* التنبيه الثاني :

نتيجة دليل الإنسداد قضيّة مهملة أو كلّيّة

* التنبيه الثالث :

لو حصل الظن بالحكم من امارة متعلّقة بألفاظ الدليل

* التنبيه الرابع :

عدم كفاية الظن بالإمتثال في مقام التطبيق

* التنبيه الخامس :

هل يعتبر الظن في أصول الدّين؟

* التنبيه السادس :

في جابريّة الظنّ وكأسريّته ومرجّحيّته لو لم يكن حجّة



* التنبيه الثاني

نتيجة دليل الإنسداد قضية مهملة أو كلّيّة؟

(١) قوله قدس‌سره : ( الأمر الثّاني : وهو أهمّ الأمور في هذا الباب أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي قضيّة مهملة ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٦٣ )

__________________

(١) قال المحقق الأصولي السيّد علي القزويني قدس‌سره :

وليعلم ان الإطلاق والإهمال يلاحظان :

تارة : بالنسبة إلى أسباب الظنّ وهي الأمارات المفيدة له.

وأخرى : بالنسبة : إلى موارده من المسائل الفرعيّة والأصوليّة.

وثالثة : بالنسبة إلى أشخاصه من المجتهد والمقلّد.

ورابعة : بالنسبة إلى أوقاته ممّا بعد زمان الفحص وما قبله.

وخامسة : بالنسبة إلى مراتبه من الظنّ الإطمئناني وما دونه.

وهذه الجهات كلّها محلّ كلام ، إلاّ أنّ المقصود بالبحث في عنوان هذا الأمر إنّما هو الإهمال والإطلاق من الجهة الأولى أعنى : بالنسبة الى أسباب الظنّ.

وتظهر الثمرة :

في الإحتياج إلى توسيط شيء من المقدّمات المعمّمة لتتميم العمل بالظن في المسائل الفرعيّة ـ من مقدّمة عدم الكفاية ، أو لزوم الترجيح بلا مرجّح ، أو الإجماع المركّب أو غير ذلك ـ على الإهمال وعدم الإحتياج إليه على الإطلاق والكلّيّة ). انتهى.

تعليقة على معالم الأصول للسيّد القزويني : ج ٥ / ٣٢٩.


عدم حجّيّة مطلق الظّنّ في غير الأحكام الإلزاميّة

أقول : عنوان المسألة في الإهمال والكليّة من حيث خصوص الأسباب مع أنّه يتكلّم قدس‌سره بعد ذلك فيهما من حيث الموارد والمراتب أيضا ، لعلّه من جهة كون البحث في المسألة من حيث الأسباب هو المقصود الأهمّ المذكور في كلمات أكثر المتعرّضين للمسألة ، وإلاّ فلا خصوصيّة للأسباب قطعا.

نعم ، هنا كلام آخر في عموم النّتيجة لغير الأحكام الإلزاميّة ، لم أر التّعرض له في كلماتهم. لكنّك قد عرفت سابقا : أنّ تقرير الدّليل على ما في كتب القوم المتداول في ألسنتهم بوجوه وعبارات مختلفة ، لا يقتضي حجيّة الظّن بالنّسبة إلى غير الأحكام الإلزاميّة قطعا من غير فرق بين تقرير الحكومة والكشف ؛ لأنّ العلم بالواجبات والمحرّمات وبناء التّكليف بالنّسبة إليهما ، وعدم جواز الرّجوع إلى الأصول النّافية ، وعدم وجوب الاحتياط ، أو ما يوافقه من الأصول ؛ من جهة لزوم الحرج ، لا يقتضي حجيّة الظّن بالنّسبة إلى الاستحباب والكراهة ، فضلا عن الإباحة.

بل لو دار الأمر في جزئية شيء للعبادة مع العلم برجحانه ، وقامت الأمارة على استحبابه ، لا يمكن الحكم بمقتضاها وترتيب آثار المستحب على الفعل المفروض. اللهمّ إلاّ أن يتشبّث بذيل الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل كما قيل ، أو الأولويّة كما زعم ، وهما كما ترى.

أو يقرّر الدّليل بوجه آخر ـ قد عرفته في طيّ كلماتنا السّابقة ـ : وهو


إجراؤه في جميع الأحكام من حيث تعلّق غرض الشّارع بحفظها وإبقائها ببقاء الشّريعة ، وهذا لا فرق فيه بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها من الأحكام ، فإن تمّ فهو ، وإلاّ أشكل الأمر على القائلين بحجيّة الظّن من جهة دليل الانسداد المعروف ، أو لزوم دفع الضّرر ونحوهما ممّا أقاموه لحجيّة الظّن المطلق ، فليكن هذا في ذكر منك لعلّه ينفعك فيما بعد.

ثمّ إنّ المراد من الإهمال في المقام من أيّ جهة يبحث عنها من حيث الإهمال ، ليس ما يتوهّم من عدم العلم بالعنوان الّذي يحكم به العقل ، بل المراد منه العنوان المعيّن الّذي يجامع العموم والخصوص في قبال العنوان الّذي ينطبق على العموم يقينا أو الخصوص كذلك. كيف! وحكم العقل ولو كان بمعنى الإدراك لا يجامع المهملة بالمعنى المعروف ، ألا ترى أنّه على الكشف يحكم بإهمال النّتيجة؟كما ستقف عليه.

والمراد به : أنّه يحكم العقل بأنّه يجب على الشّارع جعل ما به الكفاية في الاستنباط من الأمارات الظّنية فإن كان ما به الكفاية متعدّدا لا يحكم بوجوب جعل الجميع وإن كان محتملا كما لا يحكم بوجوب جعل بعض الخصوصيات ليس إلاّ ، وإن كان البعض متيقّنا فالمقابل للمهملة أعمّ من القضيّة العامّة الحقيقيّة الّتي هي معيّنة في ضمن الجميع ، والخاصّة المنطبقة على بعض معيّن.

نعم ، لو كان عقد المسألة من حيث عموم النّتيجة وعدمها ، دخل القسم الثّاني في الثّاني. ومن هنا قد عبّر قدس‌سره عن مقابل المهملة ، بالمطلقة تارة وبالكليّة أخرى ، وبالمعيّنة ثالثة ، كما ستقف عليه.

وليكن هذا في ذكر منك ؛ فإنّ كلام شيخنا قدس‌سره في هذا الأمر لا يخلو عن


تشويش واضطراب على ما في « الكتاب » مع كثير اهتمامه بشأنه.

وإن كان المراد واضحا سيّما بعد ما نسمعك من البيانات الّتي سمعناها منه قدس‌سره مرارا في مجلس البحث وغيره ، وقد كان بانيا على تغيير عبارة الكتاب في « الأمر الثّاني » (١) في كثير من مواضعه ، وقد دعي فأجاب قبله « جزاه الله عن الدّين وأهله وعنّا خير الجزاء وأسكنه بحبوحات جنانه وحشره الله مع محمّد وآله الطيّبين الطّاهرين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ».

(٢) قوله قدس‌سره : ( والتّحقيق : أنّه لا إشكال ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٦٤ )

دليل الانسداد قد يقرّر في كلّ مسألة

وقد يقرّر في مجموع المسائل

أقول : قد يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة يحتمل فيها الحكم الإلزامي في نفسها من دون ملاحظة انضمامها بسائر المسائل التي فرض فيها العلم الإجمالي بأحكام إلزاميّة كثيرة تبلغ حدّ الشّبهة المحصورة سواء كان الشّك فيها في التّكليف ، أو المكلّف به ، مع إمكان الاحتياط في كلّ واحد منهما ، أو لا معه ، مع وجود الحالة السّابقة في كلّ واحد ؛ بحيث يلاحظ في حكمه ، أو لا معه.

وقد يجري في مجموع المسائل الّتي علم بوجود الأحكام الإلزاميّة فيها وإن لم يكن كلّ مسألة من دون ملاحظة الانضمام موردا للعلم الإجمالي بالتّكليف الإلزامي ، فإن جرى على الوجه الأوّل فلا إشكال في عدم الفرق وعموم النتيجة

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٣.


بحسب كلّ خصوصيّة تفرض.

أمّا بحسب المورد وخصوصيّة المسائل ؛ فواضح لا يحتاج إلى البيان ؛ لأنّ المفروض جريان الدّليل في كلّ مورد ومسألة.

وأمّا بحسب الأسباب ؛ فلأنّه وإن أمكن اجتماع أسباب متعدّدة للظّن في مسألة إلاّ أنّه لمّا كانت نتيجة المقدّمات ـ على ما أسمعناك مرارا وستسمعه ـ حجيّة الظّن الشّخصي ، ولا يعدل عنه إلى الظّن النّوعي إلاّ بعد فرض انسداد بابه ، ولا يمكن تأثير كلّ واحد في حدوث ظنّ بالنّسبة إلى مسألة شخصيّة ؛ ضرورة استحالة اجتماع الأمثال كالأضداد ، وإن حدثت من اجتماعها المرتبة القويّة من الظّن الّتي هي شخص واحد حقيقة ، وإن كانت واجدة للمرتبة الضّعيفة بمعنى وجدانها لذاتها ، لا وجدانها لها بحدّها ، وإلاّ لرجع إلى اجتماع المثلين ، وهذا معنى وجدان القويّ للضّعيف ، لا ما يتوهّم من كون الضّعيف موجودا في ضمن القويّ ومعه بوصفه كما هو واضح ، فلا محالة لا يتحقّق اجتماعهما بوصف السّبب الفعلي للظّن فلم يتعدّد السّبب حقيقة وإنّما تعدّد المقتضيات والعلل النّاقصة.

فإن شئت قلت : الحجّة الظّن الشخصي والفعلي الموجود في المسائل ولا يمكن تعدّده في المسألة الشخصيّة فإذا لم يتعدّد كان الدّليل على تقرير الكشف أيضا قاضيا بحجيّته كتقرير الحكومة على ما يقتضيه قضيّة الانحصار ، فالمستكشف على تقرير الكشف وإن كان جعل ما به الكفاية إلاّ أنّه إذا فرض الانحصار فلا محالة ينطبق على ما هو الموجود ، فكلّ سبب وجد في المسألة وأثر في وجود الظّن فهو حجّة لا محالة.

ومن هنا يعلم أنّه على هذا التّقدير لا مناص من لزوم إشكال خروج القياس


إذا فرض استناد حصول الظّن به مستقلاّ بل فرض دخله في السّبب ؛ بمعنى كونه جزءا له ولا يأبى كلام شيخنا قدس‌سره فيما أفاده بقوله : « وعلى التّقدير الثّاني ، أعني :كون القضيّة كليّة ، فكيف توجيه خروج القياس؟ ... إلى آخره » (١) لهذا الفرض ؛ فإن النّتيجة كليّة عامّة فيه أيضا ، فإنّ المفروض الحكم بحجيّة كلّ ظنّ من أيّ سبب حصل في المسألة. فإذا حصل من القياس فكيف يمكن الحكم بعدم حجيّته؟ مع أنّ الفرض حصول الظّن منه.

والقول بانفتاح باب العلم في المسألة بملاحظة الدّليل القطعيّ القائم على عدم حجيّته ، يرجع إلى ما ذكروه في التّفصيّ عن الإشكال من جهة خروجه فافهم.

وأمّا بحسب المرتبة وعدم الفرق بين القويّ والضّعيف ، فلما عرفت من استحالة اجتماعهما.

نعم ، يمكن أن يقال ـ بناء على الفرق بينهما فيما سيجيء من القسم الثّاني ـ :

أنّه لا بدّ أوّلا فيما أمكن تحصيل القويّ ، وإن لم يمكن تحصيله فالضّعيف حجّة وهذا كما ترى ، لا يرجع إلى الفرق بينهما بقول مطلق بمعنى عدم حجيّة الضّعيف رأسا وإن رجع إلى الفرق بينهما في الجملة ، وعدم حجيّة الضّعيف عند التّمكن من تحصيل القويّ في المسألة فافهم واغتنم.

ثمّ إنّه قدس‌سره استظهر هذا الوجه ممّا أفاده المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » في بعض كلماته ، فإنّها وإن كانت مختلفة مضطربة في بيان هذا المرام لكن بعضها ظاهر فيما أسنده إليه كما ستقف عليه ، ولا يأبى من القول بذلك. فإنّه ممّن شيّد

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٣.


أساس حجيّة الظّن المطلق في الأزمنة المتأخّرة وأحكمه ، وإن سبقه إلى ذلك شيخه وأستاذه الفريد المحقّق الأستاذ البهبهاني المؤسّس لهذا القانون حقيقة ، وفاقا لشريكه في التّلمّذ السيّد السّند المير سيّد علي صاحب « الرّياض » ؛ فإنّه قد أفرد رسالة في هذه المسألة ، وأشرح (١) القول فيه. وتبعهم جماعة ممّن تأخّر من تلامذتهم وغيرهم إلا أنّي لم أر مثل المحقّق القمّي قدس‌سره ( وقدّس الله أسرارهم ) في الإصرار وتكثير القول فيها ، بل قد لا يأبى بعض كلماته من القول بحجّية مطلق الظّن في زمان انفتاح باب العلم ؛ حيث إنّه ذكر في مطاوي كلماته : أنّه لمّا كان دفع الضّرر المظنون واجبا ودفع المحتمل منه غير واجب بحكم العقل ، قلنا بحجيّة مطلق الظّن من أوّل الأمر أيضا ـ إلى ـ في زمان انفتاح باب العلم ).

فإنّه زعم أنّ مبنى وجوب تحصيل العلم في المسألة عند التّمكّن هو خصوص حكم العقل من جهة حكمه بوجوب دفع الضّرر المحتمل الّذي منعه. وإن ذكرنا في مطاوي كلماتنا السّابقة : أنّ لزوم دفع الضّرر المحتمل الأخروي ممّا يحكم به ضرورة العقل ، وهو مبنى وجوب النّظر في المعجزة ، بل مبنى وجوب شكر المنعم ، المبتنى عليه وجوب معرفته في وجه.

مضافا إلى عدم انحصار دليل وجوب تحصيل العلم في القاعدة المذكورة ، بل هو ممّا قضت به الأدلّة الثّلاثة على وجه الارتياب في دلالتها بل الكتاب والسّنة مشحونان منه كما هو ظاهر لمن راجع إليهما ، إلاّ أنّي لا أظنّ أنّ هذا الكلام ممّا يعتقد به قدس‌سره ، بل ذكره وجها في المسألة ، فإنّ القول بذلك خلاف الإجماع يقينا ،

__________________

(١) كذا والصحيح : « وأطال في شرح القول فيها ».


وهو أجلّ شأنا من أن يخفى عليه الإجماع.

بل قد عرفت : كون الكتاب والسّنة مشحونين به وهما بمنظر ومسمع منه قدس‌سره وتنزيل تمام ما ورد في ذلك على الأصول ، مع أنّ جملة منها صريحة في الفروع ، كما ترى.

بل سيجيء : أنّ ما استظهره شيخنا قدس‌سره في المقام وإن ساعده بعض كلماته ، إلاّ أنّ اعتقاده بذلك ومصيره إليه محلّ تأمّل.

فإنّه وأن أبطل الرّجوع إلى البراءة لعدم الدّليل عليه بعد قيام الظّن بخلافه فالرجوع إليها مشروط بعدم قيام الظن فهو مانع عنها ، كما أبطل وجوب الاحتياط أيضا بعدم المقتضي ؛ فإنّ العلم الإجمالي وإن بلغ حدّ الشّبهة المحصورة لا يؤثّر في وجوب الاحتياط عنده ، فهما كما ترى ظاهران فيما استظهره منه قدس‌سره.

إلاّ أنّ لازم هذا القول : أنّه لو فرض انفتاح باب العلم في جميع المسائل إلاّ في مسألة شخصيّة ، لحكم بحجيّة الظن المطلق فيها وإن لم تكن ثمرة غيره بين هذا الوجه والوجه الثّاني بناء على الحكومة إلاّ بالملاحظة عند التّحقيق في زمان الانسداد إلاّ فيما عرفت من التّعميم من حيث المرتبة على الوجه الّذي عرفته على هذا الوجه ، وعدم التّعميم على الوجه المذكور على الوجه الثّاني.

وأمّا التّعميم من جهتي الأسباب والموارد فثابت على تقرير الحكومة أيضا كما ستقف عليه ، ولا أظن التزامه بهذا اللاّزم وإن لم يكن بعيدا كلّ البعد من طريقته.

ثمّ إنّ ظهور الوجه من صاحبي « الزّبدة » (١) و « المعالم » (٢) من جهة

__________________

(١) زبدة الأصول : ٩٢ ، تحقيق فارس حسّون.


استنادهما في إبطال البراءة بعدم حصول الظن منها في مقابل خبر العادل وهذا كما ترى ، لا فرق فيه بين ملاحظة الانضمام والانفراد ، فيلزمهما القول بحجيّة الخبر لو فرض انفتاح باب العلم في غالب المسائل أيضا.

وإن لم يظنّ التزامهما به إذا كان استندا في الحجيّة إلى دليل الانسداد ، وإن كانا قائلين به من جهة سائر ما أقاموه على حجيّة الخبر ، بل يلزمهما القول بحجيّة مطلق الظن كذلك ؛ نظرا إلى اقتضاء دليل الانسداد الّذي أقاموه لإثبات حجيّة الخبر بخصوصه لحجيّة مطلق الظّن من غير خصوصيّة للخبر ، وإن لم يعتقدا هذا الاقتضاء فذهبا إلى حجيّة الخبر بخصوصه مستندين إلى هذا الدّليل المقتضي لحجيّة غيره ، هذا.

لكنك قد عرفت : أنّ استظهار هذا الوجه منهما ليس مبنيّا على اقتضاء دليلهما لحجيّة مطلق الظّن ، بل على تقدير قصر الاقتضاء في الخبر صحّ الاستظهار المذكور أيضا هذا.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره للتّعميم من جميع الجهات والخصوصيّات على هذا الوجه بقوله : « وهذا ثابت بالإجماع والعقل » (١).

قد يناقش فيه : من حيث التمسّك بالإجماع في المسألة ، مع أنّه شنّع على المتمسّك به في ردّ القول بتخصيص نتيجة الدّليل بالظّن في الطّريق بكون المسألة عقليّة مستحدثة ، فكيف يدّعي الإجماع فيها؟

__________________

(٢)معالم الأصول : ١٩٢ ط جماعة المدرّسين.

(٣) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٤.


وقد يدفع المناقشة : بأنّ الغرض من الإجماع في كلامه ليس الإجماع الاصطلاحي بل معناه اللّغوي وهو الاتفاق ، فيكون المراد اتّفاق العقلاء لا خصوص المتشرّعة. بل يمكن أن يقال : إنّه ليس في مقام الاستدلال بل غرضه كون التّعميم أمرا مسلّما فتأمل.

ثمّ المراد ليس الاطلاع الحسّي على حصول الاتّفاق حتّى يتوجّه عليه : بأنّ المسألة من المستحدثات. كيف! وأكثرهم ذهبوا إلى حجيّة الظّنون الخاصّة في الأحكام ، بل المراد الحدس بأنّ المسألة كذلك عندهم قطعا على تقدير ذهابهم إلى حجيّة الظّن المطلق وإجرائهم له في كلّ مسألة ، فتأمل.

بطلان إجراء دليل الإنسداد في كل مسألة

ثمّ إنّ لازم إجراء الدّليل في كلّ مسألة وإن كان ما ذكر ، إلاّ أنّه لا ريب في بطلانه ؛ فإنّ اعتبار الأصول ـ حسبما عرفت وتعرفه ـ ليس مشروطا بحصول الظّن منها ، أو قيام الظن الغير المعتبر على خلافها من غير فرق بين الخبر وغيره ، كما أنّه لا إشكال في وجوب الاحتياط في مفروض البحث بالنّظر إلى قاعدة وجوب دفع الضّرر المحتمل الّتي هي مبنى وجوب الاحتياط في جميع موارد وجوبه فيجب البناء عليه لو لا ما عرفت ممّا أقاموه على عدم وجوبه في خصوص المقام.

والقول : بأنّ المفروض ملاحظة كلّ مسألة مستقلّة من دون أن يلاحظ انضمامها بغيرها من المسائل فلا مقتضي لوجوب الاحتياط على هذه الملاحظة ؛ فإنّ العلم الإجمالي بالتّكاليف الإلزاميّة إنّما هو في مجموع الوقائع لا في كلّ واقعة.


فاسد جدّا ؛ ضرورة أنّ عدم الملاحظة لا يوجب تغيير الواقع ؛ ضرورة وجود العلم الإجمالي فيما بأيدينا من الوقائع وملاحظة كلّ واقعة مستقلاّ لا يوجب الحكم بالبراءة ، وإلاّ أمكن سلوكه في جميع موارد وجوب الاحتياط ، فالثّمرة إنّما تظهر فيما لو فرض انفتاح باب العلم في الغالب لا في مفروض المقام. هذا كلّه فيما لو أجري الدّليل على الوجه الأوّل.

وإن أجري على الوجه الثّاني ؛ فالحكم باقتضائه للتّعميم من جميع الجهات والخصوصيات ، أو التّعيين كذلك وإثبات الحجيّة معيّنا في ضمن بعض الأشخاص والنّفي عن غيره بالنّسبة إلى كلّ خصوصيّة ، أو التّعميم من بعض الجهات والتّعيين من آخر ، أو الإهمال كذلك ، لا يستقيم بمجرّده ، بل لا بدّ من أن يلاحظ أنّه يقرّر على وجه الكشف ، أو الحكومة ، وإلاّ فالنّتيجة من دون أن يلاحظ أحد الأمرين ؛ هي حجيّة الظن في الجملة فتأمّل.

وعليه يحمل قوله : « وهذا المقدار لا يثبت إلاّ وجوب العمل بالظّن في الجملة » (١) من دون تعميم بحسب الأسباب ، ولا بحسب الموارد ، ولا بحسب مرتبة الظن.

فالمراد بقوله : « في الجملة » أعمّ من المهملة حتّى لا ينافي حكمه بالتّعميم من بعض الجهات المذكورة على التّقريرين كالموارد ، فإنّه وإن استند في ذلك إلى الإجماع على تقرير الكشف فلا يكون النّتيجة عامّة مع قطع النّظر عنه ، إلاّ أنّه لا بدّ من أن يحمل العبارة على ما ذكرنا ، ومع ذلك كلّه لا يخلو عن مناقشة ظاهرة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٥.


بيان المراد من تقرير الكشف وتقرير الحكومة

وعلى كلّ تقدير إذا أجري الدّليل في مجموع الوقائع والمسائل فلا يخلو الأمر : إمّا أن يقرّر على وجه الكشف ، أو الحكومة.

والمراد بالأوّل : أن يستكشف العقل بملاحظة بقاء التّكليف بالمشتبهات وانسداد باب العلم والظّن الخاصّ ، وعدم جواز الرّجوع إلى الأصول وعدم وجوب الاحتياط فيها بانضمام الحكم : بأنّ التكليف بلا طريق لا معنى له ، وأن جعل غير الظن في الفرض نقض للغرض ؛ من حيث كونه أقرب إلى الواقع من غيره وغالب الإيصال بالنّسبة إليه ، بل لا قرب في غيره من الشّك والوهم عن كون الظن حجّة عند الشّارع وأنّه أمر بسلوكه.

وبالثّاني : أن يحكم العقل حكما إنشائيّا بوجوب سلوك الظن الشخصي بالحيثيّة المذكورة بعد فرض دوران الأمر بينه وبين غيره بملاحظة المقدّمات الّتي عرفتها عند تقرير دليل الانسداد من غير أن يوجب شيئا على الشّارع أوّلا ، فالعنوان والموضوع الأوّلي في حكم العقل وإن كان واحدا إدراكا وإنشاء وهو :كون الظن أقرب إلى الواقع ، إلاّ أنّ الفرق بالإدراك والإنشاء.

ولا يتوهّم : أنّه بناء على قاعدة التّلازم يستكشف عن حكم الشارع بحجيّة الظّن على تقدير الحكومة أيضا فيتحد التقريران ؛ ضرورة ثبوت الفرق بين كون المدرك أولا حكم الشارع بحجيّة الظن وكونه مستكشفا عن الحكم الإنشائي للعقل وإلاّ ارتفع الفرق بينهما في جميع الموارد ؛ إذ بناء على الملازمة يكون حكم


العقل في جميع موارد حكمه كاشفا عن حكم الشارع على طبقه.

ومن هنا وقع الخلاف في كون الحكم الإنشائي للعقل كاشفا عن حكم الشارع كما ذكر في محلّه. ولم يخالف أحد حتّى الأشاعرة في إدراك العقل لحكم الشارع في كثير من الموارد ، كما في المفاهيم والاستلزامات العقليّة كوجوب المقدّمة وحرمة الضّد ونحوهما.

وبالجملة : لا إشكال في فساد التّوهّم المذكور ، كما لا إشكال في فساد توهّم : كون حكم الشارع بحجيّة الظّن على الكشف ملازم لحكم العقل بها من جهة عكس قاعدة التّلازم فيتّحد التّقريران أيضا ؛ ضرورة أنّ محلّه في غير الإدراكات العقليّة فإنّ حكم العقل بمعنى تصديقه للشّارع لا يعقل استكشافه عن حكم الشارع بعد فرض كون المدرك له ابتداء العقل كما هو ظاهر فافهم.

مناقشة ما أفاده المصنّف في التقريرين

ثمّ إنّ قبح عقاب الشارع عند مخالفة الظّن للواقع في حكم العقل كحسن عقابه على مخالفة الواقع عند مصادفته له في حكم العقل مشترك بين التّقريرين ؛ فإنّهما من اللّوازم العقليّة لحجّيّة الظّنّ من غير فرق بين الإدراك والإنشاء. وبمثل ما ذكرنا ينبغي تحرير المراد من التّقريرين وبيان الفرق بينهما ، لا بما أفاده قدس‌سره في « الكتاب » ؛ فإنّه من جهة خفاء دلالته على المراد ربّما يرد عليه بعض المناقشات ؛ فإنّ المراد من قوله في بيان تقرير الكشف : « وأنّه لا يعاقب على ترك واجب إذا ظنّ بعدم وجوبه » (١) بيان له بذكر اللاّزم العقلي الأعمّ حقيقة على ما عرفته ، فربما

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٥ وفيه : وانه لا يعاقبنا ... إلى آخره.


يناقش فيه من هذه الجهة.

كما أنّ المراد من قوله في بيان هذا التّقرير : « فحجيّة الظن على هذا التّقرير تعبّد شرعيّ كشف عنه العقل » (١) ليس التعبّد بمعنى عدم ملاحظة الطّريقيّة فيه. كيف! وقد عرفت كونها عنوانا للحكم في المقام على التّقريرين ، بل بالمعنى المراد منه في تعبّد الشارع بغير العلم المذكور في محلّه ، فالمراد منه : أمر الشّارع بالعمل بالظّن ابتداء بحيث كان الاستناد إلى أمره وإن كان مستكشفا من حكم العقل بمعنى الإدراك في قبال أمر العقل بالعمل به ابتداء وإن كان موردا لإمضاء الشارع.

كما أنّ المراد من قوله ـ في بيان تقرير الحكومة ـ : ( بمعنى حسن المعاقبة على تركه ) (٢) حسن العقاب على مخالفته الواقع المترتّبة على ترك العمل بالظن عند مصادفته للواقع فيرجع إلى بيانه بذكر اللازم الأعمّ حقيقة. كيف! وإرادة ظاهره ممّا لا معنى له ، وخلاف صريح ما أفاده بعد ذلك عن قريب : من كون الحكم العقلي المذكور إرشادّيا لا يترتّب على موافقته ومخالفته من حيث موافقته ومخالفته شيء.

كما أنّ المراد من قوله ـ بعد القضيّة المذكورة ـ : « وقبح المطالبة بأزيد منه » (٣) بيان اللاّزم حقيقة من جهة عدم وجود الأزيد بعد فرض بطلان وجوب الاحتياط كما هو ظاهر.

ثمّ إنّك قد عرفت من مطاوي ما ذكرنا : أنّ حكم العقل على تقرير الحكومة وإن كان كاشفا عن حكم الشّارع ، إلاّ أنّه لا تعلّق له بتقرير الكشف حتّى يتّجه

__________________

(١) نفس المصدر والصفحة بالذات.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ٤٦٦.

(٣) نفس المصدر والصفحة بالذات.


التّقريران ، وترتفع الثّمرة المقصودة المترتبة عليهما في المقام ؛ فإنّ حكم الشّارع المنكشف من إنشاء العقل بقاعدة التّلازم تابع لحكم العقل من حيث العموم والخصوص ، بخلاف حكمه الابتدائي وإن أدركه العقل ؛ فإنّه تابع لما هو المناط والموضوع له في نظر الشّارع ، كما أنّه تابع له من حيث المناط والكيفيّة.

فإذا كان حكم العقل بوجوب العمل بالظّن من حيث كونه كاشفا عن الواقع ومرآة له ، فلا محالة يكون حكم الشارع المنكشف عن حكم العقل بوجوب العمل بالظّن بعنوان الطّريقيّة والمرآتيّة ، فيكون إيجاب الشارع له كإيجاب العقل حكما غيريّا إرشاديّا ، إذن العنوان الّذي أوجب حكم العقل به تابع للواقع ، فلا يصحّ إلاّ للطّلب الغيري.

وهذا بخلاف حكمه الناشئ من المفسدة في الفعل أو المصلحة فيه ؛ فإنّه وإن كان إرشاديّا دائما لعدم تصوّر الطّلب المولويّ من العقل ، إلاّ أنّه مستتبع لطلب مولويّ من الشارع وكاشف عنه لقاعدة التّلازم بين الحكمين في المورد القابل للطّلب المولويّ ، فليس في المقام انفكاك لحكم الشارع عن العقل ، بل حكم الشّارع موجود على نحو حكم العقل إلاّ أن المورد لمّا لم يكن قابلا للطّلب المولوي من الشارع فلا محالة يكون حكم الشارع أيضا إرشاديّا غيريّا ، بل الحكم الشّرعي المستكشف على تقرير الكشف أيضا لا يكون إلاّ غيريّا. ومن هنا حكمنا سابقا : باتّحاد عنوان وجوب العمل بالظّن على التّقريرين ، وهذا بخلاف حكمه المستكشف عن التّحسين والتقبيح العقليّين.

ثمّ لو أريد من القاعدة كون حكم العقل الإنشائي كاشفا عن حكم شرعيّ مولويّ ، لصحّ الحكم بالانفكاك في المقام. فالمقام نظير حكم العقل بوجوب


الإطاعة وحرمة المعصية الكاشف عن حكم الشارع بهما ؛ فإنّ عنوان الإطاعة وإن كان حسنا ذاتا في حكم العقل وليس حسنه من جهة وجود مصلحة في فعل الواجب الّذي ينطبق عليه الإطاعة إذا أتي به بداعي امتثال أمر الشّارع ، بل ربّما يكون وجود المصلحة في الفعل متقوّمة بالعنوان المذكور كما في التّعبديّات ، إلاّ أنّه ليس قابلا لتعلّق الإرادة المولويّة به من الشّارع ، في قبال الإرادة المولويّة المتعلّقة بالفعل من الشّارع بحيث يكون للشّارع مثلا في الواجبات إرادتان حتميّتان مولويّتان ، إحداهما : تعلّقت بذات الواجب. والثّانية : تعلّقت بفعل المأمور به ؛ من حيث كونه مأمورا به إذا أتي به بداعي امتثال أمر الشّارع الذي هو معنى الإطاعة المتأخّرة عن الأمر.

ومن هنا لا يمكن إرادتها من الأوامر المتعلّقة بالأفعال ؛ ضرورة لزوم التّسلسل على تقدير كون الأمر المتعلّق بإطاعة الأوامر المولويّة الشّرعيّة الصّادرة من الشّارع أمرا مولويّا فالإطاعة وإن كانت حسنا ذاتا إلاّ أنّها غير قابلة لتعلّق الأمر المولويّ بها للزوم التسلسل. ومن هنا قيّدنا التلازم بين حسن الفعل ووجوبه شرعا بالوجوب المولوي بما إذا كان المورد قابلا ، فانفكاك الطلب المولوي قد يكون من جهة كون الشّيء مطلوبا للغير في حكم العقل ، وقد يكون من جهة عدم قابليّة المحكوم به في الحكم العقليّ الإرشاديّ لتعلّق الخطاب المولوي به وإن كان حسنا ذاتا كما في الإطاعة. فالإطاعة وإن كانت واجبة بإرادة مستقلّة غير الإرادة المتعلّقة بفعل الواجبات ، إلاّ أنّها ليست مرادة بإرادة مولويّة في قبال الإرادة المتعلّقة بفعل الواجب ، فالإرادة المنفيّة بالنّسبة إلى الإطاعة في كلام شيخنا قدس‌سره :هي الإرادة المولويّة التّشريعيّة لا مطلق الإرادة ؛ ضرورة عدم كون الأمر


الإرشادي منسلخا عن معنى الطّلب والوجوب فيكون إخبارا كما توهّمه جمع من أفاضل معاصرينا أو قارب عصرنا.

طاعة الأمر الإرشادي لا توجب ثوابا ولا مخالفته عقابا

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ إيجاب الشّارع للعمل بالظّن في زمان الانسداد المستكشف من حكم العقل إنشاء أو إدراكا وإن كان غيريّا تبعيّا بنحو من الغيريّة لا يترتّب على موافقته من حيث إنها موافقة ، أثر من الثّواب زائدا على ما يترتّب على إطاعة الأوامر الواقعيّة عند مصادفة الظّن للواقع ولا على مخالفته من حيث إنّها مخالفة عقاب غير العقاب المترتّب على مخالفة الحكم الإلزامي على تقدير المصادفة ، نظير إيجاب الشّارع للإطاعة في الشّرعيّات ؛ حيث إنّه لا يترتّب على موافقته من حيث إنّها موافقته ولا على مخالفته بالحيثيّة المذكورة شيء من الثّواب والعقاب ؛ حيث إنّه ممحّض في الإرشاد من غير فرق بينه من حيث استكشافه من حكم العقل بوجوبها ، وبينه من حيث وروده في الشّرع كتابا وسنّة ، ونظير حكم العقل والشّرع بوجوب التّوبة على العاصي إلاّ أنّه ليس من مراتب الإطاعة وأنحائها وشؤونها وكيفيّاتها كما هو المصرّح به في كلام شيخنا قدس‌سره في هذا المقام بقوله : « فكذلك كيفيّة الإطاعة وأنّه يكفي فيها تحصيل الظّن بمراد الشّارع في مقام ... إلى آخر ما أفاده » (١).

ضرورة أنّه لو كان الأمر كما أفاده قدس‌سره لزم الحكم بترتّب الثّواب والعقاب

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٦.


على نفس العمل بالظّن وتركه وإن لم يترتّب على موافقة الأمر المتعلّق به ولا على مخالفته شيء من الثّواب والعقاب كما يلتزم به بالنّسبة إلى الإطاعة والمعصية.

اللهم إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره : أنّ سلوك الظن والعمل به عند مصادفته للواقع يترتّب عليه آثار إطاعة الأوامر الواقعيّة من غير أن يترتّب على موافقة نفس الأمر المتعلّق به بعنوان الطّريقيّة شيء ، فالعنوان الّذي يترتّب عليه الآثار ، إطاعة الأوامر الواقعيّة المستكشفة بالظّن ، فالعمل بالظّن بهذا العنوان له آثار وأمّا الأمر المتعلّق به فلا أثر له من حيث هو فسلوك الظن إطاعة للأوامر الواقعيّة في الجملة.

فإذن يصحّ أن يقال : إنّ إطاعة الأوامر الواقعيّة قد تكون مع العلم بها ، وقد تكون مع الظّن بها ، فهي مع الظن بها نحو من الإطاعة فليس الغرض جعل سلوك الظّن بقول مطلق من مراتب الإطاعة حتّى يتوجّه عليه المناقشة المذكورة.

نعم ، لا بدّ أن يلاحظ الشّارع في أمره بسلوك الطّريق الظّني ـ مع التمكّن من تحصيل العلم ـ بالواقع ما يتدارك به ما يفوت من الواقع من العمل به ، لا أن يحدث في الفعل الّذي قام على وجوبه مثلا مصلحة حتّى يرجع إلى التّصويب ، أو أن يكون في العمل به وسلوكه مصلحة حتّى يشكل الفرق بينه وبين التّصويب عند التّأمّل ، على ما عرفت شرح القول فيه في مطاوي كلماتنا السّابقة.

ومن هنا أبطلنا القول باختصاص حجيّة الظّن بالطّريق بعد تسليم العلم الإجمالي بجعله فيما علّقناه على الأمر المتقدّم ، كما أبطلنا القول باقتضاء الأمر الظّاهري للإجزاء في مسألة الإجزاء.

هذا غاية ما يقال في شرح كلماته قدس‌سره في هذا المقام وعليك بالتّأمّل فيه لعلّك تجده حقيقا بالقبول والإذعان.


(٣) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ هذين التّقريرين مشتركان في الدّلالة ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٦٧ )

أقول : لمّا كان من الخصوصيات الّتي يتكلّم فيها من حيث عموم النّتيجة لها الموارد والمسائل الفقهيّة الّتي يحتمل فيها الحكم الإلزامي من أوّل الفقه إلى آخره ، أراد بما أفاده قدس‌سره : بيان كون النّتيجة عامّة بالنّسبة إليها على التّقريرين ، فينحصر التّكلم فيها من حيث العموم وعدمه ، على الأسباب والمراتب من حيث كون العموم من جهة الموارد أمرا مفروغا عنه على كلّ تقرير ، وإن كان الدّال عليه على تقرير الكشف الإجماع ، وعلى تقرير الحكومة العقل ؛ من حيث وجود مناط حكمه بالنّسبة إلى كلّ مورد ، وكلّ مسألة من غير فرق بينهما.

وإن كان لازم هذا البيان كما ترى ، كون النّتيجة على الكشف غير عامّة بالنّسبة إلى الموارد بالنّظر إلى نفس التّقرير من غير ضمّ الإجماع إليه.

وظاهر العبارة عند إثبات الدّلالة على العموم أوّلا : كون الدّلالة على العموم مستندة إلى نفس المقدّمات من غير ضمّ شيء آخر إليها. فربّما يحكم بالتّدافع بين العبارتين بهذه الملاحظة ، إلاّ أنّه لا ينظر إلى هذه المناقشات بعد وضوح المراد وقيام القرينة الظّاهرة عليه.

__________________

(١) قال الشيخ موسى التبريزي قدس‌سره :

« فيه نوع من المسامحة ؛ إذ لا دلالة للتقرير الأوّل على العموم بحسب الموارد إلاّ بواسطة الإجماع الذي إدّعاه ، فالأولى أن يقال :

إن العموم بحسب الموارد ثابت بالنسبة إلى التقريرين ، أمّا الأوّل فبالإجماع وأمّا الثاني فبإستقلال العقل ». أوثق الوسائل ـ أنظر الفرائد المحشّى : ١٣٩.


نعم ، هنا شيء ينبغي التّنبيه عليه والإشارة إليه وهو : أنّ الّذي يقتضيه التّحقيق والتّأمّل التّام في المقام استناد عموم النّتيجة على الكشف إلى نفس المقدّمات أيضا ، وحكم العقل به من غير ملاحظة الإجماع أصلا (١) ؛ حيث أنّ مناط إدراك العقل لجعل الشّارع الظن طريقا للتكاليف الواقعيّة والأحكام الإلزاميّة ـ بملاحظة ما مرّت الإشارة إليه من المقدّمات عند بيان تقرير الكشف ـ موجود بالنّسبة إلى جميع أطراف الشّبهة من أوّل الفقه إلى آخره من غير خصوصيّة لبعض المشتبهات في حكم العقل على سبيل القطع واليقين ، فلا حاجة إلى التمسّك بالإجماع في المقام جزما. مضافا إلى ما في التّمسك به من الإشكال الّذي عرفته ، فلو أبدل التّمسك بالإجماع بالتّمسك بنفس حكم العقل لم يرد إشكال التّدافع بين العبارتين أيضا كما هو ظاهر.

__________________

(١) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

( يمكن دفع الإعتراض بإن المسألة عقليّة لا يدخلها الإجماع بأن العقل على تقرير الكشف بملاحظة المقدّمات يقطع بأن الشارع مع وجود هذه المقدّمات جعل الظنّ في الجملة حجّة من غير إدراكه أمرا زائدا على ذلك ، والإجماع أثبت في الجملة تعميم هذا الحكم الإدراكي للعقل ، فما أدركه العقل أمر ، وما أثبته الإجماع أمر آخر ، والمدّعى له جزءان يثبت جزء منه بالعقل وجزء بالإجماع والمنشيء هو الشارع ، فمسألة اعتبار الظن في الجملة عقليّة بمعنى إدراكه إيّاه ومسألة تعميمه بحسب الموارد شرعيّة والمسألتان غيران ). إنتهى. أنظر الفرائد المحشى : ١٣٩.


(٤) قوله قدس‌سره : ( أمّا التّقرير الثّاني : فهو يقتضي التّعميم والكلّية من حيث الأسباب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٦٧ )

في التعميم من حيث الأسباب والمراتب

أقول : بعد الحكم بعموم النّتيجة بالنّسبة إلى الموارد على التّقريرين ، أراد التكلّم في عمومها بالنّسبة إلى الأسباب والمراتب على كلّ من التّقريرين ، على سبيل الفهرست والإجمال ، ثمّ بيان الحقّ من التّقريرين حتّى يشرح القول فيه بعد ذلك.

ولمّا كان عنوان حكم العقل على تقرير الحكومة ـ على ما عرفت الكلام فيه ـ مرادا في الحكم بوجوب العمل بالظن ، أمرا راجعا إلى نفس صفة الظن وقائما به من غير دخل للسّبب فيه أصلا ، وهو القرب إلى الواقع ، والكشف الظّني عنه الّذي هو ذاتيّ للظّن ، في قبال الشّك والوهم اللّذين لا قرب فيهما ولا كشف لهما أصلا ، فلا محالة يحكم بعدم الفرق بين الأسباب ، وهو معنى عموم النّتيجة بالنّسبة إليها.

ومن هنا ذكرنا المناقشة فيما سيجيء فيما أفاده المحقّق القمّي قدس‌سره عند التّخلص عن إشكال خروج القياس : « من أنّ العقل يحكم بحجيّة الأدلّة الظنّيّة دون مطلق الظّن النّفس الأمري » (١) وإن أمكن توجيهه بتنزيله على الكشف ، كما ستعرف الإشارة إليه.

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٨.


ولمّا كان القرب إلى الواقع الّذي عرفت كونه مناطا في حكم العقل على هذا التّقرير مقولا بالتّشكيك ومختلفا غاية الاختلاف وله مراتب كثيرة ودرجات عديدة ؛ حتّى أنّ بعض مراتبه يشتبه بالشّك من جهة خفائه ، وبعض مراتبه يشتبه بالعلم من جهة وضوحه وظهوره ، وهو الظّنّ القويّ الاطمئناني المتاخم بالعلم ـ حتّى قيل : إنّه علم ، مسامحة. كما عرفته من كلام شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ، بل حقيقة ، كما عرفته من كلام شيخنا ( طيّب الله رمسه ) في « الجواهر » (١) ـ فلا محالة يحكم العقل بحجيّة القويّ منه على تقدير كفايته ، وعدم جواز الأخذ بغيره من المراتب. كما أنّه يحكم بحجيّة مطلق الظن على تقدير عدم كفايته وعدم جواز الأخذ بالظّنون النّوعيّة ، إلاّ على تقدير انسداد بابه وعدم وجود مقدار كاف منه في الفقه.

ولمّا لم يكن له مراتب مضبوطة بعد انتفاء القويّ حكمنا بحجيّة مطلق الظّن على هذا التّقدير ، وهذا معنى عموم النّتيجة وكلّيتها بالنّسبة إلى الأسباب على تقرير الحكومة ، واختصاصها بالظّن القوي الاطمئناني على هذا التّقرير ، وعدم شمولها لدونه من الظّن الضّعيف ، فلا إهمال في النّتيجة على هذا التّقرير بالنّسبة إلى جميع الخصوصيّات. غاية الأمر : أنّها عامّة كليّة بالنّسبة إلى الموارد والأسباب ، وخاصّة جزئيّة مقيّدة بالنّسبة إلى المراتب.

ومن هنا ذكر في « المعالم » في « مقام تخصيص النّتيجة بخبر العادل » : « أنّه إذا كان للظّن جهات متفاوتة في القوّة والضّعف ، فالعقل يحكم : بأنّ العدول من

__________________

(١) في مواضع من الجواهر منها : ج ٢٢ / ١٥٤ وج ٢١ / ٣٦٢.


القويّ إلى الضّعيف قبيح. والظن الحاصل من خبر العادل أقوى الظنون ؛ فيجب الاقتصار عليه » (١) فإنّ هذا الكلام كما ترى ينطبق على ما ذكرنا وإن زعم بعض محشّيه : « أنّه منزّل على الكشف » (٢).

وبمثل ما عرفت ينبغي تحرير بيان عدم العموم بالنّسبة إلى المراتب على هذا التّقرير ، لا بمثل ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « إذ لا يلزم من بطلان كليّة العمل بالأصول التي هي طرق شرعيّة الخروج عنها بالكليّة ... إلى آخر ما أفاده » (٣).

إذ يرد عليه ـ بعد حمل الأصول في كلامه على خصوص أصالة الاحتياط من حيث تعدّدها بحسب أفرادها ومواردها ، لبطلان الرّجوع إلى غيرها رأسا حسبما صرّح به فيما تقدّم عند الكلام في ذكر مقدّمات الانسداد ، وإنّما استشكل سابقا هناك في بطلان خصوص الاحتياط رأسا ؛ من جهة عدم اقتضاء دليل نفي الحرج الذي تمسكوا به لبطلان وجوب الاحتياط ، إلاّ بطلانه في الجملة لا أصلا ورأسا ـ :

أنّ ما أفاده قدس‌سره كما ترى ، أرجع إلى المناقشة في تماميّة المقدّمات المنتجة لحجيّة الظّن ، ولا تعلّق له أصلا بالكلام في عموم النّتيجة وعدمه بعد الفراغ عن تماميّتها ، وكيف يجامع هذا الإشكال مع تقرير الحكومة بما عرفته من كلامه؟

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٩٣.

(٢) لم نعثر عليه عجالة عند الصالح المازندراني ولا التقي والسلطان ممّا كان بأيدينا من حواشي المعالم.

(٣) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٧.


وكيف يستقلّ العقل في الحكم بقبح إرادة الشّارع ما زاد على الإطاعة الظّنيّة مع عدم بطلان الاحتياط رأسا؟

مع أنّ الإطاعة الإجماليّة مقدّمة في نظر العقل على الإطاعة الظّنيّة ، فما أفاده قدس‌سره لا مساس له بالمقام أصلا ، حسبما اعترف به في مجلس البحث وغيره ، هذا كلّه على تقرير الحكومة.

وأمّا على تقرير الكشف ، فلا إشكال في إهمال النّتيجة وإجمالها بالمعنى الّذي عرفته بالنّسبة إلى كلّ من الجهتين بذاتها ، وبالنّظر إلى نفس المقدّمات من غير ضمّ شيء آخر إليها من الخارج ولو بحسب اللّحاظ ؛ فإنّ العنوان المدرك في حكم العقل على الكشف وإن كان قرب الظّن أيضا بالنّسبة إلى الشّك والوهم ، إلاّ أنّه يجوّز العقل وجود خصوصيّة لبعض أسباب الظن عند الشّارع يخصّص به اعتبار القرب الحاصل منه في نظر الشّارع.

ومن هنا حكم الشّارع باعتبار بعض الظّنون من حيث الخصوص في زمان الانفتاح ، وليس ذلك إلاّ من جهة خصوصيّة له في نظر الشّارع أوجب ترجيحه وليس الملحوظ مجرّد طريقيّته ، وإلاّ لما أمكن ترجيحه مع أنّه موجب لتفويت الواقع من دون تدارك وهو قبيح على ما عرفت شرح القول فيه عند التكلّم على قول ابن قبة.

كما أنّه يجوز اعتباره للظّن الضّعيف وطرح القوي من جهة الملاحظة المذكورة ، ومن ثمّ حكم في ذلك الزّمان باعتبار ما لا يكون أقوى من غيره نوعا بل أضعف ، فإذا جوّز الأمران فلا محالة لا يحكم بعموم النّتيجة من الجهتين ، بل يكون مهملة مردّدة بين الكلّ والبعض ، كما أنّها مردّدة بين القويّ والضّعيف.


وممّا ذكرنا يظهر : فساد ما توهّمه (١) بعض المعاصرين : من عموم النّتيجة على الكشف بالنّظر إلى الأسباب ، كما هو الحال على تقرير الحكومة ؛ نظرا إلى اتحاد مناط الحجيّة على التّقريرين مناقشا فيما أفاده شيخنا قدس‌سره من الفرق في النّتيجة بين التّقريرين من الجهتين وإهمالها على الكشف منهما.

(٥) قوله قدس‌سره : ( وإنّ التّقرير على وجه الكشف فاسد ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ المقدّمات المذكورة ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٤٦٨ )

تقرير الكشف فاسد من وجوه ثلاثة

أقول : قد عرفت : أنّ الحكم الإدراكي للعقل بحجيّة الظّن عند الشارع الّذي يرجع إليه تقرير الكشف مبنيّ على ضمّ مقدّمة أخرى إلى مقدّمات دليل الانسداد المعروفة المذكورة في كلماتهم وهي : قبح التّكليف من جانب الشّارع من دون نصب طريق له مع فرض انسداد باب العلم بالأحكام الإلزاميّة الإلهيّة في الوقائع المشتبهة ، وإلاّ فنفس المقدّمات المذكورة لا تنتج في حكم العقل نصب الشّارع للظّن.

فإذن يتوجّه عليه : أوّلا ؛ أنّ لزوم النّصب على الشّارع في حكم العقل بعد فرض بقاء التكليف ، إنّما هو فيما لم يكن هناك طريق يسلكه العقلاء في باب مطلق الأحكام الصّادرة من الموالي بالنّسبة إلى العبيد شارعا كان أو غيره ، ويحكم به العقل المستقلّ بعد القطع بعدم نصب طريق من جانب المولى ، والمفروض

__________________

(١) في الأصل : « فساد لما يتوهّمه » والصحيح ما أثبتناه.


استقلال العقل في الحكم بحجيّة الظّن في الموضوع الّذي دار الأمر بينه وبين غيره من الشّك والوهم كما فرض وجوده بالنّظر إلى مقدّمات دليل الانسداد المتقدّمة.

وثانيا : أنّ غاية ما يحكم به العقل بالنّظر إلى المقدّمة المفروضة ـ بعد الإغماض عمّا ذكر أوّلا ـ هو وجوب نصب الطّريق على الشّارع من غير فرق بين الظّن وغيره. وإيجابه نصب خصوص الظّن على الشّارع إنّما هو موقوف ومتفرّع على علمه بانتفاء ما يصلح للطّريقيّة في نظر الشّارع ممّا لا يدخل في عنوان الظن وجزمه بذلك حتّى يحكم بوجوب نصب خصوص الظّن على الشّارع من جهة الانحصار ، وأنّى له بذلك بعد تجويز نصب الشارع لما لا يفيد الظن أصلا من باب التّعبّد ؛ لما يرى فيه من المصلحة؟ كما هو المشاهد بالنّسبة إلى الأصول العمليّة الظّاهريّة ، أو نصبه لما يفيد الظّن شأنا لخصوصيّة فيه وإلقائه الظّن الشّخصي رأسا ، وليس ذلك ممّا يستحيله العقل بعد المشاهدة والوقوع في الشّرعيّات مع التّمكّن من تحصيل العلم بالواقع الّذي يكون أولى بالمراعات من زمان عجز تحصيل العلم بالواقع.

والقول : بأنّ نصب غير الظّن الشّخصي في زمان الانسداد بل في زمان الانفتاح وإن كان مجوّزا عند العقل ، إلا أنّ المانع من حكمه بوجوب نصب الظّن على الشارع علمه بنصب غير الظن في الشّرعيات ـ لا مجرّد احتماله حتّى يكون حكمه بالوجوب مشروطا بعلمه بعدم النّصب الّذي لا سبب له في الشّرعيّات بعد إمكانه عقلا ؛ إذ كما أنّ المانع من حكمه الإنشائي على تقرير الحكومة علمه بنصب غير الظّن لا مجرّد احتماله ـ وإلاّ توجّه المنع الّذي أورده بعض المحقّقين على دليل الانسداد : بأنّ انسداد باب العلم وبطلان الرّجوع إلى الأصول جوازا في


بعض ووجوبا في آخر ، لا ينتج جعل الظّن وحجيّته ؛ لاحتمال نصب الشّارع غيره ـ كذلك المانع من حكمه الإدراكي على تقرير الكشف علمه بالنّصب لا مجرّد احتماله ؛ إذ الدّليل واحد والمقدّمات متّحدة لا يختلف الحال فيها بحسب الاختلاف التّقرير ـ فاسد جدّا ؛ لوضوح الفرق وفساد قياس الإدراك بالإنشاء.

ضرورة عدم إمكان دخل الأمر الواقعي النّفس الأمري في إنشاء العقل الّذي يرجع إلى وجدانه المترتّب على الموضوع الوجداني والعنوان التّحقيقي ، وهذا بخلاف الإدراك ؛ فإنّ المدرك وإن كان العقل ، إلاّ أنّ الحاكم المنشئ الشارع ، فيعتبر وجود المانع في علمه ، ولا يعتبر وجوده في وجدان العقل وعلمه كما هو الحال على تقرير الحكومة ، فكلّما احتمل نصب غير الظّن فيحتمل وجود المانع في وجدان الشّارع فلا يستقلّ بإدراك نصب الظّن.

لا يقال : إنّ المانع احتمال النّصب على التّقريرين على زعم من يجعله مانعا وهو أمر وجدانيّ لا النّصب الواقعي حتّى يحكم بالفرق بين التّقريرين بما ذكر فالأمر بالأخرة يرجع إلى الوجدان على كلا التّقريرين.

لأنّا نقول : صلاحيّة الاحتمال للمنع إنّما هو من جهة كون المحتمل صالحا له ، فإذا حكم بعدم صلاحيّته على تقرير الحكومة فلا يعقل جعل نفس الاحتمال مانعا فتدبّر.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : فساد ما أورده بعض على ما أفاده شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في الإيراد الثّاني على الكشف : بأنّ حكم العقل بحجيّة الظن لا يختلف الحال فيه بحسب التّقريرين ، فإن كان حاكما به في زمان الانسداد فيحكم به على التّقريرين ، وإن لم يكن حاكما به من جهة تجويز نصب غير الظّن الشّخصي في


حكم العقل للشّارع وكون مجرّده مانعا عن حكمه فلا يحكم به على التّقريرين.

والّذي يظهر منه : أنّه لم يفرق بين التّقريرين ولم يفهم حقيقتهما فتخيل رجوعهما إلى الإنشاء ، أو لم يفرق في صلاحيّة منع الاحتمال بين الإنشاء والإدراك في وجه.

وبالجملة ؛ هذا الإيراد لا واقع له أصلا ، إلاّ أن يتشبّث بذيل الإجماع وادّعى قيامه على عدم نصب غير الظنّ في الشرعيّات في زمان الانسداد.

فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى منعه على وجه ينفع ـ : أنّ مرجع الإجماع المذكور عند التّأمّل بعد تسليمه إلى قيامه على حجيّة الظن عند الانسداد كما هو أحد الأدلّة عند جمع (١) ممّن ذهب إلى حجيّة الظن المطلق منهم : المحقّق القمي قدس‌سره على ما صرّح به في بعض كلماته ، ولا تعلّق له بدليل الانسداد ولا بالكشف والحكومة ، والكلام كلّه ؛ إنّما هو في نتيجة دليل الانسداد الّذي أقاموه لإثبات حجيّة الظن المطلق فلا مناسبة لذكر الإجماع في المقام.

ومن هنا أمر شيخنا قدس‌سره بالتّأمّل عقيب الاستدراك بقوله : « إلاّ أن يدّعى الإجماع على عدم نصب شيء آخر ... إلى آخره » (٢).

وثالثا : بأنّه لا يفيد في إثبات المدّعى للمستدلّ به وهو حجيّة مطلق الظّن إلا بعد عدم تماميّة المعيّنات الّتي ذكروها للمهملة وسيجيء تماميّة بعضها فتدبّر.

__________________

(١) منهم العلامة المحقق الفقيه الفاضل المير سيد علي الطباطبائي صاحب الرياض وخاله النّحرير الوحيد البهبهاني وتلميذه السيّد شارح الوافية ، أنظر هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٣٠.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٦٩.


اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ الكلام في صحّة تقرير الكشف وعدمها لا في إنتاجه لحجيّة مطلق الظّن فهذا الاعتراض لا توجّه له أصلا فتأمّل.

(٦) قوله قدس‌سره : ( وأمّا ثالثا : فلأنّه لو صحّ كون النّتيجة مهملة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٦٩ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّ المصرّح به في كلامه ـ فيما سيجيء ـ استقامة تعيين المهملة بأمور كتيقّن الاعتبار ونحوه ، لا دخل للإجماع في تعيينها ، بل صحّة التّعميم بما لا دخل للإجماع فيه بحيث يرجع الأمر إلى التّمسّك بالإجماع على حجيّة الظّن في المقام حتّى يتوجّه عليه ـ مضافا إلى منعه ـ بأنّه لا تعلّق له بالدّليل العقلي أصلا.

ولو أبدل الوجه الثّالث بما ذكرنا ثالثا لكان أبعد من المناقشة ، وإن توجّه عليه أيضا : ما عرفت الإشارة إليه ؛ من عدم رجوعه إلى إبطال تقرير الكشف كالأوّلين الرّاجعين إليه حقيقة.

(٧) قوله قدس‌سره : ( الأوّل : عدم المرجّح لبعضها على بعض ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧١ )

أقول : هذه عمدة المعمّمات الّتي ذكروها في المقام ، بل الصّحيح منها لما ستقف عليه من بطلان غيرها. لكنّه موقوف على ثبوت أمرين :

أحدهما : عدم المرجّح لبعض الظّنون على بعض فيتوقّف على استقصاء ما ذكروه مرجّحا ومعيّنا وإثبات عدم صلاحيّتها للتّعيين ، وأمّا مجرّد وجود احتمال المرجّح لبعضها بحسب الواقع في نظر الشّارع وإن لم نعلمه ، فيكفي ذلك مانعا عن التّعميم بما ذكر من الوجه ، وإن أبطلنا ما ذكروه معيّنا فلا إشكال في عدم صلاحيّته للمنع ؛ فإنّ هذا الاحتمال لو كان في بعض معيّن دون غيره فيدخل في بعض المعيّنات المذكورة لا محالة ؛ فإنّه يصير بهذه الملاحظة أولى بالاعتبار من غيره


ولو كان في كلّ بعض ، أو في بعض معيّن واقعا ، غير معيّن عندنا بمعنى احتمال الخصوصيّة في بعض الأبعاض في الواقع مع كونه غير معيّن عندنا ، فلا يصلح مانعا للتّعميم بالمعمّم المذكور ؛ ضرورة مساواة هذا الاحتمال بالنّسبة إلى كلّ بعض فيؤول إلى عدم المرجّح والمعيّن حقيقة.

ثانيهما : بطلان التّخيير ؛ بمعنى كون الحجّة بجعل الشّارع كلّ واحد من الظّنون والأمارات الكافية على سبيل التّخيير ، فيكون كلّ واحد حجّة على سبيل التّخيير والبدليّة ؛ إمّا تخييرا استمراريّا ، أو ابتدائيّا. والثّمرة بينهما ظاهرة ؛ إذ العقل الحاكم بوجوب نصب ما به الكفاية على الشّارع في الشّرعيّات لا يعيّن النّصب على الشّارع على سبيل التّعيين بعد حصول المقصود بالنّصب على سبيل التّخيير فيؤول الأمر بالأخرة إلى الإهمال حقيقة من هذه الجهة ، وليس مرجع التّخيير إلى التّرجيح حتّى يطالب المرجّح ، بل هو في مقابل التّرجيح كما هو ظاهر ، وإن كان اختيار المكلّف يستند إلى مرجّح لا محالة.

ضرورة استحالة تعلّق الإرادة بأحد المتساويين إلاّ أنّه لا يتوقّف على مرجّح شرعيّ ، بل يكفي له المرجّح النّفساني كما هو الشّأن في جميع موارد التّخيير في الأصول والفروع.

ومرجع التّخيير كما عرفت وإن كان إلى حجيّة جميع الظّنون أيضا ، إلاّ أن المدّعى حجيّة كلّ واحد تعيينا فما لم يبطل لم يثبت المدّعى ولم يتمّ المعمّم المذكور.

لكن يمكن إن يقال : إنّ احتمال التّخيير إنّما هو فيما فرض كفاية كلّ واحد من الظّنون على ما عرفت ، وإلاّ لم يحتمل ؛ لأنّ العقل إنّما حكم بوجوب نصب ما


به الكفاية ، وفرض الكفاية بالنّسبة إلى كلّ واحد إنّما هو لوجود الجميع في غالب المسائل الفقهيّة بحيث يكون كلّ واحد سببا تامّا لحصول الظن منه على تقدير الاستناد إليه ؛ إذ لولاه يكون المحذور من الرّجوع إلى الأصول في مجاريها وهو لزوم مخالفة العلم الإجمالي الّذي أوجب حجيّة الظن فرارا عنه باقيا.

وهو مع أنّه مجرّد فرض غير واقع في الشّرعيّات ـ كما هو ظاهر لمن كان له اطلاع بالمسائل وموارد الأمارات مضافا إلى أنّ الحجّة الظّن الشّخصي ولا يمكن تعدّده حتّى يحكم بالتّخيير فتأمّل ـ متّحد بحسب الفائدة والثّمرة مع الحكم بحجيّة كل واحد جمعا.

إذ التّعارض لا يتصوّر على القول باختصاص النّتيجة بالظّن في المسألة الفرعيّة حتّى يقال : بأنّه يظهر الثّمرة بينهما في باب التّعارض ؛ فإنّ الأمارتين المتعاضدتين راجحتان على الأمارة الواحدة ، وليس مفروض البحث في مسألة تعارض الأمارات على تقدير الإغماض عمّا ذكرنا ؛ حتّى يظهر الفرق بين التّخيير والتّعيين ؛ إذ المفروض موافقة الأمارات وجعل التّخيير بين كلّ مقدار من الأمارات الكافية فلا يلزم وجود كلّ واحد من الأمارات في الفقه كما ترى فتأمّل (١).

مع أنّ التّخيير في المقام على القول به نظير التّخيير الواقعي في المسألة

__________________

(١) الوجه فيه : عدم المانع من ذلك بعد فرض تقوّم ما به الكفاية به حسبما يفصح عنه مقالة القائلين بإهمال النتيجة ، مع ان مرجع الإشكالات المذكورة إلى الإشكال في تصوّر التخيير في المقام والكلام في أن إبطاله على تقدير تصوره ، مما يتوقف عليه تماميّة هذا المعمّم فتدبّر. منه دام ظله.


الفرعيّة كما في الخصال (١) والقصر والتّمام في [ ال ] مواطن الأربع (٢) ، وليس كالتّخيير بين المتزاحمين ، أو التّخيير العذري الظّاهري بين الدّليلين المتعارضين ، أو الاحتمالين المتعارضين كدوران الأمر بين الوجوب والتّحريم ، فلا بدّ أن يكون كلّ واحد مشتملا على مصلحة تحصل به ما هو الغرض من التّكليف بغيره بحيث يكون غيره بعد إيجاده خاليا عن المصلحة. وأين يعلم به في الظّنون القائمة في المسائل الفقهيّة؟ فتأمّل (٣).

ثمّ إنّ مرجع ادّعاء الإجماع على بطلان التّخيير ؛ أنّ التّخيير على الوجه المرقوم بين الأمارات ممّا لا يقول به أحد من علمائنا القائلين بحجيّة الظّنون الخاصّة ، أو المطلقة ، بل لم يقل به أحد من علماء العامّة ولم يعهد من الشّارع في مورد من الموارد.

فيعلم من ذلك : أنّ حكم الشّارع في المقام والمجعول عنده ليس كلّ واحد من الظّنون تخييرا ، وبعد بطلانه وعدم المرجّح بالفرض يعلم : أنّ المهملة عندنا منطبقة على القضيّة الكليّة العامّة عند الشّارع ، فيعلم بذلك : أنّ المجعول عند الشّارع جميع الأمارات وهذا معنى تعميم النّتيجة.

__________________

(١) يريد التخيير بين خصال الكفّارة.

(٢) التخيير بين القصر والتمام في المواطن الربعة في المسجد الحرام والمسجد النبوي ومسجد الكوفة والحائر الحسيني على الثاوي به من الصلوات زنة عرش الله ومداد كلماته وما احصاه كتابه وأحاط به علمه.

(٣) الوجه في التأمّل : أن احتمال ذلك يكفي مانعا مضافا إلى إمكان تصوير ذلك في الأمارات. منه دام ظلّه العالي على مفارق الأنام.


(٨) قوله قدس‌سره : ( الأوّل : كون (١) بعض الظّنون متيقّنا بالنّسبة إلى الباقي ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٢ )

تيقّن الإعتبار هل يصلح لرفع الإهمال وتغيير النتيجة أم لا؟

أقول : الكلام في هذا المعيّن قد يقع في مفهومه ، وقد يقع في مصداقه ، وقد يقع في وجه كونه معيّنا للمهملة وصارفا لها في ضمن ما تحقّق كونه من مصاديقه.

أمّا الكلام فيه من الجهة الأولى ، فملخصّه : أنّ المراد به : هو الأولى بالاعتبار بالنّسبة إلى غيره من الأمارات ، سواء اعتبر أولويّته بالنّسبة إلى جميع الأمارات وهو المسمّى عندهم بالمتيقّن الحقيقي والمتيقّن بقول مطلق ، أو بعض الأمارات ممّا هو دونه وهو المسمّى عندهم بالمتيقّن الإضافي. فالمتيقّن بقول مطلق وإن كان أمرا إضافيّا يعتبر في تصوّر مفهومه ملاحظة الغير ولو في القسم الأوّل ، إلاّ أنّه من جهة الامتياز بين القسمين منه سمّي الأوّل بالحقيقي والثّاني بالإضافي.

فالمتيقّن بحسب المفهوم كما ترى يرجع إلى قضيّة شرطيّة وثبوت الملازمة بين اعتبار غير ما فرض متيقّنا واعتبار ما فرض متيقّنا من دون عكس ، فكما يجامع ويتحقّق مع العلم باعتبار شيء من الأمارات في الشّرع ويصدق معه ، كذلك يصدق مع العلم بعدم اعتبار شيء من الأمارات في الشّرع على نهج واحد.

فإنّ نسبة الشّرطيّة إلى وجود الشّرط وعدمه على حدّ سواء فكما تصدق مع

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : الأوّل من هذه الأمور كون بعض ... إلى آخره.


صدق الشّرط كذلك تصدق مع كذب الشّرط من غير فرق بين الأمرين.

فمعنى كون الشّيء أولى بالاعتبار من غيره : أنّه لو كان غيره معتبرا لزم اعتباره ، وأمّا لو كان هو معتبرا ، لم يلزم اعتبار غيره من غير فرق بين ثبوت اعتبار غيره وعدمه. فليس المراد من متيقّن الاعتبار : معلوم الاعتبار ؛ بأن يقوم هناك دليل قطعيّ على اعتباره ؛ إذ قد عرفت صدقه مع العلم بعدم اعتباره وعدم اعتبار غيره.

وبالجملة : وجود خصوصيّة في بعض الأمارات بحيث توجب الأولويّة بالاعتبار من غيره لا يلازم العلم بحجيّة غيره ولا بحجيّته في الشّرعيّات.

فما تخيّله بعض في المقام مناقشا فيما أفاده شيخنا قدس‌سره : من رجوع المتيقّن الاعتبار إلى معلوم الاعتبار ـ إذ لا يصير الظّن متيقّن الاعتبار إلاّ بعد قيام الدّليل القطعي على اعتباره فيدخل في الظّن الخاص ولا تعلّق له بالظّن المطلق ودليل الانسداد وقضيّة الإطلاق والإهمال حتّى يجعل معيّنا للمهملة ؛ إذ الظّن الخاصّ على تقدير وجوده وكفايته كما هو المفروض في المقام ، مانع عن دليل الانسداد. فكيف يجعل من مقتضياته ومعيّنا للمهملة الثّابتة به؟ ـ.

فاسد جدّا وهو كما ترى ، ناش عن الجهل بحقيقة كلماتهم ومرادهم من هذا اللّفظ.

مع أنّه ظاهر في ابتداء النّظر فيما ذكرنا مضافا إلى صراحة كلمات شيخنا قدس‌سره في غير موضع فيه ، وما أدري ما أجهله بما ذكره شيخه المحقّق المحشّي قدس‌سره في هذا المقام؟ فكأنّه لم يرجع إليه أصلا.

وقد أطال قدس‌سره الكلام في بيان هذا المرام وأوضحه غاية الإيضاح حيث


قال قدس‌سره ـ في عداد الوجوه الّتي ذكرها في قبال القائلين بحجيّة مطلق الظّن في الأحكام ؛ نظرا إلى أن نتيجة دليل الانسداد بنفسها أو بضميمة بطلان التّرجيح من غير مرجّح إطلاق حجيّة الظّن ـ ما هذا لفظه :

« الخامس : أنّه بعد البناء على حجيّة الظّن في الجملة على سبيل القضيّة المهملة كما قضت به المقدّمات الثّلاث المذكورة إذا دار الأمر فيه بين حجيّة جميع الظّنون أو الظّنون الخاصّة من دون مرجّح لأحد الوجهين لزم البناء على حجيّة الجميع ، لتساوي الظّنون إذن في نظر العقل وبطلان التّرجيح من غير مرجّح قاض بالتّعميم.

وأمّا إذا كان البعض من تلك الظّنون مقطوعا بحجيّته على فرض حجيّة الظّن في الجملة دون البعض الآخر تعيّن ذلك البعض للحكم بالحجيّة دون الباقي ؛ فإنّه القدر اللاّزم من المقدّمات المذكورة دون ما عداه ؛ إذ حكم العقل بحجيّة الكلّ على ما ذكر ليس من جهة انتفاء المرجّح بينها بحسب الواقع حتّى يجب الحكم بحجيّة الجميع [ كذلك ](١) ، بل إنّما هو من جهة عدم علمه بالمرجّح فلا يصح له تعيين البعض للحكم بالحجيّة دون البعض من دون ظهور مرجّح عنده فيتعيّن عليه الحكم بحجيّة الكلّ بعد القطع بعدم المناص عن الرّجوع إليه في الجملة ، فعموم الحكم إنّما يجيء حينئذ من جهة الجهل بالواقع ، ولا يجري ذلك عند دوران الأمر بين الأخصّ والأعمّ على نحو ما هو المفروض في المقام ؛ لثبوت حجيّة الأخصّ حينئذ على التّقديرين ، فبعد ثبوت حجيّة الظن في الجملة لا كلام إذن في حجيّة

__________________

(١) أضفناها من متن الهداية.


الأخصّ ، وإنّما التّأمّل في حجيّة الباقي حينئذ. فكيف يسوغ للعقل [ في مقام الجهل ](١) أن يحكم بجواز الرّجوع إلى الباقي مع الاكتفاء بتلك الظّنون في استعلام الأحكام؟ إذ المفروض كون حجيّة الأخصّ حينئذ مقطوعا بها عند العقل وحجيّة الباقي مشكوكة ، بل الضّرورة العقليّة قاضية بترجيح الأخصّ والاقتصار عليه في مقام الجهل حتّى يتبيّن له حجيّة غيره من الظّنون.

فإن قلت : إنّ الظّنون الخاصّة لا معيار لها حتّى يؤخذ بها على مقتضى التّعيين المفروض لحصول الخلاف في خصوصيّاتها ، ودوران الأمر بين الأخذ بالكلّ والبعض المبهم لا ينفع في المقام ؛ لوضوح عدم إمكان الرّجوع إلى المبهم. والمفروض أنّه لا دليل على شيء من خصوص الظّنون ليكون مرجعا بالخصوص فيلزم الحكم بحجيّة الجميع ؛ لانتفاء المرجّح عندنا.

قلت : لا بدّ في حكم العقل حينئذ من الأخذ بأخصّ الوجوه ممّا اتّفق عليه أهل الظنون الخاصّة ؛ بأن لا يحتمل الاقتصار على ما دونه بناء على القول المذكور إن اكتفي به في دفع الضّرورة ويترك الباقي ممّا وقع الخلاف فيه [ على القول المذكور ](٢) فلا يثبت بالقضيّة المهملة [ الحاكمة بحجيّة الظن ](٣) حينئذ ما يزيد على ذلك. وإن لم يكتف بالقدر المعلوم لاستنباط الأحكام أخذ بالأخصّ بعده أخذا بمقتضى المقدّمات المذكورة وجريا على مفاد الدّليل المذكور بعينه بالنّسبة إلى ما بعده ، فإن لم يكشف أيضا أخذ بالأخصّ بعده لعين ما ذكر إلى أن يدفع به

__________________

(١) كذلك.

(٢) أضفناها من متن الهداية.

(٣) كذلك.


الضّرورة ويترك الباقي بعد ذلك ، هذا إذا كانت الظّنون متداخلة.

وأمّا إذا كانت متبائنة بأن كان أرباب الظنون الخاصّة مختلفين من غير أن يكون هناك ظنّ متّفق عليه بينهم ، أو كان ولم يكن وافيا بالأحكام كان اللاّزم الحكم بحجيّة جميع تلك الظّنون ؛ لدوران البعض المحكوم بحجيّته قطعا بين تلك الظّنون ، ولا ترجيح بينها فيجب الأخذ بجميعها من غير أن يسري إلى غيرها » (١).

إلى أن قال :

فإن قلت : إنّ المرجّح للأخذ بالبعض إنّما هو الأخذ بالمتيقّن بعد إثبات حجيّة الظّن في الجملة ، وإذا دار ذلك البعض بين ظنون عديدة انتفى المرجّح المذكور فلا قاضي إذن بترجيح البعض ، بل يساوي تلك الأبعاض وغيرها من الظّنون لوقوع الخلاف في الجميع.

قلت : إنّ هناك درجتين لتسرية الحجيّة إلى الظّنون :

إحداهما : أن يحكم بحجيّة تلك الأبعاض الخاصّة بعد العلم بحجيّة الظّن في الجملة ودوران الحجّة بين جميع تلك الأبعاض وبعضها ؛ نظرا إلى انتفاء التّرجيح بين تلك الأبعاض وعدم المناص عن العمل.

[ ثانيهما ](٢) : أن يتسرّى إلى جميع الظّنون منها ومن غيرها. ومن البيّن أنّ العقل حين جهالته ودوران الأمر عنده بين الوجهين إنّما يأخذ بالأخصّ ، فإنّ

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٩ ـ ٣٧١.

(٢) أضفناها من متن الهداية.


المهملة إنّما تكون كليّة على قدر ما قام الدّليل القاطع عليه دون ما يزيد عليه » (١). وساق الكلام إلى أن قال :

« فإن قلت : إن تمّ ما ذكر من البيان فإنّما يتمّ لو لم يعارض الظّن الخاصّ غيره من الظّنون ، وأمّا مع المعارضة ورجحان الظّن الآخر فلا يتمّ ذلك ؛ لدوران الأمر حينئذ بين الأخذ بأحد الظّنين فيتوقّف الرجّحان على ثبوت المرجّح بالدّليل ، ولا يجري فيه الأخذ بالأخصّ ، ولا اتّفاق على الأخذ بالظّن الخاصّ حينئذ ليتمّ الوجه المذكور ، فيتساوى الجميع حينئذ في الحجيّة ، وقضيّة بطلان التّرجيح بلا مرجّح هو حجيّة الكلّ حسبما قرّروه ، ولا بدّ حينئذ من الأخذ بالأقوى على ما يقتضيه قاعدة التّعارض.

قلت : [ لمّا ](٢) يكن تلك الظّنون حجّة مع الخلوّ عن المعارض حسبما ذكر فمع وجوده لا تكون حجّة بالأولى ، فلا يعقل إذا معارضة لما هو حجّة عندنا » (٣).

إلى أن قال :

« إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّه على ما قررّنا يكون بين القول بحجيّة الظّنون الخاصّة ومطلق الظّن عموم مطلق كما هو أحد الوجهين المتقدّمتين في أوّل المسألة ، فكلّ ظنّ يقول بحجيّته من يقول بحجيّة الظّنون الخاصّة يقول بحجيّة القائل بحجيّة مطلق الظّن (٤) إلاّ أن يقوم عنده دليل على خلافه دون العكس

__________________

(١) نفس المصدر : ٣٧١.

(٢) أضفناها من متن الهداية.

(٣) نفس المصدر : ٣٧٢.

(٤) وفي متن الهداية العبارة هكذا : فكل من يقول بحجية مطلق الظن ، يقول بحجية الظنون


وبذلك يتم المطلوب ؛ إذ بعد تسليم حجيّة الخبر في الصّورة المفروضة لا دليل على حجيّة الشّهرة حتّى يعارض بها تلك الحجّة المسلّمة فضلا عن ترجيحها عليها ، فإنّ الحكم بالتّرجيح فرع الحجيّة ، فإذا كانت منتفية لعدم قيام الدّليل عليها لم يعقل التّرجيح ويتمّ ما قررّناه ، فإنّ الفريقين متّفقان حينئذ على حجيّة الخبر وجواز العمل به في نفسه لو لا المعارض الأقوى ، إلاّ أنّ القائل بحجيّة مطلق الظّن يقول حينئذ بوجود المعارض ، فلا يجوز عنده العمل بالخبر من تلك الجهة وإنّما يتمّ له تلك الدّعوى على فرض إثباته.

وقد عرفت : أنّه لا دليل عليه حينئذ فتعيّن العمل بالخبر ، هذا غاية ما يمكن تقريره في تصحيح هذا الوجه ولا يخلو عن تأمّل » (١). انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

وما أفاده في بيان الصّغرى وتشخيص مصداق المتيقّن اعتباره من الظّنون ـ سيّما ما أفاده في جعل مطلق أفراد الظّنون الخاصّة مع اختلاف أهله فيها من أفراده ، وكون النّسبة بين القولين عموم مطلق ، مع أنّ القائلين بالظّنون الخاصّة لا يعتبرون في اعتبارها حصول الظّن الفعلي منها في خصوصيّات مسائل الفقه ـ وكذا ما أفاده في مسألة التّعارض وإن كان محلّ المناقشة والنّظر ، ولذا حكم بعدم خلوّه عن التّأمّل ، إلاّ أنّ ما أفاده من انصراف المهملة الثّابت حجيّتها بدليل الانسداد إلى خصوص ما كان أولى بالاعتبار من الظّنون ـ على تقدير الكفاية في

__________________

الخاصة الا أن يقوم عنده دليل على خلافه ... إلى آخره. أنظر الهداية : ج ٣ / ٣٧٣.

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٧٣ ـ ٣٦٩.


استعلام الأحكام المعلومة بالإجمال والرّجوع إلى أصالة الحرمة بالنّسبة إلى غيره من الظّنون ـ في كمال الاستقامة والجودة كما ستقف عليه ، بل هو من القضايا الّتي قياساتها معها عند التّحقيق.

وقد عرفت : الفرق بين كون الشّيء أولى بالاعتبار والقدر المتيقّن من بين الظّنون ، وكونه معلوم الحجيّة في نفسه مع قطع النّظر عن ملاحظة غيره فيكون من الظّنون الخاصّة المعتبر انسداد باب العلم بها في الحكم بحجيّة الظّن على الإهمال أو الإطلاق من جهة دليل الانسداد المقصود بالبحث في المقام.

وأظنّ أنّه لا يختلط عليك الأمر بعد هذا البيان أصلا ، ولا تقع في شبهة من اشتبه عليه أمر هذا المعيّن بالظّن الخاصّ. هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالجهة الأولى.

وأمّا الجهة الثّانية : وهو بيان مصداق هذا المفهوم وتشخيصه وتميزه من بين الظّنون التي علم بوجود المهملة فيها فهو في غاية الإشكال. وقد عرفت التّأمّل فيما أفاده الشّيخ المحقّق المحشّي قدس‌سره : من جعل مطلق ما قيل باعتباره من باب الظّن الخاصّ من مصاديقه.

والميزان في مصداق المتيقّن بقول مطلق وبالنّسبة إلى جميع الأمارات الظّنية ـ الّذي توصف بالحقيقي في لسان شيخنا قدس‌سره ـ أن يكون هناك ظنّ لم يحتمل أحد عدم اعتباره على تقدير حجيّة ظنّ عند الشّارع بخلاف غيره من الظّنون ، ولا يبعد أن يكون الخبر الصّحيح الجامع للشّروط الّتي ذكرها شيخنا قدس‌سره من مصاديقه ؛ إذ لم يقل أحد ممّن قال بحجيّة الظّن في الشّرعيّات في قبال من قال بحرمة العمل بالظّن مطلقا وانفتاح باب العلم بالأحكام الشّرعيّة ، بل قبح جعله على الشّارع كما


عرفته عن ابن قبة بعدم حجيّته وحجيّة غيره وإن كان القائل بالتعدّي عنه وتعميم الحجيّة بالنّسبة إليه وغيره كثيرا ولو سأل عن حاله عن كلّ فريق منهم لقال بحجيّته ، ويعتبر في جعله مصداقا : أن لا يكون هناك إجماع بسيط على حجّيّته ، ولا دليلا قطعيّا آخر ، أو منهيّا إلى القطع يقتضي بحجيّته ، وإلاّ دخل في الظّن الخاصّ وخرج عن مفروض البحث كما هو ظاهر.

وأشكل منه : تحصيل المتيقّن بالإضافة ، بحيث يرجع إليه على تقدير عدم وجود المتيقّن الحقيقي ؛ وهو الخبر الجامع للشّروط الخمسة فيما بأيدينا من الأخبار ، أو عدم كفايته في استعلام الأحكام بالمعنى المتقدّم على تقدير وجوده ؛ لأنّه كلّما انتفى أحد الشّرائط احتمل كون غيره حجة دون الفاقد.

ومن هنا يظهر النّظر فيما قد يقال : من أنّ المتيقّن بالإضافة بالنّسبة إلى غير الخبر الجامع للشّروط الخمسة ، الخبر الجامع للشّروط الأربعة والمتيقّن بعده بالنّسبة إلي تمام غيره ، الخبر الجامع للشّروط الثّلاثة وهكذا.

وبالجملة : تطبيق هذين المفهومين على الجزئيّات الخارجيّة والأمارات الظنّية لا يخلو عن إشكال ، وليكن هذا في ذكر منك.

وأمّا الجهة الثّالثة : وهو كون المتيقّن بقسميه كلّ في محلّه ومعيّنا للمهملة على تقدير وجوده وكفايته بمعنى لزوم الاقتصار عليه وعدم جواز الأخذ بغيره لأصالة الحرمة ، فقد عرفت : أنّه لا إشكال فيه أصلا ، بل لا ينبغي التّكلم فيه ؛ لأنّه من القضايا الّتي قياساتها معها ؛ ضرورة انصراف المهملة إليه بالمعنى الّذي عرفته على تقدير وجوده ، فلا يحتاج إذن إلى النّقض والإبرام والأسئلة والأجوبة المذكورة


في كلام المحقّق المحشّي (١) المتقدّم ذكره ، وإن كان كثير منها متعلّقا بالتّكلم في الصّغرى حقيقة دون الكبرى ، هذا كلّه بالنّسبة إلى الأسباب.

وأمّا بالنّسبة إلى المراتب فالظّاهر عدم وجود هذا المعيّن بالنّسبة إليها ؛ لأنّ جعل الضّعيف لخصوصيّة يراها الشّارع فيه أمر ممكن واقع عند أهل الظّنون الخاصّة فإنّ الأمارات الّتي ذهبوا إلى حجيّتها ليست أقوى ظنّا ممّا حكموا بعدم حجيّته. ألا ترى أن الشّهرة العظيمة أقوى ظنّا من غالب الأمارات الّتي حكموا بحجيّتها من باب الظّن الخاصّ؟ مع أنّها غير معتبرة عند المشهور.

(٩) قوله قدس‌سره : ( ولا يتوهّم : أنّ هذا المقدار المتيقّن من (٢) الظّنون الخاصّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ هنا توهّمين :

أحدهما : ما عرفت الإشارة إليه مع فساده : من كون المراد من هذا المعيّن ما علم حجيّته بالخصوص وبالنّظر إلى نفسه من غير دخل لدليل الانسداد فيه ، وهو يرجع على ما عرفت إلى اشتباه هذا المتيقّن بما علم اعتباره بنفسه.

ثانيهما : ما أشار إليه قدس‌سره : من كون المراد من الظّن الخاصّ أعمّ ممّا علم اعتباره بنفسه لقيام دليل ناظر إليه ابتداء بعنوانه الخاص وممّا يرجع أمر الاعتبار بالأخرة إليه ، ولو كان من جهة كونه أولى بالاعتبار من محتملات مدلول الدّليل وقدرا متيقّنا منها.

__________________

(١) الشيخ محمّد تقي الاصفهاني صاحب الهداية.

(٢) كذا وفي الكتاب : المقدار المتيقّن حينئذ من الظنون ... إلى آخره.


وهذا ليس في الوهن كالأوّل ؛ إذ معنى تردّد المهملة بين المطلقة الكليّة والجزئيّة المعيّنة المقيّدة إلى دوران الأمر بين كون الحجّة في حكم الشارع مطلق الظّن ، أو الظّن الخاصّ ولو كان مقيّدا بزمان الانسداد ؛ لأنّه لو لا احتمال مدخليّة السّبب الخاصّ في مدلول دليل الانسداد لم يكن معنى للإهمال.

فالإهمال إنّما هو من جهة احتمال اعتبار الشّارع الظّن الحاصل من السّبب الخاصّ ، وليس الغرض من المعيّن إلاّ إثبات هذا المعنى ، فإذا عيّن فيصير الحاصل من دليل الانسداد بضميمة المعيّن حجيّة الظّنّ الحاصل من السّبب الخاص في زمان الانسداد.

ومنه يعلم : أنّ هذا التّوهّم جار بالنّسبة إلى جميع المعيّنات ولا اختصاص له بتيقّن الاعتبار كما هو واضح ، ومن هنا تمسّك في « المعالم » لحجيّة الخبر بدليل الانسداد (١) ، مع أنّه من أهل الظّنون الخاصّة ؛ نظرا إلى صرف نتيجة دليل الانسداد إلى الظّن القوي المنحصر في زعمه في خبر العادل الّذي ذكره.

ولكن يرد عليه : أنّ المراد من الظّن الخاصّ في كلماتهم وألسنتهم ما كان نظر الدّليل المثبت له أوّلا ، إلى السّبب من غير فرق بين اعتبار الظّن الشّخصي منه في الموارد الجزئية وعدمه ، كما هو المشاهد الواقع في الظّنون الخاصّة ؛ فإنّ اعتبارها ـ عند التّحقيق وأكثر المحقّقين ـ على هذا الوجه لا ما انصرف الدّليل إليه ولو بضميمة مقدّمة خارجيّة والدّليل الانسداد كما عرفت تحقيقه واعترف به المتوهّم ؛ إذ لا يثبت أوّلا اعتبار المتيقّن اعتباره على تقرير الكشف ، إلاّ بملاحظة

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ١٩٢.


كونه متيقّنا من المهملة.

فاعتباره إنّما هو بالنّظر الثّانوي ، وعدّ صاحب « المعالم » وأضرابه من أهل الظّنون الخاصّة خبر العادل منها ، ليس من جهة تمسّكهم بدليل الانسداد ، بل لتمسّكهم في مسألة حجيّة الخبر بوجوه أخر اقتضت حجيّة الخبر بعنوانه الخاصّ ابتداء.

فإذا كان نظر الدّليل المثبت لحجيّة الظّن إلى وصف الظّن ، وإن انصرف إلى نوع منه بالملاحظة الثّانويّة هو الظّن المطلق ؛ من غير فرق بين أن يكون الدّال عليه الكتاب أو السّنة أو الإجماع أو العقل سواء كان على الأخير دليل الانسداد أو غيره كوجوب دفع الضّرر المظنون ونحوه ، ومن هنا تمسّك المحقّق القمّي قدس‌سره لحجيّة الظّن المطلق بآية النّبأ وأمثالها.

وإن كان نظره إلى السّبب الخاصّ من غير أن يستفاد منه اعتبار إطلاق اعتبار الظّن فهو ظنّ خاص. فعلى ما ذكرنا القائل باختصاص نتيجة دليل الانسداد بالظّن القوي الاطمئناني ، أو ما ظنّ اعتباره من الأمارات من أهل الظّنون المطلقة لا الظّنون الخاصّة وإن كانوا من أهل الظّنون الخاصّة بالمعنى اللّغوي والعرفي بالنّسبة إلى القائل بحجيّة الظّن بالمعنى الأعمّ ممّا قالوا به ؛ فإنّ الإطلاق والخصوصيّة أمران إضافيّان.

ومن هنا عدّ بعض من قال باختصاص النّتيجة بخصوص الظّن في المسألة الأصوليّة ، في عداد أهل الظّنون الخاصّة ، في قبال القول بحجيّة الظّن مطلقا من غير فرق بين تعلّقه بالمسألة الأصوليّة أو الفرعيّة.

فقد تقرّر ممّا ذكرنا أنّ هنا وجهين :


أحدهما : إناطة الاختصاص والإطلاق بالسّبب الخاص وعدمه مطلقا من غير فرق بين أن يكون الاختصاص ذاتيّا أوّليّا أو عرضيّا ثانويّا ، وهذا هو الّذي بنى عليه المتوهّم ويساعده العرف العامّ واللّغة.

ثانيهما : إناطة الاختصاص والإطلاق بالاختصاص الذّاتي وعدمه وهو الّذي بنى عليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ، وهذا هو المراد من كلامه المتقدّم لا ما يتوهّمه المتوهّم ، وإن كانت العبارة قاصرة في إفادة المراد في ابتداء النّظر.

فالمراد أنّ الظّن الخاصّ ما ثبت اعتباره بغير دليل الانسداد ممّا كان نظره إلى السّبب الخاصّ ابتداء لا الأعمّ منه وممّا انصرف إليه الدّليل بملاحظة خارجيّة كما هو المفروض في المقام ، فليس المراد أنّ كلّما ثبت اعتباره بغير دليل الانسداد فهو ظنّ خاصّ وإن كان مقتضاه حجيّة الظّن على الإطلاق.

وممّا ذكرنا يظهر : الوجه في أمره قدس‌سره بالتّأمّل عقيب ما عرفت من الكلام ؛ فإنّ الوجه فيه عدم الجزم بإناطة الاختصاص والإطلاق في كلماتهم بالوجه الثّاني واحتمال كون المراد الوجه الأوّل وليكن ما ذكرنا في حفظ منك ، حتى لا تسلك من غير الطّريق في فهم عبارة « الكتاب » وهو الحافظ عن الخطأ ونسأله أن يحفظنا عن الخطأ في القول والعمل.

(١٠) قوله قدس‌سره : ( للزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللاّزم في كلّ واحد ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٤٧٢ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره من التّعليل لكون القوّة معيّنة مبنيّ على ما تقدّم المناقشة فيه ؛ من عدم بطلان الاحتياط بعدم العلم الإجمالي بالتكاليف ، إلاّ في الجملة بقدر ما يندفع به الحرج والعسر الشّديد ، فيتعيّن بحكم العقل مخالفته


فيما كان الاحتمال الموافق للاحتياط فيه ، يعني احتمال الوجوب والتّحريم في كمال البعد من جهة قيام الظّن القوي الاطمئناني على عدم الوجوب والتّحريم ، فيقتص عليه في مخالفة الاحتياط ويراعى مقتضى العلم الإجمالي في باقي المحتملات ممّا ظنّ فيه بالتّكليف مطلقا أو شكّ فيه ، أو ظنّ عدمه ، إذا لم يبلغ مرتبة الاطمئنان.

وقد عرفت : أنّ الكلام في إطلاق النّتيجة وإهمالها بعد الفراغ عن ثبوت أصلها والكلام المذكور مبنيّ على ما عرفت مرارا على عدم ثبوتها ، فالأولى بل المتعيّن أن يعلّل ذلك : بأنّ حكم العقل الإدراكي على تقدير تسليمه كما هو مبنى البحث عن المعيّنات بالنّسبة إلى الظّن وكونه حجّة عند الشّارع إنّما هو من جهة كونه أقرب إلى الواقع من الشّك والوهم ، فإذا كان المدرك مردّدا بين المطلقة والجزئيّة بحسب المرتبة وكان هذا المناط العقلي موجودا في الأقوى على الوجه الأتمّ والأكمل ـ والمفروض كفايته في الفقه ـ فلا محالة يستكشف حجيّته ويحكم بوجوب الاقتصار عليه ، بضميمة أصالة حرمة العمل بغير العلم.

وإلى هذا الوجه يشير كلامه قدس‌سره فيما سيجيء عند الاعتراض على هذا المعيّن.

ثمّ إنّه لا يخفى عليك : أنّ هذا المعيّن ناظر إلى التّعيين بحسب المرتبة ولا دخل له بالأسباب أصلا ؛ ضرورة أن الظّن الأقوى لا يستند دائما إلى أمارة معيّنة ؛ لأنّ ما يحصل الظّن الأقوى منه بالنّسبة إلى مورد لا يلزم حصول هذه المرتبة منه بالنّسبة إلى مورد آخر ، والمفروض عدم إناطة الحجيّة بالظّن النّوعي ، حتّى يقال : إنّ في الأمارات ما يكون أقوى نوعا من غيرها كالخبر الصّحيح الأعلائي


والشّهرة المحقّقة العظيمة مثلا.

(١١) قوله قدس‌سره : ( ورجحان كونه بدلا عن الواقع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٣ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ رجحان البدليّة عن الواقع بمعنى تدارك ما فات عن الواقع من المصلحة بسلوك الأمارة ، أعني : ظنّ اعتبارها إنّما هو فيما تعلّق الظّن باعتبارها على وجه يلزم تدارك الواقع في حكم العقل من سلوك المؤدّي إلى خلاف الواقع ، كما إذا ظنّ بحجيّتها حتّى في زمان انفتاح باب العلم بالواقع وقلنا بأنّ جعلها في هذا الزّمان يكشف عن وجود المصلحة المتداركة بقول مطلق حتّى بالنّسبة إلى زمان الانسداد.

وأمّا إذا لم يتعلّق الظّن باعتبارها على الوجه المزبور ؛ بأن تعلّق باعتبارها في خصوص زمان الانسداد ، أو تعلّق باعتبارها على وجه الإطلاق ، وقلنا بأنّه لا يلزم في حكم العقل وجود المصلحة المتداركة ، إلاّ بالنّسبة إلى زمان الانفتاح لعدم استناد فوت الواقع إلى الأمارة المفروضة بالنّسبة إلى زمان الانسداد ؛ فإنّه يكفي في التّرجيح بالنّسبة إلى زمان الانسداد كونه أغلب مطابقة في نظر الشّارع من سائر الأمارات ، فلا يلزم من الظّن بالاعتبار رجحان البدليّة ولو من جهة احتمال ما ذكرنا ، فإنّه يكفي في نفي الملازمة ولو جعل الوجه في الترجيح أقربيّة احتمال التدارك فيما ظنّ اعتباره بالنّسبة إلى ما شك اعتباره أو ظنّ عدمه ؛ نظرا إلى أنّ ما ظنّ اعتباره بالخصوص إنّما هو من القسم الأوّل ؛ لأنّ اعتبار الأمارة من حيث الخصوص في خصوص زمان الانسداد مجرّد فرض غير واقع ، كما أنّ التّفكيك في المرجّح لجعل الأمارة الواحدة بالنّسبة إلى الزّمانين في كمال البعد ، أو جعل الوجه : أنّ مظنون الاعتبار من حيث كونه مشتملا على المصلحة المتداركة ظنّا أو


أغلب مطابقة من سائر الأمارات كذلك ، حيث إنّ المرجّح لتخصيصها لا يخلو من أحد الأمرين ، لكان أوفق ، فتأمّل.

(١٢) قوله قدس‌سره : ( ونظير ذلك ممّا* لو تعلّق غرض المريض بدواء ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٣ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّه لا بدّ أن يكون الدّواء المتعلّق بالغرض ذا أصناف وأقسام كالمسهل ؛ ضرورة أنّه إذا لم يكن كذلك لم يمكن تعلّق الظّنّين بالنّسبة إلى موضوعين ، فإذا فرض تعلّق الغرض بالأيارج (١) مثلا فظنّ كونه المعجون الفلاني فلا محالة يظنّ بعدم كون غيره الأيارج وإن أمكن الظّن بكونه بدلا عنه في الخواصّ والآثار ، وهذا أمر واضح لا سترة فيه تعلّق الغرض بالتّنبيه عليه وإلاّ فليس ممّا يعتنى بشأنه.

(١٣) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ البعض المظنون الحجيّة قد يعلم بالتّفصيل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٣ )

الظن تفصيلي وإجمالي

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من كون متعلّق الظّن قد يكون أمرا مفصّلا ممتازا في الخارج ، وقد يكون مجملا مردّدا بين أمرين ، أو أمور ، فيتّصف الظّن بالتّفصيل

__________________

(*) كذا وفي الكتاب : ونظير ذلك ما لو تعلّق ... إلى آخره.

(١) قال الشيخ الرئيس في قانونه : « الأيارج هو أسم للمسهل المصلح ، هذا تأويله. وتفسيره الدواء الالهي ... وإنما يقال للمسهل دواء إلهي لأن عمل المسهل أمر إلهي ، مسلم من قوى طبيعته. أنظر القانون ج ٣ / ٣٤٠.


والإجمال بالاعتبارين كالعلم أمر واضح لا سترة فيه أصلا كوضوح ما أفاده في بيان مصداق الظّن الإجمالي ، حيث إنّه بعد العلم الإجمالي بجعل الظّن ؛ نظرا إلى دليل الانسداد حيث إنّه فرض إهمال نتيجته والظّن التّفصيلي بعدم اعتبار جملة من الأمارات حتّى في زمان الانسداد وكونها ملحقة بالقياس حكما أو موضوعا ، يظن بأنّ الحجّة في غيرها كلاّ أو بعضا ، فيكون البعض اللاّبشرط مظنون الاعتبار لا محالة هذا.

وقد عرفت من كلام المحقّق المحشّي قدس‌سره فرض القسمين أي : الإجمال والتّفصيل بالنّسبة إلى المعيّن الأوّل أيضا كما فرضهما بالنّسبة إلى هذا المعيّن حيث إنّه يمكن أن يقال ـ بعد فرض عدم العلم التّفصيلي بما تيقّن اعتباره من الأمارات ـ : إنّا نعلم إجمالا بأنّ فيما قيل باعتباره من حيث الخصوص على اختلاف أنواعه وأقسامه واختلاف الأصحاب فيه ، ما يكون أولى بالاعتبار بالنّسبة إلى غيره فيكون الأخذ بتمام أطراف هذا المتيقّن المعلوم بالإجمال وهو جميع ما قيل باعتباره من حيث الخصوص متعيّنا في نظر العقل بالنّسبة إلى ما يكون خارجا من أطرافه هذا.

ولكنّك خبير : بأنّ تصوير ما أفاده في غاية الإشكال حيث إن اختلافهم إن كان راجعا إلى الظّنون المتداخلة ؛ بأن كان ممّا اتّفق عليه الكلّ ، كالخبر الجامع للشّروط الخمسة الّذي تعرّض له شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » فهو معلوم تفصيلا فيما لم يبلغ اتّفاقهم مبلغ الإجماع ، وإلاّ كان من الظّنون الخاصّة على ما أسمعناك سابقا وإن رجع إلى الظّنون المتباينة : بأن ذهب كلّ فريق إلى حجّيّة ما ينكره الفريق الآخر ، فليس متيقّن معلوم بالإجمال.


ضرورة أنّ اختلافهم ليس راجعا إلى الاختلاف في تشخيص المتيقّن ، حتّى يقال : بأنّه راجع إلى الاختلاف في الخصوصيّة بعد الاتّفاق على القدر المشترك فيستكشف وجوده بين الخصوصيّات المختلفة ، بل راجع إلى ما اجتهدوا في حجيّته من حيث الخصوص فإن كان راجعا إلى الاختلاف في تعيّن القدر المشترك بعد كونه مسلّما بينهم فيستكشف من حجّيّته بالخصوص ، فيخرج عن محلّ الفرض إن بلغ مبلغ الإجماع ، وإلاّ فلا فائدة فيه أصلا ، إلاّ أن يحمل كلامه على مجرّد الفرض وإن كان متعلّقا بأمر محال حيث إنّ فرض المحال ليس محالا.

(١٤) قوله قدس‌سره : ( والّذي ينفع ، غير مسلّم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٤ )

أقول : المراد نفي التّسليم بالنّظر إليه على سبيل الإطلاق كالظّن بالاعتبار ، لا نفيه بالنّظر إليه في الجملة ، فإنّه يسلّم كونه مرجّحا كذلك كما ستقف على تفصيل القول فيه.

(١٥) قوله قدس‌سره : ( لكونه معلوم الحجيّة تفصيلا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٤ )

أقول : المراد كونه كذلك بعد انضمام العلم بحجيّة الظّن في الجملة الّذي حصل من دليل الانسداد على تقرير الكشف لا كونه كذلك بالذّات وإلاّ خرج عن محلّ الفرض وهو ظاهر ، ومن هنا قد يقال : إنّ إطلاق المرجّح بمعنى المعيّن عليه لا ضير فيه فتدبّر.

(١٦) قوله قدس‌سره : ( مع أنّه لو كان بنفسه كثيرا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٥ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره :

تارة : بأنّه إذا فرض كفاية المتيقّن اعتباره من جهة كثرته فلا يسلّم العلم


بطرو خلاف الظّواهر فيها إجمالا حتّى تكون من قبيل ظواهر الكتاب المعلوم عدم إرادة الظاهر منها فضلا عن تسليم العلم بأنّ صارفه في غيره لم لا يكون فيه. نعم ، لو كان فرض كفايته من جهة اشتماله على عمومات وإطلاقات شاملة لغالب المسائل الفقهيّة وكان هناك مخصّصات ومقيّدات كثيرة في غيره ممّا لم يبلغ تلك المرتبة أمكن دعوى العلم الإجمالي بطروّ خلاف الظّاهر فيه وكون الصّارف من غير جنسه والمفروض في كلامه قدس‌سره غير المفروض.

وأخرى : بأنّ فرض العلم الإجمالي المذكور لا يجامع كثيرة ما فرضه متيقّنا من بين الأمارات لأنّه كما صرّح به الخبر الجامع للشّروط الخمسة مع فرض حصول الظّن الفعلي منه بالحكم ؛ لأنّ النتيجة سواء فرضت مهملة أو كلّيّة حجيّة الظّن الشّخصي لا النّوعي ، فالمتيقّن اعتباره من الظّنون الشّخصيّة الخبر الجامع للشّروط الخمسة ومن المعلوم عدم إمكان حصول الظّن الفعلي منها مع فرض وجود العلم الإجمالي بوجود الصّارف له.

ومنه يعلم : أنّ اعتبار عدم الوهن بمعارضة شيء من الأمارات مستغني عنه ؛ إذ الكلام في الظّن الفعلي ومع الوهن من جهة المعارضة لا يحصل الظّن من الخبر فتأمل.

نعم ، لو كان المستكشف من دليل الانسداد حجيّة الظّنون النّوعية أمكن دعوى بقاء الخبر الجامع للشّروط الخمسة على إفادة الظّن النّوعي مع العلم الإجمالي المذكور ؛ ضرورة أنّه يجامع القطع بالصّدور فضلا عن الاطمئنان به كما في ظواهر الكتاب.

فلا يتوجّه إذن المناقشة الثّانية وإن كانت هذه الدّعوى فاسدة عندنا وعند


شيخنا قدس‌سره ؛ نظرا إلى إيجاب العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظّاهر من العمومات والإطلاقات إجمالها إذا بلغ حدّ الشّبهة المحصورة كما هو المفروض ، فلا يبقى ظهور أصلا ، فكيف يدّعي حصول الظّن منها ولو نوعا؟

اللهمّ إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره ممّا أفاده أنّ مجرّد كثرة الخبر الجامع للشّروط الخمسة لا يوجب الحكم بوجود المتيقّن الكافي نظرا إلى عدم بقائه على شرائط الحجيّة من جهة العلم الإجمالي الموجب للإجمال ، فالمنع يرجع حقيقة إلى وجود المتيقّن وصفا وإن كان ذاته موجودة كما هو ظاهر فتدبّر.

فلا بدّ إذن أن يتسرّى إلى المتيقّن بالإضافة على تقدير وجوده وكفايته.

اللهمّ إلاّ أن يمنع وجوده ؛ نظرا إلى عدم ميزان يميّز به المتيقّن بالإضافة إلى غير المتيقّن الحقيقي من الأمارات الأخر ، ولأجله أمر قدس‌سره بالتّأمّل بعد الحكم بالتّسرية ، أو لما ستعرفه بعد ذلك من كلامه قدس‌سره.

(١٧) قوله قدس‌سره : ( ففيه : أنّ ضبط مرتبة خاصّة له متعسّر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٥ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره مبنيّ على كون المراد من هذا المرجّح إناطة التّرجيح بمطلق القوّة والضّعف الإضافيّين ؛ إذ كما أنّ أصل تشخيص مراتب الظّن في نفسها من جهة كثرتها وغموضها بالشّدّة والضّعف في غاية الإشكال ، كذلك تشخيص مرتبة الظّنّين الموجودين في المسألتين ، بل الإشكال في الثّاني ناش عن الإشكال في الأوّل عند التّحقيق.

وأمّا لو كان المراد إناطته بالقوّة البالغة حدّ الاطمئنان فلا يتوجّه عليه المناقشة المذكورة الرّاجعة إلى المنع الصّغروي كما اعترف به قدس‌سره فأورد عليه : أوّلا :بندرته بعد الحكم بكونه ملحقا بالعلم حكما بل موضوعا الّذي لم يعلم المراد منه


فإنّ الإلحاق بالعلم الطّريقي حكما لم يعلم له وجه ، وبالموضوعي كذلك ، والإلحاق الموضوعي لا وجه له أصلا ، وإن قال به بعض مشايخنا قدس‌سره (١). اللهمّ إلاّ أن يراد الإلحاق الموضوعي بالمسامحة كما ذكره سابقا عند الكلام في حجيّة أخبار الآحاد بالخصوص ، وكيفما كان لا إشكال في انضباط هذه المرتبة.

وأمّا الإيراد عليه بالنّدرة ، فقد يناقش فيه أيضا : بمنع النّدرة لكثرة الظّنون الاطمئنانيّة في الفقه. فينحصر الإيراد الوارد فيما أفاده ثانيا ؛ بقوله : « مع أنّ كون القوّة معيّنة للقضيّة المهملة محلّ منع ... إلى آخره » (٢) لأنّك قد عرفت سابقا : أنّ العقل لا يستكشف بالنّظر إلى مقدّمات الانسداد جعل خصوص الظّن الاطمئناني كما يحكم به على تقدير الحكومة. كيف! ولو كان كذلك لم يكن معنى للإهمال بالنّسبة إلى المرتبة ، بل النّتيجة كشفا أو حكومة مختصّة بالظّن الاطمئناني.

وبالجملة : لا مناص عن الإيراد الثّاني أصلا على ما عرفت الكلام فيه.

__________________

(١) الشيخ محمّد حسن النجفي في جواهره ، أنظر الجواهر : ج ٤٠ / ٥٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٧٥.


(١٨) قوله قدس‌سره : ( مع أنّ الوجه الثّاني لا يفيد لزوم التّقديم ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٤٧٦ )

__________________

(١) قال سيّد العروة أعلى الله تعالى مقامه الشريف :

« الظاهر أنه أراد الأولويّة الشأنيّة لا الفعليّة ، لأنّ الأولويّة الفعليّة إنّما تتصّور لو كان الأمر دائرا بين التخيير بين الأخذ بأبعاض الظنون وترجيح الظنّ المظنون الحجّيّة إذ لا ريب حينئذ في أولويّة الأخذ بهذا البعض المظنون الحجّيّة ، بل تفيد هذه الأولويّة لزوم التقديم بناء على لزوم الأخذ بالمعيّن في مسألة دوران الأمر بين التخيير والتعيين.

وأمّا إذا قلنا إنّ التخيير بين أبعاض الظنون خلاف الإجماع كما هو مفروض المتن ، فالأمر يدور في مسألتنا بين الأخذ بالظنون المظنون الحجّيّة فقط أو الأخذ بالجميع ، والمفروض أنه على تقدير عدم ثبوت الترجيح يحكم بالتعميم جزما وأنّ الظنّ القائم على الحجّيّة لم يثبت إعتباره فلا بد من الحكم بالتعميم فأين الأولويّة الفعلية؟! هذا.

ثم لا يخفى أن العبارة المذكورة لا تخلو عن حزازة وكان المناسب أن يقول :

« ففيه : ان الوجه الثاني مع انه لا يفيد لزوم التقديم ، بل أولويّته أن الترجيح ... إلى آخره » فتدبّر ». إنتهى. حاشية الفرائد تقرير بحث السيّد اليزدي : ج ١ / ٦٢١.

* وقال شيخ الكفاية رضوان الله تعالى عليه :

« وذلك لأنّ الإهتمام في المقام إنّما هو بحصول الفراغ والبراءة عن تبعة التكليف المعلوم بالإجمال لا بإحراز المصلحة ، مع أن التدارك على تقدير المخالفة إنّما هو على تقدير أن يكون الأمر بسلوك الأمارة لأجل المصلحة في سلوكها لا للمصلحة في نفسه ، وتصوّره لا يخلو عن غموض وإشكال ... إلى آخره » درر الفوائد : ١٥٦.

* وعلّق الفاضل الكرماني على كلمة المحقق الخراساني قائلا :

« أقول : إذا كان التكليف الذي يطلب الفراغ منه لأجل إحراز المصلحة فتحصيل الفراغ منه بإحرازها أولى من تحصيله بما لا يحصل به إحراز المصلحة ، وإذا كان تدارك المصلحة


العقل لا يحكم إلا بلزوم دفع الضرر

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره مبنيّ على جعل الوجه الثّاني في قبال الوجه الأوّل ؛ بمعنى أنّه على تقدير الإغماض عن كفاية مطلق الظّن في التّرجيح من حيث كونه أقرب إلى الحجيّة يحكم بلزوم التّرجيح به من حيث كونه أقرب إلى إدراك مصلحة الواقع.

وبالجملة : هذه الحيثيّة غير حيثيية مجرّد الأقربيّة إلى الحجيّة وإن كانتا متلازمتين في زعم المستدلّ.

ثمّ إنّ الوجه في عدم إفادته لزوم التّقديم ، بل أولويّته هو ما عرفت الكلام فيه مرارا : من أنّ العقل لا يحكم بلزوم إدراك المصالح الواقعيّة في باب الإطاعة ، وأنّ العنوان الملزم عنده لإطاعة مطلق أوامر الموالي على العبيد دفع الضّرر والعقوبة والمؤاخذة وإن حكم بإدراكها على وجه الرّجحان والأولويّة ؛ نظرا إلى إيجابه تكميل النّفس الموجب للوصول إلى الدّرجات العالية والتّهيّؤ للإفاضات القدسيّة.

وأمّا الوجه في مشابهته للتّرجيح بالقوّة والضّعف بعد الإغماض عمّا ذكره أوّلا ، فهو ظاهر ؛ حيث إنّ مناطه على الأقربيّة بملاحظة الاعتبارين ، فلا بدّ أن يلاحظ مرتبة ما ظنّ اعتباره مع مرتبة ما شك في اعتباره مثلا ، فربّما يكون الظّن

__________________

على تقدير المخالفة كافيا فإحراز نفسها أولى ». حاشية رحمة الله على الفرائد المحشىّ : ١٤٢


الحاصل من مشكوك الاعتبار في المسائل التي قام عليها أقوى وأقرب من الظّن الحاصل من مظنون الاعتبار في المسائل الّتي قام عليها بعد الملاحظتين ، فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما ذكر ـ ما توجّه على التّرجيح بالوجه الثّاني.

ثمّ إنّ المراد من استبعاد فرض التّسوية بالنّسبة إلى جميع الظّنون الموجودة في المسائل الفقهيّة واستحالته بحسب العادة بعد الاختلاف التّام بين الأسباب والموارد بالنّسبة إلى المفروض ، وإلاّ فلم يتوهّم أحد أنّ فرض المحال محال فلا تغفل هذا.

مضافا إلى ما أفاده قدس‌سره في الاعتراض بقوله : « مع أنّ اللاّزم على هذا إلى آخر ما أفاده » (١) ؛ ضرورة لزومه بعد البناء على ملاحظة الأقربيّة من جهة التّدارك على تقدير الخطأ بعد اختلاف الظّنون القائمة من الجهة الّتي ذكرها قدس‌سره ، بل اختلافها من جهة أخرى ـ غير مذكور في كلامه ـ وهي القوّة والضّعف ، فافهم.

(١٩) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الوجه الأوّل المذكور في تقريب ترجيح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٧٧ )

في ان مطلق الظّنّ لا يصلح للتّرجيح وتعيين النتيجة المهملة

أقول : العمدة في الاعتراض على هذا الوجه ما أفاده ثانيا ؛ لأنّ ما أفاده أوّلا مضافا إلى رجوعه إلى منع الاطّراد كما هو واضح غير نقيّ عن الإشكال ؛ لإمكان أن يقول الخصم بأنّا لا نقول : بأنّ كلّما ظنّ اعتباره لا بدّ أن يكون مظنون الاعتبار

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٧٧.


مطلقا ، فكلّما تحقّق هذا العنوان في ضمن مطلق أو مقيّد نقول بكونه متعيّنا من المهملة. مضافا إلى إمكان دعوى كون الخبر الجامع للشّروط الخمسة ممّا يظنّ اعتباره مطلقا. اللهمّ إلاّ أن يكون مراده قدس‌سره ممّا أفاده عدم كفاية ما ظنّ اعتباره من الأمارات فتدبّر.

فإذن لا بدّ من صرف العنان إلى بيان ما أفاده من الاعتراض الثّاني ، فنقول ـ في توضيح عدم الدّليل على كون مطلق الظّن معيّنا للمهملة ومرجّحا لما قام عليه على غيره من الظّنون ـ :

إنّ الدّليل على اعتبار الظّن على سبيل الإطلاق أو الإهمال منحصر في المقام على ما هو مقتضى الفرض بدليل الانسداد ولا يخلو الأمر فيه :

إمّا أن يجري في خصوص الفروع ويحكم بعد إهمال النّتيجة فيها بحجيّة مطلق الظّن في تعيينها ـ كما هو المفروض في محلّ البحث ـ أو يجري في خصوص الأصول.

وإمّا أن يجري في مطلق الأحكام الشّرعيّة بالمعنى الأعمّ من الفرعيّة والأصوليّة والواقعيّة والظّاهريّة.

وإمّا أن يجري في كلّ منهما مستقلاّ فيجري تارة في الفروع ، وأخرى في الأصول.

ثمّ على تقدير إجرائه في الأصول مستقلاّ على هذا الفرض قد يجري في الأحكام الأصوليّة بقول مطلق ، وقد يجري في الحكم الأصوليّ الثّابت بإجراء دليل الانسداد في الفروع.


أمّا الوجه الأوّل : وهو إجراؤه في خصوص الفروع والحكم بعد إهمال النّتيجة فيها بكون مطلق الظّن مرجّحا ومعيّنا للمهملة.

ففيه : أنّ قضيّة المقدّمات الجارية في الفروع على تقدير الكشف ، حجيّة الظّن في خصوص الأحكام الفرعيّة ؛ ضرورة أنّ بقاء التّكليف بها مع فرض عدم الطّريق لها لا يقتضي في حكم العقل بوجوب نصب الشّارع طريقا إلى غيرهما ممّا لم يفرض تعلّق التّكليف بها كما هو المفروض.

نعم ، مقتضى حكم العقل على تقرير الحكومة ـ حسبما عرفت مرارا ـ عدم الفرق بين الظّن في المسألة الفرعيّة والأصوليّة لعموم مناط الحكم في نظره بين المسألتين هذا.

مع أنّه على فرض التّعميم لا يعقل الحكم بإهمال النّتيجة في الفروع وإطلاقها في الأصول كما هو واضح.

وقد اعترف غير واحد ممّن زعم كون مطلق الظّن معيّنا بما ذكرنا من كون نتيجة المقدّمات الجارية في الفروع ، حجيّة الظّن على سبيل الإهمال في خصوص الفروع من دون اقتضاء لها لحجيّة الظّن في الأصول أصلا لا على سبيل الإهمال ، ولا الإطلاق على ما عرفت بيانه ، إلاّ أنّهم ذكروا : أنّا لا نحتاج إلى إثبات اعتبار الظّن وحجيّته في المقام حتّى نطالب بدليله ، منهم : المحقّق المحشّي قدس‌سره فيما تقدّم من كلامه بشرحه في الأمر الأوّل. وقد نقله شيخنا قدس‌سره في المقام ملخّصا بإسقاط بعض ما لا يخلّ بمرامه.

وتوضيحه على وجه الاختصار :

أنّه إذا فرض إهمال النّتيجة في الفروع وأريد تعميمها بقضيّة بطلان التّرجيح


بلا مرجّح كما هو المفروض الّذي يحكم به العقل كليّة فلا محالة لا يحكم العقل بالتّعميم ، إلاّ بعد عدم وجدان المرجّح ، فكما أنّه يحكم بالتّعميم بعد عدم وجدان الرّجحان ، كذلك يحكم بلزوم التّرجيح بعد وجدانه لا أنّه لا يحكم بالتّعميم بعد وجدانه ويسكت عن لزوم الأخذ بالرّاجح وتبقى النّتيجة على حالها من الإهمال ، وإلاّ لم يحكم بحجيّة الظّن أصلا لما عرفت من ابتنائه على لزوم الأخذ بالرّاجح.

فإن قلت : إنّ مظنون الاعتبار من الأمارات القائمة في المسائل الفقهيّة ليس براجح ، فقد كابرت الوجدان.

وإن قلت : إنّه راجح إلاّ أنّ العقل لا يرجّح المشكوك والموهوم عليه حتّى يلزم ترجيح المرجوح على الرّاجح ، بل إنّما يحكم بالتّسوية بينهما ، فهو مخالف لحكم العقل الضّروري بقبح التّسوية بين الرّاجح والمرجوح ، وإلاّ لم يكن ثمّة حاجة في التشبّث بذيل القاعدة المذكورة في التّعميم.

وإن قلت : إنّه راجح ولا يحكم العقل بترجيح غيره عليه ولا بالتّسوية بينه وبين غيره ، ولكنّه لا يحكم بترجيحه على غيره ، بل هو واقف عن الحكم رأسا ، وإنّما يستكشف بملاحظة المقدّمات عن حجيّة الظّن في الجملة على سبيل الإهمال ولا يحكم بشيء آخر أصلا ، فهو مناف لقضيّة صريح العقل بلزوم ترجيح الرّاجح على المرجوح الّذي كان عليه المدار في حكمه بحجيّة الظّن بعد ملاحظة مقدّمات دليل الانسداد ، فلم يبق إلاّ حكمه بلزوم تقديم المظنون على المشكوك في مقام الحيرة والجهالة ، كما أنّه يحكم بلزوم تقديم المشكوك على الموهوم على تقدير وجوب التّعدي عن المظنون من جهة عدم كفايته.

وهذا معنى ما أفاده الشّيخ المحقّق المتقدّم ذكره بعد الاعتراف بلزوم إقامة


الدّليل على التّرجيح بمطلق الظّن : من أنّ الدّليل عليه هو الدّليل العقلي المذكور ؛ حيث إنّه بعد استكشافه عن حجيّة الظّن على سبيل الإهمال إن وجد الحجيّة متساوية بالنّظر إلى الظّنون فيحكم بحجيّة الكلّ من جهة بطلان التّرجيح بلا مرجّح ، وأمّا إذا وجدها مختلفة فلا محالة يقدّم المظنون على المشكوك والموهوم كما أنّه يقدّم المشكوك على الموهوم.

فإن قلت : إنّك ارتكبت التّرجيح بلا مرجّح في تقديم المظنون فقد غلطت غلطا ظاهرا فالنّتيجة وإن كانت مهملة مردّدة بالنظر الأوّلي ، إلاّ أنّها متعيّنة في المظنون بالنّظرة الثّانية هذا ملخّص ما يقال في توضيح المقام.

ولكنّك خبير بأنّه قياس مغالطيّ خال عن التّحقيق ، فإنّه راجع عند التّأمّل إلى الالتزام بلزوم إقامة البرهان على التّرجيح بمطلق الظّن على ما عرفت من الشّيخ المتقدّم : من الاستدلال عليه بحكم العقل القاضي بحجيّة الظّن ، فهو راجع عند التّأمّل إلى إجراء دليل الانسداد في تعيين المهملة الّتي هي مسألة أصوليّة ؛ ضرورة أنّه لو لم يرجع إليه فلنا أن نختار الشّق الأخير ، فإنّك قد عرفت ـ عند الاستدلال على حجيّة مطلق الظّن بقاعدتي قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ولزوم ترجيح الرّاجح على المرجوح ـ : أنّ العقل إنّما يحكم باللّزوم فيما دار الأمر بعد ثبوت لزوم التّرجيح بمقدّمات الانسداد بين ترجيح الراجح أو المرجوح ، وإلاّ فلا يحكم بشيء منهما ، بل يقف عن الحكم ، ومن هنا حكمنا : بأنّه لا بدّ من إرجاع هذا الدّليل إلى دليل الانسداد ، لا أن يكون دليلا مستقلاّ بحجيّة الظّن في قباله كما هو مبنى استدلالهم به.

فيرد عليه ما ستعرفه : من عدم تماميّة المقدّمات في المسألة الأصوليّة أوّلا ؛


وكون النّتيجة مهملة على تقدير تسليم التّماميّة ثانيا ؛ ضرورة عدم اختلاف نتيجة المقدّمات بحسب اختلاف المسائل.

فإن شئت قلت : إنّ النّتيجة إن كانت مهملة فلا معنى لجعل مطلق الظّن معيّنا ومرجّحا وإن كانت مطلقة فكذلك ؛ ضرورة حصول العلم القطعي بحجيّة مطلق الظّن في الفروع فلا ترديد حتّى يكون موردا للتّرجيح ، فالتّرجيح بمطلق الظّن ساقط على كلّ من تقديري الإهمال والإطلاق. ومنه يظهر فساد توهّم : أنّه على الإطلاق لا معنى لمنع التّرجيح بمطلق الظّن.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : فساد ما توهّمه غير واحد بعد تسليم ما ذكرنا من أنّ المقام مقام التّرجيح لا الحجيّة ؛ فإنّا لا نعني من كون الشّيء حجّة إلاّ الاعتماد عليه والاتّكال إليه في تشخيص الحكم الإلهي المشتبه عندنا من غير فرق بين الحكم الفرعي والأصولي المشتبه ، فكما إذا علم إجمالا بحكم فرعيّ في بعض الوقائع فظن أنّه الحكم الإلزامي مثلا لا يمكن البناء على الحكم الإلزامي من جهة الظّن به ، إلاّ بعد قيام الدّليل على حجيّته ، كذلك إذا علم إجمالا بحكم أصولي فتردّد عندنا أمره أنّه خصوص المظنون ، أو المشكوك ، أو الموهوم ، أو الأعمّ ، لا يمكن البناء على أنّه خصوص المظنون إلاّ بعد إقامة البرهان على حجيّة الظّن ، فلا معنى لجعل المقام من موارد التّرجيح.

وبالجملة : تعيين الحكم الإلهي المشتبه بالظّن عين جعله حجّة من غير فرق بين الحكم الفرعي والأصولي.

وأمّا التّرجيح فالمراد به في كلماتهم تقديم أحد الدّليلين على الآخر لرجحان له عليه ، وأين هذا من المقام؟


وإن أطلق التّرجيح وأريد به المعنى الأعمّ من تعيين أحد الاحتمالين بالظّن ، أو تقديم أحد الدّليلين المتعارضين على الآخر لمزيّة له عليه وإن لم يكن خصوص الظّن بالنّظر إلى المعنى اللّغوي ، أو العرفي ، أو المسامحيّ ، فلا يمنع منه ، لكنّه لا يوجب شيئا أصلا هذا.

مع أنّ التّرجيح بمعناه المعروف من دون قيام دليل عليه محرّم بالأدلّة الأربعة ؛ لأنّه موجب لاستناد الحكم التّعييني إلى الشارع من دون دليل هذا.

وإن شئت قلت : إنّ رجحان الظّن على الشّك والوهم وإن كان وجدانيّا ، إلاّ أنّ رجحان المظنون على المشكوك في نظر الشارع مطلقا حتّى يوجب عليه جعله دون مشكوك الاعتبار فليس معلوما ، وإلاّ لم يكن اعتباره مشكوكا.

والمدار إنّما هو في الرّجحان بالمعنى المذكور عند الشارع لا في وجداننا ؛ فإنّ المفروض تقرير المقدّمات على وجه الكشف لا الحكومة ، ولو حكم العقل ولو بالملاحظة الثّانويّة بكون الظّن بما هو ظنّ موجب للرجحان والتّقديم في نظر الشارع فلا محالة يحكم بإطلاق الحجيّة على تقرير الكشف أيضا. وهو ـ مع كونه خلاف الفرض ـ موجب لسقوط التّرجيح بالظّن رأسا ، كما أنّه على تقرير الحكومة المقتضي للحكم بحجيّة مطلق الظّن على ما عرفت ، لا مورد للتّرجيح ؛ إذ هو فرع الإهمال الغير المجامع مع الإطلاق ، فلا تغترّ إذن بما ذكروه : من أنّ المورد مورد التّرجيح ، والغرض إنّما هو متعلّق به والدليل عليه هو الدّليل العقلي المذكور.


في انه على تقرير الحكومة لا فرق بين مظنون الإعتبار وغيره

ثمّ إنّ مفروض البحث على ما عرفت إنّما هو على تقرير الكشف ، وأمّا على الحكومة فقد عرفت : أنّه لا فرق بين مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه بالنّظر إلى هذه العنوانات ولا أثر لها في حكمه أصلا.

نعم ، يمكن فرض حكمه بلزوم تقديم المظنون على تقرير الحكومة لو فرض تساوي الظّنون القائمة في المسائل الفقهيّة دائما بالقوّة والضّعف وفرض إيجاب الظّن بالاعتبار ، لصيرورة الإطاعة من جهة سلوكه أقوى وأتمّ في نظر العقل.

فإنّك قد عرفت : أنّ الحجّة في حكم العقل هو الظّن الأقوى البالغ حدّ الاطمئنان ليس إلاّ على تقدير كفايته ، لكنّه مجرّد فرض قد عرفت الكلام عليه. وكيف كان الكلام إنّما هو على تقرير الكشف وإهمال النّتيجة.

وأمّا على تقرير الحكومة فقد عرفت : أنّ العقل قاض بحجيّة الظّن الأقوى من أي سبب حصل ، فإذا فرض كون مشكوك الاعتبار أقوى ظنّا من مظنون الاعتبار فيحكم العقل بتقديمه ، فتقديم مظنون الاعتبار على إطلاقه ـ كما يزعمه القائل به ـ لا معنى له على كلّ تقرير ، من غير فرق بين تقرير الكشف كما يظهر ممّا ذكره المحقّق المحشّي بقوله : « كان ذلك أقرب إلى الحجيّة » (١) ؛ حيث أنّه ظاهر في وجود حجيّة شرعيّة واقعيّة ؛ إذ على تقرير الحكومة لا معنى لما ذكره إلاّ على

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٥.


تأويل أو تقرير الحكومة كما يظهر من قوله « نظرا إلى حصول القوّة » (١) لتلك الجملة حيث إنّ مرجحيّة القوة إنّما هي على تقرير الحكومة على ما عرفت.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره : من الاعتراض الثّالث بقوله : « مع أن الظّن المفروض إنّما قام على حجيّة بعض الظّنون في الواقع ... إلى آخره » (٢).

فهو يشبه الاعتراض الأوّل في توجّه المناقشة إليه ؛ حيث إنّ قيام الظّن على حجيّة بعض الظّنون بقول مطلق من غير فرق بين زماني الانفتاح والانسداد في معنى قيام الظّن على تعيين المهملة ؛ لأنّه يظنّ منه أنّ الشارع اعتبر الظّن المظنون في زمان الانسداد فهو مثل قيام ظنّ على اعتبار بعض الظّنون في خصوص زمان الانسداد ، فيظنّ أنّ المظنون مراد من المهملة.

فإن أريد من قيام الظّن على تعيين المهملة هذا المعنى فهو حاصل ، وإن أريد الزّائد عليه فلا دليل عليه أصلا ؛ فإنّ مقتضى ما ذكروه على تقدير تسليمه كون الظّن بالاعتبار معيّنا لا يكون الظّن القائم على عنوان تعيين المهملة معيّنا كما هو واضح. ومن هنا أمر بالتّأمّل فيما أفاده قدس‌سره.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا كلّه : فساد ما أورده جمع ممّن قال بحجيّة الظّنون الخاصّة على القائل بحجيّة الظّن المطلق مثل المحقّق القمّي قدس‌سره من باب الإلزام ؛ من أنّه على تقدير تسليم تماميّة المقدّمات واقتضائها لحجيّة الظّن على الإطلاق يتعيّن العمل بخصوص المظنون من الأمارات القائمة على المسائل الفقهيّة دون

__________________

(١) نفس المصدر : ج ٣ / ٣٦٣.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٠.


المشكوك والموهوم ؛ حيث إنّه إذا كان مقتضاها حجيّة الظّن على الإطلاق كان مقتضاها العمل بالظّن في تعيين الحجّة على الإطلاق أيضا ؛ إذ لا يعقل الانفكاك في اقتضاء الدّليل إطلاقا وتقييدا بحسب المسائل.

كلام الفاضل النراقي

قال الفاضل النّراقي في « المناهج » ـ في عداد الإيرادات على التمسّك بدليل الانسداد لإثبات حجيّة مطلق الظّن في الفروع من غير فرق بين مظنون الاعتبار وغيره ـ :

« ثانيهما : أنّه لو تم لما دلّ إلاّ على حجيّة المظنون حجيّته ؛ لأنّه جعل سدّ باب العلم مع بقاء التّكليف موجبا للعمل بالظّن وتعيين المناط في الأحكام أيضا مسألة فيجب العمل فيها بالظّن فيكون الحجّة الظّن الّذي دلّ دليل ظنّي على حجيّته لا كلّ ظنّ ، وجعل انسداد باب العلم في سائر المسائل موجبا للميل بالظّن فيها دون هذه المسألة تهافت » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، وإن كان ظاهرا في إجراء دليل الانسداد في تعيين الظّن الثّابت حجيّته مستقلاّ أو في ضمن إجرائه في الفروع ، إلاّ أنّه في كمال الغرابة ؛ فإنّه بعد تسليم اقتضاء المقدّمات لحجيّة مطلق الظّن في الفروع كما هو مبنى الاعتراض يحصل العلم بمناط الأحكام ، فأين انسداد باب العلم به؟

وعلى تقدير اقتضائها لحجيّة الظّن في الجملة ، لا بدّ أن يقول : بأنّ مقتضاها

__________________

(١) مناهج الاحكام في أصول الفقه : ٢٦١.


في تعيين المناط العمل بالظّن في الجملة ؛ نظرا إلى ما ذكره من عدم اختلاف اقتضاء الدّليل بحسب المسائل.

نعم ، على تقرير الحكومة نقول باقتضائها لحجيّة مطلق الظّن المتعلّق بالمسائل الأصوليّة والفقهيّة على ما عرفت تحقيقه مرارا ، ولكنّه لا تعلّق له بالمقام أصلا ؛ ضرورة اقتضائه لحجيّة الظّن في المسألة الأصوليّة ، ولو لم يحصل بما ظنّ حجيّة ظنّ في الفروع أصلا. وأين هذا من تعيين المهملة بالظّن؟

وكيف كان : لا ينبغي الإشكال في أنّ التّرجيح بمطلق الظّن لا معنى له من غير فرق بين القول بالإطلاق والإهمال وإن خالف فيه جمع منهم الفاضل النّراقي فيما عرفت من كلامه وفي غيره ؛ فإنّه قال أيضا ـ في موضع آخر ـ ما هذا لفظه :

« ورابعا : أنّه لم يعلم ما قصده بقوله : « فيجب العمل بالظّن » إن أراد أنّه يجب العمل بكلّ ظنّ فهو ممنوع ، وإن أراد أنّه يجب العمل بالظّن في الجملة ، فهو مسلّم ولا يفيد له.

فإن قيل : يثبت حجيّة الجميع بضمّ بطلان التّرجيح بلا مرجّح.

قلنا : لا شك أنّ للظّن عرضا عريضا فيتّصل أحد طرفيه بالعلم والآخر بالشّك ، وفي البين ظنون متفاوتة بعضها أقوى من بعض ، فكيف يكون ترجيح الأقوى ترجيحا بلا مرجّح؟

ألا ترى أنّ بعض أفراد الخبر المفيد للظّن أرجح من بعض كالصّحيح من غيره والحسن من الضّعيف؟

وأيضا الظّنون مختلفة حيث إنّ بعضها ممّا اشتهر القول بحجيّته وبعضها ممّا


لم يقل بحجيّته إلاّ نادر ، ولا شك أنّ الأوّل أرجح.

وأيضا المرجّح موجود في طائفة من الأدلّة لوجود الأدلّة على لزوم العمل بها المذكورة في مظانّها. والقول : بأنّ أدلّتها لا تفيد إلاّ الظّن فهي مرجّحات ظنيّة صارت مرجّحة لهذه الظّنون ، مسلّم ولكن لا يلزم منه كون ترجيحها ظنيّا ؛ فإنّه لا تنافي بين كون الشّيء مفيدا للظّن بشيء ولم يكن منه وكان مرجّحا قطعيّا لآخر ؛ فإنّ كون الشّيء مرجّحا غير كونه واجب العمل. مع أنّ الثّابت من بطلان التّرجيح بلا مرجّح إنّما هو إذا لم يكن مرجّح أصلا لا قطعيّ ولا ظنّي.

وإن أريد أنّ ترجيحها ظنّ فهو فاسد ؛ فإنّ الطّرف الّذي فيه الأدلّة الظّنيّة أرجح قطعا على الطّرف الفاقد لها هذا كلّه ، مع أنّ اللاّزم من عدم المرجّح هو التّخيير دون الحكم بحجيّة الجميع » (١). انتهى ما أردنا نقله.

وأنت بعد الإحاطة بما ذكرنا تعرف وجوه النّظر فيه ؛ فإنّك قد عرفت : أنّ رجحان المظنون على غيره في وجداننا وكذا اختلاف الظّنون من الحيثيّات التي ذكرها في وجداننا لا يوجب الرجحان في نظر الشارع وفي حكمه بحجيّة الظّن المستكشف من دليل الانسداد بحيث يحكم العقل به ؛ فإنّ مناط التّرجيح والتّعميم على تقرير الكشف إنّما هو في حكم الشارع.

كما أنّ ما ذكره : من أنّ اللاّزم من عدم المرجّح هو التّخيير ، لم يعلم له معنى محصّل ؛ فإنّ لازم عدم التّرجيح بين الدّليلين المتعارضين هو التّخيير عند المجتهدين ، لا أنّ لازم كلّ الاحتمالين ولو لم يكونا متنافيين التّخيير. نعم ، قد

__________________

(١) مناهج الاحكام في أصول الفقه : ٢٥٨.


عرفت احتمال التّخيير وإمكانه ، وأين هذا من كونه لازما لعدم التّرجيح؟ هذا.

مع منافاة ما أفاده في المقام لما ذكره في معنى القاعدة عند الاستدلال بها على حجيّة الظّن مطلقا من جانب القائل بها ، فإنّه بعد نقل كلام بعض المحقّقين الموردين على التمسّك بقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الرّاجح ، وإثبات حجيّة الظّن ، وأنّ غاية ما يستفاد منه لزوم العمل بالرّاجح عند الدّوران في الجملة ، قال : « ويرد على الدّليل أيضا :

أمّا أوّلا ؛ فبأنّه إن أريد أنّه يقبح ترجيح المرجوح ويجب ترجيح الرّاجح مطلقا فهو ممنوع. وإن أريد أنّ ترجيح بعض المرجوحات قبيح فهو مسلّم ، ومن أين علم أنّ محلّ النّزاع منه؟

وأمّا ثانيا : فبأنّ غاية ما دلّ عليه الدّليل أنّ ما ظنّ وجوب فعله مثلا لكون فعله ذا صفة راجحة ، هي كونه مظنون الوجوب يجب ترجيح فعله. فنقول : إنّه يجب لو لم يشتمل تركه على صفة راجحة أخرى ، وإلاّ فلا يثبت إلاّ ترجيح الفعل إذا لم يكن في التّرك رجحان من جهة أخرى ، وأمّا إذا كان له مرجّح كأن يكون موافقا لمدلول خبر وإن لم يفد الظّن ، فلا شك أنّه حينئذ ذو صفة زائدة ليست في طرف الفعل فلا يقبح ترجيح التّرك ».

إلى أن قال :

« وأمّا ثالثا : فبأنّ ما اتّفق عليه العقلاء ويعاضده الدّليل هو قبح ترجيح ما علم مرجوحيّته في الواقع ، والكلام فيما نحن فيه فيما كان راجحا أو مرجوحا في نظر الظّان ولا يحكم العقل بقبح ترجيح ما كان مرجوحا في نظر شخص لجواز رجحانه في الواقع.


والتّوضيح : أنّ الكلام في أنّ الشارع هل أوجب علينا الأخذ بالطّرف الرّاجح عندنا أم لا؟ ـ فإنّه معنى حجيّة الظّن ـ فنقول :

إذا كان شيء عندنا راجحا ولم يحتمل أن يكون مرجوحا في الواقع ، قبح من الشارع الأمر بأخذ المرجوح ، وإن احتملنا أن يكون مرجوحا بحسب الواقع فلا يقبح من العالم بالواقع الأمر بأخذ المرجوح عندنا ، فترجيح الشارع ما هو مرجوح عندنا ليس بقبيح على الإطلاق. ولذا ترى أنّه أمر بالأخذ بخلاف الرّاجح عندنا في كثير من الموارد ، فمن أين يعلم أنّ ما نحن فيه من الأوّل؟ » (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنّ ما أفاده قدس‌سره لا يجامع مع ما ذكره في المقام ، وممّا ذكرنا كلّه يظهر جودة ما أفاده شيخنا قدس‌سره في ردّ الفاضل المتقدّم ذكره المورد على القائل بحجيّة مطلق الظّن إلزاما المعترض على نفسه بقوله : « وفيه : أنّه إذا التزم باقتضاء مقدّمات الانسداد مع فرض عدم المرجّح العمل بمطلق الظّنّ في الفروع ... إلى آخره » (٢).

وكذا ما أفاده قدس‌سره في فساد القلب بقوله : « وليس للمعترض القلب ... إلى آخره » (٣).

وأمّا ما أفاده في رد هذا المعترض بقوله : « أقول : لا يخفى أنّه ليس المراد من

__________________

(١) مناهج الاحكام في أصول الفقه : ٢٦٠.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٢.

(٣) نفس المصدر.


أصل دليل الانسداد إلاّ وجوب العمل بالظّن ... إلى آخر ما أفاده قدس‌سره » (١).

فهو من أوضح الواضحات ضرورة ؛ أنّ الكلام في المقام في تعيين الحكم الشّرعي الأصولي المستكشف من مقدّمات الانسداد المتعلّق بالظّن على سبيل الإهمال والإجمال بالظّن ، وأنّ واجب العمل في حكم الشّارع خصوص مظنون الاعتبار أو الأعمّ منه ومن غيره.

وأمّا الكلام في أنّ الظّن بالاعتبار على فرض التّسوية بين الظّنون في حكم الشارع هل يصلح أن يكون داعيا ومرجّحا لاختيار المكلّف وميله وتعلّق إرادته بالمظنون الاعتبار أم لا ، فهو ليس كلاما في مسألة شرعيّة صالحة لأن يعنون في كلمات العلماء ويذكر في الكتب ، بل ليست صالحة لتكلّم العالم فيه ، بل هو كلام في أمر عاديّ خارج عن فنّ العلم.

والّذي أوقعه في هذا الخطأ ودعاه إلى حمل كلمات من ذهب إلى كون الظّنّ بالاعتبار مرجّحا للمهملة على ما ذكره ، ما رآه في كلام غير واحد منهم حسبما عرفت : من أنّ البحث في المقام في ترجيح مظنون الاعتبار من جهة قيام الظّنّ على اعتباره ، وأنّ الرّجحان به أمر وجدانيّ ، لا في جعله دليلا وحجّة على اعتبار مظنون الاعتبار حتّى يطالب بدليله ، فزعم أنّهم يريدون أن يجعلوا الظّن بالاعتبار داعيا ومرجّحا لاختيار المكلّف ، لا سببا ومرجّحا لإيجاب الشّارع العمل بخصوص مظنون الاعتبار سيّما بملاحظة قولهم في مقام ثبت هذا المطلب : أنّ كون

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٤٨٤.


المرجّح ظنّا لا يلزم كون التّرجيح ظنّيّا (١). فوقع في هذا الوهم.

وإن كان منشأ اشتباه الأمر عليهم في المقام على ما عرفت تفصيل القول فيه أمر آخر ، وهو : اشتباه المرجّح الوجداني بالمرجّح الشّرعي ، وأنّ العقل إذا رأى اختلاف مراتب الظّنون القائمة على المسائل الفرعيّة من حيث الظّن بالاعتبار وعدمه ، فلا يحكم بالتّعميم من جهة قاعدة « بطلان التّرجيح بلا مرجّح » فافهم.

والأولى : نقل عين عبارته بتمامها قال قدس‌سره في « العوائد » :

« ولا يخفى أنّ هذا القائل خلط بين ترجيح الشّيء وتغليبه ولم يفهم الفرق بينهما ، ونحن لبيان المطلب نقدّم أوّلا مقدّمة ، ثمّ نجيب عن كلامه.

وهي : أنّه لا ريب في بطلان التّرجيح بلا مرجّح فإنّه ممّا يحكم بقبحه العقل والعرف والعادة ، بل يقولون بامتناعه الذّاتي كالتّرجح بلا مرجّح.

والمراد بالتّرجيح بلا مرجّح. هو الكون مع أحد الطّرفين والميل إليه والأخذ به من غير مرجّح وإن لم يحكم بتعيينه وجوبا ، وأمّا الحكم بذلك فهو أمر آخر وراء ذلك.

ولنوضح ذلك بأمثلة فنقول : إذا أرسل سلطان مثلا عبدا إلى بلد وقرّر له أحكاما وطلبها منه ، ولم يعلم ذلك العبد تلك الأحكام ولكن أخبره عادل ؛ بأنّه طلب منه إكرام زيد وعمرو وبكر وخالد من غير نفي أحكام أخر ، وآخر ؛ بأنه طلب منه بناء دار ومسجد وقنطرة ورباط من دون نفي الغير ، وثالث ؛ بأنّه طلب منه استكتاب مصحف وكتاب وديوان كذلك ولم يكن له بدّ من العمل بأقوال هؤلاء كلاّ

__________________

(١) أنظر هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٥.


أو بعضا ، ولكن لم يعلم أنّ أحكامه هل هي ما أخبر به الجميع ، أو واحدا ، أو اثنان.

فإن كان الجميع متساويين من جميع الوجوه فلو عمل بقول واحد معيّن منهم من حيث هو قوله كان ترجيحا بلا مرجّح وموردا للقبح. ولكن لو كان الظّن الحاصل من قول أحدهم أقوى ، أو ضمّ معه مكتوب متضمّن للأخذ بقوله من السّلطان أو الوزير من غير أن يفيد العلم ولا أن يكون دليل على حجيّة ذلك المكتوب ، فلو أخذ بقوله وعمل به ، لم يلزم ترجيح بلا مرجّح ولا قبح فيه عقلا ولا عرفا. نعم ، لا يجوز له الحكم بأنّ الواجب أخذه إلاّ مع حجّة عليه.

ومن هذا القبيل لو حضر طعامان عند أحد أحدهما ألذّ من الآخر فلو أكل هذا الشخص الألذ لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح وإن لم يلزم أكل الألذّ ولكن لو حكم بلزوم أكله لا بدّ من تحقّق دليل عليه ولا يكفي مجرّد الألذّية. نعم ، لو كان أحدهما مضرّا يصحّ الحكم له باللّزوم.

ومن ذلك القبيل أيضا من أراد المسافرة إلى بلد كان له طريقان متساويان من جميع الوجوه ولكن سافر بعض أحبّائه من أحدهما فلو اختار هو أيضا المسافرة من ذلك الطّريق لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح ، ولكن لو حكم بتعيين هذا الطّريق للسّلوك احتاج إلى دليل.

وبالجملة : جميع الموارد كذلك ، والحكم بلا دليل غير التّرجيح بلا مرجّح ، وشتان ما بينهما. فالمرجّح غير الدّليل ، والأوّل يكون في مقام الميل والعمل والثّاني في مقام التّصديق والحكم.

وإذ عرفت تلك المقدّمة فنقول : ليس مراد المورد أنّه يجب العمل بالظّن المظنون حجيّته ، وأنّه الظّن الّذي يجب العمل به بعد سدّ باب العلم ، بل غرضه أنّ


بعد ما يلزم على المكلّف ببقاء التّكليف وانسداد باب العلم بالظّن في الجملة ولا يعلم أنّه أي ظنّ لو عمل بالظّن المظنون حجيّته ، كما أنّ المسافر يسلك السّبيل الّذي سلكه رفقاؤه ما الضّرر فيه وأي نقص يلزم عليه.

فإن قلت : هو ترجيح بلا مرجّح ، فغلطت غلطا ظاهرا ، وإن كان غيره فبيّنه حتّى ننظر.

وثالثا (١) : نقول : إنّه يجب العمل بالظّن المظنون الحجيّة ؛ لأنّه كما أنّك تقول : يجب علينا في كلّ واقعة البناء على حكم ولعدم كونه معلوما يجب في تعيينه العمل بالظّن ولا يلزم ترجيح بلا مرجّح ، مع أنّ تعيينك ليس إلاّ بالظّن ، فكذا نقول :إنّه بعد ما وجب علينا العمل بظنّ ولم نعلم تعيينه يجب علينا في تعيين هذا الظّن العمل بالظّن وكيف لا يلزم في الأوّل ترجيح بلا مرجّح ويقبح التّرجيح بالظّن ويلزم في الثّاني ولا يصحّ؟!. ولعمري إنّ هذا لشيء عجاب!!

وبتقرير آخر إن تقول (٢) : إنّ سدّ باب العلم وبقاء الأحكام وبطلان سائر الاحتمالات المذكورة بنفسها موجبة للعمل بكلّ ظنّ وأصالة حجيّته ، فبيّن لنا الملازمة حتّى نستفيد منك.

وإن تقول : إنّها موجبة للعمل بالظّن في الجملة ، ولكنّه غير متعيّن لنا بالطّريق العلمي ، فإن لم يكن سدّ باب العلم مستلزما للعمل بالظّن فلم أخذته في أصول دليلك؟

__________________

(١) عطف على ثانيا وأوّلا في كلام للفاضل المزبور لم يذكره صاحب البحر ها هنا إختصارا ، أنظر : ص ٣٩٥ من عوائد الأيّام.

(٢) كذا والصحيح : « إن تقل » وكذا في الّذي بعده فلاحظ.


وإن كان ففي هذا المقام أيضا كلّفنا بالعمل بظنّ من الظّنون وباب العلم به منسدّ فاعمل فيه أيضا بالظّن واحكم بحجيّة كلّ ظنّ كان دليل ظنّي على حجيّته ، وهو الأخبار الواردة في الكتب المعتبرة من أصحابنا الّتي دلّت الشّهرة ، والإجماع المنقول ، ومفهوم الكتاب ، ومنطوق الأحاديث الغير المحصورة ، والقرائن المتكثّرة على حجيّتها كما بيّناه مفصّلا في « شرح تجريد الأصول » و « المناهج » (١) و « أساس الأحكام » و « مفتاح الأحكام ».

فإن قلت : الدّليل الظّني على حجيّة الأخبار لا ينفي حجيّة ظنّ آخر.

قلنا : نعم ، ولكن لا يكون حينئذ دليل على حجيّة ظن آخر إذ بعد ثبوت وجوب العمل بظنّ مظنون الحجيّة ينفتح باب الأحكام ولا يجري دليلك في ظنّ آخر ويبقى في تحت أصالة عدم الحجيّة » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأمّا التّفريع الّذي أفاده بقوله : « وممّا ذكرنا يظهر في آخر كلام البعض (٣) المتقدّم ذكره ... إلى آخره » (٤).

فهو وإن كان مستقيما بالمعنى الّذي عرفته فيقال : إنّ كون المرجّح أمرا وجدانيّا قطعيّا لا يقتضي كون التّرجيح من جهته عند الشارع قطعيّا ، بل قطعيّة

__________________

(١) أنظر مناهج الأحكام : ٢٥٦ ، المقصد الأوّل في الإجتهاد والتقليد ، مناهج في حجّيّة الظن في الأحكام.

(٢) عوائد الأيّام ، العائدة : ٤١ / ٣٩٦ ـ ٣٩٨.

(*) هو الشيخ محمّد تقي صاحب الحاشية على المعالم.

أنظر هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٦٢ ـ ٣٦٥ و ٣٩٤ ـ ٣٩٥ من الطبعة الحجريّة.

(٣) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٦.


التّرجيح من جهته عند الشارع تابع لقيام الدّليل القطعي عليه وإلاّ فوجوده كعدمه عند العقل ، وإن أوجب الظّن باعتباره الظّن برجحانه عند الشّارع إذا لم يحصل ممّا قطع بعدم اعتباره ؛ فإنّه إذا لم ينته إلى القطع كما هو المفروض لا يترتّب عليه أثر.

وببالي إنّ غلط النّسخة الّتي كانت عند شيخنا قدس‌سره ألجأه إلى هذا المعنى ؛ فإنّ الموجود في النّسخة الصحيحة : أنّ كون المرجّح ظنّا لا ظنيّا فقال قدس‌سره : « فإنّا نقول : إنّ كون المرجّح قطعيّا لا يقتضي ذلك » (١) ، أي : كون المرجّح أمرا قطعيّا وجدانيّا وهو عين مطلب البعض المتقدّم ذكره.

نعم ، ما أفاده بقوله : « وإلاّ فليس ظنيّا أيضا » (٢) لا يخلو عن مناقشة يظهر بملاحظة ما ذكرناه. اللهمّ إلاّ أن يحمل على نفي الاقتضاء والملازمة ؛ إذ ربّما يحصل ممّا يقطع بعدم اعتباره عند الشارع كالقياس وأشباهه فتأمل.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره : من استظهار الخلط من المعترض بين التّرجيح بلا مرجّح في مقام الإيجاد والتّكوين وبينه في مقام الإلزام والتّشريع بقوله : « ثمّ إنّ ما ذكره الأخير في مقدّمته : من أنّ التّرجيح بلا مرجّح قبيح ، بل محال يظهر منه خلط ... إلى آخر ما أفاده » (٣).

فهو في كمال الجودة والاستقامة ؛ ضرورة أنّ المتّصف بالحسن والقبح بمعناهما الّذي وقع النّزاع فيه بين العدليّة والأشاعرة في مسألة التّحسين والتّقبيح

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٨٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٨٦.

(٣) نفس المصدر السابق.


العقليّين هو الأفعال الاختيارية للمكلّفين ، كما أن مفروض الأحكام الشّرعيّة أيضا الأفعال الاختياريّة ليس إلاّ ، فما يوجد من الممكنات من الفاعل المختار إن لم يكن له مرجّح لوجوده ولو كان مرجّحا نفسانيّا جزافيّا لا عقلانيّا ولو كان هو الإرادة بزعم الأشعري لم يمكن إيجاده ووجوده ، وإلاّ خرج عن كونه ممكنا ؛ لأنّ نسبته إلى طرفي الوجود والعدم على السواء لا اقتضاء له بحسب ذاته لأحد الأمرين أصلا.

ومن هنا ذكر المتكلّمون : أنّ التّرجيح بلا مرجّح يؤول إلى التّرجّح بلا مرجّح ؛ ضرورة أنّه إذا فرض عدم استناد وجوده إلى المرجّح فلا محالة يوجد بلا موجد ، وهو ممّا اتّفقت كلمتهم على استحالته من جهة ضرورة حكم العقل بها بعد فرض الإمكان والإلزام والحكم سواء كان من الشارع ، أو غيره من جهة كونه فعلا وإيجادا اختياريّا من الحاكم لا بدّ له من مرجّح ، وإلاّ استحال وجوده ، من غير فرق بين الشارع وغيره.

إلاّ أنّ الشارع لا يختار بالنّظر إلى الحكمة والعصمة إلاّ المرجّحات العقلائية لا أنّه يمتنع اختيار غيره ذاتا ؛ لأنّ الحكمة والعصمة لا يوجب سلب الاختيار كما هو بديهيّ.

وغيره قد يختار ما لا يكون مرجّحا عقلانيا وبعد وجود المرجّح بهذا المعنى للفعل من أيّ فاعل كان سواء في الأفعال ، أو الأحكام لو رجّح الفاعل المختار الفعل على التّرك أو العكس من غير مرجّح عقلائي ، فعل فعلا قبيحا عند العقلاء يوجب ذمّ فاعله عندهم ، فالمورد للقبح غير المورد للاستحالة. فإذا لم يكن للفعل الممكن مرجّح أصلا فهو محال لا قبيح ، وإذا كان له مرجّح لا يجوّز العقلاء


اختيار الفعل لأجله ، فهو قبيح لا محال.

فمراده قدس‌سره من أنّ الأوّل محال لا قبيح ، والثّاني قبيح لا محال : إنّما هو فيما إذا فرض عدم المرجّح للأوّل أصلا ورأسا وفرض عدم المرجّح العقلائي مع فرض وجود المرجّح في الجملة للثّاني ، وهو أمر واضح لمن له أدنى تأمّل في كلامه قدس‌سره (١) فالاعتراض عليه كما عن بعض أهل العصر ناش عن القصور.

__________________

(١) أقول : وللمحقق الإصفهاني كلام شريف في نهايته لا بأس بذكره في المقام : قال :

تحقيق المقام : إن الترجيح موضوعه الفعل الإرادي ، وثبوت الإرادة فيه مفروغ عنه ، وإلاّ لكان ترجّحا بلا مرجّح وهو مساوق للمعلول بلا علة ، وامتناعه بديهي لا يختلف فيه أحد ، ففي الموضوع الإرادي قالوا بقبحه تارة وبإمتناعه أخرى.

بيانه : إن الأشاعرة بنوا على خلوّ أفعال الله تعالى التكوينيّة والتشريعيّة عن الغايات الذاتيّة والعرضيّة وعن الحكم والمصالح الواقعيّة ؛ نظرا إلى جواز الترجيح بلا مرجّح ؛ لإمكان الإرادة الجزافيّة ؛ تمسّكا منهم بأمثلة جزئيّة مذكورة في الكتب الكلاميّة ، بل الأصوليّة ، ونفيا منهم للحسن والقبح بالكليّة.

فالفعل الإرادي الخالي عن الغرض معلول للإرادة المستندة إلى المريد ، فلا يلزم المعلول بلا علة وحيث لا حسن ولا قبح ، فلا يتّصف مثل هذا الفعل ـ الخالي عن الغاية والغرض بالذات وبالعرض ـ بكونه قبيحا.

وأجاب الحكماء ـ بعد إثبات الحسن والقبح عقلا في كلية أفعال الله تعالى والعباد ـ : بأن الفعل الخالي عن الغاية والغرض قبيح من كل عاقل ، وبأن تجويز الإرادة الجزافيّة يؤول إلى تجويز الترجح بلا مرجّح ؛ لأن الإرادة من الممكنات فتعلّقها بأحد الأمرين دون تعلّق إرادة أخرى بالآخر إمّا بإرادة أخرى ، فيدور أو يتسلسل وإمّا بلا إرادة وبلا جهة موجبة لتعلقها بهذا دون ذاك ، كان معناه حدوث الإرادة بلا سبب وهو عين الترجّح بلا مرجّح وخروج الممكن


ثمّ إنّ شرح القول فيما يتعلّق بالمقام وإن كان موكولا إلى الفنّ الأعلى وهو « فنّ التكلّم » مع أنّه لا يحسن ممّن هو مثلي في عدم الإحاطة بالفنّ المذكور ، إلاّ أنّه لا بأس بصرف الكلام إليه وذكر بعض ما يوجب البصيرة لمن كان عاريا عن الفنّ فنقول :

اختلف المتكلّمون بعد اتّفاقهم على استحالة التّرجيح بلا مرجّح بالمعنى الّذي عرفته من ترجيح أحد المتساويين من طرفي الممكن على الآخر بلا سبب من الخارج ، فيلزم أن يوجد بلا سبب أو يعدم كذلك ـ الّذي قضت ضرورة العقول على استحالته في الممكنات ـ وإلاّ خرجت عن الإمكان إلى الوجوب ، أو

__________________

عن إمكانه بلا موجب.

فبالإضافة إلى نفس الفعل وإن كان ترجيحا بلا مرجّح ، إلاّ أنّه بالإضافة إلى إرادته ترجّح بلا مرجّح.

فعلم ممّا ذكرنا : أن محل النّزاع هو الفعل الإرادي الخالي عن مطلق الغاية والغرض ، لا الخالي عن الغرض العقلائي ؛ فإنه لم يقع نزاع في إمكانه.

كما علم أن القبح بأي نظر ، وأن الإمتناع بأي لحاظ ؛ فإنه قبيح بالنظر إلى خلوّه عن الحكمة والمصلحة وممتنع بالنظر إلى حدوث الإرادة بلا موجب ، غاية الأمر إن الموجب في إرادته تعالى منحصر في الحكمة والمصلحة ، لا مطلق الغرض.

كما علم انه لا فرق بين التكوين والتشريع في شيء من الإمتناع والقبح ، وإن كان ظاهر شيخنا العلاّمة الأنصاري قدس‌سره إختصاص الإمتناع بمورد التكوين ، والقبح بمورد التشريع ، مع ان كل تكوين وتشريع بلا غاية قبيح وكل إرادة بلا سبب محال ، ولك إرجاع كلامه إلى ما ذكرناه كما عن بعض أجلّة تلامذته قدس‌سرهما. [ يريد به المحقق الآشتياني في هذا البحث ]. أنظر نهاية الدراية : ج ٦ / ٣٢٦.


الامتناع ، وهو خلف في استحالة التّرجيح بلا مرجّح ، بمعنى اختيار الفاعل المؤثّر المختار أحد طرفي ما يقدر عليه من الفعل والتّرك من دون داع ومرجّح له ، وعدمها ، فذهب الأشاعرة إلى الثّاني زعما منهم أنّ الفاعل إذا كان مختارا فيرجّح بإرادته وميله أيّ مقدور شاء.

واستدلّوا عليه : بالوجدان ؛ حيث إنّ العطشان والجائع والهارب من السّبع يختار أحد القدحين والرّغيفين والطّريقين ، مع فرض المساواة من جميع الجهات الّتي لها دخل في التّرجيح. فيعلم من ذلك : أنّ اختيار أحد طرفي الممكن لا يتوقّف على مرجّح خارجيّ.

والعدليّة من الإماميّة والمعتزلة إلى الثّاني لما عرفت : من قضاء ضرورة العقل بعدم تعلّق الاختيار بأحد طرفي الممكن من دون داع وسبب ، فلو وجد لوجد بلا سبب. وهذا معنى رجوع التّرجيح بلا مرجّح إلى التّرجّح بلا مرجح.

وأمّا ما زعمه الأشاعرة ففاسد جدّا :

أمّا أوّلا : فلمنع تحقّق التّساوي من جميع الجهات فيما مثّلوا به وأمثاله ، ومجرّد الفرض لا يوجب تحقّق المفروض في الخارج ، والمدار عليه لا على فرضه كما هو ظاهر.

وأمّا ثانيا : فلأنّا نختار بعد التّسليم عدم اختيار أحدهما ، ومجرّد دعواه لا يفيد في شيء.

وأمّا ثالثا : فلأنّه يرجع إلى الإذعان بلزوم المرجّح ، وإن كان هو الإرادة فليتوجّه عليه : أنّ نسبة الإرادة إلى المقدورين إذا كانت على نهج واحد ومتساوية بالنّظر إلى ذات المؤثّر والفاعل فاتّصافه بإحداهما دون الأخرى إن استند إلى


إرادة أخرى : بأن يريد أن يريد الفعل أو التّرك ، فهو ـ مع كونه ظاهر البطلان بالوجدان ؛ حيث إنّا نرى بالوجدان أنّا نرتكب الفعل بإرادته من دون إرادة هذه الإرادة بالبداهة ـ مستلزم للتّسلسل ؛ لأنّا ننقل الكلام إلى الإرادة الأخرى التي صارت علّة للإرادة المقارنة للفعل وهكذا.

فإن التزموا بالتّوقف على إرادة أخرى وهكذا. فيلزم ما ذكرنا من التّسلسل في الأمور المجتمعة المترتّبة وإن لم يلتزموا به ، فأيّ فرق بين الإرادتين؟

وإن لم يستند إلى إرادة أخرى ومرجّح خارجيّ ـ كما هو المفروض ـ فيلزم ترجيح أحد المتساويين بالنّسبة إلى الإرادة على الآخر بلا سبب وداع. وهذا ما يقوله العدليّة من رجوع التّرجيح بلا مرجّح ، إلى التّرجّح بلا مرجّح.

وقد عرفت : أنّه لا فرق في ذلك بين كون الممكن المقدور إيجاد جسم أو فعل أو حكم من غير فرق بين الإلزام وغيره ، فالموجب إذا لم يكن هناك سبب ومرجّح لإيجابه يستحيل صدوره منه ، كما في سائر الأفعال. فالتّشريعيّات من الحيثيّة الّتي ذكرنا كالتكوينيّات ، بل منها بهذا اللحاظ والاعتبار كما هو ظاهر ، وهكذا الكلام بالنّسبة إلى ترجيح المرجوح على الرّاجح أو التّسوية بينهما ؛ فإنّه إذا كان بلا داع وسبب أصلا استحال قطعا ، وإذا فرض وجود الدّاعي والسّبب ولم يكن ممّا يجعله العقلاء داعيا وسببا فيحكم بالقبح في كلّ من الثّلاثة.

وقد خرجنا عمّا يقتضيه وضع التّعليقة بل الفنّ ، هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالوجه الأوّل وهو إجراء دليل الانسداد في خصوص الفروع ليس إلاّ.

وأمّا الكلام فيما يتعلّق بالوجه الثّاني وهو إجراء دليل الانسداد في خصوص المسائل الأصوليّة فقد عرفت شرحه في الأمر الأوّل ، وأنّه فاسد من


وجوه عرفتها ، وعلى تقديره لا تعلّق له بالمقام أصلا ؛ لأنّ النّتيجة على تقدير الإجراء في خصوص الأصول اعتبار الظّن المتعلّق بحجيّة شيء وإن لم يكن مفيدا للظّن أصلا.

مضافا إلى أنّه يتوجّه عليه : أنّه على تقدير الكشف وإهمال النّتيجة ـ كما هو المفروض ـ لا معنى للحكم بحجيّة مظنون الاعتبار مطلقا أيضا ، بل اللاّزم الحكم بحجيّة ما ظنّ اعتباره في الجملة ؛ نظرا إلى ما عرفت : من عدم إمكان الفرق في النّتيجة من حيث الإهمال والإطلاق بحسب الأصول والفروع ، فالمستكشف من المقدّمات إيجاب الشارع للعمل بالظّن في المسألة الأصوليّة في الجملة لا مطلقا.

لكنّك قد عرفت : أنّ هذا لا تعلّق له بالمقام وهو ترجيح المهملة في الفروع بمطلق الظّن بالاعتبار.

وأمّا الكلام في الوجه الثّالث وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشّرعيّة من الأصوليّة والفرعيّة ، فهو وإن كان فاسدا أيضا بالنّظر إلى ما أسمعناك في الأمر الأوّل ؛ حيث أنّ العلم الإجمالي المتعلّق بالأصول على تقدير تسليمه سواء كان في ضمن العلم الإجمالي بالفروع أم لا ، لا يقتضي حجيّة الظّن المتعلّق بها أصلا ؛ نظرا إلى عدم قيام الدّليل على بطلان الاحتياط فيها أصلا ، إلاّ أنّ النتيجة على تقدير الكشف أيضا حجّيّة الظّن على سبيل الإجمال والإهمال في المسألتين ، فلا معنى إذن للحكم باعتبار مطلق الظن المتعلّق بالمسألة الأصوليّة.

مضافا إلى أنّ مقتضى دليل الانسداد الجاري في الأصول في ضمن مطلق الأحكام الشّرعيّة هو اعتبار خصوص ما لا يفيد الظّن بالواقع ؛ لأنّ اعتبار ما يفيد الظّن بالواقع قد علم من حيث تعلّق الدّليل بالفروع كما هو ظاهر ، وأين هذا من


تعيين المهملة بالظّن؟ هذا بعض الكلام في الوجه الثّالث.

وأمّا الكلام في الوجه الرّابع وهو إجراء دليل الانسداد في كلّ من الأصول والفروع مستقلاّ ، فقد عرفت : أنّه يقع في موضعين :

أحدهما : فيما جرى في الحكم الأصولي بقول مطلق.

ثانيهما : فيما جرى في الحكم الأصولي الثّابت بإجراء دليل الانسداد في الحكم الفرعي.

أمّا الموضع الأوّل فقد علم حكمه ممّا ذكرنا من الكلام على الوجوه المتقدّمة ، وأنّه لا يثبت به على تقدير الإغماض عمّا يرد عليه ، إلاّ خصوص الظّن المتعلّق باعتبار ما لا يفيد الظّن بالواقع ، وأين هذا من حجيّة الظّن المتعلّق بالمسألة الأصوليّة على الإطلاق ومن تعيين المهملة في الفروع بالظّن؟

حيث إنّك قد عرفت مرارا : أنّ نتيجة المقدّمات حجيّة الظّن الشخصي ليس إلاّ ، وأمّا الموضع الثّاني ؛ فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى عدم تماميّة المقدّمات بالنّسبة إلى الحكم الأصلي ولو في مفروض المقام ؛ حيث إنّه لا دليل على بطلان الاحتياط بالجمع بين جميع محتملات الشبهة من لزوم الحرج وغيره ، ودعوى قيام الإجماع عليه كما ترى ، كدعوى دوران الأمر في كلّ ظنّ بين الوجوب والتّحريم ؛ نظرا إلى حرمة العمل به على تقدير عدم حجيّته في حكم الشارع لما أسمعناك مرارا : من أنّ الحرمة التّشريعيّة لا تمنع من الاحتياط ؛ لارتفاع موضوعها بالاحتياط كما هو ظاهر ، فلا يجتمعان موضوعا حتّى يمنع من جريان الاحتياط ـ :

أنّ النّتيجة هو اعتبار الظّن بتعيين المهملة في الفروع على سبيل الإجمال


والإهمال ، لا اعتبارها على الوجه الكلّي والإطلاق كما اعتقده الجماعة ؛ نظرا إلى ما عرفت : من عدم الفرق في نتيجة المقدّمات من حيث الإطلاق بين ما يجري فيه من الحكم الفرعي والأصلي.

نعم ، سيأتي في كلام شيخنا قدس‌سره ـ بعد البناء على ما ذكرنا من عدم استقامة تعيين المهملة بمطلق الظّن ـ صحّة تعيينها بالظّن في مواضع وستسمع منّا ما يتعلّق به ( إن شاء الله تعالى ).

فقد تلخّص ممّا ذكرنا كلّه : بطلان تعيين المهملة بمطلق الظّن الّذي هو أحد المعيّنات عندهم هذا.

وقد رأينا في كلام بعض التمسّك في المسألة إلى تعيين المهملة بمطلق الظّن بكون مظنون الاعتبار متيقّن الاعتبار بالنّسبة إلى غيره.

وهو كما ترى ـ مضافا إلى منافاته لما ذكروه من عدّه في قبال متيقّن الاعتبار ـ لا محصّل له أصلا.

فإنّه إن أريد أنّ جميع أفراده متيقّن الاعتبار حقيقة مع اختلافها اختلافا فاحشا ، فهو كما ترى.

وإن أريد أنّ فيما ظنّ اعتباره من الأمارات يوجد ما هو المتيقّن حقيقة ، فإن كان معلوما بالتّفصيل فلا تعلّق له باعتبار مطلق الظّن في تعيين المهملة ، وإن كان معلوما بالإجمال بحيث كان جميع ما ظنّ اعتباره من أطرافه لا أن يكون مردّدا بين خصوص الأخبار أو طوائف منها ، مع أنّه في حيّز المنع.

فيتوجّه عليه : ما أسمعناك في ردّ ما يتعلّق بالفرض من كلام الشّيخ المحقّق


المحشّي قدس‌سره فراجع.

وإن أريد أنّه متيقّن الاعتبار بالنّسبة إلى غيره وبالإضافة إليه فهو مبنيّ على تساوي جميع أفراد المظنون الاعتبار من حيث المرتبة ، أو عدم كفاية ما تيقن اعتباره حقيقة أو بالإضافة منها كبعض الأخبار أو طائفة منها ، ودون إثباتهما خرط القتاد.

ثمّ إنّه لا إشكال على القول بجواز تعيين المهملة بمطلق الظّن سواء تعلّق بالحجيّة إثباتا أو نفيا في لزوم إلقاء ما ظنّ عدم اعتباره من الظّنون القائمة في المسائل الفقهيّة ، وإنّ الكلام فيه ليس مبنيّا على مسألة المانع والممنوع.

نعم ، لا بدّ على هذا من التمسّك فيما شك في اعتباره من الظّنون بالأصل على ما عرفت : من عدم نفي الظّن بحجيّة أمارة حجيّة غيرها.

نعم ، لو بني على عدم اعتبار الظّن في المسألة الأصوليّة رأسا لم يكن فرق بين الموهوم وغيره فلو كان معيّن آخر فيرجع فيه وفي المشكوك بل في بعض المظنون إلى الأصل ، كما أنّه على القول بجواز تعيين المهملة بالظّن في الجملة يرجع في غير ما عيّن بالظّن إلى الأصل أيضا ، من غير فرق.

فالكلام في مسألة المانع والممنوع مبنيّ على تقرير الحكومة وتعميم النّتيجة بالنّسبة إلى الأصل والفرع ، على ما بنينا عليه كما نبّه عليه شيخنا قدس‌سره في أوّل هذا الأمر الثّاني وسننبّه عليه في مسألة المانع والممنوع فافهم ولا تغفل.

(٢٠) قوله قدس‌سره : ( وفي حكمه ما لو عيّن بعض الظّنون لأجل الظّن بعدم حجيّة ما سواه ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٨٦ )


في حكم الأولويّة والإستقراء الظّنيين

أقول : ما أفاده قدس‌سره : من الإلحاق الحكمي ممّا لا إشكال فيه وقد عرفت بعض الكلام فيه إنّما البحث في المقام في بيان صغرى هذا القسم ، فنقول :

أمّا الأولويّة الاعتباريّة المذكورة في كلماتهم في عداد أقسام القياس المراد بها في كلماتهم : كون المناط المستنبط في الأصل ظنّا غير مستند إلى ظهور لفظ الشارع فيه أقوى وآكد في الفرع.

والاستقراء النّاقص المراد به في كلماتهم : إلحاق بعض جزئيّات الكلّي بأكثرها وأغلبها ممّا علم حالها من الخارج من حيث اشتمالها على الحكم المقصود والصّفة المطلوبة في الجزئي المردّد حاله من جهة الظّن بكون الحكم والصّفة المذكورين من عوارض نفس الكلّي الجامع المشترك بين الجزئيات.

فقد قيل بكونهما ممّا ظنّ بعدم اعتبارهما بالخصوص ؛ نظرا إلى وجود حرمة مناط القياس المنهيّ عنه في الشّريعة بالأدلّة القطعيّة فيهما ؛ لأنّ المناط في تحريمه استنباط مناط الحكم في الأصل ظنّا ، وإلحاق الفرع به من حيث وجود المناط الظّني فيه من غير فرق بين كونه في الفرع أقوى وآكد ، أو أضعف ، أو مساويا مع وجوده في الأصل ، كعدم الفرق بين استخراج المناط المذكور من ملاحظة جزئيّ أو جزئيّات.

ومن هنا استشكل المحقّق القميّ قدس‌سره مع قوله بحجيّة الظّن على الإطلاق فيهما ؛ من حيث الإشكال في خروجهما سيّما الأولويّة عن القياس المحرّم


موضوعا ؛ نظرا إلى ما عرفت ونفى شيخنا قدس‌سره البعد عن دخولهما تحت القياس المنهيّ عنه وقال في مقام التّرقي ـ : « بل النّهي عن العمل بالأولى منهما وارد في قضيّة أبان (١) ، المتضمّنة لحكم دية أصابع المرأة » (٢).

وأمّا الشّهرة المراد بها في كلماتهم ذهاب المعظم إلى فتوى من غير أن يعلم الخلاف والوفاق من غيرهم أو علم الخلاف فقد قيل : إنّها ممّا ظنّ عدم اعتبارها ؛ نظرا إلى قيام الشّهرة على عدم اعتبارها ؛ حيث إنّ المشهور عدم حجيّة الشّهرة هذا.

وقد ذكر شيخنا قدس‌سره في مجلس البحث بعد تضعيف هذا الوجه بما في « الكتاب » : أنّ الموجب للظّن بعدم اعتباره ، الظّن بشمول الإجماع المحقّق والمنقول في مسألة حرمة عمل المجتهد بفتوى الغير وتقليده له للعمل بالشّهرة ؛ حيث إنّه يظهر منه أنّه لا فرق في معقد هذا الإجماع بين أن يجعل المرجع فتوى واحد من العلماء أو اثنين أو ثلاث أو أكثر ما لم يبلغ مبلغ الإجماع المحقّق المفيد للقطع بالسّنّة.

كما أنّا نلتزم بذلك فيما نحكم بجوازه من تقليد العامي للمجتهد في الفروع النّظريّة فإنّه لا يتعيّن عليه تقليد مجتهد واحد ، بل يجوز له الاستناد إلى فتوى غير

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٧ / ٢٢٩ باب « الرجل يقتل المرأة ... » ـ ح ٦ ، والفقيه : ج ٤ ص ١١٨ باب « الجراحات والقتل » ـ ح ٥٢٣٩ ، والتهذيب : ج ١٠ / ١٨٤ ـ ح ١٦ باب « القود بين الرجال والنساء » ، والوسائل : ج ٢٩ ص ٣٥٢ باب « ان دية أعضاء الرجل والمرأة سواء » ـ ح ١.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٧.


واحد في المسألة إذا توافقت آراؤهم كما يجوز للمجتهد الاستناد في الفتوى إلى أدلّة متوافقة من حيث المضمون هذا.

وقد ضعّف قدس‌سره أمر الشّهرة بما عرفت شرح القول فيه : في مسألة حجيّة الشّهرة من حيث الخصوص وهو في كمال الجودة والاستقامة. هذا بالنّسبة إلى ما أفاده في وجه التّوهم في « الكتاب ».

وأمّا ما أفاده في وجهه في مجلس البحث ، فقد ضعّفه بمنع حصول الظّن من الإجماع المذكور في باب التّقليد بذهاب غير واحد من المجمعين إلى حجيّتها من حيث الخصوص كالشّهيد قدس‌سره وأضرابه ، بل لم ير من تمسّك في المنع عن العمل بها إلى الإجماع المذكور ؛ فيحتمل قويّا أن يكون حكمها غير حكم فتوى المجتهد ولا أقلّ من الشّك في ذلك فيكون ممّا شك في اعتباره من حيث الخصوص فتدبّر.

وبالجملة : لا استبعاد في أن يكون حكم الشّهرة من حيث كونها كاشفة عن الواقع وأمارة عليه غير حكم فتوى المجتهد فيكون الرّجوع إليها نحوا من الاجتهاد فافهم.

ضعف إلحاق الأولويّة والاستقراء الظنيّين بالقياس المحرّم

وأمّا الأولويّة والاستقراء فقد ضعّف القول بكونهما ملحقين بالقياس المحرّم موضوعا أو حكما وإن كانت الأولويّة داخلة في القياس موضوعا من دون شبهة بعمل غير واحد من الأصحاب بهما ؛ حيث إنّ عمدة الدّليل على حرمة العمل بالقياس ـ كما ستقف عليه في وجه خروجه عن تحت دليل الانسداد ـ الإجماع ، بل الأولويّة قد عمل بها غير واحد من أهل الظّنون الخاصّة ، كثاني الشّهيدين في


مسألة « ثبوت ولاية القاضي المنصوب » بالشّياع من حيث كون الظّن الحاصل منه أقوى من البيّنة وسبطه (١) صاحب « المعالم » في مسألة استحالة المتنجّسات (٢) ؛ فإنّه استدلّ على كونها مطهّرة بكونها أولى بحصول الطّهارة منها من استحالة النّجاسات.

وبعض المتأخّرين في مسألة حجيّة الشّهرة من حيث الخصوص من جهة كون الظّن الحاصل منها ، أقوى من الظّن الحاصل من خبر العادل غالبا. وقد تقدّم تفصيله في مسألة الشّهرة إلى غير ذلك ، وإن كان عنوان الأولويّة عند بعضهم فيما عرفت : الفحوى ، بل الاستقراء قد تمسّك به أيضا غير واحد من أهل الظّنون الخاصّة.

فإنّا رأينا من جماعة منهم التمسّك في مسألة حجيّة البيّنة على الإطلاق في الموضوعات بالاستقراء ، وكذا تمسّكوا في مسألة حجيّة الاستصحاب في الشّك في الرّافع بقسميه بالاستقراء كما ستعرفه من شيخنا قدس‌سره في باب الاستصحاب إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كلماتهم.

ومنه يظهر : الوهن في دلالة رواية أبان على حرمة العمل بالأولويّة من حيث الخصوص ، مضافا إلى ما فيها من ضعف السّند (٣) ؛ حيث أنّه بعد عمل أهل

__________________

(١) صاحب المعالم رضي‌الله‌عنه هو ابن الشهيد الثاني وليس سبطا له ، وقد تكرّر هذا المعنى في هذا الكتاب من الميرزا الآشتياني قدس‌سره فلتكن على ذكر منه.

(٢) أنظر فقه المعالم : ٧٧٦.

(٣) السند صحيح لا إشكال فيه أصلا بل صحيح أعلائي وذلك لأن طريقه ـ على ما في


الظّنون الخاصّة بل المطلقة بها لا يبقى ظنّ من الرّواية على حرمة العمل بها فلا تكون ممّا ظنّ بعدم اعتبارها هذا.

ولكن ما يستفاد منه المنع من العمل بالأولويّة من جهة كونها قياسا لا ينحصر في رواية أبان ، فإنّه ممّا دلّ عليه غير واحد من الأخبار كالوارد في « باب البول والمني » (١) في ردّ من زعم جواز العمل بالقياس : بأنّ البول أقذر من المني فيكون أولى بإيجاب الغسل وغيره ، فتدبّر.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره في الجواب بعد تسليم حصول الظّن من رواية أبان بقوله :( ولو فرض ذلك دخل الأولويّة فيما قام الدّليل على عدم اعتباره ... إلى آخر ما أفاده ) (٢) فيتوجّه عليه وجوه من الإشكالات :

منها : منع كون مطلق الخبر ولو كان من الضّعاف متيقّن الاعتبار بالنّسبة إلى الأولويّة.

ومنها : منع حجيّة متيقّن الاعتبار مطلقا في المسألة الأصوليّة على تقرير الكشف بإجراء المقدّمات في المسألة الفرعيّة ؛ حيث إنّ النّتيجة على التّقدير المذكور على ما عرفت مرارا حجيّة الظّن في المسألة الفقهيّة.

__________________

الكافي الشريف ـ : علي بن إبراهيم عن أبيه ، ومحمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبان بن تغلب.

ولعلّ رميه بضعف السند سهو من القلم والله العالم.

(١) علل الشرايع : ج ١ / ٩٠ قطعة من الحديث ٥ ، عنه وسايل الشيعة : ج ٢ / ١٨٠ باب « وجوب الغسل من الجنابة و ... » ـ ح ٥.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٨.


ومنها : عدم كفاية تيقّن اعتبار الرّواية بالنّسبة إلى الأولويّة ؛ حيث إنّ اعتبار المتيقّن بالإضافة مبنيّ على عدم وجود المتيقّن الحقيقي ولا الإضافي في المرتبة الأعلى أو عدم كفايتهما وأنّى له بإثبات ذلك؟

اللهم إلاّ أن يكون المراد وجود المانع من شمول دليل الانسداد للأولويّة ؛ من حيث إنّ دخولها تحت الدّليل موجب لخروجها عنه فلا بدّ أن يتشبّث بذيل أحد الوجهين الأوّلين.

ومن هنا أمر قدس‌سره بالتّأمّل فيما أفاده ، فإنّ الوجه فيه تمام ما ذكرناه أو بعضه فافهم.

(٢١) قوله قدس‌سره : ( فاعلم أنّه قد يصحّ تعيينها بالظّن في مواضع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٨٨ )

الكلام في صحّة تعيين المهملة بمطلق الظن

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده قدس‌سره في صحّة تعيين المهملة بالظّن في الجملة لا يخلو عن تشويش واضطراب في أوّل النّظر ، فلا بدّ من شرح القول في المقام حسبما يساعدنا التّوفيق والزّمان أوّلا ، ثمّ نشير إلى ما يتطرّق المناقشة إليه من كلامه ودفعها بقدر الإمكان.

فنقول : إذا فرض عدم وجود القدر المتيقّن بقسميه في الظّنون القائمة على المسائل الفرعيّة ، أو عدم كفايته على تقدير وجوده فلا بدّ في الحكم بحجيّة الظّن في تعيين المهملة الثّابتة بجريان دليل الانسداد في الأحكام الفرعيّة من إجراء دليل انسداد آخر في تعيين المهملة على تقرير الكشف ؛ نظرا إلى ما عرفت : من


فساد القول بعدم الحاجة إلى إثبات حجيّة الظّن في تعيين المهملة ، وحصر الدّليل بالفرض في دليل الانسداد وتماميّة مقدّماته لما كانت ممنوعة عندنا على ما عرفت في مطاوي كلماتنا السّابقة ؛ من عدم قيام دليل على بطلان الاحتياط في المسائل الأصوليّة حتّى الإجماع ، إلاّ على بيان ستعرفه من شيخنا قدس‌سره في ردّ المعمّم الثّالث مع ما يتوجّه عليه ، فلا محالة لا بدّ أن يكون التكلم في هذه المسألة بإجراء دليل الانسداد مبنيّا على الإغماض عمّا ذكرنا وفرض تماميّة مقدّماته في المقام.

« في شقوق الظنون القائمة على المسألة الأصوليّة »

فنقول : إذا فرض إجراء الدّليل في تعيين المهملة في الفروع فلا محالة يكون النّتيجة الحاصلة منه حجية الظّن على سبيل الإجمال في تعيينها ؛ لأنّك قد عرفت مرارا عدم الفرق في نتيجة دليل الانسداد على تقرير الكشف بين المسائل الجارية فيها الدّليل المذكور من الفروع والأصول ، فإن كان الظّن القائم في هذه المسألة الأصوليّة واحدا وإن قام على الزّائد بقدر الكفاية ، فلا محالة يكون حجّة ومرجعا في تعيين المهملة لفرض الانحصار ، وإن كان متعدّدا :

فإن كان هناك قدر متيقّن حقيقيّ بين الأمارات القائمة في المسألة الأصوليّة مع قيامه على ما يكفي في استعلام الأحكام الفرعيّة المشتبهة بالمعنى الّذي عرفته مرارا فيجب الاقتصار على مورده ، ويرجع في مورد غيره إلى أصالة الحرمة على ما عرفت شرحه بالنّسبة إلى سلسلة الأمارات القائمة على المسائل الفرعيّة.


وإن لم يكن متيقّن حقيقيّ بينهما ، أو كان ولم يقم على تعيين ما يكفي في استعلام الأحكام ، فلا محالة يتعدّى إلى ما يكون متيقّنا بعده ؛ فإن وجد وكان ما قام عليه كافيا فيقتصر عليه ، وإلاّ يتعدّى إلى ما دونه ممّا يكون متيقّنا بالنّسبة إلى غيره وهكذا.

فإن لم يكن هناك قدر متيقن أصلا ، أو كان ولم يكن ما قام عليه بقدر الكفاية والمفروض تعدّد الظّنون القائمة ، فإن لم يقم كلّ على طائفة كافية ، بل فرض الحاجة إلى جميع ما قامت عليه في استعلام الأحكام ؛ فلا إشكال في الحكم بحجيّة الكلّ لفرض الانحصار حقيقة ؛ لأنّ العقل إنّما يستكشف من المقدّمات في كلّ مسألة وجوب جعل ما به الكفاية على الشارع على ما عرفت سابقا.

وإن قام كلّ على طائفة كافية وفرض تمامها متساوية من حيث الظّن بالاعتبار مع اتحاد الظّنون من جميع الجهات أو الشّك فيه أو الوهم به ، فلا إشكال أيضا في الحكم بحجيّة الكلّ بضميمة بطلان التّرجيح بلا مرجّح فيستكشف من جعل الشارع جميع الظّنون القائمة في تعيين المهملة.

وإن لم تكن متساوية بأن كان بعضها مظنون الاعتبار وبعضها مشكوكه وبعضها موهومه ، فإن كان الظّن القائم على حجيّة بعض الظّنون القائمة واحدا فيؤخذ به مطلقا ويحكم بحجيّة ما قام عليه في تعيين المتّبع.

وإن كان متعدّدا وقام كلّ على طائفة غير كافية فيحكم بحجيّة الكلّ ، وإن قام كلّ على طائفة كافية مع اختلاف الظّنون القائمة في هذه المرتبة من حيث تيقّن الاعتبار مطلقا ، أو بالإضافة مع فرض قيام مورده على حجيّة ما به الكفاية فيقتصر عليه.


وإن فرض عدم الاختلاف من الجهة المذكورة ، فإن فرض التّسوية من حيث الظّن بالاعتبار على ما عرفت في هذه المرتبة أيضا فيحكم بحجيّة الكلّ ؛ نظرا إلى ما عرفت ، وإلاّ فلا بدّ من أن يسلك هذا المسلك إلى أن ينتهي إلى أحد المعيّنات أو المعمّمات المذكورة في الدّرجة الرّابعة أو الخامسة أو فوقهما من الدّرجات فافهم واغتنم.

وليكن هذا في ذكر منك فليته قدس‌سره حرّر المقام بما عرفت حتّى لا يتوجّه عليه شيء ؛ فإنّ ما حرّره كما ترى غير نقيّ عن المناقشات ، فلا بدّ أن يتكلّف لدفعها بعض التّكلّفات في توجيه العبارة ويلتزم بإرادة خلاف الظّواهر منها لينطبق على ما عرفت في تحرير المقام ، مع عدم وفاء التّوجيه بتطبيق تمام العبارات.

فإنّ ما أفاده قدس‌سره بقوله في ذيل الموضع الأوّل : « لكن هذا مبنيّ على عدم الفرق في حجيّة الظّن بين كونه في المسائل الفرعيّة وكونه في المسائل الأصوليّة ... إلى آخره » (١) مبنيّ على عدم إجراء دليل الانسداد في تعيين المهملة الثّابتة بجريانه في الأحكام الفرعيّة وإرادة إثبات حجيّة الظّن في هذه المسألة الأصوليّة بنفس إجرائه في الفروع ليس إلاّ.

فالمراد من قوله ـ حينئذ في جواب الشّرط ـ : « فالقدر المتيقّن إنّما هو متيقّن بالنّسبة إلى الفروع لا غير » (٢) عدم وجود نفع وفائدة للمتيقّن من الأمارات القائمة على المسألة الأصوليّة بعد فرض قصر نتيجة دليل الانسداد الجاري في

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٩.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ٤٨٩.


الفروع بإثبات حجيّة الظّن في خصوص المسائل الفرعيّة وعدم إجراء دليل انسداد آخر في تعيين المهملة ؛ لأنّ وجود القدر المتيقن بين الأمارات القائمة في مسألة على ما عرفت إنّما ينفع فيما لو علم بحجيّة الظّن في تلك المسألة وإلاّ فوجوده كعدمه ، فالنّفي المتعلّق في كلامه بالمتيقّن في الأصول إنّما هو بالملاحظة المذكورة لا بالمتيقّن ذاتا.

ويشهد لما ذكرنا : من ابتناء ما أفاده على ملاحظة دليل الانسداد الجاري في الفروع ليس إلاّ قوله ـ بعد الفراغ عن حكم المواضع ـ : « وهل يلحق به كل ما قام المتيقّن على اعتباره ... إلى آخره » (١) فإنّه صريح فيما ذكرنا.

وما أفاده في الموضعين الآخرين : من الجزم بحجيّة الظّن فيهما على إجراء دليل إنسداد آخر في هذه المسألة الأصوليّة إلى تعيين المهملة.

وهذا وإن كان تفكيكا في بيان حكم المواضع ، لكنّه لا مناص عنه بعد صراحة العبارة غاية ما هناك عدم تعرّضه لحكم متيقّن الاعتبار من الأمارات القائمة على المسألة الأصوليّة ، لكنّه لمكان وضوحه لم يكن محتاجا إلى الذّكر والتّعرض.

لا يقال : كما أنّ التعرّض لحكم المتيقّن مستغن عنه ، على التّقدير المذكور ، كذلك التّعرض لحكمه على التّقدير الّذي ذكره مستغن عنه ؛ فإنّه على تقرير الكشف الّذي يكون البحث فيه لا إشكال في اختصاص نتيجة الدّليل الجاري في الفروع بالمسائل الفرعيّة.

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٤٩١.


لأنّا نقول : الحقّ وإن كان ما ذكر من الاختصاص ، إلاّ أنّه ليس بمكان من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى التّعرّض ، بل مع التّعرض مرارا والتّأكيد فيه لا نرجو وضوح الأمر على أهل العصر ، فضلا عمّا إذا أهمل ذكره.

نعم ، ربّما ينافي ما ذكرنا قوله قدس‌سره في مقام الاستدراك : ( إلاّ أن يدّعى أنّ القدر المتيقّن في الفروع [ هو ] متيقّن في المسائل الأصوليّة أيضا ) (١) ، فإنّه لا بدّ أن يحمل على إجراء دليل الانسداد في الأصول أيضا.

اللهمّ إلا أن يقال : إنّه لا حاجة إلى الحمل المذكور ، بل نحمل على المعنى المذكور للقضيّة المنفيّة ، فيستدرك وجود النّفع له بالنّظر إلى وجه آخر يكون في المسألة وقد ذهب إليه جمع ممّن تعرّضنا لمقالتهم فيما سبق ، بل أتوا بأمر أعجب من ذلك ؛ فإنّهم التزموا بحجيّة مطلق الظّن في تعيين المهملة من جهة دليل الانسداد الجاري في الفروع مع ذهابهم إلى إهمال النّتيجة في الفروع.

في تطبيق عبارات المصنّف على التّحرير المختار

ويشهد لما ذكرنا من البيان ذكره قدس‌سره الوجهين في المسألة بقوله : « وهل يلحق به كلّ ما قام المتيقّن على اعتباره وجهان : أقواهما : العدم كما تقدّم ... إلى آخره » (٢).

ومنه يظهر : أنّ ما أفاده بقوله : « وأمّا بالإضافة إلى ما قام على اعتباره إذا

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٨٩.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٩١.


ثبت حجيّة ذلك الظّن القائم ... إلى آخره » (١) لا بدّ أن يكون مبنيّا على ما ذكر : من إجراء الدّليل في خصوص الفروع بالنّظر إلى الوجه الضّعيف في المسألة من كفايته في إثبات حجيّة الظّن في المسألة الأصوليّة أيضا ، فإنّ المتيقّن بالإضافة ليس أولى من المتيقّن الحقيقي.

نعم ، تخصيص تيقّنه بالنّسبة إلى ما قام على اعتباره مستدرك جدّا كما هو واضح ، وحقّ التّعبير أن يقال : وأمّا بالإضافة إلى جميع ما دون المتيقّن الحقيقي إذا فرض عدم قيامه أو عدم كفاية ما قام عليه في استعلام الأحكام ، وهو المراد بقوله : « إذا ثبت حجيّة ذلك الظّن القائم » (٢) ؛ فإنّ فرض حجيّته على ما عرفت إنّما هو بتحقّق أحد الأمرين. وهو المراد ببعض الوجوه في التّمثيل بالإجماع المنقول.

نعم ، ما أفاده بقوله : « ويلحق به ما هو متيقّن بالنّسبة إليه » (٣) في كمال الوضوح والاستقامة ؛ فإنّه من القضايا الّتي قياساتها معها.

نعم ، ما أفاده بقوله قدس‌سره في بيان حكم الموضع الثّالث ( وتعسّر ضبط البعض الّذي لا يلزم العسر من الاحتياط فيه ) (٤) ملتبس المراد ، فإنّ الظّاهر منه في ابتداء النّظر كون عنوان الأخذ بالظّن بالتّكليف في كلّ مسألة الاحتياط ، وإن بدل قوله « من الاحتياط فيه » (٥) بقول « من الاحتياط في موارد فقده » بناء على ما تقدّم منه قدس‌سره ويتعرّض له بعد ذلك : من عدم بطلان الاحتياط كليّة وفي الزّائد على ما

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٨٨.

(٢) نفس المصدر والصفحة بالذات.

(٣) نفس المصدر والصفحة بالذات.

(٤ و ٥) نفس المصدر : ج ١ / ٤٩٠.

(٤ و ٥) نفس المصدر : ج ١ / ٤٩٠.


يندفع به الحرج لكان أولى ، وإن كان هذا ملازما لكون عنوان الأخذ بالظّنون الموافقة للاحتياط في مواردها الاحتياط لا الطّريقيّة والحجيّة على ما عرفت وستعرفه ، وإن كان التّبديل بما عرفت لا يدفع ما سمعت مرارا وستسمعه : من المناقشة في هذا المطلب ، وإنّ الكلام في تقرير الكشف والحكومة بعد البناء على كون نتيجة المقدّمات حجيّة الظّن لا التّبعيض في الاحتياط.

وأمّا ما أفاده قدس‌سره بقوله : « وإن تفاوتت فما قام متيقّن الاعتبار أو مظنون الاعتبار على اعتباره يصير معيّنا ... إلى آخره ) (١).

فيحمل بالنّسبة إلى ما جزم به من معينيّة المتيقّن على ما ضعّفه من الوجه أو على ما ذكرنا من إجراء دليل الانسداد في تعيين المهملة في كلّ مرتبة من المراتب وبالنّسبة إلى ما أطلقه من الرّجوع إلى الظّن على ما فرضه من إجراء دليل الانسداد في تعيين المهملة مع عدم قدر متيقّن كاف بين الأمارات القائمة وتساويهما مع فرض تعدّدها ، وهو المراد بالظّن المتّبع في قوله : « بظنّ متّبع » (٢) فافهم.

وتأمّل في المقام لعلّك تجزم بعد التّأمّل أنّه لا معنى لما أفاده قدس‌سره في المواضع الثّلاثة لتعيين المهملة بالظّن تخصيصا وتعميما إلاّ ما ذكرنا.

فإذن لا بدّ من حمل قوله قدس‌سره : « فاعلم أنّه قد يصح تعيينها بالظّن في

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٤٩٢.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ٤٩٣.


مواضع » (١) على الأعمّ ممّا بني عليه الأمر أو غيره من اقتضاء المقدّمات الجارية في الفروع لحجيّة الظّن في الأصول أيضا ، وإن كان ضعيفا عنده على ما عرفت. وإن كان هذا الحمل في غاية البعد ولو حرّر المقام بما عرفت لم يكن الحاجة إلى هذه التّكلّفات أصلا كما لا يخفى.

(٢٢) قوله قدس‌سره : ( الثّاني من طرق التّعميم : ما سلكه غير واحد من المعاصرين (٢) من عدم الكفاية ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٩٣ )

« الوجه الثاني من طرق التعميم »

أقول : الوجه فيما أفاده ـ من التّرتيب بين المظنون والمشكوك والموهوم ـ إنّما هو من جهة التّرتيب الّذي يحكم به العقل في باب الإطاعة بين المراتب المذكورة كما أنّها بأسرها مترتّبة في حكمه على الإطاعة العلميّة ، وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه ، لكن كان اللاّزم أن يضمّوا إلى ذلك الإجماع المركّب ؛ حيث إنّ له مدخلا في التّعميم المذكور بمقتضى تصريحاتهم.

ثمّ إنّ ما أفاده في المقام لبيان المعمّم المذكور غير محصّل المراد ؛ إذ بعد فرض الكفاية والكثرة لمظنون الاعتبار من أين يعلم بطرو خلاف الظّاهر فيها؟

ثمّ من أين يعلم حصر الصّارف في مشكوك الاعتبار بحيث يكون مظنون الاعتبار وموهومه خارجين عنه حتّى يحتاج في التّعدي إلى موهوم الاعتبار إلى

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٤٨٨.

(٢) أنظر الفصول : ٢٧٨ ، وهداية المسترشدين : ٤٠٢ ط ق.


العلم بكونه صارفا لظواهر مشكوك الاعتبار حتّى يحتاج إلى جعل مشكوك الاعتبار من الأخبار المشتملة على الظّواهر.

اللهمّ إلاّ أن يحمل قولهم ووجود ما يظنّ منه ذلك في الظّنون المشكوك الاعتبار على كون تلك الظّنون طرفا للعلم الإجمالي لا حصره فيها ؛ فإنّ المعنى الثّاني وإن كان متعيّنا بالنّظر إلى ما ذكره بعده من وجه التّسرّي إلى موهوم الاعتبار ، إلاّ أنّ استفادته من القول المذكور في غاية الإشكال ؛ فإنّه لا بدّ أن يحمل على كون الصّوارف الكاشفة ظنّا عن إرادة خلاف الظّواهر موجودة قطعا في مشكوك الاعتبار وهو كما ترى.

بل العبارة لا تخلو عن شيء على كلّ معنى ، مع أنّ ما أفاده في المقام غير نقيّ عن الإشكال من جهة أخرى قد عرفت الإشارة إليها في مطاوي كلماتنا السّابقة ؛ نظرا إلى أنّ نتيجة دليل الانسداد على تقرير الكشف على ما عرفت مرارا : هو حجيّة الظّن الشّخصي في المسألة الفقهيّة ، سواء على القول بتخصيص النّتيجة بمظنون الاعتبار من الأمارات القائمة في المسائل الفقهيّة أو تعميمها بالنّسبة إلى مشكوك الاعتبار وموهومه ، ولازم هذا دوران اعتبار الظّواهر مدار حصول الظّن الشّخصي بالمرادات منها.

فإذا فرض العلم الإجمالي بطروّ خلاف الظّاهر فيها فلا محالة يرتفع الظّن الشّخصي بالمراد منها فيسقط عن الاعتبار ، بل قد عرفت : أنّه على القول بإناطة اعتبارها بالظّهور العرفي والظّن النّوعي يسقط عن الاعتبار من جهة العلم الإجمالي المذكور.

ولأجل ما ذكر ذكرنا في باب التّعارض : أنّه لا يمكن التّعارض بين


الأمارات القائمة في المسائل الفقهيّة على القول بإناطة اعتبارها بالظّن الشّخصي. نعم ، على تقرير الحكومة وتعميم النّتيجة بالنّسبة إلى المسائل الفرعيّة والأصوليّة يمكن وقوع التّعارض بين الأمارات إذا ظنّ اعتبارها ؛ حيث إنّها ليست منوطة بحصول الظّن الشّخصي منها في المسائل الفقهية ، لكن بشرط عدم كونها من الظّواهر الّتي علم إجمالا بطرد خلاف الظّاهر فيها.

اللهمّ إلاّ أن يتفصّى عن الإشكال المذكور : بأنّ العلم الإجمالي وإن أوجب رفع الظّن الشّخصي من الظّواهر فيوجب إجمالها قبل ملاحظة المشكوك الاعتبار الصّارف لها ، إلاّ أنّه بعد ملاحظة وتعيين المراد بمعونته وإخراج ما خرج منها لأجله يحصل الظّن الشّخصي بالمراد منها ، فالمدار عليه وإن حصل بعد ملاحظة المشكوكات فتدبّر.

ولا دخل لهذا كما ترى ولا تعلّق له بمسألة حجيّة الظّواهر ، وإنّما هو من جزئيات الظّن الشّخصي بالحكم الفرعيّ الواقعي الثّابت حجيّته بدليل الانسداد فافهم.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره في الجواب الأوّل : من كثرة ما ظنّ اعتباره لا يخفى استقامته بعد ملاحظة ما ذكره من الشّواهد والقرائن والأمارات القائمة على اعتبار الأقسام المذكورة من الأخبار ، سيّما إذا انضمّ إليها الحسن والضعيف المنجبرين بالشّهرة من حيث العمل سيّما عمل القدماء من أصحابنا ؛ مثل استقامة ما أفاده في الجواب الثّاني من ضعف دعوى الإجماع المركّب في المقام ، فضلا عن الأولويّة القطعيّة من جهة العلم بانتفاء مناط الحكم الّذي قضى به العقل فيما لم يكن صارفا لظواهر المظنون الاعتبار من المشكوك اعتباره ، فلا يحتمل استناد الحكم إلى


الجامع بين المسألتين حتّى يدّعى الإجماع المركّب الراجع إلى الإجماع البسيط حقيقة وإلاّ لم يكن حجّة ؛ لأنّ الخلاف لا يكون إجماعا فلا يكون حجّة ، إلاّ إذا رجع إلى الإجماع البسيط ، وليس هذا إلاّ من جهة كون الحاكم في المسألة العقل الّذي لا يقبل التّرديد والالتباس في مناط حكمه كما هو واضح لا يخفى.

(٢٣) قوله قدس‌سره : ( الثّالث من طرق التّعميم : ما ذكره بعض مشايخنا ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٤٩٧ )

في المعمّم الثالث والإيراد عليه :

أقول : لا يخفى عليك أنّ هذا المعمّم الّذي ذكره أستاذه الشّريف طاب ثراه (١) وإن اقتضى وجوب العمل بالظّن احتياطا بالنّسبة إلى جميع الظّنون القائمة على المسألة الفرعيّة من غير فرق بين المظنون الاعتبار وغيره ويكون سالما عمّا يرد على المعمّم الثّاني إلا أنّه يتوجّه عليه أمران لا محيص عنهما ولا مدفع لهما.

أحدهما : أنّ قاعدة الاشتغال بالنّسبة إلى المسألة الأصوليّة ، أعني : المهملة الثّابتة بجريان دليل الانسداد في الفروع إنّما هي فيما إذا لم يكن هناك قدر متيقّن كاف بين الظّنون الموجودة في المسائل الفرعيّة من غير فرق بين المتيقّن الحقيقي والإضافي ؛ ضرورة أنّ المستكشف بدليل الانسداد جعل مقدار الكفاية من الظّنون ، فإذا كان مردّدا بين المتيقّن وغيره كان الشّك بالنّسبة إلى جعل غيره شكّا في أصل الجعل حقيقة ؛ لأنّ جعل المتيقّن بعد العلم بالجعل في الجملة يقينيّ فيؤول

__________________

(١) أنظر ضوابط الأصول : ٢٥٥.


الشّك بالنّسبة إلى غيره إلى الشّك في أصل الجعل والتّكليف ، فلا أثر للعلم الإجمالي بالنّسبة إليه كما هو الشّأن فيما دار الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر سيّما فيما إذا كانا استقلاليّين كما في المقام من غير فرق بين كون الدّوران المذكور في الأصول أو الفروع فلا يكون العلم الإجمالي مؤثرا في المقام.

والمفروض كفاية ما تيقّن اعتباره فيقتصر عليه ويرجع في غيره إلى أصالة الحرمة ، ولا يتوهّم أنّه بناء على ما ذكر يجب الاقتصار على المظنون الاعتبار من الأمارات ؛ نظرا إلى كون الدّوران بينه وبين غيره من الدّوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لابتنائه على كون ما ظنّ اعتباره متيقّنا بالنّسبة إلى غيره مطلقا.

وقد عرفت فساده بما لا مزيد عليه ، وإن هو إلاّ نظير دوران المكلّف به في القضيّة الجزئيّة مثل موارد دوران الأمر بين القصر والتّمام من جهة بعض الأسباب بين ما ظنّ وجوبه بالظّن الّذي لم يثبت اعتباره وما احتمل وجوبه موهوما ؛ فإنّه لا مجال لتوهّم رجوع الشّك إلى الشّك بين الأقلّ والأكثر ، وهو أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا.

ثانيهما : أنّ مقتضى جريان قاعدة الاشتغال في الأصول على تقدير الإغماض عمّا ذكرنا ، أو فرض عدم وجود القدر المتيقّن مطلقا ، أو عدم كفايته هو وجوب العمل بكلّ ظنّ بعنوان الاحتياط وهذا لا تعلّق له بتعميم النّتيجة وتسرية الحجيّة بالنّسبة إلى كلّ ظنّ حتّى يترتّب على ما قام عليه الآثار الواقعيّة في مرحلة الظّاهر على ما هو قضيّة حجيّة الظّن فهو نظير الاحتياط اللاّزم في الفروع كدوران الأمر في المكلّف به بين المتباينين حيث إنّ مقتضى الاحتياط هو وجوب البناء على فعل كلّ واحد من المشتبهين لاحتمال أن يكون واجبا وهذا لا يقتضي


ترتيب آثار الواجب الواقعي عليه ، وهذا كما ترى ليس من تعميم الحجيّة في شيء هذا.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من الإيراد عليه بقوله : « ولكن فيه : أنّ قاعدة الاشتغال في مسألة العمل بالظّن معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة ... إلى آخره » (١) (٢).

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٩٧.

(٢) قال المحقق الأصولي السيّد علي القزويني قدس‌سره :

« ويشكل بعدم كون المعارضة في محلّها :

أمّا أوّلا : فلأنّ الإحتياط في المسألة الأصوليّة مقدّم عليه في المسألة الفرعيّة لوروده عليه باعتبار سببيّة شكّه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المثال المذكور للمسألة الفرعيّة لكونه من الشك في جزء العبادة مما لا يجري فيه أصالة الإشتغال حتى تعارض قاعدة الإشتغال في المسألة الأصوليّة بل هو من مجرى أصالة البراءة لرجوع الشك في الأجزاء والشرائط ـ كما حقق في محلّه وعليه المورد قدس سره ـ إليه في التكليف فلا معارض لقاعدة الإشتغال المتمسّك بها للتعميم.

وأمّا ثالثا : فلأن الإحتياط في المسالة الفرعيّة بعد تسليم جريانه ووجوب العمل به لا ينافي الإحتياط في المسألة الأصوليّة المقتضي لوجوب العمل بالظنّ المشكوك الإعتبار أو موهومه الدّال على عدم وجوب السورة بحيث يلزم من العمل به طرحه ؛ لأنّ معنى العمل بالظنّ الذي يقتضيه الإحتياط في المسألة الأصوليّة تطبيق الفعل ـ بمعنى الحركات والسكنات الخارجيّة ـ على مقتضاه ، وليس مقتضى الظنّ القائم بعدم وجوب السورة وجوب الفعل على وجه عدم الوجوب حتى يناقضه وجوب الفعل المحتمل الوجوب لرجاء الوجوب ، بل مقتضاه :


__________________

إمّا وجوبه لا على وجه الوجوب ، أو عدم وجوبه على وجه الوجوب.

وأيّا منهما كان فلا يناقضه وجوب الفعل لإحتمال الوجوب ورجاءه كما هو مقتضى الإحتياط في المسألة الفرعيّة. إلى أن قال :

وأمّا رابعا : فلخروج نحو الصّورة المفروضة من الظنون القائمة بعدم الوجوب عن مورد كلام القائل بالتعميم إستنادا إلى قاعدة الإشتغال ؛ فإن غرضه بذلك إنّما هو التعميم في الظنون الموافقة للإحتياط وهي الدالة على وجوب أو تحريم ، أو حكم وضعي يتولّد منه الوجوب والتحريم كالنجاسة ونحوها لا الظنون المخالفة له ، الموافقة لأصل البراءة لخروجها عن مورد دليل الإنسداد ، فكيف بقاعدة الإشتغال؟ لعدم لزوم محذور من الرجوع إلى الأصل الموافق لها بعد العمل بالظنون الموافقة للإحتياط في جميع الأنواع الثلاث من المظنونة والمشكوكة والموهومة.

فالظنون الدالّة على عدم الوجوب أو على عدم الحرمة خارجة عن معقد كلام القائل بالتعميم ، بل عن مجرى دليل الإنسداد أيضا ، فكيف يورد عليه في إستناده إلى قاعدة الإشتغال بمعارضة مثلها في المسألة الفرعيّة؟

إلاّ أن يقال : بأنّ هذا التخصيص خلاف طريقة أهل القول بالظنون المطلقة ؛ فإنّهم لا يفرّقون في الحجّيّة ووجوب العمل بين الظنون النافية لها الدالّة على الإباحة أو الإستحباب أو الكراهة ضرورة أنّهم يعتمدون على الظنون في الجميع.

وقضيّة ذلك : أن يقصد التعميم بالنسبة إلى الجميع ولا ينافي كون مدلولها الإباحة وغيرها من الأحكام الغير الإلزاميّة وجوب العمل بها.

إمّا لأنّ وجوب العمل بالظنّ يراد به الإعتقاد بالمظنون على أنه حكم الله أو التديّن به كذلك أو تطبيق العمل عليه في كل حكم بحسبه هذا.

ولكن يرد على التّمسّك بقاعدة الإشتغال :


فقد يناقش فيه بما عرفت شرح القول فيه مرارا : من أنّ مبنى جريان دليل الانسداد على تقريري الكشف والحكومة على بطلان الرّجوع إلى الأصول في مجاريها جوازا في بعض ووجوبا في بعض آخر ، ولولاه لما تمّ الدّليل المذكور ، وإنّما يرجع إليها في موارد الشّك إذا خلت عن الأمارات القائمة على خلاف الأصول ، فإذن لا معنى للزوم الأخذ بمقتضى الاشتغال في المسألة الفرعيّة إذا قامت الأمارة على تعيين المكلّف به. نعم ، يجب الأخذ بمقتضاه إذا لم يقم هناك أمارة أصلا.

اشكال على القول بحجّيّة مطلق الظّنّ مطلقا

نعم ، هنا إشكال على القائلين بحجيّة مطلق الظّن من غير فرق بين التّقريرين قد عرفت الإشارة إليه في طيّ ما قدّمنا لك وهو : أنّ قضيّة ما أقاموه لإثبات حجيّة الظّن المطلق ووجوب الامتثال الظّني للواجبات والمحرّمات المشتبهة هو العمل بالظّن المتعلّق بالتّكليف الإلزامي. وأمّا الظّن القائم على غيره من الأحكام ، فلا مقتضي لحجيّته فيبقى تحت الأصل الأولي ، فيجب الرّجوع إلى الأصل المثبت للتّكليف مطلقا من غير فرق بين أصالة الاشتغال وغيرها إذا قام

__________________

أنّها لا تفيد التعميم بالمعنى المقصود وهو أن الشارع أوجب علينا العمل بكل ظنّ على أن يكون الحكم الواقعي في واقعة العمل بكل ظنّ هو الوجوب ، وقاعدة الإشتغال غير متكفّلة لبيان ذلك ، بل لبيان طريق تحصيل البراءة اليقينيّة عمّا اشتغلت الذمّة به من العمل بالجملة المعيّنة من الظنون عند الشارع المبهمة عندنا ».

أنظر تعليقة على معالم الأصول : ج ٥ / ٣٥٧ ـ ٣٥٩.


الظّن على خلافه ، لكن بناء القائلين بحجيّة مطلق الظّن ولو من جهة لزوم دفع الضّرر المظنون فضلا عن غيره على الأخذ بالظّن مطلقا من غير فرق بين موارده كالقائلين بحجيّة الظّنون الخاصّة.

نعم ، لو قرّر الدّليل على وجه يقتضي الرّجوع إلى الظّن في استعلام الأحكام المشتبهة في زمان الانسداد من غير فرق بين الأحكام الإلزاميّة وغيرها على ما أسمعناك عند تقرير دليل الانسداد ؛ فإنّه أحد وجوه تقريره لم يتوجّه الإشكال المذكور أصلا ، إلاّ أنّه لا يفيد في المقام قطعا ؛ ضرورة عدم اقتضائه جريان الاشتغال عند اشتباه الحجّة الشّرعيّة على تقرير الكشف ؛ فإنّ البناء على كون حكم الواقعة ما أدى إليه الظّن ينافي الأخذ به باحتمال أن يكون طريقا وحجّة الّذي هو مفاد الاحتياط في المسألة الأصوليّة.

فإن شئت قلت : إنّ الأخذ بالظّن من باب الاحتياط واحتمال كونه حجّة لا يجامع جعله طريقا في استعلام الأحكام الشّرعيّة حتّى إذا قام على الأحكام الإلزاميّة ، بل التّحقيق : أنّ الاحتياط في المسألة الأصوليّة على سائر وجوه تقرير الدّليل لا يقتضي الأخذ بالظّنون النّافية للتّكليف الإلزامي حتّى يعارض الأصل المثبت للتّكليف أو لا يعارضه ، كيف! وإن اقتضاه لم يكن بدّ من الالتزام بعدم وجوب الاحتياط في مورده وإن كان راجحا حسنا حتّى في موارد لم يكن هناك أصل يقتضي وجوب الاحتياط كموارد الشّك في التّكليف الإلزامي وجوبا أو تحريما ؛ فإنّ حسن الاحتياط لا رافع له حتّى في مورد وجود الظّن الخاصّ فضلا عن الظّن المطلق كما عرفته وستعرفه في محلّه.

لا يقال : إنّه بناء على ما ذكر يجب القول باختصاص دليل حجيّة الأمارات


بقول مطلق حتّى على القول بحجيّتها من حيث الخصوص بما إذا اقتضت الإلزام على المكلّفين ؛ فإنّ الحكم الأصولي ـ وهو وجوب تصديق الأمارة والعمل عليها ـ لا يجامع مع كون مفادها الإباحة مثلا وهو ممّا لم يقل به أحد.

لأنّا نقول : مرجع جعل الأمارات بالنّظر إلى أدلّتها عند التّأمّل من جانب الشارع إلى جعل مفادها في مرحلة الظّاهر من غير فرق بين إفادتها الإلزام وغيره وهذا أمر معقول نلتزم به مطلقا من غير فرق بين مفادها ، وإليه يرجع أخذ معالم الدّين من الثّقات المتوسّطة بين الأئمّة عليهم‌السلام والرّعيّة الّذي دلّ عليه غير واحد من الأخبار المتقدّمة في مسألة حجيّة الأخبار من حيث الخصوص.

وأمّا وجوب التّصديق بمعنى ترتيب الآثار ووجوب العمل بمقتضى الأمارة الّذي استفيد من أدلّة حجيّة الطّرق فإنّما يتصوّر فيما فرض هناك آثار شرعيّة مترتّبة على مدلول الأمارة بحسب الواقع ولو بوسائط عديدة قابلة لتعلّق التّكليف عليه ولو بالنّسبة إلى غير الإلزاميّات ؛ لأنّه أمر معقول بل واقع في الشّرعيّات.

وأمّا إرجاعه إلى وجوب تطبيق العمل بالنّسبة إلى غير الإلزام الغير المنافي للإباحة مثلا لا وجوب إيجاد العمل حتّى ينافيه كما في « الكتاب » فلا يخلو عن مناقشة ، فإنّ المراد من وجوب التّطبيق : أنّ الواجب في جميع الموارد عنوان ينطبق على الإباحة إذا أفادتها الأمارة كما ينطبق على الإلزام ، من غير فرق بين الأمرين وتحقّق العنوان المذكور بالنّسبة إلى غير الإلزاميّات بإيجادها بعنوان لا ينافي الإباحة مثلا إذا تعلّقت إرادتها بالفعل ، كما أنّ تحقّقها بالنّسبة إلى الإلزاميّات إنّما هو بإيجادها بعنوان يجامع الإلزام وإن لم يقصده عند الفعل ؛ فإنّ دليل حجيّة الأمارات ساكت عن قصد مدلولها عند الإيجاد ، كما أنّ الدّليل القطعي الدّال على


الحكم الواقعي وجعله ساكت عن قصده وإرجاع هذا المعنى إلى أمر عملي يتعلّق به دليل وجوب العمل بالأمارة لا يخلو عن إشكال.

وأمّا وجوب التّديّن والالتزام بالأحكام الثّابتة من الشارع فهو حكم أصولي اعتقاديّ يتفرّع على تصديق الرّسول من غير فرق بين الأحكام الواقعيّة والظّاهريّة والإلزاميّة وغيرها ، فلا تعلّق له بمدلول الأمارات وأدلّتها وليس غرضه قدس‌سره من التّعرض له إلاّ التّنبيه على ما ذكرنا.

كما أنّ غرضه من قوله قدس‌سره : « كما أنّه لو فرضنا ظنّا معتبرا معلوما بالتّفصيل كظاهر الكتاب ... إلى آخره » (١) بيان عدم منافات الاحتياط لاحتمال الوجوب الواقعي للاستحباب في مرحلة الظّاهر وليس مراده وجوب الاحتياط مع فرض ثبوت الاستحباب في مرحلة الظّاهر. كيف! وهو ممّا لا يقول به جاهل بل لا يتوهّمه.

(٢٤) قوله قدس‌سره : ( قلت : دفع العسر يمكن بالعمل ببعضها ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٠١ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده : من إمكان دفع العسر بالعمل بالعمل ببعض الظّنون المخالفة للاحتياط وإن كان في كمال الاستقامة ، إلاّ أنّه مبنيّ على ما عرفت : من كون النّتيجة هو التّبعيض في الاحتياط لا حجيّة الظّن.

والكلام في المقام مبنيّ على تماميّة المقدّمات في إنتاج الحجيّة والإغماض عمّا أفاده قدس‌سره من الإشكال في ذلك على ما عرفت مفصّلا.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٩٩.


(٢٥) قوله قدس‌سره : ( وأمّا على تقدير تقريرها على وجه يوجب حكومة العقل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٠٢ )

وجوب الإقتصار على الظنّ الاطمئناني بناء على الحكومة

أقول : قد عرفت ما ينبغي تحرير المراد به من تقرير الحكومة ، وأنّه لا يجامع بطلان وجوب الاحتياط في سلسلة المشتبهات في الجملة فضلا عمّا أفاده قدس‌سره في بيان المراد منه ، بل القول بحجيّة الظّن على التّقريرين مبنيّ على بطلان وجوب الاحتياط رأسا.

وأمّا الرّجوع إلى الأصول المنافية للاحتياط ، فقد عرفت بطلانه من جهة العلم الإجمالي بالأحكام الإلزاميّة في الوقائع المشتبهة من غير فرق بين جعل نتيجة المقدّمات حجيّة الظّن أو التّبعيض في الاحتياط ، فإن أريد من الأصل والأصول في كلامه خصوص التخيير كما ربّما يظهر منه فلم يقتض العلم الإجمالي بطلانه أصلا.

والأولى إسقاطه من « الكتاب » كما عرفته في طيّ ما قدّمنا لك سابقا عند الكلام فيما يتعلّق بالمقام ، فالّذي ينبغي أن يجعل الوجه في اختصاص حكم العقل على تقرير الحكومة بالظّن الاطمئناني ما عرفت الإشارة إليه فيما ذكرنا سابقا : من أنّ حكم العقل بحجيّة الظّن عند انسداد باب العلم والظّن الخاصّ في أكثر الأحكام وبطلان الرّجوع إلى الأصول رأسا جوازا في بعض ووجوبا في آخر ، إنّما هو من حيث غلبة مطابقته للواقع وقربه إليه.

فإذا كان هذا العنوان الّذي هو مناط الحكم في نظر العقل آكد وأقوى في بعض مراتب الظّن ـ والمفروض وفاؤه بأكثر الأحكام الشّرعيّة المثبتة ، وإن ناقشه


شيخنا قدس‌سره فيما عرفت من كلامه قدس‌سره سابقا ـ فلا محالة يحكم بوجوب سلوك الطّريق الأقرب والأقوى ، فيرجع في غيره إلى أصالة الحرمة والأصول العمليّة الّتي يرجع إليها عند الشّك.

ومن هنا حكم في « المعالم » فيما عرفته سابقا بوجوب الأخذ بالظّن القويّ في حكم العقل وعدم جواز الأخذ بالظّن الضّعيف ، فيسلك في موارد الظّن الضّعيف ما يجب سلوكه في موارد الشّك من غير فرق بين تعلّقه بإثبات التّكليف الإلزامي ونفيه.

كما أنّه يجب الأخذ بمقتضى الظّن القوي الاطمئناني من غير فرق بين تعلّقه بإثبات التّكليف ونفيه وهذا معنى حجيّة الظّن الاطمئناني بدليل الانسداد ، لا ما أفاده قدس‌سره فإنّه ليس من حجيّة الظّن الاطمئناني في شيء ، بل هو تبعيض في الاحتياط وطرح له في مورد الظّن الاطمئناني بغير الأحكام الإلزاميّة ، وأخذ به في موارد الظّن بالتّكليف الإلزامي مطلقا ، والشّك فيه والظّن الغير الاطمئناني به. ومن هنا لا يثبت الحكم الاستحبابي بالظّن الاطمئناني القائم عليه ، وإن حكم بعدم وجوب الاحتياط في مورده كما اعترف به قدس‌سره في غير موضع من كلامه.

ومن هنا قال في المقام :

« ولكنّك خبير بأنّ هذا ليس من حجيّة مطلق الظّن ولا الظّن الاطمئناني في شيء ؛ لأنّ معنى حجيّته أن يكون دليلا في الفقه بحيث يرجع في موارد وجوده إليه لا إلى غيره ، وفي موارد الخلوّ عنه إلى مقتضى الأصل الّذي يقتضيه والظّن هنا ليس كذلك ؛ إذ العمل في موارد وجوده ففيما طابق منه الاحتياط ... إلى آخر ما أفاده قدس‌سره » (١).

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٠٥.


وهذا الّذي أفاده قدس‌سره وإن كان صحيحا يحكم به العقل المستقل كما ذكره فيما ساغ مخالفة الاحتياط اللاّزم في سلسلة المشتبهات بقدر ما يندفع به العسر والحرج ؛ فإنّ العقل يعين اختيار المخالفة فيما ظنّ بعدم الحكم الإلزامي بالظّن القوي ، إلاّ أنّه كما عرفت لا تعلّق له بمسألة حجيّة الظّنّ في شيء.

والكلام في تقرير الحكومة كتقرير الكشف بعد البناء على كون النّتيجة حجيّة الظّن ، فلا محيص إذن عن جعل الوجه في اختصاص النّتيجة بالظّن القوي في حكم العقل ما ذكرنا ، كما عرفته عن « المعالم » ويقتضيه قوله قدس‌سره ـ في تقريب الاستدلال على ذلك ـ : ( ثمّ إنّ العقل حاكم بأن الظّن القوي الاطمئناني أقرب إلى العلم عند تعذّره ... إلى آخر ما أفاده » (١).

فإنّه وإن ذكره لتقريب الاستدلال على التّبعيض في الاحتياط ، إلاّ أنّ نتيجته عند التّأمّل ما ذكرنا كما لا يخفى.

وعليه ينطبق ما أفاده قدس‌سره بقوله : « وإن شئت قلت : إنّ العمل في الفقه في موارد الانسداد على الظّن الاطمئناني ومطلق الظّن والتّخيير كلّ في مورد خاصّ ... إلى آخره ) (٢) فإنّه وإن كان المراد به ما أفاده من التّبعيض في الاحتياط إلاّ أنّ العبارة قاصرة عن إفادته.

فالحقّ في التّعبير عنه أن يقول ـ بدل ما ذكره ـ : إنّ العمل في الفقه على الاحتياط والظّنّ الاطمئناني بالمعنى الّذي ذكره من مخالفة الاحتياط في مورده

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٠٢.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ٥٠٤.


إذا خالف التّكليف لا جعله طريقا إلى إثبات مدلوله كما يعمل به كذلك في موارد التّخيير ومطلق الظّن بمعنى جعله حجّة والتّخيير كلّ في مورد.

فقد ظهر ممّا أفاده قدس‌سره : أنّ القائل بكون نتيجة المقدّمات التّبعيض في الاحتياط ، يلزمه القول بحجيّة مطلق الظّن في موارد التّخيير العقلي ودوران الأمر بين المحظورين وعدم إمكان الاحتياط من غير فرق بين الاطمئناني وغيره.

وإن نوقش فيه : بأنّ الرّجوع إلى الظّن الضّعيف في قبال التّخيير وإن كان متيقّنا في حكم العقل ، إلاّ أنّه فيما لم يتمكّن من تحصيل الاطمئنان فالظّن الضّعيف حجّة في قبال التّخيير ، وليس بحجّة في قبال الاطمئنان والظّن القوي ، وإن كان هذا قولا بحجيّة مطلق الظّن في الجملة ، إلاّ أن يحمل كلامه قدس‌سره على المهملة ؛ فلا ينافي عدم حجيّة الظّن الضّعيف إذا تمكّن من تحصيل القوي فتدبّر.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا : أنّ النّتيجة بحسب الموارد والأسباب وإن كانت كليّة على تقرير الحكومة ، إلاّ أنّها بحسب المرتبة متعيّنة في الظّن القوي الاطمئناني.

وتوهّم : أنّ التّخصيص بحسب المرتبة ينافي التّعميم من الجهتين ـ بعد بناء مدار الحجيّة على الظّن الشخصي ؛ نظرا إلى عدم إمكان تعدّد الظّن في القضايا الشخصيّة بحسب الأسباب والمراتب فإذا حكم بالعموم من حيث السّبب والموارد فلازمه الحكم بالعموم من حيث المرتبة ، كما أنّ لازم التّخصيص من حيث المرتبة التّخصيص من الجهتين أيضا ؛ فإنّه إذا فرض في مورد لم يحصل الاطمئنان من أمارة خاصّة لم يحكم بحجيّتها في هذا المورد فيلزم التّخصيص بحسب المورد والسّبب ـ فاسد جدّا ، لا ينبغي صدوره ممّن له بضاعة في العلم.

ضرورة عدم التّلازم المتوهّم بينهما. فإنا نقول : الحجّة في كلّ مسألة ومورد ،


الظّن القويّ من أيّ سبب حصل دون الظّن الضّعيف ، وهذا لا ينافي كون الحجّة الظّن الشّخصي ، كما أنّه لا خصوصيّة للمورد والسّبب ، وهذا وإن كان أمرا واضحا لاسترة فيه أصلا ، إلاّ أن الدّاعي للتّعرض له أنّا رأينا في كلام بعض أهل العصر الاعتراض على ما أفاده شيخنا قدس‌سره من المواضع للتّكلّم في الكليّة والتّخصيص والإهمال في النّتيجة من حيث القصور والغفلة عن مرامه ، بل عن المطلب الواضح فتأمّل حتّى لا تقع في الاشتباه فيما ذكرنا من عدم التّلازم في حكم المواضع.

الفرق بين العمل بالظّنّ بعنوان الحجّيّة

وبعنوان التبعيض في الاحتياط

ثمّ إنّه لمّا كان مبنى ما أفاده قدس‌سره : من عدم التّعميم بحسب المرتبة ولزوم الاقتصار في مخالفة الاحتياط الكلّي ، على الظّن القوي بخلاف الحكم الإلزامي على اندفاع الجرح بمخالفة الاحتياط فيما لو اقتصر عليه ، فيوجّه عليه سؤال بيّنه بقوله قدس‌سره : « فإن ثبت (١) أنّ العمل بالاحتياط ... إلى آخره » (٢).

فإنّه يتعيّن في حكم العقل فيما فرضه التّبعيض في الاحتياط بما ذكره ؛ فإنّه أبعد عن مخالفة الواقع المعلوم بالإجمال بخلاف ما لو عكس الأمر وخالف الاحتياط في مظنونات التّكليف ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى العمل بالظّن في موارد وجوده مطلقا سواء قام على التّكليف أو على خلافه وإلى الأصول في

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : « فإن قلت : ... إلى آخره » وهو الصحيح.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٠٦.


المشكوكات ، وهذا يساوق في المعنى وبحسب النّتيجة للعمل بالظّن وجعله حجّة ، وإن كان في الحقيقة تبعيضا في الاحتياط الكلّي لكنّه لا يقدح بعد عدم الفرق في العمل هذا.

ولكن يتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما أفاده في الجواب عنه بمنع لزوم العسر من الاقتصار في مخالفة الاحتياط الكلّي على خصوص الظّن القوي بنفي الإلزام ؛ نظرا إلى كثرة الظّنون الاطمئنانيّة من الأخبار وغيرها ـ : بأنّ مساواة ما ذكره لحجيّة الظّن على ما صرّح به في حيّز المنع ؛ فإنّه إذا كان عنوان العمل بالظّن كونه طريقا مجعولا شرعيّا أو عقليّا قد أمضاه الشارع يترتّب عليه جميع ما له من الآثار ولو بوسائط عديدة.

وهذا بخلاف ما لو جعل عنوانه الاحتياط ودفع الحرج ، فإنّه لا يثبت مدلوله ولو في مرحلة الظّاهر ولا يترتّب عليه الآثار المترتّبة على مدلوله شرعا على ما صرّح به قدس‌سره من الفرق بين العنوانين بما عرفت.

نعم ، لو جعل لزوم العسر على الوجه المذكور في السّؤال دليلا على عدم مطلوبيّة الامتثال الإجمالي عند الشارع رأسا لزمه الحكم بحجيّة الظّن فهو العنوان للعمل به لا الاحتياط واندفاع الحرج ، لكنّه ينافي قوله : « وإن كان حقيقة تبعيضا في الاحتياط الكلّي إلى آخر ما ذكره » (١).

وأمّا ما أفاده في الجواب ، فهو وإن كان مستقيما ، إلاّ أنّ الشّرح الّذي ذكره لإثبات كثرة الظّنون الاطمئنانيّة النّافية للتّكليف في الفقه بالنّسبة إلى الأخبار

__________________

(١) نفس المصدر.


بقوله : « وأمّا الأخبار ؛ فلأنّ الظّن المبحوث عنه في هذا المقام ... إلى آخره » (١).

قد يناقش فيه : بأنّ الكلام في حجيّة الأخبار من حيث الخصوص وإن كان ناظرا إلى جعلها دليلا على الصّدور من حيث إفادتها الاطمئناني بالصّدور أو الظّن به شخصا أو نوعا إلى غير ذلك من الوجوه والأقوال في المسألة ، إلا أنّ الكلام في حجيّتها من حيث الظّن المطلق أو التّبعيض في الاحتياط ، مبنيّ على إفادتها للظّن الشّخصي بالحكم الفرعي الواقعي كسائر الأمارات بناء على ما عرفت : من كون نتيجة المقدّمات اعتبار الظّن الشّخصي.

نعم ، لو قيل بتعميم الحجيّة بالنّسبة إلى الظّن في المسألة الأصوليّة ، أو إلحاق الظّن بها بالظّن في الفروع على القول بالتّبعيض في الاحتياط كما يصرّح به بعد ذلك وكان الخبر الّذي ظنّ بصدوره بالظّن الاطمئناني ممّا يظنّ بحجيّته كان لما ذكره وجه ، لكنّه كلام يتكلّم فيه بعد ذلك فلا يجوز ابتناء ما أفاده في المقام عليه فتأمل.

ثمّ إنّ دلالة عدم أقليّة الظّنون الاطمئنانيّة من الأخبار المصحّحة بعدلين على المدّعى وشهادته على وفائها بأغلب الأحكام ، إنّما هي بالنّظر إلى مذهب جمع من أهل الظّنون الخاصّة في الأخبار من قصر الحجيّة على الأخبار المصحّحة بعدلين كثاني الشّهيدين وسبطيه صاحبي « المعالم » و « المدارك » (٢) ومن

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٠٧.

(٢) قد مرّ أنّ صاحب المعالم ولده وليس بسبط له ، نعم ، صاحب المدارك العلامة الفاضل المحقق السيّد محمّد العاملي المعروف على ألسنة الفقهاء بالسيّد السند سبطه. إلا ان يكون


يحذو حذوهم مع زعمهم وفاءها بالفقه وعدم الحاجة إلى غيرها في الاستنباط واستعلام الأحكام.

(٢٦) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ الظّن الاطمئناني من أمارة أو من أمارات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٠٨ )

لا فرق بين المسألة الاصولية والفرعيّة بناء على التبعيض في الإحتياط

أقول : قد تقدّم تفصيل القول في ذلك في الأمر الأوّل وأنّه لا فرق في الظّن الثّابت اعتباره بدليل الانسداد بين الظّن في الفروع والظّن في الأصول.

والغرض من التّعرض له في المقام على سبيل الإجمال ، التّنبيه على عدم الفرق بين المسألتين فيما لو بني على الأخذ بالظّن المخالف للاحتياط ؛ من حيث دفع الحرج به ، وأن الظّن الاطمئناني القائم بحجيّة أمارة قامت على نفي الحكم إلزامي في المسألة الفرعيّة مع عدم إفادتها الاطمئنان في مرتبة الظّن الاطمئناني بعدم الحكم الإلزامي فيها ؛ فإنّ العقل المعيّن لاختيار الظّن الاطمئناني على مخالفة الاحتياط لدفع الحرج يحكم بعدم الفرق بينهما حيث إن الاطمئنان بإيجاب الشارع العمل بما قام على عدم الوجوب ، أو التّحريم بمنزلة الاطمئنان بعدم الوجوب والتّحريم في البعد عن مخالفة الواقع سيّما إذا كان مبنى اعتباره عند الشارع على البدليّة وتدارك فوت الواقع.

__________________

تعبيره هنا من باب التغليب لكنّه غير وجيه ؛ لانه كان ينبغي له ان يعبّر عنهما بولديه وذلك لأن السبط ولد أيضا.


فإن شئت قلت : إنّ إدراك الواقع من حيث إنّه واقع ليس ممّا يحكم به العقل على وجه اللّزوم وليس مطلوبا ذاتيّا نفسيّا في حكمه ، وإنّما هو مطلوب من حيث كونه موجبا لسقوط المؤاخذة المترتّبة على مخالفته ، والمفروض أنّ سلوك ما حكم الشارع بطريقيّته واعتباره واجد لهذا العنوان ؛ من حيث استقلال العقل في الحكم بمعذوريّة سالكه إذا خالف الواقع.

فالعنوان الأوّلي المطلوب في حكم العقل بوجوب إطاعة الشارع بالنّسبة إلى الأحكام الفرعيّة الفقهيّة منطبق على سلوك الطّريق المجعول أيضا. فالاطمئنان باعتبار ما قام على عدم وجوب شيء يوجب الاطمئنان بمعذوريّة المكلّف على ترك الواجب الّذي يتفق على تقدير خطأ الأمارة القائمة على عدم الوجوب ، فالمقتضي لإلحاق الظّن بالمسألة الأصوليّة بالظّن بالمسألة الفرعيّة موجود على تقدير كون عنوان العمل بالظّن من حيث كونه رافعا للحرج اللاّزم من الاحتياط الكلّي ، وبعد ضمّ مخالفة الاحتياط في هذا القسم من الأمارة القائمة على خلاف الاحتياط بمخالفته في الظّن القوي بعدم الحكم الإلزامي لا يلزم الحرج من الاحتياط في سائر موارد احتمال التّكليف الإلزامي جدّا.

ولو فرض عدم اندفاع الحرج بقصر مخالفة الاحتياط فيما فرض من الاطمئنان أصولا وفروعا ، ضمّ إليه مطلق مخالفة الاحتياط في الظّن القائم على خلاف الاحتياط شخصا أو نوعا إذا ظنّ اعتباره على ما عرفت من التّعميم ، فيؤخذ بالاحتياط في المشكوكات كما يؤخذ به في مظنونات التّكليف الإلزامي مطلقا. ولا يلزم من ضمّ الاحتياط فيها إلى الاحتياط في مظنونات التّكليف حرج قطعا لقلّتها ؛ نظرا إلى حصول الظّن في أغلب الوقائع بالتّكليف أو بعدمه.


مضافا إلى ما أفاده في « الكتاب » في عدم لزوم الحرج بقوله : « مع كون مقتضى الاحتياط في شبهة التّحريم التّرك وهو غير موجب للعسر » (١).

وإن كان ربّما يناقش فيه : بأنّ لزوم العسر إنّما هو من جهة الابتلاء والحاجة ، فإذا تعلّقت الحاجة بالفعل كثيرا فيكون التّرك حرجيّا. ألا ترى استدلالهم على عدم وجوب الاحتياط في الشّبهة الغير المحصورة بلزوم الحرج منه؟ مع أنّ الاحتياط فيها إنّما هو بالتّرك.

نعم ، ما أفاده قدس‌سره لبيان تضعيف احتمال لزوم الحرج من ضمّ المشكوكات بقوله : « مع أنّ الفرق بين الاحتياط في جميعها والعمل بالأصول الجارية في خصوص مواردها ... إلى آخره » (٢).

في كمال الاستقامة ؛ حيث إنّه بناء على الرّجوع إلى الأصول في المشكوكات إنّما يبنى على خلاف التّكليف الإلزامي فيما كان مقتضى الأصل نفي الإلزام كموارد البراءة ، لا فيما كان مقتضاه إثباته كموارد الاشتغال والاستصحابات المثبتة للتّكليف ، وبعد وضعه لا يبقى مورد الثّمرة إلاّ القسم الأوّل ولا يرتاب في قلّته ، فلا يلزم من انضمام الاحتياط فيه حرج قطعا ، فإذن لا يثبت بحكم العقل حجيّة الظّن بحيث يعيّن به الواجبات والمحرّمات المشتبهة المعلومة بالإجمال حتّى يدور الحكم مداره وجودا وعدما ، فيرجع إلى ما يقتضيه الأصل في المشكوكات ؛ نظرا إلى خروجها عن أطراف العلم الإجمالي الكلّي ، بناء على

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٠٩.

(٢) فرائد المصدر : ج ١ / ٥٠٩.


ما بنى عليه الأمر قدس‌سره من اقتضاء الظّن إذا كان حجّة إذا كان حجّة لذلك ؛ فإنّ حجيّته مبنيّة على بطلان الاحتياط رأسا في الشّرعيّات ولم يثبت ؛ نظرا إلى عدم اقتضاء دليل نفي الحرج إلا بطلانه في الجملة.

نعم ، لو قام هناك دليل آخر على عدم وجوب الاحتياط رأسا وعدم تعلّق إرادة الشّارع بالامتثال الإجمالي مطلقا فيكون لزوم الحرج من الاحتياط حكمه في إلقاء الشارع للاحتياط لا علّة حتّى يدور الحكم مداره تعيّن في حكم العقل العدول إلى الامتثال الظّني فيكون الظّن حجّة في حكم العقل وأنّى لهم بإثبات ذلك؟ هذا.

وأمّا ما استدركه قدس‌سره بقوله : « نعم ، لو ثبت أنّ الاحتياط في المشكوكات يوجب العسر تثبت النّتيجة » (١).

فربما يناقش فيه ـ بما عرفت سابقا ، بل اعترف به ـ : من أنّ مجرّد بطلان وجوب الاحتياط في موهومات التّكليف ومشكوكه للزوم الحرج لا يقتضي ترتيب جميع آثار الحجيّة على الظّن غاية ما هناك وجوب الاحتياط في مظنونات التّكليف مطلقا. وعدم وجوبه في غيرها من جهة لزوم الحرج ، وأين هذا من حجيّة الظّن؟

اللهمّ إلاّ أن يكون غرضه إثبات الرّجوع إلى الأصل في مشكوكات التّكليف وترتيب هذا الأمر الخاصّ عليه فيحكم بحجيّته من هذه الجهة ، أو يكون الغرض الحكم بالحجيّة مطلقا من حيث كشف تجويز الرّجوع إلى الأصل في

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥١٠.


مجاريها بمعونة أدلّة نفي الجرح عن حجيّة الظّن ؛ إذ لولاها كانت المشكوكات من أطراف العلم الإجمالي الكلّي ولم يكن هناك ما يخرجها عنها ، فتجويز الرّجوع إلى الأصل ملازم لخروجها عن أطرافها وهو ملازم لحجيّة الظّن الموجبة لتعيّن المعلومات الإجمالية وتخصيصها بموارده بحكم الشارع فتأمّل (١).

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تجويز الرّجوع إلى الأصول في المشكوكات إنّما هو معلول لعدم وجوب رعاية العلم الإجمالي الكلّي وهو لا يلزم حجيّة الظّن إلاّ إذا فرض انحصار الطّريق في الامتثال الظّني.

والمفروض : أنّ الامتثال الإجمالي في الجملة وفي بعض أطراف الشّبهة أيضا من طرق الامتثال المقدّم على الامتثال الظّني ، إلاّ أن يقال : إنّ التّبعيض في الاحتياط إنّما يقدّم على الامتثال الظّني في حكم العقل فيما كان أقرب إلى إدراك الواقع ولا يوجد هذا العنوان فيما لو انحصر مورد الاحتياط في مظنونات التّكليف كما هو المفروض ؛ حيث إنّ الكلام بعد بطلان وجوب الاحتياط في مشكوكات التّكليف ، مضافا إلى بطلانه في موهومات التّكليف ، وهذا بخلاف بطلانه في موهومات التّكليف فقط ؛ فإنّه يبقى معه الاحتياط في مظنونات التّكليف ومشكوكاته. ومن هنا لم يستكشف من بطلانه في خصوص الموهومات عن حجيّة الظّن فتدبّر.

ثمّ إنّ مثل دعوى لزوم الحرج من الاحتياط في المشكوكات في الضّعيف

__________________

(١) الوجه في التأمّل : أنه بناء على الاستكشاف المذكور ، يستكشف من تجويز الرجوع الى الاصول في موهومات التكليف مطلقا ، أو في بعض أقسامه من جهة نفي وجوب الإحتياط بأدلة نفي الحرج عن حجّيّة الظن ، لعين ما ذكر حرفا بحرف ، فتدبّر. منه دام ظلّه العالي.


دعوى اختصاص العلم الإجمالي بالتّكاليف الإلزاميّة بموارد الأمارات القائمة على الإلزام فيخرج المشكوكات وموهومات التّكليف عن أطراف العلم الإجمالي الكلّي فيرجع فيهما إلى الأصول الجارية فيهما بالنّظر إلى الشّك الحاصل فيهما ؛ لأنّ العلم الإجمالي المذكور لم يحصل بملاحظة الأمارات حتّى يدّعى اختصاصها بمواردها ، بل إنّما حصل قبل الاطّلاع عليها ، فكيف يمكن ادّعاء الاختصاص؟

ولا ينافي ذلك العلم بمطابقة جملة من الأمارات القائمة على التّكليف كالأخبار للواقع على سبيل الإجمال ، وإلاّ أمكن ادّعاء اختصاص العلم الإجمالي بموارد الأخبار المثبتة للتّكليف وإخراج غيرها منها وهو كما ترى هذا.

وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك نقضا وإبراما عند الكلام في حجيّة الأخبار من حيث الخصوص.

وهذه الدّعوى وإن لم يكن في الضّعف بمثابة دعوى لزوم الحرج من الاحتياط في المشكوكات إلاّ أنّها أيضا ضعيفة فاسدة ، وعليه يحمل ما أفاده قدس‌سره في وجه الأمر بالتّأمل في المقام بقوله : « فإنّ ادّعاء ذلك ليس كلّ البعيد ».

(٢٧) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ نظير هذا الإشكال الوارد في المشكوكات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥١٠ )

الإشكال الوارد على الاصول العمليّة وارد على الاصول اللفظية

أقول : قد عرفت بعض الكلام في الإشكال الوارد في الرّجوع إلى الأصول اللفظيّة على تقدير كون نتيجة المقدّمات هو التّبعيض في الاحتياط في طيّ المقدّمات.


ولكنّك خبير بأنّ توجّه الإشكال على التّقدير المذكور ممّا لا محيص عنه إلاّ أنّ الكلام في المقام ـ حسبما عرفت مرارا بعد الفراغ عن تماميّة المقدّمات والإشكال المذكور ـ راجع إلى منع تماميّة المقدّمات المذكورة ، فالأولى عدم التّعرض للإشكال المذكور في المقام كالإشكال الأوّل وإن كان لزومه على تقدير عدم بطلان الاحتياط رأسا من أوضح الواضحات ؛

ضرورة عدم التّلازم بين عدم وجوب الاحتياط في خصوص الموهومات دفعا للحرج وخروج المشكوكات عن أطراف العلم الإجمالي الكلّي فلا يجوز الرّجوع فيها إلى الأصول اللّفظيّة كما لا يجوز الرّجوع فيها إلى الأصول العمليّة ، وإلاّ جاز الرّجوع إليهما مع العلم الإجمالي مطلقا وهو خلف.

كما أنّ الأولى في تحرير الإشكال أن يقال : إنّه بعد فرض تسليم انسداد باب العلم ، أو الظّن الخاصّ في أغلب الأحكام لا بدّ من الحكم بسقوط الظّواهر المذكورة عن الظّهور من جهة العلم الإجمالي بإرادة خلاف الظّاهر في كثير منها.

والفرق بينه وبين ما في « الكتاب » لا يكاد أن يخفى.

ثمّ إنّ توجّه الإشكال المذكور كالإشكال الأوّل مبنيّ على بقاء المشكوكات على حكم الإجمالي الكلّي وكونها من أطرافها من جهة اندفاع الحرج المانع عن الاحتياط الكلّي بعدم وجوبه في موهومات التّكليف مطلقا ، أو في قسم منها ؛ إذ لو فرض عدم اندفاع الحرج إلاّ بمخالفة الاحتياط الكلّي فيها أيضا ، فلا يتوجّه هذا الإشكال كالإشكال الأوّل.

إذ لا فرق في الرّجوع إلى الأصول العمليّة واللّفظيّة في المشكوكات بين خروجها عن أطراف العلم الإجمالي الكلّي من أوّل الأمر ، وبين دخولها فيها ،


وحكم الشارع بعدم لزوم رعاية حكم العلم الإجمالي فيها للزوم الحرج من مراعاته ؛ إذ المانع من الرّجوع إلى الأصل بقول مطلق سواء كان أصلا عمليّا أو لفظيّا ليس في المقام بالفرض ، إلاّ العلم الإجمالي ، فإذا كان في حكم الشارع بمنزلة عدمه بالنّسبة إلى بعض أطرافه ومحتملاته ، فيترتّب عليه ما كان من أحكامه في نفسه من غير تعلّق علم إجمالي فكما يرجع إلى الأصل العملي في الفرض المزبور ، فكذلك يرجع إلى الأصل اللّفظي.

فالإشكال المذكور إنّما يتوجّه على تقدير تسليم اندفاع الحرج بمخالفة الاحتياط في خصوص موهومات التكليف وهي المراد من المظنونات في قوله قدس‌سره : « فإذا فرضنا رجوع الأمر إلى ترك الاحتياط في المظنونات » (١).

ومنه يظهر : أنّ عطف قوله : « أو في المشكوكات أيضا على المظنونات » (٢) سهو من قلمه الشّريف أو من النّاسخ ، كما تنادي كلماته المتأخّرة والمتقدّمة ؛ فإنّه قد صرّح قبل ذلك : بأنّ توجّه الإشكال الأوّل مبنيّ على اندفاع الحرج بمخالفة الاحتياط في الموهومات فقط ، وأنّه لا يتوجّه إذا فرض لزوم الحرج من الاحتياط في المشكوكات.

وكذا قرّر الإشكال الثّاني بعد العبارة المذكورة فيما لو فرض اندفاع الحرج بمخالفة الاحتياط في خصوص موارد الأمارات القائمة على نفي التّكليف الإلزامي.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥١١.

(٢) نفس المصدر.


منافاة الإشكال المقرّر هاهنا لما سبق

ثمّ إنّ الإشكال الّذي قررّه قدس‌سره في المقام ينافي ما أفاده قدس‌سره في هذا المقام عند الكلام في مقدّمات الانسداد فإنّه صرّح هناك بعدم طروّ الإجمال في ظواهر الكتاب والسّنة القطعيّة والمظنونة بالظّن الخاصّ بعد تسليم انسداد باب العلم والظّن الخاصّ في أكثر الأحكام وأنّ إجمالها ليس من مقدّمات دليل الانسداد ، وذكر في بيان الإشكال الثّاني وجها آخر لا تعلّق له بالإشكال الثّاني المذكور في المقام بل ينافيه جدّا ؛ فإنّه قال هناك ما هذا لفظه :

« وتحصل ممّا ذكرنا إشكال آخر أيضا من جهة أنّ نفي الاحتياط بلزوم العسر لا يوجب كون الظّن حجّة ناهضة لتخصيص العمومات الثّابتة ومخالفة سائر الظّواهر الموجودة فيها.

ودعوى : أنّ باب العلم والظّن الخاصّ إذا فرض انسداده سقط عمومات الكتاب والسّنة المتواترة وخبر الواحد الثّابت حجيّته بالخصوص عن الاعتبار للعلم الإجمالي بمخالفة ظواهر أكثرها لمراد المتكلّم فلا يبقى ظاهر منها على حاله حتّى يكون الظّن الموجود على خلافه من باب المخصّص والمقيّد ، مجازفة ... إلى آخر ما أفاده » (١).

فإنّه كما ترى ، مناف صريح لما أفاده في المقام وإن كان هو الحقّ بالنّسبة إلى ما ذكره هناك لما عرفت : من أنّ منع طروّ الإجمال بالنّسبة إلى الظّواهر لا وجه له بعد فرض تسليم الانسداد ، مضافا إلى أنّ الظّن الثّابت حجيّته بدليل الانسداد

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٤٢٧.


على تقدير تسليم بقاء الظّواهر على حالها ، ليس في مرتبة الظّواهر حيث إنّها من الظّنون الخاصّة فلا معنى لجعله قرينة لها إلى غير ذلك من المناقشات التي عرفتها ثمّة.

ثمّ إنّ توجه هذا الإشكال الأخير المذكور في المقام على ما صرّح به في قوله : « ودفع هذا كالإشكال السّابق ... إلى آخره » (١).

مبنيّ على ما ذكره من الإشكال في طيّ المقدّمات ، وأمّا على تسليم تماميّتها وإنتاجها لحجيّة الظّن بتسليم لزوم الحرج من الاحتياط في المشكوكات فلا يتوجّه قطعا ؛ نظرا إلى ما بني عليه الأمر سابقا ؛ من لزوم ترتيب جميع ما يترتّب على الظّن الخاصّ على الظّن المطلق على تقدير حجيّته بناء على كون تعيين المعلومات الإجماليّة ودفع الإجمال عن الألفاظ المجملة من آثار حجيّة الظّن ، فيعود الظّواهر كالعمومات والمطلقات مثلا على حالها قبل العلم الإجمالي بعد قيام الظّن على خروج جملة من الأفراد يحتمل انحصار الخارج فيها فيعمل بها في المشكوكات ، بل في قسم ممّا ظنّ بخروجه بناء على الاقتصار في حجيّة الظّن على الظّن القوي من باب الظّن الخاصّ لا من باب الظّن المطلق وإن كان رفع المانع عن ظهورها الفعلي مستندا إلى الظّن المطلق.

ومن هنا يعمل بها في موارد الشّك بل مع الظّن بالخلاف على ما عرفت مع كون نتيجة المقدّمات هو اعتبار الظّن الشّخصي حسبما أسمعناك مرارا ، كما أنّه مبنيّ على عدم اختصاص الصّوارف للظّواهر المعلومة إجمالا بموارد الأمارات

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٥١١.


وخروج موارد الشّك عن أطراف العلم الإجمالي الكلّي العامّ الشّامل لموارد الأمارات وغيرها وإن فرض هناك علم إجماليّ في خصوص موارد الأمارات كما يظهر من قوله قدس‌سره في الجواب عن دعوى الاختصاص : « بأنّ هذا العلم حاصل بملاحظة الأمارات ومواردها ... إلى آخر ما أفاده » (١).

(٢٨) قوله قدس‌سره : ( وقد يدفع الإشكال بدعوى ... إلى آخره ) (٢). ( ج ١ / ٥١٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد أجاب قدس‌سره عن دعوى الإجماع على بطلان الاحتياط في المشكوكات والرّجوع إلى الأصول فيما تقدّم من كلامه في طيّ الإشكال على مقدّمات الانسداد بعد الاعتراف بكون وجوده مظنونا بالظّن القوي الاطمئناني كما يظهر من كلماتهم في وجه عدم جواز الرّجوع إلى البراءة عند التمسّك لحجيّة خبر الواحد بالحاجة إليه بأنّ مرجع الإجماع قطعيّا كان أو ظنيّا على الرّجوع إلى الأصول في المشكوكات إلى الإجماع على وجود الحجّة الكافية في الفقه حتّى يعين بمعونتها المعلومات الإجماليّة شرعا فيصير المشكوكات مجاري للأصول ، فتؤول هذه الدّعوى إلى دعوى الإجماع على حجيّة الظّن فلا تعلّق لهذا بالدّليل العقلي.

وهذا كما ترى ، يغاير ما أفاده في المقام ويمكن جعل كلّ منهما جوابا مستقلاّ فتأمل.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥١٢.

(٢) وفي نسخة الكتاب المطبوعة من قبل مؤتمر تكريم الشيخ الاعظم هكذا : وقد يدفع الإشكالان ... إلى آخره.


ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره بعد الجواب عن الإجماع ـ في مقام تحقّق الفرق وتثبيته بين القول بحجيّة الظّنون الخاصّة بقدر الكفاية والمقام ـ بقوله : « ثمّ إنّ هذا العلم الإجمالي وإن كان حاصلا لكلّ أحد ... إلى آخر ما أفاده » (١) :

يراد به كون موارد الظّنون الخاصّة بمنزلة المعلوم بالتفصيل بحكم الشارع ؛ نظرا إلى الدّليل القطعيّ القاضي بحجيّتها وجعلها معيّنة للأحكام الواقعيّة وترتيب آثار الواقع على مواردها لا كونها معلومة بالتّفصيل حقيقة كما ربّما يظهر منه في بادىء النّظر.

فالعمل بمقتضى الظّنون الخاصّة امتثال للأحكام المعلومة بحكم الشارع والزّائد على القدر المتيقّن غير معلوم من أوّل الأمر ، فلا يمنع احتماله من الرّجوع إلى الأصول في المشكوكات كما فيما ذكره من المثال في المسألة القطيع هذا.

وقد مضى شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام في طيّ كلماتنا فراجع إليه حتّى تقف على حقيقة الأمر.

(٢٩) قوله قدس‌سره : ( فعلم ممّا ذكرنا : أنّ مقدّمات دليل الانسداد على تقرير الحكومة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥١٣ )

مسألة التبعيض في الاحتياط لا ربط لها بتقرير الحكومة

أقول : قد علم ممّا ذكرنا : أنّ ما أفاده في تحقيق المقام من كون المقدّمات منتجة على تقرير الحكومة للتّبعيض في الاحتياط ووجوب الاقتصار في مخالفته

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥١٣.


على الظّن القوي القائم على نفي التّكليف ، وهو المراد بتماميّتها في الإنتاج وعدم كون النّتيجة حجيّة الظّن بخلاف تقرير الكشف المنتج للحجيّة ، وإن كان فاسدا لا تعلّق له بتقرير الحكومة أصلا ، على ما عرفت شرحه من كلماته ، فإنّ نتيجة المقدّمات على هذا الإشكال هو التّبعيض في الاحتياط لا حجيّة الظّن.

اللهمّ إلاّ أن يريد من تقرير الحكومة في المقام تعيين العقل لموارد طرح الاحتياط في ضمن موهومات التّكليف مطلقا أو قسم خاص منها ، فإنّك قد عرفت : أنّ المعيّن لموارد الطّرح في ضمن الموهومات ليس إلاّ العقل ، فإذا كان له دخل فالمرجع إلى حكمه في متابعة الظّن بعدم التّكليف في مخالفة الاحتياط اللاّزم بمقتضى العلم الإجمالي فهو الحاكم في هذه المسألة فتدبّر.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من أوّل هذا الأمر إلى آخره في الشّبهات الحكميّة ـ على ما يقتضيه التّحقيق : من وجوب الاقتصار في مخالفة الاحتياط اللاّزم على قدر ما يندفع به الضّرورة فيما كانت هناك ضرورة قاضية بمخالفته وتعيّن اختيار الموهوم من محتملات العلم الإجمالي إذا لم يكن هناك دليل على بطلان الاحتياط رأسا ووجوب الأخذ بالظّن القوي إذا كان هناك دليل عليه ـ جار في الشّبهات الموضوعيّة أيضا ، مع العلم الإجمالي حرفا بحرف ويساعده كلماتهم في جملة من جزئيّات هذا الكلّي كما يظهر للمتصفّح فيها وسنشير إلى بعضها وليكن هذا في ذكر منك عسى ينفعك فيما بعد ( إن شاء الله تعالى ).


(٣٠) قوله قدس‌سره : ( وأمّا على تقرير الحكومة بأن يكون مقدّمات الدّليل موجبة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥١٦ )

في إشكال خروج القياس من حكم العقل بحجيّة الظن المطلق

أقول : توجّه الإشكال في خروج القياس وأمثاله على تقرير الحكومة بالمعنى الّذي ذكر له في « الكتاب » في هذا المقام وفي غيره من كلماته في الأمر الثّاني وغيره ممّا لا إشكال فيه ؛ ضرورة أنّ حكم العقل بحجيّة مطلق الظّن أو خصوص الاطمئناني منه بحيث لا دخل للأسباب فيه أصلا ، كحكمه في سائر القضايا والموارد مبنيّ على علّة ومناط لا يمكن انفكاك حكمه عنه ، فلو تخلّف في مورد فيلزم أن لا يكون حاكما وهو خلف.

فلا بدّ أن يكون خروج الخارج خروجا موضوعيّا بمعنى عدم انطباق المناط الّذي هو الموضوع في القضية العقليّة عليه. وهذا معنى عدم إمكان تطرّق التّخصيص في القضايا العقليّة.

والأمر في القضايا الشّرعيّة ، وإن كان كذلك بمعنى عدم انفكاك ما هو المناط والعلّة في حكم الشارع عن حكمه ، إلاّ أنّه لا يلزم الشارع أن يجعل المناط الأولى موضوعا دائما في القضايا اللفظيّة الكاشفة عن مراد الشارع فيجوز طرو التّخصيص والنسخ الّذي هو يؤول إليه وغيرهما بالنّسبة إلى القضيّة اللّفظيّة لا اللّبّيّة وإن كانت منطبقة عليها بالنّظر إلى ظاهر اللفظ.

ومن هنا يحكم بالعموم ؛ نظرا إلى استكشاف عموم العلّة من اللّفظ ، إلاّ أنّه إذا ورد التّخصيص والقرينة الكاشفة عن المراد ، يحكم بأنّ المراد من أوّل الأمر غير


ما خرج عن العموم من جهة عدم وجود المناط فيه ، وفي الحقيقة لا تنافي بينهما أصلا ، وإن حكموا بتنافيهما بالنّظر إلى ظاهر اللّفظ ، هذا بالنّسبة إلى المعنى المعروف لتقرير الحكومة.

وأمّا على ما بني عليه الأمر عند الإشكال في تماميّة المقدّمات وفي طيّ الأمر الثّاني عند المنع عن تعميم النّتيجة بالنّسبة إلى المراتب ، فالظّاهر عدم الإشكال في توجّه الإشكال أيضا ؛ حيث إنّه إذا استقلّ العقل في حكمه بتعيين الأخذ بالظّن القوي ، أو مطلق الظّن في مخالفة الاحتياط وفرض حصولهما من القياس القائم على عدم التّكليف مثلا فيجري فيه ما جرى في حكمه بحجيّة مطلق الظّن وفي حكمه في سائر المقامات من عدم إمكان طرو التّخصيص عليه هذا.

وأمّا ما يقال : من أنّ حكم العقل بوجوب العمل بالظّن القوي ، أو مطلق الظّن في امتثال الأحكام الشّرعيّة ، أو في اختيار مخالفة الاحتياط ، إنّما لا يقبل لورود نهي الشارع عن بعض أفراد الظّن وإخراجه عن حكمه إذا كان على وجه الإطلاق من غير تقييد بعدم ورود النّهي عن الشارع بالنّسبة إلى بعض أفراده ، وأمّا إذا كان على وجه التّقييد فلا يتوجّه هناك إشكال أصلا ، لورود النّهي عن العمل بالظّن القياسي وأشباهه ؛ ضرورة ارتفاع موضوع حكم العقل حينئذ بوروده ، ونحن ندّعي أنّ العقل إنّما يحكم به على وجه التّقييد نظير حكمه بحرمة العمل بالظّن عند التّمكن من تحصيل العلم بالواقع ؛ فإنّه مقيّد أيضا بعدم أمر الشارع بسلوكه ، وإلاّ كان ما ورد في شأن الظّنون الخاصّة منافيا لحكم العقل وموجبا لتخصيصه ، ولم يقل به أحد ، فيكشف ذلك عن أنّ العقل يحكم بالعنوان التّقييدي.

ومن هنا اتّفق القائلون بحجيّة مطلق الظّن بجواز حكم الشارع بحجيّة أمور


لا تفيد الظّن أصلا في زمان الانسداد ونهيه عن العمل بالظّن ، إلاّ أنّه لمّا لم يثبت ذلك في الشّرعيّات عندهم حكموا بحجيّة مطلق الظّن.

ولا يتوجّه عليه : أنّه بناء على ذلك يلزم عدم حكم العقل بحجيّة الظّن أصلا ؛ إذ احتمال النّهي موجود في جميع أفراد الظّن ؛ إذ المفروض عدم حجة على الحكيم تعالى.

وبتقرير آخر : إذا فرض أخذ عدم نهي الشارع في موضوع حكم العقل بحجيّة الظّن من حيث تعلّق حكمه بالعنوان التّقييدي ، فلا بدّ من إحراز عدم النّهي عند إرادة الحكم بحجيّة ظنّ من الظّنون وإحرازه مستلزم للعلم بحجيّته عند الشارع ؛ ضرورة عدم الواسطة بين عدم النّهي والأمر في المقام فيلزم عدم حكم العقل بحجيّته أو موضوعيّة الظّن الّذي لم يعلم حجيّته فكما أنّ احتمال النّهي مانع عن حكمه كذلك العلم بالحجية شرعا مانع عن حكمه ؛ إذ المأخوذ في حكم العقل عدم العلم بالنّهي لا عدم النّهي الواقعي حتّى يكون احتماله مانعا عن حكم العقل.

ضرورة عدم إمكان دخل الأمور النّفس الأمريّة الواقعيّة في حكم العقل من حيث الاقتضاء ، أو المانعيّة وترتّب حكمه على العنوانات المعلومة من غير فرق بين حكمه الغيري والنّفسي ، كحكمه بوجوب ردّ الوديعة وحسن التّأديب وحسن الصّدق وقبح الكذب ونحوها ؛ فإنّه وإن كان هناك مزاحمات لأحكامه في الموضوعات المذكورة ، إلاّ أنّه ثابت ما لم يعلم بها فالصّدق المجامع لعنوان الإضرار والمفسدة في علم العقل لا يتّصف بحسن.

كما أنّ الكذب المجامع لعنوان المصلحة الملزمة في علمه لا يتّصف بقبح لا أنّ الصّدق المجامع للمفسدة في نفس الأمر والكذب المجامع للمصلحة ، كذلك لا


يتصفان بحسن وقبح هذا.

وقد مضى شطر من الكلام في ذلك فيما قدّمنا لك من الكلام في فروع المقصد الأوّل من الكتاب.

وإن شئت قلت ـ في تقرير التّوهّم المذكور ـ : إنّ حكم العقل في جميع مراتب طريق الإطاعة حكم تعليقيّ بالنّسبة إلى حكم الشارع بسلوك غير ما حكم العقل به وليس كحكمه بأصل وجوب الإطاعة من حيث كونه تنجيزيّا غير قابل لحكم الشارع بخلافه.

فيتوجّه عليه : أنّ نهي الشارع إن كان كاشفا عن انتفاء المناط العقلي في حكمه بحجيّة الّظن أو وجود المزاحم له الّذي يرجع إلى انتفاء المناط حقيقة ، فيرجع إلى ما سيجيء من وجوه التّفصّي عن الإشكال المذكور وسيأتي شرح القول فيه ، وإلاّ فيكون قبيحا في حكم العقل كما أنّ أمره بسلوك الظّن مع التّمكن من تحصيل الواقع إنّما يجوز بهذا العنوان وإلاّ كان قبيحا.

وأمّا ما قرع سمعك : من كون حكم العقل في باب الطّريق من حيث كونه تعليقيّا يخالف حكمه في باب أصل وجوب الإطاعة من حيث كونه تنجيزيا فيراد به ما يرجع إلى ما ذكرنا : من كون حكم العقل في باب الطّريق مترتّبا على عنوان يرتفع بملاحظة نهي الشارع ، أو يتحقّق فيما أمر الشارع بسلوكه فافهم وانتظر لتمام الكلام في ذلك فيما سيتلى عليك.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر لك : استقامة ما أفاده قدس‌سره في توجيه الإشكال وتقريره بقوله : « فإنّ المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من الظّن أو خصوص الاطمئناني لو فرض ممكنا جرى في غير القياس فلا يكون العقل مستقلاّ ، إذ لعلّه نهى عن أمارة


مثل ما نهى عن القياس بل وأزيد واختفى علينا ولا دافع لهذا الاحتمال إلاّ قبح ذلك على الشارع ... إلى آخره » (١).

ويظهر أيضا فساد ما أورد عليه : بأنّ مجرّد احتمال نهي الشارع عن سائر الظّنون كنهيه عن القياس لا يمنع من حكم العقل بالحجيّة لدوران الأمر مع هذا الاحتمال في موارد الظّنون بين الإطاعة الظّنية والإطاعة الوهميّة ، والمفروض استقلال العقل في الحكم في هذا الدّوران بتقديم الأولى.

وقد اعترف قدس‌سره بذلك فيما تقدّم من الكلام في طيّ مقدّمات الانسداد واستند إليه في ردّ من أبطل المقدّمات بإبداء احتمال كون المرجع عند الشارع في زمان الانسداد غير الظّن كالفاضل النّراقي وغيره ؛ فإنّ مراده قدس‌سره من الاحتمال الّذي جعله مانعا عن حكم العقل ؛ هو احتمال نهي الشارع عن العمل بالظّن وترجيح الوهم عليه من حيث هما كذلك ، ومعلوم أنّ احتمال حكم الشارع في قضيّة على خلاف ما حكم به العقل فيها لا يجامع حكم العقل لا مطلق الاحتمال ، فإنّ احتمال نهيه عن الظّن وإيجابه الأخذ بخلافه من جهة مصلحة غالبة فيه أو مفسدة في العمل بالظّن لا ينافي حكمه أصلا ولا يمنع منه جزما.

توضيح ذلك : أنّ نهي الشارع عن العمل بالظّنّ في زمان الانسداد قد يكون على وجه الطّريقيّة وهذا هو الّذي يحكم العقل بقبحه من الشارع مع تعلّق الغرض بالواقع من حيث استلزامه لنقض الغرض ولا يجامع حكم العقل بحجيّة الظّن ، فكما أنّ القطع بصدوره على هذا الوجه لا يجامع حكم العقل ، كذلك احتماله

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥١٦.


لا يجامعه ، وقد يكون من جهة وجود مصلحة غالبة في الأخذ بخلافه أو وجود مفسدة غالبة في الأخذ به على تقدير مطابقته للواقع ، وهذا لا ينافي حكم العقل بوجوب الأخذ بالظّن في زمان الانسداد ؛ حيث إنّ حكم العقل به إنّما هو من حيث كونه أقرب إلى إدراك مصلحة الواقع الغير المزاحمة بالمفسدة الغالبة عليها ، فإذا علم بأنّ سلوك الظّن الفلاني ليس فيه هذه الجهة بإخبار الشارع أو كشفه عن نهيه فلا يحكم بحجيّته من جهة انتفاء مناط حكمه فيه فلا يلزمه تخصيص في حكم العقل أصلا.

وأمّا إذا لم يعلم بذلك واحتمله فيحكم حكما قطعيّا بوجوب سلوك الظّن وعدم الاعتناء بالاحتمال المذكور وهذا هو الاحتمال الّذي لا يمنع من حكم العقل بل يجامع حكمه.

بل قد أسمعناك في مطاوي ما ذكرنا لك : أنّ الظّن الّذي يكون موضوعا لحكم العقل بالحجيّة في زمان الانسداد لا ينفك عن هذا الاحتمال ، إلاّ أن يكون احتمال عدم حجيّته الغير المنفك عن الشّك في الحجيّة من جهة إلقائه مع التّمكن من تحصيل العلم ، أو الظّنون الخاصّة لا إلقائه مطلقا حتّى في زمان الانسداد الملازم لكونه كالقياس فإن احتمال عدم الحجيّة واقعا عند الشارع لا بدّ أن يستند إلى أحد الاحتمالين على سبيل منع الخلوّ كما هو ظاهر ، إلاّ أنّ إرجاع النّهي عن العمل بالقياس وأشباهه إلى هذا الوجه يرجع إلى بعض الوجوه الآتية في التفصّي عن إشكال خروج القياس وليس الكلام فيه.


(٣١) قوله قدس‌سره : ( الأوّل : ما مال إليه أو قال به ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥١٧ )

الوجه الاوّل من وجوه التفصّي عن إشكال خروج القياس

أقول : قد ينسب الميل إلى المنع المذكور ، أو القول به في زمان الانسداد إلى المحقّق القميّ قدس‌سره في « القوانين » والموجود فيه : إمكان منع دعوى كون حرمة العمل به ضروريّا حتّى في زمان الانسداد لا منع ثبوت الحرمة ، حيث قال قدس‌سره في بحث حجيّة أخبار الآحاد ـ في طيّ وجوه التّفصّي عن إشكال خروج القياس

__________________

(١) قال شيخ خراسان أعلى الله تعالى درجته في الجنان :

« لا يخفى أن هذا على تقدير صحّته ليس من توجيه خروج القياس ، بل منع خروجه في هذا الحال فيكون الإشكال على تقدير خروجه بعد على حاله ، فلا وجه لعدّه في عداد التوجيهات وكذا حال ما يتلوه من الوجه الثاني فإن الإشكال إنّما هو في النهي عنه على فرض إفادته الظنّ ، إلاّ أن يكون الغرض التفصّي عن توجّه إشكال ولو لعدم ثبوت فرضه وتقديره ، لا عن الإشكال فتدبّر ». إنتهى. أنظر درر الفوائد : ١٦٤.

* وقال فاضل كرمان قدس سره معترضا على محقّق خراسان قائلا :

« إن كان الضمير في توجيهه راجعا إلى الخروج فيقال : منع الخروج ليس توجيها للخروج ويتوجّه إشكال الخراساني وليس الأمر كذلك.

فإن الضمير في توجيهه راجع الى المقام الأوّل الّذي هو مقام دفع الإشكال الذي أوردوه على خروج القياس.

ودفع الإشكال قد يكون بمنع الخروج وقد يكون ببيان وجه مصحّح للخروج.

والدليل على أن الضمير راجع إلى المقام الأوّل دون خروج القياس : أنه يلزمه كون الجملة خبريّة غير مرتبطة بالمبتدء ... إلى آخر ما ذكره ». أنظر حاشية رحمة الله على الفرائد : ١٥٧.


ما هذا لفظه ـ :

« ويمكن أن يقال : إنّ في مورد القياس لم يثبت انسداد باب العلم بالنّسبة إلى مقتضاه ، فإنّا نعلم بالضّرورة من المذهب حرمة العمل على مؤدّى القياس فيعلم أنّ حكم الله تعالى غيره وإن لم يعلم أنّه أيّ شيء هو فنفي تعيينه يرجع إلى سائر الأدلة وإن كان مؤدّاها عين مؤدّاه فليتأمّل ؛ فإنّه يمكن منع دعوى بداهة حرمة القياس حتّى في موضع لا سبيل له إلى الحكم إلاّ به » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

فإنّه كما ترى ظاهر في منع دعوى البداهة المذكورة في وجه التفصّي. اللهمّ إلاّ أن يكون الدّليل العلميّ عنده منحصرا في المقام في ضرورة المذهب ، وإلاّ لم يكن منعها بخصوصها مفيدا في الإيراد على وجه التّفصّي ؛ فإنّ الإيراد يرجع إلى دعوى انفتاح باب العلم في مورد العمل بالقياس. ومنع دعوى بداهة حرمة العمل به لا يلازم منع حصول العلم بالحرمة إلاّ بعد فرض انحصار الدّليل العلمي فيه كما يظهر من التّوضيح الّذي ذكره شيخنا قدس‌سره.

ثمّ إنّه على تقدير ظهور كلامه هذا في إمكان منع قيام الدّليل العلمي على الحرمة مطلقا في زمان الانسداد وفي مورد انحصار الدّليل فيه ليس مذهبا له بالقطع واليقين ، فإنّ كلماته في هذا المبحث وفي بحث « الاجتهاد والتّقليد » وغيرهما تنادي بصراحتها بذهابه إلى حرمة العمل به في كلّ زمان وأنّه من المسلّمات عنده ، وإنّما ذكر ما ذكره وجها في المسألة لا اعتقادا فلا تغفل ولا تنظر

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٨ وج ٢ / ١١٣.


إلى بعض كلماته الموهم ميله إلى الجواز.

نعم ، في « كشف الغطاء » ما يظهر منه نفي البعد عن القول بحجيّته عند الاضطرار وانحصار الطّريق في مطلق الّظن حيث قال ـ في البحث الرّابع والأربعين في تعداد الأدلّة ما هذا لفظه ـ :

« الأدلّة إمّا أن تكون مثبتة لذاتها من غير جعل كالطّرق المفيدة للعلم بالحكم من عقل أو نقل متواترا وإجماع معنويّين ».

إلى أن قال :

« وأمّا أن تكون جعليّة بحكم الشّارع لا بمقتضى الذّات ».

وساق الكلام في تعداد الأدلّة الظّنيّة المعتبرة من حيث الخصوص.

إلى أن قال :

« وإمّا أن يكون ممّا انسدّت فيه الطّرق في معرفة الواجب مع العلم باشتغال الذّمّة وانسداد طريق الاحتياط ، وهذا يجري في المجتهد إذا فقد الأدلة وفي غيره عند اضطرار لضرورة بقاء التّكليف ، وانسداد طريق العلم والظّن القائم مقامه ، فيرجع كلّ منهما إلى الرّوايات الضّعيفة ، والشّهرة ، وأقوال الموتى ، والظّنون المكتسبة ، سوى ما دخل تحت القياس المردود ، على أنّ القول به في مثل هذه الصّورة غير بعيد » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

(٣٢) قوله قدس‌سره : ( ولا يخفى أنّ شيئا من الأخبار الواردة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥١٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ كثيرا من الأخبار الدّالة على حرمة العمل بالقياس

__________________

(١) كشف الغطاء : ج ١ / ٣٨.


تدلّ على حرمته بالنّسبة إلى زمان الانسداد أيضا بحيث لا يفرق في دلالتها بالنّسبة إلى الزّمانين والحالات أصلا ، مثل ما دلّ على حرمته من حيث استلزامه لإبطال الدّين المحمول على القضيّة الغالبية ، لا الدّائميّة تصحيحا لكلام الشارع ؛ فإنّه ليس المراد منه رفع اليد بسببه عن السّنة المتمكن من الرّجوع إليها حتّى يختصّ بزمان الانفتاح ، بل المراد منه : أنّ إعمال القياس في تحصيل السّنة وقول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجب لإبطال الشّريعة والدّين ، وأنّ هذا لازم له من غير فرق بين الزّمانين سواء حمل على الدّوام أو الغلبة.

فهو نظير قولهم عليهم‌السلام : « إنّ دين الله لا يصاب بالعقول » (١) ونحوه ممّا دلّ على النّهي عن العمل به من حيث الطّريقيّة والإرشاد إلى كون العقول النّاقصة الظّنية المستعملة في استنباط الأحكام الشّرعيّة كثير الخطأ وما دلّ على حرمته من حيث الموضوعيّة مثل قوله عليه‌السلام : « ليس من ديني من استعمل القياس في ديني » (٢) وما ورد في مشاركة المقايس لإبليس حيث إنّه أوّل من قاس (٣) ، وإن كان ظاهر بعض أخباره كون الحكمة في ذمّ إبليس على قياسه في ترك السجود المأمور به لأبينا

__________________

(١) كمال الدين وتمام النعمة : ٣٢٤ باب (٣١) ـ ح ٩ ، وعنه مستدرك الوسائل : ج ١٧ / ٢٦٢ باب « عدم جواز القضاء والحكم بالرأي ... » ـ ح ٢٥.

(٢) أمالي الصدوق : ٥٦ وفيه : وما على ديني ... إلى آخره ، وعيون الأخبار : ج ٢ / ١٠٧ ـ ح ٤ ، والتوحيد : ٦٨ ـ ح ٢٣ ، عنها الوسائل : ج ٢٧ / ٤٥ « باب عدم جواز القضاء والحكم بالرأي ... » ـ ح ٢٢.

(٣) الكافي : ج ١ / ٥٨ باب « البدع والرأي والمقاييس » ـ ح ٢٠ وباب « الطيب والريحان للصائم » ، من ج ٤ / ١١٣ ـ ح ٥ ، وانظر الوسائل : ج ٢ / ٣٤٧ باب « وجوب قضاء الحائض والنفساء ... » ـ ح ٣.


آدم عليه‌السلام خطأه في قياسه بقوله : ( خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (١).

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في دلالة كثير من أخبار الباب على حرمة العمل به في محلّ البحث ، بل يمكن دعوى التّواتر المعنوي فيما دلّ عليه ، فلا يتوجّه : أنّ الخصم لا يسلّم حجيّة ظواهر الألفاظ الصّادرة عن الحجّة من حيث الخصوص ؛ غاية ما هناك على تقدير حصول الظّن الشّخصي منها على حرمة العمل بالقياس دخول المسألة في الظّن المانع والممنوع.

(٣٣) قوله قدس‌سره : ( ألا ترى أنّه لو فرض العياذ بالله ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥١٩ )

أقول : لا يخفى عليك أنّه قد يناقش فيما أفاده :

بأنّ دعوى الإجماع بل الضّرورة على حرمة العمل بالقياس وأشباهه في صورة انفتاح باب الأمارات لا يلازم دعواه في صورة انسداد بابها.

نعم ، دعوى الإجماع على الإطلاق ممّا يفيد الالتزام بالحرمة فيما فرضه ، مع أنّه قد يقال : إنّه لا ضير في الالتزام بها في الفرض أيضا مع كون التّكليف وجوب الاحتياط بالنّسبة إلى الواقع فيما كان القياس مقتضيا للإلزام والأخذ بخلافه فيما كان على خلاف الإلزام ، ففي الحقيقة هذا نوع من الاحتياط.

وإن كان قد يورد عليه : بأنّه موجب للحرج فيعود المحذور ، مع أنّ الكلام بعد الفراق عن بطلان وجوب الاحتياط وإلاّ لم يحكم بحجيّة الظّن أصلا.

(٣٥) قوله قدس‌سره : ( كما هو لازم القول بدخول القياس ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٠ )

أقول : ما أفاده : من الملازمة إنّما هو على تقدير كون حجيّة الخبر الصّحيح

__________________

(١) الأعراف : ١٢.


من باب الظّن المطلق كما يظهر من المحقّق القمّي قدس‌سره ؛ حيث إنّه بنى على عدم وجود الظّن الخاص فيما بأيدينا من الأمارات ، وأمّا على تقدير كون حجيّته من باب الظّن الخاصّ حسبما يظهر من جماعة من أهل الظّنون المطلقة ؛ حيث اعترفوا بحجّيّته من حيث الخصوص وبنوا على التّعدي عنه من جهة عدم كفايته في استنباط غالب الأحكام.

فالملازمة غير ظاهرة بل ممنوعة ، لما أسمعناك مرارا : من كون الظّن المطلق في مقابل الظّن الخاصّ كالأصل في مقابل الدّليل ، فلازم هذا القول عدم جواز الأخذ بالظّن المطلق في مقابل الخبر الصحيح وإن كان غير القياس فضلا عنه إلاّ على القول باعتبار حصول الظّن الشّخصي منه في حجيّته ، أو عدم قيام الظّن بالخلاف فافهم.

(٣٥) قوله قدس‌سره : ( الثّاني : منع إفادة القياس ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢١ )

الوجه الثاني من وجوه التفصّي المزبور

أقول : يظهر هذا الوجه من المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » أيضا وإن حكى عن غيره أيضا حيث قال ـ في التّفصّي عن خروج القياس وخبر الفاسق من حيث صراحة آية النّبأ في وجوب التّبيّن فيه المقتضي لعدم حجيّته من غير فرق بين الأزمنة ، ما هذا لفظه ـ :

« وذلك إمّا لأنّهما لا يفيدان الظّن وذلك علّة منع الشارع عنهما ، أو لأنّهما مستثنيان من الأدلّة المفيدة للظّن لا أنّ الظّن الحاصل منهما مستثنى من مطلق


الظّن » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وذكره في كلامه وإن كان وجها في المسألة ؛ إلاّ أنّه يتوجّه عليه ما ذكره شيخنا قدس‌سره : من أنّ ملاحظة ما ورد في شأن العمل بالرّأي والقياس والعقول الظّنيّة من حيث الطّريقيّة وغلبة الخطأ فيها كما هو الظّاهر من أكثرها ، وإن كانت يرفع الظّن الحاصل منها في ابتداء النّظر وقبل ملاحظتها ويمنع من حصول الظّن منها إن كانت ملحوظة عند الرّجوع إليها فهي رافعة باعتبار ودافعة باعتبار أخرى في الغالب ، إلاّ أنّها لا يؤثّر في ذلك دائما كما هو المشاهد بالوجدان.

ومن هنا قد يحصل من القياس القطع بالحكم فيحتمل الظّان الّذي استقرّ له الظّن في مورد اطمئنانه بإصابته مورد حصول الظّن له على كونه من الموارد الّتي تخلّفت عن الغالب فلا تنافي تلك الأخبار النّاطقة بكثرة الخطأ في العمل بالعقول النّاقصة الظّنيّة.

(٣٦) قوله قدس‌سره : ( إنّ باب العلم في مورد العمل (٢) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٢ )

أقول : الوجه في هذا الجواب ما أسمعناك مرارا : من أنّ الانسداد الشّخصي علّة لحكم العقل بحجيّة الظّن فيدور حكمه مداره ، فكما لا يحكم العقل بحجّيّة أيّ ظنّ كان في قبال ما قام الدّليل القطعيّ على اعتباره من الأمارات والأصول مطلقا ، كذلك لا يحكم بحجيّة الظّن إذا كان هناك دليل قطعي على إلغاء ما يقابل الأمارات والأصول فهو خارج عن موضوع الانسداد الّذي دار حكم العقل مداره.

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٨.

(٢) كذا وفي الكتاب : « في مورد القياس ... إلى آخره ».


وهو كما ترى ، بمكان من الضّعف والسّقوط لما أشار إليه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » : من أنّه لا كلام في الانفتاح المدّعى بعد فرض وقوع النّهي ، وإنّما الكلام في توجيه النّهي بحيث لا يقدح في حكم العقل ويجامع معه ، فلا يقاس المقام بما إذا كان هناك دليل قطعيّ على اعتبار الأمارات والأصول ؛ لأنّه قياس مع الفارق فافهم.

(٣٧) قوله قدس‌سره : ( وما يحتمله (١) يعني تدلّ على حجيّة الأدلّة الظّنيّة دون مطلق الظّن النّفس الأمري ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٣ )

توجيه كلام المحقّق القمّي في المقام

أقول : هذا أحد الوجهين اللّذين عرفتهما ممّا تقدّم عن المحقّق القمّي قدس‌سره وقد تكرّر هذا الوجه في كلامه في هذا المبحث وفي بحث « الاجتهاد والتّقليد » بحيث يظهر منه اعتماده عليه.

وهو كما ترى مشتبه المراد كما اعترف به كثير ممّن وقف عليه كالمحقّق المحشّي وأخيه في « الفصول » وغيرهما ( قدّس الله أسرارهم ).

ومن هنا أورد عليه :

تارة بما في « الكتاب » : من أنّه ليس لذات الأمارة مدخليّة في الحكم بالحجيّة في لحاظ العقل ؛ حيث إنّ حكمه يلحق نفس الانكشاف الظّني من غير مدخليّة للسّبب فيه أصلا.

__________________

(١) وفي الكتاب هكذا : وبالجملة هي تدل على ... إلى آخره.


وأخرى : بأنّ ما ذكره كرّ على ما فرّ منه ؛ حيث إنّه إذا استقلّ العقل بحجيّة كلّ ما يفيد الظّن على وجه الإيجاب الكلّي ، كيف يجوز في حكمه نهي الشارع عن بعض ما يفسده؟

إذ عدم إمكان التّخصيص في الدّليل العقلي لا يختصّ ببعض أفراده فاختلاف التّعبير والتّقرير مع كونه خلاف الواقع لا يفيد في التّفصّي عن إشكال ورود التّخصيص في الحكم العقلي هذا.

وقد يدفع الإشكالان بأنّ مراده قدس‌سره ممّا أفاده : الإشارة إلى تقرير الكشف والحكومة ، وأنّه على الأوّل يستكشف العقل من جهة مقدّمات الانسداد عن حكم الشارع بحجيّة المقدار الوافي من الأمارات الظّنيّة على سبيل الإهمال وبعد خروج ما خرج يحكم بملاحظة بطلان التّرجيح بلا مرجّح على كون الحجّة عند الشارع جميع الأمارات.

ومن المعلوم أنّ التّعميم من جهة هذا المعمّم وسائر المعمّمات على ما عرفت لا يجري بالنّسبة إلى القياس وأشباهه ممّا علم عدم حجيّته. وعلى الثّاني يحكم العقل بحجيّة مطلق الظّن على سبيل القضيّة الكليّة من غير مدخل للسّبب عنده في الحكم ، فيشكل الأمر بخروج القياس وأشباهه لا محالة.

ولمّا كان المختار عنده تقرير الكشف ومفاده : استكشاف الحجيّة بالنّسبة إلى الأسباب والأمارات على سبيل الإهمال على ما عرفت تفصيله وتحقيقه ؛ فقال في مقام التّفصيّ : ( إنّ القياس مستثنى من الأدلّة الظّنيّة لا أنّ الظّن القياسي


مستثنى من مطلق الظّن ) (١) فليس مقصوده أنّ القضيّة العقليّة الكليّة تختلف حالها بالنّظر إلى الأسباب والمسبّبات حتّى يتوجّه عليه ما عرفت وأضعافه.

بل المراد : أنّ الحجّة على تقرير الكشف هي الأمارات على سبيل الإهمال والتّعميم إنّما هو بملاحظة أمر خارج لا يجري بالنّسبة إلى القياس ، فالمراد من الاستثناء في كلامه ليس ما يظهر منه بالنّظر إلى قضيّة اللّفظ ، بل المراد منه الحكم بخروج ما لولاه لكان قابلا للدّخول ومحتملا له ، فهذا الكلام منه قدس‌سره مبنيّ على ما هو الحقّ والواقع عنده ، لا أنّ نتيجة المقدّمات تختلف بحسب الأسباب والمسبّبات.

وهذا التّوجيه وإن لم يساعده بعض كلماته ، بل ينافيه ما عرفت استظهار شيخنا قدس‌سره منه من إجراء المقدّمات في كلّ مسألة ، إلاّ أنّه لا مناص عنه في مقام التّوجيه سيّما بعد مساعدة بعض كلماته عليه وإن كان أصل تقرير المقدّمات على الكشف باطلا عندنا على ما عرفت تفصيله في مطاوي كلماتنا السّابقة.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا من أنّ المراد من الكليّة في قوله المحكيّ في « الكتاب » ـ ( إذ لا يصحّ أن يقال أنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظّن بنفسه ... إلى آخره ) (٢) ـ هو الكليّة المستفادة من مجموع المقدّمات والمعمّمات لا المستفادة من نفس المقدّمات ، وممّا ذكرنا كلّه في شرح مراد المحقّق القمّي قدس‌سره يظهر لك : عدم توجّه ما أفاده شيخنا قدس‌سره في الاعتراض عليه بعد توجيهه بما يقرب إلى ما عرفت بقوله :

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ١ / ٤٤٨ وج ٢ / ١١٢.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٢٣ وفي الكتاب : « إذ يصح » ... إلى آخره بدل « إذ لا يصح ».


« وفيه : أنّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغيّر بتقريرها على وجه دون وجه فإنّ مرجع ما ذكره من الحكم بوجوب الرّجوع إلى الأمارات الظّنية في الجملة إلى العمل بالظّن في الجملة ... إلى آخره » (١).

فإنّه يمكن أن يقال : إنّ التّرديد والدّوران في المهملة بين الكليّة والجزئيّة إنّما هو بحسب الأسباب حقيقة ؛ إذ لا دوران في النّتيجة بحسب الموارد والمراتب على التّقريرين حقيقة على ما عرفت تفصيل القول فيه ، فإذا احتمل العقل أن يكون المجعول مطلقا أو في خصوص زمان الانسداد الظّن الحاصل من السّبب الخاصّ من حيث إنّه حاصل منه فيكون المجعول حقيقة السّبب الفلاني بشرط حصول الّظن فللسّبب مدخل في الحجيّة حقيقة ، فلا يلزم هناك إشكال بخروج القياس أصلا ، فالإيراد المتوجّه عليه حقيقة : هو بطلان تقرير الكشف سواء فرض بالنّسبة إلى الأسباب أو المسبّبات ، وإلاّ فعدم توجّه الإشكال على هذا التّقرير ممّا لا ريب فيه على كلّ تقرير ، إلاّ أنّ المحقّق القميّ قدس‌سره زعم : أنّ المستكشف من المقدّمات على تقرير الكشف هو حجيّة الأمارات الظّنية بشرط حصول الظّن الشّخصي منها على سبيل الإهمال فتأمل.

ممّا ذكرنا كلّه يظهر لك : أنّ مراد المحقّق من التّعارض ـ في كلامه المحكيّ في « الكتاب » ـ ليس هو التّعارض الحقيقي ، بل مجرّد التّقابل فيكون الحجّة السّليمة فيما يقابل فيه الأمارات ما يفيد الظّن الشّخصي من جهة قوّته أو معاضدته بغيره ، ويطرح غيره من جهة عدم وجود مناط الحجيّة فيه سواء كان أصلا على

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٢٥.


القول باعتباره من باب الظّنّ كما بني الأمر عليه في محلّه أو غيره.

وما أفاده قدس‌سره كما هو صريح كلامه بعد الحكم بتعميم النّتيجة من الخارج مع كونها مهملة من حيث الذّات مبنيّ على إهمال النّتيجة جزما ، فقول شيخنا قدس‌سره في مقام شرح مراده ـ ( وهذه القضيّة يمكن أن تكون مهملة ) (١) ـ منظور فيه ؛ لأنّه لا يحتمل الإهمال بل مبنيّ عليه.

نعم ، قد عرفت ؛ أنّ هذا التّوجيه لا يجامع ما استفاده قدس‌سره منه من تقرير المقدّمات في كلّ مسألة. فلعلّ هذا الكلام من المحقّق المذكور قرينة وشاهد على عدم إرادته ما استظهره من إجراء المقدّمات في كلّ مسألة وكيف يجامع هذا الاستظهار مع هذا التوجيه؟ فتأمل.

وقد مضى شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام فيما علّقناه على التّنبيه الثّاني فراجع إليه.

(٣٨) قوله قدس‌سره : ( الخامس : أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجيّة الظّن الّذي لم يقم على عدم حجيّته دليل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٥ )

الوجه الخامس من وجوه التفصّي المزبور

أقول : قد تكرّر هذا الوجه للتّفصّي عن إشكال خروج القياس في كلام الشيخ المحقّق المحشّي في « هداية المسترشدين » المعلّقة على « المعالم » وفي كلام أخيه الشّيخ الفاضل في « فصوله » قدس‌سرهما واعتمدا عليه كمال الاعتماد ؛ من حيث

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٢٤.


إنّ نتيجة دليل الانسداد عندهما سواء كان جاريا في الفروع أو الأصول هي حجيّة الظّن القائم على حجيّة الأمارات القائمة على المسائل الفرعيّة وإن لم يحصل ظنّ منها بها.

وبعبارة أخرى : الحجّة عندهم بمقتضى دليل الانسداد الأمارات الّتي ظنّ حجيّتها وإن لم تفد الظّن الشّخصي في المسألة الفرعيّة. ومن المعلوم أنّ خروج القياس وأشباهه من هذه الكليّة ليس بعنوان التّخصيص ، بل التّخصّص والخروج عن موضوع حكم العقل ؛ حيث إنّه ممّا يعلم عدم حجيّته.

نعم ، يشكل الأمر عليهما فيما فرض قيام القياس المفيد للظّن على المسألة الأصوليّة كما قيل : إنّ الشّهرة المحقّقة يحصل منها الظّن الأقوى من الظّن الحاصل من خبر العادل ، فإذا فرض قيام الدّليل الظّني على حجيّته فيظنّ منها حجيّة الشّهرة من جهة القياس المذكور وهكذا.

ودعوى : أنّ القياس لا يحصل منه الظّن في المسألة الأصوليّة وإن سلم حصول الظّن منه في المسألة الفرعيّة ، شطط من الكلام لا ينبغي صدوره عن جاهل ، فضلا عن مثل هؤلاء الأعلام ، فالإشكال متوجّه عليهما لا محالة فلا بدّ من دفعه.

قال المحقّق المحشّي قدس‌سره ـ بعد نفي الخلاف في الطّريق إلى الأحكام الشّرعيّة وأنّه الظّن المطلق أو الظّنون الخاصّة وجملة كلام له في ذلك واختيار الثّاني ، ما هذا لفظه ـ :


« وقد يشكل (١) في القول الأوّل بأنّه إذا كانت قضيّة حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم حجيّة مطلق الظّن وقيامه مقام العلم لزوم القول به على الإطلاق فلا وجه لتخصيص بعض الظّنون وإخراجه عن العموم [ المذكور ] لقيام الدّليل عليه لما تقرّر من عدم ورود التّخصيص على القواعد العقليّة ، وإنّما يرد على العمومات اللّفظيّة والقواعد الشّرعيّة [ ونحوها ] ، فكما أن لا تخصيص في الحكم بحجيّة العلم كذا ينبغي أن يكون الحال هذه في الظّن القائم مقامه بعد انسداد سبيله.

وأنت خبير بأنّ الإشكال المذكور مشترك الورود بين القولين ؛ فإنّ القائل بحجيّة الظّنون الخاصّة يقول بأصالة عدم حجيّة الظّن وإنّه لا يقوم شيء من الظّنون حجّة في حكم العقل ، إلاّ ما قام الدّليل على حجيّته ، ففي ذلك أيضا التزام بالتّخصيص في القاعدة العقليّة. وقد عرفت الجواب عنه ممّا مرّ ، وإنّه ليس ذلك من التّخصيص في شيء ، وإنّما هو اختصاص في حكم العقل ؛ فإنّ مفاد حكم العقل هو عدم حجيّة كلّ ظنّ لم يقم دليل على حجيّته ، فالمحكوم عليه بحكم العقل هو الظّن الخالي عن الدّليل لا مطلقا ، وكذا الحال في القول الأوّل (٢).

فإنّ المحكوم عليه بالحجيّة هو الظّن الّذي لم يقم دليل على عدم حجيّته ، والظّن الّذي قام الدّليل على عدم حجيّته خارج عن الموضوع ، لا أنّه يخرج عنه بعد حكم العقل بحجيّة الظّن مطلقا حتّى يخصّص في حكم العقل.

نعم ، هو تخصيص بالنّسبة إلى ظاهر التّعبير ؛ حيث يعبّر بلفظ [ عام ] ثمّ

__________________

(١) كذا وفي المصدر : « وقد يستشكل ... إلى آخره ».

(٢) وفي متن الهداية « وكذا الحال في القول الثاني ».


يخرج عنه ذلك كما هو الحال في التّخصيصات الواردة على العمومات النّقليّة أيضا ، إذ ليس ذلك إلاّ بحسب ظاهر التّعبير دون الواقع إلاّ ما كان من التّخصيص البدائي ؛ فإنّه تخصيص بحسب الواقع ولا يجري في حكم العقل ولا في شيء من التخصيصات الواردة في الشّرع.

فظهر ممّا ذكرنا : أنّ ما ذكر من امتناع التّخصيص في الأحكام العقليّة إنّما يراد التّخصيص الواقعي ، وهو أيضا مستحيل في العمومات الشّرعيّة ، والتّخصيص في التعبير جائز في الصّورتين » (١). انتهى ما أردنا نقله من كلامه رفع مقامه.

وقال الشّيخ الفاضل في « الفصول » ـ بعد حكاية الوجوه الأربعة للتفصّي عن إشكال خروج القياس وأشباهه والنّظر فيها ما هذا لفظه :

« أقول : بل التّحقيق في الجواب أن يقال : انسداد باب العلم وبقاء التّكليف إنّما يقتضي حجيّة الظّنون الّتي لا دليل على عدم حجيّتها ، وهذا مطّرد في جميع موارده.

وبالجملة : فالعقل إنّما يحكم على العنوان الخاص ، لا أنّه يحكم على العنوان العام ، ثمّ يطرأ عليه التّخصيص. فالّذي يكشف عن ذلك : أنّ العقل لا يحكم بمجرّد انسداد باب العلم وبقاء التّكليف بجواز العمل بكلّ ظنّ حتّى بالظّنون الّتي علم عدم جواز التّعويل عليها ولو بعد انسداد باب العلم بل بما عدا ذلك من الظّنون المحتمل الحجيّة.

ومن هنا يظهر : أنّ القائل بحجيّة الظّن المطلق إنّما ينبغي له أن يقول بحجيّة

__________________

(١) هداية المسترشدين : ج ٣ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.


مطلق الظّن الّذي لا دليل على عدم حجيّته فيعتمد على كلّ ما لم يدلّ دليل على عدم حجيّته ممّا يفيد الظّن الفعلي بعد قطع النّظر عن معارضة ما ثبت عدم الاعتداد بمعارضته ».

ثمّ قال ـ في شرح القول فيما أجمله ولخصّه ما هذا لفظه ـ : « واعلم أنّا لو التزمنا بانسداد باب العلم مع بقاء التّكليف بها فلا يخلو أن نقول : بأنّ قضيّة ذلك عقلا وجوب العمل بالظّن فيها واقعا وحينئذ فيمتنع المنع من العمل ببعض الظّنون كالظّن القياسي وشبهه ، وإن قلنا بأنّ قضيّة ذلك وجوب العمل بالظّن ظاهرا لم يمتنع المنع من العمل ببعض الظّنون ؛ لقيام دليل على المنع كسائر الأحكام الظّاهريّة كالبراءة وشبهها وقد عرفت ممّا حققّنا أنّ حكم العقل بحجيّة الظّن هنا حكم ظاهريّ ، فلا إشكال في المنع عن العمل بالقياس وشبهه ، فيرجع في مورده بحكم العقل إلى الأقرب إلى الواقع من بعده ولو مع قطع النّظر عن القياس مثلا ، وإن لم يكن ظنّا فعليّا.

ويظهر من استشكال الفاضل المعاصر في إخراج الظّن القياسي والتجائه إلى منع حصول الظّن به تارة ، ومنع بطلان حجّيّته أخرى ، ونحو ذلك من الوجوه المتقدّمة توهّمه للوجه الأوّل وهو كما ترى.

وكيف كان : فالمعتبر على الأوّل كلّ أمارة مفيدة للظّن ، وعلى الثّاني كلّ أمارة من الأمارات الّتي لا دليل على عدم حجيّتها ، ولا أقرب منها في النّظر إلى إصابة الواقع ، بعد الإغماض عمّا ثبت عدم حجيّته سواء أفاد الظّن أو لا.

والفرق بين أن يعتبر الأمارات على أحد هذين الوجهين وبين أن يعتبر على وجه التّقييد : أنّ الأمارات المعتبرة على وجه التّقييد : لا يعتبر فيها إفادتها للظّن ولا


كونها أقرب في النّظر إلى الواقع ، وإن فرض حصوله فليس الحكم بالحجيّة منوطا به ، بل كان من المقارنات الاتفاقيّة كما في العمل بأصل البراءة والاستصحاب ، بخلاف الأمارات المعتبرة على أحد هذين الوجهين ؛ فإنّ حجيّتها منوطة بالوصف المعتبر فيها من الظّن والأقربيّة » (١) انتهى كلامه رفع مقامه.

ومراده من القسم الأوّل ، أي : كون وجوب العمل بالظّن حكما واقعيّا ليس ما جرى عليه الاصطلاح في الفرق بين الحكم الواقعي والظّاهري بقول مطلق ، بل مراده كون وجوب العمل من لوازمه بحيث لا يتخلّف عنه مطلقا كما هو الشّأن في العلم عنده وعند أخيه المحقّق المتقدّم ذكره ؛ حيث إنّهما التزما بكون العلم واجب العمل بحكم الشارع وكون وجوب العمل به من هذا القسم كما صرّح به الشّيخ المحقّق المحشّي فيما عرفت من كلامه المتقدّم ، وإن كان لهذا الفاضل كلام في قطع القطّاع يظهر منه كون حجيّة العلم مشروطة بعدم منع الشارع عنه كالظّن عرفته فيما حكاه شيخنا عنه في فروع العلم.

وتوضيح ما أفاده : أنّ حكم العقل بلزوم الأخذ بالظّن الشّخصي وعدم جواز العدول عنه إلى غيره من الظّنون النّوعيّة والشّك والوهم عند انسداد باب العلم ، كحكمه بلزوم الأخذ بالعلم وعدم جواز العدول عنه إلى غيره مطلقا ، ولو كان هو الظّن الشّخصي الاطمئناني عند التّمكن من تحصيل العلم بالواقع ، فكما أنّ حكم الشارع بجواز العدول عن تحصيل العلم والأخذ بغيره عند التّمكن من تحصيل العلم لا يكون تخصيصا لحكم العقل بحرمة العمل بغير العلم في زمان الانفتاح ،

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٢٨٥.


فكذا حكمه بإلغاء بعض الظّنون كالقياس ووجوب الأخذ بغيره اللاّزم من حكمه بإلغائه ليس تخصيصا لحكم العقل ، وإن حكم بعد حكم الشارع بإلغاء الظّن بوجوب تعيين الأخذ بما هو أقرب من غيره من الأمارات الكاشفة عن الواقع نوعا ، وإن ارتفع الكشف الفعلي عنها من جهة مقابلتها بالقياس.

وإن كان حكمه على وجه التّنجيز والإطلاق في الموضعين امتنع حكم الشارع بخلافه ، فلا بدّ أن يكون حكمه في الموضعين على وجه التّعليق والتّقييد حتّى لا ينافيه حكم الشارع.

فإن شئت قلت : إنّ الظّن في زمان الانسداد كالعلم في زمان الانفتاح في حكم العقل ، فإن لم يجز حكم الشارع بخلافه لم يجز في المقامين ، وإن جاز ، جاز فيهما ، فالتّفكيك لا معنى له.

هذا كلّه في حكم العقل بحرمة العمل بالظّن عند التّمكّن من تحصيل العلم من حيث لزوم تحصيل الواقع عند الإمكان ، فيكون حكمه بالحرمة إرشاديّا ؛ من حيث كون العمل بالظنّ في معرض فوت الواقع.

وأما حكمه بالحرمة من حيث قبح التشريع والافتراء على الشارع فهو وإن لم يكن إرشاديا إلا أنّه ليس ملازما لذات الظّن ، بل هو تابع لعنوان عدم العلم بورود التّعبّد من الشارع فيكون ترخيص الشارع للعمل رافعا لموضوع حكم العقل جدّا ، فلا يكون هناك تخصيص أصلا ، فليس العمل بالظّن من حيث هو قبيحا ذاتا في حكم العقل حتّى يكون حكم الشارع بحجيّته تخصيصا في حكم العقل.

نعم ، يتوجّه عليهما على الوجه الأوّل ؛ أنّهما لم يتعرّضا لوجه أخذ القيد الّذي ذكراه في موضوع حكم العقل في الموضعين ، فلا بدّ أن يكون حكمهما بجواز


سلوك الطّريق الظّن مع التّمكن من تحصيل الواقع لأحد أمرين : إمّا دوام مطابقة الأمارة للواقع ، أو ملاحظة مصلحة في الأمر بسلوك الأمارة يتدارك بها ما يفوت من جهة سلوكها من مصلحة الواقع ، على تقدير الخطأ ؛ لئلاّ يكون الأمر بسلوكها نقضا للغرض وتفويتا للواقع. نعم ، علم التكلّف بالأمر الأوّل مانع عن جعلها كما هو ظاهر. ومن هنا يحكم بحجيّة بعض الأمارات دون بعض مع الانفتاح.

وأمّا حكمه بعدم الحجيّة وإلغاء ظنّ في زمان الانسداد فلا بدّ أن يستند إلى أحد أمرين أيضا : أحدهما : غلبة مخالفته للواقع. ثانيهما : اشتمال سلوكه على مفسدة غالبة على مصلحة إدراك الواقع من سلوكه أحيانا ، فلا يلاحظ في حكمه على الأوّل إلاّ الإرشاد ، ولمّا كان حكم العقل بلزوم العمل بالظّن في زمان الانسداد وتقديمه على غيره من حيث كونه أقرب إلى إدراك الواقع ومصلحته فلا محالة يكون الظّن المخالف للواقع غالبا ، أو المشتمل على المفسدة ، خارجا عن موضوع حكم العقل ، فلا يكون خروجه تخصيصا في الدّليل العقلي هذا.

وستقف على شرح بعض ما ذكرناه فيما نذكره بعد ذلك.

(٣٩) قوله قدس‌سره : ( واستوضح ذلك من حكم العقل من حرمة العمل بالظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٦ )

أقول : واستوضح ذلك أيضا من الظّن الّذي علم اعتباره في زمان الانسداد ، لا من جهة دليل الانسداد ، بل من جهة قيام دليل عليه بالخصوص إذا فرض عدم كفايته في الفقه فيكون من الظّن الخاصّ ؛ إذ كما أنّ دليل الانسداد لا يشمل لهذا الظّن لحصول القطع بالبراءة من العمل به ولا يكون خروجه تخصيصا في الدّليل العقلي ، بل تخصّصا وخروجا عن الموضوع ، كذلك لا يشمل الظّن الّذي علم عدم


اعتباره من جهة قيام الدّليل عليه ، لحصول القطع بعدم البراءة من العمل به فلا يكون هناك ظنّ بالبراءة فلا يكون خروجه تخصيصا أيضا ، بل هو خروج عن الموضوع فتأمل.

(٤٠) قوله قدس‌سره : ( غرض (١) الشّارع من العمل ببعض الظّنون ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٧ )

مناقشة ما أفاده المصنف قدس‌سره

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّه على إطلاقه غير مستقيم لما ستعرف من كلامه ( طيّب الله رمسه ) في الوجه السّابع : من جواز النّهي عن بعض الظّنون على وجه الطّريقيّة إذا كان في علم الشارع أغلب مخالفة من الطّرف الموهوم ، بل يحكم العقل بعدم جواز سلوكه بعدم الاطّلاع على حاله بإخبار الشارع ، وليس في هذا تخصيصا في الدّليل العقلي أصلا ، حسبما بني عليه الأمر قدس‌سره وجعله من وجوه خروج القياس والشباهة ممّا نهى الشارع عنه من هذه الجهة عن الدّليل العقلي موضوعا وبعنوان التّخصّص.

والوجه فيه : أنّ لحوق الحجيّة للظّن في حكم العقل ليس لذاته ، أو لأمر راجع إليها ، بل من جهة أقربيّته إلى الواقع بالنّسبة إلى ما قابله وغلبة مطابقته له ، فإذا فرض علمه بفقدان هذه الجهة والعنوان الموجب لحكمه في بعض الظّنون من جهة كشف الشّارع العالم بالغيب عن حاله ، فلا محالة يكون خارجا موضوعا عن حكم العقل بحجيّة الظّن ؛ لأنّ المفروض لحوق الحجيّة في حكمه للأقرب إلى

__________________

(١) وفي الكتاب هكذا : فنهي الشارع ... إلى آخره.


الواقع الغير الصّادق على ما نهى الشارع عنه المنطبق على ما يقابله ، فيكون سلوكه ممنوعا في حكم العقل.

فظهر ممّا ذكرنا كلّه : أنّ توجيه ما أفاده الشّيخ المحقّق المحشّي وأخوه قدس‌سرهما من الوجه في التّفصي عن خروج ما علم عدم اعتباره مطلقا ، ليس منحصرا في أن يجعل النّهي عنه حتّى في زمان الانسداد كاشفا عن وجود مفسدة في سلوكه غالبة على مصلحة إدراك الواقع أحيانا على تقدير مطابقته له ، أو عن وجود مصلحة فيما قابله لجبر مفسدة فوت الواقع على التّقدير المزبور ، بل يمكن توجيهه على تقدير حمل النّهي على الطّريقيّة أيضا كما عرفته فافهم.

(٤١) قوله قدس‌سره : ( وحاصله : أنّ النّهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥٢٨ )

وجه رجوع ما أفاده الى التخصّص والخروج الموضوعي

أقول : قد عرفت الإشارة إلى رجوع ما أفاده إلى التّخصّص والخروج الموضوعي أيضا.

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« قد عرفت ممّا قدّمناه في تصحيح سلوك الأمارة في حال الإنفتاح التفصّي عن وجوه الإشكال كلّها بهذا الوجه ، وإن لم يخرج المصنّف عن عهدة ذلك هناك حين قراءتنا عليه الكتاب ، فلذا عدل عنه إلى المصلحة في الأمر بالسلوك وزاد لفظ « الأمر » وعلى ذلك كان عليه أن يعدل أيضا إلى المصلحة في النهي ههنا ، إلاّ أنه قبل أن يصل إلى هنا بحثه ، قضى نحبه وفاز إلى روح وريحان وجنّة ورضوان ». انتهى. أنظر درر الفوائد : ١٦٤.


والوجه فيه : أنّ حكم العقل بلزوم اتّباع الظّن في زمان الانسداد إنّما هو من جهة كونه أقرب إلى إدراك مصلحة الواقع من مقابله مع سلامته عن مزاحمة المفسدة الغالبة ؛ ضرورة أنّ المصلحة المزاحمة لا توجب تكليفا فعليّا على المكلّف وإن كان من شأنها الاقتضاء لو لا المزاحمة ، فالظّن الفاقد للجهة المذكورة والعنوان المزبور من حيث فرض المزاحمة فيه من جهة كشف النّهي الصّادر عن الشارع عنه ، خارج موضوعا عن العنوان التّقييدي الّذي لحقه حكم العقل بوجوب الاتّباع.

إذ كما أنّ أمر الشارع بالعمل بالظّن في زمان الانفتاح من حيث ملاحظة المصلحة المتداركة لمفسدة فوت الواقع ـ على تقدير مخالفته له ـ ليس تخصيصا في حكم العقل بحرمة العمل به من حيث الطّريقيّة في ذلك الزّمان ، بل تخصّصا ؛ من جهة كون حكمه عليه بالحرمة مبنيّا على ما يترتّب عليه من الوقوع في مفسدة فوت الواقع أحيانا مع تمكّن المكلّف من الفرار عنها بتحصيل العلم بالواقع. فإذا فرض هناك ظنّ ليس في العمل به على تقدير الخطأ هذه الجهة جاز العمل به في نظر العقل ولم يكن فيه تخصيص في حكمه بالحرمة أصلا ؛ ضرورة عدم لزوم الاحتراز عن المفسدة المتداركة.

كذلك نهيه عن العمل ببعض الظّنون في زمان الانسداد من جهة ملاحظة مفسدة غالبة على مصلحة الواقع على تقدير المصادفة أو وجود مصلحة في مقابله غالبة على مفسدة مخالفة الواقع ، ليس تخصيصا في حكم العقل بوجوب العمل بالظّن بالملاحظة المذكورة أصلا.

نعم ، الفرق بينهما من وجه لا ينافي ما ذكرنا : من عدم لزوم التّخصيص على


كلّ تقدير ؛ حيث إنّ حكم الشّارع بالعمل بالظّن في زمان الانفتاح يرجع إلى التّرخيص في الأخذ به والعمل عليه ، في قبال تحصيل العلم الّذي كان متعيّنا عليه في حكم العقل لو لا ترخيص الشارع الكاشف عن المصلحة المتداركة ، فيجوز له تحصيل العلم ورفع موضوع حكم الشارع بجواز العمل بالظّن.

وأمّا حكمه بترك سلوك الظّن ، فليس بعنوان التّرخيص وتجويز ترك العمل به ، بل بعنوان العزيمة والإيجاب ؛ حيث إنّه لا يتميّز عند المكلّف مورد خطأ الأمارة عن مورد صوابها ، فأخذه بما يقابلها ليس فيه محذور أصلا على تقدير خطأ الأمارة وصوابها.

أمّا على الأوّل فلإدراك الواقع ؛ لأنّ المفروض خطأ الظّن. وأمّا على الثّاني فلفرض وجود المصلحة المتداركة وهذا بخلاف أخذه بالظّن المنهيّ عنه ؛ فإنّه على تقدير الخطأ ليس هناك ما يتدارك به مفسدة فوت الواقع. ومن هنا صار الأخذ به حراما.

وأمّا العمل بالظّن في زمن الانفتاح فلا يمكن أن يصير واجبا تعيينيّا ؛ لأنّه يوجب الإعراض عن نفس الواقع حيث إنّ المفروض تمكّن المكلّف عن تحصيله.

فإن شئت قلت : إنّه كما لا يجوز للشارع النّهي عن العمل بالعلم بعد حصوله ، كذلك لا يجوز له النّهي عن تحصيله بعد فرض إرادة الواقع عن المكلّف.

وهذا مع وضوحه وعدم السترة فيه قد يناقش فيه ـ من جهة ما أسمعناك مرارا في طيّ كلماتنا السّابقة ـ : من أنّ العلّة الباعثة لحكم العقل بوجوب إطاعة المولى فيما أمر به أو نهى عنه ، ليست إلاّ دفع خوف المؤاخذة والعقوبة المترتّبة على المخالفة ، فالباعث المحرّك للإطاعة هو دفع الضّرر المترتّب على المخالفة ،


وأمّا إدراك الجهة الباعثة على أمر المولى والعنوان الّذي أوجب عليه إيجاب الفعل على العباد الّتي يعبّر عنها بالمصلحة ، أو اللّطف ، أو القرب ، أو غير ذلك من الغايات ، فليست موجبة في حكم العقل بوجوب الإطاعة بحيث يكون المطلوب في حكمه بوجوبها التّوصل إلى تلك الغايات ، فإذا كان الموجب لحكم العقل بوجوب الإطاعة هو ما ذكرنا من دفع العقاب ، وإسقاط التكليف ، وتحصيل فراغ الذّمّة ، فيكون حكمه بتعيين الإطاعة الظّنيّة فيما دار الأمر بينها وبين غيرها من الإطاعة الشّكيّة والوهميّة من جهة كون الأولى أقرب إلى إسقاط التّكليف ، وتحصيل الفراغ فحديث إدراكه المصلحة الكامنة في نفس الأفعال ، أو في العنوانات العارضة عليها أجنبيّ عن المقام لا تعلّق له به أصلا هذا.

ولكن يدفعه : أنّ الموجب لإيجاب العقل إطاعة أمر المولى والباعث على حكمه الإلزامي في باب الإطاعة ، وإن كان هو دفع العقاب وإسقاط التّكليف وتحصيل الفراغ ، ولا يحكم بوجوب تحصيل أزيد من ذلك ممّا كان داعيا لإطاعة الأجراء ، أو الأحرار ، إلاّ أنّ إدراك مصلحة الواقع لمّا استحال انفكاكه عقلا عن إدراك الواقع ، كما أنّ إدراك الواقع يستحيل انفكاكه في حكم العقل عن سقوط العقاب وفراغ الذّمّة مع فرض العلم يتعلّق الخطاب من الشارع ، فيصحّ أن يقال : إن حكم العقل بوجوب الأخذ بالظّن في زمان الانسداد إنّما هو من جهة إدراك مصلحة الواقع ظنّا ، المستلزم للظّن بالبراءة عقلا ، فلا تنافي إذن بين ما ذكرنا في هذا المقام في بيان وجه التّخصص والخروج الموضوعي لما تعلّق النّهي به من الظّنون في زمان الانسداد ، وما أسمعناك في كلماتنا السّابقة في وجه حكم العقل بوجوب الإطاعة فتدبّر.


لا يقال : ما ذكرته من المفسدة الغالبة محتمل في غير ما ورد النّهي عنه بالخصوص من الظّنون فلا يستقلّ العقل بحجيّته ، فيعود الإشكال من كون خروج بعض الظّنون موجبا لتوقّف العقل عن الحكم بوجوب الأخذ بجميعها فيكون في هذا كرّ على ما فرّ.

لأنّا نقول : مجرّد احتمال وجود المزاحمات لا يوجب وقوف العقل عن حكمه الإنشائي وإنّما الموجب له علمه بها لا مجرّد احتمالها ؛ لأنّ الأمر مع هذا الاحتمال أيضا دائر بين الإطاعة الظّنيّة والشّكيّة والوهميّة بحسب اختلاف مراتب الاحتمال قوّة وضعفا.

نعم ، لو فرض كون وجود المفسدة الغالبة مظنونا دخل في مسألة الظّن المانع والممنوع ، وستقف على حكمها فيما سيأتي ، وهذا أمر واضح لا إشكال فيه أصلا ، قد نبّهنا عليه غير مرّة.

وممّا ذكرنا تعرف استقامة ما أفاده قدس‌سره في الجواب عن السّؤال بتطرّق احتمال المفسدة في كلّ ظنّ ، فلا يستقلّ العقل في الحكم بحجيّته فيعود المحذور بقوله : « نعم ، ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل ... إلى آخره » (١).

(٤٢) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أن يقال : إنّ النّواهي اللّفظيّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٩ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ الاستدراك المذكور مبنيّ على الإغماض عن الوجه السّابع ، وانحصار المصحح للنّهي في زمان الانسداد في ملاحظة المفسدة والمصلحة وإن كانت الطّريقيّة ملحوظة أيضا ؛ ضرورة عدم استقامته مع صحّة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٢٨.


النّهي على وجه الطّريقيّة أيضا هذا.

وقد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّه إذا بني على التّصرّف في أكثر الأخبار الظّاهرة في ابتناء النّهي على الطّريقيّة الصّرفة من جهة وجود الصّارف العقلي ، فلا يتعيّن حملها على زمان الانفتاح ؛ لإمكان التّصرف فيها على وجه لا ينافي حكم العقل مع شمولها للزّمانين ، كما هو الظّاهر منها بأنّ المقصود منها الإرشاد إلى غلبة خلاف الواقع في القياس ، وبيان هذا الأمر المخفيّ وإن لم يكن علّة النّهي منحصرة فيها بل مركّبة منها ومن ملاحظة المفسدة كما نطقت به سائر الأخبار ، ففيه نوع من الجمع بين الأخبار مع إبقائها على ظاهرها وهو شمولها للزّمانين هذا.

وقد يتفصّى عن المناقشة المذكورة : بأنّ ظهور الأخبار في حصر علّة النّهي في الطّريقيّة وكثرة الخطأ في العمل بالعقول الظّنيّة ، أقوى من ظهورها في العموم ، فارتكاب التّخصيص أولى من التّصرّف في الحصر ، مضافا إلى ما ذكر في محلّه :من أنّ ارتكاب التّخصيص في العام عند دوران الأمر بينه وبين ارتكاب خلاف ظاهر آخر أوهن.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّها ظاهرة في القضيّة الطّبيعيّة الآبية عن التّخصيص ، ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام في رواية أبان بن تغلب « يا أبان إنّك قد أخذتني بالقياس وإن السّنة إذا قيست محق الدّين » (١) وإلى قوله عليه‌السلام في رواية أخرى : « إنّ دين الله لا يصاب بالعقول » (٢) وغيرهما؟ فهل يجوز حملها على زمان الانفتاح؟

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٧ / ٣٠٠ باب « الجراحات والقتل بين النساء » ـ ح ١ ، وعنه الوسائل :ج ٢٩ / ٣٥٢ باب « ان دية أعضاء الرجل والمرأة سواء » ـ ح ١.

(٢) كمال الدين وتمام النعمة : ٣٢٤ باب «٣١» ـ ح ٩ ، عنه مستدرك الوسائل : ح ١٧ / ٢٦٢


حاشا ثمّ حاشا فلا بدّ من الالتزام بأنّ اللاّزم المذكور وهو كون العمل بالقياس في معرض خلاف الواقع ، لا ينفك عن العمل به وإن كان الملحوظ في نهي الشارع هو مع شيء آخر وهو اشتمال سلوكه على مفسدة غالبة كما يكشف عنه سائر الأخبار فافهم.

(٤٣) قوله قدس‌سره : ( الوجه السّابع : هو أنّ خصوصيّة القياس ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٢٩ )

الوجه السابع من وجوه التفصّي المزبور

أقول : ما أفاده في كمال الوضوح لمن راجع أخبار الباب ، كما أنّ كون عنوان حكم العقل بحجيّة الظّن وتقديمه على الشّك والوهم ليس من حيث كونه ظنّا بل من حيث كونه غالب المطابقة والإيصال بالنّسبة إلى الواقع من الواضحات الّتي لا يحتاج إلى البيان.

فإذا فرض انكشاف فقد العنوان المزبور بالنّسبة إلى القياس وأشباهه بملاحظة الأخبار الكاشفة عن حالهما فلا محالة يحكم بخروجهما موضوعا عن حكم العقل بحجيّة الظّن ، فلا يلزم هناك تخصيص أصلا.

ومن هنا يحكم بعدم حجيّة جملة من الظّنون الّتي علمت غلبة مخالفتها بالنّسبة إلى الأحكام الشّرعيّة كالقرعة ، والاستخارة ، والرّمل ، والنّوم ، وظنّ غير أهل الخبرة ، ونحوها ، فإنّها بأسرها خارجة موضوعا عن حكم العقل.

ثمّ إنّ رفع اليد عن الواقع أحيانا وفي بعض الموارد والقضايا من جهة حفظ

__________________

باب « عدم جواز القضاء والحكم بالرأي » ـ ح ٢٥.


أكثر الوقائع عند الدّوران ، لما كان حسنا في حكم العقل نظير ارتكاب أقلّ القبيحين عند الدّوران فلا محالة يجوّز العقل نهي الشارع عن العمل بجميع جزئيّات الأمارة المخالفة للواقع كثيرا ، ولو بالنّسبة إلى الجزئي الّذي يظنّ كونه مطابقا للواقع من جهة الظّن بكون موارد المخالفة غير ما حصل الظّن فيه من الأمارة كما فيما ذكره من المثال في « الكتاب ».

فلا يتوهّم : أنّ ملاحظة هذا المعنى نوع من ملاحظة المصلحة في النّهي كمصلحة التّسهيل فيرجع هذا الوجه إلى سابقه ؛ حيث إنّ ملاحظة حفظ الواقع في موارد الأمارة المنهيّ عنها عين الطّريقيّة كما لا يخفى.

وليس ما يقابل الأمارة المنهيّ عنها أمرا واحدا دائما حتّى يقال : بأنّ ارتفاع الظّن منها غالبا من جهة كثرة الخطأ يوجب حصول الظّن ممّا يقابلها ، مع أنّه لا يقدح فيما نحن فيه بصدده من القول بحرمة العمل به حتّى في مورد حصول الظّن منه.

(٤٤) قوله قدس‌سره : ( ألا ترى أنّه يصحّ أن يقول الشّارع : ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣١ )

توهّم التدافع بين كلامي المصنّف والجواب عنه

أقول : قد يتوهّم التّدافع بين ما أفاده وما ذكره قبل ذلك عن قريب بقوله :« فإنّ الظّن ليس كالعلم ... إلى آخره » (١) بل بينه وبين ما أفاده من أوّل « الكتاب » إلى هذا المقام مرارا : من عدم إمكان نهي الشارع عن العمل بالعلم ، فإنّ مقتضى ما أفاده في المقام إمكان نهي الشارع عن العمل بالعلم بإظهار عدم إرادة المعلوم عن

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٣٠.


العالم. ومقتضى ما ذكره سابقا : عدم إمكان ذلك كما هو قضيّة صريحة هذا (١).

ويمكن دفعه : بأنّ المراد ممّا أفاده سابقا : من عدم الجواز إنّما هو بالنّظر إلى الواقع والمكلّف الملتفت بأنّ الله ( تعالى ) يريد الواقع منه ومن كلّ أحد.

والمراد ممّا أفاده في المقام : إنّما هو بالنّسبة إلى المكلّف الّذي لم يلتفت إلى ما هو المركوز في العقول : من عدم جواز عدم إرادة الواقع منه ، وقد صرّح قدس‌سره بما يستفاد منه هذا التّفصيل في أوّل « الكتاب » في فروع اعتبار العلم فراجع هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده : من الفرق بين العلم والظّن ـ حيث لا يجوز تكليف المكلّف على خلاف مقتضى الأوّل واقعا ويجوز تكليفه على خلاف مقتضى الثّاني واقعا بإظهار عدم إرادة الواقع منه ـ :

بأنّه إن جوّز في حكم العقل إعراض الشارع عن الواقع في مادّة من المواد لأجل مصلحة ترجع إلى المكلّف فلا يفرّق فيه بين أن يعلم المكلّف بالواقع أو ظنّ به وإن لم يجوّزه فلا يفرق فيه أيضا بين أن يعلم به أو يظنّه حيث إنّ الظّن كالعلم في زمان الانسداد في نظر العقل حسبما صرّح به قدس‌سره في غير موضع من كلامه ، فالتّفصيل لا وجه له.

وأنت خبير بفساد المناقشة المذكورة ؛ لوضوح الفرق بين العلم والظّن في التّجويز المذكور ؛ لأنّ نهي الشارع عن العمل بالعلم يكون مناقضا لما جعله في الواقعة المعلومة وهذا بخلاف الظّن فإنّ النّهي عن العمل به لا يكون مناقضا لما جعله في الواقعة في نظر الظّان أصلا ، غاية ما هناك حكم العقل بحجيّة الظّن عند

__________________

(١) أنظر حاشية فرائد الأصول تقرير بحث السيّد اليزدي : ج ١ / ٦٤٧.


انسداد باب العلم كحكم الشارع بها عند الانفتاح ، وهذا لا يوجب اعتباره الذّاتي حتّى يمنع نهي الشارع عن العمل به كالعلم ، فالمراد من كون الظّن في زمان الانسداد كالعلم في حكم العقل كونه ملحقا به في الحجيّة من غير فرق بين خصوصيّاته لا كونه ملحقا به في كيفيّة الحجّيّة.

القطع غير قابل لتصرّف الشارع بخلاف الظّنّ

والحاصل أنّا ذكرنا غير مرّة : أنّه لا يجوز للشارع النّهي عن العمل بالعلم فيما يترتّب الحكم الشّرعي على المعلوم لرجوعه إلى التّناقض في نظر العالم ؛ لأنّه بمجرّد العلم بالواقع مع ثبوت الحكم له يرتّب قياسا فيقطع منه بحكم الشارع فيكون النّهي عن العمل به مناقضا له في نظره لا محالة ، وهذا بخلاف الظّن ؛ فإن المكلّف لا يتمكّن معه من ترتيب القياس والقطع بالنّتيجة حتّى يكون النّهي عن العمل به مناقضا له ، غاية الأمر : أنّه إذا قام هناك دليل على اعتباره يحكم بوجوب الأخذ به ومتابعته من غير فرق بين أن يكون دليل الانسداد أو غيره ، ومن هنا جعلنا الأصل فيه عدم الحجيّة والاعتبار.

فإن شئت قلت : إنّ إلحاق الظّن بالقطع فيما يترتّب عقلا على صفة القطع من الاعتبار الّذاتي النّفسي ، غير معقول وإن كان ملحقا به في عدم الفرق بين خصوصيّاته إذا دلّ دليل اعتباره عليه.

وبعبارة أوضح : نهي الشارع عن العمل بظنّ في زمان الانسداد كإذنه في ارتكاب بعض أطراف الشّبهة المحصورة ، ونهيه عن العمل بالعلم التّفصيلي كإذنه في ارتكاب جميع الأطراف فيها ، فكما أنّ الأوّل لا إشكال في جوازه ، كذلك


الثّاني لا إشكال في عدم جوازه ، بل العلم التفصيلي أولى بعدم جواز النّهي عنه من العلم الإجمالي كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ معنى إعراض الشارع عن الواقع في مورد الظّن ليس رفع يده عن الحكم الواقعي ، أو رفعه في نفس الأمر ، كما أنّ حكمه بحجيّته ليس معناه إثبات الواقع في مورده في نفس الأمر ، بل معذوريّة المكلّف في مخالفة الواقع على تقدير مصادفة الظّن له ، فالحكم الواقعي باق على حاله وإنّما المرتفع بحكم العقل الحكم الفعلي وتنجّز الخطابات الواقعيّة الّذي ليس من مجعولات الشارع حقيقة ، فإذنه في مخالفة الظّن ، نظير إذنه في ارتكاب الشّبهات الابتدائية ، فكما أنّ إذنه هناك ظاهرا لا يلازم رفع الحكم الواقعي وإنّما يلازم المعذوريّة في مخالفته على تقدير وجود الحكم الإلزامي في مورده ، كذلك إذنه في المقام فافهم.

ثمّ إنّ رجوع ما ذكره من الوجه إلى التّخصّص ـ على ما عرفت الإشارة إليه ـ ظاهر ؛ ضرورة أنّ وجوب العمل بالظّن في حكم العقل وتقديمه على غيره إنّما هو من حيث كونه أقرب إلى الواقع وغالب الإيصال بالنّسبة إليه فإذا فرض انتفاء هذا المناط والعنوان الّذي يكون موضوعا في حكم العقل بالحجيّة في ظنّ ولو من جهة انكشاف حاله من إخبار الشارع العالم بالغيب فلا محالة يكون خروجه خروجا موضوعيّا وهو معنى التخصص.

والقول بتطرّق احتمال هذا المناط والعنوان في سائر الظّنون من جهة احتمال غلبة مخالفة الواقع فيها فلا يستقلّ العقل بحجيّتها ، قد عرفت فساده مرارا.

ثمّ إنّه قد يستشكل فيما أفاده أيضا : بأنّه كيف يجامع العلم الإجمالي بغلبة مخالفة القياس بالنّسبة إلى الواقع من بين الأمارات القائمة عليه مع حصول الظّن منه بالواقع كثيرا؟


فإن فرض مورد العلم بغلبة مخالفة الواقع الأفراد الّتي لا يحصل الظّن منها فهو لا يوجب رفع اليد عمّا يحصل الظّن منه لوجود المناط العقلي فيه كما هو المفروض.

وإن فرض مورده تمام الأفراد أو خصوص ما يحصل الظّن منه ، فكيف يجامع حصول الظّن منه؟

ولكنّك خبير بعدم توجّه هذا الإشكال عند التّأمل ؛ لأنّا نقول : إنّ العلم الحاصل من الأخبار بغلبة مخالفة الواقع في القياس إنّما هو بالنّسبة إلى جميع أفراده وهي كانت مفيدة للظّن من دون ملاحظة الأخبار الكاشفة عن حال القياس ، وأمّا بملاحظتها فيرتفع الظّن من كثيرها.

ومن هنا ذكر قدس‌سره سابقا : أنّ هذه الأخبار وإن لم توجب ارتفاع الظّن الحاصل من القياس دائما ، إلاّ أنّها موهنة قوية توجب ارتفاع الظّن الحاصل منها في ابتداء النّظر والأمر غالبا ، وأمّا إذا حصل الظّن منه في مورد أو موارد قليلة فيحكم ظنّا بأنّ القياس المخالف للواقع هو غيره نظير الظّن الحاصل من الغلبة مع العلم الإجمالي بالمخالفة.

ومن هنا يحصل الظّن من الأمارات الشّرعيّة مع العلم بمخالفة بعضها للواقع في الجملة فافهم.

ثمّ إنّه بقي هنا شيء ينبغي التّنبيه عليه : وهو أنّ ما أفاده قدس‌سره بالنّسبة إلى الوسواسيّ العالم ـ على ما عرفت توضيحه وشرحه ـ إنّما هو فيما إذا قلنا بمانعيّة النّجاسة مثلا بالنّسبة إليه ، وأما إذا قلنا بارتفاع مانعيّتها في حقّه ، فليس هنا تكليف بخلاف الواقع أصلا.


وهكذا بالنّسبة إلى جميع ما له دخل في العبادة شطرا أو شرطا ؛ فإنّه لا مضايقة من القول بعدم اعتباره في حقّ الوسواسي فيه حسما لمادّة وسواسه ورفع مرضه المضرّ بحاله ، فلا مضايقة من القول : بأنّ الوسواسيّ في القراءة لا يعتبر في حقّه القراءة المعتبرة في حقّ غيره من الأصحّاء ، كما لا يعتبر في حقّ من لا يحسن القراءة لخلل في مخارج حروفه أو عجزه عن تحصيله مع ضيق الوقت ، وهكذا.

فليس تكليفه بخلاف الواقع حتّى لا يمكن النّهي في حقّه إلاّ مع فرض غفلته عن استحالة الأمر بخلاف الواقع فتدبّر.

(٤٥) قوله قدس‌سره : ( ذهب (١) بعض مشايخنا إلى الأوّل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٢ )

حكم الظنّ المانع والممنوع

أقول : الكلام في هذا المقام قد يقع : في أنّه كيف يمكن حصول الظّن بعدم حجيّة ما قضى الدّليل العقلي القطعي بحجيّته؟ ضرورة عدم إمكان اجتماع احتمال عدم الحجيّة مع حكم العقل القطعي ولو كان موهوما فضلا عمّا إذا كان مظنونا.

وقد يقع في أنّه على فرض الإمكان بأحد الوجوه المتقدّمة في مسألة القياس ، كيف يتأمّل في المسألة؟ وهل الحقّ أيّ وجه من الوجوه الّتي أشار إليها في « الكتاب »؟

أمّا الكلام فيه من الجهة الأولى :

فملخّصه : أنّه إذا فرض إمكان اجتماع القطع بعدم الحجيّة مع حكم العقل

__________________

(١) انظر ضوابط الأصول : ٢٦٧.


بحجيّة الظّن فاجتماع الظّن بعدم الحجيّة معه أولى بالإمكان والتّصور ، فيتصور إمكان اجتماعهما بأحد الوجوه المتصوّرة في التّفصي عن إشكال خروج القياس والنّهي عن العمل به في الشّرعيّات حتّى في زمان الانسداد وقضاء العقل بحجيّة الظّن على سبيل القضيّة الكليّة.

وأمّا الكلام فيه من الجهة الثّانية :

فحاصله : أنّ الكلام فيها إنّما يقع على تقدير القول بتعميم النّتيجة بالنّسبة إلى المسائل الأصوليّة والفقهيّة ؛ إذ على التّخصيص بالأولى لا يحكم إلاّ بحجيّة ما قام الدّليل الظّني على حجيّته ، فما لم يقم على حجيّته دليل ظنّي خارج عن تحت الدّليل العقلي وباق تحت الأصل الأوّلي سواء ظنّ عدم حجيّته أو شك فيه فإلقاء ما ظنّ عدم حجيّته ليس مستندا إلى الظّن بعدم حجيّته.

حتّى يتوجّه عليه : بأنّ العلم الإجمالي بوجود الحجج الشّرعيّة لا يقتضي في حكم العقل بحجيّة الظّن القائم بعدم الحجيّة وإن كان ظنّا بأحد طرفي المسألة الأصوليّة ، حيث إنّ مقتضى الدّليل المذكور إذا جرى في مسألة ، أيّ مسألة كانت هو حجيّة الظّن القائم بتعيين الحكم المعلوم بالإجمال في تلك المسألة ، وإن كان بناء القائلين بحجيّة مطلق الظّن على خلاف ذلك.

نعم ، يقع الإشكال على هذا القول فيما إذا قام القياس ، أو أمارة ظنّ إلحاقها به ، على حجيّة أمارة لا يفيد الظّن بالمسألة الفقهيّة فيتفصّى عنه بما عرفت الكلام فيه مفصّلا بالنّسبة إلى ما قام القياس على حجيّته فيحكم بخروجه موضوعا عن حكم العقل بما عرفت تفصيله. وأمّا بالنّسبة إلى ما قام عليه ما ظنّ إلحاقه بالقياس فربّما يقع الكلام في الأخذ به من حيث عدم حصول الظّن بالبراءة من سلوكه مع


فرض الظّن بحجيّته ممّا يظنّ إلحاقه بالقياس فتدبّر.

وأمّا على التّخصيص بالثّانية ، أي : المسائل الفقهيّة الّذي ذهب إليه المحقّق الشّريف (١) شيخ شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سرهما فقد اختار تعيّن العمل بالممنوع من جهة عدم اقتضاء دليل الانسداد حجيّة المانع حتّى يشكل الأمر من جهة الأخذ به والممنوع بعد عدم إمكان الأخذ بهما وتدافعهما على ما ما هو الشّأن على القول بتعميم النّتيجة هذا.

ولكن قد يناقش فيه : بأنّ المانع وإن لم يكن على هذا القول مشمولا لدليل الانسداد ، إلاّ أنّه يوجب انتفاء مناط الحجيّة عن الممنوع ؛ حيث إنّ حكم العقل بحجيّة الظّن ليس من حيث إنّه ظنّ ، وإلاّ استحال اجتماعه مع الظّن بعدم الحجيّة ، بل من حيث غلبة مطابقته للواقع ، أو من حيث إدراك المصلحة الأوّليّة بسلوكه على الوجهين اللّذين عرفت شرح القول فيهما. فإذا ظنّ بعدم حجيّة ظنّ فلا محالة يظنّ بغلبة مخالفته للواقع ، أو وجود المفسدة في سلوكه ، فلا يحصل منه الظّن بإدراك الواقع ومصلحته في غالب الموارد ، فيلزم من المانع انتفاء مناط الحجيّة من الممنوع فيكون ملحقا بالقياس حكما ، غاية ما هناك حصول الظّن من الممنوع بإدراك المصلحة ، لكن مع الظّن بمزاحمته بالمفسدة المظنونة لو لم يمنع المانع من الظّن بغلبة إدراك الواقع وإلاّ لم يحصل منه الظّن بإدراك الواقع غالبا في موارد وجوده فلا يحصل منه الظّن بإدراك مصلحة الواقع فافهم.

هذا كلّه على القول بتخصيص النّتيجة بإحدى المسألتين.

__________________

(١) أنظر ضوابط الأصول : ٢٦٧.


وأمّا على القول بالتّعميم ـ كما اختاره شيخنا قدس‌سره وفاقا لجمع من المحقّقين ـ فهل يحكم بتقديم المانع بمعنى دخوله تحت الدّليل وخروج الممنوع منه ، أو الممنوع بالمعنى الّذي عرفته ، أو التّساقط بمعنى عدم شمول الدّليل لشيء منهما ، أو الأخذ بالأقوى منهما ولو بحسب الموارد إن كان هناك قوّة لأحدهما ، وإلاّ فيحكم بالتّساقط بالمعنى الّذي عرفته؟ وجوه ، أوجهها وأقواها عند شيخنا قدس‌سره : الأخير.

ويظهر من « الكتاب » : أنّ محلّ الوجوه الّتي ذهب إلى كلّ منها فريق مجموع الأقوال والوجوه بالنّسبة إلى دليل الانسداد من حيث اختصاصها بالمسائل الفقهيّة ، أو الأصوليّة ، أو التّعميم وعدم الاختصاص بشيء من المسألتين. فيستفاد منه : أنّه لا يجري تمام الوجوه على القول بالتّعميم.

ولكنّك خبير بإمكان جريان الوجوه بأسرها على القول بالتّعميم ؛ أمّا التّساقط من حيث تنافي الفردين وعدم إمكان الحكم بشمول الدّليل لأحدهما معيّنا لأجل انتفاء المرجّح فيلزم الحكم بخروجهما عنه.

وأمّا الأخذ بالأقوى فظاهر ، وأمّا تعيّن الأخذ بالمانع فلما حكاه في « الكتاب » عن بعض من وافقه في القول بتعميم النّتيجة حقيقة أو مماشاة : « من حكومته على الممنوع من حيث كونه دليلا على عدم حجيّته ، حيث إنّه مفاده بخلاف الأخذ بالممنوع ، فإنّه موجب لطرح المانع من دون دليل ... إلى آخر ما ذكره » (١).

وأمّا تعيّن الأخذ بالممنوع وعدم جواز الأخذ بالمانع من حيث إن الأخذ بالظّن في المسألة الأصوليّة إنّما هو فيما قام على حجيّته شيء وحصول البراءة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٣٣.


عن الواقع بسلوكه ، لا فيما إذا قام على عدم حجيّة شيء ، فإنّه لا يوجب الظّن بالبراءة أصلا.

ودعوى : كون الظّن بعدم الحجيّة ملازما للظّن بحجيّة ما يقابل الممنوع من الأصول والأمارات ، قد عرفت فسادها فتأمل.

(٤٦) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أوّلا : أنّه لا يتمّ فيما إذا كان الظّن المانع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٤ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره :

بأنّه أيّ فرق في مفاد الدّليل الّذي أقامه على لزوم الأخذ بالمانع بين متّحدي الجنس ومختلفيه؟ فإنّه إن تمّ ما ذكر لم يكن فرق بينهما ، وإلاّ فلا فرق أيضا ؛ حيث إنّ الأمارتين وإن كانتا متحدتين من حيث الجنس ، إلاّ أنّ المورد مختلف متعدّد ، فيمكن التّفكيك بحسب الاعتبار.

وإن كان الوجه فيما أفاده استبعاد التّفصيل والفرق.

ففيه : أنّ مجرد الاستبعاد على تقدير تسليمه لا يجدي مانعا للفرق.

وإن كان الوجه فيه عدم الاطّلاع على قول من الأصحاب بالتّفصيل والفرق بل عدم تفصيلهم بينهما من حيث الظّن الخاصّ.

ففيه : أنّه لا يمنع أيضا بعد قضاء الدّليل العقليّ القاضي بحجيّة مطلق الظّن بالفرق والتّفصيل.

وإن كان الوجه فيه حكم العقل بعدم إمكان الفرق والتّفصيل في الفرض من حيث إنّ حجيّة المانع في الفرض مستلزمة لعدمها وهو محال في حكم العقل ؛


ضرورة استحالة تأثير الشيء وجودا في عدمه.

ففيه : أنّ هذا الوجه وإن كان له وجه وقد صرّح به قدس‌سره في مجلس البحث وجعله وجها لما أفاده من الجواب الأوّل ، لكنّه خلاف ظاهر العبارة ؛ لأنّ الظّاهر منها نفي الفرق بين المانع والممنوع في الحكم فيما كانتا متّحدي الجنس لا إثبات الفرق والحكم باعتبار الممنوع ليس إلاّ ؛ إذ لازم الاستناد إلى الوجه المذكور ثبوت الفرق المزبور ؛ ضرورة أنّه بعد الحكم باستحالة شمول دليل الانسداد للظّن المانع ؛ من حيث إنّ شموله موجب لعدم تعيّن الحكم بدخول الممنوع تحت الدّليل ؛ حيث إنّه لا مانع لشمول الدّليل له بعد فرض خروج المانع عنه لانحصار المانع فيه ، وهذا معنى ما ذكرنا من استلزام الوجه المذكور للفرق من جانب العكس ولا يساعده العبارة قطعا هذا.

مع أنّ الحكم بتقديم الظّن الممنوع في الفرض بقول مطلق على ما هو لازم الوجه المزبور على ما عرفت ، مناف لما سيذكره في طيّ الجواب عن الوجه الثّاني للقول بعدم اعتبار الظّن في المسائل الأصوليّة من حيث استلزام وجوده عدمه ؛ من جهة أنّ المشهور ، بل المنقول عليه الإجماع ، عدم حجيّة الظّن في المسألة الأصوليّة ، وهو ظنّ في المسألة الأصوليّة.

فلو كان الظّنّ في المسألة الأصوليّة حجّة لزم ما ذكرنا من الأمر المحال : من استلزام الوجود للعدم من أنّ الشّهرة على فرض تحقّقها وحصول الظّن منها لا تصير دليلا على عدم اعتبار الظّن في المسألة الأصوليّة ؛ غاية الأمر دخول الظّن الحاصل منها مع الظّن الممنوع في الظّن المانع والممنوع.

فلا بدّ من أن يراعى حكمه من تقديم الأقوى لا تقديم المانع ، فإنّه كما ترى ،


مناف لما أفاده في المقام ، وإن كان منظورا فيه من حيث إنّ الظّن الحاصل من الشّهرة بعدم اعتبار الظّن في المسألة الأصوليّة وإن كان ظنّا في المسألة الأصوليّة ، لكن لا يمكن شمول الدّليل له ؛ لأنّ من اعتباره يستلزم عدم اعتباره فلا يصلح مانعا لاعتبار الظّن في المسألة الأصوليّة فيدخل تحت الدّليل ، فبمثله ينبغي أن يجاب لا بما أفاده فافهم وتأمّل وانتظر لتمام الكلام فيما يتلى عليك بعد هذا إن شاء الله.

(٤٧) قوله قدس‌سره : ( وثانيا : أنّ الظّن المانع ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٤ )

تتمّة الكلام في الظنّ المانع والممنوع

أقول : تحقيق المقام وتوضيحه على وجه يظهر منه اندفاع توهّم الفرق الّذي توهّمه البعض المتقدّم ذكره لشمول الدّليل للظّن المانع دون الممنوع بناء على الوجه الخامس من وجوه التفصّي عن إشكال خروج القياس وأشباهه من دليل الانسداد : من كون الموضوع فيه الظّن الّذي لم يقم دليل على عدم حجيّته بحيث يظهر منه فساد قياس المقام بالحاكم والمحكوم من الاستصحابين :

هو أنّ الظّن الممنوع مع قطع النّظر عن دليل الانسداد ، ليس ممّا قام دليل على عدم حجيّته قطعا ، وإن كان ممّا قام ظنّ غير معتبر على عدم حجيّته ، وهو الظّن المانع باعتراف الخصم المتوهّم للفرق. وإنّما يدخل فيما قام دليل على عدم حجيّته بملاحظة دليل الانسداد حسبما توهّمه ، فإذا لم يدخل في العنوان المذكور مع قطع النّظر عنه ، بل دخل فيما لم يقم دليل على عدم حجيّته فيشمله الدّليل ، كما يشمل الظّن المانع أيضا ؛ من حيث وجود مناط حكم العقل بحجيّته وعنوانه في


كلّ منهما ، وشموله لهما جميعا غير ممكن من حيث تنافيهما ولو من حيث شمول الدّليل ، وإن كان الممنوع ليس له تعرّض في نفسه للمانع ؛ فإنّ شموله للمانع يلازم عدم شموله للمنوع ؛ حيث إنّ مدلوله عدم حجيّة الممنوع ، وشموله لممنوع أيضا يلازم عدم شموله للمانع من حيث استلزام شموله لعدم حجيّة ما يمنع عنه ، فيلزم عدم شموله ومجرّد كون مدلول المانع عدم حجيّة الممنوع مطابقة ، وكون مدلول الممنوع عدم حجيّة المانع التزاما بملاحظة دليل الانسداد لا يجدي فرقا بعد فرض كون الدّليل عقليّا تابعا لوجود مناط الحكم في أفراد موضوعه كما هو ظاهر.

فلا بدّ أن يتبع حكمه في المتنافيين من الفردين عنوانا صادقا على أحدهما كالأقوى على تقدير وجود القوّة لأحدهما ، وإلاّ فيحكم بتساقطهما بمعنى عدم شمول الدّليل لشيء منهما ، فكما أنّ شموله للمانع يوجب دخول الممنوع فيما قام الدّليل القطعي على عدم حجيّته بالنّظر إلى قضاء الدّليل لحجيّة مطلق الظّن وإن تعلّق بالمسألة الأصوليّة كذلك شموله للممنوع موجب لدخول المانع في العنوان المذكور ؛ نظرا إلى ما عرفت من الاستلزام ولا ترتّب في الشّمول أصلا ولا دوران ؛ لأنّ حكم العقل من لوازم وجود موضوعه ، والمفروض كون كلّ منهما ظنّا لم يقم دليل على عدم حجيّته مع قطع النّظر عن دليل الانسداد هذا.

فإن شئت قلت : إنّ جعل دليل الانسداد مانعا عن شموله للممنوع دوريّ ؛ حيث إنّ عدم شموله له يتوقّف على كونه ممّا قام الدّليل على عدم حجيّته وتحقّق العنوان المذكور بالنّسبة إليه يتوقّف على نفس الدّليل المذكور ؛ لأنّ المفروض انحصار الدّليل فيه ، فيلزم ما ذكرنا من الدّور الباطل ، ولا يقاس المقام بما إذا كان الشّك في مجرى أحد الأصلين مسبّبا عن الشّك في مجرى الآخر كما في


الإستصحابين على ما عرفته من المتوهّم من قياس المقام به.

أمّا أوّلا ؛ فلأنّ الشّك في حجيّة الممنوع ليس مسبّبا عن الشّك في حجيّة المانع ، بل مسبّب عن الشّك في قيام الدّليل على حجيّته غاية الأمر كون القطع بحجيّة المانع موجبا للقطع بعدم حجيّته ، كما أنّ القطع بحجيته موجب للقطع بعدم حجيّة المانع فتأمل.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ الحكم بتعيين دخول الحاكم تحت عموم حرمة النّقض وخروج المحكوم عنه إنّما هو من جهة دوران الأمر بين التّخصيص والتّخصّص في العموم اللّفظي ، فيكون نفس العموم القاضي بإرادة تمام الإفراد عن العام اللّفظي ما لم يقم هناك قرينة على الخلاف قاضيا بتعيّن الثّاني.

وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّه ليس هنا عموم لفظيّ شك في المراد منه حتّى يتعيّن بملاحظة الدّوران المذكور ، بل التّحقيق : أنّه على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظّن أيضا بتعيين القول بحجيّة الحاكم ؛ نظرا إلى كون الحالة السّابقة في المحكوم من جهة كون شكّه معلولا للشّك في الحاكم غير مؤثّر في الظّن أصلا بعد فرض وجود ما يوجب بالخلاف في طرف الحاكم على ما ستقف على تفصيل القول فيه في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : ما في الاستدراك الّذي أفاده قدس‌سره بقوله : « إلاّ أن يقال :إنّ القطع بحجيّة المانع عين القطع بعدم حجيّة الممنوع ... إلى آخره » (١).

فإنّه يتوجّه عليه ـ مضافا إلى كونه عين ما ذكره الخصم واستند إليه فلا

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٣٥.


مورد للاستدراك ـ : أنّ هذا المقدار من الفرق وهو كون القطع بحجيّة المانع عين القطع بعدم حجيّة الممنوع ؛ حيث إنّه مدلوله بالفرض ، وكون القطع بحجيّة الممنوع مستلزما للقطع بعدم حجيّة المانع وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّه لا يجدي في المقام بحيث يحكم من أجله بدخول المانع تحت الدّليل وخروج الممنوع عنه موضوعا من حيث قيام الدّليل القطعيّ على عدم حجيّته ، فإنّ الظّن المانع من حيث هو ليس دليلا قطعيّا حتّى يوجب القطع بعدم حجيّة الممنوع وإنّما هو دليل بملاحظة شمول دليل الانسداد له والممنوع بهذه الملاحظة أيضا دليل على عدم حجيّة المانع فيدخل فيما قام الدّليل على عدم حجيّته فيخرج عن دليل الانسداد كما توهّم في جانب العكس.

وقد عرفت بما لا مزيد عليه : أنّ الدّليل المخرج للظّن عن موضوع دليل الانسداد لا بدّ أن يكون أمرا خارجا عنه قائما عليه مع قطع النّظر عنه ، وإلاّ فيلزم الدّور الّذي لا محيص عنه على ما أسمعناك مفصّلا.

فإن شئت قلت : إن الدّليل القطعي الّذي يخرج الظّن موضوعا عن دليل الانسداد لا يمكن أن يثبت قطعيّته من نفس هذا الدّليل لاستحالة التّرجيح بلا مرجّح ، بل لا بدّ أن يثبت قطعيّته من دليل آخر كالإجماع القائم على حرمة العمل بالقياس مثلا هذا.

مضافا إلى ما أفاده قدس‌سره : من أنّه لا معنى للتّرديد والدّوران في حكم العقل ؛ ضرورة أنّ الحاكم لا يمكن أن يكون مردّدا في حكمه لا يدري بأيّ شيء يحكم وإلاّ لم يكن حاكما ، فلا بدّ من أن يعيّن مورد حكمه من أوّل الأمر لا أن يعيّنه بملاحظة التّرديد والدّوران الموجب للتّرديد في الحكم ، وإنّما يتصوّر التّرديد


والدّوران بالنّسبة إلى غير الحاكم كترديدنا فيما أراده الشارع من ألفاظه العامّة ، فإنّه يمكن استخراج مراده واستنباطه بملاحظة التّرديد والدّوران بين التّخصيص والتخصّص على ما عرفت الإشارة إليه في شأن الحاكم والمحكوم من الاستصحابين فيتمسّك بعموم قوله : « لا تنقض اليقين بالشّك » (١) على خروج الثّاني ودخول الأوّل كما يستكشف حال زيد في قول المولى : « لا تكرم زيدا » إذا كان مردّدا بين العالم والجاهل من قول المولى « أكرم كلّ عالم » فافهم ، فليته أبدل قوله : « فافهم » عقيب ما أفاده بقوله : « فتأمل ».

(٤٨) قوله قدس‌سره : ( والأولى أن يقال : إنّ الظّن بعدم حجيّة الأمارة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٦ )

أقول : الظّن بعدم حجيّة الممنوع كما يمكن أن يكون على وجه الموضوعيّة واشتمال سلوكه على مفسدة غالبة على ما عرفت في الوجه السّادس من وجوه التّفصّي عن إشكال خروج القياس وأشباهه ، كذلك يمكن أن يكون على وجه الطّريقيّة وكشف المانع ظنّا عن غلبة مخالفته للواقع على ما عرفته في الوجه السّابع من وجوه التّفصّي عن إشكال خروج القياس ، فلا ينحصر إمكان تعلّق الظّن بعدم الحجيّة في زمان الانسداد في الوجه الأوّل فافهم.

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٣ / ٣٥٢ باب « السهو في الثلاث والأربع » ـ ح ٣ ، عنه الوسائل : ج ٨ / ٢١٧ باب « ان من شك بين الثلاث والأربع ... » ـ ح ٣.


(٤٩) قوله قدس‌سره : ( هذا إذا لم يكن العمل بالظّن المانع سليما عن محذور ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٦ )

أقول : المراد أنّ محل الأخذ بالأقوى من المانع أو الممنوع أو التّساقط في مورد التّساوي إنّما هو فيما أوجب الأخذ بالمانع ترك العمل بالممنوع ، كما إذا خالف الممنوع الاحتياط في المسألة الفقهيّة.

وأمّا إذا لم يوجبه كما إذا وافق الاحتياط في المسألة الفقهيّة كما إذا فرض قيامه على جزئيّة ما شك في جزئيّته على القول بوجوب الاحتياط فيما تردّد المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ، فهو خارج عن محلّ الكلام المزبور ؛ حيث إنّ نتيجة الأخذ بكلّ واحد منهما واحدة فإنّ الأخذ بالمانع معناه في الفرض الأخذ بالاحتياط فيتّحد مع الأخذ بالممنوع فتأمل.

* * *


* التنبيه الثالث

لو حصل الظن بالحكم من أمارة متعلّقة بالفاظ الدليل

(٥٠) قوله قدس‌سره : ( ثمّ إنّ الظّن المتعلّق بالألفاظ على قسمين ذكرناهما في بحث حجيّة الظّواهر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٧ )

أقول : المراد من ذكر القسمين المذكورين في المقام في بحث حجيّة الظّواهر ، هو ذكرهما في ذلك المبحث نوعا لا ذكرهما شخصا كيف لا يكون كذلك؟ والحال أنّ الظّن بالمراد الّذي ذكره سابقا في ذلك المبحث هو الّذي كان حاصلا من نفس اللّفظ بضميمة أصالة عدم القرينة وقد حكم بكونه معتبرا من حيث الخصوص من جهة قيام إجماع العلماء والعقلاء وأهل اللّسان عليه قديما وحديثا من غير نكير بينهم ، وإن كانت الحكمة في بنائهم عليه انسداد باب العلم بالمراد من الألفاظ في غالب المحاورات ، بل اعتباره من حيث الخصوص ممّا تسالم عليه كلّ فريق حتّى القائلين بانفتاح باب العلم في غالب الأحكام على ما عرفت تفصيل القول فيه في محلّه.

ومن هنا ذكرنا : عدم اعتبار حصول الظّن بالمراد في اعتبار الأصول اللّفظيّة ، وأين هذا من الظّن بالمراد الحاصل من غير اللّفظ كتفسير الرّاوي ونحوه؟

ومن هنا ذكر قدس‌سره : « وحاصل القسمين الظّنون الغير الخاصّة المتعلّقة


بتشخيص الظّواهر ... إلى آخره » (١).

كما أنّ مراده قدس‌سره من قوله : « أو من جهة كون مذهبه مخالفا لظاهر الرّواية » (٢) حسبما صرّح به في مجلس البحث ، ما إذا علم استناد الرّاوي في مذهبه إلى تلك الرّواية الظّاهرية في خلاف مذهبه ، فيظنّ أنّه فهم ولو من جهة القرائن الخارجيّة من الرّواية خلاف ظاهرها ، لا مجرّد نقله للرّواية الظّاهرة في خلاف مذهبه ؛ إذ مجرّد النّقل لا يكشف عن استناد الرّاوي إلى المنقول.

(٥١) قوله قدس‌سره : ( والظّاهر حجيّتها عند كلّ من قال بحجيّة الظّن (٣) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٣٨ )

« ما أفاده المصنّف غير مقصود على إطلاقه »

أقول : لا يخفى عليك : أنّ هذا الكلام بإطلاقه غير مقصود ؛ لأنّ كلّ من قال بحجيّة مطلق الظّن في الأحكام لا يلزمه أن يقول بحجيّة الظّن بالظّهور إذا انفك عن الظّن بالمراد ، بل لا معنى له على ما أسمعناك مرارا : من كون نتيجة دليل الانسداد هي حجيّة الظّنون الشخصيّة لا الأعمّ منها ومن النّوعية.

والقول : بأنّ الظّن بالظّهور مستلزم للظّن بالمراد شخصا شطط من الكلام ؛ لأنّ القطع بالظّهور لا يلازم الظّن بالمراد شخصا في خصوصيّات الاستعمالات

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٣٨.

(٢) نفس المصدر.

(٣) كذا وفي الكتاب : « بحجّيّة مطلق الظن ... إلى آخره ».


فضلا عن الظّن بالظّهور وهو أمر واضح لا سترة فيه أصلا كما لا يخفى.

فالظّن بالظّهور إن كان موجبا للظّن بالمراد لم يكن مناص من القول باعتباره لما عرفت في محلّه : من كون نتيجة المقدّمات على تقرير الحكومة ـ الّذي بنينا عليه الأمر ـ هي حجيّة الظّن بالبراءة وسقوط الأحكام المجعولة من أيّ سبب حصل ، فهذا الظّن كالعلم في حكم العقل لا معنى للفرق بين أسبابه.

ومنه يظهر : أنّ الظّنّ بالمراد المستند إلى الظّن بالظّهور حجّة على القول بحجيّة مطلق الظّن في الأحكام من غير حاجة إلى انسداد باب العلم في الألفاظ واللّغات ؛ لأنّ نفس انسداد باب العلم في الأحكام الشّرعيّة علّة تامّة للحكم بحجيّة الظّن القائم بها من غير مدخليّة لشيء آخر.

ومنه يظهر أيضا : أنّ الظّن بالمراد المسبّب من الظّن بالظّهور إذا لم يكن متعلّقا بالحكم الكلّي المنسدّ فيه باب العلم لا يكون حجّة من هذه الجهة ؛ لأن المقدّمات المذكورة لم يقتض حجيّة الظّن بالمراد من حيث أنّه ظنّ به ، بل من حيث إنّه ظنّ بالحكم الشّرعي الكلّي وإيجابه الظّن بالبراءة منه ، وهذا أمر واضح لا غبار عليه أصلا.

وحاصل هذا الأمر : أنّ قضيّة المقدّمات السّابقة على تقدير تماميّتها حجيّة كلّ ظنّ تولّد منه الظّن بالبراءة عن الحكم الكلّي الإلهي سواء كان متعلّقا بالحكم الفرعيّ ، أو الأصوليّ ، وسواء كان تعلّقه على الأوّل بلا واسطة أو مع الواسطة ، وسواء كان الواسطة على الثّاني هو الظّن بالموضوع المستنبط وضعا ، أو مرادا ، أو الظّن بالموضوع الصّرف ، كالظّن بعدالة الرّاوي أو كون زرارة في رواية خاصّة هو ابن أعين لا ابن لطيفة.


فقد ظهر من ذلك كلّه : أن كلّ من قال بحجيّة مطلق الظّن في الأحكام الشّرعيّة ، يلزم القول بحجيّة مطلق الظّن بالموضوعات الرّجاليّة من الحيثيّة المذكورة سواء حصل من قول من اجتمع فيه شرائط الشّهادة أو لا ، وسواء حصل من قول أهل الخبرة كالكشي والنّجاشي أو غيره. كلّ ذلك لما عرفت من استقلال العقل في حكمه بعدم الفرق بين أسباب الظّنّ بالبراءة.

بل التّحقيق ـ على القول بتقرير الكشف وإهمال النّتيجة من جهة احتمال مدخليّة بعض الخصوصيّات في نظر الشارع سواء بني على التّعميم من جهة المعمّم الخارجي ، أو التّخصيص من جهة الأخذ بالقدر المتيقّن ، أو غيره ـ : عدم الفرق بين الظّن الحاصل من الأمارة بالحكم الفرعي الواقعي بلا واسطة أو معها سواء كان موردها الموضوع المستنبط أو الموضوع الخارجي الواقع في طريق الحكم كالموضوعات الرّجاليّة.

فقد ظهر ممّا ذكرنا : أنّه لا مناص عن القول بحجيّة مطلق الظّن بالموضوعات الرّجاليّة من حيث التّوليد للظّن بالحكم الفرعي الكلّي. كما أنّك عرفت : أنّه لا مناص عن القول بحجيّة مطلق الظّن في اللّغات على هذا القول من الحيثيّة المذكورة هذا.

ولكن المحكيّ عن بعض المتأخّرين ، والمسموع عن آخر ، دعوى الإجماع على حجيّة مطلق الظّنّ في الموضوعات الرّجاليّة على القول بالظّن الخاصّ في الأحكام وعدم التّعدي عن طرق خاصّة.

وهذا نظير دعوى بعضهم الإجماع على حجيّة مطلق الظّن في اللّغات حتّى على القول بالظّنون الخاصّة ، فلا يعتبر على هذا الزّعم ملاحظة الحيثيّة المذكورة.


لكن الدّعويين ضعيفتان بما عرفته سابقا وبالرّجوع إلى كلماتهم في مسألة التّعديل المختلفة من حيث اعتبار التّعدد في المعدّل وعدمه المبتنى في صريحها على كونه شهادة ، أو رواية ، فإنّها شاهد صدق على فساد دعوى الإجماع على حجيّة مطلق الظّن في الرّجال.

نعم ، على القول بحجيّة مطلق الظّن في خصوص العدالة من جهة جريان شبه دليل الانسداد في نظائرها من الموضوعات الخارجيّة المتعلّقة للأحكام الكثيرة الّتي فرض انسداد باب العلم فيها كالضّرر والنّسب والوقف وأشباهها يلزم القول بحجيّة مطلق الظّن في خصوص العدالة وإن كان المسلك الظّن الخاصّ في الأحكام فتأمّل.

كما أنّه على القول بحجيّة مطلق مظنون الصّدور أو الموثوق به من باب الظّن الخاصّ يلزم القول بحجيّة مطلق الظّن أو الاطمئناني منه بالموضوعات الرّجاليّة في طريق الأحكام الموجبة لتحقّق أحد المصداقين كما هو ظاهر.

(٥٢) قوله قدس‌سره : ( لأنّ ما كان من المسائل الأصوليّة يبحث فيها عن كون شيء حجّة ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥٤٢ )

__________________

(١) ملخّص ما أفاده الشيخ موسى التبريزي في قوله ١ قبل أسطر : « لأن المسائل الاصوليّة التي ينسد فيها باب العلم ... » ـ : منع انسداد باب العلم في اغلب مسائل الأصول لإنفتاحه بإجراء دليل الإنسداد في الفروع.

وأنت خبير بأنه يمكن قلب هذا الوجه بأن يقال بانفتاح باب العلم في الفروع بإجراء


__________________

دليل الإنسداد في الأصول ؛ إذ قلّما توجد مسألة إلاّ وتوجد فيها أمارة مظنونة الإعتبار ، والمسائل الخالية منها ليست في الكثرة بحيث يلزم من الرجوع فيها إلى الأصول محذور.

لا يقال : مع تسليم إنسداد باب العلم في أغلب مسائل الأصول ولو مع قطع النظر عن جريان دليل الإنسداد أو في الفروع نمنع جريان سائر مقدّماته في الأصول.

إذ منها : حصول العلم بالضرورة من الدين ببقاء التكليف وعدم كوننا مهملين كالبهائم.

وهذه المقدّمة لا تجري في الأصول ؛ لأنه لا يخلو :

إمّا أن نقول بوجود حكم واقعي في كلّ واقعة كما هو ظاهر مذهب الخاصّة ووردت به أخبارهم وإنّما عزّيناه إلى ظاهر مذهبهم ؛ لأنّ ما علم بالضرورة وشهد به العقل : هو عدم خلوّ الوقائع المبتلى بها دون غيرها ، والتمسّك في ذلك بالأخبار لا يناسب دعوى الضرورة كما هو المدّعى وإن ادّعي تواترها.

وإمّا أن نقول : بخلوّ بعض الوقائع منه كما هو مذهب العامّة.

وعلى التقديرين : لا دليل على جعل الشارع أحكاما متعلّقة بالأصول.

أمّا على الأوّل : فإنّ مقتضاه عدم خلوّ واقعة من حكم واقعي لا من حكم ظاهري والأحكام المتعلّقة بالأصول ظاهريّة لا واقعيّة.

وأمّا على الثاني : فإنه مع عدم ثبوت التكليف في الواقع كيف يدّعى جعل حكم ظاهري متعلّق بطريقه؟ فضلا عن بقاء التكليف هذا مع إمكان منع العلم الإجمالي بتعلّق حكم ظاهري بالطّرق كما أوضحه المصنّف في الرّدّ على من إدّعى إنحصار نتيجة دليل الإنسداد في اعتبار الظنّ بالطرق فراجع.


__________________

ومنها : لزوم الإختلال أو العسر من الإحتياط في المسائل المشتبهة وهو ممنوع في المقام.

لأنّا نقول : إن ما ذكر في السؤال في وجه عدم جريان دليل الإنسداد أو في الأصول متّجه ، إلاّ أن ظاهر المصنّف منع جريانه فيها ؛ لإجل انفتاح باب العلم فيها لا لأجل عدم تماميّة سائر مقدّماته » انتهى. أوثق الوسائل.

* وعلّق الشيخ رحمة الله على « الأوثق » قائلا :

أقول : الاحكام الواقعيّة : هي الأحكام الثابتة للموضوعات أوّلا من غير مدخليّة للعلم والجهل فيها.

والأحكام الظاهريّة : هي الأحكام المستفادة من ظواهر الأدلّة الثابتة حجّيّتها ، ومن ثمّ قيل : ظاهريّة ؛ لأنها مستفادة من ظواهر الأدلّة ، وهي قد تصادف الواقع وقد تتخلّف عنه ، ولا فرق في ذلك بين الأصول والفروع فكما أنّ لشرب التتن مثلا حكما في الواقع وحكما ظاهريّا مستفادا من الأصل الثابت إعتباره ووجوب إتّباعه في أضراب هذا الموضوع ، كذلك للشهرة القائمة على حكم حكم بحسب الواقع وهو وجوب إتّباعها وبناء العمل على مؤدّاها.

أو عكس ذلك مثلا حكم ظاهري موافق لأحد الأمرين بحسب ما إقتضاه الدليل.

وليت شعري ما فهم المحشّي المذكور من الأحكام الظاهريّة ؛ حيث خصّ الأصول بالأحكام الظاهريّة ونفى عنها الأحكام الواقعيّة وكأنّه لمّا رأى مؤدّيات موضوعاتها أحكاما ظاهريّة لا غير ، خصّ الموضوعات أيضا بها من حيث لا يشعر أو لم يفهم المراد من الأحكام الظاهريّة والواقعيّة.


أقول : يمكن الإيراد على هذا التّعليل : بأنّ معلوميّة جملة من المسائل الأصوليّة أو انفتاح باب العلم في جملة أخرى ـ كما فيما يبحث فيها عن حجيّة ما يوجب الظّن بالحكم الفرعي ـ إنّما هو بإجراء دليل الانسداد أوّلا في الفروع وبملاحظته ، لا من حيث هو ؛ لأنّه خلاف الفرض ، واعترف به المستدلّ في صريح كلامه بل مبنى جريان دليل الانسداد في الفروع على انسداد باب العلم في الأصول كما هو ظاهر.

فقلّة المسائل المنسدّ فيها باب العلم المجوّزة للرّجوع فيها إلى أصالة الحرمة على ما هو صريح كلامه إنّما هي بملاحظة إجراء دليل الانسداد أوّلا ؛ في الفروع فإذا كان الانفتاح المدّعى في الأصول بالملاحظة المذكورة ؛ فللخصم أن يقلّب المطلب والاستدلال بأن يجري الدّليل أوّلا في الأصول ، لكثرة ما انسدّ فيها باب العلم من المسائل مع قطع النّظر عن إجرائه في الفروع وإثبات حجيّة الظّن في المسائل الأصوليّة ، يغني عن إجرائه في الفروع ؛ لوجود ما ثبت حجيّته

__________________

وزعم أن الواقعيّة : هي ما يتعلّق بالعمل أوّلا وبلا واسطة فنفاها عن الموضوعات الأصوليّة.

فالحريّ بمن يعلّق ـ بعد جودة الفهم ـ فهم المراد من المصطلحات ثم النّفي والإثبات ». إنتهى.

أنظر الفرائد المحشى : ص ١٦٥.

* أقول : وأنظر حاشية الفرائد تقرير بحث السيّد اليزدي قدس‌سره : ج ١ / ٦٥٩.


بالملاحظة المذكورة في أكثر المسائل الفرعيّة ، وما لا يوجد فيه ليس إلاّ قليل من المسائل فيرجع فيه إلى الأصول الجارية في مجاريها ولا يلزم منه محذور أصلا ، لقلّة ما يرجع فيه إلى الأصول حرفا بحرف وحذوا بحذو.

ومن هنا يرجع القائل بحجيّة الظّن بالطّريق إلى الأصول فيما خلت عن الطّريق المعتبر عنده ، ولم يورد عليه أحد : بأنّ الرّجوع إلى الأصل موجب للمخالفة الكثيرة وليس لهذا مدفع أصلا ، إلاّ منع جريان المقدّمات فيها مع قطع النّظر عن الانفتاح المذكور ، وهو خلاف صريح الاستدلال المذكور هذا.

وذكر شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره ـ بعد ما عرضت الاعتراض عليه بما عرفته في مجلس البحث : ـ أنّ الإيراد المذكور غير متوجّه على المستدلّ.

أمّا أوّلا : فلأنّ انفتاح باب العلم في المسائل الأصوليّة لا يستلزم الانفتاح في الفروع ؛ لأنّ الانفتاح في الأصول أعمّ من حصول العلم بحجيّة جملة من الأمارات الكافية ومن العلم بعدمها والّذي يستلزم الانفتاح في الفروع هو الأوّل ، والمفروض عدم العلم بحجيّة جملة من الأمارات الخاصّة الكافية في الفقه.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّا نمنع من إجراء مقدّمات الانسداد في الأصول في نفسها ومع قطع النّظر عن إجرائها في الفروع ؛ لأنّه مبنيّ على العلم الإجمالي بجعل الشارع لجملة من الأمارات الكافية في الفقه بحيث لا يلزم من الرّجوع إلى الأصول في موارد فقدها محذور أصلا ، والعلم الإجمالي المذكور ممنوع على ما


أسمعناك مفصّلا في ردّ القائلين بحجيّة الظّن في الطريق عكس هذا القول ، فقلب الدّليل المذكور فاسد هذا.

ولكنّك خبير فيما أفاده من المناقشة :

أمّا فيما ذكره أوّلا ؛ فلأنّ الانفتاح بقول مطلق وإن كان أعمّ من الحجّة الكافية على ما أفاده ، إلاّ أنّ الانفتاح المدّعى من إجراء دليل الانسداد في الأصول هو ثبوت العلم بحجيّة جملة من الأمارات الظّنية في الفقه ، بل كلّها إن لم يكن بينها تفاوت وأين هذا من عدم ثبوت الحجّة الكافية؟

فإن شئت قلت : إنّ نتيجة دليل الانسداد الجاري في الأصول هي حجيّة الأمارات الّتي ظنّ اعتبارها والانفتاح المدّعى إنّما هو هذا. وأين هذا من عدم العلم بالحجّة الكافية؟ والّذي فرض انتفاؤه ويكون الدّليل مبنيّا عليه : هو العلم بحجيّة جملة من الأمارات الكافية في الفقه من حيث الخصوص ، لا بالنّظر إلى دليل الانسداد.

فما أفاده أخيرا : من الفرض لا تعلّق له بالمقام. اللهم إلاّ أن يدعي مدّع قلّة ما ظنّ اعتباره من الأمارات. وهو كما ترى بمكان من الضّعف وخلاف مفروض المستدلّ أيضا.

وأمّا فيما ذكره ثانيا ؛ فلأنّ منع العلم بحجيّة جملة من الأمارات الكافية في الفقه وإن كان صحيحا لكنّه لا تعلّق له بكلام المستدلّ ؛ فإنّه إنّما استند في منع


إجراء دليل الانسداد في الأصول إلى الانفتاح الحاصل من إجراء المقدّمات في الفروع لا إلى منع جريان الدّليل في الأصول مع قطع النّظر عنه هذا.

مضافا إلى ما يرد على المستدلّ من أنّ بقاء قليل من المسائل لا يوجب جواز الرّجوع إلى أصالة الحرمة على تقدير تسليم وجود العلم الإجمالي فيه وليس ذلك من قبيل المسائل الفرعيّة حتّى يرجع إلى الشّبهة الغير المحصورة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المسلّم العلم الإجمالي بالحجيّة في مجموع المسائل الّتي منها ما يرجع فيها إلى الأصول بعد الانفتاح فتدبّر ، هذا.

وقد يقال في دفع الإشكال في قلب الدّليل : إنّ المستدلّ لمّا بنى على تقرير الكشف وإهمال النّتيجة فكلامه مبنيّ على عدم إجراء المقدّمات في خصوص الأصول مع قطع النّظر عن إجرائها في الفروع ، ويكون مراده من الإجراء في الأصول بملاحظة العلم الإجمالي الحاصل بحجيّة جملة من الأمارات بملاحظة دليل الانسداد الجاري في الفروع كما يفصح عنه كلامه بعد ذلك.

ولكنّك خبير بفساده أيضا ؛ لأنّ كلامه بعد ذلك وإن كان صريحا في إهمال النّتيجة إلاّ أنّ كلامه في المقام صريح في إطلاقها ؛ حيث إنّه حكم بأنّ قضيّة المقدّمات الجارية في الفروع هي حجيّة كلّ ما يفيد الظّن بها. ومن هنا حكم بانفتاح باب العلم في جملة من المسائل الأصوليّة وإلاّ لم يكن معنى للحكم المذكور أصلا ؛ ضرورة عدم اقتضاء المهملة لذلك.


اللهمّ إلاّ أن يكون حكمه بذلك بملاحظة المعمّم الخارجي لا بملاحظة نفس المقدّمات ، وهو ممّا لا يساعد عليه كلامه المحكيّ في « الكتاب » محصّلا في جملة من مواضعه.

منها : قوله : « إذ بإثبات ذلك المطلب حصلت الدّلالة العقليّة على أنّ ما كان ... إلى آخره » (١) وقوله : « لما عرفت من أنّ مقتضى دليل الانسداد في الفروع حجيّة الظّن الحاصل بها » (٢). إلى غير ذلك ممّا هو ظاهر في إطلاق النّتيجة بنفسها فتأمّل ، هذا كلّه.

مضافا إلى إباء كلامه عن الحمل المذكور وعدم مساعدته عليه كما هو ظاهر فتدبّر.

(٥٣) قوله قدس‌سره : ( وبالجملة : فبعض المسائل الأصوليّة صارت معلومة بدليل الانسداد وبعضها صارت ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٤٣ )

أقول : الفرق بين ما ذكره من الأقسام ولحوق كلّ قسم بما ذكره من الحكم لا يكاد أن يخفى ؛ لأنّ ما يبحث فيها عن حجيّة أمارة موجبة للظّن الشّخصي في الفروع كمسألة حجيّة الشّهرة ونقل الإجماع وأخبار الآحاد ونحوها من المسائل من حيث إفادتها للظّن الشّخصي ، تصير معلومة بدليل الانسداد المثبت للعلم

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٤٢.

(٢) نفس المصدر : ج ١ / ٥٤٣.


بحجيّة الظّن في الفروع من أيّ سبب كان ، فيشمل الأمارات المذكورة بالحيثيّة المذكورة.

نعم ، البحث عنها لا من الحيثيّة المذكورة يعلم حكمه بملاحظة مشرب المتمسّك بدليل الانسداد ، فإن جعل نتيجة حجيّة الظّن الشّخصي فلا يحكم بحجيّتها وإن جعل النّتيجة الأعم من الظّن الشّخصي والنّوعي فيحكم بحجيّتها مطلقا.

وأمّا مسألة التّرجيح بما يوجب الظّن الشّخصي ورجحان أحد المتعارضين على الآخر ومزيّته عليه بحسب الموارد الشّخصيّة فهي تصير معلومة أيضا بالملاحظة المذكورة ، إلاّ أنّه ليس من التّعارض والتّرجيح حقيقة ، فإنّ من يجري دليل الانسداد في الفروع ويزعم كون النّتيجة حجيّة الظّن الشّخصي لا يتصوّر في حقّه تعارض وترجيح أصلا كما لا يخفى.

وما يبحث فيها عن مسألة يوجب الظّن بها ولو مع عدم المزاحم والصّارف في القضايا الشّخصيّة الظّن بالحكم الفرعيّ كمسائل الاستلزامات ، ومسألة اجتماع الأمر والنّهي ، بل تمام المسائل العقليّة المحرّرة في الأصول على تقدير تصوّر تعلّق الظّن بها ومسائل الموضوعات الاستنباطيّة والمباديء اللّغويّة مع الملاحظة المذكورة لا يصيّر نفسها معلومة إذا صارت مظنونة ، بل المعلوم حجيّة الظّن بها ، من حيث تولّد الظّن بالحكم الفرعي من الظّن بها ، وما يبحث فيها عن


أمور تعبّديّة أو عن أمور مفيدة للظّن نوعا من غير اعتبار حصول الظّن الشّخصي منه في خصوصيّات المقامات فلا يعلم حاله من دليل الانسداد أصلا كما لا يخفى.

فيتوقّف الحكم بحجيّة الظّن فيها على زعم المستدلّ على إجراء دليل الانسداد فيها وإجراؤه لا يتمّ إلاّ بإثبات العلم الإجمالي وهو في حيّز المنع فافهم.

(٥٤) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الثّاني : وهو إجراء دليل الانسداد في مطلق الأحكام الشّرعيّة فرعيّة كانت أو أصوليّة (١) فهو غير مجد ... إلى آخره ) (٢). ( ج ١ / ٥٤٤ )

أقول : مبنى ما ذكره كما هو قضيّة صريحة على تسليم صحّة جريان المقدّمات في مطلق الأحكام الشّرعيّة بحيث يكون الحكم الأصولي موردا للدّليل في ضمن مطلق الأحكام إلاّ أنّه استند في منع حجيّة الظّن بالنّسبة إلى الحكم الأصولي إلى الأصل من جهة إهمال النّتيجة وعدم معمّم من الخارج يقضي بالتّعميم بالنّسبة إليه كما فرض وجوده بالنّسبة إلى الحكم الفرعي من الإجماع أو عدم المرجّح.

ومن هنا يعلم أنّ حكمه بالتّعميم بالنّسبة إلى الظّن بالحكم الفرعيّ المولّد من الظّن بالحكم الأصولي إنّما هو بالنّظر إلى المعمّم ، لا بالنّظر إلى نفس المقدّمات حتّى ينافي تصريحه في المقام.

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : « أو أصليّة ».

(٢) أقول : لا حظ كلمة السيّد اليزدي في حاشية الفرائد : ج ١ / ٦٦٠.


لكن يتوجّه عليه : أنّ المعمّم على زعم المستدلّ ليس منحصرا في الإجماع وبطلان التّرجيح بلا مرجّح بل قاعدة الاشتغال والاحتياط من المعمّمات عنده على ما عرفت تفصيل القول فيه ، وإن كان التّعميم بهما ضعيفا عندنا وهي كما يقتضي التّعميم بالنّسبة إلى المسائل الفرعيّة من حيث الأسباب والموارد والمراتب ، كذلك يقتضي التّعميم بالنّسبة إلى المسائل الأصوليّة أيضا ؛ إذ يحتمل حجيّة الظّن في تشخيص الحكم الأصولي كما يحتمل بالنّسبة إلى الحكم الفرعي والتّعميم على هذا الوجه نظير التّعميم بالنّسبة إلى أحكام الصّلاة والصّوم مثلا من غير فرق بينهما أصلا بعد التّسالم على جريان الدّليل بالنّسبة إلى مطلق الأحكام الشّاملة للفرعيّة والأصوليّة.

ولا دافع لهذا الإيراد على مذهبه من التّعميم بقاعدة الاشتغال أصلا ، كما اعترف به شيخنا قدس‌سره في مجلس البحث بعد ما عرضته عليه ، إلاّ بمنع جريان الدّليل في مطلق الأحكام بالمعنى الأعمّ الشّامل للأصوليّة مع العلم الإجمالي بجعل الحكم الأصولي وإن كان محتملا إلاّ أنّه لا يصير موجبا لجعلها موردا للدّليل بعد فرض العلم بجعل الأحكام الفرعيّة والشّك في جعل الحكم الأصولي كما هو واضح ، إلاّ بضمّ كلّ مشكوك إلى معلوم ويجعل طرفا للعلم الإجمالي ، وهو كما ترى. لكن كلامه قدس‌سره مبنيّ على ما عرفت على تسليمه لجريان الدّليل في مطلق الأحكام فتدبّر.


(٥٥) قوله قدس‌سره : ( والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٤٦ )

أقول : الوجه فيما أفاده من ورود دليل الحجيّة على أصالة الحرمة على كلّ تقرير لها ظاهر ؛ حيث إنّه بجميع وجوهها يعمل عند الشّك في الحجيّة فإذا قام الدّليل القطعي عليها فيرتفع الشّك قهرا.

ثمّ إنّك قد عرفت شرح القول في كون نتيجة دليل الانسداد على تقرير الحكومة هي حجيّة الظّن في المسألة الأصوليّة أيضا فيما علّقناه على التّنبيه الأوّل والثّاني فراجع إليه.

كما أنّك قد عرفت : أنّه لا فرق فيما إذا قلنا بالتّعميم بين أن يتعلّق الظّن بحجيّة أمور يفيد الظّن نوعا في المسائل الفقهيّة ، أو تعلّق بحجيّة ما لا يفيد الظّن بالنّسبة إلى الواقع أصلا كالأمور التعبّدية ، وهو المراد بقوله قدس‌سره : « بل لو فرضنا : أنّه لم يحصل ظنّ بحكم واقعي أصلا ... إلى آخره » (١).

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٤٧.


(٥٦) قوله قدس‌سره : ( وأمّا الجواب عن الثّاني : أمّا أوّلا ؛ فبمنع الشّهرة والإجماع ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥٤٧ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده مبنيّ على ما استفاده من كلام المستدلّ من ادّعائه ذهاب المشهور أو نقل الإجماع على كون نتيجة دليل الانسداد مختصّة بالمسائل الفرعيّة.

فيورد عليه : بأنّ المسألة من المستحدثات فدعوى الشّهرة كنقل الإجماع

__________________

(١) قال الفاضل الجليل رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« لا يخفى أن المستدل تمسّك بالشهرة والإجماع المنقول على عدم حجّيّة الظن في مسائل أصول الفقه إلزاما على الخصم.

ولا يدفعه منع الإجماع ، وكون دعواه مساوقة لدعوى الشهرة ؛ فإن الشهرة ، بل دعواها يكفي المستدل في مقام الإلزام.

وليت شعري كيف يصحّ كون دعوى الإجماع مساوقة لدعوى الشهرة سندا لمنع الشهرة ، مع أن ما ذكر يدفع حصول الإجماع على ما زعموه لا وقوع نقل الإجماع الذي هو مبني الإستدلال.

وأيضا : إن كون المسألة في المستحدثات ينافي كونها مشهورة أو مجمعا عليها لو أريد الشهرة بين الكل ، أو أريد إجماع الكل ، أمّا لو أريد بهما بالنسبة بمن بعد حدوث التكلّم فيها فلا ، كما تراهم يقولون : « المشهور بين المتأخرين كذا وإجماع المتأخّرين على كذا » فافهم ). إنتهى.

أنظر الفرائد المحشى : ١٦٧.


في غير محلّها ، فهما مساويان ومساوقان من حيث القطع بخطأ المدّعي وليس الأمر كما ذكر ، بل المستدلّ يدّعي أنّ الظّن في المسألة الأصوليّة كالظّن في المسألة الاعتقاديّة عند المشهور يلحق بالقياس. ومن هنا قالوا : إنّ هذا أصل ولا يمكن إثباته بالخبر.

وهذا لا تعلّق له ببيان قضيّة مقدّمات الانسداد وإنّها حجيّة الظّن مطلقا أو في خصوص الفروع حتّى يتوجّه عليه : كون المسألة من المستحدثات فلا معنى لنقل الإجماع فيها بعد عدم وجودها في كلماتهم ، كما أنّه لا معنى لدعوى الشّهرة.

وهذه الدّعوى من المستدلّ وإن كانت فاسدة من جهات أخر مذكورة في « الكتاب » إلاّ أنّها غير ما أفاده في المقام.

ثمّ إنّ مرجع ما أفاده في الجواب ثانيا ؛ إلى منع حصول الظّن من الشّهرة في المقام بعدم حجيّة الظّن في المسألة الأصوليّة ؛ حيث أنّ استناد المشهور إلى عدم وجدان دليل قضى بحجيّة الظّنون الخاصّة يقتضي بحجيّتها في الأصول أيضا. وأين هذا من الشّهرة القائمة على كون الظّن في المسألة كالقياس؟

وممّا ذكرنا تظهر المناقشة فيما أفاده ثالثا ؛ فإنّ مراد المستدلّ ليس تعلّق الظّن بمفاد الدّليل العقلي بل حصول الظّن من الشّهرة بكون الظّن في المسألة الأصوليّة محرّم العمل كالقياس على ما عرفت فلا يتوجّه عليه ما أفاده أصلا.

كما أنّه يظهر ممّا ذكرنا في المقام وفي مسألة المانع والممنوع : المناقشة في باقي الأجوبة.


والّذي يقتضيه التّحقيق بعد تسليم الشّهرة ونقل الإجماع الجواب بما عرفت القول فيه في مسألة المانع والممنوع : من عدم إمكان شمول دليل الانسداد على تقدير التّعميم لهذا الظّن ، لا لمجرّد لزوم كون الشّمول لغوا ولا لمجرّد كون الحاصل على هذا التّقدير عدم الحجيّة وهو خلاف الفرض وإن كان كلّ منهما محذورا مستقلاّ من حيث إنّ شمول الدّليل لهما موجب لعدم شموله لهما فإنّهما ظنّ في المسألة الأصوليّة ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو محال على ما عرفت مفصّلا. وقد اختار قدس‌سره هذا الجواب وارتضاه بعد ما عرضته عليه في مجلس المذاكرة.

فإن شئت قلت : إنّ حكم العقل بحجيّة الظّن وإنّه كالعلم في زمان الانسداد وإن تعلّق بالمسألة الأصوليّة لا يمكن أن يجعل دليلا على عدم حجيّة مطلق الظّن في المسألة الأصوليّة.

نعم ، لو قام هناك ظنّ على عدم حجيّة ظنّ خاصّ أمكن جعله دليلا على عدم حجيّة ذلك الظّن المقوم عليه من حيث شمول الدّليل للقائم كما تقدّم تفصيل القول فيه في مسألة المانع والممنوع.

* * *


* التنبيه الرابع

عدم كفاية الظن بالإمتثال في مقام التطبيق

(٥٧) قوله قدس‌سره : ( فظهر اندفاع توهّم : أنّه إذا بني على الامتثال الظّني ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٥١ )

دفع جملة من التوهّمات في المقام

أقول : ونظير التّوهّم المذكور الّذي توهّمه بعض المتأخّرين ويستفاد من كلام المحقّق القميّ قدس‌سره في « القوانين » ما توهّمه بعض في ردّ تمسّكه للاحتياط في مسألة « الأقلّ والأكثر » عند الشّك في الجزئيّة والشّرطيّة بقاعدة « الشّغل » : بأنّ تحصيل البراءة اليقينيّة بفعل ما شك مدخليّته في العبادة شطرا أو شرطا ، غير ممكن في العبادات بعد فرض ثبوت أكثر إجزائها وشرائطها بالأدلّة الظّنية ؛ ضرورة كون النّتيجة تابعة لأخسّ مقدّمتيها.

وما توهّمه آخر في ردّ اعتبار حصول الظّن بصدور الخبر على تقدير الحكم بحجيّته من جهة دليل الانسداد كما بنى عليه غير واحد من المتأخّرين : بأنّ


حصول الظّن الشّخصي بصدور الخبر لا يترتّب عليه حصول البراءة الظّنية بعد فرض عدم اعتبار الظّن الشّخصي بجهة صدور الخبر ودلالته ، فأيّ فائدة في اعتبار حصول الظّن الشّخصي بالصّدور مع عدم حصول الظّن بالواقع منه من جهة إعمال الأصول اللّفظيّة وغيرها ممّا لا يعتبر في اعتبار حصول الظّن الشّخصي؟إلى غير ذلك ممّا توهّم في نظائر المقام.

والجواب عن الكلّ ما أفاده قدس‌سره وحاصله : أنّه لا ريب في أنّه إذا تعدّد الظّن في جهات القياس ومقدّماته فلا محالة يتعدّد احتمال الخطأ في النّتيجة بتعدّد الظّن فإذا قام الدّليل القطعيّ على عدم الاعتناء بالخطأ من جهة بعض الاحتمالات : إمّا من العقل كما في المقام ، وإمّا من الشّرع كما في مسألة الظّهور اللّفظي وأنّ المكلّف معذور من جهته على تقدير عدم مصادفته للواقع لم يلزم منه عدم الاعتناء باحتمال الخطأ من جهة غيره من الاحتمالات المتطرّقة في المقدّمات وإلغائها بالمرّة كما يحكم به ضرورة العقل ، وبعد فرض التّعدّد ، ففي المقام إذن ظنّ المكلّف ببراءة ذمّته من حيث تعيّن الحكم الشّرعي الكلّي ؛ إمّا من جهة تعلّق الظّن به ابتداء أو ثانيا وبالعرض ؛ من جهة تعلّقه باعتبار ما قام عليه ممّا لا يفيد الظّن به في خصوصيّات المقامات فهو معذور من هذه الجهة بحكم العقل المستقلّ بمعنى أنّه إذا لم يصادف الظّن للواقع لم يكن معاقبا من جهته بل كان مأجورا تفضّلا ؛ نظرا إلى ما دلّ على ثبوت الأجر للمخطئ في الاجتهاد.

وأمّا إذا ظنّ بانطباق ما عيّنه بالظّن الّذي يسمّى بالظّنّ في الموضوع


الصّرف والخارجي ، فلا يكون معذورا من جهته بمعنى أنّه لو لم يصادف الواقع استحقّ العقاب على مخالفته ، بل التّحقيق بثبوت الاستحقاق على تقدير المصادفة أيضا ، لكن لا على الواقع لفرض المصادفة بل على التزامه وتديّنه.

بل التّحقيق : استحقاقه العقاب من جهتين على هذا التّقدير على القول بحرمة التّجري ، بل من جهات على تقدير القول باستحقاق العقاب على مخالفة الأصول الظّاهريّة الّتي أمر بالرّجوع إليها في الفرض على تقدير عدم اعتبار الظّن كما هو المفروض ، لما عرفت : من أنّ الاعتبار من الجهة الأولى لا يلازم الاعتبار من الجهة الثّانية إذا لم يحكم العقل بكفاية الظّن بالبراءة والسّقوط مطلقا ، بل إنّما حكم بكفايته في مقام تشخيص الحكم الكلّي المنسدّ فيه باب العلم.

إمكان إقامة الدليل على حجّيّة مطلق الظّنّ

في الموضوعات وعدمه

ثمّ إنّ الكلام إلى هنا في بيان أنّ اعتبار الظّن في الحكم الكلّي الإلهي الصّادر من الشّارع سواء كان بالدّليل العقلي أو الشّرعي لا يلازمه اعتباره في الموضوع الخارجي المنطبق عليه الحكم ، بل لا بدّ فيه من تحصيل العلم إن أمكن ، أو الاحتياط في تحصيله كما أنّه إذا فرض اعتباره في الموضوع الخارجي من جهة قيام دليل خاصّ عليه في بعض الموارد لم يلازم اعتباره في الحكم ولا في


موضوع آخر غيره فلا ملازمة من الجانبين.

وهنا كلام آخر ـ غير ما وقع الكلام فيه من قضيّة توهّم التّلازم المتوهّم ـ :وهو أنّه هل قام دليل آخر على اعتبار مطلق الظّن في مطلق الموضوعات الخارجيّة إلاّ ما خرج بالدّليل أم لا؟

الّذي يقتضيه التّحقيق أن يقال : إنّه لا يظنّ بأحد القول بذلك ، بل لو ادّعى أحد الإجماع على عدم اعتبار مطلق الظّن في مطلق الموضوعات لكان صادقا مصدّقا ، فهل يمكن مع ذلك إجراء دليل الانسداد في خصوص الموضوعات بقول مطلق أم لا؟

الّذي يقتضيه التّحقيق أن يقال : إنّه لا معنى لإجرائه في مطلق الموضوعات لعدم تماميّة مقدّماته ؛ لعدم إمكان دعوى انسداد باب العلم بعد عدم انحصار سببه في أمور خاصّة ولا انسداد باب الظّن الخاصّ ولا المخالفة الكثيرة من الرّجوع إلى الأصل بعد فرض عدم كون جميعها واقعة للمكلّف ولا وجود العلم الإجمالي في الوقائع إلى غير ذلك.

نعم ، ربّما يجري على لسان شيخنا اعتبار الظّن الاطمئناني بقول مطلق في جميع موارده وكونه ملحقا بالعلم حكما بل موضوعا. لكنّك قد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه إن كان المراد ظاهره. نعم ، قد أصرّ على ذلك بعض مشايخنا قدس‌سره في


« جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام » (١).

ولعمري إنّه من غرائب الكلام وإن أوهمه ظاهر كلام بعض الأعلام ، بل كلام شيخنا قدس‌سره فيما تقدّم في مسألة حجيّة الأخبار.

ثمّ إذا عرفت فساد توهّم القول بحجيّة مطلق الظّن في مطلق الموضوعات الخارجيّة فهل قام هناك شيء من دليل الانسداد أو غيره على اعتبار مطلق الظّن في بعض الموضوعات الخارجيّة أم لا؟

وملخّص القول فيه : أنّه ادّعى بعض المحقّقين (٢) الإجماع على اعتبار الظّن في الأمور المستقبلة ، وهذا الكلام بإطلاقه لا معنى لأن يكون مرادا. نعم ، هو مستقيم في الجملة.

وقد يستظهر من كلام ثاني الشّهيدين في باب « الشّياع الظّني » القول بحجيّته مطلقا ؛ نظرا إلى كون الظّن الحاصل منه أقوى من الظّن الحاصل من البيّنة العادلة في غالب مواردها (٣) ، وقد عرفت المناقشة فيه في مطاوي ما قدّمنا لك عند الكلام في الظّنون الخاصّة.

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٤٠ / ٥٥ ، وكذا ج ٢٢ / ١٥٤ وج ٣٦ / ٢٣١ إلى غير ذلك من المواضع.

(٢) الشيخ محمّد تقي صاحب الحاشية ولم نجده عاجلا في الهداية ، وأنظر تقريرات المجدد الشيرازي : ج ٢ / ١٣٦.

(٣) أنظر مسالك الأفهام : ج ١٣ / ٣٥٤.


ويظهر من شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » في هذا المقام إمكان إجراء دليل الانسداد في جملة من الموضوعات كالضّرر والعدالة والنّسب والوقف وأشباهها من الموضوعات المتعلّقة للأحكام الكثيرة مع فرض انسداد باب العلم في غالب مواردها ، فالرّجوع إلى الأصل يوجب طرح تلك الأحكام ، ومن هنا يعتبر الظّن عندهم في باب الضّرر والنّسب. ومن هنا يكتفى بظنّ السّيادة والإلحاق بالهاشم في باب الخمس وغيره.

وما أفاده قدس‌سره وإن كان مسلّما مستقيما في الجملة إلاّ أنّه بإطلاقه محلّ مناقشة.

توضيح ذلك : أنّ الظّن في باب الضّرر وإن كان حجّة اتّفاقا وعليه العمل من العلماء والعقلاء في أمور معادهم ومعاشهم ، والحكمة فيه وإن كانت انسداد باب العلم في غالب موارده ، إلاّ أنّه يمكن منع جريان شبه دليل الانسداد فيه ؛ لأنّ جميع الوقائع الّتي يظنّ الضّرر فيها لا يتّفق عادة واقعة للمكلّف دفعة واحدة بحيث يصير محلاّ لابتلائه حتّى يلزم من الرّجوع إلى الأصل طرح الخطاب المتوجّه إلى المكلّف منجّزا على ما هو المناط والمدار في منع الرّجوع إلى الأصل في الشّبهة المحصورة كما ستقف على تفصيل القول فيه في محلّه.

وأمّا القول باعتبار مطلق الظّن في باب العدالة والنّسب والوقف وأشباهها بحيث يكون حجّة حتّى في مقابل المدّعي خلافها ، فلم يدلّ عليه دليل بل ربّما يكون القول به بإطلاقه حتّى في مقابل المدّعي والمتصرّف خلاف الإجماع.

نعم ، لا إشكال في اعتبار بعض الأمارات شرعا في باب النّسب كالفراش


فإنّه كالبيّنة والإقرار في هذا الباب وإن لم يحصل الظّن الشّخصي منه ، وهذا لا دخل له بحجيّة مطلق الظّن في باب النّسب.

وهذا مثل القول بحجيّة الظّن في دخول الوقت أو الشّهر في الجملة لمن كان متعذّرا من الفحص ، أو القبلة لمن كان متحيّرا في الجملة ، وإن كان بينهما فرق من جهة أخرى ؛ فإنّ اعتبار الفراش من باب الظّن الخاصّ لا الظّن المطلق وبالجملة القول بحجيّة مطلق الظّن في بعض الموضوعات مطلقا كما في باب الضّرر أو في الجملة ممّا لا نمنعه ، لكنّه لا دخل له بحجيّة مطلق الظّن في مطلق الموضوعات ، فالمرجع فيها الأمارات المعتبرة بقول مطلق كالبيّنة ونحوها ومع فقدها فالمرجع الأصول العمليّة ولا يلزم من الرّجوع إليها محذور أصلا.

ومن هنا لا يجب الفحص عن الموضوعات المشتبهة فافهم وليكن هذا في ذكر منك عسى ينفعك في كثير من الموارد.

ثمّ من الواضحات كون الكلام في حجيّة الظّن في باب الضّرر متوقّفا على تعلّق الحكم الشّرعي بالضّرر الواقعي لا بخوفه ، وإلاّ لم يكن معنى الكلام في اعتباره ؛ لأنّ صدق الخوف مع الشّك وجداني ، فضلا عن الظّن بالضّرر ، فلو قيل بتعلّق الحكم في باب التّيمم والإفطار ـ كما هو مقتضى بعض الأخبار وذهب إليه بعض الأصحاب ـ بموضوع الخوف ، لحق الحكم مع الشّك في الضّرر أيضا ولا دخل له بمسألة حجيّة الظّن في باب الضّرر أصلا ، كما أشار إليه في « الكتاب ».

* * *


* التنبيه الخامس :

في اعتبار الظنّ في اصول الدين

(٥٨) قوله قدس‌سره : ( أحدهما : ما وجب على المكلّف الاعتقاد والتّديّن به ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٥٥٥ )

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ظاهر ما أفاده في المقام بل صريحه كون التّصديق العلمي مغايرا للاعتقاد ، ومن هنا جعله مقدّمة وجوديّة له تارة ومقدّمة وجوبيّة له أخرى ، وهو الّذي يظهر من غير واحد منهم : المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » في بيان حقيقة الإيمان بالنّسبة إلى القلب والجوارح حيث قال ما هذا لفظه :

« قيل إنّه فعل القلب فقط. وقيل : إنّه فعل الجوارح. وقيل : إنّه فعلهما معا. وذهب إلى الأوّل المحقّق الطّوسي في بعض أقواله ، وجماعة من أصحابنا والأشاعرة.

والتّحقيق : أنّه لا يكفي فيه مجرّد حصول العلم بل لا بدّ من عقد القلب على مقتضاه وجعله دينا له وعازما على الإقرار به في غير حال الضّرورة والخوف ، بشرط أن لا يظهر منه ما يدلّ على الكفر.


والحاصل : أنّ محض العلم لا يكفي وإلاّ لزم إيمان المعاندين من الكفار الّذين كانوا يجحدون ما استيقنت به أنفسهم ، كما نطقت به الآيات » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وربّما يستدلّ على كون الاعتقاد الّذي هو عبارة عن عقد القلب مغايرا للتّصديق العلمي وزائدا عليه ومنفكّا عنه بجملة من الرّوايات مثل قوله عليه‌السلام :« فرض اللّسان القول والتّعبير عن القلب بما عقد عليه وأقرّ به » (٢) الحديث.

وما رواه الزّبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام. « وأمّا ما فرض على القلب من الإيمان والإقرار والمعرفة والعقد » (٣) الحديث وفي آخره : « وذلك ما فرض الله عزّ وجلّ على القلب من الإقرار والمعرفة وهو عمله وهو رأس الإيمان » (٤).

فإنّ ظاهره كون المعرفة مغايرة لعقد القلب كما هو مقتضى العطف وحمله على التّفسير والبيان كما يقتضيه ذيل الرّواية حيث اقتصر على ذكر المعرفة فقط ، خلاف الظّاهر إلى غير ذلك ممّا يستظهر منه كون الإيمان والاعتقاد غير مجرّد

__________________

(١) قوانين الاصول : ج ٢ / ١٧٨.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٥ باب « في ان الايمان مبثوث لجوارح البدن كلها » ـ ح ١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٥ / ١٦٤ باب « الفروض على الجوارح ووجوب القيام بها » ـ ح ١ ، وفيه :فرض الله على اللسان ... إلى آخره.

(٣) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٤ نفس الباب السابق ـ ح ١.

(٤) نفس المصدر السابق.


العلم والقطع بالمعارف.

وقد استدلّ قدس‌سره عليه في مجلس البحث ـ بعد الإصرار على تغايرهما ـ :بأنّهما لو كانا متّحدين لم يمكن تعلّق الوجوب بالاعتقاد وصيرورته معروضا له ؛ لأنّ الاعتقاد بمعنى العلم من الأوصاف الاضطراريّة بعد حصول المقدّمات لا الأفعال ، فلا يعقل أن يعرضها الوجوب فيكون المطلوب حقيقة هو مقدّمات تحصيله الّتي هي من قبيل الأفعال الاختياريّة ، وهو خلاف ظاهر جميع كلماتهم ، بل خلاف ظاهر الآيات والأخبار الواردة في باب الإيمان والمعرفة ، فلا بدّ من أن يلتزم بكون الاعتقاد أمرا اختياريّا وفعلا للقلب غير مجرّد التّصديق العلمي حتّى يمكن اتّصافه بالوجوب ويقع في حيّز أمر الشارع.

لا يقال : إنّ العلم وإن لم يكن مقدورا بالذّات إلاّ أنّه مقدور بالواسطة ومعلوم أنّ القدرة الّتي هي مناط صحّة التّكليف ومداره هو الأعمّ وإلاّ لارتفع أكثر التّكاليف إن لم يرتفع كلّها وهو كما ترى.

مغايرة الإعتقاد للعلم

لأنّا نقول : ما ذكر من إناطة التّكليف بالقدرة بالمعنى الأعمّ وإن كان أمرا مسلّما مفروغا عنه ، إلاّ أنّ متعلّق المقدور بالواسطة لا بدّ من أن يكون من مقولة الأفعال بالمعنى الأعمّ من فعل القلب والجوارح ولا يجدي تعلّقها بالصّفة ، فإنّ المكلّف به حقيقة حينئذ هو الأسباب. ولو تعلّق في ظاهر القضيّة اللّفظيّة


بالأوصاف فلا بدّ من صرفها ؛ ضرورة انحصار متعلّق الأحكام الشّرعيّة في أفعال المكلّفين وبالجملة الاعتقاد يغاير العلم.

ومن هنا حكم في الشّرع كتابا وسنّة بكفر من لم يعتقد بالحقّ وإن كان عالما به سواء كان مصرّا في ترك الاعتقاد أو لا ، هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره ـ مضافا إلى منافاته لما سيجيء من كلامه من الإشكال في منع حجيّة الخبر في الأصول بقوله قدس‌سره « ولكن يمكن أن يقال : إنّه إذا حصل الظّن من الخبر ... إلى آخره » (١) ؛ إذ لا فرق بين الظّن والعلم في الحكم المذكور كما هو ظاهر ـ :

بأنّا كلّما نتأمّل لا نعقل الاعتقاد أمرا زائدا على التّصديق الحاصل في القلب ولا نرى فيه بعد التّصديق العلمي شيئا آخر أصلا يعبّر عنه بالاعتقاد وفعل القلب. فالتّصديق المذكور عين عقد القلب على المعلوم لا تغاير بينهما أصلا ؛ فإن كان اختياريّا فهو أيضا اختياريّ وإن كان اضطراريّا فهو أيضا اضطراري ، فإن كان من فعل القلب فهو أيضا من أفعاله وإن كان من الأوصاف فهو أيضا من الأوصاف.

فظهر من ذلك : اندفاع ما أفاده قدس‌سره : من أنّه لو كانا متّحدين لم يمكن تعلّق الوجوب بالاعتقاد وصيرورته معروضا له على ما هو المطلوب في العقائد أوّلا وبالذّات ؛ لأنّ التّصديق كما هو الحقّ المعروف عبارة عن فعل القلب ، فإن فرض

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٥٧.


اختياريّا ابتداء وبالذّات كما قد يتوهّم فلا إشكال ؛ لأنّ الفعل الّذي يعتبر تعلّق التّكليف به أعمّ من أن يكون من أفعال القلب أو الجوارح وإن فرض اضطراريّا كما هو الحقّ وعليه المحقّقون من كون جميع الإدراكات اضطراريّا فكذلك ؛ لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ويصحّ تعلّق التّكليف به سواء كان من أفعال القلب أو الجوارح.

وبالجملة : تعلّق الأمر والتّكليف بالعلم والتّصديق ممّا لا مجال لإنكاره فإن كان العلم من الأفعال فهو وإن كان انفعالا للقلب ، فلا بدّ من إرجاع الأمر به إلى الأمر بمقدّماته ، وليس فيه إلاّ مخالفة ظاهر كلماتهم ، وهي ممّا لا يوجب رفع اليد عمّا قضت به الضّرورة : من عدم تعلّق التّكليف بما لا يكون من مقولة الفعل ، فالاستدلال على كون العلم مغايرا للاعتقاد من حيث تعلّق التّكليف به محلّ نظر بل منع.

وأمّا الحكم بكفر جماعة ممّن كانوا عالمين بالحقّ كفرعون وأضرابه ، فليس من جهة عدم اعتقادهم مع علمهم بالحقّ ، بل من جهة إنكارهم للحقّ وعدم التزامهم به. إذن الإيمان ليس مجرّد الاعتقاد ؛ ضرورة اعتبار أمر آخر وراءه فيه.

نعم ، لا إشكال في أنّ هنا شيئا آخر وراء العلم ، وهو الرّضا وطيب النّفس في مقابل الاستنكاف والاستكبار القلبي ، وقد اعتبر الرّضا والتّسليم في رواية


الزّبيري (١) بعد الإقرار والمعرفة وعقد القلب وهو ظاهر قوله عليه‌السلام في بعض الأدعية : « رضيت بالله ربّا وبالقرآن كتابا وبالكعبة قبلة » (٢).

لكنّ الظّاهر عدم إرادة التّسليم والرّضا من الاعتقاد في كلامه قدس‌سره وإن كان لا يأباه ما أفاده في مجلس المذاكرة ، بل ربّما يصرّح به في خلال إفاداته ، مع أنّ القول باعتبار ذلك في الإيمان خلاف ظاهر أكثر الأخبار الواردة في تفسير الإيمان كما ستقف عليه ممّا ذكره قدس‌سره بعد ذلك.

نعم ، لا إشكال في اعتباره في بعض مراتب الإيمان وعدم تحقّقه بدون الرّضا والتّسليم ؛ حيث إنّه ذو مراتب ودرجات كثيرة لا يوجد بعضها إلاّ في الخصّيصين من الأولياء والمرسلين والصّديقين.

وأمّا اعتباره في الإيمان بقول مطلق في مقابل الكفر الموجب للخلود في النّار والأحكام الدّنيويّة والآثار البرزخيّة ، فلا يظنّ القول به من أحد فضلا عن مثله العديم في عصره بل غالب الأعصار.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من المناقشة فيما أفاده من مغايرة العلم للاعتقاد لا تعلّق له بما أفاده في بيان تقسيم العقائد إلى القسمين ؛ فإنّه صحيح لا محيص عنه أصلا ،

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٤ باب « في ان الايمان مبثوث في جوارح البدن كلها » ـ ح ١.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ٥٢٥ باب « القول عند الإصباح والإمساء » ـ ح ١٢ ، عنه الوسائل :ج ٦ / ٤٦٣ باب « استحباب الشهادتين والإقرار بالأئمة : بعد كل صلاة » ـ ح ١.


فيقال علي المناقشة المزبورة :

إنّ ما يكون من مقولة الاعتقاديّات لا يخلو إمّا أن يجب تحصيل معرفته أولا يجب ، بل إن حصلت المعرفة حصل الاعتقاد قهرا ووجب الالتزام والتّدين بمقتضاه وإن لم يحصل فلا يجب تحصيل المعرفة الظّنّية ولا التّدين بمقتضاها لو فرض حصولها ، كما لم يجب تحصيل المعرفة العلميّة ، بل على تقدير حصول المعرفة الظّنية يحرم التّديّن والالتزام بها لما دلّ على حرمة التّدين بغير العلم.

ثمّ إنّه يعلم ممّا ذكرنا كلّه : فساد ما قيل أو يقال : من أنّ هنا شيئا آخر معتبرا في الإيمان غير مجرّد العلم وهو الحبّ في قبال العناد والعزم على الإقرار وغير ذلك ، فإنّ اعتبار هذه الأمور في الإيمان على القول به لا تعلّق له بمغايرة العلم للاعتقاد وإن عقد القلب بشيء غير العلم به فإنّ وجود أمور قلبيّة غير العلم سواء اعتبرت في الإيمان أو بعض مراتبه أو لا ، ممّا لا ننكره أصلا.

كما أنّه يظهر منه فساد الاستشهاد بالآيات والأخبار الظّاهرة في اعتبار القول والإقرار زائدا على الاعتقاد في الإيمان والإيجاب الإنكار والجحود للكفر مثل قوله تعالى : (الّذين يقولون آمنّا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم) (١) وقوله

__________________

(١) الحجرات : ١٤ والصحيح : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ).


تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ) (١) إلى غير ذلك من الآيات والأخبار الّتي ستمرّ عليك.

ثمّ إنّ هنا قسما ثالثا لما أفاده من القسمين للعقائد الحقّة ليس ممّا يجب التّديّن به ولو بعد العلم بثبوته من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخباره به على سبيل الجزم واليقين ، وإن كان إنكاره بعد العلم بثبوته من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موجبا للكفر من حيث رجوعه إلى إنكار النّبوة وتكذيب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ تكذيبه ولو في أخباره العادية موجب للكفر قطعا ، وهو : ما يرجع إلى بيان أمور واقعيّة لا تعلّق لها بالدّين ، مثل بيان مبدأ خلق السّماء والأرض ، وحور العين والفصل بين كلّ سماء إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى بيان خلقة المخلوقات ؛ فإنّه ليس أمرا دينيّا اعتقاديّا بحيث يجب التّديّن به والإقرار به وإن لم يجز إنكاره بعد العلم بثبوته من صاحب الشّرع هذا.

وتوهّم : كون جميع ما بيّنه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدّين فاسد كما سننبّه عليه.

__________________

(١) البقرة : ١٣٦.


لو حصل الظنّ من الخبر

(٥٩) قوله قدس‌سره : ( لكن يمكن أن يقال : إنّه إذا حصل الظّن من المخبر (١) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٥٧ )

أقول : لا يخفى عليك ؛ انحصار الأمر فيما أفاده بعد البناء على اتّحاد الاعتقاد الظّني للظّن على ما عرفت تحقيقه ، وإلاّ فيوجد هنا وجه آخر أهمل ذكره في « الكتاب » بملاحظة تخيّل أمر الحصر فيما أفاده ، كما أنّ مبناه على كون وجوب الإظهار والإقرار من الأحكام الشّرعيّة المترتّبة على نفس المعتقد ، أي : الأمور الثّابتة الدّينيّة النّفس الأمريّة لا من الأحكام المترتّبة على خصوص الاعتقاد الجزمي بها ؛ ضرورة عدم قابليّتها لتعلّق الجعل الظّاهر بها على التّقدير المزبور.

وتوهّم : كون إظهار المخبر به ممّا يقتضيه نفس دليل وجوب التّعبد بخبر العادل فلا يحتاج إلى جعله من آثار المخبر به في نفس الأمر مع قطع النّظر عن الأخبار ، ومن هنا ورد الأمر البليغ بنقل الأخبار المأثورة عن الأئمّة عليهما‌السلام والحثّ على كتبها وإيداعها في الكتب حتّى ينتفع بها الغائبون ، بل المعدومون ومن في

__________________

(١) كذا وفي الكتاب : « إذا حصل الظن من الخبر ... إلى آخره » وهو الصحيح ولعلّ ما وقع هنا من سهو قلم الناسخ والله العالم.


أصلاب الرّجال ـ كما ترى.

ضرورة أنّ مجرّد نقل الخبر من دون اعتقاد بثبوت مضمونه الّذي هو الموضوع في تلك الأخبار لا يفيد في مسألة حجيّة خبر الواحد في العقائد أصلا ؛ لأنّ مجرّد النّقل غير إظهار النّاقل الاعتقاد بثبوته ولو في مرحلة الظّاهر الّذي هو المقصود بالبحث في المقام.

ولأجل ما ذكرنا يناقش فيما أفاده قدس‌سره كما يظهر من قوله بعد ذلك أيضا : بأنّ الإقرار باللّسان وإن كان ممكنا مع الظّن الحاصل من الخبر ، بل مع الشّك ، بل مع القطع بالعدم أيضا ، إلاّ أنّ وجوبه مترتّب على الاعتقاد العلمي بالعقائد الحقّة كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : « فرض اللّسان التّعبير عمّا عقد عليه القلب » (١) الحديث. فلا يمكن ثبوته مع فرض زوال الاعتقاد المزبور هذا.

انقسام المعارف بالمعنى الأعم

وإن أردت تفصيل القول في المقام فاستمع لما يتلى عليك.

فنقول ـ وبالله الاستعانة ـ : إنّ المعارف بالمعنى الأعمّ على قسمين :

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٥ باب « ان الايمان مبثوث على الجوارح » ـ ح ١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٥ / ١٦٤ باب « الفروض على الجوارح » ـ ح ١ ، وفيه « وفرض الله على اللسان القول والتعبير عن القلب بما عقد عليه وأقرّ به ... ».


أحدهما : ما لا يكون من الدّين ولا دخل له بشريعة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل كيفيّة خلق السّماء والأرض والحور والقصور وغير ذلك ممّا عرفت الإشارة إليه عن قريب.

ثانيهما : ما يكون من الدّين.

لا يقال : لا معنى للتّقسيم المذكور ؛ لأنّ كلّ ما بيّنه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون من الدّين لا محالة وإلاّ لم يبيّنه.

لأنّا نقول : هذا غلط واضح وخلط ظاهر ؛ فإنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد يخبر عن الشّيء من حيث كونه شارعا ومبلّغا عن الله ( تعالى ) ومأمورا بتبليغه إلى العباد ، وقد يخبر عن الشّيء لا من الحيثيّة المذكورة ، بل من حيث كونه عالما بالغيب بإفاضة الله سبحانه ، ومن المعلوم أنّ هذا لا يرجع إلى الإخبار عن الأمر الدّيني.

ثمّ الثّاني : أي : ما يكون من الدّين وشريعة سيّد المرسلين ينقسم على قسمين :

أحدهما : ما يتعلّق بالعمل بالمعنى الأعمّ من التّعلّق الأوّلي الّذي يسمّى بالحكم الفرعي ، والتّعلق الثّانوي وبالواسطة الّذي يسمّى بالحكم الأصولي العملي.

ثانيهما : ما يكون المقصود منه والغرض الأصلي الأوّلي المطلوب منه الاعتقاد وإن ترتّب عليه عمل أحيانا.

أمّا الأوّل ؛ أي : ما لا دخل له بالدّين أصلا فلا إشكال في أنّه لا يجب التّدين


به بعد حصول العلم به فضلا عن الظّن به. نعم ، لا يجوز إنكاره بعد ثبوته من حيث إيجابه لتكذيب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكون كفرا.

وأمّا الثّاني ؛ فما يتعلّق منه بالعمل ولو بالواسطة فلا إشكال في إمكان التّعبد فيه بغير العلم ، بل وقوعه في الجملة على ما عرفت مفصّلا ، وإن كان مقتضى الأصل الأوّلي البناء فيه على عدم وقوع التّعبد وما يتعلّق منه بالاعتقاد فقد عرفت سابقا أنّه على قسمين :

أحدهما : ما يجب الاعتقاد به مطلقا فيجب تحصيل المعرفة به.

ثانيهما : ما لا يجب فيه ذلك بل إن حصلت المعرفة به حصل الاعتقاد به قهرا ويجب التّديّن بمقتضاه.

والمعتقد في المقامين :

قد يكون أمرا إجماليّا بمعنى أنّه قد يجب الاعتقاد بشيء والتّديّن به إجمالا سواء كان وجوبا مطلقا أو مشروطا بالمعنى الّذي عرفته فلا يجب تحصيل تفصيله.

نعم ، لو حصل العلم به وجب التّديّن به من حيث كونه عين ما وجب الاعتقاد والتّدين به إجمالا ضرورة كون المفصّل عين المجمل وإن افترقا من حيث الإجمال والتّفصيل.

وقد يكون أمرا تفصيليّا.


بيان حكم القسمين

ثمّ إنّ التّكلّم في حكم الظّن في القسمين على نحو التّكلّم في حكم العلم فيهما.

ففي القسم الأوّل : يتكلّم فيه من حيث وجوب تحصيله والتّدين به بعد الحصول كالعلم.

وفي القسم الثّاني : يتكلّم فيه من حيث وجوب التّديّن به بعد الحصول ؛ ضرورة عدم مزيّة للظّن على العلم فإذا لم يجب تحصيله في مقام لم يجب تحصيل الظّن بالأولويّة القطعيّة فالتكلّم فيه في كلّ من القسمين حقيقة من حيث قيامه مقام العلم وعدمه.

أمّا القسم الأوّل فملخّص القول فيه : أنّه لا دليل على قيام الظّن مقام العلم عند العجز عنه مطلقا من غير فرق بين أقسام الظّن بالنّسبة إلى الآثار المترتّبة على العلم ، فلا يجب تحصيله عند العجز عنه ولا التّدين بمقتضاه بعد الحصول. نعم ، له أحكام خاصّة يقع التّكلّم فيها عند تعرّض شيخنا الأستاذ العلاّمة لها.

وأمّا القسم الثّاني : وهو أنّه هل يجب فيه العمل بالظّن والتّدين بمقتضاه بعد الحصول وعدم حصول العلم أم لا؟ فالحقّ فيه أيضا عدم الوجوب ، فلا يقوم مقام العلم وإن كان ظاهر بعض بل غير واحد خلافه ؛ لعدم دليل عليه أصلا.


وتفصيل القول فيه : أنّ الظّن الحاصل لا يخلو أمره : إمّا أن يكون ممّا ثبت اعتباره من أجل دليل الانسداد أو غيره مما أقاموه لحجّيّة الظن المطلق أو ثبت اعتباره من حيث الخصوص ، وعلى الثّاني لا يخلو أيضا ؛ إمّا أن يكون لما دلّ على اعتباره عموم أو إطلاق يمكن التّمسك به في الأصول ، أو لا سواء كان من غير الألفاظ ، أو الألفاظ الّتي ليست لها عموم أو إطلاق.

وعلى الأوّل والثّاني من قسمي الثّاني ، لا إشكال في عدم وجوب التّديّن بمقتضاه ، بل لا يجوز لما دلّ من الأدلّة القطعيّة على حرمة التّديّن بغير العلم بل أكثر الآيات والأخبار الواردة في هذا الباب يختصّ بالأصول موردا ، أو المفروض عدم المخرج عن مقتضاها لعدم جريان دليل الحجيّة ومقدّماته أو عدم العموم والظّهور له كما في الثّاني.

وأمّا على الأوّل من قسمي الثّاني ، فقد يتوهّم بل توهّم : وجوب التّدين بمقتضاه ؛ لأنّه نوع عمل به فيشمله ما دلّ بعمومه على حجيّته ووجوب اتباعه. لكنّك قد عرفت سابقا فساد التّوهم المزبور ؛ لأنّ التديّن بالظّن وإن سلم كونه نوع عمل به متفرّع على حجيّته ، إلاّ أنّ ما دلّ على حجيّته واعتباره إنّما يفيد بالنّسبة إلى الآثار المترتّبة على المظنون لا من حيث وصف الظّن لا الآثار المترتّبة عليه بشرط العلم به.

وبعبارة أخرى : الآثار المترتّبة على المعلوم من حيث هذا الوصف. وقد


عرفت سابقا : أنّ التّدين في الأصول من آثار الاعتقاد الجزمي بالواقع لا من آثار نفس الواقع من حيث هو.

نعم ، لو كان هناك أثر فرعيّ متفرّع على الواقع من حيث هو غير وجوب التّدين المترتّب على الاعتقاد ، لم يكن إشكال عندنا في ترتّبه على الظّن الثّابت حجيّته ، فلو دلّ خبر على كفر المجسّمة حكم بنجاستهم وترتيب سائر الأحكام الفرعيّة المترتّبة على الكفر وإن لم يحكم بوجوب التّدين بمقتضاه وكون التّجسم مثلا من أسباب الكفر ، بل لا فرق فيما ذكرنا من حجيّة الظّن بالنّسبة إلى تلك الآثار بين كون حجيّته من حيث الخصوص ، أو من أجل دليل الانسداد ؛ نظرا إلى ما عرفت تحقيقه سابقا من عدم الفرق بين أسباب الظّن في المسألة الفرعيّة فراجع.

فلو دلّ خبر واحد مثلا على أفضليّة بعض الأنبياء أو الأوصياء على بعض ، أو تفويض الأحكام إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في جملة من الأخبار (١) فلا يحكم بوجوب التّديّن بمقتضاه ولكن لو ترتّب عليه حكم فرعيّ عمليّ فرضا غير وجوب التّديّن يحكم بوجوب ترتّبه عليه ولا يلزم التّفكيك بين دلالتي المطابقة والالتزام من حيث الوجود وإن التزم من حيث الاعتبار ولا ضير فيه أصلا إذا ساعده الدّليل كما برهن عليه في محلّه هذا.

__________________

(١) بصائر الدرجات الكبرى : ٣٩٨ باب « التفويض الى رسول الله ٦ » ، والكافي الشريف :ج ١ / ٢٦٥ باب « التفويض الى رسول الله ٦ ».


وأمّا ما ترى في كلماتهم : من التمسّك بالظّن في الأصول فليس من باب الاعتماد والاستدلال به مستقلاّ ، بل إمّا من باب التّأييد ، وإمّا من باب التّعاضد الموجب للعلم ؛ حيث إنّ توارد الظّنون وتراكمها قد يوجب العلم كما لا يخفى.

ولا فرق فيما ذكرنا من عدم حجيّة الظّنّ بين الظّن الخبري وغيره حتّى ظواهر الكتاب والسّنة المتواترة.

وما يتوهّم من الفرق بينهما بل توهّم : من حيث إنّ مبنى حجيّة الخبر وأمثاله على تعبّد الشّارع أوّلا وبالذّات ومبنى حجيّة الظّواهر على بناء العرف وأهل اللّسان والعقلاء وإن كان اعتباره في الشّرعيّات باعتبار كشفه عن تقرير الشارع ، أو إمضائه له ؛ من جهة ما دلّ عليه من الآيات والأخبار ولا فرق في بنائهم بين التّدين بمقتضى الظّواهر وسائر الآثار المترتّبة على المظنون.

فاسد جدّا ؛ لأنّ بنائهم إنّما يسلّم فيما لم يعلم كون الأثر من آثار العلم وإلا فلا معنى لبنائهم على عدم الفرق.

تأسيس الأصل لتمييز القسمين

ثمّ إنّ هذا الّذي ذكرنا في حكم القسمين ممّا لا ينبغي الإشكال فيه ، إنّما الإشكال في تميز أحدهما عن الآخر وبالحريّ قبل الخوض في بيان ما يصلح أن يكون مميّزا أن نذكر ما هو قضيّة الأصل الأوّلي عند الدّوران بين القسمين حتّى


يكون مرجعا عند الشّك فنقول :

إنّه لا ريب في اختلافها بحسب اختلاف الشّك في حكم المعرفة من حيث كونها واجبا نفسيّا ومطلوبا ذاتيّا كما يظهر من الشّيخ قدس‌سره أو واجبا شرطيّا وغيريّا على تقدير وجوب التّحصيل وإن كانت له جهة نفسيّة أيضا بمعنى كونها شرطا في تحقّق الإسلام أو الإيمان كما عليه غير واحد من الأصحاب بل أكثرهم.

فإن كان الشّك في حكمها من الحيثيّة الأولى ، فلا إشكال في أنّ قضيّة الأصل الأوّلي الثّابت بالعقل والشّرع هو عدم الوجوب ؛ ضرورة أنّه لا فرق في حكم العقل والشّرع في باب البراءة بين الحكم الأصولي والفرعي هذا.

مضافا إلى ما ورد في خصوص الأصول مثل قوله عليه‌السلام « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها وأهوى بيده إلى فيه » (١). فيكون مقتضى الأصل الأوّلي عند الدّوران بهذا المعنى بعد نفي الأوّل القسم الثّاني فلا يخرج عنه إلاّ بدليل.

وإن كان الشّك في حكمها من الحيثيّة الثّانية فقضيّة الأصل الأوّلي هي الشّرطيّة بالنّسبة إلى الآثار المترتّبة على المشروط من حيث هو مشروط ؛ لأنّ الأصل عدم تحقّقه بدون ما شك في اعتباره وشرطيّته وإن كان مقتضى الأصل

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ٤٦ ـ ح ١٣ من باب « البدع والرأي والمقاييس » عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ٣٨ باب « عدم جواز القضاء والحكم بالرأي » ـ ح ٣.


بالنّسبة إلى ما يترتّب على عصيان التّكاليف المعلومة من المؤاخذة واستحقاق العقوبة هو العدم ولا تنافي بينهما أصلا.

وعلى ما ذكرنا ينزّل ما ذكره المحقّق القمّي قدس‌سره في أوائل « القوانين » : من أنّ قضيّة دوران الأمر بين شرطيّة شيء للمأمور به وعدمها هي الشّرطيّة ؛ لأنّ الأصل عدم تحققّه بدونه.

فلا يتوجّه عليه ما أورد عليه في « الفصول » : من أنّ هذا الكلام منه ينافي ما بنى عليه الأمر في مسألة الشّك في الشّرطيّة من الرّجوع إلى البراءة من غير إشكال فيه أصلا ؛ لأنّ مبنى ما ذكره في أوّل الكتاب من أنّ قضيّة الدّوران هي الشّرطيّة إنّما هو بالنّسبة إلى الآثار والأحكام المترتّبة على المشروط ممّا هو من قبيل الوضع.

وقد عرفت : أنّه حسن لا محيص عنه بل عليه بناء العقلاء والعلماء ؛ إذ لا يتوهّم أحد كون الأصل وجود المشروط وترتيب آثاره عليه مع الشّك في وجود الشّرط. وهذا لا ينافي الحكم بالبراءة في المسألة المذكورة من جهة استقلال العقل في الحكم بقبح العقاب من دون بيان كما هو الحقّ وعليه المحقّقون ؛ لأنّ الحكم بالبراءة والاشتغال في المسألة المذكورة ليس مبنيّا على جواز إحراز الماهيّة بالأصل وعدمه كما بنى عليه الأمر في « الفصول ».

بل هو مبنيّ على أنّ مجرّد العلم الإجمالي بالتّكليف ـ ولو كان المكلّف به مردّدا بين الأقلّ والأكثر ـ يمنع من حكم العقل بالبراءة ويوجب حكمه بالاحتياط


ـ ووجوب الإتيان بالأكثر من جهة احتمال الضّرر في تركه ـ أو لا يمنع من ذلك ؛ لرجوع الأمر بالنّسبة إلى الأكثر إلى الشّك في أصل التّكليف النّفسي المستقلّ فيفرق مع المتباينين.

فكما أنّ وجوب الاحتياط والإتيان بالأكثر ليس مبنيّا على إثبات كون المأمور به هو الأكثر على القول به ، بل على احتماله من جهة لزوم دفع الضّرر المحتمل ـ كما هو مبنى الاشتغال في جميع موارده ـ كذلك الحكم بالبراءة ليس مبنيّا على إثبات كون المأمور به الأقلّ ، بل على احتماله ، فيؤول الشّك بالنّسبة إلى الزائد إلى الشّك في أصل التّكليف فيقبح العقاب عليه من دون بيان ، فليست البراءة من أحكام عدم شرطيّة المشكوك واقعا حتّى ينافي ما أفاده في باب البراءة لما أفاده في أوّل « الكتاب » ، بل من أحكام عدم العلم بالشّرطيّة وإن كان في الواقع شرطا.

فأصالة عدم المشروط إنّما ينفع بالنّسبة إلى الآثار المترتّبة على وجود المشروط فينتفي وجوده بالأصل وإن كان الشّك فيه مسبّبا عن الشّك في شرطيّة شيء له ، ولا ينفع بالنّسبة إلى الآثار المترتّبة على الشّك في شرطيّة شيء له وإن كان موجبا للشّك في وجود المشروط.

فإن شئت قلت : إنّ مبنى الرّجوع إلى البراءة والاشتغال إلى حكمي العقل في قاعدتي قبح العقاب من غير بيان ووجوب دفع الضّرر المحتمل لا إلى تحقّق الماهيّة في ضمن الأقلّ والأكثر ، فلو ترتّب حكم على كون المأمور به هو الأقلّ ، لم


يترتّب على مجرّد الحكم بالبراءة بإتيان الأقلّ ، فكلّ عنوان شك في حصوله من جهة الشّك في مدخليّة شيء فيه لم يحكم بحصوله مع الشّك بل يحكم بعدمه معه ، ولا معنى للحكم بعدم الشّرطيّة من جهة أصالة العدم حتّى يرتفع الشّك من وجود المشروط من جهة كونه مسبّبا عنه ؛ نظرا إلى عدم الحالة السّابقة لها إلاّ قبل جعل الماهيّة وإن صحّ البناء على عدم كون تركه سببا للعقاب على ترك المشروط المسبّب عنه ، اللهمّ إلاّ أن يريد بالأصل المذكور ما ذكرنا : من الرّجوع إلى البراءة ، لكنّه ليس مراد المتمسّك به في المقام يقينا.

وهذا الّذي ذكرنا كلّه مع كونه أمرا واضحا منتهى الوضوح سنوضّح القول فيه في الجزء الثّاني من التّعليقة عند التّكلّم في مسألة « الأقلّ والأكثر » من صور الشّك في المكلّف به. هذا بعض الكلام فيما يقتضيه الأصل الأوّلي عند الدّوران بين القسمين.

ما يوجب الخروج عن الأصل المذكور

وأمّا الكلام في المخرج عنه فقد يقع في وجوب المعرفة مستقلاّ وقد يقع في وجوبها شرطا للإسلام والإيمان ، فنقول : إنّ المخرج عنه إن كان دليلا قطعيّا فلا إشكال في اعتباره في مقام الخروج عن مقتضى الأصل الأوّلي مطلقا لارتفاع موضوعه بعد قيام الدّليل القطعي في المسألة ، وأمّا لو كان المخرج ظنيّا فهل يكون حجّة في مقام تميز أحد القسمين عن الآخر وواردا على الأصل الأوّلي المذكور


أم لا؟ وجهان : أوجههما الأوّل ، من غير فرق بين أقسام الظّن.

فلو دلّ دليل ظنّي على وجوب المعرفة والاعتقاد مطلقا حكمنا بمقتضاه وبكونه من القسم الأوّل فيجب على المكلّف الفحص والبحث في تحصيل المعرفة والاعتقاد بما دلّ على وجوب الاعتقاد به ، فإن حصل الاعتقاد فهو ، وإلاّ فيكشف ذلك عن عدم توجّه الخطاب إليه من أوّل الأمر ؛ لفرض عجزه عن تحصيل العلم في الواقع وفي علم الله ( تعالى ) كما هو الشّأن في سائر الواجبات المطلقة في مرحلة الظّاهر الغير المقدورة بحسب الواقع من غير علم المكلّف بعدم القدرة من أوّل الأمر المستكشف في ثاني الحال وبعد التّبيّن.

ولو دلّ على عدم وجوبه حكمنا بكونه من القسم الثّاني فيترتّب أحكام الإيمان على تارك تحصيل الاعتقاد وإن احتمل وجوبه الشّرطي هذا.

ولكن قد يتوهّم : عدم حجيّة الظّن في مقام تشخيص أحد القسمين وتميزه عن الآخر مطلقا سواء كان من الظّن الخاصّ أو المطلق إذا كان الشّك في وجوب معرفة المشكوك من حيث دخلها في الإسلام.

نعم ، لو كان الشّك في وجوبها النّفسي لم يكن إشكال في اعتباره لكونه ظنّا بالمسألة الفرعيّة حقيقة ، وهذا بخلاف الظّن في الأوّل ؛ فإنّه يرجع إلى الظّن في المسألة الأصوليّة الاعتقاديّة سواء دلّ بالمطابقة على وجوب الاعتقاد بشيء وكونه من الدّين أو بالالتزام كما إذا دلّ على وجوب تحصيل المعرفة والفحص في مظانّ حصول الاعتقاد ، فإنّه وإن كان ظنّا في العمليّات ابتداء ، إلاّ أنّه لا معنى


للحكم بحجيّة الظّن ؛ لأنّ العمل المتعلّق للوجوب في الفرض إنّما يكون مقدّمة للمسألة الأصوليّة ، فإذا لم يكن الظّن حجّة فيها لم يعقل الحكم بحجيّته بالنّسبة إلى تلك المسألة أيضا لقضيّة الاستتباع والتّلازم بين وجوب المقدّمة وذيها.

فإن شئت قلت : إنّما يكون الظّن في حكم المقدّمة حجّة إذا أمكن استكشاف حكم ذي المقدّمة منه بأن كانا عمليّين ، وأمّا إذا لم يكن الاستكشاف المذكور كما في المقام فلا معنى للحكم بحجيّة الظّن بالنّسبة إلى حكم المقدمة لعدم إمكان التّفكيك بين الحكمين في حكم العقل كما هو ظاهر ، هذا.

ولكنّك خبير بأنّه توهّم فاسد وتمحّل بارد ؛ لأنّ ما قدّمنا من الحكم بعدم حجيّة الظّن في الاعتقاديّات وذكره الأكثر إنّما هو بالنّسبة إلى التّدين بمتعلّق الاعتقاد مع عدم العلم به كالتّديّن بتفويض الأحكام إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتفضيل بعض الأنبياء أو الأوصياء على بعض ، أو كيفيّة علمهم بالأشياء من حيث كونه حصوليّا أو إراديّا أو حضوريّا إلى غير ذلك بمجرّد قيام الظّن بالمذكورات.

وهذا لا تعلّق له بإمكان إثبات وجوب الاعتقاد وتحصيل العلم بالظّن أصلا كما لا يخفى سواء فرض تعلّقه بنفس الاعتقاد الّذي يسمّى بالمسألة الأصوليّة أو بمقدّماته ؛ لأنّ المانع من الحكم بحجيّة الظّن في الأصول ، لم يكن إلاّ كون الأثر من آثار الاعتقاد كما في التّدين وهذا لا دخل له بالمقام. وقد عرفت : أنّه لو لم يكن التّديّن بالواقعيّات في الأصول من آثار الاعتقاد بها لم يكن مانع من الحكم بوجوبه.


فقد ظهر ممّا ذكرنا : دفع التّوهم على كلّ من تقدير دلالة الظّن على وجوب تحصيل المعرفة أو الاعتقاد هذا.

وقد يتوهّم في الدّفع عن التّوهم المذكور جواب آخر ، وهو : أنّه إذا فرض الشّك في مدخليّة شيء للإيمان فيحكم العقل بوجوب تحصيله دفعا للخوف واحتمال الضّرر في تركه ولا يجري في المقام قاعدة قبح العقاب من غير بيان حتّى يوجب الأمن من الضّرر ، لكونه من قبيل النّظر في المعجزة وهذا حال الشّك فيه ويثبت منه حكم وجوب العمل بالظّن بالأولويّة القطعيّة ؛ ضرورة كون الظّن بذلك أولى بالحكم من الشّك فيه هذا.

جواب آخر في دفع التوهّم المذكور والمناقشة فيه

ولكنّك خبير بأنّه توهّم فاسد ؛

أمّا أوّلا ؛ فلأنّ قياس المقام بمسألة النّظر في المعجزة قياس مع الفارق لا دخل له بها أصلا ؛ لأنّ العلم بوجوب النّظر في المعجزة لا يمكن أن يحصل بدونها بمقتضى جريان العادة من الله تعالى وهذا بخلاف المقام لإمكان العلم بوجوب تحصيل العلم والاعتقاد مع عدم حصولهما أصلا فيرجع إلى البراءة فيه بعد الفحص التّام من الدّليل الدّال عليه واليأس عنه كما في غيره ممّا يرجع فيه إلى البراءة بعد الفحص من الشّبهات الحكميّة.


فإن شئت قلت : الرّجوع إلى البراءة في مسألة النّظر في المعجزة يوجب إقحام الأنبياء فلا معنى لجوازه وهذا بخلاف المقام فلا يقاس أحدهما بالآخر.

وبعبارة أخرى : الرّجوع إلى البراءة في كلّ حكم إلهي يتوقّف على الفحص عنه بالإجماع والعقل ، بل بالأدلّة الأربعة حيث إنّ وجوب المسألة على الجاهل بالحكم الثّابت بالكتاب والسّنة قاض بوجوب الفحص عليه كما هو ظاهر ، وفي مسألة النّظر لا يحصل الفحص إلاّ بالنّظر فيجب وبعده يرتفع الشّك المقتضي للرّجوع إلى البراءة وهذا بخلاف المقام فلا يجوز القياس.

وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير تسليم كون المقام من قبيل المسألة المذكورة لا دخل له بمسألة حجيّة الظّن ؛ لأنّ حكم العقل على تقدير تسليمه حسبما قرّره في التّوهّم مبنيّ على مجرّد الاحتمال من غير مدخليّة للظّن من حيث هو ظنّ أصلا.

ثمّ إنّ ما ذكرناه وإن كان متعيّنا على تقدير قيام دليل على وجوب تحصيل المعرفة ولو عموما بأيّ المعنيين والوجهين ، إلاّ أنّ الظّاهر عدم قيام دليل كذلك على وجوب تحصيل المعرفة بمعنى اشتراطه في الإيمان بل مقتضى الأخبار المستفيضة إن لم تكن متواترة خلافه كما ستعرف ممّا أفاده قدس‌سره هذا كلّه ممّا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال فيما استدلّ به قدس‌سره لعموم وجوب المعرفة نفسا من غير أن يكون شرطا للإيمان فلا بدّ من صرف الكلام إليه فنقول :


إنّ الاستدلال بما ذكره على وجوب معرفة تفاصيل العقائد نفسا وإن كان من الأدلّة الظّنيّة باعتبار الصّدور أو الدّلالة وإن كان مستقيما على تقدير تسليم دلالته ؛ نظرا إلى كون المسألة من الفروع حقيقة على ما عرفت من مطاوي كلماتنا فلا تغتر بما قيل : من أنّ الاستدلال به تعلّق بالظّن في المسألة الأصوليّة الاعتقادية فلا يجوز كما اعترف به المصنف ، إلاّ أنّ الكلام في دلالته على المدّعى ؛ فإنّ الآية الشّريفة وهو قوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ ) (١) الآية على تقدير دلالتها على وجوب المعرفة والإغماض عمّا يقال : من كونها غاية لفعل الله تعالى شأنه ، فيترتّب عليه قهرا من حيث كونها فطريّا إلهاميّا إلهيّا ولو في الجملة ، لا عموم لها بالنّسبة إلى جميع مراتب معرفة الله تعالى ممّا يمكن تحصيله للبشر ، لم لا يكون المراد المعرفة في الجملة الّتي هي شرط للإيمان ومعتبرة فيه يقينا؟ هذا كلّه.

مضافا إلى أنّ دلالتها على وجوب جميع مراتب معرفة الله تعالى الممكنة للعباد لا يثبت المدّعى وهو وجوب معرفة جميع تفاصيل المعارف الحقّة والقول برجوعها إلى معرفة الله تعالى كما ترى. اللهم إلاّ أن يتمسّك للتعميم بعدم القول بالفصل فتأمّل. هذا بالنّسبة إلى الآية الشّريفة.

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا أعلم بعد المعرفة شيئا ... » (٢) الحديث ففيه ـ بعد الغضّ

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) الكافي الشريف : ج ٣ / ٢٦٤ باب « فضل الصلاة » ـ ح ١ ، ووسائل الشيعة : ج ١ / ٢٧


عمّا يقال : من أنّ الأفضليّة بمعنى الأكثرية أجرا وثوابا لا يلازم الوجوب ، ومن هنا كان السّلام أفضل من الجواب مع كون التحيّة مستحبّة والرّد واجبا ـ : منع دلالته على العموم ؛ إذ الظّاهر منه معرفة الله تعالى المعهودة الواجبة على كلّ أحد من حيث كونها شرطا للإيمان فيحمل على المعرفة الإجماليّة هذا.

مضافا إلى ما عرفت : من أنّ دلالته على وجوب تحصيل التّفاصيل بالنّسبة إلى معرفة الله تعالى لا يثبت الكليّة.

وأمّا آية الإنذار والتّفقّه في الدّين وما يساوقها فلا دلالة لها على المدّعى أصلا ؛ فإنّ حملها على الوجوب العيني كما هو المدّعى مضافا إلى منافاته لظاهرها بل صريحها خلاف ما اتّفق عليه الكلّ من الاستدلال بها على الوجوب الكفائي.

هذا مضافا إلى أنّ شمول آيات التّفقه وأخباره للفروع مسلّم مفروغ عنه ولم يقل أحد بوجوب المعرفة العينيّة على كلّ مكلّف بالنّسبة إلى الفروع. اللهمّ إلاّ على تقدير حمل التّفقّه على ما يشمل التّقليد وهو خلاف المدّعى كما لا يخفى.

وأمّا ما دلّ من الآيات والأخبار على طلب العلم أو كونه فريضة على كلّ مكلّف فلا بدّ من أن يحمل على الوجوب الكفائي ، أو المهملة ، أو يلتزم بإخراج الفروع عنه بل غير الأصول ، فإنّ العلم لا اختصاص له بخصوص الأحكام الشّرعيّة ؛ ضرورة شموله لغيرها. اللهمّ إلاّ أن يستظهر إرادة خصوص العلوم

__________________

الباب الأوّل من أبواب « مقدمة العبادات » ـ ح ٣٤.


الشّرعيّة بقرينة تعلّق الأمر به من الشّارع إلى غير ذلك من المحامل المنافية للمدّعى كما لا يخفى.

ومن هنا ذكر المطلب في « الكتاب » على سبيل الاحتمال والإمكان ، لا على سبيل الجزم والظّهور. مضافا إلى ما أفاده في ردّ توهّم من زعم كون الاشتغال بالعلم المتكفّل لمعرفة الله تعالى ومعرفة أوليائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهمّ من الاشتغال بعلم المسائل العمليّة بل كونه متعيّنا من حيث إنّ العمل يصحّ عن تقليد فلا يكون الاشتغال بعلمه إلاّ كفائيّا ، وهذا بخلاف المسائل الاعتقاديّة بقوله قدس‌سره « ولكن الإنصاف عمّن جانب الاعتساف يقتضي الإذعان بعدم التّمكّن من ذلك إلاّ للأوحدي من النّاس ... إلى آخر ما أفاده » (١).

في وجوه الرد على من توهّم كون الاشتغال بعلم المعرفة

أهمّ من الاشتغال بالفروع

والمستفاد منه وممّا أفاده في مجلس البحث في ردّ التّوهم المذكور يرجع إلى وجوه :

أحدها : عدم إمكان الاجتهاد وتحصيل المعرفة في تفاصيل الأصول من دون تحصيل ملكة الاجتهاد في الفروع ؛ لأنّ أكثر التّفاصيل إن لم يكن كلّها تثبت

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٦٠.


إمّا بالنّقل محضا ، وإمّا بالنّقل بضميمة العقل. ومعلوم أنّ الشّخص إن قدر على تحصيل الحكم من الدّليل النّقلي فلا معنى للفرق بين الحكمين فهو قادر على تحصيل الحكم الفرعي أيضا ، وإن لم يقدر عليه فلا فرق بينهما أيضا ؛ فإنّ فهم الحكم من الآيات والأخبار ودفع معارضاتها بالتّرجيح أو بغيره مشترك بين الحكمين ، بل ربّما كان استفادة الحكم الأصولي محتاجة إلى مزيد قوّة لئلاّ يأخذ بالنّقل المخالف لحكم العقل.

فالقول : بأنّه لا يجوز الاشتغال بتحصيل ملكة الاستنباط في الفروع إلاّ بعد الاجتهاد في تفاصيل المعارف فاسد جدّا ؛ لعدم تعقّل الانفكاك. وهذا معنى قوله في « الكتاب » : « ومثل هذا الشّخص مجتهد في الفروع قطعا » (١).

ثانيها : تسليم الانفكاك لكن نقول : إنّ في زماننا وأشباهه لا يمكن تحصيل تفاصيل المعارف ؛ لأنّ الآيات والأخبار الواردة فيها الّتي يمكن استفادتها منها ظنيّة أو متعارضة ، فلا يجوز التّعويل عليها بناء على ما عرفت تفصيل القول فيه من عدم اعتبار الظّن مطلقا في العقائد.

ثالثها : أنّه على تقدير إمكان الانفكاك إمّا مطلقا أو فيما كان الدّال على الحكم الأصولي المفصّل العقل فقط ، وإمكان تحصيل العلم من الآيات والأخبار ، أو نقول بحجيّة الظّن الحاصل منها بالنّسبة إلى الأصول كالفروع على ما زعم ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٥٦٠.


نقول : إنّه لا دليل على تعيّن الاجتهاد في الأصول في حقّ من يقدر على الاجتهاد فيهما على ما هو المفروض ؛ فإنّ الاجتهاد في الفروع وإن كان له بدل بالنّسبة إلى العمل حسبما ذكره المتوهّم ، إلاّ أنّه لا بدل له بالنّسبة إلى الإفتاء والحكم وسائر ما يحتاج إليه النّاس من تصرّفات المجتهد.

والقول : بأنّه يكفي وجود جمع من المجتهدين لرفع جميع الحوائج لجميع من في البلاد والقرى ، شطط من الكلام ؛ لأنّ أهل كلّ بلدة يحتاجون إلى جمع من المجتهدين. وأكثر القرى يحتاج إلى مجتهد هذا كلّه ، إذا لم نقل بوجوب الاجتهاد عينا على من يجد في نفسه القوّة القريبة ، وإلاّ كما اختاره شيخنا قدس‌سره ؛ نظرا إلى توقّف بقاء هذا النّوع الّذي يرفع به حوائج النّاس على اشتغال هذا النّوع دائما في كلّ زمان وعصر ، بل وأدون منه ، فالأمر أوضح ؛ لأنّه يجب على القادرين الاشتغال بالتّحصيل عينا لئلاّ يخلو الزّمان من المجتهدين ممّن به الكفاية في زمان فوت الموجودين.

نعم ، لو فرض حصول القطع لشخص بوجود من به الكفاية في كلّ زمان بحيث لا يحتاج إليه أصلا حكم بوجوب تحصيل تفاصيل المعارف الحقّة في حقّه على ما ذكره المتوهّم ، لكن هذا مجرّد فرض غير واقع سيّما في أمثال زماننا هذا كلّه.

مضافا إلى أنّ العمل المبتني على التّقليد وعدم المعرفة بالأحكام الإلهيّة ربّما يمنع من حصول المعارف الحقّة كما أشار إليه قدس‌سره في « الكتاب » هذا.


في امكان المناقشة في الوجوه المذكورة

ولكن يمكن المناقشة فيما أفاده ؛ أمّا في الوجه الأوّل الرّاجع إلى عدم التّفكيك بين الاجتهادين : فبأنّ علم الأصول والفروع متغايران لا دخل لأحدهما بالآخر ، ومجرّد كون مدرك تفاصيل المعارف الكتاب والسّنة لا يوجب كون القادر على تحصيلها منهما من جهة كثرة مزاولته بالمسائل الأصوليّة قادرا على الاجتهاد في الفروع. كيف! واستنباط الفروع منهما يحتاج ـ مضافا إلى معرفة الألفاظ وأحكام التّعارض ـ إلى ممارسة تامّة والأنس بالفروع والاطّلاع على الفتاوى وغير ذلك؟

هذا على القول بعدم إمكان التّجزي في الفروع ، وإلاّ فالأمر أوضح ؛ فإنّه إذا أمكن التّجزي في الفروع كان التّجزي بين العلمين أولى بالإمكان كما هو واضح.

وأمّا في الوجه الثّاني : فبأنّ منع حصول المعرفة من الدّليل النّقلي ولو بواسطة العقل على سبيل الكليّة خلاف الإنصاف بل خلاف الفرض.

وأمّا في الوجه الثّالث : فبأنّ الكفاية وإن لم يحصل بمجتهد واحد في الفروع لمسيس الحاجة إلى أزيد منه على القول بعدم جواز قضاء المقلّد كما هو المشهور حتّى في الشّبهات الموضوعيّة ، إلاّ أنّ كلّ من يقدر على تحصيل تفاصيل المعارف ليس ممّن يقوم به الكفاية يقينا فتأمّل.


وأمّا ما أفاده أخيرا في منع حصول المعرفة مع استناد العمل إلى التّقليد ، فيتوجّه عليه : أنّ الإفاضة الإلهيّة الرّبانيّة عامّة شاملة كلّ محل قابل لها ولا دخل للاجتهاد في الفروع في قابليّة المحلّ لها ، كما أنّه لا يمنع عنها التّقليد والّذي له دخل تامّ فيها تهذيب النّفس من الأخلاق الرّديّة والخلوص في النيّة والعمل من غير فرق بين كون طريق العمل الاجتهاد أو التّقليد ، بل ربّما يكون اطمئنان المقلّد بصحّة عمله أقوى من اطمئنان المجتهد بها هذا.

ويستفاد ممّا أفاده قدس‌سره بعد الفراغ عن نقل الأخبار المفسّرة للإيمان وبيان ما يستفاد منها : الاستدلال لوجوب المعرفة بالوجوب النّفسي المستقلّ بالنّسبة إلى مراتب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة سلام الله عليهم أجمعين مضافا إلى الكتاب والسّنة بحكم العقل بذلك فإنّه قال فيما سيأتي من كلامه :

« نعم ، يمكن أن يقال : إنّ معرفة ما عدا النّبوّة واجبة بالاستقلال على من هو متمكّن منه بحسب الاستعداد وعدم الموانع لما ذكرنا من عمومات وجوب التّفقّه وكون المعرفة أفضل من الصّلاة الواجبة وأنّ الجهل بمراتب سفراء الله جلّ ذكره مع تيسّر العلم بها تقصير في حقّهم وتفريط في حبّهم ونقص يحكم العقل برفعه بل من أعظم النّقائص » (١) انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

ويمكن المناقشة فيه أيضا : بأنّه لا شبهة في أنّ الإحاطة بمراتبهم وحدودهم

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٦٦ وفيه : وتفريط في حبّهم ونقص يجب بحكم العقل رفعه.


وصفاتهم وما هم عليه غير مقدور للمخلوق وإنّما هي حاصلة لخالقهم وصانعهم والمقدور من المعرفة بمراتبهم المستفادة من الأخبار ولو بانضمام العقل زائدا على ما يعتبر في تحقّق الإيمان. ولا إشكال في اعتباره في كمال الإيمان ؛ حيث إنّه ذو مراتب متعدّدة ودرجات متدرّجة كما سيأتي الكلام فيه ، ومن هنا اعتبر فعل الصّلاة والزّكاة في جملة من الأخبار المفسّرة للإيمان ، إلاّ أنّ حكم العقل بوجوبه في حيّز المنع.

فقد ظهر ممّا ذكرنا كلّه : أنّه لا دليل على وجوب معرفة التّفاصيل على سبيل الاستقلال ، بل ربّما يستفاد ممّا سيأتي في بيان الإيمان من الأخبار ـ نظرا إلى سكوتها عن بيان وجوب معرفة التّفاصيل ـ عدم وجوب الزّائد على ما ذكر فيها مطلقا وإن كانت الاستفادة المذكورة محلّ للمنع.

(٦٠) قوله قدس‌سره : ( فإنّ الظّاهر : أنّ حقيقة الإيمان الّتي يخرج الإنسان بها عن حدّ الكفر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٦١ )

عدم تغيير حقيقة الايمان بعد انتشار الشريعة

أقول : هنا توهّمات ومناقشات فيما أفاده قدس‌سره من عدم تغيير حقيقة الإيمان بعد انتشار الشّريعة وأنّ حدّ الإيمان في كلّ عصر وزمان هو التّوحيد والتّصديق


بنبوّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما في « الكافي » (١) ؛

أحدها : أنّ التّصديق بالمعاد وبالإمامة ـ كما في جملة من الأخبار الّتي ذكرها في « الكتاب » بعد رواية « الكافي » ـ معتبر في الإيمان بل التّصديق بجميع الضّروريّات معتبر فيه ، بعد انتشار الشّريعة مع عدم اعتباره في أوائل البعثة ، على ما في رواية « الكافي ».

ثانيها : أنّه قد ثبت في الأزمنة المتأخّرة عن أوائل البعثة أنّ فعل جملة من الأمور مثل ما يرجع إلى توهين الشّرع وتخفيفه والهتك بالنّسبة إلى ما ثبت وجوب احترامه موجب للكفر الموجب للخلود ولو كان عن عصيان بحيث يعتقد بثبوت حرمته في الشّرع وأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغ في حقّه ، إلاّ أنّه يختار فعله لبعض الأغراض والدّواعي النّفسانيّة عصيانا فلا يرجع إلى إنكار النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا إنكار الضّروري كإلقاء بعض الأدعية وأوراق كتاب العزيز في بيت التّخلية مثلا نعوذ بالله تعالى منه لبعض الأغراض النّفسانيّة مع الاعتراف بحرمته ؛ فإنّه موجب للكفر الموجب للخلود عندهم. وقد أفردوا له بابا فيما يوجب الكفر في قبال إنكار الضّروري وتكذيب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثالثها : أنّ المنافق المظهر للشّهادتين والمقرّ بالتّوحيد والنّبوّة في مرحلة الظّاهر مع عدم الاعتقاد باطنا كأن يعامل معه معاملة المؤمن في أوائل البعثة مع

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٢٢ باب « دعائم الإسلام » ـ ح ١١.


كون حكمه في الأزمنة المتأخّرة على خلاف ذلك ؛ فإنّه يعامل معه معاملة الكفر وليس ذلك إلاّ من جهة اختلاف حقيقة الإيمان بحسب الأزمنة هذا.

ولكنّك خبير بعدم توجيه شيء ممّا ذكر على ما أفاده قدس‌سره.

أمّا الأوّل : فإنّ التّصديق بأن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول عن الله تعالى صادق في جميع ما يبلّغ عن الله تعالى على وجه الإجمال ، عين التّصديق بما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على التّفصيل في الأزمنة المتأخّرة كالمعاد الجسماني والإمامة الخاصّة للأئمّة الاثني عشر ( سلام الله عليهم أجمعين ) ونحوهما ، وإن كانت المصلحة مقتضية للسّكوت عن بيانها في أوائل البعثة للمداهنة ونضج الشّريعة. ومن هنا كان تبليغ الأحكام الفرعيّة من نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل كلّ نبيّ على التّدريج حسبما يقتضيه حال كلّ عصر وزمان.

ومن هنا يعلم : أنّ اعتبار عدم إنكار ما ثبت بالضّرورة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأزمنة المتأخّرة بل اعتبار عدم إنكار كلّ ما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو بغير الضّرورة في الإيمان ، ليس من جهة ثبوت موضوعيّة لعدم الإنكار ، بل من جهة منافاته لتصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعتبر فيه ، فإنّ الإنكار التّفصيلي لما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينا في التّصديق الإجمالي ؛ فإن اختلاف الإجمال والتّفصيل إنّما هو بهذه الملاحظة وإلاّ فهما متّحدان كما عرفت ، فالمعتبر في الإيمان حقيقة التّصديق بما ثبت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عدم إنكاره وإن كانت عبارة « الكتاب » موهمة لخلاف ذلك هذا. وسيأتي تمام الكلام في تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.


نعم ، ظاهرهم كون التّصديق بالمعاد معتبرا في الإيمان مستقلاّ وكونه أصلا برأسه في قبال التّوحيد والنّبوة مع خلوّ الأخبار الواردة في تفسير الإيمان عن التّعرض له ، لكنّه لا تعلّق له بما أفاده قدس‌سره فإنّ ظاهرهم كونه معتبرا في الإيمان في جميع الأزمنة مستقلاّ في قبال الأصلين. وسيأتي الكلام في بيان ذلك وشرح القول فيه هذا.

وأمّا الثّاني ؛ فلأنّ إيجاب ما ذكر للكفر مع عدم رجوعه إلى تكذيب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو المفروض فيكون تركه معتبرا في الإيمان في الأزمنة المتأخّرة إنّما هو من جهة عدم تبليغ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمته في أوائل البعثة ، لا من جهة الاختلاف في حقيقة الإيمان بحسب اختلاف الأزمنة ، فلو قيل بكون ترك الصّلاة عمدا موجبا للكفر [ و ] كذا فعل اللّواط كما هو مقتضى بعض الأخبار بعد ثبوت وجوبها وحرمته لم يكن ذلك موجبا للاختلاف في حقيقة الإيمان بعد عدم ثبوت الوجوب والحرمة في أوائل البعثة فتدبّر.

وأمّا الثّالث : فلأنّ المنافق كافر مطلقا غاية الأمر اقتضاء المصلحة لمعاملة الإسلام معه في الصّدور الأوّل وهذا لا دخل له بالاختلاف في حقيقة الإيمان بحسب الأزمنة وهذا أمر واضح لا شبهة فيه أصلا.


(٦١) قوله قدس‌سره : ( والمستفاد من هذه الأخبار المصرّحة ... إلى آخره ) .. ( ج ١ / ٥٦٤ )

تعارض الاخبار الواردة في الاصول ودفعه

أقول : لا يخفى عليك اختلاف الأخبار الواردة في تحديد الإيمان وتفسيره وشرحه وبيان أقلّ ما يكتفى به من مراتبه ممّا نقله شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » وما طوى ذكره ممّا هو قريب منه ، بل لعلّها متعارضة بظواهرها في ابتداء النّظر ، فلا بدّ من التكلّم فيه ورفعه.

ولا بدّ من أن يعلم ؛ أوّلا : أنّ الإيمان لمّا كان موضوعا للأحكام الشّرعية الدّنيوية والآثار الأخرويّة ولم يكن للعقل ولا لغيره مدخل فيه ، فلا بدّ من أن يرجع في تحقيق المراد منه إلى بيانات الشّارع ، ومن هنا وقع السّؤال عنه في الأخبار (١).

__________________

(١) قال الفاضل الجليل الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

أقول : هذا المعنى الذي فسّر الايمان به مبهم مجمل بظاهره فاسد.

يصلحه ـ إن نفعه ـ أنّ الإيمان : الإذعان والإلتزام بالأحكام الشرعيّة الدنيويّة المترتبّة عليها الآثار الأخرويّة وهذا غاية ما يصلحه ولا ينفعه ؛ فإن الجواد قد يكبو والصارم قد ينبو.

فبالحريّ أن نعرض عن كلام الغير ونتكلّم بما يبدو لنا وأجري عليه قلمنا فنقول :

قد يطلق الإيمان ويراد به ما يرادف الإسلام ، وقد يطلق ويراد به المعنى الأخص وهو ما


إذا عرفت ذلك فأقول : إنّ اختلاف الأخبار أمر ظاهر لا يحتاج إلى البيان أصلا لمن راجعها ؛ حيث إنّ في بعضها اقتصر على معرفة الله تعالى ومعرفة

__________________

عليه الفرقة المحقّة الإماميّة من فرق الإسلام.

وأيّا ما كان : هل هو الإذعان بالجنان أو هو مع الإقرار باللسان أو هما مع العمل بالأركان؟والأقرب : انه الإذعان ويكشف عنه الإقرار باللسان ويزيّنه العمل بالأركان ولعلّه يستفاد من قوله تعالى : )قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ( « الحجرات : ١٤ ».

والمعتبر فيه وجوبا وتحققا ما هو معلوم وما هو المشكوك.

والتحقيق : انه له مراتب ، لكل مرتبة أحكام وآثار منها : ما هو مطهّر محقن للدم محرّم للمال والعرض. ومنها : ما هو هو بزيادته أحكام أخر. ومنها : ما هو مع ذلك منج من العقاب وباختلاف هذه المراتب اختلفت الأخبار في تفسيره بالزيادة والنقصان.

وهل له أصل يرجع إليه فيما شك في اعتباره فيه؟ الأصل بإعتبار التكليف بالإعتقاد في الزائد على قدر المعلوم معلوم وباعتبار تحقّق الموضوع كيما يترتّب عليه الآثار الثابتة لهذا الموضوع يمكن استخراج الأصل فيه من النبوي المعروف.

« كلّ مولود يولد على الفطرة إلاّ أنّ أبواه يهوّدانه وينصّرانه ».

فإن اعتمدنا عليه فالأصل أيضا معلوم وإن جعلنا الإيمان أمرا حادثا بعد البلوغ غير حاصل قبله ، فالأصل وإن كان عدم الحصول والحدوث فيما شك فيه إلاّ أنّا بالمقدار المعلوم الإعتبار يمكن دفع المشكوك اعتباره بالأصل ، ولو جعلناها موضوعة للصحيحة صار الأصل على خلاف الفروض المذكورة وبسط الكلام في هذا المرام في الكلام ولا يقتضيه هذا المقام فختمنا على الإرقام بالإختتام ». إنتهى. الفرائد المحشّى : ١٧٢.


النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والشّهادة بالتّوحيد والنّبوة ، وفي بعضها أضاف معرفة الإمام عليه‌السلام كما في رواية [ سليم بن ] قيس (١) وجملة منها (٢) ، والمراد بالإقرار بالطّاعة فيها الإشارة إلى عدم كفاية مجرّد المعرفة القلبيّة واعتبار الإقرار اللّساني بما اعتقده في الإيمان ، ويحتمل ضعيفا إرادة الإذعان بلزوم الطّاعة الّذي هو لازم المعرفة.

وفي آخر : اعتبار الإقرار بما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند الله كما في غير واحد منها.

وفي ثالث : اعتبار البراءة من أعداء آل محمّد صلوات الله عليهم كما في رواية إسماعيل (٣).

وفي رابع : اعتبار إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة وصوم شهر رمضان والحجّ كما في رواية أبي بصير.

ومقتضى العلاج وإن كان الأخذ بما كان مشتملا على ما لا يشتمل عليه غيره لرجوع التّعارض إلى العموم والخصوص أو الإطلاق والتّقييد ، إلاّ أنّ من الواضح إباءها عن الجمع المذكور لورودها في مقام البيان والتّحديد ؛ فيلزم تأخير البيان اللاّزم فلا بدّ من الجمع بوجه آخر بحيث يرفع الاختلاف والتّعارض

__________________

(١) كتاب سليم : ٥٩.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ٢٢ باب « دعائم الاسلام » ـ ح ١١.

(٣) الكافي الشريف : ج ٢ / ٤٠٥ باب « المستضعف » ـ ح ٦.


بينها ، فنقول :

أمّا عدم ذكر معرفة الإمام عليه‌السلام في رواية « الكافي » ؛ فإنّما هو من جهة عدم تبليغ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحكم الأصولي في الصّدر الأوّل (١) لما رآه من المصلحة في

__________________

(١) القول بعدم تبليغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياه من رأس ممنوع ، نعم ، التأكيد والإصرار عليه ـ لما كان الايمان أعلى كعبا وأزلف قربا وأشرف رتبة وهؤلاء حديثوا عهد بالجاهلية عاشوا دهرا في الظلمات لم يروا نورا ولم يهتدوا اليه سبيلا وكانت الحكمة الإلهيّة تقتضي التدرج في بيان الاصول حيث التركيز على خصوص الدعوة الى التوحيد من خلال الايمان برسالة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا الانذار من يوم الحساب ـ لم يكن بمثابة الإصرار على التوحيد والتشرّف بشرف الإنقياد للإسلام.

وبصورة عامّة فإن أيام مكة المكرّمة هي أيام تأسيس أبنية النفوس على الاصول التي بني عليها الإسلام من الدعوة إلى رفض الشرك والإذعان بوحدانية الله عزّ وجل وتصديق الانبياء والايمان بهم وبيوم البعث الذي تنشر فيه دواوين العباد للحساب فيعطى المؤمن ثوابه ويجزي الجاحد عقابه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، لكن كل ذلك لم يمنع من أن يذكّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدور الأمير عليه‌السلام في كيان الاسلام بأمر من العزيز الجبّار بين فترة وأخرى وحينة وفينة.

أما سمعت بيوم الدار وإنذار العشيرة؟! أم كنت غائبا عن ليلة المبيت وصنع وزيره؟! وهلاّ تأمّلت في أخبار الإسراء وأسرار ما انتهى اليه الحبيب في معراجه ومصيره؟ وبم أوصاه ربّ العزّة في سفيره؟

الى غير ذلك مما شاء الله عزّ وجل من التنبيه عليه في قضيّة الإمامة منذ أوائل البعثة


ترك البيان على ما عرفت الإشارة إليه سابقا. وهذا بخلاف سائر الأخبار ؛ فإنّ ورودها بعد تعريف الولاية وتبليغ الإمامة وإن كان الإقرار بالنّبوّة وتصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملازما للإقرار بكلّ ما جاء به ويجيء به على سبيل الإجمال.

وأمّا اعتبار الإقرار بما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير واحد من الأخبار ، فلا ينافي ما لا يشتمل عليه ؛ لعدم انفكاك تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نبوّته عن الإقرار بما جاء به ؛ فإنّ المراد من الإقرار بما جاء به من عند الله كونه صادقا فيما يخبر به من عند الله وهو معنى تصديقه في نبوّته.

ويحتمل قريبا أن يراد منه : الإقرار بنفس ما جاء به أصولا وفروعا وكونه من عند الله تعالى على وجه التّفصيل بعد ثبوته ، فيرجع إلى الاعتقاد بالنّبوة والإقرار بها وإن اختلفا بالإجمال والتّفصيل على ما عرفت الإشارة إليه كما هو واضح.

__________________

وحتى يوم الخميس ، يوم الرزيّة التي اعترف بها كل طاهر وخبيث.

وكيف كان فبما ان الأمير يمثل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل شاء الله سبحانه ان تكون نفسه نفسه كان الايمان بالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاعتراف والإقرار به والتسليم له هو عين الاعتراف بالأمير عليه‌السلام وأولاده النجباء ؛ لأنهم في الواقع إمتداد لتلك الشخصية العظيمة فمن ثمّ كان يكتفى بالتسليم للنبي الأكرم « صلوات الله عليه وعلى أهل بيته » في إبّان الدعوة. ولهذا الإجمال تفصيل يطلب من محلّه. ومنه تعرف ان ما ذكره قدس‌سره من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك البيان من رأس ـ في تلك الأيام ـ لا يخلو من نظر.


وأمّا اعتبار البراءة من أعدائهم في السّؤال في رواية إسماعيل الّذي قرّره الإمام عليه‌السلام فإنّما هو من جهة مزيد الاهتمام بها ، وإلاّ فليست أصلا مستقلاّ ، بل هي لازم الولاية الخاصّة وعليه يحمل كلام المفيد قدس‌سره في أوائل « المقنعة » (١) حيث جعلها في ظاهر كلامه أصلا مستقلاّ كما صنعه بعض ممّن تأخّر عنه فتدبّر.

وأمّا اعتبار فعل العبادات الأربعة كما في رواية أبي بصير فيحمل على إرادة اعتباره في الدّين بالمعنى الأعمّ من الأصول والفروع ، فذكر خصوص الأربع إنّما هو من جهة مزيد الاهتمام بشأنها ويشهد له ذيل الرّواية ـ وإن توهّم منافاته للسؤال في الرّواية بقوله : « ما لا يسعهم جهله » ـ أو يحمل على إرادة المرتبة الكاملة من الإيمان أو غير ذلك ، حتّى لا ينافي الأخبار الصّريحة بل الإجماع الظّاهر.

__________________

(١) أنظر المقنعة : ٣٣.


بقي في المقام أمور يجب التّعرض لها :

المعاد الجسماني أصل مستقل

الأوّل : أنّ ظاهرهم الاتّفاق على كون المعاد بل المعاد الجسماني أصلا مستقلاّ في قبال سائر أصول الدّيانات ، لا أن يكون اعتباره في الإيمان كاعتبار الاعتقاد بسائر الأمور الثّابتة من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصولا وفروعا ، ولا ينافي ذلك ما تسالموا عليه : من كون الاعتقاد بالمبدأ ملازما للاعتقاد بالمعاد ؛ فإنّه لا ينافي جعله أصلا مستقلاّ.

وعدم ذكره في خبر من أخبار الباب ربّما يشهد على عدم كونه أصلا مستقلاّ وكونه من فروع تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يظهر من بعض الأصحاب ، بل ربّما يستظهر من كلام شيخنا قدس‌سره فيما سيجيء من كلامه وإن كان الاستظهار في غير محلّه ؛ لأنّ كلامه بالنّسبة إلى غير المعاد الجسماني ويمكن إرادته بالخصوص من قوله : « والإقرار بما جاء به ... » (١) في رواية عيسى (٢) فتأمّل.

والقول : بكون السّكوت عنه من جهة وضوح أمره وعدم الاختلاف فيه

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٦٣.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ٢١ باب « دعائم الإسلام » ـ ح ٩.


وكونه معتبرا في الإيمان بالاتّفاق شطط من الكلام ؛ إذ ليس أمره أوضح من أمر التّوحيد والنّبوّة مع التّصريح باعتبار الاعتقاد والإقرار بهما في جميع الأخبار (١). نعم ، في غير واحد من الآيات إشارة إلى كونه أصلا مستقلاّ ، بل في بعضها دلالة على ذلك وإن كان في أكثر الآيات الواردة في هذا الباب ما يدلّ على كونه كسائر الضّروريّات الدّينيّة كالصّلاة والزّكاة فراجع إليها ، بل يستفاد من الآيات الكثيرة مزيد اهتمام بشأنه وأنّ كلّ نبيّ كان مأمورا بتبليغه ، وأنّ إنكار النّبوّات في غالب الأعصار كان مستندا إلى إنكار المعاد والبعث ، بل ربّما كان إنكار الصانع مستندا إليه ، كما يظهر لمن راجع الآيات الواردة في هذا الباب وتأمّل فيها.

وأمّا القول : بأنّ الأخبار ليست في مقام بيان تمام ما يعتبر في الإيمان

__________________

(١) هذا منه في غاية الغرابة إذ لم يهمل أمر المعاد في الأخبار فكما تحدّثت عن لزوم الإقرار بالتوحيد والنبوّة تحدّثت إلى جانبه عن لزوم الإقرار بيوم البعث أيضا ولعله رضوان الله تعالى عليه لم يستقص الأخبار الواردة في الباب هذا الى جانب الكتاب الشريف حيث ان ثلث آياته المكيّة تناولت ذكر المعاد وتفاصيله وضرورة الاعتقاد به ، صحيح أنّ أمره ليس بأوضح من التوحيد والنبوّة ومع ذلك لم يذكر التصريح بالإقرار به في جملة من الأخبار ، لكن الميرزا رضى الله عنه ، كأنّه غفل عن ان الاعتراف بالأصلين السابقين مقدّمة لهذا الأصل بمعنى ان الاعتراف بالوحدانية بعد الإيمان بالنبوّة والإقرار بواقعها والإلتزام بمبادئها طريق للوصول الى نعيم الأبد أو شقاوة الأبد على تقدير الجحود وان كان واقع الأمر قد أجمل برمّته في المبدء الازلي قال الله عزّ وجل حكاية عن عباده : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) إذ هو الأوّل والآخر ، إن كلّ من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا.


فلا ينافي عدم التّعرض للمعاد ففاسد جدّا ، ولا يصدر ممّن له أدنى دراية بعد الرّجوع إلى تلك الأخبار.

الإيمان والإقرار بإمامة آل محمّد عليهم‌السلام أصل مستقل

الثّاني : أنّه لا إشكال في دلالة الأخبار على كون الاعتقاد والإقرار بالإمامة والولاية الخاصّة إلى ولاية آل محمد ( صلوات الله عليهم ) معتبرا في الإيمان بالمعنى الأخصّ وكونه أصلا مستقلاّ ، لكن المستفاد من غير واحد منها كون المعتبر معرفة إمام الزّمان لا بعد زمان المكلّف ، وأمّا قبل زمانه فالظّاهر : أنّه لا إشكال في اعتباره ؛ لأنّ الحصر المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من مات ولم يعرف إمام زمانه ... » (١) إضافيّ.

نعم ، لا إشكال في اعتبار الاعتقاد بإمامة من بعده في حقّ من علم به بإعلام النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصيّ عليه‌السلام ، لكنّه ليس واجبا مطلقا وشرطا في الإيمان كذلك ، كما أنّ الاعتقاد بأنّ الزمان لا يخلو عن حجّة كما هو مدلول الأخبار بل العقل ، ويعبّر عنه بالنّبوة الكليّة والولاية المطلقة ، الظّاهر عدم اعتباره في الإيمان بعد الاعتقاد بالنّبوة الخاصّة والولاية الجزئيّة فتدبّر.

__________________

(١) انظر الكافي الشريف : ج ١ / ٣٧١ باب « انه من عرف إمامه ... » ـ ح ٥ وص ٣٧٦ باب « من مات وليس له امام من ائمة الهدى » ـ ح ١.


العلم بالترتيب في الأئمة عليهم‌السلام شرط في الإيمان

الثّالث : أنّه لا إشكال في التّرتيب في إمامة الأئمّة الاثني عشر عليه‌السلام وهو مدلول أكثر الأخبار الواردة في النّص عليهم. فهل يعتبر في الإيمان الاعتقاد بالتّرتيب المذكور ، أو يكفي الاعتقاد بإمامتهم ولو لم يعلم التّرتيب؟

الظّاهر لزوم العلم بالتّرتيب (١) ؛ فإنّه لازم اعتبار العلم بنسبهم المعروف

__________________

(١) بل الظاهر ان العلم بالترتيب ولو اجمالا كاف للإنضمام في دائرة الايمان فلا يشترط العلم تفصيلا بمعنى ان المعرفة بالأئمة من آل محمّد عليهم‌السلام المنصوص عليهم من قبل الله عزّ وجل على لسان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّهم اثنا عشر إماما أوّلهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام وآخرهم المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف افترض الله طاعتهم على العباد وان الله عزّ وجل لا يقبل عملا من أحد الا بمن جاء بولايتهم يوم المعاد ويعرف اسمائهم وأعيانهم من دون أن يميّز ترتيبهم أو يطّلع على تفاصيل انباءهم بل يشدّ الرحال إلى زيارتهم في كربلاء والنجف وطوس وسامرّاء والكاظمين والبقيع وهو قد لا يعلم بأنّ الامام الجواد عليه‌السلام حفيد للإمام الكاظم صلوات الله تعالى عليه كما هو المشاهد عند جملة من عوام الشيعة ونسوانهم من الضعفاء ممن يعيش في القرى البعيدة على أنهم من الذين يخلصون الولاء لأهل البيت عليهم‌السلام حيث يظن بعضهم ان الإمام الجواد عليه‌السلام ابن للإمام الكاظم صلوات الله تعالى عليه ، ألا ترى انه تعارف عند العرب منهم تكنية كل كاظم عندهم بأبي جواد؟


اللاّزم في معرفة الإمامة مع العلم بكون وفاة الحسن الزّكيّ عليه‌السلام قبل شهادة الحسين عليه‌السلام هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بدلالة الأخبار ، وبقي هنا مطالب كثيرة ومسائل جليلة ليس الفنّ محلّ التّعرض لها وقد وقع الكلام في بعضها في « الكتاب ».

(٦٢) قوله قدس‌سره : ( وإنّه يكتفى في معرفة الرّب ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٦٥ )

أقول : استفادة ما أفاده في معرفة الرّب جلّ شأنه من الأخبار في غاية الإشكال. اللهم إلاّ أن يستفاد من معرفة الله تعالى المعتبرة في الإيمان أو الشّهادة بالتّوحيد المعتبرة في الإيمان بمقتضى الأخبار المتقدّمة اعتبار ما أفاده ،

__________________

حتى صارت عندهم عادة حتى عند من يعلم بوساطة الامام الرضا عليه‌السلام في البين.

فالحكم بخروج من لا يعرف الترتيب التفصيلي مع إقراره بالترتيب على الوجه الذي ذكرناه عن دائرة الايمان في غاية من الاشكال ـ لأنك لا تجد إماميا لا يعرف الأمير عليه‌السلام وانه أبو الأئمة كما لا تجد من يجهل الحسن والحسين صلوات الله عليهما أو زين العابدين عليه‌السلام لمكان كربلاء والمحرّم والاربعين ، بل ولا الصادق عليه‌السلام لكون كل جعفريّ منتسبا اليه ، بل ولا سائر الأئمة عليهم الصلاة والسلام بما فيهم مهديّ آل محمّد صلوات الله تعالى عليهم.

نعم ، قد لا يعرف الترتيب سكّان البوادي والقرى مع كمال الاخلاص الذي تجده عندهم والولاء ومن هذا حاله هل يصلح سلب عنوان الايمان عنه؟ الانصاف انه في غاية من الصعوبة والاشكال.

نعم ، لا يكفي الاقرار بالعدد مع الجهل بالاسم والعين وما لا بدّ منه في البين.


والاستفادة المذكورة تحتاج إلى مزيد تأمّل.

نعم ، لا إشكال في عدم اعتبار الزّائد على ما ذكره قدس‌سره في الإيمان ، كما أنّ ما أفاده قدس‌سره بقوله : « والمراد بمعرفة هذه الأمور كونها في اعتقاد المكلّف ... إلى آخره » (١) لا إشكال في استقامته ؛ لأنّ المعتبر بمقتضى الأخبار المتقدّمة الشّهادة والمعرفة ونحوهما ، ويكفي في تحقّقها الاعتقاد الجزمي من غير فرق بين إمكان التّعبير عن المطلب بالعبارات المتعارفة بين الخواص وأهل العلم ، وعدم إمكانه كما هو واضح.

(٦٣) قوله قدس‌سره : ( ولا يعتبر في ذلك الاعتقاد بعصمته ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٦٥ )

أقول : اعتبار الاعتقاد بعصمة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعنى الّذي ذكره قدس‌سره وإن لم يصرّح به في الأخبار المتقدّمة مع ثبوتها على مذهب الإماميّة ، إلاّ أنّ اعتبار عصمته ولو عن السّهو والخطأ والنّسيان فضلا عن المعصية في الجملة ، ممّا لا ينفك عن الاعتقاد بالنّبوة وكونه صادقا في كلّ ما يخبر به عن الله تعالى. وذهاب الصّدوق قدس‌سره والأخباريّين (٢) إلى تجويز الإسهاء من الله تعالى في حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٦٥.

(٢) لم يعترف الاخباريون بما اختاره الصدوق وشيخه « سامحهما الله عزّ وجل » في المقام فنسبة ذلك إليهم مع ان الذاهب الى مذهب الصدوق منهم نادر ، غريب بل لا بدّ من التنبيه على بطلانها.


بعض الموضوعات كما دلّ عليه بعض الأخبار ، لا ينافي ما ذكرنا وإن أخطأوا فيما ذهبوا إليه كما حقّق في محلّه.

وأمّا القول بوجوب الاعتقاد المزبور والاعتقاد بسائر صفات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وملكاته ومراتبه بالاستقلال في حقّ القادر على تحصيل العلم به ، وإن لم يكن شرطا في الإيمان ـ كما احتمله في « الكتاب » على ما يظهر من قوله قدس‌سره : « نعم ، يمكن أن يقال : ... إلى آخره » (١) وفاقا لما احتمله سابقا ـ فقد عرفت الكلام فيه ؛ وأنّه لا دليل عليه وإن كان واجبا شرطيّا ومستحسنا جدّا.

حيث إنّك قد عرفت : أنّ الإيمان ذو مراتب متعدّدة متدرّجة ، حصول كلّ مرتبة منه مشروط بحصول بعض مراتب المعرفة ، بل حصول بعض مراتبه مشروط بالعمل بالأركان زائدا على الاعتقاد بالجنان ، فطوبى ثمّ طوبى لمن حصل له كمال الإيمان بحسب الطّاقة البشريّة ؛ فإنّ له مراتب لا يصل إليها أيدي البشر ، إلاّ من خصّه الله تعالى بخلقه من نور قدسه وجلاله ، مع أنّه قال أيضا : « ما عرفناك حقّ معرفتك » (٢).

وأمّا إيماء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وجوب المعرفة بالتّفاصيل على سبيل الاستقلال

__________________

(١) نفس المصدر السابق : ج ١ / ٥٦٦.

(٢) أنظر غوالي اللئالي : ج ٤ / ١٣٢ ـ ح ٢٢٧.


في الرّواية المعروفة (١).

فقد يناقش فيه أيضا : بأنّ الإشارة أو الدّلالة على وجوب المعرفة في الجملة مسلّمة لكنّهما على وجه العموم ممنوعان. فلا بدّ إذن من نقل الرّواية حتّى يتّضح حقيقة الأمر ؛ فنقول :

قد روي عن « الكافي » في باب « صفة العلم وفضله » بسنده عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : « دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا؟ فقيل : علاّمة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وما العلاّمة؟ فقيل : أعلم النّاس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهليّة والأشعار والعربيّة. قال : فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ذاك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه. ثمّ قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما العلم ثلاثة :

__________________

(١) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

« ولعلّ الإيماء في النّبويّ إلى وجوب معرفة ما ذكر بملاحظة أن في عدّه صلوات الله تعالى عليه وآله العلوم الشرعيّة وحصره العلم فيها ونفيه الضرر عن الجهل بغيرها إشعارا بأن في الجهل بالعلوم الشرعيّة ومنها ما يعلم بمراتب سفراء الله وخلفائهم ضررا أو بأن تكون الآية أعم من التكوينيّة والتدوينيّة أو بأن تكون الفريضة أعم من العمليّة والإعتقاديّة.

وبالجملة : الأيماء وإن كان غير الدلالة ويكفي فيه مناسبة وإرتباط في الجملة إلاّ أن فهمه هنا يحتاج إلى إستعمال الرّمل والأسطر لاب ، مع أنه بدون القصد لا يفيد والقصد إليه غير معلوم ، والوجوب إن كان له دليل فذاك وإلاّ فإثباته بأمثال ذلك مشكل ». إنتهى.

الفرائد المحشّي : ١٧٣.


آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنّة قائمة وما خلاهنّ فهو فضل » (١) (٢).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ٣٢ باب « صفة العلم وفضله » ـ ح ١.

(٢) حكي عن « العوائد » ان المراد بالآية المحكمة : أصول العقائد التي براهينها الآيات المحكمات ، وبالفريضة العادلة : فضائل الأخلاق ، وعدالتها كناية عن توسّطها ، وبالسنّة القائمة شرائع الأحكام ومسائل الحلال والحرام.

وعن الفاضل المازندراني في حاشيته على المعالم :

ان الأولى إشارة إلى العلم بالكتاب والأخير إلى العلم بالأحاديث والوسط وهو فريضة عادلة ، أي : مستقيمة إلى العلم بكيفيّة العمل بالأحكام ، والمراد باستقامتها إشتمالها على جميع الأمور المعتبرة فيه شرعا في تحققها.

* وقال الفاضل الجليل الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« إن كانت المعاني المذكورة لألفاظ الخبر مستفادة من أمر خارج من اللفظ يصلح للإعتماد عليه فهو ، وإلاّ فاللفظ ذو وجوه شتّى والله ورسوله أعلم بما أريد منها.

فإن قلت : فهل فهم السامعون لهذه الألفاظ عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام معاني أريد منها أم ترددّوا وتحيّروا فيها واقتنعوا بما فهموا من صدر الرّواية من عدم الضرر بجهل العلم بأنساب العرب ووقائع وقعوا فيها والأشعار العربيّة ونظائرها.

قلت : نحتمل الأوّل بقرينة مقاليّة لم تنقل لنا ، أو حاليّة فاتت عنّا ، وحقيقة الحال عند العالم بحقائق الأحوال ليس لنا فيها مجال ومع ذلك نقول ـ كالرّائي شبحا من بعيد يتردّد فيه بين أمور ـ لعلّ المراد من الأوّل علم تفسير الآيات ومن الأخيرين علم الفرائض والسنن أي :الأحكام الشرعيّة وبالجملة : العلوم الشرعيّة ». إنتهى. الفرائد المحشّى : ١٧٣.


وهي كما ترى لا دلالة لها على العموم ، بل ولا إيماء فيها إليه ؛ لأنّ المستفاد منها حصر العلم الموصوف بالصّفتين في الثّلاثة. وأمّا أنّ الواجب من الثّلاثة : هو العموم ، أو بعض أفرادها ، فالرّواية ساكتة عنه فتدبّر.

ثمّ إنّ المراد بالآية المحكمة : يحتمل أن يكون العقائد الحقّة وأصول الدّيانات ، وأن يكون الآيات المحكمات من الأنفس والآفاق الّتي تكون دلائل على وجود الصّانع جلّ شأنه وحكمته ، أو من القرآن ؛ إذ في غير موضع منه : ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ) (١) حيث يذكر دلائل المبدأ والمعاد.

وبالفريضة العادلة (٢) : علم الأخلاق الّتي محاسنها من جنود العقل ومساوئها من جنود الجهل والنّفس ؛ فإنّ التحلّي بالأول والتخلّي عن الثّانية فريضة شرعيّة في الجملة ، وواجبة خلقيّة مطلقا. وعدالتها كناية عن توسيطها بين طرفي الإفراط والتّفريط.

وبالسّنة القائمة : شرائع الأحكام ومسائل الحلال والحرام وانحصار العلوم الدّينيّة في الثّلاثة ، وكون ما سواها فضلا أو فضولا واضح ، على ما عرفت من

__________________

أقول : ويقرب منه ما في بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي ١ وفيه نظر واضح.

لاحظ البحار : ج ١ / ٢١١.

(١) يونس : ٦٧ والرّعد ٣ و ٤.

(٢) قلت : بل الأظهر أن المراد بالفريضة العادلة هي شرائع الأحكام ومسائل الحلال والحرام وأمّا السنّة القائمة فهي الأخلاق والسيرة النبويّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.


الوجه في المعاني الثّلاثة.

(٦٤) قوله قدس‌سره : ( وفي وجوب الزّائد على ذلك من عصمتهم ، الوجهان ). ( ج ١ / ٥٦٧ )

أقول : المراد من العصمة في كلامه ما ذكره قبل ذلك في النّبوة من العصمة بالملكة من زمان تولّدهم ( صلوات الله عليهم ) إلى زمان ارتحالهم عن النّشأة الدّنيويّة عمّا يكون عصيانا في حقّ المكلّفين والخطأ والنّسيان والسّهو الّتي قد عرفت : أنّه لا إشكال في ثبوت العصمة عنها عند الإماميّة ، لا العصمة في الجملة ؛ فإنّه لا إشكال في اعتبارها في الإيمان بالمعنى الأخصّ ، كما يحكم بثبوتها ضرورة العقل ؛ فإنّ الحجّة من الله تعالى على الخلق وشاهده عليهم والدّليل لهم ، كيف يمكن أن يكون غير معصوم؟ وإلاّ لزم التّرجيح من غير مرجّح ؛ إذ لا يبقى بعد عدم اعتبار العصمة مزيّة للحجّة على الرّعيّة فافهم.

(٦٥) قوله قدس‌سره : وقد ورد في بعض الأخبار تفسير معرفة حق الإمام ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٦٧ )

أقول : روى في محكيّ « الكافي » في باب فرض طاعة الأئمّة عليهما‌السلام بسنده عن إسماعيل بن جابر قال : « قلت : لأبي جعفر عليه‌السلام أعرض عليك دين الله ( عزّ وجلّ ) قال : فقال : هات. فقلت : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وأنّ عليّا كان إماما فرض الله طاعته ، ثمّ كان من بعده الحسن إماما فرض الله طاعته ، ثمّ كان من بعده الحسين إماما فرض الله طاعته ، ثمّ كان عليّ بن الحسين إماما فرض الله طاعته


بعدهم حتّى انتهى الأمر إليه. ثمّ قلت : أنت يرحمك الله. قال : فقال عليه‌السلام هذا دين الله ودين ملائكته » (١).

(٦٦) قوله قدس‌سره : ( ويكفي في التّصديق بما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٦٧ )

في كيفية وجوب التصديق بما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أقول : الكلام في المقام يقع في موضعين ؛

أحدهما : في أنّه بعد العلم بثبوت شيء من النّبي تفصيلا ، سواء حصل العلم من التّواتر ، أو خبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعيّة ، أو الإجماع ، أو الضّرورة الدّينيّة ، سواء كان من الأصول مطلقا أو الفروع ، من الأحكام الواقعيّة ، أو الظّاهريّة. فهل يجب على العالم به ، الإقرار به والتّصديق به ويكون إنكاره كفرا في حقّ العالم به أم لا؟

ثانيهما : في أنّه إذا ثبت شيء من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدّين من الضّرورة ، أو التّواتر ، أو غيرهما. فهل يجب على كلّ مكلّف الإقرار به وتصديقه ويكون إنكاره

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ١٨٨ باب « فرض طاعة الأئمة : ـ ح ١٣ ، وفي الحديث :أعرض عليك ديني الذي أدين الله عزّ وجلّ به؟ وأورده أيضا بطريق آخر ولفظ جامع في :ج ٢ / ٤٠٦ باب « المستضعف » ـ ح ٦ « طبع دار الأسوة ».


كفرا؟ ولو في حقّ الجاهل به مطلقا ، وإذا ثبت من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق الضّرورة أو لا يكون كذلك.

أمّا الكلام في الموضع الأوّل ؛ فملخّصه : أنّه لا إشكال في لزوم التّصديق والتّديّن بكلّ ما علم ثبوته من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ العالم به مطلقا ؛ لأنّه من فروع تصديق النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكون إنكار العالم به كفرا. وهذا ممّا لم يخالف فيه أحد بل لا يعقل الخلاف فيه ؛ لأنّه إنكار للنّبوّة.

وأمّا الموضع الثّاني فالّذي يقتضيه التّحقيق وعليه المحقّقون ويستفاد من كلام شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره عدم لزوم التّصديق والإقرار بما ثبت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ الجاهل به ، بمعنى الحكم بكفره مع عدم الإقرار ، أو الإنكار بالنّسبة إلى غير المعاد الجسماني الّذي هو أصل مستقلّ عندهم كالتّوحيد ، بل الكلّ بالنّسبة إلى غير إنكار الضّروري ، بل لا معنى عند التّأمّل للقول بالكليّة المذكورة وأنّ كلّ غير مقرّ بما ثبت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقعا أو منكر له ولو مع العلم بخلافه يحكم بكفره.

نعم ، كلماتهم في مسألة خصوص إنكار الضّروري مضطربة ؛ من حيث إنّ له سببيّة وموضوعيّة في الحكم بكفر منكره أو طريقيّة من حيث أدائه إلى إنكار النّبوة. ومن هنا اعتبر غير واحد بل الأكثر ؛ عدم احتمال الشّبهة في حقّ المنكر ؛ فيكون الحكم بالكفر عندهم من حيث إنّ الضّرورة طريق لعلمنا إلى علم المنكر حقيقة. وهذا هو الفارق بين الضّروري وغيره ممّا ثبت من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن هنا


يحكم بإيجاب إنكار ضروري المذهب لكفر منكره إذا كان من أهل المذهب لا مطلقا.

والحقّ ما عرفت : من أنّ الحكم بالكفر حتّى بالنّسبة إلى الضّروري في غير المعاد مشروط بالعلم ، وأمّا مع الشّك والجهل البسيط فضلا عن المركّب ، فلا يجب الالتزام والتّديّن تكليفا ، بل لا يجوز ولا يؤثّر بحسب الحكم الوضعي أيضا ؛ بمعنى :أنّه لا يحكم بكفر غير المستلزم بما ثبت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو في الضّروريات ؛ مع علمنا بشكّه وجهله بل لا يضرّ إنكاره مع الالتزام الإجمالي بما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان ظاهر بعض الأخبار إيجاب الجحود للكفر مطلقا ؛ لكنّه محمول على الإهمال بقرينة الأخبار ، سيّما ما ذكره في « الكتاب ».

فإنّ المراد من الإقرار بما جاء به ـ على ما عرفت ـ : هو الإقرار الإجمالي أو التّفصيلي بعد العلم بما جاء به. وهذا معنى ما أفاده قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « وأمّا التّدين بسائر الضّروريّات ففي اشتراطه ، أو كفاية عدم إنكارها ، أو عدم اشتراطه أيضا ؛ فلا يضرّ إنكارها ، إلاّ مع العلم بكونها من الدّين وجوه : أقواها : الأخير ، ثمّ الأوسط » (١).

وغلط بعض النّسخ بإسقاط كلمة الاستثناء أوقع غير واحد في حيص وبيص بل إساءة الأدب مع وضوح الغلط والسّقط ؛ فإنّه إذا لم يوجب إنكار

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٦٨.


الضّروري مع العلم بكونه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكفر ، فأيّ شيء يوجبه؟

وهذا لا يظنّ صدوره عن جاهل فضلا عن مثله قدس‌سره الّذي صرف عمره في علم الشّريعة ؛ مع ما عليه من التفرّد في دقّة النّظر واستقامة الرّأي ، والاطّلاع على فتاوى الفقهاء ( رضوان الله عليهم ) في عصره فجزاه الله عن الإسلام خيرا وحشره في حظيرة قدسه مع نبيّه وآله الطّيبين الطّاهرين ( سلام الله عليهم أجمعين ).

ثمّ إنّه يدلّ على ثبوت الواسطة ـ مضافا إلى ما رواه في « الكتاب » ، وكون الكفر مترتّبا على الجحود والإنكار ـ كثير من الأخبار البالغة حدّ الاستفاضة ؛ ففي « الكافي » في باب « فرض طاعة الأئمّة عليهما‌السلام » أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « نحن الّذين فرض الله طاعتنا لا يسع النّاس إلاّ معرفتنا ولا يعذر النّاس بجهالتنا ، من عرفنا كان مؤمنا ومن أنكرنا كان كافرا ، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاّ ؛ حتّى يرجع إلى الهدى الّذي افترض الله تعالى عليه من طاعتنا الواجبة ، فإن يمت على ضلالته يفعل الله به ما يشاء » (١).

في « الكافي » أيضا في باب « الكفر » بسنده عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّ الله عزّ وجلّ نصب عليّا عليه‌السلام علما بينه وبين خلقه فمن عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا ومن جهله كان ضالاّ ومن نصب معه شيئا كان مشركا ومن جاء بولايته دخل

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ١٨٧ باب « فرض طاعة الأئمة عليهم‌السلام » ـ ح ١١.


الجنّة ، ومن جاء بعداوته دخل النّار » (١). إلى غير ذلك من الأخبار.

ويمكن حمل ما دلّ على كفر المنكر ـ ولو عن جهل ـ على مثل التّوحيد والنّبوة ، فلا يشمل الضّروريات الدّينيّة مع الإذعان والتّدين والإقرار الإجمالي.

ويشهد له ما رواه محمّد بن مسلم الوارد في كفر الشّاك في الله والنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن الإمام قال ـ بعد الحكم بكفره في جواب السّائل مشيرا إلى زرارة ـ : إنّما يكفر إذا جحد (٢). وسيجيء نقله في « الكتاب » (٣).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ٤٣٧ باب « فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية » ـ ح ٧.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٩٩ باب « الشك » الحديث (٣).

(٣) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٧٧.


(٦٧) قوله قدس‌سره : ( وبالجملة : فالقول : بأنّه يكفي ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥٦٨ )

أقول : ظاهر ما أفاده كون البراءة من أعداء الأئمّة عليهما‌السلام معتبرا بالأصالة في الإيمان بالمعنى الأخصّ كما هو ظاهر بعض الأخبار (٢) ، لا من جهة كونها من لوازم الولاية كما هو ظاهر غير واحد من الأخبار. وفي بعض الأخبار بمضمون « من والانا فقد برىء من عدوّنا » (٣).

__________________

(١) قال الشيخ الأعظم ١ بعد ذلك بأسطر :« وأمّا التديّن بالضروريّات ففي اشتراطه أو كفاية عدم إنكارها مع العلم بكونها من الدين وجوه أقواها الأخير ثمّ الأوسط ».

* وعلّق عليه تلميذه الفحل السيّد علي القزويني قائلا :

« ومن العجب ما في كلام شيخنا هذا.

فأوّل ما يردّ عليه : عدم التغاير بين الوجه الأوّل والثاني ؛ فإنّ الإنكار عبارة عن عدم التديّن ، فعدمه بضابطة النفي في النفي عبارة عن التديّن إلاّ أن يقال بملاحظة ثبوت الواسطة وهو التوقّف بمنع الملازمة ؛ لأن عدم التديّن بمعنى الإنكار أعمّ من التديّن والتوقّف ، وعدم استلزام الأعمّ للأخص ضروري.

وثاني ما يرد عليه : أن ترجيح الوجه الأخير في معنى القول بأن إنكار ما جاء به النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقابل للإقرار به غير مضرّ في الدين والإسلام وهو خلاف النص والإجماع ». إنتهى.

أنظر تعليقة على معالم الأصول : ج ٥ / ٤٠٠.

(٢) كما هو الحق الذي لا محيص عنه.

(٣) لم نجد حديثا بهذا المضمون وأنظر الكافي الشريف : ج ٢ / ٤٠ ـ ح ٦ من باب


كما أنّه يظهر منه في معرفة الله تبارك وتعالى ـ مضافا إلى الاعتقاد بوجوده وتوحيده ـ الاعتقاد بكونه جامعا لجميع الكمالات ومنزّها عن جميع النّقائص الخلقية كما ذكره سابقا أيضا. فإن كان المراد اعتبار ذلك على سبيل الإجمال ؛ بمعنى الاعتقاد بكونه تعالى ليس من جنس المخلوق ، فله وجه ، وإلاّ فاستفادة اعتبار ذلك من الأخبار المتقدّمة في غاية الإشكال والله العالم بحقيقة الحال.

(٦٨) قوله قدس‌سره : ( وهل هو كافر مع ظنّه بالحقّ؟ وجهان : من إطلاق ... إلى آخره ) ( ج ١ / ٥٧٠ )

الشاك غير الجاحد كافر أم لا؟

أقول : ممّا يدلّ على الوجه الأوّل : ما رواه في « الكافي » في باب « الكفر » عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « من شك في الله وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو كافر » (١).

وعن منصور بن حازم قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام : من شك في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : كافر. قلت : من شك في كفر الشّاك فهو كافر؟ فأمسك عنّي فرددت

__________________

« المستضعف » ، وكذا الوسائل : ج ٢٤ / ١٣٢ الباب «٩» ـ ح ١٠.

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٨٦ باب « الكفر » ـ ح ١٠.


عليه ثلاث مرّات ، فاستبنت في وجهه الغضب (١).

وفي باب « دعائم الكفر » عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « بني الكفر على أربع دعائم : الفسق والغلوّ والشّك والشّبهة » (٢).

وفي باب « الشّك » عن أبي إسحاق الخراساني قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول في خطبته : « لا ترتابوا فتشكّوا ، ولا تشكّوا فتكفروا » (٣). إلى غير ذلك.

وممّا يدلّ على الوجه الثّاني :

ما رواه في « الكافي » في باب « الكفر » أيضا عن محمّد بن مسلم قال :سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : « كلّ شيء يجرّه الإقرار والتّسليم فهو إيمان ، وكلّ شيء يجرّ الإنكار والجحود فهو الكفر » (٤). بناء على دلالته على الحصر.

وفي هذا الباب أيضا : ما رواه عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا » (٥).

وفيه : في باب الشّك أيضا عن محمّد بن مسلم قال : « كنت عند أبي عبد

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٨٧ الباب السابق ـ ح ١١.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٩٤ ـ ح ١ « طبع دار الأسوة ».

(٣) الكافي الشريف : ج ١ / ٤٥ باب « استعمال العلم » ـ ح ٦.

(٤) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٨٧ باب « الكفر » ـ ح ١٥.

(٥) المصدر السابق نفس الباب ـ ح ١٩.


الله عليه‌السلام جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه ، فدخل عليه أبو بصير ، فقال : يا أبا عبد الله ما تقول فيمن شك في الله؟ فقال : كافر يا أبا محمّد. قال : فشك في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال كافر. قال : ثمّ التفت إلى زرارة فقال : إنّما يكفر إذا جحد » (١). إلى غير ذلك.

ولا ريب أنّ مقتضى العلاج بين الطّائفتين من الأخبار بعد تعارضهما بالإطلاق والتّقييد ـ ولو باعتبار المنطوق والمفهوم في البعض ـ هو الأخذ بما دلّ على الوجه الثّاني ؛ حملا للمطلق على المقيّد كما هو واضح هذا.

مضافا إلى ما ذكره قدس‌سره في « الكتاب » : من دلالة الأخبار المستفيضة على ثبوت الواسطة بين الكفر والإيمان. وقد أطلق عليه في الأخبار الضّلال ؛ لكن أكثر الأخبار الدّالة على الواسطة مختصّة بالإيمان بالمعنى الأخصّ ... إلى آخر ما أفاده (٢).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٣٩٩ باب « الشك » ـ ح ٣.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٧١.


الأخبار الدّالة على ثبوت الواسطة بين الكفر والإيمان

فبالحريّ أن نذكر جملة ممّا أشار إليه تيمّنا

فمنها : ما رواه في « الكافي » في باب « المرجون لأمر الله » ، عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزّ وجل : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ) (١). قال : « قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين. ثمّ إنّهم دخلوا في الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشّرك ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النّار ، فهم على تلك الحال ، إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم » (٢). وهذه تدلّ على ثبوت الواسطة بين الإسلام والكفر (٣).

__________________

(١) التوبة : ١٠٦.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ٤٠٧ ـ ح ١ وزبدة الكلام في المقام : أن المرجون هنا لأمر الله قوم كانوا مشركين وقد قاموا بقتل أمثال حمزة سيّد الشهداء وجعفر الطيّار « صلوات الله عليهما » وأضرابهما من المؤمنين ثمّ منّ الله عزّ وجل عليهم بعد ذلك فدخلوا في الاسلام وتبرأوا من الشرك لكنهم وقفوا في هذا المنزل دون أن يرتقوا إلى الايمان فتجب لهم الجنة أو يرتدوا فتجب لهم النار وماتوا على ذلك فهم من المرجون لأمر الله تعالى.

(٣) بل تدل على ثبوت الواسطة بين الإيمان والكفر كما هو ظاهر ، ولعلّه وقع منه سهوا والله العالم.


ومنها : ما رواه أيضا في باب « أصحاب الأعراف » : عن زرارة أيضا قال لي أبو جعفر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت : « ما هم إلاّ مؤمنون أو كافرون ، إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون ، وإن دخلوا النّار فهم كافرون. فقال : والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ، ولو كانوا مؤمنين دخلوا الجنّة كما دخلها المؤمنون ، ولو كانوا كافرين لدخلوا النّار كما دخلها الكافرون ؛ ولكنّهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم فقصرت بهم الأعمال وإنّهم كما قال الله عزّ وجل. فقلت : أمن أهل الجنّة هم أو من أهل النّار؟ فقال : أتركهم حيث تركهم الله. قلت : أفترجئهم؟ قال : أرجئهم كما أرجأهم الله ، إن شاء أدخلهم الجنّة برحمته وإن شاء ساقهم إلى النّار بذنوبهم ولم يظلمهم » (١). وهذه مثل السّابقة في الدّلالة.

ومنها : ما في « الكافي » في « باب الضّال » عن هاشم صاحب البريد ، قال :

« كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطّاب مجتمعين ، فقال [ لنا ] أبو الخطّاب : ما تقولون فيمن لم يعرف هذا الأمر؟ فقلت : من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر. فقال أبو الخطّاب : ليس بكافر حتّى تقوم عليه الحجّة ، فإذا قامت عليه الحجّة ولم يعرف فهو كافر. فقال له محمّد بن مسلم : سبحان الله! ما له إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر؟

ليس بكافر إذا لم يجحد.

قال : فلمّا حججت دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فأخبرته بذلك. فقال : إنّك

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٤٠٣ ـ ح ٢ باب « الضلاّل ».


قد حضرت وغابا ، ولكن موعدكم اللّيلة عند الجمرة الوسطى بمنى فلمّا كانت اللّيلة اجتمعنا عنده وأبو الخطّاب ومحمد بن مسلم فتناول وسادة فوضعها في صدره فقال (١) : أمّا ما تقولون في خدمكم ونسائكم وأهلكم ، أليس يشهدون أن لا إله إلاّ الله؟ قلت : بلى. قال : أليس يشهدون أنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال :أليس يصلّون ويصومون ويحجّون؟ قلت : بلى. قال : ويعرفون ما أنتم عليه؟ قلت :لا. قال : فما هم عندكم؟ قلت : من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر. قال : سبحان الله! أما رأيت أهل الطريق وأهل الماء؟ قلت : بلى.

قال : أليس يصلّون ويصومون ويحجّون؟ أليس يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله؟ قلت : بلى. قال : أيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت : لا. قال :فما هم عندكم؟ قلت : من لم يعرف فهو كافر. قال : سبحان الله! أما رأيت الكعبة [ والطّواف ] وأهل اليمن وتعلّقهم بأستار الكعبة؟ قلت : بلى.

قال عليه‌السلام : أليس يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصلّون ويصومون ويحجّون؟ قلت : بلى. قال : فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت : لا. قال : فما تقولون فيهم؟ قلت : من لم يعرف فهو كافر قال سبحان الله! هذا قول الخوارج. ثمّ قال : إن شئتم أخبرتكم. فقلت (٢) : بلى. فقال : أما إنّه شرّ عليكم أن

__________________

(١) وفي المصدر : ثمّ قال لنا : ما تقولون في خدمتكم ... إلى آخره.

(٢) في المصدر : « لا » بدل « بلى ».


تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا. قال : فظننت أنّه يريد (١) ما على قول محمّد بن مسلم » (٢). الحديث.

ولعلّ المراد من ذيله : أنّه ظنّ من قول الإمام أخيرا إرادة قول محمد بن مسلم ؛ حيث حكم بكفر من لم يعرف مع عدم سماعه من الإمام عليه‌السلام (٣) وهذه تدل على ثبوت الواسطة بين المؤمن بالمعنى الأخصّ والكافر.

ومنها : ما رواه في « الكافي » أيضا عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل إلى أن قال ـ في مقام جواز التّزويج ـ : « ولكن العواتق اللّواتي لا ينصبن كفرا ولا يعرفن ما تعرفون. قال زرارة : قلت : وهل تعدو أن تكون مؤمنة أو كافرة فقال : تصوم وتصلّي وتتقي الله ولا تدري ما أمركم. فقلت : قد قال الله عز وجلّ

__________________

(١) في المصدر : يديرنا على قول محمّد بن مسلم.

(٢) الكافي : ج ٢ / ٤٠٢ ـ ح ١ باب « الضلاّل ».

(٣) لعلّه يقصد : ان هاشما حكم بكفر من لم يعرف إمامة أهل البيت الثابتة لهم بأمر الله عزّ وجل ، من دون ان يكون قد سمع بمتعلق حكمه من الامام المعصوم ، والمفروض ان المؤمن ينبغي له أن لا يدين الله تعالى بشيء متى ما لم يسمع بذلك من الشارع كما ورد أن من سرّه ان يستكمل الايمان كلّه فليقل : القول منّي في جميع الأشياء قول آل محمّد فيما أسرّوا وما أعلنوا وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني. انظر الكافي الشريف : ج ١ / ٣٩١ باب « التسليم وفضل المسلّمين » ـ ح ٦.


( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) (١) لا والله لا يكون أحد من النّاس ليس بمؤمن ولا كافر. قال : فقال : أبو جعفر عليه‌السلام قول الله أصدق من قولك يا زرارة أرأيت قول الله عزّ وجلّ : ( خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) (٢) فلمّا قال : عسى ، فقلت : ما هم إلاّ بمؤمنين أو كافرين. قال : فقال عليه‌السلام :فما تقول في قول الله عزّ وجل ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) (٣) إلى الإيمان. فقلت : ما هم إلاّ بمؤمنين أو كافرين. فقال : والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين. ثمّ أقبل علي ، فقال : ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت : ما هم إلاّ مؤمنين أو كافرين ؛ إن دخلوا الجنّة فهم مؤمنون ، وإن دخلوا النّار فهم كافرون. فقال : والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين » (٤). الحديث.

وهذه الرّواية كما ترى تدلّ على الواسطتين صدرا وذيلا.

ومنها : ما رواه في « الكافي » أيضا في باب « المستضعف » عن عمر بن أبان قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المستضعفين فقال عليه‌السلام : هم أهل الولاية فقلت : أيّ ولاية فقال : أمّا إنّها ليست بالولاية في الدّين ، ولكنّها الولاية في المناكحة

__________________

(١) التغابن : ٢.

(٢) التوبة : ١٠٦.

(٣) النساء : ٩٨.

(٤) الكافي الشريف : ج ٢ / ٤٠٣ ـ ح ٢ من باب « الضلاّل » ، « ط دار الأسوة ».


والموارثة والمخالطة وهم ليسوا بالمؤمنين وليسوا بالكفّار ومنهم المرجون لأمر الله عزّ وجلّ » (١) إلى غير ذلك من الأخبار.

فيما يترتّب على الواسطة من الأحكام

ثمّ إنّ الواسطة بين الإيمان بالمعنى الأعم ـ وهو الإسلام ـ والكفر ، لا يترتّب عليه حكم كلّ من الكافر والمسلم (٢) ؛ فمثل النّجاسة لا يترتّب عليه ، بل يحكم بطهارته ؛ لأنّ النّجاسة من أحكام الكفر. كما أنّ جواز النّكاح والتّوارث من أحكام الإسلام. وهل يحكم بصحّة عباداته أم لا؟ وجهان ؛ أوجههما الثّاني ؛ لأنّ ظاهرهم اعتبار الإسلام في صحّة العبادات لا مانعيّة الكفر.

__________________

(١) المصدر السابق : ج ٢ / ٤٠٦ باب « المستضعف » ـ ح ٥ « ط دار الأسوة ».

(٢) أقول : التعبير لا يخلو من مسامحة ؛ فانه إذا لم يترتّب عليه حكم المسلم كيف حكم له بالطهارة؟ وأنت تعلم بان الحكم بطهارة هؤلاء وجواز نكاحهم وتوارثهم وما إلى ذلك من أحكام إنما يتبع الحكم بإسلامهم ولعلّ ما صدر منه كان سهوا من القلم وإلاّ فإن الواسطة المذكورة إنما هي بين الكفر والإيمان.

وأما الواسطة بين الإسلام ـ الذي عبّر عنه بالإيمان بالمعنى الأعم ـ والكفر فشيء لا دليل عليه ولم يثبت من طريق الأخبار وإنما هو نسيج الخيال ، على ان الواسطة بين الإسلام والكفر ـ لو سلّم ـ هي ما عليه أهل الكتاب ولهم أحكامهم والبحث أجنبي عنهم تماما وشرحه يطلب من محلّه.


نعم ، لا يجوز استرقاقه قطعا ؛ لأنّه من أحكام الكفر. كما أنّه يحكم بسقوط القضاء عنه بعد الإسلام ؛ فإنّه من أحكامه. وبالجملة : لا بدّ من تشخيص كون الحكم مترتّبا على الكفر أو الإسلام ، وهو بنظر الفقيه (١).

وأمّا الواسطة بين المؤمن بالمعنى الأخصّ والكافر فيجري عليه حكم المسلم القائل بالإيمان الأخصّ ولا يترتّب عليه حكم كلّ من الكافر والمؤمن (٢) فمثل حقن الدّماء والميراث وجواز النّكاح فيما كانت الواسطة امرأة وأراد المؤمن نكاحها يترتّب عليه. وأمّا نكاحها (٣) المؤمنة ونحوه ممّا رتّب في الشّرع على الإيمان بالمعنى الأخصّ فلا يترتّب عليه. ويدلّ على ما ذكرنا الأخبار السّابقة وكثير من الأخبار الأخر.

منها : ما رواه في « الكافي » في باب « أنّ الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان » عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « سمعته يقول : الإيمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى الله عزّ وجلّ وصدّقه العمل بالطّاعة لله والتّسليم لأمره. والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الّذي عليه جماعة النّاس كلّها ، وبه حقنت الدّماء وعليه جرت المواريث وجاز النّكاح واجتمعوا على

__________________

(١) لم نعرف لهذه الفروع محصّلا بعد عدم وضوح الواسطة المتصوّرة بين الإسلام والكفر حيث كان الحديث عن الواسطة بين الإيمان والكفر لا غير.

(٢) لا يخلو من تهافت صدرا وذيلا فلاحظ.

(٣) كذا والظاهر ان الصحيح : وأمّا نكاحه المؤمنة.


الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ وخرجوا بذلك عن الكفر واطلعوا إلى الإيمان. والإسلام لا يشرك الإيمان ، والإيمان يشرك الإسلام ، وهما في الفعل والقول يجتمعان كما صارت الكعبة في المسجد والمسجد ، ليس في الكعبة ، وكذلك الإيمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الإيمان.

وقد قال الله عزّ وجلّ : ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (١) فقول الله عزّ وجلّ أصدق القول.

قلت : فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والأحكام والحدود وغير ذلك؟ فقال : لا ، هما يجريان في ذلك مجرى واحد ، ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقرّبان به إلى الله عزّ وجلّ.

قلت : أليس الله عزّ وجل يقول : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) (٢) وزعمت أنّهم مجتمعون على الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ مع المؤمن؟ قال :أليس قد قال الله عزّ وجلّ ( فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ) (٣) فالمؤمنون هم الّذين يضاعف الله عزّ وجل حسناتهم لكلّ حسنة سبعين ضعفا ، فهذا فضل المؤمن ويزيده الله في حسناته على قدر صحّة إيمانه أضعافا كثيرة ويفعل الله بالمؤمنين

__________________

(١) الحجرات : ١٤.

(٢) الأنعام : ١٦٠.

(٣) البقرة : ٢٤٥.


ما يشاء من الخير.

قلت : أرأيت من دخل في الإسلام ليس هو داخلا في الإيمان؟ قال : لا ، ولكنّه قد أضيف إلى الإيمان وخرج عن الكفر ، وسأضرب لك مثلا تعقل به فضل الإيمان على الإسلام ؛ أرأيت لو أبصرت رجلا في المسجد أكنت تشهد أنّك رأيته في الكعبة؟ قلت : لا يجوز لي ذلك قال فلو أبصرت رجلا في الكعبة أكنت شاهدا أنّه قد دخل المسجد الحرام قلت : نعم. قال : وكيف ذلك؟ قلت : لا يصل إلى دخول الكعبة حتّى يدخل المسجد. قال : أصبت وأحسنت. ثمّ قال كذلك الإيمان والإسلام » (١).

وبمضمونه جملة من الرّوايات وظاهره وإن كان ترتّب الثّواب على أعمال جميع الفرق من المسلمين ، إلاّ أنّه مطلب آخر لا دخل له بما كنا نحن في صدد بيانه ، مع كونه معارضا بأظهر منه يدلّ على إناطة الثّواب بالإيمان بالمعنى الأخصّ. مثل ما رواه في « الكافي » في « باب دعائم الإسلام » : عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال زرارة : قال أبو جعفر عليه‌السلام : « ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرّحمن ، الطّاعة للإمام عليه‌السلام بعد معرفة أنّ الله عزّ وجل يقول : ( مَنْ

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٢٦ باب « أن الإيمان يشرك الإسلام والاسلام لا يشرك الإيمان » ـ ح ٥.


يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (١) أما لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان. ثمّ قال : أولئك المحسن منهم ، يدخله الله الجنّة بفضل رحمته » (٢).

ومثله ما رواه في « الكافي » بعد « باب دعائم الإسلام » : عن القاسم بن الصيرفي قال : « سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : الإسلام يحقن به الدّم وتؤدّى به الأمانة ويستحلّ به الفروج ، والثّواب على الإيمان » (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار الدّالة على ذلك ، وإن كان هناك أخبار أخر تدلّ على استحقاق غير المستبصر الثّواب على الإطاعة وكون الثّواب للمؤمن من حيث إنّ اختلاط طينته بطينة المؤمن أوجب اختيار الطّاعة ، كما أنّ اختلاط طينته بطينة غيره أوجب المعصية فثوابه يعود إلى المؤمن ، كما أنّ عقابه يعود إليه. وكيف كان لتحقيق المسألة محلّ آخر لا دخل لها حقيقة بمسائل الفقه ولا بأصول الفقه.

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) الكافي الشريف : ج ٢ / ١٩ ـ ح ٥.

(٣) نفس المصدر ج ٢ / ٢٤ باب « ان الاسلام يحقن به الدم » ـ ح ١ ، والمحاسن : ج ١ / ٢٨٥ باب « الاسلام والايمان » ـ ح ٤٢٣.


نعم ، هنا كلام آخر وهو : أنّه على القول بعدم الثّواب على عباداتهم كما هو الأظهر فهل هو من جهة كون الإيمان بالمعنى الأخصّ شرطا في صحّة العبادة ـ كما أنّ الإسلام شرط فيها إجماعا ـ أو من جهة حبطها؟

ولا ينافي الوجه الأوّل حكمهم : بأنّه إذا استبصر المخالف لا يجب عليه قضاء العبادات البدنيّة إذا فرض إيقاعها على طبق مذهبه الباطل ؛ فإنه حكم تعبّدي ، وإلاّ فربّما يكون ما أوقعه على طبق مذهبه باطلا عندنا ومخالفا للواقع يقينا. فكيف يمكن الحكم بصحّته بمقتضى القواعد؟

ولتحقيق هذا المطلب أيضا محلّ آخر ؛ لأنّ شرح القول فيه ينافي وضع التّعليقة.

(٦٩) قوله قدس‌سره : ( فإن اكتفينا في الإسلام بظاهر الشّهادتين ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٧١ )

أقول : ظاهر بعض الأخبار المتقدّمة وإن كان كفاية مجرّد الإقرار في الإسلام ، بل ظاهر جملة من الأخبار بل الكتاب العزيز الاكتفاء به مع العلم بعدم الاعتقاد باطنا ، لكنّ الأظهر كما يقتضيه جملة من النّصوص كون كفاية الإقرار من حيث كشفه عن الاعتقاد ، ولا ينافي ذلك كون مقتضى المصلحة ترتيب أحكام الإسلام في صدر الإسلام على المنافق ، فضلا عن الشّاك ، على ما عرفت الإشارة إليه سابقا.

ثمّ على التّقدير الثّاني ؛ لا فرق في الحكم بعدم إسلامه بين كونه ظانّا بالحقّ


أو بالباطل ، كما أنّه لا فرق في الحكم بكفره على تقدير عدم الواسطة ، والحكم بعدمه على تقدير الواسطة بين القسمين من الظانّ.

فالفرق الّذي استظهره قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « أمّا الظّان بالباطل فالظّاهر كفره » (١) محلّ مناقشة (٢) فافهم.

(٧٠) قوله قدس‌سره : ( وهو في محلّه بناء على ما استظهرنا منهم ). ( ج ١ / ٥٧٤ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده : بأنّ منشأ حصول القطع ، إذا كان حسن الظّن بالمقلّد ـ بالفتح ـ مع انضمام الأمارات والقرائن الخارجة ، لم يفرّق بين المسائل العقليّة المحضة وغيرها ممّا يكون المرجع فيها النّقل.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٧٢.

(٢) قال الفاضل الكرماني ١ :« أقول : على تقدير اعتبار احتمال الإعتقاد على طبق الشهادتين في إسلام مظهر الشهادتين قد استشكل المصنف ١ في الحكم بكفر الظانّ بالحق باعتبار تقييد كفر الشاك بالجحود الذي هو الإنكار مع العلم فإذا لم يجحد ظانّ الحق لم يكفر ، واستظهر كفر الظانّ بالباطل باعتبار ان معتقد الباطل كافر والظاهر شموله للظان بالباطل أيضا.

والجحود الذي هو الإنكار مع العلم ولو بالمعنى الأعم لا يتأتّى هنا فلا يعتبر ، فالظاهر كفره.

وبالجملة : الفرق بين الظانين بالإستشكال والظهور وجداني والتسوية بينهما فيهما خلافه وهذا واضح ». إنتهى. انظر الفرائد المحشى : ١٧٤.


(٧١) قوله قدس‌سره : ( مع أن الإنصاف أنّ النّظر والاستدلال بالبراهين ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥٧٤ )

__________________

(١) قال الفاضل الكرماني ١ :« أقول : هذا الانصاف الذي فتح به لو تم لتم جري دليل الإنسداد في الأصول الإعتقاديّة وكفاية الظنّ فيها بأن يقال :معاصروا النّبي ٦ والأئمة : كانوا متمكّنين من تحصيل العلم بالمعارف وكان باب العلم فيها مفتوحا لهم بمشاهدة الآيات وظهور المعجزات واستماع القطعيّات وإزالة ما يرد عليهم من الشكوك والشبهات ونحن فاقدوا كل ذلك فإن عمدة الأدلة على إثبات الصانع القديم الواجب بالذات هو انه لولاه لزم الدور أو التسلسل وفي بطلان التسلسل نظر كما اعترف الجزائري به في أوّل كتابه بقوله : « وفي بطلانهما نظر ».

وقد اعترف رئيس الحكماء أبو علي سينا بأن المعاد الجسماني لا يفي بإثباته العقل وغاية ما يمكن إثباته في أمر النبوّة هو مطلق النبوّة أمّا الخاصّة فلا ، وأمّا المعجزات فليس لنا إليها سبيل إلاّ هذا الكتاب العزيز الذي بأيدينا.

وقد اختلف العلماء الذين صرفوا أعمارهم في ذلك في بيان وجه إعجازه حتى قال بعضهم : بأنه يمكن الإتيان بمثله إلاّ أن الله يصرف عن ذلك.

فإذا كان هذا حالهم فكيف يمكن إثبات أنه معجز لغيرهم فإذا انسدّ باب العلم القطعي في هذا الزمان بإجمال ما تقدّم من البيان مع وفور القاء الشبهة والشكوك مع أتباع الشيطان ، والتكليف بالأصول باق لم يرتفع ولا شيء أقرب إلى القطع وأصلح لأن يقوم مقامه عند امتناعه من الظن ، فالعقل القطعي الحكم ها هنا يحكم بالإكتفاء بالظن والإقتناع به ، فثبت


كفاية العلم الحاصل من التقليد في العقائد

أقول : كلامه قدس‌سره في المتمكّن من تحصيل العلم ، محمول على ما يشمل حصول العلم من التّقليد ؛ فلا يتوجّه عليه : كون مقتضى الإنصاف خروجه عن محلّ الكلام ؛ فإنّ البحث في المتمكّن عن تحصيل العلم. كما أنّ مراده فيما ذكره :بيان ما هو الغالب ، وإلاّ فبعض المسائل مبنيّ على براهين واضحة لا يوجب النّظر والاستدلال الوقوع في الشّبهة والضّلالة. كيف! وإنّ الله عزّ وجل أرشد المكلّفين في كتابه العزيز إلى التمسّك بالآيات الباهرات والبراهين الواضحات على وجوده ووحدته وحكمته وغير ذلك من صفاته. مع أنّ البرهان والدّليل الإجمالي على جملة من الأمور ممّا هو مركوز في النّفوس ومن فطريّاتها.

نعم ، الأمر في كثير من المسائل المشكلة ممّا يحتاج في إقامة البرهان عليها

__________________

اعتبار الظن في الفروع والأصول. لكن كلّ هذا بمنزلة منسوجات العناكب يقطعها ويبيدها ويفنيها قوله تعالي : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [ العنكبوت : ٦٩ ].

وهل القديم الواجب تعالى شك فيه كيما يحتاج إثباته إلى بطلان الدور والتسلسل؟

(أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [ ابراهيم : ١٠ ].

وفي كلّ شيء له آية

تدل على أنه واحد

يا من خفى من فرط الظهور ، وبسط الكلام لا يصلح لهذا المقام ». انتهى.

أنظر الفرائد المحشى : ١٧٥.


على تعلّمها من الحكمة الإلهيّة أو الطّبيعيّة كما ذكره قدس‌سره.

وبالجملة : لا إشكال في اختلاف المسائل والأشخاص فيما أفاده ، وليس مراده الكليّة ، بل المراد : بيان القضيّة الغالبيّة بالنّسبة إلى ما يحتاج إلى الاكتساب. وأمّا ما يكون من قبيل القضايا الّتي قياساتها معها فهو خارج عن محلّ كلامه ؛ لأنّ حصول العلم من البرهان الإجمالي للمتفطّن بالنّسبة إليه ضروريّ. فكيف يعتمد على قول الغير في حصول الجزم؟

ثمّ إنّه لا ينافي ما استقر به قدس‌سره وفاقا لمن ذكره في كفاية الجزم الحاصل من التّقليد وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه عند التّأمّل [ في ] الآيات النّاهية عن التّقليد وإن كانت واردة في الأصول ؛ ضرورة كون المراد من التّقليد فيها هو الّذي لا يفيد الجزم. كما أنّه لا ينافي ما أمر فيها بالنّظر والاستدلال من الآيات والأخبار مثل قوله عليه‌السلام : « عليكم بدين العجائز » (١) فإنّ الأمر بالنّظر والاستدلال إنّما هو من جهة

__________________

(١) من الأحاديث المشهورة على الألسن جدّا لكنّه لا أصل له لا في تراث أهل البيت عليهم‌السلام ولا غيرهم ، بل هي كلمة لبعض المتفلسفين كما قيل ويأتي أو لسفيان الثوري كما في آخر ولا بأس بالاشارة إلى كلا الكلامين : جاء في كتاب « المواقف » للقاضي عضد الإيجي : انه من كلام سفيان الثوري فإنه روى ان عمرو بن عبيد من رؤساء المعتزلة قال : ان بين الكفر والايمان منزلة بين المنزلتين.

فقالت عجوز : قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [ التغابن :


__________________

[٢.

فلم يجعل الله من عباده إلاّ الكافر والمؤمن فبطل قولك ، فسمع سفيان كلامها فقال :عليكم بدين العجائز. انظر المواقف : ج ١ / ١٦١.

هذا وفي « فيض القدير شرح الجامع الصغير » للمناوي :

قال السمعاني في الذيل عن الهمداني قال : سمعت أبا المعالي يعني امام الحرمين يقول : قرأت خمسين ألفا في خمسين ألفا ثم خلّيت أهل الاسلام باسلامهم فيها وعلوم الظاهرة وركبت البحر الخضمّ وغصت في الذي نهى أهل الاسلام عنه ، كل ذلك في طلب الحق وهربا من التقليد والآن قد رجعت من العمل إلى كلمة الحق ، عليكم بدين العجائز ، فإن لم يدركني الحق بلطفه واموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على الحق وكلمة الإخلاص « لا إله إلاّ الله » فالويل لابن الجويني. انظر فيض القدير : ج ١ / ٥٤٤.

قلت : وعلى كل حال قد اتفقت كلمتهم على كونه موضوعا. قال الصغّاني : موضوع. وقال الآمدي : لم يثبت ولم يصح. « الاحكام » : ج ٤ / ٢٢٦.

وقال القاري : حديث موضوع. وقال ابن طاهر : لم أقف له على أصل ، إلى غير ذلك ممن صرّح بوضعه. أنظر تذكرة الموضوعات : ١٦.

وأمّا ما ذكره صاحب « الفصول » رضوان الله تعالى عليه في « فصوله » ص ٤١٥ : من ان صدوره عن الثوري لا ينافي صدوره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظاهر الفساد بعد عدم وجدان المصدر الصحيح لهذا الخبر لا في كتب الخاصة ولا العامة فكيف يمكن إسناده اليه؟

نعم ، لا اشكال في كون ما نسبه السمعاني الى امام الحرمين : قد تكون مجرّد نسبة لا واقع


عدم حصول المعرفة والعلم بالتّقليد غالبا ، لا من جهة عدم كفاية العلم بالحقّ الحاصل من غيره ، فهو إرجاع إلى ما يتيسّر غالبا سيّما بالنّسبة إلى وجود الصّانع للعالم الّذي دلّ عليه تمام ما في الآفاق والأنفس ويكون حصول العلم به ضروريّا إن لم يكن فطريّا ، بل التّحقيق : كونه أظهر الظّواهر. ومن هنا دلّ على ذاته بذاته وبه عرفناه فكيف يرجع فيه إلى التّقليد؟ أو يلتمس البرهان الفلسفي؟ وعلى ما ذكرنا يحمل منعهم عن التّقليد في الأصول ، مضافا إلى قرائن مذكورة في « الكتاب ».

ودعوى : كون المطلوب في العقائد اليقين ، ولا يمكن حصوله من التّقليد ؛ نظرا إلى زوال الجزم الحاصل منه بتشكيك المشكّك.

فاسدة أوّلا ؛ بعدم الدّليل على اعتبار غير الجزم والاعتقاد والمعرفة في العقائد ، ولا شبهة في حصول هذه العنوانات بالتّقليد كما تحصل بالنّظر والاستدلال.

وثانيا : بأنّ زوال الجزم بالتّشكيك مشترك الورود ؛ إذ كثيرا ما يزول الجزم الحاصل من النّظر أيضا.

__________________

لها خارجا ، إذ يبعد إعراض مثله ممّن توغّل في الفلسفة والكلام عن هذا العلم وتشبّثه بدين العجائز كما أشار اليه السقّاف في صحيح شرح العقيدة الطحاوية ص ٦٨ حيث أنكر رجوع الجويني عن علم الكلام وجعل النسبة المذكورة في مثل كلام السمعاني خرافة.

والمهم ان الحديث المذكور باطل من أساسه سندا ومصدرا ودلالة. وشرح بطلانه زائدا على ما ذكرنا يطلب من موضع آخر.


(٧٢) قوله قدس‌سره : ( أمّا الأوّل : فقد يقال فيه بعدم [ وجود ] العاجز ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٧٥ )

الجواب عن منع ثبوت العاجز

أقول (١) : وقد يستدلّ على ذلك مضافا إلى ما في « الكتاب » بوجوه :

أحدها : قوله تبارك وتعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (٢) فإنّ مقتضاه كون كلّ من لم يعرف الحق مقصّرا من حيث تركه المجاهدة ، وإلاّ كان

__________________

(*) قال سيّد العروة أعلى الله تعالى مقامه الشريف :

« وقد يستدل أيضا لذلك بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)[ العنكبوت : ٦٩ ] وقوله تعالى : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [ الأنعام : ١٤٩ ].

وفيه ـ مضافا إلى إمكان منع العموم فيها بإعتبار منع كون الموصول مطلقا للعموم وأن المراد بالمجاهد من له أهليّة المجاهدة ، وكذا الحجّة البالغة ثابتة لأهلها ـ : إن غاية ما يستفاد منهما ظهور عموم يقبل التخصيص ، ونحن نرى بالوجدان والعيان وجود القاصرين سيّما في أطراف البلاد البعيدة عن صيت الإسلام ، ومما يقطع به ذلك أنه لو فرض ان المكلّف في إبتداء بلوغه اشتغل بالمجاهدة والنّظر ومات قبلأن يحصل له الإعتقاد بما يجب عليه من المعارف ، فهل ترى أنّه يحكم عليه بالتقصير أو يدعي له عدم وقوع الفرض.

وبالجملة : أنّا قاطعون بوجود الجاهل القاصر بالحس والعيان ، والإستدلال ببعض الظواهر في مقابل ذلك كما ترى ». إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ١ / ٦٧٤.

(١) العنكبوت : ٦٩ وقد جاء في الأصل وإن جاهدوا وهو خطأ.


مهديّا إلى الحقّ وواصلا إليه بمقتضى الآية.

ثانيها : حكم العقل بذلك ، بعد عرفان كون الغرض من الخلق المعرفة ، ولو بملاحظة قوله تبارك وتعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) (١) أي :ليعرفون. كما هو مقتضى التّفسير والحديث القدسي : « كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لكي أعرف » (٢) فلو كان بعض المكلّفين قاصرا وعاجزا عن المعرفة لزم كون خلقته عبثا ولغوا.

ثالثها : قوله تعالى : ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) (٣).

ومثله قوله عليه‌السلام : « كلّ مولود يولد على الفطرة إلاّ أنّ أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه » (٤).

فإنّ مقتضاهما كون معرفة الله عزّ وجل وأوليائه من الودائع الرّبانيّة والإلهامات الإلهيّة في النّفوس البشريّة لا تزول عنها إلاّ بصارف قويّ فإذا فرض كون المعرفة مكنونة في النّفوس بحسب التّكوين الإلهي ، فكيف يفرض العجز عنها؟ هذا.

__________________

(١) الذّاريات : ٥٦.

(٢) لا أصل له في التراث الموجود عن أهل البيت عليهم‌السلام أبدا ، نعم ، كتب التصوّف مملوءة منه عند الخاصة والعامّة ، والظاهر انه مأخوذ من أرباب التصوّف من أبناء العامّة.

(٣) الروم : ٣٠.

(٤) الكافي الشريف : ج ٢ / ١٣ ح ٣ من باب « فطرة الخلق على التوحيد ».


والجواب عن الأوّل : ظاهر ؛ إذ المفروض كون العاجز عاجزا عن المجاهدة ، بل ربّما يكون غافلا صرفا ، فكيف يتصوّر في حقّه المجاهدة؟ والهداية في الآية مترتّبة على المجاهدة.

وأمّا عن الثّاني : فبأنّ المراد بيان الغرض من خلق نوعي الجنّ والبشر ، وأنّه لتكميل النّفوس بمعرفة باريهم وخالقهم حتّى يترتّب عليها التّشبّه به بكسب الأخلاق الحميدة والأعمال المحمودة ، ولا ينافي ذلك عجز بعض الأشخاص وإلاّ لزم عدم وجود المجنون في العالم ، أو عدم موت أحد في صغره ؛ للزوم العبث في الخلق كما توهّم. ومنه يظهر : المراد من الحديث الشّريف أيضا ؛ فإنّ ترتب المعرفة على الخلق المتعلّق لإرادة الله « عزّ وجلّ » لا يلازم عدم وجود العاجز.

وأمّا عن الثّالث : فبأنّ المراد من الآية والرّواية كون آيات المعرفة موجودة في الأنفس ، كما أنّها موجودة في الآفاق. ولا ينافي ذلك عروض الحجاب عن النّظر إليها والتّأمّل فيها بقصر قاصر ، ولو بالاكتساب القهري عن الآباء والأمّهات فافهم.

والإنصاف وجود العاجز كما نشاهد بالوجدان. مضافا إلى ما ورد في حقّ المستضعف ، وإلى الأخبار الدّالة على ثبوت الواسطة ممّا عرفت جملة منها ، سيّما ما عرفته في قضيّة مناظرة الإمام عليه‌السلام مع زرارة ، وغيرها كما ذكره قدس‌سره في « الكتاب » (١).

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٧٦ ، والخبر في الكافي الشريف : ج ٢ / ٤٠٣ باب « الضّلاّل » ـ ح ٢.


(٧٣) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة إلى العالم ... إلى آخره ) (١). ( ج ١ / ٥٧٧ )

هل للعالم إلزام الجاهل بتحصيل الظن أم لا؟

أقول : قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره : بأنّ تكليف العالم بعد رجوع الجاهل إليه ـ فيما يجب عليه البيان والدّلالة والإرشاد ـ هو بيان ما استفاده من الأدلّة في حكم الموضوعات ، وأدّى إليه نظره الاجتهادي القطعيّ أو الظّنيّ فيما كان الظّن حجّة ؛ فإذا استفاد من الأدلّة العقليّة والنّقليّة عدم حجيّة الظّن في المقام ، وكون الاعتقاد الظّني كالشّك ، وأنّه يحرم الالتزام بمقتضاه ؛ نظرا إلى كون التّدين الظّاهري في العقائد من آثار العلم ، لا المعلوم ولا الاعتقاد بالمعنى الأعمّ ، فكيف يجوز له

__________________

(١) قال سيّد العروة رضوان الله تعالى عليه :

« بعد فرض عدم وجوب هذا الإعتقاد الظنّي لغير المتمكّن من العلم يبعد وجوب إلزامه تحصيل ذلك الإعتقاد إرشادا غاية البعد ؛ إذ لا وجه لإيقاع الشخص في كلفة ما لا يجب عليه ولا يفيده.

والتحقيق : أنه يجب على من لا يقدر إلاّ على تحصيل الإعتقاد الظنّي أن يحصّله ويتديّن به وهذا مما يستقل به العقل بملاحظة مطلوبيّة الإعتقادات الحقّة ومذمّة الشاك والجاحد في الأخبار المتظافرة وحينئذ يجب على العالم بأنّه يتمكّن من تحصيل الظن إرشاده وإلزامه بذلك لوجوب إرشاد الجاهل بما يجب عليه ولو لم يراجع ذلك الجاهل إليه فضلا عمّا إذا راجع إليه ». إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ١ / ٦٧٦.


تجويز الجاهل العمل بالظّن وتحصيله؟ فضلا عن أن يجب على العالم إلزامه بتحصيل الظّن.

وما يقال في دفع المناقشة ـ : أنّ وجوب إلزامه بتحصيل الظّن إنّما هو من جهة حكم عقله بلزومه إذا احتمل قيامه مقام الاعتقاد العلمي من باب الإرشاد وإزالة الخوف الحاصل للنّفس من جهة احتمال تعيين الظّن في حقّه ، ولا ينافي ذلك كون حكم الظّن في الواقع وفي نفس الأمر عدم الحجيّة. ألا ترى أنّهم اختلفوا في وجوب تقليد الأعلم والأورع؟ أو جواز البقاء على تقليد الميّت؟ مع اتّفاقهم على وجوب رجوع العامي الجاهل بحكم المسألتين إلى الحيّ الأعلم من جهة حكم عقله بذلك من حيث كونه متيقّن الاعتبار ، وغيره مشكوك الاعتبار. فالحيثيّتان مختلفتان ، فإذا دار أمر الجاهل في المقام بين البقاء على الشّك وتحصيل الظّن ، واحتمل تعيين الثّاني ـ ولو من جهة ذهاب بعض إليه ـ فلا محالة يحكم عقله بلزوم تحصيل الظّن من باب الاحتياط ؛ فيجب على العالم من باب الإرشاد إلزامه بتحصيل الظّن بهذه الملاحظة والحيثيّة ، وإن كان الحكم الإلهيّ الواقعي في الموضوع المذكور هو عدم حجيّة الظّن وحرمة العمل به في نفس الأمر ـ فاسد جدّا.

أمّا أوّلا ؛ فلأنّ حكم العقل المذكور إنّما يتبع احتمال تعيين سلوك الطّريق الظّني إذا لم يحتمل حرمته ، كما في تقليد الحيّ الأعلم ، وإلاّ فأمره دائر بين المحذورين.


وأمّا ثانيا ؛ فلمنافاة ما ذكره لما اتّفق عليه الكلّ : من استقلال العقل بعدم حجيّة ما شك في اعتباره وأنّه يجب التّوقف فيه.

وأمّا ثالثا ؛ فلأنّ الّذي يحكم به عقل الجاهل بالمسألة المفروضة ـ سواء احتمل كون تحصيل الظّن واجبا شرطيّا ومعتبرا في الإيمان ، أو واجبا نفسيّا مستقلاّ ـ الرّجوع إلى العالم ، [ وذلك ] ليس إلاّ من حيث كون الشّبهة حكميّة ، واللاّزم على العالم بيان الحكم الإلهيّ الّذي أدّى إليه نظره واستنبطه من الأدلّة.

فإذا فرض أداء نظره إلى عدم حجيّة الظّن وحرمة التّدين به في العقائد مطلقا ؛ حتّى في حقّ الغير المتمكّن من العلم ـ كما هو المفروض ـ فكيف يصير الواجب في حقّه إلزامه بتحصيل ما ليس حجّة في حقّه في نظره؟ فالقياس في غير محلّه فتدبّر.

ولنختم الكلام فيما يتعلّق بالمقام بذكر أمرين :

عدم وجوب معرفة التفاصيل

الأوّل : أنّك قد عرفت في طيّ ما قدّمنا لك : أنّ مقتضى الأخبار المتقدّمة في تفسير الإيمان وتحديد المقدار الواجب منه ، أنّ معرفة التّفاصيل غير واجبة على من يتمكّن منها بحسب تكليف نفسه عينا ؛ من حيث توقّف الإيمان عليها أو وجوبها بالاستقلال.

فهل يجب بالوجوب الكفائي من حيث حفظ نوع ما ورد في الشّرع وثبت


فيه ـ مضافا إلى كونه أداء لحقّ أولياء النّعم الظّاهريّة والباطنيّة والوسائط الخلقيّة والعلل الغائية ، وربّما يحتاج إليها لردع المبطل لها ، والزّاعم خلاف الحقّ فيها. هذا بالنّسبة إلى غير صفات الباري تعالى من صفات حججه عليهم‌السلام أو الأمور الدّينيّة الاعتقاديّة الثّابتة من جهتهم وبياناتهم. وأمّا بالنّسبة إلى صفاته عزّ وجلّ من أن يوصف بصفات المخلوقين ، فالأمر أوضح. ومن هنا قيل بوجوب تحصيل علم الكلام لحفظه عن الاندراس ، وليس ذلك بأدون من تحصيل الأحكام الغير الإلزاميّة في فروع الدّيانات من حيث لزوم حفظ أحكام الشّرع عن الاندراس وإن لم يحتج إليها غالب المكلّفين ـ أو لا يجب؟ وجهان : أوجههما في النّظر عاجلا : الأوّل. ولا ينافي ذلك ما قدّمنا أصلا كما لا يخفى.

مطلوبيّة السعي في الاستكمال

الثّاني : أنّه كما لا إشكال في مطلوبيّة معرفة التّفاصيل بحسب الإمكان في حقّ كلّ من يقدر عليها بقدر ميسوره ومقدوره من حيث اختلاف مراتب الإيمان فيختلف بحسب الآثار والعقل واللّوازم الأخرويّة على ما نبّهنا عليه سابقا ، كذلك لا إشكال في مطلوبيّة تكميل المرتبة الخاصّة من المعرفة الحاصلة للمكلّف بحسب مقدوره من حيث اختلاف مرتبة المعرفة شدّة وضعفا.

ومن هنا سأل الخليل « على نبيّنا وآله وعليه الصّلاة والسّلام وعلى سائر أنبيائه ورسله » شهود إحياء الموتى مع يقينه بالبعث والمعاد ؛ حتّى يحصل له مرتبة


الاطمئنان وكمال اليقين.

ومن هنا ورد ترجيح تفكّر ساعة على عبادة سبعين سنة وترجيح مقام الأئمّة عليهم‌السلام على مقامات الأنبياء والأولياء حتّى الخليل وتفضيلهم عليهم لحصول كمال المعرفة المقدور لهم صلوات الله عليهم ولذا قال مولانا ومولى العالمين أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أخيه وزوجته وأولاده الطاهرين : « لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا » (١). فهم أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين حتّى أولي العزم منهم غير خاتم النّبيّين ( صلوات الله عليهم ) من حيث الصّفة المذكورة ، كما فضّلوا عليهم بسائر الصّفات النّفسانيّة والأخلاق الرّبانيّة الرّوحانيّة.

ومن هنا كانوا عللا لوجود جميع المخلوقات حتّى الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم. والسّابقون في الخلق في العوالم الرّوحانية والملكوتيّة بما شاء الله تعالى.

__________________

(١) ورد في مثل إرشاد القلوب للديلمي : ج ٢ / ٢١٢ ، وكشف الغمة للإربلي : ج ١ / ١٧٠ ومناقب ابن شهر آشوب : ج ٢ / ٣٨ ، ومشارق الأنوار للحافظ رجب البرسي : ١٧٨ ، وفضائل شاذان بن جبرئيل : ١٣٧ ولعله هو الأصل لكل من تأخّر عنه.


(٧٤) قوله قدس‌سره : ( ولنختم الكلام بذكر كلام السيّد الصّدر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٧٨ )

كلام السيّد الصدر في شرح الوافية

أقول : ما ذكره في « شرح الوافية » من أقسام المقلّد ـ على تقدير القول بجواز التّقليد في العقائد والقول بعدمه ـ مطابق لما حكاه قدس‌سره في « الكتاب » ، إلاّ أنّ الأقسام تزيد على أربعة عشر ـ على القول بعدم جواز التّقليد ـ كما هو ظاهر. نعم ، ما حكاه شيخنا قدس‌سره في ذيل كلامه يخالفه في الجملة ؛ فإنّه قال في الشّرح :

« الثّامن : هذه الصّورة من غير عناد ولا إصرار بعدم العلم بالوجوب ، فهذا كافر أيضا إن مات ولم يرجع من اعتقاده الباطل. التّاسع : هذه الصّورة من غير علم بالوجوب وهذا أيضا كافر. وكذا العاشر ؛ يعني هذه الصّورة من غير عناد. الحادي عشر : المقلّد للباطل إن كان معاندا مع العلم والإصرار. والثّاني عشر : بلا إصرار. والثّالث عشر : بلا علم. والرّابع عشر : بلا عناد. والحكم في الجميع يظهر ممّا سبق » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

ثمّ إنّ المراد من القول بجواز التّقليد كما صرّح به شيخنا قدس‌سره فيما سبق في « الكتاب » في مقام الفرق بين التّقليد في الأصول وبينه في الفروع ليس ما يتراءى من ظاهره في بادىء النّظر ، بل المراد : أنّ المطلوب في العقائد الحقّة معرفتها

__________________

(١) شرح الوافية مخطوط : ٤٨٢ ـ ٤٨٤.


والوصول إليها من أيّ طريق كان ، فليس النّظر واجبا شرطيّا ولا نفسيّا في قبال القول بوجوبه على أحد الوجهين. فإذا كان المقلّد مخطئا لا يكون معذورا مع الالتفات ، وهذا بخلاف ما لو كان المكلّف مجتهدا في الأصول فإنّه يكون معذورا على تقدير الخطأ في الآخرة إلاّ إذا كان مقصّرا في المقدّمات.

وهذا الّذي ذكرنا مع وضوحه قد صرّح به المحقّق الورع مولانا أحمد الأردبيلي قدس‌سره كما حكاه في الشّرح المذكور ، فإنّه قال : « وظنّ أنّه يكفي في الأصول التّوصّل إلى المطلوب » (١). انتهى كلامه قدس‌سره.

ثمّ إنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره في ردّ الشّارح في المقلّد للحقّ على القول بعدم جواز التّقليد بقوله : « أقول : الحكم بإيمان هؤلاء لا يجامع فرض القول ... إلى آخره » (٢). في غاية الاستقامة ؛ فإنّ ظاهره ذكر الأقسام للمقلّد على القول بعدم الجواز المستظهر من المشهور من كون النّظر واجبا شرطيّا ، وإن كانت كلماته مضطربة ؛ فإنّ تمسّكه بالأصل لنفي وجوب النّظر قد يستظهر منه الوجوب النّفسي ؛ نظرا إلى عدم معنى للرجوع إلى أصالة البراءة أو أصالة العدم في نفي الوجوب الشّرطي.

قال قدس‌سره ـ بعد نقل ما عرفت من المحقق الأردبيلي « طيّب الله رمسه » ـ

__________________

(١) شرح الوافيه أيضا.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٨٠.


ما هذا لفظه :

« ها هنا ثلاث مقامات ؛ الأوّل : أنّه هل يجوز التّقليد في الأصول أو لا؟الحقّ نعم ؛ لأنّ الأصل عدم الوجوب ولا صارف ؛ إذ أدلّة وجوب النّظر مدخولة مثل قولهم النظر ممّا لا يتمّ دفع الضّرر الّذي هو واجب إلاّ به ، وكلّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. أمّا تحقّق الضّرر ؛ فإنّ من رأى عليه نعما متوافرة باطنة وظاهرة مع علمه ضرورة بأنّها من جانب الغير ، ورأى الاختلاف في وجود الصّانع وصفاته ، جوّز وجود منعم طلب منه معرفته وشكر تلك النّعم ؛ فيحصل له خوف زوال النّعمة بل حلول النّقمة بترك معرفته وشكره.

والجواب أوّلا : منع استلزام مجرّد التجويز الخوف ، إلاّ مع اقترانه بدعوى مدّعي الرسالة المقرونة بالمعجزة وأمر المكلّف بالإصغاء إليه والنّظر إلى معجزته ؛ إذ حينئذ يحصل الخوف لاحتمال صدق المدّعي ».

إلى أن قال :

« وثانيا : أنّ المدّعى عموم الوجوب للمكلّفين والدّليل لا يفيده على تقدير تسليمه ؛ لأنّ منهم من لا يحصل له الخوف حتّى يجب عليه عقلا دفعه كمن قلّد محقّا وجزم به ؛ فإنّه بعده ما اعتقد تقليدا اعتقادا جازما أنّ له صانعا منعما فشكره بموجب اعتقاده لقضاء ما يجب عليه ، فكيف يحصل له الخوف؟ وإن جوّز أن


يكون اكتفاؤه بالتّقليد مذموما إلى آخر ما ذكره بطوله » (١).

فإنّه كما ترى ينفي الوجوب الشّرطي للنّظر ؛ فإنّ الوصول إلى الحقّ لا ينافي الوجوب النّفسي أصلا كما لا يخفى.

(٧٥) قوله قدس‌سره : ( ظاهر كلامه في الاستدلال على منع التّقليد ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٨٣ )

إضطراب كلام الشيخ في العدّة

أقول : لا يخفى عليك أنّ كلام الشّيخ قدس‌سره في « العدّة » في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب والتباس ، بل مناقشة من وجوه.

أمّا عدم وضوحه في إفادة المراد من حيث إنّ محلّه المقلّد الغير الجازم أو الجازم ؛ فإنّ ظاهر استدلاله أوّلا على بطلان التّقليد في الأصول ، من حيث توقّف معرفة الموضوع الشّرعي حكما وموضوعا على معرفة جاعله والواسطة في تبليغ جعله ، وإن كان كاشفا عن كون محلّ كلامه في المقلّد الغير الجازم ؛ نظرا إلى ظهوره في لزوم الدّور ، على تقدير كفاية التّقليد في الأصول من حيث توقّف الكفاية على ثبوت الشّرع المتوقّف على التّقليد على الفرض.

فلا بدّ من اعتبار المعرفة العلميّة الغير المتوقّف اعتبارها على شيء من حيث كونها معتبرة بذاتها سواء كان حاصلا عن الدّليل أو التقليد ، وهذا بخلاف

__________________

(١) شرح الوافية مخطوط.


المعرفة الغير العلميّة ، وإن كان لزوم الدّور غير متوقّف على كفاية التّقليد الغير المفيد للعلم على المقدّمة المذكورة في كلامه كما هو ظاهر ؛ فإنّ لزومه على القول باكتفاء التّقليد في الأصول ، إنّما هو من حيث توقّف جواز التّقليد على ثبوت الشّرع ، الّذي فرض توقّفه عليه من غير دخل لتوقّف معرفة الصّلاة وأعدادها ، لكنّه ظاهر فيما استظهره شيخنا قدس‌سره منه ؛ فلا بدّ أن يكون مراده من المعرفة بالنّسبة إلى الصّلاة هي المعرفة الغير الجزميّة الحاصلة من التّقليد من حيث قيام الدّليل الشّرعي على كفايته.

وظاهر كلامه في إثبات العفو ـ بقوله : « لأني لم أجد أحدا من الطائفة ، ولا من الأئمّة ، قطع موالاة من يسمع قولهم ، واعتقد مثل اعتقادهم ، ... إلى آخره » (١) ـ كون محلّ الإثبات هو التّقليد المفيد للجزم ، لكن لا بدّ من حمل كلامه على ما استظهره شيخنا قدس‌سره لشهادة مجموع كلماته في المقام فيما ذكره في بحث حجيّة الأخبار ؛ فإنّه ذكر ـ بعد ما حكى عنه في « الكتاب » ـ ما هذا لفظه :

« على أنّ من أشاروا إليهم لا نسلّم أنّهم كلّهم مقلّدة ، بل لا يمتنع أن يكونوا عالمين بالدّليل على سبيل الجملة ، كما يقوله جماعة أهل العدل في كثير من أهل الأسواق والعامّة وليس من حيث يتعذّر عليهم إيراد الحجج ينبغي أن يكونوا غير عالمين ؛ لأنّ إيراد الحجج والمناظرة صناعة ليس يقف حصول المعرفة على

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٨٢.


حصولها » (١). انتهى ما أردنا نقله.

وهو كما ترى ، صريح في كون المراد من المقلّد في كلامه : هو المقلّد الغير الجازم ، فلا بدّ أن يكون المراد من الاعتقاد في كلامه ، الأعمّ من الظّني. بل يمكن أن يقال : إنّ مراده من الاعتقاد هو إظهار العقائد الحقّة من جهة التّقليد. بل يمكن أن يقال : إن كلامه هذا ظاهر بنفسه فيما ذكر من حيث ظهور المماثلة المذكورة في كلامه في ذلك فافهم.

أمّا المناقشات فإنّه يرد عليه :

أوّلا : أنّ المعتبر ـ بمقتضى ما عرفت من الأخبار وغيرها ـ هو الاعتقاد الجزمي بالعقائد الحقّة. نعم ، في ترتيب آثار الكفر على الشّاك المظهر للحقّ عن تقليد كلام ، مبنيّ على ثبوت الواسطة [ و ] قد عرفت بعض الكلام فيه. وهو لا تعلّق له بالمقام ؛ من كفاية التّقليد في تحقّق الإيمان.

وثانيا : أنّه بعد البناء على كفاية مجرّد إظهار الحقّ ولو عن تقليد في تحقّق الإيمان مع الشّك ، أو الظّن في مقام الوضع ، لا دليل على وجوب النّظر والاستدلال مستقلاّ بل لا دليل على وجوب تحصيل العلم واليقين بالوجوب النّفسي المستقلّ ؛ فإنّ وجوب تحصيل العلم إنّما هو من حيث توقّف حصول المعرفة المعتبرة في تحقّق الإيمان على العلم. فإذا قيل بكفاية مجرّد إظهار الحقّ في تحقّق الإيمان

__________________

(١) عدّة الاصول : ج ١ / ١٣٢.


فيسقط وجوب تحصيل العلم. كما أنّا نقول بسقوط النّظر والاستدلال بعد حصول العلم من التّقليد ؛ من حيث إنّ اعتبار النّظر إنّما هو من جهة توقّف حصول العلم غالبا عليه ، فإذا حصل التّوصّل بغيره أحيانا فيسقط وجوبه.

وثالثا : أنّه بعد البناء على وجوب تحصيل المعرفة العلميّة لا دليل على العفو عنه بعد البناء على إمكانه ، والإغماض عمّا قيل من عدم إمكانه ؛ من حيث كونه منافيا للّطف الواجب على الحكيم تعالى ، بل منافيا لغرضه من جعل التّكليف ، وبعث الرسل ، وإنزال الكتب ؛ من جهة كون العفو الحتمي عن المعصية موجبا للإقدام عليها من غالب النّفوس الضّعيفة ؛ فإنّ عدم قطع المعاشرة لا يدلّ على ما استظهره ؛ لأنّه أعمّ من ذلك ، لم لا يكون من جهة حمل كلام من قال بمثل قولهم ، على كونه معتقدا جازما؟ ولو من جهة طريقيّة كلامه إليه بالنّظر إلى ظهوره.

نعم ، هذا الاحتمال لا يجري في حقّ الأئمّة ( صلوات الله عليهم ) ؛ لانكشاف الواقعيّات لهم وعدم إمكان جعل الحكم الظّاهري في حقّهم.

فلا بدّ أن يقال : إنّ عدم قطع المعاشرة عن الأئمّة عليهم‌السلام كما يحتمل أن يكون من جهة علمهم بشكّهم في الواقع على ما يقوله الشّيخ ، كذلك يحتمل أن يكون من جهة علمهم بعلمهم ؛ فلا يكون دليلا على العفو على ما استظهره قدس‌سره ، بل يعلم : أنّ سكوت العلماء وعدم ردعهم للعوام ؛ وعدم قطع المعاشرة معهم ، لا بدّ من أن يكون من جهة الحمل المذكور. وكذا معاملة الأئمّة معهم معاملة المؤمنين ؛ إنّما هو من جهة علمهم بعلمهم بالحقّ وإن لم يستندوا إلى دليل وبرهان.


فإنّه بعد حصول المعرفة العلميّة ، يسقط النّظر والاستدلال ؛ إذ لا محلّ له بعد حصولها وكون المقصود منه التوصّل إليها على ما عرفت ؛ إذ على تقدير علمهم بشكّهم ، وكون النّظر واجبا نفسيّا مستقلاّ ، أو كون تحصيل العلم واجبا كذلك من غير توقّف حصول الإيمان على حصوله ، لا يجوز السّكوت قطعا من باب إرشاد الجاهل إلى حكم الله تعالى ، وإن لم يكن مغريا على ما ذكره قدس‌سره من حيث كون العامي جاهلا بمسألة قبح الإغراء ، الّتي هي مسألة أصوليّة (١).

فإنّ دليل وجوب إرشاد الجاهل بالحكم الشّرعي العامل على خلافه ليس منحصرا في قبح إغراء الجاهل ، بل الدّليل العامّ الجاري في جميع الموارد هو حكم العقل من باب وجوب اللّطف ولزوم نقض الغرض من تشريع الأحكام. ولو عمّم المعروف والمنكر بالنّسبة إلى ما كان معروفا ومنكرا بحسب الواقع ونفس الأمر ، ولو كان الفاعل جاهلا بهما ، لجاز التّمسّك بما دلّ على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من الأدلّة الأربعة.

ومن هنا وقع التمسّك به في « الكتاب » من شيخنا قدس‌سره في المقام ، وإن كان الأولى تحرير المقام بما عرفت. كما أنّ الأولى بل المتعيّن : تحرير وجه سكوت الأئمّة عليهم‌السلام بما عرفت ، لا بما في « الكتاب » ؛ لأنّه لا يخلو عن مناقشة ظاهرة لمن راجع إلى ما أفاده في وجهه وما ذكرنا.

__________________

(١) في كونها أصوليّة كلام الا ان يريد به أصول الكلام.


فإن شئت قلت : إنّ علم المقلّد الغير الجازم في مسألة اعتقاديّة حقّة بعدم وجوب تحصيل العلم عليه مستندا إلى سكوت الأئمّة عليهم‌السلام والعلماء ، وعدم قطعهم المعاشرة معهم ، وأنّه لولاه لوجب عليهم الرّدع وترك المعاشرة ، فيلزم على تقدير الوجوب مع هذا الفرض الإغراء بالجهل ، وإن كان منافيا لفرض تقليده في الأصول كلّها ، إلاّ أنّ دليل وجوب تعليم الجاهل ليس منحصرا في قاعدة قبح الإغراء بالجهل.

هذا كلّه فيما لو كان مراد الشّيخ قدس‌سره من المقلّد هو الغير الجازم منه كما استظهرناه. وأمّا لو أريد منه الجازم منه فيستدلّ على عدم قطع المعاشرة على ما اخترناه في المسألة من عدم وجوب النّظر إلاّ من باب المقدّمة فيسقط عند حصول العلم والمعرفة.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أنّ المقلّد للحقّ على أقسام : فإن لم يكن جازما ، لم يكن إشكال في عدم ترتيب حكم المؤمن عليه سواء كان ملتفتا بوجوب تحصيل العلم عليه ، أو غافلا ذاهلا عنه. غاية الأمر كونه عاصيا على تقدير الالتفات بجميع أقسامه. وفي جريان حكم الكفر عليه مطلقا بحسب الآثار الدّنيوية ، كلام عرفته.

وإن كان جازما ، لم يكن إشكال في إيمانه وعدم عصيانه أصلا. غاية الأمر كونه متجرّيا لو اعتقد وجوب النّظر عليه شرطا ، أو نفسا وكان مطلقا بحسب اعتقاده الباطل بما يقتضيه اعتقاده.

وهذا هو المراد من الاستدراك بقوله قدس‌سره في « الكتاب » : « اللهم إلاّ أن يفهم


هذا الشّخص منها كون النّظر والاستدلال واجبا ... إلى آخره » (١) فيكون على تقدير اعتقاده خلاف الواقع ، مكلّفا في زعمه بالنّظر ، وكون تركه عصيانا في حقّه.

نعم ، على تقدير استفادته ذلك من الآيات والأخبار اعتمادا على الظّهور اللّفظي يكون مكلّفا في الظّاهر بالنّظر والاستدلال.

وإن كان التّحقيق عندنا : كون المخالف للحكم الظّاهري متجرّيا ، فيكون استحقاقه المؤاخذة مبنيّا على استحقاق المتجرّي ، وإن كان الحكم الظّاهري مخالفا للواقع ـ كما في الفرض ، على ما عرفت : من كون وجوب النّظر من المقدّمات العقليّة الغالبيّة ـ فيسقط بعد حصول العلم والمعرفة بغيره ، كما هو المفروض. خلافا لمن زعم استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الظّاهري من حيث هو.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٨٤.


* التنبيه السادس :

في كون الظن جابرا أو موهنا أو مرجّحا

(٧٦) قوله قدس‌سره : ( ومجمل القول في ذلك : أنّه كما يكون الأصل في الظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٨٥ )

أقول : لا إشكال فيما أفاده من عدم الفرق في قضيّة الأصل الأوّلي في الظّن بين جعله حجّة مستقلّة أو موجبا لحجيّة ما لا يكون معتبرا في نفسه لولاه ، أو موجبا لسقوط ما يكون معتبرا في نفسه من الاعتبار ، أو موجبا لتقديم إحدى الحجّتين على الأخرى مع الشّك في ترتيب هذه الآثار والأحكام عليه ؛ لأنّ كلاّ من هذه يلازم الالتزام والتّدين بحكم لم يعلم ثبوته من الشارع.

ومن هنا يستدلّ بما ورد في شأن القياس وأشباهه ، على عدم جواز ترتيب شيء من الآثار المذكورة عليه ، ويجعل حاكما وشارحا لما دلّ على حجيّة المجبور مثلا فيما كان مدلوله حجيّة الخبر المظنون الصّدور مثلا ، ولو حصل الظّن من الخارج.

ويفرّق بينه وبين الظّن المشكوك الاعتبار ؛ حيث إنّ دليل اعتبار الخبر


المظنون الصّدور مطلقا ولو حصل الظّن بصدوره من غير صفات الرّاوي ، يوجب العلم بجواز التّدين بالخبر المظنون صدوره بواسطة مطابقته للأمارة الخارجيّة.

وهذا بخلاف ما لو حصل الظّن بصدوره بواسطة القياس وأشباهه ؛ فإنّ ما دلّ على وجوب إلقائه وكون مستعمله خارجا عن الدّين ، وأنّ أوّل من قاس إبليس ، مفسّر وشارح لدليل اعتبار الخبر المظنون الصّدور مطلقا. وأنّ اعتباره مقيّد بما إذا حصل الظّن بصدوره من غير القياس ، ولا يمكن عكس ذلك بجعل دليل اعتبار الخبر المظنون الصّدور حاكما على دليل حرمة القياس وأنّ المراد منه جعله حجّة مستقلّة ، لا ما يعمّه وجعله موجبا لتحقّق موضوع الحجّة بالوجدان ؛ لعدم الفرق بين الأمرين في صدق موضوع استعمال القياس ، وما هو المناط في حرمته.

وأمّا ما ربّما يتوهّم ـ : من أنّ جعله جابرا راجع إلى توسيطه لوجود قيد وجداني ، فالعمل حقيقة على المجبور لا بالقياس. وهذا بخلاف جعله حجّة ؛ فإنّ العمل عليه حقيقة ـ ففاسد جدّا.

وإلاّ أمكن أن يقال ـ علي القول بحجيّة الظّن مطلقا فيما حصل الظّن من القياس ـ : إنّ العمل ليس بالقياس بل بالظّن الحاصل منه وجدانا وقهرا ، وهو كما ترى.

فإن شئت قلت : إنّه لا فرق في صدق مناط الحرمة بين جعل القياس تمام العلّة أو جزئها هذا ، ولعلّه نتكلّم في شرح هذا بعد ذلك إن شاء الله تعالى.


وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في أنّ قضيّة الأصل الأوّلي عدم جواز التّديّن والالتزام بمقتضى الظّن مطلقا ، فكلّما حكمنا بترتّب شيء من الآثار المذكورة عليه ؛ فلا بدّ من أن يستند إلى قيام دليل عليه من جانب الشّارع أن يرجع حقيقة إلى عدم التّديّن بمقتضاه فيخرج عن موضوع الحرمة حقيقة ، مثلا إذا قيل بحجيّة شيء بشرط عدم قيام الظّن على خلافه ، وفرض في مورد وجود هذه الأمارة المعلّقة قيام ما شك في اعتباره من الظّنون على خلافها فإنّه يحكم بعدم حجيّتها حينئذ استنادا إلى دليل حجيّتها ؛ نظرا إلى التّعليق المعتبر فيه ، لا إلى الظّن القائم على خلافها حقيقة.

ومثله ما لو فرض التّعليق في أصل إفادتها الظّن نوعا أو شخصا بعدم قيام الظّن على خلافها مع إناطة اعتبارها بإفادة الظن ، بل ربّما يكون أمره أظهر. ففي مورد وجود هذا الظّن لا يعمل به أصلا ، وإنّما يعمل بالأصل في المسألة الفرعيّة من جهة عدم وجود الدّليل فيها ؛ نظرا إلى التّعليق المذكور بقسميه.

نعم ، هنا كلام ؛ في أنّه كيف يجامع ما سلكه قدس‌سره من تأسيس الأصل في المقامات الثّلاثة ، مع ما يسلكه بعد ذلك ـ عند الاستدلال على التّرجيح بالظّن من قاعدة الاشتغال ـ وأنّ مقتضى الأصل وجوب الأخذ بالرّاجح من المتعارضين؟وسنتكلّم فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ تحقيق الكلام في المقامات الثّلاثة ، أعني : الجبر والوهن والتّرجيح بالظّن الغير المعتبر بقسميه ؛ إنّما هو من جهة وضوح حكم الظّن المعتبر بالنّسبة


إليها ؛ فإنّ في مورد وجود الظّن المعتبر يعمل به وإن كان هناك ما يوجد ضعف في اعتباره بحيث لا يعمل به بدون الجابر ، وإن كان العمل والاستناد حقيقة بالظّن المعتبر من دون مدخليّة الأمارة الضّعيفة إلاّ فيما كان حاكيا عن حالها كالظّن المعتبر الحاكي عن إرادة المفهوم من التّعليق بالوصف مثلا فيما قلنا بإشعاره بالمفهوم وعدم ظهوره فيه

وكذلك يوجب الوهن بدون تأمّل فيما كان اعتباره مشروطا بحصول الظّن منه ، أو بعدم قيام الظّن على الخلاف ؛ فإنّه أولى ممّا حكم بعدم اعتباره من جهة الأصل. كما أنّه مبنيّ على ملاحظة التّرجيح بينه وبين ما كان اعتباره على وجه الإطلاق.

وأمّا التّرجيح بالظّن المعتبر فهو خارج عن عنوان التّرجيح ، إن كان المأخوذ فيه عدم اعتبار المزيّة. وإلاّ فالحكم فيه ـ أي : لزوم التّرجيح به ـ لما كان مسلّما [ و ] لم يكن هناك كلام فيه ، خصّ الكلام بالظّن الغير المعتبر ، فتدبّر.


(٧٧) قوله قدس‌سره : ( ومن هنا لا ينبغي التّأمّل في عدم انجبار قصور الدّلالة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٨٦ )

الظن الخارجي لا يوجب جبر قصور الدلالة

أقول : قد عرفت الكلام عند البحث في حجيّة الظّن المتعلّق بالألفاظ من حيث الخصوص فيما هو المناط والمدار في حجيّة الظّواهر ، وأنّه ليس التعبّد المطلق ولا المقيّد ، لا من جانب الشّارع ولا من جانب العقلاء وأهل اللّسان ، ولا الظّن الشّخصي بالمراد كيفما اتّفق ولو حصل من غير اللّفظ ، أو حصل من خصوص اللّفظ ، ولا الظّن النّوعي ، والشّأني المطلق ، ولا المقيّد بعدم قيام الظّن على الخلاف كيفما كان ، بل على ظهور الكلام عرفا في المراد ولو بملاحظة القرائن الخارجيّة المعتبرة عند أهل اللّسان ، فضلا عن القرائن الدّاخليّة المعتبرة عندهم.

وهذا كما ترى وعرفت تفصيل القول فيه ، يفارق الوجوه المذكورة حتّى الظّن النّوعي المطلق. ومن هنا بنينا على إيجاب كثرة الاستعمال وكثرة التّخصيص بحسب بعض مراتبهما ، الإجمال ، وسلب الظّهور ، والشّهرة في المجاز التّوقف والإجمال عند المشهور ، وكذا تعقيب الاستثناء لجمل متعدّدة ، وهكذا الأمر في كلّ ما كان الكلام محفوفا بما يصلح صارفا وقرينة ؛ فإنّه يعدّ مجملا عند العرف ، لا ظاهرا.

وافتراق هذا المناط مع غير الظّن النّوعي المطلق ظاهر ، وكذا معه ؛ إن أريد


منه : الإطلاق حتّى بالنّسبة إلى ما عرفت ممّا يوجب رفع الظّهور العرفي. وأمّا إن أريد منه : الإطلاق بالنّسبة إلى خصوص الظّنون الغير المعتبرة القائمة من الخارج على إرادة ما يقتضيه اللّفظ من الظّهور بحسب وضعه الشّخصي ، أو النّوعي ، فيمكن انطباقه على ما عرفت من المناط ؛ فإنّه يرجع حقيقة إلى البرزخ بين الظّن النّوعي المطلق بإطلاقه والمقيّد في مقابله. ولا بدّ أن يحمل كلامه قدس‌سره في « الكتاب » عليه ؛ لئلاّ يخالف ما بنى عليه الأمر في حجيّة الظّواهر فيما تقدّم من كلامه. وإليه يشير قوله : « لا مجرّد الظّن بمطابقة مدلولها » (١) ؛ فإنّه اعتبر ظهور الكلام عرفا في المراد بنفسه في قبال مطلق الظّن بالمراد فينطبق على ما ذكرنا. نعم ، حقّ التّحرير في المقام بدل قوله : « فالكلام إن كان ظاهرا ... إلى آخره » (٢) أن يذكر : فالكلام إن كان ظاهرا في معنى بنفسه ، ولو بمعونة القرائن المعتبرة ؛ إذ حمل التّخصيص بالقرائن الدّاخليّة على المثال وإن كان ممكنا لكنّه بعيد عن مساق العبارة.

وبما ذكرنا يظهر : أنّ ما تكرّر ذكره في « الرّياض » واشتهر بين تلامذته ممّن قارب عصرنا : من انجبار قصور الدّلالة بعمل الأصحاب وفتاويهم ، أو بفهمهم كما يظهر من جماعة ممّن فصّل بين الشّهرة الاستنادية وغيرها ، مبنيّ على ما عرفت من الوجوه في إناطة حجيّة الظّواهر ، وإن كان الانجبار بمجرّد العمل بإطلاقه لو

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٨٦.

(٢) ـ نفس المصدر ج ١ / ٥٨٧.


كان مرادهم أضعف من القول بالانجبار بالفهم من حيث كونه كاشفا ظنّا عن قرينته بخلاف مجرّد العمل ؛ فإنّه قد لا يوجب الظّن بالمراد من اللّفظ أصلا ، كما أشار إليه في « الكتاب ».

وأمّا ما اشتهر بين الأصحاب بل لا يبعد ذهاب المشهور إليه : من انجبار ضعف سند الخبر بعمل الأصحاب به واستنادهم إليه ، فلم يعلم له مستند يصحّ الاعتماد إليه والرّكون إليه.

فإنّه إن كان من جهة قيام الإجماع على حجيّته بالخصوص كما ادّعاه فقيه عصره في « كشفه » (١) فلم يثبت إلاّ منه. وغاية ما هناك ذهاب المشهور إليه ، كما يستفاد ممّا أفاده ثاني الشّهيدين في « المسالك » (٢). نعم ، يمكن استفادته من كلام المحقّق قدس‌سره في بحث حجيّة أخبار الآحاد فراجع إليه.

وإن كان من جهة استفادة حجيته بالخصوص ممّا دلّ على التّرجيح بالشّهرة من المقبولة وغيرها ؛ نظرا إلى فحواه من حيث إنّ إيجابها الأخذ بالخبر الموافق لها عند التّعارض ، يدلّ على الأخذ به عند سلامته بالفحوى.

ففيه ـ مضافا إلى ما في الفحوى بل الأولويّة الاعتباريّة إن ادّعيت ـ : أنّ المراد من الشّهرة ممّا دلّ على التّرجيح بها في الشّهرة من حيث الرّواية ـ على

__________________

(١) الشيخ الاكبر الشيخ جعفر في كشف الغطاء : ٣٨.

(٢) مسالك الافهام في شرح شرائع الاسلام : ج ٦ / ١٥٦.


ما أسمعناك عند الكلام على حجيّة الشّهرة من حيث الخصوص ـ على ما يستفاد من كلام بعض ونسب إلى الشّهيد قدس‌سره.

نعم ، التّرجيح بالشّهرة من حيث الفتوى ثابت عندنا لا من حيث هي بالخصوص ، بل من جهة اندراجها تحت الكلّيّة المستفادة ممّا ورد في باب العلاج ، على ما ستقف عليه من لزوم التّرجيح بكلّ مزيّة من غير فرق بين الشّهرة وغيرها.

وإن كان من جهة استفادته من منطوق آية النّبأ بناء على إرادة المعنى الأعمّ من التّبيّن العلمي ، أو الظّني ، أو خصوص الاطمئناني من التّبيّن في الآية ؛ نظرا إلى حصول الاطمئنان منها.

ففيه ـ مضافا إلى ما عرفت في محلّه من عدم إمكان إرادة المعنى الأعمّ مطلقا من حيث منافاته لمورد الآية ، وإلى ما عرفت ثمّة : من أنّ مقتضاها حجيّة مطلق الظّن ، أو خصوص الاطمئناني منه من أيّ سبب حصل ؛ نظرا إلى كون وجوب التّبيّن شرطيّا ـ : أنّه على التّقدير المزبور لا بدّ من الحكم بحجيّة كلّ خبر ظنّ بصدوره أو حصل الاطمئنان به من أمارة أخرى غير الشّهرة ، فيبقى سؤال الفرق ؛ فإنّهم لا يقولون بالتّعميم.

وإن كان من جهة استفادته ممّا دلّ على حجيّة خبر الثّقة بناء على حمله على ما يظنّ صدوره أو يطمئنّ به ولو حصل الاطمئنان بواسطة استناد المشهور وعملهم بصرفه عن ظهوره في الموضوعيّة ، وأن المعتبر خصوص الاطمئنان الحاصل من صفة الرّاوي.


ففيه ـ مضافا إلى منافاته لاشتراط الإيمان في الرّاوي عند غير واحد منهم بل المشهور ؛ ضرورة حصول الاطمئنان المذكور من خبر غير الإماميّ الموثّق ولو في الجملة ـ : أنّه لا بدّ على التّقدير المذكور من القول بعدم الفرق بين الشّهرة وغيرها من الأمارات الموجبة لحصول مثل الظّن الحاصل من الشّهرة ، وهم لا يقولون به على ما عرفت. هذا كلّه في الشّهرة الاستناديّة.

وأمّا مجرّد فتوى المشهور على طبق الخبر من دون العلم باستنادهم إليه فضلا عن العلم بعدم استنادهم إليه ؛ فالأمر أشكل على تقدير ذهابهم إلى انجبار ضعف الخبر سندا بها على ما زعم.

فقد ظهر ممّا ذكرنا كلّه : عدم دليل على انجبار ضعف السّند بالشّهرة كعدم انجبار قصور الدّلالة بها من غير فرق بين أقسام الشّهرة في الموضعين.

(٧٨) قوله قدس‌سره : ( نعم ، لو كان حجيّته ـ سواء كان من باب الظّن النّوعي أو من باب التّعبّد ـ مقيّدة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٩١ )

الظن القياسي هل يصلح موهنا أم لا؟

أقول : ويلحق بصورة تقييد الحجّيّة على الوجهين ما إذا أنيطت حجيّة الأمارة المقابلة بالقياس بالظّن الفعلي مع فرض عدم حصول الظّن منها بمصادمة القياس ؛ فإنّ الوجه في الوهن بالقياس وأشباهه ممّا قام الدّليل القطعي على عدم


اعتباره بالخصوص ـ فيما قلنا بتقيّد حجيّة الأمارات بعدم قيام الظّن على خلافها ـ جار بعينه فيما لو قلنا باشتراط اعتبارها بالظّن الفعلي ؛ فإنّ الوجه في التّوقّف في الصّورة الأولى عدم تحقّق العنوان المعتبر في الحجيّة ، وإن كان المانع منه وجود القياس على الخلاف في المسألة الفرعيّة.

وليس هذا عملا بالقياس حقيقة حتّى يمنع عنه ما دلّ على إلقائه ؛ ضرورة كونه أمرا قهريّا وجدانيّا لا دخل لاختيار المكلّف فيه أصلا حتّى يتعلّق به المنع الشّرعي.

وهذا الوجه كما ترى جار في الصّورة الثّانية أيضا ؛ فإنّ المفروض عدم حصول الظّن من الأمارة المقابلة بالقياس ولا دخل لاختيار المكلّف فيه أصلا ، بل ربّما يقال بكونه أولى بالجريان في الصّورة الأخيرة ؛ نظرا إلى إمكان القول بكشف ما دلّ على المنع عن القياس عن حال ما دلّ على تقييد اعتبار الأمارة بعدم قيام الظّن على الخلاف ، وأنّ المراد منه ليس مطلق الظّن على الخلاف ، بل الظّن الحاصل عليه من غير القياس.

وهذا بخلاف ما لو أنيط اعتبارها بحصول الظّن منها في خصوصيّات المسائل ؛ فإنّ عدم حصول الظّن من الأمارة في مورد قيام القياس على الخلاف أمر لا دخل للشّرع فيه أصلا فتأمّل.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : الفرق بين الوهن بالقياس وأشباهه وبين الجبر به فيما لو فرض إناطة حجيّة الأمارة بالظّن الشّخصي فيما لو فرض حصول الظّن منها


بواسطة القياس سواء فرض القياس تمام علّة الظّن أو جزء العلّة ؛ فإنّ العمل في الموضعين يرجع إلى العمل بالقياس حقيقة. وهذا بخلاف الوهن به في الصّورتين فإنّه ليس عملا بالقياس أصلا على ما عرفت.

ومن هنا نقول ـ على القول بحجيّة مطلق الظّن من جهة دليل الانسداد أو غيره ـ : أنّه كما لا يجوز العمل بالظّن القياسي إذا كان تمام علّة الظّن في المسألة ، كذلك لا يجوز العمل به إذا كان جزءا لها.

ثمّ إنّ هذا الّذي أفاده من التّوقف في العمل بالأمارة إذا كانت حجيّتها مشروطة بعدم قيام الظّن على الخلاف مع قيام القياس على الخلاف أحد الوجوه في المسألة.

وبقي هنا وجهان آخران تعرض لهما في « الكتاب » :

أحدهما : عدم الوهن به مطلقا من غير فرق بين أن يكون اعتبار الأمارة على وجه الاشتراط والتّقييد بحكم الشّارع أو بحكم العقل والعرف ويلحق به ما لو أنيط اعتبارها بالظّن الشّخصي على ما ذهب إليه القائل بحجيّة الظّن المطلق.

ثانيهما : التّفصيل بين ما كان الحاكم بالتّقييد أو اعتبار الظّن الشّخصي ، الشّرع وبين كون الحاكم باعتبار أحد الأمرين ، العقل أو العرف ، بعدم الوهن على الأوّل والوهن في الثّاني.

ووجه الأوّل ـ أي : عدم الوهن به مطلقا فيما لو كان الحاكم بالحجيّة


الشّارع ـ ظاهر ؛ فإنّ ما دلّ على النّهي عن القياس واستعماله في الشّرعيات ـ سيّما بملاحظة التّعليل المذكور فيه ـ شارح لما دلّ على التّقييد وحاكم عليه. وأنّ المراد من الظّن المعتبر عدمه في حجيّة الأمارة ، غير الظّن القياسي فيكون حجيّة الأمارة مقيّدة بالنّسبة إلى غير الظّن القياسي ، ومطلقة بالنّسبة إليه. وكذا لو كان المعتبر بحكم الشّارع الظّن الشّخصي ، وفرض المانع منه القياس ؛ فيحكم بإطلاق الحجيّة بالنّسبة إلى هذه الصّورة الخاصّة.

وأمّا لو كان الحاكم باعتبار أحد الأمرين العقل أو العرف ، فالوجه فيه : أنّه بعد تبيّن حال القياس ببيان الشّارع وكونه غالب المخالفة في الأحكام الشّرعيّة ، يكون الظّن الحاصل منه في نظر العقل والعرف بمنزلة الوهم. فلا يوهن به ما يفيد الظّن لولاه عند العقل والعرف ؛ نظرا إلى أنّ اعتبار وصف الظّن في حكمهما أو اعتبار عدم قيامه على خلاف الأمارة إنّما هو من حيث غلبة المطابقة للواقع على الأوّل ، ومصادمة القرب الشّخصي للنّوعي على الثّاني. والقرب موجود في الأمارة المخالفة للقياس وإن كان وصف الظّن منتفيا أو قائما على الخلاف. ومن هنا يقال بحجيّة الظّن النّوعي في الجملة على القول بحجيّة الظّن المطلق بدليل الانسداد أو غيره ؛ مع كون نتيجة الدّليل حجيّة الظّن الشّخصي على ما عرفت في محلّه.

نعم ، لو كان هناك سببان للظّن مع اختلاف مقتضاهما وكان القياس على طبق أحدهما فأوجب منع حصول الظّن من الأمارة المخالفة له ؛ فحصل الظّن من


السّبب الموافق له ، أمكن القول بحجيّة الظّن الحاصل من السّبب الموافق له ـ بناء على إناطة الحكم بالظّن الشّخصي ـ وكذا لو فرض منعه حصول الظّن من الأمارة القائمة على خلاف ما قيّد اعتباره بعدم قيام الظّن على الخلاف فتأمّل هذا.

وأمّا وجه التّفصيل : فيظهر ممّا ذكر من الوجه لإطلاق الوهن به وإطلاق عدم الوهن به ؛ فإنّ الحكومة إنّما تجري بالنّسبة إلى الأدلّة الشّرعيّة ، لا بالنّسبة إلى ما كان اعتباره في الشّرعيّات من جهة إمضاء حكم العقل ، أو العرف ؛ فإنّ حكم الشّارع بالنّسبة إليه يتبع حكم العقل أو العرف.

فإذا فرض إناطة حكم العقل مثلا بالظّن الشّخصي وفرض انتفائه في مورد وجود القياس على خلاف السّبب المفيد للظّن فيرتفع موضوع الحكم العقلي قهرا بالوجدان. وليس هذا عملا بالقياس حقيقة أصلا ؛ حتّى يمنع عنه ما دلّ على المنع عن العمل بالقياس واستعماله في الشّرعيات.

فإن شئت قلت : إنّ الممنوع بما دلّ على المنع من العمل ببعض الأمارات كالمثبت بما دلّ على وجوب العمل ببعضها فكما أنّ المثبت بالثّاني الآثار الشّرعيّة ، كذلك الممنوع بالأوّل هو خصوص الآثار الشّرعيّة المجعولة من قبل الشّارع. والمفروض أنّه ليس في مورد القياس على خلاف ما يعتبره العقل من الظّن أثر شرعيّ وحكم مجعول من الشّارع أصلا ، وإنّما الثّابت من قبله إمضاء الحكم العقلي اللاّحق لوصف الظّن المرتفع قهرا في مفروض البحث هذا.

والتّحقيق ما عرفت : من إطلاق عدم الوهن به ؛ نظرا إلى ما عرفت من وجود


مناط الحجيّة وعنوانها في مقابل القياس ، وإن لم يعبّر عنه بالظّن. فما دلّ على المنع عن القياس بالنّظر إلى تعليله قد يخرج الظّن القياسي موضوعا عن حكم العقل بحجيّة مطلق الظّن ، وقد يدخل غير الظّنّ الشّخصي موضوعا في حكم العقل فافهم وتأمّل ؛ فإنّ المقام لا يخلو عن غموض ، هذا كلّه بالنّسبة إلى ما قام دليل على عدم اعتباره بالخصوص.

وأمّا ما حكم بعدم حجيّته من الظّنون من جهة الأصل فلا إشكال في عدم وهنه لما كان اعتباره من باب الظّن النّوعي المطلق أو التّعبّد كذلك ، كما أنّه لا إشكال في وهنه لما كان اعتباره على وجه التّقييد أو الاشتراط بحصول الظّن الشّخصي المرتفع بواسطة قيام الظّن على الخلاف كما ذكره في « الكتاب ».

وتوهّم جريان ما عرفت في القسم الأوّل في هذا القسم من الظّن بجعل دليل حرمته حاكما على ما دلّ على جعل الأمارة على وجه التّقييد أو الاشتراط قد عرفت فساده سابقا هذا.

وأمّا حكمهم بعدم حجيّة الخبر الصّحيح الّذي أعرض المشهور عنه ؛ فإنّما هو من جهة عدم استفادة العموم ممّا دلّ على حجيّته بحيث يشمل ما أعرض المشهور عنه فلا ينافي ما ذكرنا.

وأمّا ما بنى عليه شيخنا قدس‌سره ـ في غير موضع من كلماته وسمعنا منه مرارا في مجلس البحث ـ : من وهن كثرة التّخصيص لدلالة العمومات ؛ فإنّما هو من جهة إناطة ألفاظ العموم بالظّهور العرفي المرتفع مع كثرة التّخصيص ـ على ما أسمعناك


في مطاوي كلماتنا السّابقة ـ فلا ينافي ما ذكرنا أيضا.

نعم ، ما سمعنا منه مرارا : من ارتفاع الوهن المذكور بعمل جمع من الأصحاب بالعمومات الموهونة في بعض أفراده ، قد يناقش فيه ولكنّه لا تعلّق له بالمقام ، بل متعلّق بالجبر بالظّنّ الغير المعتبر.

(٧٩) قوله قدس‌سره : ( لأنّ رفع الخبر المرجوح بالقياس عمل به حقيقة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٩٨ )

التفرقة بين حجّيّة القياس وكونه مرجّحا أم لا؟

أقول : لا يخفى عليك : أنّ ما أفاده المحقّق قدس‌سره : من الاستدلال للتّرجيح بالقياس على ما ذهب إليه بعض الأصحاب ومال إليه السيّد في « المناهل » (١) يرجع إلى الكلّيّة المسلّمة بينهم : من لزوم التّرجيح بكلّ ما يوجب رجحان أحد المتعارضين على صاحبه. وما ذكره أخيرا يرجع إلى بيان الفرق بين جعل الشّيء حجّة وجعله مرجّحا. والفرق بينهما ظاهر على تقدير تسليم اختصاص دليل المنع بجعل القياس حجّة ودليلا في المسألة.

وإنّما الكلام في الاختصاص المذكور فإنه إن سلّم عدم قياس الإجماع

__________________

(١) لم نعثر عليه في المناهل وانظر مفاتيح الاصول : ٧١٦.


على العنوان الأعمّ ـ مع أنّه في حيّز المنع كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : « وفيه نظر » ـ (١) لا نسلّم اختصاص الأخبار المانعة بجعله دليلا وحجّة في المسألة فإنّ المنهي بها استعمال القياس في الدّين والاستناد إليه في استنباط الأحكام الشّرعيّة ولا ريب في رجوع التّرجيح إلى العنوان المنهيّ عنه ؛ ضرورة استناد الحكم التّعييني في مقابل التّخيير والمنع عن الأخذ بالمرجوح ، أو الأصل في المسألة ، أو الاحتياط فيها ، كلّ على مذهبه إلى الرّجحان فالفرق المذكور لا يجدي شيئا.

وممّا ذكرنا يظهر : أنّ ما أفاده المحقّق قدس‌سره بقوله : « والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظّن منه » (٢) يرجع إلى إثبات الصّغرى لكلّيّة الكبرى المسلّمة بينهم ، لا إلى جعل الظّن الحاصل منه جزءا للمقتضي.

نعم ، لا إشكال في كونه سببا لحدوث عنوان الرّاجح والمرجوح في الخبر الموافق له والمخالف له. فإن كان المراد من جزء المقتضي في « الكتاب » هذا المعنى كان مستقيما ؛ لكنّة خلاف ظاهره فإنّه يأبى عن الحمل المذكور قوله : « مع أنّ مقتضى الاستناد في التّرجيح به ... إلى آخره » (٣).

نعم ، لو كان المراد من المقتضي في « الكتاب » العلّة التّامّة كما يدلّ عليه

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٩٨.

(٢) معارج الاصول الباب « ٩ ـ الإجتهاد ، المسألة الخامسة » : ٢٦٢ ( تحقيق محمّد حسين الرضوي ».

(٣) فرائد الاصول : ج ١ / ٥٩٨.


قوله قدس‌سره في مقام الفرق بين الدّليل والمرجّح : « والفرق بين المرجّح والدّليل ليس إلاّ أنّ الدّليل مقتض ... إلى آخره » (١) صحّ ما أفاده قدس‌سره بعد جعل عنوان المحرّم مطلق استعمال القياس في الدّين ، هذا على القول بحجيّة الأخبار سندا ودلالة من باب الظّن النّوعي كما هو المشهور بين أهل الظّنون الخاصّة ، وعليه مبنى كلام المحقّق قدس‌سره.

وأمّا على القول بحجيّة الظّن المطلق في الأحكام الشّرعيّة ـ بناء على دوران الحجيّة مدار الظّن الشّخصي الفعليّ بالأحكام الشّرعيّة الفرعيّة الواقعيّة ـ كما هو المشهور بين أهل الظّنون المطلقة ؛ فيكون القياس تمام العلّة والحجّة المستقلّة ، أو جزء العلّة على تقدير كونه علّة تامّة للظّن من غير أن يكون مدخل للمنضمّ إليه في حصوله ، أو جزء العلّة على تقدير استناد حصول الظّن إليهما ؛ لأنّ الحجّة والدّليل في المسألة على هذا القول وصف الظّن ، ومن هنا لا يمكن تحقّق التّعارض على هذا القول.

نعم ، على القول بكون نتيجة مقدّمات دليل الانسداد حجيّة الظّن في خصوص الطّريق والمسألة الأصوليّة أو كونها حجيّة الظّنّ في المسألتين يمكن فرض التّعارض بين الأمارتين من غير اعتبار حصول الظّن منهما.

وعليه يمكن فرض التّرجيح بالقياس المفيد للظّن في المسألة الفرعيّة على

__________________

(١) نفس المصدر السابق.


طبق إحدى الأمارتين كالقول بحجيّة المتعارضين من باب الظّن الخاصّ على ما يظهر من القائل بحجيّة الظّن في الطّريق من التّرجيح بما كان من مظنون الحجيّة من المتعارضين مفيدا للظّن بالمسألة الفرعيّة على ما عرفت في الأمر الأوّل ، وإن كان القول به على مقالتهم لا يساعد عليه الدّليل.

وبالجملة : لا إشكال في عدم جواز التّرجيح بالقياس وأشباهه فيما يتصوّر التّرجيح به ، بل يمكن دعوى الإجماع عليه. ويكفي دليلا على استمرار سيرة الأصحاب في باب التّرجيح أصولا وفروعا عند تعارض الأخبار وسائر الأمارات المعتبرة ، وأمّا عنوان بعض الأصحاب للقياس في الأصول والتّعرض لأقسامه ؛ فإنّما هو لتميزه وتحقيق حقيقته والفرق بين ما يحكم بحجيّته عند الخاصّة كالمنصوص العلّة الّذي يرجع إلى دلالة اللّفظ ، والمنقّح العلّة على وجه القطع وبين ما لا يحكم بحجيّته عندهم وما وقع الكلام فيه كالقياس بطريق أولى وإن كان المشهور بينهم المنع عن العمل به.


(٨٠) قوله قدس‌سره : ( وأمّا القسم الآخر : وهو الظّن الغير المعتبر لأجل بقائه تحت الأصل (١) ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٥٩٩ )

الترجيح بالظن غير المعتبر من جهة الأصل

أقول : لا يخفى عليك أنّ الكلام في التّرجيح بالظّن الغير المعتبر من جهة الأصل الأوّلي إنّما هو فيما لم يحكم بحجيّته مع إمكان الحكم بها بالنّسبة إليه كما هو المفروض بالنّسبة إلى الوهن والجبر به ؛ فالتّرجيح بالمزايا الدّاخليّة المتقوّمة بالمتعارضين خارج عن محلّ البحث ، وإنّما يقع الكلام فيه في بحث التّعارض.

فالبحث في المقام إنّما هو في المرجّح الخارجي الموجب للظّن بالصّدور ، أو جهته ، أو إرادة حكم الله من أحد المتعارضين ، ومن هنا جعل الأقسام في المقام ثلاثة ، على خلاف ما صنعه في باب التّعارض من جعلها أربعة ؛ بجعل المرجّح المضموني قسما رابعا في قبال الأقسام المذكورة في المقام.

فإنّ الكلام في باب التّعارض في مطلق التّرجيح ، وفي المقام في التّرجيح بالظّن الموجود في المسألة الفرعيّة على طبق أحد المتعارضين ؛ فلا بدّ أن يكون مرجّحا مضمونيّا لا محالة ، غاية الأمر : أنّه قد يحصل منه الظّن بصدور أحد المتعارضين ، وقد يحصل منه الظّن بجهة صدور أحدهما ، وقد يظنّ منه إرادة

__________________

(*) كذا وفي الكتاب : تحت أصالة حرمة العمل.


الظّاهر من أحدهما على وجه التّفصيل ، وقد يظنّ منه أحد الأمور المذكورة على سبيل الإجمال ، فيقوى به إحدى جهات أحد المتعارضين على سبيل الإجمال.

ومن هنا حكم قدس‌سره في باب التّعارض برجوع المرجّح المضموني إلى المرجّح الدّاخلي ، وإن فرّق بينهما بالإجمال والتّفصيل ؛ وإن كان ظاهر كلامه بعد ذلك في المقام ، بل صريحه : عدم التّلازم بينهما وهو الحقّ إن كان المراد الكشف القطعي ؛ وإن كان الظّني فلا نمنعه ، إلاّ أنّ الكلام في اعتبار هذا الكشف إذا تعلّق بالدّلالة من حيث التّرجيح ؛ فإنّ مقتضى القواعد الحكم بإجمال المتعارضين المتكافئين من حيث الظّهور اللّفظي إذا انحصر وجهة التّصرف في الدّلالة وإن كان أحدهما موافقا للظّن الخارجي على القول باعتبارهما من حيث الظّن النّوعي المطلق بالمعنى الّذي عرفته ؛ إذ على سائر الأقوال لا يتصوّر التّعارض بينهما مع وجود الظّن الشّخصي الخارجي على طبق أحدهما بالضّرورة كما صرّح به في « الكتاب ».

اللهم إلاّ أن يستفاد ممّا ورد في باب العلاج لزوم التّرجيح به فتأمّل وانتظر لتمام الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الرّابع من التّعليقة.


(٨١) قوله قدس‌سره : ( وأمّا المقام الثّاني فتفصيل القول فيه : أنّ أصالة عدم التّقيّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦٠٢ )

أقول : الكلام في التّرجيح بالظّن الخارجي من حيث جهة الصّدور مفروض فيما إذا انحصر التّصرف فيها بحيث كان كلّ من الصّدور والدّلالة مفروغا عنه ؛ ولو بأن يكونا قطعيّين. فيعلم إجمالا بأنّ أحد المتعارضين صدر لغير بيان حكم الله الواقعي من تقيّة أو غيرها كما هو مفروض الكلام في التّرجيح من حيث الصّدور والدّلالة ، فعلى هذا لا إشكال في الحكم بتساقط الأصل من الطّرفين إن كان مبناه التّعبّد واستصحاب عدم حدوث ما يوجب التّقيّة ونحوها.

بل الحقّ عدم جريان الأصلين مع العلم الإجمالي المفروض ـ كما ستقف على شرح القول فيه في محلّه ـ كما أنّه لا إشكال في عدم جريانهما على القول بإناطة اعتبار الأصل بحصول الظّن الشّخصي من نفس ظهور حال المتكلّم ، كعدم الإشكال في عدم جريان ما يخالف الظّن الخارجي على القول بإناطة اعتباره بحصول الظّن الشّخصي في مورده أو بعدم الظّن على الخلاف.

(٨٢) قوله قدس‌سره : ( لأنّا نفهم ممّا ورد في ترجيح ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦٠٢ )

أقول : لا يخفى عليك أنّ المعطوف عليه قوله : « لأجل الحاجة إليه » (١) الرّاجع إلى إجراء دليل الانسداد في خصوص هذه المسألة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦٠٢.


وما أفاده في المعطوف في غاية الإشكال ؛ فإنّ صريح الأخبار التّرجيح بمخالفة العامّة ووجوب الأخذ بالخبر المخالف للقوم ، لا الحكم بطرحهما بحيث كان الظّن مرجعا فتدبّر.

(٨٣) قوله قدس‌سره : ( في المقام الثّالث : وهو ترجيح السّند بمطلق الظّن ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦٠٣ )

جواز ترجيح ما لم يقطع بصدوره من الأخبار بمطلق الظن

أقول : حقّ العبارة أن يذكر بدل السّند ، الصّدور. فكأنّه قدس‌سره لا حظ في هذا التّعبير مورد المرجّح بحسب الغالب لا مورد الرجحان.

ثمّ إنّ ما أفاده بقوله : « إذ الكلام فيه أيضا مفروض فيما إذا لم نقل بحجيّة الظّن المطلق » (١).

محلّ مناقشة ؛ إذ القول بحجيّة الظّن المطلق وإن كان يجامع القول بحجيّة بعض الظّنون من حيث الخصوص مع عدم كفايته في الفقه كالأخبار المصحّحة بالعدلين ، إلاّ أنّ في مورد وجود الظّن الخاص لا معنى لتوهّم حجيّة الظّن المطلق بدليل الانسداد ؛ إذ الانسداد إذا كان علة ، يدور الحكم مداره وجودا وعدما. وهذا مع غاية وضوحه قد مضى الكلام في توضيحه في مطاوي كلماتنا السّابقة فراجع إليها.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦٠٣.


ثمّ إنّ الكلام في ترجيح الصّدور بالظّن الخارجي مفروض فيما إذا انحصر التّصرف فيه ؛ بحيث كان كلّ من جهتي الصّدور والدّلالة مفروغا بأن كانا قطعيّين على ما عرفت الإشارة إليه في التّرجيح به من حيث جهة الصّدور أو الدّلالة ، فإذا كان صدور أحدهما مظنونا بالظّن الشّخصي يكون صدور الآخر موهوما لا محالة على ما فرضنا.

فالأقسام المتصوّرة في « الكتاب » إنّما هي بالنّسبة إلى أدلّة الصّدور والحكم بتصديق المتعارضين ، فلا يتوجّه : أنّ الظّن بصدور أحد المتعارضين بالظّن الشّخصي لا ينافي الظّن بصدور الآخر كذلك ؛ إذ ربّما يقع التّعارض بين القطعيّين من حيث الصدور كالآيتين والمتواترين لفظا.

ومنه ينقدح استقامة ما أفاده قدس‌سره : من عدم إمكان التّرجيح بالظّن الخارجي إلاّ على القول بحجيّة المتعارضين من باب الظّن النّوعي بصدورهما.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره : من أنّ مقتضى الأصل الأوّل في الظّن عدم التّرجيح به ، كما أنّ مقتضى الأصل الأوّلي عدم حجيّته (١) قد عرفت توضيح القول فيه.

إنّما الكلام في المقام في الجمع بين الأصل المذكور ، والأصل الّذي تمسّك به للتّرجيح بالظّن الخارجي وهو الوجه الأوّل الّذي يرجع إلى تقريرين :

أحدهما : قاعدة الاشتغال ؛ نظرا إلى رجوع الشّك في المقام بعد فرض عدم

__________________

(١) نفس المصدر : ج ١ / ٦٠٤.


الإطلاق للأخبار الحاكمة بالتّخيير إلى دوران الأمر بين التّخيير والتّعيين ، والمشهور المختار الرّجوع فيه إلى قاعدة الاشتغال ، لا البراءة.

ثانيهما : الأصل الأوّلي في الظّن ؛ من حيث إن الشّك يرجع بالأخرة إلى الشّك في حجيّة المرجوح فعلا وإن كان أصل حجيّته الشّأنيّة مفروغا عنها ، وإلاّ لم يقع التّعارض ولا فرق في الرّجوع إلى الأصل المذكور فيما يشك في حجيّته بين القسمين أصلا كما لا يخفى.

ولو قيل بالبراءة في مسألة الدّوران في المكلّف به الشّرعي في المسألة الفقهيّة لم يكن معنى للقول بها في المقام وأمثاله ؛ لرجوع الشّك فيه إلى الشّك في الطّريق.

فإنّه قد يقال : بعدم إمكان الجمع بين الأصلين فإنّ الشّك في مجرى الأصل الثّاني بكلا تقريره مسبّب عن الشّك في كون الظنّ الخارجي مرجّحا ومعيّنا عند الشّارع للرّاجح ، فإذا حكم الشّارع بعدم الاعتناء بهذا الشّك فيثبت في حكمه التّخيير بين الخبرين وجواز الأخذ بالمرجوح فعلا فيرفع الشّك الّذي هو مجرى الأصل الثّاني بكلا تقريريه بحكم الشّارع فلا مجرى له أصلا ، وهذا معنى عدم إمكان الجمع بينهما.

فإن شئت قلت : إنّ الشّك في حجيّة المرجوح فعلا واحتمال تعيّن الأخذ بالرّاجح مسبّب عن احتمال اعتبار الظّن الخارجي في مقام التّرجيح ، فإذا حكمنا بمقتضى الأصل الأوّلي في الظّن بإلقاء هذا الاحتمال وعدم الاعتناء به كما هو


المفروض كان معناه عدم الالتفات إلى الشّك والاحتمال المذكورين ، ولازمه الحكم بحجيّة المرجوح فعلا ؛ فالأصل الأوّل حاكم على أصالة عدم حجيّة المرجوح ووارد على قاعدة الشّغل على تقدير جريانها في المقام أن التّحقيق كونه واردا على أصالة عدم حجيّة المرجوح أيضا لو كان الموضوع فيها عدم العلم بالحجيّة واقعا وظاهرا كما يقتضيه التّحقيق بالنّسبة إلى العقل الحاكم بالأصل المذكور ، بل بالنّسبة إلى الدّليل الشّرعي القائم عليه ؛ لاستبعاد الاختلاف بين موضوع الحكمين ؛ لعدم تصور الحكومة بالنّسبة إلى الأحكام العقليّة ؛ فإنّ مرجعها إلى التّخصيص بلسان التّفسير كما وقع التصريح به في غير موضع من « الكتاب ».

وتوهّم : عكس ذلك يجعل أصالة عدم حجيّة المرجوح أو القاعدة واردا على أصالة عدم التّرجيح بالظّن الخارجي.

فاسد جدّا ؛ لأنّ الشك فيها ليس مسبّبا عن الشّك في مجرى الأصلين ، بل الشّك فيه مسبّب عن الشّك في كونه مرجّحا ومعيّنا في نظر الشّارع ، وهذا بخلاف الشّك في مجرى الأصلين على ما عرفت. وتسبّب كلّ منهما عن الآخر أيضا غير معقول ؛ ضرورة استحالة كون الشّيء علّة لشيء ومعلولا له.

نعم ، تعيّن الأخذ بالرّاجح من المتعارضين وثبوته يستلزم مرجّحية الظّن الموجب للتّرجيح على سبيل الاستكشاف ، لكنّه ليس مختصّا بالمقام ، بل يجري بالنّسبة إلى كلّ علّة ومعلول ؛ لأنّه من قضيّة العليّة بين الشّيئين ؛ فإنّ العلم بعدم المعلول كاشف عن عدم علّته ، كما أنّ العلم بوجوده كاشف عن وجودها. وهذا مع وضوحه سيأتي القول فيه إن شاء الله تعالى مشروحا في محلّه هذا.


دفع الإشكال والتنافي

وقد يدفع الإشكال ويرفع التّنافي المزبور بأنّ جريان القاعدة أو أصالة عدم حجيّة المرجوح من أحكام احتمال لزوم الأخذ بالظّن الخارجي في مقام التّرجيح واحتمال تعيّن الأخذ بالرّاجح من المتعارضين والأصل الأوّلي الجاري في الظّن الخارجي لا ينفى به إلاّ الحكم المترتّب شرعا على المحتمل ، وأمّا الحكم المترتّب على الاحتمال فلا ينفى به.

فإن شئت قلت : إنّ جواز الأخذ بالرّاجح إنّما هو من جهة كونه متيقّن الحجيّة على كلّ تقدير ، لا من جهة البناء على مرجحيّة الظّن الخارجي. وعدم جواز الأخذ بالمرجوح أيضا ليس من جهة البناء على مرجحيّة الظّن الخارجي ، وإنّما هو من جهة احتمال عدم جواز الأخذ به فليس هنا بناء واعتناء بمرجّحيّة الظّن الخارجي حتى ينفيهما ما دلّ على عدم البناء والاعتناء عند الشّك في المرجّحيّة.

وبعبارة ثالثة : الأصل الأوّلي الجاري في الظّن لا يمكن أن يثبت خلاف مقتضاه ويجعل المشكوك حجّة ، فالحكم بحجيّة المرجوح فعلا إن كان من جهة إطلاق أخبار التّخيير فالمفروض جعلها في مقام الإهمال أو الإغماض عن إطلاقها ، وإن كان من جهة الأصل الجاري في الرّجحان فهو يرجع إلى ما ذكرنا :


من جعل أصالة عدم الاعتناء بالظّن دليلا على اعتباره.

وبعبارة رابعة : المقام نظير ما لو علم إجمالا بحجيّة بعض الأمارات القائمة على المسائل الفقهيّة من حيث الخصوص ، أو من باب الظّن المطلق على تقدير إهمال النّتيجة ؛ فإنّ الأخذ بالمتيقّن منها على تقدير كفايته ، أو بالجميع من باب الاحتياط ، لا ينافي كون الأصل في الظّن عدم الحجيّة. فإذا كان الرّاجح متيقّن الحجيّة على كلّ تقدير والمرجوح مشكوك الحجيّة ، لم يناف الحكم بتعيّن الأخذ بالرّاجح من حيث تيقّنه ، أو الاحتياط كون الأصل الأوّلي في الظّن عدم التّرجيح به.

وهذا الكلام وإن لم يخل عن نقض وإبرام ، إلاّ أنّه غاية ما يخطر بالبال في دفع الإشكال وعليك بالتّأمّل فيه ؛ فإنّه غير نقيّ عن الإشكال ولم أقف على من تعرّض له ولدفعه إلاّ شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في مجلس المذاكرة ببعض التّقريرات الّتي عرفتها وقد طال البحث بيني وبينه في هذا المقام ، ولعلّني أتكلّم فيه زيادة على ذلك في بحث التّعارض على ما يساعدنا التّوفيق من الّذي بيده ملكوت كلّ شيء وهو على كلّه قدير تعالى شأنه.

ثمّ إنّ ما أفاده قدس‌سره في دفع توهّم عدم كلّية قاعدة الشّغل في المقام ـ نظرا إلى وقوع التّعارض أحيانا بين الاحتياط في المسألة الأصوليّة والمسألة الفرعيّة ، بل يحكم بترجيح الاحتياط في الثّانية على الأولى في المقام كما سبق التّنبيه عليه في معمّمات نتيجة دليل الانسداد على ما في « الكتاب » من بيان التّوهّم بقوله :


« مدفوع بأنّ المفروض فيما نحن فيه عدم وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين لو لا الظّن إلى آخر ما أفاده » (١) ـ وإن كان مستقيما ـ ولا يتوجّه عليه : أنّ البناء في المقام على إهمال أخبار التّخيير ، فكيف يتمسّك بإطلاقه لإبطال الأصل في المسألة الفرعيّة؟ لأنّ الإهمال المدّعى إنّما هو في قبال المرجّحات لا مطلقا ، ولا تنافي بين كون القضيّة المطلقة في مقام الإهمال من جهة والبيان من جهة أخرى كما هو واضح ـ إلاّ أنّ ما أفاده : من ترجيح الاحتياط في المسألة الفرعيّة على الاحتياط في المسألة الأصوليّة في بيان التّوهم مشيرا إلى ما أفاده قدس‌سره في معمّمات نتيجة دليل الانسداد قد عرفت الكلام فيه ثمّة وأنّ التّعارض لا يتصوّر بين الاحتياطين أصلا.

(٨٤) قوله قدس‌سره : ( إلاّ أن يقال : إنّ هذا الظّن حاصل من نفس الخبر ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦٠٩ )

أقول : تعليلهم لتقديم النّاقل ؛ بأنّ التّأسيس أولى من التّأكيد وأنّ اهتمام الشّارع ببيان المحرّمات لا المباحات ، فيظنّ صدور الخبر المخالف للأصل وإن جامع ما أفاده في الاستدراك ، إلاّ أنّ تعليلهم لتقديم الخبر المقرّر الموافق للأصل باعتضاده بالأصل فيظنّ صدور الخبر الموافق له بناء على القول باعتباره من باب الظّن لا يجامعه ، وإلاّ أمكن أن يقال ـ في جميع موارد التّرجيح بالظّن الخارجي ـ :

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦٠٧.


إنّ الظّن حاصل من الخبر الموافق له (١) ، فافهم.

(٨٥) قوله قدس‌سره : ( ثمّ لو فرض عدم حصول القطع من هذه الكلمات ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦١٠ )

أقول : عدم وجوب العمل بما ظنّ اعتباره في مقابل الأصول العمليّة ما لم ينته إلى القطع كما هو المفروض ، بل عدم جوازه أمر واضح لا سترة فيه أصلا ؛ لأنّه مقتضى الأصل الأوّلي المقرّر في الظّن.

وأمّا الاكتفاء به في مقابل التّخيير المرجع في المقام فلوجهين :

أحدهما : كون قضيّة الأخبار القاضية بالتّخيير قضيّة مهملة بالنّسبة إلى ما يظنّ التّرجيح به ، فيحكم بمقتضى ما عرفت في الوجه الأوّل بلزوم الأخذ بالرّاجح. اللهمّ إلاّ أن يقال ـ بعد فرض الإهمال ـ إنّ المرجع هو الرّاجع من المتعارضين بناء على الوجه المذكور ، وإن لم يكن هناك ما يوجب الظّن بمرجّحيّة

__________________

(١) قال العلاّمة الجليل الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« أقول : الخبر المقرر للأصل هو الخبر الذي كان مضمونه باقيا على حال العقل وليس الأصل شيئا في الخارج خارجا عن الخبر يعتضد الخبر به كالشهرة والإجماع المنقول ونحوهما وليس كون هذا الوصف داخليّا بأخفى من كون التأسيس داخليّا للخبر ، ومن الغريب أنه قدس‌سره سلّم كون إهتمام الشارع ببيان المحرّمات والواجبات وصفا داخليّا للخبر وأنكر أن يكون بقاء مضمون الخبر على حال العقل وصفا داخليّا له مع أنّ العكس أولى بالإذعان وأحقّ بالإيقان والله المستعان ». إنتهى. أنظر الفرائد المحشّى : ١٨٧.


الأمارة الخارجيّة فليس للظّن المذكور تأثير أصلا.

ثانيهما : أنّ ذهابهم إلى الأخذ بالخبر الموافق للأمارة الخارجيّة وإن لم يصل إلى حدّ الإجماع إلاّ أنّه يوجب الوهن في إطلاقات التّخيير على تقدير تسليم كونها في مقام البيان والإطلاق ، من حيث إعراضهم عنه ؛ فيرجع بعد الوهن الحاصل في الإطلاقات ـ من جهة الإعراض ـ إلى الوجه الأوّل. والفرق بين الوجهين لا يكاد يخفى على من له أدنى تأمّل هذا.

وأمّا ما يقال في وجهه من أنّ المراد بالتّخيير في المقام : هو التّخيير الّذي يحكم به العقل ـ بناء على اعتبار المتعارضين من باب السّببيّة لا التّخيير الّذي حكم به الشّارع بمقتضى الأخبار الواردة في باب العلاج ؛ نظرا إلى أنّ حكم العقل بالتّخيير بين المتزاحمين إنّما هو فيما إذا لم يكن هناك مزيّة لأحدهما على الآخر ـ ففاسد جدّا ؛ لأنّ الحكم العقلي بالتّخيير بين المتزاحمين إنّما هو من جهة تزاحم الجهة الموجبة لهما فلا يرفعه إلاّ أهميّة أحد المتزاحمين.

وأمّا مجرّد أقربيّة أحدهما بالنّسبة إلى الواقع فلا تعلّق له بما يوجب ثبوت الحكم لهما بل ربّما ينافيه.

وأمّا ما قرع سمعك ـ : من كون الرّجحان مانعا عن حكم العقل بالتّخيير ـ فإنّما هو بالنّسبة إلى التّخيير الظّاهري العقلي بين الاحتمالين ، الّذي هو من الأصول الأربعة لا التّخيير في المقام. والفرق بينهما ، مضافا إلى ظهوره سيجيء بيانه مشروحا في الجزء الرّابع من التّعليقة إن شاء الله تعالى.


نعم ، يمكن أن يكون الوجه فيه ما يشير إليه بعد ذلك من دليل الانسداد الجاري في خصوص المقام بعد الفراغ عن الوجه الثّالث بقوله : « ولا بدّ من العمل به لأنّ التكليف بالتّرجيح بين المتعارضين ثابت ... إلى آخر ما أفاده » (١).

وإن ناقشه بقوله : « ولكن لمانع أن يمنع وجوب التّرجيح ... إلى آخره » (٢) ولعلّنا نتكلّم في هذا الوجه بعد ذلك.

(٨٦) قوله قدس‌سره : ( فمنها : ما دلّ على التّرجيح بالأصدقيّة ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦١٠ )

أقول : لمّا كان الصّدق غير قابل للتّفصيل فلا بدّ أن يكون المراد من الأصدقيّة في الحديث هي الأقربيّة إلى الواقع ، وبعد إلقاء خصوصيّة الأقربيّة الحاصلة من صدق الرّاوي وكثرة مطابقة خبره للواقع ، يدلّ على لزوم التّرجيح بكلّ ما يوجب الأقربيّة إلى الواقع من غير فرق بين المرجّح الدّاخلي والخارجي هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده : بأنّ ملكة الصّدق في الرّاوي كملكة العدالة يمكن أن يكون لها جهة موضوعيّة ، وإن كانت لها جهة طريقيّة دائما. فإذا حكم الشّارع بلزوم العمل بخبر الصّادق فلا يكون المراد منه إلاّ من كان له ملكة الصّدق ، لا من طابق خبره الواقع ؛ فإنّه غير قابل لتعلّق الجعل الشّرعي به. ولا من كان يظنّ

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦١٧.

(٢) فرائد الاصول : ج ١ / ٦١٨.


مطابقة خبره للواقع حتّى يدلّ على حجيّة الخبر المظنون مطابقته للواقع مطلقا ؛ فإذا كان الصّدق من الملكات فيمكن اعتبار القرب الحاصل منه كما يمكن اعتبار شدّته في التّرجيح فيكون حالها حال الأعدليّة فتأمّل.

وأشكل منه : ما أفاده في التّرجيح بالأوثقيّة للتّسرية بالنّسبة إلى المرجّحات الخارجيّة ، وإلا لدل ما دلّ على حجيّة خبر الثّقة على حجيّة كلّ ما يفيد مقدار الظّن الحاصل منه (١) ، فتدبّر.

__________________

(١) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

« أقول : الملكة ليست إلاّ الصفة المركوزة أو ركوزها فإذا كان الصدق غير قابل للتفضيل وكان المراد من الأصدقيّة في الحديث هو الأقربيّة إلى الواقع فمن له ملكة الأصدقيّة ليس ولا يكون إلاّ من له صفة ثابتة مركوزة فيه يكون بها خبره أقرب إلى الواقع من خبر غيره فإذا فرض إلغاء الخصوصيّة أنتج النتيجة المطلوبة ولا يقاس هذا على الأعدليّة فإن العدم قابلة للموضوعيّة نفسها وملكتها على ما هو المصطلح فيها على حدّ سواء بخلاف الصّداقة فإنّها غير قابلة للموضوعيّة ». إنتهى. أنظر الفوائد المحشّى : ١٨٧.


(٨٧) قوله قدس‌سره : ( وممّا يستفاد منه المطلب على وجه الظّهور ... إلى آخره ). ( ج ١ / ٦١١ )

كيفية إستفادة لزوم الترجيح بمطلق المزيّة في أخبار العلاج

أقول : ظهور تعليل تقديم المشهور من حيث الرّواية ـ المعروف بين الرّواة وأهل الرّواية ـ على الشّاذ الغير المعروف بينهم وترجيحه عليه ؛ من حيث انتفاء الرّيب الموجود فيه من حيث تفرّد بعض بروايته في المشهور ، وإن كان فيه ريب موجود في الشّاذ أيضا من جهة أخرى في إناطة التّرجيح بكلّ ما يوجب نفي الرّيب بالإضافة ؛ من حيث تقليل الاحتمال أو ضعفه ، أمر لا ينبغي الارتياب فيه أصلا ؛ من حيث رجوعه إلى التّعليل بالصّغرى فيدلّ على ثبوت كبرى مطويّة مفروغا عنها ؛ إذ لولاها لم يصحّ التّعليل والاستدلال هذا. مضافا إلى اقتضاء العلّة المنصوصة دوران الحكم مدارها من غير أن يكون مدخليّة لموردها.

ومنه ينقدح دفع جميع الإشكالات الواردة على أخبار العلاج وتعارض بعضها مع بعض من حيث تقديم بعض المرجّحات في بعضها وتأخيره ، أو العطف بالواو الظّاهر في الجمع والاقتصار في بعضها بذكر بعض المرجّحات إلى غير ذلك. فإنّه إذا كان مدار التّرجيح على ما عرفت لم يرد شيء منها كما هو ظاهر.

وقد عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السّابقة وسيأتي تفصيل القول فيه في الجزء الرّابع من التّعليقة إن شاء الله تعالى.


نعم ، على القول بالاقتصار على المرجّحات المنصوصة لا مناص عن توجّه بعض الإشكالات كما هو واضح لمن له أدنى تأمّل ، وبهذا التقريب يستدلّ على المدّعى بتعليل تقديم المخالف للعامّة على الموافق لهم بكون الرّشد في خلافهم كما في أكثر الأخبار ، أو كونه صادرا بعنوان التّقيّة كما في بعض الأخبار ، بناء على حمله على مسألة التّعارض بقرينة الإجماع كرواية سماعة.

نعم ، ما دلّ على تقديم المخالف على الموافق من حيث التّعبّد أو من جهة مجرّد حسن المخالفة لا دلالة له على التّعدي أصلا.

ومنه يظهر : أنّ الأظهريّة المدّعاة في « الكتاب » لتعليل تقديم المخالف للعامّة على الموافق في الدّلالة على التّعدي حتّى بالنّسبة إلى دلالة تعليل تقديم المشهور على غيره ولا وجه لها في ظاهر النّظر لأنّ الوجه في دلالته على التسرية ما عرفته في تقريب دلالة تعليل المشهور على الشّاذ حرفا بحرف ، فكيف يكون أحدهما أظهر من حيث الدّلالة؟ بل الإنصاف أنّ دائرة التّرجيح بالنّظر إلى التّعليل المذكور أوسع منها بالنّظر إلى تعليل تقديم المخالف ؛ حيث إنّه لا يدلّ على التّرجيح بكلّ ما يوجب ضعف الاحتمال كما هو ظاهر.

ثمّ في كون الظّهور المستفاد من مجموع الرّوايات الواردة في باب العلاج في التّعدي والتّسرية حتّى بالنّسبة إلى المرجّحات الخارجيّة على تقدير الإغماض عن الظهورات المذكورة فيه كظهور كلّ واحد في لزوم الأخذ به ممّا لا


ريب فيه ؛ لكونه ظهورا مستندا إلى اللّفظ حقيقة ، وإن استند إلى مجموع الألفاظ ؛ لعدم الفرق في بناء أهل اللّسان والعرف بينهما أصلا على ما فصّل مستقصى في محلّه.

وأمّا الاستدلال بدليل الانسداد للتّعدي والتّسرية بناء على قيام الظّن الغير الثّابت حجيّته على التّرجيح بكلّ ما يوجبه ولو بحسب المرجّحات الخارجيّة بناء على الإغماض عمّا عرفت من الدّليل عليه فهو محلّ نظر ومناقشة.

فإنّه إذا كان ظاهر الأخبار التّرجيح بأمور مخصوصة ولم تدلّ على مناط مشترك كما هو المفروض ، فإن فرض انسداد باب العلم بتشخيص تلك الأمور والظّن الخاصّ به استقام تشخيصها بالظّن المطلق المتعلّق بها كالظّن بالمشهور رواية أو الأعدليّة أو المخالفة للعامّة إلى غير ذلك.

وأمّا الظّن بالحكم الفرعيّ المطابق لأحد المتعارضين فليس ظنّا بما ثبت التّرجيح به وليس من أطراف العلم الإجمالي أيضا بالفرض حتّى يرجع إلى الظّن بكونه ممّا جوّز التّرجيح به ، فكيف يتمسّك بدليل الانسداد لإثبات اعتباره في لزوم التّرجيح بما قام عليه من الظّن الخارجي؟

فإن شئت قلت : إن التمسّك بدليل الانسداد في هذه المسألة الأصوليّة الخاصّة كالتمسّك به في سائر المسائل موقوف على العلم الإجمالي بالتّكليف بالتّرجيح بأمور غير معلومة بالتفصيل ، ولا مظنونة بالظّن الخاصّ مع كون المرجّح


الخارجي من أطرافه بحيث لا يكون هناك قدر متيقّن ، وليس في المقام علم إجماليّ على الوجه المذكور ؛ إذ التّرجيح بالمرجّحات المنصوصة لا إشكال ولا خلاف فيه.

مضافا إلى كونه متيقّنا على كلّ تقدير مع مساعدة العرف وأهل اللّسان على لزوم التّرجيح ببعضها كتقديم الأظهر على الظّاهر ، وبعد وضعها لا نسلم العلم الإجمالي بلزوم التّرجيح بشيء آخر. مع أنه لو فرض وجوده كان المرجحات الداخلية الغير المنصوصة وما يرجع إلى الاعتضاد متيقّنا بالنسبة إلى الترجيح بالمرجح الخارجي.

فإن شئت قلت : إن أمر المعلوم بالإجمال على تقدير التسليم المزبور مردد بين الأقل والأكثر ، فلا يمنع من الرجوع إلى إطلاقات التخيير بالنسبة إلى المرجح الخارجي.

وبعبارة أخرى : الحكم باعتبار الظن بلزوم الترجيح بكلّ مزيّة حتّى المرجّح الخارجي موقوف على ثبوت التّكليف بالتّرجيح بغير ما تيقّن التّرجيح به وهو في حيّز المنع ، فإن سلّم إطلاق لأخبار التّخيير فيحكم بمقتضاه ، وإلاّ فيؤخذ بالرّاجح لا من جهة ثبوت التّرجيح بالظّن الخارجي من جهة دليل الانسداد بل من جهة كونه متيقّن الحجيّة على كلّ تقدير. ولا فرق في ذلك بين أن يكون هناك أصل أو عموم يرجع إليه على تقدير عدم وجود الرّاجح من الخبرين أولا كما هو واضح.


هذا إذا فرض الفراغ عن اعتبار المتعارضين في الجملة بعد التّعارض وحجيّتهما وتردّد الأمر فيما هو الحجّة بين الرّاجح أو هو مع المرجوح على سبيل التّخيير كما هو المختار ومقتضى الأخبار والفتاوى في غالب الأعصار.

وأمّا إذا لم يفرض ذلك تعيّن الرّجوع إلى عموم ، أو إطلاق ، أو أصل على تقدير عدمهما لا يخالف مقتضى المتعارضين بناء على حجيّة الأخبار وغيرها من باب الطّريقيّة كما هو المختار وعليه المشهور والمدار عندهم ، لا السّببيّة المحضة الّتي يقتضي الحكم بالتّخيير بين المتعارضين مطلقا بحكم العقل على ما عرفت مفصّلا ، من غير فرق بين وجود المرجّح وعدمه.

هذا ما يقتضيه التّحقيق الّذي سلكه شيخنا قدس‌سره أيضا في باب التّعارض في خاتمة « الكتاب » ، ولا بدّ أن ينزل تحريره في المقام عليه وإن لم يخل عن تمحّل وتكلّف.

فحكمه برعاية الاحتياط بالأخذ بالمظنون والراجح من الخبرين بقوله :« وبالجملة : فلا ينبغي ترك الاحتياط بالأخذ بالمظنون في مقابل التّخيير » (١) لا بدّ أن ينزّل على الفراغ عن حجيّة أحد المتعارضين مع عدم الإطلاق لأخبار التّخيير.

كما أنّ حكمه بالرّجوع إلى الأصول فيما طابق الاحتياط ، احتياطا وإشكاله

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦١٩.


فيما كان نافيا أو مثبتا مع عدم إمكان الاحتياط ، لا بدّ أن ينزّل على ما ذكرنا أخيرا :من عدم الفراغ عن حجّيّة أحد المتعارضين كما يشير إليه قوله : « والدّليل على هذا الإطلاق مشكل خصوصا لو كان الظّن المقابل من الشّهرة المحقّقة » (١).

وإن كان مقتضى التّحقيق عدم الإشكال في الرّجوع إلى الأصل مطلقا فيما لم يخالف مقتضى المتعارضين. هذا ما يقتضيه تحقيق المقام عاجلا وعليك بالتّأمّل فيه لعلّك تجده حقيقا بالقبول.

خاتمة : مشتملة على أمرين ؛

لا بدّ من الفحص التامّ عن المرجّحات الخارجيّة

الأوّل : أنّه كما لا يجوز إجراء حكم التّعادل إلاّ بعد الفحص التّام عن المرجّحات المنصوصة في أخبار العلاج ، كذلك لا يجوز إجراؤه إلاّ بعد الفحص التّام عن المرجّحات الخارجيّة بعد البناء على لزوم التّرجيح بها على ما عرفت وجهه ؛ لوجوب الفحص عن الحجيّة الشّرعيّة والطريق إلى الأحكام من غير فرق بين الفحص عن أصل وجود الدّليل أو الفحص عمّا يجب الأخذ به فعلا مع وجود الدّليلين المتعارضين. وكما لا يجوز الرّجوع إلى الأصول العمليّة عند الشّك في أصل وجود الدّليل قبل الفحص ، كذلك لا يجوز الرّجوع إلى أصالة عدم مزيّة أحد

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ١ / ٦١٩.


المتعارضين على الآخر قبل الفحص.

وأمّا بعد الفحص التّام فإن احتمل المزيّة والمرجّح الخارجي في كلّ منهما فلا إشكال في إجراء حكم التّعادل ؛ لأنّه في معنى التّعادل حقيقة وإن احتمل وجود المرجّح بالنّسبة إلى أحدهما بالخصوص دون الآخر فيمكن القول بلزوم الأخذ به وإن لم يكن ظنّا ؛ نظرا إلى الكليّة المستفادة ممّا عرفت : من الأخبار العلاجيّة من دوران التّرجيح مدار عدم ريب في أحد المتعارضين موجود في الآخر ، وكذلك الحكم فيما لو وجد الاحتمال في كلّ منهما ، ولكن كان وجود المرجّح في أحدهما مظنونا وفي الآخر مشكوكا أو موهوما ؛ فإنّه يجب الأخذ بما ظنّ وجود المرجّح فيه ؛ نظرا إلى الكليّة المذكورة كما هو واضح. ولا فرق في ذلك كلّه بين المرجّحات الدّاخليّة والخارجيّة.

حكم التعارض بين المرجّحات المنصوصة والخارجيّة

الثّاني : أنّه لو وقع التّعارض بين المرجّحات المنصوصة والخارجيّة بوجود المرجّح المنصوص في أحد المتعارضين ، والخارجي في الآخر ؛ فإن كان الوجه في التّرجيح بالمرجّحات الخارجيّة والتّعدي عن المنصوصة إليها الكليّة المستفادة من الأخبار ، فلا إشكال في لزوم الأخذ بما هو الأقوى منهما في النّظر ؛ من جهة حصول الظّن الفعلي منه لعدم التّرتيب بينهما على هذا التّقدير.

إذن حكم التّعارض بينهما حينئذ حكم التعارض بين المرجّحات


المنصوصة ، وإن لم يكن هناك قوّة ؛ فيجب إجراء حكم التّعادل ؛ لعدم المزيّة بالفرض كما هو الشّأن فيما وقع التّعارض بين المرجّحات المنصوصة وإن كان الوجه في التّرجيح بها دليل الانسداد بالبيان الّذي عرفته وتقدّم ضعفه ، فلا إشكال في لزوم الأخذ بالمرجّح المنصوص على ما نبّهناك عليه سابقا من لزوم رعاية التّرتيب على هذا التّقدير.

وممّا ذكرنا كلّه يعلم : حكم ما لو وقع التّعارض بين المرجّحات الخارجيّة ؛ فإنّه على تقدير قوّة لبعضها يلزم الأخذ بالخبر الموافق لهذا البعض. وعلى تقدير عدم القوّة يرجع إلى حكم التّكافؤ والتّعادل (١).

هذا آخر ما أردنا إيراده في سلك التّحرير ويتلوه الجزء الثّاني من التّعليقة

__________________

(١) قال الأصولي الجليل الملا رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« لقد أجاد فيما أفاد إلاّ انه فرض التعارض بين المرجحات المنصوصة وهذا إنّما يحصل مع عدم الترتيب وتقديم بعضها على بعض.

وبالجملة : إذا كانت في العرض وليس الأمر كذلك بل هي بالترتيب لا عبرة بالمتأخّر مع وجود المتقدّم فكيف يقع التعارض بينها؟

ولعلّه أراد به التسوية فيها وليس هو التعارض بل هو التعادل. أو أراد حصول المتقدّم في أحدهما والمتأخّر في الآخر فيؤخذ بالأقوى وهو المتقدّم ويقرّبه ان التقريب لما هو كذلك ». أنظر الفرائد المحشّى : ١٨٩.


إن شاء الله تعالى (١) والحمد لله أوّلا وآخرا وله الشّكر ظاهرا وباطنا وصلّى الله على نبيّه محمّد خاتم أنبيائه ورسله وآله الطّيبين الطّاهرين المعصومين حجج الله على الخلائق أجمعين ولعنة الله على أعدائهم من الأوّلين والآخرين.

وقد وقع الفراغ عن تحرير ما أردناه في شعبان المعظّم سنة سبع وثلاثمائة بعد الألف وكان تحريره على يد العبد أحمد التّفرشي (٢).

__________________

(١) إلى هنا إنتهت نسخة البحر المطبوعة في هامش الفرائد في طهران سنة ١٣٧٦ ه‍.

(*) وقد وقع الفراغ من تصحيح هذا الجزء ومقابلته وتحقيقه بما تيسّر في سلخ شهر شعبان المعظّم سنة ١٤٢٨ ه‍ ق وقد أعدنا النظر فيه ثانية وعلّقنا عليه ما تيسّر من كلمات الأعلام وكان الفراغ من ذلك في سحر ليلة الأحد ٢٤ من ذي القعدة سنة ١٤٢٩ ه‍ في جوار كريمة أهل البيت عليهم‌السلام عمّتنا الطاهرة السيّدة المعصومة عليها‌السلام بقم المقدّسة. صانها الله جلّ جلاله عن حوادث آخر الزمان. وعجّل اللهمّ لوليك الفرج والنصر والعافية واجعله في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

السيّد محمّد حسن نجل السيّد علي الموسوى.



المقصد الثالث :

في الشك



المقصد الثالث :

في الشك

(٨٨) قوله قدس‌سره : ( قد قسّمنا في صدر هذا الكتاب المكلّف الملتفت إلى الحكم الشّرعي العملي ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٩ )

في الفرق بين العلم والظّنّ بحسب الجعل وغيره إجمالا

أقول : قد أسمعناك في الجزء الأوّل من التّعليقة (١) : وجه التقييد بالالتفات والحصر في الثّلاثة ، وإلقاء (٢) الوهم ، وكون اعتبار العلم بالنّسبة إلى الحكم المترتّب على متعلّقه ذاتيّا ككشفه عن متعلّقه وطريقيّته إليه واستحالة تعلّق الجعل مطلقا به ، سواء كان من الشّرع والعقل ، وإقامة البرهان على ذلك ، وفساد توهّم من ذهب إلى الخلاف غفلة عن حقيقة الحال ، أو فتح باب الاعتراض ذاهلا عن المراد ،

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٢ حجرية.

(٢) كذا في النسختين والصحيح : الغاء ـ وسوف يتكرّر منه ذلك وقد لا ننبّه عليه لوضوحه فلتكن على ذكر منه.


وأن الظّن سواء كان شخصيّا ، أو نوعيّا يشارك العلم في الكشف والطريقيّة الذاتيّة بحسبه.

وأنّه يمكن أن يعتبر من حيث كونه كاشفا عن متعلّقه وطريقا إليه في الشّرعيّات ، وأنّه يفارق العلم من هذه الحيثيّة ، وأنّه ليس لازم الاعتبار بذاته ، ولا تمنع الاعتبار كذلك ، فيفارق الشك أيضا ، وأن الحكم بوقوع اعتباره وحجيّته في الشّرعيات يتبع قيام الدّليل على الوقوع شرعا ، أو عقلا ، والآخر خرج عن الإمكان إلى الوجوب وهو خلف محال.

وأنه في مورد الشك في قيام الدّليل على الوقوع يبنى على عدمه ، وأنه لا شك في وقوعه في الجملة في الشّرعيّات ، والتّأمل في الأصل الثانوي الذي جرى في لسان جمع ممن قارب عصرنا ، أو عاصرناه : من لزوم البناء على الوقوع في الحكم الفقهي ، أو الطريق ، أو هما معا ، إلاّ ما خرج.

كما أنا أسمعناك هناك : امتناع طريقة الشّك وكشفه عن المشكوك ، وإلاّ خرج عن كونه شكّا ، مضافا إلى لزوم الطريقيّة إلى المتنافيين والمتناقضين ذاتا ، وامتناع اعتباره من الحيثية المذكورة بعد فرض فقدانها بالذات. وفساد توهّم بعض من عاصرناه خلاف ذلك ، وأن مرجع اعتبار الاستصحاب إلى اعتبار احتمال الحالة السّابقة ، وكذا مرجع أصالة الحلّيّة في الأشياء إلى اعتبار احتمال الحلّيّة وترجيحه على احتمال الحرمة.

وهكذا الأمر في الطّرق التعبّديّة غفلة عن المراد عن كون المستحيل في


الشك اعتباره من حيث كونه طريقا وكاشفا لا مطلق ترتّب الحكم عليه ، وإلاّ فما ذكرنا بعد الالتفات من الواضحات الملحقة بالبديهيّات الأوّليّة.

وكيف يتصوّر عروض الحكم الشرعي للشك من حيث كونه طريقا وكاشفا مع امتناع وجود الحيثية المذكورة فيه؟ وعدم صلاحيّته لملاحظته بهذا الاعتبار لعدم وجدانه له وامتناع تأثير جعل الشاعر فيه كما هو ظاهر.

وأن كلا من الأوصاف الثلاثة قابل لتعلّق الحكم لمورده ويصير موضوعا للحكم ويشارك من هذه الجهة والحيثية مع الآخر ، وإن تفارقت من الحيثيّة التي عرفت الإشارة إليها.

وإلى ذلك أشار قدس‌سره بقوله : « وأما الشك فلمّا لم يكن فيه كشف أصلا لم يعقل أن يعتبر ؛ يعني لا يعقل أن يعتبر طريقا إلى متعلّقه وكاشفا عنه ، فلو ورد في مورده حكم ... الى آخره » (١) يعني بذلك : تعلّق الحكم بالمشكوك من حيث كون الشك مأخوذا فيه.

وما هو المراد من الحكم الواقعي والظاهري وتحقيق مجاري الأصول ، وأن المأخوذ في موضوعاتها الشك ، أو العنوان المنطبق عليه في الجملة ، والإشارة إلى خلاف بعض من قارب عصرنا أو عاصرناه في « فصوله » في معنى الحكم الواقعي والظاهري إلى غير ذلك مما فصّلنا لك القول فيه ثمة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ج ٢ / ١٠.


ولكن نعيد الكلام في تحقيق الحكم الواقعي والظاهري ، ونجدّده فيه لما هو المقصود بالبحث في المقام ، ولعلّنا نشير ضمنا إلى بعض ما طوينا ذكره في الجزء الأوّل من التعليقة.

في تحقيق الحكم الظاهري والواقعي

فنقول : أمّا الحكم الواقعي فالمراد به هو الحكم المجعول للموضوعات بالملاحظة الأولية. وبعبارة أخرى : الحكم المجعول لها جعلا أوّليّا. وبعبارة ثالثة : هو الحكم المجعول لها من دون ملاحظة الجهل بحكمها الأوّلي المجعول لها وإن لو حظ في عروضه لها وتعلّقه بها سائر الاعتبارات والأوصاف كالحضر ، والسفر ، والصّحّة ، والمرض ، ووجدان الماء ، وفقدانه إلى غير ذلك ، فالأحكام الثابتة لذوي الأعذار والموضوعات الاضطرارية أحكام واقعية.

بل وإن لو حظت في عروضه لها العلم بالموضوع ، أو الظّنّ به ، أو الشك فيه ، بحيث لا يكون مع قطع النظر عن هذه لها حكم بحيث يكون المجعول بملاحظتها مجعولا أوّليّا لها ، أو كان ولكن لم يكن من سنخها ، أو وإن كان من سنخها بالنسبة إلى غير العلم على ما عرفت شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التعليقة.

وأمّا الحكم الظاهري فهو المجعول للموضوعات من حيث الجهل وعدم العلم بالحكم المجعول لها أوّلا وبالذّات ، سواء لو حظ فيه الظّنّ به شخصا ، أو نوعا ، أو الشك فيه بالمعنى المقابل للظّنّ وهو التّسوية ، كما هو الملحوظ في موارد


التخيير وشكوك الصلاة في ركعاتها ، أو أفعالها بالمعنى الأعم من الأقوال.

أو الشك بالمعنى اللّغوي وهو خلاف اليقين على ما في « القاموس » ، كما هو الملحوظ في الاستصحاب بناء على القول به من باب الأخبار ، على ما ستقف على تفصيل القول فيه.

أو العنوان المنطبق على الشك بالمعنى الأعم في الجملة ، كما هو الملحوظ في موارد وجوب الاحتياط عقلا وشرعا ، وموارد البراءة العقليّة والشرعيّة على ما ستقف عليه عن قريب : من إناطة الاحتياط باحتمال العقاب لا الشك وإناطة البراءة بعدم وصول البيان الكافي من الشرع وإن كان ظنّا معتبرا ، بل أصلا من الأصول الشرعيّة كالاستصحاب وإن كان في إناطتها بهذا المعنى كلام بالنسبة إلى البراءة الشرعية ، أو منع في الجملة ، ولو بالنسبة إلى الموضوعات الخارجية : بدعوى كون المناط فيها هو عدم العلم بالحكم الإلزامي فينطبق على الشك بالمعنى الأعم كما في موارد الاستصحاب ، وستقف على ما هو المختار من المسلكين عن قريب.

فقد ظهر مما ذكرنا : أن الحكم الثابت بمقتضى الأدلّة الظّنّيّة المعتبرة شرعا والأمارات الشرعيّة حكم ظاهري على مذهب أهل الصّواب من المخطّئة كما اتّفقت عليه كلمة علماء الإمامية ، بل يكون الأمر كذلك عند العامّة أيضا بالنسبة إلى الأمارات القائمة على الموضوعات الخارجية ، بل على الأحكام فيما كان الدّالّ عليها ظواهر الكتاب والسنّة كما عرفت البحث فيه في الجزء الأوّل من التعليقة.


ولذا ذكروا : أن المستنتج من البرهان المعروف الذي يترتّبه (١) المجتهدون هو العلم بالحكم الظاهري ، ووجّهوا به أخذ العلم بالحكم في تعريف الفقه ـ في دفع الإيراد عليه بكون أكثر مباديه ظنّيّة ـ : بأن المراد بالحكم أعم من الظاهري والواقعي فلا ينافي أخذ العلم في حد الفقه.

وإلى ذلك يشير قوله قدس‌سره بعد ذلك : « ولذا اشتهر أن علم المجتهد بالحكم مستفاد من صغرى وجدانيّة وهي : هذا ما أدّى إليه ظنّي. وكبرى برهانية وهي : كلّما أدّى إليه ظنّي فهو حكم الله في حقّي. فإن الحكم المعلوم منهما هو الحكم الظاهري » (٢) ؛ فإن صريحه كون الحكم الظاهري أعم من مفاد الأصول.

وإن كان ربّما يوهم قوله قبل ذلك في بيان الفرق بين الأصل والدليل كون الحكم الظاهري مختصّا بمفاد الأصل ، كظاهر ما يتراءى منه ذلك في باب الاستصحاب.

ومن هنا قيل : إن للحكم الظّاهري إطلاقين عنده أعمّ وأخص. ولكن المتأمّل يشهد بأن مراده ليس تخصيص مطلق الحكم الظاهري بمفاد الأصل ، بل تخصّص ما لا يلاحظ في تعلّقه بالموضوع المجهول الحكم الكشف الظنّي عن الواقع ولكن الأمر في ذلك سهل.

__________________

(١) كذا والصحيح : يرتّبه.

(٢) فرائد الأصول ج ٢ / ١٣.


أمّا إطلاق الحكم الظاهري على الفعلي المنجّز سواء كان واقعيّا تنجّز بالعلم أو ظاهريّا بالمعنى الذي عرفته ، والواقعي على الثاني الغير المنجّز فلم نقف عليه إلاّ في كلام بعض الأفاضل مقاربي عصرنا في « فصوله » وقد تقدّم نقله في الجزء الأوّل من التعليقة.

في انقسام الحكم الظاهري إلى الشأني والفعلي

ثم إن الحكم الواقعي ـ بالمعنى الذي عرفت ـ كما ينقسم إلى الشأني والفعلي ـ بالنّظر إلى حكم العقل بوجوب إطاعته وتنجّزه على المكلّف وترتّب الآثار عليه وحكمه بكونه معذورا في مخالفته على تقدير ثبوته في نفس الأمر لا أن يكون هناك إنشاءان وحكمان من الشارع أحدهما : الحكم الشأني. ثانيهما :الفعلي ، كما قد يتوهّم ، أو توهّم ـ كذلك الحكم الظاهري ينقسم إلى الشّأني والفعلي ؛ فإن ثبوته في موضوعه لا تعلّق له بعلم المكلّف به.

فإذا علم المكلّف به تنجّز في حقّه كوجوب تصديق العادل مثلا ؛ فإنه ربّما يكون هذا الحكم ثابتا ولا يعلم به المجتهد ، أو وجوب تقليد الأعلم مثلا ؛ فإنه ربّما يكون ثابتا ولا يعلم به المجتهد ولا العامي ، ولكن مجرّد ثبوته النفس الأمري بل الفعلي لا يكفي في ترتّب الآثار عليه إلاّ بعد الاستناد إليه في العمل ، فإذا فرض كون فعل حراما في الواقع فإذا استند العامي في ارتكابه إلى رأي من يفتي بجوازه مع جواز تقليده في حقّه يكون معذورا ، وإلاّ فلا.


ولا ينافي ما ذكرنا من وجود القسمين للحكم الظاهري ما اتّفقت عليه كلمتهم من التصويب في الأحكام الظاهرية في الجملة. ألا ترى أن الخبرين المتعارضين المتساويين من جميع الجهات إذا أخذ مجتهد بأحدهما وآخر بالآخر يكون مفاد المأخوذ مع الاختلاف حكما ظاهريّا للآخذ؟ وكذا في دوران الأمر بين الحرمة الوجوب مع تساوي الاحتمالين ، وهكذا.

وبالجملة : ما ذكرنا مما لا إشكال فيه ؛ لأن القول بتوقّف ثبوت الحكم الظاهري في نفس الأمر على العلم بثبوته دوري ، كالقول باشتراط ثبوت الحكم الواقعي على العلم به كما صرّح به العلامة قدس‌سره في غير موضع من كتبه ؛ حيث إن العلم متأخّر عن المعلوم ، فكيف يتوقّف المعلوم عليه؟

ومن هنا ذكروا : أن اشتراط التكاليف بالعلم ليس على حد اشتراطها بالبلوغ ، والعقل ، والقدرة ؛ فإن المتوقّف على العلم تنجّز الخطابات الواقعية لا وجودها النفس الأمري ، بل ربّما نقول بعدم اشتراط التنجّز بالعلم أيضا فضلا عن الثبوت النفس الأمري ، فإن الجاهل الملتفت إذا ترك الفحص تنجّز عليه جميع الخطابات الواقعية أصولا وفروعا ، ولو عرض له الغفلة بعد الالتفات وترك الفحص.


وجه تسمية الحكم الظاهري بالواقعي الثانوي

والفرق بين الدليل والأمارة

ثم إن الحكم الظاهري كما يسمّى ظاهريا بكونه معمولا به عند العجز عن تحصيل الواقع يسمّى واقعيا ثانويا أيضا.

أمّا الوجه في تسميته بالواقعي ؛ فلأنّ كل شيء فرض له ثبوت فله واقعية في موضوعه فهو واقعي بهذا المعنى. وأما توصيفه بالثانوي ؛ فمن حيث تأخّر موضوعه عن الواقعي بقول مطلق ، والواقع الموصوف بالأوّلي. وإليه أشار بقوله رحمه‌الله « ويطلق عليه الواقعي الثّانوي أيضا ... الى آخره » (١).

ويسمّى الدّال على الحكم الظاهري ـ الغير الملحوظ فيه الكشف الظنّي عن الواقع ـ أصلا. والدال على الحكم الواقعي ـ الكاشف عنه علما أو ظنا بحيث يكون الكشف الظنّي ملحوظا في اعتباره ـ دليلا.

وقد يطلق على الكاشف الظنّي أمارة أيضا. وقد يختصّ الأمارة بما يكون معتبرا من حيث الكشف الظنّي في الموضوعات الخارجية.

فالاستصحاب إذا كان مبناه على الظّنّ ، كما هو المشهور بين القدماء لا

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ / ١٠.


يكون أصلا بالمعنى المذكور ، وكذا البراءة إذا كان مبناها على الظنّ ، كما يظهر من الشيخ البهائي والشيخ حسن صاحب « المعالم » وغيرهما ( قدس الله أسرارهم ). ما أن الأوّل قد يسمّى بالدليل الفقاهتي : من حيث كونه موجبا للعلم بالحكم الظاهري والثاني قد يقيّد بالاجتهادي ؛ من حيث كونه موجبا للعلم ، أو الظنّ بالحكم الشرعي وهذان اصطلاحان على ما وقفنا عليه من الفاضل المازندراني (١) في شرح « الزبدة » وشايعه الأستاذ الأكمل الفريد البهبهاني في « فوائده » قال قدس‌سره في محكي « فوائده » الجديدة في الفائدة الأخيرة ما هذا لفظه :

« المجتهد والفقيه والمفتي والقاضي وحاكم الشرع المنصوب ، عبارة الآن عن شخص واحد ؛ لأنه بالقياس إلى الأحكام الشرعيّة الواقعيّة يسمّى مجتهدا لما عرفت : من انسداد باب العلم ، وبالقياس إلى الأحكام الظاهريّة يسمّى فقيها لما عرفت من كونه عالما بها على سبيل اليقين » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

والمستفاد منه ـ كما ترى ـ كون الاجتهاد عنده عبارة عن : استفراغ الوسع في تحصيل خصوص الظنّ بالحكم الشرعي ، أو حصول ملكة ذلك ، فتحصيل العلم بالحكم من الدليل ، خارج عن حقيقة الاجتهاد عنده.

وهذا وإن كان مذهب غير واحد بل مذهب جميع العامّة وأكثر الخاصّة ـ كما

__________________

(١) الآخوند ملا محمّد صالح المازندراني قدس‌سره المتوفى سنة ١٠٨٦ ه‍.

(٢) الفوائد الحائريّة : ٤٩٩ ، الفائدة ٣٣ ، في تعريف المجتهد والفقيه.


يظهر لمن راجع كلماتهم في بحث الاجتهاد ـ إلاّ أن الحكم بخروج تحصيل العلم بالحكم عن الاجتهاد مطلقا حتى في النّظريّات محلّ تأمّل وكلام مذكور في بابه. ومن هنا قال شيخنا قدس‌سره : « وقد يقيّد بالاجتهادي » (١) فقد جعل مطلقه مقيّدا به ، إلاّ أن يحمل على المهملة فيوافق ما في « الفوائد ».

والذي يقتضيه التحقيق في المقام : أن الشخص من حيث كونه مستنبطا للحكم يسمّى مجتهدا وإن كان الحكم المستنبط ظاهريّا. ومن حيث كونه عالما بالحكم يسمّى فقيها من غير فرق بين كون المعلوم حكما ظاهريا أو واقعيا والخطب في ذلك سهل.

بيان عدم لزوم مطابقة الحكم الظاهري

للحكم الواقعي

ثم إنه ظهر مما ذكرنا ـ في بيان حقيقة الحكم الواقعي والظاهري ـ : أن ثبوت الحكم الظاهري في موضوعه ، لا يعتبر فيه مطابقته للحكم الواقعي المتحقّق في نفس الأمر. كيف! وهو مستحيل عقلا. كيف! واعتبار المطابقة يوجب ارتفاع الحكم الظاهري وهو أمر ظاهر ، فالحكم الظاهري قد يطابق الحكم الواقعي وقد يخالفه ، فعند الجهل بالحكم الواقعي يكون هناك حكمان باعتبار نفس الواقع من

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٠.


حيث هو مجرّدا عن جميع الملاحظات ، وباعتبار الجهل بهذا الحكم الأوّلي فيمكن أن يكون شيء حراما في الواقع وحلالا في الظاهر ، كما يمكن عكس ذلك ، فقد يكون شيء حراما في الواقع وواجبا في الظاهر كعكسه.

فإذن يقع الإشكال في أنه كيف يمكن اجتماع الحكمين المتنافيين؟ فإن لحاظ التجريد عن العلم والشك والظن في عروض الحكم الواقعي لا يوجب انتفاء الحكم الواقعي في صورة الشك مثلا ؛ لأن المفروض عدم ملاحظته ، لا ملاحظة عدمه وإلاّ كان ثبوته مشروطا بالعلم به وهو مع كونه خلفا محالا ، محال من جهة لزوم الدور الظاهر على ما عرفت الإشارة إليه.

وأشكل من ذلك ؛ ما اتّفقت عليه مقالتهم ظاهرا في مسألة امتناع اجتماع الأمر والنهي : من أن الممتنع على القول به : هو اجتماع الفعليّين من الوجوب والتحريم لا الفعلي والشأني. ومن هنا حكموا بصحّة صلاة الجاهل بموضوع الغصب في الدار المغصوبة واللباس المغصوب إتّفاقا ، بل الجاهل بالحكم والحرمة مع القصور ، بل ناسيهما إلاّ العلامة قدس‌سره في الناسي هذا.

وقد يذب عن الإشكال المذكور في المقام بوجوه :

الجواب الأوّل عن التناقض

الأوّل : ما سبق إلى بعض الأوهام : من كون الحكم الواقعي عبارة عن شأنية الحكم وليس حكما حقيقة. فإن شئت قلت : إن الموجود في حق الجاهل جهة


الحكم وهي المصلحة والمفسدة لا الإنشاء ، فلا ينافي تعلق الإنشاء بالجاهل على الخلاف لعدم اجتماع الحكمين حقيقة. وبمثل ذلك يقال في دفع الإشكال عما بنوا عليه الأمر في مسألة اجتماع الأمر والنهي من عدم المضادة بين الفعلي والواقعي.

وأنت خبير بفساد هذا الوجه ؛ لأن الذي يتعلّق به العلم تارة ، والظن أخرى ، والشك ثالثة ، ليس الحكم بهذا المعنى. وأيضا لم يؤمر السفراء بتبليغ هذا المعنى إلى الخلق وكذلك ليس المعنى المذكور ومدلول الخطابات الواقعة الصادرة من الشارع.

وبالجملة : القول بالحكم الواقعي الثابت في حقّ جميع المكلّفين المختلفين بالعلم والظّن والشك مجرد المصلحة والمفسدة ، فاسد جدا.

ولعلّ المصوّبة لا ينكرون ثبوت هذا المعنى أيضا كما عرفت الإشارة إليه في الجزء الأوّل من التعليقة.

الجواب الثاني عن التناقض

الثاني : ما وقفنا عليه في كلمات بعض من قارب عصرنا واشتهر وتداول في ألسنة طلبة عصرنا من التّصرف في الحكم الظاهري ، عكس الوجه الأوّل الرّاجع إلى التصرّف في الحكم الواقعي وهو : كونه عبارة عن مجرّد المعذوريّة في مخالفة الواقع ، فهو إخبار حقيقة عن المعذوريّة وتوسعة للمكلّفين في عدم تعين تحصيل الواقع عليهم. ويزيدك وضوحا كون الأوامر المتعلقة بالطرق إرشاديّا صرفا ، وأن


السالك منها يصل إلى الواقع غالبا ، وأنه معذور في مخالفته على تقدير خطأ الطريق فهي إخبار حقيقة عن هذا المعنى ، لا أن يكون لها جهة إلزام ومولوية بحيث يكون في موردها مصلحة ملزمة لجعل الحكم.

وهو ـ كما ترى ـ كسابقه ؛ فإن القول بكون جعل الحكم الظاهري راجعا إلى المعذوريّة مطلقا كما ترى. فكيف يحمل الخطاب الوارد في باب الاستصحاب بحرمة النقض على المعذوريّة الصرفة وكذلك الخطاب الوجوبي في باب الاحتياط عليها وكذلك الخطاب المتعلق بوجوب العمل بالطرق الشرعية؟

نعم ، لا ننكر كون حكم العقل في باب البراءة راجعا إلى المعذورية لا أن يكون الأمر كذلك مطلقا.

وأمّا حديث كون الخطاب المتعلق بالطريق إرشاديا فهو أجنبي عن المقام ، لما بيّنّا في مسألة امتناع اجتماع الحكمين من عدم الفرق بين الإرشادي وغيره. نعم ، من جعل الطلب الإرشادي إخبارا صرفا بصورة الإنشاء ، كبعض أفاضل مقاربي عصرنا في ظاهر كلامه في « الفصول » تبعا لظاهر أخيه المحقّق المحشّي قدس‌سرهما فهو مستريح عن توجّه هذا الإشكال في الجملة ؛ لكن المبنى فاسد عندنا على ما أسمعناك شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التعليقة.


الجواب الثالث عن التناقض

الثالث : ما عرفت الإشارة إليه في طي الإشكال : من أن الحكم الواقعي لم يتعلّق بالموضوع النّفس الأمري بملاحظة عمومه وشموله لحالتي العلم بالحكم والجهل به. كيف! وهما متأخّران من مرتبة الجعل ، ولذا لا يمكن اعتبارهما فيه ، فلا يمكن ملاحظة العموم والإطلاق بالنّسبة إليهما ، بل إنّما هو متعلّق به بالحيثيّة التجريديّة عن جميع الاعتبارات والملاحظات المتأخّرة عن جعله حتى ملاحظة العموم والإطلاق ، فلا يصحّ أن يقال : إنه يعرض الموضوع بعنوان لا بشرط ، والحكم الظاهري يعرضه بعنوان بشرط شيء فيجتمعان عند الجهل ، فإن كانا متوافقين فيؤكّد الحكم الواقعي بالحكم الظاهري ، وإن كانا متخالفين فيؤول إلى اجتماع الضدّين كما هو مبنى الإشكال.

فالموجود وإن كان حكمين في صورة الجهل ، إلاّ أن كل حكم موجود في موضوعه ، وليس موضوع الحكم الظاهري من جزئيّات موضوع الحكم الواقعي وأفراده حتى يتصادقا ؛ لما عرفت : من استحالة ذلك.

غاية ما هناك : تحقّق الحكم الظاهري في مورد وجود الحكم الواقعي في موضوعه ، فيؤول إلى الاجتماع الموردي المجوّز بالإتّفاق لا المصداق الممنوع عند المحقّقين ، هذه غاية ما يقال في تقريب هذا الوجه.


وأنت خبير بفساده أيضا ؛ لأن عروض الحكم الواقعي لفعل المكلّف الذي هو الموضوع للأحكام الشرعية ولحوقه به وإن كان لذاته من حيث هي هي لحوقا أوّليّا حتى أنه لا يلاحظ فيه جهة اللابشرطية القسمية والعموم ، لما ذكر في الجواب : من عدم كون الحالتين في مرتبة الحكم الواقعي وموضوعه إلاّ أنه لا شبهة في عروض الحكم الظاهري لفعل المكلف أيضا وإن كان بواسطة الجهل أو الظن.

ومن الواضح البيّن عدم تعدّد معروض الحكمين في الوجود الخارجي بحيث كان معروض الحكم الواقعي موجودا ومعروض الحكم الظاهري موجودا آخر مغايرين في الخارج ، وإن كان المعروضان متمايزين مفهوما وفي الذهن ، ومدار الإمكان والاستحالة على تعدّد موضوع الحكمين في الخارج ووحدته فيه ، لا مجرّد تغايرهما مفهوما.

كيف! والغصب والصلاة لا إشكال في تغايرهما بحسب المفهوم ، فالاجتماع الموردي المتوهّم كالصّلاة والنّظر إلى الأجنبيّة حال الصلاة ، أو الوضوء ، والغسل ، والنّظر إليهما في حالهما ، أجنبيّ عن المقام ؛ لأن الفعلين في الاجتماع الموردي متمايزان في الخارج ، مضافا إلى اختلافهما مفهوما وليس هناك فعل واحد مصداق لهما فهذا الوجه أيضا لا محصّل له أصلا ، وإن كان ربّما يجري في لسان شيخنا قدس‌سره لدفع الإشكال في مجلس البحث.


الجواب الرّابع

الرابع : ما أشرنا إليه أيضا في طي تقرير الإشكال : من كون وجود الحكم الظاهري مشروطا بموافقته للواقع فعند المخالفة له ليس هناك إلاّ حكم واحد وإن كان المكلّف مأمورا بالبناء على الموافقة وترتيب آثار الواقع دائما ما لم ينكشف الخلاف.

وقد عرفت الإشارة إلى ضعف هذا الوجه أيضا ، وأنه لا يمكن اعتبار موافقة الواقع في الحكم الظاهري. كيف! ولازمه ثبوت الحكم الظاهري مع العلم بوجود الشرط وهو الموافقة وهو محال وخلف ؛ لأن المعتبر في موضوع الحكم الظاهري الجهل بالواقع ، وافقه أو خالفه فافهم.

الجواب الخامس

الخامس : ما قد يتوهّم ، أو يقال في المقام ، وفي مسألة اجتماع الحكم الفعلي مع الحكم الواقعي على الخلاف في مسألة اجتماع الأمر والنهي : من أن استحالة اجتماع الحكمين إنّما هي من جهة عدم إمكان امتثالهما وعجز المكلّف عنه ، فإذا كان أحدهما واقعيا لم ينجّز التكليف به والآخر فعليّا أو ظاهريّا لم يجب امتثال الحكم الواقعي فيهما ، فلا مانع من اجتماعهما ، ومن هنا ذكر غير واحد حتى صاحب « المعالم » : أن الواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام وليس هذا إلاّ من جهة كون الحرام مسقطا للواجب ، وأنه لا يقصد منه الامتثال عن المكلّف هذا.


وأنت خبير بفساد هذا الوجه أيضا ؛ لابتنائه على عدم التّضاد بين الأحكام بالنظر إلى أنفسها وهو بديهي البطلان ، مضافا إلى اتّفاق كلمتهم عليه. والاستشهاد باجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام ، فإن أراد ذات الواجب فلا ينفع في المقام أصلا ، وإن أراد الواجب المتّصف بالوصف فيمتنع اجتماعه مع الحرام ؛ لأن الحيثيّة التوصّليّة إنّما تفيد في سقوط الخطاب بفعل الحرام من حيث حصول الغرض به وارتفاع موضوع الخطاب معه لا في تعلّق الخطاب بالحرام.

كيف! والضدّيّة بين الحكمين لا تعلّق له بالتّعبديّة والتوصّليّة ومن خالف في ذلك في ظاهر كلامه ، فلا بد من أن يصرف عنه أو يحكم بخطأه في القول ؛ لأن ما ذكرنا من الأمور الواضحة عند ذوي الأفهام المستقيمة. هذه غاية ما قيل أو يقال في دفع الإشكال.

وقد عرفت : عدم تماميّتها بأسرها ، وقد طال البحث بيني وبين شيخنا قدس‌سره في مجلس المذاكرة في الإشكال المذكور في هذا المقام ومسألة اجتماع الأمر والنهي ولم يحصل لي من إفاداته ما يدفع به الإشكال عن نفسي وزعمت أنّه ممّا لاذبّ عنه ؛ فلعلّك تهدى إلى وجه دفعه.

ولكنّي أسألك التأمّل في هذا المقام ، وعدم المسارعة فيه ، وأن لا تسلك سبيل طلبة عصرنا من الإيراد على كل ما يسمعونه من غير تأمّل في موضوع القضيّة ومحمولها ، وإلاّ فالسّهو والخطأ بمنزلة الطبيعة الثانية لغير الإنسان الكامل الذي عصمه الله منهما أو من يحذو حذوه من المعصومين. ولقد صار من المثل : كم


ترك الأوّل للآخر ، مع أني معترف بقصور الباع في العلم ، فلعلّه اختفى عليّ جهات المسألة في الموضعين.

وممّا ذكرنا كله يظهر لك المراد من قوله قدس‌سره : « لا لعدم اتّحاد الموضوع » (١) وقوله : « ألا ترى أنه لا معارضة ولا تنافي بين كون حكم شرب التّتن المشكوك حكمه هي الإباحة بين كون حكم شرب التّتن في نفسه مع قطع النظر عن الشك فيه هي الحرمة » (٢) وما يوجّه به.

ثمّ إنّك قد عرفت مما ذكرنا كلّه : أنّ تقابل الشكّ والظّن وإن اقتضى كون المراد بالشك ما يقوم بالاحتمالين المتساويين إلاّ أن المراد به في مجاري الأصول ليس خصوص ذلك يقينا.

ومن هنا قال قدس‌سره : « ثم إنّ الظّن (٣) المعتبر حكمه حكم الشك » (٤) بمعنى : أن الموضوع في دليل الأصل ما يعمّهما وينطبق عليهما من غير فرق.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١١.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١١.

(٣) كذا وفي الكتاب : الظنّ غير المعتبر ... إلى آخره وهو الصحيح.

(٤) المصدر السابق : ج ٢ / ١١.


(٨٩) قوله قدس‌سره : ( وممّا ذكرنا : من تأخّر مرتبة الحكم الظاهري ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ١١ )

أقسام الأصل والدليل وبيان النسبة بينهما

أقول : توضيح القول في النّسبة بين الأصل والدليل وأنّها من التعارض أو غيره ، يحتاج إلى بسط في المقال ، وإن كان محلّ ذكره مسألة تعارض الأدّلة ؛ إلاّ أن تعرّض شيخنا لها في المقام ، الجأني إلى التكلّم فيها فنقول ـ بعون الله وتوفيقه ودلالة أوليائه ( صلوات الله عليهم أجمعين ) ـ :

__________________

(١) قال الأصوليّ المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« وفيه ـ مع ما عرفت من فساد المبنى حيث أن شيئا من القطع والظن والشك ليس موضوعا للأحكام فيهذا الباب وانما الموضوع هو العلم حتى فى الأصول فإن وجوب الاحتياط الذى هو التنجيز التام أثر العلم الإجمالى والتنجيز أيضا كذلك فإن حرمة المخالفة القطعية أثر العلم وعدم وجوب الاحتياط أثر العجز وعدم الترجيح إنّما هو لعدم المرجّح ـ :

ان ارتفاع الموضوع ليس متفرعا على الترتب وإنّما هو لكون الدليل العلمي مزيلا للشك مع أن المقيّد يستلزم المطلق لا انه يباينه ، وما يرى من عدم المعارضة بين الأصل والدليل فإنما هو لإختلاف المحمول والموضوع معا فليس حكم الحرام الواقعى حال الجهل هو الإباحة وإنّما يعبّر عن المعذوريّة بها فلا نسبة بين الأصل والدليل ولا تعارض ولا تخصيص ولا تخصّص » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ٦.


الدليل المقابل للأصل ؛ إمّا أن يكون علميّا أو ظنيّا منوطا بوصفه أو نوعه مطلقا أو مقيّدا. وكذا الأصل المقابل له ؛ إمّا أن يكون من الأصول الشرعيّة المحضة كالاستصحاب ، أو العقليّة كذلك كأصل التخيير في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، أو من الأصول الشرعيّة والعقليّة بمعنى وجود الجهتين له كأصل البراءة وأصل الاحتياط ، بناء على عدم إناطة حكم الشارع بهما بما هو المناط في حكم العقل بهما ؛ بأن يكون ما ورد فيهما في الشرعيّات مؤكّدا محضا لحكم العقل بهما ؛ فإن حكم العقل بالبراءة منوط بقبح العقاب من دون وصول بيان من الشارع إلى المكلّف ، ولو بالطّرق الظنيّة المعتبرة ، بل بأصل من الأصول الشرعيّة ، على ما ستقف على تفصيل القول فيه.

وحكم الشارع بالإباحة الظاهريّة ؛ يمكن أن يكون مترتّبا على عدم العلم بالحرمة الواقعيّة كما هو المستظهر من أخبارها على ما ستقف عليه. وكذلك حكم العقل بوجوب الاحتياط في موارده ، مبنيّ على احتمال العقاب. وأما حكم الشارع به فيمكن أن يكون منوطا على الجهل بالواقع ، كما ربّما يدّعى ظهوره من أخباره ، بل ادّعى ذلك حسبما يقع الكلام فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

فإن كان الدليل المقابل ، علميّا ومفيدا للعلم بالحكم الواقعي ؛ فلا إشكال في وروده على الأصل وارتفاع موضوعه به حسّا حقيقة من غير فرق بين أقسام الأصل ؛ ضرورة اشتراطه مطلقا بعدم العلم بالخلاف ، بل بعدم العلم مطلقا سواء كان موافقا للأصل أو مخالفا له كما هو ظاهر لا سترة فيه أصلا.


وإن كان ظنّا معتبرا ؛ فإن كان الأصل المقابل أصلا عقليا محضا أو كان له جهة عقليّة فلا إشكال في وروده عليه أيضا ورفع موضوعه به ؛ ضرورة ارتفاع التسوية التي أنيط به التخيير العقلي بالظن المعتبر وارتفاع احتمال العقاب الذي أنيط به وجوب الاحتياط في حكم العقل به أيضا وتحقّق البيان المعتبر عدمه في حكم العقل بالبراءة بالظنّ المعتبر.

وهذا هو المراد بقوله قدس‌سره : « وأمّا الأدلّة العقلية القائمة على البراءة والاشتغال فارتفاع موضوعها بعد ورود الأدلّة الظنّية واضح ... إلى آخر ما أفاده » (١).

وإن كان أصلا شرعيّا كالاستصحاب ـ بناء على القول به من باب التعبّد والأخبار ، وأمّا على القول باعتباره من باب الظنّ فيخرج من الأصول كالتخيير الشرعي بين المتعادلين ؛ فإنه لا دخل له بالأصل أيضا وإن كان مدركه الأخبار على ما عرفت الكلام فيه في الجزء الأوّل من التعليقة ، وإليه أشار بقوله بعد ذلك :« وأمّا التّخيير فهو أصل عقلي لا غير » (٢) ومنه يظهر : فساد إيراد من لا خبرة له عليه ـ أو كان له جهة شرعية كالبراءة والاحتياط ففيه وجوه ، بل أقوال :

أحدها : كون الدليل واردا عليه أيضا ورافعا لموضوعه كما يظهر من كلمات جماعة من المتأخرين ؛ نظرا إلى أن المراد من عدم العلم بالحكم ـ المأخوذ في

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣.


موضوع الأصول ـ هو عدم العلم به واقعا وظاهرا إلى كونه غير معلوم مطلقا بحسب الجعل الأوّلي والثانوي.

وبعبارة أخرى : المعتبر في مجاري الأصول ، الجهل بالحكم الشرعي حدوثا وبقاء بجميع مراتبه وبعبارة ثالثة : ما يكون مجهولا مطلقا ، فلو علم به من حيث قيام الظّن المعتبر به ، خرج عن كونه مجهولا بهذا العنوان وإن كان مجهولا بحسب بعض مراتبه ، وهو ثبوته في نفس الأمر وفي ذات الموضوع من حيث هي.

وهذا الوجه كما ترى ، لا يساعد عليه الأدلّة الشرعيّة القائمة على الأصول ، خصوصا الاستصحاب ؛ فإنه وإن أمكن القول به بالنّسبة إلى بعض أدلّة البراءة كتابا وسنّة كما ستقف عليه ، إلاّ أنّه خلاف مدلول أكثرها كقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (١) وقوله : « كلّ شيء [ هو ] لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه » (٢) ونحوهما ممّا سيمرّ عليك وكيف كان لا إشكال في ضعف هذا الوجه.

ثانيها : كون الدليل الظنّي معارضا للأصل المذكور ومخصّصا له. وهذا الوجه يظهر من كلمات السيّد السند صاحب « الرياض » قدس‌سره فإنه كثيرا ما سلك هذا

__________________

(١) الفقيه : ج ١ / ٢٠٨ ـ ح ٩٣٧ عنه وسائل الشيعة : ج ٦ / ٢٨٩ ، باب « جواز القنوت بغير العربية » ـ ح ٣.

(٢) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ ـ باب النوادر ـ ح ٤٠ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الأنفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.


المسلك في تقابل الدليل الظّنّي مع الأصل ، ويقول : يخرج عن الأصل بالدليل ، أو يخصّص الأصل بالدليل ، أو نرجّح الدليل على الأصل ، ونحوها من العبارات الظاهرة في ذلك.

وكلامه ـ وإن كان مطلقا شامل للأصل العقلي أيضا ، إلاّ أنه لظهور فساده ـ يحمل على مقابلته مع الأصل الشرعي ؛ ضرورة عدم تصوّر التعارض والتخصيص بالنسبة إلى الأصل العقلي.

ووجهه : ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » (١) : من أنّ دليل الأصل يثبت مفاده في موضوع عدم العلم بالواقع ، سواء قام هناك الأمارة التي دلّ الدليل على حجيّتها كخبر العادل مثلا ، أم لا ؛ فإن اعتبار خبر العادل وإن كان علميّا كاعتبار الأصل ، إلاّ أنّ مفاده ليس علما وإلاّ خرج عن الدليل الظّني. فخبر العادل الدّالّ على حرمة بعض الموضوعات يدلّ على حرمته مع عدم العلم بحكمه الواقعي وما دلّ على أصالة الإباحة أيضا يدلّ على إباحته مع عدم العلم بحكمه الواقعي ، فكلّ منهما بالنّظر إلى دليل اعتباره يثبت حكما ظاهريّا على خلاف الآخر في الموضوع الواحد ، وهذا معنى تعارضهما.

وأمّا وجه ترجيح الدليل على الأصل وتخصيصه به ـ مع كون النسبة بين دليلهما العموم من وجه ـ : كون دليل الحرمة بمنزلة الخاص المطلق بالنّسبة إلى

__________________

(١) أنظر فرائد الأصول : ج ٢ / ١١.


دليل الأصل بملاحظة الإجماع القائم على عدم الفرق في حجيّة الخبر ووجوب الأخذ به بين وجود الأصل على خلافه وعدمه ؛ فإنه بعد قيامه لو عمل بدليل الأصل في مادّة التعارض ، لزم طرح الخبر في مورد سلامته للملازمة الثابتة بينهما بالفرض ؛ فيلزم طرح الخبر رأسا. هذا بخلاف ما لو علمنا بالخبر في مادّة التّعارض ؛ فإنه لا يلزم منه طرح الأصل في مادّة الافتراق ، فيصير الخبر بمنزلة الخاص المطلق ، والأصل بمنزلة العام المطلق. هذا معنى ما ذكرنا : من كون دليل الجزء بمنزلة الخاص بالنّسبة إلى دليل الأصل.

فإن شئت قلت : إن التعارض بينهما وإن كان العموم من وجه إلاّ أن دليل حجيّة الخبر أظهر دلالة من دليل اعتبار الأصل فيلزم العمل عليه في مادة التعارض وهذا معنى تخصيص الأصل بالدليل وترجيحه عليه.

وهذا الوجه كما ترى ، وإن كان له وجه في باديء النظر وظاهره إلاّ أنه لا إشكال في ضعفه أيضا بعد التأمّل كما يظهر وجهه من بيان الوجه الثالث الذي اختاره شيخنا قدس‌سره.


حكومة الدليل الظنّي على الأصل

ثالثها : ما جزم به قدس‌سره في « الكتاب » في هذا المقام بقوله : « ولكنّ التحقيق : أن دليل تلك الأمارة ... الى آخره » (١) وفي غيره من حكومة الدليل الظنّي بالنظر إلى دليل حجّيّته على الأصل الشرعي ؛ حيث إنه بمدلوله ناظر إلى دليل الأصل وشارح ومفسّر له ومبيّن لمقدار مدلوله ، فهو مقدّم عليه بالتقدّم الذاتي لا لمكان الترجيح والتخصيص فلا معارضة بينهما حقيقة أصلا.

توضيح ذلك : أن معنى حجيّة الخبر مثلا ووجوب البناء على صدقه وترتيب آثار الواقع عليه هو عدم الاعتناء باحتمال كذبه في إخباره الذي يراعى شرعا لو لا الحكم بحجيّته. ومن المعلوم أنّ نفي الاعتناء بالاحتمال المذكور شرعا راجع إلى إلقاء ما يقابل عند احتمال كذبه من الرجوع إلى الأصل بحكم الشارع وبعد إلقاء الوسائط يكون معنى حكم الشارع بحجّية الخبر في معنى رفع اليد عن الأصل ، وهذا معنى كونه شارحا له وناظرا إليه وهو ما ذكرنا من الحكومة. ومنه يظهر : فساد القول بالتعارض والترجيح والتخصيص في المقام.

ثمّ إن هذا الذي ذكرنا من حكومة الدليل الظّنيّ على الأصل الشرعي إنّما هو في الأصل الأعمّ. وأما إذا فرض هناك أصل أخصّ من دليل اعتبار الأمارة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣.


الظّنيّة ؛ بمعنى وجود الأمارة المفروضة في جميع موارد جريانه فلا معنى لحكومته على الأصل ، بل يتعيّن تخصيصه بالأصل. كما إذا قيل باعتبار الاستصحاب من باب الظّن في مقابل قاعدة الشك بعد الفراغ عن العمل ، أو بعد التجاوز عن المحلّ ، أو بعد خروج الوقت ـ بناء على القول باعتبارها من باب التعبّد الظاهري ـ أو في مقابل البناء على الأكثر عند الشك في الأخيرتين من الرباعيّة بناء على جريان الاستصحاب فيه على ما زعمه بعض أفاضل مقاربي عصرنا (١) في باب الاستصحاب (٢) كما سيجيء نقله في محله ؛ فإنه لا مناص عن تخصيص الاستصحاب بالأصلين.

وهذا لا يختصّ بالمقام بل هو جار بالنسبة إلى جميع ما يكون حاكما على أدلة الأحكام ، كدليل نفي الحرج والضرر وأشباههما ؛ فإنه لا معنى لحكومتها على ما يثبت خلافها في مورد الخاص ، فلو قام هناك دليل على ثبوت حكم حرجيّ في مورد ، أو ضرريّ كالتصرّف في مال الغير فيما يتوقّف حفظ النفس عليه ؛ فلا ينظر إلى كونه حرجيّا أو ضرريّا وهذا أمر واضح لا سترة فيه أصلا. هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام وسنتكلّم في تمامه في الجزء الرابع من التعليقة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٧١.

(٢) أنظر بحر الفوائد : ج ٣ / ٣٤.


(٩٠) قوله قدس‌سره : ( واعلم أن المقصود بالكلام في هذه الرسالة ... الى آخره ) ( ج ٢ / ١٣ )

أقول : الغرض ممّا أفاده : كون المقصود الأصلي بالبحث التكلّم عن حال الأصول الحكميّة ، أي : ما يجري في الشبهات الحكمية وإن جرت في الشبهات الموضوعيّة أيضا ، كالأصول الأربعة ؛ فإنها جارية في الشبهتين.

وأما الأصول الموضوعيّة الصّرفة أي : ما لا يجري إلاّ في الشبهات الموضوعيّة كأصالة الصحّة في فعل الغير ، وفي فعل النفس ، ونحوهما ـ بناء على اعتبارهما من باب التعبّد ـ فليست مقصودة بالبحث ؛ فإن وقع فيها كلام لمناسبة كيفيّة معارضتها مع الاستصحاب أو غيره ، فهو خارج عن المقصود.

فالحصر المدّعى في المقام إنّما هو بالإضافة إليه ، فلا ينقض بخروج ما لا يجري إلاّ في الموضوعات الخارجيّة عن الأصول الأربعة. فإن المقسم ـ على ما عرفت ـ هو المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي لا الأعمّ منه ومن الملتفت إلى الموضوع الخارجي.

ثمّ إن ما أفاده من حصر الأصول الحكميّة في الأربعة وكون الحصر عقليّا دائرا بين النفي والإثبات وبيان مجاري الأصول مناطها وإن كان محل النّقض والإبرام على ما عرفت شرح القول فيه في الجزء الأوّل من التعليقة (١) فلا نطيل بالإعادة ، إلاّ أن ما أفاده في المقام في بيان مجاري الأصول ، أسلم عن المناقشة

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ٣.


ممّا أفاده في الجزء الأوّل من « الكتاب » (١) في بيانها ، وإن لم يخل عن بعض المناقشات أيضا كالحكم بتعيّن الرّجوع إلى التخيير في جميع ما لا يمكن الاحتياط فيه ؛ إذ من مصاديقه دوران الأمر بين الحكمين الإلزاميّين وغيرهما كالوجوب والتحريم والإباحة مثلا مع اتّفاقهم فيه على الرجوع إلى البراءة كما ستقف على تفصيل القول فيه. والتفصّي عنه باعتبار ملاحظة الحيثيّة قد عرفته مع فساده في الجزء الأول من التعليقة (٢).

ثمّ إن المراد مما أفاده من تداخل موارد الأصول بقوله : « وقد ظهر ممّا ذكرنا : أن موارد الأصول قد تتداخل ... الى آخره » (٣).

ليس ما قد يسبق إلى بعض الأوهام : من جريان الأصلين في مورد واحد وإن لم يكونا متصادقين فيجري الاستصحاب في مورد جريان البراءة أو الاشتغال ، كيف! ويعتبر في مورد جريان الاستصحاب ترتّب الحكم على المشكوك ، وفي جريان سائر الأصول ترتب الحكم على الشك أو ما ينطبق عليه ، مع ذلك لا يمكن اجتماعه معها موردا بالمعنى المتوهّم.

بل المراد مجرّد جريان سائر الأصول فيما تفرض فيه الحالة السّابقة وإن

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ١ / ٢٥.

(٢) بحر الفوائد : ج ١ / ٤.

(٣) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٤.


اعتبر في جريانها عدم ترتب الحكم على المشكوك بل على الشك أو ما ينطبق عليه.

ثمّ إن هنا أمورا ينبغي التعرض لها تبعا لجمع من أفاضل المتأخرين :

المراد بأصل البراءة

الأوّل : أن المراد من أصل البراءة هل هو بمعنى القاعدة أو الدليل أو الاستصحاب أو الظاهر؟ وجوه ، أوجهها ـ على ما عرفته في معنى الأصل ومبنى البراءة وستعرفه أيضا ـ هو الأوّل ، من غير فرق بين ابتنائه على العقل أو النقل ، وإن صحّ حمل الدليل مقيّدا بالفقاهتي عليه على ما عرفته بالنظر إلى مدركه ، كما أنه يتعيّن إرادة الدليل أو الظاهر منه بناء على ابتنائه على الظّن كما هو ظاهر.

وأمّا الاستصحاب فلا يصحّ إرادته منه إلاّ على القول بالاستناد إليه في باب البراءة كما يظهر من جماعة في المقام وفي باب الاستصحاب حيث أنهم قسّموه باعتبار المستصحب إلى حال الشرع وإلى حال العقل وهو المسمّى بالبراءة الأصليّة.

لكنّه فاسد لما عرفت وستعرف : من فساد الاستناد إليه قطعا. وفي كلام غير واحد توجيه عدم إرادته بأن النسبة عموم من وجه من حيث جريان البراءة فيما ليس له حالة سابقة.

قال بعض أفاضل من قارب عصرنا في « فصوله » ـ بعد ذكر وجوه الأربعة


للأصل ـ ما هذا لفظه :

« والمراد به هنا : المعنى الأوّل أعني : القاعدة ، فالمعنى القاعدة المحرّرة في البراءة أو البراءة دون الدليل ، لعدم ملائمته للمقام ؛ فإن البحث هنا عن مدلوله لا نفسه ودون الاستصحاب وإن كان من جملة أدلّته لاختلاف مدارك المسألتين وأقوالهم فيهما ودون الرّاجح ؛ إذ المراد به المظنون أو المقطوع به ولا يسمى أصلا في عرفهم. ولا خفاء في أن البراءة إن قيست إلى الواقع فقد لا يكون ظنّ بها ، وإن قيست إلى الظاهر فهي مقطوع بها » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال قدس‌سره ـ في مقام آخر بعد ذكر الاستصحاب من أدلة البراءة ـ ما هذا لفظه : « ولا يخفى أن هذا الدليل أخصّ من المدعى ؛ إذ بين مورد الاستصحاب ومورد أصل البراءة عموم من وجه لجريان الاستصحاب في غير البراءة ، وجريان أصل البراءة حيث لا يتقدّم براءة كمن علم بوقوع جنابة وغسل عمّا في الذمّة منه وشك في المتأخر ؛ فإن قضيّة أصل البراءة هنا عدم تحريم جواز المسجدين (٢) واللبث في المساجد ، وقراءة العزائم عليه ، مع أنه لا معنى حينئذ للاستصحاب » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٥١.

(٢) المسجد الحرام والمسجد النبوي في المدينة كما هو ظاهر.

(٣) المصدر السابق : ٣٥٢.


وذكر بعض الأفاضل ـ بعد الجزم بالتخلّف وكون النسبة العموم من وجه ـ : « أنه يتخلّف البراءة في مسألة القضاء ؛ فإن مقتضى البراءة عدم وجوبه ، ومقتضى استصحاب التكليف الثابت أوّلا وجوبه » (١). انتهى كلامه.

ويظهر من المحقّق القمّي قدس‌سره جواز إرادة غير القاعدة أيضا فراجع « القوانين ». والتحقيق ما عرفت إلاّ أن ما ذكره الفاضلان لعدم جواز إرادة الاستصحاب من جهة اختلاف النسبة ، كما ترى ؛ فإنا لا نتصور جريان البراءة فيما ليس له حالة سابقة.

أمّا ما ذكره في « الفصول » مثالا لمورد التخلّف فيتوجّه عليه : أن العلم الإجمالي بوجود الجنابة والغسل ، والشك في التّقدم والتأخر مع احتمال الجنابة السابقة أيضا كما هو لازم ما فرضه من حيث إنّ قصد الغسل عما في الذمّة مع الالتفات يوجب العلم بتقدّم الجنابة المعلومة مع عدم احتمال الجنابة السابقة.

وحاصله : عدم العلم بالحالة السابقة إن لم يمنع من التمسّك بالبراءة بالنّسبة إلى الجواز في المسجدين واللبث في سائر المساجد ، لم يمنع من استصحابها وعدم الحرمة الأزليّة ، غاية ما هناك تعارض أصالة عدم تقدّم كلّ من الحالتين بأصالة عدم تقدّم الأخرى ، وإن منع منه ؛ نظرا إلى العلم بحدوث التكليف بالحرمة بالنّسبة إليهما من العلم بحصول الجنابة ، والمفروض الشّك في ارتفاعها منع من

__________________

(١) لم نعثر عليه عجالة.


استصحابها أيضا. وبالجملة : لم يعلم وجه لتخلّف استصحاب البراءة من أصل البراءة في المقام.

وأمّا ما ذكره بعض الأفاضل : من مورد التخلّف في مسألة القضاء فلم يعلم له محصّل أيضا ؛ لأنه على القول بكون القضاء بالفرض الجديد كما هو مبنى الرّجوع إلى أصالة البراءة كما يجري أصالة البراءة عن القضاء عند الشك في الفوت ، كذلك يجري استصحاب البراءة الأزليّة عن التكليف بالقضاء لفرض الشك في أصل حدوثه بالفرض ؛ فيستصحب عدمه من غير فرق بين العلم بالفوت في الجملة ، وتردّد الغائب بين الأقلّ والأكثر وعدم العلم به كما هو الظاهر بما فرضه ، هذا على القول بكون القضاء بالفرض الجديد.

وأمّا على القول بكونه بالفرض الأوّل فيجري أصالة الاشتغال بالنسبة إلى خارج الوقت عند الشك كما يجري بالنسبة إلى الإتيان عند الشك في الإتيان في بعض أجزاء الوقت إلاّ أن يتمسّك بقاعدة الشك بعد خروج الوقت ولا دخل لها بأصل البراءة كما هو ظاهر.

وبالجملة : لا إشكال في عدم انفكاك البراءة عن الحالة السابقة ، وإن لم يجر الاستصحاب في مورد جريان البراءة وكذا العكس على ما عرفت شرح القول فيه وستعرفه.


البحث عن حكم الشك في المقام أصولي أم لا؟

الثاني (١) : أن البحث عن حكم الشك في المقام هل هو بحث عن المسألة الأصوليّة أو الفقهيّة أو المباديء الأحكامية؟ وجوه ، لكلّ وجه ، أوجهها عند شيخنا قدس‌سره : الأوّل ؛ نظرا إلى أنه الأوفق بتعريف الأصول : بأنه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة ، وإلى أنه لا حظّ للعامي فيه ، وهذا من خواصّ المسألة الأصوليّة ؛ فإنّها لمّا مهدت للاستنباط لم يكن حظّ لغير المستنبط فيها ، وإلى عنوانه في علم الأصول وذكره في عداد الأدلّة العقليّة ، فلا فرق فيما ذكر بين الاستناد في البراءة أو الاحتياط إلى حكم العقل بهما أو إلى النقل.

وربّما يرجّح الثاني ؛ نظرا إلى أن التكلّم في هذه المسألة نظير التكلّم في سائر القواعد الفقهيّة المستفادة من الأدلّة كقاعدة نفي الجرح ، والضّرر ، والتسلّط ، واليد ، وأشباهها ، وإن استفيدت من الأدلّة بإعمال المسائل الأصوليّة كما هو الشأن في استنباط جميع المسائل الفرعيّة ، هذا كله بناء على كونها قاعدة ظاهريّة سواء كان مدركها العقل أو النقل.

أمّا بناء على كون اعتبارها من باب الظن ، فالتكلّم فيها نظير التكلّم في الاستصحاب من باب الظّن وسيجيء شرح القول فيه في الجزء الثالث من

__________________

(١) أي : الأمر الثاني من الأمور التي أراد التنبيه عليها.


التعليقة (١) كما أنك ستقف على كون مختاره في باب الاستصحاب (٢) ربّما ينافي ما أفاده في المقام في مجلس البحث.

دفع إشكال في المقام

الثالث : أنه قد يستشكل في جعل البراءة والاشتغال العقليّين من الأدلّة العقليّة أو الأحكام الظاهريّة الثابتة للشاك ؛ لأن الذي يحكم به العقل في باب البراءة هو مجرّد قبح العقاب من غير بيان. ومعلوم أنّ هذا لا دخل له بالحكم الشرعي ، وحكمه بعدم الوجوب ظاهرا على تقدير تسليمه ليس حكما بالحكم الشرعي ؛ ضرورة أنّ الحكم الشرعي هو الوجوب لا عدمه ، وإلاّ لزم جعل الأحكام الشرعية عشرة لا خمسة ، وجه اللزوم كوجه بطلان التالي أظهر من أن يحتاج إلى البيان. والترخيص المطلق اللازم لنفي الوجوب ليس من الأحكام الشرعيّة أيضا.

نعم ، هو جنس لما عدا الحرام من الأحكام الأربعة. ومنه يظهر : تطرّق الإشكال إلى جعل البراءة من الأحكام الظاهريّة إذا استندت إلى الشرع أيضا بالنسبة إلى أكثر أخبارها ؛ فإن مساقه مساق حكم العقل كحديث الرفع وأشباهه ممّا يكون ظاهرا في نفي المؤاخذة ؛ فإن الظاهر منه تأكيد حكم العقل بذلك ، هذا

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٣ / ٧.

(٢) فرائد الأصول : ج ٣ / ١٧.


بالنّسبة إلى حكم العقل في باب البراءة.

وأما حكمه بالاشتغال ؛ فلأن مبناه كما عرفت الإشارة إليه مرارا وستعرف الكلام فيه تفصيلا على وجوب دفع الضّرر المحتمل. ومن المعلوم أن حكمه بذلك إرشاديّ محض لا يستتبع حكما شرعيّا في الواقعة ، لا واقعيّا ولا ظاهريا ، بل الأمر كذلك في حكمه بوجوب دفع الضرر المظنون أو المقطوع فضلا عن المحتمل على ما أسمعناك في محلّه.

ومنه يظهر الكلام فيما لو استند فيه إلى الشرع أيضا ؛ فإن مساق أخباره بأسرها مساق حكم العقل على تقدير تسليم دلالتها على وجوب الاحتياط. اللهمّ إلاّ أن يقال : كفاية هذا المقدار في جعل الاشتغال من الأصول الظاهرية ؛ فإنه أيضا نحو من الحكم بالوجوب وإن لم يكن طلبا شرعيّا مولويا ، فبقي الإشكال بالنسبة إلى البراءة.

فإن قلت : إنا نفرض الكلام فيما لو دار الأمر بين الوجوب والإباحة فإذا نفي الوجوب بالأصل المذكور ثبتت الإباحة من جهة الدوران المفروض وهي من الأحكام الشرعيّة ، وهكذا في دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب ونحوه.

قلت ـ مضافا إلى عدم اختصاص محل الكلام بدوران الأمر بين الحكمين ـ : إنه مبنيّ على جواز إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر بالأصل ؛ ضرورة تضادّ الأحكام بأسرها وهو ممنوع عندنا على ما عرفت الإشارة إليه ، وستعرف الكلام فيه مفصّلا : من عدم جواز التعويل على الأصول المثبتة من غير فرق بين


الاستصحاب وغيره من الأصول هذا.

ويمكن الذبّ عن الإشكال المذكور : بأن العقل يحكم في موارد البراءة من جهة حكمه بقبح العقاب من دون بيان بعدم الحرج في الفعل والترك وجواز كل منهما وهذا المعنى مساوق للإباحة الظاهريّة ، ولا ينافيه العلم الإجمالي بكون حكم الواقعة في نفس الأمر غير الإباحة في بعض الموارد ، كما لا ينافي العلم المزبور الحكم بالإباحة الشرعيّة الظاهرية في ذلك الموارد فتأمل.

في الفرق بين أصالة الإباحة والبراءة

الرابع (١) : أن الوجه في عنوانهم أصالة الإباحة مستقلاّ في قبال أصالة البراءة والفرق بينهما وإن كان مذكورا في محلّه ، وتقدّمت الإشارة إليه في الجزء الأوّل من التعليقة ، إلاّ أنا نشير إلى جملة من وجوه الفرق في المقام أيضا :

منها : أن أصالة الإباحة في مقام نفي احتمال التحريم ، وأصالة البراءة في مقام نفي احتمال الوجوب.

ومنها : أن التكلّم في أصالة الإباحة من حيث حكم العقل ، وفي أصالة البراءة من حيث حكم الشرع.

ومنها : أن التكلّم في أصالة الإباحة من حيث الحكم الواقعي ، وفي أصالة

__________________

(١) أي : الأمر الرابع من الأمور التي أراد التنبيه عليها.


البراءة من حيث الحكم الظاهري.

ومنها : أن التكلّم في أصالة الإباحة من حيث الحكم الشرعي الظاهري ، وفي أصالة البراءة من حيث الحكم بمجرّد نفي المؤاخذة والعقاب من غير أن يستتبع حكما شرعيّا ولو في مرحلة الظّاهر. إلى غير ذلك مما ذكروه من وجوه الفرق بينهما. والحقّ ما عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا في الجزء الأوّل من التعليقة من كون أصالة الإباحة قسما من أصالة البراءة.

ومما ذكرنا يظهر : الفرق بين أصالة الحلّ وأصالة البراءة أيضا ؛ فإنّها من أقسام أصالة البراءة أيضا. والفرق بينها وأصالة الإباحة : أنها تستعمل في مقابل احتمال الحرمة في الشبهات الموضوعيّة ، وأصالة الإباحة تستعمل في قبال احتمال الحرمة في الشبهات الحكميّة فتدبّر.

* * *


* المقام الأوّل :

في البراءة والاشتغال والتخيير

* الموضع الأوّل :

« الشك في نفس التكليف »

وفيه مطالب :

* المطلب الأوّل : الشبهة التحريميّة



* الموضع الأوّل :

الشك في نفس التكليف

(٩١) قوله قدس‌سره : ( وصور الاشتباه كثيرة وهذا مبني على اختصاص التكليف بالإلزام ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٧ )

أقول : أما كثرة صور الاشتباه ؛ فلأن الدوران بين التحريم وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة على ما عرفت الإشارة إليه ، قد يعتبر ثنائيّا كالتحريم والإباحة ، أو التحريم والكراهة ، أو التحريم والاستحباب ، وقد يعتبر ثلاثيّا وصوره أيضا ثلاثة ، وقد يعتبر رباعيّا وله صورة واحدة ، وكذلك دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم من الأحكام الثلاثة الباقية.

ولمّا كان المقصود بالبحث في جميع صور الدوران التي عرفتها ، معرفة حالها من حيث البناء على البراءة ونفي الحكم الإلزامي في مرحلة الظاهر والبناء على وجوب الاحتياط ورعاية احتمال الحكم الإلزامي ، لم يجعل لكلّ صورة عنوانا مستقلا ؛ لعدم الفرق بينها من الجهة المقصودة بالبحث ؛ وإن كان بينها فرق من جهة أخرى كما في دوران الأمر بين الحرمة والكراهة مثلا ، أو دوران الأمر


بين الوجوب والاستحباب ؛ فإنه لو فرض هناك حكم مترتب على مطلق مرجوحية الفعل ترتّب على الأوّل ، كما أنّه لو فرض هناك حكم مترتّب على مطلق رجحانه ترتّب في الثاني ؛ لكون كل منهما معلوما بالفرض وإن لم يثبت بالبراءة عن التحريم الكراهة في الأول ، وبالبراءة عن الوجوب الاستحباب في الثاني ؛ فيجمع بين ترتّب آثار القدر المشترك في الصورتين ونفي الخصوصيتين فيهما.

وأمّا ما أفاده بقوله : « وهذا مبني ... الى آخره » (١) فهو غير محصّل المراد ؛ فإن ما أفاده من اختصاص التكليف بالإلزام ، إن أراد منه الاختصاص عند العلماء فقد اتفقوا على تعميمه بالنسبة إلى جميع الأحكام الخمسة حتى الإباحة.

وإن أراد منه الاختصاص بحسب اللغة والعرف العام فهو مبنيّ على كون الحكم في المقام مترتّبا في جميع الأدلّة اللفظيّة كتابا وسنة على لفظ التكليف.

وهو وإن كان كذلك بالنسبة إلى بعض الآيات وجملة من الأخبار التي ستمرّ عليك ، إلاّ أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق ولا ينفع كون لفظ التكليف واقعا في موضوع البعض ، وإن كان الظاهر من لفظ الكلفة في اللغة والعرف الإلزام ، فعلا أو تركا. مع أنه لا حاجة إلى هذا الظهور عند التحقيق ؛ لأن المشتمل على لفظ التكليف ظاهر في الإلزام لاقترانه في أكثره بما يكون دليلا عليه. ألا ترى إلى قوله تعالى :

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٨.


( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (١) ونحوه؟ فإنه بقرينة لفظ « الوسع » ظاهر في نفي التكليف الإلزامي كما هو ظاهر.

وأمّا ما أفاده : من اختصاص الخلاف بين العلماء في البراءة والاحتياط بما هناك احتمال الإلزام (٢) ، فهو متعيّن ظاهرا وليس محلاّ للترديد ؛ إذ المستفاد من كلماتهم كأدلّة الطرفين نقلا وعقلا اختصاصه به كما يعلم من الرجوع إليها والتأمّل في أدلّة القولين ؛ لأن حكم العقل بالبراءة مبنيّ على قاعدة قبح العقاب من غير بيان ودفع العقاب المحتمل ، والأدلة النقلية أكثرها صريحة في ذلك وبعضها ظاهر فيه كما ستقف عليها ؛ لأنّ جملة من أخبار البراءة في بيان إثبات الطلق والحليّة في موارد احتمال النهي والأمر ، وأخرى : ظاهرة في نفي المؤاخذة والعقاب على ما لا يعلم ، وكذا أخبار الاحتياط ظاهرة في إثبات الحكم عند احتمال التهلكة ؛ فلا معنى مع ذلك لتعميم محل البحث.

فإن شئت قلت : بعد القطع بجواز كل من الفعل والترك لا يحتاج اختيار أحدهما إلى البناء على حكم خاصّ بل ينفى كل من الخصوصيّات المحتملة بالنّسبة إلى الأحكام المترتبة عليها بأصل العدم ، ففي دوران الأمر بين الاستحباب والإباحة مثلا يحكم بجواز الفعل قطعا.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٨.


وأما الحكم المترتّب على خصوص الاستحباب فيفي بالأصل ، بل الحق نفي الإباحة الخاصّة أيضا بالأصل فيما فرض هناك حكم مترتّب عليها. نعم ، في دوران الأمر بين الاستحباب والكراهة التعبديّين ـ لو فرض في الشرعيّات ـ يمكن الحكم بجريان التخيير كدوران الأمر بين الوجوب والتحريم التعبّديين فتأمّل.

ولو قال عند عدم احتمال الحكم الإلزامي : حكمه يعلم من الرجوع إلى الأصول والقواعد بعد استظهار اختصاص النزاع في المسألة بما كان هناك احتمال الإلزام فعلا أو تركا ، أو فعلا وتركا ، كان أولى مما أفاده في تحرير المقام كما لا يخفى وجهه.

والمراد من المستحب والمكروه في العبارة هما باعتبار عنوانهما ، فلو أبدلهما بالاستحباب والكراهة كان أولى هذا.

ولكن ظاهر المحقق القمي قدس‌سره في « القوانين » : تخصيص التكليف بالإلزام. ولذا خصّ محلّ الكلام بموارد وجود احتماله.

وقال في « الفصول » ـ بعد نقل ما عرفته عن « القوانين » ـ :

« ولعلّه ناظر إلى ما قيل : من أن التكليف مأخوذ من الكلفة ومعناه الإلقاء في المشقة ولا يصدق على غيرهما ، وضعفه ظاهر ؛ لأن ذلك معنى التكليف لغة. وأمّا


في الاصطلاح فهو الأعم من ذلك » (١).

إلى أن قال :

« وكان المتداول في كلامهم استعمال أصل البراءة في نفي الوجوب ، وأصل الإباحة في نفي التحريم والكراهة ، والتعميم أولى بالمقام لصلوح اللفظ له بالمعنى الذي ذكرنا مع اشتراك الجميع في الأدلّة » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير : بأن تعميمه التكليف بحسب الاصطلاح وإن كان جيّدا ، إلاّ أنّ حكمه بتعميم العنوان لما يشمل غير الإلزام من جهة عموم أدلّة البراءة قد عرفت ما فيه ؛ نظرا إلى اختصاصها عقلا ونقلا بنفي الإلزام. نعم ، قد عرفت الإشارة إلى عدم الإشكال في نفي الاستحباب والكراهة والأحكام المترتّبة على عنوانهما ، لكنّه لا تعلّق له بأصل البراءة.

ثمّ إنّ المراد من النصّ ـ المضاف إليه العدم والإجمال والتعارض في « الكتاب » ـ هو الدليل ، لا ما يرادف الحديث أو ما يقابل الظاهر كما يدل عليه تمثيله لإجماله وتعارضه بالآية الشريفة ، وهذا أمر ظاهر ، كما أن المراد من الإجمال في المقام أعمّ من الإجمال الاصطلاحي فيشمل الإهمال ونحوه.

ثمّ إن مثل القول بتواتر القراءات في الحكم بوقوع التعارض بين قراءتي

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٣٥١.

(٢) نفس المصدر : ٣٥١.


التخفيف والتشديد (١) ، القول بجواز الاستدلال بكل قراءة وحجيّته على تقدير عدم تواترها على ما عرفت الكلام فيه في الجزء الأوّل من التعليقة (٢) عند البحث عن حجيّة ظواهر الكتاب ، فالحكم بالإجمال وجعل الآية مثالا لإجمال النص ، مبنيّ على عدم التواتر وعدم جواز الاستدلال وإلاّ فتدخل في تعارض النّصّين.

__________________

(١) كما في الآية ٢٢٢ من سورة البقرة.

(٢) بحر الفوائد : ج ١ / ٩٦.


* المطلب الأوّل : الشبهة التحريميّة

* المسألة الأولى : تحقّقها لفقدان النص

ـ قولان فى المسألة

١ ـ أدلة القول بالإباحة

٢ ـ أدلة القول بوجوب الإحتياط



المسألة الأولى :

« الشبهة التحريمية من جهة فقدان النص »

الأقوال في المسألة :

(٩٢) قوله قدس‌سره : ( وربّما نسب إليهم أقوال أربعة ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٢٠ )

أقول : قد نسب الأقوال الأربعة إليهم الفريد البهبهاني قدس‌سره في « فوائده » (١) وظاهره بل صريحه كونها متمايزة مختلفة بحسب المعنى لا أن يكون اختلافها بمجرّد التعبير من جهة اختلاف ما ركنوا إليه من الأخبار الواردة مع عدم اختلاف بينها بحسب المعنى والمراد كما هو المستظهر منها عند شيخنا قدس‌سره والظاهر من كلمات الأخباريين عند التأمل.

__________________

(١) الفوائد الحائريّة : ٢٤٠ ، والرسائل الأصوليّة : ٣٤٩ ـ ٣٥٠.


(٩٣) قوله قدس‌سره : ( قيل : دلالتها واضحة. وفيه : أنها غير ظاهرة ؛ فإن حقيقة الإيتاء الإعطاء ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢١ )

دلالة آية الإيتاء على أن حكم ما لا نصّ فيه

إباحة الفعل شرعا وعدم وجوب الإحتياط

أقول : ذكر في « الفصول » بعد عدّ الآية في عداد الآيات التي استدل بها على المدّعى ـ : أن دلالتها واضحة (١). ولم يذكر في تقريبها شيئا.

وأنت خبير بأن محتملات الآية كثيرة ، تدلّ على المدّعى على بعضها ولا تدلّ عليه على بعضها الآخر.

توضيح ذلك : (٢) أنه لا يخلو الأمر :

إمّا أن يراد من الموصول خصوص المال ، فيراد من نسبة التكليف إليه بدلالة الاقتضاء دفعه وإنفاقه ، أو يقدّر الدفع والإنفاق ؛ فالمعنى : أنه لا يكلّف الله تعالى نفسا إنفاق مال إلاّ إنفاق ما أعطاه من المال ، فإن كان ممّن وسّع الله عليه فيكلّف بالإنفاق من سعته ، وإن كان ممن ضيّق عليه في معيشته فلا يكلّف بالإنفاق أو يكلّف بقدر مقدوره. وهذا هو الظاهر من الآية بملاحظة السياق صدرا وذيلا

__________________

(١) لم نعثر عليه فى الفصول. نعم ، ذكره الفاضل النّراقي في المناهج : ٢١٠.

(٢) وأنظر قلائد الفرائد : ج ١ / ٢٩٦.


وإن كان بعيدا من جهة أخرى ستقف عليها.

أو يراد منه : فعل المكلف بالمعنى الأعم من الترك ؛ فيكون إيتاؤه وإعطاؤه بمعنى الإقدار عليه. فتدل على نفي التكليف بغير المقدور كما في « مجمع البيان » حيث قال ـ في تفسير الآية الشريفة ـ : « أي : إلاّ بقدر ما أعطاه من الطّاقة وفي هذا دلالة على أنّه سبحانه لا يكلّف أحدا ما لا يقدر عليه ولا يطيقه » (١). انتهى كلامه.

ويحتمل أن يكون إيتاؤه كناية عن الوسع في مقابل الضيق والحرج فتوافق قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) كما جمع بينهما في رواية عبد الأعلى الآتية فيدلّ على نفي التكليف الحرجي.

وكيف كان : هذا المعنى أظهر من الأوّل ؛ من جهة عدم توقّفه على التقدير أو التصرف في النسبة مضافا إلى أن كون سياق الآية في مقام التعليل فلا يناسب حملها على المعنى الأول. ولا ينافي كون سوقها في مقام الإنفاق ؛ لأن الإنفاق من الميسور وممّا أعطاه الله من المال داخل في المقدور.

ومن هنا قال قدس‌سره : « وهذا المعنى أظهر وأشمل » (٢) فيناسب سوقها في مقام التعليل بخلاف المعنى الأول فإنه في قوّة التكرار فلا يناسب التعليل.

أو يراد منه : الحكم الشرعي فيكون إيتاؤه وإعطاؤه كناية عن إعلامه.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١٠ / ٤٨.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢١.


فالمعنى بعد التصرّف في النّسبة أو التقدير ـ ضرورة استحالة تعلّق التكليف بالحكم الشرعي بمعنى كونه مكلّفا به ـ : أن الله لا يكلّف نفسا إطاعة حكم إلا إطاعة حكم أعطاه إلى النفوس فتدلّ على عدم لزوم إطاعة الحكم المجهول. وهذا معنى دلالتها على البراءة في محل البحث.

وهذا مع كونه خلاف الظاهر ؛ من جهة توقفه على التصرّف أو التقدير ـ مضافا إلى منافاته للمورد ـ قد يستشهد له برواية عبد الأعلى المذكورة في « الكتاب » من حيث إن جوابه عن سؤال التكليف النّاس (١) بالمعرفة بقوله : « لا ، على الله البيان » (٢) ظاهر في إرادة الإعلام والبيان من الإيتاء في الآية التي استشهد عليه‌السلام بها.

لكنّه ضعيف ؛ من حيث إن المعرفة قبل تعريف الله تعالى ولو بدلالة العقول وإرشادها من الله تعالى ؛ حيث إن العقل حجة باطنيّة من الله تبارك وتعالى غير مقدور فيدخل في المعنى الثاني. ولو أريد من البيان ما يشمل المودّع في النفوس من الله تعالى من الفطرة الجبليّة ، عمّ السؤال المعرفة الإجماليّة مطلقا ، وإلاّ فيحمل على المعرفة التفصيليّة بحسب الطاقة البشريّة.

ويحتمل أن يكون المراد : المعرفة بحال حجج الله تعالى ، ومعلوم : أن

__________________

(١) كذا والصحيح : عن سؤال تكليف الناس بالمعرفة.

(٢) الكافي الشريف : ج ١ / ١٦٣ باب « البيان والتعريف ولزوم الحجّة » ـ ح ٥.


معرفتهم غير مقدور من دون بيان الله تعالى بإظهار خوارق العادات الدّالة على صدقهم وكونهم أدلاّء على صراطه وحججا على خلقه ، وقد أطلق المعرفة المطلقة على هذا المعنى في بعض الأخبار ولا يأبى عنه الحديث أيضا.

وأمّا حمل المعرفة على معرفة الله تعالى بكنهه ، الغير المقدور لكل أحد ، وجعل قوله عليه‌السلام : « لا ، على الله البيان » على مجرّد التقدير والفرض ، فهو كما ترى.

أو يراد منه : المعنى الأعم من الفعل والحكم ؛ فيراد من الإيتاء ـ باعتبار نسبته إلى الفعل ـ الإقدار ، وباعتبار نسبته إلى الحكم الإعلام ؛ لأن إعطاء كل شيء بحسبه.

فقد أورد الأستاذ العلامة قدس‌سره عليه : بأنه موجب لاستعمال الموصول في المعنيين. ولعل المراد استعماله في المعنيين باعتبار صلته وإلاّ فيتوجّه عليه الإشكال جزما ، بل قد يتأمّل فيما أفاده بالنسبة إلى الصّلة أيضا : من أن الإيتاء بمعنى الإعطاء جامع بين المعنيين بل المعاني. والاختلاف إنّما يحصل بحسب متعلّقاته وهذا معنى ما يقال : إن إعطاء كل شيء بحسبه.

وقد التزم بإرادة الجامع ـ عند توجيه استدلال السيد أبو المكارم على البراءة وعدم وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية في قبال الأخباريّين ـ بأن التكليف بالاجتناب تكليف بما لا يطاق كما ستقف عليه ، وفي غير هذا المقام.

لكنّ الظاهر من الآية الشريفة ـ بقرينة التكليف ـ إرادة فعل المكلف من الموصول من دون تصرّف في النسبة بإرادة الإطاعة فلا تعلّق لها بالمقام أصلا ، مع


أنه على تقدير عدم ظهورها في المعنى الأخير يسقط الاستدلال بالآية الشريفة ، هذا كله.

مع أنّ مساقها مساق قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (١) كما جمع بينهما في رواية عبد الأعلى فظاهرهما إمّا نفي التكليف بغير المقدور ، أو التكليف بغير الميسور ، فلا تعلّق لهما بالمقام.

ومنه يظهر : عدم جواز الاستدلال للمقام بقوله تعالى في أواخر سورة البقرة : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (٢).

(٩٤) قوله قدس‌سره : ( بناء على أن بعث الرسول كناية ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٢٢ )

أقول : الآية الشريفة في سورة بني إسرائيل (٣) وقد تمسّك بها غير واحد للمقام وفاقا للفاضل التوني في « شرح الوافية ». والمراد من بعث الرّسول : بعثه ببيان التكاليف والأحكام ، وإلا فمجرّد إرسال الرّسل لا يصحّح العذاب قطعا.

ثمّ إن مجرى البراءة لما كان مختصّا بما لا بيان فيه أصلا ، وكان الحكم العقلي أيضا بيانا كالبيان النّقلي ، توقّف تقريب الدلالة على التصرّف في الآية الشريفة.

نعم ، لو قيل بعدم حجيّة حكم العقل ، وعدم التلازم بينه وبين حكم الشرع ، أو

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) أيضا : ٢٨٦.

(٣) الإسراء : ١٥.


عدم حسن العقاب إلاّ بالتأكيد ـ الذي يرجع إلى عدم حجيّة حكم العقل بنوع من الاعتبار كما في « الكتاب » ـ لم يحتج إلى التصرّف فيها.

ووجوه التصرّف على القول بحجيّة حكم العقل [ و ] تعميم الرّسول لما يشمل العقل ؛ لأنه رسول من الباطن كما عن بعض وإن كان في كمال البعد ، وجعله كناية عن البيان ؛ لأنه يكون به غالبا كما في « الكتاب » (١) ، وتخصيص الآية بغير المستقلاّت العقلية كما في « القوانين » و « الكتاب » من حيث قيام البرهان الذي قضى بحجيّة حكم العقل عليه ، وإن كان ما أفاده في « الكتاب » مع كون الأخير من باب التخصّص أحسن من الكل كما هو ظاهر. فيتمّ الاستدلال بالآية على كلا القولين في مسألة التلازم هذا.

وأورد على الاستدلال بها شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » : بأن ظاهرها الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة (٢).

ويمكن المناقشة فيه : بأنّ كون الآية إخبارا عمّا أفاده لا ينافي دلالتها على المدّعى ، بعد كونه مبنيّا على مقتضى العدل والحكمة الإلهيّة الذي لا يعقل الفرق فيه بين الأمم السّابقة واللاّحقة والعذاب الدنيوي والأخرويّ ـ الذي هو أشدّ من

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٢.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٣.


الدنيويّ بمراتب شتّى ـ الذي يدل على سوق الآية لهذا المعنى المبتنى على الحكمة.

مضافا إلى شهادة كثير من الآيات المتّحد معها من حيث المساق كقوله تعالى في سورة القصص : ( وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ ) (١) ؛ فإنّ ظاهره ـ كما هو ظاهر ـ : أن الحكمة الإلهية اقتضت أن لا يكون الهلاك إلاّ بعد البعث وإتمام الحجّة ، وأن كلّما وقع الهلاك في أنّه من الأمم كان بعد إتمام الحجّة وإن كان الهلاك الواقع فيهم من العذاب الدنيوي كما يشهد له كلمات المفسرين.

قال في « مجمع البيان » ما هذا لفظه : « معناه : وما كنا معذّبين قوما بعذاب الاستئصال إلاّ بعد الإعذار إليهم والإنذار لهم بأبلغ الوجوه ، وهو إرسال الرسول إليهم مظاهرة في العدل. وإن كان تجويز مؤاخذتهم على ما يتعلّق بالعقل مستحيلا فعلى هذا التأويل تكون الآية عامّة في العقليّات والشرعيّات.

وقال الأكثرون من المفسّرين وهو الأصحّ : إن المراد بالآية : أنه سبحانه لا يعذّب في الدنيا ولا في الآخرة إلاّ بعد البعثة ؛ فتكون الآية خاصة فيما يتعلق بالسّمع من الشّرعيّات » (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) القصص : ٥٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٦ / ٢٣١.


وقال في محكي « الكشاف » في تفسيرها : « وما يصحّ لنا صحّة تدعو إليها الحكمة أن نعذّب قوما إلاّ بعد أن نبعث إليهم رسولا فيلزمهم الحجّة » (١). انتهى كلامه.

فالإنصاف ظهور الآية في المدّعى ، فيقال في تقريب دلالتها بناء على ما ذكرنا في معناها : أنه كما يستدل بما دلّ على ثبوت العذاب على الفعل أو الترك بالتحريم أو الوجوب حيث إنه من لوازمهما وآثارهما ، كذلك يستدلّ على نفي التحريم قبل البيان بنفي العذاب قبله ، بناء على كون المراد وصول البيان إليهم من الرسول ، لا مجرّد بيانه وإن لم يصل إليهم فيدلّ على المدعى.

(٩٥) قوله قدس‌سره : ( ثم إنه ربّما يورد التناقض ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٢٣ )

التناقض الذي ذكره المحقّق القمّي

في التمسّك بالآية

أقول : الجامع هو الفاضل التوني في « الوافية » ؛ فإنه قد تمسّك بالآية الشريفة على البراءة في المقام. وأورد على من تمسّك بها في مسألة الملازمة بين العقل الشرع ـ نظرا إلى دلالتها بظاهرها على إناطة العذاب ببيان الرسول ويلزمها عدم حجيّة حكم العقل ، والملازمة ظاهرة ـ : بأن مفاد الآية الشريفة : نفي فعليّة

__________________

(١) الكشاف للزمخشري : ج ٢ / ٤٤١.


العذاب قبل بعث الرسول ، فلا ينافي ثبوت الاستحقاق بالنظر إلى حكم العقل في بعض الموارد قبله. والملازمة بيّنة على الاستحقاق لا على الفعلية ، والمورد للتناقض بينهما المحقق القمّي قدس‌سره في « القوانين » (١).

وحاصل التناقض : أن الإخبار بنفي التعذيب قبل بعث الرّسول إن دل على عدم التكليف شرعا ولو في مورد ثبوت حكم العقل ، فلا وجه للثاني ، أي : الإيراد. فيصحّ التمسّك بالآية على نفي الملازمة. وإن لم يدل عليه كما هو مبنى الإيراد ، فلا وجه للأوّل أي : التمسّك بالآية في المقام ؛ وإن توجّه الإيراد المانع عن الاستدلال بها في مسألة الملازمة ، فالجمع بين التمسّك بالآية في المقام والإيراد على التمسّك بها على نفي الملازمة لا يصحّ على كل تقدير هذا.

وأجاب عنه بعض أفاضل مقاربي عصرنا في « الفصول » : « بأن الجامع بين المقامين كأنه أراد نفي الوجوب والتحريم بالمعنى الذي أثبته الخصم (٢) ؛ فإنه

__________________

(١) قوانين الأصول : ج ٢ / ١٦ ـ ١٧.

(٢) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

« أقول : جليّ غير خفيّ ان الخصم وهو الأخبارى ليس يدّعي أنّ في ارتكاب الشبهة الوقوع جزما في العقاب الفعلي ؛ فإنه ليس بأزيد من ارتكاب الحرام الجزمي ، وليس فيه الجزم بوقوع العقاب جزما ؛ فإنه مستلزم للإستحقاق لا الوقوع.

بيان ذلك :

أن إسناد هذه الدعوى إلى الأخباري لا بد وأن يكون فيه دلالة ، والدلالة : إمّا بالملازمة ، وإمّا


لا يلتزم بكونه ذنبا موعودا عليه العفو وعدم المؤاخذة ولو مع الإصرار ، بل يجعله كغيره من الذنوب فلا يكون تناف بين كلامه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

ويوافقه ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ويرجع إليه وإن تغايرا بالإجمال والتفصيل كما هو واضح (٢).

__________________

بالصراحة ، والثاني منفيّ قطعا وإلاّ لم يستند في الإسناد إلى اقتضاء خبر التثليث للوقوع. وأمّا الأوّل فإن المفرط من الأخباري هو الذي يقول بإرتكاب المشتبه التحريمي هو الحرام الواقعي والحرام الذي يجب إجتنابه ملزم للإستحقاق وهو من الوقوع أعم ، وملزوم الأعم ليس بملزوم للأخص وعدم الأخص أعمّ من عدم الأعم فالاخبار بعدم وقوع التعذيب في الآية ليس يلزمه عدم استحقاقه الذي هو أخص.

وبالجملة : لا دلالة لمنع الخصم على أنه يدّعي الوقوع فى العقاب الفعلى بمجرّد المنع.

وإن كان الإستناد في هذا الإسناد إلى استنادهم فى المنع برواية التثليث الظاهرة فى الوقوع ، ففيه : ان ظاهرها الإشراف على ذلك وعدم الأمن منه ، لا الإخبار بالوقوع جزما ؛ فإنّهم قالوا فى الحرام المعلوم : إنّه مقتض للفعليّة فكيف يمكن ان يقال فى المحتمل للحرمة بأنه للوقوع علة؟

وبالجملة : فالاعتراف بتدافع الكلامين فى المقامين أولى من الدفع بما ليس فى كلام الخصم منه أثر ولا عين ولو لا خشية الإطالة لزدت لك ما يزيل رمدك » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشّى : ١٩٤.

(١) الفصول الغرويّة : ٣٥٣.

(٢) انظر فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٣.


الإستدلال على حكم ما لا نصّ فيه

وحاصلهما ما عرفت : من أن مبنى الملازمة على كون حكم العقل دليلا على حكم الشرع ثبوته بالدّليل العقلي أو غيره ، يلازم الاستحقاق لا الفعليّة ؛ فلا ينافي العفو عنه إذا لم يكن هناك بيان من الرّسول على ثبوته في مورد حكم العقل ، كما في بعض المحرّمات الشرعيّة كالظّهار والعزم على المعصية ـ على القول بكونه معصية موعودا على عفوه كما استظهر من بعض أخباره ـ وإن مضى الإشكال في ذلك في الجزء الأوّل من التعليقة ، وأن العفو كيف يجامع وجوب اللطف بالوعد والوعيد على الحكيم تعالى؟

ومبنى البراءة وإن كان على المعذوريّة ونفي الاستحقاق إلاّ أن نفي الفعليّة بارتكاب الشبهة تلازمه باعتراف الخصم ، فإذا حملت الآية على ظاهرها وهو نفي الفعلية ، كان الجمع صحيحا بضميمة هذه المقدّمة الخارجيّة.

نعم ، لو كان المدّعي للملازمة بين الحكمين مدّعيا لثبوت حكم الشارع بحكم العقل على نحو ثبوته بالنّقل من غير أن يكون هناك عفو ، وكان تسالمهم على كون هذا المعنى محلاّ للكلام ، كما يظهر من جعلهم ثمرة النزاع ترتّب الثواب والعقاب على حكم العقل وعدمه ، وزوال العدالة بمجرّد المخالفة أو الإصرار عليها وعدمه ، إلى غير ذلك. واستدلال النافين بأن الثواب والعقاب إنّما يترتّبان على إطاعة الشارع ومعصيته ، فلا يفيد حكم العقل لجاز التمسّك بالآية على نفي الملازمة وتوجّه التناقض على الجمع.


والأولى في الإيراد على المتمسّك بالآية على نفي الملازمة : حملها على الغالب ؛ فإن مورد حكم العقل في غاية القلّة ، أو جعل البعث كناية كما عرفت في « الكتاب » ، إلى غير ذلك مما ذكرنا في باب الملازمة.

ولمّا كان زعم شيخنا قدس‌سره على ما عرفت : ورود الآية في مقام الإخبار عن العذاب الدنيوي في الأمم السابقة والنقل عن حالهم ، قال في « الكتاب » : « والإنصاف : أنّ الآية لا دلالة لها على المطلب في المقامين ، أي : البراءة ونفي الملازمة » (١).

(٩٦) قوله قدس‌سره : ( ومنها : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) أي ما يجتنبونه من الأفعال والتروك ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٢٤ )

أقول : الآية في سورة البراءة (٢). وفي « الصافي » عن « الكافي » و « تفسير العيّاشي » وكتاب « التوحيد » عن الصّادق عليه‌السلام : « حتّى يعرّفهم ما يرضيه و[ ما ] يسخطه » (٣).

وقال في « مجمع البيان » : « أي : وما كان الله ليحكم بضلالة قوم بعد ما حكم بهدايتهم حتى يبيّن لهم ما يتّقون من الأمر بالطّاعة والنهي عن المعصية فلا يتّقون ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٤.

(٢) التوبة : ١١٥.

(٣) الكافي الشريف : ج ١ / ١٦٣ باب « البيان والتعريف ولزوم الحجة » ـ ح ٣ ـ ، والتوحيد :٤١١ بيانه في شرط دخول المذنب الجنة ـ ح ٤ ، وكذا تفسير العيّاشي : ج ٢ / ١٢١.


فعند ذلك يحكم بضلالتهم.

وقيل : وما كان الله ليعذّب قوما فيضلّهم عن الثواب والكرامة وطريق الجنّة بعد إذ هداهم ودعاهم إلى الإيمان حتى يبيّن لهم ما يستحقّون به الثواب والعقاب من الطاعة والمعصية » (١).

وقال في سبب النزول :

« قيل : مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض. فقال المسلمون : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم فنزل » (٢).

وقيل : لمّا نسخ بعض الشرائع وقد غاب أناس وهم يعملون بالأمر الأوّل ؛ إذ لم يعلموا بالأمر الثاني مثل تحويل القبلة وغير ذلك ، وقد مات الأوّلون على الحكم الأوّل. وسئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فأنزل الله الآية ، وبيّن : أنّه لا يعذّب هؤلاء على التوجّه إلى القبلة الأولى حتى يسمعوا بالنسخ ولا يعملوا بالناسخ فحينئذ يعذبهم به » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

وقيل : الآية لمجرد الإخبار عن حال الأمم السابقة على ما صنعه شيخنا قدس‌سره

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٥ / ١٢٢.

(٢) هذه العبارة ليست فى مجمع البيان.

(٣) تفسير الصافي : ج ٢ / ٣٨٣.


في « الكتاب » كالآية السابقة ، وهو ينافي ما عرفته في تفسير الآية وسبب نزولها ، مع أن النفي في قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ ) ظاهر في بيان مقتضى الحكمة ، وأنه تعالى لمكان حكمته لا يضلّ قوما قبل هدايتهم وبيان الأحكام لهم كما عرفت في تقريب دلالة الآية السابقة ، سواء أريد من الإضلال العذاب ، أو الخذلان ؛ فإنه لا يكون إلاّ عن سبب يرجع إلى العباد وهو المعصية ؛ فإنّه نوع من العذاب والعقاب حقيقة وإن كان في الدنيا.

مضافا إلى أن الخذلان بدون البيان والإعلام إذا كان منفيّا من حيث كونه على خلاف الحكمة الإلهيّة كان العذاب الأخروي أيضا منفيّا بالفحوى ومفهوم الموافقة كما استدركه بقوله : ( اللهمّ إلا بالفحوى ) (١) (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٥.

(٢) قال الفقيه المحقّق السيّد اليزدي قدس‌سره :

« يمكن تقريب الاستدلال بالآية على وجه لا يحتاج إلى ضميمة الفحوى وهو أن يقال : إنّ المراد بقوله : ( لِيُضِلَ ) بعد عدم إمكان حمله على معناه الحقيقي لا متناعه على الله هو فعل ما يترتّب على الضلال أي العقاب ، يعنى : ما كان الله ليعاقب قوما حتى يبيّن لهم ما يتّقون ، لكن هذا المعنى مجرّد احتمال في الآية لا شاهد عليه ، وما حمل عليه المصنّف : من كون المراد بالإضلال : الخذلان أظهر ، لكنّه يحتاج إلى ضمّ الأولويّة بأن يقال : إذا لم يكن الله ليخذل إلاّ بعد البيان ، فعدم عقابة بدون البيان أولى ؛ لأن العقاب أشدّ من الخذلان بكثير بناء على أن المراد بالخذلان : عدم الإعتناء بالشخص وجعله في معرض النّسيان.


فإن نفي الاستلزام في كلامه محمول على ما ذكرنا من المعنى الراجع إلى دلالة الآية على توقّف الخذلان على البيان بالنّظر إلى الحكمة من غير فرق بين الأمم ، وإلاّ لم يكن معنى للاستدراك.

فالإنصاف : أن الآية لا تخلو عن ظهور في المدّعى ، سيما إذا لو حظ ما تقدّم عليها من قوله تعالى : ( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ ) (١) الآية.

__________________

لكن فيه : منع الأولويّة ؛ لأن خذلان الله تعالى أعلى مراتب العقاب ؛ لأنّه بالغ إلى مرتبة لا يرجى أن ينظر إليه نظر رحمة وتفضّل بجعله إيّاه في معرض النسيان فتدبّر ، هذا.

مضافا إلى أنّ أمثال هذه الآيات ناظرة إلى أصول الدّين ، والمراد بالهداية : الهداية إلى الإسلام.

نعم ، قوله : (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) ظاهره بيان الأفعال والتروك لكن يمكن حمله على معنى بيان الإتّقاء من الشرك وأفعال المشركين بقرينة السياق » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٣.

(١) سورة التوبة : ١١٣ ، وقد أوردها الميرزا بزيادة ونقيضة غفلة ، وما ذكرناه هو الصحيح.


(٩٧) قوله قدس‌سره : ( وفي دلالتها تأمّل ظاهر ). ( ج ٢ / ٢٥ )

الآية لا تدل على أصالة البراءة

أقول : الآية في سورة الأنفال (١) ، وهي تعليل لما صنع الله « تعالى » في قضية بدر (٢) وفيها احتمالان :

أحدهما : أن يكون المراد من الهلاكة والحياة ، ظاهرهما. أي : الموت والتّعيش في الدنيا.

ثانيهما : أن يكونا استعارتين عن الإسلام والكفر. أي : يكون كفر من كفر عن وضوح بيّنة وعلم لا عن شبهة ، حتّى لا يبقى له على الله حجّة ، ويكون إسلام من أسلم عن يقين وبرهان. وعلى كل تقدير لا دلالة لها على المدّعى وإنه تعالى لا يؤاخذ على كلّ حكم مجهول عند العباد ، غاية الأمر كونها مشعرة بذلك.

__________________

(١) الأنفال : ٤٢.

(٢) أقول : ولكن الانصاف ان دلالة الآية ظاهرة بعد تجريدها عن السياق والمورد لا يخصّص الوارد ، فما في كلمات بعضهم من أن الآية الشريفة في أصول الدين والتعدّى منها إلى الفروع ثمّ منها إلى الشبهات يحتاج إلى الدليل لا يخلو من تعسّف ، نعم ما أفاده إنّما يتم فيما اذا لو حظت الآية ضمن سياقها فتدبّر.


(٩٨) قوله قدس‌سره : ( ويرد على الكل : أن غاية مدلولها ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٢٥ )

أقول : لا يخفى عليك ما يتوجّه على ما أفاده من المناقشة ؛ فإن المستفاد من أخبار الاحتياط مطابقة كأخبار التثليث ، أو التزاما ثبوت المؤاخذة على النهي الواقعي المجهول ، على تقدير تسليم دلالتها على وجوب الاحتياط في محل البحث ، فلا محالة تكون منافية للآيات المذكورة. فكيف يجعل نسبتهما نسبة الأصل والدليل؟ اللهم إلا أن يكون المراد من الجهل ، الجهل بجميع مراتب النهي الواقعي حتى من حيث الظاهر ، كما يظهر من قوله بعد ذلك : « والإنصاف ما ذكرنا ... الى آخره » (١) فإنه قرينة على مراده من هذه العبارة أيضا.

فإن العلم بوجوب الاجتناب عن محتمل التحريم ، على بحرمته في مرحلة الظاهر ؛ فليس مجهولا على الإطلاق ، إلاّ أن هذا التوجيه ربّما ينافي ظاهر ما أفاده : من إناطة الجهل بالحكم الواقعي ، مع أن إيجاب الاحتياط قد يمنع كونه موجبا للعلم بالنهي ولو في مرحلة الظاهر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٧.


(٩٩) قوله قدس‌سره : ( ولكن الإنصاف : أنّ غاية الأمر أن يكون ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٦ )

أقول : الآية في سورة الأنعام (٢) ، وإلقاء هذا التعبير إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام الردّ من جهة كونه أقرب إلى قبول طاعتهم لا من جهة عدم جواز الالتزام بالحرمة مع عدم وجدانها في حكم عقولهم ، فالرّدّ مبنيّ على التّلازم بين عدم وجدان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحرمة بحسب نفس الأمر ، والنّكتة في العدول ما عرفت ، فلا دلالة للآية على المدعى.

وأمّا ما أفاده بقوله : « مع أنّه لو سلّم دلالتها ... الى آخره ) (٣).

__________________

(١) قال السيّد الفقيه اليزدي قدس‌سره :

« الأولى أن يجاب :

أوّلا : بأن التعبير بـ ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ ) من باب المجادلة بالّتي هي أحسن ، وهي من الكنايات الّتي هي أبلغ من التصريح ، بأن يقال : إنّ ما حرّمتموه من قبل أنفسكم غير محرّم البتة.

وثانيا : انّ الآية بصدد الرّد على التشريع والحكم بالحرمة من غير علم بها ، وللخصم أن يقول : نحن لا نحكم بالحرمة جزما ، بل نقول بالإحتياط الذي هو سبيل النّجاة ، وهكذا نقول في الجواب عن الآية الأخيرة أيضا ويظهر وجهه بالتأمل » إنتهى.

حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٥.

(٢) الأنعام : ١٤٥.

(٣) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٦.


فربّما يناقش فيه : بأن الفرق ثبوت العلم الإجمالي في أمثال زماننا بالاجتناب يخرج الكلام عن محل البحث كما هو ظاهر فتدبّر.

(١٠٠) قوله قدس‌سره : ( ولعل هذه الآية أظهر ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٢٦ )

أقول : ما أفاده في وجه الأظهريّة يرجع إلى ما سيذكر مفصّلا : من أن الأخباري لا يحكم بوجوب اجتناب (١) وإنّما بترك الفعل لاحتمال كونه حراما فيلتزم بالترك ولا يلتزم بحكم.

وسيجيء ما يتوجّه عليه : من أنه لا مناص للأخباري عن الحكم في مرحلة الظاهر. اللهم إلاّ أن يكون المراد من الحرمة في السّابقة ، الحرمة الواقعية وهذا ليس محلاّ لإنكار الأخباري ؛ فإنهم لا يجوّزون الحكم بالحرمة الواقعيّة أيضا فتأمّل.

(١٠١) قوله قدس‌سره : ( والإنصاف ما ذكرنا : من أن الآيات المذكورة ... الى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٢٧ )

__________________

(١) كذا في النسخ الموجودة والظاهر : بوجوب الإجتناب.

(٢) قال السيّد الفقيه اليزدي قدس‌سره :

« إعلم أنّ إيجاب الإحتياط :

قد يكون من باب الموضوعيّة حتى يكون وجوب الإحتياط في الشبهة في عرض سائر


__________________

التكاليف الواقعيّة يعاقب على مخالفته وإن لم يصادف الحرام الواقعي.

وقد يكون من باب الطريقيّة بمعنى أن الغرض الإرشاد إلى أنّ الواقع المجهول منجّز على المكلّف يعاقب على مخالفة ذلك الواقع لو اتّفقت.

والظاهر أنّ أدلّة الإحتياط التي [ هي ] متمسّك الخصم تدل على المعنى الثاني عقلها ونقلها.

وهذا هو التحقيق عند المصنّف وإن احتمل بعض كلمات الاخباريين المعنى الأوّل.

وحينئذ نقول :

إن كان مؤدّى أدلّة الإحتياط المعنى الأوّل تمّ ما ذكره من عدم معارضة مفاد الآيات المذكورة لها ؛ لأنّ الشارع على هذا الوجه قد بيّن حكم الواقعة وهو وجوب الإحتياط فقد كلّف بالإحتياط مع البيان ولم يكلّف بالواقع الأوّلي لعدم البيان بالنسبة إليه.

وأمّا إذا كان مؤدّاها المعنى الثاني على ما عرفت انّه مختار المصنّف وسيأتي عند تعرّضه لأخبار الإحتياط فإنّها تعارض أكثر الآيات المذكورة إن لم يكن جميعها.

مثلا قوله [ تعالى ] : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) يراد به : لا يكلّف الله [ نفسا ] إلاّ حكما أعلمها. يعني أنّ الحكم غير المعلوم غير منجّز لا يعاقب عليه فيعارض أخبار الإحتياط ؛ لأنّ مفادها ـ على تقدير تماميّتها ـ : أنّ الحكم المجهول منجّز يعاقب عليه.

وكذا قوله [ تعالى ] : ( حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) يعنى : يبيّن لهم الأحكام الواقعيّة وليس أدلّة الإحتياط بيانا لها.

وهكذا قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ ...) الى آخره [ الأنعام : ١٤٥ ].

وقوله [ تعالى ] : ( وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا ... ) إلى آخره [ الأنعام : ١١٩ ] كما لا يخفى.


أقول : الإنصاف : أن تنزيل الآيات المذكورة على ما أفاده قدس‌سره في معناها من إثبات المعذوريّة فيما لا يكون هناك بيان أصلا ـ ولو بعنوان العموم ـ حسبما هو قضية العقل في باب البراءة ، فيكون الآيات مؤكّدة لحكم العقل فيثبت الأصل في المسألة ولا تكون من أدلّتها لا يخلو عن مناقشة.

ثمّ إن هذا على تقدير تسليم دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه شرعا ، ظاهر في مطلق محتمل الإلزام ، أو خصوص محتمل الحرمة. وأمّا على تقدير كون مفادها مطلق الطلب القدر المشترك الشرعي ، أو الإرشادي ، أو خصوص الإلزام الإرشادي في محتمل العقاب والهلاكة الأخرويّة ، فلا يثبت بها على الأوّل ما ينافي دليل البراءة أصلا كما لا يخفى.

كما أنها مورودة بالنسبة إليه مطلقا على الثاني ، فيكون حالها حال حكم

__________________

نعم ، قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) من قبيل ما ذكره بناء على أن مفاده على ما مرّ : ما كنّا معذّبين حتّى نتمّ الحجّة بمعنى قطع العذر من قبلنا وأخبار الإحتياط حجّة بهذا المعنى. وكذا قوله [ تعالى ] : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ) يعني عن حجّة بالمعنى المذكور.

وإن قلنا : بانّ معنى الآية الأولى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ) حتّى نبيّن الواقعيّات ببيان الرّسول كما لا يبعد إرادته ، بل لعلّه ظاهر الآية ، فهي في عرض باقي الآيات تعارض أدلّة الإحتياط ، وهكذا الآية الثانية لو أريد بالبيّنة ما يبيّن الواقع لا ما يقطع العذر » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٥.


العقل في باب دفع الضرر المحتمل كما ستقف على تفصيل القول فيه. فلا بد من حملها على ما لا يجري فيه دليل البراءة من صور العلم الإجمالي ، فلا بد أن يكون مراده قدس‌سره من تماميّة أدلّة الاحتياط ودلالتها هو المعنى الأوّل.

الشبهة التحريميّة أدلّة البراءة / السنّة

(١٠٢) قوله قدس‌سره : ( فإن حرمة شرب التتن ـ مثلا ـ ممّا لا يعلمون ، فهي مرفوعة عنهم ومعنى رفعها ـ كرفع الخطأ والنسيان ـ ... ). ( ج ٢ / ٢٨ )

دلالة ( ما لا يعلمون ) على البراءة فيما لا نص فيه

أقول : ما أفاده في تقريب دلالة الصحيحة (١) على المدّعى ، يتم على أحد وجهين :

أحدهما : أن يريد من الموصول في ( ما لا يعلمون ) خصوص الحكم المجهول.

ثانيهما : أن يريد منه المعنى الأعمّ من فعل المكلّف ـ الذي هو الموضوع ـ

__________________

(١) أقول : ليست الرّواية بتلك المثابة من الصحّة فما عن بعضهم : من ان الحديث صحيح ـ رجاله كلّهم ثقات أمّا احمد العطّار فهو وإن لم يوثّق صريحا في كلمات الرجاليّين المتقدمين لكنّه من مشائخ الصّدوق في عداد ابن الوليد وهو أيضا لم يوثّق ... إلى ما آخر ذكره ـ غير تام إذ لا أحد من مشائخ الصّدوق في عداد ابن الوليد رحمه‌الله كيف وأنّى وهو ابن بجدتها وسابق حلبتها وأمّا احمد بن محمد بن يحيى العطّار فليس بتلك المنزلة ، على أن الخبر لا يخلو من إشكال من جهتين : إحداهما : احتمال الإرسال من جهة حريز. والأخرى : اختلاف المتون المذكورة.


ومن الحكم ـ بناء على جواز إرادتهما معا ـ.

وعلى الأول : يختصّ بالشبهات الحكمية ، وعلى الثاني : يعمّها والشبهات الموضوعيّة ، كما أنه على تقدير إرادة خصوص الموضوع يختصّ بالشبهات الموضوعيّة ، ولا يجوز الاستدلال بها على المدّعى.

كما أنه مبني على أحد الوجهين في المقدّر :

أحدهما : جميع الآثار.

ثانيهما : المؤاخذة من حيث كونها الأثر المناسب على البيان الذي ستقف عليه ونتعرّض له بعد ذلك.

فلا ينافي تقدير ما يقتضي المؤاخذة كإيجاب الاحتياط ونحوه ؛ من حيث كونها أمرا غير شرعيّ هذا.

ولكن قد يتوهّم : أن تقريب الدّلالة لا يتوقّف على تقدير بالنّسبة إلى قوله :( ما لا يعلمون ) (١) (٢) بعد إرادة الحكم من الموصول ؛ فإن تقدير جميع الآثار أو

__________________

(١) التوحيد : ٣٥٣ « بيانه في مشيئة الله » ـ ح ٢٤ ، والخصال : ٤١٧ باب « النهي عن تسعة أشياء » ـ ح ٩ ، عنهما وسائل الشيعة : ج ١٥ / ٣٦٩ باب « جملة مما عفي عنه » ـ ح ١.

(٢) قال الشيخ غلام رضا القمّي في قلائد الفرائد : ( ج ١ / ٣٠٧ ) :

« انّه لا بد من باب دلالة الإقتضاء من تقدير شيء فيه ؛ لانّ هذه الأشياء بأنفسها لم ترفع عن


خصوص المؤاخذة بالنسبة إلى أخواته من فقرات الرّواية ، إنّما هو من جهة دلالة الاقتضاء ولزوم الكذب على تقدير حملها على ظواهرها وهذا المحظور غير متوجّه بالنسبة إلى قوله : ( ما لا يعلمون ) على هذا الفرض ؛ لأن رفع الحكم الشرعي كإثباته شرعا باختيار الشارع وجعله ، فلا يلزم هناك كذب على تقدير إرادة

__________________

هذه الأمّة بالحس والعيان ومحتملات هذا المقدّر أمور ثلاثة :

أحدها : جميع الآثار.

والثاني : هو المؤاخذة في الجميع.

والثالث : ما هو الأثر المناسب في كلّ منها.

وعلى التقادير يتمّ الإستدلال.

أمّا على الاوّلين فواضح. وأمّا على الأخير ، فلأنّ موضوع الإستدلال هو ( ما لا يعلمون ) والأثر المناسب له هو المؤاخذة.

قد يقال : إنّ إرادة الحكم فيما لا يعلمون امر ممكن فلا موجب للتصرّف في ظاهره ، وهذا بخلاف أخواته ؛ فإن نسبة الرّفع اليها كما عرفت غير ممكن ، فلا بدّ من إرتكاب خلاف الظاهر فيها.

وفيه : انّه إن اريد من صلاحيّة نسبة الرّفع إلى الحكم المجهول صلاحيّتها بالنسبة إلى الحكم الثاني فهو فاسد ؛ لأنّه مستلزم للدّور.

مضافا إلى انّه إن كان موجودا فلا يرتفع بالجهل به ، وإن كان معدوما فليس بثابت حتّى يرتفع.

وإن أريد الحكم الفعلي ، فمعلوم أنّ الحكم الفعلي ليس في قبال الحكم الثاني وإنّما هو عينه ، وتسميته بالفعلي إنّما هو من جهة ترتّب المؤاخذة على مخالفته فيرجع إلى رفع المؤاخذة.

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ منشأ الأثر اذا كان قابلا للإرتفاع فهو أولى بالرّفع من أثره هذا » إنتهى.


الظاهر منه. ومجرّد إرادة الخلاف من أخواته بالقرينة العقليّة الصارفة لا يوجب إرادته منه ؛ إذ ليس فيه إلاّ التفكيك في السّياق ، ولا يقاوم ظهوره على تقدير اعتباره وكونه لفظيا ، الظهور المذكور هذا.

ولكنك خبير بفساد التوهّم المذكور ؛ لأن المراد من رفع الحكم إن كان رفعه بحسب الواقع بحيث يكون الحكم الواقعي الثاني مرفوعا عن الجاهل ومختصا بالعالم به ، فهو مناف لنفس الرواية.

مضافا إلى استلزامه للدّور والتصويب ونحوهما من المحذورات. وإن كان رفعه بحسب الظاهر والفعليّة والتنجّز ، فهو راجع إلى ما ذكره لا محالة ؛ لما أسمعناك مرارا عند الكلام في بيان حقيقة الحكم وأقسامه : أن التنجّز والفعليّة من مراتب الحكم الواقعي بالنّظر إلى استحقاق المؤاخذة عليه ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى رفع المؤاخذة وإيجاب الاحتياط المقتضي لها كما لا يخفى.


(١٠٣) قوله قدس‌سره : ( ويمكن أن يورد عليه : بأن الظاهر من الموصول فيما لا يعلمون ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٢٨ )

__________________

(١) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

« وفيه ـ مع تسليم كون ما ذكر قرينة على ذلك ـ : ان الفعل وهو الشرب معلوم ، إنّما المجهول هو موضوعه وما تعلّق به ووقع عليه والجهل به تارة باعتبار حقيقته بحيث لو علمت كان وصفه معلوما كالمائع المردّد بين كونه خمرا أو خلاّ ؛ فإنّ الجهل هنا باعتبار حقيقة هذا المائع بحيث لو ارتفع الجهل بها وعلم كونه خمرا علم وصفه وهو كونه خمرا حراما أو علم كونه خلاّ علم كونه خلاّ حلالا. وتارة باعتبار وصفه مع العلم بحقيقته كالتتن ؛ فإن حقيقته وذاته غير مجهولة إنما الجهل باعتبار وصفه وهو أنّ هذه الحقيقة المعلومة هل هي متّصفة بحلّيّة الشرب أو حرمته والفعل الغير المعلوم الذي فرضه المصنّف موضوعا مجهول بالإعتبارين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة والتخصيص بالشبهة الموضوعيّة دون الحكميّة لا وجه له ، فإذا كان مصداق الموصول هو ارتكاب ما جهل حقيقته أو حكمه مع تبيّن حقيقته فيكون المعنى رفع المؤاخذة على هذا الإرتكاب لو صادف حراما واقعيّا سواء كانت تلك المصادفة في ارتكاب مجهول الحقيقة أو الحكم.

وأمّا إذا كان المراد من الموصول هو نفس الأمر المجهول الحقيقة أو الحرمة ، فلا معنى لتعلّق المؤاخذة به بدون ملاحظة معنى الارتكاب ونحوه مطلقا ، فكما لا معنى للمؤاخذة على نفس الحرام المجهول أو الحرمة ـ كما عبّر المصنّف ـ لا معنى للمؤاخذة على نفس الخمر المجهولة ، فما وقع من المصنّف من التفرقة بين الأمرين وصحّة تعلّق المؤاخذة بالثاني دون الأوّل لا وجه له ، فإن لم يلائم عموم الموصول للحكم بناء على ان المقدّر المؤاخذة على


الوجوه المحتملة في حديث ( ما لا يعلمون )

أقول : توضيح ما أفاده من اختصاص الموصول بالشبهات الموضوعيّة وعدم شمول الحديث الشريف للشبهات الحكمية وبيان الوجه في شموله لها وتنقيح القول في ذلك يحتاج إلى شرح الكلام في محتملات الرّواية ووجوه معانيها.

فنقول : إنه لا إشكال في عدم جواز إرادة الظاهر من نسبة الرّفع إلى التسعة من حيث لزوم الكذب على الشارع بعد فرض وجود التسعة بالوجدان في هذه الأمة ، فلا بد أن يكون المراد بمقتضى العقل بالنظر إلى دلالة الاقتضاء خلاف الظاهر منها ، إمّا بالمجاز في الكلمة ، أو الحذف والتقدير ، أو التصرّف في النسبة (١).

__________________

نفس هذه المذكورات لم يلائم شموله للموضوع أيضا بهذا الإعتبار ، بل لا يصح ، واذا صحّ في الثاني بملاحظة معنى ما يجعله ملائما من الإرتكاب ونحوه صحّ في الأوّل أيضا.

وكيف كان : منع شمول الخبر للشبهة الحكميّة بما ذكر شبهة غير نقيّة » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشّى : ١٩٥.

أقول : وانظر قلائد الفرائد : ج ١ / ٣٠٨ فانّه لا يخلو من فائدة وإن كان الذي جاء في البحر ما عليه من مزيد.

(١) قال المحقق النائيني قدس‌سره :


والأمر العقلي : بأن يريد من نسبة الرّفع إليها رفع غيرها مما يأتي من الوجوه ، كما هو الشأن في أمثال ذلك كنسبة النقض إلى المتيقّن في الأخبار الواردة في عدم

__________________

« ربّما يتوهّم : أنّ رفع الخطأ وغيره حيث لا يمكن حقيقة فلا بد من التقدير من باب دلالة الإقتضاء ، وقد اختلف في بحث دلالة الإقتضاء في أنّ المقدّر إذا دار أمره بين الخصوص أو العموم ، أو الأخذ بأظهر الخواص أو الحكم بالإجمال وعليه : فيقع النّزاع في أنّ المقدّر في المقام ما هو؟ فهل هو خصوص العقاب أو تمام الآثار ، أو أظهرها ، أو يحكم بالإجمال؟

ولكنّه لا يخفى فساد هذا التوهّم ؛ فإنّه يبتني على كون المراد من الرّفع هو الرّفع الخارجي حتى تتوقّف صحّة الكلام على التقدير ، وأمّا اذا كان المراد منه الرفع في عالم التشريع فلا يحتاج إلى تقدير شيء أصلا » إنتهى. أجود التقريرات : ج ٣ / ٢٩٦.

وقال أيضا « الغرض في المقام مجرّد بيان أنّ دلالة الإقتضاء لا تقتضي تقديرا في الكلام حتى يبحث عمّا هو المقدّر » إنتهى. أنظر فوائد الأصول : ج ٣ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣.

* وعلّق المحقق العراقي قدس‌سره على كلام النائيني المزبور قائلا :

« يا ليت أمثال هذه البيانات بتوقيع أو وحي! إذ لو كان المراد من الرفع التشريعي تشريع رفع هذه الأمور حقيقة فهو غلط ، وإن كان الغرض جعل الشارع رفعها تنزيلا فهو يناسب مع الإخباريّة أيضا وإن كان الغرص عدم جعلها في موارد أحكامه وتشريعاته فهو رفع حقيقي لهذه الأمور في دائرة أحكامه لا مطلقا ، فلا يخرج هذا الرّفع أيضا عن التكوين غايته في مورد خاص إذ مرجع هذا المعنى إلى رفع الخطأ حقيقة في الشرعيّات وهكذا ، فهو عين الرفع الحقيقي لها غاية الأمر لا مطلقا وهذا المعنى أيضا قابل للإخبارية فلا يبقى في البين إلا توهّم تشريع الرّفع بجعله غير ما ذكرنا وعليه بشرحه وهذا الذي لا نفهم له معنى محصّلا » إنتهى.


جواز نقض اليقين بالشك على وجه يأتي الإشارة إليه في باب الاستصحاب ، كالتحريم المنسوب إلى الأعيان ونسبة السؤال إلى القرية في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (١) إلى غير ذلك.

وإن كان الأظهر من هذه الوجوه : الأخير منها عند الدوران وعدم قيام القرينة على إرادة غيره كما برهن عليه في محلّه.

ثمّ بعد البناء على التصرّف في النسبة أو التقدير فهل يجعل المنسوب إليه في المقام أو المقدّر جميع الآثار والأحكام ، واللّوازم أو الأثر المناسب ، وإن اتفق كونه المؤاخذة بالنسبة إلى بعضها أو المؤاخذة عليها لا من حيث كونها أثرا مناسبا لها؟ وجوه.

وهذا نظير ما ذكروا في نسبة التحريم إلى الأعيان ؛ من أن المراد : تحريم جميع الأفعال المنسوب إليها ، أو خصوص ما كان مناسبا ومقصودا منها في العادة.

ثمّ الموصول في قوله عليه‌السلام : ( ما لا يعلمون ) على ما عرفت الإشارة إليه يحتمل أن يكون المراد منه : خصوص الموضوع ، أو خصوص الحكم ، أو الأعمّ منهما ، والاستدلال بالرّواية مبنيّ على أحد الوجهين الأخيرين ؛ إذ على الأول :يخرج عن محل البحث من غير فرق بين محتملات المختار ومحتملات المقدّر كما هو ظاهر.

وبعد ذلك نقول : لا إشكال في بعد إرادة المعنى الثالث ، أي : المعنى الجامع

__________________

(١) يوسف : ٨٢.


بين الموضوع الحكم ، بل قد يقال بعدم إمكانه ؛ لعدم الجامع بين نسبة عدم العلم إلى الحكم والموضوع. فإنّ المراد من عدم العلم بالحكم : عدم العلم بذاته ، ومن عدم العلم بالموضوع عدم العلم بعنوانه ، أي : عدم العلم بكونه من مصاديق الحلال أو الحرام من حيث كونه مردّدا بينهما ، وإلاّ فذاته معلومة فتدبّر.

وكيف كان : لا إشكال في توقّف إرادته على تكلّف بعيد وتمحّل بارد ، فلا يحمل اللّفظ عليه ، فمبني الاستدلال على إرادة المعنى الثاني فيدور الأمر بينه وبين المعنى الأوّل.

والذي يقرّ به ويبعّد المعنى الثاني أمور :

أحدها : ظهور كون المراد من الموصول في ( ما لا يعلمون ) ما أريد من أخواته من الفقرات المذكورة في الرواية لوحدة السياق. ولا إشكال في كون المراد منها : الموضوع. أعني : فعل المكلّف. أمّا بالنسبة إلى غير الخطأ والنسيان فظاهر ، وأمّا بالنّسبة إليهما فلأن إرادة الخطأ والنسيان بالنسبة إلى الحكم يحتاج إلى تكلّف. مع أنه على تقدير إرادته يراد من حيث إنه فعل المكلّف بالنسبة إلى الخطأ فتدبّر.

ثانيها : أن الظاهر من محتملات المقدّر هو الثالث. أي : المؤاخذة على المذكورات لا من حيث كونها أثرا لها ولا معنى للمؤاخذة على الحكم ؛ ضرورة كونه فعل الشارع.


نعم ، على تقدير إرادة الأثر المناسب أو جميع الآثار يسقط الاستدلال بهذا الوجه ؛ إذ كما إن ارتكاب الحرام له دخل وتأثير في استحقاق المؤاخذة ، كذلك للنهي الصادر من الشارع دخل وتأثير في الاستحقاق فيصحّ نسبة الرفع إلى المؤاخذة من حيث كونها من آثارها كما هو واضح.

والمعنى الأول وإن كان أقرب اعتبارا إلى المعنى الحقيقي ؛ ضرورة كون الموجود الذي لا يترتّب عليه أثر الوجود أصلا ، أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي يترتّب عليه الأثر في الجملة ، إلاّ أنه قرب اعتباريّ لا عرفيّ ، ولذا لم يجعل في باب الاستعارة وجه الشبه جميع آثار المستعار منه ولوازمه ، بل ما يظهر منه عرفا ويساعد عليه العرف بحسب الموارد.

وأمّا المعنى الثاني ؛ فهو وإن كان أقرب عرفا في نفسه بالنّسبة إلى المعنى الأوّل ، إلاّ أن الظاهر في خصوص المقام المعنى الثالث ؛ فيتعين إرادة الموضوع من الموصول على ما عرفت.

لا يقال : إنّما ذكر إنما يستقيم لو جعل المقدّر نفس المؤاخذة ، وسيجيء : أنه لا مناص من تقدير حكم شرعي قابل للرفع على كل تقدير ، وهو وجوب التحفّظ بالنسبة إلى الخطأ والنسيان ، والاحتياط بالنسبة إلى ( ما لا يعلمون ) إلى غير ذلك. فنسبة الرّفع إلى المؤاخذة ، إنّما هي من حيث كونها من آثار وجوب الاحتياط بحكم العقل ، سواء فرض مورده الحكم الشرعي المشتبه أو الموضوع المشتبه من غير فرق بينهما.


لأنّا نقول : المرفوع أوّلا وبالّذات وإن كان وجوب الاحتياط في ( ما لا يعلمون ) ويترتّب عليه قهرا استحقاق المؤاخذة على الحرام الواقعي ـ على ما ستقف على شرح القول فيه ـ إلاّ أنه لا يتفاوت الأمر في الظهور الذي ادعيناه ، لأنا نقول : الظاهر من الرواية رفع وجوب الاحتياط بالنسبة إلى ما لولاه ، لاستحقّ المكلّف المؤاخذة عليه فينطبق مورده على فعل المكلف ولا يشمل الحكم كما هو ظاهر.

ثالثها : لزوم التقييد على تقدير إرادة الحكم بما بعد الفحص ؛ ضرورة اشتراط الفحص في الرجوع إلى الأصل في الشبهة الحكمية ـ على ما ستقف على تفصيل القول فيه ـ وهذا بخلاف إرادة الموضوع ؛ فإنه لا يلزمها تقييد أصلا.

رابعها : أن تعميم الموصول يوجب التخصيص في أدلّة الآثار والأحكام المترتبة على التسعة فلا بد من الحكم باختصاص الحديث برفع المؤاخذة حتى لا يوجب التخصيص فيها.

وقد يناقش فيه : تارة : بأن ذلك إنما يستقيم فيما لو كان تقدير المؤاخذة متيقنا على كلّ تقدير ، وإلاّ فللخصم أن يقول بتقدير الأثر المناسب ، أو دوران الأمر بينه وبين تقدير المؤاخذة. اللهم إلا أن يفرض كون تقدير المؤاخذة أظهر بالنّسبة إليه عند الدوران.

وأخرى : بأن ذلك إنّما يستقيم ويفيد فيما حكم بإجمال الحديث والرجوع إليها بعد الإجمال لا لإثبات ظهور الحديث.


اللهم إلاّ أن يريد أن يتمسّك بظهوره لرفع إجماله وهو محلّ كلام ، فيما لو ورد هناك عام وورد دليل منفصل مجمل يوجب تخصيصه على تقدير ولا يوجبه على تقدير آخر ، كما إذا ورد من المولى أمر بإكرام العلماء وورد منه نهي عن إكرام زيد ، وكان مشتركا بين عالم وجاهل ؛ فإنه لا إشكال في أن إجماله لا يسري في ظهور العام ، وأمّا سراية ظهوره في إجماله ورفعه ، والحكم بأنه ظاهر ؛ من جهة أصالة العموم في إرادة الجاهل فهو محل تأمّل.

ومن هنا أمر شيخنا قدس‌سره بالتأمّل (١). وإن كان الأظهر عندنا رفع العموم للإجمال ، لكن لا بدّ أن يعلم أن المقام من قبيل ما ذكرنا من المثال ، لا من دوران الأمر في المخصّص بين ما يوجب قلّة التخصيص وكثرته ، كما أفاده شيخنا في « الكتاب » بقوله : « فإن المخصّص إذا كان مجملا ... الى آخره » (٢) فإن الحقّ فيه عندنا وعنده قدس‌سره التفصيل بين المخصّص المتصل والمنفصل فيما إذا كان مجملا بحسب المفهوم كما حققناه في مسألة التخصيص بالمجمل.

خامسها : أن الحكم بعمومها يوجب التخصيص فيها من حيث عدم ارتفاعها بالنسيان والخطأ وغيرهما. وقد حكم شيخنا قدس‌سره بكونه أبعد من سابقه ؛ من حيث كونه ناشئا عن عدم تحصيل معنى الرواية كما هو حقّه ؛ فإنه مبني على توهّم عدم

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٠.

(٢) نفس المصدر : ج ٢ / ٣١.


الفرق على العموم بين الآثار الشرعيّة وغيرها ، وكذا ما يترتّب في الشرع على ذات الفعل ، أو عليه بوصف النسيان والخطأ وسيجيء ما هو المراد على تقدير العموم ، وفساد ما توهّم من عدم الفرق هذا.

مضافا إلى أن الرّواية إن كانت ظاهرة في عموم المرفوع ، لا توجب طروّ التّخصيص صرفها عنه ، وإن لم تكن ظاهرة فيه لا يوجب ظهورها في غيره فتدبّر.

سادسها : تقييد رفع الحسد والتفكّر في ذيل الرّواية ، بعدم الإظهار ؛ فإنه يناسب إرادة رفع المؤاخذة عنهما فيكون المقدّر في غيرهما ذلك أيضا فتدبّر.

هذا بعض الكلام فيما يقتضي ظهور الرّواية في إرادة الموضوع من الموصول.

في بيان إرادة الشبهة الحكمية

من حديث ( ما لا يعلمون )

وأمّا ما يقتضي إرادة الحكم منه أو يوجب وهن إرادة الموضوع منه فأمور :

أحدها : نسبة عدم العلم إلى نفس الموصول ، وهي تقتضي إرادة الحكم منه ؛ إذ على تقدير إرادة الموضوع على ما عرفت ، لا بد أن يتوسّع في النسبة ويراد منها : عدم العلم به باعتبار عنوانه.

فإن شئت قلت : المراد من الموصول الشيء المجهول والمشتبه. وفعل المكلف ليس فيه اشتباه بالنظر إلى ذاته ، وإنّما الاشتباه فيه من حيث كونه حلالا أو


حراما أي : مصداقا لعنوان علم حرمته ، أو مصداقا لعنوان علم حلّيّته وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى أخواته ؛ فإنّ مورد الخطأ أو النسيان أو الإكراه أو الاضطرار نفس فعل المكلّف ، وهذا الظهور أقوى من ظهور وحدة السياق على تقدير اعتباره وكونه لفظيّا يعتمد عليه في المحاورات في تفهيم المراد عند أهل اللسان والعرف ، وإن كانت نسبته رفع المؤاخذة إليه من حيث كونه سببا له لا من حيث كونه موردا على هذا التقدير ، إلاّ أنه لا مناص منه بعد ملاحظة الظهور المذكور فتدبّر.

ثانيها : إرادة غير المؤاخذة من النبوي في رواية « المحاسن » (١) المذكورة في « الكتاب » (٢) فإن المراد من اللزوم في السؤال هي صحّة الحلف بحيث يترتّب عليه الحنث وسائر أحكامه كما هو ظاهر ، فحكم الإمام عليه‌السلام بعدم الصحّة واللّزوم ، استشهادا بالنبويّ يدلّ على عدم اختصاص المرفوع بالحديث الشريف بالمؤاخذة فيعمّ جميع الآثار ؛ إذ لا واسطة كما هو ظاهر ، فيسقط ظهور الرّواية في الشبهة الموضوعيّة ، بل مورد الرّواية السؤال عن حكم الواقعة من حيث كون الشك فيه إن كان موردا لإكراه الحلف فتأمل.

والحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك وإن كان باطلا عند الإمامية في

__________________

(١) المحاسن : ج ٢ / ٣٣٩ ـ ح ١٢٤ ، الوسائل : ج ٢٣ / ٢٢٦ باب « جواز الحلف باليمين الكاذبة للتقية » ـ ح ١٢.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٩.


حالة الاختيار أيضا ؛ حيث إنه لا بد من الحلف بالله ، إلاّ أن الاستشهاد بالنبويّ يدلّ على ما ذكرنا.

ودعوى : كونه نبويّا آخر بعيد. كما أن القول بالتعميم ـ في خصوص الثلاثة من التسعة أيضا ـ بعيد من حيث لزوم التفكيك بين الفقرات وهو المراد من أمر شيخنا قدس‌سره بالتأمّل (١).

ثالثها : أن تخصيص المرفوع باستحقاق المؤاخذة يوجب عدم اختصاص المرفوع بهذه الأمة ، وهو خلاف ظاهر الحديث الشريف ؛ فإن سوقه في مقام الامتنان على الأمة المرحومة من جهة نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حيث كونه أشرف الأنبياء قدرا وأعلاهم درجة وأفضلهم عند الله تبارك وتعالى.

بيان الملازمة : أنّ المؤاخذة على كثير ممّا ذكر في الرواية كالخطأ والنسيان وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، وما أكرهوا عليه ، قبيحة بحكم العقل من غير فرق بين الأمم ، فلا بد من الحكم بتعميم المرفوع حتى يكون رفع جميع الآثار من خواصّ الأمة المرحومة. وإن كانت المؤاخذة مرفوعة من جميع الأمم فيسقط ظهور الرواية عن الاختصاص بالشبهة الموضوعيّة ؛ لابتنائه على تخصيص المرفوع بالمؤاخذة.

ودعوى : كون الاختصاص بالأمة المرحومة مع تقدير خصوص المؤاخذة

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٠.


باعتبار مجموع التسعة من حيث المجموع ، وإن كانت المؤاخذة على أكثرها مرفوعة من جميع الأمم مما تضحك به الثكلى كما لا يخفى هذا.

وقد تفصّى شيخنا الأستاذ العلامة قدس‌سره عن هذا الإشكال ـ على تقدير اختصاص المرفوع بالمؤاخذة بعد النقض بالكتاب العزيز ؛ فإن صريحه استيهاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة المعراج المؤاخذة على النسيان والخطأ ونحوهما ممّا هو مورد الإشكال في الحديث ، بقوله تعالى : ( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) (١) بقوله : « لكن الذي يهوّن الأمر في الرّواية جريان هذا الإشكال في الكتاب العزيز أيضا ... إلى آخره ) (٢) ـ :بمنع قبح المؤاخذة على الأمور المذكورة بقول مطلق في حكم العقل ، وإنّما تقبح عليها في الجملة فيحمل الآية على تقدير الاختصاص بتقدير المؤاخذة على إرادة رفعها عن هذه الأمّة بقول مطلق ؛ حيث إنّ المؤاخذة على النسيان والخطأ الصّادرين عن ترك التحفّظ لا قبح فيها عقلا ، وكذا العقاب على ما لا يعلم مع إمكان الاحتياط وكذا التكليف الشّاق الناشىء عن اختيار المكلّف بقوله : « والذي يحسم أصل الإشكال مع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على هذه الأمور بقول مطلق إلى آخر ما أفاده » (٣).

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٠.

(٣) المصدر السابق : ج ٢ / ٣٠.


ولكن قد يناقش فيما أفاده ـ بالنسبة إلى ( ما لا يعلمون ) ـ : بأن مورد حكم العقل بقبح المؤاخذة على « ما لا يعلمون » إنّما هو فيما أمكن فيه الاحتياط كما ستقف على تفصيل القول فيه عند الاستدلال في الدليل العقلي على البراءة في « الكتاب ».

فلو بدّل قوله قدس‌سره : « مع إمكان الاحتياط » (١). بـ « مع إيجاب الاحتياط » كان سليما عن المناقشة فلعلّه سهو من قلمه الشريف.

نعم ، لو كان الدليل العقلي على البراءة ما توهّمه السيّد أبو المكارم : من قبح التكليف بما لا يطاق ، كان ما أفاده قدس‌سره صحيحا وسليما عن الإيراد ؛ فإن إمكان الترك يرفع موضوع القاعدة المذكورة ، لكنّه توهّم أفسده قدس‌سره فيما سيأتي من كلامه ، فتدبّر.

وكذا ما أفاده بالنسبة إلى ( ما لا يطيقون ) ؛ لأنه إن أريد من التكليف الشاق التكليف بغير المقدور لم يكن فرق في قبحه عقلا بين ما كان مسبّبا عن اختيار المكلف وغيره كما برهن عليه في محلّه ، وإن زعم بعض التفصيل فيه على خلاف التحقيق الذي بني الأمر عليه وفاقا للمحقّقين ، وإن كان المراد منه ـ كما هو صريح قوله : « والمراد بما لا يطاق في الرواية ما لا يتحمّل عادة » (٢) ـ التكليف بالأمر

__________________

(١) المصدر السابق : ج ٢ / ٣١.

(٢) المصدر السابق بالذات.


الحرجيّ المتعسّر فلا قبح فيه أصلا عنده وعند المشهور كما بيّن في محلّه.

كيف! وهو واقع في الشرعيّات في الجملة ، وإن زعم بعض مشيخة (١) شيخنا خلافه في « عوائده » متخيّلا : ( أنّ رفع الحرج عقلي وأن الواقع في الشرعيّات من التكاليف بالأمور العسرة كالجهاد ونحوه ليست من التكليف بالأمر الحرجي بعد ملاحظة زيادة الأجر والثواب عليه ) (٢).

فالحق أن نقول : مع قبح التكليف عقلا بالأمر الحرجي مطلقا : إنّ الرواية من أدلّة نفي الحرج شرعا كقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٣) وقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (٤) ونحو ذلك هذا.

وكذا يقال بالنّسبة إلى باقي التسعة ؛ فإنّ المؤاخذة عليه مما لا يحكم العقل بقبحه حتى في مورد الإكراه والاضطرار.

فإن المراد من الأوّل : ليس الفعل الصّادر عن إجبار بحيث يرتفع الاختيار عن المكره بالفتح ، بل المراد به : ما يوقعه المكره اختيارا خوفا من المكره بالكسر ، ولذا وقع التكليف به في الشرعيّات كما في الزّنا ونحوها.

__________________

(١) هو الفقيه المحقّق الشيخ أحمد النراقي المتوفي سنة ١٢٤٥ ه‍. ق.

(٢) عوائد الأيّام : ١٩٠ ـ ١٩١ ، العائدة : ١٩.

(٣) الحج : ٧٨.

(٤) البقرة : ١٨٥.


ومن الثاني : ليس الاضطرار الرافع للاختيار ، بل ما يختاره الفاعل لضرورة داعية إليه كأكل مال الغير ، والميتة فيما لو انحصر التعيّش به ، أو التداوي بالمحرّمات على القول بجوازه ، ونحو ذلك.

ودعوى : اقتضاء اللّطف تجويز ذلك على الحكيم تعالى ورفع المؤاخذة عنه كما ترى. وكذا المؤاخذة على الحسد من دون إظهار واستعمال ، وكذا الوسوسة في التفكّر ، وعلى الطيرة ليست ممّا يحكم العقل بقبحها قطعا (١) ، بل لم يتوهّمه أحد جزما.

هذا بعض الكلام في الحديث الشريف المتعلّق ببيان المراد منه من حيث إرادة خصوص الموضوع من الموصول في قوله : ( ما لا يعلمون ) حتى لا يجوز الاستدلال به ، أو الحكم حتى يكون من أخبار المقام ومحلّ البحث.

الكلام في سائر مفردات الحديث الشريف

ونتبعه بالتكلّم في مواضع أخر متعلّقة ببيان المراد من الحديث الشريف تبعا لشيخنا قدس‌سره.

الأوّل : أنّ الآثار والأحكام الشرعيّة المترتّبة على الأفعال بالمعنى الأعمّ من الترك لا يخلو الأمر فيها من وجوه ثلاثة ؛ لأنها :

__________________

(١) لكنها لا تليق بشأن الانبياء قطعا.


إمّا مترتّبة بظاهر دليلها على الفعل اللابشرط ، أي : الفعل من حيث هو من دون أخذ العمد والذكر والخطإ النسيان والعلم والجهل ونحوها فيه ، كما هو الغالب في أكثر الأحكام والآثار الشرعيّة المترتّبة على أفعال المكلّفين.

وإمّا مترتّبة على الفعل من حيث أخذ وصف التعمّد والذكر ونحوهما فيه ، أي : الفعل بشرط هذه الأوصاف كالقصاص المترتّب على تعمّد القتل مثلا ، والكفارة المترتّبة على الإفطار عمدا في نهار رمضان ، وبطلان الصلاة المترتّب على الصلاة في النجاسة مع العلم بها وهكذا.

وإمّا مترتّبة على الفعل بشرط الخطأ والنسيان والشكّ ونحوها من الأوصاف كالدّية المترتّبة على القتل الصادر خطأ وسجدتي السهو المترتّبين على النقص أو الزيادة الصادرين سهوا ، أو الشكّ بين الأربع والخمس بعد الفراغ عن السجدتين ورفع الرأس منهما ، وصلاة الاحتياط المترتّبة على الشك في الركعات وهكذا.

ثمّ على القول بعموم المرفوع لجميع الآثار في الحديث الشريف المسوق لبيان الامتنان على العباد ، وحكومته على أدلّتها كدليل نفي الحرج والضّرر ونحوهما ، يحكم بحكومته على القسم الأول ؛ إذ هو الذي يقبل للشرح والتفسير والبيان. وأما القسمان الآخران فلا تعرّض للحديث لبيان حالهما أصلا ، بل لا معنى له جزما ؛ إذ القسم الثاني منتف بانتفاء موضوعه في صورة عروض الحالات


المذكورة في الحديث. والقسم الثالث يثبت موضوعه بعروض الحالات المذكورة بحيث لا يكون له موضوع بالفرض إلاّ في صورة عروض الحالات ، فكيف يجعل الحديث شارحا له وموجبا لحمله على غير صورة عروض الحالات؟ وإن هو إلاّ طرحه رأسا والمفروض ثبوته. مضافا إلى ما عرفت : من كونه خلاف معنى الحكومة وهذا أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا كما لا يخفى.

إنقسام اللّوازم والآثار المترتّبة على الأفعال

الثاني : أن اللّوازم والآثار المترتّبة على الأفعال تنقسم باعتبار آخر إلى أقسام : فإنها إمّا أن تكون شرعيّة ، أو عقليّة ، أو عاديّة ، وعلى الأول : لا يخلو الأمر فيها إمّا أن يكون ترتّبها على الفعل ترتّبا أوّليّا ومحمولا له من دون توسيط أمر آخر ؛ إمّا أن يكون ترتبها عليه بتوسيط أمر لازم عقلي للفعل ، أو عاديّ له ، وعلى القول بعموم المرفوع في الحديث إنّما يحكم برفع خصوص المحمولات الشرعية التي حملت على الأفعال في الأدلّة الشرعيّة أوّلا وبالذات من دون توسيط أمر آخر فلا يحكم بعمومه لغير الآثار الشرعيّة من العقليّة والعاديّة.

كما أنه لا يحكم بعمومه لما كان من الآثار الشرعيّة مترتبة عليها بواسطة أحدهما ؛ لأن الظاهر من رفع الشارع من حيث إنه شارع لآثار الفعل إنّما هو رفع ما كان ثبوتها له بجعله وكان موضوعا لها بحسب جعله لا مطلقا.


نعم ، لو كان هناك أثر عقليّ ، أو عاديّ مترتّب على الأثر الشرعي المترتّب على الفعل الذي حكم برفعه ، يحكم بارتفاعه قهرا من حيث ارتفاع موضوعه. وهذا نظير ما سنذكره في باب الاستصحاب في جانب الإثبات : من أن الثابت بأخباره هو جعل خصوص ما كان من الأحكام الشرعيّة المترتّبة على المستصحب بلا واسطة في مرحلة الظاهر ، لا الآثار العقليّة والعادية ولا ما يترتّب عليهما من الآثار الشرعيّة إلاّ ما كان من اللوازم الغير الشرعيّة مترتّبا على الآثار الشرعية الثابتة ولو في مرحلة الظاهر لتحقّق موضوعها قهرا بجعل الشارع.

ومن هنا يحكم بعدم الفرق فيما كان المستصحب حكما شرعيّا بين لوازمه ؛ فإن المراد من هذا هو ما كان الموضوع لما فرض لازما عقليّا أو عاديّا الأعمّ من الحكم الواقعي والظاهري كما ستقف على تفصيل القول فيه في بابه.

فإن قلت : ما ذكر إنّما يسلّم في باب الاستصحاب من حيث إن الشارع في مقام الجعل والتشريع لا يجعل غير الأحكام الشرعيّة لا في مثل المقام الذي يرجع فعل الشارع فيه إلى الإخبار لا الإنشاء ؛ ضرورة رجوع الرفع إلى بيان عدم شمول دليل الحكم وعدم إرادة العموم منه ، أو قصور المقتضي لثبوته لإثباته كما يكشف عنه قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (١) ونحوه.

__________________

(١) الحج : ٧٨.


ومن هنا ذكروا أن مرجع النسخ إلى بيان الانتهاء ، ولا يعقل له معنى آخر ؛ إذ الشيء سواء فرض ثابتا أو منفيّا لم يمكن تعلّق الرّفع به كما هو ظاهر. فإذن لا مانع من إخبار الشارع من عدم ثبوت غير الأحكام الشرعيّة.

قلت : رجوع الرفع إلى الإخبار عما ذكر أمر لا نمنعه ، إلاّ أنّا نقول : إخبار الشارع من حيث إنه شارع لا بدّ وأن يرجع إلى الإخبار عن كيفيّة حكمه الشرعيّ ؛ إذ كما أن إنشاءه يحمل على ذلك مع أنّ إيجاده التكويني يتعلّق بكلّ شيء ، كذلك إخباره بهذه الملاحظة لا بد وأن يحمل على ما ذكر. فإذا أخبر مثلا عن رفع الحكم الثابت شرعا بمقتضى دليله للفعل إذا صدر نسيانا فلا محالة يحمل على الإخبار عن مقتضى دليل الحكم المثبت له في الموضوع المذكور ابتداء ، فلا فرق إذن بين الإنشاء والإخبار في التعلق بالمحمول الشرعي الأولي للأفعال.

فإن قلت : على ما ذكرت في المراد من الرواية وبيان معناها في طي الأمرين على تقدير إرادة العموم ليس هنا معنى محصّل لها بالنسبة إلى ( ما لا يعلمون ) بل بالنّسبة إلى غيره أيضا ـ على تقدير اختصاص الرواية برفع المؤاخذة ـ لأن استحقاق العقوبة مضافا إلى كونه من الأحكام والآثار العقليّة مترتّب على عنوان المعصية الذي لا يتحقّق إلاّ مع العلم والعمد ، فليس بالنسبة إلى ( ما لا يعلمون ) أثر شرعي مترتّب على الفعل اللابشرط. وأمّا نفس المؤاخذة فليست من الآثار أصلا ، بل هي فعل المؤاخذة. نعم ، الحرمة الواقعيّة حكم شرعي مترتّب على


الفعل اللاّ بشرط أوّلا وبالذات ، إلاّ أن الحكم برفعه عن مورد الشك يلزم تخصيصه بصورة العلم ، وهو بالنسبة إلى الشبهة الحكمية محال ، ومناف لنفس الحديث. وبالنسبة إلى الشبه الموضوعيّة مناف لنفس الحديث ؛ فإنّه يوجب أن يكون الموضوع المردّد حلالا واقعيّا ، مع أنّ المدّعى الذي يريد إثباته بالرواية كونه حلالا ظاهريّا.

قلت : المرفوع بالحديث الشريف بالنسبة إلى ( ما لا يعلمون ) وغيره ليس استحقاق المؤاخذة والعقوبة أوّلا وبالذات ؛ حتى يتوجّه عليه السؤال المذكور ، بل المرفوع أوّلا وبالذات أمر شرعيّ يترتّب على رفعه رفع الأثر العقلي المزبور وهو ممّا لا غبار عليه حسبما عرفت في طي الأمر الثاني. وهذا الأمر الشرعي المرفوع أوّلا وبالذات هو إيجاب التحفّظ والاحتياط لا نفس الحكم الواقعي حتى يلزم على رفعه المحذور المزبور على كلّ تقدير.

فإن قلت : لا معنى لجعل المرفوع أوّلا وبالذات هو إيجاب الاحتياط ، أمّا أولا : فلأنه مبنيّ على تسليم دلالة أخبار الاحتياط على وجوبه عموما وهو ممنوع. وأمّا ثانيا : فلأنّ وجوب الاحتياط على تقدير ثبوته مترتّب على الشك في الحكم الإلزامي واحتمال الحرمة لا على المشكوك والفعل اللاّبشرط فوجوب الاحتياط وإن كان حكما شرعيّا إلاّ أنّه مترتّب على الفعل بشرط الجهل وعدم العلم.


قلت : جعل المرفوع إيجاب التحفّظ والاحتياط لا يتوقّف على قيام دليل على ثبوته في الشرعيّات ، بل يكفي وجود المقتضي لثبوته على ما سننبّه عليه من كون المراد من الرفع ما يشمل الدفع ، وبعد ذلك نقول : إنّ الحرمة الواقعيّة مثلا المنبعثة عن المفسدة الملزمة الكامنة في ذوات الأفعال المأخوذة بالعنوان اللابشرطي اقتضت إيجاب الشارع لا متثالها وإطاعتها مطلقا ومن حيث رعاية وجودها الواقعي والنفس الأمري من غير فرق بين قيام الطريق إليها وعدمه ، فمقتضاه إيجاب الشارع للاحتياط عند احتمال وجودها ، فإذا أخبر الشارع بقوله : ( رفع ما لا يعلمون ) عن عدم رعاية تمام الرعاية ، علم عدم إيجابه الاحتياط عند الشكّ في الحكم الإلزامي. فالمرفوع حقيقة مقتضى الحرمة الواقعيّة المحمولة على الفعل اللابشرط لا نفسها ؛ حتّى يتوجّه عليه ما ذكر في طيّ السؤال ، فيحكم بارتفاع إيجاب الاحتياط من حيث إنّه من مقتضيات الإلزام الواقعي المحمول على الفعل المأخوذ بالعنوان التجريدي المعرّى عن العلم والشك ، فكان المرفوع الحكم الواقعي بحسب بعض مراتبه وهو تنجزّه وإن لم يكن التنجّز ـ على ما أسمعناك مرارا ـ حكما مجعولا للشارع في قبال الحكم الواقعي الثاني.

فالمرفوع ما كان له مقتضى الثبوت ، لا الثابت فعلا بحسب قيام الدليل عليه ؛ فإن الدليل على الحكم الواقعي لا يمكن إثباته للمعنى المذكور ودلالته عليه وجعله طريقا إليه مع الشكّ وإن كان الحكم الواقعي على تقدير ثبوته في نفس


الأمر ثابتا واقعا ومرادا عن المكلّفين كذلك. والفرق بينهما أي : الدلالة والثبوت النفس الأمري والإرادة الواقعيّة لا يكاد أن يخفى.

وعلى ما ذكرنا يحمل قوله قدس‌سره في الجواب : « وحينئذ إذا فرضنا أنه لا يقبح في العقل أن يوجّه التكليف بشرب الخمر على وجه يشمل صورة الشك فيه ... إلى آخره » (١).

فإن المراد منه عدم إيجاب الشارع امتثال الحكم الواقعي بقول مطلق ، لا التوجيه من نفس الخطاب المتعلّق بشرب الخمر فإن ثبوت الحكم في مرحلة الواقع تابع للخمر الواقعي وجعله دليلا عليه مع الشك وطريقا إليه محال لا يمكن تصرّف الشارع فيه أصلا.

كما أنه المراد بقوله بعد ذلك : « وإلا فليس في التكاليف ما يعمّ صورة النسيان ... إلى آخره » (٢).

فإن العموم بمعنى الثبوت النفس الأمري لا يمكن إنكاره ، والذي يقبح عقلا هو إيجاب امتثاله مطلقا حتى مع النّسيان الصّادر عن ترك التحفّظ الذي لا ينفكّ عن الطبيعة الإنسانية فينطبق مع المراد بالتوجيه في العبارة المتقدّمة. هذا على تقدير عدم دليل على وجوب الاحتياط مطلقا حتى في الشبهات البدويّة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٣.

(٢) المصدر السابق : ج ٢ / ٣٤.


وأمّا على تقدير قيام دليل عليه فيمكن جعل الحديث مخصّصا له بما إذا كان هناك علم إجماليّ بالتكليف فيخرج عن المعنى الذي ذكرنا ، أعني : حكومة الحديث على أدلّة أحكام الموضوعات. هذه غاية ما يقال في الجواب عن السّؤال وشرح ما أفاده في المقام ، وإن بقي في النفس مع ذلك شيء.

ثمّ إنه قدس‌سره فرّع على ما أفاده من الجواب عن السؤال : بأن المرفوع أوّلا وبالذّات حكم شرعي يترتّب عليه رفع الأمر الغير الشرعي دفع الإيراد الموارد على المتمسّك بالحديث الشريف في الحكم بصحّة العبادة المنسيّ عنها بعض أجزائها أو شرائطها من حيث إنّ وجوب الإعادة إن سلّم كونه أمرا شرعيّا مترتّب على مخالفة المأتي به للمأمور به وهي ليست أمرا شرعيّا ، فلا يجوز التمسّك بالحديث الشريف لإثبات الصحّة عند نسيان بعض ما يعتبر في العبادة ، لما عرفت :من أن المرفوع أوّلا وبالذّات لا بد أن يكون شرعيا ببيان : أن المرفوع أوّلا وبالذّات في المقام أمر شرعيّ أيضا يترتب عليه ارتفاع سبب الإعادة وهي شرطية المنسيّ ، أو جزئيّته ؛ فيصحّ التمسّك بالحديث الشريف ، وجعل الأصل بمقتضاه الحكم بصحّة العبادة مع نسيان بعض أجزائها ، أو شرائطها كما صنعه بعض الأصحاب ، ثمّ أمر بالتأمّل وبيّن الوجه فيه في مجلس البحث وجعله كون الشرطيّة والجزئيّة من الأحكام الوضعيّة التي ليست مجعولة عنده وفاقا للمحققين فالإيراد في محلّه.

ودعوى : أنها وإن كانت غير مجعولة لكنّها منتزعة عن الأحكام التكليفيّة فالمرفوع أوّلا وبالذات الأمر بالمركّب المشتمل عليهما ويترتّب على رفعه ارتفاع المخالفة المذكورة.


فاسدة جدّا ؛ لأن مجرّد ارتفاع الأمر بالمركّب المشتمل عليهما لا يقتضي تعلّق الأمر بالمركّب الخالي عنهما.

بل التّحقيق ـ كما ستقف على تفصيل القول فيه عند الكلام في « تنبيهات الأقلّ والأكثر » (١) ـ : امتناع التنويع بحسب الذكر والنّسيان ، فلا يفيد مجرّد ارتفاع الأمر عن التام في الحكم بإجزاء الناقص وكفايته عند الذكر هذا.

ولكن يمكن أن يناقش في وجه التأمّل : بأن المراد من الشرطيّة والجزئيّة في المقام هو المقدميّة ، وهي ليست أمرا اعتباريّا ، بل التحقيق : كونه منشأ للأمر الغير المتعلّق بالجزء والشرط ، والنفسي المتعلّق بالمركّب المشتمل عليهما إلاّ أنّه لا ينفع في الحكم بصّحة العبادة في الفرض أيضا ، لما عرفت من امتناع التنويع بحسب حالتي الذكر والنسيان.

هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بهذا المقام وسنوقفك على تمامه عند البحث في « فروع الأقلّ والأكثر ».

في ان المراد من الرفع معنى يشمل الدفع

الثالث : أنه قد يستظهر من الحديث الشريف على ما عرفت الإشارة إليه كون صدق الرّفع موقوفا على وجود دليل يقتضي ثبوت المرفوع بعنوان العموم

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ٢ / ١٧٧.


لكن ذكر شيخنا قدس‌سره : أن المراد من الرّفع ما يشمل الدفع ، فيكفي في صدقه مجرّد وجود المقتضي لثبوته وإن لم يكن عليه دليل ، لكن إحراز المقتضي مما لا بدّ منه. فلو كان هناك حكم متعلّق في ظاهر دليله بحالة العمد مثلا وعلمنا بوجود المقتضي لثبوته في حالة النسيان يكشف ذلك عن كون التخصّص في دليل الحكم من جهة رعاية ما بيّنه الشارع في حديث الرفع وإن لم يكن الحكم بارتفاعه في الفرض محتاجا بحديث الرفع فتأمّل.

ومن هنا اكتفي بوجود المقتضي للاحتياط في صورة الشكّ من غير أن يكون عليه دليل على ما عرفت الكلام فيه فتدبّر.

حديث الرّفع لا يرفع الضّمان

الرّابع : أن الحديث الشريف على ما عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا لمّا كان واردا في مقام الامتنان بالنّظر إلى سياقه فلو قيل بعموم المرفوع فلا بد أن يحكم باختصاصه بما لا يكون في رفعه ما ينافي الامتنان على الأمة ، فإتلاف المال المحترم نسيانا أو خطأ لا يرفع معه وجوب الغرامة والضمان ؛ لأن رفعه ينافي الامتنان على مالكه وإن كان فيه امتنان على المتلف. وكذلك إتلافه وأكله في مقام الاضطرار والضرورة ، لا يرفع معه وجوب الغرامة والضّمان فيجمع بين الحكم بجواز أكله في مقام الاضطرار والضّمان بمقتضى ما دلّ على سببيّة الإتلاف للضمان ، بل لو توجّه ضرر إلى مسلم لا يجوز صرفه عن نفسه بإضرار الغير.


نعم ، لو توجّه ضرر إلى الغير ابتداء ، لم يجب صرفه عنه بتحمّل الضّرر ، ففي موارد الإكراه بإضرار الغير ، يحكم بجوازه من حيث إن الضّرر متوجّه إلى الغير ابتداء بمقتضى إرادة المكره ـ بالكسر ـ لا إلى المكره ـ بالفتح ـ فلا يجب عليه تحمّل الضّرر إلاّ فيما دلّ دليل عليه كما في الدّماء وسبّ الأولياء « صلوات الله عليهم » ، وإن كان مقتضى غير واحد من الأخبار جواز السّب لدفع الضّرر والقتل دون البراءة عنهم (١) ، وأفتى به جمع من الأصحاب وتحقيق المسألة

__________________

(١) أنظر نهج البلاغة : الخطبة ٥٧ عنه وسائل الشيعة : ج ١٦ / ٢٢٨ باب «٢٩» من أبواب الأمر والنهي ـ ح ١٠.

وفي خبر مسعدة بن صدقة : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الناس يروون أن عليّا عليه‌السلام قال ـ على منبر الكوفة ـ :

أيّها الناس إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثم تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرءوا منّي.

فقال عليه‌السلام : ما أكثر ما يكذب الناس على عليّ. ثم قال : إنّما قال : ستدعون إلى سبّي فسبّوني ثم تدعون إلى البراءة منّي وإنّي لعلى دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقل : لا تبرءوا منّي.

فقال له السائل : أرأيت إن اختار القتل دون البراءة؟

فقال : والله ما ذاك عليه ولا له إلاّ ما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث اكرهه أهل مكّة وقلبه مطمئن بالإيمان فأنزل الله تعالى : (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [ النحل : ١٠٤ ].

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندها : يا عمّار إن عادوا فعد ».

أنظر الوسائل : ج ١٦ / ٢٢٥ باب «٢٩» من أبواب الأمر والنهي ـ ح ٢.


__________________

أقول : وهي من روايات العرض ولذا قال الشيخ الأعظم ١ :

« المروي في بعض الرّوايات أنّ النهي من التبرّي مكذوب على امير المؤمنين عليه‌السلام » إنتهى.

أنظر رسائل فقهيّة ـ رسالة في التقيّة : ١٠٢.

* وقال السيّد الخميني قدس‌سره الشريف :

« ولا يخفى ان رفع اليد عن تلك الروايات ـ المشتملة على تكذيب ما نسب إلى على عليه‌السلام ـ وعن اخبار التقيّة وعن قوله ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) وحكم العقل بلزوم حفظ النفس واهتمام الشارع به لا يمكن بمثل تلك الروايات التي لا تفيد علما ولا عملا ولم نجد فيها ما يسلم سندا ، ودعوى المفيد لا تفيد لنا علما فإنا لم نعثر على رواية واحدة بمضمون ما ذكره ، نعم بعض مضمونه موافق للروايات الضعاف المتقدّمة المقابلة للرّوايات التي بعضها أسدّ منها سندا.

مضافا إلى استشمام رائحة الكذب والإختلاق منها ؛ ضرورة أن السبّ والشتم واللعن أشدّ من التلفّظ بالبراءة ممّا لا يقدح فيهم ولا ينقصهم ، ومن المقطوع عدم رضا الشارع بمدّ الاعناق في مقابله كما في رواية الإحتجاج.

وأمّا قضيّة ميثم وإن كانت معروفة ولا يبعد ثبوتها إجمالا لكنها قضيّة في واقعة ولعلّه كان عالما بأن الدعي عبيد الله بن زياد يقتله ، برء من علي ٧ أو لا ، وكانت براءته منه غير مفيدة بحاله بل مضرّة وموجبة لفضاحته مضافا إلى قتله فلا يجوز معه البراءة ولا السب ولا غيرهما » إنتهى. أنظر الرسائل ـ رسالة في التقيّة : ١٨٤.

أقول : ما ذكره من التوجيه لفعل ميثم ينافيه خبر محمد بن مروان « قال :


يطلب من الفقه (١).

الطّيرة والحسد والوسوسة من المحرّمات

الخامس : أن الظاهر من الحديث الشريف بعد حمله على الرفع الشرعي ، وأنّ المرفوع حكم شرعيّ على كلّ تقدير وقول ، حتى على القول باختصاصه برفع استحقاق العقوبة والمؤاخذة ، كون الطيرة والحسد وإن لم يظهره الحاسد ، والوسوسة في التفكّر ، وإن لم يظهرها المتفكّر من المحرّمات في الأمم السّابقة ؛ نظرا إلى إمكان رفعها بتزكية النفس ، بل ظاهر جملة من الآيات وكثير من الروايات وبعض الكلمات كون الحسد حراما مطلقا في هذه الشريعة أيضا ، وإن لم يكن من الكبائر قبل الإظهار.

وكيف كان : ظاهر الرّواية كونها منهيّا عنها في الأمم السابقة ، وربّما يكشف عنه ما ورد في « باب الطيرة » : ( أنها شرك ) (٢) و ( إنّما يذهبها التوكّل ) (٣) (٤) من

__________________

قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : ما منع ميثم ; عن التقيّة؟! فو الله لقد علم أن هذه الآية نزلت في عمّار وأصحابه : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) [ النحل : ١٠٤ ].

أنظر الوسائل : ج ١٦ / ٢٢٦ باب «٢٩» من أبواب الأمر والنهي ـ ح ٣.

(١) أنظر رسالة التقيّة للشيخ الأعظم : ١٠٢ ، وكذا رسالة التقية للسيد الإمام : ١٨٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٥ / ٣٢٢ ـ ح ـ ١٠ ، وليت شعري إذا كانت شركا فكيف يتطيّر النّبي على ما هو مقتضى رواية الخصال ـ؟!

(٣) الكافي الشريف : ج ٨ / ١٩٨ « قصة الذين خرجوا من ديارهم » ـ ح ٢٣٦ عنه وسائل


حيث إنّها مبنيّة على الاعتقاد بوجود تأثير نفس التطيّر أو ما يتطيّر به وهو مناف لبعض مراتب التوحيد وإن لم يناف التوحيد المعتبر في الإيمان لعدم الاعتقاد بتأثيرها استقلالا حتى ينافيه ، وإذهاب التوكّل لها من حيث إنه بالتوكّل على الله تعالى يرفع أثرها كما هو مقتضى كثير من الأخبار ، فيعلم أن تأثير المؤثّرات بإرادة الله تعالى ومشيّته ، فليس التأثير من لوازم ذاتها.

وهذا مثل تأثير العين الوارد لرفعه والحفظ عنه المعوّذات المأثورة حتى في باب تأثيرها في صاحبها كما ربّما نشاهد بالوجدان من تأثير تعجّب الشخص في حقّ نفسه. وكون دفع الحسد واجبا خلقيّا وممّا أكّد عليه في الأخبار أيضا لا ينافي عدم وجوبه شرعا على هذه الأمّة.

فقوله قدس‌سره في بيان « حكم الطيرة » : « والمراد إمّا رفع المؤاخذة عليها » إلى

__________________

الشيعة ج ١١ / ٣٦٢ باب « استحباب ترك الطيرة ... » ـ ح ٣ ، وأنظر سنن أبي داود : ج ٤ / ١٦٠ ـ ١٦١٤.

(٤) أقول : وفي تقريرات السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« الضمير إمّا راجع إلى الطّيرة فالمعنى : يذهب الطيرة التوكل ، وإما إلى الشرك المخصوص فالمعنى : أنّه إنّما يذهب الشرك ـ وهو الطّيرة ـ التوكل.

وكيف كان : الطيرة شرك إن اعتقد انّه المؤثّر الحقيقي في الأمور ، لا الواسطة كالخواص المترتّبة على الأشياء كالحموضة والحلاوة والسمنيّة والترياقيّة وغير ذلك » إنتهى.

أنظر تقريرات المجدد الشيرازي ١ : ج ٤ / ٣٨.


قوله : « وإمّا رفع أثرها ؛ لأن التطيّر كان يصدّهم عن مقاصدهم فنفاه الشارع » (١).

قد يناقش فيه : من حيث كونه منافيا لما أفاده من عدم تعلّق الرّفع بالأمر الغير الشرعي ، مضافا إلى ما يرى بالوجدان من تأثيره في حقّ من يعتني به ولا يتوكّل على الله في مورده فتدبّر.

هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالفقرات الثلاثة المذكورة في الحديث الشريف أخيرا على ما هو المعروف في معناها ، وبقي فيها أبحاث أخر ؛ نذكر في محلّ آخر مثل ما ذكره الصّدوق في معناها ، والمراد بها في رواية « [ ال ] خصال » (٢) فإنه معنى آخر لا ينطبق على ما ذكرناه في الحديث الشريف المتقدّم ؛ فإن مقتضاه ثبوت المذكورات في الجملة ، ولو في حق الأنبياء ومن دونهم ، فلا معنى لرفعها بناء عليه كما هو ظاهر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٣٨.

(٢) الخصال : ٨٩ ، باب « الثلاثة » ـ ح ٢٧.


(١٠٤) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أن الظاهر ممّا حجب الله علمه ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤١ )

أقول : لا إشكال في ظهور الحديث فيما أفاده في بيان معناه ؛ من أن المراد منه الحكم الذي لم يؤمر الأنبياء بتبليغه وكان مخزونا عندهم ومخفيّا عن الخلق كما هو مقتضى كثير من الأخبار ، ولا ينافي ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع من تبليغه تمام الدين إلى الخلق ، وتكميله ذلك بتبليغ أمر الولاية التي هي بمنزلة

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الأصولي الشيخ محمد هادي الطهراني قدس‌سره :

« إنّ حجب العلم عبارة عن المنع عن الإطّلاع على الشيء وجعله من الأسرار ، وإلاّ فالجاهل بما يمكن الإطلاع عليه ليس محجوبا ، بل إنّما احتجب لقصور باعه وعدم إطلاعه.

فمن الأمور : ما هو من الغيب الذي لا يظهر الله تعالى عليه أحدا إلاّ من ارتضى من رسول.

ومنها : ما أظهره لكل أحد بل للبهائم والحشار ، وهو أنواع البديهيّات على اختلافها في مراتب الوضوح.

ومنها : ما جعل اليه طريقا من الأدلّة العقليّة والنقليّة ، والناس بين من يطّلع عليها ويتمكّن من النظر فيها أخطأوا أو أصابوا ، وبين من لا يتمكّن من النّظر فيها.

ومنها : ما سكت الله تعالى عنها ؛ لعدم إيجاب الحكمة ببذله للناس وإن لم يحجبه عنهم وإلى هذا ينظر قوله عليه‌السلام : « إنّ لله حدودا فلا تعتدّوها وفرض فرائض فلا تعصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا لها فلا تتكلّفوها رحمة من الله تعالى لكم ».

والمحجوب علمه هو القسم الأوّل ، وفي نسبة الحجب إلى العلم مع أنّ المحجوب هو المتعلّق مبالغة في الكتمان.

وزعم الأستاذ ( الأنصاري ) قدس‌سره إتّحاد الأوّل والأخير » إنتهى. محجّة العلماء : ج ٢ / ٩.


الروح له حقيقة ؛ فإنه يكفي في صدقه تبليغه إلى الوصيّ عليه‌السلام وأمره بالبيان حسب اقتضاء المصلحة ، فيخرج عن محل البحث وليس هنا إجماع مركّب وعدم قول بالفصل فتأمّل.

(١٠٥) قوله قدس‌سره : ( وفيه : ما تقدّم في الآيات من أن الأخباريّين (١) (٢) ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٤١ )

__________________

(١) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« لا يخفى أنّ هذا الإيراد لا يختصّ بهذه الرّواية ، بل يعمّ سائر الرّوايات المتقدّمة ، مع أنّه لم يتعرّض له فيها.

اللهم إلاّ أن يكون ذلك لأجل اختصاص هذه الرواية بهذا الإيراد وحده وسلامته من سائر الإيرادات الواردة على غيرها » إنتهى.

أنظر تقريرات السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره : ج ٤ / ٣٨.

(٢) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« إنّ هذا الجواب مبني على أن يكون نفي العلم في الرّواية متعلّقا بمطلق الحكم أعم من الواقعي والظاهري ، فللأخباري حينئذ أن يقول : أنا أعلم بالحكم الظاهري ، أي :الإحتياط بأخباره.

وفيه : أن الظاهر منه نفي العلم بالحكم الواقعي ، والعجب أن المصنّف يقول ـ في قوله عليه‌السلام :

« في كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » ـ : أنّ ظاهره النهي الواقعي لا الأعمّ من النهي الظاهري ، مع أنّ هنا ليس أظهر من ظهور « ما لا يعلمون » في الحكم الواقعي فتدبّر.

نعم ، قد يقال : إنه على تقدير كون كلمة « ما » موصولة قد أضيف لفظة « سعة » إليها ، ولا بد من


أقول : قد يناقش فيما أفاده : من جعل مفاد الرّواية أصلا في المسألة بحيث لا يصلح للمعارضة مع دليل الاحتياط ؛ فإنه على تقدير كون الكلمة موصولة أضيف إليه السّعة ؛ يكون مفادها إثبات السّعة ونفي الضيق بالنسبة إلى الحرمة المجهولة ، فإنّها غير معلومة ولو بملاحظة أخبار الاحتياط ؛ فإنها لا توجب العلم بالحرمة الواقعيّة ، وإنّما تثبت وجوب التحرّز في مورد احتمالها فتثبت الضيق في قبال الرواية فلا محالة يقع التعارض بينهما على تقدير تسليم دلالة أخبار الإحتياط على هذا المعنى كما هو ظاهر ، فالرّواية تنفي وجوب الاحتياط عند احتمال الحرمة من حيث عدم العلم بها ، لا من حيث عدم العلم به ؛ حتى يقال بثبوته والفرق بينهما ظاهر ، فافهم.

وأمّا على تقدير كونها مصدرية زمانيّة فالأمر كذلك أيضا ، وإن لم يكن مثل الأوّل في الظهور ؛ فإنّه يصدق بعد ورود أخبار الاحتياط أيضا : أن المكلّف غير عالم بالحكم الواقعي ؛ وإن لم يصدق عليه الجاهل بقول مطلق بعد فرض علمه بالحكم الظاهري فتأمل.

__________________

كون الإضافة للعهد كما صرّح به علماء الأدب ، ولا عهد إلاّ حكم العقل المركوز في الأذهان بقبح العقاب بلا بيان فتكون الرّواية مساوقة لحكم العقل فلا تعارض أدلّة الأخباريين.

وفيه : انّه يكفي في المعهوديّة أنّ في كل حكم ضيقا وسعة بحسب ما ارتكز في الأذهان وفي العرف ، وفيما نحن فيه ضيقه الإحتياط وسعته البراءة فالناس في سعة » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٩.


وجعل العلم بوجوب الاحتياط من بعض مراتب العلم بالحكم الواقعي ، كما ترى.

(١٠٦) قوله قدس‌سره : ( بناء على أنّ المراد بالشيء الأوّل ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤٢ )

أقول : لا يخفى ظهور الرواية في المعنى الثاني فلا دلالة لها على المدّعى.

(١٠٧) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أن الظاهر من الرواية ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٤٢ )

أقول : ظهور الرواية فيما أفاده من إرادة الجهل المركّب لا البسيط ـ الذي هو محلّ الكلام ـ لا إشكال فيه أصلا ؛ لظهور كلمة الباء في السببيّة الغير المتحقّقة إلاّ مع الجهل المركّب ؛ لأن الشك بما هو لا يكون سببا كما هو واضح.

إلاّ أنّ تأييده له : بأنه على تقدير إرادة المعنى الثاني لا بد من ارتكاب التخصيص في الرواية بإخراج الشاك المقصّر ـ مع أنّها آبية عن التخصيص ـ ربّما

__________________

(١) قال في قلائد الفرائد ( ج ١ / ٣١٩ ) :

« أقول : إنّ النّكرة في سياق النفي وإن كان مفيدا للأستغراق لكن إرادته في المقام غير معقول ؛ لأنّ دائرة الإستغراق :

تارة : تلاحظ بالنسبة إلى جميع الأشياء وهذا غير محقّق الموجود في الخارج ؛ فإنّه لم يوجد في الكائنات من لم يعرف شيئا رأسا حتّى الرّضيع ؛ فإنّه عارف بشرب اللبن من ثدي الأمّ.

وأخرى : يلاحظ بالنسبة إلى الأحكام وهذا أيضا غير موجود ؛ لعدم من لم يقرع سمعه بصيت الإسلام ، ولو فرض وجوده فهو في غاية النّدرة فيبعد حمل الكلام عليه ، فتعيّن في مفاده ما ذكره المصنّف رحمه‌الله في مقام الإستدلال » إنتهى.


يناقش فيه : بأن التخصيص مما لا بدّ منه على كل تقدير ؛ إذ الجاهل المركّب المقصّر أيضا غير معذور ، ومن هنا أمر قدس‌سره بالتأمّل ؛ فإن هذه المناقشة ممّا لا يمكن الذّبّ عنه كما لا يخفى.

(١٠٨) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أن مدلوله كما عرفت ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٤٣ )

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« لا يخفى ان ايجاب الإحتياط إن كان لنفسه بحيث كان الثواب والعقاب على إطاعته ومخالفته كان مدلول الرّواية غير منكر لأحد وإنما يدعي الأخباري تعريف إيجابه بالأخبار الدالّة على وجوب التوقّف ولزوم الإحتياط.

وأمّا اذا كان ايجابه لتنجيز الأحكام الواقعيّة وتصحيح المؤاخذة على مخالفتها كما عرفت في بعض الحواشي على تحديث الرّفع ، فمدلولها ينافي ما ذهب إليه الأخباريّون من وجوب الإحتياط فإن المؤاخذة على الحرمة المجهولة إحتجاج بما لم يؤت ولم يعرف ولو بعد ايجاب الإحتياط ؛ لوضوح أنّ إيجابه لا يكون تعريفا لها كما لا يخفى » انتهى.

درر الفوائد : ١٩٨.

وعلّق عليه الفاضل الكرماني قدس‌سره قائلا :

أقول : تعريف الحرمة قد يكون بايجاب الإجتناب عن الشيء المتّصف بها ، وقد يكون بايجاب الإجتناب عن عنوان ينطبق على الشيء المتّصف بها ، مثلا للشارع أن يبيّن ويعرّف حرمة شرب التتن بقوله : اجتنب عن شرب التتن ، وله أيضا أن يعرّف ويبيّن حرمته بقوله :

إجتنب عن كل مشكوك الحرمة فتصير هذه كبرى لصغرى وجدانيّة تنتج حرمة شرب التتن صورته هكذا :


أقول : إن إيتاء وجوب الاحتياط وتعريفه لا يفيد بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ إيجاب الاحتياط لما كان مصحّحا للعقاب بالنسبة إلى الواقع فيكفي في صدق الإيتاء والتعريف فتأمل. أو يقال : إن إيتاء الشارع للاحتياط بالنسبة إلى الواقع إيتاؤه في الجملة فتدبّر.

(١٠٩) قوله : ( ودلالته أوضح (١) من الكلّ ... الى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٤٣ )

__________________

شرب التتن مشكوك الحرمة وكلّ مشكوك الحرمة حرام ببيان الشارع وتعريفه فتصحّ المؤاخذة والعقاب عليه وهل يبقى شك؟ لا والله بعد هذا البيان ، إن الشارع أتى وعرّف حرمة شرب التتن : لا أنفي الشك عن حرمة شرب التتن على الخصوص ، بل أنفيه عن انه حرام من قبل الشارع مبيّن معرّف وجوب الإجتناب عنه ببيانه وتعريفه ، فعلى التقرير الثاني أيضا لا ينافي مضمون الخبر لما ذهب اليه الإخباريّون من وجوب الإحتياط وليس المقال هذا مما يخفى على أصاغر الطلبة فضلا عن الشيخ الأعظم الوحيد في عصره بل الأعصار كيما يبقي مجال للتعريض عليه بهذا وأضرابه عصمنا الله من الزلل إلى يوم انقطاع العمل إن شاء الله » إنتهى. الفرائد المحشّى : ١٩٩.

(١) كذا في النسخ والموجود في نسخة الفرائد المطبوعة : « ودلالته على المطلب أوضح من الكل ».

(٢) قال المحقق الهمداني قدس‌سره :

« ويمكن الخدشة في دلالته : بأن مفاده ليس إلاّ أن الأصل في الأشياء قبل أن يرد فيها النهي الإباحة لا الحظر ، وهذه مسألة أخرى أجنبيّة عمّا نحن فيه ؛ إذ المقصود في المقام إثبات


في دلالة الحديث على أصالة البراءة فيما لا نصّ فيه

أقول : ظهور الرواية في كون غاية الطلق والإباحة ، العلم بورود النهي في كل شيء بعنوانه الخاص لا بعنوانه من حيث كونه مشتبها ومجهول الحكم ممّا لا يقبل الإنكار ، إذ النهي عن عنوان العام نهي عنه حقيقة وهو أمر واحد لا عن كل شيء فافهم.

والمراد بالورود على ما عرفت : ورود النّهي في الشيء بحيث يبلغ إلى المكلّف ويعلم به ؛ لاستحالة جعل المغيّا الإباحة الواقعيّة كاستحالة جعل الغاية الورود الواقعي مع جعل المغيّا الإباحة الظاهريّة ، وهي نصّ في الإباحة في

__________________

الرخصة فيما شك في انه هل ورد فيه نهي واختفى علينا أم لا؟

ويمكن دفعها : بأن المقصود بها بحسب الظاهر إرادة الحكم الفعلي عند عدم العلم بحرمة شيء فالمراد بعدم ورود النهي فيه : عدم وصوله إلى المكلّف ، لا عدم وروده في الواقع وإلاّ لكانت ثمرته علميّة وهو بعيد عن سوق الأخبار.

نعم ، لو كانت الرواية صادرة عن النبي ٦ في صدر الشريعة قبل إكمالها لكان المتّجه حملها على إرادة المعنى المزبور حيث يترتب عليها حينئذ ثمرة عمليّة وهذا بخلاف ما لو صدرت عن الأئمة : بعد إكمال الشريعة وورد النهي في جميع المحرّمات الواقعيّة ووصوله إلى أهل العلم الذين لا يختفي عليهم شيء من النواهي الشرعيّة فليتأمّل » انتهى.

انظر حاشية آغا رضا الهمداني ١ على فرائد الأصول : ١٥٨.


مجهول الحرمة من غير فرق بين هذا الطريق وطريق آخر للرواية ذكر فيه : حتى يرد فيه أمر أو نهي.

وأخبار الاحتياط على تقدير تسليم دلالتها ظاهرة في وجوب الاحتياط ، حتى أخبار التّثليث الواردة في الشبهة التحريميّة ؛ فإنّ حملها على صورة العلم الإجمالي بالحرمة أو رجحان الاحتياط ممكن. وهذا بخلاف الرواية ؛ إذ لا معنى لها إلا الإباحة.

والتصرّف فيها بجعلها في مقام بيان حكم الشيء مع قطع النظر عن أخبار الاحتياط ليس عملا بها حقيقة بل هو طرح لها رأسا ؛ إذ لا يبقى مورد للعمل بها ؛ إذ حملها على الشبهة الموضوعيّة التي وافق الأخباريون مع المجتهدين على القول بالإباحة فيها غير ممكن ؛ ضرورة اختصاص الرواية وصراحتها في الشبهة الحكميّة. وليس مثل قوله عليه‌السلام فيما سيجيء : « كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام » (١) كما لا يخفى.

ومنه يظهر : أن كثيرا من الأخبار المتقدّمة المختصة بالشبهة الحكمية كجملة من الآيات على تقدير تسليم دلالتها نصّ بالنسبة إلى أخبار الاحتياط بالنّظر إلى ما عرفته ، أو أظهر منها ؛ وإن أمكن حمل ما يعمّ الشبهة الوجوبيّة عليها كما عليه

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ باب « النوادر » ـ ح ٤٠ ، عنه وسائل الشيعة ج ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الانفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.


أكثر الأخباريّين. ولكن هذا الحمل لا يمكن ارتكابه في المرسلة من حيث صراحتها في الشبهة التحريميّة على الطريقين هذا.

وسيجيء تمام الكلام في بيان النسبة بين أدلّة الطرفين ، والغرض من ذكر هذا الكلام في المقام : التنبيه على ما يتطرّق من المناقشة في ظاهر عبارة « الكتاب » من الحكم بالتعارض وإن أمكن دفعها : بأن المراد من التعارض في المقام كونها متّحدة الموضوع مع أخبار الاحتياط ، بخلاف الآيات وأكثر الأخبار فلا ينافي كونها نصّا بالنسبة إليها فافهم. والرّواية وإن كانت مرسلة إلاّ أنها مجبورة بالعمل والاعتضاد بغيرها فتدبّر.

(١١٠) قوله قدس‌سره : ( وفيه (١) : أن الجهل بكونها في العدّة إن كان ... الى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٤٤ )

__________________

(١) قال الفاضل القمّي في قلائد الفرائد ( ج ١ / ٣٢٣ ) :

« إن المناقشة في الإستدلال بالخبر بين ثلاث :

إحداهما : ما أفاده رحمه‌الله بقوله : « فالمراد من المعذوريّة عدم حرمتها عليه مؤبّدا ».

والثانية : ما أفاده رحمه‌الله بقوله : « وإن كان غافلا أو معتقدا للجواز ... ».

والثالثة : غير مذكورة في المتن وإنّما استفدتها من بعض مشائخنا دام ظله وهي :

أنّ مورد الرّواية إنّما هو السؤال عن اجراء صيغة النكاح في العدّة في حال الجهل بتوجّه النهي بنفسه في حال العلم فضلا عن حال الجهل ولذا قيل : إنّ اجراء العقود المنهيّة المعلوم النهي سوى البيع الرّبوي ممّا لا يوجب العقاب عليه من حيث مخالفة النّهي بنفسه وإن كان موجبا له بعنوان التشريع ، فلا وجه لكون معذوريّة الجاهل الموجودة في هذا الخبر بالنسبة


__________________

إلى رفع العقاب ؛ لأنه لا عقاب عليه في حال العلم فضلا عن حال الجهل بل لا بدّ أن تكون معذوريّته بالنّسبة إلى رفع الحكم الوضعي ، أعني : سببيّته للتحريم الأبدي.

والحاصل : أن مورد الرّواية هو السؤال عن مخالفة النهي الإرشادي المزبور ، ولا أقلّ من الإحتمال ، فكيف تساق إلى السؤال عن مخالفة النهي التكليفي؟!

ودعوى : أنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المحلّ.

مدفوعة : بأنّ ذلك مسلّم ، لكن لا يتعدّى عن المورد إلاّ ما هو من نوعه أعني : سائر العقود المنهيّة كالبيع والإجارة ونحوهما إذا كانت فاقدة لبعض الشروط الموجب فقده للفساد ، لا إلى ما هو مباين له ، أعني : مخالفة النهي التكليفي كما هو الكلام هذا » إنتهى.

(٢) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« وجه الإستدلال [ بالصحيحة المزبورة ] : أنه ٧ حكم فيها بالمعذوريّة في التزويج على المرأة في العدّة ورفع المؤاخذة ، وعلّق المعذوريّة فيها على الوصف المناسب ، وهو الجهل المفيد فيستفاد منها كون الجهل علّة لرفع المؤاخذة مطلقا سواء كان المجهول موضوعا أو حكما وسواء كان منشأه في الثاني اشتباه الأمور الخارجيّة أو فقد النّص أو إجماله أو تعارضه ، فتكون حجة على نفي المؤاخذة على إرتكاب الشبهة التحريميّة فيما لا نص فيه التي هي المتنازع فيها.

أقول : ويؤكّد عموم علّيّته للمعذوريّة ورفع المؤاخذة عدم استفصال الإمام ٧ من السائل عن تخصيصه الواقعة المسؤول عنها بأن الجهل فيها : أهو في أصل العدّة ، أو في إنقضاءها مع العلم بها ، أو انه في مقدارها ، أو أنّه في كون العقد على المرأة محرّما شرعا وتعيينه سؤال


__________________

السائل ثانيا بقوله : ( بأي الجهالتين أعذر؟ ) ثم جوابه عليه‌السلام : « إحدى الجهالتين أهون ، الجهالة بأنّ ألله حرّم عليه ذلك ».

وكأن المصنّف ١ منع من إطلاق الجهالة وحملها على الجهالة المخصوصة بالواقعة المسؤول عنها فلذا ردّد في الجواب عن الإستدلال [ بها ] وقد ظهر ما في منعه منه ممّا ذكرنا.

هذا ، لكن الإنصاف عدم صحّة الإستدلال بالصحيحة على المدّعي لظهور أن المراد من المعذورية فيها إنّما هي المعذوريّة في التزويج على المرأة مطلقا بعد انقضاء عدّتها ونفي التحريم الأبدي لا المعذوريّة في التزويج عليها في عدّتها مطلقا كما هو مبني الإستدلال [ بها ] والقرينة على ذلك أمران :

أحدهما : قوله عليه‌السلام في الصحيحة : « أمّا اذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدّتها » فإنه ظاهر في عدم كون التزويج عليها في العدّة حال الجهل موجبا للحرمة الأبديّة.

وقوله عليه‌السلام بعد ذلك : « فهو معذور في أن يتزوجها » فإنه صريح في ذلك.

ثانيهما : إطلاق الجهالة في قوله ٧ : « امّا اذا كان بجهالة بالنسبة إلى الصور الأربعة المذكورة في وجه تأييد إرادة العموم منها مطلقا حتى اذا كانت الجهالة فيها بالشك فإن الجهالة لها فردان : أحدهما ذلك والآخر الغفلة ؛ حيث إنّها بمعنى عدم العلم المعبّر عنه بالفارسيّة بـ ( ناداني ) فيشملها عند الإطلاق.

وبالجملة : لما كان كل من الوجوه الأربعة ـ المذكورة في كيفيّة الواقعة المسؤول عنها ـ محتملا مع احتمال كون الجهل في كل منها ـ على تقديره ـ بالشك أو بالغفلة ، فالجهالة بإطلاقها شاملة لجميعها بأي الإحتمالين في مصداق الجهالة ، بل بعمومها ؛ لما مرّ من وجه


__________________

ترك الإستفصال ؛ فإنّ حملها على اطلاقها أو على العموم لا يمكن إلاّ بحمل المعذوريّة في موردها على المعذوريّة في التزويج بعد انقضاء العدّة ؛ فإن الجاهل في تلك الصّور إذا كان شاكا ملتفتا فليس معذورا في التزويج على المرأة في العدّة مطلقا :

أمّا اذا كانت شبهة موضوعيّة ـ كما في الصورة الأولى : وهي الشك في أصل العدّة ، والثانية :وهي الشك في إنقضاءها مع العلم بها ـ فلوجوب الفحص عليه في الأولى ، مضافا إلى أصالة عدم تأثير العقد ولإقتضاء الاستصحاب عدم انقضاء العدة في الثانية ، فلا يجوز العقد فيها إتّفاقا.

وأمّا إذا كانت شبهة حكميّة ـ كما في الصورة الثالثة : وهي كون الشك في مقدار العدة شرعا مع العلم بها في الجملة ، والصورة الرابعة : وهي الشك في حرمة التزويج على المرأة في العدّة ـ فلوجوب الفحص فيها عليه إتفاقا ، مضافا إلى أصالة عدم تأثير العقد ، مع أنّ الجهالة في الرّابعة بمعنى الشك لا يكون إلاّ عن تقصير ؛ لوضوح الحكم فيها بين المسلمين بحيث يعرفه كل أحد الكاشف عن تقصير الجاهل ، فالجاهل فيها ليس معذورا بالضرورة.

ولو سلّمنا المعذوريّة في الصّورة الأولى ؛ نظرا إلى اقتضاء الإستصحاب عدم العدّة وعدم وجوب الفحص فيها فتكون الشبهة موضوعيّة لا يجب الفحص فيها إجماعا كما ادّعاه المصنف ١ في بعض كلماته أيضا.

وإلى حكومة هذا الإستصحاب على استصحاب عدم تأثير العقد كما هو كذلك ؛ نظرا إلى كون الشك في التأثير مسببا عن الشك في أن عليها عدّة. فيكفي في منافاة الإطلاق ، بل العموم ـ كما مرّ ـ عدم استقامة الكلام في سائر الصور. فحينئذ يدور الأمر في الرّواية بين


الحديث في مقام بيان الحكم الوضعي دون التكليفي

أقول : لا إشكال في أن فقه الحديث لا تعلّق له بالمقام أصلا على كل تقدير ؛ فإنّ صريحه كون السؤال والجواب عن الحكم الوضعي للعقد الواقع في العدّة عن جهل ، أي : تأثيره في التحريم الأبدي الدائمي ـ سواء كان المراد بالجهل فيه الجهل البسيط أو المركّب ، وسواء حكم بمعذوريّته من حيث الحكم التكليفي ، أو حكم بعدم معذوريّته من هذه الحيثيّة ـ فإن قوله عليه‌السلام في الجواب أوّلا : أما إذا كان بجهالة فليزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من

__________________

تخصيص الجهالة فيها وتقييدها بالغفلة في جميع تلك الصور أو تخصيص الجهالة بالصّورة الأولى وإخراج سائر الصّور عنها على تقدير الشك فيها مع اطلاق الجهالة في الصورة الأولى بالنسبة إلى الشك.

وبين حمل المعذوريّة على المعذوريّة في التزويج بعد العدّة ؛ حيث انّها لم يقم دليل على نفيها عن واحدة من تلك الصور بأيّ قسم من قسمي الجهالة من الشك أو الغفلة ، فلا يلزم تخصيص أو تقييد في الجهالة ، مضافا إلى قيام الإجماع على ثبوتها في أكثرها ـ وهي غير الأخيرة ـ فتكون الرّواية حجّة على ثبوتها فيها بالخصوص مضافا إلى اطلاقها بالنسبة إليها.

لا سبيل إلى الأوّل لوجوب الأخذ بأصالة الإطلاق والعموم ما لم يثبت الصارف عنها وليس في الرّواية ما يوهم الصّرف فكيف بما يدلّ عليه؟! فتعيّن الثاني وهو المطلوب » إنتهى.

أنظر تقريرات المجدد الشيرازي ١ : ج ٤ / ٣٩.


ذلك (١). صريح في ذلك ، وأن المراد من المعذوريّة : هو عدم تأثير عقده لمكان جهله في جواز العقد عليها بعد انقضاء العدّة ، كما هو المراد بالمعذوريّة في سؤال الرّاوي بعد ذلك بقوله : ( قلت : بأيّ الجهالتين أعذر بجهالته أن ذلك محرّم عليه؟ ) أي : الجهل بتحريم العقد على المرأة في عدّتها وهو الجهل بالحكم ، أم بجهالته أنها في العدّة أي : الجهل بكونها ذات عدّة وهو الجهل بالموضوع كما هو المراد بالأهونيّة في جوابه عليه‌السلام عن السؤال المذكور كما فهمه السائل أيضا ، وسأل من باب الاحتياط بقوله : « قلت : فهو في الأخرى معذور؟ » كما أن الجواب عنه بقوله عليه‌السلام :« نعم ، إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يزوّجها » صريح في ذلك أيضا.

فالرواية لا تعلّق لها بالمعذوريّة من حيث الحكم التكليفي على ما هو محل البحث ـ وهو جواز العقد في حال الجهل وترتّب آثاره ـ أصلا ، بل هي نصّ في بيان الحكم الوضعي بالنسبة إلى الجهل بالحكم والموضوع معا صدرا وذيلا. وأمّا معذوريّته من حيث الحكم التكليفي فلا بدّ فيه من التماس دليل آخر.

وملخّص القول فيها : (٢) أن الجاهل بأصل عدم جواز النكاح في العدّة ؛ إمّا

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٤٢٧ ، باب « المرأة التي تحرم على الرجل فلا تحل له أبدا » ـ ح ٣ ، والتهذيب : ج ٧ / ٣٠٦ ، باب « من يحرم نكاحهن بالاسباب » ـ ح ٣٢ ، الاستبصار : ج ٣ / ١٨٦ ، باب « من عقد على امرأة في عدتها » ـ ح ٣ ، عنها الوسائل ج ٢٠ / ٤٥١ ، باب « ان من زوج امرأة في عدّتها » ـ ح ٤.

(٢) قال الأصولي الفقيه المحقق الطهراني قدس‌سره في تقريب الإستدلال بالرواية :


__________________

« إنّ موضوع الإعذار هو الجهل من حيث هو كذلك بل الرّواية صريحة في أنّ الجاهل بالحكم الشرعي التحريمي معذور من حيث انّه جاهل ، وانه لا يجب عليه الإحتياط ، وعدم التمكّن من الإحتياط لعدم خطور مثل هذا الحكم في ذهن الجاهل غالبا لا ينافي كون نفس الإعذار من جهة الجهل ؛ فإنّ الغفلة والذهول توجب شدّة العذر كما هو صريح الرّواية ، فالموضوع هو الجاهل مطلقا ، والغالب الذهول الموجب لشدّة العذر ، كما ان الغالب الشائع من الجهل بالعدّة هو الشك في الموضوع ، ومن المعلوم انه شبهة موضوعيّة ، لا إشكال في كون الأصل فيها البراءة.

وبما حقّقنا ظهر انه يلزم التفكيك في الرّواية بين الجهل بالعدّة والجهل بالتحريم وانّه لا محذور في اعذار الجاهل بالعدّة كما زعمه الاستاذ [ الأنصاري ] قدس‌سره ؛ فإنه قال ما محصّله :« إنّ الشك إن كان في الانقضاء فيجب الإستصحاب سواء كانت الشبهة موضوعيّة أو حكميّة ، وإن كان الشك في أصل العدّة فيجب الفحص ومعه لا يبقى إشكال لوضوح الحكم بين المسلمين ».

وفيه : ان هناك قسما رابعا : وهو الشائع ، أي : الشك في العدّة مع كون الشبهة موضوعيّة لا يجب الفحص فيها.

وأعجب من ذلك توهّمه قدس‌سره : أن ما في رواية أخرى : من أنّه اذا علمت أنّ عليها العدّة لزمتها الحجّة ينافي ذلك ، مع أنّ المراد : أنّ المرأة إذا انفردت بالعلم لزمتها الحجّة ولا عذر لها ، وهذا واضح لا ربط له بالمقام.

فما توهّمه : من أنّ المقصود إنّما هو الإعذار في التزويج وإن تنجّز عليه التكليف فاسد.


أن يكون جاهلا مركّبا ؛ كما هو صريح المفروض في الرواية أو جاهلا بسيطا.

فإن كان جاهلا مركّبا ؛ فإما أن يكون قاصرا غافلا ، أو يكون مقصّرا. فإن كان قاصرا كان معذورا من حيث الحكم التكليفي وإن كان مقصّرا لم يكن معذورا كما هو الشأن في غير المقام.

وإن كان جاهلا بسيطا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي ؛ لكشف شكّه عن عدم فحصه ، وإلاّ لا طّلع على الحكم لوضوحه بين المسلمين ، بل هو من ضروريّات الفقه فلا يجري في حقّه البراءة.

مضافا إلى أن مرجع الشكّ إلى سببيّة النكاح ، والأصل فيه الفساد إجماعا فلا معنى للرّجوع إلى الأصل الحكمي ، بل قد يظهر من كلام شيخنا قدس‌سره : عدم معذوريّته من حيث الحكم الوضعي أيضا ؛ لخروجه عن مورد الرّواية فتدبّر.

وأمّا الجاهل بالموضوع فقد يكون من جهة الجهل بأصل العدّة وكون المرأة ذات عدّة أو لا. وقد يكون من جهة الجهل بالمقدار ، وهو على قسمين ؛ لأنه قد يكون من جهة الجهل بتقدير العدّة وكمّيّتها بحسب الشّرع فيدخل من هذه الجهة

__________________

واستشهاده بما في الرّواية من قوله عليه‌السلام : « نعم ، إذا انقتضت عدّتها فهو معذور ... إلى آخره » فاسد ؛ فإنه جواب عن السؤال حيث إنّ السائل سأل عن هذا الحكم ، وأمّا الإمام ٧ فبيّن له قاعدة كلّيّة أوّلا وحكم بأنه يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك.

ومحصّله : ان الجهل عذر في جميع الموارد » إنتهى. محجة العلماء : ج ٢ / ٩ ـ ١٠.


في الجهل بالحكم الشرعي ، وقد يكون من جهة الجهل بالانقضاء مع العلم بالمقدار والكميّة وكون المرأة ذات عدّة مع العلم بحكم النكاح في العدّة.

والحكم في جميع صور الجهل بالموضوع فيما كان جهلا بسيطا هو الحكم بالفساد ، وعدم جواز ترتيب الآثار من جهة الأصل الأوّلي في المعاملات ، مضافا إلى جريان الأصل الموضوعي في القسم الثاني من الجهل بالمقدار. أي : الشبهة الموضوعيّة على تقدير القول بجريان الاستصحاب في خصوص هذا القسم من الشكّ في المقتضي وإن لم نقل بجريانه فيه مطلقا على ما ستقف عليه في الجزء الثالث. ومضافا إلى وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة من الجهل بالمقدار لعدم جريان البراءة قبل الفحص.

نعم ، قد يتوهّم : أنّ الأصل الأوّلي وإن اقتضى الفساد في الشك في أصل العدّة أيضا ، إلاّ أن مقتضى الأصل الموضوعي فيه الصّحّة وجواز ترتيب الآثار ، وهو حاكم على أصالة الفساد ؛ فإنها أصل حكمي بالنسبة إليه ، وإن كانت جارية في الشبهة الموضوعيّة. وعليه يحمل الجهل بالعدّة في كلام الإمام عليه‌السلام في الصحيحة (١).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٤٢٧ باب « المرأة التي تحرم على الرجل فلا تحل له أبدا » ـ ح ٣ ، والتهذيب : ج ٧ / ٣٠٦ باب « من يحرم نكاحهن بالأسباب دون الأنساب » ـ ح ١٢٧٤ ، والوسائل ـ عن الكافي ـ : ج ٢٠ / ٤٥٠ باب « ١٧ من أبواب ما يحرم بالمصاهرة » ـ ح ٤.


لكنه كما ترى ؛ لأن احتمال الاعتداد في المرأة ؛ إن كان مع العلم بكونها مزوّجة من جهة احتمال الطلاق ، أو الموت في الزوج ، فالأصل الموضوعي يقتضي المنع من جهة استصحاب الحياة والزوجيّة. وإن كان مع عدم العلم بالزوجيّة السابقة فلا معنى للشكّ في كونها في العدّة إلاّ على تقدير التزويج والموت أو الطلاق ، وهو كما ترى ، فتأمل.

وكيف كان : لا بدّ من أن يريد المتوهّم هذا الفرض.

وأما القسم الأوّل من الجهل بالمقدار ، فلا يجري فيه الأصل الموضوعي. أي : استصحاب العدّة بعد فرض كون الشبهة في الحكم ؛ لأن نسبة الأقل والأكثر متساوية بالنظر إلى الحكم ، وهذا نظير الشكّ في مقدار الوقت في الموقّت من جهة الشبهة الحكميّة وستقف على عدم جريان الاستصحاب فيه في باب الاستصحاب في « الكتاب » وإن كان مقتضى صريحه في المقام جريان الأصل.

وأمّا استصحاب حكم العدّة فلا معنى لجريانه بعد فرض كون الشكّ فيه من جهة الشكّ في الموضوع. اللهم إلاّ أن يتسامح فيه ، هذا ما يقتضيه الأصل في المقام مع قطع النظر عن الأخبار. وأمّا بملاحظتها فلا إشكال في أنه مع الشّكّ في المقدار من جهة الشك في الحكم ، يجب الاحتياط. كما هو مقتضى الأصل ، مع قطع النظر عن أصالة الفساد ؛ لعدم جريان البراءة قبل الفحص المفروض في المقام على ما عرفت الإشارة إليه.


ففي « الحسن » (١) لإبراهيم بن الهاشم عن أبي أيّوب عن يزيد الكناسي عن أبي جعفر عليه‌السلام وفيه : « قلت : فإن كانت تعلم أنّ عليها عدّة ولا تدري كم هي؟فقال عليه‌السلام : إذا علمت أنّ عليها العدّة لزمتها الحجّة فتسأل حتى تعلم ».

وفيه أيضا : « ما من امرأة من نساء المسلمين إلاّ وهي تعلم أنّ عليها عدّة في طلاق أو موت ، ولقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك ) (٢) وورودها في المرأة لا يقدح بعد وضوح عدم الفرق في الحكم في الشكّ في المقدار في مفروض البحث كما هو ظاهر.

فقد ظهر ممّا ذكرنا كله : أن فقه الحديث بيان المعذوريّة من حيث الحكم الوضعي في الجهل بالموضوع ، لكن مورده في الأوّل : في الجاهل المركّب. وفي الثاني : الجاهل البسيط ؛ لصراحة تعليل الأهونيّة في ذلك في الرواية في ذلك كما هو ظاهر ، وليس فيها تفكيك بعد حمل الجهل فيها على المعنى الأعمّ. أي : عدم العلم بالواقع ، مع إرادة الخصوصيّة من الخارج ، فاللفظ استعمل في الجامع ، ويعلم

__________________

(١) أقول : انّما عبّر عنه بالحسن ، لمكان ابراهيم بن هاشم ؛ حيث لا يوجد له توثيق صريح في كلمات القدماء غير انه ممدوح عندهم. والحق : ان الرجل في أعلى درجات الوثاقة بل فوقها فالصحيح ان الحديث صحيح لا غبار عليه وتوضيح المطلب ، يطلب من محلّه وقد فصّلناه في أبحاثنا الرجالية والحديثيّة.

(٢) الكافي الشريف : ج ٧ / ١٩٢ باب « حدّ المرأة التي لها زوج ... » ـ ح ٢ ، عنه وسائل الشيعة :ج ٢٨ / ١٢٦ باب « ان من زنى وادعى الجهالة ... » ـ ح ٣.


إرادة الخصوصيّة في الموردين بقرينة التعليل.

وإلى ما ذكرنا أشار شيخنا قدس‌سره بقوله : « فتأمّل فيه وفي دفعه » (١) (٢) فإن كان

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٥ وفي الكتاب : « فتدبر فيه وفي دفعه ».

(٢) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« أمّا التدبّر في أصل الإشكال فيقال فيه :

أمّا على تقدير كون المراد بالجهالة في جميع الفقرات متّحدا ـ بأن يكون المراد منها في الجميع الغفلة ـ فلأنه مستلزم لكون تعليل أولويّة الجاهل بالحكم بالعلّة المذكورة تعليلا بالعلّة المشتركة وهو قبيح كما لا يخفى ، أو بأن يكون المراد منها في الجميع الشك ، فإنه لا وجه للتعليل حينئذ أصلا لكونه كذبا. وأمّا على تقدير كون المراد منها في هذه الفقرة الغفلة وفي سابقتها الشك ، فيلزم التفكيك بين الجهالتين وهو خلاف الظاهر ، إلاّ أنه بعد دوران الأمر بينه وبين التقدير الأوّل بأحد احتماليه يجب الإلتزام به لبطلان الأوّل وفساده عند العقل مطلقا بخلاف الثاني فإن غايته كونه مخالفا للظاهر ، لا قبيحا والظاهر يخرج عن مقتضاه بعد قيام القرينة عليه بالضرورة ولذا قال قدس‌سره : ( ومحصّله لزوم التفكيك بين الجهالتين ) بغير موجّه ـ بالفتح ـ وأمّا التدبّر في دفعه :

فبأنّ الجهالة معناها إنّما هو عدم العلم المعبّر عنه بالفارسيّة بـ ( ناداني ) المتحقّق تارة في ضمن الشك وأخرى في ضمن الغفلة كما مرّت الإشارة إليه وهي مستعملة في كلا الموضعين من الرّواية في هذا المعنى العام إلا انه لمّا لم يكن لها مصداق في الثاني منهما ـ وهو الجهل بأن الله حرّم عليه التزويج في العدّة ـ إلاّ في ضمن الغفلة لوضوح هذا الحكم بين المسلمين كالشمس في رابعة النهار بحيث يعرفه كلّ أحد ممّن قرعت سمعه كلمة الإسلام أو كان لها


__________________

مصداق آخر ايضا لكنه في غاية الندرة بحيث كاد أن يلحق بالمعدوم فعلّل ٧ أولويّة العذر هنا بعدم القدرة على الإحتياط ؛ لانحصار مورد الجهالة هنا في الغفلة لا لإستعماله إياها هنا في الغفلة حتى يلزم التفكيك مع أنه لا يعقل مع اطلاق الجهالة في السؤال بكلا شقّية وقوع الجواب بكونها أهون في الشقّ الثاني معلّلا بأني فرضت الجاهل فيه الغافل وهو لا يقدر على الإحتياط ؛ لكون ذلك بمكان لا يمكن نسبته إلى أحد منّا فكيف بالإمام ٧؟! » إنتهى.

أنظر تقريرات السيد المجدد الشيرازي : ج ٤ / ٤٥ ـ ٤٦.

* وقال سيّد العروة قدس‌سره :

« لا يحضرنا شيء في دفع الإشكال ، والإلتزام بالتفكيك لا بد منه ؛ لأن الجاهل الغافل لا يقدر على الاحتياط مطلقا سواء كانت جهالته بحكم الحرمة أو بموضوع كونها في العدّة والجاهل الملتفت يقدر على الإحتياط في الجهالتين فتعليل أهونيّة جهالة الحكم بعدم القدرة معها على الاحتياط لازمه فرض الجاهل فيه غافلا وفرض الجاهل في موضوع العدّة ملتفتا وهذا هو التفكيك المستبعد.

ولعلّ في التفكيك : أن الغالب في الجاهل بالحكم هو الجاهل الغافل لأن الملتفت لا يجهل مثل هذا الحكم الواضح بين المسلمين بخلاف الجاهل بالموضوع فانه قد يكون غافلا وقد يكون ملتفتا على حدّ سواء » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ٩٧.

* وقال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« هذا التخصيص موجب لورود إشكال على الرّواية على كل تقدير من لزوم كذب العلّة مضافا إلى تخصيص العلّة المشتركة بأحد المتشاركين على فرض حمل الجهل في


المراد بالجاهل المركب في الحكم القاصر منه ، وبالجاهل البسيط في الموضوع القسم الأوّل منه ـ مع فرض جريان يقتضي معذوريّته من حيث الحكم ـ انطبق

__________________

الموضعين على الشك ولزوم خصوص تخصيص العلّة المشتركة على تقدير حمله على الغفلة فيهما ولزوم التفكيك فيه بينهما لو حمل على الغفلة في موضع التعليل وعلى الشك في الموضع الآخر فتدبّر.

[ فالإشكال وارد فيها ] على كل حال وغاية ما يمكن ان يقال في دفعه :

هو أن إرادة الغفلة في أحد الموضعين والشك في الآخر لا يوجب التفكيك في الجهالة بحسب المعنى فيهما ؛ فإنه من الجائز بل المتعيّن في استعماله في كلا الموضعين في المعنى العام الشامل للغفلة والشك لكن لما كان الغالب في الجهل بالحكم هو الغفلة إذ مع وضوح هذا الحكم بين المسلمين قلّما يتّفق مع الإلتفات اليه الشك فيه بخلاف الجهل بكونها في العدّة فانه يتحقق غالبا مع الإلتفات لكثرة أسبابه ؛ إذ المتعارف بحيث قلّ ان يتخلّف التفتيش من حال المرأة التي يريد أن يزوّجها ومعه من المستحيل عادة ان لا يصادف ممّا يورث التفاته إلى انّها في العدّة ام لا ، كما لا يخفى ، خصّ الإمام عليه‌السلام الجاهل بالتحريم بالأعذريّة معللا بكونه غير قادر على الإحتياط ؛ نظرا إلى أنّ الغالب فيه الغفلة بخلاف الجاهل بالعدّة من دون اعتناء منه عليه‌السلام بما يتّفق نادرا في الموضعين [ فلا ] تفكيك بحسب المعنى في الموضعين ، فافهم » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٠١.

أقول : وأنظر توضيح الإشكال ودفعه أيضا في كلّ من حاشية فرائد الأصول للمحقق الهمداني : ١٥٨ ـ ١٥٩.

وكذا قلائد الفرائد : ج ١ / ٣٢٥ ، وأجود التقريرات : ج ٣ / ٣١٨ ، ونهاية الأفكار : ج ٣ / ٢٣١ ـ ٢٣٢ ، ومقالات الأصول : ج ٢ / ١٧٥.


مورد المعذوريّة من حيث الحكم الوضعي مع مورد المعذوريّة من حيث الحكم التكليفي ، فافهم.

(١١١) قوله قدس‌سره : ( وقد يستدلّ على المطلب أخذا من الشهيد ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٤٥ )

تقريب الاستدلال بصحيحة عبد الله بن سنان

أقول : الحديث ما رواه في « الذكرى » عن « الكافي » في « النوادر » في « المعيشة » بسنده « الصحيح » عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كلّ شيء يكون فيه حرام وحلال فهو حلال لك أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (١) وقريب منه « صحيحة » أخرى لابن سنان عن أبي جعفر عليه‌السلام عن الجبن ... إلى أن قال : فقال عليه‌السلام : « أخبرك عن الجبن وغيره كلّ ما فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (٢).

وتقريب الاستدلال بالصحيحة الأولى (٣) كما في « شرح الوافية » للسيّد

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ ، باب « النوادر » ـ ح ٣٩ ، وسائل الشيعة : ج ٢٤ / ٢٣٦ باب « حكم السمن والجبن وغيرهما » ـ ح ٢.

(٢) الكافي الشريف : ج ٦ / ٣٣٩ باب « الجبن » ـ ح ١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٥ / ١١٧ باب « جواز أكل الجبن ونحوه ... » ـ ح ١.

(٣) قال المحقق الأصولي الشيخ محمد هادي الطهراني قدس‌سره :


صدر الدين : « أن قوله : « كل شيء فيه حلال وحرام » يحتمل أحد معان ثلاثة :

الأوّل : أن كل فعل من جملة الأفعال التي تتّصف بالحلّ والحرمة ، وكذا كل عين ممّا يتعلق به فعل المكلّف ويتّصف بالحلّ والحرمة إذا لم يعلم الحكم الخاص به من الحل أو الحرمة فهو لك حلال ، فيخرج ما لا يتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطرارية والأعيان التي لا يتعلّق بها فعل المكلّف. وما علم أنه حلال لا حرام

__________________

« محصّل هذه الرواية : انّ ما كان حلالا بمقتضى أصل من الأصول لا يمنع من حلّيّته مجرّد الإحتمال ؛ فإن اليد دليل على الملكيّة فلا يعتدّ باحتمال كون الثوب سرقة أو العبد حرّا ، والأصل عدم كون الإمرأة أختا أو رضيعة ، بمعنى انّه لا يعتدّ باحتمال الخصوصيّة باشتمال الكلّي عن صنفين مختلفين في الحكم وإن أوجب احتمال الحرمة ، إلا انّه لا أثر له ؛ لاندفاعه بالأصل ، وهذا معنى هذه الرّوايات فلا ربط لها بما نحن بصدده ، مع أن مجرّد الإحتمال يكفي في فساد الإستدلال ، وليس المراد اشتمال الجزئي الحقيقي على الأمرين ؛ فإنه إمّا يجب الإجتناب عنه وإمّا يجب فيه الخمس ، فالمراد انقسام الكلّي إلى القسمين وكونه منشأ للتّردّد لدوران أمر الموجود الخارجي بين الأمرين.

وأما مجرد احتمال التحريم ودوران الحكم بين الحرمة والإباحة مثلا كما في شرب التتن ، فلا يصدق عليه أنّ فيه حلالا وحراما ، وفرق واضح بين التردّد والتقسيم ، وكونه منقسما اليهما عند الشخص من الأغلاط فإن الشك ليس تقسيما عند الشخص مع أنّ هذا التقييد على تقدير الصحّة جزاف محض لا شاهد عليه ، والإستدلال بمجرّد الاحتمال غلط.

فتبيّن ممّا حقّقناه فساد ما ذكره شارح الوافية وغيره في تقريب الإستدلال » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ١٠.


فيه أو حرام لا حلال فيه ، وليس الغرض من ذكر هذا الوصف مجرّد الاحتراز ، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه ، فصار الحاصل : أن ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو حلال سواء علم حكم كليّ فوقه أو تحته ـ بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحققه في ضمنه لعلم حكمه أيضا ـ أم لا.

الثاني : أن كل شيء فيه الحلال والحرام عندك ـ بمعنى أنّك تقسمه إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين ، ولا تدري المعيّن منهما ـ فهو لك حلال.

الثّالث : أن كل شيء يعلم له نوعين أو صنفين ، نصّ الشارع على أحدهما بالحل وعلى الآخر بالحرمة واشتبه عليك اندراج فرد فلا تدري من أيّ النوعين أو الصنفين فهو لك حلال ، فيكون معنى قوله : « فيه حلال وحرام » ؛ أنه ينقسم إليهما ، ويمكن أن يكون المراد بالشيء : الجزئي المعيّن ، وحينئذ يكون المعنى : أنه يحتمل الحلّ والحرمة للاشتباه في كونه فردا للحلال والحرام مع العلم بهما لنصّ الشارع عليهما ، وحاصل المعنيين أمر واحد. والمعنى الثالث أخصّ من الأوّلين ، والثاني مرجعه إلى الأوّل ، وهو الذي ينفع القائلين بالإباحة. والثالث هو الذي حمل القائل بوجوب التوقّف والاحتياط هذه الأحاديث عليه » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) شرح الوافية : ٢٤٧ ـ ٢٤٨ مخطوط انظر الوافية : ١٨١ ، وكذا الفاضل النراقي في المناهج : ٢١١.


وما ترى في « الكتاب » لخّصه شيخنا قدس‌سره من كلامه وفاقا للمحقق القمّي قدس‌سره في « القوانين » (١).

والمعنى الثالث سواء اعتبر وجود النوعين ، أو الصنفين في الشيء بجعله كليّا ، أو حمل على الاحتمال والترديد في الشيء بجعله جزئيّا ، فالتقسيم يعتبر فيما هو فوقه فينطبق على الشبهة الموضوعيّة فقط.

ومن هنا ذكر : أن القائل بالاحتياط يحمل الأحاديث على المعنى الثالث ، فإنّهم يلتزمون بالإباحة في الشبهة الموضوعيّة.

ثم إنه زاد الفاضل النراقي في « المناهج » احتمالات أخر على ما ذكره في الرّواية من الاحتمالات فإنه بعد ما ذكر الاحتمالات الثلاثة المتقدمة من شارح « الوافية » قال ما هذا لفظه :

« الرّابع : أن كل فعل أو عين له أنواع ، نصّ الشارع على أحدها بالحلّ وعلى الآخر بالحرمة ، واشتبه عليك في نوع ثالث هل نصّ عليه بالحل أو الحرمة؟ فهو لك حلال. مثاله : اللحم له أنواع ، لحم الغنم ، ولحم الخنزير ، ولحم الحمير ، تعلم حلّيّة الأوّل وحرمة الثاني واشتبه عليك الأمر في الثالث.

الخامس : أن كل شيء من فعل أو عين له نوعان حلال وحرام ، واشتبه عليك

__________________

(١) القوانين : ج ٢ / ١٨ وتلخيص القوانين للمطلب هو السبب في التفاوت الكثير في العبارة بين الموجود في شرح الوافية والفرائد.


الأمر في صنف أنه هل هو مندرج تحت الأول أو الثاني؟ فهو من الأوّل. أي :حلال. مثاله : اللحم له نوعان حلال وحرام واشتبه عليك الأمر في لحم الحمير ؛ أنه هل هو من النوع الحلال أو الحرام؟

والفرق بين هذا والثالث : أنّ التنويع في هذا باعتبار الحليّة والحرمة ، وفي الثالث باعتبار آخر ، وكذا في الرابع. مضافا إلى أن المعلوم في هذا هو أن هذا الشيء له نوعان حلال وحرام ، سواء علم بعض أصناف كلّ منهما أم لا بخلاف الرابع ؛ فإنه يعلم فيه الحلال والحرام بخصوصهما.

السّادس : أعم من الثلاثة ؛ وهو أنّه كلّ شيء له نوعان أو أنواع واشتبه عليك الأمر في فرد ، أو صنف ، في حليّته وحرمته ؛ لأجل الاشتباه في الحكم ، أو الاندراج تحت أحد النوعين ، أو في نوع ، في أنه هل هو أيضا نوع حلال أو حرام؟فهو لك حلال.

مثاله : اللحم فيه الحلال والحرام والمذكّى والميتة ولحم الغنم والخنزير والحمير ، واشتبه عليك الأمر في لحم ؛ إمّا لأجل أنه لا يعلم أنّه من المذكّى ، أو الميتة ، أو لأجل أنه لا يعلم أنّه من الحلال أو الحرام ، أو لأجل أنه لا يعلم أنه في نفسه كيف هو؟ ثمّ قال قدس‌سره :

ثمّ نقول : لا شك في دلالة هذه الأحاديث ، أي : الأخبار الواردة : بأنّ كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ؛ التي منها هذه الصحيحة على إباحة ما لا نص فيه على المعنيين الأوّلين ، وكذا على الثلاثة الأخيرة ، كما ظهر من أمثلتها.


نعم ، على المعنى الثالث لا دلالة عليها ، والأوّلان وإن كانا خلاف الظاهر ؛ لأن الظاهر من قوله « فيه حلال وحرام » أنه مشتمل على النوعين منقسم إليهما في الواقع ، لكن الثالث أيضا غير صحيح ؛ إذ لا شكّ أنّ قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » عامّ شامل بعمومه الصريح لمثل اللحم في الأمثلة الأربعة ، وكذلك الاشتباه المفهوم من عبارة الحديث التزاما يشمل الاشتباه في جميع تلك الصور ، والمعنى الثالث يوجب تخصيص قوله عليه‌السلام بما علم فيه خصوص النّوع الحلال وخصوص الحرام ، وبما كان النوعيّة باعتبار غير الحليّة والحرمة. وتقييد الاشتباه بما يكون لأجل الاشتباه في الاندراج تحت النوع الذي عنوانه غير الحليّة والحرمة ، مع العلم بخصوص الحلال والحرام ، ولا باعث على ذلك التخصيص والتقييد الذي ليس في الحديث منه عين أو أثر ، ولو جاز ذلك لما تمّ العمل بعامّ ولا مطلق.

بل وكذلك الرابع والخامس أيضا ، أي : يوجب التخصيص في العموم من دون قرينة ، وكون المورد خاصّا لا يوجب خصوص الحكم ، مع أنه لا مورد في الصحيحة الأولى ، وتبادر الشخص الموجود في الخارج من العين ممنوع ، بل الظاهر من قوله « بعينه » أي : بخصوصه ، مع أنه لا يضرّ ؛ لأن اللحم عين خارجيّ ، وتمام المطلوب يعني في شرب التتن الذي ليس من هذا القبيل لعدم القول بالفصل. وما قيل : إن الظاهر من الرّواية : أن كل شيء له نوعان أو صنفان حكم الشارع في أحدهما بالحلّ وفي الآخر بالحرمة فهو غير ضار ؛ لأنك قد عرفت : أن هذا المعنى


مأخوذ في جميع المعاني الأربعة » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

ثمّ حكى بعد ذلك كلام المحقّق القمّي قدس‌سره في « القوانين » (٢) وبالغ في الإيراد عليه ؛ حيث إنه ذهب إلى اختصاص الصحيحة بإثبات الحلّيّة في الشبهات الموضوعيّة.

وقال الشيخ في « الفصول » ـ بعد الجزم بظهور الرّواية في الشبهات الموضوعيّة وتضعيف ما ذكره الشارح « للوافية » ـ ما هذا لفظه :

« نعم ، ربّما أمكن أن يقال : بأنا إذا ضممنا عنوانا مشتبه الحكم إلى عنوان معلوم الحرمة وعنوان معلوم الحلّيّة ، يصدق على المجموع بأنّه شيء فيه حلال وحرام فيثبت الحلّيّة في مشتبه الحكم لعدم العلم بحرمته ، وكذا لو جمعنا بين المصاديق الثلاثة فينسحب الحكم حينئذ من المصداق إلى العنوان. وفي كلا الوجهين تعسّف ؛ فإن المتبادر من الرواية حلّيّة المشتبه » (٣) انتهى كلامه رفع مقامه.

__________________

(١) مناهج الأحكام في أفصول الفقه : ٢١٢.

(٢) قوانين الاصول : ج ٢ / ١٨.

(٣) الفصول الغرويّة : ٣٥٣.


إختصاص الرّواية بالشبهات الموضوعيّة وشواهده

والإنصاف : أن اختصاص الرّواية بالشبهات الموضوعيّة ممّا لا يقبل الإنكار كما جزم به شيخنا قدس‌سره وفاقا لمن عرفته وغيرهم ، فإن فيها شواهد وقرائن واضحة على ذلك منها : قوله : « فيه حلال وحرام » فإن ظهوره في وجود القسمين في الشيء سواء أريد منه الأعيان باعتبار الأفعال المتعلقة بها ، أو الأفعال ، أو الأعمّ منهما ، أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا من غير فرق بين أن يلاحظ القسمين في فوقه ، فيكون المراد من الشيء الجزئيّ الحقيقي كاللحم المردّد بين المذكّى والميتة في الخارج وإن كان اللحم المردّد بين المذكّى والميتة إذا لو حظ بهذا العنوان كليّا.

وعليه لا بدّ من ارتكاب الاستخدام في ضمير « فيه » ؛ لعدم إمكان وجود القسمين في الجزئي الحقيقي ، أو تحته فيكون المراد من الشيء الكلي كلحم الغنم الذي فيه المذكّى والميتة ، وأيّا ما كان : تنطبق على الشبهة الموضوعية ، وإن كان الأظهر هو المعنى الثاني ؛ للزوم الاستخدام في الضمير في موضعين من الرّواية يعني في ضمير ( فيه ) و ( منه ) وهو خلاف الظاهر جدّا.

وأمّا ما ذكره الشارح من التقسيم ـ على تقدير التعميم الذي يرجع إلى الترديد والاشتباه والاحتمال حقيقة كما اعترف به ـ فهو مناف للتقسيم وضدّ له.


ومن هنا ذكر شيخنا قدس‌سره : ( أنه لا تقسيم مع الترديد ، لا ذهنا ولا خارجا ) (١) (٢) ومن هنا ذكر الشارح في طيّ المعنى الثالث المنطبق على الشبهة الموضوعيّة فيكون معنى قوله : « فيه حلال وحرام » : أنه ينقسم إليهما.

وبالجملة : إمّا أن يراد من قوله « فيه حلال وحرام » وجود الاحتمالين في الشيء ، أي : احتمال الحليّة والحرمة الذي يتقوّم الشّكّ والترديد به ، فيحمل الشيء على الأعمّ من الكلي والجزئي والشبهات الحكميّة والموضوعيّة ، كما ارتكبه السيّد الشارح ، وعليه مرجع المعنيين الأوّلين ، أو وجود المحتملين الذي هو بمعنى التقسيم كما اعترف به فينطبق على المعنى الثالث ، أي : خصوص الشبهة الموضوعيّة كما ذكره.

وأنت خبير بأن الاحتمال الأوّل الذي مبنى دلالة الصحيحة على بيان حكم الشبهة الحكميّة في كمال الضعف والسقوط.

نعم ، لازم الاحتمال والترديد المأخوذ في موضوع الحكم عقلا كون المحلّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٧.

(٢) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« المراد من القسمة الذهنيّةها هنا هو تقسيم الكلي بملاحظته مع ما يعرضها من الفصول المنوّعة ، أو العوارض المصنّفة ، أو المشخّصة إلى الأنواع ، أو الأصناف ، أو الأشخاص ، ومن التقسيم الخارجي هو تقسيم الكل إلى أجزاءه فكّيّة أو فرضيّة فلا تغفل » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٠٢.


قابلا لتعلّق الحكم الشرعي به ، كما أن المحمول الشخصي المحمول عليه منفي بحكم العقل عن غيره ، ولو لم نقل بكون التعليق بالوصف ظاهرا في المفهوم ضرورة كون النزاع بالنسبة إلى سنخ الحكم الثابت في جانب المنطوق لا شخصه ؛ فإنه ممّا لا يقبل القيام بغير الموضوع المذكور في المنطوق عقلا ، فلا يتوهّم وقوع النزاع فيه ، والكلام في دلالة التعليق على انتفائه ، بل التحقيق : كون انتفاء سنخ الحليّة إذا أريد بها الظاهري كما هو الظاهر من المعلوم عقليّا أيضا من غير ابتنائه على المفهوم ، وإن كان انتفاء أصل الحلّيّة بالمعنى الأعم من الظاهري والواقعي بحكم المفهوم بالنسبة إلى معلوم الحلّيّة لا بالنسبة إلى معلوم الحرمة فتدبّر.

وإن كان الظاهر من قوله : « وليس الغرض من ذكر هذا الوصف مجرّد الاحتراز ، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه » (١) كون خروج معلوم الحلّيّة ومعلوم الحرمة من جهة توصيف الشيء بقوله : « فيه حلال وحرام » فيكون مبنيّا على دلالة التعليق بالوصف على المفهوم ، فيكون الغرض منه : أمران :

أحدهما : بيان مورد الحكم ، وأنه فيما يقبل الاتّصاف بالحكم الشرعي حتى يحتمل فيه الاحتمالان ، في قبال ما لا يقبل الاتّصاف من الأعيان والأفعال.

ثانيهما : الاحتراز عن معلوم الحكم ، فالمعلوم الحرمة ابتداء يخرج بقوله :« فيه حلال وحرام » وأمّا معلوم الحرمة ثانيا بعد كونه مشكوكا في زمان ، فيخرج

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٦.


بالغاية كالموضوع المردّد الذي يبنى على حلّيّته ، ثمّ يحصل العلم بكونه من مصاديق الحرام.

لا يقال : ظهور قوله « فيه حلال وحرام » في التقسيم ووجود النوعين في الشيء إنّما يمنع من الحكم بشمول الصحيحة للشبهة الحكمية على ما زعمه السيد الشارح ، ومن هنا جعله بمعنى الاحتمال والترديد حتّى يشملها ، لا على الاحتمالات التي ذكرها الفاضل النراقي والشيخ (١) في « الفصول » فإنه مع كون المراد منه التقسيم الحقيقي يشمل الشبهتين.

لأنا نقول : وجود الأقسام الثلاثة بالنظر إلى الحكم ممّا لا يقبل الإنكار ؛ إلاّ أنّه مع ذلك لا بد من الحكم باختصاص الرواية بالشبهة الموضوعيّة أيضا ؛ حيث إن لقوله عليه‌السلام « فيه حلال وحرام » ظهور تامّ بملاحظة تمامية الكلام بدونه ، كما في جملة من الروايات في كون الغرض منه الإشارة إلى بيان منشأ الاشتباه في الشيء وتردّده بين الحلال والحرام. ومن المعلوم ضرورة اختصاص هذا المعنى بالشبهة الموضوعيّة ؛ حيث إن الاشتباه في حكم الموضوع الكلي كلحم الحمير مثلا لا تعلّق له بوجود القسمين في مطلق لحم الحيوان كالغنم والخنزير مثلا ولا ينشأ منه أصلا ، فإنه لو فرض القسمان متّحدين بحسب الحكم يقع الشك فيه أيضا ، بل السبب فيه أمر راجع إلى نفسه ، وهو أحد أمور ثلاثة على سبيل المنفصلة الحقيقية :وهو عدم الدليل على حكمه ، أو إجمال ما دلّ عليه ، أو تعارضه مع غيره مع التكافؤ

__________________

(١) الشيخ محمد حسين الحائري الإصفهاني المتوفي سنة ١٢٥٠ ه‍.


على ما عرفت ، وستعرف : من كون سبب الشكّ في الحكم أحد الأمور المذكورة ، وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية ؛ فإنه لو لا وجود القسمين في نوع الموضوع ، لم يكن هناك شكّ من حيث الحليّة والحرمة في فرد من أفراده كما هو ظاهر.

فتبيّن مما ذكرنا كلّه من كلامه : ضعف ما أفاده الفاضل النراقي قدس‌سره شاهدا على التعميم من لزوم التخصيص من الوجهين ، والتقييد من وجه على تقدير حمل الصحيحة على كلّه خصوص الشبهة الموضوعية بقوله : « والمعنى الثالث يوجب تخصيص قوله عليه‌السلام : « كل شيء » بما علم فيه خصوص النوع الحلال وخصوص الحرام وبما كان النوعيّة باعتبار غير الحلّيّة والحرمة ... إلى آخر ما ذكره » (١).

فإن ظهور قوله عليه‌السلام : « فيه حلال وحرام » فيما ذكرنا من بيان منشأ الاشتباه ، يكشف عن اختصاص الشيء الذي هو الموضوع بما يكون وجود القسمين فيه منشأ للشكّ الواقع فيه وسببا له بنحو من السببيّة ، فلا عموم وإطلاق له حتى يلزم التخصيص والتقييد من غير مخصّص ومقيّد ، مع أنه على تقدير لزومهما يكون ما ذكرنا من الظهور قرينة عليهما وكاشفا عنهما ، ولا يمكن العكس ؛ لكونه حاكما عليهما كما لا يخفى.

فإن قلت : إنه كما يكون وجود النوعين سببا دائما للاشتباه الواقع في الشبهة الموضوعيّة على ما ذكرت ، كذلك يمكن صيرورته سببا له في الشبهة الحكميّة

__________________

(١) أنظر مناهج الأحكام : ٢١٢ ، ذيل المعاني الستة من الصنف السادس من الأخبار الواردة في المقام الثاني من البحث الأوّل من المنهاج الأول من المقصد الرابع ( في الأدلة العقليّة ).


أيضا كما إذا فرض العلم إجمالا بأن في الّلحم في الشرع حلالا وحراما ولم نتميّز بالأدلة الشرعيّة الحلال عن الحرام فلحم كل حيوان يشكّ في كونه حلالا وحراما والسّبب للشكّ فيه وجود القسمين في مطلق لحم الحيوان بحيث لو فرض وجود قسم واحد لما وقع الشكّ في لحم حيوان من الحيوانات ، فإذن يحكم بشمول الرّواية له ويحكم بإلحاق غيره عليه ممّا لا يوجد القسمان فيه أصلا ، أو يوجدان لا بالوصف المذكور بعدم القول بالفصل ، فيكون الصحيحة بهذه الملاحظة دليلا على الحلّيّة في الشبهة الحكميّة أيضا ، وإليه يرجع الوجه الخامس الذي ذكره الفاضل النراقي رحمه‌الله.

قلت : وجود القسمين على الوجه المذكور في الشبهة الحكميّة ، مع أنه مجرّد فرض يوجب الحكم بحرمة جميع اللحوم المرددة بين الحلال والحرام لمكان العلم الإجمالي.

فإن شئت قلت : إنه يخرج عن محلّ البحث حيث إنه في الشكّ في التكليف لا في الشكّ في المكلف به ، والعلم الإجمالي بوجود الحرام في اللحم مع عدم العلم التفصيلي به أصلا يوجب دخوله في الشكّ في المكلّف به فيجب الاحتياط في محتملاته من حيث كونه من المتباينين لا الأقل والأكثر كما هو ظاهر هذا كلّه.

مضافا إلى كونه خلاف ظاهر الصحيحة من وجوه ، مضافا إلى أن الظاهر منها وجود القسمين بحيث يعلم بهما تفصيلا لا مجرّد العلم بوجودهما كيف ما اتّفق كما هو ظاهر.


القرائن الدالّة على اختصاص الرّواية

بالشبهة الموضوعيّة

وبالجملة : لا بدّ من أن يحكم باختصاص الرّواية بالشبهة الموضوعيّة بالنظر إلى الظهور المذكور هذا. مضافا إلى قوله : « حتى تعرف الحرام منه بعينه » فإنّ الظاهر منه كما ترى ، كون الغاية معرفة الحرام المفروض وجوده ولا ينطبق هذا المعنى كما ترى ، إلا على الشبهة والموضوعيّة.

مضافا إلى أنه لا معنى لجعل معرفة حرمة بعض الموضوعات الكليّة غاية لحليّة الموضوع الكلي المشتبه الآخر ؛ ضرورة أنه لا يوجب رفع الاشتباه عنه ولا تعلّق له به أصلا مع أنه لو بني عليه لم يكن معنى لجعل الحليّة الظاهريّة في الموضوعات الكليّة مع فرض العلم بحرمة بعضها ، وهذا كما ترى.

وبالجملة : من تأمّل في الرواية صدرا وذيلا يحصل له القطع باختصاصها بالشبهة الموضوعيّة ، وأن ما ارتكبه الفاضل المتقدم ذكره من التحمّل لإثبات عمومها للشبهة الحكميّة لا يجديه في شيء.

منها : قوله « حتى تعرف الحرام » منه فإن فيه دلالة من وجهين أيضا على الاختصاص بالمعنى الثالث ؛ فإنه على أحد المعنيين الأوّلين لا بدّ أن يقول حتى تعرف حرمته لا حتّى تعرف الحرام منه ، فالقول المذكور من جهة الاشتمال على


الحرام ، وكلمة ( منه ) تدل على اختصاص الرواية بالمعنى الثالث.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « بعينه » فإن التأكيد بالكلمة المذكورة لا مساس له بالشبهات الحكميّة أصلا كما لا يخفى دلالته على الاختصاص بهذه الملاحظة ، لا بملاحظة كون المراد منه التعيّن والتشخّص بحسب الخارج ، يعني متعيّنا متشخّصا حتى يتوجّه عليه : بأن المراد منه هو التأكيد للمعرفة والاهتمام بشأن اعتبارها فتنطبق على الشبهة الحكمية والموضوعية معا.

ومنها : إطلاق الرّواية من حيث الفحص عن الحرمة وثبوت الحليّة ما لم يحصل معرفة الحليّة ، وهو شاهد على إرادة الشبهة الموضوعية ؛ إذ على تقدير إرادة المعنى الأعم لا بدّ من ارتكاب التخصيص أو التقييد فيها بالنّسبة إلى موارد اشتباه الحكم بما بعد الفحص واليأس فتدبّر.

فقد تبيّن مما ذكرنا كله : الوجه في ضعف ما أفاده السيّد الشارح في معنى الرّواية كظهور ضعف ما أفاده الفاضل النراقي (١) : من المعاني الثلاثة الأخيرة ؛ فإن الأوّل منها الذي هو رابع الوجوه في كلامه ، ليس منشأ الاشتباه فيه وجود النوعين ، مضافا إلى منافاته للغاية ، والأخيرين منها لا يناسبا المقام ولا تعلّق لهما بالشكّ في التكليف ، مضافا إلى منافاتهما للمدّعى لو جعل المراد من المعرفة في الغاية معرفة الحرام في الجملة ، ولو باعتبار بعض أنواعه لما عرفته من أن معرفة

__________________

(١) مناهج الأحكام في أصول الفقه : ٢١٢ كما مرّت الإشارة إليه.


بعض المحرّمات في الشبهة الحكميّة لا تصلح غاية للإباحة بقول مطلق.

ما أورده المحقّق القمّي على السيّد الشارح

وتنظّر المحقّق القميّ قدس‌سره فيما ذكره السيّد الشارح قدس‌سره من وجوه أربعة :

أحدها : أنّه يوجب استعمال قوله عليه‌السلام : « فيه حلال وحرام » في معنيين :أحدهما : أنه قابل للاتصاف بأحدهما ويمكن تعلّق الحكم به ليخرج ما ليس كذلك من الأعيان والأفعال. ثانيهما : ما يوجد فيه النوعان في الواقع ، أو عندنا ، ليخرج ما تعيّن حليّته وحرمته.

ثانيها : أنّه يوجب استعمال المعرفة في قوله : « حتّى تعرف الحرام » في معنيين : أحدهما : المعرفة من الأدلة حيث أريد من الرواية الشبهة الحكميّة. ثانيهما : المعرفة من الأمارات الخارجيّة ، كالبيّنة ونحوها إذا أريد منها بيان حكم الشبهة الخارجيّة. ومن المعلوم عدم جواز استعمال اللفظ في معنيين ، ثمّ أمر بالتّأمّل ، والوجه فيه ظاهر من حيث إنّ اختلاف أسباب المعرفة لا يوجب اختلاف معناها.

وقال شيخنا قدس‌سره : وليته أمر بالتأمّل في الإيراد الأوّل (١) أيضا ؛ ضرورة عدم

__________________

(١) قال صاحب قلائد الفرائد في قلائده ( ج ١ / ٣٣٨ ) :

« إن وجه التأمّل في الإيراد الثاني واضح. وأمّا وجهه في الإيراد الأوّل :


__________________

فهو ما ذكره غير واحد منهم الفاضل النّراقي حيث قال في مناهجه (٢١٢) :

( انه لو صح هذا لزم أن يكون القائم في قولك : « أكرم الانسان القائم » للإحتراز عن الرّاكب والقاعد مستعملا في معنيين ، وكذا « رأيت عينا دامعة » إحترازا عن النابعة والذاهب ، مع أنه ليس كذلك قطعا ولا يلزم من الإحتراز بشيء من شيئين استعماله في معنيين وكما لا يلزم ان يكون القائم مستعملا في من لا يركب ولا يقعد وكذلك أكثر الأوصاف الاحترازيّة كذلك لا يلزم في قوله ٧ : « فيه حلال وحرام » استعماله في المعنيين اللّذين ذكره ، بل يكون معناه ما يحتمل الاتصاف بهما في نظر المكلّف ، فيحترز به عمّا لا يحتمله ، سواء لم يقبل الإتصاف بهما عنده أو يقبله ولكن لم يوجد فيه النوعان بل كان له محض القابليّة وهذا معنى عام يشمل المعنيين ) إنتهى.

وأنت خبير بأنّ ما ذكره ; متين لكن لا ربط له بمقالة المحقق القمّي ، توضيح المقام : ان اللفظ الذي يلزم استعماله في المعنيين في الفقرة المزبورة ليس الضمير المجرور ولا كلّ من قيدي الحلال والحرام.

أمّا الأوّل : فلأنه عبارة عن الشيء وهو ممّا لا يحصل به الإحتراز.

وأمّا الثاني : فلأنّهما من الجوامد والقيود التي تكون من مقولتها لا يحصل بها الإحتراز أيضا ولذا لم يقل : « ولا يقول أحد أن قوله ـ يجب إكرام زيد ـ إحتراز عن إكرام عمرو » وحينئذ فليكن اللفظ المستعمل في المعنيين هو نفس الجارّ أعني : لفظة « في » بأن يقال : إن معناه هو التلبّس والإتصاف ، والمعنيان المستعمل فيهما اللفظ هو القابليّة والفعليّة هذا.

فإن قلت : إنّ المراد به هو المعنى الثاني أعني : الإتّصاف الفعلي وله جهتان ـ كما في أكثر


لزوم استعمال قوله : « فيه حلال وحرام » في معنيين أيضا ، لما عرفت : من أن لازم وجود الاحتمال إمكان تعلّق الحكم الشرعي ، فإرادته من حيث اللزوم لا من حيث استعمال اللفظ فيه ، ويمكن إرجاعه إليهما كما ذكره في « الكتاب » وإن كان في كمال البعد.

ثالثها : أنه لا معنى لإخراج المعلوم من الرّواية من حيث إن الضمير في قوله : « فهو لك حلال » يرجع إلى المجهول ، ولا جهالة فيهما. يعني أن خروجهما من الشيء خروج موضوعيّ بعد إرادة المجهول منه ، فلا معنى لأخذ المفهوم لإخراجهما.

رابعها : أنه لا معنى لأخذ المفهوم المخالف في المقام من حيث إيجابه لحمل السالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع ؛ من حيث أن سلب الحليّة عن المعلوم من حيث عدم تحقق الجهالة فيه ، وهو كما ترى ، خلاف الظاهر جدّا ، هذا حاصل ما أفاده.

__________________

القيود الإحترازيّة ـ : جهة القابليّة وجهة الفعليّة ، وبكل من هاتين الجهتين يحصل الإحتراز عن قسم ، فالمستعمل فيه هو الفعلية الجنسيّة ؛ لأنّها حينئذ قابلة لكونها محيّثة بحيثيّتين.

[ قلت ] : وليس كذلك ؛ لإن إرادة الفعليّة الجنسيّة إنّما صحّت لو كان الدالّ عليها هو الإسم دون الحرف ؛ ضرورة ان الموضوع له فيه ليس إلاّ المعنى الجزئي الشخصي وهو غير قابل للتحيّث المزبور ، وحينئذ لا يتحقق الإحتراز عن القسمين إلاّ بأن يراد من لفظة « في » قابليّة الإتّصاف وفعليّتها الجزئيّتين وهو عين استعمال اللفظ في المعنيين هذا » إنتهى.


وأنت خبير بأن الإيرادين الأخيرين على تقدير ورودهما لا تعلّق لهما بأصل المعنى الذي ذكره الشارح من التقسيم الاحتمالي.

ثم إن الشيء في قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » وإن لم يستعمل في المجهول ، وكذلك الضمير في قوله : « فهو لك حلال » راجع إلى نفس الشيء المنقسم إلى القسمين ، لا إلى المجهول منه ، إلاّ أن الغرض إعطاء الحكم في مورد الجهل بالحرمة ؛ ضرورة عدم إمكان جعل الحلية الواقعية والظاهريّة بإنشاء واحد ، وعدم إمكان أخذ الغاية المذكورة في الرّواية قيدا لهما ؛ لأنّ الحليّة الواقعيّة تعرض الفعل بحسب نفس الأمر من غير مدخليّة لعدم العلم بالحرمة في عروضها له ، بل امتناع مدخليّته فيه ، والحليّة الظاهريّة تعرض الفعل بملاحظة الجهل وعدم العلم بالحرمة ، بل نمنع عروضها له من دون الملاحظة المذكورة ، فالمحمول في قوله عليه‌السلام : « فهو لك حلال » لا يمكن أن يحمل على الأعمّ من الحليّة الظاهريّة والواقعيّة ، بل لا بد من أن يحمل على الحليّة الظاهريّة ؛ نظرا إلى الغاية المتعلقّة بها ، فالمرجع هو الشيء المنقسم باعتبار تحقّقه في ضمن الفرد المردّد.

فما في كلام بعض أفاضل مقاربي عصرنا : ( من أن المراد من الشيء هو الكلّي المنقسم إلى القسمين ، والحكم بحليّته على الإطلاق فيما يعلم تحقّقه في النوع الحرام تفيد البيان والتأكيد بالنسبة إلى الحلال المعلوم ) (١) ، لم يعلم له معنى محصّل.

__________________

(١) الفصول : ٣٥٤.


نعم ، لو جعلت القضيّة إخبارا عن ثبوت الحليّة بالمعنى الأعمّ للشيء المنقسم إلى القسمين ما لم يعلم تحققها في ضمن القسم الحرام منه فيكون حلالا واقعيّا بدليله فيما علم تحقّقه في قسم الحلال ، من غير مدخليّة للعلم في عروضها وحلالا ظاهريّا فيما شك في تحقّقه في ضمن أحدهما ، كما أنه حرام واقعيّ فيما علم تحقّقه في القسم الحرام من غير مدخليّة للعلم في عروضها ، فيكون الصحيحة إخبارا عن ثبوت الترخيص بالمعنى الأعمّ وبقول مطلق لما كان شأنه من الأفعال والأعيان الانقسام إلى القسمين ، وإن كان الغرض متعلقا بالإخبار عن خصوص الحلّيّة الظاهريّة للفرد المردّد.

وعلى ذلك لا بدّ من أن يحمل ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » وغيره في غيره في معنى الصحيحة (١) ، في قبال ما أفاده السيد الشارح في معناها ؛ من جعل

__________________

(١) في حاشية على القوانين ج ٢ / ٢١ ما لفظه :

« إعلم ان بعض أفاضل المعاصرين نقل عن شيخنا المرتضى في هذا المقام بيانا أبسط ممّا هو مذكور في الرّسائل وتقريره :

ان الرّواية تحتمل وجوها ثلاثة :

أحدها : ما ذكره السيّد صدر الدين أوّلا وتكون الظرفيّة على تقديره توسّعيّة بمعنى أنّ كلّ ما يتطرّق فيه احتمال الكلّيّة والجزئيّة فهو لك حلال وهذا المعنى يعمّ الشبهة الموضوعيّة والحكميّة.


__________________

ثانيها : أن تكون الظرفيّة على وجه الإحاطة والسريان على وفق ظرفية الكلّي لجزئيّاته بمعنى : أن كلّ كلّي له فردان ... إلى آخره فينطبق على الشبهة الموضوعيّة الحكميّة كالغيبة والغناء والشبهة الموضوعية كاللحم.

ثالثها : ان تكون الظرفيّة على نحو اشتمال الكل للأجزاء والمركب للبسائط بأن يعتبر هناك عناوين ثلاثة : معلوم الحلّيّة ومعلوم الحرمة والمشتبه وتنزّل منزلة شيء واحد ويقال : إنه شيء فيه حلال وحرام سواء كان الشك في أصل الحكم أو في موضوعه ويدخل في ذلك الشبهة المحصورة.

أمّا الإحتمال الأوّل ففاسد ؛ إذ لا يلائم الظرفيّة لظهورها في الشبهة الموضوعيّة مع أن الذيل ينادي أيضا بعدم صحّته ؛ لأن قضيّته قبل الحلّيّة مغيّاة بمعرفة الحرمة حينئذ صيرورة العنوان الكلّي حراما لو حصل المعرفة بحرمة بعض أفراده ؛ إذ ليس هناك ما يخصّ المعرفة الخاصّة بالموضوع بالشبهة الموضوعيّة والخاصّة بالشبهة الحكميّة وهذا ظاهر الفساد.

نعم ، لو قال عليه‌السلام : حتى تعرف انه الحرام كما في الخبر الآخر لم يلزم ذلك.

وكذا الإحتمال الثالث بل هو أوضح فسادا من الأوّل لظهور الشيء في الواحد الحقيقي والإعتباري.

فالوجه هو المعنى الثاني وهو أيضا لا يخلو عن النظر.

أمّا أوّلا : فلأنّ صدر الرّواية ـ على فرض مساعدته بالشبهة الحكميّة ـ فذيلها غير مساعد لها ؛ فإن ظاهر قوله عليه‌السلام : ( حتى تعرف الحرام ) معروفيّة أصل عنوان المحرّم سيّما بملاحظة كلمة ولفظ « الحرام » الظاهر في العهد.


المراد من الشيء : هو خصوص المجهول والأمر المردّد بين الحلال والحرام بما يرجع إلى قوله : « وعلى ما ذكرنا ، فالمعنى ـ والله العالم ـ : أن كلّ كلّي فيه قسم حلال وقسم حرام كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكّى والميتة ، فهذا الكلي لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام متعيّنا في الخارج فتدعه ، وعلى الاستخدام ، يكون المراد : أن كلّ جزئيّ خارجيّ في نوعه القسمان المذكوران فهذا الجزئي لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معيّنا في الخارج فتدعه ... إلى آخر ما أفاده » (١) (٢).

ولمّا كان الحمل على الإنشاء بالمعنى الأعم ممّا لا يجامع مع الشيء كليّا كما هو مبنى هذا التوهّم ، وعلى الإخبار بعيدا كما هو ظاهر حمل الشيء في قوله :

__________________

وأمّا ثانيا : فللزوم المحذور المذكور في الأوّل وهو صيرورة العنوان الكلّي حراما بمعرفة حرمة بعض أفراده. ويمكن تصحيحه : بجعل الغاية غاية لإطلاق الحكم فهي بمنزلة الإستثناء ، فالمعنى حتى تعرف الحرام وضمير « منه » راجع إلى كلمة « كلّ » لا لفظ « شيء » فتأمل » انتهى.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٤٧.

(٢) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« إنّما جعل المشار إليه على تقدير الإستخدام هو الجزئي المراد بلفظ الشيء دون الكلي الذي يعود إليه الضمير في « فيه » و « منه » لأنه لولاه لخلت الجملة الواقعة خبرا عن المبتدأ ـ الذي هو الشيء ـ عن الرّبط لها إلى ذلك المبتدء كما لا يخفى » إنتهى.

تقريرات المجدّد الشيرازي : ج ٤ / ٤٧.


« كل شيء فيه حلال وحرام » على الجزئي مع اعتبار التقسيم في فوقه ، وهذا وإن استلزم الاستخدام في الضمير في الموضعين من الرواية واعتبار معرفة نوع الحرام بحيث ينطبق على الشيء بالنسبة إلى الغاية ، إلاّ أنه لا مناص عنه بعد الامتناع والبعد المذكورين وعليه ينطبق الشيء كما ترى على المجهول ، من غير أن يرجع الضمير في قوله : « فهو لك حلال » إلى المجهول من الشيء الملحوظ بهذا العنوان وإن كان في الواقع متّصفا بالعنوان المذكور. فليس هنا مجهول مضاف إلى الشيء ولا مقدّر يرجع الضمير في قوله « فهو لك حلال » إليه ، هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالصحيحة وما في معناها مما جعل دليلا على الحلّيّة في الشبهة الحكميّة.

واستدلال الفاضل النّراقي في « المستند » على الحلّيّة في محلّ البحث أيضا بضربين آخرين من الأخبار :

أحدهما : ما دل على حصر الحرام بما حرّمه الله في كتابه ، وهي جملة من الأخبار.

منها : صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام فيما سألاه عن لحوم الحمير الأهلية ، قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أكلها يوم خيبر.

إلى أن قال : « وإنّما الحرام ما حرّم الله في القرآن » (١).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٦ / ٢٤٥ باب « جامع في الدواب التي لا تؤكل لحمها » ـ ح ١٠ ، وعنه


ومنها : صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام وفيها : « وليس الحرام إلاّ ما حرّم الله في كتابه » (١).

ومنها : صحيحته الأخرى وفيها : « وإنّما الحرام ما حرّم الله ورسوله في كتابه (٢).

ومنها : ما عن زرارة عن أحدهما قال : « إن أكل الغراب ليس بحرام إنّما الحرام ما حرّم الله في كتابه » (٣).

قال قدس‌سره ـ في تقريب الاستدلال بها بعد نقلها ـ :

__________________

التهذيب : ج ٩ / ٤١ باب « الصيد والزكاة » ـ ح ١٧١ ، الإستبصار : ج ٤ / ٧٣ باب « حكم لحم الحمر الأهلية والخيل والبغال » ـ ح ١ ، عنهما الوسائل : ج ٢٤ / ١١٧ باب « كراهة لحوم الحمر الأهلية وعدم تحريمها » ـ ح ١.

(١) التهذيب : ج ٩ / ٤٢ باب « الصيد والزكاة » ـ ح ١٧٦ وكذا الإستبصار : ج ٤ / ٧٤ باب « حكم لحم الحمر الأهلية والخيل والبغال » ـ ح ٨ عنهما الوسائل : ج ٢٤ / ١٢٣ باب « كراهة لحوم الخيل والبغال وعدم تحريمها » ـ ح ٦.

(٢) التهذيب : ج ٩ / ٦ باب « الصيد والزكاة » ـ ح ١٦ ، والإستبصار : ج ٤ / ٦٠ باب « النهي عن صيد الجرّي والمار ماهي والزمّار » ـ ح ٩ ، عنهما الوسائل : ج ٢٤ / ١٣٦ باب « تحريم اكل الجرّي والمار ماهي والزمّير » ـ ح ٢٠.

(٣) التهذيب : ج ٩ / ١٨ باب « الصيد والزكاة » ـ ح ٧٢ ، والإستبصار : ج ٤ / ٦٦ باب « كراهية لحم الغراب » ـ ح ٣ ، عنهما الوسائل : ج ٢٤ / ١٢٥ باب « حكم أكل الغراب وبيضه ، من الزاغ وغيره » ـ ح ١.


« دلّت هذه الأخبار على انحصار الحرام بما حرّمه الله في القرآن وأن ما سواه مباح يخرج ما خرج بالدليل فيبقى الباقي وهي بعمومها شاملة للأعيان والأفعال ، وتخصيص مواردها بالمأكولات غير ضارّ ؛ لأن العبرة بعموم الجواب. مع أنه لا قائل بالفصل » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنه لا تعلّق لهذه الأخبار أمثالها من العمومات الاجتهادية المقتضية لحليّة الأشياء من الآيات مثل قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (٢) ونحوه والأخبار بالمقام ؛ فإنّ البحث عن حكم ما لم يقم دليل على حليّته وحرمته بحسب الأصل الأوّلي ، لا عن قيام الدليل على حليّة كلّ شيء بعنوان العموم وإن كان قيامه مع تماميّته من جميع الجهات مغنيا عن التكلم في الأصل الأوّلي فإنه على تقدير تسليم كون الأصل هو الحظر ووجوب الاحتياط فيما شك في حرمته وعلّيّته كان المتعيّن الرجوع إلى تلك العمومات الاجتهادية أيضا ، فلا ينفع الأخباري أخبار الاحتياط ، كما أنه لا جدوى للمجتهد لطول البحث فيما دلّ على البراءة في الشبهة الحكميّة.

ثانيهما : ما دلّ من الروايات على أن « كلّ شيء حلال حتى تعلم أنه حرام

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

(٢) المائدة : ٥.


بعينه » (١) وهي كثيرة يأتي ذكر بعضها في « الكتاب » في الشبهة الموضوعية ،

منها : ما ورد في شراء الإبل والغنم من السلطان وهو يعلم بأنه يأخذ أكثر من الحق الذي يجب عليهم من أن الإبل والغنم مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه (٢).

وقوله عليه‌السلام : ( وغير ذلك ) عام يشمل الأعيان والأفعال.

ومنها : رواية مسعدة بن صدقة المعروفة التي ستقف عليها (٣).

ومنها : رواية عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « في الجبن كل شيء هو لك حلال حتى يجيئك شاهدان عندك بأنّ فيه الميتة » (٤).

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٣ باب « النوادر » ـ ح ٤٠ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٧ / ٨٩ باب عدم جواز الانفاق من كسب الحرام ـ ح ٤ ، ورواه الشيخ الطوسي في التهذيب : ج ٧ / ٢٢٦ باب « من الزيادات » ـ ح ٩.

(٢) الكافي الشريف : ج ٥ / ٢٢٨ باب « شراء السرقة والخيانة » ـ ح ٢ ، عنه وسائل الشيعة :ج ١٧ / ٢١٩ باب « جواز شراء ما يأخذه الظالم من الغلات » ـ ح ٥.

(٣) الكافي الشريف : ج ٦ / ٣٣٩ ، باب « الجبن » ـ ح ٢ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٥ / ١١٨ باب « جواز أكل الجبن ونحوه مما فيه حلال وحرام » ـ ح ٢.

(٤) انظر الكافي الشريف : ج ٥ / ٣١٤ باب « النوادر » ـ ح ٤٠ ، وتهذيب الأحكام : ج ٧ / ٢٢٦ باب « من الزيادات » ـ ح ٩ ، عنهما وسائل الشيعة : ج ١٧ / ٨٩ باب « عدم جواز الانفاق من كسب الحرام » ـ ح ٤.


قال قدس‌سره ـ بعد نقلها ما هذا لفظه ـ : « والسؤال في الأولى ، والمثال في الثانية والمورد في الثالثة وإن كانت مختصّة بما اشتبه فيه الموضوع لكن خصوصيّتها لا يخصّص الجواب ، وقوله في الثانية : « أو يقوم به البيّنة » لا يوجب التخصيص ، لسبق قوله : « أو يستبين لك غيره » على أنّ البيّنة يطلق على من سمع الحرمة من أهله وكذلك قوله في الأخيرة : « حتى يجيئك شاهدان » فإنه يدلّ بمفهوم الغاية على أن كل شيء لم يجىء فيه شاهدان بذلك ، فهو حلال. نعم ، يمكن المناقشة في الأخيرة بأن قوله : بأن « فيه الميتة » قرينة على التخصيص بما شأنه ذلك » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بأنه لا عموم ولا ظهور للأخبار المذكورة وأمثالها لمحلّ البحث ؛ إذ اختصاصها بالشبهة الموضوعيّة مما لا يقبل الإنكار ، فإن قوله : « وغير ذلك » لا عموم فيه للمقام أصلا ، وصدر رواية مسعدة وإن كان عامّا إلاّ أن ذيلها يكشف عن اختصاصها بما يكون من شأنه قيام البيّنة ، أو تعلّق الحكم على الاستبانة من دون فحص. وأين هذا من الشبهة الحكميّة؟

ومنه يظهر : اختصاص رواية عبد الله بما من شأنه قيام الشاهدين فلا عموم لهذه الأخبار أصلا ، ومن هنا لم يتمسّك بها أصحابنا لحكم المقام ، بل تمسكوا بها في الشبهة الموضوعيّة كما ستقف عليه.

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.


(١١٢) قوله قدس‌سره : ( الأوّل : دعوى إجماع العلماء كلهم ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٥٠ )

في التمسّك بالإجماع على البراءة (٢) فيما لا نصّ فيه

أقول : لا يخفى عليك : أن الإجماع المذكور يسمّى عند بعضهم بالإجماع التقديري تارة ، والتعليقي أخرى ، وعند آخر بالاجتماع على الأصل والقاعدة ؛ وذكر ثالث : أنه لا اعتبار بمثله بعد وقوع الاختلاف في قيام الدليل على وجوب الاحتياط وعدمه ، كما هو الشأن في سائر الإجماعات التعليقية التي وقع الاختلاف في وجود المعلّق عليه في مواردها ؛ لأنه لا يكشف عن شيء.

نعم ، الإجماع في قبال الأخباريين على أن الحكم الظّاهري فيما لم يرد نصّ على تحريمه بعنوانه الخاص الإباحة مفيد جدّا ، من غير فرق بين أن يكون قوليّا حاصلا بملاحظة الفتاوى من أهلها ، أو عمليّا حاصلا بملاحظة سيرة خصوص المسلمين ، أو أهل الشرائع سواء كان طريق تحصيله على الأوّل بتتبّع

__________________

(١) أنظر حاشية فرائد الأصول للسيّد اليزدي قدس‌سره : ج ٢ / ١٠٧.

(٢) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :

« وأمّا الإجماع فليس إلاّ عملا بالأصل الذي يستقلّ العقل بإدراكه ، ولو كان على قيام الدليل من الأخبار فالنّظر في كلمات الأئمة عليهم‌السلام يغني عن تضييع الوقت في التعرض للأقوال » إنتهى. محجة العلماء : ج ٢ / ١٠.


الفتاوى وكلماتهم في الأصول والفقه في موارد الاستدلال ، أو ملاحظة الإجماعات المنقولة في العلمين ولو بضميمة الشهرة العظيمة المحقّقة في المسألة.

فالمراد بالإجماع المحصّل بأحد الوجوه المذكورة في « الكتاب » ، لا بدّ أن يكون أعمّ من القولي والعملي ، لا خصوص القولي ؛ فإنه لا معنى لجعل الوجه الثالث طريقا إليه كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ معلوميّة مذهب من تمسّك بالاحتياط أحيانا في بعض جزئيّات المسألة في الفقه بملاحظة غيره في الفروع والأصول كالسيّد والشيخ والعلامة يكشف عن أن الغرض هو مجرّد التأييد والاعتضاد لا الاعتماد والاستدلال كما يذكرونه أحيانا في طيّ الاستدلال في الشبهة الوجوبيّة أيضا مع ذهاب أكثر الأخباريّين فيها إلى البراءة.

ومن هنا تراهم كثيرا ما يذكرون القياس في مطاوي استدلالهم ، بل ربّما لا يذكرون غيره مع أن المعلوم من المذهب عدم جواز الاعتماد به ، فليس ذلك إلاّ من جهة ما ذكرنا من كون الغرض التأييد ، وإن وقع بعض (١) أصحابنا الأخباريين في التوهّم وتخيّل كون الغرض الاستدلال ، وفتح باب الطعن على حملة الشريعة ورؤساء الملة.

__________________

(١) كالشيخ محمد أمين الأستر آبادي سامحه الله عز وجل في فوائده المدنيّة.


ثمّ إن القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين بعد اتفاقهم على أن للفعل أحكاما أربعة اختلفوا في أن للعقل الحكم بالإباحة أم لا وجعلوا مورد هذا الاختلاف الأشياء الغير الضروريّة المشتملة على المنفعة الخالية عن أمارة المفسدة قبل الاطلاع على حكم الشارع بعد الفحص في مظان وجود الدّليل على الحرمة.

فذهب غير واحد إلى أنّها على الإباحة في حكم العقل ، وبعضهم إلى أنها على الحظر في حكمه ، وآخر إلى أنها على الوقف كالمفيد والشيخ ، بمعنى أنه لا حكم للعقل بشيء من الحظر والإباحة.

وهذا العنوان كما ترى ، إنّما هو بالنظر إلى حكم العقل فلا ينافي التزام القائل بالوقوف الإباحة بالنظر إلى الشرع ، بل التحقيق : عدم منافات القول بالإباحة بالنظر إلى الشرع مع الالتزام بالحظر من جهة العقل بناء على كونه ظاهريّا مبنيّا على وجوب دفع الضرر المحتمل لا واقعيّا.

وبالجملة : لا إشكال في شهادة التتبع في كلماتهم على أنّ الحكم عندهم فيما احتمل حرمته الإباحة ظاهرا ولو من جهة الاستناد إلى أخبارها وإن كانوا يذكرون الاحتياط في مقام الاستدلال تأييدا في مطلق الشبهة الحكمية. ومن هنا نسب إليهم القول بالاحتياط من دون تأمّل في باقي كلماتهم. ومن هنا احتمل كون نسبة « المحقّق » القول بالاحتياط إلى جماعة ، مبنيّا على ما ذكر ؛ حيث قال في


« المعارج » ما هذا لفظه المحكي : « العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى وجوبه ، وقال آخرون : مع اشتغال الذمة يكون العمل بالاحتياط واجبا ، ومع عدمه لا يجب » (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

وهو كما ترى ، لا يجامع بظاهره ما حكي عنه في « المسائل المصريّة » : من تقريره تعليل السيّد دعواه الإجماع على جواز إزالة النجاسة بالمائعات ، مع عدم ورود نصّ به : بأن من أصلنا العمل بالأصل ، حتى يثبت الناقل ولم يرد منع عن استعمال المائع في إزالة النجاسة (٢).

فإنه حكى هذا الكلام عن السيّد ولم يناقش في دعواه الإجماع العمل بالأصل حتى يثبت خلافه في الشرعيّات ، وإن لم يكن المورد بزعمنا من موارد الرجوع إلى أصالة البراءة والإباحة ، بل يتعيّن الحكم بعدم كفايته في التطهير بالنظر إلى استصحاب النجاسة وقاعدة الاشتغال على تقدير عدم اعتبار الاستصحاب ، إلاّ أن الغرض التنبيه على دعواه الإجماع على الأصل وتقرير المحقّق له في ذلك.

وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في إجماع المجتهدين على كون الحكم الظاهري في الشبهة التحريميّة جواز الفعل من غير فرق بين الشبهة الحكميّة

__________________

(١) معارج الأصول : ٢١٦ ذيل المسألة الثالثة من الفصل الثالث من الباب العاشر.

(٢) المسائل المصريّة ضمن الرسائل التسع : ٢١٦.


والموضوعيّة وعدم وجوب الاحتياط فيهما.

(١١٣) قوله قدس‌سره : ( الثالث : الإجماع الكاشف (١) عن رضاء المعصوم عليه‌السلام ... إلى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٥٥ )

__________________

(١) كذا في النسخ والموجود في نسخة الفرائد المطبوعة : « الإجماع العملي الكاشف » :

(٢) قال الشيخ أحمد بن الحسين التفريشي النجفي ( المتوفى ١٣٠٩ ه‍ ) وفيه : ان للأخباري دعوى الفرق بين زماننا هذا وما شابهه وبين أوّل الشريعة وما ضارعه بأنه في أوّل الشريعة لمّا كان صدور الأحكام وتبليغها على سبيل التدريج ولم يرد منهم الأمر بالإحتياط كان العمل بالأصل ممّا لا مناص منه.

وأمّا بعد إكمال الدين وإتمام الشريعة كما في بعض الأخبار مثل قوله عليه‌السلام في خطبة الغدير في حجّة الوداع : « معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به وما من شيء يباعدكم عن الجنّة ويقرّبكم من النار إلاّ وقد نهيتكم عنه ».

ومثل ما دلّ من النصوص المعتضدة بالإجماع على أنّ لكل واقعة حكما قد صدر حتى أرش الخدش ، فنمنع كفاية عدم وجدان النهي في الحكم بالإباحة فضلا عن جريان السيرة عليه ، ولو سلّم جريان السيرة فاعتبارها موقوف على عدم الرّدع وتقرير المعصوم عليه‌السلام وقد بلغ ردعهم عن ذلك إلى حدّ التواتر كما في الأخبار الآمرة بالتوقّف والإحتياط. إنتهى « تفريشي ».

* وعلّق عليه الفاضل الكرماني قائلا :

أقول : فانظر إلى هذا الجواب الذي لو عرض على الأخباري بأن أجب بهذا عن دليل الخصم لأنكره غاية الإنكار ويقول : إنّك تريد أن تجعلني أضحوكة لأولى الأبصار.


أقول : قد يناقش في جواز التمسّك بالسّيرة في المقام من حيث عدم العلم بتحقّقها من المتديّنين ، مضافا إلى عدم العلم بتحقّق شرائط كشفها عن تقرير المعصوم عليه‌السلام كيف؟ ويكفي في الردع أخبار التوقف والاحتياط فلا يتم الاستناد إليها ، إلا بعد منع دلالتها ، ولا خلاف في البراءة على التقدير المذكور.

وأمّا القول : بأن بناء الشرع على تبليغ المحرّمات دون المباحات وليس ذلك إلاّ من جهة عدم حاجة الإباحة إلى البيان ، وكفاية عدم العلم بالتحريم في الحكم بالرخصة ، سيّما بملاحظة ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع (١).

فهو كما ترى ؛ إذ يتوجّه عليه ـ مضافا إلى أن بناء الشرع على تبليغ جميع الأحكام من غير فرق بين التحريم والإباحة ـ : أنّ ذلك إنما يفيد فيما لو كان عدم

__________________

فإن ما استند اليه في التفصيل بين الأزمنة من الخبر الوارد في انّ لكلّ واقعة حكما ، لا يختصّ بزمان دون زمان ، بل هو ثابت في كلّ الأزمنة. وأمّا ما في خطبة حجّة الوداع ، فلعمري إنه على الاخباري لا له ؛ فإن مقتضاه حصر المحرّم في ما نهى عنه وبلّغ ، وما سواه مباح ، ومع الغض عن ذلك ينتج جوابه تسليم السيرة في حياة النبي ٦ ، وإنكار ذلك في بعض أزمنة حياته ٦ وتمام الأزمنة المتأخرة ، وهل يرضى الأخباري بهذه الموهومات الموهونات؟ فاعتبروا يا أولي الأبصار إنتهى.

حاشية رحمة الله على الفرائد : ٢٠٣.

(١) الكافي الشريف : ج ٢ / ٧٤ باب « الطاعة والتقوى » ـ ح ٢ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٧ / ٤٥ باب « استحباب الاجمال في طلب الرزق » ـ ح ٢.


العلم بالتحريم دليلا على الإباحة الواقعية ، لا على الإباحة العقلية الظاهريّة فتدبّر.

وأمّا ما أفاده المحقق قدس‌سره في بيان اتفاق أهل الشرائع على عدم تخطئة من بادر إلى تناول المشتبهات ، بل المحرّمات عن جهل ، فلم يعلم له معنى محصّل.

إذ مبادرتهم إلى تناول المحرّمات من دون فحص غير مجوّزة بالاتّفاق ، فكيف يكفّون عن نهيهم عنه مع عدم جوازه في حقهم حتى على القول بالبراءة؟! إلاّ إذا فرض غفلتهم عن إلزام العقل بوجوب الفحص بحيث يرتفع عنهم التقصير إذا لم نقل بوجوب تنبيههم على ذلك.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره في ردّه ، فيراد به : أنّ تقرير أهل الشرائع إنّما هو من جهة ما ارتكز في عقولهم مع عدم حكم الشارع بوجوب الاحتياط ، فلا يثبت بذك إلا الأصل في المسألة فلا يكون الاتفاق المذكور من أدلّة المسألة ، بل هو نظير حكم العقل الآتي فتدبر.

(١١٤) قوله : ( الرابع من الأدلة : حكم العقل بقبح العقاب على شيء ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٥٦ )

__________________

(١) قال السيّد المجدد أعلى الله مقامه الشريف :

« المراد بالبيان ليس خصوص العلم وإلاّ لقبح العقاب على مخالفة التكاليف القائمة عليها


__________________

الطرق الظنّيّة المعتبرة ؛ ضرورة أنّ قيام الأمارة الظنّيّة على تكليف لا يوجب العلم به فلا يعقل كونها بيانا علميّا له مع انه لا شبهة في جواز العتاب وحسن العقاب عليها بحكم العقل وشهادة العقلاء كافّة ، بل المراد به الحجّة القاطعة للعذر بين الموالى والعبيد وهي ما لو عمل به العبد واتّفق مخالفته للواقع ـ بأن كان مؤدّيا إلى مبغوض المولى ـ لقبح على المولى عقاب العبد على ذلك ولو لم يعمل به واتفق كون مؤدّاه مطلوبا للمولى لحسن له عقابه عليه فيعمّ الطرق الظنّيّة المعتبرة فإنّها وإن لم تكن حجابا في أنفسها كالعلم إلا أنّها منزّلة منزلة العلم يجعل الشارع وأمره بالعمل بمؤدّاها وجعله إيّاها مرآة للواقع كالعلم.

لا يتوهّم : أنّه إذا لم يكن الطرق الظنّيّة بانفسها حججا ـ بل بجعل الشارع ـ فيكون مدار الحجّيّة فيما لم يكن حجّة بنفسه على جعل الشارع فتكون الطرق الظنّيّة والأمور غير المفيدة للظنّ أصلا سواء من حيث عدم حجيتهما في أنفسهما وحجّيّتهما بجعل الشارع فما الوجه في جعل الشارع الأولى حججا دون الثانية؟

لأن اعتبار الشارع ما لم يكن حجّة بنفسه وجعله حجّة معناه ـ كما أشير إليه ـ إنّما هو أمره بالعمل بمؤدّاه وجعله مرآة لتكليفه الواقعي وذلك لا يعقل في الثانية ؛ ضرورة أنه ليس لها مؤدّى ليأمر الشارع بالعمل به ؛ لعدم الكشف فيها أصلا فيرجع جعلها طرقا إلى جعل الشك طريقا وهو غير معقول.

وبالجملة : الطرق الظنّيّة صفة الطريقيّة ثابتة لها في انفسها كالعلم إلاّ ان الخاصيّة المترتبة على العلم ـ وهي السببيّة لقطع العذر ـ ليست لازمة لها كما في العلم ، بل انما هي بجعل الشارع فجعل الشارع مكمّل لطريقيّتها لا محدث لصفة الطريقيّة فيها.


__________________

وممّا ذكر إلى هنا ظهر : أنه لا يعقل أن يأمر الشارع بالاحتياط في مورد الشك في التكليف الواقعي لأجل دفع ضرر ذلك التكليف الأخروي سواء كان أمره ذلك إرشاديا أو شرعيّا يكون الحكمة فيه التحرّز عن ذلك الضرر الأخروي إذ بعد قبح العقاب على ذلك التكليف المشكوك لا ضرر حتى يجعل التحرّز عنه منشأ للأمر بأحد الوجهين المذكورين وأنه يقبح للشارع إلزام المكلّف ـ بخطاب آخر سوى الخطاب الواقعي المشكوك فيه ـ على امتثال ذلك التكليف المشكوك فيه بأن يقول له مثلا : يجب عليك امتثال التكاليف الواقعيّة المشكوك فيها عندك ؛ ضرورة أن هذا الخطاب لا يعقل كونه بيانا لذلك التكليف الواقعي المشكوك فيه وطريقا إليه ، بل هو على جهالته بعده أيضا فيكون هذا إلزاما بامتثال تكليف لا بيان له أصلا وهو قبيح.

نعم يجوز له الأمر ـ في الصورة المفروضة ـ بالإحتياط مع جعل موضوعه هو احتمال الخطاب الواقعي لا الضرر الأخروي بأن يأمر بأنك : اذا احتملت في مورد احتمال كونه منهيا عنه في الواقع يجب عليك البتحرّز عنه ؛ فإن المفروض احتمال الخطاب وليس كالضرر الأخروي الذي يقطع بعدمه فيصح جعل موضوع ذلك الأمر هو محتمل الخطاب إلا أن هذا الأمر أيضا لا يعقل كونه بيانا للتكليف والخطاب المشكوك فيه ، وإنما هو بيان لحكم هذا الموضوع الخاص وهو المحتمل كونه منهيّا عنه مثلا فهو مصحّح للعقاب على مخالفة نفسه ولو لم يكن في مورده تكليف واقعي أصلا لا على الواقع. هذا بناء على كون ذلك الأمر شرعيا.

وأما لو كان إرشاديا لأجل التحرّز عن الضرر الدنيوي المترتب على الحرام الواقعي الغير


__________________

المرتفع بالجهل فحينئذ لا عقاب على نفسه أيضا » إنتهى. أنظر تقريرات المجدد الشيرازي : ج ٤ / ٥٣ ـ ٥٤.

* وقال السيّد اليزدي فيما قرّر عنه :

« وقد أفرط المصنّف في رسالة أصل البراءة حيث حكم باستقلال العقل بقبح العقاب على الحكم المجهول حتى في الشبهات الموضوعيّة.

والتحقيق أن يقال : إن العقل لا يستقل بقبح العقاب على الحكم المجهول في الشبهات الموضوعيّة أصلا إذ موضوع حكم العقل بالقبح هو العقاب بلا بيان ، والمفروض في الشبهة الموضوعيّة ثبوت البيان من الشارع لما هو من وظيفته وهو بيان أصل الحكم ، وإنّما المجهول موضوع الحكم الذي ليس بيانه [ من ] وظيفة الشارع وهذا واضح.

إلى آخر ما ذكره في المجلد الأول من حاشيته على الفرائد انظر : ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

وقال ها هنا :

قد مرّ منا غير مرة أنّ المسلّم من حكم العقل بقبح العقاب ما إذا علم العبد عدم البيان واقعا مع عدم مانع من البيان أيضا من تقيّة ونحوها أمّا لو علم أو احتمل البيان من المولى وما وصل إلى العبد بإخفاء المخفين وتقصير المقصّرين ونحوهما أو كان للمولى مانع من البيان من تقيّة ونحوها فالإنصاف أنّ العقل لا يحكم حينئذ بقبح العقاب على الواقع المجهول.

وبعبارة أخرى : العقل والعقلاء يجعلون الجهل في الصورة الأولى عذرا للعبد في تركه الواقع المجهول بخلاف الصورة الثانية : فإنّهم لا يحكمون بمعذوريّته بل يحتملون العقاب على الواقع المجهول والحال هذه ، فيدخل ذلك في موضوع مسألة حكم العقل بوجوب دفع


__________________

الضرر المحتمل وقد عرفت سابقا في رسالة الظن صحّة حكم العقل بدفع الضرر المحتمل اذا كان الضرر عظيما خطيرا سيّما مثل العقاب الأخروي الذي يسيره كثير ، ومن الواضح أنّ محلّ كلامنا من القسم الثاني الذي لا يحكم العقل بقبح العقاب لأنا نعلم بخفاء أحكام كثيرة قد بيّنها الشارع ولم تصل الينا أو لم يبيّنها من جهة التقيّة فكيف نقطع حينئذ بالبراءة وقبح العقاب على الواقع المجهول؟

وما استشهد في المتن به من حكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما اعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه مسلّم فيما إذا علم العبد عدم الإعلام باليقين مع علمه بأنّه لو لم يكن مانع للمولى بالإعلام من تقيّة ونحوها وإلاّ نمنع قبح المؤاخذة كما اذا احتمل العبد أنّ عدم البيان من المولى لعله من خوفه من عدوّه الفلاني الحاضر عنده ، وكما لو فرض أنّ المولى كتب طومارا مشتملا على جميع ما يريد من العبد فعلا وتركا ثم ضاع بعض أوراق ذلك الطومار بسبب من الأسباب ولو بغير تقصير العبد فلو عاقب المولى عبده في الفرضين على ما لم يصل إلى العبد من حكمه لم نقطع بقبحه كما يشهد به وجدان اصحاب الأذهان المستقيمة.

فاتضح من ذلك كلّه صحّة دعوى أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي لأنّ البيان المأخوذ في موضوع حكم العقل بقبح العقاب أعم من البيان للحكم الظاهري المجعول بالنسبة إلى خصوص حال الجهل.

ومن العجب أنّ المصنّف يقول بثبوت حكم العقل بقبح العقاب في الشبهات الموضوعيّة التي ليست بيانها من وظيفة الشارع.


الكلام في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان

وكذا وجوب دفع الضرر المحتمل

أقول : لا إشكال في استقلال العقل في ذلك وحكمه حكما ضروريّا بقبح مؤاخذة المولى عبده على مخالفة ما يريده منه سواء لم يبيّنه له أصلا لمصلحة ، أو لا لها ، أو بيّنه ولم يطّلع عليه بعد الفحص عنه بقدر وسعه كما في الشبهات الحكميّة ، أو مطلقا كما في الشبهات الموضوعيّة وإن كان الأمر أوضح فيما لم يبيّنه له أصلا كما لا يخفى. وإن كان بحسب مناط التقبيح متّحدا حكما مع ما لو فرض فيه عدم وصول البيان الصادر إلى العبيد ، ومن هنا يستشهد لحكم المقام بحكم العقلاء كافة بقبح المؤاخذة في الصّورة الأولى.

ثمّ إنه كما لا إشكال في حكم العقل بما عرفت ، كذلك لا إشكال في حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل الأخروي وهو العقاب وهو المناط في حكمه في موارد كثيرة مثل النظر في معجزة من يدّعي النبوة ، والفحص عن الحكم في موارد احتمال وجوده في الشبهات الحكمية ، ووجوب الاحتياط في صور الشك في

__________________

وأعجب من ذلك أنّه تفطّن لهذا الإيراد فأورده على نفسه وأجاب عنه بوجه تعرف ضعفه بمراجعة كلامه في الشبهة الموضوعيّة » إنتهى. انظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١١٢.


المكلف به في موارد اشتباه الحكم أو الموضوع ، كما في الشبهة المحصورة إلى غير ذلك.

إنّما الكلام في صلاحيّته بيانا للتكليف المحتمل في محل البحث فيكون واردا على قاعدة القبح ؛ بتوهم : أن البيان الصالح للعقاب الرّافع لموضوع حكم العقل المذكور أعمّ من الواقعي والظاهري ، ومن الشرعي والعقلي. ومن هنا اتفقوا على صحة عقاب الكافر ، بل مطلق الجاهل مع التقصير ، وليس ذلك إلاّ من جهة صلاحية حكم العقل المذكور لرفع العذر وقطعه ، فإذا سلم حكم العقل بذلك فيكون مصحّحا للعقاب على الواقع المحتمل ، فيكون بيانا له ورافعا لموضوع حكم العقل في قاعدة قبح العقاب من غير بيان.

ومن هنا قد يناقش فيما أفاده قدس‌سره في « الكتاب » بقوله : « ودعوى : أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان ... الى آخره (١) » (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٦.

(٢) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« طريق الإيراد بتلك القاعدة ـ [ قاعدة دفع الضرر المحتمل ] ـ أن يقال على نحو الإجمال :انه اذا بني على قبح العقاب عقلا على التكليف المجهول فهنا قاعدة عقليّة أخرى ـ وهي وجوب دفع الضرر المحتمل ـ فما يصنع بتلك؟ وكيف التوفيق بينها وبين هذه وهي قبح العقاب من غير بيان؟


بأن الغرض من منع كونه بيانا إن كان منع كونه دليلا على الحكم الشرعي

__________________

وطريق الجواب عنها :

أن منافاة تلك القاعدة على تقدير ثبوتها لهذه إنّما تتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن تكون تلك رافعة لموضوع هذه بكونها بيانا للتكليف المجهول.

وثانيهما : أن يكون ما نحن فيه أعني الشبهة التحريميّة مصداقا لكليهما بحيث يشمله تلك وهذه.

وهي بكلا وجهيها مدفوعة :

أمّا على الأوّل : فبما ذكره قدس‌سره : من أنّ الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول بمعنى انه لا يصلح لذلك ، نظير عدم صلاحيّة الأمر بوجوب الإتيان بمشكوك الوجوب مثلا لكونه بيانا للتكليف الوجوبي الواقعي ، بل هي قاعدة ظاهريّة موضوعها محتمل الضرر ، فلو تمّت ـ بمعنى انه ثبت كونها حكما شرعيّا لا إرشاديّا ـ فالعقاب على مخالفة نفسها ؛ لأنّها حينئذ بيان لحكم موردها ولو لم يكن تكليف واقعي في موردها أصلا ، لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده ، فإذا كان المأخوذ في موضوعها احتمال الضرر فلا تصلح لورودها على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ فإنّ جريانها في مورد فرع احتمال الضرر ، والقاعدة المذكورة تنفيه ، فتكون هي واردة على تلك لا العكس.

وأمّا الثاني : فظهر وجهه أيضا ممّا ذكرنا ؛ فإنّ ما نحن [ فيه ] ليس من أفراد تلك القاعدة أصلا ، بل هو [ فرد ] لهذه القاعدة فقط وهي مخرجة له عن كونه من أفراد تلك.

وشيخنا الأستاذ قدس‌سره إنّما اقتصر على بيان الإشكال على الوجه الأوّل ودفعه ، ولعلّ وجه عدم تعرّضه له [ على ] الوجه الثاني : أنه بعد الجواب المذكور عن الأوّل لا يبقى مجال للثاني أصلا ، فافهم ». إنتهى تقريرات المجدّد الشيرازي : ج ٤ / ٥٤.


وطريقا إليه فهو مستقيم ، إلاّ أن البيان الرّافع لموضوع حكم العقل المذكور ليس منحصرا فيه ، وإن كان منع صلاحيّته لتنجّز الخطاب بالنسبة إلى الواقع المحتمل وصلاحيّته للمؤاخذة على مخالفته فهو غير مستقيم ، لما عرفت من صلاحيّته لذلك ، كما فيما عرفت من الموارد والمواضع المسلّمة التي لا محيص عن الالتزام فيها بما ذكر.

وأما ما أفاده : « من أن الحكم المذكور على تقدير ثبوته ليس بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه ، وإنّما هو بيان لقاعدة كليّة ظاهريّة وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع » (١) (٢) (٣).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٦.

(٢) قلت : وأنظر حاشية المحقق الخراساني ( درر الفوائد الجديدة ) : ٢٠٤.

(٣) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« [ حاصل الدفع الذي ذكره المصنّف للدعوى المزبورة ] يعني أن قاعدة القبح ناظرة إلى قبح العقاب على الواقع المجهول على تقدير مصادفة ما ارتكبه الجاهل للحرام الواقعي ، وقاعدة دفع الضرر ناظرة إلى حكم العقل باستحقاق العقاب على ارتكاب المشتبه من حيث انه مشتبه ولو لم يكن حراما واقعيّا ، فالعقاب الذي تنفيه القاعدة الأولى لا تثبته القاعدة الثانية وما تثبته القاعدة الثانية لا تنفيه القاعدة الأولى فكيف تحصل المنافاة بين القاعدتين والحال هذه؟

وفيه نظر :


__________________

أمّا أوّلا : فلأنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ليس إلاّ من جهة احتمال الضرر الواقعي وخوف الوقوع فيه وهو احتياط حكم بلزومه العقل فرارا عن ذلك الضّرر المحتمل ليس إلاّ ، لا أنّ احتمال الضرر الواقعي موضوع للحرمة الظاهريّة مطلقا ولو لم يكن ضرر في الواقع حتى يلزم أن يحكم بعقابين لو صادف الإحتمال المحرّم الواقعي ؛ فإن ذلك لم يقل به أحد في الشبهة المحصورة ونحوها ممّا هو مورد للقاعدة جزما ، ولا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان على التحقيق والمشهور حتى ان الماتن بنفسه قد اختار في أواخر أصل البراءة في مسألة معذوريّة الجاهل : بان قاعدة دفع الضرر إرشاد إلى التحرّز عن الضرر الواقعي على ما يستفاد من كلامه فراجع.

وأيضا قد صرّح هنا بعد سطرين : أن مورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فتردد المكلف به بين أمرين كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها ، ومن المعلوم ـ كما صرّح به هو بنفسه في الشبهة المحصورة ـ انه لو ارتكب أحد أطراف الشبهة المحصورة لم يفعل حراما لو لم يصادف الحرام الواقعي.

نعم ربّما يعدّ ذلك من أقسام التجرّي وما يدّعى من حكم العقل بقبح ارتكاب المحتمل مطلقا لأجل ذلك أيضا ، والمصنّف لا يقول بحرمته من هذه الجهة أيضا فلا يكون ارتكاب المحتمل من حيث هو كذلك حراما بوجه من الوجوه.

نعم حكم ما احتمل فيه الضرر الدنيوي الحرمة مطلقا صادف الضرر أم لم يصادف لكنه شرعي لا عقلي بمعنى قيام الدليل الشرعي على أنّ موضوع الحرمة التعبّديّة إحتمال الضرر أو ظنّه ، فتأمّل جيّدا كي لا يلتبس الأمر.


__________________

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو سلّمنا كون احتمال الضّرر موضوعا لحكم العقل بحرمة المحتمل مطلقا ـ كما أراده المصنّف ـ فإن ذلك أيضا وارد على قاعدة العقاب بلا بيان ؛ لأنه يكون بيانا للحكم الظاهري وأنه يترتب العقاب على المشكوك مطلقا فكيف لا يصلح ذلك لوروده على قاعدة القبح؟ وكيف يمكن الفتوى بجواز شرب التتن فعلا مع ثبوت هذه الحرمة الظاهرية له وترتّب العقاب عليه بالفرض؟

فقوله : « إن الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه » منظور فيه ؛ لأن عدم البيان الذي أخذ في موضوع حكم العقل لقبح العقاب أعمّ من البيان الظاهري ، ومن هنا يقال ونقول : انه لو تم أدلّة الأخباري على إثبات الحرمة الظاهريّة التي هي أحد الوجوه الأربعة المسندة إلى الأخباريين كفى في ردّ الأصولي القائل بالبراءة وإثبات الإحتياط الذي يدّعيه الخصم.

وقد أضاف المصنّف على ما في المتن في الحاشية ـ على ما في بعض النسخ ـ وجها آخر لدفع معارضة قاعدة القبح بقاعدة دفع الضّرر وهو لزوم الدور ومحصّل بيانه :

أنّ إبطال قاعدة قبح العقاب بلا بيان موقوف على تماميّة قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وتماميّة هذه القاعدة موقوفة على تحقّق موضوعه أعني احتمال الضّرر موقوف على إبطال قاعدة القبح فإبطالها موقوف على إبطالها.

وفيه : أولا : أنه يمكن العكس وتقرير الدور من جانب قاعدة دفع الضرر لينتج سقوط القاعدتين بأن يقال : إبطال قاعدة دفع الضرر موقوف على تماميّة قاعدة العقاب بلا بيان وتماميّة هذه القاعدة موقوفة على تحقّق موضوعه أعني عدم ثبوت البيان وهو موقوف على


فيتوجّه عليه : بأن الحكم المذكور على تقدير ثبوته كما هو الشأن في جميع موارد ثبوته لا يصلح إلاّ بيانا للتكليف المجهول ؛ ضرورة كونه إرشاديّا صرفا لا يترتّب عليه إلاّ العقاب المحتمل على تقدير ثبوت الواقع في مورده ، ولا يكون حكما شرعيّا مولويّا ظاهريّا هذا.

مع أنّه على تقدير كونه قاعدة ظاهريّة يترتب عليه تنجز الخطاب بالنسبة إلى الواقع المحتمل في مورده قطعا ، سواء قلنا بالعقاب على مخالفة الأحكام الظاهريّة بالنظر إلى أنفسها ، أم لا ـ كما هو التحقيق عندنا ـ فلو تمّت عوقب على مخالفة الواقع الثابت في موردها قطعا سواء قلنا بالعقاب على مخالفتها بالنظر إلى نفسها أم لا.

فإذا كان مبنى منع ورود القاعدة على قاعدة القبح ما أفاده : من منع صلاحيّة كونها بيانا بالنسبة إلى الواقع ـ كما هو ظاهر ما أفاده بقوله : « فلا تصلح للورود على قاعدة القبح المذكور ، بل قاعدة القبح واردة عليها » (١) (٢) عقيب

__________________

إبطال قاعدة دفع الضرر ليتحقّق عدم البيان وإلاّ فإنّه بيان ظاهري كما عرفت.

وثانيا : أنّا نمنع توقّف تحقّق موضوع قاعدة دفع الضّرر أعني احتمال الضرر على إبطال قاعدة قبح العقاب بل نحكم بتحقق موضوعه حيث لا يكون الجهل بالضّرر عذرا في إدراك العقل.

توضيح ذلك يعرف من الشرح المذكور في التعليقيّة الآتية » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١١٤.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٧.


__________________

(٢) قال السيّد اليزدي توضيحا لما سبق وشرحا لهذا المقطع من عبارة المصنّف قدس‌سره :

« قد جعل المصنّف رحمه‌الله هذا الكلام تتمة لما أجاب عن الإعتراض من أنّ قاعدة دفع الضرر قاعدة ظاهريّة والأولى جعله جوابا مستقلاّ وهو حق الجواب. تقريره :

أنّا لا نحتمل الضرر في مورد مسألتنا بعد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان حتى يعارض بقاعدة دفع الضرر المحتمل لعدم موضوعه وهو احتمال الضّرر.

لا يقال : إنّ جريان كلّ من القاعدتين رافع لموضوع الأخرى ولا وجه لترجيح تقديم جريان القاعدة الأولى لارتفاع موضوع القاعدة الثانية فإنه ليس بأولى من العكس فالتعارض بعد بحاله.

لأنّا نقول : إن التعارض في الأحكام العقليّة غير معقول للزوم التناقض واقعا وإنّما يقع التعارض في الأحكام الشرعيّة بملاحظة أدلّتها المعهودة التي لا يتميّز عند العقل صحيحها من سقيمها وحقّها من باطلها ، فيتعارض فردان من الدليل الكذائي لتساويهما من حيث دليليّتها الظاهريّة وتصادقهما في موضوع واحد بحسب ما يظهر لنا من موضوع الدليلين وهذا بخلاف الأدلة العقليّة ؛ فإنّ موضوعاتها ممتازة لا يمكن صدق موضوع حكمين منها على أمر واحد كي يحصل التعارض ، بل المورد إمّا من مصاديق هذا الحكم دون ذاك أو من مصاديق ذاك دون هذا ، وما يتخيّل من التصادق كما فيما نحن فيه إنما هو بالنّظر الجلّي وأمّا بالنظر الدقيق فيعرف دخوله في أحدهما وخروجه عن الآخر.

ففيما نحن فيه نقول :

إن العقل بعد دقّة النظر يحكم بأن المشتبه بالشبهة البدويّة موضوع لحكمه بقبح العقاب عليه


قوله : « فلو تمّت عوقب على مخالفتها » (١) ـ توجّه عليه المناقشة لا محالة هذا.

ولكنك خبير بفساد التوهّم المذكور ؛ فإن البيان الرافع لصغرى قاعدة القبح وإن كان أعمّ من البيان العقلي ولو كان ظاهريّا على ما ذكر في بيان التوهّم ، إلاّ أن قاعدة وجوب الدّفع لا تجري في المقام حتى نتكلّم في كونها بيانا ؛ لأنّ إجراءها يتوقّف على تحقّق موضوعها وهو احتمال العقاب مع قطع النّظر عن ملاحظة حكم العقل بوجوب الدفع ، واحتمال العقاب على مخالفة الحكم الإلهي الواقعي يتوقّف على أحد أمرين :

أحدهما : وجود البيان بالنسبة إليه ولو في مرحلة الظاهر.

ثانيهما : ترك الفحص عنه عند احتمال الوقوف عليه بالفحص.

وليس شيء منهما متحقّقا في محل البحث.

أمّا الثاني : فظاهر ؛ حيث إن المفروض الحكم بالترخيص بعد الفحص عن وجود الدليل على الحرمة.

__________________

لأنّه يجعل مثل هذا الجهل عذرا للمكلّف ، كما انه يحكم بأن المشتبه بالشبهة المحصورة موضوع لقاعدة دفع الضرر ؛ إذ لا يحكم بكون مثل هذا الجهل عذرا للمكلّف ، ولذا يحتمل الضّرر ويحكم بوجوب دفعه بما يتمكّن من الإحتياط » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١١٧.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٧.


وأمّا الأوّل ؛ فلأن المفروض عدم وجود بيان من الخارج بالنسبة إلى التحريم المحتمل.

فينحصر الأمر في جعل نفس حكم العقل بوجوب الدفع بيانا وهو لا يصلح له جدّا بعد توقّفه عليه ، للزوم الدّور الظاهر ، فجعل القاعدة بيانا ورافعا لموضوع قاعدة القبح وواردة عليها دوريّ ، فيختصّ جريانها بموارد وجود البيان بالنسبة إلى الواقع ، كمواضع العلم الإجمالي بالتكليف المنجّز ، أو موارد احتمال العقاب من دون بيان ، كمواضع احتمال التكليف الإلزامي من دون فحص في موارد الشكّ في الحكم الكلي. ومن هنا اتّفقوا على وجوب النّظر في معجزة مدّعي النبوّة من حيث احتمال الضّرر في تركه.

فتبين ممّا ذكرنا كله : أن القاعدة لا تصلح مانعة من جريان قاعدة القبح والتمسّك بها في المقام ، وهذا البيان كما ترى ، تمام لا يحتاج إلى جعل قاعدة القبح واردة على قاعدة وجوب الدفع ، وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر ، من حيث إن عدم احتمال العقاب على الواقع المحتمل بعد الفحص في مظان وجوده واليأس عنه ، مستند إلى حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ولا يتوجّه عليه لزوم الدور أصلا ؛ حتى قيل بتعاكس الدورين مع امتناعه ؛ ضرورة أن عدم العلم بالتحريم لا يستند إلى حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان.

وهذا بخلاف احتمال العقاب ؛ فإنه لا بدّ أن يستند إلى حكم العقل بوجوب


الدفع على تقدير إجرائه والاستناد إليه ، ويشهد لما ذكرنا ـ مع وضوح أمره ـ : أن توهّم : ورود القاعدة على قاعدة قبح العقاب من غير بيان ، يوجب رفع اليد عن القاعدة رأسا وعدم العمل بها في مورد من الموارد ، وهذا بخلاف العكس ؛ فإن موارد إعمال قاعدة وجوب الدفع على ما عرفته لا تحصى كثرة هذا.

وإن شئت قلت : إن كبرى القاعدتين عقلية قطعيّة يحكم العقل بها على سبيل البداهة والضرورة ، فكل مورد يحكم بعدم جريان إحداهما فلا بدّ أن يستند إلى عدم الموضوع والصغرى ؛ ضرورة امتناع طريان التخصيص في الأحكام العقلية ، وقد عرفت : عدم تحقق احتمال العقاب في المقام ومحلّ البحث.

نعم ، البيان الصّالح لرفع موضوع القاعدة : هو حكم الشارع بوجوب الاحتياط في موارد احتمال الحكم بالوجوب الظاهري الشرعي على ما ستقف على شرح القول فيه عن قريب.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره بقوله المتقدّم : « فلو تمّت عوقب على مخالفتها ... الى آخره » (١) فقد يوجّه : بأن المراد من تماميّتها بعد البناء على عدم صلاحيتها للبيان بالنسبة إلى الواقع المحتمل من حيث لزوم الدور المحال ، لا معنى لها إلاّ بجعلها حكما ظاهريّا وطلبا نفسيّا يعاقب على مخالفته من غير أن يكون بيانا بالنسبة إلى

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٧.


الواقع ، مع أنّ هذا المعنى ممّا لا يمكن الالتزام به بالنسبة إلى القاعدة المبتنية على مجرّد الطلب العقلي الإرشادي ، فهذا القول في مقام الاعتراض وإلزام الخصم بما يكون ظاهر الفساد هذا.

وقد مضى شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الأوّل من التعليقة عند الكلام على الاستدلال بحجيّة الظنّ بدفع الضرر المظنون (١) ولعلّه يأتي بعض الكلام فيه في الشبهة الموضوعية (٢).

(١١٥) قوله قدس‌سره : ( هذا كله إن أريد بـ « الضّرر » العقاب ، وإن أريد به مضرّة اخرى ... إلى آخره. ( ج ٢ / ٥٧ )

في منع استقلال العقل بلزوم دفع الضرر

المحتمل الدنيوي

أقول : قد عرفت في مطاوي كلماتنا السابقة : أن الأحكام الشرعيّة على مذهب العدليّة مبنيّة على الجهات الكامنة في أفعال المكلّفين من المصالح المفاسد بحيث لا تعلّق للعلم بالحكم في وجودها أصلا ، فاحتمال التحريم لا ينفكّ عن احتمال الضرر والمفسدة في الفعل ، كما أن الظنّ به ظنّ بها والعلم به علم بها سواء

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٨٣.

(٢) بحر الفوائد : ج ٢ / ٥٨.


كانت دنيويّة أو دينيّة غير العقاب ، فوجود هذا الضرر كنفس الحكم الشرعي المعلول له مقدّم على العلم والبيان لا تعلّق له فيه أصلا ، فإن سلّم حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل الدنيوي ، ولو كان موهوما لم يصلح قاعدة القبح للورود عليه ، بل هو وارد عليها ورافع لموضوعها كما هو ظاهر.

والمستفاد من كلامه في المنع عن مزاحمة الحكم المذكور للقاعدة وجهان :

أحدهما : المنع من استقلال العقل في الحكم بلزوم دفع الضرر الدنيوي المحتمل ، كيف! ولو بني عليه لكان مشترك الورود في المقام بالبيان الذي ستقف عليه. مضافا إلى ورود النقض على الأخباري بالشبهة الوجوبية والموضوعيّة ، وإنّما المسلّم حكم العقل والشرع بقبح الإقدام على المضرّ الدنيوي وتحريم ارتكابه ، فالمحرّم هو مفهوم الإضرار ، وصدقه في مورد الشكّ في الحكم الشرعي مشكوك كالشكّ في صدق المسكر المعلوم الحرمة على المائع الخاصّ ، وفي الشبهة الموضوعيّة (١) لا يجب الاحتياط باعتراف الأخباريّين ، فليس هنا ما

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« فيه منع كون الشبهة من مثل هذه الجهة موضوعيّة ؛ إذ الملاك فيها ما كان المرجع فيها غير الشارع من المميّزات الخارجيّة ، ومن المعلوم انه لا طريق إلى المصالح والمفاسد التي تكون مناطات للأحكام الشرعيّة في غير ما استقل به العقل إلاّ البيان الشرعي لها أي الأحكام ؛ فإنه بيان لمناطاتها على نحو الإنّ أيضا ، سلّمنا لكن لا وجه للإعتراف بعدم وجوب الاحتياط


__________________

فيها بمجرّد تسميتها شبهة موضوعيّة بحسب الإصطلاح لا من الأصوليّين ولا من الأخبارييّن وذلك لعدم ما هو منشأ الإعتراف به في غيرها من الشبهات الموضوعيّة ها هنا.

أمّا العقل فالمفروض حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل ، وأمّا النقل فمثل قوله عليه‌السلام : « كل شيء فيه حلال وحرام » فسيجيء منه قدس‌سره : أنه مختص بما اذا كان منشأ الإشتباه فيه وجود الحلال والحرام فعلا تحت الشيء وعدم ما يميّزانه من أيّ منهما ومن المعلوم انه ليس منشأ الإشتباه في المقام هو وجود القسمين ، كيف! ولو كان جميع الاشياء غيره معلوم الضّرر أو النّفع لكان هو على ما كان عليه من احتمال الضرر.

إن قلت : هبه لكن ما تقدّم من أدلّة البراءة يؤمننا من هذه المضرّة ، إمّا لكشفها عن عدم كون المفاسد الكامنة مضارّا فعليّه بحيث يترتب على فعل المكلّف مطلقا ولو مع جهله بحرمته ، بل يدور فعليّتها مدار فعليّة الحرمة وتنجّزها ، وإمّا لكشفها عن تدارك ما ربّما يقع فيه المكلّف من المضرّة وذلك حيث لا يجوّز الإذن في الإقتحام في المضرّة الفعليّة من دون تداركها وحينئذ فلا مجال لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل حيث لا إحتمال له مطلقا ، أو على نحو يجب التحرّز عنه فيكون بيانا لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » فتدبّر.

قلت : هذا إذا كان الإذن في الإقتحام في المضرّة الفعليّة مطلقا من دون تداركها قبيحا والمنع عنه بمكان من الإمكان فيما إذا كان هناك حكمة ومصلحة داعية إليه بحيث يقبح معها عدمه. فتخلّص بما ذكرنا : انه لا مجال للإستدلال للبراءة بقاعدة قبح العقاب بلا بيان إلاّ على مذهب الأشاعرة أو مذهب العدليّة إذا لم تكن المفاسد التي تدعوا إلى التحريم مضارّا فعليّة بحيث يجب التحرّز عنها وإن كانت علّة تامّة لإنشاء التحريم ولا يجدي في ذلك أخبار البراءة إلاّ


يقتضي وجوب دفع الضرر المحتمل حتى يكون بيانا بالنسبة إلى الواقع ورافعا لموضوع قاعدة القبح. فالضرر وإن كان محتملا عند احتمال التحريم ، إلا أنه لا يجب دفعه.

ثانيهما : أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر سواء كان أخرويّا أو دنيويا وسواء كان معلوما أو مظنونا أو مشكوكا أو موهوما على تقدير تسليم حكمه بالنسبة إلى جميع مراتب الضرر ، مقيد بعدم تداركه من جانب الشارع. كيف! وقد يؤذن في الإقدام على الضرر المعلوم ، بل يؤمر به ، فالواجب هو دفع الضرر الغير المتدارك ، ولما كان الإذن مع التدارك بالنسبة إلى الضرر الأخروي ممّا لا معنى له ، فكلما ثبت إذن من الشارع في فعل فلا محالة يكشف عن عدم الضرر الأخروي بالنسبة إليه.

__________________

على تقدير أن يكون الإذن في الإقتحام في محتمل الضّرر قبيحا بلا تدارك على تقدير الوقوع فيه ، وقد عرفت منعه ، او على تقدير عدم وجوب دفع الضّرر المحتمل عقلا وإلاّ فحكمه به يكون بيانا دائما للحجّة على التكليف المشكوك فيكون واردا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

هذا مع قطع النّظر عن أخبار البراءة ، وأمّا بملاحظتها فالعقاب على المشتبه مأمون لرخصة الشارع وإذنه في الإقتحام وإن وقع في المفسدة المحتملة التي حكم العقل بالتحرّز عنها ولولاه لجوّز العقاب عليها لو وقع فيها ، وينبغي التأمّل التام في المقام » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٠٥.


وأمّا الضرر الدّنيوي فلما كان مجامعا للتدارك ، فكلّما ورد إذن من الشارع في مورده فيكشف عن التدارك بالنسبة إليه ، فيرتفع موضوع حكم العقل بوجوب الدفع ، ولو باعتبار قيده. فإذا حكم الشارع بإباحة ما لم يعلم حرمته فيكشف منه تدارك المفسدة فيه على تقدير حرمته في نفس الأمر.

هذا بعض الكلام فيما يتعلّق بالمقام ، وقد أسمعناك شرحه في الجزء الأوّل من التعليقة (١).

ولكنّ الجواب عن عدم ورود حكم العقل في باب الضرر الدنيوي على قاعدة القبح : هو الوجه الأول حقيقة ، وأمّا الوجه الثاني ؛ فيتوقّف على التمسّك بذيل الدليل النقلي على البراءة ، ومعه لا حاجة إلى التمسّك بقاعدة القبح وبدونه يكون حكم العقل واردا عليها كما لا يخفى.

(١١٦) قوله : ( والظاهر أن المراد به ما لا يطاق الامتثال به ) (٢) (٣). ( ج ٢ / ٥٨ )

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٨٣.

(٢) أقول : للسيّد المجدّد الشيرازي ١ ها هنا تعليقه مفصّلة تستحق المراجعة إليها نقتطف منها ما يلي :« مراده بما لا يطاق بقرينة ما ذكره شيخنا ١ هو ما لا يطاق الامتثال به فيكون حاصل كلامه :أن التكليف بالمعنى المذكور ـ بأمر لا طريق للمكلف إلى العلم بتعلّق التكليف به ـ تكليف بما لا يطاق الإمتثال به وهو قبيح فيكون التكليف المذكور قبيحا وإنّما لم يحتج على بطلان


__________________

ذلك إتكالا على وضوحه.

ووجه استدلاله بذلك على مسألة البراءة : انه لو كان التكليف المشكوك فيه في الواقع منجزّا على المكلّف وموجبا للزوم الإتيان به بطريق الإحتياط لكان ذلك التكليف تكليفا بما لا طريق إلى العلم به وهو قبيح ؛ لكونه تكليفا بما لا يطاق الإتيان به فيكون باطلا ، فيكون المقدّم مثله فحينئذ لا شيء يقتضي وجوب الإحتياط في مورد الشك في التكليف.

إلى أن قال :

وشيخنا الأستاذ قدس‌سره لمّا رأى عدم تماميّة هذا المقدار الذي ذكره السيّد قدس‌سره على إثبات أصالة البراءة فأكمله بقوله : [ واحتمال كون الغرض من التكليف ... ] فقوله : ( ذلك ... إلى آخره ) تتميم لذلك الدليل ».

إلى آخر ما ذكره السيّد المجدّد وعليك بمراجعته. أنظر تقريرات المجدد الشيرازي قدس‌سره :ج ٤ / ٥٦ ـ ٦٠. أقول : وأنظر أيضا قلائد الفرائد : ج ١ / ٣٤٨ ـ ٣٥٢.

(٣) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« وذلك حيث انه لا يعقل أن يكون التكليف المجهول باعثا وداعيا إلى المأمور به وزجرا ومانعا عن المنهيّ عنه ، ومجرّد الفعل أو الترك بدون أن يكون الأمر أو النهي داعيا أو زاجرا لا يكاد أن يكون إمتثالا مع أن الغرض من التكليف مطلقا ولو توصّليّا هو الإمتثال بحيث لو لم يكن للمكلّف من قبل نفسه بعث أو زجر صار هو باعثه أو زاجره ولا ينافي ذلك سقوط التكليف في التوصّليّات بمجرّد الفعل أو الترك كما لا يخفى.

وبالجملة : لمّا كان الغرض من التكليف هو الإمتثال ولا يكاد يترتّب عليه بدون العلم به كان


__________________

وجوده بدونه كعدمه ، فلا يجوز أن يؤاخذ عليه ما لم يعلم به فافهم » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢٠٧.

وعلّق عليه الشيخ رحمة الله قائلا :

« أقول : يمكن أن يقال في مسألة البراءة : أن المطلوب بالنّهي هو نفس أن لا تفعل كما هو التحقيق دون الكف ، فالمطلوب يحصل بمجرّد الترك من غير اعتبار أمر زائد سواء قلنا امتثال النّهي هو هذا أم قلنا بسقوط التكليف بدونه وإن توقّف الثواب عليه فافهم » إنتهى.

الفرائد المحشّى : ٢٠٤.

* قال المحقق الفقيه آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« أقول : هذا التفسير لا يخلو من إجمال.

وتوضيحه : إنه يمتنع أن يلتزم المكلف بفعل ليس له طريق من عقل أو نقل يرشده إلى لزومه ، فإلزام المكلّف بالخروج عن عهدة ذلك الفعل الذي لم يعلم لزومه عليه تكليف بغير المقدور ومؤاخذته على ترك امتثال الأمر الواقعي الذي لم يعلمه قبيح فإنه ما لم يعلم بمطلوبيّة الفعل لا يعقل أن يدعوه طلبه الواقعي المتعلّق به إلى العمل فلا يكون بعنوان إيجاده بقصد إمتثال ذلك الطلب فعلا إختياريا له.

نعم متى إحتمل كونه مطلوبا في الواقع ربّما يبعثه الإحتمال على الخروج عن عهدة الأمر المحتمل فيأتي بالفعل برجاء المطلوبيّة فيصحّ عبادة ولكن لا يصدق عليه إسم الإطاعة ولا يحسن مؤاخذته على ترك الإعتناء بهذا الإحتمال ما لم يكن دليل عقلي أو نقلي يدل على لزوم رعايته.


توجيه لكلام السيّد أبي المكارم في الغنية (١)

__________________

والحاصل : انّ التزام المكلّف بالخروج عن عهدة تكليف موقوف على أن يعرف ذلك التكليف أو يدل دليل عقلي أو نقلي على أنّه متى احتمله يجب عليه الإعتناء بذلك الإحتمال فيكون تكليفه في مقام العمل حينئذ هو الإحتياط ، لا بمعنى أن الإحتياط من حيث هو مطلوب نفسي كي يترتّب المؤاخذة على مخالفة من حيث هو ـ كما يظهر من عبارة المصنّف ; في هذا المقام ـ بل المقصود بالأمر بالإحتياط تنجيز التكليف بالواقعيّات المجهولة ، والتحرّز عن مخالفتها فيكون الإحتياط وجها من وجوه الواقعيّات التي عرف وجوبها بهذا الوجه وإن لم يميّزها عمّا عداها من المشبّهات ولا يقدح ذلك في جواز المؤاخذة على مخالفتها بعد قيام الدليل على وجوب مراعاة الإحتمال ووجوب الإحتياط في كلّ محتمل التكليف من باب المقدمة العلميّة كما هو المفروض.

فتخلّص ممّا ذكر : إن التكليف واقعيّا كان أو ظاهريّا ، لا بد في تنجّزه على المكلّف من أن ينتهي إلى العلم وإلاّ فلا يعقل الإلتزام بإطاعته فليتأمّل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ١٦٤.

(١) قال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« يمكن أن يكون كلامه [ أي : صاحب الغنية ] هذا ناظرا إلى خصوص الجاهل الغافل ، وعليه لم يستدل بالدليل المذكور على البراءة المتنازع فيها ، ويمكن أن يكون ناظرا إلى الأعمّ منه ومن الجاهل الملتفت الذي نتكلّم عليه.

وكيف كان : يمكن الإستدلال به كما هو صريح بعض من تأخّر على التقريب المذكور في المتن » إنتهى. انظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١٢١.


أقول : لا يخفى عليك : أنّ توجيه كلامهم بما أفاده ، وتنزيله عليه مع الغضّ عمّا يتوجه عليه كما ستقف عليه ، موجب لتخصيص محل كلامهم بما يعتبر في صحّته سقوط الأمر المتعلّق به الامتثال والإطاعة ؛ ضرورة عدم جريان التوجيه المذكور في التوصّليات الّتي لا يطلب فيها إلا نفس الفعل ، فيخرج غالب صور محل البحث عنه ، بل كثير من صور الشّكّ في الحكم الشرعيّ عنه ، حتّى الشبهة الوجوبيّة ؛ فإن محلّ الكلام في مسائل هذه المباحث لا يختصّ بالتعبّديات. كيف! ولم يجدوا مثالا للحرام التعبّدي في الشرعيّات ، مع أنّه لا معنى لتخصيص البحث بالتعبّدي كما هو ظاهر.

فقد ظهر ممّا ذكرنا : ما يتوجّه على الشقّ الأوّل من وجهي المناقشة في التوجيه المذكور ؛ فإنه لو كان التكليف المحتمل من التعبّديات على تقدير ثبوته لم يحتمل كون الغرض منه مجرّد صدور الفعل ، ولو بدون قصد الإطاعة رأسا وإن كان توصّليا على تقدير ثبوته لم يكن الغرض منه إلاّ ذلك ، فالاحتمال المذكور ساقط على كل تقدير.

وفرض الكلام فيما تردّد أمره بين التوصّلي والتعبّدي على تقدير ثبوته ، فيحمل كون الغرض منه مجرد صدور الفعل ؛ نظرا إلى احتمال كونه توصّليّا كما ترى ؛ إذ هو موجب لتخصيص محل البحث بفرد نادر على تقدير وقوعه فتدبّر.

وأمّا الشقّ الثاني والوجه الآخر منهما ، وهو : كون الغرض من التكليف


العمل بمقتضاه وتحصيل متعلّقه في الخارج بداعي احتمال كونه مطلوبا مع الشّك فيه ، فلا يتوجّه عليه شيء عند التأمّل.

فإن غاية ما يرد عليه : ما أفاده شيخنا الأستاذ العلامة بقوله ـ في دفع الاحتمال المذكور وإفساده ـ : « بأنه إن قام دليل على وجوب إتيان الشاك في التكليف بالفعل لاحتمال المطلوب عليه ، أغنى ذلك عن التكليف بنفس الفعل ، وإلاّ لم ينفع التكليف المشكوك في تحصيل الغرض المذكور ... إلى آخر ما أفاده » (١).

وهو كما ترى ، فإنه يتوجّه عليه ـ على تقدير قيام الدليل على وجوب الإتيان ، أو الترك لاحتمال الوجوب أو التحريم الواقعيّين بحيث يجعل الداعي احتمال التكليف ، مثل ما دلّ على وجوب الاحتياط على تقدير القول بدلالته عليه ـ : أنه كيف يغني ذلك عن التكليف الواقعي؟ مع أنه يترتّب عليه آثار وثمرات غير ما يترتّب على مجرّد الحكم الظاهري.

بل التحقيق : استحالة إغنائه عنه وعدم إمكانه مع كونه متفرّعا عليه ، كما هو الشأن في جميع الأحكام الظاهريّة بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة الثابتة في مواردها ؛ فإنه لا معنى لالتزام تأثير الحكم الظاهري في رفع الحكم الواقعي الثابت في مورده من غير فرق بين وجوب الاحتياط وغيره من الأحكام الظاهريّة ، وعلى تقدير عدم قيام الدليل عليه في محل البحث كما هو الحقّ عندنا مع احتماله ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٨.


يحكم بعدم وجوب العمل بمقتضى التكليف المحتمل ؛ من حيث قبح العقاب من غير بيان ، لا من حيث قبح التكليف بما لا يطاق.

كيف! ولا إشكال في حسن الاحتياط ورجحانه ، ولا خلاف من أحد فيه ، والأخبار المتضافرة ناطقة به ، مضافا إلى دلالة الكتاب والعقل عليه ، مع أنه لا فرق في قبح التكليف بما لا يطاق بين التكليف الوجوبي والاستحبابي اتفاقا ، فيكشف ذلك عن بطلان الاستناد في المقام إلى قاعدة قبح التكليف بما لا يطاق.

وممّا ذكرنا كلّه يظهر : أن ما أفاده بعد القول المتقدّم بقوله : « والحاصل : أن التكليف المجهول ... الى آخره » (١) لا محصّل له ؛ حيث إن المستند للقضية المذكورة ؛ يعني عدم صلاحية التكليف المشكوك لحمل المكلف بالعمل بمقتضاه إنما هو ما ارتكز في العقل من قبح العقاب من غير بيان ، أو ما دلّ من النقل على البراءة في مورد البحث. وأين هذا من قبح التكليف بما لا يطاق؟

والحاصل : أنه إن كان المراد من عدم إمكان الامتثال في موارد الشك في التكليف ، عدم إمكان الإتيان بالفعل بداعي الأمر المحقّق بحيث يقصد من الفعل امتثاله ، فهو أمر مسلّم لا نزاع فيه أصلا ، إلاّ أنّ أحدا لم يتوهّم القول بوجوب الفعل أو الترك في محل البحث بهذا العنوان.

وإن كان المراد منه عدم إمكان الامتثال رأسا وبالنسبة إلى جميع مراتبه

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٨.


حتّى الاحتمالي منها ، فهو ممنوع جدّا. كيف! والوجدان يشهد بخلافه.

وإن كان المراد أن التكليف الواقعي المحتمل لا يدلّ على وجوب الإتيان بالفعل بداعي احتمال المطلوبيّة ، فيتوجّه عليه : أنّ أحدا لم يدّع ذلك ، كيف! والتكليف المعلوم لا يقتضي ذلك ولا يدلّ عليه ؛ ضرورة أن وجوب الامتثال وإطاعة الأحكام الشرعيّة متأخّر عن الحكم الشرعي ومتفرّع عليه ، فلا يعقل دلالة إنشاء الحكم عليه. ومن قال بوجوب الاحتياط لم يقل به من جهة دلالة نفس التكليف المحتمل عليه ، مع أنه على تقدير كون وجوب الامتثال من مداليل إنشاء الحكم والغضّ عن عدم إمكانه لا يمكن القول به مع الشك فيه ؛ ضرورة قضيّة تبعيّة المدلول للدّليل الشكّ فيه مع الشكّ في الدّليل ، لا الجزم به مع الشك فيه ، هذا كلّه.

مضافا إلى أن اللازم من التوجيه المذكور الالتزام بسقوط الاحتياط رأسا حتى فيما قام الإجماع عليه ؛ فإن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص بإجماع وغيره وقيام الدليل على وجوبه لا يخرجه عن حقيقته ، فهذه مفسدة أخرى لما أفاده من التوجيه.

فقد تبيّن ممّا ذكرنا كلّه : أن ما أفاده السيّد ومن تبعه من الاستدلال على حكم المقام لا محصّل له عند التأمّل ، فيغلب على الظنّ كون مراد السيّد قدس‌سره مما ذكره ، نفي التكليف عن الغافل بقرينة ذكر ذلك في دليل اشتراط العلم للتكليف ، في قبال الغفلة عن التكليف رأسا فتأمّل.


(١١٧) قوله قدس‌سره : ( واعلم : أن هذا الدليل العقلي كبعض ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٥٩ )

__________________

(١) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« لا يخفى انه قد توهم العبارة خلاف المقصود وهو أن موضوع قاعدة قبح العقاب على تكليف من دون بيان مقيّد بعدم وجوب الاحتياط حتى بالنسبة إلى التكاليف الواقعيّة المجهولة بحيث لو فرض وجوبه بفرض تماميّة أدلته فلا يبقى لهذه القاعدة مطلقا موضوع فيكون الإحتياط واردا على هذه القاعدة مطلقا. والموهم لذلك هو قوله قدس‌سره : ( انما هو إطلاق القول بكون تلك القاعدة معلّقة على عدم وجوب الإحتياط ) فإنه ظاهر فيما ذكر ، مع انه خلاف المقصود.

مضافا إلى فساده في نفسه حيث إنّ وجوب الإحتياط كيف يعقل كونه بيانا للتكاليف الواقعيّة المجهولة؟ بل إنّما هو بيان لحكم موضوع نفسه وهو مشكوك الحكم مثلا ، فلا يعقل ارتفاع موضوع تلك القاعدة بالنسبة إلى التكاليف الواقعيّة المجهولة مع وجوبه ، ولا يقول به الأخباريّون أيضا ، بل المقصود كونها معلّقة بالنسبة إلى هذا التكليف الظاهري الخاص وهو الإحتياط على عدم تماميّة أدلة وجوبه بحيث لو ثبت منها وجوبه لم يبق لتلك القاعدة موضوع بالنسبة إلى هذا الحكم الظاهري المشكوك فيه قبل ؛ فإنّ القاعدة المذكورة جارية في مطلق التكليف المجهول سواء كان واقعيّا أو ظاهريّا وارتفاع موضوعها عن واحد منها إنّما هو ببيان نفس ذلك الواحد.

وبالجملة : لمّا كان النّزاع في المقام ـ أعني : الشبهة التحريميّة ـ في وجوب الإحتياط وعدمه فالقاعدة تنفي العقاب عن التكليف بالاحتياط مع احتماله ، وتثبت البراءة ما لم يثبت وجوب الإحتياط بأدلته ، فإذا وجب ارتفع موضوعها عن الإحتياط لمعلوميّة حكمه حينئذ فتنتفي أصالة البراءة الثابتة بها » إنتهى. أنظر تقريرات المجدد الشيرازي : ج ٤ / ٦٠.


أقول : لا إشكال فيما أفاده : من كون الدليل المذكور بمنزلة الأصل في المسألة كبعض ما دلّ على البراءة من الأدلّة النقلية المتقدّمة بالنسبة إلى جميع ما يفرض من الأخبار الدالة على وجوب الاحتياط بالوجوب الظاهري الشرعي في محتمل التحريم ، إلاّ أنّه مجرّد فرض غير واقع ، لما ستقف عليه من عدم دلالة خبر من الأخبار على هذا المعنى.

(١١٨) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أن الاستدلال به مبنيّ ... الى آخره ) (١) (٢). ( ج ٢ / ٥٩ )

__________________

(١) أقول : وأنظر قلائد الفرئد : ج ١ / ٣٥٣.

(٢) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

« زعم الأستاذ قدس‌سره : أن قبح العقاب من غير بيان دليل مستقل وأنّ الإستصحاب في المقام مثبت حيث أنّ استحقاق العقاب ليس أثرا شرعيّا مجعولا وإنّما هو أثر عقلي للعصيان ».

وفيه : أن الأصل لا يترتّب عليه إلاّ الإعذار وقطع العذر ، والتعبير بالوجوب والحرمة وغيرهما مرجعه إلى ذلك ؛ فإنّ الحكم الظاهري لا حقيقة له سوى ذلك كما حقّقناه في مواضع عديدة ، ألا ترى أنّ المستصحب اذا كان نفس الحكم فلا يعقل أن يترتّب عليه أثر شرعي ، وإثبات الحكم المماثل لا معنى له إلاّ الإعذار أو قطع العذر في الإمتثال؟

فظهر أنّ ما زعمه : من أنّ الاستصحاب في المقام لا يتم الا بانضمام قبح العقاب بلا بيان فاسد وأنّ الأمر بالعكس.

كما أنّ ما توهّم : أنّ حجّيّة الاستصحاب من باب الظنّ عند السلف وأنّ جماعة بنوا على حجّيّة الأصل المثبت وأنّ الأخبار تدلّ على حجّيّته تعبّدا ، فاسد. وقد أوضحناه في محلّه : انه


في الاعتراض على المستدل بالاستصحاب على البراءة

أقول : الاستدلال بالاستصحاب في المقام سواء قيل به : من باب الظنّ ، أو التعبّد ، مبنيّ على الإغماض ممّا عرفت : من الأدلّة النقلية والعقليّة على البراءة ، أو عدم تماميّتها عند المستدلّ بالاستصحاب ، وإلاّ فلا معنى للاستدلال به في المقام حتى على القول باعتباره من باب الظنّ ، وإثباته جميع ما لا ينفكّ من المستصحب من اللوازم والمقارنات ، لما عرفت إجمالا وستعرف تفصيلا في باب الاستصحاب إن شاء الله تعالى : من اختصاص جريانه بما ترتّب الأثر المقصود إتيانه

__________________

عند الجميع أصل عقلائي وأنّ المثبت ليس ما زعمه وإنّما المقصود في هذا المقام بيان أنّ أصل البراءة ليس إلاّ إستصحاب حال العقل وأن الدّليل المعروف محصّله الرّكون إلى الإستصحاب وقبح العقاب إنّما هو من جهة وجود رافع الإستحقاق وقبح عقاب المعذور من أبده البديهيّات ، بل لا معنى للإستناد إليه ؛ فإن المقصود إنّما هو بيان جريان الأصل وأنّ الجاهل معذور ، وأمّا قبح فعليّة العقاب كعدم قبحه فيما إذا كان التكليف مستصحبا فلا يتعلّق بهما غرض في هذا الفن فكما يقبح قولك فيما كان الأصل بقاء التكليف انّ الدليل على وجوب الاحتياط عدم قبح العقاب على تقدير المصادفة فكذا في المقام فإنّ الأمن من العقاب والتحذير منه إنّما يتعلّق بهما الغرض في المواعظ لا في الفنون » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ١١.

* أقول : وأنظر أجود التقريرات : ج ٣ / ٣٢٩. ومقالات الأصول : ج ٢ / ١٧٧ ، ونهاية الافكار : ج ٣ / ٢٣٨.


بالاستصحاب على المشكوك أو لازمه ، لا على نفس الشك وعدم العلم ، وإلاّ لم يكن معنى لجريان الاستصحاب بالنسبة إليه ، فإذا فرض استقلال العقل بنفي المؤاخذة عند عدم العلم بالتكليف لم يكن معنى لاستصحاب عدم المنع والبراءة في حال الصغر ، المترتّب عليه عدم استحقاق العقوبة بواسطة إثبات الإذن بالواسطة فتدبّر.

ثمّ إن حاصل ما أفاده شيخنا قدس‌سره في الاعتراض على المتمسّك باستصحاب البراءة وعدم التكليف الثابت في حال الصغر ، يرجع إلى وجهين :

أحدهما : أن الاستصحاب المذكور بناء على القول به من باب الأخبار والتعبّد ، غير جار من حيث إن المقصود به نفي المؤاخذة واستحقاق العقوبة في الزمان اللاّحق ولا يمكن ترتّبه عليه جزما ؛ نظرا إلى عدم كونه من الأحكام الشرعيّة القابلة للجعل والتشريع ، وقد عرفت إجمالا مرارا وستعرف تفصيلا في باب الاستصحاب : أنه لا يترتّب على الاستصحاب ـ بناء على الأخبار ـ إلاّ ما كان من الأحكام والمحمولات الشرعيّة الأوليّة للمستصحب ، فلا يترتّب عليه ما لا يكون من الأحكام الشرعيّة من الأحكام واللوازم العقليّة ، أو العاديّة والعرفيّة ، أو ما كان من الأحكام الشرعيّة الغير المحمولة على المستصحب بالحمل الأوّلي ، بل بالحمل الثانوي وبواسطة لازم غير شرعيّ للمستصحب سواء كان بواسطة أو بوسائط ، فإذا لم يكن الأثر المذكور ممّا يقبل تعلّق الجعل به ـ والمفروض أن الأخبار الواردة في باب الاستصحاب من مقولة الإنشاء لا الإخبار ـ فلا محالة


يكون احتمال العقاب موجودا فيحكم العقل بلزوم الاحتياط ما دام الاحتمال باقيا ، فلا بدّ من التمسّك بذيل قاعدة القبح من غير بيان ، أو غيرها من أدلّة البراءة لنفي الاحتمال المذكور.

وهذا معنى قوله : « إن المطلوب هو القطع في الزمان اللاحق بعدم العقاب » (١) وهو لا يترتّب على الاستصحاب المذكور.

ومنه يظهر : أنه كما لا يمكن إثبات عدم العقاب بالاستصحاب المذكور كذلك لا يمكن إثبات الإذن بالاستصحاب المذكور ؛ حتى يترتب على ثبوته القطع بعدم العقاب من حيث منافاته للعقوبة في حكم العقل ، فإن الإذن في الفعل وإن سلّم كونه أمرا شرعيّا ، إلاّ أنّه ليس من أحكام المستصحب ومحمولاته الشرعيّة ، وإنّما هو لا ينفكّ عنه في حكم العقل ؛ من حيث إن عدم المنع عن الفعل في اللاحق ملازم لكونه مرخّصا فيه من جهة العلم بعدم خلوّ الواقعة عن أحد الحكمين ، أعني المنع أو الترخيص ، فهو من إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر بالأصل.

فإن قلت : لم لا تجعل المستصحب نفس الإذن والترخيص الثابت في السّابق وتجعله ما يلازمه بحكم العقل حتى يلزمه التعويل على الأصل المثبت ، فلا إشكال في ثبوت الإذن في السابق ، كما أنه لا إشكال في ترتّب القطع بعدم

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٥٩.


العقاب عليه ؛ لأن الإذن الشرعي ولو كان في مرحلة الظاهر ينافي العقاب في حكم العقل قطعا ، فثبوته الظاهري يلازم عدمه في مرحلة الواقع ، وليس هناك تعويل في نفس العقاب على الاستصحاب حقيقة ، وإنّما التعويل على القطع بعدمه ؛ نظرا إلى المقدّمة المذكورة.

قلت : لا معنى لاستصحاب الإذن والإباحة في المقام جدّا.

فإن المراد من الترخيص المستصحب إن كان هو الواقعي منه على ما هو معنى استصحابه ، ففيه : أنه لا قطع بثبوته في السابق ، وإن قلنا ثبوت الأحكام الغير الإلزاميّة في حق الصغير في الجملة ؛ إذ المفروض احتمال حرمة الموضوع في الشريعة والثابت في حق الصغير في محرّمات الشريعة ، ليس إلاّ رفع قلم التكليف والمؤاخذة لا الإذن الترخيص الشرعي كما هو ظاهر.

وإن كان الظاهريّ منه الذي قضى بثبوته ما دلّ على إباحة غير معلوم الحرمة ، ففيه : بعد الإغماض عن اختصاصه بالمكلّفين فلا معنى لإثبات مفاده ومقتضاه قبل التكليف كما هو ظاهر ، أنه لا يعقل استصحابه للقطع بثبوته كما لا يخفى ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى التمسّك بدليل البراءة ، فالتمسّك بالاستصحاب في المقام أشبه شيء بالأكل من القفا.

فإن شئت قلت : إن الثابت في السّابق مطلق الترخيص الذي ليس حكما شرعيّا ، مضافا إلى أن ثبوته في السابق إنّما هو من جهة ثبوت التلازم بينه


وبين نفي المنع ، فليس ثبوته ثبوتا بعنوانه ومستقلاّ حتى يجري فيه الاستصحاب ، فتأمل.

فإن قلت : نفي العقاب في زمان الشكّ مترتب على مجرّد ثبوت عدم المنع المستصحب ؛ ضرورة أنه يكفي في نفي الاستحقاق ولا يحتاج إلى إثبات الإذن فيه أصلا ، حتى يتوجّه عليه ما ذكر ؛ حيث إن الموجب لاستحقاق العقاب ، المعصية المترتبة على المنع ، فإذا حكم بعدمه في مرحلة الظاهر ثبت نفي العقاب عليه.

قلت : عدم المنع ليس حكما شرعيّا حتى يحكم من جهة الحكم بثبوته على ترتّب جميع اللوازم عليه من الشرعية والعقليّة وغيرهما ، وإلاّ كانت الأحكام عشرة لا خمسة ، فلا يجدي الحكم بعدم المنع في مرحلة الظاهر في نفي العقاب.

فإن قلت : إن الإذن الذي يراد إثباته في المقام من استصحابه أو من استصحاب عدم المنع ، والبراءة من التحريم ليس الإذن الخاصّ المتحقّق في ضمن الأحكام الأربعة حتى يمنع من ثبوته في السابق ، أو يقال : إن إثباته بالأصل من إثبات أحد الضدّين بنفي الآخر ، بل الإذن العام الذي هو جنس للأحكام الأربعة ، والمقصود وهو نفي العقاب في اللاحق يحصل بمجرّد إثبات الإذن بالمعنى الأعمّ.

قلت : ثبوت الإذن بالمعنى المذكور أيضا غير معلوم في الزمان السابق ، كيف! ولا وجود له إلاّ في ضمن الأحكام الخاصّة الأربعة ، فإذا فرض عدم العلم بها في السابق ، فكيف يعلم بتحقّقه؟ مع أن الجنس لا وجود له إلاّ في ضمن الفصل ،


وكذلك إثباته باستصحاب عدم المنع لا يجوز قطعا ؛ حيث إنه ليس من محمولات المستصحب شرعا وإن لم يكن ضدّا للمنع ، مع أنّ اتصافه بالضّدين باعتبار ما يتحقّق في ضمنه من الحصص بالتبع والعرض ممّا لا غبار فيه أصلا ، كما لا يخفى ، هذا كلّه بناء على القول بالاستصحاب من باب التعبّد والأخبار.

وأمّا على القول به من باب الظّنّ ، فلا إشكال في جواز التمسّك بالاستصحاب في المقام مع قطع النظر عمّا يتوجّه عليه في الوجه الثاني.

ثانيهما : أنّ الاستصحاب المذكور غير جار مطلقا من غير فرق بين القول به من باب التعبد ، أو الظنّ ؛ لتغيّر موضوع المستصحب وعدم بقائه في الزمان اللاحق ؛ حيث إن عدم المنع كان ثابتا في حق الصّغير وبوصف عدم البلوغ.

نعم ، الأمر على القول به من باب الظّن أظهر ، من حيث توجّه هذا الاعتراض ؛ فإنه لا معنى لحصول الظّنّ بقسميه من النوعي والشخصي مع تغيّر الموضوع. وأمّا على التعبّد فيكون دعوى صدق النقض بعد حكم العرف ببقاء الموضوع مسامحة بناء على الرجوع إليه في تميز الموضوع وتشخيصه على ما تسمعه في محلّه ومن هنا أمر قدس‌سره بالتأمل (١) ؛ فإن إرجاعه إلى بعض ما تقدّم من

__________________

(١) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« لعله إشارة إلى أن إحراز الموضوع في موارد الاستصحاب ـ بناء على اعتبار الاستصحاب


الأسئلة على الوجه الأوّل مما لا وجه له أصلا كما لا يخفى.

__________________

من باب الاخبار ـ إنّما هو موكول إلى نظر العرف وهم لا يجعلون مثل ذلك التغاير منشأ لتبدّل الموضوع ، بل مع ذلك يحكمون بأنّ هذا هو الذي كان قبل ، ويتسامحون في ذلك التغاير ، فلا يبنون على مغايرة المجنون ـ إذا أفاق ـ له حال المجنون ، بل يقولون انه حينئذ هو ، وكذا لا يبنون ولا يحكمون بمغايرة الصبي ـ اذا بلغ ـ له حال الصغر ، بل يحكمون باتحاد الموضوع بالنسبة إلى تينك الحالتين » إنتهى. أنظر تقريرات المجدّد الشيرازي : ج ٤ / ٦٢.

* قال الشيخ موسى التبريزي في ( الأوثق / ٢٧٢ )

« الأمر بالتأمل إشارة إلى بقاء الموضوع في زمان الشك في محل الفرض بالمسامحة العرفية وإن كان مرتفعا بالمداقة العقليّة ولكون بلوغ الصبي وإفاقة المجنون عند أهل العرف من قبيل تغيّر حالات الموضوع لا من قبيل تغيّر نفس الموضوع » إنتهى. انظر الفرائد المحشّى : ٢٠٥.

* وقال السيّد المحقّق اليزدي قدس‌سره :

« لعلّ وجهه منع عدم بقاء الموضوع المعتبر في الاستصحاب فإن عنوان البالغ وإن كان مباينا لعنوان الصغير مفهوما إلاّ انّ الموصوف بالعنوانين أعني ذات الشخص المتّصف بهما متّحد عرفا وهو المناط في موضوع الاستصحاب ؛ فإن شخص زيد مثلا بعد زمان بلوغه بساعة لا يعدّ مغايرا لنفسه بالنسبة إلى ما قبل بلوغه بساعة » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١٢٦.

* وقال صاحب قلائد الفرائد ( ج ١ / ٣٥٥ ) :

« لعلّه إشارة إلى ما يأتي في مسألة عدم حجّيّة الإستصحاب في الأحكام العقليّة من انّ المستصحب هو البراءة الثابتة في حال الصّغر بحيث يكون حال الصّغر ظرفا ، لا انّه جزء الموضوع ومناط الحكم » إنتهى.


(١١٩) قوله : ( وفيه : أن تعسّره ليس إلاّ من حيث كثرة موارده ) (١). ( ج ٢ / ٦١ )

__________________

(١) قال صاحب قلائد الفرائد ( ج ١ / ٣٥٥ ) :

« أقول : إن مرجعه إلى منع الصغرى وملخّصه : أنّ تعسّر الإحتياط ليس إلاّ من حيث كثرة موارده ، وهي ممنوعة ؛ لإنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو ما لا نصّ فيه وهو يختلف بين الأخبارييّن والمجتهدين حيث انّه عند الفرقة الأولى عبارة عمّا لم يرد على طبقه خبر ، وعند الثانية عبارة من موارد فقد الظنون الخاصّة وهو على التقديرين ليس بحيث يفضي الإحتياط فيه إلى الحرج ولو فرض لبعضهم قلّة الظنون الخاصّة فلا بد له من العمل بالظنّ المطلق في المظنونات وتبعيض الإحتياط في غيرها لئلا يلزم الحرج.

ويمكن المناقشة فيه : بأنه لو فرض قلّة الظنون الخاصّة فلا شبهة حينئذ في ان العمل بالاحتياط في موارد فقدها مستلزم للحرج والمصنّف رحمه‌الله إن أراد إبطال الإحتياط من جهة لزوم الحرج فهذا عين الإعتراف بالإستدلال ، وإن أراد إبطاله من جهة كون الظنّ المطلق حجّة فهذا دور بيّن ؛ لان حجّيّة الظنّ المطلق موقوف على بطلان الإحتياط ولذا جعل من إحدى مقدّمات دليل الإنسداد فلو كان بطلان الإحتياط أيضا موقوفا عليها فيلزم الدور.

وتحقيق المقال بحيث يهذّب به حال التمسّك بهذه القاعدة أن يقال : إنّ الحرج تارة ينشأ من اجتماع أفعال كثيرة بحيث يكون منشأ الحرج هو وصف الاجتماع والكثرة دون كل فرد ، وأخرى كون التكليف بنفسه حرجيّا.

أمّا الأوّل : فهو من باب المزاحمة حيث تزاحم فيه تكاليف متعدّدة بعضها مع بعض ولا بد من سلوك أحد الوجهين : إمّا الإجتهاد الذي هو عبارة أخرى عن العمل بالظنّ ، أو العمل بالبراءة.

وأمّا الثاني : فهو أيضا بين قسمين :


__________________

أحدهما : ما يصل حرجه إلى مرتبة تقرب من مرتبة التكليف بما لا يطاق ، مثاله في غير الأحكام الفقهيّة أمر الجليل الخليل بذبح ولده ، وفي الأحكام الفقهيّة قضاء الصلاة على القول بالمضايقة.

والفرق بينه وبين ما لا يطاق : أن المكلف لا يقدر على إيجاد الثاني كالطيران في الهواء بخلاف الأوّل فإنه قادر عليه لكن على حرج شديد وضيق أكيد وحرج هذا القسم شخصي لا محالة ولا شبهة في انّه موجب لارتفاع التكليف للآيات والأخبار والإجماع وحكم العقل بقبح مثل هذا التكليف.

والثاني : ما لا يصل حرجه إلى هذه المرتبة وهذا القسم من الحرج :

تارة : يكون نوعيّا ونعني به ما يكون حرجا على نوع المكلّفين وإن لم يكن حرجا على بعض الأفراد النّادرة منهم كالإجتناب عن الحديد.

وأخرى : شخصيّا ونعني به ما يكون حرجا على بعضهم دون البعض الآخر كغسل دم القروح والجروح في الصلاة فانّه لم يكن حرجا على الحمّامي ومن صنعته في الحمام وحرج على غيرهم.

ومقتضى التحقيق في هذا القسم بقسيمه : انه غير موجب لارتفاع التكليف في غير مورد الحرج بل يقتصر في دفعه على من كان هذا التكليف في حقّه حرجيّا وذلك لأن القدر المتيقّن من عمل الاصحاب والآيات والأخبار الدالّة على إثبات هذه القاعدة إنّما هو القسم الأوّل الذي يصل حرجه إلى مرتبة ما لا يطاق دون القسم الثاني بقسميه وليس موجب لارتفاع التكليف فيه في غير مورد الحرج ، مضافا إلى انه خلاف الإحتياط.


أقول : ما أفاده : من استناد تعسّر الاحتياط في محل البحث إلى كثرة موارده المسبّبة عن كثرة الشبهات التحريميّة الحكميّة الممنوعة عند الأخباريّين القائلين بحجّيّة أكثر الأخبار ، بل تمام الموجود في الكتب المعتمدة ، وعند المجتهدين القائلين بانفتاح باب العلم كما عليه السيّد وأتباعه ، أو بحجّيّة الظنون الخاصّة الكافية كما عليه أكثرهم ، أو المطلقة من جهة عدم كفايتها مع اختلاف مشاربهم من حيث كون النتيجة حجيّة الظّن في الفروع أو الأصول أو هما معا كما عليه جمع من المتأخرين منهم ، ممّا لا ينبغي الارتياب فيه.

إلاّ أن ما أفاده قدس‌سره بقوله : « ولو فرض بعضهم قلّة الظنون الخاصّة ... الى آخره » (١) مبني على ما سلكه القائلون بحجيّة مطلق الظّنّ من كون نتيجة دليل الانسداد هي حجيّة الظّنّ لا التبعيض في الاحتياط على ما عرفته من شيخنا قدس‌سره.

وأما على ما سلكه فلا يلزم التعسّر من الاحتياط في المشكوكات أيضا لقلّتها ، كما أنه لا يلزم أيضا على ما سلكنا في نتيجة المقدمات على تقدير تماميّتها من حجيّة خصوص الظنّ القوي الاطمئناني حسبما عرفت تفصيل القول فيه.

فالاستدلال المذكور ساقط على كل قول في باب الطريق إلى الأحكام.

__________________

نعم لو وصل نصّ خاص على رفع التكليف مطلقا ـ كما في العفو عن دم الجروح والقروح فنلتزم به هذا » إنتهى.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٦١.


(١٢٠) قوله قدس‌سره : ( وفيه ما لا يخفى ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٦١ )

أقول : توجّه الإيراد إلى الوجه المذكور من الأمور الواضحة عند كل أحد ؛ ضرورة أنّ محلّ الكلام في وجوب الاحتياط فيما أمكن فيه لا فيما لا يمكن فيه ، فكيف يظنّ بأحد القول بوجوب الاحتياط في دوران الأمر بين المحذورين مع عدم إمكان الاحتياط فيه؟ وأمّا على القول بتقديم جانب احتمال التحريم فيه فليس من جهة الاحتياط ، بل لما سيجيء من الوجه في محلّه.

قال الشيخ الحرّ (١) العاملي ـ في « باب وجوب التوقف والاحتياط » بعد إيراد رواية الحجب (٢) ـ ما هذا لفظه : « هذا مخصوص بالوجوب ، وأنه لا يجب الاحتياط بمجرّد احتمال الوجوب ، بخلاف الشّكّ في التحريم فيجب الاحتياط ، ولو وجب الاحتياط في المقامين لزم التكليف بما لا يطاق (٣) ؛ إذ كثير من الأشياء يحتمل الوجوب والتحريم » (٤). انتهى كلامه (٥) رفع مقامه.

وهو عجيب من مثله.

__________________

(١) المحدّث الجليل الشيخ محمّد بن الحسن المعروف بالحرّ ـ نسبة الى جدّه الحرّ الشهيد بالطّف مع أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام ـ العاملي المتوفّي سنة ١١٠٧ ه‍.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٦٣ باب « وجوب التوقف والاحتياط » ـ ح ٣٣.

(٣) كذا وفي الأصل : « لزم تكليف ما لا يطاق ».

(٤) أنظر الوسائل : ج ٢٧ / ١٦٣ باب « وجوب التوقف والاحتياط » ذيل الحديث رقم (٣٣).

(٥) أقول : كلامه هنا طويل إختار المحقّق الميرزا الآشتياني قدس‌سره هذا المقطع منه.


(١٢١) قوله قدس‌سره : ( ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٦٢ )

استدلال الاخباريين على حكم ما لا نصّ فيه بالآيات

أقول : لا يخفى عليك : أن استدلال الأخباري بالكتاب مع قوله بعدم حجيّة ظواهره ؛ إمّا من جهة صراحة الآيات المذكورة عنده ، وإمّا من جهة الإلزام ، وإمّا من جهة موافقتها للنقل ، فتدبّر.

ثمّ إنّ ظاهر سكوته عن توجّه هذا الإيراد والمعارضة في الجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة من الآيات تسليم عدم وروده كما يظهر من بعض كلماته الآتية ، مع أنه لا إشكال في وروده كما هو صريح بعض كلماته الأخر التي ستمرّ عليك.

ضرورة أن البحث مع الأخباري ليس إلاّ في حكم الشبهة التحريميّة لا في دواعي الترك والفعل ؛ فإنها ليست ممّا يعنون في الكتب ويتكلّم فيه العلماء ، فلو كان القول بوجوب الترك من الأخباري قولا يعلم من جهة دليل وجوب الاحتياط ، كان القول بجواز الفعل من المجتهد اعتمادا على دليل البراءة قولا يعلم أيضا.

وبالجملة : مفاد هذه الطائفة من الآيات ممّا لا ينكره أحد ، فإنها تدل على قضيّة كليّة ثابتة عند كلّ أحد ؛ لأنها ممّا يحكم به ضرورة العقل. مضافا إلى تطابق الأدلة الثلاثة عليه ، فالمجتهد إنّما يحكم بالإباحة الظاهريّة لما دلّ عليها من الأدلّة


القطعيّة من العقلية والنقليّة فليس قوله بها قولا بغير علم ، فهو مثل قول الأخباري بوجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية الحكميّة بزعمه ، وقوله بالبراءة في الشبهة الوجوبيّة والموضوعيّة مطلقا.

وممّا ذكرنا يظهر : المراد من قوله قدس‌سره في الجواب الحلّي عن الطائفة الأولى : « فبأن فعل الشيء المشتبه حكمه ... الى آخره (١) » (٢) فإن المراد منه : فعله بعنوان

__________________

(١) قال المحقّق الخراساني قدس‌سره :

« بل الحكم عليه بانه مما لا حرج عليه ليس قولا بغير علم للقطع بقبح العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، نعم الحكم عليه بالاباحة شرعا ولو ظاهرا من دون إتّكال على ما يدلّ عليه يكون من ذلك » إنتهى. أنظر درر الفوائد : ٢٠٨.

وعلّق المحقق الفاضل الكرماني على كلام الشيخ الخراساني قائلا :

« أقول : لما كان موضوع البحث الآن هو ما لم يثبت ببيان من الشرع حرمته ولا إباحته ، بل كان حكمه الواقعي مردّدا بين الأمرين محتملا لهما لم يكن القول في هذا الموضوع بالإباحة الشرعيّة أو الحرمة الشرعيّة ؛ لأنه خروج عن موضوع البحث إلى موضوع آخر.

فالمقصود الآن هو أنّ هذا الموضوع الكذائي هل العقل يرخّص في فعله أم لا؟

ثم ينظر في الآدلة الشرعيّة فإن وجدنا دليلا قاطعا للعذر بثبوت اعتباره على ان حكم هذا الموضوع الكذائي ذي الوصف العنواني بهذا الوصف المحقق لموضوع البحث هو كذا ، كان هو المعوّل وما أثبته هو الحكم الظاهري له. وإن لم نظفر به كان الحكم العقلي من الترخيص أو الوقف هو المتّبع.


الجواز الظاهري اتّكالا على دليله من العقل والنقل ، وإن كان ربّما يناقش في توصيف حكم العقل بالقبح بالاتفاق الذي ذكره من حيث استدلال الأخباري في المسألة بحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فإنه لا يجامع تسليمه حكم العقل المذكور فتأمّل.

(١٢٢) قوله قدس‌سره : ( ونحوهما في الدلالة على وجوب الاحتياط ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٦٣ )

أقول : دلالة الآية الأولى (١) على وجوب الاحتياط : إنّما هي بالنظر إلى

__________________

والحاصل : انّ الإباحة أو الحرمة الشرعيّتين لا يجامع هذا الموضوع كيما يحكم بالثبوت أو النفي بمعنى انه اذا فرض أحدهما خرج عن كونه موضوعا لهذا المبحث فافتهم واغتنم » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّى : ٢٠٥.

* وقال صاحب قلائد الفرائد ( ج ١ / ٣٥٧ ) :

« أقول : إن الأوضح منه ما يقال : إنّ الدليل الذي أقيم على ثبوت الترخيص في المقام بين عقل ونقل وعلى كلّ منهما لا يكون قول المجتهدين قولا بغير علم.

أمّا على الأوّل : فلأنه بعد حكم العقل المستقل بقبح العقاب بلا بيان لا معنى لعدّه من غير علم فهو وارد على الآيات المذكورة.

وأمّا على الثاني : فإن كان مفاده قطعيّا ـ بأن يكون من النصوص ـ فهو أيضا كذلك. وإن كان ظنّيّا ـ بأن يكون من الظواهر ـ فهو وإن لم يكن علميّا لكنه بعد ملاحظة دليل اعتباره يكون بحكم العلمي فهو حاكم عليها » إنتهى.

فرائد الأصول : ج ٢ / ٦٣.

(٣) التغابن : ١٦.


ظاهر هيئة النهي ، كما أن ظاهر دلالة سائر الآيات أيضا إنّما هي بالنظر إلى هيئة الأمر ، أو النهي أيضا.

وأما الآية الثانية (١) : فلأن المراد من التنازع فيها هو التردّد والشكّ لا مجرّد الاختلاف في حكم المسألة مع جزم كلّ فريق من المختلفين بما حكم به كما بيّن ذلك في مسألة الإجماع.

(١٢٣) قوله قدس‌سره : ( وأمّا عمّا عدا آية التهلكة ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٦٣ )

أقول : قد يناقش فيما أفاده من الجواب عن الطائفة الثانية :

أوّلا : بأن ارتكاب المشتبه مناف للتقوى والمجاهدة قطعا وإن بني على إباحته في مرحلة الظاهر ، اللهم إلا أن يقال باختصاصها بترك الحرام المحقق والواجب كذلك فتدبّر.

نعم ، ارتكاب المباح الواقعي لا ينافي التقوى والمجاهدة جزما ، فلو سلّمت دلالة الآيات على الوجوب لم ينفع الجواب المذكور ، فالأولى التشبّث بذيل ما أفاده ثانيا بعد النقض بما وافقنا الأخباري على البراءة فيه ؛ من ظهور المادّة في الاستحباب سيما بملاحظة قوله : ( حَقَّ تُقاتِهِ ) (٢) ( حَقَّ جِهادِهِ ) (٣) فيصرف

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) آل عمران : ١٠٢.

(٣) الحج : ٧٨.


ظهور الهيئة أو يوجب إجمالها.

وثانيا : بأن ما أفاده لا ينفع في الجواب عن قوله تعالى ( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ ) (١) فإنه ليس فيه ما يصرفه عن الظهور ، فلا بدّ من أن يجاب عنه : بأنه لا تردّد لنا في الإباحة الظاهريّة وإنّما التردّد في الحكم الواقعي ، فيجب ردّه إلى الله ورسوله.

نعم ، النقض عليهم بالشبهة الموضوعية لا يتوجّه بالنسبة إلى هذه الآية كما هو ظاهر فتدبّر.

(١٢٤) قوله قدس‌سره : ( وأمّا عن آية التهلكة ... الى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٦٣ )

__________________

(١) النساء : ٥٩.

(٢) قال في قلائد الفرائد ( ج ١ / ٣٥٨ ) :

« أقول : تقريب الإستدلال بها : أن محتمل الحرمة مهلكة وكل ما هو من المهالك يجب الإجتناب عنه. أمّا الكبرى : فبالآية ، وأمّا الصغرى : فلأنّ مفاد الآية إنّما هو وجوب الإجتناب عمّا هو في عرضة الهلاكة وارتكاب محتمل الحرمة ممّا هو في عرضها.

وفيه : انه إن أريد الهلاك بمعنى العقاب فهو مقطوع العدم بحكم العقل والنقل كما تقدم. وإن اريد بمعنى غيره من سائر المفاسد فللمنع فيه سبيل بالنسبة إلى كلّ من الصغرى والكبرى المأخوذة في الدليل.

أمّا الصغرى : فبما في المتن : من ان الهلاك بمعنى غير العقاب يكون الشبهة موضوعيّة لا يجب فيه الإحتياط بالإتفاق ، لكن فيه ما مضى سابقا فراجع.

وأمّا الكبرى : فبأن المراد من التهلكة إن كان هو الدنيويّة فلا ربط لها بالمقام وإن كان ما هو


في الجواب عن الاستدلال بآية التهلكة

أقول : لا يخفى أن الاستدلال بالآية في المقام مبنيّ على شمولها لموارد احتمال الهلاكة ، وإلاّ فلا يجوز الاستدلال بها جدّا وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في الجزء الأوّل من التعليقة.

ثمّ إن حاصل ما أفاده في الجواب عن الاستدلال بالآية الشريفة : أن مفادها إثبات كبرى الكليّة ، ونحن نمنع صغراها في محلّ النزاع بالنظر إلى الضرر الأخروي ؛ حيث أن العقاب من دون بيان أصلا مقطوع الانتفاء ، ولا يمكن جعل نفس الآية بيانا ؛ للزوم الدّور الظاهر ، والمفروض عدم بيان آخر ؛ حيث إن المقصود الاستدلال بالآية ، وإلاّ لم يحتج إليها ولم يستدل بها هذا. مضافا إلى النقض بالشبهة الوجوبيّة والموضوعيّة.

وبالجملة : حال الآية على تقدير دلالتها على حكم المقام حال حكم العقل

__________________

أعمّ منها ومن الأخرويّة فوجوب الإجتناب عن الأخيرة تكليفا في محلّ المنع ، غاية ما في الباب كونه إرشاديّا ولا نتحاشى عنه.

ونتيجة هذا ثبوت الحذر من حيث احتمال المفسدة والبراءة من حيث ترتّب العقاب وحينئذ يكون المستعمل فيه في الآية ما هو أعمّ من التكليفي والإرشادي.

أمّا الأوّل : فبالنسبة إلى المفاسد الدنيويّة.

وأمّا الثاني : فبالنسبة إلى غيرها من المفاسد » إنتهى.


بوجوب دفع الضّرر المحتمل ، وسيجيء ما في الاستناد إليه في المقام وأشباهه ، هذا بالنسبة إلى الضّرر الأخروي.

وأمّا الضّرر الدنيوي المحتمل في موارد احتمال الحكم الإلزامي ، فلا يجب دفعه باعتراف الأخباريّين ؛ من حيث كون الشبهة من هذه الجهة موضوعيّة ؛ حيث إن المحرّم عندهم عنوان المضرّ الدنيوي ، والمفروض الشكّ في صدقه ، والبناء على وجوب دفعه من جهة الآية ، هدم لما بنوا عليه : من عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة والتفصيل في حكم احتمال الضّرر الناشىء من احتمال التحريم والضّرر ابتداء.

مضافا إلى [ أنّ ] ورود النقض عليهم بالشبهة التحريميّة الموضوعيّة والوجوبيّة مطلقا لا دليل عليه أصلا بعد عموم الآية ، فلا بدّ من حمل الآية ـ على تقدير تسليم دلالتها على حكم المقام مع كمال ضعفها ـ على الطلب القدر المشترك الإرشادي فلا يجوز الاستدلال بها كما لا يخفى.

(١٢٥) قوله قدس‌سره : ( وظاهر التوقّف المطلق السكون ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٦٤ )

أقول : ما أفاده في بيان المراد من التوقّف في الأخبار المشتملة عليه ، وأنه كناية عن السكون عند الشبهة وعدم الحركة إليها ، واندفاع ما أورده غير واحد من المتأخّرين على الاستدلال بها ، منهم : المحقق القمي قدس‌سره في « القوانين » في كمال الوضوح والظهور ، إلاّ أن تخصيصه بعدم الحركة بارتكاب الفعل يوجب تخصيصه


بالشبهة التحريميّة ، فلا يتوجّه النقض على المستدلّ بها بالبراءة في الشبهة الوجوبيّة.

اللهم إلاّ أن يكون تخصيصه مبنيّا على كونها محل البحث في المقام ، وإلا فأصل الوقوف عند الشبهة كناية عن عدم ارتكاب الشبهة ، فعلا كان أو تركا فيشمل الشبهتين ، ولا ينافي ذلك اختصاص موارد جملة ممّا اشتمل على التعليل بالوقوف عند الشبهة ، بالشبهة التحريميّة. كما لا ينافيه اختصاص جملة منها بالشّبهة الحكمية ؛ لأن العبرة بعموم التعليل مع ورود بعضها في الشبهة الوجوبيّة الحكميّة ، وبعضها في الشبهة الموضوعيّة ، ومنه ينقدح عدم جواز إستدلال الأخباري بعمومها من جهة امتناع تخصيص المورد. وهذا كما ترى ، لا تعلّق له بالجواب النقضي الذي يشير إليه في « الكتاب ».

ثم إنه كان عليه قدس‌سره أن يذكر عنوان الطائفة الثانية « ما دلّ على وجوب التوقّف بظاهره أو ما يرجع بحسب المعنى إليه » فإن جميع ما يذكر في الطائفة الثانية لا يشتمل على لفظ التوقّف كما لا يخفى لمن راجع إليها.


(١٢٦) قوله : ( وزاد فيها : إن على كلّ حق حقيقة ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٦٤ )

كلام صاحب الوسائل في صحيحة جميل بن درّاج

أقول : رواها في « الوسائل » في « باب وجوه الجمع بين الأحاديث » (١) من « رسالة (٢) سعد بن هبة الله الراوندي » (٣) كروايات الزهري (٤) ، وعبد الأعلى (٥) ، والسّكوني (٦) ؛ فإنها مرويّة في « الوسائل » أيضا.

والغرض منها الحثّ على ترك الحديث الذي لم يصل إلى المكلّف من طريق معتبر عملا أو رواية ، وإن كان التفصيل قرينة على إرادة روايته ، وورود صحيحة جميل (٧) في المتعارضين كالمقبولة ، لا ينافي العموم لكلّ شبهة مع عموم الكلية المستفادة منها سيّما في الصحيحة التي جعل الأخذ فيها بما وافق الكتاب تفريعا على الكلّية ، فالكتاب هو النور والحقيقة والميزان للحقّ والباطل عند

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٠٦.

(٢) الظاهر ان هذه الرّسالة مفقودة اليوم.

(٣) هو الشيخ قطب الدين ابو الحسين سعيد بن هبة الله الرّاوندي المتوفى سنة ٥٧٣ ه‍ والمدفون بحرم السيّدة المعصومة عليها‌السلام بقم.

(٤) الكافي الشريف : ج ١ / ٥٠ باب « النوادر » ـ ح ٩ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٥٥ باب « وجوب التوقف والاحتياط ... » ـ ح ٢.

(٥ و ٦) وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٧١ باب « وجوب التوقف والاحتياط » ـ ح ٥٧.

(٥ و ٦) وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٧١ باب « وجوب التوقف والاحتياط » ـ ح ٥٧.

(٧) وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١١٩ باب « وجوه الجمع بين الأحاديث » ـ ح ٣٥.


التعارض ، فبموافقته يرتفع الشبهة الحاصلة بسبب التعارض.

وفي محكي « الوسائل » ـ بعد نقل رواية السّكوني ، وعبد الأعلى ـ : « التفضيل في أمثال هذا على وجه الممارات والمماشات مع الخصم ، كما ورد في أحاديث كثيرة : « قليل من سنّة خير من كثير في بدعة » (١) وأمثال ذلك في الحديث وفي الكلام الفصيح كثير (٢). انتهى كلامه رفع مقامه.

ويشهد له ما رواه شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » ، فلفظ الخبر وإن لم يكن ظاهرا في الإلزام ، بل كان ظاهرا في غيره في باديء النظر ، إلاّ أنّه ظاهر فيه بملاحظة ما أفاده في « الكتاب » في تقريب دلالة الأخبار المذكورة في « الكتاب » وفي « الوسائل » ممّا لم نذكره في « باب وجوب التوقّف في القضاء والفتوى والعمل على وجوب التوقّف » (٣).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٢ / ١٣٧ باب « الصلوات في شهر رمضان والتراويح » في ضمن حديث ١٩٦٤ ، التهذيب ج ٣ / ٦٩ باب « فضل شهر رمضان والصلاة فيه ... » ـ ح ٢٩ برقم ٢٢٦ ، ورواه أيضا في الإستبصار : ج ١ / ٤٦٧ باب « الزيادات في شهر رمضان » في ضمن الحديث ٢٠ برقم ١٨٠٧ ، عنها وسائل الشيعة ج ٨ / ٤٥ باب « عدم جواز الجماعة في النوافل ... » ـ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٧٢ باب « وجوب التوقف والاحتياط » في ذيل ـ ح ٥٧.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٥٤ الباب « ١٢ من أبواب صفات القاضي » ، وعنوان الباب هكذا :


(١٢٧) قوله قدس‌سره : ( والجواب : أنّ بعض هذه الأخبار مختصّ بما إذا كان ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٦٧ )

أقول : لا يخفى عليك : أن تسليم دلالة جملة من الأخبار التي أشار إليها على وجوب التوقف مع عدم انطباقها على محلّ البحث وحمل جملة منها على الاستحباب ، لا ينافي ما أفاده في الجواب بقوله : « وملخّص الجواب عن تلك الأخبار ... إلى آخره » (١).

فإنّ استفادة الوجوب والاستحباب فيما ذكره أولا في الجواب إنّما هي بالقرينة الخاصّة ، فلا ينافي حمل الطّلب فيها على القدر المشترك فيكون الدلالة على الخصوصية بملاحظة أخرى.

وعلى ما ذكرنا يحمل قوله ـ بعد ذلك في ذيل الجواب عن السؤال الذي أورده على نفسه ـ : « فهي قضيّة تستعمل في المقامين ... الى آخره » (٢) فإن المراد من الاستعمال ليس ما يتوهّم من ظاهره في ابتداء النظر من إرادة الخصوصيّة من نفس اللفظ ، حتى ينافي ما ذكره من حمل الطلب المستفاد من جميع الأخبار على

__________________

باب « وجوب التوقّف والإحتياط في القضاء والفتوى والعمل في كل مسألة نظريّة لم يعلم حكمها بنصّ منهم عليهم‌السلام ».

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٦٩.

(٢) نفس المصدر : ج ٢ / ٧٢.


الطلب الإرشادي القدر المشترك ، بل المراد منه : الإطلاق في مقام إرادة كل من الخصوصيّتين بدلالة أخرى فتدبّر.

(١٢٨) قوله : ( وملخّص الجواب عن تلك الأخبار ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٦٩ )

الأمر في تلك الاخبار إرشادي

أقول : حاصل ما أفاده في الجواب عن الأخبار المذكورة بأسرها : أن الطلب

__________________

(١) قال الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

« أقول : حاصله : أن الأمر بالتوقف والأخذ بالإحتياط في هذه الأخبار إرشادي ليس فيه سوى ما في الواقع المحتاط فيه ، وهذا الأمر الإرشادي في بعض الشبهات للوجوب بمعنى عدم الرّخصة في الترك ، وفي بعض الموارد للإستحباب باستعماله في جميع أخبار التوقّف في القدر المشترك وانضمام الخصوصيّة من المقام ، والعقاب على مخالفة الواقع المجهول مأمون بقبح العقاب من غير بيان ، ولا تصلح هذه الأوامر بيانا للواقع المجهول كيما يصحّ العقاب عليه ، فبقي الآثار المترتّبة عليه من حيث هو من غير مدخليّة للعلم والجهل فيها ، فالإرشاد إلى التحرّز عنها على تقدير الوقوع فيها بترك الإحتياط ، ولا يجب الإحتياط فيها بإتّفاق الأخباري ، فهذه الأخبار غير صالحة لمزاحمة عمومات الحلّ في مثل : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ( وأضرابه والتحليل الفعلي فيما لم يثبت المنع عنه مضافا إلى استصحاب الحلّ قبل الشرع.

ولعمري إنّ قول الأخباري بعدم الإعتناء به والإعراض عنه حريّ ، فهو بالإعراض عن ذكره والسكوت عليه يموت ) وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ) فافتهم واغتنم ».

الفرائد المحشى : ٢٠٧.


المستفاد منها لا بد من أن يحمل على الطلب الإرشادي القدر المشترك من حيث دلالتها على كون علّة طلب التوقف أو ما يرجع إليه ، هو التحرّز عن الهلكة المحتملة في الشبهة وأن في تركه تعريض لها ، مع أن في بعض موارد الشبهة لا يحتمل العقاب قطعا باتّفاق الأخباريين ، والتخصيص فيها بإخراجه مع إبائها عنه ـ كما لا يخفى لكل من راجع إليها ـ مناف لاختصاص مورد بعضها بما لا يحتمل فيه التهلكة الأخرويّة مع وحدة السّياق في الجميع ، فلا بدّ من أن يحتمل على ما ذكر حتى يشمل جميع موارد الشبهة ، ولا ينافي ذلك إرادة خصوص الطلب الإلزامي الإرشادي من بعض مواردها بدلالة أخرى ، كما لا ينافي إرادة خصوص الاستحبابي الإرشادي من موارد بعضها الآخر من القرينة على ما عرفت الإشارة إليه.

ودعوى : عدم استفادة تعليل المذكور منها وإنّما المستفاد منها كون الاقتحام في الهلكة حكمته ، فلا ينافي الطلب الشرعي ، فاسدة جدّا.

مع أنّه إذا حمل على الطلب القدر المشترك لم يفرّق في عدم دلالتها على مدّعى المستدل بين حمله على الطلب الشرعي القدر المشترك ، وبين حمله على الطلب الإرشادي القدر المشترك لما ستقف عليه.

فإذا كان الطلب المستفاد هو منها القدر المشترك الإرشادي ، فلا يمكن استفادة خصوص الطلب الإلزامي منها ؛ ضرورة عدم دلالة العام على الخاصّ ، بل استفادته يتوقّف على إحراز كون الهلكة المحتملة العقاب ، فيحكم بوجوب التوقف


بعد إحرازه بدلالة أخرى. كما في موارد العلم الإجمالي بالتكليف المنجّز كما في الشبهة المحصورة ، أو مع التمكّن من تحصيل العلم بالحكم في الشبهة الحكمية في موارد الشك في التكليف ، إلى غير ذلك ممّا يحتمل فيه العقاب.

فلا بدّ إذن من إحراز احتماله من الخارج ؛ ضرورة عدم دلالة الحكم المترتّب على موضوع كلّ على وجوده في مورد خاصّ ، فكما لا يمكن دلالة هذه الأخبار بعد حملها على الجامع على خصوصيّات الطلب ، كذلك لا تدل بأنفسها على كون المحتمل من الهلكة العقاب الذي يجب دفعه عقلا ونقلا ، أو غيره من المضارّ الدنيويّة التي لا يجب دفع محتملها بالاتّفاق بالنسبة إلى الموارد الشخصيّة من المشتبهات ، وإن دلّت على وجود احتمال التهلكة بالمعنى الأعمّ في كل شبهة.

ومن هنا ذكر قدس‌سره : أن هذه الأخبار لا تنفع في إحداث هذا الاحتمال ولا في حكمه (١) ؛ من حيث إن مطلق الطلب المحمول على مطلق التهلكة كما لا يدلّ على خصوص الإلزام ، كذلك لا يدلّ على خصوص كون المحتمل في الشبهة الخاصّة العقاب.

ومنه يظهر : أنه لا فرق فيما ذكر بين جعل الطلب المستفاد منها إرشاديّا أو شرعيّا على ما عرفت الإشارة إليه.

بل ربّما يقال : إن حمل الطلب على الإلزام الإرشادي المترتّب على احتمال

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٧١.


العقاب لا يجدي الخصم أيضا ؛ من حيث إن مفاد الأخبار على هذا التقدير مفاد حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل ، وقد عرفت ورود دليل البراءة عليه ، وإن كان القول المذكور منظورا فيه ؛ من حيث إن ظاهرها بل صريحها احتمال التهلكة في كلّ شبهة. وهذا بخلاف حكم العقل في مسألة دفع الضّرر المحتمل ؛ فإنه حكم في موضوع كليّ يتبع تحقّقه في الخارج فيحصل الفرق بينها وبين حكم العقل في مسألة دفع الضّرر المحتمل هذا. مضافا إلى منافاة ما ذكر لموارد جملة منها كما لا يخفى.

ومن هنا توجّه السؤال بقوله : « فإن قلت : إن المستفاد منها احتمال التهلكة في كل محتمل التكليف ... الى آخره » (١).

وحاصله : أنّ الظاهر من الأخبار المتقدمة إعطاء الحكم في كلّ شبهة معلّلا باحتمال التهلكة فيه ، وظاهر التهلكة في لسان الشارع ما يعود إلى المكلف في الآخرة فيدلّ على احتمال الضّرر الأخروي في كل شبهة ، ولمّا كان الضّرر الأخروي معلولا لطلب شرعي مولويّ ولو كان ظاهريّا ، وكان الحكم المترتّب على احتمال الضّرر غير صالح لذلك ؛ ضرورة كونه إرشاديّا مضافا إلى كونه محمولا عليه ومعلولا له ، فكيف يصير علّة له ومؤثرا فيه؟

فلا محالة تكشف هذه الأخبار الكاشفة عن وجود احتمال العقاب في كل

__________________

(١) المصدر السابق.


شبهة عن الطلب الشرعي الإلزامي المتعلّق بعنوان محتمل الحكم الإلزامي عن جانب الشارع في كل شبهة حتى يصلح علّة وبيانا للتكليف الواقعي المحتمل.

فإن شئت قلت : ظاهر الأخبار المذكورة الأخبار عن ترتّب العقاب على الواقع المحتمل على تقدير ثبوته ، وبعد ضمّ حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان وحكم الشرع برفع المؤاخذة عما لم يبيّنه الشارع لا واقعا ولا ظاهرا ، لا مناص عن الالتزام بوجوب الاحتياط في محتمل التحريم شرعا في مرحلة الظاهر ؛ لعدم صلاحيّة الطلب المستفاد من الأخبار من حيث كونه إرشاديّا مترتّبا على احتمال العقاب لصيرورته بيانا للواقع على ما تقدّم.

فهذه الأخبار نظير ما ورد من الوعد والوعيد على الأفعال ؛ حيث إنّها تكشف عن تعلّق الطلب بها شرعا فاكتفى الشارع عن بيان الملزوم ببيان لازمه ، فإذا كان الإخبار الجزمي عن العقاب على الفعل كاشفا عن تعلق الطلب به شرعا حتى يرجع الإخبار عن المعصية بالفعل كي يترتّب العقاب عليه ، كان الإخبار عن ترتب العقاب على الشبهة على تقدير مصادفة الحرام كاشفا عن تعلّق طلب ظاهري بها كي تصير معصيته على تقدير الحرمة ، فهذا الطلب المستكشف عن الأخبار المذكورة ، يتعلّق بمحتمل الحكم الإلزامي فيكون بيانا للواقع على تقدير ثبوته في نفس الأمر هذا.

والجواب عن السؤال المذكور منحصر بمنع الاستظهار المزبور من حيث


منافاته لمورد ما لا يحتمل فيه العقاب اتّفاقا من الأخبار المذكورة كما في مسألة النكاح وعمومها لما لا يحتمله قطعا مع إبائها عن التخصيص على ما عرفت الإشارة إليه ، فالمهلكة المحتملة في مطلق الشبهة أعمّ من العقاب.

نعم ، فيما يحتمل العقاب نلتزم فيه بتنجز الخطاب مع قطع النظر عن الأخبار المذكورة هذا.

وأمّا ما أفاده في « الكتاب » من الجواب عنه بقوله : « قلت : إيجاب الاحتياط إن كان مقدّمة للتحرّز عن العقاب الواقعي ... إلى آخر ما أفاده » (١).

فغير نقيّ عن المناقشة ؛ لأن الاحتمال الأوّل عين ما مرّ منه فلا يحتمله كلامه.

وأما الاحتمال الثاني : فإن كان المراد منه الحكم الظاهري الشرعي المتعلّق بمحتمل الإلزام على ما عرفت إرادته في توضيح السؤال ، فيتوجّه على ما أفاده في تضعيفه : أن لازم الحكم الظاهري بالمعنى المزبور صحة العقاب من جهته على مخالفة الواقع على تقدير المصادفة على ما يفصح عنه كلامه في غير موضع من « الكتاب » فيما مضى وسيأتي عن قريب ، سيّما في الجواب عن دليل البراءة في قبال أخبار الاحتياط فراجع. إذ هذا أقلّ فائدة للحكم الشرعي الظاهري ، سواء

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٧١.


قيل بثبوت العقاب على مخالفته من حيث هو على خلاف التحقيق أم لا.

وإن كان المراد منه معنى آخر غير ما ذكر فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى عدم معنى معقول للحكم الظاهري غير ما ذكر ـ : أن هنا معنى آخر يتم معه المدّعى وهو المعنى المذكور الذي عرفت استقامته.

(١٢٩) قوله قدس‌سره : ( لكونها شبهة موضوعيّة ، ولأصالة عدم تحقق مانع النكاح ). ( ج ٢ / ٧٣ )

الأصل الحكمي في أمثال هذه الشبهة

الموضوعيّة ، الحرمة لا البراءة

أقول : قد يتوجّه على ما أفاده :

أوّلا : بأن الأصل الحكمي في هذه الشبهة الموضوعيّة وأمثالها الحرمة ، لا البراءة والحلّيّة بالاتّفاق ؛ حيث إن أصالة الفساد في المعاملات من الأصول المسلّمة عندهم ، فالحكم بالحليّة فيها لا يمكن أن يستند إلى نفس الشك واحتمال الحليّة ، بل لا بدّ من أن يستند إلى ما يكون واردا على الأصل المذكور ، أو حاكما عليه كأصالة عدم تحقّق النّسب والرّضاع المحرّمين ، وإليها يرجع أصالة عدم تحقق مانع النكاح.

نعم ، لو كان الشكّ في الحليّة والحرمة من غير جهة الشك في الصّحة


والفساد ، بل من جهة نفس إيقاع العقد بناء على تحريم إيقاعه على المحارم مطلقا كان من الشكّ في الموضوع الذي يرجع فيه إلى البراءة بالاتّفاق فيجمع بينها وبين الحكم بالفساد من جهة الأصل المذكور ، لكنها كما ستقف عليه ، لا يجامع مع الأصل الموضوعي هذا. ولكن ظاهر العبارة : الحكم بجواز ترتيب الآثار من جهة أصالة الحلّية لا مجرّد الحكم بجواز ارتفاع العقد وإن حكم بفساده.

وثانيا : بأن الجمع بين الأصلين ، أي : أصالة الحلّية ـ مع الإغماض عن عدم جريانه كما عرفته ـ وأصالة عدم تحقّق مانع النكاح ، مع كون الشكّ في مجرى الأوّل مسبّبا عن الشك في مجرى الثاني ، لا يستقيم بناء على ما أفاده في باب الاستصحاب : من عدم شمول أخبار الاستصحاب لهما معا وإن كانا متعاضدين ، بل الأمر كذلك عنده بناء على القول به من جهة العقل أيضا كما ستقف عليه.

(١٣٠) قوله قدس‌سره : ( وفي كلا الجوابين ما لا يخفى ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٧٤ )

أقول : أمّا ضعف الجواب الأوّل ، فأظهر من أن يحتاج إلى البيان لمن راجع الأخبار المتقدّمة التي فيها الصحاح والموثقات وإن كان فيها الضعيف أيضا هذا. مضافا إلى إمكان دعوى تواترها إجمالا فلا يلاحظ حال السند.

وأمّا ضعف الجواب الثاني : فيظهر أيضا لمن راجع ما تقدّم من الأخبار ؛ فإنه وإن كان في بعضها المنع من العمل بالرأي ، إلاّ أنه لا يصحّ دعوى كون جميعها في مقام المنع من ذلك.


(١٣١) قوله قدس‌سره : ( وفيه : أن مقتضى أكثر أدلّة البراءة المتقدّمة ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٧٤ )

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« يريد به منع المرجّحات الثلاثة التي ذكرها المجيب. أمّا قوّة السند فلأنّ الدّال من أخبار البراءة بحيث يعارض أدلّة التوقّف منحصر في مرسلة الفقيه وهي قوله عليه‌السلام :

( كل شيء مطلق ) ومن المعلوم أن هذه الأخبار الكثيرة الدالة على التوقّف وإن كانت ضعيفة أقوى من مرسلة واحدة مع أنّ فيها مقبولة عمر بن حنظلة وقد بلغت في الإعتبار عندهم إلى حيث سمّيت بالمقبولة.

وفيه : ما مرّ عند أخبار البراءة من أن جلّها لو لم يكن كلّها دالّ على البراءة بحيث يعارض أخبار التوقّف وليس من قبيل الأصل بالنسبة الى الدليل فراجع.

وأمّا قوّة الدلالة : فإنّها غير معلومة. وفيه : أنّها معلومة لأنّ أخبار البراءة نصّ في الرّخصة والإباحة وأخبار التوقّف على تقدير تسليم تماميّتها ظاهرة في وجوب التوقّف يمكن حملها على مطلق الرجحان كما حملناها فيجب تقديم النص وصرف الظاهر.

وأمّا معاضدتها بالكتاب والسنّة والعقل : فلأنّ ما استفيد منها ليس إلاّ أنّ الأصل عند عدم الدليل على الواقع ولا على وجوب الإحتياط في الظاهر هو البراءة.

وفيه : ما مرّ من الآيات على تقدير تماميّتها سيّما قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) [ الطلاق : ٧ ] معارضة لأخبار التوقّف ، وليس مفادها تقرير حكم العقل من عدم العقاب بلا بيان أصلا.

نعم ، حكم العقل على ما قرّره وقرّرناه أيضا ليس معاضدا هذا.


أقول : لمّا كان مبنى الجواب بالتعارض والترجيح على تسليم دلالة أخبار التوقّف على وجوب الاحتياط توجّه الإيراد عليه بما أفاده : من أن التعارض الترجيح فرع كون الطائفتين في مرتبة واحدة ، وليس الأمر كذلك من حيث إن مفاد أكثر أخبار البراءة كمفاد أكثر أخبار البراءة كمفاد أكثر أدلّتها نفي المؤاخذة على ما لم يبيّنه الشارع أصلا ، لا واقعا ولا ظاهرا ، أو الترخيص فيما يكون كذلك. وإليه أشار بقوله : « فتلك الأدلة بالنسبة إلى هذه الأخبار من قبيل الأصل بالنسبة إلى الدليل » (١) فالمراد أنه لا تعارض بينهما حتى يلاحظ الترجيح.

نعم ، بعض أخبار البراءة كقوله : « كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (٢) ظاهر في نفي وجوب التوقّف من حيث ظهوره ـ على ما عرفت الإشارة إليه ـ في كون الغاية ، العلم بورود النهي في عنوان الشيء ، لا فيه بعنوان أنه مجهول الحكم ، فيقع التعارض بينه وبين ما دلّ على وجوب التوقّف فيما لم يعلم فيه ورود الترخيص بعنوانه الخاص ، على تقدير تسليم دلالة أخبار التوقّف على هذا المعنى

__________________

نعم ، لو قيل في وجه تقديم أخبار التوقّف ردّا على المجيب بأنّها أقوى من جهة معاضدتها بسائر فرق أخبار الباب من أخبار الاحتياط وأخبار التثليث وقد بلغت في الكثرة إلى نيّف وسبعين ـ على ما في الوسائل ـ كان له وجه ، فتأمّل » إنتهى.

أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣٤.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٧٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٣١٧ باب « استحباب البكاء من خشية الله في الصلاة » برقم ٩٣٧ ، عنه وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ٦٧ باب « وجوب التوقف والاحتياط في ... » ـ ح ٦٧.


على ما عرفته من كونه مبنى الجواب بالمعارضة والترجيح لكن الترجيح ، لم يعلم للمرسلة عليها ، بل الأمر بالعكس من حيث الترجيح الصدوري وجهته من حيث وجود الصّحاح ، والكثرة في أخبار التوقف ، وكونها مخالفة للعامّة.

وأما الترجيح من جهة قوّة الدلالة لها عليها فممنوع أيضا ، وأمّا الترجيح من حيث الاعتضاد بالأدلّة الثلاثة ، فهو فرع كونها في مرتبة أخبار التوقف ، وقد عرفت منعه ، وإلاّ لم يتصور هناك تعارض أصلا ؛ ضرورة امتناع التعارض بين القطعي والظنّي فكيف يمكن جعل العقل والإجماع مرجّحين للمرسلة؟!

وأمّا ما ذكره المحقّق القمّي في « القوانين » ـ بعد الجواب بما عرفته من الترجيح ـ : من أنه على تقدير التكافؤ يحكم بالتخيير ومرجعه إلى البراءة أيضا (١). ففيه : بعد الغضّ عما يتوجّه عليه : بأن التخيير في المسألة الأصولية بين الخبرين غير القول بكون الحكم الظاهري مفاد البراءة معيّنا.

وإن كان الغرض هو جواز الأخذ بما دل على البراءة على القول بالتخيير فيختاره ويبني على مفاده ، فلا يتعيّن عليه القول بالتوقّف.

ففيه : أنه على تقدير تسليم الخصم للتكافؤ وتسليمه كون الحكم في المتعارضين المتكافئين التخيير لا الاحتياط له أن يختار ما دلّ على التوقف فيرجع التخيير إلى التوقف بالمعنى الذي عرفته للرجوع في المقام فتدبّر.

__________________

(١) قوانين الأصول : ج ٢ / ٢٢.


(١٣٢) قوله قدس‌سره : ( وفيه ما تقدّم : من أن أكثر أدلّة البراءة بالإضافة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٧٥ )

تحقيقات في بيان النسبة بين أدلّة البراءة وأخبار التوقّف

أقول : لا يخفى عليك : أن دعوى : اختصاص جميع أخبار البراءة بالشبهة التحريمية فاسدة جدّا ، إلاّ أن يراد وجود ما له الاختصاص بالشبهة المذكورة في الجملة ؛ لأن الغرض يتم بذلك ؛ ضرورة عدم توقّفه على اختصاص جميع أخبارها بها ، فالمراد ليس العموم ، كما أن أعميّة أخبار التوقّف مبنيّة على ما عرفته في معناها من كونها كناية عن عدم الإقدام على المشتبه فعلا أو تركا لا الدخول في الفعل. وأمّا ما أفاده قدس‌سره فهو مبني على ما زعمه : من كونه مفاد أكثر أخبار البراءة إثبات الأصل في المسألة ، فلا تعارض أخبار التوقّف على تقدير تسليم دلالتها على الوجوب الشرعي الظاهري على ما هو مبنى هذا الجواب كسابقه.

كما أن مبنى ما أفاده في بيان نسبة المرسلة بالإضافة إلى أخبار التوقّف ؛ على كون المراد من الغاية ورود النهي بالمعنى الأعم من النهي السليم ، مع ملاحظة النسبة من جهة منطوق المرسلة مع أخبار التوقّف ؛ ضرورة أنه على تقدير إرادة المعنى الأخص من النهي تشمل المرسلة ما تعارض فيه النصّان المفروضان في الكتاب. كما أنه مبني على الإغماض عن معارضة أخبار التوقّف لما دلّ على التخيير في تعارض النصّين المتكافئين وتقديمه عليها.


ثمّ إن المراد من العموم المنفي لأخبار التوقّف بالنسبة إلى المرسلة ليس ما يقتضيه ظاهر العبارة في باديء النظر ، بل المراد هو العموم الذي يجوز تخصيصه بالمرسلة ، فالمنفي هو العموم الخاص لا مطلق العموم ؛ ضرورة أن شمول أخبار التوقّف لما تعارض فيه النّصان وعدم شمول المرسلة له لا يوجب انقلاب النسبة ، ولعلّه الوجه في أمره بالتّأمّل عقيب ما أفاده من بيان النسبة وإن كان له وجه آخر سيأتي الإشارة إليه.

ثمّ إن الوجه فيما أفاده : هو أنه بعد ثبوت التلازم بين ما لا نصّ فيه على التحريم وما تعارض فيه النصّان حكما من جهة الإجماع من المجتهد والأخباري عليه ؛ حيث إن الحكم عند الأخباري هو وجوب التوقّف فيهما ، وعند المجتهد عدم وجوب التوقّف فيهما ، وإن حكموا في الأول بالإباحة ، وفي الثاني بالتخيير ، لو بني على تخصيص أخبار التوقّف بالمرسلة بالنسبة إلى ما لا نصّ فيه لزم طرحها بالنسبة إلى ما تعارض فيه النصّان أيضا ؛ نظرا إلى الملازمة فيلزم طرحها رأسا ، فهما بمنزلة المتباينين بهذه الملاحظة.

ومن هنا حكم بعدم عموم لأخبار التوقّف كما هو الشائع في باب تعارض الخاص والعام بحسب النّسبة المنطقيّة في باب التعارض.

نعم ، قوله : « يوجد في أخبار التوقف ... الى آخره » (١).

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٧٥ هذا وفي الكتاب : يوجد في أدلة التوقف.


قد يناقش فيه بإيهامه لتحقّق ما أفاده بالنسبة إلى بعض أخبار التوقّف ، مع أنه متحقّق بالنسبة إلى جميعها.

فالحق في التحرير أن يقال : إن المرسلة وإن كانت بحسب النسبة أخصّ من أخبار التوقّف ، إلاّ أنه لا يجوز تخصيصها بها من جهة لزوم المحذور ؛ وهو طرح أخبار التوقّف رأسا بالملاحظة المذكورة ، فهما في حكم المتباينين. أو يقال : إن المرسلة وإن كانت أخصّ من أكثر أخبار التوقّف ، إلاّ أنها متباينة بالنسبة إلى ما ورد في خصوص المتعارضين من أخبار التوقّف.

ثمّ إن ما أفاده في الجواب كما ترى ، لمّا كان مبنيّا على ثبوت الصورتين من جهة الإجماع بالتقريب الذي عرفت الإشارة إليه ، فلا محالة يتطرّق المناقشة إليه ؛ بالمنع من اتحاد حكم الصورتين عند الفريقين ؛ أمّا عند المجتهد فظاهر ، وأمّا عند الأخباري ؛ فلأن جماعة منهم بل الأكثر مع التزامهم بالتوقّف فيما تعارض فيه النصّان ، التزموا بالبراءة في الشبهة الوجوبيّة.

مع أن أخبار التوقّف يشمل صورة العلم الإجمالي بالتكليف قطعا ، وكذا ما لا نصّ فيه مع عدم الفحص ، أو التمكّن من تحصيل العلم نوعا في المسألة. والمرسلة كسائر أخبار البراءة لا تشملها فلا يلزم من إخراج الصورتين على تقدير ثبوت التلازم أيضا طرح لأخبار التوقّف ، فلعلّه أشار إلى أحد الوجهين في


أمره بالتأمّل (١).

نعم ، هنا وجه آخر للحكم بعدم جواز تخصيص أخبار التوقّف بالمرسلة مع

__________________

(١) قال سيّد العروة قدس‌سره :

« يمكن أن يكون [ الأمر بالتأمّل ] إشارة إلى أن الإجماع على عدم الفرق غير معلوم ؛ إذ يمكن القول بالتوقّف في المتعارضين بمقبولة عمر بن حنظلة وغيره ، وبالبراءة فيما لا نص فيه لأخبار البراءة ، أو إلى انّه يمكن قلب الإجماع المذكور بأن يقال :

إن الشبهة التحريميّة فيما لا نص فيه حكمها البراءة لأخصّيّة أخبارها من أخبار التّوقّف ويلحق الشبهة من جهة تعارض النّصين بها بالإجماع المركّب ، أو إلى منع كون ما ورد فيه نهي معارض بما دلّ على الإباحة غير داخل في قوله : « كل شيء مطلق » ودخوله في الغاية ؛ لأن الظاهر من قوله عليه‌السلام : « حتى يرد فيه نهي » حتى يرد نهي مفيد مبيّن للواقع رافع للشبهة ، وإلاّ فمجرّد ورود النهي وإن كان خبرا ضعيفا غير معتبر لا ينفع في حصول الغاية ، وكذا النهي المبتلى بالمعارض فإن ذلك غير متبادر منه » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣٧.

* وقال المحقق آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« لو كان التخصيص بالجميع متعذّرا كما لو انعقد الإجماع على اشتراك جميع من عدا زيد أو أغلبهم بحيث يتعذّر إخراجهم عن بحث العام لصار النّصان حينئذ بمنزلة المتبائنين فلا بد حينئذ من الرجوع إلى المرجّحات الخارجية ولعلّه لذا أمرنا بالتأمّل.

ويمكن أن يكون الأمر بالتأمل إشارة إلى منع عدم شمول « كل شيء مطلق » صورة معارضة النّص الوارد الدال على الحرمة بما يدل على الإباحة ؛ إذ ليس المراد من النهى مجرّد صدور لفظ لا يمكن الأخذ بمفاده ، بل المقصود معرفة حكم الواقعة ، فورود النهي فيه كناية عن معرفة حكمه كما لا يخفى ». أنظر حاشية فرائد الأصول : ١٦٩.


ثبوت التلازم وهو : أن المرسلة بناء على ما عرفته في بيان الغاية وإن كان ضعيفا تنفي بحسب المفهوم للإباحة فيما تعارض فيه النصّان ، فإثباتها لها فيما لا نصّ فيه منطوقا يوجب التدافع بحسب دلالتها منطوقا ومفهوما فتدبّر.

فإن شئت قلت : بعد ثبوت التلازم ، إن إخراج ما لا نصّ فيه من أخبار التوقّف يوجب إخراج ما تعارض فيه النصّان وهو مناف للمرسلة مفهوما فلا يجوز تخصيصها بالمرسلة ، وإن كانت النسبة العموم والخصوص.

وهذا الوجه أولى ممّا عرفته في بيان منع النسبة المذكورة ؛ فإنه يتوجّه عليه ـ مضافا إلى ما أسمعناك ـ : أنّ طرح أخبار التوقّف بالنسبة إلى الصورتين لا يوجب طرح أخبار التوقف رأسا بعد شمولها للشبهة الوجوبيّة. اللهمّ إلاّ أن يقال بكونها نصّا بالنسبة إلى الشبهة التحريميّة وإن شملت الشبهة الوجوبيّة ، هذا على رواية كون الغاية ورود النهي فقط. وأمّا على رواية كون الغاية وروده ، أو ورود الأمر ، فيشمل المرسلة الشبهة الوجوبيّة أيضا ، فلا يتوجّه ما ذكرنا أخيرا.

وكيف كان : لا إشكال في قصور العبارة في إفاده المراد ؛ فإن المراد منها ليس ما يتراءى بظاهرها من نفي نسبة الخصوص والعموم بين أخبار التوقّف والمرسلة بحسب النسبة المنطقيّة ، كيف! وقيام الإجماع على ثبوت التلازم في الحكم الظاهري بين ما لا نص فيه وما تعارض فيه النصّان لا يوجب انقلاب النّسبة بين الطائفتين وإن فرض عدم جواز تخصيص أخبار التوقّف بهذه الملاحظة بمثل قوله عليه‌السلام : « كل شيء مطلق » على ما ستقف عليه ، بل المراد عدم جواز إجراء


حكم الخصوص والعموم وتخصيص أخبار التوقف بقوله عليه‌السلام : « كل شيء مطلق » للزوم المحذور الذي يلزم من التخصيص ، فهما كالمتباينين حكما لا موضوعا ، مع أن العبارة غير وافية ببيان المحذور الذي يلزم من إخراج ما تعارض فيه النصان عن عموم أخبار التوقّف ، بل غير متعرضة له أصلا ورأسا.

بيان محذور لزوم إخراج ما تعارض النّصّان

عن عموم اخبار التوقّف

بيان ذلك : أنه بعد فرض قيام الإجماع على التلازم لا يجوز إخراج ما تعارض فيه النصّان من وجوه :

أحدها : أنّه مناف لمفهوم قوله : « كل شيء مطلق » بناء على جعل الغاية النّهي الأعمّ من المعارض كما هو مبنى كلامه قدس‌سره ، وأمّا بناء على جعل الغاية النهي السليم ، فيدخل مورد المعارضة في المغيّا ومنطوق الرّواية فلا يتصوّر هناك تعارض بين منطوق الرواية ومفهومها كما هو واضح.

ثانيها : أنه موجب لتخصيص المورد بالنسبة إلى ما ورد في خصوص المتعارضين من أخبار التوقف.

ثالثها : أنه موجب لحمل أخبار التوقّف على ما قام فيه الإجماع على الشبهة الوجوبيّة أو الموضوعيّة مطلقا ؛ ضرورة اتحاد حكم ما لا نصّ فيه ، وما أجمل فيه النصّ فيلزم طرح أخبار التوقّف رأسا ، أو حملها على الاستحباب المنفي بتسليم


المورد من حيث كونه منافيا لإيراده كما هو واضح.

ومن المعلوم أن العبارة لا دلالة لها على شيء من الوجوه المذكورة ، فيمكن أن يكون الوجه في أمره بالتأمّل ما ذكر ، وإن كان له وجه آخر ، وهو : منع قيام الإجماع على التلازم بين ما لا نصّ فيه وما تعارض فيه النصّان في الحكم ؛ نظرا إلى اختلاف كلماتهم في حكم ما تكافأ فيه النصّان ، وورود جملة من الأخبار على وجوب الاحتياط في خصوص المسألة وهذا هو الوجه ظاهرا.

ثم إن المحذور الذي ذكرنا ثانيا من لزوم تخصيص المورد في بعض أخبار التوقف إنّما يلزم من تخصيص ما تعارض فيه النصّان وإخراجه من أخبار التوقّف من غير فرق بين أن يجعل الدليل عليه الإجماع المركّب ، أو نفس الرواية منطوقا بناء على إرادة خصوص النهي السليم من النهي فيها كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر : مناقشة أخرى في العبارة ؛ حيث إن لزوم غير المحذور الثاني ليس مختصّا ببعض أخبار التوقّف وهو خصوص ما ورد فيما تعارض فيه النصّان ، بل يعمّه وغيره ، ولزومه فقط ليس مبنيّا على الإجماع المركّب ؛ إذ قد عرفت لزومه على إرادة خصوص النهي السليم كما استظهر من الرواية وإن استظهر شيخنا قدس‌سره خلافه ، فالحكم بنفي نسبة العموم والخصوص بالنسبة إلى بعض أخبار التوقّف على ما هو ظاهر « الكتاب » مع كون لزوم المحذور عاما كما ترى ،


هذا. مع أن قوله : « ويشمله أخبار التوقّف » (١) ظاهر في عموم الحكم. فالحق أن يقال في التعبير عن المرام بدل قوله : « لكن يوجد » (٢) ، « أو فيوجد » كما في بعض النسخ ، إلاّ أنه لا يجوز تخصيص أخبار التوقّف به من جهة لزوم المحذور فيكونان كالمتباينين حكما ، وجعل الوجه في أمره بالتأمّل توجّه هذه المناقشة في كمال البعد هذا.

وأمّا ما أفاده شيخنا في بيان عدم لزوم محذور في تخصيص أخبار التوقّف بالنسبة إلى الصورتين بقوله : « مع أن جميع موارد الشبهة ... الى آخره » (٣) الراجع إلى نفي نسبة العموم والخصوص حقيقة لا حكما ؛ حيث إن قوله : « كل شيء مطلق » يشمل جميع موارد الشبهة ويعمّها ولو من حيث الفتوى والاعتقاد بالحكم في الشبهة ، ولو كانت نفس الشبهة شبهة في الوجوب أو الموضوع ؛ فإن الحكم على خلاف ما حكم به الشارع واعتقاده حرام. فإذا تردد حكم الواقعة فتجعل النهي عن كل ما يريد الحكم به ، فيكون مرخصا فيه بمقتضى الرواية ، كما أنه يكون ممنوعا ظاهرا بمقتضى أخبار التوقّف ، فيتّحدان موردا فيكونان من العامّين المتباينين.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٧٥.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.


فربما يناقش فيه بعد توجيه العبارة ـ بأن المراد منها : أن جميع موارد الشبهة لا يخلو من أن يكون فيها عنوانا محتمل الحرمة لا أن يكون كلّ شبهة محتمل الحرمة ، وإلاّ لم يصحّ الحمل إلاّ بتكلّف بعيد ـ : بأنه إن فرض قيام الدّليل على ما يحكم به أو يعتقده المكلّف ظاهرا ، أو واقعا خرج عن عنوان الشبهة ، وإن لم يقم دليل عليه كذلك كان حراما واقعيّا قطعا فيخرج على كل تقدير عن عنوان الشبهة ، فالشبهة إنما يتصوّر بالنسبة إلى نفس الفعل والترك من حيث التحريم أو الوجوب.

وبعبارة أخرى : الفتوى والحكم من غير علم تشريع وافتراء على الشارع واقعا أو ظاهرا ، فيكون حراما واقعيّا أو ظاهريّا فلا يقبل لورود الترخيص والإباحة الظاهرية فيه.

فإن شئت قلت : ليس بالنسبة إلى الفتوى المردّدة واقعا تردّد بين الحلال والحرام حتى يجري فيها القضيّة المغيّاة الظاهريّة هذا. مع أنه إذا جعل حكم نفس الواقعة وجوب التوقّف والاحتياط من حيث شمول أخبار التوقف لها بالفرض وعدم شمول قوله : « كل شيء مطلق » لها ؛ حيث إنه لا يحتمل فيه إلاّ الوجوب أو الاستحباب مثلا كما هو المفروض ، فيصير حكم الواقعة معلوما في مرحلة الظاهر والترخيص ، والإرجاع إلى مشيّة الفقيه وإرادته إنّما هو فيما لم يعلم حكم الموضوع حتى يتحقق هناك حكم مردّد بين الأمرين ، فهذه الأخبار واردة على قوله : « كل شيء مطلق » على هذا الاحتمال ، فلا يتصوّر هناك تعارض بينهما أصلا ، هذا مع أن الحكم بشموله للاعتقاد كما ترى ؛ ضرورة استحالة الاعتقاد بالحكم مع


الشكّ فيه ، فلا يتصوّر ورود الترخيص فيه من الشارع ، فقوله : « فتأمل » (١) (٢) إشارة إلى بعض ما ذكرنا أو تمامه فافهم.

كلام الفاضل النّراقي والإيراد عليه

وفي « المناهج » للفاضل النّراقي بعد جعل النسبة الخصوص والعموم بين ما ذكره سادس الأقسام لما دلّ على حلّيّة محتمل التحريم في الشبهة الحكميّة ، قال :

« مع أنك قد عرفت المناقشة والتأمّل في دلالة المرسلة على حكم المقام ؛ نظرا إلى أن فيها احتمالين : أحدهما : أن كل شيء مطلق لكل أحد حتى يرد إليه نهي وحينئذ يكون دالاّ على البراءة في محل البحث. ثانيهما : أنه كذلك حتى ينهى عنه الشارع فمن وصل إليه النهي فحكمه واضح ، وأما من لم يصل إليه فلا دلالة له على حكمه ؛ إذ لا يعلم فيما لا نص فيه ؛ أنه هل ورد نهي أم لا ، إلاّ أن يتمّ باستصحاب عدم ورود النهي » (٣). انتهى ما ذكره ملخّصا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٧٦.

(٢) قال في قلائد الفرائد ( ج ١ / ٣٦٣ ) :

« لعلّ وجهه : أن مفاد أخبار التوقف حينئذ هو التوقّف في محتمل الحرمة عملا كان أم حكما أم اعتقادا ، ومفاده أخبار البراءة ثبوت البراءة في القسم الأوّل فقط ، فتكون النسبة بينهما هو العموم والخصوص من دون التباين ، فيخصّص الأوّل بالثاني هذا » إنتهى.

(٣) مناهج الأحكام في أصول الفقه : ٢١٣.


وفيه ما لا يخفى على من راجع ما ذكرنا في توضيح دلالة الرواية ؛ فإن المعنى الثاني لا محصّل له جدّا ؛ إذ حاصله : أن ما لم يحرّمه الشارع واقعا فهو مباح واقعا وهو كما ترى ، هذا مضافا إلى ما في الاستدراك الذي ذكره هذا.

ذكر كلام صاحب الوسائل في إحتمالات الرّواية

وفي « الوسائل » في طيّ الاحتمالات في المرسلة ما يظهر منه كون ما دلّ على الاحتياط والتوقّف رافعا لموضوعها وإن المراد من ورود النهي في الشيء أعمّ من وروده فيه بعنوانه الخاص أو العام أي كونه مشكوك الحكم ؛ حيث قال بعد ـ نقل الرواية ـ :

« أقول : هذا يحتمل وجوها :

أحدها : الحمل على التقيّة ؛ فإنّ العامة يقولون بحجيّة الأصل ، فيضعف عن مقاومة ما سبق من أخبار الاحتياط مضافا إلى كونه خبر واحد لا يعارض المتواتر.

ثانيها : الحمل على الخطاب الشرعي خاصّة ، يعني أن كل شيء من الخطابات الشرعيّة يتعيّن حمله على إطلاقه وعمومه حتى يرد فيه نهي يخصّ بعض الأفراد ويخرجه من الإطلاق مثاله قوله عليه‌السلام : « كل ماء طاهر حتى تعلم أنه قذر » (١).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ١ / ٥ باب « المياه وطهرها ونجاستها ... » ـ ح ١ ، وفيه : « كل ماء


فإنه محمول على إطلاقه فلما ورد النهي عن استعمال كل واحد من الإناءين إذا نجس أحدهما واشتبها ، تعيّن تقييده بغير هذه الصّورة ، ولذلك استدلّ به الصّدوق على جواز القنوت بالفارسيّة ؛ لأنّ الأوامر بالقنوت مطلقة عامّة ولم يرد نهي عن القنوت بالفارسيّة يخرجها من إطلاقها.

وثالثها : التخصيص بما ليس من نفس الأحكام الشرعيّة وإن كان من موضوعاتها ومتعلّقاتها ، كما إذا شك في جوائز الظالم أنها مغصوبة أم لا؟

ورابعها : أن النهي يشمل النهي العام والخاص ، والنهي العام بلغنا وهو النهي عن ارتكاب الشبهات في نفس الأحكام والأمر بالتوقّف والاحتياط فيها وفي كل ما لا نصّ فيه.

وخامسها : أن يكون مخصوصا بما قبل كمال الشريعة وتمامها ، وأمّا بعد ذلك فلم يبق شيء على حكم البراءة الأصلية.

وسادسها : أن يكون مخصوصا بمن لم يبلغه أحاديث النهي عن ارتكاب الشبهات والأمر بالاحتياط لما مرّ ولاستحالة تكليف الغافل عقلا ونقلا.

وسابعها : أن يكون مخصوصا بما لا يحتمل التحريم ، بل علمت إباحته وحصل الشك في وجوبه فهو مطلق حتى يرد فيه نهي عن تركه ؛ لأن المستفاد من

__________________

طاهر الا ما علمت أنه قذر » عنه وسائل الشيعة : ج ١ / ١٣٣ كتاب الطهارة باب « الماء المطلق انه طاهر مطهر » ـ ح ٢.


الأحاديث هنا عدم وجوب الاحتياط بمجرد احتمال الوجوب وإن كان راجحا حيث لا يحتمل التحريم.

وثامنها : أن يكون مخصوصا بالأشياء المبهمة التي يعمّ بها البلوى ويعلم أنه لو كان فيها حكم مخالف للأصل لنقل كما يفهم من قول عليّ عليه‌السلام : « واعلم يا بنيّ أنّه لو كان إله آخر لأتتك رسله ولرأيت آثار مملكته » (١) وقد صرّح بنحو ذلك المحقّق في « المعتبر » وغيره ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وأنت خبير بما في تمام الاحتمالات التي ذكرها ، سيّما ما ذكره رابع الوجوه وسادسها الذي يرجع إليه حقيقة وعند التأمّل.

ثم إن الفاضل النراقي في « المناهج » وإن جعل ما دل على حليّة المشتبه كرواية مسعدة وأضرابها أخصّ من أخبار التوقّف ، إلاّ أنك عرفت ظهوره في خصوص الشبهة الموضوعيّة.

(١٣٣) قوله قدس‌سره : ( والجواب : أمّا عن الصحيحة : فبعدم الدلالة ؛ لأن المشار إليه ... الى آخره ) (٢). ( ج ٢ / ٧٨ )

__________________

(١) نهج البلاغة : خ ٣١ / ج ٣ / ٤٤.

(٢) قال السيّد المجدّد الشيرازي قدس‌سره :

« وحاصل الجواب : أن المشار إليه بقوله عليه‌السلام : « اذا اصبتم بمثل هذا » إما نفس واقعة الصيد فيكون المراد : اذا اصبتم بمثل واقعة الصيد فعليكم بالإحتياط ، وإمّا السؤال عن حكم واقعة


__________________

الصيد المفهوم من قول الرّاوي : سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فيكون المراد اذا اصبتم بمثل السؤال عن واقعة الصيد فعليكم بالإحتياط. والمراد بالاحتياط على الأوّل هو الإحتياط في العمل وعلى الثاني هو الإحتياط من حيث الفتوى :

إمّا بكون المراد لزوم الفتوى بالإحتياط في مثل هذا السؤال او الإحتياط في الفتوى ولو بالاحتياط إلى أن يسأل من اهل الذكر عليهم‌السلام ، وعلى التقديرين لا يدخل ما نحن فيه ـ وهي الشبهة التحريميّة البدويّة ـ في موضوع الرّواية لعدم كونه مثلا لواقعة الصيد أو للسؤال عن حكمها لما قرّره قدس‌سره : من أن واقعة الصيد إمّا من قبيل الشك في الأقل والاكثر الإستقلاليّين الذي يرجع فيه إلى البراءة بالإتفاق لكون الشبهة وجوبيّة فيهما ، أو من قبيل الأقل والأكثر الإستقلاليّين الذي يرجع فيه إلى البراءة بالإتفاق لكون الشبهة وجوبيّة فيهما ، أو من قبيل الأقل والأكثر الإرتباطيّين الذين مرجعها إلى المتباينين على مذاق بعض من أوجب الإحتياط فيهما ، فأصل التكليف على التقديرين في الجملة محرز ، وما نحن فيه لم يحرز فيه تكليف أصلا ، مع أنّ الشبهة في واقعة الصّيد وجوبيّة وفيما نحن فيه تحريميّة.

أقول : هذا مضافا إلى انه لو كان المشار اليه هو السؤال عن حكم واقعة الصّيد فتصير الرّواية حينئذ أبعد عمّا نحن فيه منها على تقدير كون المشار إليه هو نفس واقعة الصيد ؛ لأن الكلام فيما نحن فيه ليس في وجوب الإفتاء بالإحتياط أو في حرمة الإفتاء ولو بالإحتياط » إنتهى.

أنظر تقريرات المجدد الشيرازي قدس‌سره : ج ٤ / ٧١.

* وقال السيّد الفقيه اليزدي قدس‌سره :

« تقريب الإستدلال مبني على أن يكون المشار إليه بلفظ ( هذا ) واقعة الصّيد ويكون المراد


في عدم دلالة الصحيحة على مدّعاهم

وبيان مورد الاستدلال بها

أقول : لا ريب في دوران الأمر في الصحيحة بين الوجهين المنتهيين إلى وجوه لا تعلّق لها بالمقام أصلا ، توضيح ذلك :

أن مورد الاستدلال بالصحيحة على وجوب الاحتياط قوله عليه‌السلام : « إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا وتعلموا » (١) والمشار إليه يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون مسؤوليّة المكلّفين عن حكم ما لا يعلمونه من الوقائع ؛ حيث إن جزاء الصّيد المشترك بين شخصين كان كذلك على ما فرض في السؤال ، فالمعنى : أن كلّما سألتم عن مسألة لا تدرون حكمها ، كما سألتم عن واقعة الصيّد

__________________

بمثله مطلق الحكم المجهول ، وقد أمر فيه بالإحتياط فيشمل ما نحن فيه من الشبهة التحريميّة خرج ما خرج من الشبهة الوجوبيّة البدويّة والشبهة الموضوعيّة وبقي الباقي.

ولا يخفى ان المصنّف قد أهمل هذا الإحتمال في مقام الجواب عن الإستدلال ولعلّه اعتمد على كونه خلاف ظاهر المثل فتأمل » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١٣٨.

(١) الكافي الشريف : ج ٤ / ٣٩١ باب « القوم يجتمعون على الصيد ... » ـ ح ١ ، عنه وسائل الشيعة : ج ١٣ / ٤٦ ، باب « ان اذا اشترك اثنان ... » ـ ح ٦.


ولم تدروا حكمها فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا وتعلموا ....

ثم إن قوله : « فعليكم بالاحتياط » (١) على هذا الوجه يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه يجب ترك الإفتاء مطلقا من غير فرق بين الإفتاء بالحكم الواقعي والظاهري حتى بالاحتياط ، فلا بد أن يفرض الواقعة في غير محلّ الحاجة ، وإلاّ لم يكن معنى له. وهي بهذا المعنى تمنع من القولين في المسألة في الجملة ، فلا بدّ على كلا القولين من حملها على ما يتمكّن من تحصيل العلم بحكمه نوعا.

ودعوى : أن الأخباري يلتزم بمضمونها وإنما يترك الفعل لاحتمال الحرمة ، فاسدة بما عرفته وستعرف من فساد هذا التوهّم ، وأنه لا مناص للأخباري من الحكم بوجوب الاحتياط في مرحلة الظاهر. وأن النزاع القابل إنما هو في حكم المشتبه لا في دواعي الترك والفعل ، أو الإفتاء بخصوص الحكم الواقعي للواقعة ، فلا تعرّض لها للمنع عن الإفتاء بالحكم الظاهري بمقتضى الأصول فلا يجدي في المقام أصلا.

ثانيهما : أنه يجب الإفتاء بالاحتياط ، وهذا مع كمال بعده عن مساق الرواية كما هو ظاهر لا بد من تنزيلها على ما يمكن فيه الاحتياط. وهذا كما ترى ، مبنى الاستدلال بالرواية.

__________________

(١) المصدر السابق.


ويتوجّه عليه ـ مضافا إلى لزوم ارتكاب التخصيص فيها بإخراج ما وافقنا الأخباري على عدم وجوب الاحتياط فيه كالشبهة الوجوبيّة مع كمال بعد التخصيص فيها ـ : بأنه لا معيّن لهذا الاحتمال ، ومجرّد احتماله لا يوجب رفع اليد عن مقتضى الأدلّة العقليّة والنقليّة القاضية بالبراءة فيما لا نصّ فيه ، مع أن الالتزام بمقتضى هذا الاحتمال لا يجدي الأخباري في شيء ؛ ضرورة أن مقتضاه المنع من البراءة فيما يمكن من تحصيل العلم فيه ولو نوعا ولا نضائق من القول بوجوب الاحتياط فيه ولا تثبت وجوب الاحتياط مطلقا.

ودعوى : الإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، كما ترى.

ثانيهما : أن يكون المشار إليه نفس واقعة الصّيد على أبعد الوجهين فتدل بظاهرها على وجوب الاحتياط في كلّ ما كان مثلها ، فإن جعلنا الشك فيها من الشكّ في التكليف النفسي المستقل ؛ نظرا إلى رجوع الدوران فيها إلى الأقل والأكثر الاستقلاليّين ، فتدلّ بظاهرها على وجوب الاحتياط في كل ما كان من هذا القبيل مع التمكن من تحصيل العلم ولو نوعا ، من غير فرق بين الشبهة الحكمية الموضوعيّة في وجه ، والمقام ليس مماثلالها من وجهين :

أحدهما : انتفاء العلم بالتكليف فيه رأسا.

ثانيهما : عدم التمكن من تحصيل العلم فيه أصلا.

ومراده قدس‌سره من دعوى الاتّفاق على عدم وجوب الاحتياط في الفرض : هو


الاتّفاق بعنوان الإيجاب الكلّي فلا ينافي ذهاب غير واحد إلى وجوب الاحتياط في الفوائت المردّدة بين الأقلّ والأكثر فتأمل ، هذا كلّه.

مضافا إلى عدم ظهورها في هذا الاحتمال ، غاية الأمر دوران أمر الصحيحة بينه وبين غيره من الوجوه والاحتمالات ، وإن جعلنا الشكّ فيها في المكلّف به ؛ نظرا إلى رجوع الدوران فيها إلى الأقلّ والأكثر الارتباطي ، فتدل على وجوب الاحتياط في كل ما كان أمره من الشكّ في المكلف به مردّدا بين الأقلّ والأكثر في الجملة ، ولا تعلّق لها بما يبحث عنه من الشكّ في أصل التكليف.

(١٣٤) قوله : ( وأمّا عن الموثقة (١) : فبأن ظاهرها الاستحباب ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٧٩ )

__________________

(١) قال المحقق الطهراني قدس‌سره :

« وأمّا خبر ابن وضّاح في مكاتبته فلا دلالة له إلاّ على استصحاب النّهار إذا كانت الشبهة موضوعيّة ؛ فإنّ ارتفاع الحمرة فوق الجبل مع استتار القرص يحتمل أن يكون مع عدم سقوطها عن الأفق الحقيقي والحسّي كالرّسي لا حكم له ومع عدم العلم بالغروب عن الأفق الحقيقي لا إشكال في وجوب الإحتياط ، وعلى تقدير كون السؤال عن الحكم الكلّي وأنّ الليل يتحقّق بالإستتار أو بزوال الحمرة عن دائرة نصف النّهار فالتعبير بالإحتياط من باب التقية ، ويقرّبه انّه مكاتبة ، كما ان الإرتفاع فوق الجبل يبعّده.

ويقرّب : أنّ الإستتار عن الأفق الحسّي ، فلا احتياط تحقيقا ، بل إنّما هو إفتاء بصورة الإحتياط وعلى كلّ تقدير فلا ربط له بالشبهة التحريميّة » إنتهى.

أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ١٣.


في الجواب عن الإستدلال بموثقة عبد الله بن وضّاح

أقول : لا إشكال في أن الظاهر من الموثّقة السؤال عن حكم الشكّ في دخول المغرب في الشبهة الموضوعيّة مع وجود الأمارات عليه بالنظر إلى مساقها ، مع قطع النظر عما أفاده في وجه ظهورها فيه : من كون الإرجاع إلى الاحتياط وبيان الحكم الظاهري في القضيّة الشخصيّة المسؤول عنها منافيا لمنصب الإمام المنصوب لإزالة الشبهة عن حكم الوقائع ؛ فإن احتمال الجهة المقتضية لتقرير الجاهل على جهله وبيان الحكم الظاهري له ، خلاف الأصل والقاعدة ، ولا ريب أن الانتظار في مورد السؤال وأمثاله من الشبهات الموضوعيّة الراجعة إلى الشك في الإتيان بما كلّف به يقينا لازم قطعا لقاعدة الشغل.

وقوله : « أرى لك » وإن كان يستشمّ منه رائحة الاستحباب (١) إلاّ أنه لا بدّ من حمله على إرادة الوجوب من جهة ما ذكر ) فالمراد من استظهار الاستحباب في كلامه قدس‌سره محمول على ظهوره بالنظر إلى نفس التعبير المذكور ، فلا ينافي ما ذكره بعد ذلك : من نفي الرّيب في وجوب الانتظار فيما فرضه وفرضنا ؛ فإن الجزم بإرادة الوجوب إنّما هو بملاحظة أخرى غير نفس التعبير ولا يتوهّم دلالتها على

__________________

(١) كما في فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٠.


وجوب الاحتياط على هذا التقدير أيضا ؛ نظرا إلى ظهور قوله عليه‌السلام : « وتأخذ الحائطة لدينك » (١) في علّة الحكم على ما اعترف به في تقريب الاستدلال بالموثّقة ، كيف! ويلزمه وجوب الاحتياط في جميع موارد الشكّ في التكليف في الشبهة الموضوعيّة والحكميّة مع كونه خلاف مذهب الأخباري جزما والتعليل آب عن التخصيص قطعا ، فلا بدّ من أن يحمل على إرادة وجوب الاحتياط في كل ما كان مماثلا لمورد الرواية ، أو الطلب الإرشادي القدر المشترك فلا تعلّق لها بالمقام أصلا كما لا يخفى هذا.

وأمّا التمسّك بوجوب الانتظار في الفرض باستصحاب عدم الدليل ، أو الاشتغال بالصّوم وقاعدة الاشتغال بالصلاة ، فقد يناقش في الأول منهما : بكونه أصلا مثبتا ، وفي الثاني ؛ بعدم جريانه أصلا كما ستقف على شرح القول فيه في الجزء الثالث من التعليقة إن شاء الله تعالى على ما عرفت في مطاوي كلماتنا وستعرفه : من أن استصحاب الشغل سواء أريد به ما ينتزع من التكليف أو نفسه لا محصّل له في أمثال المقام أصلا ، هذا مع أن جريانهما مانع عن جريان القاعدة كما هو ظاهر.

ومنه يظهر : أنه لو قيل بجريان استصحاب اليوم في الفرض لم يكن معنى

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ١ / ٣٩٥ ، المسلك الثالث ـ ح ٤٢.


للتمسّك بأصل الاشتغال ، وإن كان هو الأصل في المسألة ....

نعم ، التمسّك باستصحاب عدم دخول الليل للمنع عن صلاتها لا غبار فيه ، بل ربّما يقال بتعيّن الرجوع إليه وعدم جواز التمسّك بقاعدة الشغل بالنسبة إليها من جهة الشك في أصل الاشتغال مع الشك في دخول الوقت وإن كان فاسدا ؛ نظرا إلى استقلال العقل في حكمه بعدم جواز القناعة باحتمال الامتثال عمّا توجّه إلى المكلّف ، أو يتوجّه إليه مع التمكّن من الإطاعة العلميّة ، فلا فرق في مناط القاعدة بين الصورتين.

وأمّا المنع من الرجوع إلى استصحاب عدم دخول الليل بالنسبة إلى الصوم فإنّما هو من جهة أن استصحاب عدم دخول الغاية لا يثبت كون الزمان المردّد قبلها وإن كان ملازما له واقعا. ومن هنا استندنا في منعه إلى كونه من الأصول المثبتة فتدبّر.

نعم ، يتوجّه على ما ذكرنا ـ من جريان استصحاب عدم دخول الليل لنفي ما ترتّب عليه من الأحكام ـ : أن احتمال عدم دخول الوقت المضروب للصّلاة مع عدم قيام أمارة معتبرة عليه يكفي للحكم بعدم جوازها ؛ نظرا إلى استقلال العقل في الحكم بعدم جواز القناعة بالموافقة الاحتمالية مع التمكن من الإطاعة العلمية كما هو المفروض في المقام ، فلا يترتّب أثر على عدم دخول الوقت في نفس الأمر حتى يحكم به من جهة الاستصحاب.


نعم ، لو اعتقد دخول الوقت وصلّى وشكّ بعد الفراغ في دخول الوقت وأن صلاته وقعت قبل دخول الوقت بتمامها أو بعده ، فربّما يقال بتعيّن الرجوع إلى استصحاب عدم دخول الوقت للحكم بوجوب الإعادة لو لا حكومة قاعدة الشكّ بعد الفراغ عليه لو قيل بجريانها في المقام ، وإن كان قد يمنع من الجريان في الفرض أيضا ؛ نظرا إلى كفاية احتمال وقوع العمل قبل الوقت في الفرض أيضا من جهة قاعدة الاشتغال فتدبّر.

ثم إن تعليل وجوب الانتظار في الرواية ـ فيما استظهرناه من الشبهة الموضوعيّة في فقه الحديث ـ بالاحتياط ، يدل على عدم جريان استصحاب الزمان وإلا لم يكن معنى للتعليل المذكور كما هو ظاهر.

(١٣٥) قوله قدس‌سره : ( هذا كله على تقدير القول بكفاية ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٨٠ )

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره :

« وإنّما حملها على غيرها فإن سقوط الشمس يتحقّق قبل ذهابها جزما فلا يجب انتظار ذهابها.

ثم لا يخفى أن حمل الأمر بالإحتياط على الوجوب على هذا التقدير مبني على عدم حجّيّة الظّنّ بدخول الوقت وإلاّ فلا يكاد يصحّ حمله إلاّ على الإستحباب ؛ فإنّ الأمارات المتراكمة المفروضة في السؤال من تواري القرص وإقبال اللّيل وزيادة الليل إرتفاعا واستتار الشمس من النّظر وارتفاع الحمرة وأذان المؤذنين مفيدة للظّنّ جدّا » إنتهى. درر الفوائد : ٢١٢.


أقول : لمّا استظهر من الرواية على ما عرفت اختصاصها بالشبهة الموضوعيّة ، أراد الإشارة إلى عدم دلالتها على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية ومحلّ البحث من حيث التعليل على تقدير إرادة الشبهة الحكميّة أيضا وإن كان في كمال البعد ؛ نظرا إلى أن الانتظار واجب واقعا على تقدير إرادة الحمرة المشرقيّة التي لا بدّ من زوالها ، فيكون التعبير بقوله : « أرى لك » (١) (٢) الذي

__________________

وعلّق عليه الفاضل الكرماني قدس‌سره قائلا :

« أقول : لا ينبغي لك أن تتوهّم : أنّ المراد بغير الحمرة المشرقيّة هي الحمرة المغربيّة ؛ فإنّ زوالها بعد زوال المشرقيّة بزمان طويل فلا يعتبر حصوله في حصول سقوط الشمس الحاصل قبل زوال الحمرة المشرقيّة الحاصل قبل زوال المغربيّة بزمان طويل.

بل المراد الحمرة المردّدة بين المشرقيّة والحاصلة من إشراق الشمس على الجبل مع كونها فوق الأفق ، فلم تكن علامة للسقوط ، ولو تفطّن الخراساني لهذه الدقيقة لكان يرعد ويبرق عليها بما لا يزيد عليه ، ثم وضع بعد ثمّ ما لا مزيد فائدة فيه فهو مرغوب عنه لا فيه » إنتهى. الفرائد المحشّى : ٢١٠.

(١) التهذيب : ج ٢ / ٢٥٩ باب « المواقيت » ـ ح ٦٨ ، الاستبصار : ج ١ / ٢٦٤ باب « وقت المغرب والعشاء الاخرة » ـ ح ١٣ ، عنهما الوسائل : ج ٤ / ١٧٦ باب « ان اول وقت المغرب غروب الشمس ... » ـ ح ١٤.

(٢) قال السيّد المجدد الشيرازي قدس‌سره :

« [ هذا ] يعني ان الإمام عليه‌السلام أجاب بلفظ « أرى » المشعر بالإستحباب وهذا يشهد بانه عليه‌السلام ـ


يستشمّ منه رائحة الاستحباب من جهة التقيّة ممن يقول بدخول المغرب مع عدم زوالها فقد علّله بالاحتياط حتى يتأدّى منه التقيّة ، فيزعم المخالف : أنّ طلب الانتظار من جهة الجزم بغروب القرص ، لا أن المغرب لا يدخل معه مع عدم زوال الحمرة المشرقيّة ، فلا بدّ من أن يكون المراد مجرّد رجحان الاحتياط وحسنه ؛ ضرورة أن وجوبه ينافي التقيّة كما هو ظاهر ، فيدلّ على رجحان الاحتياط في جميع الموارد ، وهذا ممّا لا ننكره أصلا ؛ فإن العقل مستقل في الحكم به على ما عرفت مرارا وستعرفه تفصيلا.

(١٣٦) قوله : ( وأما عن رواية الأمالي ... الى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٨٠ )

__________________

كان في مقام التقيّة نظرا إلى انه لو أمر بالإحتياط على سبيل الوجوب لكان موهما لمخالفته للمخالفين فعدل عنه إلى هذا التعبير الموهم لموافقته لهم » إنتهى.

أنظر تقريرات المجدد الشيرازي : ج ٤ / ٧٥.

(١) قال المحقق الطهراني قدس‌سره الشريف :

« وأمّا قوله عليه‌السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت » فمحصّله : حصر الأخ في الدين ومرجعه إلى أنّ همّ الشخص يجب أن يصرف في حفظ دينه ؛ فإنّه الذي يكشف عنه الكروب العظام ويوجب السعادة والفوز بمقام القرب لا من يشاركه في الأصلاب والأرحام ، وبعد ما صارت له هذه المنزلة فالشخص بمقتضى طبعه يحفظه ويكون حفظه أكبر همّه وإحالة الإحتياط على المشيّة بعد تبيّن هذا الأصل المعبّر عنه بقاعدة اليقين لا يحتمل فيه ضرر


أقول : لا إشكال فيما أفاده : من عدم جواز إرادة وجوب الاحتياط من الرواية وإن كان الأمر بحسب الهيئة ظاهرا فيه ؛ نظرا إلى أن حمله عليه يوجب التخصيص في الرواية بإخراج ما اتّفق الفريقان على عدم وجوب الاحتياط فيه وهي آبية عن التخصيص جدّا ؛ نظرا إلى جعل الدّين بمنزلة الأخ وحمله عليه ، فكيف يعقل ارتكاب التخصيص فيها؟ فلا بد من أن يلتزم بإرادة ما لا ينافيه التنزيل المذكور في الرواية من الطلب الشرعي القدر المشترك بين الوجوب والاستحباب ، فلا يلزم هناك تخصيص أصلا ، أو الإرشادي القدر المشترك فلا ينافي وجوبه أيضا في بعض الموارد وعدمه في بعض آخر ؛ فإنه إذا جامع الطلب مع الإرشاد على ما هو الحق الواضح عندنا ، فلا محالة يوجد له قدر مشترك بين القسمين كما لا شبهة في وجود القسمين ؛ نظرا إلى ما أفاده قدس‌سره في « الكتاب » بقوله :

« لأنّ تأكّد الطلب الإرشادي ... الى آخره » (١).

وأمّا التشبيه بالأمر في أوامر الإطاعة في الكتاب والسنّة ـ حيث إن المراد منه الطلب الإرشادي القدر المشترك الجامع لجميع موارد الأحكام الاقتضائية ـ

__________________

على الدّين ، بل الإعراض عنه خروج عن الدين.

وبما حققناه يظهر فساد التمسّك بجميع ما يدلّ على الإحتياط في الدين فإنّه ممّا لا نزاع فيه ولكن الرّكون إلى هذا الأصل بعد الفحص لا ينافيه وإلاّ لكان تركه في الشبهة الوجوبيّة أيضا كذلك ، وأطالوا في الذبّ عنها بما لا طائل تحته » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ١٤.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٠.


فلعلّنا نتكلّم فيه بعد ذلك بعض الكلام ؛ فإنه وإن لم يكن إشكال في كون الأمر المتعلّق بالإطاعة للإرشاد المؤكّد لحكم العقل ، إلاّ أن صرفه عن ظاهره لا يخلو عن مناقشة ، وجعل تأكيده لحكم العقل قرينة عليه ـ حيث إنه لا إشكال في حكمه بالإطاعة في جميع موارد الطلب ـ فاسد جدّا ؛ فإنه يحكم بالإلزام في موارد الطلب الإلزامي الشرعي وبالاستحباب الإلزامي في موارد الطلب الغير الإلزامي ، فليس هنا قدر مشترك في حكمه الوارد على القضايا الشخصيّة من سنخ الطلب الشرعي.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إن وجود المحذور من إرادة المعنيين من لفظ الشارع مع وجودهما في نفس الأمر المستكشف عن الحكم العقلي أوجب حمل الكلام على إرادة الجامع بينهما فتدبّر.

فالمراد من قوله : « وحينئذ فلا ينافي وجوبه ... إلى آخره » (١).

بيان حكم حمل الرّواية على الإرشاد ، فالمراد من الإرشاد في كلامه هو الطّلب الإرشادي القدر المشترك ، كما أن المراد من قوله : « أو على الطّلب القدر المشترك » (٢) هو الطلب الشرعي القدر المشترك.

وإن كان ما أفاده بقوله : « وحينئذ فلا ينافي وجوبه ... الى آخره » (٣) من نفي

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٠.

(٣) نفس المصدر.


المنافاة لا يفرّق فيه بينهما ، إلاّ أن مراده بيان حال الطّلب الإرشادي ؛ نظرا إلى التعليل بقوله : « لأن تأكّد الطّلب الإرشادي ... الى آخره » (١).

أو خصوص الاستحباب بحمل الرّواية على إرادة مرتبة خاصّة من الاحتياط وهي أعلى مراتبه وأوفاه (٢) برعاية احتمال الواقع في جميع موارده ، وهذه أتمّ المراتب وأكملها.

وتنزيل الدّين منزلة الأخ ربّما يعيّن هذا المعنى ؛ حيث إنه يقتضي كمال الاهتمام بشأنه وأن أيّ مرتبة من الاحتياط روعيت فهي في محلّها ، فتأمّل حتى لا يختلط عليك الفرق بين هذا المعنى والقدر المشترك وخصوص الوجوب في جميع الموارد وخصوص الاستحباب في جميعها ، فإنه لا يخلو عن غموض.

(١٣٧) قوله : ( وممّا ذكرنا يظهر : الجواب عن سائر الأخبار ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٨١ )

أقول : أما عدم ظهور باقي الأخبار المذكورة بعد رواية « الأمالي » في وجوب الاحتياط ـ مضافا إلى ما عرفت ؛ من لزوم ارتكاب التخصيص فيها بإخراج ما لا يجب فيه الاحتياط اتّفاقا مع إبائها عن التخصيص كما لا يخفى لمن

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) قال الفاضل الكرماني قدس‌سره :

« أعلى مراتب الإحتياط هو الإحتياط في موارد عدم وجوب الإحتياط كالإحتياط في الشبهة الموضوعيّة مطلقا والحكميّة الوجوبيّة التي اعترف الأخباري بعدم وجوبه فيها » إنتهى. الفرائد المحشّى : ٢١١.


راجع إليها ـ فلمنافاة مساق أكثرها أو كلّها لإرادة خصوص الوجوب ، فلا بدّ من حملها على الطلب القدر المشترك الإرشادي ، أو خصوص النّدبي من الإرشادي بالمعنى الذي عرفته في رواية « الأمالي » ، كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : « وخذ الاحتياط في جميع أمورك ما تجد إليه سبيلا » (١).

وأمّا ضعف أسانيد باقي الأخبار ، فممّا لا حاجة إلى البيان أصلا ، فلا يجوز الاستدلال بها على تقدير تسليم ظهورها في وجوب الاحتياط لا ينافي ما أفاده قدس‌سره في المقام لما سيذكره في رد المحقق قدس‌سره بقوله : « ثمّ منع كون النّبوي من أخبار الآحاد المجرّدة ... الى آخره » (٢).

لأن إمكان دعوى تواتر مطلوبيّة ترك الشبهة بالمعنى الأعم ، لا ينافي القدح في سند كل واحد على تقدير تسليم ظهوره في الوجوب لأن الوجوب ؛ غير متواتر جدّا وإنّما ادّعى تواتر مضمون مطلق المطلوبيّة فتدبّر.

(١٣٨) قوله قدس‌سره : ( نعم ، يظهر من المحقق ... الى آخره ). ( ج ٢ / ٨١ )

أقول : قد تقدم ما اختاره المحقّق قدس‌سره في مسألة العمل بأخبار الآحاد وأنه ليس تابعا لصحّة السّند ولا يعتبرها ، وإنّما المعتبر عنده في عنوان القبول عمل جلّ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٧ / ١٧٣ باب « وجوب التوقف والاحتياط ... » ـ ح ٦١.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٢.


الأصحاب بالخبر وفي عنوان الرّدّ إعراضهم عنه. (١) ، فلعلّه الوجه عنده في ترك العمل بالخبر في المسألة الأصولية ؛ حيث إنه لم يعهد منهم بزعمه العمل به فيها.

وأمّا ما أجاب به ثانيا عن النّبوي الراجع إلى المناقشة في دلالته ، فهو مبني إلى ما عرفت الإشارة إليه في مطاوي كلماتنا السابقة وستقف عليه : من أن الذي دلّت الأدلّة الأربعة عليه إنّما هو حسن الاحتياط ورجحانه مطلقا.

وأمّا وجوبه كذلك فلم يدل عليه دليل فليس أمرا يقينيّا فهو ريب ، فلو دل النبوي على الوجوب فيلزم من إثباته نفيه ، وهو محال. فيكشف ذلك من عدم إرادة الوجوب منه هذا.

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره من المناقشة فيما أفاده المحقق قدس‌سره ، فيرجع إلى وجوه ، بعضها يرجع إلى المناقشة فيما أفاده أوّلا ، وبعضها يرجع إلى ما أفاده ثانيا ؛ في تقريب عدم الدلالة.

منها : منع كون المسألة المبحوث عنها أصوليّة (٢) ، بل هي فرعيّة سواء كان

__________________

(١) معارج الأصول : ٢٢٤ ـ المسألة السابعة.

(٢) قال الفقيه السيد عبد الله الشيرازي قدس‌سره :

« لا يخفى أن هذا على أحد الإحتمالين في المايز بين المسألة الأصوليّة والفقهيّة وهو تعلّق المسألة بعمل المكلّف بلا واسطة وتعلّقها به مع الواسطة ، أو وقوع نتيجة المسألة في طريق الإستنباط وكونها نفس الحكم المستنبط ؛ حيث ان الحلّيّة العارضة على التدخين ممّا يكون


التكلّم فيها من حيث الدليل النقلي ؛ أو العقلي ؛ نظرا إلى رجوع البحث فيها إلى البحث عن عوارض فعل المكلف بلا واسطة من غير أن يكون له تعلّق بعوارض الأدلّة والبحث عن أحوالها وإن كان استنباط حكمها موقوفا على إعمال الأدلّة ، والبحث عن دلالتها كما هو الشأن في استنباط جميع الأحكام الفرعيّة ، وإنّما الكلام في الحكم المستنبط من حيث تعلّقه بفعل المكلف بلا واسطة وكونه محمولا

__________________

متعلّقا بفعل المكلّف بلا واسطة وأنّها نفس الحكم كما أنّ حرمة نقض اليقين بالشك أيضا كذلك إلاّ انها كلّي تحته كلّيّات أخرى.

ولا يلزم في المسألة الفقهيّة أن لا يكون كلّيّا ينطبق على كلّيّات أخرى بخلاف مسألة حجّيّة الخبر الواحد مثلا حيث انّ البحث فيها عن الحجّيّة وعدمها ومن المعلوم ان الحجّيّة تتعلق بعمل المكلّف بالواسطة وهو وجود الخبر الواحد وتحققه وهو خبر زرارة مثلا ، فافهم.

ولا تكون المسألة الأصوليّة نفس الحكم المستنبط بل إنّما تقع في طريق الإستنباط ولكن لا يخفى ان هذا الإحتمال ضعيف ؛ حيث انه لا وجه لخروج مثل مسائل البحث عن الأصول الأربعة عن علم الأصول والإلتزام بان ذكرها استطراد ، بل الأولى ان يقال :

ان كل مسألة يمكن اعطاء نتيجتها بيد المقلّد والعامي فهي مسألة فقهيّة ، وكلّ مسألة لا يمكن إعطاؤها بيد المقلّد مع عدم إختصاصها بباب دون باب فهي مسألة اصوليّة ومن المعلوم أنّ الحليّة في ما لا نصّ فيه ممّا لا يمكن إعطاؤها بيد المقلّد ؛ حيث انه يحتاج الى الفحص.

واما الطهارة في الشبهات الحكميّة وإن كانت أيضا مما لا بد فيها من الفحص ولأجل هذا لا يمكن إعطاؤها بيد المقلّد إلاّ أنّها ممّا يختصّ بباب واحد » إنتهى.

أنظر عمدة الوسائل : ج ٢ / ٦٧.


أوّليّا له ، وإن كان حكما ظاهريّا كليّا متعلّقا بالأفعال المشتبهة حكمها ؛ فإنه لا يمنع من اندراجها في الحكم الفرعي ، كما هو الشأن في جميع القواعد الفقهيّة التي يبحث عنها في الفقه من الواقعيّة الظاهريّة كقاعدة نفي الضرر والحرج ، ووجوب الوفاء بالعقود ، وحليّة الأشياء وطهارتها في الشبهات الحكميّة.

وهذا أحد الوجهين في المسألة الجاري في جميع الأصول العمليّة الجارية في جميع الشبهات الحكمية من البراءة والاستصحاب والتخيير.

وهنا وجه آخر يقتضي اندراجها في المسألة الأصوليّة ستقف عليه في الجزء الثالث من التعليقة عند تكلّم شيخنا فيه إن شاء الله تعالى ، وإن كان الأوجه الأوّل كما استظهره قدس‌سره في المقام.

منها : منع كون النّبوي من أخبار الآحاد ؛ لكون مضمونه وهو مطلوبيّة ترك الشبهة متواترا ، والكلام إنّما هو في حجيّة أخبار الآحاد في المسائل الأصوليّة العمليّة لا في الأخبار القطعيّة هذا.

وقد يناقش فيما أفاده : بأن التواتر بالمعنى المذكور لا يجدي نفعا في ردّ المحقق قدس‌سره ، فإنه إنما ذكر الجواب المذكور بعد تسليم ظهور النبوي في الوجوب.

نعم ، لو كان متواترا لفظيّا توجّه الإيراد عليه فتأمل.

منها : منع اختصاص دليل حجيّة خبر الواحد بالمسألة الفرعيّة ، فإنه ليس منحصرا بالإجماع قولا وعملا ، حتى يدّعى عدم عموم له بالنسبة إلى المسألتين ؛


لأن من أدّلتها ما دلّ من الأخبار المتواترة على حجيّة خبر الثقة الشامل للمسألتين. نعم ، الممنوع عندنا عدم حجيّة خبر الواحد في المسائل الاعتقاديّة على ما عرفت شرح القول فيه في الجزء الأول من التعليقة.

منها : أن ما أفاده في تقريب منع دلالة النّبوي على وجوب الاحتياط من حيث إنه يدلّ على وجوب اختيار ما لا ريب فيه عند الدوران بينه وبين ما فيه ريب ، والإلزام بالأثقل فيه ريب أيضا سيّما بملاحظة ما دلّ على ابتناء الشرع على اليسر والسهولة ، محل نظر ؛ حيث إنّ مدلوله حكم الواقعة المردّدة بين الأمرين فيلاحظان بالنسبة إلى الفعل والترك. وأين هذا من بيان حكم الواقعة؟ فإنه لا يتصوّر فيه الدوران أصلا ؛ من حيث إنه لا يتّفق بالنسبة إلى الأحكام المردّدة أصلا هذا.

وإن شئت قلت : إن الإلزام بالأثقل ووجوب الاحتياط إنما استفيد بملاحظة النبوي وحمل أمره على الوجوب فلا يمكن أن يصير موضوعا له كما هو ظاهر.

(١٣٩) قوله قدس‌سره : ( وجه الدلالة : أن الإمام عليه‌السلام أوجب طرح الشاذ ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٨٣ )

__________________

(١) قال المحقق النّحرير العلاّمة الطهراني قدس‌سره :

« وفيه : انّ هذا الإشكال يرد على الرّواية على كلّ تقدير ؛ ضرورة ان ما لا ريب فيه لا معنى


وجه دلالة النّبوي على إرادة وجوب اجتناب الشبهات

أقول : لا إشكال في دلالة استدلال الإمام عليه‌السلام بالنّبويّ عليه‌السلام على وجوب طرح الشاذّ من حيث وجود ريب فيه لا يوجد في مقابله وهو المشهور رواية على إرادة وجوب اجتناب الشبهات المردّدة بين الحلال والحرام من النّبويّ وإن سلّم عدم ظهور النّبوي بنفسه في ذلك على تقدير تسليم دلالة الحديث على الاستدلال ، لكنّه مبنيّ على ما أفاده قدس‌سره من كون الشاذّ من المشكل في التثليث الإمامي عليه‌السلام لا بيّن الغيّ ، ويدلّ عليه ـ مضافا إلى ظهوره ووضوحه وإن منعه بعض

__________________

لتركه من جهة أعدليّة رواة ما يعارضه مع ان وضوح حقيقة أحد المتعارضين لا تنفك عن وضوح فساد الآخر.

ويندفع الإشكال : بانّه لا ترتّب بين المرجّحات وإنّما الإختلاف باختلاف الموارد ؛ فإنّ الريب إن كان من جهة إحتمال التعمّد في الكذب فالترجيح بالأصدقيّة والأعدليّة والأورعيّة وإن كان من جهة احتمال الإشتباه فالترجيح بالأفقهيّة ، وإن كان من جهة التقيّة في مخالفة العامّة ، وعلى هذا المنوال كلّما ذكر من المرجّحات.

والمقصود من الوضوح وعدم الرّيب إنّما هو العلم بالصّدور لا المطابقة للواقع فلا منافاة بين العلم بصدور أحدهما وكون الحق هو الطّرف المقابل ، كما انه لا مانع من العلم بصدور المتعارضين جميعا فيتخيّر من باب التسليم ، فإنّ التسليم فيما يرد عن الأئمة عليهم‌السلام باب مستقل وهذا موضوع التخيير الواقعي كما للعامي في تقليد المتساويين » إنتهى.

أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ١٤.


الأفاضل ممن قارب عصرنا ـ : أمور : ...

منها : عدم صلاحيّة الشهرة من حيث الرواية لذلك كما هو ظاهر لا يرتاب فيه.

منها : أن قطعيّة البطلان من جميع الجهات يرفع التحيّر والتعارض فلا داعي للسؤال ولا معنى له أصلا كما لا يخفى.

منها : أنه لا يناسب تقديم التّرجيح (١) من حيث الصّفات على التّرجيح من

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره : معلّقا على قول الشيخ الأعظم بعد ذلك بقليل : « وإلاّ لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة ... إلى آخره ».

« أمّا الأوّل : فواضح حيث لا يعقل ملاحظة الترجيح بين ما لا ريب في صحّته وما لا ريب في بطلانه.

وأمّا الثاني : فلأنّ الشهرة في كلا الخبرين [ المتعارضين ] على هذا يوجب إتصاف كلّ واحد منهما بنفي الرّيب عن صحّته وبطلانه ؛ فإنّها في كل موجب صحّته وبطلان معارضه حسب الفرض ، كيف يصحّ فرضها فيهما؟

وأمّا الثالث : فلأنّ أحد الخبرين على هذا يكون بيّن الرّشد والآخر بيّن الغي ولا شك في البين ، فيحتاج في بيان حكمه إلى تثليث الأمور والإستشهاد بتثليث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » إنتهى.

درر الفوائد : ٢١٣.

* وقال الفاضل الكرماني رحمه‌الله :

« ولعمري إن الإشكال الأوّل مشترك الورود فكما لا يعقل ملاحظة الترجيح بين ما لا ريب


حيث الشّهرة ، والشّذوذ من حيث الرّواية ؛ فإن إطلاقه يقتضي جواز الأخذ بالأرجح من حيث صفة الرّاوي ، وإن كان الآخر مشهور الرّواية بين الأصحاب بناء على إناطة الترجيح بالمرجّحات المنصوصة.

ومنه يظهر : فساد توهّم جعل الشاذّ من البيّن الغيّ من حيث الصّدور ، والمشهور من البيّن الرشد كذلك ؛ ضرورة أن القطع بعدم الصدور يمنع من التعارض والترجيح.

__________________

في صحّته وما لا ريب في بطلانه لا يعقل بينه وبين ما في صحّته ريب وإن كان في الأوّل أفضح وأفظع ، فإذا كان الرّواي في الشاذ أعدل وأصدق وأورع من راوي المشهور كان اللازم من تقديم الترجيح لها على الشهرة تقديم الشاذ الذي فيه ريب على المشهور الذي ليس فيه ريب وهو أيضا كترجيح ما لا ريب في بطلانه على ما لا ريب فيه في الفظاعة وإن كانت فيه آكد.

فإن قلت : الشاذ فيه ريب إذا لم يكن رواية أعدل لا مطلقا.

قيل لك : أحسنت وبالحق نطقت ، الشاذ لا ريب في بطلانه اذا كان كما فرضت لا مطلقا.

وكذا الإشكال لو كان على فرض الرّاوي الشهرة في كلا الخبرين كان على التقديرين فإنّ الإشكال في نفي الرّيب عن صحّة كلا المتعارضين لا في الشاذ المعارض للمشهور فكما يمتنع اجتماع لا ريب في صحّته ولا ريب في بطلانه في كلّ من المتعارضين المشهورين يمتنع اجتماع لا ريب في صحّته وفي صحّته ريب وبكلّ ما يعالج الثاني يعالج به الأوّل ، فإذا فتحت عينك أرجو أن تجد منّا في محلّ آخر ما يبرّد قلبك » إنتهى.

الفرائد المحشّي : ٢١١.


منها : أن الحكم بعدم جواز الأخذ بما هو ظاهر البطلان لا يناسب تثليث الأمور ولا الاستشهاد بتثليث النبوي ؛ فإنه أمر مركوز في النّفوس لا يحتاج إلى تقريب ومقدّمة.

ومنها : أن إيجاب الشهرة صيرورة المشهور بيّن الرشد من جميع الجهات لا يجامع فرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين إلى غير ذلك مما ستقف عليه في محلّه إن شاء الله تعالى هذا كله.

مضافا إلى ظهور النّبويّ في وجوب الاحتياط بنفسه مع قطع النظر عن استشهاد الإمام فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » (١) وإن كان إخبارا عن لازم ترك الشبهة وارتكابها ، إلاّ أنه مستتبع لا محالة عن حكم إنشائي وطلب من الشارع ، فإنه من أحد وجوه بيان الأحكام للموضوعات ؛ فإنّه كثيرا ما يكتفي الشارع عن بيان الحكم بذكر لازم الفعل والترك ، وهذان اللازمان مستتبعان للطلب الإلزامي سيّما الهلاك المترتّب على ارتكاب الشبهة الظاهر في الهلكة الأخروية ، وإلاّ يلزم ما يحكم به العقل بقبحه من العقاب من دون بيان.

__________________

(١) الكافي الشريف : ج ١ / ٦٨ باب « اختلاف الحديث » ـ ح ١٠ ، والفقيه : ج ٣ / ٦ ـ ح ١٨ ، وتهذيب الاحكام : ج ٦ / ٣٠١ باب « من الزيادات في القضايا » ـ ح ٥٢ ، عنها الوسائل : ج ٢٧ / ١٥٧ باب « وجوب التوقف والاحتياط » ـ ح ٩.


وهذا الذي ذكرنا في تقريب دلالة النّبويّ على وجوب الاحتياط هو المراد بقول شيخنا قدس‌سره :

« مضافا إلى دلالة قوله : « نجا من المحرّمات » ... الى آخره » (١).

ومثله في الدلالة على وجوب الاحتياط النّبويّ المروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام المتقدّم ذكره في أخبار التّوقف ؛ فإن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه : « إنّما الأمور ثلاثة ... » (٢) مثل قوله عليه‌السلام في هذا الحديث في الدلالة على وجوب الاحتياط وإن كان دونه في الظهور ؛ من حيث عدم استشهاد الإمام عليه‌السلام به على مطلب إلزاميّ ، ودونه في الظهور مرسلة الصّدوق عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ فإنّ المترتّب على ترك الشبهة فيها صيرورته سببا لترك المحرّم المعلوم ، كما أن المترتّب على ارتكابها حمل نفس المكلّف له على ارتكابه وجرّه إليه بنحو من السّببيّة والجرّ هذا.

والجواب عن الاستدلال بالنّبويّ على الوجه الأوّل ـ في تقريب دلالته المبني على استدلال الإمام عليه‌السلام به على وجوب طرح الشاذّ من المتعارضين ـ : المنع من كون الإمام عليه‌السلام في مقام الاستدلال أوّلا ، وإنّما هو في مقام التقريب وذكر ما يسهل بملاحظته أخذ المطلب وقبوله ؛ فإنّ رجحان ترك ما يحتمل التحريم على

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٣.

(٢) الفقيه : ج ٤ / ٢٨٥ ـ ح ٨٥٤ ، عنه الوسائل : ج ٢٧ / ١٦٢ باب « ١٢ من أبواب صفات القاضي » ـ ح ٢٨.


ما قرّره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيّنه مع عدم محذور فيه ، يقرّب قبول لزوم ترك الشاذّ الذي فيه ريب في طريق الحكم في مقام التحيّر ، ودوران الأمر بينه وبين الأخذ بما لا ريب فيه بالنسبة إليه.

ومنع دلالته على كون ترك الشبهة واجبا على تقدير الإغماض ثانيا ؛ فإنّ الاستدلال برجحان ترك المشتبه المردّد بين الحلال والحرام على لزوم ترك الشاذ من الخبرين في مقام الطريق المترتّب على العمل به الخطأ كثير أو الأخذ بما ليس طريقا شرعا لا ضير فيه أصلا ، وإن هو إلاّ نظير الاستدلال بكراهة الصّلاة في ثوب من لا يحترز عن النجاسات على عدم جواز الصّلاة في الثوب النجس.

وهذا الجواب الثاني كما ترى ، لا يخلو عن مناقشة. ومن هنا أمر شيخنا قدس‌سره بالتأمّل فيه (١) ؛ فإنّ مبني ما أفاده بقوله : « فيكفي حينئذ ... الى آخره » (٢) على

__________________

(١) قال السيّد المحقق اليزدي قدس‌سره :

« لعلّ وجهه أن الظاهر من الإستشهاد أن طرح الخبر الشاذ من صغريات الأمر المشتبه المطلوب الترك فيكون ترك الشبهة مطلقا واجبا لكي يصحّ التعليل ، لا انّ الإستشهاد لأجل هذه المناسبة البعيدة عن الذهن ويحتمل ان يكون اشارة إلى منع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في نفسه ولو سلّم يمنع من حكمه فيما اذا أخبر الشارع تنجّز الواقع المجهول على ما هو مفاد أخبار التثليث كما سبق تحقيقه غير مرّة لكنّ المظنون أنّ هذا الوجه غير مراد المتن بل لعلّه مقطوع به فتدبّر » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١٤٤.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٤.


الجواب الثاني لا الجواب الأوّل وإن أمكن إرجاعه إليه بنحو من التكلّف هذا.

تتمة التحقيق في خبر التثليث (١)

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره القدوسي :

( وأمّا أخبار التثليث فالإمر فيها أوضح فإنّ الغيّ إنّما هو بترك العمل بهذا الأصل لا في الرّكون اليه واحتمال مخالفة الواقع لا ينافي كون السبيل رشدا كما ان احتمال الإصابة لا ينافي كونه غيّا وضلالا.

ومن تلك الأخبار خبر ابن حنظلة الواردة في الحكمين لتعارض الرّوايتين الدّالة على ترك الشاذ معلّلا بان المجمع عليه لا ريب فيه.

وجه الإستدلال : أنّ الشاذ لكونه ممّا فيه ريب يجب تركه فثبت كلّيّة الكبرى.

وفيه : إن الإجتناب عمّا لم تثبت حجّيّته لا ريب في وجوبه ولا ربط له بالمقام فإن الكلام في حرمة ارتكاب محتمل الحرمة وأين هذا من عدم جواز الرّكون إلى ما عدى العلم؟

ومن المعلوم ان المجمع عليه لا يعارضه ما لم يبلغ تلك المنزلة.

وذكر الأستاذ [ الأنصاري ] قدس‌سره في تقريب الإستدلال ما محصّله :

« إنّ الشاذّ ليس ممّا لا ريب في فساده وإلاّ لم يكن وجه لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدليّة والأصدقيّة والأورعيّة ولا لفرض الرّاوي الشهرة في كلا الخبرين ولا لتثليث الأمور ؛ ثم الإستشهاد بتثليث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى دلالة قوله عليه‌السلام : « نجى من المحرّمات » بناء على انّ تخليص النفس من المحرّمات واجب ».

وفيه : أنّ هذا إشكال يرد على الرّواية على كلّ تقدير ؛ ضرورة أنّ ما لا ريب فيه لا معنى لتركه من جهة أعدليّة رواة ما يعارضه ، مع أنّ وضوح حقيقة أحد المتعارضين لا تنفك عن


__________________

وضوح فساد الآخر.

ويندفع الإشكال : بأنّه لا ترتّب بين المرجّحات وإنّما الإختلاف باختلاف الموارد ؛ فإنّ الرّيب إن كان من جهة احتمال التعمّد في الكذب فالترجيح بالأصدقيّة والأعدليّة والأورعيّة وإن كان من جهة احتمال الاشتباه فالترجيح بالأفقهيّة ، وإن كان من جهة التقيّة في مخالفة العامّة وعلى هذا المنوال كلّما ذكر من المرجّحات ، والمقصود من الوضوح وعدم الرّيب إنّما هو العلم بالصّدور لا المطابقة للواقع ، فلا منافات بين العلم بصدور أحدهما وكون الحق هو الطّرف المقابل ، كما انّه لا مانع من العلم بصدور المتعارضين جميعا فيتخيّر من باب التسليم ؛ فإنّ التسليم فيما يرد عن الأئمة عليهم‌السلام باب مستقل وهذا موضوع للتخيير الواقعي كما للعامي في التقليد المتساويين.

ومن العجب ما زعمه من دلالة قوله عليه‌السلام : « نجى من المحرّمات » على ما زعمه بناء على أن التخلّص من المحرّمات واجب ، وكذا قوله عليه‌السلام : « وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » ضرورة أنّ حفظ النفس عن الهلكة والوقوع في الحرام لا ريب في وجوبه ومع جريان الأصل فالمؤمّن موجود وإنّما يصدق الأمران فيما تنجّز التكليف على الجاهل ولم يستند إلى ركن وثيق كما هو الحال قبل الفحص في الأحكام التكليفيّة والنّواميس الشرعيّة وأجاب الأستاذ قدس‌سره :

بأنّ الأمر بالإجتناب عن الشبهات للأعم من الإلزام وأيّده بأمور :

منها : عموم الشبهة للموضوعيّة وإخراجها مع منافاته للسّياق تخصيص للأكثر.

ومنها : أن المراد الإشراف على الوقوع في المحرّم والتهلكة ولا دليل على حرمته.


وأمّا الجواب عنه ـ على التقريب الثاني في وجه دلالته ـ : فهو أن المستفاد منه بالالتزام هو الطلب الإرشادي المشترك بين الوجوب والندب حسب الهلكة المحتملة في الفعل ، فإن الهلكة المحتملة بقول مطلق ليست ملزومة لطلب إلزامي إرشاديّ فضلا عن الشرعي.

توضيح ذلك : أنه رتّب في النبويّ على ارتكاب الشبهات الوقوع في المحرّمات المستلزم للهلاك من حيث لا يعلم ، فإمّا أن يراد من الشبهات : الاستغراق الحقيقي على ما هو قضيّة الجمع المحلّى بظاهره ، أو الاستغراق بالنسبة إلى ما يكون واقعة للمكلّف ، أو الجمع العرفي ، أو جنس الجمع ، أو جنس الفرد.

وكذلك قوله : « المحرّمات » ؛ إمّا أن يراد منه : جميع المحرّمات الواقعيّة من المعلومة والمجهولة ، أو خصوص المجهولة المحقّقة في ضمن المشتبهات ، أو جنس الجمع ، أو غير ذلك ممّا عرفت.

__________________

ومنها : ورود أخبار كثيرة مساوقة لهذه الأخبار الظاهرة في الإستحباب.

وفيه : أنّ التثليث باعتبار تبيّن الرّشد من الغيّ وعدمه لا يحتمل فيه غير الإلزام وكذا احتمال التهلكة لا ريب انه منشأ لوجوب الإحتياط وهذا هو السرّ في الإكتفاء بالصّغرى فإنّه لا يجوز إلاّ مع كون الكبرى بيّنة أو مبيّنة ، واخراج العنوان أي الشبهة في الموضوع ليس تخصيصا للأكثر ؛ فإنّه إخراج واحد مع أنّه تخصّص ؛ ضرورة عدم صدق التباس الغيّ والرّشد إلاّ في الشبهات الحكميّة والأخبار مختلفة ولا مناسبة بين ما أمر فيه بالإحتياط من جهة الهلاك والغيّ والضّلال وبين التنزيه عن الشبهات الموضوعيّة » إنتهى.

محجة العلماء : ج ٢ / ١٤ ـ ١٥.


والمراد منهما هو جنس الجمع ؛ فإنه المناسب للمقام من حيث كون النبويّ في مقام إعطاء حكم الأمر المردد بين الحلال والحرام ، لا حكم جميعها من حيث جمعها في الارتكاب.

والمراد من متعلّق العلم في قوله : « وهلك من حيث لا يعلم » ؛ إمّا الحرام ، أو سبب وقوعه فيه.

إذا عرفت ذلك فنقول :

إمّا أن يراد من الحرام ، الحرام المتحقّق في ضمن المشتبه على تقدير مصادفته له ، فيكون المراد من الوقوع ، الوقوع على هذا التقدير لا مطلقا.

وإمّا أن يراد من الحرام ، الحرام المحقّق المعلوم ، فلا بد أن يكون المراد من الوقوع الإشراف وتقريب النفس إلى ارتكاب الحرام ، كما هو المستفاد من مرسلة الصدوق وما رواه مولانا الباقر عليه‌السلام عن جدّه وغيرهما من الأخبار التي ذكرت في « الكتاب » ؛ ضرورة عدم التلازم بين ارتكاب المشتبه ، والوقوع في الحرام المعلوم.

والاستدلال لا بد أن يكون مبنيّا على الوجه الأوّل ، وأما الوجه الثاني فغاية ما يستفاد منه : رجحان الترك ومطلوبيّته إرشادا ندبا ليس إلاّ ؛ فإنه لم يقل أحد بأن إشراف النفس إلى الحرام من المحرّمات الشرعيّة ، فإنه موجود في ارتكاب المكروه أيضا إذا كان كثيرا ، وكذا في ارتكاب الشبهات الموضوعيّة التي اتفق الأخباريون على إباحتها.


وبالجملة : النبوي على هذا الوجه ؛ يدل على إثبات الصغرى وبيانها والكبرى المطويّة المسلّمة إنما هو رجحان تبعيد النفس من الوقوع في الحرام إرشادا ليس إلاّ ، ولعله الظاهر من النبويّ ، سيّما بملاحظة سائر الأخبار المساوقة له الظاهرة فيه من دون تأمّل. فلا معنى للاستدلال به أصلا ؛ فإنه على هذا التقدير ظاهر في خصوص الندب كما هو ظاهر.

وأمّا الوجه الأول الذي عرفت كونه مبنى الاستدلال ، فيتوجّه عليه : أن الوقوع في الحرام الواقعي كيف ما كان ـ ولو لم يكن هناك بيان بالنسبة إليه وكان المكلف معذورا في مخالفته ـ لا يلازم العقاب والهلكة الأخروية لتطابق الأدلة الأربعة على نفي المؤاخذة والعقاب من دون بيان.

فلا بدّ من أن يكون المراد من الهلكة المعنى الأعمّ من المفسدة الدنيوية والأخروية ، ومن المعلوم أنّ هذا المعنى يستكشف من إثباته بالنبويّ ، وإنّما يلازم الطلب القدر المشترك الإرشادي فيتبع خصوصيّات هذا القدر المشترك خصوصيات الهلكة في الموارد الخاصّة.

فإن كان المحتمل العقاب كما في الشبهة المحصورة ونحوها من موارد عدم العذر ، فيحكم العقل بوجوب الاحتياط إرشادا ، وإن كان غيره من المفاسد الكامنة في الأفعال فيحكم العقل بحسن الاحتياط فهذا النبويّ لا يجدي في إثبات الموضوع ولا في إثبات محموله في الموارد الشخصيّة ، على ما أسمعناك في طيّ ما قدمناه لك فراجع.


ودعوى : أن الظاهر من الهلكة في لسان الشارع الأخرويّة فيستكشف من النبويّ بالالتزام من الطلب الشرعي الظاهري الإلزامي بضميمة حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، قد عرفت فسادها في مطاوي كلماتنا السابقة بما لا مزيد عليه. وأمّا المؤيّدات المذكورة في « الكتاب » لصرف النبويّ عن ظاهره على تقدير تسليم ظهوره المنطبقة على ما يستفاد منه والموافقة له مفادا في الجملة ، فهي أدلّة على المدعى وشواهد عليه حقيقة ، لا أن يكون الحاصل منها مجرّد التأييد والتقوية. اللهم إلاّ أن يكون المراد من التأييد ما يعمّ الدلالة ، فإنها نحو من التأييد أيضا إذا لو حظ وجود دليل آخر.

نعم ، قد يتوهّم : أن الوجه الأخير ، أي : الأخبار ، لا يصلح للدلالة. لكنّه فاسد بعد التأمل في مساقها وأن الغرض من الجميع مطلب واحد ، فيكفي دليلا للصرف أو تأييدا للمستفاد من النبويّ من إرادة مطلق الرجحان لا خصوص الإلزام.

نعم ، مفاد الوجه الثالث خصوص الطلب الندبي على ما عرفت الإشارة إليه ، فينطبق على المعنى الثاني للوقوع في الحرام الذي قد عرفت عدم ابتناء الاستدلال عليه ، فالغرض مجرّد ذكر ما يدلّ على عدم كون النبويّ في مقام خصوص الإلزام جعله ردّا على من زعم ذلك وإن كان مفاده الطلب الإرشادي الندبي ، فإنه يكفي ردّا عليه وإن انطبق على المعنى الثاني.

وممّا ذكرنا كلّه يندفع : ما يتوجه على ما أفاده شيخنا في المقام من الخلط


بين المعنيين ، وأنّ مبنى ما ذكره في الجواب من حمل الأمر في النبويّ على الطلب القدر المشترك الإرشادي على إرادة المعنى الأوّل من الوقوع لا الثاني منه فتدبّر.

ثمّ إن ما أفاده في تقريب الأمر الأوّل من منافات التخصيص ولو لم يكن كثيرا أو أكثر لسياق النّبوي الوارد في مقام الحصر ، وأن الوقوع في الحرام الموجب للهلاك لا ينفكّ عن ارتكاب المشتبه الكاشف عن طلب ترك الارتكاب أينما وجد ممّا لا إشكال فيه ، وأمّا لزوم تخصيص الأكثر بإخراج الشبهات الموضوعيّة التحريميّة فهو مبنيّ على كون خروجها بإخراجات كثيرة وبعنوانات متعدّدة ، وأما إذا كان بعنوان واحد وإن كان المخرج كثيرا على ما يقتضيه التأمّل في دليل الجواز ، فلا يتوجّه عليه لزوم تخصيص الأكثر الموجب لوهن العموم كما حقّق في محلّه.

وأمّا توهّم : الخروج الموضوعي للشبهة الموضوعيّة من حيث أن دليل جوازها يقتضي بإباحتها ظاهرا فيكون من الحلال البيّن فيكون واردا على النبويّ لا مخصّصا.

فقد أوضح فساده في « الكتاب » وأنه بناء عليه نقول بمثله في الشبهات الحكميّة ، وأن دليل جواز ارتكابها من الأدلّة المتقدمة يقتضي بكونها من الحلال البيّن ، فيكون واردا على النبويّ فيختص بما لا يجري فيه دليل البراءة من الشكّ في المكلّف به.


(١٤٠) قوله قدس‌سره : ( أحدهما : أنا نعلم إجمالا قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة بمحرّمات كثيرة ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٨٧ )

أقول : لا يخفى عليك : الاستدلال بالدليل العقلي على مذهب الأخباري ؛ إمّا أن يكون من جهة كونه من العقل الفطري على أبعد الوجوه ، أو الضروري الغير المعارض بالعقل ، أو النظري المعاضد بالنقل ، أو يكون مبنيّا على الإلزام ؛ لأن الاستدلال به على مذهبهم لا يجوز إلا بأحد التقادير.

ثمّ إن الفرق بين الوجهين مع ابتنائهما على احتمال الضرر ، هو ملاحظة العلم الإجمالي على الوجه الأوّل ، وعدم ملاحظته على الوجه الثاني.

ثمّ إن محصّل هذا الوجه : أنا نعلم إجمالا بوجود محرّمات كثيرة في الوقائع المشتبهة نسبتها إلى المحتملات نسبة الحرام إلى الحلال في الشبهة المحصورة ، فهي من شبهة الكثير في الكثير. كما أن الشبهة المحصورة من شبهة القليل في القليل ، ومقتضى العلم الإجمالي بحكم العقل المستقل على ما عرفت مرارا وستعرفه : تنجّز الخطاب بالمعلوم إجمالا ، فلمّا كان محتملا في كلّ شبهة فيحتمل العقاب عند ارتكاب كل شبهة ويستقل العقل بوجوب دفعه ، وهذا معنى أن الاشتغال اليقيني يقتضي في حكم العقل البراءة اليقينيّة ، فإن مبنى وجوب تحصيل العلم بالبراءة عن التكليف المعلوم والخطاب المنجّز في حكم العقل هو حكمه بلزوم دفع الضّرر المحتمل.

ومن هنا أنكر وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ونحوها من صور


الشكّ في المكلّف به من زعم عدم إلزام العقل بدفع الضّرر المحتمل كالمحقّق القمي قدس‌سره في « القوانين » على ما ستقف عليه.

فالصغرى وهي وجود العلم بالمحرّمات الكثيرة في الوقائع المشتبهة وإن كانت وجدانية ، إلاّ أن الكبرى عقليّة وإن كشف حكم العقل عن حكم الشارع على الملازمة بينهما ، كما هو الشأن في جميع ما يستقل العقل بحكمه ، لكنّه ليس من التمسّك بالدليل النقلي الكاشف عن حكم الشارع أيضا كالدليل العقلي.

وبمثل ما عرفته ينبغي تحرير المقام في بيان الوجه الأوّل ، لا بمثل ما حرّره قدس‌سره في « الكتاب ».

فإنه قد يشتبه أمره على بعض الأوائل ، فيزعم أنه يريد التمسّك لإثبات الكبرى بالكتاب ونحوه من الأدلة النقليّة الدّالّة على وجوب الانتهاء عمّا نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه فيورد عليه : بأنه خروج عن الفرض وعدول عن التمسّك بالدليل العقلي إلى الدليل النقلي ، مضافا إلى أن الآية وأمثالها لا تقتضي ثبوت تكليف شرعيّ متعلّق بالحرام المعلوم وإنما تقتضي خطاب إلزامي إرشاديّ هذا.

مضافا إلى أن قوله : « لأن الاشتغال اليقيني ... إلى آخره » (١) لا يناسب المقام أيضا أصلا ؛ لأن اقتضاء الاشتغال اليقيني البراءة اليقينيّة من جهة الاتّفاق خروج عن الفرض أيضا فلا مساسة له أصلا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٧.


وإن كان الزعم المذكور فاسدا ؛ نظرا إلى وضوح المراد لمن أعطى النظر إلى أطراف كلماته ، فإن المراد ليس التمسك بالآية الشريفة ، بل المراد التمسّك بما هو مركوز في النفوس من وجوب إطاعة خطابات الشارع بالوجوب الإرشادي الذي أكّده الآية الشريفة ، وليس مدلولها حكما تأسيسيّا من الشارع ، بل هو تأكيد لحكم العقل كما يدلّ عليه قوله : « ونحوه » (١) فتدبّر.

وأمّا قوله : « لأن الاشتغال اليقيني ... الى آخره » فليس الغرض منه التمسّك بالإجماع الاصطلاحي ، بل الغرض أن اقتضاء الشغل اليقيني في حكم العقل البراءة اليقينيّة ممّا اتّفق عليه الكل ولا منازع فيه أصلا من الفريقين ، فالغرض من قوله : « ويجب بمقتضى قوله تعالى » الإشارة إلى وجوب إطاعة الخطابات المعلومة. ومن قوله : « لأن الاشتغال اليقيني » إثبات أن الواجب في حكم العقل من مراتب الإطاعة في المقام ، الإطاعة العلميّة فهو دليل للزوم الخروج عن عهدة مخالفة النواهي المعلومة بعد تنجّزها ووجوب إطاعتها بأحد الوجهين ، لكن الأولى مع ذلك تحرير المقام بما عرفته ، فاستفادة المراد منه لا تحتاج إلى تكلّف أصلا.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٧.


عدم تماميّة الدليل المذكور وجوابه

ثمّ إن تماميّة الدليل المذكور لما كانت موقوفة على بقاء العلم الإجمالي المذكور بعد الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة وحصول العلم منها بالأحكام المعلومة إجمالا بعنوان التفصيل ، فلا بدّ من ضم قوله : « وبعد مراجعة الأدلّة ... الى آخره » (١) إلى ما ذكره حتى يتم الدليل المذكور.

وحاصله : أن الرجوع إلى الأدلّة الشرعية لا يوجب ارتفاع العلم الإجمالي بالمحرّمات الكثيرة ، غاية ما هناك حصول العلم التفصيلي منها بجملة من المحرّمات الواقعيّة. ومعه يعلم أيضا بوجود محرّمات كثيرة في الوقائع المشتبهة.

فلمّا كانت الضميمة المذكورة ممّا يتوقّف عليه تمامية الدليل وادّعي ثبوتها ، توجّه عليه السؤال بقوله : « فإن قلت : بعد مراجعة الأدلّة ... الى آخره » (٢) الذي يرجع حاصله إلى المنع من بقاء العلم الإجمالي المذكور بعد الاطلاع على محرّمات كثيرة من الأدلّة الشرعيّة يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها ، فيخرج المشكوكات بالملاحظة المذكورة عن أطراف العلم الإجمالي فلا يتم الدليل المذكور ؛ حيث إن الكلام في المقام بعد التفحّص التام ؛ إذ لم يقل أحد بعدم وجوب

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٨٧.


الاحتياط والرجوع إلى البراءة قبل الفحص في الشبهة الحكمية.

وحاصل ما أفاده في الجواب عن السؤال : المنع من حصول الاطلاع التفصيلي العلمي بالمحرمات الإجماليّة بعد الرجوع إلى الأدلة وإن حصل العلم ببعضها.

فإنه إن كان المراد من حصول العلم بها في مرحلة الواقع ،

فيتوجّه عليه : المنع من حصول العلم التفصيلي بالواقعيّات المعلومة إجمالا المجهولة تفصيلا من الأدلّة الشرعيّة بعد وضع ما علم بالضرورة الدينيّة أو المذهبيّة حرمته ؛ حيث إنه خارج عن الفرض ؛ ضرورة قلّة ما يوجب العلم بالواقع فيما بأيدينا من الأدلّة القطعيّة من العقل المستقلّ والإجماع القطعيّ الكاشف عن الحكم الواقعي ، والآية المحكمة التي تكون نصّا بحسب الدلالة على المراد ، والسنّة القطعيّة من جميع الجهات ؛ فإن القطعية في الجملة ولو بحسب السند لا تجدي في قطعيّة الحكم المستفاد ؛ ضرورة تبعيّة النتيجة لأخسّ المقدّمتين ، فكثرة آيات الأحكام والسنة المتواترة والآحاد المحفوفة بما يوجب القطع بصدورها لا تجدي نفعا في قطعيّة الحكم ، مع عدم قطعيّة جهة صدورها ، أو المراد منها ، أو هما معا.

فمن يدّعي انفتاح باب العلم بالأحكام لعله يريد مجرّد العلم بصدور أكثر الأخبار المودعة في الكتب بسند واحد كالسيّد وأضرابه (١) ، في قبال من يدّعي

__________________

(١) وفيه ما فيه.


ظنّية صدورها والعمل بها والحال هذه كما يشهد به بعض كلمات السيّد ، وإن كان ينافيه بعض كلماته الأخر بظاهره.

وبالجملة : حصول العلم التفصيلي بحرمة جملة من الأمور يحتمل انحصار المعلوم إجمالا فيها ، وإن كان في حكم العقل والوجدان منافيا لبقاء العلم الإجمالي في الوقائع المشكوكة ورافعا له فيخرج المشكوكات عن أطراف العلم الإجمالي الكلي ، فيرجع فيها إلى الأصول الجارية في مجاريها بملاحظة نفس الشك في الواقعة ، إلاّ أن الكلام في حصوله والحوالة إلى الوجدان لمن راعى الإنصاف بعد المراجعة إلى الفقه.

وإن كان المراد العلم بها في مرحلة الظّاهر ، الذي يرجع إلى دعوى قيام ظنون معتبرة بالمعنى الأعم من الظن الشخصي والنوعي على حرمة جملة من الأمور ، بحيث يحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فيها ، ويلحق به الدليل المعتبر لا بملاحظة الكشف بقسميه إن كان موجودا في أدلّة الأحكام.

فيتوجّه عليه : منع ارتفاع العلم الإجمالي الكلّي به لعدم منافات بينها وبين بقاء العلم الإجمالي أصلا.

أمّا عدم التنافي ذاتا فغنيّ عن البيان ؛ ضرورة عدم المنافاة بين الظن في بعض أطراف الشبهة مع العلم الإجمالي سواء كان على طبق العلم الإجمالي ، أو على خلافه.


وأمّا عدم التنافي بملاحظة دليل اعتباره ؛ فلأنّ معنى حجيّة الأمارة على ما عرفت مرارا ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على موردها ، ولو بواسطة عند قيامها وجعلها من الشارع في مرحلة الظاهر ما دامت الأمارة قائمة ، فمؤدّاها واقع جعليّ بهذا المعنى لا تنزيلها منزلة العلم في ترتب ما يترتّب عليه قهرا عليه ؛ ضرورة عدم إمكان تعلق الجعل به.

مضافا إلى عدم مساعدة دليل الاعتبار عليه ، ومن المعلوم ضرورة عدم منافات الاعتبار بهذا المعنى لبقاء العلم الإجمالي بالمحرّمات في ضمن المشبّهات ، فإنه إذا قامت الأمارة على حرمة بعض الأمور كان معنى اعتبارها ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المحرّمات على موردها في مرحلة الظاهر ، فلا ينافي الحكم بوجوب الاجتناب عن الموارد الخالية عنها احتياطا لمراعات العلم الإجمالي الكلي ، وإذا قامت على إباحة بعض الأمور كان معناه أيضا ترتيب آثارها الشرعيّة ويلزمه عقلا ارتفاع العقاب عن الحرام الواقعي المتحقق في ضمنها على تقدير الخطأ وهذا لا ينافي ثبوت العقاب على مخالفته بالنسبة إلى ما لا أمارة على إباحته.

نعم ، لو كان مفادها حصر الواقعات في مواردها كالبيّنة القائمة على تشخيص النّجس ، أو الحرام في الشبهة المحصورة ، أو كان مفاد دليل اعتبارها تشخيص المحرّمات بها بحيث يرجع مفاده إلى قضيّتين ، أي : البناء على حرمة ما قامت الأمارة على حرمته وحلّيته ما عداه ، تعيّن الحكم بعدم وجوب الاحتياط


في الوقائع الخالية عنها.

لكن الدعويين ممنوعتان جدّا ؛ ضرورة عدم رجوع مفاد الأمارة القائمة على حرمة بعض الأشياء إلى حصر الحرام فيه ، وإلاّ تعارضت الأمارات دائما كضرورة عدم رجوع مفاد دليل اعتباره إلى قضيّتين ، وإلاّ وقع التعارض بين أدلّة اعتبار الأمارات كذلك.

نعم ، من يذهب إلى انقلاب التكليف الفعلي إلى مؤدّيات الطرق المجعولة وأن الواقع الذي لم يقم عليه طريق لا يكلف به فعلا ورخّص الشارع في مخالفته ، يلزمه القول بالرجوع إلى الأصول في الوقائع الخالية عن الأمارات المجعولة.

لكن هذا القول بمعزل عن التحقيق على ما عرفت شرحه في الجزء الأول.

هذا محصّل ما يستفاد من « الكتاب » في الجواب عن السؤال المذكور.

وعليه لا يتمّ ما بيّن وبنوا الأمر عليه : من أن انفتاح باب الظن الخاصّ في الأحكام يمنع من حجيّة الظنّ المطلق ، وكذا ما بني الأمر عليه في الجزء الأول من « الكتاب » : من الفرق بين حجية الظنّ والأخذ به بعنوان الاحتياط ؛ حيث إن حجيّته يلازم تعيين المعلومات الإجماليّة به والرجوع في موارد فقده إلى الأصول ، إلاّ أن الجواب المذكور على نحو ما عرفته قد حرّر لا تمام صورة دليل الخصم.

(١٤١) قوله قدس‌سره : ( والجواب أوّلا : منع تعلّق تكليف غير القادر ...


إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٨٩ )

__________________

(١) قال المحقق الهمداني قدس‌سره :

« أقول : مرجع ما ذكره على الظاهر إلى ما نقله عن صاحب الفصول قدس‌سره مقدّمة لإثبات حجّيّة الظنّ بالطريق دون الواقع ، عدى أنّ صاحب الفصول قال : إنّ مرجع القطعين إلى القطع بأن تكليفنا بالفعل هو العمل بمؤدّيات الطرق والمصنّف رحمه‌الله جعله أخصّ من هذا حيث قال : ( فهو مكلّف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق لا بالواقع من حيث هو ، ولا بمؤدّى هذه الطرق من حيث هو ... إلى آخره ).

وكيف كان : فهذا الجواب ليس بمرضي لديه على الظاهر كما يظهر وجهه ممّا سبق ، فالحق في الجواب ما ذكره ثانيا. وتوضيحه :

ان الظنّ التفصيلي وإن لم يكن موجبا لإنحلال العلم الإجمالي إلاّ انه رافع لأثره ، فإذا علم إجمالا بعدّة محرّمات مثلا في الشريعة بين المشتبهات ثمّ دلّت الأدلة على حرمة عدّة أشياء لا تنقص عن عدد ما علم إجمالا لم يبق لذلك العلم الإجمالي أثر نظير ما لو علم إجمالا بوقوع قطرة بول في أحد إنائين ثم شهدت البيّنة بكون أحدهما المعيّن بولا وكان واجب الإجتناب من أوّل الأمر فإنّه بعد شهادة البيّنة بذلك يرتفع أثر العلم الإجمالي ويبقى أصالة الطهارة في الآخر سليمة عن المعارض.

نعم لو كان مؤدّي البيّنة نجاسته بالفعل من دون أن يكشف عن كونه نجسا حال حصول العلم الإجمالي حتى يستكشف بها عدم كون العلم الإجمالي مؤثرا في تنجيز الخطاب حين حدوثه لا يجدي ذلك في الغاء أثر العلم الإجمالي وإنّما المجدي ما لو ثبت نجاسته من قبل بسبب البيّنة لا مطلق نجاسته بالفعل ولا ريب أن مؤديات الأمارات الشرعية ثبوت متعلّقاتها


__________________

من صدر الشريعة فيستكشف بها كون متعلّقاتها واجب الإجتناب من أوّل الأمر فتكون حينئذ بمنزلة ما لو اطّلع عليها تفصيلا قبل حدوث علمه الإجمالي كما لا يخفى على المتأمل » إنتهى. حاشية فرائد الأصول للهمداني : ٣٦ ط حجريّة ـ و ١٧١ طبعة جديدة.

وعلّق عليه الشيخ رحمة الله قدس‌سره قائلا :

« أقول : وجه أخصّية ما ارتضاه المرتضى هنا ممّا ارتضاه صاحب الفصول : أن الواقع المقيّد بتأدية الطرق اليه لا ينفك عن كونه مؤدّى الطريق ، وليس كلّ ما أدّى اليه الطريق هو الواقع الذي أدّى اليه الطريق لجواز كون مؤدّاه غير الواقع.

وتظهر الثمرة : فيما لو خالف ظنّه الذي تخلّف عن الواقع ، فعلى ما ارتضاه هنا لم يكن عليه إلاّ إثم التجرّي وعلى ما ارتضاه صاحب الفصول عليه إثم المخالفة كالواقع. وحاصل جوابه :

منع التكليف الفعلي بالواقعيّات التي لم يؤدّ إليها الطريق » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشّى : ٢١٣.

* وأورد المحقق الطهراني قدس‌سره الشريف على هذا الجواب الذي أفاده أستاذه الشيخ الأعظم قدس‌سره :

« إنّ الأدلّة إنّما تدلّ على طريقيّة الطرق لو قلنا بذلك وليس مفاد الأمر والنهي خصوص التكليف وإنّما الأمر بالعمل بالدليل محصّله الحجّيّة كما ان مفاد النهي عنه عدمها مع أنّ تقييد الواقع بما يدلّ مستلزم لتقدّم الشيء على نفسه ؛ ضرورة انّ العلم وما بمنزلته تابع بمعنى أصالة الموازن في التطابق ، فالكاشف في طول ما ينكشف عنه لا في مرتبته وقد أوضحناه في محلّه » إنتهى. أنظر محجة العلماء : ج ٢ / ١٥ ـ ١٦.


أقول : لا يخفى عليك : أن الأولى أن يجاب أولا بالنقض بالشبهات الحكميّة الوجوبيّة ؛ فإنها أيضا من موارد العلم الإجمالي الكلي كما هو ظاهر ، مع أن جلّ الأخباريين التزموا فيها بالرجوع إلى البراءة ولم يوجبوا الاحتياط كما ستقف عليه.

وأمّا ما أجاب به عن الدليل أولا في « الكتاب » فقد يناقش فيه : برجوعه إلى ما أفاده بعض أفاضل مقاربي عصرنا في « الفصول » (١) لإثبات حجيّة الظن في خصوص الطريق.

وقد أوضح فساده بما لا مزيد عليه في الجزء الأول من « الكتاب » في الأمر الأول من تنبيهات دليل الانسداد (٢) ؛ فإن حاصل القول بانقلاب التكليف الفعلي إلى مؤدّيات الطرق المجعولة ، ورجوع الجعلين إلى جعل واحد إلى ما أفاده شيخنا قدس‌سره في الجواب الأول ، وابتناء الجواب على مذهبه خلاف الظاهر جدّا ، فيتوجّه عليه : أن العلم الإجمالي مع تيقّن بعض أطرافه ، موجب لتنجّز الخطاب

__________________

وقال المحقق صاحب قلائد الفرائد ( ج ١ / ٣٦٠ ) :

« أقول : هنا جواب آخر : وهو النقض بالشبهات الوجوبيّة فإنّا نعلم أيضا بطريق الإجمال بوجود واجبات في الشريعة ولا تحصل البراءة اليقينيّة عنها إلاّ باتيان كل ما يحتمل الوجوب » إنتهى. [ التعليقة رقم : ٦١١ ].

(١) الفصول الغرويّة : ٢٧٧.

(٢) فرائد الأصول : ج ١ / ٤٣٩.


بالنسبة إلى المعلوم بالإجمال في حكم العقل ، كما صرّح به مرارا في أجزاء « الكتاب » من غير فرق بين الشبهة الحكميّة والموضوعيّة ، فغير القادر على تحصيل العلم بالواقع مع إمكان الاحتياط في حقّه ، مكلّف فعلا بالواقع المجهول.

ومن هنا بني على وجوب الاحتياط في صورة المتباينين من الشك في المكلّف به وفاقا للمشهور خلافا لبعض المحقّقين القائل بالمقالة المذكورة : من منع تكليف غير القادر على تحصيل العلم التفصيلي فعلا بالواقع المجهول كما ستقف على شرح القول فيه.

وأمّا نصب الطّرق وجعلها ، فليس الغرض منه إلاّ تسهيل الأمر على المكلّف في ترتيب آثار الواقع على مؤدّياتها في مواردها ما دامت قائمة ، فلا ينافي رعاية الواقع في موارد خلت عنها ، وثبوت الجعل للطّرق مع جعل الواقع لا يثبت رفع الشارع اليد عن الواقع فعلا وقناعته في الامتثال عن الواقعيّات بموارد الطّرق القائمة على التكليف ، إلاّ بأحد وجهين عرفتهما في توضيح الجواب عن السؤال في تقريب الدليل. كيف! ولو بني الأمر عليه ، لزم بطلان الرجوع إلى الأصول وجعلها رأسا حتى البراءة ؛ فإنه يحكم بمقتضى أدلّة الأمارات بعدم التكليف الفعلي في موارد فقدها ، فلا يطلب هناك واقع حتى يحكم بإثباته بالأصل أو نفيه به فتدبّر.

اللهمّ إلاّ أن يستفاد من مجموع أدلّة اعتبار الأمارات الكافية في الفقه ، كما هو المفروض قناعة الشارع عن امتثال الواقع في موارد وجودها بامتثالها فتأمل.


وبالجملة : هذا الجواب بظاهره غير نقيّ عن الإشكال والله العالم بحقيقة الحال.

وأمّا ما أجاب به ثانيا (١) فقد يناقش فيه أيضا : بأن وجوب الاجتناب عن بعض أطراف الشبهة معيّنا :

إذا كان سابقا على العلم الإجمالي ، أو مقارنا معه ، منع ذلك من تأثير العلم الإجمالي في تنجّز الخطاب بالنسبة إلى الطرف الآخر إذا كان المعلوم بالإجمال من سنخ المعلوم بالتفصيل كالمثال المذكور في « الكتاب » ، من غير فرق بين حصول العلم بنجاسته قبل العلم الإجمالي بوقوع قذر في أحدهما الغير المعيّن ، وبين كونه معلوم النجاسة في مرحلة الظاهر ولو من جهة الاستصحاب.

وأمّا إذا كان لاحقا فلا يرفع تنجّز الخطاب المفروض ، وإلاّ جازت الحيلة في رفع وجوب الاحتياط عن كثير من موارد الشبهة المحصورة ، سيّما في اشتباه النجس بالطاهر ؛ فإنه يرفع وجوب الاحتياط بتنجيس بعض المعيّن من أطراف الشبهة ، وهذا مما لم يلتزم ولم يلتزموا به في الشبهة المحصورة ، ولا يجيء توضيح الحكم بعدم وجوب الاجتناب في الفرض ، أي : فيما كان العلم الإجمالي سابقا في

__________________

(١) أقول : أنظر كلمة السيد المحقق اليزدي قدس‌سره فيما قرّر من بحثه في حاشية فرائد الأصول : ج ٢ / ١٥٠ ولا حظ أيضا حاشية مفصّلة للسيّد عبد الله الشيرازي قدس‌سره في كتابه عمدة الوسائل في الحاشية على الرسائل : ج ٢ / ٧١ ـ ٨٠.


الشبهة المحصورة ، بل المستفاد من أطراف كلماته فيها وجوب الاحتياط في الفرض ، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في الطرف الآخر.

وأمّا قيام البيّنة على تشخيص الحرام من القطيع ، فلا يقاس به المقام ؛ فإنه كقيام البيّنة على تشخيص النجس من الإناءين ؛ فإنّه يرجع إلى قيام الأمارة على تعيين الواقع ، فلازم حجيتها هو البناء على حصر النجس فيما قامت على نجاسته.

في الجواب التّحقيقي عن الدليل العقلي للأخباري

فالأولى في الجواب عن الدليل المذكور ـ بعد النقض بالشبهات الوجوبيّة على ما عرفته ـ أن يقال : إن المعلوم بالإجمال في مفروض البحث مردد بين الأقلّ والأكثر ؛ ضرورة عدم التحديد والحصر في المحرّمات الواقعيّة ، وكذا في واجباتها المعلومة إجمالا ، فهذا العلم لمكان تردّد المعلوم بالإجمال لا يؤثّر في تنجّز الخطاب ، إلاّ بالنسبة إلى القدر المتيقّن من المعلوم إجمالا ، فإذا كان الحرام الواقعي مردّدا بين ألف وألفين مثلا ، فلا يؤثّر العلم الإجمالي إلاّ بالنسبة إلى الألف ، كما أن المفروض قيام الأمارات الشرعيّة على حرمة ما ينطبق على المقدار المتيقّن من المعلوم بالإجمال على المذهبين في طريق الأحكام ، أعني : الظنّ الخاص والمطلق ؛ لأنه معنى نصب الطرق الكافية الوافية في الفقه ، ولازم هذا عدم وجوب امتثال الواقع في حكم العقل في غير موارد الأمارات لا من جهة دلالتها على الحصر ، بل من جهة أن الواجب الفعلي بعد العلم الإجمالي بالخطابات الشرعيّة


الإلزاميّة ؛ امتثالها بأحد الوجهين :

إما بالعلم بتحصيل متعلقاتها ولو بالاحتياط ، أو بإيجاد ما حكم الشارع بالبناء على كونه عين الواقع وعدم الاعتناء باحتمال كونه غيره ؛ لأن الطرق الظاهريّة لم تجعل في قبال الواقع وإنّما يعمل بها من حيث البناء على كون مؤدّياتها الواقعيّات الأوّليّة ، فامتثالها امتثال لها بالجعل والبناء.

فالواجب امتثاله حقيقة هو الواقع الأوّلي ليس إلاّ ، وإنّما يمتثل الطرق من حيث البناء في حكم الشارع على مطابقتها له ، فإذا عمل بمقتضى الطريق فقد امتثل الواقع حقيقة ولا يجب امتثال آخر ؛ إذ لا واقع آخر بالفرض ، وإن احتمل خطأ الأمارة ؛ لأن المفروض بحكم الشارع عدم الاعتناء بالاحتمال المذكور ، فالأمارات القائمة على تحريم ما ينطبق على القدر المتيقّن من المعلوم بالإجمال ، كالعلم التفصيلي بحرمة المقدار المتيقّن ، فيرجع إلى أصالة البراءة في سائر الأطراف في الموضعين ؛ من جهة احتمال كون المعلوم بالإجمال زائدا على ما فرض امتثاله.

وليس مبنى ما ذكرنا على كون معنى جعل الأمارة تنزيلها منزلة العلم ، ولا على كون مفادها حصر الواقع في مؤدّياتها بحيث يرجع إلى قضيّتين ، بل على حصول امتثال الواقع المعلوم المتيقن بسلوكها في حكم الشارع ولا يعلم بواقع آخر بالفرض ، وإن كان محتملا ، فيرجع إلى الأصل من جهة الاحتمال المذكور ، كما يرجع إليه فيما فرض العلم التفصيلي بالمقدار المتيقن.


وهذا نظير ما لو فرض قيام البيّنة في الشبهة المحصورة بعد العلم الإجمالي بنجاسة بعض الأطراف بحيث يردّد بين الواحد والاثنين على نجاسة بعضها المعيّن ؛ فإنه يحكم بمقتضى دليل اعتبارها ، بحصول امتثال الخطاب بالاجتناب عن النجس المنجّز بمقتضى العلم الإجمالي بوجود متعلّقه بالاجتناب عمّا قامت البيّنة على نجاسته ما دامت البيّنة قائمة ، ويرجع إلى أصالة الطهارة بالنسبة إلى باقي الأطراف ؛ لاحتمال نجاسته الزائد على الواحد من أول الأمر ، لا من جهة احتمال خطأ البيّنة ؛ فإنه ممّا لا يعتنى به بمقتضى دليل حجّيتها ، كما أنه يرجع إلى أصالة الطهارة في الفرض فيما حصل العلم التفصيلي بنجاسة بعضها المعين لا فيما أوقع نذرا في بعضها المعيّن بعد العلم الإجمالي بنجاسة بعضها لا على التعيين ؛ فإنه لا يعلم بكون الاجتناب عمّا أوقعه فيه امتثال للخطاب المعلوم بالإجمال.

وهذا كما ترى ، وإن لم يسلم عن النقض والإبرام ، إلاّ أنه أوجه ما يذكر لدفع الشبهة المذكورة ، ومع ذلك في النفس شيء وقد مضى شطر من الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الجزء الأول من التعليقة فراجع إليه وتأمّل فيما ذكرنا هنا وهناك ، وفيما أفاده شيخنا قدس‌سره لعلّك تهدى إلى ما اختفى علينا في طريق دفعها والله الهادي إلى سواء الطريق.


(١٤٢) قوله قدس‌سره : ( أنّ الأصل في الأفعال الغير الضّروريّة الحظر ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ٩٠ )

الكلام في ان الأصل في الأفعال غير الضّروريّة ماذا؟

أقول : قد أسمعناك أنّ مبنى الوجه الثاني على لزوم دفع الضرر المحتمل أيضا مع عدم ملاحظة العلم الإجمالي بالمحرّمات. وإن كان هناك وجه آخر عندهم للأصل المذكور لا يبنى عليه : وهو قبح التصرّف في ملك الغير.

ثمّ إن توضيح المقام يتوقف على بسط في الكلام فيما يتعلق بالأصل المذكور ، فنقول ـ بعد اتفاق القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين وهم العدليّة على وجود أحكام أربعة اقتضائيّة للعقل ـ :

__________________

(١) قال المحقق المؤسس الطهراني قدس‌سره :

( استدلّ : بأن الأصل في الأفعال الغير الضروريّة الحظر ، وعلّل : بأن احتمال المفسدة كالعلم بها. وأجيب : بأن اللطف مقتض للبيان وعدمه دليل على العدم والأصل لا أصل له واحتمال العقاب مندفع بالأصل واحتمال غيره ضعيف لا يعتدّ به ؛ لعدم الملازمة ، واللطف مع فساده في نفسه ـ كما حققناه في مبحث الإجماع غير نافع ؛ لعدم العلم بعدم البيان إلاّ فيما يعمّ به البلوى.

وتوهّم : انّ احتمال غير العقاب ولو كان ضررا أخرويّا شبهة موضوعيّة ؛ لأن الشك في الإنطباق والصدق مندفع : بانّ الميزان في الحكميّة إنّما هو استناد الشك إلى فقد النّص أو إجماله أو تعارض النّصين ) إنتهى. أنظر محجّة العلماء : ج ٢ / ١٦.


اختلفوا في ثبوت الحكم التخييري والإباحة للعقل ، وجعلوا محله ومورده الأفعال الغير الضروريّة للتعيّش ، المشتملة على المنفعة ، الخالية عن أمارة المفسدة قبل الاطلاع على حكم الشارع ؛ فإن الكلام من حيث حكم العقل ، فالأكثر على ثبوته واستقلال العقل في الحكم به ، وإن اختلفوا بين كون حكمه بالإباحة واقعيّة ، أو ظاهريّة ، وغير واحد على منعه ، منهم : المفيد والسيّدان (١) من أصحابنا.

وقد اختلف القائلون بالمنع في أنه هل يحكم بالحظر في مرحلة الواقع ، أو الظاهر ، أو لا يحكم بشيء لا إباحة ولا حظر ، أو هذا معنى كون الأشياء على الوقف عند العقل لا أنه يحكم بالوقف؟ كما يتوهّمه الجاهل بمقالتهم.

وقد ذهب بعض القائلين بالوقف في الأشياء من جهة العقل :

إلى الحكم بالإباحة فيها من جهة الشرع لعدم التنافي أصلا ، بل القول المذكور لا تعلّق له حقيقة بالمسألة المبحوث عنها ، إلاّ أن يكون لازم الوقف الحكم بالاحتياط من جهة الشرع عند بعضهم.

وآخر : إلى الحكم بالإباحة الواقعية من جهة العقل بملاحظة ثانوية وقاعدة أخرى ، وهي قاعدة اللطف ؛ من جهة أنه لو كان في الفعل مفسدة آجلة ، لوجب من باب اللطف على الحكيم بيانها.

ومن هنا أجاب عن هذه المقالة في « العدّة » : بأنه ربّما يكون في البيان

__________________

(١) المرتضى وابن زهرة عليها الرحمة.


مفسدة ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف (١).

وثالث : إلى الحكم بالجواز والترخيص المطلق في مرحلة الظاهر ونفي العقاب من جهة العقل بملاحظة حكمه بقبح العقاب من غير بيان ، وهذا غير حكمه بالإباحة الخاصّة في مرحلة الظاهر ، أو الواقع.

وممّا ذكرنا كله يظهر : أنّ التنزّل عن القول بالحظر مع اختيار القول بالوقف ، لا يجدي في المقام أصلا ، وإنّما يجدي في ردّ القول بكون الأشياء على الإباحة ، فإن المقصود الاستدلال لوجوب الاحتياط لا مجرّد نفي القول بالإباحة العقليّة ، فما أفاده قدس‌سره في تقريب الوجه المذكور بقوله : « ولو نزّلنا عن ذلك فالوقف » لا يستقيم بظاهره إلاّ أن يكون هناك ملازمة بينه وبين وجوب الاحتياط عقلا وهو ممّا لا معنى له على هذا القول إلاّ بتكلّف فتدبر.

ثمّ إن القول بالإباحة الخاصّة الظاهريّة في الأشياء عند العقل أشكل من القول بالإباحة الواقعيّة عنده المتوقّفة على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وفقدانها في فعل ؛ لأن الحكم بالإباحة إنما هو من جهة فقدان الفعل حقيقة الجهات المذكورة ، لا من جهة وجدانه ما يقتضيها فالمباح كالممكن ، وإلاّ لم يعقل صيرورة المباح واجبا بالعرض مثلا أو حراما كذلك ، إلاّ بدعوى غلبة إحدى الجهتين بعد تصادمهما.

__________________

(١) عدّة الأصول : ج ٢ / ٧٤٢ ـ ٧٤٣.


نعم ، القول بالإباحة بمعنى الجواز والترخيص المطلق ، ومجرّد عدم الحرج في الفعل والترك في مورد عدم ثبوت المنع من الشارع لا غبار فيه أصلا ؛ فإنه لازم التمسّك للبراءة فيما لا نصّ فيه.

وإذ قد عرفت : أن القائلين بالحظر مختلفون بالنّظر إلى ظواهر أدلّتهم من حيث القول بالحظر الواقعي والظاهري ، فيستدلّ للقول بوجوب الاحتياط في محل البحث : بأنه إذا احتمل الحرمة في الفعل احتمل المفسدة والضّرر فيه ، والعقل من جهة حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل يحكم بوجوب ترك الفعل ، وهذا معنى حكمه بوجوب الاحتياط.

في الجواب عن التمسّك بأن الأصل في الأفعال غير الضّروريّة ، الحظر

وملخّص الجواب عنه ـ بعد النّقض بالشبهة الوجوبيّة مطلقا من حيث إنه يحتمل الضّرر في تركها ، كما يحتمل الضّرر في الفعل في الفرض والشبهة التحريميّة الموضوعية ـ :

أن ما دلّ على البراءة عقلا ونقلا مما عرفت الإشارة إليه وارد على الأصل المذكور سواء أريد من الضّرر العقاب ، أو المفاسد الدنيوية الكامنة في الأفعال الغير المتوقّفة على البيان على تقدير تسليم حكم العقل بوجوب دفع الضّرر المحتمل الدنيوي بجميع مراتبه ولو كان موهوما ؛ ضرورة كون حكم العقل بدفع الضّرر إنّما هو في الضّرر الغير المتدارك ، كما هو الشأن في حكمه بدفع الضّرر


المقطوع أيضا ، فإذا حكم الشارع بجواز الإقدام بالفعل ولو في مرحلة الظاهر ، كان اللازم تدارك الضّرر على تقدير ثبوته في نفس الأمر هذا في الضّرر الدنيوي.

وأمّا الضّرر الأخروي فلمّا لم يعقل ثبوته مع التدارك ، فحكم الشارع بالجواز يلازم عدم ثبوته وهذا أمر ظاهر ، قد شرحنا القول فيه في الجزء الأوّل من التعليقة (١) وسيجيء بعض الكلام فيه في الشبهة الموضوعيّة أيضا.

ودعوى : كون حكم العقل بوجوب دفع الضّرر بيانا ودليلا على حرمة الفعل ولو في مرحلة الظاهر ، فيكون واردا على حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، بل على حكم الشارع بجواز الفعل فيما لم يكن هناك دليل على الحرمة.

فاسدة ؛ من حيث إن صيرورته بيانا ودليلا يتوقّف على وجود احتمال الضّرر المنفي بأدلّة البراءة ، فلو استند في إثباته إلى حكم العقل المذكور ، لزم الدور الباطل كما هو ظاهر هذا. وقد مضى القول في هذا التوهّم سؤالا وجوابا في الجزء الأوّل فارجع إليه (٢).

وأمّا ما أفاده شيخنا قدس‌سره في « الكتاب » من الجواب عن الدليل فلا يخلو عن إجمال ، بل عن إشكال أيضا ، فإنّ قوله : ( أوّلا ) في عنوان الجواب « والجواب بعد

__________________

(١) بحر الفوائد : ج ١ / ١٨٣.

(٢) بحر الفوائد : ج ١ / ١٨٣.


تسليم استقلال العقل بدفع الضرر » (١) الظاهر في المنع كون القبول من جهة المماشاة لا بد من أن يحمل على القضيّة الكليّة ؛ فكأنه قال بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضّرر مطلقا سواء تعلّق بالضّرر الأخروي ، أو الدّنيوي ، أو منع حكمه بالنسبة إلى الضّرر الأخروي ، مضافا إلى كونه خلاف ضرورة العقل مناف لتصريحاته في مواضع من كلماته.

فالمنع المستفاد ضمنا متوجّه إلى بعض أقسام الضرر فلا ينافي القول بالنسبة إلى بعض أخر ، إلاّ أنه ينافي مع ذلك التوجيه كلامه بعد ذلك ، وهو قوله :« وإن أريد غيره ممّا لا يدخل في عنوان المؤاخذة ... الى آخره » (٢). فإنه بعد تسليم استقلال العقل في الحكم بدفع الضّرر مطلقا سواء تعلّق بالآخرة أو بالدنيا ، كيف يجامعه القول المذكور الراجع إلى المنع عن حكم العقل؟

اللهمّ إلاّ أن يرجع القولان إلى الإجمال والتفصيل لا إلى الجوابين ، فكأنه قال : والجواب : أن المسلّم حكم العقل بدفع الضرر في الجملة لا مطلقا.

ولا يجدي نفعا للمستدلّ ؛ لأنه « إن أريد ... الى آخره » (٣) ومع ذلك أصل منعه لحكم العقل بدفع الضرر الدنيوي مطلقا كما هو ظاهره حتى في المقطوع منه

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٩١.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ٩١.

(٣) نفس المصدر.


كما ترى ، وستسمع تصريحه بحكم العقل بوجوب دفع الضّرر المشكوك الدنيوي في الشبهة الموضوعيّة من مسائل البحث ، اللهمّ إلاّ أن يحمل المنع على الكلّيّة ، في قبال الإثبات بالنسبة إلى جميع مراتب الضّرر ، وإن سلّم قبوله بالنسبة إلى بعض مراتبه.

ثمّ قوله : « وعلى تقدير الاستقلال فليس ممّا يترتب عليه العقاب لكونه من باب الشبهة الموضوعيّة ... الى آخره » (١) لا بدّ من تكلّف فيه أيضا :

بأن يقال : إن الممنوع أوّلا : حكم العقل بدفع الضّرر الدنيوي حتى في المقطوع والمسلّم ، ثانيا : حكم العقل في عنوان الضّرر الواقعي ولا يترتّب على محتمل الضّرر الذي هو محل البحث شيء ولا يجدي التسليم المذكور بالنسبة إلى وجوب الاحتياط فيه ؛ إذ هو كمحتمل التحريم من سائر الموضوعات المردّدة الثابت تحريمها في الشريعة فإن ثبوت حرمتها لا يجدي في إثبات العقاب مع الشك في الموضوع باعتراف الأخباريّين.

وهذا مراده جزما كما يظهر من أطراف كلماته.

لكنّه مع ذلك لا يخلو عن مناقشة مطلقا ؛ فإن حكم العقل بلزوم دفع الضّرر الدنيوي على تقدير تسليمه ، لا يمكن أن يتبع الموضوع النفس الأمري كحكم الشارع بتحريم الموضوعات ، لما قد عرفت مرارا كثيرة : من استحالة تعلّق الحكم

__________________

(١) المصدر السابق.


في نظر الحاكم بالموضوع النفس الأمري بحيث يحتمل وجود حكمه مع الجهل بالموضوع.

فلا بد إمّا من القول بعدم حكم العقل في محتمل الضّرر جزما فلا يحتمل التحريم العقلي ، وإن احتمل التحريم الشرعي ؛ لأن حكم العقل لاحق للموضوع الوجداني عنده ، كما أن حكم الشارع يلحق الموضوع الوجداني عنده.

وإمّا من القول بحكمه في المحتمل كالمقطوع ، لكنه مقيّد بعدم التدارك فلا يجدي منع ثبوت ما يقضي بالتدارك على ما أسمعناك ؛ فكأنه أجمل القول في المقام إتّكالا على ما سيذكره من التفصيل في الشبهة الموضوعيّة ، كما أنّا لخّصنا الكلام فيه إتّكالا على ما قدّمنا من التفصيل في الجزء الأول من التعليقة.

انتهى الجزء الثالث من بحر الفوائد بحسب تجزئتنا للكتاب ويليه الجزء الرابع أوله : التنبيه الأوّل من تنبيهات الشبهة التحريمية.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين



الفهرس التفصيلي

* التنبيه الثاني : نتيجة دليل الإنسداد قضية مهملة أم كلّيّة؟.......................... ٧

عدم حجّيّة مطلق الظّنّ في غير الأحكام الإلزاميّة................................. ٨

دليل الانسداد قد يقرّر في كلّ مسألة وقد يقرّر في مجموع المسائل................. ١٠

بطلان إجراء دليل الإنسداد في كل مسألة..................................... ١٦

بيان المراد من تقرير الكشف وتقرير الحكومة.................................. ١٨

مناقشة ما أفاده المصنّف في التقريرين.......................................... ١٩

طاعة الأمر الإرشادي لا توجب ثوابا ولا مخالفته عقابا.......................... ٢٣

في التعميم من حيث الأسباب والمراتب ........................................ ٢٧

تقرير الكشف فاسد من وجوه ثلاثة.......................................... ٣١

تيقّن الإعتبار هل يصلح لرفع الإهمال وتغيير النتيجة أم لا؟...................... ٣٩

الظن تفصيلي وإجمالي....................................................... ٥٤


العقل لا يحكم إلا بلزوم دفع الضرر.......................................... ٦١

في ان مطلق الظّنّ لا يصلح للتّرجيح وتعيين النتيجة المهملة....................... ٦٢

في انه على تقرير الحكومة لا فرق بين مظنون الإعتبار وغيره..................... ٦٩

كلام الفاضل النراقي ........................................................ ٧١

في حكم الأولويّة والإستقراء الظّنيين.......................................... ٩١

ضعف إلحاق الأولويّة والاستقراء الظنّيين بالقياس المحرّم......................... ٩٣

الكلام في صحّة تعيين المهملة بمطلق الظن...................................... ٩٦

« في شقوق الظنون القائمة على المسألة الأصوليّة »............................ ٩٧

في تطبيق عبارات المصنّف على التّحرير المختار................................ ١٠١

« الوجه الثاني من طرق التعميم ».......................................... ١٠٤

في المعمّم الثالث والإيراد عليه : ............................................ ١٠٧

اشكال على القول بحجّيّة مطلق الظّنّ مطلقا.................................. ١١١

وجوب الإقتصار على الظنّ الاطمئناني بناء على الحكومة...................... ١١٥

الفرق بين العمل بالظّنّ بعنوان الحجّيّة وبعنوان التبعيض في الاحتياط............ ١١٩

لا فرق بين المسألة الاصولية والفرعيّة بناء على التبعيض في الإحتياط............ ١٢٢

الإشكال الوارد على الاصول العمليّة وارد على الاصول اللفظية................ ١٢٧


منافاة الإشكال المقرّر ها هنا لما سبق......................................... ١٣٠

مسألة التبعيض في الاحتياط لا ربط لها بتقرير الحكومة........................ ١٣٣

في إشكال خروج القياس من حكم العقل بحجيّة الظن المطلق................... ١٣٥

الوجه الاوّل من وجوه التفصّي عن إشكال خروج القياس...................... ١٤١

الوجه الثاني من وجوه التفصّي المزبور........................................ ١٤٦

توجيه كلام المحقّق القمّي في المقام........................................... ١٤٨

الوجه الخامس من وجوه التفصّي المزبور..................................... ١٥٢

مناقشة ما أفاده المصنف قدس‌سره ............................................... ١٦٠

وجه رجوع ما أفاده الى التخصّص والخروج الموضوعي........................ ١٦١

الوجه السابع من وجوه التفصّي المزبور...................................... ١٦٧

توهّم التدافع بين كلامي المصنّف والجواب عنه............................... ١٦٨

القطع غير قابل لتصرّف الشارع بخلاف الظّنّ................................ ١٧٠

حكم الظنّ المانع والممنوع.................................................. ١٧٣

تتمّة الكلام في الظنّ المانع والممنوع.......................................... ١٧٩

* التنبيه الثالث : لو حصل الظن بالحكم من أمارة متعلّقة بالفاظ الدليل ............ ١٨٥

« ما أفاده المصنّف غير مقصود على إطلاقه »............................... ١٨٦


* التنبيه الرابع : عدم كفاية الظن بالإمتثال في مقام التطبيق....................... ٢٠٤

دفع جملة من التوهّمات في المقام............................................ ٢٠٤

إمكان إقامة الدليل على حجّيّة مطلق الظّنّ في الموضوعات وعدمه ............... ٢٠٦

* التنبيه الخامس : في اعتبار الظنّ في اصول الدين................................ ٢١١

مغايرة الإعتقاد للعلم...................................................... ٢١٣

لو حصل الظنّ من الخبر................................................... ٢١٩

انقسام المعارف بالمعنى الأعم ................................................ ٢٢٠

بيان حكم القسمين ....................................................... ٢٢٣

تأسيس الأصل لتمييز القسمين............................................. ٢٢٦

ما يوجب الخروج عن الأصل المذكور....................................... ٢٣٠

جواب آخر في دفع التوهّم المذكور والمناقشة فيه.............................. ٢٣٣

الرد على من توهّم كون الاشتغال بعلم المعرفة أهمّ من الاشتغال بالفروع........ ٢٣٧

في امكان المناقشة في الوجوه المذكورة ........................................ ٢٤٠

عدم تغيير حقيقة الايمان بعد انتشار الشريعة .................................. ٢٤٢

تعارض الاخبار الواردة في الاصول ودفعه.................................... ٢٤٦

بقي في المقام أمور يجب التّعرض لها :........................................ ٢٥٢


المعاد الجسماني أصل مستقل ................................................ ٢٥٢

الإيمان والإقرار بإمامة آل محمّد : أصل مستقل............................... ٢٥٤

العلم بالترتيب في الأئمة : شرط في الإيمان................................... ٢٥٥

في كيفية وجوب التصديق بما جاء النبي.................................... ٦ ٢٦٣

الشاك غير الجاحد كافر أم لا؟............................................. ٢٦٩

الأخبار الدّالة على ثبوت الواسطة بين الكفر والإيمان.......................... ٢٧٢

فيما يترتّب على الواسطة من الأحكام....................................... ٢٧٧

كفاية العلم الحاصل من التقليد في العقائد.................................... ٢٨٥

الجواب عن منع ثبوت العاجز............................................... ٢٨٩

هل للعالم إلزام الجاهل بتحصيل الظن أم لا؟................................. ٢٩٢

عدم وجوب معرفة التفاصيل............................................... ٢٩٤

مطلوبيّة السعي في الاستكمال.............................................. ٢٩٥

كلام السيّد الصدر في شرح الوافية......................................... ٢٩٧

إضطراب كلام الشيخ في العدّة.............................................. ٣٠٠

* التنبيه السادس : في كون الظن جابرا أو موهنا أو مرجّحا....................... ٣٠٧

الظن الخارجي لا يوجب جبر قصور الدلالة................................... ٣١١


الظن القياسي هل يصلح موهنا أم لا؟........................................ ٣١٥

التفرقة بين حجّيّة القياس وكونه مرجّحا أم لا؟................................ ٣٢١

الترجيح بالظن غير المعتبر من جهة الأصل..................................... ٣٢٥

جواز ترجيح ما لم يقطع بصدوره من الأخبار بمطلق الظن....................... ٣٢٨

دفع الإشكال والتنافي....................................................... ٣٣٢

كيفية إستفادة لزوم الترجيح بمطلق المزيّة في أخبار العلاج....................... ٣٣٩

لا بدّ من الفحص التامّ عن المرجّحات الخارجيّة................................ ٣٤٤

حكم التعارض بين المرجّحات المنصوصة والخارجيّة............................ ٣٤٥

المقصد الثالث :.............................................................. ٣٤٩

المقصد الثالث : في الشك.................................................. ٣٥١

في الفرق بين العلم والظّنّ بحسب الجعل وغيره إجمالا.......................... ٣٥١

في تحقيق الحكم الظاهري والواقعي........................................... ٣٥٤

في انقسام الحكم الظاهري إلى الشأني والفعلي................................. ٣٥٧

وجه تسمية الحكم الظاهري بالواقعي الثانوي والفرق بين الدليل والأمارة........ ٣٥٩

بيان عدم لزوم مطابقة الحكم الظاهري للحكم الواقعي......................... ٣٦١

الجواب الأوّل عن التناقض.................................................. ٣٦٢


الجواب الثاني عن التناقض.................................................. ٣٦٣

الجواب الثالث عن التناقض................................................. ٣٦٥

الجواب الرّابع............................................................. ٣٦٧

الجواب الخامس............................................................ ٣٦٧

أقسام الأصل والدليل وبيان النسبة بينهما..................................... ٣٧٠

حكومة الدليل الظنّي على الأصل............................................ ٣٧٦

المراد بأصل البراءة......................................................... ٣٨٠

البحث عن حكم الشك في المقام أصولي أم لا؟................................ ٣٨٤

دفع إشكال في المقام........................................................ ٣٨٥

في الفرق بين أصالة الإباحة والبراءة.......................................... ٣٨٧

* المقام الأوّل : في البراءة والاشتغال والتخيير.................................. ٣٨٩

* الموضع الأوّل : « الشك في نفس التكليف » وفيه مطالب :.................. ٣٨٩

* المطلب الأوّل : الشبهة التحريميّة........................................... ٣٨٩

* الموضع الأوّل :.......................................................... ٣٩١

الشك في نفس التكليف.................................................... ٣٩١

* المطلب الأوّل : الشبهة التحريميّة.......................................... ٣٩٧


* المسألة الأولى :......................................................... ٣٩٩

« الشبهة التحريمية من جهة فقدان النص ».................................. ٣٩٩

الأقوال في المسألة :....................................................... ٣٩٩

دلالة آية الإيتاء........................................................... ٤٠٠

التناقض الذي ذكره المحقّق القمّي........................................... ٤٠٧

في التمسّك بالآية......................................................... ٤٠٧

الإستدلال على حكم ما لا نصّ فيه......................................... ٤١٠

الآية لا تدل على أصالة البراءة.............................................. ٤١٥

الشبهة التحريميّة أدلّة البراءة / السنّة......................................... ٤٢١

دلالة ( ما لا يعلمون ) على البراءة فيما لا نص فيه........................... ٤٢١

الوجوه المحتملة في حديث ( ما لا يعلمون ).................................. ٤٢٦

في بيان إرادة الشبهة الحكمية من حديث ( ما لا يعلمون )..................... ٤٣٣

الكلام في سائر مفردات الحديث الشريف................................... ٤٣٩

إنقسام اللّوازم والآثار المترتّبة على الأفعال.................................... ٤٤١

في ان المراد من الرفع معنى يشمل الدفع...................................... ٤٤٨

حديث الرّفع لا يرفع الضّمان.............................................. ٤٤٩


الطّيرة والحسد والوسوسة من المحرّمات....................................... ٤٥٢

في دلالة الحديث على أصالة البراءة فيما لا نصّ فيه........................... ٤٦١

الحديث في مقام بيان الحكم الوضعي دون التكليفي........................... ٤٦٧

تقريب الاستدلال بصحيحة عبد الله بن سنان................................ ٤٧٧

إختصاص الرّواية بالشبهات الموضوعيّة وشواهده.............................. ٤٨٤

القرائن الدالّة على اختصاص الرّواية بالشبهة الموضوعيّة........................ ٤٩٠

ما أورده المحقّق القمّي على السيّد الشارح.................................... ٤٩٢

في التمسّك بالإجماع على البراءة فيما لا نصّ فيه............................. ٥٠٤

الكلام في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وكذا وجوب دفع الضرر المحتمل.... ٥١٥

في منع استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل الدنيوي....................... ٥٢٦

توجيه لكلام السيّد أبي المكارم في الغنية...................................... ٥٣٣

في الاعتراض على المستدل بالاستصحاب على البراءة.......................... ٥٤٠

استدلال الاخباريين على حكم ما لا نصّ فيه بالآيات ......................... ٥٥١

في الجواب عن الاستدلال بآية التهلكة....................................... ٥٥٦

كلام صاحب الوسائل في صحيحة جميل بن درّاج............................ ٥٥٩

الأمر في تلك الاخبار إرشادي .............................................. ٥٦٢


الأصل الحكمي في أمثال هذه الشبهة الموضوعيّة ، الحرمة لا البراءة.............. ٥٦٨

تحقيقات في بيان النسبة بين أدلّة البراءة وأخبار التوقّف........................ ٥٧٣

بيان محذور لزوم إخراج ما تعارض النّصّان عن عموم اخبار التوقّف............. ٥٧٨

كلام الفاضل النّراقي والإيراد عليه.......................................... ٥٨٢

ذكر كلام صاحب الوسائل في إحتمالات الرّواية............................. ٥٨٣

في عدم دلالة الصحيحة على مدّعاهم وبيان مورد الاستدلال بها................ ٥٨٧

في الجواب عن الإستدلال بموثقة عبد الله بن وضّاح........................... ٥٩١

وجه دلالة النّبوي على إرادة وجوب اجتناب الشبهات........................ ٦٠٥

تتمة التحقيق في خبر التثليث............................................... ٦١١

عدم تماميّة الدليل المذكور وجوابه........................................... ٦٢١

في الجواب التّحقيقي عن الدليل العقلي للأخباري............................. ٦٣١

الكلام في ان الأصل في الأفعال غير الضّروريّة ماذا؟........................... ٦٣٤

في الجواب عن التمسّك بأن الأصل في الأفعال غير الضّروريّة ، الحظر........... ٦٣٧

الفهرس التفصيلي ......................................................... ٦٤٣

بحرالفوائد في شرح الفرائد - ٣

المؤلف:
الصفحات: 652