عليه أثر أصلا ، بل ربّما يقوم الدّليل على اعتبار قسم خاصّ من خبره ، مثل : أن يقوم الدّليل على اعتبار إخباره عن نفس الواقع دون إخباره عن اعتقاده بثبوت الشّيء في الواقع ، كما ربّما يدّعى في باب القضاء بالنّسبة إلى بعض المقامات.

__________________

(١) « ذلك » زائدة ليست في المتن.

(٢) وفي الأصل : « أخبر به مسلم ».

(٣) أثبتناها من الكتاب.


وبالجملة : لا إشكال في ثبوت اعتبار الخبر من حيث إنّه خبر في الجملة في الشّرعيّات دون الاعتقاد بحيث لا مجال لإنكاره كما في باب الشّهادات ، كما أنّه لا إشكال في ثبوت اعتبار الاعتقاد في الجملة ، فإن علم من الدّليل كون المناط هو الاعتقاد ـ كما في اعتقاد المجتهد في خصوص المقلّد ؛ فإنّ المعتبر في حقّه هو خصوص اعتقاده ونظره وإن لم يظهره أصلا ؛ لأنّ الحجّة في حقّه وحقّ مقلّديه أمر واحد ـ فلا إشكال ، كما أنّه إذا علم من الدّليل خصوصيّة لخصوص الخبر لم يكن إشكال أيضا كما في باب الدّعاوي.

إنّما الإشكال في صورة الدّوران وعدم قيام دليل بالخصوص على أحدهما ، فهل قضيّة القاعدة ـ بالنّسبة إلى ما دلّ على حجيّة خبر العادل ، أو العدلين عموما ـ الاقتصار على خصوص إخباره ، أو يتعدى إلى كلّ ما يكشف عن اعتقاده من الفعل ، والكتب الّذي ربّما يسمّى إخبارا مسامحة ، والإشارة ، أو يحكم بأنّ المناط نفس اعتقاده ولو كشف بالإلهام ، أو لم يكشف أصلا إذا وقع العمل على طبقه فيما لا يحتاج إلى قصد التّقرّب فيقال بكونه موجبا للبراءة من الواقع؟

وجهان : مقتضى مراعاة قواعد اللّفظ والأخذ بظواهرها هو الأوّل ، فيبنى عليه حتّى يعلم من الخارج خلافه ؛ ضرورة عدم صدق الخبر على سائر الكواشف وعلى مجرّد الاعتقاد ، كما أنّ الأمر كذلك فيما لم يكن ثمّة ظاهر يقتضي ما ذكرنا أيضا ؛ لأنّ المتيقّن هو الاقتصار على الخبر ، فيرجع إلى أصالة عدم الحجيّة عند الشّكّ كما هو واضح.

ولكن ذكر الأستاذ العلّامة : أنّه لا يبعد القول بالثّاني سيّما إذا علمنا أنّه بمثابة لو سألناه لأخبر ؛ لأنّ مقتضى الجمود على أدلّة حجيّة الخبر ، وإن كان هو القول


بعدم اعتبار غير ما يصدق عليه الخبر كائنا ما كان ، إلّا أنّ مقتضى التّأمل فيها كون المراد منها إثبات اعتبار اعتقاده على النّحو المذكور بأيّ طريق حصل العلم به.

الوجوه التي تؤيّد مختار الأستاذ

وأيّد ما ذكره ( دام ظلّه ) بوجوه :

أحدها : ما ذكروه في باب الإقرار من أنّه لو قال شخص : بأنّه لو أخبر فلان باشتغال ذمّتي لفلان بكذا مثلا كان قوله حقّا كان إقرارا مع عدم وجود الخبر المعلّق عليه.

نعم ، منع جماعة من العامّة من كونه إقرارا : من جهة احتمال كونه من باب التّعليق على المحال ، فنقول في المقام أيضا : أنّه إذا أوجب الشّارع تصديق العادل على تقدير إخباره وجب الحكم بوجوب العمل على خبره التّقديري هذا.

وفيه ما لا يخفى ؛ لوضوح فساد قياس المقام بالإقرار ؛ فإنّ الحكم بكون قول المخبر في الفرض المزبور إقرارا إنّما هو من جهة عدم معقوليّة تأثير المعلّق عليه في اشتغال ذمّته.

ومن هنا يحكم عليه على تقدير تعليقه اشتغال الذّمّة على غير الإخبار أيضا إذا كان ممكن الحصول ، كمجيء زيد ، وركوب عمرو ، وقيام خالد إلى غير ذلك ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ الحجّة فيه الخبر الغير الصّادق على الفعل قطعا ، والحكم بوجوب تصديق العادل على تقدير الإخبار لا يعقل أن يقتضي وجوب تصديقه قبله ، وإلّا لزم انفكاك المحمول عن الموضوع وتقدّمه عليه ، وهو محال. وبالجملة :


القياس المذكور ممّا لا ريب في عدم استقامته.

ثانيها : ما ورد في بعض الأخبار : من أنّ من ثمرات العدالة أنّ الله تبارك وتعالى جعل من اتّصف بها مقبول القول في الدّنيا ، ومستحقّ الجنّة في الآخرة ؛ فإنّ الظّاهر منه كون سماع القول في الدّنيا أجرا للعادل من جهة عدالته ، ومن الظّاهر أنّه من جهة احترام العادل الحاصل بالبناء على تصديقه في اعتقاده ، ولا دخل لخصوص لفظه فيه أصلا هذا.

وفيه أيضا ما لا يخفى ؛ لأنّ الخبر على تقدير العمل به كسائر ما ادّعي دلالته على حجيّة خبر العادل كآية النّبأ وغيرها. ودعوى : كون المراد منها إيجاب تصديق العادل في اعتقاده بأيّ طريق انكشف ، في محلّ المنع.

ثالثها : ما عليه اتّفاقهم ظاهرا في باب الأجير في الحجّ وغيره من العبادات : من أنّه إذا كان عادلا وعلم من حاله أنّه يخبر بوقوع الفعل منه صحيحا لو سئل منه اكتفى في براءة ذمّة الوصيّ والوليّ وغيرهما ولا يشترط الإخبار الفعلي ، وليس ذلك إلّا من جهة كون الإخبار الثّاني منه حجّة ، لا خصوص الإخبار الفعلي ، وليس هذا إلّا من جهة وجوب تصديق اعتقاده.

وفيه : أنّ حكمهم بذلك لم يعلم كونه من جهة ما ذكر ، فلعلّه كان من جهة أصالة الصّحة في فعله كأخذه الأجرة والتّصرّف فيها ، ولو فرض عدم فعل منه أصلا لكان اتّفاقهم في خصوص المقام قاضيا بوجوب الحكم به ولا يجوز التّعدي عنه إلى غيره فتدبّر.

وقد مضى بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام في طيّ كلماتنا السّابقة ، فتبيّن


ممّا ذكرنا كلّه : أنّه لا دليل يعتدّ به في إثبات كون الأصل في اعتقاد من ثبت حجيّة خبره الحجيّة بأيّ طريق انكشف.

ثمّ إنّه يتفرّع على ثبوت الأصل المذكور فروع :

أحدها : الحكم بعدالة من اقتدى به الغير في الصّلاة الّتي لا يجوز الاقتداء فيها بغير العادل ، لا كالصّلاة على الميّت ، أو عمل غير الصّلاة بالنّسبة إلى شخص من الأعمال المشروطة بالعدالة ؛ فإنّه بناء على الأصل المذكور يحكم بعدالته بمجرّد ذلك ، لكن هذا مبنيّ على عدم كون المناط في العدالة حصول الظّن بها من أيّ سبب حصل ، وإلّا فلا إشكال في جواز الاكتفاء به باقتداء من يحصل الظّن من ائتمامه ولو كان فاسقا.

ثانيها : الحكم بدخول الوقت من جهة صلاة عدلين معتقدين بدخول الوقت بناء على اعتبار إخبارهما بالدّخول كما هو الظّاهر.

ثالثها : الحكم باعتبار تعديلات أهل الرّجال كالكشّي ، والنّجاشي ، والشّيخ ( قدس أسرارهم ) لرجال الحديث ؛ فإنّه بناء على اعتبار كلّ ما يكشف عن الاعتقاد بكون كتابهم مرجعا بلا إشكال.

نعم ، قد يدّعى الإجماع على اعتبار تعديلاتهم مع قطع النّظر عن ثبوت الأصل المذكور ، إلى غير ذلك من الفروع الّتي يستخرجها المتأمّل المتدبّر.


المقام الثاني (١) :

__________________

(١) العنوان من كتاب الفرائد : ج ٣ / ٣٨٥.



المقام الثاني

في بيان تعارض الإستصحاب مع القرعة

(٤٠١) قوله : ( في القرعة : وتفصيل القول فيها يحتاج إلى بسط لا يسعه الوقت ) (١). ( ج ٣ / ٣٨٥ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي الآخوند الخراساني قدس‌سره :

« تنقيح الكلام في بيان تعارض القرعة مع كلّ واحد من الأصول التّعبديّة : أنّ أخبارها العامّة مثل ما عن الفقيه والتّهذيب عن الكاظم عليه‌السلام « كلّ مجهول ففيه القرعة قلت : انّ القرعة تخطيء وتصيب ، فقال : كلّما حكم الله به فليس بمخطيء » وحكى العامّة « أنّ القرعة لكلّ أمر مشكل » كما في رواية ، أو « لكلّ أمر مشتبه » كما في أخرى إلى غير ذلك ، يكون أعم من اخبار كلّ واحد منها ، فيجب تخصيصها بها من غير اختصاص له باخبار الاستصحاب ، فلا وجه لما أفاده قدس‌سره من حكومة أدلّة القرعة على أصالتي الإباحة والاحتياط إذا كان مدركهما التعبّد بهما في مواردهم ، بل يكون حالهما معها حال الإستصحاب معها بلا ارتياب ، فيخصّص دليلها بدليلهما ، كما يخصّص بدليله ، للاشتراك فيما هو العلّة من دون ما يوجب الاختصاص.

إن قلت : نعم ولكن يلزم من ذلك استيعاب أكثر أفراد دليلها لو لم يلزم استيعاب تمامها ، فلا بدّ أن يعامل بين دليلها ومجموع أدلّة الأصول ، معاملة التّباين لا العامّ والخاصّ المطلقتين.

قلت : نعم ولكن مع ذلك يقدّم المجموع لنصوصيّته على دليله لظهوره ، ولو سلّم أنّه في غاية القوّة بالنّسبة إلى بعض ما يخرج عن تحته إجمالا من موارد الأصول. نعم لو لزم استيعاب التّمام وجب المعاملة بين مجموع الخصوصيّات والعام معاملة التّباين بلا كلام.


__________________

هذا مع أنّه يمكن أن يكون المجهول والمشتبه في بعض اخبارها بمعنى المشكل كما في بعضها الآخر ، ومعه لا يكون العمل بأدلّة الأصول في مواردها تخصيصا لدليلها أصلا ، إذ لا مشكل معها فيها ، فيرتفع موضوعه لا حكمه.

لا يقال : هذا إنّما يكون لو علم بها قباله وهو أوّل الكلام.

لأنّا نقول : لا محيص عن ذلك لأن رفع اليد عنه معها لا يوجب خلاف أصل أصلا ، بخلاف رفع اليد عنها فانّه طرح دليل بلا وجه إلّا على نحو دائر كما لا يخفى.

إن قلت : وجه تقديم القرعة عليها أنّه يظهر من غير واحد من أخبارها أنّها إنّما اعتبرت لكونها مصيبة إلى الواقع كاشفة عنه ، فيكون حالها حال سائر الأمارات الّتي تقدّم على الأصول حكومة أو ورودا ، كما تقدّم تحقيقه.

قلت : انّ التعارض إنّما يكون بين أخبار القرعة وأخبارها ، ومفاد أخبارها ليس إلّا حكما تعبّديّا مجعولا للمشتبه كما هو بعينه مفاد أخبار الأصول ، فيكون قضيّة تصديق كلّ إلغاء حكم الآخر ، والخبر إذا كان مفاده جعل أمارة لا يكون هو بنفسه أمارة على حكم واقعيّ. نعم هو أمارة على حكم ظاهريّ كما هو شأن دليل كلّ أصل أيضا ، فلا تغفل.

هذا كلّه ، مع ما أشار اليه بقوله قدس‌سره : لكن ذكر في محلّه أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، وذلك لكثرة ما ورد عليها من التّخصيص.

إن قلت : كثرة التّخصيص إن لم يكن بمثابة تخصيص الأكثر المستهجن ، فهو ان لم يوجب قوّة الظّهور ، فلا يوجب وهنا فيه وإن كان بهذه المثابة ، فكيف يجبر بالعمل ، بل لا بدّ من الحمل والتنزيل على معنى لا يلزم منه ذلك كما لا يخفى.

قلت : نعم كثرة التّخصيص ما لم يكن بتلك المثابة وإن لم يكن بنفسها موجبا للوهن ، إلّا أنّه إذا تفصيلا بما خصّص بها بمقدار علم التخصيص به اجمالا ، وأمّا إذا لم يعلم ذلك المقدار ، فلا يجوز العمل بالعامّ بلا كلام إلّا إذا أحرز أنّ مورد العمل ليس من أطراف العلم الإجمالي


الكلام في القرعة وشرح القول فيها

أقول : الكلام في القرعة : قد يقع في أنّها من الأمارات أو الأصول ، وقد يقع على تقدير كونها من الأصول في حكم تقابلها مع الاستصحاب وغيره من الأصول. وقد يقع في تشخيص موارد جريانها من حيث عمومها لكلّ مشكل ، أو اختصاصها بالمشتبه ، فلا يجري فيما إذا لم يكن هناك واقع مجهول ومن حيث اختصاصها بالشّبهة الموضوعيّة الصّرفة ، أو يعمّ كلّ مشتبه. وقبل الخوض في المطلب ينبغي الإشارة إلى ما يدلّ على مشروعيّة القرعة فنقول :

أمّا أصل مشروعيّة القرعة فهو ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين ، بل إجماعهم عليه بحيث لا يرتاب فيه ذو مسكة ، ويكفي في القطع بتحقّق الإجماع ملاحظة الإجماعات المتواترة المنقولة في ذلك من زمان الشّيخين إلى زماننا هذا كما هو واضح لمن راجع إلى كلماتهم ، بل يمكن دعوى الضّرورة الفقهائيّة عليه ويدلّ عليه ـ قبل الإجماع ـ : الكتاب والسّنة.

أمّا الكتاب : فقد قال الله سبحانه في بيان أحوال يونس النّبي عليه‌السلام : فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١) أي : فقارع فصار من المغلوبين بالقرعة ، وأصل المدحض الزّلق.

__________________

بالتّخصيص وعمل الأصحاب أو معظمهم في مورد يوجب ذلك بلا ارتياب ، فلا يكون احتمال المخصّص بالنّسبة إليه إلّا احتمالا بدويّا ، فيكون أصالة العموم لا مانع عنها » انتهى.

أنظر درر الفوائد : ٤١١ ـ ٤١٣.

(١) الصافات : ١٤١.


روي : أنّ يونس لمّا أوعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره الله فركب في السّفينة فوقف السّفينة ، فقالوا : هنا عبد أبق من مولاه فأقرعوا فخرجت القرعة على يونس فرموه ، ورمى بنفسه في الماء فالتقمه الحوت (١).

وقد ورد في بعض الأخبار احتجاج الإمام عليه‌السلام بالآية على مشروعيّة القرعة كما ستقف عليه. وقال سبحانه : وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ (٢).

وأمّا السّنّة : فقد بلغت حدّ التّواتر إلّا أنّا نذكر بعضها منها تيمّنا.

فمنها ما رواه الصّدوق في « الفقيه » ، والشّيخ في « التّهذيب » عن محمّد بن حكم (٣) قال : سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن القرعة في أيّ شيء؟ فقال : كلّ مجهول ففيه : القرعة. فقلت له : أنّ القرعة تخطئ وتصيب. فقال : كلّ ما حكم الله تعالى به فليس بمخطىء (٤).

قال بعض من قارب عصرنا من الأفاضل بعد نقل الحديث : « أنّه يحتمل معنيين : أحدهما : أنّ حكم الله تعالى لا يخطىء في القرعة أبدا. الثّاني : أنّ ما خرج

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ٢ / ١٣٦ ، مجمع البيان : ج ٨ / ٤٥٨ ، بحار الأنوار : ج ١٤ / ٤٠٣ باب قصّة يونس.

(٢) آل عمران : ٤٤.

(٣) كذا والصحيح : حكيم.

(٤) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ / ٩٢ ـ ح ٣٣٨٩ ، التهذيب : ج ٦ / ٢٤٠ باب « البينتين يتقابلان أو يترجح بعضها على بعض وحكم القرعة » ـ ح ٢٤ ، عنهما الوسائل : ج ٢٧ / ٢٥٩ باب « الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة » ـ ح ١١.


بالقرعة فهو حكم الله وإن أخطأت القرعة فإنّ الحكم ليس بخطأ ».

ومنها : مرسلة « الفقيه » : عن الصّادق عليه‌السلام فقال : ما تقارع قوم ففوّضوا أمرهم إلى الله تعالى إلّا ما خرج سهم الحقّ وقال : أيّ فقيه أعدل من القرعة إذا فوّض أمره إلى الله تعالى؟ أليس الله تعالى يقول ـ : فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ـ (١)؟

ومنها : ما رواه في « التّهذيب » صحيحا عن جميل قال : قال الطّيار لزرارة : « ما تقول في المساهمة أليس حقّا؟ قال زرارة : هل هي حقّ؟ فقال الطّيار : أليس قد ورد أنّه يخرج سهم الحقّ؟ قال بلى. قال : فقال : يقال : حتّى ادّعى أنا وأنت شيئا ثمّ تساهم عليه وينظر هكذا هو. فقال زرارة : إنّما جاء الحديث : بأنّه ليس قوم فوّضوا أمرهم إلى الله تعالى ثمّ أقرعوا إلّا ما خرج سهم الحقّ ، فأمّا على التّجارب فلم يوضع على التّجارب. فقال الطّيار : أرأيت إن كانا جميعا مدّعيين ادّعيا ما ليس لهما من أن يخرج سهم أحدهما. فقال زرارة : إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح ، فإن كانا ادّعيا ما ليس لهما خرج سهم المبيح » (٢). إلى غير ذلك من الرّوايات.

__________________

(١) الصافات : ١٤١.

(٢) التهذيب : ج ٦ / ٢٣٨ باب « البينتين يتقابلان أو يترجح بعضها على بعض وحكم القرعة » ـ ح ٤ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ٢٥٧ باب « الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة » ـ ح ٤.


الكلام في المقام الأوّل

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى التّكلم في المقامات الثّلاثة ، فنقول :

أمّا الكلام في المقام الأوّل فملخّصه : أنّه قد يقال ـ بل قيل ـ : إنّ القرعة من الأمارات الجليّة بمعنى : أنّ أماريّتها بجعل الشارع كالاستخارة ، فأماريّتها إنّما هي بملاحظة ما وصل من الشّارع في شأنها أنّ الله تبارك وتعالى بعد تفويض الأمر إليه يرشد العبد إلى الواقع ، لا ممّا يكون أماريّتها بالوجدان مع قطع النّظر عن الشّارع كأكثر الأمارات في الأحكام والموضوعات مستشهدا على ذلك بما ورد في القرعة من الأخبار ؛ فإنّ ظاهر أكثرها ـ كما لا يخفى على من أعطي حقّ النّظر فيها ـ يعطي هذا المعنى.

فالقرعة إذن مثل البيّنة في كونها من الأمارات ، لا مثل أصالة الطّهارة والحليّة ونحوهما من الأصول ؛ فإنّ تسميّة الشّيء دليلا وأمارة في الاصطلاح مبنيّة على كونه ناظرا إلى الواقع بالذّات أو بجعل الشارع ، مع كون الوجه في اعتباره جهة نظره إلى الواقع ، هذا بالنّسبة إلى ما كان له واقع مجهول للمكلّف لا إشكال فيه.

أمّا بالنّسبة إلى ما لا يتعيّن له واقع فربّما يتراءى في باديء النّظر عدم تصوّر الطّريقيّة الجليّة فيه من حيث عدم وجود واقع مجهول فيه بالفرض ؛ إلّا أنّه يمكن تصوّر الطّريقيّة فيه بعد التّأمّل أيضا ؛ فإنّه وإن لم يكن فيه واقع مجهول ، إلّا أنّه يحتمل أن يكون هناك أمور أوجبت أحقّيّة أحد الطّرفين بالتّقديم بالنّسبة إلى


الآخر وإن كانت ممّا لا ندركه.

اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ الأمارة في اصطلاح الأصوليّين ما كانت أماريّتها بالذّات مع قطع النّظر عن بيان الشارع وإحداثه القرب فيها فتأمّل. أو يقال :

الأولويّة في التّقديم لا تعلّق لها بالطّريقيّة ، أو يقال : بعدم حصول الظّن من القرعة ولو نوعا بعد ملاحظة ما ورد من الأخبار فيه ، وهو كما ترى. هذا كلّه على تقدير الاستناد في القرعة إلى الأخبار.

أمّا لو استند فيها إلى الإجماع ، فالظّاهر : أنّه لا إشكال في عدم دلالته على اعتبارها من باب الطّريقيّة فيلحق بما كان اعتباره من باب التّعبّد في الحكم كما هو قضيّة القاعدة فتأمّل.

ثمّ إنّه لا إشكال على تقدير كون اعتبار القرعة من باب التّعبّد وكونها من الأصول في عدم انتقاض الحصر الّذي أفاده ( دام ظلّه ) للأصول في أوّل « الكتاب » من جهتها لما عرفت الإشارة إليه ثمّة : من كون الحصر إضافيّا بالنّسبة إلى الأصول الحكميّة وإن جرت في الموضوعات في قبال ما يختصّ بالموضوع.

نعم ، في انتقاضه بأصالة الطّهارة وجه عرفته في الجزء الأوّل من التّعليقة (١). هذا مجمل الكلام في المقام الأوّل.

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٣.


الكلام في المقام الثالث

ولنقدّم الكلام في المقام الثّالث على الكلام في المقام الثّاني لتقدّمه عليه ببعض الاعتبارات ومجمل القول فيه : أنّه قد تكرّر في لسان ثاني الشّهيدين في « المسالك » (١) و « الرّوضة » (٢) القول باختصاص القرعة بما له تعيّن في الواقع مجهول في نظر المكلّف ، وقد استند فيه ظاهرا إلى ظهور الأخبار في ذلك حسبما هو ظاهر لكلّ من راجع إليها.

ولكنّ الّذي يقتضيه النّظر تبعا للأستاذ العلّامة ( دام ظلّه ) وبعض الأجلّة ممّن قارب عصرنا ثبوت الإجماع على عدم الفرق ؛ إذ المراد من عدم الخطأ في أخبار القرعة أعمّ من الإيصال إلى الواقع المجهول أو الّذي أحقّ بالتّقديم في نظر الشارع هذا. مضافا إلى أمر الإمام عليه‌السلام بالإقراع في كثير من الموارد الّتي ليس فيها واقع مجهول أصلا ، والظّاهر عدم التّفصيل.

وبالجملة : كلّ من راجع كلمات الأصحاب يعلم أنّه لا فرق في اعتبار القرعة بين الموردين وهو مقتضى بعض الأخبار العامّة أيضا ، ولا ينافيه اختصاص أكثر أخبارها بما له واقع مجهول ، ضرورة عدم مفهوم لها يعارض ما يقتضي بعموم اعتبارها هذا مجمل الكلام في تشخيص مجراها بالنّسبة إلى الموردين.

__________________

(١) مسالك الفهام : ج ١٠ / ٢٨٢.

(٢) الروضة البهية : ج ٣ / ٣٤١.


بقي الكلام في تشخيص مجراها من حيث اختصاصها بالشّبهات الموضوعيّة الصّرفة ، أو شمولها لكلّ مشتبه سواء كان من الموضوعات الخارجيّة ، أو الموضوعات المستنبطة ، أو الأحكام الشّرعيّة.

لا إشكال بل لا خلاف في اختصاصها بالأولى ، بل الإجماع المحقّق على الإختصاص أيضا ، إلّا أنّ الكلام في أنّ خروجهما من جهة عدم شمول ٢٢٠ / ٣ الأخبار لهما بالذّات ، بمعنى خروجهما عنها بالذّات أو من جهة شمولها لهما وقيام الدّليل على تخصيصها بإخراجهما؟

ظاهر بعض من قارب عصرنا الأوّل ، إلّا أنّ الظّاهر من بعض أخبارها الثّاني كما لا يخفى على من راجع إليها.

نعم ، لو كان المدرك فيها الإجماع فقط صحّ القول بخروجهما موردا عنه ، بمعنى : عدم دليل لفظيّ يفيد العموم كما لا يخفى ، فليكن هذا على ذكر منك لينفعك فيما بعد هذا مجمل الكلام في المقام الثّالث.

الكلام في المقام الثاني

وأمّا الكلام في المقام الثّاني فمحصّل القول فيه :

أنّه إن قلنا بشمول الأخبار الواردة في القرعة للشّبهة الحكميّة والشّبهة في الموضوعات المستنبطة وكون خروجهما عنها من باب التّخصيص فلا إشكال في تقديم أخبار الاستصحاب على الأخبار الواردة في القرعة ، لأنّها أخصّ مطلقا بالنّسبة إليها كما لا يخفى ؛ فإنّ النّسبة بينهما بعد ملاحظة تخصيصها بالشّبهة الموضوعيّة بالإجماع وإن كانت أعمّ من وجه كما هو ظاهر ، إلّا أنّه لا معنى


لملاحظة النّسبة بينهما بعد التّخصيص بالإجماع بل لا بدّ من ملاحظتها قبله ؛ لأنّ عموم أخبار الاستصحاب أخصّ منها كالخاصّ الّذي يقتضي خروج الشّبهة الحكميّة عن تحت أخبار القرعة.

وأمّا ما قرع سمعك : من لزوم تقديم الأخصّ في تعارض الأزيد من الدّليلين وإن أوجب انقلاب النّسبة فإنّما هو فيما إذا لم يكن معارض العام خاصّا آخر يقضي بتخصيص العام ، كما إذا كان هناك أدلّة ثلثة متعارضة كانت النّسبة بين الدّليلين منهما الأعمّ من وجه مع كون الثّالث أخصّ من أحدهما ؛ فإنّه يقدّم الخاص وإن أوجب تقديمه انقلاب النّسبة لا في مثل المقام هذا.

وستقف على تفصيل القول فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الرّابع من التّعليقة. وبالجملة : لا إشكال في تقديم الاستصحاب على القرعة على هذا التّقدير.

وإن لم نقل بشمول أخبار القرعة لغير الشّبهة الموضوعيّة فقد يقال : بتقديم الاستصحاب أيضا لا من جهة كونه أخصّ مطلقا كيف! وإنّ النّسبة على هذا التّقدير العموم من وجه كما هو واضح ، بل من جهة حكومة أخبار الاستصحاب على أخبار القرعة ؛ حيث إنّ الاستصحاب وإن كان أصلا أيضا كالقرعة على ما هو قضيّة الفرض ، إلّا أنّ لأخبار الاستصحاب جهة الطّريقيّة أيضا من حيث كون لسانها البناء على بقاء المتيقّن وأنّه لم يرتفع ، ولذا يكون حاكما على أصالة الحلّية الشّرعيّة حسبما ستقف عليه ، مع كون كلّ منهما أصلا وحكما ظاهريّا في موضع الشّك ، هذا.

ولكن ذكر الأستاذ العلامة ( دام ظلّه ) : أنّ قياس أخبار القرعة بأخبار أصالة الحلّية ليس في محلّه جدّا ؛ لأنّ لأخبار القرعة أيضا جهة طريقيّة في قبالها كأخبار


الاستصحاب فلا وجه إذن للحكم بحكومة الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك على أخبار القرعة ، فكلّ مورد حكم بجريان القرعة من جهة انجبار أخبارها بالعمل لا بدّ من الحكم بتعارضهما.

نعم ، أخبار القرعة لا يجري في أكثر موارد جريان الاستصحاب من جهة كون عموماتها من العمومات الموهونة بكثرة الخارج منها المحتاجة إلى الجبر بالعمل ، اللهمّ إلّا أن يرجّح أخبار الاستصحاب بورود أكثرها في الشّبهة الموضوعيّة ، فلا بدّ من العمل بها ؛ لعدم إمكان تخصيص المورد والتّفصيل يرفعه عدم الفصل في المسألة فتأمّل.

هذا كلّه فيما لو استند في اعتبار القرعة إلى الأخبار.

وأمّا لو استند فيه إلى الإجماع فلا إشكال في تقديم الاستصحاب عليه لا للتّعارض والتّرجيح ، بل من جهة عدم الدّليل على اعتبار القرعة في مقابل الاستصحاب على هذا التّقدير كما هو ظاهر.

فتبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ الاستصحاب يخالف سائر الأصول بالنّسبة إلى مقابلتها مع القرعة ؛ فإنّ القرعة واردة على جميعها إن كان اعتبارها من باب العقل ؛ ضرورة ارتفاع موضوعها وهو عدم البيان مطلقا واحتمال العقاب والتّحرير بواسطة قيام القرعة وحاكمة عليها إذا كان اعتبارها من باب الشّرع ، إلّا أنّ التّمسّك بالقرعة في مواردها أيضا يحتاج إلى جبر عموماتها بعمل الأصحاب من جهة تطرّق الوهن بكثرة التّخصيص فيها ، وإلّا فالمتعيّن العمل بالأصول لسلامتها عن الوارد أو الحاكم هذا ما يقتضيه النّظر الدّقيق.

ولكن قد يتوهّم : خلاف ما ذكرنا وأنّ القرعة مورودة أو محكومة بالنّسبة


إلى جميع الأصول ؛ لارتفاع الاشتباه والإشكال المأخوذين في موضوعها بقيام الأصول ، ولكنّك خبير بما فيه.

وممّا ذكرنا كلّه يعلم : أنّ ما أفاده ( دام ظلّه ) : من إطلاق القول بأعميّة أخبار القرعة من أخبار الاستصحاب لا بدّ من أن يحمل على القول بعموم أخبار القرعة للشّبهة الحكميّة وإن خرجت عنها بالإجماع. وأمّا على القول باختصاصها بالشّبهة الموضوعيّة على ما عرفته فقد أسمعناك : كون النّسبة بينهما العموم من وجه.

نعم ، هنا وجه آخر أشرنا إليه للحكم بكونها كالخاص بالنّسبة إلى أخبار القرعة : من حيث اختصاص موارد الصّحاح من أخباره وغيرها ممّا كان له مورد بالشّبهة الموضوعيّة ، فلا يمكن حملها على الشّبهة الحكميّة. ومنه يعلم : أنّه لا بدّ من التّصرف في أخبار القرعة وإن كان مبناها على الظّن ؛ ضرورة استحالة تخصيص المورد كما هو ظاهر ، فلعلّ ما أفاده من الأعمّيّة بقول مطلق مبنيّ على هذه الملاحظة.

* * *


المقام الثالث

تعارض الإستصحاب مع ما عداه

من الأصول العمليّة



المقام الثالث :

(٤٠٢) قوله ( دام ظلّه ) : ( في تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الأصول ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٨٧ )

تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الأصول

أقول : لا يخفى عليك أنّ إطلاق القول بتأخّر أصالة البراءة عن غير الاستصحاب من الأصول على فرض اجتماعها معه ـ كما يجتمع مع الاستصحاب في الجملة ـ ممّا لا معنى له ، سيّما إذا جعلنا المدرك فيها الأخبار ، وقلنا : بأنّ ٢٢١ / ٣ مفادها إثبات الحلّيّة الظّاهريّة في مورد الشّك في الحكم الواقعي كما هو قضيّة قوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ) (١) وقوله : ( كلّ شيء [ هو ] لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه ) (٢) وغيرهما.

فإنّه لا إشكال في ورود أصالة البراءة على أصالة التّخيير على هذا الفرض

__________________

(١) الفقيه : ج ١ / ٣١٧ ـ ح ٩٣٧ ، عنه الوسائل : ج ٦ / ٢٨٩ باب « جواز القنوت بغير العربية مع الضرورة وان يدعو الانسان بما شاء » ـ ح ٣.

(٢) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ باب « النوادر » ـ ح ٤٠ ، والتهذيب : ج ٧ / ٢٢٦ باب « من الزيادات » ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الانفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.


وتعارضها مع أصالة الاشتغال لو كانت شرعيّة ، بمعنى : دلالة الأخبار على وجوب الاحتياط في مورده بالوجوب الظّاهري الشّرعي لا الإرشادي النّاظر إلى حكم العقل به من باب دفع الضّرر المحتمل ؛ فإنّه لا إشكال في ورود ما عرفت : من أخبار البراءة عليه على تقدير اجتماع أصالة البراءة مع أصالة الاشتغال كما هو واضح.

نعم ، قضيّة التّحقيق عندنا ، عدم اجتماعهما موردا ؛ لأنّ مجرى الاشتغال عندنا هو ما إذا ثبت التّكليف بالبيان المعتبر بمعنى تنجّز الخطاب بالواقع المجهول ولم يكن ثمّة قدر متيقّن كما في الأقلّ والأكثر ومورد البراءة ما لم يكن كذلك. وأمّا القول : بأنّ مراده ( دام ظلّه ) من عدم التّعارض أعمّ من أن يكون من جهة عدم الاجتماع الموردي.

ففيه : ما لا يخفى على المتدبّر الفطن ، [ فافهم ](١).

ثمّ إنّ الكلام في تعارض الاستصحاب : قد يقع في تعارضه مع غيره من الأصول العمليّة ، وقد يقع في تعارضه مع نفسه ، بمعنى : تعارض فردين منه. والمراد بالتّعارض : أعمّ من التّعارض الحقيقي ؛ ضرورة خروج الورود والحكومة من أقسام التّعارض كما هو واضح. مضافا إلى ما ستقف على تفصيل القول فيه في الجزء الرّابع من التّعليقة إن شاء الله ولمّا كانت الأصول منحصرة عند الأستاذ العلّامة في الأربعة فلا محالة انحصر التّكلّم في ثلاث مقامات :

__________________

(١) أثبتناه من الحاشية القديمة ـ البحر القديم ـ ٥٢٤.

وبه تنتهي النسخة المخطوطة من الحاشية الصغيرة ـ على لسان بعض ـ أو البحر القديم بتعبيرنا ، المصوّرة من مكتبة الفاضلي بخوانسار ، والحمد لله ربّ العالمين.


تعارض الاستصحاب مع أصالة البراءة

الأوّل : في حكم تعارض الاستصحاب مع أصالة البراءة :

فنقول : إنّه لا ريب في وروده عليها وإن كان مدركها العقل ؛ ضرورة إناطة حكم العقل بالبراءة بعدم وصول البيان من الشّارع للحكم ولو في مرحلة الظّاهر والجهل وعدم العلم بجميع مراتب الحكم من غير فرق بين الحكم الواقعي والظّاهري ، لانقطاع عذر المكلّف بكلّ منهما هذا. مضافا إلى ما عرفت مرارا وستعرفه : من عدم إمكان التّعارض والتخصيص ، بل الحكومة بالنّسبة إلى القضايا العقليّة.

نعم ، هنا فرض يحكم فيه بحكومة البراءة ولو كان مدركها العقل على الاستصحاب ولو كان مبناه على الظّن فضلا عن التّعبّد قد أشرنا إليه في الجزء الثّاني من التّعليقة عند الكلام في مسألة الأقلّ والأكثر (١) ؛ فإنّا قد حكمنا فيه بتقديم أصالة البراءة عن الأكثر على استصحاب بقاء التّكليف والشّغل على تقدير الإتيان بالأقلّ على تقدير تسليم جريانه في قبال من تمسّك به للقول بالاشتغال في المسألة ؛ من حيث إنّ نفي التّكليف بالأكثر من أوّل الأمر قبل الإتيان بالبراءة في حكم تعيين المكلّف به من أوّل الأمر فلا تردّد فيه حتّى يجري فيه الاستصحاب.

لكنّه كما ترى ، خارج عن مفروض البحث ؛ من حيث عدم اجتماعهما في

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ١٥٧.


موضوع واحد هذا بالنّسبة إلى استصحاب التّكليف المنافي لمقتضى البراءة المبحوث عنه في المقام وأمّا استصحاب الحكم الغير الإلزامي المطابق لمقتضى البراءة فهو أيضا وارد عليها من حيث استلزامه للقطع بعدم العقاب من غير نظر إلى قاعدة قبح العقاب من غير بيان ؛ فإنّ الحاكم باستلزام ترخيص الشّارع لعدم العقاب وإن كان هو العقل ، إلّا أنّه ليس بالملاحظة المذكورة ، بل من جهة العلّة الّتي لا يفرّق فيها بين موارد الأصول المرخّصة والأمارات الشّرعيّة القائمة على الحكم الغير الإلزامي.

كما أنّه لا إشكال في وروده عليها أيضا إذا كان مدركها الشرع واستند فيها إلى ما يكون مساقه مساق حكم العقل بها من حيث سوقه لبيان تأكيد حكم العقل ، وأنّ الشّارع لا يؤاخذ على ما كان مجهولا بقول مطلق كحديث الرّفع ونحوه من أخبار البراءة.

وأمّا إذ استند فيها إلى ما يفيد بظاهره إنشاء الحكم الظّاهري من الشّارع بالإباحة والتّرخيص من غير نظر إلى نفي المؤاخذة والإخبار عنه ، وإن استلزمه بحكم العقل على ما هو الشّأن بالنّسبة إلى مطلق الحكم الظّاهري على ما عرفته ، فإن كان الموضوع فيه التّكليف الغير المعلوم ـ ولو في مرحلة الظّاهر ـ فلا إشكال في ورود الاستصحاب عليها أيضا ؛ ضرورة حصول العلم منه بالتّكليف في مرحلة الظّاهر ، وإن كان الموضوع فيه عدم العلم بحكم الشّيء بعنوانه الأوّلي ومن حيث هو هو كما هو المستظهر من قوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ) (١) ( وكلّ

__________________

(١) الفقيه : ١ / ٣١٧ ـ ح ٩٣٧ ، عنه الوسائل : ج ٦ / ٢٨٩ باب « جواز القنوت بغير العربيّة مع الضرورة ... » ـ ح ٣.


شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام ) (١) ونحوهما من أخبارها فهل يكون الاستصحاب واردا عليها ، أو يكونان من المتعارضين ، أو يكون حاكما عليها؟ وجوه.

فقد يتوهّم الوجه الأوّل ، أي : ورود الاستصحاب عليها على هذا التّقدير أيضا ، إمّا بتوهّم : كون المراد من ورود النّهي والعلم بالحرمة ونحوهما من الغايات هو الوجود والتّحقّق في الجملة ولو بالنّسبة إلى الزّمان السّابق.

أو بتوهّم : كون الاستصحاب كاشفا عن إرادة البقاء والدّوام من دليل المستصحب بالنّسبة إلى الزّمان اللّاحق.

أو بتوهّم : كون النّهي المستفاد من قوله : ( لا تنقض اليقين بالشّك ) من أفراد الغاية ولو لم يكن ناظرا إلى بيان المراد من دليل المستصحب.

لكنّك خبير بفساد التّوهم المذكور استنادا إلى أحد الوجوه المذكورة.

أمّا الوجه الأوّل : فللقطع بعدم إرادة هذا المعنى من أخبار البراءة كيف؟ ولازمها عدم جريان البراءة على تقدير عدم جريان الاستصحاب ، أو عدم اعتباره أيضا كما هو ظاهر. وهو كما ترى ، ممّا لا يلتزم به أحد هذا. ٢٢٢ / ٣

مضافا إلى خروجه عن ورود الاستصحاب على البراءة ، كما أنّ لازمها الالتزام بعدم جريان البراءة في كلّ كلّي ورد النّهي عن بعض أنواعه ؛ ضرورة عدم

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ باب النوادر : ـ ح ٤٠ ، والتهذيب : ج ٧ / ٢٢٦ باب من الزيادات ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الانفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.


الفرق بين كون الاختلاف بحسب الزّمان ، أو غيره من العوارض والخصوصيّات كما هو ظاهر هذا.

مضافا إلى أنّ اعتبار هذا المعنى بالنّسبة إلى أخبار البراءة يوجب اعتباره بالنّسبة إلى أخبار الاستصحاب ؛ فإنّ العصير العنبي بعد ذهاب ثلثيه بالهواء مثلا ممّا يتيقّن حلّيته ولو في زمان من الأزمنة ، فلا يجري استصحاب الحرمة ؛ لكونه مغيّا بعدم العلم بالحلّية فتدبّر.

وأمّا الوجه الثّاني : ففساده غنيّ عن البيان ؛ ضرورة استحالة صيرورة الاستصحاب قرينة على المراد عن دليل المستصحب وكاشفا عنه ـ بناء على القول به من باب الظّن ـ فضلا عن التّعبّد الّذي ليس من سنخ دليل المستصحب.

وأمّا الوجه الثّالث : فهو أيضا واضح الفساد ؛ ضرورة عدم كون النّهي المستفاد من أخبار الاستصحاب نهيا عن الشّيء بعنوانه الأوّلي ، وإلّا خرج عن كونه حكما ظاهريّا كما هو ظاهر.

وقد يتوهّم : الوجه الثّاني ؛ نظرا إلى إثباتهما الحكمين المتنافيين في الموضوع الواحد. وهذا معنى التّعارض كما هو ظاهر على ما ستقف عليه أيضا ؛ حيث إنّ قوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء مطلق ) مثلا من حيث عدم ورود النّهي في العصير بعد ذهاب ثلثيه بغير النّار مثلا يقتضي حلّيّته ، وقوله عليه‌السلام : ( لا تنقض اليقين إلّا بيقين مثله ) من حيث عدم اليقين بصيرورة العصير في الفرض حلالا يقتضي حرمته فلا محالة يقع التّعارض بينهما.

لكنّه ضعيف أيضا وإن لم يكن في الضّعف كالوجه الأوّل ؛ فإنّ الاستصحاب وإن لم يكن رافعا لموضوع البراءة في الفرض حسّا حتّى يكون واردا عليها ، إلّا


أنّه بمنزلة المعمّم للنّهي الأوّل فيكون شارحا لقوله عليه‌السلام : ( كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ) ؛ فإنّ لسان الاستصحاب بقاء النّهي المتعلّق بالعصير بعد الغليان من حيث هو في حكم الشّارع وإن كان حكمه ببقائه ظاهريّا. ومنه ينقدح وجه الوجه الثّالث وكونه وجيها.

هذا كلّه في الاستصحاب الحكمي.

وأمّا الاستصحاب الموضوعي كاستصحاب عدم ذهاب الثّلثين فيما شكّ فيه فأمره من حيث حكومته على البراءة أظهر ؛ حيث إنّ المجعول في الاستصحابات الموضوعيّة على ما أسمعناك مرارا وإن كان هو الحكم الشّرعي أيضا ، إلّا أنّ المستصحب هو الموضوع الخارجي فالمشكوك ذهاب ثلثيه من العصير داخل بحكم (١) الشّارع فيما دلّ على حرمة العصير قبل ذهاب ثلثيه فيكون حاكما على أصالة البراءة المقتضية لحلّيّة المشكوك هذا.

ولكن قد يستشكل فيما ذكرنا : من وضوح حكومة الاستصحاب الموضوعي على أصالة البراءة كما في « الكتاب » بالنّظر إلى الأمثلة المذكورة في الموثقة : كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثّوب عليك ولعلّه سرقه ) (٢) الحديث ؛ حيث إنّ ظاهرها كون الحلّيّة في الأمثلة المذكورة فيها مستندا إلى الكلّيّة المذكورة في صدرها ، مع أنّ فيها استصحابات موضوعيّة تقتضي حرمة التّصرف في الأمثلة كأصالة عدم التّملّك

__________________

(١) الكافي الشريف : ٥ / ٣١٣ باب النوادر ـ ح ٤٠ ، والتهذيب : ٧ / ٢٢٦ باب من الزيادات ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الإنفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.


وعدم تحقّق الزّوجيّة ونحوهما ، فحكم الشارع بالحلّيّة مع جريان تلك الأصول يكشف عن حكومة البراءة على الاستصحاب ؛ ضرورة عدم إمكان رفع اليد عن الموارد الشّخصيّة هذا.

ولكنّك خبير بفساد توهّم حكومة البراءة على الاستصحاب وجعل الموثّقة دليلا عليها من حيث استظهار كون المراد من الكلّيّة المستفادة من صدرها هو الحكم بحلّية جميع التّصرّفات الموقوفة على الملك والزّوجيّة والتّذكية والرّقيّة ونحوها في مرحلة الظّاهر ، وإن كان هناك أصول موضوعيّة تقتضي الحرمة نظير قوله تعالى : أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ (١) المقتضي لحلّيّة جميع التّصرّفات في المبيع ، وإن كان هناك فرق بينهما : من حيث كونه دليلا اجتهاديّا وكون مفاد الموثّقة أصلا عمليّا ؛ لأنّ البناء على هذا المعنى للموثّقة يوجب فقها جديدا على تقدير الالتزام به في جميع الموارد.

ودعوى : الالتزام به مع الخروج عنه بالإجماع في أكثر الموارد ـ كما بنى عليه الأمر بعض السّادة من أعلام عصرنا فيما حكي عنه ـ كما ترى ، فلا بدّ من جعل العنوان للأمثلة المذكورة في الرّواية مجرّد التّقريب لا التّمثيل للكلّيّة المذكورة في صدرها ، فلا ينافي كون الحلّيّة فيها مستندا إلى ما هو حاكم على الاستصحابات الموضوعيّة المذكورة : كصحّة التّصرّف فيما كان في يد الغير ، وأصالة صحّة العقد الصّادر من أهله ، وأصالة عدم تحقّق النّسب والرّضاع المحرّمين ؛ فإنّها ـ كما ترى ـ حاكمة على تلك الأصول لا إلى مجرّد الشّك في

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.


الحلّيّة والحرمة حتّى ينافي ما ذكرنا هذا.

وقد ذكرنا بعض الكلام فيما يتعلّق بشرح الرّواية ودفع الإشكال عنها في الجزء الثّاني من التّعليقة (١) فراجع إليه هذا شأن قاعدة البراءة بالنّسبة إلى استصحاب التّكليف.

وأمّا استصحاب البراءة المقابل لاستصحاب التّكليف ، فهو على تقدير إمكانه وتصوّره خارج عن مفروض البحث ؛ لأنّه داخل في تعارض الاستصحابين لا تعارض الاستصحاب والبراءة ، إلّا أنّ الشّأن في إمكانه ؛ حيث إنّ الحالة السّابقة للشّيء الواحد لا يمكن أن يكون التّكليف وعدمه ، إلّا أن يفرض خروجه عن الوحدة ورجوعه إلى تعدّد الموضوع ولو باعتبار من الاعتبارات ، كما هو مبنى ما تقدّم عن بعض أفاضل مقاربي عصرنا فيما سلكه من إيقاع التّعارض بين استصحابي الوجود والعدم. هذا بعض الكلام في حكم تقابل الاستصحاب مع البراءة.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من عدم وقوع التّعارض الحقيقي بين الاستصحاب والبراءة ٢٢٣ / ٣ على كلّ تقدير وإن كان أمرا ظاهرا لا سترة فيه أصلا ، إلّا أنّ كلمات جمع من الأصحاب سيّما الشّيخ والمحقّق والعلّامة في جملة من كلماتهم لا يساعد عليه كما يظهر بالتّصفح فيها ، فلعلّ الوجه كون مبنى الأصلين عندهم على الظّنّ النّوعي الحاصل من ملاحظة الحالة السّابقة أو غيرها فتأمل.

تعارض الاستصحاب مع الاحتياط

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ٥٤.


المقام الثاني : في حكم مقابلته مع أصالة الاحتياط وقاعدة الشّغل.

فإن استندنا في القاعدة في مواردها إلى حكم العقل بها فلا إشكال في ورود الاستصحاب عليها ؛ من حيث إنّ مبنى حكم العقل بها هو حكمه بوجوب دفع العقاب المحتمل على ما عرفته مرارا. ومن المعلوم ضرورة بحكم العقل ارتفاع احتمال العقاب بتجويز الشّارع لترك محتمل الوجوب أو التّحريم ولو في مرحلة الظّاهر ، فإذا أجري استصحاب التّمام أو القصر في موارد دوران الأمر بينهما موضوعا أو حكما فلا يجري قاعدة الاشتغال الحاكمة بوجوب الجمع بينهما ؛ لحصول البراءة القطعيّة عن تبعة مخالفة الواقع على تقدير الاقتصار على المستصحب ، وإن كان الخطاب الواقعي بالواقع باقيا على تقدير مخالفة الاستصحاب له فيحكم بوجوب الإعادة والقضاء على تقدير انكشاف الخلاف في الوقت أو خارجه.

وإن استندنا فيها إلى أخبار الاحتياط :

فإن قلنا : بأنّ مفادها تأكيد حكم العقل بها ، وأنّ الموضوع فيها دفع التّهلكة المحتملة في الواقع المردّد المجهول ـ كما بنينا الأمر عليه في مطاوي كلماتنا السّابقة في الجزء الثّاني من التّعليقة على تقدير تسليم دلالتها على خصوص الطّلب الإلزامي الإرشادي لا الطّلب الإرشادي القدر المشترك على ما استظهرناه منها فيما قدّمناه لك ثمّة ـ فحالها حال حكم العقل بها فيكون الاستصحاب واردا عليها.

وإن قلنا : بأنّ مفادها التّأسيس والوجوب الشّرعي الظّاهري المتعلّق بالواقع


المردّد المحتمل ـ على ما يظهر من بعض الأصحاب ـ فحالها حال ما يستفاد منه التّأسيس والحلّيّة الشّرعيّة الظّاهريّة المتعلّقة بنفس محتمل التّحريم من أخبار البراءة ، فيكون الاستصحاب حاكما عليها ، كيف! وفي موارد الصّحاح من أخبار الاستصحاب يكون القاعدة على خلافها كما هو ظاهر ، هذا حال الاستصحاب مع القاعدة.

وأمّا استصحاب الاشتغال في موردها فقد أسمعناك مرارا : أنّه لا يجري في مورد القاعدة ؛ من حيث إنّ بقاء الاشتغال بحسب الواقع ونفس الأمر لا يترتّب عليه أثر حتّى يجري استصحابه.

ثمّ مع الغضّ عن ذلك يدخل في مسألة تقابل الاستصحابين فلا تعلّق له بالمقام ، وإن كان يتّضح حكمه ممّا سنوضح لك : من حكومة الاستصحاب في الشّك السّببي على الاستصحاب في الشّك المسبّبي ؛ حيث إنّ الشّك في بقاء الاشتغال بالواقع مسبّب دائما عن تردّده فإذا حكم بتعيينه في مرحلة الظّاهر بالاستصحاب فيرتفع التّردّد عنه بحكم الشّارع.

تعارض الاستصحاب مع أصالة التخيير

المقام الثالث : في تقابل الاستصحاب مع أصالة التّخيير ، ولا إشكال في وروده عليها من حيث انحصار مدركها في حكم العقل المرتفع موضوعه بالوجدان بمجرّد قيام الدّليل على تعيين أحد الاحتمالين وترجيحه على صاحبه ولو في مرحلة الظّاهر ، فإذا حكم بمقتضى الاستصحاب بكون اليوم المردّد بين رمضان وشوّال من رمضان فلا يجري أصالة التّخيير بين احتمالي الوجوب


والتّحريم في اليوم المذكور على تقدير القول بكون صوم يوم العيد حراما ذاتا لا تشريعا ، وإلّا فيخرج عن مورد أصالة التّخيير كما هو ظاهر هذا كلّه في تقابل الاستصحاب مع أصالة التّخيير.

وأمّا لو فرض هناك مورد وقع التّعارض بين استصحاب التّخيير واستصحاب المختار كما يتّفق كثيرا في مسائل التّقليد وقليلا في غيرها فهو خارج عن مفروض تعارض أصالة التّخيير والاستصحاب وداخل في مسألة تعارض الاستصحابين مع وضوح حكمه ؛ من حيث إنّ استصحاب التّخيير حاكم دائما على استصحاب المختار فيما كان استصحاب التّخيير جاريا هذا.

مع أنّ استصحاب التّخيير لا تعلّق له باستصحاب التّخيير الّذي هو محلّ الكلام ؛ ضرورة عدم تطرّق الشّك إلى حكم العقل فيما يحكم فيه بالتّخيير حتّى يتصوّر فيه الاستصحاب ، فلا بدّ أن يكون التّخيير المستصحب تخييرا شرعيّا يتصوّر فيه الشّك وهو ليس من الأصول كما هو ظاهر.

(٤٠٣) قوله : ( وأمّا الكلام في تعارض الاستصحابين وهي المسألة المهمّة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٣٩٣ )

تعارض الإستصحابين

أقول : المراد من التّعارض في المقام كما في كثير من المسائل المتقدّمة هو مجرّد التّقابل في أوّل الأمر المجامع مع الورود والحكومة أيضا ، لا ما هو المراد من ظاهره عند الإطلاق الغير المجامع معهما.

ثمّ إنّ ما أفاده ( دام ظلّه العالي ) : من كثرة الأقسام المتصوّرة في المقام


وعدم تأثير الاختلاف في حكم المتعارضين ، إلّا من جهة واحدة جامعة لجميع صور الاختلاف والتّعارض أمر واضح لا سترة فيه أصلا ، كوضوح ما أفاده : من عدم تعقّل كون الشّك في كلّ منهما مسبّبا عن الشّك في الآخر ؛ ضرورة استحالة كون الشّيء علّة لشيء ومعلولا له.

وأمّا ما توهّم : من المثال له بالعامين من وجه ، فهو فاسد جدّا ؛ لأنّ الشّك فيهما بالنّسبة إلى مادّة الاجتماع والتّعارض مسبّب عن سبب العلم بعدم إرادة الظّاهرين كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ أمثلة القسم الأوّل كثيرة : كاستصحاب كرّية الماء وإطلاقه بالنّسبة إلى استصحاب نجاسة المغسول به ، وحدث المكلّف واستصحاب طهارة المكلّف بالنّسبة إلى استصحاب اشتغال ذمّته بالصّلاة على القول بجريان استصحاب الشّغل ونحوهما ممّا يعتبر فيه الطّهارة ، واستصحاب نجاسة الملاقي بالنّسبة إلى استصحاب طهارة الملاقى ـ بالفتح ـ إلى غير ذلك ممّا لا يخفى. ٢٢٤ / ٣

ثمّ إنّ ما أفاده في حكم هذا القسم من لزوم العمل بالاستصحاب في الشّك السّببي وعدم الاعتناء بالاستصحاب في الشّك المسبّب لا لمكان التّرجيح ، بل لتقدّمه عليه ذاتا من جهة حكومته عليه ، وإن كان أمرا ظاهرا لا سترة فيه أصلا ـ وقد نفى الإشكال عنه جمع من محقّقي المتأخّرين ـ إلّا أنّه قد خالف فيه جمع من الأصحاب في جملة من كلماتهم وهم بين من يعامل معهما معاملة المتعارضين ـ كالمحقّق فيما تقدّم من كلامه عند الكلام في حجّية الاستصحاب وغيره كما ستقف عليه ـ ومن يعمل بهما في الجملة كالمحقّق القمّي قدس‌سره في بعض كلماته في « القوانين » ؛ حيث جمع بين استصحاب نجاسة الملاقي واستصحاب طهارة


الملاقى ـ بالفتح ـ على ما عرفته وستعرفه.

ثمّ إنّ الكلام في حكم القسم الأوّل : قد يقع بناء على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبد والأخبار وكونه من الأصول كما هو المختار المرضي عند أكثر المحقّقين من المتأخّرين ، وقد يقع بناء على القول به من باب الظّن.

ومنه ينقدح ما في التّمسّك بالإجماع في المقام كما في « الكتاب » ، مضافا إلى وهن دعوى الإجماع بنقله الخلاف عن جماعة ـ إلّا أن يحمل على الاشتباه في الموضوع والصّغرى فتدبّر ـ بكون أصل اعتبار الاستصحاب خلافيّا ـ إلّا أن يحمل على الإجماع التّقديري فتأمل ـ لم يلاحظ فيه أحد القولين بخصوصه ؛ فإنّ تقديم الاستصحاب في الملزومات على استصحاب عدم لوازمها في الجملة وعدم معاملة المتعارضين معهما كما فيما ذكره من الأمثلة ونحوها ممّا لا يفرّق فيه بين القولين ، فكأنّه في مقام دعوى الإجماع من الفريقين فتدبّر.

وممّا ذكرنا يظهر : أمر التّأييد بالسّيرة وأنّ مبناه على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد والأخبار أو مطلقا.

بيان دلالة الأخبار على تقديم الأصل في الشك المسبّب

أمّا على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد والأخبار : فقد تمسّك لتعيين العمل بالاستصحاب في الشّك السّببي بوجوه ، عمدتها : الوجه الأوّل المعبّر عنه في « الكتاب » بالوجه الثّاني.

الأوّل : دلالة الأخبار بأسرها عليه : من حيث دوران الأمر فيها من الحكم بشمولها للشّك السّببي دون الشّك المسبّبي ، أو العكس بين التّخصّص بحكم


الشّارع والتّخصيص من غير مخصّص يقتضيه ؛ فإنّ المفروض كون ارتفاع المستصحب في الشّك المسبّب من الأحكام واللّوازم الشّرعيّة للمستصحب في الشّك السّبب ، فإذا كان معنى حكم الشّارع بعدم نقض الشّيء والبقاء عليه في الموضوعات جعل آثارها الشّرعيّة في مرحلة الظّاهر لزمه رفع الشّك المسبّب بحكم الشّارع ، فكأنّه لا شكّ حتّى يشمله الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك.

وهذا بخلاف ما لو حكم بشمولها للشّك المسبّب ؛ حيث إنّ ارتفاع المستصحب في الشّك السّبب ليس من أحكام مستصحبه بالفرض ، فيلزم ما ذكر :

من طرح عموم الأخبار بالنّسبة إلى الشّك السّبب من غير مخصّص يقتضيه ، وهذا ممّا لا يجوّزه العرف المرجع في باب الألفاظ فعموم نفس الأخبار بالملاحظة المذكورة قاض بإرادة الشّك السّبب وعدم إرادة الشّك المسبّب ، فليس هناك طرح لعموم الأخبار بالنّسبة إلى الشّك المسبّب حتّى يتوجّه عليه ما أفاده شيخنا الأستاذ العلّامة بقوله : ( ودعوى : أنّ اليقين بالنّجاسة أيضا من أفراد العام فلا وجه لطرحه ... إلى آخر ما أفاده ) (١) كي يحتاج في دفعه إلى النّقض المتوجّه عليه والحلّ المنظور فيه ؛ حيث إنّ الحكم بشمول ما دلّ على حصول الطّهارة للمغسول بالماء الظّاهر مع الشّك في الموضوع في مرحلة الظّاهر بحيث يستدلّ عليه مع الشّك ممّا لا معنى له ، وإن كان على تقدير تحقّق الموضوع في مرحلة الواقع مرادا منه في نفس الأمر.

وفائدة استصحاب الموضوع ومرجعه على ما سمعته مرارا منّا ومن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٩٦.


شيخنا ( دام ظلّه ) : ليس جعل الموضوع وإيجاده ثمّ التّمسّك بالدّليل المثبت للحكم ، بل مرجعه إلى جعل ما حمل عليه من الأحكام الشّرعيّة في مرحلة الظّاهر ، فكيف يقال : إنّ نقض اليقين بذلك الدّليل لا بالشّك؟ وإن كان ما أفاده ( دام ظلّه العالي ) بالنّسبة إلى العمل باستصحاب نجاسة الثّوب بقوله : ( بيان ذلك : أنّه لو عملنا باستصحاب النّجاسة ... إلى آخره ) (١) مستقيما ؛ ضرورة عدم كون زوال الطّهارة عن الماء من الأحكام الشّرعيّة لنجاسة الثّوب ، وإن كان بقاؤها في الثّوب في مرحلة الواقع كاشفا عن سبق تنجّس الماء قبل غسل الثّوب به.

لكنّه على ما عرفته مرارا لا يفيد في المقام حتّى على القول باعتبار الأصول المثبتة ، اللهمّ إلّا أن يوجّه ما أفاده : بأنّ غرضه ممّا ذكره ليس ما يتراءى من ظاهره من التّمسّك باستصحاب الموضوع ، أي : طهارة الماء في المثال ثمّ التّمسّك بالدّليل المثبت لحكمه ، بل غرضه التّمسّك باستصحاب الموضوع بعد الفراغ عن ثبوت حكمه المذكور بالدّليل الاجتهادي وبملاحظته فيرجع إلى ما ذكرنا من البيان لوجه تقديم الاستصحاب في الشّك السّبب على الاستصحاب في الشّك المسبّب.

ومن هنا يتوجّه عليه الإشكال المذكور بقوله : ( وقد يستشكل : بأنّ اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثّوب المغسول به ... إلى آخره ) (٢) إذ هو صريح في جعل الاستصحاب في الشّك السّبب بنفسه دليلا على عدم شمول العام للشّك المسبّب من دون ضمّ شيء آخر إليه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٣٩٧.

(٢) نفس المصدر.


ثمّ إنّ حاصل ما أفاده من الإشكال في وجه التّقديم المذكور : أنّ المفروض عدم قيام دليل من الخارج على عدم إرادة الشّك المسبّب من عموم الأخبار حتّى يجعل قرينة على التّخصيص وإنّما الغرض جعل نفس شمول العام للشّك السّبب كاشفا عن عدم إرادته وخروجه عن العموم ، وهو غير معقول بعد فرض تساويهما في الفرديّة ، وكون نسبة العموم إليهما نسبة واحدة من دون تفاوت وتقدّم وتأخّر في نسبته إليهما فيكونان كالشّكين المسبّبين عن أمر ثالث من حيث لزوم إجمال العموم بالنّسبة إليهما ، وعدم جواز جعله دليلا على إرادة شيء منهما بخصوصه ، ٢٢٥ / ٣ وإلّا أمكن عكس ذلك وجعل شمول العام للشّك المسبّب مانعا عن شموله للشّك السّبب لامتناع إرادته مع إرادته. ولمّا لم يكن ثمّة ترجيح لشيء من الشّمولين حكم بتساويهما ، كما هو الشّأن في الشّكين المسبّبين عن أمر ثالث ومجرّد كون أحد الشّكين سببا للآخر لا يوجب التّرجيح بعد فرض وجودهما في الخارج وكون نسبة العموم إليهما نسبة واحدة على ما عرفت.

وأمّا ما أفاده في الدّفع عن الإشكال المذكور فيرجع إلى وجهين :

أحدهما : أنّ تحقّق الشّك السّبب في الخارج وكونه مرادا من العموم في نفسه مع قطع النّظر عن مانعيّة الشّك المسبّب على ما يدّعيها الخصم مفروض لا شبهة فيه أصلا ، وأمّا الشّك المسبّب فجعله من إفراد العموم بحيث يحكم بإرادته منه يتوقّف على الحكم بخروج المفروق فرديّته بالمعنى الّذي عرفته عن العموم ؛ حيث إنّ لازم دخوله ومعنى عدم الالتفات إليه هو رفع اليد عن الشّك المسبّب ؛ حيث إنّه من أحكامه الشّرعيّة بالفرض فإذا استند في خروجه عنه إلى دخول الشّك المسبّب توجّه عليه الدّور الظّاهر ولا يلزم مثله في العكس ؛ فإنّ رفع اليد عن


الشّك السّبب ليس من أحكام عدم النّقض الشّكّ المسبّب على ما هو المفروض.

ثانيهما : أنّ الشّك المسبّب باعتبار متعلّقه كما يكون معلولا للشّك السّبب كما هو قضيّة السّببيّة والمسببيّة بين الشّيئين مطلقا كذلك يكون حكم المحمول على الشّك السّبب معلولا له في الجملة على ما هو الشّأن في كلّ محمول بالنّسبة إلى موضوعه فيكون نسبتهما إلى الشّك السّبب نسبة واحدة وفي مرتبة واحدة فلا يمكن شمول الحكم الّذي هو المحمول للشّك المسبّب المقتضي لتقدّمه عليه ، مع أنّهما في مرتبة واحدة بالفرض ، والعموم الأصولي وإن انحلّ إلى محمولات متعدّدة لموضوعات متعدّدة ، إلّا أنّه من لوازم كون المحمول من لوازم وجود الموضوع أينما تحقّق من دون مدخليّة شيء في الحمل. فلا يقال : إنّ الحكم المحمول على الشّك المسبّب المتأخّر عنه مرتبة غير الحكم المحمول على الشّك السّبب الّذي فرض كونه في مرتبة الشّك المسبّب فتدبّر.

فإن شئت قلت : إنّ معنى حمل العموم على الشّك السّبب المقدّم رتبة على الشّك المسبّب إذا كان رفع اليد عن الشّك المسبّب فلا يمكن حمله عليه أيضا بعد فرض تأخّره عن الشّك السّبب فتأمل ، هذا غاية ما يحرّر في توضيح ما أفاده في بيان هذا الوجه ومع ذلك منه في النّفس شيء.

* * *


لازم تقديم الإستصحاب في الشك السببي

تخصيص الاخبار بالإستصحاب الحكمي

الثّاني : أنّ لازم القول بعدم تقديم الاستصحاب في الشّك السّبب والمعاملة معه معاملة التّعارض تخصيص الأخبار بالاستصحاب الحكمي وهو مع منافاته لموردها خلاف صريح ما التزم به الخصم. بيان ذلك :

أنّ المجعول بالاستصحاب الموضوعي ـ على ما أسمعناك مرارا ـ الآثار الشّرعيّة المحمولة على الموضوع النّفس الأمري في مرحلة الظّاهر ، والغرض إنّما يتعلّق بجعل الآثار المسبوقة بالعدم المترتّبة على بقاء الموضوع في زمان الشّك ؛ لأنّ الآثار المشاركة مع المستصحب في الوجود السّابق يجري الاستصحاب في أنفسها فيغني استصحابها عن استصحاب نفس الموضوع ، فإذا حكم بالتّعارض بين استصحاب الملزوم واستصحاب اللّازم فلا محالة يقع التّعارض بين استصحاب الموضوع واستصحاب عدم تلك الآثار ، فلا بدّ من تخصيص الأخبار بالشّبهة الحكميّة الّتي لا يراد بالاستصحاب فيها إلّا جعل نفس المستصحب في مرحلة الظّاهر على ما عرفته مرارا.

وهذا الوجه كما ترى ضعيف بما في « الكتاب » : من أنّ استصحاب الموضوع فيما كان الشّك في الحكم مسبّبا عن الشّك فيه محتاج إليه على تقدير وقول بالنّسبة إلى الآثار المشاركة مع المستصحب في اليقين السّابق ، فلو بني على المعارضة بالنّسبة إلى الآثار المسبوقة بالعدم المترتّبة على الوجود اللّاحق لم يلزم


منه تخصيص الاستصحاب بالشّبهات الحكميّة ، مع أنّه لا يظنّ بالقائل بالمعارضة بين الاستصحابين في الفرض العمل به مطلقا حتّى بين الاستصحاب الموضوعي والحكمي فتدبّر.

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال بالوجه المذكور كما ترى على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن أيضا.

تقدّم الأصل في الشك السببي على الأصل في الشك المسبّبي

الثّالث : دلالة الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك بالصّراحة على إعمال الاستصحاب في الشّك السّبب وإلقائه بالنّسبة إلى الشّك المسبّب ؛ حيث إنّ المفروض في مواردها وجود الشّكين ، ألا ترى إلى صحيحة زرارة : المعلّلة للبناء على الوضوء السّابق بكونه متيقّنا بالطّهارة ، وإلى صحيحته الأخرى : المعلّلة للبناء والمضي على الصّلاة إذا رأى النّجاسة بعدها مع احتمال وقوعها على الثّوب قبل الصّلاة بكونه متيقّنا بطهارة الثّوب في السّابق؟ مع أنّ قضيّة استصحاب الشّغل في المثالين على ما يقول به المشهور : من جريانه في مورد جريان قاعدة الشّغل عدم القناعة مع الشّك المفروض.

ومن هنا حكم المحقّق فيما عرفت من كلامه بالتّعارض بين استصحاب الطّهارة واستصحاب الاشتغال هذا مع دلالة العقل الضّروري على ذلك : من حيث إنّ تعليل تقديم أحد الشّيئين على الآخر بالعلّة المشتركة قبيح في الغاية وفضيح إلى النّهاية ، بل أقبح من التّرجيح من غير مرجّح كما هو ظاهر وهذا الوجه كما ترى لا غبار فيه أصلا ، إلّا أنّه لا بدّ أن يكون مبنيّا على مذاق القوم من جريان


استصحاب الشّغل ـ على ما عرفت في تقريب هذا الوجه ـ هذا كلّه على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار والتّعبّد.

وأمّا على القول باعتباره من باب الظّن ، فالمستفاد ممّا أفاده شيخنا العلّامة ( دام ظلّه ) في « الكتاب » : كون تقديم الاستصحاب في الشّك السّبب أظهر ٢٢٦ / ٣ منه على تقدير القول به من باب التّعبّد مستدلّا على ذلك : بأنّ ( الظّن بعدم اللّازم (١) مع فرض الظّن بالملزوم محال عقلا ، فإذا فرض حصول الظّن بطهارة الماء عند

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« قد توهّم : انه يمكن أن ينعكس ذلك ويكون الظّنّ بالملزوم أيضا محالا ، مع الظّنّ بعدم اللازم ، وانّه لا يستلزم الظّنّ به الظّنّ بالملزوم ، وكذلك الظّنّ بعدمه يستلزم الظّنّ بعدم الملزوم فيمتنع معه الظّنّ بتحققه كما لا يخفى.

قلت : لما كان لازم الشّيء تبعا له وشأنا من شئونه ما كان ملاحظة وجوده أو عدمه السّابق مورثا للظّن ببقائه على ما هو عليه مع الإلتفات إلى حاله ، وانّه ليس في البقاء عليه وعدمه إلّا تابعا لملزومه ، ومعه كيف يوجب سبق ما هو عليه من الحالة الظّنّ على خلاف الظّنّ بما كان الملزوم عليه؟ ولهذا لا يتفاوت الظّنّ الإستصحابي قوّة وضعفا بأن يكون للمستصحب لوازم كثيرة متحقّقة سابقا أو لم يكن ، مع انّه لو كان سبق الحالة في اللّوازم الكثيرة مورثا للظّن ، فلا جرم كان الإستصحاب في الملزومات متقوّما بالاستصحاب فيها كما لا يخفى. نعم لا ريب في إمكان قيام الامارات الخارجيّة في طرف اللّازم على خلاف ما طرف الملزوم فيتعارضان ، فإنّ الأمارة على كلّ منهما يكون أمارة على الآخر.

فإن قلت : هب انّ الأمر مع الالتفات إلى أنّه لازم من أوّل الأمر كما ذكرت ، لكنّه لا ريب أنّه لو لم يلتفت إليه من الأوّل يحصل الظنّ من سبق وجود اللّازم أو عدمه.

قلت : نعم لكن بمجرّد الالتفات إلى حاله يزول ظنّه ويتبع في الظّنّ بالبقاء والارتفاع الظّنّ ببقاء ملزومه على ما كان عليه ، فافهم » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤١٧.


الشّك ، فيلزمه عقلا الظّن بزوال النّجاسة عن الثّوب ... إلى آخر ما أفاده مستشهدا عليه ببناء العقلاء البانين على الاستصحاب في أمور معاشهم بل معادهم ؛ حيث إنّهم لا يعتنون في موارد وجود الشّكين إلى الاستصحاب في الشّك المسبّب أصلا وأبدا ... إلى آخر ما أفاده » (١).

وقد يناقش فيه :

تارة : بأنّ ذلك إنّما يستقيم على القول بإناطة الاستصحاب بالظّن الشخصي المهجور عند المشهور ، وعند شيخنا على ما عرفت في محلّه. وأمّا على القول بإناطته بالظّن النّوعي المطلق الحاصل بملاحظة الحالة السّابقة فلا يستقيم أصلا ؛ حيث إنّه على هذا القول لا يدور مدار الظّن الفعلي في الموارد الشّخصيّة ، فعدم حصول الظّن بعدم اللّازم فعلا مع الظّن بالملزوم لا يمنع من حجيّته مع إفادته الظّن في نفسه بالنّظر إلى الحالة السّابقة.

وأنت خبير بأنّ المناقشة المذكورة مبنيّة على الغفلة عن مراد عبارة « الكتاب » ؛ فإنّه كما يمتنع حصول الظّن بعدم اللّازم مع فرض حصول الظّن بالملزوم كذلك ، يمتنع حصول الظّن بالملزوم مع فرض الظّن بعدم لازمه ؛ فإنّ الظّن بعدم المعلول يلازم الظّن بعدم العلّه ؛ فكيف يجامع الظّن بوجود العلّة؟ فأينما فرض حصوله في شخص المقام من الظّنين يمتنع معه حصول الظّن الآخر ، سواء فرض الظّن بالعلّة أو عدم العلّة ؛ فتصديق ما أفاده على القول بابتناء الاستصحاب على الظّن الشّخصي ممّا لا محصّل له أصلا ، ولا ينبغي التّكلّم فيه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٤٠٠ ـ ٤٠١.


وإنّما الكلام في المقام في مزاحمة السّبب الكاشف عن وجود الملزوم في نفسه ولو خلّي وطبعه للسّبب الكاشف عن عدم المعلول ، وأنّهما في مرتبة واحدة حتّى يتحقّق المزاحمة أم لا. فالغرض ممّا أفاده شيخنا ( دام ظلّه ) : أنّ السّبب الكاشف عن وجود العلّة لا يمكن أن يكون كاشفا عن عدم معلولة.

وأخرى : بأنّ انتقال الذّهن أوّلا إلى الملزوم ، ثمّ إلى لازمه على ما هو قضيّة اللّزوم والتّبعيّة إنّما يستقيم فيما لم يكن هناك سبب كاشف عن حال اللّازم في عرض السّبب الكاشف عن حال الملزوم ، وفي المقام ليس الأمر كذلك ؛ لأنّ المقتضي للظّن بالنّسبة إلى الملزوم هي الحالة السّابقة المتحقّقة بالنّسبة إليه وجودا ، كما أنّ المقتضي للظّنّ بعدم اللّازم هي الحالة السّابقة المتحقّقة بالنّسبة إليه عدما ؛ فهما في مرتبة واحدة لا ترتيب بينهما أصلا.

وأنت خبير بضعف هذه المناقشة أيضا ، فإنّ للشّك في البقاء مدخلا في حصول الظّن من الاستصحاب جدّا ، فإذا كان الشّك في اللّازم من جهة الشّك في الملزوم على ما هو المفروض كان حال الذّهن في الثّاني تابعا لحاله في الأوّل ، فإنّ المفروض عدم الشّك فيه من غير جهة الملزوم.

فإن شئت قلت : إنّ السّبب المقتضي للظّن بالملزوم نوعا يمنع أن يكون مقتضيا للظّن بعدم لازمه كذلك ، والمفروض كون السّبب متّحدا نوعا وسنخا وإن تعدّد أشخاصه بالنّسبة إلى الأمور المتحقّقة في السّابق ، فتدبّر.


(٤٠٤) قوله : ( ثمّ إنّه يظهر الخلاف في المسألة ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤٠١ )

نقل بعض ما يدل على معارضة البراءة للإستصحاب

أقول : قد تقدّمت الإشارة إلى كون المسألة ممّا اضطربت فيها كلماتهم ، بل قد يظهر منها معارضة البراءة للاستصحاب ، مع أنّها أولى بعدم المعارضة ؛ من حيث كون الاستصحاب واردا عليها قال المحقّق قدس‌سره في « المعتبر » في باب الزّكاة :

« لو كان له مملوك لا يعلم حياته ، قال الشّيخ في « الخلاف » : لا يلزم فطرته ، وللشّافعي قولان : أحدهما : يلزمه لأنّ الأصل بقاؤه. واحتجّ آخرون لذلك أيضا : بأنّه يصحّ عتقه في الكفّارة إذا لم يعلم موته. واحتجّ الشّيخ : بأنّه لا يعلم أنّ له مملوكا فلا يجب زكاته عليه. وما ذكره الشّيخ ، حسن ؛ لأنّ الزّكاة انتزاع مال يتوقّف على العلم بسبب الانتزاع ، ولم يعلم. وقولهم : إنّ الأصل البقاء معارض بأنّ الأصل عدم الوجوب. وقولهم : يصحّ العتق في الكفّارة عنه جوابان :

أحدهما : المنع ، ولا يلتفت إلى من يقول : الإجماع على جواز عتقه ؛ فإنّ الإجماع لا يتحقّق من رواية واحدة وفتوى اثنين أو ثلاثة.

والجواب الآخر : الفرق بين الكفّارة ووجوب الزّكاة ؛ لأنّ العتق إسقاط ما في الذّمّة من حقّ الله ، وحقوق الله مبنيّة على التّخفيف. والفطرة إيجاب مال على مكلّف لم يثبت سبب وجوبه عليه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

فلو كان مراده من أصالة عدم الوجوب : استصحاب عدمه فيدخل في

__________________

(١) المعتبر في شرح المختصر : ج ٢ / ٥٩٨.


جزئيّات مسألتنا ، ولو كان المراد منها البراءة عن الوجوب ، فيدخل في مسألة معارضة الاستصحاب والبراءة ، ولعلّه المراد من استدلال الشّيخ قدس‌سره وقد عرفت ضعف المعارضة سيّما الثّانية.

وأمّا ما أفاده المحقق من الجواب الثّاني ففيه : ما لا يخفى ، فإنّه وجه استحسانيّ ؛ فإنّ اشتغال الذّمة بالعتق في باب الكفّارة يقتضي المبرّأ اليقيني ، فلو لم يكن الاستصحاب كافيا في إثبات الحياة شرعا لم يجز الاكتفاء بعتق المشكوك في باب الكفّارة ، ولو كان كافيا لم يكن معنى للمعارضة المذكورة.

وأضعف منه في ظاهر النّظر : ما أفاده قدس‌سره من التّعارض بين استصحاب الطّهارة واستصحاب شغل الذّمة بالصّلاة ، مع أنّ المنصوص في صحيحة زرارة عدم الالتفات إليه على ما عرفت بيانه ، لكن عذره قدس‌سره أنّه لا يقول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

(٤٠٥) قوله ( دام ظلّه ) : ( نعم ، ربما قيل : إنّ تحريم الصّيد إن كان ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤٠٢ )

أقول : قد تقدّم أنّ بعض أفاضل المتأخّرين اختار الحكم بتحريم الصّيد المشكوك جريان التّذكية الشّرعيّة عليه من جهة الأخبار الواردة في المنع عن أكل ٢٢٧ / ٣ لحمه ، لا من جهة أصالة عدم التّذكية ، وقد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه ، وأنّ المستظهر من الأخبار الحكم بالحرمة من جهة الحكم بموت الحيوان شرعا ، لا من جهة كون أصالة الحرمة في باب اللّحوم أصلا برأسه في قبال أصالة عدم التّذكية فيكون في النّهي عن أكله إشارة إلى البناء على موته من جهة الأصل ، كما أنّ النّهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه أو ما انتفى فيه غيره من الأمور إرشاد إلى كون


الحيوان ميتة بدونه ، وإن كانت الاستفادة في الثّاني أظهر منها في الأوّل ؛ حيث إنّه لا يحتمل حرمة الحيوان الّذي لم يذكر اسم الله عليه مثلا بحسب الواقع في قبال حرمة الميتة في الشّرع.

ثمّ إنّ مراد الفاضل التّوني من قوله : ( وأنكر بعض الأصحاب (١) ثبوت هذا التّلازم ... إلى آخره ) (٢). هو ما حكاه ( دام ظلّه ) عن بعض معاصريه من نفي التّلازم بحسب الظّاهر ، فهو موافق في أصل المدّعى للفاضل ، إلّا أنّه مخالف له في طريقه ، وأنّ النّجس بالاستصحاب ليس منجّسا ، فكأنّه لم يجعل معنى استصحاب الموضوع جعل آثاره ، والفاضل إنّما لم يحكم بالنّجاسة من جهة وقوع التّعارض في زعمه بين الأصل في الملزوم والأصل في اللّازم على ما ذهب إليه غير واحد فيما عرفت.

(٤٠٦) قوله : ( ولعلّها مستنبطة حدسا من بناء العلماء ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤٠٥ )

بيان تقديم الإستصحاب الموضوعي على الإستصحاب الحكمي

أقول : الغرض ممّا أفاده : أنّ المسألة غير معنونة في كلماتهم حتّى يدّعى الإجماع من اتفاق فتاويهم ، فلا بدّ من أن يكون المستند في استنباط الإجماع في كلّي المسألة ما يستنبط من آرائهم في جملة من جزئيّات المسألة ومصاديقها

__________________

(١) كالعلّامة في التحرير : ج ١ / ٥٥ ، وتبعه المحقّق الثاني في جامع المقاصد : ج ١ / ١٥٦ واختاره أيضا من شرّاح الوافية السيّد صدر الدّين في شرحه المزبور ( المخطوط ) ٣٦٥ ـ ٣٦٦.

(٢) الوافية : ٢١٠.


فيحكم بحكم الحدس القطعي كون الجهة الجامع بين جميع الجزئيات ، فلمّا كان مبنى دعوى الإجماع على الحدس المذكور لا على إحساس عنوان المسألة في كلماتهم واتّفاقهم فيها فقد وقع الخطأ فيها بمخالفة من عرفت في المسألة ، فهذه الدّعوى في كمال المشابهة لدعوى شيخنا الأستاذ العلّامة : الإجماع على تقديم الاستصحاب في الشّك السّبب على الاستصحاب في الشّك المسبّب المتطرّق إليها المناقشة المتقدّمة في كلماتنا.

ثمّ إنّ محلّ الكلام في المسألة على ما نبّهناك عليه في مطاوي كلماتنا السّابقة ، الأحكام المترتّبة على وجود المستصحب في زمان الشّك حتّى يتوهّم التّعارض بالنّسبة إليها ويدّعى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي. وأمّا الأحكام المشاركة مع الموضوع في اليقين السّابق فلا يتوهّم جريان استصحاب عدميّ بالنّسبة إليها يعارض الاستصحاب الموضوعي.

كما أنّه لا يجري بالنّسبة إليها على ما نبّهناك عليه استصحاب حكمىّ أيضاً فيما كان الشّك في بقائها مسبّبا عن الشّك في بقاء موضوعها ، فإنّه قد صرّح شيخنا ( دام ظلّه ) فيما تقدّم من كلامه : بأنّه قد يشكّ في بقاء المحمول لا من جهة الشّك في بقاء موضوعه ، ومثّل له بالشّك في بقاء العدالة لا من جهة الشكّ في الحياة ، فيجري في الفرض استصحابان فراجع إليه هذا.

وأمّا ما أفاده ( دام ظلّه ) في تضعيف دعوى الإجماع على تقديم الاستصحاب الموضوعي على الحكمي مع كون تقديم الاستصحاب في الشكّ السّبب على الاستصحاب في الشّك المسبّب فيما لم يرجعا إلى الموضوعي والحكمي خلافيّا على ما استظهره من كلام مدّعي الإجماع بقوله : ( مع أن


الاستصحاب في الشّك السّببي دائما من قبيل الموضوعي بالنّسبة إلى الآخر ... إلى آخر ما أفاده ) (١).

فهو غير نقيّ عن المناقشة ، إن أراد كونهما دائما من الموضوعي والحكمي حقيقة لا كونهما ملحقين في الحكم بالموضوعي والحكمي ؛ لأنّ النّجاسة مثلا فيما غسل النّجس بماء شكّ في كرّيّته أو إطلاقه وإضافته مع سبق الكرّيّة والإطلاق له قائمة بالمغسول ؛ فاستصحابها له لا تعلّق له بالاستصحاب الحكمي ، وهكذا في كثير من الموارد ، وإن كانت المطهّريّة شرعا من أحكام الكرّية والإطلاق ، فلو أريد الجمع بين استصحابهما واستصحاب المطهريّة كانا من الموضوعي والحكمي ، فاستصحاب عدم وجوب الفطرة مع استصحاب حياة المفقود من أمثلة الاستصحاب الموضوعي ـ المقتضي لوجوب الفطرة ، وجواز عتقه وبيعه في الجملة والحكمي ، وكذا استصحاب حياة الوارث مع موت مورّثه من الاستصحاب الموضوعي بالنّسبة إلى استصحاب عدم انتقال التّركة إلى الوارث الغائب الّذي شكّ في حياته ، وهكذا.

وبالجملة : دعوى رجوع جميع موارد الشّك السّبب والمسبّب إلى الموضوعي والحكمي بحيث يكون النّسبة بينهما التّسوية كما ترى. كيف؟ وقد ذكر غير مرّة في الجزء الثّاني من « الكتاب » عند التّكلم في حكم ملاقي بعض المشتبهين بالشّبهة المحصورة وغيره : بأنّه إذا لم يجر الأصل بالنّسبة إلى الشّك السّبب أو جرى وكان معارضا بما هو في مرتبته جرى الأصل بالنّسبة إلى الشّك

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٤٠٥.


المسبّب ، مع أنّه صرّح في جملة من كلماته المتقدّمة : بأنّ الشّك في الحكم إذا كان مسبّبا عن الشّك في موضوعه لم يجر الاستصحاب بالنّسبة إلى الحكم ، سواء جرى الاستصحاب بالنّسبة إلى الموضوع أم لا ؛ لأنّه قضيّة اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ، وهذا الّذي ذكرنا أمر واضح لا غبار فيه أصلا. ولا ينافيه ما قضت به كلمات أهل المعقول : من كون المعلول من عوارض العلّة ومحمولاته باعتبار من الاعتبارات وحيثيّة من الحيثيّات.

ومن هنا ذكرنا : أن المطهريّة قائمة بالماء ، إلّا أنّ الطّهارة والنّجاسة قائمتان بالثّوب مثلا ، وكذا المنجّسية قائمة بالملاقي ، إلّا أنّ النّجاسة قائمة بالملاقي ـ بالكسر ـ كيف! وهما موضوعان في الحسّ ، قام بكلّ منهما محمول ، وإن كان محمول أحدهما معلولا لمحمول الآخر باعتبار من الاعتبارات.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا : عدم التّسوية بين المسألتين ، وكون الأصل الموضوعي والحكمي فيما كان الشّك فيه من جهة الشّك في الموضوع من ٢٢٨ / ٣ جزئيّات الأصل في الشّك السّبب والمسبّب ، وإن افترق هذا الجزئي من غيره في بعض الأحكام ؛ حيث إنّك عرفت : عدم جريان الأصل الحكمي في الفرض مطلقا ، وجريان الأصل في الشّك المسبّب مع عدم جريان الأصل في الشّك السّبب ، أو معارضته بمثله في غير الموضوعي والحكمي ، ومن هنا بنينا تبعا للمشهور والأستاذ العلّامة على جريان الأصل في ملاقي أحد المشتبهين لمكان عدم جريان الأصل في الملاقي أو سقوطه ؛ لمكان المعارضة مع الأصل في الطّرف الآخر على ما تقدّم من الوجهين في محلّه.


(٤٠٧) قوله : ( إحداهما : عدم التّرجيح بما يوجد مع أحدهما من المرجّحات ). ( ج ٣ / ٤٠٨ )

لا يجوز الترجيح بين المتعارضين من الإستصحابين على كل تقدير

أقول : لا ريب في أنّ كلام ثاني الشّهيدين مبنيّ على ما بنى أكثر الأصحاب عليه من اعتبار الأصول من باب الظّن ، كما عرفت القول فيه مرارا.

وحاصل القول في المقام : أنّه إمّا أن نقول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن ، أو نقول باعتباره من باب التّعبّد والأخبار من غير ملاحظة إفادته الظّن أصلا لا نوعا ولا شخصا. وعلى الأوّل : إمّا أن نقول بإناطة اعتباره بالظّن النّوعي المطلق ، أو نقول بإناطته بالظّن النّوعي المقيّد ، أو نقول بإناطته بالظّن الشّخصي. وعلى كلّ تقدير : لا يجوز التّرجيح بين المتعارضين من الاستصحابين على القاعدة والأصل ، وإن تعيّن العمل بالرّاجح على بعض التّقادير ، إلّا أنّه ليس لمكان التّرجيح.

توضيح ذلك : أنّه على التّقدير الأوّل يكون مقتضى القاعدة الأوّليّة ـ على ما ستقف عليه مشروحا في الجزء الرّابع من التّعليقة ـ تساقط المتعارضين بالنّسبة إلى مورد التّعارض ، والرّجوع إلى أصل لا يكون في مرتبتهما إن كان هناك أصل على طبق أحدهما ، وإلّا فيحكم بالتّخيير العقلي بينهما نظير التّخيير بين الاحتمالين ، وهذا معنى التّوقّف في قبال التّساقط المطلق الّذي يلزمه الرّجوع إلى الأصل مطلقا سواء طابق أحد المتعارضين أو خالفهما ، وهذا جار في تعارض كلّ ما أنيط اعتباره بالطّريقيّة المطلقة من غير فرق بين الأخبار وغيرها. نعم ، لو كان


هناك إجماع على وجوب العمل بالرّاجح من الدّليلين المتعارضين مطلقا كما ادّعاه العلّامة وغيره ، خرجنا به عن القاعدة ، كما خرجنا بالإجماع والأخبار عنها في تعارض الأخبار. هذا ، وستقف على شرح القول فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الرّابع.

وعلى التّقدير الثّاني يؤخذ بالرّاجح ويطرح المرجوح لا لمكان التّرجيح ، بل لوجود مناط الحجيّة في الأوّل دون الثّاني ، وكذا على التّقدير الثّالث ، ففي الحقيقة يخرج الفرض عن مسألة التّعارض على التّقديرين.

ومن هنا ذكرنا في أواخر الجزء الأوّل من التّعليقة وسنفصّل القول فيها في الجزء الرّابع : أنّ التّعارض لا يتصوّر على القول بإناطة اعتبار الأمارات بإفادتها الظّن الشّخصي في المسائل الفرعيّة ، كما هو لازم من خصّ نتيجة مقدّمات الانسداد بالفروع مع كون النّتيجة حجّية الظّن الشّخصي ، فالتّرجيح بالظّن ساقط في تعارض الأصول على القول باعتبارها من باب الظّن أيضا فضلا عن القول به من باب التّعبّد الظّاهري ، كما أنّ التّرجيح بالأصول ساقط في تعارض الأصول على القول باعتبارها من باب الظّن أيضا ، فضلا عن القول به من باب التّعبّد الظّاهري ، كما أنّ التّرجيح بالأصول ساقط في تعارض الأمارات الاجتهاديّة على القول بها من باب الأخبار والتّعبّد ، كما ستقف على تفصيل القول فيه من حيث عدم حصول مزيّة لما وافقها أصلا. (١)

وأمّا على الثّاني أي : على القول باعتبار الاستصحاب من باب التّعبّد ، فلا ريب في عدم جواز ترجيح ما وافق بعض الأمارات الخارجيّة من الاستصحابين المتعارضين.

__________________

آشتيانى ، محمدحسن بن جعفر ، بحر الفوائد فى شرح الفرائد ـ قم ، چاپ : اول ، ١٣٨٨ ش.


أمّا أوّلا ؛ فلعدم سنخيّة بين الأصل والأمارة الموافقة له حتّى يرجّح بها ، ومن هنا قلنا بعدم جواز ترجيح الأمارات المتعارضة بالأصول التّعبديّة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ التّرجيح فرع التّعارض ، وشمول دليل الاعتبار لكلّ من المتعارضين في نفسه ؛ لأنّ ما لا يشمله دليل الاعتبار من التّعارضين يحكم بتساقطهما بهذا المعنى ، فلا معنى لتوهّم التّرجيح بينهما كما هو ظاهر ، والاستصحابان المتعارضان في الصّورتين الأوّلتين لا يشملهما الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بالشّك على ما ستقف عليه في إثبات الدّعوى الثّانية في كلام شيخنا الأستاذ العلّامة.

(٤٠٨) قوله : ( الدّعوى الثّانية : أنّه إذا لم يكن مرجّح فالحقّ التّساقط ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤٠٩ )

أقول : الوجه فيما أفاده على ما ستقف عليه في باب التّعارض : أن الحكم في تعارض غير الأصول من الأدلّة بالنّظر إلى الأصل الأوّلي ، هو التّخيير الّذي هو نتيجة وجوب العمل بكلّ من المتعارضين تعيينا بعد تقييد ذلك بحكم العقل بالقدرة ، على تقدير كون حجّيّة الأدلّة من باب السّببيّة ، فيدخل المتعارضان في الواجبين المتزاحمين.

وقد تقرّر أنّ الحكم فيهما التّخيير بالمعنى الّذي عرفته إذا لم يكن أحدهما أهمّ من الآخر والتّوقّف بالمعنى الّذي أشرنا إليه عن قريب على تقدير كون حجّيّتها من باب الطّريقيّة المطلقة ، فالتّساقط بالمعنى الّذي زعمه بعض أفاضل من تأخّر ليس مطابقا للأصل على كلّ تقدير.

وأمّا الاستصحابان المتعارضان في الفرض فلا يمكن شمول الأخبار لشيء


منهما وكذا غيرهما من الأصول المتعارضة من جهة العلم الإجمالي ، فإنّه إمّا أن يشمل كلّا منهما ، أو أحدهما المعيّن ، أو أحدهما المخيّر ، لا سبيل إلى شيء من هذه الوجوه ، فتعيّن ما ذكرنا من عدم شمولها لشيء منهما.

أمّا الوجه الأوّل ؛ فلأنّه مناف لليقين بانتقاض الحالة السّابقة بالنّسبة إلى أحد المستصحبين الّذي دل الأخبار على وجوب النّقض به ، بناء على تعميم اليقين بالنّسبة إلى الإجمالي على ما هو لازم تعارضهما كما هو ظاهر.

وأمّا الثّاني ؛ فلأنّه لا ولا مرجّح في نفس الأمر لتساويهما من كلّ وجه ؛ لأنّ ٢٢٩ / ٣ اليقين السّابق مفروض بالنّسبة إلى كلّ منهما ، والشّك اللّاحق متحقّق أيضا بالنّسبة إلى كلّ منهما في نفسه ، واليقين بانتقاض الحالة السّابقة من أحدهما نسبته إليهما نسبة واحدة.

ودعوى : شمول الأخبار لما كان باقيا في نفس الأمر من الحالتين وخروج ما كان منتقضا منهما كذلك.

فاسدة جدّا ؛ لأنّ ما كان باقيا في نفس الأمر لا يمكن تعلّق الحكم الظّاهري به بهذا العنوان ، وإن تعلّق الحكم الظّاهري به فيما كان المشكوك منطبقا عليه في نفس الأمر ، فليس هنا عنوان ينطبق على أحدهما المعيّن يصلح لتعلّق الحكم به ولا يقاس المقام بالخبر الصّحيح المشتبه بين الخبرين ؛ حيث إنّه يجب العمل بهما احتياطا ؛ فإنّ هذا العنوان المردّد المشتبه ممّا تعلّق به الحكم الشّرعي الظّاهري فيجب الاحتياط فيه عند تردّده ، وهذا بخلاف المقام ؛ حيث إنّه يستحيل تعلّق الحكم الظّاهريّ الاستصحابي بالباقي الواقعي من الحالتين ، وإلّا لأمكن تعلّقه به مع العلم به ، وهو محال ؛ ضرورة ارتفاع موضوع الحكم الظّاهري مع العلم بالواقع.


وأمّا الثّالث ؛ فلأنّه مفهوم منتزع من الخصوصيّتين لا يمكن تعلّق الحكم به بعد عدم إمكان تعلّقه بهما وخروجهما عن العموم كما هو ظاهر ، فلا يقاس المقام بموارد التّخير الواقعي أو الظّاهري الشّرعيّين ؛ فإنّ كلّا من الخصوصيّتين في موارد التّخيير قابل لتعلّق الحكم الشّرعي به بل الواقع ذلك ؛ حيث إنّ الحكم في موارد التّخيير متعلّق عند التّحقيق بنفس الأفراد والخصوصيّات لا بالمفهوم المنتزع منها من حيث هذا المفهوم.

فإن قلت : لم لا تجعل عموم قوله عليه‌السلام : ( لا تنقض اليقين بالشّك ) (١) بالنّسبة إلى الأفراد المزاحمة المتعارضة من الاستصحاب ، نظير : أنقذ كلّ غريق ، وأكرم كلّ عالم ، ونحوهما فيما اتّفق عدم قدرة المكلّف على امتثال الخطاب التّعييني بالنّسبة إلى فردين من هذا العنوان العام مع قدرته على امتثاله بالنّسبة إلى أحدهما بشرط الانفراد؟ وكذلك قوله : صدق كلّ خبر عدل مع فرض تعارض فردين من خبر العدل؟ ومن هنا ذكروا : أنّ الحكم في تزاحم الواجبات الشّرعيّة مع عدم أهميّة بعضها التّخيير وكذا الأصل في تعارض الخبرين مع عدم التّرجيح بينهما التّخيير

__________________

(١) لم نجدها بهذا التعبير في الجوامع الحديثية المعتبرة ، نعم وردت في الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٥٢ باب « السهو في الثلاث والأربع » ـ ح ٣ هكذا « ... ولا ينقض اليقين بالشك ولا يدخل الشك في اليقين ... » ، والفقيه : ج ١ / ٦٠ ـ ح ١٣٦ « ... فلا ينقض اليقين بالشك ... » ، والاستبصار : ج ١ / ١٨٣ باب « الرجل يصلي في ثوب فيه نجاسة قبل أن يعلم ... » ـ ح ١٣ وفيه : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا ... » وكذلك التهذيب : ج ١ / ٤٢٢ باب « تطهير البدن والصياب من النجاسات » ـ ح ٨ ، انظر الوسائل : ج ٣ / ٤٦٦ باب « ان كل شىّ طاهر حتى يعلم ورود النجاسة عليه » ـ ح ١.


وأي فرق بين المقام وهذه الموارد.

قلت : قياس المقام بتزاحم الواجبين المتكافئين من حيث المصلحة قياس فاسد ؛ حيث إنّ المصلحة المقتضية للوجوب التّعييني بالنّسبة إلى كلّ فرد موجودة فيهما لا قصور فيهما من حيث المصلحة أصلا ، غاية الأمر عجز المكلّف من امتثال الخطاب التّعييني المتعلّق بكلّ منهما بعنوان الاجتماع فلا يجب بحكم العقل وإمكان إمتثاله بعنوان الإنفراد فلا مانع من تعلّق الخطاب التعييني بكل واحد بهذا العنوان فيجب امتثاله بحكم العقل ونتيجة ذلك كما ترى التّخيير.

وهذا بخلاف المقام ، فإنّ المفروض العلم بانتقاض الحالة السّابقة بالنّسبة إلى أحد المستصحبين وعدم إمكان شمول الخطاب لشيء من الخصوصيّتين ، وأمّا قياسه بالخبرين المتعارضين ففاسد أيضا على كل قول في عنوان حجّيّة الأخبار من حيث السببيّة أو الطريقيّة ؛ فانه على السببيّة المحضة يكون حال الخبرين المتعارضين حال الواجبين المتزاحمين ؛ وإن كان القول بها في غاية الضّعف وخلاف ما يستفاد من أدلّة حجّيّة الأخبار وما ورد في علاج تعارضها وعلى الطّريقيّة يحكم بتساقطهما بالنّسبة إلى جهة تعارضهما ، وإن لزم الأخذ بهما في نفي الثّالث عن مدلولهما فعلى كلّ تقدير يشملهما ما دلّ على وجوب العمل بهما.

وهذا بخلاف الاستصحابين المتعارضين ، فإنّك قد عرفت : عدم إمكان شمول الأخبار لشيء من الاستصحابين ، فلا يقال : إنّ حال الاستصحابين المتعارضين على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار حال الخبرين المتعارضين على السّببيّة المحضة ؛ إذ المفروض على هذا القول سببيّة نفس اليقين السّابق والشّك في بقاء المتيقّن لحرمة النّقض من دون ملاحظة الكشف عن الواقع ،


لما عرفت : من وجود المصلحة المقتضية للعمل في كلّ من الخبرين على هذا القول ، وإن لم يتمكّن المكلّف من الجمع بينهما.

وهذا بخلاف الاستصحابين المتعارضين من حيث إنّه لا يمكن شمول الأخبار لشيء منهما بعد فرض انتقاض الحالة السّابقة قطعا بالنّسبة إلى أحد المستصحبين ؛ فإنّه لا يبقى هناك عنوان يتعلّق به الحكم المستفاد من الأخبار نظير ما فرضنا لك سابقا من اشتباه الخبر الصّحيح بين الخبرين ، أو اشتباه الفرد الخارج من العام يقينا في قوله : « أكرم العلماء » بين فردين أو إفراد من هذا العنوان ؛ حيث إنّه يجب الاحتياط في المثالين عملا بالحكم المتعلّق بالعنوان الواقعي المردّد مع إمكان الاحتياط والتّخيير فيما فرض عدم إمكانه.

وأمّا في المقام فليس هناك عنوان يتعلّق الحكم الظّاهري الاستصحابي به في نفس الأمر يجب مراعاته ولو بالامتثال الاحتمالي ؛ لأنّ المفروض بقاء إحدى الحالتين وانتقاض الأخرى لا بوصف زائد ، وإن أمكن فرض مثل ذلك في غير باب تعارض الاستصحابين.

مثل : أن يكون هناك استصحابان بشكّين مستقلّين ورد المنع تعبّدا من الجمع بينهما كما ذكره في « الكتاب » ، لكن الفرض كما ذكره خارج عن مفروض البحث ، أو يكون هناك استصحابان بشكّين وكان أحدهما ممّا نقول بحجّيّته والآخر ممّا لا نقول بحجيّته ، واشتبه الأمر علينا في تميز عنوانهما المنوط به الحكم من غير تعارض بينهما ، لكنّه خارج عن مفروض البحث أيضا.

فاللّازم في المقام بعد عدم جريان شيء من الاستصحابين الرّجوع إلى قواعد أخر كما لم يكن هناك حالة سابقة وهي تختلف بحسب الموارد فقد توجب


القاعدة الاحتياط كما في مستصحبي الطّهارة مع العلم بزوال الطّهارة عن أحدهما وقد توجب الحكم بعدمه والرّجوع إلى قاعدة الطّهارة كما في مسألة المتمّم والمتمّم.

نعم ، لو كانت الحالة السّابقة فيهما النّجاسة وعلم بزوالها عن أحد ٢٣٠ / ٣ المستصحبين فقد يقال : بجريان الاستصحابين بل رجّحناه في بعض كلماتنا السّابقة في طيّ الأجزاء وفاقا لشيخنا ( دام ظلّه العالي ) في مجلس البحث في المقام وفي باب البراءة : من حيث إنّ العمل بهما لا يوجب طرح خطاب إلزاميّ متوجّه إلى المكلّف ، ومن هنا يحكم بنجاسة ملاقي أحدهما. وهذا بخلاف ما لو حكمنا بوجوب الاحتياط عنهما في الفرض ؛ فإنّه لا يحكم بوجوب الاجتناب عنه على ما أسمعناك في الجزء الثّاني من التّعليقة (١).

نعم ، لو فرض هناك تعلّق خطاب إلزاميّ بالطّاهر المردّد بينهما لم يجر الاستصحابان جزما فلو علم ببقاء الحالة السّابقة في أحدهما دخل الفرض في الشّبهة المحصورة هذا.

ولكن في « الكتاب » في الحكم بعدم جريان الاستصحابين والإرجاع إلى قواعد أخر في حكم المسألة : التّصريح بعدم الفرق بين كون الحالة السّابقة في المشتبهين الطّهارة أو النّجاسة قال : ولذا لا يفرّق في حكم الشّبهة المحصورة بين كون الحالة السّابقة في المشتبهين هي الطّهارة أو النّجاسة وبين عدم حالة سابقة معلومة ؛ فإنّ مقتضى القاعدة الاحتياط فيهما. ولكنّ المستفاد من إفاداته في

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ٢٢٠.


مجلس البحث الميل إلى الفرق كما اخترناه وكلامه في الجزء الأوّل من « الكتاب » عند البحث عن دليل الانسداد لا يأبى من الحمل على كلّ من الوجهين وإن كان محتملا لوجه ثالث قد أشرنا إليه ثمّة فراجع.

ثمّ إنّ توضيح الوجه فيما ذكرنا ما أسمعناك مرارا : من أنّ الغاية الرّافعة للأصول أعمّ من العلم التّفصيلي والإجمالي المتعلّق بالخطاب الإلزامي المنجّز المتوجّه إلى مكلّف خاصّ لا الأعمّ من العلم الإجمالي بقول مطلق ، وهذا التّقييد وإن كان يأباه الجمود على ظواهر الأخبار النّاهية عن نقض اليقين بغير اليقين ، ومن هنا ربّما توهّم : الفرق بين الاستصحاب وأصالة البراءة ، إلّا أنّه لا مناص عنه بعد التّأمّل.

ومن هنا اختار شيخنا في الصّورة الثّالثة : العمل بالاستصحابين معا مع فرض العلم بارتفاع الحالة السّابقة في أحدهما ، فليس مطلق اليقين بارتفاع الحالة السّابقة إجمالا مانعا عن جريان الاستصحابين ما لم يستلزم من أعمالهما طرح الخطاب التّكليفي المنجّز ، فكلامه في المقام ربّما ينافي ما أفاده في الصّورة الثّالثة ، هذا كلّه فيما لو علم ببقاء إحدى الحالتين وارتفاع الأخرى فيما كانت الحالة السّابقة فيهما النّجاسة.

وأمّا لو علم بارتفاع إحدى الحالتين مع عدم العلم ببقاء الأخرى فلازم ما أفاده في المقام : من عدم جريان الاستصحابين الرّجوع إلى قاعدة الطّهارة لا الحكم بوجوب الاحتياط ، وإن كان لازم ما ذكرنا العمل بالاستصحابين في الفرض أيضا كما هو ظاهر ، فكأنّ هذا الفرض خارج عن مورد كلامه.

ولازم ما أفاده في المقام : من انتقاض الاستصحابين بالعلم الإجمالي


مطلقا ، هو الرّجوع إلى قاعدة الطّهارة في الفرض بالنّسبة إلى كلّ من المشتبهين ؛ لعدم العلم بنجاسة شيء منهما ، وعدم جريان استصحاب النّجاسة فيه أيضا ؛ للعلم بعروض الطّهارة لأحدهما.

ودعوى : جريان استصحاب النّجاسة بالنّسبة إلى أحد المشتبهين في الفرض فيجب الاجتناب منهما احتياطا في امتثال الحكم الظّاهري الاستصحابي المتعلّق بأحدهما كما هو أحد محتملات « الكتاب » ، بل أظهرها فيما تقدّم عند الكلام في حجيّة الظّن المطلق ؛ إذ ليس العلم الإجمالي بعروض الطّهارة لأحد المشتبهين في الفرض أولى من العلم التّفصيلي بعروض الطّهارة لأحدهما المعيّن.

فاسدة بما عرفت شرحه : من أنّ تعلّق حكم العموم بالفرد سواء كان واقعيّا أو ظاهريّا كما في المقام لا بدّ له من عنوان صالح لتعلّق الحكم به الّذي هو الموضوع للحكم حقيقة.

وليس في الفرض ما يصلح لذلك ؛ لأنّ عنوان مشكوك الزّوال بخصوصه صادق على كلّ من المشتبهين ، وليس هنا علم بالبقاء بالنّسبة إلى أحدهما بالفرض ، مع أنّه على تقديره لا يصلح لتعلّق الحكم الظّاهري به على ما تقدّم تفصيل القول فيه ، وقياس ذلك بالعلم التّفصيلي بزوال الحالة السّابقة بالنّسبة إلى أحد المشتبهين بالخصوص قياس مع الفارق ؛ لأنّه لا مانع من جريان الاستصحاب بالنّسبة إلى غير معلوم الزّوال تفصيلا أصلا كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكرنا كلّه : أنّه لا محصّل لفرض جريان استصحاب واقعيّ مردّد موردا بين المشتبهين حتّى يجب الاحتياط بمراعاته.

ثمّ إنّ ما أفاده في ذيل المقام من نفي الفرق في الحكم بتساقط الأصول في


الصّورتين بقوله : ( وممّا ذكرنا يظهر : أنّه لا فرق في التّساقط بين أن يكون في كلّ من الطّرفين أصل واحد ... إلى آخر ما أفاده ) (١) ممّا لا سترة ولا غبار فيه أصلا بعد البناء على التّساقط ؛ لأنّ الترجيح مبنيّ على عدمه إلّا أنّه لا بدّ من أن يعلم أنّ جريان أزيد من أصل واحد لا يمكن بالنّسبة إلى شيء واحد إذا كان الأصلان في مرتبة.

نعم ، يمكن فيما كان أحدهما في طول الآخر كاستصحاب الطّهارة وقاعدتها. نعم ، يمكن ذلك في تعارض الأمارات ووجه الفرق لا يخفى.

وأمّا ما وجهه من التّرجيح بكثرة الأصول من باب الظّن فهو مبنيّ على ما عرفت : من تسليم قيام الإجماع على التّرجيح بين الأمارات المتعارضة المعتبرة من حيث الظّن النّوعي المطلق من غير اختصاص بالأخبار المتعارضة ، كما هي مورد الأخبار العلاجيّة ، وكون اعتبار الأصل المرجح من باب الظّن أيضا وإن لم تخل عن مناقشة ، بل منع ستقف عليهما في الجزء الرّابع من التعليقة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٤١٣.


(٤٠٩) قوله : ( وأمّا الصّورة الثّالثة : هي ما يعمل فيه بالاستصحابين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٤١٣ )

أقول : ضابط هذه الصّورة : ما إذا ترتّب أثر شرعيّ على مجرى كلّ من ٢٣١ / ٣ الاستصحابين بحيث لا يلزم من العمل بهما مخالفة قطعيّة عمليّة لخطاب منجّز متوجّه إلى المكلّف كما يلزم ذلك من العمل بهما في الصّورتين الأوّلتين ، وإن لزم منهما مخالفة الخطاب الواقعي من حيث الالتزام في مرحلة الظّاهر الّتي قد عرفت مرارا : أنّها ليست مخالفة التزاميّة حقيقة ، ولا إشكال فيما أفاده في حكم الصّورة بعد تقييد اليقين النّاقض بالأعمّ من التّفصيلي والإجمالي في جانب الإجمالي بما عرفته في شرح حكم الصّورتين. وإن كان مقتضى ما أفاده هناك : التّصريح بالإطلاق والتّعميم ، ولكن الحقّ ما أفاده في المقام المبنيّ على التّقييد المذكور كما هو مقتضى صريح كلامه في المقام وفي الصّورة الرّابعة ، وإن استصعبت استفادته

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان ما ذكره في وجه منع عموم الخطاب في الصّورتين الأوليين من لزوم المناقضة في مدلوله من شموله يجري في هذه الصّورة أيضا ، ضرورة مناقضة حرمة النّقض في كلّ واحد من اليقين بالحدث ، والطّهارة من الخبث سابقا مع وجوب في أحدهما كما لا يخفى.

وما ذكره هاهنا في وجه جريان الإستصحابين في هذه الصّورة ، إنّما يصحّ على ما حقّقناه من وجود المقتضي للإثبات في جميع الصّور ، حيث انّ المقتضي في هذه لكلا الاستصحابين موجود ، وما عرفت من المانع في الصّورتين فيها مفقود ، لما أفاده من أنّ العلم الإجمالي بارتفاع أحد المستصحبين في هذه الصّورة غير مؤثّر تكليفا ، كي يلزم من إجرائهما مخالفة عمليّة أو فضلا بين المستصحبين بحسب الحكم ، وقد قام الدّليل على اتّحادهما بحسبه واقعا وظاهرا » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٤٢١.


على الأوائل من أخبار الباب.

والّذي يهوّن الخطب في ذلك : أنّ الحاكم بلزوم مراعاة العلم الإجمالي وتقييد الأخبار هو العقل فيلزم الاقتصار على ما يحكم به العقل من لزوم مراعاة العلم الإجمالي الخاصّ ، فيرجع في غيره إلى ظهور الأخبار في اعتبار العلم التّفصيلي في ناقض اليقين السّابق ، كما يسلك هذا المسلك بالنّسبة إلى غير الاستصحاب من البراءة وأصل الطّهارة.

ومن هنا حكمنا في مسألة الشّبهة المحصورة : بأنّ مطلق العلم بوجود النّجس أو الحرام بين المشتبهين لا يوجب المنع عن الرّجوع إلى أصالة الحلّ والطّهارة ما لم يكن هناك علم بخطاب إلزاميّ منجّز على كلّ تقدير على ما عرفت شرح القول فيه ثمّة.

نعم ، حكم العلم الإجمالي في الشّبهة الحكميّة غير حكمه في الشّبهة الموضوعيّة ؛ حيث إنّه يلزم من الرّجوع إلى الأصل دائما الإذن في المخالفة القطعيّة العمليّة في واقعتين في الشّبهة الحكميّة ، وإن لم يلزم ذلك في واقعة واحدة ، والعقل يحكم بقبحها أيضا ما لم يلتزم في كلّ واقعة بحكم ظاهريّ ـ على ما أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة تبعا لما ألحقه شيخنا « بالكتاب » في أواخر زمانه ـ وإن كان كلامه في باب البراءة يخالفه فراجع. وإشكاله في المقام مبنيّ على إجمال القول في ذلك وأنّ المسألة ذات وجهين فتدبّر.


(٤١٠) قوله : ( وأمّا الصّورة الرّابعة : وهو (١) ما يعمل فيه بأحد الاستصحابين ... إلى آخره ). ( ج ٣ / ٤١٤ )

أقول : ضابط هذه الصّورة : ما ترتّب أثر شرعيّ بلا واسطة على مجرى أحد الاستصحابين دون الآخر ، إمّا مطلقا ، أو في بعض التّقادير ، فيدخل في الصّورة فيما لم يترتّب عليه الأثر ، وفي الصّورة السّابقة فيما ترتّب عليه الأثر. وفي الحقيقة هذه الصّورة كالصّورة الثّالثة خارجة عن مسألة تعارض الاستصحابين ، وإن كان هناك فرقا بين الصّورتين مع خروجهما عن مسألة التّعارض : من حيث جريان الاستصحابين في الصّورة الثّالثة مع عدم معارضة بينهما ، وجريان استصحاب واحد في هذه الصّورة لما أسمعناك مرارا : من عدم جريان الاستصحاب الموضوعي فيما لا يترتّب عليه أثر شرعيّ بلا واسطة ، فإذا أجري من علم إجمالا بطروّ النّجاسة عليه ، أو على غيره واستصحب الطّهارة لم يعارض باستصحاب الطّهارة في حقّ الغير ، إلّا فيما كان تكليفه إحراز طهارة غيره كما في مسألة الاقتداء.

ومثله : ما لو علم بوقوع النّجاسة على ثوبه ، أو على ماء لا ينفعل بمجرّد ملاقاة النّجاسة ، أو على ثوب غيره مع عدم ابتلائه به عادة بعارية ونحوها ؛ فإنّه لا معنى لحكم الشارع بالبناء على طهارة ما لا يبتلى به المكلّف ، كما أنّه مع العلم بنجاسة تفصيلا لا يصحّ توجيه الخطاب التّنجيزي بالاجتناب عنه.

نعم ، يصحّ مع التّعليق بالابتلاء وصيرورته واقعة للمكلّف على ما عرفت

__________________

(١) كذا وفي الكتاب « هي ».


تفصيل القول فيه في الشّبهة المحصورة من مسائل أصالة البراءة.

ومن أمثلة الصّورة أيضا : ما لو علم إجمالا بحصول التّوكيل وادّعى الوكيل الوكالة في شيء خاصّ كشراء العبد مثلا وأنكر الموكّل توكيله في ذلك ، وادّعى توكيله في شراء الجارية مثلا ؛ فإنّه لا يعارض أصالة عدم توكيله في شراء العبد بأصالة عدم توكيله في شراء الجارية ، إلّا على القول باعتبار الأصول المثبتة حتّى يثبت بنفي التّوكيل في شراء الجارية التّوكيل في شراء العبد فيتعارضان ، لكنّه نفى الخلاف في « الكتاب » عن عدم المعارضة عندهم ، وأنّ القول قول الموكّل ، إلّا أنّه مع المعارضة أيضا يكون القول قول الموكّل أيضا بشرح مذكور في باب التّداعي والقضاء ؛ من حيث كون قوله بعد التّعارض أيضا مطابقا للأصل الأوّلي في المعاملات.

* * *


فرع في النكاح المنقطع :

« لو أخلّ بذكر المدّة إنقلب دائما »

وهكذا الأمر في نظائر المثال مثل : ما لو علم إجمالا بوقوع عقد التّزويج واختلف الزّوجان أو ورثة أحدهما مع الآخر أو ورثتهما في كونه دائما أو منقطعا فادّعى الزّوج الانقطاع وادّعت الزّوجة الدّوام ؛ فإنّه لا يعارض نفي الدّوام بالأصل بنفي الانقطاع بالأصل ، كما هو الشّأن في جميع موارد العلم الإجمالي بحدوث أحد الحادثة مع عدم ترتيب أثر شرعيّ على أحدهما بالخصوص ففي المثال :

القول قول مدّعي الانقطاع لا بمعنى إثباته بنفي الدّوام حتّى يعارض بالمثل ، مضافا إلى كونه أصلا مثبتا ، بل بمعنى نفي الدّوام بالأصل من حيث كون الدّوام ممّا يترتّب عليه الآثار من التّوريث ، والقسم ، والنّفقة ، والكسوة ، إلى غير ذلك.

ولا ينافي ذلك ما قضت به كلمات غير واحد من الفقهاء من أنّه لو لم يذكر مريدا لانقطاع الأجل ولو بنسيان ذكره انقلب دائما ؛ فإنّه بظاهره في باديء النّظر ينافي ما ذكرنا : من حيث اقتضائه كون التّقابل بين الدّوام والانقطاع بالإيجاب والسّلب ، فالانقطاع يحتاج إلى قيد وجودي وهو الأجل ، فإذا دار الأمر بينهما فيحكم بمقتضى نفي ذكر الأجل بالأصل بالدّوام ، فالدّوام موافق للأصل ٢٣٢ / ٣ لا مخالف له.

ومن هنا قد توهّم : كون قول مدّعي الدّوام موافقا للأصل في باب التّداعي ح لأنّ ذلك مفروض فيما كان من قصده الانقطاع لكن أوجد النّكاح وأنشأه باللّفظ


الّذي يحصل به كلّ من إنشاء الدّوام والانقطاع المشترك بينهما مع عدم ذكر الأجل عقيب الإنشاء ، فيحكم بتحقّق الدّوام وأنّه المنشأ المقصود من الإنشاء ، وإن كان غرضه وقصده قبل العقد تعلّق بإيجاد الانقطاع.

ومثل هذا كثير في باب العقود ؛ فإنّ الأغراض المقصودة للعاقد في باب الوقف وغيره لا يوجب تقييد متعلّق العقد ما لم تنشأ بألفاظ دالّة عليها في ضمن العقد ، بل التّباني على خصوصيّة وشرط قبل العقد لا تفيد في صرف العقد إليه ما لم يذكر في طيّ العقد ، فليس الغرض من كلماتهم حصول الدّوام قهرا : من حيث كونه نقيض الانقطاع لا ضدّه ، بل المراد استكشاف إنشاء الدّوام الّذي هو ضدّ الانقطاع من اللّفظ ، فالمراد من الانقلاب هو الانقلاب بحسب القصد ، بمعنى : عدم وقوع المقصود لا الانقلاب بحسب الإنشاء ، بمعنى : عدم وقوع المنشأ ووقوع غيره حتّى يكون منافيا للقاعدة المسلّمة عندهم من تبعيّة العقود للقصود بعد حملها على ما فصّلنا القول فيه في باب المكاسب : من تبعيّتها للقصود الإنشائيّة فلا تنافي عدم وقوع مقصود لم ينشأ بألفاظ العقود مع وقوع ما تعلّق القصد الغير الإنشائي بغيره وإن كان مقصودا بالإنشاء فتدبّر.

هذا كلّه مع أنّ البحث عن المثال المذكور في الفرض لا ينحصر فيما ذكر من الفرض من العلم بإيجاد العقد باللّفظ الّذي يحصل به كلّ من الأمرين ، فيفرض البحث فيما دار الأمر بينهما بين لفظ لا يحصل به الانقطاع كمتّعت ، ولفظ لا يحصل به إلّا الدّوام كأنكحت هذا.

وأمّا ما أفاده بقوله : ( ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه


المقامات ... إلى آخر ما أفاده ) (١) (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٣ / ٤١٤.

(٢) قال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : كأنه أراد بهذه التنبيه على عدم إناطة تساقط الأصلين بأن يكون للشّيء المعلوم بالإجمال أثر عملي على كلّ تقدير ، بل المدار على ملحوظيّة العلم لدى الذّهن عند التفاته إلى المشكوك بأن يراه طرفا لما علمه بالإجمال لا شيئا مستقلّا من حيث هو متعلّقا للشكّ كي يعمّه عمومات ادلّة الأصول ، فلا يتفاوت الحال حينئذ في سقوط الأصلين الجاريين في الأمور الخارجيّة بين أن يكون الأثر لكلّ منهما أو أحدهما فلو شكّ الموكّل في انّه هل وكلّه في شراء العبد كما يدّعيه الوكيل أو شراء الجارية ليس له نفي ما يدّعيه الوكيل بالاصل بعد كونه بنظره طرفا للتّرديد الناشيء من علمه إجمالا بصدور وكالة منه مردّدة بينه وبين الطّرف الآخر ولكن ينفى آثاره ـ وهو وجوب الوفاء بعقده واشتغال ذمّته بثمن العبد ـ بالأصل.

وليس الأمر كذلك في مسألة الجنابة المردّدة بينه وبين غيره أو النّجاسة المردّدة بين وقوعها على ثوبه أو ثوب غيره حيث إنّ كون أحد طرفي المعلوم بالإجمال أجنبيّا عنه يجعل علمه كالعدم في عدم مانعيّته عن ملاحظة الشكّ المتعلّق بمحلّ ابتلائه من حيث هو على سبيل الإستقلال.

ونظيره في الموضوعات الخارجيّة ما إذا علم شخص إجمالا بصدور وكالة إمّا منه أو شخص آخر أجنبي عنه.

هذا ، ولكن لك أن تقول : بأنّ الأصل لا يجري في مواقع التّرديد ودوران الأمر المعلوم بالإجمال بين كونه هذا ام ذاك مطلقا بل الأصل يجري في نفي أثر ذلك الشّيء بالنّسبة إلى مورد ابتلائه ففي مسألة الجنابة ونحوها أيضا استصحاب عدم جنابته أو طهارة بدنه وثوبه من قبيل الاستصحابات الجارية في آثار الموضوعات الخارجيّة بل هي هي بعينها حيث إنّ الشكّ فيها مسبّب عن الشّكّ في كون المنيّ المعلوم خروجه من أحدهما الّذي هو موضوع


فهو مبنيّ على القول باعتبار الأصول المثبتة الّذي قد عرفت فساده بما لا مزيد عليه ؛ فإنّه على هذا القول يتعارض الأصلان بالنّسبة إلى الحادثين المردّدين ويتعيّن الرّجوع إلى الأصل بالنّسبة إلى آثار ما له أثر منهما فيتّحد حكما مع القول باختصاص الأصل بما له أثر كما عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة ، لكنّه لمّا لم يكن متّحدا حكما معه بالنّسبة إلى جميع الصّور ـ حيث إنّ المرجع على تقدير تساقط الأصلين بالنّسبة إلى واجدي المني قاعدة الاشتغال

__________________

خارجيّ مردّدا بين خروجه منه أو من الشخص الأخر أو النّجاسة المعلوم وقوعها على احد الثّوبين كذلك ولا يجري الأصل في نفي شيء منهما بعد كون كلّ منهما طرفا للعلم الإجمالي وإنما يجري في نفي الأثر المترتّب على كلّ منهما عند سلامته عن معارض مكافيء بل لا معنى لإجراء الأصل بالنّسبة إلى الشّيء الواقع طرفا للتّرديد ؛ إذ لا يصحّ أن يقال : الأصل عدم خروج ذلك المنيّ منّي أو عدم إصابة تلك النجاسة إلى ثوبي إذ ليس له حالة سابقة معلومة وإنما يجري الأصل في الشكّ الناشيء من هذا التّرديد المتعلّق بآثاره ولوازمه كاستصحاب طهارة ثوبه أو عدم انفعاله بملاقاة النّجس وغير ذلك ممّا هو من لوازم عدم وقوع تلك النجاسة على هذا الثّوب فافهم وتأمّل فإنّه لا يخلو عن دقّة » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

* وقال السيّد المحقق اليزدي قدس سره :

« لم نعرف وجها للقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات مع عدم جريان الأصل في أحد الطرفين بملاحظة عدم الأثر ولا أظنّ أنّه رجع رحمه‌الله عن هذا التحقيق الذي قد أصرّ عليه في أصوله وبنى عليه جملة من الفروع في فقهه ، ثم لم نعرف الفرق بين اصالة الطهارة في كلّ من واجدي المني وبين الأصول الجارية في سائر الأمثلة ، فإن كان الأصل سالما من الجهات الأخر في واجدي المني كان في مرحلة التعارض والتساقط كسائر الأصول » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٤١٩.


ويحصل الجزم بالطّهارة ـ استدركه بقوله : ( إلّا أنّ ذلك إنّما يتمشّى ... إلى آخره ) (١) فالمراد من أصالة الطّهارة هو استصحابها من الحدث والنّجاسة معا بالنّسبة إلى النّفس والبدن.

ثمّ إنّك قد عرفت من مطاوي كلماتنا : أنّه فيما لو علم بوجود أحد الحادثين مع عدم ترتّب أثر شرعيّ على مجرى أحد الأصلين فيه لا يكون مطّردا فقد لا يترتّب عليه الأثر في حال ويترتّب عليه في حالة أخرى ، كما مثّلناه لك بواجدي المني فيما لو أراد أحدهما الائتمام بالآخر ، أو أراد ثالث الائتمام بهما في صلاتين مع كون طهارة الإمام شرطا واقعيّا لصلاة المأموم ؛ فإنّ استصحاب الطّهارة في حقّ الإمام في كلّ من الصّورتين سليم عن المعارض ، وفي حقّ المأموم معارض لا يجوز له الأخذ بشيء منهما فلا يجوز له الائتمام أصلا ولو بأحدهما فضلا عن الائتمام بهما وعليك بعرض جميع ما يرد عليك من صور الشّك في تعيين الحادث على الصّور المذكورة الّتي ذكرناها لك من باب الضّابطة الكلّيّة لأحكام الجزئيّات. وقد أشار شيخنا الأستاذ العلّامة إلى ما ذكرنا بقوله : ( ثمّ لو فرض في هذه الأمثلة أثر لذلك الاستصحاب الآخر ... إلى آخر ما أفاده ) (٢) فإنّه محمول على ما ذكرنا من الشّرح والبيان ، كما أنّ قوله : ( ولا عبرة بغير المعتبر كما في الشّبهة الغير المحصورة ) (٣) محمول على القول بجواز المخالفة القطعيّة فيها لا على ما اختاره فيها : من عدم جريان الأصل فيها غاية ما هناك قيام الإجماع على عدم وجوب الموافقة القطعيّة فيها.

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق : ج ٣ / ٤١٥.

(٣) نفس المصدر بالذات.


(٤١١) قوله : ( والعلماء وإن كان ظاهرهم الاتّفاق ... إلى آخره ) (١). ( ج ٣ / ٤١٥ )

إعمال الأصل في الشبهات الموضوعيّة لا يتوقّف على الفحص

أقول : الأمر كما أفاده : من ظهور اتّفاقهم على عدم وجوب الفحص في إعمال الاستصحاب وغيره من الأصول في الشّبهات الموضوعيّة في غير ما يكون بيانه من الشّارع : من جهة اختصاص علمه به كالمسوخات ، بل الأمر كذلك في

__________________

(١) قال السيّد صاحب العروة قدس‌سره :

« يدل على عدم وجوب الفحص إطلاقات أدلّة الأصول مضافا إلى الاتفاق المذكور في المتن.

نعم ، قد يكون الشك بحيث يعلم الشاك انه لو بحث عن إدراك حقيقة الواقع لظفر به بأدنى تأمّل ، ويرتفع الشك من أصله ففي هذه الصورة يشكل التمسك بالأصل بمجرّد الشك فانه ربّما يقال : إنّ هذا ليس بشك حقيقة وإنّما هو تعميمه على النفس وإغفالها ، ولو سلّم صدق الشك عليه فالأدلّة منصرفة عنه.

ثم لا يخفى ان الفحص في الشبهات الموضوعيّة ليس وظيفة للفقيه ، بل المجتهد والعامي فيه سواء ؛ لأن مباديء العلم بالموضوعات الخارجيّة هي الأمور الخارجيّة التي ربّما يكون العامي أعرف فيها من الفقيه ، وحينئذ لا وجه لما فرّع على عدم وجوب الفحص هذا في قوله : ( ولازمه جواز إجراء المقلّد لها ... إلى آخره ) [ فرائد : ٣ / ٤١٥ ].

بل جواز إجراء المقلّد لها مطلب آخر يمكن التكلّم فيه بناء على وجوب الفحص وعدمه إلّا أن التحقيق ما ذكره من جواز إجراء المقلّد للاصول ؛ لأنّه كسائر المسائل التي يأخذها المقلّد من المفتي قضايا كليّة يكون انطباقها على مصاديقها من الأمور الواضحة التي يعرفها كلّ أحد وهذا بنظر المكلّف نفسه لا يناط بنظر الفقيه » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ٣ / ٤٢٠.


إعمال الأمارات فيها وقد تقدّم شرح القول فيه في أواخر الجزء الثّاني من التّعليقة ، وهو المستظهر من ظواهر أخبار الأصول ، بل تصريح بعضها.

ولازم ذلك ـ كما صرّح به في « الكتاب » جواز إعمال العامي لها من دون أخذ جزئيّاتها من المجتهد ومن دون فحص عن الواقع الأوّلي ، وعن الأمارات الحاكمة ، أو الواردة على الأصول فضلا عن الأصول الحاكمة بعضها على بعض ، إلّا أنّه إذا اتّفق له مورد يجري فيه الأصلان لا يعلم حالهما من حيث دخولهما فيما ذكرنا لك من الصّور ، فلا بدّ له من الرّجوع إلى المجتهد ؛ فإنّه حقيقة من الرّجوع إليه في تحصيل الحكم الشّرعي لا الموضوع الخارجي ، فلو اشتبه عليه الحاكم من الاستصحابين فلا بدّ له من الرّجوع إلى المجتهد لا أنّه يجب عليه تحصيل الحاكم من الخارج وتحقيق وجوده وتثبيته بالفحص مع علمه بالحكم ، فإذا أراد الرّجوع إلى قاعدة الطّهارة في مشكوك الطّهارة فكما لا يجب عليه الفحص عن الواقع ، كذلك لا يجب عليه الفحص عن الحالة السّابقة لهذا الشّيء ، وهذا الّذي ذكرنا ينبغي ٢٣٣ / ٣ أن يكون مرادا من العبارة لا ما يتراءى من ظاهرها في باديء النّظر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا في حكم الأصول الموضوعيّة يجري بعينه في الأمارات القائمة على الموضوعات الصّرفة الخارجيّة ؛ فإنّه بعد قيام الأمارة على موضوع كما لا يجب الفحص عن الواقع لا يجب الفحص عن وجود معارض لها. وأمّا لو تحقّقت المعارضة بين الأمارتين فلا بدّ له من معرفة الحاكم أو الوارد منهما نوعا بالرّجوع إلى المجتهد ، وكذا معرفة حكم المتعارضين من الأمارات إذا كانت في مرتبة واحدة ؛ فإنّ هذه كلّها من معرفة الحكم الشّرعي الكلّي الإلهي ولا تعلّق لها بمسألة الفحص في العمل بالأمارة كما هو واضح لمن له أدنى دراية.


هذا آخر ما أردنا تحريره من هذا الجزء مع تشتّت البال واختلال الأحوال ويتلوه الجزء الرّابع في مسألة تعارض الأدلّة إن شاء الله تعالى (١) والحمد لله أوّلا وآخرا وله الشّكر دائما سرمدا وصلّى الله على محمّد وآله الطّاهرين صلاة كثيرة لا غاية لعددها ولعنة الله على أعدائهم أجمعين أبد الآبدين ودهر الدّاهرين إلى يوم الدّين (٢).

وقد اتفق إتمام استنساخه في العشر الأوّل من شهر الأوّل من شهر ربيع الآخر من السنة الخامس عشر بعد الألف والثلاثمائة من هجرة خير البشر صلوات الله وسلامه عليه وآله الميامين الغرر على يد العبد المذنب الجاني والرّقّ الآثم الفاني الراجي شفاعة نبيّه الأمّي العربي القرشي أحمد بن الحسين الطادي التفرشي أوتيا كتابهما يمينا وحوسبا حسابا يسيرا ، وطبع في دار الخلافة الطهران صانها

__________________

(١) ها هنا تنتهى نسخة البحر المطبوعة في هامش متن الفرائد سنة ١٣٧٦ ه‍ بطهران.

(٢) وقد وقع الفراغ من ملاحظة هذا الجزء وتحقيقه وضبط نصوصه وتخريج مصادره وتنميقه بقدر الوسع والطاقة بتاريخ ١٧ ربيع المولود سنة ١٤٢٩ ه‍ وأعدنا النظر فيه مرّة أخرى وأضفنا إليه تعاليق جمهرة من اعلام الأصوليين وأكابر المحقّقين من عمالقة الطائفة وكان الفراغ من ذلك كلّه ببركة محمّد وآل محمّد صلوات الله تعالى عليهم سحر ليلة الأحد ١٢ رجب ١٤٣٠ ه‍ بجوار عمّتنا الطاهرة كريمة أهل البيت عليهم‌السلام قم المقدّسة عشّ آل محمّد صلوات الله عليهم وآخر دعوانا ـ بعد الصّلاة على محمّد وآل محمّد واللعن على أعداءهم ـ أن الحمد لله ربّ العالمين.

وكتب الأقلّ : السيّد محمّد حسن الموسوي العبّاداني آل العلّامة السيّد علي القارون الزاهد البحراني


الله تعالى عن نوائب الزمان وطوارق الحدثان في المطبعة المخصوصة للأستاذ الماهر في أمر الطباعة والفائق على أقرانه في تلك الصناعة سليل الانجاب والأطياب السيّد مرتضى زيّد عزّه ١٣١٥ ه‍ بمباشرة استاذ الماهر آقا ميرزا حسن إتمام يافت.

إنتهى الجزء السابع بحسب تجزئتنا للكتاب ويليه الجزء الثامن ، أوّله : التعادل والتراجيح.

والحمد لله ربّ العالمين

* * *



الفهرس التفصيلي

تنبيهات الإستصحاب............................................................ ٧

* التنبيه الثاني................................................................... ٩

استصحاب الزّمان والزّمانيّات..................................................... ٩

في إمكان توجيه استصحاب الليل والنهار......................................... ١٢

بيان المراد من المكاتبة وانه هل ينطبق على الاستصحاب أم لا؟...................... ١٧

أقول : المراد من مرجع الضّمير هو الاستصحاب الحكمي ، وتوضيح تفريع .......... ١٧

ما ذكره الاستاذ في الجواب الثاني................................................ ٣٣

والثالث لا دخل له بأصل المطلب................................................ ٣٣

في الجواب الثالث عما أفاده الفاضل النّراقي....................................... ٣٧

تنبيهات....................................................................... ٤٣

* التنبيه الثالث................................................................ ٤٦

عدم جريان الاستصحاب في الاحكام العقليّة...................................... ٤٦

الاستصحاب لا يجري في الاحكام العقليّة......................................... ٥٠

عدم جريان استصحاب الحكم الشرعي المنكشف من حكم العقل (١)................ ٥٤

عدم معقوليّة جريان الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي......................... ٦١

ليترتّب عليه الحكم العقلي...................................................... ٦١


جريان الاستصحاب في موضوع الحكم العقلي ليترتّب............................. ٦٤

عليه الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي................................. ٦٤

لا وجه لاستصحاب البراءة الأصليّة رغم اشتهاره.................................. ٦٧

في انّ حال استصحاب الاشتغال حال استصحاب البراءة............................ ٧٠

الاستصحاب لنفي وجوب تقليد الأعلم........................................... ٧٢

عدم جواز العدول عن مجتهد إلى غيره............................................ ٧٢

استصحاب عدم وجوب الأجزاء المنسيّة بعد التذكّر................................ ٧٣

تصحيح عبادة الجاهل ، بالإستصحاب............................................ ٧٤

* التنبيه الرابع :............................................................... ٧٨

الاستصحاب التعليقي ( التقديري ).............................................. ٧٨

في أن تقديريّة الوجود لا تمنع عن جريان الاستصحاب أصلا........................ ٨١

في الذّبّ عن الإيرادين الّذين أوردا على التقدير الأوّل.............................. ٨٥

* التنبيه الخامس................................................................ ٨٩

استصحاب أحكام الشرائع السابقة............................................... ٩٠

الجواب عن هذا المانع يرجع إلى وجوه............................................ ٩٠

ما ذكره الفصول في تسرية الاحكام الثابتة للحاضرين.............................. ٩٥

المراد بناسخيّة شريعة خاتم الأنبياء لسائر الشرائع................................... ٩٧

بيان معنى الذاتي والمراد منه في كلماتهم.......................................... ١٠٤

كيفيّة الاستدلال بالآية لاعتبار قصد التقرّب وغيره............................... ١٠٦

* التنبيه السادس :............................................................ ١١٦


( الأصل المثبت )............................................................. ١١٦

عدم ترتّب الآثار غير الشرعيّة على الاستصحاب والدليل عليه..................... ١١٩

معنى حرمة نقض اليقين بالشك................................................ ١٢٣

« في تقسيم المستصحب لكي يتميّز به الأصل المثبت عن غيره »................... ١٢٨

الأصل المثبت وبيان وجه عدم اعتباره........................................... ١٣٢

وجه اعتبار الأصل اذا كانت الواسطة خفيّة...................................... ١٣٧

مسلكان آخران في وجه عدم اعتبار الأصل...................................... ١٣٩

المثبت والمناقشة فيهما......................................................... ١٣٩

المسألة المذكورة لا دخل لها بالمقام.............................................. ١٥١

بعض أمثلة الأصل المثبت والتعرّض لها........................................... ١٥٦

* التنبيه السابع............................................................... ١٦٨

هل تجري أصالة تأخّر الحادث؟................................................ ١٧٠

في أصالة تأخّر الحادث وبيان حقيقتها........................................... ١٧١

بيان حكم القسم الأوّل ( صورة جهل تاريخهما )................................ ١٧٩

تنبيهان في مجهولي التاريخ...................................................... ١٨٢

الكلام في القسم الثاني ( ما لو علم بتاريخ أحد الحادثين )......................... ١٨٥

قولان آخران في القسم الثاني.................................................. ١٨٩

نقل كلام صاحب الجواهر والمناقشة فيه......................................... ١٩١

تنبيهان...................................................................... ١٩٣

* التنبيه الثامن :.............................................................. ١٩٧


في استصحاب صحّة العبادة عند الشك في طروّ المفسد ........................... ١٩٧

حكم الشك في المانعيّة........................................................ ٢٠٢

استصحاب الصحّة عند الشك في القاطعيّة...................................... ٢٠٥

* التنبيه التاسع :............................................................. ٢١١

عدم جريان الاستصحاب في الأمور الاعتقاديّة................................... ٢١١

بعد إحراز موضوع الإستصحاب لا يفرّق بين أن يكون المستصحب............... ٢١٣

من الأحكام أو الموضوعات.................................................... ٢١٣

جواب المحقّق القمّي عن استصحاب الكتابي والمناقشة فيه.......................... ٢٣٠

دفع المناقشات التي أوردها الأستاذ على أجوبة المحقّق القمّي........................ ٢٣٥

مناقشات في بعض أجوبة المحقّق القمّي عن استصحاب الكتابي..................... ٢٤٠

مناقشة كلام الاستاذ العلّامة في المقام............................................ ٢٤٥

قطعنا بنسخ الشريعة السابقة كاف لنفي استصحاب الكتابي....................... ٢٤٨

* التنبيه العاشر :............................................................. ٢٦٢

دوران الأمر بين التمسّك بالعام أو استصحاب حكم المخصّص.................... ٢٦٢

الدليل الظني المعتبر ليس رافعا لموضوع.......................................... ٢٦٣

الأصل وجدانا كالدليل القطعي................................................ ٢٦٤

كيفية اجتماع العام مع الخاص ودلالتها......................................... ٢٦٨

أو دلالة أحدهما على العموم الزّماني............................................ ٢٦٨

مناقشة ما أفاده المحقّق الثاني قدس‌سره................................................ ٢٧٣

حاصل كلام السيّد بحر العلوم في مختاره......................................... ٢٧٦


نقل كلام الفصول في تخصيص العام بالاستصحاب والمناقشة فيه................... ٢٧٧

نقل كلام الفاضل النّراقي...................................................... ٢٨٢

في الجواب عمّا أفاده الفاضل النّراقي من وجوه ستّة............................... ٢٨٤

* التنبيه الحادي عشر :....................................................... ٢٩٠

لو تعذّر بعض المأمور به فهل يستصحب وجوب الباقي؟.......................... ٢٩٠

التوجيه الأوّل ونظرة العرف................................................... ٢٩٠

التوجيه الثاني والفرق بينه وبين التوجيه السابق................................... ٢٩٢

التوجيه الثالث والتنظير المزبور................................................. ٢٩٤

وجه ظهور مخالفة التوجيهات والمناقشة فيها...................................... ٢٩٥

الصحيح من هذه التوجيهات عند الأستاذ ومنافاته................................ ٢٩٨

لما سبق منه في فروع الأقلّ والأكثر............................................. ٢٩٨

النكتة في عدم الفرق بناء على جريان الاستصحاب............................... ٢٩٩

بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف أو قبله....................................... ٢٩٩

أظهر الاحتمالات............................................................ ٣٠١

* التنبيه الثاني عشر :......................................................... ٣٠٣

جريان الاستصحاب حتى مع الظن بالخلاف..................................... ٣٠٣

الكلام في الإستصحاب من حيث الشك المأخوذ في موضوعه...................... ٣٠٤

الإستدلال على المدّعى بوجهين آخرين.......................................... ٣٠٧

في عدم ورود شيء على التوجيه المذكور........................................ ٣١٠

خاتمة........................................................................ ٣١٣


في شرائط العمل بالإستصحاب................................................ ٣١٣

* إشتراط بقاء الموضوع....................................................... ٣١٣

* إشتراط الشك في البقاء..................................................... ٣١٣

* إشتراط عدم العلم بالبقاء أو الإرتفاع......................................... ٣١٣

* خاتمة ..................................................................... ٣١٥

مرجع الشرائط المزبورة إلى شروط جريان الاستصحاب........................... ٣١٦

* الشرط الأوّل في جريان الاستصحاب : بقاء الموضوع.......................... ٣٢١

المعتبر في استصحاب الوجود التقرّر............................................. ٣٢٣

الماهيّتي لا وجودها في الذهن................................................... ٣٢٣

الدليل على إشتراط بقاء الموضوع في الإستصحاب............................... ٣٢٨

هل يكفي إحراز الموضوع بالإستصحاب أم لا؟.................................. ٣٣٣

عدم معقوليّة استصحاب الموضوع لاستصحاب الحكم............................ ٣٣٨

الميزان لتشخيص الموضوع في باب الإستصحاب.................................. ٣٤٣

في بيان الميزان الثاني والثالث لتشخيص موضوع الاستصحاب..................... ٣٤٧

الوجه في اعتبار المسامحة العرفيّة في المقام......................................... ٣٥٠

الإستحالة من المطهّرات كما عليه الأكثر........................................ ٣٥٤

لا فرق بين الأعيان النّجسة والمتنجّسة في........................................ ٣٥٩

الحكم بالطهارة لاجل الإستحالة............................................... ٣٥٩

الأحكام تدور مدار الأسماء.................................................... ٣٦٩

* الثاني ممّا يعتبر في تحقّق الإستصحاب.......................................... ٣٧٢


إشتراط الشك في البقاء....................................................... ٣٧٢

مختار الشيخ الأعظم عدم إمكان الجمع بينهما.................................... ٣٧٦

والوجوه التي أقامها على مختاره................................................. ٣٧٦

المناقشة في الوجوه المذكورة عدا الوجه السادس.................................. ٣٧٩

مناقشة دعوى الاستاذ في عدم إرادة القاعدتين................................... ٣٨١

من الحديث المزبور وتوجيهه لها................................................. ٣٨١

مدرك قاعدة اليقين سوى عموم الأخبار......................................... ٣٨٩

* الثالث ممّا يعتبر في جريان الاستصحاب :...................................... ٣٩٣

إشتراط عدم العلم بالبقاء أو الإرتفاع........................................... ٣٩٣

الموضوع في جميع الأدلّة والأصول يرتفع بحصول العلم في مواردها.................. ٣٩٣

الفرق بين الحكومة والورود والتخصيص........................................ ٤٠٠

وجه تقديم الأدلّة على الإستصحاب............................................ ٤٠٢

نقل كلام المحقّق القمّي والفاضل النّراقي في المقام................................. ٤١٠

وجه تسمية الدليل بالإجتهادي والأصل بالفقاهتي................................ ٤١٥

تعارض الاستصحاب مع سائر................................................. ٤١٩

الأمارات والأصول........................................................... ٤١٩

والكلام فيها في ثلاث مقامات :............................................... ٤١٩

* المقام الأوّل : عدم معارضة الاستصحاب لليد.................................. ٤١٩

١ ـ تقدّم اليد على الاستصحاب.............................................. ٤١٩

٢ ـ تقدّم قاعدة الفراغ والتجاوز عليه......................................... ٤١٩


٣ ـ أصالة الصحة في فعل الغير............................................... ٤١٩

* المقام الثاني : تعارض الاستصحاب مع القرعة.................................. ٤١٩

* المقام الثالث : تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الاصول العمليّة.............. ٤١٩

* المقام الأوّل : عدم معارضة الإستصحاب لليد.................................. ٤٢١

ترتيب البحث هنا............................................................ ٤٢١

* ١ ـ تقدّم اليد على الاستصحاب............................................ ٤٢٢

الدليل على تقديم اليد على الاستصحاب........................................ ٤٢٣

لو تقارنت اليد بالإقرار فالمرجع الإستصحاب.................................... ٤٢٧

إشكالات على المصنف قدس‌سره................................................... ٤٢٨

دفع الإشكالات الواردة....................................................... ٤٣٠

رواية فدك الزهراء سلام الله عليها.............................................. ٤٣٦

تقدّم البيّنة على اليد........................................................... ٤٤٣

التنبيه على غلط الناسخ....................................................... ٤٤٤

* ٢ ـ تقدّم قاعدة الفراغ والتجاوز على الإستصحاب........................... ٤٤٤

تنقيح مضامين الأخبار........................................................ ٤٤٦

١ ـ معاني الشك في الشيء................................................... ٤٤٩

ما هو المراد من المعنيين الأوّليين؟............................................... ٤٥١

حكم كلّ من المعنيين ولازمه................................................... ٤٥٢

٢ ـ ما هو المراد من « محلّ الشيء المشكوك فيه »؟............................. ٤٥٥


٣ ـ هل يعتبر في التجاوز والفراغ الدخول في الغير أم لا؟........................ ٤٥٨

٤ ـ جريان القاعدة في أفعال الطهارات الثلاث................................. ٤٦٦

توجيه كون الحكم في الوضوء على طبق القاعدة والمناقشة في الوجوه................ ٤٧٠

٥ ـ جريان القاعدة في الشروط كجريانها في الأجزاء............................ ٤٧٥

في أن حكم الشك في الشرط حكم الشك في الجزء أم لا؟........................ ٤٧٥

٦ ـ هل يلحق الشك في الصحة بالشك في الإتيان؟............................. ٤٧٨

هل يلحق الشك بالصحة بالشك في الوجود أم لا؟............................... ٤٨١

٧ ـ المراد من الشك في موضوع هذه القاعدة................................... ٤٨٤

إشكال ودفع................................................................. ٤٨٨

٣ ـ أصالة الصحة في فعل الغير............................................... ٤٩٠

مدرك أصالة الصحّة :........................................................ ٤٩٠

( آيات الكتاب )............................................................. ٤٩٠

للصحّة معان بعضها داخل في النّزاع وبعضها خارج.............................. ٤٩٤

الإشكال في تنظير الاستاذ ودفعه............................................... ٤٩٥

وجه الإستشهاد بالرواية على ما ذكره الاستاذ في الكتاب......................... ٤٩٧

وفي مجلس البحث............................................................ ٤٩٧

رواية ابن سنان لا علاقة لها بالمقام.............................................. ٥٠١

الجمع غير ممكن خلافا للأستاذ................................................. ٥٠٢

مدرك أصالة الصحة.......................................................... ٥٠٤

( الاجماع القولي والعملي ).................................................... ٥٠٤


الإجماع القولي والعملي والتأمّل فيه............................................. ٥٠٤

مدرك أصالة الصحة ( العقل المستقل ).......................................... ٥٠٧

الدليل الرابع على اعتبار أصالة الصحّة.......................................... ٥٠٧

تنبيهات أصالة الصحّة........................................................ ٥٠٩

التنبيه الأوّل : المدار على الصحّة الواقعيّة أم على الصحّة عند الفاعل؟.............. ٥٠٩

التنبيه الثاني : هل يعتبر في جريانها في العقود إستكمال أركان العقد؟............... ٥٠٩

التنبيه الثالث : صحّة كلّ شيء بحسبه وباعتبار آثار نفسه......................... ٥٠٩

التنبيه الرّابع : اعتبار إحراز أصل العمل في أصالة الصحّة.......................... ٥٠٩

التنبيه الخامس : عدم جواز الأخذ باللوازم في أصالة الصحّة....................... ٥٠٩

التنبيه السادس : وجه تقديم أصالة الصحّة على استصحاب الفساد................. ٥٠٩

التنبيه الأوّل : هل يحمل المسلم على الصحّة الواقعيّة.............................. ٥١١

كما هو المشهور أو الصحّة عند الفاعل؟........................................ ٥١١

حمله على الصحّة عند الفاعل.................................................. ٥١١

الصورة الثانية من صور المسألة................................................. ٥١٤

تصادق اعتقادهما بالصحة وسببيّة العقد......................................... ٥١٥

لترتّب الآثار عليه وإن كان فاسدا.............................................. ٥١٥

التنبيه الثاني :................................................................ ٥٢٠


هل يعتبر في جريان أصالة الصحّة.............................................. ٥٢٠

في العقود استكمال أركان العقد؟.............................................. ٥٢٠

التضارب بين كلمات المحقق الكركي........................................... ٥٢٠

الأقوى التعميم وعدم اعتبار استكمال الأركان................................... ٥٢٤

المستند في المقام قاعدة الفراغ دون أصالة الصحة................................. ٥٢٥

مناقشة كلام الكركي زيادة على ما جاء في كلام الاستاذ......................... ٥٢٦

ترتيب تسلسل البحث وكلام المسالك وما يرد عليه.............................. ٥٢٧

التفصيل المذكور يرجع إلى إنكار اعتبار أصالة الصحة مطلقا...................... ٥٢٨

التنبيه الثالث :............................................................... ٥٢٩

صحّة كلّ شيء بحسبه وباعتبار آثار نفسه....................................... ٥٢٩

معنى حمل فعل المسلم على الصحيح............................................. ٥٢٩

ما فرّعه الاستاذ على القاعدة صحيح........................................... ٥٣٥

في ان استصحاب الإذن وأصالة عدم البيع قبل................................... ٥٣٨

الرجوع ونحوهما من الأصول المثبتة.............................................. ٥٣٨

وجه صحّة مذهب المشهور.................................................... ٥٤٠

التنبيه الرابع :................................................................ ٥٤٢

اعتبار إحراز أصل العمل...................................................... ٥٤٢

في أصالة الصحّة............................................................. ٥٤٢

التنبيه الخامس :.............................................................. ٥٥٠

عدم جواز الأخذ باللوازم في أصالة الصحّة...................................... ٥٥٠


تنبيهات..................................................................... ٥٥٣

جريان أصالة الصّحة في فعل الكافر............................................ ٥٥٣

كلام كاشف الغطاء في المقام.................................................. ٥٥٤

جريانها في فعل غير البالغ...................................................... ٥٥٥

هل يجب حمل أمر المسلم على الصحيح بالمعنى المبحوث عنه؟...................... ٥٥٦

اختصاص جريان القاعدة بالشبهات الموضوعيّة................................... ٥٥٨

التنبيه السادس :.............................................................. ٥٥٩

وجه تقديم أصالة الصحة على استصحاب الفساد................................ ٥٥٩

تعارض أصالة الصحّة مع أصالة الفساد......................................... ٥٦١

تعارض أصالة الصحة مع الإستصحابات الموضوعيّة............................... ٥٦٣

أصالة الصّحة في الأقوال والإعتقادات........................................... ٥٧٢

أصالة الصحّة في الإعتقادات................................................... ٥٧٥

إثبات الملازمة بين حجيّة الإعتقاد وحجيّة خبره.................................. ٥٧٦

الوجوه التي تؤيّد مختار الأستاذ................................................. ٥٧٨

المقام الثاني :................................................................. ٥٨١

المقام الثاني................................................................... ٥٨٣

في بيان تعارض الإستصحاب مع القرعة......................................... ٥٨٣

الكلام في القرعة وشرح القول فيها............................................. ٥٨٥

الكلام في المقام الأوّل......................................................... ٥٨٨

الكلام في المقام الثالث........................................................ ٥٩٠


الكلام في المقام الثاني.......................................................... ٥٩١

المقام الثالث.................................................................. ٥٩٥

المقام الثالث ................................................................. ٥٩٧

تعارض الاستصحاب مع ما عداه من الأصول.................................... ٥٩٧

تعارض الاستصحاب مع أصالة البراءة.......................................... ٥٩٩

تعارض الاستصحاب مع الاحتياط.............................................. ٦٠٥

تعارض الاستصحاب مع أصالة التخيير.......................................... ٦٠٧

تعارض الإستصحابين......................................................... ٦٠٨

بيان دلالة الأخبار على تقديم الأصل في الشك المسبّب............................ ٦١٠

لازم تقديم الإستصحاب في الشك السببي....................................... ٦١٥

تخصيص الاخبار بالإستصحاب الحكمي........................................ ٦١٥

تقدّم الأصل في الشك السببي على الأصل في الشك المسبّبي........................ ٦١٦

نقل بعض ما يدل على معارضة البراءة للإستصحاب.............................. ٦٢٠

بيان تقديم الإستصحاب الموضوعي على الإستصحاب الحكمي..................... ٦٢٢

لا يجوز الترجيح بين المتعارضين من الإستصحابين على كل تقدير.................. ٦٢٦

فرع في النكاح المنقطع :...................................................... ٦٤١

« لو أخلّ بذكر المدّة إنقلب دائما »........................................... ٦٤١

إعمال الأصل في الشبهات الموضوعيّة لا يتوقّف على الفحص .................... ٦٤٦

الفهرس التفصيلي............................................................. ٦٥١

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ٧

المؤلف:
الصفحات: 663